بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: أضواء البيان المؤلف: الشنقيطي الجزء: 8 الوفاة: 1393 المجموعة: مصادر التفسير عند السنة تحقيق: مكتب البحوث والدراسات. الطبعة: سنة الطبع: 1415 - 1995م المطبعة: بيروت. - دار الفكر للطباعة والنشر. الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر ردمك: ملاحظات: ((سورة الحشر)) * (سبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض وهو العزيز الحكيم * هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا ياأولى الا بصار * ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ولهم فى الا خرة عذاب النار * ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشآق الله فإن الله شديد العقاب * ما قطعتم من لينة أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين * ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولاكن الله يسلط رسله على من يشآء والله على كل شىء قدير * مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كى لا يكون دولة بين الا غنيآء منكم ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) * قوله تعالى: * (سبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض وهو العزيز الحكيم) *. تقدم للشيخ رحمه الله كلام على معنى التسبيح عند قوله تعالى: * (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين) *. وقال رحمه الله: التسبيح في اللغة الإبعاد عن السوء، وفي اصطلاح الشرع تنزيه الله جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وساق رحمه الله النصوص في تسبيح المخلوقات جميعها. وقال في آخر المبحث: والظاهر أن قوله تعالى: * (وكنا فاعلين) * مؤكد لقوله تعالى: * (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير) * والموجب لهذا التأكيد أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب خارق للعادة، مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة (من الجزء الرابع 337 وذكر عند أول سورة الحديد زيادة لذلك). وفي مذكرة الدراسة مما أملاه رحمه الله في فصل الدراسة على أول سورة الجمعة: * (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض الملك القدوس العزيز الحكيم) * قال: التسبيح التنزيه، وما التي لغير العقلاء، لتغلب غير العقلاء لكثرتهم، وكان يمكن الاكتفاء بالإحالة على ما ذكره رحمه الله تعالى، إلا أن الحاجة الآن تدعو إلى مزيد بيان بقدر المستطاع، لتعلق المبحث بأمر بالغ الأهمية، ونحن اليوم في عصر تغلب عليه العلمانية والمادية، فنورد ما أمكن أملا في زيادة الإيضاح. إن أصل التسبيح من مادة سبح، والسباحة والتسبيح مشتركان في أصل المادة، فبينهما اشتراك في أصل المعنى، والسباحة في الماء ينجو بها صاحبها من الغرق، وكذلك المسبح لله والمنزه له ينجو من الشرك ويحيا بالذكر والتمجيد لله تعالى. وقد جاء الفعل هنا بصيغة الماضي: سبح لله كما جاء في أول سورة
3 الحديد. قال أبو حيان عندها: لما أمر الله تعالى الخلق بالتسبيح في آخر سورة الواقعة، يعني في قوله تعالى: * (إن هاذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم) * جاء في أول السورة التي تليها مباشرة بالفعل الماضي، ليدل على أن التسبيح المأمور به قد فعله. والتزم به كل ما في السماوات والأرض ا ه. ومعلوم أن الفعل قد جاء أيضا بصيغة المضارع كما في آخر هذه السورة: * (يسبح له ما فى السماوات والا رض وهو العزيز الحكيم) *، وفي أول سورة الجمعة: * (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض الملك القدوس العزيز الحكيم) *، وفي أول سورة التغابن: * (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير) *، وهذه الصيغة تدل على الدوام والاستمرار. بل جاء الفعل بصيغة الأمر: * (سبح اسم ربك الاعلى) *، * (فسبح باسم ربك العظيم) *. وجاءت المادة بالمصدر: * (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا) *، * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) *، ليدل ذلك كله بدوام واستمرار التسبيح لله تعالى من جميع خلقه، كما سبح سبحانه نفسه، وسبحته ملائكته ورسله، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه. وما في قوله تعالى: * (ما فى السماوات وما فى الا رض) * من صيغ العموم، وأصل استعمالها لغير العقلاء، وقد تستعمل للعاقل إذا نزل غير العاقل، كما في قوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النسآء) *، ومجيؤها هنا لغير العاقل تغليبا له لكثرته كما تقدم، فتكون شاملة للعاقل من باب أولى. ومما يلفت النظر أن التسبيح الذي في معرض العموم كله في القرآن مسند إلى (ما) دون (من) إلا في موضع واحد، هو قوله تعالى: * (تسبح له السماوات السبع والا رض ومن فيهن) *، وهذا شاهد على شمول (ما) وعمومها المتقدم ذكرها، لأنه سبحانه أسند التسبيح أولا إلى السماوات السبع والأرض صراحة بذواتهن، وهن من غير العقلاء بما في كل منهن من أفلاك وكواكب وبروج، أو جبال ووهاد وفجاج، ثم عطف
4 على غير العقلاء بصيغة (من) الخاصة بالعقلاء فقال: * (ومن فيهن) *، وإن كانت (من)، قد تستعمل لغير العقلاء إذا نزلن منزلة العقلاء كما في قول الشاعر: ومن فيهن) *، وإن كانت (من)، قد تستعمل لغير العقلاء إذا نزلن منزلة العقلاء كما في قول الشاعر: * أسرب القطا هل من يعير جناحه؟ * لعلي إلى من قد هويت أطير * وبهذا شمل إسناد التسبيح لكل شيء في نطاق السماوات والأرض، عاقل وغير عاقل. وقد أكد هذا الشمول بصريح قوله تعالى: * (وإن من شىء إلا يسبح بحمده) *، وكلمة (شيء) أعم العمومات، كما في قوله تعالى: * (الله خالق كل شىء) *، فشملت السماوات والأرض والملائكة والإنس والجن والطير والحيوان والنبات والشجر والمدر، وكل مخلوق لله تعالى. وقد جاء في القرآن الكريم، والسنة المطهرة إثبات التسبيح من كل ذلك كل على حدة. أولا: تسبيح الله تعالى نفسه: * (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا) *، * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد فى السماوات والا رض وعشيا وحين تظهرون) *، * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) *. ثانيا: تسبيح الملائكة * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * وقوله: * (وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم) *. و * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) *. ثالثا: تسبيح الرعد: * (ويسبح الرعد بحمده) *. رابعا: تسبيح السماوات السبع والأرض، * (تسبح له السماوات السبع والا رض) *. خامسا: تسبيح الجبال: * (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق) *. سادسا: تسبيح الطير: * (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير) *.
5 سابعا: تسبيح الإنسان: * (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين) *، * (فسبح باسم ربك العظيم) *، * (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) *. فهذا إسناد التسبيح صراحة لكل هذه العوالم مفصلة ومبينة واضحة. وجاء مثل التسبيح، ونظيره وهو السجود مسندا لعوالم أخرى وهي بقية ما في هذا الكون من أجناس وأصناف في قوله تعالى: * (ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الا رض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وكثير من الناس) *. ويلاحظ هنا أنه تعالى أسند السجود أولا لمن في السماوات ومن في الأرض و (من) هي للعقلاء أي الملائكة والإنس والجن، ثم عطف على العقلاء غير العقلاء بأسمائهن من الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، فهذا شمول لم يبق كائن من الكائنات ولا ذرة في فلاة إلا شمله. وبعد بيان هذا الشمول والعموم، يأتي مبحث العام الباقي على عمومه، والعام المخصوص، وهل عموم (ما) هنا باق على عمومه أم دخله تخصيص؟ قال جماعة من العلماء منهم ابن عباس، إن العموم باق على عمومه، وإن لفظ التسبيح محمول على حقيقته في التنزيه والتحميد. وقال قوم: إن العموم باق على عمومه لم يدخله خصوص، ولكن التسبيح يختلف، ولكل تسبيح بحسبه، فمن العقلاء بالذكر والتحميد والتمجيد كالإنسان والملائكة والجن، ومن غير العاقل سواء الحيوان والطير والنبات والجماد، فيكون بالدلالة بأن يشهد على نفسه، ويدل على أن الله تعالى خالق قادر. وقال قوم: قد دخله التخصيص. ونقل القرطبي عن عكرمة، قال: الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبح. وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يسبح مرة. يريد أن التسبيح من الحي أو النامي سواء الحيوان أو النبات وما عداه
6 فلا. وقال القرطبي: ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما من وضع الجريد الأخضر على القبر، وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (لعله يحفف عنهما ما لم ييبسا). أي بسبب تسبيحهما، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما ا ه. والصحيح من هذا كله الأول الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الذي يشهد له القرآن الكريم لعدة أمور: أولا: لصريح قوله تعالى: * (وإن من شىء إلا يسبح بحمده ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) *. ثانيا: أن الحامل لهم على القول بتسبيح الدلالة، هو تحكيم الحس والعقل، حينما لم يشاهدوا ذلك ولم تتصوره العقول، ولكن الله تعالى نفى تحكيم العقل الحسي هنا، وخطر على العقل بقوله تعالى: * (ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) *. ثالثا: قوله تعالى في حق نبي الله داود عليه السلام: * (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير) * وقوله تعالى: * (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق) *، فلو كان تسبيحها معه تسبيح دلالة كما يقولون، لما كان لداود عليه السلام خصوصية على غيره. رابعا: أخبر الله تعالى أن لهذه العوالم كلها إدراكا تاما كإدراك الإنسان أو أشد منه، قال تعالى عن السماوات والأرض والجبال: * (إنا عرضنا الا مانة على السماوات والا رض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) *، فأثبت تعالى لهذه العوالم إدراكا وإشفاقا من تحمل الأمانة، بينما سجل على الإنسان ظلما وجهالة في تحمله إياها، ولم يكن هذا العرض مجرد تسخير، ولا هذا الإباء مجرد سلبية، بل عن إدراك تام، كما في قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السمآء وهى دخان فقال لها وللا رض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين) *، فهما طائفتان لله، وهما يأبين أن يحملن الأمانة إشفاقا منها. وفي أواخر هذه السورة الكريمة سورة الحشر، قوله تعالى: * (لو أنزلنا هاذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) * ومثله قوله تعالى: * (ثم قست قلوبكم من بعد ذالك فهى كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار
7 وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء وإن منها لما يهبط من خشية الله) * وهذا هو عين الإدراك أشد من إدراك الإنسان. وفي الحديث: (لا يسمع صوت المؤذن من حجر ولا مدر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة) فبم سيشهد إن لم يك مدركا الأذان والمؤذن. وعن إدراك الطير، قال تعالى عن الهدهد يخاطب نبي الله سليمان: * (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إنى وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شىء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون) *. ففي هذا السياق عشر قضايا يدركها الهدهد ويفصح عنها لنبي الله سليمان. الأولى: إدراكه أنه أحاط بما لم يكن في علم سليمان. الثانية: معرفته لسبأ بعينها دون غيرها، ومجيؤه منها بنبأ يقين لا شك فيه. الثالثة: معرفته لتولية المرأة عليهم مع إنكاره ذلك عليهم. الرابعة: إداركه ما أوتيته سبأ من متاع الدنيا من كل شيء. الخامسة: أن لها عرشا عظيما. السادسة: إدراكه ما هم عليه من السجود للشمس من دون الله. السابعة: إدراكه أن هذا شرك بالله تعالى. الثامنة: أن هذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم. التاسعة: أن هذا ضلال عن السبيل القويم. العاشرة: أنهم لا يهتدون. وقد اقتنع سليمان بإدراك الهدهد لهذا كله فقال له: * (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) *، وسلمه رسالة، وبعثه سفيرا إلى بلقيس وقومها: * (اذهب بكتابى هاذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون) * وكانت سفارة موفقة جاءت
8 بهم مسلمين في قوله تعالى عنها: * (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) *. وكذلك ما جاء عن النملة في قوله تعالى عنها: * (حتى إذآ أتوا على وادى النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) * فقد أدركت مجيء الجيش، وأنه لسليمان وجنوده وأدركت كثرتهم، وأن عليها وعلى النمل أن يتجنبوا الطريق، ويدخلوا مساكنهم، وهذا الإدراك منها جعل سليمان عليه السلام يتبسم ضاحكا من قولها. وأن لها قولا علمه سليمان عليه السلام. فقد جاء في السنة إثبات إدراك الحيوانات للمغيبات فضلا عن المشاهدات، كما في حديث الموطأ في فضل يوم الجمعة: (وإن فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة) إلى قوله صلى الله عليه وسلم (وفيه تقوم الساعة، وما من دابة في الأرض إلا وهي تصيخ بأذنها من فجر يوم الجمعة حتى طلوع الشمس إشفاقا من الساعة إلا الجن والإنس)، فهذا إدراك وإشفاق من الحيوان، وإيمان بالمغيب، وهو قيام الساعة وإشفاق من الساعة أشد من الإنسان. وقصة الجمل الذي ند على أهله وخضع له صلى الله عليه وسلم حتى قال الصديق: لكأنه يعلم إنك رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم إنه ما بين لابتيها إلا وهو يعلم أني رسول الله). فهذا كله يثبت إدراكا للحيوان بالمحسوس وبالمغيب إدراكا لا يقل عن إدراك الإنسان، فما المانع من إثبات تسبيحها حقيقة على ما يعلمه الله تعالى منها؟ وقد جاء النص صريحا في التسبيح المثبت لها في أنه تسبيح تحميد لا مطلق دلالة كما في قوله تعالى: * (ويسبح الرعد بحمده) *، وقرنه مع تسبيح الملائكة، * (والملائكة من خيفته) *، وهذا نص في محل النزاع، وإثبات لنوع التسبيح المطلوب. خامسا: لقد شهد المسلمون منطق الجماد بالتسبيح وسمعوه بالتحميد حسا كستبيح الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم، وكحنين الجذع للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعه كل من في المسجد، وما أخبر به صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم حجرا في مكة ما مررت عليه إلا وسلم علي)، وما ثبت بفرد يثبت لبقية أفراد جنسه، كما هو معلوم في قاعدة الواحد بالجنس والواحد بالنوع. ومن هذا القبيل في أعظم من ذلك ما رواه البخاري في كتاب المناقب عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمرو عثمان فرجف بهم فقال: (أثبت أحد فإن عليك نبيا وصديقا وشهيدين).
9 وفي موطأ مالك: لما رجع صلى الله عليه وسلم من سفر طلع عليهم أحد فقال (هذا جبل يحبنا ونحبه). فهذا جبل من كبار جبال المدينة يرتجف لصعود النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فيخاطبه صلى الله عليه وسلم خطاب العاقل المدرك: (أثبت أحد فإن عليك نبيا وصديقا وشهيدين)، فيعرف النبي ويعرف الصديق والشهيد فيثبت، فبأي قانون كان ارتجافه؟ وبأي معقول كان خطابه؟ وبأي معنى كان ثبوته؟ ثم ها هو يثبت له صلى الله عليه وسلم المحبة المتبادلة بقوله: يحبنا ونحبه. وإذا ناقشنا أقوال القائلين بتخصيص هذا العموم من إثبات التسبيح للجمادات ونحوها، لما وجدنا لهم وجهة نظر إلا أن الحس لم يشهد شيئا من ذلك، وقد أوردنا الأمثلة على إثبات ذلك لسائر الأجناس، وتقدم تنبيه الشيخ على تأكيد ذلك بقوله تعالى: * (وكنا فاعلين) * ردا على استبعاده. ومن الأدلة القرآنية في هذا المقام، ما جاء في سياق قوله تعالى: * (وإن من شىء إلا يسبح بحمده) *، جاء بعدها قوله تعالى: * (وإذا قرأت القرءان جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالا خرة حجابا مستورا) * وهذا نص يكذب المستدلين بالحس. لأن الله تعالى أخبر بأنه جعل بين الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا يحجبه عنهم، وهذا الحجاب مستور عن أعينهم فلا يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه محجوب عنهم، ولا يرون الحجاب لأنه مستور، وهذا هو الصحيح في هذه الآية. وقد قال فيها بعض البلاغيين. إن مستورا هنا بمعنى ساترا ويقال لهم: إن جعل مستورا بمعنى ساتر تكرار لمعنى حجاب، لأن قوله تعالى: * (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالا خرة حجابا) * هو بمعنى ساتر، أي يستره عن الذين لا يؤمنون بالآخرة وليس في ذلك زيادة معنى، ولا كبير معجزة، ولكن الإعجاز في كون الحجاب مستورا عن أعينهم، وفي هذا تحقيق وجود المعنيين، وهما حجبه صلى الله عليه وسلم وسلم عنهم، وستر الحجاب عن أعينهم، وهذا أبلغ في حفظه صلى الله عليه وسلم منهم، لأنه لو كان الحجاب مرئيا أي ساترا فقط مع كونه مرئيا لربما اقتحموه عليه، وأقوى في الإعجاز، لأنه لو كان الحجاب مرئيا لكان كاحتجاب غيره من سائر الناس. ولكن حقيقة الإعجاز فيه هو كونه مستورا عن
10 أعينهم، وهذا ما رجحه ابن جرير. وقد جاءت قصة امرأة أبي لهب مفصلة هذا الذي ذكرناه كما ساقها ابن كثير قال: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة تبت يدا أبي لهب وتب إلى قوله: * (وامرأته حمالة الحطب فى جيدها حبل من مسد) * جاءت امرأة أبي لهب وفي يدها فهر، ولها ولولة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أبي بكر رضي الله عنه عند الكعبة فقال له: إني أخاف عليك أن تؤذيك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى عاصمني منها)، وتلا قرآنا، فجاءت ووقفت على أبي بكر وقالت: إن صاحبك هجاني. قال: لا ورب هذه البنية إنه ليس بشاعر ولا هاج، فقالت: إنك مصدق وانصرفت. أي ولم تره وهو جالس مع أبي بكر رضي الله عنه. فهل يقال بعدم وجود الحجاب لأنه مستور لم يشاهد، أم أننا نثبته كما أخبر تعالى وهو القادر على كل شيء؟ وعليه وبعد إثباته نقول: ما الفرق بين إثبات حقيقة قوله تعالى هنا: * (حجابا مستورا) *، وقوله تعالى: * (ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) *؟ ففي كلا المقامين إثبات أمر لا ندركه بالحس، فالتسبيح لا نفقهه، والحجاب لا نبصره. وقد أوردنا هذه النماذج، ولو مع بعض التكرار، لما يوجد من تأثر البعض بدعوى الماديين أو العلمانيين، الذين لا يثبتون إلا المحسوس، لتعطي القارئ زيادة إيضاح، ويعلم أن المؤمن بإيمانه يقف على علم ما لم يعلمه غيره، ويتسع أفقه إلى ما وراء المحسوس، ويعلم أن وراء حدود المادة عوالم يقصر العقل عن معالمها، ولكن المؤمن يثبتها. وقد رسم لنا النبي صلى الله عليه وسلم الطريق الصحيح في مثل هذا المقام من إثبات وإيمان، كما في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس فقال: (بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت: إنا لم نخلق لهذا، وإنما خلقنا للحرث، فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم؟ فقال: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم، وبينما رجل في غنمه، إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة. فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: هذا: استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم، قال فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر، وما هما ثم). ففي هذا النص الصريح نطق البقرة ونطق الذئب بكلام معقول من خصائص العقلاء على غير العادة، مما استعجب له الناس وسبحوا الله إعظاما لما سمعوا، ولكن
11 الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع هذا الاستعجاب بإعلان إيمانه وتصديقه، ويضم معه أبا بكر وعمر، وإن كانا غائبين عن المجلس، لعلمه منهما أنهما لا ينكران ما ثبت بالسند الصحيح لمجرد استبعاده عقلا. وهنا يقال لمنكري التسبيح حقيقة وما المانع من ذلك؟ أهو متعلق القدرة أم استبعاد العقل لعدم الإدراك الحسي؟ فأما الأول. فممنوع، لأن الله تعالى على كل شيء قدير. وقد أخرج لقوم صالح ناقة عشراء من جوف الصخرة الصماء، وأنطق الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم. وأما الثاني: فلا سبيل إليه حتى ينتظر إدراكه وتحكيم العقل فيه، فإن الله تعالى قال: * (ولاكن لا تفقهون تسبيحهم) *. فلم يبق إلا الإيمان أشبه ما يكون بالمغيبات. وإيمان تصديق وإثبات لا تكييف وإدراك وخالق الكائنات أعلم بحالها وبما خلقها عليه. فيجب أن نؤمن بتسبيح كل ما في السماوات والأرض، وإن كان مستغربا عقلا، ولكن أخبر به خالقه سبحانه، وشاهدنا المثال مسموعا من بعض أفراده. قوله تعالى: * (هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم) *. أجمع المفسرون أنها في بني النضير، إلا قولا للحسن أنها في بني قريظة، ورد هذا القول بأن بني قريظة لم يخرجوا ولم يجلوا ولكن قتلوا. وقد سميت هذه السورة بسورة بني النضير، حكاه القرطبي عن ابن عباس. قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس سورة الحشر قال: قل سورة النضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل، انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم. واتفق المفسرون على أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة، لا ترد له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا. فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأخبر جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمر
12 بقتل كعب، فقتله محمد بن مسلمة غيلة، وكان أخاه من الرضاعة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع منهم على خيانة، حين أتاهم في دية المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري منصرفه من بئر معونة، فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله عليه وسلم، فعصمه الله تعالى. ولما قتل كعب، أمر صلى الله عليه وسلم بالمسيرة إليهم، وطالبهم بالخروج من المدينة، فاستمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، ولكن أرسل إليهم عبد الله بن أبي سرا: لا تخرجوا من الحصن، ووعدهم بنصرهم بألفي مقاتل من قومه، ومساعدة بني قريظة وحلفائهم من غطفان، أو الخروج معهم، فدربوا أنفسهم، وامتنعوا بالتحصينات الداخلية. فحاصرهم صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة. وقيل: أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: اخرج في ثلاثين من أصحابك، ويخرج إليك ثلاثون منا ليسمعوا منك، فإن صدقوا آمنا كلنا، ففعل. فقالوا: كيف نفهم. ونحن ستون؟ أخرج في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، ففعلوا فاشتملوا على الخناجر، وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها، وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا، فأسرع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فساره بخبرهم قبل أن يصل صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين الذي وعدهم به ابن أبي، فطلبوا الصلح فأبى عليهم صلى الله عليه وسلم إلا الجلاء، على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع إلا الحلقة، فكانوا يحملون كل ما استطاعوا ولو أبواب المنازل، يخربون بيوتهم ويحملون ما استطاعوا معهم. وقد أوردنا مجمل هذه القصة في سبب نزول هذه السورة لأن عليها تدور معاني هذه السورة كلها، وكما قال الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في رسالة أصول التفسير: إن معرفة السبب تعين على معرفة التفسير (وليعلم المسلمون مدى ما جبل عليه اليهود من غدر وما سلكوا من أساليب المراوغة فما أشبه الليلة بالبارحة). والذي من منهج الشيخ رحمه الله في الأضواء قوله تعالى: * (هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم) * حيث أسند إخراجهم إلى الله تعالى مع وجود حصار المسلمين إياهم. وقد تقدم للشيخ رحمه الله نظيره عند قوله تعالى: * (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم
13 ينالوا خيرا) *، قال رحمه الله تعالى عندها: ذكر جل وعلا أنه * (الله الذين كفروا بغيظهم) * الآية. ولم يبين السبب الذي ردهم به. ولكنه جل وعلا بين ذلك بقوله: * (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) * ا ه. وهنا أيضا في هذه الآية أسند إخراجهم إليه تعالى مع حصار المسلمين إياهم، وقد بين تعالى السبب الحقيقي لإخراجهم في قوله تعالى: * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب) *، وهذا من أهم أسباب إخراجهم، لأنهم في موقف القوة وراء الحصون، لم يتوقع المؤمنون خروجهم، وظنوا هم أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقد كان هذا الإخراج من الله إياهم بوعد سابق من الله لرسوله في قوله تعالى: * (فإن ءامنوا بمثل مآ ءامنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم فى شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) *. وبهذا الإخراج تحقق كفاية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم منهم، فقد كفاه إياهم بإخراجهم من ديارهم، فكان إخراجهم حقا من الله تعالى: وبوعد مسبق من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أكد هذا بقوله تعالى مخاطبا للمسلمين في خصوصهم: * (فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولاكن الله يسلط رسله على من يشآء والله على كل شىء قدير) * وتسليط الرسول صلى الله عليه وسلم هو بما بين صلى الله عليه وسلم في قوله: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) وهو ما يتمشى مع قوله تعالى: * (وقذف فى قلوبهم الرعب) *. وجملة هذا السياق هنا يتفق مع السياق في سورة الأحزاب عن بني قريظة سواء بسواء، وذلك في قوله تعالى: * (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف فى قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) * وعليه ظهرت حقيقة إسناد إخراجهم لله تعالى، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب. كما أنه هو تعالى الذي رد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا. بما أرسل عليهم من الرياح والجنود، وهو الذي كفى المؤمنين القتال. وهو تعالى الذي أنزل بني قريظة من صياصيهم. وورث المؤمنين ديارهم وأموالهم، وكان الله على كل شيء قديرا. ورشح لهذا كله التذييل في آخر الآية. يطلب الاعتبار والاتعاظ بما فعل الله بهم:
14 * (ياأولى الا بصار) * أي بإخراج الذين كفروا من حصونهم وديارهم ومواطن قوتهم، ما ظننتم أن يخرجوا لضعف اقتداركم، وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم لقوتها ومنعتها، ولكن أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب. فلم يستطيعوا البقاء. وكانت حقيقة إخراجهم من ديارهم هي من الله تعالى. قوله تعالى: * (لاول الحشر) *. اختلف في معنى الحشر في هذه الآية، وبناء عليه اختلف في معنى الأول. فقيل: المراد بالحشر أرض المحشر، وهي الشام. وقيل المراد بالحشر: الجمع. واستدل القائلون بالأول بآثار منها: ما رواه ابن كثير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من شك في أن أرض المحشر ها هنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية: * (هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر) *، وما رواه أبو حيان في البحر عن عكرمة أيضا والزهري، وساق قوله صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني النضير: أخرجوا، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر. وعلى هذا تكون الأولية هنا مكانية، أي لأول مكان من أرض المحشر. وهي أرض الشام، وأوائله خيبر وأذرعات. وقيل: إن الحشر على معناه اللغوي وهو الجمع. قال أبو حيان في البحر المحيط. الحشر الجمع للتوجه إلى ناحية ما، ومن هذا المعنى. قيل: الحشر هو حشد الرسول صلى الله عليه وسلم الكتائب لقتالهم. وهو أول حشر منه لهم وأول قتال قاتلهم. وعليه فتكون الأولية زمانية وتقتضي حشرا بعده. فقيل: هو حشر عمر إياهم بخيبر. وقيل: نار تسوق النار من المشرق إلى المغرب، وهو حديث في الصحيح. وقيل: البعث. إلا أن هذه المعاني أعم من محل الخلاف لأن النار المذكورة والبعث ليستا خاصتين باليهود، ولا ببني النضير خاصة ومما أشار إليه الشيخ رحمه الله أن من أنواع البيان الاستدلال على أحد المعاني بكونه هو الغالب في القرآن، ومثل له في المقدمة بقوله تعالى: * (لاغلبن أنا ورسلى) *، فقد قال بعض العلماء: بأن المراد بهذه الغلبة. الغلبة بالحجة والبيان، والغالب في القرآن استعمال الغلبة بالسيف والسنان، وذلك دليل واضح على دخول تلك الغلبة في الآية، لأن خير ما يبين به القرآن القرآن.
15 وهنا في هذه الآية، فإن غلبة استعمال القرآن بل عموم استعماله في الحشر إنما هو للجمع، ثم بين المراد بالحشر لأي شيء منها قوله تعالى: * (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير) *، وقوله: * (وحشرنا عليهم كل شىء قبلا) *، وقوله عن نبي الله داود: * (والطير محشورة كل له أواب) *، وقوله تعالى عن فرعون: * (قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) *، وقوله تعالى: * (قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدآئن حاشرين) *. وقوله: * (فحشر فنادى) * فكلها بمعنى الجمع. وإذا استعمل بمعنى يوم القيامة فإنه يأتي مقرونا بما يدل عليه، وهو جميع استعمالات القرآن لهذا، مثل قوله تعالى: * (وترى الا رض بارزة وحشرناهم) * وذلك في يوم القيامة لبروز الأرض. وقوله تعالى: * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا) *، وذلك في يوم القيامة لتقييده باليوم. وقوله تعالى: * (يوم ينفخ فى الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا) *. وقوله تعالى: * (وإذا الوحوش حشرت) * وقوله تعالى: * (ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار فهم يوزعون) *. إلى غير ذلك مما هو مقيد بما يعين المراد بالحشر، وهو يوم القيامة. فإذا أطلق كان لمجرد الجمع كما في الأمثلة المتقدمة، وعليه فيكون المراد بقوله تعالى: * (لاول الحشر) *، أن الراجع فيه لأول الجمع، وتكون الأولية زمانية وفعلا، فقد كان أول جمع لليهود، وقد أعقبه جمع آخر لإخوانهم بني قريظة بعد عام واحد، وأعقبه جمع آخر في خيبر، وقد قدمنا ربط إخراج بني النضير من ديارهم بإنزال بني قريظة من صياصيهم، وهكذا ربط جمع هؤلاء بأولئك إلا أن هؤلاء أجلوا وأخرجوا، وأولئك قتلوا واسترقوا. تنبيه وكون الحشر بمعنى الجمع لا يتنافى مع كون خروجهم كان إلى أوائل الشام، لأن الغرض الأول هو جمعهم للخروج من المدينة، ثم يتوجهون بعد ذلك إلى الشام أو إلى غيرها. وقد استدل بعض العلماء على أن توجههم كان إلى الشام من قوله تعالى: * (ياأيهآ
16 الذين أوتوا الكتاب ءامنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارهآ أو نلعنهم كما لعنآ أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) *، لأن السياق في أهل الكتاب، والتعريض بأصحاب السبت ألصق بهم. فقال بعض المفسرين: الوجوه هنا هي سكناهم بالمدينة، وطمسها تغير معالمها، وردهم على أدبارهم، أي إلا بلاد الشام التي جاءوا منها أولا حينما خرجوا من الشام إلى المدينة، انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم. حكاه أبو حيان وحسنه الزمخشري. قوله تعالى: * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) *. أتى: تأتي لعدة معان، منها بمعنى المجيء، ومنها بمعنى الإنذار، ومنها بمعنى المداهمة. وقد توهم الرازي أنها من باب الصفات، فقال: المسألة الثانية قوله: * (فأتاهم الله) *، لا يمكن إجراؤه على ظاهره باتفاق جمهور العقلاء، فدل على أن باب التأويل مفتوح، وإن صرف الآيات عن ظواهرها بمقتضى الدلائل العقلية جائز ا ه. وهذا منه على مبدئه في تأويل آيات الصفات، ويكفي لرده أنه مبني على مقتضى الدلائل العقلية، ومعلوم أن العقل لا مدخل له في باب صفات الله تعالى، لأنها فوق مستويات العقول * (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) * ولا يحيطون به علما سبحانه وتعالى. أما معنى الآية، فإن سياق القرآن يدل على أن مثل هذا السياق ليس من باب الصفات كما في قوله تعالى: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) *، أي هدمه واقتلعه من قواعده، ونظيره: * (أتاهآ أمرنا ليلا أو نهارا) *. وقوله: * (أولم يروا أنا نأتى الا رض ننقصها من أطرافها) *، وقوله * (أفلا يرون أنا نأتى الا رض ننقصها من أطرافهآ) *. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في العدوي: أني قلت أتيت أي دهيت، وتغير عليك حسك فتوهمت ما ليس بصحيح صحيحا. ويقال: أتي فلان بضم الهمزة وكسر التاء إذا أظل عليه العدو، ومنه قولهم: (من مأمنه
17 يؤتي الحذر)، فيكون قوله تعالى: * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) * أخذهم ودهاهم وباغتهم من حيث لم يحتسبوا من قتل كعب بن الأشرف وحصارهم، وقذف الرعب في قلوبهم. وهناك موقف آخر في سورة البقرة يؤيد ما ذكرناه هنا، وهو قوله تعالى: * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره إن الله على كل شىء قدير) *. فقوله تعالى: * (فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره) * وهو في سياق أهل الكتاب، وهم بذاتهم الذين قال فيهم: * (فأتاهم) * فيكون، فأتاهم الله هنا هو إتيان أمره تعالى الموعود في بادىء الأمر عند الأمر بالعفو والصفح. وقد أورد الشيخ رحمه الله عند قوله تعالى: * (فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره) * أن هذه الآية في أهل الكتاب كما هو واضح من السياق، وقال: والأمر في قوله: * (بأمره) *، قال بعض العلماء: هو واحد الأوامر، وقال بعضهم: هو واحد الأمور. فعلى القول الأول بأنه الأمر الذي هو ضد النهي، فإن الأمر المذكور، هو المصرح به في قوله: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الا خر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) *. وعلى القول بأن واحد الأمور، فهو ما صرح الله به في الآيات الدالة على ما أوقع باليهود من القتل والتشريد كقوله: * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا ياأولى الا بصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم) *، إلى غير ذلك من الآيات، والآية غير منسوخة على التحقيق. ا ه (من الجزء الأول من الأضواء). فقد نص رحمه الله على أن آية: * (فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره) * مرتبطة بآية: * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) * هذه كما قدمنا: أن هذا هو الأمر الموعود به، وقد أتاهم به من حيث لم يحتسبوا، ويشهد لهذا كله القراءة الثانية فآتاهم بالمد: بمعنى أعطاهم وأنزل بهم، ويكون الفعل متعديا والمفعول محذوف دل عليه قوله: * (من
18 حيث لم يحتسبوا) * أي أنزل بهم عقوبة وذلة ومهانة جاءتهم من حيث لم يحتسبوا والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وقذف فى قلوبهم الرعب) *. منطوقه أن الرعب سبب من أسباب هزيمة اليهود، ومفهوم المخالفة يدل على أن العكس بالعكس، أي أن الطمأنينة وهي ضد الرعب، سبب من أسباب النصر، وهو ضد الهزيمة. وقد جاء ذلك المفهوم مصرحا به في آيات من كتاب الله تعالى، منها قوله تعالى: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما فى قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) *، ومنها قوله تعالى: * (لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذالك جزآء الكافرين) *، فقد ولوا مدبرين بالهزيمة، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا من الملائكة فكان النصر لهم، وهزيمة أعدائهم المشار إليها بقوله تعالى: * (وعذب الذين كفروا) * أي بالقتل والسبي في ذلك اليوم. ومنها قوله تعالى: * (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم) *. وهذا الموقف آية من آيات الله، اثنان أعزلان يتحديان قريشا بكاملها، بعددها وعددها، فيخرجان تحت ظلال السيوف، ويدخلان الغار في سدفة الليل، ويأتي الطلب على فم الغار بقلوب حانقة، وسيوف مصلتة، وآذان مرهفة حتى يقول الصديق رضي الله عنه: والله يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت نعليه لأبصرنا، فيقول صلى الله عليه وسلم وهو في غاية الطمأنينة، ومنتهى السكينة (ما بالك باثنين الله ثالثهما)؟ ومنها، وفي أخطر المواقف في الإسلام، في غزوة بدر، حيثما التقى الحق بالباطل وجها لوجه، جاءت قوى الشر في خيلائها وبطرها وأشرها، وأمامها جند الله في تواضعهم
19 وإيمانهم وضراعتهم إلى الله * (فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الا قدام) *. فما جعل الله الإمداد بالملائكة إلا لتطمئن به قلوبهم، وما غشاهم النعاس إلا أمنة منه، وتم كل ذلك بما ربط على قلوبهم، فقاوموا بقلتهم قوى الشر على كثرتهم، وتم النصر من عند الله بمدد من الله، كما ربط على قلوب أهل الكهف: * (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والا رض لن ندعوا من دونه إلاها لقد قلنا إذا شططا) *. هذه آثار الطمأنينة والسكينة والربط على القلوب المدلول عليه بمفهوم المخالفة من قوله تعالى: * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين) *، وقد جمع الله تعالى الأمرين المنطوق والمفهوم في قوله تعالى: * (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين ءامنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب) * فنص على الطمأنينة بالتثبيت في قوله: * (فثبتوا الذين ءامنوا) *، ونص على الرعب في قوله: * (سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب) * فكانت الطمأنينة تثبيتا للمؤمنين، والرعب زلزلة للكافرين. وقد جاء في الحديث أن جبريل عليه السلام. لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى بني قريظة، قال: (إني متقدمكم لأزلزل بهم الأقدام)، ومما يدل على أسباب هذه الطمأنينة في هذه المواقف قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) *. فذكر الله تعالى أربعة أسباب للطمأنينة: الأولى: الثبات، وقد دل عليها قوله تعالى: * (إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) *.
20 والثانية: ذكر الله كثيرا، وقد دل عليها قوله تعالى: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) *. والثالثة: طاعة الله ورسوله، ويدل لها قوله تعالى: * (فإذآ أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف) *. والرابعة: عدم التنازل والاعتصام والألفة، ويدل عليها قوله تعالى: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) *. ومن ذكر أسباب الهزيمة من رعب القلوب، وأسباب النصر من السكينة والطمأنينة، تعلم مدى تأثير الدعايات في الآونة الأخيرة. وما سمي بالحرب الباردة من كلام وإرجاف مما ينبغي الحذر منه أشد الحذر، وقد حذر الله تعالى منه في قوله تعالى: * (قد يعلم الله المعوقين منكم والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا) *: وقد حذر تعالى من السماع لهؤلاء في قوله تعالى: * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين) *. ولما اشتد الأمر على المسلمين في غزوة الأحزاب، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن اليهود نقضوا عهدهم، أرسل إليهم صلى الله عليه وسلم من يستطلع خبرهم، وأوصاهم إن هم رأوا غدرا ألا يصرحوا بذلك، وأن يلحنوا له لحنا حفاظا على طمأنينة المسلمين، وإبعادا للإرجاف في صفوفهم. كما بين تعالى أثر الدعاية الحسنة في قوله تعالى: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم) * وقد كان بالفعل لخروج جيش أسامة بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وعند تربص الأعراب كان له الأثر الكبير في إحباط نوايا المتربصين بالمسلمين، وقالوا: ما أنفذوا هذا البعث إلا وعندهم الجيوش الكافية والقوة اللازمة. وما أجراه الله في غزوة بدر من هذا القبيل أكبر دليل عملي، إذ يقلل كل فريق في أعين الآخرين. كما قال تعالى: * (إذ يريكهم الله فى منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم فى الا مر ولاكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم فى
21 أعينكم قليلا ويقللكم فى أعينهم ليقضى الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور) *. وهذا كله مما ينبغي الاستفادة منه اليوم على العدو في قضية الإسلام والمسلمين. قوله تعالى: * (ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله) *. المشاقة العصيان، ومنه شق العصا، والمخالفة. وهذا يدل على أن الله تعالى أوقع ما أوقعه ببني النضير من إخراجهم من ديارهم وتخريب بيوتهم، بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله، وأن المشاقة المذكورة هي علة العقوبة الحاصلة بهم، ولا شك أن مشاقة الله ورسوله من أعظم أسباب الهلاك. وفي الآية مبحث أصولي مبني على أن المشاقة قد وقعت من غير اليهود، فلم تقع بهم تلك العقوبة كما وقع من المشركين المنصوص عليها في قوله تعالى: * (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين ءامنوا سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان) *، وهذا في بدر قطعا، ثم قال: * (ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشآق الله فإن الله شديد العقاب) *، ولما قدر صلى الله عليه وسلم على أهل مكة لم يوقع بهم ما أوقع باليهود من قتل، بل قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فوجد الوصف الذي هو المشاقة الذي هو علة الحكم، ولم يوجد الحكم الذي هو الإخراج من الديار وتخريب البيوت. قال الفخر الرازي: فإن قيل: لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال: أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب، ومعلوم أنه ليس كذلك: قلنا: هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها ا ه. وقد بحث الشيخ رحمه الله هذه المسألة في آداب البحث والمناظرة، وفي مذكرة الأصول في مبحث النقض، وعنون له في آداب البحث بقوله: تخلف الحكم ليس بنقض سواء لوجود مانع أو تخلف شرط. ومثل لتخلف الحكم بوجود مانع بقتل الوالد ولده عمدا، مع عدم قتله قصاصا به، لأن علة القصاص موجودة، وهي القتل العمد، والحكم وهو القصاص متخلف. ومثل لتخلف الشرط بسرقة أقل من نصاب أو من غير الحرز.
22 ثم قال: النوع الثالث: تخلف حكمها عنها لا لسبب من الأسباب التي ذكرنا، ومثل له بعضهم بقوله تعالى: * (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ولهم فى الا خرة عذاب النار) * قالوا: فهذه العلة، التي هي مشاقة الله ورسوله، قد توجد في قوم يشاقون الله ورسوله مع تخلف حكمها عنها، وهذه الآية الكريمة تؤيد قول من قال: إن النقض في فن الأصول تخصيص للعلة مطلقا، لا نقض لها، وعزاه في مراقي السعود للأكثرين في قوله في مبحث القوادح في الدليل في الأصول: ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ولهم فى الا خرة عذاب النار) * قالوا: فهذه العلة، التي هي مشاقة الله ورسوله، قد توجد في قوم يشاقون الله ورسوله مع تخلف حكمها عنها، وهذه الآية الكريمة تؤيد قول من قال: إن النقض في فن الأصول تخصيص للعلة مطلقا، لا نقض لها، وعزاه في مراقي السعود للأكثرين في قوله في مبحث القوادح في الدليل في الأصول: * منها وجود الوصف دون الحكم * سماه بالنقض وعاة العلم * * والأكثرون عندهم لا يقدح * بل هو تخصيص وذا مصحح * إلى قوله: إلى قوله: * ولست فيما استنبطت بضائر * إن جاء لفقد شرط أو لمانع * وقد أطلعني بعض الإخوان على شرح لفضيلة الشيخ، رحمه الله، على مراقي السعود في أوائله على قول المؤلف: * ذو فترة بالفرع لا يراع وتكلم على حكم أهل الفترة، ثم على تخصيص بعض الآيات، ومن ثم إلى تخصيص العلة. وجاء في هذا المخطوط ما نصه: ورجح الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الحشر أن تخصيص العلة كتخصيص النص مطلقا، مستدلا بقوله تعالى: * (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) *، وقد فعل ذلك غير بني النضير، فلم يفعل لهم مثل ما فعل لهم والله أعلم ا ه. إلا أني طلبت هذا الترجيح في ابن كثير عند الآية، فلم أقف عليه فليتأمل، ولعله في غير التفسير. أما ما ذكره رحمه الله تعالى عن بعض في آداب البحث والمناظرة، وهو أنه: قد يتخلف الحكم عن العلة، لا لشيء من الأسباب التي ذكرنا، فالذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن تخلف الحكم عن العلة في غير اليهود، وإنما هو لتخلف جزء منها، وأن العلة
23 مركبة، أي هي في اليهود مشاقة وزيادة، تلك الزيادة لم توجد في غير اليهود، فوقع الفرق، وذلك أن مشاقة غير اليهود كانت لجهلهم وشكهم، كما أشار تعالى لذلك عنهم بقوله تعالى: * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) * إلى آخر السورة، فهم في حاجة إلى زيادة بيان، وكذلك في قوله في أول سورة ص: * (وعجبوا أن جآءهم م نذر منهم وقال الكافرون هاذا ساحر كذاب أجعل الا لهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا علىءالهتكم إن هاذا لشىء يراد ما سمعنا بهاذا فى الملة الا خرة إن هاذا إلا اختلاق أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى) *. فهم في عجب ودهشة واستبعاد أن ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الذكر من بينهم، وهم في شك من أمرهم، فهم في حاجة إلى إزالة الشك والتثبت من الأمر، ولذا لما زال عنهم شكهم وتبينوا من أمرهم، وراحوا يدخلون في دين الله أفواجا، بينما كان كفر اليهود جحود بعد معرفة، فكانوا يعرفونه صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم * (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) *، وقد سمي لهم فيما أنزل كما قال عيسى عليه السلام: * (ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد) * فلم ينفعهم بيان، ولكنه الحسد والجحود كما بين تعالى أمرهم بقوله عنهم: * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) * وقوله: * (ودت طآئفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) *، وقوله: * (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) *، وقوله: * (ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) *. فقد كانوا جبهة تضليل الناس، وتحريف للكتاب. وتلبيس للحق بالباطل. كل ذلك عن قصد وعلم، بدافع الحسد ومناصبة العداء وخصم هذا حاله فلا دواء له، لأن المدلس لا يؤمن جانبه، والمضلل لا يصدق، والحاسد لا يشفيه إلا زوال النعمة عن المحسود، ومن جانب آخر فقد قطع الله الطمع عن إيمانهم * (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) * كما أيأس من إيمانهم بعد إقرارهم على أنفسهم بتغلف قلوبهم عن سماع الحق ورؤية النور: * (وقالوا
24 قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون) *. وكل هذه الصفات لم تكن موجودة في كل من شاق الله ورسوله من غير اليهود، وقد صرح تعالى بأنهم استحقوا هذا الحكم للأسباب التي اختصوا بها دون غيرهم في قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هاؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) *. فكل ذلك من نقض الميثاق، والغدر في الصلح، وسفك الدماء، والتظاهر بالإثم والعدوان، والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، كان خاصا باليهود، فكانت العلة مركبة من المشاقة. ومن هذه الصفات التي اختصوا بها، وكان الحكم صريحا هنا بقوله عنهم: * (فما جزآء من يفعل ذالك منكم إلا خزى في الحيواة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) *. وكان خزيهم في الدنيا: هو ما وقع بهم من إخراج وتخريب وتقتيل. وإن من كانت هذه حاله كما تقدم، لم يكن لهم الاستئصال الكلي بإخراجهم أو تقتيلهم، فلم يعد يصلح فيهم استصلاح ولا يتوقع منهم صلاح، ويكفي شاهدا على ذلك أن بني قريظة لم يتعظوا، ولم يستفيدوا ولم يعتبروا كما أمرهم الله: * (فاعتبروا ياأولى الا بصار) *. ما اتعظ بنو قريظة بما وقع بإخوانهم بني النضير، فلجؤوا بعد عام واحد إلى ما وقع فيه بنو النضير من غدر وخيانة، فكان اختصاص اليهود بالحكم لتلك العلة المشتركة ، لأنهم وإن شاركهم غيرهم في المشاقة فلم يشاركهم غيرهم في الجانب الآخر مما قدمنا من دوافع المشاقة. وللدوافع تأثير في الحكم، كما في قصة آدم وإبليس. فقد اشترك آدم وإبليس في عموم علة العصيان، إذ نهي آدم عن قربان الشجرة، وأمر إبليس بالسجود لآدم مع الملائكة، فأكل آدم مما نهي عنه، وامتنع إبليس عما أمر به فاشتركا في العصيان كما قال تعالى عن آدم: * (وعصىءادم ربه فغوى) *، وقال عن إبليس: * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) *، ولكن السبب كان مختلفا، فآدم نسي ووقع تحت وسوسة
25 الشيطان فخدع بقسم إبليس بالله تعالى * (وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين) *، وكانت معصية عن إغواء ووسوسة * (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) *. أما إبليس، فكان عصيانه عن سبق إصرار، وعن حسد واستكبار كما قال تعالى: * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) *، ولما خاطبه الله تعالى بقوله: * (قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين) * قال في إصراره وحسده وتكبره: * (قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين) *. فاختلفت الدوافع، وكان لدى إبليس ما ليس لدى آدم في سبب العصيان وبالتالي اختلفت النتائج، فكانت النتيجة مختلفة تماما. أما آدم فحين عاتبه على أكله من الشجرة في قوله تعالى: * (وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكمآ إن الشيطان لكما عدو مبين) * رجعا حالا واعترفا بذنبهما قائلين: * (قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * وكانت العقوبة لهما قوله تعالى: * (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم فى الا رض مستقر ومتاع إلى حين) *. فكان هبوط آدم مؤقتا ولحقه قوله تعالى: * (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *، فأدركته هداية الله، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى: * (فتلقىءادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) *. أما نتيجة إبليس فلما عاتبه تعالى في معصيته في قوله تعالى: * (قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين) * كان جوابه استعلاء، وتعاظما، على النقيض مما كان في جواب آدم إذ قال: * (أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين) *، فكان جوابه كذلك عكس ما كان جوابا على آدم * (قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتى إلى يوم الدين) *. ولقد قالوا: إن الذي جر على إبليس هذا كله هو الحسد، حسد آدم على ما أكرمه الله به فاحتقره وتكبر عليه، فوقع في العصيان، وكانت نتيجته الطرد.
26 وهكذا اليهود: إن داءهم الدفين هو الحسد والعجب بالنفس، فجرهم إلى الكفر، ووقعوا في الخيانة، وكانت النتيجة القتل والطرد. وقد بين الشيخ رحمه الله أن مشاقة اليهود هذه هي من الإفساد في الأرض الذي نهاهم الله عنه، وعاقبهم عليه مرتين، وتهددهم إن هم عادوا للثالثة عاد للانتقام منهم، وها هم قد عادوا، وشاقوا الله ورسوله، فسلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين. قال رحمه الله في سورة الإسراء عند قوله تعالى: * (وإن عدتم عدنا) *، لما بين تعالى أن بني إسرائيل قضي إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين وبين نتائج هاتين المرتين بين تعالى أيضا: أنهم إن عادوا للإفساد في المرة الثالثة، فإنه جل وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم، وذلك في قوله: * (وإن عدتم عدنا) *، ولم يبين هنا هل عادوا للإفساد في المرة الثالثة أم لا؟ ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته، ونقض عهوده، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة، فعاد الله جل وعلا للانتقام منهم تصديقا لقوله: * (وإن عدتم عدنا) * فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وجرى على بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع وخيبر، ما جرى من القتل والسلب والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلة والمسكنة. ومن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى: * (ولما جآءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جآءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده فبآءو بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) *. وقوله: * (أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم) *. وقوله: * (ولا تزال تطلع على خآئنة منهم) * ونحو ذلك من الآيات. ومن الآيات الدالة على أنه تعالى عاد إلى الانتقام منهم قوله تعالى: * (هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف فى قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا ياأولى الا بصار ولولا أن كتب الله
27 عليهم الجلاء لعذبهم فى الدنيا ولهم فى الا خرة عذاب النار ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله ومن يشآق الله فإن الله شديد العقاب) * وقوله: * (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف فى قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) * الآية ا ه منه. فهذا منه رحمه الله بيان ودليل إلى مغايرة المشاقة الواقعة من اليهود للمشاقة الواقعة من غيرهم، فكان تخلف الحكم عمن شاقوا الله ورسوله من غير اليهود لتخلف بعض العلة في الحكم كما قدمنا. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين) *. اللينة هنا، قيل اسم عام للنخل، وهذا اختيار ابن جرير. وقيل: نوع خاص منه، وهو ما عدا البرني والعجوة فقط: ونقل ابن جرير عن بعض أهل البصرة يقول: اللينة من اللون، وقال: وإنما سميت لينة، لأنها فعلة من فعل وهو اللون، وهو ضرب من النخل: ولكن لما انكسر ما قبلها انقلبت إلى ياء إلخ وهذا الأخير قريب مما عليه أهل المدينة اليوم: حيث يطلقون كلمة (لونة) على ما لا يعرفون له اسما خاصا، ولعل كلمة لونة محرفة عن كلمة لينة، ويوجد عند أهل المدينة من أنواع النخيل ما يقرب من سبعين نوعا. وقيل: إن اللينة كل شجرة لليونتها بالحياة. وقد نزلت هذه الآية في تقطيع وتحريق بعض النخيل لبني النضير عند حصارهم وقطع من البستان المعروف بالبويرة، كما روى ابن كثير عن صاحبي الصحيحين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة، فأنزل الله عز وجل: * (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله) * (الحشر: 5) الآية. وقال حسان رضي الله عنه: وقال حسان رضي الله عنه: * وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير * والبويرة معروفة اليوم، وهي بستان يقع في الجنوب الغربي من مسجد قباء.
28 وقيل في سبب نزولها: إن اليهود قالوا: يا محمد إنك تنهي عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله الآية. وقيل: إن المسلمين نهى بعضهم بعضا عن قطع النخيل، وقالوا إنما هو مغانم المسلمين، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطع من الإثم، وأن قطع ما قطع وترك ما ترك * (فبإذن الله وليخزى الفاسقين) *. وعلى هذه الأقوال، قال ابن كثير وغيره: إن قوله تعالى: * (فبإذن الله) * أي الإذن القدري والمشيئة الإلهية، أي كما في قوله تعالى: * (ومآ أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله) *، وقوله: * (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) *. والذي يظهر والله تعالى أعلم. أن الإذن المذكور في الآية، هو إذن شرعي، وهو ما يؤخذ من عموم الإذن في قوله تعالى: * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) *، لأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه بناء على قاعدة الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به. والحصار نوع من القتال، ولعل من مصلحة الحصار قطع بعض النخيل لتمام الرؤية، أو لإحكام الحصار، أو لإذلال وإرهاب العدو في حصاره وإشعاره بعجزه عن حماية أمواله وممتلكاته، وقد يكون فيه إثارة له ليندفع في حمية للدفاع عن ممتلكاته وأمواله، فينكشف عن حصونه ويسهل القضاء عليه، إلى غير ذلك من الأغراض الحربية، والتي أشار الله تعالى إليها في قوله: * (وليخزى الفاسقين) * أي بعجزهم وإذلالهم وحسرتهم، وهم يرون نخيلهم يقطع ويحرق فلا يملكون له دفعا. وعلى كل فالذي أذن بالقتال وهو سفك الدماء وإزهاق الأنفس وما يترتب عليه من سبي وغنائم لا يمنع في مثل قطع النخيل إن لزم الأمر، ويمكن أن يقال: إن ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبإذن الله أذن. وبهذا يمكن أن يقال: إذا حاصر المسلمون عدوا، ورأوا أن من مصلحتهم أو من مذلة العدو إتلاف منشآته وأمواله، فلا مانع من ذلك. والله تعالى أعلم. وغاية ما فيه، أنه إتلاف بعض المال للتغلب على العدو وأخذ جميع ماله، وهذا له
29 نظير في الشرع، كعمل الخضر في سفينة المساكين لما خرقها، أي أعابها بإتلاف بعضها ليستخلصها من اغتصاب الملك إياها، وقال: * (وما فعلته عن أمرى) *. وقد جاء اعتراض المشركين على المسلمين في قتالهم في الأشهر الحرم، كما اعترض اليهود على المسلمين في قطع النخيل، وذلك في قوله تعالى: * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل) *. فقد تعاظم المشركون قتل المسلمين لبعض المشركين في وقعة نخلة، ولم يتحققوا دخول الشهر الحرام، واتهموهم باعتداء على حرمة الأشهر الحرم، فأجابهم الله تعالى بموجب ما قالوا بأن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن ما ارتكبه المشركون من صد عن سبيل الله وكفر بالله، وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه وهم المسلمون أكبر عند الله، والفتنة عن الدين وأكبر من القتل، أي الذي استنكروه من المسلمين. وهكذا هنا، لئن تعاظم اليهود على المسلمين قطع بعض النخيل، وعابوا على المسلمين إيقاع الفساد بإتلاف بعض المال، فكيف بهم بغدرهم وخيانتهم نقضهم العهود، وتمالئهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد سجل هذا المعنى كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الأشرف:؟ وقد سجل هذا المعنى كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الأشرف: * لقد خزيت بغدرتها الحبور * كذاك الدهر ذو صرف يدور * * وذلك أنهم كفروا برب * عظيم أمره أمر كبير * * وقد أوتوا معا فهما وعلما * وجاءهم من الله النذير * إلى أن قال: إلى أن قال: * فلما أشربوا غدرا وكفرا * وجذبهم عن الحق الثغور * * أرى الله النبي برأي صدق * وكان الله يحكم لا يجور * * فأيده وسلطه عليهم * وكان نصيره نعم النصير * فقد أشار إلى أن خزي بني النضير بسبب غدرهم وكفرهم بربهم، فكان الإذن في قطع النخيل هو إذن شرعي، ويمكن أن يقال عنه، هو عمل تشريعي إذا ما دعت الحاجة، لمثل ما دعت الحاجة هنا إليه. والعلم عند الله تعالى
30 . قوله تعالى: * (ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) *. الضمير في منهم هنا عائد على بني النضير. والفيء: الغنيمة بدون قتال، وقد جعله تعالى هنا على رسوله خاصة. وقال: * (فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولاكن الله يسلط رسله على من يشآء) * أي لما كان إخراج اليهود مرده إلى الله تعالى بما قذف في قلوبهم الرعب، وبما سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه فيه غيره. وقد جاء مصداق ذلك عن عمر رضي الله عنه الذي ساقه الشيخ تغمده الله برحمته عند آخر كلامه على مباحث الأنفال عند قوله: المسألة التاسعة: اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير لا من المغانم، وساق حديث أنس بن أوس المتفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في قصة مطالبة علي والعباس ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال لهما: إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا بشيء لم يعطه أحدا غيره، فقال عز وجل: * (ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم) * إلى قوله * (قدير) *، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموه وبثها فيكم، حتى بقي منها هذا المال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل ما لله إلخ ا ه. وكانت هذه خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء بعدها ما هو أعم من ذلك في قوله تعالى: * (مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى) * أي عموما * (فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) *. وهذه الآية لعمومها مصدرا ومصرفا، فقد اشتملت على أحكام ومباحث عديدة، وقد تقدم لفضيلة الشيخ تغمده الله برحمته الكلام على كل ما فيها عند أول سورة الأنفال على قوله تعالى: * (يسألونك عن الأنفال) *، فاستوفى واستقصى وفصل وبين مصادر ومصارف الفيء والغنيمة والنفل. وما فتح من البلاد صلحا أو عنوة، ومسائل عديدة مما لا مزيد عليه، ولا غنى عنه والحمد لله تعالى. قوله تعالى: * (كى لا يكون دولة بين الا غنيآء منكم) *.
31 معنى الدولة والدولة بضم الدال في الأولى، وفتحها في الثانية: يدور عند المفسرين على معنيين: الدولة بالفتح: الظفر في الحرب وغيره، وهي المصدر، وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال. وقال الزمخشري: معنى الآية. كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطي الفقراء، ليكون لهم بلغة يعيشون بها جدا بين الأغنياء يتكاثرون به، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم. ومعنى الدولة الجاهلية: أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة، لأنهم أهل الرئاسة والغلبة والدولة، وكانوا يقولون: من عز بز، والمعنى: كيلا يكون أخذه غلبة أثرة جاهلية، ومنه قول الحسن: اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا، يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به. إلخ. والجدير بالذكر هنا: أن دعاة بعض المذاهب الاقتصادية الفاسدة، يحتجون بهذا الآية على مذهبهم الفاسد ويقولون: يجوز للدولة أن تستولي على مصادر الإنتاج ورؤوس الأموال، لتعطيها أو تشرك فيها الفقراء، وما يسمونهم طبقة العمال، وهذا على ما فيه من كساد اقتصادي، وفساد اجتماعي، قد ثبت خطؤه، وظهر بطلانه مجانبا لحقيقة الاستدلال. لأن هذا المال ترك لمرافق المسلمين العامة. من الإنفاق على المجاهدين، وتأمين الغزاة في الحدود والثغور، وليس يعطي للأفراد كما يقولون، ثم هو أساسا مال جاء غنيمة للمسلمين، وليس نتيجة كدح الفرد وكسبه. ولما كان مال الغنيمة ليس ملكا لشخص، ولا هو أيضا كسب لشخص معين. تحقق فيه العموم في مصدره، وهو الغنيمة، والعموم في مصرفه، وهو عموم مصالح الأمة، ولا دخل ولا وجود للفرد فيه، فشتان بين هذا الأصل في التشريع وهذا الفرع في التضليل. ومن المؤسف أنهم يؤيدون دعواهم بإقحام الحديث في ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ)، ومعلوم أن الشركة في هذه الثلاثة ما دامت على عمومها فالماء شركة بين الجميع ما دام في مورده من النهر أو البئر العام أو السيل أو الغدير. أما إذا انتقل من مورده العام وأصبح في حيازة ما، فلا شركة لأحد فيه مع من حازه، كمن ملأ إناء من النهر أو السيل ونحوه، فما كان في إنائه فهو خاص به، وهذا الكلأ
32 ما دام عشبا في الأرض العامة لا في ملك إنسان معين فهو عام لمن سبق إليه، فإذا ما احتشه إنسان وحازه، فلا شركة لأحد فيه، وكذلك ما كان منه نابتا في ملك إنسان بعينه فهو أحق به من غيره. ويظهر ذلك بالحوت في البحر والنهر فهو مشاع للجميع، والطير في الهواء يصاد. فإنه قدر مشترك بين جميع الصيادين، فإذا ما صاده إنسان فقد حازه واختص به، وهذا أمر تعترف فيه جميع النظم الاقتصادية وتعطي تراخيص رسمية لذلك. وهناك العمل الجاري في تلك الدول، مما يجعلهم يتناقضون في دعواهم الاشتراك في الماء والنار والكلأ، وذلك في شركات المياه والنور فإنهم يجعلون في كل بيت عدادا يعد جالونات الماء التي استهلكها المنزل ويحاسبونه عليه، وإذا تأخر قطعوا عليه الماء وحرموه من شربه. وكذلك التيار الكهربائي، فإنه نار، وهو الطاقة الفعالة في المدن فإنهم يقيسونه بعداد يعد الكيلوات، ويبيعونه على المستهلك، فلماذا لا يجعلون الماء والكهرباء، شركة بين المواطنين؟ أم الناس شركاء فيما لا يعود على الدولة، أما حق الدولة فخاص للحكام؟ إنه عكس ما في قضية الفيء تماما. حيث إن الفيء والغنيمة الذي جعله الله حلالا من مال العدو، وهو كسب عام دخل على الأمة بمجهود الأمة كلها، الماثل في الجيش الذي يقاتل باسمها، وجعله تعالى في مصارف عامة في مصالح الأمة، لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. فلله: أي الجهاد في سبيل الله. وللرسول: لقيامه بأمر الأمة، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ نفقة أهله عاما، وما بقي يرده في سبيل الله. ولذي القربى. من تلزمه نفقتهم.
33 واليتامى والمساكين: هذا هو التكافل الاجتماعي في الأمة. وابن السبيل: المنقطع في سفره، وهذا تأمين للمواصلات. فكان مصرفه بهذا العموم دون اختصاص شخص به أو طائفة * (كى لا يكون دولة بين الا غنيآء منكم) *. وإنه لمن مواطن الإعجاز في القرآن. أن يأتي بعد هذا التشريع قوله تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله) *، لأنه تشريع في أمر يمس الوتر الحساس في النفس، وهو موطن الشح والحرص، ألا وهو كسب المال الذي هو صنو النفس، والذي تولى الله قسمته في أهم من ذلك، وهو في الميراث. قسمه تعالى مبينا فروضه، وحصة كل وارث، لأنه كسب بدون مقابل، وكسب إجباري. والنفوس متطلعة إليه فتولاه الله تعالى، وكذلك الفيء والغنيمة، وحرم الغلول فيه قبل القسمة. ومثل هذا المال هو الذي ألفوا قسمته مغنما، والذي بذلوا النفوس والمهج قبل الوصول إليه، فإذا بهم يمنعون منه، ويحال بينهم وبينه، فيقسم المنقول فقط، ولا يقسم العقار الثابت، ويقال لهم: حدث هذا * (كى لا يكون دولة بين الا غنيآء منكم) *، سواء الأغنياء بأبدانهم وقدرتهم على العمل وعلى الجهاد أو الأغنياء بأموالهم بما حصلوه من مغانم قبل ذلك. وكان لا بد لنفوسهم من أن تتحرك نحو هذا المال، وفعلا ناقشوا عمر رضي الله عنه فيه، ولكن هنا يأتي سوط الطاعة المسلت، وأمر التشريع المسكت إنه عن الله أتاكم به رسول الله: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله) * فإن الآية وإن كانت عامة في جميع التشريع إلا أنها هنا أخص، وهي به أقرب، والمقام إليها أحوج. وهنا ينتقل بنا القول إلى ما آتانا به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذا المعنى بالذات أي: معنى المشاركة في الأموال. لقد جاء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وقد أعانهم الله على شح نفوسهم، فمجتمعهم مجتمع بذل وإعطاء وتضحية
34 وإيثار، ومع هذا فقد كان منه صلى الله عليه وسلم أن يأتيه الضيف فلا يجد له قرى في بيته، فيقول لأصحابه: (من يضيف هذا، الليلة وله الجنة؟) فيأخذه بعض أصحابه، ويأتيه فقراء المهاجرين يطلبونه ما يحملهم عليه في الجهاد، فيعتذر إليهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا: ألا يجدوا ما يحملهم عليه، ويأتيه القدح من اللبن، فيدعو: يا أهل الصفة. ليشاركوه إياه لقلة ما عندهم، وأبو هريرة يخرج من المسجد فيصرع على بابه من الجوع، بينما العديد من أصحابه ذوو يسار، منهم من يجهز الجيش من ماله، ومنهم من يتصدق بالقافلة كلماة وما فيها، ومنهم من يتصدق بخيار بساتين المدينة ومنهم ومنهم فلم يأخذ قط ولا درهما واحدا ممن تصدق بقافلة كاملة وما تحمل، لم يأخذ منه درهما بدون رضاه، ليشارك معه فيه واحدا من أهل الصفة، ولا ممن تصدق ببستانه صاع تمر يعطيه لأبي هريرة، يسد مسغبته، ولا بعيرا واحدا ممن جهز جيشا من ماله ليحمل عليه متطوعا في سبيل الله. إنها أموال محترمة، وأملاك مستقرة خاصة بأصحابها، فهناك غنيمة وفيء أخذ بقوة الأمة ومددها للجيش، جعل في مصارف عامة للأمة وللجيش، وهنا أموال خاصة لم تمس ولم تلمس، إلا برضى نفس وطيب خاطر، ولذا كانوا يجودون ولا يبخلون، ويعطون ولا يشحون، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وكان مجتمعا متكافلا مؤتلفا متعاطفا وسيأتي زيادة إيضاح لهذا المجتمع عند الكلام على مجتمع المدينة على قوله تعالى: * (للفقرآء المهاجرين) *، وما بعدها من الآيات إن شاء الله تعالى. وللشيخ رحمه الله تعالى كلام مقنع على هذه المسألة في سورة الزخرف على قوله تعالى: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيواة الدنيا) *. نسوق نصه لأهميته: قال رحمه الله: مسألة: دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا كقوله تعالى: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم) *. وقوله تعالى: * (والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق) *. ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه، * (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) * وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع
35 النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون. وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس لينعموا بها ويتصرفوا فيها كيف شاءوا تحت ستار كثيف من أنواع الكذب والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم. فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء، حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير. وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير، وهذا غني، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * وفي قوله: * (فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * وعيد شديد لمن فعل ذلك. انتهى حرفيا. والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم، وليس في خزائنه من نقص ولكنها الحكمة لمصلحة عباده، وفي الحديث القدسي: (إن من عبادي لمن يصلح له الفقر، ولو أغنيته لفسد حاله، وإن من عبادي لمن يصلح له الغنى ولو أفقرته لفسد حاله) فهو سبحانه يعطي بقدر، ولا يمسك عن قتر. ويكفي في هذا المقام سياق الآية الكريمة التي تكلم الشيخ رحمة الله تعالى عليه في أسلوبها في قوله تعالى: * (نحن قسمنا) * وهذا الضمير معلوم أنه للتعظيم والتفخيم، ومثله الضمير في قسمنا، فلا مجال لتدخل المخلوق، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك. والقسمة إذا كانت من الله تعالى، فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك بل ويتوقف عليه، كما قال تعالى * (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) *. وهؤلاء المعتدون على أموال الناس يعترفون بذلك، ويقرون نظام الطبقات عمال وغير عمال. إلخ، فلا دليل في آية سورة الحشر هنا * (كى لا يكون دولة بين الا غنيآء
36 منكم) * ولا حق لهم فيما فعلوا في أموال الناس بهذا المبدأ الباطل. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *. قال الشيخ رحمه الله تعالى في المقدمة: إن السنة كلها مندرجة تحت هذه الآية الكريمة، أي أنها ملزمة للمسلمين العمل بالسنة النبوية، فيكون الأخذ بالسنة أخذا بكتاب الله، ومصداق ذلك قوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى) *. وقد قال السيوطي: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته، وتعبدنا بتلاوته، وهو القرآن الكريم. ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته وهو السنة. وقد عمل بذلك سلف الأمة وخلفها، كما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال في مجلسه بالمسجد النبوي: لعن الله في كتابه الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة، فقالت امرأة قائمة عنده، وفي كتاب الله؟ قال: نعم، قالت: لقد قرأته من دفته إلى دفته، فلم أجد هذا الذي قلت، فقال لها: لو كنت قرأتيه لوجدتيه، أو لم تقرئي قوله تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة، ومن لعنها رسول الله فقد لعنها، فقالت له: لعل بعض أهلك يفعله؟ فقال لها: ادخلي وانظري فدخلت بيته ثم خرجت ولم تقل شيئا، فقال لها: ما رأيت؟ قالت: خيرا، وانصرفت. وجاء الشافعي وقام في أهل مكة. فقال: سلوني يا أهل مكة عما شئتم أجبكم عنه من كتاب الله. فسأله رجل عن المحرم يقتل الزنبور، ماذا عليه في كتاب الله. فقال: يقول الله تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) الحديث، وحدثني فلان عن فلان، وساق بسنده إلى عمر بن الخطاب، سئل: المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه، فقال: لا شيء عليه. فقد اعتبر سعيد بن المسيب السنة من كتاب الله، والشافعي اعتبر سنة الخلفاء الراشدين من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، واعتبر كل منهما جوابه من كتاب الله بناء على هذه الآية الكريمة.
37 وهذا ما عليه الأصوليون يخصصون بها عموم الكتاب، ويقيدون مطلقه. فمن الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان. أما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان: فالكبد والطحال) فخص بهذا الحديث عموم قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة والدم) *، وكذلك في النكاح: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا المرأة على خالتها)، وخص بها عموم: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) *، ونحوه كثير. ومن الثاني: قطعه صلى الله عليه وسلم يد السارق من الكوع تقييدا لمطلق * (فاقطعوا أيديهما) *، وكذلك مسح الكفين في التيمم تقييدا أو بيانا لقوله تعالى: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) *، ونحو ذلك كثير، وكذلك بيان المجمل كبيان مجمل قوله تعالى: * (وأقيموا الصلواة وآتوا الزكواة) * فلم يبين عدد الركعات لكل وقت، ولا كيفية الأداء، فصلى صلى الله عليه وسلم على المنبر وهم ينظرون، ثم قال لهم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وحج وقال لهم: (خذوا عني مناسككم). وقد أجمعوا على أن السنة أقوال وأفعال وتقرير، وقد ألزم العمل بالأفعال قوله تعالى: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) *، والتأسي يشمل القول والفعل، ولكنه في الفعل أقوى، والتقرير مندرج في الفعل، لأنه ترك الإنكار على أمر ما، والترك فعل عند الأصوليين، كما قال صاحب مراقي السعود. * والترك فعل في صحيح المذهب تنبيه تنقسم أفعاله صلى الله عليه وسلم إلى عدة أقسام: أولا: ما كان يفعله بمقتضى الجبلة، وهو متطلبات الحياة من أكل وشرب ولبس ونوم، فهذا كله يفعله استجابة لمتطلبات الحياة، وكان يفعله قبل البعثة ويفعله كل إنسان، فهو على الإباحة الأصلية، وليس فيه تشريع جديد، ولكن صورة الفعل، وكيفيته ككون الأكل والشراب باليمين إلخ، وكونه من أمام الآكل، فهذا هو موضع التأسي به صلى الله عليه وسلم وكذلك نوع المأكول أو تركه ما لم يكن لمانع كعدم أكله صلى الله عليه وسلم للضب والبقول المطبوخة، وقد بين السبب في ذلك، فالأول: لأنه ليس في أرض قومه فكان يعافه، والثاني لأنه يناجي من لا نناجي، وقد قال صاحب المراقي: للضب والبقول المطبوخة، وقد بين السبب في ذلك، فالأول: لأنه ليس في أرض قومه فكان يعافه، والثاني لأنه يناجي من لا نناجي، وقد قال صاحب المراقي: * وفعله المركوز في الجبلة * كالأكل والشرب فليس مله *
38 ثانيا: ما كان مترددا بين الجبلة والتشريع كوقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفة راكبا على ناقته، ونزوله بالمحصب منصرفه من منى. فالوقوف الذي هو ركن الحج يتم بالتواجد في الموقف بعرفة على أية حالة، فهل كان وقوفه صلى الله عليه وسلم راكبا من تمام نسكه. أم أنه صلى الله عليه وسلم فعله دون قصد إلى النسك؟ خلاف بين الأصوليين. ولا يبعد من يقول: قد يكون فعله صلى الله عليه وسلم هذا ليكون أبرز لشخصه في مثل هذا الجمع، تسهيلا على من أراده لسؤال أو رؤية أو حاجة. فيكون تشريعا لمن يكون في منزلته في المسؤولية. ثالثا: ما ثبتت خصوصيته به مثل جواز جمعه بين أكثر من أربع نسوة بالنكاح لقوله تعالى: * (ياأيها النبى إنآ أحللنا لك أزواجك) *، وكن أكثر من أربع، ونكاح الواهبة نفسها لقوله تعالى: * (خالصة لك من دون المؤمنين) * فهذا لا شركة لأحد معه فيه. رابعا: ما كان بيانا لنص قرآني، كقطعه صلى الله عليه وسلم يد السارق من الكوع بيانا لقوله تعالى * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *. وكأعمال الحج والصلاة، فهما بيان لقوله تعالى * (وأقيموا الصلواة) *، وقوله: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) *، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وقال: (خذوا عني مناسككم)، فهذا القسم حكمه للأمة، حكم المبين بالفتح، ففي الوجوب واجب، وفي غيره بحسبه. خامسا: ما فعله صلى الله عليه وسلم لا لجبلة ولا لبيان، ولم تثبت خصوصيته له، فهذا على قسمين: أحدهما أن يعلم حكمه بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوب أو ندب أو إباحة، فيكون حكمه للأمة كذلك، كصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة، وقد علمنا أنها في حقه صلى الله عليه وسلم جائزة، فهي للأمة على الجواز. ثانيهما: ألا يعلم حكمه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا القسم أربعة أقوال: أولها: الوجوب. عملا بالأحوط، وهو قول أبي حنيفة وبعض الشافعية، ورواية عن
39 أحمد. ثانيها: الندب، لرجحان الفعل على الترك، وهو قول بعض الشافعية، ورواية عن أحمد أيضا. ثالثها: الإباحة، لأنها المتيقن، ولكن هذا فيما لا قربة فيه، إذ القرب لا توصف بالإباحة. رابعها: التوقف، لعدم معرفة المراد، وهو قول المعتزلة، وهذا أضعف الأقوال، لأن التوقف ليس فيه تأس. فتحصل لنا من هذه الأقوال الأربعة أن الصحيح الفعل تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم وجوبا أو ندبا، ومثلوا لهذا الفعل بخلعه صلى الله عليه وسلم نعله في الصلاة، فخلع الصحابة كلهم نعالهم، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم سألهم عن خلعهم نعالهم قالوا: رأيناك فعلت ففعلنا، فقال لهم: (أتاني جبريل وأخبرني أن في نعلي أذى فخلعتها)، فإنه أقرهم على خلعهم تأسيا به. ولم يعب عليهم مع أنهم لم يعلموا الحكم قبل إخباره إياهم. وقد جاء هنا * (ومآ ءاتاكم) * بصيغة العموم. وقال الشيخ رحمه الله في دفع الإيهام في سورة الأنفال عند قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) *، ما نصه: وهذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا، ونظيرها قوله تعالى: * (ولا يعصينك فى معروف) *. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقا من غير قيد، كقوله: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * وقوله: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله) *، * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) *. والظاهر: أن وجه الجمع والله تعالى أعلم: أن آيات الإطلاق مبينة أنه صلى الله عليه وسلم لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة، فالشرط المذكور في قوله: * (إذا دعاكم) * متوفر في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمكان عصمته، كما دل عليه قوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى) *. والحاصل: أن آية * (إذا دعاكم لما يحييكم) * مبينة أنه لا طاعة إلا لمن يدعو إلى ما يرضي الله، وأن الآيات الأخر بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أبدا إلا إلى ذلك، صلوات
40 الله وسلامه عليه. انتهى. وقد بينت السنة كذلك حقيقة ومنتهى ما جاء به صلى الله عليه وسلم في قوله: (ما تركت خيرا يقربكم إلى الله إلا بينته لكم وأمرتكم به، وما تركت شرا يباعدكم عن الله إلا بينته لكم، وأمرتكم به وما تركت شرا يباعدكم عن الله إلا بينته لكم وحذرتكم منه ونهيتكم عنه). تنبيه الواقع أن العمل بهذه الآية الكريمة هو من لوازم نطق المسلم بالشهادتين. لأن قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، اعتراف لله تعالى بالألوهية وبمستلزماتها، ومنها إرسال الرسل إلى خلقه، وإنزال كتبه وقوله: أشهد أن محمدا رسول الله، اعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الله لخلقه، وهذا يستلزم الأخذ بكل ما جاء به هذا الرسول الكريم من الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يعبد الله إلا بما جاءه به رسول الله، ولا يحق له أن يعصي الله بما نهاه عنه رسول الله، فهي بحق مستلزمة للنطق بالشهادتين. ويؤيد هذا قوله تعالى: * (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الا خر) * فربط مرد الخلاف إلى الله والرسول بالإيمان بالله واليوم الآخر. وقال الشيخ رحمه الله عند هذه الآية في سورة النساء: أمر الله في هذه الآية الكريمة بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه، أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لأنه تعالى قال: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * انتهى. فاتضح بهذا كله أن ما أتانا به صلى الله عليه وسلم فهو من عند الله، وأنه بمنزلة القرآن في التشريع، وأن السنة تستقل بالتشريع كما جاءت بتحريم لحوم الحمر الأهلية. وكل ذي مخلب من الطير وناب من السباع، وبتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، أو هي مع ابنة أخيها أو ابنة أختها ونحو ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم على أريكة أهله يقول: ما وجدنا في كتاب الله أخذناه، وما لم نجده في كتاب الله تركناه، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه). والنص هنا عام في الأخذ بكل ما أتانا به، وترك ما نهانا عنه، وقد جاء تخصيص هذا
41 العموم في قوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *، وقوله: * (ليس على الا عمى حرج ولا على الا عرج حرج ولا على المريض حرج) * وقوله تعالى: * (ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا) *. وجاء الحديث ففرق بين عموم النهي في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا) وقد جاء هذا التذييل على هذه الآية بقوله تعالى: * (واتقوا الله إن الله شديد آلعقاب) * إيذانا بأن هذا التكليف لا هوادة فيه، وأنه ملزم للأمة سرا وعلنا، وأن من خالف شيئا منه يتوجه إليه هذا الإنذار الشديد، لأن معصيته معصية لله، وطاعته من طاعة الله * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * ولعلم عند الله تعالى. * (للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولائك هم الصادقون * والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة ممآ أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولائك هم المفلحون * والذين جآءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين ءامنوا ربنآ إنك رءوف رحيم * ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الا دبار ثم لا ينصرون * لانتم أشد رهبة فى صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون * لا يقاتلونكم جميعا إلا فى قرى محصنة أو من ورآء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون * كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم * كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إنى برىء منك إنى أخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهمآ أنهما فى النار خالدين فيها وذلك جزآء الظالمين * ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولائك هم الفاسقون) * قوله تعالى: * (للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولائك هم الصادقون) *. في هذه الآية الكريمة وصف شامل للمهاجرين في دوافع الهجرة: أنهم * (يبتغون فضلا من الله ورضوانا) *، وغايتها: وهي * (وينصرون الله ورسوله) *، والحكم لهم بأنهم * (أولائك هم الصادقون) *. ومنطوق هذه الأوصاف يدل بمفهومه أنه خاص بالمهاجرين، مع أنه جاءت نصوص أخرى تدل على مشاركة الأنصار لهم فيه: منها قوله تعالى: * (إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولائك بعضهم أوليآء بعض) *، وقوله تعالى بعدها: * (والذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولائك هم المؤمنون حقا) *. فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس، وذكر معهم الأنصار بالإيواء والنصر، ووصف الفريقين معا بولاية بعضهم لبعض، وأثبت لهم معا حقيقة الإيمان * (أولائك هم المؤمنون حقا) *، أي الصادقون في إيمانهم، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة وفي صدق الإيمان. وفي قوله تعالى: * (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة ممآ أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *
42 وصف شامل للأنصار، تبوءوا الدار: أي المدينة، والإيمان من قبلهم: أي بيعة العقبة الأولى والثانية من قبل مجيء المهاجرين، بل ومن قبل إيمان بعض المهاجرين يحبون من هاجر إليهم ويستقبلونه بصدور رحبة، ويؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، لأنهم هاجروا إليهم. وظاهر النصوص تدل بمفهومها أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات، ولكن في الآية الأولى ما يدل لمشاركة المهاجرين الأنصار في هذا الوصف الكريم، وهو الإيثار على النفس، لأن حقيقة الإيثار على النفس هو بذل المال للغير عند حاجته مقدما غيره على نفسه، وهذا المعنى بالذات سبق أن كان من المهاجرين أنفسهم المنصوص عليه في قوله تعالى: * (للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) * فكانت لهم ديار، وكانت عندهم أموال وأخرجوا منها كلها، فلئن كان الأنصار واسوا إخوانهم المهاجرين ببعض أموالهم، وقاسموهم ممتلكاتهم، فإن المهاجرين لم ينزلوا عن بعض أموالهم فحسب، بل تركوها كلها. أموالهم وديارهم وأولادهم وأهلهم، فصاروا فقراء بعد إخراجهم من ديارهم وأموالهم. ومن يخرج من كل ماله ودياره ويترك أهله وأولاده، لا يكون أقل تضحية ممن آثر غيره ببعض ماله، وهو مستقر في أهله ودياره، فكأن الله عوضهم بهذا الفيء عما فات عنهم. وقد ذكر ابن كثير رحمه الله: أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار ما يشعر بهذا المعنى، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم) فقالوا يا رسول الله: أموالنا بيننا قطائع الحديث. أي أن الأنصار عرفوا ذلك للمهاجرين، وعليه أيضا، فقد استوى المهاجرون مع الأنصار في هذا الوصف المثالي الكريم، وكان خلقا لكثيرين منهم بعد الهجرة كما فعل الصديق رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله فقال له، رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله. وكذلك عائشة الصديقة رضي الله عنها. حينما كانت صائمة وليس عندها سوى قرص من الشعير وجاء سائل فقالت لبريرة: ادفعي إليه ما عندك، فقالت: لها: ليس إلا ما ستفطرين عليه، فقالت لها: ادفعيه إليه، ولعلها أحوج إليه الآن، أو كما قالت. ولما جاء المغرب أهدى إليهم رجل شاة بقرامها وقرامها هو ما كانت العرب تفعله
43 إذا أرادوا شواء شاة طلوها من الخارج بالعجين حفظا لها من رماد الجمر فقالت لبريرة: كلي، هذا خير من قرصك. وكما فعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بالعير وما تحمله من تجارة حين قدمت، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فخرج الناس إليها. فعلى هذا، كان مجتمع المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم مجتمعا متكافلا بعضهم أولياء بعض، وقد نوه صلى الله عليه وسلم في قصة غنائم حنين بفضل كلا الفريقين في قوله صلى الله عليه وسلم: (لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار). ومن بعده عمر رضي الله عنه قال: وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوأوا الدار والإيمان، من قبل أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم. ثم كان هذا خلق المهاجرين والأنصار جميعا، كما وقع في وقعة اليرموك، قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه آه، فأشار إلي ابن عمي أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول آه آه. فأشار هشام أن أنطلق إليه فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وكان منهج الخواص من بعدهم، كما نقل القرطبي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ، قدم علينا حاجا فقال لي: ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا، وإن فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا. وفي قوله: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *. الإيثار على النفس: تقديم الغير عليها مع الحاجة، والخصاصة: التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص، وهو الانفراد في الأمر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة أي ولو كان بهم فاقة وحاجة. ومنه قول الشاعر: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *. الإيثار على النفس: تقديم الغير عليها مع الحاجة، والخصاصة: التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص، وهو الانفراد في الأمر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة أي ولو كان بهم فاقة وحاجة. ومنه قول الشاعر: * أما الربيع إذا تكون خصاصة * عاش السقيم به وأثرى المقتر *
44 وهل يصح الإيثار من كل إنسان ولو كان ذا عيال أو تلزمه نفقة غيره أم لا؟ وما علاقته مع قوله: * (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) *؟. والجواب على هذا كله في كلام الشيخ رحمه الله على قوله تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) * في أول سورة البقرة. قال رحمه الله: قوله تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) *، عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ما له كله، ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إمساكه، ولكنه بين في مواضع أخرى أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة، وسد الخلة التي لا بد منها، وذلك كقوله: * (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) *، والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور ومنه قوله تعالى: * (حتى عفوا) * أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم. وقال بعض العلماء: العفو نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع. ومنه قول الشاعر: ومنه قول الشاعر: * خذي العفو مني تستديمي مودتي * ولا تنطقي في سورتي حين أغضب * وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا، وبقية الأقوال ضعيفة، وقوله تعالى: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) *، فنهاه عن البخل بقوله: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) *، ونهاه عن الإسراف بقوله: * (ولا تبسطها كل البسط) *، فيتعين الوسط بين الأمرين، كما بينه بقوله: * (والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) *. فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير وبين البخل والإقتار، فالجود غير التبذير، والاقتصاد غير البخل فالمنع في محل الإعطاء مذموم، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك)، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضا، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولا تبسطها كل البسط).
45 وقد قال الشاعر: وقد قال الشاعر: * لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت * يداه كالمزن حتى تخجل الديما * * فإنها خطرات من وساوسه * يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما * وقد بين تعالى في مواضع أخرى، أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا إذا كان مصرفه الذي صرف فيه مما يرضي الله كقوله تعالى: * (قل مآ أنفقتم من خير فللوالدين والا قربين) *، وصرح في أن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله: * (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) *. وقد قال الشاعر: وقد قال الشاعر: * إن الصنيعة لا تعد صنيعة * حتى يصاب بها طريق المصنع * فإن قيل: هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد عن الحاجة الضرورية، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا، وذلك في قوله: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولائك هم المفلحون) *. فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم: هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالا، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعا، وذلك كما إذا كانت على المنفق واجبة كنفقة الزوجات ونحوها، فتبرع بالإنفاق في غير واجب، وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم (وابدأ بمن تعول)، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله، ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم، فلا يجوز له ذلك؟ والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة، وكان واثقا من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال. وأما على القول بأن قوله تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) * يعني به الزكاة، فالأمر واضح، والعلم عند الله تعالى. انتهى منه. والواقع أن للإنفاق في القرآن مراتب ثلاثة: الأولى: الإنفاق من بعض المال بصفة عامة، كما في قوله تعالى: * (ومما رزقناهم ينفقون) *.
46 الثانية: الإنفاق مما يحبه الإنسان ويحرص عليه، كما في قوله تعالى * (وءاتى المال على حبه) *، وهذا أخص من الأول، وقوله: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *. الثالثة: الإنفاق مع الإيثار على النفس كهذه الآية * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) * فهي أخص من الخاص الأول. وتعتبر المرتبة الأولى هي الحد الأدنى في الواجب، حتى قيل: إن المراد بها الزكاة. وهي تشمل النافلة، وتصدق على أدنى شيء ولو شق تمرة، وتدخل في قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) *، وتعتبر المرتبة الثالثة هي الحد الأقصى، لأنها إيثار للغير على خاصة النفس، والمرتبة الثانية هي الوسطى بينهما، وهي الحد الوسط بين الاكتفاء بأقل الواجب، وبين الإيثار على النفس وهي ميزان التوسط لعامة الناس، كما بينه تعالى بقوله: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) *. وكما امتدح الله تعالى قوما بالاعتدال في قوله: * (والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) *. وهذا هو عين تطبيق قاعدة الفلسفة الأخلاقية القائلة: (الفضيلة وسط بين طرفين) أي طرفي الإفراط والتفريط. فالشجاعة مثلا وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين التبذير والتقتير. والإنفاق جوانب متعددة، وأحكام متفاوتة، قد بين الشيخ رحمه الله جانبا من الأحكام، وقد بين القرآن الجوانب الأخرى، وتنحصر في الآتي: نوع ما يقع منه الإنفاق، الجهة المنفق عليها، موقف المنفق، وصورة الإنفاق. أما ما يقع منه الإنفاق: قد بينه تعالى أولا من كسب حلال لقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم وممآ أخرجنا لكم من الا رض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) *. وقوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *. أما الجهة المنفق عليها: فكما في قوله تعالى: * (يسألونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم
47 من خير فللوالدين والا قربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) * فبدأ بالوالدين برا لهما، وثنى بالأقربين. وقال صلى الله عليه وسلم: (الصدقة على القريب صدقة وصلة، وعلى البعيد صدقة) ثم اليتامى وهذا واجب إنساني وتكافل اجتماعي، لأن يتيم اليوم منفق الغد، وولد الأبوين اليوم قد يكون يتيما غدا، أي أن من أحسن إلى اليتيم اليوم قد يترك أيتاما، فيحسن عليهم ذلك اليتيم الذي أحسنت إليه بالأمس، والمساكين وابن السبيل أمور عامة. وجاء بالقاعدة العامة التي يحاسب الله تعالى عليها ويجازي صاحبها * (وما تفعلوا من خير) * أي مطلقا * (فإن الله به عليم) *، وكفى في ذلك علمه تعالى. أما موقف المنفق وصورة الإنفاق: فإن هذا هو سر النفقة في الإسلام، وفلسفة الإنفاق كلها تظهر في هذا الجانب، مما تميز به الإسلام دون غيره من جميع الأديان أو النظم. لأنه يركز على الحفاظ على شعور وإحساس المسكين، بحيث لا يشعره بجرح المسكنة، ولا ذلة الفاقة كما في قوله تعالى: * (الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *. ثم فاضل بين الكلمة الطيبة والصدقة المؤذية في قوله تعالى: * (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعهآ أذى والله غنى حليم) * يعطي ولا يمن بالعطاء. وأفهم المنفقين أن المن والأذى يبطل الصدقة * (ياأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والا ذى) * لما فيه من جرح شعور المسكين. وقد حث على إخفائها إمعانا في الحفاظ على شعوره وإحساسه * (إن تبدوا الصدقات فنعما هى) * أي مع الآداب السابقة * (وإن تخفوها وتؤتوها الفقرآء فهو خير لكم) * أي لكم أنتم في حفظ ثوابها. وقد جعل صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله (رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)، وكما قال تعالى: * (الذين
48 ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *. ومن خصائص الإسلام في هذا الباب أنه كما أدب الأغنياء في طريقة الإنفاق، فقد أدب الفقراء في طريقة الأخذ. وذلك في قوله تعالى: * (للفقرآء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الا رض يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) *. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) *. في هذه الآية الكريمة حث على تقوى الله في الجملة، واقترنت بالحث على النظر والتأمل فيما قدمت كل نفس لغد، وتكرر الأمر فيها بتقوى الله، مما يدل على شدة الاهتمام والعناية بتقوى الله على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله، سواء كان التكرار للتأكيد أم كان للتأسيس، وسيأتي بيانه إن شاء الله. أما الاهتمام بالحث على التقوى، فقد دلت له عدة آيات من كتاب الله تعالى، ولو قيل: إن الغاية من رسالة الإسلام كلها، بل ومن جميع الأديان هو تحصيل التقوى لما كان بعيدا، وذلك للآتي: أولا: قوله تعالى: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) *، ومعلوم أنه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته، فتكون التقوى بمضمون هاتين الآيتين. هي الغاية من خلق الثقلين الإنس والجن. وقد جاء النص مفصلا في حق كل أمة على حدة، منها في قوم نوح عليه السلام قال تعالى: * (كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون) *، وفي قوم عاد قال تعالى: * (كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إنى لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون) *، وفي قوم لوط: * (كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إنى لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون) *، وفي قوم شعيب، قوله تعالى: * (كذب أصحاب لأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا
49 تتقون إنى لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون) *. فكل نبي يدعو قومه إلى التقوى كما قدمنا، ثم جاء القرآن كله دعوة إلى التقوى وهداية للمتقين، كما في مطلع القرآن الكريم: * (ألم ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) *، وبين نوع هذه الهداية المتضمنة لمعنى التقوى بقوله تعالى: * (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلواة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون أولائك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون) *. وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى عليه معنى التقوى عند قوله تعالى: * (ولاكن البر من اتقى) *. قال: لم يبين هنا من المتقي، وقد بينه تعالى في قوله: * (ولاكن البر من ءامن بالله واليوم الا خر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وفي الرقاب وأقام الصلواة وءاتى الزكواة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأسآء والضراء وحين البأس أولائك الذين صدقوا وأولائك هم المتقون) *. وقد بينت آيات عديدة آثار التقوى في العاجل والآجل. منها في العاجل قوله تعالى: * (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا) *، وقوله: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) *، وقوله: * (واتقوا الله ويعلمكم الله) *، وقوله: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) *. أما في الآجل وفي الآخرة، فإنها تصحب صاحبها ابتداء إلى أبواب الجنة كما في قوله تعالى: * (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) *، فإذا ما دخلوها آخت بينهم وجددت روابطهم فيما بينهم وآنستهم من كل خوف، كما في قوله تعالى: * (الا خلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) *، * (ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين
50 ءامنوا بأاياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) * إلى قوله: * (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) * إلى أن تنتهي بهم إلى أعلى عليين، وتحلهم مقعد صدق، كما في قوله تعالى: * (إن المتقين فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر) *. فتبين بهذا كله منزلة التقوى من التشريع الإسلامي وفي كل شريعة سماوية، وأنها هنا في معرض الحث عليها وتكرارها، وقد جعلها الشاعر السعادة كل السعادة كما في قوله، وهو لجرير: فتبين بهذا كله منزلة التقوى من التشريع الإسلامي وفي كل شريعة سماوية، وأنها هنا في معرض الحث عليها وتكرارها، وقد جعلها الشاعر السعادة كل السعادة كما في قوله، وهو لجرير: * ولست أرى السعادة جمع مال * ولكن التقي هو السعيد * * فتقوى الله خير الزاد ذخرا * وعند الله للأتقى مزيد * والتقوى دائما هي الدافع على كل خير، الرادع عن كل شر، روى ابن كثير في تفسيره عن الإمام أحمد في مجيء قوم من مضر، مجتابي الثمار والعباءة. حفاة عراة متقلدي السيوف. فيتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا ينادي للصلاة، فصلى ثم خطب الناس وقرأ قوله تعالى: * (ياأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة) * إلى آخر الآية، وقرأ الآية التي في سورة الحشر: * (ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) *، تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره حتى قال: ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت ثم تتابع الناس إلى قوله: حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها يعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء) الحديث. فكانت التقوى دافعا على سن سنة حسنة تهلل لها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنها تحول دون الشر، من ذلك قوله تعالى: * (وليملل الذى عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا) *، وقوله: * (فليؤد الذى اؤتمن أمانته وليتق الله ربه) *، فإن التقوى مانعة من بخس الحق ومن ضياع الأمانة، وكقوله عن مريم في طهرها وعفتها لما أتاها جبريل وتمثل لها بشرا سويا: * (قالت إنى أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا) *.
51 وكما في حديث النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، ومنهم الرجل مع ابنة عمه لما قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام عنها وترك لها المال. وهكذا في تصرفات العبد كما في قوله تعالى: * (ذالك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) *. والخطاب في قوله تعالى: * (ولتنظر نفس) *، لكل نفس كما في قوله تعالى: * (ثم توفى كل نفس ما كسبت) *، وقوله: * (ووفيت كل نفس ما كسبت) *. فالنداء أولا بالتقوى لخصوص المؤمنين، والأمر بالنظر لعموم كل نفس، لأن المنتفع بالتقوى خصوص للمؤمنين كما أوضحه الشيخ رحمة الله عليه في أول سورة البقرة، والنظر مطلوب من كل نفس فالخصوص للإشفاق، والعموم للتحذير. ويدل للأول قوله تعالى: * (وكان بالمؤمنين رحيما) *. ويدل للثاني قوله: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد) *. وما في قوله تعالى: * (ما قدمت) * عامة في الخير والشر، وفي القليل والكثير. ويدل للأول قوله تعالى: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) *. ويدل للثاني قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *، والحديث (اتقوا النار ولو بشق تمرة). وغدا تطلق على المستقبل المقابل للماضي، كما قال الشاعر: وغدا تطلق على المستقبل المقابل للماضي، كما قال الشاعر: * واعلم علم اليوم والأمس قبله * ولكنني عن علم ما في غد عم * وعليه أكثر استعمالاتها في القرآن، كقوله تعالى عن إخوة يوسف: * (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب) *، وقوله: * (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا إلا أن يشآء الله) *.
52 وتطلق على يوم القيامة كما هنا في هذه الآية لدلالة القرآن على ذلك، من ذلك قوله تعالى في نفس المعنى: * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتنى كنت ترابا) *. والقرائن في الآية منها: اكتنافها بالحث على تقوى الله قبله وبعده. ومنها: التذييل بالتحذير في قوله: * (إن الله خبير بما تعملون) * أي بالمقاصد في الأعمال وبالظواهر والبواطن، ولأن يوم القيامة هو موضع النسيان، فاحتاج التنبيه عليه. ويكون التعبير عن يوم القيامة بغد لقرب مجيئه وتحقق وقوعه كقوله تعالى: * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *، وقوله: * (ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شىء قدير) *. ومن ناحية أخرى، فإن الغد لكل إنسان بمعنى يوم القيامة يتحقق بيوم موته، لأنه يعاين ما قد قدم يوم موته، وقد نكر لفظ نفس وغد هنا، فقيل في الأول لقلة من الناظرين، وفي الثاني لعظم أمره وشدة هوله. وهنا قد تكرر الأمر بتقوى الله كما أسلفنا مرتين، فقيل للتأكيد، قاله ابن كثير، وقيل للتأسيس، قاله الزمخشري وغيره. فعلى أنه للتأكيد ظاهر وعلى التأسيس يكون الأول لفعل المأمور والثاني لترك المحظور، مستدلين بمجيء موجب الفعل أولا * (ولتنظر نفس ما قدمت) *، ومجئ موجب التحذير ثانيا * (إن الله خبير بما تعملون) *. وهذا وإن كان له وجه، ويشهد للتأكيد قوله تعالى: * (اتقوا الله حق تقاته) * وإن كانت نسخت بقوله: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * فيدل لمفهومه قوله: * (وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا) * أي بترك بعض المأمور، وفعل بعض المحظور. وعليه فلا تتحقق التقوى إلا بمراعاة الجانبين، ولكن مادة التقوى وهي اتخاذ الوقاية مما يوجب عذاب الله تشمل شرعا الأمرين معا لقوله تعالى في عموم اتخاذ الوقاية * (قوا
53 أنفسكم وأهليكم نارا) *. فكان أحد الأمرين بالتقوى يكفي لذلك ويشمله، ويكون الأمر بالتقوى الثاني لمعنى جديد، وفي الآية ما يرشد إليه، وهو قوله تعالى * (ما قدمت) *، لأن (ما) عامة كما قدمنا وصيغة قدمت على الماضي يكون الأمر بتقوى الله أولا بالنسبة لما مضى وسبق من عمل تقدم بالفعل، ويكون النظر بمعنى المحاسبة والتأمل على معنى الحديث: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا) فقد ذكره ابن كثير. فإذا ما نظر في الماضي وحاسب نفسه، وعلم ما كان من تقصير أو وقوع في محظور، جاءه الأمر الثاني بتقوى الله لما يستقبل من عمل جديد ومراقبة الله تعالى عليه * (والله بما تعملون خبير) *، فلا يكون هناك تكرار، ولا يكون توزيع، بل بحسب مدلول عموم (ما) وصيغة الماضي (قدمت) والنظر للمحاسبة. تنبيه مجيء (قدمت) بصيغة الماضي حث على الإسراع في العمل، وعدم التأخير، لأنه لم يملك إلا ما قدم في الماضي، والمستقبل ليس بيده، ولا يدري ما يكون فيه، * (وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا) * وكما في وقوله: (حجوا قبل ألا تحجوا)، وقوله تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) *، وقوله تعالى: * (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولائك هم الفاسقون) *. بعد الحث على تقوى الله وعلى الاجتهاد في تقديم العمل الصالح ليوم غد جاء التحذير في هذه الآية من النسيان والترك وألا يكون كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ولم يبين هنا من هم الذين حذر من أن يكونوا مثلهم في هذه النسيان، وما هو النسيان والإنساء المذكوران هنا. وقد نص القرآن على أن الذين نسوا الله هم المنافقون في قوله تعالى في سورة التوبة: * (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون) * وهذا عين الوصف الذي وصفوا به في سورة الحشر. وقوله تعالى: * (فنسيهم) * أي أنساهم أنفسهم، لأن الله تعالى لا ينسى * (لا يضل ربى ولا ينسى) *، * (وما كان ربك
54 نسيا) *. وقد جاء أيضا: وصف كل من اليهود والنصارى والمشركين بالنسيان في الجملة، ففي اليهود يقول تعالى: * (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به) *. وفي النصارى يقول تعالى: * (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به) *. وفي المشركين يقول تعالى: * (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحيواة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقآء يومهم هاذا وما كانوا بأاياتنا يجحدون) *، فيكون التحذير منصبا أصالة على المنافقين وشاملا معهم كل تلك الطوائف لاشتراكهم جميعا في أصل النسيان. أما النسيان هنا، فهو بمعنى الترك، وقد نص عليه الشيخ رحمة الله تعالى عليه عند الكلام على قوله تعالى: * (ولقد عهدنآ إلىءادم من قبل فنسى) *. فذكر وجهين، وقال: العرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدا، ومنه قوله تعالى: * (قال كذالك أتتك آياتنا فنسيتها وكذالك اليوم تنسى) *. فالمراد من هذه الآية الترك قصدا. وكقوله: * (فاليوم ننساهم كما نسوا لقآء يومهم هاذا وما كانوا بأاياتنا يجحدون) *. وقوله: * (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) *. انتهى. أما النسيان الذي هو ضد الذكر، وهو الترك عن غير قصد، فليس داخلا هنا، لأن هذه الأمة قد أعفيت من المؤاخذة عليه، كما في قوله تعالى: * (ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا) *. وفي الحديث أن الله تعالى قال: (قد فعلت قد فعلت) أي عندما تلاها صلى الله عليه وسلم.
55 وجاء في السنة (إن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى عليه هذا النوع في دفع إيهام الاضطراب على الجواب عن الإشكال الموجود في نسيان آدم، هل كان عن قصد أو عن غير قصد، وإذا كان عن غير قصد، فكيف يؤاخذ؟. وبين خصائص هذه الأمة في هذا الباب رحمة الله تعالى عليه، فليرجع إليه. وإذا تبين المراد بالتحذير من مشابهتهم في النسيان، وتبين معنى النسيان، فكيف أنساهم الله أنفسهم؟ وهذه مقتطفات من أقوال المفسرين في هذا المقام لزيادة البيان: قال ابن كثير رحمه الله: لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل الصالح، فإن الجزاء من جنس العمل. وقال القرطبي: نسوا الله أي تركوا أمره، فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيرا. وقال أبو حيان: الذين نسوا الله هم الكفار تركوا عبادة الله، وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى فأنساهم أنفسهم حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب، وهذا من المجازات على الذنب بالذنب. إلخ. وقال ابن جرير: تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم، وهذا من باب الجزاء من جنس العمل. أما الزمخشري والفخر الرازي، فقد أدخلا في هذا المعنى مبحثا كلاميا حيث قالا في معنى * (نسوا الله) * كما قال الجمهور، أما في معنى * (فأنساهم أنفسهم) * فذكرا وجهين. الأول: كالجمهور، والثاني: بمعنى، أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم كقوله تعالى: * (لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هوآء) *، وقوله: * (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولاكن عذاب الله شديد) * ا ه. وهذا الوجه الثاني لا يسلم لهما، لأن ما ذهبا إليه عام في جميع الخلائق يوم القيامة، وليس خاصا بمن نسي الله كما قال تعالى في نفس الآية التي استدلا بها * (وترى الناس
56 سكارى) *، فهو عام في جميع الناس. وقوله: * (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت) *. والذهول أخو النسيان، وهو هنا عام في كل مرضعة * (وتضع كل ذات حمل حملها) * وهو أيضا عام، وذلك من شدة الهول يوم القيامة، ولعل الحامل لهما على إيراد هذا الوجه مع بيان ضعفه، هو فرارهم من نسبة الإنساء إلى الله، وفيه شبهة اعتزال كما لا يخفى. ولوجود إسناد الإنساء إلى الشيطان في بعض المواضع كما في قصة صاحب موسى: * (ومآ أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) *، وكما في قوله تعالى: * (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *، وقوله: عن صاحب يوسف: * (فأنساه الشيطان ذكر ربه) *. ولكن الصحيح عند علماء السلف أن حقيقة النسيان والإنساء والتذكير والتذكر كحقيقة أي معنى من المعاني، وأنها كلها من الله * (قل كل من عند الله) *، * (قل لن يصيبنآ إلا ما كتب الله لنا) * فما نسب إلى الشيطان فهو بتسليط من الله كما في قوله تعالى: * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) *، ثم قال: * (وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن الله) * فيكون إسناد الإنساء إلى الشيطان من باب قول الخليل عليه السلام * (وإذا مرضت فهو يشفين) * تأدبا في الخطاب مع الله تعالى، ولكن هذا المقام مقام إخبار من الله عما أوقعه بهؤلاء الذين نسوا ما أمرهم به فأنساهم، فأوقع عليهم النسيان لأنفسهم مجازاة لهم على أعمالهم، فكان نسبته إلى الله وبإخبار من الله عين الحق وهو أقوى من أسلوب المقابلة: نسوا الله فنسيهم. تنبيهان الأول: جاء في مثل هذا السياق سواء بسواء قوله تعالى: * (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هاذا) *. وقوله: * (فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هاذآ إنا نسيناكم) *. وقوله: * (نسوا الله فنسيهم) *، وفي هذا نسبة النسيان إلى الله تعالى فوقع
57 الإشكال مع قوله تعالى: * (وما كان ربك نسيا) * وقوله: * (لا يضل ربى ولا ينسى) *. وقد أجاب الشيخ رحمة الله عليه عن ذلك في دفع إيهام الاضطراب، بأن النسيان المثبت بمعنى الترك كما تقدم، والمنفي عنه تعالى: هو الذي بمعنى السهو، لأنه محال على الله تعالى. التنبيه الثاني مما نص عليه الشيخ رحمة الله تعالى عليه في مقدمة الأضواء، أن من أنواع البيان أن يوجد في الآية اختلاف للعلماء وتوجد فيها قرينة دالة على المعنى المراد، وهو موجود هنا في هذه المسألة وهو قوله تعالى: * (اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هاذا) * وهذا القول يكون يوم القيامة، وقد عبر عن النسيان بصيغة المضارع وهي للحال أو الاستقبال، ولا يكون النسيان المخبر عنه في الحال إلا عن قصد وإرادة، وكذلك لا يخبر عن نسيان سيكون في المستقبل إلا عن قصد وإرادة، وهذا في النسيان بمعنى الترك عن قصد، أما الذي بمعنى السهو فيكون بدون قصد ولا إرادة، فلا يصح التعبير عنه بصيغة المضارع ولا الإخبار بإيقاعه عليهم في المستقبل، فصح أن كل نسيان نسب إلى الله فهو بمعنى الترك، وكان قوله تعالى: * (فأنساهم أنفسهم) * مفسرا ومبينا لمعنى * (اليوم ننساكم) * ولقوله * (إنا نسيناكم) * والعلم عند الله تعالى. * (لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفآئزون * لو أنزلنا هاذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الا مثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * هو الله الذى لا إلاه إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم * هو الله الذى لا إلاه إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارىء المصور له الا سمآء الحسنى يسبح له ما فى السماوات والا رض وهو العزيز الحكيم) * قوله تعالى: * (لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفآئزون) *. دلت هذه الآية الكريمة على عدم استواء الفريقين: أصحاب النار وأصحاب الجنة. وهذا أمر معلوم بداهة، ولكن جاء التنبية عليه لشدة غفلة الناس عنه، ولظهور أعمال منهم تغاير هذه القضية البديهية، كمن يسيء إلى أبيه فتقول له: إنه أبوك، قاله بعض المفسرين. وهذا في أسلوب البيان يراد به لازم الخبر. أي يلزم من ذلك التنبيه أن يعملوا ما يبعدهم عن النار ويجعلهم من أصحاب الجنة، لينالوا الفوز. وهذا البيان قد جاءت نظائره عديدة في القرآن كقوله تعالى: * (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الا رض أم نجعل المتقين كالفجار) *
58 وكقوله: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) * أي في الحكم عند الله، ولا في الواقع في الحياة أو في الآخرة، كما قال تعالى: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سوآء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون) *، وهنا كذلك * (لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة) * في المرتبة والمنزلة والمصير. قال أبو حيان: هذا بيان مقابلة الفريقين أصحاب النار في الجحيم، وأصحاب الجنة في النعيم، والآية عند جمهور المفسرين في بيان المقارنة بين الفريقين، وهو ظاهر السياق بدليل ما فيها من قوله: * (أصحاب الجنة هم الفآئزون) *، فهذا حكم على أحد الفريقين بالفوز، ومفهومه الحكم على الفريق الثاني بالهلاك والخسران، ويشهد له أيضا ما قبلها * (ولا تكونوا كالذين نسوا الله) * أي من هذا الفريق فأنساهم أنفسهم، فصاروا أصحاب النار على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. وهنا احتمال آخر، وهو لا يستوي أصحاب النار في النار ولا أصحاب الجنة في الجنة، فيما هم فيه من منازل متفاوتة كما أشار إليه أبو حيان عند قوله تعالى: * (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة) *، ولكن عدم وجود اللام هنا يجعله أضعف احتمالا، وإلا لقال: لا يستوي أصحاب النار، ولا أصحاب الجنة، وهذا المعنى، وإن كان واقعا لتفاوت درجات أهل الجنة في الجنة، ومنازل أهل النار في النار، إلا أن احتماله هنا غير وارد، لأن آخر الآية حكم على مجموع أحد الفريقين، وهم أصحاب الجنة أي في مجموعهم كأنه في مثابة القول: النار والجنة لا يستويان، فأصحابهما كذلك. وقد نبه أبو السعود على تقديم أصحاب النار، في الذكر على أصحاب الجنة بأنه ليبين لأول وهلة أن النقص جاء من جهتهم كما في قوله: * (هل يستوى الا عمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور) * ا ه. وبيان ذلك أن الفرق بين المتفاوتين في الزيادة والنقص، يمكن اعتبار التفاوت بالنسبة إلى النقص في الناقص، ويمكن اعتباره بالنسبة إلى الزيادة في الزائد. فقدم الجانب الناقص ليبين أن التفاوت الذي حصل بينهما، إنما هو بسبب النقص الذي جاء منهما لا بسبب الزيادة في الفريق الثاني، والنتيجة في ذلك عدم إمكان جانب
59 النقص الاحتجاج على جانب الزيادة، وفيه زيادة تأنيب لجانب النقص، وفي الآية إجمال أصحاب النار وأصحاب الجنة. ومعلوم أن كلمة أصحاب تدل على الاختصاص، فكأنه قال: أهل النار وأهل الجنة المختصون بهما. وقد دل القرآن أن أصحاب النار هم الكفار كما قال تعالى * (والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) *. والخلود لا خروج معه كما في قوله تعالى * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) * إلى قوله * (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) * وكقوله في سورة الهمزة * (يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن فى الحطمة ومآ أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التى تطلع على الا فئدة إنها عليهم مؤصدة) * أي: مغلقة عليهم. أما أصحاب الجنة فهم المؤمنون كقوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولائك أصحاب الجنة خالدين فيها جزآء بما كانوا يعملون) * وقد جمع القسمين في قوله تعالى * (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيأته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) *. كما جاء مثل هذا السياق كاملا متطابقا فيفسر بعضه بعضا كما قدمنا، وذلك في سورة التوبة قال تعالى * (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) *. فهذه أقسام الكفر والنفاق، وأخص أصحاب النار والاختصاص من الخلود فيها ولعنهم وهي حسبهم، وهم الذين نسوا الله فنسيهم، وهم عين من ذكر في هذه السورة سورة الحشر، ثم جاء مقابلة تماما في نفس السياق في قوله تعالى: * (والمؤمنون
60 والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة ويطيعون الله ورسوله أولائك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذالك هو الفوز العظيم) *. وهذه أيضا أخص صفات أهل الجنة، من الرحمة والرضوان، والخلود، والإقامة الدائمة في جنات عدن، إذ العدن الإقامة الدائمة، ومنها المعدن لدوام إقامته في مكانه، ورضوان من الله أكبر. ثم يأتي الختام في المقامين متحدا، وهو الحكم بالفوز لأصحاب الجنة، ففي آية التوبة * (ذالك هو الفوز العظيم) * وفي آية الحشر * (أصحاب الجنة هم الفآئزون) *، وبهذا علم من هم أصحاب النار، ومن هم أصحاب الجنة. وتبين ارتباط هذه المقابلة بين هذين الفريقين، وبين ما قبلهم ممن نسوا فأنساهم أنفسهم، ومن اتقوا الله وقدموا لغدهم، وبهذا يعلم أن عصاة المسلمين غير داخلين هنا في أصحاب النار، لما قدمنا من أن أصحاب النار هم المختصون بها ممن كفروا بالله وكذبوا بآياته، وكما يشهد لهذا قوله تعالى * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) *، والظالمون هنا هم المشركون في ظلمهم أنفسهم. وبهذا يرد على المعتزلة أخذهم من هذه الآية عدم دخول أصحاب الكبيرة الجنة على أنهم في زعمهم لو دخلوها لاستووا مع أصحاب الجنة. وهذا باطل كما قدمنا، ومن ناحية أخرى يرد بها عليهم، وهي أن يقال: إذا خلد العصاة في النار على زعمكم مع ما كان منهم من إيمان بالله وعمل صالح فماذا يكون الفرق بينهم وبين الكفار والمشركين، وتقدم قوله تعالى: * (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الا رض) *. وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى عليه، مسألة بقاء العصاة وخروجهم من النار وخلود الكفار فيها بحثا واسعا في دفع إيهام الاضطراب في سورة الأنعام فليرجع إليه. وقد استدل الشافعي رحمه الله، بهذه الآية أن المسلم لا يقتل بالذمي ولا بكافر
61 لأنهما لا يستويان، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر. ذكره الزمخشري. وهذا وإن كان حقا إلا أن أخذه من هذه الآية فيه نظر، لأنها في معرض المقارنة للنهاية يوم القيامة. قوله تعالى: * (لو أنزلنا هاذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الا مثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) *. وقوله تعالى: * (لو أنزلنا) * يدل على أنه لم ينزله، وأنه ذكر على سبيل المثال ليتفكر الناس في أمره كما قال تعالى: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الا رض أو كلم به الموتى) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى عليه، عندها: جواب لو محذوف. قال بعض العلماء: تقديره لكان هذا القرآن إلخ ا ه. وقال ابن كثير: يقول تعالى: معظما لأمر القرآن ومبينا علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد، * (لو أنزلنا هاذا القرءان) *. فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل. فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وقد تدبرتم كتابه، ولهذا قال تعالى: * (وتلك الا مثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) *. وقد وجد لبعض الناس شيئا من ذلك عن سماع آيات من القرآن، من ذلك ما رواه ابن كثير في سورة الطور عن عمر رضي الله عنه قال: خرج عمر رضي الله عنه يعس بالمدينة ذات ليلة فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائما يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ والطور حتى بلغ إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع. قال: قسم ورب الكعبة حق، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث مليا ثم رجع إلى منزله فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه.
62 وذكر القرطبي: قال جبير بن مطعم قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فوافيته يقرأ في صلاة المغرب والطور إلى قوله تعالى: * (إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع) *، فكأنما صدع قلبي فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وذكر في خبر مالك بن دينار أنه سمعها فجعل يضطرب حتى غشي عليه: وقد نقل السيوطي في الإتقان خبر مالك بن دينار بتمامه في فصل إعجاز القرآن. وقال: قد مات جماعة عند سماع آيات منه أفردوا بالتصنيف، وقد ينشأ هنا سؤال كيف يكون هذا تأثير القرآن لو أنزل على الجبال ولم تتأثر به القلوب، وقد أجاب القرآن عن ذلك في قوله تعالى: * (ثم قست قلوبكم من بعد ذالك فهى كالحجارة أو أشد قسوة) *، وكذلك أصموا آذانهم عن سماعه وغلفوا قلوبهم بالكفر عن فهمه، وأوصدوها بأقفالها فقالوا: قلوبنا غلف. وكذلك قوله تعالى: * (ومن أظلم ممن ذكر بأايات ربه فأعرض عنها ونسى ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) * أي: بسبب الإعراض وعدم التدبر والنسيان، ولذا قال تعالى عنهم: * (أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ) * فهذه أسباب عدم تأثر الكفار بالقرآن كما قال الشاعر: أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالهآ) * فهذه أسباب عدم تأثر الكفار بالقرآن كما قال الشاعر: * إذا لم يكن للمرء عين صحيحة * فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر * ( * ويفهم منه بمفهوم المخالفة أن المؤمنين تخشع قلوبهم وتلين جلودهم، كما نص تعالى عليه بقوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشآء) * وقوله تعالى: * (لو أنزلنا) * يدل على أنه لم ينزله على جبل ولم يتصدع منه. وقد جاء في القرآن ما يدل عليه: لو أنزله، من ذلك قوله تعالى: * (إنا عرضنا الا مانة على السماوات والا رض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) *. وهذا نص صريح لأن الجبال أشفقت من حمل الأمانة وهي أمانة التكليف بمقتضى
63 خطاب الله تعالى إياها. فإذا كانت الجبال أشفقت لمجرد العرض عليها فكيف بها لو أنزل عليها وكلفت به. ومنها: أن الله تعالى لما تجلى للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا. والقرآن كلام الله وصفة من صفاته، فهو شاهد وإن لم يكن نصا. ومنها النص على أن بعض الجبال التي هي الحجارة ليهبط من خشية الله لقوله تعالى: * (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء وإن منها لما يهبط من خشية الله) *. وقد جاء في السنة إثبات ما يشبه ذلك في جبل أحد، حينما صعد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهما فارتجف بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أثبت أحد فإن عليك نبي وصديق شهيدان). وسواء كان ارتجافه إشفاقا أو إجلالا فدل هذا كله على أنه تعالى: وإن لم ينزل القرآن على جبل أنه لو أنزله عليه لرأيته كما قال تعالى: * (خاشعا متصدعا من خشية الله) *. وبهذا أيضا يتضح أن جواب لو في قوله تعالى: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) * لكان هذا القرآن أرجح من تقديرهم لكفرتم بالرحمان، لأن موضوع تسيير الجبال وخشوعها وتصديعها واحد، وهو الذي قدمه الشيخ رحمة الله تعالى عليه هناك، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وتلك الا مثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) *. الأمثال: جمع مثل، وهو مأخوذ من المثل، وأصل المثل الانتصاب، والممثل بوزن اسم المفعول المصور على مثال غيره. قال الراغب الأصفهاني، يقال: مثل الشيء إذا انتصب وتصور، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يمثل له الرجال فليتبوأ مقعده من النار)، والتمثال: الشيء المصور، وتمثل كذا تصور قال تعالى: * (فتمثل لها بشرا سويا) *.
64 والمثل: عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره، نحو قولهم: الصيف ضيعت اللبن، فإن هذا القول يشبه قولك: أهملت وقت الإمكان أمرك، وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال فقال: * (وتلك الا مثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) *. وفي آية أخرى: * (وتلك الا مثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا العالمون) *. والمثال يقال على وجهين: أحدهما: بمعنى المثل نحو مشبه ومشبه به، قال بعضهم: وقد يعبر بهما عن وصف الشيء، نحو قوله تعالى: * (مثل الجنة التى وعد المتقون) *. والثاني: عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة. وذلك أن الند يقال فيما يشارك في الجوهر فقط. والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط. والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط. والشكل يقال فيما يشارك في القدر والمساحة فقط، والمثل عام في جميع ذلك. ولهذا لما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال: * (ليس كمثله شىء) * إلخ ا ه. فقوله في تعريف المثل. إنه عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر، بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره. فإنهم اتفقوا على أن القول لا يتغير بل يحكي على ما قيل أولا كقولهم: الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء خطابا للمؤنثة. فلو قيل لرجل أهمل وقت الإمكان ثم راح يطلبه بعد فواته، لقلت له: الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء على الحكاية.
65 وهذا مما يسمى الاستعارة التمثيلية من أبلغ الأساليب، وأكثر ما في القرآن من أمثلة إنما هو من قبيل التشبيه التمثيلي، وهو تشبيه صورة بصورة، وهو من أوضح أساليب البيان. وقد ساق الشيخ رحمة الله تعالى عليه، عددا منها في الجزء الرابع عند قوله تعالى: * (ولقد صرفنا فى هاذا القرءان للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شىء جدلا) *، ومن أهم أغراض هذا النوع من التشبيه هو بيان صورة بصورة وجعل الخفي جليا، والمعنوي محسوسا كقوله تعالى: * (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشىء إلا كباسط كفيه إلى المآء ليبلغ فاه وما هو ببالغه) *. فلو نظرت إلى مثل هذا الشخص على هذه الحالة، وفي تلك الصورة بكل أجزائها، وهو باسط يده مفرجة الأصابع إلى ماء بعيد عنه، وهو فاغر فاه ليشرب، لقلت وأي جدوى تعود عليه، ومتى يذوق الماء وهو على تلك الحالة، إنه يموت عطشا ولا يذوق منه قطرة. وكذلك حال من يدعو غير الله مع ما يدعوهم من دونه لا يحصل على طائل كقوله تعالى: * (مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) * فأي غناء لإنسان في بيت العنكبوت. وكذلك أي غناء في ولاية غير الله فكذلك الحال هنا، أريد بالأمثال صور يصور لانتزاع الحكم من السامع بعد أن تصبح الصورة محسوسة ملموسة، وانظر قوله تعالى: * (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) * وكيف غطى وأخفى في هذا الأسلوب ما يستحي منه وأبرزه بلباسه في التشبيه بما يتقي به، ومدى مطابقة معنى اللباس لحاجة كل من الزوجين للآخر، وتلك في قوله تعالى: * (وتلك الا مثال) * عائدة إلى الأمثلة المتقدمة قريبا في عمل المنافقين مع اليهود ونتائج أعمالهم، وهكذا كل موالاة بين غير المسلمين وكل معاداة وانصراف عما جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. وكذلك في بيان مدى فعالية القرآن وتأثيره، لو أنزل على الجبال لخشعت وتصدعت، مما يستوجب التفكير فيه والاتعاظ به، ثم مثال الفريقين في قوله تعالى: * (ولا
66 تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) *، ونتيجة ذلك في الآخرة من عدم استواء الفريقين، فأصحاب نار وأصحاب جنة. ولكأن الأمثال هنا والتنبيه عليها إشارة إلى أن أولئك بنسيانهم لله وإنسائه إياهم أنفسهم، صاروا بهذا النسيان أشد قساوة من الجبال، بل إن الجبال أسرع تأثرا بالقرآن منهم لو كانوا يتفكرون. وقد قال أبو السعود: إنه أراد توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تخشعه عند تلاوته وقلة تدبره فيه ا ه. وهكذا بهذه الأمثلة ينتزع الحكم من السامع على أولئك المعرضين الغافلين بأن قلوبهم قاسية كالجبال أو أشد قسوة كما قدمنا، بخلاف المؤمنين تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق كما قال تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشآء) *. قوله تعالى: * (هو الله الذى لا إلاه إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم هو الله الذى لا إلاه إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارىء المصور له الا سمآء الحسنى يسبح له ما فى السماوات والا رض وهو العزيز الحكيم) *. جاءت في هذه الآيات الثلاث: ذكر كلمة التوحيد مرتين، كما ذكر فيها أيضا تسبيح الله مرتين، وذكر معهما العديد من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، فكانت بذلك مشتملة على ثلاث قضايا أهم قضايا الأديان كلها مع جميع الأمم ورسلهم، لأن دعوة الرسل كلها في توحيد الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وتنزيهه، والرد على مفتريات الأمم على الله تعالى. فاليهود قالوا: عزير ابن الله. والنصارى قالوا المسيح ابن الله. والمشركون قالوا: * (اتخذ الرحمان ولدا) *، * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا) *، وقالوا: * (أجعل الا لهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء
67 عجاب) *. فكلهم ادعى الشريك مع الله، وقالوا: ثالث ثلاثة وغير ذلك. وكذلك في قضية التنزيه، فاليهود قالوا: * (إن الله فقير ونحن أغنيآء) *، وقالوا: * (يد الله مغلولة غلت أيديهم) *. والمشركون قالوا: * (وما الرحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) *، ونسبوا الله ما لا يرضاه أحدهم لنفسه، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا، في الوقت الذي إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم. وهذا كما تراه أعظم افتراء على الله تعالى، وقد سجله عليهم القرآن في قوله تعالى * (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لأبآئهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) * وكما قال تعالى: * (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون) *، وقال مبينا جرم مقالتهم، * (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الا رض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمان ولدا وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا) *. فكانت تلك الآيات الثلاث علاجا في الجملة لتلك القضايا الثلاث، توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتنزيه الله سبحانه وتعالى مع إقامة الأدلة عليها. وقد اجتمعت معا لأنه لا يتم أحدها إلا بالآخرين، ليتم الكمال لله تعالى. قال أبو السعود: إن الكمالات كلها مع كثرتها وتشعبها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم ا ه. وهذا كله متوفر في هذا السياق، وقد بدأ بكلمة التوحيد، لأنها الأصل، لأن من آمن بالله وحده آمن بكل ما جاء عن الله، وآمن بالله على ما هو له أهل، ونزهه عما ليس له بأهل قال تعالى: * (هو الله الذى لا إلاه إلا هو) * ثم أعقبه بالدليل على إفراده تعالى بالألوهية بما لا يشاركه غيره فيه بقوله تعالى: * (عالم الغيب والشهادة) *. وهذا الدليل نص عليه على أنه دليل لوحدانية الله تعالى في مواضع أخرى منها قوله
68 تعالى * (إنمآ إلاهكم الله الذى لا إلاه إلا هو وسع كل شىء علما) * ووسع كل شيء هنا تساوى عالم الغيب والشهادة، ومنها قوله تعالى * (ألا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء فى السماوات والا رض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إلاه إلا هو رب العرش العظيم) *. وقوله تعالى * (الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم) * إلى قوله * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء) *. وهذا قطعا لا يشاركه فيه غيره، كما قال تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو) * فكان من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده لا إلاه إلا هو، وجاء بدليل ثان، وهو قوله تعالى * (هو الرحمان الرحيم) * وقد نص عليه صراحة أيضا كدليل على الوحدانية في قوله تعالى * (وإلاهكم إلاه واحد لا إلاه إلا هو الرحمان الرحيم) * فهو رحمان الدنيا ورحيم الآخرة. ومن رحمته التي اختص بها في الدنيا قوله: * (وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته) * وقوله: * (فانظر إلىءاثار رحمة الله كيف يحى الا رض بعد موتهآ) * أي: بإنزاله الغيث وإنبات النبات مما لا يقدر عليه إلا هو فكان حقه على خلقه أن يعبدوه وحده لا إله إلا هو. وقد جمع الدليلين العلم والرحمة معا في قوله تعالى * (ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما) *. ثم جاءت كلمة التوحيد مرة أخرى، * (هو الله الذى لا إلاه إلا هو) *، وجاء بعدها من الصفات الجامعة قوله: * (الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) *، وهذا الدليل على وحدانيته تعالى نص عليه في موضع آخر صريحا في قوله تعالى * (قل ياأيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعا الذى له ملك السماوات والا رض لا إلاه إلا هو يحى ويميت) * فالذي له ملك السماوات والأرض هو الملك الحق الكامل الملك، وهو الذي يملك التصرف في ملكه كما يشاء بالإحياء والإماتة وحده، كما قال تعالى * (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير الذى خلق الموت والحيواة) * وهو القدوس السلام المؤمن المهيمن على ملكه كما في قوله أيضا * (الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم) * فالقيوم هو المهيمن والقائم بكل
69 نفس، العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون، ثم جاء بالدليل الأعظم في قوله تعالى * (هو الله الخالق البارىء المصور) * فهو وحده المتفرد بالخلق والإيجاد، والإبداع والتصوير، وقد نص على هذا الدليل في أكثر من موضع كما في قوله تعالى * (بديع السماوات والا رض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شىء وهو بكل شىء عليم) * ثم قال * (ذالكم الله ربكم لا إلاه إلا هو خالق كل شىء فاعبدوه وهو على كل شىء وكيل) *. وذكر أيضا الخلق مفصلا والملك مجملا في قوله تعالى * (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الا نعام ثمانية أزواج يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق فى ظلمات ثلاث) * ثم قال * (ذلكم الله ربكم له الملك لا إلاه إلا هو فأنى تصرفون) * وقال * (ذلكم الله ربكم خالق كل شىء) * ثم قال * (لا إلاه إلا هو فأنى تؤفكون) * وجمع الملك والخلق معا في قوله * (الذى له ملك السماوات والا رض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك فى الملك وخلق كل شىء فقدره تقديرا) * إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى. ومن تأمل براهين القرآن على وحدانية الله تعالى، وعلى قدرته، على البعث وهما أهم القضايا العقائدية يجد أهمها وأوضحها وأكثرها، هو هذا الدليل، أعني دليل الخلق والتصوير. وقد جاء هذا الدليل في القرآن جملة وتفصيلا، فمن الإجمال ما جاء في أصل المخلوقات جميعا * (الله خالق كل شىء) * وقوله تعالى: * (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير) *، وقال: * (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * ثم قال * (فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء) * وقال: * (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير الذى خلق الموت والحيواة) * أي خالق الإيجاد والعدم، وخلق العدم يساوي في الدلالة على القدرة خلق الإيجاد، لأنه إذا لم يقدر على إعدام ما أوجد يكون الموجود مستعصيا عليه، فيكون عجزا في الموجد له، كمن يوجد اليوم سلاحا ولا يقدر على إعدامه، وإبطال مفعوله، فقد يكون سببا في إهلاكه، ولا تكتمل القدرة حقا إلا بالخلق والإعدام معا، وقال في خلق
70 السماوات والأرض: * (الحمد لله الذى خلق السماوات والا رض وجعل الظلمات والنور) *. وقال في خلق الأفلاك وتنظيمها: * (وهو الذى خلق اليل والنهار والشمس والقمر) *. ثم في أصول الموجودات في الأرض بقوله: * (هو الذى خلق لكم ما فى الا رض جميعا) *. وفي أصول الأجناس: الماء والنار والنبات والإنسان، قال: * (أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) *. وذكر معه القدرة على الإعدام: * (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين) *. وفي أصول النبات: * (أفرءيتم ما تحرثون أءنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) *. وفي أصول الماء: * (أفرءيتم المآء الذى تشربون أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) *. وفي أصول تطوير الحياة: * (أفرءيتم النار التى تورون أءنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون) *. وفي جانب الحيوان * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) *. ولهذا فقد تمدح تعالى بهذه الصفة، صفة الخلق وصفة آلهة المشركين بالعجز، كما قال تعالى: * (خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم وبث فيها من كل دآبة وأنزلنا من السمآء مآء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) * ثم قال: * (هاذا خلق الله فأرونى ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون فى ضلال مبين) *. ومعلوم أنها لم تخلق شيئا كما قال تعالى موبخا لهم: * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) * وبين أنهما لا يستويان في قوله: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) *، ثم بين نهاية ضعفها وعجزها في قوله تعالى: * (واتخذوا من
71 دونه ءالهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حيواة ولا نشورا) * وهذا غاية العجز. كما ضرب لذلك المثل بقوله: * (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) * فهم حقا لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولو بقدر الذبابة؟ وهكذا ترى صفة الخلق المتصف بها سبحانه وتعالى أعظم دليل على وحدانية الله تعالى، وهي متضمنة صفة التصوير والعلم لأن لكل مخلوق صورة تخصه؟ ولا يكون ذلك إلا عن علم بالغيب والشهادة، كما تقدم. وهكذا أيضا كان هذا الدليل أقوى الأدلة على البعث، كما قال تعالى: * (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم م بين وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) * إلى آخر السورة. وكذلك في قوله تعالى صريحا في ذلك ونصا عليه: * (ياأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الا رحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الا رض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) * ثم قال تعالى: * (ذالك بأن الله هو الحق وأنه يحى الموتى وأنه على كل شىء قدير وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور) *. ثم بين تعالى أن جاحد هذا الدليل إنما هو مكابر جاهل، ضال مضل، وذلك في قوله بعده مباشرة: * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذالك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) *. ومن هنا كان أول نداء في المصحف يوجه إلى الناس جميعا بعبادة الله كان لاستحقاقه عبادته وحده، لأنه متصف بصفة الخلق كما قال تعالى: * (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذى جعل لكم الا رض فراشا
72 والسمآء بنآء وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *. أي لأنهم ليسوا له بأنداد فيما اتصف به سبحانه فلا تشركوهم مع الله في عبادته. فكانت هذه الصفات لله تعالى في آخر هذه السورة حقا أدلة على إثبات وحدانية الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته، وأنه المستحق لأن يعبد وحده لا إله إلا هو. والواجب على الخلق تنزيهه عما لا يليق بجلاله سبحانه وتعالى عما يشركون، يسبح له ما في السماوات والأرض، لأنها من مخلوقاته وهو العزيز الحكيم، وقوله تعالى * (له الا سمآء الحسنى) * لم يبين هنا المراد من أنه سبحانه له الأسماء الحسنى، وقد بين في سورة الأعراف المراد بذلك في قوله تعالى: * (ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها) *. قال القرطبي: سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى، لأنها حسنة في الأسماع والقلوب، فإنها تدل على توحيده وكرمه وجوده وإفضاله، ومجئ، قوله تعالى: * (له الا سمآء الحسنى) * بعد تعداد أربعة عشر اسما من أسمائه سبحانه يدل على أن له أكثر من ذلك، ولم يأت حصرها ولا عدها في آية من كتاب الله. وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر). وسرد ابن كثير عدد المائة مع اختلاف في الروايات. وذكر عن آية الأعراف أنها ليست محصورة في هذا العدد لحديث ابن مسعود في مسند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه) الحديث ا ه. ومحل الشاهد منه ظاهر في أن لله أسماء أنزلها في كتبه وأسماء خص بها بعض خلقه كما خص الخضر بعلم من لدنه، وأسماء استأثر بها في علم الغيب عنده، كما يدل
73 حديث الشفاعة: (فيلهمني ربي بمحامد لم أكن أعرفها من قبل)، والواقع أنه لا تعارض بين الحديثين. لأن الأول: يتعلق بعدد معين، وبما يترتب عليها من الجزاء. والحديث الثاني: يتعلق ببيان أقسام أسمائه تعالى، من حيث العلم بها وتعليمها وما أنزل منها. وقد ذكر هذا الجمع ابن حجر في الفتح في كتاب الدعوات عند باب: لله مائة اسم غير واحد. وقد حاول بعض العلماء استخراج المائة اسم من القرآن فزادوا ونقصوا لاعتبارات مختلفة، وقد أطال في الفتح بحث هذا الموضوع في أربع عشرة صحيفة مما لا غنى عنه ولا يمكن نقله، ولا يصلح تلخيصه. وقد ذكر من أفردها بالتأليف. كما أن القرطبي ذكر أنه ألف فيها، وأساس البحث يدور على نقطتين: الأولى: تعيين المائة اسم المرادة. والثانية: معنى أحصاها، وفي رواية حفظها. وقد حضرت مجلسا للشيخ رحمة الله تعالى عليه في بيته مع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وسأله عن الصحيح في ذلك، فكان حاصل ما ذكر في ذلك المجلس أن التعيين لم يأت فيه نص صحيح، وأن الإحصاء أو الحفظ لا ينبغي حمله على مجرد الحفظ للألفاظ غيبا، ولكن يحمل على أحصى معانيها وحفظها من التحريف فيها والتبديل والتعطيل، وحاول التخلق بحسن صفاتها كالحلم والعفو والرأفة والرحمة والكرم، ونحو ذلك، والحذر من مثل الجبار والقهار، ومراقبة مثل: الحسيب الرقيب، وكذلك التعرض لمثل التواب والغفور بالتوبة وطلب المغفرة، والهادي والرزاق بطلب الهداية والرزق ونحو ذلك. ونقل القرطبي عن ابن العربي عند قوله تعالى: * (فادعوه بها) * أي اطلبوا منه بأسمائه، فيطلب بكل اسم ما يليق به تقول: يا رحمان ارحمني، يا رزاق
74 ارزقني: يا هادي اهدني، يا تواب تب علي، وهكذا رتب دعاءك تكن من المخلصين ا ه. مسألة يؤخذ من كلام ابن العربي هذا ما يقوله الفقهاء في ذكر اسم الله عند الذبح أن يقتصر على قوله: بسم الله، ولا يقول الرحمان الرحيم، لأن اسم الرحمان الرحيم يقتضي الرحمة، وهي لا يتناسب معها الذبح ورسول الروح. ويؤيد هذا ما ذكره ابن قدامة أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذبح قال: (بسم الله والله أكبر) أي أكبر وأقدرك عليها، وهو أكبر منك عليك منها. فإذا فقه الإنسان أسماء الله الحسنى على هذا النحو، كان حقا قد أحصاها وحفظها في استعمالها في معانيها، فكان حقا من أهل الجنة، والعلم عند الله تعالى. ولقد استوقفني طويلا مجيء هذه الآيات في نهاية هذه السورة تذييلا لها وختاما وبأسلوب الإجمال والتفصيل لقضايا التوحيد، وإقامة الدليل، وإلزام أهل الإلحاد والتعطيل، فمكثت طويلا أتطلب ربطها بما قبلها، فلم أجد في كل ما عثرت عليه من التفسير أكثر من شرح المفردات، وإيراد بعض التنبيهات مما لا ينفذ إلى أعماق الموضوع، ولا يشفي عليلا في مجتمعاتنا الحديثة، أو يذهب شبه المدنية المادية، فرجعت إلى السورة بكاملها أتأمل موضوعها فإذا بها تبدأ أولا بتسبيح العوالم كلها لله العزيز الحكيم، وهذا أمر فوق مستوى الإدراك الإنساني، ثم تسوق أعظم حدث تشهده المدينة بعد الهجرة من إخراج اليهود، ولم يكن مظنونا إخراجهم، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فكانوا موضع العبرة والموعظة. ثم تأتي لموقف فريقين متقابلين، فريق المؤمنين والكافرين. يتمثل الفريق الأول في المهاجرين والأنصار وما كانوا عليه من أخوة ومودة ورحمة وعطاء وإيثار على النفس. ويتمثل الفريق الآخر في المنافقين واليهود، وما كان بينهم من مواعدة وإغراء وتحريض، ثم تخل عنهم وخذلان لهم.
75 فكان في ذلك تصوير لحزبين متقابلين متناقضين حزب الرحمان، وحزب الشيطان، وهي صورة المجتمع في المدينة آنذاك. ثم تأتي إلى مقارنة أخرى بين نتائج هذين الحزبين ومنتهاهما وعدم استوائهما، وفي ذلك تقرير المصير: * (لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفآئزون) *. وهذه أخطر قضية في كل أمة أي تقرير مصيرها، ثم بيان حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات، ولو كانت جبلا أشم أو حجرا أصم لو أنزل عليه لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، فإذا بها قد اشتملت على موضوع الخلق والخالق والأمة والرسالة والبدء والنهاية وصراع الحق مع الباطل، والكفر والإيمان والنفوس في الشح والإحسان، وكلها مواقف عملية ومناهج واقعية وأمثلة بيانية. * (وتلك الا مثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) *. فإذا ما توجه الفكر في هذا العرض، وتنقل من موقف إلى موقف، وتأمل صنع الله وقدرته وآياته، نطق بتسبيحه، وعلم أنه سبحانه هو الله الذي لا إلاه إلا هو عالم الغيب والشهادة، علم ما سيكون عليه العالم قبل وجوده، فأوجده على مقتضى علمه به، وسيره على النحو الذي أوجده عليه، علم خذلان المنافقين لليهود قبل أن يحرضوهم، فكان كما علم سبحانه وحذر من مشابهتهم، وعلم أنه لو أنزل القرآن على جبل ماذا يكون حاله، فحث العباد بالأخذ به، ولعلمه هذا بالغيب والشهادة، كان حقا هو الله وحده. ثم مرة أخرى: * (هو الله الذى لا إلاه إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) *، برهان آخر في صور متعددة، وبراهين متنوعة على وحدانيته سبحانه الملك القدوس، الملك المهيمن على ملكه القدوس المسلم من كل نقص، المسيطر على ما في ملكه كله لا يعزب عنه مثقال ذرة. كما قال تعالى: * (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير) *. وهنا وقفة لتأمل اجتماع تلك الصفات معا عالم الغيب والشهادة، والملك القدوس والسلام المهيمن، فنجدها مترابطة متلازمة لأن العالم إذا لم يملك التصرف ولم يهيمن على شيء فلا فعالية لعلمه.
76 والملك الذي لا يعلم ولم يتقدس عن النقص لا هيمنة له على ملكه. فإذا اجتمع كل ذلك وتلك الصفات: العلم والملك والتقديس والهيمنة، حصل الكمال والجلال، ولا يكون ذلك إلا لله وحده العزيز الجبار المتكبر، ولا يشركه أحد في شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون، هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسنى. وهنا، في نهاية هذا السياق يقف المؤمن وقفة إجلال وتعظيم لله. فالخالق هو المقدر قبل الإيجاد. والبارىء الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير، وليس كل من قدر شيئا أوجده إلا الله. والمصور المشكل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات كل في صورة تخصه. وبالرجوع مرة أخرى إلى أول السياق، فإن الخلق والتقدير لا بد أن يكون بموجب العلم سواء كان في الحاضر المشاهد أو للمستقبل الغائب، وهذا لا يكون إلا لله وحده عالم الغيب والشهادة، فكان تقديره بموجب علمه والملك القدوس القادر على التصرف في ملكه يوجد ما يقدره. والمهيمن: يسير ما يوجده على مقتضى ما يقدره. والذي قدر فهدى، العزيز الذي لا يقهر الجبار الذي يقهر كل شيء لإرادته، وتقديره، ويخضعه لهيمنته. المتكبر الذي لا يتطاول لكبريائه مخلوق، وأكبر من أن يشاركه غيره في صفاته، تكبر عن أن يماثله غيره أو يشاركه أحد فيما اختص به سبحان الله عما يشركون. وفي نهاية السياق إقامة البرهان الملزم وانتزاع الاعتراف والتسليم، * (هو الله الخالق البارىء المصور) * وهو أعظم دليل كما تقدم، وهو كما قال: دليل الإلزام، لأن الخلق لا بد لهم من خالق، وهذه قضية منطقية مسلمة، وهي أن كل موجود لا بد له من موجد، وقد ألزمهم في قوله تعالى: * (أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون) *، وهذا بالسير، والتقسيم أن يقال: إما خلقوا من غير شيء خلقهم أي من العدم، ومعلوم أن
77 العدم لا يخلق شيئا لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والعدم ليس أمرا وجوديا حتى يمكن له أن يوجد موجودا. أم هم الخالقون؟ وهم أيضا يعلمون من أنفسهم أنهم لم يخلقوا أنفسهم، فيبقى المخلوق لا بد له من خالق، وهو الله تعالى: الخالق البارىء. ولو قيل من جانب المنكر: إن ما نشاهده من وجود الموجود كالإنسان والحيوان والنبات يتوقف وجوده على أسباب نشاهدها، كالأبوين للحيوان وكالحرث والسقي للنبات إلخ، قوله تعالى: * (المصور) *، فهل الأبوان يملكان تصوير الجنين من جنس الذكورة أو الأنوثة أو من جنس اللون والطول والقصر والشبه؟ الجواب: لا وكلا، بل ذلك لله وحده، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، كما قال تعالى: * (لله ملك السماوات والا رض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير) *. وكذلك في النبات، توضع الحبة وتسقى بالماء، فالتربة واحدة، والماء واحد، فمن الذي يصور شكل النبات هذا نجم على وجه الأرض، وذاك نبت على ساق، وهذا كرم على عرش، وذاك نخل باسقات، فإذا طلعت الثمرة في أول طورها فمن الذي يصورها في شكلها، من استدارتها أو استطالتها أو غير ذلك، وإذا تطورت إلى النضج فمن الذي صورها في لونها الأحمر أو الأصفر أو الأسود أو الأخضر أو الأبيض؟ هل هي التربة أو الماء أو هما معا، لا وكلا. إنه هو الله الخالق البارىء المصور، سبحانه له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السمواات والأرض طوعا وكرها. وهنا عود على بدء يختم السورة بما بدأت به مع بيان موجباته واستحقاقه، وآيات وحدانيته، سبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
78 ((سورة الممتحنة)) * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أوليآء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جآءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغآء مرضاتى تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بمآ أخفيتم ومآ أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سوآء السبيل * إن يثقفوكم يكونوا لكم أعدآء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون * لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير * قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك ومآ أملك لك من الله من شىء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنآ إنك أنت العزيز الحكيم * لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الا خر ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد * عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم) * قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أوليآء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جآءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم) *. نهى تعالى المؤمنين عن اتخاذ العدو المشترك أولياء، ولفظ العدو مفرد، ويطلق على الفرد والجماعة. ومن إطلاقه على الفرد قوله تعالى: * (فقلنا ياأادم إن هاذا عدو لك ولزوجك) * يعني بالعدو إبليس. ومن إطلاقه على الجمع قوله تعالى: * (أفتتخذونه وذريته أوليآء من دونى وهم لكم عدو) *، والمراد هنا الجمع لما في السياق من القرائن منها قوله (أولياء) بالجمع، ومنها * (تلقون إليهم بالمودة) * وهو ضمير جمع، ومنها * (وقد كفروا) * بواو الجمع، ومنها يخرجون أيضا بالجمع، وقوله بعدها * (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعدآء ويبسطوا) * وكلها بضمائر الجمع. أما العدو المراد هنا فقد عم وخص في وصفه فوصفه أولا بقوله * (وقد كفروا بما جآءكم من الحق) * وخص بوصفه يخرجون الرسول، والوصف بالكفر يشمل الجميع، فيكون ذكرهما معا للتأكيد والاهتمام بالخاص، كقوله تعالى: * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل) * نفى ذكر الخاص هنا وهو وصف العدو بإخراج الرسول والمؤمنين للتهييج على من أخرجوهم من ديارهم كقوله * (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) *. وقد بين تعالى المراد بالذين أخرجوا الرسول والمؤمنين في عدة مواضع، منها قوله تعالى: * (وكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك) * أي مكة، ومنها قوله: * (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما فى الغار) *.
79 فعليه يكون المراد بعدوي وعدوكم هنا، خصوص المشركين بمكة. وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وقصة الرسالة مع الظعينة لأهل مكة قبل الفتح بإخبارهم بتجهز المسلمين إليهم مما يؤيد المراد بالعدو هنا، ولكن، وإن كانت بصورة السبب قطعية الدخول إلا أن عموم اللفظ لا يهمل، فقوله * (عدوى وعدوكم) *، وقوله: * (وقد كفروا بما جآءكم من الحق) * يشمل كل من كفر بما جاءنا من الحق كاليهود والنصارى والمنافقين ومن تجدد من الطوائف الحديثة. وقد جاء النص على كل طائفة مستقلة، ففي سورة المجادلة عن المنافقين قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم) *. وتكلم عليها الشيخ رحمة الله تعالى عليه. وعن اليهود في سورة الحشر كما تقدم، وعن اليهود والنصارى معا قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء) *. ومن الطوائف المحدثة كل من كفر بما جاءنا من الحق من شيوعية وغيرهم، وكالهندوكية، والبوذية وغيرهم، ومما يتبع هذا العموم ما جاء في قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أوليآء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلواة اتخذوها هزوا ولعبا ذالك بأنهم قوم لا يعقلون) *. فكل من هزىء بشيء من الدين أو اتخذه لعبا ولهوا فإنه يخشى عليه من تناول هذه الآية إياه. تنبيه ذكر المقابلة هنا بين عدوي وعدوكم أولياء فيه إبراز صورة الحال وتقبيح الفعل، لأن العداوة تتنافى مع الموالاة والمسارة للعدو بالمودة، وقد ناقش بعض المفسرين قضية التقديم والتأخير في تقديم عدوي أولا، وعطف عدوكم عليه، فقال الفخر الرازي: التقديم لأن عداوة العبد لله بدون علة، وعداوة العبد للعبد لعلة، وما كان بدون علة فهو مقدم على
80 ما كان بعلة ا ه. والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن التقديم لغرض شرعي وبلاغي، وهو أن عداوة العبد لله هي الأصل، وهي أشد قبحا، فلذا قدمت، وقبحها في أنهم عبدوا غير خالقهم، وشكروا غير رازقهم، وكذبوا رسل ربهم وآذوهم. وقد جاء في الأحاديث القدسية ما يستأنس به في ذلك فيما رواه البيهقي والحاكم، عن معاذ والديلمي وابن عساكر عن أبي الدرداء ما نصه: (إني والجن والإنس في نبإ عظيم أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري) وفيه (خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إلي بالمعاصي) كما أن تقديمه يؤكد بأنه هو السبب في العداوة بين المؤمنين والكافرين، وما كان سببا فحقه التقديم. ويدل على ما ذكرنا من أنه الأصل، أن الكفار لو آمنوا بالله وانتفت عدواتهم لله لأصبحوا إخوانا للمؤمنين، وانتفت العداوة بينهما، وكذا كونه مغيا بغاية في قوله تعالى: * (فلا تتخذوا منهم أوليآء حتى يهاجروا فى سبيل الله) *. ومثله قوله تعالى في قوم إبراهيم: * (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) * فإذا هاجر المشركون وآمن الكافرون، انتفت العداوة وجاءت الموالاة. ومما قدمنا من أن سبب النهي عن موالاة الأعداء، هو الكفر يعلم أنه إذا وجدت عداوة لا لسبب الكفر فلا ينهى عن تلك الموالاة لتخلف العلة الأساسية، كما جاء في قوله تعالى: * (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) *، ثم قال تعالى: * (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) *. فلما تخلف السبب الأساسي في النهي عن موالاة العدو الذي هو الكفر، جاء الحث على العفو والصفح والغفران، لأن هذه العداوة لسبب آخر هو ما بينه قوله تعالى: * (إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة) *. فكان مقتضاها فقط الحذر من أن يفتنوه، وكان مقتضى الزوجية حسن العشرة، كما هو معلوم. وسيأتي زيادة إيضاح لهذه المسألة عند هذه الآية، إن شاء الله تعالى. وقد نص صراحة على عدم النهي المذكور في خصوص من لم يعادوهم في الدين في قوله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن
81 تبروهم وتقسطوا إليهم) *. وللموالاة أحكام عامة وخاصة، وقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى عليه في عدة مواضع من الأضواء. منها في الجزء الثاني عند قوله تعالى: * (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) * وقد أطال البحث فيها. ومنها في الجزء الثالث عرضا ضمن قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) * وبين روابط العالم الإسلامي بتوسع. ومنها في الجزء الرابع عند قوله تعالى: * (أفتتخذونه وذريته أوليآء) *. ومنها في مخطوط السابع عند قوله تعالى: * (وكأين من قرية هى أشد قوة من قريتك التى أخرجتك أهلكناهم) * وأحال فيها على آية الممتحنة هذه. ومنها أيضا عند قوله تعالى: * (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم فى بعض الا مر) *، وأحال عندها على مواضع متقدمة من سورة الشورى وبني إسرائيل. ومنها في سورة المجادلة على قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم) *. وفيما كتبه رحمة الله تعالى عليه، بيان لكل جوانب أحكام هذه الآية، غير أني لم أجده رحمة الله تعالى عليه تعرض لما في هذه السورة من خصوص التخصيص للآية بقوله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم) *. ولم أسمع منه رحمة الله تعالى عليه فيها شيئا مع أنها نص في تخصيص العموم من هذه الآية، وسيأتي لها بيان لذلك عندها إن شاء الله. تنبيه رد أهل السنة بهذه الآية وأمثالها على المعتزلة قولهم: إن المعصية تنافي الإيمان،
82 لأن الله ناداهم بوصف الإيمان مع قوله: * (ومن يفعله منكم فقد ضل سوآء السبيل) * فلم يخرجهم بضلالهم عن عموم إيمانهم، ويشهد لهذا أن الضلال هنا عن سواء السبيل لا مطلق السبيل. قوله تعالى: * (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعدآء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون) *. يثقفوكم: أي يدركوكم، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله، والرمح المثقف المقوم. قال الراغب: ثم يتجوز به فيستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه ثقافة، قال تعالى: * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) *، وقال * (فإما تثقفنهم فى الحرب) * ا ه. فهذه نصوص القرآن في أن الثقافة بمعنى الإدراك، وقوله تعالى * (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعدآء) *، نص على أن العداوة وبسط اليد واللسان بالسوء، يكون بعد أن يثقفوهم مع أن العداء سابق بإخراجهم إياهم من ديارهم، فيكون هذا من باب التهييج وشدة التحذير، وأن الذي يكون بعد الشرط هو بسط الأيدي بالسوء لأنهم الآن لا يقدرون عليهم بسبب الهجرة، ومن أدلة القرآن على وجود العداوة بالفعل لدى عموم من دون المؤمنين في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضآء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر) * فقوله: من دونكم يشمل المشركين والمنافقين وأهل الكتاب، وقوله: * (ودوا ما عنتم) * أي في الحاضر، وقوله: * (قد بدت البغضآء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر) * لم يتوقف على الشرط المذكور في إن يثقفوكم، فهم أعداء، وقد بدت منهم البغضاء قولا وفعلا. وعلى هذا تكون الآية إعلان المقاطعة بين المؤمنين، ومن دونهم وقوله: وودوا لو تكفرون، قد بين تعالى سبب ذلك بأنه الحسد كما في قوله تعالى: * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) *. وقال تعالى: * (فما لكم فى المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا) * إلى قوله
83 * (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء) *. قوله تعالى: * (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم) *. الأرحام تستعمل في القرآن لعموم القرابة، كقوله تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) *، وقوله تعالى: * (يفصل بينكم) * أي بتقطع الأنساب بينهم، كما بينه تعالى بقوله: * (فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون) *. وقد بين تعالى نتيجة هذا الفصل بينهم يوم القيامة في قوله تعالى * (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه) *، وقوله في موضع آخر: * (وصاحبته وأخيه وفصيلته التى تأويه) *، فعمت جميع الأقارب وبينت سبب الفصل بينهم، وما يترتب عليه. وهذه الآية خطاب للمؤمنين في ذوي أرحامهم من المشركين، كما في قصة سبب النزول في أمر حاطب بن أبي بلتعة في إرساله الخطاب لأهل مكة قبيل الفتح بأمر التجهز لهم. ومفهوم الوصف في أول السياق عدوي وعدوكم، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يدل بمفهوم المخالفة أن أولى الأرحام من المؤمنين قد لا يفصل بينهم يوم القيامة. ويدل لهذا المفهوم قوله تعالى: * (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ومآ ألتناهم من عملهم من شىء) *، وقوله تعالى في دعاء الملائكة من حملة العرش للمؤمنين: * (ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم ومن صلح من ءابآئهم وأزواجهم وذرياتهم) *. وهذه الآية بيان واضح في أن روابط الدين أقوى وألزم من روابط النسب. وهذا المعنى بالذات تقدم للشيخ رحمة الله تعالى عليه، الكلام عليه عند قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) * والآية الآتية بيان واضح لحقيقة هذا المعنى وشموله في جميع الأمم.
84 قوله تعالى: * (قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضآء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك) *. الأسوة كالقدوة، وهي اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة، ولذا قال تعالى: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) * وهنا أيضا: * (قد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه) *. وقد بين تعالى هذا التأسي المطلوب، وذلك بقوله: * (إذ قالوا لقومهم إنا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله) *. فالتأسي هنا في ثلاثة أمور. أولا: التبرؤ منهم ومما يعبدون من دون الله ثانيا: الكفر بهم. ثالثا: إبداء العداوة والبغضاء وإعلانها وإظهارها أبدا إلى الغاية المذكورة حتى يؤمنوا بالله وحده، وهذا غاية في القطيعة بينهم وبين قومهم، وزيادة عليها إبداء العداوة والبغضاء أبدا، والسبب في ذلك هو الكفر، فإذا آمنوا بالله وحده انتفى كل ذلك بينهم. وهنا سؤال، هو موضع الأسوة إبراهيم والذين معه بدليل العطف بينهما. وقوله تعالى: * (فى إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم) * فقائل القول لقومهم إبراهيم والذين مع إبراهيم، وهذا محل التأسي بهم فيما قالوه لقومهم. وقوله تعالى: * (إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك) * فهذا القول من إبراهيم ليس موضع التأسي، وموضع التأسي المطلوب في إبراهيم عليه السلام هو ما قاله مع قومه المتقدم جملة، وما فصله تعالى في موضع آخر في قوله تعالى: * (وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إننى برآء مما تعبدون إلا الذى فطرنى فإنه سيهدين) * وهذا التبرؤ جعله باقيا في عقبه، كما قال تعالى: * (وجعلها كلمة باقية فى عقبه) *. وقوله تعالى: * (إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك) *. لم يبين هنا سبب هذا
85 الاستثناء وهل هو خاص بإبراهيم لأبيه أم لماذا؟ وقد بينه تعالى في موضع آخر في قوله تعالى: * (وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) * تلك الموعدة التي كانت له عليه في بادىء دعوته حينما قال له أبوه * (أراغب أنت عن آلهتى ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرنى مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بى حفيا) * فكان قد وعده ووفى بعهده، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، فكان محل التأسي في إبراهيم في هذا التبرؤ من أبيه، لما تبين له أنه عدو لله. وقد جاء ما يدل على أنها قضية عامة وليست خاصة في إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى: * (ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) * وفي هذه الآية وما قبلها أقوى دليل على أن دين الإسلام ليست فيه تبعية أحد لأحد، بل كل نفس بما كسبت رهينة، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. ومن عجب أن يأتي نظير موقف إبراهيم من أبيه مواقف مماثلة في أمم متعددة، منها موقف نوح عليه السلام من ابنه لما قال * (رب إن ابنى من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) * فلما تبين له أمره أيضا من قوله تعالى: * (يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) * * (قال رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم) *. فكان موقف نوح من ولده كموقف إبراهيم من أبيه. ومنها موقف نوح ولوط من أزواجهما في قوله تعالى: * (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنينا عنهما من الله شيئا) *. ومنها موقف زوجة فرعون من فرعون في قوله تعالى: * (وضرب الله مثلا للذين ءامنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين) * فتبرأت الزوجة من زوجها، وهذا التأسي قد بين تمام البيان معنى قوله تعالى: * (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم) * أي ولا آباؤكم ولا أحد من أقربائكم، يوم القيامة يفصل بينكم، وقول إبراهيم لأبيه * (ومآ أملك لك من الله
86 من شىء) * بينه ما قدمنا من أن الإسلام ليس فيه تبعية، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وكل نفس بما كسبت رهينة. وقوله: * (يوم يأتى بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا) *، وقوله: * (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والا مر يومئذ لله) *. وقد سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى عليه محاضرة في (كنو بنيجيريا) في مجتمع فيه من يتعلق ببعض الأشخاص في اعتقاداتهم، فعرض هذا الموضوع، وبين عدم استطاعة أحد نفع أحد فكان لها وقع عظيم الأثر في النفوس، ولعل الله ييسر طبعها مع طبع جميع محاضراته في تلك الرحلة الميمونة. مسألة جعل بعض المفسرين هذه الآية دليلا على أن شرع من قبلنا شرع لنا بدليل التأسي بإبراهيم عليه السلام والذين معه، وتحقيق هذه المسألة في كتب الأصول، وهذه الآية وإن كانت دالة في الجملة على أن شرع من قبلنا شرع لنا، إلا أنها ليست نصا في محل النزاع. وقد قسم الشيخ رحمة الله تعالى عليه، حكم المسألة إلى ثلاثة أقسام: قسم هو شرع لنا قطعا، وهو ما جاء في شرعنا أنه شرع لنا كآية الرجم، وكهذه الآية في العداوة والموالاة، وإما ليس بشرع لنا قطعا كتحريم العمل يوم السبت، وتحريم بعض الشحوم. إلخ. وقسم ثالث: وهو محل النزاع، وهو ما ذكر لنا في القرآن، ولم نؤمر به ولم ننه عنه. فالجمهور على أنه شرع لنا لذكره لنا، لأنه لو لم يكن شرعا لنا لما كان لذكره لنا فائدة، واستدلوا بقوله تعالى: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) * وبهذه الآية أيضا، والشافعي يعارض في هذا القسم ويقول: الآية في العقائد لا في الفروع، ويستدل بقوله تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * وعلى هذا التقسيم
87 المذكور، فالآية ليست نصا في محل النزاع، لأننا أمرنا بالتأسي به في معين جاء في شرعنا الأمر به في أول السورة. تنبيه يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم: أن الخلاف بين الشافعي والجمهور يكاد يكون شكليا، وكل محجوج بما حج به الآخر، وذلك كالآتي: أولا: قوله تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * يدل على وجود شرعة وعلى وجود منهاج، فإذا جئنا لاستدلال الجمهور * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) * لم نجد فيه ذكر المنهاج، ونجد واقع التشريع، أن منهاج ما شرع لنا يغاير منهاج ما شرع لمن قبلنا كما في مشروعية الصيام قال تعالى * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) * وهذا يتفق في أصل الشرعة، ولكن جاء ما يبين الاختلاف في المنهاج في قوله تعالى: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم) * ومعنى ذلك أنه كان محرما، وهو ضمن منهاج من قبلنا وشرعتهم فاتفقنا معهم في الشرعة واختلف منهجنا عن منهجهم بإحلال ما كان منه حراما، وهذا ملزم للجمهور، وهكذا بقية أركان الإسلام في الصلاة فهي مشروعة للجميع، كما في قوله تعالى: * (أن طهرا بيتى للطآئفين والعاكفين والركع السجود) *، وقوله: * (ربنا ليقيموا الصلواة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم) * وقوله عن عيسى * (وأوصانى بالصلواة والزكواة ما دمت حيا) *، وغير ذلك. وفي الحج * (ولله على الناس حج البيت) *، وقوله: * (وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا) *، فجميع الأركان، وهي فروع لا عقائد مشروعة في جميع الأديان على جميع الأمم، فاشتركنا معهم في المشروعية، ولكن هل كانت كلها كمنهجها عندنا في أوقاتها وأعدادها وكيفياتها، لقد وجدنا المغايرة في الصوم واضحة، وهكذا في غيرها، فالشرعة عامة للجميع والمنهاج خاص كما يقول الشافعي، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الا خر ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد) *.
88 إعادة هذه الآية تأكيد على معنى الآية الأولى. وقوله: * (لمن كان يرجو الله واليوم الا خر) * يفسره ما تقدم من قوله: * (إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغآء مرضاتى) *، لأنها تساويها في الماصدق، وهنا جاء بهذا اللفظ ليدل على العموم، وتكون قضية عامة فيما بعد لكل من يرجو الله واليوم الآخر، أن يتأسى بإبراهيم عليه السلام والذين معه في موقفهم المتقدم. وقوله تعالى: * (ومن يتول فإن الله هو الغنى الحميد) * التولي هنا الإعراض عن أوامر الله عموما. وهنا يحتمل تولي الكفار وموالاتهم، فإن الله غني عنه حميد. قال ابن عباس: كمل في غناه، ومثله قوله تعالى: * (فكفروا وتولوا واستغنى الله) *. وقد جاء بيان استغناء الله عن طاعة الطائعين عموما وخصوصا فجاء في خصوص الحج * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) *. وجاء في العموم قوله تعالى: * (إن تكفروا أنتم ومن فى الا رض جميعا فإن الله لغنى حميد) *، لأن أعمال العباد لأنفسهم، كما قال تعالى: * (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغنى عن العالمين) *. وكما في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا). وقد بين تعالى غناه المطلق بقوله: * (لله ما فى السماوات والا رض إن الله هو الغنى الحميد) *. قوله تعالى: * (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم) *. لم يبين هنا هل جعل المودة بالفعل بينهم وبين من عادوهم وأمروا بمقاطعتهم وعدم موالاتهم من ذوي أرحامهم أم لا. ولكن عسى من الله للتأكيد، والتذييل بقوله تعالى:
89 * (والله قدير) * يشعر بأنه فاعل ذلك لهم، وقد جاء ما يدل على أنه فعله فعلا في سورة النصر حين دخل الناس في دين الله أفواجا، وقد فتح الله عليهم مكة وكانوا طلقاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك موقف أبي سفيان وغيره، وعام الوفود إلى المدينة بعد الفتح، وفي التذييل بأن الله قدير، يشعر بأن تأليف القلوب ومودتها إنما هو من قدرة الله تعالى وحده، كما بينه قوله تعالى: * (لو أنفقت ما فى الا رض جميعا) *. لأن المودة المتوقعة بسبب هداية الكفار، والهداية منحة من الله: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. والعلم عند الله تعالى. * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولائك هم الظالمون * ياأيها الذين ءامنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وءاتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ ءاتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم * وإن فاتكم شىء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون * ياأيها النبى إذا جآءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك فى معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم * ياأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الا خرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور) * قوله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولائك هم الظالمون) *. اعتبر بعض المفسرين الآية الأولى رخصة من الآية في أول السورة، ولكن في هاتين الآيتين صنفان من الأعداء وقسمان من المعاملة. الصنف الأول: عدو لم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم. فهؤلاء تعالى في حقهم * (لا ينهاكم الله) * * (أن تبروهم وتقسطوا إليهم) *. والصنف الثاني: قاتلوا المسلمين وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم، وهؤلاء يقول تعالى فيهم: إنما ينهاكم الله أن تولوهم إذا فهما قسمان مختلفان وحكمان متغايران، وإن كان القسمان لم يخرجا عن عموم عدوي وعدوكم المتقدم في أول السورة، وقد اعتبر بعض المفسرين الآية الأولى رخصة بعد النهي المتقدم، ثم إنها نسخت بآية السيف أو غيرها على ما سيأتي. واعتبر الآية الثانية تأكيدا للنهي الأول، وناقش بعض المفسرين دعوى النسخ في الأولى، واختلفوا فيمن نزلت ومن المقصود منها، والواقع أن الآيتين تقسيم لعموم العدو المتقدم في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أوليآء) *، مع بيان كل قسم وحكمه، كما تدل له قرائن في الآية الأولى، وقرائن في هاتين الآيتين على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. أما التقسيم فقسمان: قسم مسالم لم يقاتل المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم،
90 فلم ينه الله المسلمين عن برهم والإقساط إليهم، وقسم غير مسالم يقاتل المسلمين ويخرجهم من ديارهم ويظاهر على إخراجهم، فنهى الله المسلمين عن موالاتهم، وفرق بين الإذن بالبر والقسط، وبين النهي عن الموالاة والمودة، ويشهد لهذا التقسيم ما في الآية الأولى من قرائن، وهي عموم الوصف بالكفر، وخصوص الوصف بإخراج الرسول وإياكم. ومعلوم أن إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من ديارهم كان نتيجة لقتالهم وإيذائهم، فهذا القسم هو المعني بالنهي عن موالاته لموقفه المعادي لأن المعاداة تنافي الموالاة. ولذا عقب عليه بقوله تعالى: * (ومن يتولهم فأولائك هم الظالمون) * فأي ظلم بعد موالاة الفرد لأعداء أمته وأعداء الله ورسوله. أما القسم العام وهم الذين كفروا بما جاءهم من الحق لكنهم لم يعادوا المسلمين في دينهم لا بقتال ولا بإخراج ولا بمعاونة غيرهم عليهم ولا ظاهروا على إخراجهم، فهؤلاء من جانب ليسوا محلا للموالاة لكفرهم، وليس منهم ما يمنع برهم والإقساط إليهم. وعلى هذا فإن الآية الثانية ليس فيها جديد بحث بعد البحث المتقدم في أول السورة، وبقي البحث في الآية الأولى، ومن جانبين: الأول: بيان من المعنى بها، والثاني: بيان حكمها، وهل هي محكمة أم نسخت. وقد اختلفت أقوال المفسرين في الأمرين، ولأهمية هذا المبحث وحاجة الأمة إليه في كل وقت، وأشد ما تكون في هذا العصر لقوة تشابك مصالح العالم وعمق تداخلها، وترابط بعضه ببعض في جميع المجالات، وعدم انفكاك دولة عن أخرى مما يزيد من وجوب الاهتمام بهذا الموضوع. وإني مستعين الله في إيراد ما قيل فيها، ثم مقدم ما يمكن أخذه من مجموع أقوال المفسرين، وكلام الشيخ رحمة الله عليه. القول الأول إنها منسوخة، قال القرطبي عن أبي زيد أنها كانت في أول الإسلام زمن الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخت قيل بآية: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * قاله قتادة.
91 وقيل: كانت في أهل الصلح فلما زال زال حكمها وانتهى العمل بها بعد فتح مكة. وقيل: هي من أصحاب العهد حتى ينتهي عهدهم أو ينبذ إليهم أي أنها كانت مؤقتة بوقت ومرتبطة بقوم. وقيل: إنها كانت في العاجزين عن القتال من النساء والصبيان من المشركين. وقيل: إنها في ضعفة المؤمنين عن الهجرة حينما كانت الهجرة واجبة، فلم يستطيعوا، وعلى كل هذه الأقوال تكون قد نسخت، بفوات وقتها وذهاب من عني بها. والقول الثاني: إنها محكمة قاله أيضا القرطبي ونقله عن أكثر أهل التأويل، ونقل من أدلتهم أنها نزلت في أم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، جاءت إليها وهي لم تسلم بعد وكان بعد الهجرة، وجاءت لابنتها بهدايا فأبت أن تقبلها منها وأن تستقبلها حتى تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لها وأمرها بصلتها وعزاه للبخاري ومسلم. وقال غيره: ذكره البخاري في تاريخه، وذكر عن الماوردي أن قدومها كان في وقت الهدنة، ومعلوم أن وقت الهدنة من القسم الأول الذي قيل: إنه منسوخ أي بانتهائها، وعليه فالآية دائرة عند المفسرين بين الإحكام والنسخ. وإذا رجعنا إلى سبب نزول السورة وتقيدنا بصورة السبب، نجد أولها نزل بعد انتهاء العهد بنقض المشركين إياه، وعند تهيئ المسلمين لفتح مكة، ومجئ أم أسماء وإن كان بعد الهدنة فهل كان النساء داخلات في العهد أم لا؟ لعدم التصريح بذكرهن. وعليه فلا دلالة في قصة أم أسماء على عدم النسخ ولا على إثباته. وإذا رجعنا إلى عموم اللفظ نجد الآية صريحة شاملة لكل من لم يناصب المسلمين العداء، ولم يظهر سوءا إليهم، وهي في الكفار أقرب منها في المسلمين، لأن الإحسان إلى ضعفه المسلمين معلوم بالضرورة الشرعية، وعليه فإن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل قوي يقاوم صراحة هذا النص الشامل، وتوفر شروط النسخ المعلومة في أصول التفسير. ويؤيد عدم النسخ ما نقله القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة، وكذلك كلام الشيخ رحمة الله تعالى عليه عند قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * بأن ذلك رخصة في حالة الخوف والضعف مع اشتراط سلامة الداخل في القلب، فإن مفهومه
92 أنها محكمة وباق العمل بها عند اللزوم، ومفهومه أن المؤمنين إذا كانوا في حالة قوة وعدم خوف وفي مأمن منهم، وليس منهم قتال، وهم في غاية من المسالمة فلا مانع من برهم بالعدل والإقساط معهم، وهذا مما يرفع من شأن الإسلام والمسلمين، بل وفيه دعوة إلى الإسلام بحسن المعاملة وتأليف القلوب بالإحسان إلى من أحسن إليهم، وعدم معاداة من لم يعادهم، ومما يدل لذلك من القرائن التي نوهنا عنها سابقا ما جاء في التذييل لهذه الآية بقوله تعالى: * (إن الله يحب المقسطين) * فهذا ترشيح لما قدمنا كما قابل هذا بالتذييل على الآية الأخرى: * (ومن يتولهم منكم فأولائك هم الظالمون) *، ففيه مقابلة بين العدل والظلم فالعدل في الإحسان، والقسط لمن يسالمك، والظلم ممن يوالي من يعادي قومه. ومما ينفي النسخ عدم التعارض بين هذا المعنى، وبين آية السيف، لأن شرط النسخ التعارض، وعدم إمكان الجمع، ومعرفة التاريخ، والجمع هنا ممكن والتعارض منفي، وذلك لأن الأمر بالقتال لا يمنع الإحسان قبله، كما أن المسلمين ما كانوا ليفاجئوا قوما بقتال حتى يدعوهم إلى الإسلام، وهذا من الإحسان قطعا، ولأنهم قبلوا من أهل الكتاب الجزية، وعاملوا أهل الذمة بكل إحسان وعدالة. وقصة الظعينة في صحيح البخاري صاحبة المزادتين لم يقاتلوها أو يأسروها أو يستبيحوا ماءها بل استاقوها بمائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ من مزادتيها قليلا، ودعا فيه ورده، ثم استقوا وقال لها: اعلمي أن الله هو الذي سقانا ولم تنقص من مزادتيك شيئا، وأكرموها وأحسنوا إليها وجمعوا لها طعاما، وأرسلوها في سبيلها فكانت تذكر ذلك، وتدعو قومها للإسلام. وقصة ثمامة لما جيء به أسيرا وربط في سارية المسجد، وبعد أن أصبح عاجزا عن القتال لم يمنعهم من الإحسان إليه، فكان يراح عليه كل يوم بحليب سبع نياق حتى فك أسره فأسلم طواعية، وهكذا نص قوله تعالى: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله) *. ومعلوم أنه لم يكن ثم أسير بيد المسلمين إلا من الكفار. وفي سنة تسع وهي سنة الوفود، فكان يقدم إلى المدينة المسلمون وغير المسلمين، فيتلقون الجميع بالبر والإحسان كوفد نجران وغيرهم وها هوذا وفد تميم جاء يفاخر
93 ويفاوض في أسارى له، فيأذن لهم صلى الله عليه وسلم، ويستمع مفاخرتهم ويأمر من يرد عليهم من المسلمين، وفي النهاية يسلمون ويجيزهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجوائز، وهذا أقوى دليل على عدم النسخ، لأن وفدا يأتي متحديا مفاخرا لكنه لم يقاتل ولم يظاهر على إخراجهم من ديارهم، وجاء في أمر جار في عرف العرب فجاراهم فيه صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلن لهم أنه ما بالمفاخرة بعث، ولكن ترفقا بهم، وإحسانا إليهم، وتأليفا لقلوبهم، وقد كان فأسلموا، وهذا ما تعطيه جميع الأقوال التي قدمناها. وقد بحث إمام المفسرين الطبري هذه المسألة من نواحي النقل وأخيرا ختم بحثه بقوله ما نصه: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال عنى بذلك قوله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين) * من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم إن الله عز وجل عم بقوله: * (الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم) * جميع من كان ذلك صفته فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمنين من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه، إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. وقد بينا صحة ما قلنا في ذلك الخبر الذي ذكرناه عن الزبير في قصة أسماء وأمها. وقوله: * (إن الله يحب المقسطين) *، يقول إن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم، فيبرون من برهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم. انتهى منه. وفي تفسير آيات الأحكام للشافعي رحمه الله مبحث هام نسوقه أيضا بنصه لأهميته: قال الله عز وجل: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين) *. قال: يقال: والله أعلم إن بعض المسلمين تأثر من صلة المشركين أحسب ذلك لما نزل فرض جهادهم وقطع الولاية بينهم وبينهم ونزل * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الا خر يوآدون من حآد الله ورسوله) *، فلما خافوا أن تكون المودة الصلة بالمال أنزل * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) *، * (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين
94 وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولائك هم الظالمون) *، وقال الشافعي رحمه الله: وكانت الصلة بالمال والبر والإقساط ولين الكلام والمراسلة بحكم الله غير ما نهوا عنه من الولاية لمن نهوا عن ولايته مع المظاهرة على المسلمين، وذلك لأنه أباح بر من لم يظاهر عليهم من المشركين والإقساط إليهم ولم يحرم ذلك إلى من لم يظاهر عليهم بل ذكر الذين ظاهروا عليهم فناهم عن ولايتهم إذ كان الولاية غير البر والإقساط، وكان النبي صلى الله عليه وسلم فادى بعض أسارى بدر، وقد كان أبو عزة الجمحي ممن من عليه، وقد كان معروفا بعداوته والتأليب عليه بنفسه ولسانه، ومن بعد بدر على ثمامة بن أثال، وكان معروفا بعداوته، وأمر بقتله ثم من عليه بعد أسره وأسلم ثمامة وحبس الميرة عن أهل مكة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له أن يميرهم فأذن له فمارهم. وقال الله عز وجل: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) * والأسرى يكونون ممن حاد الله ورسوله ا ه منه. وهذا الذي صوبه ابن جرير وصححه الشافعي رحمه الله الذي تقتضيه روح التشريع الإسلامي، أما وجهة النظر التي وعدنا بتقديمها فهي أن المسلمين اليوم مشتركة مصالحهم بعضهم ببعض ومرتبطة بمجموع دول العالم من مشركين وأهل كتاب، ولا يمكن لأمة اليوم أن تعيش منعزلة عن المجموعة الدولية لتداخل المصالح وتشابكها، ولا سيما في المجال الاقتصادي عصب الحياة اليوم من إنتاج أو تصنيع أو تسويق، فعلى هذا تكون الآية مساعدة على جواز التعامل مع أولئك المسالمين ومبادلتهم مصلحة بمصلحة على أساس ما قاله ابن جرير وبينه الشافعي، وذكره الشيخ رحمة الله عليه في حقيقة موقف المسلمين اليوم من الحضارة الغربية في عدة مناسبات من محاضراته ومن الأضواء نفسه، وبشرط ما قاله الشيخ رحمة الله تعالى عليه من سلامة الداخل أي عدم الميل بالقلب، ولو قيل بشرط آخر وهو مع عدم وجود تلك المصلحة عند المسلمين أنفسهم، أي أن العالم الإسلامي يتعاون أولا مع بعضه، فإذا أعوزه أو بعض دوله حاجة عند غير المسلمين ممن لم يقاتلوهم ولم يظاهروا عدوا على قتالهم فلا مانع من التعاون مع تلك الدولة في ذلك، ومما يؤيد كل ما تقدم عمليا معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده لليهود في خيبر. فمما لا شك فيه أنهم داخلون أولا في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا
95 عدوى وعدوكم أوليآء) *. ومنصوص على عدم موالاتهم في قوله تعالى: * (يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين) *. ومع ذلك لما أخرجهم صلى الله عليه وسلم من المدينة وحاصرهم بعدها في خيبر وفتحها الله عليه وأصبحوا في قبضة يده فلم يكونوا بعد ذلك في موقف المقاتلين، ولا مظاهرين على إخراج المسلمين من ديارهم. عاملهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقسط فعاملهم على أرض خيبر ونخيلها وأبقاهم فيها على جزء من الثمرة كأجراء يعملون لحسابه وحساب المسلمين، فلم يتخذهم عبيدا يسخرهم فيها، وبقيت معاملتهم بالقسط كما جاء في قصة ابن رواحة رضي الله عنه لما ذهب. يخرص عليهم وعرضوا عليه ما عرضوا من الرشوة ليخفف عنهم، فقال لهم كلمته المشهورة: والله لأنتم أبغض الخلق إلي وجئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولن يحملني بغضي لكم، ولا حبي له أن أحيف عليكم، فإما أن تأخذوا بنصف ما قدرت، وإما أن تكفوا أيديكم ولكم نصف ما قدرت، فقالوا له: بهذا قامت السماوات والأرض أي بالعدالة والقسط، وقد بقوا على ذلك نهاية زمنه صلى الله عليه وسلم وخلافة الصديق وصدرا من خلافة عمر حتى أجلاهم عنها. ومثل ذلك المؤلفة قلوبهم أعطاهم صلى الله عليه وسلم بعد الفتح وأعطاهم الصديق حتى منعهم عمر رضي الله عنه. وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة لأهميتها ومسيس الحاجة إليها اليوم. وفي الختام إن أشد ما يظهر وضوحا في هذا المقام ولم يدع أحد فيه نسخا قوله تعالى: * (وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا) *. فهذه حسن معاملة وبر وإحسان لمن جاهد المسلم على أن يشرك بالله ولم يقاتل المسلمين، فكان حق الأبوة مقدما ولو مع الكفر والمجاهدة على الشرك. وكذلك أيضا في نهاية هذه السورة نفسها قوله تعالى: * (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) *.
96 ثم قال تعالى: * (وءاتوهم مآ أنفقوا) * أي آتوا المشركين أزواج المؤمنات المهاجرات ما أنفقوا على أزواجهم بعد هجرتهن. فبعد أن أسلمت الزوجة وهاجرت وانحلت العصمة بينها وبين زوجها الكافر، وبعدت عنه بالهجرة وفاتت عليه ولم يقدر عليها، يأمر الله المسلمين أن يؤتوا أزواجهن وهم مشركون، ما أنفقوا من صداق عند الزواج ونحوه مع بقاء الأزواج على الكفر وعجزهم عن استرجاع الزوجات وعدم جواز موالاتهم قطعا لكفرهم، وهذا من المعاملة بالقسط والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وءاتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ ءاتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم) *. في قوله تعالى: * (إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن) * نص على امتحان المؤمنات المهاجرات، وكان صلى الله عليه وسلم يمتحنهن: ما خرجت كرها لزوج أو فرارا لسبب ونحو ذلك. ذكره ابن كثير وغيره. وقيل: كان امتحانهن بالبيعة الآتية: ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن الآية، ومفهومه أن الرجال المهاجرون لا يمتحنون. وفعلا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمتحن من هاجر إليه والسبب في امتحانهن دون الرجال، هو ما أشارت إليه هذه الآية في قوله تعالى: * (فإن علمتموهن مؤمنات) *، كأن الهجرة وحدها لا تكفي في حقهن بخلاف الرجال، فقد شهد الله لهم بصدق إيمانهم بالهجرة في قوله * (للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولائك هم الصادقون) *، وذلك أن الرجل إذا خرج مهاجرا يعلم أن عليه تبعة الجهاد والنصرة فلا يهاجر إلا وهو صادق الإيمان فلا يحتاج إلى امتحان، ولا يرد عليه مهاجر أم قيس لأنه أمر جانبي، ولا يمنع من المهمة الأساسية للهجرة المنوه عنه في أول هذه السورة * (إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى) *، بخلاف النساء فليس عليهن جهاد ولا يلزمهن بالهجرة أية تبعية، فأي سبب يواجههن في حياتهن سواء كان بسبب الزوج أو غيره، فإنهن يخرجن باسم الهجرة. فكان ذلك موجبا
97 للتوثق من هجرتهن بامتحانهن ليعلم إيمانهن، ويرشح لهذا المعنى قوله تعالى: * (الله أعلم بإيمانهن) *، وفي حق الرجال * (أولائك هم الصادقون) *، وكذلك من جانب آخر، وهو أن هجرة المؤمنات يتعلق عليها حق مع طرف آخر، وهو الزوج فيفسخ نكاحها منه، ويعوض هو عما أنفق عليها، وإسقاط حقه في النكاح وإيجاب حقه في العوض قضايا حقوقية، تتطلب إثباتا بخلاف هجرة الرجال. والله تعالى أعلم. وقوله تعالى: * (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) * معلوم أن المؤمنات المهاجرات بعد الامتحان والعلم بأنهن مؤمنات لا ينبغي إرجاعهن إلى الكفار، لأنهم يؤذونهن إن رجعن إليهم، فلأي شيء يأتي النص عليه؟ قال كثير من المفسرين: إن هذه الآية مخصصة لما جاء في معاهدة صلح الحديبية، والتي كان فيها من جاء من الكفار مسلما إلى المسلمين ردوه على المشركين، ومن جاء من المسلمين كافرا للمشركين لا يردونه على المسلمين فأخرجت النساء من المعاهدة وأبقت الرجال من باب تخصيص العموم وتخصيص السنة بالقرآن، وتخصيص القرآن بالسنة معلوم، وقد بينه الشيخ رحمة الله تعالى عليه في مذكرة الأصول، وذكر القاعدة من مراقي السعود بقوله: قال كثير من المفسرين: إن هذه الآية مخصصة لما جاء في معاهدة صلح الحديبية، والتي كان فيها من جاء من الكفار مسلما إلى المسلمين ردوه على المشركين، ومن جاء من المسلمين كافرا للمشركين لا يردونه على المسلمين فأخرجت النساء من المعاهدة وأبقت الرجال من باب تخصيص العموم وتخصيص السنة بالقرآن، وتخصيص القرآن بالسنة معلوم، وقد بينه الشيخ رحمة الله تعالى عليه في مذكرة الأصول، وذكر القاعدة من مراقي السعود بقوله: * وخصص الكتاب والحديث به * أو بالحديث مطلقا فلتنتبه * ومما ذكره لأمثلة تخصيص السنة بالكتاب قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أبين من حي فهو ميت)، أي محرم، جاء تخصيص هذا العموم بقوله تعالى: * (ومن أصوافها وأوبارها) * أي ليس محرما. ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسنة قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة والدم) * جاء تخصيص هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالجراد والحوت) الحديث قال القرطبي: جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد، فأقبل زوجها وكان كافرا، فقال: يا محمد أردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله هذه الآية، وقال بعض المفسرين: إنها ليست مخصصة للمعاهدة، لأن النساء لم يدخلن فيها ابتداء، وإنما كانت في حق الرجال فقط.
98 وذكر القرطبي وابن كثير أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت فارة من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ردها علينا للشرط، فقال صلى الله عليه وسلم (كان الشرط في الرجال لا في النساء)، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والذي يظهر والله تعالى أعلم أنها مخصصة لمعاهدة الهدنة، وهي من أحسن الأمثلة لتخصيص السنة بالقرآن، كما قاله ابن كثير. وقد روي أنها مخصصة عن عروة والضحاك وعبد الرحمان بن زيد والزهري ومقاتل بن حيان والسدي. ويدل على أنها مخصصة أمران مذكوران في الآية. الأول منهما: أنها أحدثت حكما جديدا في حقهن وهو عدم الحلية بينهن وبين أزواجهن، فلا محل لإرجاعهن، ولا يمكن تنفيذ معاهدة الهدنة مع هذا الحكم فخرجن منها وبقي الرجال. والثاني منهما: أنها جعلت للأزواج حق المعاوضة على ما أنفقوا عليهن، ولو لم يكن داخلات أولا لما كان طلب المعاوضة ملزما، ولكنه صار ملزما، وموجب إلزامه أنهم كانوا يملكون منعهن من الخروج بمقتضى المعاهدة المذكورة، فإذا خرجن بغير إذن الأزواج كن كمن نقض العهد فلزمهن العوض المذكور. والله تعالى أعلم. وقوله تعالى: * (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) *، فيها تحريم المؤمنات على الكافرين، والظاهر أن التحريم بالهجرة لا بالإسلام قبلها، واتفق الجمهور على أنه إذا أسلم وهاجر أحد الزوجين بقيت العصمة إلى نهاية العدة، فإن هاجر الطرف الآخر فيها، فهما على نكاحهما الأول. وهنا مبحث زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجها أبي العاص بن الربيع. وقد كثر الخلاف في أمر ردها إليه هل كان بالعقد الأول، أو جدد لها صلى الله عليه وسلم عقدا جديدا، ومن أسباب كثرة الخلاف الربط بين تاريخ إسلامها وتاريخ إسلامه، وبينهما ست سنوات وهذا خطأ، لأن قبل نزول الآية لم يقع تحريم بين مسلمة وكافر، ونزولها بعد الحديبية وإسلامها كان سنة ثمان، فيحمل على عدم انقضاء عدتها، وهذا يوافق على ما عليه الجمهور، ونقل ابن كثير قولا، وهو أن المسلمة كانت بالخيار إن شاءت فسخت نكاحها
99 وتزوجت بعد انقضاء عدتها، وإن شاءت انتظرت ا ه. وهذا القول له وجه، لأنه بإسلامها لم يكن كفأ لها وإذا انتفت الكفاءة أعطيت الزوجة الخيار، كقصة بريرة لما عتقت وكان زوجها مملوكا، ولا يرده قوله تعالى: * (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) * لأن ذلك في حالة كفر الزوج لقوله تعالى: * (فلا ترجعوهن إلى الكفار) * والله تعالى أعلم. وقوله تعالى: * (وءاتوهم مآ أنفقوا) * يدل على أن الفرقة إذا جاءت بسبب من جهة الزوجة أن عليها رد ما أنفق الزوج عليها، وكونه الصداق أو أكثر قد بحثه الشيخ رحمة الله تعالى عليه في مبحث الخلع في سورة البقرة. وقوله تعالى: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) *، أمر المؤمنين بفك عصمة زوجاتهم الكوافر، فطلق عمر بن الخطاب يومئذ زوجتين، وطلق طلحة بن عبيد الله زوجته أروى بنت ربيعة، وعصم الكوافر عام في كل كافرة، فيشمل الكتابيات لكفرهن باعتقاد الولد لله، كما حققه الشيخ رحمة الله تعالى عليه، ولكن هذا العموم قد خصص بإباحة الكتابيات في قوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * أي الحرائر، وبقيت الحرمة بين المسلم والمشركة بالعقد على التأبيد. ومفهوم العصمة لا يمنع الإمساك بملك. اليمين، فيحل للمسلم الاستمتاع بالمشركة بملك اليمين، وعليه تكون حرمة المسلمة على الكافر مطلقا مشركا كان أو كتابيا على التأييد لقوله تعالى: * (لا هن حل لهم) * أي في الحاضر، * (ولا هم يحلون لهن) * أي في المستقبل، وقد فصل الشيخ رحمة الله تعالى عليه مسألة المحرمات من النكاح فيما تقدم عند قوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات) *. تنبيه هنا سؤال، وهو: إذا كان الكفر هو سبب فك عصمة الكافرة من المسلم، وتحريم المسلمة على الكافر، فلماذا حلت الكافرة من أهل الكتاب للمسلم، ولم تحل المسلمة للكافر من أهل الكتاب؟ والجواب من جانبين: الأول: أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه والقوامة في الزواج للزوج قطعا لجانب الرجولة، وإن تعادلا في الحلية بالعقد، لأن التعادل لا يلغي الفوارق كما في ملك اليمين،
100 فإذا امتلك رجل امرأة حل له أن يستمتع منها بملك اليمين، والمرأة إذا امتلكت عبدا لا يحل لها أن تستمتع منه بملك اليمين، ولقوامة الرجل على المرأة وعلى أولادها وهو كافر لا يسلم لها دينها، ولا لأولادها، والجانب الثاني شمول الإسلام وقصور غيره، وينبني عليه أمر اجتماعي له مساس بكيان الأسرة وحسن العشرة، وذلك أن المسلم إذا تزوج كتابية، فهو يؤمن بكتابها وبرسولها، فسيكون معها على مبدأ من يحترم دينها لإيمانه به في الجملة، فسيكون هناك مجال للتفاهم، وقد يحصل التوصل إلى إسلامها بموجب كتابها، أما الكتابي إذا تزوج مسلمة، فهو لا يؤمن بدينها، فلا تجد منه احتراما لمبدئها ودينها، ولا مجال للمفاهمة معه في أمر لا يؤمن به كلية، وبالتالي فلا مجال للتفاهم ولا للوئام، وإذا فلا جدوى من هذا الزواج بالكلية، فمنع منه ابتداء. وقوله تعالى: * (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ ءاتيتموهن أجورهن) * يعني صداقهن. ويدل بمفهومه أن النكاح بدون الأجور فيه جناح، وقد جاء النص بهذا المفهوم في قوله تعالى * (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين) *، فهبة المرأة نفسها بدون صداق خاص به صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى * (خالصة لك من دون المؤمنين) * لا يحله لغيره صلى الله عليه وسلم، وقوله * (إذآ ءاتيتموهن أجورهن) * ظاهر في أن النكاح لا يصح إلا بإتيان الأجور. وقد جاء ما يدل على صحة العقد بدون إتيان الصداق كما في قوله تعالى * (لا جناح عليكم إن طلقتم النسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن) *. وقد ذكر الفقهاء حكم المفوضة، أنه إن دخل بها فله صداق المثل، ويدل لإطلاق الأجور على الصداق قوله تعالى في نكاح الإماء لمن لم يستطع طولا للحرائر * (فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * إلى قوله * (فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهن أجورهن) * وفي نكاح أهل الكتاب * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذآ ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين) *، وقوله تعالى
101 للرسول صلى الله عليه وسلم: * (إنآ أحللنا لك أزواجك اللاتىءاتيت أجورهن) * وبهذا كله يرد على من استدل بلفظ الأجور على نكاح المتعة في قوله تعالى: * (فما استمتعتم به منهن فأاتوهن أجورهن) * وتقدم مبحث المتعة موجزا للشيخ رحمة الله تعالى عليه، عند قوله تعالى: * (فما استمتعتم به منهن) *. قوله تعالى: * (ولا يعصينك فى معروف) *. القيد بالمعروف هنا للبيان ولا مفهوم له، لأن كل ما يأمر به صلى الله عليه وسلم معروف، وفيه حياتهن، وقد بينه الشيخ رحمة الله تعالى عليه، عند قوله تعالى: * (إذا دعاكم لما يحييكم) * في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه) * ولكن فيه تنبيه على أن من كان في موضع الأمر من بعده لا طاعة له إلا في المعروف والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الا خرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور) *. يرى المفسرون أن هذه الآية في ختام هذه السورة كالآية الأولى في أولها، وهذا ما يسمى عودا على بدء. قال أبو حيان: لما افتتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ختمها بمثل ذلك تأكيدا لترك موالاتهم وتنفيرا للمسلمين عن توليهم وإلقاء المودة إليهم. وقال ابن كثير: ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة، كما نهى عنها في أولها، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أنها لم تكن لمجرد التأكيد للنهي المتقدم، ولكنها تتضمن معنى جديدا، وذلك للآتي: أولا: أنها نص في قوم غضب الله عليهم، وعلى أنها للتأكيد حملها البعض العموم، لأن كل كافر مغضوب عليه، وحملها البعض على خصوص اليهود، لأنه وصف صار عرفا لهم، هو قول الحسن وابن زيد. قاله أبو حيان، ومما تقدم للشيخ رحمة الله تعالى عليه في مقدمة الأضواء: أنه إذا اختلف في تفسير آية، وكان أكثر استعمال القرآن لأحد المعنيين كان مرجحا على الآخر، وهو محقق هنا، كما قال الحسن، أصبح عرفا عليهم، وقد خصهم تعالى في قوله: * (قل هل أنبئكم بشر من ذالك مثوبة عند الله من لعنه
102 الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) * وقوله فيهم: * (فبآءو بغضب على غضب) * وقد فرق الله بينهم وبين النصارى في قوله تعالى * (غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) *، ولو قيل: إنها في اليهود والمنافقين، لما كان بعيدا لأنه تعالى نص على غضبه على المنافقين في هذا الخصوص في سورة المجادلة في قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون) * وعلى هذا فتكون خاصة في اليهود والمنافقين، والغرض من تخصيصها بهما وعودة ذكرهما بعد العموم المتقدم في عدوي وعدوكم، كما أسلفنا هو والله تعالى أعلم: لما نهى أولا عن موالاة الأعداء وأمر بتقطيع الأواصر بين ذوي الأرحام، جاء بعدها ما يشيع الأمل بقوله: * (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) * وعاديتم عامة باقية على عمومها. ولكن اليهود والمنافقين لم يدخلوا في مدلول عسى تلك، فنبه تعالى عليهم بخصوصهم لئلا يطمع المؤمنون أو ينتظروا شيئا من ذلك، فأيأسهم من موالاتهم ومودتهم، كيأس اليهود والمنافقين في الآخرة، أي بعدم الإيمان الذي هو رابطة الرجاء المتقدم في عسى، وفعلا كان كما أخبر الله، فقد جعل المودة من بعض المشركين ولم يجعلها من بعض المنافقين ولا اليهود، فهي إذا مؤسسة لمعنى جديد، وليست مؤكدة لما تقدم، والعلم عند الله تعالى.
103 ((سورة الصف)) * (سبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض وهو العزيز الحكيم * ياأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون * إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص * وإذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذوننى وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفاسقين * وإذ قال عيسى ابن مريم يابنى إسراءيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هاذا سحر مبين * ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدى القوم الظالمين * يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون * ياأيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الا نهار ومساكن طيبة فى جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين * ياأيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فأامنت طآئفة من بنى إسراءيل وكفرت طآئفة فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) * قوله تعالى: * ( ياأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون * إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) *. في الآية الأولى إنكار على الذين يقولون ما لا يفعلون، وفي الآية الثانية بيان شدة غضب الله ومقته على من يكون كذلك، ولكن لم يبين هنا القول المغاير للفعل المنهى عنه، والمعاتبون عليه والمستوجب لشدة الغضب إلا أن مجيء الآية الثالثة بعدهما يشعر بموضوع القول والفعل، وهو الجهاد في سبيل الله. وقد اتفقت كلمة علماء التفسير على أن سبب النزول مع تعدده عندهم: أنه حول الجهاد في سبيل الله من رغبة في الإذن لهم في الجهاد ومعرفة أحب الأعمال إلى الله، ونحو ذلك. وقد بين القرآن في عدة مواضع أن موضوع الآيتين الأولى والثانية فيما يتعلق بالجهاد وتمنيهم إياه. من ذلك قوله تعالى عنهم: * (ويقول الذين ءامنوا لولا نزلت سورة فإذآ أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت) *. ومنها قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب) *. ومنها قوله تعالى: * (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الا دبار وكان عهد الله
104 مسئولا) *. ففي الآية الأولى تمنوا نزول سورة يؤذن فيها بالقتال، فلما نزلت صار مرضى القلوب كالمغشي عليه من الموت. وفي الثانية: قيل لهم كفوا أيديكم عن القتال، فتمنوا الإذن لهم فيه، فلما كتب عليهم رجعوا وتمنوا لو أخرجوا إلى أجل قريب. وفي الثالثة: أعطوا العهود على الثبات وعدم التولي، وكان عهد الله مسؤولا، فلما كان في أحد وقع ما وقع وكذلك في حنين، ويشهد لهذا أيضا قوله تعالى: * (وإذ قالت طآئفة منهم ياأهل. يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبى يقولون إن بيوتنا عورة وما هى بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بهآ إلا يسيرا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الا دبار) *. ففي هذا السياق بيان لعتابهم على نقض العهد، وهو معنى: لم تقولون ما لا تفعلون سواء بسواء، ويقابل هذا أن الله تعالى امتدح طائفة أخرى منهم حين أوفوا بالعهد وصدقوا ما عاهدوا الله عليه في قوله تعالى: * (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) *. ثم بين الفرق بين الفريقين بقوله بعدها * (ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شآء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا) *، وذلك في غزوة الأحزاب. فتبين بهذا أن الفعل المغاير للقول هنا هو عدم الوفاء بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم من قبل فاستوجبوا العتاب عليه، كما تبين أن الذين وفوا بالعهد استوجبوا الثناء على الوفاء، وقد استدل بالآية من عموم لفظها على الإنكار على كل من خالف قوله فعله، سواء في عهد أو وعد أو أمر أو نهي. ففي الأمر والنهي كقوله تعالى: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) *. وكقوله عن نبي الله شعيب لقومه: * (ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه) *.
105 وفي العهد قوله: * (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) *. ومن هذا الوجه، فقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى عليه في عدة مواضع، منها في سورة هود عند قول شعيب المذكور. ومنها عند قوله تعالى: * (واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد) * في سورة مريم. وبحث فيها الوفاء بالوعد، والفرق بين الوعد والوعيد، والوفاء بالوعد والخلف في الوعيد، وعقد لها مسألة، وساق آيتي الصف هناك. قوله تعالى: * (إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) *. اختلف علماء التفسير في المراد بالبنيان المرصوص، فنقل بعضهم عن الفراء: أنه المتلاحم بالرصاص لشدة قوته، والجمهور: أنه المتلاصق المتراص المتساوي. والواقع أن المراد بالتشبيه هنا هو وجه الشبه، ولا يصح أن يكون هنا هو شكل البناء لا في تلاحمه بالرصاص، وعدم انفكاكه ولا تساويه وتراصه، لأن ذلك يتنافى وطبيعة الكر والفر في أرض المعركة، ولكل وقعة نظامها حسب موقعها. والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن وجه الشبه المراد هنا هو عموم القوة والوحدة. قال الزمخشري: يجوز أن يريد استواء بنائهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص ا ه. ويدل لهذا الآتي: أولا قوله تعالى: * (وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) *. فالمقاعد هنا هي المواقع للجماعات من الجيش، وهي التعبئة حسب ظروف الموقعة، كما فعل صلى الله عليه وسلم في وضع الرماة في غزوة أحد حماية لظهورهم من التفاف العدو بهم
106 لطبيعة المكان، وكما فعل في غزوة بدر ورصهم وسواهم بقضيب في يده أيضا لطبيعة المكان. وهكذا، فلا بد من كل وقعة من مراعاة موقعها، بل وظروف السلاح والمقاتلة. وقد ذكر صاحب الجمان في تشبيهات القرآن أجزاء الجيش وتقسيماته بصفة عامة من قلب وميمنة وميسرة وأجنحة، ونحو ذلك فيكون وجه الشبه هو الارتباط المعنوي والشعور بالمسؤولية والإحساس بالواجب كما فعل الحباب بن المنذر في غزوة بدر حين نظر إلى منزل المسلمين من الموقع فلم يرقه، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجابه فأبدى خطة جديدة فأخذ بها صلى الله عليه وسلم وغير الموقع من مكان المعركة. وثانيا قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) *. فذكر تعالى من عوامل النصر: الثبات عند اللقاء، وذكر الله والطاعة، والامتثال، والحفاظ عليها بعدم التنازع والصبر عند الحملة والمجالدة، فتكون حملة رجل واحد، وكلها داخلة تحت معنى البنيان المرصوص في قوته وحمايته وثباته، وقد عاب تعالى على اليهود تشتت قلوبهم عند القتال في قوله تعالى: * (تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى) *، وامتدح المؤمنين في قتالهم بوحدتهم كأنهم بنيان مرصوص. وقد جاءت السنة بهذا التشبيه للتعاون في قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا). فهو يبين المراد من وجه الشبه في البنيان المرصوص هنا، وقد أثر عن أبي موسى رضي الله عنه قوله لأصحابه: الزموا الطاعة فإنها حصن المحارب. وعن أكثم بن صيفي: أقلوا الخلاف على أمرائكم، وإن المسلمين اليوم لأحوج ما يكونون إلى الالتزام بهذا التوجيه القرآني الكريم، إزاء قضيتهم العامة مع عدوهم المشترك، ولا سيما، وقد مر العالم الإسلامي بعدة تجارب في تاريخهم الطويل وكان لهم منها أوضح العبر، ولهم في هذا المنهج القرآني أكبر موجب لاسترجاع حقوقهم والحفاظ على كيانهم، فضلا عن أنه العمل الذي يحبه الله من عباده، وبالله تعالى التوفيق.
107 قوله تعالى: * (وإذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذوننى وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفاسقين) *. قول موسى عليه السلام: لم تؤذونني؟ لم يبين نوع هذا الإيذاء وقد جاء مثل هذا الإجمال في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا) *. وأحال عليه ابن كثير في تفسيره، وساق حديث البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن موسى عليه السلام كان حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة، وأن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا فخلا يوما وحده فخلع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وأن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله عز وجل وبرأه مما يقولون إلى آخر القصة). ونقله غيره من المفسرين عندها، وعلى هذا يكون إيذاؤهم إياه إيذاء شخصيا بادعاء العيب فيه خلقة، وهذا وإن صح في آية الأحزاب لقوله تعالى: * (فبرأه الله مما قالوا) *، فإنه لا يصح في آية الصف هذه لأن قول لهم: * (وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم) * مما يثير إلى أن الإيذاء في جانب الرسالة لا في جانبه الشخصي، ويرشح له قوله تعالى بعده مباشرة: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *. أي فلما زاغوا بما آذوا به موسى، فيكون إيذاء قومه له هنا إيذاء زيغ وضلال، وقد آذوه كثيرا في ذلك كما بينه تعالى في قوله عنهم: * (وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) *. وكذلك قوله تعالى: * (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا مآ ءاتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا فى قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) *. فها هم يؤخذ الميثاق عليهم ويرفع فوقهم الطور، ويقال لهم: * (خذوا مآ ءاتيناكم
108 بقوة واسمعوا) * فكله يساوي قوله: * (وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم) *، لأن قد هنا للتحقيق، ومع ذلك يؤذونه بقولهم: * (سمعنا وعصينا) * ويؤذونه بأن أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته بكفرهم، ولذا قال لهم: * (بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) *. وقد جمع إيذاء الكفار لرسول الله مع إيذاء قوم موسى لموسى في قوله تعالى: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السمآء فقد سألوا موسى أكبر من ذالك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) *. ومن مجموع هذا يتبين أن الإيذاء المنصوص عليه هنا هو في خصوص الرسالة، ولا مانع من أنهم آذوه بأنواع من الإيذاء في شخصه، وفي ما جاء به فبرأه الله مما قالوا في آية الأحزاب وعاقبهم على إيذائه فيما أرسل به إليهم بزيغ قلوبهم، والعلم عند الله تعالى. وقوله: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *، تقدم كلام الشيخ رحمة الله تعالى عليه على هذا المعنى في سورة الروم، عند الكلام على قوله تعالى: * (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بأايات الله) *. وقال: إن الكفر والتكذيب قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه، وساق هذه الآية * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * وقوله: * (فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) *. وأحال على سورة بني إسرائيل على قوله: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) *. وعلى سورة الأعراف على قوله: * (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) *. ومما يشهد لهذا المعنى العام بقياس العكس قوله تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم) * وأمثالها. ومما يلفت النظر هنا إسناد الزيغ للقلوب في قوله تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *.
109 وأن والهداية أيضا للقلب كما في قوله تعالى: * (ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شىء عليم) *. ولذا حرص المؤمنين على هذا الدعاء: * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) * فتضمن المعنيين، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وإذ قال عيسى ابن مريم يابنى إسراءيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد) *. ذكر موسى ولم يذكر معه البشرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عيسى فذكرها معه، مما يدل بمفهومه أنه لم يبشر به إلا عيسى عليه السلام، ولكن لفظ عيسى مفهوم لقب ولا عمل عليه عند الأصوليين، وقد بشرت به صلى الله عليه وسلم جميع الأنبياء، ومنهم موسى عليه السلام ومما يشير إلى أن موسى مبشرا به قول عيسى عليه السلام في هذه الآية: مصدقا لما بين يدي، والذي بين يديه هي التوراة أنزلت على موسى. وقد جاء صريحا التعريف به صلى الله عليه وسلم وبالذين معه في التوراة في قوله تعالى: * (محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا) * إلى قوله تعالى: * (ذلك مثلهم فى التوراة) *. كما جاء وصفهم في الإنجيل في نفس السياق، في قوله تعالى: * (ومثلهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه) * إلى آخر السورة. وجاء النص في حق جميع الأنبياء في قوله تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) *. قال ابن كثير: قال ابن عباس ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث وهو حيي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه. ا ه. وجاء مصداق ذلك في قصة النجاشي لما سمع من جعفر عنه صلى الله عليه وسلم، فقال: (أشهد أن رسول الله وأن الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم، وما قاله أيضا:
110 والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. في حديث طويل ساقه ابن كثير، وعزاه إلى أحمد رحمه الله. وكذلك دعوة نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) *. ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي التي رأت). وقد خص عيسى بالنص على البشرى به صلى الله عليه وسلم لأنه آخر أنبياء بني إسرائيل، فهو ناقل تلك البشرى لقومه عما قبله. كما قال: * (مصدقا لما بين يدى من التوراة) * ومن قبله ناقل عمن قبله، وهكذا حتى صرح بها عيسى عليه السلام، وأداها إلى قومه. وقوله تعالى: * (اسمه أحمد) * جاء النص أنه صلى الله عليه وسلم له عدة أسماء، وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب). وبهذه المناسبة فقد ذكر صلى الله عليه وسلم باسمه أحمد هنا. وباسمه محمد في سورة محمد صلى الله عليه وسلم. كما ذكر صلى الله عليه وسلم بصفات عديدة أجمعها ما يعد ترجمة ذانية من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: * (لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) *. وسيأتي المزيد من بيان ذلك عند قوله تعالى: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) *. تقدم بيان ذلك الشيخ رحمة الله تعالى عليه عند قوله تعالى: * (حجتهم داحضة عند ربهم) * في سورة الشورى، وقوله: * (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) * في سورة الأنبياء. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) *.
111 فسرت التجارة بقوله تعالى: * (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) *. التجارة: هي التصرف في رأس المال طلبا للربح كما قال تعالى: * (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم) *. وقال تعالى: * (وتجارة تخشون كسادها) *. والتجارة هنا فسرت بالإيمان بالله ورسوله، وبذل المال والنفس في سبيل الله، فما هي المعارضة الموجودة في تلك التجارة الهامة، بينها تعالى في قوله تعالى: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذالك هو الفوز العظيم) *، فهنا مبايعة، وهنا بشرى وهنا فوز عظيم. وكذلك في هذه الآية: * (يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الا نهار ومساكن طيبة فى جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب) *. وقد دل القرآن على أنه من فاتته هذه الصفقة الرابحة فهو لا محالة خاسر، كما في قوله تعالى: * (أولائك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) *. حقيقة هذه التجارة أن رأس مال الإنسان حياته ومنتهاه مماته. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) والعرب تعرف هذا البيع في المبادلة كما قول الشاعر:: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) والعرب تعرف هذا البيع في المبادلة كما قول الشاعر: * فإن تزعميني كنت أجهل فيكم * فإن شربت الحلم بعدك بالجهل * وقول الآخر: وقول الآخر: * بدلت بالجمة رأسا أزعرا * وبالثنايا الواضحات الدردرا * فأطلق الشراء على الاستبدال.
112 تنبيه في هذه الآية الكريمة تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في قوله تعالى: * (وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) *. وفي آية إن الله اشترى من المؤمنين، قدم النفس عن المال فقال * (اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) *، وفي ذلك سر لطيف. أما في آية الصف، فإن المقام مقام تفسير وبيان لمعنى التجارة الرابحة بالجهاد في سبيل الله. وحقيقة الجهاد بذل الجهد والطاقة، والمال هو عصب الحرب وهو مدد الجيش. وهو أهم من الجهاد بالسلاح، فبالمال يشترى السلاح، وقد تستأجر الرجال كما في الجيوش الحديثة من الفرق الأجنبية، وبالمال يجهز الجيش، ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء، وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم، وأعذر معهم الرسول صلى الله عليه وسلم إذ لم يوجد عنده ما يجهزهم به كما في قوله تعالى: * (ليس على الضعفآء ولا على المرضى) * إلى قوله: * (ولا على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم قلت لا أجد مآ أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) *. وكذلك من جانب آخر، قد يجاهد بالمال من لا يستطيع بالسلاح كالنساء والضعفاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازيا فقد غزا). أما الآية الثانية، فهي في معرض الاستبدال والعرض والطلب أو ما يسمى بالمساومة، فقدم النفس لأنها أعز ما يملك الحي، وجعل في مقابلها الجنة وهي أعز ما يوهب، وأحسن ما قيل في ذلك. أما الآية الثانية، فهي في معرض الاستبدال والعرض والطلب أو ما يسمى بالمساومة، فقدم النفس لأنها أعز ما يملك الحي، وجعل في مقابلها الجنة وهي أعز ما يوهب، وأحسن ما قيل في ذلك. * أثامن بالنفس النفيسة ربها * وليس لها في الخلق كلهم ثمن *
113 * بها تملك الأخرى فإن أنا بعتها * بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن * * لئن ذهبت نفسي بدنيا أصيبها * لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن * فالتجارة هنا معاملة مع الله إيمانا بالله وبرسوله وجهاد بالمال والنفس، والعمل الصالح، كما قيل أيضا: والعمل الصالح، كما قيل أيضا: * فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا * فإنما الربح والخسران في العمل * وفي آية * (إن الله اشترى) * تقديم بشرى خفية لطيفة بالنصر لمن جاهد في سبيل الله وهي تقديم قوله: * (فيقتلون) * بالبناء للفاعل أي فيقتلون عدوهم * (ويقتلون) * بالبناء للمجهول، لأن التقديم هنا يشعر بأنهم يقتلون العدو قبل أن يقتلهم ويصيبون منه قبل أن يصيب منهم، ومثل هذا يكون في موقف القوة والنصر، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين) *. في هذه الآية أيضا إشعار المسلمين بالنصر في قوله تعالى: * (فأيدنا الذين ءامنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) * ولكن لم يبين فيها هل كانوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله أم لا؟ وقد جاء ما يدل على أنهم بالفعل أنصار الله كما تقدم في سورة الحشر في قوله تعالى: * (للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله) *. وكذلك الأنصار في قوله تعالى: * (والسابقون الا ولون من المهاجرين والأنصار) * وكقوله تعالى: * (محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا) * فأشداء على الكفار هو معنى ينصرون الله ورسوله، ثم جاء المثل المضروب لهم بالتآزر والتعاون في قوله تعالى: * (ومثلهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) * فسماهم أنصارا، وبين نصرتهم سواء من المهاجرين والأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والعلم عند الله تعالى.
114 ((سورة الجمعة)) * (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض الملك القدوس العزيز الحكيم * هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلل مبين * وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم * مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بأايات الله والله لا يهدى القوم الظالمين * قل ياأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * قل إن الموت الذى تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون * ياأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الا رض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) * قوله تعالى: * (هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم) *. بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى الأميين في مذكرة الدراسة بقوله: الأميين أي العرب، والأمي: هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكذلك كان كثير من العرب ا ه. وسمي أميا نسبة إلى أمه يوم ولدته لم يعرف القراءة ولا الكتابة وبقي على ذلك. ومما يدل على أن المراد بالأميين هم العرب بعثة النبي صلى الله عليه وسلم منهم لقوله تعالى * (رسولا منهم) * كما يدل عليه قوله تعالى عن نبي الله إبراهيم: * (ربنآ إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم) * إلى قوله تعالى: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: وهذه الآية نص في أن الله تعالى استجاب دعوة نبيه إبراهيم عليه السلام فيهم ا ه. وفي الحديث: (إنا أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب ولا نحسب)، وهذا حكم على المجموع لا على الجميع، لأن في العرب من كان يكتب مثل كتبة الوحي، عمر وعلي غيرهم. وقوله تعالى: * (رسولا منهم) * هو النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى عن أهل الكتاب: * (الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل) *. وقد بين تعالى أن المكتوب عندهم هو ما بشر به عيسى عليه السلام في قوله تعالى: * (ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد) *. وكونه صلى الله عليه وسلم أميا بمعنى لا يكتب، بينه قوله تعالى: * (وما كنت تتلو من قبله من كتاب
115 ولا تخطه بيمينك) *. وبين تعالى الحكمة في كونه صلى الله عليه وسلم أميا مع أنه يتلو عليهم آياته ويزكيهم بنفي الريب عنه كما كانوا يزعمون أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم: * (أساطير الا ولين اكتتبها فهى تملى عليه) * فقال: * (إذا لارتاب المبطلون) *. قوله تعالى: * (وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، في المذكرة المشار إليها: هذا عطف على قوله: في الأميين، أي، بعث هذا النبي صلى الله عليه وسلم في الأميين، وفي آخرين منهم، وقيل: عطف على الضمير في قوله: يعلمهم، أي يعلمهم ويعلم آخرين منهم، والمراد بقوله: وآخرين كل من يأتي بعد الصحابة من أهل الإسلام إلى يوم القيامة بدليل قوله: * (وأوحى إلى هاذا القرءان لا نذركم به ومن بلغ) *. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن قوله: وآخرين، نزلت في فارس قوم سلمان، وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ا ه. وسبق أن قدمنا الكلام على هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى: * (والذين جآءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) *. ولكن سبقنا كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، حين عثرنا عليه لزيادة الفائدة والاستئناس. قوله تعالى: * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء) *. اختلف في مرجع اسم الإشارة هنا وفي المراد بالمتفضل به عليهم، أهم الأمة الأمية تفضل الله عليها ببعثة نبي منهم فيهم؟ أم هو النبي صلى الله عليه وسلم الأمي تفضل الله تعالى عليه ببعثته معلما هاديا؟ أم هم الآخرون الذين لم يلحقوا زمن البعثة ووصلتهم دعوتها، وأدركوا فضلها؟ وقد اكتفى الشيخ رحمة الله تعالى عليه وعلينا، في مذكرة الدراسة بقوله ذلك أي المذكور من بعث هذا النبي الكريم في الأميين، فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ومن عظم فضله تفضله على هذه الأمة بهذا النبي الكريم ا ه.
116 وهذا القول منه رحمة الله تعالى علينا وعليه، يتضمن القولين الأول والثاني من الأقوال الثلاثة، تفضل الله على الأميين ببعثة هذا النبي الكريم فيها، وتفضل الله على النبي ببعثته فيهم مما لا يشعر بأنه لا خلاف بين هذه الأقوال الثلاثة، وأنها من الاختلاف التنوعي أو هي من المتلازمات فلا مانع من إدارة الجميع، لأن فضل الله تعالى قد شمل الجميع. وقد نص الأول بقوله: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين) * وهذا عين ما في سورة الجمعة سواء، لأن الامتنان هو التفضل. ونص على الثاني بقوله تعالى: * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) *. ونص على الثالث بقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذالك فضل الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم) *. فقوله: فسوف يأتي، ويساوي * (وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم) *، فهو خلاف تنوع، وفضل الله شامل للجميع. قوله تعالى: * (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: هذا مثل ضربه الله لليهود، وهو أنه شبههم بحمار، وشبه التوراة التي كلفوا العمل بما فيها بأسفار أي كتب جامعة للعلوم النافعة، وشبه تكليفهم بالتوراة: بحمل ذلك الحمار لتلك الأسفار، فكما أن الحمار لا ينتفع بتلك العلوم النافعة التي في تلك الكتب المحمولة على ظهره، فكذلك اليهود لم ينتفعوا بما في التوراة من العلوم النافعة لأنهم كلفوا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وإظهار صفاته للناس فخانوا وحرفوا وبدلوا فلم ينفعهم ما في كتابهم من العلوم ا ه. فأشار الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، إلى أن وجه الشبه عدم الانتفاع بما تحملوه من التوراة وهم يعلمون ما فيها من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أوضح الله تعالى
117 هذا في موضع آخر في قوله تعالى: * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) * فقد جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فلم ينفعهم علمهم به. وهذه الآية أشد ما ينبغي الحذر منها، وخاصة لطلاب العلم وحملته، كما قال تعالى: * (بئس مثل القوم) * أي تشبيههم في هذا المثل بهذا لحيوان المعروف. وقد سبق للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على هذا المثال في عدة مواضع من الأضواء، منها في الجزء الثاني عند قوله تعالى: * (فمثله كمثل الكلب) *. ومنها في الجزء الثالث عند قوله تعالى: * (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد) *. ومنها في الجزء الرابع عند قوله تعالى: * (ولقد صرفنا فى هاذا القرءان للناس) * في سورة الكهف بما فيه الكفاية. والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن أكثر المفسرين يجعله من قبيل التشبيه المفرد، وأن وجه الشبه فيه مفرد وهو عدم الانتفاع بالمحمول، كالبيت الذي فيه: والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن أكثر المفسرين يجعله من قبيل التشبيه المفرد، وأن وجه الشبه فيه مفرد وهو عدم الانتفاع بالمحمول، كالبيت الذي فيه: * كالعيس في البيداء يقتلها الظما * والماء فوق ظهورها محمول * والذي يظهر والله تعالى أعلم، أنه من قبيل التشبيه التمثيلي لأن وجه الشبه مركب من مجموع كون المحمول كتبا نافعة، والحامل حمار لا علاقة له بها بخلاف ما في البيت، لأن العيش يمكن أن تنتفع بالماء لو حصلت عليه، والحمار لا ينتفع بالأسفار ولو نشرت بين عينيه، وفيه إشارة إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل كلية أنهم وصلوا إلى حد الإياس من انتفاعهم بأمانة التبليغ والعمل، فنقلها الله إلى قوم أحق بها وبالقيام بها. قوله تعالى: * (قل ياأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والذين هادوا هم اليهود.
118 ومعنى هادوا: أي رجعوا بالتوبة إلى الله من عبادة العجل. ومنه قوله تعالى: * (إنا هدنآ إليك) *، وكان رجوعهم عن عبادة العجل بالتوبة النصوح: حيث سلموا أنفسهم للقتل توبة وإنابة إلى الله كما بينه بقوله: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) * إلى قوله * (فتاب عليكم) *. وقوله: * (إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في: * (إن زعمتم أنكم أوليآء لله) * أي إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أولياء لله، وأبناء الله وأحباؤه دون غيركم من الناس، فتمنوا الموت لأن ولي الله حقا يتمنى لقاءه، والإسراع إلى ما أعد له من النعيم المقيم ا ه. وفي قوله رحمة الله تعالى علينا وعليه. إشارة إلى بيان زعمهم المجمل في الآية وهو ما بينه تعالى بقوله عنهم وعن النصارى معهم: * (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) *. وقد رد زعمهم عليهم بقوله تعالى: * (قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق) *. ومثل هذه الآية إن زعمتم قوله تعالى: * (قل إن كانت لكم الدار الا خرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) *. وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: وقيل المراد بالتمني المباهلة، والمراد من الآية إظهار كذب اليهود في دعواهم أنهم أولياء الله. وقوله: * (إن زعمتم) * مع قوله: * (إن كنتم) * شرطان يترتب الأخذ منهما على الأول أي فتمنوا الموت، إن زعمتم، إن صدقتم في زعمكم، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر: إن كنتم) * شرطان يترتب الأخذ منهما على الأول أي فتمنوا الموت، إن زعمتم، إن صدقتم في زعمكم، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر: * إن تستغيثوا إن تذعروا تجدوا * منا معاقل عز زانها كرم * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم) *.
119 نص على أنهم لا يتمنون الموت أبدا، وأن السبب هو ما قدمت أيديهم، ولكن ليبين ما هو ما قدمت أيديهم الذي منعهم من تمني الموت. وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه. لا يتمنونه لشدة حرصهم على الحياة كما بينه تعالى قوله: * (ولتجدنهم أحرص الناس على حيواة) * فشدة حرصهم على الحياة لعلمهم أنهم إذا ماتوا دخلوا النار، ولو تمنوا لماتوا من حينهم. وقوله: * (بما قدمت أيديهم) * الباء سببية والمسبب انتفاء تمنيهم وما قدمت أيديهم من الكفر والمعاصي ا ه. والذي أشار إليه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، من الأسباب من كفرهم ومعاصيهم، قد بينه تعالى في موضع آخر صريحا في قوله تعالى: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنيآء سنكتب ما قالوا وقتلهم الا نبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذالك بما قدمت أيديكم) *. فالباء هنا سببية أيضا أي ذوقوا عذاب الحريق بسبب ما قدمت أيديكم من هذه المذكورات، ولهذا كله لن يتمنوا الموت ويود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، فقد أيقنوا الهلاك ويئسوا من الآخرة. كما قال تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الا خرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور) * ولهذا كله لم يتمنوا الموت، كما أخبر الله تعالى عنهم. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (قل إن الموت الذى تفرون منه فإنه ملاقيكم) *. أي إن فررتم من الموت بعدم تمنيه فلن يجعلكم تنجون منه وهو ملاقيكم لا محالة، وملاقيكم بمعنى مدرككم، كما في قوله تعالى: * (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة) *. وقوله: * (كل نفس ذآئقة الموت) *. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الا رض وابتغوا من فضل
120 الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) *. هذه الآية الكريمة، وهذا السياق يشبه في مدلوله وصورته قوله تعالى: * (وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم) * مع قوله: * (فإذآ أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) *. ففي كل منهما نداء، وأذان الحج وصلاة وسعي وإتيان وذكر الله، ثم انتشار وإفاضة مما يربط الجمعة بالحج في الشكل وإن اختلف الحجم، وفي الكيف وإن تفاوتت التفاصيل، وفي المباحث والأحكام كثرة وتنويعا من متفق عليه ومختلف فيه، مما يجعل مباحث الجمعة لا تقل أهمية عن مباحث الحج، وتتطلب عناية بها كالعناية به. وقد نقل عن الشيخ رحمة الله تعالى عليه أنه كان عازما على بسط الكلام فيها كعادته رحمة الله تعالى عليه، ولكن إرادته نافذة، وقدرته غالية. وإن كل إنسان يستشعر مدى مباحث الشيخ وبسطه وتحقيقه للمسائل ويترك الدخول فيها تقاصرا دونها ولا سيما وأن ربط هذه المباحث بنصوص القرآن ليس بالأمر المبين، كما أشار إليه أبو حيان في مضمون قوله في نهاية تفسيره لهذه السورة بعد إيجاز الكلام عن أحكامها، قال ما نصه: وقد ملأ المفسرون كثيرا من أوراقهم بأحكام وخلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن ا ه. فهو يشير بأن لفظ القرآن لا تعلق له بتلك الأحكام التي ناقشها المفسرون في مباحث الجمعة، ولكن الدارس لمنهج الشيخ رحمة الله تعالى عليه في الأضواء، والمتذوق لأسلوبه لم يقتصر على اللفظ فقط، أي دلالة النص التطابقي وتأمل أنواع الدلالات من تضمن والتزام وإيماء وتنبيه، فإنه يجد لأكثر أو كل ما قاله المفسرون والمحدثون والفقهاء من المباحث أصولا من أصول تلك الدلالات. وإني أستلهم الله تعالى الرشد وأستمد، العون والتوفيق لبيان كل ما يظهر من ذلك إن شاء الله، فإن وفقت فبفضل من الله وخدمة لكتابه، وإلا فإنها محاولة تغتفر بجانب القصور العلمي وتحسين القصد، والله الهادي إلى سواء السبيل. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا
121 البيع) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الدراسة ما نصه: إذا نودي للصلاة أي قام المنادي بها، وهو المؤذن يقول: حي على الصلاة. وقوله: * (من يوم الجمعة) * أي من صلاة يوم الجمعة أي صلاة الجمعة ا ه. ومما يدل على أن المراد بها صلاة الجمعة نفسها دون بقية صلوات ذلك اليوم مجيء من التي للتبعيض ثم تبين هذا البعض بالأمر، بترك البيع في قوله: * (فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) *، لأن هذا خاص بالجمعة دون غيرها لوجود الخطبة، وقد كانت معينة لهم قبل نزول هذه الآية، وصلوها قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، كما سيأتي إن شاء الله. والمراد بالنداء هو الأذان، كما أشار إليه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، وكما في قوله تعالى: * (وإذا ناديتم إلى الصلواة اتخذوها هزوا ولعبا) *. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم). وقيل: النداء لغة هو النداء بصوت مرتفع لحديث: (فإنه أندى منك صوتا). وقد عرف الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الأذان لغة عند قوله تعالى: * (وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا) * فقال: الأذان لغة الإعلام. ومنه قوله تعالى: * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الا كبر) * وقول الحارث بن حلزة: وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الا كبر) * وقول الحارث بن حلزة: * آذنتنا ببنيها أسماء * رب ثاو يمل منه الثواء * والأذان من خصائص هذه الأمة، شعارا للمسلمين ونداء للصلاة. بدء مشروعيته: اختلف في بدء المشروعية، والصحيح أنه بدىء بعد الهجرة، وجاءت نصوص لكنها ضعيفة: أنه شرع ليلة الإسراء أو بمكة. منها: عن علي رضي الله عنه عند البزار: أنه شرع مع الصلاة.
122 ومنها عن ابن عباس عند ابن حبان أنه شرع بمكة عن أول الصلاة. وقال ابن حجر: لا يصح شيء من ذلك. أما مشروعيته بعد الهجرة، وفي المدينة ففيها نصوص عديدة صحيحة نبين بدأه وكيفيته. منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما قال: (كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال قم فناد بالصلاة)، وفي الموطأ لمالك رحمة الله (أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة، فأرى عبد الله بن زيد الأنصاري خشبتين في النوم فقال: إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تؤذنون للصلاة؟ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان). وبعض الروايات الأخرى عن غير ابن عمر وعند غير الشيخين بألفاظ أخرى، وصور مختلفة منها قالوا: (انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضا أي أعلمه عند حضور الصلاة، فلم يعجبه ذلك فذكر له القنع، وهو الشبور لليهود فلم يعجبه، فقال هذا من أمر اليهود). وفي رواية أنس (أن ينوروا نارا فلم يعجبه شيء من ذلك كله). وفي حديث عبد الله بن زيد (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلوات طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده. فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال أفلا ذلك على ما هو خير من أدلك. فقلت: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله). ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: (نقول: إذا أقمت للصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن
123 لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله). فلما أصبحت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال (إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به فسمع عمر وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول: (يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت ما رأى، فقال صلى الله عليه وسلم فلله الحمد) رواه أبو داود. وفي رواية له، فقال: (إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان). فتبين من هذا كله أن الصحيح في مشروعية الأذان أنه كان بعد الهجرة، وفي المدينة المنورة. وهنا سؤال حول مشروعية الأذان. قال بعض الناس: كيف يترك أمر الأذان وهو بهذه الأهمية من الصلاة فيكون أمر مشروعيته رؤيا يراها بعض الأصحاب، وطعن في سند الحديث واستدل بحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم: (قم يا بلال فناد بالصلاة) والجواب عن هذا من عدة وجوه: منها: سند حديث عبد الله صحيح، وقد ناقشه الشوكاني رحمه الله، وذكر تصحيحه ومن صححه ويشهد لصحته ما قدمناه من رواية الموطأ بإرادة اتخاذ خشبتين، فأرى عبد الله بن زيد خشبتين الحديث، وكذلك في الصحيحين إثبات التشاور فيما يعلم به حين الصلاة. ومنها: أنه لا يتعارض مع حديث ابن عمر لأن حديث ابن عمر لم يذكر ألفاظ النداء فيكون الجمع بينهما. إما أن بلالا كان ينادي بغير هذه الصيغة، ثم رأى عبد الله الأذان فعلمه بلالا. وقد يشهد لهذا الوجه ما جاء عن أبي ليلى قال: (أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وحدثنا أصحابنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين واحدة، حتى لقد هممت أن أبث رجالا في الدور ينادون الناس بحين الصلاة، وحتى هممت أن آمر
124 رجالا يقومون على الآطام ينادون المسلمين حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا، فجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلا كأن عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن ثم قعد قعدة ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول قد قامت الصلاة، ولولا أن يقول الناس لقلت إني كنت يقظان غير نائم. فقال صلى الله عليه وسلم (لقد أراك الله خيرا فمر بلالا فليؤذن، فقال عمر: أما إني قد رأيت مثل الذي رأى ولكني لما سبقت استحييت) لأبي داود أيضا. ففيه أنه صلى الله عليه وسلم كان قد هم أن يبث رجالا في الدور، وعلى الأطم ينادون للصلاة، فيكون نداء بلال أولا من هذا القبيل دون تعيين ألفاظ، أما أن يكون نداء بلال الوارد في الصحيح بألفاظ الأذان، الواردة في حديث عبد الله بعد أن رأى ما رآه أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلمه بلالا فنادى به، ولا تعارض في ذلك كما ترى. ومنها أيضا: أن رؤيا عبد الله للأذان لا تجعله مشروعا له من عنده ولا متوقفا عليه، لأنه جاء في الرؤيا الصالحة أنها جزء من ست وأربعين جزءا من النبوة. وهذا النظم لألفاظ الأذان لا يكون إلا من القسم فهي بعيدة عن الوساوس والهواجس لما فيها من إعلان العقيدة وإرغام الشيطان كما في الحديث: (إن الشيطان إذا سمع النداء أدبر) إلخ. ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما سمعها أقرها وقال: إنها لرؤيا حق، أو لقد أراك الله حقا، فكانت سنة تقرير كما يقرر بعض الناس على بعض الأفعال. ثم جاء بعد ذلك تعليمه صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة فصار سنة ثابتة، وكان يتوجه السؤال لو أنه لم يبلغه صلى الله عليه وسلم وعملوا به مجرد الرؤيا، ولكن وقد بلغه وأقره فلا سؤال إذا. ومنها: أن في بعض الروايات أن الوحي قد جاءه به، ولما أخبره عمر قال له: سبقك بذلك الوحي. ذكر في مراسيل أبي داود. وذكر عن ابن العربي بسط الكلام إثبات الحكم بالرؤيا ذكرهما المعلق على بذل المجهود. ومنها ما قيل: ترك مجيء بيان وتعليم لأذان إلى أن رآه عبد الله ورواه عمر رضي الله عنهما لأمرين، ذكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنا مع ذكر الله فيكون مجيئه عن طريقهما أولى
125 وأكرم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأتيهم من طريقه هو حتى لا يكون عناية من يدعوهم لإطرائه. وهذا وإن كان متوجها إلا أن فيه نظرا لأنه صلى الله عليه وسلم لو جاءهم بأعظم من ذلك لما كان موضع تساؤل. من مجموع ما تقدم يكون أصل مشروعية الأذان سنة ثابتة، إما أنه كان قد هم أن يبعث رجالا في البيوت ينادوه، وإما لأنه أقر ما رأى عبد الله فيكون أصل المشروعية منه صلى الله عليه وسلم، والتقرير منه على الألفاظ التي رآها عبد الله. فضل الأذان وآداب المؤذن لا شك أن الأذان من أفضل الأعمال، وأن المؤذن يشهد له ما سمع صوته من حجر ومدر. إلخ. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة). وقال عمر رضي الله عنه: لولا الخلافة لأذنت. وقال صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين) رواه أبو داود والترمذي، إلى غير ذلك من فضائل الأذان، فقيل: مؤتمن على الوقت، وقيل: مؤتمن على عورات البيوت عند الأذان، فقد حث صلى الله عليه وسلم المؤذنين على الوضوء له كما في حديث: (لا ينادي للصلاة إلا متوضىء) وإن كان الحدث لا يبطله اتفاقا. ولما كان بهذه المثابة كانت له آداب في حق المؤذنين. منها: أن يكونوا من خيار الناس، كما عند أبي داود: (ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم أقرؤكم)، وعليه حذر صلى الله عليه وسلم من تولي الفسقة الأذان كما في حديث: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) المتقدم. فإن فيه زيادة عند البزار قالوا يا رسول الله. لقد تركتنا تتنافس في الأذان بعدك فقال: (إنه يكون بعدي أو بعدكم قوم سفلتهم مؤذنوهم). ومنها: أنه يكره التغني فيه، لأنه ذكر ودعاء إلى أفضل العبادات، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا قال له: إني أحبك في الله، قال ابن عمر: لكني أبغضك في الله، فقال: ولم؟ قال لأنك تتغنى في أذانك. وفي المغني لابن قدامة: ولا يعتد بأذان صبي ولا فاسق، أي ظاهر الفسق، وعند المالكية: لا يحاكي في أذانه الفسقة.
126 ومنها: ألا يلحن فيه لحنا بينا، قال في المغني: ويكره اللحن في الأذان، فإنه ربما غير المعنى، فإن من قال: أشهد أن محمدا رسول الله ونصب لام رسول. أخرجه عن كونه خبرا. ولا يمد لفظه أكبر لأنه يجعل فيها ألفا فيصير جمع كبر، وهو الطبل، ولا يسقط الهاء من اسم الله والصلاة ولا الحاء من الفلاح، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤذن لكم من يدغم الهاء) الحديث أخرجه الدارقطني. فأما إن كان ألثغ لا تتفاحش جاز أذانه، فقد روي أن بلالا كان يقول: أسهد بجعل الشين سينا، نقله ابن قدامة، ولكن لا أصل لهذا الأثر مع شهرته على ألسنة الناس، كما في كشف الخلفاء ومزيل الإلباس. ومن هذا ينبغي تعهد المؤذنين في هذين الأمرين اللحن والتلحين وكذلك الفسق، وصفة المؤذنين ولا سيما في بلاد الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومصدر التأسي، وموفد القادمين من كل مكان ليأخذوا آداب الأذان والمؤذنين، عن أهل هذه البلاد المقدسة. * * * ألفاظ الأذان والإقامة والراجح منهامع بيان التثويب والترجيع مدار ألفاظ الأذان والإقامة في الأصل على حديثي عبد الله بن زيد بالمدينة، وحديث أبي محذورة في مكة بعد الفتح. وما عداهما تبع لهما كحديث بلال وغيره، رضي الله عنهم. وحديث عبد الله موجود في السنن أي فيما عدا البخاري ومسلم. وهو متقدم من حيث الزمن كما تقدم ذلك في مبحث مشروعية الأذان وأنه كان ابتداء في المدينة أول مقدمة صلى الله عليه وسلم إليها. وحديث أبي محذورة موجود في السنن وفي صحيح مسلم. ولم يذكر البخاري واحدا منهما، وإنما ذكر قصة سبب المشروعية، وحديث (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) على ما سيأتي إن شاء الله. وعليه سنقدم حديث عبد الله لتقدمه في الزمن: وألفاظه كما تقدم في بدء
127 المشروعية هي: الله أكبر الله أكبر. الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إلاه إلا الله. أشهد أن لا إلاه إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. ومجموعه خمسة عشرة كلمة أي جملة. ففيه تربيع التكبير في أوله وتثنية باقيه، وإفراد آخره. وفيه الإقامة بتثنية التكبير في أوله في كلمة وإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة، ولفظها: الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إلاه إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الفلاح. قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. قال الشوكاني: رواه أحمد وأبو داود، وقال عنه الترمذي: حسن صحيح. وذكر له عدة طرق. ومنها عند الحاكم وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي وابن ماجة. حديث أبي محذورة: وحديث أبي محذورة كان بعد الفتح كما في السنن أنه خرج في نفر فلقي النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه من حنين، وأذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم، فظل أبو محذورة في نفره يحكونه استهزاء به، فسمعهم صلى الله عليه وسلم فأحضرهم فقال: (أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشاروا إلى أبي محذورة، فحبسه وأرسلهم، ثم قال له قم فأذن بالصلاة فعلمه). أما ألفاظه: فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله: والباقي كحديث عبد الله بن زيد مع زيادة ذكر الترجيع. وقد ساقه مسلم في ثلاثة مواضع وبلفظ التكبير مرتين فقط. الموضع الأول: عن أبي محذورة نفسه، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان: الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إلاه إلا الله، أشهد أن لا إلاه إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إلاه إلا الله. والموضع الثاني: في قصة الإغارة أنه (كان صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان فإذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار. فسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على الفطرة. ثم قال: أشهد أن لا إلاه إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرجت من النار). الحديث.
128 والموضع الثالث: عن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إلاه إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله) الحديث، فهذه كلها ألفاظ مسلم لأذان أبي محذورة، ولم يذكر مسلم عن الإقامة إلا حديث أنس، أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وعند غير مسلم جاء حديث أبي محذورة بتربيع التكبير في أوله، كحديث عبد الله بن زيد، وبالترجيع والتثويب في الفجر، وفيها أن الترجيع يكون أولا بصوت منخفض. ثم يرجع ويمد بهما أي بالشهادتين صوته، وذلك عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي، أما الإقامة فجاءت عن أبي محذورة روايتان: الأولى قال: وعلمني النبي صلى الله عليه وسلم الإقامة مرتين مرتين: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إلاه إلا الله، أشهد أن لا إلاه إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إلاه إلا الله. الثانية: مثل الأذان تماما بتربيع التكبير، وبدون ترجيع، وتثنية الإقامة أي: الله أكبر الله أكبر. الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إلاه إلا الله أشهد أن لا إلاه إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فالأولى كالأذان في رواية مسلم، والثانية كرواية الأذان عند غيره بدون ترجيع ولا تثويب، وإضافة لفظ الإقامة مرتين. هذا مجموع ما جاء في أصول ألفاظ الأذان من حديثي عبد الله بن زيد وأبي محذورة. وبالنظر في حديث عبد الله بن زيد نجده لم تختلف ألفاظه لا في الأذان ولا في الإقامة. وهو بتربيع التكبير في الأذان وبدون تثويب ولا ترجيع، وبإفراد الإقامة إلا لفظ الإقامة، أما حديث أبي محذورة فجاء بعدة صور في الأذان وفي الإقامة. أما الأذان فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله وعند غيره بتربيعه، وعند الجميع إثبات
129 الترجيع في الشهادتين، وأن الأولى منخفضة، والثانية مرتفعة، كبقية ألفاظ الأذان، وأما الإقامة فجاءت مرتين مرتين، وجاءت مثل الأذان تماما عند غير مسلم سوى الترجيع والتثويب مع تثنية الإقامة، فكان الفرق بين الحديثين كالآتي: في ألفاظ الأذان ثلاث نقاط: أولا: ذكر الترجيع. ثانيا: التثويب. ثالثا: عدد التكبير في أوله. أما الترجيع فيجب أن يؤخذ به، لأنه متأخر بعد الفتح، ولا معارضة فيه، لأنه زيادة بيان وبسند صحيح. وأما التثويب، فقد ثبت من حديث بلال، وكان أيضا متأخرا عن حديث عبد الله قطعا، وقد ثبت أن بلالا أذن للصبح فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم فصرخ بلال بأعلى صوته: (الصلاة خير من النوم). قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين صلاة الفجر. أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (اجعل ذلك في أذانك) فاختصت بالفجر. وذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني عن بلال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يثوب في العشاء) رواه ابن ماجة، وقال: دخل ابن عمر رضي الله عنهما مسجدا يصلي فيه، فسمع رجلا يثوب في أذان الظهر فخرج فقيل له: أين؟ فقال: أخرجتني البدعة، فلزم بهذا كله الأخذ بها في صلاة الفجر خاصة. أما التكبير في أول الأذان، ففي رواية مسلم لأبي محذورة مرتين في كلمة فاختلف مع حديث عبد الله بن زيد، وعند غير مسلم بتربيع التكبير. وبالنظر إلى سند مسلم فهو أصح سندا، وبالنظر إلى ما عند غيره، تجد فيه زيادة صحيحة، وهي تربيع التكبير، فوجب العمل بها كما وجب العمل بالتثويب والترجيع، لأن الرواية المتفقة مع الحديث الآخر أولى من المختلفة معها. أما الإقامة: ففي حديث عبد الله لم تختلف كما تقدم، ولكنها في حديث أبي
130 محذورة قد جاءت متعددة ولم تتفق صورة من صورها مع حديث عبد الله، حيث إن فيها مرتين مرتين في جميع الكلمات، ومنها كالأذان مع لفظ الإقامة مرتين، وسند الجميع سواء. فهل نأخذ في الإقامة بحديث عبد الله أم بحديث أبي محذورة؟ من حيث الصناعة كل منهما في السند سواء. وفي حديث أبي محذورة زيادة وهي تشبيهها بالأذان، فلو كان الأمر قاصرا على ذلك لكان العمل بحديث أبي محذورة في الإقامة أولى، لأنه متأخر وفيه زيادة صحيحة، ولكن وجدنا حديث بلال في الصحيح، وعند مسلم أيضا وهو أمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر بالإقامة. وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، والإقامة مرة، مرة غير أنه كان يقول: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة) رواه أبو داود والنسائي. وبهذين الحديثين يمكن الترجيح بين حديثي عبد الله وأبي محذورة في كل من الأذان والإقامة. فمن حديث بلال: نشفع الأذان، ولكنهم يختلفون في تحقيق المناط في المراد بالشفع من حيث التكبير لأن الشفع يصدق على اثنين وأربع، وعند في الأذان إما مرتان وإما أربع، وكلاهما يصدق عليه معنى الشفع. ولكن إذا اعتبرنا أن كل تكبيرتين جملة واحدة، كان تحقق الشفع بجملتين، فيأتي أربع تكبيرات. وإذا اعتبرنا كل تكبيرة كلمة وجد الشفع في جملة واحدة لاشتمالها على كلمتين، ولهذا وقع الخلاف. ولكن الأذان لم تعد عباراته بالكلمات المفردة بل بالجمل، لأننا نعد قولنا: حي على الصلاة، وهي في الواقع جملة تشتمل على عدة كلمات مفردة، وعليه فقولنا: الله أكبر الله أكبر كلمة، وعلى هذا يكون الشفع بتكرارها، فيأتي أربع تكبيرات: وهذا يتفق مع رواية الحديثين، وحديث عبد الله تماما. وقال النووي في شرح مسلم: قال القاضي عياض: إن حديث أبي محذورة جاء في نسخة الفاسي لمسلم بأربع تكبيرات ا ه. وبهذا تتفق الروايات كلها في تربيع التكبير في الأذان.
131 أما الإقامة فحديث بلال نص في إيثار الإقامة إلا لفظ الإقامة وهو عين نص الإقامة في حديث عبد الله، وعين النص في حديث عبد الله بن عمر، والإقامة مرة مرة إلا الإقامة، أي فهي مرتين، وعلى هذا العرض وبهذه المناقشة يكون الراجح هو العمل بحديث عبد الله بن زيد في الأذان والإقامة، مع أخذ الترجيع والتثويب من حديث أبي محذورة للأذان. ثم نسوق ما أخذ به فقهاء الأمصار من هذا كله مع بيان النتيجة من جواز العمل بالجميع إن شاء الله. قال ابن رشد في البداية ما نصه: اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة. إحداهما: تثنية التكبير وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى، وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع في الشهادتين بصوت أخفض من الأذان. والصفة الثانية: أذان المكيين، وبه قال الشافعي، وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين، وتثنية باقي الأذان. والصفة الثالثة: أذان الكوفيين، وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان، وبه قال أبو حنيفة. والصفة الرابعة: أذان البصريين، وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين، وحي على الصلاة وحي على الفلاح، يبدأ بأشهد أن لا إلاه إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح، ثم يعيد كذلك مرة ثانية أعني الأربع كلمات تبعا ثم يعيدهن ثالثة. وبه قال الحسن البصري وابن سيرين. والسبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الفرق الأربع اختلاف الآثار في ذلك، واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم، وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة، والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك، وكذلك الكوفيون والبصريون، ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله ا ه.
132 ثم ساق نصوص كل فريق من النصوص التي أوردناها سابقا، ولم يورد نصا لمذهب البصريين الذي فيه التثليث المذكور، وقد وجد في مصنف عبد الرزاق بسند جيد مجلد (1) ص 564 وجاء مرويا عن بعض الصحابة في المصنف المذكور. وقال في الإقامة: أما صفتها فإنها عند مالك والشافعي بتثنية التكبير في أولها، وبإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة، فعند الشافعي مرتين وعند أبي حنيفة، فهي مثنى مثنى، وأما أحمد فقد خير بين الأفراد والتثنية فيها ا ه. تلك هي خلاصة أقوال أئمة الأمصار في ألفاظ الأذان والإقامة، وقد أجملها العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد تحت عنوان: فصل مؤذنيه صلى الله عليه وسلم قال ما نصه: وكان أبو محذورة يرجع الأذان ويثني الإقامة وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة، فأخذ الشافعي وأهل مكة بأذان أبي محذورة، وإقامة بلال، ويعني بأذان أبي محذورة على رواية تربيع التكبير، وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، وأخذ أحمد وأهل الحديث وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، أي بتربيع التكبير وبدون ترجيع، وبإفراد الإقامة إلى لفظ الإقامة، قال: وخالف مالك في الموضعين إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة، فإنه لا يكررها ا ه. ومراده بمخالفة مالك هنا لأهل الأمصار، وإلا فهو متفق مع بعض الصور المتقدمة. أما في عدم إعادة التكبير، فعلى حديث أبي محذورة عند مسلم، وعدم تكريره للفظ الإقامة، فعلى بعض روايات حديث بلال أن يوتر الإقامة أي على هذا الإطلاق، وبهذا مرة أخرى يظهر لك أن تلك الصفات كلها صحيحة، وأنها من باب اختلاف التنوع وكل ذهب إلى ما هو صحيح وراجح عنده، ولا تعارض مطلقا إلا قول الحسن البصري وابن سيرين بالتثليث ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة. وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى كلمة فصل في ذلك: في المجموع ح 22 ص 66 بعد ذكر هذه المسألة ما نصه: فإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكرهون شيئا من ذلك، إذ تنوع صفة الأذان الإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك، وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ا ه.
133 وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في موضع آخر: مما لا ينبغي الخلاف فيه ما نصه: وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه. وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة، وأنواع النسك من الإفراد والتمتع والقرآن. تنبيه قد جاء في التثويب بعض الآثار عن عمر وبعض الأمراء، والصحيح أنه مرفوع، كما في قصة بلال المتقدمة، ولا يبعد أن ما جاء عن عمر أو غيره يكون تكرارا لما سبق أن جاء عن بلال مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل فيها هل هو خاص بالفجر أو عام في كل صلاة يكون الإمام نائما فيها؟ والصحيح أنه خاص بالفجر وفي الأذان لا عند باب الأمير أو الإمام. وتقدم أثر عبد الله بن عمر فيمن ثوب في أذان الظهر أنه اعتبره بدعة وخرج من المسجد. كيفية أداء الأذان يؤدي الأذان بترسل وتمهل، لأنه إعلان للبعيد، والإقامة حدرا لأنها للحاضر القريب، أما النطق بالأذان فيكون جزما غير معرب. قال في المغني: ذكر أبو عبد الله بن بطة، أنه حال ترسله ودرجه أي في الأذان والإقامة. لا يصل الكلام بعضه ببعض، بل جزما. وحكاه عن ابن الأنباري عن أهل اللغة، وقال: وروي عن إبراهيم النخعي قال: شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما الأذان والإقامة، قال: وهذا إشارة إلى إجماعهم. حكم الأذان والإقامة قال ابن رشد: واختلف العلماء في حكم الأذان هل هو واجب أو سنة مؤكدة؟ وإن كان واجبا فهل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية؟ ا ه. فتراه يدور حكمه بين فرض العين والسنة المؤكدة، والسبب في هذا الاختلاف، اختلافهم في وجهة النظر في الغرض من الأذان هل هو من حق الوقت للإعلام بدخوله أو من حق الصلاة، كذكر من أذكارها أو هو شعار للمسلمين يميزهم عن غيرهم؟ وسنجمل أقوال الأئمة رحمهم الله مع الإشارة إلى مأخذ كل منهم ثم بيان الراجح
134 إن شاء الله. أولا: اتفق الشافعي وأبو حنيفة على أنه سنة على ما رجحه النووي عن الشافعي في المجموع أنه سنة في حق الجميع المنفرد والجماعة في الحضر وفي السفر، أي أنه لا تتعلق به صحة الصلاة. ففيه أنه صلى الله عليه وسلم كان قد هم أن يبث رجالا في الدور، وعلى الأطم ينادون للصلاة، فيكون نداء بلال أولا من هذا القبيل دون تعيين ألفاظ، أما أن يكون نداء بلال الوارد في الصحيح بألفاظ الأذان، الواردة في حديث عبد الله بعد أن رأى ما رآه أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلمه بلالا فنادى به، ولا تعارض في ذلك كما ترى. ومنها أيضا: أن رؤيا عبد الله للأذان لا تجعله مشروعا له من عنده ولا متوقفا عليه، لأنه جاء في الرؤيا الصالحة أنها جزء من ست وأربعين جزءا من النبوة. وهذا النظم لألفاظ الأذان لا يكون إلا من القسم فهي بعيدة عن الوساوس والهواجس لما فيها من إعلان العقيدة وإرغام الشيطان كما في الحديث: (إن الشيطان إذا سمع النداء أدبر) إلخ. ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما سمعها أقرها وقال: إنها لرؤيا حق، أو لقد أراك الله حقا، فكانت سنة تقرير كما يقرر بعض الناس على بعض الأفعال. ثم جاء بعد ذلك تعليمه صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة فصار سنة ثابتة، وكان يتوجه السؤال لو أنه لم يبلغه صلى الله عليه وسلم وعملوا به مجرد الرؤيا، ولكن وقد بلغه وأقره فلا سؤال إذا. ومنها: أن في بعض الروايات أن الوحي قد جاءه به، ولما أخبره عمر قال له: سبقك بذلك الوحي. ذكر في مراسيل أبي داود. وذكر عن ابن العربي بسط الكلام إثبات الحكم بالرؤيا ذكرهما المعلق على بذل المجهود. ومنها ما قيل: ترك مجيء بيان وتعليم لأذان إلى أن رآه عبد الله ورواه عمر رضي الله عنهما لأمرين، ذكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنا مع ذكر الله فيكون مجيئه عن طريقهما أولى وأكرم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأتيهم من طريقه هو حتى لا يكون عناية من يدعوهم لإطرائه. وهذا وإن كان متوجها إلا أن فيه نظرا لأنه صلى الله عليه وسلم لو جاءهم بأعظم من ذلك لما كان موضع تساؤل. من مجموع ما تقدم يكون أصل مشروعية الأذان سنة ثابتة، إما أنه كان قد هم أن يبعث رجالا في البيوت ينادوه، وإما لأنه أقر ما رأى عبد الله فيكون أصل المشروعية منه صلى الله عليه وسلم، والتقرير منه على الألفاظ التي رآها عبد الله. فضل الأذان وآداب المؤذن لا شك أن الأذان من أفضل الأعمال، وأن المؤذن يشهد له ما سمع صوته من حجر ومدر. إلخ. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة). وقال عمر رضي الله عنه: لولا الخلافة لأذنت. وقال صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين) رواه أبو داود والترمذي، إلى غير ذلك من فضائل الأذان، فقيل: مؤتمن على الوقت، وقيل: مؤتمن على عورات البيوت عند الأذان، فقد حث صلى الله عليه وسلم المؤذنين على الوضوء له كما في حديث: (لا ينادي للصلاة إلا متوضىء) وإن كان الحدث لا يبطله اتفاقا. ولما كان بهذه المثابة كانت له آداب في حق المؤذنين. منها: أن يكونوا من خيار الناس، كما عند أبي داود: (ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم أقرؤكم)، وعليه حذر صلى الله عليه وسلم من تولي الفسقة الأذان كما في حديث: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) المتقدم. فإن فيه زيادة عند البزار قالوا يا رسول الله. لقد تركتنا تتنافس في الأذان بعدك فقال: (إنه يكون بعدي أو بعدكم قوم سفلتهم مؤذنوهم). ومنها: أنه يكره التغني فيه، لأنه ذكر ودعاء إلى أفضل العبادات، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلا قال له: إني أحبك في الله، قال ابن عمر: لكني أبغضك في الله، فقال: ولم؟ قال لأنك تتغنى في أذانك. وفي المغني لابن قدامة: ولا يعتد بأذان صبي ولا فاسق، أي ظاهر الفسق، وعند المالكية: لا يحاكي في أذانه الفسقة. ومنها: ألا يلحن فيه لحنا بينا، قال في المغني: ويكره اللحن في الأذان، فإنه ربما غير المعنى، فإن من قال: أشهد أن محمدا رسول الله ونصب لام رسول. أخرجه عن كونه خبرا. ولا يمد لفظه أكبر لأنه يجعل فيها ألفا فيصير جمع كبر، وهو الطبل، ولا يسقط الهاء من اسم الله والصلاة ولا الحاء من الفلاح، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤذن لكم من يدغم الهاء) الحديث أخرجه الدارقطني. فأما إن كان ألثغ لا تتفاحش جاز أذانه، فقد روي أن بلالا كان يقول: أسهد بجعل الشين سينا، نقله ابن قدامة، ولكن لا أصل لهذا الأثر مع شهرته على ألسنة الناس، كما في كشف الخلفاء ومزيل الإلباس. ومن هذا ينبغي تعهد المؤذنين في هذين الأمرين اللحن والتلحين وكذلك الفسق، وصفة المؤذنين ولا سيما في بلاد الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومصدر التأسي، وموفد القادمين من كل مكان ليأخذوا آداب الأذان والمؤذنين، عن أهل هذه البلاد المقدسة. * * * ألفاظ الأذان والإقامة والراجح منهامع بيان التثويب والترجيع مدار ألفاظ الأذان والإقامة في الأصل على حديثي عبد الله بن زيد بالمدينة، وحديث أبي محذورة في مكة بعد الفتح. وما عداهما تبع لهما كحديث بلال وغيره، رضي الله عنهم. وحديث عبد الله موجود في السنن أي فيما عدا البخاري ومسلم. وهو متقدم من حيث الزمن كما تقدم ذلك في مبحث مشروعية الأذان وأنه كان ابتداء في المدينة أول مقدمة صلى الله عليه وسلم إليها. وحديث أبي محذورة موجود في السنن وفي صحيح مسلم. ولم يذكر البخاري واحدا منهما، وإنما ذكر قصة سبب المشروعية، وحديث (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) على ما سيأتي إن شاء الله.
135 وعليه سنقدم حديث عبد الله لتقدمه في الزمن: وألفاظه كما تقدم في بدء المشروعية هي: الله أكبر الله أكبر. الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إلاه إلا الله. أشهد أن لا إلاه إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. ومجموعه خمسة عشرة كلمة أي جملة. ففيه تربيع التكبير في أوله وتثنية باقيه، وإفراد آخره. وفيه الإقامة بتثنية التكبير في أوله في كلمة وإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة، ولفظها: الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إلاه إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الفلاح. قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. قال الشوكاني: رواه أحمد وأبو داود، وقال عنه الترمذي: حسن صحيح. وذكر له عدة طرق. ومنها عند الحاكم وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي وابن ماجة. حديث أبي محذورة: وحديث أبي محذورة كان بعد الفتح كما في السنن أنه خرج في نفر فلقي النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه من حنين، وأذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم، فظل أبو محذورة في نفره يحكونه استهزاء به، فسمعهم صلى الله عليه وسلم فأحضرهم فقال: (أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشاروا إلى أبي محذورة، فحبسه وأرسلهم، ثم قال له قم فأذن بالصلاة فعلمه). أما ألفاظه: فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله: والباقي كحديث عبد الله بن زيد مع زيادة ذكر الترجيع. وقد ساقه مسلم في ثلاثة مواضع وبلفظ التكبير مرتين فقط. الموضع الأول: عن أبي محذورة نفسه، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان: الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إلاه إلا الله، أشهد أن لا إلاه إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة. حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إلاه إلا الله. والموضع الثاني: في قصة الإغارة أنه (كان صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان فإذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار. فسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على الفطرة. ثم قال: أشهد أن لا إلاه إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرجت من النار). الحديث. والموضع الثالث: عن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إلاه إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله) الحديث، فهذه كلها ألفاظ مسلم لأذان أبي محذورة، ولم يذكر مسلم عن الإقامة إلا حديث أنس، أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وعند غير مسلم جاء حديث أبي محذورة بتربيع التكبير في أوله، كحديث عبد الله بن زيد، وبالترجيع والتثويب في الفجر، وفيها أن الترجيع يكون أولا بصوت منخفض. ثم يرجع ويمد بهما أي بالشهادتين صوته، وذلك عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي، أما الإقامة فجاءت عن أبي محذورة روايتان: الأولى قال: وعلمني النبي صلى الله عليه وسلم الإقامة مرتين مرتين: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إلاه إلا الله، أشهد أن لا إلاه إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إلاه إلا الله. الثانية: مثل الأذان تماما بتربيع التكبير، وبدون ترجيع، وتثنية الإقامة أي: الله أكبر الله أكبر. الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إلاه إلا الله أشهد أن لا إلاه إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فالأولى كالأذان في رواية مسلم، والثانية كرواية الأذان عند غيره بدون ترجيع ولا تثويب، وإضافة لفظ الإقامة مرتين. هذا مجموع ما جاء في أصول ألفاظ الأذان من حديثي عبد الله بن زيد وأبي محذورة. وبالنظر في حديث عبد الله بن زيد نجده لم تختلف ألفاظه لا في الأذان ولا في الإقامة. وهو بتربيع التكبير في الأذان وبدون تثويب ولا ترجيع، وبإفراد الإقامة إلا لفظ الإقامة، أما حديث أبي محذورة فجاء بعدة صور في الأذان وفي الإقامة. أما الأذان فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله وعند غيره بتربيعه، وعند الجميع إثبات الترجيع في الشهادتين، وأن الأولى منخفضة، والثانية مرتفعة، كبقية ألفاظ الأذان، وأما الإقامة فجاءت مرتين مرتين، وجاءت مثل الأذان تماما عند غير مسلم سوى الترجيع والتثويب مع تثنية الإقامة، فكان الفرق بين الحديثين كالآتي: في ألفاظ الأذان ثلاث نقاط: أولا: ذكر الترجيع. ثانيا: التثويب. ثالثا: عدد التكبير في أوله. أما الترجيع فيجب أن يؤخذ به، لأنه متأخر بعد الفتح، ولا معارضة فيه، لأنه زيادة بيان وبسند صحيح. وأما التثويب، فقد ثبت من حديث بلال، وكان أيضا متأخرا عن حديث عبد الله قطعا، وقد ثبت أن بلالا أذن للصبح فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم فصرخ بلال بأعلى صوته: (الصلاة خير من النوم).
135 قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين صلاة الفجر. أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (اجعل ذلك في أذانك) فاختصت بالفجر. وذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني عن بلال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يثوب في العشاء) رواه ابن ماجة، وقال: دخل ابن عمر رضي الله عنهما مسجدا يصلي فيه، فسمع رجلا يثوب في أذان الظهر فخرج فقيل له: أين؟ فقال: أخرجتني البدعة، فلزم بهذا كله الأخذ بها في صلاة الفجر خاصة. أما التكبير في أول الأذان، ففي رواية مسلم لأبي محذورة مرتين في كلمة فاختلف مع حديث عبد الله بن زيد، وعند غير مسلم بتربيع التكبير. وبالنظر إلى سند مسلم فهو أصح سندا، وبالنظر إلى ما عند غيره، تجد فيه زيادة صحيحة، وهي تربيع التكبير، فوجب العمل بها كما وجب العمل بالتثويب والترجيع، لأن الرواية المتفقة مع الحديث الآخر أولى من المختلفة معها. أما الإقامة: ففي حديث عبد الله لم تختلف كما تقدم، ولكنها في حديث أبي محذورة قد جاءت متعددة ولم تتفق صورة من صورها مع حديث عبد الله، حيث إن فيها مرتين مرتين في جميع الكلمات، ومنها كالأذان مع لفظ الإقامة مرتين، وسند الجميع سواء. فهل نأخذ في الإقامة بحديث عبد الله أم بحديث أبي محذورة؟ من حيث الصناعة كل منهما في السند سواء. وفي حديث أبي محذورة زيادة وهي تشبيهها بالأذان، فلو كان الأمر قاصرا على ذلك لكان العمل بحديث أبي محذورة في الإقامة أولى، لأنه متأخر وفيه زيادة صحيحة، ولكن وجدنا حديث بلال في الصحيح، وعند مسلم أيضا وهو أمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر بالإقامة. وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، والإقامة مرة، مرة غير أنه كان يقول: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة) رواه أبو داود والنسائي. وبهذين الحديثين يمكن الترجيح بين حديثي عبد الله وأبي محذورة في كل من الأذان والإقامة. فمن حديث بلال: نشفع الأذان، ولكنهم يختلفون في تحقيق المناط في المراد بالشفع من حيث التكبير لأن الشفع يصدق على اثنين وأربع، وعند في الأذان إما مرتان وإما أربع، وكلاهما يصدق عليه معنى الشفع. ولكن إذا اعتبرنا أن كل تكبيرتين جملة واحدة، كان تحقق الشفع بجملتين، فيأتي أربع تكبيرات. وإذا اعتبرنا كل تكبيرة كلمة وجد الشفع في جملة واحدة لاشتمالها على كلمتين، ولهذا وقع الخلاف. ولكن الأذان لم تعد عباراته بالكلمات المفردة بل بالجمل، لأننا نعد قولنا: حي على الصلاة، وهي في الواقع جملة تشتمل على عدة كلمات مفردة، وعليه فقولنا: الله أكبر الله أكبر كلمة، وعلى هذا يكون الشفع بتكرارها، فيأتي أربع تكبيرات: وهذا يتفق مع رواية الحديثين، وحديث عبد الله تماما. وقال النووي في شرح مسلم: قال القاضي عياض: إن حديث أبي محذورة جاء في نسخة الفاسي لمسلم بأربع تكبيرات ا ه. وبهذا تتفق الروايات كلها في تربيع التكبير في الأذان. أما الإقامة فحديث بلال نص في إيثار الإقامة إلا لفظ الإقامة وهو عين نص الإقامة في حديث عبد الله، وعين النص في حديث عبد الله بن عمر، والإقامة مرة مرة إلا الإقامة، أي فهي مرتين، وعلى هذا العرض وبهذه المناقشة يكون الراجح هو العمل بحديث عبد الله بن زيد في الأذان والإقامة، مع أخذ الترجيع والتثويب من حديث أبي محذورة للأذان. ثم نسوق ما أخذ به فقهاء الأمصار من هذا كله مع بيان النتيجة من جواز العمل بالجميع إن شاء الله. قال ابن رشد في البداية ما نصه: اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة. إحداهما: تثنية التكبير وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى، وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع في الشهادتين بصوت أخفض من الأذان. والصفة الثانية: أذان المكيين، وبه قال الشافعي، وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين، وتثنية باقي الأذان. والصفة الثالثة: أذان الكوفيين، وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان، وبه قال أبو حنيفة. والصفة الرابعة: أذان البصريين، وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين، وحي على الصلاة وحي على الفلاح، يبدأ بأشهد أن لا إلاه إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح، ثم يعيد كذلك مرة ثانية أعني الأربع كلمات تبعا ثم يعيدهن ثالثة. وبه قال الحسن البصري وابن سيرين. والسبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الفرق الأربع اختلاف الآثار في ذلك، واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم، وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة، والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك، وكذلك الكوفيون والبصريون، ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله ا ه. ثم ساق نصوص كل فريق من النصوص التي أوردناها سابقا، ولم يورد نصا لمذهب البصريين الذي فيه التثليث المذكور، وقد وجد في مصنف عبد الرزاق بسند جيد مجلد (1) ص 564 وجاء مرويا عن بعض الصحابة في المصنف المذكور. وقال في الإقامة: أما صفتها فإنها عند مالك والشافعي بتثنية التكبير في أولها، وبإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة، فعند الشافعي مرتين وعند أبي حنيفة، فهي مثنى مثنى، وأما أحمد فقد خير بين الأفراد والتثنية فيها ا ه. تلك هي خلاصة أقوال أئمة الأمصار في ألفاظ الأذان والإقامة، وقد أجملها العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد تحت عنوان: فصل مؤذنيه صلى الله عليه وسلم قال ما نصه:
135 وكان أبو محذورة يرجع الأذان ويثني الإقامة وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة، فأخذ الشافعي وأهل مكة بأذان أبي محذورة، وإقامة بلال، ويعني بأذان أبي محذورة على رواية تربيع التكبير، وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، وأخذ أحمد وأهل الحديث وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، أي بتربيع التكبير وبدون ترجيع، وبإفراد الإقامة إلى لفظ الإقامة، قال: وخالف مالك في الموضعين إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة، فإنه لا يكررها ا ه. ومراده بمخالفة مالك هنا لأهل الأمصار، وإلا فهو متفق مع بعض الصور المتقدمة. أما في عدم إعادة التكبير، فعلى حديث أبي محذورة عند مسلم، وعدم تكريره للفظ الإقامة، فعلى بعض روايات حديث بلال أن يوتر الإقامة أي على هذا الإطلاق، وبهذا مرة أخرى يظهر لك أن تلك الصفات كلها صحيحة، وأنها من باب اختلاف التنوع وكل ذهب إلى ما هو صحيح وراجح عنده، ولا تعارض مطلقا إلا قول الحسن البصري وابن سيرين بالتثليث ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة. وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى كلمة فصل في ذلك: في المجموع ح 22 ص 66 بعد ذكر هذه المسألة ما نصه: فإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكرهون شيئا من ذلك، إذ تنوع صفة الأذان الإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك، وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ا ه. وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في موضع آخر: مما لا ينبغي الخلاف فيه ما نصه: وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه. وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة، وأنواع النسك من الإفراد والتمتع والقرآن. تنبيه قد جاء في التثويب بعض الآثار عن عمر وبعض الأمراء، والصحيح أنه مرفوع، كما في قصة بلال المتقدمة، ولا يبعد أن ما جاء عن عمر أو غيره يكون تكرارا لما سبق أن جاء عن بلال مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل فيها هل هو خاص بالفجر أو عام في كل صلاة يكون الإمام نائما فيها؟ والصحيح أنه خاص بالفجر وفي الأذان لا عند باب الأمير أو الإمام. وتقدم أثر عبد الله بن عمر فيمن ثوب في أذان الظهر أنه اعتبره بدعة وخرج من المسجد. كيفية أداء الأذان يؤدي الأذان بترسل وتمهل، لأنه إعلان للبعيد، والإقامة حدرا لأنها للحاضر القريب، أما النطق بالأذان فيكون جزما غير معرب. قال في المغني: ذكر أبو عبد الله بن بطة، أنه حال ترسله ودرجه أي في الأذان والإقامة. لا يصل الكلام بعضه ببعض، بل جزما. وحكاه عن ابن الأنباري عن أهل اللغة، وقال: وروي عن إبراهيم النخعي قال: شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما الأذان والإقامة، قال: وهذا إشارة إلى إجماعهم. حكم الأذان والإقامة قال ابن رشد: واختلف العلماء في حكم الأذان هل هو واجب أو سنة مؤكدة؟ وإن كان واجبا فهل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية؟ ا ه. فتراه يدور حكمه بين فرض العين والسنة المؤكدة، والسبب في هذا الاختلاف، اختلافهم في وجهة النظر في الغرض من الأذان هل هو من حق الوقت للإعلام بدخوله أو من حق الصلاة، كذكر من أذكارها أو هو شعار للمسلمين يميزهم عن غيرهم؟ وسنجمل أقوال الأئمة رحمهم الله مع الإشارة إلى مأخذ كل منهم ثم بيان الراجح إن شاء الله. أولا: اتفق الشافعي وأبو حنيفة على أنه سنة على ما رجحه النووي عن الشافعي في المجموع أنه سنة في حق الجميع المنفرد والجماعة في الحضر وفي السفر، أي أنه لا تتعلق به صحة الصلاة. وحكي عنه أنه فرض كفاية أي للجماعة أو للجمعة خاصة، والدليل لهم في ذلك حديث المسئ صلاته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه معها الوضوء واستقبال القبلة، ولم يعلمه أمر الأذان ولا الإقامة. ثانيا: مالك جاء عنه أنه فرض على المساجد التي للجماعة وليس على المنفرد فرضا ولا سنة. وعنه: أنه سنة مؤكدة على مساجد الجماعة، ففرق مالك بين المنفرد ومساجد الجماعة. وفي متن خليل عندهم أنه سنة لجماعة تطلب غيرها في فرض وقتي، ولو جمعة أي وما عدا ذلك فليس بسنة. فلم يجعله على المنفرد أصلا. واختلف القول عنه في مساجد الجماعة ما بين الفرض والسنة المؤكدة، واستدل بحديث ابن عمر رضي الله عنه: كان لا يزيد على الإقامة في السفر إلا في الصبح، وكان يقول إنما الأذان للإمام الذي يجتمع له الناس. رواه مالك. وكذلك أثر ابن مسعود وعلقمة: صلوا بغير أذان ولا إقامة قال سفيان، كفتهم إقامة المصر، وقال ابن مسعود: إقامة المصر تكفي، رواهما الطبراني في الكبير بلين. ثالثا: وعند الحنابلة: قال الخرقي: هو سنة أي كالشافعي وأبي حنيفة، وغير الخرقي قال كقول مالك. رابعا: عند الظاهرية فرض على الأعيان، ويستدلون بحديث مالك بن الحويرث وصاحبه، قال لهما صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما). متفق عليه. فحملوا الأمر على الوجوب. هذا موجز أقوال الأئمة رحمهم الله مع الإشارة إلى أدلتهم في الجملة، وحكمه كما رأيت دائر بين السنة عموما عند الشافعي وأبي حنيفة، والوجوب عند الظاهرية.
135 والسنة المؤكدة أو فرض الكفاية عند مالك وغيره على تفصيل في ذلك. وقد رأيت النصوص عند الجميع، ولكن من أسباب الخلاف في حكم الأذان هو تردد النظر فيه هل هو في حق الوقت للإعلام بدخول الوقت، أو هو حق الصلاة نفسها، أو هو شعار للمسلمين؟ فعلى أنه من حق الوقت، فأذان واحد، فإنه يحصل به الإعلام ويكفي عن غيره، ولا يؤذن من فاته أول الوقت، ولا من يصلي في مسجد قد صليت فيه الفريضة أولا ولا للفوائت. وإن كان من حق الصلاة فهل هو شرط في صحتها أو سنة مستقلة. وعلى أنه للوقت للإعلام به، فإنه يعارضه حديث قصة تعريسهم آخر الليل، ولم يوقظهم إلا حر الشمس، وأمره صلى الله عليه وسلم بالانتقال عن ذلك الوادي ثم نزولهم والأمر بالأذان والإقامة، فلا معنى لكونه للوقت في هذا الحديث، وهو من رواية مالك في الموطأ. وعلى أنه للصلاة فله جهتان: الأولى: إذا كان المصلي منفردا ولا يطلب من يصلي معه. والثانية: أنه إذا كانوا جماعة. فإذا كان منفردا لا يطلب من يصلي معه، فلا ينبغي أن يختلف في كونه ليس شرطا في صحة الصلاة، وليس واجبا عليه لأن الأذان للإعلام، وليس هناك من يقصد إعلامه. ولحديث المسئ صلاته المتقدم ذكره، وقد يدل لذلك ظاهر نصوص القرآن في بيان شروط الصلاة التي هي: الطهارة، والوقت، وستر العورة، واستقبال القبلة. ففي الطهارة قال تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلواة فاغسلوا وجوهكم) *. وفي الوقت قال تعالى: * (وأقم الصلواة طرفى النهار وزلفا من اليل) * ونحوها. وفي العورة قال تعالى: * (يابنىءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد) *.
136 وفي القبلة قال تعالى: * (قد نرى تقلب وجهك في السمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) *. وأما في الأذان: فقال تعالى: * (وإذا ناديتم إلى الصلواة اتخذوها هزوا ولعبا) *. وقال في سورة الجمعة في هذه الآية: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة) * وكلاهما حكاية واقع، وليس فيهما صيغة أمر كغير الأذان مما تقدم ذكره. أما حديث ابن الحويرث فهو في خصوص جماعة، وليس في شخص واحد كما هو نص الحديث. وبقي النظر فيه في حق الجماعة، هل هو على الوجوب في حقهم أم على الندب؟ وإذا كان بالنصوص القرآنية المتقدمة أنه ليس شرطا لصحة صلاة الفرد، فليس هو إذا بشرط في صحة صلاة الجماعة فيجعل الأمر فيه على الندب. وعليه حديث ابن أبي صعصعة أن أبا سعيد قال له: (أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه البخاري ومالك في الموطأ والنسائي. ومحل الشاهد فيه قوله رضي الله عنه: فأذنت للصلاة فارفع صوتك. فيفهم منه أنه إن لم يؤذن فلا شيء عليه، وأنه يراد به الحث على رفع الصوت لمن يؤذن ولو كان في البادية، لما يترتب عليه من هذا الأجر. أما كونه شعارا للمسلمين فينبغي أن يكون وجوبه متعلقا بالمساجد في الحضر، فيلزم أهلها، كما قال مالك والشافعي في حق المساجد. قال الشافعي: يقاتلون عليه إن تركوه، ذكره النووي في المجموع لدليل الإغارة في الصبح أو الترك بسبب سماعه، وكذلك يتعلق في السفر بالإمام، وينبغي أن يحرص عليه
137 لفعله صلى الله عليه وسلم في كل أسفاره في غزواته وفي حجه كما هو معلوم، وما عدا ذلك فهو لا شك سنة لا ينبغي تركها. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تقسيم نحو هذا في المجموع في الجزء الثاني والعشرين: وللأذان عدة جوانب تبع لذلك منها في حالة الجمع بين الصلاتين، فقد جاءت السنة بالأذان والإقامة للأولى منهما، والاكتفاء بالإقامة للثانية، كما في الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، والمغرب والعشاء في المزدلفة على الصحيح، وهو من أدلة عدم الوجوب لكل صلاة. ومنها أن لا أذان على النساء أي لا وجوب. وإن أردن الفضيلة أتين به سرا، وقد عقد له البيهقي بابا قال فيه: ليس على النساء أذان ولا إقامة، وساق فيه عن عبد الله بن عمر موقوفا، قال: ليس على النساء أذان ولا إقامة، ثم ساق عن أسماء رضي الله عنها مرفوعا: (ليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ولا اغتسال جمعة، ولا تقدمهن امرأة، ولكن تقوم في وسطهن) هكذا رواه الحكم ابن عبد الله الأيلي وهو ضعيف، وقال: ورويناه في الأذان والإقامة عن أنس بن مالك موقوفا ومرفوعا، ورفعه ضعيف وهو قول الحسن وابن المسيب وابن سيرين والنخعي. تعدد المؤذنينلصلاة الجمعة ولبقية الصلوات الخمس في المسجد الواحد أولا: ما يتعلق بالجمعة، صور التعدد لها فيه صورتان، صورة تعدد الأذان أي قبل الوقت وبعد الوقت، وصورة تعدد المؤذنين بعد الوقت على ما سيأتي في ذلك إن شاء الله، أما تعدد الأذان فقد بوب له البخاري رحمه الله في صحيحه في باب الجمعة قال: باب الأذان يوم الجمعة، وساق حديث السائب بن يزيد، قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء ففيه الأذان أولا للوقت كبقية الصلوات، وفيه أذان قبل الوقت زاده عثمان لما كثر الناس، وهو المعنى الثالث، والاثنان الآخران هما الأذان للوقت، والإقامة الموجودان من قبل. وذكر ابن حجر رحمه الله في الشرح، تنبيها قال فيه: ورد ما يخالف ذلك الخبر بأن عمر رضي الله عنه هو الذي زاد الأذان.
138 ففي تفسير جويبر عن الضحاك عن زيادة الراوي عن برد بن سنان عن مكحول عن معاذ أن عمر أمر مؤذنيه أن يؤذنا للناس الجمعة خارجا من المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر. ثم قال عمر نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين ا ه. ثم ناقش ابن حجر هذا الأثر وقال: إنه منقطع ثم ذكر أنه وجد له ما يقويه إلى آخر كلامه. فهذا دليل على تعدد الأذان للجمعة قبل الوقت وعند دخوله، سواء من عمر أو من عثمان أو منهما معا، رضوان الله عليهما. أما مكان هذا الأذان وزمانه، فإن المكان قد جاء النص أنه كان على الزوراء. وقد كثر الكلام في تحديد الزوراء مع اتفاقهم أنها مكان بالسوق، وهذا يتفق مع الغرض من مشروعيته لتنبيه أهل السوق بوقت الجمعة للسعي إليها. أما الزوراء بعينها فقال علماء تاريخ المدينة إنه اسم للسوق نفسها، وقيل: مكان منها مرتفع كان عند أحجار الزيت، وعند قبر مالك بن سنان، وعند سوق العباءة. والشيء الثابت الذي لم يقبل التغير، هو قبر مالك بن سنان، لكن يقولون عنده، وليس في مكانه، وقد بدا لي أن الزوراء هو مكان المسجد الذي يوجد الآن بالسوق في مقابلة الباب المصري المعروف بمسجد فاطمة، ويبدو لي أن الزوراء حرفت إلى الزهراء، والزهراء عند الناس يساوي فاطمة لكثرة قولهم: فاطمة الزهراء، ومعلوم قطعا أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن لها مسجد في هذا المكان، فلا صحة لنسبة هذا المسجد إليها، بل ولا ما نسب لأبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم من مساجد في جوانب مسجد المصلى المعروف الآن بمسجد الغمامة، وإنما صحة ما نسب إليهم رضوان الله تعالى عليهم هو أن تلك الأماكن كانت مواقفهم في مصلى العيد، ولهذا تراها كلها في هذا المكان المتواجدة فيه. فأولهم أبو بكر رضي الله عنه، وقد أخر موقفه عن موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العيد تأدبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء من بعده، واختلفت أماكن مصلاهم فأقيمت تلك المساجد في أماكن قيامهم.
139 أما ما ينسب إلى فاطمة الزهراء فلا مناسبة له ولا صحة له، وقد قال بعض المتأخرين: إنه منسوب إلى إحدى الفضليات من نساء العصور المتأخرة، واسمها فاطمة، وعليه فلعلها قد جددته ولم تؤسسه لأنه لا موجب أيضا لتبرعها بإنشاء مسجد بهذا القرب من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبمناسبة العمل بالقضاء فقد عرض على صك شرط وقف للأشراف الشراقمة بالمدينة المنورة، وفي بعض تحديد أعيانه يقول: الواقع في طريق الزوراء، ويحده جنوبا وقف الحلبي، ووقف الحلبي موجود حتى الآن معروف يقع عن المسجد الموجود بالفعل في الجنوب الشرقي وليس بينه وبين المسجد المذكور إلا السور والشارع فقط، وتاريخ هذا الصك قبل مائة سنة من تاريخ كتابة هذه الأحرف أي قبل عام ألف ومائتين من الهجرة. وبهذا ترجح عندي أن موضع أذان عثمان رضي الله عنه كان بذلك المكان، وأنه المتوسط بسوق المدينة، وتقدر مسافته عن المسجد النبوي بحوالي مائتين وخمسين مترا تقريبا. وقد كان الأذان الأول زمن النبي صلى الله عليه وسلم على المنارة، وهكذا الأذان للوقت زمن الخلفاء الراشدين، ثم من بعدهم. أما هذا الأذان فكان ابتداؤه من الزوراء، ثم نقل إلى باب المسجد، ثم نقل إلى ما بين يدي الإمام، وذلك زمن هشام بن عبد الملك، ثم نقل إلى المنارة. أما زمانه فلم أقف على تحديد صحيح صريح، كم كان بينه وبين الثاني؟ وهل كان بعد دخول الوقت أو قبله. وقد ذكر ابن حجر في الفتح رواية عن الطبراني ما نصه: فأمر بالنداء الأول على دار له يقال لها الزوراء، فكان يؤذن عليها، فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول، فإذا نزل أقام الصلاة، وفي رواية له من هذا الوجه: فأذن بالزوراء قبل خروجه ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت، إلى أن قال: وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها، وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب. فتراه يرجح كونه بعد دخول الوقت وعند خروج عثمان أي من بيته وكان يسكن إلى تلك الجهة، ولكن هذا لا يتمشى مع الغرض من إيجاد هذا الأذان، لأنه لما كثر
140 الناس جعله في السوق لإعلامهم، فإذا كان بعد الوقت، فأي فائدة منه، وكيف يعد ثالثا، إنه يكون من تعدد المؤذنين لا من تعدد الأذان. ثم إن مسكن عثمان رضي الله عنه كان بجوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحله معروف حتى الآن، وكان يعرف برباط عثمان. فكيف يجعل هذا الأذان عند خروجه مع بعد ما بين الزوراء ومكان سكناه. ثم إن من المتفق عليه أن الأذان بين يدي الإمام هو الأذان الذي بعد دخول الوقت، وتصح الصلاة بعده، فالأذان الثالث كالأول بالنسبة للصبح، وبهذا يترجح أنه كان قبل الوقت لا بعده، كالأول للصبح ليتحقق الغرض منه، وعليه ينبغي أن يراعى في زمنه ما بينه وبين الثاني وما يتحقق به الغرض من رجوع أهل السوق وتهيئهم للجمعة وهذا يختلف باختلاف الأماكن والبلاد، وسواء كان قبل الوقت أو بعده، فلا بد من زمن بينهما يتمكن فيه أهل السوق من الحضور إلى المسجد وإدراك الخطبة. ولو أخذنا بعين الاعتبار ما وقع لعثمان نفسه زمن عمر رضي الله عنه لما دخل المسجد وعمر يخطب فعاتبه على التأخير، ثم أحدث عثمان هذا الأذان في عهده لوجدنا قرينة تقديمه عن الوقت لئلا يقع غيره فيما يقع هو فيه، والله تعالى أعلم. وسيأتي نص ابن الحاج على أنه قبل الوقت. وهذا آخر ما يتعلق بتعدد الأذان يوم الجمعة، وسيأتي التنبيه على ما يوجد من نداءات أخرى يوم الجمعة في بعض الأمصار عند الكلام على ما استحدث في الأذان وابتدع فيه، مما ليس منه إن شاء الله. أما تعدد المؤذنين يوم الجمعة فقد جاء صريحا في صحيح البخاري في باب رجم الحبلى من الزنا في حديث طويل عن ابن عباس زمن عمر رضي الله عنه، وفيه: ما نصه: (فجلس عمر على المنبر ولما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله إلى آخر) الحديث. فهذا نص صريح من البخاري أنه كان لعمر مؤذنون، وكانوا يؤذنون حين يجلس على المنبر، وكان يجلس إلى أن يفرغوا من الأذان، ثم يقوم فيخطب أي كان أذانهم كلهم بعد دخول الوقت.
141 قال ابن الحاج في المدخل، وكانوا ثلاثة يؤذنون واحدا بعد واحد، ثم زاد عثمان أذانا آخر بالزوراء قبل الوقت، فتحصل من هذا وجود تعدد المؤذنين لصلاة الجمعة، وكانوا زمن عمر ثلاثة وكانوا يؤذنون متفرقين واحدا بعد واحد. وقد ذكر ابن حجر في الفتح أيضا ضمن كلامه على الحديث المتقدم تحت عنوان (المؤذن الواحد يوم الجمعة) رواية عن ابن حبيب أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رقي المنبر وجلس أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة واحدا بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام فخطب. ثم قال: فإنه دعوى تحتاج إلى دليل، ولم يرد ذلك صريحا من طريق متصلة يثبت مثلها. ثم قال: ثم وجدته في مختصر البويطي عن الشافعي، وفي تعليق لسماحة رئيس الجامعة في الحاشية على ذلك قال في مخطوطة الرياض في مختصر المزني: وسواء كان في مختصر البويطي أو المزني فإن عزوه إلى الشافعي صحيح وابن حجر لم يعلق على وجود هذا الأثر بشيء. وقال النووي في المجموع: قال الشافعي رحمه الله في البويطي: والنداء يوم الجمعة هو الذي يكون والإمام على المنبر، يكون المؤذنون يستفتحون الأذان فوق المنارة جملة حين يجلس الإمام على المنبر ليسمع الناس، فيأتون إلى المسجد، فإذا فرغوا خطب الإمام بهم. فهذا أيضا نص الشافعي ينقله النووي على تعدد المؤذنين يوم الجمعة فوق المنارة جملة. والإمام على المنبر، وبهذا تظهر مشروعية تعدد الأذان للجمعة، قبل وبعد الوقت من عمل الخلفاء الراشدين، وفي توفر الصحابة المرضيين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين مما يصلح أن يقال فيه إجماع سكوتي في وفرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما ثبتت مشروعية تعدد الأذان بعد الوقت من فعل الخلفاء أيضا وإجماع الصحابة عليه مع أثر فيه نقاش مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أما ما يتعلق بالأذان لبقية الصلوات الخمس فكالآتي: أولا: تعدد الأذان، فقد ثبت في حديث بلال وابن أم مكتوم في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي
142 ابن أم مكتوم) متفق عليه، وهذا في صلاة الفجر فقط لما في الحديث من القرائن المتعددة التي منها: ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم، أي إن أذان بلال قبل الفجر يحل الطعام وأذان ابن أم مكتوم بعد دخول الوقت حين يحرم الطعام على الصائم. وفي رواية: (لم يكن ابن أم مكتوم يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت) وكان بينهما من الزمن، ففي بعض الروايات أنه (لم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا). رواه مسلم. وفي رواية للجماعة عن ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن أو قال: ينادي بليل ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم). قال الشوكاني: يريد القائم المتهجد إلى راحته ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطا أو يتسحر، إن كان له حاجة إلى الصيام، ويوقظ النائم ليتأهب للصلاة بالغسل والوضوء، فالأول يشعر بتواليهما مع فرق يسير، والآخر يدل بالفرق بينهما، وكلاهما صحيح السند. وقد فسر هذا النووي في شرح مسلم ونقله عنه الشوكاني في نيل الأوطار بقوله: قال العلماء معناه: إن بلالا كان يؤذن قبل الفجر، ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها، ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر، وهذا يتفق مع قوله صلى الله عليه وسلم: (ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم) إلى آخره، ويصدقه ما جاء في الأثر أيضا عن ابن مكتوم وكان رجلا أعمى فلا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت، وهذا الأذان الأول للفجر هو مذهب الجمهور ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله من الأئمة الأربعة، وحمل أذان بلال على النداء بغير ألفاظ الأذان. قال الشوكاني: وعند الأحناف أن أبا حنيفة رحمه الله لما أذن بلال قبل الوقت أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيقول: إلا أن العبد قد نام، وهذا الأثر رواه الترمذي وقال حديث غير محفوظ. وفي فتح القدير للأحناف، ما نصه: ولا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها، ويعاد في الوقت. وقال أبو يوسف: يجوز للفجر في النصف الأخير من الليل، قال في الشرح: وهو قول الشافعي، وقال: لتوارث أهل الحرمين، فيكون أبو يوسف صاحب أبي حنيفة
143 رحمهما الله قد وافق الجمهور في مشروعية الأذان قبل الفجر قبل الوقت، وإن ما استدل به أن أبو حنيفة ليس بمحفوظ، وقد جوزه أبو يوسف في النصف الأخير من الليل. وجاء نص المالكية أنه في السدس الأخير، قال في مختصر خليل: غير مقدم على الوقت إلا الصبح فبسدس الليل الأخير. وعند الحنابلة في المعنى ما نصه: قال أصحابنا: ويجوز الأذان للفجر بعد نصف الليل، وهذا مذهب الشافعي إلى قوله: وقد روى الأثرم عن جابر قال: كان مؤذن مسجد دمشق يؤذن لصلاة الصبح في السحر بقدر ما يسير الراكب ستة أميال فلا ينكر ذلك مكحول ولا يقول فيه شيئا ا ه. تنبيه قال في المغني: وقال طائفة من أهل الحديث إذا كان مؤذنان يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر والآخر بعده، فلا بأس أي ليعرف الأول منهما من الثاني ويلتزما بذلك ليعلم الناس الفرق بين الأذانين كما كان زمن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصا. أما تعدد المؤذنين لبقية الأوقات الخمسة فكالآتي: أولا: فإن الأصل في ذلك عند العلماء هو حديث بلال وابن أم مكتوم المتقدم ذكره في صلاح الفجر، ثم قاسوا عليه للحاجة بقية الصلوات، كما استأنسوا الزيادة عمر وعثمان في الجمعة للجماعة لزيادة الإعلام كما تقدم. ثانيا: نسوق موجز الأقوال في ذلك عند الشافعية: قال النووي في شرح مسلم: باب استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد، وساق كلامه على حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم. ثم قال ما نصه: وفي الحديث استحباب مؤذنين للمسجد الواحد، يؤذن أحدهما قبل الفجر والآخر عند طلوعه. قال أصحابنا: فإذا احتاج إلى أكثر من مؤذنين اتخذ ثلاثة، وأربعة فأكثر بحسب الحاجة.
144 وقد اتخذ عثمان رضي الله عنه أربعة للحاجة عند كثرة الناس. قال أصحابنا: وإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدا، فالمستحب ألا يؤذنوا دفعة واحدة، بل إن اتسع الوقت ترتبوا فيه، فإن تنازعوا في الابتداء أقرع بينهم، وإن ضاق الوقت، فإن كان المسجد كبيرا أذنوا متفرقين في أقطاره، وإن كان ضيقا وقفوا معا وأذنوا، وهذا إذا لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تشويش، فإن أدى إلى ذلك لم يؤذن إلا واحد ا ه. فهذا نص النووي على قول أصحابه أي الشافعية في المسألة ساقه في شرح مسلم، وقال في المجموع شرح المهذب على نص المتن إذ قال: المآمن: والمستحب أن يكون المؤذن للجماعة اثنين. وذكر حديث بلال وابن أم مكتوم، فإن احتاج إلى الزيادة جعلهم أربعة، لأنه كان لعثمان أربعة، والمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد، لأن ذلك أبلغ في الإعلام. قال النووي في الشرح: قال أبو علي الطبري: تجوز الزيادة إلى أربعة، ثم ناقش المسألة مع من خالفه في العدد: ثم قال: العبرة بالمصلحة، فكما زاد عثمان إلى أربعة للمصلحة جاز لغيره الزيادة. وذكر عن صاحب الحاوي إلى ثمانية، ثم قال: فرع. وساق فيه ما نصه: فإن كان للمسجد مؤذنان أذن واحد بعد واحد، كما كان بلال وابن أم مكتوم، فإن تنازعوا في الابتداء أقرع بينهم، فإن ضاق الوقت والمسجد كبير أذنوا في أقطاره كل واحد في قطر ليسمع أهل تلك الناحية، وإن كان صغيرا أذنوا معا وإذا لم يؤد إلى تهويش. قال صاحب الحاوي وغيره: ويقفون جميعا عليه كلمة كلمة فإن أدى إلى تهويش أذن واحد. إلخ. وفي صحيح البخاري، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، وساق بسنده عن مالك بن الحويرث (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيما ورفيقا، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا. قال: ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم). قال في الفتح أثناء الشرح: وعلى هذا فلا مفهوم لقوله: مؤذن واحد في السفر: لأن
145 الحضر أيضا لا يؤذن فيه إلا واحد، ولو احتيج إلى تعددهم لتباعد أقطار البلد أذن كل واحد في جهة ولا يؤذنون جميعا. وقد قيل: إن أول من أحدث التأذين جميعا بنو أمية. وقال الشافعي في الأم: وأحب أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن، ولا يؤذنون جميعا، وإن كان مسجد كبير فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه، مؤذن، يسمع من يليه في وقت واحد ا ه. وهذا الذي حكاه الشارح عن الشافعي موجود في الأم، ولكن بلفظ فلا بأس أن يؤذن في كل منارة له مؤذن فيسمع من يليه في وقت واحد ا ه. وهذا القدر كاف لبيان قول الشافعي وأصحابه، من أن التعدد جائز بحسب المصلحة. وعند مالك جاء في الموطأ حديث بلال وابن أم مكتوم أيضا. وقال الباجي في شرحه: ويدل هذا الحديث على جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد يؤذنان، لصلاة واحدة. وروى علي بن زياد عن مالك: لا بأس أن يؤذن للقوم في السفر والحرس والمركب ثلاثة مؤذنين وأربعة، ولا بأس أن يتخذ في المسجد أربعة مؤذنين وخمسة. قال ابن حبيب: ولا بأس فيما اتسع وقته من الصلوات، كالصبح والظهر والعشاء، أن يؤذن خمسة إلى عشرة واحد بعد واحد، وفي العصر من ثلاثة إلى خمسة، ولا يؤذن في المغرب إلا واحد. فهذا نص مالك والمالكية في جواز تعدد الأذان في المسجد الواحد، يؤذنون واحدا بعد واحد. وفي متن خليل ما نصه: وتعدده وترتيبهم إلا المغرب، وجمعهم كل على أذان. وذكر الشارح الخرشي من خمسة إلى عشرة في الصبح والظهر والعشاء، وفي العصر من ثلاثة إلى خمسة، وفي المغرب واحد أو جماعة. إلخ. وعند الحنابلة قال في المغني: (فصل) ولا يستحب الزيادة على مؤذنين لحديث
146 بلال وابن أم مكتوم أيضا، ثم قال: إلا أن تدعو الحاجة إلى الزيادة عليهما فيجوز. فقد روي عن عثمان رضي الله عنه، أنه كان له أربعة مؤذنين. وإن دعت الحاجة إلى أكثر منهم كان مشروعا، وإذا كان أكثر من واحد وكان الواحد يسمع الناس، فالمستعجب أن يؤذن واحد بعد واحد، لأن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم كان أحدهما يؤذن بعد الآخر، وإن كان الإعلام لا يحصل بواحد أذنوا على حسب ما يحتاج إليه، إما أن يؤذن كل واحد في منارة أو ناحية أو دفعة واحدة في موضع واحد. قال أحمد: إن أذن عدة في منارة فلا بأس، وإن خافوا من تأذين واحد بعد واحد فوات أول الوقت، أذنوا جميعا دفعة واحدة. وعند الأحناف: جاء في فتح القدير شرح الهداية في سياق إجابة المؤذن وحكاية الأذان ما نصه: إذا كان في المسجد أكثر من مؤذن أذنوا واحدا بعد واحد، فالحرمة للأول إلى أن قال: فإذا فرض أن سمعوه من غير مسجده تحقق في حقه السبب، فيصير كتعددهم في المسجد الواحد، فإن سمعهم معا أجاب معتبرا كون جوابه لمؤذن مسجده، هذه نصوص الأئمة رحمهم الله في جواز تعدد المؤذنين والأذان في المسجد الواحد للصلاة الواحدة متفرقين أو مجتمعين. وقال ابن حزم: ولا يجوز أن يؤذن اثنان فصاعدا معا، فإن كان ذلك فالمؤذن هو المبتدىء إلى أن قال: وجائز أن يؤذن جماعة واحدا بعد واحد للمغرب وغيرها سواء في كل ذلك، فلم يمنع تعدد الأذان من عدة مؤذنين في المسجد الواحد أحد من سلف الأمة. الحكمة في الأذان أما الحكمة في الأذان فإن أعظمها أن من خصائص هذه الأمة كما تقدم في أصل مشروعيته، وقد اشتمل على أصول عقائد التوحيد تعلن على الملأ، تملأ الأسماع حتى صار شعار المسلمين. ونقل عن القاضي عياض رحمه الله قوله:
147 اعلم أن الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان مشتمل على نوعه من العقليات والسمعيات، فأوله: إثبات الذات وما تستحقه من الكمالات والتنزيه عن أضدادها وذلك بقوله (الله أكبر) وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالة على ما ذكرناه. ثم يصرح بإثبات الوحدانية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على كل وظائف الدين، ثم يصرح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية. وموضعها بعد التوحيد لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدمات من باب الواجبات وبعد هذه القواعد كلمات العقائد العقليات، فدعا إلى الصلاة وجعلها عقب إثبات النبوة، لأن معرفة وجوبها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، لا من جهة العقل. ثم دعا إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء وهي آخر تراجم عقائد الإسلام. إلخ. ومراده بالعقليات في العقائد أي إثبات وجود الله وأنه واحد لا شريك له، وهو المعروف عندهم بقانون الإلزام، الذي يقال فيه إن الموجود إما جائز الوجود أو واجبه، فجائز الوجود جائز العدم قبل وجوده واستوى الوجود والبقاء في العدم قبل أن يوجد، فترجح وجوده على بقائه في العدم. وهذا الترجيح لا بد له من مرجح وهو الله تعالى. وواجب الوجود لم يحتج إلى موجد. ولم يجز في صفة عدم وإلا لاحتاج موجده إلى موجد، ومرجح وجوده على موجود. وهكذا فاقتضى الإلزام العقلي وجوب وجود موجد واجب الوجود، وهذا من حيث الوجود فقط، وقد أدخل العقل في بعض الصفات التي يستلزمها الوجود، والحق أن العقل لا دخل له في العقائد من حيث الإثبات أو النفي، لأنها سمعية ولا تؤخذ إلا عن الشارع الحكيم، لأن العقل يقصر عن ذلك، ومرادنا التنبيه على إدخال العقليات هنا فقط. وقد سقنا كلام القاضي عياض هذا في حكمة الأذان لوجاهته، ولتعلم من خصوصية الأذان في هذه الأمة وغيرها به أنه ليس بصلصلة ناقوس أجوف، ولا أصوات بوق أهوج، ولا دقات طبل أرعن، كما هو الحال عند الآخرين، بل هو كلمات ونداء يوقظ القلوب من سباتها، وتفيق النفوس من غفلتها، وتكف الأذهان عن تشاغلها، وتهيىء المسلم إلى هذه
148 الفريضة العظمى، ثانية أركان الإسلام وعموده. فإذا ما سمع الله أكبر الله أكبر مرتين، عظم الله في نفسه، واستحضر جلاله وقدسه واستصغر كل شيء بعد الله، فلا يشغله شيء عن ذكر الله، لأن الله أكبر من كل شيء، فلا يشغل نفسه عنه أي شيء. فإذا سمع أشهد أن لا إلاه إلا الله، علم أن من حقه عليه طاعة الله وعبادته. وإذا سمع: أشهد أن محمدا رسول الله، علم أنه يلزمه استجابة داعي الله. وإذا سمع حي على الصلاة حي على الفلاح، علم أن فلاحه في صلاته في وقتها لا فيما يشغله عنها. وهكذا فكان ممشاه إليها تخشعا، وخطاه إلى المسجد تطوعا مع حضور القلب واستجماع الشعور. ومن هنا أيضا ندرك السر في طلب السامع محاكاة الأذان تبعا للمؤذن ليرتبط معه في إعلانه وعقيدته وشعوره، كما جاء في أثر عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل مثل ما يقولون، فإذا انتهيت فاسأل تعطه). رواه أبو داود. وقد قدمنا هذا الموضوع هنا، وإن كان ليس من منهج الكتاب، ولكن لموجب اقتضاء، ولمناسبة مبحث الأذان. أما الموجب فهو أني سمعت منذ أيام أثناء الكتابة في مباحث الأذان، وسمعت من إذاعة لبلد عربي مسلم أن كاتبا استنكر الأذان في الصبح خاصة، وفي بقية الأوقات بواسطة المكبر للصوت، وقال إنه يرهق الأعصاب وخاصة عند أداء الناس لأعمالهم أو عند الفراغ منها والعودة لراحتهم، ولا سيما في الفجر عند نومهم، فكان وقعه أليما أن يصدر ذلك وينشر، ولكن أجاب عليه أحد خطباء الجمع في خطبة وافية، وأفهمه أن الإرهاق والاضطراب إنما هو من عدم الاستجابة لهذا النداء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان يبول في أذن النائم، وأنه يعقد عليه ثلاث عقد. فإذا ما استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة أخرى، فإذا صلى انحلت العقدة الثالثة، وأصبح نشيطا إلى غير ذلك من الرد الكافي.
149 ولا شك أن مثل تلك الكتابة لا تصدر إلا ممن لا يعي معنى الأذان. هذا ما استوجب عرض الحكمة من الأذان، وإن كانت مجانبة لمنهج الكتاب، ولكن بمناسبة مباحث الأذان يغتفر ذلك، وبالله التوفيق. محاكاة المؤذن تعتبر محاكاة المؤذن ربطا لسامع الأذان، وتنبيها له لموضوعه، جاء الحديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) رواه البخاري. وفي رواية عنده عن معاوية رضي الله عنه أنه قال أي معاوية: وهو على المنبر مثل قول المؤذن إلى قوله: أشهد أن محمدا رسول الله، ولما قال المؤذن (حي على الصلاة) قال معاوية: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وكذلك (حي على الفلاح)، ثم قال: (هكذا سمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم). وعند النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام بلال ينادي، فلما سكت قال صلى الله عليه وسلم: (من قال مثل هذا يقينا دخل الجنة). كيفية المحاكاة، في الحديث الأول فقولوا مثلما يقول، وهكذا يشعر بتتبعه جملة جملة، وفي الحديث الثاني: فلما سكت قال صلى الله عليه وسلم: (من قال مثل هذا) وبعد السكوت تنطبق المثلية بمجيء الأذان بعد فراغ المؤذن، فوقع الاحتمال. وقد جاء عند مسلم وأبي داود ما يؤيد الأول، فعن عمر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال أشهد ألا إلاه إلا الله، قال: أشهد ألا إلاه إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله، قال أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر. قال: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: لا إلاه إلا الله من قلبه دخل الجنة). فهذا نص صريح في أن محاكي المؤذن يتابعه جملة جملة إلى آخره ما عدا الحيعلتين. فإنه يأتي بدلا منهما بالحوقلة. وقالوا: إن الحيعلتين نداء للإقبال على المنادي. وهذا يصدق في حق المؤذن. أما الذي يحكي الأذان فلم يرفع صوته ولا يصدق
150 عليه أن ينادي غيره فلا أجر له في نطقه بهما. فيأتي بلا حول ولا قوة إلا بالله لأمرين: الأول أنه ذكر يثاب عليه سرا وعلانية. والثاني: استشعار بأنه لا حول له عن معصية ولا قوة له على طاعة إلا بالله العلي العظيم، وفيه استعانة بالله وحوله وقوته على إجابة هذا النداء. وأداء الصلاة مع الجماعة. وقد أخذ الجمهور بحديث عمر عند مسلم بمحاكاة المؤذن في جميع الأذان على النحو المقدم. وعند مالك يكتفي إلى الحوقلة لحديث معاوية. ونص كتب المالكية أنه هو المشهور في المذهب. وغير المشهور أي مقابل المشهور طلب حكاية الأذان جميعه، ذكره الزمخشري على خليل. بعض الزيادات على ألفاظ الأذان تقدم ذكر الحوقلة عند الحيعلة في بعض روايات مسلم وغيره، عند الشهادتين يقول زيادة: (وأنا أشهد ألا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا، وبمحمد رسولا. وبالإسلام دينا، غفرت له ذنوبه). الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الله له الوسيلة. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه وسلم بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) وهذا عام للأذان في الصلوات الخمس إلا أنه جاء في المغرب والفجر بعض الزيادات، ففي المغرب حكى النووي: أنه له أن يقول بعد النداء: (اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعائك اغفر لي)، ويدعو بين الأذان، والإقامة. ذكره صاحب المهذب وعزاه لحديث أم سلمة، وأقره النووي في المجموع. أما في سماع أذان الفجر فيقول عند الصلاة خير من النوم: صدقت وبررت. حكاه النووي في المجموع. وعن الرافعي يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصلاة خير من النوم. وإذا سمع المؤذن وهو في الصلاة، نص العلماء على أنه لا يحكيه، لأنه في الصلاة
151 لشغلا، وإذا سمعه وهو في المسجد جالس نص أحمد أنه لا يقوم حالا للصلاة حتى يفرغ المؤذن أو يقرب. وإذا دخل المسجد وهو يؤذن استحب له انتظاره ليفرغ ويقول مثل ما يقول جمعا بين الفضيلتين، وإن لم يقل كقوله وافتتح الصلاة، فلا بأس ذكره صاحب المغني عن أحمد رحمه الله. إجابة أكثر من مؤذن وللعلماء مبحث فيما لو سمع أكثر من مؤذن، قال النووي: لم أر فيه شيئا لأصحابنا، وفيه خلاف للسلف، وقال حكاه القاضي عياض في شرح مسلم، والمسألة محتملة، ثم قال: والمختار أن يقال: المتابعة سنة متأكدة بكرة تركها لتصريح الأحاديث الصحيحة بالأمر، وهذا يختص بالأول لأن الأمر لا يقتضي التكرار. وذكره صاحب الفتح وقال: وقال ابن عبد السلام: يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب ا ه. وعند الأحناف الحق للأول. وأصل هذه المسألة في مبحث الأصول، هل الأمر المطلق يقتضي تكرار المأمور به أم لا؟ وقد بحث هذا الموضوع فضيلة شيخنا رحمة الله تعالى عليه في مذكرة الأصول وحاصله: إن الأمر إما مقيد بما يقتضي التكرار أو مطلق عنه: ثم قال: والحق أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار بل يخرج من عهدته بمرة، ثم فصل رحمة الله تعالى عليه القول فيما اتفق عليه وما اختلف فيه، ومنه تعدد حكاية المؤذن وبحثها بأوسع في الأضواء عن تعدد الفدية في الحج، والواقع أن سبب الخلاف فيما اختلف فيه إنما هو من باب تحقيق المناط هل السبب المذكور مما يقتضي التعدد أم لا؟ والأسباب في هذا الباب ثلاثة أقسام، قسم يقتضي التكرار قطعا، وقسم لا يقتضيه قطعا، وقسم هو محل الخلاف. فمن الأسباب المقتضية التكرار قطعا: ما لو ولد له توأمان فإن عليه عقيقتين،
152 ومنها: لو ضرب حاملا فأجهضت جنينين لوجبت عليه غرتان. ومن الأسباب التي لا تقتضي التكرار ما لو أحدث عدة أحداث من نواقض الوضوء فأراد أن يتوضأ فإنه لا يكرر الوضوء بعدد الأحداث، ويكفي وضوء واحد، وكذلك موجبات الغسيل لو تعدت قبل أن يغتسل فإنه يكفيه غسل واحد عن الجميع. ومما اختلف فيه ما كان دائرا بين هذا وذاك، كما لو ظاهر من عدة زوجات هل عليه كفارة واحدة نظرا لما أوقع من ظهار أم عليه عدة كفارات نظرا لعدد ظاهر منهن؟ وكذلك إذا ولغ عدة كلاب في إناء هل يعفر الإناء مرة واحدة، أم يتعدد التعفير لتعدد الولوغ من عدة كلاب؟ ومن ذلك ما قالوه في إجابة المؤذن إذا تعدد المؤذنون تعددت الأسباب، فهل تتعدد الإجابة أم يكتفي بإجابة واحدة. تقدم قول النووي أنه لم يجد شيئا لأصحابه، وكلام العز بن عبد السلام بتعدد الإجابة وبالنظر الأصولي، نجد تعدد المؤذنين ليس كتعدد نواقض الوضوء لأن المتوضىء إذا أحدث ارتفع وضوءه وليس عليه أن يتوضأ لهذا الحدث، فإذا أحدث مرة أخرى لم يقع هذا الحدث الثاني على طهر ولم يجد حدثا آخر. وهكذا مهما تعددت الأحداث، فإذا أراد الصلاة كان عليه أن يرفع حدثه فيكفي فيه وضوء واحد، ولكن مستمع المؤذن حينما سمع المؤذن الأول فهو مطالب بمحاكاته، فإن فرغ منه وسمع مؤذنا آخر، فإن من حق هذا المؤذن الآخر أن يحاكيه، ولا علاقة لأذان هذا بذاك، فهو من باب تجدد السبب وتعدده أو هو إليه أقرب، كما لو سمع أذان الظهر فأجابه ثم سمع أذان العصر فلا يكفي عنه إجابة أذان الظهر، فإن قيل: قد اختلف الوقت وجاء أذان جديد، فيقال قد اختلف المؤذن فجاء أذان جديد. وأقرب ما يكون لهذه المسألة مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره في حديث قوله صلى الله عليه وسلم (آمين آمين) ثلاث مرات وهو يصعد المنبر، ولما سئل عن ذلك قال: (أتاني جبريل فقال يا محمد من ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل: آمين فقلت آمين)، وذكر بقية المسائل فإن بهذا يتعين تكرار الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند كل ما يسمع ذكره صلوات الله وسلامه عليه، وهنا عليه تكرار محاكاة المؤذن، كما رجحه ابن عبد السلام والله تعالى أعلم.
153 تنبيه وإذا سمع المؤذن وهو في صلاة فلا يقول مثل ما يقول المؤذن، وإذا كان في قراءة أو دعاء أو ذكر خارج الصلاة، فإنه يقطعه ويقول مثل قول المؤذن. قاله ابن تيمية في الفتاوى وابن قدامة في المغني، والنووي في المجموع. تنبيه ولا يجوز النداء للصلاة جمعة أو غيرها من الصلوات الخمس إلا بهذه الألفاظ المتقدم ذكرها، وما عداها مما أدخله الناس لا أصل له، كالتسبيح قبل الفجر، والتسبيح والتحميد والتكبير يوم الجمعة بما يسمى (بالتطليع) ونحوه فكل هذا لا نص عليه ولا أصل له. وقد نص في فتح الباري ردا على ابن المنير، حيث جعل بعض الهيئات أو الأقوال من مكملات الإعلام، فقال ابن حجر: وأغرب ابن المنير ولو كان ما قاله على إطلاقه لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأذان، وليس كذلك لا لغة ولا شرعا. وفي الحاشية للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تعليق على كلام ابن المنير بقوله هذا فيه نظر. والصواب أن ما أحدثه الناس من رفع الصوت بالتسبيح قبل الأذان والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعده، كما أشار إليه الشارع بدعة يجب على ولاة الأمر إنكارها حتى لا يدخل في الأذان ما ليس منه، وفيما شرعه الله غنية وكفاية عن المحدثات، فتنبه. وقال في الفتح أيضا ما نصه: وما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى، وقال ابن الحاج في المدخل جلد 2 ص 452، وينهي المؤذنين عما أحدثوه من التسبيح بالليل، وإن كان ذكر الله تعالى حسنا وعلنا لكن في المواضع التي تركها الشارع صلوات الله وسلامه عليه، ولم يعين فيها شيئا معلوما. قال أصحابنا: فإذا احتاج إلى أكثر من مؤذنين اتخذ ثلاثة، وأربعة فأكثر بحسب الحاجة. وقد اتخذ عثمان رضي الله عنه أربعة للحاجة عند كثرة الناس. قال أصحابنا: وإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدا، فالمستحب ألا يؤذنوا دفعة واحدة، بل إن اتسع الوقت ترتبوا فيه، فإن تنازعوا في الابتداء أقرع بينهم، وإن ضاق الوقت، فإن كان المسجد كبيرا أذنوا متفرقين في أقطاره، وإن كان ضيقا وقفوا معا وأذنوا، وهذا إذا لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تشويش، فإن أدى إلى ذلك لم يؤذن إلا واحد ا ه. فهذا نص النووي على قول أصحابه أي الشافعية في المسألة ساقه في شرح مسلم، وقال في المجموع شرح المهذب على نص المتن إذ قال: المآمن: والمستحب أن يكون المؤذن للجماعة اثنين. وذكر حديث بلال وابن أم مكتوم، فإن احتاج إلى الزيادة جعلهم أربعة، لأنه كان لعثمان أربعة، والمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد، لأن ذلك أبلغ في الإعلام. قال النووي في الشرح: قال أبو علي الطبري: تجوز الزيادة إلى أربعة، ثم ناقش المسألة مع من خالفه في العدد: ثم قال: العبرة بالمصلحة، فكما زاد عثمان إلى أربعة للمصلحة جاز لغيره الزيادة. وذكر عن صاحب الحاوي إلى ثمانية، ثم قال: فرع. وساق فيه ما نصه: فإن كان للمسجد مؤذنان أذن واحد بعد واحد، كما كان بلال وابن أم مكتوم، فإن تنازعوا في الابتداء أقرع بينهم، فإن ضاق الوقت والمسجد كبير أذنوا في أقطاره كل واحد في قطر ليسمع أهل تلك الناحية، وإن كان صغيرا أذنوا معا وإذا لم يؤد إلى تهويش. قال صاحب الحاوي وغيره: ويقفون جميعا عليه كلمة كلمة فإن أدى إلى تهويش أذن واحد. إلخ. وفي صحيح البخاري، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، وساق بسنده عن مالك بن الحويرث (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيما ورفيقا، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا. قال: ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم وصلوا إذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم). قال في الفتح أثناء الشرح: وعلى هذا فلا مفهوم لقوله: مؤذن واحد في السفر: لأن الحضر أيضا لا يؤذن فيه إلا واحد، ولو احتيج إلى تعددهم لتباعد أقطار البلد أذن كل واحد في جهة ولا يؤذنون جميعا. وقد قيل: إن أول من أحدث التأذين جميعا بنو أمية. وقال الشافعي في الأم: وأحب أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن، ولا يؤذنون جميعا، وإن كان مسجد كبير فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه، مؤذن، يسمع من يليه في وقت واحد ا ه. وهذا الذي حكاه الشارح عن الشافعي موجود في الأم، ولكن بلفظ فلا بأس أن يؤذن في كل منارة له مؤذن فيسمع من يليه في وقت واحد ا ه. وهذا القدر كاف لبيان قول الشافعي وأصحابه، من أن التعدد جائز بحسب المصلحة. وعند مالك جاء في الموطأ حديث بلال وابن أم مكتوم أيضا. وقال الباجي في شرحه: ويدل هذا الحديث على جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد يؤذنان، لصلاة واحدة. وروى علي بن زياد عن مالك: لا بأس أن يؤذن للقوم في السفر والحرس والمركب ثلاثة مؤذنين وأربعة، ولا بأس أن يتخذ في المسجد أربعة مؤذنين وخمسة. قال ابن حبيب: ولا بأس فيما اتسع وقته من الصلوات، كالصبح والظهر والعشاء، أن يؤذن خمسة إلى عشرة واحد بعد واحد، وفي العصر من ثلاثة إلى خمسة، ولا يؤذن في المغرب إلا واحد. فهذا نص مالك والمالكية في جواز تعدد الأذان في المسجد الواحد، يؤذنون واحدا بعد واحد. وفي متن خليل ما نصه: وتعدده وترتيبهم إلا المغرب، وجمعهم كل على أذان. وذكر الشارح الخرشي من خمسة إلى عشرة في الصبح والظهر والعشاء، وفي العصر من ثلاثة إلى خمسة، وفي المغرب واحد أو جماعة. إلخ. وعند الحنابلة قال في المغني: (فصل) ولا يستحب الزيادة على مؤذنين لحديث بلال وابن أم مكتوم أيضا، ثم قال: إلا أن تدعو الحاجة إلى الزيادة عليهما فيجوز. فقد روي عن عثمان رضي الله عنه، أنه كان له أربعة مؤذنين. وإن دعت الحاجة إلى أكثر منهم كان مشروعا، وإذا كان أكثر من واحد وكان الواحد يسمع الناس، فالمستعجب أن يؤذن واحد بعد واحد، لأن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم كان أحدهما يؤذن بعد الآخر، وإن كان الإعلام لا يحصل بواحد أذنوا على حسب ما يحتاج إليه، إما أن يؤذن كل واحد في منارة أو ناحية أو دفعة واحدة في موضع واحد.
154 قال أحمد: إن أذن عدة في منارة فلا بأس، وإن خافوا من تأذين واحد بعد واحد فوات أول الوقت، أذنوا جميعا دفعة واحدة. وعند الأحناف: جاء في فتح القدير شرح الهداية في سياق إجابة المؤذن وحكاية الأذان ما نصه: إذا كان في المسجد أكثر من مؤذن أذنوا واحدا بعد واحد، فالحرمة للأول إلى أن قال: فإذا فرض أن سمعوه من غير مسجده تحقق في حقه السبب، فيصير كتعددهم في المسجد الواحد، فإن سمعهم معا أجاب معتبرا كون جوابه لمؤذن مسجده، هذه نصوص الأئمة رحمهم الله في جواز تعدد المؤذنين والأذان في المسجد الواحد للصلاة الواحدة متفرقين أو مجتمعين. وقال ابن حزم: ولا يجوز أن يؤذن اثنان فصاعدا معا، فإن كان ذلك فالمؤذن هو المبتدىء إلى أن قال: وجائز أن يؤذن جماعة واحدا بعد واحد للمغرب وغيرها سواء في كل ذلك، فلم يمنع تعدد الأذان من عدة مؤذنين في المسجد الواحد أحد من سلف الأمة. الحكمة في الأذان أما الحكمة في الأذان فإن أعظمها أن من خصائص هذه الأمة كما تقدم في أصل مشروعيته، وقد اشتمل على أصول عقائد التوحيد تعلن على الملأ، تملأ الأسماع حتى صار شعار المسلمين. ونقل عن القاضي عياض رحمه الله قوله: اعلم أن الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان مشتمل على نوعه من العقليات والسمعيات، فأوله: إثبات الذات وما تستحقه من الكمالات والتنزيه عن أضدادها وذلك بقوله (الله أكبر) وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالة على ما ذكرناه. ثم يصرح بإثبات الوحدانية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على كل وظائف الدين، ثم يصرح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية. وموضعها بعد التوحيد لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدمات من باب الواجبات وبعد هذه القواعد كلمات العقائد العقليات، فدعا إلى الصلاة وجعلها عقب إثبات النبوة، لأن معرفة وجوبها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، لا من جهة العقل. ثم دعا إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء وهي آخر تراجم عقائد الإسلام. إلخ. ومراده بالعقليات في العقائد أي إثبات وجود الله وأنه واحد لا شريك له، وهو المعروف عندهم بقانون الإلزام، الذي يقال فيه إن الموجود إما جائز الوجود أو واجبه، فجائز الوجود جائز العدم قبل وجوده واستوى الوجود والبقاء في العدم قبل أن يوجد، فترجح وجوده على بقائه في العدم. وهذا الترجيح لا بد له من مرجح وهو الله تعالى. وواجب الوجود لم يحتج إلى موجد. ولم يجز في صفة عدم وإلا لاحتاج موجده إلى موجد، ومرجح وجوده على موجود. وهكذا فاقتضى الإلزام العقلي وجوب وجود موجد واجب الوجود، وهذا من حيث الوجود فقط، وقد أدخل العقل في بعض الصفات التي يستلزمها الوجود، والحق أن العقل لا دخل له في العقائد من حيث الإثبات أو النفي، لأنها سمعية ولا تؤخذ إلا عن الشارع الحكيم، لأن العقل يقصر عن ذلك، ومرادنا التنبيه على إدخال العقليات هنا فقط. وقد سقنا كلام القاضي عياض هذا في حكمة الأذان لوجاهته، ولتعلم من خصوصية الأذان في هذه الأمة وغيرها به أنه ليس بصلصلة ناقوس أجوف، ولا أصوات بوق أهوج، ولا دقات طبل أرعن، كما هو الحال عند الآخرين، بل هو كلمات ونداء يوقظ القلوب من سباتها، وتفيق النفوس من غفلتها، وتكف الأذهان عن تشاغلها، وتهيىء المسلم إلى هذه الفريضة العظمى، ثانية أركان الإسلام وعموده. فإذا ما سمع الله أكبر الله أكبر مرتين، عظم الله في نفسه، واستحضر جلاله وقدسه واستصغر كل شيء بعد الله، فلا يشغله شيء عن ذكر الله، لأن الله أكبر من كل شيء، فلا يشغل نفسه عنه أي شيء. فإذا سمع أشهد أن لا إلاه إلا الله، علم أن من حقه عليه طاعة الله وعبادته. وإذا سمع: أشهد أن محمدا رسول الله، علم أنه يلزمه استجابة داعي الله. وإذا سمع حي على الصلاة حي على الفلاح، علم أن فلاحه في صلاته في وقتها لا فيما يشغله عنها. وهكذا فكان ممشاه إليها تخشعا، وخطاه إلى المسجد تطوعا مع حضور القلب واستجماع الشعور. ومن هنا أيضا ندرك السر في طلب السامع محاكاة الأذان تبعا للمؤذن ليرتبط معه في إعلانه وعقيدته وشعوره، كما جاء في أثر عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل مثل ما يقولون، فإذا انتهيت فاسأل تعطه). رواه أبو داود. وقد قدمنا هذا الموضوع هنا، وإن كان ليس من منهج الكتاب، ولكن لموجب اقتضاء، ولمناسبة مبحث الأذان. أما الموجب فهو أني سمعت منذ أيام أثناء الكتابة في مباحث الأذان، وسمعت من إذاعة لبلد عربي مسلم أن كاتبا استنكر الأذان في الصبح خاصة، وفي بقية الأوقات بواسطة المكبر للصوت، وقال إنه يرهق الأعصاب وخاصة عند أداء الناس لأعمالهم أو عند الفراغ منها والعودة لراحتهم، ولا سيما في الفجر عند نومهم، فكان وقعه أليما أن يصدر ذلك وينشر، ولكن أجاب عليه أحد خطباء الجمع في خطبة وافية، وأفهمه أن الإرهاق والاضطراب إنما هو من عدم الاستجابة لهذا النداء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان يبول في أذن النائم، وأنه يعقد عليه ثلاث عقد. فإذا ما استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدة أخرى، فإذا صلى انحلت العقدة الثالثة، وأصبح نشيطا إلى غير ذلك من الرد الكافي.
154 ولا شك أن مثل تلك الكتابة لا تصدر إلا ممن لا يعي معنى الأذان. هذا ما استوجب عرض الحكمة من الأذان، وإن كانت مجانبة لمنهج الكتاب، ولكن بمناسبة مباحث الأذان يغتفر ذلك، وبالله التوفيق. محاكاة المؤذن تعتبر محاكاة المؤذن ربطا لسامع الأذان، وتنبيها له لموضوعه، جاء الحديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) رواه البخاري. وفي رواية عنده عن معاوية رضي الله عنه أنه قال أي معاوية: وهو على المنبر مثل قول المؤذن إلى قوله: أشهد أن محمدا رسول الله، ولما قال المؤذن (حي على الصلاة) قال معاوية: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وكذلك (حي على الفلاح)، ثم قال: (هكذا سمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم). وعند النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام بلال ينادي، فلما سكت قال صلى الله عليه وسلم: (من قال مثل هذا يقينا دخل الجنة). كيفية المحاكاة، في الحديث الأول فقولوا مثلما يقول، وهكذا يشعر بتتبعه جملة جملة، وفي الحديث الثاني: فلما سكت قال صلى الله عليه وسلم: (من قال مثل هذا) وبعد السكوت تنطبق المثلية بمجيء الأذان بعد فراغ المؤذن، فوقع الاحتمال. وقد جاء عند مسلم وأبي داود ما يؤيد الأول، فعن عمر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال أشهد ألا إلاه إلا الله، قال: أشهد ألا إلاه إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله، قال أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر. قال: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: لا إلاه إلا الله من قلبه دخل الجنة). فهذا نص صريح في أن محاكي المؤذن يتابعه جملة جملة إلى آخره ما عدا الحيعلتين. فإنه يأتي بدلا منهما بالحوقلة. وقالوا: إن الحيعلتين نداء للإقبال على المنادي. وهذا يصدق في حق المؤذن. أما الذي يحكي الأذان فلم يرفع صوته ولا يصدق عليه أن ينادي غيره فلا أجر له في نطقه بهما. فيأتي بلا حول ولا قوة إلا بالله لأمرين: الأول أنه ذكر يثاب عليه سرا وعلانية. والثاني: استشعار بأنه لا حول له عن معصية ولا قوة له على طاعة إلا بالله العلي العظيم، وفيه استعانة بالله وحوله وقوته على إجابة هذا النداء. وأداء الصلاة مع الجماعة. وقد أخذ الجمهور بحديث عمر عند مسلم بمحاكاة المؤذن في جميع الأذان على النحو المقدم. وعند مالك يكتفي إلى الحوقلة لحديث معاوية. ونص كتب المالكية أنه هو المشهور في المذهب. وغير المشهور أي مقابل المشهور طلب حكاية الأذان جميعه، ذكره الزمخشري على خليل. بعض الزيادات على ألفاظ الأذان تقدم ذكر الحوقلة عند الحيعلة في بعض روايات مسلم وغيره، عند الشهادتين يقول زيادة: (وأنا أشهد ألا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا، وبمحمد رسولا. وبالإسلام دينا، غفرت له ذنوبه). الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الله له الوسيلة. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه وسلم بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) وهذا عام للأذان في الصلوات الخمس إلا أنه جاء في المغرب والفجر بعض الزيادات، ففي المغرب حكى النووي: أنه له أن يقول بعد النداء: (اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعائك اغفر لي)، ويدعو بين الأذان، والإقامة. ذكره صاحب المهذب وعزاه لحديث أم سلمة، وأقره النووي في المجموع. أما في سماع أذان الفجر فيقول عند الصلاة خير من النوم: صدقت وبررت. حكاه النووي في المجموع. وعن الرافعي يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصلاة خير من النوم. وإذا سمع المؤذن وهو في الصلاة، نص العلماء على أنه لا يحكيه، لأنه في الصلاة لشغلا، وإذا سمعه وهو في المسجد جالس نص أحمد أنه لا يقوم حالا للصلاة حتى يفرغ المؤذن أو يقرب. وإذا دخل المسجد وهو يؤذن استحب له انتظاره ليفرغ ويقول مثل ما يقول جمعا بين الفضيلتين، وإن لم يقل كقوله وافتتح الصلاة، فلا بأس ذكره صاحب المغني عن أحمد رحمه الله. إجابة أكثر من مؤذن وللعلماء مبحث فيما لو سمع أكثر من مؤذن، قال النووي: لم أر فيه شيئا لأصحابنا، وفيه خلاف للسلف، وقال حكاه القاضي عياض في شرح مسلم، والمسألة محتملة ، ثم قال: والمختار أن يقال: المتابعة سنة متأكدة بكرة تركها لتصريح الأحاديث الصحيحة بالأمر، وهذا يختص بالأول لأن الأمر لا يقتضي التكرار. وذكره صاحب الفتح وقال: وقال ابن عبد السلام: يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب ا ه. وعند الأحناف الحق للأول. وأصل هذه المسألة في مبحث الأصول، هل الأمر المطلق يقتضي تكرار المأمور به أم لا؟
154 وقد بحث هذا الموضوع فضيلة شيخنا رحمة الله تعالى عليه في مذكرة الأصول وحاصله: إن الأمر إما مقيد بما يقتضي التكرار أو مطلق عنه: ثم قال: والحق أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار بل يخرج من عهدته بمرة، ثم فصل رحمة الله تعالى عليه القول فيما اتفق عليه وما اختلف فيه، ومنه تعدد حكاية المؤذن وبحثها بأوسع في الأضواء عن تعدد الفدية في الحج، والواقع أن سبب الخلاف فيما اختلف فيه إنما هو من باب تحقيق المناط هل السبب المذكور مما يقتضي التعدد أم لا؟ والأسباب في هذا الباب ثلاثة أقسام، قسم يقتضي التكرار قطعا، وقسم لا يقتضيه قطعا، وقسم هو محل الخلاف. فمن الأسباب المقتضية التكرار قطعا: ما لو ولد له توأمان فإن عليه عقيقتين، ومنها: لو ضرب حاملا فأجهضت جنينين لوجبت عليه غرتان. ومن الأسباب التي لا تقتضي التكرار ما لو أحدث عدة أحداث من نواقض الوضوء فأراد أن يتوضأ فإنه لا يكرر الوضوء بعدد الأحداث، ويكفي وضوء واحد، وكذلك موجبات الغسيل لو تعدت قبل أن يغتسل فإنه يكفيه غسل واحد عن الجميع. ومما اختلف فيه ما كان دائرا بين هذا وذاك، كما لو ظاهر من عدة زوجات هل عليه كفارة واحدة نظرا لما أوقع من ظهار أم عليه عدة كفارات نظرا لعدد ظاهر منهن؟ وكذلك إذا ولغ عدة كلاب في إناء هل يعفر الإناء مرة واحدة، أم يتعدد التعفير لتعدد الولوغ من عدة كلاب؟ ومن ذلك ما قالوه في إجابة المؤذن إذا تعدد المؤذنون تعددت الأسباب، فهل تتعدد الإجابة أم يكتفي بإجابة واحدة. تقدم قول النووي أنه لم يجد شيئا لأصحابه، وكلام العز بن عبد السلام بتعدد الإجابة وبالنظر الأصولي، نجد تعدد المؤذنين ليس كتعدد نواقض الوضوء لأن المتوضىء إذا أحدث ارتفع وضوءه وليس عليه أن يتوضأ لهذا الحدث، فإذا أحدث مرة أخرى لم يقع هذا الحدث الثاني على طهر ولم يجد حدثا آخر. وهكذا مهما تعددت الأحداث، فإذا أراد الصلاة كان عليه أن يرفع حدثه فيكفي فيه وضوء واحد، ولكن مستمع المؤذن حينما سمع المؤذن الأول فهو مطالب بمحاكاته، فإن فرغ منه وسمع مؤذنا آخر، فإن من حق هذا المؤذن الآخر أن يحاكيه، ولا علاقة لأذان هذا بذاك، فهو من باب تجدد السبب وتعدده أو هو إليه أقرب، كما لو سمع أذان الظهر فأجابه ثم سمع أذان العصر فلا يكفي عنه إجابة أذان الظهر، فإن قيل: قد اختلف الوقت وجاء أذان جديد، فيقال قد اختلف المؤذن فجاء أذان جديد. وأقرب ما يكون لهذه المسألة مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره في حديث قوله صلى الله عليه وسلم (آمين آمين) ثلاث مرات وهو يصعد المنبر، ولما سئل عن ذلك قال: (أتاني جبريل فقال يا محمد من ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل: آمين فقلت آمين)، وذكر بقية المسائل فإن بهذا يتعين تكرار الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند كل ما يسمع ذكره صلوات الله وسلامه عليه، وهنا عليه تكرار محاكاة المؤذن، كما رجحه ابن عبد السلام والله تعالى أعلم. تنبيه وإذا سمع المؤذن وهو في صلاة فلا يقول مثل ما يقول المؤذن، وإذا كان في قراءة أو دعاء أو ذكر خارج الصلاة، فإنه يقطعه ويقول مثل قول المؤذن. قاله ابن تيمية في الفتاوى وابن قدامة في المغني، والنووي في المجموع. تنبيه ولا يجوز النداء للصلاة جمعة أو غيرها من الصلوات الخمس إلا بهذه الألفاظ المتقدم ذكرها، وما عداها مما أدخله الناس لا أصل له، كالتسبيح قبل الفجر، والتسبيح والتحميد والتكبير يوم الجمعة بما يسمى (بالتطليع) ونحوه فكل هذا لا نص عليه ولا أصل له. وقد نص في فتح الباري ردا على ابن المنير، حيث جعل بعض الهيئات أو الأقوال من مكملات الإعلام، فقال ابن حجر: وأغرب ابن المنير ولو كان ما قاله على إطلاقه لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأذان، وليس كذلك لا لغة ولا شرعا. وفي الحاشية للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تعليق على كلام ابن المنير بقوله هذا فيه نظر. والصواب أن ما أحدثه الناس من رفع الصوت بالتسبيح قبل الأذان والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعده، كما أشار إليه الشارع بدعة يجب على ولاة الأمر إنكارها حتى لا يدخل في الأذان ما ليس منه، وفيما شرعه الله غنية وكفاية عن المحدثات، فتنبه. وقال في الفتح أيضا ما نصه: وما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى، وقال ابن الحاج في المدخل جلد 2 ص 452، وينهي المؤذنين عما أحدثوه من التسبيح بالليل، وإن كان ذكر الله تعالى حسنا وعلنا لكن في المواضع التي تركها الشارع صلوات الله وسلامه عليه، ولم يعين فيها شيئا معلوما. وقال بعده بقليل: وكذلك ينبغي أن ينهاهم عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم عند طلوع الفجر، وإن كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر العبادات
154 وأجلها، فينبغي أن يسلك بها مسلكها، فلا توضع إلا في مواضعها التي جعلت لها. وقال صاحب الإبداع في مضار الابتداع. ما نصه: ومن البدع ما يسمى بالأولى والثانية، أعني ما يقع قبل الزوال يوم الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، ولا خلاف في أن ذلك لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد السلف الصالح، وإنما النظر في ذمه واستحسانه ا ه. وهذا النظر مفروغ منه في التنبيهات المتقدمة لابن حجر وابن الحاج وابن باز. والقاعدة الأصولية الفقهية: أن العبادات مبناها على التوقيف، وما لم يكن دينا ولا عبادة عند السلف الصالح فلا حاجة إليه اليوم، كما قال مالك رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وقد ذكر صاحب الإبداع أيضا تاريخ إحداث رفع الصوت بالصلاة والتسليم على النبي الكريم عقب الأذان، فقال: كان ابتداء ذلك في أيام السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب وبأمره في مصر وأعمالها، لسبب مذكور في كتب التاريخ ا ه. والسبب يتعلق ببدعة الفاطميين بسبب بعض الأشخاص على المنابر والمنائر، فغير عمر بن عبد العزيز رحمه الله ما كان على المنابر بقوله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر. وكذلك غير صلاح الدين ما كان بعد الأذان بالصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم. تنبيه من أسباب تمسك بعض البلاد بهذين العملين هو ألا يؤذن قبل الجمعة، فاعتاضوا عن الأذان بما يسمى التطليع أو بالأولى والثانية أي التطليعة الأولى والتطليعة الثانية، وكذلك لا يؤذنون للفجر قبل الوقت فاستعاضوا عنه بالتسبيح والتكبير وغيره. أما الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم عقب كل أذان، فقد قاسوا المؤذن على السامع في حديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا). فقالوا: والمؤذن أيضا يصلي ويسلم، ثم زادوا في القياس خطة وجعلوا صلاة
155 المؤذن وتسليمه على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت مرتفع كالأذان، وبهذا تعلم أنه ما أميتت سنة إلا ونشأت بدعة، وأن قياس المؤذن على السامع ليس سليما. وتقدم لك أن محاكاة المؤذن لربط السامع بالأذان ليتجاوب معه في معانيه، ولو قيل: إن للمؤذن أن يصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم سرا بعد الفراغ من الأذان، وأن يسأل الله الوسيلة للرسول صلى الله عليه وسلم ليشارك في الأجرين: أجر الأذان وأجر سؤال الوسيلة. لكان له أجر. والعلم عند الله تعالى. حي على خير العمل في الأذان اتفق الأئمة رحمهم الله على أنها ليست من ألفاظ الأذان، وحكاها الشوكاني عن العترة، وناقش مقالتهم وآنارها بأسانيدها. ومما جاء فيها عندهم أثر عن ابن عمر، أنه كان يؤذن بها أحيانا. ومنها عن علي بن الحسين أنه قال: هو الأذان الأول. ثم قال: وأجاب الجمهور عن كل ذلك بأن أحاديث ألفاظ الأذان في الصحيحين وغيرهما لم يثبت فيهما شيء من ذلك. قالوا: وإذا صح ما روي أنه الأذان الأول فهو منسوخ بأحاديث الأذان لعدم ذكره فيها. وقد أورد البيهقي حديثا في نسخ ذلك، ولكن من طريق لا يثبت النسخ بمثلها ا ه. ملخصا. وقد ذكر صاحب جمع الفوائد حديثا عن بلال رضي الله عنه أنه كان يؤذن للصبح فيقول: حي على خير العمل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم، وترك حي على خير العمل)، وقال: رواه الطبراني في الكبير بضعف ا ه. ولا يبعد أن يكون أثر بلال هذا هو الذي عناه علي بن الحسين، وعلى كل فهذا الأثر وإن كان ضعيفا فإنه مرفوع، وفيه التصريح بالمنع منها، وعليه الأئمة الأربعة وغيرهم إلا ما عليه الشيعة فقط. ومن جهة المعنى، فإن معناها لا يستقيم مع بقية النصوص الصحيحة الصريحة،
156 وذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير العمل أمر نسبي، وأن خير جميع الأعمال كلها هو أولا وقبل كل شيء الإيمان بالله، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم سئل (أي الأعمال أفضل يا رسول الله، قال: إيمان الله، قيل: ثم ماذا؟ فقال: مرة الجهاد في سبيل الله، وقال مرة: الصلاة على أول وقتها، وقال مرة: بر الوالدين) وفي كل مرة يقدم إيمانا بالله. فعليه، الإيمان بالله هو خير العمل، وليست الصلاة، ثم بعد الإيمان بالله فهو بحسب حال السائل وحالة كل شخص، فمن كان قويا وليس عليه حق لوالديه، فالجهاد أفضل الأعمال في حقه مع من الحفاظ على الصلاة، فإن كان ذا والدين، فبرهما مقدم على كل عمل. ولم لا، فإن الصلاة على أول وقتها لغير هؤلاء، فإطلاق القول بالصلاة خير العمل في حق جميع الناس لا يصح مع هذه الأحاديث. ولهذا منع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يقولها، وجعلها: خيرا من النوم. وهذا لا نزاع فيه ولا بالنسبة لأي أحد من الناس. والله تعالى أعلم. الصلاة بين أذان عثمان رضي الله عنهوالأذان الذي بين يدي الإمام تعود الناس في جميع الأمصار صلاة ركعتين عند الأذان الأول، والذي يقع الآن قبل الوقت وقبل جلوس الإمام على المنبر، وهو المسمى عند الفقهاء بأذان عثمان، وقد تساءل الناس عن هذه الصلاة، أهي سنة أم لا؟ ويتجدد هذا السؤال من حين إلى آخر، وأجمع ما رأيت فيه هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة خاصة، جوابا على سؤال وجه إليه هذا نصه: هل الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه أو التابعين أو الأئمة أم لا؟ وهل هو منصوص في مذهب من مذاهب الأئمة المتفق عليهم، وقوله صلى الله عليه وسلم (بين كل أذانين صلاة)، هل هو مخصوص بيوم الجمعة، أم هو عام في جميع الأوقات؟ فأجاب رحمه الله بقوله: أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئا، ولا نقل هذا عن أحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على المنبر، ويؤذن بلال ثم يخطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبتين، ثم يقيم بلال فيصلي بالناس، فما كان يمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه صلى الله عليه وسلم، ولا نقل عن أحد أنه صلى صلى الله عليه وسلم في بيته قبل الخروج يوم الجمعة، ولا وقت بقوله صلاة مقدرة قبل الجمعة، بل ألفاظه فيها الترغيب
157 في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت كقوله: (من بكر وابتكر ومشى ولم يركب وصلى ما كتب له)... الحديث. وهذا المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر. منهم من يصلي ثماني ركعات، ومنهم من يصلي أقل من ذلك. ولهذا كان جمهور الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد. ثم قال: وهذا مذهب مالك ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه، وهو المشهور من مذهب أحمد. وذهب طائفة من العلماء إلى أن قبلها سنة، فمنهم من جعلها ركعتين، ومنهم من جعلها أربعا تشبيها لها بسنة الظهر، وقالوا: إن الجمعة ظهر مقصورة، وهذا خطأ من وجهين وساقهما. وخلاصة ما ساقه فيهما أن الجمعة لها خصائص لا توجد في الظهر فليست ظهرا مقصورة. وكذلك أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم يصلي في سفره سنة للظهر، أي وهي مقصورة في السفر فلا تمسك في ذلك. أما عن حديث (بين كل أذانين صلاة) فالصواب أنه لا يقال إن قبل الجمعة سنة راتبة مقدرة، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: (بين كل أذانين صلاة) مرتين. وقال في الثالثة: (لمن شاء). وهذا يدل على أن الصلاة مشروعة قبل الأوقات الخمسة، وأن ذلك ليس بسنة راتبة. وقد احتج بعض الناس بهذا على الصلاة يوم الجمعة. وعارض غيره قائلا: الأذان الذي على المنارة لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ويتوجه عليه أن يقال: هذا الأذان الثالث لما سنه عثمان رضي الله عنه واتفق عليه المسلمون صار أذانا شرعيا، وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة، وليست سنة راتبة كالصلاة قبل المغرب، وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه. وهذا أعدل الأقوال. وكلام أحمد يدل عليه، وحينئذ فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يعتقدون أن هذه سنة راتبة أو واجبة، لا سيما إذا داوم الناس عليها، فينبغي تركها أحيانا، كما ينبغي
158 ترك قراءة السجدة يوم الجمعة أحيانا. ثم قال: وإذا كان رجل مع قوم يصلونها، فإن كان مطاعا إذا تركها وبين لهم السنة لم ينكروا عليه، بل عرفوا السنة فتركها حسن، وإن لم يكن مطاعا ورأى في صلاتها تأليفا لقلوبهم إلى ما هو أنفع، أو دفعا للخصام والشر لعدم التمكن من بيان الحق لهم، وقولهم له ونحو ذلك. فهذا أيضا حسن. فالعمل الواحد يكون مستحبا فعله تارة، وتركه تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية. كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم إلى آخره. ا ه ملخصا. فأنت تراه رحمه الله قد بين أولا أنها ليست من فعله صلى الله عليه وسلم، لعدم وجود مكان لها في عهده، ولا في عهد صاحبيه من بعده، وأن فعلها بعد حديث عثمان رضي الله عنه يرجع إلى حال الشخص، فإن كان عاميا التمس له مخرج من حديث: (بين كل أذانين صلاة) لا على أنها سنة راتبة. أما العالم الذي يقتدى به فإن كان مطاعا فتركها أحسن. وتعليم الناس متعين، وإن كان غير مطاع ويرجو نفعهم أو يخشى خصومة عليهم تضيع عليهم منفعتهم منه، ففعلها تأليفا لقلوبهم، فهذا حسن. ا ه ملخصا. وهذا منه رحمه الله من أدق مسالك سياسة الدعوة إلى الله، حيث ينبغي للداعي أن يراعي حالة العامة، وأن يكون بفعله مؤثرا كتأثيره بقوله مع مراعاة الأحوال ما هو أصلح لهم فيما فيه سعة من الأمر، كما بين أنها ليست بسنة راتبة. وقد ساق ضمنا كلام العلماء في حكم الصلاة قبل الجمعة مطلقا، أي عند المجيء وقبل الأذان، وهذا كله ما عدا الداخل للمسجد وقت الخطبة فيما يتعلق بتحية المسجد. وقال النووي في المجموع بعد مناقشة كلام المذهب. قال: وأما السنة قبلها فالعمدة فيها حديث عبد الله بن معقل المذكور. (بين كل أذانين صلاة)، والقياس على الظهر قال: وذكر أبو عيسى الترمذي أن عبد الله بن مسعود كان يصلي قبل الجمعة أربعا، وإليه ذهب سفيان الثوري وابن المبارك، وهذا منهم على أنها
159 راتبة الظهر انتقلت إلى الجمعة، ولا علاقة لها بالأذان، بل من حين مجيئه إلى المسجد. قوله تعالى: * (من يوم الجمعة) *. قال الزمخشري ونقله عنه أبو حيان من في قوله * (من يوم الجمعة) * بيان لإذا وتفسير له ا ه. يعني: إذا نودي فهي بيان لإذا الظرفية وتفسير لها. والجمعة: بضم الجيم والميم قراءة الجمهور. وبضم الجيم وتسكين الميم قراءة عبد الله بن الزبير والأعمش وغيرهما، وهما لغتان وجمعهما جمع وجمعات. قال الفراء: يقال الجمعة بإسكان الميم، والجمعة بضمها والجمعة بفتح الميم، فتكون صفة لليوم أي يجمع الناس. وقال ابن عباس: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرؤها جمعة، يعني بضم الميم. وقال الفراء وأبو عبيد: والتخفيف أقيس وأحسن، مثل غرفة وغرف وطرفة وطرف وحجرة وحجر، وفتح الميم لغة بني عقيل. وقيل: إنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم. حكاه القرطبي وغيره. وقال الزمخشري: قرىء بهن جميعا. وقال غيره: والأول أصح لقول ابن عباس رضي الله عنهما. وذكر في سبب تسمية هذا اليوم عدة أسباب لا تناقض بين شيء منها. من ذلك ما قاله ابن كثير رحمه الله: إنها مشتقة من الجمع، وأهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع. ومنها: أنه تم فيه خلق جميع الخلائق، فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، وفيه خلق آدم يعني جمع خلقه، وفيه الحديث عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا سلمان، ما يوم الجمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوم الجمعة يوم جمع الله فيه أبواكم أو أبوكم)، قال ابن كثير: وقد روي عن أبي هريرة من كلامه نحو هذا، فالله أعلم. والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن ما حكاه عن أبي هريرة له حكم الرفع، كما جاء
160 في الموطأ في فضل يوم الجمعة (أنه خير يوم تطلع فيه الشمس، فيه خلق آدم) إلى آخر الحديث، وسيأتي إن شاء الله عند بيان فضلها. وقد كان يقال له في الجاهلية يوم العروبة. ونقل عن الزجاج والفراء وأبي عبيدة: أن العرب العاربة كانت تسمي الأيام هكذا: السبت شبار، الأحد أول، الاثنين أهون، الثلاثاء جبار، الأربعاء دبار، الخميس مؤنس، الجمعة العروبة. وأول من نقل العروبة إلى الجمعة كعب بن لؤي، نقل من بذل المجهود شرح أبي داود. وقيل: أول من سماه بالجمعة كعب بن لؤي، وقد كان معروفا بهذا الاسم في أول البعثة، كما جاء في سبب أول جمعة صليت بالمدينة. قال القرطبي: وأول من سماها جمعة: الأنصار، ونقل عن ابن سيرين قوله: جمع أهل المدينة من قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة هم الذين سموها الجمعة، وذلك أنهم قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه في كل سبعة أيام يوم، وهو السبت، وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد، فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنتذاكر الله ونصلي فيه ونستذكر أو كما قالوا، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة وهو أبو أمامة رضي الله عنه، فصلى بهم يومئذ ركعتين. وذكرهم فسموه يوم الجمعة حتى اجتمعوا فذبح لهم أسعد شاة فتعشوا وتغدوا منها لقلتهم. فهذه أول جمعة في الإسلام. أما أول جمعة أقامها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي التي أقامها مقدمة إلى المدينة حين نزل قباء يوم الاثنين ومكث الثلاثاء والأربعاء والخميس، وفي صبيحة الجمعة نزل إلى المدينة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا فجمع بهم صلى الله عليه وسلم وخطب، وهو موضع معروف إلى اليوم في بني النجار، وقد ساق القرطبي خطبته صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، ثم كانت الجمعة التي تلتها في الإسلام في قرية جوانا بالأحساء اليوم. وقد خص الله المسلمين بهذا اليوم وفضله، كما قال ابن كثير وغيره لحديث أبي
161 هريرة رضي الله عنه عند البخاري ومسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه. فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد)، لفظ البخاري. وفي لفظ لمسلم (أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، المقضي بينهم قبل الخلائق) ذكره ابن كثير، من خصائص يوم الجمعة. كما اختصت هذه الأمة بيوم الجمعة عن سائر الأيام، فقد اختص يوم الجمعة نفسه بخصائص عن سائر الأيام، أجمعها ما جاء في الموطأ مالك عن أبي هريرة (أنه قال: خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أهبط من الجنة، وفيه تيب عليه وفيه مات، وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه). قال كعب: ذلك في كل سنة. قلت: بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة: فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد، إلى المسجد الحرام، وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس) يشك. قال أبو هريرة، ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار، وما حدثته به في يوم الجمعة فقلت: قال كعب: ذلك في كل سنة يوم، قال: قال عبد الله بن سلام: كذب كعب. فقلت: ثم قرأ التوراة، فقال: بل هي في كل جمعة. فقال عبد الله بن سلام: صدق كعب. ثم قال عبد الله بن سلام: قد علمت أية ساعة هي؟ قال أبو هريرة فقلت له: أخبرني بها ولا تضن علي، فقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة في يوم
162 الجمعة. قال أبو هريرة: فقلت وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي) وتلك الساعة ساعة لا يصلي فيها؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي) قال أبو هريرة: فقلت: بلى، قال فهو كذلك). فهذا نص صريح في أنه خير يوم طلعت عليه الشمس، ثم بيان أن الخيرية فيه لما وقع به من أحداث، وإلا فجميع الأيام حركة فلكية لا مزية فيها إلا ما خصها الله دون غيرها من الوقائع. وقد تعددت هنا في حق أبينا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولذا قيل: يوم الجمعة يوم آدم، ويوم الاثنين يوم محمد صلى الله عليه وسلم، أي لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن كثرة صيامه يوم الاثنين قال (ذلك يوم ولدت فيه، وعلي فيه أنزل) الحديث. ولما كان يوم الجمعة هو يوم آدم فيه خلق، وفيه أسكن الجنة، وفيه أنزل إلى الأرض، وفيه تاب الله عليه، وفيه قيام الساعة. فكان يوم العالم من بدء أبيهم إلى منتهى حياتهم، فكأنه في الإسلام يوم تزودهم إلى ذلك المصير. وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ * (ألم) *، * (وهل أتى على الإنسان) * في فجر يوم الجمعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وذلك لما فيهما من ذكر خلق الله آدم وحياة الإنسان ومنتهاه، كما في سورة السجدة في قوله تعالى: * (الله الذى خلق السماوات والا رض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الا مر من السمآء إلى الا رض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذالك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون) *. وفي سورة * (هل أتى على الإنسان) * قوله تعالى: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا إنآ أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا
163 وسعيرا إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) *. ففي هذا بيان لخلق العالم كله جملة ثم خلق آدم، ثم تناسل نسله ثم منتهاهم ومصيرهم ليتذكر بخلق أبيه آدم، وما كان من أمره كيلا ينسى ولا يسهو عن نفسه. وهكذا ذكر مثل هذا التوجيه في الجملة ابن حجر في الفتح، وناقش حكم قراءتهما والمداومة عليهما أو تركهما، وذلك في باب ما يقرأ في صلاة الجمعة. وفي المنتقى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الصبح: آلم تنزيل، وهل أتى على الإنسان، وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقون. رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وناقش الشوكاني السجود فيها أي في فجر الجمعة أو في غيرها من الفريضة، إذا قرأ ما فيه سجدة تلاوة. وحكي السجود في فجر الجمعة عن عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وابن الزبير وقال: هو مذهب الشافعي، وقال: كرهه مالك وأبو حنيفة وبعض الحنابلة، فراجعه. الساعة التي في يوم الجمعة فقد تقدم كلام أبي هريرة رضي الله عنه مع عبد الله بن سلام وهو قول الأكثر، ويوجد عند مسلم: أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة، وقد ناقش هذه المسألة جميع العلماء، وحكى أقوالهم الزرقاني في شرح الموطأ، وكلاهما بسند صحيح: إلا أن سند مالك لم يطعن فيه أحمد وسند مسلم قد نقل الزرقاني الكلام فيه، ومن تكلم عليه، والذي يلفت النظر ما يتعلق بقيام الساعة في يوم الجمعة من قوله صلى الله عليه وسلم: (وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس) ففيه التصريح بأن الدواب عندها هذا الإدراك الذي تفرق به بين أيام الأسبوع، وعندها هذا الإيمان بيوم القيامة والإشفاق منه، وأخذ منه العلماء أن الساعة تكون في يوم الجمعة وفي أوله، فإذا كان هذا أمر غيب عنا، فقد أخبرنا به صلى الله عليه وسلم فعلينا أن نعطي هذا اليوم حقه من الذكر والدعاء، مما يليق من العبادات إشفاقا أو تزودا لهذا اليوم، لا أن نجعله موضع النزهة واللعب والتفريط، وقد يكون إخفاؤها مدعاة للاجتهاد كل اليوم كليلة القدر، وقد نفهم من هذا كله المعنى الصحيح لحديث: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب
164 بدنة) إلى آخره، وأن الحق فيه ما ذهب إليه الجمهور على ما سيأتي إن شاء الله عند مناقشة وقت السعي إلى الجمعة. قال النيسابوري في تفسيره: وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج. وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة، إذ البكور إليها من شدة العناية بها. قوله تعالى: * (فاسعوا إلى ذكر الله) *. قرأ الجمهور فاسعوا وقرأها عمر فامضوا. روى ابن جرير رحمه الله أنه قيل لعمر رضي الله عنه: إن أبيا يقرؤها فاسعوا، قال أما إنه أقرؤنا وأعلمنا بالمنسوخ. وإنما هي فامضوا. وروي أيضا عن سالم أنه قال: ما سمعت عمر قط يقرؤها إلا فامضوا. وبوب له البخاري قال باب قوله: * (وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم) * وقرأ عمر * (فامضوا) *، وذكر القرطبي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأه * (وقلوبهم إلى ذكر الله) *، وقال لو كانت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي ا ه. وبالنظر فيما ذكره القرطبي نجد الصحيح قراءة الجمهور لأمرين. الأول: لشهادة عمر نفسه رضي الله عنه أن أبيا أقرؤهم وأعلمهم بالمنسوخ، وإذا كان كذلك فالقول قوله، لأنه أعلمهم وأقرؤهم. أما قراءة ابن مسعود فقال القرطبي: إن سنده غير متصل، لأنه عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود، وإبراهيم لم يسمع من ابن مسعود شيئا ا ه. وقد اختلف في معنى السعي هنا، وحاصل أقوال المفسرين فيه على ثلاثة أقوال لا يعارض بعضها بعضا. الأول: العمل لها، والتهيؤ من أجلها. الثاني: القصد والنية على إتيانها. الثالث: السعي على الأقدام دون الركوب. واستدلوا لذلك بأن السعي يطلق في القرآن على العمل، قاله الفخر الرازي. وقال: هو مذهب مالك والشافعي، قال تعالى * (وإذا تولى سعى فى الا رض) *، وقال:
165 * (إن سعيكم لشتى) * أي العمل. واستدلوا للثاني بقول الحسن: والله ما هو بسعي على الأقدام، ولكن سعي القلوب والنية. واستدلوا للثالث بما في البخاري عن أبي عبس بن جبر واسمه عبد الرحمان، وكان من كبار الصحابة مشى إلى الجمعة راجلا، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار). ذكره القرطبي، ولم يذكره البخاري في التفسير. وبالتأمل في هذه الأقوال الثلاثة نجدها متلازمة لأن العمل أعم من السعي، والسعي أخص، فلا تعارض بين أعم وأخص، والنية شرط في العمل، وأولى هذه الأقوال كلها ما جاء في قراءة عمر رضي الله عنه الصحيحة: فامضوا. فهي بمنزلة التفسير للسعي. وروي عن الفراء: أن المضي والسعي والذهاب في معنى واحد، والصحيح أن السعي يتضمن معنى زائدا وهو الجد والحرص على التحصيل، كما في قوله تعالى: * (والذين سعوا فىءاياتنا معاجزين) * بأنهم حريصون على ذلك: وهو أكثر استعمالات القرآن. قال الراغب الأصفهاني: السعي المشي السريع، وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا، قال تعالى: * (وسعى فى خرابهآ) *. * (وإذا تولى سعى فى الا رض) *. * (ومن أراد الا خرة وسعى لها سعيها) *. وجمع الأمرين الخير والشر * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى) * وهو ما تشهد له اللغة، كما في قول زهير بن أبي سلمى: وأن سعيه سوف يرى) * وهو ما تشهد له اللغة، كما في قول زهير بن أبي سلمى: * سعى ساعيا غيظ ابن مرة بعدما * تبزل ما بين العشيرة بالدم * وكقول الآخر: وكقول الآخر: * إن أجز علقمة بن سعد سعيه * لا أجزه ببلاء يوم واحد *
166 تنبيه من هذا كله يظهر أن السعي هو المضي مع مراعاة ما جاء في السنة من الحث على السكينة والوقار. لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا). وهذا أمر عام لكل آت إلى كل صلاة ولو كان الإمام في الصلاة لحديث أبي قتادة عند البخاري قال: (بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع جلبة رجال فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) ا ه. وكذلك حديث أبي بكرة رضي الله عنه لما ركع خلف الصف ودب حتى دخل في الصف وهو راكع، فقال له صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصا، ولا تعد) على رواية تعد من العود. وهنا يأتي مبحث بم تدرك الجمعة؟ الأقوال في القدر الذي به تدرك الجمعة ثلاثة، وتعتبر طرفين وواسطة. الطرف الأول: القول بأنها لا تدرك إلا بإدراك شيء من الخطبة، هذا ما حكاه ابن حزم عن مجاهد وعطاء وطاوس وعمر، ولم يذكر له دليلا. والقول الآخر: تدرك ولو بالجلوس مع الإمام قبل أن يسلم، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله: ومذهب ابن حزم، بل عند أبي حنيفة رحمه الله: أنه لو أن الإمام سها وسجد، وفي سجود السهو أدركه المأموم لأدرك الجمعة بإدراكه سجود السهو مع الإمام، لأنه منها، ولكن خالف الإمام أبا حنيفة صاحبه محمد على ما سيأتي. والقول الوسط هو قول الجمهور: أنها تدرك بإدراك ركعة كاملة مع الإمام، وذلك بإدراكه قبل أن يرفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية، فحينئذ يصلي مع الإمام ركعة ثم يضيف إليها أخرى وتتم جمعته بركعتين، وإلا صلى ظهرا. أما الراجح من ذلك فهو قول الجمهور للأدلة الآتية: أولا: أن القول الأول لا دليل عليه أصلا، ويمكن أن يلتمس لقائله شبهة من قوله
167 تعالى: * (إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) * لحمل ذكر الله على خصوص الخطبة لقوله تعالى بعدها * (فإذا قضيت الصلواة) *. فسمى الصلاة في الأول بالنداء إليها، وسمى الصلاة أخيرا بانقضائها، وذكر الله جاء بينهما ولكن يرده استدلال الجمهور الآتي. والقول الثاني: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وابن حزم استدل له بحديث (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا). والجمعة ركعتان فقط، فإتمامها بتمام ركعتين، واعتبروا إدراك أي جزء منها إدراكا لها، وقد خالف أبا حنيفة في ذلك صاحبه محمد لأدلة الجمهور الآتية: وأدلة الجمهور من جانبين: الأول: خاص بالجمعة، وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى) أي فتتم له جمعة بركعتين، وأخذوا من مفهوم إدراك ركعة، أن من لم يدرك ركعة كاملة فلا يصح له أن يضيف لها أخرى، وعليه أن يصلي ظهرا. والجانب الثاني عام في كل الصلوات، وهو حديث الصحيحين، (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة). وقد رد الأحناف على الحديث الأول بأنه ضعيف، واعتبروا الإدراك في الحديث الثاني، يحصل بأي جزء. ورد عليهم الجمهور بالآتي: أولا: الحديث الخاص بمن أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى. ذكره ابن حجر في بلوغ المرام. وقال: رواه النسائي وابن ماجة والدارقطني واللفظ له، وإسناده صحيح، لكن قوى أبو حاتم إرساله، وقال الصنعاني في الشرح: وقد أخرج الحديث من ثلاث عشرة طريقا عن أبي هريرة، ومن ثلاث طرق عن ابن عمر، وفي جميعها مقال إلى أن قال: ولكن كثرة طرقه يقوي بعضها بعضا، مع أنه خرجه الحاكم من ثلاث طرق:
168 إحداها: من حديث أبي هريرة: وقال فيها على شرط الشيخين إلى آخره ا ه. وقال النووي في المجموع: ويغني عنه ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) فهذا نص صحيح، وهو صريح في أن إدراك الصلاة إنما هو بإدراك ركعة، وبالإجماع لا يكون إدراك الركعة بإدراك الجلوس قبل السلام، لأن من دخل مع الإمام في إحدى الصلوات وهو جالس في التشهد لا يعتد بهذه الركعة إجماعا، وعليه الصلاة كاملة. والنص الخاص أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى يجعل معنى الإدراك لركعة كاملة يعتد بها، ومن لم يدرك ركعة كاملة لم يكن مدركا للجمعة. وقد حكى النووي في المجموع أن الجمعة تدرك بركعة تامة لحديث الصحيحين المذكور، وقال: احتج به مالك في الموطأ، والشافعي في الأم وغيرهما. وقال الشافعي معناه: لم تفته تلك الصلاة، ومن لم تفته الجمعة صلاها ركعتين، وقال: وهو قول أكثر العلماء. حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عمر وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب، والأسود، وعلقمة والحسن البصري وعروة بن الزبير، والنخعي والزهري، ومالك والأوزاعي والثوري، وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي يوسف. وتقدم أن الذي وافق الجمهور من أصحاب أبي حنيفة، إنما هو محمد لما في كتاب الهداية ما نصه: وقال محمد رحمه الله: إن من أدرك أكثر الركعة بني عليها الجمعة وإن أدرك أقلها بنى عليها الظهر. وفي الشرح: أن أكثر الركعة هو بإدراك الركوع مع الإمام. وبالنظر في الأدلة نجد رجحان أدلة الجمهور للآتي: أولا: قوة استدلالهم بعموم (من أدرك من الصلاة ركعة، فقد أدرك الصلاة)، وهذا عام في الجمعة وفي غيرها، وهو من أحاديث الصحيحين. ثم بخصوص (من أدرك من الجمعة ركعة مع الإمام فليضف إليها أخرى)، وتقدم
169 الكلام على سنده وتقوية طرقه بعضها ببعض. وقد أشرنا إلى معنى الإدراك وهو ما يمكن الاعتداد به في عدد الركعات، وهي نقطة هامة لا ينبغي إغفالها، وأن مفهوم من أدرك ركعة مع الإمام فليضف إليها أخرى، أن من لم يدرك ركعة كاملة لا يتأتى له أن يضيف إليها أخرى، بل عليه كما قال الجمهور أن يصلي أربعا. ثانيا ضعف استدلال المعارض لأن: ما أدركتم فصلوا. على من أدرك من الجمعة ركعة خاص بها. ثم إن معنى الإدراك ليس كما ذهب المستدل إليه، بل لا بد أن يكون إدراكا لما يعتد به. وأشرنا إلى أن الإجماع على أن من لم يدرك ركعة كاملة لا يعتد بها في عدد الركعات، ويشير إلى هذا المعنى حديث أبي بكرة حيث ركع قبل أن يصل إلى الصف ليدرك الركعة قبل أن يرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه، ولو كان إدراك الركعة يتم بأي جزء منها لما فعل أبو بكرة هذه الصورة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (هذا زادك الله حرصا ولا تعد). ومعلوم أنه اعتد بتلك الركعة لإدراكه الركوع منها، وبهذا تعلم أنه لا دليل لمن اشترط إدراك شيء من الخطبة، لأن من أدرك ركعة فقد فاتته الخطبة كلها، وفاتته الأولى من الركعتين، وأدرك الجمعة بإدراك الثانية. والعلم عند الله تعالى. حكم صلاة الجمعة عنقها الفدء قوله تعالى: * (إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) *. فيه الأمر بالسعي إذا نودي إليها، والأمر يقتضي الوجوب ما لم يوجد له صارف، ولا صارف له هنا، فكان يكفي حكاية الإجماع على وجوبها، كما حكاه ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما، ونقله الشوكاني، وهو قول الأئمة الأربعة رحمهم الله، ولكن وجد من يقول: إن الجمعة ليست واجبة. ولعله ظن أن في الآية صارف للأمر عن الوجوب، وهو ما جاء في آخر السياق في قوله تعالى * (وذروا البيع ذلكم خير لكم) * فقالوا: إن الأمر لتحصيل الخير المذكور، وقد نقل عن بعض اتباع بعض الأئمة رحمهم الله ما يوهم أنها ليست بفرض، وهو مسطر في كتبهم، مما قد يغتر به بعض البسطاء ولا سيما مع ضعف
170 الوازع وكثرة الشاغل في هذه الآونة، مما يستوجب إيراده وبيان رده من أقوال أصحابهم وأئمتهم رحمهم الله جميعا. فعند المالكية حكاية ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة. وعند الشافعية قال الخطابي: فيها الخلاف هل هي من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية. وعند الأحناف، قال في شرح الهداية: وقد نسب إلى مذهب أبي حنيفة أنها ليست بفرض. وكلها أقوال مردودة في المذهب من أصحابهم وأئمة مذاهبهم، فلزم التنبيه عليها، وبيان الحق فيها من كتبهم، ومن كلام أصحابهم، وإليك بيان ذلك: أما ما نسب لمالك رحمه الله فقد حكاه ابن العربي عن ابن وهب ورده بقوله: وحكى ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة، ورد عليه قوله بتأويلين: أحدهما أن مالكا يطلق السنة على الفرض، والثاني: أنه أراد سنة على صفتها لا يشاركها فيها سائر الصلوات، حسب ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله المسلمون، وقد روى ابن وهب عن مالك: عزيمة الجمعة على كل من سمع النداء، ا ه. نقلا من نيل الأوطار. ومما يؤيد قول ابن العربي في الوجه الأول ما ذكره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، عن مالك وغيره في تحرزهم في الفتيا من قول حلال وحرام وواجب إلخ. في سياق ما وقع من خلاف والنهي عن التعصب، وأن مالكا أشد تحفظا في ذلك، ومما يؤيد الوجه الثاني أيضا رواية المدونة بما نصه ما قول مالك: إذا اجتمع الأضحى والجمعة أو الفطر فصلى رجل من أهل الحضر العيد مع الإمام ثم أراد ألا يشهد الجمعة هل يضع ذلك عنه شهود صلاة العيد ما وجب عليه من إتيان الجمعة؟ قال لا، كان مالك يقول: لا يضع ذلك عنه ما وجب عليه من إتيان الجمعة، وقال مالك: ولم يبلغني أن أحدا أذن لأهل العوالي إلا عثمان، ولم يكن مالك يرى الذي فعل عثمان، وكان يرى أن من وجبت عليه الجمعة لا يضعها عنه إذن الإمام، وإن شهد مع الإمام قبل ذلك من يومه ذلك عيدا. ا ه من المدونة، فهذه نصوص صريحة عن مالك أن الجمعة واجبة لا يضعها عمن وجبت عليه إذن الإمام بصرف النظر عن فقه مسألة العيد والجمعة، فإن فيها خلافا مشهورا، ولكن يهمنا
171 تنصيص مالك على خصوص الجمعة، وفي مختصر خليل عند المالكية، ما نصه: ولزمت المكلف الحر الذكر بلا عذر، قال شارحه الخرشي: لزمت ووجب إثم تاركها وعقوبته، فهذه أقوال المالكية وحقيقة مذهب مالك رحمه الله. أما الشافعية فقال صاحب المهذب، ما نصه: صلاة الجمعة واجبة لما روى جابر وساق حديثه. وقال النووي في المجموع شرح المهذب: إنما تتعين على كل مكلف حر ذكر مقيم بلا مرض ونحوه. إلى أن قال: أما حكم المسألة فالجمعة فرض عين على كل مكلف غير أصحاب الأعذار، والنقص المذكور بين هذا هو المذهب، وهو المنصوص للشافعي في كتبه، وقطع به الأصحاب في جميع الطرق إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب الشامل وغيرهما من بعض الأصحاب أنه غلط، فقال: هي فرض كفاية، قالوا: وسبب غلطه أن الشافعي قال: من وجبت عليه الجمعة وجبت عليه صلاة العيدين، وغلط من فهمه. لأن مراد الشافعي من خوطب بالجمعة وجوبا خوطب بالعيدين متأكدا، واتفق القاضي أبو الطيب وسائر من حكى هذا الوجه على غلط قائله، قال القاضي أبو إسحاق المروزي: لا يحل أن يحكى هذا عن الشافعي ولا يختلف أن مذهب الشافعي: أن الجمعة فرض عين، ونقل ابن المنذر في كتابيه كتاب الإجماع والإشراق: إجماع المسلمين على وجوب الجمعة. ا ه من المجموع للنووي، وهذا الذي حكاه النووي وابن المنذر والمروزي عن الشافعي هو المنصوص عنه في كتاب الأم للشافعي نفسه، قال مجلد (1) ص 881 تحت عنوان: إيجاب الجمعة بعد ما ذكر الآية * (إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة) * قال: ودلت السنة من فرض الجمعة على ما دل عليه كتاب الله تبارك وتعالى وساق حديث: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعني الجمعة فاختلفوا فيه، فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع) إلى أن قال: والتنزيل ثم السنة يدلان على إيجاب الجمعة، وقال: ومن كان مقيما ببلد تجب فيه الجمعة من بالغ حر لا عذر له وجبت عليه الجمعة. فهذه نصوص الشافعي عامة في الوجوب وخاصة في الأعيان، وهذا بيان كاف لمذهب الشافعي رحمه الله من نص كتابه الأم ا ه. الحديث الذي استدل به الشافعي رحمه الله (نحن الآخرون السابقون) هو عين الحديث الذي بوب عليه البخاري وجوب الجمعة، ووجه الاستدلال منه قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم) ففيه التنصيص على الفرضية.
172 أما الأحناف، فقال في شرح الهداية ما نصه: وقد نسب إلى مذهب أبي حنيفة أنها ليست بفرض. ثم قال: وهذا من جهلهم، وسبب غلطهم قول القدوري: ومن صلى الظهر يوم الجمعة في منزله ولا عذر له كره له ذلك وجازت صلاته، وإنما أراد حرم عليه وصحت الظهر بترك الفرض. إلى آخره. ثم قال: وقد صرح أصحابنا بأنها فرض آكد من الظهر، وذكر أول الباب، اعلم أن الجمعة فريضة محكمة بالكتاب والسنة والإجماع، فحكي الإجماع على وجوبها وجهل من نسب إلى مذهبهم القول بعدم فرضيتها، وهذه أيضا حقيقة مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وأنها عند أصحابه آكد من الظهر. أما الحنابلة. فقال في المغني ما نصه: الأصل في فرض الجمعة الكتاب والسنة والإجماع، وساق الآية * (إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة) *، وقال بعدها: فصل: وتجب الجمعة والسعي إليها سواء كان من يقيمها سنيا أو مبتدعا أو عدلا أو فاسقا، نص عليه أحمد، وهذا أعم وأشمل. حتى مع الإمام غير العادل وغير السني. فهذه نصوص المذاهب الأربعة في وجوب الجمعة وفرضها على الأعيان. فلم يبق لأحد بعد ذلك أدنى شبهة يلتمسها من أي مذهب، ولا تتبع شواذه للتهاون بفرض الجمعة لنيابة الظهر عنها. ثم اعلم أن في الآية قرينة على هذا الوجوب وأنه لا صارف للأمر عن وجوب السعي إليها، وذلك أن مع الأمر بالسعي إليها الأمر بترك البيع والنهي عنه، وإذا كان ترك البيع واجبا من أجلها فما وجب هو من أجله كان وجوبه هو أولى، قال في المغني: فأمر بالسعي، ويقتضي الأمر الوجوب ولا يجب السعي إلا إلى الواجب، ونهي عن البيع لئلا يشغل به عنها، فلو لم تكن واجبة لما نهي عن البيع من أجلها، وهو واضح كما ترى والأحاديث في الوعيد لتاركها بدون عذر مشهورة تؤكد هذا الوجوب. من ذلك حديث أبي الجعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله عليه قلبه) رواه أبو داود، وسكت عنه. وفي المنتقى، قال: رواه الخمسة أي ما عدا البخاري ومسلما، وفي المنتقى عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: (لينتهين
173 أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) رواه مسلم. وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: (لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم) رواه أحمد ومسلم. وقد فسر الطبع في حديث أبي الجعد بأنه طبع النفاق، كما في قوله تعالى في سورة المنافقون * (ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) *، وقيل: طبع ضلال، كما في الحديث. ثم يكون أي القلب كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا. نسأل الله العافية والسلامة لنا ولجميع المسلمين والتوفيق لفضل هذا اليوم الذي خص الله به هذه الأمة. مسألة من المخاطب بالسعي هنا، أي من الذي تجب عليه الجمعة تستهل الآية الكريمة بقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا) *، وهو نداء عام لكل مؤمن ذكر، وأنثى، وحر، وعبد صحيح ومريض، فشمل كل مكلف على الإطلاق كقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام) *. وقوله تعالى: (فاسعوا) الواو فيه للجمع، وإن كانت للمذكر إلا أنها عائدة إلى الموصول السابق وهو عام كما تقدم، فيكون طلب السعي متوجها إلى كل مكلف إلا ما أخرجه الدليل. وقد أخرج الدليل من هذا العموم أصنافا، منها: المتفق عليه، ومنها المختلف فيه. فمن المتفق عليه: ما أخرج من عموم خطاب التكليف كالصغير والنائم والمجنون لحديث (رفع القلم عن ثلاثة). وما خرج من خصوص الجمعة، كالمرأة إجماعا فلا جمعة على النساء. وكالمريض فلا جمعة عليه اتفاقا كذلك. وهو من يشق عليه أو يزيد مرضه، ومن يمرضه تابع له. وقد اختلف في المسافر
174 والمملوك. ومن في حكم المسافر وهم أهل البوادي. قال القرطبي: قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا) * خطاب للمكلفين بإجماع ويخرج منه المرضى، والزمنى، والعبيد، والنساء، بالدليل والعميان، والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة. روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريضا، أو مسافرا، أو امرأة، أو صبيا، أو مملوكا، فمن استغنى بلهو، أو تجارة، استغنى الله عنه، والله غني حميد) خرجه الدارقطني ا ه. ويشهد لما رواه القرطبي ما رواه ابن حجر في بلوغ المرام عن طارق بن شهاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوكا وامرأة، وصبيا، ومريضا). رواه أبو داود. وقال: طارق لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم: وذكر أبو داود أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، وأخرجه الحاكم من رواية طارق المذكور عن أبي موسى ا ه. قال الصنعاني: يريد المؤلف بهذا، أي برواية عن أبي موسى أنه أصبح متصلا. قال: وفي الباب عن تميم الداري وابن عمر ومولى لابن الزبير رواه البيهقي وناقش سنده. وقال: وفيه أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا (خمسة لا جمعة عليهم: المرأة والمسافر والعبد والصبي وأهل البادية) ا ه. وقد ذكر صاحب المنتقى حديث طارق كما ساقه صاحب البلوغ، وقال الشوكاني فيه: قال الحافظ وصححه غير واحد. وقال الخطابي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك، وذكر صحبة طارق، ونقل قول العراقي، فإذا ثبتت صحبته فالحديث صحيح، وغايته أن يكون مرسل صحابي وهو حجة عند الجمهور. إنما خالف فيه أبو إسحاق الأسفرائيني، بل ادعى بعض الأحناف الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة ا ه.
175 وقال الشوكاني: على أنه قد اندفع الإعلال: بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى إلى آخره، أي صار موصولا، كما قال ابن حجر سابقا. ووجه حجية مرسل الصحابي عندهم. هو أن الصحابي إذا أرسل الحديث ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم واسطة وتلك الواسطة هي صحابي آخر والصحابي ثقة، فتكون الواسطة الساقطة ثقة، فيصح الحديث، ولذا دعي بعض الأحناف أن مرسل الصحابي حجة لهذا السبب، وعلى هذا مناقشة أهل الحديث والتفسير لهذه المسألة، وبالتأمل في الآية الكريمة وعموم السياق يظهر من مجموعه شهادة القرآن، إلى صحة ذلك لدلالة الإيماء. أما عن النساء ففيه الإجماع كما تقدم، ويشهد له أن الدعوة إلى السعي إلى الجمعة، وترك البيع من أجلها، ثم الانتشار بعدها في الأرض والابتغاء من فضل الله بالعمل والكسب يشعر بأن هذا كله للرجال، لأن المرأة محلها في بيتها، كما في قوله تعالى: * (وقرن فى بيوتكن) *. وتقدم لفضيلة والدنا الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، مبحث مفصل استدل بدليل قرآني على سقوط الجمعة عن النساء، وذلك عند قوله تعالى: * (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والا صال رجال) *. وبين رحمة الله تعالى علينا وعليه، مفهوم رجال، هل هو مفهوم صفة أو مفهوم لقب، وساق علاقة النساء بالمساجد في الجمعة وغيرها، أما المملوك فمما يستأنس له أيضا من السياق في قوله تعالى: * (وذروا البيع) * إذ البيع والشراء ابتداء ليس من حق العبيد إلا بإذن السيد. وقوله: * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الا رض وابتغوا من فضل الله) *، فإن المملوك لا ينتشر في الأرض إلا بإذن السيد أيضا، وكذلك المسافر فليس مشتغلا ببيع ولا محل اشتغال به، وهو منتشر في الأرض بسفره وسفره شاغل له، وبسفره يقصر الصلاة ويجمعها. وقد حكى الشوكاني الاتفاق بين الفقهاء على سقوط الجمعة عن المملوك إلا داود،
176 وكذلك المسافر إذا كان سائرا، أما إذا كان نازلا، فخالف فيه داود أيضا. ومما استدل به الجمهور على سقوط الجمعة عن المسافر وقت نزوله ما وقع من فعله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إذ كانت الوقفة يوم الجمعة، وكان صلى الله عليه وسلم نازلا ولم يصل الجمعة، بدليل أنه لم يجهر بالقراءة، ونازع في ذلك ابن حزم وقال: غاية ما فيه ترك الجهر في الجهرية، وهذا لا يبطلها. ولكن يمكن أن يقال له: لقد قال صلى الله عليه وسلم. (خذوا عني مناسككم). والصلاة أثناء الحج مما يؤخذ عنه صلى الله عليه وسلم كالجمع تقديما في عرفة وتأخيرا في مزدلفة، ولا يتأتى أن يترك الجهر في الجهرية وهو أقل ما فيه أنه خلاف الأولى ويأمرهم أن يأخذوه عنه. ومن هذا كله صح ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا جمعة على مملوك ولا مسافر. كما لا جمعة على المرأة والمريض، وبالله تعالى التوفيق. قال ابن كثير: وإنما يؤمر بحضور الجمعة الرجال الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان، ويعذر المسافر والمريض ويتم المريض وما أشبه ذلك من الأعذار. أما سقوطها عن أهل البوادي ومن في حكمهم، فهو قول لجمهور مع اختلافهم في تحقيق المناط في ذلك بين المصر والقرية، والبادية، وبالرجوع إلى أقوال الأئمة نجد الخلاف الآتي أقوال الأئمة في مكان الجمعة. أولا: عند أبي حنيفة رحمه الله قال في الهداية ما نصه: لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى المصر، ولا تجوز في القرية لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع). وفسر الشارح ابن الهمام المصر بقوله: والمصر الجامع كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود، وناقش الأثر الذي أورده المصنف قائلا: رواه ابن أبي شيبة موقوفا على علي رضي الله عنه (لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة) صححه ابن حزم. ورواه عبد الرزاق من حديث عبد الرحمان السلمي عن علي رضي الله عنه، قال: لا تشريق ولا جمعة إلا في مصر جامع ا ه.
177 وذكر هذا الأثر القرطبي موقوفا على علي رضي الله عنه. وعند المالكية قال في متن خليل في فصل شروط الجمعة ما نصه: باستيطان بلد أو أخصاص لا خيم. وفسر الشارح: الاستيطان بالعزم على الإقامة على نية التأبيد، ولا تكفي نية الإقامة ولو طالت، وجاء في المتن بعدها قوله: ولزمت المكلف الحر الذكر بلا عذر المتوطن. وقال الشارح على كلمة متوطنا: هو أيضا من شروط الوجوب. يعني أنه يشترط في وجوبها الاستيطان ببلد يتوطن فيه ويكون محلا للإقامة يمكن الشراء فيه، وإن بعدت داره من المنارة سمع النداء أو لم يسمع، ولو على خمسة أميال أو ستة إجماعا. فلا تجب على مسافر ولا مقيم ولو نوى إقامة زمنا طويلا إلا تبعا ا ه. أي تبعا لغيره. وعند الشافعي قال في المهذب ما نصه: ولا تصح الجمعة إلا في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة من بلد أو قرية لأنه لم تقم جمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في أيام الخلفاء إلا في بلد أو قرية، ولم ينقل أنها أقيمت في بدو، فإن خرج أهل البلد إلى خارج البلد فصلوا الجمعة لم يجز، لأنه ليس بوطن فلم تصح فيه الجمعة كالبدو، وإن انهدم البلد فأقام أهله على عمارته، فحضرت الجمعة لزمهم إقامتها لأنهم في موضع الاستيطان. قال النووي في الشرح ما نصه: قال أصحابنا يشترط لصحة الجمعة أن تقام في أبنية مجتمعة يستوطنها شتاء وصيفا من تنعقد بهم الجمعة. قال الشافعي والأصحاب: سواء كان البناء من أحجار أو أخشاب أو طين أو قصب أو سعف أو غيرها، وسواء فيه البلاد الكبار ذوات الأسواق والقرى الصغار، والأسراب المتخذة وطنا، فإن كانت الأبنية متفرقة لم تصح الجمعة بلا خلاف، لأنها لا تعد قرية ويرجع في الاجتماع والتفرق إلى العرف. وأما أهل الخيام فإن كانوا ينتقلون من موضعهم شتاء وصيفا وهي مجتمعة بعضها إلى بعض فقولان. ثم قال: أصحهما باتفاق الأصحاب لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم، وبه قطع الأكثرون، وبه قال مالك وأبو حنيفة، ثم ذكر الدليل بقوله لحديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ولم يصل هكذا.
178 وعند الحنابلة قال في المغني ما نصه: فصل فأما الاستيطان فهو شرط في قول أكثر أهل العلم، وهو الاستيطان في قرية على الأوصاف المذكورة لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء، ولا تجب على مسافر ولا على مقيم في قرية يظعن أهلها عنها في الشتاء دون الصيف، أو في بعض السنة. فإن خربت القرية أو بعضها وأهلها مقيمون فيها عازمون على إصلاحها فحكمها باق في إقامة الجمعة بها وإن عزموا على النقلة عنها لم تجب عليهم لعدم الاستيطان. هذه خلاصة أقوال أهل المذاهب الأربعة متفقة على اشتراط الوطن والاستيطان. وإن اختلفت في صفة الوطن من مصر أو قرية أو نحوها مبينة بحجر أو طين أو أخشاب أو خيام ثابتة صيفا وشتاء على ما تقدم. وقد انفرد أبو حنيفة ومعه صاحبه أبو يوسف باشتراط وجود الأمير والقاضي الذي يقيم الحدود احترازا من القاضي الذي لا يقيم الحدود، كقاضي السوق، أو إذا كان من يلي القضاء امرأة على مذهبه في ذلك وهي لا تقضي في الحدود لعدم جواز شهادتها فيها، واكتفى الأئمة الثلاثة بمطلق الاستيطان، ومعلوم أن الاستيطان يستلزم الإمارة شرعا وعقلا. أما شرعا فلقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من ثلاثة لا يؤمرون عليهم أميرا إلا استحوذ عليهم الشيطان). وعقلا، فإن مستوطنين لا تسلم أحوالهم من خلافات ومشاحة فيما بينهم فلا بد من شخص يرجعون إليه، وهو في معنى الأمير المطلوب، كما أن الاستيطان يستلزم السوق لحوائجهم كما هو معلوم عرفا. وقد استدل الجمهور بحديث ابن عباس رضي الله عنه (أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرية من قرى البحرين يقال لها جواثي) وبحديث أبي أمامة أنه جمع بهم بالمدينة قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم في هزم من حرة بني بياضة يقال له: نقيع الخضمات. مما لا يستلزم المصر الذي اشترطه أبو حنيفة رحمه الله،
179 وأجاب الأحناف عن ذلك بعدم المعارضة بين حديث علي وحديث ابن عباس، وفعل أبي أمامة، وقالوا: إن قول علي لا يكون إلا عن سماع، ولأن قوله تعالى: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * ليس على إطلاقه بإنفاق الأمة، إذ لا يجوز إقامتها في البراري إجماعا، ولا في كل قرية عند ابن عباس، بل يشترط ألا يظعن أهلها عنها صيفا ولا شتاء، فكان خصوص المكان مرادا فيها إجماعا، فقدر القرية من أخذ بحديث ابن عباس بأنها القرية الخاصة. وقدر الأحناف المصر وقالوا: هو أولى لنص حديث علي (إلا في مصر جامع)، وقالوا إن إقامتها في قرية جواثي غاية ما فيه تسمية جواثا قرية، وهذه التسمية هي عرف الصدر الأول، وهو لغة القرآن في قوله تعالى: * (وقالوا لولا نزل هاذا القرءان على رجل من القريتين عظيم) * أي مكة والطائف، ومكة بلا شك مصر، وفي الصحاح أن جواثا حصن بالبحرين، فهي مصر إذ الحصن لا يخلو عن حاكم عليهم وعالم، أما صلاة أبي أمامة فلم تكن عن علم ولا تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كانت شرعت الجمعة آنذاك، فلا حجة فيه. والذي يقتضيه النظر بين هذه الأقوال والله تعالى أعلم: أن رأي الجمهور أرجح. ويتمشى مع قواعد مذهب أبي حنيفة في الجملة، لأن الأحناف يتفقون مع الجمهور على تسمية المصر قرية كتسمية الطائف ومكة قرى. وجاء في القرآن: مكة أم القرى، فالقرية أعم من المصر، ومذهب أبي حنيفة تقديم العام على الخاص في كثير من الأمور، كما في حديث (فيما سقت السماء العشر)، فقدمه على حديث (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)، ومن هذا كله يتضح أن الاستيطان مجمع عليه، فلا تصح في غير وطن، ولا تلزم غير مستوطن. ومن قال بغير ذلك فقد خالف الأئمة، وشذ عن الأمة، وليس له سلف فيما ذهب إليه، والذي قاله الجمهور يشهد له سياق القرآن الكريم بالإيماء والإشارة، لأننا لو أخذنا بعين الاعتبار الأمر بالسعي إلى ذكر الله وترك البيع حتى لا يشغل عنها، ثم الانتشار في الأرض بعد قضائها، لتحصل عندنا من مجموع ذلك كله أن هناك جماعة نوديت وكلفت باستجابة النداء والسعي، ثم الكف عن البيع الذي يشغل عن السعي، ومثل هذا البيع الذي يكلفون بالكف عنه والذي يخشى منه شغل الناس عن السعي إلى الجمعة لا يكون عقدا بين اثنين فقط، ولا يكون عملا فرديا بل يشعر بأنه عمل بين أفراد عديدين ومبايعات متعددة مما يشكل حالة السوق، والسوق لا يكون في البوادي بل في القرى وللمستوطنين.
180 والعادة أن أهل البوادي ينزلون إلى القرى والأمصار للتزود من أسواقها، وإذا وجد السوق، ووجدت الجماعة، اقتضى ذلك وجود الحاكم لاحتمال المشاحة والمنازعات. كما تقدم استلزام ذلك شرعا وعقلا، كما أن قوله تعالى: * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الا رض وابتغوا من فضل الله) * يدل على الكثرة، لأن مادة الانتشار لا تطلق على الواحد ولا الاثنين، كما في حديث (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، ومنه انتشار الخبر لا يصدق على ما يكون بين اثنين، أو أكثر، إذا كانوا يتكتمون. فإذا استفاض وكثر من يعرفه، قيل له: انتشر الخبر. قال صاحب معجم مقاييس اللغة في مادة نشر: النون والشين والراء أصل صحيح يدل على فتح شيء وتشعبه، فقوله: وتشعبه يدل على الكثرة. وقال يقال: اكتسى البازي ريشا نشرا، أي منتشرا واسعا طويلا، ومعلوم أن ريش البازي كثير، وهذا الوصف لا يتأتى من نفر قلائل في بادية، بل لا يتأتى تحققه إلا من أهل القرى المستوطنين. وفعلنا في هذا قد أوضحنا هذه المسألة خاصة لهؤلاء الذين يقولون: إن الجمعة كالجماعة تصح من أي عدد في أي مكان على أية حالة كانوا، وهو قول في الواقع لم يكن لهم فيه سلف، وخالفوا به السلف والخلف، مع ما في قولهم من هدم حكمة التشريع في إقامة الجمعة، حيث إننا وجدنا حكمة الجماعة في العدد القليل، ولأهل كل مسجد في كل ضاحية. ثم نأت الجمعة لأهل القرية والمصر ومن في ضواحيها على بعد خمسة أو ستة أميال، كما قال المالكية، وكما كان السلف يأتون إلى المدينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لما فيه من تجمع للمسلمين على نطاق أوسع من نطاق الجماعة. ثم يأتي العيد وهو على نطاق أوسع فيشمل حتى النساء يحضرن ذلك اليوم، ثم يأتي الحج يأتون إليه من كل فج عميق، ولعل مما يشهد لهذا ويرد على من خالفه، ما جاء في اجتماع العيد والجمعة. إذ خيرهم النبي صلى الله عليه وسلم بين النزول إلى الجمعة وبين الاكتفاء بالعيد أي أهل الضواحي. ثم أخبرهم بأنه سيصلي الجمعة، فلو أن الجمعة تصح منهم في منازلهم وضواحيهم لأرشدهم إلى ذلك وأعفاهم من النزول سواء في يوم العيد الذي يكون في يوم الجمعة أو
181 في الجمعة من غير يوم العيد، بل كانوا ينزلون من أطراف المدينة كما هو معلوم، والعلم عند الله تعالى. العدد في الجمعة والواقع أن مسألة العدد في الجمعة قد كثر الخلاف فيها. فمن قائل: تصح بواحد مع الإمام. وعزاه ابن رشد للطبري، ومن قائل باثنين مع الإمام وعزاه القرطبي للحسن، ومن قائل بثلاثة مع الإمام وعزى لأبي حنيفة، ومن قائل باثني عشر رجلا، وعزاه القرطبي لربيعة، ومن قائل بثلاثين، ومن قائل بأربعين، وهو قول الشافعي وأحمد. ومن قائل بكل عدد يتأتى في قرية مستوطنة، وألا يكونوا ثلاثة ونحوها، وهو قول مالك. قال في متن خليل: وبجماعة تتقرى بهم قرية بلا حد. وقال في الشرح: أي جماعة يمكنهم الدفع عن أنفسهم في الأمور الكثيرة لا النادرة، وذلك يختلف بحسب الجهات إلى أن قال: وأفهم كلام المؤلف أن الاثني عشر لا تتقرى بهم قرية. فقوله: بلا حد أي بعد الاثني عشر ا ه. والواقع أن كل هذه الأقوال ليس عليها مستند يعول عليه في العدد. بحيث لو نقص واحد بطلت، ولكن الذي يشهد له الشرع من السماحة واليسر، هو ما قاله مالك رحمه الله، وما قدمنا من أن السياق يدل على وجود جماعة لها سوق، ويتأتى منها الانتشار في الأرض بعد انقضاء الصلاة. ولم نطل الكلام في هذه المسألة لعدم وجود نص صريح فيها، وكل ما يستدل به فهو حكاية حال تحتمل الزيادة والنقص ولا يعمل بمفاهيمها. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الا رض) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنبيه على ما فيها من مبحث أصولي، وهو الأمر بعد الخطر وأصح ما فيه أنه يرد الأمر المحظور إلى ما كان عليه قبل ورود الخطر عليه. مسألة وقت السعي إلى الجمعة ظاهر قوله تعالى: * (إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) * أن السعي يكون بعد النداء، وعند ترك البيع، ومفهومه
182 أن قبل النداء لا يلزم السعي ولا ترك البيع، وهذا ظاهر من النص، ولكن جاءت نصوص للحث على البكور إلى الجمعة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من بكر وابتكر ومشى ولم يركب وصلى ما تيسر له). الحديث. وحديث (من راح في الساعة الأولى) إلى آخر الحديث، فكان البكور مندوبا إليه، وهذا أمر مسلم به، ولكن وقع الخلاف بين مالك والجمهور في مبدأ البكور، ومعنى الساعة الأولى أي ساعة لغوية أو زمنية. وهل هي الأولى من النهار أو الأولى بعد الأذان، فقال مالك: إن الساعة لغوية، وهي الأولى بعد الأذان، إذ لا يجب السعي إلا بعده وقبله لا تكليف به. وحمل الجمهور الساعة على الساعة الزمنية، وأن الأولى هي الأولى من النهار، والراجح ما ذهب إليه الجمهور لعدة أمور: أولا: في لفظ حديث البكور، لأن لفظ البكور لا يكون إلا لأول النهار، ولا يقال لما بعد الزوال بكور، بل يسمى عشيا، كما في قوله تعالى: * (بكرة وعشيا) * وتكرار بكر، وابتكر، يدل على أنه في بكرة النهار وأوائله، وكذلك لفظة من راح، لأن الرواح لأول النهار. ثانيا في الحديث: (وصلى ما تيسر). له دليل قاطع على أن هناك زمنا يتسع للصلاة بقدر ما تيسر له. أما على مذهب مالك فلا متسع لصلاة بعد النداء، ولا سيما في زمنه صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا أذان واحد، وبعد النداء فلا متسع للصلاة. ثالثا: ما جاء عن بعض السلف، كما تقدم أنه كان يصلي أربعا وثماني واثنتي عشرة ركعة، وهذا كله لا يكون مع الساعات اللغوية، وما جاء عند النيسابوري من قوله في تفسيره: وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج. وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة، والذي يقتضيه النظر في هذه المسألة: هو أن زمن السعي له جهتان. جهة وجوب وإلزام، وهذا لا شك أنه بعد النداء إلا من كان محله بعيدا. بحيث لو انتظر حتى ينادى لها لا يدركها فيتعين عليه السعي إليها قبل النداء اتفاقا، لأنه لا يتمكن من
183 أداء ما وجب عليه من صلاة الجمعة إلا بذلك. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا مخصوص من ظاهر النص المتقدم. الجهة الثانية: جهة ندب واستحباب، وهذا لا يتقيد بزمن وإنما هو بحسب ظروف الشخص. فمن تمكن من البكور ولم يتعطل ببكوره ما هو ألزم منه، فيندب له البكور، وبحسب ما يكون بكوره في الساعات الخمس المذكورة في الحديث يكون ماله من الأجر، ويشهد لهذا المعنى أمران: الأول: حديث الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الأول فالأول. فإذا حضر الإمام طوت الصحف وجلسوا يستمعون الذكر، فكتابة الأول فالأول قبل خروج الإمام، تدل على فضل الأولية قبل النداء كما تقدم. الأمر الثاني: أننا وجدنا لكل واجب مندوبا والسعي إلى الجمعة عند النداء واجب، فيكون له مندوب وهو السعي قبل النداء، فكما للصلاة والصيام والزكاة واجب ومندوب. فكذلك للسعي واجب ومندوب، فواجبه بعد النداء، ومندوبه قبله، والله تعالى أعلم. الغسل للجمعة في قوله تعالى: * (إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) * ترتيب السعي إلى ذكر الله على النداء، ومعلوم أن هذا مقيد بسبق الطهر إجماعا. وقد جاء في قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلواة فاغسلوا وجوهكم) * فكانت الطهارة بالوضوء شرطا في صحة الصلاة. وهنا في خصوص الجمعة لم يذكر شيء في خصوص الطهر لها بوضوء أو غسل. وقد جاءت أحاديث في غسل الجمعة منها حديث أبي سعيد من قوله صلى الله عليه وسلم: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)، وفي لفظ (طهر يوم الجمعة واجب على كل محتلم كطهر الجنابة) وهذا نص صريح في وجوب الغسل على كل من بلغ سن الحلم. وجاء حديث آخر: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل). وهذا نص صريح في أفضلية الغسل على الوضوء، وبالتالي صحة الجمعة بالوضوء وهذا مذهب الجمهور.
184 وقد جاء عند مالك في الموطأ: أن عثمان دخل يوم الجمعة وعمر يخطب فعاتبه على تأخره، فأخبره أنه ما إن سمع النداء حتى توضأ، وأتى إلى المسجد، فقال له: والوضوء أيضا، وذلك بمحضر من الصحابة، فلم يأمره بالعودة إلى الغسل، ولو كان واجبا لما تركه عثمان من نفسه، ولا أقره عمر وتركه على وضوئه. فقال الجمهور: إن الحديث الأول قد نسخ الوجوب فيه بحديث المفاضلة المذكور، واستدلوا على ذلك بأمرين: الأول قصة عمر مع عثمان هذه. والثاني: قول عائشة رضي الله عنها كانوا في أول الأمر هم فعلة أنفسهم فكانوا يأتون إلى المسجد ويشتد عرقهم فتظهر لهم روائح فعزم عليهم صلى الله عليه وسلم بالغسل، ولما فتح الله عليهم وجاءتهم العلوج وكفوا مؤنة العمل، رخص لهم في ذلك، وهذا هو مذهب الجمهور، كما قدمنا. وعند الظاهرية وجوب الغسل، ولكن لليوم لا للجمعة، لنص الحديث: غسل يوم الجمعة ولم يقل الغسل لصلاة الجمعة، واستدلوا لما ذهبوا إليه من النصوص في تعهد الشعور والأظافر والغسل بصيغة عامة كل يوم على الإطلاق، وقيدوه في الغسل بخصوص الجمعة. وعليه فإن من لم يغتسل عندهم قبل الصلاة فعليه أن يغتسل بعدها، وأنه ليس شرطا عندهم لصحتها، والذي يظهر هو صحة مذهب الجمهور لأمرين: الأول: أن مناسبة الغسل في هذا اليوم أنسب ما تكون لهذا التجمع، كما أشارت عائشة رضي الله عنها، فإذا أهدرنا هذه المناسبة كان يوم الجمعة وغيره سواء. الثاني: أن سياق الآية يشير إشارة خفية إلى عدم وجوب الغسل، لأنه لم يذكر نوع طهارة عند السعي بعد الأذان، ومعلوم أنه لا بد من طهر لها، فيكون إحالة على الآية الثانية العامة في كل الصلوات، * (إذا قمتم إلى الصلواة فاغسلوا وجوهكم) *. فيكتفي بالوضوء وتحصل الفضلية بالغسل. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قآئما) *. في عود الضمير على التجارة وحدها مغايرة لذكر اللهو معها. وقال الزمخشري: حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، وذكر قراءة أخرى، انفضوا
185 إليه يعود الضمير إلى اللهو، وهذا توجيه قد يسوغ لغة كما في قول نابغة ذبيان: وقال الزمخشري: حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، وذكر قراءة أخرى، انفضوا إليه يعود الضمير إلى اللهو، وهذا توجيه قد يسوغ لغة كما في قول نابغة ذبيان: * وقد أراني ونعما لاهيين بها * والدهر والعيش لم يهمم بإمرار * فذكر الدهر والعيش، وأعاد عليهما ضميرا منفردا اكتفاء بأحدهما عن الآخر للعلم به، وهو كما قال ابن مالك: وحذف ما يعلم جائز. وقد ذكر الشيخ رحمه الله لهذا نظائر في غير عود الضمير، كقوله تعالى: * (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) *، فالتي تقي الحر، تقي البرد، فاكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر، ولكن المقام هنا خلاف ذلك. وقد قال الشيخ عن هذه الآية في دفع إيهام الاضطراب: لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الأحد الدائر بين التجارة واللهو، بدلالة لفظة أو على ذلك، ولكن الضمير رجع إلى التجارة وحدها دون اللهو، فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة، والجواب: أن التجارة أهم من اللهو وأقوى سببا في الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم انفضوا من أجل العير واللهو كان من أجل قدومها، مع أن اللغة يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله. أما في العطف بأو فواضح، كقوله تعالى: * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) *. وأما الواو فهو فيها كثير كقوله * (واستعينوا بالصبر والصلواة وإنها لكبيرة) * وقوله * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) *، وقوله: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) * ا ه. أي أن هذه الأمثلة كلها يذكر فيها أمران، ويعود الضمير على واحد منهما. وبناء على جواب الشيخ رحمة الله تعالى عليه، يمكن القول بأن عود الضمير على أحد المذكورين، إما لتساويهما في الماصدق، وإما لمعنى زائد فيما عاد عليه الضمير. فمن المتساويين قوله تعالى: * (ومن يكسب خطيئة أو إثما) * لتساويهما في النهي والعصيان، ومما له معنى زائد قوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) * وإنها أي الصلاة، لأنها أخص من عموم الصبر، ووجود الأخص يقتضي وجود الأعم دون العكس، ولأن الصلاة وسيلة للصبر، كما في الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرهم فزع إلى الصلاة).
186 وكذلك قوله تعالى * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) * أي الفضة، لأن كنز الفضة أوفر، وكانزوها أكثر فصورة الكنز حاصلة فيها بصفة أوسع، ولدى كثير من الناس، فكان توجيه الخطاب إليهم أولى، ومن ناحية أخرى لما كانت الفضة من الناحية النقدية أقل قيمة، والذهب أعظم، كان في عود الضمير عليها تنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه أشمل وأعم، وأشد تخويفا لمن يكنزون الذهب. أما الآية هنا، فإن التوجيه الذي وجهه الشيخ رحمة الله تعالى عليه، لعود الضمير على التجارة، فإنه في السياق ما يدل عليه، وذلك في قوله تعالى بعدها: * (قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة) *، فذكر السببين المتقدمين لانفضاضهم عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عقبه بقوله تعالى، بالتذييل المشعر بأن التجارة هي الأصل بقوله: * (والله خير الرازقين) *، والرزق ثمرة التجارة. فكان هذا بيانا قرآنيا لعود الضمير هنا على التجارة دون اللهو. والعلم عند الله تعالى. تنبيه قال أبو حيان عن ابن عطية: تأمل إن قدمت التجارة على اللهو في الرؤية، لأنها أهم وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين ا ه. يريد بقوله: في الرؤية، وإذا رأوا. وبقوله: مع التفضيل * (قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة) * أي لأن اللهو أبين في الظهور، والذي يظهر والعلم عند الله تعالى: أنه عند التفضيل ذكر اللهو للواقع فقط، لأن اللهو لا خير فيه مطلقا فليس محلا للمفاضلة، وأخر ذكر التجارة لتكون أقرب لذكر الرزق لارتباطهما معا، فلو قدمت التجارة هنا أيضا لكان ذكر اللهو فاصلا بينها وبين قوله تعالى: * (والله خير الرازقين) *، وهو لا يتناسق مع حقيقة المفاضلة.
187 ((سورة المنافقون)) * (إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم سآء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون * وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون * سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفاسقين * هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزآئن السماوات والا رض ولاكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الا عز منها الا ذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولاكن المنافقين لا يعلمون * ياأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولائك هم الخاسرون * وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ والله خبير بما تعملون) * قوله تعالى: * (إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الدراسة: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمنافقون جمع منافق وهو من يظهر الإيمان ويسر الكفر. قالوا: نشهد إنك لرسول الله، أي قالوا ذلك نفاقا وخوفا، ولم يقولوه خالصا من قلوبهم. ولذا قال الله: * (والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) *، وإنما شهد عليهم بالكذب مع أن ظاهر قولهم حق لأن بواطنهم تكذب ظواهرهم لأن الأعمال بالنيات، وإنما كسر همزة إن في المواضع الثلاثة، لأنها بعد فعل معلق باللام، ولولا ذلك لفتحت، لأنها في محل المصدر. ولأبي حيان قول حسن في ذلك إذ قال: إن قولهم: نشهد يجري مجرى اليمين. ولذلك تلقى بما يتلقى به القسم، وكذا فعل اليقين. والعلم يجري مجرى القسم بقوله: * (إنك لرسول الله) * أعني بقصد التوكيد بأن واللام، ثم قال: وأصل الشهادة أن يواطئ اللسان القلب، هذا بالنطق وذلك بالاعتقاد فأكذبهم الله: وفضحهم بقوله: * (والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) *. أي لم تواطىء قلوبهم ألسنتهم على تصديقك، واعتقادهم أنك غير رسول، فهم كاذبون عند الله وعند من عرف حالهم، أو كاذبون عند أنفسهم، إذ أنهم يعتقدون أن قولهم: * (إنك لرسول الله) * كذب. وجاء قوله تعالى: * (والله يعلم إنك لرسوله) * بين شهادتهم وتكذيبهم إيذانا بأن الأمر كما قالوا على حد قوله تعالى: * (وكفى بالله شهيدا محمد رسول الله) *.
188 تنبيه في هذه الآية مبحث بلاغي في تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء فقالوا: الخبر ما احتمل الصدق والكذب لذاته، فذهب الجمهور إلى أنه ينحصر فيهما بلا واسطة، والمخبر إما صادق وإما كاذب. وهذا بناء على مطابقة الخبر للواقع أو عدم مطابقته ولا علاقة له بالاعتقاد. قال السعد في التلخيص، وقال بعض الناس: صدق الخبر وكذبه مطابقته لاعتقاد المخبر لا للواقع. واستدلوا لذلك بأن عدم مطابقته للواقع يكون من قبيل الخطأ لا من قبيل الكذب. ولحديث عائشة رضي الله عنها عن عمر: (ما كذب ولكنه وهم)، وهذا مذهب الجاحظ وهو صدق الخبر مطابقته للواقع مع اعتقاد المخبر مستدلا بالآية * (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) * مع قولهم: * (إنك لرسول الله) *. فكذبهم الله مع أن خبرهم مطابق للواقع، لكنهم لم يعتقدوا ما قالوا فكذبهم الله لذلك. ومقتضى مذهب الجاحظ القول بوجود واسطة بين الصدق والكذب، وهي عدم اعتقاد المخبر لما أخبر به، ولو طابق الواقع، ولكن ما قدمناه من كلام أبي حيان يرد هذا المذهب ويبطل استدلال الجاحظ ومن وافقه بالآية، لأن تكذيب الله إياهم منصب على قولهم قالوا نشهد، والشهادة أخص من الخبر، ولأنهم ضمنوا شهادتهم التأكيد المشعر بالقسم والموحي بمطابقة القول لما في القلب ولا سيما في هذا المقام، وهو مقام الإيمان والتصديق، فأكذبهم الله في كون إخبارهم بصورة الشهادة والحال أنهم لم يأتوا بالشهادة على وجهها وهو عدم مطابقتها لاعتقادهم. والقرآن ينفي وجود واسطة بين الصدق والكذب كما في قوله تعالى: * (فماذا بعد الحق إلا الضلال) *. أما فقه اليمين وما تنعقد به وأحكامها، فقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذا المبحث مستوفى في سورة المائدة عند قوله تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم) *.
189 وذكر في معنى لغو اليمين عند العلماء قولين: الثاني منهما: هو أن يحلف على ما يعتقده فيظهر خلافه وعزاه لمالك، وأنه مروي عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس في أحد قوليه، وساق أسماء كثيرين، ولا يبعد أن يقال: ينبغي أن نفرق بين الحد اللغوي عند البلاغيين، والحد الشرعي حيث يقبل شرعا ما كان مبناه على غلبة الظن عند المتكلم، لأنه حد علمه ولعدم المؤاخذة في الشرع في مثل ذلك والله أعلم. قوله تعالى: * (اتخذوا أيمانهم جنة) *. قرىء أيمانهم بفتح الهمزة جمع يمين، وقرئ بكسرها من الإيمان ضد الكفر، أي ما أظهروه من أمور الإسلام. ومما تقدم أن من أنواع البيان إذا كان في الآية قراءتان، وفيها ما يرجح إحداهما، وتقدم كلام أبي حيان تخريجه على اليمين. وللشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة التدريس قوله: الإيمان جمع يمين وهي الحلف والجنة الترس، وهو المجن الذي تتقي به السيوف والنبال والسهام في الحرب، والمعنى أن المنافقين إذا ظهر شيء من نفاقهم أو سمعت عنهم كلمة كفر، حلفوا بالله أنهم ما قالوا ذلك وما فعلوه، فيجعلون حلفهم ترسا يقيهم من مؤاخذة النبي صلى الله عليه وسلم بذنبهم. كما قال تعالى: * (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) *. وقال: * (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم) *. وقال: * (يحلفون بالله لكم ليرضوكم) *. ونحو ذلك، فهذه نصوص تدل على أنهم يحلفون أيمانا على إيمانهم. ومن جهة المعنى: أن أيمانهم وحلفهم منصب على دعوى إيمانهم، فلا انفكاك بين اليمين والإيمان، لأنهم يحلفون أنهم مؤمنون. واليمين أخص من الإيمان، وحمله على الأخص يقتضي وجود الأعم، فالحلف على الأيمان يستلزم دعوى الإيمان وزيادة، ومجرد دعوى الإيمان لا يستلزم التأكيد بالإقسام والحلف. قوله تعالى: * (فصدوا عن سبيل الله) *.
190 قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: أي بسبب اتخاذهم أيمانهم جنة وخفاء كفرهم الباطن، تمكنوا من صد بعض الناس عن سبيل الله، لأن المسلمين يظنونهم إخوانا وهم أعداء. وشر الأعداء من تظن أنه صديق ولذا حذر الله نبيه منهم بقوله: * (هم العدو فاحذرهم) * وصدهم الناس عن سبيل الله كتعويقهم عن الجهاد. كما بينه بقوله: * (قد يعلم الله المعوقين منكم والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا) *. وبقوله: * (وقالوا لا تنفروا فى الحر) *. وقوله: * (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا) *. قوله تعالى: * (إنهم سآء ما كانوا يعملون) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: ساء فعل جامد لإنشاء الذم بمعنى بئس ا ه. وقد بين تعالى تلك الإساءة من المنافقين في عدة جهات منها قوله تعالى: * (يخادعون الله والذين ءامنوا) *. وقوله: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) *. وكان خداعهم بالقول وبالفعل، وخداعهم بالقول في قوله عنهم: * (يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم) *. وخداعهم في الفعل في قوله عنهم: * (وإذا قاموا إلى الصلواة قاموا كسالى يرآءون الناس) *. وفي الجهاد قولهم: * (إن بيوتنا عورة وما هى بعورة إن يريدون إلا فرارا) *. قوله تعالى: * (ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم) *. في هذه الآية نص على أن الطبع على قلوبهم نتيجة لكفرهم بعد إيمانهم، ومثله قوله تعالى: * (بل طبع الله عليها بكفرهم) *. وكقوله: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *.
191 وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، عن بعض العلماء: ذلك بأنهم آمنوا، أي بألسنتهم نفاقا ثم كفروا بقلوبهم في الحقيقة ا ه. وتقدم في أول سورة البقرة ختم الله على قلوبهم فهم لا يعقلون بعد هذا الطبع، ومع هذا الختم كقوله تعالى: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) *. قوله تعالى: * (هم العدو فاحذرهم) *. فيه ما يشعر بحصر العداوة في المنافقين مع وجودها في المشركين واليهود، ولكن إظهار المشركين شركهم، وإعلان اليهود كفرهم مدعاة للحذر طبعا. أما هؤلاء فادعاؤهم الإيمان وحلفهم عليه، قد يوحي بالركون إليهم ولو رغبة في تأليفهم. فكانوا أولى بالتحذير منهم لشدة عداوتهم ولقوة مداخلتهم مع المسلمين، مما يمكنهم من الاطلاع على جميع شؤونهم. وقد جاء في آخر السورة كله كاشفا لحقيقتهم ومبينا شدة عداوتهم سواء في قولهم * (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) * أو في تآمرهم على المسلمين في قولهم: * (لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الا عز منها الا ذل) *. وقوله: * (إن الله لا يهدى القوم الفاسقين) *. هم هنا المنافقون، كقوله تعالى: * (إن المنافقين هم الفاسقون) *. قوله تعالى: * (ولله خزآئن السماوات والا رض) *. تقدم بيانه للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند قوله تعالى: * (له مقاليد السماوات والا رض) *. قوله تعالى: * (يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الا عز منها الا ذل ولله العزة ولرسوله) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ما فيها من القول بالموجب؟ قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) *.
192 تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام عليه عند قوله تعالى: * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا) *، وقد بين سبب لهو المال والولد عن ذكر الله، بأن العبد يفتن في ذلك في قوله تعالى الآتي في سورة التغابن * (إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) *. أي لمن سخر المال في طاعة الله، وبالتأمل في آخر هذه السورة، وآخر التي قبلها نجد اتحادا في الموضوع والتوجيه. فهناك قوله تعالى: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) *. وجاء عقبه مباشرة سورة: إذا جاءك المنافقون، ولعله مما يشعر أن الذين بادروا بالخروج للعير هم المنافقون، وتبعهم الآخرون لحاجتهم لما تحمل العير، وهنا بعد ما ركن المنافقون للمال جاء * (لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) * فكانت أموالهم فتنة لهم في مقالتهم تلك، فحذر الله المؤمنين بقوله: * (لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) * سواء كان المراد بالأموال خصوص ذكر الخطبة والعير المتقدم ذكرهما، أو عموم العبادات والمكتسبات. قوله تعالى: * (وأنفقوا من ما رزقناكم) *. فيه الإنفاق من بعض ما رزقهم، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، مبحث الاقتصاد في الإنفاق عند قوله في أول سورة البقرة * (ومما رزقناهم ينفقون) *. قوله تعالى: * (ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ) *. وكذلك لا يقدمها عليه، كما في قوله تعالى: * (لكل أمة أجل إذا جآء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *. وبين تعالى عدم تأخرهم مع أنهم وعدوا بأنهم يصدقون ويكونون من الصالحين، مشيرا للسبب في قوله تعالى: * (والله خبير بما تعملون) * أي لو أخركم، لأن شيمتكم الكذب وخلف الوعد، وأن هذا دأب أمثالهم كما بينه تعالى في قوله: * (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع
193 الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) *. وقوله تعالى: * (حتى إذا جآء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قآئلها) *. فقوله تعالى عنهم: كلا إنها كلمة هو قائلها. تعادل في ما صدقها. قوله تعالى: * (والله خبير بما تعملون) *. أي لو أخرهم لن يصدقوا ولن يكونوا من الصالحين، والله تعالى محيط علمه بما سيكون، كإحاطته بما قد كان. والله تعالى أعلم.
194 ((سورة التغابن)) * (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير * هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير * خلق السماوات والا رض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير * يعلم ما فى السماوات والا رض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور * ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم * ذالك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد * زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير) * قوله تعالى: * (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الا رض له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير) *. تقدم معنى التسبيح ومدلول ما في السماوات وما في الأرض في أول سورة الحشر والحديد، وهذه السورة آخر السور المفتتحة بالتسبيح. والفعل هنا بصيغة المضارع الدال على التجدد والحدوث. والتذييل هنا بصفات الكمال لله تعالى بقوله: * (له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير) * للإشعار بأن الملك لله وحده لا شريك له: نافذ فيه أمره ماض فيه حكمه بيده أزمة أمره، كما في قوله تعالى: * (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير) *. وكقوله في سورة يس: * (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون) *. ومن قدرته على كل شيء، وتصريفه لأمور ملكه كيف يشاء، أن جعل العالم كله يسبح له بحمده تنفيذا لحكمة فيه، كما في قوله: * (له الحمد فى الا ولى والا خرة وله الحكم وإليه ترجعون) *، فجمع الحمد والحكم معا لجلالة قدرته وكمال صفاته. قوله تعالى: * (هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، في مذكرة الدراسة: المعنى أن الله هو الذي خلقكم وقدر على قوم منكم الكفر، وعلى قوم منكم الإيمان، ثم بعد ذلك يهدي كلا لما قدره عليه كما قال: * (والذى قدر فهدى) * فيسر الكافر إلى العمل بالكفر، ويسر المؤمن للعمل بالإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ا ه. ومن المعلوم أن هذا النص من مأزق القدرية والجبرية، وأن أهل السنة يؤمنون أن كلا بقدر الله ومشيئته. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: وهم أهل السنة وسط بين
195 قول: إن العبد مجبور على عمله لا اختيار له كالورقة في مهب الريح. وبين قول: إن العبد يخلق فعله بنفسه ويفعل ما يريد بمشيئته. وأهل السنة يقولون بقوله تعالى: * (لمن شآء منكم أن يستقيم وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العالمين) *. وقد ذكر القرطبي أقوال الطائفتين من أهل العلم، ولكل طائفة ما استدلت به، الأولى عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا). بما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). وقال: قال علماؤنا: تعلق العلم الأزلي بكل معلوم. فيجري ما علم وأراد وحكم. الثانية ما جاء في قوله: وقال جماعة من أهل العلم: إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا: وتمام الكلام: وهو الذي خلقكم، ثم وصفهم فقال: * (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) *. وكقوله تعالى: * (والله خلق كل دآبة من مآء فمنهم من يمشى على بطنه) *، قالوا فالله خلقهم والمشي فعلهم. واختاره الحسين بن الفضل، قال: لأنه لو خلقهم كافرين ومؤمنين لما وصفهم بفعلهم، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة) الحديث ا ه. وبالنظر في هاتين المقالتين نجد الآتي: أولا: التشبيه في المقالة الثانية لا يسلم، لأن وصف الدواب في حالة المشي ليس وصفا فعليا، وإنما هو من ضمن خلقه تعالى لها ولم يكن منها فعل في ذلك. ثانيا: ما استدلت به كل طائفة من الحديثين لا تعارض بينهما، لأن الحديث الأول، (إن أحدكم ليعمل) لبيان المصير والمنتهى، وفق العلم الأزلي والإرادة القدرية.
196 والحديث الثاني لبيان مبدأ وجود الإنسان في الدنيا وأنه يولد على الفطرة حينما يولد. أما مصيره فبحسب ما قدر الله عليه. وقد نقل القرطبي كلاما للزجاج وقال عنه: هو أحسن الأقوال ونصه: إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر وخلق المؤمن. وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد أن خلق الله إياه، لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه، لأن وجود خلاف المقدر عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل. قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال، وهو الذي عليه جمهور الأمة ا ه. ولعل مما يشهد لقول الزجاج قوله تعالى: * (والله خلقكم وما تعملون) *. هذا حاصل ما قاله علماء التفسير، وهذا الموقف كما قدمنا من مأزق القدر والجبر، وقد زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام، وبتأمل النص وما يكتنفه من نصوص في السياق مما قبله وبعده: نجد الجواب الصحيح والتوجيه السليم، وذلك ابتداء من قوله تعالى: * (له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير) *. فكون الملك له لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، وكونه على كل شيء قدير يفعل في ملكه ما يريد. ثم قال: * (هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير) *. ثم جاء بعدها قوله تعالى: * (خلق السماوات والا رض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما فى السماوات والا رض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور) *. فخلق السماوات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة آيتان من آيات الدلالة على البعث، كما قال تعالى في الأولى: * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس) *. وقال في الثانية: * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) *.
197 ولذا جاء عقبها قوله: * (وإليه المصير) *. أي بعد الموت والبعث. فكأنه يقول لهم: هو الذي خلقكم وخلق لكم آيات قدرته على بعثكم، من ذلك خلق السماوات والأرض، ومن ذلك خلقكم وتصويركم في أحسن تقويم، فكأن موجب ذلك الإيمان بقدرته تعالى على بعثكم بعد الموت، وبالتالي إيمانكم بما بعد البعث، من حساب وجزاء وجنة ونار، ولكن فمنكم كافر ومنكم مؤمن. وقد جاء بعد ذكر الأمم قبلهم: وبيان أحوالهم جاء تفنيد زعم الكفار بالبعث والإقسام على وقوعه في قوله تعالى * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير) *. لأن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ويشهد لهذا التوجيه في قوله تعالى في سورة الإنسان: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) *. فقوله تعالى: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) * كقوله تعالى: * (هو الذى خلقكم) *. ثم قال: * (فجعلناه سميعا بصيرا) * وهما حاستا الإدراك والتأمل، فقال: * (إنا هديناه السبيل) * مع استعداده للقبول والرفض. وقوله: * (إما شاكرا وإما كفورا) * مثل قوله هنا: * (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) * أي بعد التأمل والنظر وهداية السبيل بالوحي، ولذا جاء في هذا السياق من هذه السورة: * (فأامنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا) *. وبكل ما تقدم في الجملة يظهر لنا أن الله خلق الإنسان من نطفة ثم جعل له سمعا وبصرا ونصب الأدلة على وجوده وقدرته على بعث الموتى، ومن ثم مجازاتهم على أعمالهم وأرسل إليه رسله وهداه النجدين، ثم هو بعد ذلك إما شاكرا وإما كفورا ولو احتج إنسان في الدنيا بالقدر لقيل له: هل عندك علم بما سبق في علم الله عليك، أم أن الله أمرك ونهاك وبين لك الطريق.
198 وعلى كل، فإن قضية القدر من أخطر القضايا وأغمضها، كما قال علي رضي الله عنه: القدر سر الله في خلقه. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا ذكر القضاء فأمسكوا)، ولكن على المسلم النظر فيما أنزل الله من وحي وبعث من رسل. وأهم ما في الأمر هو جري الأمور على مشيئة الله وقد جاء موقف عملي في قصة بدر، يوضح حقيقة القدر ويظهر غاية العبر في قوله تعالى: * (إذ يريكهم الله فى منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم فى الا مر ولاكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور) *. فهو تعالى الذي سلم من موجبات التنازع والفشل بمقتضى علمه بذات الصدور. ثم قال: * (وإذ يريكموهم إذ التقيتم فى أعينكم قليلا ويقللكم فى أعينهم ليقضى الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور) *، فقد أجرى الأسباب على مقتضى إرادته فقلل كلا من الفريقين في أعين الآخر ليقضي الله أمرا كان في سابق علمه مفعولا، ثم بين المنتهى، * (وإلى الله ترجع الأمور) *، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ذالك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد) *. فيه استنكار الكفار أن يكون من يهديهم بشرا لا ملكا، كما قال تعالى: * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) *، وقوله تعالى: * (أبشرا منا واحدا نتبعه) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، في مذكرة الدراسة: فشبهتهم هذه الباطلة ردها الله في آيات كثيرة كقوله تعالى: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) *، وقوله: * (ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا) * أي لا ملائكة وقوله * (ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون فى الا سواق) *. قوله تعالى: * (فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد) * تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام عليه عند قوله تعالى: * (ولله على
199 الناس حج البيت) * إلى قوله: * (ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) *. قوله تعالى: * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، أي أن الكفار ادعوا أنهم لا يبعثون قائلين: إن العظام الرميم لا تحيي قل لهم، يا نبي الله: بلى وربي لتبعثن، وبلى حرف يأتي لأحد معنيين الأول رد نفي، كما هنا. الثاني: جواب استفهام مقترن بنفي نحو قوله: * (ألست بربكم قالوا بلى) *، وقوله: * (وربى) * قسم بالرب على البعث الذي هو الإحياء بعد الموت، وقد أقسم به عليه في القرآن ثلاث مرات. الأول هذا. والثاني قوله: * (ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق) *. الثالث قوله: * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم) * ا ه. وقوله: * (ثم لتنبؤن بما عملتم) * بينه تعالى بقوله: * (وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *، وقوله: * (وذلك على الله يسير) * اسم الإشارة راجع إلى البعث ويسره أمر مسلم، لأن الإعادة أهون من البدء. كما قال تعالى عن الكفار: * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة) *، وقوله: * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) *، وقال * (وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) *. * (فأامنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا والله بما تعملون خبير * يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيهآ أبدا ذلك الفوز العظيم * والذين كفروا وكذبوا بأاياتنآ أولائك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير * مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شىء عليم * وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين * الله لا إلاه إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون * ياأيها الذين ءامنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم * إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم * فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لانفسكم ومن يوق شح نفسه فأولائك هم المفلحون * إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم * عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم) * قوله تعالى: * (فأامنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا) *. النور هنا هو القرآن كما قال تعالى: * (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) * وهو القرآن، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى عليه الكلام عليه عند قوله تعالى: * (هو الذى ينزل على عبده ءايات بينات) * من سورة الحديد، وفي المذكرة سماه نورا لأنه كاشف
200 ظلمات الجهل والشك والشرك والنفاق. قوله تعالى: * (يوم يجمعكم ليوم الجمع) *. يوم الجمع هو يوم القيامة، وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: ظرف منصوب بأذكر مقدرة أو بقوله * (خبير) *. فيكون المعنى: أنه يوم القيامة خبير بأعمالكم في الدنيا لم يخف عليه منها شيء فيجازيكم عليها، سمي يوم الجمع لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كما قال تعالى: * (قل إن الا ولين والا خرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام عليه في عدة مواضع منها في الجزء الثالث عند قوله تعالى: * (ذالك يوم مجموع له الناس) *. ومنها في الجزء السابع عند الآية المتقدمة، * (قل إن الا ولين والا خرين لمجموعون) *. ومن أصرح الأدلة فيه: آية الشورى * (وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه) *، ثم قال: * (فريق فى الجنة وفريق فى السعير) *. قوله تعالى: * (ذلك يوم التغابن) *. الغبن: الشعور بالنقص ومثله الخبن لاشتراكهما في حرفين من ثلاثة، كما في فقه اللغة: فبينهما تقارب في المعنى كتقاربهم في الحرف المختلف، وهو الغين والخاء ولخفاء الغين في الحلق وظهور الخاء عنها كان الغبن لما خفي، والخبن لما ظهر. وقد بين تعالى موجب الغبن للغابن والمغبون فقال: * (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيهآ أبدا ذلك الفوز العظيم) *، وبين حال المغبون بقوله: * (والذين كفروا وكذبوا بأاياتنآ أولائك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير) *. وقد بين العلماء حقيقة الغبن في هذا المقام بأن كل إنسان له مكان في الجنة ومكان في النار. فإذا دخل أهل النار النار بقيت أماكنهم في الجنة، وإذا دخل أهل الجنة الجنة
201 بقيت أماكنهم في النار. وهناك تكون منازل أهل الجنة في النار لأهل النار، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة يتوارثونها عنهم، فيكون الغبن الأليم، وهو استبدال مكان في النار بمكان في الجنة ورثوا أماكن الآخرين الذين ذهبوا إلى النار. قوله تعالى: * (مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شىء عليم) *. في هذه الآية الكريمة نص صريح بأن ما يصيب أحدا مصيبة إلا بإذن الله. ومعلوم أنه كذلك ما يصيب أحدا خير إلا بإذن الله على حد قوله: * (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر) * أي والبرد. ولكن التنصيص على المصيبة هنا ليدل أن كل شيء ينال العبد إنما هو بإذن الله، لأن الجبلة تأبى المصائب وتتوقاها، ومع ذلك تصيبه، وليس في مقدوره دفعها بخلاف الخير، قد يدعي أنه حصله باجتهاد منه كما قال قارون: * (إنمآ أوتيته على علم عندى) *. وقوله: * (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) * قرىء يهدأ بالهمز من الهدوء، وقلبه بالرفع، وهي بمعنى يهدي قلبه، لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، فيسترجع فيطمئن قلبه بهذا ولا يجزع، وهذا من خصائص المؤمن. كما قال صلى الله عليه وسلم (عجبا لأمر المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له حتى الشوكة يشاكها في قدمه). ومثل هذا قوله تعالى: * (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الا موال والا نفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذآ أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنآ إليه راجعون أولائك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولائك هم المهتدون) *. أي إلى ما يلزمهم من امتثال وصبر ولذا جاء بعدها * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) *.
202 ومن ناحية أخرى يقال: إن قوله تعالى: * (مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله) * والكفر أعظم المصائب، ومن يؤمن بالله يهد قلبه. والإيمان بالله أعظم النعم، فيقول قائل: إن كان كل ذلك بإذن الله، فما ذنب الكافر وما فضل المؤمن، فجاء قوله تعالى: * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * بيانا لما يلزم العبد، وهو طاعة الرسل فيما جاءوا به، ولا يملك سوى ذلك. وفي قوله تعالى: * (يهد قلبه) * من نسبة الهداية إلى القلب بيان لقضية الهداية العامة والخاصة، كما قالوا في قوله تعالى عنه صلى الله عليه وسلم: * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) * مع قوله تعالى: * (إنك لا تهدى من أحببت ولاكن الله يهدى من يشآء) *. فقالوا: الهداية الأولى دلالة إرشاد كقوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) *. والثانية: هداية توفيق وإرشاد ويشهد لذلك شبه الهداية من الله لقلب من يؤمن بالله، وقوله تعالى: * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * بتكرار فعل الطاعة يدل على طاعة الرسول تلزم مستقلة. وقد جاءت السنة بتشريعات مستقلة وبتخصيص القرآن ونحو ذلك، كما تقدم عند قوله تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه) *. ومما يشهد لهذا قوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الا مر منكم) *، فكرر الفعل بالنسبة لله وللرسول ولم يكرره بالنسبة لأولي الأمر، لأن طاعتهم لا تكون استقلالا بل تبعا لطاعة الله وطاعة رسوله، كما في الحديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على ذلك عند قوله تعالى * (المال
203 والبنون زينة الحيواة الدنيا) *. ومما يعتبر توجيها قرآنيا لعلاج مشاكل الحياة الزوجية وقضية الأولاد التعقيب على ذلك بقوله تعالى: * (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) * أي إن عداوة الزوجة والأولاد لا ينبغي أن تقابل إلا بالعفو والصفح والغفران، وأن ذلك يخفف أو يذهب أو يجنب الزوج والوالد نتائج هذا العداء، وأنه خير من المشاحة والخصام. وفي موضع آخر قال: * (أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة) * أي قد تفتن عن ذكر الله، * (لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) *. وتقدم للشيخ هذا المبحث في سورة الكهف كما أشرنا. قوله تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) *. يفهم منه أن التكليف في حدود الاستطاعة، ويبينه قوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *. وقوله تعالى: * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) *. وفي الحديث: قال الله قد فعلت. وهذا في الأوامر دون النواهي، لأن النواهي تروك. كما جاء في السنة (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)، وهذا من خصائص هذه الأمة. كما تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، عند أواخر سورة البقرة، وتحقيق ذلك في رخص الصلاة والصيام ونحوهما. قوله تعالى: * (ومن يوق شح نفسه فأولائك هم المفلحون) *. قالوا: الشح، أخص من البخل، وقيل البخل: أن تضن بمالك، والشح أن تضن بمال غيرك، والواقع أن الشح منتهى البخل. وإن ذكره هنا بعد قضايا الأزواج والأولاد وفتنتهم وعداوتهم، ثم الأمر بالسمع والطاعة والإنفاق في قوله: * (واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لانفسكم) * يشعر بأن أكثر قضايا الزوجية منشؤها من جانب المال
204 حرصا عليه أو بخلا به، حرصا عليه بالسعي إليه بسببهم، فقد يفتن في ذلك، وشحا به بعد تحصيله فقد يعادونه فيه. والعلاج الناجع في ذلك كله الإنفاق وتوقي الشح، والشح من جبلة النفس * (وأحضرت الأنفس الشح) * وفي إضافة الشح إلى النفس مع إضافة الهداية فيما تقدم إلى القلب سر لطيف، وهو أن الشح جبلة البشرية. والهداية منحة إلهية، والأولى قوة حيوانية، والثانية قوة روحية. فعلى المسلم أن يغالب بالقوة الروحية ما جبل عليه من قوة بشرية لينال الفلاح والفوز، كما أشار تعالى بقوله: * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا) *. ثم قال: * (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) *. قوله تعالى: * (واسمعوا وأطيعوا) *. أي لا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وعصينا، ولا كقوم نوح الذين قال عنهم: * (وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فىءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) *. وقد ندد بقول الكفار: * (لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: اسمعوا ما يقال لكم وأطيعوا فيما سمعتم، لا كمن قبلكم المشار إليهم بالآيات المتقدمة. قوله تعالى: * (إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، قد بين تعالى أنه يضاعف الإنفاق سبعمائة إلى أكثر بقوله: * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل) * إلى قوله: * (والله يضاعف لمن يشآء) *. وأصل القرض في اللغة: القطع وفي الشرع قطع جزء من المال يعطيه لمن ينتفع به ثم يرده، أي أن الله تعالى يرد أضعافا، وقد سمى معاملته مع عبيده قرضا وبيعا وشراء وتجارة.
205 ومعنى ذلك كله أن العبد يعمل لوجه الله والله جل وعلا يعطيه ثواب ذلك العمل، كما في قوله تعالى: * (إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم) *. وقوله: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) *. وقوله: * (فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به) *. وقوله: * (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم) *، مع قوله تعالى: * (تجارة لن تبور) *. والقرض الحسن هو ما يكون من الكسب الطيب خالصا لوجه الله ا ه. ومما يشهد لقوله رحمه الله في معنى القرض الحسن قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والا ذى كالذى ينفق ماله رئآء الناس) *. لأن ذلك لم ينفق بإخلاص لوجه الله، ومجئ الحسن على القرض الحسن هنا بعد قضية الزوجية والأولاد وتوقي الشح يشعر بأن الإنفاق على الأولاد والزوجة إنما هو من باب القرض الحسن مع الله، كما في قوله تعالى: * (يسألونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم من خير فللوالدين والا قربين) *. وأقرب الأقربين بعد الوالدين هم الأولاد والزوجة. وفي الحديث في الحث على الإنفاق (حتى اللقمة يضعها الرجل في في امرأته). وقوله: * (والله شكور حليم) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه شكر الله لعبده هو مجازاته له بالأجر الجزيل على العمل القليل. وقوله: * (حليم) * أي لا يعجل بالعقوبة بل يستر ويتجاوز عن ذنوب. ومجئ هذا التذييل هنا يشعر بالتوجيه في بعض نواحي إصلاح الأسرة، وهو أن يقبل كل من الزوجين عمل الآخر بشكر، ويقابل كل إساءة بحلم ليتم معنى حسن العشرة، ولأن الإنفاق يستحق المقابلة بالشكر والعداوة تقابل بالحلم.
206 قوله تعالى: * (عالم الغيب والشهادة) *. مجيء الآية بالجملة الاسمية يشعر بالحصر، وقد صرح به في قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو) *، ومجيؤه هنا أيضا يشعر بأن الرقابة على الأسرة بين الطرفين إنما هي لله تعالى، لأنهما يكونان في عزلة عن الناس ولا يطلع على ما بينهما إلا الله، عالم الغيب والشهادة، أي فليراقب كل منهما ربه عالم الغيب والشهادة، ومجازيا كلا منهما على فعله.
207 ((سورة الطلاق)) * (ياأيها النبى إذا طلقتم النسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا * فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الا خر ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدرا * واللائى يئسن من المحيض من نسآئكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللاتي لم يحضن وأولات الا حمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا * ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا * أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضآروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فأاتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى * لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ ءاتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا مآ ءاتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا * وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا * فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا * أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءامنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا يتلو عليكم ءايات الله مبينات ليخرج الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيهآ أبدا قد أحسن الله له رزقا * الله الذى خلق سبع سماوات ومن الا رض مثلهن يتنزل الا مر بينهن لتعلموا أن الله على كل شىء قدير وأن الله قد أحاط بكل شىء علما) * قوله تعالى: * (ياأيها النبى إذا طلقتم النسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم) *. قيل في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها فنزلت، وقيل غير ذلك، وعلى كل، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معلوم. ومما يشهد لهذه القاعدة ما لو أخذنا بعين الاعتبار النسق الكريم بين السورتين، حيث كان آخر ما قبلها موضوع الأولاد والزوجات من فتنة وعداء. والإشارة إلى علاج ما بين الزوجين من إنفاق وتسامح على ما أشرنا إليه سابقا هناك، فإن صلح ما بينهم بذاك فبها ونعمت، وإن تعذر ما بينهما وكانت الفرقة متحتمة فجاءت هذه السورة على إثرها تبين طريقة الفرقة السليمة في الطلاق وتشريعه وما يتبعه من عدد وإنفاق ونحو ذلك. وقوله تعالى: * (ياأيها النبى) * بالنداء للنبي صلى الله عليه وسلم. وقوله، * (إذا طلقتم) * بخطاب لعموم الأمة. قالوا: كان النداء للنبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب للأمة تكريما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكليفا للأمة. وقيل: خوطبت الأمة في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كخطاب الجماعة في شخصية رئيسها. وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: ولهذه الآية استدل من يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون داخلا في عموم خطاب الأمة ا ه. والواقع أن الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: الأول: قد يتوجه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم ولا يكون داخلا فيه قطعا، وإنما يراد به الأمة بلا خلاف من ذلك قوله تعالى في بر الوالدين: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة
208 وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا) *. فكل صيغ الخطاب هنا موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قطعا ليس مراد بذلك لعدم وجود والدين، ولا أحدهما عند نزولها كما هو معلوم. الثاني: أن يكون خاصا به لا يدخل معه غيره قطعا، نحو قوله تعالى: * (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين) *. والثالث: هو الشامل له صلى الله عليه وسلم ولغيره بدليل هذه الآية، وأول السورة التي بعدها في قوله تعالى: * (ياأيها النبى لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك) *، فهذا كله خطاب موجه له صلى الله عليه وسلم. وجاء بعدها مباشرة * (قد فرض الله لكم) * بخطاب الجميع * (تحلة أيمانكم) * فدل أن الآية داخلة في قوله تعالى: * (ياأيها النبى لم تحرم مآ أحل الله لك) *، وهذا باتفاق. وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، هذه المسألة بأقوى دليل فيها عند قوله تعالى: * (فأقم وجهك للدين حنيفا) * إلى قوله: * (منيبين إليه) *. وقوله تعالى: * (إذا طلقتم النسآء) *. يشعر بأن كل المطلقات من النساء يطلقن لعدتهن وتحصى عدتهن. والإحصاء العدد مأخوذ من الحصا، وهو الحصا الصغير كانت العرب تستعمله في العدد لأميتهم، ثم ذكر بعض عدد لبعض المطلقات ولم يذكر جميعهن مع أنه من المطلقات من لا عدة لهن وهن غير المدخول بهن. ومن المطلقات من لم يذكر عدتهن هنا. قال الزمخشري: إنه لا عموم ولا تخصيص، لأن لفظ النساء اسم جنس يطلق على الكل وعلى البعض، وقد أطلق هنا على البعض وهو المبين حكمهن بذكر عدتهن، وهن اللاتي يئسن والصغيرات وذوات الحمل، وحاصل عدد النساء تتلخص في الآتي، وهي أن الفرقة إما بحياة أو بموت، والمفارقة إما حامل أو غير حامل، فالحامل عدتها بوضع حملها اتفاقا، ولا عبرة بالخلاف في ذلك لصحة النصوص، وغير الحامل بأربعة أشهر وعشر
209 مدخول بها وغير مدخول. والمفارقة بالحياة إما مدخول بها أو غير مدخول بها، فغير المدخول بها لا عدة عليها إجماعا. والمدخول بها إما من ذوات الإقراء فعدتها ثلاثة قروء على خلاف في المراد بالقرء. وأما من ليست من ذوات الإقراء. كاليائسة والصغيرة، فعدتها بالأشهر ثلاثة أشهر. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، في الجزء الأول عند قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *، وفصل أنواع المطلقات المدخول بهن وغير المدخول بهن وأنواع العدد بالإقراء أو الأشهر أو الحمل وبين الجمع بين العمومات الواردة في ذلك كله مما يغني عن الإعادة هنا. تنبيه كل ما تقدم في شأن العدة، إنما هو في خصوص الحرائر، وبقي مبحث الإماء. أما الإماء: فالحوامل منهن كالحرائر سواء بسواء، وغير الحوامل فالجمهور على أنها على النصف من الحرة إلا أن الحيضة لما لم تكن تتجزأ فجعلت عدتها فيها حيضتين. وهذا باتفاق الأئمة الأربعة. أما ذات الأشهر، فالجمهور على أنها تعتد شهرا ونصفا، وخالف مالك فجعل لها ثلاثة أشهر، فيكون مالك رحمه الله وافق الجمهور في ذوات الحيض، وخالف الجمهور في ذوات الأشهر، وقد أخطأ ابن رشد مع مالك في نقاشه معه هذه المسألة، فقال في بداية المجتهد: وقد اضطرب قول مالك في هذه المسألة، فلا بالنص أخذ ولا بالقياس عمل، يعني أنه لم يأخذ بالنص في ذوات الحيض فيجعل لهن ثلاثة قروء، كما أخذ به في ذوات الأشهر، حيث جعل لهن ثلاثة أشهر بالنص ولا بالقياس عمل، أي فلم ينصف الأشهر قياسا على الحيض، فكان مذهبه ملفقا بين القياس في ذوات الحيض، والنص في ذوات الأشهر، فخالف في ذلك الأئمة الثلاثة. واضطرب قوله في نظر ابن رشد، لأنه لم يطرد القياس فيهما، ولا أعمل النص فيهما، ولكن الحق في المسائل الخلافية لا يمكن أن يعرف إلا بعد معرفة وجهة النظر عن المخالف، فقد يكون محقا، وقد يكون فعلا الحق مع غيره.
210 وفي هذه المسألة بالذات أشار العدوي في حاشيته: بأن وجهة نظر مالك هي الرجوع إلى أصل الغرض من العدة وهو براءة الرحم. والشهر والنصف لا يكفي للمرأة نفسها أن تخبر عن نفسها عما إذا كانت حاملا أم لا، فأكمل لها المدة المنصوص عليها. أما الحيضتان: ففيهما بيان لبراءة الرحم ا ه. ملخصا. وهذا الذي قاله العدوي له أصل من الشرع، لأن ذات الإقراء وجدناها في بعض الصور تعتد بحيضة، كما جاء النص في عدة المختلعة، وإن كان فيها خلاف. ووجدنا الأمة تثبت براءة رحمها في غير هذا بحيضتين قطعا، وهي فيما إذا كانت سرية لمالكها فأراد بيعها فإنه يستبرئها بحيضة، والذي يشتريها يستبرئها بحيضة قبل أن يمسها. ثم هو يفترشها ويأمن من أن يسقي ماءه زرع غيره، فعلمنا أن في الحيضتين براءة للرحم. فاكتفى بهما مالك ووافق الجمهور. وأما الشهر والنصف فإنهما لا يمكن أن تتبين المرأة فيهما حملا، لأنها مدة الأربعين الأولى وهي مرحلة النطفة. فظهر بهذا أن الحق مع مالك، وأن ابن رشد هو الذي اضطربت مقالته على مالك، وقد سقنا هذا التنبيه لبيان واجب طالب العلم أمام المسائل الخلافية من ضرورة البحث عن السبب ووجهة نظر المخالف وعدم المبادرة للإنكار، لأن يكون هو أحق بأن ينكر عليه ولا يسارع لرد قول قد يكون قوله هو أولى بأن يرد عليه. وبالله التوفيق. وقوله تعالى: * (فطلقوهن لعدتهن) *، اتفق المفسرون أن المراد لاستقبال عدتهن وفيه مبحث الطلاق السني والبدعي. واعلم أن الحامل وغير المدخول بها لا بدعة في طلاقهما عند الجمهور، وألحقت بهما الصغيرة والطلاق البدعي هو جمع الثلاث في مرة أو الطلاق في الحيضة أو في طهر مسها فيه. وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله: يفرق الطلقات على الصغيرة كل طلقة في شهر ولا يجمعها، وقد طال البحث في حكم الطلاق البدعي، هل يقع ويحتسب على المطلق أم لا. والأصل فيه حديث عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فبلغ ذلك عمر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له صلى الله عليه وسلم (مره فليراجعها). والذي عليه الجمهور أنه يعتد بتلك الطلقة، ومن خالف فيها السنة، وعليه أن
211 يراجعها وليعمل كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فليمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلقها في طهر لم يمسها فيه. أي لتستقبل عدتها ما لم تكن الطلقة الثالثة أو بالثلاث على ما عليه الجمهور. وقد سئل أحمد رحمه الله عن الاعتداد بهذه الطلقة في الحيضة فقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: فليراجعها. يدل على الاعتداد بها لأنه لا رجعة إلا من طلاق. وقد أطال ابن دقيق العيد الكلام عليها في أحكام الإحكام وغيره مما لا داعي إلى سرده، وحاصله ما قدمنا، ولم يقل بعدم الاعتداد بها إلا سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين. وقال أبو حيان إن قوله تعالى: * (فطلقوهن لعدتهن) * على إطلاقه يشعر بالاعتداد بالطلاق سنيا كان أو بدعيا. قوله تعالى: * (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) *. ظاهره أن الإمساك بمعروف إذا بلغن أجلهن، مع أنهن إذا بلغن إلى ذلك الحد خرجن من العدة وانتهى وجه المراجعة. ولكن المراد هنا إذا قاربن أجلهن ولم يتجاوزنه أو يصلن إليه بالفعل، والقاعدة أن ما قارب الشيء يعطي حكمه كما في قوله تعالى: * (فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) *. ومثل الآية الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) مع أنه عند الإتيان أو أثناءه لا يحق له أن يقول ذلك، وإنما يقوله إذا قارب دخوله، فكذلك هنا. أما المطلقة ثلاثا فقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحثا وافيا عند قوله تعالى: * (الطلاق مرتان) * مما لا مزيد عليه. قوله تعالى: * (قد جعل الله لكل شىء قدرا) *. بعد الأمر بإحصاء العدة، وكون العدد مختلفة الأنواع من إقراء إلى أشهر إلى وضع الحمل، والمعتدات متفاوتات الإقراء وأمد الحمل، فقد تكون في أوله أو وسطه أو آخره، وكل ذلك لا بد من إحصائه لما يترتب عليه من حرمة وحلية، فتخرج من عدة هذا وتحل
212 لذاك. كما قال تعالى * (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) * وهذا كله لا يتأتى إلا بالإحصاء. والإحصاء لا يكون إلا لمقدر معلوم، وعليه فقوله تعالى: * (قد جعل الله لكل شىء قدرا) * مؤكد لهذا كله، وكذلك فيه نص صريح أنه تعالى قد جعل لكل شيء من الأشياء أيا كان هو قدرا لا يتعداه لا بزيادة ولا بنقص، ولفظ شيء أعم العمومات. وقد جاءت آيات كثيرة دالة على هذا العموم عامة وخاصة، فمن الآيات العامة قوله تعالى: * (إنا كل شىء خلقناه بقدر) *. وقوله: * (وخلق كل شىء فقدره تقديرا) *. وقوله: * (وكل شىء عنده بمقدار) *. وقد جمع العام والخاص قوله: * (وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) *. ومن التقدير الخاص في مخصوص قوله: * (والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون) *. إنها قدرة باهرة وحكمة بالغة، وإرادة قاهرة، وسلطة غالبة، قدرة من أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. وقد قال علماء الهيئة: أن حساب مسير هذه الأفلاك في منازلها أدق ما يكون من مآت أجزاء الثانية، ولو اختلف جزء من الثانية لاختل نظام العالم ولما صلحت على وجه الأرض حياة، ونحن نشاهد حركة الليل والنهار ونقصانهما وزيادتهما وفصول السنة كما قال تعالى: * (والله يقدر اليل والنهار علم ألن تحصوه) *. وهو سبحانه وتعالى يحصيه، وكذلك التقدير لوجود الإنسان قبل وبعد وجوده، قال تعالى: * (من أى شىء خلقه من نطفة خلقه فقدره) * أي قدر خلقه وصورته ونوعه كما بين ذلك بقوله: * (يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) *. إلى قوله: * (إنه عليم قدير) *. وهذا أيضا من آيات قدرته يرد بها سبحانه على من جحد وجود الله وكفر بالبعث
213 كما في مستهلها قوله تعالى: * (قتل الإنسان مآ أكفره من أى شىء خلقه) *. ثم بين تعالى أنه خلقه من نطفة ماء مهين، ولكن قدر الله تعالى قدرتها وصورتها حتى صارت خلقا سويا، وجعل له وهو في بطن أمه عينين ولسانا وشفتين أي وأنفا وأذنين ويدين ورجلين وكل جهاز فيه حير الحكماء في صنعه ونظامه. ثم قدر تعالى أرزاقه على الأرض قبل وجوده يوم خلق الأرض، وجعله آية على قدرته وعاتب الإنسان على كفره * (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها فى أربعة أيام سوآء للسآئلين) *. وبعد وجود الكون وخلق الإنسان قدر في الإيجاد بإنزال المطر، * (فلينظر الإنسان إلى طعامه) * * (ثم شققنا الا رض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا) *. ثم إن صب هذا الماء كان بقدر، كما في قوله تعالى: * (وأنزلنا من السمآء مآء بقدر) *. وقوله: * (ولاكن ينزل بقدر ما يشآء إنه بعباده خبير بصير) * أي بقدر ما يصلحهم ولو زاده لفسد حالهم، كما في قوله قبلها * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الا رض ولاكن ينزل بقدر ما يشآء) * وبقدر مصلحتهم ينزل لهم أرزاقهم. كما نبه على ذلك بقوله: * (إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى) *. هذه لمحة عن حكمة تقدير العزيز الحكيم الذي أحسن كل شيء خلقه، والذي قدر الأشياء قبل وجودها كما في قوله: * (والذى قدر فهدى) *. وكما في حديث القلم وكتابة كل شيء قبل وجوده بزمانه ومكانه ومقداره، إن آية القدرة وبيان العجز قدرة الخالق وعجز المخلوق كما في قوله تعالى: * (فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) *. وكقوله: * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب) * أي
214 لا يتعداه ولا يتخطاه، وقد تحداهم الله في ذلك بقوله: * (فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولاكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونهآ إن كنتم صادقين) * كلا إنهم مدينون ولن يستطيعوا إرجاعها. وهنا يقال للدهريين والشيوعيين الذين لا يعترفون بوجود فاعل مختار وعزيز قهار، إن هذا الكون بتقديراته ونظمه لآية شاهدة وبينة عادلة على وجود الله سبحانه وتعالى * (فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون) *. كما يقال للمؤمنين أيضا إن ما قدره الله نافذ، وما قدر للعبد آتيه، وما لم يقدر له لن يصل إليه، طويت الصحف وجفت الأقلام * (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ ءاتاكم) *. ويقال مرة أخرى: اعملوا كل ميسر لما خلق له، وبالله تعالى التوفيق. قوله تعالى: * (وأولات الا حمال أجلهن أن يضعن حملهن) *. فيه إطلاق لوضع الحمل على أي صفة كان هو، وأجمع العلماء على أن يصدق بوضعه حيا أو ميتا، ولكن اشترط فيه أن يكون قد ظهرت فيه خلقة الإنسان لا مضغة ولا علقة، كما أن فيه إطلاق الأجل سواء للمطلقة أو المتوفى عنها من أنه ينقضي أجل الحوامل بوضع الحمل. وتقدم بيان ذلك مفصلا للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، وهنا مبحث أقل الحمل وأكثره، وتقدم تفصيله للشيخ أيضا عند قوله تعالى: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) *. قوله تعالى: * (فإن أرضعن لكم فأاتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف) *. بين تعالى مدة الرضاع في قوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) *. وجعل أبو حنيفة رحمه الله ثلاثة أشهر زيادة على الحولين لتمرين الطفل على الفطام، وذلك كما قال تعالى: * (لمن أراد أن يتم الرضاعة) *. فإذا أمكن فطام الطفل قبلها بدون مضرة عليه فلا مانع، وعلى الوالد إيتاء الأجرة على مدة الرضاع إلى الفطام سواء كانت المدة الشرعية كما هنا أو الفعلية قبلها. وليس
215 ملتزما بما زاد على الحولين في نص الآية. والائتمار بمعروف يشعر بأن للعرف دخلا في ذلك كما هو تنبيه صريح بأن لا يضار أحد الوالدين بولده وأن تكون المفاهمة بين الزوجين بعد الفرقة في جميع الأمور سواء في خصوص الرضاع أو غيره مبناها على المعروف والتسامح والإحسان وفاء لحق العشرة السابقة، ولا تنسوا الفضل بينكم. قوله تعالى: * (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها) *. ذكر الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء أن كأين بمعنى كم فهي إخبار بعدد كثير، وذكر إعرابها، والمعنى كثير من قرية عتت عن أمر ربها أي تكبرت وطغت وتقدم تفصيله للمعنى بالأمثلة والشواهد عند قوله تعالى: * (فكأين من قرية أهلكناها) * في سورة الحج. ومما قدمه رحمة الله تعالى علينا وعليه، ومن قوله تعالى: * (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا) * بيان لأصحاب الرئاسة ورجال السياسة أن هلاك الدنيا بفساد الدين، وأن أمن القرى وطمأنينة العالم بالحفاظ على الدين. ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عامة الناس للحفاظ على دينهم وسلامة دنياهم، فحمل الشارع مهمته للأمة كلها كل بحسبه باليد أو باللسان أو القلب، وهذا الأخير أضعف الإيمان، ومع ضعفه ففيه الإبقاء على دوام الإحساس بوجود المنكر إلى أن يقدر هو أو غيره على تغييره. قد بين الله تعالى هذا المفهوم ببيان حال الذين مكنهم في الأرض بنصره في قوله تعالى * (الذين إن مكناهم فى الا رض أقاموا الصلواة وآتوا الزكواة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الا مور) *. ثم ذكر تعالى الأمم التي كذبت وعتت من قوم نوح وعاد وثمود ولوط وأصحاب مدين. ثم قال: * (فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد) *.
216 قوله تعالى: * (الله الذى خلق سبع سماوات ومن الا رض مثلهن) *. جاء في بيان السماوات أنها سبع طباق، كما في قوله تعالى: * (الذى خلق سبع سماوات طباقا) *. وبين الحديث في الإسراء أن ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وجاء لفظ السماء مفردا وجمعا، فالمفرد كما في قوله * (والسمآء وما بناها) *. وقوله: * (الذى جعل لكم الا رض فراشا والسمآء بنآء) *. أما الأرض فلم يأت لفظها إلا مفردا، ولم يأت تفصيلها كتفصيل السماء سبعا طباقا، فاختلف في المثلية فجاء عن ابن عباس أنها مثلية تامة عددا وطباقا وخلقا. وقيل: عددا وأقاليم يفصلها البحار، وقيل عددا طباقا متراكمة كطبقات البصلة مثلا، ولقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في المقدمة أن من أوجه البيان إذا لم يوجد في الكتاب ووجد في السنة فإنه يبين بها لأنها وحي، وقد جاء في السنة أن الأرض سبع أرضين كما في حديث: (من اغتصب أرضا أو من أخذ شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين) متفق عليه. وفي حديث موسى لما قال (يا رب علمني شيئا أدعوك به فقال: قل لا إلاه إلا الله. فقال: يا رب كل الناس يقولون ذلك. قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إلاه إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله). رواه النسائي. فهذه أحاديث صحيحة أثبتت أن الأرضين سبع، ولم يأت تفصيل للكيفية ولا للهيئة فثبت عندنا العدد ولم يثبت غيره، فنثبته ونكل غيره لعلم الله تعالى. ومما يؤيد ثبوت العدد على سبيل الإجمال أن مثلية الأرض للسماء لم تذكر إلا عند ذكر السماء مجملة مع ذكر العدد ولم يذكر عند تفصيلها بطباق مما يشعر أن المراد من المثلية العدد، وقيل إن هذا لا يتنافى مع أفراد اللفظ لأن جمعه شاذ. كما قال ابن مالك: * وأرضون شذو السنون *
217 وقد أشار تعالى إلى أن هناك من حالات الأرض والسماء ما لم يعلمه الخلق في قوله تعالى: * (مآ أشهدتهم خلق السماوات والا رض ولا خلق أنفسهم) *، وهم لا يزالون عاجزين عن كيفية خلق أنفسهم إلا تفصيلات جزئية، والمهم من السياق والغرض الأساسي، تنبيه الخلق على عظم قدرة الله تعالى في قوله تعالى: * (لتعلموا أن الله على كل شىء قدير وأن الله قد أحاط بكل شىء علما) *.
218 ((سورة التحريم)) * (ياأيها النبى لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هاذا قال نبأنى العليم الخبير * إن تتوبآ إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذالك ظهير * عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا * ياأيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون * ياأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون * ياأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الا نهار يوم لا يخزى الله النبى والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا واغفر لنآ إنك على كل شىء قدير * ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير * ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنينا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين * وضرب الله مثلا للذين ءامنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين * ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) * قوله تعالى: * (ياأيها النبى لم تحرم مآ أحل الله لك) *. تقدم في أول السورة قبلها بيان علاقة الأمة بالخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في تحريم ما أحل الله له بين كونه العسل أو هو مارية جاريته صلى الله عليه وسلم، وسيأتي زيادة إيضاحه عن الكلام على حكمه. وقوله تعالى: * (لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك) * ظاهر فيه معنى العتاب، كما في قوله تعالى: * (عبس وتولى أن جآءه الا عمى وما يدريك لعله يزكى) *. وكلاهما له علاقة بالجانب الشخصي سواء ابتغاء مرضاة الأزواج، أو استرضاء صناديد قريش، وهذا مما يدل على أن التشريع الإسلامي لا مدخل للأغراض الشخصية فيه. وبهذا نأخذ بقياس العكس دليلا واضحا على بطلان قول القائلين: إن إعماره صلى الله عليه وسلم لعائشة من التنعيم كان تطييبا لخاطرها، ولا يصح لأحد غيرها. ومحل الاستدلال هو أن من ليس له حق في تحريم ما أحل الله له ابتغاء مرضاة أزواجه لا يحل له إحلال، وتجويز ما لا يجوز ابتغاء مرضاتهن، وهذا ظاهر بين ولله الحمد. أما تحلة اليمين وكفارة الحنث وغير ذلك، فقد تقدم بيانه للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، عند قوله تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم) *. أما حقيقة التحريم هنا، ونوع الكفارة، وهل كفر صلى الله عليه وسلم عن ذلك أم أن الله غفر له فلم يحتج لتكفير، فقد أوضحه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء عند هذه الآية.
219 وفي الأضواء عند قوله تعالى في أول سورة الأحزاب * (وما جعل أزواجكم اللائى تظاهرون منهن أمهاتكم) *، وذلك أن للعلماء نحو عشرين قولا، ورجح القول بأن التحريم ظهار لما يدل عليه ظاهر القرآن، وأن القول الذي يليه أنه يمين، وناقش المسألة بأدلتها هناك. قوله تعالى: * (إن تتوبآ إلى الله فقد صغت قلوبكما) *. أطلقت التوبة هنا وقيدت في الآية بعدها بأنها توبة نصوح، في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) *. وحقيقة التوبة النصوح وشروطها وآثارها تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، عند قوله تعالى * (وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون) *. وقوله تعالى: * (فقد صغت قلوبكما) *. قال الشيخ في إملائه: صغت: بمعنى مالت ورضيت وأحبت ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ا ه. وقال: وقلوبكما جمع مع أنه لاثنتين هما حفصة وعائشة، فقيل لأن المعنى معلوم والجمع أخف من المثنى إذا أضيف. وقيل هو مما استدل به على أن أقل الجمع اثنين كما في الميراث في قوله * (فإن كان له إخوة) *. وجواب الشرط في قوله تعالى: * (إن تتوبآ) * محذوف تقديره، فقال واجب عليكما، لأن قلوبكما مالت إلى ما لا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ا ه. وقدره القرطبي بذلك خير لكم ومعناهما متقارب. قوله تعالى: * (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذالك ظهير) *. قال أبو حيان: الوقف على مولاه، وتكون الولاية خاصة بالله، ويكون جبريل مبتدأ وما بعده عطف عليه، وظهير خبر، وعليه يكون جبريل ذكر مرتين بالخصوص أولا وبالعموم ثانيا. وقيل: الوقف على وجبريل معطوفا على لفظ الجلالة في الولاية، ثم ابتدىء بصالح المؤمنين وعطف عليهم الملائكة، ويدخل فيهم جبريل ضمنا ا ه.
220 فعلى الوقف الأول يكون درج صالح المؤمنين بين جبريل وبين الملائكة تنبيها على علو منزلة صالح المؤمنين، وبيان منزلتهم من عموم الملائكة بعد جبريل، وعلى الوقف الثاني فيه عطف جبريل على لفظ الجلالة في الولاية بالواو، وليس فيه ما يوهم التعارض مع الحديث في ثم إذ محل العطف هو الولاية، وهي قدر ممكن من الخلق ومن الله تعالى كما في قوله تعالى: * (هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين) * لأن النصر يكون من الله ويكون من العباد، من باب الأخذ بالأسباب * (إلا تنصروه فقد نصره الله) *. وكما في قوله تعالى: * (وينصرون الله ورسوله) *. وقوله: * (من أنصارى إلى الله) * بخلاف سياق الحديث، فقد كان في موضوع المشيئة حينما قال الأعرابي: ما شاء الله وشئت. فقال له صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده) لأن حقيقة المشيئة لله تعالى وحده كما في قوله: * (وما تشآءون إلا أن يشآء الله) *. وكقوله: * (بل لله الا مر جميعا) *. وكقوله: * (لله الا مر من قبل ومن بعد) *. ومن اللطائف في قوله تعالى: * (وإن تظاهرا عليه) * إلى آخر ما سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، أنه قال: إن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتان فقط تآمرتا عليه فيما بينهما، فجاء بيان الموالين له ضدهما كل من ذكر في الآية. فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة، ما يدل على عظم كيدهن وضعف الرجال أمامهن، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: * (إن كيدكن عظيم) *، بينما قال في كيد الشيطان: * (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) *. وقد عبر الشاعر عن ذلك بقوله: وقد عبر الشاعر عن ذلك بقوله: * ما استعظم الإله كيدهنه * إلا لأنهن هن هنه * عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا) *. فيه بيان أن الخيرية التي يختارها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في النساء هي تلك الصفات من الإيمان والصلاح.
221 وجاء الحديث (فعليك بذات الدين تربت يمينك). وقوله تعالى: * (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) *.، وفي تقديم الثيبات على الأبكار هنا في معرض التخيير ما يشعر بأولويتهن. مع أن الحديث (هلا بكرا تداعبك وتداعبها)، ونساء الجنة لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، ففيه أولوية الأبكار. وقد أجاب المفسرون بأن هذا للتنويع فقط، وأن الثيبات في الدنيا والأبكار في الجنة كمريم ابنة عمران، والذي يظهر والله تعالى أعلم: أنه لما كان في مقام الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنبيههن لما يليق بمقامه عندهن ذكر من الصفات العالية دينا وخلقا، وقدم الثيبات ليبين أن الخيرية فيهن بحسب العشرة ومحاسن الأخلاق. وقوله تعالى: * (عسى ربه إن طلقكن) * لم يبين هل طلقهن أم لا؟ مع أن عسى من الله للتحقيق، ولكنه لم يقع طلاقهن كما بينه تعالى في سورة الأحزاب، بأنه تعالى خيرهن بين الله ورسوله، وبين الحياة الدنيا وزينتها، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة فلم يطلقهن، ولم يبدله أزواجا خيرا منهن. وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة وإخلال الزواج إليه وتحريم النساء بعدهن عليه عند قوله تعالى: * (ياأيها النبى إنآ أحللنا لك أزواجك) *. وقوله: * (ترجى من تشآء منهن) *. وقوله: * (لا يحل لك النسآء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن) *. وبين الناسخ من المنسوخ في ذلك في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب. قوله تعالى: * (ياأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) *. لم يبين هنا نوع الاعتذار الذي نهوا عنه ولا سبب النهي عنه لماذا؟ ولا زمنه، وقد بين تعالى نوع اعتذارهم في مثل قوله تعالى: * (حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لا ولاهم ربنا هاؤلاء أضلونا فأاتهم عذابا ضعفا من النار) *. وكقوله تعالى: * (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين
222 انظر كيف كذبوا على أنفسهم) *. وكقوله بعدها: * (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بأايات ربنا ونكون من المؤمنين) * فهذا غاية في الاعتذار، ولكنهم نهوا عنه وذلك يوم القيامة، كما في قوله: * (إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد) * أي إلى الدنيا. وقد نهوا عن هذا الاعتذار لأنه لا ينفعهم كما في قوله تعالى: * (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون) *. وقوله: * (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) *. قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) *. تقدمت الإحالة على كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في بيان أنواع التوبة وشروط كونها نصوحا على قوله تعالى: * (وتوبوا إلى الله جميعا) *. قوله تعالى: * (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم) *. إلى آخر الآية، تقدم بيان هذا النور وحالتهم تلك للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الحديد عند قوله تعالى: * (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) *. قوله تعالى: * (ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) *. فيه الأمر بقتال الكفار، والمنافقين والغلظة عليهم، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار، ولم يعلم أنه قاتل المنافقين قتاله للكفار، فما نوع قتاله صلى الله عليه وسلم للمنافقين وبينه؟ والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (وجاهدهم به جهادا كبيرا) * أي بالقرآن لقوله قبله * (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) *. ومعلوم أن المنافقين كافرون، فكان جهاده صلى الله عليه وسلم للكفار بالسيف ومع المنافقين بالقرآن.
223 كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في عدم قتلهم، لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، ولكن كان جهادهم بالقرآن لا يقل شدة عليهم من السيف، لأنهم أصبحوا في خوف وذعر يحسبون كل صيحة عليهم، وأصبحت قلوبهم خاوية كأنهم خشب مسندة، وهذا أشد عليهم من الملاقاة بالسيف. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنينا عنهما من الله شيئا) *. أجمع المفسرون هنا على أن الخيانة ليست زوجية. وقال ابن عباس: نساء الأنبياء معصومات، ولكنها خيانة دينية بعدم إسلامهن وإخبار أقوامهن بمن يؤمن مع أزواجهن ا ه. وقد يستأنس لقول ابن عباس هذا بتحريم التزوج من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده، والتعليل له بأن ذلك يؤذيه، كما في قوله تعالى: * (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذالكم كان عند الله عظيما) *. فإذا كان تساؤلهن بدون حجاب يؤذيه، والزواج بهن من بعده عند الله عظيم، فكيف إذا كان غير التساؤل وبغير الزواج؟ إن مكانة الأنبياء عند الله أعظم من ذلك. وقوله تعالى: * (فلم يغنينا عنهما من الله شيئا) * فيه بيان أن العلاقة الزوجية لا تنفع شيئا مع الكفر، وقد بين تعالى ما هو أهم من ذلك في عموم القرابات كقوله تعالى: * (يوم لا ينفع مال ولا بنون) *. وقوله: * (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه) *. وجعل الله هاتين المرأتين مثلا للذين كفروا، وهو شامل لجميع الأقارب كما قدمنا. وقد سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في معرض محاضرة له الاستطراد في ذلك، وذكر قصة هاتين المرأتين، وقصة إبراهيم مع أبيه ونوح مع ولده، فاستكمل جهات القرابات زوجة مع زوجها، وولد مع والده، ووالد مع ولده. وذكر حديث (يا فاطمة اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا). ثم قال: ليعلم المسلم أن أحدا لا يملك نفع أحد يوم القيامة، ولو كان أقرب قريب
224 إلا بواسطة الإيمان بالله وبما يكرم الله به من شاء بالشفاعة، كما في قوله تعالى: * (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) *. قوله تعالى: * (وضرب الله مثلا للذين ءامنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين) *. جاء في هذا المثل بيان مقابل للبيان المتقدم والمفهوم المخالف له، وهو أن المؤمن لا تضره معاشرة الكافر، كما أن الكافر لا تنفعه معاشرة المؤمن، وفي هذا المثل قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء: لقد اختارت امرأة فرعون في طلبها حسن الجوار قبل الدار ا ه. أي في قولها: * (ابن لى عندك بيتا فى الجنة) *. قوله تعالى: * (ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) *. بين تعالى المراد بالروح بأنه جبريل عليه السلام في قوله: * (فأرسلنآ إليهآ روحنا فتمثل لها بشرا سويا) * وهو جبريل. كما في قوله: * (نزل به الروح الا مين) * أي نزل جبريل بالقرآن، وفي هذه الآية رد على النصارى استدلالهم بها على أن عيسى عليه السلام ابن الله ومن روحه تعالى، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وبيان هذا الرد أن قوله تعالى: * (فأرسلنآ إليهآ روحنا) * تعدية أرسل بنفسه، يدل على أن الذي أرسل يمكن إرساله بنفسه، وهو فرق عند أهل اللغة، بينما يرسل نفسه وما يرسل مع غيره كالرسالة، والهدية، فيقال فيه: أرسلت إليه بكذا، كما في قوله: * (وإنى مرسلة إليهم بهدية) *. فالهدية لا ترسل بنفسها، ومثله بعثت، تقول: بعثت البعير من مكانه، وبعثت مبعوثا، وبعثت برسالة، ثانيا قوله: * (فتمثل لها) * لفظ الروح مؤنث، كما في قوله تعالى: * (فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون) * أنت الفعل في بلغت، وهنا الضمير مذكر عائد لجبريل. وقوله: * (فتمثل لها بشرا سويا) *، ولو أنه من روح الله على ما ذهب إليه النصارى، لما كان في حاجة إلى هذا التمثيل.
225 ثالثا قوله لها: * (إنمآ أنا رسول ربك) * ورسول ربها هو جبريل عليه السلام، وليس روحه تعالى. رابعا: قوله: * (لاهب لك غلاما زكيا) *، ولم يقل لأهب لك روحا من الله. ومن هذا أيضا قوله تعالى للملائكة * (إنى خالق بشرا من طين) * يعني آدم عليه السلام * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحى) * أي نفخت فيه الروح التي بها الحياة، * (فقعوا له ساجدين) *. فلو أن الروح من الله لكان آدم أولى من عيسى، لأنه لم يذكر إرسال رسول له، وقد قال تعالى: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) *، فكذلك عيسى عليه السلام لما بشرتها به الملائكة، * (قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذالك الله يخلق ما يشآء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *، فكل من آدم وعيسى، قال له تعالى * (كن * فكان) * والله تعالى أعلم.
226 ((سورة الملك)) * (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير * الذى خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور * الذى خلق سبع سماوات طباقا ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير * ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير * وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير * إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهى تفور * تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتهآ ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شىء إن أنتم إلا فى ضلال كبير) * قوله تعالى: * (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى تبارك، وذكر أقوال المفسرين واختلافهم في معناها. ورجح أنه بحسب اللغة والاشتقاق أنه تفاعل من البركة، والمعنى: تكاثرت البركات والخيرات من قبله، وهذا يستلزم عظمته وتقديسه.. إلخ. ثم ذكر تنبيها في عدم تصريفها واختصاصها بالله تعالى. وإطلاق العرب إياها على الله تعالى. وقال في إملائه: الذي بيده الملك. أي نفوذ المقدور في كل شيء يتصرف في كل شيء بما يشاء لا معقب لحكمه ا ه. والتقديم للموصول وصلته هنا بالصفة الخاصة به تعالى، وهي قوله تعالى: * (تبارك) * يدل على عظمة الموصول. ويدل له قوله تعالى: * (فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون) *، لأن التقديم بالتسبيح وهو التنزيه يساوي التقديم بقوله تعالى: * (تبارك) *، والموصول بعد التسبيح بصلته كالوصول بعد تبارك وصلته سواء بسواء، وهذا يؤيد ما ذكره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه. والله أعلم. وقد تقدمت الإشارة إلى الفرق بين الملك والمالك عند قوله تعالى: * (الملك القدوس السلام المؤمن) *، وهنا تجتمع الصفتان، فالذي بيده الملك وملكوت كل شيء هو المالك له الملك عليه، وهو رب العالمين سبحانه. قوله تعالى: * (الذى خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى هذه الآية الكريمة بما يوضحها من
227 الآيات عند الكلام على قوله تعالى * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) *، وقبلها في سورة هود على قوله تعالى: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *. وقال رحمه الله في إملائه: جعل للعالم موتتين وإحياءتين، وبينه بقوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) *. والآية تدل عن أن الموت أمر وجودي لا عدمي كما زعم الفلاسفة، لأنه لو كان عدميا، لما تعلق به الخلق. قوله تعالى: * (الذى خلق سبع سماوات طباقا ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت) *. ذكر خلق السماوات السبع الطباق على هذا النحو دون تفاوت أو فطور بعد ذكر أول السورة، يدل على أن خلق هذه السبع من كمال قدرته. وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، الحكمة في خلق السماوات والأرض ضمن تنبيه عقده في أواخر سورة الذاريات. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى الآية الكريمة، والآيات الموضحة لها عند الكلام على أول سورة ق عند قوله تعالى * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) * قال في إملائه: إن قوله تعالى في خلق الرحمن عام في جميع مخلوقاته، من معنى الاستواء والحكمة والدقة في الصنع، وتدخل السماوات في ذلك بدليل قوله تعالى: * (صنع الله الذى أتقن كل شىء) * وإتقان كل شيء بحسبه، كما في قوله: * (قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) *. وقوله: * (الذى أحسن كل شىء خلقه) *. وبدأ خلق الإنسان من طين، وهذا الحال للسماء في الدنيا فقط، وستنفطر يوم القيامة، كما في قوله تعالى: * (إذا السمآء انفطرت) * * (إذا السمآء انشقت) * * (ويوم تشقق السمآء بالغمام) * ونحو ذلك من الآيات. قوله تعالى: * (فارجع البصر هل ترى من فطور) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك عند قوله تعالى: * (وجعلنا
228 السمآء سقفا محفوظا) * في سورة الأنبياء. وعند قوله: * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم) * في سورة ق. ولعل مجيء هذه الآية بعد * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * توجيه لي حسن صنع الله وإبداعه في خلقه * (ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت) *. قوله تعالى: * (ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان زينة السماء بالمصابيح، وجعلها رجوما للشياطين بيانا كاملا عند قوله تعالى: * (ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) *. وقد ذكر طرفا من هذا البحث في سورة الفرقان لا بد من ضمه لي هذا المبحث هناك لارتباط بعضها ببعض. تنبيه فقد ظهرت تلك المخترعات الحديثة ونادى أصحاب النظريات الجديدة والناس ينقسمون إلى قسمين: قسم يبادر بالإنكار وآخر يسارع للتصديق، وقد يستدل كل من الفريقين بنصوص من القرآن أو السنة. ولعل من الأولى أن يقال: إن النظريات الحديثة قسمان: نظرية تتعارض مع صريح القرآن، فهذه مردودة بلا نزاع كنظرية ثبوت الشمس مع قوله تعالى: * (والشمس تجرى لمستقر لها) *. ونظرية لا تتعارض مع نص القرآن ولم ينص عليها، وليس عندنا من وسائل العلم ما يؤيدها ولا يرفضها. فالأولى أن يكون موقفنا موقف التثبت ولا نبادر بحكم قاطع إيجابا أو نفيا، وذلك أخذا من قضية الهدهد وسبأ مع نبي الله سليمان لما جاء يخبرهم. وكان عليه السلام لم يعلم عنهم شيئا فلم يكذب الخبر بكونه من الهدهد ولم يصدقه لأنه لم يعلم عنهم سابقا، مع أنه وصف حالهم وصفا دقيقا. وكان موقفه عليه السلام موقف التثبت مع ما لديه من إمكانيات الكشف والتحقيق من
229 الريح والطير والجن. فقال للمخبر وهو الهدهد: سننظر، أصدقت أم كنت من الكاذبين. ونحن في هذه الآونة لسنا أشد إمكانيات من نبي الله سليمان آنذاك، وليس المخبرون عن مثل هذه النظريات أقل من الهدهد. فليكن موقفنا على الأقل موقف من سينظر أيصدق الخبر أم يظهر كذبه؟ والغرض من هذا التنبيه هو ألا نحمل لفظ القرآن فيما هو ليس صريحا فيه ما لا يحتمله، ثم يظهر كذب النظرية أو صدقها، فنجعل القرآن في معرض المقارنة مع النظريات الحديثة، والقرآن فوق ذلك كله * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) *. قوله تعالى: * (ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) *. المنصوص هنا إرجاع البصر كرتين، ولكن حقيقة النظر أربع مرات. الأولى في قوله: * (ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت) *. والثانية في قوله: * (فارجع البصر هل ترى من فطور) *. والثالثة والرابعة في قوله: * (ثم ارجع البصر كرتين) *. وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد، والحسير: العي الكليل العاجز المتقطع دون غاية، كما في قول الشاعر: وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد، والحسير: العي الكليل العاجز المتقطع دون غاية، كما في قول الشاعر: * من مد طرفا إلى ما فوق غايته * ارتد خسآن من الطرف قد حسرا * قال القرطبي: يقال قد حسر بصره يحسر حسورا، أي كل وانقطع نظره من طول مدى، وما أشبه ذلك فهو حسير ومحسور أيضا. قال: قال: * نظرت إليها بالمحصب من منى * فعاد إلي الطرف وهو حسير * قوله تعالى: * (ولقد زينا السمآء الدنيا) *. فالدنيا تأنيث الأدنى أي السماء الموالية للأرض، ومفهومه أن بقية السماوات ليست فيها مصابيح التي هي النجوم والكواكب كما قال: * (بزينة الكواكب) * ويدل لهذا
230 المفهوم ما جاء به عن قتادة: أن الله جعل النجوم لثلاثة أمور. أمران هنا، وهما زينة السماء الدنيا ورجوما للشياطين. والثالثة علامات واهتداء في البر والبحر، وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا. لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى لأنها أجرام محفوظة، كما في حديث الإسراء (لها أبواب وتطرق ولا يدخل منها إلا بإذن). وكقوله: * (إن الذين كذبوا بأاياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السمآء) *. وكذلك ليس هناك من يحتاج إلى اهتداء بها في سيره لأن الملائكة كل في وضعه الذي أوجده الله عليه، ولأن الزينة لن ترى لوجود جرم السماء الدنيا، فثبت أن النجوم خاصة بالسماء الدنيا. وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله تعالى: * (إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد) *. ومفهوم الدنيا عدم وجودها فيما بعدها، ولا وجود للشيطان في غير السماء الدنيا. وقوله تعالى: * (وجعلناها رجوما للشياطين) *، وهي الشهب من النار، والشهب النار، كما في قوله: * (أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) *، والرجوم والشهب هي التي ترمي بها الشياطين عند استراق السمع، كما في قوله تعالى: * (فمن يستمع الا ن يجد له شهابا رصدا) *. وقوله: * (إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) *. وهنا سؤال، وهو إذا كان الجن من نار، كما في قوله: * (وخلق الجآن من مارج من نار) *، فكيف تحرقه النار؟ فأجاب عنه الفخر الرازي بقوله: إن النار يكون بعضها أقوى من بعض، فالأقوى يؤثر على الأضعف، ومما يشهد لما ذهب إليه قوله تعالى بعده * (وأعتدنا لهم عذاب السعير) * والسعير: أشد النار. ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض، وهذا أمر ملموس، فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد وتسلط عليها آلة من حديد أيضا، أقوى منها فتكسرها.
231 كما قيل: لا يقل الحديد إلا الحديد، فلا يمنع كون أصله من نار ألا يتعذب بالنار، كما أن أصل الإنسان من طين من حمإ مسنون، ومن صلصال كالفخار، وبعد خلقه فإنه لا يحتمل التعذيب بالصلصال ولا بالفخار، فقد يقضي عليه بضربة من قطعة من فخار. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهى تفور تكاد تميز من الغيظ) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه في هذه الآية: إثبات أن للنار حسا وإدراكا وإرادة، والقرآن أثبت للنار أنها تغتاظ وتبصر وتتكلم وتطلب المزيد، كما قال هنا: * (تكاد تميز من الغيظ) *. وقال: * (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) *. وقال: * (يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد) *. قوله تعالى: * (كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتهآ) *. بين تعالى أن النار خزنة، وقد بين تعالى أن هؤلاء الخزنة هم الملائكة الموكلون بالنار، كما في قوله تعالى: * (عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) *. كما بين عدتهم في قوله تعالى: * (عليها تسعة عشر) *. وقال: * (وما جعلنآ أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: دلت هذه الآية على أن أهل النار يدخلونها جماعة بعد جماعة، كما في قوله تعالى * (كلما دخلت أمة لعنت أختها) *. قوله تعالى: * (ألم يأتكم نذير) *. قال رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: هذا سؤال الملائكة لأهل النار، والنذير بمعنى المنذر، فهو فعيل بمعنى مفعل، وإن ذكر عن الأصمعي إنكاره ونظيره من
232 القرآن: بديع السماوات: بمعنى مبدع، وأليم: بمعنى مؤلم. ومن كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب: ومن كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب: * أمن ريحانه الداعي السميع * يؤرقني وأصحابي هجوع * فالسميع بمعنى المسمع. وقول غيلان: وقول غيلان: * ويرفع من صدور شمردلات * يصد وجوهها وهج أليم * أي مؤلم، والإنذار إعلام مقترن بتخويف. وقال: وهذه الآية تدل على أن الله تعالى لا يعذب بالنار أحدا إلا بعد أن ينذره في الدنيا، وقد بين هذا المعنى بأدلته بتوسع عند قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *، وساق هذه الآية هناك. قوله تعالى: * (قالوا بلى قد جآءنا نذير) *. قد اعترفوا بمجيء النذير إليهم. وقد بين تعالى ذلك في قوله * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) *. * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير * إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير * وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير * هو الذى جعل لكم الا رض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور * أءمنتم من فى السمآء أن يخسف بكم الا رض فإذا هى تمور * أم أمنتم من فى السمآء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير * ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير) * قوله تعالى: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: أي قال أهل النار: لو كنا نسمع من يعقل عن الله حججه أو نعقل حجج الله ما كنا في أصحاب السعير، أي النار، فهم يسمعون، ولكن لا يسمعون ما ينفعهم في الآخرة، ويعقلون ولكن لا يعقلون ما ينفعهم في الآخرة، لأن الله قال: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) *. وقال: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفىءاذانهم وقرا) *. وقد بين هذا الذي ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه عدة نصوص صريحة في ذلك، منها أصل خلقتهم الكاملة في قوله تعالى * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه
233 سميعا بصيرا) *. وفي آخر سورة الملك هذه قوله * (قل هو الذى أنشأكم وجعل لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون) *. ولكنهم سمعوا وعصوا، كما في قوله: * (سمعنا وعصينا وأشربوا فى قلوبهم العجل بكفرهم) *. وهذا، وإن كان في بني إسرائيل، إلا أنه قال لهذه الأمة: * (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) *. وقال تعالى عنهم: * (قالوا قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل هاذآ) *. وقوله عنهم: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان والغوا فيه) *. وقد بين تعالى سبب عدم استفادتهم بما يسمعون في قوله تعالى: * (ويل لكل أفاك أثيم يسمع ءايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزوا) *. وقوله: * (وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها) *. فقولهم هنا: * (لو كنا نسمع أو نعقل) * أي سماع تعقل وتفهم. قوله تعالى: * (فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير) *. قال رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: الاعتراف الإقرار، أي أقروا بذنبهم يوم القيامة حيث لا ينفع الإقرار والندم، وتقدم له رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان انتفاع الكفار بإقرارهم هذا بتوسع عند قوله تعالى: * (يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل) *. واستدل بهذه الآية، آية الملك هناك. والظاهر أن الأصل في ذلك كله أن اعترافهم وإيمانهم بعد فوات الأوان بالمعاينة،
234 كما جاء في حق فرعون في قوله تعالى: * (حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إلاه إلا الذىءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين) *، فقيل له: * (ءاأن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) *. وجاء أصرح ما يكون في قوله: * (يوم يأتى بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا) *. فلما جاء بعض آيات الله وظهر الحق، لم يكن للإيمان محل بعد المعاينة * (لا ينفع نفسا إيمانها) * أي من قبل المعاينة كحالة فرعون المذكورة، لأن حقيقة الإيمان التصديق بالمغيبات، فإذا عاينها لم تكن حينذاك غيبا، فيفوت وقت الإيمان والعلم عند الله، وعليه حديث التوبة: ما لم يغرغر. قوله تعالى: * (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) *. والخشية: شدة الخوف، كما قال تعالى: * (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون) *. وبين تعالى محل تلك الخشية في قوله: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * لأنهم يعرفون حق الله تعالى ويراقبونه. وقد بين تعالى حقيقة خشية الله: * (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء وإن منها لما يهبط من خشية الله) *. وقوله: * (لو أنزلنا هاذا القرءان على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) *. فالذين يخشون ربهم بالغيب هم الذين يعرفون حق الله عليهم ومراقبته إياهم في السر والعلن، ويعلمون أنه مطلع عليهم مهما تخسفوا وتستروا وهم دائما منيبون إلى الله، كما في قوله: * (هاذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشى الرحمان بالغيب وجآء بقلب منيب) *، وهذه أعلى درجات السلوك مع الله تعالى، كما بين أنها منزلة العلماء. وقد عاب تعالى أولئك الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، ويخشون
235 الناس ولا يخشون الله، فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. وإفراد الله بالخشية منزلة الأنبياء، كما في قوله: * (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: والعرب تمدح من يكون في خلوته كمشهده مع الناس. ومنه قول مسلم بن الوليد: ومنه قول مسلم بن الوليد: * يتجنب الهفوات في خلواته * عف السريرة غيبه كالمشهد * والواقع أن هذه الصفة، وهي خشية الله بالغيب والإيمان بالغيب أساس عمل المسلم كله، ومعاملاته، لأنه بإيمانه بالغيب سيعمل كل خير طمعا في ثواب الله، كما في مستهل المصحف * (ألم ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) *. وبمخافة الله بالغيب سيتجنب كل سوء، فيسلم ويتحصل له ما قال الله تعالى عنهم: * (مغفرة وأجر كبير) *، مغفرة من ذنوبه * (وأجر كبير) * على أعماله. رزقنا الله خشيته في السر والعلن. وليعلم أن المراد بالغيب مما هو من جانب العبد لا سيده، كما في الحديث في الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا الإحساس هو أقوى عامل على اكتساب خشية الله سبحانه. قوله تعالى: * (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور) *. فيه دلالة على أن السر والجهر عند الله وفي علم الله على حد سواء، لأنه عليم بذات الصدور يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وقوله تعالى: * (سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به) *. وقوله: * (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) *. وتقدم الشيخ عند كل من الآيتين بيان هذه الآية.
236 وقد تقدم قوله تعالى: * (قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله) *. وقوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) *. وتقدم في سورة التحريم قبل هذه السورة مباشرة قوله تعالى: * (وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه) *، ففيه بيان عملي مشاهد بأنه تعالى يعلم السر وأخفى، ولذا قال تعالى هنا * (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) *. كما قال في سورة التحريم: * (قالت من أنبأك هاذا قال نبأنى العليم الخبير) *. وقال القرطبي نقلا عن أبي إسحاق الإسفرائيني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم، ومعناه تفهيم جميع المعلومات، ومنها الخبير، ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون، ومنها الحكيم ويختص بأنه يعلم دقائق الأوصاف، ومنها الشهيد ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه ألا يغيب عنه شيء. ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى، ومنها المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النهار واشتداد الريح وتساقط الأوراق، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال: * (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) *، ومن في قوله تعالى: * (ألا يعلم من خلق) * أجازوا فيها أن تكون فاعل يعلم، وهو الله تعالى، أي إن الذي خلق يعلم ما خلق ومنه ما في الصدور. وأجازوا أن تكون مفعولا والفاعل ضمير مستتر في الفعل يعلم، ذكرهما القرطبي وأبو حيان، وهو واضح ومحتمل. ولكن الذي نشهد له النصوص أنها مفعول كما في قوله: * (إنه بكل شىء عليم) *، * (يعلم خآئنة الا عين وما تخفى الصدور) *. وقوله: * (والله خلقكم وما تعملون) *، ومن أعمالهم ما يسرون، وما يجهرون. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (هو الذى جعل لكم الا رض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه
237 النشور) *. الذلول فعول بمعنى مفعول، وهو مبالغة في الذل. تقول: دابة ذلول بينة الذل، وقيل في معنى تذليل الأرض عدة أقوال لا تنافي بينها، ومجموعها دائر على تمكين الانتفاع منها عن تسهيل الاستقرار عليها وتثبيتها بالجبال، كقوله تعالى: * (والجبال أرساها متاعا لكم ولانعامكم) *. ومن إمكان الزرع فيها كقوله: * (فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا) * إلى قوله أيضا * (متاعا لكم ولانعامكم) *، وقد جمع أكثرها في قوله: تعالى: * (ألم نجعل الا رض كفاتا أحيآء وأمواتا وجعلنا فيها رواسى شامخات وأسقيناكم مآء فراتا) *. وكنت أسمع الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول في هذه الآية: إنها من تسخير الله تعالى للأرض أن جعلها كفاتا للإنسان في حياته بتسهيل معيشته منها وحياته على ظهرها، فإذا مات كانت له أيضا كفاتا بدفنه فيها. ويقول: لو شاء الله لجعلها حديدا ونحاسا فلا يستطيع الإنسان أن يحرث فيها ولا يحفر ولا يبني، وإذا مات لا يجد مدفنا فيها. ومما يشير إلى هذه المعاني كلها قوله تعالى: * (فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه) * لترتبه على ما قبله بالفاء، أي بسبب تذليلها بتيسير المشي في أرجائها، وطلب الرزق في أنحائها بالتسبب فيها من زراعة وصناعة وتجارة إلخ. والأمر في قوله تعالى: * (فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه) * للإباحة. ولكن التقديم لهذا الأمر بقوله تعالى: * (هو الذى جعل لكم الا رض ذلولا) * فيه امتنان من الله تعالى على خلقه مما يشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيها وحثا للأمة على السعي والعمل والجد، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب لتسخيرها وتذليلها، مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها. كما قال تعالى: * (ألم تر أن الله سخر لكم ما فى الا رض والفلك تجرى فى البحر بأمره) *.
238 وفي قوله: * (وسخر لكم ما فى السماوات وما فى الا رض جميعا منه) * وغير ذلك من الآيات. ومن رأى هذا التسخير اعترف لله بالفضل والقيام لله بالحمد، وتقديم الشكر كما قال تعالى: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صوآف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذالك سخرناها لكم لعلكم تشكرون) *. وقوله: * (والذى خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والا نعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذى سخر لنا هاذا وما كنا له مقرنين وإنآ إلى ربنا لمنقلبون) *. أي مع شكر النعمة الاتعاظ والعبرة والاستدلال على كمال القدرة. ومنها المعاد والمنقلب إلى الله تعالى، فقوله: * (وإليه النشور) * بعد المشي في مناكب الأرض وتطلب الرزق وما يتضمن من النظر والتأمل في مسببات الأسباب وتسخير الله لها، كقوله تعالى: * (وإنآ إلى ربنا لمنقلبون) * بعد ذكر * (خلق الأزواج كلها) * أي الأصناف وتسخير الفلك والأنعام والبحر والبر فيه ضمنا إثبات القدرة على البعث، فيكون المشي في مناكب الأرض واستخدام مناكبها واستغلال ثرواتها والانتفاع من خيراتها لا لطلب الرزق وحده، وإلا لكان يمكن سوقه إليهم، ولكن للأخذ بالأسباب أولا، وللنظر في المسببات والعبرة بالمخلوقات والتزود لما بعد الممات، كما في آية الجمعة: * (فانتشروا فى الا رض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) *. أي عند مشاهدة آيات قدرته وعظيم امتنانه. وعليه، فقد وضع القرآن الأمة الإسلامية في أعز مواضع الغنى، والاستغناء والاستثمار والإنتاج، فما نقص عليها من أمور دنياها إلا بقدر ما قصرت هي في القيام بهذا العمل وأضاعت من حقها في هذا الوجود. وقد قال النووي في مقدمة المجموع: إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار
239 وإنتاج كل حاجياتها حتى الإبرة لتستغني عن غيرها، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج، وهذا هو واقع العالم اليوم، إذ القدرة الإنتاجية هي المتحكمة وذات السيادة الدولية. وقد أعطى الله العالم الإسلامي الأولوية في هذا كله، فعليهم أن يحتلوا مكانهم ويحافظوا على مكانتهم ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا. وبالله التوفيق. قوله تعالى: * (أءمنتم من فى السمآء أن يخسف بكم الا رض فإذا هى تمور) *. ذكر أبو حيان في قراءة * (أءمنتم) * عدة قراءات من تحقيق الهمزتين، ومن تسهيل الثانية ومن إدخال ألف بينهما وغير ذلك، والخسف ذهابها سفلا، كما خسف بقارون، والمور الحركة المضطربة أو الحركة بسرعة، وقد ثبتها تعالى بالجبال أوتادا كما قال: * (والجبال أرساها متاعا لكم) *، ومن السماء. قال ابن جرير: هو الله تعالى ا ه. وعزاه القرطبي لابن عباس، ويشهد لما قاله: ما جاء بعده من خسف الأرض وإرسال الحاصب، فإنه لا يقدر عليه إلا الله، كما أنه ظاهر النص، وبهذا يرد على الكسائي فيما ذهب إليه ومن تبعه عليه كأبي حيان، إذا قالوا: إنه على تقدير محذوف من قبيل المجاز، ومجازه عندهم أن ملكوته في السماء أي على حذف مضاف وملكوته في كل شيء، ولكن خص السماء بالذكر، لأنها مسكن ملائكته، وثم عزته وكرسيه واللوح المحفوظ. ومنها تتنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونهيه. إلخ. وقيل: هو جبريل لأنه الموكل بالخسف، وقيل: إنه مجاراة لهم في معتقدهم بأن الله في السماء، وهذه الأقوال مبناها على نفي صفة العلو لله تعالى، وفرارا من التشبيه في نظرهم، ولسكن ما عليه السلف خلاف ما ذهبوا إليه، ومعتقد السلف هو طبق ما قاله ابن جرير لحديث الجارية: (أين الله؟ قالت في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة) ولعدة آيات في هذا المعنى. وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذا المبحث بأوسع وأوضح ما يمكن مما لم يدع لبسا ولا يترك شبهة، ولا يستغني عنه مسلم عالما كان أو متعلما، فالعالم يأخذ منه منهج التعليم السليم وأسلوب البيان الحكيم، والمتعلم يأخذ منه ما يجب عليه من
240 معتقد قويم واضح جلي سليم. وقد يقال: إن معنى في هو الظرفية، فنجعل السماء ظرفا لله تعالى، وهذا يقتضي التشبيه بالمتحيز. فيقال: إنه سبحانه منزه عن الظرفية بالمعنى المعروف والمنصوص في حق المخلوق. وقد دلت النصوص من السنة على نفي ذلك عنه تعالى واستحالته عقلا عليه سبحانه في حديث: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة أو دراهم في ترس، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة، وما العرش في كف الرحمان إلا كحبة خردل في كف أحدكم) فانتفت ظرفية السماء له سبحانه على المعروف لنا، ولأنه سبحانه مستو على عرشه. وفيما قدمه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في هذا المبحث شفاء وغناء، ولله الحمد والمنة. قال القرطبي: إن في السماء بمعنى فوق السماء كقوله: * (فسيحوا فى الا رض) * أي فوقها لا بالمماسة والتحيز. وقيل: في بمعنى على كقوله: * (ولأصلبنكم فى جذوع النخل) * أي عليها إلى أن قال: والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة مشيرة إلى العلو لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ووصفه بالعلو ا ه. وهذا الذي ذكره هو عين مذهب السلف، وقد ذكر كلاما آخره فيه التأويل وفيه التنزيه. * (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان إنه بكل شىء بصير * أمن هاذا الذى هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان إن الكافرون إلا فى غرور * أمن هاذا الذى يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا فى عتو ونفور * أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى أمن يمشى سويا على صراط مستقيم * قل هو الذى أنشأكم وجعل لكم السمع والا بصار والا فئدة قليلا ما تشكرون * قل هو الذى ذرأكم فى الا رض وإليه تحشرون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * قل إنما العلم عند الله وإنمآ أنا نذير مبين * فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هاذا الذى كنتم به تدعون * قل أرءيتم إن أهلكنى الله ومن معى أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم * قل هو الرحمان ءامنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو فى ضلال مبين * قل أرءيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء معين) * قوله تعالى: * (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان إنه بكل شىء بصير) *. الطير صافات، أي مادات أجنحتها. ويقبضن: أي يضمنها إلى أجسامها. قال أبو حيان: عطف بالفعل ويقبضن على الاسم، صافات، ولم يعطف باسم قابضات، لأن الأصل في الطيران هو بسط الجناح، والقبض طارىء، وهذا الذي قاله أبو
241 حيان: جار على القاعدة عندهم من أن الاسم للدوام والثبوت، والفعل للتجدد والحدوث، فالحركة الدائمة في الطيران هي صف الجناح، والجديد عليه هو القبض. وقوله تعالى: * (ما يمسكهن إلا الرحمان) * دليل على قدرته تعالى وآية لخلقه، كما في قوله تعالى: * (ألم يروا إلى الطير مسخرات فى جو السمآء ما يمسكهن إلا الله إن فى ذالك لآيات لقوم يؤمنون) *. فهي آية على القدرة، وقد جاء في آيات أخرى أنه تعالى هو الذي يمسك السماوات والأرض بقدرته جل وعلا، كما في قوله تعالى: * (إن الله يمسك السماوات والا رض أن تزولا ولئن زالتآ إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا) *. فهو سبحانه ممسكهما بقدرته تعالى عن أن تزولا، ولو قدر فرضا زوالهما لا يقدر على إمساكهما إلا هو، وكما في قوله: * (ألم تر أن الله سخر لكم ما فى الا رض والفلك تجرى فى البحر بأمره ويمسك السمآء أن تقع على الا رض إلا بإذنه) *. تنبيه ولعل مما يستدعي الانتباه توجيه النظر إلى الطير في الهواء صافات. ويقبضن: ما يمسكهن إلا الرحمان، بعد التخويف بخسف الأرض بأن معلقة في الهواء كتعلق الطير المشاهد إليكم ما يمسكها إلا الله، وإيقاع الخسف بها، كإسقاط الطير من الهواء، لأن الجميع ما يمسكه إلا الله تعالى، وهو القادر على الخسف بها، وعلى إسقاط الطير. قوله تعالى: * (أمن هاذا الذى يرزقكم إن أمسك رزقه) *. يقول تعالى للمشركين: من هذا الذي غيره سبحانه يرزقكم، إن أمسك الله عنكم رزقه. والجواب. لا أحد يقدر على ذلك ولا يملكه إلا الله. وقد صرح تعالى بهذا السؤال وجوابه في قوله تعالى: * (قل من يرزقكم من السماوات والا رض قل الله) *. أي لا أحد سواه سبحانه لا إله إلا هو، قال تعالى: * (هل من خالق غير الله يرزقكم
242 من السمآء والا رض لا إلاه إلا هو فأنى تؤفكون) *. وذلك لأن الذي يقدر على الخلق هو الذي يملك القدرة على الرزق، كما قال تعالى: * (قل من يرزقكم من السمآء والا رض أمن يملك السمع والا بصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الا مر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) *. وكقوله: * (الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم) *. وهذا من كمال القدرة على الإحياء والإماتة والرزق، وقد بين تعالى أن ذلك لمن بيده مقاليد الأمور سبحانه، وتدبير شؤون الخلق كما في قوله تعالى: * (له مقليد السماوات والا رض) * ثم قال: * (يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه بكل شىء عليم) *، أي يبسط ويقدر، يعلم لا عن نقص ولا حاجة، ولكن يعلم بمصالح عباده، * (الله لطيف بعباده يرزق من يشآء وهو القوى العزيز) * أي يعاملهم بلطفه وهو قوي على أن يرزق الجميع رزقا واسعا، وهو العزيز في ملكه، فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، كما قال تعالى: * (الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر) * أي بمقتضى اللطف والعلم * (وما من دآبة في الا رض إلا على الله رزقها) *. ومن هذا كله يرد على أولئك الذين يطلبون عند غيره الرزق، كما في قوله: * (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والا رض شيئا ولا يستطيعون) *. وقد جمع الأمرين توبيخهم وتوجيههم في قوله تعالى: * (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون) *. وقد بين تعالى قضية الخلق والرزق والعبادة كلها في قوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) *. وقد بين تعالى في الآيات المتقدمة أنه يرزق العباد من السماوات والأرض جملة.
243 وبين في آيات أخرى كيفية هذا الرزق تفصيلا مما يعجز الخلق عن فعله، وذلك في قوله تعالى: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا المآء صبا * ثم شققنا الا رض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدآئق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولانعامكم) *. فجميع أنواع الرزق في ذلك ابتداء من إنزال الماء من السماء، ثم ينشأ عنه إشقاق الأرض عن النبات بأنواعه حبا وعنبا وزيتونا ونخلا وحدائق وفاكهة، وكلها للإنسان، وقضبا وأبا للأنعام، والأنعام أرزاق أيضا لحما ولبنا، وجميع ذلك قوامه إنزال الماء من السماء، ولا يقدر على شيء من ذلك كله إلا الله. فإذا أمسكه الله عن الخلق لا يقوى مخلوق على إنزاله، فإذا علم المسلم أن الأرزاق بيد الخلاق، ومن بيده مقاليد السماوات والأرض لن يتجه برغبة ولا يتوجه بسؤال إلا إلى الله تعالى، موقنا حق اليقين أنه هو سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين. وكما قال تعالى: * (وفى السمآء رزقكم وما توعدون * فورب السمآء والا رض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون) *. وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قولها: (والله لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أعظم مما بيده). قوله تعالى: * (قل أرءيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء معين) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه عند قوله تعالى: * (وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه فى الا رض وإنا على ذهاب به لقادرون) * في سورة المؤمنون.
244 ((سورة القلم)) * (ن والقلم وما يسطرون * مآ أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لاجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم * فستبصر ويبصرون * بأيكم المفتون * إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) * قوله تعالى: * (ن) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور عند الكلام على أول سورة هود: وذكر الأقوال كلها، وهي خمسة أقوال. فقيل: إنها مما استأثر الله بعلمه أو أنها من أسماء الله، أو مركبة من عدة حروف كل حرف من اسم، أو أسماء للسور، أو أنها للأعجاز، وبين رحمه الله وجه كل قول منها، ورجح الأخير، وأنها للإعجاز بدليل أنه يأتي بعدها دائما الانتصار للقرآن، وقد بسط البحث بما يكفي ويشفي. وقال ابن كثير بأقوال أخرى، منها أن * (ن) * بمعنى الدواة أي بمناسبة ذكر القلم، وعزاه إلى الحسن وقتادة، وقال إن فيه حديثا مرفوعا، ولكن غريب جدا، وهو عن ابن عباس: إن الله خلق النون وهي الدواة، وخلق القلم، فقال: أكتب الحديث. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خلق الله النون وهي الدواة). وذكر ابن جرير كل هذه الأوجه وزاد أوجها أخرى: منها أنها افتتاحيات لأوائل السور تسترعي انتباه المستمعين، ثم يتلى عليهم ما بعدها. وقيل: هي من حساب الجمل وغير ذلك. وقد ذكر ابن جرير عند أول سورة الشورى: * (حم * عسق) * أثرا نقله عنه ابن كثير واستغربه واستنكره، ولكن وقع ما يقرب من مصداقه ومطابقته مطابقة تامة. ونصه من ابن جرير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له وعنده حذيفة بن اليمان: أخبرني عن تفسير قول الله: * (حم * عسق) *، قال فأطرق ثم أعرض عنه، ثم كرر مقالته فأعرض فلم يجبه بشيء، وكره مقالته، ثم كررها الثالثة فلم يجبه شيئا.
245 فقال له حذيفة: أنا أنبئك بها، وقد عرفت بم كرهها، نزلت في رجل من أهل بيته يقال له: عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تنبني عليه مدينتان فشق النهر بينهما شقا، فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدنهم، بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا، فذلك قوله: * (حم * عسق) * يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء. * (حم عسق) * يعني عدلا منه * (سين) * يعني سيكون * (ق) * يعني واقع بهاتين المدينتين ا ه. ومع استغراب ابن كثير إياه واستنكاره له، فقد وقع مثل ما يشير إليه الحديث على ثورة العراق على عبد الإله في بغداد، حيث يشقها النهر شقين، وأنه من آل البيت، وقد وقع بها ما جاء وصفه في الأثر المذكور. قوله تعالى: * (مآ أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لاجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان الرد على مقالتهم تلك عند قوله تعالى: * (أم يقولون به جنة بل جآءهم بالحق) * من سورة المؤمنون. وساق النصوص، وقال: إن في الآية ما يرد عليهم، وهو قوله تعالى: * (بل جآءهم بالحق) * ا ه. وهكذا هنا في الآية ما يدل على بطلان دعواهم، ويرد عليهم، وهو قوله تعالى: * (وإن لك لاجرا غير ممنون) * أي على ما جئت به من الحق وقمت به من البلاغ عن الله والصبر عليه، كما رد عليهم بقوله: * (وما صاحبكم بمجنون) *. وكذلك قوله تعالى في حق رسوله الكريم الأعظم * (وإنك لعلى خلق عظيم) * لأن المجنون سفيه لا يعني ما يقول ولا يحسن أي تصرف. والخلق العظيم أرقى منازل الكمال في عظماء الرجال.
246 وقوله تعالى: * (وإن لك لاجرا غير ممنون) *، المن: القطع. أي إن أجره صلى الله عليه وسلم عند الله غير منقطع. قال الشاعر: قال الشاعر: * لمقفر قهر تنازع شلوه * عبس كواسب لا يمن طعامها * وقد بين تعالى دوام أجره دون انقطاع في قوله تعالى: * (إن الله وملائكته يصلون على النبى ياأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) *. وصلوات الله تعالى عليه وصلوات الملائكة والمؤمنين لا تنقطع ليلا ولا نهارا وهي من الله تعالى رحمة، ومن الملائكة والمؤمنين دعاء. وفي سورتي: الضحى وألم تشرح، بكاملها * (ما ودعك ربك وما قلى * وللا خرة خير لك من الا ولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى) *. وقوله: * (ورفعنا لك ذكرك) *. ومعلوم من السنة أن من دل على خير فله مثل من عمل به، فما من مسلم تكتب له حسنة في صحيفته إلا وللرسول صلى الله عليه وسلم مثلها. وقد قال صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث). ومنها: (أو علم ينتفع به). وأي علم أعم نفعا مما جاء به صلى الله عليه وسلم وتركه في الأمة حتى قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي) إلى غير ذلك من النصوص الدالة على دوام أجره. أما جزاؤه عند الله فلا يقدر قدره إلا الله تعالى. وقوله تعالى: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * تقدم أن هذه بمثابة الرد على ادعاء المشركين أولا عليه صلى الله عليه وسلم ورميه بالجنون. لأن أخلاق المجانين مذمومة بل لا أخلاق لهم، وهنا أقصى مراتب العلو في الخلق. وقد أكد هذا السياق بعوامل المؤكدات باندراجه في جواب القسم الأول في أول السورة، وبإن اللام في لعلى، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء والتمكن بدل من ذو
247 مثلا ذو خلق عظيم لبيان قوة التمكن والاستعلاء، وأنه صلى الله عليه وسلم فوق كل خلق عظيم متمكن منه مستعل عليه. وقد أجمل الخلق العظيم هنا وهو من أعم ما امتدح الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه، وقد أرشدت عائشة رضي الله عنها إلى ما بين هذا الإجمال حينما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم الذي امتدح به فقالت (كان خلقه القرآن)، تعني والله تعالى أعلم: أنه صلى الله عليه وسلم يأتمر بأمره وينتهي بنواهيه، كما في قوله تعالى * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) *. وكما في قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) *. وكما قال صلى الله عليه وسلم (لن يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)، فكان هو صلى الله عليه وسلم ممتثلا لتعاليم القرآن في سيرته كلها، وقد أمرنا بالتأسي به صلوات الله وسلامه عليه، فكان من أهم ما يجب على الأمة معرفة تفصيل هذا الإجمال ليتم التأسي المطلوب. وقد أخذت قضية الأخلاق عامة، وأخلاقه صلى الله عليه وسلم خاصة. محل الصدارة من مباحث الباحثين وتقرير المرشدين، فهي بالنسبة للعموم أساس قوام الأمم، وعامل الحفاظ على بقائها، كما قيل: خاصة. محل الصدارة من مباحث الباحثين وتقرير المرشدين، فهي بالنسبة للعموم أساس قوام الأمم، وعامل الحفاظ على بقائها، كما قيل: * إنما الأمم الأخلاق ما بقيت * فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا * في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وقد عنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله تعالى عليهم بقضية أخلاقه بعد نزول هذه الآية، فسألوا عائشة رضي الله عنها عن ذلك فقالت: (كان خلقه القرآن) وعني بها العلماء بالتأليف، كالشمائل للترمذي. أما أقوال المفسرين في الخلق العظيم المعنى هنا فهي على قولين لا تعارض بينهما. منها: أنه الدين، قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم. والآخر قول عائشة: (كان خلقه القرآن) والقرآن والدين مرتبطان. ولكن لم يزل الإجمال موجودا. وإذا رجعنا إلى بعض الآيات في القرآن نجد بعض البيان لما كان
248 عليه صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق مثل قوله تعالى: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *. وقوله: * (لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) *. وقوله: * (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم) *. وقوله: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن) *. ومثل ذلك من الآيات التي فيها التوجيه أو الوصف بما هو أعظم الأخلاق، وإذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم هو القرآن، فالقرآن يهدي للتي هي أقوم. والمتأمل للقرآن في هديه يجد مبدأ الأخلاق في كل تشريع فيه حتى العبادات. ففي الصلاة خشوع وخضوع وسكينة ووقار، فأتوها وعليكم السكينة والوقار. وفي الزكاة مروءة وكرم * (ياأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والا ذى) *. وقوله: * (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا) *. وفي الصيام (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). وقوله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة). وفي الحج: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) *. وفي الاجتماعيات: خوطب صلى الله عليه وسلم بأعلى درجات الأخلاق، حتى ولو لم يكن داخلا تحت الخطاب لأنه ليس خارجا عن نطاق الطلب * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) *، ثم يأتي بعدها * (وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب
249 ارحمهما كما ربيانى صغيرا) *، مع أن والديه لم يكن أحدهما موجودا عند نزولها، إلى غير ذلك من التعاليم العامة والخاصة التي اشتمل عليها القرآن. وقد عني صلى الله عليه وسلم بالأخلاق حتى كان يوصي بها المبعوثين في كل مكان، كما أوصى معاذ بن جبل رضي الله عنه بقوله: (اتق الله حيث ما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما تشاء) أي إن الحياء وهو من أخص الأخلاق سياج من الرذائل، وهذا مما يؤكد أن الخلق الحسن يحمل على الفضائل، ويمنع من الرذائل، كما قيل في ذلك:: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما تشاء) أي إن الحياء وهو من أخص الأخلاق سياج من الرذائل، وهذا مما يؤكد أن الخلق الحسن يحمل على الفضائل، ويمنع من الرذائل، كما قيل في ذلك: * إن الكريم إذا تمكن من أذى * جاءته أخلاق الكرام فأقلعا * * وترى اللئيم إذا تمكن من أذى * يطغى فلا يبقى لصلح موضعا * وقد أشار القرآن إلى هذا الجانب في قوله تعالى: * (الذين ينفقون فى السرآء والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) *. تنبيه إن من أهم قضايا الأخلاق بيانه صلى الله عليه وسلم لها بقوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). مع أن بعثته بالتوحيد والعبادات والمعاملات وغير ذلك مما يجعل الأخلاق هي البعثة. وبيان ذلك في قضية منطقية قطعية حملية، مقدمتها حديث صحيح، وهو (الدين حسن الخلق)، والكبرى آية كريمة. قوله تعالى: * (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولاكن البر من ءامن بالله واليوم الا خر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وفي الرقاب وأقام الصلواة وءاتى الزكواة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأسآء والضراء وحين البأس أولائك الذين صدقوا وأولائك هم المتقون) *. ولمساواة طرفي الصغرى في الماصدق، وهو الدين حسن الخلق، يكون التركيب المنطقي بالقياس الاقتراني حسن الخلق هو البر، والبر هو الإيمان بالله واليوم
250 الآخر، إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة، ينتج حسن الخلق هو الإيمان بالله واليوم الآخر وما عطف عليه. وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الدين كله بأقسامه الثلاثة: الإسلام من صلاة وزكاة. إلخ. والإيمان بالله وملائكته. إلخ. ومن إحسان في وفاء وصدق وصبر وتقوى الله تعالى، إذ هي مراقبة الله سرا وعلنا، وقد ظهرت نتيجة عظم هذه الأخلاق في الرحمة العامة الشاملة في قوله تعالى: * (ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين) *. وكذلك للأمة يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا). وهي قضية منطقية أخرى (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، * (ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين) *. فمكارم الأخلاق رحمة للعالمين في الدنيا، ومنزلة عليا للمؤمنين في الآخرة. تنبيه آخر اتفق علماء الاجتماع أن أسس الأخلاق أربعة: هي: الحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة، ويقابلها رذائل أربعة: هي الجهل، والشره، والجبن، والجور، ويتفرع عن كل فضيلة فروعها: الحكمة: الذكاء وسهولة الفهم، وسعة العلم، وعن العفة، القناعة والورع والحياء والسخاء والدعة والصبر والحرية، وعن الشجاعة النجدة وعظم الهمة، وعن السماحة الكرم والإيثار والمواساة والمسامحة.
251 أما العدالة وهي أم الفضائل الأخلاقية، فيتفرع عنها الصداقة والألفة وصلة الرحم وترك الحقد ومكافأة الشر بالخير واستعمال اللطف. فهذه أصول الأخلاق وفروعها فلم تبق خصلة منها إلا وهي مكتملة فيه صلى الله عليه وسلم. وقد برأه الله من كل رذيلة، فتحقق أنه صلى الله عليه وسلم خلق عظيم فعلا وعقلا. وقال الفخر الرازي: لقد كان صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم. والخلق ما تخلق به الإنسان، لأن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم * (أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) *، ولا بد لكل نبي من خصلة فاضلة. فاجتمع له صلى الله عليه وسلم جميع خصال الفضل عند جميع الأنبياء. وهذا وإن كان له وجه إلا أن واقع سيرته صلى الله عليه وسلم أعم من ذلك. فقد كان قبل البعثة والوحي ملقبا عند القرشيين بالأمين، كما في قصة وضع الحجر في الكعبة إذ قالوا عنه الأمين ارتضيناه. وجاء عن زيد بن حارثة لما أخذ أسيرا وأهدته خديجة رضي الله عنها لخدمته صلى الله عليه وسلم. وجاء أهله بالفداء يفادونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (ادعوه وأخبروه فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء، فقال زيد: والله لا أختار على صحبتك أحدا أبدا، فقال له أهله: ويحك أتختار الرق على الحرية؟ فقال: نعم، والله لقد صحبته فلم يقل لي لشيء فعلته لم فعلته قط. ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله قط) ورجع قومه وبقي هو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده وأعلن تبنيه على ما كان معهودا قبل البعثة. إننا لو قلنا: إن اختيار الله إياه قبل وجوده وتعهد الله إياه بعد وجوده من شق الصدر في طفولته ومن موت أبويه ورعاية الله له. كما في قوله تعالى: * (ما ودعك ربك وما قلى) * إلى قوله: * (ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضآلا فهدى * ووجدك عآئلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السآئل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث) *. إنها نعمة الله تعالى عليه وعلى أمته معه صلوات الله وسلامه عليه، ورزقنا التأسي به. * (فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون * ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشآء بنميم * مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم * أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه ءاياتنا قال أساطير الا ولين * سنسمه على الخرطوم * إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين * ولا يستثنون * فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون * فأصبحت كالصريم * فتنادوا مصبحين * أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين * فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين * وغدوا على حرد قادرين * فلما رأوها قالوا إنا لضآلون * بل نحن محرومون * قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون * قالوا سبحان ربنآ إنا كنا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * قالوا ياويلنآ إنا كنا طاغين * عسى ربنآ أن يبدلنا خيرا منهآ إنآ إلى ربنا راغبون * كذلك العذاب ولعذاب الا خرة أكبر لو كانوا يعلمون * إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم * أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون * أم لكم كتاب فيه تدرسون * إن لكم فيه لما تخيرون * أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون * سلهم أيهم بذالك زعيم * أم لهم شركآء فليأتوا بشركآئهم إن كانوا صادقين * يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون * فذرنى ومن يكذب بهاذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملى لهم إن كيدى متين * أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون * أم عندهم الغيب فهم يكتبون * فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم * لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعرآء وهو مذموم * فاجتباه ربه فجعله من الصالحين * وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين) * قوله تعالى: * (فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشآء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه ءاياتنا قال أساطير الا ولين سنسمه على الخرطوم) *.
252 إذا كان في مجيء الآية قبل هذه * (وإنك لعلى خلق عظيم) * على دعواهم الكاذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون. ففي هذه الآية تنزيهه صلى الله عليه وسلم مما اشتملت عليه من رذائل ونقائص وافتضاح لهم. وبيان الفرق والبون الشاسع بينه وبينهم. ففي الوقت الذي وصفه بأنه على خلق عظيم وصفهم بعكس ذلك من كذب ومداهنة وكثرة حلف ومهانة وهمز ومشي بنميمة ومنع للخير وعتل وتجبر واعتداء، وظلم، وانقطاع زنيم، عشر خصال ذميمة. ونتيجتها الوسم بالخزي على الأنوف صغارا لهم. وقد جاءت آيات القرآن تبين مساويء تلك الصفات وتحذر منها، ولا يسعنا إيرادها كلها وتكفي الإشارة إلى بعضها تنبيها على جميعها في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالا لقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولائك هم الظالمون ياأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) *. قوله تعالى: * (ودوا لو تدهن فيدهنون) *. ذكر القرطبي لمعاني المداهنة فوق عشرة أقوال أرجحها الملاينة، وقد ذكر هنا ودادتهم وتمنيهم المداهنة، ولم يذكر لنا هل داهنهم صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وهل يريدون بذلك مصلحة أم لا؟ وقد جاء بيان ذلك مفصلا بأنهم أرادوا التدرج من المداهنة وملاينته صلى الله عليه وسلم معهم إلى ما بعدها من تعطيل الدعوة. وقد رجح ابن جرير ذلك بقوله: ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادتك إلهك، كما قال جل ثناؤه: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * ا ه. ويشهد لما قاله ابن جرير هذا ما جاء في سبب نزول سورة الكافرون.
253 فأنزل الله تعالى * (قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون مآ أعبد) *. ومما هو صريح في قصدهم بالمداهنة والدافع عليها والجواب عليهم قد جاء موضحا في قوله تعالى: * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) *، ثم قال تعالى مبينا موقف الرسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه المحاولة بقوله: * (فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره) *. وقد جاء الله بأمره حكما بينه وبينهم، وهنا يمكن أن يقال: إن كل مداهنة في الدين مع المشركين تدخل في هذا الموضوع. وقد جاء بعد قوله تعالى: * (ولا تطع كل حلاف مهين) * إشارة إلى أنهم لا يطاعون في مداهنتهم، وأنهم سيبذلون كل ما في وسعهم لترويج مداهنتهم ولو بكثرة الحلف، وفرق بين المداهنة في الدين، والملاطفة في الدنيا أو التعاون وتبادل المنافع الدنيوية، كما قدمنا عند قوله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم) *، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون) *. هذا استفهام إنكاري يدل على أنه لم يسألهم أجرا على دعوته إياهم. وقال تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى) * فالأجر المسؤول المستفهم عنه هو الأجر المادي بالمال ونحوه. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث الأجر على الدعوة من جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ومبحث أخذ الأجرة على الأعمال التي أصلها مزية الله بحثا وافيا عند قوله تعالى * (وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله) * من سورة هود. قوله تعالى: * (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم) *. لم يبين هنا من هو صاحب الحوت، ولا نداءه وهو مكظوم، ولا الوجه المنهي عنه أن يكون مثله، وقد بين تعالى صاحب الحوت في الصافات في قوله تعالى: * (وإن يونس
254 لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون إلى قوله: * (فالتقمه الحوت وهو مليم) *. وأما النداء فقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: قد بينه تعالى في سورة الأنبياء عند قوله تعالى: * (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا إلاه إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذالك ننجى المؤمنين) *. فصاحب الحوت هو يونس، ونداؤه هو المذكور في الآية، وحالة ندائه وهو مكظوم. أما الوجه المنهي عن أن يكون مثله فهو الحال الذي كان عليه عند النداء، وهو في حالة غضبه، وهو مكظوم، وهذا بيان لجانب من خلقه صلى الله عليه وسلم وتخلقه في قوله تعالى: * (ولربك فاصبر) * أي على إيذاء قومك، ولعل هذا من خصائص وخواص توجيهات الله إليه، كما في قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله) * إلى آخر الآية، فقد بين تعالى خلقا فاضلا عاما للأمة في حسن المعاملة والصفح. ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: * (واصبر) * أي لا تعاقب انتقاما ولو بالمثلية ولكن اصبر، وقد كان منه صلى الله عليه وسلم مصداق ذلك في رجوعه من ثقيف حينما آذوه وجاءه جبريل عليه السلام، ومعه ملك الجبال يأتمر بأمره إلى أن قال: لا، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.. إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يؤمن بالله فقد صفح وصبر ورجى من الله إيمان من يخرج من أصلابهم. وهذا أقصى درجات الصبر والصفح وأعظم درجات الخلق الكريم. قوله تعالى: * (لنبذ بالعرآء وهو مذموم) *. بين تعالى أنه لم ينبذ بالعراء على صفة مذمومة، بل إنه تعالى أنبت عليه شجرة تظله وتستره، كما في قوله تعالى: * (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) *. قوله تعالى: * (فاجتباه ربه فجعله من الصالحين) *.
255 بينه تعالى بقوله: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فأامنوا فمتعناهم إلى حين) *. قوله تعالى: * (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين) *. فيه عود آخر السورة على أولها. وأن الكفار إذا سمعوا الذكر شخصت أبصارهم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرمونه بالجنون. والرد عليهم بأن هذا الذي سمعوه ليس بهذيان المجنون، وما هو إلا ذكر للعالمين، وفيه ترجيح القول بأن المراد بنعمة ربك في أول السورة، إنما هي ما أوحاه إليه من الذكر.
256 ((سورة الحاقة)) * (الحاقة * ما الحآقة * ومآ أدراك ما الحاقة * كذبت ثمود وعاد بالقارعة * فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية * وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية * وجآء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية * إنا لما طغا المآء حملناكم فى الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيهآ أذن واعية * فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة * وحملت الا رض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السمآء فهى يومئذ واهية * والملك على أرجآئهآ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية * يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) * قوله تعالى: * (الحاقة ما الحآقة) *. الحاقة من أسماء القيامة وجاء بعدها * (كذبت ثمود وعاد بالقارعة) * وهي من أسماء القيامة أيضا، كما قال تعالى: * (ومآ أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) *. سميت بالحاقة لأنه يحق فيها وعد الله بالبعث والجزاء، وسميت بالقارعة، لأنها تقرع القلوب بهولها * (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) *. كما سميت الواقعة * (ليس لوقعتها كاذبة) *. قوله تعالى: * (كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية) *. والطاغية فاعلة من الطغيان، وهو مجاوزة الحد مطلقا، كقوله: * (إنا لما طغا المآء) *. وقوله: * (إن الإنسان ليطغى) *. وقد اختلف في معنى الطغيان هنا، فقال قوم: طاغية عاقر الناقة، كما في قوله تعالى: * (كذبت ثمود بطغواهآ إذ انبعث أشقاها) * فتكون الباء سببية أي بسبب طاغيتها، وقيل: الطاغية الصيحة الشديدة التي أهلكتهم، بدليل قوله تعالى: * (إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) * فتكون الباء آلية، كقولك: كتبت بالقلم وقطعت بالسكين. والذي يشهد له القرآن هو المعنى الثاني لقوله تعالى: * (وفى ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون) *، ولو قيل: لا مانع من إرادة المعنيين لأنهما متلازمان تلازم المسبب للسبب، لأن الأول سبب الثاني لما كانوا بعيدا، ويشير إليه قوله تعالى: * (فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة) *.
257 فالعتو هو الطغيان في الفعل، والصاعقة هي الصيحة الشديدة، وقد ربط بينهما بالفاء. قوله تعالى: * (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) *. تقدم للشيخ رحمة تعالى علينا وعليه، بيان ذلك عند قوله تعالى * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى أيام نحسات) * المتقدم في فصلت، وفي هذا التفصيل لكيفية إهلاك عاد وثمود بيان لما أجمل في سورة الفجر، في قوله تعالى: * (فصب عليهم ربك سوط عذاب) *. قوله تعالى: * (وجآء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة) *. المؤتفكات: المنقلبات، وهي قرى قوم لوط. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه تفصيل ذلك عند قوله تعالى في هود * (فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها) *. وفي النجم عند قوله تعالى: * (والمؤتفكة أهوى) *. تنبيه نص تعالى هنا أن فرعون ومن قبله، والمؤتفكات جاءوا بالخاطئة وهي: * (فعصوا رسول ربهم) *، وكذلك عاد وثمود كذبوا بالقارعة. فالجميع اشترك في الخاطئة، وهي عصيان الرسول * (فعصى فرعون الرسول) *، ولكنه قد أخذهم أخذة رابية. ونوع في أخذهم ذلك: فأغرق فرعون وقوم نوح، وأخذ ثمود بالصيحة، وعادا بريح، وقوم لوط بقلب قراهم، كما أخذ جيش أبرهة بطير أبابيل، فهل في ذلك مناسبة بين كل أمة وعقوبتها، أم أنه للتنويع في العقوبة لبيان قدرته تعالى وتنكيله بالعصاة لرسل الله. الواقع أن أي نوع من العقوبة فيه آية على القدرة، وفيه تنكيل بمن وقع بهم، ولكن تخصيص كل أمة بما وقع عليها يثير تساؤلا، ولعل مما يشير إليه القرآن إشارة خفيفة هو
258 الآتي: أما فرعون فقد كان يقول: * (أليس لى ملك مصر وهاذه الا نهار تجرى من تحتى) *، فلما كان يتطاول بها جعل الله هلاكه فيها أي في جنسها. وأما قوم نوح فلما يئس منهم بعد ألف سنة إلا خمسين عاما، وأصبحوا لا يلدوا إلا فاجرا كفارا، فلزم تطهير الأرض منهم، ولا يصلح لذلك إلا الطوفان. وأما ثمود فأخذوا بالصيحة الطاغية، لأنهم نادوا صاحبهم فتعاطى فعقر، فلما كان نداؤهم صاحبهم سببا في عقر الناقة كان هلاكهم بالصيحة الطاغية. وأما عاد فلطغيانهم بقوتهم، كما قال تعالى فيهم: * (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التى لم يخلق مثلها فى البلاد) *، وسواء عماد بيوتهم وقصورهم، فهو كناية عن طول أجسامهم ووفرة أموالهم وتوافر القوة عندهم، فأخذوا بالريح وهو أرق وألطف ما يكون، مما لم يكونوا يتوقعون منه أية مضرة ولا شدة. وكذلك جيش أبرهة لما جاء مدل بعدده وعدته، وجاء معه بالفيل أقوى الحيوانات، سلط الله عليه أضعف المخلوقات والطيور * (وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل) *. أما قوم لوط فلكونهم قلبوا الأوضاع بإتيان الذكور دون الإناث، فكان الجزاء من جنس العمل، قلب الله عليهم قراهم. والعلم عند الله تعالى. ولا شك أن في ذلك كله تخويف لقريش. قوله تعالى: * (وحملت الا رض والجبال فدكتا دكة واحدة) *. تقدم بيانه للشيخ رحمه الله في سورة الكهف عند قوله تعالى: * (ويوم نسير الجبال) *. قوله تعالى: * (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) *. تقدم بيانه للشيخ رحمة الله عند قوله تعالى: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) *.
259 * (فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هآؤم اقرؤا كتابيه * إنى ظننت أنى ملاق حسابيه * فهو فى عيشة راضية * فى جنة عالية * قطوفها دانية * كلوا واشربوا هنيئا بمآ أسلفتم فى الا يام الخالية * وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * ياليتها كانت القاضية * مآ أغنى عنى ماليه * هلك عنى سلطانيه * خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين * فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون * فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين * ولو تقول علينا بعض الا قاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين * وإنه لتذكرة للمتقين * وإنا لنعلم أن منكم مكذبين * وإنه لحسرة على الكافرين * وإنه لحق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم) * قوله تعالى: * (فأما من أوتى كتابه بيمينه) *. تقدم للشيخ رحمه الله بيان قضية أخذ الكتب وحقيقتها، عند قوله تعالى: * (ووضع الكتاب) * (الكهف: 94) في سورة الكهف. وكذلك بحثها في كتابه دفع إيهام الاضطراب، وبيان القسم الثالث من وراء ظهره، وفي هذا التفصيل في حق الكتاب والكتابة وتسجيل الأعمال وإيتائها بنصوص صريحة واضحة، كقوله تعالى: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) *. وقولهم صراحة: * (ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) *. وقوله: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) *. وقوله: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *، فهو كتاب مكتوب ينشر يوم القيامة يقرؤه كل إنسان بنفسه مما يرد قول من يجعل أخذ الكتاب باليمين أو الشمال كناية عن اليمين والشؤم. وهذا في الواقع إنما هو من شؤم التأويل الفاسد وبدون دليل عليه، والمسمى عند الأصوليين باللعب. نسأل الله السلامة والعافية. قوله تعالى: * (إنى ظننت أنى ملاق حسابيه) *. والظن واسطة بين الشك والعلم، وقد يكون بمعنى العلم إذا وجدت القرائن، وتقدم للشيخ بيانه عند قوله تعالى: * (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها) * أي علموا بقرنية. قوله: * (ولم يجدوا عنها مصرفا) *، وهو هنا بمعنى العلم، لأن العقائد لا يصلح فيها الظن، ولا بد فيها من العلم والجزم. وقد دل القرآن على أن الظن قد يكون بمعنى العلم، بمفهوم قوله تعالى: * (إن بعض الظن إثم) *، فمفهومه أن بعضه ليس إثما، فيكون حقا، وكذلك قوله تعالى: * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) *. قوله تعالى: * (مآ أغنى عنى ماليه) *.
260 قيل: فيما إنها استفهامية بمعنى أي شيء أغنى عني ماليه، والجواب لا شيء، وقيل: نافية، أي لم يغن عني ماليه شيئا في هذا اليوم، ويشهد لهذا المعنى الثاني قوله تعالى * (يوم لا ينفع مال ولا بنون) *. وقوله: * (مآ أغنى عنه ماله وما كسب) *. وتقدم للشيخ رحمة الله علينا وعليه في سورة الكهف على قوله تعالى: * (ولئن رددت إلى ربى) *. وفي سورة الزخرف عند قوله تعالى: * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا) *. قوله تعالى: * (هلك عنى سلطانيه) *. أي لا سلطان ولا جاه ولا سلطة لأحد في ذلك اليوم، كما في قوله تعالى: * (وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) * حفاة عراة. وقوله: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) *. قوله تعالى: * (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين) *. فيه عطف عدم الحض على طعام المسكين، على عدم الإيمان بالله العظيم، مما يشير إلى أن الكافر يعذب على الفروع. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث هذه المسألة في أول سورة فصلت عند قوله تعالى: * (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكواة) *، وكنت سمعت منه رحمة الله تعالى علينا وعليه قوله: كما أن الإيمان يزيد بالطاعة، والمؤمن يثاب على إيمانه وعلى طاعته، فكذلك الكفر يزداد بالمعاصي. ويجازى الكافر على كفره وعلى عصيانه، كما في قوله تعالى: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) *. فعذاب على الكفر وعذاب على الإفساد، ومما يدل لزيادة الكفر، قوله تعالى: * (إن
261 الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم) *، وتقدم للشيخ رحمه الله مبحث زيادة العذاب عند آية النحل. قوله تعالى: * (إنه لقول رسول كريم) *. إضافة القول إلى الرسول الكريم على سبيل التبليغ، كما جاء بعدها، قوله * (تنزيل من رب العالمين) * والرسول يحتمل النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل جبريل، وقد جاء في حق جبريل. قوله تعالى: * (إنه لقول رسول كريم ذى قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين) *. وهنا المراد به الرسول صلى الله عليه وسلم بقرنية. قوله تعالى: * (وما هو بقول شاعر) * وما عطف عليه لأن من اتهم بذلك هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فنفاه ذلك عنه، فيكون في ذل كله إثبات الصفة الكريمة لسند القرآن من محمد عن جبريل عن الله، وقد أشار لذلك في الآية الأولى في قوله * (مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون) *. فأثبت السلامة والعدالة لرسل الله في تبليغ كلام الله، وفي هذا رد على قريش ما اتهمت به الرسول صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضا الرد على الرافضة دعواهم التغيير أو النقص في القرآن. قوله تعالى: * (ولو تقول علينا بعض الا قاويل) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وبيان هذا المعنى وهو على ظاهره عند الكلام على قوله تعالى: * (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيئا) *، وهو على سبيل الافتراض بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم. وقد استبعد أبو حيان أن يكون الضمير في تقول راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لاستحالة وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم. وقال: إنها قرئت بالمبني للمجهول ورفع بعض، وقال: وعلى قراءة الجمهور يكون فاعل تقول مقدر تقديره: ولو تقول علينا متقول، وقد ذكر تلك القراءة كل من القرطبي والكشاف، ولكن لم يذكرها ابن كثير ولا الطبري ولا النيسابوري ممن يعنون بالقراءات، مما يجعل في صحتها نظرا، فلو صحت لكانت موجهة ولكن ما استبعده أبو
262 حيان ومنعه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم هو في الواقع صحيح، ولكن على سبيل الافتراض فليس ممنوعا، وقد جاء الافتراض في القرآن فيما هو أعظم من ذلك. كما في قوله تعالى * (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين) * وقوله: * (لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا) * والنص الصريح في الموضوع ما قاله الشيخ: في قوله تعالى * (قل إن افتريته فلا تملكون لى من الله شيئا) *. قوله تعالى: * (وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم) *. في هذا نفي كل باطل من شعر أو كهانة أو غيرها، ولكل نقص أو زيادة. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان إضافة الحق لليقين، ومعنى التسبيح باسم ربك عند آخر سورة الواقعة، وحق اليقين هو منتهى العلم، إذ اليقين ثلاث درجات: الأولى: علم اليقين. والثانية: عين اليقين. والثالثة: حق اليقين كما في التكاثر * (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين) * فهاتان درجتان، والثالثة إذا دخلوها كان حق اليقين، ومثله في الدنيا العلم بوجود الكعبة والتوجه إليها في الصلاة، ثم رؤيتها عين اليقين ثم بالدخول فيها يكون حق اليقين، وكما نسبح الله وهو تنزيهه، فكذلك ننزه كلامه، لأنه صفة من صفاته.
263 ((سورة المعارج)) * (سأل سآئل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج * تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة * فاصبر صبرا جميلا * إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا * يوم تكون السمآء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن * ولا يسأل حميم حميما * يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التى تأويه * ومن فى الا رض جميعا ثم ينجيه * كلا إنها لظى * نزاعة للشوى * تدعوا من أدبر وتولى * وجمع فأوعى) * قوله تعالى: * (سأل سآئل بعذاب واقع) *. المعلوم أن مادة سأل لا تتعدى بالياء، كتعديها هنا. ولذا قال ابن كثير: إن الفعل ضمن معنى فعل آخر يتعدى بالباء وهو مقدر ما استعجل، واستدل لذلك بقوله تعالى * (ويستعجلونك بالعذاب) *، وذكر عن مجاهد أن سأل بمعنى دعا. واستدل له بقوله تعالى عنهم: * (اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم) *، وذكر هذا القول ابن جرير أيضا عن مجاهد. وقرئ سال بدون همزة من السيل، ذكرها ابن كثير وابن جرير، وقالوا: هو واد في جهنم، وقيل: مخفف سأل ا ه. ولعل مما يرجح قول ابن جرير أن الفعل ضمن معنى مثل آخر قوله تعالى: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى * (وإذ قالوا اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء) * وأحال على سورة سأل وقال وسيأتي زيادة إيضاح إن شاء الله. وقد بين هناك أن قولهم يدل على جهالتهم حيث لم يطلبوا الهداية إليه إن كان هو الحق. وحيث انه رحمه الله أحال على هذه السورة لزيادة الإيضاح فإن المناسب إنما هو هذه الآية: * (سأل سآئل) * بمعنى استعجل أو دعا لوجود الارتباط بين آية سأل، وآية * (اللهم إن كان هاذا هو الحق) *. المذكورة. فإنهما مرتبطان بسبب النزول.
264 كما قال ابن جرير وغيره عن مجاهد في قوله تعالى: * (سأل سآئل) * قال: دعا داع بعذاب واقع. قال: هو قولهم * (اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك فأمطر علينا) *. والقائل هو النضر بن الحارث بن كلدة. والإيضاح المنوه عنه يمكن استنتاجه من هذا الربط ومن قوله رحمه الله: إنه يدل على جهالتهم وبيان ما إذا كان هذا العذاب الواقع هل وقوعه في الدنيا أم يوم القيامة. والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن جهالة قريش دل عليها العقل والنقل، لأن العقل يقضي بطلب النفع ودفع الضر كما قيل: لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن ساعيا. وأما النقل فلأن مما قص الله علينا أن سحرة فرعون وقد جاءوا متحدين غاية التحدي لموسى عليه السلام ولكنهم لما عاينوا الحق قالوا آمنا وخروا سجدا ولم يكابروا كما قضى الله علينا من نبئهم في كتابه قال تعالى: * (فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى) * ولما اعترض عليهم فرعون وقال: * (ءامنتم له قبل أن ءاذن لكم) * إلى آخر كلامه، قالوا وهو محل الشاهد هنا، لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ولم يبالوا بوعيده ولا بتهديده. وقال في استخفاف: فاقض ما أنت قاض، فهم لما عاينوا البينات خروا سجدا وأعلنوا إيمانهم وهؤلاء كفار قريش يقولون مقالتهم تلك. أما وقوع العذاب المسؤول عنه فإنه واقع بهم يوم القيامة، وإنما عبر بالمضارع الدال على الحال للتأكيد على وقوعه، وكأنه مشاهد وقاله الفخر الرازي وقال هو نظير قوله تعالى * (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) *. وفي قوله تعالى * (للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج) * دليل على تأكيد وقوعه لأن ما ليس له دافع لا بد من وقوعه. أما متى يكون فقد دلت آية الطور نظيره هذه أن ذلك سيكون يوم القيامة في قوله تعالى: * (إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع) * ثم بين ظرف وقوعه * (يوم تمور السمآء مورا وتسير الجبال سيرا) * وفي سياق هذه السورة في قوله تعالى: * (يوم تكون
265 السمآء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن * ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم) * إلى قوله تعالى * (تدعوا من أدبر وتولى * وجمع فأوعى) * فإنها كلها من أحوال يوم القيامة، فدل بذلك على زمن وقوعه. ولعل في قوله تعالى * (تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى) * رد على أولئك المستخفين بالعذاب المستعجلين به مجازاة لهم بالمثل، كما دعوا وطلبوا لأنفسهم العذاب استخفافا فهي تدعوهم إليها زجرا وتخويفا مقابلة دعاء بدعاء، أي إن كنتم في الدنيا دعوتم بالعذاب فهذا هو العذاب يدعوكم إليه * (تدعوا من أدبر) * عن سماع الدعوة وأعرض عنها وتولى وهذا الرد بهذه الصفات التي قبله من تغيير السماء كالمهل وتسيير الجبال كالعهن، وتقطع أواصر القرابة من الفزع والهول مما يخلع القلوب كما وقع بالفعل في الدنيا، كما ذكر القرطبي قصة جبير بن مطعم قال: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فسمعته يقرأ * (والطور * وكتاب مسطور) * إلى قوله تعالى: * (إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع) * فكأنما صدع قلبي فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع العذاب. وذكر القرطبي أيضا عن هشام بن حسان قال: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ والطور حتى بلغ * (إن عذاب ربك لواقع) * فبكى الحسن وبكى أصحابه فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. وذكر ابن كثير عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعس بالمدينة ذات ليلة إذ سمع رجل يقرأ بالطور قربا لها أعيد منها عشرين يوما، فكان هذا الوصف المفزع ردا على ذاك الطلب المستخف والله تعالى أعلم. ونأمل أن نكون قد وفينا الإيضاح الذي أراده رحمه الله تعالى. قوله تعالى: * (تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) *. في هذه الآية الكريمة مقدار هذا اليوم خمسون ألف سنة، وجاءت آيات أخر بأنه ألف سنة في قوله تعالى: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * وقوله: * (يدبر الا مر من السمآء إلى الا رض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة) *
266 فكان بينهما مغايرة في المقدار بخمسين مرة. وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة في كتاب دفع إيهام الاضطراب، وفي الأضواء في سورة الحج عند الكلام على قوله تعالى: * (وإن يوما عند ربك) *. ومما ينبغي أن يلاحظ أن الأيام مختلفة. ففي سأل هو يوم عروج الروح والملائكة، وفي سورة السجدة هو يوم عروج الأمر فلا منافاة. قوله تعالى: * (يوم تكون السمآء كالمهل) *. المهل دريدي الزيت، وقيل غير ذلك. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الرحمن عند الكلام على قوله تعالى: * (فإذا انشقت السمآء فكانت وردة كالدهان) *. قوله تعالى: * (وتكون الجبال كالعهن) *. العهن: الصوف، وجاء في آية أخرى وصف العهن بالمنفوش في قوله تعالى: * (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش) *، وجاءت لها عدة حالات أخرى كالكثيب المهيل وكالسحاب. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان كل ذلك عند قوله تعالى: * (ويوم نسير الجبال) * في سورة الكهف. قوله تعالى: * (ولا يسأل حميم حميما) *. الحميم: القريب والصديق والولي الموالي كما في قوله تعالى: * (ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) *. وفي هذه الآية الكريمة أنه في يوم القيامة لا يسأل حميم حميما مع أنهم يبصرونهم بأبصارهم. وقد بين تعالى موجب ذلك وهو اشتغال كل إنسان بنفسه، كما في قوله تعالى
267 * (لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه) *، وكل يفر من الآخر يقول نفسي نفسي، كما في قوله تعالى: * (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه) *. وقد جاء ما هو أعظم من ذلك في حديث الشفاعة كل نبي يقول: نفسي نفسي، وجاء قوله تعالى: * (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت) *، وليس بعد ذلك من فزع إلا المؤمنون * (وهم من فزع يومئذ ءامنون) * جعلنا الله تعالى منهم. آمين. * (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دآئمون * والذين فى أموالهم حق معلوم * للسآئل والمحروم * والذين يصدقون بيوم الدين * والذين هم من عذاب ربهم مشفقون * إن عذاب ربهم غير مأمون) * قوله تعالى: * (إن الإنسان خلق هلوعا) *. الهلوع: فعول من الهلع صيغة مبالغة، والهلع، قال في الكشاف: شدة سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير، وقد فسره الله في الآية * (إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا) *. ولفظ الإنسان هنا مفرد، ولكن أريد به الجنس أي جنس الإنسان في الجملة بدليل استثناء المصلين بعده في قوله تعالى: * (إلا المصلين) *، ومثله قوله تعالى: * (والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) * ونظيره كثير. وقد قال ابن جرير: إن هذا الوصف بالهلع في الكفار ويدل لما قاله أمران: الأول تفسيره في الآية واستثناء المصلين وما بعده منه، لأن تلك الصفات كلها من خصائص المؤمنين، ولذا عقب عليهم بقوله: * (أولائك فى جنات مكرمون) *، ومفهومه أن المستثنى منه على خلاف ذلك. والثاني الحديث الصحيح: (عجبا لأمر المؤمن شأنه كله خير إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن)، فمفهومه أن غير المؤمنين بخلاف ذلك، وهو الذي ينطبق عليه الوصف المذكور في الآية أنه هلوع. قوله تعالى: * (إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دآئمون) *. وصف الله تعالى من استثناهم من الإنسان الهلوع بتسع صفات.
268 اثنتان منها تختص بالصلاة، وهما الأولى والأخيرة مما يدل على أهمية الصلاة، ووجوب شدة الاهتمام بها. وهذا من المسلمات في الدين لمكانتها من الإسلام، وفي وصفهم هنا بأنهم على صلاتهم دائمون، وفي الأخير، على صلاتهم يحافظون. قال في الكشاف: الدوام عليها المواظبة على أدائها لا يخلون بها، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل. وذكر حديث عائشة مرفوعا (أحب الأعمال إلى الله أدومها ولو قل). ويشهد لهذا الذي قاله قوله تعالى: * (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والا صال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلواة وإيتآء الزكواة يخافون يوما) * وقوله: * (ياأيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلواة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) *. قال: والمحافظة عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها، وهذا يشهد له قوله تعالى: * (قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون) *. وحديث المسئ صلاته، حيث قال له صلى الله عليه وسلم: (ارجع فصل فإنك لم تصل)، فنفى عنه أنه صلى مع إيقاعه الصلاة أمامه، وذلك لعدم الحفاظ عليها بتوفيتها حقها. وقد بدأ الله أولئك المستثنين وختمهم بالصلاة مما يفيد أن الصلاة أصل لكل خير، ومبدأ لهذا المذكور كله لقوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلواة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) * فهي عون على كل خير. ولقوله تعالى: * (إن الصلواة تنهى عن الفحشآء والمنكر) *، فهي سياج من كل منكر، فجمعت طرفي المقصد شرعا، وهما العون على الخير والحفاظ من الشر أي جلب الصالح ودرء المفاسد، ولذا فقد عني بها النبي صلى الله عليه وسلم كل عنايتها، كما هو معلوم، إلى الحد الذي جعلها الفارق والفيصل بين الإسلام والكفر في قوله صلى الله عليه وسلم (العهد الذي بيننا
269 وبينهم الصلاة، من ترك الصلاة فقد كفر). واتفق الأئمة رحمهم الله على قتل تاركها. وكلام العلماء على أثر الصلاة على قلب المؤمن وروحه وشعوره وما تكسبه من طمأنينة وارتياح كلام كثير جدا توحي به كله معاني سورة الفاتحة. قوله تعالى: * (والذين فى أموالهم حق معلوم للسآئل والمحروم) *. هذا هو الوصف الثاني، ويساوي إيتاء الزكاة لأن الحق المعلوم لا يكون إلا في المفروض، وهو قول أكثر المفسرين ولا يمنع أن السورة مكية، فقد يكون أصل المشروعية بمكة، ويأتي التفصيل بالمدينة، وهو في السنة الثانية من الهجرة، وهنا إجمالا في هذه الآية. الأول: في الأموال. والثاني: في الحق المعلوم. أي القدر المخرج، ولم تأت آية تفصل هذا الإجمال إلا آية: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه) *، وقد بينت السنة هذا الإجمال. أما الأموال، فهي لإضافتها تعم كل أموالهم، وليس للأمر كذلك، فالأموال الزكوية بعض من الجميع وأصولها عند جميع المسلمين هي: أولا: النقدان: الذهب والفضة. ثانيا: ما يخرج من الأرض من حبوب وثمار. ثالثا: عروض التجارة. رابعا: الحيوان، ولها شروط وأنصباء. وفي كل من هذه الأربعة تفصيل، وفي الثلاثة الأولى بعض الخلاف. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان كل ما يتعلق بأحكامها جملة وتفصيلا عند آيتي * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) * وقوله تعالى: * (وءاتوا حقه يوم حصاده) *، ولم يتقدم ذكر لزكاة الحيوان
270 ولا زكاة الفطر، وعليه نسوق طرفا من ذلك لتفصيل النصاب في كل منها، وما يجب في النصاب، وما تدعو الحاجة لذكره من مباحث في ذلك كالخلطة مثلا، والصفات في المزكى، والراجح فيما اختلف فيه، ثم نتبع ذلك بمقارنة بين هذه الأنصباء في بهيمة الأنعام وأنصباء الذهب والفضة لبيان قوة الترابط بين الجميع ودقة الشارع في التقدير. أولا: بيان النوع الزكوي من الحيوان. اعلم رحمنا الله وإياك: أن مذهب الجمهور أنه لا زكاة في الحيوان إلا في بهيمة الأنعام الثلاثة: الإبل، والبقر، والغنم الضأن والمعز سواء. وألحق بالبقر الجواميس، والإبل تشمل العراب والبخاتي، والخلاف في الخيل. ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى دليل أبي حنيفة رحمه الله استدل لوجوب الزكاة في الخيل بالقياس في حملها على الأصناف الثلاثة الأخرى، إذا كانت للنسل أي كانت ذكورا وإناثا، بخلاف ما إذا كانت كلها ذكورا يجامع التناسل في كل واشترط لها السوم أيضا. وبحديث: (ما من صاحب ذهب لا يؤدي زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صفح له صفائح من نار فتكوى بها جبينه وجنبه وظهره) الحديث. وفيه ذكر الأموال الزكوية كلها والإبل والبقر والغنم. فقالوا: والخيل يا رسول الله؟ فقال: (الخيل ثلاثة هي لرجل أجر ولرجل ستر، ولرجل وزر. أما التي لرجل أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج أو روضة) إلى آخر ما جاء في هذا القسم ورجل ربطها تغنيا وتعففا، ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر. ورجل ربطها رياء وفواء لأهل الإسلام، فهي على ذلك وزر. فقال رحمه الله: إن حق الله في رقابها وظهورها هو الزكاة. وقد خالفه في ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد ووافقه زفر، وبما رواه الدارقطني والبيهقي والخطيب من حديث جابر مرفوعا: (في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم). أدلة الجمهور على عدم
271 وجوب الزكاة فيها والرد على أدلة أبي حنيفة رحمه الله: واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة). والفرس اسم جنس يعم ويعدم ذكرها مع بقية الأجناس الأخرى حتى سئل عنها صلى الله عليه وسلم، فلو كانت مثلها في الحكم لما تركها في الذكر. وحديث: (قد عفوت عن الخيل فهاتوا زكاة الرقة). رواه أبو داود. وأجابوا على استدلال أبي حنيفة، بأن حق الله في رقابها، وظهورها إعارتها وطرقها إذا طلب ذلك منه. كما أجابوا على حديث جابر بما نقله الشوكاني والدارقطني من أنه لا تقوم به حجة. ورد أبو حنيفة على دليل الجمهور بأن فرسه مجمل وهو يقول بالحديث إذا كان الفرس للخدمة. أما إذا كانت الخيل للتناسل، فقد خصها القياس، وعلى حديث عفوت من الخيل بأنه لم يثبت، وهذه دعوى تحتاج إلى إثبات، فقد ذكر الشوكاني أنه حسن. ولعل مما يرد استدلال أبي حنيفة نفس الحديث الذي استدل به من قرينة التقسيم، إذا أناط الأجر فيها بالجهاد عليها، ولم يذكر الزكاة مع أن الزكاة قد تكون ألزم من الأجر أو أعم من الجهاد لأنها تكون لمن لا يستطيع الجهاد كالمرأة مثلا فتزكي فلو كانت فيها الزكاة لما خرجت عن قسم الأجر. ثانيا: لو كان حق الله في المذكور هو الزكاة لما ترك لمجرد تذكرها وخيف تعرض للنسيان، لأن زكاة الأصناف الثلاثة الأخرى لم تترك لذلك بل يطالب بها صاحبها، ويأتي العامل فيأخذها، وإن امتنع صاحبها أخذت جبرا عليه، وبهذا يظهر رجحان مذهب الجمهور في عدم الوجوب. ومن ناحية أخرى، فقد اختلف القول عن أبي حنيفة رحمه الله فيما تعامل به، وفيما يخرج في زكاتها، فقيل: إنه مخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارا أو عشرة دراهم، وبين أن يقومها ويدفع عن كل مائتي درهم خمسة دراهم. وقد جعل الأحناف زكاتها لصاحبها ولا دخل للعامل فيها ولا يجبر الإمام عليها،
272 وقد أطال في الهداية الكلام عليها، ولعل أحسن ما يقال في ذلك ما جاء عن عمر رضي الله عنه في سنن الدارقطني، قال: جاء ناس من أهل الشام إلى عمر رضي الله عنه، فقالوا: إنا قد أصبنا أموالا وخيلا ورقيقا، وإنا نحب أن نزكيه، فقال: ما فعله صاحباي قبلي فأفعله أنا، ثم استشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: حسن، وسكت علي، فسأله، فقال: هو حسن لو لم تكن جزية راتبة يؤخذون بها بعدك. فأخذ من الفرس عشرة دراهم، وفيه: فوضع على الفرس دينارا. وفي المنتقى عن أحمد رحمه الله أنهم قالوا: نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور، فهي إذا دائرة بين الاستحباب والترك. وقد جاء في نفس الحديث الطويل المتقدم أنهم قالوا: والحمر يا رسول الله فقال: (ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * رواه الستة إلا الترمذي. وعليه فإن الأحاديث التي هي نص في الوجوب أو للترك لم تصلح للاحتجاج، والحديث الذي فيه الاحتمال في معنى حق الله في ظهورها ورقابها، قال ابن عبد البر: إنه مجمل، فلم يكن في النصوص المرفوعة متمسك للأحناف في قولهم بوجوب زكاة الخيل، وبقي مفهوم الحديث. وقول عمر رضي الله عنه. أما مفهوم الحديث فقد أشرنا إلى القرائن التي فيه على عدم الوجوب. وأما فعل عمر رضي الله عنه ففيه قرائن أيضا، بل أدلة على عدم الوجوب وهي أولا لأنهم هم الذين طلبوا منه أن يزكيها ويطهرها بالمزكاة وإيجاب الزكاة لا يتوقف على رغبة المالك. ثانيا: توقف عمر وعدم أخذها منهم لأول مرة، ولو كانت معلومة له مزكاة لما خفيت عليه ولما توقف. ثالثا: تصريحه بأنه لم يفعله صاحباه من قبله، فكيف يفعله هو؟ رابعا: قول علي: ما لم تكن جزية من بعدك. أي: إن أخذها عمر استجابة لرغبة أولئك فلا بأس لتبرعهم بها، ما لم يكن ذلك سببا لجعلها لازمة على غيرهم فتكون كالجزية على المسلمين. ومما يستدل به للجمهور حديث (قد عفوت عن الخيل والرقيق فأدوا زكاة
273 أموالكم). رواه أبو داود. قال الشوكاني بإسناد حسن: وهذا ما يتفق مع حديث (ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده) رواه الجماعة. وقد أجاب الأحناف على تردد عمر بأن الخيل لم تكن تعرف سائمة للنسل عند العرب، ولكنها ظهرت بعد الفتوحات في عهد عمر وفي هذا القول نظر. وعليه فلا دليل على وجوب الزكاة في الخيل فتبقى على البراءة الأصلية، ولهذا لم يأت للخيل ذكر في كتاب أنصباء بهيمة الأنعام، ولا يرد عليه أن البقر لم يأت ذكرها أيضا فيه، لأن زكاة البقر جاءت فيها نصوص متعددة لأصحاب السنن. وللبخاري وغيره بيان أنصباء الزكاة وما يؤخذ فيها: معلوم أنه لم يأت نص من كتاب الله يفصل ذلك، ولكن تقدم في مقدمة الشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه أن من أنواع البيان بيان القرآن بالسنة، وهو نوع من بيان القرآن لقوله تعالى: * (ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه) *. وقد بينت السنة أركان الإسلام كعدد الركعات وأوقات الصلوات مفصلة ومناسك الحج. فكذلك بينت السنة مجمل هذا الحق، وفي أي أنواع الأموال، وإن أجمع نص في ذلك هو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه وقرنه بسيفه، وقد عمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ومضى عليه العمل فيما بعد. وقد رواه الجماعة عن أنس رضي الله عنه، قال أرسل إلي أبو بكر كتابا، وكان نقش الخاتم عليه (محمد) سطر، و (رسول) سطر، و (الله) سطر: بسم الله الرحمان الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر بها رسوله، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل قومها فلا يعط، في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين
274 ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة. وصدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين فيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة. فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فلا يجتمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. الحديث. فقد بين صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب أنصباء الإبل والغنم وما يجب في كل منهما، ولم يتعرض لأنصباء البقر، ولكن بين أنصباء البقر حديث معاذ عند أصحاب السنن، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى اليمن ألا آخذ من البقر شيئا حتى تبلغ ثلاثين: فإذا بلغت ففيها عجل تبيع جذع أو جذعة حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة. ولهذين النصين الصحيحين يكتمل بيان أنصباء بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، وهو الذي عليه الجمهور وعليه العمل. وما روي عن سعيد بن المسيب: في كل عشر من البقر شاة إلى ثلاثين، ففيها تبيع فلم يعمل به أحد. تنبيه وليس في الوقص في بهيمة الأنعام زكاة، والوقص هو ما بين كل نصاب والذي يليه، كما بين الخمسة والتسعة من الإبل، وما بين الأربعين والعشرين ومائة من الغنم، وما بين الثلاثين والأربعين من البقر، وهذا باتفاق إلا خلاف للأحناف في وقص البقر فقط، والصحيح هو مذهب الجمهور في الجميع. لحديث معاذ لقوله صلى الله عليه وسلم (حتى تبلغ أربعين فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة)، فمفهومه أنه لا زكاة بعد الثلاثين حتى تبلغ أربعين، فما بين
275 الثلاثين والأربعين لا زكاة فيه. وأبو حنيفة يقول فيه بنسبة من التبيع، وقد اشترط لزكاة بهيمة الأنعام النسل والسوم، وأنه لا زكاة في المعلوفة، ولا التي للعمل كالإبل للحمل عليها، والبقر للحرث ونحو ذلك. وقال مالك في المعلوفة، وفي العوامل الزكاة قال في الموطأ ما نصه: في الإبل النواضح والبقر السواقي وبقر الحرث إني أرى أن يؤخذ من ذلك كله إذا وجبت فيه الصدقة. واستدلوا لمالك في ذلك بأمرين: الأول: من جهة النصوص. والثاني: من جهة المعنى. أما النصوص، فما جاء عاما في حديث أبي بكر رضي الله عنه في أنصباء الزكاة في أربع وعشرين من الإبل فما دونه الغنم في كل خمس شاة لعمومه في السائمة والمعلوفة، هذا في الإبل وكذلك في الغنم في كل أربعين شاة شاة أي بدون قيد السوم. وأما من جهة المعنى: فقال الباجي: إن كثرة النفقات وقلتها إذا أثرت في الزكاة فإنها تؤثر في تخفيفها وتثقيلها ولا تؤثر في إسقاطها ولا إثباتها، كالخلطة والتفرقة والسقي بالنضج والسبح، ولا فرق بين السائمة والمعلوفة إلا تخفيف النفقة وتثقيلها. وأما التمكن من الانتفاع بها فعلى حد واحد لا يمنع علفها من الدر والنسل، ورد الجمهور على أدلة مالك أيضا بأمرين: الأول: من جهة النصوص. والثاني: من جهة المعنى. أما النصوص: فما جاء من الإبل في حديث بهز بن حكيم، وفيه: (في كل أربعين من الإبل سائمة ابنة لبون) رواه أبو داود والنسائي وغيرهما. وفي الغنم حديث (في سائمة الغنم الزكاة) وهو حديث صحيح. وفي كتاب أبي بكر وعمر فقالوا: جاء قيد السوم في الحديثين، وأدلة مالك مطلقة ويحمل المطلق على المقيد كما هو معلوم.
276 ومما يدل على رجحان أدلة الجمهور أن في حديث الغنم جاء المطلق في بيان العدد في كل أربعين شاة شاة، فهو لبيان النصاب أكثر منه لبيان الوصف. وحديث: (في سائمة الغنم الزكاة): لبيان محل الوجوب أكثر منه لبيان العدد، ومن جهة أخرى يعتبر الحديثان مترابطان، وأن كلا منهما عام من وجه خاص من وجه آخر، فحديث (في سائمة الغنم الزكاة)، عام في الغنم بدون عدد خاص في السائمة. وحديث: (في كل أربعين شاة شاة). عام في الشياه خاص بالأربعين. فيخصص عموم كل منهما بخصوص الآخر، فيقال: في سائمة الغنم الزكاة إذا بلغت أربعين، ويقال: في كل أربعين شاة شاة إذا كانت سائمة، وبهذا تلتئم الأدلة في الإبل والغنم لاشتراط السوم وتحديد العدد. أما البقر فقد حكي الإجماع على اعتبار السوم، ومن أدلة الجمهور من جهة المعنى أن السوم والنسل للنماء، فيحتمل المواساة، أما المعلوفة والعوامل فليست تحتمل المواساة. ومما تقدم يترجح قول الجمهور في اشتراط السوم والنسل. والله تعالى أعلم. ما جاء في الخلطة، وهي اختلاط المالين معا لرجلين أو أكثر، وهي على قسمين: أولا: خلطة أعيان. ثانيا: خلطة أوصاف. فخلطة الأعيان: أن يكون المال مشتركا بين الخلطاء على سبيل المشاع، كمن ورثوا غنما أو بقرا مثلا ولم يقتسموه أو أهدي إليهم ولم يقتسموه. وهذه الخلطة يكون حكم المال فيها، كحكمه لو كان لشخص واحد، أو خلطة الأوصاف، فهي أن يكون المال متميزا، وكل منهم يعرف حصته وماله بعدد وأوصاف سواء بألوانها أو بوسمها أو نحو ذلك. ولكنهم خلطوا المال ليسهل القيام عليه كاختلاطهم في الراعي والمرعي والمسرح والمراح والفحل والدلو والمحلب. ونحو ذلك مما هو منصوص عليه لما فيه من الرفق والاكتفاء بواحد من كل ذلك، لجميع المال ولو فرق لاحتاج كل مال منه إلى واحد من ذلك كله، فهذه الخلطة لها تأثير في الزكاة عند الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، ولا تأثير لها عند أبي
277 حنيفة رحمه الله، وإنما التأثير عنده في خلطة المشاع. واختلف القائلون بتأثيرها في الزكاة على من تؤثر: فقال أحمد والشافعي: تؤثر على جميع الخلطاء، من يملكون نصابا، ومن لا يملك. وقال مالك: لا تؤثر إلا على من ملك نصابا فأكثر، ومن لا يملك نصابا فلا تأثير لها عليه. ودليل الجمهور على أبي حنيفة في تأثيرها هو قوله صلى الله عليه وسلم في كتاب بيان أنصباء الصدقة. ولا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهم يتراجعان بالسوية. فقال الجمهور: النهي عن تفريق المجتمع لا يتأتى إلا في اجتماع الأوصاف لأن اجتماع المشاع لا يتأتى تفريقه خشية الصدقة، وكذلك التراجع بالسوية لا يقال إلا في خلطة الأوصاف، لأن خلطة المشاع ما يؤخذ منها مأخوذ من المجموع وعلى المشاع أيضا، لأن كل شريك على المشاع له حصته من كل شاة على المشاع. مثال ذلك عند الجميع، وإليك المثال للجميع، لو أن ثلاثة أشخاص يملك كل واحد منهم أربعين شاة، فإن كان كل منهم على حدة، فعلى كل واحد منهم شاة فإن اختلطوا كانت عليهم جميعا شاة واحدة بالسوية، بينهم لأن مجموعهم مائة وعشرون، وهو حد الشاة. وهذا عند الأئمة الثلاثة القائلين بتأثير الخلطة: مالك والشافعي وأحمد، ولو أن للأول عشرين شاة وللثاني أربعين وللثالث ستين ففيها أيضا شاة. ولكن عند أحمد والشافعي كل بحصته فلو كانت الشاة بستين درهما، لكان على الأول عشرة دراهم بنسبة غنمه من المجموع، وعلى الثاني عشرون وعلى الثالث ثلاثون كل بنسبة غنمه من المجموع. وعند مالك: لا شيء على الأول لأنه لم يملك نصابا، والشاة على الثاني والثالث فقط، وبنسبة غنمهما من المجموع، فعلى الثاني خمسا القيمة أربعة وعشرون. وعلى الثالث ثلاثة أخماسها ستة وثلاثون درهما وهكذا.
278 والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنما يتراجعان بالسوية). فقال الجمهور: النهي عن تفريق المجتمع وتقاسمهما بالسوية دليل على تأثير الخلطة في الزكاة لما فيه من إرفاق. قال الباجي: كما في الإرفاق في سقي الحرث ما سقي بالنضح وما سقي بغير النضح. وقال أبو حنيفة: ما كان من خليطين يعني الشريكين ولكن يرده قوله صلى الله عليه وسلم: (يتراجعان بالسوية) لأن التراجع لا يتحقق إلا في خلطة الجوار والأوصاف. وقال مالك: لا تأثير للخلطة على من لم يملك النصاب لقوله صلى الله عليه وسلم: (في كل أربعين شاة شاة)، فمن لم يملك أربعين شاة فلا زكاة عليه ولا تأثير للخلطة عليه. ولعل من النصوص المقدمة يكون الراجح مذهب أحمد والشافعي في قضية الخلطة. والله تعالى أعلم. الشروط المؤثرة في الخلطة عند القائلين بها كالآتي: عند أحمد رحمه الله تعالى خمسة أوصاف، وهي اتحاد المالين في الآنى المرعى. المسرح. المبيت. المحلب. الفحل. وعند الشافعي رحمه الله ذكر النووي عشرة أوصاف الخمسة الأولى. وزاد أن يكون الشريكان من أهل الزكاة: أن يكون المال المختلط نصابا، أن يمضي عليهم حول كامل، اتحاد المشرب: اتحاد الراعي. وعند مالك: الراعي، والفحل، والمراح، والدلو، والمراد بالدلو المشرب، عند الشافعي وعليه: يكون الجميع متفقين تقريبا في الأوصاف، وما زاده الشافعي معلوم شرعا، لأنها شروط في أصل وجوب الزكاة. ولكن اختلفوا في المراد من هذه الأوصاف هل تشترط جميعها أو يكفي وجود بعضها. الواقع أنه لا نص في ذلك ولكن يرجع إلى تحقيق المناط فيما يكون به الإرفاق، فمالك اكتفى ببعضها كالفحل والمرعى، والراعي. والشافعي. اشترط توفر جميع تلك
279 الأوصاف، وإلا فلا تكون الخلطة مؤثرة، ولكل في مذهبه خلاف في تلك الأوصاف لا نطيل الكلام بتتبعه، وإنما يهمنا بيان الراجح فيما فيه الخلاف في أصل المسألة، وقد ظهر أن الراجح هو الآتي: أولا: صحة تأثير الخلطة. ثانيا: اشتراط الأوصاف التي تتحقق بها الخلطة عرفا. ملحوظة لقد عرفنا أنصباء بهيمة الأنعام جملة وتفصيلا، وبقي علينا الإجابة عن سؤال طال ما جال تفكر كل دارس فيه، وهو ما يقوله جميع الفقهاء: إن المقادير توقيفية، ومنها أنصباء الزكاة. ومعنى توقيفية: أنه لا اجتهاد فيها، ولكن هل هي جاءت لغوية، أو أن بين هذه الأنصباء ارتباط ونسبة مطردة. الواقع: أنه، وإن كان الواجب على كل مسلم والذي عليه المسلمون قديما وحديثا هو الامتثال والطاعة، إلا أننا لما كنا في عصر مادي والنظام الاقتصادي هو الأصل في سياسة العالم اليوم، فإن البعض قد يتطلع إلى الإجابة عن هذا السؤال. وقد حاولت الإجابة عليه بعمل مقارنة عامة توجد بها نسبة مطردة كالآتي: أولا: في النقدين معلوم أن نصاب الذهب عشرون مثقالا، والفضة مائتا درهم وفي كل منهما ربع العشر، وكان صرف الدينار عشرة دراهم، فيكون نصاب الذهب من ضرب عشرين في عشرة فيساوي مائتين، فهي نسبة مطردة كما ترى. وإذا جئنا للنسبة بين الذهب والفضة وهي أصل الأثمان، وبين الغنم نجد الآتي: أولا: في حديث عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليتشري لهم شاة فذهب وأتاهم بشاة ودينار، فقال له صلى الله عليه وسلم (ماذا فعلت؟) فقال اشتريت شاتين بالدينار، ثم لقيني رجل فقال: أتبيعني شاة فبعته شاة بدينار، فقال له صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لك في صفقة يمينك). معنى هذا أن الدينار قيمته الشرائية تعادل شاتين، من ضرب عشرين دينارا في اثنتين فيساوي أربعين شاة، وهذا هو نصاب الغنم، وفي الأربعين شاة شاة، وقيمتها الشرائية نصف الدينار، وهي خمسة دراهم وهي ما يؤخذ في العشرين مثقالا فاطردت النسبة أيضا
280 بين الذهب والفضة وبين الغنم. أما بين الغنم والإبل فقد وجدنا أن البدنة عن سبع شياه في الهدي، ونصاب الإبل خمسة وتضربها في سبع فيساوي خمسة وثلاثين، ولو جعلت ستا لكانت تعادل اثنين وأربعين فأخذنا بالأقل احتياطا لحق المسكين، فكان بين نصاب الإبل ونصاب الغنم نسبة مطردة. وكذلك نصاب الغنم، ونصاب النقدين نسبة مطردة. فظهرت الدقة واطراد النسبة في الأنصباء. ما يجوز أخذه وما لا يجوز أخذه في الزكاة اتفقوا على أنه لا تؤخذ الذكور في الزكاة اللهم إلا ابن لبون لمن لم تكن عنده بنت مخاض. واختلف فيما لو كان النصاب كله ذكورا، والواقع أن هذا نادر، ولكن اتفقوا على أنه لا تؤخذ السخال مع وجوب الاعتداد بها على صاحبها. كما جاء عن عمر رضي الله عنه: اعتد عليهم بالسخلة يأتي بها الراعي، ولا تأخذها منهم، ولا يجوز أخذ فحل الإبل ولا تيس الغنم ولا الربى، ولا الحلوبة. لما في ذلك من المضرة على صاحب المال. كما لا تؤخذ السخلة ولا العجفاء لما فيه من مضرة المسكين، والأصل في ذلك ما رواه مالك رحمه الله في الموطأ، قال: اعتد عليهم بالسخلة يحملها الراعي، ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة ولا الربى، ولا الماخض، ولا فحل الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وذلك عدل بين غذاء الغنم وخيارها، وغذاء الغنم صغارها وخيارها كبارها وأسمنها فهي عدل أي وسط. وهنا تتحتم كلمة، يعتبر كل نظام مالي في العالم نظاما ماديا بحتا يقوم على مباني الأرقام والإحصاء، فهو جاف في شكله، كالجسم بدون روح إلا نظام الزكاة، فهو نظام حي له روحه وعاطفته. ففي الوقت الذي يلزم الغني بدفع قسط للفقير، يحظر على العامل أن يأخذ فوق
281 ما وجب، أو أحسن ما وجد. كما قال صلى الله عليه وسلم: (وإياك وكرائم أموالهم). وفي الوقت الذي يدفع الغني فيه جزءا من ماله يستشعر أنه يدفعه لوجه الله وينتظر أجره جل وعلا، فأصبحت الزكاة بين عامل متحفظ، وبين مالك متطوع عامل يخشى قوله صلى الله عليه وسلم: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، ومالك يرجو في الحسنة عشر أمثالها وسبعمائة، وزيادة مضاعفة. وقد وقعت قضية مذهلة لم يشهد نظام مالي في العالم مثلها، وهي أنه: ذهب عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم للصدقة فمر برجل في قرية قريبة من المدينة بصاحب إبل فحسبها. فقال لصاحبها: أخرج بنت لبون. فقال صاحب الإبل: كيف أخرج بنت لبون في الزكاة، وهي لا ظهر يركب ولا ضرع يحلب، ولكن هذه ناقة كوماء، فخذها في سبيل الله. فقال العامل: وكيف آخذ شيئا لم يجب عليك؟ فتلاحيا معا، العامل وصاحب المال وأخذا، قال له العامل: إن كنت ولا بد مصرا فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب بالمدينة. اذهب بها إليه فإن قبلها منك أخذتها، فذهب بها، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أعن طيب نفس)؟ قال نعم يا رسول الله. فأمر العامل بأخذها، فدعا له صلى الله عليه وسلم بالبركة فعاش حتى عهد معاوية. فكانت زكاة إبله هذه هي روح الزكاة في الإسلام لا ما يفعله أصحاب الأموال في النظم الأخرى. أما نظام الضرائب حيث يتهربون، ويقللون ويتخذون دفاتر متعددة بعضها لمصلحة الضرائب يقلل فيها دخله وكسبه لتخف الضريبة عليه، لأنه يراها مغرما كالجزية، وبعضها لنفسه ليعرف حقيقة ماله. أما الزكاة فإن مالكها يقدم زكاتها لوجه الله ليطهر ماله لقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) *. وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليتصدق بالصدقة وإنها لتقع أول ما تقع في كف الرحمان فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أي ولد فرسه حتى تكون مثل جبل أحد).
282 وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال). زكاة الفطر إن أهم مباحث زكاة الفطر هي الآتي: أولا: حكمها صدر تشريعها. ثانيا: على من تكون. ثالثا: مم تكون. رابعا: كم تكون. خامسا: متى تكون. سادسا: هل تجزىء فيها القيمة أم لا؟ وكذلك القيمة في غيرها من الزكوات. أما حكمها فهي فرض عين عند أحمد والشافعي، وعند أبي حنيفة هي واجب على اصطلاحه، أي ما وجب بالسنة. وعند المالكية واجبة، وقيل: سنة. قال في مختصر خليل بن إسحاق: يجب بالسنة صاع. إلخ. والسبب في اختلافهم هذا هل هي داخلة في عموم * (وآتوا الزكواة) * أي شرعت بأصل مشروعية الزكاة في الكتاب والسنة أم أنها شرعت بنص مستقل عنها. فمن قال بفرضيتها قال: إنها داخلة في عموم إيجاب الزكاة، ومن قال بوجوبها، فهذا اصطلاح للأحناف. ولا يختلف الأمر في نتيجة التكليف إلا أن عندهم لا يكفر بجحودها. وقال المالكية: يجب بالسنة صاع من بر إلخ. أي أن وجوبها بالسنة لا بالكتاب. وعندهم: لا يقاتل أهل بلد على منعها، ويقتل من جحد مشروعيتها، وهذا هو الفرق بينهم وبين الأحناف.
283 ولكن في عبارة مالك في الموطأ إطلاق الوجوب أنه قال: أحسن ما سمعت فيما يجب على الرجل من زكاة الفطر أن الرجل يؤدي ذلك عن كل من يضمن نفقته. إلخ. ومن أسباب الخلاف بين الأئمة رحمهم الله نصوص السنة منها قولهم: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير. الحديث. فلفظة فرض: أخذ منها من قال بالفرضية، وأخذ منها الآخرون، بمعنى قدر، لأن الفرض القدر والقطع. وحديث قيس بن سعد بن عبادة عند النسائي قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله). فمن قال بالوجوب والفرض. قال: الأمر للأول للوجوب، وفرضية زكاة المال شملتها بعمومها. فلم يحتج معها لتجديد أمر ولم تنسخ فنهى عنها، وبقيت على الوجوب. الأول وحديث: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات). فمن لم يقل بفرضيتها قال: إنها طهرة للصائم وطعمة للمساكين، فهي لعلة مربوطة بها وتفوت بفوات وقتها، ولو كانت فرضا لما فاتت بفوات الوقت. وأجاب الآخرون بأن ذلك على سبيل الحث على المبادرة لأدائها، ولا مانع من أن تكون فرضا وأن تكون طهرة. ويشهد لهذا قوله تعالى * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) *، فهي فريضة وهي طهرة. والراجح من ذلك كله أنها فرض للفظ الحديث: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر) لأن لفظ فرض إن كان ابتداء فهو للوجوب وإن كان بمعنى قدر، فيكون الوجوب بعموم آيات الزكاة، وهو أقوى. وحديث (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بصدقة الفطر صاعا من تمر) الحديث رواه أبو داود. والأمر للوجوب ولا صارف له هنا.
284 وقد قال النووي: إن القول بالوجوب هو قول جمهور العلماء، وهذا هو القول الذي تبرأ به الذمة ويخرج به العبد من العهدة، والله تعالى أعلم. أما مم تكون: فالأصل في ذلك أثر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ورواه مالك في الموطأ عنه. قال: كنا نخرج صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب. وجاء لفظ السلت، وجاء لفظ الدقيق وجاء لفظ السويق. فوقف قوم عند المنصوص عليه فقط وهم الظاهرية. ونظر الجمهور إلى عموم الطعام والغرض من مشروعيتها على خلاف في التفصيل عند الأئمة رحمهم الله كالآتي: أولا: عند الشافعية يجوز إخراجها من كل قوت لأثر أبي سعيد، وفيه لفظ الطعام. ثانيا: من غالب قوت المكلف بها، لأنها الفاضل عن قوته. ثالثا: من غالب قوت البلد، لأنها حق يجب في الذمة تعلق بالطعام كالكفارة. وقال النووي: تجوز من كل حب معشر، وفي الأقط خلاف عن الشافعي المالكية. روى مالك في الموطأ حديث أبي سعيد المتقدم. وقال الباجي في شرحه: تخرج من القوت، ونقل عن مالك في المختصر: يؤديها من كل ما تجب فيه الزكاة إذا كان ذلك من قوته. وهو مثل قول النووي من كل حب معشر. وناقش الباجي مسألة إجزائها من الأرز والذرة والدخن. فقال: لا تجوز منها عند أشهب ويجوز عند مالك. وناقش القطاني، الحمص، والترمس، والجلبان،، فقال مالك: يجوزها إذا كانت قوته، وابن حبيب: لا يجوزها لأنها ليست من المنصوص. واتفق مذهب المالكية أن المطعوم الذي يضاف إلى غيره كالأبازير: كزبرة وكمون ونحوه أنها لا تجزىء. الحنابلة قال في المغني: من كل حبة وتمرة تقتات. وقال في الشرح: أي عند عدم الأجناس المنصوص عليها، فيجزىء كل مقتات من الحبوب والثمار.
285 قال: وظاهر هذا أنه لا يجزئه المقتات من غيرها كاللحم واللبن، وعند انعدام هذه أيضا يعطي ما قام مقام الأجناس المنصوص عليها. وعن ابن حامد عندهم: حتى لحم الحيتان والأنعام، ولا يردون إلى أقرب قوت الأمصار، ويجزىء الأقط لأهل البادية إن كان قوتهم. وعندهم من قدر على المنصوص عليه فأخرج غيره لم يجزه. الأحناف: تجوز من البر والتمر والشعير والزبيب والسويق والدقيق. ومن الخبز مع مراعاة القيمة، وتجوز القيمة عندهم عوضا عن الجميع مع الاختلاف عندهم في مقدار الواجب من هذه الأصناف بين الصاع أو نصف الصاع على ما يأتي إن شاء الله. وقد ناقشهم ابن قدامة في المغني عند قوله: ومن أعطى القيمة لم تجزئه، ونقل عن أحمد أخاف ألا تجزئه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا العرض نجد الأئمة رحمهم الله اتفقوا على المنصوص عليه في أثر أبي سعيد، وزاد بعضهم من غير المنصوص عليه غير المنصوص: إما بعموم لفظ الطعام، وإن كان يراد به عرفا القمح، إلا أن العبرة بعموم اللفظ وهو العرف اللغوي. وإما بعموم مدلول المعنى العام، والخلاف في الأقط. والنص يقضى به. وانفرد الأحناف بالقول بالقيمة وبالنظر إلى المعنى العام لمعنى الزكاة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (طعمة للمسكين وطهرة للصائم). وقوله: اغنوهم بها عن السؤال. لوجدنا إشارة إلى جواز إخراجها من كل ما هو طعمة للمساكين ولا نحده بحد أو نقيده بصنف، فإلحاق غير المنصوص بالمنصوص بجامع العلة متجه، أما القيمة، فقد ناقش مسألتها صاحب فتح القدير شرح الهداية في باب زكاة الأموال، وعمدة أدلتهم الآتي. أولا: بين الجذعة والمسنة في الإبل بشاتين. ثانيا: قول معاذ لأهل اليمن: (ائتوني بخميص أو لبيس مكان الذرة والشعير؟ أهون عليكم، وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري. ثالثا:
286 رأى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة حسنة في إبل الصدقة، فقال (ما هذه؟) قال صاحب الصدقة: إني ارتجعتها ببعيرين من حواشي الإبل؟. قال (نعم). رابعا: مثلها مثل الجزية يؤخذ فيها قدر الواجب كما تؤخذ عينه. والجواب عن هذا كله كالآتي: أما التعويض بين الجذعة والمسنة أو الحقة إلى آخره في الإبل بشاتين أو عشرين درهما، وهو المنصوص في حديث أنس في كتاب الأنصباء المتقدم، ونصه: ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده، وعنده حقة، فإنه تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا ابنة لبون فإنها تقبل منه ابنة لبون ويعطي شاتين أو عشرين درهما. إلى آخر الحديث. فليس في هذا دليل على قبول القيمة في زكاة الفطر. لأن نص الحديث فمن وجبت عليه سن معينة وليست عنده، وعنده أعلى أو أنزل منها فللعدالة بين المالك والمسكين جعل الفرق لعدم الحيف، ولم يخرج عن الأصل وليس فيه أخذ القيمة مستقلة، بل فيه أخذ الموجود ثم جبر الناقص. فلو كانت القيمة بذاتها وحدها تجزىء لصرح بها صلى الله عليه وسلم. ولا يجوز هذا العمل إلا عند افتقاد المطلوب، والأصناف المطلوبة في زكاة الفطر إذا عدمت أمكن الانتقال إلى الموجود مما هو من جنسه لا إلى القيمة، وهذا واضح. وقال ابن حجر رحمه الله في الفتح: لو كانت القيمة مقصودة لاختلفت حسب الزمان والمكان، ولكنه تقدير شرعي. أما قول معاذ لأهل اليمن: (ائتوني بخميس أو لبيس مكان الذرة والشعير). فقد ناقشه ابن حجر في الفتح من حيث السند والمعنى. ولكن السند ثابت، أما المعنى، فقيل: إنه في الجزية. ورد هذا بأن فيه مكان الذرة والشعير، والجزية ليست منها.
287 وقيل: إنه بعد أن يستلم الزكاة الواجبة من أجناسها يستبد لها من باب البيع والمعاوضة عملا بما فيه المصلحة للطرفين. وقيل: إنه اجتهاد منه رضي الله عنه، ولكنه اجتهاد أعرفهم بالحلال والحرام إلى غير ذلك. والصحيح الثاني: أنه تصرف بعد الاستلام وبلوغها محلها ولا سيما مع نقلها إلى المدينة بخلاف زكاة الفطر فليست تنقل ابتداء، ولأن مهمة زكاة المال أعم من مهمة زكاة الفطر، ففيها النقدان والحيوان. أما زكاة الفطر فطعمة للمسكين في يوم الفطر فلا تقاس عليها. أما الناقة الحسنة التي رآها صلى الله عليه وسلم، وأنها بدل من بعيرين، فهو من جنس الاستبدال بالجنس عملا للمصلحة لم تخرج عن جنس الواجب. وأما الجزية يؤخذ منها قدر الواجب فلا دليل فيه، إذ زكاة الفطر فيها جانب تعبد وارتباط بركن في الإسلام. وأما الجزية فهي عقوبة على أهل الذمة عن يد وهم صاغرون، فأيما أخذ منهم فهو واف بالغرض، فلم يبق للقائلين بالقيمة في زكاة الفطر مستند صالح فضلا عن عدم النص عليها. وختاما: إن القول بالقيمة فيه مخالفة للأصول من جهتين: الجهة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر تلك الأصناف لم يذكر معها القيمة ولو كانت جائزة لذكرها مع ما ذكر، كما ذكر العوض في زكاة الإبل، وهو صلى الله عليه وسلم أشفق وأرحم بالمسكين من كل إنسان. الجهة الثانية: وهي القاعدة العامة، أنه لا ينتقل إلى البدل إلا عند فقد المبدل عنه، وأن الفرع إذا كان يعود على الأصل بالبطلان فهو باطل. كما رد ابن دقيق العيد على الحنابلة قولهم: إن الأشنان يجزئ عن التراب في الولوغ. أي لأنه ليس من جنسه ويسقط العمل به. وكذلك لو أن كل الناس أخذوا بإخراج القيمة لتعطل العمل بالأجناس المنصوصة،
288 فكأن الفرع الذي هو القيمة سيعود على الأصل الذي هو الطعام بالإبطال، فيبطل. ومثل ما يقوله بعض الناس اليوم في الهدي بمنى مثلا بمثل، علما بأن الأحناف لا يجيزون القيمة في الهدي، لأن الهدي فيه جانب تعبد، وهو النسك. ويمكن أن يقال لهم أيضا: إن زكاة الفطر فيها جانب تعبد طهرة للصائم وطعمة للمساكين، كما أن عملية شرائها ومكيلتها وتقديمها فيه إشعار بهذه العبادة. أما تقديمها نقدا فلا يكون فيها فرق عن أي صدقة من الصدقات، من حيث الإحساس بالواجب والشعور بالإطعام. وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة، لأن القول بالقيمة فيها جزء الناس على ما هو أعظم، وهو القول بالقيمة في الهدي وهو ما لم يقله أحد على الإطلاق حتى ولا الأحناف. بيان القدر الواجب في زكاة الفطر اتفق الجميع على أن الواجب في زكاة الفطر على كل شخص عن نفسه، إنما هو صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم من جميع الأصناف المتقدم ذكرها. وخالف أبو حنيفة في القمح، فقال: نصف الصاع فقط منها يكفي. وسيأتي بيان الراجح في ذلك إن شاء الله. ثم اختلفوا بعد ذلك في مقدار الصاع الواجب من حيث الوزن. فقال الجمهور: هو خمسة أرطال وثلث. وقال أبو حنيفة: هو ثمانية أرطال، وخالفه أبو يوسف، ووافق الجمهور. ما مقدار الصاع، فهو في العرف الكيل، وهو أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين، ولتفاوت الناس في ذلك عمد العلماء إلى بيان مقداره بالوزن. وقد نبه النووي أن المقدار بالوزن تقريبي، لأن المكيلات تختلف في الوزن ثقلا وخفة، باختلاف أجناسها كالعدس والشعير مثلا، وما كان عرفه الكيل لا يمكن ضبطه بالوزن، ولكنه على سبيل التقريب. ولهذا المعنى قال صاحب المغني: إن من أخرج الزكاة بالوزن عليه أن يزيد بالقدر الذي يعلم أنه يساوي الكيل ولا سيما إذا كان الموزون ثقيلا.
289 ونقل عن أحمد أن من أخرج وزن الثقيل من الخفيف يكون قد أخرج الواجب بالتأكيد. أقوال العلماء في وزن الصاع قال الجمهور: هو خمسة أرطال وثلث الرطل بالعراقي. وقال أبو حنيفة رحمه الله: هو ثمانية أرطال، وخالفه أبو يوسف كما تقدم، وسبب الخلاف هو أن أبا حنيفة أخذ بقول أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بمد)، وهو رطلان، ومعلوم أن الصاع أربعة أمداد، فعليه يكون ثمانية أرطال. ودليل الجمهور: هو أن الأصل في الكيل هو عرف المدينة، كما أن الأصل في الوزن هو عرف مكة، وعرف المدينة في صاع النبي صلى الله عليه وسلم أنه خمسة أرطال وثلث. كما جاء عن أحمد رحمه الله قال: أخذت الصاع من أبي النضر. وقال أبو النضر: أخذته عن أبي ذؤيب، وقال: هذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعرف بالمدينة. قال أبو عبد الله: فأخذنا العدس فعبرنا به، وهو أصلح ما وقفنا عليه يكال به، لأنه لا يتجافى عن موضعه، فكلنا به، ثم وزناه، فإذا هو خمسة أرطال وثلث، وقال: هذا أصلح ما وقفنا عليه، وما تبين لنا من صاع النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الصاع خمسة أرطال وثلثا من البر والعدس وهما أثقل الحبوب، فما عداهما من أجناس الفطرة أخف منهما فإذا أخرج منهما خمسة أرطال وثلث فهي أكثر من صاع. وقال النووي: نقل الحافظ عبد الحق في كتاب الأحكام عن أبي محمد بن علي بن حزم أنه قال: وجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان في أن مد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يؤدي به الصدقات ليس بأكثر من رطل ونصف ولا دون رطل وربع. وقال بعضهم: هو رطل وثلث، وقال: ليس هذا اختلافا، ولكنه على حسب رزنه بالراء أي رزانته، وثقله من البر والتمر والشعير قال: وصاع ابن أبي ذؤيب خمسة أرطال
290 وثلث وهو صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أدلة الجمهور وسبب رجوع أبي يوسف عن قول أبي حنيفة ما جاء في المغني وغيره أن أبا يوسف لما قدم المدينة وسألهم عن الصاع فقالوا: خمسة أرطال وثلث، فطالبهم بالحجة فقالوا: غدا، فجاء من الغد سبعون شيخا كل واحد منهم أخذ صاعا تحت ردائه، فقال: صاعي ورثته عن أبي وورثه أبي عن جدي، حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ أبو يوسف يقارنها فوجدها كلها سواء، فأخذوا واحدا منها وعايره بالماش وهو العدس غير المدشوش، فكان خمسة أرطال وثلثا، فرجع إلى قول أهل المدينة. وفي تلك القصة أنه رجع إلى العراق فقال لهم: أتيتكم بعلم جديد الصاع خمسة أرطال وثلث فقالوا له: خالفت شيخ القوم فقال: وجدت أمرا لم أجد له مدفعا. أما وزن الرطل العراقي فأساس الوحدة فيه هي الدرهم، وقد ذكر النووي عنه ثلاثة أقوال: الأول: أنه مائة وثلاثون درهما بدراهم الإسلام. والثاني: أنه مائة وثمانية وعشرون. والثالث: أنه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وهي تسعون مثقالا. وقال في المغني: وقد زاده مثقالا فصار واحدا وتسعين مثقالا، وكمل به مائة وثلاثون درهما، وقصدوا بهذه الزيادة إزالة كسر الدرهم. ثم قال: والعمل الأول. أما بالنسبة لبقية الأرطال في الأمصار الأخرى، فكالآتي نقلا من كشاف القناع: الرطل البعلي تسعمائة درهم. والقدسي ثمانمائة. والحلبي سبعمائة وعشرون. والدمشقي ستمائة. والمصري مائة وأربعة وأربعون. وكل رطل اثنا عشر أوقية في سائر البلاد، مقسوم
291 عليها الدراهم. وعليه فالصاع يساوي ستمائة وخمسة وثمانين وخمسة أسباع الدرهم، وأربعمائة وثمانين مثقالا. وعليه أيضا يكون الصاع بالأرطال الأخرى. هو المصري أربعة أرطال وتسع أواق وسبع أوقية، وبالدمشقي رطل وخمسة أسباع أوقية. وبالحلبي أحد عشر رطلا وثلاثة أسباع أوقية، وبالقدسي عشر أواق وسبعا أوقية. وإذا كانت موازين العالم اليوم قد تحولت إلى موازين فرنسية، وهي بالكيلوجرام، والكيلو ألف جرام، فلزم بيان النسبة بالجرام، وهي أن: المكيلات تتفاوت ثقلا وكثافة، فأخذت الصاع الذي عندي وعايرته أولا على صاع آخر قديما فوجدت أمرا ملفتا للنظر عند المقارنة، وهو أن الصاع الذي عندي يزيد عن الصاع الآخر قدر ملء الكف، فنظرت فإذا القدر الذي فوق فتحة الصاعين مختلفة، لأن أحد الصاعين فتحته أوسع. فكان الجزء المعلى فوق فتحته يشكل مثلثا قاعدته أطول من قاعدة المثلث فوق الصاع الآخر فعايرتهما مرة أخرى على حد الفتحة فقط بدون زيادة فكانا سواء. فعايرتهما بالماء حيث أن الماء لا يختلف وزنه غالبا ما دام صالحا للشرب وليس مالحا، وأنه لا يسمح بوجود قدر زائد فوق الحافة، فكان وزن الصاع بعد هذا التأكيد هو بالعدس المجروش 006, 2 كيلوين وستمائة جرام. وبالماء 001, 3 ثلاثة كيلوات ومائة جرام. وأرجو أن يكون هذا العمل كافيا لبيان الوزن التقريبي للصاع النبوي في الزكاة. زكاة الورق المتداول من المعلوم أن التعامل بالورق بدلا عن الذهب والفضة وأمر قد حدث بعد عصور الأئمة الأربعة وعصور تدوين الفقه الإسلامي، وما انتشرت إلا في القرن الثامن عشر ميلاديا فقط، ولهذا لم يكن لأحد الأئمة رحمهم الله رأي فيها، ومنذ أن وجدت وعلماء المسلمين مختلفون في تقييمها وفي تحقيق ماهيتها ما بين كونها سندات عن ذهب أو فضة أو عروض تجارة أو نقد بذاتها. والخلاف في ذلك مشهور، وإن كان الذي يظهر والله تعالى أعلم: أنها وثائق ضمان
292 من السلطان. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه إبداء وجهة نظره فيها في الربا، وهل يباع بها الذهب والفضة نسيئة أم لا؟ ومهما يكن من نظريات في ماهيتها، فإنها باتفاق الجميع تعتبر مالا، وهي داخلة في عموم قوله تعالى: * (و فى أموالهم) * لأنها أصبحت ثمن المبيعات وعوض السلع. فعليه تكون الزكاة فيها واجبة. والنصاب بالنسبة إليها يعتبر بما يشترى بها من ذهب وفضة في أي عملة كانت هي. ففي السعودية مثلا ينظر كم يشترى بها عشرون مثقالا ذهبا أو مائتا درهم فضة، فيعتبر هذا القدر هو النصاب، وفيه الزكاة وهو ربع العشر سواء بسواء. وهكذا مثل الاسترليني، والروبية والدولار، لأن كل عملة من ذلك وثيقة ضمان من السلطان الذي أصدرها أي الدولة التي أصدرتها. سواء قيل إن الزكاة فيما ضمنته تلك الوثيقة، أو فيها بعينها، أو في قيمتها كعرض، فهي لن تخرج بحال من الأحوال عن دائرة التمول والاستبدال، وإن تحصيل الفقير لشيء منها أيا كانت فإنه بها سيحصل على مطلوبه من مأكل وملبس وما يشاء من مصالح وفق ما يحصل عليه بعين الذهب والفضة. وفي هذا رد على من يقول. لا زكاة فيها، لأنها ليست بنقد ذهب ولا فضة، ولا يخفى أن إسقاط الزكاة عنها إسقاط للزكاة من أغلبية العالم، إن لم يكن من جميعه. تنبيه سبق أن سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في موضوع زكاة العروض في قول المالكية: يشترط أن ينص في يد التاجر المدير ولو درهما أثناء الحول وإلا لما وجبت عليه زكاة في عروض تجارته. فقال رحمة الله تعالى علينا وعليه: لو كان مالك رحمه الله موجودا اليوم لم يقل ذلك، لأن العالم اليوم كله لا يكاد يعرف إلا هذه الأوراق، وقد لا ينص في يده درهم
293 واحد فضة. ويترتب على ذلك إسقاط الزكاة عن عروض التجارة وهي غالب أموال الناس اليوم. فكذلك يقال لمن لا يرى الزكاة في الأوراق النقدية أنه يترتب عليه باطل خطير، وهو تعطيل ركن الزكاة وحرمان المسكين من حقه المعلوم في أموال الأغنياء، وما ترتب عليه باطل، فهو باطل. ولعلنا بهذا العرض الموجز، نكون قد أوردنا عجالة ما بقي من مبحث الزكاة، وإن لم يكن على سبيل التفصيل المعهود من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، فقد قدمنا أنه لن يجارى في تفصيله، وأن تتبع الجزئيات في هذا المبحث سيطيل الكتابة، وهو بحمد الله مبسوط في كتب الفقه، وإنما قصدنا بيان أهم المسائل، وبيان ما هو الراجح فيما اختلف فيه، وبالله تعالى التوفيق. قوله تعالى: * (والذين يصدقون بيوم الدين) *. يوم الدين هو يوم الحساب. كما تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الفاتحة. قوله تعالى: * (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) *. أي خائفون: كما بينه تعالى بقوله: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *. وقوله: * (قالوا إنا كنا قبل فى أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) *. * (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فأنهم غير ملومين * فمن ابتغى ورآء ذالك فأولائك هم العادون * والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم بشهاداتهم قائمون * والذين هم على صلاتهم يحافظون * أولائك فى جنات مكرمون * فمال الذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين * أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا إنا خلقناهم مما يعلمون * فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين * فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون * يوم يخرجون من الا جداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذى كانوا يوعدون) * قوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فأنهم غير ملومين فمن ابتغى ورآء ذالك فأولائك هم العادون) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند * (قد أفلح المؤمنون) *، وما بعدها، وفي سورة النساء، وبين أن كل مبتغ وراء الزوجة وملك اليمين فهو داخل تحت قوله: * (فأولائك هم العادون) *، وخاصة من قال: بنكاح المتعة. لأن المستمتع بها ليست زوجة وليست أمة مملوكة.
294 تنبيه والجدير بالذكر أنه لم يبق من يقول بنكاح المتعة كمذهب لطائفة ما، إلا الشيعة بصرف النظر عمن خالف الإجماع من غيرهم، ولكن الشيعة أنفسهم شبه متناقضين في كتبهم، إذ ينص الحللي وهو من أئمتهم، في باب النكاح: أن للحر وللعبد على السواء أن ينكح نكاحا مؤقتا، وهو نكاح المتعة بأي عدد شاء من النساء وبدون حد، فجعل هذا العقد كملك اليمين، والحال أن المعقود عليها حرة، وهذا متناقض. وفي كتاب الطلاق، قال: إن المطلقة ثلاثا لا يحلها لزوجها الأول إلا أن تنكح زوجا غيره في نكاح دائم وليس مؤقتا. وهنا يقال لهم: إما أن تعتدوا بنكاحها الثاني المؤقت فيلزم أن يحلها للأول لأنه تعالى قال: * (حتى تنكح زوجا غيره) * فإن اعتبرتموه نكاحا لزم إحلالها به للزوج الأول. وإن لم تعتبروه نكاحا لزمكم القول ببطلانه وهو المطلوب. وبهذا يظهر أن مبتغى وراء ذلك، أي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم هم العادون. قوله تعالى: * (والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه في أول سورة * (قد أفلح المؤمنون) *. وفي المسألة السادسة من مسائل مبحث: * (وداوود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث) *. قوله تعالى: * (والذين هم بشهاداتهم قائمون) *. قرىء بشهاداتهم بالجمع وقرئ بشهادتهم بالإفراد، فقيل: إن الإفراد يؤدي معنى الجمع للمصدر كما في قوله: * (إن أنكر الا صوات لصوت الحمير) *. فأفرد في الصوت مرادا به الأصوات. وقيل: الإفراد لشهادة التوحيد مقيمون عليها. والجمع لتنوع الشهادات بحسب متعلقها، ولا تعارض بين الأمرين فما يشهد لذلك قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) *.
295 قال أبو بكر رضي الله عنه: أي داموا على ذلك حتى ماتوا عليه. وبدل للثاني عمومات آية الشهادة المتنوعة في البيع والطلاق والكتابة في الدين وغير ذلك، والله تعالى أعلم. وفي هذه الآية عدة مسائل: المسألة الأولى: أطلق القيام بالشهادة هنا وبين أن قيامهم بها إنما هو لله في قوله تعالى: * (وأقيموا الشهادة لله) *، وقوله: * (يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم) *. المسألة الثانية: قوله * (بشهاداتهم قائمون) * في معرض المدح، وإخراجهم من وصف * (إن الإنسان خلق هلوعا) * يدل بمفهومه أن غير القائمين بشهاداتهم غير خارجين من ذلك الوصف الذميم. وقد دلت آيات صريحة على هذا المفهوم، منها قوله تعالى: * (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه) *، وقوله: * (ولا نكتم شهادة الله إنآ إذا لمن الا ثمين) *. وكذلك في معرض المدح في وصف عباد الرحمان في قوله: * (والذين لا يشهدون الزور) *. وفي الحديث من عظم جرم شهادة الزور، وكان صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس، فقال: (ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت). تنبيه قوله: * (والذين هم بشهاداتهم قائمون) * يفيد القيام بالشهادة مطلقا، وجاء قوله: * (ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا) * فقيد القيام بالشهادة بالدعوة إليها. وفي الحديث: (خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها).
296 وفي حديث آخر في ذم المبادرة بها، ويشهدون قبل أن يستشهدوا. وقد جمع العلماء بين الحديثين بأن الأول في حالة عدم معرفة المشهود له بما عنده من شهادة، أو يتوقف على شهادته حق شرعي كرضاع وطلاق ونحوه، والثاني بعكس ذلك. وقد نص ابن فرحون أن الشهادة في حق الله على قسمين، قسم تستديم فيه الحرمة كالنكاح والطلاق، فلا يتركها، وتركها جرحة في عدالته، وقسم لا تستديم فيه الحرمة كالزنى والشرب، فإن تركها أفضل ما لم يدع لأدائها. لحديث هزال في قصة ماعز حيث قال له صلى الله عليه وسلم: (هلا سترته بردائك). المسألة الثالثة: مواطن الشهادة الواردة في القرآن، والتي يجب القيام فيها، نسوقها على سبيل الإجمال. الأول: الإشهاد في البيع في قوله تعالى: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) *. الثاني: الطلاق، والرجعة لقوله تعالى: * (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم) *. الثالث: كتابة الدين لقوله تعالى : * (فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم) *. الرابع: الوصية عند الموت لقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم) *. الخامس: دفع مال اليتيم إليه إذا رشد، لقوله تعالى: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) *. السادس: إقامة الحدود لقوله تعالى: * (وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين) *. السابع: في السنة عقد النكاح لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، وهذه كلها مواطن هامة تتعلق بحق الله وحق العباد من حفظ للمال والعرض والنسب، وفي حق الحي والميت واليتيم والكبير، فهي في شتى مصالح الأمة استوجبت الحث على القيام بها * (والذين هم بشهاداتهم قائمون) * والتحذير من كتمانها * (ولا تكتموا الشهادة ومن
297 يكتمها فإنه ءاثم قلبه) *. وقوله: * (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) *. وقوله: * (ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا) *. المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (والذين هم بشهاداتهم قائمون) * كلها صيغ الجمع، والشهادة قد تكون من فرد، وقد تكون من اثنين، وقد تكون من ثلاثة، وقد تكون من أربعة، وقد تكون من جماعة. وجملة ذلك أن الشهادة في الجملة من حث الشاهد تكون على النحو الآتي: إجمالا رجل واحد، ورجل يمين، ورجل وامرأتان، ورجلان، وثلاثة رجال، وأربعة، وطائفة من المؤمنين، وامرأة، وامرأتان، وجماعة الصبيان. وقد جاءت النصوص بذلك صريحة. أما الواحد، فقال تعالى: * (وشهد شاهد من أهلهآ إن كان قميصه قد من قبل) *. فهو، وإن كان ملفت النظر إلى القرنية في شق القميص، إلا أنه شاهد واحد. وجاء في السنة: شهادة خزيمة رضي الله عنه، لما شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشراء الفرس من الأعرابي، وجعلها صلى الله عليه وسلم بشهادة رجلين. وجاءت السنة بثبوت شهادة الطبيب والقائف والخارص ونحوهم. وجاء في ثبوت رمضان، فقد قبل صلى الله عليه وسلم شهادة أعرابي، وقبل شهادة عبد الله بن عمر سواء كان قبولها اكتفاء بها أو احتياطا لرمضان. وأما شهادة الرجل الواحد ويمين المدعي، فلحديث ابن عباس (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين) وتكلم عليه ابن عبد البر، وأطال في تصحيحه وتوجيهه. وعند مالك ومذهب لأحمد شهادة امرأتين، ويمين المدعي، وخالفهما الجمهور. وأما شهادة رجل وامرأتين، فلقوله تعالى: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهدآء) *. وبين تعالى توجيه ذلك بقوله: * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما
298 الا خرى) *. وبهذا النص رد الجمهور مذهب مالك، والمذهب المحكي عن أحمد لأنه لم ينقل إلا أربع نسوة ولم تستقل النسوية بالشهادة. وأما شهادة الرجلين فلقوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) *. وأما ثلاثة رجال، فلقوله صلى الله عليه وسلم في إثبات الفاقة والإعسار. (حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، فيقولون، لقد أصابت فلانة فاقة). الحديث، وهو حديث قبيصة عند مسلم وأحمد. وأما الأربعة ففي إثبات الزنا خاصة، وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ذلك في أول سورة النور. وأما الطائفة ففي إقامة الحدود لقوله تعالى: * (وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين) *. وأما شهادة المرأة ففي أحوال النساء خاصة، كما في حديث عقبة بن الحارث: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أرضعتهما، فقال له صلى الله عليه وسلم فارقها، فقال: كيف أفارقها لقول امرأة؟ فقال له: كيف وقد قيل؟) وقد وقع الخلاف في قبول شهادتها وحدها ولكن الصحيح ما قدمنا. وأما المرأتان فعند من لم يقبل شهادة المرأة، وقيل عند استهلال الصبي، لأن الغالب حضور أكثر من واحدة. وأما جماعة الصبيان ففي جناياتهم على بعض، وقبل أن يتفرقوا ولم يدخل فيهم كبير. وفيه خلاف. ورجح الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه العمل بها في مذكرة أصول الفقه، في مبحث رواية الصغار. المسألة الخامسة: اتفقوا أنه لا دخل للنساء في الشهادة في الحدود، وإنما تكون في المال أو ما يؤول إلى المال، وفيما يتعلق بما تحت الثياب من النساء. وفي الشهادة مباحث عديدة مبسوطة في كتب الفقه وكتب القضاء، كتبصرة الحكام
299 لابن فرحون وغيره. وقد بسط ابن القيم الكلام عليها في الطرق الحكمية وابن فرحون في تبصرة الحكام لمن أحب الرجوع إليه، ولكن مما لا بد منه هو شروط الشاهد المعتبرة، وكلها تدور على ما تحصل به الطمأنينة إلى الحق المشهود به لأمرين أساسيين هما الضبط، كما في قوله تعالى في حق النسوة * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الا خرى) *. والثاني العدالة والصدق، كما في قوله تعالى: * (إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا) *. وهنا مبحث مشهور، وهو: هل الأصل في المسلمين العدالة حتى تظهر جرحه أم العكس؟ والصحيح الأول. وقد كان العمل على ذلك إلى أن جاء رجل من العراق لعمر رضي الله عنه فقال له: أدرك الناس لقد تفشت شهادة الزور. فقال عمر: بتزكية الشهود وإثبات عدالتهم. وقد أورد ابن فرحون في مراتب الشهود إحدى عشرة مرتبة وهي: الأولى: الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته في كل شيء، وتجريحه ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك كله إذا أبهمه، ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة. الثانية: المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، فحكمه كالأول، إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك.
300 الثالثة: الشاهد المعروف بالعدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته إلا في ستة مواضع على اختلاف في بعضها، وهي التزكية، شهادته لأخيه ولمولاه ولصديقه الملاطف ولشريكه في غير التجارة، وإذا زاد في شهادته أو نقص فيها، ويقبل فيه التجريح بالعداوة وغيرها، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك. الرابعة: المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، حكمه كذلك إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك. الخامسة: الشاهد المعروف بالعدالة إذا قذف قبل أن يحد فاختلف في قبول شهادته، وأجازها ابن القاسم، وهو مذهب مالك. السادسة: الذي يتوسم فيه العدالة تجوز دون تزكية فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات، وفيما عدا ذلك لا بد من تزكيته، لأنه هو المعروف بمجهول الحال. والصحيح أن مثله لا بد من التحري عنه حتى ينكشف أمره. السابعة: الذي لا يتوسم فيه العدالة ولا الجرعة فلا تجوز شهادته في موضع من المواضع دون تزكية، إلا أن شهادته تكون شبيهة في بعض المواضع عند بعض العلماء، فتوجب اليمين وتوجب الحميل وتوقيف الشيء على المدعى عليه. الثامنة: الذي يتوسم فيه الجرحة فلا تجوز شهادته دون تزكية، ولا تكون شهادته شبهة توجب حكما. التاسعة: الشاهد الذي ثبت عليه جرحة قديمة أو يعلمها الحاكم فيه، فلا تجوز شهادته دون تزكية ولا تقبل فيه التزكية على الإطلاق، وإنما تقبل ممن علم بجرحته إذا شهد على توبته منها، ونزوعه منها، والمحدود في القذف بمنزلته على مذهب مالك، لأن تزكيته لا تجوز على الإطلاق، وإنما تجوز بمعرفة تزيده في الخير. العاشرة: المقيم على الجرحة المشهود بها، فلا تجوز شهادته ولا تقبل التزكية فيه، وإن زكى، وإنما تقبل تزكيته فيما يستقبل إذا تاب. الحادية عشرة: شاهد الزور، فلا تصح شهادته وإن تاب وحسنت حاله، وروى أبو زيد عن ابن القاسم: أن شهادته تجوز إذا تاب وعرفت توبته بتزيد حاله في الصلاح. قال: ولا أعلمه إلا في قول مالك، فقيل: إن ذلك اختلاف من القول. وقيل: معنى رواية أبي زيد إذا جاء تائبا مقرا على نفسه بشهادة الزور قبل أن تظهر عليه، وهو الأظهر والله سبحانه وتعالى أعلم ا ه. وقد أوردنا هذه المراتب لأنها شملت أنواع الشهود قوة وضعفا، وفيما تقبل شهاداتهم.
301 تنبيه وقد قيل في تفريق الشهود: إن هذا في الزنا خاصة، وقيل: للقاضي أن يفرقهم متى ما رأى ذلك، وأن أول من فرقهم علي رضي الله عنه، وذكر الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه تفريق الشهود في قصة سليمان، وهو كلام في قضية المرأة التي رميت بالزنا، واختلف في تحليف الشاهد. فالجمهور: لا يحلف، ورجح ابن القيم جوازه فيما تقبل شهادته للضرورة كالمرأة الواحدة، والكافر في السفر، ومدار قبول الشهادة على الطمأنينة لصدق الشاهد، وذلك يدور على أصلين: الأول: هو الضابط كما في قوله تعالى: * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الا خرى) *. والثانية: العدالة كما في قوله تعالى * (إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا) * والعلم عند الله تعالى. وللشهادة مباحث عديدة اكتفينا بما أوردنا. وقد بحث ابن القيم رحمه الله مباحث الشهادة من حيث العدد والموضوع في كتاب الطرق الحكمية. تنبيه للشهادة علاقة باليمين في الحكم، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم (شاهدان أو يمينه). فما هي تلك العلاقة، وبين هذه العلاقة قوله تعالى: * (قل أى شىء أكبر شهادة قل الله شهيد بينى وبينكم) *، وقوله * (أولم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد) *، وقوله: * (وكنا لحكمهم شاهدين) *، وقوله: * (هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بينى وبينكم) * ونحو ذلك من الآيات، لأنه تعالى: شاهد ومطلع على أحوال العباد لا تخفى عليه خافية، يعلم
302 خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإذا أعوز المدعي شاهدا حلف مع الشاهد كأنه قال: أستشهد بالله الذي يعلم مني صدق دعواي. وكذلك المدعى عليه إذا عجز المدعي عن البينة وكانت الدعوى متوجهة، ومما يشبه، كما يقول المالكية: فإن المدعى عليه يقول لدى البينة والشهادة على عدم ثبوت ما ادعى به على ألا، وهو خير الشاهدين. من هو أكبر شهادة مما عجز عنها المدعي ألا وهو الاستشهاد بالله تعالى، فيحلف على براءة ذمته مما ادعى به عليه. تنبيه ومن هنا يعلم حقيقة قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) أي لأن الحالف يقيم المحلوف به مقام الشهود الذين رأوا أو سمعوا، والمخلوق إذا كان غائبا لا يرى ولا يسمع، فإذا حلف به كان قد أعطاه صفات من يرى ويسمع، والحال أنه بخلاف ذلك، ومن ناحية أخرى الحالف والمستحلف بالله يعلمان أن الله تعالى قادر على أن ينتقم من صاحب اليمين الغموس، وغير الله إذا ما حلف به لا يقوى ولا يقدر على شيء من ذلك. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين) *. مهطعين: أي مسرعين نافرين، وعزين جمع عزة، وهم الجماعة، أي ما بال أولئك الكفار المنصرفين عنك متفرقين، وعليه قول الكميت: عن اليمين وعن الشمال عزين) *. مهطعين: أي مسرعين نافرين، وعزين جمع عزة، وهم الجماعة، أي ما بال أولئك الكفار المنصرفين عنك متفرقين، وعليه قول الكميت: * ونحن وجندل باغ تركنا * كتائب جندل شتى عزين * وكذلك هنا فهم متفرقون عنه صلى الله عليه وسلم جماعات من كل جهة عن اليمين وعن الشمال. تفرقت بهم الأهواء وأخذتهم الحيرة كقوله تعالى: * (فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة) *. ونقل ابن كثير عن أحمد رحمه الله في أهل الأهواء، فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب. قوله تعالى: * (إنا خلقناهم مما يعلمون) *.
303 أجمل ما يعلمون في ما الموصولة مما، وقد بينه تعالى في عدة مراحل من تراب أولا ثم من نطفة. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك في أكثر من موضع، وأصرح نص في ذلك قوله تعالى * (ألم نخلقكم من مآء مهين) * وقوله: * (فلينظر الإنسان مم خلق خلق من مآء دافق يخرج من بين الصلب والترآئب) * أي ماء الرجل وماء المرأة يختلطان معا، كما في قوله تعالى: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) *. وقوله تعالى: * (كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) * ليس لمجرد الإخبار، لأنهم يعلمون، والعالم ليس في حاجة إلى إخبار، ولكن يراد بذلك لازم الخبر، وهو إفهامهم بأن من خلقهم من هذا الذي يعلمون قادر على إعادتهم وبعثهم ومجازاتهم، كما في سورة الدهر * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا) *. ثم قال: * (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) *. ثم بين المصير * (إنآ أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) *. قوله تعالى: * (فلا أقسم برب المشارق والمغارب) *. قوله تعالى * (فلا أقسم) * ظاهر النفي، والحال أنه أقسم بدليل جواب القسم بعده * (إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم) *، وللعلماء في مجيء لا هذه، كلام كثير، وقد فصله الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب في سورة البلد، وسيطبع إن شاء الله في نهاية هذه التتمة. وقوله: * (برب المشارق والمغارب) * فهو الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وقد نص على نظيره في سورة الرحمان * (رب المشرقين ورب المغربين فبأى ءالاء ربكما تكذبان) *. وقد جمعت المشارق هنا، وثنيت في الرحمان وأفردت في قوله تعالى * (ولله المشرق والمغرب) *، فالجمع على مشارق الشمس في السنة لكل يوم مشرق،
304 كما قال ابن عباس والتثنية لمشرق الشمس والقمر والإفراد على الجهة، وسيأتي في دفع إيهام الاضطراب أيضا. قوله تعالى: * (يوم يخرجون من الا جداث سراعا) *. بين هنا حالة الخروج من الأجداث وهي القبور، وهي أنهم يخرجون سراعا، وبين في موضع آخر أنهم يخرجون مبعثرين هنا وهناك. في قوله تعالى: * (إذا بعثر ما فى القبور) *، وفي قوله تعالى: * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم) *. قوله تعالى: * (خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة) *. حالة ثانية، وقد جمع الحالات في سورة اقتربت الساعة في قوله تعالى * (يوم يدعو الداع إلى شىء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الا جداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هاذا يوم عسر) * نسأل الله تعالى السلامة والعافية. وفي ختام السورة الكريمة لهذا الوصف والوعيد الشديد تأييد للقول بأن سؤالهم في أولها بعذاب واقع، إنما هو استخفاف واستبعاد. فبين لهم تعالى بعد عرض السورة نهاية ما يستقبلون به ليأخذوا حذرهم ويرجعوا إلى ربهم. فارتبط آخر السورة بأولها.
305 ((سورة نوح)) * (إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم * قال ياقوم إنى لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون * يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر لو كنتم تعلمون * قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعآئى إلا فرارا * وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فىءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إنى دعوتهم جهارا * ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السمآء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا) * قوله تعالى: * (إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) *. فيه بيان أن الله تعالى أرسل رسوله نوحا لينذر قومه قبل أن يأتيهم العذاب فالنذارة أولا وهي عامة في جميع الأمم والرسل. كقوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * وذلك لإقامة الحجة أولا، كما في قوله تعالى: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) *، وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان هذه المسألة في سورة بني إسرائيل على قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *. قوله تعالى: * (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم) *. جعل الطاعة هنا لنبي الله نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعلق عليها مغفرة الله لذنوبهم. وقد بين تعالى أن طاعة النبي هي طاعة الله، فهي في الأصل طاعة لله لأنه مبلغ عن الله كما في قوله تعالى في سورة النساء * (وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله) *. قوله تعالى: * (قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا) *. أي على الدوام كما قال: * (ثم إنى دعوتهم جهارا ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا) *. أي أن نبي الله نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، بذل كل ما يمكنه في سبيل الدعوة إلى الله، وقد بين تعالى مدة مكثه فيهم على تلك الحالة في قوله تعالى: * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) *.
306 قوله تعالى: * (جعلوا أصابعهم فىءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) *. بين تعالى الغرض من جعل الأصابع في الآذان لعدم السماع، كما في قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهاذا القرءان) * وإصرارهم واستكبارهم إنما هو عن اتباع ما دعاهم إليه نوح عليه السلام. كما قالوا: * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل) *، وقريب منه قوله تعالى: * (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) *. قوله تعالى: * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السمآء عليكم مدرارا) *. رتب إرسال السماء عليهم مدرارا على استغفارهم، وهذا يدل على أن الاستغفار والتوبة والعمل الصالح قد يكون سببا في تيسير الرزق. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في الحديث: (من أراد أن ينسأ له في عمره ويوسع له في رزقه فليصل رحمه). وقد تكلم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه على هذه المسألة في سورة هود عند قوله تعالى: * (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا) *. كما دلت الآية الأخرى في هذه السورة على أن المعصية سبب للهلاك في قوله: * (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا) *. قوله تعالى: * (وقد خلقكم أطوارا) *. هي المبينة في قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين) *. وهذا مروي معناه عن ابن عباس. قاله ابن كثير والقرطبي. وقيل أطوارا: شبابا وشيوخا وضعفاء. وقيل أطوارا: أي أنواعا صحيحا وسقيما وبصيرا وضريرا وغنيا وفقيرا.
307 وقيل أطوارا: اختلافهم في الأخلاق والأفعال. قاله القرطبي. ولكن كما قدم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه. أنه إذا تعددت الأقوال في الآية وكان فيها قرينة دالة على أحد الأقوال فإنه يبينه، وهنا قرينة في الآية على أن المراد هو الأول وإن كان الجميع صحيحا، والقرينة هي أن الآية في قضية الخلق وهو الإيجاد الأول، لأن ما بعد الإيجاد صفات عارضة. وقد جاء نظير الآية في سورة المؤمنون كما قدمنا، وقد ذيلت بقوله تعالى: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) *. ومنها أن الآية سيقت في الدلالة على قدرة الله على بعثهم بعد موتهم لمجازاتهم، فكان الأنسب بها أن يكون متعلقها كمال الخلقة والقدرة على الإيجاد. والأنسب لهذا المعنى هو خلقهم من نطفة أمشاج وماء مهين، ثم تطويرها إلى علقة، ثم تطوير العلقة مضغة، ثم خلق المضغة عظاما، ثم كسو العظام لحما. ثم نشأته نشأة أخرى. إنها قدرة باهرة وسلطة قاهرة. ومثله في الواقعة: * (أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) *. وفي الطور في أصل الخلقة: * (أم خلقوا من غير شىء أم هم الخالقون) *. إن أصل الخلقة والإيجاد وهو أقوى دليل على القدرة، وهو الذي يجاب به على الكفرة، كما في قوله تعالى: * (قتل الإنسان مآ أكفره) * ثم قال: * (من أى شىء خلقه من نطفة خلقه فقدره) * ذلك كله دليل على أن المراد بالأطوار في الآية، هو ما جاء عن ابن عباس المشتملة عليه سورة المؤمنون. تنبيه إن بيان أطوار خلقة الإنسان على النحو المتقدم أقوى في انتزاع الاعتراف بقدرة الله
308 من العبد، من يحيي المخلوق جملة، لأنه يوقفه على عدة مراحل من حياته وإيجاده، وكل طور منها آية مستقلة، وهذا التوجيه موجود في الظواهر الكونية أيضا من سماء وأرض، فالسماء كانت دخانا وكانت رتقا ففتقهما، والأرض كانت على غير ما هي عليه الآن، وبين الجميع في قوله: * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والا رض بعد ذلك دحاها أخرج منها مآءها ومرعاها والجبال أرساها) * وأجمع من ذلك كله في قوله تعالى في فصلت * (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها فى أربعة أيام سوآء للسآئلين ثم استوى إلى السمآء وهى دخان فقال لها وللا رض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين فقضاهن سبع سماوات فى يومين وأوحى فى كل سمآء أمرها وزينا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا) *. ثم ختم تعالى هذا التفصيل الكامل بقوله: * (ذلك تقدير العزيز العليم) *، ففيه بيان أن تلك الأطوار في المخلوقات بتقدير معين، وأنه بعلم، ومن العزيز سبحانه، فكان من الممكن خلقها دفعة واحدة، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. ولكن العرض على هذا التفصيل أبعد أثرا في نفس السامع وأشد تأثيرا عليه. والعلم عند الله تعالى. * (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الا رض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الا رض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا * قال نوح رب إنهم عصونى واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا * مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا * وقال نوح رب لا تذر على الا رض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا * رب اغفر لى ولوالدى ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا) * قوله تعالى: * (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الا رض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا) *. في هذه الآية مع ما قبلها ثلاثة براهين من براهين البعث الأربعة التي كثر مجيئها في القرآن. الأولى: خلق الإنسان * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة) *. والثانية: خلق السماوات والأرض: * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس) *.
309 والثالثة: إحياء الأرض بعد موتها * (فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت) *، * (إن الذى أحياها لمحى الموتى) *. والرابع: الذي لم تذكر هنا هو إحياء الموتى بالفعل، كقتيل بني إسرائيل، * (فقلنا اضربوه ببعضها كذالك يحى الله الموتى) *. وقد تقدم تفصيل ذلك في أكثر من موضع للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، وهنا سياق هذه البراهين للرد على المكذبين بالبعث، ولكن في هذا السياق إشكال فيما يبدو كبير وهو قوله تعالى: * (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا) *. وإذا كان السياق للاستدلال بالمعلوم المشاهد على المجهول الغيبي، فإن خلق الإنسان أطوارا محسوس مشاهد ومسلم به، وإنبات الإنسان من الأرض بإطعامه من نباتها وإحيائها بعد موتها واهتزازها وإنباتها النبات أمر محسوس. ويمكن أن يقال للمخاطب: كما شاهدت خلق الإنسان من عدم وتطوره أطوارا، وشاهدت إحياء الأرض الميتة، فإن الله الذي خلقك وأحيا لك الأرض الميتة قادر على أن يعيدك ويخرجك منها إخراجا. ولكن كيف تقول: وكما شاهدت خلق السماوات سبعا طباقا فإن القادر على ذلك قادر على بعثك. والحال أن الإنسان لم يشاهد خلق السماوات سبعا طباقا، ولا رأى كيف خلقها الله سبعا طباقا، والإشكال هنا هو كيف قيل لهم: * (ألم تروا كيف) *. والكيف للحالة والهيئة، وهم لم يشاهدوها كما قال تعالى: * (مآ أشهدتهم خلق السماوات والا رض ولا خلق أنفسهم) *. وكيف يستدلون بالمجهول عندهم على المغيب عنهم؟ وهنا تساءل ابن كثير تساؤلا واردا، وهو قوله: * (طباقا) * أي واحدة فوق واحدة، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط؟ أو هو من الأمور المدركة بالحس، مما علم من التسيير والكسوفات. وأظنه يعني التسيير من السير، فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضا، فأدناها القمر في السماء الدنيا وذكر الكواكب السبعة في السماوات السبع، وكلام أهل الهيئة ولم يتعرض للإشكال بحل يركن إليه.
310 وقال القرطبي: قوله تعالى: * (ألم تروا) * كيف على جهة الاخبار لا المعاينة. كما تقول: ألم تر كيف فعلت بفلان كذا؟ وعلى كلام القرطبي يرد السؤال الأول، إذا كان ذلك على جهة الإخبار، فكيف يجعل الخبر دليلا على خبر آخر لا يدرك إلا بالسمع؟ والجواب عن ذلك مجملا مما تشير إليه آيات القرآن الكريم كالآتي: أولا: أن تساؤل ابن كثير هل يتلقى ذلك من جهة السمع فقط؟ أو هو من الأمور المدركة بالحس، لا محل له لأنه لا طريق إلا النقل فقط، كما قال تعالى: * (مآ أشهدتهم خلق السماوات والا رض ولا خلق أنفسهم) * أي آدم. فلم نعلم كيف خلق ولا كيف سارت الروح في جسم جماد صلصال، فتحول إلى جسم حساس نام ناطق. وأما قول القرطبي: إنه على جهة الإخبار لا المعاينة، فهو الذي يشهد له القرآن. ويجيب القرآن على السؤال الوارد عليه، وذلك في قوله تعالى: * (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها فى أربعة أيام سوآء للسآئلين ثم استوى إلى السمآء وهى دخان فقال لها وللا رض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين فقضاهن سبع سماوات فى يومين وأوحى فى كل سمآء أمرها وزينا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) *. لأن الله تعالى خاطب هنا الكفار قطعا لقوله: * (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الا رض فى يومين) *. وخاطبهم بأمور مفصلة لم يشهدوها قطعا من خلق الأرض في يومين، ومن تقدير أقواتها في أربعة أيام ومن استوائه إلى السماء وهي دخان. ومن قوله لها وللأرض: * (ائتيا طوعا أو كرها) *. ومن قولهما: * (أتينا طآئعين) *.
311 ومن قضائهن سبع سماوات في يومين. ومن وحيه في كل سماء أمرها. كل ذلك تفصيل لأمور لم يشهدوها ولم يعلموا عنها بشيء، ومن ضمنها قضاؤه سبع سماوات، فكان كله على سبيل الإخبار لجماعة الكفار. وعقبه بقوله: * (ذلك تقدير العزيز العليم) * فكان مقتضى هذا الإخبار وموجب هذا التقدير من العزيز العليم، أن يصدقوا أو أن يؤمنوا. وهذا من خصائص كل إخبار يكون مقطوعا بصدقه من كل من هو وائق بقوله: يقول الخبر، وكان لقوة صدقه ملزم لسامعه، ولا يبالي قائله بقبول السامع له أو إعراضه عنه. ولذا قال تعالى بعد ذلك مباشرة * (فإن أعرضوا) * أي بعد إعلامهم بذلك كله، فلا عليك منهم * (فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) *. وحيث إن الله خاطبهم هنا * (ألم تروا كيف) * فكان هذا أمر لفرط صدق الإخبار به، كالمشاهد المحسوس الملزم لهم؟ وقد جاءت السنة وبينت تلك الكيفية أنها سبع طباق بين كل سماء، والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وشمل كل سماء وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام. وقد يقال: إن الرؤية هنا في الكيفية حاصلة بالعين محسوسة، ولكن في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج حيث عرج به ورأى السبع الطباق، وكان يستأذن لكل سماء. ومشاهدة الواحد من الجنس كمشاهدة الجميع، فكأننا شاهدناها كلنا لإيماننا بصدقه صلى الله عليه وسلم، ولحقيقة معرفتهم إياه صلى الله عليه وسلم في الصدق من قبل. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) *. ينص تعالى هنا أن قوم نوح اتبعوا من هذا وصفه مع أن المال يزيد الإنسان نفعا. وقد بين تعالى أن المال فعلا قد يورث خسارة، وهلاكا كما في قوله تعالى: * (إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى) * أي بالطغيان يكون إهلاكا. قوله تعالى: * (وقال نوح رب لا تذر على الا رض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) *.
312 في هذه نص على أن نبي الله نوحا طلب من الله إهلاك من على الأرض جميعا، مع أن عادة الرسل الصبر على أممهم، وفيه إخبار نبي الله نوح عمن سيولد من بعد، وأنهم لم يلدوا إلا فاجرا كفارا، فكيف دعا على قومه هذا الدعاء وكيف حكم على المواليد فيما بعد؟ والقرآن الكريم بين هذين الأمرين: أما الأول: فإنه لم يدع عليهم هذا الدعاء إلا بعد أن تحدوه ويئس منهم، أما تحديهم ففي قولهم: * (يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنآ) *. وقوله: * (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر) *. وأما يأسه منهم فلقوله تعالى: * (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن) *. وأما إخباره عمن سيولد بأنه لن يولد لهم إلا فاجر كفار، فهو من مفهوم الآية المذكورة آنفا، لأنه إذا لم يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فسواء في الحاضر أو المستقبل. وكذلك بدليل الاستقراء، وهو دليل معتبر شرعا وعقلا، وهو أنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وما آمن معه إلا قليل كانوا هم ومن معهم غيرهم حمل سفينة فقط، فكان دليلا على قومه أنهم فتنوا بالمال ولم يؤمنوا له، وهو دليل نبي الله موسى عليه السلام أيضا على قومه. كما قال تعالى: * (ربنآ إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة وأموالا فى الحيواة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الا ليم) *. فأخبر نبي الله موسى عن قومه أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، وذلك من استقراء حالهم في مصر لما أراهم الآية الكبرى * (فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الا على) *. وبعد أن ابتلاهم الله بما قص علينا في قوله: * (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد
313 والقمل والضفادع والدم ءايات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين) *. وقوله تعالى بعدها: * (ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسراءيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون) *. فمن كانت هذه حالته وموسى يعاين ذلك منهم، لا شك أنه يحكم عليهم أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. وكذلك كان دليل الاستقراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه استدل به على عكس الأقوام الآخرين، حينما رجع من الطائف وفعلت معه ثقيف ما فعلت فأدموا قدميه، وجاءه جبريل ومعه ملك الجبال واستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين، فقال: (لا، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول لا إلاه إلا الله) وذلك أنه صلى الله عليه وسلم علم باستقراء حالهم أنهم لا يعلمون فهم يمتنعون عن الإيمان لقلة تعلمهم وأنهم في حاجة إلى التعليم. فإذا علموا تعلموا، وأن طبيعتهم قابلة للتعليم لا أنهم كغيرهم في إصرارهم، لأنه شاهد من كبارهم إذا عرض عليهم القرآن وخوطبوا بخطاب العقل ووعوا ما يخاطبون به وسلموا من العصبية والنوازع الأخرى فإنهم يستجيبون حالا كما حدث لعمر وغيره رضي الله عنهم إلا من أعلمه الله بحاله مثل الوليد بن المغيرة * (ذرنى ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا) * إلى قوله * (إنه كان لا ياتنا عنيدا سأرهقه صعودا) * إلى قوله * (سأصليه سقر) *، فعلم صلى الله عليه وسلم حاله ومآله، ولذا فقد دعا عليه يوم بدر. ومثله أبو لهب لما تبين حاله بقوله تعالى: * (سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب) *، فلكون العرب أهل فطرة، ولكون الإسلام دين الفطرة أيضا كانت الاستجابة إليه أقرب. انظر مدة مكثه صلى الله عليه وسلم من البعثة إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ثلاثا وعشرين سنة، كم عدد من أسلم فيها بينما نوح عليه السلام يمكث ألف سنة إلا خمسين عاما فلم يؤمن معه إلا القليل.
314 ولذا كان قول نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام * (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) *، كان بدليل الاستقراء من قومه، والعلم عند الله تعالى. وقوله تعالى: * (وقال نوح رب لا تذر على الا رض من الكافرين ديارا) *، لم يبين هنا هل استجيب له أم لا؟ وبينه في مواضع أخر منها قوله: * (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له) *. وفي هذه السورة نفسها وقبل هذه الآية مباشرة قوله تعالى: * (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) * فجمع الله لهم أقصى العقوبتين الإغراق والإحراق، مقابل أعظم الذنبين الضلال والإضلال. وكذلك بين تعالى كيفية إهلاك قومه ونجاته هو وأهله ومن معه في قوله: * (فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر ففتحنآ أبواب السمآء بماء منهمر وفجرنا الا رض عيونا فالتقى المآء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجرى بأعيننا) *. قال ابن كثير: لقد أغرق الله كل من على وجه الأرض من الكفار، حتى ولد نوح من صلبه. وهنا تنبيه على قضية ولد نوح في قوله * (يابنى اركب معنا) * إلى قوله * (فكان من المغرقين) * لما أخذت نوحا العاطفة على ولده قال: * (رب إن ابنى من أهلى) * إلى قوله: * (إنه ليس من أهلك) * أثار بعض الناس تساؤلا حول ذلك في قراءة * (إنه عمل غير صالح) *، إنه عمل ماضي يعمل أي بكفره. وتساءلوا حول صحة نسبه، والحق أن الله تعالى قد عصم نساء الأنبياء إكراما لهم، وأنه ابنه حقا، لأنه لما قال * (إن ابنى من أهلى) * تضمن هذا القول أمرين نسبته إليه في بنوته. ثانيا: نسبته إليه في أهله، فكان الجواب عليه من الله بنفي النسبة الثانية لا الأولى، إنه ليس من أهلك. ولم يقل: إنه ليس ابنك، والأهل أعم من الابن، ومعلوم أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، والعكس بالعكس، فلما نفى نسبته إلى أهله علمنا أن نسبته إليه بالبنوة باقية، ولو لم يكن ابنه لصلبه لكان النفي ينصب عليها. ويقال: إنه ليس ابنك، وإذا نفى عنه البنوة انتفت عنه نسبته إلى أهله، وكذلك قوله
315 تعالى بعدها: * (ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا) * أي لأن الظالمين ليسوا من الأهل بالنسبة للدين، لأن الدين يربط البعيدين، والظلم الذي هو بمعنى الكفر يفرق القريبين. والعلم عند الله تعالى.
316 ((سورة الجن)) * (قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءانا عجبا * يهدى إلى الرشد فأامنا به ولن نشرك بربنآ أحدا * وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا * وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا * وأنا ظننآ أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا * وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا * وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا * وأنا لمسنا السمآء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الا ن يجد له شهابا رصدا * وأنا لا ندرى أشر أريد بمن فى الا رض أم أراد بهم ربهم رشدا * وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرآئق قددا * وأنا ظننآ أن لن نعجز الله فى الا رض ولن نعجزه هربا * وأنا لما سمعنا الهدىءامنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا * وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولائك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا * وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم مآء غدقا * لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا) * قوله تعالى: * (قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءانا عجبا يهدى إلى الرشد فأامنا به ولن نشرك بربنآ أحدا) *. فيه إثبات سماع الجن للقرآن وإعجابهم به، وهدايتهم بهديه وإيمانهم بالله، وتقدمت الإشارة بذلك من كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الأحقاف عند قوله تعالى: * (وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان) *، وفي آية الأحقاف بيان لما قام به النفر من الجن بعد سماعهم القرآن بأنهم لما قضى سماعهم ولوا إلى قومهم منذرين. وفيها: بيان أنهم عالمون بكتاب موسى وهو التوراة، وقد شهدوا بأن القرآن مصدق لما بين يديه وأنه يهدي إلى صراط مستقيم، كما جاء هنا قوله: * (يهدى إلى الرشد) *. قوله تعالى: * (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) *. والشطط: البعيد المفرط في البعد، قال عنترة في معلقته: وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) *. والشطط: البعيد المفرط في البعد، قال عنترة في معلقته: * شطت مزار العاشقين فأصبحت * عسرا على طلابها ابنة مخرم * وروي: * حلت بأرض الزائرين فأصبحت وأنشد أيضا لغيره: * شط المزار بجذوى وانتهى الأمل ففي كلا البيتين الشطط الإفراط في البعد، إذ في الأول قال: فأصبحت عسرا علي طلابها، وفي الثاني قال: وانتهى الأمل، وقد بين القرآن أن المراد بالشطط البعد الخاص،
317 وهو البعد عن الحق، كما في قوله تعالى: * (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط) *. ومنه البعد عن حقيقة التوحيد إلى الشرك، وهو المراد هنا كما في سورة الكهف في قوله: * (لن ندعوا من دونه إلاها لقد قلنا إذا شططا) * لأن دعاءهم غير الله أبعد ما يكون عن الحق. ويدل على أن المراد هنا ما جاء في هذه السورة * (فأامنا به ولن نشرك بربنآ أحدا) *. قوله تعالى: * (وأنا لمسنا السمآء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) *. بين تعالى المراد بتلك الحراسة بأنه لحفظها عن استراق السمع، كما في قوله: * (إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا) *، وبين تعالى حالهم قبل ذلك بأنهم كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع فيسترقون الكلمة وينزلون بها إلى الكاهن فيكذب معها مائة كذبة، كما بين تعالى أن الشهب تأتيهم من النجوم. كما في قوله تعالى: * (ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) *. قوله تعالى: * (وأنا لا ندرى أشر أريد بمن فى الا رض أم أراد بهم ربهم رشدا) *. فيه نص على أن الجن لا تعلم الغيب، وقد صرح تعالى في قوله: * (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين) *. وقد يبدو من هذه الآية إشكال، حيث قالوا أولا: * (إنا سمعنا قرءانا عجبا يهدى إلى الرشد فأامنا به) *، ثم يقولون * (وأنا لا ندرى أشر أريد بمن فى الا رض أم أراد بهم ربهم رشدا) *، والواقع أنهم تساءلوا لما لمسوا السماء فمنعوا منها لشدة حراستها، وأقروا أخيرا لما سمعوا القرآن وعلموا السبب في تشديد حراسة السماء، لأنهم لما منعوا ما كان يخطر ببالهم أنه من أجل الوحي لقوله * (وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا) *. وقوله تعالى: * (وأنا لمسنا السمآء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) * (الجن: 8) يدل بفحواه أنهم منعوا من السمع، كما قالوا فمن يستمع الآية يجد له شهابا رصدا،
318 ولكن قد يظن ظان أنهم يحاولون السماع ولو مع الحراسة الشديدة، ولكن الله تعالى صرح بأنهم لم ولن يستمعوا بعد ذلك، كما قال تعالى: * (إنهم عن السمع لمعزولون) *. قوله تعالى: * (وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم مآء غدقا) *. وهذا كما قال تعالى: * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * وقوله: * (ولو أن أهل القرىءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السمآء والا رض) * فكلها نصوص على أن الأمة إذا استقامت على الطريقة القويمة شرعة الله لفتح عليهم بركات من السماء والأرض. ومثل ذلك قوله تعالى: * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السمآء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) *. ومفهوم ذلك أن من لم يستقم على الطريقة فقد يكون انحرافه أو شركه موجبا لحرمانه من نعمة الله تعالى عليه، كما جاء صريحا في قوله: * (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر) *. فهذه نعمة كاملة، كما وصف الله تعالى، * (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال مآ أظن أن تبيد هاذه أبدا ومآ أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) * إلى قوله: * (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على مآ أنفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول ياليتنى لم أشرك بربى أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا) *. وما أشبه الليلة بالبارحة فيما يعيشه العالم الإسلامي اليوم بين الاتجاهين المتناقضين الشيوعي والرأسمالي. وما أثبته الواقع من أن المعسكر الشيوعي الذي أنكر وجود الله وكفر بالذي خلقه من تراب ثم من نطفة ثم سواه رجلا، فإنه وكل من يسير في فلكه مع مدى تقدمه الصناعي، فإنه مفتقر لكافة الأمم الأخرى في استيراد القمح، وإن روسيا بنفسها
319 لتفرج عن بعض احتياطها من الذهب لتشتري قمحا. ولا زالت تشتريه من المعسكر الرأسمالي. وهكذا الدول الإسلامية التي تأخذ في اقتصادياتها بالمذهب الاشتراكي المتفرع من المذهب الشيوعي. فإنها بعد أن كانت تفيض بإنتاجها الزراعي على غيرها، أصبحت تستورد لوازمها الغذائية من خارجها، وتلك سنة الله في خلقه، ولو كانوا مسلمين كما قص الله تعالى علينا قصة أصحاب الجنة * (إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون) * إلى قوله * (فأصبحت كالصريم) * إلى قوله * (قالوا سبحان ربنآ إنا كنا ظالمين) *. ولذا كانت الزكاة طهرة للمال ونماء له. وقوله * (لنفتنهم فيه) * أي نختبرهم فيما هم فاعلون من شكر النعمة وصرفها فيما يرضي الله، أم الطغيان بها ومنع حقها؟ * (إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى) * * (إنا جعلنا ما على الا رض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) *، * (إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم) *. * (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا * وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا * قل إنمآ أدعو ربى ولا أشرك به أحدا * قل إنى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إنى لن يجيرنى من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا * حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا * قل إن أدرى أقريب ما توعدون أم يجعل له ربى أمدا * عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شىء عددا) * قوله تعالى: * (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) *. المساجد جمع مسجد. والمسجد لغة اسم مكان من سجد يسجد على وزن مفعل، كمجلس على غير القياس مكان الجلوس، وهو لغة يصدق على كل مكان صالح للسجود. وقد ثبت من السنة أن الأرض كلها صالحة لذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم، (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)، واستثنى منها أماكن خاصة نهى عن الصلاة فيها لأوصاف طارئة عليها وهي المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفوق الحمام. ومواضع الخسف ومعاطن الإبل، والمكان المغصوب على خلاف فيه من حيث الصحة وعدمها والبيع. وقد عد الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه تسعة عشر موضعا عند قوله تعالى: * (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين) * في الكلام على حكم أرض الحجر ومواطن الخسف، وساق كل موضع بدليله، وهو بحث مطول مستوفى والمسجد عرفا
320 كل ما خصص للصلاة وهو المراد بالإضافة هنا لله تعالى، وهي إضافة تشريف وتكريم مع الإشعار باختصاصها بالله أي بعبادته وذكره، كما قال تعالى: * (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والا صال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلواة) *. ولهذا منعت من اتخاذها لأمور الدنيا من بيع وتجارة، كما في الحديث: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا له: لا أربح الله تجارتك) رواه النسائي والترمذي وحسنه. وكذلك إنشاد الضالة لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم من ينشد ضالة بالمسجد، فقولوا له: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لذلك). رواه مسلم. وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد. قال له صلى الله عليه وسلم: (إن هذه المساجد لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه)، وفي موطأ مالك: أن عمر رضي الله عنه بنى رحبة في ناحية المسجد تسمى البطحاء. وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة. واللغط هو الكلام الذي فيه جلبة واختلاط. (وأل) في المساجد للاستغراق فتفيد شمول جميع المساجد، كما تدل في عمومها على المساواة، ولكن جاءت آيات تخصص بعض المساجد بمزيد فضل واختصاص، وهي المسجد الحرام خصه الله تعالى بما جاء في قوله: * (إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه ءايات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان ءامنا ولله على الناس حج البيت) *. فذكر هنا سبع خصال ليست لغيره من المساجد من أنه أول بيت وضع للناس ومبارك وهدى للعالمين، وفيه آيات بينات ومقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا، والحج والعمرة إليه، وآيات أخر. والمسجد الأقصى، قال تعالى: * (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الا قصى الذى باركنا حوله لنريه من ءاياتنآ إنه هو السميع البصير) * فخص بكونه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وبالبركة حوله وأري صلى الله عليه وسلم فيه من آيات ربه.
321 وقد كان من الممكن أن يعرج به إلى السماء من جوف مكة، ومن المسجد الحرام، ولكن ليريه من آيات الله كعلامات الطريق لتكون دليلا له على قريش في إخباره بالإسراء والمعراج، وتقديم جبريل له الأقداح الثلاثة بالماء واللبن والخمر، واختياره اللبن رمزا للفطرة. واجتماع الأنبياء له والصلاة بهم في المسجد الأقصى، بينما رآهم في السماوات السبع، وكل ذلك من آيات الله أريها صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى، والمسجد النبوي، ومسجد قباء، فمسجد قباء نزل فيه قوله تعالى: * (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) *. فجاء في صحيح مسلم أن أبا سعيد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مسجد أسس على التقوى من أول يوم؟ فأخذ صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصباء وضرب بها أرض مسجده، وقال: (مسجدكم هذا). وجاء في بلوغ المرام وغيره: حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء فقال: (إن الله يثني عليكم) فقالوا إنا نتبع الحجارة الماء، رواه البزار بسند ضعيف. قال في سبل السلام: وأصله في أبي داود والترمذي في السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نزلت هذه الآية في أهل قباء:) * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) *. قال ابن حجر: وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بدون ذكر الحجارة. وقال صاحب وفاء الوفاء: وروى ابن شيبة من طرق: ما حاصله أن الآية لما نزلت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قباء. وفي رواية: أهل ذلك المسجد. وفي رواية: بني عمرو بن عوف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، فما بلغ من طهوركم؟ قالوا: نستنجي بالماء). قال: وروى أحمد وابن شيبة واللفظ لأحمد عن أبي هريرة قال: انطلقت إلى مسجد التقوى أنا وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا لنا: انطلقوا إلى مسجد التقوى، فانطلقنا نحوه. فاستقبلنا يداه على كاهل أبي بكر وعمر فثرنا في وجهه فقال: من هؤلاء يا أبا بكر؟ قال: عبد الله بن عمر، وأبو هريرة وجندب.
322 فحديث مسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك النصوص في مسجد قباء. وقد قال ابن حجر رحمه الله: والحق أن كلا منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى: * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) * ظاهر في أهل قباء. وقيل: إن حديث مسلم في خصوص مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، جاء ردا على اختلاف رجلين في المسجد المعنى بها، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم أن الآية ليست خاصة بمسجد قباء، وإنما هي عامة في كل مسجد أسس على التقوى، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو معلوم في الأصول. وعليه، فالآية إذا اشتملت وتشتمل على كل مسجد أينما كان، إذا كان أساسه من أول يوم بنائه على التقوى، ويشهد لذلك سياق الآية بالنسبة إلى ما قبلها وما بعدها، فقد جاءت قبلها قصة مسجد الضرار بقوله: * (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) *. ومعلوم أن مسجد الضرار كان بمنطقة قباء، وطلبوا من الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي لهم فيه تبركا في ظاهر الأمر، وتقريرا لوجوده يتذرعون بذلك، ولكن الله كشف عن حقيقتهم. وجاءت الآية بمقارنة بين المسجدين فقال تعالى له: * (لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا) *. وجاء بعد ذلك مباشرة للمقارنة مرة أخرى أعم من الأولى في قوله تعالى: * (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به فى نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم) *. وبهذا يكون السبب في نزول الآية هو المقارنة بين مبدأين متغايرين، وأن الأولية في الآية في قوله: * (من أول يوم) * أولية نسبية أي بالنسبة لكل مسجد في أول
323 يوم بنائه، وإن كان الظاهر فيها أولية زمانية خاصة، وهو أول يوم وصل صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل بقباء، وتظل هذه المقارنة في الآية موجودة إلى ما شاء الله في كل زمان ومكان كما قدمنا. وقد اختصت تلك المساجد الأربعة بأمور تربط بينها بروابط عديدة، أهمها تحديد مكانها حيث كان بوحي أو شبه الوحي. ففي البيت الحرام قوله تعالى: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) *. وفي المسجد الأقصى: ما جاء في الأثر عنه: أن الله أوحى إلى نبيه داود. أن ابن لي بيتا، قال: وأين تريدني أبنيه لك يا رب؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهرا سيفه. فرآه في مكانه الآن، وكان حوشا لرجل من بني إسرائيل. إلى آخر القصة في البيهقي. وفي مسجد قباء بسند فيه ضعف. لما نزل صلى الله عليه وسلم قباء قال: من يركب الناقة إلى أن ركبها علي، فقال له: أرخ زمامها فاستنت، فقال: خطوا المسجد حيث استنت. وفي المسجد النبوي: جاء في السير كلها أنه صلى الله عليه وسلم كان كلما مر بحي من أحياء المدينة، وقالوا له: هلم إلى العدد والعدة، فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، حتى وصلت إلى أمام بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وكان أمامه مربد لأيتام ومقبرة ليهود، فاشترى المكان ونبش القبور وبنى المسجد. وكذلك في البناء فكلها بناء رسل الله، فالمسجد الحرام بناه إبراهيم عليه السلام، أي البناء الذي ذكره القرآن وما قبله فيه روايات عديدة، ولكن الثابت في القرآن قوله تعالى: * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) *. وكذلك بيت المقدس، وبينه وبين البيت أربعون سنة، كما في حديث عائشة في البخاري أي تجديد بنائه. وكذلك مسجد قباء، فقد شارك صلى الله عليه وسلم في بنائه، وجاء في قصة بنائه أن رجلا لقي النبي صلى الله عليه وسلم حاملا حجرا فقال: دعني أحمله عنك يا رسول الله، فقال له: (انطلق وخذ غيرها، فلست بأحوج من الثواب مني). وكذلك مسجده الشريف بالمدينة المنورة، حين بناه أولا من جذوع النخل وجريده،
324 ثم بناه مرة أخرى بالبناء بعد عودته من تبوك. ولهذه الخصوصيات لهذه المساجد الأربعة، تميزت عن عموم المساجد كما قدمنا. ومن أهم ذلك مضاعفة الأعمال فيها، أصلها الصلاة، كما بوب لهذا البخاري بقوله: (باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة)، وساق الحديثين. الأول حديث: (لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم). والحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام). كما اختص المسجد النبوي بروضته، التي هي روضة من رياض الجنة. وبقوله صلى الله عليه وسلم (ومنبري على ترعة من ترع الجنة)، وهو حديث مشهور (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة). واختص مسجد قباء بقوله صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له كأجر عمرة) أخرجه ابن ماجة وعمر بن شبة بسند جيد، ورواه أحمد والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. قال في وفاء الوفاء: وقال عمر بن شبة: حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا أيوب بن حيام عن سعيد بن الرقيش الأسدي قال: جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء، فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري، ثم سلم وجلس وجلسنا حوله فقال: سبحان الله: ما أعظم حق هذا المسجد، لو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه ليصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة. وقد اشتهر هذا المعنى عند العامة والخاصة، حتى قال عبد الرحمان بن الحكم في شعر له: وقد اشتهر هذا المعنى عند العامة والخاصة، حتى قال عبد الرحمان بن الحكم في شعر له: * فإن أهلك فقد أقررت عينا * من المعتمرات إلى قباء * * من اللائي سوالفهن غيد * عليهن الملاحة بالبهاء *
325 وروى ابن شبة بسند صحيح من طريق عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي يقول: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين. لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل، وغير ذلك من الآثار مرفوعة وموقوفة، مما يؤكد هذا المعنى من أن قباء اختص بأن: من تطهر في بيته وأتى إليه عامدا وصلى فيه ركعتين كان له كأجر عمرة. تنبيه وهنا سؤال يفرض نفسه: لماذا كان مسجد قباء دون غيره، ولماذا اشترط التطهر في بيته لا من عند المسجد؟ ولقد تطلبت ذلك طويلا فلم أقف على قول فيه، ثم بدا لي من واقع تاريخه وارتباطه بواقع المسلمين والمسجد الحرام أن مسجد قباء له ارتباطات عديدة بالمسجد الحرام. أولا: من حيث الزمن، فهو أسبق من مسجد المدينة. ومن حيث الأولية النسبية، فالمسجد الحرام أول بيت وضع للناس. ومسجد قباء أول مسجد بناه المسلمون. والمسجد الحرام بناه الخليل. ومسجد قباء بناه خاتم المرسلين. والمسجد الحرام كان مكانه باختيار من الله، وشبيه به مكان مسجد قباء. ومن حيث الموضوعية فالمسجد الحرام مأمنا وموئلا للعاكف والباد. ومسجد قباء مأمنا ومسكنا وموئلا للمهاجرين الأولين، ولأهل قباء فكان للصلاة فيه شدة ارتباط بالمسجد الحرام تجعل المتطهر في بيته والقاصد إليه للصلاة فيه كأجر عمرة. ولو قيل: إن اشتراط التطهير في بيته لا عند المسجد شدة عناية به أولا، وتمحيص القصد إليه ثانيا، وتشبيها أو قريبا بالفعل من اشتراط الإحرام للعمرة من الحل، لا من عند البيت في العمرة الحقيقة، لما كان بعيدا. فالتطهر من بيته والذهاب إلى قباء للصلاة فيه كالإحرام من الحل والدخول في الحرم للطواف والسعي، كما فيه تعويض المهاجرين عما فاتهم من جوار البيت الحرام قبل الفتح. والله تعالى أعلم.
326 تنبيه آخر إن مما ينبغي أن يعلم أن للمسجد في المجتمع الإسلامي رسالة عظمى ألزم ما يكون على المسلمين إحياؤها: وهي أن المسجد لهم هو بيت الأمة فيهم لجميع مصالحهم العامة والخاصة تقريبا مما يصلح له، فكأن المسجد النبوي في أول أمر المسلمين المثال لذلك. إذ كان المصلى الذي تتضاعف فيه الصلاة، وكان المعهد لتلقي العلم منه صلى الله عليه وسلم، ومن جبريل عليه السلام ومن الأئمة ورثة الأنبياء، ولا يزال بحمد الله كما قال صلى الله عليه وسلم (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالما كعالم المدينة). وكما قال: (من راح إلى مسجدي لعلم يتعلمه أو يعلمه كان كمن غزا في سبيل الله)، وكان فيه تعليم الصبيان للقراءة والكتابة، وكان ولا يزال كذلك إلى اليوم بحمد الله، وكان مقرا للإفتاء ومجلسا للقضاء ومقرا للضيافة، ومنزلا للأسارى، ومصحا للجرحى. وقد ضربت لسعد فيه قبة لما أصابه سهم ليعوده صلى الله عليه وسلم من قريب ومقرا للقيادة، فتعقد فيه ألوية الجهاد، وتبرم فيه معاهدات الصلح، ومنزلا للوفود كوفد تميم وعبد القيس، وبيتا للمال كمجيء مال البحرين وحراسة أبي هريرة له. ولما نقب بيت مال المسلمين، قال عمر رضي الله عنه لعامله هناك: انقله إلى المسجد فلا يزال المسجد فيه مصلى أي ليتولى حراسته ومقيلا للعزاب ومبيتا للغرباء. إلى غير ذلك مما لا يوجد في أي مؤسسة أخرى. ولا تتأتى إلا في المسجد، مما يؤكد رسالة المسجد، ويستدعي الانتباه إليه وحسن الاستفادة منه. وبمناسبة اختصاص هذه المساجد الأربعة بمزيد الفضل وزيادة مضاعفة الصلاة، فإن في المسجد النبوي خاصة عدة مباحث طالما أشير إليها في عدة مواضع وهي من الأهمية بمكان، وأهمها أربعة مباحث نوردها بإيجاز، وهي: الأول: مضاعفة الصلاة بألف. وهل هي خاصة بمسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان من بنائه صلى الله عليه وسلم، أم يشمل ذلك ما دخله من زيادات. وكذلك امتداد الصفوف خارجه عن الزحمة وهل هي في الفرض فقط أم فيه وفي النقل، وهل هي للرجال والنساء أم للرجال فقط.
327 وقضية الأربعين صلاة الثانية بعد التوسعة الأولى لعمر وعثمان، ونقل المحراب إلى القبلة عن الروضة، فأي الصفين أفضل. الصف الأول أم صفوف الروضة. الثالثة: صلاة المأمومين عند الزحام أمام الإمام. الرابعة: حديث شد الرحال والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي مبحث موجب الربط بين أول الآية وآخرها، وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. لما فيه من التنويه والإيماء إلى بناء المساجد على القبور مع تمحيص العبادة لله وحده. وتلك المباحث كنت قد فصلتها في رسالة المسجد النبوي التي كتبتها من قبل، ونجمل ذلك هنا. المبحث الأول هل الفضلية خاصة بالفرض، أم بالنفل؟ اتفق الجمهور على الفرض، ووقع الخلاف في النفل، ما عدا تحية المسجد ركعتين بعد الجمعة وركعتين قبل المغرب. وأما الخلاف في النوافل الراتبة في الصلوات الخمس وفي قيام الليل، وسبب الخلاف هو عموم (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه) فمن حمله على العموم شمله بالنافلة، ومن حمل العموم على الأصل فيه قصره على الفريضة، إذ العام على الإطلاق يحمل على الأخص منه وهي الفريضة. وقد جاء حديث زيد بن ثابت عند أبي داود وغيره (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة). وجاء التصريح بمسجده بقوله: (صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة). وما جاء عن الترمذي في الشمائل ومجمع الزوائد: أن عبد الله بن سعد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في بيته والصلاة في المسجد. فقال صلى الله عليه وسلم: (قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد، إلا أن تكون المكتوبة). وفي رواية (أرأيت قرب بيتي من المسجد؟ قال: بلى. قال فإني
328 أصلي النافلة في بيتي). أقوال الأئمة رحمهم الله، وعلى هذا التفصيل كانت أقوال الأئمة رحمهم الله كالتالي: قول الإمام أبي حنيفة: إن النافلة في البيت أفضل، وإذا وقعت في المسجد النبوي كان لها نفس الأجر، أي أنها عامة في كل الصلوات. ولكنها في البيت أفضل هي منها في المسجد. وعند الشافعي: اختلفت الرواية عنه، فذكر النووي في شرح مسلم العموم. وجاء عنه في المجموع ما يفيد الخصوص وإن لم يصرح به. والنصوص في صلاة النافلة في البيت عديدة: منها: (اجعلوا صلاتكم في بيوتكم). ومنها: (أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم). وذكر القرطبي عن مسلم: (إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته). وعند المالكية يعم الفرض والنفل، واستدل لذلك بأن الحديث في معرض الامتنان والنكرة إذا كانت في سياق الامتنان تعم، أي قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه)، فصلاة لفظ نكرة. وفي معرض الامتنان والتفضل بهذا الأجر العظيم، فكان عاما في الفرض والنفل، والذي يظهر والله تعالى أعلم لا خلاف بين الفريقين. إذ فضيلة الألف حاصلة لكل صلاة صلاها الإنسان فيه فرضا كانت أو نفلا. وصلاة النافلة في البيت تكون أفضل منها في المسجد بدوام صلاته صلى الله عليه وسلم النوافل في البيت مع قرب بيته من المسجد، كما أن هذه الفضيلة تشمل صلاة الرجل والمرأة.
329 ولكن صلاة المرأة مع ذلك أفضل في بيتها منها في المسجد، وهذا هو المبحث الثاني، أي أيهما أفضل للمرأة صلاتها في بيتها أم في المسجد النبوي؟ وهذه المسألة قد بحثها فضيلة الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند قوله تعالى: * (فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والا صال رجال) *. وأن مفهوم * (رجال) * مفهوم صفة في هذه المسألة، لا مفهوم لقب وعليه فالنساء يسبحن في بيوتهن، وقد ساق البحث وافيا في عموم المساجد وخصوص المسجد النبوي، مما يكفي توسع. أما المبحث الثالث: وهو هل المضاعفة خاصة بمسجده صلى الله عليه وسلم الذي بناه، والذي كان موجودا أثناء حياته صلى الله عليه وسلم أو أنها توجد فيه وفيما دخله من الزيادة من بعده. أما مثار البحث هو ما جاء في نص الحديث اسم الإشارة في مسجدي هذا، فقال بعض العلماء: اسم الإشارة موضوع للتعيين، وقال علماء الوضع: إنه موضوع بوضع عام لموضوع له خاص، فيختص عند الاستعمال بمفرد معين، وهو ما كان صالحا للإشارة الحسية، وهو عين ما كان موجودا زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن الإشارة لم تتناول الزيادة التي وجدت بعد تلك الإشارة، فمن هنا جاء الخلاف والتساؤل. وقد نشأ هذا التساؤل في زمن عمر رضي الله عنه عند أول زيادة زادها في المسجد النبوي، فرأى بعض الصحابة يتجنبون الصلاة في تلك الزيادة ويرغبون في القديم منها، فقال لهم: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يريد توسعة المسجد لما وسعته، ووالله إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو امتد إلى ذي الحليفة، أو ولو امتد إلى صنعاء، فهذا مثار البحث وسببه. ولكن لو قيل: إنه في نفس الحديث مبحث لغوي آخر وهو أن قوله صلى الله عليه وسلم (في
330 مسجدي) بالإضافة إليه صلى الله عليه وسلم، والإضافة تفيد التخصيص أو التعريف. وفيه معنى العموم والشمول، والآن مع الزيادة في كل زمان وعلى مر الأيام، فإنه لم يزل هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه كان تصريح عمر إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقوال العلماء: الجمهور على أن المضاعفة في جميع أجزائه بما فيها الزيادة، ونقل عن النووي في شرح مسلم: أنها خاصة بالمسجد. الأول: قبل الزيادة، وقيل: إنه رجع عنه. وهذا الرجوع موجود في المجموع شرح المهذب، وعليه فلم يبق خلاف في المسألة. وقال ابن فرحون: وقفت على كلام لمالك سئل عن ذلك فقال: ما أراه عليه السلام أشار بقوله: (في مسجدي هذا) إلا لما سيكون من مسجد بعده، وأن الله أطلعه على ذلك. وقد قدمت الإشارة إلى أن عمر رضي الله عنه ما زاد في المسجد إلا بعد أن سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم رغبته في الزيادة، فيكون تأييدا لقول مالك رحمه الله. وروي أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال يوما وهو في مصلاه في المسجد (لو زدنا في مسجدنا) وأشار بيده نحو القبلة. وفي رواية: (إني أريد أن أزيد في قبلة مسجدنا)، مما يدل على أن الزيادة كانت في حسبان رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومع الرغبة في الزيادة لم تأت إشارة إلى ما يغير حكم الصلاة في تلك الزيادة المنتظرة، ولا يقال إنها قبل وجودها لا يتعلق بها حكم، لأننا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رتب أحكاما على أمور لم توجد بعد كمواقيت الإحرام المصري والشامي والعراقي، وكقوله صلى الله عليه وسلم (ستفتح اليمن، وستفتح الشام، وستفتح العراق)، ومع كل منها يقول: (سيؤتى بأقوام يبسون هلم إلى الرخاء والسعة فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون). وقال البعض: إن قوله صلى الله عليه وسلم (في مسجدي هذا) لدفع توهم دخول سائر المساجد المنسوبة إليه بالمدينة غير هذا المسجد، لا لإخراج ما سيزاد في المسجد النبوي. قاله
331 السمهودي ا ه. ولكن لم يعلم أنه كانت هناك عدة مساجد له صلى الله عليه وسلم، فلم يكن إلا المسجد والمصلى، وبقية المساجد أطلقت عليها اصطلاحا. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام موجز في ذلك، وهو أن الزيادة كانت في عهدي عمر وعثمان رضي الله عنهما. وقعت زيادة كل منهما من جهة القبلة ومع هذا، فإن كلا منهما كان إذا صلى بالناس قام في القبلة الواقعة في تلك الزيادة فيمتنع أن تكون الصلاة في تلك الزيادة ليست لها فضيلة المسجد، إذ يلزم عليه صلاة عمر وعثمان بالناس. وصلاة الناس معهم في الصفوف الأولى في المكان المفضول مع ترك الأفضل ا ه. ومن كل ما قدمنا يتضح أن حكم الزيادة في المسجد النبوي كحكم الأصل في مضاعفة الأجر إلى الألف. وقد كنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ما يفيد ذلك، وسيأتي ذلك إن شاء الله في مبحث الأربعين صلاة، وصلاة الناس في الصف خارج المسجد. تنبيه هذه المضاعفة أجمعوا على أنها في الكيف لا في الكم، فلو أن على إنسان فوائت يوم خمس صلوات، وصلى صلاة هي خير من ألف صلاة، لن تسقط عنه شيئا من تلك الفوائت، فهي في نظري بمثابة ثوب وثوب آخر أحدهما قيمته ألف درهم، والآخر بدرهم واحد، فكل منهما ثوب في مهمته ولن يلبسه أكثر من شخص في وقت مهما كان ثمنه. وكذلك كالقلم، والقلم فمهما غلا ثمن القلم، فلن يكتب به شخصان في وقت واحد. تنبيه آخر مما لا شك فيه أن للمسجد الأساسي خصائص لم توجد في بقية المسجد كالروضة من الجنة. والمنبر على ترعة من ترع الجنة، بعض السواري ذات التاريخ.
332 وقد قال النووي: إذا كان الشخص سيصلي منفردا أو نفلا، فإن الأفضل أن يكون في الروضة وإلا ففي المسجد الأول، وإذا كان في الجماعة، فعليه أن يتحرى الصف الأول، وإلا ففي أي مكان من المسجد، وهذا معقول المعنى. والحمد لله. المبحث الرابع وهو بعد هذه التوسعة وانتقال الصف الأول عن الروضة، فهل الأفضل الصلاة في الجماعة في الصف الأول، أم في الروضة مع تخلفه عن الأول؟ ولتصوير هذه المسألة نقدم الآتي: أمام المصلى موضعان أحدهما الروضة، بفضلها روضة من رياض الجنة. والصف الأول، وفيه: لو يعلمون ما الصف الأول لاستهموا عليه، فأي الموضعين يقدم على الآخر؟ ومعلوم أنهم كانوا قبل التوسعة يمكنهم الجمع بين الفضيلتين، إذ الصف الأول كان في الروضة. أما الآن وبعد التوسعة فقد انفصل الصف الأول عن الروضة، ما دام الإمام يصلي في مقدمة المسجد، ولم أقف على تفصيل في المسألة. ولكن عمومات للنووي، وللشيخ ابن تيمية رحمهما الله على ما قدمنا في مبحث شمول المضاعفة للزيادة، ولكن توجد قضية يمكن استنتاج الجواب منها، وهي قبل التوسعة كان للصف الأول ميمنة وميسرة، وكان للميمنة فضيلة على الميسرة. ومعلوم أن ميمنة الصف قبل التوسعة كانت تقع غربي المنبر أي خارجة عن الروضة، والميسرة كلها كانت في الروضة، ومع ذلك فقد كانوا يفضلون الميمنة على الميسرة لذاتها عن الروضة لذاتها أيضا، فإذا كانت الميمنة وهي خارج الروضة مقدمة عندهم عن الروضة، فلأن يقدم الصف الأول من باب أولى. وهناك حقيقة فقهية ذكرها النووي، وهي تقديم الوصف الذاتي على الوصف العرضي، وهو هنا الصف الأول وصف ذاتي للجماعة. وفضل الروضة وصف عرضي للمكان. أي لكل حال من ذكر أو صلاة فريضة أو نافلة، فتقديم الصف الأول لكونه ذاتيا
333 بالنسبة للجماعة أولى من تقديم الروضة لكونه وصفا عرضيا. وقد مثل لهذه القاعدة النووي بقوله: فلو أن إنسانا في طريقه إلى الصلاة بالمسجد النبوي فوجد مسجدا آخر يصلي جماعة فكان بين أن يدرك الجماعة مع هؤلاء أو يتركها، ويمضي إلى المسجد النبوي، وتفوته الصلاة فيصلي منفردا بألف صلاة، فقال: يصلي في هذا المسجد جماعة أولى له، لأنه تحصيل الجماعة وصف ذاتي للصلاة، وتحصيل خير من ألف صلاة وصف عرضي بسبب فضل المسجد النبوي ا ه. ملخصا. وقد يقال أيضا: إن العبد مكلف بإيقاع الصلاة في جماعة أكثر منه تكليفا بإيقاعها في المسجد النبوي، وهكذا الحال فإنا مطالبون بالصف الأول على الإطلاق حيث ما كان أكثر منا مطالبة بالصلاة في الروضة. والعلم عند الله تعالى. المبحث الخامس وهو في حالة ازدحام المسجد وامتداد الصفوف إلى الخارج في الشارع أو البرحة، فهل لامتداد الصفوف تلك المضاعفة أم لا؟ لنعلم أن فضيلة الجماعة حاصلة بلا خلاف. أما المضاعفة إلى ألف، فلم أقف على نص فيها، وقد سألت الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عن ذلك مرتين ففي الأولى مال إلى اختصاص المسجد بذلك، وفي المرة الثانية وبينهما نحو من عشر سنوات مال إلى عموم الأجر، وقال ما معناه: إن الزيادة تفضل من الله، وهذا امتنان على عباده، فالمؤمل في سعة فضل الله أنه لا يكون رجلان في الصف متجاورين أحدهما على عتبة المسجد إلى الخارج، والآخر عليها إلى الداخل، ويعطي هذا ألفا ويعطي هذا واحدة. وكتفاهما متلاصقتان، وهذا واضح والحمد لله. وقد رأيت في مسألة الجمعة عند المالكية نصا، وكذلك عند غيرهم ممن يشترطون المسجد للجمعة، فإنهم متفقون أن الصفوف إذا امتدت إلى الشوارع والرحبات خارج المسجد أن الجمعة صحيحة، مع أنهم أوقعوها في غير المسجد، لكن لما كانت الصفوف ممتدة من المسجد إلى خارجة انجر عليها حكم المسجد وصحت الجمعة. فنقول هنا: كذلك لما كانت الصفوف خارجة عن المسجد النبوي: ينجر عليها حكم المسجد إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
334 وقد يستدل لذلك بالعرف وهو: لو سألت من صلى في مثل ذلك أي صليت؟ أفي قباء؟ أم في المسجد النبوي؟ لقال: بل في المسجد النبوي. فلم يخرج بذلك عن مسمى المسجد عرفا. المبحث السادس وهو عند الزحام في المسجد النبوي خاصة، وفي بقية المساجد عامة. حينما يضيق المكان ويضطر المصلون للصلاة في صفوف عديدة خارج المسجد وأمام الإمام متقدمين عليه بعدة صفوف فما حكم صلاة هؤلاء؟ قد ذكر النووي في المجموع الخلاف عن الشافعي. وأن الصحيح من المذهب هو الصحة مع الكراهة. وذكر المالكية الصحة كذلك، وقد استدلوا لها بصلاة ابن عباس رضي الله عنه ذات ليلة عند ميمونة رضي الله عنها بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وابن عباس آنذاك غلام، فقام على يساره صلى الله عليه وسلم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه تكريما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما شعر به صلى الله عليه وسلم وبعد أن كبر ودخل في الصلاة، فأخذه صلى الله عليه وسلم بيده ونقله من ورائه وجعله صلى الله عليه وسلم عن يمينه بحذائه في موقف الواحد، كما هو معلوم من حكم المنفرد مع الإمام. ومحل الاستدلال في ذلك هو أن الجهات بالنسبة للإمام أربع: خلفه وهي للكثيرين من اثنين فصاعدا. وعن يمينه وهو موقف الفرد، ويساره وأمامه، أما اليسار: فقد وقف فيه ابن عباس وليس بموقف، فأخذه صلى الله عليه وسلم وجعله عن يمينه. ولكن بعد أن دخل في الصلاة وأوقع بعض صلاته في ذلك المقام، وقد صحت صلاته حيث بنى على الجزء الذي سبق أن أوقعه عن اليسار لضرورة الجهل بالموقف. وبقيت جهة الإمام فليست بجهة موقف، ولكن عند الضرورة وللزحمة لم يكن من التقدم على الإمام بد، فجازت أو فصحت للضرورة، كما صحت عن يساره صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. ويقوي هذا الاستدلال أنه لو جاء شخص إلى الجماعة ولم يجد له مكانا إلا بجوار
335 الإمام، فإنه يقف عن يمينه بجواره، كما لو كان منفردا مع وجود الصفوف العديدة. ولكن صح وقوفه للضرورة. المبحث السابع موضوع: الأربعين صلاة، وهو من جهة خاص بالمسجد النبوي، ومن جهة عام في كل مسجد، ولكن لا بأربعين صلاة بل بأربعين يوما. أما ما يخص المسجد النبوي، فقد جاء في حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته صلاة كتبت له براءة ونجاة من العذاب، وبرىء من النفاق). قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواته رواة الصحيح. أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في الأوسط. وفي مجمع الزوائد: رجاله ثقات. وهو عند الترمذي بلفظ: (من صلى أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق). قال الترمذي: هو موقوف على أنس، ولا أعلم أحدا رفعه. وقال ملا علي القاري: مثل هذا لا يقال بالرأي، وقد تكلم بعض الناس في هذا الحديث بروايتين. أما الأولى: فبسبب نبيط ابن عمر. وأما الثانية: فمن جهة الرفع والوقف. وقد تتبع هذين الحديثين بعض أهل العلم بالتدقيق في السند، وأثبت صحة الأول وحكم الرفع للثاني. وقد أفردهما الشيخ حماد الأنصاري برسالة رد فيها على بعض من تكلم فيهما من المتأخرين. نوجز كلامه في الآتي: قال الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة في زوائد الأربعة: نبيط بن عمر، ذكره ابن حبان في الثقات، فاجتمع على توثيق نبيط كل من ابن حبان والمنذري والبيهقي وابن حجر، ولم يجرحه أحد من أئمة هذا الشأن. فمن ثم لا يجوز لأحد أن يطعن ولا أن يضعف من وثقه أئمة معتبرون، ولم يخالفهم إمام من أئمة الجرح والتعديل. وكفى من ذكروا من أئمة هذا الشأن قدوة.
336 ذلك ولو فرض وقدر جدلا أنه في السند مقالا، فإن أئمة الحديث لا يمنعون إذا لم يكن في الحديث حلال أو حرام أو عقيدة، بل كان باب فضائل الأعمال لا يمنعون العمل به، لأن باب الفضائل لا يشدد فيه هذا التشديد. ونقل السيوطي مثل ذلك عن أحمد وابن المبارك. أما حديث إدراك تكبيرة الإحرام في أي مسجد، فهذا أعم من موضوع المسجد النبوي الذي نتحدث عنه، وكل أسانيده ضعيفة ولكن قال الحافظ ابن حجر: يندرج ضمن ما يعمل به في فضائل الأعمال. انتهى ملخصا. وهذا الحث على أربعين صلاة في المسجد النبوي لعله والله تعالى أعلم من باب التعود والتزود، لما يكسبه ذلك العمل من مداومة وحرص على أداء الصلوات الخمس ثمانية أيام في الجماعة، واشتغاله الدائم بشأن الصلاة وحرصه عليها، حتى لا تفوته صلاة مما يعلق قلبه بالمسجد، فتصبح الجماعة له ملكة ويصبح مرتاحا لارتياد المسجد وحريصا على بقية الصلوات في بقية أيامه لا تفوته الجماعة إلا من عذر. فلو كان زائرا ورجع إلى بلاده رجع بهذه الخصلة الحميدة، ولعل في مضاعفة الصلاة بألف تكون بمثابة الدواء المكثف الشديد الفعالية، السريع الفائدة، أكثر مما جاء في عامة المساجد بأربعين يوما لا تفوته تكبيرة الإحرام، إذ الأربعون صلاة في المسجد النبوي تعادل أربعين ألف صلاة فيما سواه، وهي تعادل حوالي صلوات اثنين وعشرين سنة. ولو راعينا أجر الجماعة خمسا وعشرين درجة، لكانت تعادل صلاة المنفرد خمسمائة وخمسين سنة، أي في الأجر والثواب لا في العدد، أي كيفا لا كما، كما قدمنا. وفضل الله عظيم. وليعلم أن الغرض من هذه الأربعين هو كما أسلفنا التعود والحرص على الجماعة. أما لو رجع فترك الجماعة وتهاون في شأن الصلاة عياذا بالله، فإنها تكون غاية النكسة. نسأل الله العافية، كما نعلم أن هذه الأربعين صلاة لا علاقة لها لا بالحج ولا بالزيارة، على ما تقدم للشيخ رحمه الله في آداب الزيارة في سورة الحجرات. وأن الزيارة تتم بصلاة ركعتي تحية المسجد والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى
337 صاحبيه رضوان الله تعالى علينا وعليهم، ثم الدعاء لنفسه وللمسلمين بالخير، ثم إن شاء انصرف إلى أهله، وإن شاء جلس ما تيسر له. وبالله تعالى التوفيق. مبحث السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان جانب من جوانب السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكلام على قوله تعالى: * (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) * (الحجرات: 2) في التحذير من مبطلات الأعمال وبيان ما هو حق لله فلا يصرف لغيره، وما هو حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتجاوز به. وقد يجر الحديث عن السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضله وفضيلته إلى موضوع شد الرحال إلى المسجد، وإلى السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. شد الرحال إلى المسجد النبويللسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومما اختص به المسجد النبوي، بل ومن أهم خصائصه بعد الصلاة، السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من داخل هذا المسجد قديما وحديثا. كما جاء في الصحيح (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام) ومجمعون أن ذلك يحصل لمن سلم عليه صلى الله عليه وسلم من قريب، وما كان هذا السلام يوما من الأيام إلا من المسجد النبوي سواء قبل أو بعد إدخال الحجرة في المسجد. ومعلوم أن أول آداب الزيارة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، البدء بصلاة ركعتين تحية المسجد وبعد السلام ينصرف عن المواجهة ويدعو ما شاء وهو في أي مكان من المسجد. وهنا مسألة طالما أثير النزاع فيها: وهي شد الرحال للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي إن كان محلها مبحث الزيارة وأحكامها وآدابها، إلا أننا نسوق موجزا عنها بمناسبة حديث شد الرحال، ونسأل الله تعالى الهداية والتوفيق. من المعلوم أن أصل هذه المسألة هو حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) المتقدم ذكره لاختلافهم في تقدير المستثنى منه. والمراد بشد الرحال إليه في تلك
338 المساجد، أهو خصوص الصلاة أم للصلاة وغيرها. ولنتصور حقيقة هذه المسألة ينبغي أن نعلم أولا أن البحث في هذه المسألة له ثلاث حالات: الأولى: شد الرحال إلى المسجد النبوي للزيارة. وهذا مجمع عليه. الثانية: زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم والسلام عليه من قريب بدون شد الرحال، وهذا أيضا مجمع عليه. الثالثة: شد الرحال للزيارة فقط. وهذه الحالة الثالثة هي محل البحث عندهم ومثار النقاش السابق. قال ابن حجر في فتح الباري على حديث شد الرحال: قال الكرماني: وقد وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة، وصنفت فيها مسائل من الطرفين. قلت: أي ابن حجر، يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين بن تيمية، وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي وغيره لابن تيمية وهي مشهورة في بلادنا. ا ه، وهذا يعطينا مدى الخلاف فيها وتاريخه. وقد أشار ابن حجر إلى مجمل القول فيها بقوله: إن الجمهور أجازوا بالإجماع شد الرحال لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن حديث (لا تشد الرحال) إنما يقصد به خصوص الصلاة، وليس مكان أولى من مكان بالصلاة تشد له الرحال إلا المساجد الثلاثة لما خصت من فضيلة مضاعفة الصلاة فيها. والشيخ تقي الدين جعل موضوع النهي عن شد الرجال عاما للصلاة وغيرها. واعترض عليه باتفاق الأمة على جواز شد الرحال لأي مكان لعدة أمور كما هو معلوم. ومما استدل به على عدم شد الرحال لمجرد الزيارة، ما روي عن مالك كراهية أن يقال زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وأجيب عن ذلك: بأن كراهية مالك للفظ فقط تأدبا لا أنه كره أصل الزيارة، فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال، وأن مشروعيتها محل إجماع
339 بلا نزاع. والله الهادي إلى الصواب ا ه. ولعل مذهب البخاري حسب صنيعه هو مذهب الجمهور، لأنه أتى في نفس الباب بعد حديث شد الرحال مباشرة بحديث (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه) مما يشعر بأنه قصد بيان موجب شد الرحال هو فضيلة الصلاة فيكون النهي عن شد الرحال مختصا بالمساجد ولأجل الصلاة إلا في تلك المساجد الثلاثة لاختصاصها بمضاعفة الصلاة فيها دون غيرها من بقية المساجد والأماكن الأخرى. وقد ناقش ابن حجر لفظ الحديث ورجح هذا المذهب حيث قال: قال بعض المحققين قوله (إلا إلى ثلاثة مساجد) المستثنى منه محذوف. فإما أن يقدر عاما فيصير لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة. أو أخص من ذلك. لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها، فتعين الثاني. والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة. فيبطل بذلك قول: من منع شد الرحال إلى زيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم. وغيره من قبور الصالحين. والله أعلم. وقال السبكي الكبير: ليس في الأرض بقعة تفضل لذاتها حتى تشد إليها الرحال غير البلاد الثلاثة. ومرادي بالفضل: ما شهد الشرع باعتباره ورتب عليه حكما شرعيا. أما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها، بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات. قال: وقد التبس ذلك على بعضهم، فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل في المنع وهو خطأ، لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه. فمعنى الحديث: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلا إلى الثلاثة المذكورة. وشد الرحال إلى زيارة أو طلب ليس إلى المكان بل إلى من في ذلك المكان. والله أعلم ا ه.
340 وبتأمل كلام ابن حجر، نجده يتضمن إجراء معادلة على نص الحديث بأن له حالتين فقط. الأولى: أن يقال لا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة لخصوص الصلاة ولا تشد لغيرها من الأماكن لأجل الصلاة، فيكون النهي منصبا على شد الرحال لأي مكان سوى المساجد الثلاثة من أجل أن يصلي فيما عداها. فيبقى غير الصلاة خارجا عن النهي فتشد له الرحال لأي مكان كان. وغير الصلاة يشمل طلب العلم والتجارة والنزهة والاعتبار والجهاد ونحو ذلك، والنصوص في ذلك كله متضافرة. ففي طلب العلم ما قدمنا من نصوص، وقد رحل نبي الله موسى إلى الخضر، كما قال تعالى: * (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا) * إلى قوله: * (لقد لقينا من سفرنا هاذا نصبا) * إلى قوله: * (قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) *. وفي السفر للتجارة قوله تعالى: * (وءاخرون يضربون فى الا رض يبتغون من فضل الله) *. وقوله: * (هو الذى جعل لكم الا رض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه) * وغيرها كثيرة. والسفر للعبرة قوله تعالى: * (قل سيروا فى الا رض فانظروا) *. وقوله * (ثم دمرنا الا خرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وباليل أفلا تعقلون) *. وقوله: * (فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا فى الا رض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الا بصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) *. فقد أمر الله العباد بالسير ليعقلوا بقلوبهم حالة تلك القرى الخاوية ليتعظوا بأحوال أهلها.
341 فهذه نصوص جواز السفر لعدة أمور، فيكون من ضمنها السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم والسلام عليه. حيث إن السلام عليه صلى الله عليه وسلم من الأمور المشروعة بلا نزاع، والحالة الثانية: أن يكون النهي عاما لجميع الأماكن في جميع الأمور فلا تشد الرحال قط إلا إلى الثلاثة المساجد وبلدانها الثلاثة. ولكن لا لخصوص الصلاة فقط، بل لكل شيء مشروع بأصله مما قدمنا أنواعه من طلب العلم والتجارة والعظة والنزهة وغير ذلك، كصوم واعتكاف ومجاورة وحج وعمرة وصلة رحم، ومشاهدة معالم تاريخية ونحو ذلك. ومن هذا كله السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا شد الرحال إلى المدينة لكل شيء كان منها الزيارة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضة على حالة من الحالتين، ولا يتعارض معهما الحديث المذكور، على أي تقدير المستثنى منه في هذا الحديث. وجهة نظر وبالتحقيق في هذه المسألة وإثارة النزاع فيها يظهر أن النزاع والجدال فيها أكثر مما كانت تحتمل، وهو إلى الشكلي أقرب منه إلى الحقيقي. ولا وجود له عمليا. وتحقيق ذلك كالآتي: وهو ما داموا متفقين على شد الرحال للمسجد النبوي للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتفقون على السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون شد الرحال. فلن يتأتى لإنسان أن يشد الرحال للسلام دون المسجد، ولا يخطر ذلك على بال إنسان، وكذلك شد الرحل للصلاة في المسجد النبوي دون أن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يخطر على بال إنسان. وعليه فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر. لأن المسجد النبوي ما هو إلا بيته صلى الله عليه وسلم، وهل بيته إلا جزء من المسجد كما في حديث الروضة (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة). فهذا قوة ربط بين بيته ومنبره في مسجده. ومن ناحية أخرى هل يسلم أحد عليه صلى الله عليه وسلم من قريب، لينال فضل رد السلام عليه منه صلى الله عليه وسلم، إلا إذا كان سلامه عن قرب ومن المسجد نفسه؟
342 وهل تكون الزيارة سنية إلا إذا دخل المسجد وصلى أولا تحية المسجد؟ وبهذا فلا انفكاك لشد الرحل إلى المسجد عن زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا لزيارته صلى الله عليه وسلم عن المسجد، فلا موجب لهذا النزاع. وهنا وجهة نظر أخرى وهي، أن قوله صلى الله عليه وسلم (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام). فإن إطلاقه عن كل قيد من قرب أو بعد مما يدل على العموم من حيث المجيء للسلام عليه. فيقال: إن هذه فضيلة عظيمة ولا يتأتى للبعيد تحصيلها إلا بشد الرحال إليها كوسيلة لتحصيلها والوسيلة تأخذ حكم الغاية من وجوب أو ندب أو إباحة، كالسعي إلى الجمعة واجب، لأن أداء الجمعة واجب، وإعداد الثياب الجميلة إليها مثلا مندوب، لأن التجمل إليها مندوب ومثله إعداد الطيب بالنسبة لحضورها. وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية مناقشة هذه المسألة، ولكنه جاء بأمثلة قابلة هي للنقاش فقال: ليس كل غاية مشروعة تكون وسيلتها مشروعة، كحج المرأة وخروجها إلى المسجد، فإن الأول مشروط فيه وجود المحرم. والثاني: مشروط فيه إذن الزوج. والنقاش لها أن سفر المرأة مطلقا ممنوع إلا مع المحرم، سواء كان لهذا المسجد وللحج أو لغيره. وخروجها إلى المسجد ليس بمطلوب منها في الأصل، ولكن إذا طلبت الإذن يؤذن لها. فالأصل فيه المنع حتى نحصل على الإذن. وعلى هذا يقال: لو كان شد الرحل إليها غير مشروع لما كان لفاعله نصيب في فضلها، ولا يحصل على رد السلام منه صلى الله عليه وسلم. ولو كان كذلك للزم التنبيه عليه عند بيان فضيلته لعدم تأخير البيان، فكأن يقال مثلا: فأرد عليه السلام، إلا من شد الرحل لذلك. أو يقال من أتاني من قريب فسلم علي... إلخ. ولكن لم يأت شيء من هذا التنبيه وبقي الحديث على عمومه. وليعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يفرق بين السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عامة المسلمين، لما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حقوق وخصائص ليست لغيره من وجوب محبة وتعظيم وفرضية صلاة
343 وتسليم في صلواتنا وعند دخول المساجد والخروج منها، بل وعند سماع ذكره مما ليس لغيره قط. كما أن زيارة غيره صلى الله عليه وسلم للدعاء له والترحم عليه، بينما زيارته صلى الله عليه وسلم والسلام عليه ليرد الله تعالى عليه روحه فيرد علينا السلام. وزيارة غيره في أي مكان من العالم لا مزية له، بينما زيارته صلى الله عليه وسلم من مسجده وقد خص بما لم يختص به غيره. وأعتقد أن هذه المسألة لولا نزاع معاصري شيخ الإسلام معه في غيرها لما كان لها محل ولا مجال. ولكنهم وجدوها حساسة ولها مساس بالعاطفة ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأثاروها وحكموا عليه بالالتزام. أي يلازم كلامه حينما قال: لا يكون شد الرحال لمجرد الزيارة، بل تكون للمسجد من أجل الزيارة، عملا بنص الحديث فتقولوا عليه ما لم يقله صراحة. ولو حمل كلامه على النفي بدل من النهي لكان موافقا، أي لا يتأتى ذلك لأنه رحمه الله لم يمنع زيارته صلى الله عليه وسلم ولا السلام عليه، بل يجعلها من الفضائل والقربات، وإنما يلتزم بنص الحديث في جعل شد الرحال إلى المسجد، ولكل شيء ومنه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح بذلك في كتبه. قال في بعض رسائله وردوده ما نصه: فصل قد ذكرت فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره، كما يذكر أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب. وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك وكيف يسلم عليه، وهل يستقبل الحجرة أم القبلة على قولين. فالأكثرون يقولون يستقبل الحجرة، كمالك والشافعي وأحمد إلى أن قال: والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين، لم يقل أحد من أئمة
344 المسلمين إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده، وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره صلى الله عليه وسلم، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهى عن ذلك ولا نهي عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور. إلى أن قال: وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين، وهو أن أمرنا أن نصلي عليه ونسلم عليه في كل صلاة، ويتأكد ذلك في الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية، وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد، مسجده وغير مسجده، وعند الخروج منه. فكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة. والسفر إلى مسجده مشروع، لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره، حين كره مالك رحمه الله أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليها والدعاء لهم، وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده، وعند سماع الأذان وعند كل دعاء. فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء، فإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ا ه. وإذا كان هذا كلامه رحمه الله، فإن المسألة شكلية وليست حقيقية. إذ أنه يقرر بأن السفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم مشروع وإن كان يزور قبره صلى الله عليه وسلم ويسلم عليه، وأن ذلك من أفضل القربات ومن صالح الأعمال. أي وإن كانت الزيارة مقصودة عند السفر. وإذا كان السفر إلى المسجد لا ينفك عن السلام عليه صلى الله عليه وسلم، والسلام عليه لا ينفك عن الصلاة في المسجد. فلا موجب لهذا النقاش، وجعل هذه المسألة مثار نزاع أو جدال. وقد صرح رحمه الله بما يقرب من هذا المعنى في موضع آخر من كلامه، إذ يقول في ج 72 ص 243 من المجموع ما نصه:
345 فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى في مسجده وصلى في مسجد قباء، وزار القبور كما قضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الذي عمل العمل الصالح. ومن أنكر هذا السفر، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في المسجد، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم ولا يسلم عليه في الصلاة، بل أتى القبر ثم رجع فهذا مبتدع ضال، مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع أصحابه ولعلماء الأمة. وهو الذي ذكر فيه القولان: أحدهما أنه محرم. والثاني أنه لا شيء عليه ولا أجر له. والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية يصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين. إلى أن قال: وذكرت أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه ا ه. فأي موجب لنزاع أو خلاف في هذا القول، فإن كان في قوله رحمه الله فيمن قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في المسجد، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع فهذا مبتدع.. إلخ. فمن من المسلمين يجيز لمسلم أن يشد رحله إلى المدينة لمجرد زيارة القبر دون قصد الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، ودون أن يصلي عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وهو يعلم أن الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف صلاة. فدل كلامه رحمه الله أن زيارة القبر والصلاة في المسجد مرتبطتان ومن ادعى انفكاكهما عمليا فقد خالف الواقع، وإذا ثبتت الرابطة بينهما انتفى الخلاف وزال موجب النزاع. والحمد لله رب العالمين. وصرح في موضع آخر ص 643 في قصر الصلاة في السفر لزيارة قبور الصالحين عن أصحاب أحمد أربعة أقوال. الثالث منها تقصر إلى قبر نبينا عليه الصلاة والسلام. وقال في التعليل لهذا القول: إذا كان عامة المسلمين لا بد أن يصلوا في مسجده
346 فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل. وكذلك قال بعض أصحاب الشافعي، إلى أن قال: وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم، وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده، إذ كان كل مسلم لا بد إذا أتى الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده فهما عندهم متلازمان. وبعد نقله لأقوال العلماء قال ما نصه: وحقيقة الأمر أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر، فكل من سافر إلى قبره المكرم لا بد أن تحصل له طاعة وقربة يثاب عليها بالصلاة في مسجده. وأما نفس القصد فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده، وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضا إذا لم يعلم النهي. وهذا غاية في التصريح منه رحمه الله أنه لا انفكاك من حيث الواقع بين الزيارة والصلاة في المسجد عند عامة العلماء. ثم قال في حق الجاهل: وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر، ثم إنه لا بد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك. وما فعله وهو منهي عنه ولم يعلم أنه منهي عنه لا يعاقب عليه فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر ا ه. وقد أكثرنا النقول عنه رحمه الله لما وجدنا من ليس في هذا الموضوع على كثير من الناس، حتى قال ابن حجر في فتح الباري فيها: وهذا أعظم ما أخذ على شيخ الإسلام ابن تيمية، فهي وإن كانت شهادة من ابن حجر أنها أشد ما أخذ عليه مع ما رمي به من خصومه في العقائد ومحاربة البدع، إلا أنها بحمد الله بعد هذه النقول عنه من صريح كلام لم يعد فيها ما يتعاظم منه، فعلى كل متكلم في هذه المسألة أن يرجع إلى أقواله رحمه الله فلم يترك جانبا إلا وبينه سواء، في حق العالم أو الجاهل. وبالله تعالى التوفيق. هذا ما يتعلق بخصوص السفر إلى المدينة المنورة للمسجد وللزيارة معا، على التفصيل المتقدم. أما بقية الأماكن ما عدا المساجد الثلاثة فلا تشد الرحال إليها للصلاة أو الدعاء أو الاعتكاف ونحو ذلك، مما لا مزية لها في مكان دون آخر قط، أيا كانت تلك البقعة أو
347 كانت تلك العبادة. وذلك لحديث أبي هريرة في الموطأ في الساعة التي في يوم الجمعة قال: (خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه). قال كعب: ذلك في كل سنة يوم. فقلت: بل في كل جمعة، فقرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة: فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري قال: من أين أقبلت؟ فقلت من الطور فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس) يشك أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته به في يوم الجمعة إلى آخر الحديث هذا العظيم. قال الباجي: على هذا الحديث خروج أبو هريرة إلى الطور يحتمل أن يكون لحاجة عنت له فيه، ويحتمل أن يكون قصده على معنى التعبد والتقرب بإتيانه، إلا أن قول بصرة: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت. دليل على أن فهم منه التقرب بقصده. وسكوت أبي هريرة حين أنكر عليه دليل على أن الذي فهم منه كان قصده. أقول: لقد صرح أبو هريرة أنه كان للصلاة كما في مجمع الزوائد لأحمد عن شهر، وقال: حسن. والحديث يدل على أن من نذر صلاة بمسجد البصرة أو الكوفة أنه يصلي بموضعه ولا يأتيه لحديث بصرة المنصوص في ذلك، وذلك أن النذر يكون فيما فيه القربة. ولا فضيلة لمساجد البلاد على بعضها البعض، تقتضي قصده بإعمال المطي إليه إلا المساجد الثلاثة فإنها تختص بالفضيلة. وأما من نذر الصلاة والصيام في شيء من مساجد الثغور، فإنه يلزمه إتيانها والوفاء
348 بنذره لأن نذره قصدها لم يكن لمعنى الصلاة فيها، بل قد اقترن بذلك الرباط فوجب الوفاء به. ولا خلاف في المنع من ذلك من غير المساجد الثلاثة، إلا ما قاله محمد بن مسلمة في المبسوط. فإنه أضاف إلى ذلك مسجدا رابعا وهو مسجد قباء، فقال: من نذر أن يأتيه فيصلي فيه كان عليه ذلك ا ه. ولعل مقصد محمد بن مسلمة في إضافته مسجد قباء العمل بما جاء في مسجد قباء من أثر اختص به عن أنس بن مالك فيما رواه عمر بن شيبة قال حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا أيوب بن صيام عن سعيد بن الرقيش الأسدي قال: جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء، فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري، ثم سلم وجلسنا حوله فقال: سبحان الله ما أعظم حق هذا المسجد ولو كان على مسيرة شهر، كان أهلا أن يؤتى، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه ليصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة. وتقدم عن وفاء الوفاء نقله بقوله: وكان هذا الحكم معلوما عند العامة، حتى قال ابن شيبة: قال أبو غسان: ومما يقوي هذه الأخبار ويدل على تظاهرها في العامة والخاصة، قول عبد الرحمان بن الحكم في شعر له: وكان هذا الحكم معلوما عند العامة، حتى قال ابن شيبة: قال أبو غسان: ومما يقوي هذه الأخبار ويدل على تظاهرها في العامة والخاصة، قول عبد الرحمان بن الحكم في شعر له: * فإن أهلك فقد أقررت عينا * من المعتمرات إلى قباء * * من اللاتي سوالفهن غيد * عليهن الملاحة بالبهاء * تنبيه إن قول أنس ليشعر بجواز شد الرحل إلى قباء لو كان بعيدا، ولكنه للمعاني في المساجد الثلاثة الأخرى، فلا يتعارض مع الحديث الأول. تنبيه آخر أبيات الشاعر تشعر بخطأ التجمع في يوم معين لقباء، واجتماع الرجال والنساء.
349 تنبيه ثالث يوجد فرق بصفة إجمالية عامة بين زيارة عموم المقابر لعامة الناس، وخصوص زيارة القبور الثلاثة. إذ الغرض من زيارة عامة المقابر هو الدعاء لها وتذكر الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة). أما هذه الثلاثة المشرفة فلها خصائص لم يشاركها فيها غيرها: أولا: ومن حيث الموضوع ارتباطها بالمسجد النبوي أحد المساجد التي من حقها شد الرحال إليها. ثانيا: عظيم حق من فيها على المسلمين، إذ بزيارتهم لا بتذكر الآخرة فحسب، بل ويستفيد ذكريات الدنيا وعظيم جهادهم في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وهداية الأمة والقيام بأمر الله، حتى عبد الله وحده وعمل بشرعه، فيما يثير إحساس المسلم وجوب تجديد العهد مع الله تعالى وحده على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهدي خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم. وهذا ما يجعل الإنسان يتوجه إلى الله عقب السلام عليهم بخالص الدعاء، أن يجزيهم على ذلك ما يعلم سبحانه أنهم أهل له. ثالثا: عظيم الفضل من الله على من سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يرد الله تعالى عليه صلى الله عليه وسلم روحه فيرد عليه السلام، وكل ذلك أو بعضه لا يوجد عند عامة المقابر. وهذا مع مراعاة الآداب الشرعية في الزيارة لما تقدم. مسألة في هذه الآية الكريمة: * (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) * جمع بين مسألتين، فكأن الأولى تدل على الثانية بمفهومها، وكأن الثانية تكون منطوق الأولى، لأن كون المساجد لله يقتضي إفراده تعالى بالعبادة وألا يدعي معه أحد. أما إفراده بالعبادة، فقد كتب الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، على ذلك مبحثا كاملا في سورة الحجرات في مسألة من المسائل على قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط
350 أعمالكم وأنتم لا تشعرون) *. وبين في هذه المسألة ما هو حق لله وما هو حق لرسول الله، ووجوب إفراد الله تعالى بما هو حقه تعالى، وبين فيها آداب السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وضع اليد على اليد كهيأة الصلاة نوع من أنواع العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى ا ه. وأن الجمع هنا بين المفهوم والمنطوق بنفس المفهوم، لما يدل على شدة الاهتمام به والعناية بأمره، وإنه ليلفت النظر إلى ما جاء في الأحاديث الصحيحة من النهي الأكيد والوعيد الشديد بالنسبة لقضية المساجد ودعوة التوحيد، وما كان يفعله الأولون من بناء المساجد على القبور، ويفتحون بذلك بابا مطلا على الشرك. كحديث أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما عند البخاري ومسلم في قصتيهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما شاهدتاه بالحبشة من هذا القبيل، فقال صلى الله عليه وسلم: (أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وكحديث الصحيحين: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره أي خشية اتخاذه مسجدا). حديث الموطأ قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فكل ذلك مما يشدد الحذر من الجمع بين القبور والمساجد خشية الفتنة وسدا للذريعة، ويشهد لهذا ما ذكره علماء التفسير رحمهم الله من سبب النزول، أن اليهود والنصارى كانوا إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم، أشركوا مع الله غيره، فحذر الله المسلمين أن يفعلوا ذلك. وهذه المسألة مما تفشت في كثير من البلدان الإسلامية مما يستوجب التنبه لها، وربط هذه الآية بها مع تلك النصوص النبوية الصريحة في شأنها مهما كان المسجد. وذكر ابن كثير عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية لم يكن في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام، ومسجد إيليا، بيت المقدس. تنبيه قد أثير في هذه المسألة تساؤلات من بعض الناس بالنسبة للمسجد النبوي وموضع الحجرة منه بعد إدخالها فيه.
351 وقد أجاب عن ذلك ابن حجر في فتح الباري بقوله على حديث عائشة رضي الله عنها، أنه صلى الله عليه وسلم، قال في مرضه الذي مات فيه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا. رواه البخاري في كتاب الجنائز. وفي بعض رواياته: غير أنه خشي: فقال ابن حجر: وهذا قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة، حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة ا ه. وذكرت كتب السيرة وتاريخ المسجد النبوي بعض الأخبار في ذلك، من ذلك ما رواه السمهودي في وفاء الوفاء قال: وعن المطلب قال: كانوا يأخذون من تراب القبر فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم، وكان في الجدار كوة فأمرت بالكوة فسدت هي أيضا. ونقل عن ابن شيبة قال أبو غسان بن يحيى بن علي بن عبد الحميد، وكان عالما بأخبار المدينة ومن بيت كتابة وعلم: لم يزل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي دفن فيه هو وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ظاهرا حتى بنى عمر بن عبد العزيز عليه الخطار المزور الذي هو عليه اليوم، حين بنى المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، وإنما جعله مزورا كراهة أن يشبه تربيع الكعبة، وأن يتخذ قبلة يصلى إليه. قال أبو زيد بن شيبة قال أبو غسان: وقد سمعت غير واحد من أهل العلم يزعم أن عمر بن عبد العزيز بنى البيت غير بنائه الذي كان عليه وسمعت من يقول: بنى علي بيت النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجدر فدون القبر ثلاثة أجدر، جدار بناء بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ وجدار البيت الذي يزعم أنه بنى عليه يعني عمر بن عبد العزيز، وجدار الخطار الظاهر، وقال: قال أبو غسان فيما حكاه الأقشهدي: أخبرني الثقة عن عبد الرحمان بن مهدي عن منصور بن ربيعة عن عثمان بن عروة، قال: قال عروة: نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ألا يجعل في المسجد أشد المنازلة فأبى وقال: كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه. قال قلت: فإن كان لا بد فاجعل له جؤجؤا. أي وهو الموضع لنزور خلف الحجرة ا ه.
352 فهذه منازلة في موضوع الحجرة والمسجد وهذا جواب عمر بن عبد العزيز. وقد آلت إليه الخلافة وهو الخليفة الراشد الخامس، وقد أقر هذا الوضع لما اتخذت تلك الاحتياطات من أن يكون القبر قبلة للمصلين، وهذا مما لا شك فيه في خير القرون الأولى، ومشهد من أكابر المسلمين، مما لا يدع لأحد مجالا لاعتراض أو احتجاج أو استدلال، وقد بحثت هذه المسألة من علماء المسلمين، في كل عصر. وقال القرطبي: بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان ترتبه، وسدوا المدخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره ا ه. من فتح المجيد. وقد قال بعض العلماء: إن هذا العمل الذي اتخذ حيال القبر الشريف وقبري صاحبيه إنما هو استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) كما قال ابن القيم في نونيته، وهو من أشد الناس إنكارا على شبهات الشرك كشيخه ابن تيمية رحمهما الله تعالى قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) كما قال ابن القيم في نونيته، وهو من أشد الناس إنكارا على شبهات الشرك كشيخه ابن تيمية رحمهما الله تعالى قال: * فأجاب رب العالمين دعاءه * وأحاطه بثلاثة الجدران * * حتى غدت أرجاؤه بدعائه * في عزة وحماية وصيان * وقال صاحب فتح المجيد: ودل الحديث أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لو عبد لكان وثنا. ولكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه. ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها ا ه. وهذا الذي قاله حقيقة دقيق مأخذها، لأنه لو لم يكن بعد إدخال الحجرة في مأمن من الصلاة إليه لكان وثنا وحاشاه صلى الله عليه وسلم يكون في حياته داعيا إلى الله وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى يكون قبره وثنا ينافي التوحيد، ويهدم ما بناه في حياته. وكيف يرضى الله لرسوله ذلك حاشا وكلا. هذا مجمل ما قيل في هذه المسألة.
353 وجهة نظر وهنا وجهة نظر، وإن كنت لم أقف على قول فيها، وهي أن كل نص متقدم صريح في النهي عن اتخاذ المساجد على القبور، بأن يكون القبر أولا ثم يتخذ عليه المسجد. كما جاء في قصة أصحاب الكهف: * (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) * أي أن القبر أولا والمسجد ثانيا. أما قضية الحجرة والمسجد النبوي فهي عكس ذلك، إذ المسجد هو الأول وإدخال الحجرة ثانيا، فلا تنطبق عليه تلك النصوص في نظري. والله تعالى أعلم. ومن ناحية أخرى لم يكن الذي أدخل في المسجد هو القبر أو القبور، بل الذي أدخل في المسجد هو الحجرة أي بما فيها، وقد تقدم كلام صاحب فتح المجيد في تعريف الوثن: أنه ما سجد إليه من قريب. وعليه فما من مصل يبعد عن مكة إلا ويقع بينه وبين الكعبة قبور ومقابر. ولا يعتبر مصليا إلى القبور لبعدها ووجود الحواجز دونه، وإن كان البعد نسبيا. فكذلك في موضوع القبور الثلاثة في الحجرة، فإنها بعيدة عن مباشرة الصلاة إليها، والحمد لله رب العالمين. وأيضا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاما في ذلك ملخصه من المجموع جلد 72 ص 323 وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ودفن في حجرة عائشة رضي الله عنها. وكانت هي وحجز نسائه في شرقي المسجد وقبليه، لم يكن شيء من ذلك داخلا المسجد. واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة. ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته وسع المسجد وأدخلت فيه الحجرة للضرورة. فإن الوليد كتب إلى نائبه عمر بن عبد العزيز، أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهن كن توفين كلهن رضي الله عنهن، فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد فهدمها وأدخلها في المسجد، وبقيت حجرة عائشة على حالها. وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا لصلاة عنده ولا لدعاء ولا غير ذلك. إلى حين كانت عائشة في الحياة وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة. وقال في صفحة 823: ولم تكن تمكن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه
354 وبعدها كانت مغلقة، إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبنى عليها حائط آخر. فكل ذلك صيانة له صلى الله عليه وسلم، أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا. وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم وكلهم معظمون للرسول صلى الله عليه وسلم، فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد. ولا يتخذ بيته عيدا، ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم. انتهى. وتقدم شرح ابن القيم لوضع الجدران الثلاثة وجعل طرف الجدار الثالث من الشمال على شكل رأس مثلث، وأن المشاهد اليوم بعد ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وجود الشبك الحديدي من وراء ذلك كله، ويبعد عن رأس المثلث إلى الشمال ما يقرب من ستة أمتار يتوسطها، أي تلك المسافة محراب كبير، وهذا كان في المسجد سابقا، أي قبل الشبك. مما يدل على بعد ما بين المصلى في الجهة الشمالية من الحجرة المكرمة وبين القبور الثلاثة، وينفي أي علاقة للصلاة من ورائه بالقبور الشريفة. والحمد لله رب العالمين. وفي ختام هذه المسألة وقد أثير فيها كلام في موسم حج سنة 4931 في منى ومن بعض المشتغلين بالعلم نقول: لو أنها لم تدخل بالفعل لكان للقول بعدم إدخالها مجال. أما وقد أدخلت بالفعل وفي عهد عمر بن عبد العزيز وفي القرون المشهود لها بالخير، ومضى على إدخالها ثلاثة عشر قرنا، فلا مجال للقول إذا. ومن ناحية أخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سكت على ما هو أعظم من ذلك، ألا وهو موضوع بناء الكعبة وكونها لم تستوعب قواعد إبراهيم ولها باب واحد ومرتفع عن الأرض. وكان باستطاعته صلى الله عليه وسلم أن يعيد بناءها على الوجه الأصح، فتستوعب قواعد إبراهيم، ويكون لها بابان ويسويهما بالأرض. ولكنه صلى الله عليه وسلم ترك ذلك لاعتبارات بينها في حديث عائشة رضي الله عنها. ألا يسع من يتكلم في موضوع الحجرات اليوم ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة وما وسع السلف رحمهم الله في عين الحجرة.
355 ومن ناحية ثالثة: لو أنه أخذ بقولهم، فأخرجت من المسجد أي جعل المسجد من دونها على الأصل الأول. ثم جاء آخرون وقالوا: نعيدها على ما كانت عليه في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، ألا يقال في ذلك ما قال مالك للرشيد رحمهما الله في خصوص الكعبة لما بناها ابن الزبير، وأعادها الحجاج وأراد الرشيد أن يعيدها على بناء ابن الزبير فقال له مالك رحمه الله: لا تفعل لأني أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك. فيقال هنا أيضا فتصبح الحجرة ألعوبة الملوك بين إدخال وإخراج. وفيه من الفتنة ما فيه. والعلم عند الله تعالى.
356 ((سورة المزمل)) * (ياأيها المزمل * قم اليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرءان ترتيلا * إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا) * قوله تعالى: * (ياأيها المزمل قم اليل إلا قليلا) *. بين تعالى المراد من المقدار المطلوب قيامه بما جاء بعده * (نصفه أو انقص منه) * أي من نصفه أو زد عليه أي على نصفه، وفي هذه الآية الكريمة وما بعدها بيان لمجمل قوله تعالى: * (ومن اليل فتهجد به نافلة لك) *. وفيها بيان لكيفية القيام، وهو بترتيل القرآن، وفيها رد على مسألتين اختلف فيهما. الأولى منهما: عدد ركعات قيام الليل، أهو ثماني ركعات أو أكثر؟ وقد خير صلى الله عليه وسلم بين هذه الأزمنة من الليل، فترك ذلك لنشاطه واستعداده وارتياحه. فلا يمكن التعبد بعدد لا يصح دونه ولا يجوز تعديه، واختلف في قيام رمضان خاصة، والأولى أن يؤخذ بما ارتضاه السلف، وقد قدمنا في هذه المسألة رسالة عامة هي رسالة التراويح أكثر من ألف عام في مسجد النبي عليه السلام، وقد استقر العمل على عشرين في رمضان. والمسألة الثانية: ما يذكره الفقهاء في كيفية قيام الليل عامة هل الأفضل كثرة الركعات لكثرة الركوع والسجود، وحيث إن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، أم طول القيام للقراءة؟ حيث إن للقارئ بكل حرف عشر حسنات، فهنا قوله تعالى: * (ورتل القرءان ترتيلا) * نص على أن العبرة بترتيل القرآن ترتيلا، وأكد بالمصدر تأكيدا لإرادة هذا المعنى كما قال ابن مسعود: (لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذوه هذ الشعر؟ قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة). وقد بينت أم سلمة رضي الله عنها تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: كان يقطع قراءته آية آية * (بسم الله الرحمان الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمان الرحيم مالك يوم
357 الدين) * رواه أحمد. وفي الصحيح عن أنس: سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت مدا ثم قرأ * (بسم الله الرحمان الرحيم) * يمد بسم الله ويمد الرحمان، ويمد الرحيم. تنبيه إن للمد حدودا معلومة في التجويد حسب تلقي القراء رحمهم الله، فما زاد عنها فهو تلاعب، وما قل عنها فهو تقصير في حق التلاوة. ومن هذا يعلم أن المتخذين القرآن كغيره في طريقة الأداء من تمطيط وتزيد لم يراعوا معنى هذه الآية الكريمة، ولا يمنع ذلك تحسين الصوت بالقراءة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم). وقال أبو موسى رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيرا. وهذا الوصف هو الذي يتأتى منه الغرض من التلاوة، وهو التدبر والتأمل، كما في قوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرءان) *، كما أنه هو الوصف الذي يتأتى معه الغرض من تخشع القلب كما في قوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) * ولا تتأثر به القلوب والجلود إلا إذا كان مرتلا، فإذا كان هذا كالشعر أو الكلام العادي لما فهم، وإذا كان مطربا كالأغاني لما أثر. فوجب الترتيل كما بين صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: * (إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا) *. معلوم أن القول هنا هو القرآن كما قال تعالى * (إنه لقول رسول كريم) * وقوله: * (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) *. وقوله: * (إنه لقول فصل) * وقوله * (ومن أصدق من الله قيلا) * ونحو ذلك من الآيات. ولكن وصفه بالثقل مع أن الثقل للأوزان وهي المحسوسات. فقال بعض المفسرين: إن الثقل في وزن الثواب، وقيل في التكاليف به، وقيل من أثناء نزول الوحي عليه، وكل ذلك ثابت للقرآن الكريم، فمن جهة نزوله فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الوحي أخذته
358 برحاء شديدة وكان يحمر وجهه كأنه مذهبة، وكان إذا نزل عليه صلى الله عليه وسلم وهو في سفره على راحلته بركت به الناقة، وجاء عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واضعا رأسه على فخذه، فأتاه الوحي قال أنس: فكان فخذي تكاد تنفصل مني، ومن جانب تكاليفه فقد ثقلت على السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها كما هو معلوم ومن جانب ثوابه فقد جاء في حديث مسلم. (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض). وحديث البطاقة وكل ذلك يشهد بعضه لبعض ولا ينافيه. وقد بين تعالى أن هذا الثقل قد يخففه الله على المؤمنين، كما في الصلاة في قوله: * (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) *، وكذلك القرآن ثقيل على الكفار خفيف على المؤمنين محبب إليهم. وقد جاء في الآثار أن بعض السلف كان يقوم الليل كله بسورة من سور القرآن تلذذا وارتياحا، كما قال تعالى: * (ولقد يسرنا القرءان للذكر) * فهو ثقيل في وزنه ثقيل في تكاليفه، ولكن يخففه الله وييسره لمن هداه ووفقه إليه. * (إن ناشئة اليل هى أشد وطأ وأقوم قيلا * إن لك فى النهار سبحا طويلا * واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا * رب المشرق والمغرب لا إلاه إلا هو فاتخذه وكيلا * واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا * وذرنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا * إن لدينآ أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما * يوم ترجف الا رض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا * إنآ أرسلنآ إليكم رسولا شاهدا عليكم كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا * فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا * السمآء منفطر به كان وعده مفعولا * إن هاذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا * إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى اليل ونصفه وثلثه وطآئفة من الذين معك والله يقدر اليل والنهار علم ألن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرءان علم أن سيكون منكم مرضى وءاخرون يضربون فى الا رض يبتغون من فضل الله وءاخرون يقاتلون فى سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) * قوله تعالى: * (إن ناشئة اليل هى أشد وطأ وأقوم قيلا) *. أي ما تنشأه من قيام الليل أشد مواطأة للقلب وأقوم قيلا في التلاوة والتدبر والتأمل، وبالتالي بالتأثر، ففيه إرشاد إلى ما يقابل هذا الثقل فيما سيلقى عليه من القول، فهو بمثابة التوجيه إلى ما يتزود به لتحمل ثقل أعباء الدعوة والرسالة. وقد سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه قوله: لا يثبت القرآن في الصدر ولا يسهل حفظه وييسر فهمه إلا القيام به من جوف الليل، وقد كان رحمه الله تعالى لا يترك ورده من الليل صيفا أو شتاء، وقد أفاد هذا المعنى قوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلواة) * فكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وهكذا هنا فإن ناشئة الليل كانت عونا له صلى الله عليه وسلم على ما سيلقى عليه من ثقل القول. مسألة قيل: إن قيام الليل كان فرضا عليه صلى الله عليه وسلم قبل أن تفرض الصلوات الخمس لقوله
359 تعالى: * (ومن اليل فتهجد به نافلة لك) * والنافلة الزيادة، وقيل: كان فرضا عليه صلى الله عليه وسلم وعلى عامة المسلمين، لقوله تعالى في هذه السورة: * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى اليل ونصفه وثلثه وطآئفة من الذين معك) * ثم خفف هذا كله بقوله: * (فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرءان) * إلى قوله: * (فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلواة وءاتوا الزكواة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا) *. ولكنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عمل عملا داوم عليه، فكان يقوم الليل شكرا لله كما في حديث عائشة رضي الله عنها (أفلا أكون عبدا شكورا) وبقي سنة لغيره بقدر ما يتيسر لهم. والله تعالى أعلم.
360 ((سورة المدثر)) * (ياأيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر * فإذا نقر فى الناقور * فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير * ذرنى ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لا ياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هاذآ إلا سحر يؤثر * إن هاذآ إلا قول البشر * سأصليه سقر * ومآ أدراك ما سقر * لا تبقى ولا تذر * لواحة للبشر) * قوله تعالى: * (ياأيها المدثر قم فأنذر) *. الإنذار إعلام بتخويف، فهو أخص من مطلق الإعلام، وهو متعد لمفعولين المنذر باسم المفعول والمنذر به، ولم يذكر هنا واحد منهما. أما المنذر فقد بينت آيات أخر أنه قد يكون للكافرين، كما في قوله تعالى: * (وتنذر به قوما لدا) * تخويفا لهم. وقد يكون للمؤمنين، لأنهم المنتفعون به كما في قوله: * (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمان بالغيب) *. وقد يكون للجميع أي لعامة الناس كما في قوله تعالى: * (أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا) *. وأما المنذر به فهو ما يكون يوم القيامة. وقد قدر الأمرين هنا ابن جرير بقوله: فأنذر عذاب الله قومك الذين أشركوا بالله وعبدوا غيره. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، تفصيل ذلك عند قوله تعالى: * (لتنذر به وذكرى للمؤمنين) * في سورة الأعراف. قوله تعالى: * (وثيابك فطهر) *. قد اختلف المفسرون في المراد من كل من لفظتي الثياب، وفطهر هل هما دلا على الحقيقة، ويكون المراد طهارة الثوب من النجاسات؟ أم هما على الكناية؟ والمراد بالثوب البدن، والطهارة عن المعنويات من معاصي وآثام ونحوها أم على الحقيقة والكناية، فقد ذكر ابن جرير وغيره نحوا من خمسة أقوال:
361 الأول عن ابن عباس وعكرمة والضحاك أن معناه: لا تلبس ثيابك على معصية ولا على غدرة، واستشهد بقول غيلان: الأول عن ابن عباس وعكرمة والضحاك أن معناه: لا تلبس ثيابك على معصية ولا على غدرة، واستشهد بقول غيلان: * وإني بحمد الله لا ثوب فاجر * لبست ولا من عذرة أتقنع * وقول الآخر: وقول الآخر: * إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه * فكل رداء يرتديه جميل * فاستعمل اللفظين في الكناية، وقد يستدل له بقوله: * (ووضعنا عنك وزرك) *. وورد عن ابن عباس: لا تلبس ثيابك من كسب غير طيب، فاستعمل الثياب في الحقيقة والتطهير في الكناية. وعن مجاهد: أصلح عملك، وعملك فاصلح فاستعملهما معا في الكناية عن العمل الصالح. وعن محمد بن سيرين وابن زيد على حقيقتهما، فطهر ثيابك من النجاسة. ثم قال: والذي قاله ابن سيرين وابن زيد أظهر في ذلك. وقول ابن عباس وعكرمة قول عليه أكثر السلف. والله أعلم بمراده. وقال غيره: ثيابك هي نساؤك، كما في قوله * (هن لباس لكم) * فأمرهن بالتطهر وتخيرهن طاهرات خيرات. هذه أقوال المفسرين واختيار ابن جرير منها، والواقع في السياق ما يشهد لاختيار ابن جرير، وهو حمل اللفظين على حقيقتهما. وترجيح قول ابن سيرين أن المراد طهارة الثوب من النجاسة، والقرينة في الآية أنها اشتملت على أمرين: الأول: طهارة الثوب، والثاني هجر الرجز. ومن معاني الرجز المعاصي، فيكون حمل طهارة الثوب على حقيقته، وهو الرجز على حقيقته لمعنى جديد أولى.
362 وهذه الآية بقسميها جاء نظيرها بقسميها أصرح من ذلك في قوله تعالى * (وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان) * والله تعالى أعلم. وقد جعل الشافعي هذه الآية دليلا على الطهارة للصلاة. قوله تعالى: * (فإذا نقر فى الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير) *. الناقور هو الصور، وأصل الناقور الصوت، وقوله: * (يوم عسير على الكافرين غير يسير) *. وقيل: عسير وغير يسير على الكافرين. وقال الزمخشري: إن غير يسير كان يكفي عنها يوم عسير، إلا أنه ليبين لهم أن عسره لا يرجى تيسيره، كعسر الدنيا، وأن فيه زيادة وعيد للكافرين. ونوع بشارة للمؤمنين لسهولته عليهم، ولعل المعنيين مستقلان، وأن قوله تعالى: * (يوم عسير) * هذا كلام مستقل وصف لهذا اليوم، وبيان للجميع شدة هوله، كما جاء في وصفه في قوله تعالى: * (ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولاكن عذاب الله شديد) *، ومثل قوله تعالى * (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه) * ونحو ذلك. ثم بين تعالى أن اليوم العسير أنه على الكافرين غير يسير، كما قال تعالى عنهم * (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السمآء منفطر به) * بينما يكون على المؤمنين يسيرا، مع أنه عسير في ذاته لشدة هوله، إلا أن الله ييسره على المؤمنين، كما بين تعالى هذه الصورة بجانبها في قوله تعالى من سورة النمل: * (ويوم ينفخ فى الصور ففزع من فى السماوات ومن فى الا رض إلا من شآء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب) * إلى قوله * (من جآء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ ءامنون ومن جآء بالسيئة فكبت وجوههم فى النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) *.
363 فالفزع من صعقة يوم ينفخ في الصور عام لجميع من في السماوات ومن في الأرض، ولكن استثنى الله من شاء، ثم بين تعالى هؤلاء المستثنين ومن يبقى في الفزع، فبين الآمنين وهم من جاء بالحسنة، والآخرون من جاء بالسيئة. * (عليها تسعة عشر * وما جعلنآ أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين ءامنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون ماذآ أراد الله بهاذا مثلا كذلك يضل الله من يشآء ويهدى من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هى إلا ذكرى للبشر * كلا والقمر * واليل إذ أدبر * والصبح إذآ أسفر * إنها لإحدى الكبر * نذيرا للبشر * لمن شآء منكم أن يتقدم أو يتأخر * كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين * فى جنات يتسآءلون * عن المجرمين * ما سلككم فى سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخآئضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين * فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة * بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة * كلا بل لا يخافون الا خرة * كلا إنه تذكرة * فمن شآء ذكره * وما يذكرون إلا أن يشآء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة) * قوله تعالى: * (عليها تسعة عشر وما جعلنآ أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين ءامنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون ماذآ أراد الله بهاذا مثلا كذلك يضل الله من يشآء ويهدى من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هى إلا ذكرى للبشر) *. في قوله تعالى: * (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) * حكى القرطبي في معنى الفتنة هنا معنيين: الأول: التحريق كما في قوله: * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) *. والثاني: الابتلاء. وقد تقدم للشيخ مرارا في كتابه ودروسه، أن أصل الفتنة الاختبار. تقول: اختبرت الذهب إذا أدخلته النار لتعرف زيفه من خالصه. ولكن السياق يدل على الثاني، وهو الاختبار والابتلاء لقوله تعالى: * (وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون ماذآ أراد الله بهاذا مثلا) *. وقوله: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * أي عددهم، فلو كان المراد التحريق والوعيد بالنار، لما كان مجال لتساؤل الذين في قلوبهم مرض والكافرين عن هذا المثل ولما كان يصلح أن يجعل مثلا، ولما كان الحديث عن عدد جنود: ربك بحال، وفي هذه الآية الكريمة عدة مسائل هامة. الأولى: جعل المثل المذكور، أي جعل العدد المعين فتنة لتوجه السؤال أو مقابلته بالإذعان، فقد تساءل المستبعدون واستسلم وأذعن المؤمنون، كما ذكر تعالى في صريح قوله: * (إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهاذا مثلا) *. ثم بين تعالى الغرض من ذلك طبق ما جاء في الآية هنا * (يضل به كثيرا ويهدي به
364 كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين) *، فهذه الآية من سورة البقرة مبينة تماما لآية المدثر. المسألة الثانية قوله تعالى: * (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) * أن هذا مطابق لما عندهم في التوراة، وهذا مما يشهد لقومهم على صدق ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، وما ادعاه لإيمانهم وتصديقهم. وقد ذكر القرطبي حديثا في ذلك واستغربه، ولكن النص يشهد لذلك. المسألة الثالثة: أن المؤمن كلما جاءه أمر عن الله وصدقه، ولو لم يعلم حقيقته اكتفاء بأنه من الله، ازداد بهذا التصديق إيمانا وهي مسألة ازدياد الإيمان بالطاعة والتصديق. المسألة الرابعة: بيان أن الواجب على المؤمن المبادرة بالتصديق والانقياد، ولو لم يعلم الحكمة أو السر أو الغرض بناء على أن الخبر من الله تعالى. وهو أعلم بما رواه. وفي هذه المسألة مثار نقاش حكمة التشريع، وهذا أمر واسع، ولكن المهم عندنا هنا ونحن في عصر الماديات وتقدم المخترعات وظهور كثير من علامات الاستفهام عند كثير من آيات الأحكام، فإنا نود أن نقول: إن كل ما صح عن الشارع الحكيم من كتاب أو سنة وجب التسليم والانقياد إليه، علمنا الحكمة أو لم نعلم. لأن علمنا قاصر وفهمنا محدود والعليم الحكيم الرؤوف الرحيم سبحانه لا يكلف عباده إلا بما فيه الحكمة. ومجمل القول إن الأحكام بالنسبة لحكمتها قد تكون محصورة في أقسام ثلاثة: القسم الأول: حكم تظهر حكمته بنص كما في وجوب الصلاة، جاء إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، وهذه حكمة جليلة والزكاة جاء عنها أنها تطهرهم وتزكيهم. وفي الصوم جاء فيه: لعلكم تتقون. وفي الحج جاء فيه: ليشهدوا منافع لهم. فمع أنها عبادات لله فقد ظهرت حكمتها جلية. وفي الممنوعات كما قالوا في الضروريات الست، حفظ الدين، والعقل، والدم،
365 والعرض، والنسب، والمال لقيام الحياة ووفرة الأمن، وصيانة المجتمع، وجعلت فيها حدود لحفظها وغير ذلك. وقسم لم تظهر حكمته بهذا الظهور، ولكنه لم يخل من حكمة، كالطواف، والسعي، والركوع، والسجود، والوضوء، والتيمم، والغسل، ونحو ذلك. وقسم ابتلاء وامتحان أولا، ولحكمة ثانيا، كتحويل القبلة، كما قال تعالى: * (وما جعلنا القبلة التى كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) *. وفي التحول عنها حكمة كما في قوله تعالى: * (لئلا يكون للناس عليكم حجة) *. والمسلم في كلتا الحالتين ظهرت له الحكمة أو لم تظهر وجب عليه الامتثال والانقياد، كما قال عمر عند استلامه للحجر: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. فقبله امتثالا واقتداء بصرف النظر عن ما جاء من أن عليا رضي الله عنه قال له: بلى يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع، فيأتي يوم القيامة وله لسان وعينان يشهد لمن قبله، لأن عمر أقبل عليه ليقبله قبل أن يخبره علي رضي الله عنه. وقد تنكشف الأمور عن حكمة لا نعلمها كما في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، إذ خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار وكلها أعمال لم يعلم لها موسى عليه السلام حكمة، فلما أبداها له الخضر علم مدى حكمتها. وهكذا نحن اليوم وفي كل يوم، وقد بين تعالى هذا الموقف بقوله: * (والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا) *. وقد جاء في نهاية الآية الكريمة ما يلزم البشر بالعجز ويدفعهم إلى التسليم في قوله: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) *. فكذلك بقية الأمور من الله تعالى هو أعلم بها. والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: * (ما سلككم فى سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين
366 وكنا نخوض مع الخآئضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين) *. في هذه الآية الكريمة أن أصحاب اليمين يتساءلون عن المجرمين، وسبب دخولهم النار، وكان الجواب أنهم لم يكونوا من المصلين ولم يكونوا يطعموا المسكين، وكانوا يخوضون مع الخائضين. وكانوا يكذبون بيوم الدين، فجمعوا بين الكفر بتكذيبهم بيوم الدين وبين الفروع، وهي ترك الصلاة والزكاة المعبر عنها بإطعام المسكين إلى آخره فهذه الآية من الأدلة على أن الكافر مطالب بفروع الشرع مع أصوله. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مناقشة هذه المسألة عند قوله تعالى: * (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكواة وهم بالا خرة هم كافرون) * في سورة فصلت. قوله تعالى: * (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) *. فيه أن الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين، كما أن فيها إثبات الشفاعة للشافعين، ومفهوم كونها لا تنفع الكفار أنها تنفع غيرهم. وقد جاءت نصوص في الشفاعة لمن ارتضاهم الله، وقد دلت نصوص على كلا الأمرين، فمن عدم الشفاعة للكفار قوله تعالى: * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) *. وقوله: * (ومآ أضلنآ إلا المجرمون فما لنا من شافعين) * ذلك من الآيات. وفي القسم الثاني قوله تعالى: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) *. وكذلك الشفيع لا يشفع إلا من أذن له ولا يشفعون إلا فيمن أذنوا فيه، كما قال تعالى * (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه) * وقوله: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان) *. ومبحث الشفاعة واسع مقرر في كتب العقائد. وخلاصة القول فيها أنها لا تكون إلا بإذن من الله المأذون له فيها، وقد ثبت
367 للنبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة العظمى وهي المقام المحمود، وعدة شفاعات بعدها منها ما اختص به صلى الله عليه وسلم كالشفاعة العظمى ودخول الجنة والشفاعة في غير مسلم وهو عمه أبو طالب للتخفيف عنه، ومنها ما يشاركه فيها غيره من الأنبياء والصلحاء، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة) *. في هذه الآية تشبيه المدعوين في إعراضهم عن الدعوة والتذكرة بالحمر الفارة من الصيادين أو الأسد، وقد شبه أيضا العالم غير المنتفع بعلمه بالحمار يحمل أسفارا، فهما تشبيهان بالداعي والمدعو إذا لم تنفعه الدعوة، وتقدم للشيخ في مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
368 ((سورة القيامة)) * (لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة * أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوى بنانه * بل يريد الإنسان ليفجر أمامه * يسأل أيان يوم القيامة * فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر * ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر * بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره) * قوله تعالى: * (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة) *. قال ابن جرير: اختلف القراء في قراءة قوله تعالى: * (لا أقسم بيوم القيامة) *، فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار، لا أقسم مفصولة من أقسم سوى الحسن والأعرج، فإنه ذكر عنهما أنهما كانا يقرآن ذلك: لأقسم بيوم القيامة. بمعنى أقسم بيوم القيامة. ثم دخلت عليها لام القسم والقراءة التي لا أستجيز غيرها في هذا الموضع لا مفصولة، أقسم مبتدأه على ما عليه قراء الأمصار بإجماع الحجة من القراء عليه. وقد اختلف الذين قرؤوا ذلك على الوجه الذي اخترنا قراءته في تأويله، فقال بعضهم: لا صلة، وإنما معنى الكلام: أقسم بيوم القيامة، وعزاه إلى سعيد بن جبير. وقال آخرون: بل دخلت لا توكيدا للكلام. وذكر عن أبي بكر بن عياش في قوله: لا أقسم. توكيد للقسم كقوله: لا والله. وقال بعض نحويي الكوفة: لا، رد لكلام قد مضى من كلام المشركين الذين كانوا ينكرون الجنة والنار. ثم ابتدىء القسم، فقيل: * (أقسم بيوم القيامة) * وكان يقول: كل يمين قبلها رد كلام، فلا بد من تقديم لا قبلها، ليفرق بذلك بين اليمين التي تكون جحدا واليمين التي تستأنف، ويقول: ألا ترى أنك تقول مبتدئا: والله إن الرسول لحق، وإذا قلت: لا والله، إن الرسول لحق، فكأنك أكذبت قوما أنكروه، واختلفوا أيضا في ذلك هل هو قسم أم لا. وذكر الخلاف في ذلك، والواقع أن هذه المسألة من المشكلات من حيث وجود اللام، وهل هي نافية للقسم أم مثبتة؟ وعلى أنها مثبتة فما موجبها؟ هل هي رد لكلام سابق أم تأكيد للقسم؟ وهل وقع إقسام أم لا؟ كما ذكر كل ذلك ابن جرير.
369 وقد تناولها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في كتابه دفع إيهام الاضطراب في موضعين الأول في هذه السورة. والثاني في سورة البلد عند قوله تعالى: * (لا أقسم بهاذا البلد) *، فبين في الموضع الأول أنها أي لا: نافية لكلام قبلها فلا تتعارض مع الإقسام بيوم القيامة فعلا الواقع في قوله تعالى: * (واليوم الموعود) *. والثاني أنها صلة، وقال: سيأتي له زيادة إيضاح، والموضع الثاني: * (لا أقسم بهاذا البلد) * ساق فيه بحثا طويلا مهما جدا نسوق خلاصته. وسيطبع الكتاب إن شاء الله مع هذه التتمة فليرجع إليه. خلاصة ما ساقه رحمة الله تعالى علينا وعليه: قال: الجواب عليها من أوجه. الأول، وعليه الجمهور أن لا هنا صلة على عادة العرب، فإنها ربما لفظت بلفظة لا من غير قصد معناها الأصلي، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله: ما منعك إذا رأيتهم ضلوا ألا تتبعني. يعني أن تتبعني. وقوله: لئلا يعلم أهل الكتاب. وقوله: فلا وربك لا يؤمنون. وقول امرئ القيس: وقول امرئ القيس: * فلا وأبيك ابنة العامري * لا يدع القوم أني أفر * يعني وأبيك، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، قول الشاعر: يعني وأبيك، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، قول الشاعر: * ما كان يرضى رسول الله دينهم * والأطيبان أبو بكر ولا عمر * يعني وعمر، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج: يعني وعمر، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج: * في بئر لا حور سرى وما شعر * بإفكه حتى رأى الصبح شجر * والحور: الهلكة: يعني في بئر هلكة، وأنشد غيره: والحور: الهلكة: يعني في بئر هلكة، وأنشد غيره: * تذكرت ليلى فاعترتني صبابة * وكاد صميم القلب لا يتقطع * والوجه الثاني: أن لا نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم.
370 وقوله: أقسم: إثبات مستأنف. وقيل: إن هذا الوجه، وإن قال به كثير من العلماء، إلا أنه ليس بوجيه عندي، لقوله تعالى في سورة القيامة * (ولا أقسم بالنفس اللوامة) *، لأن قوله: * (ولا أقسم بالنفس اللوامة) * يدل على أنه لم يرد الإثبات المستأنف بعد النفي بقوله أقسم والله تعالى أعلم. الوجه الثالث: أنها حرف نفي أيضا ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به. فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية. والمراد أنه لا يعظم بالقسم، بل هو في نفسه عظيم أقسم به أولا. وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني، ولا يخلو عندي من نظر. الوجه الرابع: أن اللام لام الابتداء، أشبعت فتحتها. والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو. ومثاله في الفتحة قول عبد يغوث الحارث: الوجه الرابع: أن اللام لام الابتداء، أشبعت فتحتها. والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو. ومثاله في الفتحة قول عبد يغوث الحارث: * وتضحك مني شيخة عبشمية * كأن لم ترى قبلي يسيرا يمانيا * فالأصل: كأن لم تر، ولكن الفتحة أشبعت. وقول الراجز: وقول الراجز: * إذا العجوز غضبت فطلق * ولا ترضاها ولا تملق * وقول عنترة في معلقته: وقول عنترة في معلقته: * ينباع من ذفري غضوب جسرة * زيافة مثل العتيق المكدم * فالأصل ينبع، يعني العرق ينبع من الذفري من ناقته، فأشبعت الفتحة فصارت ينباع، وقال: ليس هذا الإشباع من ضرورة الشعر. ثم ساق الشواهد على الإشباع بالضمة والكسرة، ثم قال: يشهد لهذا الوجه قراءة قنبل: لأقسم بهذا البلد بلام الابتداء، وهو مروي عن البزي والحسن. والعلم عند الله تعالى ا ه. ملخصا. فأنت ترى أنه رحمة الله قدم فيها أربعة أوجه صلة، ونفي الكلام قبلها، وتأكيد
371 للقسم، ولام ابتداء. واستدل له بقراءة قنبل أي لأقسم متصلة، أما كونها لام ابتداء لقراءة قنبل والحسن، فقد تقدم أن ابن جرير لا يستجيز هذه القراءة لإجماع الحجة من القراء على قراءتها مفصولة * (لا) * أقسم. ولعل أرجح هذه الأوجه كلها أنها لتوكيد القسم، كما ذكر ابن جرير عن نحويي الكوفة والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) *. هذا الحسبان قد جاء مصرحا به في قوله تعالى: * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم) *. وجاءه الجواب: * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة) *. قوله تعالى: * (بلى قادرين على أن نسوى بنانه) *. كل المفسرين على أن المعنى نجعل بنانه متساوية ملتحمة كخف البعير، أي لا يستطيع أن يتناول بها شيئا ولا يحسن بها عملا. وهذا في الواقع لم نفهم له وجها مع السياق، فهو وإن كان دالا على قدرة الله وعجز العبد. ولكن السياق في إنكار البعث واستبعاده ومجئ نظير ذلك في سورة يس، يرشد إلى أن سبحانه قادر بعد موت العبد وتلاشيه في التراب وتحول عظامه رميما، فهو قادر على أن يعيده تماما، كما أنشأه أول مرة، ومن ضمن تلك الإعادة أن يسوي بنانه، أي يعدلها وينشؤها كما كانت أول مرة، والعلم عند الله تعالى. ويرشد له قوله تعالى: * (وهو بكل خلق عليم) *، ومن الخلق ما كان عليه خلق، خلق هذا الإنسان المكذب المعترض، فهو سبحانه يعيده على ما كان عليه تماما، وهذا أبلغ في القدرة وأبلغ في الإلزام يوم القيامة. والعلم عند الله. قوله تعالى: * (فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر) *. قرىء برق بكسر الراء وفتحها فبالكسر فزع، ودهش أصله من برق الرجل، إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، ومنه قول ذي الرمة
372 : كلا لا وزر) *. قرىء برق بكسر الراء وفتحها فبالكسر فزع، ودهش أصله من برق الرجل، إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، ومنه قول ذي الرمة: * لو أن لقمان الحكيم تعرضت * لعينيه مي سافرا كاد يبرق * وقول الأعشى: وقول الأعشى: * وكنت أرى في وجه مية لمحة * فأبرق مغشيا على مكانيا * وبرق بالفتح شق بصره، وهو من البريق، أي لمع بصره من شدة شخوصه. قال أبو حيان: والواقع أنه لا مانع من إرادة المعنيين ما دامت القراءتان صحيحتان، وقد يشهد لهذا النص في سورة إبراهيم في قوله تعالى: * (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعى رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم) *. قال ابن كثير: ينظرون من الفزع هكذا وهكذا، لا يستقر لهم بصر من شدة الرعب. وقوله: * (يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر) * تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة ص على قوله تعالى: * (كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص) *. قوله تعالى: * (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) *. المراد بما قدم هنا هو ما قدمه من عمل ليوم القيامة، كما في قوله تعالى: * (يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول ياليتنى قدمت لحياتى) * وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه عند قوله تعالى * (وبدا لهم سيئات ما كسبوا) * من سورة الزمر. قوله تعالى: * (بل الإنسان على نفسه بصيرة) *. بينه قوله تعالى: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *. وقوله: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) * وتقدم في سورة الكهف. قوله تعالى: * (ولو ألقى معاذيره) *. أي أنها لا تنفعه آنذاك، كما في قوله تعالى: * (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) *.
373 وقد بين تعالى بعض معاذيرهم تلك في مثل قوله تعالى: * (قال الذين حق عليهم القول ربنا هاؤلاء الذين أغوينآ أغويناهم كما غوينا تبرأنآ إليك ما كانوا إيانا يعبدون) *. وقوله: * (فأغويناكم إنا كنا غاوين) *. وقوله: * (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين ربنآ أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) *. وقوله: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير) *. * (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه * كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الا خرة * وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة * كلا إذا بلغت التراقى * وقيل من راق * وظن أنه الفراق * والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق * فلا صدق ولا صلى * ولاكن كذب وتولى * ثم ذهب إلى أهله يتمطى * أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى * أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من منى يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والا نثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) * قوله تعالى: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه) *. فيه النهي عن تحريك لسانه صلى الله عليه وسلم، وبيان أن الله تعالى عليه جمعه وقرآنه، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان لشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه، يحرك لسانه عند الوحي فنهى عن ذلك. وقد بين تعالى مدى هذا النهي ومدة هذه العجلة في قوله تعالى * (ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه) * وفيه الإيماء إلى حسن الاستماع والإصغاء عند الإيحاء به كما في آداب الاستماع * (فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) *. وقوله: * (إن علينا جمعه وقرءانه) * قد بين تعالى أن جمعه وقراءته عليه في قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *. تنبيه إن في قوله تعالى: * (إن علينا جمعه وقرءانه) * فيه إشارة إلى أنه نزل مفرقا، وإشارة إلى أن جمعه على هذا النحو الموجود برعاية وعناية من الله تعالى وتحقيقا لقوله تعالى * (إن علينا جمعه وقرءانه) * ويشهد لذلك أن هذا الجمع الموجود من وسائل حفظه، كما تعهد تعالى بذلك: والله تعالى أعلم.
374 وقال أبو حيان: إن علينا جمعه في صدرك. وقرآنه أي تقرأه. قوله تعالى: * (فإذا قرأناه فاتبع قرءانه) *. تقدم للشيخ بيانه عند قوله تعالى: * (علمه شديد القوى) * من سورة النجم. قوله تعالى: * (ثم إن علينا بيانه) *. قد نبه تعالى كما جاء في مقدمة الأضواء أنه ما من مجمل إلا وجاء تفصيله في مكان آخر، وقد نص تعالى على هذا في كثير من الآيات، كما في قوله * (كتاب فصلت ءاياته) *، وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك في أول فصلت. قوله تعالى: * (وجوه يومئذ ناضرة) *. تقدم بيانه للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، عند قوله تعالى: * (قال رب أرنى أنظر إليك قال لن ترانى) *. قوله تعالى: * (كلا إذا بلغت التراقى وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق) *. لم يبين ما هي التي بلغت التراقي ولكنه معلوم أنها الروح، كما في قوله تعالى: * (فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون) * إلى قوله * (ترجعونهآ إن كنتم صادقين) *، فهذه حالات النزع والروح تبلغ الحلقوم وتبلغ التراقي. وقد يترك التصريح للعلم كما في قوله تعالى: * (إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب) * أي الشمس، وهكذا هنا فلمعرفتها بالقرائن ترك التصريح بالروح أو النفس، وقد صرح تعالى بذلك في قوله: * (ولو ترى إذ الظالمون فى غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون) *. وقوله تعالى: * (وقيل من راق) *. اختلف في معنى راق هذه، فقيل من الرقية أي قال من حوله: من يرتقيه هل من طبيب يرقيه؟ أي حالة اشتداد الأمر عليه رجاء لشفاه أو استبعادا بأنه لا ينفعه، وقيل: من الرقى أن تقول الملائكة من الذي سيرقى بروحه
375 أملائكة العذاب أم ملائكة الرحمة؟ ولكن في الآية قرينة على أن الأول أرجح، لأن قول الملائكة يكون في حق الشخص المتردد في أمره، وهذا هنا ليس موضع تردد لأن نهاية السياق فيه * (فلا صدق ولا صلى ولاكن كذب وتولى) * إلى ما بعده. وقال أبو حيان: على أنه على قول الملائكة من يرقى بروحه، يكون ذلك كراهية. منهم أن يصعدوا بها، وفي هذا نظر، لأن الله تعالى جعل ملائكة للمشركين وهم ملائكة العذاب، وملائكة للمؤمنين، وهم ملائكة الرحمة. ولا يستكره فريق منهما أن يصعد بما تخصص له، بل قد لا يسمح للآخر بما يخصه. كما في حديث الذي قتل مائة نفس، وأدركته الوفاة في منتصف الطريق، فحضرته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب يختصمون أيهم يصعد بروحه، كل يريد أن يتولى قبض روحه أولئك يقولون: إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيرا قط، وأولئك يقولون: إنه خرج تائبا إلى الله تعالى. وهذا كما تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه من ترجيح أحد المعنيين المختلف فيهما بين المفسرين لوجود قرينة في الآية. وقد وجدت القرينة وهي ما في آخر الآية والسياق من أنه ليس موضع تردد * (فلا صدق ولا صلى) *. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) *. رد على زعم أنه خلق سدى وهملا، وأنه لا يحاسب ولا يسأل وبالتالي لا يبعث. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك عند قوله تعالى: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إلاه إلا هو رب العرش الكريم) * أي تعالى الله عن العبث، وقد ساق الشيخ الأدلة الوافية هناك. قوله تعالى: * (ألم يك نطفة من منى يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والا نثى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) *.
376 بلى إنه على كل شيء قدير، مجيء هذا الاستفهام الإنكاري أو التقريري، بعد أيحسب الإنسان أن يترك سدى. وسوق هذه الآيات. العظيمات الدالة على القدرة الباهرة، فيه رد على إنكار ضمني وهو أنه لا يعتقد وجوده سدى ولا حساب عليه إلا من استبعد البعث. ولو أقر بالبعث لآمن بالجزاء واعترف بالسؤال وعلم أنه لم يخلق عبثا، ولن يترك سدى. ولكن لما أنكر البعث ظن وحسب أنه يترك سدى، فجاء تذكيره بأصل خلقته وتطوره ليستخلص منه اعترافه، لأن من قدر على خلقه من منى يمنى، وتطويره إلى علقة ثم إلى خلق سوي، فهو قادر على بعثه مرة أخرى. وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه الأطوار في أكثر من موضع، وأحال عليها عند قوله تعالى: * (وأنه خلق الزوجين الذكر والا نثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الا خرى) * في سورة النجم.
377 ((سورة الإنسان)) * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا * إنآ أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا * إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا * عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا * يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) * قوله تعالى: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا) *. اتفق المفسرون على أن هل هنا بمعنى (قد) أي أن الاستفهام تقريري يستوجب الإجابة عليه بنعم. ولفظ الإنسان في * (هل أتى على الإنسان) *، وقيل هو الإنسان الأول آدم عليه السلام، أتى عليه حين من الدهر، لم يكن شيء يذكر. وقيل: هو عموم الإنسان من بني آدم فيكون المعنى على الأول، أن آدم عليه السلام أتى عليه حين من الدهر قيل: أربعون سنة. ذكر عن ابن عباس: كان طينا ثم صلصالا حتى نفخ فيه الروح. ويكون على الثاني أن الإنسان أتى عليه حين من الدهر، هو أربعون يوما نطفة، ثم أربعون يوما علقة، ثم أربعون يوما مضغة، وكل ذلك شيء ولكنه لم يكن مذكورا، أي ضعيفا، وكلاهما محتمل. ولفظ الإنسان الثاني في قوله تعالى: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) * اتفقوا على أنه عام في بني آدم، لأنه هو الذي خلق من نطفة أمشاج أخلاط، وقد رجح الفخر الرازي أن لفظ الإنسان في الموضعين بمعنى واحد، وهو المعنى العام ليستقيم الأسلوب بدون مغايرة بين اللفظين إذ لا قرينة مميزة. ولعل في السياق قرينة تدل على ما قاله، وهي أن قوله تعالى: * (نبتليه) * قطعا لبني آدم، لأن آدم عليه السلام، انتهى أمره بالسمع والطاعة * (فتلقىءادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) * ولم يبق مجال لابتلائه، إنما ذلك لبنيه. والله تعالى أعلم.
378 وقوله تعالى: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) * فيه بيان مبدء خلق الإنسان، وله أطوار في وجوده بعد النطفة علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر، وكل ذلك من لا شيء قبله. كما قال تعالى: * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك عند الآية الكريمة * (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) *. قوله تعالى: * (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) *. الهداية هنا بمعنى البيان، كما في قوله تعالى: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) *. والسبيل الطريق السوي، وفيه بيان انقسام الإنسان إلى قسمين: شاكر معترف بنعمة الله تعالى عليه، مقابل لها بالشكر أو كافر جاحد. وقوله: * (إما شاكرا) *، يشير إلى إنعام الله تعالى على العبد، وقد ذكر تعالى نعمتين عظيمتين: الأولى: إيجاد الإنسان من العدم بعد أن لم يكن شيئا مذكورا، وهذه نعمة عظمى لا كسب للعبد فيها. والثانية: الهداية بالبيان والإرشاد إلى سبيل الحق والسعادة، وهذه نعمة إرسال الرسل وإنزال الكتب ولا كسب للعبد فيها أيضا. وقد قال العلماء: هناك ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها. الأولى: وجوده بعد العدم. الثانية: نعمة الإيمان. الثالثة: دخول الجنة. وقالوا: الإيجاد من العدم، تفضل من الله تعالى كما قال: * (لله ملك السماوات والا رض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير) *، ومن جعله الله عقيما فلن
379 ينجب قط. والثانية: الإنعام بالإيمان، كما في قوله تعالى: * (إنك لا تهدى من أحببت ولاكن الله يهدى من يشآء) *. وقد جاء في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه). الحديث. وكون المولود يولد بين أبوين مسلمين، لا كسب له في ذلك. والثالثة، الإنعام بدخول الجنة كما في الحديث: (لن يدخل أحدكم الجنة بعلمه. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). وقد ذكر تعالى نعمتين صراحة، وهما خلق الإنسان بعد العدم، وهدايته السبيل. والثالثة: تأتي ضمنا في ذكر النتيجة * (إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) * لأن الأبرار هم الشاكرون بدليل التقسيم * (شاكرا وإما كفورا إنآ أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) *. وقوله تعالى: * (إنا هديناه السبيل) * تقدم أنها هداية بيان. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان الهداية العامة والخاصة. والجمع بينهما في أكثر من موضع، وفي مستهل هذه السورة بيان لمبدأ الإنسان وموقفه من بعثة الرسل وهدايتهم ونتائج أعمالهم من شكر أو كفر. وقد جاءت السنة بقراءة هذه السورة في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة، مع قراءة سورة السجدة في الركعة الأولى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن قراءتهما معا في ذلك اليوم لمناسبة خلق آدم في يوم الجمعة ليتذكر الإنسان في هذا اليوم، وهو يوم الجمعة مبدأ خلق أبيه آدم ومبدأ خلق عموم الإنسان ويتذكر مصيره ومنتهاه ليرى ما هو عليه من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل هو شاكر أو كفور ا ه. ملخصا. ومضمون ذلك كله أنه رحمه الله يرى أن الحكمة في قراءة السورتين في فجر الجمعة، أن يوم
380 الجمعة هو يوم آدم عليه السلام فيه خلق، وفيه نفخ فيه الروح، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه ثيب عليه، وفيه تقوم الساعة. كما قيل: يوم الجمعة يوم آدم ويوم الاثنين يوم محمد صلى الله عليه وسلم، أي فيه ولد وفيه أنزل عليه، وفيه وصل بالمدينة في الهجرة، وفيه توفي. ولما كان يوم الجمعة يوم إيجاد الإنسان الأول ويوم أحداثه كلها إيجادا من العدم وإنعاما عليه بسكنى الجنة وتواجده على الأرض، وتلقى التوبة عليه من الله أي يوم الإنعام عليه حسا ومعنى، فناسب أن يذكر الإمام بقراءته سورة السجدة في فجر يوم الجمعة لما فيها من قصة خلق آدم في قوله: * (الذى أحسن كل شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من مآء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه) *. وفيها قوله تعالى: * (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولاكن حق القول منى لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * مما يبث الخوف في قلوب العباد، إذ لا يعلم من أي الفريقين هو، فيجعله أشد حرصا على فعل الخير، وأشد خوفا من الشر. ثم حذر من نسيان يوم القيامة * (فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هاذآ) *. وهكذا في الركعة الأولى، يرجع المسلم إلى أصل وجوده ويستحضر قصة الإنسان الأول. وكذلك يأتي في الركعة الثاني بقصته هو منذ بدأ خلقه * (من نطفة أمشاج) * ويذكره بالهدى الذي أنزل عليه ويرغبه في شكرانه عليه ويحذره من جحودها وكفرانها. وقد بين له منتهاه على كلا الأمرين * (إنآ أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) *. فإذا قرع سمعه ذلك في يوم خلقه ويوم مبعثه حيث فيه تقوم الساعة فكأنه ينظر ويشاهد أول وجوده وآخر مآله فلا يكذب بالبعث. وقد علم مبدأ خلقه ولا يقصر في واجب، وقد علم منتهاه، وهذا في غاية الحكمة كما ترى.
381 ومما يشهد لما ذهب إليه رحمه الله، اعتبار المناسبات كما في كثير من الأمور، كما في قوله تعالى: * (شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * فجميع الشهور من حيث الزمن سواء، ولكن بمناسبة بدء نزول القرآن في هذا الشهر جعله الله محلا للصوم، وأكرم فيه الأمة كلها بل العالم كله، فتتزين فيه الجنة وتصفد فيه مردة الشياطين، وتتضاعف فيه الأعمال. وكذلك الليلة منه التي كان فيها البدء اختصها تعالى عن بقية ليالي الشهر، وهي ليلة القدر جعلها الله تعالى خيرا من ألف شهر، وما ذاك إلا لأنها كما قال تعالى: * (إنا أنزلناه فى ليلة القدر) * السورة بتمامها. مسألة لقد أكثر الناس القول في اعتبار المناسبات في الإسلام وعدم اعتبارها، ووقع فيها الإفراط والتفريط، وكما قيل: * كلا طرفي قصد الأمور ذميم ومنطلقا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تقدم هذه النبذة في هذه المسألة، وهي أنه بالتأمل في الشرع وأحداث الإسلام عامة وخاصة. أي في عموم الأمم وخصوص هذه الأمة، نجد المناسبات قسمين مناسبة معتبرة عني بها الشرع لما فيها من عظة وذكرى تتجدد مع تجدد الأيام والأجيال، وتعود على الفرد والجماعة بالتزود منها، ومناسبة لم تعتبر، إما لاقتصارها في ذاتها وعدم استطاعة الأفراد مسايرتها. فمن الأول يوم الجمعة، وتقدم طرف من خصائص هذا اليوم في سورة الجمعة، وكلام شيخ الإسلام رحمه الله، وقد عني بها الإسلام في الحث على القراءة المنوه عنها في صلاة الفجر، وفي الحث على أدائها والحفاوة بها من اغتسال وطيب وتبكير إليها، كما تقدم في سورة الجمعة. ولكن من غير غلو ولا إفراط، فقد جاء النهي عن صوم يومها وحده، دون أن يسبق. بصوم قبله، أو يلحق بصوم بعده كما نهى عن إفراد ليلتها بقيام، والنصوص في ذلك متضافرة ثابتة، فكانت مناسبة معتبرة مع اعتدال وتوجه إلى الله أي بدون إفراط أو تفريط.
382 ومنها يوم الاثنين كما أسلفنا، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن صيامه يوم الاثنين فقال: (هذا يوم ولدت فيه وعلي فيه أنزل)، وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة وكان يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد احتفى به صلى الله عليه وسلم للمسببات المذكورة، وكلها أحداث عظام ومناسبات جليلة. فيوم مولده صلى الله عليه وسلم وقعت مظاهر كونية ابتداء من واقعة أبرهة، وإهلاك جيشه إرهاصا بولده صلى الله عليه وسلم، ثم ظهور نجم بني الختان، وحدثت أمه وهي حامل به فيما قيل: إنها أتيت حين حملت به صلى الله عليه وسلم فقيل لها: (إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: فقيل لها: (إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: * أعيذه بالواحد * من شر كل حاسد * ثم سميه محمدا)، وذكر ابن هشام أنها رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام. وذكر ابن هشام. أن حسان بن ثابت وهو غلام سمع يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب: يا معشر يهود: حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا: ويلك مالك، قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به. وساق ابن كثير في تاريخه، والبيهقي في خصائصه وابن هشام في سيرته أخبارا عديدة مما شهده العالم ليلة مولده صلى الله عليه وسلم، نوجز منها الآتي: عن عثمان بن أبي العاص أن أمه حضرت مولده صلى الله عليه وسلم قالت: فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول: ليقعن علي. وعن أبي الحكم التنوخي: قال: كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة إلى الصبح يكفأن عليه برمة، فأكفأن عليه صلى الله عليه وسلم برمة، فانفلقت عنه، ووجد مفتوح العينين شاخصا ببصره إلى السماء. وقد كان لمولده من الأحداث الكونية ما لفت أنظار العالم كله. ذكر ابن كثير منها انكفاء الأصنام على وجوهها، وارتجاس إيوان كسرى، وسقوط بعض شرفه، وخمود نار فارس، ولم تخمد قبلها، وغاضت بحيرة ساوة، فكان في ذلك إرهاص بتكسير الأصنام وانتشار الإسلام، ودخول الفرس في الإسلام، ثم كان بدء الوحي
383 عليه صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين. الحفاوة بهذا اليوم لا شك أن العالم لم يشهد حدثين أعظم من هذين الحدثين. مولد سيد الخلق وبدء إنزال أفضل الكتب، فكان صلى الله عليه وسلم يحتفى به وذلك بصيامه، وهو العمل المشروع الذي يعبر به المسلم عن شعوره فيه، والعبادة الخالصة التي يشكر الله تعالى بها على هاتين النعمتين العظيمتين. أما ما يفعله بعض الناس من احتفالات ومظاهر، فقد حدث ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني، ولا الثالث، وهي القرون المشهود لها بالخير، وأول إحداثه في القرن الرابع. وقد افترق الناس فيه إلى فريقين، فريق ينكره، وينكر على من يفعله لعدم فعل السلف إياه، ولا مجيء أثر في ذلك، وفريق يراه جائزا لعدم النهي عنه، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة. ولشيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم كلام وسط في غاية الإنصاف، نورد موجزه لجزالته، والله الهادي إلى سواء السبيل. قال رحمه الله في فصل قد عقده للأعياد المحدثة: فذكر أول جمعة من رجب وعيد خم في الثامن عشر من ذي الحجة، حيث خطب صلى الله عليه وسلم، وحث على اتباع السنة وبأهل بيته، ثم أتى إلى عمل المولد فقال: وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا، مع اختلاف الناس في مولده، أي في ربيع أو في رمضان، فإن هذا لم يفعله السلف رضي الله عنهم مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه. ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه. في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنا
384 وظاهرا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وأكثر هؤلاء الذين تراهم حرصاء على أمثال هذه البدع، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه. وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، ولا يتبعه. وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلا، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجاجيد المزخرفة وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها. واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع. وفيه أيضا من بدعة وغيرها، ثم رسم طريق العمل السليم للفرد في نفسه والداعية مع غيره، فقال: فعليك هنا بأدبين أحدهما أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا. الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدعو إلى ترك منكر، يفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضمر من فعل ذلك المكروه. ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير فعوض عنه من الخير المشروع، بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء. ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون، قد أتوا مكروها فالتاركون أيضا للسنن مذمومون. وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به... ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد.
385 ولهذا قيل لأحمد: إن بعض الأمراء ينفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك، فقال: دعه، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب، أو كما قال، مع أن مذهبه: أن زخرفة المصاحف مكروهة، فمثل هؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا عنه الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتب فجور، ككتب الأسمار والأصفار أو حكمة فارس والروم. ومراتب الأعمال ثلاث: إحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه. والثانية: العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها، إما لحسن القصد، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع. والثالثة: ما ليس فيه صلاح أصلا. فأما الأولى: فهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أعمال السابقين الأولين. وأما الثانية فهي كثيرة جدا في طرق المتأخرين من المنتسبين. إلى علم أو عبادة، ومن العامة أيضا، وهؤلاء خير مما لا يعمل عملا صالحا مشروعا ولا غير مشروع، ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له في ظاهر الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين، فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها ا ه. لقد عالج رحمه الله هذه المسألة بحكمة الداعي وسياسة الدعوة مما لا يدع مجالا للكلام فيها. ولكن قد حدث بعده رحمه الله أمور لم تكن من قبل ابتلى بها العالم الغربي، وغزا بها العالم الشرقي، ولبس بها على المسلمين، وهي تلك المبادئ الهدامة والغزو الفكري، وإبراز شخصيات ذات مبادئ اقتصادية أو فلسفي، ارتفع شأنها في قومهم ونفثت سمومهم إلى بني جلدتنا، وصاروا يقيمون لهم الذكريات ويقدمون عنهم الدراسات جهلا أو تضليلا فقام من المسلمين من يقول: نعلم أن المولد ليس سنة نبوية ولا طريقا سلفيا ولا عمل القرون للشهود لها بالخير، وإنما نريد مقابلة الفكرة بالفكرة والذكريات بالذكرى، لنجمع شباب المسلمين
386 على سيرة سيد المرسلين، ويكون ذلك من باب: يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثت من البدع إلى آخره. وهنا لا ينبغي الإسراع في الجواب، ولكن انطلاقا من كلام شيخ الإسلام المتقدم، يمكن أن يقال: إن كان المراد إحياء الذكرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى قد تولى ذلك بأوسع نطاق حيث قرن ذكره صلى الله عليه وسلم مع ذكره تعالى في الشهادتين، مع كل أذان على كل منارة من كل مسجد، وفي كل إقامة لأداء صلاة، وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة جهرا وسرا. جهرا يملأ الأفق، وسرا يملأ القلب والحس. ثم تأتي الذكرى العملية في كل صغيرة وكبيرة في المأكل باليمين، لأنه السنة، وفي الملبس في التيامن لأنه السنة، وفي المضجع على الشق الأيمن لأنه السنة، وفي إفشاء السلام وفي كل حركات العبد وسكناته إذا راعى فيها أنها السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان المراد التعبير عن المحبة، والمحبة هي عنوان الإيمان الحقيقي، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين). فإن حقيقة المحبة طاعة من تحب، وفعل ما يحبه وترك ما لا يرضاه أو لا يحبه، ومن هذا يمكن أن يقال: إن ما يلابس عمل المولد من لهو ولعب واختلاط غير مشروع، وأعمال في أشكال لا أصل لها يجب تركه وتنزيه التعبير عن محبته صلى الله عليه وسلم عما لا يرضاه صلى الله عليه وسلم. وقد كان صلى الله عليه وسلم هذا اليوم بالصوم، وإن كان المراد مقابلة فكرة بفكرة. فالواقع أنه لا مناسبة بين السببين ولا موجب للربط بين الجانبين لبعد ما بينهما، كبعد الحق عن الباطل والظلمة عن النور. ومع ذلك، فإن كان ولا بد فلا موجب للتقييد بزمن معين بل العام كله لإقامة الدراسات في السيرة وتعريف المسلمين الناشئة منهم والعوام وغيرهم بما تريده من دراسة للسيرة النبوية. وختاما فبدلا من الموقف السلبي عند التشديد في النكير أن يكون عملا إيجابيا في حكمة وتوجيه لما هو أولى بحسب المستطاع، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وبالله تعالى التوفيق: ومن المناسبات ليلة القدر لبدء نزول القرآن فيها لقوله تعالى: * (إنا أنزلناه فى ليلة
387 القدر) * ثم بين تعالى مقدارها بقوله: * (ليلة القدر خير من ألف شهر) * وبين خواصها بقوله: * (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هى حتى مطلع الفجر) *. الحفاوة بها لقد بين صلى الله عليه وسلم بقوله: (التمسوها في العشر الأواخر، وفي الوتر من العشر الأواخر)، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر كلها التماسا لتلك الليلة، فكان يحييها قائما في معتكفه، كما جاء في الحديث (وإذا جاء العشر شد مئزره وطوى فراشه وأيقظ أهله) فلم يكن يمرح ولا يلعب ولا حتى نوم بل اجتهاد في العبادة. وكذلك شهر رمضان بكامله لكونه أنزل فيه القرآن أيضا، كما تقدمت الإشارة إليه، فكان تكريمه بصوم نهاره وقيام ليله لا بالملاهي واللعب والحفلات، كما له بعض صار يعد الناس وسائل ترفيه خاصة، فيعكس فيه القصد ويخالف المشروع. ومن المناسبات يوم عاشوراء، لقد كان له تاريخ قديم وكانت العرب تعظمه في الجاهلية وتكسو فيه الكعبة، ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومونه فقال لهم: (لم تصومونه)؟ فقالوا: يوما نجى الله فيه موسى من فرعون فصامه شكرا لله فصمناه. فقال صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منكم) فصامه وأمر الناس بصيامه. إنها مناسبة عظمى نجاة نبي الله موسى من عدو الله فرعون، نصرة الحق على الباطل، ونصر جند الله وإهلاك جند الشيطان. وهذا بحق مناسبة يهتم لها كل مسلم. ولذا قال صلى الله عليه وسلم (نحن أحق بموسى منكم). نحن معشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد). وقد كان صيامه فرضا حتى نسخ بفرض رمضان، وهكذا مع عظم مناسبته من إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله، كان ابتهاج موسى عليه السلام به في صيامه شكرا لله. وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الطريق السليم والسنة النبوية الكريمة لا ما يحدثه بعض العوام والجهال من مظاهر وأحداث لا أصل لها، ثم يأتي العمل الأعم والمناسبات
388 المتعددة في مناسك الحج منها الهرولة في الطواف، لقد كانت عن مؤامرة قريش في عزمها على الغدر بالمسلمين في عمرة القضية فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يظهروا النشاط في الطواف، وذلك حينما جاء الشيطان لقريش وقال لهم: هؤلاء المسلمون مع محمد صلى الله عليه وسلم جاءوا إليكم وقد أنهكتهم حمى يثرب، فلو ملتم عليهم لاستأصلتموهم، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الموقف خطيرا جدا وحرجا حيث لا مدد للمسلمين ولا سبيل للانسحاب ولا بد لهم من إتمام العمرة. فكان التصرف الحكيم، أن يعكسوا على المشركين نظريتهم ويأتونهم من الباب الذي أتوا منه. فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أروهم اليوم منكم قوة) فهرولوا في الطواف وأظهروا قوة ونشاطا مما أدهش المشركين حتى قالوا: والله ما هؤلاء بإنس إنهم لكالجن)، وفوتوا عليهم الفرصة بذلك وسلم المسلمون. فهو أشبه بموقف موسى من فرعون، فنجى الله رسوله صلى الله عليه وسلم من غدر قريش فكان هذا العمل مخلدا ومشروعا في كل طواف قدوم حتى اليوم، مع زوال السبب حيث هرول المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين. قال العلماء: بقي هذا العمل تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، وتذكروا ولهذا الموقف وما لقيه المسلمون في بادىء الدعوة. وجاء السعي والهرولة فيه لما فيه من تجديد اليقين بالله، حيث تركت هاجر، وهي من سادة المتوكلين على الله والتي قالت لإبراهيم: اذهب فلن يضيعنا الله. تركت حتى سعت إلى نهاية العدد، كما يقول علماء الفرائض وهو سبعة. إذ كل عدد بعده تكرار لمكرر قبله، كما قالوا في عدد السماوات والأرض وحصى الجمار وأيام الأسبوع. إلخ. وذلك لتصل إلى أقصى الجهد وتنقطع أطماعها من غوث يأتيها من الأرض، فتتجه بقوة اليقين وشدة الضراعة إلى السماء وتتوجه بكليتها، وإحساسها بقلبها وقالبها إلى الله. فيأتيها الغوث الأعظم سقيا لها وللمسلمين من بعدها. فكان ذلك درسا عمليا ظل إحياؤه تجديدا له. وهكذا النحر، وقصة الفداء لما كان فيه درس الأمة لأفرادها وجماعتها في أسرة
389 كاملة. والد ووالدة، وولد كل يسلم قياده لأمر الله، وإلى أقصى حد التضحية حينما قال إبراهيم لإسماعيل ما قصه تعالى علينا * (يابنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى) *. إنه حدث خطير وأي رأي للولد في ذبح نفسه، ولكنه التمهيد لأمر الله، فكان موقف الولد لا يقل إكبارا عن موقف الوالد: * (ياأبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شآء الله من الصابرين) * ولم يكن ذلك عرضا وقبولا فحسب، بل جاء وقت التنفيذ إلى نقطة الصفر، كما يقال: والكل ماض في سبيل التنفيذ، * (فلما أسلما وتله للجبين) *، يا له من موقف يعجز كل بيان عن تصويره ويئط كل قلم عن تفسيره، ويثقل كل لسان عن تعبيره، شيخ في كبر سنه يحمل سكينا بيده ويتل ولده وضناه بالأخرى، كيف قويت يده على حمل السكين، وقويت عيناه على رؤيتها في يده، وكيف طاوعته يده الأخرى على تل ولده على جبينه؟ إنها قوة الإيمان وسنة الالتزام، وها هو الولد مع أبيه طوع يده، يتصبر لأمر الله ويستسلم لقضاء الله * (ستجدنى إن شآء الله من الصابرين) * والموقف الآن والد بيده السكين، وولد ملقى على الجبين، ولم يبق إلا توقف الأنفاس للحظة التنفيذ، ولكن رحمة الله أوسع وفرجه من عنده أقرب، * (وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيآ إنا كذلك نجزى المحسنين) *. فكانت مناسبة عظيمة وفائدتها كبيرة خلدها الإسلام في الهدى والضحية. وفي رمي الجمار، إلى آخره، وهكذا كلها في مناسك وعبادة وقربة إلى الله تعالى في تجرد وانقطاع، ودوام ذكر لله تعالى. وهناك أحداث جسام ومناسبات عظام، لا تقل أهمية عن سابقاتها، ولكن لم يجعل لها الإسلام أي ذكرى، كما في صلح الحديبية. لقد كان هذا الصلح من أعظم المناسبات في الإسلام، إذ كان فيه انتزاع اعتراف قريش بالكيان الإسلامي مائلا في الصلح والعهد الذي وثق بين الطرفين وقد سماه الله فتحا، كما قال تعالى: * (فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) *.
390 ونزلت سورة الفتح في عودته صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية. وكذلك يوم بدر كان يوم الفرقان، فرق الله فيه بين الحق والباطل ونصر فيه المسلمين مع قلتهم على المشركين مع كثرتهم. وكذلك يوم فتح مكة وتحطيم الأصنام والقضاء نهائيا على دولة الشرك في البلاد العربية، ومن قبل ذلك ليلة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة ونزوله في الغار، إذ كان فيها نجاته صلى الله عليه وسلم من فتك المشركين، كما قال الصديق وهما في الطريق إلى الغار حينما كان يسير أحيانا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأحيانا خلفه فسأله صلى الله عليه وسلم فقال: أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون خلفك، فقال صلى الله عليه وسلم (أتريد لو كان شيء يكون فيك يا أبا بكر؟ فقلت نعم فداك أبي وأمي يا رسول الله، فإني إن أهلك أهلك وحدي، وإن تصب أنت يا رسول الله تصب الدعوى معك). وكذلك وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة بداية حياة جديدة وبناء كيان أمة جديدة، وكل ذلك لم يجعل الإسلام لذلك كله عملا خاصا به والناس في إبانها تأخذهم عاطفة الذكرى، ويجرهم حنين الماضي وتتراءى لهم صفحات التاريخ، فهل يقفون صما بكما أم ينطقون بكلمة تعبير؟ وشكر لله إنه إن يكن من شيء فلا يصح بحال من الأحوال، أن يكون من اللهو واللعب والمنكر وما لا يرضى الله ولا رسوله. إنه إن يكن من شيء، فلا يصح إلا من المنهج الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مثل تلك المناسبات من عبادة في صيام أو صدقة أو نسك ولا يمكن أن يقال فيها بما يقال في المصالح المرسلة حيث كانت. وكان عهد التشريع ولم يشرع في خصوصها شيء، وهل الأمر فيها كالأمر في المولد على ما قدمه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتكون ضمن عموم قوله تعالى * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) *، وضمن قوله تعالى * (فاعتبروا ياأولى الا بصار) * رأي بقصص الماضين. ونحن أيضا نقص على أجيالنا بعد هذه القرون، أهم أحداث الإسلام لاستخلاص العظة والعبرة أم لا؟ وهذا ما يتيسر إيراده بإيجاز في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق. تنبيه مما يعتبر ذا صلة بهذا المبحث في الجملة ما نقله ابن كثير في التفسير عند كلامه على
391 قوله تعالى * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا) *. قال عندها: وقال الإمام أحمد حدثنا جعفر بن عوف حدثنا أبو العميس عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا يا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية قال قوله * (اليوم أكملت لكم دينكم) * فقال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة. ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به، ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي أيضا من طرق عن قيس بن مسلم به. ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري عن قيس عن طارق قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت: يوم عرفة وأنا والله بعرفة. وساق عن ابن جرير قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال * (اليوم أكملت لكم دينكم) * فأجابه عمر بما أجاب به سابقا، وقال في يوم جمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد. ونقل عن ابن جرير عن ابن عباس قرأ الآية فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين يوم عيد ويوم جمعة. ومحل الإيراد أن عمر سمع اليهود يشيد بيوم نزولها، فقد أقر اليهودي على ذلك ولم ينكر عليه، ولكن أخبره بالواقع وهو أن يوم نزولها عيد بنفسه بدون أن نتخذه نحن. وكذلك ابن عباس أقر اليهودي على إخباره وتطلعه واقتراحه، فلم ينكر عليه كما لم ينكر عمر مما يشعر أنه لو لم يكن نزولها يوم عيد، لكان من المحتمل أن تتخذ عيدا. ولكنه صادف عيدا أو عيدين، فهو تكريم لليوم بمناسبة ما نزل فيه من إكمال الدين
392 وإتمام النعمة. قوله تعالى * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) * الأمشاج. الأخلاط، كما قال تعالى * (من مآء دافق يخرج من بين الصلب والترآئب) *. قوله تعالى: * (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) *. بين تعالى أنه هدى الإنسان السبيل، وهو بعد الهداية إما شاكرا وإما كفورا. وهذه الهداية هداية بيان وإرشاد، كما في قوله تعالى * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) * كما أن الهداية الحقيقية بخلق التوفيق فضلا من الله على من شاء، كما تقدم عند قوله تعالى * (إنك لا تهدى من أحببت ولاكن الله يهدى من يشآء) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان الجمع بين الآيتين، ومعنى الهداية العامة والخاصة. قوله تعالى: * (سلاسل وأغلالا) *. بين تعالى نوع هذه السلاسل بذرعها في قوله تعالى * (فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا) *. قوله تعالى: * (يشربون من كأس) *. مادة يشرب تتعدى بنفسها، فيقال: يشرب كأسا بدون مجيء من، ومن للتبعيض وللابتداء، فقيل: هي هنا للابتداء، وأن الفعل مضمن معنى فعل آخر، وهو يتنعمون ويرتوون كما قالوا في عينا يشرب بها عباد الله. إذ الباء تكون للإرادة ولا إرادة هنا، فهم يتنعمون بها. والذي يظهر أن من للتبعيض فعلا، وأن شرب أهل الجنة على سبيل الترفه والتلذذ، وهي عادة المترفين المنعمين، يشربون بعض الكأس لا كله. وقد دل على ذلك أنهم لا يشربون عن ظمأ كما في قوله تعالى لآدم * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) *، وسيأتي تعدية
393 يسقون بنفسها إلى الكأس * (ويسقون فيها كأسا) *، ويأتي قوله تعالى * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *. ويؤيد هذا اتفاقهم على التضمين في * (عينا يشرب بها عباد الله) *، فهو هنا واضح. وهناك التبعيض ظاهر. قوله تعالى: * (يوفون بالنذر) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث النذر وافيا عند قوله تعالى: * (وليوفوا نذورهم) * في سورة الحج. * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا * متكئين فيها على الا رائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا * ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا * ويطاف عليهم بأانية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قواريرا من فضة قدروها تقديرا * ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا * عينا فيها تسمى سلسبيلا * ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا * وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا * عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هاذا كان لكم جزآء وكان سعيكم مشكورا * إنا نحن نزلنا عليك القرءان تنزيلا * فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا * واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا * ومن اليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا * إن هاؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورآءهم يوما ثقيلا * نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم وإذا شئنا بدلنآ أمثالهم تبديلا * إن هاذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشآءون إلا أن يشآء الله إن الله كان عليما حكيما * يدخل من يشآء فى رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما) * قوله تعالى: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *. اختلف في مرجع الضمير في علي حبه، هل هو راجع على الطعام أم على الله تعالى؟ أي ويطعمون الطعام على حب الطعام لقلته عندهم وحاجتهم إليه، أم على حب الله رجاء ثواب الله؟ وقد رجح ابن كثير المعنى الأول، وهو اختيار ابن جرير وساق الشواهد على ذلك كقوله * (وءاتى المال على حبه) *، وقوله * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *. والواقع أن الاستدلال الأول فيه ما في هذه الآية ولكن أقرب دليلا وأصرح، قوله تعالى * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *. وفي الآية التي بعدها في هذه السورة قرينة تشهد لرجوعه للطعام على ما تقدم، وهي قوله تعالى بعدها * (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا) * لأنها في معنى حب الله. مما يجعل الأولى للطعام وهذه لله. والتأسيس أولى من التأكيد، فيكون السياق: ويطعمون الطعام على حاجتهم إياه، ولوجه الله تعالى. والله تعالى أعلم. مسألة في قوله تعالى: * (مسكينا ويتيما وأسيرا) * جمع أصناف ثلاثة: الأول والثاني من المسلمين غالبا أما الثالث وهو الأسير فلم يكن لدى المسلمين أسرى إلا من الكفار، وإن
394 كانت السورة مكية إلا أن العبرة بعموم اللفظ كما هو معلوم. وقد نقل ابن كثير عن ابن عباس: أنها في الفرس من المشركين وساق قصة أسارى بدر. واختار ابن جرير أن الأسرى هم الخدم، والذي يظهر والله تعالى أعلم أن الأسارى هنا على معناها الحقيقي، لأن الخدم لا يخرجون عن القسمين المتقدمين اليتيم والمسكين، وهؤلاء الأسارى بعد وقوعهم في الأسر، لم يبق لهم حول ولا طول. فلم يبق إلا الإحسان إليهم. وهذا من محاسن الإسلام وسمو تعاليمه، وإن العالم كله اليوم لفي حاجة إلى معرفة هذه التعاليم السماوية السامية حتى مع أعدائه، وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على قوله تعالى * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) *، وهؤلاء بعد الأسر ليسوا مقاتلين. قوله تعالى: * (ولقاهم نضرة وسرورا) *. تقدم معنى قوله تعالى * (وجوه يومئذ ناضرة) *، وهنا جمع لهم بين النضرة والسرور، والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن النضرة لما يرون من النعيم والسرور لما ينالونه من النظر إلى وجه الله الكريم كما تقدم، * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) * فيكون السرور نتيجة النظر إلى وجه الله الكريم. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (ويطاف عليهم بأانية من فضة وأكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة قدروها تقديرا) *. فيه التنصيص على أواني الفضة في الجنة. وجاء بصحاف من ذهب وأكواب، وهي محرمة في الدنيا، كما هو معلوم، وقد بين تعالى أن الذي يطوف عليهم هم * (ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الطور عند قوله * (ويطوف
395 عليهم غلمان لهم) *، والقوارير جمع قارورة، والعرب تطلق القارورة على إناء الزجاج خاصة، ولكن الآية صريحة في أنها قوارير من فضة، مما يدل على صحة إطلاق القارورة، على غير آنية الزجاج كالفضة مثلا. قال صاحب اللسان: والقارورة: ما قر فيه الشراب وغيره، وقيل: لا يكون إلا من الزجاج خاصة. وقوله تعالى: * (قواريرا قواريرا من فضة) * قال بعض أهل العلم: معناه أواني زجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير، قال ابن سيده: وهذا أحسن ا ه. وقال ابن شدياق في معجم مقاييس اللغة: إن مادة قر، القاف والراء أصلان صحيحان يدل أحدهما على برد، والآخر على تمكن، وذكر من التمكن استقر ومستقر، كما ذكر صاحب اللسان كثيرا من ذلك ثم قال: ومن الباب القر: بضم الراء: صب الماء في الشيء. يقال: قررت الماء، والقر صب الكلام في الأذن، وذكر منه الإقرار ضد الجحود لاستقرار الحق به. ثم ذكر مسألة إثبات اللغة بالسماع أو بالقياس فقال: وهذه مقاييس صحيحة، فإما أن نتعدى ونتحمل الكلام كما بلغنا عن بعضهم أنه قال: سميت القارورة لاستقرار الماء فيها وغيره، فليس هذا من مذهبنا. وقد قلنا: إن كلام العرب ضربان. منه ما هو قياس وقد ذكرناه، ومنه ما وضع وضعا. والمسألة من مباحث الأصول في الألفاظ، هل هي بوضع لا يقاس عليه وتبقى كما وضعتها العرب، أو أنها توضع بالقياس؟ وفائدة الخلاف هل المسكرات كلها مثلا يتناولها مسمى الخمر بالوضع فتكون محرمة بنص * (إنما الخمر والميسر) *، أو أنها محرمة قياسا على الخمر بجامع علة الإسكار وعليه، فإذا كانت اللغة تساعد على الإطلاق قياسا، فهو أقوى في الحكم بأن يأتي الحكم بالنص لا بالقياس بجامع العلة. ولعل التحقيق في هذه المسألة ما قاله علماء الوضع من أن اللغات منها توقيفي ومنها قياسي. وفي قوله تعالى: * (قدروها تقديرا) * توجيه إلى حسن الصنع في التسوية في التقدير، والمقاسات.
396 قوله تعالى: * (ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا) *. وقبلها، قال تعالى: * (كان مزاجها كافورا) *، فقد قيل هما معا، فهي في برد الكافور وطيب الزنجبيل. قوله تعالى: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *. وهذا وصف شراب الجنة، والشراب هنا هو الخمر، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذا المفهوم من أن شراب خمر الدنيا ليس طهورا، لأن أحوال الجنة لها أحكامها الخاصة، ويشهد لهذا ما تقدم في قوله تعالى: * (ويطاف عليهم بأانية من فضة) * مع أن أواني الفضة محرمة في الدنيا لحديث: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، ومع ذلك فإن أهل الجنة ينعمون بها. وكذلك ينعمون بخمر الجنة، وكل أوصافها في الجنة عكس أوصافها في الدنيا كما تقدم، لا يصدعون عنها ولا ينزفون، كما أوضحه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند قوله تعالى * (لا يصدعون عنها ولا ينزفون) * في سورة الواقعة. قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا عليك القرءان تنزيلا) *. نزلنا وتنزيلا يدل على التكرار بخلاف أنزلنا، وقد بين تعالى أنه أنزل القرآن في ليلة القدر في سورة القدر * (إنا أنزلناه فى ليلة القدر) *، وهنا إثبات التنزيل. وقد بين تعالى كيفية التنزيل في قوله تعالى: * (وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) *. وقد بين تعالى الحكمة في هذا التفريق على مكث في قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) *، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذه المسألة في سورة الفرقان، والإحالة فيها على بيان سابق. قوله تعالى: * (فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) *. تقدم بيان مقدار المطلوب قيامه من الليل في أول سورة المزمل في قوله تعالى:
397 * (ياأيها المزمل قم اليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه) *. قوله تعالى: * (نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم) *. الأسر: الربط بقوة مأخوذ من الأسر هو جلد البعير رطبا، وهو القد، وسمي الأسير أسيرا لشد قيده بقوة بجلد البعير الرطب، وهو هنا تقويه بشد ربط الأعضاء المتحركة في الإنسان في مفاصله بالعصب، وهو كناية عن الاتقان والقوة في الخلق. وقد بين تعالى ذلك في قوله: * (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم) *، وقوله: * (الذى أحسن كل شىء خلقه) *. قوله تعالى: * (فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا) *. السبيل هنا منكر، ولكنه معين بقوله: * (إلى ربه) *، لأن السبيل إلى ربه هو السبيل المستقيم. كما قال تعالى: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) * وفي النهاية قال: * (وأن هاذا صراطي مستقيما فاتبعوه) *، وهو الصراط المستقيم الذي دعا إليه صلى الله عليه وسلم. كما في قوله تعالى: * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم صراط الله الذى له ما فى السماوات وما فى الا رض) * وهو القرآن الكريم كما تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في قوله تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) *، وقد بين تعالى أنه القرآن كله في قوله تعالى * (ألم ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) * بعد قوله: * (اهدنا الصراط المستقيم) *، كأنه قال: الهادي إلى الصراط المستقيم المنوه عنه في الفاتحة: هو القرآن الكريم * (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) * إلى آخر الصفات، فيكون السبيل هنا معلوما. وقوله تعالى قبلها: * (إن هاذه تذكرة) * مشعر بأن السبيل عن طريق التذكر فيها والاتعاظ بها. وقوله: * (فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا) *، علق اتخاذ السبيل إلى الله على مشيئة من
398 شاء، وقيدها ربط مشيئة العبد بمشيئة الله تعالى في قوله: * (وما تشآءون إلا أن يشآء الله) *، وهذه مسألة القدر. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحثها بحثا وافيا عند قوله تعالى * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) * في يونس وأحال على النساء. إلا أن قوله تعالى في التذييل على الآية الكريمة بقوله: * (إن الله كان عليما حكيما) * أن كل ما يقع في هذا الكون من سلوك وأعمال أنه بعلم من الله وحكمة.
399 ((سورة المرسلات)) * (والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا * والناشرات نشرا * فالفارقات فرقا * فالملقيات ذكرا * عذرا أو نذرا * إنما توعدون لواقع * فإذا النجوم طمست * وإذا السمآء فرجت * وإذا الجبال نسفت * وإذا الرسل أقتت * لأي يوم أجلت * ليوم الفصل * ومآ أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئذ للمكذبين * ألم نهلك الا ولين * ثم نتبعهم الا خرين * كذلك نفعل بالمجرمين * ويل يومئذ للمكذبين * ألم نخلقكم من مآء مهين * فجعلناه فى قرار مكين * إلى قدر معلوم * فقدرنا فنعم القادرون * ويل يومئذ للمكذبين * ألم نجعل الا رض كفاتا * أحيآء وأمواتا * وجعلنا فيها رواسى شامخات وأسقيناكم مآء فراتا * ويل يومئذ للمكذبين * انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إلى ظل ذى ثلاث شعب * لا ظليل ولا يغنى من اللهب * إنها ترمى بشرر كالقصر * كأنه جمالة صفر * ويل يومئذ للمكذبين * هاذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون * ويل يومئذ للمكذبين * هاذا يوم الفصل جمعناكم والا ولين * فإن كان لكم كيد فكيدون * ويل يومئذ للمكذبين * إن المتقين فى ظلال وعيون * وفواكه مما يشتهون * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * إنا كذلك نجزى المحسنين * ويل يومئذ للمكذبين * كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون * ويل يومئذ للمكذبين * وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون * ويل يومئذ للمكذبين * فبأى حديث بعده يؤمنون) * قوله تعالى: * (والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا) *. يقسم تعالى بهذه المسميات، واختلف في * (والمرسلات) *، * (فالعاصفات) *، * (والناشرات) *. فقيل: هي الرياح، وقيل: الملائكة أو الرسل، وعرفا أي متتالية كعرف الفرس، واختار كونها الرياح ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة. واختار كونها الملائكة أبو صالح عن أبي هريرة والربيع بن أنس. وعن أبي صالح: أنها الرسل قاله ابن كثير، واختار الأول وقال توقف ابن جرير، والواقع أن كلام ابن جرير يفيد أنه لا مانع عنده من إرادة الجميع، لأن المعنى محتمل ولا مانع عنده. واستظهر ابن كثير أنها الرياح لقوله تعالى: * (وأرسلنا الرياح لواقح) * وقوله: * (وهو الذى يرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته) *. وهذا هو الذي اختاره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء، أما الفارقات، فقيل الملائكة، وقيل: آيات القرآن، ورجح الشيخ الأول، وأما الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا. فقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانها في سورة الصافات عند قوله تعالى: * (فالتاليات ذكرا) *. وفي مذكرة الإملاء. قوله: * (عذرا) *: اسم مصدر بمعنى الإعذار، ومعناه قطع العذر. ومنه المثل: من أعذر فقد أنذر، وهو مفعول لأجله والنذر اسم مصدر بمعنى الإنذار، وهو مفعول لأجله أيضا، والإنذار الإعلام المقترن بتهديد، وأو في قوله:
400 * (أو نذرا) * بمعنى الواو أي لأجل الإعذار والإنذار: ومجئ أو بمعنى الواو، كمجيء ذلك في قول عمرو بن معد يكرب: أو نذرا) * بمعنى الواو أي لأجل الإعذار والإنذار: ومجئ أو بمعنى الواو، كمجيء ذلك في قول عمرو بن معد يكرب: * قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم * ما بين ملجم مهره أو سافع * أي وسافع. قوله تعالى: * (إنما توعدون لواقع) *. هو المقسم عليه، والواقع أن نبين كل قسم ومقسم عليه مناسبة ارتباط في الجملة غالبا، والله تعالى يقسم بما شاء على ما شاء، لأن المقسم به من مخلوقاته فاختيار ما يقسم به هنا أو هناك غالبا يكون لنوع مناسبة، ولو تأملناه هنا، لوجدنا المقسم عليه هو يوم القيامة، وهم مكذبون به فأقسم لهم بما فيه إثبات القدرة عليه، فالرياح عرفا تأتي بالسحاب تنشره ثم يأتي المطر، ويحيي الله الأرض بعد موتها. وهذا من أدلة القدرة على البعث، والعاصفات منها بشدة، وقد تقتلع الأشجار وتهدم البيوت مما لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم عليها، وما فيها من الدلالة على الإهلاك والتدمير، وكلاهما دال على القدرة على البعث. ثم تأتي الملائكة بالبيان والتوجيه والإعذار والإنذار، * (إنما توعدون لواقع) *. والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (فإذا النجوم طمست وإذا السمآء فرجت وإذا الجبال نسفت) *. كلها تغييرات كونية من آثار ذلك اليوم الموعود. وطمس النجوم ذهاب نورها، كقوله: * (وإذا النجوم انكدرت) * * (وإذا السمآء فرجت) * أي تشققت وتفطرت كما في قوله تعالى: * (إذا السمآء انشقت) *، * (إذا السمآء انفطرت) *، ونسف الجبال تقدم بيانه في عدة محال. وما يكون لها من عدة أطوار من دك وتفتيت وبث وتسيير كالسحاب ثم كالسراب، وتقدم في سورة ق عند قوله تعالى * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم) *. قوله تعالى: * (وإذا الرسل أقتت) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه في سورة الواقعة عند قوله تعالى:
401 * (قل إن الا ولين والا خرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) *. قوله تعالى: * (لأي يوم أجلت ليوم الفصل) *. يوم الفصل هو يوم القيامة، يفصل فيه بين الخلائق، بين الظالم والمظلوم، والمحق والمبطل والدائن والمدين، كما بينه تعالى بقوله: * (هاذا يوم الفصل جمعناكم والا ولين) *، وكقوله * (ذالك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود) *. قوله تعالى: * (ويل يومئذ للمكذبين) *. وعيد شديد من الله تعالى للمكذبين. وقد تقدم معنى ذلك للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند آخر سورة الذاريات، عند قوله تعالى: * (فويل للذين كفروا من يومهم الذى يوعدون) *. قوله تعالى: * (ألم نخلقكم من مآء مهين فجعلناه فى قرار مكين إلى قدر معلوم) *. الماء المهين: هو النطفة الأمشاج، والقرار المكين: هو الرحم، وقد مكنه الله وصانه حتى من نسمة الهواء. والآيات الباهرات في هذا القرار فوق أن توصف، وقد بين تعالى أنه الرحم بقوله تعالى: * (ونقر فى الا رحام ما نشآء إلى أجل مسمى) * والقدر المعلوم هو مدة الحمل إلى السقط أو الولادة. وتقدم للشيخ التنويه عن ذلك في أول سورة الحج، وأنها أقدار مختلفة وآجال مسماة. قوله تعالى: * (فقدرنا فنعم القادرون) *. فيه التمدح بالقدرة على ذلك وهو حق، ولا يقدر عليه إلا الله كما جاء في قوله: * (أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) *. وقد بينه تعالى في أول سورة الحج: ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة إلى آخر السياق.
402 قوله تعالى: * (ألم نجعل الا رض كفاتا أحيآء وأمواتا) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة طه عند قوله تعالى: * (الذى جعل لكم الا رض مهدا) *، والكفات: الموضع الذي يكفتون فيه، والكفت الضم أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطونها، كما في قوله: * (وفيها نعيدكم) *، وقد جمع المعنيين في قوله تعالى: * (والله أنبتكم من الا رض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا) *. قوله تعالى: * (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) *. بينه بعد بقوله تعالى: * (انطلقوا إلى ظل ذى ثلاث شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب إنها ترمى بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر) *، أي وهي جهنم. وقد بين تعالى في موضع آخر أنهم يدفعون إليها دفعا في قوله تعالى * (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) *. قوله تعالى: * (هاذا يوم لا ينطقون) *. نص على أنهم لا ينطقون في ذلك اليوم مع أنهم ينطقون ويجيبون على ما يسألون، كما في قوله تعالى: * (وقفوهم إنهم مسئولون) *. وقوله: * (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على هذه المسألة في سورة النمل عند قوله تعالى: * (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون) *. وبين وجه الجمع بالإحالة على دفع إيهام الاضطراب عند سورة المرسلات هذه، وأن ذلك في منازل وحالات. قوله تعالى: * (كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون) *. فيه النص على أن عملهم في الدنيا سبب في تمتعهم بنعيم الجنة في الآخرة، ومثله قوله تعالى: * (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) *.
403 وجاء في الحديث: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)، ولا معارضة بين النصين، إذ الدخول بفضل من الله وبعد الدخول يكون التوارث وتكون الدرجات ويكون التمتع بسبب الأعمال. فكلهم يشتركون في التفضل من الله عليهم بدخول الجنة، ولكنهم بعد الدخول يتفاوتون في الدرجات بسبب الأعمال. قوله تعالى: * (إنا كذلك نجزى المحسنين) *. في الآية التي قبلها قال تعالى: * (بما كنتم تعملون) *. وهنا قال: * (نجزى المحسنين) *، ولم يقل نجزي العاملين، مما يشعر بأن الجزاء إنما هو على الإحسان في العمل لا مجرد العمل فقط، وتقدم أن الغاية من التكليف، إنما هي الإحسان في العمل * (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير الذى خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك في سورة الكهف عند قوله تعالى: * (إنا جعلنا ما على الا رض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) *. قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) *. هذه الآية الكريمة من آيات الاستدلال على أن الكفار مؤاخذون بترك الفروع، وتقدم التنبيه على ذلك مرارا، والمهم هنا أن أكثر ما يأتي ذكره من الفروع هي الصلاة مما يؤكد أنها هي بحق عماد الدين. قوله تعالى: * (فبأى حديث بعده يؤمنون) *. أي بعد هذا القرآن الكريم لما فيه من آيات ودلائل ومواعظ كقوله تعالى: * (فبأى حديث بعد الله وءاياته يؤمنون) *. وقد بين تعالى أنه نزله أحسن الحديث هدى في قوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشآء) *. وذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم إلى أبي هريرة يرويه: إذا قرأ * (والمرسلات عرفا) * فقرأ * (فبأى حديث بعده يؤمنون) * فليقل: آمنت بالله وبما أنزل.
404 وذكر في سورة القيامة عن أبي داود وأحمد عدة أحاديث بعدة طرق أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ في سورة الإنسان * (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) * قال: سبحانك اللهم فبلى، وإذا قرأ سورة (والتين) فانتهى إلى قوله: * (أليس الله بأحكم الحاكمين) * فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين). ومن قرأ * (والمرسلات) *، فبلغ * (فبأى حديث بعده يؤمنون) * فليقل: آمنا بالله ا ه. وإنا نقول: آمنا بالله كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
405 ((سورة النبأ)) * (عم يتسآءلون * عن النبإ العظيم * الذى هم فيه مختلفون * كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون * ألم نجعل الا رض مهادا * والجبال أوتادا * وخلقناكم أزواجا * وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا اليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا * وبنينا فوقكم سبعا شدادا * وجعلنا سراجا وهاجا * وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات ألفافا * إن يوم الفصل كان ميقاتا * يوم ينفخ فى الصور فتأتون أفواجا * وفتحت السمآء فكانت أبوابا * وسيرت الجبال فكانت سرابا * إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مأابا * لابثين فيهآ أحقابا * لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا * جزآء وفاقا * إنهم كانوا لا يرجون حسابا * وكذبوا بأاياتنا كذابا * وكل شىء أحصيناه كتابا * فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا * إن للمتقين مفازا * حدآئق وأعنابا * وكواعب أترابا * وكأسا دهاقا * لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا * جزآء من ربك عطآء حسابا * رب السماوات والا رض وما بينهما الرحمان لا يملكون منه خطابا * يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا * ذلك اليوم الحق فمن شآء اتخذ إلى ربه مأابا * إنآ أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتنى كنت ترابا) * * (عم يتسآءلون * عن النبإ العظيم * الذى هم فيه مختلفون * كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون) *. عم أصله عن ما أدغمت النون في الميم، ثم حذف ألف الميم، لدخول حرف الجر عليه للفرق بين ما الاستفهامية وما الموصولة. والمعنى: عن أي شيء يتساءلون، وقد يفصل حرف الجر عن ما، فلا يحذف الألف. وأنشد الزمخشري قول حسان رضي الله عنه: وأنشد الزمخشري قول حسان رضي الله عنه: * على ما قام يشتمني لئيم * كخنزير تمرغ في رماد * وقال في الكشاف: وعن ابن كثير أنه قرأ عمه، بهاء السكت، ثم وجهها بقوله: إما أن يجرى الوصل مجرى الوقف، وإما أن يقف ويبتدىء يتساءلون عن النبأ العظيم، على أن يضمر يتساءلون، لأن ما بعده يفسره. وقال القرطبي: قوله: عن النبأ العظيم: ليس متعلقا بيتساءلون المذكور في التلاوة، ولكن يقدر فعل آخر عم يتساءلون عن النبأ العظيم، وإلا لأعيد الاستفهام أعن النبأ العظيم؟ وعلى كل، فإن ما تساءلوا عنه أبهم أولا، ثم بين بعده بأنهم يتساءلون عن النبأ العظيم، ولكن بقي بيان هذا النبأ العظيم ما هو؟ فقيل: هو الرسول صلى الله عليه وسلم في بعثته لهم. وقيل: في القرآن الذي أنزل عليه يدعوهم به. وقيل في البعث بعد الموت.
406 وقد رجح ابن جرير: احتمال الجميع وألا تعارض بينها. والواقع أنها كلها متلازمة، لأن من كذب بواحد منها كذب بها كلها، ومن صدق بواحد منها صدق بها كلها، ومن اختلف في واحد منها لا شك أنه يختلف فيها كلها. ولكن السياق في النبأ وهو مفرد. فما المراد به هنا بالذات؟ قال ابن كثير والقرطبي: من قال إنه القرآن: قال بدليل قوله: * (قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون) *. ومن قال: إنه البعث قال بدليل الآتي بعدها: * (إن يوم الفصل كان ميقاتا) *. والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن أظهرها دليلا هو يوم القيامة والبعث، لأنه جاء بعده بدلائل وبراهين البعث كلها، وعقبها بالنص على يوم الفصل صراحة، أما براهين البعث فهي معلومة أربعة: خلق الأرض والسماوات، وإحياء الأرض بالنبات، ونشأة الإنسان من العدم، وإحياء الموتى بالفعل في الدنيا لمعاينتها وكلها موجودة هنا. أما خلق الأرض والسماوات، فنبه عليه بقوله: * (ألم نجعل الا رض مهادا * والجبال أوتادا) *، وقوله: * (وبنينا فوقكم سبعا شدادا * وجعلنا سراجا وهاجا) * فكلها آيات كونية دالة على قدرته تعالى كما قال: * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس) *. وأما إحياء الأرض بالنبات ففي قوله تعالى: * (وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات ألفافا) * كما قال تعالى: * (ومن ءاياته أنك ترى الا رض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحى الموتى) *. وأما نشأة الإنسان من العدم، ففي قوله تعالى: * (وخلقناكم أزواجا) * أي أصنافا، كما قال تعالى: * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) *. وأما إحياء الموتى في الدنيا بالفعل، ففي قوله تعالى: * (وجعلنا نومكم سباتا) *
407 والسبات: الانقطاع عن الحركة. وقيل: هو الموت، فهو ميتة صغرى، وقد سماه الله وفاة في قوله تعالى: * (الله يتوفى الا نفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها) *، وقوله تعالى: * (وهو الذى يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه) *، وهذا كقتيل بني إسرائيل وطيور إبراهيم، فهذه آيات البعث ذكرت كلها مجملة. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه إيرادها مفصلة في أكثر من موضع، ولذا عقبها تعالى بقوله: * (إن يوم الفصل كان ميقاتا) * أي للبعث الذي هم فيه مختلفون، يكون السياق مرجحا للمراد بالنبأ هنا. ويؤكد ذلك أيضا، كثرة إنكارهم وشدة اختلافهم في البعث أكثر منهم في البعثة، وفي القرآن، فقد أقر أكثرهم ببلاغة القرآن، وأنه ليس سحرا ولا شعرا، كما أقروا جميعا بصدقه عليه السلام وأمانته، ولكن شدة اختلافهم في البعث كما في أول سورة ص و ق، ففي ص قال تعالى: * (وعجبوا أن جآءهم م نذر منهم وقال الكافرون هاذا ساحر كذاب * أجعل الا لهة إلاها واحدا إن هاذا لشىء عجاب) *. وفي ق قال تعالى: * (بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال الكافرون هاذا شىء عجيب * أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) *، فهم أشد استبعادا للبعث مما قبله، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون) *. لم يبين هنا هل علموا أم لا. ولكن ذكر آيات القدرة الباهرة على إحيائهم بعد الموت بمثابة إعلامهم بما اختلفوا فيه، لأنه بمنزلة من يقول لهم: إن كنتم مختلفين في إثبات البعث ونفيه، فهذه هي آياته ودلائله فاعتبروا بها وقايسوه عليها، والقادر على إيجاد تلك، قادر على إيجاد نظيرها. ولكن العلم الحقيقي بالمعاينة لم يأت بعد لوجود السين وهي للمستقبل، وقد جاء في سورة التكاثر في قوله: * (ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين) *، وهذا الذي سيعلمونه يوم الفصل المنصوص عليه
408 في السياق، * (إن يوم الفصل كان ميقاتا) *. * (ألم نجعل الا رض مهادا) *. قرىء بالإفراد، مهدا أي كالمهد للطفل، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك عند قوله تعالى: * (الذى جعل لكم الا رض مهدا وسلك لكم فيها سبلا) *. قوله تعالى: * (وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا اليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان هذه الثلاثة، كون النوم سباتا: راحة أو موتا، والليل لباسا، ساترا ومريحا، والنهار معاشا لطلب المعاش، وذلك عند كلامه على قوله تعالى من سورة الفرقان: * (وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا) * وكلها آيات دالات على القدرة على البعث، كما تقدمت الإشارة إليه. قوله تعالى: * (وبنينا فوقكم سبعا شدادا) *. أي السماوات السبع، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك عند قوله تعالى في سورة ق * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) * وساق النصوص مماثلة هناك. * (يوم ينفخ فى الصور فتأتون أفواجا) *. النفخ في الصور للبعث، وهذا معلوم، وتأتون أفواجا: قد بين حال هذا المجيء مثل قوله تعالى: * (يخرجون من الا جداث سراعا) * وقوله: * (كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع) * والأفواج هنا قيل: الأمم المختلفة كقوله: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمينه) *، ولكن الآية بتاء الخطاب: فتأتون مما يشعر بأن الأفواج في هذه الأمة. وقد روى القرطبي وغيره أثرا عن معاذ، أنه سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معاذ، سألت عن أمر عظيم من الأمور، ثم أرسل عينيه وقال: تحشر عشرة أصناف من أمتي) وساقها، وكذلك ساقها الزمخشري، وقال ابن حجر في الكافي الشافي في تخريج
409 أحاديث الكشاف: أخرجه الثعلبي وابن مردويه من رواية محمد بن زهير، عن محمد بن الهندي عن حنظلة السدوسي عن أبيه عن البراء بن عازب عنه بطوله وهي: بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عميا، وبعضهم صما، بكما، وبعضهم يمضغون ألسنتهم، فهي مدلات على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جلبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم. أما الذين على صورة الخنازير: فأهل السحت، والمنكسون: أكلة الربا، والعمى: الجائرون في الحكم، والصم: المعجبون بأعمالهم، والذين يمضغون ألسنتهم: العلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم، ومقطوع الأيدي: مؤذوا الجيران، والمصلبون: السعاة بالناس إلى السلطان، والذين أشد نتنا: متبعوا الشهوات، ومانعوا حق الله في أموالهم، ولابسوا الجلباب: أهل الكبر والفخر. انتهى بإيجاز بالعبارة، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: * (وسيرت الجبال فكانت سرابا) *. تقدم بيان أحوالها يوم القيامة، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك مفصلا. عند قوله تعالى من سورة طاه: * (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا) * وعند قوله تعالى في سورة النمل: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب) *. * (لابثين فيهآ أحقابا * لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا حميما وغساقا) *. لم يبين الأحقاب هنا كم عددها، وهذه مسألة فناء النار، وعدم فنائها. وقيل: المراد بالأحقاب هنا جزء من الزمن لا كله، وهي الأحقاب الموصوف حالهم فيها لما بعدهم من كونهم لا يذوقون فيها، أي في النار أحقابا من الزمن، لا يذوقون بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا. أما بقية الأحقاب فيقال لهم: فلن نزيد إلا عذابا، وهذه المسألة قد بحثها الشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه في كتاب دفع إيهام الاضطراب، عند الكلام
410 على هذه الآية، وفي سورة الأنعام على قوله تعالى: * (قال النار مثواكم خالدين فيهآ إلا ما شآء الله) *، وهو بحث مطول، وسيطبع الكتاب بإذن الله تعالى مع هذه التتمة. وذكر القرطبي في معنى الحقب: آثارا عديدة منها: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا الحقب: بضع وثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة مما تعدون. فلا يتكلن أحدكم على أنه يخرج من النار). ذكره الثعلبي. وقد رجح القرطبي دوامهم، أي الكفار في النار أبد الآبدين. ا ه. قوله تعالى: * (وكل شىء أحصيناه كتابا) *. قيل المراد بالشيء هنا: أعمال العباد، أي أنه بعد قوله: * (جزآء وفاقا) * أي وفق أعمالهم بدون زيادة ولا نقص، قال: وقد أحصينا أعمالهم وكتبناها، وهذا كقوله تعالى: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) *. وقوله: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) *، وقوله: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *، وقوله: * (أحصاه الله ونسوه) *. واللفظ عام في كل شيء، ويشهد له قوله تعالى: * (إنا كل شىء خلقناه بقدر) * وبقدر فيه معنى الإحصاء، وفي السنة: حديث القلم المشهور، وكقوله: * (وكل شىء أحصيناه فى إمام مبين) * وتقدم في سورة الجن قوله تعالى: * (وأحاط بما لديهم وأحصى كل شىء عددا) *. وهذه الآية أعظم الدلالات على قدرته تعالى وسعة علمه، وألا يفوته شيء قط، وأنه يعلم بالجزئيات علمه بالكليات. وكما تقدم في سورة المجادلة * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما
411 عملوا يوم القيامة إن الله بكل شىء عليم) *. وكذلك التفصيل في قوله: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو ويعلم ما فى البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة فى ظلمات الا رض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين) *. قوله تعالى: * (إن للمتقين مفازا) *. بينه بعده بقوله تعالى: * (حدآئق وأعنابا) * إلى قوله * (جزآء من ربك عطآء حسابا) *. * (عطآء حسابا) *. في حق الكفار، قال: جزاء وفاقا، وفي حق المؤمنين، قال عطاء حسابا. ففي الأول بيان أن مجازاتهم وفق أعمالهم ولا يظلم ربك أحدا. وفي الثاني بيان بأن هذا النعيم عطاء من الله وتفضل عليهم به من الأصل، وهو المفاز المفسر في قوله تعالى: * (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) *. ودخول الجنة ابتداء عطاء من الله كما في حديث: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله)، وقوله: حسابا: إشعار بأن تفاوت أهل الجنة في الجنة بالحساب ونتائج الأعمال. وقيل حسابا: بمعنى كفاية، حتى يقول كل واحد منهم: حسبي حسبي. أي كافيني. قول تعالى: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه، عند الكلام على قوله تعالى من سورة الكهف: * (وعرضوا على ربك صفا) *. وقد ذكر ابن كثير لمعنى الروح هنا سبعة أقوال هي: أرواح بني آدم، أو بنو آدم أنفسهم، أو خلق من خلق الله على صور بني آدم ليسوا بملائكة ولا بشر، ويأكلون
412 ويشربون، أو جبريل أو القرآن، أو ملك عظيم بقدر جميع المخلوقات. ونقلها الزمخشري وحكاها القرطبي، وزاد: ثامنا وهم حفظة على الملائكة، وتوقف ابن جرير في ترجيح واحد منها. والذي يشهد له القرآن بمثل هذا النص أنه جبريل عليه السلام، كما في قوله تعالى: * (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) *، ففيه عطف الملائكة على الروح من باب عطف العام على الخاص، وفي سورة القدر عطف الخاص على العام. والله تعالى أعلم. * (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان) *. قال الزمخشري: لشدة هول الموقف، وهؤلاء وهم أكرم الخلق على الله وأقربهم إلى الله، لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان، فغيرهم من الخلق من باب أولى. وقال ابن كثير: هو مثل قوله تعالى: * (يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه) * ومثله قوله تعالى: * (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه) *. والواقع أن هذا كله مما يدل على أن ذلك اليوم لا سلطة ولا سلطان لأحد فقط، حتى ولا بكلمة إلا ما أذن فيها، كما قال تعالى: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) *. * (ذلك اليوم الحق) *. هو يوم القيامة لاسم الإشارة، وقد أشير إليه بالاسم الخاص بالبعيد ذلك بدلا من هذا، مع قرب التكلم عليه، ولكن إما لبعده زمانيا عن زمن التحدث عنه، وإما لبعد منزلته وعظم شأنه، كقوله تعالى: * (ألم ذالك الكتاب) *، وفي هذا عود على بدء في أول السورة، وهو إذا كانوا يتساءلون مستغربين أو منكرين ليوم القيامة، فإنهم سيعلمون حقا، وها هو اليوم الحق لا لبس فيه ولا شك ليرونه عين اليقين. * (فمن شآء اتخذ إلى ربه مأابا) *. المآب: المرجع، كما تقدم مثله * (فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا) *، فإذا كان هذا اليوم كائنا حقا، والناس فيه إما إلى جهنم، كانت
413 مرصادا للطاغين مآبا، وإما مفازا حدائق وأعنابا، فبعد هذا البيان، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، يؤب به عند ربه مآبا يرضاه لنفسه، ومن شاء هنا نص في التخيير، ولكن المقام ليس مقام تخيير، وإنما هو بمثابة قوله تعالى: * (فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا) *. فهو إلى التهديد أقرب، كما أن فيه اعتبار مشيئة العبد فيما يسلك، والله تعالى أعلم. ويدل على التهديد ما جاء بعده. * (إنآ أنذرناكم عذابا قريبا) *. وقوله: * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) *، وهذا كله تحذير شديد، وحث أكيد على السعي الحثيث لفعل الخير، وطلب النجاة في اليوم الحق، نسأل الله السلامة والعافية. * (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) *. قد بين تعالى نتيجة هذا النظر إما المسرة به وإما الفزع منه، كما في قوله: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد) *.
414 ((سورة النازعات)) * (والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا * يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة * أبصارها خاشعة * يقولون أءنا لمردودون فى الحافرة * أءذا كنا عظاما نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة * فإنما هى زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة * هل أتاك حديث موسى * إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى * اذهب إلى فرعون إنه طغى * فقل هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى * فأراه الا ية الكبرى * فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الا على * فأخذه الله نكال الا خرة والا ولى * إن فى ذلك لعبرة لمن يخشى * أءنتم أشد خلقا أم السمآء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والا رض بعد ذلك دحاها * أخرج منها مآءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولانعامكم * فإذا جآءت الطآمة الكبرى * يوم يتذكر الإنسان ما سعى * وبرزت الجحيم لمن يرى * فأما من طغى * وءاثر الحيواة الدنيا * فإن الجحيم هى المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هى المأوى * يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاهآ * إنمآ أنت منذر من يخشاها * كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) * * (والنازعات غرقا) *. الواو للقسم، والمقسم به محذوف، ذكرت صفاته في كل المذكورات، إلى قوله: * (فالمدبرات أمرا) *. وقد اختلف في المقسم به فيها كلها، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله. والنازعات: جمع نازعة، والنزع: جذب الشيء بقوة من مقره، كنزع القوس عن كبده، ويستعمل في المحسوس والمعنوي، فمن الأول نزع القوس كما قدمنا، ومنه قوله: ونزع يده، وقوله: * (تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) * وينزع عنهما لباسهما، ومن المعنوي قوله تعالى: * (ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا) *، وقوله: * (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول) *، والحديث: لعله نزعه عرق. والإغراق المبالغة، والاستغراق: الاستيعاب. أما المراد بالنازعات غرقا هنا، فقد اختلف فيه إلى حوالي عشرة أقوال منها: أنها الملائكة تنزع الأرواح، والنجوم تنتقل من مكان إلى مكان آخر، والأقواس تنزع السهام، والغزاة ينزعون على الأقواس، والغزاة ينزعون من دار الإسلام إلى دار الحرب للقتال، والوحوش تنزع إلى الطلا، أي الحيوان الوحشي. والناشطات: قيل أصل الكلمة: النشاط والخفة، والأنشوطة: العقدة سهلة الحل، ونشطه بمعنى ربطه، وأنشطه حله بسرعة وخفة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (كأنما أنشط من عقال). أما المراد به هنا فقد اختلف فيه على النحو المتقدم تقريبا، فقيل: الملائكة تنشط
415 الأرواح، وقيل: أرواح المؤمنين تنشط عند الفزع، ولم يرجح ابن جرير معنى منها، وقال: كلها محتملة، وحكاها غيره كلها. وقد ذكر في الجلالين المعنى الأول منها فقط، والذي يشهد له السياق والنصوص الأخرى: أن كلا من النازعات والناشطات: هم الملائكة، وهو ما روي عن ابن عباس ومجاهد، وهي صفات لها في قبض الأرواح. ودلالة السياق على هذا المعنى: هو أنهما وصفان متقابلان: الأول نزع بشدة، والآخر نشاط بخفة، فيكون النزع غرقا لأرواح الكفار، والنشط بخفة لأرواح المؤمنين، وقد جاء ذلك مفسرا في قوله تعالى في حق نزع أوراح الكفار * (ولو ترى إذ الظالمون فى غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون) *. وقوله تعالى: * (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق) *، وقال تعالى في حق المؤمنين: * (ياأيتها النفس المطمئنة * ارجعى إلى ربك راضية مرضية) *، وقوله: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون) *. وهذا يتناسب كل المناسبة مع آخر السورة التي قبلها إذ جاء فيها: * (إنآ أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) *، ونظر المرء ما قدمت يداه يبدأ من حالة النزع حينما يثقل اللسان عن النطق في حالة الحشرجة، حين لا تقبل التوبة عند العاينة لما سيؤول إليه، فينظر حينئذ ما قدمت يداه، وهذا عند نزع الروح أو نشطها، والله تعالى أعلم. * (والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا) *. قيل: السابحات النجوم. وقيل: الشمس والقمر والليل والنهار، والسحاب والسفن والحيتان في البحار، والخيل في الميدان. وذكرها كلها أيضا ابن جرير ولم يرجح. وقال: كلها محتملة، وذكرها غيره كذلك. والواقع، فإنها كلها آيات عظام تدل على قدرته تعالى، إلا أن السياق في أمر
416 البحث والمعاد، وأقرب ما يكون إليه الآيات الكونية: الشمس والقمر والنجوم، وقد وصف الله الشمس والقمر بالسابحات في قوله تعالى: * (لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون) * والسابقات من النجوم، السيارة. * (فالمدبرات أمرا) *. اتفق المفسرون على أنها الملائكة، وذكر الفخر الرازي رأيا له بعيدا، وهو أنها الأرواح، وأنها قد تدبر أمر الإنسان في المنامات، وهو قول لا يعول عليه كما ترى. والذي يشهد له النص أنها الملائكة، كما في قوله تعالى: * (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) * وكما وصف الله الملائكة بقوله: * (لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) *. * (يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة) *. هما النفختان في الصور، الراجفة هي الأولى، والرادفة هي الثانية، كما في قوله تعالى: * (ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن فى الا رض إلا من شآء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة يس عند قوله تعالى: * (ونفخ فى الصور فإذا هم من الا جداث إلى ربهم ينسلون) *، وسميت الأولى الراجفة، لما يأخذ العالم كله من شدة الرجفة، كما في قوله تعالى: * (وحملت الا رض والجبال فدكتا دكة واحدة) *، وقوله: * (فصعق من فى السماوات ومن فى الا رض) *. وذكر ابن كثير عن الإمام أحمد رحمه الله بسنده: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاءت الرجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه. فقال رجل: يا رسول الله: أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: إذا يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك) وسنده قال أحمد: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن أبي الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث)
417 . * (يقولون أءنا لمردودون فى الحافرة) *. قال ابن كثير: يستنكر المشركون البعث بعد الموت، والحافرة: الحياة بعد موتهم ومصيرهم إلى القبور. ونقل أن الحافرة النار، وأكثر المفسرين على أنها الحياة الأولى: يقال: عاد في حافرته رجع في طريقه، كأن محياه الأول حفر طريقه بمشيه فيها، وعليه لا علاقة له بحفرة القبر، وإنما هو تعبير عربي عن العودة في الأمر، ويشهد له قول الشاعر: ونقل أن الحافرة النار، وأكثر المفسرين على أنها الحياة الأولى: يقال: عاد في حافرته رجع في طريقه، كأن محياه الأول حفر طريقه بمشيه فيها، وعليه لا علاقة له بحفرة القبر، وإنما هو تعبير عربي عن العودة في الأمر، ويشهد له قول الشاعر: * أحافرة على صلع وشيب * معاذ الله من صلع وعار * أي أرجع إلى الصبا بعد الصلع والشيب. وقول الآخر: وقول الآخر: * أقدم أخا نهم على الأساوره * ولا يهولنك رؤوس نادره * * فإنما قصرك ترب الساهره * حتى تعود بعدها في الحافره * * من بعد ما صرت عظاما ناخره وقد دلت الآية بعدها، إلى أن المراد بالحافرة العودة إلى الحياة مرة أخرى، في قوله: * (قالوا تلك إذا كرة خاسرة) *. والكرة: هي العودة إلى الحياة الأولى، وهي ما قبل حفرة القبر من تكرار الحياة السابقة. والله تعالى أعلم. * (أءذا كنا عظاما نخرة) *. العظام النخرة البالية، والتي تخللها الريح، كما في قول الشاعر: أءذا كنا عظاما نخرة) *. العظام النخرة البالية، والتي تخللها الريح، كما في قول الشاعر: * وأخليتها من مخها فكأنها * قوارير في أجوافها الريح تنخر * ونخرة الريح شدة صوتها، ومنه المنخر، لأخذ الهواء منه، ويدل لهذا قوله تعالى: * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم) *. * (هل أتاك حديث موسى) *.
418 بين تعالى هذا الحديث وموضوعه ومكانه بقوله تعالى بعده: * (إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى) * إلى قوله * (فقال أنا ربكم الا على) *. * (ناداه ربه بالواد المقدس) * بين القرآن الكريم، أنه الطور في قوله تعالى: * (فلما قضى موسى الا جل وسار بأهله ءانس من جانب الطور نارا) * إلى قوله * (فلمآ أتاها نودى من شاطىء الوادى الأيمن فى البقعة المباركة) * المباركة تساوي المقدس. فبين تعالى أن المناداة كانت بالطور وهو الواد المقدس، وهو طوى، وفي البقعة المباركة. وقد بين تعالى ما كان في ذلك المكان من مناجاة وأمر العصا والآيات الأخرى في سورة طه من أول قوله تعالى: * (وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا) * إلى قوله * (اذهب إلى فرعون) *. وقد فصل الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه القول في ذلك الموقف في سورة مريم عند قوله تعالى: * (وناديناه من جانب الطور الا يمن) *. وقد بين تعالى في سورة طه، كامل قصة المناداة من قوله: * (إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إننى أنا الله لا إلاه إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلواة لذكرى إن الساعة ءاتية) *. ثم قصة العصا والآية في يده عليه السلام، وإرساله إلى فرعون إنه طغى، وسؤال موسى: * (رب اشرح لى صدرى ويسر لى أمرى) *، واستوزار أخيه معه، دون التعرض إلى أسلوب الدعوة، وفي هذه السورة الكريمة بيان لمنهج الدعوة، وما ينبغي أن يكون عليه نبي الله موسى مع عدو الله فرعون. وأسلوب العرض: هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى، ثم تقديم الآية الكبرى، ودليل صحة دعواه مما يلزم كل داعية اليوم أن يقف هذا الموقف، حيث لا يوجد اليوم أكثر من فرعون، ولا أشد طغيانا منه حيث ادعى الربوبية والألوهية معا فقال: * (أنا ربكم الا على) *، وقال: * (ما علمت
419 لكم من إلاه غيرى) *، ولا يوجد اليوم أكرم على الله من نبي الله موسى وأخيه هارون. ومع ذلك فيكون منهج الدعوة من أكرم خلق الله إلى أكفر عباد الله بهذا الأسلوب الهادىء اللين الحكيم منطلقا من قوله تعالى: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * فكانا كما أمرهما الله، وقالا كما علمهما الله، * (هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى) *، وهذا المنهج هو تحقيق لقوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) *. وقد وضع القرآن منهجا متكاملا للدعوة إلى الله، وفصله العلماء بما يشترط في الداعي والمدعو إليه، ومراعاة حال المدعو. وقد قدم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه. * (ياأيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) * من سورة المائدة. وقوله تعالى: * (ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه) * في سورة هود. وقوله تعالى: * (وجادلهم بالتى هى أحسن) * في سورة النحل. ومجموع ذلك كله يشكل منهجا كاملا لمادة طريق الدعوة إلى الله تعالى، فيما يتعلق بالداعي والمدعو وما يدعو إليه، وكيفية ذلك والحمد لله. * (فأراه الا ية الكبرى * فكذب وعصى) *. ذكر هنا الآية الكبرى فقط، وذكر تعالى منها أن فرعون جمع بين التكذيب والعصيان، وتقدم في سورة القمر قوله: * (ولقد جآء ءال فرعون النذر * كذبوا بأاياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك هناك. * (فأخذه الله نكال الا خرة والا ولى) *. النكال: هو اسم لما جعل نكالا للغير، أي عقوبة له حتى يعتبر به، والكلمة من
420 الامتناع، ومنه النكول عن اليمين، والنكل القيد. قاله القرطبي. واختلف في الآخرة والأولى: أهم الدنيا والآخرة؟ أم هم الكلمتان العظيمتان اللتان تكلم بهما فرعون في قوله: * (ما علمت لكم من إلاه غيرى) *. والثانية قوله: * (أنا ربكم الا على) *. قال ابن عباس: وكان بينهما أربعون سنة. وقد اختار ابن كثير الأول، واختار ابن جرير الثاني، ومعه كثير من المفسرين. ولكن يرد على اختيار ابن كثير: أن السياق قدم الآخرة، مع أن تعذيب فرعون مقدم فيه نكال الأولى، وهي الدنيا. كما يرد على اختيار ابن جرير، أن الله تعالى جعل أخذه إياه نكالا، ليعتبر به من يخشى، والعبرة تكون أشد بالمحسوس، وكلمتاه قيلتا في زمنه. والقرآن يشهد لما قاله ابن كثير، في قوله تعالى: * (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية) *، وهذا هو محل الاعتبار. وقد قال تعالى بعد الآية: * (إن فى ذلك لعبرة لمن يخشى) *. واسم الإشارة في قوله: إن في ذلك: راجع إلى الأخذ والنكال المذكورين، أي المصدر المفهوم ضمنا في قوله تعالى: * (فأخذه الله) * وقوله: نكال، بل إن نكال مصدر بنفسه، أي فأخذه الله ونكل به، وجعل نكاله به عبرة لمن يخشى. قوله تعالى: * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء بناها) *. لما كان فرعون على تلك المثابة من الطغيان والكفر، وكان من أسباب طغيانه الملك والقوة، كما في قوله تعالى: * (وفرعون ذى الا وتاد) *، وقوله: * (إن فرعون علا فى الا رض) *، وقوله عنه: * (أليس لى ملك مصر وهاذه الا نهار تجرى من تحتى) *. وهذه كلها مظاهر طغيانه وعوامل قوته، خاطبهم الله بما آل إليه هذا الطغيان، ثم خاطبهم في أنفسهم محذرا من طغيان القوة * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء) *، حتى لو
421 ادعيتم أنكم أشد قوة من فرعون، الذي أخذه الله نكال الآخرة والأولى، فهل أنتم أشد خلقا أم السماء؟ وقد جاء الجواب مصرحا بأن السماء أشد خلقا منهم في قوله تعالى: * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس ولاكن أكثر الناس لا يعلمون) *. وبين ضعف الإنسان في قوله في نفس المعنى * (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ إنا خلقناهم من طين لازب) *. وفي هذا بيان على قدرته تعالى على بعثهم بعد إماتتهم وصيرورتهم عظاما نخرة. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، شي من ذلك عند آية الصافات * (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ) *. قوله تعالى: * (بناها رفع سمكها فسواها) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك. في سورة ق عند قوله تعالى: * (أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها) *. قوله تعالى: * (والا رض بعد ذلك دحاها * أخرج منها مآءها ومرعاها * والجبال أرساها) *. في هذه الآية الكريمة وصف الأرض بأن الله تعالى: دحاها، وجاء في آية أخرى أنه طحاها بالطاء، وجاء في آية أخرى أنه بسطها، وهي قوله تعالى: * (وإلى الا رض كيف سطحت) *. وقد اختلف في تفسير قوله: دحاها، فقال ابن كثير: تفسيره ما بعده * (أخرج منها مآءها ومرعاها * والجبال أرساها) * وهذا قول ابن جرير عن ابن عباس. وقال القرطبي: دحاها أي بسطها. والعرب تقول: دحا الشيء إذا بسطه. وقال أبو حيان: دحاها بسطها ومهدها للسكنى والاستقرار عليها: ثم فسر ذلك التمهيد بما لا بد منه من إخراج الماء والمرعى، وإرسائها بالجبال.
422 ومما ذكر يتأتى السكنى والمعيشة حتى الملح والمأكل والمشرب، وهذا هو كلام الزمخشري بعينه. وقال الفخر الرازي: دحاها بسطها، فترى أن جميع المفسرين تقريبا متفقون على أن دحاها بمعنى بسطها. وقول ابن جرير وابن كثير: إن دحاها فسر بما بعده لا يتعارض مع البسط والتمهيد، كما قال أبو حيان: إنه ذكر لوازم التسكن إلى المعيشة عليها من إخراج مائها ومرعاها لأن بهما قوام الحياة. ومما يستأنس به أن الدحو معروف بمعنى البسط، قول ابن الرومي: ومما يستأنس به أن الدحو معروف بمعنى البسط، قول ابن الرومي: * ما أنس لا أنس خبازا مررت به * يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر * * ما بين رؤيتها في كفه كرة * وبين رؤيتها قوراء كالقمر * * إلا بمقدار ما تنداح دائرة * في صفحة الماء ترمي فيه بالحجر * وقد أثير حول هذه الآية مبحث شكل الأرض أمبسوطة هي أم كروية مستديرة؟ وإذا رجعنا إلى أمهات كتب اللغة نجد الآتي: أولا: في مفردات الراغب: قال دحاها، أزالها من موضعها ومقرها. ومنه قولهم: دحا المطر الحصى من وجه الأرض أي جرفها، ومر الفرس يدحو دحوا: إذا جر يده على وجه الأرض فيدحو ترابها. ومنه أدحى النعام، وقال: الطحو كالدحو، وهو بسط الشيء والذهاب به والأرض وما طحاها، وأنشد قول الشاعر: * طحا بك قلب في الحسان طروب أي ذهب بك. وفي معجم مقاييس اللغة، مادة دحو: الدال والحاء والواو أصل واحد بدل على بسط وتمهيد. يقال: دحى الله الأرض يدحوها دحوا إذا بسطها. ويقال: دحا المطر: الحصا
423 عن وجه الأرض، وهذا لأنه إذا كان كذلك فقد مهد الأرض. ويقال للفرس، إذا رمى بيده رميا لا يرفع سنبكه عن الأرض كثيرا: مر يدحو دحوا، ومن الباب أدحى النعام الموضع الذي يفرخ فيه أفعول من دحوت، لأنه يدحوه برجله ثم يبيض فيه، وليس للنعامة عش. وفي لسان العرب مادة دحا، والدحو: البسط، دحى الأرض يدحوها دحوا: بسطها. وقال الفراء في قوله عز وجل: * (والا رض بعد ذلك دحاها) *، قال بسطها، وذكر الأدحى مبيض النعام في الرمل، لأن النعامة تدحوه برجلها، ثم تبيض فيه. وذكر حديث ابن عمر: (فدحا السيل فيه بالبطحاء)، أي رمى وألقى. قال: وسئل ابن المسيب عن الدحو بالحجارة، فقال: لا بأس به، أي المراماة بها والمسابقة. وعن ابن الأعرابي: هو يدحو بالحجر، أي يرمي به ويدفعه، والداحي: الذي يدحو الحجر بيده، وأنشد لأوس بن حجر بمعنى ينزع قوله: وعن ابن الأعرابي: هو يدحو بالحجر، أي يرمي به ويدفعه، والداحي: الذي يدحو الحجر بيده، وأنشد لأوس بن حجر بمعنى ينزع قوله: * ينزع جلد الحصا أحسين مبترك * كأنه فاحص أو لاعب داح؟ * وفي حديث أبي رافع: (كنت ألاعب الحسن والحسين رضوان الله عليهما بالمداحي)، هي أحجار أمثال القرصة، كانوا يحفرون حفرة يدحون فيها بتلك الحجارة، فإذا وقع الحجر فيها غلب صاحبها، وإن لم يقع غلب. والدحر: هو رمي اللاعب بالحجر والجوز وغيره ا ه. وما ذكره صاحب اللسان عن أبي رافع لا زال موجودا حتى الآن بالمدينة، ويسمى الدحل باللام، كما وصف تماما. وبعد إيراد أقوال أصول مراجع اللغة، وما تقدم من أقوال المفسرين. فإننا نواجه الجدل القائم بين بعض علماء الهيئة، وبعض العلماء الآخرين، في موضوع شكل الأرض، ولعلنا نوفق بفضل من الله إلى بيان الحقيقة في ذلك، حتى لا يظن ظان تعارض القرآن، وما يثبت من علوم الهيئة أو يغتر جاهل بما يقال في الإسلام.
424 وبتأمل قول المفسرين نجدها متفقة في مجموعها: بأن دحاها مهدها وسهل الحياة عليها، وذكر لوازم التمكين من الحياة عليها من إخراج الماء، والمرعى، ووضع الجبال، وهو المتفق مع نصوص القرآن في قوله: * (ألم نجعل الا رض مهادا * والجبال أوتادا) *. وقوله: * (هو الذى جعل لكم الا رض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه) *. وكل ذلك من باب واحد، وهو تمهيدها والتمكين للعيش عليها، وليس فيه معنى التكوير والاستدارة. وإذا جئنا إلى كتب اللغة نجدها كلها، تنص على أن الدحو: البسط، والرمي، والإزالة، والتمهيد، فالبسط والتمهيد والرمي بالحجر المستدير في الحفرة الصغيرة معان مشتركة؟ وكلها تفسر دحاها، بمعنى بسطها ومهدها. وأن الأدحية مبيض النعام لا بيضه، كما يقولون وسمي بذلك لأنها تدحوه بيدها لتبيض فيه، إذ لا عش لها. وعليه، فلا دليل من كتب اللغة على أن الدحو هو التكوير، ولكن ما قول العلماء في شكل الأرض، بصرف النظر عن كون القرآن تعرض له أو لم يتعرض؟ إذا رجعنا إلى كلام من نظر في علم الهيئة من المسلمين، فإنا نجدهم متفقين على أن شكل الأرض مستدير. وقبل إيراد شيء من أقوالهم ننبه على أنه لا علاقة لهذا البحث بموضوع الحركة، سواء للأرض أو غيرها، فذاك بحث مستقل، ليس هذا محله، وإنما البحث في الشكل. أما أقوال العلماء في شكل الأرض، فإن أجمع ما وقفت عليه، وأصرح وأبين، هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة الهلال، جاء فيها: قال في موضع منها قوله، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من علماء الأمة، أن الأفلاك مستديرة، قال تعالى: * (ومن ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر) * وقال: * (وهو الذى خلق اليل والنهار والشمس والقمر كل فى فلك يسبحون) * وقال تعالى: * (لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون) *.
425 قال ابن عباس: في فلكة مثل فلكة المغزل. وهكذا هو في لسان العرب: الفلك الشيء المستدير. ومنه يقال: تفلك ثدي الجارية إذا استدار. قال تعالى: * (يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل) *، والتكوير هو التدوير. ومنه قيل: كار العمامة وكورها، ولهذا يقال للأفلاك: كروية الشكل. لأن أصل الكرة كورة تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا. وقال: * (الشمس والقمر بحسبان) * مثل حسبان الرحى، وقال: * (ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت) * وهذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما، فإنه يتفاوت لأن زواياه مخالفة لقوائمه. والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي، ليس بعضه مخالفا لبعض. وجاء فيه قوله أيضا: وقال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي، من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار، في متون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد: لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب، كدورة الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين، أحدهما في الشمال، والآخر في ناحية الجنوب. قال: ويدل على ذلك أن الكواكب جميعها تدور من المشرق تقع قليلا على ترتيب واحد في حركتها ومقادير أجزائها، إلى أن تتوسط السماء، ثم تنحدر على ذلك الترتيب، فكأنها ثابتة في كرة تديرها جميعها دورا واحدا. هذه نبذة من أقوال علماء المسلمين في شكل الأفلاك، ثم قال: وهذا محل القصد بالذات، وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة. قال: ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب، لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل على المشرق قبل المغرب. قال: فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء، كالنقطة في الدائرة، يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يرى في جميع نواحي السماء، على قدر واحد، فيدل ذلك على بعد ما
426 بين السماء والأرض من جميع الجهات بقدر واحد، فاضطرار أن تكون الأرض وسط السماء ا ه. بلفظه. فهذا نقل لإجماع الأمة، من إمام جليل في علمي المعقول والمنقول، على أن الأرض على شكل الكرة، وقد ساق الأدلة الاضطرارية من حركة الأفلاك على ذلك. ومن جهة العقل أيضا يقال: إن أكمل الأجرام هو المستدير كما قال في قوله: * (ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت) *. وعليه، فلو قدر لسائر على وجه الأرض، وافترضنا الأرض مسطحة كسطح البيت أو القرطاس مثلا، لكان لهذا السائر من نهاية ينتهي إليها، وهي منتهى التسطيح أو يسقط في هاوية، وباعتبارها كرة، فإنه يكمل دورته، ويكررها ولو سار طيلة عمره لما كان لمسيره منتهى، لأنه يدور على سطحها من جميع جهاتها. والعلم عند الله تعالى. تنبيه كان من الممكن أن نقدم هذه النتيجة من أول الأمر ما دامت متفقة في النهاية مع قول علماء الهيئة، ولا نطيل النقول من هنا وهناك، ولكن قد سقنا ذلك كله لغرض أعم من هذا كله، وقضية أشمل وهي من جهتين: أولاهما: أن علماء المسلمين مدركون ما قال به علماء الهيئة، ولكن لا من طريق النقل أو دلالة خاصة على هذه الجزئية من القرآن، ولكن عن طريق النظر، والاستدلال، إذ علماء المسلمين لم يجهلوا هذه النظرية، ولم تخف عليهم هذه الحقيقة. ثانيتهما: مع علمهم بهذه الحقيقة وإدراكهم لهذه النظرية، لم يعز واحد منهم دلالتها لنصوص الكتاب أو السنة. وبناء عليه نقول: إذا لم تكن النصوص صريحة في نظرية من النظريات الحديثة، لا ينبغي أن نقحمها في مباحثها نفيا أو إثباتا، وإنما نتطلب العلم من طريقه، فعلوم الهيئة من النظر الاستدلال، وعلوم الطب من التجارب والاستقراء، وهكذا يبقى القرآن مصانا عن مجال الجدل في نظرية قابلة للثبوت والنفي، أو التغيير والتبديل، كما لا ينبغي لمن لم يعلم حقيقة أمر في فنه أن يبادر بإنكارها ما لم تكن مصادمة لنص صريح.
427 وعليه أن يتثبت أولا وقد نبهنا سابقا على ذلك في مثل ذلك في قصة نبي الله سليمان مع بلقيس والهدهد حينما جاءه، فقال: * (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين) * وقص عليه خبرها مع قومها، فلم يبادر عليه السلام بالإنكار. لكون الآتي بالخبر هدهدا، ولم يكن عنده علم به ولم يسارع أيضا بتصديقه، لأنه ليس لديه مستند عليه، بل أخذ في طريق التثبت بواسطة الطريق الذي جاءه الخبر به قال: * (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) *، وأرسله بالكتاب إليهم، فإذا كان هذا من نبي الله سليمان ولديه وسائل وإمكانيات كما تعلم. فغيره من باب أولى. تنبيه آخر إذا كان علماء الإسلام يثبتون كروية الأرض، فماذا يقولون في قوله تعالى: * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) * إلى قوله * (وإلى الا رض كيف سطحت) *. وجوابهم كجوابهم على قوله تعالى: * (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب فى عين حمئة) *، أي في نظر العين، لأن الشمس تغرب عن أمة، وتستمر في الأفق على أمة أخرى، حتى تأتي مطلعها من الشرق في صبيحة اليوم الثاني، ويكون بسط الأرض وتمهيدها، نظرا لكل إقليم وجزء منها لسعتها وعظم جرمها. وهذا لا يتنافى مع حقيقة شكلها، فقد نرى الجبل الشاهق، وإذا تسلقناه ووصلنا قمته وجدنا سطحا مستويا، ووجدنا أمة بكامل لوازمها، وقد لا يعلم بعض من فيه عن بقية العالم، وهكذا، والله تعالى أعلم. * (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) *. العشية: ما بين الزوال إلى الغروب، والضحى: ما بين طلوع الشمس إلى الزوال، وهذا تحديد بنصف نهار. وقد جاء التحديد بساعة من نهار. وجاء: * (يوما أو بعض يوم) *. وجاء: * (إن لبثتم إلا عشرا) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك عند قوله تعالى في سورة
428 يونس: * (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) *، وأحال على دفع إيهام الاضطراب عن أيات الكتاب، وسيطبع إن شاء الله مع هذه التتمة.
429 ((سورة عبس)) * (عبس وتولى * أن جآءه الا عمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جآءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة * فمن شآء ذكره * فى صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدى سفرة * كرام بررة * قتل الإنسان مآ أكفره * من أى شىء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شآء أنشره * كلا لما يقض مآ أمره * فلينظر الإنسان إلى طعامه * ثم شققنا الا رض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدآئق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولانعامكم * فإذا جآءت الصآخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه * وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولائك هم الكفرة الفجرة) * * (عبس وتولى * أن جآءه الا عمى) *. سبب نزول هذه السورة باتفاق المفسرين، أنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولا بدعوة صناديد قريش، فأتاه ابن أم مكتوم، وهو رجل أعمى وقال: (أقرئني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمني مما علمك الله) وكرر ذلك، فلم يتفق ذلك وما هو مشتغل به صلى الله عليه وسلم، وما يرجوه مما هو أعظم، فعبس وتولى عنه منصرفا، لما هو مشتغل به. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب على قوله تعالى: * (أن جآءه الا عمى) * ما نصه: عبر تعالى عن هذا الصحابي الجليل الذي هو عبد الله بن أم مكتوم، بلقب يكرهه الناس، مع أنه قال: * (ولا تنابزوا بالا لقاب) *. والجواب: هو ما نبه عليه بعض العلماء: من أن السر في التعبير عنه بلفظ الأعمى، للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار لما قطع كلامه ا ه منه بلفظه. وقال الفخر الرازي: إنه وإن كان أعمى لا يرى، فإنه يسمع وبسماعه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقدامه على مقاطعته يكون مرتكبا معصية، فكيف يعاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكلامه هذا يشعر بأنه إن كان معذورا لعدم الرؤية، فليس معذورا لإمكان سماعه، ولكن ذكره بوصفه ليوجب العطف عليه والرفق به. والظاهر والله تعالى أعلم: أن كلام الرازي ليس بعيدا عما ذكره الشيخ، لأن معناه أنه عاتبه لعدم رفقه به. ومراعاة حالة عماه. فعليه، يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: * (فإنها لا تعمى الا بصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) *،
430 فهذا كفيف البصر، ولكن وقاد البصيرة أبصر الحق وآمن، وجاء مع عماه يسعى طلبا للمزيد، وأنتم تغلقت قلوبكم وعميت بصائركم فلم تدركوا الحقيقة ولم تبصروا نور الإيمان، كما في الآية الكريمة: * (فإنها لا تعمى الا بصار ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) * والعلم عند الله تعالى. تنبيه مما اتفق عليه المحدثون: جواز ذكر مثل هذه الأوصاف إذا كانت للتعريف لا للتنقيص، فقالوا: الأعمى والأعور والأعرج. وفي الحرف قالوا: الخراز، والخرقى، ونحو ذلك، وهذا ما فيه مصلحة لترجمة الرجال في السند. ومثله: ليس تنابزا بالألقاب في هذا الفن. والله تعالى أعلم. ومثله: إذا كان للتعريف في غرض سليم دون تنقص كما قدمنا. وقوله تعالى: * (عبس وتولى) *، فإن فيه مثل ما في قوله تعالى: * (أن جآءه الا عمى) * لأن العبوسة أمر لا يتفق في الظاهر مع قوله تعالى في حقه صلى الله عليه وسلم، * (وإنك لعلى خلق عظيم) * وقوله: * (واخفض جناحك للمؤمنين) *. ولم أقف على جواب لذلك، ولم يتعرض له الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب. والذي يظهر والله تعالى أعلم، أنه لا يتأتى معه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بما يسيء إلى هذا الصحابي في نفسه بشيء يسمعه فيزعجه، كل ما كان منه صلى الله عليه وسلم إنما هو تقطيب الجبين، وهذه حركة مرئية لا مسموعة. والحال: أن هذا أعمى لا يرى تلك الحركة، فكأنه لم يلق إساءة منه صلى الله عليه وسلم. ثم إنه صلى الله عليه وسلم مطمئن له لما هو عليه من خير في دينه. كما قال في حنين: وأكل أقواما إلى ما في قلوبهم، أي لما أعطى المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار ما هو معروف في القصة، فلم يعاتبه الله على ذلك. ورضي الأنصار وبكوا فرحا ورضا. ثم إن تقطيب الجبين وانبساط أسارير الوجه لحزن أو فرح، يكاد يكون جبليا مما
431 كان منه صلى الله عليه وسلم، فهو من باب الجبلية تقريبا، كأن المثير له غرض عام من خصوص الرسالة ومهمتها. ومع ذلك فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان بعد نزولها يقول له: (مرحبا فيمن عاتبني فيه ربي)، ويكرمه، وقد استخلفه على المدينة مرتين. وعلى هذا يكون المراد بهذا أمران: الأول: التسامي بأخلاقه صلى الله عليه وسلم إلى ما لا نهاية له، إلى حد اللحظ بالعين، والتقطيب بالجبين، ولو لمن لا يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين) وذلك في صلح الحديبية. والثاني: تأديب للأمة وللدعاة خاصة، في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما علمهم في شخصيته في بر الوالدين، في قوله تعالى: * (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما) *. وهذا السياق بكامله من أول السورة إلى قوله تعالى: * (كلا إنها تذكرة * فمن شآء ذكره) *، بيان لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يراعي في الدعوة إلى الله غنيا ولا فقيرا، وأن يصبر على ضعفة المؤمنين. لأن الرسالة تبليغ وليس عليه ما وراء ذلك من مسؤولية، فلا يتكلف لهم. وقد حثه الله تعالى على الصبر مع المؤمنين، لإيمانهم في قوله تعالى: * (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحيواة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وقل الحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر) *. ومثله قوله تعالى: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شىء وما من حسابك عليهم من شىء فتطردهم فتكون من الظالمين) *. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، شيء من هذا البيان عند هذه الآية، وبين أن هذا التنبيه قد وقع من نبي الله نوح إلى قومه، حينما ازدروا ضعفة المؤمنين في
432 قوله تعالى: * (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى) * إلى قوله * (ومآ أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم ملاقو ربهم ولاكنى أراكم قوما تجهلون) *. وقد دلت هذه الآية وأمثالها، على صدق مقالة هرقل حينما سأل أبا سفيان، عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: أهم سادة القوم أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم. فقال: هكذا هم أتباع الرسل. وقال العلماء في ذلك: لأنهم أقرب إلى الفطرة، وأبعد عن السلطان والجاه، فليس لديهم حرص على منصب يضيع، ولا جاه يهدر، ويجدون في الدين عزا ورفعة، وهكذا كان بلال وصهيب وعمار، وهكذا هو ابن أم مكتوم رضي الله عنهم. * (أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى) *. بيان لموقفه صلى الله عليه وسلم من جميع الأمة، وحرصه على إسلام الجميع حتى من أعرض واستغنى، شفقة بهم ورحمة، كما بين تعالى حاله صلى الله عليه وسلم بقوله: * (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم) * وكقوله: * (فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا) *. وقوله: * (وما عليك ألا يزكى) *، بيان أنه صلى الله عليه وسلم ليس عليه ممن لا يتزكى، وقد صرح تعالى بذلك في قوله: * (إنمآ أنت منذر) * وقوله: * (إن عليك إلا البلاغ) *، وقوله: * (ليس عليك هداهم) *، ومثل ذلك. وقد جمع الأمرين من الجانبين في قوله تعالى عن نوح عليه السلام * (ومآ أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين) *. * (كلا إنها تذكرة * فمن شآء ذكره * فى صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدى سفرة * كرام بررة) *. معلوم أن كلمة: كلا: ردع عما سبق، وهو في جملته منصب على التصدي لمن استغنى؟ والإلحاح عليهم والحرص على سماعهم منه، ولكن الله تعالى يقول: إن منزلة القرآن والوحي والدين أعلى منزلة من أن تبذل لقوم هذه حالتهم فهي على ما هي عليه من
433 تكريم ورفعة وطهرة وصيانة، وما عليها من حفظة سفرة كرام بررة أحرى بأن يسعى إليها، والخير لمن أتاها يطلبها. * (فمن شآء ذكره) *، وهذا للتهديد لا للتخيير بدليل ما بعده * (قتل الإنسان مآ أكفره) *، قتل الإنسان: دعاء عليه، والإنسان: للجنس الكافر، وما أكفره: أي ما أشد كفره بها، بعد هذا كله من علو منزلتها. وقوله تعالى: * (قتل الإنسان مآ أكفره) * قيل: ما أكفره هنا، ما أفعله أي ما أشد كفره. وقال الزمخشري: هي تعجب من إفراطه في كفران نعم الله. وقيل: أي شيء حمله على التكذيب والكفر؟ وكلها محتملة. ولعل المعنى الأول أظهر لقوله قبله: قتل الإنسان، ولمجيء هذا المعنى في مواضع أخر: إن الإنسان لظلوم كفار، وكذلك فعول في قوله: * (وهو الذى أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور) *، وهكذا صفة الجاحدين لآيات الله، كما في قوله: * (وما يجحد بأاياتنآ إلا كل ختار كفور) *. ثم رد تعالى عليه ذلك برده إياه إلى أصل خلقته، ليتعظ من نفسه في قوله تعالى: * (من أى شىء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم السبيل يسره * ثم أماته فأقبره) *، لأن هذه الثلاثة مسلم بها، ورتب عليها الرابعة * (ثم إذا شآء أنشره) *. وقوله: * (من نطفة خلقه فقدره) * تقدم مرارا بيان أصل خلق الإنسان وأطواره. وقوله: * (ثم السبيل يسره) * قيل: السبيل إلى خروجه من بطن أمه، حيث أدار رأسه إلى جهة الخروج، بدلا مما كان عليه إلى أعلى، وهذا من التيسير في سبيل خروجه، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره، وهو اختيار ابن جرير. وقيل: السبيل: أي الدين في وضوحه، ويسر العمل به، كقوله تعالى: * (إنا
434 هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) *، وهو مروي عن الحسن وابن زيد، ورجحه ابن كثير. ولعل ما رجحه ابن كثير هو الأرجح، لأن تيسير الولادة أمر عام في كل حيوان، وهو مشاهد ملموس، فلا مزية للإنسان فيه على غيره، كما أن ما قبله دال عليه أو على مدلوله وهو القدرة في قوله تعالى: * (من نطفة خلقه فقدره) *. وقد يكون تيسير الولادة داخلا تحت قوله: فقدره. أي قدر تخلقه وزمن وجوده وزمن خروجه، وتقديرات جسمه وقدر حياته، وقدر مماته، كما هو معلوم. أما تيسير سبيل الدين، فهو الخاص بالإنسان. وهو المطلوب التوجه إليه. وهو الذي يتعلق بغيره ما بين تخلقه من نطفة وتقديره. وبين إماتته وإقباره. أي فترة حياته في الدنيا، أي خلقه من نطفة وقدر مجيئه إلى الدنيا. ويسر له الدين في التكاليف. ثم أماته ليرى ماذا عمل * (ثم إذا شآء أنشره) *. ولذا جاء في النهاية بقوله: كلا لما يقض ما أمره. وليس هنا ما يدل على الأمر. إلا السبيل يسره. والله تعالى أعلم. * (فلينظر الإنسان إلى طعامه * ثم شققنا الا رض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدآئق غلبا * وفاكهة وأبا) *. بعد ما بين له مم خلق، بين له هنا كيف يطعمه، وفي كليهما آية على القدرة. وقد اتفقت الآيتان على خطوات ثلاث متطابقة فيهما. فصب الماء من السماء إلى الأرض، يقابل دفق الماء في الرحم. وشق الأرض للنبات، يقابل خروجه إلى الدنيا. وإنبات أنواع النباتات، يقابل تقادير الخلق المختلفة. وفي التنصيص على أنواع النبات من حب وقضب وعنب ورمان وزيتون ونخيل وفواكه متعددة، وحدائق ملتفة، لظهور معنى المغايرة فيها، مع أنها من أصلين مشتركين: الماء من السماء. والتربة في الأرض، يسقى بماء واحد. ومرة أخرى. يقال للشيوعيين والدهريين: * (قتل الإنسان مآ أكفره * من أى شىء خلقه) *. * (أفرءيتم ما تمنون * أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون
435 * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين) *. * (أفرءيتم ما تحرثون * أءنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشآء لجعلناه حطاما) *. إنهم بلا شك لا يدعون لأنفسهم فعل شيء من ذلك. وإنهم ليعلمون أن لها خالقا مدبرا. ولكنهم يكابرون. * (وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم) *، صدق الله العظيم، وكذب كل كفار أثيم. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان خلق الإنسان في مواطن متعددة سابقة آخرها في سورة الرحمان * (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) *، وبيان طعامه في كل من سورتي الواقعة والجاثية. * (وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة) *. الإسفار: الإضاءة، وهو تهلل الوجه بالسرور، كما قال تعالى: * (ولقاهم نضرة وسرورا) *، والاستبشار من تقدم البشرى في قوله تعالى: * (تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون) *. وقوله تعالى: * (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الا نهار خالدين فيها ذلك هو) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك في سورة الحديد. وقوله تعالى: * (ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة) *، بينهم تعالى بأنهم هم الكفرة الفجرة. وتقدم بيان ذلك للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، في سورة الرحمان على الكلام على قوله تعالى: * (يعرف المجرمون بسيماهم) *. وقد جمع لهم هنا بين الكفر والفجور، وهما الكفر في الاعتقاد والفجور في الأعمال، كما في قوله تعالى: * (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) *، والعلم عند الله تعالى.
436 ((سورة التكوير)) * (إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت * وإذا العشار عطلت * وإذا الوحوش حشرت * وإذا البحار سجرت * وإذا النفوس زوجت * وإذا الموءودة سئلت * بأى ذنب قتلت * وإذا الصحف نشرت * وإذا السمآء كشطت * وإذا الجحيم سعرت * وإذا الجنة أزلفت * علمت نفس مآ أحضرت * فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * واليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم * ذى قوة عند ذى العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون * ولقد رءاه بالا فق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم * فأين تذهبون * إن هو إلا ذكر للعالمين * لمن شآء منكم أن يستقيم * وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العالمين) * * (إذا الشمس كورت) *. اختلف في معنى كورت هنا أكثر من عشرة أقوال، وكلها تدور على نهاية أمرها: فقيل: كورت: لف بعضها على بعض، فانطمس نورها. وقيل: حجبت بكارة، أي لفت بها. وقيل: ألقيت في البحر. وقيل: دخلت في العرش. وقيل: اضمحلت. وقيل: نكست. وقال ابن جرير: نقول كما قال الله تعالى: * (كورت) *. والذي يشهد له القرآن، أن هذا كله راجع إلى تغير حالها في آخر أمرها، لأن الله تعالى جعل لها أجلا مسمى، ومعنى ذلك أنها تنتهي إليه على الوجه الذي يعلمه سبحانه وتعالى، كما في قوله تعالى: * (وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى) *. فمفهومه: أنه إذا جاء هذا الأجل توقفت عن جريانها. وهو ما يشير إليها قوله تعالى: * (فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر) *، أي بعد أن لم يجتمعا قط، وما كان لهما أن يجتمعا قبل ذلك الوقت، كما قوله تعالى: * (لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر ولا اليل سابق
437 النهار وكل فى فلك يسبحون) *. ولعل أقرب الأقوال المنقولة في ذلك: هو القول بأنه بمعنى نكست. أي ردت إلى حيث أتت، كما في الحديث، فتطلع من مغربها، وعليه فتجتمع مع القمر. * (وإذا النجوم انكدرت) *. قيل: انكدرت انصبت، وقيل: تغيرت من الكدرة، وكلها متلازمة ولا تعارض. ويشهد للأول قوله تعالى: * (وإذا الكواكب انتثرت) *. ويشهد للثاني: * (فإذا النجوم طمست) *، لأنها إذا تناثرث وذهبت من أماكنها وتغير نظامها، فقد ذهب نورها وطمست. * (وإذا الجبال سيرت) *. أي ذهب بها من مكانها. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان حالة الجبال في نهاية الدنيا في عدة مواطن. من أهمها عند قوله تعالى في سورة طه * (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا) *، وعند قوله تعالى من سورة الكهف: * (ويوم نسير الجبال وترى الا رض بارزة) *. * (وإذا الموءودة سئلت * بأى ذنب قتلت) *. الوأد: الثقل، كما في قوله تعالى: * (ولا يؤوده حفظهما) *. والموؤدة: المثقلة بالتراب حتى الموت، وهي الجارية، كانت تدفن حية، فكانوا يحفرون لها الحفرة ويلقونها فيها، ثم يهيلون عليها التراب. وقوله تعالى: * (بأى ذنب قتلت) * إشعار بأنه لا ذنب لها، فتقتل بسببه، بل الجرم على قاتلها. ولكن لعظم الجرم يتوجه السؤال إليها تبكيتا لوائدها.
438 وقد جاء عن عمر رضي الله عنه قوله: أمران في الجاهلية. أحدهما: يبكيني والآخر يضحكني. أما الذي يبكيني: فقد ذهبت بابنة لي لوأدها، فكنت أحفر لها الحفرة وتنفض التراب عن لحيتي وهي لا تدري ماذا أريد لها، فإذا تذكرت ذلك بكيت. والأخرى: كنت أصنع إلها من التمر أضعه عند رأس يحرسني ليلا، فإذا أصبحت معافى أكلته، فإذا تذكرت ذلك ضحكت من نفسي. أما سبب إقدامهم على هذه الجريمة الشنيعة وما دفعهم على ارتكابها، فقد ناقشه الشيخ رحمه الله تعالى علينا وعليه بتوسع، عند قوله تعالى من سورة النحل * (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالا نثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه فى التراب ألا سآء ما يحكمون) *. وبهذه المناسبة، فإن هنا تنبيهين لا بد من إيرادهما. الأول منهما: ما يشبه الوأد في هذه الآونة الحديثة، وهو التعرض لمنع الحمل بأي وسيلة كانت. وقد بحثت هذه المسألة قديما وحديثا. أما قديما ففي عملية العزل، وجاء فيه حديث جابر (كنا نعزل والقرآن ينزل) رواه مسلم. زاد إسحاق قال سفيان: لو كان شيئا ينهي عنه لنهانا عنه القرآن. وجاء فيه: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا. كما جاء التحذير الشديد في حديث حذامة بنت وهب أخت عكاشة قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس قال: (لقد هممت أن أنهي عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا)، فسألوه عن العزل، فقال: (ذلك الوأد الخفي). زاد عبد الله في حديثه عن المقري زيادة وهي: وإذا الموءودة سئلت.
439 ففي الحديث الأول: ما يفيد التقرير. وفي الثاني: ما يفيد شدة النكير. وجاء في صحيح مسلم أيضا عن أبي سعيد (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا الغربة، ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ذلك؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، لا نسأله، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا عليكم ألا تفعلوا ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون). وفي رواية: (إن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة). وفي رواية: (فقال لنا: وإنكم لتفعلون، وإنكم لتفعلون، وإنكلم لتفعلون. ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة). وفي رواية: (لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو القدر). قال أبو محمد: وقوله: لا عليكم أقرب إلى النهي. وقال الحسن: والله لكأن هذا زجر. فأنت ترى قوله صلى الله عليه وسلم: وإنكم لتغفلون، مشعر بعدم علمه سابقا، مما يتعارض مع الزيادة في حديث جابر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا، نبقي قول جابر، مما يستدل به المجوزون، ويعارضه: وهي الموءودة، أو الوأد الخفي. وكان للوأد عند العرب في الجاهلية سببان: الأول: اقتصادي، خشية إملاق، ومن إملاق حاضر. والثاني: حمية وغيرة. وقد رد القرآن عليهم في السبب الأول، في قوله تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا) *. وقوله: * (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) *. وأخيرا كان هذا التساؤل شديد التوبيخ لهم، * (وإذا الموءودة سئلت) *.
440 وفي هذه الآية أثيرت مرة أخرى وبشكل آخر أثارها أعداء المسلمين مكيدة للسذج، فأثيرت من الناحية الاقتصادية. وكان مبدؤها المعروف عند كتاب هذا العصر بنظرية (مالتس) والآن لغرض عسكري لتقليل عدد جنود المسلمين، حينما علم العدو أن الإسلام يبيح تعدد الزوجات مثنى وثلاث ورباع، فأرادوا أن يوقفوا هذا النمو. ويكفي أن نورد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم). وفي رواية (مكاثر بكم الأمم). وفيه (تزوجوا الولود الودود) ونحو ذلك. وقد كنت جمعت في ذلك بحثا في محاضرة وافية في هذا الغرض، من حيث السياسة والاقتصاد، والدفاع مع عمل إحصائيات للدول التي تطالب بهذا العمل، مما يدفع رأي كل قائل به. والذي يهمنا في هذا المقام تنبيه المسلمين، إلى أن هذه الدعوة إلى تحديد أو تنظيم النسل منشؤها من اليهود، وتشجيعها في الشرق من دول الغرب، وكثير من الدول الغربية تبذل المال الطائل لتفشي هذا الأمر في دول الشرق الأوسط وخاصة الإسلامية والعربية. التنبيه الثاني وهو حول ما يصرح به دعاة تحرير المرأة في صورة مناصرة لها، والواقع أنهم دعاة شقائها ومعاداة لها، وهدم لما مكنها الله منه في ظل الإسلام. وذلك أن المرأة في الجاهلية كانت هذه حالة من حالاتها توأد حية، وتورث كالمتاع، ومهملة الشخصية إلى غير ذلك. فحباها الإسلام ما يثبت شخصيتها ابتداء من إيفائها حقها في الحياة كالرجل، ثم اختيارها في الزواج، وحقها في الميراث إلى غير ذلك. وقد تقدم الحديث عن ذلك في عدة محلات، منها للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، عند قوله تعالى: * (الرجال قوامون على النسآء) *.
441 * (وإذا الجحيم سعرت) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى من سورة الحج: * (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) *. * (وإذا الجنة أزلفت) *. الزلفى: القربى، وأزلفت: قربت، وتقدم بيان ذلك للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة ق عند قوله تعالى: * (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد) *. * (علمت نفس مآ أحضرت) *. المراد بالنفس هنا: العموم، أي كل نفس، كما في قوله تعالى: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) *. * (فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * واليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم) *. ظاهر قوله تعالى: * (فلا أقسم) * نفى القسم، ولكنه قسم قطعا، بدليل التصريح بجواب القسم في قوله تعالى: * (إنه لقول رسول كريم) *. وبهذا يترجح ما تقدم في أول سورة القيامة * (لا أقسم بيوم القيامة) *. ومثل الآتي * (لا أقسم بهاذا البلد) *. تنبيه يجمع المفسرون أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، لأنها دالة على قدرته، وليس للمخلوق أن يحلف إلا بالله تعالى. ولكن هل في المغايرة بما يقسم الله تعالى به معنى مقصود، أم لمجرد الذكر، وتعدد المقسم به؟
442 وبعد التأمل، ظهر والله تعالى أعلم، أنه سبحانه لا يقسم بشيء في موضع دون غيره، إلا لغرض يتعلق بهذا الموضع، يكون بين المقسم به، والمقسم عليه مناسبة وارتباط، وقد يظهر ذلك جليا، وقد يكون خفيا. وهذا فعلا ما تقتضيه الحكمة والإعجاز في القرآن، وإن كنت لم أقف على بحث فيه. ولكن مما يشير إلى هذا الموضوع، ما جاء بالإقسام بمكة مرتين، وفي حالتين متغايرتين. الأولى: قوله تعالى: * (لا أقسم بهاذا البلد * وأنت حل بهاذا البلد * ووالد وما ولد * لقد خلقنا الإنسان فى كبد) *. والموضع الثاني: قوله تعالى: * (والتين والزيتون * وطور سينين * وهاذا البلد الا مين * لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم) *. فالمقسم به في الموضعين: مكة المكرمة، والمقسم عليه في الموضعين خلق الإنسان، ولكن في الموضع الأول كان المقسم عليه مكابدة الإنسان من أول ولادته إلى نشأته، إلى كده في حياته، إلى نهايته ومماته. من ذلك مكابدته صلى الله عليه وسلم منذ ولادته إلى حيث مات أبوه قبله، ولحقت به أمه، وهو في طفولته، وبعد الوحي كابد مع قومه ولقى منهم عنتا شديدا، حتى تآمروا على قتله، فلكأنه يقول له: اصبر على ذلك، فإن المكابدة لا بد منها، وهي ملازمة للإنسان كملازمتك لهذا البلد منذ ولادتك. وفي ذكر * (ووالد وما ولد) * إشعار ببدء المكابدة، وبأشدها من حالة الولادة وطبيعة الطفولة، ولذا ذكر هنا هذا البلد بدون أي وصف. أما في الموضع الثاني: فالمقسم عليه، وإن كان هو خلق الإنسان، إلا أنه في أحسن تقويم، وهي أعظم نعمة عليه جاء بالمقسم به عرضا للنعم، وتعددها من التين والزيتون، سواء كان المراد بهما الفاكهة المذكورة أو أماكنها، وهو بيت المقدس مع طور سينين.
443 فجاء بمكة أيضا ولكن بوصف مناسب فقال: * (وهاذا البلد الا مين) *، فكأنه يقول: إن من أنعم على تلك البقاع بالخير والبركة والقداسة، أنعم على الإنسان بنعمة حسن خلقته وحسن تقويمه وفضله على سائر مخلوقاته. والله تعالى أعلم. وهنا يقسم بحالات الكواكب على أصح الأقوال، في ظهورها واختفائها وجريانها، وبالليل إذا عسعس: أقبل وأدبر، أو أضاء وأظلم، والصبح إذا تنفس: أي أظهر وأشرق، وهما أثران من آثار الشمس في غروبها وشروقها. والمقسم عليه: هو أن القرآن قول رسول كريم كأنه يقول: إن القرآن المقسم عليه حاله في الثبوت والظهور، وحال الناس معه. كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم في ظهورها تارة، واختفائها أخرى. وكحال الليل والصبح فهو عند أناس موضع ثقة وهداية كالصبح في إسفاره، قلوبهم متفتحة إليه وعقولهم مهتدية به، فهو لهم روح ونور، وعند أناس مظلمة أمامه قلوبهم عمى عنه بصائرهم، وفي آذانهم وقر، وهو عليهم عمى، وأناس تارة وتارة كالنجوم أحيانا، وأحيانا، تارة ينقدح نوره في قلوبهم، فتظهر معالمه فيسيرون معه، وتارة يغيب عنهم نوره فتخنس عنه عقولهم وتكنس دونه قلوبهم، كما قال تعالى عنهم: * (كلمآ أضآء لهم مشوا فيه وإذآ أظلم عليهم قاموا) *. وليس بعيدا أن يقال: إنه من وجه آخر، تعتبر النجوم كالكتب السابقة، مضى عليها الظهور في حينها والخفاء بعدها. والليل إذا عسعس: هو ظلام الجاهلية. والصبح إذا تنفس: يقابله ظهور الإسلام، وأنه سينتشر انتشار ضوء النهار، ولا تقوى قوة قط على حجبه، وسيعم الآفاق كلها، مهما وقفوا دونه * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) *. وقد يكون في هذا الإيراد غرابة على بعض الناس، ولا سيما وأني لم أقف على بحث مستقل فيه، ولا توجيه يشير إليه، ولكن مع التتبع وجدت اطراده في مواضع متعددة، وجدير بأن يفرد برسالة.
444 ومما أطرد فيه هذا التوجيه سورة الضحى، يقول الله تعالى: * (والضحى * واليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى) *، فإن المقسم عليه عدم تركه صلى الله عليه وسلم ولا التخلي عنه، فجاء بالمقسم به قسمي الزمن ليلا ونهارا، كأنه يقول له: ما قلاك ربك ولا تخلى عنك، لا في ضحى النهار حيث تنطلق لسعيك، ولا في ظلمة الليل حين تأوي إلى بيتك. ومعلوم ما كان من عمه أبي طالب حينما كان يجعله ينام مع أولاده ليلا، حتى إذا أخذ الجميع مضاجعهم يأتي خفية فيقيمه من مكانه. ويضع أحد أولاده محله، حتى لو كان أحد نواه بسوء، وقد رآه في مكانه الأول يصادف ولده، ويسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: * (وللا خرة خير لك من الا ولى) *، أي من كل ما طلعت عليه الشمس وسجاه الليل. ومنه أيضا: وهو أشد ظهورا في سورة العصر قال تعالى: * (والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين ءامنوا) *، إلى آخر السورة. فإن المقسم عليه هو حالة الإنسان، الغالية عليه من خسر، إلا من استثنى الله تعالى، فكان المقسم به، والعصر المعاصر للإنسان: طيلة حياته وهو محل عمله، الذي به يخسر ويربح. وهو معاصر له وأصدق شاهد عليه. وكنت قد سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: إن العمر وزمن الحياة حجة على الإنسان كالرسالة والنذارة سواء، وذكر قوله تعالى: * (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير) *، فجعل في الآية التعمير، وهو إشغال العمر موجبا للتذكر والتأمل، ومهلة للعمل، كما تخبر إنسانا بأمر ثم تمهله إلى أن يفعل ما مر به، فهو أمكن في الحجة عليه. فكان القسم في العصر على الربح والخسران، أنسب ما يكون بينهما، إذ جعلت حياة الإنسان كسوق قائمة والسلعة فيه العمل والعامل هو الإنسان. كما قال تعالى: * (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله) *. وفي الحديث الصحيح عند مسلم: (سبحان الله تملأ الميزان، وفيه كل الناس
445 يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فإن كان يشغل عمره في الخير فقد ربح، وأعتق نفسه وإلا فقد خسر وأهلكها). ويشير لذلك أيضا قوله تعالى: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) *. فصح أن الدنيا سوق، والسلعة فيها عمل الإنسان، والمعاملة فيه مع الله تعالى، فظهر الربط والمناسبة مع المقسم به، والمقسم عليه. * (إنه لقول رسول كريم) *. أجمعوا على أن المراد بالقول هو القرآن، وأما المراد بالرسول الكريم جبريل عليه السلام بدليل قوله تعالى: * (ذى قوة عند ذى العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون) *. فصاحبكم هنا: هو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي صحبهم منذ ولادته وذو القوة عند ذي العرش: هو جبريل عليه السلام، وفي إسناد القول إليه ما قد يثير شبهة أن القول منه، مع أنه كلام الله تعالى. وقد أجاب الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب، بإيراد النصوص الصريحة في أن القرآن كلام الله تعالى، وقال: وإن في نفس هذه الآية ما يرد هذه الشبهة، ويثبت تلك الحقيقة، وهي قوله تعالى: * (لقول رسول) * لأن الرسول لا يأتي بقول من عنده، وإنما القول الذي جاء به هو ما أرسل به من غيره، إلى ما أرسل إليه به. تنبيه في وصف جبريل عليه السلام بتلك الأوصاف نص في تمكينه من حفظ ما أرسل به، وصيانته عن التغيير والتبديل، لأنه مكين، فلا يصل إليه ما يخل برسالته، ولأنه مطاع ثم. والمطاع لا يؤثر عليه غيره، والأمين لا يخون ولا يبدل، فكان القرآن الذي جاء به مصونا من أن يتسلط أحد
446 عليه فيغيره، ومن أن يغيره الذي جاء به، وهذا كله بمثابة الترجمة لسند تلقي القرآن الكريم. وقوله: * (وما صاحبكم بمجنون) * بيان لتتمة السند، حيث قال: * (ولقد رءاه بالا فق المبين * وما هو على الغيب بضنين) *، فنفى عنه صلى الله عليه وسلم نقص التلقي بنفي آفة الجنون، فهو في كمال العقل وقوة الإدراك، ومن قبل أثبت له كمال الخلق * (وإنك لعلى خلق عظيم) *. وأثبت له اللقيا، فلم يلتبس عليه جبريل بغيره، وهي أعلى درجات السند، فاجتمع له صلى الله عليه وسلم الكمال الخلقي. والكمال الخلقي بضم الخاء وكسرها أي الكمال حسا ومعنى، ثم نفى عنه التهمة بأن يضمن بشيء مما أرسل به مع نفاسته وعلو منزلته وجليل علومه، وأنه كلام رب العالمين. وفي الختام إفهامهم: بأنه ليس بقول شيطان رجيم، حيث تقدم * (إنهم عن السمع لمعزولون) *. وأن من يستمع الآن يجد له شهابا رصدا، فلم يبق لهم موجب للانصراف عنه، وألزموا بالأخذ به حيث أصبح من الثابت أنه كلام الله، جاء به رسول كريم، وبلغه لصاحبكم صاحب الخلق العظيم، وليس بقول شيطان رجيم. فلزمهم الأخذ به، وإلا فأين تذهبون. أين تسيرون عنه، بعد أن ثبت لكم سنده ومصدره؟ ونظير هذا السند في تمجيد القرآن وإثبات إتيانه من الله، قوله تعالى في أول سورة النجم: * (ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالا فق الا على) *. وقوله تعالى: * (فأين تذهبون) *، بمثابة من يسد عليهم الطريق إلا له لأنه أي القرآن ليس في نزوله من الله
447 على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي شبهة ولا تهمة، فليس للعاقل أن يحيد عنه، وكل ذهاب إلى غيره فطريق مسدود، وضلال وهلاك. * (لمن شآء منكم أن يستقيم) *. أي بعد هذا البيان وقوة هذا السند، وإظهار ثبوت الرسالة، فقد أعذر من أنذر، لمن شاء منكم أن يستقيم. * (وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العالمين) *. فيه قضية القدر والإرادة الكونية والقدرية. وقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في عدة مواطن. منها في سورة الزخرف عند قوله تعالى: * (لو شآء الرحمان ما عبدناهم) *، وفيها مناظرة المعتزلي مع السني. ومنها في سورة الذاريات: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون مآ أريد منهم من رزق) *، والفرق بين الإرادة الكونية والقدرية. تنبيه إذا كان الكثيرون يستدلون في قضية القضاء والقدر بهذه الآية، فإنه ينبغي ألا تغفل أهميتها في جانب الضراعة إلى الله دائما، بطلب التفضل من الله تعالى علينا بالمشيئة بالاستقامة فضلا من عنده، كما أمرنا في الصلاة في كل ركعة منها أن نطلبه هذا الطلب * (اهدنا الصراط المستقيم) *. تنبيه آخر لقد أجملت الاستقامة هنا، وهي منبه عليها في سورة الفاتحة: إلى صراط الذين أنعم الله عليهم، كما هو معلوم. والعلم عند الله تعالى.
448 ((سورة الانفطار)) * (إذا السمآء انفطرت * وإذا الكواكب انتثرت * وإذا البحار فجرت * وإذا القبور بعثرت * علمت نفس ما قدمت وأخرت * ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذى خلقك فسواك فعدلك * فى أى صورة ما شآء ركبك * كلا بل تكذبون بالدين * وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون * إن الا برار لفى نعيم * وإن الفجار لفى جحيم * يصلونها يوم الدين * وما هم عنها بغآئبين * ومآ أدراك ما يوم الدين * ثم مآ أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والا مر يومئذ لله) * * (إذا السمآء انفطرت) *. أي انشقت، كما في سورة الانشقاق * (إذا السمآء انشقت) *، قيل: هيبة الله. وقيل: لنزول الملائكة، كقوله تعالى: * (ويوم تشقق السمآء بالغمام ونزل الملئكة تنزيلا) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، في سورة الشورى عند الكلام على قوله تعالى في وصف أهوال القيامة * (يوما يجعل الولدان شيبا السمآء منفطر به) *. ومثل الانفطار والتشقق الانفراج، كقوله: * (فإذا النجوم طمست * وإذا السمآء فرجت) *. * (وإذا القبور بعثرت) *. أي بعثر من فيها. كما في قوله تعالى: * (أفلا يعلم إذا بعثر ما فى القبور * وحصل ما فى الصدور) *. وقد دل هذا اللفظ على سرعة الانتشار، كبعثرة الحب من الكف كما في قوله تعالى: * (يوم يخرجون من الا جداث سراعا) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة ق عند قوله تعالى: * (يوم تشقق الا رض عنهم سراعا) *. * (علمت نفس ما قدمت وأخرت) *.
449 أي كل نفس، كما تقدم في سورة التكوير. وقد تكلم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه على ذلك في دفع إيهام الاضطراب في سورة الانفطار هذه، عند نفس الآية. * (الذى خلقك فسواك فعدلك * فى أى صورة ما شآء ركبك) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك في سورة الكهف عند قوله تعالى: * (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) *، أي هذه أطوار الإنسان في خلقته. ومما يشهد لحسن الخلقة، وكمال الصورة قوله تعالى: * (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم) *. واختلاف الصور إنما هو من آيات الله وابتداء من الرحم، كما قال: * (هو الذي يصوركم في الا رحام كيف يشآء) *. وتقدم في صورة الحشر * (هو الله الخالق البارىء المصور) *. وفي اختلاف الصور على تشابهها من أعظم آيات الله تعالى. * (وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك في سورة ق عند الكلام على قوله تعالى: * (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) *. وأحال عندها على بعض ما جاء في سورة مريم عند قوله تعالى: * (كلا سنكتب ما يقول) *. وبين رحمة الله تعالى علينا وعليه أن هذه الكتابة لإقامة الحجة على الإنسان، كما في قوله: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) *. وقيل في حافظين: يحفظون بدن الإنسان.
450 وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الأنعام عند الكلام على قوله تعالى: * (ويرسل عليكم حفظة) * مستدلا بقوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) *. ومما تجدر الإشارة إليه، أن في وصف الحفظة هنا بهذه الصفات، من كونهم حافظين كراما يعلمون، فاجتمعت لهم كل صفات التأهيل، لا على درجات الكناية من حفظ وعلو منزلة، وعلم بما يكتبون. وكأنه توجيه لما ينبغي لولاة الأمور مراعاته في استكتاب الكتاب والأمناء. ولذا قالوا: على القاضي أن يتخير كاتبا أمينا حسن الخط فاهما. ومن هذا الوصف يعلم أنه لا يختلط عليهم عمل يعمل، وكونهم حفظة لا يضيعون شيئا، ولو كان مثقال الذرة * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) *. * (إن الا برار لفى نعيم) *. أي دائم، كما في قوله تعالى: * (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيهآ أبدا) *. * (وما هم عنها بغآئبين) *. دليل من دلة خلود الكفار في النار. لقوله: * (وإن الفجار لفى جحيم * يصلونها يوم الدين * وما هم عنها بغآئبين) *. كقوله تعالى: * (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذالك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) *. وهكذا غالبا أسلوب المقابلة بين الفريقين ومهلهما. ثم بين أن ذلك يوم الدين وهو يوم الجزاء، كما تقدم في سورة الفاتحة * (مالك يوم الدين) *. ثم بين تعالى شدة الهول في ذلك اليوم * (ومآ أدراك ما يوم الدين) *.
451 وتقدم في * (الحاقة ما الحآقة) *. ومثله قوله تعالى: * (القارعة ما القارعة) *. * (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والا مر يومئذ لله) *. أي لشدة هوله وضعف الخلائق، كما تقدم في قوله تعالى: * (يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه) *، وقوله: * (لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه) *. ولحديث الشفاعة: (كل نبي يقول: نفس نفسي، إلى أن تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها). وحديث فاطمة: (اعملي....). وقوله تعالى: * (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه) *، ونحو ذلك. وقوله: * (والا مر يومئذ لله) *، ظاهر هذه الآية تقييد الأمر بالظرف المذكور، ولكن الأمر لله في ذلك اليوم، وقيل ذلك اليوم، كما في قوله تعالى: * (لله الا مر من قبل ومن بعد) *. وقوله: * (ألا له الخلق والا مر) *، أي يتصرف في خلقه بما يشاء من أمره لا يشركه أحد، كما لا يشركه أحد في خلقه. ولذا قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: * (قل إن الا مر كله لله) *. وقال: * (ليس لك من الا مر شىء) * ونحو ذلك. ولكن جاء الظرف هنا لزيادة تأكيد، لأنه قد يكون في الدنيا لبعض الناس بعض الأوامر، كما في مثل قوله تعالى: * (وأمر أهلك بالصلواة) *. وقوله: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الا مر منكم) *. وقوله: * (فاتبعوا أمر فرعون ومآ أمر فرعون برشيد) *، وهي كلها في الواقع أوامر نسبية. وما تشاءون إلا أن يشاء الله.
452 ولكن يوم القيامة حقيقة الأمر كله، والملك كله لله تعالى وحده، لقوله تعالى: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) *. فلا أمر مع أمره، ولا متقدم عليه حتى ولا بكلمة، إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا، وهو كقوله: * (الملك يومئذ الحق للرحمان) *، مع أن هنا في الدنيا ملوكا، كما في قصة يوسف، * (وقال الملك ائتونى به) *. وفي قصة الخضر وموسى * (أعيبها وكان ورآءهم ملك) *. أما يوم القيامة فيكونون كما قال تعالى: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) *. وكقوله: * (هلك عنى سلطانيه) *، فقد ذهب كل سلطان وكل ملك، والملك يومئذ لله الواحد القهار.
453 ((سورة المطففين)) * (ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولائك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين * كلا إن كتاب الفجار لفى سجين * ومآ أدراك ما سجين * كتاب مرقوم * ويل يومئذ للمكذبين * الذين يكذبون بيوم الدين * وما يكذب به إلا كل معتد أثيم * إذا تتلى عليه ءاياتنا قال أساطير الا ولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم يقال هاذا الذى كنتم به تكذبون * كلا إن كتاب الا برار لفى عليين * ومآ أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون * إن الا برار لفى نعيم * على الا رآئك ينظرون * تعرف فى وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفى ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون * إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هاؤلاء لضآلون * ومآ أرسلوا عليهم حافظين * فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون * على الا رآئك ينظرون * هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) * قوله تعالى: * (ويل للمطففين) *. التطفيف: التنقيص من الطفيف، وهو الشيء القليل. وقد فسره ما بعده في قوله تعالى: * (الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) *. قالوا: نزلت في رجل كان له مكيالان كبير وصغير، إذا اكتال لنفسه على غيره، اكتال بالمكيل الكبير، وإذا كال من عنده لغيره، اكتال بالمكيل الصغير، ففي كلتا الحالتين تطفيف، أي تنقيص على الناس من حقوقهم. والتقديم في افتتاحية هذه السورة بالويل للمطففين، يشعر بشدة خطر هذا العمل، وهو فعلا خطيرا، لأنه مقياس اقتصاد العالم وميزان التعامل، فإذا اختل أحدث خللا في اقتصاده، وبالتالي اختلال في التعامل، وهو فساد كبير. وأكبر من هذا كله، وجود الربا إذا بيع جنس بجنسه، وحصل تفاوت في الكيل أو الوزن. وفيه كما قال تعالى: * (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) *. ولذا فقد ورد ذكر الكيل والوزن، والحث على العناية بهما في عدة مواطن، بعدة أساليب منها الخاص ومنها العام. فقد ورد في الأنعام والأعراف وهود وبني إسرائيل والرحمان والحديد، أي في ست سور من القرآن الكريم. أولا في سورة الأنعام، في سياق ما يعرف بالوصايا العشر: * (قل تعالوا أتل ما
454 حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا) *. وذكر بر الوالدين والنهي عن قتل الأولاد والقرب من الفواحش، وقتل النفس التي حرم الله، والنهي عن مال اليتيم. ثم قال: * (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا) *. وتكلم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عندها كلاما موجزا مفيدا، بأن الأمر هنا بقدر الوسع، ومن أخل من غير قصد التعدي، لا حرج عليه. وقال: ولم يذكر هنا عقوبة لمن تعمد ذلك، ولكنه توعده بالويل في موضع آخر، وساق أول هذه السورة: * (ويل للمطففين) *. كما بين عاقبة الوفاء بالكيل بقوله: * (ذالك خير وأحسن تأويلا) * أي مآلا. وهنا يلفت كلامه رحمه الله النظر إلى نقطة هامة. وهي في قوله تعالى: * (لا نكلف نفسا إلا وسعها) *، حيث إن التطفيف الزيادة الطفيفة، والشيء الطفيف القليل. فكأن الآية هنا تقول: تحروا بقدر المستطاع من التطفيف ولو يسيرا. وبعد بذل الجهد لا نكلف نفسا إلا وسعها، وهذا غاية في التحري مع شدة التحذير والتوعد بالويل، وإذا كان الوعيد بالويل على الشيء الطفيف، فما فوقه من باب أولى. الموضع الثاني في سورة الأعراف من قوله تعالى: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره قد جآءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا فى الا رض بعد إصلاحها ذالكم خير لكم إن كنتم مؤمنين) *. فاقترن الأمر بالوفاء بالكيل، بالأمر بعبادة الله وحده، لأن في الأمرين إعطاء كل ذي حق حقه، من غير ما نقص.
455 وبين أن في عدم الإيفاء المطلوب بخس الناس أشياءهم، وفساد في الأرض بعد إصلاحها. الموضع الثالث في سورة هود، ومع شعيب أيضا: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إنى أراكم بخير وإنى أخاف عليكم عذاب يوم محيط * وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تعثوا فى الا رض مفسدين * بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ) *. وبنفس الأسلوب أيضا كما تقدم، ربطه بعبادة الله تعالى وحده، وتكرار الأمر بعد النهي، ولا تنقصوا المكيال والميزان، ثم أوفوا الكيل والميزان بالقسط نهي عن نقصه، وأمر بإيفائه نص على المفهوم بالتأكيد. ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، مع التوجيه بأن ما عند الله خير لهم. الموضع الرابع في سورة بني إسرائيل * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) *، أي اعتدال في الإنفاق مع نفسه، فضلا عن غيره، ثم إن الله يبسط الرزق لمن يشاء، ثم * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) *، وكلها في مجال الافتصاد وبعدها * (ولا تقربوا الزنى إنه ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق) *. وقد يكون الباعث عليهما أيضا غرض مالي * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن) *، وهو من أخص أبواب المال. ثم الوفاء بالعهد ثم * (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذالك خير وأحسن تأويلا) *، فمع ضروريات الحياة حفظ النفس والعرض والمال يأتي الحفاظ على الكيل والوزن. الموضع الخامس في سورة الشورى وهو أعم مما تقدم، وجعله مقرونا بإنزال الكتاب في قوله تعالى: * (الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب) *.
456 وتكلم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند هذه الآية، بما أشرنا إلى أنه عام، فقال: الميزان هنا مراد به العدل والإنصاف، وأن هذا المعنى متضمن آلة الوزن وزيادة. وأورد بقية الآيات هنا في مبحث مفصل، فذكر آية الرحمان وآية الحديد، وتكلم على الجميع بالتفصيل. وفي قوله تعالى في سورة الرحمان: * (والسمآء رفعها ووضع الميزان) *، مقابلة عظيمة بين رفع السماء الذي هو حق وعدل وقدرة، والميزان وضعه في الأرض، لتقوموا بالعدل والإنصاف، وبهذا العدل قامت السماوات والأرض. وفي سورة الحديد اقتران الميزان بإرسال الرسل وإنزال الكتب * (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) *. ومعلوم أن الميزان الذي أنزل مع الكتاب هو ميزان الحق والعدل، والنهي عن أكل أموال الناس بغير حق، وعدم بخس الناس أشياءهم. فكانت هذه الآية أعم وأشمل آيات الوفاء في الكيل والوزن، بمثابة قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الاحمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) *. وقد جمع لفظ الأمانة ليعم به كل ما يمكن أن يؤتمن الإنسان عليه. وكذلك هنا الميزان مع الكتاب المنزل، وبه يستوفي كل إنسان حقه في أي نوع من أنواع التعامل، فكل من غش في سلعة أو دلس أو زاد في عدد، أو نقص أو زاد في ذرع، أو نقص فهو مطفف للكيل، داخل تحت الوعيد بالويل. فمن باع ذهبا مثلا على أنه صاف من الغش وزن درهم، وفيه من النحاس عشر الدرهم، فقد نقص وطفف لنفسه فأخذ حق درهم كامل. ذهبا، ونقص حيث أعطى درهما إلا عشر. ومن باع رطلا سمنا وفيه عشر الرطل شحما، فقد طفف بمقدار هذا العشر لنفسه، ونقص وبخس المشتري بمقدار ذلك:
457 وهكذا من باع ثوبا عشر أمتار وهو ينقص ربع المتر فقد طفف وبخس بمقدار هذا الربع. وهكذا في القسمة بين الناس وبين الأولاد، وبين الأهل وكل ما فيه عطاء، وأخذ بين اثنين، الله تعالى أعلم. ومن باب ما يذكره العلماء في مناسبات السور بعضها من بعض. فقد قال أبو حيان لما ذكر السورة التي قبلها مصير الأبرار والفجار يوم القيامة، ذكر هنا من موجبات ذلك وأهمها تطفيف الكيل، وبخس الوزن، وهذا في الجملة متوجه، ولكن صريح قوله تعالى في السورة السابقة * (وإذا القبور بعثرت * علمت نفس ما قدمت وأخرت) *، فهو وإن كان عاما في كل ما قدمه لنفسه من عمل الخير، وما أخر من أداء الواجبات عليه، فإنه يتضمن أيضا خصوص ما قدم من وفاء في الكيل ورجحان في الوزن، وما أخر في تطفيف في الكيل وبخس طمعا في المال وجمعا للتراث، كما قال تعالى: * (وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما * كلا إذا دكت الا رض دكا دكا * وجآء ربك والملك صفا صفا * وجىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى * يقول ياليتنى قدمت لحياتى) *. ومن هنا يعلم للعاقل أن ما طفف من كيل أو بخس من وزن، مهما جمع منه، فإنه يؤخره وراءه ومسؤول عنه، ونادم عليه، وقائل: يا ليتني قدمت لحياتي، ولات ساعة مندم. * (ألا يظن أولائك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم) *. تقريع وتوبيخ لهؤلاء الناس، وفيه مسألتان: الأولى: أن الباعث على هذا العمل هو عدم اليقين بالبعث أو اليقين موجود، لكنهم يعلمون على غير الموقنين أي غير مبالين، كما قال الشاعر في مثل ذلك، وهو ما يسمى في البلاغة بلازم الفائدة: الأولى: أن الباعث على هذا العمل هو عدم اليقين بالبعث أو اليقين موجود، لكنهم يعلمون على غير الموقنين أي غير مبالين، كما قال الشاعر في مثل ذلك، وهو ما يسمى في البلاغة بلازم الفائدة: * جاء شقيق عارضا رمحه * إن بني عمك فيهم رماح * فالمتكلم يعلم أن شقيقا عالم بوجود الرماح في بني عمه، وأنهم مستعدون للحرب
458 معه، ولكنه رأى منه عدم المبالاة وعدم الاستعداد، بأن وضع رمحه أمامه معترضا فهو بمنزلة من لا يؤمن بوجود الرماح في بني عمه، وهو لم يرد بكلامه معه أن يخبره بأمر يجهله، ولكنه أراد أن ينبهه لما يجب عليه فعله من التأهب والاستعداد، وهكذا هنا، وهذا عام في كل مسوف ومتساهل كما جاء: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ. أي وهو مؤمن بالإيمان ولوازمه من الجزاء والحساب. المسألة الثانية من قوله تعالى: * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) * يفهم أن مطفف الكيل والوزن وهم يعلمون هذا حقيقة غالبا ولا يطلع عليه الطرف الآخر، فيكون الله تعالى هو المطلع على فعله، فهو الذي سيحاسبه ويناقشه، لأنه خان الله الذي لا تخفى عليه خافية سبحانه، ولذا قال تعالى: * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) * ولم يقل: يوم يقتص لكل إنسان من غريمه، ويستوفي كل ذي حق حقه. تحذير شديد قال القرطبي عند هذه الآية: وعن عبد الملك بن مروان أن أعرابيا قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. ا ه. إنها مقالة ينبغي أن تقال لكل آكل أموال الناس بغير حق أيا كان هو، وبأي وجه يكون ذلك. تنبيه من المعلوم أن كل متبايعين يطلب كل منهما الأحظ لنفسه، فالمطفف لا بد أن يخفي طريقه على غريمه. وذكر علماء الحسبة طرقا عديدة مما ينبغي لولي الأمر خاصة، وللمتعامل مع غيره عامة، أن يتنبه لها. من ذلك قالوا: أولا من ناحية المكيال قد يكون جرم المكيال لينا فيضغطه بين
459 يديه، فتتقارب جوانبه فينقص ما يحتوي عليه، ولذا يجب أن يكون إناء الكيل صلبا، والغالب جعله من الخشب أو ما يعادله. ومنها: أنه قد يكون خشبا منقورا من جوفه، ولكن لا يبلغ بالتجويف إلى نهاية المقدار المطلوب، فيرى من خارجه كبيرا، ولكنه من الداخل صغير لقرب قعره. ومنها: قد يكون منقورا إلى نهاية الحد المطلوب، ولكنه يدخل فيه شيئا يشغل فراغه من أسفله، ويثبته في قعره. فينقص ما يكال بقدر ما يشغل الفراغ المذكور، فقد يضع ورقا أو خرقا أو جبسا أو نحو ذلك. ثانيا: من ناحية الميزان قد يبرد السنج، أي معايير الوزن حتى ينقص وزنها، وقد يجوف منها شيئا ويملأ التجويف بمادة أخف منها. ولذا يجب أن يتفقد أجزاء المعايير، وقد يتخذ معايرا من الحجر فتتناقص بكثرة الاستعمال بسبب ما يتحتت منها على طول الأيام. ومنها: أن يضع تحت الكفة التي يزن فيها السلعة شيئا مثقلا لاصقا فيها، لينتقص من الموزون بقدر هذا الشيء. ولكيلا يظهر هذا، فتراه دائما يضع المعيار في الكفة الثانية لتكون راجحة بها. وهناك أنواع كثيرة، كأن يطرح السلعة في الكفة بقوة، فترجح بسبب قوة الدفع، فيأخذ السلعة حالا قبل أن ترجع إلى أعلا، موهما الناظر أنها راجحة بالميزان. أما آلة الذرع فقد يكون المقياس كاملا واقيا، ولكنه بعد أن يقيس المتر الأول يدفع بالآلة إلى الخلف، ويسحب بالمذروع إلى الأمام بمقدار الكف مثلا، فيكون النقص من المذروع بقدر ما سحب من القماش. وكلها أمور قد تخفى على كثير من الناس، وقد وقع لي مع بائع أن لاحظت عليه في ميزان مما يرفعه بيده حتى أعاد الوزن خمس مرات في كل مرة، يأتي بطريقة تغاير الأخرى، حتى قضى ما عنده فالتفت إلي وقال لي: لا أبيع بهذا السعر، فقلت له: خذ ما تريد وزن كما أريد، فطلب ضعف الثمن فأعطيته فأعطاني الميزان لأزن بنفسي. وهنا ينبغي أن ننبه على حالات الباعة حينما يكون السعر مرتفعا وتجد بائعا يبيع
460 برخص، فقد يكون لعلة في الوزن أو في السلعة أو مضرة الآخر. تنبيه آخر بهذه الأسباب وحقائقها وشدة خطرها كان عمر رضي الله عنه يتجول في السوق بنفسه، ويتفقد المكيال والميزان. يخرج من السوق من يجد في مكياله أو ميزانه نقصانا، ويقول: لا تمنع عنا المطر. وهكذا يجب على ولاة الأمور تفقد ذلك باستمرار، ولا سيما في البلاد التي يقل فيها الوازع الديني وتشتد فيها الأسعار، بما يلجىء الباعة إلى التحايل أو العناد. وقد منع عمر بائع زبيب أرخص السعر لعلمه أن تاجرا قدم ومعه زبيب بكثرة، فقيل لعمر: لماذا منعت البيع برخص؟ فقال: لأنه يفسد السوق، فيخسر القادم فيمتنع من الجلب إلى المدينة، وهذا قد ربح من قبل. تنبيه آخر مما ينبغي أن يعلم أن نوع المكيال ومقداره ونوع الميزان ومقداره مرجعه إلى السلطان، كما قال علماء الحسبة: أن على الأمة أن تطيع السلطان في أربع: في نوع المكيال والميزان، ونوع العملة التي يطرحها للتعامل بها، وإعلان الحرب أو قبول الصلح. فإذا اتخذ الصاع أو المد أو الكيلة أو الويبة أو القدح، أو أي نوع كبيرا كان أو صغيرا، فيجب التقييد به في الأسواق. وكذلك الوزن اتخذ الدرهم والأوقية والرطل أو الأقة أو اتخذ الجرام والكيلو فكل ذلك له. أما إذا كان الأمر بين اثنين في قسمة مثلا كقسمة صبرة من حب فتراضوا على أن يقتسموها بإناء كبير للسرعة وكان مضبوطا، لا تختلف به المرات، بأن يكون صلبا ويمكن الكيل به. أو كذلك الوزن اتفقوا على قطعة حديد معينة، لكل واحد وزنها عدة مرات فلا بأس بذلك، لأن الغرض قسمة المجموع لا مثامنة على الأجزاء.
461 أما المكاييل الإسلامية الأساسية والموازين، فقد تقدم بيانها من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في زكاة ما يخرج من الأرض، وزكاة النقدين، وقدمنا بيان مقابلها بالوزن الحديث في زكاة الفطر، عند قوله تعالى: * (والذين فى أموالهم حق معلوم * للسآئل والمحروم) * وبالله تعالى التوفيق. غريبة في ليلة الفراغ من كتابة هذا المبحث رأيت الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فيما يرى النائم، وبعد أن ذهب عني رأيت من يقول لي: إن لتطفيف الكيل والوزن دخلا في الربا، فألحقته في أول البحث، بعد أن تأملته فوجدته صحيحا بسبب المفاضلة. * (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) *. ران: بمعنى غطى كما في الحديث (إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، وما يزال كذلك حتى يغطيه) الحديث. وقال الشاعر: وقال الشاعر: * وكم ران من ذنب على قلب فاجر * فتاب من الذنب الذي ران فانجلى * وقال أبو حيان: وأصل الرين: الغلبة: يقال: رانت الخمر على عقل شاربها واشتدت: وقال أبو حيان: وأصل الرين: الغلبة: يقال: رانت الخمر على عقل شاربها واشتدت: * ثم لما رآه رانت به الخ * مر وألا يريه بانتفاء * بيان القراءات في هذه الآية: قال أبو حيان: قرىء بل ران بإدغام اللام في الراء وبالإظهار وقف حفص على بل وقفا خفيفا يسيرا ليتبين الإظهار. وقال أبو جعفر بن الباذش: وأجمعوا، يعني القراء، على إدغام اللام في الراء، إلا ما كان من سكت حفص على بل، ثم يقول: ران. وهذا الذي ذكره كما ذكر من الإجماع. ففي كتاب اللوامع عن قالون من جميع طرقه: إظهار اللام عند الراء نحو قوله
462 : بل رفعه الله إليه بل ربكم. وفي كتاب ابن عطية. وقرأ نافع: بل ران من غير مدغم. وفيه أيضا: وقرأ نافع أيضا: بالإدغام والإمالة. وقال سيبويه: البيان والإدغام حسنان. وقال الزمخشري: وقرئ بإدغام اللام في الراء، وبالإظهار والإدغام أجود، وأميلت الألف وفخمت. ا ه. أما المعنى فقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك وافيا في سورة الكهف عند الكلام على قوله تعالى: * (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) *. * (ختامه مسك وفى ذلك فليتنافس المتنافسون) *. توجيه إلى ما ينبغي أن تكون فيه المنافسة، وهي بمعنى الرغبة في الشيء. قال أبو حيان: نافس في الشيء رغب فيه، ونفست عليه بالشيء أنفس نفاسة، إذا بخلت به عليه ولم تحب أن يصير إليه. والذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن ذلك من المطالبة والمكاثرة بالشيء النفيس، فكل يسابق إليه ليحوزه لنفسه. وفي هذه الآية الكريمة لفت لأول السورة، إذا كان أولئك يسعون لجمع المال بالتطفيف، فلهم الويل يوم القيامة. وإذا كان الأبرار لفي نعيم يوم القيامة، وهذا شرابهم، فهذا هو محل المنافسة، لا في التطفيف من الحب أو أي مكيل أو موزون. * (إن الذين أجرموا كانوا من الذين ءامنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون) *. وصفهم بالإجرام هنا يشعر بأنه السبب في ضحكهم من المؤمنين وتغامزهم بهم،
463 وتقدم في سورة البقرة بيان موجب آخر في قوله تعالى: * (زين للذين كفروا الحيواة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا) *. وقد بين تعالى في سورة البقرة أن الذين اتقوا فوق هؤلاء يوم القيامة، والله يرزق من يشاء بغير حساب. وتكلم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هناك، وأحال على هذه الآية في البيان لنوع السخرية، وزاد البيان في سورة الأحقاف على قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونآ إليه) *. ومن الدافع لهم على هذا القول ونتيجة قولهم، وساق آية المطففين عندها، وكذلك عند أول سورة الواقعة على قوله تعالى: * (خافضة رافعة) *. ومما تجدر الإشارة إليه، أن هذه الحالة ليست خاصة بهذه الأمة، بل تقدم التنبيه على أنها في غيرها ممن تقدم من الأمم. ففي قوم نوح: * (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه) *. وكان نفس الجواب عليهم: * (قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) *. وجاء بما يفيد أكثر من ذلك حتى بالرسل في قوله تعالى: * (ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون) *. ومثلها في سورة الأنبياء بنص الآية المذكورة. تنبيه إذا كان هذا حال بعض الذين أجرموا مع بعض ضعفة المؤمنين، وكذلك حال بعض الأمم مع رسلها، فإن الداعية إلى الله تعالى يجب عليه ألا يتأثر بسخرية أحد منه، ويعلم أنه على سنن غيره من الدعاة إلى الله تعالى، وأن الله تعالى سينتصر له إما عاجلا وإما آجلا، كما في نهاية كل سياق من هذه الآيات.
464 * (فاليوم الذين ءامنوا من الكفار يضحكون * على الا رآئك ينظرون * هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) *. وهذا رد على سخرية المشركين منه في الدنيا، وهو كما قال تعالى: * (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه في سورة المؤمنون على الكلام على قوله: * (إنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفآئزون) *، والحمد لله رب العالمين.
465 ((سورة الانشقاق)) * (إذا السمآء انشقت * وأذنت لربها وحقت * وإذا الا رض مدت * وألقت ما فيها وتخلت * وأذنت لربها وحقت * ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه * فأما من أوتى كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا * وأما من أوتى كتابه ورآء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيرا * إنه كان فى أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور * بلى إن ربه كان به بصيرا * فلا أقسم بالشفق * واليل وما وسق * والقمر إذا اتسق * لتركبن طبقا عن طبق * فما لهم لا يؤمنون * وإذا قرىء عليهم القرءان لا يسجدون * بل الذين كفروا يكذبون * والله أعلم بما يوعون * فبشرهم بعذاب أليم * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) * * (إذا السمآء انشقت) *. تقدم الكلام عليه في أول سورة الانفطار، عند قوله تعالى: * (إذا السمآء انفطرت) *، والإحالة على كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورتي الشورى وق. * (وأذنت لربها وحقت) *. تقدم بيان مادة أذن في سورة الجمعة، عند الكلام على الأذان، وأذنت هنا بمعنى استمعت وأطاعت، وحقت أي حق لها أو هي محقوقة بذلك، أي لا يوجد ممانع لهذا الأمر. وقد حمله بعض المفسرين على المعنى المجازي في أذنت، أي لما لم يكن ممانعة من تشققها، كان ذلك بمثابة الامتثال والاستماع. وقد قدمنا أن للجمادات بالنسبة إلى الله تعالى حالة لا كهي بالنسبة للمخلوقين، في مبحث أول الحشر في معنى التسبيح من الجمادات. وقد جاء صريحا في حق السماء والأرض من ذلك قوله تعالى: * (إنا عرضنا الا مانة على السماوات والا رض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها) *، وقال تعالى: * (ثم استوى إلى السمآء وهى دخان فقال لها وللا رض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا طآئعين) *. * (وإذا الا رض مدت) *. أي سويت وأزيلت جبالها، وسويت وهادها، كما قال تعالى: * (ويسألونك عن
466 الجبال فقل ينسفها ربى نسفا * فيذرها قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) *. ومن هذا الحديث عن ابن عباس وعن علي. وساق هذا الثاني ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلى علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه، فأكون أول من يدعى) الحديث. وعن ابن عباس (تمد كما يمد الأديم العكاظي). وعند القرطبي عن ابن عباس (يزاد فيها كذا وكذا). وقال الرازي: هو بمعنى تبدل الأرض غير الأرض، والواقع أن استبدال الأرض غير الأرض ليس على معنى الذهاب بهذه الموجودة والإتيان بأرض جديدة، لما جاء في حديث الأذان: (ما من حجر ولا مدر ولا شجر، يسمع صوت المؤذن إلا سيشهد له يوم القيامة) والذي يؤتى له من جديد، لا يتأتى له أن يشهد على شيء لم يشهده، وعلى كل فإن تسيير الجبال وتسوية الأرض لا شك أنه يوجد زيادة في وجه الأرض ومساحتها، فسواء مدت بكذا وكذا. كما قال ابن عباس، أو مدت بتوسعة أديمها وزيد في بسطها، بعد أن تلقى ما في جوفها كالشئ السميك إذا ما ضغط، فخفت سماكته وزادت مساحته، كما يشير إليه قوله تعالى: * (كلا إذا دكت الا رض دكا دكا) *. وقوله: * (فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة * وحملت الا رض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السمآء فهى يومئذ واهية) *. فيكون مد الأرض بسبب دكها، فيزاد في بسطها، ولعل هذا الوجه هو ما يشهد له القرآن لجمع الأمرين هنا، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء، فهو وفق ما في هذه السورة * (إذا السمآء انشقت) *، وبعدها * (وإذا الا رض مدت) * والله أعلم. * (وألقت ما فيها وتخلت) *.
467 قيل: ألقت كنوزها وتخلت عنها، ورد هذا بأن ذلك قد يكون قبل الساعة. وقيل: ألقت الموتى وتخلت عنهم بعد قيامهم وبعثهم من قبورهم فلم يبق في جوف الأرض أحد. وقوله تعالى: وتخلت: أي بعد أن كانت لهم كفانا أحياء وأمواتا، وبعد أن كانت لهم مهادا، لفظتهم وتخلت عنهم، وهذا ما يزيد في رهبة الموقف وشدته والتضييق على العباد، وألا ملجأ لهم ولا منجي إلا إلى الله، كما قال تعالى: * (كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر) *. * (وأذنت لربها وحقت) *. أي كما أذنت السماء، فالكون كله إذن مطيع منقاد لأوامر الله، طوعا أو كرها. * (ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) *. قيل: الإنسان للجنس وقيل لفرد، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن السياق يدل للأول للتقسيم الآتي، فأما من أوتي كتابه بيمينه، وأما من أوتي كتابه بشماله، لأنه لا يكون لفرد، وإنما للجنس وعلى أنه للجنس فالكدح العمل جهد النفس. وقال ابن مقبل: وقال ابن مقبل: * وما الدهر إلا تارتان فمنهما * أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح * وقال غيره مشيرا إلى أن الكدح فيه معنى النصب: وقال غيره مشيرا إلى أن الكدح فيه معنى النصب: * ومضت بشاشة كل عيش صالح * وبقيت أكدح للحياة وأنصب * ويشهد لهذا قوله تعالى: * (لقد خلقنا الإنسان فى كبد) *، كما قدمنا في محله. تنبيه من هذا العرض القرآني الكريم من مقدمة تغيير أوضاع الكون سماء وأرضا، ووضع الإنسان فيه يكدح إلى ربه كدحا فملاقيه، أي بعلمه الذي يحصل عليه من
468 خلال كدحه، فإن العاقل المتبصر لا يجعل كدحه إلا فيما يرضي الله ويرضى هو به، وإذا لقي ربه ما دام أنه كادح، لا محالة كما هو مشاهد. تنبيه آخر * (ياأيها الإنسان) * عام في الشمول لكل إنسان مهما كان حاله من مؤمن وكافر، ومن بر وفاجر، والكل يكدح ويعمل جاهد التحصيل ما هو مقبل عليه، كما في الحديث: (اعملوا كل ميسر لما خلق له) أي ومجد فيه وراض به، وهذا منتهى حكمة العليم الخبير. ومما هو جدير بالتنبيه عليه، هو أنه إذا كانت السماء مع عظم جرمها، والأرض مع مساحة أصلها أذنت لربها وحقت، مع أنها لم تتحمل أمانة، ولن تسأل عن واجب فكيف بالإنسان على ضعفه، * (أءنتم أشد خلقا أم السمآء) *، وقد تحمل أمانة التكليف فأشفقن منها وحملها الإنسان، فكان أحق بالسمع والطاعة في كدحه، إلى أن يلقى ربه لما يرضيه. * (فأما من أوتى كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا * وأما من أوتى كتابه ورآء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيرا * إنه كان فى أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور) *. في هذا التفصيل بيان لمصير الإنسان نتيجة كدحه، وما سجل عليه في كتاب أعماله، وذلك بعد أن تقدم في الانفطار قوله: * (وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون * إن الا برار لفى نعيم * وإن الفجار لفى جحيم) *. وجاء في المطففين * (كلا إن كتاب الفجار لفى سجين) * ثم بعده * (كلا إن كتاب الا برار لفى عليين) *. جاء هنا بيان إتيانهم هذه الكتب مما يشير إلى ارتباط هذه السور بعضها ببعض، في بيان مآل العالم كله ومصير الإنسان نتيجة عمله. وتقدم للشيخ مباحث إتيان الكتب باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر، عند كل من
469 قوله تعالى: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) * في سورة الإسراء إلى قوله تعالى * (فمن أوتى كتابه بيمينه) *، وبين أحوال الفريقين أهل اليمين وأهل الشمال، وأحال على أول السورة. وقوله: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) *، في سورة الكهف وهنا ذكر سبحانه وتعالى حالة من حالات كلا الفريقين. فالأولى: يحاسب حسابا يسيرا وهو العرض فقط دون مناقشة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها (من نوقش الحساب عذب). والثانية: يدعو على نفسه بالثبور وهو الهلاك، ومنه: المواطأة على الشيء سميت مثابرة، لأنه كأنه يريد أن يهلك نفسه في طلبه. وهنا مقابلة عجيبة بالغة الأهمية، وذلك بين سرورين أحدهما آجل والآخر عاجل. فالأول في حق من أوتي كتابه بيمينه، أنه ينقلب إلى أهله مسرورا ينادي فرحا * (هآؤم اقرؤا كتابيه) *، وأهله آنذاك في الجنة من الحور والولدان، ومن أقاربه الذين دخلوا الجنة، كما في قوله تعالى: * (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذرياتهم) *. وقوله: * (والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) *، فهم وإن كانوا ملحقين بهم إلا أنهم من أهلهم، وهذا من تمام النعمة أن يعلم بها من يعرفه من أهله، وهذا مما يزيد سرور العبد، وهو السرور الدائم. والآخر سرور عاجل، وهو لمن أعطوا كتبهم بشمالهم، لأنهم كانوا في أملهم مسرورين في الدنيا، وشتان بين سرور وسرور. وقد بين هنا نتيجة سرور أولئك في الدنيا، بأنهم يصلون سعيرا، ولم يبين سبب سرور الآخرين، ولكن بينه في موضع آخر وهو خوفهم من الله في قوله تعالى: * (قالوا إنا كنا قبل فى أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم) *. وهنا يقال: إن الله سبحانه لم يجمع على عبده خوفان، ولم يعطه الأمنان معا،
470 فمن خافه في الدنيا أمنه في الآخرة * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *. * (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هى المأوى) *. ومن أمن مكر الله وقضى كل شهواته وكان لا يبالي فيؤتى كتابه بشماله ويصلى سعيرا، كما في قوله تعالى: * (وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال * فى سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم * إنهم كانوا قبل ذلك مترفين * وكانوا يصرون على الحنث العظيم * وكانوا يقولون أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون) *، تكذيبا للبعث. وقوله هذا هو بعينه المذكور في هذه الآيات * (إنه ظن أن لن يحور) *. وقوله: * (إنه ظن أن لن يحور) *، هذا الظن مثل ما تقدم في حق المطففين * (ألا يظن أولائك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم) *، مما يشعر أن عدم الإيمان بالبعث أو الشك فيه، هو الدافع لكل سوء والمضيع لكل خير، وأن الإيمان باليوم الآخر هو المنطلق لكل خير والمانع لكل شر، والإيمان بالبعث هو منطلق جميع الأعمال الصالحة كما في مستهل المصحف * (هدى للمتقين) *. * (فلا أقسم بالشفق * واليل وما وسق * والقمر إذا اتسق * لتركبن طبقا عن طبق) *. الشفق لغة: رقة الشيء. قال القرطبي: يقال شيء شفيق، أي لا تماسك له لرقته، وأشفق عليه أي رق قلبه عليه، والشفقة الاسم من الإشفاق وهو رقة القلب، وكذلك الشفق. قال الشاعر: قال الشاعر: * تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا * والموت أكرم نزال على الحرم * فالشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها، فكأن تلك الرقة من ضوء الشمس. ونقل عن الخليل: الشفق: الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة إذا ذهب، قيل: غاب الشفق. ا ه.
471 وهذا ما عليه الأئمة الثلاثة في توقيت وقت المغرب من غروب الشمس إلى غياب الشفق، وهو الحمرة بعد الغروب، كما قال الخليل. وعند أبي حنيفة رحمه الله: أن الشفق هو البياض الذي بعده. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في بيان أوقات الصلوات الخمس عند قوله تعالى: * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد فى السماوات والا رض وعشيا وحين تظهرون) *، ورجح أن الشفق: الحمرة. ونقل القرطبي قولا، قال: وزعم الحكماء أن البياض لا يغيب أصلا. وقال الخليل: صعدت منارة الإسكندرية فرمقت البياض فرأيته يتردد من أفق لي أفق ولم أره يغيب. وقال ابن أويس: رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر، ثم قال: قال علماؤنا: فلما لم يتجدد وقته سقط اعتباره. ا ه. فهو بهذا يرجح مذهب الجمهور في معنى الشفق، والنصوص في ذلك من السنة فيها مقال. فقد روى الدارقطني حديثا مرفوعا: (الشفق الحمرة). وتكلم عليه الشوكاني ثم ذكر من يقول به من الصحابة وهم ابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وعبادة. ومن الأئمة: الشافعي، وابن أبي ليلى، والثوري، وأبو يوسف ومحمد، من الفقهاء، والخليل والفراء من أهل اللغة. فأنت ترى أن أبا يوسف ومحمدا من أصحاب أبي حنيفة وافقا الجمهور. وفي شرح الهداية أيضا: رواية عن أبي حنيفة. أما ما ذكره القرطبي ففيه نظر، أي من جهة عدم غياب البياض، فإن المعروف عند علماء الفلك أن بين الأحمر والأبيض مقدار درجتين، والدرجة تعادل أربع دقائق، وعليه فالفرق بسيط، والله تعالى أعلم. وقوله: * (واليل وما وسق) *، هو الجمع والضم للشيء الكثير، ومنه سمي
472 الوسق بمقدار معين من مكيل الحب، وهو ستون صاعا. وقيل: فيه معان أخرى، ولكن هذا أرجحها. والمعنى هنا: والليل وما جمعه من المخلوقات. قيل: كأنه أقسم بكل شيء كقوله تعالى: * (فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون) *. وقوله: * (والقمر إذا اتسق) *، أي اتسع أي تكامل نوره، وهو افتعل من وسق، والقاعدة الصرفية أن فاء الفعل المثالي، أي الذي فاؤه واو، إذا بنى على افتعل تقلب الواو تاء وتدغم التاء في التاء، كل في: وصلته فاتصل ووزنته فاتزن، أو تصل أو تزن، وهكذا هنا أو تسق. وقوله: * (لتركبن طبقا عن طبق) *. قال ابن جرير: اختلف القراء في قراءته، فقرأه عمر بن الخطاب وابن مسعود وأصحابه وابن عباس وعامة قراء مكة والكوفة لتركبن بفتح التاء والباء، واختلف قارؤوا ذلك في معناه، فقال بعضهم: يعني يا محمد، ويعني حالات الترقي والعلو والشدائد مع القوم، وهذا المعنى عن مجاهد وابن عباس. وقيل: طبقا عن طبق: يعني سماء بعد سماء، أي طباق السماء، وهو عن الحسن وأبي العالية ومسروق. وعن ابن مسعود: أنها السماء تتغير أحوالها تتشقق بالغمام، ثم تحمر كالمهل، إلى غير ذلك. وقد رجح القراءة الأولى والمعنى الأول. وقرأ عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين: لتركبن بالتاء وبضم الباء على وجه الخطاب للناس كافة. وذكر المفسرون لمعناه حالا بعد حال معان عديدة طفولة وشبابا وشيخوخه، فقرا وغنى، وقوة وضعفا، حياة وموتا وبعثا، رخاء وشدة، إلى كل ما تحتمله الكلمة. وقال القرطبي: الكل محتمل، وكله مراد، والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن ذلك إنما هو بعامة الناس ويكون يوم القيامة، إذ السياق في أصول البعث، إذا السماء انشقت، وإذا الأرض مدت، فأما من أوتي كتابه بيمينه وذكر الحساب المنقلب، ثم التعبير بالمستقبل لتركبن، ولو كان لأمر الدنيا من تغير الأحوال لكان
473 أولى به الحاضر أو الماضي، وإن كان من المستقبل ما سيأتي من الزمن لكنه ليس بجديد، إذ تقلب الأحوال في شأن الحياة أمر مستقر في الأذهان، ولا يحتاج إلى هذا الأسلوب. أما أمور الآخرة من بعث، وحشر، وعرض، وميزان وصراط وتطاير كتب، واختلاف أحوال الناس باختلاف المواقف، في عرصات القيامة فهي الحرية بالتنبيه عليها والتحذير منها والعمل لأجلها في كدحه إلى ربه، فلذا جاء بذلك وهو مشعر باستمرار حالة الإنسان بعد الكدح إلى حالات متعددة ودرجات متفاوتة. ولو اعتبرنا حال المقسم به من حيث تطور الحال من شفق أو آخر ضوء الشمس ثم ليل، وما جمع وغطى بظلامه، ثم قمر يبدأ هلالا إلى اتساق نوره، لكان انتقالا من تغير حركات الزمن إلى تغير أحوال الإنسان قطعا، وأن القادر على ذلك في الدنيا قادر على ذلك في الآخرة. * (إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) *. قيل: المن: القطع والنقص، ومنه قول الشاعر: ومنه قول الشاعر: * لمعفر قهد تناثر شلوه * غبس كواسب ما يمن طعامها * والقهد: ضرب من الضأن تعلوه حمرة صغيرة آذانه، والكواسب: الوحوش، أي ذئاب أو سباع لا ينقطع طعامها. وقال القرطبي: مننت الحبل إذا قطعته. وسأل نافع بن الأزرق، ابن عباس عنها فقال: غير مقطوع، فقال هل تعرف ذلك العرب؟ قال: نعم، قد عرفه أخو يشكر، حيث يقول: وسأل نافع بن الأزرق، ابن عباس عنها فقال: غير مقطوع، فقال هل تعرف ذلك العرب؟ قال: نعم، قد عرفه أخو يشكر، حيث يقول: * فترى خلفهن من سرعة الرج * ع منينا كأنه أهباء * قال المبرد: المنين الغبار لأنها تقطعه وراءها. وقيل: غير ممنون أي غير ممنون به عليهم، لتكمل النعمة عليهم. وقال ابن جرير: غير ممنون: أي غير محسوب ولا منقوص. وذكره عن ابن عباس ومجاهد.
474 وقال ابن كثير: غير مقطوع، كقوله تعالى: * (عطآء غير مجذوذ) *، ورد قول من قال إنه غير ممنون به عليهم، لأن لله تعالى أن يمتن على عباده وهم ما دخلوا الجنة إلا بفضل من الله ومنه عليهم. انتهى. ومما يشهد لقول ابن جرير غير محسوب عموم قوله تعالى: * (إن الله يرزق من يشآء بغير حساب) *، وخصوص قوله تعالى: * (ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) *. وقوله تعالى: * (جزآء من ربك عطآء حسابا) *، فهو بمعنى كافيا من قولك: حسبي بمعنى كافيني. والذي يظهر والله تعالى أعلم أن كلا من المعنيين مقصود ولا مانع منه، وما ذهب إليه ابن كثير لا يتعارض مع قول الآخرين، لأن المن الممنوع هو ما فيه أذى وتنقيص، كما في قوله: * (ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى) *، أما المن من الله تعالى على عبده، فهو عين الإكرام والزلفى إليه سبحانه. والعلم عند الله تعالى.
475 ((سورة البروج)) * (والسمآء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهد ومشهود * قتل أصحاب الا خدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذى له ملك السماوات والا رض والله على كل شىء شهيد * إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجرى من تحتها الا نهار ذلك الفوز الكبير * إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدىء ويعيد * وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد * هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود * بل الذين كفروا فى تكذيب * والله من ورآئهم محيط * بل هو قرءان مجيد * فى لوح محفوظ) * * (والسمآء ذات البروج) *. البروج: جمع برج، واختلف في المعنى المراد به هنا هل هي المنازل أو الكواكب أو قصور في السماء عليها حراسها؟ وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك في سورة الحجر، عند الكلام على قوله تعالى: * (ولقد جعلنا فى السماء بروجا) *، وفي سورة الفرقان عند قوله تعالى: * (تبارك الذى جعل فى السمآء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) *. وقيل: إن أصل هذه المادة من الظهور، ومنه تبرج المرأة، وساق بيان المعنى المقصود من بروج السماء وعدد المنازل المذكورة. وبمناسبة ارتباط السور بعضها ببعض، فإن بعض المفسرين يقول: لما ذكر مآل الفريقين وتطاير الصحف في السورة الأولى، ذكر هنا عملا من أشد أعمال الكفار مع المؤمنين في قصة الأخدود. والذي يظهر أقوى من هذا، هو والله تعالى أعلم: أنه لما ذكر سابقا انفطار السماء وتناثر النجوم وانشقاق السماء، وإذنها لربها حق لها ذلك، جاء هنا بيان كنه هذه السماء أنها عظيمة البنية بأبراجها الضخمة أو بروجها الكبيرة، فهي مع ذلك تأذن لربها وتطيع وتنشق لهول ذلك اليوم وتنفطر، فأولى بك أيها الإنسان، والله تعالى أعلم . * (واليوم الموعود) *. هو يوم القيامة بإجماع المفسرين، وقد كانوا يوعدون به في الدنيا فهو اليوم الموعود به كل من الفريقين، كما قال تعالى في حق المؤمنين * (لا يحزنهم الفزع الا كبر وتتلقاهم الملائكة هاذا يومكم الذى كنتم توعدون) *، وفي حق الكفار * (فذرهم
476 يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون) *، وسيعترفون بذلك عند البعث حينما يقولون: * (قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون) *. فاليوم الموعود هو يوم القيامة الموعود به لمجازات كلا الفريقين على عملهم. * (وشاهد ومشهود) *. لم يصرح هنا من الشاهد وما المشهود، وقد ذكر الشاهد في القرآن بمعنى الحاضر، كقوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) *، وقوله: * (عالم الغيب والشهادة) *. وذكر المشهود بمعنى المشاهد باسم المفعول، كقوله تعالى: * (ذالك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود) *. فالشاهد والمشهود قد يكونان من المشاهدة، وذكر الشاهد من الشهادة، والمشهود من المشهود به أو عليه، كما في قوله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هاؤلاء شهيدا) *. فشهيد الأولى: أي شهيد على الأمة التي بعثت فيها، وشهيد الثانية: أي شاهد على الرسل في أممهم. ومن هنا اختلفت أقوال المفسرين إلى ما يقرب من عشرين قولا. قال ابن جرير: ما ملخصه: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة أو النحر، وعزاه لعلي وأبي هريرة، والشاهد محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم القيامة. وعزاه لابن عباس والحسن بن علي. والشاهد الإنسان، والمشهود يوم القيامة وعزاه لمجاهد وعكرمة. والشاهد هو الله، والمشهود هو يوم القيامة، وعزاه لابن عباس. ثم قال: والصواب عندي أنه صالح لكل ما يقال له مشاهد، ويقال له مشهود فلم يفصل ما إذا كان بمعنى الحضور، أو الشهادة، ومثله القرطبي وابن كثير.
477 وقد فصل أبو حيان على ما قدمنا، فقال: إن كان بمعنى الحضور، فالشاهد الإنسان والمشهود يوم القيامة، ولما ذكر اليوم الموعود ناسب أن يذكر كل من يشهد في ذلك اليوم، ومن يشهد عليه، وذكر نحوا من عشرين قولا. وقال: كل له متمسك، والذي يظهر والله تعالى أعلم: أنه من باب الشهادة لأن ذكر اليوم الموعود وهو يكفي عن اليوم المشهود، بل إنه يحتاج إلى من يشهد فيه وتقام الشهادة على ما سيعرض فيه لإقامة الحجة على الخلق لا لإثبات الحق. وقد جاء في القرآن تعداد الشهود في ذلك اليوم، مما يتناسب مع العرض والحساب. ومجمل ذلك أنها تكون خاصة وعامة وأعم من العامة، فمن الخاصة شهادة الجوارح على الإنسان كما في قوله تعالى: * (حتى إذا ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) *، وقوله: * (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) *، وهذه شهادة فعل ومقال لا شهادة حال، كما بينها قوله تعالى عنهم: * (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولاكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) *، ورد الله زعمهم ذلك بقوله: * (وذلكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين) *. وتقدم للشيخ بيان شهادة الأعضاء في سورة يس وفي سورة النساء عند قوله تعالى: * (ولا يكتمون الله حديثا) *، وشهادة الملائكة وهم الحفظة كما في قوله تعالى: * (وقال قرينه هاذا ما لدى عتيد) *، وقوله: * (وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد) *، ثم شهادة الرسل كل رسول على أمته، كما في قوله عن عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، * (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم) *، فهذا وإن كان في الحياة فسيؤديها يوم القيامة. وكقوله في عموم الأمم * (ويوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) *.
478 ومنها: شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على جميع الرسل كما في قوله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هاؤلاء شهيدا) *. ومنها: شهادة هذه الأمة على سائر الأمم، كما في قوله تعالى: * (وكذالك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على الناس) *. ومنها: شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة لقوله تعالى: * (ويكون الرسول عليكم شهيدا) *. ومنها: شهادة الله تعالى على الجميع. وهذا ما يتناسب مع ذكر اليوم الموعود وما يكون فيه من الجزاء والحساب على الأعمال ومجازاة الخلائق عليها: وسيأتي في نفس السياق قوله: * (والله على كل شىء شهيد) *، وهو كما ترى لا يتقيد بشاهد واحد، وأيضا لا يعارض بعضها بعضا. فاختلاف الشهود وتعددهم باختلاف المشهود عليه، وتعدده من فرد إلى أمة إلى رسل، إلى غير ذلك. وكلها داخلة في المعنى وواقعة بالفعل. وقد ذكرت أقوال أخرى، ولكن لا تختص بيوم القيامة. ومنها: أن الشاهد الله والملائكة وأولوا العلم، والمشهود به وحدانية الله تعالى. ومنها: الشاهد المخلوقات، والمشهود به قدرة الله تعالى، فتكون الشهادة بمعنى العلامة. وأكثر المفسرين إيرادا في ذلك الفخر الرازي حيث ساقها كلها بأدلتها إلا ما ذكرناه من السنة فلم يورده. وقد جاء في السنة تعيين الشهادات لغير ما ذكر. منها الشهادة للمؤذن: ما يسمع صوته شجر ولا حجر ولا مدر، إلا شهد له يوم القيامة.
479 ومنها: شهادة الأرض على الإنسان بما عمل عليها المشار إليه في قوله تعالى: * (يومئذ تحدث أخبارها) *. ومنها: شهادة المال على صاحبه فيم أنفقه. ومنها: شهادة الصيام والقرآن وشفاعتهما لصاحبهما. ونحو ذلك والله تعالى أعلم. تنبيه في هذا العرض إشعار يتعلق بالقضاء وكمال العدالة، وهو إذا كان رب العزة سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء شهيد، وبكل شيء عليم، وموكل حفظة يكتبون أعمال العباد، ومع ذلك لم يقض بين الخلائق بما يعلمه منهم ولا بما سجلته ملائكته ويستنطق أعضاءهم، ويستشهد الرسل على الأمم والرسول صلى الله عليه وسلم على الرسل، أي بأنهم بلغوا أممهم رسالات الله إليهم، فلأن لا يقضي القاضي بعلمه من باب أولى. والعلم عند الله تعالى. وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (إنكم تحتكمون إلي وإنما أنا بشر أقضي لكم على نحو ما أسمع، فمن اقتطعت له شيئا من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نار) الحديث. أي كان من الممكن أن ينزل عليه الوحي، ولا سيما في تلك القضية بعينها، إذ قالوا في مواريث درست معالمها ولا بينة بينهما، ولكن إذا نزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم فيها، فمن بالوحي لمن يأتي بعده في القضاء؟ ولذا قال صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر). ومعلوم أن البينة فعيلة من البيان، فتشمل كل ما يبين الحق من شهادة وقرينة، كما في قصة يوسف من القرائن مع إخوته ومع امرأة العزيز. إلخ. * (قتل أصحاب الا خدود * النار ذات الوقود) *. قال أبو حيان، وجواب القسم في قوله تعالى: * (والسمآء ذات البروج) *، قيل: محذوف، فقيل: لتبعثن ونحوه، وقيل: مذكور، فقيل: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ونحوه، وقيل: قتل، وهذا نختاره، وحذفت اللام أي لقتل
480 وحسن حذفها كما حسن في قوله: * (والشمس وضحاها) *، ثم قال: * (قد أفلح من زكاها) *، أي لقد أفلح، ويكون الجواب دليلا على لعنة الله على من فعل ذلك، وتنبيها لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم. وإذا كان قتل هي الجواب فهي جملة خبرية، وإذا كان الجواب غيرها فهي جملة إنشائية، دعاء عليهم. وقرئ: قتل بالتشديد، قرأها الحسن وابن مقسم، وقرأها الجمهور بالتخفيف ا ه. والأخدود: جمع خد، وهو الشق في الأرض طويلا. وقوله: * (النار ذات الوقود) * الوقود بالضم وبالفتح، والقراءة بالفتح كالسحور، والوضوء. فبالفتح ما توقد به كصبور والماء المتوضأ به والطعام المتسحر به، وبالضم المصدر، والفعل والوقود بالضم ما توقد به. ذكر صاحب القاموس، والنار ذات الوقود: بدل من الأخدود. وقيل في معناها: عدة أقوال، حتى قال أبو حيان: كسلت عن نقلها. ونقل الفخر الرازي ثلاثة منها. والمشهور عند ابن كثير ما رواه أحمد ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني وحضر أجلي، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر والملك راهب، فأتى الغلام الراهب فسمع من كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا أراد الساحر ضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك، فقل: حبسني الساحر، فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة عظيمة فظيعة قد حبست الناس، فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر؟ قال: فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة، حتى يجوز الناس ورماها فقتلها، ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بني أنت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا
481 تدل علي، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليس أعمى فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني. فقال: ما أنا أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا. قال: لا، ربي وربك الله، قال: ولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني بلغ من سحرك أن تبرىء الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء، فقال: أما أنا لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عز وجل، قال: أنا. قالا: لا، قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله فأخذه أيضا بالعذاب حتى دل على الراهب فأوتي بالراهب فقيل: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرقه أيضا، وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال: إذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه، فذهبوا به فلما علوا به الجبل، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، فبعث به نفرا إلى البحر في فرفور، فقال: إذا لججتم به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه ، فقال الغلام: اللهم أكفنيهم بما شئت فغرقوا هم، وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني ففعل، ووضع السهم في قوسه ورماه به في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس آمنا برب الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر، فقد والله وقع بك، قد آمن الناس كلهم بأمر بأفواه السكك، فخدت فيها الأخاديد وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها قال: فكانوا يتمادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق. وقد قيل: إن الغلام دفن فوجد زمن عمر بن الخطاب ويده على صدغه، كلما رفعت خرج الدم من جرحه، وإذا تركت أعيدت على الجرح). وقد سقنا هذه القصة، وهي من أمثل ما جاء في هذه المعنى لما فيها من
482 العبر، والتي يمكن أن يستفاد منها بعض الأحكام، حيث إن ابن كثير، عزاها للإمام أحمد بن حنبل ومسلم، أي لصحة سندها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الآتي: الأول: أن السحر بالتعلم كما جاء قصة الملكين ببابل، هاروت وماروت يعلمان الناس السحر. الثاني: إمكان اجتماع الخير مع الشر: إذا كان الشخص جاهلا بحال الشر، كاجتماع الإيمان مع الراهب مع تعلم السحر من الساحر. ثالثا: إجراء خوارق العادات على أيدي دعاة الخير، لبيان الحق والتثبيت في الأمر، كما قال الغلام: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر؟ الرابع: أنه كان أميل بقلبه إلى أمر الراهب، إذ قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك، فسأل عن أمر الراهب ولم يسل عن أمر الساحر؟ الخامس: اعتراف العالم بالفضل لمن هو أفضل منه، كاعتراف الراهب للغلام. السادس: ابتلاء الدعاة إلى الله ووجوب الصبر على ذلك، وتفاوت درجات الناس في ذلك. السابع: إسناد الفعل كله لله، إنما يشفي الله. الثامن: رفض الداعي إلى الله الأجر على عمله وهدايته * (قل مآ أسألكم عليه من أجر) *. التاسع: بيان ركن أصيل في قضية التوسل، وهو أن مبناه على الإيمان بالله ثم الدعاء وسؤال الله تعالى. العاشر: غباوة الملك المشرك المغلق قلبه بظلام الشرك، حيث ظن في نفسه أنه الذي شفى جليسه. وهو لم يفعل له شيئا، وكيف يكون وهو لا يعلم؟ الحادي عشر: اللجوء إلى العنف والبطش عند العجز عن الإقناع والإفهام، أسلوب الجهلة والجبابرة. الثاني عشر: منتهى القسوة والغلظة في نشر الإنسان، بدون هوادة.
483 الثالث عشر: منتهى الصبر وعدم الرجوع عن الدين، وهكذا كان في الأمم الأولى، وبيان فضل الله على هذه الأمة، إذ جاز لها التلفظ بما يخالف عقيدتها وقلبها مطمئن بالإيمان. وقد جاء عن الفخر الرازي قوله: الآية تدل على أن المكره على الكفر بالإهلاك العظيم الأولى به أن يصبر على ما خوف منه، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك، وقال. وروى الحسن أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: تشهد أني رسول الله؟ فقال: نعم، فتركه، وقال للآخر مثله، فقال: لا بل أنت كذاب. فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الذي ترك فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه، وأما الذي قتل فأخذ بالأفضل فهنيئا له). وتقدم بحث هذه المسألة للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه. الرابع عشر: إجابة دعوة الغلام ونصرة الله لعباده المؤمنين: اللهم اكفنيهم بما شئت. الخامس عشر: التضحية بالنفس في سبيل نشر الدعوة، حيث دل الغلام الملك على الطريقة التي يتمكن الغلام بها من إقناع الناس بالإيمان بالله، ولو كان الوصول لذلك على حياته هو. السادس عشر: إبقاء جسمه حتى زمن عمر رضي الله عنه إكراما لأولياء الله، والدعاة من أن تأكل الأرض أجسامهم. السابع عشر: إثبات دلالة القدرة على البعث. الثامن عشر: حياة الشهداء لوجود الدم وعودة اليد مكانها، بحركة مقصودة. التاسع عشر: معرفة تلك القصة عند أهل مكة حيث حدثوا بها تخويفا من عواقب أفعالهم بضعفة المؤمنين، كما هو موضح في تمام القصة. العشرون: نطق الصبي الرضيع بالحق. * (إذ هم عليها قعود) *. الضمير في قوله: * (هم) *، والضمير في قوله: * (قعود) *، ذكر فيهما خلاف.
484 فقيل: راجعان إلى من أحرقوا وأقعدوا عليها. وقيل: راجعان إلى الكفار. وعليه نفي قوله: * (عليها قعود) *، إشكال وهو كيف يتمكن لهم القعود على النار. فقيل: إنها رجعت عليهم فأحرقتهم، فقعودهم عليها حقيقة. وقيل: قعود على حافتها. كما تقول: قعود على النهر أو على البئر أو على حافته وحوله، كما يقال: نزل فلان على ماء كذا، أي عنده. وأنشد أبو حيان بيت الأعشى: وأنشد أبو حيان بيت الأعشى: * تشب لمقرورين يصطليانها * وبات على النار الندى والمحلق * وقد استدل صاحب القول الأول بقوله تعالى الآتي: * (فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق) *، فقال: الحريق في الدنيا وجهنم في الآخرة. ولكن في الآية قرينة، على أن الضمائر راجعة إلى الكفار الذين قتلوا المؤمنين وأحرقوهم، وهي قوله: * (ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم) *، حيث رتب العذاب المذكور على عدم التوبة، وجاء بثم التي هي للتراخي، مما يدل على أنهم لم تحرقهم نارهم انتقاما منهم حالا، بل أمهلوا ليتوبوا من فعلتهم الشنيعة، وإلا فلهم العذاب المذكور في الآخرة. والله تعالى أعلم. * (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) *. بمعنى حضور يتفق قوله تعالى: * (إذ هم عليها قعود) *، أي حضور يشاهدون إحراق المؤمنين، وهذا زيادة في التبكيت بهم، إذ يرون هذا المظهر بأعينهم ولم يشفقوا بهم ولم يعتبروا بثباتهم. * (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) *. هذا ما يسمى أسلوب المدح بما يشبه الذم ونظيره في العربية أقوال الشاعر: وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) *. هذا ما يسمى أسلوب المدح بما يشبه الذم ونظيره في العربية أقوال الشاعر: * ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب *
485 وذكر أبو حيان قول الشاعر، وهو قيس الرقيات: وهو قيس الرقيات: * ما نقموا من بني أمية إلا * أنهم يحلمون إن غضبوا * وقول الآخر: وقول الآخر: * ولا عيب فيها غير شكلة عينها * كذاك عناق الطير شكلا عيونها * يقال عين شكلاء: إذا كان في بياضها حمرة قليلة يسيرة. وقدمنا أن نقمتهم عليهم للمستقبل، كما في قوله تعالى: * (إلا أن يؤمنوا بالله) *، لا على الماضي إلا أن آمنوا، لأنهم كانوا يقولون لهم: إما أن ترجعوا عن دينكم، وإما أن تلقوا في النار، ولم يحرقوهم على إيمانهم السابق، بل على إصرارهم على الإيمان للمستقبل. والإتيان هنا بصفتي الله تعالى العزيز الحميد إشعار بأنه سبحانه قادر على نصرة المؤمنين والانتقام من الكافرين، إذ العزيز هو الغالب، كما يقولون: من عز بز، ولكن جاء وصفه بالحميد، ليشعر بأمرين. الأول: أن المؤمنين آمنوا رغبة ورهبة، رغبة في الحميد على ما يأتي الغور الودود، ورهبة من العزيز كما سيأتي في قوله: * (إن بطش ربك لشديد) *، وهذا كمال الإيمان رغبة ورهبة وأحسن حالات المؤمن. والأمر الثاني: حتى لا ييأس أولئك الكفار من فضله ورحمته، كما قال: * (ثم لم يتوبوا) * إذ أعطاهم المهلة من آثار صفته الحميد سبحانه. * (الذى له ملك السماوات والا رض) *. تأكيد وبيان العزيز الحميد، إذ لا يخرج عن سلطانه أحد، فهو القاهر فوق عباده، وهو المدبر أمر ملكه، سبحانه وتعالى. * (والله على كل شىء شهيد) *. ربط بأول السورة وشاهد ومشهود، فهو سبحانه على كل شيء شهيد، ومن ذلك فعل أولئك، وفيه شدة تخويف أولئك وتحذيرهم ومن على شاكلتهم، بأن الله
486 تعالى شهيد على أفعالهم فلن تخفى عليه خافية. وقد جاء بصيغة المبالغة في شهيد، لما يتناسب مع هذا المقام كما فيه المقابلة بالفعل، كما كانوا قعودا على النار وشهودا على إحراق أولياء الله تعالى، فإنه سبحانه سيعاملهم بالمثل، إذ يحرقهم وهو عليهم شهيد. * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا) *. يحتمل أن يكون مرادا به أصحاب الأخدود، وفتنوا بمعنى أحرقوا، ويحتمل أن يكون عاما في كل من أذى المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ويردوهم عنه بأي أنواع الفتنة والتعذيب. وقد رجح الأخير أبو حيان وحمله على العموم أولى، ليشمل كفار قريش بالوعيد والتهديد، وتوجيههم إلى التوبة مما أوقعوه بضعفة المؤمنين، كعمار وبلال وصهيب وغيرهم. ويرجح هذا العموم، العموم الآخر الذي يقابله في قوله: * (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجرى من تحتها الا نهار ذلك الفوز الكبير) *، فهذا عام بلا خلاف في كل من اتصف بهذه الصفات. * (إن بطش ربك لشديد) *. في مقام المنطوق بالمفهوم من العزيز الحميد، كما تقدم. * (إنه هو يبدىء ويعيد) *. قيل: يبدىء الخلق ويعيده، كالزرع والنبات والإنسان بالمولد والموت، ثم بالبعث. وقيل: يبدأ الكفار بالعذاب ويعيده عليهم، واستدل لهذا بقوله * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) *. وفي الحديث: (ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، ثم يأتي بها أوفر ما تكون سمنا فتطؤه بخفافها فتستن عليه كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولها، حتى يقضي بين الخلائق فيرى مصيره إما إلى جنة، وإما إلى نار)
487 إلى آخر الحديث في صاحب البقر والغنم والذهب. ولكن الذي يظهر والله تعالى أعلم هو الأول، لأنه يكثر في القرآن كقوله تعالى: * (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده) *. وقوله: * (قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون) *. وجعله آية على قدرته ودليلا على عجز ونقص الشركاء، في قوله في أول هذه الآية: * (قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده) * ورد عليهم بقوله: * (قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده) *، وقوله: * (كما بدأنآ أول خلق نعيده وعدا علينآ إنا كنا فاعلين) *. * (هل أتاك حديث الجنود * فرعون وثمود) *. بعد عرض قصة أصحاب الأخدود تسلية للؤمنين وتثبيتا لهم، وزجرا للمشركين وردعا لهم، جاء بأخبار لبعض من سبق من الأمم وفرعون وثمود بدل من الجنود، وهم جمع جند، وهم الكثرة وأصحاب القوة، وحديثه ما قص الله من خبره مع موسى وبني إسرائيل. وفي اختيار فرعون هنا بعد أصحاب الأخدود لما بينهما من المشاكلة والمشابهة، إذ فرعون طغى وادعى الربوبية، كملك أصحاب الأخدود الذي قال لجليسه: ألك رب غيري؟ ولتعذيبه بني إسرائيل بتقتيل الأولاد واستحياء النساء، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم، ولتقديم الآيات والبراهين على صدق الداعية، إذ موسى عليه السلام قدم لفرعون من آيات ربه الكبرى فكذب وعصى، والغلام قدم لهذا الملك الآيات الكبرى: إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وعجز فرعون عن موسى وإدراكه، وعجز الملك عن قتل الغلام إذ نجاه الله من الإغراق والدهدهة من قمة الجبل، فكان لهذا أن يرعوي عن ذلك ويتفطن للحقيقة، ولكن سلطانه أعماه كما أعمى فرعون. وكذلك آمن السحرة لما رأوا آية موسى وخروا لله سجدا. وهكذا هنا آمن الناس برب الغلام، فوقع الملك فيما وقع فيه فرعون. إذ جمع فرعون السحرة ليشهد الناس عجز موسى وقدرته، فانقلب الموقف عليه، وكان أول
488 الناس إيمانا هم أعوان فرعون على موسى، وهكذا هنا كان أسرع الناس إيمانا الذي جمعهم الملك ليشهدوا قتله للغلام. فظهر تناسب ذكر فرعون دون غيره من الأمم الطاغية السابقة، وإن كان في الكل عظة وعبرة، ولكن هذا منتهى الإعجاز في قصص القرآن وأسلوبه، والله تعالى أعلم. وكذلك ثمود لما كان منهم من مظاهر القوة والطغيان، وقد جمعها الله أيضا معا في سورة الفجر في قوله: * (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذى الا وتاد) *، وهكذا جمعها هنا فرعون وثمود. * (بل الذين كفروا فى تكذيب) *. أي مستمر في كل الأمم، وتقدم في سورة الانفطار قبلها * (بل الذين كفروا يكذبون) *. فقال الكرماني، محمود بن حمزة بن نصر تاج القراء في كتابه أسرار التكرار في القرآن: إن المغايرة لمراعاة رؤوس الآي والفواصل، ولكن الظاهر من السياق في الموضعين مراعاة السياق لا فواصل الآي، لأن في سورة الانشقاق الحديث مع المشركين * (لتركبن طبقا عن طبق * فما لهم لا يؤمنون * وإذا قرىء عليهم القرءان لا يسجدون * بل الذين كفروا يكذبون) *. وفي سورة البروج هنا ذكر الأمم من فرعون وثمود وأصحاب الأخدود والمشركين في مكة، ثم قال: * (بل الذين كفروا يكذبون) *، فناسب هذا هنا، وناسب ذاك هناك. والله تعالى أعلم.
489 ((سورة الطارق)) * (والسمآء والطارق * ومآ أدراك ما الطارق * النجم الثاقب * إن كل نفس لما عليها حافظ * فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من مآء دافق * يخرج من بين الصلب والترآئب * إنه على رجعه لقادر * يوم تبلى السرآئر * فما له من قوة ولا ناصر * والسمآء ذات الرجع * والارض ذات الصدع * إنه لقول فصل * وما هو بالهزل * إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) * * (والسمآء والطارق) *. أصل الطرق في اللغة: الدق، ومنه المطرقة، ولذا قالوا للآتي ليلا: طارق، لأنه يحتاج إلى طرق الباب. وعليه قول امرئ القيس: وعليه قول امرئ القيس: * فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع * فألهيتها عن ذي تمائم محول * أي جئتها ليلا، وقول الآخر: أي جئتها ليلا، وقول الآخر: * ألم ترياني كلما جئت طارقا * وجدت بها طيبا وإن لم تطيب * وقول جرير: وقول جرير: * طرقتك صائدة القلوب وليس ذا * وقت الزيارة فارجعي بسلام * وفي الحديث: (أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان)، فهو لفظ عم في كل ما يأتي شيئة المفاجىء، ولكأنه يأتي في حالة غير متوقعة، ولكنه هنا خص بما فسر به بعده في قوله تعالى: * (ومآ أدراك ما الطارق * النجم الثاقب) *. فقيل: ما يثقب الشياطين عند استراق السمع، كما تقدم في قوله تعالى: * (فمن يستمع الا ن يجد له شهابا رصدا) *، فيكون عاما في كل نجم. وقيل: خاص، فقيل: زحل وقيل: المريخ، وقيل: الثريا، لأنه إذا أطلق النجم عند العرب، كان مرادا به الثريا. وتقدم هذا للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في أول سورة النجم.
490 وقيل: الثاقب المضيء، يثقب الظلام بضوئه، وعليه فهو للجنس عامة، لأن النجوم كلها مضيئة. قال القرطبي، وقال سفيان: كل ما في القرآن وما أدراك فقد أخبره به، وكل شيء قال فيه: وما يدريك، لم يخبره به. والواقع أنه الغالب، فقد جاءت: (وما أدراك) ثلاث عشرة مرة، كلها أخبره بها إلا واحدة، وهي في الحاقة * (ومآ أدراك ما الحاقة) * وما عداها، فقد أخبره بها، وهي: * (ومآ أدراك ما سقر * لا تبقى ولا تذر) *. وفي المرسلات * (ومآ أدراك ما يوم الفصل) *. وفي الانفطار: * (ومآ أدراك ما يوم الدين) * إلى قوله * (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا) *. وفي المطففين: * (ومآ أدراك ما سجين * كتاب مرقوم) *. وفي البلد: * (ومآ أدراك ما العقبة * فك رقبة) *. وفي القدر: * (ومآ أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر) *. وفي القارعة: * (ومآ أدراك ما القارعة) *. وأيضا: * (فأمه هاوية ومآ أدراك ما هيه نار حامية) *، وفي هذه السورة * (ومآ أدراك ما الطارق النجم الثاقب) *، فكلها أخبره عنها إلا في الحاقة. تنبيه يلاحظ أنها كلها في قصار السور من الحاقة وما بعدها، أما ما يدريك، فقد جاءت ثلاث مرات فقط، * (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) *، في الأحزاب، * (وما يدريك لعل الساعة قريب) *، في الشورى، * (وما يدريك لعله يزكى) * في عبس وتولى، فلم يخبره فيها صراحة، إلا أنه في
491 الثالثة قد يكون أخبره لأنه قال * (لعله يزكى) * فهو وإن لم يصرح هل هو تزكى أم لا، إلا أن لعل من الله تعالى للتحقيق، كما هو معلوم. تنبيه آخر قال كثير من المفسرين: أقسم الله بالسماء، وبالنجم الطارق لعظم أمرهما، وكبر خلقهما كما في قوله: * (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) *، ولأنه أقسم بالنجم إذا هوى. وفيما تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ترجيح كون مواقع النجوم، * (والنجم إذا هوى) *: إنما هو نجوم القرآن وتنزيله منجما وهو به نزول الملك به على النبي صلى الله عليه وسلم. * (إن كل نفس لما عليها حافظ) *. قيل: حافظ لأعماله يحصيها عليه، كما في قوله: * (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) *. وقيل: حافظ، أي حارس، كقوله تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) *، والسياق يشهد للمعنيين معا، لأن قوله تعالى بعده * (فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من مآء دافق * يخرج من بين الصلب والترآئب) * يدل على أنه في تلك المراحل في حفظ، فهو أولا في قرار مكين. وفي الحديث: (أن الله وكل بالرحم ملكا) الحديث. وبعد بلوغه سن التكليف يجري عليه القلم فيحفظ عليه عمله، فلا مانع من إرادة المعنيين معا، وليس هذا من حمل المشترك على معنييه، لأن كلا من المعنيين له متعلق، يختص بزمن خلاف الآخر. * (فلينظر الإنسان مم خلق) *. الإنسان هنا خاص ببني آدم وذريته عامة، ولم يدخل فيه آدم ولا حواء ولا عيسى عليه السلام لأنه بين ما خلق منه، وهو في قوله تعالى: * (خلق من مآء دافق * يخرج من بين الصلب والترآئب) *
492 . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذه الآية عند قوله تعالى: * (خلق الإنسان من نطفة) *، في سورة النحل، وفي سورة الواقعة عند قوله تعالى: * (أفرءيتم ما تمنون * أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) *، وتقدمت الإشارة إليه عند قوله تعالى: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) *، في سورة الدهر. * (إنه على رجعه لقادر) *. (إنه) هنا أي إن الله على رجعه، الضمير فيه، قيل: راجع للماء الدافق، أي أنه سبحانه قادر على رجع هذا الماء من حيث خرج، كرد اللبن إلى الضرع مثلا، ورد الطفل إلى الرحم، وهذا مروي عن عكرمة ومجاهد. وقيل: على رجع الإنسان بعد الموت، وهذا وإن كان في الأول دلالة على القدرة، ولا يقدر عليه إلا الله، إلا أن في السياق ما يدل على أن المراد، هو الثاني لعدة أمور: الأول: أن رد الماء لم يتعلق به حكم ولا أمر آخر سوى إثبات القدرة بخلاف رجع الإنسان بعد الموت، فهو قضية الإيمان بالبعث. ويتعلق به كل أحكام يوم القيامة. الثاني: مجيء القرآن بالخلق الأول، دليل على الإعادة بعد الموت، كقوله تعالى في يس: * (وضرب لنا مثلا ونسى خلقه) * أي من ماء دافق * (قال من يحى العظام وهى رميم قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة) *، أي من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب. الثالث: أن الأول يحتاج معه إلى تقدير عامل ليوم تبلى السرائر، نحو اذكر مثلا بخلاف الثاني، فإن العامل فيه: هو لقادر، أي لقادر على رجعه يوم تبلى السرائر. ونقل أبو حيان عن ابن عطية قوله: وكل من خالف ذلك إنما فر من أن يكون (لقادر) هو العامل في الظرف، لأنه يوهم أن قدرته على رجعه مقيدة بذلك. ولكن بتأمل أسلوب العرب يعلم جوازه، لأنه قال: * (إنه على رجعه لقادر) * على الإطلاق أولا وآخرا، وفي كل وقت ثم ذكر تعالى: وخصص من الأوقات الوقت الأهم
493 على الكفار، لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب للتحذير منه. ا ه. فظهر بذلك أن الضمير في رجعه عائد للإنسان أي بعد موته بالبعث، وأن العامل هو (لقادر). * (يوم تبلى السرآئر. تقدم للشيخ رحمة الله علينا وعليه بيانه عند الكلام على قوله تعالى: * (هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت) *، وساق عندها هذه الآية، وسيأتي التصريح به في سورة العاديات عند قوله تعالى: * (أفلا يعلم إذا بعثر ما فى القبور * وحصل ما فى الصدور) *. وقد أجمل ابتلاء السرائر. وكذلك أجمل الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بإيراد الآيات. وذكر المفسرون: أن المراد بها أمانة التكليف فيما لا يعلمه إلا الله، ومثلوا لذلك بالحفاظ على الطهارة للصلاة، وغسل الجنابة، وحفظ الصوم، ونحو ذلك. ومنه العقائد وصدق الإيمان أو النفاق، عياذا بالله. والسرائر: هي كل ما يخفيه الإنسان حتى في المعاملات مع الناس، كما في الأثر (الكيس من كانت له عند الله خبيئة سر)، وقوله: * (وأسروا قولكم أو اجهروا به) *، فالسر ضد الجهر، وقال الأحوص: وأسروا قولكم أو اجهروا به) *، فالسر ضد الجهر، وقال الأحوص: * سيبقى لها في مضمر القلب والحشا * سريرة ود يوم تبلى السرائر * قال أبو حيان: سمعه الحسن، فقال: ما أغفله عما في السماء والطارق. * (فما له من قوة ولا ناصر) *. قالوا: ليس من قوة في نفسه لضعفه، ويدل عليه قوله: * (وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة) *. وقوله: * (خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة) * أي من الضعف وشدة الخوف، ولا ناصر له من غيره، كما في قوله: * (ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا) *.
494 وقوله: * (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والا مر يومئذ لله) *. * (والسمآء ذات الرجع * والارض ذات الصدع) *. قيل: رجع السماء: إعادة ضوء النجوم والشمس والقمر. وقيل: الرجع: الملائكة ترجع بأعمال العباد. وقيل الرجع: المطر وأرزاق العباد. والأرض ذات الصدع، قيل: تنشق عن الخلائق يوم البعث. وقيل: تنشق بالنبات. والذي يشهد له القرآن: أن الرجع والصدع متقابلان من السماء والأرض بالمطر والنبات. * (إنه لقول فصل) *. قال ابن كثير: قال ابن عباس حق. وكذا قال قتادة، وقال آخرون: حكم عدل. وقال القرطبي: إنه أي القرآن، يفصل بين الحق والباطل. وقيل: هو ما تقدم من الوعيد في هذه السورة * (إنه على رجعه لقادر * يوم تبلى السرآئر) *. وقال أبو حيان بما قال به القرطبي أولا، ثم جوز أن يكون مرادا به الثاني، أي أن الإخبار عن رجع الإنسان يوم تبلى السرائر، قول فصل، وهذا ما يفيده كلام ابن جرير، وعزاه النيسابوري إلى القفال. وسياق السورة يشهد لهذا القول الثاني، لأن السورة كلها في معرض إثبات القدرة على البحث، وإعادة الإنسان بعد الفناء، حيث تضمنت ثلاثة أدلة من أدلة البعث. الأول: السماء ذات الطارق. لعظم خلقتها، وعظم دلالتها على القدرة.
495 الثاني: خلق الإنسان أولا من ماء دافق، كما في قوله: * (قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة) *. الثالث: مجموع قوله: * (والسمآء ذات الرجع * والارض ذات الصدع) *، أي إنزال المطر، وإنبات النبات وهو إحياء الأرض بعد موتها. فناسب أن يكون الإقسام على تحقق البعث. وأكد هذا ما جاء بعده من الوعيد بالإمهال رويدا، وقد سمي يوم القيامة بيوم الفصل، كما في قوله: * (لأي يوم أجلت * ليوم الفصل * ومآ أدراك ما يوم الفصل * ويل يومئذ للمكذبين) *. وذكر الويل في هذه الآية للمكذبين يعادل الإمهال في هذه السورة للكافرين، وإذا ربطنا بين القسم والمقسم عليه، لكان أظهر وأوضح، لأن رجع الماء بعد فنائه بتلقيح السحاب من جديد يعادل رجع الإنسان بعد فنائه في الأرض، وتشقق الأرض عن النبات يناسب تشققها يوم البعث عن الخلائق، والله تعالى أعلم. * (إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا) *. نسبة هذا الفعل له تعالى قالوا إنه: من باب المقابلة كقوله: * (ومكروا ومكر الله) *، وقوله: * (إنما نحن مستهزءون الله يستهزىء بهم) *، وهو في اللغة، كقول القائل، لما سئل عن أي الطعام يريد، وهو عار يريد كسوة. الله يستهزىء بهم) *، وهو في اللغة، كقول القائل، لما سئل عن أي الطعام يريد، وهو عار يريد كسوة. * قالوا اختر طعاما نجد لك طبخة * قلت اطبخوا لي جبة وقيمصا * وقد اتفق السلف، أنه لا ينسب إلى الله تعالى على سبيل الإطلاق، ولا يجوز أن يشتق له منه اسم، وإنما يطلق في مقابل فعل العباد، لأنه في غير المقابلة لا يليق بالله تعالى، وفي معرض المقابلة فهو في غاية العلم والحكمة والقدرة، والكيد أصله المعاجلة للشيء بقوة. وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: والعرب قد تطلق الكيد على المكر، والعرب قد يسمون المكر كيدا، قال الله تعالى: * (أم يريدون كيدا) *، وعليه فالكيد هنا لم يبين، فإذا كان بمعنى المكر، فقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا
496 وعليه بيان شيء منه عند قوله تعالى: * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) *، بأن مكرهم محاولتهم قتل عيسى، ومكر الله إلقاء الشبه، أي شبه عيسى على غير عيسى. وتقدم قوله تعالى: * (قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) *، وهذا في قصة النمرود، فكان مكرهم بنيان الصرح ليصعد إلى السماء، فكان مكر الله بهم أن تركهم حتى تصاعدوا بالبناء، فأتى الله بنيانهم من القواعد، فهدمه عليهم. وهكذا الكيد هنا، إنهم يكيدون للإسلام والمسلمين يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم، والله يكيد لهم بالاستدراج حتى يأتي موعد إهلاكهم، وقد وقع تحقيقه في بدر، إذ خرجوا محادة لله ولرسوله، وفي خيلائهم ومفاخرتهم وكيد الله لهم أن قلل المؤمنين في أعينهم، حتى طمعوا في القتال، وأمطر أرض المعركة، وهم في أرض سبخة، والمسلمون في أرض رملية فكان زلقا عليهم وثباتا للمؤمنين، ثم أنزل ملائكته لقتالهم. والله تعالى أعلم. * (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) *. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب، ما نصه: هذا الإمهال المذكور هنا ينافيه قوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *. والجواب: أن الإمهال منسوخ بآيات السيف ا ه. وهذا ما يفيده كلام الطبري، وإن لم يصرح به وهو منصوص القرطبي. ولعل في نفس الآية ما يدل على ذلك وهو قوله: * (أمهلهم رويدا) *، لأن رويدا بمعنى قليلا، فقد قيد الإمهال بالقلة مما يشعر بمجيء النسخ وأنه ليس نهائيا. والله تعالى أعلم.
497 ((سورة الأعلى)) * (سبح اسم ربك الاعلى * الذى خلق فسوى * والذى قدر فهدى * والذى أخرج المرعى * فجعله غثآء أحوى * سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شآء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى * ونيسرك لليسرى * فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى * ويتجنبها الا شقى * الذى يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحيا * قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحيواة الدنيا * والا خرة خير وأبقى * إن هاذا لفى الصحف الا ولى * صحف إبراهيم وموسى) * * (سبح اسم ربك الاعلى) *. تقدم معنى التسبيح وهو التنزيه عن كل ما لا يليق، والأمر بالتسبيح هنا منصب على * (اسم ربك) *، وفي آيات أخر، جاء الأمر بتسبيح الله تعالى كقوله: * (ومن اليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) *. ومثل: * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) *. وتسبيح الرب سبحانه كقوله: * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) *، فاختلف في هذه الآية، هل المراد تسبيح الله سبحانه أو المراد تسبيح اسمه تعالى، كما هو هنا؟ ثم اختلف في المراد بتسبيح اسم الله تعالى، وجاءت مسألة الاسم والمسمى. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الواقعة، عند قوله تعالى: * (فسبح باسم ربك العظيم) *، قوله: إن الباء هناك داخلة على المفعول كدخولها عليه في قوله: * (وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) *، وأحال على متقدم في ذلك، وحكى كلام القرطبي أن الاسم بمعنى المسمى، واستشهد له من كلام العرب بقول لبيد: وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) *، وأحال على متقدم في ذلك، وحكى كلام القرطبي أن الاسم بمعنى المسمى، واستشهد له من كلام العرب بقول لبيد: * إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر * وقال: لا يلزم في نظري أن الاسم بمعنى المسمى هنا، لإمكان كون المراد نفس الاسم، لأن أسماء الله ألحد فيها قوم ونزهها آخرون، ووصفها الله بأنها بالغة غاية الحسن، لاشتمالها على صفاته الكريمة، كما في قوله: * (ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها) *.
498 وقوله تعالى: * (أيا ما تدعوا فله الا سمآء الحسنى) *. ثم قال: ولسنا نريد أن نذكر كلام المتكلمين في الاسم والمسمى هل الاسم هو المسمى أو لا؟ لأن مرادنا هنا بيان معنى الآية. ا ه. فتضمن كلامه رحمة الله تعالى علينا وعليه، احتمال كون المراد: تنزيه اسم الله عما ألحد فيه الملحدون، كاحتمال تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله، كما تضمن عدم لزوم كون الاسم هنا بمعنى المسمى، ولعلنا نورد مجمل بيان تلك النقاط إن شاء الله. أما تنزيه أسماء الله فهو على عدة معان. منها: تنزيهها عن إطلاقها على الأصنام كاللات والعزى واسم الآلهة. ومنها: تنزيهها عن اللهو بها واللعب، كالتلفظ بها في حالة تنافي الخشوع والإجلال كمن يعبث بها ويلهو، ونظيره من يلهو ويسهو عن صلاته، * (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون) *، أو وضعها في غير مواضعها، كنقش الثوب أو الفراش الممتهن. ومنها: تنزيهها عن المواطن غير الطاهرة، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه لما في من نقش محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنه: صيانة الأوراق المكتوبة من الابتذال صونا لاسم الله. وعلى هذا تكون هذه الآية موضحة لآية الواقعة، وأن * (اسم ربك) * واقع موقع المفعول به، وهو المراد بالتسبيح، وعلى أن المراد تسبيح الله تعالى، فقالوا: إن الاسم هو المسمى، كما قال القرطبي وغيره، وقالوا: الاسم صلة، كما في بيت لبيد المتقدم. أما مسألة الاسم هل هو عين المسمى أم لا، فقد أشار إليها الفخر الرازي، وقال: إنه وصف ركيك. أما قول الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، ولا يلزم في نظري كون الاسم بمعنى المسمى هنا، فإنه بلازم إلى بسط قليل، ليظهر صحة ما قاله.
499 وقد ناقشها الرازي بعد مقدمة، قال فيها: من الناس من تمسك بهذه الآية، في أن الاسم نفس المسمى. فأقول: إن الخوض في الاستدلال لا يمكن إلا بعد تلخيص محل النزاع، فلا بد ها هنا من بيان أن الاسم ما هو والمسمى ما هو. فنقول: إن كان المراد من الاسم هو هذا اللفظ، وبالمسمى تلك الذات، فالعاقل لا يمكن أن يقول: الاسم هو المسمى، وإن كان المراد من الاسم هو تلك الذات، وبالمسمى أيضا تلك الذات. كان قولنا الاسم نفس المسمى، هو أن تلك الذات هي تلك الذات. وهذا لا يمكن أن ينازع فيه عاقل، فعلمنا أن هذه المسألة في وصفها ركيكة، وذكر الاشتباه على المتأخرين بسبب لفظ الاسم الذي هو قسيم الفعل والحرف، إذ هو مراد المتقدمين في إطلاقه وإرادة مسماه. ومن هنا تعلم: لماذا أعرض الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عن بيانها؟ وقد أوردنا هذا البيان المجمل، لنطلع القارئ إليه، وعلى كل تقدير عند المتقدمين أو المتأخرين فإنه إن وقع الاحتمال في الذوات الأخرى فلا يقع في ذات الله وأسمائه، لأن لأسماء الله أحكاما لا لأسماء الآخرين، ولأسمائه سبحانه حق التسبيح والتنزيه والدعاء بها كما تقدم. وهنا وجهة نظر لم أر من صرح بها، ولكن قد تفهم من كلام بعض المفسرين وتشير إليها السنة. وهي: أن يكون التسبيح هنا بمعنى الذكر والتعبد، كالتحميد والتهليل والتكبير. وقد جاء في كلام الرازي قوله: ويكون المعنى سبح ربك بذكر أسمائه، ونحوه في بعض نقول الطبري. أما إشارة السنة إلى ذلك، فقد روى الطبري وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنها لما نزلت، قال صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأها: (سبحان ربي الأعلى). وكذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت * (فسبح باسم ربك العظيم) *، قال: (اجعلوها في ركوعكم) ولما نزلت هذه قال: (اجعلوها في سجودكم)
500 . وساق القرطبي أثرا طويلا في فضلها في الصلاة وخارج الصلاة، لكنه ليس بصحيح. وجاء الحديث الصحيح (تسبحون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وتكبرون ثلاثا وثلاثين، وتحمدون المائة بلا إله إلا الله). وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، بعد أن نزلت عليه * (إذا جآء نصر الله والفتح) *، إلا يقول: ( سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)، وقالت: يتأول القرآن. وقالت أم سلمة: (إنه كان يقولها في قيامه وقعوده، ومجيئه وذهابه، صلى الله عليه وسلم) فيكون سبح اسم ربك: أي اذكر ربك. وهذا ما دلت عليه الآية الأخرى في هذه السورة نفسها في قوله تعالى: * (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى) * فصرح بذكر اسم ربك، كما جاء * (سبح اسم ربك) *، فوضع الذكر موضع التسبيح، وهو ما أشرنا إليه. وبالله تعالى التوفيق. * (الذى خلق فسوى) *. أطلق الخلق ليعم كل مخلوق كما تقدم في السجدة، الذي أحسن كل شيء خلقه، والتسوية التقويم والتعديل، وقد خلق الله كل مخلوق مستو على أحسن ما يتناسب لخلقته وما خلق له، فخلق السماوات فسواها في أقوى بناء، وأعلى سمك، وأشد تماسك، لا ترى فيها من تشقق ولا فطور، وزينها بالنجوم، وخلق الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها وجعلها فراشا ومهادا، وخلق الأشجار فسواها على ما تصلح له من ذوات الثمار ووقود النار وغير ذلك. وهذه الحيوانات في خلقتها وتسويتها آية * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السمآء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الا رض كيف سطحت) *. أما الإنسان فهو في أحسن تقويم، كل ذلك مما يستوجب حقا له سبحانه أن يسبح
501 اسمه في ذاته، وجميع صفاته، حيث جمع بين الخلق والتسوية، فلكمال القدرة والتنزيه عن كل نقص. * (والذى قدر فهدى) *. أطلق هنا التقدير ليعم كل مقدور، وهو عائد على كل مخلوق، لأن من لوازم الخلق التقدير، كما قال تعالى: * (إنا كل شىء خلقناه بقدر) *، وقوله: * (قد جعل الله لكل شىء قدرا) *، وهذه الآية ومثيلاتها من أعظم آيات القدرة، وقد جمعها تعالى عند التعريف التام لله تعالى، لما سأل فرعون نبي الله موسى عن ربه قال: * (فمن ربكما ياموسى قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) * وقد تقدم بيان عموم قوله تعالى: * (الذى خلق فسوى) *، وهنا قدر كل ما خلق، وهدى كل مخلوق إلى ما قدره له، ففي العالم العلوي قدر مقادير الأمور، وهدى الملائكة لتنفيذها، وقدر مسير الأفلاك، وهداها إلى ما قدر لها، كل في فلك يسبحون. وفي الأشجار والنباتات قدر لها أزمنة معينة في إيتائها وهدايتها إلى ما قدر لها، فالجذر ينزل إلى أسفل والنبتة تنمو إلى أعلى، وهكذا الحيوانات في تلقيحهاونتاجها وإرضاعها، كل قد هداه إلى ما قدر له، وهكذا الإنسان. وقد قال الفخر الرازي: إن العالم كله داخل تحت منطوق هذه الآية. أما معناها بالتفصيل، فتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة طه عند الكلام على قوله تعالى: * (قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) *. * (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شآء الله) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى * (نقرئك) * في سورة طاه في الكلام على قوله تعالى: * (ولا تعجل بالقرءان من قبل إن يقضى إليك وحيه) *، وبينه بآية القيامة * (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرءانه) *.
502 وقوله: فلا تنسى: بحثه رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب مع ما ينسخ من الآيات فينساه، وسيطبع إن شاء الله تعالى مع هذه التتمة، تتمة للفائدة. * (فذكر إن نفعت الذكرى) *. هل، * (إن) * هنا بمعنى إذ أو أنها شرطية؟ وهل للشرط مفهوم مخالفة أم لا؟ كل ذلك بحثه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بتوسع في دفع إيهام الاضطراب، ورجح أنها شرطية، وقسم المدعو إلى ثلاثة أقسام مقطوع بنفعه، ومقطوع بعدم نفعه، ومحتمل وقال: محل التذكير ما لم يكن مقطوعا بعدم نفعه، كمن بين له مرارا فأعرض، كأبي لهب، وقد أخبر الله عنه بمآله فلا نفع في تذكيره. * (سيذكر من يخشى) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان الحكمة من الذكرى. ومنها تذكير المؤمنين، وذلك في الكلام على قوله تعالى: * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) *، في سورة الذاريات. * (ويتجنبها الا شقى * الذى يصلى النار الكبرى) *. أي بسبب شقائهم السابق أزلا، كما قال تعالى: * (فأما الذين شقوا ففى النار لهم فيها زفير وشهيق) *. * (ثم لا يموت فيها ولا يحيا) *. نفى عنه الضدين، لأن الإنسان بالذات إما حي وإما ميت، ولا واسطة بينهما، ولكن في يوم القيامة تتغير الموازين والمعايير، وهذا أبلغ في التعذيب، إذ لو مات لاستراح، ومع أنه يتلقى من العذاب ما لا حياة معه، كما في قوله تعالى: * (لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها) *. وقوله: * (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان معنى ذلك في سورة طه عند الكلام
503 على قوله تعالى: * (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) *. * (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى) *. أسند الفلاح هنا إلى من تزكى وذكر اسم ربه فصلى، وفي غير هذه الآية أسند التزكية لمشيئة الله في قوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) *، وفي آية أخرى، نهى عن تزكية النفس. وقد تقدم للشيخ بيان ذلك في سورة النور عند الكلام على قوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد) * على أن زكى بمعنى تطهر من الشكر والمعاصي، لا على أنه أخرج الزكاة، والذي يظهر أن آية النجم إنما نهى فيها عن تزكية النفس لما فيه من امتداحها، وقد لا يكون صحيحا كما في سورة الحجرات * (قالت الا عراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا) * والله تعالى أعلم. * (بل تؤثرون الحيواة الدنيا * والا خرة خير وأبقى * إن هاذا لفى الصحف الا ولى * صحف إبراهيم وموسى) *. قرىء: تؤثرون بالتاء وبالياء راجعا إلى * (الا شقى الذى يصلى النار الكبرى) *، وعلى أنها بالتاء للخطاب أعم، وحيث إن هذا الأمر عام في الأمم الماضية، ويذكر في الصحف الأولى كلها عامة، وفي صحف إبراهيم وموسى، مما يدل على خطورته، وأنه أمر غالب على الناس. وقد جاءت آيات دالة على أسباب ذلك منها الجهل وعدم العلم بالحقائق، كما في قوله تعالى: * (وما هاذه الحيواة الدنيآ إلا لهو ولعب وإن الدار الا خرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون) *، أي الحياة الدائمة. وقد روى القرطبي عن مالك بن دينار قوله: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى؟ ومن أسباب ذلك أن الدنيا زينت للناس وعجلت لهم كما في قوله: * (زين للناس
504 حب الشهوات من النسآء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث) *. ثم قال: * (ذالك متاع الحيواة الدنيا والله عنده حسن المأب) *. وبين تعالى هذا المآب الحسن وهو في وصفه يقابل * (والا خرة خير وأبقى) *، فقال: * (قل أؤنبئكم بخير من ذالكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الا نهار خاالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد) *. تأمل هذا البديل، ففي الدنيا ذهب وخيل ونساء والأنعام والحرث، وقد قابل ذلك كله بالجنة فعمت وشملت، ولكن نص على أزواج مطهرة ليعرف الفرق بين نساء الدنيا ونساء الآخرة، كما تقدم في * (أنهار من مآء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين) *، * (لا يصدعون عنها ولا ينزفون) *، وغير ذلك مما ينص على الخيرية في الآخرة. ولا شك أن من آثر الآخرة غالب على من آثر الدنيا، وظاهر عليه، كما صرح تعالى بذلك في قوله: * (زين للذين كفروا الحيواة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشآء بغير حساب) *. فمن هذا يظهر أن أسباب إيثار الناس للحياة الدنيا هو تزيينها وزخرفتها في أعينهم بالمال والبنين والخيل والأنعام * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا) *. وقد سيق هذا، لا على سبيل الإخبار بالواقع فحسب، بل إن من ورائه ما يسمى لازم الفائدة، وهو ذم من كان هذا حاله، فوجب البحث عن العلاج لهذه الحالة. وإذا ذهبنا نتطلب العلاج فإننا في الواقع نواجه أخطر موضوع على الإنسان، لأنه يشمل حياته الدنيا ومآله في الآخرة، ويتحكم في سعادته وفوزه أو شقاوته وحرمانه، وإن أقرب مأخذ لنا لهو هذا الموطن بالذات من هذه السورة، وهو بضميمة ما قبلها إليها من قوله تعالى: * (سيذكر من يخشى * ويتجنبها الا شقى * الذى يصلى النار الكبرى) *، وبعدها * (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى) *
505 ، فقد قسمت هذه الآيات الأمة كلها أمة الدعوة إلى قسمين. أما التذكير والإنذار، إذ قال تعالى: * (فذكر إن نفعت الذكرى) *، فهذا موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء تقسيم الأمة إلى القسمين الآيتين: * (سيذكر من يخشى) *: فينتفع بالذكرى وتنفعه، * (ويتجنبها الا شقى) *، فلا تنفعه ولا ينتفع بها، ثم جاء الحكم بالفلاح: * (قد أفلح من تزكى) *، أي من يخشى * (وذكر اسم ربه فصلى) *، ولم يغفل عن ذكر الله تعالى، وهذا الموقف بنفسه هو المفصل في سورة الحديد، وفي معرض التوجيه لنا والتوبيخ للأمم الماضية أيضا * (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الا مد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) *. فقسوة القلب وطول الأمد والتسويف: هي العوامل الأساسية للغفلة وإيثار الدنيا. والخشية والذكر: هي العوامل الأساسية لإيثار الآخرة ثم عرض الدنيا في حقيقتها بقوله: * (اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الا موال والا ولاد كمثل غيث) * إلى قوله * (والله ذو الفضل العظيم) *. فوصف الداء والدواء معا في هذا السياق. فالداء: هو الغرور، والدواء: هو المسابقة إلى مغفرة من الله ورضوانه. وقوله: * (إن هاذا لفى الصحف الا ولى) *، قيل: اسم الإشارة راجع إلى السورة، كلها لتضمنها معنى التوحيد والمعاد والذكر والعبادات، والصحف الأولى: هي صحف إبراهيم وموسى، على أنها بدل من الأولى. وجاء عند القرطبي: أن صحف إبراهيم كانت أمثالا، وصحف موسى كانت مواعظ، وذكر نماذج لها. وعند الفخر الرازي من رواية أبي ذر رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم (كم أنزل الله من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب على آدم عشر صحف، وعلى شئث خمسين صحيفة: وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان).
506 وفي هذا نص على أن في القرآن مما في الصحف الأولى، وقد جاء ما يدل أن معان أخرى كذلك في صحف إبراهيم وموسى كما في سورة النجم في قوله: * (أم لم ينبأ بما فى صحف موسى * وإبراهيم الذى وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى) *. وهذا يؤيد أنها أكثرها أمثالا ومواعظ، كما يؤكد ترابط الكتب السماوية.
507 ((سورة الغاشية)) * (هل أتاك حديث الغاشية * وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية * تسقى من عين ءانية * ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يسمن ولا يغنى من جوع * وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية * في جنة عالية * لا تسمع فيها لاغية * فيها عين جارية * فيها سرر مرفوعة * وأكواب موضوعة * ونمارق مصفوفة * وزرابي مبثوثة * أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السمآء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الا رض كيف سطحت * فذكر إنمآ أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر * إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الا كبر * إن إلينآ إيابهم * ثم إن علينا حسابهم) * * (هل أتاك حديث الغاشية * وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية * تسقى من عين ءانية * ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يسمن ولا يغنى من جوع) *. الكلام في * (هل) * هنا، كالكلام في * (هل) * التي في أول سورة الإنسان، أنها استفهامية أو أنها بمعنى قد؟ ورجح أبو السعود وغيره أنها استفهامية للفت النظر وشدة التعجب والتنويه، بشأن هذا الحديث، وهو مروي عن ابن عباس قال: رضي الله عنه: (لم يكن أتاه فأخبره به) وحديث الغاشية هو خبرها الذي يتحدث عنها. والغاشية قال أبو حيان: أصلها في اللغة: الداهية تغشى الناس، واختلف في المراد بها هنا، فقيل: يوم القيامة. وقيل: النار. واستدل كل قائل بنصوص. فمن الأول قوله: * (يوم يغشاهم العذاب) *. قال الفخر الرازي. وإنما سميت القيامة بهذا الاسم، لأن ما أحاط بالشيء من جميع جهاته فهو غاش له، والقيامة كذلك من وجوه. الأول، أنها ترد على الخلق بغتة، وهو كقوله: * (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة) *. والثاني: أنها تغشى الناس جميعا من الأولين والآخرين. والثالث: أنها تغشى الناس بالأهوال والشدائد.
508 ومن استدلالهم على أنها النار، قوله تعالى: * (وتغشى وجوههم النار) *. وقيل الغاشية: أهل النار يغشونها أي يدخلونها، فالغاشية كالدافة في حديث الأضاحي. وقال الطبرني: والراجح عندي أن الله تعالى أطلق ليعم، فيجب أن تطلق ليعم أيضا. والذي يظهر رجحانه والله تعالى أعلم: أنها في عموم القيامة وليس في خصوص النار، فالنار من أهوال ودواهي القيامة، وهو ما يشهد له القرآن في هذا السياق من عدة وجوه، ومنها: أنه جاء بعدها قوله: * (وجوه يومئذ) *، ويوم أنسب للقيامة منه للنار. ومنها: التصريح بعد ذلك، بأن من كانت تلك صفاتهم تصلى نارا حامية، مما يدل على أن الغاشية شيء آخر سوى النار الحامية. ومنها: أن التعميم ليوم القيامة يشمل جميع الخلائق، وهو الأنسب بالموقف، ثم ينجي الله الذين اتقوا. وقد بين تعالى قسيم هذا الصنف، مما يدل على أن الحديث المراد إلغاؤه، إنما هو عن حالة عموم الموقف. * (وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية) *. اتفقوا على أن يومئذ، يعني يوم القيامة. وقال أبو حيان: والتنوين فيه تنوين عوض. وهو تنوين عوض عن جملة، ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التنوين عوضا عنها، ولكن لما تقدم لفظ الغاشية. وأل موصولة باسم الفاعل، فتنحل للتي غشيت أي للداهية التي غشيت، فالتنوين عوض من هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها، وإلى الموصول الذي هو التي، وهذا مما يرجح ويؤيد ما قدمناه، من أن الغاشية هي القيامة
509 . وجوه يومئذ خاشعة، بمعنى ذليلة. قال أبو السعود: هذا وما بعده وقع جوابا عن سؤال، نشأ من الاستفهام التشويقي المتقدم، كأنه قيل من جانبه صلى الله عليه وسلم (ما أتاني حديثها، فأخبره الله تعالى. فقال: وجوه) إلخ. قال: ولا بأس بتنكيرها لأنها في موقع التنويع، أي سوغ الابتداء بالنكرة كونها في موقع التنويع: وجوه كذا، ووجوه كذا. وخاشعة: خبر المبتدأ، أي وما بعده من صفاتهم. وقوله: * (عاملة ناصبة) * العمل معروف، والنصب: التعب، وقد اختلف في زمن العمل والنصب هذين، هل هو كان منها في الدنيا أم هو واقع منهم فعلا في الآخرة، وما هو على كلا التقديرين: فالذين قالوا: هو كان منهم في الدنيا، منهم من قال: عمل ونصب في العبادات الفاسدة كعمل الرهبان والقسيسين والمبتدعة الضالين، فلم ينفعهم يوم القيامة، أي كما في قوله: * (وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا) *. ومنهم من قال: عمل ونصب والتذ، فيما لا يرضى الله، فعامله الله بنقيض قصده في الآخرة، ولكن هذا الوجه ضعفه ظاهر، لأن من هذه حالهم لا يعدون في عمل ونصب بل في متعة ولذة. والذين قالوا: سيقع منهم بالفعل يوم القيامة، اتفقوا على أنه عمل ونصب في النار من جر السلاسل، عياذا بالله. وصعودهم وهبوطهم الوهاد والوديان، أي كما في قوله: * (سأرهقه صعودا) *، وقوله: * (ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا) *. وقد ذكر الفخر الرازي تقسيما ثلاثيا، فقال: إما أن يكون ذلك كله في الدنيا أو كله في الآخرة، أو بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة، ولم يرجح قسما منها إلا أن وجه القول بأنها في الدنيا وهي في القسيسين، ونحوهم. فقال: لما نصبوا في عبادة إله وصفوه بما ليس متصفا به، وإنما تخيلوه تخيلا أي بقولهم * (ثالث ثلاثة) * وقولهم: * (عزير ابن الله) *، فكانت عبادتهم لتلك الذات المتخيلة لا لحقيقة الإله سبحانه.
510 ولا يبعد أن يقال على هذا الوجه: إن من كان ممن لا ينطق بالشهادتين ويعمل على جهالة فيما لا يعذر بجهله أن يخشى عليه من هذه الآية، كما يخشى على من يعمل على علم، ولكن في بدعة وضلالة. ومما يشهد للأول حديث المسئ صلاته. ولأثر حذيفة (رأى رجلا يصلي فطفق فقال له: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال منذ أربعين سنة. قال له: ما صليت منذ أربعين سنة ولو مت على ذلك، مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم). والأحاديث الواردة في ذلك على سبيل العمومات مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمري فهو رد) أي مردود. وحديث الحوض (فيذاد أقوام عن حوضي، فأقول: أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك إنهم غيروا وبدلوا). ونحو ذلك مما يوجب الانتباه إلى صحة العمل وموافقته لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك القسم الثاني كما في قوله: * (قل هل ننبئكم بالا خسرين أعمالا الذين ضل سعيهم) *. أما الراجح من القولين في زمن * (عاملة ناصبة) * أهو في الدنيا أم في الآخرة؟ فإنه القول بيوم القيامة، وهو مروي عن ابن عباس وجماعة، والأدلة على ذلك من نفس السياق. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام جيد جدا في هذا الترجيح، ولم أقف على قول لغيره أقوى منه، نسوق مجمله للفائدة: قال في المجموع في تفسير هذه السورة بعد حكاية القولين: الحق هو الثاني لوجوه، وساق سبعة وجوه: الأول: أنه على القول الثاني يتعلق الظرف بما يليه، أي وجوه يوم الغاشية، خاشعة عاملة ناصبة صالية. أما على القول الأول فلا يتعلق إلا بقوله: تصلى. ويكون قوله: خاشعة صفة للوجوه، قد فصل بينها وبين الموصوف بأجنبي متعلق بصفة أخرى. والتقدير: وجوه
511 خاشعة عاملة ناصبة يومئذ تصلى نارا حامية، والتقديم والتأخير على خلاف الأصل، فالأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه لا تغيير ترتيبه، والتقديم والتأخير، إنما يكون مع قرينة. والثاني: أن الله ذكر وجوه الأشقياء ووجوه السعداء في السورة بعد ذلك * (وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية * في جنة عالية) *، أي في ذلك اليوم، وهو يوم الآخرة: فالواجب تناظر القسمين أي في الظرف. الثالث: أن نظير هذين القسمين ما ذكر في موضع آخر في قوله: * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة) *، وفي موضع آخر في قوله: * (وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولائك هم الكفرة الفجرة) *، وهذا كله وصف للوجوه في الآخرة. الرابع: أن المراد بالوجوه أصحابها لأن الغالب في القرآن وصف الوجوه بالعلامة كقوله: * (سيماهم فى وجوههم) *، وقوله: * (فلعرفتهم بسيماهم) *، وهذا الوجه لم تتضح دلالته على المقصود. الخامس: أن قوله: خاشعة عاملة ناصبة، لو جعل صفة لهم في الدنيا لم يكن في هذا اللفظ ذم، فإن هذا إلى المدح أقرب، وغايته أنه وصف مشترك بين عباده المؤمنين وعباده الكافرين، والذم لا يكون بالوصف المشترك ولو أريد المختص، لقيل: خاشعة للأوثان مثلا، عاملة لغير الله، ناصبة في طاعة الشيطان، وليس في القرآن ذم لهذا الوصف مطلقا ولا وعيد عليه، فحمله على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن، وهذا الوجه من أقواها في المعنى وأوضحها دلالة. وقد يشهد له أن هؤلاء قد يكون منهم العوام المغرورون بغيرهم، ويندمون غاية الندم يوم القيامة على اتباعهم إياهم، كما في قوله تعالى: * (وقال الذين كفروا ربنآ أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الا سفلين) *. السادس: وهو مهم أيضا، أنه لو جعل لهم في الدنيا لكان خاصا ببعض الكفار دون
512 بعض، وكان مختصا بالعباد منهم، مع أن غير العباد منهم يكونون أسوأ عملا ويستوجبون أشد عقوبة. السابع: أن هذا الخطاب لو جعل لهم في الدنيا لكان مثله ينفر من أصل العبادة والتنسك ابتداء، أي وقد جاءت السنة بترك أصحاب الصوامع والمتنسكين دون التعرض لهم بقتل ولا قتال، كما أنها أقرت أصحاب الديانات على دياناتهم، مما يشعر باحترام أصل التعبد لعموم الجنس، كما أشار رحمة الله تعالى عليه. وقد أوردنا مجمل كلامه رحمه الله، لئلا تتخذ الآية على غير ما هو الراجح فيها، أو يحمل السياق على غير ما سيق له، وقد ختم كلامه بتوجيه لطيف بقوله: ثم إذا قيد ذلك بعبادة الكفار والمبتدعة، وليس في الخطاب تقييد، كان هذا سعيا في إصلاح الخطاب بما لم يذكر فيه ا ه. ومن الذي يعطي نفسه حق إصلاح الخطاب في كلام رب العالمين، إنها لفتة إلى ضرورة ومدى أهمية تفسير القرآن بالقرآن، الذي نهجه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن. وقد بدا لي وجه آخر، وهو لو جعل هذا العمل الكفار والمبتدعة، لكان منطوقه أن العذاب وقع عليهم مجازاة على عملهم ونصبهم في عبادتهم تلك، والحال أن عذاب الكفار عموما إنما هو على ترك العمل لله وحده، وعقاب المبتدعة فيما ابتدعوه من ضلال، فإذا كان ما ابتدعوه لا علاقة له بأركان الإسلام ولا بالعقيدة، وإنما هو في فروع من العبادات ابتدعوها لم تكن في السنة، فإنهم وإن عملوا ونصبوا فلا أجر لهم فيها، ولا يقال: إنهم يعذبون عليها بطل ذلك المذكور مع سلامة العقيدة في التوحيد، والقيام بالواجب في أركان الإسلام، إذ العذاب المذكور ليس مقابلا بالعمل والنصيب المذكور، والله تعالى أعلم. * (تسقى من عين ءانية) *. قيل: حاضرة، وقيل: شديدة الحرارة، وهذا الأخير هو ما يشهد له القرآن في قوله تعالى: * (يطوفون بينها وبين حميم ءان) *، ومعلوم أن الحميم شديد الحرارة، كما أن حملها على معنى حاضرة لم يكن فيه بيان معنى ما في تلك العين من أنواع الشراب
513 المعد والمحضر لهم، وفي المعجم حميم آن: قد انتهى حره، والفعل: أنى الماء المسخن يأتي بكسر النون. قال عباس: يطوفون بينها وبين حميم ءان) *، ومعلوم أن الحميم شديد الحرارة، كما أن حملها على معنى حاضرة لم يكن فيه بيان معنى ما في تلك العين من أنواع الشراب المعد والمحضر لهم، وفي المعجم حميم آن: قد انتهى حره، والفعل: أنى الماء المسخن يأتي بكسر النون. قال عباس: * علانية والخيل يغشى متونها * حميم وآن من دم الجوف ناقع * ليس لهم طعام إلا من ضريع) *. تكلم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الجمع بينه وبين قوله تعالى: * (فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين) *، وبين الصحيح من معنى الضريع ما هو، وأنه نبت معروف للعرب، وهو على الحقيقة لا المجاز. وقد أورد الفخر الرازي سؤالا والجواب عليه، وهو كيف ينبت الضريع في النار؟ فأجاب بالإحالة على تصور كيف يبقى جسم الكفار حيا في النار، وكذلك الحيات والعقارب في النار. وهذا وإن كان وجيها من حيث منطق القدرة، ولكن القرآن قد صرح بأن النار فيها شجرة الزقوم، وأنها فتنة للظالمين في قوله: * (أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم * طلعها كأنه رءوس الشياطين * فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون) *، فأثبت شجرة تخرج في أصل الجحيم، وأثبت لها لازمها وهو طلعها في تلك الصورة البشعة، وأثبت لازم اللازم وهو أكلهم منها حتى ملء البطون. والحق أن هذا السؤال وجوابه قد أثاره المبطلون، ولكن غاية ما في الأمر سلب خاصية الإحراق في النار عن النبات، وليس هذا ببعيد على قدرة من خلق النار وجعل لها الخاصية. وقد وجد نظيره في الدنيا فتلك نار النمروذ، كانت تحرق الطير في الجو إذا اقترب منها، وعجزوا عن الدنو إليها ليلقوا فيها إبراهيم ووضعوه في المنجنيق ورموه من بعيد، ومع ذلك حفظه الله منها بقوله تعالى لها: * (كونى بردا وسلاما على إبراهيم) *، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء. * (وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية * في جنة عالية * لا تسمع فيها لاغية
514 * فيها عين جارية * فيها سرر مرفوعة * وأكواب موضوعة * ونمارق مصفوفة * وزرابي مبثوثة) *. وهذا هو قسيم القسم الأول في بيان حال أهل الجنة، ولم يعطف بالواو إيذانا بكمال تباين مضمونيهما. ويومئذ: هو يوم الغاشية المتقدم، وهذا يقتضي أن الغاشية عامة في الفريقين. وإن اختلفت أحوالها مع مختلف الناس، وعليه فمنهم من تغشاه بهولها، ومنهم من تغشاه بنعيمها. وهي بالنسبة لكل منهما متناهية فيما تغشاهم به، وهي صادقة على الفريقين. ومعلوم أن الغاشية تطلق على الخير كما تطلق على الشر، بمعنى الشمول والإحاطة التامة. ومن إطلاقها على الخير ما جاء في الحديث: (ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله تعالى فيه إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده) أخرجه مسلم. وبيان ذلك وتحقيقه في حق كلا القسمين كالآتي: أما الأول منهما: وهو الغاشية في حق أهل النار فقد غشيهم العذاب حسا ومعنى ظاهرا وباطنا أو لا خشوع في ذلة، وهي ناحية نفسية، وهي أثقل أحيانا من الناحية المادية، فقد يختار بعض الناس الموت عنها، ثم مع الذلة العمل والنصب حسا وبدنا، ومع النصب الشديد تصلى نارا حامية، وكان يكفي تصلى نارا. ولكن إتباعها بوصفها حامية فهو زيادة في إبراز عذابهم وزيادة في غشيان العذاب لهم، ثم يسقون من عين آنية متناهية في الحرارة فيكونون بين نار حامية من الخارج وحميم من الداخل تصهر منه البطون، فهو أتم في الشمول للغاشية لهم من جميع الوجوه، وفي حق القسم المقابل تعميم كامل وسرور شامل كالآتي، وجوه ناعمة مكتملة النعمة، تعرف في وجوههم نضرة النعيم. وهذا في شموله من الناحية المعنوية كمقابلة في القسم الأول بدلا من خاشعة في ذلة ناعمة في نضرة لسعيها راضية الذي سعته في الدنيا، والذي تسعى لتحصيله أو ثوابه في جنة عالية بدلا من عمل ونصب، لا تسمع فيها لاغية: منزلة أدبية رفيعة حيث لا تسمع فيها كلمة لغو ولا يليق بها، فهو إكرام لهم حتى في الكلمة التي يسمعونها، كما في قوله: * (لا يسمعون فيها
515 لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما) *. * (فيها عين جارية) *. ومعلوم أنها عيون وأنهار تجري، كقوله: * (فى جنات وعيون) *، ومن لوازم العيون والأنهار، هو كمال النعيم، فأشجار ورياحين، فروح وريحان وجنة نعيم. وهذا في التعميم يقابل العين الآنية في الحميم للقسم الأول، فيها سرر مرفوعة وهم عليها متكؤن بدل من عمل الآخرين في نصب وشقاء. وأكواب موضوعة لإتمام التمتع وكمال الخدمة والرفاهية. ونمارق مصفوفة متكا وزرابي مبثوثة مفروشة في كل مكان، فاكتمل النعيم من كل جانب، حيث اشتمل ما تراه العين وما تسمعه الأذن وما يتذوقون طعمه من شراب وغيره. فيكون بذلك قد غشيتهم النعمة، كما غشيت أولئك النقمة وتكون الغاشية بمعنى الشاملة، وعلى عمومها للفريقين، وهي صالحة لغة وشرعا للمعذبين بالعذاب، وللمنعمين بالنعيم. وبالله تعالى التوفيق. تنبيه مجيء * (فيها) * مرتين: * (فيها عين جارية * فيها سرر مرفوعة) *. للدلالة على قسمي نعيم الجنة. الأول: عيون ونزهة. والثاني: سرر وسكن. * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السمآء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الا رض كيف سطحت * فذكر إنمآ أنت مذكر) *. توجيه الأنظار إلى تلك المذكورات الأربعة، لما فيها من عظيم الدلائل على القدرة وعلى البعث وثم الإقرار لله تعالى بالوحدانية والألوهية، نتيجة لإثبات ربوبيته تعالى لجميع خلقه. أما الإبل فلعلها أقرب المعلومات للعرب وألصقها بحياتهم في مطعمهم من لحمها ومشربهم من ألبانها، وملبسهم من أوبارها وجلودها، وفي حلهم وترحالهم بالحمل عليها مما لا يوجد في غيرها في العالم كله لا في الخيل ولا في الفيلة، ولا في أي حيوان آخر، وقد وجه الأنظار إليها مع غيرها في معرض امتنانه تعالى عليهم في قوله: * (أولم
516 يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون * * (ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون) *. وكذلك في خصوصها في قوله: * (والا نعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم) *. إنها نعم متعددة ومنافع بالغة لم توجد في سواها البتة، وكل منها دليل على القدرة بذاته. أما الجبال فهي مما يملأ عيونهم في كل وقت ويشغل تفكيرهم في كل حين، لقربها من حياتهم في الأمطار والمرعى في سهولها، والمقيل في كهوفها وظلها، والرهبة والعظمة في تطاولها وثباتها في مكانها. وقد وجه الأنظار إليها أيضا في موطن آخر في قوله تعالى: * (ألم نجعل الا رض مهادا * والجبال أوتادا) *، ثوابت، كما بين تعالى أنها، رواسي للأرض أن تميد بكم * (والجبال أرساها * متاعا لكم ولانعامكم) *. فهي مرتبطة بحياتهم وحياة أنعامهم كما أسلفنا. أما السماء ورفعها أي ورفعتها في خلقها وبدون عمد ترونها وبدون قطور أو تشقق على تطاول زمنها، فهي أيضا محط أنظارهم، وملتقى طلباتهم في سقيا أنعامهم. ومعلوم أن خلق السماء والأرض من آيات الله الدالة على البعث، كما تقدم مرارا. وتقدم للشيخ عند قوله تعالى: * (إن في خلق السماوات والا رض) *. بيان كونها آية. أما الأرض وكيف سطحت، فإن الآية فيها مع عمومها كما في قوله: * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس) *. وقوله: * (كيف سطحت) * آية ثابتة، لأن جرمها مع إجماع المفسرين على تكويرها، فإنها ترى مسطحة أي من النقطة التي هي في امتداد البصر، وذلك يدل على سعتها وكبر حجمها، لأن الجرم المتكور إذا بلغ من الكبر والضخامة حدا بعيدا يكاد سطحه يرى مسطحا من نقطة النظر إليه، وفي كل ذلك آيات متعددات للدلالة على قدرته تعالى على بعث الخلائق، وعلى إيقاع ما يغشاهم على مختلف أحوالهم. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنبيه على هذا المعنى، عند الكلام على
517 قوله تعالى: * (قل انظروا ماذا فى السماوات والا رض) *. من سورة يونس. تنبيه التوجيه هنا بالنظر إلى الكيفية في خلق الإبل ونصب الجبال، ورفع السماء، وتسطيح الأرض، مع أن الكيف للحالة، والله تعالى لم يشهد أحدا على شيء من ذلك كله * (مآ أشهدتهم خلق السماوات والا رض) *. فكيف يوجه السؤال إليهم للنظر إلى الكيفية وهي شيء لم يشهدوه. والجواب والله تعالى أعلم: هو أنه بالتأمل في نتائج خلق الإبل، ونصب الجبال إلخ. وإن لم يعلموا الكيف، بل ويعجزون عن كنهه وتحقيقه، فهو أبلغ في إقامة الدليل عليهم، كمن يقف أمام صنعة بديعة يجهل سر صنعتها، فيتساءل كيف تم صنعها؟ وقد وقع مثل ذلك وهو الإحالة على الأثر بدلا من كشف الكنه والكيف، وذلك في سؤال الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ربه، أن يريه كيف يحيي الموتى. فكان الجواب: أن أراه الطيور تطير، بعد أن ذبحها بيده وقطعها، وجعل على كل جبل منها جزءا. فلم يشاهد كيفية وكنه، وحقيقة الإحياء، وهو دبيب الروح فيها وعودة الحياة إليها. لأن ذلك ليس في استطاعته، ولكن شاهد الآثار المترتبة على ذلك، وهي تحركها وطيرانها وعودتها إلى ما كانت عليه قبل ذبحها. مع أنه كان للعزير موقف مماثل وإن كان أوضح في البيان حيث شاهد العظام وهو سبحانه ينشرها، ثم يكسوها لحما. والله تعالى أعلم. أما قوله تعالى بعد ذلك * (فذكر إنمآ أنت مذكر) *، فإن مجيء هذا الأمر بالفاء في هذا الموطن، فإنه يشعر بأن النظر الدقيق والفكر الدارس، مما قد يؤدي بصاحبه إلى الاستدلال على وجود الله وعلى قدرته، كما نطق مؤمن الجاهلية قس بن ساعدة في خطبته المشهورة: ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة. فقد ذكر السماء والجبال والأرض. وكقول زيد بن عمرو بن نفيل، مؤمن الجاهلية المعروف: وكقول زيد بن عمرو بن نفيل، مؤمن الجاهلية المعروف: * وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الأرض تحمل صخرا ثقالا
518 * * دحاها فلما استوت شدها * سواء وأرسى عليها الجبالا * * وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا * * إذا هي سيقت إلى بلدة * أطاعت فصبت عليها سجالا * * وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الريح تصرف حالا فحالا * فكان على هؤلاء العقلاء أن ينظروا بدقة وتأمل، فيما يحيط بهم عامة. وفي تلك الآيات الكبار خاصة، فيجدون فيها ما يكفيهم. كما قيل: كما قيل: * وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد * فإذا لم يهدهم تفكيرهم ولم تتجه أنظارهم. فذكرهم إنما أنت مذكر. وهذا عام، أي سواء بالدلالة على القدرة من تلك المصنوعات أو بالتلاوة من آيات الوحي. والعلم عند الله تعالى. * (إن إلينآ إيابهم * ثم إن علينا حسابهم) *. فيه الدلالة على أن الإياب هو المرجع. قال عبيد: قال عبيد: * وكل ذي غيبة يؤوب * وغائب الموت لا يؤوب * كما في قوله: * (إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) *، وهو على الحقيقة كما في صريح منطوق قوله تعالى: * (ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم) *. وقوله: * (ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) *. وقوله: * (ثم إن علينا حسابهم) * الإتيان بثم للإشعار ما بين إيابهم وبدء حسابهم، * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) *. وقوله: * (إن علينا) *، بتقدم حرف التأكيد، وإسناد ذلك لله تعالى، وبحرف على مما يؤكد ذلك لا محالة، وأنه بأدق ما يكون، وعلى الصغيرة والكبيرة كما في قوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) *.
519 ومن الواضح مجيء * (إن إلينآ إيابهم * ثم إن علينا حسابهم) *، بعد قوله تعالى: * (فذكر إنمآ أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر * إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الا كبر) * تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتخويف لأولئك الذين تولوا وأعرضوا، ثم إن الحساب في اليوم الآخر ليس خاصا بهؤلاء، بل هو عام بجميع الخلائق. ولكن إسناده لله تعالى مما يدل على المعاني المتقدمة. نسأل الله العفو والسلامة.
520 ((سورة الفجر)) * (والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * واليل إذا يسر * هل فى ذلك قسم لذى حجر * ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها فى البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذى الا وتاد * الذين طغوا فى البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد * فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن * وأمآ إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن * كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما * كلا إذا دكت الا رض دكا دكا * وجآء ربك والملك صفا صفا * وجىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى * يقول ياليتنى قدمت لحياتى * فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد * ياأيتها النفس المطمئنة * ارجعى إلى ربك راضية مرضية * فادخلى فى عبادى * وادخلى جنتى) * * (والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * واليل إذا يسر) *. اختلف في المراد بالفجر، فقيل: انفجار النهار من ظلمة الليل. وقيل: صلاة الفجر. وكلا القولين له شاهد من القرآن. أما انفجار النهار، فكما في قوله تعالى: * (والصبح إذا تنفس) *. وأما صلاة الفجر فكما في قوله: * (وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا) *، ولكن في السياق ما يقرب القول الأول، إذ هو في الأيام والليالي الفجر وليال عشر، الليل إذا يسري، وكلها آيات زمنية أنسب لها انفجار النهار. بقي بعد ذلك اختلافهم في أي الفجر عنى هنا، فقيل بالعموم في كل يوم، وقيل: بالخصوص. والأول قول ابن عباس وابن الزبير وعلي رضي الله عنهم. وعلى الثاني فقيل: خصوص الفجر يوم النحر. وقيل: أول يوم المحرم، وليس هناك نص يعول عليه. إلا أن فجر يوم النحر أقرب إلى الليالي العشر، إن قلنا: هي عشر ذي الحجة على ما يأتي إن شاء الله. أما الليالي العشر فأقوال المفسرين محصورة في عشر ذي الحجة، وعشر المحرم والعشر الأواخر من رمضان. والأول جاء عن مسروق أنها العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام وأتممناها بعشر، وكلها الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس. وليس في القرآن نص بعينها. وفي السنة بيان فضيلة عشر ذي الحجة وعشر رمضان كما هو معلوم، فإن جعل الفجر خاصا بيوم النحر، كان عشر ذي الحجة أقرب للسياق. والله تعالى أعلم.
521 والشفع والوتر: ذكر المفسرون أكثر من عشرين قولا ومجموعها يشمل جميع المخلوقات جملة وتفصيلا. أما جملة فقالوا: إنما الوتر هو الله، للحديث: (إن الله وتر يحب الوتر)، وما سواه شفع، كما في قوله تعالى: * (ومن كل شىء خلقنا زوجين) *، فهذا شمل كل الوجود الخالق والمخلوق، كما في عموم * (فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون) *. أما التفصيل فقالوا: المخلوقات إما شفع كالحيوانات أزواجا، والسماء. والأرض، والجبل، والبحر، والنار، والماء. وهكذا ذكروا لكل شيء مقابله، ومن الأشياء الفرد كالهواء وكلها من باب الأمثلة. والواقع أن أقرب الأقوال عندي والله أعلم: أنه هو الأول لأنه ثبت علميا أنه لا يوجد كائن موجود بمعنى الوتر قط حتى الحصاة الصغيرة. فإنه ثبت أن كل كائن جماد أو غيره مكون من ذرات والذرة لها نواة ومحيط، وبينهما ارتباط وعن طريقهما التفجير الذي اكتشف في هذا العصر، حتى في أدق عالم الصناعة كالكهرباء، فإنها من سالب وموجب، وهكذا لا بد من دورة كهربائية للحصول على النتيجة من أي جهاز كان، حتى الماء الذي كان يظن به البساطة فهو زوج وشفع من عنصرين، أكسجين وهدروجين، ينفصلان إذا وصلت درجة حرارة الماء إلى مائة أي الغليان، ويتآلفان إذا نزلت الدرجة إلى حد معين فيتاقطران ماء. وهكذا. ونفس الهواء عدة غازات وتراكيب، فلم يبق في الكون شيء قط فردا وترا بذاته، إلا ما نص عليه الحديث (إن الله وتر يحب الوتر) ويمكن حمل الحديث على معنى الوتر فيه مستغني بذاته عن غيره، والواحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. فصفاته كلها وتر كالعلم بلا جهل والحياة بلا موت. إلخ. بخلاف المخلوق، وقلنا: المستغني بذاته عن غيره، لأن كل مخلوق شفعا، فإن كل عنصر منه في حاجة إلى العنصر الثاني، ليكون معه ذاك الشيء والله سبحانه بخلاف ذلك. ولهذا كان القول الأول، وهو أن الوتر هو الله، والشفع هو المخلوقات جميعها، هو القول الراجح، وهو الأعم في المعنى. قوله: * (واليل إذا يسر) *، اتفق المفسرون على المعنى وهو سريان الليل، ولكن
522 الخلاف في التعيين هل المراد به عموم الليالي في كل ليلة أم ليلة معينة، وما هي؟ فقيل: بالعموم كقوله: * (واليل إذا عسعس) *. وقيل: بالخصوص في ليلة مزدلفة أو ليلة القدر. وأيضا يقال: إذا كان الفجر فجر النحر، والعشر عشر ذي الحجة فيكون * (واليل إذا يسر) *، ليلة الجمع. والله تعالى أعلم. وقد رجح القرطبي وغيره عموم الليل، وقد جمع في هذا القسم جميع الموجودات جملة وتفصيلا، فشملت الخالق والمخلوق والشفع والوتر إجمالا وتفصيلا، في انفجار الفجر وانتشار الخلق وسريان الليل وسكون الكون، والعبادات في الليالي العشر. فكان من أعظم ما أقسم الله به قوله تعالى: * (هل فى ذلك قسم لذى حجر) *، أي عقل، والحجر كل مادته تدور على الإحكام والقوة، فالحجر لقوته، والحجرة لإحكام ما فيها. والعقل سمي حجرا بكسر الحاء. لأنه يحجر صاحبه عما لا يليق، والمحجور عليه لمنعه من تصرفه وإحكام أمره، وحجر المرأة لطفلها، فهذه المقسم بها الخمسة هل فيها قسم كاف لذي عقل، والجواب: بلى، وهذا ما يقوي هذا القسم بلا شك. ثم اختلف في جواب هذا القسم حيث لم يصرح تعالى به، كما صرح به في نظيره، وهو قوله: * (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) *. ثم صرح بالمقسم عليه * (إنه لقرءان كريم) *. وهنا لم يصرح به مع عظم القسم فوقع الخلاف في تعيينه. فقيل: هو مقدر تقديره ليعذبن يدل له قوله: * (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) * إلى قوله: * (فصب عليهم ربك سوط عذاب) *. وقيل: موجود وهو قوله: * (إن ربك لبالمرصاد) *، قاله القرطبي. وهذا من حيث الصناعة في اللغة وأساليب التفسير وجيه، ولكن يوجد في نظري والله تعالى أعلم: ارتباط بين القسم وجوابه وبينما يجيء في آخر السورة من قوله:
523 * (كلا إذا دكت الا رض دكا دكا) *، إلى آخر السورة. كما أنه يظهر ارتباط كبير بينه وبين آخر السورة التي قبلها، إذ جاء فيها * (فذكر إنمآ أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر * إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الا كبر) *، * (والفجر وليال عشر) * إلى قوله: * (هل فى ذلك قسم لذى حجر) *، لأن ما فيه من الوعيد بالعذاب الأكبر والقصر في إيابهم إلى الله وحده وحسابهم عليه فحسب يتناسب معه هذا القسم العظيم. أما ارتباطه بما في آخر السورة، فهو أن المقسم به هنا خمس مسميات * (والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * واليل إذا يسر) *، والذي في آخر السورة أيضا خمس مسميات: * (دكت الا رض دكا دكا وجآء ربك والملك صفا صفا * وجىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى) *. صور اشتملت على اليوم الآخر كله من أول النفخ في الصور، ودك الأرض إلى نهاية الحساب، وتذكر كل إنسان ماله وما عليه، تقابل ما اشتمل عليه القسم المتقدم من أمور الدنيا. * (ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التى لم يخلق مثلها فى البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذى الا وتاد * الذين طغوا فى البلاد) *. لم يبين هنا ماذا ولا كيف فعل، بمن ذكروا، وهم عاد وثمود وفرعون. وقد تقدم ذكر ثلاثتهم في سورة الحاقة عند قوله تعالى: * (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية) *، * (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم) * إلى قوله * (فأخذهم أخذة رابية) *. والجديد هنا: هو وصف كل من عاد من أنها ذات العماد، ولم يخلق مثلها في البلاد، وثمود أنهم جابوا الصخر بالواد، وفرعون أنه ذو أوتاد. وقد اختلف في المعنى بهذه الصفات كلها. أما عاد، فقيل: العماد عماد بيوت الشعر، والمراد بها القبيلة. وطول عماد
524 بيوتها: كناية عن طول أحسامهم، كما قيل في صخر: * رفيع العماد طويل النجاد وطول الأجسام يدل على قوة أصحابها. وقيل: إرم: كانت مدينة رفيعة البنيان، وذكروا في أخبارها قصصا تفوق الخيال، وأنها في الربع الخالي، ولكن حيث لم تثبت أخبارها بسند يعول عليه، ولم يصدقه الواقع، فقال قوم: قد خسف بها ولم تعد موجودة. أما ثمود: فقد جابوا، أي نحتوا الصخر بالواد، بواد القرى في مدائن صالح، وهي بيوتهم موجودة حتى الآن. وأما فرعون ذو الأوتاد، فقيل: هي أوتاد الخيام، كان يتدها لمن يعذبهم. وقيل: هي كناية عن الجنود يثبت بها ملكه. وقيل: هي أكمات وأسوار مرتفعات، يلعب له في مرابعها. قال ابن جرير ما نصه: حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة (وفرعون ذي الأوتاد، ذكر لنا أنها كانت مطال، وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد وجبال). والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن هذا القول هو الصحيح، وأنها مرتفعة، وأنها هي المعروفة الآن بالأهرام بمصر، ويرجح ذلك عدة أمور: منها: أنها تشبه الأوتاد في منظرها طرفه إلى أعلا، إذ القمة شبه الوتد، مدببة بالنسبة لضخامتها، فهي بشكل مثلث، قاعدته إلى أسفل وطرفه إلى أعلا. ومنها: ذكره مع ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، بجامع مظاهر القوة، فأولئك نحتوا الصخر بيوتا فارهين، وهؤلاء قطعوا الصخر الكبير من موطن لا جبال حوله، مما يدل أنها نقلت من مكان بعيد. والحال أنها قطع كبار صخرات عظام ففي اقتطاعها وفي نقلها إلى محل بنائها، وفي نفس البناء كل ذلك مما يدل على القوة والجبروت، وتسخير العباد في ذلك. ومنها: أن حملها على الأهرام القائمة بالذات والمشاهدة في كل زمان ولكل جيل
525 ، أوقع في العظة والاعتبار، بأن من أهلك تلك الأمم، قادر على إهلاك المكذبين من قريش وغيرهم. صدق الله العظيم: * (إن ربك لبالمرصاد) *. * (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن * وأمآ إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن كلا) *. بين تعالى أنه يعطي ويمسك ابتلاء للعبد. وقوله تعالى: * (كلا) *، وهي كلمة زجر وردع، وبيان أن المعنى لا كما قلتم فيه تعديل لمفاهيم الكفار، بأن العطاء والمنع لا عن إكرام ولا لإهانة، ولكنه ابتلاء، كما في قوله تعالى: * (كل نفس ذآئقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة) *. وقوله: * (واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة) *. * (كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما) *. بعد ما بين سبحانه صحة المفاهيم في العطاء والمنع، جاء في هذه الآيات وبين حقيقة فتنة المال إيجابا وسلبا جمعا وبذلا، فبدأ بأقبح الوجوه من الإمساك من عدم إكرام اليتيم، مهيض الجناح، مكسور الخاطر، والتقاعس عن إطعام المسكين، خالي اليد جائع البطن، ساكن الحركة، وهذان الجانبان أهم مهمات بذل المال وهم يمسكون عنها، وقد بين تعالى أن هذا الجانب هو اقتحام العقبة عند الشدة، في قوله تعالى في سورة البلد * (فلا اقتحم العقبة * ومآ أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام فى يوم ذى مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة) *. ومن الجانب الآخر * (وتأكلون التراث أكلا لما) * أي الميراث، فلا يعطون النسوة وهن ضعيفات الشخصية، أحوج إلى مال مورثهن، وتحبون المال حبا حتى استعبدكم وألهاكم التكاثر فيه. وهنا لفت نظر للفريقين، فمن أعطي منهم لا ينبغي له أن يغفل طرق البذل الهامة، ومن منع لا ينبغي له أن يستشرف إلى ما لا ينبغي له، وبالله تعالى التوفيق. * (كلا إذا دكت الا رض دكا دكا * وجآء ربك والملك صفا صفا) *.
526 تقدم في سورة الحاقة أيضا هذا السياق نفسه، بعد ذكر ثمود وعاد وفرعون في قوله: * (فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة وحملت الا رض والجبال فدكتا دكة واحدة) * إلى قوله * (والملك على أرجآئهآ) *. مما يبين معنى صفا صفا، أي على أرجائها صفا بعد صف. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، الإحالة على ما يفسرها في سورة الرحمان على قوله تعالى: * (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والا رض) *. وقوله تعالى: * (وجآء ربك والملك صفا صفا) *، وجاء ربك: من آيات الصفات. مواضع البحث والنظر وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مرارا في الأضواء في عدة محلات، وليعلم أنها والاستواء وحديث النزول والإتيان المذكور في قوله تعالى: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الأمر وإلى الله ترجع الأمور) * سواء. وقد أورد الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث آيات الصفات كاملة في محاضرة أسماها (أيات الصفات) وطبعت مستقلة. كما تقدم له رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الأعراف عند قوله تعالى: * (ثم استوى على العرش يغشى اليل النهار) *، وإن كان لم يتعرض لصفة المجيء بذاتها، إلا أنه قال: إن جميع الصفات من باب واحد، أي أنها ثابتة لله تعالى على مبدأ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، على غير مثال للمخلوق، فثبت استواء يليق بجلاله على غير مثال للمخلوق. وكذلك هنا كما ثبت استواء ثبت مجيء وكما ثبت مجيء ثبت نزول. والكل من باب * (كمثله شىء) *، أي على ما قال الشافعي رحمه الله: نحن كلفنا بالإيمان، فعلينا أن نؤمن بصفات الله على ما يليق بالله على مراد الله، وليس علينا أن نكيف، إذ الكيف ممنوع على الله سبحانه.
527 * (يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى) *. قد بين تعالى موضوع تذكر الإنسان، وهو قوله: * (يقول ياليتنى قدمت لحياتى) *. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك في سورة الفرقان عند قوله تعالى: * (ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا) * الآيات.
528 ((سورة البلد)) * (لا أقسم بهاذا البلد * وأنت حل بهاذا البلد * ووالد وما ولد * لقد خلقنا الإنسان فى كبد * أيحسب أن لن يقدر عليه أحد * يقول أهلكت مالا لبدا * أيحسب أن لم يره أحد * ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين * فلا اقتحم العقبة * ومآ أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام فى يوم ذى مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة * ثم كان من الذين ءامنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة * أولائك أصحاب الميمنة * والذين كفروا بأاياتنا هم أصحاب المشأمة * عليهم نار مؤصدة) * * (لا أقسم بهاذا البلد) *. تقدم الكلام على هذه اللام، وهل هي لنفي القسم أو لتأكيده، وذلك عند قوله تعالى: * (لا أقسم بيوم القيامة) *، إلا أنها هنا ليست للنفي، لأن الله تعالى قد أقسم بهذا البلد في موضع آخر، وهو في قوله تعالى: * (والتين والزيتون * وطور سينين * وهاذا البلد الا مين) *، لأن هذا البلد مراد به مكة إجماعا لقوله تعالى بعده: * (وأنت) * أي الرسول صلى الله عليه وسلم * (حل) *، أي حال أو حلال * (بهاذا البلد) *، أي مكة، على ما سيأتي إن شاء الله. وقد ذكر القرطبي وغيره نظائرها من القرآن، والشعر العربي مما لا يدل على نفي، كقوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) *، مع أن المراد ما منعك من السجود، وكقول الشاعر: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) *، مع أن المراد ما منعك من السجود، وكقول الشاعر: * تذكرت ليلى فاعترتني صبابة * وكاد صميم القلب لا يتقطع * أي وكاد صميم القلب بتقطع. وقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحثا مطولا في دفع إيهام الاضطراب. وقوله تعالى: * (وأنت حل بهاذا البلد) *، حل: بمعنى حال، والفعل المضعف يأتي مضارعه من باب، نصر، وضرب، فإن كان متعديا كان من باب نصر. تقول: حل العقدة يحلها بالضم، وتقول: حل بالمكان يحل بالكسر إذا أقام فيه، والإحلال دون الإحرام.
529 وقد اختلف في المراد بحل هل هو من الإحلال بالمكان، أو هو من التحلل ضد الإحرام؟ فأكثر المفسرين أنه من الإحلال ضد الإحرام، واختلفوا في المراد بالإحلال هذا. فقيل: هو إحلال مكة له في عام الفتح، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده. وقيل: حل: أي حلال له ما يفعل بمكة غير آثم، بينما هم آثمون بفعلهم. وقيل: حل: أي أن المشركين معظمون هذا البلد وحرمته في نفوسهم، ولكنهم مستحلون إيذاءك وإخراجك. وذكر أبو حيان: أنه من الحلول والبقاء والسكن، أي وأنت حال بها. ا ه. وعلى الأول يكون إخبارا عن المستقبل ووعدا بالفتح، وأنها تحل له بعد أن كانت حراما، فيقاتل أهلها وينتصر عليهم أو أنه تسلية له، وأن الله عالم بما يفعلون به، وسينصره عليهم. وعلى الثاني: يكون تأكيدا لشرف مكة، إذ هي أولا فيها بيت الله وهو شرف عظيم، ثم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حال فيها بين أهلها. والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن هذا الثاني هو الراجح، وإن كان أقل قائلا، وذلك لقرائن من نفس السورة ومن غيرها من القرآن الكريم. منها: أن حلوله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد له شأن عظيم فعلا، وأهمه أن الله رافع عنهم العذاب لوجوده فيهم، كما في قوله تعالى: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) *، فكأنه تعالى يقول: وهذا البلد الأمين من العذاب، وهؤلاء الآمنون من العذاب بفضل وجودك فيهم. ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم بحلوله فيها بين أظهرهم، يلاقي من المشاق ويصبر عليها. وفيه أروع المثل للصبر على المشاق في الدعوة، فقد آذوه كل الإيذاء، حتى وضعوا سلا الجزور عليه وهو يصلي عند الكعبة، وهو يصبر عليهم، وآذوه في عودته من الطائف، وجاءه ملك الجبال نصرة له، فأبى وصبر ودعا لهم، ومنعوه الدخول إلى
530 بلده مسقط رأسه فصبر، ولم يدع عليهم، ورضى الدخول في جوار رجل مشرك وهذا هو المناسب لقوله بعده * (لقد خلقنا الإنسان فى كبد) *، وهذا من أعظمه. فإذا كان كل إنسان يكابد في حياته، أيا كان هو، ولأي غرض كان، فمكابدتك تلك جديرة بالتقدير والإعظام، حتى يقسم بها. والله تعالى أعلم. * (ووالد وما ولد) *. قيل: الوالد هو آدم، * (وما ولد) *، قيل: ما نافية. وقيل: مصدرية. فعلى أنها نافية: أي وكل عظيم لم يولد له. وعلى المصدرية: أي بمعنى الولادة من تخليص نفس من نفس، وما يسبق ذلك من تلقيح وحمل ونمو الجنين وتفصيله وتخليقه وتسهيل ولادته. وقيل: ووالد وما ولد: كل والد مولود من حيوان وإنسان. وقد رجح بعض العلماء أن الوالد هو آدم، وما ولد ذريته، بأنه المناسب مع هذا البلد لأنها أم القرى، وهو أبو البشر، فكأنه أقسم بأصول الموجودات وفروعها. * (لقد خلقنا الإنسان فى كبد) *. تقدم بيانه عند قوله تعالى: * (ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) *. * (يقول أهلكت مالا لبدا * أيحسب أن لم يره أحد) *. لم يبين أيراه أحد؟ ومن الذي يراه؟ ومعلوم أنه سبحانه وتعالى يراه، ولكن جاء الجواب مقرونا بالدليل والإحصاء في قوله تعالى بعده * (ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين) *، لأن من جعل للإنسان عينين يبصر بهما ويعلم منه خائنة الأعين، ولسانا ينطق به ويحصى عليه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وهداه الطريق، طريق البذل وطريق الإمساك، وإذا كان الأمر كذلك فلن ينفق درهما إلا وهو سبحانه يعلمه ويراه
531 . * (وهديناه النجدين) *. النجد: الطريق، وهو كما تقدم في سورة الإنسان بعد تفصيل خلق الإنسان * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل) *، أي الطريق على كلا الأمرين بدليل * (إما شاكرا وإما كفورا) *. وتقدم المعنى هناك، ويأتي في السورة بعدها عند قوله تعالى: * (فألهمها فجورها وتقواها) *. زيادة إيضاح له، إن شاء الله تعالى. * (فلا اقتحم العقبة) *. وقد بين المراد بالعقبة فيما بعد بقوله: * (ومآ أدراك ما العقبة) *، ثم ذكر تفصيلها. وقد ذكر أن كل ما جاء بصيغة وما أدراك، فقد جاء تفصيله بعده كقوله تعالى: * (القارعة * ما القارعة * ومآ أدراك ما القارعة * يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) *، وما بعدها. وتقدم عند قوله تعالى: * (الحاقة * ما الحآقة) *. وفي تفسير العقبة بالمذكورات، فك الرقبة، وإطعام اليتيم والمسكين توجيه إلى ضرورة الإنفاق حقا لا ما يدعيه الإنسان بدون حقيقة في قوله: * (أهلكت مالا لبدا) * . أما فك الرقبة: فإنه الإسهام في عتق الرقيق والاستقلال في عتقها يعبر عنه بفك النسمة. وهذا العنصر من العمل بالغ الأهمية، حيث قدم في سلم الاقتحام لتلك العقبة. وقد جاءت السنة ببيان فضل هذا العمل حتى أصبح عتق الرقيق أو فك النسمة، يعادل به عتق المعتق من النار كل عضو بعضو، وفيه نصوص عديدة ساقها ابن كثير، وفي هذا إشعار بحقيقة موقف الإسلام من الرق، ومدى حرصه وتطلعه إلى تحرير الرقاب.
532 فها هو هنا يجعل عتق الرقبة، سلم اقتحام العقبة، وجعله عتقا للمعتق من النار كل عضو بعضو. ومعلوم أن كل مسلم يسعى لذلك وجعله كفارة لكل يمين وللظهار بين الزوجين، وكفارة القتل الخطأ، كل ذلك نوافذ إطلاق الأسارى وفك الرقاب في الوقت الذي لم يفتح للاسترقاق إلا باب واحد، هو الأسر في القتال مع المشركين لا غير، وهما مما سبق تنبيها عليه ردا على المستشرقين ومن تأثر بهم. في ادعائهم على الإسلام أنه متعطش لاسترقاق الأحرار. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على قوله تعالى: * (إن هاذا القرءان يهدى للتى هى أقوم) * في سورة الإسراء. وقوله تعالى: * (أو إطعام فى يوم ذى مسغبة) *. أي شدة وجوع. والساغب: الجائع. قال القرطبي: وأنشد أبو عبيدة: أو إطعام فى يوم ذى مسغبة) *. أي شدة وجوع. والساغب: الجائع. قال القرطبي: وأنشد أبو عبيدة: * فلو كنت جارا يا بن قيس لعاصم * لما بت شبعانا وجارك ساغبا * أي لو كانت جارا بحق تعني بحق الجار، لما حدث لجارك هذا. وهذا القيد لحال الإطعام دليل على قوة الإيمان بالجزاء وتقديم ما عند الله على ما في قوله تعالى: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *، على ما تقدم من أن الضمير في حبه أنه للطعام، وهذا غالب في حالات الشدة والمسغبة، وقوله: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *، فهي أعلى منازل الفضيلة في الإطعام. وقوله: * (يتيما ذا مقربة) *، فاليتيم من حرم أبويه أو أحدها، وقد خصوا في اللغة يتيم الحيوان، من فقد الأم، وفي الطيور من فقد الأبوين، وفي الإنسان من فقد الأب. وذا مقربة: أي قرابة، وخص به، لأن الإطعام في حقه أفضل وأولى من غيره، وفيه الحديث (أن الصدقة على الغريب صدقة وصلة، وعلى البعيد صدقة فقط)
533 . والأحاديث في الإحسان إلى اليتيم متضافرة، ويكفي قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذين) أي السبابة والتي تليها. * (أو مسكينا ذا متربة) *. قيل: المسكين من السكون وقلة الحركة، والمتربة: اللصوق بالتراب. وقد اختلف في التفريق بين المسكين والفقير أيهما أشد احتياجا وما حد كل منهما، فاتفقوا أولا على أنه إذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا، وإذا ذكر أحدهما فقط، فيشمل الثاني معه، ويكون الحكم جامعا لهما كما هو هنا، فالإطعام يشمل الاثنين معا، وإذا اجتمعا فرق بينهما بالتعريف. فالمسكين كما تقدم والفقير، قالوا: مأخوذ من الفقرة وهي الحفرة تحفر للنخلة ونحوها للغرس، فكأنه نزل إلى حفرة لم يخرج منها. وقيل: من فقار الظهر، وإذا أخذت فقار منها عجز عن الحركة، فقيل: على هذا الفقير أشد حاجة، ويرجحه ما جاء في قوله تعالى: * (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر) * فسماهم مساكين مع وجود سفينة لهم يتسببون عليها للمعيشة، ولقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا) الحديث. مع قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من الفقر)، وهذا الذي عليه الجمهور، خلافا لمالك. وقد قالوا في تعريف كل منهما: المسكين من يجد أقل ما يكفيه، والفقير: من لا يجد شيئا، والله تعالى أعلم. * (فك رقبة) *. هذا قيد في اقتحام العقبة، بتلك الأعمال من عتق أو إطعام، لأن عمل غير المؤمن لا يجعله يقتحم العقبة يوم القيامة لإحباط عمله ولاستيفائه إياه في الدنيا، وثم هنا للترتيب الذكري لا الزمني، لأن الإيمان مشروط وجوده عند العمل. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان شروط قبول العمل وصحته في سورة الإسراء عند قوله تعالى: * (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن) *، وكقوله: * (ومن أراد الا خرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن) *، وقوله: * (من
534 عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) *، لأن الإيمان هو العمل الأساسي في حمل العبد على عمل الخير يبتغي به الثواب، وخاصة الإنفاق في سبيل الله، لأنه بذل بدون عوض عاجل. وقد بحث العلماء موضوع عمل الكافر الذي عمله حالة كفره ثم أسلم، هل ينتفع به بعد إسلامه أم لا؟ والراجح: أنه ينتفع به، كما ذكر القرطبي أن حكيم بن حزام بعد ما أسلم قال: يا رسول الله إنا كنا نتحنث بأعمال في الجاهلية فهل لنا منها شيء؟ فقال عليه السلام ( أسلمت على ما أسلفت من الخير)، وحديث عائشة قالت: (يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب، ويحمل على إبله لله، فهل ينفعه ذلك شيئا؟ قال: لا، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين). ومفهومه أنه لو قالها، أي لو أسلم فقالها كان ينفعه، والله تعالى أعلم. وقوله تعالى: * (يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورآئه عذاب غليظ) *. تتمة لصفاتهم، والصبر عام على الطاعة وعن المعصية، والمرحمة زيادة في الرحمة، والحديث (الراحمون يرحمهم الرحمان). وذكر المرحمة هنا يتناسب مع العطف على الرقيق والمسكين واليتيم، والله تعالى أعلم.
535 ((سورة الشمس)) * (والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * واليل إذا يغشاها * والسمآء وما بناها * والا رض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها * كذبت ثمود بطغواهآ * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها) * * (والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * واليل إذا يغشاها * والسمآء وما بناها * والا رض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) *. في تلك الآيات العشر يقسم الله تعالى سبع مرات بسبع آيات كونية، هي الشمس، والقمر، والليل، والنهار، والسماء، والأرض، والنفس البشرية، مع حالة لكل مقسم به، وذلك على شيء واحد، وهو فلاح من زكى تلك النفس وخيبة من دساها، ومع كل آية جاء القسم بها توجيها إلى أثرها العظيم المشاهد الملموس، الدال على القدرة الباهرة. وذلك كالآتي أولا: * (والشمس وضحاها) * فالشمس وحدها آية دالة على قدرة خالقها، لما فيها من طاقة حرارية في ذاتها تفوق كل تقدير، وهي على الزمان بدون انتقاص، فهي في ذاتها آية. ثم جاء وصف أثرها وهو: ضحاها، وهو انتشار ضوئها ضحوة النهار، وهذا وحده آية، لأنه نتيجة لحركتها، وحركتها آية من آيات الله كما قال تعالى: * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) *، وهي الآية التي حاج بها إبراهيم عليه السلام نمروذ في قوله: * (فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر) *. ففي هذا السير قدرة باهرة ودقة متناهية، وضحاها: نتيجة لهذا السير، ثم ضحاها نعم جزيلة على الكون كله، من انتشار في الأرض وانتفاع بضوئها وأشعتها. وقد قالوا: لو اقتربت درجة أو ارتفعت درجة لما استطاع أحد أن ينتفع منها بشيء، لأنها تحرق باقترابها، ويتجمد العالم من بعدها، ذلك تقدير العزيز العليم.
536 فالضحى وحده آية وهو حرها كقوله: * (وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) *، أي بحر الشمس، وقد أقسم تعالى بالضحى وحده في قوله تعالى: * (والضحى * واليل إذا سجى) *. وقوله: * (والقمر إذا تلاها) *، فهو كذلك القمر وحده آية، وكذلك تلوه للشمس ونظام مسيره بهذه الدقة، وهذا النظام فلا يسبقها ولا تفوته: * (لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون) *. وفي قوله تعالى: * (إذا تلاها) *، أي تلا الشمس، دلالة على سير الجميع، وأنها سابقته وهو تاليها. فقيل: تاليها عند أول الشهر تغرب، ويظهر من مكان غروبها. وقد قال بعض أهل الهيأة: تاليها في منزلة الحجم، أي كبرى وهو كبير بعدها في الحجم، وفيه نظر. ولا يخفى ما في القمر من فوائد للخليفة، من تخفيف ظلمة الليل، وكذلك بعض الخصائص على الزرع، وأهم خصائصه بيان الشهور بتقسيم السنة ومعرفة العبادات من صوم، وحج، وزكاة، وعدد النساء، وكفارات بصوم، وحلول الديون، وشروط المعاملات، وكل ما له صلة بالحساب في عبادة أو معاملة. وقد جاء القسم بالقمر في المدثر في قوله: * (كلا والقمر * واليل إذ أدبر) *، وقوله: * (والقمر إذا اتسق) *، مما يدل على عظم آيته ودقة دلالته. وقوله: * (والنهار إذا جلاها) *، والنهار هو أثر من آثار ضوء الشمس. وجلاها. قيل: الضمير فيه راجع للشمس كما في الذي قبله، ولكن اختار ابن كثير أن يكون راجعا للأرض، أي كشفها وأوضح كل ما فيها ليتيسر طلب المعاش والسعي، كقوله: * (هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) *، وقوله: * (وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا) *.
537 وقد أقسم تعالى بالنهار إذا تجلى: أي ظهر ووضح بدون ضمير إلى غيره في قوله تعالى: * (واليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى) *، أي في مقابلة غشاوة الليل يكون بتجلي النهار. وقد بين تعالى عظم آية النهار وعظم آية الليل، وأنه لا يقدر على الإتيان بهما إلا الله، كما في قوله: * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اليل سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بضيآء أفلا تسمعون * قل أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إلاه غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون) *. وقوله: * (واليل إذا يغشاها) *، قالوا: يغشى الشمس فيحجب ضياؤها، والكلام على الليل، كالكلام على النهار، من حيث الآية. والدلالة على قدرته تعالى. وتقدمت النصوص الكافية وسيأتي الإقسام بالليل في قوله: * (واليل إذا يغشى) *، أي يغشى الكون كله، كما في قوله: * (واليل وما وسق) *، أي جمع واشتمل بظلامه. والضمير في يغشاها: راجع إلى الشمس، وعليه، قيل: إن الإقسام في هذه الأربعة راجع كله إلى الشمس في حالات مختلفة، في ضحاها ثم تجليها، ثم تلو القمر لها، ثم يغشيان الليل إياها، وهنا سؤال: كيف يغشى الليل الشمس، مع أن الليل وهو الظلمة نتيجة لغروب الشمس عن الجهة التي فيها الليل؟ فقيل: إن الليل يغطي ضوء الشمس، فتتكون الظلمة، والواقع خلاف ذلك. وهو أن الشمس ظاهرة وضوؤها منتشر، ولكن في قسم الأرض المقابل للظلمة الموجودة، كما أن الظلمة تكون في القسم المقابل للنهار، وهكذا. ولذا قال ابن كثير: إن الضمير في يغشاها وجلاها راجع إلى الأرض، إلا أن فيه مغايرة في مرجع الضمير، والله تعالى أعلم. وقوله: * (والسمآء وما بناها) *، قيل: ما، بمعنى الذي، وجئ بها بدلا عن من، التي لأولى العلم، لإشعارها معنى الوصفية، أي والسماء والقادر الذي بناها، وكذلك ما بعدها في الأرض، وما طحاها ونفس، والحكيم العليم
538 الذي سواها، وما مشترك بين العالم وغيره، كقوله: * (ولا أنتم عابدون مآ أعبد) *، ومثله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النسآء) *. وتقدم مرارا أحوال السماء في بنائها ورفعها، وجعلها سبعا طباقا، وقد بين في تلك النصوص كيفية بنائها، وأنه سبحانه وتعالى بناها بقوة، كما في قوله تعالى: * (والسمآء بنيناها بأيد) *، أي بقوة، وقوله تعالى: * (والا رض وما طحاها) *، مثل دحاها. وقالوا: إبدال الدال طاء مشهور، وطحا تأتي بمعنى خلق، وبمعنى ذهب في كل شيء، فمن الأول: وقالوا: إبدال الدال طاء مشهور، وطحا تأتي بمعنى خلق، وبمعنى ذهب في كل شيء، فمن الأول: * وما تدري جذيمة من طحاها * ولا من ساكن العرش الرفيع * ومن الثاني قول علقمة: ومن الثاني قول علقمة: * طحا بك قلب في الحسان طروب * يعيد الشباب عصر حان مشيب * ولا منافاة في ذلك بأنه تعالى خلقها ومدها، وذهب بأطرافها كل مذهب، أي في مدها. تنبيه قالوا: ذكر السماء وما بناها، للدلالة على حدوثها، وبالتالي على حدوث الشمس والقمر، وأن تدبيرهما لله. وقوله: * (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها) *، قالوا: النفس تحمل كامل خلقة الإنسان بجسمه وروحه وقواه الإنسانية، من تفكير وسلوك... إلخ. وقيل: النفس هنا بمعنى القوى المفكرة المدركة مناط الرغبة والاختيار، وعليه فذكر النفس بالمعنى الأول، تكون تسويتها في استواء خلقتها وتركيب أعضائها، وهي غاية في الدلالة على القدرة والكمال والعلم، كما في قوله: * (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم) *، وقال: * (وفى أنفسكم أفلا تبصرون) *، أي من أعضاء وأجزاء وتراكيب وعدة أجهزة تبهر العقول في السمع، وفي البصر، وفي الشم، وفي الذوق، وفي الحس، ومن داخل الجسم ما هو أعظم، فحق أن يقسم بها.
539 وما سواها: أي بالقدرة الباهرة، والعلم الشامل. وذكرها بالمعنى الثاني، فإنه في نظري أعظم من المعنى الأول، وذلك أن القوى المدركة والمفكرة والمقدرة للأمور التي لها الاختيار، ومنها القبول والرفض والرضى والسخط والأخذ والمنع، فإنها عالم مستقل. وإنها كما قلنا أعظم مما تقدم، لأن الجانب الخلقي قال تعالى فيه: * (لخلق السماوات والا رض أكبر من خلق الناس) *، ولكن في هذا الجانب قال: * (إنا عرضنا الا مانة على السماوات والا رض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) *. ومعلوم أن بعض أفراد الإنسان حملها بصدق وأداها بوفاء، ونال رضى الله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه. فهذه النفس في تسويتها لتلقى معاني الخير والشر، واستقبال الإلهام الإلهي للفجور، والتقوى أعظم دلالة على القدرة من تلك الجمادات التي لا تبدي ولا تعيد، والتي لا تملك سلبا ولا إيجابا. وهنا مثال بسيط فيما استحدث من آلات حفظ وحساب، كالآلة الحاسبة والعقل الألكتروني، فإنها لا تخطىء كما يقولون، وقد بهرت العقول في صفتها، ولكن بنظرة بسيطة نجدها أمام النفس الإنسانية كقطرة من بحر. فنقول: إنها أولا من صنع هذه النفس ذات الإدراك النامي والاستنتاج الباهر. ثانيا: هي لا تخطىء لأنها لا تقدر أن تخطىء، لأن الخطأ ناشىء عن اجتهاد فكري، وهي لا اجتهاد لها، إنما تشير وفق ما رسم لها كالمادة المسجلة في شريط، فإن المسجل مع دقة حفظة لها فإنه لا يقدر أن يزيد ولا ينقص حرفا واحدا. أما الإنسان فإنه يغير ويبدل، وعندما يبدل كلمة مكان كلمة، فلقدرته على إيجاد الكلمة الأخرى، أو لاختياره ترك الكلمة الأولى. وهكذا هنا، فالله تعالى هنا خلق تلك النفس أولا، ثم سواها على حالة تقبل تلقي الإلهام بقسيمة: الفجور والتقوى، ثم تسلك أحد الطريقين، فكأن مجيء القسم بها بعد
540 تلك المسميات دلالة على عظم ذاتها وقوة دلالتها على قدرة خالقها، وما سواها مستعدة قابلة لتلقي إلهام الله إياها. تنبيه وفي مجيئها بعد الآيات الكونية. من شمس وقمر وليل ونهار، وسماء وأرض، لفت إلى وجوب التأمل في تلك المخلوقات، يستلهم منها الدلالة على قدرة خالقها والاستدلال على تغير الأزمان، وحركة الأفلاك، وإحداث السماء بالبناء أنه لا بد لهذا العالم من صانع، ولا بد للمحدث المتجدد من فناء وعدم. كما عرض إبراهيم عليه السلام على النمروذ نماذج الاستدلال على الربوبية والألوهية، فأشار إلى الشمس أولا، ثم إلى القمر، ثم انتقل به إلى الله سبحانه. وقوله: * (فألهمها فجورها وتقواها) *، إن كان ألهمها بمعنى هداها وبين لها، فهو كما في قوله: * (وهديناه النجدين) *، وقوله: * (إنا هديناه السبيل) *، وهذا على الهداية العامة، التي بمعنى الدلالة والبيان. وإن كان بمعنى التيسير والإلزام، ففيه إشكال القدر في الخير الاختيار. وقد بحث هذا المعنى الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب بحثا وافيا. * (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) *. هذا هو جواب القسم فيما تقدم، فالواو قد حذفت منه اللام لطول ما بين المقسم به والمقسم عليه. وقد نوه عنه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى: * (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) *، من سورة ص، وأنهم استدلوا لهذه الآية عليه. والأصل: لقد أفلح، فحذفت اللام لطول الفصل، وزكاها بمعنى طهرها، وأول ما يطهرها منه دنس الشرك ورجسه، كما قال تعالى: * (إنما المشركون نجس) *، وتطهيرها منه بالإيمان ثم من المعاصي بالتقوى، كما في قوله تعالى: * (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) *، ثم بعمل الطاعات * (قد أفلح من
541 تزكى * وذكر اسم ربه فصلى) *. واختلف في مرجع الضمير في زكاها ودساها، وهو يرجع إلى اختلافهم في * (فألهمها فجورها وتقواها) *، فهل يعود إلى الله تعالى، كما في * (ونفس وما سواها) *، أم يعود على العبد. ويمكن أن يستدل لكل قول ببعض النصوص. فمما يستدل به للقول الأول قوله تعالى: * (بل الله يزكى من يشآء ولا يظلمون فتيلا) *، وقوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) *، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند هذه الآية: (اللهم أئت نفسي تقواها وزكها، أنت خير من زكاها، وأنت وليها ومولاها). ومما استدل به للقول الثاني فقوله: * (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى) *، وقوله: * (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير) *، وقوله: * (فقل هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى) *، وقوله: * (وما يدريك لعله يزكى) *، وكلها كما ترى محتملة، والإشكال فيها كالإشكال فيما قبلها. والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن الجمع بين تلك النصوص كالجمع في التي قبلها، وأن ما يتزكى به العبد من إيمان وعمل في طاعة وترك لمعصية، فإنه بفضل من الله، كما في قوله تعالى المصرح بذلك * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) *. وكل النصوص التي فيها عود الضمير أو إسناد التزكية إلى العبد، فإنها بفضل من الله ورحمة، كما تفضل عليه بالهدى والتوفيق للإيمان، فهو الذي يتفضل عليه بالتوفيق إلى العمل الصالح. وترك المعاصي، كما في قولك (لا حول ولا قوة إلا بالله) وقوله: * (فلا تزكوا أنفسكم) *، وقوله: * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) *، إنما هو بمعنى المدح والثناء، كما في قوله تعالى: * (قالت الا عراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولاكن قولوا أسلمنا) *، بل إن في قوله تعالى: * (بل الله يزكى من يشآء ولا يظلمون فتيلا) *، الجمع بين الأمرين، القدري والشرعي، * (بل الله
542 يزكى من يشآء) * بفضله، * (ولا يظلمون فتيلا) * بعدلة. والله تعالى أعلم. * (كذبت ثمود بطغواهآ * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها) *. ثمود: اسم للقبيلة أسند إليها التكذيب، أي بنبي الله صالح، وأشقاها هو عاقر الناقة أسند الانبعاث له وحده بين ما جاء بعده، * (فكذبوه فعقروها) *، فأسند العقر لهم. وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الجمع بين ذلك في سورة الزخرف، ومضمونة أنهم متواطؤون معه كما في قوله: * (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) *، فكانوا شركاء له في عقرها، كما قال الشاعر: فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) *، فكانوا شركاء له في عقرها، كما قال الشاعر: * والسامع الذم شريك لقائه * ومطعم المأكول شريك للآكل * وفي قصة أبي طلحة في صيد الحمار الوحشي، سألهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم محرمون للعمرة (هل دله عليه منكم أحد؟ قالوا: لا، قال: هل عاونه عليه منكم أحد؟ قالوا: لا، قال: فكلوا إذا)، لأن مفهومه: لو عاونوا أو دلوا لكانوا شركاء في صيده، فيحرم عليهم لقوله تعالى: * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *، وبعدم اشتراكهم حل لهم، فلو عاونوا أو شاركوا لحرم عليهم، وهنا لما كانوا راضين ونادوه وتعاطى سواء عهودهم أو عطاؤهم أو غير ذلك فعقرها وحده، كان هذا باسم الجميع، فكانت العقوبة باسم الجميع، ويؤخذ من هذا قتل الجماعة بالواحد، وعقوبة الربيئة مع الجاني، والله تعالى أعلم.
543 ((سورة الليل)) * (واليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والا نثى * إن سعيكم لشتى * فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغنى عنه ماله إذا تردى * إن علينا للهدى * وإن لنا للا خرة والا ولى * فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاهآ إلا الا شقى * الذى كذب وتولى * وسيجنبها الا تقى * الذى يؤتى ماله يتزكى * وما لاحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغآء وجه ربه الا على * ولسوف يرضى) * * (واليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى) *. يقسم الله تعالى بالليل والنهار وأثرهما على الكون، على أنهما آيتان عظيمتان. وتقدم الكلام عليهما في السورة قبلها عند قوله: * (والنهار إذا جلاها * واليل إذا يغشاها) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على هاتين الآيتين، عند قوله تعالى: * (وجعلنا اليل والنهار ءايتين) *، في سورة بني إسرائيل، وذكر كل النصوص في هذا المعنى. وأثر الليل والنهار في حياة الناس، ومعرفة الحساب ونحوه. * (وما خلق الذكر والا نثى) *. تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحث هذه المسألة، وإيراد كل النصوص في عدة مواضع، أشار إليها كلها في سورة النجم عند قوله تعالى: * (وأنه خلق الزوجين الذكر والا نثى * من نطفة إذا تمنى) *، وقد قرئت بعدة قراءات منها * (خلق الذكر والا نثى) *، ومنها * (الذكر والا نثى) *. وذكرها ابن كثير مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري ومسلم، وعلى القراءة المشهورة. * (وما خلق الذكر والا نثى) *، اختلف في لفظة (ما) فقيل: إنها مصدرية، أي وخلق الذكر والأنثى. وقيل: بمعنى من، أي والذي خلق الذكر والأنثى. فعلى الأول يكون القسم
544 بصفة من صفات الله وهي صفة الخلق، ويكون خص الذكر والأنثى لما فيهما من بديع صنع الله وقوة قدرته سبحانه على ما يأتي. وعلى قراءة: والذكر والأنثى. يكون القسم بالمخلوق كالليل والنهار، لما في الخلق من قدرة الخالق أيضا، وعلى أنها بمعنى الذي يكون القسم بالخالق سبحانه، وتكون ما هنا مثل ما في قوله: * (والسمآء وما بناها) *، وغاية ما فيه استعمالها وهي في الأصل لغير أولي العلم، إلا أنها لوحظ فيها معنى الصفة، وهي صفة الخلق أو على ما تستعمله العرب عند القرينة، كقوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم) *، وقوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النسآء) *، لما لوحظ فيه معنى الصفة وهو الاستمتاع، ساغ استعمال ما بدلا عن من. وفي اختصاص خلق الذكر والأنثى في هذا المقام لفت نظر إلى هذه الصفة، لما فيها من إعجاز البشر عنها، كما في الليل والنهار من الإعجاز للبشر من أن يقدروا على شيء في خصوصه، كما قدمنا في السورة قبلها. وذلك: أن أصل التذكير والتأنيث أمر فوق إدراك وقوى البشر، وهي كالآتي أولا في الحيوانات الثديية، وهي ذوات الرحم تحمل وتلد، فإنها تنتج عن طريق اتصال الذكور بالإناث. وتذكير الجنين أو تأنيثه ليس لأبويه دخل فيه، إنه من نطفة أمشاج، أي أخلاط من ماء الأب والأم، وجعل هذا ذكرا وذاك أنثى، فهو هبة من الله كما في قوله: * (يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير) *. وقد ثبت علميا أن سبب التذكير والتأنيث من جانب الرجل، أي أن ماء المرأة صالح لهذا وذاك، وماء الرجل هو الذي به يكون التمييز لانقسام يقع فيه، فالمرأة لا تعدو أن تكون حرثا، والرجل هو الزارع، ونوع الزرع يكون عن طريقه، كما أشارت إليه الآية الكريمة * (نسآؤكم حرث لكم) *، والحرث لا يتصرف في الزرع، وإنما التصرف عن طريق الحارث. ويتم ذلك عن طريق مبدء معلوم علميا، وهو أن خلية التلقيح في الأنثى دائما وأبدا
545 مكونة من ثمانية وأربعين جزءا، وهي دائما وأبدا تنقسم إلى قسمين متساويين أربعة وعشرين، فيلتحم قسم منها مع قسم خلية الذكر، وخلية الذكر سبعة وأربعون، وإنما أبدا تنقسم أيضا عند التلقيح إلى قسمين، ولكن أحدهما أربعة وعشرون، والآخر ثلاثة وعشرون، فإذا أراد الله تذكير الحمل سبق القسم الذي من ثلاثة وعشرين. فيندمج مع قسيم خلية الأنثى، وهو أربعة وعشرون، فيكون مجموعهما سبعة وأربعين، فيكون الذكر بإذن الله. وإذا أراد الله تأنيث الحمل سبق القسم الذي هو أربعة وعشرون من الرجل، فيندمج مع قسيم خلية المرأة أربعة وعشرين، فيكون من مجموعهما ثمانية وأربعون، فتكون الأنثى بإذن الله، وهكذا في جميع الحيوانات. أما النباتات فإن بعض الأشجار تتميز فيه الذكور من الإناث، كالنخل والتوت مثلا، وبقية الأشجار تكون الشجرة الواحدة تحمل زهرة الذكورة وزهرة الأنوثة، فتلقح الرياح بعضها من بعض. وقد حدثني عدة أشخاص عن غريبتين في ذلك. إحداهما: أن نخلة موجودة حتى الآن في بعض السنين فحلا يؤخذ منه ليؤبر النخيل، وفي بعض السنين نخلة تطلع وتثمر. وحدثني آخر في نفس المجلس: من أنه توجد عندهم شجرة نخل يكون أحد شقيها فحلا يؤخذ منه الطلع يلقح به النخل، وشقها الآخر نخلة يتلقح من الشق الآخر لمجاورته. كما حدثني ثالث: أن والده قطع بعض فحل النخل لكثرته في النخيل، وبعد قطعه نبت في أصله ومن جذعه وجذوره نخلة تثمر. وكل ذلك على خلاف العادة، ولكنه دال على قدرة الله تعالى، وأنه خالق الذكر والأنثى. أما عمل هذا الجهاز في الحيوانات، بل وفي الحشرات الدقيقة، وتكاثرها، فهو فوق الحصر والحد. وقد ذكروا في عالم الحشرات، ما يلقح نفسه بنفسه، باحتكاك بعض فخذية ببعض، وكل ذلك مما لا يعلمه ولا يقدر على إيجاده إلا الله سبحانه وتعالى، مما لو
546 تأمله العاقل لوجد فيه كما أسلفنا القدرة الباهرة، أعظم مما في الليل إذا يغشى وما في النهار إذا تجلى، ولا سيما إذا صغر الكائن كالبعوضة فما دونها مما لا يكاد يرى بالعين، ومع ذلك فإن فيه الذكورة والأنوثة. سبحانك اللهم ما أعظم شأنك. * (إن سعيكم لشتى) *. تقدم في السورة الأولى قوله تعالى: * (قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها) *، وكلاهما بالسعي إليه والعمل من أجله، وهنا يقول: إن سعيكم مهما كان لشتى، أي متباعد بعض عن بعض. والشتات: التباعد والافتراق، وشتى: جمع شتيت، كمرضى ومريض، وقتلى وقتيل ونحوه، ومنه قول الشاعر: والشتات: التباعد والافتراق، وشتى: جمع شتيت، كمرضى ومريض، وقتلى وقتيل ونحوه، ومنه قول الشاعر: * قد يجمع الله الشتيتين بعد ما * يظنان كل الظن ألا تلاقيا * وهذا جواب القسم، وفي القسم ما يشعر بالارتباط به، كبعد ما بين الليل والنهار، وما بين الذكر والأنثى، فهما مختلفان تماما، وهكذا هما مفترقان في النتائج والوسائل، كبعد ما بين فلاح من زكاها، وخيبة من دساها المتقدم في السورة قبلها. ثم فصل هذا الشتات في التفصيل الآتي * (فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى) *. وما أبعد ما بين العطاء والبخل والتصديق والتكذيب واليسرى والعسرى، وقد أطلق أعطى ليعم كل عطاء من ماله وجاهه وجهده حتى الكلمة الطيبة، بل حتى طلاقة الوجه، كما في الحديث (ولو أن أخاك بوجه طلق). والحسنى: قيل المجازاة على الأعمال. وقيل: للخلف على الإنفاق. وقيل: لا إله إلا الله. وقيل: الجنة. والذي يشهد له القرآن هو الأخير لقوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) *، فقالوا: الحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجهه الكريم، وهذا
547 المعنى يشمل كل المعاني لأنها أحسن خلف لكل ما ينفق العبد، وخير وأحسن مجازاة على أي عمل مهما كان، ولا يتوصل إليها إلا بلا إله إلا الله. وقوله: * (فسنيسره لليسرى) * وقوله: * (فسنيسره للعسرى) * بعد ذكر أعطى واتقى في الأولى، وبخل واستغنى في الثانية. قيل: هو دلالة على أن فعل الطاعة ييسر إلى طاعة أخرى، وفعل المعصية يدفع إلى معصية أخرى. قال ابن كثير: مثل قوله تعالى: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم فى طغيانهم يعمهون) *. ثم قال: والآيات في هذا المعنى كثيرة، دالة على أن الله عز وجل، يجازي من قصد الخير بالتوفيق له، ومن قصد الشر بالخذلان، وكل ذلك بقدر مقدر. والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة. وذكر عن أبي بكر عند أحمد، وعن علي عند البخاري، وعبد الله بن عمر عند أحمد، وعدد كثير بروايات متعددة، أشملها وأصحها حديث علي عند البخاري قال علي: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار) فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل؟ (فقال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ * (فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى) * إلى قوله * (للعسرى) * فهي من الآيات التي لها تعلق ببحث القدر. وتقدم مرارا بحث هذه المسألة. والعلم عند الله تعالى. تنبيه قال أبو حيان: جاء قوله: * (فسنيسره للعسرى) * على سبيل المقابلة، لأن العسرى لا تيسير فيها. ا ه. وهذا من حيث الأسلوب ممكن، ولكن لا يبعد أن يكون معنى التيسير موجودا بالفعل، إذ المشاهد أن من خذلهم الله عياذا بالله يوجد منهم إقبال وقبول وارتياح، لما يكون أثقل وأشق ما يكون على غيرهم، ويرون ما هم فيه سهلا ميسرا لا غضاضة
548 عليهم فيه، بل وقد يستمرؤون الحرام ويستطعمونه. كما ذكر لي شخص: أن لصا قد كف عن السرقة حياء من الناس، وبعد أن كثر ماله وكبر سنه أعطى رجلا دراهم ليسرق له من زرع جاره، فذهب الرجل ودار من جهة أخرى وأتاه بثمرة من زرعه هو، أي زرع اللص نفسه، فلما أكلها تفلها، وقال: ليس فيه طعمة المسروق، فمن أين أتيت به؟ قال: أتيت به من زرعك، ألا تستحي من نفسك، تسرق وعندك ما يغنيك. فخجل وكف. وقد جاء عن عمر نقيض ذلك تماما، وهو أنه لما طلب من غلامه أن يسقيه مما في شكوته من لبنه، فلما طعمه استنكر طعمه، فقال للغلام: من أين هذا؟ فقال: مررت على إبل الصدقة فحلبوا لي منها، وها هو ذا، فوضع عمر إصبعه في فيه، واستقاء ما شرب. إنها حساسية الحرام استنكرها عمر، وأحس بالحرام فاستقاءه، وهذا وذاك بتيسير من الله تعالى، وصدق صلى الله عليه وسلم (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). ونحن نشاهد في الأمور العادية أصحاب المهن والحرف كل واحد راض بعمله وميسر له، وهكذا نظام الكون كله، والذي يهم هنا أن كلا من الطاعة أو المعصية له أثره على ما بعده. تنبيه قيل: إن هذه المقارنة بين: من أعطى واتقى وصدق بالحسنى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى، واقعة بين أبي بكر رضي الله عنه، وبين غيره من المشركين. ومعلوم أن العبرة بعموم اللفظ فهي عامة في كل من أعطى واتقى وصدق، أو بخل واستغنى وكذب. والله تعالى أعلم. * (وما يغنى عنه ماله إذا تردى) *. رد على من بخل واستغنى، وما هنا يمكن أن تكون نافية أي لا يغني عنه شيء، كما في قوله: * (مآ أغنى عنى ماليه) * وقوله: * (يوم لا ينفع مال
549 ولا بنون) *. ويمكن أن تكون استفهامية وقوله: * (إذا تردى) *، أي في النار عياذا بالله، أو تردى في أعماله، فمآله إلى النار بسبب بخله في الدنيا، كما يشهد له قوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ ءاتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) *. * (إن علينا للهدى) *. فيه للعلماء أوجه، منها: إن طريق الهدى دال وموصل علينا بخلاف الضلال. ومنها: التزام الله للخلق عليه لهم الهدى، وهذا الوجه محل إشكال، إذ إن بعض الخلق لم يهدهم الله. وقد بحث هذا الأمر الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب، من أن الجواب عليه من حيث إن الهدى عام وخاص. والله تعالى أعلم. * (وإن لنا للا خرة والا ولى) *. أي بكمال التصرف والأمر، وقد بينه تعالى في سورة الفاتحة * (الحمد لله رب العالمين) *، أي المتصرف في الدنيا * (مالك يوم الدين) *، أي المتصرف في الآخرة وحده * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) *. وهذا كدليل على تيسيره لعباده إلى ما يشاء في الدنيا، ومجازاتهم بما شاء في الآخرة. * (فأنذرتكم نارا تلظى) *. أي تتلظى، واللظى: اللهب الخالص، وفي وصف النار هنا بناظى مع أن لها صفات عديدة منها: السعير، وسقر، والجحيم، والهاوية، وغير ذلك. وذكر هنا صنفا خاصا، وهو من كذب وتولى، كما تقدم في موضع آخر في وصفها أيضا بلظى في قوله تعالى: * (كلا إنها لظى * نزاعة للشوى) *، ثم بين أهلها بقوله: * (تدعوا من أدبر وتولى * وجمع فأوعى) *.
550 وهو كما هو هنا * (فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاهآ إلا الا شقى * الذى كذب وتولى) *، وهو المعنى في قوله قبله: * (وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى) *، مما يدل أن للنار عدة حالات أو مناطق أو منازل، كل منزلة تختص بصنف من الناس، فاختصت لظى بهذا الصنف، واختصت سقر بمن لم يكن من المصلين، وكانوا يخوضون مع الخائضين، ونحو ذلك. ويشهد له قوله: * (إن المنافقين فى الدرك الا سفل من النار) *، كما أن الجنة منازل ودرجات، حسب أعمال المؤمنين، والله تعالى أعلم. * (لا يصلاهآ إلا الا شقى * الذى كذب وتولى * وسيجنبها الا تقى * الذى يؤتى ماله يتزكى) *. هذه الآية من مواضع الإيهام، ولم يتعرض لها في دفع إيهام الاضطراب، وهو أنها تنص وعلى سبيل الحصر، أنه لا يصلى النار إلا الأشقى مع مجيء قوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) * مما يدل على ورود الجميع. والجواب من وجهين: الأول كما قال الزمخشري: إن الآية بين حالي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين. فقيل: الأشقى وجعل مختصا بالصلى، كأن النار لم تخلق إلا له، وقال الأتقى، وجعل مختصا بالجنة، وكأن الجنة لم تخلق إلا له، وقيل: عنهما هما أبو جهل أو أمية بن خلف المشركين، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، حكاه أبو حيان عن الزمخشري. والوجه الثاني: هو أن الصلى الدخول والشي، وأن يكون وقود النار على سبيل الخلود، والورود والدخول المؤقت بزمن غير الصلى لقوله في آية الورود، التي هي قوله تعالى: * (وإن منكم إلا واردها) *، * (ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) *، ويبقى الإشكال، بين الذين اتقوا وبين الأتقى ويجاب عنه: بأن التقى يرد، والأتقى لا يشعر بورودها، كمن يمر عليها كالبرق الخاطف. والله تعالى أعلم. ولولا التأكيد في آية الورود بالمجيء بحرف من وإلا وقوله: * (كان على ربك حتما مقضيا) * لولا هذه المذكورات لكان يمكن أن يقال: إنها مخصوصة بهذه
551 الآية، وأن الأتقى لا يردها، إلا أن وجود تلك المذكورات يمنع من القول بالتخصيص. والله تعالى أعلم. وفيه تقرير مصير القسمين المتقدمين، من أعطى واتقى وصدق، ومن بخل واستغنى وكذب، وأن صليها بسبب التكذيب والتولي والإعراض وهو عين الشقاء، ويتجنبها الأتقى الذي صدق، وكان نتيجة تصديقه أنه أعطى ماله يتزكى، وجعل إتيان المال نتيجة التصديق أمر بالغ الأهمية. وذلك أن العبد لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض، لأن الدنيا كلها معاوضة حتى الحيوان تعطيه علفا يعطيك ما يقابله من خدمة أو حليب. إلخ. فالمؤمن المصدق بالحسنى يعطي وينتظر الجزاء الأوفى الحسنة بعشر أمثالها، لأنه مؤمن أنه متعامل مع الله، كما في قوله: * (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا) *. أما المكذب: فلم يؤمن بالجزاء آجلا، فلا يخرج شيئا لأنه لم يجد عوضا معجلا، ولا ينتظر ثوابا مؤجلا، ولذا كان الذين تبؤوا الدار والإيمان، يحبون من هاجر إليهم ويواسونهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، إيمانا بما عند الله، بينما كان المنافقون لا ينفقون إلا كرها ولا يخرجون إلا الرديء، الذي لم يكونوا ليأخذوه من غيرهم إلا ليغمضوا فيه، ولك ذلك سببه التصديق بالحسنى أو التكذيب بها. ولذا جاء في الحديث الصحيح (والصدقة برهان) أي على صحة الإيمان بما وعد الله المتقين، من الخلف المضاعفة الحسنة. وقوله: * (يؤتى ماله يتزكى) *، أي يتطهر ويستزيد، إذ التزكية تأتي بمعنى النماء، كقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) *، وهذا رد على قوله تعالى: * (قد أفلح من تزكى) *، وعلى عموم: * (فأما من أعطى واتقى) *، ولا يقال: إنها زكاة المال، لأن الزكاة لم تشرع إلا بالمدينة، والسورة مكية عند الجمهور، وقيل: مدنية. والصحيح الأول.
552 تنبيه قد قيل أيضا: إن المراد بقوله: * (وسيجنبها الا تقى * الذى يؤتى ماله يتزكى) *، إلى آخر السورة. نازل في أبي بكر رضي الله عنه، لما كان يعتق ضعفة المسلمين، ومن يعذبون على إسلامهم في مكة، فقيل له: لو اشتريت الأقوياء يساعدونك ويدافعون عنك. فأنزل الله الآيات إلى قوله: * (وما لاحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغآء وجه ربه الا على) *، وابتغاء وجه رب هو بعينه، وصدق بالحسنى أي لوجه الله يرجو الثواب من الله. وكما تقدم، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن صورة السبب قطعية الدخول. فهذه بشرى عظيمة للصديق رضي الله عنه، ولسوف يرضى في غاية من التأكيد من الله تعالى، على وعده إياه صلى الله عليه وسلم وأرضاه. وذكر ابن كثير: أن في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة: يا عبد الله هذا خير، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما على من يدعي منها ضرورة، فهل يدعي منها كلها أحد؟ نعم، وأرجو أن تكون منهم). ا ه. وإنا لنرجو الله كذلك فضلا منه تعالى. تنبيه في قوله تعالى: * (ولسوف يرضى) *، وذكر ابن كثير إجماع المفسرين أنها في أبي بكر رضي الله عنه أعلى منازل البشرى، لأن هذا الوصف بعينه، قيل للرسول صلى الله عليه وسلم قطعا في السورة بعدها، سورة الضحى * (وللا خرة خير لك من الا ولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى) *، فهو وعد مشترك للصديق وللرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنه في حق الرسول صلى الله عليه وسلم أسند العطاء فيه لله تعالى بصفة الربوبية * (ولسوف يعطيك ربك) * كما ذكر فيه العطاء، مما يدل على غيره صلى الله عليه وسلم، وهو معلوم بالضرورة من أنه صلى الله عليه وسلم له عطاءات لا يشاركه فيها أحد، على ما سيأتي إن شاء الله.
553 ((سورة الضحى)) * (والضحى * واليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى * وللا خرة خير لك من الا ولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى * ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضآلا فهدى * ووجدك عآئلا فأغنى * فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السآئل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث) * * (والضحى * واليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى) *. تقدم معنى الضحى في السورة المتقدمة. وقيل: المراد به هنا النهار كله، كما في قوله: * (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نآئمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون) *، وقوله: * (واليل إذا سجى) * قيل: أقبل، وقيل: شدة ظلامه، وقيل: غطى، وقيل: سكن. واختار الشيخ رحمة الله علينا وعليه في إملائه معنى: سكن. واختار ابن جرير أنه سكن بأهله، وثبت بظلامه، قال كما يقال بحر ساج، إذا كان ساكنا، ومنه قول الأعشى: واختار ابن جرير أنه سكن بأهله، وثبت بظلامه، قال كما يقال بحر ساج، إذا كان ساكنا، ومنه قول الأعشى: * فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم * وبحرك ساج ما يواري الدعامصا * وقول الراجز: وقول الراجز: * يا حبذا القمراء والليل الساج * وطرق مثل ملاء النساج * وأنشدهما القرطبي، وذكر قول جرير: وأنشدهما القرطبي، وذكر قول جرير: * ولقد رميتك يوم رحن بأعين * ينظرن من خلل الستور سواج * أقسم تعالى بالضحى والليل هنا فقط لمناسبتها للمقسم عليه، لأنهما طرفا الزمن وظرف الحركة والسكون، فإنه يقول له مؤانسا: ما ودعك ربك وما قلى، لا في ليل ولا في نهار، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله. وقوله: * (ما ودعك ربك) *، قرىء بالتشديد من توديع المفارق. وقرئ: ما
554 ودعك، بالتخفيف من الودع، أي من الترك، كما قال أبو الأسود: ما ودعك ربك) *، قرىء بالتشديد من توديع المفارق. وقرئ: ما ودعك، بالتخفيف من الودع، أي من الترك، كما قال أبو الأسود: * ليت شعري عن خليل ما الذي * نما له في الحب حتى ودعه * أي تركه، وقول الآخر: أي تركه، وقول الآخر: * وثم ودعنا آل عمرو وعامر * فرائس أطراف المثقفة السمر * أي تركوهم فرائس السيوف. قال أبو حيان: والتوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقا، فقد بالغ في تركك. ا ه. والقراءة الأولى أشهر وأولى، لأن استعمال ودع بمعنى ترك قليل. قال القرطبي، وقال المبرد: لا يكادون يقولون: ودع ولا وذر، لضعف الواو إذا قدمت واستغنوا عنها بترك، ويدل على قول المبرد سقوط الواو في المضارع، فتقول في مضارع: ودع يدع كيزن ويهب ويرث، من وزن ووهب وورث، وتقول في الأمر: دع وزن، وهب، أما ذر بمعنى اترك، فلم يأت منه الماضي، وجاء المضارع: يذرهم، والأمر: ذرهم. فترجحت قراءة الجمهور بالتشديد من ودعك من التوديع. وقد ذكرنا هذا الترجيح، لأن ودع بمعنى ترك فيها شدة وشبه جفوة وقطيعة، وهذا لا يليق بمقام المصطفى صلى الله عليه وسلم عند ربه. أما الموادعة والوداع، فقد يكون مع المودة والصلة، كما يكون بين المحبين عند الافتراق، فهو وإن وادعه بجسمه فإنه لم يوادعه بحبه وعطفه، والسؤال عنه وهو ما يتناسب مع قوله تعالى: * (وما قلى) *. تنبيه هنا ما ودعك بصيغة الماضي، وهو كذلك للمستقبل، بدليل الواقع وبدليل * (وللا خرة خير لك من الا ولى) *، لأنها تدل على مواصلة عناية الله به حتى يصل إلى الآخرة فيجدها خيرا له من الأولى، فيكون ما بين ذلك كله في عناية ورعاية ربه. وقد جاء في صلح الحديبية، قال لعمر: أنا عبد الله ورسوله، أي تحت رحمته وفي رعايته.
555 وقوله: وما قلى، حذف كاف الخطاب لثبوتها فيما معها، فدلت عليها هكذا. قال المفسرون: وقال بعضهم: تركت لرأس الآية، والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود، فأبرزت فيها كاف الخطاب، أي لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب، والمصطفى المقرب. أما قلى: ففيها معنى البغض، فلم يناسب إبرازها إمعانا في إبعاد قصده صلى الله عليه وسلم بشيء من هذا المعنى، كما تقول لعزيز عليك: لقد أكرمتك، وما أهنت لقد قربتك، وما أبعدت كراهية أن تنطق بإهانته وكراهيته، أو تصرح بها في حقه، والقلى: يمد ويقصر هو البغض، يمد إذا فتحت القاف، ويقصر إذا كسرتها، وهو واوي وياءي، وذكر القرطبي، قال: أنشد ثعلب: بشيء من هذا المعنى، كما تقول لعزيز عليك: لقد أكرمتك، وما أهنت لقد قربتك، وما أبعدت كراهية أن تنطق بإهانته وكراهيته، أو تصرح بها في حقه، والقلى: يمد ويقصر هو البغض، يمد إذا فتحت القاف، ويقصر إذا كسرتها، وهو واوي وياءي، وذكر القرطبي، قال: أنشد ثعلب: * أيام أم الغمر لا نقلاها * ولو تشاء قبلت عيناها * وقال كثير عزة: وقال كثير عزة: * أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية إن تقلت * فالأول قال: فقلاها من الواوي، والثاني قال: مقلية من الياء، وهما في اللسان شواهد: وقد جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ويثبت دوام موالاته سبحانه لحبيبه وعنايته به وحفظه له بما كان بكاؤه به عمه، وقد قال عمه في ذلك: وقد جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ويثبت دوام موالاته سبحانه لحبيبه وعنايته به وحفظه له بما كان بكاؤه به عمه، وقد قال عمه في ذلك: * والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا * وذكر ابن هشام في رعاية عمه له، أنه كان إذا جن الليل وأرادوا أن يناموا، تركه مع أولاده ينامون، حتى إذا أخذ كل مضجعه، عمد عمه إلى واحد من أبنائه، فأقامه وأتى بمحمد صلى الله عليه وسلم ينام موضعه، وذهب بولده ينام مكان محمد صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان هناك من يريد به سوءا فرأى مكانه في أول الليل، ثم جاء من يريده بسوء وقع السوء بابنه، وسلم محمد صلى الله عليه وسلم، كما فعل الصديق رضي الله عنه عند الخروج إلى الهجرة في طريقهما إلى الغار، فكان رضي الله عنه تارة يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم، وتارة يمشي وراءه، فسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (
556 أذكر الرصيد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك، فقال: أتريد لو كان سوء يكون بك يا أبا بكر؟ قال: بلى، فداك أبي وأمي يا رسول الله، ثم قال: إن أهلك أهلك وحدي، وإن تهلك تهلك معك الدعوة): فذاك عمه في جاهلية وليس على دينه صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه. * (وللا خرة خير لك من الا ولى) *. خير تأتي مصدرا كقوله: إن ترك خيرا أي مالا كثيرا، وتأتي أفعل تفضيل محذوفة الهمزة، وهي هنا أفعل تفضيل بدليل ذكر المقابل، وذكر حرف من، مما يدل على أنه سبحانه أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة، ولكن ما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا، ويوهم أن الآخرة خير له صلى الله عليه وسلم وسلم وحده من الأولى، ولكن جاء النص على أنها خير للأبرار جميعا، وهو قوله تعالى: * (وما عند الله خير للأبرار) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان الخيرية للأبرار عند الله، أي يوم القيامة بما أعد لهم، كما في قوله: * (إن الا برار لفى نعيم) *، وقوله: * (إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) *. أما بيان الخيرية هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيان الخير في الدنيا أولا، ثم بيان الأفضل منه في الآخرة. أما في الدنيا المدلول عليه بأفعل التفضيل، أي لدلالته على اشتراك الأمرين في الوصف، وزيادة أحدهما على الآخر، فقد أشار إليه في هذه السورة والتي بعدها، ففي هذه السورة قوله تعالى: * (ألم يجدك يتيما فآوى) *، أي منذ ولادته ونشأته، ولقد تعهده الله سبحانه من صغره فصانه عن دنس الشرك، وطهره وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها فقال: (فتى لا يعادله فتى من قريش، حلما وعقلا وخلقا، إلا رجح عليه). وقوله: * (ووجدك ضآلا فهدى * ووجدك عآئلا فأغنى) *. على ما سيأتي بيانه كله، فهي نعم يعددها تعالى عليه، وهي من أعظم خيرات الدنيا
557 من صغره إلى شبابه وكبره، ثم اصطفائه بالرسالة، ثم حفظه من الناس، ثم نصره على الأعداء، وإظهار دينه وإعلاء كلمته. ومن الناحية المعنوية ما جاء في السورة بعدها: * (ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذى أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك) *. أما خيرية الآخرة على الأولى، فعلى حد قوله: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) *، وليس بعد الرضى مطلب، وفي الجملة: فإن الأولى دار عمل وتكليف وجهاد، والآخرة دار جزاء وثواب وإكرام، فهي لا شك أفضل من الأولى. * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) *. جاء مؤكدا باللام وسوف، وقال بعض العلماء: يعطيه في الدنيا من إتمام الدين وإعلاء كلمة الله، والنصر على الأعداء. والجمهور: أنه في الآخرة، وهذا وإن كان على سبيل الإجمال، إلا أنه فصل في بعض المواضع، فأعظمها ما أشار إليه قوله تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *. وجاء في السنة بيان المقام المحمود وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، كما في حديث الشفاعة العظمى حين يتخلى كل نبي، ويقول: (نفسي نفسي، حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها أنا لها) إلخ. ومنها: الحوض المورود، وما خصت به أمته غرا محجلين، يردون عليه الحوض. ومنها: الوسيلة، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد، كما في الحديث: (إذ سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو). وإذا كانت لعبد واحد فمن يستقدم عليها، وإذا رجا ربه أن تكون له طلب من الأمة طلبها له، فهو مما يؤكد أنها له، وإلا لما طلبها ولا ترجاها، ولا أمر بطلبها له. وهو بلا شك أحق بها من جميع الخلق، إذ الخلق أفضلهم الرسل، وهو صلى الله عليه وسلم مقدم عليهم في الدنيا، كما في الإسراء تقدم عليهم في الصلاة في بيت المقدس.
558 ومنها: الشفاعة في دخول الجنة كما في الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم أول من تفتح له الجنة، وأن رضوانا خازن الجنة يقول له: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك). ومنها: الشفاعة، المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار، كما في الحديث: (لا أرضى وأحد من أمتي في النار) أسأل الله أن يرزقنا شفاعته، ويوردنا حوضه. آمين. وشفاعته الخاصة في الخاص في عمه أبي طالب، فيخفف عنه بها ما كان فيه. ومنها: شهادتة على الرسل، وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك، وهذه بلا شك عطايا من الله العزيز الحكيم لحبيبه وصفيه الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. تنبيه اللام في * (وللا خرة) * وفي * (ولسوف) * للتأكيد وليست للقسم، وهي في الأول دخلت على المبتدأ، وفي الثانية المبتدأ محذوف تقديره، لأنت سوف يعطيك ربك فترضى. قاله أبو حيان وأبو السعود. قوله تعالى: * (ألم يجدك يتيما فآوى) *. تقدم بيان معنى اليتيم عند قوله تعالى: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) *. والرسول صلى الله عليه وسلم مات أبوه، وهو حمل له ستة أشهر، وماتت أمه وهي عائدة من المدينة بالأبواء وعمره صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن يتمه لأنه لا يكون لأحد حق عليه، نقله أبو حيان. والذي يظهر أن يتمه راجع إلى قوله * (ما ودعك ربك) *، أي ليتولى الله تعالى أمره من صغره، وتقدم معنى إيواء الله له، فكان يتمه لإبراز فضله، لأن يتيم الأمس أصبح سيد الغد، وكافل اليتامى. * (ووجدك ضآلا فهدى) *.
559 الضلال: يكون حسا ومعنى، فالأول: كمن تاه في طريق يسلكه، والثاني: كمن ترك الحق فلم يتبعه. فقال قوم: المراد هنا هو الأول، كأن قد ضل في شعب من شعاب مكة، أو في طريقه إلى الشام. ونحو ذلك. وقال آخرون: إنما هو عبارة عن عدم التعليم أولا ثم منحه من العلم مما لم يكن يعلم، كقوله: * (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا) *. وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بحث هذه المسألة في عدة مواضع: أولا في سورة يوسف عند قوله تعالى: * (إن أبانا لفى ضلال مبين) *، وساق شواهد الضلال لغة هناك. وثانيا: في سورة الكهف عند قوله تعالى: * (الذين ضل سعيهم فى الحيواة الدنيا) *. وثالثا: في سورة الشعراء عند قوله تعالى: * (قال فعلتهآ إذا وأنا من الضآلين) *. وفي دفع إيهام الاضطراب أيضا: وهذا كله يعني عن أي بحث آخر. ومن الطريف ما ذكره أبو حيان عند هذه الآية، حيث قال: ولقد رأيت في النوم، أني أفكر في هذه الجملة، فأقول على الفور: ووجدك: أي وجد رهطك ضالا فهداه بك، ثم أقول: على حذف مضاف، نحو: واسأل القرية. ا ه. وقد أورد النيسابوري هذا وجها في الآية، وبهذه المناسبة أذكر منامين كنت رأيتهما ولم أرد ذكرهما حتى رأيت هذا لأبي حيان، فاستأنست به لذكرهما، وهما: الأول عندما وصلت إلى سورة ن عند قوله تعالى: * (وإنك لعلى خلق عظيم) *، ومن منهج الأضواء تفسير القرآن بالقرآن، وهذا وصف مجمل، وحديث عائشة (كان خلقه القرآن) فأخذت في التفكير، كيف أفصل هذا المعنى من القرآن، وأبين حكمه وصفحه وصبره وكرمه وعطفه ورحمته
560 ورأفته وجهاده وعبادته، وكل ذلك مما جعلني أقف حائرا وأمكث عن الكتابة عدة أيام، فرأيت الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في النوم، كأننا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكأنه ليس في نشاطه العادي، فسألته ماذا عندك اليوم؟ فقال: عندي تفسير. فقلت: أتدرس اليوم؟ قال: لا، فقلت: وما هذا الذي بيدك؟ لدفتر في يده، فقال: مذكرة تفسير، أي التي كان سيفسرها وهي مخطوطة، فقلت له: من أين في القرآن؟ فقال: من أول ن إلى آخر القرآن، فحرصت على أخذها لأكتب منها، ولم أتجرأ على طلبها صراحة، ولكن قلت له: إذا كنت لم تدرس اليوم فأعطنيها أبيضها وأجلدها لك، وآتيك بها غدا، فأعطانيها فانتبهت فرحا بذلك وبدأت في الكتابة. والمرة الثانية في سورة المطففين، لما كتبت على معنى التطفيف، ثم فكرت في التوعد الشديد عليه مع ما يتأتى فيه من شيء طفيف، حتى فكرت في أن له صلة بالربا، إذا ما بيع جنس بجنسه، فحصلت مغايرة في الكيل ووقع تفاضل، ولكني لم أجد من قال به، فرأيت فيما يرى النائم، أني مع الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، ولكن لم يتحدث معي في شيء من التفسير. وبعد أن راح عني، فإذا بشخص لا أعرفه يقول: وأنا أسمع دون أن يوجه الحديث إلي إن في التطفيف ربا، إذا بيع الحديد بحديد، وكلمة أخرى في معناها نسيتها بعد أن انتبهت. وقد ذكرت ذلك تأسيا بأبي حيان، لما أجد فيه من إيناس، والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يهدينا سواء السبيل، وعلى ما جاء في الرؤيا من مبشرات. وبالله تعالى التوفيق. * (ووجدك عآئلا فأغنى) *. العائل: صاحب العيال، وقيل: العائل الفقير، على أنه من لازم العيال الحاجة، ولكن ليس بلازم، ومقابلة عائلا بأغنى، تدل على أن معنى عائلا أي فقيرا، ولذا قال الشاعر: ووجدك عآئلا فأغنى) *. العائل: صاحب العيال، وقيل: العائل الفقير، على أنه من لازم العيال الحاجة، ولكن ليس بلازم، ومقابلة عائلا بأغنى، تدل على أن معنى عائلا أي فقيرا، ولذا قال الشاعر: * فما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغنى متى يعيل * * وما تدري وإن ذمرت سقبا * لغيرك أم يكون لك الفصيل *
561 وهذا مما يذكره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من تعداد النعم عليه، وأنه لم يودعه وما قلاه، لقد كان فقيرا من المال فأغناه الله بمال عمه. وقد قال عمه في خطبة نكاحه بخديجة: وإن كان في المال قل فما أحببتم من الصداق، فعلي، ثم أغناه الله بمال خديجة، حيث جعلت مالها تحت يده. قال النيسابوري ما نصه: يروى أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهو مغموم، فقالت: مالك؟ فقال: الزمان زمان قحط، فإن أنا بذلت المال ينفد مالك، فأستحي منك، وإن أنا لم أبذل أخاف الله، فدعت قريشا وفيهم الصديق، قال الصديق: فأخرجت دنانير حتى وضعتها، بلغت مبانا لم يقع بصري على من كان جالسا قدامي، ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال ماله، إن شاء فرقه وإن شاء أمسكه. فهذه القصة وإن لم يذكر سندها، فليس بغريب على خديجة رضي الله عنها أن تفعل ذلك له صلى الله عليه وسلم، وقد فعلت ما هو أعظم من ذلك، حين دخلت معه الشعب فتركت مالها، واختارت مشاركته صلى الله عليه وسلم لما هو فيه من ضيق العيش، حتى أكلوا ورق الشجر، وأموالها طائلة في بيتها. ثم كانت الهجرة وكانت مواساة الأنصار، لقد قدم المدينة تاركا ماله ومال خديجة، حتى إن الصديق ليدفع ثمن المربد لبناء المسجد، وكان بعد ذلك فيء بنى النضير، وكان يقضي الهلال ثم الهلال ثم الهلال، لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، إنما هما الأسودان: التمر والماء. ثم جاءت غنائم حنين، فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر، ورجع بدون شيء، وجاء مال البحرين فأخذ العباس ما يطيق حمله، وأخيرا توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في آصع من شعير. وقوله تعالى: * (ووجدك عآئلا فأغنى) *، يشير إلى هذا الموضع، لأن أغنى تعبير بالفعل، وهو يدل على التجدد والحدوث، فقد كان صلى الله عليه وسلم من حيث المال حالا فحالا، والواقع أن غناه صلى الله عليه وسلم كان قبل كل شيء، هو غنى النفس والاستغناء عن الناس، ويكفي أنه صلى الله عليه وسلم أجود الناس. وكان إذا لقيه جبريل ودارسه القرآن كالريح المرسلة، فكان صلى الله عليه وسلم القدوة في
562 الحالتين، في حالي الفقر والغنى، إن قل ماله صبر، وإن كثر بذل وشكر. القدوة في الحالتين، في حالي الفقر والغنى، إن قل ماله صبر، وإن كثر بذل وشكر. * استغن ما أغناك ربك بالغنى * وإذا تصبك خصاصة فتجمل * ومما يدل على عظم عطاء الله له مما فاق كل عطاء. قوله تعالى: * (ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم) *، ثم قال: * (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) *. وقد اختلفوا في المقارنة بين الفقير الصابر والغنى الشاكر، ولكن الله تعالى قد جمع لرسوله صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين، ليرسم القدوة المثلى في الحالتين. تنبيه في الآية إشارة إلى أن الإيواء والهدى والغنى من الله لإسنادها هنا لله تعالى. ولكن في السياق لطيفة دقيقة، وهي معرض التقرير، يأتي بكاف الخطاب: ألم يجدك يتيما، ألم يجدك ضالا، ألم يجدك عائلا، لتأكيد التقرير، لم يسند اليتم ولا الإضلال ولا الفقر لله، مع أن كله من الله، فهو الذي أوقع عليه اليتم، وهو سبحانه الذي منه كلما وجده عليه، ذلك لما فيه من إيلام له، فما يسنده لله ظاهرا، ولما فيه من التقرير عليه أبرز ضمير الخطاب. وفي تعداد النعم: فآوى، فهدى، فأغنى. أسند كله إلى ضمير المنعم، ولم يبرز ضمير الخطاب. قال المفسرون: لمراعاة رؤوس الآي والفواصل، ولكن الذي يظهر والله تعالى أعلم: أنه لما كان فيه امتنان، وأنها نعم مادية لم يبرز الضمير لئلا يثقل عليه المنة، بينما أبرزه في: * (ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك ورفعنا لك ذكرك) *، ورفعنا لك ذكرك. لأنها نعم معنوية، انفرد بها صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. * (فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السآئل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث) *. مجيء الفاء هنا مشعر، إما بتفريع وهذا ضعيف، وإما بإفصاح عن تعدد، وقد ذكر الجمل بتقدير، مهما يكن من شيء.
563 وقد ساق تعالى هنا ثلاث مسائل: الأولى معاملة الأيتام فقال: * (فأما اليتيم فلا تقهر) *، أي كما آواك الله فآوه، وكما أكرمك فأكرمه. وقالوا: قهر اليتيم أخذ ماله وظلمه. وقيل: قرىء بالكاف (تكهر)، فقالوا: هو بمعنى القهر إلا أنه أشد. وقيل: هو بمعنى عبوسة الوجه، والمعنى أعلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال)، فالقهر أعم من ذلك. وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم، والتي زادت على العشرين موضعا، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أبواب كلها تدور حول دفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله وفي نفسه، فهذه أربعة، وفي الحالة الزوجية، وهي الخامسة. أما دفع المضار عنه في ماله، ففي قوله تعالى: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن) *، جاءت مرتين في سورة الأنعام والأخرى في سورة الإسراء، وفي كل من السورتين ضمن الوصايا العشر المعروفة في سورة الأنعام، بدأت بقوله تعالى: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) *. وذكر قتل الولد وقربان الفواحش وقتل النفس ثم مال اليتيم. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن. ويلاحظ أن النهي منصب على مجرد الاقتراب من ماله إلا بالتي هي أحسن، وقد بين تعالى التي هي أحسن بقوله: * (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) *. وقد نص الفقهاء على أن من ولى مال اليتيم واستحق أجرا، فله الأقل من أحد أمرين: إما نفقته في نفسه، وإما أجرته على عمله، أي إن كان العمل يستحق أجرة ألف ريال، ونفقته يكفي لها خمسمائة أخذ نفقته فقط، وإن كان العمل يكفيه أجرة مائة ريال، ونفقته خمسمائة أخذ أجرته مائة فقط، حفظا لماله. ثم بعد النهي عن اقتراب مال اليتيم ذلك، فقد تتطلع بعض النفوس إلى فوارق
564 بسيطة من باب التحيل أو نحوه، من استبدال شيء مكان شيء، فيكون طريقا لاستبدال طيب بخبيث، فجاء قوله تعالى: * (وءاتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) *. والحوب: أعظم الذنب، ففيه النهي عن استبدال طيب ماله، بخبيث مال الولي أو غيره حسدا له على ماله، كما نهى عن خلط ماله مع مال غيره كوسيلة لأكله مع مال الغير، وهذا منع للتحيل وسد للذريعة، حفظا لماله. ثم يأتي الوعيد الشديد في صورة مفزعة في قوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون فى بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) *. وقد اتفق العلماء: أن الآية شملت في النهي عن أكل أموال اليتامى كل ما فيه إتلاف أو تفويت سواء كان بأكل حقيقة أو باختلاس أو بإحراق أو إغراق، وهو المعروف عند الأصوليين بالإلحاق بنفي الفارق، إذ لا فرق في ضياع مال اليتيم عليه، بين كونه بأكل أو إحراق بنار أو إغراق في ماء حتى الإهمال فيه، فهو تفويت عليه وكل ذلك حفظا لماله. وأخيرا، فإذا تم الحفاظ على ماله لم يقربه إلا بالتي هي أحسن، ولم يبدله بغيره أقل منه، ولم يخلطه بماله ليأكله عليه، ولم يعتد عليه بأي إتلاف كان محفوظا له، إلى أن يذهب يتمه ويثبت رشده، فيأتي قوله تعالى: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوهآ إسرافا وبدارا أن يكبروا) *. ثم أحاط دفع المال إليه بموجبات الحفظ بقوله في آخر الآية: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) *، أي حتى لا تكون مناكرة فيما بعد. وفي الختام ينبه الله فيهم وازع مراقبة الله بقوله: * (وكفى بالله حسيبا) *، وفيه إشعار بأن أمواله تدفع إليه بعد محاسبة دقيقة فيما له وعليه. ومهما يكن من دقة الحساب، فالله سيحاسب عنه، وكفى بالله حسيبا، وهذا كله في حفظ ماله. أما جلب المصالح، فإننا نجد فيها أولا جعله مع الوالدين، والأقربين، في عدة
565 مواطن، منها قوله تعالى: * (قل مآ أنفقتم من خير فللوالدين والا قربين واليتامى) *. ومنها قوله: إيراده في أنواع البر من الإيمان بالله وإنفاق المال * (ولاكن البر من ءامن بالله واليوم الا خر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين) *، إلى آخر الآية. ومنها: ما هو أدخل في الموضوع حيث جعل له نصيبا في التركة في قوله: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) *، بصرف النظر عن مباحث الآية من جهات أخرى، ومرة أخرى يجعل لهم نصيبا فيما هو أعلى منزلة في قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم ءامنتم بالله) *. وكذلك في سورة الحشر في قوله تعالى: * (مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) *. فجعلهم الله مع ذي القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جعله الله في عموم وصف الأبرار، وسببا للوصول إلى أعلى درجات النعيم في قوله تعالى: * (إن الا برار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) *. وذكر أفعالهم التي منها: أنهم يوفون بالنذر، ثم بعدها: أنهم يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. وجعل هذا الإطعام اجتياز العقبة في قوله: * (فلا اقتحم العقبة * ومآ أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام فى يوم ذى مسغبة * يتيما ذا مقربة) *. ولقد وجدنا ما هو أعظم من ذلك، وهو أن يسوق الله الخضر وموسى عليهما السلام ليقيما جدارا ليتيمين على كنز لهما حتى يبلغا أشدهما، في قوله تعالى: * (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين فى المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى) *.
566 هذا هو الجانب المالي من دفع المضرة عنه في حفظ ماله، ومن جانب جلب النفع إليه عن طريق المال. أما الجانب النفسي فكالآتي: أولا: عدم مساءته في نفسه، فمنها قوله تعالى: * (أرءيت الذى يكذب بالدين * فذلك الذى يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين) *. ومنها قوله: * (كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين) *، فقدم إكرامه إشارة له. ثانيا: في الإحسان إليه، منه قوله تعالى: * (لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذى القربى واليتامى) *، فيحسن إليه كما يحسن لوالديه ولذي القربى. ومنها سؤال، وجوابه من الله تعالى: * (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) *، أي تعاملونهم كما تعاملون الإخوان، وهذا أعلى درجات الإحسان والمعروف، ولذا قال تعالى: * (والله يعلم المفسد من المصلح) *. وفي تقديم ذكر المفسد على المصلح: إشعار لشدة التحذير من الإفساد في معاملته، ولأنه محل التحذير في موطن آخر جعلهم بمنزلة الأولاد في قوله: * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) *. أي حتى في مخاطبتهم إياهم لأنهم بمنزلة أولادهم، بل ربما كان لهم أولاد فيما بعد أيتاما من بعدهم، فكما يخشون على أولادهم إذا صاروا أيتاما من بعدهم، فليحسنوا معاملة الأيتام في أيديهم وهذه غاية درجات العناية والرعاية. تلك هي نصوص القرآن في حسن معاملة اليتيم وعدم الإساءة إليه، مما يفصل مجمل قوله: * (فأما اليتيم فلا تقهر) *. لا بكلمة غير سديدة ولا بحرمانه من شيء يحتاجه، ولا بإتلاف ماله، ولا بالتحيل على أكله وإضاعته، ولا بشيء بالكلية، لا في نفسه ولا في ماله.
567 والأحاديث من السنة على ذلك عديدة بالغة مبلغها في حقه، وكان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس به وأشفقهم عليه، حتى قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين يشير إلى السبابة والوسطى وفرج بينهما) رواه البخاري وأبو داود والترمذي. وفي رواية أبي هريرة عند مسلم ومالك: (كافل اليتيم له أو لغيره) أي قريب له أو بعيد عنه. وعند أحمد والطبراني مرفوعا: (من ضم يتيما من بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه، وجبت له الجنة) قال المنذري: رواه أحمد، محتج بهم إلا علي بن زيد. وعند ابن ماجة عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم، يحسن إليه. وشر بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يساء إليه). وجاء عند أبي داود ما هو أبعد من هذا وذلك، حتى إن الأم لتعطل مصالحها من أجل أيتامها، في قوله صلى الله عليه وسلم (أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة وأومأ بيده يزيد بن زربع بفتح الزاي وإسكان الباء بالوسطى والسبابة امرأة آمت زوجها بألف ممدودة وميم مفتوحة وتاء أصبحت أيما، بوفاة زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا). وجعله الله دواء لقساوة القلب، كما روى أحمد ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال: (امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين). وهنا يتجلى سر لطيف في مثالية التشريع الإسلامي، حيث يخاطب الله تعالى أفضل الخلق وأرحمهم، وأرأفهم بعباد الله، الموصوف بقوله تعالى: * (بالمؤمنين رءوف رحيم) *، وبقوله: * (وإنك لعلى خلق عظيم) *، ليكون مثالا مثاليا في أمة قست قلوبها وغلظت طباعها، فلا يرحمون ضعيفا، ولا يؤدون حقا إلا من قوة يدينون لمبدأ (من عز بز، ومن غلب استلب) يفاخرون بالظلم ويتهاجون بالأمانة، كما قال شاعرهم: وإنك لعلى خلق عظيم) *، ليكون مثالا مثاليا في أمة قست قلوبها وغلظت طباعها، فلا يرحمون ضعيفا، ولا يؤدون حقا إلا من قوة يدينون لمبدأ (من عز بز، ومن غلب استلب) يفاخرون بالظلم ويتهاجون بالأمانة، كما قال شاعرهم: * قبيلة لا يخفرون بذمة * ولا يظلمون الناس حبة خردل * ويقول حكيمهم
568 : ويقول حكيمهم: * ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه * يهدم ومن لم يظلم الناس يظلم * قوم يئدون بناتهم، ويحرمون من الميراث نساءهم، يأكلون التراث أكلا لما، ويحبون المال حبا، فقلب مقاييسهم وعدل مفاهيمهم، فألان قلوبهم ورقق طباعهم، فلانوا مع هذا الضعيف وحفظوا حقه. وحقيقة هذا التشريع الإلهي الحكيم منذ أربعة عشر قرنا تأتي فوق كل ما تتطلع إليه آمال الحضارات الإنسانية كلها، مما يحقق كمال التكامل الاجتماعي بأبهى معانيه، المنوه عنه في الآية الكريمة * (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) *، فجعل كافل اليتيم اليوم، إنما يعمل حتى فيما بعد لو ترك ذرية ضعافا، وعبر هنا عن الأيتام بلازمهم وهو الضعف إبرازا لحاجة اليتيم إلى الإحسان، بسبب ضعفه فيكونون موضع خوفهم عليهم لضعفهم، فليعاملوا الأيتام تحت أيديهم، كما يحبون أن يعامل غيرهم أيتامهم من بعدهم. وهكذا تضع الآية أمامنا تكافلا اجتماعيا في كفالة اليتيم، بل إن اليتيم نفسه، فإنه يتيم اليوم ورجل الغد، فكما تحسن إليه يحسن هو إلى أيتامك من بعدك، وكما تدين تدان، فإن كان خيرا كان الخير بالخير والبادىء أكرم، وإن شرا كان بمثله والبادىء أظلم. ومع هذا الحق المتبادل، فإن الإسلام يحث عليه ويعني به، ورغب في الإحسان إليه وأجزل المثوبة عليه، وحذر من الإساءة عليه، وشدد العقوبة فيه. وقد يكون فيما أوردناه إطالة، ولكنه وفاء بحق اليتيم أولا، وتأثر بكثرة ما يلاقيه اليتيم ثانيا. تنبيه ليس من باب الإساءة إلى اليتيم تأديبه والحزم معه، بل ذلك من مصلحته كما قيل: ليس من باب الإساءة إلى اليتيم تأديبه والحزم معه، بل ذلك من مصلحته كما قيل: * قسا ليزدجروا ومن يك حازما * فليقس أحيانا على من يرحم * وقوله: * (وأما السآئل فلا تنهر) *، قالوا: السائل الفقير والمحتاج، يسأل ما يسد حاجته وهو مقابل لقوله: * (ووجدك عآئلا فأغنى) *، أي فكما أغناك الله وبدون سؤال،
569 فإذا أتاك سائل فلا تنهره، ولو في رد الجواب بالتي هي أحسن. ومعلوم: أن الجواب بلطف، قد يقوم مقام العطاء في إجابة السائل، وكان صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد ما يعطيه للسائل يعده وعدا حسنا لحين ميسره، أخذا من قوله تعالى: * (وإما تعرضن عنهم ابتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا) *. وقد أورد الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيتين عند هذه الآية في هذا المعنى، هما قول الشاعر: وقد أورد الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيتين عند هذه الآية في هذا المعنى، هما قول الشاعر: * إن لم تكن ورق يوما أجود بها * للسائلين فإني لين العود * * لا يعدم السائلون الخير من خلقي * إما نوالي وإما حسن مردود * فليسعد النطق إن لم يسعد المال. وقيل: السائل المستفسر عن مسائل الدين والمسترشد، وقالوا هذا مقابل قوله: * (ووجدك ضآلا فهدى) *، أي لا تنهر مستغنيا ولا مسترشدا، كقوله تعالى: * (عبس وتولى * أن جآءه الا عمى) *. وقد كان صلى الله عليه وسلم رحيما شفيقا على الجاهل حتى يتعلم، كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد حين صاح به الصحابة فقال لهم (لا تزرموه، إلى أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا أبدا) وكالآخر الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره ويقول: (هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في رمضان، حتى كان من أمره أن أعطاه فرقا من طعامه يكفر به عن ذنبه، فقال: أعلى أفقر منا يا رسول الله؟ فقال: قم فأطعمه أهلك). وقد كان صلى الله عليه وسلم يقف للمرأة في الطريق يصغي إليها حتى يضيق من معه وهو يصبر لها ولم ينهرها، بل يجيبها على أسئلتها. وقد حث صلى الله عليه وسلم على إكرام طالب العلم، وبين أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وأن الحيتان في البحر لتستغفر له رضي بما يصنع. وقوله: * (وأما بنعمة ربك فحدث) *: النعمة كل ما أنعم الله به على العبد، وهي كل ما ينعم به العبد من مال وعافية وهداية ونصرة من النعومة اللين، فقيل: المراد بها
570 المذكورات والتحدث بها شكرها عمليا من إيواء اليتيم كما آواه الله، وإعطاء السائل كما أغناه الله، وتعليم المسترشد كما علمه الله، وهذا من شكر النعمة، أي كما أنعم الله عليك، فتنعم أنت على غيرك تأسيا بفعل الله معك: وقيل: التحدث بنعمة الله هو التبليغ عن الله من آية وحديث، والنعمة هنا عامة لتنكيرها وإضافتها، كما في قوله تعالى: * (وما بكم من نعمة فمن الله) *، أي كل نعمة، ولكن الذي يظهر أنها في الوحي أظهر أو هو أولى بها، أو هو أعظمها، لقوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الأسلام دينا) *، فقال: نعمتي، وهنا نعمة ربك. ولا يبعد عندي أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما نحر مائة ناقة في حجة الوداع، لما أنزل الله عليه هذه الآية، ففعل شكرا لله على إتمام النعمة بإكمال الدين. وقد قالوا في مناسبة هذه السورة بما قبلها: إن التي قبلها في الصديق * (وسيجنبها الا تقى * الذى يؤتى ماله يتزكى * وما لاحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغآء وجه ربه الا على * ولسوف يرضى) *، وهنا في الرسول صلى الله عليه وسلم * (ما ودعك ربك وما قلى * وللا خرة خير لك من الا ولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى) *، مع الفارق الكبير في العطاء والخطاب. والواقع أن مناسبات السور القصار، أظهر من مناسبات الآي في السورة الواحدة، كما بين هاتين السورتين والليل مع والضحى، ثم ما بين والضحى وألم نشرح، إنها تتمة النعم التي يعددها الله تعالى على رسوله. وهكذا على ما ستأتي الإشارة إليه في محله إن شاء الله تعالى. أعلم علما بأن بعض العلماء لم يعتبر تلك المناسبات. ولكن ما كانت المناسبة فيه واضحة، فلا ينبغي إغفاله، وما كانت خفية لا ينبغي التكلف له.
571 ((سورة الشرح)) * (ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذى أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك * فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا * فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب) * * (ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذى أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك) *. ذكر تعالى هنا ثلاث مسائل: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر. وهي وإن كانت مصدرة بالاستفهام، فهو استفهام تقريري لتقرير الإثبات، فقوله تعالى * (ألم نشرح) * بمعنى شرحنا على المبدأ المعروف، من أن نفي النفي إثبات. وذلك لأن همزة الاستفهام وهي فيها معنى النفي دخلت على لم وهي للنفي، فترافعا فبقي الفعل مثبتا. قالوا: ومثله قوله تعالى: * (أليس الله بكاف عبده) *. وقوله: * (ألم نربك فينا وليدا) *. وعليه قول الشاعر: وعليه قول الشاعر: * ألستم خير من ركب المطايا * وأندى العالمين بطون راح * فتقرر بذلك أنه تعالى يعدد عليه نعمه العظمى، وقد ذكرنا سابقا ارتباط هذه السورة بالتي قبلها في تتمة نعم الله تعالى على رسوله، صلى الله عليه وسلم. وروى النيسابوري عن عطاء وعمر بن عبد العزيز: أنهما كانا يقولان: هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة، وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة، وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمان الرحيم والذي دعاهما إلى ذلك هو أن قوله تعالى: * (ألم نشرح لك صدرك) *، كالعطف على قوله: * (ألم يجدك يتيما) *، ورد هذا الادعاء أي من كونهما سورة واحدة وعلى كل فإن هذا إذا لم يجعلهما سورة واحدة فإنه يجعلهما مرتبطتين. معا في المعنى، كما في الأنفال والتوبة.
572 واختلف في معنى شرح الصدر، إلا أنه لا منافاة فيما قالوا، وكلها يكمل بعضها بعضا. فقيل: هو شق الصدر سواء كان مرة أو أكثر، وغسله وملؤه إيمانا وحكمة، كما في رواية مالك بن صعصعة في ليلة الإسراء، ورواية أبي هريرة في غيرها. وفيه كما في رواية أحمد: أنه شق صدره وأخرج منه الغل والحسد، في شيء كهيئة العلقة، وأدخلت الرأفة والرحمة. وقيل: شرح الصدر، إنما هو توسيعه للمعرفة والإيمان ومعرفة الحق، وجعل قلبه وعاء للحكمة. وفي البخاري عن ابن عباس (شرح الله صدره للإسلام). وعند أبي كثير: نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا، كقوله * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) *. والذي يشهد له القرآن: أن الشرح هو الانشراح والارتياح. وهذه حالة نتيجة استقرار الإيمان والمعرفة والنور والحكمة. كما في قوله تعالى: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) *، فقوله: فهو على نور من ربه: بيان لشرح الصدر للإسلام. كما أن ضيق الصدر، دليل على الضلال، كما في نفس الآية * (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) *. وفي حاشية الشيخ زادة علي البيضاوي قال: لم يشرح صدر أحد من العالمين، كما شرح صدره عليه السلام، حتى وسع علوم الأولين والآخرين فقال: (أوتيت جوامع الكلم) ا ه. ومراده بعلوم الأولين والآخرين، ما جاء في القرآن من أخبار الأمم الماضية مع رسلهم وأخبار المعاد، وما بينه وبين ذلك مما علمه الله تعالى. والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن شرح الصدر الممتن به عليه صلى الله عليه وسلم، أوسع وأعم
573 من ذلك، حتى إنه ليشمل صبره وصفحه وعفوه عن أعدائه، ومقابلته الإساءة بالإحسان، حتى إنه ليسع العدو، كما يسع الصديق. كقصة عودته من ثقيف: إذ آذوه سفهاؤهم، حتى ضاق ملك الجبال بفعلهم، وقال له جبريل: إن ملك الجبال معي، إن أردت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل، فينشرح صدره إلى ما هو أبعد من ذلك، ولكأنهم لم يسيؤوا إليه فيقول: (اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون، إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله). وتلك أعظم نعمة وأقوى عدة في تبليغ الدعوة وتحمل أعباء الرسالة، ولذا توجه نبي الله موسى إلى ربه يطلبه إياها، لما كلف الذهاب إلى الطاغية فرعون كما في قوله تعالى: * (اذهب إلى فرعون إنه طغى * قال رب اشرح لى صدرى * ويسر لى أمرى * واحلل عقدة من لسانى * يفقهوا قولي * واجعل لى وزيرا من أهلى * هارون أخى * اشدد به أزرى) * إلى آخر السياق. فذكر هنا من دواعي العون على أداء الرسالة أربعة عوامل: بدأها بشرح الصدر، ثم تيسير الأمر، وهذان عاملان ذاتيان، ثم الوسيلة بينه وبين فرعون، وهو اللسان في الإقناع، * (واحلل عقدة من لسانى * يفقهوا قولي) *، ثم العامل المادي أخيرا في المؤازرة، * (واجعل لى وزيرا من أهلى * هارون أخى * اشدد به أزرى) *، فقدم شرح الصدر على هذا كله لأهميته، لأنه به يقابل كل الصعاب، ولذا قابل به ما جاء به السحرة من سحر عظيم، وما قابلهم به فرعون من عنت أعظم. وقد بين تعالى من دواعي انشراح الصدر وإنارته، ما يكون من رفعة وحكمة وتيسير، وقد يكون من هذا الباب مما يساعد عليه تلقي تلك التعاليم من الوحي، كقوله تعالى: * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) *، وكقوله: * (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) *، مما لا يتأتى إلا ممن شرح الله صدره. ومما يعين الملازمة عليه على انشراح الصدر، وفعلا قد صبر على أذى المشركين بمكة ومخادعة المنافقين بالمدينة، وتلقى كل ذلك بصدر رحب.
574 وفي هذا كما قدمنا توجيه لكل داعية إلى الله، أن يكون رحب الصدر هادىء النفس متجملا بالصبر. وقوله: * (ووضعنا عنك وزرك) *، والوضع يكون للحط والتخفيف، ويكون للحمل والتثقيل، فإن عدي بعن كان للحط، وإن عدي بعلى كان للحمل، في قولهم: وضعت عنك، ووضعت عليك، والوزر لغة الثقل. ومنه: حتى تضع الجرب أوزارها، أي ثقلها من سلاح ونحوه. ومنه الوزير: المتحمل ثقل أميره وشغله، وشرعا الذنب كما في الحديث: (ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وقد يتعاوران في التعبير كقوله تعالى: * (ليحملوا أوزارهم كاملة) *، وقوله مرة أخرى * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) *. وقد أفرد لفظ الوزر هنا وأطلق، ولم يبين ما هو وما نوعه، فاختلف فيه اختلافا كثيرا. فقيل: ما كان فيه من أمر الجاهلية، وحفظه من مشاركته معهم، فلم يلحقه شيء منه. وقيل: ثقل تألمه مما كان عليه قومه، ولم يستطع تغييره، وشفقته صلى الله عليه وسلم بهم، أي كقوله تعالى: * (فلعلك باخع نفسك علىءاثارهم إن لم يؤمنوا بهاذا الحديث أسفا) *، أي أسفا عليهم. وقال أبو حيان: هو كناية عن عصمته صلى الله عليه وسلم من الذنوب، وتطهيره من الأرجاس. وقال ابن جرير: وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها. وقال ابن كثير: هو بمعنى * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) *. فكلام أبي حيان: يدل على العصمة، وكلام ابن جرير يدل على شيء في الجاهلية، وكلام ابن كثير مجمل.
575 وفي هذا المجال مبحث عصمة الأنبياء عموما، وهو مبحث أصولي يحققه كتب الأصول لسلامة الدعوة، وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحثه في سورة طه عند الكلام على قوله تعالى: * (وعصىءادم ربه فغوى) *، وأورد كلام المعتزلة والشيعة والحشوية، ومقياس ذلك، عقلا وشرعا، وفي سورة ص عند قوله تعالى: * (وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه) *، ونبه عندها على أن كل ما يقال في داود عليه السلام حول هذا المعنى، كله إسرائيليات لا تليق بمقام النبوة. ا ه. أما في خصوصه صلى الله عليه وسلم، فإنا نورد الآتي: إنه مهما يكن من شيء، فإن عصمته صلى الله عليه وسلم من الكبائر والصغائر بعد البعثة يجب القطع بها، لنص القرآن الكريم في قوله تعالى: * (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة) * لوجوب التأسي به وامتناع أن يكون فيه شيء من ذلك قطعا. أما قبل البعثة، فالعصمة من الكبائر أيضا، يجب الجزم بها لأنه صلى الله عليه وسلم كان في مقام التهيؤ للنبوة من صغره، وقد شق صدره في سن الرضاع، وأخرج منه حظ الشيطان، ثم إنه لو كان قد وقع منه شيء لأخذوه عليه حين عارضوه في دعوته، ولم يذكر من ذلك ولا شيء فلم يبق إلا القول في الصغائر، فهي دائرة بين الجواز والمنع، فإن كانت جائزة ووقعت، فلا تمس مقامه صلى الله عليه وسلم لوقوعها قبل البعثة والتكليف، وأنها قد غفرت وحط عنه ثقلها، فإن لم تقع ولم تكن جائزة في حقه، فهذا المطلوب. وقد ساق الألوسي رحمه الله في تفسيره: أن عمه أبا طالب، قال لأخيه العباس يوما: (لقد ضمته إلي وما فارقته ليلا ولا نهارا ولا ائتمنت عليه أحدا)، وذكر قصة بنبيه ومنامه في وسط أولاده أول الليل، ثم نقله أباه محل أحد أبنائه حفاظا عليه، ثم قال: (ولم أر منه كذبة ولا ضحكا ولا جاهلية، ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون). وذكرت كتب التفسير أنه صلى الله عليه وسلم أراد مرة في صغره أن يذهب لمحل عرس ليرى ما فيه، فلما دنا منه أخذه النوم ولم يصح إلا على حر الشمس، فصانه الله من رؤية أو سماع، شيء من ذلك. ومنه قصة مشاركته في بناء الكعبة حين تعرى ومنع منه حالا، وعلى المنع من وقوع شيء منه صلى الله عليه وسلم بقي الجواب على معنى الآية، فيقال والله تعالى أعلم: إنه تكريم له صلى الله عليه وسلم كما
576 جاء في أهل بدر، قوله صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم) مع أنهم لن يفعلوا محرما بذلك، ولكنه تكريم لهم ورفع لمنزلتهم. وقد كان صلى الله عليه وسلم يتوب ويستغفر ويقوم الليل حتى تورمت قدماه، وقال: (أفلا أكون عبدا شكورا). فكان كل ذلك منه شكرا لله تعالى، ورفعا لدرجاته صلى الله عليه وسلم. وقد جاء: (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه)، وهو حسنة من حسناته صلى الله عليه وسلم. أو أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتد على نفسه بالتقصير، ويعتبر ذنبا يستثقله ويستغفر منه، كما كان إذا خرج من الخلاء قال: (غفرانك). ومعلوم أنه ليس من موجب للاستغفار، إلا ما قيل شعوره بترك الذكر في تلك الحالة، استوجب منه ذلك. وقد استحسن العلماء قول الجنيد: حسنات الأبرار سيئات المقربين، أو أن المراد مثل ما جاء في القرآن من بعض اجتهاداته صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الدعوة، فيرد اجتهاده فيعظم عليه كقصة ابن أم مكتوم، وعوتب فيه * (عبس وتولى * أن جآءه الا عمى) *، ونظيرها ولو كان بعد نزول هذه السورة، إلا أنه من باب واحد كقوله: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) *، وقصة أسارى بدر، وقوله: * (ليس لك من الا مر شىء) *، واجتهاده في إيمان عمه، حتى قيل له: * (إنك لا تهدى من أحببت) *، ونحو ذلك. فتحمل الآية عليه، أو أن للوزر بمعناه اللغوي، وهو ما كان يثقله من أعباء الدعوة، وتبليغ الرسالة، كما ذكر ابن كثير في سورة الإسراء عن الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فظعت، وعرفت أن الناس مكذبي، فقعدت معتزلا حزينا، فمر بي أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزىء: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وقص عليه الإسراء). ففيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم فظع، والفظاعة: ثقل وحزن، والحزن: ثقل. وتوقع تكذيبهم إياه أثقل على النفس من كل شيء. والله تعالى أعلم.
577 وقوله تعالى: * (الذى أنقض ظهرك) *، أي ثقله مشعر بأن للذنب ثقلا على المؤمن ينوء به، ولا يخففه إلا التوبة وحطه عنده. وقوله: * (ورفعنا لك ذكرك) *، لم يبين هنا بم ولا كيف رفع له ذكره، والرفع يكون حسيا ويكون معنويا، فاختلف في المراد به أيضا. فقيل: هو حسي في الأذان والإقامة، وفي الخطب على المنابر وافتتاحيات الكلام في الأمور الهامة، واستدلوا لذلك بالواقع فعلا، واستشهدوا بقول حسان رضي الله عنه، وهي أبيات في ديوانه من قصيدة دالية: فقيل: هو حسي في الأذان والإقامة، وفي الخطب على المنابر وافتتاحيات الكلام في الأمور الهامة، واستدلوا لذلك بالواقع فعلا، واستشهدوا بقول حسان رضي الله عنه، وهي أبيات في ديوانه من قصيدة دالية: * أغر عليه للنبوة خاتم * من الله مشهود يلوح ويشهد * * وضم الإله اسم النبي إلى اسمه * إذا قال في الخمس المؤذن أشهد * * وشق له من اسمه ليجله * فذوا العرش محمود وهذا محمد * ومن رفع الذكر معنى أي من الرفعة، ذكره صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء قبله، حتى عرف للأمم الماضية قبل مجيئه. وقد نص القرآن أن الله جعل الوحي ذكرا له ولقومه، في قوله تعالى: * (فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك) *، ومعلوم أن ذكره قومه ذكر له، كما قال الشاعر: ومعلوم أن ذكره قومه ذكر له، كما قال الشاعر: * وكم أب قد علا بابن ذرى رتب * كما علت برسول الله عدنان * فتبين أن رفع ذكره صلى الله عليه وسلم، إنما هو عن طريق الوحي سواء كان بنصوص من توجيه الخطاب إليه بمثل * (ياأيها الرسول) *، * (ياأيها النبى) *، * (ياأيها المدثر) *، والتصريح باسمه في مقام الرسالة * (محمد رسول الله) *، أو كان في فروع التشريع، كما تقدم في أذان وإقامة وتشهد وخطب وصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم. * (فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب) *. النصب: التعب بعد الإجتهاد، كما في قوله: * (وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة) *.
578 وقد يكون النصب للدنيا أو للآخرة، ولم يبين المراد بالنصب في أي شيء، فاختلف فيه، ولكنها أقوال متقاربة. فقيل: في الدعاء بعد الفراغ من الصلاة. وقيل: في النافلة من الفريضة، والذي يشهد له القرآن، أنه توجيه عام للأخذ بحظ الآخرة بعد الفراغ من عمل الدنيا، كما في مثل قوله تعالى: * (ومن اليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) *، وقوله: * (إن ناشئة اليل هى أشد وطأ وأقوم قيلا) *، أي لأنها وقت الفراغ من عمل النهاء وفي سكون الليل، وقوله: * (إذا جآء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) *، فيكون وقته كله مشغولا، إما للدنيا وإما للدين. وفي قوله: * (فإذا فرغت فانصب) *، حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم حيث لم تترك للمسلم فراغا في وقته، لأنه إما في عمل للدنيا، وإما في عمل للآخرة. وقد روي عن ابن عباس: (أنه مر على رجلين يتصارعان فقال لهما: ما بهذا أمرنا بعد فراغنا). وروي عن عمر أنه قال: (إني لأكره لأحدكم أن يكون خاليا سبهللا، لا في عمل دنيا ولا دين) ولهذا لم يشك الصدر الأول فراغا في الوقت. ومما يشير إلى وضع الصدر الأول، ما رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة رضي الله عنها وأنا يومئذ حديث السن: (أرأيت قول الله تعالى: * (إن الصفا والمروة من شعآئر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) *، فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول لكانت، فلا جناح عليه ألا يطوف بهما). فانظر رحمك الله وإياي، فيم يفكر حديث السن، وكيف يستشكل معاني القرآن، فمثله لا يوجد عنده فراغ.
579 تنبيه ذكر الألوسي في قوله تعالى: * (فانصب) * قراءة شاذة بكسر الصاد، وأخذها الشيعة على الفراغ من النبوة، ونصب علي إماما، وقال: ليس الأمر متعينا بعلي فالسني يمكن أن يقول: فانصب أبا بكر، فإن احتج الشيعي بما كان في غدير خم، احتج السني بأن وقته لم يكن وقت الفراغ من النبوة. بلى إن قوله صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) كان بعده، وفي قرب فراغه صلى الله عليه وسلم من النبوة، إذ كان في مرضه الذي مات فيه. فإن احتج الشيعي بالفراغ من حجة الوداع، رده السني بأن الآية قبل ذلك. انتهى. وعلى كل إذا كان الشيعة يحتجون بها، فيكفي لرد احتجاجهم أنها شاذة، وتتبع الشواذ قريب من التأويل المسمى باللعب عند علماء التفسير، وهو صرف اللفظ عن ظاهره، لا لقرينة صارفة ولا علاقة رابطة. ومن اللعب في التأويل في هذه الآية، ما يفعله بعض العوام: رأيت رجلا عاميا عاديا، قد لبس حلة كاملة من عمامة وثوب صقيل وحزام جميل مما يسمونه نصبة، أي بدلة كاملة، فقال له رجل: ما هذه النصبة يا فلان؟ فقال له: لما فرغت من عملي نصبت، كما قال تعالى: * (فإذا فرغت فانصب) *. كما سمعت آخر يتوجع لقلة ما في يده، ويقول لزميله: ألا تعرف لي شخصا أنصب عليه، أي آخذ قرضة منه، فقلت له: ولم تنصب عليه؟ والنصب كذب وحرام. فقال: إذا لم يكن عند الإنسان شيء، ويده خالية فلا بأس، لأن الله قال: * (فإذا فرغت فانصب) *، وهذا وأمثاله مما يتجرأ عليه العامة لجهلهم، أو أصحاب الأهواء لنحلهم. * (وإلى ربك فارغب) *. التقديم هنا مشعر بالتخصيص وهو كقوله تعالى: * (إياك نعبد) *، أي لا نعبد غيرك: وهكذا هنا لا ترغب إلى غيره سبحانه، كأنه يقول: الذي أنعم عليك بكل ما تقدم، هو الذي ترغب فيما عنده لا سواه.