فصول في الأصول (جزء 3) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

فصول في الأصول (جزء 3) - نسخه متنی

احمد علی جصاص؛ محقق: عجیل جاسم نمشی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: الفصول في الأصول
المؤلف: الجصاص
الجزء: 3
الوفاة: 370
المجموعة: أصول الفقه عند المذاهب السنية
تحقيق: دكتور عجيل جاسم النمشي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1405
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:
أصول الفقه
المسمى ب‍
الفصول في الأصول
للإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص
المتوفى سنة 370 ه‍
الجزء الثالث
دراسة وتحقيق
للدكتور عجيل جاسم النشمي
الطبعة الأولى
سنة 1408 ه‍ - 1988 م

1
أصول الفقه
المسمى ب‍
الفصول في الأصول
الجزء الثالث

3
الباب الثالث والأربعون
في
ذكر نسخ الناسخ من الأحكام

5
باب
ذكر نسخ الناسخ من الأحكام
قال أبو بكر رحمه الله: قد يرد النسخ على الناسخ من الحكم، وذلك نحو قوله تعالى:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) (1) قال ابن عباس: نسخه قوله
تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء) (2) (وقال السدى (3) قوله (فإما منا بعد وإما فداء) (4) نسخه
قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم). (5)
قال أبو بكر: ويدل على ذلك: أنه قد روى: أن سورة براءة من آخر ما نزل من
القرآن.
ومن نحو ذلك (قوله تعالى). (6) (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا
عليهن أربعة منكم) (7) إلى آخر القصة.
ذكر ابن عباس: أنه كان حد الزانيين بدء، وأنه نسخ بالجلد والرجم (8) اللذين نسخ
بهما.

7
ذلك ما روى في حديث عبادة بن الصامت عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: (خذوا عني قد
جعل الله لهن سبيلا. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد، والرجم)
وهذا الحد منسوخ عن غير المحصن بقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما
مائة جلدة). (1) وعن المحصن رجمه ماعزا (2) والغامدية (من غير جلد وبقوله:) (3)
(يا أنيس (4) اغد على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، فلم توجب الآية النفي، ولم
يوجب الخبر الجلد مع الرجم، وكان ذلك بعد حديث عبادة (بن الصامت) (5) لأنهم نقلوا
من الحبس والأذى إلى ما في حديث عبادة، بلا واسطة لقوله: (خذوا عني، قد جعل الله لهن
سبيلا) ثم كان نزول الآية وقصة ماعز بعد ذلك.
ونحو ذلك من السنة حديث: (4) إباحة الكلام في الصلاة في أول الإسلام، ثم حظر
ثم أبيح، ثم حظر، وذلك لأن (عبد الله) (7) بن مسعود رحمه الله، ذكر أنه قدم من الحبشة،
فروى: أنه كان بمكة، وروى: أن قدومه منها كان بعد الهجرة إلى المدينة، والنبي عليه
السلام (كان) (8) يريد الخروج إلى بدر، قال: فسلمت على النبي صل الله عليه وسلم وهو يصلي، وقد
كان (9) يسلم بعضنا على بعض في الصلاة.
قال فلم يرد على السلام، فأخذني ما قدم وما حدث، فلما سلم من صلاته قال:

8
عليه السلام (إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث: إن لا تتكلموا في الصلاة) (1)
فثبت بذلك حظر الكلام في الصلاة متقدما ليوم بدر.
وحديث ذي اليدين في إباحته أيضا قبل يوم بدر (لأنه قتل يوم بدر) (2) وروى عن
زيد بن أرقم (3) أنه قال: (كنا نتكلم) (4) في الصلاة حتى نزل (5) (قوله تعالى:) (6)
(وقوموا لله قانتين) (7) فأمرنا (8) بالسكوت. (9) فأخبر عن نفسه مشاهدة حال: إباحة الكلام
منها، وهو (ممن) (10) لم يشهد بدرا، ولم يكن (حينئذ (11) ممن يعقل لصغره، أو عسى لم يكن

9
ولد، فثبت بذلك: إباحته بعد حظره، ثم حظره بعد ذلك بسائر الأخبار المروية في حظره،
نحو حديث معاوية بن الحكم السلمي: (1) أن النبي صل الله عليه وسلم قال: (إن صلاتنا هذه لا يصلح
منها شئ من كلام الناس (2)، (3)
ولأن (الناس قد) (4) اتفقوا: أن آخر حكمه كان الحظر، ومن ذلك أيضا: متعة
النساء، لأنه (روى عن علي بن أبي طالب (أن النبي عليه السلام) (5) أباحها، ثم حرمها يوم
خيبر) وروى سمرة (6) الجهني (أن النبي عليه السلام أباحها في حجة الوداع، ثم حرمها)
(فدل أنها) (7) أبيحت بعد الحظر، ثم حظرت بعد الإباحة، فكان آخر أمرها الحظر).

10
الباب الرابع والأربعون
في
باب آخر في النسخ

11
باب آخر في النسخ
روى: أنهم كانوا يتوارثون بالحلف وبالهجرة (1) في أول الإسلام. وأن (2) الرجم (بعد
قوله) (3) تعالى (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) (4) وقال تعالى (والمؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (5) وقال تعالى
(والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا). (6)
فقيل: إن ذلك منسوخ بقوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في
كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين). (7)
ومن الناس من لا يرى ذلك نسخا، ويقول: إنما حدث وارث أولى من وارث قال:
فأما الميراث بالحلف والمعاقدة فقائم لم (8) ينسخ، (9) لأنه إن (10) لم يكن له قرابة استحق
(الحليف) (11) الميراث، إذا كان عاقده ووالاه على (أنه) (12) يرثه إذا مات.
وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (يا معشر همدان ما أحد من العرب بأولى من
أن يموت الرجل منهم ولا يترك وارثا منكم، فإذا كان كذلك، فليضع أحدكم ماله حيث
شاء). (13)

13
وقال القائلون بما وصفنا: إن هذا ليس بنسخ، لأن ميراثه لم يسقط، وإن كان غيره
أولى به منه في هذه الحال، كما أن الأخ من أهل الميراث ولا يرث مع الابن، ولا يكون
ميراثه منسوخا عند وجود الابن، كذلك لم يكن له وارث من (ذي رحم) (1) أو ولاء، فإن له
أن يضع ميراثه حيث شاء، بحكم الآية التي فيها إيجاب التوارث بالمعاقدة.
قال أبو بكر: والذي نقول في ذلك: وجوب الإرث بالمعاقدة منسوخ لا محالة في حال
وجود ذي الرحم، وذلك لأن الله تعالى قد كان أوجبه للحليف مع وجود ذي الرحم، ومع
عدمهم، وجعله أولى، (2) فلما قال تعالى بعد ذلك (وأولو الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين). (3)
فقد صرف (4) عنهم في هذه الحال ما كان جعله لهم، إلى غيرهم من ذوي رحم
الميت، (5) فأوجب ذلك نسخ ميراث الحليف والمعاقد، في حال وجود ذوي الرحم، وإذا لم
يكن ذو رحم: فحكم الإرث قائم بينهما على ما اقتضته الآية، فكأن النسخ إنما ورد على
إحدى حالي استحقاق (6) الميراث بالمعاقدة والحلف (وهي حال وجود ذوي الرحم دون
غيرها، ونفى هذا الحكم) (7) في الحال التي لا يترك الميت فيها ذا رحم على ما أوجبته الآية
الموجبة لميراث الحليف (8) والمعاقدة. (9)
ومما يشبه هذا وليس بنسخ قوله تعالى (ليستأذنكم (10) الذين ملكت أيمانكم) (11)
الآية. قال ابن عباس: كان الناس لم تكن لهم ستور، فكان خادم الرجل يدخل إليه وهو مع

14
أهله، فأمره الله بالاستئذان لذلك، فلما أتى الله بالخير واتخذوا الستور والحجال رأى الناس
أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان.
قال أبو بكر: فهذا يدل من قوله على أن مثل ذلك السبب لو عاد لعاد الحكم، وليس
ذلك بنسخ، لأن الحكم الأول باق، ولم يسقط إلا بحدوث سبب، متى زال السبب عاد
الحكم، كالحائض لا صلاة عليها، لأجل وجود الحيض الذي إذا زال لزمتها الصلاة،
وليس ذلك بنسخ للصلاة (1) عنها، لأن الصلاة إنما تجب في هذه الحال لحدوث سبب، متى
زال عاد حكم لزومها، ولم يكن هناك حكم ثابت، فنقلت عنه إلى غيره، وإنما وردت الآية
في إيجاب الاستئذان (2) عند عدم الأسباب الساترة لهم عن أعين الداخلين إليهم، من
خدمهم، وأولادهم، فكان الأمر بالاستئذان مقصورا على هذه الحالة، ولم يكن قبله حكم
ثابت نقلوا عنه بالآية إلى غيره (فمتى زال السبب) (3) الذي من (أجله) (4) أمروا بذلك
(زال) (5) الحكم

15
الباب الخامس والأربعون
في
القول في لزوم شرائع من كان قبل نبينا
من الأنبياء عليهم السلام

17
باب (1)
القول في لزوم شرائع من كان قبل نبينا
من الأنبياء عليهم السلام
قال أبو بكر رحمه الله: اختلف أهل العلم في ذلك.
فقال قائلون: لا يلزمنا الاقتداء بمن كان قبل نبينا عليه السلام في شرائعهم، لأنهم
لم يكونوا مبعوثين إلينا، وإنما المبعوث إلينا نبينا عليه السلام، وإنما يلزمنا شريعته خاصة دون
شرائع غيره من الأنبياء عليهم السلام.
وقال آخرون: كل ما (2) ثبت من شرائع من كان قبله من الأنبياء (3) ما لم يثبت نسخه
فهو لازم لنا، ثابت الحكم علينا، والوصول إلى معرفته، بأن يذكر (4) الله تعالى في كتابه: أن
حكم كيت وكيت قد كنت شرعته لبعض الأنبياء، ويخبرنا بذلك النبي عليه السلام. ولم
يثبت أنه منسوخ، فيلزمنا ذلك، على حسب ما كان يلزمنا لو شرعه النبي عليه السلام.

19
وأما ما لم يثبت من ذلك من أحد هذين الوجهين فلا اعتبار به، لأن أهل (1) الكتاب قد
غير وا كثيرا من أحكامه وبدلوها، فلا يلتفت إلى رواية من حكى من المسلمين: أن في
التوراة أو الإنجيل كذا، ولا إلى رواية أهل الكتاب عن كتبهم أيضا، لأن قول هؤلاء غير
مقبول في إثبات الشريعة، بكفرهم وضلالهم.
وقد احتج محمد بن الحسن (2) رحمه الله في كتاب الشرب، لإجارة المهايأة في الشرب،
بما حكى الله تعالى في كتابه في قصة صالح وقومه، حين قال تعالى: (ونبئهم أن الماء قسمة
بينهم كل شرب محتضر) (3) وقال تعالى: (هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم). (4)
وهذا يدل دلالة بينة: أنه كان يرى أن ما لم يثبت نسخه من شرائع الأنبياء المتقدمين فهؤلاء
لازم لنا.
ثم جائز لنا أن يقال: إنه إنما رآه لازما لنا لأن عنده أنه قد صار شريعة لنبينا عليه
السلام.
وقد كنت أرى أبا الحسن رحمه الله كثيرا ما يحتج لإيجاب القصاص بين الحر والعبد،
والمسلم والذمي، بقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس) (5) وظاهر احتجاجه
بهذه الآية يدل على أنه يرى هذا المذهب صحيحا. (6)
قال أبو بكر قائل: قد كانت شرائع من قلبنا لازمة لمن جاء بعدهم إلى آخر الأبد
ما ينسخ.

20
أو يقول: إن تلك الشرائع لم تلزم الناس كافة على التأبيد، وإنما لزمتنا لأن الله تعالى
جعل ما لم ينسخ من تلك الشرائع شريعة لنبينا عليه السلام، وإنما يلزمنا اتباعها والعمل بها
من حيث صارت شريعة النبي عليه السلام، لا من حيث كانت شريعة للأنبياء الماضين
عليهم السلام.
أو يقول قائل: ليس شئ من شرائع الأنبياء المتقدمين ثابتة، لا من جهة بقاء هذا،
إذا لم يرد نسخها على ما قال من حكينا قوله بدء ولا من جهة: أنها صارت شريعة لنبينا وأنه
لا يلزمنا منها شئ، وإن حكى الله تعالى في كتابه: أنه شرعها لمن كان قبلنا حتى يأمرنا الله
تعالى بها أو النبي عليه السلام شريعة لنا.
فأما القول الأول: فإنه بعيد، من قبل أن هذا لو كان هكذا، لوجب أن يكون أولئك
مبعوثين إلينا، وأن تكون تلك الأوامر أوامر لنا، وقد علمنا: أن ذلك ليس كذلك، لأن
النبي عليه السلام قال (خصصت بخمس لم يعطهن أحد قبلي، منها: أني بعثت إلى الأحمر
والأسود، وكل نبي فإنما كان يبعث إلى قومه) (1) ولأن ذلك لو كان كذلك لوجب علينا طلب
شرائع الأنبياء عليهم السلام ونتبعها، ولدعا النبي عليه السلام الناس إليها دعاء عاما،
كدعائه عليه السلام إلى اتباع شريعته، ولو كان كذلك لنقلت الأمة ذلك نقلا عاما،
ولوجب على النبي عليه السلام تعليمها الصحابة وتبليغها إياهم، ولو كان كذلك لنقلوها

21
كنقلهم شريعة النبي عليه السلام.
وقد روى عن النبي عليه السلام: أنه (رأى في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
صحيفة فقال: ما هذه فقال: التوراة، فغضب عليه السلام وقال: ((أتهوكون كما تهوكت
اليهود والنصارى؟ لو كان موسى عليه السلام حيا لما وسعه إلا أن يتبعني) (1) فهذا يدل:
على أن تلك الشريعة لم تكن لازمة لنا، لولا ذلك لما نهاه عن النظر فيها وعن تعلمها.
فإن قيل: إنما نهاه عن ذلك لأن اليهود قد بدلت وغيرت، فلم يأمن أن نتبع منها
ما قد بدلوه.
قيل له: لو كان هذا مراده لقاله له، فلما عدل عن ذكر ذلك إلى قوله: (لو كان حيا لما
وسعه إلا أن يتبعني)، دل ذلك: على أن شريعة موسى عليه السلام لم تكن قائمة ثابتة
الحكم في ذلك الوقت، لأنها لو كانت باقية ثابتة لما كان ممنوعا من البقاء عليها، ما لم يبق
عليها، فهذا الوجه يفسد بما ذكرناه.
وبقى الكلام في المقالتين الآخرتين اللتين ذكرنا.
فنقول: إن الصحيح أن تلك الشرائع التي لم تنسخ قبل نبينا صارت شريعة لنبينا
عليه السلام، فلزم الناس حينئذ حكمها، من حيث صارت شريعة للنبي عليه السلام،
لا من حيث كانت شريعة لمن كان قبله.
والدليل على صحة ذلك قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) (2)
إلى قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (3) وذلك بعد ذكر الأنبياء عليهم
السلام وبقوله تعالى: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) (4) وقوله: (وما جعل

22
عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم) (1)
وقال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك) (2) إلى
قوله تعالى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (3) فبقى ظاهر هذه الآيات: أن شرائع من
كان قبلنا من الأنبياء لم تكن لازمة لنا بنفس ورودها قبل مبعث النبي عليه السلام، فإنها قد
صارت على شريعته، ولزمنا من حيث أمرنا باتباعها والاقتداء بهم فيها، لأن أقل أحوال
هذه الأوقات: أن تكون بمنزلة قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من
قبلكم) (4) فتكون شرائع من قبلنا لازمة لنا من حيث صارت شريعة لنا، فإلزام الله تعالى
إيانا فعلها بالقرآن، لا لأن الأنبياء المتقدمين كانوا مبعوثين إلينا، ولا كانت شرائعهم أمرا لنا
عند ورودها.
وقد روي محمد بن عبد الله (5) عن العوام بن حوشب (6) عن مجاهد، قال: سألت
ابن عباس عن سجدة ص من أين سجدت؟ قال: أو ما تقرؤا (ومن ذريته داود وسليمان) (7)

23
إلى قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (1) فكان داود ممن أمر نبيكم أن
يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام، وسجدها محمد صل الله عليه وسلم (2)
فإن قال قائل: ليس فيما دللت (3) من هذه الآيات دلالة على ما ذكرت من وجوه.
أحدها: قوله تعالى: (أولئك الذين هدى (4) الله فبهداهم اقتده) راجع إلى ما تقدم ذكره
ممن الاستدلال على التوحيد، لأنه تعالى قد ذكر استدلال إبراهيم صلوات الله عليه على
التوحيد لقوله تعالى: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي) (5) ثم قال تعالى في
سياق الخطاب: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) (6) ثم ساق القصة إلى قوله
تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (7) يعني في الاستدلال على الله تعالى،
واستعمال النظر المؤدي إلى معرفته، فلا دلالة فيه إذا على لزوم الاقتداء به في غيره من
شرائع مثله، التي يجوز أن يختلف أحكام الأمم فيها.
ومن جهة أخرى: أنه ذكر آباءهم وذرياتهم وإخوانهم، ولم يكونوا كلهم أنبياء ذوي
شرائع، وقد أمر باقتدائهم، فدل على أن المراد ما تساوى الجميع في تكليفه: من التوحيد،
وتصديق الرسل عليهم السلام، ونحوه، من موجبات أحكام العقول.
ووجه آخر: أن شرائعهم كانت مختلفة، وغير جائز أن يأمره بالاقتداء بهم في شرائعهم
مع اختلافها، لاستحالة التكليف بها على هذا الوجه، فثبت أن الاقتداء مقصور على ما لا
يصح الاختلاف فيه في الأزمان.
ومن جهة أخرى: لا يمتنع أن يكون قد كان في شريعة كل نبي منهم الناسخ
والمنسوخ، ومعلوم أنه لا يصح تكليف الحكم الناسخ والمنسوخ معا، فعلم أن المراد ما لا
يجوز نسخه وتبديله مما في العقول إيجابه، وقد قال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة

24
ومنهاجا) (1) وهذا يوجب أن تكون شريعة لكل واحد من الأنبياء غير شريعة الآخرين.
الجواب: أما ما ذكره من استدلال إبراهيم عليه السلام على التوحيد، وأن قوله
تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (2) راجع إليه ومقصور عليه دون غيره،
فإنه غير موجب لما ذكر، من قبل أن اسم الهدى يتناول ما أبان الله تعالى من الدلائل على
توحيده، وعدله، وسائر صفاته، ويتناول أيضا ما أنزل على أنبيائه من أحكام شرائعه، قال
الله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيون الذين أسلموا) (3) فسمى
ما في التوراة من أحكام الشرع هدى، وقال تعالى: (ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى
للمتقين) (4) والقرآن يشتمل على: موجبات أحكام العقول التي لا يجوز الاختلاف فيها،
وعلى الشرائع التي طريق معرفة إدراكها السمع، ثم سمى الجميع هدى، فدل أن اسم
الهدى لا يختص بما في العقل إيجابه، (5) دون ما يدل السمع على وجوبه، وإذا كان ذلك
كذلك، اقتضى عموم قوله تعالى: (فبهداهم اقتده) (6) الاقتداء بهم في جميع ما سمى
هدى، ولا يجوز لأحد الاقتصار به على الاستدلال على التوحيد دون أحكام الشرائع، لأنه
تخصيص بلا دلالة.
وأيضا: فإن قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (7) كلام قائم
بنفسه يصح ابتداء الخطاب به، وكل كلام هذا حكمه فهو محمول على ما يقتضيه ظاهر
لفظه، ولا يجوز تضمينه لغيره إلا بدلالة، فوجب من أجل ذلك حمله على عمومه على
حسب ما اقتضاه حكم لفظه.
وأما قوله: إنه قد ذكر آباءهم وذرياتهم وإخوانهم، وأنه لم يكونوا كلهم أنبياء ذوي
شرائع، وقد أمر مع ذلك بالاقتداء بهم، فدل أن المراد الاستدلال على التوحيد، فليس
بموجب لما ذكره، من قبل أنه أوجب بالآية الاقتداء بالأنبياء المذكورين فيها، ثم عقبه بذكر
من اقتدى بهم من آبائهم، وإخوانهم، وذرياتهم، واتبع سنتهم، فأمر بالاقتداء بهم أيضا،

25
وليس يمتنع هذا، وإن لم يكونوا على منهاج الأنبياء وطريقتهم، واتباع شرائعهم، كما قال
تعالى: (واتبع سبيل من أناب إلي) (1) وقال تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) (2)
جملة، لأنهم لا يكونون مؤمنين إلا وهم متبعون للأنبياء عليهم السلام، ألا ترى إلى قوله
تعالى: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم). (3)
وأيضا: فإن ظاهر اللفظ: يقتضي الاقتداء بالجميع، فمن كان منهم له شريعة
فالاقتداء به فيها واجب، ومن لم يكن له منهم شريعة مخصوص من اللفظ، إن كان المراد
الأنبياء خاصة.
وأما ما ذكره: من اختلاف شرائعهم وأنه يستحيل الاقتداء بهم فيها على اختلافها،
فلا معنى له، لأن في شريعة النبي عليه السلام: الناسخ والمنسوخ، كلك شرائع الأنبياء
المتقدمين إنما يلزمنا منها، وتصير شريعة لنبينا ما استقر وثبت حكمه إلى مبعثه عليه
السلام، فجعل شريعة له دون ما نسخ منها، و (4) علمنا بالناسخ منها من المنسوخ على
التفصيل لا يمنع صحة الاقتداء بهم فيها، لأنا نقول: إنما يلزمنا منها ما أخبر الله ورسوله
انه كان شريعة لهم، ثم لم يخبر بنسخة، فأما عدا ذلك فليس علينا تتبعه، لأنها لا تصل إلى
حقيقته من غير جهة الرسول عليه السلام.
وأما قوله: لو كنا متعبدين بذلك، لكان علينا طلبه وتتبعه، فليس بموجب ما ذكر،
لأن ما كان من شريعتهم إذا صار شريعة لنا فقد اكتفينا بوجوده في القرآن والسنة الثابتة عن
النبي عليه السلام، عن طلبه من جهة أخرى.
ونقول (5): إن كل ما وجد في القرآن أو السنة أنه كان شريعة لنبينا عليه السلام على
ما بينا ولا يحتاج بعد ذلك إلى طلبها من غير هذه الجهة، لأنا لا نصل إليه من طريق يوثق
بها، وما كان هذا حكمه فقد سقط عنا تكليفه، فإن اتفق أن يكون في شريعة من قبلنا شئ
قد أراد الله تعالى أن يتعبدنا به - فإنه إن لم يذكر أنه قد كان شريعة لهم، فإنه يبتدئ بإيجابه
شريعة للنبي، وإن لم يكن فيه حكاية كونه شريعة لمن قبلنا - فيكفي بهذا عن طلبه وتتبعه من
شرائع من قبلنا.

26
وأما قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) (1) فغير مانع مما قلنا: من قبل
أن هذا القول لم يمنع تساوي الجمع في كثير من الشرائع، فعلمنا أن المراد بعضها، وذلك
البعض الذي خالف به شريعتنا شرائعهم، هو ما وقع فيه النسخ، فلا يلزمنا استعماله،
وقدمنا ذكر قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) (2) إلى قوله تعالى: (أن
أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (3) وهذا الظاهر قد اقتضى المساواة في الجميع، لأن الدين
اسم ينتظم جميع ما ألزمنا الله تعالى من موجبات أحكام العقل والسمع جميعا.
وكذلك قوله تعالى: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم) (4) لأن الملة اسم يجمع
ذلك.
ومما يدل على أن ما ينسخ من شرائع الأنبياء المتقدمين فهو شريعة للنبي عليه السلام:
قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
والربانيون والأحبار) (5) إلى قوله تعالى: (وأولئك هم الكافرون، والظالمون،
والفاسقون) فانتظمت هذه الدلالة على صحة ما ذكرنا من وجوه:
أحدها: أنه روي أنها نزلت في اليهود حين تحاكموا إلى النبي صل الله عليه وسلم في شأن الرجم،
فنبه بها على كذبهم، وبهتهم في كتمانهم لأمر النبي عليه السلام، ولأحكام التوراة، فقال
تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة، فيها حكم الله، ثم يتولون من بعد ذلك وما
أولئك بالمؤمنين) إلى قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)
فحكم بإكفارهم في الإعراض عن الرجم، الذي كان صار شريعة للنبي عليه السلام،
والامتناع من قبول شريعته فيه، فصار كأنه (6) كتب عليهم في التوراة.
وغير جائز أن يكون الحكم بإكفارهم متعلقا بتركهم الرجم الذي كان من حكم
التوراة، لأنهم قد كانوا مأمورين بترك تلك الشريعة، واتباع شريعة النبي عليه السلام،
فغير جائز أن يكونوا مستحقين لسمة الكفر في هذه (7) الحال بتركهم حكم التوراة، إذ هم

27
مأمورون فيها بترك الانصراف عنه، إلى شريعة النبي عليه السلام، فثبت أن ما كان في
التوراة من حكم الرجم، صار شريعة لنبينا صل الله عليه وسلم، وخرج من أن يكون شريعة لموسى عليه
السلام في تلك الحال، بل صارت تلك الشريعة منسوخة بشرائع الرسول عليه السلام، إذ
كان الرسول مبعوثا إلى كافة الناس.
ووجه آخر من دلالة هذه الآية على ما ذكرنا: وهو قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن
النفس بالنفس) (1) إلى قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (2) -
والظلم هو وضع الشئ في غير موضعه - فلو لا أن هذا الحكم الذي كان في التوراة قد صار
من شريعة الرسول عليه السلام بعينه، وإعلامه أن التوراة كذلك، لما كان اليهود ظالمين
بالإعراض عن ذلك الحكم به، على أنه حكم التوراة، لأنهم كانوا مأمورين في تلك الحال
بالانتقال عنه إلى حكم شريعة الرسول عليه السلام، فدل: على أنهم إنما استحقوا سمة
الظلم والوصف به من حيث لم يعتقدوا شريعة النبي عليه السلام.
ثم قال تعالى في الآية الأخرى: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) (3) فلا يخلو قوله ذلك من أحد معنيين:
إما أن يكون قد استحقوا الذم - لأنهم لم يحكموا بما في الإنجيل بعد بعثة النبي عليه
السلام، ودعائه إياهم إلى دينه، على أنه من حكم الإنجيل شريعة لعيسى على نبينا وعليه
الصلاة والسلام، دون أن تكون شريعة لنبينا عليه السلام، أو على أنه من شريعة النبي
عليه (السلام) (4) دون كونه من شريعة عيسى عليه السلام.
وغير جائز أن يقال: إنهم استحقوا الذم وسمة الفسق، لأنهم أمروا في هذه الحال
بالحكم بما في الإنجيل على أنه شريعة لعيسى عليه السلام، لأن هذا يوجب أن لا يكونوا
مأمورين باتباع النبي عليه السلام، في شرائعه، بل يقتضي: أن يكونوا مأمورين بالبقاء على
شريعة عيسى عليه السلام، وبلوغهم دعوته بالحكم بما في الإنجيل على أنه شريعة لنبينا
عليه السلام، ما لم يأمرهم بخلافها ونسخها، ومن أجل ذلك وصفهم بالفسق، لأنهم زالوا
عن حد ما يجب عليهم المصير إليه، من اتباعه، والحكم بما في الإنجيل، على أنه من
شريعته صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أوضح دليل على صحة ما قلنا، والله الموفق للصواب.

28
الباب السادس والأربعون
في
الكلام في الأخبار واختلاف
الناس في أصول الأخبار

29
باب
الكلام في الأخبار (1)
واختلاف الناس في أصول الأخبار
قال أبو بكر رحمه الله: قد تكلم أهل العلم قديما في أصول الأخبار على مخالفي الملة،
وعلى من شذ من أهل الإسلام على جمهور الأمة، ما يغني ويكفي. (2)
ونحن نذكر منه جملا، ثم نعقبها بفروعها التي اختلف الفقهاء فيها، والله نسأل
العون على ذلك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
اختلف الناس في الأخبار: فنفت طائفة صحة جميع الأخبار، وأنكرت وقوع العلم
بشئ منها، ونفت اليهود كل خبر فيه اختلاف، وأثبتت ما لا خلاف فيه.
وقالت طائفة، من أهل الملة: لا تعرف صحة الأخبار إلا أن يكون المخبر بها
معصوما.
وقال آخرون: شرط صحتها: أن يكون المخبرون بها عدولا، أولياء الله تعالى،
لا يجوز عليهم التغيير والتبديل، وليسوا بأعيانهم.
وقال أبو الهذيل (3): لا يعرف بخبر الأربعة فمن دونهم شئ، ومن فوق الأربعة إلى

31
العشرين فقد يجوز أن يعلم بخبرهم، ويجوز أن لا يعلم، إذا لم يدل الدليل على وجوب
العلم بخبرهم، وعلى نفيه، وأما العشرون فقد يعلم صحة خبرهم لا محالة، إذا كان
العشرون ظاهرهم وباطنهم سواء، أولياء الله تعالى.
وقال النظام: (1) خبر الواحد يضطر إلى العلم بخبره إذا أخبر عن مشاهدة، ومتى
علمه اضطرارا عند مقاربة أسبابه.
ومن الناس من يعتبر اثني عشر، لقوله تعالى: (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا). (2)
ومنهم من يعتبر سبعين رجلا.
فهذه الأقاويل بعضها خارج عن أقاويل أهل الملة، وبعضها شذوذ عن كافة
الأمة. (3)
والوجه: أن نبتدي بذكر وجوه الأخبار ومراتبها على مذاهب الفقهاء، وما صح عندنا
فيها من مذاهب أصحابنا، ثم بإفساد ما خالفها وخرج عنها.

32
الباب السابع والأربعون
في
ذكر وجوه الأخبار ومراتبها وأحكامها
وفيه فصلان:
- فصل في الكلام على من حكينا
أقاويلهم في الباب الأول
- فصل في إبطال قول من رد الأخبار المختلف
فيها وإثبات المتفق عليها.
- فصل في إبطال من قال لا نعرف صحة
الخبر إلا بقول المعصوم.

33
باب
ذكر وجوه الأخبار ومراتبها وأحكامها
قال أبو بكر رحمه الله: وقد ذكر أبو موسى عيسى بن إبان رحمه الله، جملة في ترتيب
الأخبار وأحكامها في كتابه في الرد على بشر المريسي في الأخبار، وأنا أذكر معانيها مختصرة
دون سياقة ألفاظها، فإنه ذكرها في موضع من كتابه، فكرهت الإطالة بذكرها على نسقها،
واقتصرت منها على موضع الحاجة في معرفة مذهبه فيها.
ذكر: أن الأخبار على ثلاثة أقسام:
قسم فيها: يحيط العلم بصحته وحقيقة مخبره.
وقسم منها: يحيط العلم بكذب قائله والمخبر به.
وقسم: يجوز فيه الصدق والكذب.
فأما القسم الأول: فما وقع العلم بمخبره لوروده من جهة التواتر، وامتناع جواز
التواطؤ والاتفاق على مخبره، كعلمنا بأن في الدنيا مكة والمدينة وخرسان، وأن محمدا النبي
عليه السلام دعا الناس إلى الله تعالى، وجاء بالقرآن، وذكر أن الله تعالى أنزله عليه، وأمره
إيانا: بالصلاة، والزكاة، وصوم شهر رمضان، وحج البيت، ونحو ذلك.
قال عيسى رحمه الله: والعلم بهذه الأشياء علم اضطرار وإلزام، لما ذكرنا من جملة
هذه الشرائع، ردا على النبي عليه السلام، كأنه سمع النبي عليه السلام يقول ذلك فرده
عليه، فيكون بذلك كافرا، خارجا عن ملة الإسلام، لأن العلم كان علم ضروري،
كالعلم بالمحسوسات والمشاهدات، وكالعلم بأنه قد كان قبلنا في هذه الدنيا قوم، وأن
الموجودين أولاد أولئك، وكالعلم بأن السماء كانت موجودة قبل ولادتنا، وما جرى مجرى
ذلك.
وذكر: أنه ليس لما يوجب العلم من هذه الأخبار حد معلوم، ولا عدة محصورة.
وقال أيضا: إن العشرة والعشرين قد لا يتوافر بهم الخبر.

35
قال أبو بكر: ومعناه عندي إذا جاءوا مجتمعين متشاعرين، (1) يجوز على مثلهم
التواطؤ على الكذب.
قال عيسى رحمه الله: لأن الذي يعمل عليه في ذلك: هو ما يقع لنا به من العلم
الضروري، الذي لا مجال للشك معه، ولا مساغ للشبهة فيه، وذكر ما في هذا القسم، ما
في القرآن من الإخبار بالغيوب، عن أمور مستقبلة، فوجد مخبره على ما أخبر به، نحو قوله
تعالى: (ألم غلبت الروم في أدنى الأرض) (2) الآية، وكقوله تعالى (لتدخلن المسجد الحرام
إن شاء الله آمنين) (3) الآية، وكقوله تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات
ليستخلفنهم في الأرض، كما استخلف الذين من قبلهم) (4) إلى آخر الآية، ونظائر ذلك،
فوجد مخبر هذه الأخبار ما أخبر به تعالى.
ونحوه: ما أخبر به النبي عليه السلام ونحو ذلك، مما لا يخفى كثرة، فوجد على
ما قال ووصف. فمنه ما وجد في أيامه، ومنه ما أخبر به عما يكون بعده، فوجد على
ما أخبر به.
وما ذكر من نحو ذلك أيضا: أنا إذا رأينا الناس منصرفين يوم الجمعة من طريق
الجمع، فاعترضناهم سائلين لهم عن مجيئهم فقالوا: جئنا من الجامع، وقد صلينا علمنا
ضرورة: أن خبرهم قد اشتمل على صدق، مع جواز الكذب على بعضهم فيما أخبر به
على نفسه، وكذلك لو اعترضنا قافلة الحاج وهم راجعون من طريق مكة وسألناهم،
فقالوا: حججنا، ووقفنا بعرفات، علمنا ضرورة بأن خبرهم قد اشتمل على صدق، مع
جواز كون بعضهم كاذبا فيما أخبر به عن نفسه.
قال عيسى: وأما الخبر الذي يعلم كذبه حقيقة، فكنحو أخبار مسيلمة وأضرابه من
المتنبئين الكذابين، أخبروا بأشياء من الأمور المستقبلة فكانت كذبا وزورا، وادعوا أن لهم

36
دلائل على ما انتحلوه من النبوة، فلم يأتوا بشئ منها، فبان كذبهم، وانكشف بطلان
دعواهم.
قال: ومن هذا القبيل قول قائل: رأيت رجالا خلقوا من غير نسل، ورأيت دارا
وجدت من غير بان بناها، ورأيت الناس تفانوا بالقتل يوم عرفة بعرفات، فلم يبق منهم
مخبر، ثم لا يخبر أحد ممن جاء من مكة بمثل خبره، فهذا أيضا من الكذب الذي لا ريب
فيه.
قال: فأما ما يجوز الصدق والكذب، فخبر الواحد والجماعة التي لا يتواتر بها
الخبر، ويجوز عليها التواطؤ، فيجوز في خبرهم الصدق والكذب، فمن كان ظاهره العدالة
ونفى التهمة، فخبره مقبول في الأحكام، على شرائط نذكرها، من غير شهادة منا بصدقه،
ولا القطع على عينه.
ومن كان ظاهره الفسق والتهمة بالكذب فخبره غير مقبول.
قال أبو بكر: قصد عيسى إلى ذكر تقسيم الأخبار وما تقتضيه من الحكم بمخبرها
دون الخبر الذي يقارنه، دلالة تدل على صدقه، وسنفصلها باستيفائنا لجميع أقسامها
فنقول وبالله التوفيق:
إن الأخبار على ضربين: متواتر، وغير متواتر.
فالمتواتر ما تنقله جماعة لكثرة عددها لا يجوز عليهم في مثل صفتهم الاتفاق والتواطؤ
في مجرى العادة على اختراع خبر لا أصل له، فيما نبينه بعد.
وغير المتواتر: ما ينقله واحد وجماعة، يجوز على مثلهم التواطؤ والاتفاق على نقله.
فأما المتواتر: فعلى ضربين: ضرب يعلم بخبره باضطرار، من غير نظر ولا استدلال،
لما يقارنه من الدلائل الموجبة للعلم بصحته. وضرب منه لا يوجب العلم. وما لا يوجب
العلم منه على ضربين. أحدهما: يوجب العلم. والآخر: لا يوجبه، وسنبين القول من
وجوهه، بعد فراغنا من ذكر أقسام المتواتر، وما يوجب العلم من الأخبار بصحة مخبرها.
الكلام على من حكينا أقاويلهم في الباب الأول
قال: الذين دفعوا وقوع العلم بصحة شئ من الأخبار فليس طريق الحجاج عليهم

37
الاستدلال مبنيا (1) على علوم الاضطرار، فمن جحد علم الاضطرار فإنما يحتاج إلى تقدير
ما جحده، مما لا يشك هو ولا واحد من الناس في مكابرته، ودفع ما لا يعلمه ضرورة، كما
نتكلم في دفع علوم الخبر في المشاهدات، إذ لا فرق في عقول الناس جميعا كاملهم وناقصهم
وذكيهم وغبيهم، بين ما علموه وتقرر في عقولهم: أنه قد كان في الدنيا ناس قبلنا، وأن السماء
قد كانت موجودة قبل ولادتنا، وأنه قد كان لنا أجداد وملوك (قبل) (2) وجودنا، ولا سبيل إلى
العلم بذلك إلا من طريق الخبر، ومن أراد أن يشكك نفسه في ذلك، كان كمن رام
تشكيكها في وجود نفسه، ووجود ما نشاهده ونحسه، ألا ترى أن المميز وغير المميز يستوي في
العلم بذلك.
وأنا ذاكر: أن علمنا ذلك في حال صبانا بكون السماء موجودة قبل وجودنا، وأنه قد
كان قبلنا في هذه الدنيا ناس مثلنا، (3) وتكون البلدان الفانية والأمم السالفة كعلمنا الآن
بها، (4) وكعلمنا بالأمور المشاهدة، والأشياء المحسوسة.
وقد ذكر أهل العلم فيما أفسدوا به قول هذه الطائفة: أنهم وسائر العقلاء متى أرادوا
الخروج إلى خراسان، قصدوا إلى ناحية المشرق، وإذا أرادوا مصرا خرجوا إلى ناحية
المغرب، فلو لم يكن العلم بكون خراسان ناحية المشرق، وكون مصر ناحية المغرب قد تقرر
في نفوسهم، وتواترت الأخبار عليهم تقريرا لا يستطيعون دفعه، ولا تشكيك أنفسهم فيه،
كيف كان يجوز لهم التغرير بأنفسهم وأموالهم لشئ لا يعلمون حقيقته (5)، ثم لا يختلف في
ذلك المميز وغيره من سائر الناس ولا يخطر لهم فيه خواطر، ولا تعتريهم الشكوك، ولا يقع
بينهم فيه خلاف، فعلمنا بذلك: أن الجميع قد علموا صحة ذلك من جهة الأخبار التي
ثارت إليهم، من جهة من لا يجوز عليهم الغلط و الشهود، ولا الاتفاق والتواطؤ.
فإن قال قائل: إنما يقصدون سمت الشرق إذا أرادوا خرسان، وسمت المغرب إذا

38
أرادوا مصر، لما غلب في ظنونهم وسكنت إليه نفوسهم، وليس ذلك بحقيقة علم، إذ قد
يغلب في علم الإنسان مالا يكون له حقيقة، وتسكن نفسه إلى مالا يرجع منه إلى يقين.
قيل: إن ما وصفت أنه غلبة ظن، وسكون نفس، علم بصحة مخبر هذه الأخبار،
وإنما توهمتم (1) أن علمكم هذا.
فإن قال: لو كان العلم بصحة ما ذكرتم اضطرارا، لما جاز أن يدفع، ونحن جماعة
كثيرة أن نكون عالمين بصحة ما ذكرتم.
قيل له: لم تدفعوا أنتم كون هذه البلدان، ولا وجود السماء، قبل مولدكم، ولا وجود
أجدادكم، وإنما أنكرتم أن تكونوا عالمين به حين توهمتم: أن علمكم هذا ظن وحسبان،
كظن من أنكر حقائق الأشياء والأصل وقوع العلم بخبر التواتر.
إن الله تعالى لما أراد عباده وترغيبهم فيما فيه نجاتهم، وتعبدهم بما فيه مصالح دينهم
ودنياهم، على سنة رسله عليهم السلام، بعدما قرر في عقولهم وجوب اجتناب المقبحات
فيها، وفعل ما يقتضي فعله من موجبات أحكامها، ولم يكن في وسع الرسل صلوات الله
عليهم إبلاغ كل أحد في نفسه، ومشافهته بما تعبده به من أول الأمة وآخرها، خالف بين
طبائع الناس، وهممهم وأغراضهم، ليجمعهم بذلك على مصالحهم، في دينهم ودنياهم،
ولئلا يقع منهم اتفاق، ومن غير تشاعر ولا تواطؤ على اختراع خبر لا أصل له، وأجري
بذلك عادة تقررت في نفوس الناس، كما أجرى العادة بامتناع وقوع الخبر على مخبرات
كثيرة من إنسان واحد، على جهة التظني والحسبان، فصادف ذلك وجود مخبره في جميع
ما أخبر به، وإن كان قد تيقن بذلك في الواحد، ثم وفق بين طبائعهم في استنقال كتمان
ما يشاهدون من الأشياء العجيبة، والأمور العظام، (2) وحبب إليهم نقلها وإذاعتها، لتتم
الحجة في نقل الشرائع، وما بهم إليه الحاجة في مصالح دينهم ودنياهم، فكل خبر ورد
بالوصف الذي ذكرنا ونقله قوم مختلفو (3) الآراء، والهمم، غير متشاعرين، لا يجوز على
مثلهم التواطؤ أولهم كآخرهم، ووسطهم كطرفهم، فأخبروا عمن شاهدوه وعرفوه

39
اضطرارا بأنه يوجب العلم بمخبره، لامتناع وجود اجتماع الكذب منهم في شئ واحد عن
مخبر واحد، وذلك لأن نقل الأخبار من ناقليها إنما يكون حسب الأسباب الداعية إليه،
والعلل المثيرة لنقلها.
ألا ترى أنهم ينقلون ما ليس له سبب داع إلى نقله، من نحو مخبر إنه رأى ناسا
يمشون في الأسواق، وآخرين يتبايعون فيها، وما جرى مجرى ذلك، لأنه ليس هناك سبب
يدعو إلى نقل مثله.
وكذلك اختراع الأخبار التي لا أصل لها، وإنما تتفق على حسب الأسباب الداعية
إليه.
ومعلوم الاختلاف (في) (1) دواعي الناس وأسبابهم. فغير (2) جائز منهم وقوع اختراع
خبر لا أصل له من غير تواطؤ.
ألا ترى: أنه يمتنع في العادة أن يخطر ببال كل واحد من الناس في وقت واحد: أن
يبتدئ اختراع الكذب في شئ واحد، حتى يخبر كل واحد منهم: أن القمر انشق ليلة
البدر وصار قطعتين، وبقيتا طول الليل كذلك حتى غابتا. فكذلك يمتنع اختراع خبر
لا أصل له في الجمع الكثير، إلا عن تواطؤ.
وليس الكذب في هذا كالصدق، فيجوز اتفاقهم على نقل خبر أمر قد شاهدوه، وإن
كانوا مختلفي الهمم والأسباب غير متشاعرين، وذلك لأن الأخبار بالصدق داعي تجمع هذه
الجماعات على نقله والإخبار به، وهو مشاهدة ما أخبروا عنه، وما جعل في طباعهم من
استنقال كتمان الأمور (3) العظام والأشياء العجيبة.
فلما كانت هناك دواعي تدعوا إلى نقله، وسبب يجمعهم إلى العلم به، وكان كتمان
مثله مستنقلا في طباعهم سواء كان عليهم في إشاعته ونقله ضرر، أو لم يكن، صارت هذه
الدواعي سببا لنقله والإشادة بذكره، لتبلغ الحجة بالإخبار مبلغها، وتنتهي منتهاها.

40
وأما الإخبار بالكذب عن شئ واحد، فإنه ليس هناك داع يدعو الجماعات التي
وصفنا حالها إلى اختراعه، والإخبار به، ولا سبب يجمعهم على وضعه، بل الدواعي
متفقة في الزجر عن الكذب والإشاعة، (1) فإن اتفق هناك سبب يجمعهم على نقله من
تواطؤ وتراسل، فإن مثله لا يخفى، بل يظهر وينتشر في أسرع مدة، حتى يضمحل ويبطل.
وعلى أنا قد شرطنا في ذلك: امتناع التواطؤ والتشاعر فيه، على حسب امتحاننا
لأحوال الناس، فما كان بهذا الوصف فإنه يوجب العلم بمخبره لا محالة، وليس سبيل
الإخبار في هذا السبيل اعتقاد المذاهب الفاسدة، وإن لم يجز على مثلهم اختراع خبر
لا أصل له من غير تواطؤ، من وجهين:
أحدهما: أنا رجعنا في الأمرين جميعا إلى امتحان أحوال الناس، فوجدنا مثل هذه
الجماعات التي وصفنا أمرها، لا يجوز منها وقوع الاتفاق على اختراع خبر لا أصل له،
ووجدناهم يجوز منهم الاتفاق على اعتقاد مذهب فاسد، فإنما رجعنا في الأمرين جميعا إلى
الموجود من أحوالهم، فيما صح وقوعه منهم، وفيما امتنع.
والوجه الثاني: أنا منعنا وقوع اختراع لا أصل له منهم، لما ذكرنا من اختلاف
هممهم وأسبابهم، ودواعيهم، وأن جماعتهم يستحيل أن يخطر ببال كل واحد منهم أن
يبتدئ اختراع خبر في شئ لا أصل له، في الوقت الذي يخطر ببال صاحبه. فإذا كان هذا
وصفهم، لم يجز أن تتفق دواعيهم على نقله والإخبار به، لأن ما لا يجوز خطوره ببال جماعتهم
في وقت واحد فالإخبار به ونقله أبعد في الجواز، فلذلك لم يصح وقوعه منهم.
وأما اعتقاد مذهب من المذاهب الفاسدة، فإنهم لا يصيرون إليه، ولا يتفقون عليه،
إلا بدعاء داع لهم إليه، أو لشبهة يدخل عليهم في جواز اعتقاده فيعتقدونه.
ونظير ذلك من الأخبار: أن يدعوهم ويجمعهم جامع على التواطؤ على اختراع خبر
لا أصل له، وقد يتفق مثل هذا، إلا أنه لا يتفق فيمن وصفنا حالهم، وإن اتفق التواطؤ من
جماعة فلا بد من ظهور أمره وانتشاره، ولا بد من أن يضمحل ويبطل، فلذلك اختلف حكم
الأخبار والاعتقادات.
فإن قال قائل: قد نقلت اليهود والنصارى قتل المسيح عليه السلام وصلبه، وقد
كذبوا في ذلك، ونقلت المجوس أعلام زرادشت ومعجزاته، وهو كذاب، مع اختلاف

41
أسبابهم ودواعيهم. وكيف نحكم (1) بصحة الأخبار مع وجود (2) من وصفنا (3) حاله بخبر
لا أصل له، ولا شك في كذبه، وهم بالصفة التي ذكرتموها من اختلاف الهمم والأسباب
وامتناع التواطؤ عليه.
قيل له: شرط ما ذكرنا من الأخبار: أن ينقله قوم وصفهم ما ذكرنا، ويخبروا عن
مشاهدة من عرفوه اضطرارا.
والنصارى واليهود لم يكذبوا على أسلافهم فيما نقلوا، ولكن الدليل على أن أول هذا
الخبر ليس كآخره، أنه لو كان كذلك لوقع لنا العلم بصحة ما أخبروا به، إذ نحن وهم
متساوون في سماعة، كما أن علوم المحسوسات والمشاهدات أن لا يختلف مشاهدوها مع
ارتفاع الموانع من كل واحد منهم، فيما يقع لهم العلم بها، فلما لم يقع لنا العلم بمخبر
أخبارها، ولا مع سماعنا لها، علمنا أن أول خبرهم كان عمن يجوز عليه الغلط والتواطؤ،
فقلدوهم فيه ونقلوا عنهم: (4) أن العلم بكون المسيح عليه السلام في الدنيا، كعلمنا بالأمور
المشاهدة التي لا يجوز وقوع الشك فيها، من حيث كان أول خبرهم كآخره في اقتناع وقوع
التواطؤ منهم، واختراع خبر لا أصل له، فهذا الذي وصفنا يسقط هذا السؤال.
وأيضا: فإن النصارى إنما نقلوا ذلك عن أربعة يجوز عليهم الغلط، والخطأ،
والتواطؤ في النقل، وأما اليهود: فلم يكونوا يعرفونه بعينه قبل قصدهم إياه لقتله، وإنما دلهم
عليه رجل يقال له: يهودا، كان ممن يصحب المسيح. واجتعل (5) منهم على دلالته ثلاثين
درهما، وقال لهم: الذي تروني أقبله هو صاحبكم، فلما رأوه فعل ذلك برجل هناك أخذوه،
وقتلوه، على أنه المسيح، ولم يكن هو.
وأيضا: فإنه معلوم أنه لا يتولى قتل رجل (إلا من يجوز) (6) عليه التواطؤ في الأخبار،

42
والناقلون لقتل المسيح إنما نقلوا عن هؤلاء الذين تولوا قتل الرجل الذي زعموا أنه المسيح،
وهؤلاء، إما أن يكونوا قتلوه وصلبوه ظنا منهم أنه المسيح فأخطأوا في ظنهم، وإما أن يكونوا
تواطؤوا على الاجتهاد عنه بالكذب.
فإن قيل: الذين شاهدوه بعد القتل من اليهود والنصارى مصلوبا قد قالوا: إن
المصلوب كان المسيح، ولم يشكوا في ذلك، ولا سائر من نقلوا إليه الخبر به، إلى أن أنزل الله
تعالى (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) (1) حينئذ كذب الخواطر في أمره، وشك فيه كثير
من الناس، واعتقد المسلمون بطلان خبرهم.
قيل له: أما الحواريون ومن كان من أصحاب المسيح مستخفين غير ظاهرين من
اليهود، حتى طلبوا المسيح ليقتلوه، وإنما سمعوا ممن أخبرهم أنه رأى رجلا مصلوبا، قيل:
إنه المسيح، وأما اليهود فما كانوا يعرفونه بعينه، وإنما رجعوا فيه إلى قول يهوذا الذي دلهم
عليه بزعمه.
وأما قوله: إن الناس لم يكونوا يشكون في ذلك إلى أن أنزل الله تعالى: (وما قتلوه
وما صلبوه ولكن شبه لهم) فإن أول الناقلين لذلك لم يكونوا مخطئين في ظنهم، أنه قتل
وصلب، أو متواطئين على نقله، لما جاز وقوع الشك من أحد سمع أخبار هذه الجماعات في
قتله وصلبه، كما لا يجوز تشكيك أحد في أن المسيح قد كان في الدنيا.
فإن قيل: لو جاز أن يقال هذا فيما ذكرت لجاز على قوم مختلفي الهمم لا يجوز على
مثلهم التواطؤ، أن يخبروا عن رجل مشهور معروف، أنهم رأوه مصلوبا مقتولا، فلا يقع لنا
العلم بخبرهم، إذ لا فرق بين رؤيتهم إياه مقتولا مصلوبا، وبين رؤيتهم إياه حيا فيما
بينهم، والذين يقولون: إن المسيح قد كان في الدنيا، هم الذين نقلوا إلينا أنه قتل وصلب،
ومن عرفه حيا فيما بينهم، هو الذي ذكر: أنه عرفه مقتولا، مصلوبا.
قيل له: ليس الأمر فيه على ما ظننت، لما بينا فيما سلف، ولأن نقلهم لقتله وصلبه لو
كان في وزن نقلهم لكونه في الدنيا، لوقع لنا العلم الضروري بقتله، وصلبه، كوقوعه بكونه
في الدنيا، وليس لنقل كونه في الدنيا سبب يمنع صحة الخبر به، ولا مدخل للشبهة فيه،
والقتل والصلب قد اعترضهما أسباب تمنع أن يكون أصل الخبر بهما من قوم يوجب خبرهم

43
علما، وإنما أكثر ما فيه: أنهم لما فقدوا المسيح، ورأوا رجلا مقتولا مصلوبا، قال لهم من
بحضرته: هذا هو المسيح، فسكنت نفوسهم إليه، من غير تعقب منهم بصحة خبرهم،
ولا تأمل لأصله، وما يجوز فيه، مما لا يجوز.
وأيضا: فلو ثبت أن الناقلين لقتله وصلبه قوم لا يجوز على مثلهم التواطؤ ولا اختراع
الكذب في خبر عن شئ بعينه، لما أوجب خبرهم العلم بأنه هو المسيح، لأن أكثر أحوالهم
في ذلك أن يكونوا نقلوا أنهم رأوا شخصا مقتولا مصلوبا، فهم صادقون في رؤيتهم لشخص
هذه صفته، ولوقع لنا العلم بأنهم قد رأوا شخصا قد قتل وصلب، فأما أنه المسيح أو غير
المسيح فلم يكن يقينا، لأن الله تعالى قادر على إحداث شخص مثل المسيح، في صورته
وهيئته، في أسرع من لمح البصر، وظنه القاتلون (1) والذين رأوه مصلوبا، بأنه المسيح، وتسكن
نفوسهم إليه، لوجود الشبه.
وقد روي: أن اليهود لما جاءوا يطلبونه، قال لأصحابه: من يختار أن يلقى عليه
شبهي فيقتل وله الجنة، فاختار بعضهم ذلك.
وإذا كان أصل خبرهم عن ظن لا يقين، وعلم اضطرار، لم يجز أن يقع لنا العلم
بخبرهم. وإن كانوا ممن لا يجوز عليهم فعل خبر لا حقيقة له، لأن شرط ما يوجب العلم
من ذلك: أن يخبر به المخبرون عن مشاهدة أمر عرفوه اضطرارا. فأما إذا كان مرجع خبر هم
إلى ظن لا حقيقة له، فإنه لا يوجب وقوع العلم بصحة خبرهم: أنه كان المسيح أو غيره.
فإن قيل: كيف يجوز أن يلقي شبه المسيح وهو نبي من أنبياء الله على غيره، حتى
لا يفرق الناظر إليه بينه وبين من سواه فيعتقد أنه المسيح.؟؟
(قيل له) (2): لأن قلب العادات ونقضها جائزان في أزمان الأنبياء كما (كان يرى
جبريل في صورة دحية الكبي) (3)، (4) ودخول إبليس في صورة شيخ نجدي مرة وفي صورة

44
سراقة ابن مالك المدلجي (1) مرة أخرى)، (2) ولا يجوز مثله في غير أزمان الأنبياء، فلو أن رجلا
رأى في زمن النبي عليه السلام شخصا على صورة دحية الكلبي، لم يجز له أن يقطع بأنه
دحية، ووجب عليه أن يجوز أنه جبريل عليه السلام، وإذا كان كذلك فليس في مشاهدتهم
لشخص مقتول يشبه المسيح، ما يوجب القطع بأنه هو لا محالة، مع تجويزه لنقض العادة
بإحداث الله مثله، أو إلقاء (3) شبهه على غيره. فلما وجدنا القرآن الذي ثبت أنه من
عند الله بالشواهد الصادقة قد نطق بأنهم (ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) علمنا أن: الأمر
جرى في أصل الخبر عن قتله وصلبه، على أحد الوجوه التي ذكرناها.
وأما المجوس: فإن الذي تدعيه في أعلام زرادشت يجري مجرى الخرافات، التي
تتحدث بها النساء والصبيان، وإنما أكثر ما يعدونه له أنه أدخل قوائم فرس للملك في جوفه،
ثم أخرجها، وعاد الفرس صحيحا كما كان، ومرجع هذا الخبر عندهم إلى الملك وقوم من
خاصته، وهؤلاء يجوز عليهم التواطؤ على الكذب، وأن من سياسة (4) الملك لما اختبره
فرأى حيلته (5) ودهاءه واطأه على الاستجابة له، على أن يكون أحد أركان شرائعه التي
يدعوا الناس إليها للتدين (6) بطاعة الملوك، وتعظيم شأنهم، أخبر الملك قوما من خاصته
بما ذكر من أمر الفرس، فتلقوه وانتشر الخبر به، ثم حمل الناس بالسيف على الدخول في
دينه، ثم طالت مدته، ونشأ عليه الصغير، وهرم عليه الكبير، وألفوه واعتادوه، ثم ما زال
من ينتحل منهم الدين ويتخصص بنقل الأخبار، ويزيد فيه، ويشيعه في الدهماء، فينقلوه
إرادة منهم لتأييد الدين، وبتأكيد أمره، وكانت العلوم في زمن ملوك الفرس مقصورة (7) على
قوم بأعيانهم، لا يدخل فيه غيرهم، ويمنعون من لم يكن من أهله انتحاله، والنظر فيه،

45
وكذلك الصناعات. وكانت سائر الناس إنما يأخذون أخبار زرادشت وأمر الدين عن قوم
بأعيانهم، يجوز عليهم التواطؤ على الكذب، فلم يثبت بأخبارهم صحة ما أخبروا عنه مما
ادعوه.
ولما كان قول زرادشت: إن لله ضدا مغالبا في ملكه، مع ما يضيفون إليه من الأمور
القبيحة الفاحشة التي قامت أدلة العقول: أن أنبياء الله تعالى لا يعتقدونها. علمنا أنه كان
كذابا مخرفا، ولم يكن الله تعالى ليظهر المعجزات على يديه.
فإن قال قائل: كيف يكون الإخبار حجة والمخبرون بها هم الذين تولوها، ومتى
شاؤوا اخترعوها، وأخبروا بها، وإنما الحجة فيما يعجز الخلق عنه، فأما ما كان في مقدورهم
ويمكنهم اختراعه والإخبار به كيف شاءوا، فإنه غير موثوق به ولا حجة فيه.
قيل له: لم نقل: إن الأخبار في أنفسها هي الموجبة للعلم بصحة مخبرها من حيث
كانت أخبارا، حتى يلزمنا ما ذكرت، وإنما قلنا: إنها متى قارنها أحوال ليست هي من أفعال
المخبرين بل، الله المتولي لها وواضعها على ما هي عليه، حتى خالف بين أسباب المخبرين
وعللهم، وأجرى العادة بامتناع وجود الأخبار منهم عن أمر ذكروا: أنهم شاهدوه اضطرارا،
من غير أن تكون له حقيقة، فالحجة (1) إنما لزمت بالأخبار من هذه الجهة.
فإن قيل: إن افتعال الكذب جائز على كل واحد من هؤلاء المخبرين، لم يكن
اجتماعهم على الإخبار به مما يؤمننا كذبهم فيه.
قيل له: لا يجب ذلك من وجهين:
أحدهما: أن حكم ذلك لما كان مأخوذا من الشاهد وما يجوز على
حسب ما امتحنا من أحوال الناس، فوجدنا الجماعات التي وصفنا شأنها، يمتنع جواز
اختراع الكذب عليها في شئ بعينه أخبرت به عن مشاهده، (2) مع بقاء العادات على
ما هي عليه، علمنا أن مثله لا يجوز إلا صدقا، وأن مخبره واقع على ما أخبروا به، ولهذه
العلة بعينها جوزنا الكذب على كل واحد منهم، إذا انفرد بخبر، ولم تقم دلالة على امتناع
وقوع الكذب منه، فرجعنا في الأمرين جميعا إلى ما اقتضته أحوال الشاهد، وخبران (3)
العادة، فجوزنا (4) منه ما أجازته، ومنعنا منه ما منعته.

46
والوجه الآخر: أنه لو كان حكم الكثير في هذا كحكم القليل، لوجب إذا جاز من
كل واحد منا أن يتكلم بحرف من حروف المعجم، وتكلمه من عرض الكلام، أن يجوز منه
إن أتى بمثل القرآن في نظمه و ترتيبه، إن كان يمكنه أن يتكلم بكل حرف منه على
الانفراد، لوجب أن يكون المعجم الذي يمكنه أن يتكلم بكل كلمة مما في شعر امرئ
القيس، فيخترعه وينتبه مبتدئا به. أن نجوز منه إنشاء (1) قصائد مثل قصائد امرئ
القيس، في وزنها وألفاظها ونظمها، وكان يجب أن يكون الواحد إذا أخبر عن شئ واحد
على جهة التظني والحسبان، فيصادف وجود مخبره على ما أخبر به، أن يجوز منه أن يظن
كل شئ يخطر بباله ويتوهمه، فيخبر به، ثم يتفق أن يصادف في جميع ذلك وقوع مخبره، وقد
علم بطلان ذلك ضرورة، فكذلك كل واحد منا إذا جاز عليه الكذب في خبره إذا انفرد به
فغير جائز وقع ذلك من الجماعات الكثيرة، التي لا يجوز عليها التواطؤ في خبرها.
قال أبو بكر: ومن الناس من يقول: إن العلم بصحة الأخبار المتواترة التي ذكرنا
اكتساب، وليس بعلم اضطرار.
والدليل على أن العلم: بما قدمنا وصفه من الأخبار اضطراريا استواء (2) حال المميز
وغير المميز في العلم، كالصبيان ونحوهم، لأنا نعلم من أنفسنا أنا كنا نعلم في حال صبانا
بكون أجدادنا وأوائلنا كعلمنا الآن بهم.
وأيضا: فلو كان العلم بالاكتساب لجاز لبعضنا أن لا يكتسبه (ولا يستدل) (3) عليه،
فلا يعلم بصحته، لأن ما كان طريق العلم به الاستدلال (لا يعرفه) (4) من لا يستدل.
وأيضا: فلو كان العلم به اكتسابا، لجاز وقوع الاختلاف فيه، ولجاز وجود الشك فيه
مع سماع هذه الأخبار كسائر العلوم المكتسبة، فلما بطل ذلك، وكان المنكر لبعض ما ذكرنا
كالمنكر لبعض ما يذكره بحاسته، علمنا أن العلم بما وصفنا اضطرار.
قال أبو بكر: فهذا الذي ذكرنا جملة كافية، تثبت التواتر الذي نعلم صحته (5)
اضطرار.

47
فأما القسم الثاني من قسمي التواتر وهو: ما يعلم بالاستدلال: فإن أبا الحسن
رحمه الله، كان يحكي عن أبي يوسف: أن نسخ القرآن بالسنة إنما يجوز بالخبر المتواتر، الذي
يوجب العلم، كخبر المسح على الخفين، (1) فهذا الذي ذكره من قوله يدل على أنه كان
يرى: أن من الأخبار المتواترة ما يعلم صحتها بالاستدلال، لأن هذه صفة المسح على
الخفين، إذ لا يمكن أحد أن يدعي في ثبوته وصحته علم اضطرار.
وقد حكينا عن عيسى بن أبان رحمه الله في صدر هذا الباب: أن الخبر المتواتر عنده هو
الذي يوجب علم الضرورة، وأنه لم يجعل ما ليست هذه منزلته من خبر التواتر.
قال أبو بكر رحمه الله: ومن نظائر المسح على الخفين من الأخبار: ما روى عن النبي
عليه السلام: في تحريم التفاضل في الأصناف السنة، وما روى عنه عليه السلام: من إباحته
متعة النساء، ثم حظرها بعد الإباحة، ومثله أخبار الرجم، وأشباه ذلك من الأخبار التي
نقلها عن النبي عليه السلام جماعة يمتنع في مثلهم وقوع التواطؤ عليه، أو وقوع السهو
و الغلط فيه، فنعلم بتأملنا حالها أنها صحيحة، ولا توجب العلم الضروري، لأنا لم نتأمل
حال هذه الأخبار، ولم نستدل على صحتها، لما وقع لنا العلم بخبرها، و قد كان ابن عباس
يجيز التفاضل في الأصناف الستة، ويعارض هذا الخبر بخبر أسامة بن زيد: عن النبي عليه
السلام أنه قال: (لا ربا إلا في النسيئة) ثم لما تأمل حاله وتواتر عنده الخبر به نزل عن قوله،
ورجع إلى ترحيم التفاضل فيها. وقد قال عيسى في كتابه (في الرد) (2) على المريسي لا يخلو
الحديث من ثلاثة أوجه يضل تاركة، ويأثم، ويشهد عليه بالبدعة، والخطأ.
وذلك مثل الرجم يرده قوم بقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة
جلدة) (3) قالوا: لأنه لم يتواتر به الخبر كما تواتر بالصلاة والصيام، ولا يكفرون لأنهم لم يردوا
على الله ولا على رسوله، وإنما خالفوا الناقلين، فأخطأوا في التأويل، وعارضوا بظاهر
الكتاب.
قال: والوجه الثاني: مثل خبر الصرف، وخبر المسح على الخفين، يخطئ مخالفة،

48
ويخشى عليه الإثم، ولا يحكم عليه بالضلال، لأن ابن عباس عارض حديث الصرف بخبر
أسامة بن زيد (لا ربا إلا في النسيئة). (1) والخوارج خالفت الإجماع، وخبر المسح على الخفين:
رواه جماعة كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، خالف فيه ابن عباس، وعائشة وأبو هريرة. وقالوا: إن
المسح كان قبل نزول (2) المائدة، فأخطأوا، لم يحكم عليهم بالضلال، ويخشى عليهم
المأثم، وكذلك خبر الشاهد واليمين، لأن القائل به لا يدري هو ثابت الحكم، أم لا، ويرد
قضاء من قضى به (لأن ظاهر الآية يرده). (3)
قال: ومما يخاف عليه الإثم ولا يحكم عليه بالضلال، من استحق دما بالقسامة مع
علمهم أن المخالفين كاذبون في حلفهم، وأنه خلاف الكتاب، قال الله تعالى: (ولا تقف
ما ليس لك به علم) (4) وقال تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون). (5) وأنكره
جماعة من السلف، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة خلافه.
قال عيسى بن أبان رحمه الله: والوجه الثالث: ما روى في الأخبار المختلفة لا نعلم
الناسخ منها، واختلفت الأمة في العمل بها، مع احتمال التأويل فيها، كاختلافهم في أقل
الحيض وأكثره، وكاختلافهم في قوله تعالى: (فإن كان له إخوة) (6) وقال بعضهم:
لا تكون الإخوة أقل من ثلاثة. وقال آخرون: اثنان. وكاختلافهم في مقدار السفر فيه،
وما أشبهه طريقه اجتهاد الرأي، ولا يأثم المخطئ، فيه ولا يضل.
قال أبو بكر رحمه الله: والذي ذكره عيسى في هذا الموضع من تقسيم منازل موجب
الأخبار غير مخالف لما حكينا عنه في خبر التواتر، أنه قسم واحد، وهو الذي يوجب علم
الاضطرار، لأن خبر الرجم إنما أوجب العلم عنده لا من طريق التواتر، لكن لأن الأمة
عملت به سلفها وخلفها، ولا يعد الخوارج خلافها، فإنما يوجب العلم بوجوب هذه الأخبار
لمساعدة إجماع السلف إياه، وجعل خبر المسح على الخفين وخبر الصرف دون ذلك، لأن
قوما ممن يعتد بخلافهم على السلف قد ذهبوا إليهما، إلا أنه كان عليهم المصير إلى ما روته
الجماعة، وأخطأوا بتركهم ذلك، ولم يبلغوا منزلة الضلال.

49
وقد قال بعض أهل العلم: إن مما يعلم صحته من الأخبار من جهة، ما لا يجوز فيه
اتفاق الجماعة الكثيرة على اختراع الكذب فيه، كإخبار أهل بلد بخبر كل واحد عن
نفسه: أنه يعتقد الإسلام، وكإخبار جماعة كثيرة بخبر كل عن نفسه: أنه يعتقد النصرانية،
فإن هذا ونحوه (إذا أدلى) (1) المخبرون به فصاروا بحيث لا يتفق منهم كتمان خلاف ما
أظهروه، دل ذلك على اشتمال خبرهم على جماعة قد صدقوا فيما أخبروا به عن أنفسهم.
ومن نحو ذلك ما روته الرواة من أخبار الآحاد، كل يخبر بخبر غير ما يخبر به الآخر، فعلم
أن جماعتهم غير كاذبة، وكل شئ أخبر به كل واحد منهم، ونعلم أن هذه الجماعة قد
اشتملت فيما أخبرت به على صدق، وإن لم يتميز لنا صدق الصادق منهم من غيره، فهذا
ضرب من التواتر الذي يعلم مخبره بالاستدلال، ولم يجد أصحابنا فيمن يتواتر بهم الخبر
عددا.
وكذلك قال عيسى بن أبان في ذلك، وذكر أنه إذا نقله قوم مختلفو (2) الآراء والهمم،
لا يجوز على مثلهم التواطؤ فهو تواتر.
وقد قال قوم من أهل العلم: إنا قد تيقنا: أن خبر الأربعة لا يوجب العلم بحال إذا
لم تقم دلالة أخرى من غير الخبر على صدقهم، وذلك لأن الله تعالى تعبدنا في أربعة
شهداء على رجل بالزنا، أنا متى حكمنا بشهادتهم أن لا نقطع على غيبهم، وأن يجوز
عليهم الكذب، إذ الغلط والسهو في شهادتهم، وأن يكل أمرهم في مغيب شهادتهم إلى الله
تعالى، وإن أمضيا الحكم بها.
قالوا: وهذا حكم عام في سائر الشهادات، فغير جائز أن يجمع علينا التعبد بما
وصفنا، مع وقوع العلم بصحة خبرهم، لأن ذلك يتضاد ويتنافى. فدل ذلك على أن خبر
الأربعة لا يوجب العلم بحال، وما زاد على هذا خبرهم من الأحوال المقارنة له، حتى إذا
كثر العدد في قوم مختلفي الآراء والهمم لا يجوز وقوع التواطؤ منهم، أوجب العلم بصحة
خبرهم لا محالة.
قال أبو بكر رحمه الله: وهدانا على خلاف ما قالوا، وذلك: أن الشهود الذين
يشهدون بالزنا: شرط صحة شهادتهم أن يحضروا مجتمعين، ويكونوا متشاعرين، يجوز على
مثلهم التواطؤ، فلذلك لم يقع العلم بخبرهم، ولو كانوا عشرة أو عشرين جاءوا مجتمعين

50
متشاعرين، يخبرون بخبر واحد عن أمر شاهدوه، لما وقع لنا العلم بخبرهم، إذا جوزنا
عليهم التواطؤ، وقد رأينا كثيرا من أهل هذه الأسواق هاهنا ببغداد متواطئين على تعارض
الشهادات فيما بينهم، وربما حضر منهم عشرون رجلا أو أكثر، يشهدون لرجل على آخر
بجناية في نفس، أو عرض، أو مال، فلا يقع العلم بصحة خبرهم، لجواز التواطؤ عليهم.
فغير جائز إذا كان الأمر على ما وصفنا: أن يستدل بامتناع وقوع العلم بشهادة أربعة
جاءوا مجتمعين: على أن كل عدد من المخبرين هذا مقداره لا يقع لنا العلم بصحة
خبرهم.
فإن قال قائل: فما تقول إن جاء هؤلاء الأربعة متفرقين يشهدون على رجل بالزنا.
قيل له: نحوهم جميعا، لأن شرط قبول الشهادة عندنا أن يحضروا جميعا، فيشهدون
مجتمعين، وإلا كانوا قذفة.
وكذلك قال الشعبي: لو شهد عندي مثل ربيعة ومضر متفرقين على رجل بالزنا
لحددتهم جميعا.
فإن قيل: فما تقول لو شهد عشرة أو أكثر على إقرار رجل بحق لرجل وجاءوا متفرقين.
هل يقع لك العلم بصحة خبرهم؟ وهل نحكم بشهادتهم (1) إذا كانوا فساقا، لأجل ما وقع
من العلم بصحة شهادتهم حتى جاءوا غير متشاعرين، ولا يجوز على مثلهم التواطؤ فيه؟.
قيل له: إن جاز وقوع مثل هذا في العدد الكثير من قوم مختلفي الهمم، لا يجوز على
مثلهم التواطؤ، فليس يمتنع أن يقع العلم بصحة خبرهم، إلا أنه لا اعتبار فيه بوقوع
العلم حتى يكونوا عدولا مرضيين، إذ قد يجوز عندنا أن يعلم الحاكم حقا لإنسان على
غيره، فلا يجوز له الحكم به، وهو أن يكون قد علمه قبل أن يلي الحكم، أو يعلمه في غير
موضع حكمه، ثم يصير إلى علمه، أو يعلم شيئا مما يوجب حد الزنا، أو السرقة، أو شرب
الخمر في علمه، أو في مخبر علمه، فيكون كواحد من الشهود يحتاج أن يشهد مع غيره عند
حاكم سواه، حتى يحكم به، وإذا كان كذلك فلا اعتبار في إمضاء الحكم بوقوع العلم
بخبرهم إذا لم يكونوا عدولا.
وأيضا: فإن الاثنين فما فوقهما في الشهادة في الحقوق سواء، والأربعة ومن فوقهم في
الشهادة على الزنا سواء، فلا اعتبار إذا فيها بكثر العدد.
قال أبو بكر: واختلف الذين اعتبروا في شرط التواتر أكثر من أربعة.

51
فقال منهم قائلون: إذا أخبر جماعة عددهم أكثر من أربعة فوقع العلم بصحة
خبرهم، فغير جائز أن يكون العلم واقعا بخبر أكثر من أربعة هم صادقون فيما أخبروا به،
قد علموه اضطرارا، وإن كان جائزا أن يكون من غير هؤلاء الذين أوقع العلم بخبرهم
فكذبوا فيما أخبروا به بأن لم يكونوا شاهدوا ذلك الشئ الذي أخبروا عنه.
وقال آخرون منهم: ليس يمتنع أن يكون العلم واقعا عند خبر الخمسة ومن فوقهم،
بخبر أربعة منهم فمن دونهم، وأن يكون الصادق في خبره واحدا منهم، والباقون أخبروا
عن غير يقين، ولا مشاهدة، ومع ذلك فغير جائز وقوع العلم بقول ذلك الواحد لو (1)
انفرد، لأن الله تعالى إنما أجرى العادة بأن يجعل العلم في قلوبنا عند إخبار الجماعة التي
وصفنا أمرها، وليس المخبر هو الموجب للعلم بخبره، فيعتبر كون الجماعة صادقين في
خبرهم.
قالوا: وإذا كان كذلك لم يمتنع وقوع العلم بخبر بعض الجماعة المخبرين، وإن كانوا
أربعة وأقل منهم، بعد أن يكون المخبرون أكثر من أربعة. (2)

52
قال أبو بكر: وليس لما يقع العلم به من الأخبار عدد معلوم من المخبرين عندنا، إلا
أنا قد تيقنا: أن القليل لا يقع العلم بخبرهم، ويقع بخبر الكثير، إذا جاءوا متفرقين،
لا يجوز عليهم التواطؤ في مجرى العادة، وليس يمتنع أن يقع العلم في بعض الأحوال بخبر
جماعة، ولا يقع بخبر مثلهم في حال أخرى، حتى يكونوا أكثر، على حسب ما يصادف
خبرهم من الأحوال، وقد علمنا يقينا: أنه لا يقع العلم بخبر الواحد والاثنين ونحوهما، إذا
لم تقم الدلالة على صدقهم من غير جهة خبرهم، لأنا لما امتحنا أحوال الناس لم نر العدد
القليل يوجب خبرهم العلم، والكثير يوجبه، إذا كانوا بالوصف الذي ذكرنا، و ما كان من
الأمور محمولا على العادة، فلا سبيل إلى تحديده، وإيجاب الفصل بينه وبين ما عداه بأقل
القليل.
وأما من قال: إن خبر الواحد يوجب علم الاضطرار، فإنه لا يخلو من أن يقول: إنه
يوجب العلم لسامعه، إذا كان المخبر عنه باضطرار، من غير معنى يقارنه، ولا يوجبه إلا إذا
قارنته أسباب توجب العلم بصحة خبره.
فإن كان خبر الواحد يوجب العلم بنفسه إذا كان المخبر قد علم ما أخبر عنه
باضطرار، فوجب أن يعلم كل سامع صدق كل من أخبر عن شئ شاهده من كذبه، وأنه
يحكم بأن غيره كاذب، إذا لم يقع له العلم الضروري بصحة ما أخبر به، وكان يجب أن
يعلم صدق المدعي والمدعى عليه، فمتى وقع لنا العلم الضروري بصحة دعواه حكمنا
بها، وإذا لم يقع لنا العلم الضروري لما ادعاه حكمنا ببطلان قوله، فلا يحتاج المدعي إلى
بينة، ولا يحتاج المدعى عليه إلى اليمين، وواجب أن يعلم كذب الزوج أو صدقه إذا قذف
امرأته، فإذا لم يقع لنا علم الاضطرار بصدقه حكمنا بكذبه وحددناه، ولا نوجب بينهما
لعانا، وقد حكم الله بصحة اللعان بينهما، ولو كان العلم كافيا لنا (1) بقول أحدهما ما جاز أن
يستحلف الآخر على صدقه، مع وقوع العلم بكذبه، لأنه غير جائز أن يتعبدنا الله بأن
يأمرنا (2) بالإخبار بالكذب والحلف عليه، مع علمنا بأنه كذب، وهذا شئ قد علم
بطلانه.
وأوجب أيضا: أن لا تعتبر عدالة الشهود إذا شهدوا على رجل بحق وأن الحكم
بشهادتهم يكون موقوفا على ما يقع للحاكم من العلم الضروري بصحة خبرهم، فإن وقع

53
له علم الاضطرار بذلك علم صدقهم، وإن لم يقع له ذلك حكم بكذبهم، عدولا كانوا أو
غير عدول.
فإن قال قائل: إنما يقع العلم لخبر بعض الناس دون بعض، وليس يمتنع، لأنه إذا
كان الله تعالى هو المتولي لإحداث العلم عند خبر هذا السامع، (1) فليس يمتنع أن يفعله في
حال دون حال.
قيل له: قولك إن الله تعالى هو المتولي لإحداث العلم للسامع عند هذا الخبر: هو
نفس المسألة، وهو موضع الخلاف، لأنا نقول ليس أحد من المخبرين يحدث الله عند خبره
للسامع علما، فاقتصارك به على بعض الناس دون بعض لا معنى له، وعلى أن ما ألزمناه
قائم عليه، لأن كل سامع فإنما يكون محجوجا بما أحدث الله تعالى له من العلم عند الخبر،
وإن لم يحدث له علم لم يجب عليه الحكم بصحة الخبر، وإن أحدثه حكم بصحته، فلا
معنى إذا للكلام في تبيينه في نظر وحجاج، وإنما يجب على كل إنسان أن يحكم بما يضطر
إلى علمه دون غيره، وعلى هذا الخبر لا ينبغي أن يختلف أن يكون المخبر قد علم ما أخبر
به عنه ضرورة أو لا يعلمه، لأن العلم بصحة مخبره موقوف على ما يحدثه الله تعالى فيه،
وعلى أن الله تعالى قد أمرنا لنتثبت في سائر الشهادات، وأن لا نقطع بصحتها (2) ولو كان
خبر الشهود يوجب علم الاضطرار بحال، لما جاز أن نكون مأمورين في تلك الحال، بأن
لا نقطع بصحة ما علمناه ضرورة.
فإن قال قائل: إن خبر الواحد إنما يوجب علم الاضطرار إذا صحبه أسباب،
وأخبر به عن مشاهدة.
قيل له: ليس من الأسباب التي تقارن الخبر شئ آكد ولا أثبت من الأسباب التي
(قارنت أخبار) (3) النبي عليه السلام، الموجبة لتصديقه، ثم لم نعلم صحة خبر
الاستدلال، إذا أخبر عن مشاهدة جبريل عليهما السلام، وخطابه إياه، وأنه أسرى به إلى
بيت المقدس، وإلى السماء، ولو كان في الدنيا خبر واحد يوجب علم الضرورة لكان خبر
النبي عليه السلام أولى الأخبار بذلك. فلما عدمنا ذلك في أخبار النبي عليه السلام، علمنا
بطلان قول هذا القائل.

54
فإن قال قائل: قد يرى (1) الرجل يمر بباب دار الرجل فيرى جنازة منصوبة ومغسلا
موضوعا، ويسمع صراخا في الدار، فيسأل عجوزا خرجت من الدار عن ذلك، فتقول مات
فلان، فلا يرتاب السامع بخبرها، ولا يشك في قولها. وكذلك لو دخل رجل مجلسا حافلا
ورأى رجلا في الصدر عليه قلنسوة طويلة، فيسأل رجلا من الحاضرين عن الجالس في
الصدر فيقول: فلان القاضي، فلا يرتاب السامع بخبره، ولا يشك في قوله، فعلمنا أن خبر
هؤلاء أوجب العلم الضروري بصحة مخبرهم.
قيل له: ليس هذا كما ظننت، وذلك لأنك لم تفرق بين سكون النفس إلى الشئ من
غير علم به ولا يقين العلم، وقد تسكن نفس الإنسان إلى الأشياء ثم يتعقبها، فيجدها
بخلاف ما اعتقد فيها.
ألا ترى أن أكثر المبطلين والمقلدين نفوسهم ساكنة إلى اعتقاداتهم، وليسوا على علم
ولا يقين، بل على جهل وكفر، ثم إذا تعقبوا اعتقاداتهم، ونظروا فيها من وجه النظر،
ونبههم عليه منبه، علموا فساد ما هم عليه، وقد يسهو الرجل فيصلى الظهر ثلاثا ويسلم،
ولا يشك أنه قد صلاها أربعا.
فإن قال له قائل: إنما صليت ثلاثا، شك فيما كانت نفسه ساكنة إليه، (2) فلا اعتبار
إذا بسكون النفس إلى الشئ، ولا يجوز أن تجعل علما لليقين. (3)
وعلى أنا قد نرى كثيرا من الناس يتعمدون (4) (5) هذه الأسباب التي ذكرت أنها إذا
قاربت الخبر أو أوجبت علم الاضطرار بمخبره ويكون لهم فيها أغراض مقصودة من خوف
من سلطان أو مجون وخلاعة.
وقد بلغنا: أن أبا العير في أيام المتوكل (6) قد كان يتعمد (7) بكثير من هذه الأمور على

55
وجه المجون والخلاعة.
ألا ترى أن إنسانا لو قال لهذا السائل (عن) (1) العجوز الخارجة من الدار: إن هذه
العجوز قد غلطت أو كذبت، وإنما ظنوا أن الرجل قد مات فاحضروا الجنازة والمغتسل، ثم
تبينوه حيا، أو قال هو ميؤوس منه، ولم يمت، لشك السائل في خبرها، ولو كان الأول يقينا
وعلما ضروريا لما جاز أن يتعقبه بضده، ولما جاز أن يوجد (2) أمره على خلاف ما اعتقده.
فإن قال: لم كانت الجماعة إذا أخبرت بشئ شاهدته وعلمته ضرورة إنما يقع العلم
لسامعه عند قول الواحد دون جماعتهم، فما أنكرت أن يكون ذلك الواحد منهم متى أخبر
أوجب العلم بقوله.
قيل له: إن الجماعة إذا أخبرت فليست تخلو من أن يقع للسامع بقولها علم الاضطرار
بصحة مخبرها، أو علم اكتساب، فإن أوجب خبرها علما مكتسبا فليس هذا العلم جاريا
بقول الواحد منهم دون الجماعة.
وقول القائل في هذا القسم: إن العلم حادث من قول الواحد خطأ، لأن السامع إنما
استدل بخبر الجماعة على صحة الخبر، فاستحال أن يكون العلم جاريا بقول الواحد، وأن
خبر الواحد أوجب علم الاضطرار، فإن كانوا يخبرون بذلك مجتمعين وكانوا ممن لا يجوز
عليهم التواطؤ، فالعلم حادث أيضا عند قول جماعتهم، دون الواحد منهم، إذا كانوا قد
علموا ما أخبروا به ضرورة، وإن كانوا أخبروا به متفرقين، فإن أحدث الله به العلم عند
قول أحدهم، فغير جائز أن يقال على هذا: جوزوا إحداث الله له العلم بقول الواحد، إذا
انفرد بخبره دون الجماعة التي تقدمته في الأخبار عنه، من قبل أن الله تعالى إنما أجرى العادة
بإحداث العلم عند خبر هذا الواحد إذا تقدمته جماعة تخبر بمثل خبره، ولم تجر العادة
باحداث العلم بقول الواحد.
ألا ترى أن مثل هذه الجماعة متى وجدت على هذا الوصف أوجب خبرها العلم
بصحة ما أخبرت به، وأن الواحد المنفرد لم تجر العادة بحدوث العلم بخبره.
وأيضا: فإن خبر الواحد (لو) (3) كان يوجب علم الضرورة عند مقارنة الأسباب،
لجاز أن تخبر الجماعة العظيمة بخبر، فلا يقع العلم بخبرهم، إذا لم يقارن خبرهم أسباب

56
تقتضي إيجاب العلم بصحته، ولو جاز ذلك لما أمنا أن يكون ببغداد من قد نشأ فيها، وأتى
عليه خمسون سنة، وهو لا يعلم أن في الدنيا مكة، والمدينة، والشام، ومصر، لأنه لم يقارن
ما سمعه من الأخبار عن هذه المواضيع أسباب توجب له العلم بصحة ذلك، وهذا فاسد قد
علم بطلانه ضرورة، فثبت بذلك أن الجماعة التي وصفنا حالها إنما يقع العم عند خبرها
بجريان العادة بأن مثلها لا يجوز وجود الإخبار منها على أمر شاهدته (1) وعرفته ضرورة، ثم
لا يقع لسماعه ضرورة العلم بخبرها.
وجريان (2) العادة أيضا بأن الواحد لا يوجب ضرورة العلم بخبره (3) بحال، فكان
أمر الخبرين جميعا محمولا على ما جرت العادة به، و عرف بامتحان أحوال الأخبار
والمخبرين.
وأما اعتبار الاثني عشر، والعشرين، والسبعين، فشئ لا دلالة عليه، ويجوز أن
يعارض قول كل واحد منهم بقول الآخر، ويجوز لغيرهم أيضا أن يعتبر عدد أقل من جميع
ذلك، أو أكثر فلا يمكن قائلي هذه الأقوال الانفصال منه، إذ ليس في اقتصاره بالبقاء به
على الاثني عشر، وأمر العشرين بالجهاد، واختيار السبعين (4) لحضورهم مع موسى
ما يوجب تعلقه بالأخبار، إذ ليس هناك خبر أمروا بنقله دون من أقل منهم عددا، وقد يلزم
الجهاد (5) الواحد والاثنين، وجاز كون (6) النقيب واحدا لجماعة كثيرة.

57
فصل
وأما من رد الأخبار المختلف فيها وأثبت المتفق عليها (1) فقوله ظاهر الفساد. ويقال
لهم: أليس خلاف من خالف في صحة وقوع العلم بالإخبار عن البلدان الثابتة لم يقدح
عندكم في صحتها، ووقوع العلم بمخبرها، مع وجود الخلاف من هذه الطائفة منها. فهلا
استدللتم بذلك على أن خلاف من خالف لا يقدح في صحة المقالة بعد قيام الدلالة على
صحتها.
وأيضا: فإن سائر الأشياء التي طريق معرفتها والعلم بها العقل لا الاعتبار فيها
بالإجماع، ولا الاختلاف، وإنما المعتبر فيها قيام الدلالة على صحة الصحيح، وفساد
الفاسد، ثم إذا قامت الدلالة على صحة شئ منها من جهة العقل لم يعتبر خلاف مخالف
فيها، ولم يقدح في صحته، فهلا اعتبرتم صحتها من جهة قيام الدلالة دون الإجماع
والاختلاف، وعلى أن هذه القضية توجب على اليهود على أن لا يثبت شئ من أعلام
موسى لوجود الخلاف فيها، إذ كانت الثنوية والمجوس وسائر الملحدين يجحدونها، فلما
صحت أعلام موسى عليه السلام لوجود النقل المتواتر الذي يمتنع معه التواطؤ، يجب أن
يصح ويثبت، وأن لا يقدح فيها خلاف من خالف.
فصل
وأما من قال لا نعرف صحة الخبر إلا بقول المعصوم، فإن قوله ظاهر الفساد، من
جهة: أن علم الروم وسائر ملك الكفرة في بلادها تكون أقاويلهم وسائر ملوكهم وأسلافهم
وبلدانهم النائية عنها - كعلمنا بكون أوائلنا وأسلافنا، فلو كان صحة وقوع العلم بالأخبار
موقوفة على قول المعصوم لوجب أن (لا) (2) يعلم الكفار في دار الحرب شيئا (من

58
أخبارهم)، (1) وهذا أيضا يوجب أن من لم يلق المعصوم منا (2) لا يعرف صحة وجود البلدان
النائية، وكون الأمم السالفة.
ويجب عليه أن يقول: إن من لم يلق المعصوم فلا حجة عليه في شئ من أمر الدين.
فإن قال: لما جاز على كل واحد من ليس بمعصوم الغلط والكذب، جاز ذلك على
جماعتهم في خبرهم.
فإن الجواب عن هذا، قد تقدم القول فيه، على من نفى صحة الأخبار رأسا،
فأغنى عن إعادته.

59
الباب الثامن والأربعون
في
القول في بيان موجب أخبار الآحاد
وما في معناه، وما يتعلق بها في الأحكام

61
باب
القول في بيان موجب أخبار الآحاد
وما في معناه، وما يتعلق بها في الأحكام
فنقول وبالله التوفيق: إن أخبار الآحاد على ضربين:
أحدهما: يوجب العلم لما تصحبه من الدلالة الموجبة لصحته.
والآخر: لا يوجب العلم (1) بصحة مخبره، وهو على ضربين:
أحدهما: يوجب العلم.
والآخر: لا يوجبه (2) ثم ما يوجب العلم به على وجوه.
منه: ما يقبل فيه خبر الواحد العدل إذا ورد على شرائط نذكرها فيما بعد إن شاء الله
تعالى.
ومنه: ما يشترط فيه مقدار من العدد، وهو: الشاهدان، ويعتبر فيها عدالة
الشاهد.
ومنها: ما يسقط فيه اعتبار العدد والعدالة جميعا، كأخبار المعاملات، يقبل فيها خبر
الفاسق، والكافر، والعبد، والصبي، في وجوه منها.
ومن أخبار المعاملات ما يشترط فيه أحد وصفي الشهادة: من عدالة، أو عدد،
ولا حاجة بنا إلى تبيين وجوهه، إذ ليست من أصول الفقه.
فنقول: إن أخبار الآحاد الموجبة للعلم لما يصحبها من الدلالة الموجبة لصحتها على
وجوه:
منها: إخبار النبي عليه السلام عن صحة نبوته، وعما أوحى الله تعالى إليه، قد

63
شهدت بصحته الشواهد الصادقة، والأعلام المعجزة، التي ليست في مقدور البشر،
فأوجبت لنا العلم بصحة إخباره عليه السلام، وهذا العلم هو علم اكتساب، واقع من نظر
واستدلال، وليس بعلم ضروري.
ألا ترى: أن من لم ينظر ولم يستدل لم يعلم صحة ذلك، ولو كان كذلك علم ضرورة
لاستوى السامعون بخبره، في وقوع العلم بمخبره، وقد علمنا أن الكفار الذين كانوا في
زمان النبي عليه السلام لم يعلموا ذلك، مع سماعهم بخبره، ومشاهدتهم لأعلامه
ومعجزاته. وكذلك من اتصل به خبر ذلك من طريق التواتر ممن كان شاهده، ولم يعلم
صحته من لم يستدل عليه.
ومن أخبار الآحاد الذي نعلم صحته بالاستدلال: من أخبر بشئ بحضرة النبي
عليه السلام، فصدقه النبي عليه السلام فيه، فيكون تصديقه إياه بمنزلة إخباره به، وقد
ثبت بالدلائل الواضحة: ما قال النبي عليه السلام، فهو حق وصدق.
وكذلك خبر مخبر ينزل القرآن بتصديقه، أو يجمع المسلمون على صدقه.
فبذا كله نعلم صحته بالاستدلال، وهي الدلائل الدالة على صدق النبي عليه
السلام، وعلى أن القرآن من عند الله. وأن إجماع الأمة حق.
ومن هذا القبيل أيضا: أن يخبر مخبر بشئ من الأشياء يحيله على قصة مشهورة،
وقد شهدها جماعة كثيرة، فيخبر بذلك بحضرة هذه الجماعة، فيبلغ ذلك الجماعة: فلا
تنكره (1) فيدل ذلك من فعل الجماعة على أنهم عالمون بصحة ما أخبر به، إذ غير جائز من
مثلهم على ما جرت به العادة، وامتحناه من أحوال الناس: ترك النكير على مثله، إذا لم
يعرفوا ذلك من خبره، وهو في هذا الباب يجري مجرى كتمان الأمور العظام، والأعاجيب
الحادثة في أنه غير جائز على مثل هذه الجماعة كتمانها، فكذلك ترك النكير (2) غير جائز من
مثلهم، فبما وصفنا سواء كان في ذلك نفع لهم أو لم يكن.
ألا ترى: أن رجلا لو قال في محفل عظيم، بحضرة قوم مختلفي الهمم والآراء: إن
النبي عليه السلام قد كان من معجزاته: أن سارت معه الجبال، وأنه كان يخلق من الطين
كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، كما جعله الله معجزة المسيح، وأنه دعا على
قوم فمسخهم الله قردة وخنازير، وأراد بذلك تأكيد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يمتنع في العادة على

64
هذه الجماعة التي سمعت ذلك منه، أن تخليه من تكذيبه، وظاهر النكير عليه، كما يمتنع
على مثلها خبر لا أصل له، على شئ يخبرون (1) به عن مشاهدة، لأن العلة من وقوع
الإخبار منهم بذلك موجودة في الكتمان، واختلاف هممهم ودواعيهم وأسبابهم، وأن الإخبار
بمثله إذا لم يكن له حقيقة لا يكون إلا عن مواطأة وعن سبب يجمعهم، والمواطأة، عن مثلهم
إذا كانت ظهرت ولم تنكتم.
كذلك كتمان الأمور العظام والأشياء العجيبة لا يجوز أن تنفق في مجرى العادة،
لأن الله قد جعل في طباعهم استثقال كتمان مثلها، وحبب إليهم الإخبار بها، وجعل لهم
دواعي من أنفسهم تدعوهم إلى إشاعتها ونشرها، سواء كان لهم في كتمانها ضرر، أو لم
يكن، وذلك معلوم من أحوال الناس.
ألا ترى: أن موت الخلفاء وقتلهم وخلفهم ونحو ذلك من أمورهم - لا يجوز على مثل
أهل بغداد وقوع الكتمان فيه، حتى يبقى الناس بعد موت خليفة والبيعة لآخر عشرين سنة
لا يخبر واحد منهم به، ولا ينقله إلى غيره، وأنه غير جائز في العادة: أن يدخل رجل بغداد
فيسأل عن دار الخليفة، أو عن مسجد جامع المدينة، فلا يرشده أحد إليه، حتى يبقى طول
دهره بها فلا يجد أحدا يدله على هذه المواضع، وبمثله علمنا بطلان قول الرافضة: إن
النبي عليه السلام نصب رجلا بعينه للإمامة بعده، ونص عليه.
لأن نصب النبي لإمام بعده، وتعيينه لرجل بعينه - أعظم في الصدور، وأثبت في
النفوس من خلع خليفة في زماننا، والبيعة لغيره، لما يتعلق به من الأمور العظام في الدين
والدنيا، ولأن عللهم وأسبابهم تمنع اتفاقهم على كتمانه، كما تمنع اتفاقهم على كتمان
الرسول في الدنيا، ولو جاز كتمان مثله لجاز لقائل أن يقول: لعله كان في زمان النبي عليه
السلام نبي آخر بعثه، فكتمت الأمة أمره، ولجاز أن يقول آخر: إن النبي كان غيره فكتمته
الأمة، وادعت النبوة لغيره، وفيما دون النص على الإمامة وتعيينها لرجل بعينه (2) لا يجوز
الكتمان. فكيف بمثله، لأن الشئ كلما كان أعظم في النفوس، وأجل في الصدور، كان
حرص الناس على نقله أشد، وكلفهم بالإخبار به أكثر، فعلم بذلك بطلان قول من
ادعى: أنه كان هناك نص من النبي عليه السلام على رجل بعينه (3) ولهذه العلة شرط

65
أصحابنا في قبول خبر الآحاد: أن لا يكون وروده فيما بالناس إليه حاجة عامة، لأن ما كان
بهم إليه حاجة عامة فلا بد أن يكون من النبي توقف للكافة عليه، ولو فعل لما جاز وقوع
الكتمان منهم في مثله، وترك نقله مع تدينهم بوجوب نقله، وما يرجون من الثواب والقربة إلى
الله تعالى بإذاعته ونشره.
فأما ما قلنا: من تصديق النبي عليه السلام لمخبر في خبره - فيوجب لنا ذلك علما
بصدقه: فنحو ما روي: أن سعد بن أبي وقاص (1) قال لرجل يوم الجمعة بعد ما انصرف:
لا جمعة لك. فقال الرجل: يا رسول الله، إن سعدا قال لي: لا جمعة لك. فقال النبي عليه
السلام: (لم يا سعد؟ قال: إنه تكلم وأنت تخطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سعد) (2) وروى
في غير هذه القصة: أن رجلا قال لأبي بن كعب والنبي عليه السلام يخطب وقرأ آية: متى
أنزلت هذه الآية؟ فلم يجبه أبي، فلما فرغ من صلاته، قال له أبي: ليس لك من صلاتك
اليوم إلا ما لغوت، فذكر الرجل ذلك للنبي عليه السلام، فقال: (صدق أبي) (3) فلو لم
يصدق النبي عليه السلام هذين المخبرين بما أخبرا به لكان ظاهر خبر هما يوجب العمل،
ولا يوجب العلم بصحة مخبره، فلما صدقهما وقع لسامعه علم اليقين بصدقهما فيما أخبرا به،
ونظائر ذلك كثيرة.
وأما نزول القرآن بتصديق مخبر في خبره، نحو ما روي: أن زيد بن أرقم ذكر للنبي

66
عليه السلام في غزاة بني المصطلق (أن عبد الله بن أبي بن سلول قد دفع بين قوم من الأنصار
وبعض المهاجرين كلاما، قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فجاء
عبد الله بن أبي (1) وحلف للنبي عليه السلام: أنه ما قاله، فأنزل الله تعالى: (يقولون لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) (2) فقال النبي عليه السلام لزيد بن أرقم بعد
نزول هذه الآية: (إن الله صدقك) (3) أو نحو هذا من القول.
وأما: إخبار من أخبر بخبر يحيله على قصة مشهورة بحضرة جماعات كثيرة فيبلغ
ذلك الجماعة فلا تنكره، أو يذكر لحضرتها فلا تنكره، (4) فيوجب ذلك العلم بصدق المخبر:
فنحو ما روي عن الصحابة في كثير من معجزات النبي عليه السلام، وسيره، وسننه
وأحكامه، مما لا يشك في أن الرواية به كانت شائعة مستفيضة، يحيلونها على مغازي
رسول الله صلى الله عليه سلم، بحضرة الجماعات العظيمة، فلم ينكره ولم يرده، فيكون ذلك بمنزلة رواية
الجماعة، لذلك الإخبار به، إذ غير جائز في العادة على الجماعة تسليم مثله، وترك النكير على
قائله، إذا لم يكونوا عالمين بحقيقته، على نحو ما بينا فيما تقدم.
وكما لا يجوز منها: الإخبار بالكذب، كذلك لا يجوز منها: الإقرار عليه، مع العلم
بأنه كذب، لأن العادة التي منعت وقوع الإخبار منها بشئ لا أصل له - هي المانعة من
إقرارها من يدعي مشاهدة (5) أمر لا يفقهونه على دعواه وخبره، والعلم الواقع في هذا الوجه
اكتساب ليس بضرورة، لأنه مبني على ما ذكرنا من الاستدلال بما وصفنا.
وأما: ما ذكرنا من خبر الواحد إذا ساعده الإجماع كان ذلك دليلا على صحته،
وموجبا للعلم بمخبره - فإنه نحو ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: (لا وصية لوارث)
إنما روي من طريق الآحاد، واتفق الفقهاء على العمل به، فدل على صحة مخرجه

67
واستقامته. ونحوه حديث ابن مسعود في المتبايعين إذا اختلفا، (إن القول قول البائع، أو
يترادان) (1) ونحوه: حديث عبد الرحمن بن عوف في (أخذ الجزية من المجوس) وحديث
المغيرة بن شعبة (2) ومحمد بن مسلمة (3) (في إعطاء الجدة (4) السدس)).
قد اتفق السلف والخلف على استعمال هذه الأخبار حين سمعوها، فدل ذلك من
أمرها على صحة مخرجها وسلامتها، وإن كان قد خالف فيها قوم، فإنهم عندنا شذوذ،
لا يعتد بهم في الإجماع.
وإنما قلنا: إن ما كان هذا سبيله من الأخبار - فإنه يوجب العلم بصحة مخبره من قبل
أنا إذا وجدنا السلف قد اتفقوا على قبول خبر من هذا وصفه من غير تثبت فيه ولا معارضة
بالأصول، أو بخبر مثله، مع علمنا بمذاهبهم في التثبت في قبول الأخبار، والنظر فيها،
وعرضها على الأصول - دلنا ذلك من أمرهم: على أنهم لم يصبروا إلى حكمه إلا من حيث
ثبتت عندهم صحته واستقامته، فأوجب ذلك لنا العلم بصحته.
فإن قال قائل: ما أنكرت أن يكون مساعدة الاتفاق لحكم الخبر الذي وصفتم دليلا

68
على صحته، وأنه مع ذلك جائز أن يكون الراوي له غالطا، ويكون حكمه مع ذلك ثابتا
من طريق الإجماع لا (1) من طريق الخبر.
قيل له: لا يجب ذلك، من قبل أنه معلوم في عامة الأخبار التي وصفها ما ذكرنا، أن
فقهاء السلف ومن بعدهم: إنما صاروا إلى حكمها حين سمعوا وبلغهم أمرها، وأنهم كانوا
يحتجون بها، ويجيزون عن أنفسهم إنهم سلموا لها واتبعوها، فقول القائل: إنهم أجمعوا من
غير جهة الخبر الذي وصفنا أمره، مع ما اتصل بنا من تسليمهم، فحكمه خطأ خطأ،
لا معنى له.
قال أبو بكر رحمه الله: فهذه جملة كافية إن شاء الله في بيان أخبار الآحاد الموجبة للعلم
بما يصحبها من الدلائل، وقد قلنا قبل ذلك: إن أخبار الآحاد على ضربين:
أحدهما: يتعلق به الأحكام.
والآخر: لا يتعلق به الأحكام. وأن ما يتعلق به الحكم منها على ضربين:
أحدهما: يوجب العلم والعمل.
والآخر: يوجب العمل دون العلم.
وقد بينا ما يوجب العلم منها.
فأما الذي يوجب العمل دون العلم فعلى ثلاثة أقسام:
فقسم منها: الشهادات.
والقسم الآخر: أخبار الديانات الواردة في الأمور الخاصة، على الأوصاف التي
نذكرها.
والقسم الثالث: أخبار المعاملات.
فأما الشهادات فعلى ثلاثة منازل.
أحدها: الشهادات على ما تسقطه الشبهة، وهو: الحدود، والقصاص. فلا يقبل
منها: إلا أربعة رجال في الزنا، ورجلان في سائر الحدود والقصاص، ولا مدخل لشهادة
النساء في ذلك.
والثاني: الشهادة على ما لا تسقطه الشبهة من حقوق الناس، وعلى هلال شوال،
وذي الحجة - إذا كان بالسماء علة، ولا يقبل في شئ منها إلا رجل وامرأتان.

69
والثالث: الشهادة على الولادة، وعلى ما لا يطلع عليه الرجال من أمور النساء -
فيقبل فيها شهادة (1) امرأة واحدة، وهذه الشهادات وإن اختلفت مراتبها، فإنها متفقة في
معنيين.
أحدهما: الأداء بلفظ الشهادة. ولا يقبل: أعلم، وأخبر.
والثاني: ما يقتضيه من صفة الشاهد. وهي: أن (يكون) (2) بالغا، عاقلا، حرا،
مسلما، عدلا، غير محدود في قذف، صحيح النظر، طائقا لما يتحمله، نافيا لما يؤذيه، لا تجر
شهادته إلى نفسه مغنما، ولا يدفع عنها مغرما.
وأما أخبار المعاملات (3) فهي: نحو خبر الرسول في الهدية (4) والوكيل في الشراء،
والبيع فيما علم قبل ذلك ملكه لغيره، ونحو: قول الآذن لمن استأذن على غيره، فهذه
الأخبار وما أشبهها مقبولة من المسلم والكافر، والعبد والصبي، والعدل والفاسق، ما لم
يغلب في ظن السامع كذب المخبر، وهي عند أبي حنيفة على قسمين:
منها: ما يقبل فيه قول الواحد على أي صفة كان.

70
ومنها: ما لا يقبل قول المخبر، حتى يكون على أحد وصفي الشهادة في خبره.
فأما الأول: فنحو خبر الوكيل، وسائر ما ذكرنا من خبر الرسول في الهدية، وخبر
الأذان ونحوه.
وأما الثاني: فنحو خبر العزل عن الوكالة إذا لم يكن المخبر رسولا، فلا يثبت القول
عنده حتى يكون المخبر رجلين، أو رجلا وامرأتين، وإن كانوا غير عدول. أو أن يكون رجلا
عدلا، فشرط فيه: أحد وصفي الشهادة، وهو العدد، أو العدالة.
وكذلك قال في المولى إذا أخبر بجناية عبده فأعتقه، فإنه لا يكون مختارا، ولا تلزمه
الدية، حتى يكون المخبر به رجلين، أو رجلا وامرأتين لم يكونوا عدولا، أو رجلا عدلا.
والأصل في الشهادات: ما ورد به نص الكتاب على الترتيب المذكور فيها من
الأعداد، وما ذكرنا من أوصافها، بعضها مأخوذ من السنة، وبعضها إجماع، وبعضها من
جهة دلائل الأصول، ولا حاجة بنا إلى الكلام فيها، إذ ليس لها تعلق بأصول الفقه.
وأما أخبار المعاملات: فالأصل في قبولها قول الله تعالى: (لا تدخلوا بيوتا غير
بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) (1) إلى قوله تعالى: (فإن قيل لكم ارجعوا
فارجعوا) (2). فحظر الدخول بدء، إلا بعد الإذن، ثم أباحه بإذن من كان من الناس،
فدل ذلك على سقوط اعتبار العدد ووصف المخبر فيه.
ومن جهة السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لما سألته عن بريرة: (3) (إنها يتصدق
عليها فتهديه) فقال: (هي لها صدقة ولنا هدية) (4) فقبل قولها: في أنها يتصدق عليها، وقد
كان ما يتصدق عليها قبل ذلك ملكا لغيرها، فصدقها على انتقاله إليها بالصدقة.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: (رسول الرجل إلى الرجل إذنه). (5)

71
الباب التاسع والأربعون
في
الكلام على قبول أخبار الآحاد
في أمور الديانات
وفيه فصل في إبطال قول من قبل
خبر الاثنين ورد خبر الواحد

73
باب
الكلام في قبول أخبار الآحاد في أمور الديانات
قال أبو بكر رحمه الله: نتكلم بعون الله في تثبيت وجوب العلم بالأخبار التي لا توجب
العلم في الأمور الخاصة، واحدا كان المخبر، أو أكثر، ثم نتبعه بالكلام على من أبى إلا
قبول خبر الاثنين، ثم نتكلم بعد ذلك في فروع أخبار الآحاد وشروطها، بما يسهل الله
تعالى من القول فيها.
قال أبو بكر تغمده الله برحمته ورضوانه: قد احتج عيسى بن أبان رحمه الله لذلك
بحجج كافية مغنية، (1) وأنا ذاكر جملة، ونتبعها بما يصح أن يكون دليلا فيه إن شاء الله
تعالى.
فما احتج به في ذلك في كتاب الله عز وجل قول الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق
الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) (2) وقوله تعالى: (الذين يكتمون ما أنزلنا
من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب). (3)
فنقول: إن دلالة هاتين الآيتين ظاهرة في لزوم قبول الخبر المقصر عن المنزلة الموجبة
للعلم، وذلك لأنه أمرهم بالبيان، ونهاهم عن الكتمان، فثبت وقوع البيان منهم للناس إذا
أخبروا، فدل وجوب العلم به، لوقوع بيان أحكام الله بخبرهم.
فإن قيل: ما أنكرت أن يكونوا أمروا بالبيان ليتواتر الخبر وينتشر فيوجب العلم.
قيل له: لما ذمهم على الكتمان وأمرهم بالبيان، دل. على أن الأمر قد تناول من
لا يتواتر به الخبر، واقتضى ذلك وقوع البيان بخبرهم، لأن من جاز عليهم الكتمان في
خبرهم جاز وقوع التواطؤ (فلا يوجب خبرهم العلم) (4).

75
فإن قيل: لا دلالة منه على وجوب العمل، وإنما أكثر ما فيه الأمر بالإخبار. فما
الدلالة منه على العمل به، قيل له: لما كان قوله تعالى: (لتبيننه لناس ولا تكتمونه)
إخبارا منه. بوقوع بيان حكمه إذا أخبروا - دل على لزوم العمل، ووجوب التزام حكمه،
لولا ذلك لم يكن ما أمروا بالإخبار بيانا لهم فيما تعبدوا به من أحكام الله تعالى، وأقل أحوال
ما يوصف بوقوع البيان به، لزوم العمل به، إذا لم يوجب العلم.
ومن الدليل على ذلك أيضا: قوله تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة
ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (1) والفرقة اسم لجماعة،
وأقل الجماعة ثلاثة، ثم جعل الطائفتين الفرقة، وهي بعضها، فدل على لزوم العمل بخبر
من دون الثلاثة.
وأيضا: فإن الطائفة قد يجوز أن تتناول الواحد، يدل عليه قوله تعالى: (وإن
طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما). (2) وقد يتناول اثنين منهم.
ألا ترى إلى قوله تعالى (فأصلحوا بين أخويكم). (3)
وكذلك قوله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) (4) قد قيل: إن أقلها
واحد، فكيف ما تصرفت الحال فالطائفة اسم قد يتناول من لا يتواتر به الخبر، و قد تضمنت
الآية إيجاب قبول خبرها.
فإن قال قائل: إنما أمر الطوائف بالإنذار ليتواتر به الخبر، فيقع العلم بخبرهم،
ولا دلالة فيه على لزوم العمل بقول طائفة منهم إذا أخبرت.
قيل له: لا يخلو قوله تعالى: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) (5) أن يكون المراد
به رجوع الطوائف ودورانها على كل قوم على حيالهم، أو رجوع كل طائفة إلى قومها دون
قوم طائفة أخرى غيرها.
فلما امتنع أن يقال للقوم الذين لم تنفر الطائفة منهم: إنها رجعت إليهم، لأنه لا يقال
لمن لم يكن في قوم: إنه رجع إليهم، وإنما يقال ذلك لمن خرج منهم ثم عاد إليهم. صح أن

76
المراد رجوع كل طائفة أفردت من قوم رجوعها إليهم دون غيرهم، ثم لما أوجب الإنذار
على كل طائفة لقومها وأوجب عليهم الحذر بخبرها. دل ذلك على لزومها قبول خبرها
وإنذارها.
وأيضا: فلو كان المراد اجتماع الطوائف للتفقه في الدين، ثم دوران جميعها في القبائل
على فرقة، لكان دلالة الآية قائمة على صحة ما ذكرنا، من قبل أنهم إذا جاءوا مجتمعين جاز
عليهم التواطؤ، وإذا جاز ذلك عليهم امتنع وقوع العلم بخبرهم.
وأيضا: فلو كان ذلك مشروطا في الآية لظهر العمل بها في عصر النبي عليه السلام،
لأن النبي عليه السلام كان لا محالة يأمرهم بذلك، لتقوم الحجة على الخلق بهم، فلما لم
يأمرهم النبي عليه السلام بالاجتماع للتفقه، ثم الدوران على القبائل للإنذار والإبلاغ
عنه، بل كان يقتصر لكل قوم ما تنقله إليهم الطائفة النافرة منهم، والوافد الوارد من
قبلهم. دل ذلك: على أن الحجة كانت تقوم عليهم في إبلاغهم أحكام الشريعة، بما تنقله
إليهم تلك الطائفة.
فإن قيل: ما أنكرت أن تكون كل واحدة من الطوائف إنما أمرت بإنذار قومها
وإبلاغها ما سمعته من النبي عليه السلام، لينتشر الخبر عنها، ويستفيض، فلا يكون في أمر
كل طائفة بالإنذار دلالة على لزوم قبول خبرها، كما أمر كل واحد من الشاهدين بإقامة
الشهادة على حياله، ولا دلالة فيه على جواز شهادة كل واحد منهم وحده.
قيل له: ظاهر الأمر بالإنذار يقتضي تعلق الحكم به وحده، حتى تقوم الدلالة على
وقوفه على معنى آخر غيره.
ألا ترى: أن أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بالإنذار قد اقتضى لزوم قبول خبره،
دون معنى آخر ينضاف إليه.
ألا ترى: أن قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) (1) وقوله تعالى:
(وأشهدوا ذوي عدل منكم) (2) وقوله تعالى: (ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا) (3) وقوله
تعالى: (وأقيموا الشهادة لله). (4)

77
وقوله تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) (1) فكان الاقتصار
على الأمر بالشهادة وبإقامة الشهادة موجبين - لقبولها ولزوم الحكم بها، وإن لم ينص على
وجوب الحكم بها، إذ كان معقولا من ظاهر اللفظ أن (أمرنا بإقامتها) (2) وأدائها - موجب
لقبولها، فكذلك أمره تعالى كل طائفة على حيالها بإنذار قومها قد اقتضى لزوم حكم
الإنذار بقولها.
وأيضا: فإن كل أحد ممن سمع من النبي عليه السلام حكما فهو مأمور بإبلاغه بظاهر
الآية، سواء كان منفردا بسماعه، أو مشاركا لغيره فيه، فدل ذلك على: أن الحكم قد تعلق
لزومه بخبره، وأما الشاهد فإنه إن لم يكن هناك شاهد غيره، فليس عليه إقامة الشهادة،
فدل ذلك: على أن من حكم الخبر تعلق قوله بإخبار المخبر به وحده، وأن من حكم
الشهادة تعلق صحتها به وبغيره.
وأيضا: لما قال تعالى: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)) (3) ومعناه
لكي يحذروا، فأوجب عليهم الحذر من مخالفتهم ما سمعوه، كما قال (فليحذر الذين يخالفون
عن أمره) (4) دل ذلك على لزوم العمل به.
فإن قيل: ليس في إيجابه الحذر بإنذار طائفة دلالة على لزوم قبول خبرها، لأن الحذر
ليس من الحكم الذي تضمنه (5) خبر الطائفة في شئ، وقد يجب على الإنسان الحذر في
سائر أحواله، من تقصير يقع منه في حقوق الله تعالى.
قيل له: إنما المعنى في ذلك - والله أعلم - لكي يحذروا من مخالفة ما أنذرت الطائفة به
كقوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). (6)
فإنما أمرهم بالحذر من العقوبة في مخالفتهم ما أخبرت به الطائفة، ولو كان المراد ما ذكره
السائل - لما كان الإنذار قد ألزمه شيئا، إذ كان الحذر من الوجه الذي ذكره واجبا قبل إنذار
الطائفة وبعده.

78
فإن قيل: المعنى لكي يحذروا، فلا يأمنوا أن يكون الإنذار صحيحا، فألزمه بذلك
البحث عنه، حتى يعلمه من طريق التواتر إن كان صحيحا، فيصير حينئذ إلى موجب
حكمه.
قيل له: إن لم يكن إنذار الطائفة قد ألزمه حكما فوجوده وعدمه سواء، إذ لا فرق بينه
قبل إنذارها وبعده، ويكون حينئذ بمنزلة: احذروا طلب الآثار والسنن، لتعرف المتواتر فيها
من غيره، من غير أن يكون روى له من النبي عليه السلام شئ.
وهذا يوجب إسقاط فائدة الإنذار، وإيجاب الحذر به، وما أدى إلى إسقاط فائدة الإنذار
فهو ساقط، وفائدة الآية ثابتة.
ومن الناس من يحتج لقبول خبر الواحد بقوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا
السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء
ما يحكمون). (1)
وقوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) (2) وقوله تعالى:
(أفنجعل المسلمين كالمجرمين) (3) ونحوه من الآي الموجبة للتفرقة بين حكم العدل
والفاسق.
فمنهم: من يحتج بمجردها في لزوم خبر العدل لأمر الله إيانا بالتفرقة بينهما، وقد ثبت
خبر الفاسق غير مقبول، فوجب قبول خبر العدل، لتحصل التفرقة.
ومنهم: من يضم إليها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا) (4) فتوكد قبول خبر العدل بمجموع الآيتين، وأوجب التثبت في، خبر الفاسق في
الآية الأخرى، دل بذلك على لزوم قبول خبر العدل، وترك التثبت فيه، وهذا الضرب من
الحجاج غير معتمد عندنا، لأن الآيات التي فيها إيجاب التفرقة بين العدل والفاسق لا يصح
الاحتجاج خاصة موجودة بعد ورود هذه الآيات وقبلها في وجوه كثيرة.
فالمعقول من معنى هذه الآيات: إيجاب التفرقة من وجه دون وجه، ثم ليس يخلو من
أن تكون الوجوه التي أوجب بها التفرقة معلومة عند المخاطبين، فيكون الحكم مقصورا

79
عليها دون غيرها، ويكون في معنى المجمل. كأنه قال: أو خبر التفرقة بينهما في بعض
الوجوه، فكل بعض أشرنا إليه قبل ورود البيان فيه فجائز أن يكون مما لم يفرق به بينهما،
فالاحتجاج بمثله فيما وصفنا ساقط لا معنى له.
ومنهم من يحتج بقوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (1) فلما أمر بالتثبت في خبر
الفاسق دل على أنه لا يجب التثبت في خبر العدل، فوجب قبوله من جهة أن المخصوص
بالذكر يدل عندهم على أن ما عداه فحكمه بخلافه، وهذا الضرب من الحجاج لا يجوز
الاشتغال به، وقد بينا فساده.
واحتج بعضهم لقبول خبر الواحد بقوله تعالى: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم
لما يحييكم) (2) قال: فقد اقتضت الآية إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعاه وهو واحد. فقال
أبو بكر وهذا ليس بشئ من وجوه:
أحدها: أن الذي يقتضيه ظاهر مشافهة النبي عليه السلام إياه ليس هو دعاء النبي عليه
السلام في الحقيقة، كما أن قوله ليس هو قول النبي عليه السلام، فلا يدخل في الآية من عدا
النبي عليه السلام إلا بدلالة.
فإن قيل: لما جاز في المتعارف أن يقال: دعاني فلان، وإنما أرسل إليه برسول تناول
لفظ الآية، دعا النبي عليه السلام إياهم شفاها، وبإرساله من أرسل، إليهم.
قيل له: قد علمنا أن دعاء النبي عليه السلام إياهم شفاها مراد بالآية، وهو حقيقة
اللفظ، وما ذكرته فإنما هو مجاز، فلا يجوز دخوله في اللفظ من وجهين.
أحدهما: أن المجاز لا يستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه.
والثاني: أن اللفظ متى حصل على الحقيقة انتقى دخول المجاز فيه.
وأيضا: فإن لخصمه أن يقول: ثبت أن الواحد إذا جاء فذكر أنه (مدعو من) (3)
رسول الله، أنه قد حصل هناك دعاء من النبي عليه السلام، إذ ليس يثبت عندي أنه دعاء
من الرسول، دون أن ينقله من يوجب خبره العلم، فيسقط الاحتجاج به، بدلالة تحتاج أن
تثبت أنه قد حصل هناك دعاء من النبي عليه السلام.

80
وذكر بعضهم: أنه احتج لخبر الواحد بقوله تعالى: (ويقولون هو أذن قل أذن خير
لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) (1) قال والآذن هو الذي يقبل ما يقال له، فمدحه الله
على ذلك، فدل على قبول خبر الواحد في أمر الدين.
قال: والدليل على أنه أراد قوله في أمر الدين وما يتعلق به، أنه قال: (يؤمن بالله
ويؤمن للمؤمنين).
قال أبو بكر: وليس فيما حكينا عنهم شئ أوهى من هذا، وذلك لأنه لا يخلو من أن
يكون المراد به كان من قبل أخبار الديانات من غيره، أو أخبار المعاملات، أو الشهادات، في
إثبات الحقوق. ومعلوم أن النبي عليه السلام لم يكن يأخذ شيئا من أحكام الدين عن أحد:
من الناس، بل كان على الناس كلهم اتباعه، والأخذ عنه، فبطل هذا القسم.
وليس يجوز أيضا: أن يكون المراد قبول الشهادات في إثبات الحقوق، لأن الشهادات
موقوفة على أعداد معلومة، لا يجوز الاقتصار بها على ما دونه من الأعداد المنصوص عليها.
وعلى أنه ليس الخلاف بيننا وبينهم في الشهادات فلا معنى لذكرها هاهنا، فثبت أن
المراد أخبار المعاملات ونحوها، والكلام بيننا وبينهم في قبول أخبار الآحاد في إثبات أحكام
الشريعة، فأما قبول أخبار المعاملات فلا خلاف فيه، فإذا لا دلالة في هذه الآية على لزوم
قبول خبر الواحد في إثبات أحكام الشريعة.
قال أبو بكر: وأما ما يدل على لزوم خبر الواحد من جهة السنة، فما روى عن النبي
عليه السلام من الأخبار الموجبة لقبول خبر الواحد في الأحكام من وجوه مختلفة.
فمنها: قوله عليه السلام (نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من
بسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه إلى من هو أفقه منه).
وقوله عليه السلام في حجة الإسلام: (ليبلغ الشاهد الغائب) (2) فلعل بعض من
تبلغه أوعى له من بعض من سمعه.
وما روى عنه عليه السلام أنه (أمر أن ينادى في أيام التشريق: أنها أيام أكل وشرب

81
وبعال) (1) وأنه (أمر بالغداء يوم خيبر، نهى عن لحوم الأهلية) وأمر بالنداء في بعض أسفاره
(أن صلوا في رحالكم).
وأنه (قبل شهادة أعرابي على رؤية الهلال في شهر رمضان) (2) وأخبار كثيرة كنحوها
توجب قبول خبر الواحد في أمر الدين، وهذه الأخبار وإن كان ورودها في طريق الآحاد فأنها
من الأخبار الشائعة المستفيضة في الأمة، وقد تلقتها واستعملتها في نقل العلم وأدائه إلى من
لم يسمعه، وفي قبول نداء المنادي وما يجري مجرى ذلك.
وقد احتج عيسى بن أبان رحمه الله بذلك، وروى بعضها مرسلا، ومن الجهال من
يتعجب من احتجاجه بذلك ويقول: كيف يحتج على مبطلي خبر الواحد بخبر مرسل.
وقد اختلف قائلو خبر الواحد في قبوله، فكيف يحتج به على من لا يقبل أخبار الآحاد
رأسا.
وإنما وجه احتجاجه به: أن أحدا لم يرفعها، بل جميع الأمة قد استعملتها، وتلقتها
بالقبول في لزوم نقل العلم، ودلالتها واضحة على ما ذكرنا، لأنه قال: (فرب حامل فقه
إلى من هو أفقه منه) فأخبر: أن الذي يحمله الواحد ويؤديه إلى غيره فقه، وليس يكون
فقيها إلا وقد لزم المنقول إليه العمل به.
وكذلك النداء، لو لم يلزم العمل بقول المنادي - وهو واحد - لما كان للأمر به معنى.
وضرب آخر من ذلك: وهو رسل النبي عليه السلام إلى ملوك الآفاق، أرسل عليه
السلام إلى كل ملك منهم رسولا وكتابا، وكان في كتبه إليهم، الدعاء إلى التوحيد،
والتصديق بالرسالة، وجمل من الأحكام، ولو لم يكن قد لزمهم قبولها، والعمل بما تضمنته
من الحكم لما كان لإرسالهم وكتب الكتب معهم معنى.
فإن قال قائل: التصديق والتوحيد بالرسالة لا يتعلق حكمها بالخبر.
قيل له: أما التوحيد فإنما يلزم اعتقاده بالدلائل الموجبة له قبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

82
وأما الرسالة: فقد كان الخبر تواتر عنهم بدعاء النبي عليه السلام الناس إلى تصديقه،
وظهور المعجزات الموجبة لصحة نبوته على يده، وقد كان عليهم النظر في أمره وما يدعو
إليه، وفي معجزاته ودلائل نبوته قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم الرسل، للأحكام التي تتضمنها كتبه
ورسائله إليهم. وبعد تقدمه الدعاء إلى التوحيد والتصديق بالرسالة.
ألا ترى أنه قد بين لهم: أنهم إن أجابوا فلهم كذا، وإن لم يجيبوا فعليهم كذا، فقد
تضمن ذلك أمرا لهم بحمل الشرائع.
وضرب آخر: وهو توجيه النبي عليه السلام عماله إلى الآفاق، كتوجيهه لمعاذ
وأبي موسى الأشعري إلى اليمن، واستعمال العلاء بن الحضرمي (1) على البحرين،
وغيرهم من عمال الصدقات، وقد كان يتقدم إليهم بجمل الفروض والأحكام، ويأمرهم
بتعليمها للناس، وحملهم عليها، وإلزام المبعوث إليهم قبولها، فدل على لزوم العمل بخبر
الواحد.
فإن قيل: إن الخبر كان يتواتر عندهم باستعمال العامل عليهم، كما يتواتر الخبر الآن
بتولية الخليفة أميرا من الأمراء بعض البلدان.
قيل له: أجل قد كان يتواتر الخبر عندهم بالولاية، إلا أنه لم يكن يتواتر عندهم الخبر
بالأحكام التي يقدم بها إليهم، فأمرهم بأدائها إلى المولى عليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان كلما
بعث عاملا بين لسائر الناس كل حكم أمره بإنفاذه، وكل شريعة أمره بأدائها إليهم، لنقل
الناس ذلك إلينا نقلا متواترا، فما كان المنقول إلينا من طريق التواتر: توجيه العمال دون
الأحكام التي تقدم إليهم بها، وقد علمنا مع ذلك: أنه كان يتقدم إليهم بأشياء من أحكام
الشرع، ويأمرهم بأدائها إلى المبعوثين إليهم، ثبت أن الخبر لم يكن يتواتر عندهم بتلك
الأحكام، فدل على أن نقلها إليهم كان من طريق الآحاد.
فإن قال قائل: إنما ألزم المولى عليهم، قبول خبر المولى في الأحكام، لأن النبي عليه

83
السلام قد كان علم أنهم لا يؤدون عنه إلا ما كان حقا، وقد كان يعلم المولى عليهم ذلك
من أحوال الولاة، يتوارثها أعقابهم، كسائر الفضائل التي خص بها بعض الصحابة، نحو
(ما خص جعفر (1) بأن له جناحين في الجنة)، (2) وأن الملائكة غسلت حنظلة)، (3) ونحوها
من الأمور. فلما لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ولاته معصومون لا يقولون إلا الحق، علمنا
بطلان هذا القائل.
وضرب آخر: وهو ما لا يشك فيه من وجود الروايات المنقولة عن النبي عليه السلام من
طريق الآحاد في الأحكام مختلفة، قد علمنا ضرورة: وقوع الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها،
وإن لم يقطع على كل واحد منها بعينه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم به، كما علمنا ضرورة اختلاف
الصحابة رضي الله عنهم في كثير من أحكام الحوادث، وإن لم يقطع على كل قول منها: أنه
قول قائل منهم بعينه، وكما نعلم ضرورة إذا أخبرنا الناس يوم الجمعة وهم منصرفون في
طريق الجامع قد صلوا صلاة الجمعة، أن هذه الجماعة قد اشتمل خبرها على صدق، وإن

84
لم يقطع بصحة خبر كل واحد منهم بعينه، إذا قررناه في أنه صلى الجمعة معهم، وإذا كنا
قد علمنا باضطراد: أن روايات الأفراد في كثير من الأحكام قد اشتملت على صدق فيما
أخبرت به وروته، ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يكون منه الحكم في بعض أمور الدين، يخبر به
الخاص من الناس الذي لا يوجب نقله العلم بصحة مخبره، ولا يشيعه في سائر الناس،
على ما كان يحدث من الحوادث، ويبلى بها خواص من الناس، فيكون معرفة أحكامها
موقوفة على من بلى بها، دون كافة الناس. وإن كان ذلك كذلك. فلولا أن خبر ذلك
الواحد يوجب العمل بموجب حكمه، لما أخبر (1) النبي عليه السلام ذلك الحكم من
إشاعته وإظهاره للناس حتى يتواتر الحكم، (2) وغير جائز أن يكلهم إلى اجتهاد رأيهم، مع
وجود النص منه في حكم بعينه، فدل على أنه إنما وكلهم إلى العمل بالخبر (3) الذي أودعه
الواحد والاثنين، ومن لا يوجب خبره العلم.
ومن جهة الإجماع: أنه لا خلاف في الصدر الأول ومن بعدهم، ومن تابعهم،
وأتباعهم، في قبول الأخبار في كثير من أمور الديانات.
والذي نبينه ما روي في الأخبار المتواترة من الصدر الأول، وأخبار الآحاد في ذلك،
والعمل بها من غير نكير من أحد منهم على قائلها، ولا رد لها.
وقد أورد (4) عيسى بن أبان من ذلك جملا.
منها: ما روى عن علي عليه السلام قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا
نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته، فإن حلف صدقته، وحدثني
أبو بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من رجل يذنب ثم يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يصلي
ويستغفر الله، إلا غفر له الله). (5)

85
(وقبل أبو بكر شهادة المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة، عن النبي عليه السلام في
إعطاء الجدة السدس) وعمل به الناس إلى يومنا هذا.
(وقبل عمر رضي الله عنه، خبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم
في أخذ الجزية من المجوس)، (وقبل أيضا خبر الضحاك بن سفيان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في
توريث المرأة من دية زوجها).
(وقبل خبر حمل بن مالك (1)، والمغيرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في دية الجنين).
وقبلت الأنصار تحريم الخمر بخبر الواحد.
وقبل أهل مسجد القبلتين حين نسخ القبلة، فاستداروا إلى الكعبة.
وقال عبد الله بن عمر: (كنا لا نرى بالمخابرة بأسا، حتى أخبرنا رافع بن خديج (2)
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى، فتركناها) (3)
وكانت الصحابة تسأل نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور، كان الغالب فيها أنهن مخصوصات
بعلمها.
وفي نظائر ذلك مما قبلوا من أخبار الآحاد مستفيض ذلك عنهم، وعليه جرى أيضا أمر
التابعين ومن بعدهم، إلى أن نشأت فرقة فاجرة، قليلة الفقه، جاهلة بأصول الشريعة،
فخالفت دلائل القرآن، وسنن النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف والخلف (4) في ذلك، إلى

86
آرائهم، (1) وعارضوها بنظر لو انفرد عن معارضة (2) ما قدمنا من الدلائل لما أمكنهم به
تصحيح (3) مقالتهم.
ومما يدل على إجماع السلف على قبول الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفرد (4) كل واحد
منهم برواية شئ بعينه، خاصة دون غيره، ودعاء الناس إلى العمل به، ولو (5) كان ذلك
مستنكرا لأنكروه على رواتها، ومنعوهم منها، إذ كانوا كما وصفهم الله تعالى في كتابه
(الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله). (6)
فإن قال قائل: هذا الذي رويته عن الصحابة في تثبيت إجماعهم على قبول أخبار
الآحاد: هو من أخبار الآحاد، فكيف جعلته أصلا في الاحتجاج به على خصمك!! وهو
نفس المسألة التي ننازعك فيها.
قيل له: الجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أن نقل ذلك وظهوره في الأمة وتلقيهم إياه بالقبول أشهر من أن يخفى عن
أحد من أهل العلم على قبول خبر الواحد.
والثاني: أنا قد علمنا يقينا كون ذلك ووجوده منهم، وإن لم يمكننا القطع على
صحة كل خبر منها بعينه، كما قلنا آنفا في أخبار الآحاد المروية عن النبي عليه السلام،
(إلا) (6) أنه معلوم باضطرار: أنها قد اشتملت على صدق في بعض مخبراتها، وإن لم نعرفه
بعينه. ولعلمنا باختلاف الصحابة في حوادث المسائل، وإن لم نقطع في كل مسألة على قول
كل واحد منهم بعينه فيها.
وقد استدل عيسى بن أبان على ذلك أيضا: بأنه معلوم أن النساء في عهد النبي

87
عليه السلام، كانت إذا حدثت لهن حوادث فيما خصهن من أمور النساء: أن الذي كان
يسأل (1) النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أزواجهن، ومن يقرب منهن، وأنهن كن يقتصرن فيها على
أخبار من خبرهن من هؤلاء، ولم يكن النبي عليه السلام يكلفهن الحضور لذلك، فدل
على لزوم العمل بأخبار الآحاد.
ويدل على ما ذكرناه من جهة النظر: اتفاق أهل العلم على لزوم العمل للمستفتي
بما يخبر به المفتى، من حكم الحادثة، وعلى أن على المحكوم عليه التزام حكم الحاكم إذا
حكم عليه بحكم، (2) وذكر أنه مذهبه، وقد ضمن ذلك من الأخبار عن اعتقاده، ومذهبه
الحكم الذي أمضاه عليه، ومعلوم أنه لو كان اعتقاده بخلاف ما أظهر لما جاز حكمه، وقد
قبل الجميع خبره عن اعتقاده، وذلك شئ من أمور الدين، فصار أصلا في قبول خبر
الواحد فيما كان من أمر الدين، على الشرائط التي يجب قبوله عليها.
وإذا كان المستفتي يلزمه قبول قول المفتي، ويلزم المحكوم عليه حكم الحاكم إذا
أخبرا (3) عن رأيهما واعتقادهما، فإذا أخبر حكم النبي عليه السلام فيه، فهو (4) أولى (من
قبول) (5) خبر هما.
ألا ترى: أن المفتي إذا قال: إن هذا أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: كيت وكيت، لزم
المستفتي قبوله والعمل به، فكذلك إذا قال ذلك لغير المستفتي لزم السامع حكمه، والعمل
به.
فإن قال قائل: لو قال المستفتي للمفتي: إن هذا الحكم في القرآن، لزمه قبول قوله،
وأنت لا تثبت القرآن بخبر الواحد، فدل على أن هذا ليس كما ذكرت.
قيل له: لا يثبت القرآن بخبر الواحد، لأن القرآن لا يثبت إلا بخبر يوجب العلم
به، وأما الحكم: فإني أثبته، وكلامنا في الحكم لا في غيره.
فإن قال: إنما لزم المستفتي قبول خبر المفتى، لأن العامي لا سبيل له إلى معرفة

88
الحكم إلا من هذه الجهة، وأما أهل العلم فإنهم متى فقدوا الخبر المتواتر في إثبات الحكم،
رجعوا إلى استعمال النظر والاجتهاد.
قيل له: إن القياس الشرعي لا يفضى (1) بنا إلى العلم بحقيقة الحكم، وإنما هو
غالب الظن. والأثر مقدم عليه، وإن ورد من طريق الآحاد، لأن المخبر يقول هذا حكم الله
تعالى، أيضا ولا يمكن أن يقول مثله في الاجتهاد.
وأيضا: فإن الصحابة إنما كانوا يفزعون إلى القياس واجتهاد الرأي عند عدم الأثر
عن الرسول عليه السلام في حكم الحادثة، ولم يكونوا يستعملون النظر مع الأثر، وقدمنا الأثر
عليه باتفاقهم جميعا عليه. (2)
واحتج من أبى قبول خبر الواحد بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (3)
وبقوله تعالى: (وأن تقولوا (4) على الله ما لا تعلمون) وبقوله تعالى: (إلا) (5) (من شهد
بالحق وهم يعلمون) (6) وبقوله تعالى: (ولا تقولوا على الله إلا الحق) (7) وخبر الواحد لا
يوجب العلم، فانتفى قبوله بظاهر هذه الآيات، وقال تعالى: (إن الظن لا يغنى من الحق
شيئا). (8)
وخبر الواحد عند قائليه موقوف على حسن الظن براويه. (9)
وقد نفى سبحانه وتعالى بهذه الآية الحكم بالظن، فانتفى بها قبول خبر الواحد.
واحتجوا أيضا: أن النبي عليه السلام لم يجز قبول خبره في (بدء دعائه) (10) الناس
إلى التصديق بثبوته، إلا بعد ظهور المعجزات على (11) يديه، وإقامة الدلائل الموجبة

89
لصدقه، فمن دونه من الناس أحرى أن لا يقبل خبرا إلا بمقارنة الدلائل الدالة على
صدقه، وبأن خبر الواحد لو كان مقبولا من قائله بلا دلالة توجب صحته، لكانت منزلة
المخبر عن النبي عليه السلام أعلا من منزلة النبي، إذ لم يجز قبول خبره إلا بعد إقامة
الدلائل الموجبة لصدقه، وجاز قبول خبر غيره بلا دلالة تدل على صدقه.
والجواب وبالله التوفيق: أنه ليس في هذه الآيات ما ينفى قبول خبر الواحد، وذلك:
أن الحكم بقبول خبر الواحد عندنا حكم يعلم من حيث أقام الله تعالى لنا الدلائل الموجبة
لقبوله، والحكم به، فغير جائز لأحد أن يقول: إن الحكم بخبر الواحد حكم بغير علم،
وإنه قول على الله بغير حق، وليس هذا أيضا حكم بالظن، لأن الدلائل الموجبة للحكم به
قد أوقعت لنا العلم بلزوم قبوله، فهو حكم بعلم، كما نقول في الحكم بشهادة الشهود: إنه
حكم بعلم، ولا يجوز أن يقال: إنه حكم بغير علم، وإنه اتباع ظن بلا حقيقة، وإن كنا لا
نعلم صدق الشهود من كذبهم، إذ كان الله تعالى قد أمرنا بقبولها والحكم بها، كذلك قبول
خبر الواحد، وهو قول الله تعالى بما قد علمناه، وحكم بالحق دون الظن.
وأيضا: فإن العلم على وجهين:
أحدهما: على الحقيقة.
والآخر: حكم الظاهر وغلبة الظن.
والدليل على ذلك - وأنه يسمى علما: قوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات) (1)
ومعلوم أنا لا نحيط علما بما في ضمائر هن، وقد سمى الله تعالى ما ظهر لنا من أمرهن علما،
وقال تعالى حاكيا عن إخوة يوسف: (إن ابنك سرق، وما شهدنا إلا بما علمنا، وما كنا
للغيب حافظين) (2) فسموا ما غلب في ظنونهم من غير إحاطة منهم بغيبه وحقيقته علما،
لأنه لم يكن يسرق في الحقيقة، وقال النبي عليه السلام لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى
اليمن (أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم حقا في أموالهم، يؤخذ من أغنيائهم، ويرد على
فقرائهم) فسمى إخبارهم إعلاما، وإن لم يقع لهم العلم بحقيقة مخبره.
وكالشهود إذا شهدوا بحق، حكمنا بقولهم بظاهر العلم، حسب ما يغلب في ظنوننا
من صدقهم، وإذا كان اسم العلم قد يطلق على غلبة الظن وما تقتضيه الحال، وكان خبر

90
الواحد إنما يوجب عندنا العلم الظاهر دون الحقيقة، لم يكن في الآيات التي ذكرها السائل
ما ينفي قبوله، إذا كان ما أوجبه ضربا من العلم يجوز أن يقتضيه ظاهر هذه الآيات، ليكون
الحكم به حكما لموجبها ومقتضاها، و لو كانت هذه الآية موجبة لما ادعاه السائل - لمنعت قبول
قول الرسول في الهدية، ولسقطت أخبار المعاملات كلها، لأنها لا توجب علم الحقيقة.
ومعلوم: أن أكثر أخبار المعاملات تشتمل على إباحة ما كان محظورا قبل الخبر، وحظر
ما كان مباحا. فلما اتفق المسلمون على قبول أخبار المعاملات في إباحة ما كان محظورا، وحظر
ما كان مباحا، مع عدم العلم الحقيقي بصحة مخبرها، بطل بذلك استدلال من استدل
بظواهر هذه الآيات على نقي قبول أخبار الآحاد في أمور الديانات، من حيث لم يوجب علما
لمخبرها.
وعلى أنه لو استدل مستدل على قبول خبر الواحد بظواهر هذه الآيات، لم يتعدد
ذلك، لأن قوله تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) (1) وقوله تعالى: (ولا تقولوا
على الله إلا الحق) (2) ونحو ذلك قد اقتضى الحكم بما يجوز في إطلاق اللفظ، فإنه حكم
بعلم، وهو قول الحق، وكان ما يخبر به العدل موجبا لضرب من العلم، أوجب ذلك دخوله
في ظاهر الآية، ولزم الحكم به بعمومها.
فإن قال قائل: أخبار الآحاد الواردة في أمور الديانات مخالفة للشهادات،
والإقرارات، وأخبار المعاملات، وذلك لأنا إنما كلفنا الشهادة في الإقرار من علم الإقرار
والشهادة والقضاء بهما، ولم نكلف علم ما كان به الإقرار، ولا علم ما قامت به الشهادة.
وكذلك قوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات) (3) إنما كلفنا فيهن علم ظهور ذلك
منهن، لا علم المضمن، فهو مخالف لخبر الواحد في الدين، لأنا كلفنا فيه علم المخبر عنه
بقوله تعالى: (وأن تقولوا (4) على الله ما لا تعلمون) (ولا تقولوا على الله إلا الحق) (5)
وقوله تعالى: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا). (6)

91
قيل: الجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنا نقول: إنهما سواء، ولا نكلف (1) في جميع أمور الدين علم الحقيقة، ومنها
ما اقتصرنا (2) فيه على غلبة الظن، وما قبلنا فيه أخبار الآحاد - فهو من هذا القبيل، فهما
سواء في هذا الوجه، لا فرق بينهما، وقوله تعالى: (ولا تقولوا على الله إلا الحق) (3)
(ولا تقولوا على الله ما لا تعلمون) (4) لا ينفي لما ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا، وعلى
أنه لو كان الأمر فيه كما ظنه هذا السائل، لوجب أن نقبل أخبار المعاملات في الهدايا
والوكالات ونحوها، وهي ما يتعلق بها أشياء من أمور الدين: من حظر مباح، أو إباحة
محظور، فلما كانت أخبار المعاملات مقبولة مع ما يتعلق بها من أمور الدين، علمنا أنا لم
نكلف في جميع أمور الدين إصابة علم الحقيقة.
وأيضا: فإن قضية هذا السائل يمنع المستفتي قبول قول المفتي إذا لم (5) يعلم به حقيقة
الحكم، وكذلك يلزمه أن لا يقبل حكم الحاكم إذا حكم عليه بشئ مختلف فيه، فأخبر
عن اعتقاده ومذهبه فيه، إذ لا سبيل إلى العلم بحقيقة ذلك.
وينبغي أن لا يقبل قول المرأة إذا قالت: قد طهرت من حيضي، أو قد حضت، في
إباحة الوطء وحظره، لهذه العلة، فلما كانت أخبار هؤلاء مقبولة مع عدم العلم بحقيقة
مخبراتها، علمنا به فساد هذا السؤال.
وأيضا: فإن أخبار الشرع لو كانت مقصورة على ما يوجب حقيقة العلم، لما ساغ
الاستدلال والنظر في إثبات أحكام الحوادث، لأن القياس الشرعي يفضي إلى حقيقة
العلم، وإنما هو تغليب الظن وأكثر الرأي في أمور الدين.
وأما الوجه الثاني: فهو ما قدمناه: من أن خبر الواحد يوجب ضربا من العلم على
النحو الذي بينا، فلا يعترض عليه ما عارض به السائل من الآية التي ذكرها.
وأما قوله: إن خبر النبي عليه السلام لما لم يجب قبوله في الابتداء إلا بمقارنة الدلائل

92
الموجبة لتصديقه، (1) فكان غيره بمثابته في امتناع جواز الاقتصار على خبره عاريا من دليل
يوجب صدقه. فلا معنى له، لأنه لم يجمع بينهما معنى يقتضي الجمع بينهما.
وأيضا: فإن خبر النبي عليه السلام بدء فإنما كان مع دعائه للناس إلى العلم بصدقه
وصحة نبوته، وكل من دعا إلى العلم بصحة خبره، وكذلك نقول في (كل ما) (2) كان سبيله
وقوع العلم بخبره من الأخبار، فغير جائز الاقتصار به على الخبر مجردا (3) دون مقارنة
الدلائل الموجبة لصحته. ثم إذا صحت نبوته بالمعجزات التي أظهرها الله له، صارت تلك
الدلائل موجبة لصدق إخباره في جميع ما يخبر به.
وأما أخبار الآحاد في أحكام الشرع، فإنما الذي يلزمنا بها العمل دون العلم.
فالمستدل بأخبار النبي عليه السلام على نفي خبر الواحد معتقد لما وصفنا.
وأيضا: فإن هذا القول منتقض على قائله في الشهادات، وأخبار المعاملات، في
الفتيا، وحكم الحاكم، ونحوها، لأن هذه الأخبار مقبولة عند الجميع، مع تفردها من
الدلائل الموجبة لصحتها، وأما قوله: إن ذلك يوجب كون المخبر أعلا منزلة من النبي عليه
السلام - فليس كما ظن، لأنه إنما يكون كذلك لو قلنا: إن خبر النبي عليه السلام لا يوجب
العلم بمجرده، حتى تقارنه دلائل غيره توجب صحته، وخبر غيره يوجب العلم بمجرده،
دون مقارنة الدلائل له.
فأما إذا قلنا: إنما يقبل خبر الواحد المخبر غيره عن النبي عليه السلام في لزوم العمل
به، دون وقوع العلم بصحته، والقطع على عينه.
وقلنا: إن خبر النبي عليه السلام لما اقتضى وقوع العلم بصحة خبره، وما دعا إليه،
احتاج إلى الدلائل الموجبة لصدقه، فلم نجعل المخبر عن النبي عليه السلام أعلا منزلة منه
عليه السلام في خبره، ولو كان هذا كما ظن السائل للزمه أن يكون المخبر بأخبار المعاملات
والشهادات والفتيا والحكم - أعلا منزلة من النبي عليه السلام، لقبول خبرهم بلا دلالة
تقارنه، موجبة لتصديقه، وامتناعه من قبول خبر النبي عليه السلام، إلا بعد إقامة الدلائل
على صدقه. (4)

93
فصل
قال أبو بكر رحمه الله: جميع ما قدمنا من الدلائل الموجبة لقبول خبر الواحد الذي
لا دلالة معه موجب (1) العلم بصحة مخبره في أمور الدين، من جهة الكتاب والسنة، واتفاق
الأمة، فهو دال: على أنه بين خبر الواحد والاثنين.
وقد ذهب بعض أهل العلم: إلى قبول خبر الاثنين، ورد خبر الواحد. (2)
واحتج فيها بأشياء أنا ذاكرها، ومبين وجه القول فيها، إن شاء الله تعالى.
واعترض أيضا على بعض ما قدمنا من الدلائل الموجبة لقبول أخبار الآحاد، وأنا
أذكر موضع اعتراضاته، وأبين عن صحة ما قدمنا في ذلك.
فما اعترض به على استدلال من استدل بقوله تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم
طائفة). (3)
أن الطائفة اسم لجماعة، وأن الواحد لا يسمى طائفة، وأن الفرقة التي أمر الطائفة
بالنفور منها يجب أن تكون أكثر من ثلاثة، كما لو قال: فلو نفر من كل فرقة منهم جماعة، علم
أن الفرقة المرادة بهذا القول: أكثر من ثلاثة.
قال أبو بكر رحمه الله: أما قوله: إن الطائفة اسم للجماعة، فلا سبيل إلى تثبيته من
أدلة، (4) ولا شرع، بل الدلائل من القرآن، وقول السلف ظاهرة: أن الواحد قد يتناول

94
اسم الطائفة، قال الله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين). (1) وروي في
التفسير: أن أقله واحد. فقد تأول السلف اسم الطائفة في هذا الموضوع على الواحد، ولولا
أنها اسم له لما تأولها عليه. (2)
وقال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) (3) ثم قال في سياق
الخطاب (فأصلحوا بين أخويكم) (4) فدل: أنه قد أراد بالطائفة الواحد.
وموجود أيضا: في العرف والعادة: أن اسم الطائفة والبعض والخبر يجري مجرى
واحدا.
ألا ترى أنه لو قال: لفلان طائفة من هذه الدراهم: أنه يعطيه ما شاء منها، من قليل
أو كثير، كما لو قال: له بعضها، أو جزء منها.
وإذا كان كذلك، كانت الطائفة بمعنى البعض، فتناول الواحد منها.
وقال في أمر النبي عليه السلام - الواحد بالأداء عنه: إنه لا دلالة فيه على قبول
خبره، لأن الأمر بالأداء لا يختص بالعدول دون الفساق. وإذا كان الفاسق مأمورا بالأداء
ولم يدل ذلك على قبول خبره، والشاهد الواحد مأمور بإقامة شهادته، ولم يدل ذلك على
قبول شهادته وحده، كذلك ليس في أمر الواحد والعدل بأداء ما سمع من الحكم - دلالة
على قبول خبره وحده، وإنما أمر بالأداء لينتشر وليستفيض.
قال أبو بكر: وقد تكلمنا في هذا المعنى فيما سلف. ونقول أيضا: إن ظاهر الأمر
بالأداء والإبلاغ يقتضي قبول خبره، وما يؤديه، كما اقتضى قوله تعالى: (واستشهدوا
شاهدين من رجالكم) (5)،
وقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (6) قبول شهادتهما، هذا ظاهر ما يقتضيه

95
الأمر بالأداء، ولا يمتنع مع ذلك قيام الدلالة على وجوب التثبت في خبر بعض المأمورين
بالأداء، وهم الفساق، كما أن للشاهدين عليهما إقامة الشهادة، وإن كانا فاسقين، إذا
دعيا (1) للشهادة، (وأنه واجب) (2) التثبت في شهادتهما، ولا يقدح وجوب التثبت في شهادة
بعض المأمورين بالأداء، في صحة الاستدلال بقوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من
رجالكم) (3) على قبول شهادة العدلين كما يقول في العموم: إنه يوجب الحكم بما تضمنه
لفظه، ثم لا يمتنع قيام الدلالة على تخصيص بعض ما تناوله اللفظ من جملته.
وذكر: أنه ليس توجيه النبي عليه السلام العمال على البلدان واستعمال المعاة على
الصدقات - دليل على لزوم العمل بخبر الواحد، لأن الولاية كانت تثبت عندهم بالتواتر.
وأما الأحكام فإنما تثبت بقولهم، لأن قبول حكم الحاكم واجب على رعيته،
ولا يصح لأحد منهم الاجتهاد في مخالفة رأيه.
قال أبو بكر رحمه الله: لم يفرق أحد بين قبول خبر الواحد إذا رواه عن النبي عليه
السلام، وبين قبول أخبار الآحاد من غيره، وإذ قد وافق على أن الحاكم إذا قال: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم بكذا، أو أمر بكذا - يوجب العلم بخبره، فغيره من المخبرين
بمنزلته.
ومعلوم أن الولاة الذين كان ببعثهم النبي عليه السلام - لم يكونوا يقتصرون في تعليم
رعاياهم على ما يتعلق حكمه بالولاة والحكام، لأن النبي عليه السلام كان يتقدم إليهم
بدعاء الناس إلى الإسلام، ثم إن أجابوا أمرهم بإقامة الصلاة، وجمل الفروض والعبادات
التي يحتاج إليها الكافة، فدل على أن رعايا الولاة لم يلزمها قبول أخبار الولاة من حيث كانوا
حكاما عليهم. يلزمهم إلتزام أحكامهم، وإنما لزمها ذلك من حيث أخبرت به الولاة عن
النبي عليه السلام.
وذكر في شأن مسجد القبلتين وتحريم الخمر: أنه جائز قد كان تقدم عندهم الخبر
بذلك من جهات أخرى، غير خبر المخبر الذي حكى إخباره، فلا دلالة فيه على أنهم
عملوا لخبر الواحد.

96
وهذا عندنا لا يصح، ولا يحتمل ما روى فيه، لأنه لو كان هناك مخبر آخر وقد أخبرهم
بذلك لنقل، فلما لم ينقل إلا خبر مخبر واحد، وأن الصحابة صارت إلى حكم خبره، علمنا
أنه لم يبلغهم ذلك من جهة غيره.
ولو ساغ هذا التأويل لجاز أن يقال: إن النبي عليه السلام لم يرجم ما عزا بإقراره،
وإنما رجمه بشهادة أربع شهود عليه بالزنا، وإن لم ينقل إلينا، ولجاز أن يقال: إنه لم يرجمه للزنا
وحده، ولكن لأنه كان قبل عن ذلك، فلذلك استحق الرجم، ولجاز أن يقال: إنه لم يخير
بريرة للعنق فحسب، لكن لأن زوجها خيرها بعد العنق، وإن لم ينقل ذلك إلينا، ولزوم
هذا الاعتبار يؤدي إلى إبطال السنن كلها، لأنه جائز في حكم روي أن النبي عليه السلام
حكم به لحدوث حادثة - أن يكون وجوبه كان متعلقا بأسباب أخرى لم تنقل إلينا.
وعلى أن القائل بخبر الاثنين لا يصح له الاحتجاج بفعل أبي بكر وعمر وغيرهما (1)،
لأنه جائز أن يكون إنما قبل خبر جماعة بتواتر (2) الخبر عندهم، (3) وإن لم ينقل إلينا إلا خبر
الاثنين في نحو توريث الجدة السدس. (4)
وذكر: أن (5) راوي خبر تحويل القبلة: عبد الله بن عمر، وكان صغيرا يومئذ، لأنه
بلغ عام الخندق، فلم يكن ممن يضبط ذلك.
قال أبو بكر رحمه الله: وهذا لا متعلق له فيه، لأن خبر مسجد قباء قد رواه أيضا
أنس بن مالك، وهو مشهور عنه.
وأيضا: فإن كون هذه القصة أشهر في الأمة من أن تحتاج إلى إسناد، حتى قد صار
يسمى مسجد القبلتين إلى يومنا هذا، لأنهم صلوا فيه بعض صلاتهم إلى بيت المقدس،
وبعضها إلى الكعبة، في صلاة واحدة. وعلى أن ابن عمر كان صغيرا يومئذ - فإنه لم يكن
من الصغر في حد لا يضبط مثله في ذلك، لأن سنه في وقت تحويل القبلة كان أربع عشرة
سنة ونحوها، لأن القبلة حولت قبل وقعة بدر بشهرين، وكان سن ابن عمر يومئذ أربع

97
عشرة سنة، لأنه قال: عرضت يوم بدر على النبي عليه السلام، ولي أربع عشرة سنة، فلم
يجزني، وأجازني يوم أحد، وبي خمس عشرة سنة.
ومن روى: أن سنه كانت يوم أحد أربع عشرة سنة، ويوم الخندق خمس عشرة فقد (1)
غلط، لأن بين أحد والخندق سنتين، وعلى أن ابن عمر قد روي قصة تحويل القبلة بعد
موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان عنده: أنها غير مضبوطة لما رواها، ولا قطع بها، وكثير من
الصحابة إنما يروي ما يرويه مما سمعه من غيره عن النبي عليه السلام، أو منه في حال
صغره، هذا ابن عباس في الذروة العليا من العلم والرواية، ويقال: إن ما يرويه عن النبي
عليه السلام سماعا بضعة عشر حديثا، والباقي سماعا من غيره، ولم يطعن في روايته لما رواه
سماعا عن النبي صلى الله عليه وسلم في صغره، بل قد قبله الناس وجعلوه أصولا. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في
صفة صلاة الليل، وأحكامها، في الليلة التي بات فيها عند ميمونة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم - وهي
خالته - ليعرف صلاته بالليل، وكان أصلا يعمل عليه في أحكام صلاة الليل وغيرها، ولم
يمتنع أحد من قبوله والعمل به من أجل صغره.
وممن كان صغيرا في حياة النبي عليه السلام، وروي عنه الروايات الكثيرة، فلم
يفرق أحد بينه وبين روايته، وبين روايات غيره: زيد بن أرقم، ورافع بن خديج،
والنعمان بن بشير، وابن الزبير، في آخرين منهم، فلا اعتبار إذا فيما يرويه الصحابي
بالسن (2) في وقت القصة التي يحكيها.
وذكر: أن الأنصار يجوز أن يكونوا أراقوا شرابهم حين أخبرهم مخبر بتحريم الخمر،
على وجه التنزه والاحتياط، كما كسروا الأواني.
قال أبو بكر: وهذا تأويل لا يجوز حمل أمرهم عليه، لأن ذلك الشرب كان مالا لهم
قبل سماع الخبر، فلو لم يكن الخبر قد أو حب عندهم تحريمه لما أسرعوا إلى إتلافه، وإنما
كسروا الجرار تأكيدا لأمر التحريم، وللمبالغة في قطع العادة في شربها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بسق (3) روايا الخمر بعد تحريمها، ولم يقتصر على صبها، تأكيدا لأمر تحريمها، وتغليظا

98
عليهم في قطع عاداتهم عنها.
وذكر في قبول عمر رضي الله عنه خبر الضحاك ابن سفيان في توريث المرأة من دية
زوجها: أنه (1) رواية سعيد بن المسبب، وكان صغيرا في عهد عمر. ومع ذلك إن الضحاك
ذكر: أن ذلك كان في قصة مشهورة في رجل معروف، فلما لم يظهر من واحد النكير عليه في
روايته استدل عمر بذلك على صدقه.
قال أبو بكر: أما كون سعيد بن المسبب صغيرا في عهد عمر فإنه لا يقدح في صحة
روايته، على نحو ما بينا في رواية الأحداث من الصحابة، وليس يقول هذا إلا من لا يعرف
محل سعيد بن المسبب من العلم والرواية، وقد كان سعيد بن المسبب يسمى رواية (2) عمر،
وكان يقال في ذلك العصر: ما أحد أعلم بقضايا عمر من سعيد بن المسبب. وعلى أن عامة
الفقهاء متفقون على استعمال هذا الحديث، والمصير إلى حكمه. فدل على صحة مخرجه.
وأما قوله: إن الضحاك حكى لعمر: أن ذلك كان في قصة مشهورة في رجل
معروف، فإن الذين كان فيهم هذه القصة لم يكونوا حضروا عند عمر وقت رواية الضحاك
لذلك، إنما كانوا في قبائلهم وديارهم، والضحاك إنما ذكر: أن النبي عليه السلام كتب إليه
بذلك، فكان غائبا عن حضرة النبي عليه السلام، فلا معنى إذا لاعتبار شهرة القصة،
وترك النكير ممن كانت فيهم على راوي الخبر، إذا لم يثبت أن أهلها الذين كانت القصة
فيهم كانوا حضروا عنده وقت روايته.
وذكر في خبر عبد الرحمن بن عوف رحمه الله في اخذ الجزية من مجوس هجر: أن عمر لم
يقض بخبر عبد الرحمن، لأنه قد كان سمع ذلك من ولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبحرين.
قال أبو بكر رحمه الله: وهذا تظني وحسبان، ولا يجوز القول به، ولا بروايته، ولا نعلم
أن أحدا ذكر: أن عمر أخبره عن عبد الرحمن بن عوف بذلك، ولا يجوز إثبات الأخبار إلا
برواية، وذكر: أن رجوع زيد بن ثابت إلى قول ابن عباس: أن الحائض تنفر قبل طواف
الصدر، حين سأل أم سلمة فأخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك: أنه جائز أن يكون سمع
من غيرها أيضا، ولأن ابن عباس وأم سلمة قد أخبراه جميعا.
قال أبو بكر رحمه الله: وقد أفسدنا عليه هذا الاعتبار. وهو يرجع عليه أيضا في جميع

99
ما يستدل به على قبول خبر الاثنين مما يرويه عن الصحابة، لأنه يقال له: جائز أن يكونوا
جماعة تواتر الخبر عندهم بها، فلذلك حكموا به، فأما قوله: إن ابن عباس قد أخبره مع أم
سلمة، فإن ابن عباس لم يروه له عن النبي عليه السلام، وإنما أفتى به.
قال أبو بكر رحمه الله: وذكر أخبارا أخر استدل بها مثبتو خبر الواحد بتناولها على نحو
من هذا التأويل، وقد تقدم منا القول في إفساده بما فيه كفاية، فأغنى عن إعادته وتكراره.
ثم استدل على قبول خبر الاثنين، ونفى خبر الواحد بقوله تعالى: (إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا) (1) قال: ونزل ذلك في شأن الوليد بن عقبة، (2) حين بعثه النبي عليه
السلام مصدقا. على أنه عنده ثقة عدل، فجاء وادعى: أنهم أرادوا قتله، فنهى الله تعالى
عن قبول قول الوليد. (3)
فإن لم نعلم فسقه وجعله فاسقا بإخباره بالكذب - فوجب أن لا يقبل قول الواحد،
وإن كان عدلا منه الظاهر، لأنا لا ندري لعله فسق في إخباره، كما فسق الوليد.
قال أبو بكر: وهذا لا دلالة فيه على ما ذكر، بل فيه الدلالة على قبول خبر الواحد،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين استعمله على أنه ثقة عنده، فقد جعله بمحل من يقبل خبره وحده. (4)
فالنبي عليه السلام قد استعمله في بيان ما يجب عليهم من الصدقات، ومقاديرها،
وما يجري مجرى ذلك. ولولا أنه قد كان مقبول القول لما استعمله. ثم لما حكم الله تعالى
بفسقه حين أخبر بخبر كذب، أمر بالتثبت في قبول خبره. فكيف يجوز الاستدلال به على
نفي قبول خبر العدل.
فإن قال قائل: فإنا لا نعلم لعله قد فسق في قوله.
قيل له: فهذه العلة تمنع قبول خبر الاثنين، لأنا لا ندري لعلهما قد فسقا، وتمنع في

100
قبول الشهادات كلها، وإن كان الشهود عدولا عندنا، يجوز أن يكونوا قد فسقوا، فهذا
اعتبار ظاهر البطلان.
واستدل على اعتبار خبر الاثنين: أن الشهادات على الحقوق لا يقبل فيها أقل من
الاثنين، وأن الواحد غير مقطوع بشهادته، فكذلك يجب أن يكون حكمه في أمور
الديانات، ثم لم يجمع بينهما لعلة توجب قياس الأخبار على الشهادات.
قال أبو بكر رحمه الله: وليست الشهادة أصلا للأخبار، لاتفاق الجميع على قبول
أخبار العبيد، والمحدودين في القذف، وخبر النساء وحدهن.
واتفق الجميع أيضا: على أن الشهادات في الأموال غير مقبولة، إلا من الأحرار غير
المحدودين في القذف، وأن (شهادة) (1) النساء وحدهن (2) مقبولة في الولادة، ونحوها، فثبت
أن الشهادات ليست بأصل للأخبار. (3) ولو كانت الشهادات أصلا لذلك لوجب أن لا
يقبل الخبر في إثبات حد الزنا إلا أربعة، كما لا يقبل على الزنا إلا شهادة أربعة، ولوجب أن
لا يقبل خبر النساء، وإن كثرن، مع الرجال في الحدود، كما لا يقبل شهادتهن فيها، فدل
على ما وصفنا: أن الأخبار غير معتبرة بالشهادات. ويلزمه أيضا أن يعتبر في الأخبار، رجلين
أو رجلا وامرأتين، فيما يقبل فيه شهادة النساء مع الرجال: أن الشهادات كذلك حكمها في
هذا الوجه، ولم يعتبر ذلك أحد في الأخبار، فدل على صحة ما وصفنا.
ويدل أيضا على ذلك: أن الشهادة لا تقبل إلا على المعاينة. (4) والأخبار يقبل فيها:
فلان عن فلان، ويعتبر في الشهادات ذكر لفظ الشهادة، ولا يعتبر ذلك في الخبر، والخبر
يصح نقله عن السامع وإن لم يأمره بالنقل عنه، والشهادة على الشهادة لا تصح، إلا
بتحميل الشاهد إياه، وأمره بالشهادة على شهادته.
واحتج من رد خبر الواحد، وقبل خبر الاثنين، بأخبار لم يثبت شئ منها من الطريق

101
التي يعتبرها قائل هذه المقالة. بل لا يمكنه حتى (1) إثبات خبر يرويه اثنان، عن اثنين، حتى
يبلغوه النبي عليه السلام. فكيف يصح له الاحتجاج بها في اعتبار خبر الاثنين.
منها: أنه ذكر قصة ذي اليدين حين قال للنبي عليه السلام: أقصرت الصلاة أم
نسيت؟ فقال: (كل ذلك لم يكن، ثم أقبل على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فقال:
أحق ما يقول ذو اليدين؟ فقالا: نعم) قال: فلما لم يكتف النبي عليه السلام بقول ذي
اليدين وحده - دل على أن خبره لم يوجب حكما، ولو كان يوجب حكما لما احتاج إلى مسألة
غيره في إثبات حكمه.
فيقال له: إن لأخبار (2) الآحاد عندنا شرائط في قبوله.
منها: أن المخبر إذا حكى شيئا ذكر أنه كان يحضره جماعة، ثم لم تعرفه الجماعة. كان
ذلك عندنا موجبا للتثبت في خبره، وقصة ذي اليدين من هذا القبيل. فامتنع عند النبي صلى الله عليه وسلم
أن يخفي ما ذكره على جماعه الحاضرين، وينفرد هو بمعرفته دونهم، فلذلك سأل غيره.
ألا ترى: أن رجلا لو قال للإمام يوم الجمعة: إنك صليت ركعة، لم يعرف ذلك من
خلفه مع كثرتهم، أنه لا يلتفت إلى خبره، وكما نقول في رؤية الهلال: إنه لا يقبل قول
الواحد فيه إذا لم تكن بالسماء علة، لأنه يمتنع أن لا يحضر جماعات كثيرة لطلب الهلال،
فينفرد برؤيته واحد دونهم، مع تساويهم في صحة الإبصار، وإنفاق همهم في الطلب.
وذكر أيضا: أن النبي عليه السلام لم يشهد في عهوده والإقطاعات للناس أقل من
رجلين، فدل على وجوب اعتبار العدد في الأخبار.
قال أبو بكر رحمه الله: أما العهود والإقطاعات: فإن فيها حقوقا لقوم بأعيانهم، كسائر
حقوق الآدميين، فاحتاج إلى شهادة رجلين توثقة لهم، وحجة يصلون بها إلى إثباتها بعد
وفاة النبي عليه السلام، وليس ذلك من أخبار الديانات في شئ.
ألا ترى: أن النبي عليه السلام قد كتب كتبا في الأحكام، ولم يشهد فيها أحدا، نحو
كتابه لعمرو بن حزم في ضروب من الأحكام، وكتابه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في
الصدقات، وكتابه إلى الضحاك بن سفيان، وكتابه إلى ملوك الآفاق، وغير ذلك من
الكتب، ولم يشهد في شئ منها شهودا، لأن طريق إثباتها كان للخبر، لا للشهادة.

102
وأيضا: فإنه يلزم هذا القائل: أن لا يقبل خبر اثنين، لأنه لم يثبت، أن النبي عليه
السلام اقتصر في كتب عهوده وإقطاعاته على شهادة رجلين فحسب، بل المستفيض: أنه كان
يشهد فيها جماعة أكثر من اثنين، فإذا لم يدل إشهاده على هذه الكتب من اثنين على
بطلان خبر الاثنين، كذلك لا يدل على بطلان خبر الواحد.
واستدل على اعتبار خبر الاثنين من فعل الأئمة: بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه
حين سأل الناس عن ميراث الجدة، أخبره المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها
السدس، وقال له أبو بكر: أئتني بمن يشهد معك، فشهد معه محمد بن مسلمة، فحكم لها
السدس، وأن عمر رضي الله عنه رد خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان، حتى شهد
معه أبو سعيد الخدري (1)، ورد خبر المغيرة بن شعبة في الحبس، حتى شهد معه محمد بن
مسلمة
ولم يقبل خبر فاطمة ابنة قيس في إسقاط نفقة المبتوتة وسكناها، (2) وقال: (لا ندع
كتاب ربنا، وسنة نبينا، بقول امرأة، لا أدري أصدقت، أم كذبت) وهذه العلة موجبة في
سائر أخبار الآحاد.
ولم يقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما خبر عثمان (3) في رد الحكم ابن أبي العاص (4)
إلى المدينة، وطلبا مخبرا آخر معه، وقد كان عثمان ذكر: أن النبي عليه السلام وعده أن يرده
إلى المدينة. (5) ولم يقبل علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، خبر أبي سنان

103
الأشجعي، (1) في قصة بروع بنت واشق (2) الأشجعية (3)، (و) (4) ذكر أخبارا من نحوها، لم
يقبلها قوم من الصحابة. (5)
واستدل أيضا: على أنهم إنما ردوها لأنها كانت أخبار آحاد، وأن المخبر بها لو كان
اثنين لقبلوها.
وذكر أيضا في هذا المعنى: أن عثمان لم يقبل قول أبي بن كعب في سورتي القنوت، (6)
ولا قول بن مسعود في إسقاط المعوذتين، (7) وأن عمر بن الخطاب: لم يقبل قراءة هشام بن

104
حكيم (1) حين سمعه يقرأ خلاف قراءته، حتى خاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام
لعمر: (اقرأ، فقرأ، فقال: هكذا أنزلت، ثم أمر هشاما فقرأ، فقال: هكذا أنزلت). (2)
قال أبو بكر رحمه الله: فأول ما يقال في هذا: إنه لا يمكن من قال بخبر الاثنين إثبات
شئ من هذه الأخبار التي ذكرناها بنقل اثنين، حتى يبلغ به أقصاه، فلا يصح له إذا
الاحتجاج به في دفع خبر الواحد، واعتبار الاثنين.
فإن قال: وإن لم يكن إثباتها بنقل اثنين عن اثنين، فإنها أخبار مشهورة، فيجوز إثباتها
من هذه الجهة.
قيل له: فإذا كانت أخبارا واردة من جهة الآحاد وقد قبلتها الأمة وأثبتتها، فهلا
استدللت بذلك: على أنها قد قبلت أخبار الآحاد؟ وأنها لم تعتبر رواية الاثنين؟ ثم نقول مع
ذلك: إنه ليس في شئ مما ذكره دلالة على أنهم لم يكونوا يرون قبول أخبار الآحاد، وإنما
كان يكون ما ذكره دلالة على فساد قول من يرى قبول الأخبار كلها، ولا يرى ردها لعلل
توجب ردها.
فأما من اعتبر في قبول أخبار الآحاد شرائط متى خرجت عنها لم توجب قبولها، فقوله
موافق لقول السلف، وليس في رد السلف لبعض الأخبار ما يوجب خلاف قوله، وكل خبر
من ذلك ردوه فهو من القبيل الذي يجب رده للعلل التي يجب بها رد الآحاد، كما ترد شهادة

105
الشاهدين، وإن كانا عدلين، للعلل التي يجب بها رد الأخبار، كما ترد شهادة الشاهدين،
وإن كانا عدلين، للعلل التي توجب ردها، ولا يدل ذلك: على أن شهادة الشاهدين غير
مقبولة عند تعريتهما من العلل الموجبة لردها، ولا يمكن هذا القائل أن يثبت عنهم في ردهم
لهذه الأخبار التي ذكروها: أنهم ردوها لأنها أخبار آحاد، دون أن يكونوا ردوها لعلل أخر
غيرها، على النحو الذي نقوله.
ثم لو كان ظاهر ما ورد عنهم من ردهم لهذه الأخبار محتملا أن يكونوا ردوها لعلل
أوجبت ردها، واحتمل أن يكون لأنها أخبار آحاد سقط احتجاجه بها، إذ ليس هو أسعد
بدعواه هذه منا فيما ذكرناه، فيحتاج حينئذ أن يستدل على خصمه بغيرها، وعلى أن
الدلائل ظاهرة: على أنهم لم يردوها لأنها أخبار آحاد، لأنهم قد استفاض عندهم قبول
أخبار الآحاد في غير ذلك من الأمور، فدل على صحة ما وصفنا.
ونحن نبين مع ذلك وجه كل خبر من هذه الأخبار التي ذكرها. ويدل على أنها لو
تعرت مما روى عنهم في قبول أخبار الآحاد، لما دلت: على أنهم ردوا ما ردوا منها لما ذكره.
فنقول وبالله التوفيق: إن قول أبي بكر رضي الله عنه للمغيرة في ميراث الجدة: ائتني.
بمن يشهد معك، حتى شهد معه محمد بن مسلمة رضي الله عنه، فإن عيسى بن أبان رحمه
الله ذكر: أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب من المغيرة هذا إلا احتياطا، وإلا قد ضعف الخبر
عنده.
إما: لعلة لم يعرفها، وإما: أن يكون المغيرة أخبر: أن ذلك كان بحضرة قوم سمعوه
معه، أو أن يكون أخبر: بأن ذلك كان في وقت قريب بالمدينة، بحضرة المهاجرين
والأنصار، ولم تكن طالت المدة. ولا يمكن في مقدار ذلك أن يكون قد تفرق من حضره
وعلمه، فقال (1) أبو بكر: أن تأتني بمن يشهد معك عليه، فلم يبعد، (2) أبو بكر من أن
يكون رد خبر المغيرة لعلة أوجبت رده، لو قد زالت لقد كان خبره عنده مقبولا.
وقد روى أن أبا بكر الصديق قضى بقضية بين قوم. فقال بلال رحمه الله: أشهد أنهم
اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه ه وسلم فقضى في ذلك بينهم بخلاف ذلك، فردهم أبو بكر ونقض
قضاءه، وقضى بينهم بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد قضى أبو بكر بخبر بلال وحده،

106
ونقض به قضاء كان قضى به، فلو لم يكن في خبر المغيرة علة ليس في خبر بلال مثلها
لأجراهما مجرى واحدا.
وأما رد عمر لخبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان - فإن وجهه: أن ذلك مما بالناس
إلى معرفته حاجة عامة، لعموم البلوي به فاستنكر وروده من طريق الآحاد، وهذا عندنا
إحدى العلل التي يرد بها أخبار الآحاد على نحو ما ذكرنا في رواية الهلال، وخبر من أخبر
عن فتنة وقعت في الجامع، أو في عرفات، قتل فيها خلق، فلا يخبر أحد بمثل خبره فنستدل
بذلك على بطلانه.
وأما رد عمر لخبر المغيرة في الجد حتى شهد معه محمد (ابن) (1) مسلمة، فإنه إن ثبت
الخبر على هذا الوجه - كان وجهه بعض ما ذكر في تثبت أبي بكر في خبر المغيرة، في ميراث
الجدة.
على (أن) (2) ما روى عن محمد بن مسلمة (3) والمغيرة: أن يأتي بمن يشهد معه في
خبر حكم الجنين مضطرب، وإنما يرويه عروة بن الزبير وهو لم يشهد هذه القصة، ولا كان
موجودا في ذلك الوقت، والذي يدل على اضطرابه أنه مشهور عن عمر أنه قال (ذكر الله أمرا
سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا، فقام إليه حمل بن مالك فقال: كنت بين جارتين لي
فضربت إحداهما بطن الأخرى بمسطح، فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
بغرة. فقال عمر: (كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا).
وفي بعض الأخبار لو لم نسمع هذا - لقضينا فيه بغير هذا.
فإن كان الصحيح خبر حمل بن مالك وقد قبله عمر وعمل به - فالخبر الذي فيه: أنه
سأل المغيرة، من يشهد معه في ذلك غير صحيح، وإن كان خبر المغيرة ومحمد بن مسلمة
مقدما لخبر حمل ابن مالك، وقد ثبت ذلك عنده، فكيف سأل الناس بعد ذلك عن قضية
النبي عليه السلام في الخبر، مع تقدم سماعه لحكمه، وثبوته عنده بخبر اثنين؟ فهذا يدل
على فساد الخبر الذي ذكر فيه سؤال عن المغيرة من يشهد معه. (4)

107
وأما خبر فاطمة بنت قيس فإنما رده عمر، لأنه كان عنده خلاف الكتاب، في إبطاله
السكنى، وهو منصوص علينا في الكتاب في قوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم). (1)
فلما كان عنده: أنها قد أوهمت في خبرها في إبطال السكنى، وكانت النفقة بمنزلة
السكنى - لم يقبل خبرها، وسوغ الاجتهاد في رده.
وعلى أنه: قد روى في بعض الأخبار (أن عمر رضي الله عنه قال: بعث النبي عليه
السلام يقول: لها السكنى والنفقة)) رواه حماد بن سلمة (2) عن حماد بن أبي سليمان (3) عن
إبراهيم (4) عن عمر، فإن صح هذا فإنما رد خبرها لهذه العلة، لا لأنه خبر واحد.
وأما قوله: إن عمر جعل العلة في رد خبرها: أنه لا يدري صدقته أم كذبت. فإنه لم
يقتصر في الاعتلال لرده على ذلك، لأنه قال مع ذلك: لا ندع كتاب ربنا، ولا سنة نبينا،
لخبر من يجوز الصدق والكذب في خبره، وما ورد به الكتاب فهو حق وصدق، لا يسمع
الشك فيه.
وكذلك ما سمعه من النبي عليه السلام، وكذلك نقول: إن أخبار الآحاد لا يعترض
بها على الكتاب، ولا على السنن الثابتة من طريق اليقين، وعلى أن جواز الصدق والكذب
على المخبر بانفراده لو كان علة لرده - لوجب رد خبر الاثنين أيضا لهذه العلة، ولوجب رد
الشهادات كلها أيضا لذلك.
وأما رد أبي بكر وعمر خبر عثمان في رد الحكم بن العاص إلى المدينة - فإن عثمان

108
ذكر: أن النبي عليه السلام أطمعه في رده، ولم يحك عن النبي عليه السلام: أنه أمره برده،
ولو كانا هما سمعا النبي عليه السلام يطمعه في رده ثم لم يرده - لما جاز لهما أن يراده، إذا لم
يأمرهما بذلك، فليس في هذا تعلق بما ذكره.
وأما رد علي بن أبي طالب لخبر أبي سنان الأشجعي، في قصة بروع بنت واشق
الأشجعية فإن قصة بروع قد شهدها جماعة من أشجع، منهم: أبو سنان، وأبو الجراح، (1)
وغيرهما، ولم يكن المخبر بهما واحدا، فلا تعلق (2) فيه، لموضوع الخلاف، وعلى أن عليا (3) لم
يرده خبره لأنه واحد، لأنه قال: لا نقبل شهادة الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (4) فأخبر:
أنه إنما رده، وإن كانوا جماعة - لأنه اتهم لكثرة وهمهم، وقلة ضبطهم، لأنهم أعراب، فكان
ذلك إحدى العلل التي رد خبرهم لها.
وأما قولهم: إن عثمان لم يقبل من أبي سورتي القنوت، وأن عمر لم يقبل قراءة الرجل
الذي قرأ خلاف قراءته. فإن من أصلنا: أنا لا نثبت القراءة بخبر الواحد، فلا معنى
للاعتراض به فيما وصفنا.

109
الباب الخمسون
في
القول في قبول شرائط أخبار الآحاد

111
باب
القول في قبول شرائط أخبار الآحاد
قال أبو بكر رحمه الله: قد ثبت بما قدمنا وجوب العمل بأخبار الآحاد في الجملة بما
ذكرنا من الطرق الموجبة للعلم بصحة القول بها، ووجوب العمل بها على حسب ما تقدم
من وجوه الحجاج لها، ومع ذلك فإنا متى عينا القول في قبول خبر بعينه من أخبار الآحاد،
كان طريق إثباته والعمل بموجبه الاجتهاد، كما نقول في الشهادات: إن ثبوتها في الجملة
بنص الكتاب.
ومتى عينا القول في شهادة شهود بأعيانهم، كان طريق إثبات شهادتهم والعمل بها
الاجتهاد، وغلبة الظن، لا حقيقة العلم. فمتى غلب على الظن عدالتهم وضبطهم لما
تحملوا، وإتقانهم لما أوجب قبولها منهم. ومتى غلب في ظننا غير ذلك من أمرهم وجب
ردها، ولم يجز لنا قبولها، وكذلك أخبار الآحاد، يجوز ردها لعلل، إذا كان طريق قبولها من
قوم بأعيانهم الاجتهاد وغالب الظن، على جهة حسن الظن بالرواة. فمن العلل التي يردها
أخبار الآحاد عند أصحابنا: ما قاله عيسى بن أبان: ذكر أن خبر الواحد يرد لمعارضة السنة
الثابتة إياه. أو أن يتعلق القرآن بخلافه فيما لا يحتمل المعاني. أو يكون من الأمور العامة،
فيجيئ خبر خاص لا تعرفه العامة. أو يكون شاذا قد رواه الناس، وعملوا بخلافه. (1)

113
قال أبو بكر رحمه الله تعالى: إن (1) ما كانت مخالفته لنص الكتاب (لا) (2) يوجب
العلم بمقتضاه. وخبر الواحد لا يوجب العلم. وقد بينا ذلك فيما سلف من القول: من
تخصيص القرآن ونسخه بخبر الواحد، من الأخبار المخالفة للكتاب، حديث فاطمة بنت
قيس: في إسقاط سكنى المبتوتة ونفقتها. قال الله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من
وجدكم) (3) ونحوه ما روى (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) ظاهره مخالف لقوله تعالى
(ولا تزر وازرة وزر أخرى) (4) وما روى: أن محمدا صلى الله عليه وسلم (رأى ربه) يرده قوله تعالى (لا تدركه
الأبصار) (5) وحديث المصراة. يرده آية الربا، وحديث مانع الزكاة: أنها تؤخذ منه وشطر
ماله.
وحديث: أخذ الثمرة من أكمامها: أنه يعني يغرمها ومثلها معها، وجلدات نكال.
هذه الأخبار تردها آية الربا.
وكذلك معارضة السنة الثابتة إياه، علة ترد هذا المعنى بعينه، لأن السنة الثابتة من
طريق التواتر توجب العلم، كنص الكتاب.
وأما حكمه (6) فيما تعم البلوى به: فإنما كان علة لرده من توقيف من النبي عليه
السلام الكافة على حكمه، فيما كان فيه إيجاب أو حظر نعلمه، بأنهم لا يصلون إلى علمه
إلا بتوقيفه، وإذا أشاعه في الكافة (7) ورد نقله بحسب استفاضته فيهم. فإذا لم نجده كذلك

114
علمنا: أنه لا يخلو من أن يكون منسوخا، أو غير صحيح في الأصل، ولا يجوز فيما كان هذا
وصفه: أن يختص بنقله الأفراد دون الجماعة، كما قلنا في أهل مصر إذا طلبوا الهلال، ولا علة
بالسماء: إنه غير جائز قبول أخبار الآحاد في رؤيته، لأنه لو كان ما أخبر به (صحيحا) (1) لما
جاز أن يختص هو برؤيته دون الكافة.
ولو كان بالسماء علة، وجاء من خارج المصر قبل خبره. وكذلك لو أخبر مخبر عن فتنة
وقعت في الجامع تفانى فيها الخلق، لم يجز قبول خبره دون نقل الكافة.
وكذلك لو قال رجل للإمام يوم الجمعة بعد ما سلم: إنما صليت ركعة واحدة، ولم
يخبره غيره بذلك، مع كثرة المصلين خلفه، لم يجز له أن يلتفت إلى خبره، ولو كان رجل
صلى بآخر فلما سلما، قال له: سهوت: وإنما صليت ركعة، كان يجب عليه قبول خبره، إذا
لم يتيقن: أنه قد أتم صلاته.
ومما ورد خاصا مما سبيله أن تعرفه الكافة: ما روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام:
أنه قال: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه). فهذا الخبر إن حمل على ظاهره اقتضى
بطلان الطهارة إلا مع وجود التسمية عليها، ولو كان ذلك من حكمها - تعرفه الكافة، كما
عرفت سائر فروضها، لعموم الحاجة في الجميع على وجه واحد.
وكما روى عن النبي عليه السلام: أنه قال (من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله
فليتوضأ). ونحو الوضوء من مس الذكر، ومن مس المرأة، والوضوء مما مسته النار، وما روى
في الجهر: ببسم الله الرحمن الرحيم. فلو كانت هذه الأمور ثابتة لنقلها الكافة.
ومثله: حديث رفع اليدين في الركوع، لو كان ثابتا لنقل نقلا متواترا.
ومما يدل على صحة هذا الاعتبار: أن النبي عليه السلام لم يقتصر على خبر ذي
اليدين في قوله: ((أقصرت الصلاة أم نسيت) حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال
لهما: أحق ما يقول ذو اليدين؟ فقالا: نعم، لأنه يمتنع في العادة أن يختص هو بعلم ذلك من
بين الجماعة، كما قلنا فيمن قال للإمام يوم الجمعة بعد ما سلم: سهوت، وإنما صليت ركعة
واحدة، فلا يلتفت إلى قوله، إذا لم يعرفه مع جماعة غيره.
فإن قال قائل: الحيض مما تعم بلوى النساء به، ولم يرد النقل مستفيضا بمقداره.
قيل له: قد ورد النقل المستفيض: بأنها تدع الصلاة أيام أقرائها، وأقل ما يتناول ذلك

115
ثلاثة، وأكثره عشرة، وعلى أن المتعارف منه ست، أو سبع، كما قال عليه السلام لحمنة بنت
جحش: (تحيضي في علم الله ستا أو سبعا، كما تحيض النساء في كل شهر) وهذا المعتاد منه
قد ورد ثبوته وكونه حيضا بالنقل المتواتر، واتفقت الأمة: على أن مثله يكون حيضا،
وكذلك الثلاثة، والعشرة، متفق على: أنها حيض، فما زاد على ذلك أو نقص فخارج عن
العادة، فجائز أن لا يرد النقل بنفيه أو إيجابه من جهة الاستفاضة.
فإن قيل: قد اختلف في التلبية عن النبي عليه السلام بعد الوقوف بعرفة مع كثرة
الجمع هناك.
قيل لم يختلف فيه، ولم يرو أحد: أنه لم يلب بعد الوقوف، وروى جماعة: أنه
كان يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وفعل التلبية هي في هذه الحال ليس بواجب، وإنما هو
فضيلة وقربة، وليس على النبي عليه السلام توقيف الأمة عليه، لأنه كان جائزا له تركها
رأسا، فلما لم يرد فعلها بعد الوقوف، من جهة نقل الكافة لأنه لم يكن بد منها في تلك الحال،
وإنما كان يلبي في الوقت بعد الوقت، فلم يكن يسمعها إلا من قرب منه: مثل الفضل بن
عباس، فإنه كان رديفه، ومثل ابن مسعود، فإنه كان يقرب منه.
ومن المخالفين من يعترض على هذا الأصل بقولنا في وجوب الوتر، ووجوب
المضمضة، والاستنشاق في الجناية، ووجوب تحريمه الصلاة، ونحوها، مع عموم البلوى
بها، وليس هذا مما ذكرنا في شئ، لأن هذه الأشياء مما قد ورد به النقل المتواتر عن النبي
عليه السلام، ولم يختلف الناس: في أن النبي عليه السلام قد فعله، وإنما اختلفوا في
وجوبه، ولسنا ننكر أن مذهب بعض عن جهة الوجوب فيما قد صح نقله مصروفة إلى
الندب بتأويل، وإنما كان كلامنا في نقل ما عمت الحاجة إليه من هذه الأمور.
فإن قال قائل: ما أنكرت أن لا اعتبار بما ذكرت من وجوب استفاضة النقل فيما عمت
الحاجة إليه، لأنه جائز للنبي عليه السلام: أن يخص أهل العلم والإتقان بإعلام ما عمت به
البلوى، حتى يؤديه إلى الكافة.
قيل له في هذا جوابان:
أحدهما: أنا لو سلمنا لك ما ذكرت كان مؤديا لما ذكرنا، لأنه إذا أودع ذلك عامة أهل
الفقه والدراية من أصحابه، فإنما يودعهم إياه لينقلوه إلى الكافة، وإلى من بعدهم، وتنقله
الكافة أيضا عملا، فيتصل للنقلة ويستفيض، فقضيتنا بما وصفنا من وجوب ورود النقل
المتواتر صحيحة فيما كان وصفه ما ذكرنا.
والجواب الثاني: أن النبي عليه السلام لما كان مبعوثا إلى الكافة وقد علم أن حاجة

116
العامي إلى معرفة الحكم كحاجة غيره، فلا بد من أن يكون منه توقيف الجماعة على
الحكم، على الوجه الذي وصفنا.
ألا ترى: أنه لم يكن يختص بتعليم الصلاة والزكاة والصيام وغسل الجنابة - الخاصة
دون الكافة. فكذلك سائر ما عممت فيه البلوى، ودعت الحاجة إليه، سبيله: أن يكون
نقله من طريق التواتر والاستفاضة.
وأما ما روى من الأخبار، وعمل الناس بخلافه: فنحو ما روى عن النبي عليه
السلام (كان يقنت في المغرب وفي سائر الصلوات).
واتفق أهل العلم على خلافه، فهو حديث سلمة بن المحبق عن النبي عليه السلام
فيمن وقع على جارية امرأته: أنها (إن طاوعته فهي له، وعليه مثلها، وإن كان استكرهها
فهي حرة وعليه مثلها).
وكذلك حديث مانع الصدقة، وآخذ الثمرة من أكمامها، قد اتفق الناس على العمل
بخلافها، قال عيسى بن أبان: ورد أخبار الآحاد لعلل عليه عمل الناس، وهو مذهب
الأئمة من الصحابة، ومن بعدهم، وذكر أخبارا ردها السلف للعلل التي قدمنا ذكرها،
فمنها: (رد عمر لحديث أبي موسى في الاستئذان ثلاثا) لأنه مما تعم به البلوى، وهو في
كتاب الله تعالى قال الله تعالى: (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على
أهلها) (1) فاستنكر عمر انفراد أبي موسى بمعرفة تحديد الثلاث دون الكافة، مع عموم
الحاجة إليه، فأوعده حتى حضر مجلس الأنصار، فذكر ذلك لهم فعرفوه، وقالوا: (لا يقوم
معك إلا أصغرنا).
فقام أبو سعيد الخدري وأخبره بذلك، ألا ترى: أنه لو لم يوجد (2) عبد الرحمن بن
عوف، ولا حمل بن مالك، وغيرهما ممن كان يرى الخبر الخاص بل كان يقبله منهم، ويعمل
به إذا لم يكن فيه علة يرد من أجلها.
فإن قال قائل: فقد قبل عمر خبر أبي سعيد حين شهد لأبي موسى، ومعلوم أن خبر
الاثنين والواحد سواء في عموم وقوع العلم به، وشرطك في مثله ألا يقبل إلا الخبر المتواتر.
قيل له: إن عمر لم يقتصر على خبر أبي سعيد، لأن أبا سعيد أخبره عن نفسه، وعن

117
الأنصار بذلك، فصدق أبا سعيد على الأنصار في معرفتهم لصحة ما رواه أبو موسى، فصار
كأن الأنصار شهدوا مع أبي سعيد عنده، فصار ذلك من أخبار الاستفاضة والتواتر، فلذلك
عمل به وقبله.
ورد عمر وعبد الله بن مسعود (حديث عمار (2) في التيمم للجنب) (3) وكانت العلة التي
من أجلها رده عمر: أن عمارا ذكر أن عمر كان معه شاهدا لتلك القصة، ولم يذكر ذلك
عمر، فاتهم وهم عمار فيه، مع عدالته وفضله عنده، ولم يرد خبره، لأنه اتهمه في الرواية،
لكن خاف منه الغلط، والوهم فيها.
ومثله رد عمر (لقول أنس) (3) في أمانه الهرمزان، (4) حتى شهد معه غيره، لأنه حكى
عنه: أنه أمنه، وكان في ذلك المجلس جماعة غيره، ولم يكن عمر ذاكرا له، فاستنكر أن
يحفظه: هو دون جماعتهم. فلما شهد معه غيره أمضى أمانه. (5)
ورد عمرو ابن مسعود (حديث فاطمة بنت قيس في إسقاط سكنى المبتوتة ونفقتها)
لمخالفة الكتاب. (وقد رد) (6) ابن عباس، وعائشة، ظاهر رواية من روى (أن الميت ليعذب

118
ببكاء أهله عليه) وعارضوه بقول الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (1) وردت عائشة
حديث ابن عمر عن النبي عليه السلام في أهل قليب بدر، وأنه قال: (إنهم ليسمعون ما أقول
لهم) وعارضه بقوله تعالى (إنك لا تسمع الموتى) (2) وقال: إنما قال: (إنهم ليعلمون الآن أن
الذي كنت أقول لهم حق). وقالت عائشة رضي الله عنها (من زعم أن محمدا رأى ربه فقد
كفر) قال الله تعالى: (لا تدركه الأبصار) (3) وأنكر ابن عباس حديث أبي هريرة رضي الله
عنهما عن النبي عليه السلام في (الوضوء مما مست النار) وقال: (إنا نتوضأ بالحميم وقد أغلى
على النار)، ولأنه لو كان ثابتا لنقلته الكافة، لعموم الحاجة إليه.
ومشت عائشة في خف واحد وقالت: (لأحدثن أبا هريرة في روايته عن النبي عليه
السلام إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في نعل واحدة حتى يصلح الأخرى). (4)
قال عيسى رحمه الله: وهذا مذهب التابعين ومن بعدهم في قبول أخبار الآحاد وردها
بالعلل. قال إبراهيم: كان عبد الله إذا ذكر لهم حديث أبي هريرة: أن النبي عليه السلام
قال (إذا قام أحدكم من الليل فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا) (5) يقولون: كيف

119
يصنع بالمهراس (1) بالمدينة.
وقال قيس الأشجعي (2) لأبي هريرة حين روى هذا الحديث (فكيف يصنع
بمهراسكم هذا؟ قال: فقال: أعوذ بالله من شرك) (3) وروى إنسان للقاسم بن محمد: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن لبس الأحمرين: الذهب، والمعصفر) (4) فقال القاسم (5) بن محمد:
(كذبوا والله، لقد رأيت عائشة رضي الله عنها: تلبس خواتيم الذهب، وتلبس
المعصفر). (6)
وقال سالم بن عبد الله: (7) أكثر ابن خديج على نفسه، والله ليكرنها كراء الإبل، يعني
في روايته أن النبي عليه السلام (نهي عن كراء الأرض) (8) وقال مغيرة: (9) ذكر لإبراهيم

120
ما رووا في أم سليم (1). وفي قصة ابن أخي أبي (2) القعيس (3) في رضاع الرجل (4) فلم يرهما
شيئا. (5)
قال أبو بكر رحمه الله: ذكر عيسى هذه الأخبار وأخبارا أخر غيرها معها، واستدل بها:
على أن من مذهب السلف: رد أخبار الآحاد بالعلل.
وهذا استدلال صحيح على ما ذكر، لأنه قد ثبت به إجماعهم على اعتبار ذلك، كما
أثبت بإجماعهم لما قبلوه من الأخبار، في لزوم العمل بها والمصير إليها. فمن حيث كان
إجماعهم على قبول أخبار الآحاد بمثل الروايات التي يثبت بمثلها ردهم لها للعلل التي
ذكرنا، حجة في لزوم قبولها إذا عريت من العلل الموجبة لردها، وجب أن يكون إجماعهم فيما
ردوا منها - حجة في ردها، للعلل التي وصفنا.
قال أبو بكر رحمه الله: ومما يرد به أخبار الآحاد من العلل أن ينافي موجبات أحكام
العقول، لأن العقول حجة لله تعالى. وغير جائز إنقاص (6) ما دلت عليه وأوجبته. وكل

121
خبر يضاده حجة للعقل فهو فاسد غير مقبول. وحجة العقل ثابتة صحيحة، إلا أن يكون
الخبر محتملا لوجه لا يخالف به أحكام العقول، فيكون محمولا على ذلك الوجه.
قال أبو بكر رحمه الله: قد حكيت جملة ما ذكره عيسى في هذا المعنى، وهو عندي
مذهب أصحابنا، وعليه تدل أصولهم، وإنما قصد عيسى رحمه الله فيما ذكره إلى بيان حكم
الأخبار الواردة في الحظر، أو الإيجاب، أو في الإباحة، ما قد ثبت حظره بالأصول التي
ذكرها، أو حظر ما ثبت إباحته، مما كان هذا وصفه، فحكمه جار على المنهاج الذي ذكرناه
في القبول، أو الرد.
وأما الأخبار الواردة في تبقية الشئ على إباحة الأصل، أو نفي حكم لم يكن واجبا في
الأصل، أو في استحباب فعل، أو تفضيل بعض القرب على بعض، فإن هذا عندنا خارج
عن الاعتبار الذي قدمنا، وذلك لأنه ليس على النبي عليه السلام بيان كل شئ مباح، ولا
توقيف الناس عليه بنص يذكره، بل جائز له ترك الناس فيه على ما كان عليه حال الشئ
من الإباحة قبل ورود الشرع.
وكذلك ليس عليه تبيين منازل القرب ومراتبها بعد إقامة الدلالة لنا على كونها قربا،
كما أنه ليس عليه أن يبين لنا مقادير ثواب الأعمال، فلذلك جاز ورود خبر خاص فيما كان
هذا وصفه، وتوقيفه بعض الناس عليه دون جماعتهم، حسب ما يتفق من سؤال السائل
عنه، أو وجود سبب يوجب ذكره، فيعرفه خواص من الناس، وينقلوه دون كافتهم. ومن
نحو ما قلنا في ورود خبر خاص فيما تركوا فيه على الأصل: حديث نفي الوضوء من كل ما لا
يوجب حدوثه الوضوء، من نحو خروج اللبن، والدمع، والعرق، من بدن الإنسان.
وأما الوضوء من مس الذكر فلو كان ثابتا، لكان من النبي عليه السلام توقيف الكافة
عليه، لعلمه بأنهم كانوا متفقين في الأصل على نفي الوضوء منه. فإذا أحدث لهم هذا
الحكم وجب إعلامهم إياه، لئلا يقدموا على الصلاة بغير وضوء، كما وقف على الوضوء
من البول والغائط.
وكذلك خبر (ترك الوضوء مما مست النار). وليس يجب أن يكون من جهة العامة
للعلة التي وصفنا. وإيجاب الوضوء من هذه الأشياء حكمه أن يرد بالنقل المتواتر لما بينا.
ومن نظائر ما ذكرناه في الأمور المستحبة، وتفضيل الأعمال بعضها على بعض مما لا

122
تعلق فيه، بحظر ولا إيجاب: ما يروى عن النبي عليه السلام في (المشي خلف الجنازة
وأمامها) (1) وفي (المتغلس بصلاة الفجر والإسفار بها) (2) وفي (عدد تكبير العيدين، ومقدار
تكبير التشريق) وفي (فعل الصلوات المفروضات، تارة في أوائل أوقاتها، وتارة في أواخرها)
وفي (إدامة التلبية إلى أن يرى جمرة العقبة) (3) وفي (مسح بعض الرأس في حال، وكله في
أخرى).
فهذه كلها قرب ونوافل. والخلاف بين الفقهاء إنما هو في أيها أفضل، فليس على
النبي عليه السلام توقيف الجميع على الأفضل، وإن كان فعله مستفيضا في الكافة، وليس
يمنع أن يكون النبي عليه السلام قد فعل هذا تارة، وهذا تارة، على وجه التخيير،
وليعلمهم جواز الجميع، وإن كان بعضها أفضل من بعض، فعلى هذه المعاني التي ذكرنا:
يجب اعتبار أخبار الآحاد، في قبولها وردها.

123
الباب الحادي والخمسون
في
القول في اعتبار أحوال رواة أخبار الآحاد
وفيه فصل في الدلالة على الصحيح مما قسمنا
عليه أخبار الآحاد

125
باب
القول في اعتبار أحوال أخبار الآحاد
قال عيسى بن أبان رحمه الله: ويقبل من حديث أبي هريرة ما لم يتم وهمه فيه، لأنه
كان عدلا.
وقال أيضا في موضع آخر: ويقبل من حديث أبي هريرة ما لم يرده القياس، ولم يخالف
نظائره من السنة المعروفة، إلا أن يكون شئ من ذلك قبله الصحابة والتابعون، ولم يردوه.
وقال: ولم ينزل حديث أبي هريرة منزلة حديث غيره من المعروفين بحمل الحديث
والحفظ، لكثرة ما نكر الناس من حديثه، وشكهم في أشياء من روايته.
قال إبراهيم النخعي: (كانوا يأخذون من حديث أبي هريرة ويدعون).
وقال: (كانوا لا يأخذون من حديث أبي هريرة إلا ما كان في ذكر الجنة والنار (1)).
ولم يقبل ابن عباس روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم في (الوضوء مما مست النار) وعارضه بالقياس
لأنه قال: يا أبا هريرة (إنا نتوضأ بالحميم، وقد أغلى على النار، وإنا ندهن بالدهن وقد

127
أغلى على النار. فقال أبو هريرة: يا بن أخي، إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا
تضرب له الأمثال). (1)
وقال عيسى رضي الله عنه:
فإن قيل: إن ابن عباس كان عنده عن النبي عليه السلام خلاف رواية أبي هريرة.
قيل له: لو كان كذلك لقال: سمعت النبي عليه السلام، ولسأله عن التاريخ ليعلم
الناسخ، ولما لجأ في رده إلى القياس.
قال أبو بكر رحمه الله: وقد روى ابن عباس عن النبي عليه السلام أنه (أكل لحما
وصلى ولم يتوضأ) (2) إلا أن احتجاج عيسى رحمه الله برد ابن عباس خبره بالقياس
الصحيح، لأن خبره عنده لو كان مقبولا مع مخالفته للقياس - لوجب أن يكون اللحم مبينا
من جملة ما مست النار: في أن لا وضوء فيه، ويكون حديث أبي هريرة مستعملا عنده فيما
عدا اللحم، فلما رد جملة الحديث لمخالفته لقياس ما يثبت عنده من نفى الوضوء من اللحم
ومن الحميم، ثبت: أنه كان من أصل ابن عباس: رد خبر أبي هريرة بالقياس.
(وكانت عائشة تمشي في الخف الواحد وتقول: لأحدثن أبا هريرة). وقالت لابن
أخيها: (لا تعجب من هذا وكثرة حديثه. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثا لوعده العاد
أحصاه). (3)

128
وقد أنكر عليه ابن عمر رضي الله عنهما، وجماعة غير هؤلاء من الصحابة - كثرة
روايته، ولم يأخذوا بكثير منها، حتى يسألوا غيره، فإذا أخبرهم به غيره عملوا به.
وقالت عائشة فيما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ولد الزنا شر الثلاثة) (1):
(لم ينتظر بأمه أن تضع).
قال أبو بكر رحمه الله: جعل عيسى رحمه الله ما ظهر من مقابلة السلف لحديث أبي
هريرة بقياس الأصول، وتثبتهم (2) فيه، علة لجواز مقابلة رواياته بالقياس. فما وافق القياس
منها قبله، وما خالفه لم يقبله، إلا أن يكون خبرا قد قبله الصحابة فيتبعون فيه، ولم يجعل
حديث أبي هريرة في ذلك كحديث غيره من الصحابة، لأنه لم يظهر من الصحابة من
التثبت في حديث غيره مقابلته بالقياس، مثل ما ظهر منهم في حديثه، فجعل ذلك أحد
الوجوه الموجبة للتثبت في خبره، وعرضه على النظائر من الأصول، فإن لم ترده النظائر من
الأصول قبله، وإن كانت نظائره من الأصول بخلافه - عمل على النظائر، ولم يعمل
بالخبر، كما اعتبر ابن عباس في روايته في الوضوء مما مست النار بما ذكر من النظائر، وكما
فعلت عائشة في مشيها في خف واحد.
والأصل في ذلك: أن خبر الواحد مقبول على جهة الاجتهاد، وحسن الظن بالراوي،
كالشهادات، فمتى كثر غلط الراوي، وظهر من السلف التثبت في روايته، كان ذلك مسوغا
للاجتهاد في مقابلته بالقياس، وشواهد الأصول.

129
وحكى بعض من لا يرجع إلى دين، ولا مروءة، ولا يخشى من البهت والكذب: أن
عيسى أبن أبان رحمه الله طعن في أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه روى عن علي بن أبي
طالب كرم الله وجهه أنه قال: (سمعت النبي عليه السلام يقول: إنه يخرج من أمتي ثلاثون
دجالا. وأنا أشهد: أن أبا هريرة منهم) وهذا كذب منه على عيسى رحمه الله، ما قاله عيسى،
ولا رواه، ولا نعلم أحدا روى ذلك عن علي في أبي هريرة، وإنما أردنا بما ذكرنا: أن نبين عن
كذب هذا القائل، وبهته، وقلة دينه.
بل الذي ذكر عيسى في كتابه المشهور: هو ما قدمنا ذكره، مع تقديمه القول في
مواضع من كتبه بأنه عدل، مقبول القول والرواية، غير متهم بالتقول على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الوهم والغلط لكل بني آدم منه نصيب، فمن أظهر (1) من السلف
تثبتا في رواية تثبتنا فيها، واعتبرناها بما وصفنا.
فإن قيل، قد روى عن أبي هريرة أنه قال: (يزعمون: أن أبا هريرة يكثر الحديث عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني كنت امرءا مسكينا، أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكانت
الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وإني
شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا وهو يتكلم، فقال: من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي،
ثم يقبضه إليه، ولا ينسى شيئا سمعه مني، فبسطت بردة كانت علي، حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم
مقالته، فقبضتها، فما نسيت شيئا بعده (2) (سمعته منه)). (3)
وكان أبو هريرة قد حفظ ما سمعه، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلذلك كانت
روايته أكثر من روايات غيره.
قيل له: أما قوله: إنهم يزعمون: أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فإنه يدل: على أنهم قد كانوا أنكروا كثرة روايته.

130
وأما حفظه لما كان سمعه حتى لا ينسى منه شيئا، فإنه لو كان كذلك لكانت هذه
فضيلة له قد اختص بها، وفاز بحظها من سائر الصحابة، ولو كانت هذه حاله لعرفوا ذلك
له، واشتهر عندهم أمره، حتى كان لا يخفي على أحد منهم منزلته، ولرجعت الصحابة إليه
في روايته، ولقدموها على روايات غيره، لامتناع جواز النسيان عليه، وجوازه على غيره،
ولكان هذا التشريف والتفضيل الذي اختص به متوارثا في أعقابه، كما (خص جعفر بأن له
جناحين في الجنة) وخص (حنظلة بأن الملائكة غسلته).
فلما وجدنا أمره عند الصحابة بضد ذلك، لأنهم أنكروا كثرة روايته: علمنا: أن
ما روى: في أنه لا ينسى شيئا سمعه - غلط. وكيف يكون كذلك وقد روى عنه حديث رواه
عن النبي عليه السلام وهو قوله فيما أخبر ((لا عدوى ولا طيرة) (1) ثم روى (لا يوردن) (2)
ممرض على مصح. (3)
فقيل له: قد رويت لنا عن النبي عليه السلام قبل ذلك (لا عدوى ولا طيرة).
فقال: ما رويته.
ولا يشك أهل المعرفة: أن ذلك مما قد نسيه أبو هريرة، لأن الروايتين جميعا
صحيحات عنه، وعلى أنه لو صح الحديث الذي فيه: أنه بسط رداءه، ثم لم ينس شيئا، كان
محمولا على ما سمعه في ذلك المجلس خاصة، دون غيره، والذي لا يشك فيه أحد من أهل
العلم: أن أبا هريرة ليس في رتبة عبد الله بن مسعود: في الفقه، والدراية، والإتقان، وقرب
المحل من النبي عليه السلام.

131
وقد قال عمرو بن ميمون: (1) (جالست عبد الله بن مسعود فما سمعته يروى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، إلا مرة واحدة، فإنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ثم اعتراه السهو والعرق
ثم قال: أو نحو هذا، أو قريبا من هذا، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) فكان مثله في محله من
العلم: يتهيب الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن لا يدانيه ولا يقاربه في الضبط والإتقان أولى
بذلك.
ولا يخفى على ذي معرفة: أن رواية أبي هريرة ليست مثل رواية ابن مسعود: في
التثبت، والإتقان، وسكون النفس إليها. وقد روى عن عمر: أنه قال لأبي هريرة لما بلغه
أنه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء لا تعرف: (لئن لم تكف عن هذا لألحقك بجبال
دوس). (3)
وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول للجيش يوجه به (أقلوا الرواية عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم). (4)
وقد كان جماعة من كبراء الصحابة كعثمان وطلحة (5) والزبير (6) وسعد وأمثالهم،

132
يتوقون كثرة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خوفا من الزلل والغلط. وكان أنس إذا حدث عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث قال عند انقضائه: (أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم). وكان زيد بن أرقم
إذا سئل أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع من ذلك، وقال: (كبرنا ونسينا، والحديث عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد). (1) وسمع الزبير رجلا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ منه حلف
الزبير بالله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك. ثم قال الزبير: (هذا وأشباهه يمنعنا من
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وذكر الزبير: أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث بذلك من قول أهل الكتاب، فلم يفهم
الرجل عنه، وظن أنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) وروى عن ابن عباس أنه قال: (كنا
نحفظ الحديث - والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأما إذ ركبتم الصعب والذلول
فهيهات).
وقال بكير (3) بن عبد الله بن الأشج، عن بسر بن سعيد: (4) (اتقوا الحديث عن

133
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله إن كنا لنجالس أبا هريرة فيقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول، ثم
يقول: أخبر كعب، (1) ثم نفترق من ذلك المجلس فنسمعهم يذكرون حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن
كعب، وحديث كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم) (2)
فهذا الذي ذكرنا يدل: على أن كبراء الصحابة قد أشفقوا على حديث النبي عليه
السلام، من أن يدخله خلل أو وهم، أو أن يلحقوا به ما ليس منه.
فلذلك أمروا بالإقلال من الرواية، إلا لذوي الضبط والإتقان منهم، وإذا كان السهو
والغلط جائزا على الرواة، ثم ظهر من السلف إنكار كثرة الرواية على بعضهم، كان ذلك
سببا لاستعمال الرأي والاجتهاد فيما يرويه، وعرضه على الأصول والنظائر.
قال عيسى بن أبان رحمه الله: فإن كان الذي روى ذلك عنه مجهولا، أو شك الناس
في خبره، واتهموا وهمه، نظر فيه بالاجتهاد، ورد منه ما كان يخالف نظائره من السنة
والتأويل، وجاز الاجتهاد في قبوله ورده.
قال: وكل من حمل عنه الثقات الحديث: من أعرابي وغيره، ممن سمع حديثا
فرواه، ولم يعرف نشره، وليس من أهل العلم المعروفين بالثقة فيه، والحفظ له، مثل:
معقل بن سنان (3) ووابصة بن معبد، وسلمة بن المحبق: حديثهم عندنا مقبول، لحمل
الثقات عنهم.
وللعلماء أن ينظروا في أخبارهم، فيردوا منها ما أنكروا بالتأويل، والقياس،
والاجتهاد، ولم يشق على من اجتهد، فرد بعضه، وقبل بعضا، فقبل منه ما لم يرده نظائره من
الأصول، ورد منه ما كذبته نظائره، بكون أخبار هؤلاء عندنا كأخبار المعروفين بالعلم
والحفظ، كالشهود، وإن كانوا عدولا، ولا يكون منهم المغفل الذي تقبل شهادته في
الواضح، الذي يرى الحاكم: أنه يضبط مثله، ويرده في الأمر المشكل الذي يرى: أنه لا
يضبط حفظه، والقيام به، أجاز رد رواية المجهول بقياس الأصول، وسوغ الاجتهاد في
قبولها وردها من هذا الوجه.

134
ويحتمل أن يكون مراده المجهول من أهل عصره، أو قبيل عصره، ويحتمل أن يريد به
المجهول من الصحابة والتابعين، فإن كان مراده: أن المجهول الذي ذكر أمره من أهل
عصره أو قبيل ذلك، فهذا وجهه عندنا: أن القرن الرابع من الأمة قد حكم النبي عليه
السلام بظهور الكذب منهم، بقوله عليه السلام (خير الناس قرني الذي بعثت فيه، ثم الذي
يلونهم، ثم يفشو الكذب) (1) فجائز أن يكون استعماله للقياس في معارضة خبر المجهول
من هذه الجهة. وإن كان هذا المجهول من السلف، من صحابي، أو تابعي، فإن عيسى
قد ذكر: (أن عليا عليه السلام إنما رد خبر معقل بن سنان الأشجعي في قصة بروع بنت
واشق) لأنه كان خلاف القياس عنده، وكان سنان غير مشهور بالحفظ والرواية.
ألا ترى أنه قال: لا تقبل شهادات الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنما رد خبره لأنه
لم يكن معروفا بتحمل العلم، ونقل الأخبار، وقبله عبد الله بن مسعود وفرح به، لأنه كان
عنده مواقفا لرأيه، فجعل عيسى رحمه الله مذهبهما في ذلك أصلا في جواز رد رواية
المجهولين من الرواة، لمخالفتها القياس. ونزل رواية المجهول منزلة أخبار من شك الناس في
خبره، (واتهم حفظه) (2) على نحو ما ذكرنا من إنكار الصحابة على أبي هريرة كثرة الرواية،
ومعارضتها بالقياس.
قال أبو بكر رحمه الله، وتحصيل ما روينا عنه وجملته: أنه نزل أخبار الآحاد على منازل
ثلاث:
أحدها: ما يرويه عدل معروف بحمل العلم، والضبط، والإتقان (3) من غير ظهور ينكر

135
من السلف عليه في رواية، فيكون مقبولا، إلا أن يجئ معارضا للأصول التي هي: الكتاب،
والسنة الثابتة، والإتقان. ولا يرد بقياس الأصول.
والثاني: ما يرويه من لا يعرف ضبطه وإتقانه، وليس بمشهور بحمل العلم، إلا أن
الثقات قد حملوا عنه، فيكون حملهم عنه تعديلا منهم له، فخبره مقبول، ما لم يرده قياس
الأصول، ويسوغ به رده، وقبوله بالاجتهاد. نحو ما ذكر عيسى من حديث: وابصة، وابن
سنان، وسلمة بن المحبق، ونظرائهم، وذلك لأن حملهم العلم عنه وإن كان تعديلا منهم
إياه، إذ لم يجز أن يظن بهم: أنهم نقلوا عن غير عدل، فليس في تعديلهم إياه ما يوجب وقوع
الحكم منهم بضبطه وإتقانه.
وهذان الأمران مما يحتاج إليهما في صحة النقل: أعني العدالة، والضبط لما نقل، فإذا
لم يثبت عندنا ضبط الراوي لما رواه، ولم يثبت عدالته - جاز لنا النظر والاجتهاد في (قبول
روايته) (1) وردها.
والثالث ما يرويه رجل معروف وقد شك السلف في روايته، واتهموا غلطه، فروايته
مقبولة، ما لم تعارضه الأصول التي قدمنا، ولم يعارضه القياس أيضا، فإنه إذا عارضه القياس
ساغ الاجتهاد في رده بقياس الأصول، فعلى هذه المعاني يدور هذا الباب. (2)

136
والأصل فيه ما قدمنا من (أن) (1) خبر الواحد ما لم يوجب العلم بصحة مخبره - كان
كالشهادة، فمتى عرض فيه شئ من الأسباب التي وصفنا ساغ الاجتهاد في ردها وقبولها.
ويدل على اعتبار أحوال الرجال: ما حدثنا عن يوسف بن يعقوب، (2) حدثنا
إبراهيم بن بشار، (3) حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، (4) قال: أخبرني أبو الشعثاء،
جابر بن زيد، (5) قال: سمعت ابن عباس يقول: (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة رضي الله
عنها، وهو محرم) قال عمرو فقلت لجابر: إن ابن شهاب أخبرني عن يزيد بن الأصم، (6)
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج وهو حلال، فقال لي جابر: إن زيدا خاله ابن عباس، فهو أعلم
بها، فقلت وهي خالة يزيد ابن الأصم، فقال لي: وأين تجعل يزيد بن الأصم؟ أعرابيا يبول
على عقبيه، إلى ابن عباس) فاعتبر حال هذا الرجل في الضبط والإتقان.
وقال عيسى أيضا، روى رجل من الثقات المعروفين خبرا، وروى ضده من قد حمل

137
عنه الثقات، وليس بمعروف الضبط والحفظ. جاز قبول رواية غير المعروف بالحفظ
اجتهادا، كالشهادة على الحقوق.
قال أبو بكر رحمه الله: لم يذكر هاهنا جهالة الرجل، وإنما ذكر: أنه غير معروف
بالحفظ، والآخر معروف بالحفظ، فأجراه مجرى ما قدمنا من اعتبار الاجتهاد فيه. قال أبو بكر
رحمه الله: ولا بد من اعتبار عدالة الناقل، وضبط ما يتحمله وإتقانه، لما يؤديه. كما يعتبر
أوصاف الشهادة في هذا المعنى، وذلك فيمن شاهدناه، وأما من تقدم ممن لم نشاهده، فإن
نقل العلماء عنهم من غير طعن منهم فيهم تعديل لهم، وليس نقلهم عن المجهول - وإن كان
تعديلا له - حكما منهم بإتقانه وضبطه، فكان أمره محمولا على الاجتهاد، في قبول رواية
أوردها.
والذكر والأنثى، والحر والعبد، والبصير والأعمى، في ذلك سواء، لأن الصحابة لم
تفرق في قبولها أخبار الآحاد بين شئ من ذلك، بل كانوا يسألون نساء النبي عليه السلام
عن الأحكام التي تخصهن، هل عندهن عن النبي عليه السلام منها شئ؟ فقبلوا ما يوردنه
عليهم من ذلك، وكانوا يقبلون من روايات من كف بصره.
منهم: ابن عباس، وجابر، وواثلة بن الأسقع، (1) وعتبان بن مالك (3) في نظائرهم
من الصحابة.
قال أبو بكر: وقد ذكر عيسى أخبارا متضادة استدل بها على: وقوع الوهم والغلط في
كثير من روايات الأفراد.
منها: أن عروة ابن الزبير روى عن عائشة: أنها كانت مهلة بالعمرة حين حجت مع النبي
عليه السلام، وروى القاسم عنها: أنها كانت مهلة بالحج. (3)

138
قال ابن أبي مليكة: (1) (ألا تعجب من اختلاف عروة والقاسم في عائشة؟! قال
عروة: أهلت بالحج، وروى أنس: أنه سمع النبي عليه السلام يقول: لبيك بعمرة
وحجة. وقال ابن عمر: (وهم أنس، إنما أهل بالحج). وروى عبد الله بن فروخ، (2) عن
أم سلمة (عن النبي عليه السلام: كان يقبلها وهو صائم) روى أبو قيس (3) قال: (سألت أم
سلمة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم؟ فقالت: لا. فقلت: إن عائشة رضي الله عنها
قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، فقالت لعله إنه كان لا يتمالك عنها حبا، أما
إياي فلا). (4)
وذكر أخبارا أخر من هذا الضرب، مستدلا بها على وقوع الغلط من الرواة الثقات في
الأخبار، وأن الأمر إذا كان كذلك لم يجز الإقدام على إثبات سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بظاهر
الروايات الواردة، دون عرضها على الأصول، إذ غير جائز قبول جميعها، وإضافتها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما فيها من الاختلاف والتضاد.

139
فصل
في الدلالة على الصحيح مما قسمنا عليه أخبار الآحاد
قال أبو بكر رحمه الله: الدليل على أن خبر الواحد إذا رواه العدل الثقة الذي لم يظهر
من السلف النكير عليه في رواياته مقدم على القياس - قول الله تعالى: (إن الذين يكتمون
ما أنزلنا من البينات والهدى) (1) وقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه
للناس ولا تكتمونه) (2) فدلت هذه الآيات: على أن من عنده نص من حكم الله فأظهره،
فقال: هذا نص حكم الله تعالى، لزم قبول قوله، إذا كان عدلا ضابطا، لأن الدلالة قد
قامت: على أن غير العدل لا يقبل خبره، فإذا كان كذلك لم يجز رده بالقياس، مع أمر الله
تعالى إيانا بقبوله والحكم به، من غير اعتبار قياس معه.
ويدل عليه أيضا: أن الصحابة رضي الله عنهم قد كانوا يعتقدون القول من طريق
القياس، ثم يتركونه إلى خبر واحد يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقبول عمر رضي الله عنه
خبر حمل (3) بن مالك، وترك رأيه له، لأنه قال: (كدنا أن نقضي في مثله برأينا، وفيه سنة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فإن بعض الألفاظ: لولا من رواه لكان رأينا فيه غير ذلك. وقال ابن عمر
رضي الله عنهما: (كنا لا نرى المخابرة بأسا، حتى أخبرنا رافع بن خديج: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عنها، فتركناها) وأخبار أخرى كثيرة كانوا يتركون القياس لها، (4) وكان (5) الخلفاء الراشدون

140
إذا نزلت (1) بهم نازلة (2) في أمر (3) الدين، سألوا الصحابة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم
يفزعوا إلى القياس، (ولم يعتدوا به)، (4) إلا بعد فقد السنة. فدل: على أن خبر الواحد مقدم
على القياس.
ومن جهة أخرى: إن المخبر إذا كان عدلا، (صادقا). (5) ضابطا، تسكن النفس إلى
خبره - فهو يقول لنا: هذا نص الحكم. والقائس (6) لا يمكنه أن يدعى: أن ما أداه إليه
قياسه حقيقة حكم (7) لله تعالى، فكان للخبر مزية على النظر.
وأما إذا كان ورود الخبر ممن (8) ظهر من السلف التثبت في روايته، ومقابلتها
بالقياس، أو لم يكن الراوي له معروفا بالضبط والإتقان، فإنما جاز معارفته بالقياس وساغ
الاجتهاد في تقدمة (9) القياس عليه، من قبل: أن السلف قد اعتبروا ذلك وعارضوا (10) كثيرا
من هذا الضرب من الأخبار بالنظر، كنحو معارضة (ابن عباس) (11) لخبر أبي هريرة في
الوضوء مما مست النار فقال: (إنا نتوضأ بالحميم وقد أغلى على النار) (12) وكخبر فاطمة
بنت قيس - في إبطال السكنى والنفقة - قال فيه عمر بن الخطاب: (لا ندع كتاب ربنا وسنة
نبينا) (13) لقول امرأة).
ذهب عيسى بن أبان رحمه الله إلى أن قوله: وسنة نبينا، إنما عنى به قياس السنة (14)

141
(لا أنه كان عنده سنة) (1) بخلاف ما روته. (قال): (2) وذلك لأنه لو كان عند عمر سنة
بخلاف ما روته في غير الحادثة لسألها عن تاريخ حديثها، لينظر أيهما (3) الناسخ، فيعمل
عليه، فلما (لم) (4) يسألها عن ذلك علم (5) أنه لم يكن عنده نص سنة في ذلك، وأن مراده
كان: أنه مخالف لقياس السنة، وهي ممن يثبت لها (6) السكنى - والسكنى من لنفقة - فإذا
وجب بعضها، وجب جميعها، لا فرق بينهما، ولأنها (7) حين جعلت في حكم الزوجات في
وجوب السكنى لها وبقى (8) حق في المال، (9) كان القياس: أن يكون كذلك في حكم النفقة.
وكما رد علي بن أبي طالب رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي، في قصة بروع بنت
واشق الأشجعية، لأنه كان خلاف القياس عنده، ولم يكن الراوي له معروفا عنده بالضبط.
ألا ترى أنه قال: لا تقبل شهادة الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

142
الباب الثاني والخمسون
في
القول في الخبر المرسل

143
باب
القول في الخبر المرسل (1)
قال أبو بكر رحمه الله: مذهب أصحابنا: أن مراسيل الصحابة والتابعين مقبولة.
وكذلك عندي: قبوله في أتباع التابعين، بعد أن يعرف بإرسال الحديث عن (2) العدول
الثقات.
فأما مراسيل من كان في القرن الرابع من الأمة: فإني كنت أرى بعض شيوخنا يقول:
إن مراسيلهم غير مقبولة، لأنه الزمان الذي روى عن النبي عليه السلام: أن الكذب يفشو
فيه، وحكم النبي عليه السلام للقرن الأول والثاني والثالث بالصلاح والخبر، لقوله عليه
السلام: (خير الناس قرني الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو
الكذب).

145
قال: فإذا كان الغالب على أهل الزمان: الفساد و الكذب، لم نقبل فيه إلا خبر من
عرفناه بالعدالة، والصدق والأمانة.
ولم أر أبا الحسن الكرخي يفرق بين المراسيل من سائر أهل الأعصار.
وأما عيسى بن أبان فإنه قال: من أرسل من أهل زماننا حديثا عن النبي عليه السلام
فإن كان من أئمة الدين - وقد نقله عن أهل العلم - فإن مرسله مقبول، كما يقبل مسنده،
ومن حمل عنه الناس الحديث المسند، ولم يحملوا عنه المرسل فإن مرسلة عندنا موقوف. (1)
قال أبو بكر رحمه الله: ففرق في أهل زمانه: بين من حمل عنه أهل العلم المرسل،
دون من لم يحمله عنه إلا المسند، والذي يعني بقوله: حمل عنه الناس، قبولهم لحديثه،
لا سماعه، فإن سماع المرسل وغير المرسل جائز.
وقال عيسى في كتابه في المجمل والمفسر: المرسل أقوى عندي من المسند.
قال أبو بكر: والصحيح عندي، وما يدل عليه مذهب أصحابنا: أن مرسل التابعين
وأتباعهم مقبول، ما لم يكن الراوي ممن يرسل الحديث عن غير الثقات، فإن من استجاز
ذلك لم تقبل روايته، لا لمسند ولا لمرسل. (2)
والدليل على صحة ما ذكرنا: أن ظاهر أحوال الناس كان في عصر التابعين وأتباعهم
الصلاح والصدق، لما دل عليه حديث النبي عليه السلام، ومن أجله كان يقول عمر بن
الخطاب رضي الله عنه: (المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا حدا، مجريا

146
عليه شهادة، أو ضنينا في ولاء، أو قرابة). (1)
وكان إبراهيم النخعي يقول: (المسلمون عدول). (2)
قال أبو بكر رحمه الله: والصحيح عندي وما يدل عليه مذهب أصحابنا: أن مرسل
التابعين وأتباعهم مقبول، ما لم يظهر منهم ريبة، وكذلك كان مذهب أبي حنيفة، فإن الذي
لا شك فيه: أن مراسيل غير العلماء والموثوق بعلمهم ودينهم ومن يعلم أنه لا يرسل إلا عن
الثقات - غير مقبول.
والدليل على لزوم العلم بالأخبار المرسلة على الحد الذي بينا: ما استدللنا به من
عموم الآيات الموجبة لقبول أخبار الآحاد. منها: قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا
من البينات والهدى) (3) وغيرها من الآيات الدالة على وجوب العلم بأخبار الآحاد، ولم
يختلف حكم دلالتها في وجوب العلم بالمسند دون المرسل، لأن التابعي إذا قال: قال النبي
عليه السلام: كيت وكيت، فقد بين، وترك الكتمان، فيلزم قبوله بظاهر الآية، وكذلك قوله
تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) (4) إلى آخر الآية.
فدل: على أن الطائفة من التابعين إذا رجعت إلى قومها فقالت: أنذركم ما قال
النبي عليه السلام، وأحذركم مخالفته، قد لزمهم قبول خبرها، كما دل على لزوم خبر
الصحابي إذا قال: قال صلى الله عليه وسلم.
وأيضا: فلما كان المسند من أخبار الآحاد مقبولا، وجب أن يكون المرسل منها بمثابته
من حيث وجب الحكم بعدالة المنقول عنه في الظاهر، من حيث شهد النبي (5) عليه السلام

147
لأهل عصره والتابعين بالصلاح، كما شهد للصحابة، فوجب حمل أمرهم على ما حملنا عليه
أمر الصحابي، إذا (1) قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، لأن (2) ظاهر حالهم يقضي تعديلهم، بشهادة
النبي عليه السلام لهم بذلك.
ألا ترى: أن النبي عليه السلام قال للأعرابي الذي شهد عنده على رؤية الهلال:
(أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) فلما قال: نعم. قبل خبره.
وأمر الناس بالصوم بنفس ظهور الإسلام منه، قبل أن يعرف شيئا آخر من أحواله،
لأنه لو كان قد عرفه قبل ذلك، لما سأله هل هو مسلم أو لا.
كذلك يجب هذا الحكم لأهل عصر التابعين، بشهادة النبي عليه السلام لهم به.
فيقبل خبر من روى عن واحد منهم إذا لم يسمه، ما لم يكن المخبر بذلك لنا معروفا بإرسال
الحديث عمن لا يجوز قبول خبره، فإن من عرفناه بذلك لم نلتفت إلى خبره، كما أن من
عرف من الصحابة بزوال عدالته لم تقبل روايته، حتى تثبت عدالته.
وثبوته كنحو ما حكم الله تعالى من فسق الوليد بن عقبة بقوله تعالى: (إن جاء كم
فاسق بنبأ فتبينوا). (3)
ومن جهة أخرى: لأن من فقهاء التابعين من قد أخبروا عن أنفسهم: أنهم لا
يرسلون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد صحته وثبوته عندهم.
قال الأعمش: (4) قلت لإبراهيم: (5) إن (6) حدثتني فأسند. فقال: إذا قلت لك

148
حدثني فلان عن عبد الله: (1) فهو الذي حدثني، وإذا قلت لك: قال عبد الله، فقد حدثني
جماعة عنه. (2)
وروى عن الحسن (3) قال: (كنت إذا اجتمع لي أربع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
تركتهم، وأسندته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم). (4)
وروى عروة بن الزبير، لعمر بن عبد العزيز، (5) حديث النبي عليه السلام (من أحيا
أرضا ميتة فهي له) (6) وأرسله، فقال له عمر: أتشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ فقال:
نعم، أخبرني بذلك العدل الرضي، ولم يسم من أخبره، فاكتفى منه عمر بن عبد العزيز
بذلك، وقبله، وعمل به.
وكان سعيد بن المسيب، والحسن، وغيرهما، يرسلون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
إذا سئلوا عن إسناده أسندوه إلى الثقات، وعلى هذا المنهاج جرى أمر الصحابة رضي الله
عنهم في إرسالهم الأحبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بضعة عشر حديثا، والباقي سماع من
غيره، وليس يكاد يذكر من حدثه به عن النبي عليه السلام، إنما يرسله عنه.

149
وقال البراء بن عازب رضي الله عنه (ما كل ما نحدث به سمعناه من النبي عليه
السلام، ولكنا سمعناه، وحدثنا أصحابنا، ولكنا لا نكذب). (1) وكذلك النعمان ابن بشير
يقال: إنه لا يعرف له ما يحكيه سماعا من النبي عليه السلام، إلا الحديث الذي فيه (إن في
البدن مضغة، إذا صلحت صلح البدن، وإذا فسدت فسد البدن، ألا وهي القلب). (2)
وكذلك عامة الصحابة لم يكونوا يفرقون بين (3) المسند والمرسل، فدل ذلك على
اتفاقهم جميعا: أنه لا فرقة بينهما في لزوم قبولهما، والعمل بهما.
ووجه آخر: وهو أنه لما ثبت عن الصحابة والتابعين إرسال الأخبار عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذف تسمية من بينهم وبينه، لم يخلو في ذلك من إحدى منزلتين:
إما أن يكون عندهم: أن المسند والمرسل واحد، لا فرق بينهما، فيما يتعلق بهما من
الحكم، وهو الذي نقوله. بل كان عند بعضهم: أنه إذا أرسله فقد أكده بإرساله، وقطع به
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الحسن، وإبراهيم.
وإما (4) أن يكونوا أرسلوه، لأن الذي حذفوا اسمه لم يكن بينا، ولا مقبول الرواية، أو
كان بينا مقبول الرواية عندهم، وإن لم يجز عندهم قبول المرسل، وغير جائز أن نظن منهم
أنهم حملوه عن غير الثقات، ثم أرسلوه، وحذفوا اسم من بينهم وبين النبي عليه السلام،
لوجوه:
- أحدها: أن في قولهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إثباتا منهم لذلك الحكم، وقطع به على

150
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يرويه غير الثقة لا يجوز القطع به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- والثاني: أن من حمل عن غير ثقة ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس بأهل لقبول
خبره، وإن أسنده.
- والثالث: أنه كان معلوما عندهم: أن عظم من سمع منهم لا يفرقون بين المرسل
والمسند، فغير جائز لهم أن يحملوه عن غير ثقة، ثم يكتمونه، ويحذفون اسمه، فيعتبر بهم
السامع، ويعتقد ثبوته، وصحته، فبطل هذا القسم.
وغير جائز أيضا: أن يكونوا حملوه عن ثقة ثم أرسلوه، وعندهم: أن المرسل غير
مقبول، لأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا قد كتموا موضع الحجة.
ومن كان كذلك لم يكن موضعا لحمل العلم عنه، ولا موثوقا بروايته، فلما بطل هذان
القسمان، صح الوجه الثالث، وهو: أنهم كانوا يرسلونه على وجه القطع والتأكيد له على
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضا: فإنا وجدنا عامة الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين رحمهم الله،
يسمعون الأخبار المرسلة فيصيرون (1) إليها، ويتركون آراءهم لها، وذلك مشهور عنهم، ولو
ذكرناهم لطال بهم الكتاب، كما وجدناهم يقبلون المتصل، فمن حيث كانوا حجة في قبول
المتصل فهم حجة في قبول المرسل.
فإن قيل: أما الصحابة فإن ظاهر أمرهم بالسماع من النبي عليه السلام، حتى يثبت
غيره، وكذلك سبيل كل من روى عمن لقيه وظاهر أمره: سمعه. وإن لم يقل: حدثني.
فلا يكون في مثل الآخر. (2) ولأن الصحابي إنما يروى عن صحابي مثله. والصحابة كلهم
مقبولو الرواية.
قيل له: قد كانوا يجيزون: أنهم لم يسمعوه من النبي عليه السلام، وأن بينهم وبينه
رجلا، فلا يفرقون بينه وبين ما أسندوه لهم

151
وأيضا: فكما أن ظاهر من روى عمن لقيه: السماع منه، فكذا ظاهر من حمله عنه أهل
العلم: أنه عدل، مقبول الرواية، حتى يثبت غيره.
وأما قوله: إن الصحابي إنما يروى عن صحابي مثله، وكلهم مقبول الرواية، فإنه
ليس كذلك، لأنه قد كان في عصر النبي عليه السلام من حكم الله بفسقه، بقوله تعالى:
(إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (1) وهو: الوليد بن عقبة، وقد كان قوم آخرون هناك قد رأوا
النبي عليه السلام وعملوا بعده أعمالا أسقطت عدالتهم، وهذا ما لا خفاء به.
أيضا: فلو أن حاكما حكم بشهادة شاهدين وأسند (2) بهما ولم يسمهما - لم يجز لأحد
الاعتراض على حكمه، لأجل تركه تزكية الشهود، وكان أمرهم محمولا على الصحة
والجواز. كذلك من روى عمن لم يسمه، يجب حمل أمره على الصحة والعدالة، حتى يثبت
غيرهما.
فإن قيل: إن الجرح والتعديل طريقه الاجتهاد، ويجوز أن يعدل (3) الراوي عنه، ولا
يكون عندي عدلا، فيحتاج أن يتبين حيث تثبت عدالته، كما أن شاهدين لو شهدا على
شهادة شاهدين، ولم يسمياهما، فلم يجز للقاضي الحكم بشهادتهما، حتى يسمياهما فينظر
القاضي في حالهما، كذلك المرسل.
قيل له: أما من شاهدناه وخبرنا أمره - فالواجب الرجوع في جرحه وتزكيته إلى
معرفتنا به، أو مسألة من خالطه، وخبر أمره - عنه.
وأما من كان من أهل الأعصار المتقدمة فإنا لا نصل إلى معرفة عدالته وثقته إلا بنقل
الأئمة عنه. فتكون روايتهم تعديلا منهم له، فلا يجوز لنا أن نتعقبهم في تعديلهم إياه
بغيره.
وأما الشهادة على الشهادة: فليست من هذا في شئ، من قبل أنه: يقبل في رواية
الأخبار ما لا يقبل في الشهادات.
ألا ترى: أنه يقبل منه فلان عن فلان، ولا يقبل في الشهادة إلا أن يقول: أشهدني
على شهادته، فعلمت: أن روايات الأخبار غير معتبر بالشهادة على الشهادة، من الوجه
الذي ذكرت.

152
وأيضا: فإن سامع الخبر يجوز له الإخبار به عن راويه، وإن لم يقل له الراوي: اروه
عني، ومن سمع رجلا يقول: أشهد لفلان على فلان بكذا، لم يجز له أن يشهد على شهادته
حتى يقول له: اشهد على شهادتي بذلك، فيحملها إياه (1) فعلمت بطلان اعتبار الإخبار
بالشهادة على الشهادة من هذا الوجه.
وأيضا: فإن الشاهد إنما يشهد على شهادة من كان من أهل عصره، وقد يمكن
الحاكم: أن يتوصل إلى معرفة حال المشهود على شهادته بالمسألة عنه. فلم يجز له الحكم
بشهادة شهود الأصل إلا بعد المعرفة بهم، وثبوت عدالته عندهم.
وأما المتقدمون من الرواة فلا سبيل لنا إلى العلم بحالهم إلا من جهة الناقلين عنهم،
فكان نقلهم وإرسالهم الحديث عنهم تعديلا منهم إياهم.
أيضا: فإن الشهود إذا رجعوا إلى شهادتهم بعد حكم الحاكم، يلحقهم ضمان ما
أتلفوه بشهادتهم. فمن الفقهاء من لا يوجب ضمانا على شهود الأصل وإن رجعوا.
ومنهم: من يوجبه عليهم. فاحتاج الحاكم إلى: أن يعرفهم بأعيانهم، لكي إذا رجعوا
لزمهم حكم ما يوجبه إشهادهم غيرهم على شهادتهم، وليس ذلك موجودا في الأخبار، فلم
يحتج إلى معرفة المنقول عنهم ذلك بأعيانهم، إن كانت رواية الأئمة عنهم تعديلا منهم لهم،
وهذا هو الذي يحتاج إليه في قبول الأخبار.
دليل آخر: وهو اتفاق. قد اتفق الفقهاء على: قبول فلان عن فلان، وإن لم يذكر
سماعا، إذا كان ممن قد لقيه، ولو كان المرسل غير مقبول - لما جاز: قبول فلان عن فلان، إذ
ليس فيه سماع له.
فإن قيل: لأن الظاهر: أن من روى عمن لقيه: أنه سماع حتى يثبت غيره.
قيل له: ولم قلت ذلك؟ بل الظاهر: أنه يروى عنه سماعا تارة، ويرويه تارة سماعا من
غيره عنه.
وأيضا: فإن الظاهر: أنه لم يرسل الحديث إلا عن عدل حتى (2) يثبت غيره.
فإن قيل: يحتاج أن يثبت: أنه عدل عندي.
قيل له: ويحتاج: أن يثبت عندي: أنه سماع، إذا قال فلان عن فلان، وإن لم يثبت

153
عندك (1): أنه سماع، كذلك يجوز: أن يقبل المرسل، وإن لم يثبت: أنه عدل عندي،
فاكتفى تعديله إياه بإرساله عنه.
وأيضا: فإن المفتى إذا قال: للمستفتي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بكذا. أو قال فيه:
كذا، لزمه قبول خبره، مع حذف سنده، وهذا أحد ما يحتج به في إثبات المسند، فهو حجة
في إثبات المرسل أيضا.
وزعم بعض مخالفينا: أنه إنما روى التابعون المرسل ليطلب في المسند.
فيقال له: معنى قولك ليطلب في المسند، كأنه لم يكن له عندهم إسناد، فإن كنت
تعني ذلك فلا يكون كذلك إلا وهم يسمعون، وهذا يوجب أن يحصرو (2) المراسيل لينظر
هل توجد في المسند، وهذا لا يجوزه أحد عليهم، لأنهم لو كانوا كذلك - لما كانوا أهلا لقبول
رواياتهم أصلا: المسند والمرسل جميعا.
وإن كانوا قد سمعوه - فما الذي منعهم من إظهار سنده وهو موجود عندهم؟! فعلمت
أن هذا الفصل من كلامه فارغ لا معنى تحته.
وعلى أنه لو جاز أن يقال هذا في المرسل - لجاز لمبطلي أخبار الآحاد أن يقولوا: إن
الصحابة والتابعين إنما رووا الآحاد ليطلب في التواتر، والاثنين والأربعة.
واحتج بعضهم: بأن المرسل لو كان مقبولا لما كان لذكر الإسناد وجه.
فيقال: يقول لك مبطلو خبر الواحد: لو كان خبر الواحد مقبولا لما كان لسماعه من
وجهين، وثلاثة، وأربعة، معنى.
فلما جاز أن يطلب الأثر من وجوه مختلفة، ويروى من جهات كثيرة، ولم ينف ذلك
جواز الاقتصار على الواحد، كذلك يروى الحديث، فيذكر إسناده تارة، ولا يدل: على أن
المرسل غير مقبول.
فإن قال: إنما أرسل التابعون الأخبار إعلاما منهم لسامعيها: أن المحذوف اسمه في
السند ليس ممن يحمل عنه العلم.
قيل له: قد أخبروهم عن أنفسهم بخلاف ذلك. فإن صدقتهم كنت كاذبا فيما
حكيت عنهم، وإن أكذبتهم فلا تقبل رواياتهم، لا مرسلا ولا مسندا.
وأيضا: فما الذي حملهم: على أن يرووا ما لا يجوز قبوله، ثم يكتموا إسناده. فيعرفوا

154
الناس به، وكان أقل ما يجب عليهم أن يسكتوا عنه. فلا يرووه.
وعلى أن من روى عمن لا يجوز الرواية عنه ثم كتمه، ولم يبين أمره، صار من
المجروح، والمطعون عليه في روايته. وهذا يوجب الطعن على عامة التابعين، لأنهم قد
أرسلوا الأخبار.
وأيضا: فإن من علمنا من حاله: أنه يرسل الحديث عمن لا يوثق بروايته، ولا يجوز
حمل العلم عنه، فهو غير مقبول المراسيل عندنا، وإنما الكلام منا فيمن لا يرسل إلا عن
الثقات الأثبات عنده.
فإن قال: قد كان بعض التابعين يرسل الحديث فإذا سئل عنه أخبر به، وكان كاذبا.
قيل له: ما نعلم أحدا من التابعين فعل ذلك. وعلى أن هذا طعن في الروايتين لأن
من روى عن كذاب وكتم أمره فهو غير مقبول الرواية، لا سيما إذا حذف اسمه من الإسناد.
وذكر بعض من احتج في إبطال المراسيل: بأن التابعين قد كانوا يتساهلون في الإرسال
عمن لو كشف عنه وبين أمره، كانت حاله بخلافها إذا أرسل عنه، وذكر في ذلك ما حدثنا
عن إسماعيل بن إسحاق (1) عن علي بن المديني (2): أن عبد الرحمن ابن مهدي (3) قال له: إن
حديث الوضوء من القهقهة في الصلاة يدور علي أبي العالية. فقلت له: قد رواه الحسن عن
النبي عليه السلام. فقال عبد الرحمن: حدثنا حماد بن زيد (4) عن سليمان (5) قال: أنا

155
حدثت به الحسن عن حفصة (1) عن أبي العالية، فقلت لعبد الرحمن: فقد رواه إبراهيم
مرسلا فقال عبد الرحمن (2): حدثني شريك عن أبي هاشم. (3) قال: أنا حدثت به إبراهيم،
عن أبي العالية، فقلت له: قد رواه الزهري مرسلا. فقال عبد الرحمن: قرأت هذا الحديث
في كتاب ابن أخي الزهري، (4) عن الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن.
قال القائل: فإذا سمع السامع هذه الأخبار مرسلة يقول: قد رواه الحسن،
وإبراهيم، وأبو العالية. ثم إذا كشف عنه كان مداره على أبي العالية.
قال أبو بكر رحمه الله: والعجب من غباوة هذا القائل، حين جعل قول فلان: أنا
حدثت به فلانا نفيا، لأنه (5) يكون حدثه به غيره، أو سمعه من سواه. ولا يمتنع: أن يحدث
به رجل مرسلا، وقد سمعه (6) هو متصلا من غيره ثم يرسله.
وعلى أنه لو دار الحديث على أبي العالية ما الذي كان يوجب القدح فيه؟ وقد روى
هذا الحديث عبد الكريم، (7) عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام: وقد

156
رواه عمرو بن عبيد، (1) عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن النبي عليه السلام.
ورواه ابن أبي ذؤيب، (2) عن الزهري، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام. وقد
ثبت: أن الحسن والزهري قد روياه من غير هذا الوجه الذي ذكره هذا القائل، وقد روى
من وجه آخر موصولا عن النبي عليه السلام، وليس غرضنا الكلام في هذه المسألة، وقد
ذكرنا ما فيها من الكلام في شرح المختصر (3) المنسوب إلى أبي جعفر الطحاوي رحمه الله.

157
الباب الثالث و الخمسون
في
الخبرين المتضادين
وفيه فصل في تعارض الخبرين
إذا وردا في شيئين مختلفين إذا قامت الدلالة
على أن في ثبوت أحدهما نفيا للآخر

159
باب
الخبرين المتضادين (1)
قال أبو بكر رحمه الله: -
تعارض الخبرين يكون على ثلاثة أنحاء:
منها: ما يكون من غلط الرواة، ونتيقن معه وهم رواة أحد الخبرين.
ومنها: - ما يحتمل أن يكونا (2) صحيحين من جهة النقل. ولا يحتمل مع ذلك بقاء
حكمهما بلا محالة، إن ثبتا، وصحا، فأحدهما منسوخ متروك الحكم.
ومنها: ما يحتمل أن يكونا صحيحين، ويكونا جميعا مستعملين في حالين، أو في
شيئين.
فأما الوجه الأول: فنحو حديث ابن عباس رحمه الله: (أن النبي عليه الصلاة
والسلام تزوج ميمونة وهو محرم). وروى يزيد بن الأصم: (أن النبي عليه السلام تزوجها
وهو حلال).
وقد علمنا أنه لم يتزوجها إلا مرة واحدة. وغير جائز: أن يكون محرما وغير محرم في حالة
واحدة.
ونحو حديث ابن عباس: (أن النبي عليه السلام لم يصل في الكعبة حين دخلها يوم
الفتح).

161
وقال بلال: (بأنه صلى فيها) (1) مع علمنا: بأنهم أخبروا عن وقت واحد، وكرواية
ابن عمرو رضي الله عنهما: (أن النبي عليه السلام أفرد بالحج).
وروى جابر وأنس: (أن النبي عليه السلام كان قارنا). (2)
ونحو ما روى زوج بريرة: (إنه كان حرا حين أعتقت، وقال بعضهم: إنه كان عبدا.
متى أخبروا عن حاله في الرق والحرية عند عتقها كان الخبران متضادين، نعلم يقينا أن
(أحد الراويين) (3) مخطئ.
وكرواية ابن عباس: أن النبي عليه السلام (رد زينب (4) ابنته على أبي (5) العاص بن

162
الربيع بالنكاح الأول). وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (إن النبي عليه السلام
ردها عليه بنكاح جديد)، فهذه الأخبار وما شاكلها مما تقع الإشارة فيها إلى حال واحدة،
بالنفي والإثبات في معنى واحد، فمعلوم فيها غلط رواة أحد الخبرين، مع ثبوت حكم
أحدهما دون الآخر.
والثاني منهما: فنحو ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (في الوضوء من مس الذكر)، (1) وما روى
عنه أنه لا وضوء فيه.
وما روى عنه: أنه (نهى عن أكل الضب) وروى (أنه أباحه).
وما روى عنه: أنه (كان يرفع يديه في كل خفض ورفع) وروى عنه: أنه كان لا يرفع
يديه إلا في تكبيرة الافتتاح) (2)
هذه الأخبار يحتمل أن تكون كلها صحيحة في الأصل، وأن يكون بعضها منسوخا
ببعض، ويحتمل أيضا أن يكون بعضها وهما وغلطا، لأنها من أخبار الآحاد. إلا أنه لا يصح
ثبوت حكم جميعها لتنافيها، وتضادها، ولاتفاق الفقهاء: على أن بعضها ثابت الحكم دون
جميعها.
والوجه الثالث منها: أن يرد خبران متضادان في الظاهر، فيستعملان جميعا في
حالين، أو على وجهين، نحو ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (دباغ الأديم ذكاته)،
وقال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر).

163
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب).
ومحمول على حاله قبل الدباغ، وقوله عليه السلام (دباغ الأديم ذكاته) محمول على
حاله بعد الدباغ. وقوله عليه السلام والذهب بالذهب مثلا بمثل، يد بيد، والفضة
بالفضة، مثلا بمثل يدا بيد، محمول على ما يرد فيه الخبر.
وقوله عليه السلام: (لا ربا إلا في النسيئة) محمول على الجنسين المختلفين، فيما ذكر
في الخبر وما في معناه (وكالتمر بالشعير والذهب بالفضة) كما قال في خبر آخر) وإذا اختلف
النوعان فبيعوا كيف شئتم، يدا بيد).
وقد ذكر عيسى بن أبان حكم الخبرين المتضادين، فجعل أحد الأسباب المقوية.
لأحدهما: وجود عمل الناس، دون الأخر، فيكون المعمول ثابت الحكم، ناسخا، والآخر
منسوخا، إن صحت في الأصل روايته.
قال: وإن اختلفوا ساغ الاجتهاد في تثبيت أحدهما.
قال: وإن كان أحدهما متقدما على الآخر والناس مختلفون في العمل بهما، (1) - فإن
احتملا الموافقة والجمع بينهما - استعمل الاجتهاد.
وإن لم يحتملا الموافقة، فالآخر ناسخ للأول، إن (2) كان (3) الأول قد عمل به الناس،
وهو الظاهر في أيدي أهل العلم، والذي يعتمدون عليه. ويكون الآخر منهما خاملا، لا
يعمل به الا الشاذ من الناس، فحينئذ ننظر إلى الذين عملوا بالأول. (4) فإن وجدناهم
يجوزون للذين عملوا بالآخر، ولا يعتبون عليهم ذلك، جاز اجتهاد الرأي في ذلك، وإن
وجدناهم يعيبون ما ذهب إليه من خالفهم، كان الأمر عندنا على ما عمل الناس، وظهر في
أيديهم، ولم يجز الأخذ بالخبر الشاذ الذي قد عابوه على من عمل به، لأن الأمر إذا ظهر في
المسلمين وعملوا به ثم نسخ، ظهر نسخه منهم، كما ظهر للغير نصه، حتى لا يشذ إلا على
القليل.
كالنهي عن لحوم الأضاحي، والشرب في الظروف، وزيارة القبور، ونسخها (5)،

164
ومتعة النساء. لما نسخت هذه الأحكام ظهر نسخها، كظهور الحكم الأول ابتداء. (1)
قال أبو بكر رحمه الله: جعل عيسى استعمال الناس لأحد الخبرين موجبا لثبوت
حكمه دون الآخر، لأن الإجماع حجة (2) لا تسع مخالفته، ولا يجوز اجتهاد الرأي معه،
فالخبر الذي ساعده الإجماع منها ثابت الحكم، والآخر: إما أن يكون منسوخا، أو غير ثابت
في الأصل.
وأما إذا اختلفوا فاستعمل بعضهم الآخر، ساغ الاجتهاد في استعمال أحدهما،
فيكون ما عاضده شواهد الأصول أولى بالاستعمال، من قبل: أنهم لما اختلفوا لم يكن أحد
الخبرين بأولى باستعمال حكمه من الآخر في ظاهر ورودهما، كان ما شهد له الأصول منهما
أولى بالاستعمال، لأن شواهد الأصول لو انفردت عن الخبر لا يثبت الحكم بنفيها، فإذا
ساعدت أحد الخبرين كان أولى بالإثبات.
وأيضا: فلما ثبت عن الصحابة (3) عرضهم كثيرا من أخبار الآحاد على (4) الأصول،
ومقابلتها بالقياس واجتهاد (5) الرأي حسب ما حكينا عن جماعة منهم، فصار بشهادة الأصول
تأثير في رد بعض الأخبار الآحاد، وحسب كون (6) مساعدتها لأحد الخبرين المتضادين -
موجبة لاستعماله، دون الآخر الذي يخالفها.
وأيضا: لما اختلفوا في استعمال الخبرين، ولم يعب بعضهم على بعض ما ذهب إليه،
فقد سوغوا الاجتهاد في إثبات حكم أحدهما بالنظائر، كسائر الحوادث.
وأما إذا كان أحدهما متقدما على الآخر والناس مختلفون فيهما (7)، فإن احتملا
الموافقة ساغ الاجتهاد، لأنهم لما اختلفوا ولم يجعلوا الآخر قاضيا على الأول، فقد سوغوا

165
الاجتهاد فيهما، فمتى أدى الاجتهاد إلى حملهما على الوفاق حملناهما (1) عليه، ولم يسقط
أحدهما بالآخر، مع إمكان الاستعمال، ودلالة الأصول عليه.
وأما إذا لم يحتملا الموافقة - فإن الآخر منهما يكون ناسخا الأول، لأن الحكم الآخر ثابت
إذ ليس للأول مزية عليه في ثبوته دونه، وفي ثبوت الآخر نفى الأول.
وأما إذا عمل الناس بالأول إلا الشاذ منهم، وسوغوا مع ذلك الذين عملوا بالآخر،
ولم يعيبوا ذلك عليهم، فإنما جاز اجتهاد الرأي فيه، لأن الجميع قد اتفقوا في هذه على
تسويغ الاجتهاد في استعمال أحدهما أيهما كان، فلذلك كان الأمر على ما قال.
وأما إذا عابوا على من ذهب إلى الخبر الآخر، فإنما وجب استعمال ما عمل عليه
الجمهور، وظهر في أيديهم، دون ما ذهب إليه الشاذ منهم، من قبل: أن استعمال الناس الأول
يوجب صحته وثباته، فلو كان الآخر ثابتا يعرفه من يعرف الأول، ولما أنكره على من عمل
بالآخر، لأن الحكم إذا ثبت واستفاض في الكافة ثم نسخ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة يظهر
نسخه فيمن ظهر فيهم في حكمه بدأ، فدل إنكارهم على الآخرين ما ذهبوا إليه من حكم
الخبر الآخر، لأن الأول ثابت الحكم، وأن الثاني (2) شاذ، لا يجوز الاعتراض (3) به على
الأول.
وأيضا: فإن الجمهور لما علموا بالخبر الأول دون الآخر مع علمهم بأن الآخر قد روى
- فهم لا يتركون الحكم بالثاني، إلا مع علمهم بأن الأول ثابت الحكم، لولا ذلك لكان
الثاني ناسخا له عندهم، فلما لم يعتبروا الثاني وثبتوا (4) على الأول، علمنا: أنهم قد علموا
شذوذ الثاني، وأنه غير جائز الاعتراض (5) به على الأول دون الثاني.
وهذا ضرب من الاجتهاد موجب لتقوية بقاء حكم خبر الأول، وهو مبنى على
ما قدمناه: من أن أخبار الآحاد مقبولة اجتهادا، على حسب ما (6) تغلب في الظن من
صحتها وسلامتها، ومن (7) شهادة الأصول لها، أو مخالفتها إياها، فكان ما وصفنا في هذا

166
الفصل ضربا من الاجتهاد، تقوى معه في النفس بقاء حكم الخبر الأول دون الآخر.
قال أبو بكر رحمه الله: وقد بينا فيما سلف من أبواب النسخ: ما كان يقول أبو الحسن رحمه
الله في خبري الحظر والإباحة، إذا لم يعلم تاريخهما: إن خبر الحظر أولى، واحتجاجه له، بل
الإباحة لما كانت هي الأصل، والحظر طارئ عليه، كان حدوث الخطر على الإباحة
متيقنا، ولسنا نتيقن بعد ذلك حدوث الإباحة على الخطر.
وذكرنا من نظائر ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إباحة أكل الصيد، وما روي عنه في
النهي عنه، ونحو ما روي (أن الفخذ عورة) وما روي في (إباحة النظر إليها) وما جرى مجرى
ذلك.
وحكينا ما ذكره محمد (1) في كتاب الاستحسان: بأن أحد المخبرين إذا أخبر بنجاسة
الماء والآخر بطهارته، ولم يكن للسامع رأي في ترجيح أحد الخبرين: أنه يسقط خبرهما
جميعا، ويكون الماء باقيا على أصل طهارته.
وبينا: أن نظير ما ذكره محمد من أخبار أحكام الدين هو الذي قدمنا القول فيه بدأ في
صدر هذا الكتاب، وأن أحد المخبرين فيه غلط لا محالة، كرواية من روى: أنه تزوج
ميمونة وهو محرم ومن روى: أنه تزوجها حلالا، وأنه ليس نظير الماء، لما ذكره محمد من
القسمين الآخرين، اللذين ذكرنا: أنه جائز أن يكون الخبران جميعا صحيحين في الأصل،
وأحدهما منسوخ بالآخر، وليس ما ذكره محمد في خبر المخبرين بطهارة الماء ونجاسته مخالف
الخبرين المتضادين الذين ذكرنا في صدر هذا الباب في المعنى، وذلك لأنه إنما قال: أسقط
الخبرين إذا تساويا، ولم يكن له رأي في ترجيح أحدهما.
والأخبار التي ذكرنا في نكاح المحرم وغيره، وقد ثبت لما ذهب إليه ترجيح أحد
الخبرين، نحو حديث ابن عباس وروايته: (أنه كان محرما)، (لتعارضها مع رواية) (2) يزيد
بن الأصم: (أنه كان حلالا، كما قال جابر بن زيد، لعمرو بن دينار، حين عارض خبر ابن
عباس.
وكذلك ما ذكرنا من نظائر هذا الخبر، يجوز أن يكون ذهب فيها إلى ضرب من
الترجيح، أوجب كون أحدهما أولى بإثبات حكمه من الآخر.
ويجوز أن يقال: ليس الخبر بنجاسة الماء وطهارته أصلا للإخبار في أحكام الدين،

167
وأنه ليس فيما ذكره محمد من إسقاط حكم الخبرين إذا تساويا دلالة: على أن الأخبار الواردة
في أحكام الدين حكمها: أن تكون محمولة على هذا الأصل، ويكون الفرق بينهما: أن
الحوادث التي لا نص فيها لا يخلو من أن يكون لها أصول من النصوص، وأشباه ونظائر،
وإن لم يرد بحكمها خبر. فمتى خلت الحوادث من أن يوجد فيها أخبار الآحاد، حمل على
نظائرها من الأصول، فإذا عارضت الأصول بعض الأخبار المتضادة كان الحكم له، دون ما
خالفته.
وأما نجاسة الماء أو طهارته فليس له أصل يرد إليه إذا تعرت من الخبر، فلذلك وجب
عند تساوى الخبرين. (1) اطراحهما، وبقاء الشئ على أصل ما كان عليه.
وقد سوى عيسى بن أبان بين حكم الخبرين المتضادين إذا تعرى كل واحد منهما من
أن يكون له مزية على صاحبه، من شواهد الأصول، فإن سبيلهما: أن يسقطا، كأنهما (2) لم
يرويا، وجعلهما بمنزلة ما ذكره محمد رحمه الله في حكم الخبرين إذا أخبر أحدهما بطهارة
الماء، والآخر بنجاسته، وتساويا، ولم يكن له رأي. فيسقطان جميعا. وذكر نحوه عن ابن
عباس وابن عمر: في الرجلين حين اختلفا في طلوع الفجر: أنهما أسقطا خبر هما وشربا. وقد
كان الحسن يحتج لترجيح خبر ابن عباس على خبر يزيد بن الأصم، في تزويج النبي عليه
السلام ميمونة وهو محرم أو حلال: بأن ابن عباس أخبر عن أمر حادث علمه، ويزيد من
الأصم، وأبو رافع، ومن روى: أنه كان حلالا. إنما أخبر عن ظاهر ما كان علمه بدأ، من
حال النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلم حدوث إحرامه، فكان خبر ابن عباس أولى.
وكذلك من أخبر: أن زوج بريرة كان حرا حين أعتقت، فقد أخبر عن حرية حادثة
علمها، لأنهم لم يختلفوا أن زوج بريرة قد كان عبدا مرة، ومن قال كان عبدا. فإنما أخبر عن
ظاهر ما كان عليه بدأ من رقه. ولم يعلم حدوث عتقه.
وكذلك من روى: أن النبي عليه السلام رد زينب على أبي العاص بنكاح جديد. فقد
على حدوث نكاح لم يعلمه من أخبر: أنه ردها بالنكاح الأول. فعلى هذا الاعتبار كان يجري
حكم الأخبار المتضادة إذا كانت بالوصف الذي ذكرنا، وظاهر ما يقتضيه حجاجه لتثبيت
أحد الخبرين المتضادين اللذين وصفنا: أن نقول مثله في الخبرين بنجاسة الماء وطهارته،
فنجعل الخبر بالنجاسة أولى، لأنه علم حدوث نجاسة لم يعلمه المخبر بطهارته، وإن المخبر

168
بطهارته إنما أخبر عما علمه من حاله بدأ.
قال أبو بكر رحمه الله: ويجوز أن نفرق بينهما من جهة أنهم لم يختلفوا في تزويج النبي
عليه السلام ميمونة، وإنما اختلفوا في تاريخه.
فقال بعضهم: تزوجها قبل الإحرام. وقال بعضهم: تزوجها بعد الإحرام.
وكذلك لم يختلفوا في تخيير بريرة لم أخيرها النبي صلى الله عليه وسلم حين أعتقت. واختلفوا في تاريخه.
فقال قائلون: كان بعد عتق زوجها. وقال آخرون: قبل عتق زوجها. فكان خبر من
أخبر بتاريخ الإحرام، وتاريخ عتق زوج بريرة، مقدما لعتقها. أو كما لو شهد شاهدان: أنه
أعتقه منذ شهر، وأخبر اثنان: أنه منذ سنة. أن الوقت المتقدم أولى. فكان ذلك كلاما في
تاريخ الحكم، وكان لما أثبتناه ضربا من الترجيح، وكان أولى.
وأما المخبر بنجاسة الماء وطهارته، فإنما أخبر عن شئ بعينه على وصفين متضادين،
فجاز إسقاط خبريهما إذا تساويا، ولم يكن نظيرا لما وصفنا.
قال أبو بكر: ومتى ورد خبران متضادان: أحدهما بان على أصل قد ثبت، والآخر،
ناقل عنه، وقد تساويا في جهة النقل، وسائر الأسباب، فالواجب أن يكون الخبر الناقل عن
الأصل أولى من الخبر الباني عليه، على ما ذكرنا عن أبي الحسن في خبري الحظر والإباحة،
سواء كان الناقل مبيحا لشئ قد ثبت حظره، أو حاظرا لشئ قد ثبت إباحته...
وينبغي على ما ذكرناه عن أبي الحسن وعن عيسى أن يسقطا جميعا، ويبقى الشئ على ما كان عليه
قبل ورود الخبرين، وعلى هذا الاعتبار ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا تعارضا في النفي
والإثبات، أن الشئ إن كان منفيا في الأصل، فخبر الإثبات أولى، وإن كان ثابتا في
الأصل، فخبر النفي أولى، للعلة التي ذكرناها عن أبي الحسن: من أن ورود الإثبات على
النفي متيقن، والثاني: يجوز أن يكون ورد على ما كانت عليه حال الشئ قبل ورود الاثبات.
وكذلك إن كان الشئ قد علم ثبوته. ثم ورد خبران: أحدهما: في إثباته، والآخر: في
نفيه، فخبر النفي أولى، لأنا قد علمناه طارئا على الإثبات بدأ، وجائز أن يكون خبر
الإثبات واردا على ما كان عليه حال الشئ في الأصل، وذلك نحو ما روي: أن النبي عليه
السلام: كان يقنت في الفجر. وهذا متفق على نقله، وأنه قد كان. ثم روي أنه: ترك
القنوت بعد فعله. فكان المثبت للقنوت ثابتا على أصل ما ثبت بالنقل. والنافي له أخبر: أن
الترك كان طارئا على الفعل، فكان أولى، لأنه قنت بعد الترك، وقد ثبت أنه ترك بعد
الفعل، فكان أولى، لما وصفنا.

169
وعلى ما حكيناه عن عيسى: ينبغي أن يسقطا جميعا، ويبقى الشئ على ما كان عليه
قبل ورود الخبرين.
وإن ورد خبران: أحدهما يوجب شيئا، والآخر ينهي عنه، وكان حكم ذلك الشئ في
الأصل الإباحة، فإنا قد تيقنا أنه قد نقل عن الإباحة: إما إلى إيجاب، أو إلى حظر.
فجائز أن يقال حينئذ: إن الإباحة قد زالت، ولم يثبت حظر، ولا إيجاب، فيكون أمره
موقوفا، لا يجوز إثباته.
وجائز أن يقال: يطرح الخبران جميعا، فيبقى الشئ على ما كان عليه حكمه من
الإباحة.
ومتى ورد خبران متعارضان: في أحدهما فعل من النبي صلى الله عليه وسلم لشئ، وفي الآخر النهي
عنه وتساويا، فالخبر الذي فيه النهي أولى، وذلك نحو ما روي: أن النبي عليه السلام كان
يرفع يديه عند الركوع، فهذا فعل ليس فيه أمر من النبي صلى الله عليه وسلم بفعله.
وروي عنه أنه قال: (كفوا أيديكم في الصلاة) وأنه قال: (لا ترفع الأيدي إلا في سبعة
مواطن) ولم يذكر منها حال الركوع، فكان خبر النهي أولى لوجوه:
أحدها: أن فعل المنهي عنه يستحق فاعله العقاب. وترك ما فعله النبي عليه السلام
لا يستحق عليه العقاب، بظاهر فعل النبي عليه السلام إياه.
والوجه الآخر: أنه قد يفعل أفعالا لنفسه لا يريدها منا، ولا يأمرنا بشئ، أو ينهي
عنه إلا وقد أراد منا ما تضمنه الأمر والنهي.
ووجه ثالث: وهو أن فعل النبي عليه السلام في الأصل لا يقتضى الوجوب، فلا
يعارض الأمر والنهي بالفعل.
فإن قال قائل: قد روى عن النبي عليه السلام: أنه قد (أمر بالوضوء مما مست النار) (1)
وروى عنه عليه السلام أنه: (أكل لحما ثم صلى ولم يتوضأ) فعارضت الأمر بالفعل وجعلت
الفعل أولى منه.

170
قيل له لا يلزم على ما ذكرنا، لأنا إنما شرطنا فيما قدمنا عند تعارض الأخبار وتساويها
في الوجوه الموجبة للقبول، فأما إذا كان أحد الخبرين إذا ورد منفردا عن معارضة الآخر إياه،
لم يجز قبوله لوروده منفردا فيما عمت الحاجة إليه. فكيف يلزمنا قبوله إذا عارضه غيره، وخبر
الوضوء مما مست النار مما يحتاج فيه إلى النقل من الكافة، لعموم الحاجة إليه، فلم يساو (1)
خبر نفي الوضوء من أكل اللحم من جهة النقل. ولذلك كان الأمر فيه على ما وصفنا.

171
فصل
قال أبو بكر رحمه الله: وقد يقع التعارض في الخبرين إذا وردا في شيئين مختلفين، إذا
قامت الدلالة: على أن في ثبوت أحدهما نفيا للآخر. مثل ما روى: أن النبي عليه السلام
سئل عن ميراث العمة والخالة. فقال: (لا شئ لهما) (2)، وروى أنه قال: (الخال وارث من
لا وارث له) (3)، فلو خلينا وظاهر هما لم يتعارضا، واستعمل كل واحد منهما فيما ورد، لأن
نفى ميراث العمة والخالة غير ناف لميراث الخال من جهة اللفظ. إلا أنه لما اتفق المسلمون
على أن الخال إن ثبت ميراثه - كان ميراث العمة والخالة ثابتا.
وأنه: إن سقط ميراث العمة والخالة سقط ميراث الخال. صار انضمام الإجماع على
الوصف الذي ذكرنا إلى الخبر موجبا لتعارض هذين الخبرين، ثم يكون إثبات الميراث
أولى من وجهين.
أحدهما: أنه ناقل من الأصل، ونفى الميراث وارد على الأصل.
والثاني: أن في خبرنا إثبات الميراث، وفي خبرهم نفيه، ومتى اجتمع خبر ناف
وخبر مثبت كان المثبت أولى من النافي.
قال أبو بكر رحمه الله: وأما عدد المخبرين في الخبرين المضادين فلا اعتبار به عندنا،
إذا لم يبلغ مقدارا يوجب العلم، ولا فرق بين أن يروى أحد الخبرين واحد، ويروى
الآخر اثنان.
وزيادة العدد من هذا الوجه لا يوجب ترجيح أكثرهما عددا، وإن كان أكثرهما عددا
أقوى في النفس من أقلهما عددا، كما أن شهادة الأربعة بملك هذا العبد لعمرو أقوى في

172
النفس من شهادة اثنين به لزيد، ولو اجتمعوا كان بينهما نصفين، فليس (1) لزيادة الشهود
تأثير في وجوب الاستحقاق.
وهو عندي مذهب أصحابنا، لأنهم قد قبلوا من أخبار الآحاد التي عارضها خبر
الاثنين، والثلاثة، أخبارا كثيرة، أكثر من أن تحصى، ولم يلتفتوا إلى زيادة العدد. (2)
وما سمعنا أيضا أبا الحسن رحمه الله قط يفرق بين خبر الواحد، وخبر الاثنين في طول
ما جاريناه في حكم هذه الأخبار، بل كان المفهوم عندنا من مذهبه وما لا شك فيه اعتقاده
وما يجرى عليه حجاجه: أنه لا فرق بين خبر الاثنين، وخبر الواحد، ولا حكى أيضا عن
أحد من أصحابنا الفرق بينهما.
وقد ذكر عيسى بن أبان رحمه الله ما يدل على ما ذكرناه. لأنه قال: يلزم من قال:
لا ألتفت إلى عمل الناس، لأن الخبر مستغن بنفسه، أن يقول: إذا تضادت الأخبار
أخذت بأقواها إسنادا، وأصحها في الخبر، فيلزمه أن يكون ما جاء من وجهين أولى أن
يعمل به، ما جاء من وجه واحد، ولأن الاثنين أقوى في الخبر من الواحد.
قال أبو بكر رحمه الله: فظاهر هذا الكلام يدل على: أن هذا الأصل كان متقررا بينه
وبين خصمه الذي تكلم عليه، في أن خبر الاثنين لا مزية له على خبر الواحد، وإن كانا
أقوى في النفس منه.
قال أبو بكر: وقد ذكر محمد في كتاب الاستحسان: أنه إذا أخبره رجلان ثقتان
بنجاسة الماء أو طهارته، وأخبره واحد ثقة بخلاف ذلك: أنه يعمل بقول الاثنين، وإن كان
عبدين ويترك قول الواحد وإن كان حرا.
قال: وإن أخبره حران ثقتان بالأمر بأحد الأمرين، وعبدان ثقتان بالأمر الآخر. أنه
يأخذ بقول الحرين، لأن شهادتهما تقطع بها الأحكام.
قال أبو بكر: وهذا لا يدل من قوله: على أن خبر الاثنين في أحكام الدين أولى من
خبر الواحد، وذلك لأنه لا خلاف بين ناقلي أخبار الآحاد أن خبر الرجلين لا مزية له على
خبر المرأتين، وأنهما سواء في إثبات الأحكام، يجوز الاعتراض بأحدهما على الآخر، وكذلك
خبر الحرين، وخبر العبدين سواء، لا مزية لأحدهما على الآخر، وإن كان الحران يقطع
بشهادتهما ولا يقطع بشهادة العبدين.

173
ولذلك لم يفرق أحد من السلف بين خبر أبي بكرة، (1) وشبل بن معبد. (2) وهما
محدودان في قذف، غير تائبين منه، (3) وبين خبر اثنين غيرهما من الصحابة، فدل ذلك على
أن خبر المخبرين بنجاسة الماء أو طهارته، ليس بأصل الأخبار في إثبات أحكام الدين.
أو لا ترى: أن الشهادة لما شرط في أقل عددها اثنان لم يختلف فيها حكم الاثنين،
وحكم الأربعة. كذلك خبر الواحد في الأحكام، لما كان أقل من يقبل فيه واحد لم يختلف
فيه حكم الواحد والاثنين.

174
الباب الرابع والخمسون
في
القول في اختلاف الرواية
في زيادات ألفاظ الحديث

175
باب
القول في اختلاف الرواية في زيادات ألفاظ الحديث
كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله: يذهب إلى أن راوي الحديث إذا كان واحدا، ثم
اختلف الرواة عنه في زيادة ألفاظه ونقصانها: أن الأصل هو ما رواه الذي ساقه بزيادة، وأن
النقصان إنما هو إغفال من بعض الرواة، وذلك نحو ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه عن النبي عليه السلام أنه قال: (إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها، فالقول
ما قال البائع، أو يترادان) ومن الناس من يروي هذا الخبر فلا يذكر فيه حال قيام السلعة
بعينها. فالأصل فيه هو الأول، وحذف قيام السلعة إغفال من بعض رواته.
وإنما كان ذلك كذلك: من قبل أنه لما كان راوي الخبر واحدا، لم يثبت عندنا: أن النبي
عليه السلام قال ذلك مرتين. ذكر في إحداهما حال قيام السلعة، ولم يذكرها في الأخرى
فلم (1) يجز لنا إثبات ذلك، لأن فيه إثبات خبر الشك من غير رواية.
وأما إذا روي الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين، أو ثلاثة، أو أكثر، فكان في ظاهر الحال
دلالة: على أن النبي عليه السلام قد قال ذلك في أوقات مختلفة، وفي بعض ألفاظ الرواة
زيادة. فالزيادة مقبولة، والخبر المطلق أيضا محمول على إطلاقه، وذلك نحو ما روى عمر
رضي الله عنه، قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاع تمر، أو صاع شعير، على
كل حر وعبد من المسلمين) (2) فزاد في لفظ الحديث ذكر المسلمين. (3)

177
وروي جماعة غيره عن النبي عليه السلام أنه قال: (أدوا صدقة الفطر على كل حر
وعبد، صغير وكبير). (1)
ولم يذكر فيه المسلمين، فهذان الخبران كل واحد منهما غير الآخر، فهما مستعملان
جميعا، ولا يجوز لنا حمل الخبر المطلق على الخبر المقيد بشرط الإسلام، لأن ظاهر ما وصفنا
أن النبي عليه السلام قد قال هذا مرة وهذا مرة.
ونظيره أيضا: ما روى ابن عباس: (أن النبي عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى
يقبض).
وروي في أخبار أخر من غير جهة ابن عباس: (أن النبي عليه السلام نهى عن بيع
ما لم يقبض) (2) فاستعمل الخبرين، ولم يحمل الأمر على أنهما خبر واحد حذف منه بعض
الرواة ذكر الزيادة.
ألا ترى: أن النبي عليه السلام قد أمر عتاب بن أسيد (1) مبتدأ القول مطلقا حين
بعثه إلى مكة، فقال: (انههم عن أربع: بيع ما لم يقبض، وربح ما لم يضمن، وعن بيع
وسلف، وعن شرطين في بيع) (2) فدل على أنهما خبران قد قالهما النبي صلى الله عليه وسلم في وقتين.
فإن قيل: قد روي عن النبي عليه السلام: (مسح ببعض رأسه)، وفي خبر آخر أنه
(مسح بجميع رأسه، فهلا أثبت الزيادة).
قيل له: هذه الزيادة ثابتة عندنا، إلا أنه على وجه الندب، لأن النبي عليه السلام لا
يترك المفروض بحال. ويجوز أن يفعل المندوب في حال، ويتركه في آخر، فيقتصر على
المقدار المفروض على وجه التعليم، وإذا روى بعض الصحابة حديثا رفعه إلى النبي عليه
السلام، ثم روي ذلك الحديث عن ذلك الصحابي موقوفا عليه (3) فإن ذلك عندنا غير
مفسد لرواية من رواه مرفوعا، (4) بل هو مما يؤكد روايته التي رواها عن النبي عليه السلام،

178
يوجب تأكيد روايته، ويكون دليلا: على أنه رآه ثابت الحكم، غير منسوخ.
وقوم من أصحاب الحديث يصنفون الرواة، فيجعلونهم طبقات، فإذا روي رجل من
أهل الطبقة العليا حديثا قبلوا عليه زيادة من هو في طبقته، ولم يقبلوا عليه زيادة من هو دون
طبقته.
وكذلك إذا أسند رجل من أهل الطبقة العليا حديثا إلى النبي عليه السلام، ورفعه
رجل ممن هو دون طبقته كان عندهم مسندا، وإن رفعه من كان من أهل الطبقة العليا على
الصحابي، ورفعه من هو في طبقة دونها، كان ذلك عندهم موقوفا، ولم يكن مرفوعا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك يقولون فيما يرسله واحد، ويسنده آخر، على هذا الاعتبار، ولا يعتبرون
معارضتها للأصول ودلائلها، وإنما يصححون الروايات بالرجال فحسب. ولم نعلم أحدا
من الفقهاء يعتبر في قبول أخبار الآحاد اعتبارهم. (1)

179
الباب الخامس والخمسون
في
القول فيمن روي عنه حديث وهو ينكره

181
باب
القول فيمن روي عنه حديث وهو ينكره
قال أبو بكر رحمه الله: كان كثير من شيوخنا يستدل على فساد حديث سليمان بن
موسى، (1) عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام: أنه قال: (أيما
امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) (2) بما ذكر ابن جريج: (3) أنه سأل الزهري عن
هذا الحديث فلم يعرفه، فكانوا يجعلون إنكار الزهري لذلك مفسدا لرواية من روي عنه.
ومثله حديث ربيعة (4) عن (5) سهيل (6) بن أبي صالح، (7) عن أبيه، عن أبي هريرة:

183
(أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد) (1) فلما سئل سهيل عنه قال: لا أعرفه.
فقيل له: فإن ربيعة يرويه عنك، فقال: إن كان ربيعة يرويه عني فهو كما قال. قال: فكان بعد ذلك
يقول: حدثني ربيعة عني.
قال أبو بكر: وقد روي عن أبي يوسف في قاض ادعى عنده قضاؤه بحق لرجل،
فلم يذكره - فأحضر المدعي (2) بينة لتشهد على قضائه له بذلك: أن للقاضي ألا يسمع ببينته
على ذلك. وقال محمد رحمه الله: يسمع منها، ويقضي له بالحق.
فإن حملنا الخبر على الشهادة على قضاء القاضي، وهو لا يذكره - فالواجب على
مذهب أبي يوسف: أنه يفسد الحديث إذا لم يذكره المروي عنه، وإن كان الراوي له ثقة.
ويجب على محمد أن يقبل.
وقد روي عن عمار: أنه قال لعمر حين خالفه في جواز التيمم للجنب: أما تذكر يا أمير
المؤمنين أنا كنا في الإبل فأجنبت، فتمعكت في التراب، ثم سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنما
كان يكفيك أن تضرب بيديك، فتمسح بها وجهك وذراعيك.) (3)
فلم يقنع عمر قول عمار وهو عنده ثقة أمين، إلا أنه ذكر أنه كان شاهدا للأمر الذي
قاله. فلما لم يذكره عمر لم يأخذ به، فهذا يؤيد قول من يقول بفساد الحديث بجحود المروي
عنه إياه.
ولا خلاف بين الفقهاء: في أن شاهدين عدلين لو قالا لرجل: قد كنت أشهدتنا
على شهادتك: أن لفلان على فلان ألف درهم، وهو لا يذكر ذلك، أنه لا يسمعه أن يشهد
عند القاضي بما قالا.
وكذلك لو رأى خطه ولم يذكر الشهادة لم يسعه إقامتها، وهذا أيضا مما يؤيد قول من
أفسد الحديث بما ذكرنا.
فإن قيل: فقد يحتمل أن ينساه بعد روايته، إياه فينبغي أن يقبل رواية الثقة عنه.

184
قيل له: ويحتمل أن يكون الراوي نسي، فظن أنه يزيد، فسمعه منه، وهو إنما سمعه
من غيره، فالنسيان جائز عليهما جميعا، فلم (1) جعلت المروى عنه أولى بالنسيان من
الراوي؟
وأما من لا يفسد الحديث بإنكار المروي عنه له، فإنه يذهب فيه إلى أن رواية الثقة
مقبولة، والنسيان جائز على المروي عنه، فلا يفسده.
وقد قبل النبي عليه السلام قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حين قال ذو اليدين:
أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فاقبل عليهما، فقال: (أحق ما يقول ذو اليدين؟ فقالا: نعم)
فقبل خبرهما.
وقبل عمر قول أنس في أمان الهرمزان حين، قال له: (أتكلم بكلام حي أم بكلام
ميت؟) فقال: تكلم بكلام حي) ولم يذكر عمر ما قاله له من ذلك. ثم قبل قول من أخبر
به.
وهذا عندنا لا يلزم من خالفه في ذلك، لأنه يحتمل أن يكون النبي عليه السلام في
قصة ذي اليدين، وعمر في قصة الهرمزان، ذكرا ذلك بعد إخبار من أخبر هما به. (2)

185
الباب السادس والخمسون
في
القول في رواية المدلس وغيره
وفيه فصل في جواز أن يقرأ الرجل
على المحدث فيقول: حدثنا إذا كان المحدث
يسمع ويضبط ما يقرأ عليه

187
باب
القول في رواية المدلس وغيره
قال أبو بكر رحمه الله: التدليس أن يروى عن أخبر لقيه، ويوهم السامع منه أنه سماع،
ولا يكون قد سمعه منه، وإنما سمعه من غيره، فيقول: قال فلان، وذكر فلان، ونحو
ذلك.
وقد كان الأعمش، والثوري، وهشام، (1) في آخرين يدلسون الأخبار.
وكان شعبه يقول: لأن أزني أحب إلى من أن أدلس.
والقول فيه عندنا: أنه إن كان المدلس مشهورا بأنه لا يدلس إلا عمن يجوز قبول
روايته، فروايته مقبولة فيما دلس، وإن كان الظاهر من حاله أنه لا يبالي عمن دلس: من ثقة
أو غير ثقة، فإنه لا يقبل روايته إلا أن يذكر سماعه فيه، على نحو ما بينا في إرساله الحديث،
ولا سيما كل من أسقط من بينه وبين من روى عنه رجلا مدلسا، لأن الصحابة قد رووا عن
النبي عليه السلام كثيرا من الأحاديث التي لم يسمعوا، وحذفوا ذكر من بينهم وبين النبي
عليه السلام، واقتصروا على أن قالوا: قال النبي عليه السلام. وكذلك التابعون، ولا
يسمعون مدلسين من وجهين:
أحدهما: أنهم إنما قصدوا الاختصار، وتقريب الإسناد على السامعين منهم.
والآخر: أنهم أرادوا بالإسناد (2) تأكيد الحديث، والقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه
قاله، ولم يقصدوا التزين بعلو الإسناد.

189
وكذلك نقول فيمن بعدهم، من قصد منهم بحذف الرجل الذي بينه وبين المروي
عنه: أحد هذين الوجهين: فإنا لا نسميه مدلسا، وإنما المدلس من يقصد بحذف الرجل
الذي سمعه: التزين بعلو السند، ونحو ذلك.
وهذا القصد غير محمود، غير أنه من ثبت أنه لا يدلس إلا عن الثقات، فهو مقبول
الخبر، وإن لم يقل حدثنا.
ومن يدلس عن غير الثقات فالأظهر من أمره: أنه غير مقبول الرواية حتى يبين. (3).

190
فصل
وجائز للرجل أن يقرئ المحدث فيقول فيه: حدثنا إذا كان المحدث يسمع ويضبط
ما يقرأ عليه، وهكذا روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه، أنه قال: إن قراءتك على
لمحدث أثبت من قراءته عليك. (1)
ووجه ذلك: أنه إذا كان قارئا لم يعقل شيئا منه، وإذا كان المحدث هو السامع، (2)
فقد يجوز أن يعقل بعض ما يقرأه القارئ. (3)
ومثله يجوز فيه الشهادات، وهي أكبر في الأصل من الأخبار، لأنك لو قرأت صكا
على إنسان بحق عليه، وقلت له: أشهد عليك بذلك، فقال: نعم. وسعك أن تقول: أقر
عندي فلان بجميع ما في هذا الكتاب.
وأما من كتب إليه بحديث، فإنه إذا صح عنده أنه كتابه إما بقول ثقة، أو بعلامات

191
منه وخطه، يغلب معها في النفس أنه كتابه، فإنه يسع المكتوب إليه الكتاب أن يقول:
أخبرني فلان، يعني الكتاب إليه، ولا يقول حدثني.
وقد قال أصحابنا فيمن قال: إن أخبرت فلانا بسر فلان فعبدي حر، فكتب إليه،
ووصل إليه كتاباته. فقد أخبر، وحنث في يمينه، وقد أخبرنا الله تعالى عن القرون
الماضية والأمم السالفة في كتابه.
وجائز لنا أن نقول: أخبرنا الله بذلك، ولا يجوز في مثله أن يقول: حدثنا. وقد كان
النبي عليه السلام كتب إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى الإسلام، (وكتب إلى الضحاك بن
سفيان في توريث المرأة في دية زوجها).
وقال عبيد الله بن عكيم: ورد علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان لا تنفعوا من الميتة
بشئ). فدل على أن ما تضمنه الكتاب من ذلك: هو إخبار من الكاتب به.
وأما ما يوجد من كلام رجل ومذهبه في كتاب معروف به قد تناولته النسخ، فإنه جائز
لمن نظر فيه أن يقول: قال فلان كذا، ومذهب فلان كذا، وإن لم يسمعه من أحد. مثل
كتب محمد بن الحسن، وموطأ مالك، ونحوها من الكتب المصنفة في أصناف العلوم، لأن
وجود ذلك على هذا الوصف بمنزلة خبر التواتر والاستفاضة، لا يحتاج مثله إلى إسناد،
وقد عاب بعض أغمار أصحاب الحديث على محمد بن الحسن رحمه الله حين سئل عن هذه
الكتب فقيل له: أسمعتها من أبي حنيفة؟
فقال: لا، فقيل له: أسمعتها من أبي يوسف؟ فقال: لا. وإنما أخذناها مذاكرة.
فأنكر هذا القائل بجهله على محمد بن الحسن رحمه الله: أن يحكي عنهم أقاويلهم التي في
كتبهم المصنفة من غير سماع.
وقد قلنا: إن مثل هذا لا يحتاج فيه إلى سماع، ولا إسناد، لظهوره واستفاضته. ولو لم
يكن هذا هكذا لما جاز لأحد أن يقول لموطأ مالك، أو كتاب أبي يوسف: هذا كتاب فلان،
وهذا كتاب فلان، إذا لم يكن قد سمعه بإسناد، وأما (1) إذا قال الراوي لرجل: قد أجزت
لك أن تروي عني جميع ما في هذا الكتاب، فاروه عني.
فإن كانا قد علما ما فيه، جاز له أن يرويه عنه. فيقول: حدثني، وأخبرني، كما أن

192
رجلا لو كتب صكا والشهود يرونه، ثم قال: اشهدوا علي بما فيه، جاز لهم إقامة الشهادة
عليه بما فيه.
وأما إذا لم يعلم الراوي، ولا السامع بما فيه، فإن الذي يجئ على مذهب أصحابنا
لا يجوز له أن يقول: أخبرني فلان بذلك، كما قالوا في الصك إذا أشهدهم وهم لا يعلمون
ما فيه: لم يصح الإشهاد. وكذلك إذا قالوا له: أجزنا لك ما يصح عندك من حديثنا، فإن
هذا ليس بشئ، كما لو قال: ما صح عندك من صك فيه إقراري فاشهد به علي. لم يصح
ذلك، ولم يجز الشهادة به عليه. والله أعلم.

193
الباب السابع والخمسون
في
قول الصحابي: أمرنا بكذا،
ونهينا عن كذا، والسنة كذا

195
باب
قول الصحابي: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، والسنة كذا
قال أبو بكر: قول الصحابي: (1) أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا.
وقوله: السنة كذا. لا يجوز أن يجعل شئ منه رواية عن النبي عليه السلام، (2) إذ كان الأمر
والنهي والسنة لا يختص بالنبي عليه السلام، دون غيره من الناس، قال الله تعالى:
(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). (3)
فقد يكون الأمر والنهي للأمير والولاة، فلا دلالة في مثله على: أنه رواية عن
النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك السنة، فقد تكون لغير النبي عليه السلام، قال النبي عليه السلام:
(عليكم) (4) بسنتي، (5) وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي). (6)
وقال عليه السلام: ((سن لكم معاذ سنة حسنة). (7)

197
وقال: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سنة
سنة سيئة فعلية وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة). (1)
وقال سعيد بن المسيب لربيعة، (2) حين سأله عن أرش أصابع المرأة إذا كن ثلاثا
فقال: (فيها ثلاثة آلاف درهم، فقال: فإذا كن أربعا. فقال: فيها ألفا درهم. (3)
قلت: لما كثر جرحها وعظمت مصيبتها نقص أرشها؟ فقال: أعراقي أنت؟ هكذا السنة) (4)
وإنما مخرج (5) ذلك عن زيد بن ثابت، فسماه سعيد بن المسيب سنة.
وحكي لنا عن الشافعي قال: (إذا قال مالك: السنة كذا، فإنما يريد سنة سليمان بن
بلال، (6) وكان عريف السوق).
وأما إذا قال الصحابي: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهانا عن كذا، وسن رسول

198
الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو قال هذي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من الناس من يأبى أن يوجب بمثله
حكما، حتى يحكى لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه، لأنه جائز أن يكون سمع لفظا يحتمل المعاني،
فتأوله على المعنى عنده، ونحن فلا يلزمنا تأويله، لا سيما وقد عرفنا من مذهب بعض علماء
السلف نقل المعنى دون اللفظ.
وقال آخرون: حكم ما هذا سبيله من الألفاظ ثابت فيما يتناوله من أمر ونهي، وليس
لأحد العدول عنه لأجل ما ذكر، لأن الراوي إذا كان من أهل اللسان وممن يوثق بضبطه
ومعرفته فهو يعرف ما يحتمل التأويل من الألفاظ، مما لا يحتمله.
فلو كان مصدر هذا القول عنده عن لفظ يحتمل التأويل لبين (1) حكاية اللفظ بعينه،
فلما اقتصر على إجمال ذكر الأمر والنهي علمنا: أن ذلك اللفظ عنده لم يغير ما حكيناه.
ولو ساغ الاعتبار الذي ذكره قائل القول الأول - لوجب أن لا يحكم به إذا قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (كيت وكيت)، لأن من العلماء من يروي نقل المعنى دون اللفظ.
منهم: الحسن، والشعبي، (2) وغيرهما.
ومنهم: من يرى نقل اللفظ بعينه، فيجوز على موضوع هذا القائل أن يقال: إن
هذا إنما حكى معنى ما سمعه من النبي عليه السلام، لا لفظه بعينه، لأن عيسى بن أبان
رحمه الله كان ممن يرى المعنى دون اللفظ، فلما أبطل (3) ذلك. وكان قوله: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذا، محمولا على حكاية لفظ وحقيقة معناه، وجب أن يحمل قوله: (أمرنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا: ونهانا عن كذا، وسن لنا كذا، على حقيقة الأمر والنهي) كأنه قول من
النبي عليه السلام بعينه.
وقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم تكتفي في رواية بعضهم لبعض سنن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحكامه، وسماع بعضهم من بعض بسماع هذا اللفظ، فيما يزيد معرفة من

199
النصوص والسنن، ألا ترى: أن صفوان بن عسال (1) لما سئل عن المسح على الخفين، قال:
(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرا: أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها ليس الجنابة،
لكن من غائط وبول ونوم) (2) فاكتفى بذكر الأمر مجملا، دون حكاية لفظ أمر النبي عليه
السلام، وقنع السائل أيضا منه بذلك، دون مطالبته بإيراد لفظه.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا، حتى أخبرنا رافع بن
خديج: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، فتركناها) فاكتفى منه بإطلاق لفظ النهي، دون
حكاية لفظ النبي عليه السلام.
ومثله كثير عن الصحابة، يطول الكتاب بذكره، ومن نحوه: قول عمر ابن الخطاب
رضي الله عنه للصبي بن معبد، حين قرن بين الحج والعمرة: السنة، ثم سأله عمر رضي
الله عنه عن ذلك فقال: (هديت لسنة نبيك) (3) ولم يحتج مع إضافته السنة إلى النبي: إلى
حكاية لفظه أو فعله. (4)

200
الباب الثامن والخمسون
في
الصحابي إذا روي خبرا
ثم عمل بخلافه

201
باب
القول في الصحابي إذا روي
خبرا ثم عمل بخلافه
قال أبو بكر رحمه الله: هذا على وجهين:
إن كان الخبر يحتمل التأويل لم يلتفت إلى تأويل الصحابي ولا غيره، وأمضى الخبر
على ظاهره، إلا أن تقوم الدلالة على وجوب صرفه إلى ما يؤوله الراوي.
والوجه الآخر: أن يرويه ثم يقول بخلافه فيما لا يحتمل التأويل، ولا يصلح أن يكون
اللفظ عبارة عنه. فهذا يدل عندنا من قوله: أنه قد علم نسخ الخبر، أو عقل من ظاهر
حاله: أن مراده كان الندب، دون الإيجاب.
فالأول: نحو ما روي ابن عمر رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال:
(المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا). والتفريق يكون بالقول، ويكون بالفعل، واللفظ يحتمل.
وكان مذهب ابن عمر: أنه على التفريق بالأبد أن. وهذا تأويل منه، فلا يقضي
تأويله على مراد الخبر.
والوجه الثاني: نحو ما روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام: (في غسل الإناء من
ولوغ الكلب سبعا). (1)
ونظيره أيضا: ما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه كان على المنبر يوم الجمعة فجاء
عثمان فقال له عمر: (أيت ساعة هذه؟ فقال: ما هو إلا أن سمعت النداء، فما زدت على أن

203
توضأت، فقال عمر: وللوضوء أيضا!! وقد علمت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا
بالغسل). (1)
فأخبر: أن النبي عليه السلام أمر بالغسل، ثم قال هو: إن الوضوء يجزئ عنه، والأمر
بالغسل لا يحتمل جواز الوضوء. فعلمنا: أنه لم يقبل بإجزاء الوضوء عن الغسل، إلا وقد علم
من فحوى خطاب النبي عليه السلام، ومن دلالة الحال، ومخرج الكلام: أن الأمر بالغسل
كان على وجه الندب. ونحوه ما روى (2) عبيد الله بن أبي رافع، عن علي رضي الله عنه،
عن النبي عليه السلام: (رفع اليدين عند الركوع). وروي عن علي أنه: (لم يرفعهما)
وكذلك روي عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام: (رفع اليدين عند الركوع. ثم روي
مجاهد أنه: (صلى خلف ابن عمر فلم يرفع يديه، إلا عند الافتتاح) فدل تركهما الرفع بعد
النبي عليه السلام على: أنهما قد عرفا نسخ الأول، لولاه لما تركاه، إذ غير جائز أن يظن بهما
مخالفة سنة روياها عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما لا احتمال فيه للتأويل.
قال عيسى: وإن كان مثل ذلك الخبر ما يجوز أن يخفى على من خالفه إلى غيره،
فالعمل على الخبر، دون ما روى الصحابي.
فأما الأول: فنحو ما روي عن النبي عليه السلام، أنه قال: (البكر بالبكر، جلد
مائه، وتغريب عام) وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه (نفى رجلا، فلحق بالروم. فقال

204
عمر: لا أنفى بعدها أحدا). (1)
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (كفى بالتفرقة فتنة) (2) فلو كان النفي حدا
ثابتا لما تركوه بعد المعرفة به، ومثله قول عمر رضي الله عنه: (متعتان كانتا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا أنهى عنها، إذا صرت عليها. متعة النساء، ومتعة الحج). (3) قال ابن
سيرين (4) (هم شهدوا، وهم نهوا عنها، فما في رأيهم ما يرغب عنه، ولا في نصيحتهم

205
ما يتهم)). (1)
ومنها: (أن النبي عليه السلام (قسم) (2) خيبر حين افتتحها) (3) وفتح عمر السواد
فلم يقسمه، وتركها في أيدي أهلها، فلو لم يكن قد علم: أن ما فعله النبي عليه السلام في
قسمة خيبر لم يكن حتما، لأن ما لا يجوز غيره، لا يجوز مخالفته.
ومثله ما روي: أن النبي عليه السلام (جمع بين الصلاتين في السفر بالمدينة). (4)
وقال عمر بن الخطاب: (إن جمعا بين الصلاتين من غير عذر (5) من الكبائر) (6) ولو
كان الجمع على الوجه الذي ادعاه مخالفنا ثابتا - لما خفى مثله عن عمر رضي الله عنه، وهو
يصحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفره وحضره.
فإن قيل: قد خفي على عبد الله بن مسعود رحمه الله نسخ (1) التطبيق، وكان يطبق
بعد النبي عليه السلام، مع قرب محله من النبي، وملازمته إياه في السفر والحضر.
قيل له: لم يخف عليه ترك التطبيق عمدا، وإنما تأول لفظ النبي عليه السلام فيه على
الرخصة، لأنه روي أنه: (شكى إليه مشقة التطبيق فقال: (استعينوا بالركب) (8).

206
وكان ظاهر هذا اللفظ: الترخيص، فحمله على ذلك، وكان عنده: أن الأول ثابت،
فاختاره، لأنه أشق على المصلي.
قال عيسى: فأما الوجه الثاني مما يجوز أن يخفي على الصحابي: فنحو ما روي عن
النبي عليه السلام أنه: (رخص للحائض أن تنفر قبل طواف الصدر) (1) وروي عن عمر أنه
قال: (تقيم حتى تطهر فتطوف). (2)
ومثل ذلك يجوز خفاؤه على عمر. فالأمر فيه على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ومثله ما روي عن النبي عليه السلام أنه: (أمر بإعادة الوضوء من الضحك في
الصلاة) (3) وروى أبو موسى الأشعري أنه: (لا يعيد الوضوء)، ومثله قد يجوز أن يخفى
عليه، فلا يعترض بخلافه على الخبر، ولا يوهنه.

207
ومثله ما روي عن النبي عليه السلام (في الحج عن الشيخ الكبير، الذي لا يثبت
على الراحلة). (1)
وروي عن ابن عمر أنه قال: (لا يحج أحد عن أحد) (2) فهذه أمور خاصة يجوز خفاء
مثلها على هؤلاء، فلا تقدح مخالفتهم فيها في الخبر، ويحمل أمره على: أنه لم يبلغهم
ما روي عن النبي عليه السلام فيه، وأنه لو قد كان بلغهم لصاروا إليه، وتركوا رأيهم. (3)

208
الباب التاسع والخمسون
في
راوي الخبر كيف سبيله أن يؤديه

209
باب القول
في راوي الخبر كيف سبيله أن يؤديه
قال أبو بكر رحمه الله: قد حكينا عن الحسن والشعبي: أنهما كانا يحدثان بالمعاني،
وكان غيرهم - منهم ابن سيرين - يحدث باللفظ.
والأحوط عندنا إذا اللفظ وسياقه على وجهه، دون الاقتصار (1) على المعنى، سواء
كان اللفظ مما يحتمل التأويل أو لا يحتمله.
إلا أن يكون الراوي مثل: الحسن، والشعبي، في إتقانهما للمعاني والعبارات التي هي
وفقها غير فاضلة عنها، ولا مقصرة. وهذا عندنا إنما كان يفعلانه (2) في اللفظ الذي يحتمل
التأويل، ويكون للمعنى عبارات مختلفة، فيعبران تارة بعبارة، وتارة بغيرها.
فأما ما لا يحتمل التأويل من الألفاظ فإنا لا نظن بهما: أنهما كانا يغيرانه إلى لفظ غيره،
مع احتماله لمعنى غير معنى لفظ الأصل، وأكثر فساد أخبار الآحاد وتناقضها واستحالتها إنما
جاء من هذا الوجه، وذلك لأنه قد كان منهم من يسمع اللفظ المحتمل للمعاني، فيعبر هو
بلفظ غيره، ولا يحتمل إلا معنى واحدا، على أنه هو المعنى عنده فيفسد.
والدليل على صحة ما ذكرنا من وجوب نقل اللفظ بعينه قوله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ
سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها. فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى
من هو أفقه منه).
فأمر عليه السلام بنقل اللفظ بعينه ليعتبره الفقهاء، ويحملوه على الوجوه التي يصح
حمله عليها. (3)

211
الباب التاسع والخمسون
في
القول في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم

213
باب القول
في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو بكر رحمه الله: أفعال النبي عليه السلام الواقعة على قصد منه يقتسمها وجوه
ثلاثة.
واجب، وندب، ومباح، إلا ما قامت الدلالة على أنه من الصغائر المعفوة. (1)
فإن (2) ظهر منه فعل ليس في ظاهره دلالة على وقوعه منه، على أحد الوجوه الثلاثة التي
ذكرنا، فقد اختلف الناس فيما يتعلق علينا من حكمها.
فقال قائلون: واجب علينا أن نفعل مثله، حتى تقوم الدلالة على أنه غير واجب.
وقال آخرون: ليس منها شئ واجب علينا فعله، حتى تقوم الدلالة على وجوبه،
ولنا فعله على وجه الإباحة، إذ كان ذلك أدنى منازل أفعاله صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: نقف فيه، ولا نفعله، لا على وجه الإباحة، ولا غيرها، حتى تقوم
الدلالة على شئ من ذلك.
واختلفوا أيضا إذا (3) علم وقوعه على شئ من هذه الوجه الثلاثة: من الإباحة،
والندب والإيجاب.
فقال قائلون: علينا اتباعه فيه، وإيقاعه على الوجه الذي أوقعه عليه.
وقال آخرون: ليس علينا فعله، حتى تقوم الدلالة عليه، وكان أبو الحسن الكرخي
رحمه الله يقول: ظاهر فعله عليه السلام لا يلزمنا به شئ، حتى تقوم الدلالة على لزومه
لنا، ولا أحفظ عنه الجواب أيضا، إذا علم وقوعه على أحد الوجوه التي ذكرناها، والذي
يغلب على ظني من مذهبه، أنه علينا اتباعه فيه، على الوجه الذي أوقعه عليه، فهذا هو
الصحيح عندنا. (4)

215
والدليل على أن ظاهر فعله عليه السلام لا يوجب علينا فعل مثله - قول الله تعالى
(أطيعوا الله) (1) وقال تعالى (فاتبعوه) (2) وقال تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله) (3) فلما أمرنا بطاعته واتباعه، وكانت طاعته واتباعه لا يكونان إلا بأن نوقع
أفعالنا على الوجه الذي يريده منا.

216
ولم يكن فعله عبارة عن إرادته ذلك منا، ولا كان في ظاهره ما يدل عليه، لم يجز لنا فعله
على وجه الإيجاب، مع فقد العلم بأنه يريد ذلك منا، فلا يكون فعلنا له على هذا الوجه
طاعة، ولا اتباعا له، ولأنا متى أقدمنا على ذلك فقد قضينا بأنه مريد منا ذلك، وغير جائز
لنا إثبات إرادته لذلك إلا بنص أو دلالة، وظهور فعله لا يدل عليها، أو قد يفعل هو في نفسه
فعلا ولا يريد منا مثله، فإذا ليس وجود فعله على أنه واجب مع عدم العلم به، وليس ظهور
الفعل منه على هذا الوجه كظهور أمره في دلالته على إرادته منا، لأنه لا يأمرنا بشئ إلا وقد
أراد منا فعله. فظاهر الأمر يقتضى إرادة المأمور منا. فلذلك اختلفا.
فإن قيل: ما أنكرت أن يكون ما استدللت به من الآي هو الدلالة على وجوب فعله
علينا، لأنه حين أمرنا باتباعه، فقد أمرنا بأن نفعل مثل فعله، إذ كان المعقول من لفظ
الاتباع، أن نفعل مثل ما فعل.
قيل: لا يخلو شرط الاتباع: من أن يكون إيقاع الفعل في ظاهره على حسب ما
أوقعه، من غير أن يكون معلقا بإرادته ذلك منا، أو أن نفعله على حسب ما يريده منا،
ومتى فعله في صورته من غير تعلقه بإرادته إياه منا، لكنا متبعين إذا نهانا عنه، وفعله هو في
نفسه، ففعلنا مثل فعله لوجود مثله في صورته منا، ولو كان كذلك لكنا مطيعين له بذلك،
لأن متبع النبي عليه السلام لابد من أن يكون مطيعا له: فكان يجب أن يكون مطيعا
عاصيا، فلما بطل هذا علمنا: أن شرط اتباعه في فعله: أن نوقعه على الوجه الذي أوقع عليه
وأراده منا، فلما لم يك ظاهر فعله دلالة على الوجه الذي أوقعه عليه، ولا على أنه قد أراد منا
ذلك (1) لم يجز لنا إيقاعه على جهة الإيجاب، مع فقد العلم منا بالوجه الذي أوقعه عليه.
وأيضا: فمعلوم أنه إن كان فعله على وجه الإباحة والندب ثم فعلناه نحن على وجه
الوجوب - لم نكن متبعين له، لأن شرط الاتباع إيقاعه على الوجه الذي أوقعه عليه، ومتى
خالفناه في هذا الوجه خرجنا من حد الاتباع.
ألا ترى أن من فعل فعلا ففعل غيره مثله على وجه المعارضة له والمضاهات لفعله
قاصد المعارضة (2) ومباراته، لم يكن متبعا له، وإن كان قد أوقع فعلا مثل فعله في الظاهر.

217
فإن قيل: الدليل على وجوبه قوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره ان
تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (1) والفعل يجوز أن يتناوله لفظ الأمر، لأن الأمر يجوز
أن يكون عبارة عن شأنه وطريقته. كما قال تعالى (وما أمر فرعون برشيد) (2)
وقال تعالى (وأمرهم شورى بينهم) (3) وقال تعالى (قل إن الأمر كله لله) وإذا كان
ذلك كذلك تضمن قوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره). (4) النهي عن مخالفته:
في شأنه، وطريقته، وأفعاله، وأحواله (5) فيه.
قيل له: أول ما في هذا: أن إطلاق لفظ الأمر إنما يتناول الأمر الذي هو قول
القائل: افعل، ولا يتناول غيره، إلا على وجه المجاز.
والدليل على أن اسم الأمر ينتفي عن هذا القول، إذا أريد به إلزام الفعل بحال،
وينتفى لفظ الأمر عن الفعل بأن يقال: الفعل ليس بأمر على الحقيقة.
ألا ترى: أنه يجوز أن يفصل بينهما في اللفظ، ويعطف أحدهما على الآخر، فيقول:
فعل النبي عليه السلام، وأمره صلى الله عليه وسلم، ولو كان الفعل أمرا على الحقيقة - لجاز أن يقال: لكل
فعل أمر، ولجاز أن يقال: إن صلاتنا أمر، وقعودنا، وأكلنا، وشربنا، أمر.
ويدل على هذا: أن اللفظ الذي في مقابلة الأمر - وهو النهي - إنما يكون قولا لا
فعلا، فكذلك ضده، وما في مقابلته ينبغي أن يكون قولا.
وأيضا: فلو صح أن لفظ الأمر يتناول الفعل لما كان في الآية دلالة على ما ذكرت، لأن
الضمير الذي في قوله تعالى: (عن أمره) راجع إلى الله تعالى، دون النبي صلى الله عليه وسلم، لأن (6)
حكم الكناية اسم الله تعالى، لأنه قال: (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لو إذا) (7) وقال:

218
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره) (1) وجب أن يكون ضمير هذه الكناية اسم الله تعالى،
وإذا صح رجوعه إلى الله تعالى لم يصح رجوعه إلى الرسول عليه السلام، لأن فيها ضمير
الواحد لا أكثر منه، فكان تقدير الآية، فليحذر الذين يخالفون عن أمر الله، فيما أمركم به
من تعظيم الرسول لقوله تعالى (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا). (2)
قيل في التفسير: أي لا تدعوه كما يدعوا بعضكم بعضا، بأن يقول قائل منكم:
يا محمد، بل يدعوه بأنبه (3) أسمائه وأشرفها، فيقول: يا نبي الله، ويا رسول الله.
فإن قيل: لا يمتنع رجوع ضمير الكنابة إليه، كقوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا
انفضوا إليها وتركوك قائما) (4) فرد الضمير إلى التجارة، وقد توسطها ذكر اللهو.
قيل له: ليس هذا كما ظننته، لأن الأصل رجوع الكناية إلى ما يليها، ولا يرجع إلى
ما تقدم إلا بدلالة.
وأيضا: فإن قوله تعالى: (انفضوا إليها) قد عاد إليهما جميعا في المعنى، لأنه خبر
لهما جميعا، ولولا ذلك لحصل قوله: (أو لهوا) منفردا عن خبره، فيبطل (5) فائدته، فإن كان
قوله: أو لهوا، مفتقرا إلى خبر، ولا خبر له غير ما في الآية علمنا أن قوله: انفضوا إليها خبر لهما
جميعا، وإنما خص التجارة بالكناية، لأن في العادة: أن (6) تفرق الناس إليها أكثر منه إلى
غيره.
وجواب آخر: وهو أن هذه الآية قد اقتضت أن لا يكون ظاهر فعله موجبا علينا فعل
مثله، وذلك لأنه حذر مخالفة أمره، ومتى لم يعلم على أي وجه فعله هو في نفسه من إيجاب،
أو ندب، أو إباحة، ثم فعلناه على غير الوجه الذي فعله وأراده منا (7) فإن ذلك إلى مخالفته
أقرب منه إلى المتابعة، وليس ترك المخالفة أن يفعل مثل فعله، في صورته، دون أن يكون
واقعا على إرادته منه، لأنه لو نهاه عن فعله كان مخالفا لأمره، وإن فعل مثل ما فعل.

219
وأيضا: لو سلمنا لهم أن لفظ الأمر يتناول الفعل، لما صح أن يكون الفعل مرادا
بالآية عندنا، وإن رجع الضمير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الجميع متفقون: أن الأمر الذي هو
القول مراد، وإذا صح أن ذلك مراد امتنع دخول الفعل فيه، لأن اللفظ الواحد لا يجوز
عندنا أن يتناول معنيين مختلفين، على ما بينا فيما سلف.
وأيضا: فلو سلمنا لهم جميع ما ادعوه في الآية: من أن المراد بالأمر هاهنا: طريقته،
وشأنه، وأن الضمير راجع إلى النبي عليه السلام، لما صح الاحتجاج بعمومه في إيجابه،
لأنه لا يصح اعتقاد العموم في لزوم سائر أفعاله لنا، وما لا يصح اعتقاد العموم فيه لم يجز
اعتبار العموم فيه على ما بينا في أول الكتاب، فيصير حينئذ تقديره: فليحذر الذين يخالفون
عن بعض أفعاله، فيحتاج ذلك البعض إلى دلالة في إثبات حكمه، ولزوم فعله، لأنه
يصير مجملا، مفتقرا إلى البيان.
فإن قيل: قوله تعالى: (فاتبعوه) يقتضي وجوب فعله علينا.
قيل له: قد بينا أن هذه الدلائل تدل: على أن فعله ليس يقتضي وجوبه علينا،
لتعذر اتباعه فيه، عند فقدنا العلم بالوجه الذي أوقع عليه الفعل، لأن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لابد
من أن يكون طاعة، ومتى فعلناه على جهة الوجوب ونحن لا نأمن أن يكون هو قد فعله
على غير هذا الوجه، فليس ذلك بطاعة، فلا نكون متبعين له.
فإن قيل: قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (1) وهذا يدل
على وجوب التأسي به، لأنه قال: (لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) (2) ومعناه يخاف الله.
قيل له: هذا يدل على نفي الوجوب، لأنه قال: لكم أن تتأسوا به، وهذا ندب
وليس بإيجاب، وغير جائز حمله على الوجوب إلا بدلالة، لأن قول القائل: كان (3) يفعل
كذا لا يقتضي الوجوب، وإنما كان يدل على الوجوب، لو قال: عليك به، أن تفعل كذا.
فإن قيل: يجوز أن يكون معناه: عليكم. كما قال تعالى: (وإن أسأتم فلها) (4)
وقوله تعالى: (ولهم اللعنة) (5) معناه عليهم.

220
قيل الحقيقة: ما وصفنا، وهذا مجاز، لا يصرف اللفظ إليه إلا بدلالة، وأما قوله
تعالى: (لمن كان يرجو الله) فلا دلالة فيه على ما ذكره، لأن معناه لمن كان يرجو ثواب الله،
أبان به عن استحقاق الثواب بالتأسي به، واستحقاق الثواب بالفعل لا يدل على الوجوب،
لأن الندب يستحق الثواب بفعله، ولا يدل على وجوبه.
وأما تأويل من تأوله على معنى: يخاف الله واليوم الآخر - غلط، لأن الرجاء غير الخوف
في اللغة.
ألا ترى أنك نقول: أرجو الثواب، ولا تقول: أرجو العقاب. وإنما تقول: أخاف
العقاب، وقال تعالى: (1) (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) (2)، فالرجاء يتعلق بضد
ما يتعلق به الخوف، فغير جائز حمله على غير الحقيقة، وصرفه إلى ضد موجبه.
وأيضا: لو دل على الوجوب لما دل على موضع الخلاف، لأنه كان حينئذ يقتضي
وجوب التأسي به، (3) ليكون (4) فعلا (5) مساويا لفعله في الحكم، فإذا لم أعلم أن فعله على
جهة الوجوب، ثم فعلته أنا على وجه الإيجاب، فليس ذلك تأسيا به.
وأيضا: فإن التأسي بالنبي عليه السلام طاعة، وإذا فعله هو ندبا أو إباحة وفعلته أنا
على الوجوب فقد خالفته، ومخالفته ليست بطاعة.
وأيضا: فلما كان معلوما تعذر التأسي به في كل أفعاله، لأن ذلك يوجب لزومه في
سائر أحواله، وذلك ممتنع، صار ما بدر إليه من التأسي به متعلقا ببعض أفعاله، لاستحالة
اعتقاد العموم فيه. فصار تقديره: لكم التأسي به في بعض أفعاله، فيحتاج إلى دلالة
أخرى غير اللفظ في إثبات الوجه الذي يتأسى به فيه.
فإن قيل: قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) (6) يدل على: أن ما فعله يجب
علينا فعل مثله، لأنه ما أني به الرسول عليه السلام، ولأنه لا فرق بين قوله: (ما آتاكم
الرسول) وبين (7) لو قال: ما أتي الرسول به فخذوه، كما لا فرق بين قوله: (ما نهاكم عنه)

221
وبين ما لو قال: ما نهى عنه فانتهوا عنه وبين ما لو قال: ما نهى عنه فانتهوا عنه.
فيقال له: هذا غلط، لأن قوله: (ما آتاكم) لا يجوز أن يكون في معنى قوله: ما أتى
به فخذوه، بقصر الألف، لأن قوله: (ما آتاكم) بمعنى ما أعطاكم، وذلك يقتضي خطابنا
به، وإرادته منا، وما فعله في نفسه فغير جائز أن يقال: إنه قد أتانا في نفسه أفعالا لا يريدها
منا.
وأما قوله: وما نهاكم عنه، فإن النهي لا يكون إلا خطابا لنا، وذلك في مضمون
اللفظ، فلا فرق بين قوله (وما نهاكم عنه) وبين قوله لو قال: ما نهانا عنه، يبين لكم ذلك
أنه إذا قيل: أتى فلان كذا: أنه لا يتعدى إلى غيره، وإنما يكون فعلا فعله في نفسه، وإذا
قيل: آتي كذا فلا بد من أن يتعدى إلى غيره، ينبغي إعطاء، فيقتضي معطيا، فاقتضت
الآية فيما وصفنا خطاب الغير به، وأما فعل يفعله في نفسه فلا يجوز إطلاق ذلك فيه.
فإن قيل: لما خلع النبي عليه السلام نعله في الصلاة خلع القوم نعالهم، فدل: على
أنهم كانوا معتقدين للوجوب في أفعال النبي عليه السلام.
قيل له: هذه دعوى غير مقرونة بدلالة، من أين لكم أنهم كانوا يعتقدون فيه
الوجوب؟ دون أن يكونوا فعلوه على وجه الندب؟ وهذا الخبر: يدل على أنه لم يكن يجوز
اعتقاد الوجوب في أفعال النبي عليه السلام، وذلك لأن النبي عليه السلام لما سلم قال لهم:
(لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. فقال: إن جبريل أخبرني أن في نعلي
قذرا) (1) فلو كان جائزا لهم اعتقاد الوجوب فيه - لما كان أنكر عليهم خلعها في الصلاة.
فإن قيل: لما روى: أن النبي عليه السلام (صلى في شهر رمضان ليلة، أو ليلتين، ثم
لم يخرج حتى اجتمعوا بعد ذلك، فلما أصبح قال لهم: خشيت أن تكتب عليكم)، (2) فدل
على: أن مداومته على فعل الشئ موجب للتأسي به فيه، لولاه لم يكن لقوله: خشيت أن
تكتب عليكم معنى.
قيل له: هذا من أدل الدلائل على نفي الوجوب من وجهين.

222
أحدهما: أن كلامنا في ظاهر فعل النبي عليه السلام هل يقتضي الوجوب أم لا؟ ولم
نتكلم في المداومة، وقد صلى النبي عليه السلام بهم ليلتين، وأخبر مع ذلك: أنها لم تجب
بفعله، فلو كان فعله يقتضي الوجوب لكان قد وجب بأول ليلة.
والثاني: قوله: خشيت أن تكتب عليكم لو داومت، فأخبر: أنها كانت تكتب عليهم
من جهة الفعل، ولو كانت مداومته على الفعل تقتضي الوجوب لقال: لو داومت عليها
لوجبت بالمداومة، وكان لا يحتاج أن تكتب عليهم بغيرها.
وقوله: (خشيت إن تكتب عليكم) يجوز أن يكون قد علم في مثله: أنه إذا داوم عليه
كتبه الله علينا، وأنه إذا لم يداوم لم تكتب، فكان لزومه للفروض موقوفا على اختياره، كما
كان لزوم الخمسين صلاة أو الخمس في الليلة التي أسرى به فيها موقوفا على اختياره.
ومما يدل على أن فعله ليس على الوجوب: أن أفعاله عليه السلام يعتورها معنيان:
الأخذ، والترك. فلما كان الترك غير واجب وهو أحد قسمي الفعل، كان الأخذ مثله.
والعلة الجامعة بينهما: أنه ليس في ظاهر الفعل دلالة على حكمه في نفسه، كما أنه ليس في
ظاهر الترك دلالة على حكمه في نفسه: من وجوب، أو ندب، أو إباحة. فوجب أن لا
يتعلق وجوب الفعل علينا بوجوده (منه لوجود المعنيين)) (1)
فإن قيل: قد اتفقنا على أن فعله إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب،
وكذلك فعله في القضاء بين متنازعين، والفصل بين خصمين بالقضاء لأحدهما على
الآخر، فوجب أن يكون سائر أفعاله بمثابتها.
قيل له: لم يجمع بينهما فعله، فهو سؤال ساقط.
وأيضا: فإنا لا نقول: إن ورود فعله مورد البيان يقتضي الإيجاب على هذا
الإطلاق، وإنما نقول: إن ورود فعله مورد البيان يقتضي الإيجاب إذا كان بيانا للفظ
يقتضي الإيجاب، وإن ورد بيانا لما لا يقتضي الإيجاب فليس على الوجوب.
وأما القضاء على أحد الخصمين على الآخر ونحوه - فإنما كان على الوجوب لأن
الدلالة قد قامت على أن فعل ذلك على جهة الوجوب، فلزمنا الاقتداء فيه.
وكذلك نقول في جميع أفعال النبي عليه السلام: إن ما علمنا وجوبه عليه منها فواجب

223
علينا فعله. والكلام في الدلالة على أنه فعل ذلك على جهة الوجوب - خروج عن المسألة.
ومن الدليل أن ظاهر فعله لا يقتضي وجوب مثله علينا: أنه لا يصح تكليفنا عموم
مثل أفعاله، لأنا لا نقدر عليه، ولا نتوصل إليه، لأن من كان مخاطبا بذلك يحتاج إلى
ملازمته، وترك مفارقته، فاستحال من أجل ذلك تكليفنا عموم أفعاله، فلما استحال ذلك
علمنا أن بعضها غير واجب، فلو كان بعضه واجبا لاستحال أن يميز ما هو واجب منها مما
ليس بواجب، بدلالة غير الفعل، فإذا لا يصح الاستدلال بظاهر فعله على وجوب فعل
مثله علينا.
فإن قيل: ما أنكرت أن يكون أفعاله واجبة علينا حتى تقوم الدلالة على أن شيئا منها
غير واجب، فيخرج على حد الوجوب بالدلالة الموجبة لذلك.
قيل له: هذا خطأ، لأن هذا إنما يسوغ أن يقال فيما يصح تكليف جميعه، ثم يرد
لفظ (1) يقتضي لزوم الجميع.
فيقال: إن الجميع واجب، إلا ما قام دليله، فأما ما لا يصح تكليف جميعه - فغير جائز
أن يقال: إن جميعه واجب، إلا ما قام دليله، وعلى أنك لم تعضد هذا القول بدليل.
ولخصمك أن يقول: إن جميعه غير واجب، حتى يقوم دليل على الوجوب.
قال أبو بكر رحمه الله: قد دللنا على أن ظاهر قوله عليه السلام لا يقتضي وجوب مثله
علينا.
وندلل (2) الآن: على أنا متى وقفنا على حكم فعله: من إباحة، أو ندب، أو
إيجاب، فعلينا اتباعه، والتأسي به فيه، فنقول وبالله التوفيق:
الدليل على ذلك: قوله تعالى: (فاتبعوه) (3) وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني يحببكم الله) (4) وقال تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (5) والاتباع: أن
يفعل مثل فعله، وفي حكمه، فإذا فعله واجبا، فعلنا على الوجوب، وإذا فعله ندبا، أو
مباحا، فعلناه كذلك، لنكون قد وفينا الاتباع حقه، وفيما يقتضيه.

224
ويدل عليه أيضا: قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (1) فإذا
علمناه فعل فعلا على الوجوب قلنا: التأسي به في فعله على ذلك الوجه، فلو لا أنه قد
وجب علينا بوقوفنا على جهة فعله، أن نفعل مثله - لما جاز لنا أن نتأسى به عليه السلام
فيه، على وجه الإيجاب، لأن ما ليس بواجب - لا يجوز فعله على أنه واجب، وكذلك ما
علمنا من أفعاله: أنه فعله على وجه الندب.
قلنا: فعله على هذا الوجه، بظاهر الآية، فلو لا أنه قد صار ندبا لما جاز فعله على
وجه الندب، والتأسي به أن يفعل مثل فعله، وفي حكمه سواء، ولا يلزم على هذا إذا لم
يعلم فعله على أي وجه وقع، لأنه لا يمكن التأسي به في هذه الحال، لما وصفنا.
ويدل على ذلك أيضا: أن المسلمين قد عقلوا فيما نقلوه من دين النبي عليه السلام:
أنه وسائر أمته سواء في حكم الشرع، إلا ما خصه الله تعالى به، وأفرده بحكمه، دون سائر
المؤمنين، كما عقلوا: أن أهل سائر الأعصار بعد النبي في حكم من كان في عصره في أحكام
الشرع، وكما عقلوا: أن ما حكم به النبي عليه السلام في شخص بعينه من حكم، جار في
سائر الأمة.
فإن كان حكما مبتدأ فالجميع فيه سواء، وإن كان حكما متعلقا بسبب فبحدوث
(السبب). (2) فكل ما كان له مثل ذلك السبب فحكمه (3) حكم من حكم فيه النبي صلى الله عليه وسلم
بذلك الحكم، وعلى هذا المنهاج والمفهوم من دين النبي عليه السلام توافقوا على نقل
أحكام النبي عليه السلام المحكوم بها في أشخاص بأعيانهم، إلى من بعدهم، لأنهم عقلوا
أنها أحكام جارية في جميعهم، إلا من خصه الدليل.
ويدل عليه قوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على
المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا) (4) فأخبر: أنه أباح ذلك للنبي عليه
السلام، ليكون حكما جاريا في أمته، ونبهنا به، على أن النبي عليه السلام وأمته في أحكام
الشرع سواء، إلا ما خصه الله به: من نحو تحريم الصدقة، والجمع بين أكثر من تسع نسوة.
ويدل عليه أيضا: قوله تعالى: (و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) (5) إلى قوله

225
تعالى: (خالصة لك من دون المؤمنين) (1) لما أراد إفراد النبي بذلك خصه بالذكر، وأخبر
أن غيره لا يشاركه فيه، لأنه لو لم يخصه لعقلت الأمة مساواتها له فيه.
ويدل عليه: حديث المرأة التي سألت أم سلمة حين بعث بها زوجها إليها لتسألها عن
القبلة للصائم، فأخبرتها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، فقال الرجل: لست كالنبي
عليه السلام، إن الله تعالى قد غفر لنبيه ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، فلما جاء النبي عليه
السلام سألته، فقال: النبي عليه السلام لأم سلمة: هلا أخبرتيها أني أقبل وأنا صائم؟
فقالت أم سلمة: قد أخبرتها بذلك، فقال زوجها: لست كالنبي، إن الله قد غفر له ما تقدم
من ذنبه، وما تأخر، فغضب النبي عليه السلام، وقال: إني أرجو أن أكون أتقاكم لله
وأعلمكم بحدوده).
فأعلم النبي عليه السلام: أن وجود فعله في ذلك كان كافيا في الاقتصار عليه في
مسألته عن حكم نفسه، وإذا كان هذا على ما وصفنا، فما علمناه من أفعال النبي عليه
السلام واقعا على وجهه كان علينا الاقتداء به، في إيقاعه على الوجه الذي فعله عليه،
وما لم نعلمه على أي وجه فعله قلنا فعله على وجه الإباحة، إذ كانت أدنى منازل أفعاله،
وليس علينا فعله بدء، ولا واجبا، لأن فيه زيادة حكم لا نعلم وجوده.
فإن قيل: شرط الطاعة والاتباع والتأسي بالنبي عليه السلام: أن يكون هو فعله،
حتى تقوم الدلالة على أنه قد أراد منا مثله.
قيل له: لما قال تعالى: (فاتبعوه) (2) وقال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة) (3) فكان الاتباع والتأسي: أن نفعل مثل ما فعله، على الوجه الذي فعله عليه،
فقد أراد الله تعالى منا إيقاعه على ذلك الوجه، وما أراد الله (4) من ذلك فقد أراده النبي
عليه السلام منا، بإرادة مقرونة بفعل مثله، على الوجه الذي فعله عليه، من الجهة التي
ذكرنا.
وأيضا: لما أقام الله لنا الدلائل: على أن حكم النبي عليه السلام وحكم أمته سواء،
إلا فيما خصه به على ما بينا، فقد أراد منا: أن نفعل مثل فعله على ذلك الوجه، ونكون

226
بذلك متبعين ومتأسين به، ولا نحتاج إلى دلالة أخرى: في أنه قد أراد منا فعله غير
ما وصفنا.
وقد ذكرنا: أن من الناس من يقول: إني إذا لم أعلم وقوع فعله على أحد هذه الوجوه
وقفت فيه، ولم أفعله، حتى أعلم حقيقته، فأقتدي به فيه، لأني إذا فعلته على وجه الإباحة
لا آمن أن يكون مخالفا له فيه، لجواز أن يكون عليه السلام فعله على وجه الندب، أو
الوجوب.
وهذا عندنا ليس بشئ، لأنه لا يخلو في قوله: أقف فيه: من أن يمنع فعل مثله
ويحظره، أو يقول: إني لا أمنعه، ولا تبعة على فاعله، فإن حظره ومنع منه - فقد حكم
بحظره وأبطل الوقف، وهذا عين المخالفة إذا كان حاظرا لما استباح النبي عليه السلام
فعله.
وإن قال: لا أحكم فيه بشئ، ولا ألوم فاعله.
قبل له: فهذا هو الإباحة التي أنكرتها، وعلى أن قوله بالوقف قبل أن يسأله عن وجهه
هو نفس المخالفة للنبي عليه السلام، لأنا قد علمنا أن النبي عليه السلام حين فعله لم يقف
فيه، فالقول بالوقف فاسد من هذه الوجه التي ذكرنا.
فإن قيل: وأنت إذا فعلته على وجه الإباحة فلست تأمن (1) أن يكون النبي عليه
السلام قد فعله ندبا، أو إيجابا، فتكون قد خالفته.
قيل له: لو كان قد فعله على أحد هذين الوجهين لبينه عليه السلام، لأن منا الحاجة
إليه، فلما لم يبينه: علمنا أنه قد أجاز لنا فعله على وجه الإباحة.
فإن قيل: ولو فعله على وجه الإباحة لبينه، فإذا جاز أن لا يبين له ما يفعله على وجه
الإباحة، جاز أن لا يبين ما يفعله على وجه الندب والإيجاب.
قيل له: لا يجب ذلك، لأن النبي عليه السلام جائز له أن لا يبين المباحات كلها، إذ
ليس بنا حاجة إليها في ديننا، إذ لا نستحق بفعلها ثوابا، ولا بتركها عقابا.

227
وأما الندب، والواجب، فلا يجوز أن يترك بيانه، لأن منا الحاجة إليه في معرفته،
لنستحق الثواب بفعل المندوب إليه، ولئلا نواقع المحظور بترك الواجب.
قال أبو بكر: وكذلك نقول في الترك، كقولنا في الفعل، فمتى رأينا النبي عليه
السلام قد ترك فعل شئ ولم ندر على أي وجه تركه، قلنا: تركه على جهة الإباحة، فليس
بواجب علينا، إلا أن يثبت عندنا: أنه تركه على جهة التأثم بفعله، فيجب علينا تركه
حينئذ على ذلك الوجه، حتى يقوم الدليل: على أنه مخصوص به دوننا.

228
الباب الستون
في
القول فيما يستدل به على أحكام
أفعاله عليه السلام

229
باب القول
فيما يستدل به على أحكام أفعاله عليه السلام
قال أبو بكر: ما يستدل به على حكم فعله عليه السلام: أن يرد فعله مورد بيان جملة
تقتضي الإيجاب، أو الندب، أو الإباحة، فيكون حكم فعله تابعا لحكم الجملة، فإن
اقتضت الجملة الإيجاب كان فعله واجبا، وإن اقتضت الندب كان فعله ندبا، وكذلك إن
اقتضت الإباحة كان فعله في ذلك مباحا، وذلك: لأنه إذا ورد مورد البيان فمعناه: أن المراد
بالجملة ما فعله، فيكون تابعا لحكم الجملة، على الوجوه التي ذكرناها.
فأما وقوع البيان بفعله يقتضي الوجوب، فنحو فعله لأعداد ركعات الصلاة
المفروضة، هو بيان لقوله تعالى (أقيموا الصلاة) (1) وفعله لأفعال الحج بيان قوله تعالى
(ولله على الناس حج البيت)، (2) وفعله لبيان جملة يقتضي الندب نحو قوله تعالى
(وافعلوا الخير) (3) وقوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) (4) وليس الخير كله
حتما، ولا الإحسان واجبا فيما فعله النبي عليه السلام، من صدقه تطوع، أو صلاة تطوع،
ونحوهما، مفعول بالآي، إلا أنه ليس على الوجوب، إذا لم تكن الجملة التي هذا بيان عنها
مقتضية للوجوب، وما فعله النبي عليه السلام: من استخراج حق من رجل لغيره، ومن
عقوبة رجل على فعل كان منه، فهذا على الوجوب، لأن ذلك لا يجوز فعله على وجه
الإباحة، ولا على جهة الندب، قال عليه السلام: (دماؤكم وأموالكم عليكم حرام) (5)
وقال الله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة) (6) فما وقع في هذا
النوع من أفعال النبي عليه السلام - فهو على الوجوب بالدلالة التي ذكرنا.

231
ومن أفعاله ما يقارنه أمر منه بالاقتداء به، فيكون ظاهره لزوم فعله لنا، حتى تقوم
الدلالة على غيره، كقوله عليه السلام: (خذوا عني مناسككم) وكقوله (صلوا كما رأيتموني
أصلي) وقوله: (أقيموني وليأتم بكم من بعدكم) فيقتضي هذا القول لزوم الاقتداء به في
سائر أفعال المناسك، وأفعال الصلاة، ويجوز أن يقال في قوله (صلوا كما رأيتموني أصلي) أن
لا يصح الاستدلال به في وجوب أفعاله فيها، لأنه أمرنا بالاقتداء به على وصف، وهو: أن
نصلي كما رأيناه صلى، فنحتاج أن نعلم كيف صلى: من ندب، أو فرض، فعليه مثله، وما
فعله النبي عليه السلام مما يحتاج إليه كل أحد في نفسه ولا يستغني عنه في العادة: من نحو
الأكل، والشرب، والقيام، والعقود، والنوم، ونحو ما روى أنه (كان إذا دخل بيته يخصف
النعل، ويخيط الثوب) فإن ذلك ليس على الوجوب، لأنا قد علمنا أنه لم يكن ينفك من هذه
الأفعال، والحاجة إلى فعلها ضرورة لكل واحد، ومع ذلك فلا سبيل لأحد إلى الاقتداء به
فيها، لاستحالة لزومه في سائر أحواله، وخصف النعل، وخياطة الثوب، قد علم بظاهر
فعله أنه لم يرد به إيجابه علينا.
وجائز أن يكون فعله يرد لمثل هذه الأشياء قربة، من جهة ما قصد به من التواضع،
وترك الكبر، ومساواة أهل البيت، ليستحق به الثواب على الله تعالى، وليقتدي به غيره
فيه.

232
الباب الحادي والستون
في
القول في سنن رسوله صلى الله عليه وسلم

233
باب القول
في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو بكر رحمة الله: سنة النبي عليه السلام: ما فعله، أو قاله، ليقتدى به فيه،
ويداوم عليه. وهو مأخوذ من سنن الطريق، وهي جادته التي يكون المرور فيها. (1)
وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهين: قول وفعل.
فأما القول: فقد تقدم ذكره في سائر ما قدمناه: من حكم الأقوال، والأوامر،
والنواهي وغيرها.
والفعل ضربان: أحدهما: فعل يفعله في نفسه، ويدلنا على حكمه، على الوجوه
التي ذكرنا، لنفعله على الوجه الذي فعله. (2)
والثاني: تركه النكير على فاعل يراه يفعل فعلا على وجه، فيكون تركه النكير عليه
بمنزلة القول منه، في تجويز فعله على ذلك الوجه، فإن رآه يفعله على جهة الوجوب فأقره
عليه كان واجبا، وإن كان رآه يفعله على جهة الندب فأقره عليه كان ندبا، وكذلك الإباحة
على هذا، وذلك لأنه لا يجوز منه أن يقر أحدا على خلاف حكم الله تعالى، لأن الله تعالى
إنما بعثه داعيا إليه، وآمرا بالمعروف، وناهيا عن المنكر، فلو كان ما رآه (3) النبي صلى الله عليه وسلم من فعل
من شاهده منكرا لأنكره، ووقفه (4) على ما يجوز منه، مما لا يجوز في تركه النكير على من
وصفنا شأنه، دلالة على جواز إيقاعه على ذلك الوجه. (5)
وقد دللنا على صحة ذلك فيما سلف من هذا الكتاب.

235
قال أبو بكر: وأحكام السنة على ثلاثة أنحاء: فرض، وواجب، وندب، وليس يكاد
يطلق على المباح لفظ السنة، لأنا قد بينا: أن معنى السنة: أن يفعل، أو يقول، ليقتدى به
فيه، ويداوم عليه، ويستحق به الثواب، وذلك معدوم في قسم المباح. (1)
فأما الفرض: فهو ما كان في أعلا مراتب الإيجاب، والواجب دون الفرض، ألا ترى
أنا نقول: الوتر واجب، وليس بفرض، وصلاة العيد واجبة، وليست بفرض، وقال عليه
السلام، غسل الجمعة واجب على كل محتلم، ولم يرد به الفرض، ولا يجوز لنا أن نقول:
يدل على أنه فرض على كل محتلم، ويدل أن (2) معنى الفرض قد يخالف معنى
الواجب: أنه قد يمتنع إطلاق الفرض فيما لا يمتنع فيه إطلاق الواجب، لأنا نطلق أنه يجب
على الله تعالى من جهة الحكمة مجازاة المحسنين، ولا نقول إن ذلك فرض عليه.
وقد قيل: إن معنى الفرض في الأصل: هو الأثر الحاصل بالجزاء الواقع في السنة
ونحوها فشبه ما لزم وثبت بذلك الأثر، والوجوب في الأصل هو السقوط، قال الله تعالى:
(فإذا وجبت جنوبها) يعني سقطت، ويقال: وجبت الشمس إذا سقطت.
وقال الشاعر:
حتى كان أول واجب... يعني ساقط، فجعل ما لزم في الشرع بمنزلة الشئ الذي
سقط، ويثبت في الموضوع، فكان معنى الفرض أثبت منه، لأن هناك أثرا لا يزول، والساقط
في الموضوع فقد زال عن الموضوع من غير تأثير يحصل فيه، فلما كان الفرض في موضوع اللغة
أثبت من الوجوب، كان كذلك حكمه في الشرع، فمن أجل ذلك قلنا: إن الفرض هو
ما كان في أعلا مراتب اللزوم، والثبوت.
والفرض، أيضا التقدير. منه: فرائض المواريث، وفرائض الإبل في الصدقات.
ويجوز أن يكون الفرض الذي هو اللزوم من هذا أيضا، كأنه قدر له شئ منع تركه،
ومجاوزته، إلى غيره. (3)

236
الباب الثاني والستون
في
القول في أن النبي صلى الله عليه وسلم
هل كان يسن من
طريق الاجتهاد؟

237
باب
القول في أن النبي صلى الله عليه وسلم
هل كان يسن (من) (1) طريق الاجتهاد؟
قال أبو بكر رحمه الله: اختلف الناس في ذلك: -
فقال قائلون: لم يكن النبي (2) صلى الله عليه وسلم بحكم (3) في شئ من أمر الدين إلا من طريق
الوحي، لقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). (4)
وقال آخرون: جايز أن يكون النبي عليه السلام قد جعل له (أن يقول) (5) من طريق
الاجتهاد فيما لا نص فيه.
وقال آخرون: جايز أن يكون بعض سنته وحيا، وبعضها إلهاما، وشئ يلقي في
روعه، كما (قال صلى الله عليه وسلم) (6): (إن الروح الأمين نفث في روعي: أن نفسا لن تموت حتى تستوفي
رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب). (7)
ويجوز أن يكون بعض ما يقوله نظرا (8) واستدلالا، وترد الحوادث التي لا نص فيها
إلى نظائرها من النصوص باجتهاد الرأي.
قال أبو بكر رحمه الله: وهذا هو الصحيح عندنا. (9)

239
والدليل على أنه قد كان جعل له أن يقول من طريق الاجتهاد: قوله تعالى:
(ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (1) عمومه
يقتضي جواز الاستنباط من جماعة المردود إليهم، وفيهم (2) النبي صلى الله عليه وسلم.
(ويدل عليه أيضا: قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) (3) والنبي صلى الله عليه وسلم من
أجلهم (4) ويدل عليه ما حكى الله تعالى من قصة داوود وسليمان عليهما السلام، ثم قال:
(ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلمنا) (5) وظاهره يدل على أن حكمهما كان من طريق
الاجتهاد، لأنهما لو حكما من طريق النص لما خص سليمان بالفهم (6) فيها دون داوود عليهما
السلام.
ويدل عليها أيضا: أن درجة المستنبطين أفضل درجات العلوم، ألا ترى: أن
المستنبط أعلى درجة من الحافظ غير المستنبط، فلم يكن الله ليحرم (7) نبيه عليه السلام
أفضل درجات العلم التي هي درجة الاستنباط. (8)
ويدل أيضا عليه: قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر) (9) ولا يخلو المعنى فيه: من أن
يكون مشاورته (10) إياهم فيما نص عليه تطيبا لنفوسهم (11) فيما لا نص فيه، فأمر بمشاورتهم
ليقرب وجه الرأي فيه، وليزداد (بصيرة في رأيه إن) (12) كان موافقا لرأيهم.

240
والوجه الأول: لا معنى له، ولا فائدة فيه، لأنه لا يجوز أن يشاورهم في أن فرض
الظهر أربع (ركعات) (1) ولا في مائتي درهم خمسة دراهم، ولا في سائر ما فيه النصوص،
وقول القابل: إنه يكون تطييبا لنفوسهم (فلغو ساقط، لأنهم إذا علموا) (2) أنه شاورهم في
المنصوص تطييبا لقلوبهم، علموا أنه لا فضيلة لهم فيه، ولا فائدة، ثبت الوجه الثاني.
وأيضا: فقد شاور النبي عليه السلام أصحابه في كثير من الأمور التي تتعلق بالدين،
من أمر الحروب (3) وغيرها، ألا ترى: أنه لما أراد النزول دون بدر قال له الحباب ابن المنذر (4)
(أرأي رأيته يا رسول الله؟ أم وحي؟ فقال: بل رأى رأيته، فقال: إني أرى أن تنزل على الماء
ففعل) (5) وشاور النبي عليه السلام أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما، في أسارى بدر. (6) ورأى
أن يعطي المشركين في الخندق نصف ثمار المدينة، فكتب الكتاب، فلما أراد أن يشهد فيه
وحضر (7) الأنصار (قالوا يا رسول الله، (أرأى) (8) رأيته؟ أم وحي؟ فقال: بل رأيي، فقالوا:
فإنا لا نعطيهم شيئا. وكانوا لا يطمعون (9) فيها في الجاهلية، أن يأخذوا منها ثمرة إلا قرى،
أو مشرى، فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام!!؟ (10) وقال عليه السلام لعمر بن الخطاب:
(أرأيت لو تمضمضت بماء (11) أكان يفطرك؟ فكذلك القبلة) (12)
وقال للخثعمية (أرأيت لو كان على أبيك دين فتقضينه (أكان يجزى)؟ (13) قالت:

241
نعم. قال: فدين الله أحق) ولما أخبره عبد الله بن زيد (1) بما رأى في أمر الأذان أمر بلالا فأذن
به من غير انتظار (2) الوحي، وكان ذلك منه على جهة الاجتهاد.
فقد كان النبي عليه السلام يجتهد في أمر الحروب أحيانا من غير مشاورة، ولا فرق
بين الاجتهاد في أمر الحروب وبينه في حوادث الأحكام، (ومما فعله في غالب رأيته فأنزل الله
تعالى معاتبته: قوله عز وجل (عفا الله عنك لم أذنت لهم) (3) وقال تعالى: (عبس وتولى أن
جاءه الأعمى)، (4) ونحو ذلك من الآي التي نبه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فيه على موضع إغفاله،
وعاتبه عليه). (5)
ومما لم يعاتب عليه وأمر فيه بترك اجتهاده: أن النبي عليه السلام بعث سورة (6)
براءة (7) مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فأوحى الله عز وجل إليه (أنه لا) (8) يؤدي
عنك إلا رجل منك، فأخذها من أبي بكر، ودفعها إلى علي، كرم الله وجهه، (ولما رجع من
الخندق ووضع السلاح فجاء جبرئيل فقال له: إن الملائكة لم تضع أسلحتها بعد، وأمره
بالمضي إلى بني قريظة). (9)
وقد قيل: إن خطأ آدم عليه السلام في أكل الشجرة كان من طريق الاجتهاد (فإن قال
قائل: لو جاز أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الاجتهاد لكان لغيره). (10) من الصحابة

242
مخالفته، لأن ما كان طريقه الاجتهاد فكل من أداء اجتهاده إلى شئ لزمه القول (1) به، وجاز
له مخالفة غيره فيه، وفي اتفاق جميع المسلمين على وجوب التسليم له فيما قاله وفعله دلالة
على أنه لا يقول إلا وحيا وتنزيلا.
قيل له: الجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أنا قد علمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال قولا من طريق الاجتهاد فأغفل موضع
الصواب نبهه الله عليه بوحي من عنده، وغير جائز أن يخليه (2) موضع إغفاله، كما قال
تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) (3) وكقوله تعالى: (عبس وتولى) (4) فإذا كان
هذا (5) سبيله فغير جائز لأحد مخالفته.
والوجه الثاني: أن هذا القائل يوافقنا: على أن الإجماع قد يكون من طريق
الاجتهاد، وقد يثبت عندنا ذلك أيضا بالدلائل الصحيحة، ثم إذا (6) انعقد إجماع أهل
العصر من طريق الاجتهاد لم يجز لمن بعدهم أن يخالفهم، كذلك النبي عليه السلام يقول
من طريق الاجتهاد ويكون لاجتهاده مزية لا يحق من أجلها لغيره أن يخالفه، فأما قوله
تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) فإن فيه جوابين:
أحدهما: أنه أراد القرآن نفسه، لأنه قال تعالى: (والنجم إذا هوى) (7) قبل في
التفسير معناه القرآن إذا تزل.
والوجه الثاني: أن الاجتهاد لما كان مصدره عن الوحي لأن الله قد أمر به، فدل عليه -
جاز أن يقال: إن ما أداه (8) إليه اجتهاد فهو عن وحي، لأنه قد أوحى إليه باستعمال
الاجتهاد.

243
فإن قيل: لو جاز له الاجتهاد لما توقف في كثير (مما يسأل) (1) عنه ينتظر الوحي.
قيل له: هذا لا يدل على ما ذكرت لأنه، جايز أن يكون توقفه وانتظاره للوحي (2) من
جهة أنه لم يتوجه له فيه رأي، ولا غلبة ظن في شئ بعينه، فتوقف فيه ينتظر الوحي، ويجوز
أن يكون قد كان يقوى طمعه في مثله: أن ينزل عليه فيه وحي فلم يعجل بالحكم فيه.
ويجوز أيضا أن يكون قد كان أوحى إليه في ذلك شئ بعينه، بأن لا يستعمل الاجتهاد إذا
سئل عنه وينتظر الوحي فيه.

244
الباب الثالث والستون
في
القول في أحكام الأشياء قبل مجئ السمع
في الحظر والإباحة

245
باب
القول في أحكام الأشياء قبل (مجئ) (1) السمع:
- في الحظر والإباحة -
قال أبو بكر رحمه الله: أحكام أفعال المكلف الواقعة عن قصد على ثلاثة أنحاء في
العقل: مباح، وواجب، ومحظور.
فالمباح: ما لا يستحق المكلف بفعله ثوابا، ولا بتركه عقابا. (2)
والواجب: ما يستحق بفعله الثواب، وبتركه العقاب.
والمحظور: ما يستحق بفعله العقاب، وبتركه الثواب.
ثم اختلف الناس بعد ذلك في (حكم) (3) الأشياء التي يمكن الانتفاع بها قبل مجئ
السمع.
فقال قائلون: هي كلها مباحة، إلا ما دل العقل على قبحه، أو على وجوبه.
فما دل العقل على قبحه: الكفر، والظلم، والكذب، ونحوها، فهذه الأشياء
محظورة في العقل.
وما دل العقل على وجوبه: التوحيد، وشكر المنعم، وما جرى مجرى ذلك.
وما عدا ذلك فهو مباح، قالوا: ومعنى قولنا مباح: أنه لا تبعة على فاعله،
ولا يستحق بفعله ثوابا، على ما بينا.
وقال آخرون: ما عدا ما دل العقل على وجوبه من نحو: الإيمان بالله تعالى، وشكر
المنعم، ونحوهما فهو محظور.
وقال آخرون: لا يقال في الأشياء قبل ورود السمع: إنها مباحة (ولا يقال): (4) إنها
محظورة، لأن الإباحة تقتضي مبيحا، والحظر يقتضي حاظرا، وقالوا مع ذلك: (5) لا تبعة

247
على فاعل شئ مما يدل العقل على قبحه: من نحو الظلم والكفر. (1)
قال أبو بكر: ونقول: إن حكم الأشياء في العقل قبل مجئ السمع: ثلاثة أنحاء.
منها: واجب لا يجوز فيه التغيير (والتبديل) (2) نحو: الإيمان بالله وشكر المنعم،
ووجوب الإنصاف.
ومنها: ما هو قبيح لنفسه، محظور، لا يتبدل، ولا يتغير عن حاله، نحو: الكفر،
والظلم، فلا يختلف حكمه على المكلفين.
ومنها ما هو ذو جواز (3) في العقل: يجوز إباحته تارة، وحظره أخرى، وإيجابه أخرى،
على حسب ما يتعلق بفعله من منافع المكلفين ومضارهم.
فما (4) لم يكن من القسمين الأولين فهو قبل مجئ السمع على الإباحة، ما لم يكن فيه
ضرر أكثر مما يجتلب (5) بفعله من النفع، ويجوز مجئ السمع تارة بحظره، وتارة بإباحته،
وأخرى بإيجابه، على حسب المصالح. (6)
والدليل على إباحة ما وصفنا لفاعلها من المكلفين: أنه معلوم أنها مخلوقة لمنافع
المكلفين، وذلك لأن خلقها لا يخلو من أحد أربعة معان.
إما: أن يكون الله تعالى خلقها لا لينفع أحدا، وهذا عبث وسفه، والله تعالى منزه
عنه، أو يكون خلقها ليضربها من غير نفع، وهذا أشنع وأقبح، ولا يجوز فعله على الله
تعالى، أو أن يكون خلقها لمنافع نفسه، وذلك محال، لأنه لا يلحقه المنافع و (لا) (7) المضار.
فثبت أنه خلقها لمنافع المكلفين، فوجب أن يكون لهم الانتفاع بها على أي وجه يأتي لهم
ذلك منها، ما لم يؤد (8) إلى ضرر أعظم مما يجتلب به من النفع.

248
والدليل على ذلك: أنه لما خلقها ليستدل بها المكلفون كان لهم الاستدلال بها، وهي
ضرب من الانتفاع، كذلك سائر ما يتأتى لهم فيها من وجوه الانتفاع، ينبغي أن يجوز لهم
إتيانها.
دليل آخر، وهو: أنا لما وجدنا السماوات والأرض وأنفسنا دلائل على الله تعالى، ولا
دلالة فيها على تحريم الانتفاع بهذه الأشياء، لأنها لو كانت دالة على حظرها لما جاز ورود
الشرع (1) بإباحتها، لأن موجب دلائل الله تعالى لا ينقلب، فعلمنا: أنه لا دلالة فيها على
حظرها. ولو كانت محظورة لما أخلاها من دليل يوجب حظرها، وقبح مواقعتها، فدل ذلك
على أنها مباحة، وأنه لا تبعة على فاعليها، لأن ما كان على الإنسان من (2) فعله تبعة -
فغير جائز أن يخليه الله تعالى من إقامة الدليل على أن عليه فيه تبعة، لينتهي عنه، هذا
حكم العقل و (قد) (3) أكد السمع هذا المعنى (بقوله تعالى): (4) (وما كان الله ليضل قوما
بعد إذ هداهم) (5) الآية. فأخبر أن ما لم يدل على تحريمه فلا تبعة على فاعله.
دليل آخر: وهو أن الأشياء التي وصفنا أمرها لا يخلو من أن تكون مباحة على ما بينا.
أو محظورة، (6) أو بعضها محظور، وبعضها مباح. وغير جائز أن يقال: جميعها، لأنه يوجب
أن يكون محظورا على الإنسان: الحركة، والسكون، والقيام، والقعود، والاضطجاع، وأن
يكون مأمورا بأن: (7) يخلو من جميع أفعاله، فلما استحال ذلك علمنا: أن بعضها مباح، ثم
البعض الآخر لا يخلو من (8) أن يكون مباحا أو محظورا، فلو كان محظورا لوجب أن يكون
هناك دليل يتميز به من المباح، فلما عدمنا الدليل على ذلك: علمنا أن البعض مساو للمباح
(في باب فقد الدليل على حظره وما ساوى المباح) (9) في هذا الوجه فهو مباح. فثبت: أن
الجميع مباح.

249
وأيضا: فإن في حظر هذه الأشياء تكليفا ومشقة تدخل على النفس، وغير جائز
للإنسان إدخال الضرر والمشقة على نفسه، من غير اجتلاب نفع، ولا دليل في العقل
يوجب ذلك، فقبح إلزامه ذلك.
وأيضا: فإن تكليف الفرض لطف من الله تعالى في التمسك بما في المعقول إيجابه،
ومن أجله حسن إيجابها، وما كان هذا سبيله فغير جائز أن يخليه الله تعالى من إقامة دليل
على لزوم اجتنابه، إن كان محظورا. فدل على (أن) (1) ما كان هذا وصفه مما لم يرد السمع
بإيجابه وحظره فهو مباح.
وأيضا فإن في ترك الإقدام على الأكل والشرب تلف النفس، وذلك قبيح إذا لم
يؤد إلى نفع هو أعظم من الضرر اللاحق به، فلما لم يعلم: أن له نفعا في تركه، لم يجزله
تركه.
فإن قال قائل: ما أنكرت أن يكون في العقل دلالة على حظر هذه الأشياء قبل مجئ
السمع، وهي: (2) أن هذه الأشياء ملك الله تعالى، وفي عقل كل عاقل: أنه لا يجوز
التصرف في ملك الغير إلا بإذنه.
قيل له: ليس الانتفاع بملك الغير بغير إذنه محظورا لعينه، لأنه جائز له الانتفاع
بملك الغير بغير إذنه إذا لم يكن عليه فيه ضرر، نحو: أن يستظل بظل حائطه، ويقعد في
ضوء سراجه، ويسرج منه لنفسه، فلما كان ذلك ضربا من الانتفاع بملك الغير ولم يكن
قبيحا من أجل وقوعه بغير إذن مالكه - علمنا أن: الانتفاع بملك الغير يجوز (3) بغير إذنه،
فالمستدل على حظر ذلك لأجل كونه ملكا للغير، وأنه ينتفع به بغير إذنه مخطئ.
فقد سقط هذا السؤال من هذا الوجه، ونقول مع ذلك: إن حكم هذه الأشياء في
جواز الانتفاع بها قبل مجئ السمع حكم (انتفاع الواحد) (4) منا بظل حائط غيره، وبضوء
سراجه، والاستصباح منه، وذلك لأن الله تعالى المالك لهذه الأشياء لا يلحقه الضرر (5)
بانتفاع المنتفع منا بها، ولا ضرر يلحقنا بها أعظم مما نرجوه من النفع، لأنه لو كان علينا فيه

250
ضرر في الدين لما أخلانا الله عز وجل من توقيف عليه، فوجب أن (1) لنا الإقدام عليه (2)
كما جاز لإقدام على الانتفاع بملك الغير فيما لا ضرر عليه فيه، وأما الانتفاع بملك الغير
فيما بيننا فإنما كان ممنوعا لأجل الضرر الذي يدخل به عليه، ولأنه (3) يحتاج إليه، كما احتجنا
نحن إليه، فلم يكن لنا أن ننفع أنفسنا بضرر غيرنا، من غير أن نوصله (4) به نفع أعظم
منه، إلا أن يبيحه لي (مالكه) (5) ومالك الأعواض كلها، وهو الله سبحانه وتعالى.
فإن قال قائل: الفرق بين ما ذكرته (6) وبين الأشياء التي ذكرنا: (7) أن في الإقدام على
الأكل والشرب إتلاف ملك الغير، وليس في الاستظلال بظل حائط الإنسان والقعود في
ضوء سراجة إتلاف شئ عليه.
قيل له: إتلافه إياها لم يخرجها من ملك مالكها (لأن الله تعالى مالك لها) (8) قبل
الإتلاف وبعده، إذ كان قادرا على إعادتها إلى ما كانت، فلم يخرج بالإتلاف عن ملكه كما
لم يخرج الحائط والسراج عن ملك مالكه بانتفاع غيره به في الوجوه (9) التي ذكرنا. (10)
وأيضا: فإنه لا فرق بينهما من الوجه الذي ذكرنا، لأن المعنى كان في إباحة الانتفاع
بظل حائطه والقعود في ضوء سراجة، هو: أنه لا ضرر على مالكه فيه، ولهذا فيه نفع. فهذا
المعنى موجود فيما وصفنا من هذه الأشياء من حيث كان له فها نفع من غير ضرر على
مالكها، فوجب أن يكون (حكمها حكم) (11) ما وصفنا، وأن يمنع اختلافهما من جهة:
أن في أحدهما إتلافا، وليس في الآخر مثله، من الجمع بينهما من لوجه الذي ذكرنا.

251
وأما من قال: إني لا أقول: إنها مباحة، ولا محظورة، لأن الإباحة تقتضي مبيحا،
والحظر يقتضي حاظرا، فإنه إنما منع إطلاق لفظ الإباحة (والحظر) (1) ووافق في المعنى، حين
قال: لا تبعة على فاعلها، لأن هذا هو صورة المباح، إذا لم يستحق بفعله الثواب،
ويلزمه (2) أن يمتنع من أن يقول في شئ من الأشياء: إنه واجب، قبل مجئ السمع، من
نحو الإيمان بالله، وشكر المنعم، ووجوب الإنصاف، (وأن لا يقول: إن الكفر بالله والظلم
والكذب محظور، قبل مجئ السمع، لأن الوجوب يقتضي موجبا، والحظر يقتضي حاظرا.
فإن قال: الموجب لاعتقاد الإيمان، والحاظر لاعتقاد الكفر: هو الله تعالى، الذي أقام
الدليل على ذلك.
قيل له: فهلا قلت مثله في هذه الأشياء قبل مجئ السمع؟ لأن المبيح هو الله عز وجل
الذي خلقها) (3) للانتفاع بها، ثم لم يقم الدليل على حظرها.
فإن قال: لو كان ما لا تبعة على فاعله مباحا، لوجب أن تكون الأشياء مباحة
للبهائم، والمجانين، والساهي.
قيل له: لا يجب ذلك لأنا قد قلنا: إن حد المباح ما لا تبعة على فاعله من
المكلفين، ويكون فيما ذكرت، لأنهم غير مكلفين، والساهي فعله غير واقع عن قصده.
قال أبو بكر: وجميع ما قدمناه إنما هو كلام في حكم هذه الأشياء في العقل قبل مجئ
السمع، ثم جاء السمع بتأكيد ما كان في العقل إباحته، وهو: قوله تعالى (وسخر لكم ما
في السماوات وما في الأرض جميعا منه) (4) وقال: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) (5) وقال تعالى
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (6) وقال تعالى: (ألم تر أن
الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره) (7) وقال تعالى: (والنخل

252
باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد) (1) وقال تعالى: (2) (كلوا مما في الأرض حلالا
طيبا) (3) وقال تعالى: (أحل لكم الطيبات) (4) وقال تعالى: (قل إنما حرم ربي
الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم...) (5) وقال تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من
رزقه وإليه النشور) (6) وقال تعالى: (وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم) (7) وقال تعالى:
(ينبت لكم به الزرع والزيتون...) (8) الآية وقال: (والأنعام خلقها لكم فيها دف ء) (9)
إلى آخر الآيات.
في أي أخر يقتضي إباحة هذه الأشياء.
من جهة السنة: حديث أبي ثعلبة الخشني عن النبي عليه السلام (إن الله فرض
فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن
أشياء من غير نسيان لها رحمة لكم فلا تبحثوا عنها) (10) وحديث الزهري عن عامر بن (11)
سعد عن أبيه عن النبي عليه السلام أنه قال: (إن أعظم المسلمين في المسلمين (جرما) (12)
من سأل عن شئ لم يحرم فحرم على المسلمين من أجل مسألته) (13) فأخبر: أنه لم يكن
حراما فوجب أن يكون (مباحا في الأصل) (14) وحديث أبي هريرة قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

253
فقال: أيها الناس إن الله كتب عليكم (الحج) (1) فقال عكاشة بن محصن (2) يا رسول الله،
أفي كل عام؟ فقال: عليه السلام: (أما أني لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم
لضللتم، اسكتوا عني ما سكت عنكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة سؤالهم،
واختلافهم على أنبيائهم) فأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن
تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها) (3) وعن سلمان (4)
قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن (السمن والفراء) (5) والجبن فقال: الحلال ما أحل الله،
والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما (6) عفا). (7)

254
الباب الرابع والستون
في
الكلام في الإجماع

255
باب
الكلام في الإجماع
قال أبو بكر رحمه الله: اتفق الفقهاء على صحة إجماع الصدر الأول، وأنه
حجة الله، لا يسع من يجئ بعدهم خلافه، وهو مذهب جل المتكلمين.
وقال بعضهم: لا يكون إجماعهم حجة، كما لم يكن إجماع سائر الأمم حجة. (1)
قال أبو بكر: ومعرفة حجة الإجماع من طريق السمع.
فأما العقل: فإنه لم يكن يمنع وقوع الإجماع من أمتنا على خطأ، كاليهود
والنصارى، وغيرهما من الأمم.
والدليل على صحته (2) من جهة السمع: قول الله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة
وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) (3) هذه الآية دالة على
حجة الإجماع من وجهين:
أحدهما: قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) والوسط: العدل في اللغة.
قال الشاعر:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم (4)... إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم (5)

257
يعني: هم عدول. فلما وصف الله تعالى الأمة بالعدالة اقتضى ذلك: قبول قولها،
وصحة مذهبها.
والوجه الثاني: قوله تعالى: (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيدا)، فجعلهم شهداء على من بعدهم، كما جعل الرسول شهيدا عليهم، ولا
يستحقون هذه الصفة إلا وقولهم حجة، وشهادتهم مقبولة، كما أنه (لما) (1) وصف الرسول
بأنه شهيد عليهم بقوله (ويكون الرسول عليكم شهيدا) أفاد به: أن قوله صلى الله عليه وسلم عليه حجة
عليهم، وشهادته صحيحة.
ونظير هذا المعنى أيضا مذكور في قوله تعالى (هو سماكم المسلمين من قبل وفي
هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) (2) فثبت: أنها إذا قالت
قولا في الشريعة لزم من بعدها، ولم يجز لأحد مخالفتها.
فإن قال قائل: فواجب (على) (3) هذا أن يحكم لجميع الأمة بالعدالة، حتى
لا يكون فيها من ليس بعدل، بظاهر الآية، وتجعل قول كل واحد منهم حجة.
قيل له: لا يجب ذلك، لأن الله تعالى لم يحكم لكل واحد من الأمة (بالعدالة في
عينه) (4) وإنما حكم بها لجماعة الأمة، وأفاد: أن جماعتها تشتمل على جماعة لا تقول إلا
الحق، فيكون (قولهم) (5) حجة على من بعدهم. ويجوز هذا الإطلاق، وإن لم يرد وصف
كل واحد منهم على حياله بالعدالة، كقوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى
نرى الله جهرة) (6) ومعناه: أن قوما منكم قالوه. وكما قال تعالى (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم
فيها) (7) ومعناه: أنه قتلها بعضكم، وكذلك قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (8)
معناه جعلنا منكم.

258
وهو مشهور في العادة أيضا، كقول القايل: بنو هاشم حكماء، وأهل الكوفة فقهاء،
والعرب (تقري الضيف، وتحمي الديار) (1) وتمنع الجار، وما جرى مجرى ذلك. والمراد
منهم: من هذه صفته، فإذا ثبت بهذه الآية: أن جملة الأمة تشتمل على عدول شهداء على
من بعدهم. إذ لم يجز أن يكون المراد أن جميعهم كذلك، ثبت أن إجماعها حجة، لا سيما وقد
أخبر: أنهم شهداء على الناس، ولا يجوز أن يجعلهم الله شهداء على من بعدهم، ثم إذا
شهدوا لم تصح شهادتهم، وإذا قالوا لم يقبل قولهم، كما أنه لما جعل الرسول شهيدا عليهم
تضمن ذلك إخبارا لصحة عليهم، ولزمهم (2) قبول قوله.
فإن قال قائل: فإن الرسول عليه السلام لم يكن قوله شهادة صحيحة لازمة للأمة
بنفس القول دون ظهور (3) المعجزات الدالة على صدقه على يده. وكذلك (الأمة لا ينبغي
أن يكون) (4) قولها حجة وصدقا إلا بقيام الدلالة: أنها لا تقول إلا الحق، من غير جهة
وصفها بالشهادة.
قيل له: الذي أقام الدلائل على صحة نبوة النبي عليه السلام، وأيده بالمعجزات:
هو الذي حكم للأمة بالعدالة وصحة الشهادة، فلم تخل الأمة من أن يكون قولها قد صار
حقا وصدقا، بدليل غير قولها، وهو (5) حكم الله لها بذلك، وشهادته لها به، ولو قد جاز على
الأمة بأسرها الخروج عن صفة العدالة وصارت كفارا أو فساقا - لخرجت من أن تكون عدولا
وشهداء على الناس، وذلك بخلاف ما أخبر الله تعالى من حكمها وصفتها. فثبت أنها
لا تخلو من أن يكون فيها عدول لا يقولون إلا حقا، وإن لم يكونوا قوما نعرفهم بأعيانهم.
فإن قال قائل: ليس في إيجاب قبول شهادتها دلالة على حقيقة صدقها، لأن
الشاهدين منا تقبل شهادتهما على ظاهر عدالتهما، من غير أن نقطع على غيبهما بذلك،
وكذلك الأمة ليس في لزوم قبول شهادتها حكم بصدقها، ولا القطع على غيبها.

259
قيل له: لا يجب ذلك، لأن الله تعالى لم ينص لنا على (وجوب) (1) قبول شهادة
شاهدين بأعيانهما، ولم يحكم لهما بالعدالة، وإنما أمرنا في الجملة بقبول شهادة عدول عندنا،
ومن في غالب ظننا أنهم عدول.
والظن قد يخطئ ويصيب، فلذلك لم يجز لنا القطع على غيبهما، ولو كان الله تعالى
شهد لشاهدين بأعيانهما بالعدالة وصحة الشهادة - لقطعنا على غيبهما، وحكمنا بصدقهما،
وأما الأمة فقد حكم الله تعالى بالعدالة وصحة الشهادة على من بعدها، على معنى: أنها
تشتمل (على) (2) من هذه صفته، فمتى وجدناها مجتمعة (3) على شئ حكمنا بأنه
حكم الله تعالى، لأن العدول الذين حكم الله بصحة شهادتهم قد قالت ذلك، وقولها
صدق.
فإن قيل: ما أنكرت أن يكون الله تعالى إنما جعل الأمة شهداء في الآخرة لا في
الدنيا حتى يكونوا عدولا، فيكونون عدولا في الآخرة، (4) ولا دلالة في الآية على: أنهم
عدول في الدنيا.
قيل له: إن الله تعالى قد مدحهم وأثنى عليهم بذلك في الدنيا، فلو لا أنهم
مستحقون لهذه الصفة في الدنيا ما جاز أن يوصفوا بها في الآخرة، لأن من لا يستحق في
الدنيا صفة مدح وثواب، فغير جايز أن يستحقها في الآخرة.
وأيضا لما جعل للأمة في كونها شهداء على الناس كالنبي صلى الله عليه وسلم (وكونه شهيدا عليهم،
ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم) (5) مستحقا لقبول الشهادة في الدنيا. وجب أن يكون كذلك حكم الأمة
فيما يستحقونه من هذه الصفة.
ولو جاز أن يقال: إن الأمة شهداء في الآخرة، وليست شهداء في الدنيا - لجاز أن يقال
مثله في النبي عليه السلام، إذ كان الله تعالى لم يفرق بين شهادتهما. وأيضا: فما لم يخصص
وصفها (6) بذلك حالا دون حال اقتضى عموم الآية استحقاق هذه الصفة لها في سائر
الأحوال.

260
فإن قيل: قوله تعالى (1) (لتكونوا شهداء على الناس) (2) كقوله تعالى (وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون) (3) وفيهم من عبد، وفيهم من لم يعبد. وكذلك جائز من الأمة
تضييع الشهادة، كما جاز من بعض من خلق للعبادة تركها.
قيل له: لو جاز أن يقال هذا في الأمة - لجاز في الرسول عليه السلام مثله، فلما كان
وصفه للرسول عليه السلام بذلك قد اقتضى قبول شهادته، ولزوم قوله، كانت الأمة مثله،
ولما لم يجز أن يقال ذلك في الرسول - لم يجز في الأمة مثله، وفارق العبادة ما ذكرت من الوصف
بالشهادة.
وأيضا: فإنه (لما) (5) وصف الأمة بالعدالة بقوله تعالى (جعلناكم أمة وسطا)
فجعلهم شهداء بعد (وصفه إياهم) (6) بالعدالة. فقد أفاد هذا الوصف لهم قبول الشهادة،
لأنه حكم لهم بذلك، وليس يجوز أن يحكم لهم بالعدالة وقبول الشهادة وهم غير مستحقين
لذلك، وهو كقوله تعالى (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) (7) يعني: أنهم كذلك،
وهذه صفتهم، وليس كذلك قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (8) لأنه
إخبار عن إرادته خلقهم لعبادته، لا على وجه وقوع الحكم لهم بالعبادة.
وأيضا: فإنه عز وجل لم يستشهدهم (على الناس) (9) إلا وقولهم مقبول، وشهادتهم
جائزة، لأنه لا يجوز أن يستشهد من لا تجوز شهادته، لأنه عبث، والله يتعالى عنه.
وأما قوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فإنه إخبار أنه كان مريدا
لخلقه إياهم أن يعبدوه، ليستحقوا بها الثواب الجزيل، وقد وجد ذلك منه، وإن تركوها
هم.

261
وأيضا: لما خلق الجن والإنس لعبادته لم يخل من أن يكون فيهم من عبد.
ووزان هذا من أمر الأمة (أن يكون) (1) فيهم عدول تجوز شهادتهم.
دليل آخر: وهو قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع،
غير سبيل المؤمنين). (2) الآية فقد أوجب به اتباع سبيل المؤمنين، وحظر مخالفتهم، فدل
على صحة إجماعهم، لأنهم لا يخلون من أن يكون فيهم مؤمنون، لقوله تعالى: (هو
سماكم المسلمين من قبل) (وفي هذا) (3) (4) ولو جاز عليهم الخطأ لكان المأمور باتباعهم
مأمورا باتباع الخطأ، وما أمر الله باتباعه لا يكون إلا حقا وصوابا، ثم أكد بإلحاقه بتارك (5)
اتباعهم.
فإن قيل: إنما الحق الذم بتارك سبيل المؤمنين إذا شاق الرسول مع ذلك (لأنه تعالى
قال) (6) (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين) فاستحق
الذم بالأمرين (7) فما الدليل على أنه يستحقه بترك اتباع سبيل المؤمنين وحده، دون مشاقة
الرسول؟.
قيل له: لولا أن ترك اتباع سبيل المؤمنين فعل مذموم - لما قرنه إلى مشاقة الرسول،
فلما قرنه إلى مشاقة الرسول وألحق الذم بفاعله - دل على صحة ما ذكرنا من وجهين:
أحدهما: أنه لولا أنه فعل مذموم على الانفراد لما جمعه إلى مشاقة الرسول عليه
السلام.
والثاني: أنه ذمه على الفعلين جميعا، ولولا (8) أن ترك اتباع سبيل المؤمنين معنى
يستحق عليه الذم لما استحق الذم (9) إذا شاق الرسول معه. ألا ترى أن قوله تعالى

262
(والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النس التي حرم الله إلا بالحق ولا
يزنون). (1)
قد دل (2) (على) (3) أن كل واحد من هذه الأفعال مذموم على حياله، يستحق عليه
العقاب، وإن جمعها في خطاب واحد.
ويدل على صحة الإجماع أيضا: قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله
الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) (4) سوى فيه بين
من اتخذ من دون المؤمنين وليجة، وبين من اتخذها من دون النبي عليه السلام، فدل على
(أن مخالف المؤمنين تارك للحق) (5) كمخالف الرسول عليه السلام.
دليل آخر: وهو قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (6) فشهد للأمة بهذه الخصال، ولو (7) جاز إجماعهم على
الخطأ لما كانوا بهذه الصفة، ولكانوا قد أجمعوا - على المنكر، وتركوا المعروف، وقد أمننا الله
عن (8) وقوع ذلك منهم، بوصفه إياهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعنى وصفه
إياهم (9) بذلك: أنها تشتمل على من هذه صفته.
دليل آخر: وهو قوله تعالى: (واتبع سبيل من أناب إلي) (10) وفي الأمة لا محالة من
أناب إليه، فوجب اتباع جماعتها. (11)
والدليل على أن في الأمة منيبين إلى الله عز وجل: قوله تعالى: (هو سماكم

263
المسلمين من قبل (1)) (2) وقوله تعالى: (تؤمنون بالله). (3)
فإن قيل: فأوجب اتباع الواحد إذا أناب (4) إلى الله تعالى.
قيل له: لا يعلم في الواحد هذه الصفة من جهة الحقيقة، و إنما حكم له بها من جهة
الظاهر، فلا يلزمنا اتباعه، لأن الله تعالى إنما أمرنا باتباع من أناب إليه حقيقة، وأما جملة
الأمة فقد علمنا أنها تشتمل على من أناب إلى الله. فإذا أجمعت على شئ فقد علمنا: أن
المنيبين الذين فيها قد قالوا ذلك واعتقدوه - فهو حكم الله تعالى لا محالة.
ويدل على صحة حجة الإجماع من جهة السنة: الأخبار التي قد ثبت ورودها من
طريق التواتر من جهات: جهات (5) قد علمنا أنها تشتمل على صدق بخبر عن
رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، بشهادته للأمة بصحة إجماعها، ولزوم اتباعها.
منها: خطبة عمر رضي الله عنه بالجابية (6) بحضرة الصحابة رضوان الله عليهم. قال
فيها: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقيامي فيكم، فقال: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم،
ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب، حتى يشهد الرجل من قبل أن يستشهد، ويحلف
(من قبل) (7) أن يستحلف، فمن سره (8) بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع
الواحد وهو من الاثنين أبعد).
وروي عنه عليه السلام في أخبار مستفيضة: (لا تزال طائفة من أمتي قائمين على
الحق، لا يضرهم من ناوأهم حتى يأتي أمر الله عز وجل) (9) وروي عنه عليه السلام: أنه

264
قال: (لا تجتمع أمتي على ضلال) (1) وأنه قال: (يد الله مع الجماعة) (2) وروى أبو إدريس
الخولاني، (3) عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله عبدا سمع مقالتي، ثم
لم يزد فيها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن:
إخلاص العمل لله، والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من
ورائهم) وقال صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) (4) وروى
أبو إدريس عن حذيفة (5) في حديث طويل (فقلت يا رسول الله: ما يعصمني من ذلك؟ قال:
جماعة المسلمين وإمامهم). (6)
فهذه أخبار ظاهرة مشهورة، قد وردت من جهات مختلفة، وغير جائز أن تكون كلها
وهما أو كذبا، على ما بينا فيما سلف من أخبار المتواتر، (7) وقد كانت مع ذلك شائعة في عهد
الصحابة: يحتجون بها في لزوم حجة الإجماع، ويدعون الناس إليها، ولم يظهر من أحد
منهم إنكار ذلك، ولا رده، وما كان هذا سبيله من الأخبار فهو في حيز (8) التواتر الموجب
للعلم (9) بصحة مخبرها، فثبت بما ذكرنا من الكتاب والسنة وجوب حجية (10) الإجماع،
ودلت هذه الأخبار على صحة ما ذكرنا من وجهين:
أحدهما: أن قد رواها جماعة (11) ووردت من طرق مختلفة، وهي مع اختلاف طرقها

265
وكثرة روايتها متوافقة (1) على لزوم اتباع الجماعة، فهو نظير ما ذكرنا من أقسام التواتر إذا
أخبرت جماعة (2) كبيرة مختلفة عن أمر شاهدوه، فيعلم يقينا أن خبرهم قد اشتمل على صدق
نحو قافلة الحج إذا انصرفت فأخبر كل واحد منهم أنه قد حج، أن خبرهم (3) قد اشتمل
على صدق وإن لم يجب القطع على خبر كل واحد منهم فيما (ذكره) (4) وأخبر به عن نفسه.
والآخر: أنهم قد رووه بحضرة جماعات وذكروا أنه كان بحضرتهم توقيف من النبي
عليه السلام إياهم على لزوم الجماعة، ولم ينكروه. فدل (صحته على صحة) (5) ما بينا من
وجهه في الكلام في الأخبار.
فإن قال قائل: لما جاز على كل واحد من الأمة الخطأ في اعتقاده ومذهبه لم يكن
اجتماعهم مانعا من جواز ذلك عليهم، كما أن كل واحد منهم إذا كان أسود فجميعهم سود،
وإن كان كل واحد منهم إنسانا فجميعهم ناس، فكذلك إذا جاز على كل واحد الضلال،
فذلك جائز على جميعهم. ولو جاز أن يجمع بين من يجوز عليه الخطأ وبين من (لا) (6) يجوز
عليه الخطأ فنجى منهم من لا يجوز الخطأ - لجاز (7) أن يجمع بين قادر وقادر
(فيصيران) (8) عاجزين، وأن يجمع بين بصير وبصير (فيصيران) (9) أعميين.
قيل له: هذه القاعدة خطأ لا يوافقك (10) عليها الخصم (لأنه يقول لك: إني (11) إنما
أجوز الخطأ على كل واحد من الأمة في حال لا يطابقه الباقون على الخطأ. فاما مع مطابقة

266
الآخرين (فإني لا) (1) أجوز على كل واحد منهم الخطأ على هذا الوجه، فيصير الكلام
بينكما في إقامة الدليل على امتناع جواز ذلك ويسقط هذا السؤال.
على أن هذه القاعدة منتقضة، (2) لأنها توجب أن حجرا لا يرفعه كل واحد من عشرة
رجال إنهم إذا اجتمعوا أن لا يجوز منهم رفعه، وإن كان لقمة من خبز إذا كانت بانفرادها لا
تشبع وجب (3) ألا تشبع، وإن أكل عشرة أرطال. وإن كان جرعة من الماء إذا لم ترو يجب أن
لا تروي عشرة أرطال (ماء) (4) وهذا فاسد. وإن كان القائل ممن يقول بالتواتر لزمه أن لا
يثبت للتواتر حكما، لأن كل واحد من المخبرين إذا كان خبره لا يوجب العلم فواجب أن
يكون اجتماعهم غير موجب للعلم.
وأيضا: فإنا لم نثبت حجة الإجماع من جهة العقل، وقد قدمنا أنه لم يكن يمتنع في
العقل قبل مجئ السمع جواز إجماع الأمة على خطأ إلا أن السمع منع منه.
فإن قال قائل: قد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: (لا تقوم الساعة إلا على
شرار الخلق) (5) (6) وفي (7) بعض الأخبار: (لا تقوم الساعة) (8) حتى لا يبقى على ظهر
الأرض أحد يقول: الله. وهذا يدل على (جواز) (9) اجتماع الأمة على الضلال، ورجوعها
عن الإسلام.
قيل له: أما قوله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، فإن معناه أن الأشرار تكثر فيهم
فجاز إطلاق اللفظ عليهم، لأن الغالب الأشرار، وإن كان فيهم صالحون.
وأيضا: فإنه إذا جاءت أشراط الساعة زال التكليف وقبض الله المؤمنين في تلك
الحال قبل قيام الساعة حتى لا يبقى على الأرض من يقول: الله.

267
الباب الخامس والستون
في
القول في إجماع أهل الأعصار

269
باب
القول في إجماع أهل الأعصار
قال أبو بكر - رحمه الله -: مذهب أصحابنا (1) وعامة الفقهاء أن إجماع أهل الأعصار
حجة، وكذلك كان يقول (شيخنا) (2) أبو الحسن، وذكر هشام بن عبيد الله (3) عن محمد بن
الحسن أنه قال: الفقه على أربعة أوجه (ما في القرآن) (4) وما جاءت به السنة (متواتر). (5)
عن رسول الله (مشهور)، (6) وما أشبهها، وما أجمع عليه الصحابة، وما اختلفوا فيه، وما
أشبهه، وما رآه (7) المسلمون حسنا، وما أشبهه.
قال أبو بكر: فذكر ما أجمع عليه الصحابة، وجعله أصلا وحجة، كالكتاب
والسنة. وذكر ما اختلف فيه الصحابة وما أشبهه، (وإنما عنى: أن الصحابة) (8) إذا اختلف
في المسألة على وجوه معلومة فليس لأحد أن يخرج عن جميع أقاويلهم ويبتدع (9) قولا لم يقل
به واحد منهم، لأنا قد علمنا: أن الحق لم يخرج من بينهم. وقوله: وما رآه المسلمون حسنا بعد
الصحابة من أهل سائر الأعصار، وقد ذكر محمد (صحة) (10) إجماع أهل الأعصار بعد
الصحابة في مواضع أخر.

271
والدليل على صحة ذلك: أن الآي التي قدمنا ذكرها من حيث دلت على صحة
إجماع الصدر الأول فهي في دلالتها على صحة إجماع أهل سائر الأعصار كهي في دلالتها
على صحة إجماع الصدر الأول، لأن قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا
شهداء على الناس) (1) عام في أهل سائر الأعصار، ومعلوم أن قوله لتكونوا شهداء على
الناس قد انتظم: أن يكونوا شهداء على أهل عصرهم عند انعقاد إجماعهم، وعلى من
بعدهم، وأنهم حجة على الجميع، كما (2) كان الرسول صلى الله عليه وسلم شاهدا (3) على أهل عصره وعلى
من بعده، وكذلك قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير
سبيل المؤمنين) (4) وقوله تعالى: (واتبع سبيل من أناب إلى) (5) وقوله تعالى: (كنتم خير
أمة أخرجت للناس) (6) قول عام في أهل سائر الأعصار (ومن حيث دلت على إجماع الصدر
الأول فهي دالة على إجماع من بعدهم من أهل سائر الأعصار). (7)
ولو جاز أن يقال: ذلك مخصوص به الصدر الأول، لجاز أن يقال في سائر ألفاظ
العموم التي يتناول ظاهرها جميع الأمة. أو يقال هي: مخصوصة في الصحابة دون غيرهم، ولما
كان المفهوم من خطاب الله تعالى وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه متوجه إلى سائر الناس وإلى
أهل كل عصر إلى يوم القيامة. وجب أن يكون الآي التي تلوتها في إيجاب حجة الإجماع
محمولة (8) على المعقول من خطاب الله في تناولها أهل سائر الأعصار.
ولو جاز أن يخص بها الصحابة - لجاز (9) أن يقال: هي مخصوصة في طائفة منهم دون
طائفة ولجاز أن يقال: إنه حكم مخصوص به أهل المدينة دون غيرهم من الناس. فلما بطل
ذلك ثبت أنها عامة في جميع أهل الأعصار، وأن (إجماع) (10) أهل كل عصر حجة على من

272
بعدهم، وجميع ما استدللنا به من السنة على صحة الإجماع يوجب صحة إجماع سائر أهل
الأعصار، لأنه لا يخصص في أمره إيانا بلزوم الجماعة جماعة من الأمة دون غيرها، بل عم
سائر الجماعات به، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (لا تجتمع أمتي على ضلال) لأن قوله: (لا تجتمع أمتي
على ضلال) لا يخلو من أن يكون المراد به من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مع من جاء بعدهم إلى
أن تقوم الساعة، ولا يجتمعون على ضلال.
أو أن يريد به أهل كل عصر على الانفراد، أو أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم مع من حدث
بعدهم إلى أن تقوم القيامة، وأنهم باجتماعهم لا يجتمعون على ضلال، لأنه معلوم أن أهل
عصر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا على ضلال، ولم يكن لضم أهل الأعصار إليهم في نفي اجتماع
الجميع على ضلال معنى ولا فائدة، علمنا أن مراده: أن أهل كل عصر لا يقع منهم اجتماع
على ضلال.
ولا يجوز الاقتصار على عصر النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، لأن فيه تخصيصا بلا دلالة،
وقوله صلى الله عليه وسلم (لا تجتمع أمتي على ضلال) قد نفي به أن يضل كل أهل عصر بضلال واحد.
ونفي به أيضا أن يضلوا كلهم، بأن يضل كل طائفة منهم بضرب من الضلال غير
ضلالة الطائفة الأخرى.
هذا كله منتف بقوله صلى الله عليه وسلم (لا تجتمع أمتي على ضلال) وإفادته أن طائفة منهم لا تزال
متمسكة بالحق إلى وقت حدوث أشراط الساعة، وزوال التكليف.
فإن قيل: كيف يصح لكم القول بإجماع أهل الأعصار مع ما روى عن أبي حنيفة
أنه قال: إذا (اجتمعت الصحابة على شئ سلمناه لهم، وإذا اجتمع التابعون
زاحمناهم) (1) وأبو حنيفة لم يكن من التابعين، ولم يعتد بإجماع التابعين في لزوم صحته له ولأهل
عصره.
قيل له: أما أبو حنيفة فهو تابعي قد أدرك فيما يحكى (أربعة) (2) من الصحابة: أنسا

273
وعبد الله بن الحارث (1)، بن جزء الزبيدي (2)، وعبد الله بن أبي أوفى (3)، وآخر قد ذهب على
اسمه (4)، فجاز له مزاحمة التابعين.
وأيضا: فإن أبا حنيفة قد كان من أهل الاجتهاد في زمن التابعين، وكان يفقه الناس
فيما قبل أربعين سنة. وكثير من التابعين كانوا موجودين بعد سنة عشرين ومادية، فلما لحق
أيامهم وهو من (أهل) (5) الفتيا جاز له مخالفتهم (6) والقول معهم.

274
الباب السادس والستون
في
القول فيما يكون عنه الإجماع

275
باب
القول فيما يكون عنه (1) الإجماع
قال أبو بكر: قد يكون الإجماع عن توقيف، ويكون عن استخراج فهم معنى
التوقيف، فمنه ما علم وجه التوقيف فيه. ومنه مالا (2) يعلم، لعدم النقل فيه.
ويكون (3) أيضا عن رأي واجتهاد. (4)
فأما الإجماع الذي علمنا كونه عن توقيف، فنحو قوله تعالى: (حرمت عليكم
أمهاتكم وبناتكم) (5) الآية، وقد أجمعت (6) الأمة على ما ذكر في الآية، وإنما صدر إجماعهم
عن التوقيف المذكور فيها.
وكذلك سائر الآي المحكمة التي اتفق الناس على حكمها.
ومنه ما هو عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، منه ما ورد من جهة التواتر، ومنه ما روي في
أخبار الأفراد من طريق التواتر، فمما ورد من طريق التواتر: رجم المحصن. اجتمعت الأمة

277
عليه، إلا قوم من الخوارج، (1) وليسوا عندنا بخلاف، ومنه قوله: (لا تنكح المرأة على
عمتها، ولا على خالتها) ومنه قوله: (الذهب بالذهب، مثلا بمثل، والفضة مثلا بمثل)
قد اجتمعت الأمة عليه، وقد كان ابن عباس خالف فيه، ثم رجع إلى قول الجماعة.
ونظائر ذلك من الأخبار.
ومما ورد من التوقيف من طريق الأفراد واجتمعت الأمة على معناه: ما روى عن
النبي عليه السلام أنه قال: في إحدى اليدين نصف الدية، وفي إحدى الرجلين نصف
الدية، وفي إحدى العينين نصف الدية، وفي الأنف الدية، وأن الدية ماية من الإبل) (2)
(ومن ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه) (3) واجتمعت الأمة على ما وردت به هذه الأخبار.
وليس يمنع أن يكون كثير من الإجماعات التي لا تعرفها معها توقيف قد كانت
صدرت (4) له عن توقيف من النبي عليه السلام، ترك الناس نقله، اكتفاء بوقوع الاتفاق،
وفقد الخلاف.
وأما الإجماع الواقع عن غير توقيف نعلمه عن النبي عليه السلام، وإنما كان
استخراج بعضهم لمعنى التوقيف واتباع الباقين إياه، في نحو ما روى (أن بلالا ونفرا معه من
الصحابة قد كانوا سألوا عمر قسمة السواد فأبي عليهم، وراجعوه فيه مرارا، ثم قال لهم
يوما: قد وجدت في كتاب الله عز وجل ما يفصل بيني وبينكم، وهو قوله تعالى: (ما أفاء الله
على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول) إلى قوله تعالى: (كيلا يكون دولة بين الأغنياء
منكم) إلى أن قال: (للفقراء المهاجرين) ثم ذكر الأنصار (والذين تبوأوا الدار والإيمان
من قبلهم)، ثم ذكر من جاء بعدهم فقال: (والذين جاءوا من بعدهم) (5)، فقد جعل
لهؤلاء كلهم فيه الحق، ومنع أن يكون دولة بين الأغنياء منكم، ولو قسمت السواد بينكم
لتداوله (6) الأغنياء منكم، وبقى آخر الناس لا شئ لهم) فلما سمعوا ذلك من عمر عرفوا

278
صحة احتجاجه بها، وإبانته عن موضع الدلالة منها، على ما ذهب إليه، فرجعوا إلى
قوله، وتابعوه (1) على رأيه.
ونحو إجماعهم: على أن عمة الأب وخالته حرام عليه، وكذلك عمة أمة وخالتها،
وليس ذلك منصوصا عليه في الكتاب، وإنما أجمعوا عليه بدلالة المنصوص في تحريمه: العمة
والخالة، ثم كانت أم الأب بمنزلة أمة في التحريم، كذلك عمة الأب وخالته بمنزلة عمته
وخالته، ونحو قول أبي بكر الصديق للصحابة حين خالفوه في قتال أهل الردة: لأقاتلن من
فرق بين الصلاة والزكاة، فقال له أصحابه: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم. فقال: إنما قال: عصموا مني
دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وهذا من حقها) فعرف (2) الجميع صحة استخراجه لمعنى
التوقيف، (ورجعوا إلى قوله.
وأما الإجماع الذي وقع منهم من غير توقيف ورد فيه، ولا استخراج معنى
التوقيف) (3) فجائز أن يكون أصله كان توقيفا، وجائز أن يكون اجتهادا، نحو إجماعهم على
أن للجدتين: أم الأم، وأم الأب، إذا اجتمعتا السدس، وأن لبنت الابن نصف الميراث إذا
لم يكن للميت ولد الصلب.
وأجمعوا أيضا على تأجيل امرأة العنين، وليس فيه توقيف، والأغلب من أمره: أنه عن
اجتهاد، وكذلك اتفاقهم: على أن عدة الأمة على نصف من عدة الحرة، مع قوله تعالى:
(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (4) وأن دية المرأة على النصف من دية الرجل،
وإجماعهم على جواز شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال: كالولادة ونحوها.
ومما علمنا وقوعه عن اجتهاد: حد الخمر ثمانين، وذلك أن عمر شاور الصحابة في
حد الخمر فقال على: (إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد الفرية
ثمانون) (5) وكذلك قال عبد الرحمن بن عوف، وقال علي عليه السلام (ما أحد أقيم عليه

279
(حد) (1) فيموت منه فأديه (لأن الحق قتلة) (2) إلا حد الخمر فإنه شئ وضعناه بآرائنا). (3)
فإن قيل: لا يجوز عندكم إثبات الحدود (4) بالقياسات، فإن كانت الصحابة قد
اتفقت على إثبات حد الخمر قياسا فهذا إبطال لأصلكم في نفيكم إثبات الحدود قياسا.
قيل له: الذي نمنعه ونأباه من ذلك: هو أن نبتدئ إيجاب حد بقياس، في غير
ما ورد فيه التوقيف، فأما استعمال الاجتهاد في شئ قد ورد فيه التوقيف، فيتحرى فيه معنى
التوقيف، فهذا جائز عندنا، واستعمال اجتهاد السلف في حد الخمر من هذا القبيل، وذلك
لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (قد) (5) ضرب في حد الخمر بالجريد والنعال، وروي: أنه
(ضربه أربعون رجلا، كل رجل بنعله ضربتين) (6) وإنما تحروا في (7) اجتهادهم موافقة أمر
النبي عليه السلام، فجعلوه ثمانين هذا الوجه، ونقلوا ضربه بالنعال والجريد إلى
السوط، كما يجتهد الجلاد في الضرب، وكما يختار السوط الذي يصلح للجلد اجتهادا،
فالاجتهاد من هذا الوجه شائع فيما وصفنا.
فإن قال قائل: لا يجوز وقوع الاجتهاد من جهة القياس، لأن الناس يختلفون في
إثبات القياس، ولا جائز أن يكون ما أجمعوا (عليه) (8) هو ما اختلفوا فيه. (9)
قيل له: أما الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أتباعهم - فلا خلاف بينهم في إثبات
القياس في أحكام الحوادث، وإنما أنكر إثبات القياس قوم من المتأخرين، من المتكلمين
لا حظ لهم في علم الفقه، وأصول الأحكام، ولم يعرفوا قول السلف وإجماعهم عليه، لقلة
علمهم بالآثار، وما كان عليه الصدر الأول، وطريقهم في استعمال الاجتهاد والفزع إلى

280
النظر والقياس عند فقد النصوص، فتهوروا (1) في إقدامهم على ذلك. ثم تبعهم قوم من
الحشو (2) الذين لا نباهة لهم، ولا روية، وأمثال هؤلاء لا يعتد بخلافهم، ولا يؤنس
بوفاقهم.
فإن قال قائل: إن الإجماع إذا صدر عن رأي واجتهاد من غير توقيف فلا بد من أن
يتقدمه اختلاف ومنازعة، على مجرى العادة في قوم مختلفي الهمم والمنازل (3) في العلم أنهم
إذا تشاوروا فيما كان طريقه الرأي والاجتهاد واختلفوا وتنازعوا فإذا وجدناهم متفقين من غير
خلاف كان منهم تقدما (فقد علمنا): (4) أن ذلك عن توقيف.
قيل له: هذا غلط، لأنه يجوز أن يكون دليل الحكم ظاهرا جليا لا يحتاجون معه إلى
استقصاء النظر، فينووا في هممهم (5) التنبيه عليه، (6) ويسبق إليه (7) بعضهم، ويحتج به
فيتبعه الباقون، فلا يحصل هناك خلاف، وإن كان أصله رأيا، ومصدره عن اجتهاد. وجائز
أن يكون دليل الحكم غامضا خفيا في الابتداء، (8) فيختلفون، ثم يتجلى للجميع
باستقصاء النظر، وكثرة الخوض، فيصدرون عن اتفاق، (9) ثم لا ينقل إلينا مع ذلك ما كان
بينهم فيه من التنازع والاختلاف، لأن وقوع الإجماع قد أغناهم عن ذلك في معرفة حكم
الحادثة، ونقل الخلاف والمنازعة لا فائدة فيه.
فإن قال قائل: لو جاز وقوع الإجماع عن اجتهاد ولا يكون مع ذلك إلا حقا وصوابا
لأوجب أن يكون اجتهاد الأمة أفضل من اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأعلا مرتبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد
كان يجوز عليه وقوع الخطأ في الاجتهاد.

281
والدليل (على) (1) ذلك: أن الله تعالى ذكره قد عاتبه في أسارى بدر، وأنزل (لولا
كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) (2) وقال عز وجل: (عفا الله عنك
لم أدنت لهم) (3) وما جرى مجرى ذلك. فلما امتنع أن يكون اجتهاد الأمة أفضل من
اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جاز عليه وقوع الخطأ في الاجتهاد، دل ذلك على
جواز وقوع الخطأ على الأمة فيما نقوله من طريق الرأي. (4)
قال أبو بكر: قد أجبت عن هذا بأجوبة.
أحدها: أن اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم لا يقع فيه خطأ، لأن معاصي الأنبياء عليهم السلام
- ولو كانت صغائر - مغفورة، فغير جائز وقوعها في شئ يظهر للناس، ويلزمهم فيه الاتباع
والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو ظهرت معاصي الأنبياء عليهم السلام (للناس) (5) لكان فيه تنفير
عن الطاعة، وإيحاش عن السكون والطمأنينة إلى صحة ما ظهر من الأنبياء عليهم السلام.
ومن الناس من أجاب: أنا نقول: إن اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من اجتهاد الأمة،
ومعناه: أنه أفضل من اجتهاد كل واحد منهم في نفسه، ولا نعني بذلك أن اجتهاده أفضل
من اجتهاد الأمة مجتمعة، كما نقول: إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من صلاة الأمة، وإنما
المعنى: أنها أفضل من صلاة كل واحد منهم في نفسه، لا أنها أفضل من صلوات جميع الأمة
بأسرها مجتمعة، وكما نقول: فلان أقوى من إخوة (6) فلان وهم عشرة، والمعنى (7) أنه أقوى
من كل واحد منهم في نفسه. (8)

282
الباب السابع والستون
في
القول في صفة الإجماع الذي هو حجة لله تعالى

283
باب
القول في صفة الإجماع الذي هو حجة لله تعالى
الإجماع على وجهين: أحدهما: يشترك فيه الخاصة والعامة، لحاجة الجميع إلى
معرفته، وذلك نحو إجماعهم: (على) (1) أن الظهر أربع، والمغرب ثلاث، وصوم رمضان،
وحج البيت، وغسل الجنابة، وتحريم الزنا، وشرب الخمر، وتحريم نكاح الأمهات،
والأخوات، ونحوهن، فهذا إجماع قد تساوى (2) الخاصة والعامة فيه.
والإجماع الآخر: ما يختص به الخاصة من أهل العلم، الذين هم شهداء الله عز وجل
على ما ذكره في كتابه، ولا اعتبار فيه بقول العامة، لأن العامة لا مدخل لها في ذلك، إذ ليس
بلواها به عامة.
وذلك كنحو: فرائض الصدقات، وما يجب (3) في الزروع والثمار من الحق، وتحريم
الجمع بين العمة وبنت الأخ، وما جرى مجرى ذلك، مما لم يكثر بلوى العامة به، فعرفته
الخاصة، وأجمعت عليه.
ثم لا يخلو من ينعقد به الإجماع: من أن يكون وجود إجماعه معتبرا، بأن نعرف قول
كل واحد منهم بعينه، أو أن يظهر القول من بعضهم، وينتشر في كافتهم من غير إظهار
خلاف من الباقين عليهم، ولا نكير على القائلين به، وغير جائز أن تكون صحة الإجماع
موقوفة على وجود القول في المسألة من كل واحد منهم، بوفاق الآخرين، لأن ذلك لو كان
شرط الإجماع لما صح إجماع أبدا، إذ لا يمكن لأحد من الناس (4) أن يحكي في شئ من
الأشياء قول كل أحد من أهل عصر انعقد إجماعهم على شئ، إن شئت من الصدر
الأول، وان شئت ممن بعدهم. فلما ثبت عندنا صحة إجماع الأمة (بما قدمنا من الدلائل
وامتنع وجود الإجماع) (5) بإثبات قول كل أحد من الصحابة والتابعين في مسألة، علمنا: أن

285
هذا ليس بشرط. ألا ترى إلى تحريم نكاح الأمهات والبنات مجمع عليه، لا يمتنع أحد من
الناس من إطلاق القول: بأن هذا إجماع الأمة، من غير أن يحكيه (1) عن كل واحد منهم
به، إلا ما ظهر وانتشر (من تحريمهن) (2) وترك الباقين الخلاف فيه. فبان بذلك أن شرط
وجود الإجماع. انتشار القول عمن هو من أهل الإجماع) (3) مع سماع الباقين (4) من غير
إظهار نكير ولا مخالفة. (5)
فإن قال قائل: ليس في ترك النكير وعدم إظهار الخلاف دلالة على الوفاق، لأنه
ليس يمتنع أن يتركوا (النكير) (6) مهابة، أو تقية، أو لغير ذلك من الأمور، فإذا ليس في ترك
إظهار الخلاف دلالة على الموافقة، كما روى: (أن عمر سأل الصحابة في قصة المرأة التي
أرسل إليها يدعوها، ففزعت، فألقت جنينا ميتا، فقالوا: إنما أنت مؤدب، ولم ترد إلا الخير
وما نرى عليك شيئا، وعلي عليه السلام ساكت، فقال له: ما تقول أبا الحسن؟ فقال علي:
إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطأوا، وإن كانوا قاربوك فقد غشوك، أرى عليك الدية.
فقال عمر رضي الله عنه: (أنت صدقتني) (7) فقد كان علي ساكتا مضمرا لخلاف
الجماعة، ولم يكن سلوكه دلالة على الموافقة، ولم يستدل عمر أيضا بسكوته على الموافقة.
ذكر عبيد الله بن عبد الله، (8) عن ابن عباس: أنه (ذكر) (9) مسألة العدل، واحتج:

286
بأن من لا ينتقل من فرض إلى فرض ففرضه قائم، ومن كان ينتقل من (فرض) (1) لا إلى
فرض أدخلت النقصان عليه. قال: فقلت هلا ذكرته لعمر؟
فقال: انه كان أميرا مهيبا،
فأخبر: أن مهابته كانت مانعة له من إظهار الخلاف عليه.
قيل له: أما قصة عمر في أمر المرأة فلا دلالة فيها على ما ذكرت. من قبل: أن عليا لم
يسكت إلى أن أبرموا الأمر وفرغوا من الكلام في المسألة، وإنما سكت لينظر في جواب القوم
ثم لما أجاب القوم، أقبل عليه عمر رضي الله عنه فسأله قبل أن يتكلم علي بشئ وعسى
(لو) (2) قد كان عمر أراد أن يأخذ قولهم، أو أن يقف في الحكم، أن يخبره ولا يسكت،
ونحن إنما نجعل ترك إظهار الخلاف حجة إذا انتشرت المقالة، وظهرت، واستمر القائلون بها
عليها، ثم لا يظهر من غيرهم فيها خلاف، فأما ما داموا في مجلس التشاور والارتياء فيها
فجائز - أن يكون الساكت ناظرا في المسألة، مرويا فيها، لم يتجه له فيها شئ، فإذا
استمرت الأيام عليه ولم يظهر خلافا مع العناية منهم بأمر الدين وحراسة الأحكام، علمنا
(أنهم إنما) (3) لم يظهروا الخلاف لأنهم موافقون لهم.
وأما حديث ابن عباس في العول: فإن ابن عباس قد كان يظهر هذا الخلاف في عهد
الصحابة، فإنما منعته مهابة عمر من محاجته، كما يهاب الأحداث (4) ذوي الأسنان، وكيف
يجوز أن يكون ابن عباس يمنعه مهابة عمر من الخلاف عليه، وقد كان عمر يقدمه ويسأله
مع سائر من كان يسأله من الصحابة، لما عرف من فضل فطنته، ونفاذ بصيرته، وكان
يمدحه و يقول: غص يا غواص، ويقول: شنشنة أعرفها من أخزم. (5) يعنى شبهه بالعباس
- رضي الله عنه - في فهمه وعقله ودهائه. ومتى كان الناس في تقية من عمر في إظهار الخلاف
عليه في مسائل الحوادث؟! وهو قد كان يستدعى منهم الكلام فيها.
قال أبو بكر: وقد كان عيسى ابن أبان يقول: إن ترك النكير لا يدل على الموافقة،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف في قصة ذي اليدين بترك الناس النكير عليه في قوله: (أقصرت

287
الصلاة أم نسيت) حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: أحقا ما يقول ذو اليدين؟
فقالا: نعم. فحينئذ أتم الصلاة.)
وكان أبو الحسن بقول: إن ترك النكير لا يدل على الوفاق (فيما كان طريقه اجتهاد
الرأي، لأن ما كان طريقه الاجتهاد) (1) فغير جائز لأحد إظهار النكير على من قال بخلاف
قوله، فليس إذن في سكوت القوم وتركهم النكير على القائلين في الحادثة دلالة على
الموافقة.
قال أبو بكر: ولسنا نقول: إن ترك النكير على الانفراد يدل على الموافقة، لأن ترك
النكير قد يجوز أن يجامعه إظهار الخلاف، وعامة مسائل الاجتهاد هذا سبيلها، وإنما نقول:
إن تركهم لإظهار المخالفة مع انتشار القول واستمرار الأيام قد يدل على الوفاق.
فأما قصة ذي اليدين: فإن القوم وإن تركوا مخالفته ولم يظهروا النكير عليه، فغير جائز
عندنا أن يستدل به في الموضع الذي نحن فيه من الكلام على الإجماع، ولعل عيسى إنما
أراد: أن ترك النكير على الوجه الذي كانت عليه قصة ذي اليدين لا يدل على الموافقة،
وإنما قلنا: إن قصة ذي اليدين لا تعترض على ما قلنا في الإجماع، من قبل: أن ذا اليدين
لما قال هذا القول، قال النبي صلى الله عليه وسلم عقيبة قبل أن يظهر من القول خلاف عليه أو وفاق له:
(أحق ما يقول ذو اليدين)، لأن الكلام كان مباحا في الصلاة حينئذ، فلم يكن هناك شئ
يمنع من الاستفهام، وقد كان له صلى الله عليه وسلم أن يعتبر حال القوم، هل هم تاركون للنكير عليه
أم لا؟ فيستدل بتركهم الخلاف عليه، على صحة خبره، ولكنه اختار الاستفهام بالقول،
وقد قلنا قبل ذلك: إن ترك إظهار الخلاف إنما يكون دلالة على الموافقة إذا انتشر القول،
وظهر، ومرت عليه أوقات يعلم في مجرى العادة بأنه لو كان هناك مخالف لأظهر الخلاف، ولم
ينكر على غيره مقالته. (2) إذ كان قد استوعب مدة (3) النظر والفكر.
وأما ما حكيناه عن أبي الحسن: من أنه غير جائز له الإنكار فيما طريقه الاجتهاد فهو
صحيح. ولم نجعل نحن ترك النكير حجة في الإجماع دون ترك إظهار الخلاف، بعد ما مضى

288
وقت ظهور القول وانتشاره مدة لو كان هناك قائل بخلافه لكان قد استوفى مدة نظره واستقر (1)
رأيه على قول يقول به إن كان مخالفا له، فإذا لم يظهر منه ذلك علمنا: أنه موافق له.
ومن الدليل على صحة ما ذكرناه من اعتبار ترك إظهار الخلاف في القول الذي قد
استفاض وظهر من بعض الأمة: أنه معلوم في مجرى العادة وما عليه طبائع الناس إذا تشاوروا
في أمر من الأمور فقال في أعلامهم وأولو الألباب منهم قولا وسكت الباقون، أن ذلك (2)
رضا (3) منهم بذلك القول، وموافقة للقائلين به (وأنه) (4) لو كان هناك مخالف لهم لأظهر
الخلاف إذا كان ذلك (أمرا) (5) يهمهم ويتعلق بشئ من مصالحهم في دنياهم، فما كان
منهم (6) دينا تضيفه جماعة منهم إلى الحق وأنه حكم الله تعالى الذي أداهم إليه اجتهادهم
فهو أولى ن، بأن يكون تركهم إظهار الخلاف فيه دلالة على الموافقة.
وأيضا فإنهم مع اختلاف أحوالهم وتفاوت (7) طبائعهم ومقاصدهم، لا يجوز أن
تتوانى (8) همتهم (9) على ترك إظهار خلاف هم له مضمرون، كما أن قائلا لو قال: يوم
الجمعة أن الإما لما صعد المنبر رماه (إنسان) (10) بسهم فقتله، لم يجز أن يحضر جماعة ممن
شهد الجامع ولم يسمعوا بذلك أن يتركوا إظهار (11) النكير عليه، ولا يجوز أن تتفق هممهم
على السكوت مع اختلاف أحوالهم.
وأيضا: فإنه معلوم: أن السلف قد كانوا يعتقدون: أن إجماعهم حجة على من
بعدهم، فغير جائز إذا كان هذا هكذا أن يكون هناك مخالف لهم مع انتشار قولهم، فيضمر
خلافهم ويسره، ولا يظهره، حتى يتبين للناس: أنه ليس هناك إجماع تلزم حجته من

289
بعدهم. فوجب بهذا أن يكون سكوتهم بعد ظهور القول وانتشاره: دلالة على الموافقة. ولو
لم يصح الإجماع من هذا الوجه، لما صح إجماع أبدا، إذ غير ممكن أن يضاف (1) شئ من
الأشياء بقول إلى جميع الأمة: على (أنها قد قالته ولفظت به) (2) وإنما يعتمدون فيه على
ظهور القول فيهم، من غير مخالف لهم.
وقال بعضهم ممن لا يؤبه له: الإجماع الذي يحكم بصحته وينقطع به العذر: هو
اتفاق العلماء على موضع الكعبة من مكة، وموضع الصفا والمروة، وأن شهر رمضان: هو
الشهر التاسع، من ذلك، ونحو ذلك، وما عدا هذا قلم يقم الدليل (3) بإيجابه.
فيقال له: من أين علمت: أن العلماء متفقون على ذلك، هل لقيت كل واحد منهم
من أسلافهم وأخلافهم فأخبروك (بذلك)؟! (4) فإن قال: نعم. أكذبه الناس كلهم،
وإن قال: لا. قيل له: فلم قضيت باتفاقهم عليه؟ وهل علمته إلا من حيث استفاض ذلك
من جماعة ولم ينكره منكر؟ إذ لا سبيل إلى إثباته إلا من هذه الجهة. فهلا جعلت هذا
عيارا (5) في أمثاله، مما لم يظهر وينتشر؟ ثم لا يوجد (6) لأحد من أهل ذلك العصر خلاف فيه
فنثبته إجماعا؟ (7)

290
الباب الثامن والستون
في
القول فيمن ينعقد بهم الإجماع
وفيه فصل: إذا انتشر القول
ولم يظهر خلاف من أحد

291
باب
القول فيمن ينعقد بهم الإجماع
قال أبو بكر: لا نعرف عن أصحابنا كلاما في تفصيل من ينعقد بهم الإجماع، وكيف
صنعتهم، وقد اختلف أهل العلم بعدهم في ذلك.
فقال قائلون: لا ينعقد الإجماع الذي هو حجة لله عز وجل إلا باتفاق فرق الأمة
كلها، من كان محقا، أو مبتدعا ضالا، ببعض المذاهب الموجبة للضلال.
وقال آخرون: لا اعتبار بموافقة أهل الضلال، لأن الحق في صحة الإجماع.
وإنما الإجماع الذي هو حجة لله تعالى عز وجل: (1) إجماع أهل الحق، الذين (2) لم
بثبت فسقهم، ولا ضلالهم. (3)
قال أبو بكر: وهذا هو الصحيح عندنا.
وذلك لأن الله تعالى قد حكم لمن ألزمنا قبول شهادتهم من الأمة بالعدالة بقوله
عز وجل (جعلناكم أمة وسطا، لتكونوا شهداء على الناس) (4) فجعل الشهداء على

293
الناس والحجة عليهم فيما قالوه، وشهدوا به، الذين وصفهم أنهم وسط، والوسط العدل،
وقد قيل: الوسط الخيار، كما قال الله تعالى: (قال أوسطهم (1)) يعني خيرهم والمعنى
واحد، لأن العدل الخيار، والخيار العدل، وإذا كان ذلك كذلك، فلا اعتبار بمن لم يكن من
هذه الصفة في الاعتداد لإجماعهم، وقال تعالى: (واتبع سبيل من أناب إلي) (2) وقال
تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) (3) وقال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت
للناس). (4) فألزمنا اتباع من أناب إليه، والاقتداء بالمؤمنين، وبمن يأمر بالمعروف، وينهي
عن المنكر.
وأهل الضلال والفسق بخلاف هذه الصفة، فلا يلزمنا اتباعهم، ومتى أجمعت فرق
الأمة كلها على أمر، علمنا: أن المأمور باتباعه منهم المؤمنون، ومن أناب إلى الله تعالى،
دون (أهل) (5) الضلال والفاسقين.
فدل ذلك: على أنه لا عبرة بخلافهم، (6) إذ كانوا لو وافقوهم لم يكونوا متبعين ولا
مقتدى بهم. ولا كان قولهم حجة على أحد، فثبت بذلك: أن انعقاد الإجماع متعلق بقول
الجماعة التي قد شملها الوصف من الله تعالى بالعدالة، ولزوم قبول الشهادة، ولأجل ما قد
بينا من الأصل. لم يعتد بخلاف الخوارج، وسائر فرق الضلالة، لما قد ثبت من ضلالهم،
وأنهم لا يجوز أن يكونوا شهداء الله تعالى.
ومما يوجب أيضا أن لا يعتد يقول هؤلاء في الإجماع: أن علم الشريعة مبني على
السمع. ومن لم يعرف الأصول السمعية لم يصل إلى علم فروعها.
والخوارج ومن جرى مجراهم قد أكفرت (7) السلف الذين نقلوا الدين، ولم يقبلوا

294
أخبارهم ونقلهم لها، ومن كان كذلك عدم العلم بها، فصاروا بمنزلة العامي الذي لا يعتد
به في الإجماع، ولا الاختلاف، لعدم علمه بأصول الشرع التي عليها مبني فروعه.
فإن قال قائل: إن كنت لا تعتد بمن (1) ثبت ضلاله في الإجماع، ولا تعد خلافه
خلافا لأجل ما ثبت من ضلاله وفسقه، فالذي يلزمك على هذا الأصل: أن لا تعتد
بخلاف (من ثبت) (2) فسقه من جهة الأفعال، وإن كان صحيح الاعتقاد، لأن الفاسق
على أي وجه كان فسقه لا يكون من شهداء الله تعالى، ولا ممن حكم له بالعدالة، وأناب
إليه.
قيل له: كذلك نقول: إن من ثبت فسقه لم يعتد بخلافه، ولا يعتبر إجماعه، وكيف
يعتد به في الإجماع والاختلاف، وهو لا تقبل شهادته ولا فتياه!!
فإن قال قائل: فهل (3) تجوزون على هذه الجماعة التي انعقد بها الإجماع: الانتقال
عن حال العدالة إلى غيرها من الضلال والكفر؟
قيل له: من الناس من لا يجيز ذلك، لأنه لما ثبت أنهم شهداء الله تعالى في لزوم
قولهم امتنع خروجهم عن هذه الحال إلى غيرها، لأنه يوجب بطلان حجة الله تعالى. ألا
ترى أن قول الأنبياء عليهم السلام، لما كان حجة على أمتهم، لم يجز عليهم التبديل
والتغيير والانتقال عن الحال التي هم عليها؟ (4)
ومن الناس من يجيز ذلك على هذه الجماعة، إذا قام غيرهم بدلا منهم، لئلا تخلو
الأمة من أن يكون فيها قوم متمسكون بالإيمان، قائمون بحجة الله تعالى، التي هي
الإجماع، وجعلوا (5) انتقالهم عن ذلك بمنزلة موتهم.
قال أبو بكر: وأي القولين صح من ذلك فإنه لا يخل بحجة الإجماع، لأن الأمة (6)
لا تخلو في الحالين من أن يكون فيها شهداء الله تعالى، ومن أن يكون إجماعهم حجة. (7)

295
قال أبو بكر: ولا يعتد بخلاف من لا يعرف أصول الشريعة، ولم يرتض بطرق
المقاييس ووجوه اجتهاد الرأي: كداوود الأصبهاني، (1) والكرابيسي، (2) وأضرابهما من
السخفاء (الجهال)، (3) لأن هؤلاء إنما كتبوا شيئا من الحديث، ولا معرفة لهم بوجوه النظر،
ورد الفروع والحوادث إلى الأصول، فهم بمنزلة العامي الذي لا يعتد بخلافه، لجهله ببناء
الحوادث على أصولها من النصوص، وقد كان داوود ينفي حجج العقول، ومشهور عنه أنه
كان يقول: (بل على العقول، (4) وكان يقول: ليس في السماوات والأرض ولا في أنفسنا
دلائل على الله تعالى وعلى توحيده، وزعم أنه إنما عرف الله عز وجل بالخبر، ولم يدر
الجاهل أن الطريق إلى معرفة صحة خبر النبي عليه السلام، والفرق بين خبره وخبر
مسلمة (5) وسائر المتنبئين والعلم بكذبهم (6) إنما هو العقل، والنظر في المعجزات، والأعلام
والدلائل، التي لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى، فإنه لا يمكن لأحد أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم
قبل أن يعرف الله تبارك وتعالى، فمن كان هذا مقدار عقله ومبلغ علمه كيف يجوز أن يعد
من أهل العلم؟ وممن يعتد بخلافه؟ وهو معترف مع ذلك أنه لا يعرف الله تعالى، لأن
قوله: إني ما أعرف الله تعالى من جهة الدلائل اعترف منه بأنه لا يعرفه، فهو أجهل من
العامي، وأسقط من البهيمة، فمثله لا يعد خلافا على أهل عصره إذا قالوا قولا يخالفهم،
فكيف يعتد بخلافه على من تقدمه.
ونقول أيضا: في كل من لم يعرف أصول السمع وطرق الاجتهاد (و) (7) المقاييس

296
الفقهية: إنه لا يعتد بخلافه، وإن كان ذا حظ من المعرفة بالعلوم العقلية، (وكذلك كان
يقول أبو الحسن، لأن علم الأصول العقلية) (1) لا يكتفي به في معرفة الأصول السمعية،
فمن كان بالمنزلة التي وصفنا من فقد العلم بأصول السمع لم يعتد بخلافه، وإن كان ذا خط
في علوم أخر، لأنه يكون في هذا الحال بمنزلة العامي الذي لا يعرف الأصول ورد الفروع
إليها، فلا يكون من أجل ذلك خلافا.
واختلف أهل العلم في مقدار من يعتبر إجماعه، فقال قائلون: الاعتبار في ذلك
بإجماع جماعة يمتنع في العادة أن يخبروا عن اعتقادهم، ولا يكون خيرهم فيما يخبرون
مشتملا على صدق. فإذا اجتمعت جماعة هذه صفتها على قول من الوجه الذي بينا: أن
الإجماع يثبت به، ثم خالف عليها العدد القليل الذي يجوز على مثلهم أن يظهروا اختلاف
ما يعتقدون، ولا نعلم يقينا: أن خبرهم فيما يظهرونه من اعتقادهم مشتمل على صدق، لم
يعتد بخلاف هؤلاء عليهم، إذا أظهرت الجماعة إنكار قولهم، ولم يسوغوا لهم خلافا، وإن
سوغت الجماعة للنفر اليسير خلافها ولم ينكروه، لم يكن ما قالت به الجماعة إجماعا، وإن
خالفت هذه الجماعة جماعة مثلها لا يجوز عليها في مجرى العادة أن يظهر لنا وصف اعتقادها
إلا وهي مشتملة على صدق فيما أخبرت به، وإن لم يقطع على كل واحد في عينه: أنه
صادق في قوله على حسب ما تقدم القول فيه في الأخبار، إن مثل جماعات من المسلمين إذا
أخبرت عن اعتقادها للإسلام علمنا يقينا أن فيها مسلمين.
كما أن اليهود والروم إذا أخبروا عن اعتقادهم لليهودية والنصرانية، علمنا يقينا أن
فيهم (2) من يعتقدها.
فاختلفت الجماعتان اللتان وصفهما ما ذكرنا في حكم حادثه، وأنكر بعضهم على
بعض ما قالوا، (3) أو (4) لم ينكره، لم ينعقد بقول إحدى الجماعتين إجماع، إذا لم يكن يثبت
ضلال أحد الفريقين عندنا، وهذا لا خلاف فيه.
وقال آخرون: إذا خالف على الجماعة التي وصفتم حالها العدد اليسير وإن كان

297
واحدا، كان خلافه صحيحا، ولم يثبت مع خلافه إجماع، وكان أبو الحسن
يذهب إلى هذا القول، ولم أسمعه يحكي عن أصحابنا في ذلك شيئا.
قال أبو بكر: واستدل من قال بالقول الأول على صحته بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن سره
بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد) فقد تضمن
هذا القول الأمر بلزوم الجماعة دون الواحد، ومعلوم أن مراده: إذا قالت الجماعة شيئا وقال
الواحد خلافه. ولولا أن ذلك كذلك - لما كان لذكره الواحد منفردا عن الجماعة معنى، فلو
وجب أن يعتد بخلاف مثله فيما لم تسوغ الجماعة فيه خلافها، لما انعقد إجماع أبدا على
شئ، لأن القول إذا انتشر وظهر في أهل العصر من غير خلاف ظهر من بعضهم على
بعض، فإنا نجوز مع ذلك أن يكون هناك واحد أو اثنان لم تبلغهم هذه المقالة، أو بلغتهم
فلم يظهروا الخلاف، لأن مثله جائز من الواحد والاثنين والعدد اليسير، ولا يجوز من
الجماعات المختلفي الهمم والأسباب. فإذا كان تجويز ذلك لم يمنع صحة الإجماع، فإن
إظهارهم لهذا الخلاف غير قادح في الإجماع، لأن إجماع الجماعة التي ذكرنا حالها لا يخلوا من
أن يكون حجة على ذلك الإنسان الذي أسر الخلاف ولم يظهر، أو لا يكون (1) حجة، فإن
كان حجة له (2) فهو حجة عليه أيضا، وإن أظهر (3) الخلاف فإن لم يكن حجة عليه لم يثبت
إجماع أصلا، لتعذر الوصول إلى العلم: بأن كل واحد من أهل العصر قد وافق الجماعة
على ذلك القول.
ومن جهة أخرى: إن هذا لا يخلو من أن يضل القائل به، أو يكون مخطئا فيه، فغير
جائز إذا كان هذا هكذا: أن يكون الجماعة في حيز الضلال أو الخطأ، والواحد في حيز
الصواب، لأنه لو كان كذلك لكان ذلك الواحد المنفرد بنفسه حجة، لوقوع الصواب في
خبره دون الجماعة. فلما لم يجز القطع على أحد من الأمة (بأنه) (4) ممن لا يجوز وقوع الخطأ
منه، علمنا: أنه غير جائز أن يكون الحق في قول الواحد والاثنين دون الجماعة. ولو جاز هذا
لجاز أن ترتد الجماعة ويبقى الواحد على الإيمان. ولو جاز وقوع هذا بطلت الشريعة لعدم (5)

298
من تقوم به الحجة في نقلها. (6) ولكان ذلك الواحد الباقي محكوما له باستواء الظاهر
والباطن. ولوجب القطع على عينه بأنه حجة الله على الناس في الإجماع.
وهذا قول فاحش لا يرتكبه ذو بصيرة.
وأيضا: فإن النفر اليسير يجوز (أن يكون) (2) باطنهم خلاف ظاهرهم، وأن (لا) (3)
يكونوا معتقدين للإيمان في الحقيقة. وجائز أيضا: أن لا يعتقدوا صحة ما يظهرونه من هذه
المقالة التي يخالفون بها على الجماعة، ومن جاز ذلك عليه لا يجوز القطع على عينه: بأنه
لا يقول إلا الحق، وأما الجماعة فإنا نعلم يقينا: أنها قد اشتملت على صدق فيما أخبرت:
أن منهم من باطنه كظاهره في صحة اعتقاده، وكما تعلم يقينا: أن في الأمة من هو كذلك،
وإن لم يقطع به في واحد بعينه. وقد قال الله تبارك وتعالى: (واتبع سبيل من أناب إلي) (4)
وقال تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) (5) فوجب اتباع من علم الحق في حيزه وناحيته،
دون من يجوز عليه الخطأ والضلال منهم.
قال أبو بكر: فهذا القول أظهر وأوضح دلالة مما حكيناه عن أبي الحسن: في إثبات
خلاف الواحد على الجماعة.
فإن قال قائل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم) (6) وهذا يوجب جواز الاقتداء بالواحد منهم، وإن خالفته الجماعة.
قيل له: لا دلالة في هذا على ما ذكرت، لاتفاق الجميع: على أن الجماعة (7) إذا
اختلفت، لم يجز لأحد من بعدهم تقليد الواحد منهم بلا نظر ولا استدلال، فصار شرط
مساعدة الدليل لقوله مضمرا في قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان ذلك كذلك، وجب الرجوع إلى
ما يوجبه الدليل، وقد أقمنا الدلالة: على أن الجماعة إذا قالت قولا وانفرد عنها الواحد والنفر

299
اليسير: أنهم شذوذ، لا يلتفت إليهم، وإنما فائدة قوله صلى الله عليه وسلم (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم) أن الحق لا يخرج عنهم، وأنه سائغ لكل واحد استعمال الرأي في اتباع أحدهم،
على حسب ما يقوده إليه الدليل، وأنه غير جائز له الخروج عن أقاويلهم جميعا.
وأيضا: فإن قوله: (فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد) ينفي جواز اتباع
الواحد وترك الجماعة، فوجب: أن يكون قوله (بأيهم اقتديتم اهتديتم) محمولا على الحال
التي لا يكون هناك جماعة يلزم اتباعها، وفي الاختلاف الذي يسوغ لكل واحد القول فيه
من جهة الرأي والاجتهاد، ولولا أن ذلك كذلك، لكن من اقتدى بواحد من الصحابة
مصيبا باقتدائه في كل حال، وقد علمنا أن الصحابة قد اختلفت في أمور، تحزبوا فيها، وتبرأ
بعضهم من بعض، وخرجوا إلى القتال وسفك الدماء، ولم يسوغوا الخلاف فيه. فدل:
على أن قوله صلى الله عليه وسلم: (بأيهم اقتديتم اهتديتم) فيما اختلفوا فيه مما يسوغ فيه الاجتهاد، فيجتهد
الناظر في طلب الحق من أقاويلهم، غير خارج عنها، ولا مبتدع مقالة لم يقولوا بها.
ونظير ما قدمنا من خلاف الواحد فيما لم يسوغ الجماعة خلافه عليها: فنحو مذهب
ابن عباس، كان في الصرف يجيز بيع الدرهم بالدرهمين، (1) وأنكرت عليه الصحابة هذا
القول، فرجع عنه. وكقول ابن عباس في متعة النساء، (2) وإنكار الصحابة ذلك عليه. وقد
قال محمد بن الحسن: لو أن قاضيا (قضى) (3) بجواز بيع درهم بدرهمين، أبطلت
قضاءه، (4) لأن جماعة الصحابة سوى ابن عباس: قد أجمعت على بطلانه. قال: وكذلك
لو أن قاضيا جعل ذوي الأرحام أولى من مولى العتاقة، أبطلت قضاءه، (5) لأن الصحابة
سوى بن مسعود، قد أجمعت: على أن مولى العتاقة أولى من ذوي الأرحام، وروى أيضا

300
فيه حديث في قصة مولى ابنة حمزة (1) (أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل نصف ميراثه لبنته، ونصف (2)
ميراثه لابنة (3) حمزة). (4)
قال أبو بكر: فهذه من الأقاويل التي أنكرت الجماعة فيه على الواحد، ولم يسوغوا له
خلافهم فيه. فأما ما سوغوا فيه خلاف الواحد إياهم، ولم يظهر منهم نكير عليه: فنحو
ما روى من قول ابن عباس: في منع العول في زوج وأبوين، وامرأة وأبوين، وفي قول ابن
مسعود: في أنه لا يزاد بنات الابن على تكملة الثلثين مع بنت الصلب، وأنه لا يفضل
أما على جد، فأظهروا خلاف الجماعة (بحضرتها)، (5) ولم تنكره (6) الجماعة عليهم، وسوغوا
لهم الاجتهاد فيه، فصار ذلك إجماعا من الجميع على جواز الخلاف، وتسويغ (7) الاجتهاد
في ترك قول الجماعة. فمن أجل ذلك قلنا: إنه لا ينعقد الإجماع فيما كان هذا سبيله.
قال أبو بكر: وسمعت بعض شيوخنا يحكى عن أبي حازم (8) القاضي - وكان هذا
الشيخ ممن جالسه وأخذ عنه - فذكرا أن أبا حازم كان يقول: إن الخلفاء الأربعة من
الصحابة رضي الله عنهم إذا اجتمعت على شئ كان اجتماعها حجة، لا يتسع خلافها
فيه، ويحتج فيه بقول النبي صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، وعضوا
عليها بالنواجذ) (9) ولأجل هذا المذهب: لم يعتد بريد بن ثابت خلافا في توريث ذوي

301
الأرحام، وحكم برد أموال قد كانت حصلت في بيت مال المعتضد بالله: (1) على أن بيت
المال من ذوي الأرحام. فردها إلى ذوي الأرحام، وقبل المعتضد فتياه وأنفذ قضاءه (2)
بذلك، وكتب به إلى الآفاق.
وبلغني: أن أبا سعيد البردعي كان أنكر ذلك عليه، وقال هذا فيه خلاف بين
الصحابة. فقال أبو حازم: لا أعد زيدا خلافا على الخلفاء الأربعة، وإذا لم أعده خلافا فقد
حكمت برد المال إلى ذوي الأرحام. فقد نفذ قضاي به، ولا يجوز لأحد أن يتعقبه بالفسخ.

302
فصل
من هذا الباب:
واختلف أهل العلم في هذا الباب من وجه آخر.
فقال قائلون: إذا ظهر القول من جماعة كبيرة، أو من واحد (1) أو اثنين من أهل
العصر وانتشر واستفاض في عامة أهل العلم، ولم يظهر من واحد منهم خلاف للقائل به -
فهو إجماع صحيح.
وقال آخرون: لا يكون هذا إجماعا حتى يكون القائلون به الجمهور الأعظم،
ويكون الذي لم يظهر خلافه عدد قليل، فأما إذا كان القائلون نفرا يسيرا، والساكتون
الجمع الكثير، فليس ينعقد بهذا إجماع، وإن تركت الجماعة إظهار الخلاف.
قال أبو بكر: أما إذا كان القائلون به الجمع الكثير والساكتون نفرا يسيرا: هذا إجماع
صحيح إذا لم يظهروا مخالفة الجماعة بعد انتشار المقالة وظهورها.
والدليل على صحته: ما قدمنا من أن الإجماع لا يخلو من أن تكون صحته موقوفة
على معرفة قول كل واحد بعينه من أهل العصر ممن يعتد بقوله في هذا الباب، أو أن يكون
شرطه ظهور قول الجماعة القائلة به، وانتشاره في الباقين من غير إظهار منهم عليهم خلافا،
ومحال أن يكون شرط الإجماع وجودا القول من كل واحد من أهل العصر بعينة، لأن ذلك لا
يوصل إليه، وفي وجوب اعتباره بطلان حجة الإجماع الذي قد حكم الله تعالى بصحته،
ولزوم حجته، ويمتنع أن يحكم الله تعالى بصحة الإجماع ويأمرنا بلزومه (واعتباره) (2) ثم
لا يوصل إليه، ولا يوقف عليه بوجه. فلما بطل هذا الوجه صح الثاني، وهو: أن شرطه
ظهور القول في الجماعة التي يعتد بإجماعهم. ثم لا يظهر منهم خلاف على القائلين، وأما إذا
كان القائل واحدا أو اثنين ونفرا يسيرا، وانتشر قولهم في الجماعة، لأنهم لو كانوا معتقدين
لخلافهم لما جاز أن تتفق هممهم على كتمانه وترك إظهاره، إذ ليس هناك مانع يمنعهم من
إظهار قولهم ومعلوم: أن عادات الناس وتعارفهم، أن مثلهم لا يجوز أن تتفق هممهم
وخواطرهم على كتمان خلاف هم معتقدون له من غير سبب يمنعهم من إظهاره. فهذا
يدل: على أن سكوتهم بعد انتشار المقالة وظهورها فيهم (3) موافقة منهم للقائلين.

303
الباب التاسع والستون
في
القول في وقت انعقاد الإجماع
وفيه فصل: إذا اختلفت الأمة في مسألة على قولين

305
باب
القول في وقت انعقاد الإجماع
اختلف (العلماء) (1) في وقت انعقاد الإجماع.
فقال قائلون: إذا أجمع أهل عصر على قول لم يثبت إجماع ما داموا باقين، حتى
ينقرض أهل العصر، من غير خلاف يظهر ممن يعتد بخلافه.
وقال آخرون: إذا أجمعوا على شئ فقد صح الإجماع وثبتت حجته، ولا يجوز بعد
ذلك لأحد من أهل العصر ولا من أهل عصر ثان مخالفتهم. انقرض أهل العصر، أو لم
ينقرضوا. (2)
قال أبو بكر: وهذا القول هو الصحيح عندنا، وكذا كان يقول أبو الحسن من قبل: إن
الآيات الموجبة لحجة الإجماع قد أوجبت الحكم بصحة إجماعهم، من غير تخصيص وقت
من وقت، ولا حال من حال. فثبت حجة إجماعهم في سائر الأوقات، بمقتضى الآي الدالة
على حجة الإجماع، ولو لم ينعقد الإجماع قبل انقراض العصر - لوجب أن لا ينعقد إجماع
أبدا، لأن الصدر الأول إذا أجمعوا ثم لا يعتد بإجماعهم ما داموا أحياء فجائز أن يلحق بهم
من التابعين قبل انقراضهم من يسوغ له القول معهم، والخلاف عليهم، فيكون بمنزلة
واحد منهم في جواز الاعتراض بخلافه، كما كان سعيد بن المسيب وشريح (3) وإبراهيم

307
والحسن، (1) في آخرين (2) من التابعين يفتون مع الصحابة، ويخالفونهم، ويسوغ الصحابة
لهم ذلك، كما سوغوا خلاف بعضهم لبعض، فكان يجب على هذا: أن لا ينعقد الإجماع
بانقراض الصحابة، لأن هناك من التابعين من هو في حكمهم، وفي مثل حالهم في جواز
اعتراضه بالخلاف عليهم فيما قالوه. فإن كان (ذلك) (3) كذلك، فواجب ألا يصح
(ذلك) (4) الإجماع بإجماع التابعين بعدهم معهم، لأنهم قد يلحق بهم من أتباعهم من
يخالف، عليهم ويعتد به وكذلك سائر الأعصار، فيؤدي ذلك إلى بطلان حجة الإجماع، فلما
ثبتت عندنا حجة الإجماع بما قدمنا، علمنا: أن إجماع أهل كل عصر حجة في كل حين
وزمان، انقرض أهل العصر، أو لم ينقرضوا، وأنه غير جائز بعد انعقاد إجماعهم: أن يعتد
بخلاف أحد عليهم من أهل عصرهم، ولا من غيرهم.
وأيضا: فلما ثبت: أن اجماعهم حجة ودليل لله تعالى، فحيثما وجد ينبغي أن يكون
حكمه ثابتا في جهة الدلالة، ووجوب الحجة، لأن حجج الله تعالى ودلائله لا تختلف
أحكامها بالأزمان والأوقات: كنص (5) الكتاب والسنة، لما كانا حجة لله تعالى لم يختلف
حكمهما (6) فيما لا يوجبانه في سائر الأوقات.
وأيضا: فلو لم يكن إجماعهم صحيحا قبل انقراض العصر: لما أمنا أن يكون الذي
أجمعوا (7) عليه خطأ وضلالا، وقد أمنا وقوع ذلك منهم بقول الله تعالى: (كنتم خير أمة
أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) (8) وقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم
أمة وسطا) (9) وسائر الآي الموجبة لحجة الإجماع، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (يد الله مع الجماعة)،.

308
وقوله صلى الله عليه وسلم (لا تجتمع أمتي على ضلال) وسائر الأخبار (1) الموجبة لصحة الإجماع من غير
تخصيص وقت عن (2) وقت، ولو جاز اجتماعهم على خطأ قبل انقراض العصر - لجاز ذلك
عليهم أيضا مع انقراضهم، وهذا يؤدي إلى بطلان حجة الإجماع.
فإن قال قائل: قد خالف عمر أبا بكر في التسوية في العطاء (3)، وقد روي عن علي (أنه
قال): (4) (أجمع رأي ورأي عمر في جماعة المسلمين: أن لا تباع أمهات الأولاد، ثم رأيت أن
أرقهن) (5) وهذا يدل على اعتبار انقراض العصر.
قيل له: أما التسوية في العطاء فلم يقع عليها إجماع قط، لأن عمر قد خالف أبا بكر،
وقال له: أتجعل من لا سابقة له في الإسلام كذي السابقة؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله
عز وجل، وأجورهم على الله تبارك وتعالى. فلم يحصل منهم إجماع على التسوية. وأما بيع
أم الولد: فإنه لم يثبت عن علي (وذلك لأنه روي أنه قال: ثم رأيت: أن أرقهن، وليس في
قوله: (رأيت أن أرقهن دليل أنه) (6) رأى جواز بيعهن، لأنها قد تكون رقيقا، ولا يجوز بيعها،
مثل الرهن، والمستأجرة، وهي عندنا رقيق، ولا نرى بيعها. فإذا كان كذلك فإنما أفاد
بقوله: رأيت أن أرقهن: أن للمولى وطأهن بملك اليمين. وأخذ أكسابها، وما جرى مجرى
ذلك من أحكام الأرقاء، وقد روي أنه قال: رأيت: أن أبيعهن، وجائز أن يكون المحفوظ
هو الأول، وأن ما روي من قوله: رأيت أن أبيعهن،: إنما هو لفظ الراوي، حمله على المعنى
عنده، لما ظن قوله (أن) (7) أرقهن: يوجب جواز بيعهن.
فإن قيل: إذا كان في الابتداء جائز لهم خلافهم، فهلا جوزت لهم الخلاف بعد
موافقتهم إياهم؟؟

309
قيل له: إنما يجوز خلاف بعضهم على بعض ما لم يحصل منهم الاتفاق، الذي هو
حجة لله تعالى، كما يجوز للتابعي مخالفة الصحابي، ما لم يحصل منهم (إجماع) (1)، فإذا
حصل الإجماع سقط اعتبار الخلاف، لأن الإجماع على أي وجه حصل، وفي أي وقت وجد
- فهو حجة لله تعالى، فحكمه ثابت أبدا.
فإن قال قائل: لم جعلت قول بعضهم حجة على بعض مع كونهم من أهل عصر
واحد؟ ولو جاز أن يكون الثابتون على تلك المقالة حجة على من خالف عليهم فيها - لجاز
أن يجعل قول المخالف حجة (على الآخرين.
قيل له: لم نجعل قول بعضهم حجة على بعض، وإنما جعلنا قوله في الجماعة
حجة) (2) عليهم جميعا و (لو) (3) لم يكونوا قد وافقوا الجماعة بديا، لما كان قولهم حجة عليهم،
لأن الحجة إنما ثبتت باتفاق الجميع.

310
فصل
وإذا اختلفت الأمة في مسألة على قولين، فقال بأحد القولين طائفة، وبالقول الآخر
طائفة أخرى مثلها، وكل واحد من الطائفتين ممن يجوز الاعتراض بخلافها، ولا يصح
الإجماع مع وجود الخلاف منها، ثم انقرضت إحدى الطائفتين وبقيت الأخرى - فإن بعض
أهل العلم ذكر: أنه إن كان الاختلاف (1) في شئ جروا فيه إلى تأثيم بعضهم بعضا، ولم
يسوغوا اجتهاد الرأي فيه، فإن الطائفة الباقية يكون إجماعها حجة، لأنا قد علمنا: أن
الطائفة المتمسكة بالحق لا يخلو منها زمان، وهي قد شهدت ببطلان قول الطائفة التي
انقرضت، فوجب أن يكون قولها حقا وصوابا، ووجب الحكم بفساد قول الطائفة التي
انقرضت. وإن كان ذلك شيئا سوغوا (2) فيه الاختلاف، وأباحوا فيه اجتهاد الرأي، فإنه لا
يثبت الإجماع ببقاء هذه الطائفة، قال: لأن الطائفتين جميعا قد أجمعوا بديا على تسويغ
الاختلاف، ووسعوا فيه اجتهاد الرأي وهذا الإجماع حجة لا يسع خلافه.
قال أبو بكر: وإنما بني هذا القول على أصله: في أن الإجماع بعد الخلاف لا يرفع
الخلاف المتقدم فيما كان طريقه اجتهاد الرأي. وسنتكلم في هذه المسألة بعد هذا إن شاء
تعالى.

311
الباب السبعون
في
القول في خلاف الأقل على الأكثر

313
باب
القول في خلاف الأقل على الأكثر
إذا اختلف الأمة على قولين، وكل فرقة من الكثرة في حد ينعقد بمثلها الإجماع لو لم
يخالفها مثلها.
فإن من الناس من يعتبر إجماع الأكثر وهم الحشو. (1)
قال أهل العلم: لا ينعقد بذلك إجماع، ووجب الرجوع إلى ما يوجبه الدليل. (2)
والحجة لهذا القول: أن الحق يجوز أن يكون مع القليل، بعد أن يكونوا في حد متى
أخبرت عن اعتقادها للحق، وظهرت عدالتها، وقع العلم باشتمال خبرها على صدق،
على نحو ما ذكرنا فيما سلف.
والدليل على ذلك: ان الله تعالى قد أثنى على القليل، ومدحهم في مواضع من
كتابه بقوله تعالى: (وقليل من عبادي الشكور) (3) وقال تعالى: (وما آمن معه إلا
قليل) (4) وقال تعالى: (فلو لا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في
الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم) (5) وقال تعالى: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، (6)

315
وآيات نحوها يذم فيها الكثير، ويمدح القليل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريبا
وسيعود غريبا فطوبي للغرباء. قيل: ومن هم؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)، (1)
وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب) وعن
أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أشراط الساعة أن يظهر الجهل ويقل العلم). (2)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض
العلماء) (3) حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا) (4) وقال عليه السلام (ستفترق
أمتي على اثنتين (5) وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة) (6) في أخبار نحوها، توجب
تصويب الأقل، وتقليل الأكثر، فبطل اعتبار الكثرة والقلة إذا وقع الخلاف على الوجه الذي
قد ذكرنا، ويجب (7) علينا حينئذ طلب الدليل على الحكم من غير جهة الإجماع، وقد ارتد
أكثر الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنعوا الصدقة، وكان المحقون - الأقل، وهم الصحابة،
وقد كان أكثر الناس في زمن بني أمية على القول بإمامة معاوية (8) ويزيد (9) وأشباههما من

316
ملوك بني مروان، والأقل كانوا على خلاف ذلك، ومعلوم: أن الحق كان مع الأقل، دون
الأكثر.
فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (عليكم بالجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين
أبعد). وقال: يد الله مع الجماعة) وقال: (عليكم بالسواد الأعظم) (1)، فهذا يدل على
وجوب اعتبار إجماع الأكثر.
قيل له: فكل واحدة من الفرقتين (2) اللتين ذكرنا جماعة، فلم اعتبرت الأكثر؟ ولا
دلالة في الخبر عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة) يعني إذا اجتمعت على شئ وخالفها
الواحد والاثنان، فلا يعتد بخلافهما، ولزوم اتباع الجماعة، ألا ترى إلى قوله: (فإن
الشيطان مع الواحد) فأخبر أن لزوم الجماعة: إنما يجب إذا لم يخالفها إلا الواحد، والعدد
اليسير، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالسواد الأعظم) معناه: ما اتفقت عليه الأمة في أصول
اعتقاداتها، فلا تنقضوه وتصيروا إلى خلافه، وكل من قال بقول باطل فقد خالف الجماعة
والسواد الأعظم، إما في جملة اعتقادها، أو في تفصيله. (3)

317
الباب الحادي والسبعون
في
القول في إجماع أهل المدينة

319
باب
القول في إجماع أهل المدينة
(زعم قوم) (1) من المتأخرين: أن إجماع أهل المدينة لا يسوغ لأهل سائر الأعصار
مخالفتهم فيما أجمعوا عليه، وقال سائر الفقهاء: أهل المدينة وسائر الناس غيرهم في ذلك
سواء، وليس لأهل المدينة مزية عليهم في لزوم اتباعهم. (2)
والدليل على صحة هذا القول: أن جميع الآي الدالة على صحة حجة الإجماع ليس
فيها تخصيص أهل المدينة بها من غيرهم، لأن قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا
لتكونوا شهداء على الناس) (3) خطاب لسائر الأمة لا يختص بهذا الاسم أهل المدينة دون
غيرهم.
وكذلك قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر) (4) وقوله: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) (5) وقوله تعالى: (واتبع سبيل من أناب
إلى) (6) قد عمت هذه الآيات سائر الأمم فغير جائز لأحد أن يختص (بها) (7) على أهل
المدينة دون غيرهم.

321
ولو جاز ذلك، لجاز أن يقال في قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (1) وقوله
تعالى: (كتب عليكم الصيام) (2) وقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) (3) إنه
مخصوص به أهل المدينة دون غيرهم، فلما بطل هذا لأن عموم اللفظ لم يفرق بينهم وبين
غيرهم، كذلك حكم الآيات الموجبة لصحة الإجماع، لما كانت مبهمة، لم يجز لأحد
الاقتصار بها على أهل المدينة دون غيرهم، ولو جاز لقائل أن يخص بها أهل المدينة، لجاز
لغيره أن يخص بها أهل الكوفة دون من سواهم، فلما لم يجز تخصيص أهل الكوفة فيما تضمنته
هذه الآيات كان كذلك حكم أهل المدينة فيها.
وأيضا: فلو كان إجماعهم هو المعتبر في كونه حجة، لما خفى أمره على التابعين ومن
بعدهم، فلما لم نر أحدا من تابعي أهل المدينة ومن غيرهم (4) وممن جاء بعدهم، دعا سائر
الأمصار (5) إلى اعتبار إجماع أهل المدينة ولزوم اتباعهم. دل ذلك: على أنه قول محدث،
لا أصل له عن أحد من السلف، بل إجماع السلف من أهل المدينة وغيرهم ظاهر في
تسويغ (6) الاجتهاد لأهل سائر الأمصار معهم، وأجازوا لهم مخالفتهم إياهم.
فقد حصل من إجماع السلف من أهل المدينة وغيرهم بطلان قول من اعتبر إجماع
أهل المدينة.
وأيضا: فلو كان إجماع أهل المدينة حجة، لوجب أن يكون حجة في سائر الأعصار،
كما أن إجماع الأمة لما كان حجة لم يختلف حكمه في سائر الأزمان في كونه حجة، ولو كان
كذلك لوجب اعتبار إجماع أهل المدينة في هذا الوقت، ومعلوم: أنهم في هذا الوقت أجهل
الناس، وأقلهم علما، وأبعدهم من كل خير.
فإن قيل: إنما يعتبر الآن إجماع من يتفقه على مذهب أهل المدينة وهم: أصحاب
مالك ابن أنس.

322
قيل له: أفتعتبر إجماعهم وإن لم يكونوا في هذا العصر من أهل المدينة من
الصحابة. (1)
فإن قال: نعم. قيل له: فاعتبر إجماع أهل الكوفة من التابعين، وإن لم يكونوا من
أهل المدينة من الصحابة، فإنهم اخذوا العلم عمن انتقل إليهم من أهل المدينة من
الصحابة.
وأيضا: فليس يخلو إجماع أهل المدينة: من أن تكون صحته متعلقة بالموضع، أو
بالرجال ذوي العلم منهم، فإن كان متعلقا بالموضع، فالموضع موجود، فيجب اعتبار إجماع
أهل الموضع في سائر الأزمان.
وهذا خلف من القول. (وإن اعتبر) (2) بالرجال دون الموضع، فإن الذين نزلوا
الكوفة هم عمدة أهل (علم) (3) الدين وأعلامه.
منهم: علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وحذيفة، وعمار، وأبو موسى الأشعري،
وآخرون، من ذوي العلم منهم.
وقيل: إنه نزلها من الصحابة ثلاثمائة ونيف، فيهم سبعون بدريا، فلم خصصت
بصحة الإجماع من أخذ عمن بقي بالمدينة؟ دون من أخذ عمن نزل الكوفة وسائر الأمصار؟
ولخصمك أن يعارضك فيقول: إنما اعتبر إجماع أهل الكوفة، دون أهل المدينة،
لأنهم أخذوا عن هؤلاء الذين ذكرناهم، وهم أعلام الصحابة وعلماؤهم.
فإن قيل: إنما خصصنا أهل المدينة بصحة الإجماع، لأنها دار السنة ودار الهجرة،
ولأن سائر الناس عنهم أخذوا، كما كان إجماع الصحابة حجة على التابعين، لأنهم عنهم (4)
أخذوا.
قيل له: فتعتبر إجماع (أهل) (5) المدينة من الصحابة الذين ثبتوا بالمدينة، ولم يخرجوا

323
عنها دون من خرج عنها، وانتقل إلى غيرها من الصحابة؟ أو تعتبر إجماع أهل المدينة ممن
كانوا بعد الصحابة؟
فإن قال: اعتبر إجماعهم خاصة في زمن الصحابة، وبعدهم، ولا أعتد بخلاف من
خالف (1) عليهم من الصحابة ممن خرج عنها، قال قولا قد أجمع المسلمون على خلافه،
وقد ثبت عندهم بطلانه، لأنه إن كان كذلك، فواجب أن لا يجعل علي بن أبي طالب،
و (عبد الله) (2) بن مسعود، وعمار بن ياسر، ونظراءهم، خلافا، وكفى بهذا (3) خزيا لمن بلغه.
فإن قال: إنما أعتبر إجماع أهل المدينة بعد الصحابة، لأن الصحابة كلهم أهل المدينة
في الأصل.
قيل له: فإنما اعتبرت إجماعهم بعد الصحابة، لأنهم أخذوا عن الصحابة فهلا
اعتبرت إجماع أهل الكوفة، لأنهم أخذوا عن الصحابة الذين انتقلوا إليهم من أهل
المدينة؟!.
وأما قوله: إن سائر الناس لما أخذوا عنهم (وجب) (4) لزوم اتباعهم، كما لزم التابعين
اتباع الصحابة، لأنهم أخذوا عنهم.
قيل له: فإن تابعي أهل الكوفة أخذوا عمن انتقل إليهم من أهل المدينة، فلا فرق
بينهم وبين من أخذ عنهم أهل المدينة، فاعتبر إجماع أهل الكوفة مع أهل المدينة.
فإن قال: إنما أعتبر إجماع أهل المدينة، لأن النبي عليه السلام دعا لأهل المدينة
ومدحهم فقال: (اللهم بارك لهم في صاعهم وفي مدهم) (5)، وقال: (من أرادهم بسوء
أذابه الله كما يذوب الملح (6) في الماء)، (7) وقال: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية
إلى جحرها)، (8) وقال: (إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد)، (9) فإذا كان

324
النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لهم، وأثنى عليهم، ومدحهم - وجب اتباعهم، لأنه (1) لا يدعو لهم
ولا يمدحهم إلا وهم مؤمنون.
قيل له: وما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له في صاعهم ومدحهم مما يوجب كون إجماعهم
حجة، وكيف وجه تعلق صحة إجماعهم به، وكذلك قوله: من أرادهم بسوء أذابه الله كما
يذوب الثلج، لا تعلق له بحجة الإجماع، لأنه ليس في الخلاف (عليهم) (2) إرادتهم بسوء،
ولو كان كذلك لكانت (3) الصحابة حين اختلفت في الحوادث التي اجتهدوا فيها آراءهم قد
أراد بعضهم بعضا بسوء.
وأيضا: فإنما دعا لأهل المدينة الذين كانوا في عصره، لأنهم كانوا مهاجرين وأنصارا،
وكانوا مجتمعين في المدينة، ثم تفرقوا في البلدان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كنت إنما جعلت
إجماع هؤلاء حجة، فهذا ما لا تنازع فيه، وإن أردت إجماع من بعدهم، فما الدليل على
أنهم بالوصف الذي ذكرت بعد ذهاب الصحابة؟.
(ومعنى) (4) قوله: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها): أنها دار
الهجرة، هاجر إليها المسلمون من دون الشرك، فلما زال فرض الهجرة زال ذلك، لأنه قد
كان بعد زوال الهجرة لكل أحد أن يقيم في قبيلته وحيه وبلده، ولا يهاجر إليها، ولو كان
ذلك حكما عاما في سائر الأزمان، لوجب أن يكونوا كذلك الآن، ونحن لا نعلم في هذا
الوقت أهل مصر من الأمصار الكبار وقد استولى عليهم من الجهل وقلة الدين، وفساد
الاعتقاد، وعدم الخير ما استولى على أهل المدينة.
فإن قيل: قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الدجال لا يدخل المدينة، وإن على
كل نقب (5) من أنقابها ملكا شاهرا سيفه) (6) وهذا يدل: على حراسة الله عز وجل إياهم،
وأنه قد أبانهم بذلك من غيرهم، فوجب أن تكون لهم مزية في لزوم اتباعهم.

325
قيل له: وما في هذا ما يوجب ما ذكرت، ولم لا يجوز أن تكون محروسة سواء صار أهلها
إلى الضلال، أو ثبتوا على الحق؟ كما حرس أهل مكة من أصحاب الفيل، وكانوا
مشركين، وجائز أن يكون وصفها بأن على أنقابها الملائكة في الوقت الذي حصرها المشركون
يوم الخندق، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حراسة الله تعالى إياها بالملائكة، وانهم لا يدخلونها،
فيكون حكم الخبر مقصورا على تلك الحال.

326
الباب الثاني والسبعون
في
القول في الخروج عن اختلاف السلف

327
باب
القول في الخروج عن اختلاف السلف
إذا اختلف أهل عصر في مسألة على أقاويل معلومة، لم يكن لمن بعدهم: أن يخرج
عن جميع أقاويلهم، ويبدع قولا لم يقل به أحد، وهذا معنى ما حكاه هشام (1) عن محمد في
ذكر أقسام أصول الفقه. فقال: وما اختلف فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما أشبهه يعني: أنه لا
يخرج عن اختلافهم. (2)
والدليل على صحة هذا القول: قول الله تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) (3)
وقوله تعالى: (واتبع سبيل من أناب إلى) (4) وقوله تعالى: (يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر)، (5) وقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (6) وهذه صفة أهل كل عصر في
الخروج عن أقاويل الجمع، اتباع غير سبيل المؤمنين، ومخالفة من أمرنا الله تعالى بالاقتداء
به، لأنا قد علمنا بدلالة صحة الإجماع: أن الحق لا يخرج عنهم، فلو جاز إبداع قول لم يقل
به واحد منهم، لما أمنا أن يكون هذا القول هو الصواب، وأن ما قالوه خطأ، فيوجب ذلك
جواز إجماعهم على الخطأ، وذلك مأمون وقوعه منهم.
فإن قال قائل: ما ذكرت (لا) (7) يلزم القائلين: أن كل مجتهد مصيب، وأن الحق في
جميع أقاويل المختلفين، لأنه لا يمنع عندهم أن يكون هؤلاء مصيبين، ومن يقول بخلاف
قولهم أيضا مصيبا، إذا كانوا حين اختلفوا فقد سوغوا الاجتهاد في طلب الحكم.
قيل له: ما ذكرت من مذهب من يقول: إن كل مجهد مصيب: لا يعصم القائل مما

329
ألزمناه، وذلك لأنهم حين اختلفوا في المسألة على هذه الوجوه، فقد أجمعوا: على أن ما
عداها (1) خطأ، سواء كانوا مصيبين في اختلافهم، أو بعضهم مصيبا، وبعضهم مخطئا، كما
لو أجمعوا على قول واحد، كان ذلك إجماعا منهم، بأن ما عداه خطأ، وإن كان إجماعهم
عليه من طريق الاجتهاد، فالإلزام صحيح على ما ذكرنا لمن قال: إن الحق في واحد، ولمن
قال: إن كل مجتهد مصيب، ألا ترى أنهم: قد سوغوا الاجتهاد في ميراث الجد، واختلفوا
فيه على وجوه قد عرفت، فأوجب بعضهم الشركة بينه وبين الأخ، وجعل بعضهم الجد
أولى، فلو قال بعدهم قائل: إني أجعل المال للأخ دون الجلد، كان مخطئا في قوله، مخالفا
لإجماعهم، ولو ساغ ما قال هذا السائل، لساغ مخالفة إجماعهم الواقع عن اجتهاد، لأنهم
حين اجتهدوا في المسألة، فقد سوغوا الاجتهاد فيها، ولم يكن ذلك مبيحا لمن بعدهم
مخالفتهم فيما أداه إليه اجتهادهم، كذلك إذا اختلفوا فيها على وجوه معلومة، وإن كان
اختلافهم عن اجتهاد، فغير جائز لمن بعدهم الخروج عن أقاويلهم إذا كان إجماعهم: على
أن لا قول في المسألة - إلا ما قالوه - مانعا من تسويغ الاجتهاد في الخروج عنه.

330
الباب الثالث والسبعون
في
القول في التابعي هل يعد خلافا على الصحابة

331
باب
القول في التابعي هل يعد خلافا على الصحابة
قال أصحابنا: التابعي الذي قد صار في عصر الصحابة من أهل الفتيا، يعتد بخلافة
على الصحابة، كأنه واحد منهم.
وقال بعضهم: لا يجوز خلاف الصحابي إلا لصحابي مثله. (1)
والدليل على صحة قولنا: أن الصحابة قد سوغت للتابعين مخالفتهم، والفتيا
بحضرتهم، وتنفيذ أحكامهم، مع إظهارهم لهم المخالفة في مذاهبهم، (2) ألا ترى: أن عليا
وعمر رضي الله عنهما قد وليا شريحا القضاء، ولم يعترضا عليه في أحكامه، مع إظهاره
الخلاف عليهما في كثير من المسائل.
فإن قيل: إنما ولوهم الحكم ليحكموا بقول الصحابة من غير خلاف عليهم منهم.
قيل له: هذا غلط، لأن في رسالة عمر إلى شريح، (فإن لم تجد في السنة فاجتهد
رأيك) (3) ولم يأمره بالرجوع إليه، ولا الحكم بقوله، وخاصم علي عليه السلام إلى شريح
ورضي بحكمه، حين حكم عليه بخلاف رأيه، وشاور عمر رضي الله عنه كعب بن
سور، (4) وأمره بالحكم بين المرأة وزوجها في الكون عندها، فجعل لها كعب قسما واحدا من
أربع، وقال أبو سلمة: (5) (تذاكرت أنا وابن عباس، وأبو هريرة، عدة الحامل، المتوفى عنها

333
زوجها. فقال ابن عباس:: (آخر (1) الأجلين) وقلت أنا: عدتها أن تضع حملها، فقال
أبو هريرة: أنا مع ابن أخي) وذكر إبراهيم عن مسروق (2) قال: (كان ابن عباس إذا قدم
عليه أصحاب عبد الله صنع لهم طعاما ودعاهم، قال: فصنع لنا مرة طعاما، فجعل يسأل
ويفتي فكان يخالفنا، فما كان يمنعنا أن نرد عليه إلا أنا (كنا) (3) على طعامه)، وسئل ابن
عمر عن فريضة، فقال: (سلوا سعيد ابن جبير، فإنه أعلم بها مني) (4) وسئل أنس عن
مسألة، فقال: (سلوا مولانا الحسن). (5)
وأيضا: كان التابعي إذا كان من أهل النظر وممن يجوز له الاجتهاد في استدراك حكم
الحادثة، وكان في عصر الصحابة، فلا فرق بينه وبين الصحابي، لأن العلة التي من أجلها
جاز للصحابي الخلاف على مثله موجودة في التابعي: وهو كونه من أهل النظر، وهما في
عصر (6) واحد.
فإن قيل: لا يجوز للتابعي مخالفة الصحابي، لأن الصحابة مخصوصون بالفضل
دونهم، وقد مدحهم الله تعالى في كتابه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (اقتدوا بالذين من بعدي: أبي
بكر، وعمر) (7) وقال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، (وقال: لو أنفق أحدكم
مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) (8) وإذا كان هذا وصفهم لم يجز: أن يساويهم
أحد في منزلة.
قيل له: أما الفضل فمسلم لهم، إلا أن الفضل الذي ذكرت لا يجوز أن يكون علة

334
في منع خلاف المفضول عليه، لأن الصحابة متفاضلون، وأفضلهم: الخلفاء الأربعة،
بإجماع الأمة، وقد سوغوا مع ذلك الاجتهاد لمن دونهم معهم، ومخالفتهم، مثل: ابن عمر،
وعبد الله بن عمرو، (1) وأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهم، ولو كان الفضل موجبا لهم
التفرد بالفتيا - لما جاز لأحد من الصحابة مخالفة الأئمة الأربعة، (وقوله عليه السلام:
(اقتدوا باللذين من بعدي) لما لم يمنع أن يقول: معهما من دونها من الصحابة) (2) كذلك
لا يمنع التابعي.
فإن قيل: لقول الصحابي مزية على قول التابعي، لأنه قد شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وعلم
بمشاهدته مصادر قوله ومخارجه، ومن بعدهم ليست له هذه الحال، فواجب أن
لا يزاحموهم.
قيل له: ما (عرفه الصحابي) (3) بالمشاهدة، قد عرفه التابعي بسماعه ممن نقله إليه،
فلا يختلف حكمه وحكم الصحابي في (4) هذا الوجه، لأنه غير جائز من النبي صلى الله عليه وسلم، إطلاق
لفظ يشتمل على حكم يريد به أن ينقل عنه ليشترك العام والخاص في معرفته، ولزوم
حكمه، إلا وذلك اللفظ متى نقل يفيد الغائب ما أفاده الشاهد، ولا يجوز: أن يخص
الشاهد من دلالة الحال ومخارج اللفظ، بما لا يفيده اللفظ، إذا نقل عنه، إلا وحكمه
مقصور على الشاهد، ومخصوص به دون الغائب. (5)
فأما إذا أراد (عموم الحكم) (6) في الفريقين، فلا معنى لاعتبار حال المشاهدة ومخارج
اللفظ، وإذا كان ذلك كذلك، فلا فرق بين من شاهد النبي عليه السلام وبين غيره، ألا
ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى ما لم يسمعها. فرب

335
حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فجعل المنقول إليه الغائب أفقه
في بعض الأحوال بمعنى خطابه من السامع.
وأيضا: فإن كثيرا ممن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم كالأعراب ونحوهم، لم يكن يجوز لهم الفتيا مع
مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس مشاهدته إذا علة لوجوب الاختصاص بالفتيا، ومنع من لم
يشاهد القول معه، ولما لم يمنع التابعي: أن يقول في الفتيا، ويجتهد رأيه، وإن لم يشاهد
الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك يجوز أن يخالف الصحابة.

336
الباب الرابع والسبعون
في
القول في الإجماع بعد الاختلاف

337
باب
القول في الإجماع بعد الاختلاف
إذا اختلف الصحابة في حكم مسألة و انقرضوا، ثم (1) أجمع أهل عصر بعدهم على
أحد تلك الأقاويل التي قال به أهل العصر المتقدم - فإن من الناس من يقول: إجماع أهل
العصر الثاني ليس بحجة، ويسع كل أحد خلافه ببعض الأقاويل التي قال بها أهل العصر
المتقدم.
وقال آخرون: هذا على وجهين: فإن كان خلافا يوثم فيه بعضهم بعضا فإن اجماع
أهل العصر الثاني يسقط الخلاف الأول. وإن كان خلافا يوثم فيه بعضهم بعضا وسوغوا
الاجتهاد فيه فإن إجماع من بعدهم لا يسقط الخلاف المتقدم. (2)
قال أبو بكر: وقال أصحابنا: إجماع أهل العصر الثاني حجة لا يسع من بعدهم
خلافه، قال محمد بن الحسن - في قاض حكم بجوار بيع أم الولد بعد موت مولاها: إني
أبطل قضاءه، لأن الصحابة كانت اختلف فيه، ثم أجمع بعد ذلك قضاة المسلمين
وفقهاؤهم (على أنها حرة لا تباع، ولا تورث، لم يختلف في ذلك أحد من قضاة المسلمين
وفقهائهم) (3) في جميع الأمصار إلى يومنا هذا، ولم يكن الله تعالى ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على
ضلالة، وقال محمد: فكل أمر اختلف فيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أجمع التابعون من
بعدهم جميعا على قول بعضهم دون بعض، وترك قول الآخر، فلم يعمل به أحد، إلى
يومنا هذا، فعمل به عامل اليوم وقضى به، فليس ينبغي لقاض ولي هذا أن يجيزه، ولكن
يرده ويستقبل فيه القضاء بما أجمع عليه المسلمون.

339
قال أبو بكر: فقد بان من قول محمد: أن هذا عنده إجماع صحيح، بمنزلة الإجماع
الذي يتقدمه اختلاف في باب وجوب فسخ القاضي (ببيع أمهات الأولاد) (1) وكان أبو
الحسن يقول: إجازة أبي حنيفة قضاء القاضي ببيع أمهات الأولاد، لا يدل على: أنه كان
لا يرى الإجماع الذي حصل في منع بيع أمهات الأولاد بعد الاختلاف الذي كان بين
السلف فيه إجماعا صحيحا، يلزم صحته، (2) ويجب على من بعدهم اتباعه، (3) إذ جائز أن
يكون مذهبه: أنه إجماع صحيح، وإن لم يفسخ قضاء القاضي إذا قضى بخلافه، فكان
يذكر لذلك وجها ذهب عني حفظه، والذي يقوله في ذلك: إن منازل الإجماعات مختلفة
كمنازل النصوص، يكون بعضها آكد من بعض، ويسوغ الاجتهاد في ترك بعضها،
ولا يجوز في ترك بعض.
ألا ترى: أن النص المتفق على معناه ليس في لزوم حجته بمنزلة النص المختلف في
معناه، وإن كان حجتهما جميعا عندنا ثابتة، كذلك حكم الإجماعات، (4) فليس يمتنع على
هذا أن يفرق بين الإجماع الذي قد تقدمه اختلاف، وبين الإجماع الذي لم يسبقه خلاف في
باب فسخ قضاء القاضي، بخلاف أحدهما ومنعه ذلك في الآخر، وإن كان كل واحد منهما
حجة لا يجوز مخالفته، ويكون الفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أنه مختلف فيه أنه إجماع، أو ليس بإجماع، وهو خلاف مشهور بين الفقهاء.
والثاني: أنه إجماع قد سبقه اختلاف، وقد سوغ أهل العصر المتقدم الاجتهاد فيه
وأباحوا فيه الاختلاف، فساغ الاجتهاد في منع انعقاد الإجماع بعدهم، والإجماع الذي
يسوغ الاجتهاد في خلافه لا يفسخ به قضاء القاضي، ولا يكون بمنزلة إجماع أهل عصر لم
يتقدمه خلاف، فيفسخ قضاء القاضي إذا قضى بخلافه، لأن هذا إجماع لا يسوغ الاجتهاد
في رده، ولا نعلم أحدا من الفقهاء يخالف فيه، وإنما خالف فيه قوم - هم شذوذ عندنا - لا
نعدهم خلافا، فبان بما وصفنا: (أنه) (5) ليس في منع أبي حنيفة رضي الله عنه فسخ قضاء

340
القاضي ببيع أمهات الأولاد - دلالة: على أنه كان لا يرى الإجماع بعد الاختلاف إجماعا
صحيحا.
قال أبو بكر: والدليل على صحة هذه المقالة: أن سائر ما قدمناه من الآي الموجبة
لحجة الإجماع يوجب صحة الإجماع الحادث بعد الاختلاف، وذلك أن قوله تعالى:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيدا) (1) وقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر) (2) وقوله تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) (3) وقوله تعالى: (واتبع سبيل من
أناب إلي) (4) من حيث دلت هذه الآيات على صحة الإجماع ولزوم حجته إذا لم يتقدمه
خلاف فهي دالة على (صحته ولزوم) (5) حجته، وإن تقدمه اختلاف، إذ لم يفرق بين شئ
من ذلك.
وأيضا: فلو جاز إجماع أهل عصر على قول يجوز الشك في تصويبه والوقوف على
اتباعه، لبطل وقوع العلم: بأنه لا بد في كل عصر من (شهداء الله) (6) تعالى، متمسكين
بالحق غير مبطلين ولا ضالين، وهذا يوجب بطلان القول بصحة الإجماع.
فإن قال قائل: لما اختلفوا وسوغوا الاجتهاد فيه، صار ذلك إجماعا منهم على جواز
الاختلاف، وتسويغ الاجتهاد فيه، فقد صار ما أجمعوا عليه من تجويز ذلك - حكما لله
تعالى، وما ثبت به حكم الله تعالى في وقت، فهو ثابت أبدا حتى يثبت نسخه، والنسخ
معدوم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
قيل له: تسويغهم الاجتهاد فيه معقود ببقاء الخلاف وعدم الإجماع، وذلك لأنا قد
علمنا: أنهم قد كانوا يعتقدون حجة الإجماع، فعلمنا بذلك: أن تسويغهم الاجتهاد فيه
مضمن بهذه الشرطية.

341
ألا ترى: أنهم لو اختلفوا، ثم أجمعوا (1) على قول كان إجماعهم قاطعا لاختلافهم
بدأ، وكان بمنزلة ما لم يتقدمه اختلاف، وكثير من الإجماعات إنما حصلت على هذا الوجه،
ألا ترى: أنهم قد كانوا (2) اختلفوا بعد وفاة النبي عليه السلام في أمر الإمامة، فقالت
الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير) (3)، ثم أجمعوا على بيعه أبي بكر الصديق رضي الله عنه،
فانحسم ذلك الخلاف، وصح الإجماع، وكذلك اختلفوا في قتال أهل الردة، ثم أجمعوا
على قتالهم، فكان (4) إجماعهم بعد الاختلاف قاطعا للخلاف السابق له.
وكذلك اختلفوا في وجوب قسمة السواد، ثم أجمعوا على ترك قسمته، فكان إجماعا
صحيحا، لم يكن لأحد بعدهم مخالفته.
قال أبو بكر: وهذا الذي ذكرنا: إنما يلزم من يقول: إن إجماعهم بعد الاختلاف
يقطع الاختلاف، لأنه زعم (5) أن الإجماع إنما يثبت حكمه بانقراض أهل العصر، فأما من
لا يعتبر انقراض أهل العصر في صحة وقوع الإجماع، فإنه يأبى أيضا أن يجعل إجماعهم بعد
اختلافهم إجماعا صحيحا يلزم حجته، للعلة التي ذكرناها عنهم من انعقاد إجماعهم على
تسويغ الاجتهاد فيه، فلا ينعقد (6) هذا الإجماع عندهم باتفاقهم على قول واحد من تلك
الأقاويل، وقد قلنا: إن انعقاد إجماعهم على تسويغ الاجتهاد وجواز الاختلاف مضمن
بعدم الإجماع، وهو كما تقول في المجتهد: إنه مأمور بإمضاء ما يؤديه إليه اجتهاده (بعد
ذلك)، (7) وكان ما لزمه من ذلك مضمنا ببقاء الاجتهاد الأول، فإن أداه اجتهاده بعد ذلك
إلى قول آخر، حرم عليه الحكم بالقول الأول،، فكانت صحة القول الأول ولزوم حكمه
موقوفا على بقاء الاجتهاد المؤدي إلى القول به، وكذلك نقول: إن تسويغ الاجتهاد في
المسألة التي اختلفوا فيها موقوف على عدم وقوع الإجماع على بعض تلك الأقاويل، فمتى

342
حصل الإجماع على قول منها زال الخلاف، وثبتت حجة الإجماع.
ثم ليس يخلو القائل بخلاف ما ذكرنا من أحد معنيين: إما أن يحيل وجود إجماع بعد
اختلاف كان في العصر المتقدم، ويمنع كونه، أو يجيز وقوعه، إلا أنه (لا) (1) تثبت حجته،
ولا يرفع (2) الخلاف المتقدم به، فإن أحال وجود إجماع بعد اختلاف كان في عصر متقدم، فإنا
نوجده، ذلك بحيث (3) لا يمكنه دفعه، وإن (4) كان يجيز وجوده، إلا أنه لا يثبت حجته،
فإن هذا يوجب عليه نفي صحة إجماع أهل الأعصار، وقد ثبت عندنا صحة القول بإجماع
أهل الأعصار، وما كان حجة لله تعالى لم (5) يختلف حكمه باختلاف (6) الأزمان والأعصار
ولو جاز على الأمة الإجماع على الخطأ في عصر، لجاز اجتماعها على الخطأ في سائر الأزمان.
وهذا شئ قد علمت بطلانه.
ألا ترى: أن الكتاب والسنة لما كانا حجة لله تعالى على الأمة، لم يختلف حكمهما في
ثبوت حجتهما في سائر الأوقات، وكذلك سائر حجج الله تعالى ودلائله، إلا فيما يجوز
(نسخه) (7) وتبديله. والإجماع مما (8) لا يجوز وقوع النسخ فيه، لأنا (9) إنما نعتبره (10) بعد وفاة
النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز النسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: ما أنكرت أن يكون إجماع أهل العصر الثاني بعد الاختلاف الذي
كان بين أهل العصر المتقدم صوابا، ويسوغ الخلاف عليه بأحد أقاويل المختلفين الذين

343
سبقوهم به، كما نقول في سائر الاجتهاد: إن كل واحد من المختلفين جائز له القول بما صار
إليه من المذهب الذي أداه إليه اجتهاده.
قيل له: ولو ساغ هذا لبطلت حجة الإجماع رأسا، لأن كل إجماع يحصل على قول
يجوز لأهل العصر الثاني خلافه، ويكون كله جائزا، ولا يقدم في صحة الإجماع، لأنه
صواب كما قلت في المجتهدين إذا اختلفوا، وهذا يوجب بطلان حجة الإجماع.
قال أبو بكر: فأما ما وعدنا إيجاده (1) من حصول إجماعات في الأمة بعد اختلاف شائع
في عصر متقدم. فإنه أكثر من أن يحصى، ولكنا نذكر منه طرفا نبين به فساد قول من أبى
وجوده، فمن ذلك: قول عمر في المرأة تزوج في عدتها: (إن مهرها (يجعل) (2) في بيت
المال)، وتابعه على ذلك سليمان بن يسار. (3) وقال علي: المهر لها، بما استحل من فرجها،
فهذا قد كان خلافا مشهورا في السلف، وقد أجمعت الأمة بعدهم: على أن المهر إذا وجب
فهو لها، لا يجعل في بيت المال.
ومنه: قول (ابن) (4) عمر، والحسن، وشريح، وسعيد بن المسيب، وطاووس، في
جارية بين رجلين وطئها أحدهما: أنه لا حد عليه، وقال مكحول (5) والزهري: عليه الحد.
وقد أجمعت الأمة بعد هذا الاختلاف، أنه لاحد عليه. واختلفت الصحابة في عدة المتوفى
عنها زوجها.
فقال عمر، وابن مسعود في آخرين: (أجلها أن تضع حملها). وقال علي، وابن
عباس: (عدتها أبعد الأجلين، وكان هذا الخلاف منتشرا ظاهرا في الصدر الأول حاج فيه

344
بعضهم بعضا، وفيه قال ابن مسعود: (من شاء باهلته: أن قول الله تعالى: (وأولات
الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن): (1) نزل بعد قوله: (أربعة أشهر وعشرا). (2) وقد اتفق
فقهاء الأمصار بعدهم: أن عدتها أن تضع حملها، وقال عمر، وابن مسعود، وابن عباس،
وعمران بن حصين، ومسروق، وطاووس: أمهات النساء مبهمة (3) يحرمن بالعقد.
وقال علي، وجابر بن عبد الله، (ومجاهد): (4) هن كالربائب، لا يحرمن إلا بالوطء،
وقال زيد بن ثابت: إن طلقها قبل الدخول بها تزوج بأمها، وإن ماتت عنده لم يتزوج الأم،
وهذا أيضا كان من الخلاف المشهور في السلف، واتفق الفقهاء بعدهم: على أنهن يحرمن
بالعقد، وقال علي، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد (5)، وشريح: بيع الأمة لا يفسد
نكاحها، وقال (ابن) (6) مسعود، وابن عباس، وعمران بن حصين، وأبي بن كعب، وابن
عمر، وأنس، وجابر، وسعيد بن المسيب، والحسن: (7) بيع الأمة طلاقها. واتفق فقهاء
الأمصار بعدهم: على أن بيع الأمة لا يفسد نكاحها. ونظائر ذلك كثيرة، تفوق الإحصاء،
ويطول (8) الكتاب بذكرها، وإذا كنا قد وجدنا أهل الأعصار من الفقهاء بعدهم قد اتفقوا
على أحد الأقاويل التي قالوا بها، فلو جاز مخالفتهم بعد إجماعهم (لخرج إجماعهم) (9) من أن
يكون حجة لله تعالى لا يسع خلافه، ولا نأمن مع ذلك أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك
خطأ، وأن الصواب في أحد الأقاويل التي لم يجمعوا عليها، مما كان السلف اختلفوا
فيها. (10)
فإن قال القائل على ما قدمنا: لو جاز أن يقال فيما اختلف (11) فيه السلف وسوغوا فيه

345
الاجتهاد، وأنهم سوغوا (1) ما لم يحصل إجماع، لجاز أن يقال فيما أجمعوا عليه: إنما يكون حجة
ما لم يحصل خلاف، فإذا وقع بعدهم خلاف لم يكن إجماعا.
قيل له: لا يجب ذلك، لأن الإجماع حيثما وجد فهو حجة لله تعالى: كالكتاب
والسنة، ولا (2) جائز أن يقال فيه: إنه حجة ما لم يكن بعده خلاف.
وأما تسويغ الاجتهاد في المسألة فجائز أن يكون مضمنا بالشريطة التي ذكرنا، فيقال:
إن الاجتهاد سائغ، ما لم يوجد نص، أو إجماع فإذا وجد نص أو إجماع سقط جواز الاجتهاد.
ألا ترى: أن عمر (3) كان يسوغ الاجتهاد في أمر الجنين، حتى لما أخبره حمل بن مالك بنص
السنة. قال: (كدنا أن نقضي في مثل ذلك برأينا، وفيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). وكذلك
كل مجتهد، فإنما جواز اجتهاده عند نفسه مضمن بعدم (4) النص والإجماع، فإن اجتهد ثم
وجد نصا أو إجماعا بخلافه ترك اجتهاده وصار إلى موجب النص والإجماع، فكذلك
اجتهاد الصحابة في حكم الحادثة، وتسويغهم الخلاف فيه، معقود بهذه الشريطة: وهو أن
(لا) (5) يحصل بعده إجماع والله أعلم. (6)

346
الباب الخامس والسبعون
في
وقوع الاتفاق على التسوية بين شيئين في الحكم

347
باب
في وقوع الاتفاق (على التسوية) (1)
بين شيئين في الحكم
قال أصحابنا: إذا (أجمع) (2) أهل عصر على التسوية بين حكم شيئين، فليس لأحد
أن يخالف بين حكمهما من ذلك الوجه.
وقد ذكره عيسى فقال: أجمع الناس على أن حكم العمة والخالة واحد في وجوب
توريثهما، أو حرمانهما، وأنه لا فرق بينهما من هذا الوجه. وكذلك الخال والخالة، فمن ورث
الخال ورث الخالة، وكذلك من ورث العمة ورث الخالة، ومن لم يورث أحدهما وجعل
الميراث لبيت المال، لم يورث الآخر.
والدليل عل صحة هذا القول: وقوع الاتفاق من الجميع على تساويهما في هذا
الوجه، فمن فرق بينهما فقد خالف إجماع الجميع، ولو ساغ هذا لساغ الخروج عن
اختلافهم جميعا.
فإن قال قائل: إنما لم يجز الخروج عن اختلافهم لإجماعهم: على أن لا قول في
المسألة إلا ما قالوا، فلم يكن لأحد إحداث مذهب غير مذاهبهم.
قيل له: فإنما صح ذلك من حيث صح القول بلزوم إجماعهم، وأن الحق لا يخرج
عنهم ولا يعدوهم، فواجب أن يقول مثله في مسألتنا لهذه العلة بعينها، لحصول إجماعهم
على التسوية، (3) فلا يجوز خلافهم.

349
فإن قال: إنما سووا بينهم لدلالة (1) أوجبت ذلك عندهم، فتحتاج أن نطلب الدليل
(في إيجاب التسوية أو جواز التفريق.
قيل له: فقل مثله في كل إجماع وقع منهم، إنه إنما يصح لدلالة أوجبت ذلك فتحتاج
أن تنظر في الدليل) (2) فإن صح ثبت الإجماع، وإلا لم يثبت، وتجويز ذلك يؤدي إلى بطلان
حجة الإجماع.

350
الباب السادس والسبعون
في
القول في اعتبار الإجماع في موضع الخلاف

351
باب
القول في اعتبار الإجماع في موضع الخلاف
إذا حصل الاتفاق على حكم شئ ثم حدث معنى في ذلك الشئ فاختلفوا عند
حدوثه، فإن من الناس من يحتج بعد حدوث الخلاف بالإجماع المتقدم قبل حدوث المعنى. (1)
وذلك: نحو احتجاج من يحتج في الماء إذا حلته نجاسة لم تغير طعمه ولونه ولا رائحته: أنه
طاهر، لإجماعنا (2) على طهارته قبل حدوث النجاسة فيه، (فنحن) (3) على ذلك الإجماع
حتى يزيلنا عنه دليل، وكمن يجيز للمتيمم إذا رأي الماء في الصلاة المضي فيها.
ويحتج: أنا قد أجمعنا على صحة دخوله في الصلاة، فنحن على ذلك الإجماع في بقاء
صلاته، حتى يقوم الدليل على غيره، وكمن احتج بجواز بيع أم الولد باتفاق الجميع على
جواز بيعها قبل الاستيلاد، فنحن على ذلك الإجماع، حتى يقوم الدليل على امتناع جواز
بيعها. ونظائر ذلك من المسائل.
قال أبو بكر: وهذا (عندنا) (4) مذهب ساقط، متروك، لا يرجع القائل به إلى
تحصيل دلالته متى حققت عليه (5) مقالته، ذلك: (أنه) (6) لا يخلو: من أن يكون الإجماع
المتقدم قبل حدوث المعنى الذي من أجله وقع الخلاف، إنما وجب اتباعه ولزومه لأجل وقوع

353
الاتفاق، أو لدليل غيره، (1) فإن كان الحكم إنما ثبت قبل حدوث المعنى الذي كان الخلاف
من أجله للإجماع الواقع عليه ولا إجماع فيه بعد حدوث المعنى، فمن أين أثبته؟
وقوله: ونحن على ما كنا عليه من الإجماع خطأ، لأن ذلك الإجماع غير موجود.
فيقال فيه: نحن على ما كنا عليه، لأن الذي كنا عليه قد زال، فإن بنيت (2) موضع
الخلاف على الإجماع المنصوص، فأرنا وجه بنائه، مقرونا بدلالة توجب صحته.
فإن قال: إنما حكمت بدءا في حال ما وقع الإجماع، بدلالة غير الإجماع، وهي موجودة
في موضع الخلاف.
قيل له: فأظهر تلك الدلالة حتى تنورها، فإن كانت موجبة له بعد وقوع الخلاف
كإيجابها له (قبله) (3) حكمنا له (بحكمه)، (4) وإلا فقد أخليت قولك من دليل يعضده،
وحصلت فيه على دعوى مجردة.
وعلى أن أكثر المسائل من هذا الضرب يمكن عكسها على القائل بها في الوجه الذي
يحتج به، فيلزمه بها ضد موجب حكمها الذي رام إثباته. فلا يمكنه الانفصال منها. نحو
قوله في الماء بعد حلول النجاسة (فيه) (5): إنه على أصل طهارته، لإجماعنا على أنه كان طاهرا
قبل حلولها فيه، فنحن على ذلك الإجماع، حتى ينقلنا عنه دليل، فنقلب عليه، هذا في
المحدث إذا توضأ بهذا الماء، أنه قد أجمعنا قبل طهارته بهذا أنه غير جائز له الدخول في
الصلاة إلا بطهارة صحيحة، واختلفنا بعد استعماله له، هل صح له الدخول في الصلاة أم
لا؟ فنحن على ما كنا عليه من الإجماع في بقاء الحدث وامتناع دخوله في الصلاة، حتى تقوم
الدلالة على زوال حدثه.
وكذلك المتيمم إذا رأى الماء في الصلاة، فقد اتفقنا: (على) (6) أن فرضه لم يسقط
بالدخول في الصلاة، واختلفنا إذا بنى عليها بعد وجود الماء، فنحن على ما كنا عليه في (7)

354
بقاء الفرض عليه حتى ينقلنا عنه دليل. فكذلك يقال لمن أجاز بيع أم الولد بالإجماع المتقدم
في جواز بيعها قبل الاستيلاء: إنا قد أجمعنا أنها في حال الحمل لا يجوز بيعها، فلا نزول عن
ذلك الإجماع بعد الولادة، حتى ينقلنا عنه دليل، وهذا أيضا قول من يقول: إن النافي ليس
عليه دليل، فنقول له: فأقم الدليل على صحة اعتقادك للنفي، لأن اعتقادك لنفي
الحكم: هو إثبات حكم. فمن أين ثبت هذا الاعتقاد؟ فإنك لا تأبى من إيجاب (1)
(الدليل) (2) على المثبت. وأنت مثبت للحكم من الوجه الذي ذكرنا، كذلك نقول للقائل:
بأنا على الإجماع الأول: إنك قد أثبت حكما لغير الإجماع بعد وقوع الخلاف، فهلم الدلالة
عليه، إلى أن نرجع إلى قول من يقول: لا دليل على النافي فيلزمك ما ألزمناه، وما سنبينه
فيما بعد: من فساد قول القائلين بهذه المقالة.
فإن قال قائل: لما كانت الحال الأولى يقينا، لم يجز لنا بعد حدوث الحادثة: أن نزول
عنها بالشك، لأن الشك لا يزيل اليقين (فوجب البقاء على الحال الأولى.
قيل له: اليقين غير موجود بعد وجود الشك) (3) فقولك لا يزول اليقين بالشك خطأ،
وعلى أن الله قد حكم في مواضع كثيرة بزوال حكم قد علمناه يقينا بغير يقين، قال الله
تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) (4) وقد كان كفرهن يقينا،
فأزاله ظهور الإسلام منهن من غير حصول اليقين بزواله، لأن إظهارهن الإيمان ليس بيقين
أنهن كذلك في الحقيقة.
وقد قال تعالى في قصة المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: (وآخرون
اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا) (5) إلى آخر الآية، فحكم بقبول (6) توبتهم، وإزالة
حكم الذنب الذي قد تيقن وجوده منهم من غير يقين منا بحقيقتها، إلا ما أظهروا من
التوبة، ثم قال تعالى: في قوم آخرين: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا

355
عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس) (1) فأمرنا بالإعراض (2) عنهم من غير قبول لتوبتهم، وقال
تعالى في قوم آخرين: (وعلى الثلاثة الذين (خلفوا) (3) فوقف (4) أمرهم مع إظهارهم
التوبة، فحكم في هؤلاء بثلاثة أحكام:
قبول التوبة من فريق منهم على الظاهر.
ومنع قبول توبة آخرين.
ووقف أمر فريق آخر، فلم يأمر بأن يحملوا على الأصل الذي كان يقينا، وأمر بقبول
شهادة الشهود: على الحقوق، والقتل، والزنا، وغيرهما. مما يوجب استحقاق الدم،
والمال، وشهادة الشهود، ولا توجب علم اليقين، وأن المشهود عليه غير مستحق عليه
القتل، والمال كان يقينا، فأزال ذلك اليقين بما ليس بيقين.
ولا خلاف بين المسلمين: أن رجلا لو قال لامرأته: أنت علي حرام، أنه غير جائز له
البقاء على ما كان عليه من استباحتها، وترك مسألة الفقهاء عما بلى به من النازلة.
فإن احتج القائل بذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشاك في الحدث: أنه يبنى على
اليقين طهارته التي كانت، ولا يزول عنها بالشك، وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه أمر الشاك
في صلاته بالبناء على اليقين) (5)، (6) باتفاق الفقهاء: على أن الشاك في طلاق امرأته
لا يلزمه شئ، فكانت المرأة زوجته على ما كانت، وكذلك ما ذكرنا: من وجوب البناء على
الحال الأولى التي قد ثبتت قبل حدوث المعنى الموجب للخلاف، وبقاء حكمها حتى يقوم
الدليل على زواله.
قيل له: ليس هذا من ذاك في شئ، لأن أحكام الحوادث عليها دليل قائمة، فوجب
عند حدوث الخلاف طلب الدليل على الحكم، فإن وجدنا على موضع الخلاف دليلا من

356
الإجماع الذي كنا عليه ووجوب مساواته له بنيناه (1) عليه، وإلا اعتبرناه بغيره من الأصول،
فحكمنا بما يوجبه كسائر الحوادث المختلف فيها، وأما الشاك في الصلاة والحدث،
والشاك في طلاق امرأته، فليس على ما شككنا فيه من ذلك دليل من أصل يرجع إليه، ويرد
عليه، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم (فيه) (2) من ذلك بإلغاء الشك والبناء على اليقين، واتبعناه، ولم يجز
لنا رد ما وصفنا من أحكام الحوادث إليه.
ونظير هذا من الأحكام: ما نقوله في المقادير التي لا سبيل إلى إثباتها من طريق
المقاييس، وإنما طريقها التوقيف والاتفاق، فمتى عدمنا التوقيف وقفنا عند الإجماع، وألغينا
المختلف فيه، إذ لا سبيل إلى اعتبار مقداره بمقادير غيرها في الأصول، من جهة النظر
والاستدلال، وذلك نحو ما نقوله في مدة أقل الحيض وأكثره، وفي مقدار السفر والإقامة،
وما جرى مجرى ذلك: إنه يجوز الوقوف عند الاتفاق، وإلغاء الخلاف وتبقيته (3) على
الأصل، إذ لا سبيل إلى إثباته من طريق القياس والاجتهاد، وإنما: طريقه التوقيف، أو
الإيقاف، وقد عدمناهما في موضع الخلاف.

357
الباب السابع والسبعون
في
القول في تقليد الصحابي إذا لم يعلم خلافه

359
باب
القول في تقليد الصحابي إذا لم يعلم خلافه
قال أبو بكر: كان أبو الحسن يقول: كثيرا مما أرى لأبي يوسف في إضعاف مسألة
يقول: القياس كذا، إلا أني تركته للأثر، وذلك الأثر قول صحابي لا يعرف عن غيره من
نظرائه خلافه.
قال أبو الحسن: فهذا يدل من قوله دلالة بينة على أنه (كان) (1) يرى (أن) (2) تقليد
الصحابي إذا لم يعلم خلافه من أهل عصره أولى من القياس. (3)
قال أبو الحسن: أما أنا فلا يعجبني هذا المذهب.
قال أبو الحسن: وأما أبو حنيفة فلا يحفظ عنه ذلك، إنما الذي يحفظ عنه: أنه قال: إذا
اجتمعت الصحابة على شئ سلمناه لهم، وإذا اجتمع التابعون زاحمناهم.
قال أبو بكر: وقد يوجد نحو ما ذكره عن أبي يوسف في كتب الأصول أيضا.
وقد قال أصحابنا: (إن القياس) (4) فيمن أغمي عليه وقت صلاة: أن لا قضاء
عليه، إلا أنهم تركوا القياس لما روى (عن عمار: أنه أغمي عليه يوما وليلة فقضى)، (5)
فتركوا القياس لفعل عمار، وكان أبو عمر الطبري (6) يحكى عن أبي سعيد البردعي: أن قول

361
الصحابي حجة، يترك له القياس، إذا لم يعلم عن أحد من نظرائه خلافه، قال: وكان
يحتج فيه بأن قياس الصحابي أرجح من قياسنا وأقوى، لعلمهم بأحوال المنصوصات
بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان بمنزلة خبر الواحد عن النبي عليه السلام في كونه مقدما على
القياس مع عدم العلم بوقوع مخبره.
كذلك اجتهاد الصحابي لما كان أقوى من اجتهادنا - وجب أن يكون مقدما على
رأينا.
قال: وأيضا فإنه جايز أن يكون قاله نصا وتوقيفا، وجايز أن يقوله اجتهادا، فصار له
هذه المزية في لزوم تقليده، وترك قولنا (1) لقوله.
قال أبو بكر: وقد قال أبو حنيفة: إن من كان من أهل الاجتهاد فله تقليد غيره من
العلماء، وترك رأيه (2) لقوله، وإن شاء أمضى اجتهاد نفسه (وروى داود بن رشيد (3)، عن
محمد مثل قول أبي حنيفة، (4)، (5) وقال محمد: ليس لمن كان من أهل الاجتهاد تقليد
غيره، وكان أبو الحسن يقول: إن قول أبي يوسف في ذلك كقول محمد، وكان يحتج لمذهب
أبي حنيفة في هذه المسألة: بأن هذا عنده ضرب من الاجتهاد، لأنه جائز (6) عنده أن من
يقلده (7) أعلم وأعرف بوجوه القياس وطرق الاجتهاد منه، فيكون تقليده إياه ضربا من
الاجتهاد، يوجب أن يكون اجتهاد من قلده أقوى وأوثق في نفسه من اجتهاده.
قال أبو بكر: وهذا يقوي ما حكيناه: من حجاج أبي سعيد في تقليد الصحابي،
ويكون لتقديم قياس الصحابي واجتهاده على اجتهادنا فضل مزية بمشاهدته للرسول صلى الله عليه وسلم،
ومعرفته (8) بأحوال النصوص، وما نزلت فيه، وعلمه بتصاريف الكلام، ووجوه الخطاب،

362
التي لا يبلغها (1) علمنا ومعرفتنا، فيكون قياسه أولى من قياسنا.
ومما (2) يحتج به أيضا: بهذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم (اقتدوا بالذين من بعدي) قد اقتضى
ظاهر لزوم تقليدهما، إذا اتفقا على قول، إلا أنه قد قامت الدلالة: على أنهما إذا خالفهما
غيرهما من الصحابة لم يلزم تقليدهما فخصصناه (3) من اللفظ، (4)، وبقى حكمه في لزوم
تقليدهما (5) إذا أجمعا على قول لم يخالفهما فيه أحد (6) من نظرائهما، وإذا لزم تقليدهما عند
اجتماعهما - لزم تقليد أحدهما، وأحد الصحابة إذا لم يعلم عن غيره خلافه، لأن أحدا لم
يفرق بينهما.
ويدل أيضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)، فظاهره
يقتضى جواز الاقتداء بالواحد منهم، وأن الاقتداء به هدى، وإذا كان قوله محكوما له (7)
بالهدى لم يجز العدول عنه إلى غيره.
وكان أبو الحسن يحتج في أن قول الصحابي ليس بحجة فيما يسوغ فيه الاجتهاد، (8)
وللقياس مدخل في إثباته: أنه لو كان حجة، لما جاز لغيره من أهل عصره مخالفته، كما أن
الكتاب والسنة لما كانا حجة يلزم اتباعهما لم يجز لأحد مخالفتهما.
فقيل له: بأن (9) إجماعهم حجة، ومع ذلك فجائز للواحد منهم مخالفة الجماعة مع
كون إجماعهم حجة علينا. فما أنكرت أن لا يكون قول بعضهم على بعض حجة، ويكون
قول الواحد منهم حجة علينا يلزمنا اتباعه إذا لم يخالفه غيره، فأجاب بأن خلاف الواحد
منهم للجماعة يمنع انعقاد الإجماع.
قال: ونظير ما قلنا: أن يجمعوا على شئ ثم يشذ عنهم واحد منهم، فيخالفهم بعد

363
موافقته إياهم، فلا يعتد بخلافه، لأن الإجماع قد انعقد، وثبتت حجته فلا ينقضه خلاف
من خالفهم بعد موافقته لهم. فأما إذا لم يحصل إجماع من جميعهم، فلم يثبت هناك حجة من
جهة الإجماع، فلذلك جاز لواحد منهم مخالفته.
قال: ووجه آخر: وهو أن الصحابي لم يكن يدعو الناس إلى تقليده واتباع قوله: (ألا
ترى: أن عمر بن الخطاب سئل عن مسألة فأجاب فيها، فقال له رجل: أصبت الحق، أو
كلاما نحوه، فقال عمر: والله ما يدري عمر أصاب أو أخطأ، ولكن لم آل عن الحق) (1) وقال
زيد بن ثابت، في قضية قضى بها (في الجد): (2) ليس رأيي حق على المسلمين، في نحو
ذلك من الروايات عنهم، في نفي لزوم تقليدهم، فإذا لم ير هؤلاء وجوب تقليدهم على
الناس فكيف يجوز لنا أن نقلدهم!!
قال أبو بكر: وهذا يحتمل: أن يكون الصحابة إنما منعت وجوب تقليدهم لأهل
عصرهم من العلماء، أو أن تكون مسألة خلاف بينهم فأخبروا: أنهم لا يلزم أحد أن يقلد
بعضهم دون بعض فيها، وأنه يجب على من بعدهم النظر والاجتهاد في طلب الحكم
دون التقليد.
وكان أبو الحسن يرى قبول قول الصحابي، (لازما) (3) في المقادير التي لا سبيل إلى
إثباتها من طريق المقاييس والاجتهاد. ويعزى ذلك إلى أصحابنا، ويذكر مسائل قالوا فيها
بتقليد الصحابي ولزوم قبول قوله، نحو ما روي عن علي عليه السلام: لا مهر أقل من
عشرة دراهم (4)، وما روى عنه (إذا قعد الرجل في آخر صلاته مقدار التشهد فقد تمت
صلاته) (5) ونحو ما روي عن أنس في أقل الحيض: أنه ثلاثة، وأن أكثره عشرة، (6) (وما روى
عن عثمان بن أبي العاص وغيره (في أن أكثر النفاس أربعون يوما، (7) وما روى عن عائشة

364
رضي الله عنها: أن الولد لا يبقى في بطن أمه بعد سنتين بمقدار فلكة (1) مغزل). (2)
قال أبو الحسن: فلما لم يكن لنا سبيل لإثبات هذه المقادير من طريق الاجتهاد
والمقاييس وكان طريقه التوقيف أو الاتفاق، ثم وجدنا الصحابي قد قطع بذلك وأثبته، دل
ذلك من أمره: على أنه قاله توقيفا، لأنه لا يجوز أن يظن بهم أنهم قالوه تخمينا (3) وتظننا،
فصار ما كان هذا وصفه من المقادير إنما يلزم قبول قول الصحابي الواحد فيه، ويجب اتباعه
من حيث كان توقيفا.
قال: والدليل على أنه لا سبيل لنا إلى (4) إثبات هذا الضرب من المقادير من طريق
المقاييس والرأي وأن (5) طريقة التوقيف: أن هذه المقادير حق لله تعالى، ليس (6) على جهة
إيجاب الفصل (بين) (7) قليل وكثير، وصغير وكبير، فيكون موكولا إلى الاجتهاد والرأي،
وإنما هي حق لله تعالى مبتدأ، كمقادير أعداد ركعات الصلوات، الظهر والعصر، وسائر
الصلوات، ومقادير أيام الصوم الواجب، ومقدار الجلد في الحد، لا سبيل إلى إثبات شئ
من ذلك من طريق الاجتهاد والمقاييس لو لم يرد به توقيف، كذلك ما قدمنا ذكره من هذه
المقادير هو بهذه (8) المنزلة.
فإن قال قائل: قد تثبتون أنتم مقادير من طريق الاجتهاد، وإن تعلق بها حقوق لله
تعالى. فقد قال أبو حنيفة في حد البلوغ: ثماني عشرة سنة (9) من غير توقيف، وقال في الغلام

365
إذا لم يكن رشيدا: لا يدفع إليه ما له حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، (1) وقال أبو يوسف
ومحمد: للرجل أن ينفي ولده ما لم تمض أربعون يوما، (2) ولا توقيف لهم في إثبات (شئ
من) (3) هذه المقادير، ولا اتفاق، فأثبتوها من طريق الرأي والاجتهاد.
وإذا كان الرأي والاجتهاد يدخل في إثبات شئ من المقادير، لم يمتنع أن تكون
الصحابة قالت بالمقادير التي ذكرت عنها من طريق الرأي. فلا يثبت به توقيف.
قيل: ليس هذا مما ذكرنا في شئ، لأنا إنما قلنا ذلك في المقادير التي هي حقوق لله
تعالى، لا على جهة إيجاب الفصل بين القليل الذي قد علم، وبين الكثير الذي قد
عرف، أو بين الصغير والكبير على هذا الحد، فوكل حكم الواسطة التي بينهما إلى آرائنا وما
يؤدينا إليه اجتهادنا، وليس هذا من المقادير التي ذكرنا.
ألا ترى: أن القياس والاجتهاد لا يوجبان حد الزنا (مائة جلدة)، (4) ولا حد القذف
ثمانين، ولا يدلان على مقادير أعداد ركعات الصلوات على اختلافها، ولا على مقادير أيام
الصوم وما جرى مجراها، لأنها كلها حقوق لله تعالى مبتدأة. كذلك ما وصفنا من المقادير التي
حكينا عن الصحابة هو بهذه المنزلة.

366
الباب الثامن والسبعون
في
القول في وجوب النظر وذم التقليد

367
باب
القول في وجوب النظر وذم التقليد
اختلف الناس في وجوب النظر وإثبات حجج العقول.
فقال أهل العلم: النظر واجب، وحجج العقول صحيحة ثابتة، تعرف بها صحة
المذاهب من فاسدها. (1)
وقال قوم من أهل الجهل والغباوة: لا مدخل للعقل في تصحيح شئ ولا إفساده،
وإنما تعرف صحة المذاهب وفسادها من طريق الخبر، ومشهور عن داود الأصفهاني: (2) أنه
كان يقول: بل (3) على العقول. (4) وموجود في كتبه: أن حجة العقول لا يثبت بها شئ.
قال أبو بكر: والقائلون بنفي حجج العقول إنما ينفونها بالقول، (5) فأما استعمال (6)
العقول في إثبات كثير من الأشياء أو في نفيها والحجاج لها من جهة العقل فإنهم لا يخلون
منه، لأن ذلك صورته، (7) في عقول سائر العقلاء، إلا أن من العلوم العقلية، (8) ما هو ظاهر
جلي، ومنها ما هو غامض خفي.
فالجلي منه: لا يمكن لأحد الشك فيه، ولا إيراد (9) شبهة على نفسه في نفيه.

369
والخفي منها: قد يعرض فيه شبهة يتبعها الناظر، فيذهب عن وجه الصواب، وأكثر
ما يعرض هذا لمن نظر في الفروغ قبل إحكام الأصول، أو لا ينظر في شئ من وجه النظر.
ألا ترى: أن أحدا لا يعتر يه الشك ولا تعرض له شبهة: في أن القولين المتضادين لا
يخلوان من أن يكونا فاسدين، أو يكون أحدهما صحيحا والآخر فاسدا، لأنه (1) لا يصح له
الاعتقاد لصحتهما جميعا، كنحو قول القائل: زيد في الدار (في هذه الساعة). (2) وقال آخر:
ليس هو في هذه الدار (في هذه الساعة) (3) إنهما جميعا لا يجوز أن يكونا صادقين، وجائز أن
يكونا كاذبين، وجائز أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا، وهذا التقسيم وما يجوز فيه مما
لا يجوز طريقه العقل.
وسائر العقلاء لا يشتركون في العلم بأن حكم هذا الخبر واقع في أحد هذه
الأوصاف، ومن نفى هذا فهو كنافي علوم الحس والمشاهدات.
وقد يكون في المحسوسات ما يدق ويلطف، فيحتاج في صحة وقوع العلم إلى ضرب
من التأمل، كالشخص إذا رأيناه من بعيد، وكالهلال إذا طلبناه، فربما اشتبه، وربما كان
إدراكه بعد التأمل والتحديق الشديد، وكذلك علوم العقل: فيها جلى، وفيها خفي.
ويبين (4) بما ذكرنا أيضا: أن العلم يفرق ما بين البهيمة وبين الإنسان العاقل المميز،
كالعلم بوجود الأشياء المحسوسات، وكالعلم بفرق ما بين الحيوان والجمادات.
ولو لم يكن للعقل حظ في التمييز بين هذه الأشياء التي (5) سبيل إدراكها العقل (لكان
الإنسان والبهيمة) (6) بمثابة واحدة، فكأن الإنسان لا يعلم إلا ما تعلمه البهيمة إذا كانت
علومه مقصورة على ما تؤديه إليه حواسه.
وتبين: أن استعمال حجج العقول ضرورة (7) إذ كل (8) من نفاها فإنما ينفيها بحجج

370
العقول، وبالنظر والاستدلال، ويحتج لصحة التقليد بالعقول، ولا يصح له الاحتجاج
للتقليد بالتقليد نفسه، إذ لا يجوز أن تكون المسألة حجة لنفسها، فإنما يفزع إلى معنى غير
التقليد، فيقول: إن (النظر بدعة، وإنه يدعو إلى الحيرة، وإلى الاختلاف والتباين) (1) ونحو
ذلك من النظر، وإن كان فاسدا، فقد علمنا: أن المقلد والنافي للنظر إنما يثبته من حيث
ينفيه، كما أن النافي لعلوم الحس إنما يروم نفيها بحجاج ونظر هو دون علوم الحس في منزلة
الثبات والوضوح، فيقول: إنما أبطلت علم الحس، لأن الإنسان قد يرى في اليوم ما (لا) (2)
يشك في حقيقته وصحته، كرؤيته لما يراه في اليقظة، ثم لا يجد بعد الانتباه له حقيقة، وكما
يرى الإنسان السراب، فلا يشك في أنه ماء، ثم إذا جاءه لم يجده شيئا، وكالمريض (3) يجد
العسل مرا، فلم آمن أن يكون كذلك حكم سائر المحسوسات، فيروم إبطال (علوم) (4)
الحس بالنظر والاستدلال. كذلك المقلد: إنما يفزع في إثبات التقليد وإبطال النظر، إلى
النظر والحجاج، فيناقض في مذهبه، ويهدم مقالته بحجاجه.
ويقال للقائل بالتقليد والنافي لحجج العقول: أثبت القول بالتقليد بحجة، فإن قال
بغير حجة، فقد حكم على مذهبه بالفساد، لاعترافه بأنه لا حجة له في إثباته.
وأما قول أبي حنيفة رضي الله عنه: (حد البلوغ) فإنا قد علمنا: أن ابن عشر سنين
لا يكون بالغا، وقد علمنا: أن ابن عشرين سنة يكون بالغا، فهذان الطرفان قد علمنا
حكمهما يقينا، ووكل حكم ما بينهما في إثبات حد البلوغ إلى اجتهادنا، إذا لم يرد فيه
توقيف، ولا يثبت به إجماع، فأوجب عنده اجتهاده: أن يكون حد البلوغ ثماني عشرة سنة.
وقد بينا وجه قوله فيه في مواضع غير هذا.
وكذلك قوله في الغلام إذا لم يؤنس منه رشدا (5) إنه (قد) (6) ثبت (7) بقوله تعالى:
(حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا

371
وبدارا أن يكبروا) (1) فذكر ههنا حالا لا ينتظر في دفع المال إليه بعد البلوغ. وقال تعالى في
آية أخرى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) (2) فمنع إمساك (3)
مال اليتيم بعد بلوغ رشده، فكان هذان الطرفان اللذان هما: حال الصغير، وحال بلوغ
الرشد (منصوصا عليهما، ووكل حد بلوغ الرشد) (4) إلى اجتهادنا. فكان عنده إذا بلغ
خمسا وعشرين سنة، فقد بلغ رشده، لأن مثله (يحتمل أن يكون) (5) جدا. ويمتنع في العادة
أن لا يكون قد بلغ أشده من له ولد، ولولده ولد، فكذلك ساغ الاجتهاد فيه (و) (6) فارق
ما وصفنا من المقادير.
وأما أبو يوسف، ومحمد: فإنهما قالا في مدة (7) نفى الولد: أربعين يوما. لأنه معلوم أن
سكوته ساعة وساعتين لا يمنع جواز نفيه، وأنه لو سكت عن نفيه سنة أو سنتين لم يكن له
بعد ذلك بالاتفاق، واعتبر (8) مدة النفاس الذي هو حال الولادة، وهذا مما يسوغ فيه
الاجتهاد من الوجه الذي ذكرناه، وهذا نظير الاجتهاد في تقديم (9) المستهلكات، وأروش
الجنايات، فيثبت مقادير القيم: أن ذلك كان على وجه التقريب لما يبتاع به الناس من
الأثمان، أو ما يدخل به من النقص بالجراحة، وليس ذلك مما ذكرنا من المقادير التي لا تعلم
إلا من طريق التوقيف في شئ.
وإن قال: أثبته بحجة.
قيل له: فما تلك الحجة؟ فإن ادعى نصا، أو اتفاقا، فلم يجده، وإن فزع إلى
التقليد، وقال: حجتي في إثباته هو التقليد (10) نفسه، فقد أبطل، لأن المسألة لا تكون حجة

372
لنفسها، وهو إنما (يسأل عن) (1) التقليد لم قلت: إنه حجة.
فإن قال: هذا يرجع عليك في قولك بحجج القول، لأنا نقول لك: أثبت حجة
العقل بالعقل أو بغيره.
فإن قلت: أثبتها بغير العقل، قلنا لك: فأظهره.
وإن قلت: أثبتها بالعقل، ففي هذا نوزعت، وإنما جعلت (2) المسألة دليلا لنفسها.
قيل له: أول ما في هذا: أن اعتراضك به احتجاج من جهة العقل، ومناظرة منك في
إفساد المذهب، وفي ذلك إثبات منك لحجة العقل، فأنت من حيث أردت نفيها أثبتها،
وناقضت في قولك، على أنا نجيبك إلى سؤالك، وإن لم يلزمنا لك بحق النظر.
فنقول: إنا أثبتنا دلائل العقول بالعقل، لأن مما يدل عليه (3) العقل: ظاهر جلي لا
يرتاب به أحد، ولا يشك فيه. ومنه غامض خفي، فوصلنا إلى علم (4) الخفي منه بالجلي،
ويحتاج في إثبات الخفي من أحكام العقول إلى نظر وتأمل، وعرضه على الجلي في إثبات
حكمه. (5)
فما صححه صح، وما نفاه انتفى، كما نقول في المحسوبات: إنا أثبتنا علومها
بالحس، وإن احتجنا في الوصول إلى استعمال آلة الحس. ألا ترى: أن من بين يديه طعام،
لا يدري حلو هو أم حامض: أنه لا يكتفي بوجود آلة الحس فيه دون ذوقه، حتى يعرف
طعمه. كذلك العلوم العقلية: منها ما هو جلي، يعتبر به الخفي منه، ويتوصل إلى معرفته
باستعماله.
ويقال له (6) في النظر وموجب القول بالتقليد: خبرنا عن قولك بوجوب التقليد، هو
مذهب قد علمت صحته، أو لم تعلمها.
فإن قال: لا أعلم صحته، فقد قضى على اعتقاده (7) بالفساد، لأن أحدا لا يجوز له

373
اعتقاد صحة (شئ) (1) ولا يدري هل صحيح أم فاسد.
وإن قال: علمت صحته.
قيل له: فعلمته بدليل أم (2) بلا دليل؟ فإن قال: علمته بلا دليل: قيل له: فكيف (3)
علمت صحته؟ وإن قال: علمته بدليل. قيل له: فقد تركت التقليد ولجأت إلى النظر،
فهلا نظرت في المذهب الذي قلدت فيه غيرك فاستدللت على صحته أو فساده؟ وقد
استغنيت عن التقليد (4) بنظر واستدلال، كما أثبت التقليد ضرورة، فكل من لم يضطر إلى
صحة القول به لم يلزمه إثباته، ولخصمه مع ذلك: أن يعارضه فيدعى علم الضرورة في
إبطال التقليد، ووجوب النظر، وعلى أن ما كان العلم به ضرورة، فالواجب أن يشترك سائر
العقلاء في وقوع العلم به إذا تساووا في السبب الموجب للعلم الضروري.
ويقال للقائل بالتقليد: قد وجدنا القائلين بالتقليد مختلفي المذاهب، متضادي
الاعتقادات على حسب تقليدهم لمن اتبعوه. فأي هذه المذاهب المتضادة الصحيح؟ وأيها
الفاسد؟ إذ (5) يستحيل اجتماعها كلها في الصحة.
فإن قال: مذهبي هو الصحيح، لأن من قلدته أولى بأن يقلد من غيره، فلذلك كان
مذهبي صحيحا، ومذهب غيري فاسدا.
قيل له: ولم صار من قلدته مذهبك أولى بأن يقلد من غيره ممن قلده خصمك؟.
فإن قال: لأن من قلدته أورع وأزهد، وأظهر صلاحا.
قيل له: فتأمن عليه الخطأ واعتقاد الباطل؟
فإن قال: نعم قد أمنت جواز ذلك عليه، فقد حكم له بصحة غيبة، (6) وأن باطنه
كظاهر، وهذا غير جائز أن يحكم به لأحد، إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن قال: يجوز عليه اعتقاد الضلال، واختيار الخطأ، والعدول عن الصواب.
قيل له: فإذا جاز ذلك عليه، فلست تأمن أن تكون مبطلا في تقليدك إياه، واعتقادك
مذهبه، فلست إذا على علم من صحة قولك وبطلان قول خصمك. وقد نهى الله تعالى

374
عن ذلك بقوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (1) وقال تعالى: (وأن (2) تقولوا على الله
مالا تعلمون) (3).
وأيضا: فإنك إذا قلدت من لا تعلم صحة قوله، فقد جعلت منزلته أعلى من منزلة
النبي صلى الله عليه وسلم، وأولى بالسلامة من الخطأ، لأن الله تعالى لم يوجب اتباع الأنبياء إلا بعد إظهار
الأعلام المعجزة على أيديهم، وجعلها حجة على صحة دعواهم، فكان عليك في هذا
أمران:
أحدهما: أنك جعلت منزلة من قلدته بغير دلالة، أعلى من منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يجب اتباعه إلا بعد إقامة الدلالة على صحة قوله -
فمن دونه أولى أن لا يقبل قوله بغير دلالة.
ومما يبين لك صحة حجج العقول: أن كل عاقل فهو يجد نفسه يفزع إلى النظر
واستعمال العقل فيما ليس طريق معرفته الحس والخبر، كما يجدها تفزع إلى الحواس فيما
طريق معرفته الحس، وإلى الاستخبار فيما طريق معرفته الخبر. فلولا أن النظر سبب يتوصل
به إلى علوم عقلية - لما كانت تفزع إليه في ذلك، كما لا تفزع فيما ليس طريق معرفته الذوق
إلى الشم، ولا فيما طريق معرفته السماع إلى الذوق، وإنما تفزع في طلب (4) معرفة الطعوم
إلى الذوق، وفي طلب معرفة الألوان إلى البصر، وفيما طريق معرفته السمع إلى الاستماع،
فثبت بذلك: أن النظر في طبع الإنسان، كالحس، قد جعله الله تعالى عيارا (5) وسببا إلى
الوصول إلى معرفة أمور به تدرك.
ألا ترى أن أحدا من العقلاء، لا يخلو من ذلك فيما ينوبه من أمر دينه ودنياه، حتى
العامي الغفل الذي لم يتقدم له طلب العلوم والآداب، يفزع إلى النظر واستعمال العقل فيما
ينوبه من أمر دنياه، كما يفزع إلى الحس فيما طريق معرفته الحس، وإلى الخبر فيما (طريق
معرفته) (6) الخبر.

375
والنافي للنظر وحجج العقول، كالنافي لعلوم وصحة وقوع العلم بالأخبار. لا فرق بين
شئ من ذلك، لأن الله تعالى: (قد جعل ذلك في طباع العقلاء، كما جعل في طباعهم
الحواس وسماع الأخبار).
فإن قال قائل من الحمق: إنما قلت بالتقليد اتباعا للسلف، لأنهم أمرونا بالاتباع،
ونهونا عن الابتداع واتباع الرأي.
قيل له: أول ما في هذا، أنه تخرص على السلف، لأنهم قد استعملوا النظر والرأي في
حوادث (1) أمورهم، ولا يجهل ذلك إلا من كان في غاية الجهل والغباوة، (2) واحسب: أنا قد
سلمنا لك ما ادعيته على السلف. فخبرنا من أين ثبت عندك لزوم تقليد السلف فيما
ذكرت؟
فإن قال: لأني قد علمت: أنهم لا يجمعون على خطأ. قيل: ومن أين ثبت عندك
صحة الكتاب (والسنة)؟ (3) فلا تجد بدا من الرجوع إلى إثبات النظر وحجج العقول، لأن
بها تثبت النبوات (4) بالدليل، والأعلام المعجزة التي لا يقدر عليها أحد غير الله تعالى، ومن
كان هذا سبيله فهو لم يقل بالتقليد، لأنه إنما قال بتقليد السلف إذا أجمعوا على شئ، لأن
الدلائل قد قامت على صحة إجماعهم، فهو مما اتبع الدلائل، وفي ذلك إثبات النظر وإبطال
التقليد الذي لم تقم على صحته دلالة.
وقد أكد الله عز وجل ما في العقول من نفي التقليد وإثبات (النظر، بما نص عليه في
كتابه من الأمر بالنظر والاستدلال فقال: (واعتبروا (5) يا أولي الأبصار)، (6) والاعتبار
هو: (7) النظر والاستدلال. وقال: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (8) وقال
تعالى: (أقلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (9) وقال تعالى: (أفلا يتدبرون

376
القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (1) وقال تعالى: (فإنها لا تعمي
الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (2) وقال تعالى: (قل هاتوا برهانكم (3) هذا
ذكر من معي وذكر من قبلي) إلى قوله تعالى: (فهم (4) معرضون) (5) وأمر إبراهيم صلى الله عليه وسلم
بمحاجة الكافر حتى بهت الكافر وانقطع، وأخبر عن استدلال إبراهيم على توحيد الله
تعالى ومعرفته، فقال تعالى: (فلما جن عليه الليل رأي كوكبا...) إلى قوله تعالى:
(إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا (6)) ثم قال تعالى: (وتلك
حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) (7) ثم قال تعالى على نسق الكلام: (أولئك الذين
هدى الله فبهداهم اقتده) (8) وقال تعالى: (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات
والأرض وما بينهما إلا بالحق) (9) وقال تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) (10) وقال
تعالى: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض). (11) واحتج في إبطال قول الثنوية
والمجوس (12) بقوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا). (13) وقال تعالى: (ولعلا
بعضهم على بعض). (14)

377
واحتج على أصحاب الطبائع (1) بقوله: (وفي الأرض قطع متجاورات) إلى قوله
تعالى (يسقى (2) بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل) (3) فأدحض مقالتهم،
وأبان عن فسادها بأن هذا (لو كان) (4) من طبع التربة والماء والهواء - لجاءت الطعوم متساوية
متفقة، ولم يترك لملحد تأمله شبهة، وقال تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن) (5) وقال
تعالى: (وكأي من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) (6) وقال
تعالى: (قال من يحيى العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق
عليم) (7) فدلهم بخلقها ابتداء، على القدرة على إعادتها بعد إفنائها، وقال تعالى: (قل
إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) (8) فحثهم
على النظر، وأمرهم بالتفكر والتدبر. وقال تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم
يتفكرون) (9) فلو كان الذين بالتقليد لبطل الاعتبار ومواضع الفكر. (10)
ونظائر ذلك: من الآي، التي فيها الحجاج، والنظر، والأمر بالاعتبار، والفكر. كثيرة
يطول الكتاب بذكرها، وإلى هذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم من أول ما بعثه الله تبارك وتعالى إلى أن
قبض. وأمرهم بالاستدلال والنظر، وقد نقلت الأمة ذلك (11)، خلفا عن سلف، نقلا
متواترا متصلا، كما نقلوا دعاءه إياهم إلى التوحيد. وإلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، نقلوا معه
دعاءه إياهم إلى الاعتبار والنظر. فمن أنكر حجج العقول ودلائلها، فإنما يرد على الله

378
تعالى، أو على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بينه وبين من أنكر أمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم
(لنا) (1) بالتوحيد والتصديق بالنبوة، (2) لأنه من حيث أمرنا بذلك، كان أمره به مقرونا بالأمر
(بالنظر والاستدلال) (3) على التوحيد، وعلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم: أن أمره إيانا
بالاستدلال بهذه الأجسام وما خلق الله تعالى من شئ، لم يحدث في هذه الأشياء دلائل لم
تكن، وأن هذه الدلائل كانت موجودة فيها قبل أمره إيانا بالنظر فيها والاستدلال بها،
فعلمنا: أن الله تعالى حين خلقها فقد أراد من العقلاء الاستدلال بها.
وقد ذم الله تعالى التقليد في غير موضع من كتابه، وجاءت الأنبياء تدعوا إلى ترك
التقليد، وإلى النظر في الحجج والدلائل، قال الله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض
يضلوك عن سبيل الله، إن يتبعون إلا الظن وإن هم ألا يخرصون) (3) فحكم بضلال أكثر
الناس إذا لم يرجعوا في مذاهبهم إلى حجة تصححها. وقال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك
به علم) (4) وقال تعالى: (وأن (5) تقولوا على الله ما لا تعلمون) (6) وهذه منزلة المقلد.
وذم من احتج بالتقليد فقال تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم
مقتدون) (7) وقال تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (8) وجعل الله تاركي
النظر بمنزلة البهائم، وبمنزلة الصم والبكم. فقال تعالى: (إن هم إلا كالأنعام بل هم
أضل) (9) وقال تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) (10) لما أعرضوا عن النظر في
الدلائل، وصيروا أنفسهم، بمنزلة من ليس في وسعه ذلك، مثل البهيمة، ومن لم يسمع

379
ما خوطب به، وقد بلغني عن بعض أصحاب الشافعي من المتأخرين أنه قال: إن أدلة
العقول صحيحة، إلا أن الله تعالى لم يحوج إليها، لأنه قد أغنانا عنها بالسمع، وهذا قول
متناقض، (1) لأن السمع لا يثبت أنه من عند الله تعالى إلا بحجج العقول ودلائلها،
ولا يمكن الوصول إلى معرفة صدق النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيب مسيلمة إلا من جهة العقول والنظر
في الدلائل والأعلام، وأن ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ليس في مقدور (2) البشر، ولا يتأتى (3) فعله
لمخلوق، وإن ما أتى به مسيلمة مخاريق وحيل لا تعوز (4) أحدا صرف همته إليه إلا فعل مثله
وأضعافه.
وقول هذا القائل يضاهي قول داود في قوله: إني عرفت الله بالخبر.
وقائل هذا القول مقر: أنه لا يعرف الله تعالى، لزعمه (5) أن العقل لم يدله على
التوحيد، ولا على إثبات الصانع، ولا سبيل لأحد إلى علم ذلك، إلا من جهة العقل، ولا
وصول إلى علم صحة الخبر إلا بالعقل، والاستدلال على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وكذب المتنبي.
وعلى أنه يستحيل أن يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم من لا يعرف المرسل، ويعلم النبي نبيا قبل أن
يعرف الله تبارك وتعالى، فقول القائل: إني عرفت الله عز وجل بالخبر، لا يكون إلا من
خذلان ليس وراءه غاية، ومن جهالة ليس وراءها نهاية.
فإن قال قائل: إنما أعرف دلائل العقول بانضمام الخبر إليها، ومتى لم ينضم إليها
الخبر لم تكن العقول مفضية إلى علم التوحيد، وإلى إثبات الصانع الحكيم.
قيل له: هذا متناقض، (6) لأن الخبر الذي ادعيت أنه شرط في صحة وقوع العلم
بدلائل العقل لا يخلو من أن يكون خبرا صحيحا، أو فاسدا، أو مشكوكا فيه، لا يعلم
صحته ولا فساده، فإن كان خبرا فاسدا أو كاذبا، فإنه يستحيل أن يوجب العلم (بمخبره
لأن مخبره كذب، والخبر المشكوك فيه أيضا لا يوجب العلم)، (7) لأنه إذا أوجب العلم لم

380
يكن مشكوكا فيه، وعلى أن هذا يوجب أن (لا) (1) يختلف في ذلك خبر النبي صلى الله عليه وسلم وغير
خبره، إذا لم تراع صحته في انضمامه إلى دلائل العقول. وإن كان شرط ذلك الخبر أن يكون
صحيحا وصدقا، فإن هذا الخبر لا يعلم صحته من فساده إلا من جهة العقل، فيحتاج أو لا
أن يستدل على صحته أو فساده من جهة العقل، فقد أوجب استعمال دلالة العقل قبل
ثبوت الخبر، وقد استغنى العقل في دلالته على مدلوله عن خبر يضاده، (2) فتناقض قولك،
وظهر تجاهلك.
وأيضا: فإن الله تعالى إنما أمرنا بالاستدلال من جهة العقول في الآي التي ذكرناها،
على ما كلفنا العلم به، من غير شرط انضمام خبر إليه.
وإبراهيم عليه السلام قد استدل على التوحيد قبل أن جاءه الوحي في قوله تعالى:
(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي إلى قوله تعالى: (إني وجهت وجهي للذي
فطر السماوات والأرض حنيفا) (3) ثم أخبر أن ذلك سبيل كل مكلف، بقوله تعالى:
(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) إلى قوله تعالى (أولئك الذين هدى الله فبهداهم
اقتده) (4) فأمرنا بالاستدلال على التوحيد على النحو الذي استدل عليه إبراهيم عليه
السلام.
فإن قال قائل: لست أقول: إن الخبر والعقل معا (5) يحدثان لي العلم بموجبات
أحكام العقول عند النظر والاستدلال. ولكني أقول: إن الخبر ينبه على النظر، و على اعتبار
دلائل العقل، ولولا الخبر لما كان لي سبيل إلى التنبيه (6) عليها.
قيل له: فهذا الخبر الذي يقع به التنبه على النظر والاستدلال، شرطه عندك أن
يكون صدقه معلوما، أو جائزا، لا يعلم صحته وصدقه. وأي خبر كان وقع به التنبه، (7)

381
وإن كان شريطة هذا الخبر أن يكون (معلوما صحته) (1) عندك، فإنه (2) لا يمكنك أن تعلم
صدقه إلا بالنظر والاستدلال، وعاد عليك الكلام الأول الذي قدمنا على من قال: إني لا
أعلم التوحيد إلا من جهة الخبر، وإن جاز عندك أن يكون هذا الخبر الذي وقع به التنبيه،
خبر من يجوز عليه الكذب، وجايز أن يكون صدقا أو كذبا، فينبغي أن لا يختلف في هذا أن
يكون المخبر نبيا أو غير نبي، لوجود التنبيه في الحالين، فليس يفيدك الخبر في هذه الحال،
إلا ما يفيدك الخواطر المنبهة على الفكر والنظر، فقد استغنى بالخواطر (3) عن الخبر، (4) إذ
كان كل أحد من المكلفين لا يخلو منه، لما يرى من اختلاف الليل والنهار، وما يشاهد من
نفسه من تغير الأحوال التي لا صنع له فيها، ومن لم تزعجه هذه الخواطر ولم تبعثه على الفكر
والنظر، فخبر المخبر له به أولى أن لا يؤثر فيه، فيصير حينئذ وجود الخبر وعدمه سواء.
ومن الناس من يزعم: أن العلوم إلهام من الله تعالى، وأن النظر والاستدلال لا
يوصلان إلى علم يرد، لنص الآي التي ذكرناها في الأمر بالاستدلال والحث على النظر
والفكر، ولا يمكن القائل به الانفصال ممن يقول: قد ألهمت العلم بإبطال الإلهام.
ويقال له أيضا: من أين حكمت بأن ما سبقت إلى اعتقاده هو علم حتى قضيت (5)
بأنه إلهام من الله تعالى، وما أنكرت أن يكون ظنا لا حقيقة له، وهل (6) يمكنك الانفصال
ممن يعتقد ضد (7) مقالتك، ويدعى أنه إلهام؟
فإن ادعى دلالة أوجبت له ذلك - فقد ترك القول بالإلهام، ورجع إلى الاستدلال.
وإن أقام على الدعوى من غير برهان - فهو وخصمه في الدعوى سواء. وإلى ذلك يؤول
عاقبة مذاهب المبطلين (8) والله أعلم بالصواب.

382
الباب التاسع والسبعون
في
القول في النافي وهل عليه دليل

383
باب
القول في النافي وهل عليه دليل
اختلف الناس في النافي وهل عليه دليل؟
فقال قائلون: ليس عليه إقامة الدليل على صحة نفيه لما نفاه من العقليات، ولا في
السمعيات، وإنما الدليل على المثبت.
وقال آخرون: عليه إقامة الدليل على نفي ما نفاه في العقليات، وليس عليه إقامة
الدلالة على ما نفاه من السمعيات.
وقال آخرون: على كل من نفى شيئا وأثبته إقامة الدلالة على نفي ما نفاه، وعلى
إثبات ما أثبته، وذلك في العقليات والسمعيات سواء. (1)
قال أبو بكر: وهذا هو الصحيح، وكذلك كان يقول الشيخ أبو الحسن رحمه الله.
والدليل على صحة ذلك: أن كل من نفى شيئا، فهو لا محالة مثبت لوجود اعتقاد
(صحة ذلك). (2) فاقتضى أصله وجوب إقامة الدليل على صحة ما أثبته من صحة اعتقاده
في إسقاط الدليل على النافي - فهو من حيث يروم إسقاط الدليل على النافي، فقد ألزم نفسه
إقامة الدليل على صحة اعتقاده لذلك.
وأيضا: فإن قائل هذا القول، قد قضى لخصمه بإسقاط الدلائل عنه في نفي قوله،
لأن خصمه ناف لصحة مقالته، ولا دلالة عليه إذا في نفيه مقالته على أصله، ولا دلالة
أيضا على القائل: بأن النفي لا دليل عليه على مذهبه، فيوجب (3) هذا تناقض القولين،

385
لأنه حكم بأنه لا دليل عليه (في نفيه) (1) لما نفاه، ولا دليل على خصمه أيضا في
نفى (2) صحة قوله، وهذا غاية التناقض والفساد.
ويقال لقائل هذا القول: إذا نفيت حكما خولفت في نفيه، وزعمت أنه لا دليل عليك
فهل علمت صحة ما نفيته؟
فإن قال: قد علمت (أن) (3) ما نفيته فهو منتف على الحقيقة.
قيل له: بم علمته وخصمك بإزائك يخالفك فيه، ومن ادعى علم شئ فلا بد له من
برهان.
فإن قال: لا أعلمه حقا.
قيل له: فلم اعتقدته منفيا بغير دلالة، وأنت لا تدري أحق هو أم باطل، وقد نهاك
الله تعالى عن ذلك بقوله: (وأن (4) تقولوا على الله ما لا تعلمون) (5) فإن جاز لك أن تعتقد
صحة ما لا تعلمه حقا وصوابا إذا كنت نافيا، ولا تلزم نفسك إقامة الدليل عليه، فلم لا
يجوز أن تثبت ما لا تعلمه ثابتا بغير دليل؟
ولو كان ما قالته هذه الطائفة حقا، كان لا دليل على من نفى حدث العالم، ونفى
إثبات الصانع، ولجاز له القول في نفى ذلك، و ترك النظر في إثبات ذلك أو نفيه، وهذا لا
يقوله مسلم.
وأما من قال: إن من نفى ما طريقه العقل فعليه إقامة دلالة، وليس كذلك ما طريقه
السمع. فإنه يحتج فيه: بأن في الفعل (6) دلالة على إثبات المثبت، ونفى المنتفي بما طريق
إثباته أو نفيه العقل. فلم يختلف فيه حكم النفي والإثبات.
وأما السمعيات فطريقها السمع، ولا مدخل للعقل في إثباته، فمن لم يثبت عنده منها

386
شئ من جهة السمع، جاز له أن يقول: لم يبن لي أن ذلك ثابت، ومن ادعى إثباته فعليه
أن يبين، وإلا فالأصل أنه غير مثبت.
فيقال للقائل بهذا القول: إنك وإن كنت نافيا للحكم الذي نازعك فيه خصمك،
فإنك مثبت لصحة اعتقادك بأن لا دليل عليك، وإن نفى هذا الحكم واجب.
وهذا شئ طريقه السمع، فلم ثبت اعتقادك كذلك بغير دلالة وناقضت في قولك:
أن النافي لا دليل عليه، وأن الدليل على المثبت.
ثم يقال له: إن طريق أحكام الشرع، وإن كان أصولها السمع - فإن الله تعالى قد
نصب في أصولها دلائل على فروعها في النفي و الإثبات، فقد جرت مجرى العقليات في
وجوب دلائلها على المنفي والمثبت منها، فهلا أوجبت إقامة (1) الدلالة على نفي ما نفيت كما
أوجبتها على إثبات ما أثبت؟.
وأيضا: فإنك قد استدللت على النفي بما ذكرته: من أن أصله النفي حتى يزول عنه
السمع، وذلك ضرب من الاستدلال على النفي، وهو من أحكام الشرع، فقد ناقضت في
قولك: إن النافي في هذا الباب لا دليل عليه.
ويقال: هل علمت: أن ما نفيت من ذلك لا دليل على إثباته؟
فإن قال: نعم. قيل له من أين علمته؟
فإن قال علمته بدلالة.
قيل له: فأنت إنما نفيته بدلالة، فأظهر (2) ذلك الدليل. وقد تركت مع ذلك أصلك
لإقرارك بأن على النفي دليلا.
فإن قال: لست أعلم أنه ليس عليه دليل.
قيل له: فنفيته بجهل من غير علم منك بنفي الدلالة، فهلا أثبته مع الجهل
بدلالته؟ وكيف صار النفي في هذا الوجه أولى من الإثبات! وقد ذم الله تعالى من هذه
طريقته في نفي الشئ بغير دلالة. فقال تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) (3) فعنفهم

387
على نفي ما لم يعلموه منفيا. وقال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (1) ولم
يخصص (2) به الإثبات من النفي.
وأيضا: فإن الله تعالى قد نص: أنه قد بين أحكام الشرع في كتابه، وعلى لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي أحكام الشرع النفي والإثبات، فلم يخصص بالبيان أحد القسمين دون
الآخر، وذلك نحو قوله تعالى: (وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة) (3) وقال
تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (4) ومعلوم أنه (لم) (5) يرد به وقوع البيان في
الجميع نصا. وإنما أراد نصا ودليلا، ولم يخصص الإثبات من النفي فهو عليهما جميعا. فهلا
طلبت دلالة النفي في الكتاب: كدلالة الإثبات. وقال تعالى (لتبين للناس ما نزل إليهم
ولعلهم يتفكرون) (6) فأمر بالتفكر في استدراك أحكام الشرع، ولم يخصص الإثبات من
النفي، فهو عليهما جميعا.
فإن قال قائل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة على المدعي، واليمين على (من أنكر) (7)،
والنافي منكر، فلا بينة عليه والمثبت مدع فعليه البينة.
قيل: لو اكتفينا بهذا الخبر (في) (8) دحض مقالتك، وفساد أصلك، كان كافيا، لأنك
مدع لنفي الحكم بإنكارك له، ومدع لبطلان قول خصمك المثبت لما نفيت، ومدع بأن
حكم الله تعالى في ذلك النفي دون الإثبات، ومدع لصحة اعتقادك بأنه لا دليل عليك
فيما (9) نفيت من ذلك. فمن حيث كنت مدعيا في هذه الوجوه كان عليك إقامة البينة على
صحة دعاويك هذه بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم (البينة على من ادعى).
فإن ترك الاحتجاج بظاهر الخبر، وقال: لما اتفقنا على أن من ادعى شيئا في يدي

388
رجل فجحده: إن البينة على المدعي دون الذي الشئ في يده، ولم يكن على الذي في يده
بينة، إذ كان منكرا وجب مثله في منكر الحكم والمدعى لإثباته.
قيل له قد رضينا بهذه القضية أيضا، فأنت مثبت في مسألتنا من الوجوه التي ذكرنا،
فألزم نفسك إقامة الدلالة من حيث كنت مدعيا لإثبات المعاني التي ذكرنا، ولم صرت
بإسقاط الدلالة عنك أولى من حيث كان مثبتا؟ وأسقطت عن الذي الشئ في يده من
حيث كان منكرا؟ لأنه لو كان كذلك لكان على كل واحد منهما البينة، وعلى كل واحد منهما
اليمين،، إذ كان كل واحد منهما منكرا لملك صاحبه، ومدعيا لملك نفسه، وإنما أوجب
النبي صلى الله عليه وسلم البينة على الذي ليس الشئ في يده (1) لأن الذي الشئ في يده ظاهرة يده
توجب (2) له الملك، فلم يحتج إلى بينة أكثر من شهادة (3) ظاهرة اليد، والخارج ليس له ظاهر
يشهد له، فاحتاج من أجل ذلك إلى بينة، وأما المتنازعان في نفي الحكم وإثباته، فليس مع
واحد منهما ظاهر يشهد له، فوجب (4) على كل واحد منهما إقامة البينة على صحة ما يدعيه
من نفي وإثبات.
ونظير ذلك من مدعي الملك: أن يكون الشئ في يد غيرهما، وهما يدعيانه،
فيطالب كل واحد منهما بالبينة، وإن كان منكرا لدعوى صاحبه، إذ ليس لواحد منها ظاهر
يشهد (له). (5)
وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخل المنكر من يمين أوجبها عليه، لقطع المنازعة في الخصومة،
فهل توجب أنت على منكر الحكم سببا يفصل بينه وبين خصمه غير نفيه إياه.
قال أبو بكر: وقد يجئ مسائل تشاكل هذا الباب في (6) إقامة الدلالة على المثبت
والنافي جميعا، بعد أن يكون القول الذي انتحله قد انطوى تحت جملة تقتضي النفي إن كان
باقيا، والإثبات إن كان مثبتا، فيبنى القائل به مقالته في الفرع الذي اختلفوا فيه على

389
الجملة التي تفردت. فيقول: لم يثبت تحريم ماسمتنى (1) تحريمه، أو لم يثبت نفي أردت
نفيه، إذا نفته الجملة المقتضية لنفي أحكام هذا منها، أو يعلقه (2) بالجملة التي تقتضي
الإثبات، إذا رام إثباته، وليس ذلك مما ذكرنا من قول القائلين: بأن النافي لا دليل عليه في
شئ، لأن المثبت والنافي سواء في ذلك: هي الجملة التي أسند إليها مقالته، على الوصف
الذي قدمنا.
نظير ذلك: أن قائلا لو قال لنا: لم أبحتم أكل الأرنب؟ لجاز لنا أن نقول: لأنه لم
يثبت تحريمه. إذ كان الأصل الإباحة في مثله، فمن رام العدول عن هذا الأصل، وإخراج
شئ منه احتاج إلى دلالة في إثبات خطره، فإذا علقه بهذا الأصل كان ذلك دليلا على نفي
الحظر، ويحتاج مثبت الحظر إلى إقامة الدلالة على ما ادعى، فلا يحتاج القائل بالإباحة إلى
أكثر من ثباته على الأصل، وإن لم يعلقه المسؤول بأصل يقتضي إباحته - لم يصح له أن
يقول، لأنه لم يثبت تحريمه، لأنه يقال: أفتثبت (3) إباحته؟
فإن قال: نعم.
قيل له: فدل على ثبوت الإباحة.
وكذلك لو قال قائل: لم أجزتم بيع العقار قبل القبض؟ فقلنا: لأنه لم يثبت حظره،
وقد أطلق الله البيوع بلفظ عام، فقال تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) (4) فمن ادعى
الحظر وإخراج شئ من هذه الجملة، كان عليه إقامة الدليل، وإلا فالحكم الإباحة
والجواز، كان هذا كلاما صحيحا، ولو اقتصر المسؤول على قوله لم يثبت حظره، ولم ينسبه
إلى أصل من عموم أو جملة تقتضي إباحته، لم يصح له القول (به) (5)، إلا بإقامة الدليل
على نفيه، وكذلك هذا في الإثبات. لو قال قائل: لم أجزتم نكاح المحرم؟ جاز أن تقول: (6)

390
لأنه لم يثبت حظره، إذ كان الله تعالى قد أباح النكاح على الإطلاق بقوله تعالى:
(فانكحوا ما طاب لكم من النساء) (1) فمن ادعى حظر شئ منه، (2) وإخراجه من
العموم، احتاج إلى دلالة، وإلا فأنا معتصم بالظاهر، ولا يجوز أن يقول: لأنه لم يثبت
حظره، ويقتصر (3) عليه، لأن خصمه يقول (له) (4): فدل على إباحته. فتساويا جميعا فيه،
ويحتاج المسؤول حينئذ إلى إقامة الدلالة عليه.
فهذا وما أشبهه مما يصح للقائل فيه بالنفي أو الإثبات أن يقول: إنه لم يثبت فساده،
أو لأنه ثبتت صحته إذا علقه بأصل يقتضي ذلك، على ما بينا، ويكون الأصل الذي بناه
عليه، هو دلالته على نفي ما نفاه، وإثبات ما أثبته. (5)
(و) من رام الخروج عن ذلك الأصل، احتاج إلى دلالة في خروجه عنه، ومن
اعتصم بالأصل لا يحتاج إلى دلالة أكثر من تعلقه به.
قال أبو بكر: ومما يضاهي هذا المعنى وإن لم يكن هو بعينه: إثبات المقادير التي لا
سبيل إلى إثباتها من طريق المقاييس والاجتهاد، وإنما طريق إثباتها التوقيف والاتفاق،
فجائز عند وقوع الخلاف لمن أثبت مقدارا قد دخل في اتفاق الجميع، أن يقول: أثبتنا هذا
القدر بالاتفاق، ولم تقم الدلائل (6) على إثبات ما سواه مما اختلفوا فيه، إذا لم يجد فيه توقيفا،
ولا اتفاقا، ولا سبيل إلى إثباته من طريق القياس والرأي.
نظير ذلك: أنا إذا قلنا: إن أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة. (فقيل لنا لم قلتم
إنه لا يكون أقل من ثلاثة، ولا أكثر من عشرة؟) (7) جاز لنا أن نعتصم فيه بموضع الاتفاق،
على أن هذين المقدارين يكونان حيضا.

391
ونقول: إن موضع الخلاف لم يثبت فيه اتفاق ولا توقيف، فلم نثبته، ولا سبيل إلى
إثباته من طريق المقاييس فتسومنا (1) إقامة الدليل عليه من هذه الجهة.
فإن قال قائل: فيقول لك خصمك: قد اتفقنا على أنها مأمورة بترك الصلاة في أول
يوم ترى فيه الدم، فلا أزول عن هذا الاتفاق إلا بتوقيف أو اتفاق مثله. فيوجب ذلك أن
يكون أقل الحيض يوما واحدا، حسبما ذكرته من (2) الثلاثة والعشرة.
قيل له: لم تؤمر (3) بترك الصلاة على جهة القطع منا بكون ذلك الدم حيضا، وإنما
أمرناها أمرا مراعا، والثلاثة والعشرة متفق على أنها حيض، لا على جهة المراعاة والترقب
بحال ثانية.
ألا ترى: أنها مأمورة بترك أول صلاة حضر وقتها بعد رؤية الدم (وإن لم يكن رؤية
الدم) (4) هذا القدر من الوقت حيضا، وإنما كان أمرنا إياها بذلك مراعا (5) ومترقبا به حالا
ثانية عند مخالفينا، كذلك حكمها في رؤية الدم يوما وليلة، محمول على ذلك، وأما إذا
صارت ثلاثة، فقد حصل اليقين بوجود الحيض عند الجميع، فلذلك جاز لنا أن تقف عند
الإجماع، وننفي (6) ما سواه، ما لم يرد فيه توقيف ولا ثبت (7) فيه اتفاق.
ومن نظائر ما ذكرنا في الحيض: مدة أقل السفر أنها ثلاثة أيام، وأن أقل الإقامة خمسة
عشر يوما، من باب قصر الصلاة والإفطار، وما جرى مجرى ذلك من الأحكام المعلقة بالسفر،
وهاتان المدتان متفق عليهما، فجاز لنا الوقوف عند هما، (8) لاتفاق الجميع على اعتبار هما ونفى

392
ما عداهما، مما يوجب خلافا، (1) لعدم التوقيف أو الاتفاق فيه، وامتناع جواز القول فيه من
طريق القياس، وكذلك مدة الحمل قد اتفقوا أنها تكون سنتين، وما زاد فمختلف فيه، وإن
لم يرد فيه توقف، ولا حصل عليه اتفاق، ولا مدخل للقياس فيه، فلم نثبته.
ومثله: ما يقطع فيه السارق، أن العشرة متفق عليه، لأنه يقطع فيها، وما دونها،
فمختلف فيه، فلم نثبته مع وجود الخلاف (إلا بتوقيف) (2) فلا سبيل إلى إثباته من طريق
المقاييس والاجتهاد.
ومثله: أن نصب الأموال المعتبرة لإيجاب الزكوات لا سبيل إلى إثباتها إلا من
طريق التوقيف، (3) أو (4) الاتفاق، ولا يجوز إثباتها من غير هذين الوجهين، فمتى اختلفنا (5)
في ملك إذا انفرد عن اليد، هل يكون نصابا (6) صحيحا، أو لا يكون النصاب الصحيح إلا
بانضمام اليد إلى الملك، جاز الوقوف عند الاتفاق، في كونهما جميعا شرطا في ثبوت النصاب.
ونفي (7) ما عداه بانفراد الملك عن اليد، نحو ما قال أبو حنيفة: إنه من ورث دينا، أنه لا زكاة
عليه، إذا قبضه فيما مضى، حتى يحول عليه حول بعد القبض، إذ كان اجتماع اليد
والملك (8) (عند الجميع) (9) نصابا صحيحا.
واختلفوا عند انفراد الملك عن اليد فوجب الوقوف عند الاتفاق، ونفي (10) ما عداه،
إذ لم تقم عليه دلالة. ومثله ما قال في السخال (11): إنه لا صدقة فيها، لأن النصاب المتفق
عليه، وجود السن والمقدار، وانفراد عن السن مختلف في كونه نصابا، فلم يثبت

393
ما اختلفوا فيه من ذلك، وأثبت المتفق عليه، من إيجاب الصدقة عند اجتماع الأمرين.
فإن قال قائل: قد اختلف الناس في السخال والمسان (1) إذا اجتمعا، هل يكمل بهما
نصاب؟ وقد أثبت نصابا مع وجود الخلاف.
قيل له: لا نأبى (إثباته مع وجود الخلاف إذا كان هناك توقيف يقتضي إثباته، وإنما
أبينا) (2) إثباته من غير أحد هذين الوجهين: توقيف أو اتفاق، ومنعنا أن يكون للقياس
والاجتهاد مدخل في ذلك.
والتوقيف الموجب لما وصفنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (في صدقة المواشي
ويعد صغيرها وكبيرها) (3) ولأن أسماء المقدار الذي علق النبي صلى الله عليه وسلم الوجوب (4) يتناولهما جميعا
عند الاجتماع، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (في أربعين شاه شاه) (5)
وأما إذا انفردت السخال عن المسان فإنه لا يتناولها (6) هذا الاسم، فلم يوجد فيها (7)
توقيف ولا اتفاق فلم يثبت.
فإن قال قائل: يلزمك على هذا الأصل: أن تجعل الجمع الذي ينعقد به الجمعة
أربعين، لاتفاق الجميع على صحة انعقادها بأربعين، واختلافهم فيما دونها، ولا توقيف
فيه. وهذا أيضا ما لا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الاتفاق أو التوقيف.
قيل له: (8) قد اتفق الجميع على أن حصول الثلاثة من شرائط صحتها. فأثبتناها،
وما زاد لم يثبت به توقيف ولا اتفاق، فلم نثبته.
وأيضا فقد ثبت عندنا التوقيف في جوازها بأقل من أربعين، لما روى جابر أن

394
النبي صلى الله عليه وسلم (كان يخطب يوم الجمعة، فقدمت عير فنفر (1) الناس إليها، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم
إلا اثنا عشر) (2) وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الجمع منذ قدم المدينة. ولو كانوا قد عادوا
إلى الصلاة لذكر. فدل أنه صلى باثني عشر رجلا، وإذا جازت باثني عشر جازت
بثلاثة، لأن أحدا لم يفرق بينهما. ومن جهة أخرى إنه قد روى: أن أول جمعة كانت بالمدينة
قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها، صلاها مصعب بن عمير (3) باثني عشر رجلا، (4) فثبت من هذه
الجهة جوازها بأقل من أربعين.

395
/ 1