بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: منتهى الدراية المؤلف: السيد محمد جعفر الشوشتري الجزء: 5 الوفاة: معاصر المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة تحقيق: الطبعة: الثالثة سنة الطبع: المطبعة: امير - قم المقدسة الناشر: المؤلف ردمك: ملاحظات: منتهى الدراية في توضيح الكفاية تأليف السيد محمد جعفر الجزائري المروج الجزء الخامس
1 منتهى الدراية في توضيح الكفاية السيد محمد جعفر الجزائري المروج الجزء: الخامس الطبعة: الثالثة مطبعة الأمير: قم المقدسة الكمية: 1000 نسخة عني بنشره: المؤلف
2 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على آلائه والصلاة والسلام على سيد أنبيائه وآله المعصومين حجج الله على عباده واللعن على أعدائهم إلى يوم لقائه. أما بعد، فهذا هو الجزء الخامس من كتابنا (منتهى الدراية في توضيح الكفاية) وقد أجريناه على منوال أجزائه الأربعة المتقدمة، فالمتن ثم التوضيح معلما بالأرقام، ثم التعليق بعلامة (*) ثم حواشي المصنف برمز (×) متوكلا عليه جل وعلا، ومتوسلا بولي أمره صلى الله عليه وعجل فرجه الشريف وجعلنا فداه.
3 تتمة المقصد السادس فصل لا يخفى (1) عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على
5 كون الظن طريقا منصوبا شرعا، ضرورة أنه معها (1) لا يجب عقلا على الشارع أن ينصب طريقا، لجواز اجتزائه بما استقل به (2) العقل في هذا الحال [1 [3
[1] إيقاظ: ينبغي هنا بيان أمور: الأول: أن الحكومة في المقام يراد بها تارة حجية الظن عقلا كحجيته شرعا بمعنى كون الظن معيارا لاحراز الحكم نفيا وإثباتا، و امتثاله بعنوانه بحيث يصح قصد الوجه والتميز به، ويسمى الاتيان بالحكم الواقعي المظنون بهذا الظن المعتبر عقلا كالمعتبر شرعا بالإطاعة الظنية التي هي المرتبة الثالثة من مراتب الإطاعة في قبال الامتثال العلمي التفصيلي والاجمالي الاحتياطي. وأخرى التبعيض في الاحتياط، وهو فيما إذا لم يمكن أو لم يجب الاحتياط التام في جميع أطراف العلم الاجمالي المنجز للأحكام من المظنونات و المشكوكات والموهومات، حيث إن العقل يحكم حينئذ - لأجل قبح ترجيح المرجوح على الراجح - بلزوم الاحتياط في خصوص المظنونات دون المشكوكات والموهومات، وتسميته 7
بالحكومة حينئذ مع كونه احتياطا ناقصا انما هي لأجل حكم العقل بجعل الاحتياط في دائرة المظنونات. والفرق بينه وبين الإطاعة الظنية هو: أن الاتيان بالمظنونات على الأول يكون بالاحتمال ورجاء المطلوبية، وعلى الثاني يكون بعناوينها الخاصة، ويسمى الأول بالتبعيض في الاحتياط والثاني بالإطاعة الظنية، فالأول لا يخرج عن الإطاعة الاحتياطية التي هي ثانية مراتب الإطاعة، والثاني إطاعة تفصيلية ظنية وهي ثالثة مراتب الإطاعة. الثاني: أن المراد بحجية الظن كشفا هو استكشاف العقل بمقدمات الانسداد جعل الشارع الظن حجة على التكاليف الواقعية إثباتا ونفيا، والآتيان بالمظنون بهذا الظن يسمى بالإطاعة الظنية كالاتيان بالمظنون بالظن المعتبر شرعا بدليل خاص في حال انفتاح باب العلم و العلمي، ولا فرق في الاعتبار بين هذين الظنين أصلا. نعم يسمى المعتبر بدليل الانسداد بالظن المطلق وغيره بالظن الخاص. الثالث: أنه لا سبيل إلى إرادة حجية الظن عقلا من الحكومة بحيث يكون معيارا لاثبات التكاليف الواقعية ونفيها، وذلك لان الحكومة بهذا المعنى مبنية على أمور لم يثبت شئ منها. أحدها: صلاحية العقل للحكم بالحجية، وهي غير ثابتة، حيث إن شأنه إدراك الحسن والقبح دون الحكم، فإنه وظيفة الشارع. ثانيها: بطلان الاحتياط وسقوطه عن درجة الإطاعة رأسا، بدعوى قيام الاجماع التعبدي على لزوم امتثال الاحكام بعناوينها، وعدم جواز إطاعتها بالاحتياط 8
والرجاء كما حكي عن السيد الرضي وتقرير أخيه له قدس سرهما. لكنه غير ثابت أيضا، بل خلافه ثابت، لذهاب جماعة إلى كون الاحتياط نوعا من الإطاعة بل في عرض الإطاعة العلمية التفصيلية، فلاحظ. ثالثها: عدم نصب الشارع الأقدس طريقا إلى ثبوت كل تكليف بعنوانه وهو الظن، لعدم كون غيره من الشك والوهم والأصول الجارية في كل واقعة بخصوصها وفتوى الغير والقرعة محرزا، فان حكم العقل بحجية الظن بعد تسليمه في نفسه منوط بعدم النصب الشرعي المزبور. لكنه أيضا مخدوش، إذ لا وجه لعدم النصب المذكور بعد وضوح بقاء التكاليف، ولزوم امتثالها بعناوينها، وعدم رضا الشارع بإطاعتها رجاء واحتمالا، وعدم قدرة المكلف على إحرازها حتى يتمكن من امتثال كل تكليف بعنوانه، لأن المفروض انسداد باب العلم والعلمي عليه، فان هذه المقدمات تنتج قطعا حجية الظن شرعا، إذ العقل بملاحظتها يستكشف عن جعل الشارع حجية الظن وطريقيته إلى الاحكام الواقعية، وكونه مناطا لاثباتها ونفيها، ومدارا لاطاعتها على النهج الذي أراده وهو امتثالها بعناوينها الخاصة. وعليه، فما أفاده المصنف (قده) من: (أنه لا مجال لاستكشاف العقل نصب الشارع الظن طريقا إلى الامتثال التكاليف الواقعية ظنا، ضرورة أنه مع استقلال العقل بذلك لا يجب على الشارع أن ينصب طريقا إليه ليكشف العقل عن ذلك) لا يخلو من الغموض، إذ فيه: أن العقل لا صلاحية له للحكم بالحجية كما تقدم 9
فالمراد باستقلاله بلزوم امتثال التكاليف ظنا هو التبعيض في الاحتياط، والآتيان بالمظنونات من باب الاحتياط، وهذا غير حجية الظن في امتثال التكاليف بعناوينها كما هو المطلوب بناء على ثبوت الاجماع على عدم بناء الشريعة المطهرة على الاحتياط وامتثال الاحكام بالاحتمال. والحاصل: أن الحكومة التي تدور نتيجة مقدمات دليل الانسداد بينها وبين حجية الظن كشفا لا يمكن أن يراد بها الا التبعيض في الاحتياط، ولا يراد بها حجية الظن عقلا بحيث يكون مدار الاحكام نفيا وإثباتا كحجيته شرعا. الرابع: أن منشأ الاختلاف في كون نتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن حكومة أو كشفا هو الاختلاف في مدرك عدم وجوب الاحتياط. فان كان المستند فيه استلزامه للعسر والحرج، أو اختلال النظام، فنتيجة مقدمات الانسداد حينئذ حجية الظن حكومة أعني التبعيض في الاحتياط، وذلك لأنه مقتضى بقاء التكاليف الواقعية ولزوم امتثالها و لو بدون إحراز عناوينها، وعدم وجوب الاتيان بجميع الأطراف من المظنونات والمشكوكات والموهومات للعسر أو الاختلال. وان كان المستند في عدم وجوب الاحتياط الاجماع التعبدي على ذلك وبناء الشرع على امتثال كل تكليف بعنوانه، فنتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن كشفا إذ لا بد للشارع أن ينصب طريقا إلى الاحكام الواقعية ليتمكن المكلف من إحرازها به حتى يمتثلها بعناوينها. وحيث إن الاجماع مفقود ومجرد فرض، ولم يثبت دخل إحراز عناوين الاحكام في امتثالها، فلا محيص عن الالتزام بكون نتيجة مقدمات الانسداد هي التبعيض في الاحتياط المسمى بالحكومة. نعم لو ثبت 10 ولا مجال لاستكشاف (1) نصب الشارع
الاجماع على عدم بناء الشريعة على امتثال الاحكام بالاحتياط و الاحتمال كانت النتيجة حجية الظن شرعا، إذ مع إرادة امتثالها بعناوينها مع انسداد باب العلم والعلمي إليها لا بد من نصب الشارع طريقا محرزا لها حتى يتمكن العبد من إطاعتها بعناوينها، وإلا يلزم اما ارتفاع التكاليف، واما عدم لزوم امتثالها مع بقائها، واما امتثالها تفصيلا بالتشريع، وبطلان الكل بديهي، فيتعين جعل الشارع طريقا محرزا للأحكام، وليس ذلك الا الظن. فالمتحصل: أن الاجماع هنا - مضافا إلى كون المسألة من المسائل المستحدثة غير المعنونة في كلام القدماء حتى يعلم رأيهم، وإلى عدم تحققه في نفسه، لذهاب كثير إلى جواز العمل بالاحتياط حتى مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي - لا يكشف عن رأي المعصوم عليه السلام، لقوة احتمال ذهاب القائلين باعتبار إحراز عناوين الاحكام في امتثالها إلى دخل قصد الوجه والتميز في الإطاعة، وعلى هذا فمقدمات دليل الانسداد - على تقدير تماميتها - لا تنتج الا حجية الظن حكومة أعني التبعيض في الاحتياط. 11 من (1) حكم العقل لقاعدة [بقاعدة] الملازمة، ضرورة (2) أنها انما تكون في مورد قابل للحكم الشرعي، والمورد هاهنا (3) غير قابل له، فان (4) الإطاعة الظنية التي يستقل العقل بكفايتها في حال الانسداد انما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها (5) وعدم (6)
14 جواز اقتصار المكلف بدونها، ومؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه (1) وهو واضح، واقتصار (2) المكلف بما دونها لما كان بنفسه موجبا للعقاب مطلقا (3) أو [الا] فيما أصاب الظن (4) كما (5) أنها بنفسها موجبة
15 للثواب أخطأ (1) أو أصاب (2) من دون (3) حاجة (4) إلى أمر بها أو نهي عن مخالفتها، كان (5) حكم الشارع فيه مولويا بلا ملاك (6) يوجبه كما لا يخفى، ولا بأس به إرشاديا (7) كما هو (8) شأنه في حكمه بوجوب
16 الإطاعة وحرمة المعصية، وصحة نصبه (1) الطريق [نصب الطريق]
17 وجعله في كل حال بملاك (1) يوجب نصبه، وحكمة داعية إليه لا تنافي (2) استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحو (3) حال الانسداد كما يحكم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها مولويا، لما عرفت (4). فانقدح بذلك (5) عدم صحة تقرير المقدمات إلا على نحو
18 الحكومة دون الكشف. وعليها [) 1 وعليه] فلا إهمال في النتيجة
19 أصلا سببا وموردا ومرتبة (1)، لعدم تطرق الاهمال و [أو] الاجمال في حكم العقل، كما لا يخفى. أما بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فيها (2). وأما بحسب الموارد (3)، فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظنية الا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب و ترك الحرام، واستقلاله (4) بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام كما في الفروج والدماء، بل (5) وسائر حقوق الناس مما لا يلزم من الاحتياط فيها العسر.
21 وأما بحسب المرتبة فكذلك (1) لا يستقل إلا بلزوم التنزل إلى [الا بكفاية] مرتبة الاطمئنان من الظن إلا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر (2).
[1] لكن الذي ينبغي أن يقال بناء على مبنى المصنف - وهو الحكومة -: ان المنجز لما كان هو العلم بالاهتمام أو الاجماع، لسقوط العلم الاجمالي - بسب استلزام الاحتياط العقلي للاختلال أو العسر - عن التأثير، فالتعميم والتخصيص من حيث المرتبة والسبب والمورد تابعان للعلم بالاهتمام والاجماع 22 وأما على تقرير الكشف (1)، فلو قيل بكون النتيجة هو نصب
ففي كل مورد ثبت وجوب الاحتياط فيه شرعا لذلك أي للاجماع أو للعلم بالاهتمام وجب فيه الاحتياط عقلا، لعدم وصول النوبة إلى الظن مع التمكن منه، وكل مورد لم يثبت فيه الاحتياط الشرعي - لعدم الاجماع ولا العلم بالاهتمام - لم يجب فيه الاحتياط عقلا، فلا مجال للترجيح بالمرتبة ولا بمزيد الاهتمام على مبنى الحكومة، الا إذا كان المقدار الذي قام الاجماع على وجوب الاحتياط فيه بمقدار لم يمكن فيه الاحتياط التام لا خلاله بالنظام، أو كان حرجيا، فيرجع حينئذ إلى الترجيح بالمرتبة ومزيد الاهتمام، فتدبر جيدا. 23 الطريق الواصل بنفسه، فلا إهمال فيها (1)
25 أيضا (1) بحسب الأسباب، بل يستكشف حينئذ (2) أن الكل حجة لو لم يكن بينها ما هو المتيقن، والا (3) فلا مجال لاستكشاف حجية غيره (4)، ولا (5) بحسب الموارد، بل يحكم بحجيته في جميعها [1] وإلا لزم (6) عدم وصول الحجة ولو لأجل التردد في مواردها كما لا
26 يخفى. ودعوى الاجماع على التعميم بحسبها (1) في مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جدا. [1] وأما بحسب المرتبة، ففيها إهمال، لأجل احتمال حجية خصوص الاطمئناني منه (2) إذا كان وافيا، فلا بد من الاقتصار عليه. [2]
كما إذا فرض وفاء خبر العادل بجميع الموارد، إذ لا حاجة حينئذ إلى حجية غيره فيها. الا أن يقال: ان التقييد في العبارة الأولى يغني عن تقييدها هنا، لان فرض تيقن الاعتبار بمقدار يكون وافيا بالموارد يغني عن غير متيقن الاعتبار في الموارد كما هو الحال في الأسباب، فتأمل جيدا. [1] لكن مجرد عدم تعنونها في كتب القدماء لا يمنع عن دعوى الاجماع إذا كان الحكم معلوما من مذاقهم كغيره من نظائره، نعم لا تخلو دعوى الاجماع على التعميم بحسب الموارد عن غموض من جهة أخرى وهي: أن المفروض وصول الطريق المنصوب شرعا بنفسه، و قيام الاجماع عليه ينافي الوصول بنفسه. [2] لا يخفى أن إهمال النتيجة بحسب المرتبة في غاية الخفاء، فإنه 27 ولو قيل بأن النتيجة هو نصب الطريق الواصل ولو بطريقه، فلا إهمال فيها (1) بحسب الأسباب
على تقدير كفاية الظن الاطمئناني تكون النتيجة معينة، لتعين حجيته بلا حاجة إلى ضم غير الاطمئناني إليه بناء على الترجيح بقوة الظن، وبناء على عدمه فالنتيجة معينة أيضا، لحجية الكل حينئذ من الاطمئناني وغيره. فعلى كل تقدير لا إهمال في النتيجة، غاية الامر أنها كلية بناء على عدم الترجيح بالقوة، وجزئية بناء على الترجيح بها. الا أن يقال: حيث إن المفروض حجية الظن كشفا يمكن 28
للشارع جعل الحجية لمطلق الظن حتى المرتبة الضعيفة منه لمصلحة التسهيل مثلا على المكلف وان أمكن تحصيل الاطمئناني منه بسهولة أيضا، كما يمكن جعل الحجية لخصوص الظن الاطمئناني، وبهذين الاحتمالين تكون النتيجة مهملة، فيتم ما أفاده المصنف قدس سره. 29 لو لم يكن فيها تفاوت (1) أصلا لو لم يكن بينها إلا واحد (2)، والا (3) فلا بد من الاقتصار على متيقن الاعتبار (4) منها أو مظنونه (5) بإجراء (6) مقدمات دليل الانسداد حينئذ (7) مرة أو مرات في تعيين الطريق المنصوب حتى ينتهي إلى ظن واحد (8)
30 أو إلى ظنون متعددة (1) لا تفاوت بينها، فيحكم بحجية كلها، أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار، فيقتصر عليه. وأما بحسب الموارد والمرتبة، فكما إذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه (2) فتدبر جيدا. ولو قيل بأن النتيجة (3)
31 هو الطريق ولو لم يصل أصلا [1] فالاهمال فيها يكون من
[1] فيكون جعل الطريقية كسائر الاحكام الواقعية ذا مراتب من الانشائية والفعلية والتنجز. لكن فيه: أن الغرض من جعل الطرق لما كان رفع جهل المكلف ليقتدر على امتثال الواقعيات كان جعلها بدون وصولها أصلا ولو بطريقها لغوا، لعدم ترتب الغرض الداعي إلى تشريعها - وهو تنجيز الواقعيات مع الإصابة والتعذير عنها عند الخطأ - عليه، فلا بد أن يكون الطريق وأصلا ولو بطريقه، لوفاء الطريق الواصل ولو بطريقه بالغرض المزبور أيضا، بخلاف ما لم يصل أصلا، فإنه لا يرفع حيرة المكلف ولا ينجز الواقعيات، فيلغو جعل الطريقية له ولا يترتب عليه أثر الا تضييق دائرة الاحتياط فيما احتمل جعله طريقا، إذ لولا الجعل المزبور كانت دائرة الاحتياط أوسع. ولكن لا يصح أن يكون هذا الأثر غرضا من نصب الطريق دائما، بل يصح أحيانا، فجعل الطريق وان كان في نفسه كالأحكام النفسية قابلا لعدم الوصول إلى مرتبة التنجز، الا أن ضيق الغرض الداعي إلى جعله أوجب بلوغه حد التنجز، فلا بد من فرض كون الطريق المستكشف نصبه شرعا من دليل الانسداد وأصلا بنفسه أو بطريقه، و لا يصح أن يكون المستكشف طريقا غير واصل مطلقا. فالعمدة في اعتبار كون الطريق المستكشف وأصلا بنفسه أو بطريقه هي ضيق الغرض المذكور لا ما قيل من: (أن المقدمات تكشف لما عن نصب الظن شرعا، ولا إهمال في العلة، فلا إهمال في المعلول، فيستقل العقل بحجية الظن عموما أو خصوصا، وحيث إن المقدمات علة، فالمتعين للنصب هو الظن في قبال الشك والوهم) وذلك لان العقل ليس هو حاكما حتى يقال: انه ليس شاكا في حكمه، بل يقطع بموضوعه، فيحكم، بل العقل بوسيلة مقدمات الانسداد يحرز ولو من باب 33 الجهات (1)، ولا محيص حينئذ (2) الا [1] من الاحتياط في الطريق بمراعاة أطراف الاحتمال لو لم يكن بينها (3) متيقن الاعتبار (4) لو لم يلزم (5) منه محذور، وإلا (6) لزم التنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال، فتأمل، فان المقام من مزال الاقدام.
القدر المتيقن حجية طريق خاص شرعا كالظن الحاصل من خبر صحيح أعلائي، ومن المعلوم أن الحكم من باب القدر المتيقن غير حكم العقل بنصب طريق خاص فقط دون غيره، فتأمل جيدا. [1] الصواب إسقاط (الا) أو كلمة (من) لان المقصود حين الاهمال من جميع الجهات هو إثبات الاحتياط والعمل به، وهذه الجملة لو أبقيت على حالها تفيد عكس المطلوب، لأنها تفيد نفي الاحتياط والفرار عن العمل به كما لا يخفى. وقد تقدم نظيره مع وجهه سابقا. 34 وهم ودفع، لعلك تقول (1): ان القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد، ضرورة (2) أنه من مقدماته انسداد باب العلمي أيضا (3). لكنك غفلت (4) عن أن
35 المراد (1) ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله (2)،
36 لأجل اليقين (1) بأنه (2) لو كان شئ حجة شرعا كان هذا الشئ حجة قطعا، بداهة أن (3) الدليل على أحد المتلازمين انما هو الدليل على
37 الاخر (1)، لا (2) الدليل على الملازمة.
39 ثم لا يخفى (1) ان الظن باعتبار ظن [الظن] بالخصوص يوجب
40 اليقين باعتباره (1) من باب دليل الانسداد على تقرير الكشف بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه، فإنه (2) حينئذ (3) يقطع بكونه حجة كان غيره (4) حجة أولا، واحتمال (5) عدم حجيته بالخصوص (6)
42 لا ينافي (1) القطع بحجيته بملاحظة (2) الانسداد، ضرورة (3) أنه على الفرض (4) لا يحتمل أن يكون غيره حجة (5) بلا نصب قرينة، و لكنه (6) من المحتمل أن يكون هو الحجة دون غيره، لما فيه (7) من خصوصية الظن بالاعتبار. [1]
[1] لا بد أن تكون تلك الخصوصية مما يصح الاعتماد عليه في تعيين الطريق المنصوب، والا كان كغيره من سائر الظنون، وحيث إن المفروض كون النتيجة 43 وبالجملة: الامر يدور (1) بين حجية الكل وحجيته، فيكون مقطوع الاعتبار. ومن هنا (2) ظهر حال القوة، ولعل نظر من رجح بهما [) 3 بها [1]]
هي الطريق الواصل بنفسه فلا محيص عن وفاء الخصوصية بتعيين الحجة، والا لزم أن لا يكون واصلا بنفسه. [1] الظاهر أن الصحيح تثنية الضمير حتى يكون الترجيح بكلا المرجحين 44 إلى هذا الفرض (1)، وكان منع شيخنا العلامة أعلى الله مقامه عن
ويتوجه منع شيخنا الأعظم عليهما لا على الظن بالاعتبار فقط كما جعله في بعض الحواشي. ويؤيد ما ذكرنا أن المصنف أفاد هذا الجمع والتوجيه في حاشيته على الرسائل بالنسبة إلى كل من الظن بالاعتبار والقوة، فراجع الحاشية. 45 الترجيح بهما [) 1 بها] بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل ولو بطريقه أو الطريق ولو لم يصل أصلا، وبذلك (2) ربما يوفق بين كلمات الاعلام [1] في المقام، وعليك بالتأمل التام. ثم لا يذهب عليك أن الترجيح بها (3) انما هو على تقدير كفاية (4)
[1] لا يخفى وجاهة هذا التوجيه في نفسه، لكن لا يساعده ظاهر كلماتهم، فان نظر الشيخ المانع عن الترجيح إلى إثبات عموم النتيجة بإبطال الترجيح بالظن 46 الراجح [1] والا فلا بد من التعدي إلى غيره بمقدار (1) الكفاية، فيختلف الحال باختلاف
وهو مبني على كون النتيجة الكشف عن الطريق الواصل بنفسه، إذ لا يلائم بطلان الترجيح بالظن مع استنتاج اعتبار الظن من دليل الانسداد إلا مع البناء على كون النتيجة هي الطريق الواصل بنفسه، فحمل كلامه على أن نتيجة الانسداد عنده هي الطريق الواصل بطريقه أو غير الواصل أجنبي عن مرامه. وكذا كلام النراقي فإنه - على ما قيل - ظاهر في أن مراده من الترجيح بالظن إجراء مقدمات الانسداد في تعيين الطريق، ومن المعلوم أنه مبني على عدم كون النتيجة الكشف عن الطريق الواصل بنفسه، فكيف يصح حمل كلامه على كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه؟ و أما التوجيه المزبور بالنسبة إلى كلمات المحقق النقي فقيل انها تساعده ولا يحضرني عبارته حتى أراجعها. [1] تخصيص الترجيح بكفاية الراجح غير سديد، لما عرفت من أن الترجيح بذي المزية ثابت على كل حال سواء وفي بجميع الاحكام أم لا، غايته 47 الانظار (1) بل الأحوال. وأما تعميم النتيجة بأن قضية العلم (2) الاجمالي بالطريق هو الاحتياط في أطرافه، فهو (3) لا يكاد يتم الا على تقدير كون النتيجة
أنه مع عدم الوفاء لا بد من التعدي إلى غير ذي المزية بمقدار الكفاية، فالأولى سوق العبارة هكذا: ان الترجيح بها متعين، فان وفى فهو، والا فلا بد.). 48 هو نصب الطريق ولو لم يصل أصلا. مع أن التعميم بذلك (1) لا يوجب العمل إلا على وفق المثبتات من الأطراف دون النافيات (2) إلا فيما كان هناك ناف من جميع الأصناف (3)، ضرورة (4) أن الاحتياط فيها
49 لا يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية إذا (1) لزم، حيث (2) لا ينافيه،
50 كيف (1)؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجة النافية كما لا يخفى، فما ظنك بما لا يجب الاخذ بموجبة (2) إلا من باب الاحتياط، فافهم (3).
51 فصل (1) قد اشتهر الاشكال
52 بالقطع (1) بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة، وتقريره (2) على ما في الرسائل: (أنه كيف يجامع
53 حكم العقل (1) بكون الظن كالعلم مناطا للإطاعة والمعصية ويقبح (2) على الامر والمأمور التعدي عنه (3)
54 ومع ذلك (1) يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس، ولا يجوز (2) الشارع العمل به؟ فان (3) المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظن أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا جرى (4) في غير القياس، فلا يكون (5) العقل مستقلا، إذ (6) لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس واختفي علينا، ولا دافع لهذا الاحتمال
55 إلا قبح ذلك (1) على الشارع، إذ (2) احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلا بقبحه، وهذا (3) من أفراد ما اشتهر من أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص) انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه. وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الاشكال (4) بعد وضوح كون حكم
56 العقل بذلك (1) معلقا على عدم نصب الشارع طريقا وأصلا، وعدم (2) حكمه به فيما كان (3) هناك منصوب ولو كان أصلا [1] بداهة (4) أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي، فلا موضع لحكمه مع (5) أحدهما. والنهي (6) عن ظن حاصل من سبب
[1] لا يخلو من مسامحة، لعدم كون الأصل طريقا، ولذا تكفلت المقدمة 57 ليس (1) إلا كنصب شئ، بل هو يستلزمه [1 [2 فيما كان
(1) هذا خبر (والنهي) ودفع للوهم، وتوضيحه: أن النهي عن ظن ناش عن سبب خاص كالقياس ليس إلا كنصب طريق، حيث إنه بعد النهي عنه لا يصلح لان يقع به الامتثال، فلا يكون مؤمنا، بل يمكن أن يقال: ان النهي عن ظن يستلزم نصب طريق لامتثال الحكم الواقعي حتى لا تفوت مصلحته، فعليه يكون النهي عن ظن كنصب طريق في إناطة حكم العقل بحجية الظن بعدمه. (2) أي: بل النهي عن ظن يستلزم نصب طريق، فضمير (هو) راجع إلى النهي، والضمير المتصل إلى (نصب). الرابعة لنفيه، والمقدمة الثانية لنفي الطريق، فلو قال (كان هناك حجة) سلم من الاشكال. [1] لم يظهر وجه لهذا الاستلزام بعد كون إطلاق دليل ذلك الأصل شاملا لمورد النهي، فان النهي عن القياس مثلا لا يدل بشئ من أنحاء الدلالة الالتزامية على نصب طريق أو جعل أصل في مورده. ولعل مراده باستلزام النهي بقاء الأصل المجعول في مورد النهي على حاله، لا أن النهي يستلزم تشريع أصل في مورده. لكن فيه: أن جريانه منوط بعدم مانع من معارض أو خروج عن الدين مثلا، ومجرد النهي في مورده لا يكفي في جريانه. 58 في مورده (1) أصل شرعي، فلا يكون (2) نهيه عنه رفعا لحكمه عن موضوعه، بل به (3) يرتفع موضوعه. وليس حال النهي عن سبب مفيد للظن إلا كالأمر (4) بما لا يفيده، وكما لا حكومة معه للعقل لا حكومة [لا حكم] له (5) معه،
59 وكما لا يصح بلحاظ حكمه الاشكال فيه (1) لا يصح الاشكال فيه بلحاظه. نعم (2) لا بأس بالاشكال فيه
60 في نفسه (1) كما أشكل فيه برأسه (2) بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير (3) تقدم الكلام في تقريرها وما هو التحقيق في جوابها في جعل الطرق، غاية الامر تلك المحاذير - التي تكون فيما إذا أخطأ الطريق المنصوب - كانت (4) في الطريق المنهي عنه في مورد الإصابة (5)، ولكن من الواضح أنه لا دخل لذلك (6)
61 في الاشكال على دليل الانسداد بخروج القياس (1)، ضرورة (2) أنه بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة (3) قد أشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل (4)، وقد عرفت (5) أنه بمكان من الفساد. واستلزام (6) إمكان المنع عنه
62 لاحتمال (1) المنع عن أمارة أخرى، وقد اختفي علينا وان كان (2) موجبا لعدم استقلال العقل، الا أنه انما يكون (3) بالإضافة إلى تلك الامارة (4) لو كان غيرها (5) مما لا يحتمل فيه المنع
63 بمقدار الكفاية، والا (1) فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض (2) استقلال العقل، ضرورة (3) عدم استقلاله يحكم مع احتمال وجود مانعه، على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع. وقياس حكم العقل (4) بكون الظن مناطا للإطاعة في هذا الحال
64 على (1) حكمه بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح لا يكاد (2) يخفى على أحد فساده، لوضوح (3) أنه مع الفارق، ضرورة (4) أن حكمه في العلم على نحو التنجز، وفيه على نحو التعليق. ثم لا يكاد ينقضي تعجبي لم خصصوا الاشكال [1] 5 بالنهي
[1] لعل وجه التخصيص كما قيل هو: أن مورد استقلال العقل بالإطاعة الظنية 65 عن القياس مع جريانه في الامر بطريق غير (1) مفيد للظن، بداهة (2) انتفاء حكمه في مورد الطريق قطعا، مع أنه لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك (3)، وليس (4) إلا لأجل أن حكمه به معلق على عدم النصب،
دون الشكية والوهمية بعد التنزل عن الاحتياط التام صورة دوران أمر إطاعة الواجبات والمحرمات المعلومة إجمالا بين دائرة المظنونات ودائرتي المشكوكات والموهومات وترجيح الإطاعة الظنية عليهما لقبح ترجيح المرجوح على الراجح، وأما الإطاعة الشكية أو الوهمية زيادة على العمل بمظنونات التكاليف بسبب نصب ما لا يفيد الظن فهي أجنبية عن مورد حكم العقل، ولا يستقل العقل بقبحه حتى ينافيه النصب المزبور وبالجملة: فالنهي عن العمل بظن مناف لحكم العقل بالإطاعة الظنية، بخلاف نصب ما لا يفيد الظن، فإنه لا ينافي حكم العقل، فتأمل جيدا. 66 ومعه لا حكم له كما هو كذلك (1) مع النهي عن بعض أفراد الظن، فتدبر جيدا. وقد انقدح بذلك (2) أنه لا وقع للجواب عن الاشكال تارة بأن (3)
67 المنع عن القياس لأجل كونه غالب المخالفة. وأخرى (1) بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة، و ذلك لبداهة (2) أنه انما يشكل بخروجه بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه بملاحظة (3) حكم العقل بحجية الظن، ولا يكاد يجدي
68 صحته (1) كذلك في الذب [التفصي] عن الاشكال في صحته بهذا اللحاظ، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة. [1]
[1] لا يقال: ان المفاسد المترتبة على العمل بالقياس الموجبة للنهي عنه كافية في خروجه عن عموم نتيجة مقدمات الانسداد، لعدم استقلال العقل بحجيته مع كثرة مخالفته للواقع أو ترتب مفسدة عليه، فلا تفكيك في صحة النهي عن القياس بين الانفتاح والانسداد. فإنه يقال: بالفرق بين الانفتاح والانسداد، إذ لا طريق - حال الانسداد - لامتثال الاحكام الواقعية غير الظن، ومن المعلوم أن العقل مستقل بحجيته، وهذا بخلاف حال الانفتاح، لفرض التمكن من إحراز الواقع بعلم أو علمي، ومعه لا تصل النوبة إلى العمل بشئ من الطرق الموجبة للظن خصوصا إذا كان غالب المخالفة للواقع. وحينئذ فلا محيص في خروج القياس عن هذا الحكم العقلي في ظرف الانسداد عن الالتزام بما أفاده المصنف من كون حكم العقل في باب الإطاعة معلقا على عدم تصرف الشارع في كيفيتها، وليس منجزا، فإذا تصرف الشارع واكتفي في بعض الموارد بالإطاعة الشكية كما في مورد قاعدتي التجاوز والفراغ لم يحكم العقل بعدم الاجتزاء بها ولزوم الامتثال العلمي التفصيلي. 69 وأما ما قيل في جوابه (1) من (2) (منع عموم المنع عنه بحال الانسداد، أو منع [1 [3 حصول الظن منه بعد انكشاف حاله، وأن ما يفسده
[1] الأولى بحسب الترتب الطبعي تقديم الجواب الثاني على الأول، بأن يقال: أنه لا يحصل الظن من القياس أولا، ولا يشمل النهي حال الانسداد على تقدير حصوله منه ثانيا، لاختصاص الأخبار الناهية عن العمل به بحال الانفتاح. 70 أكثر مما يصلحه) ففي (1) غاية الفساد، فإنه - مضافا إلى كون كل واحد
71 من المنعين غير سديد، لدعوى (1) الاجماع على عموم المنع (2)، مع إطلاق أدلته (3)، وعموم علته (4)، وشهادة (5) الوجدان بحصول الظن
72 منه في بعض الأحيان - لا يكاد (1) يكون في دفع الاشكال
73 بالقطع (1) بخروج الظن الناشئ منه بمفيد، غاية الامر (2) أنه لا إشكال (3) مع فرض أحد المنعين، لكنه (4) غير فرض الاشكال، فتدبر جيدا.
74 فصل إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص، فالتحقيق أن يقال (1)
75 بعد تصور المنع (1) عن بعض الظنون في حال الانسداد أنه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع عنه [1 [2 فضلا عما إذا ظن (3) كما أشرنا إليه في الفصل السابق (4)، فلا بد (5) من الاقتصار على ظن قطع بعدم
[1] الا أن يقال: ان المانع ليس هو الردع بوجوده الواقعي، بل بوجوده العلمي فاحتمال وجوده واقعا - مع عدم إحرازه - غير قادح في استقلال العقل بحجيته، فوزان الرادعية وزان الحجية في عدم ترتب الأثر عليها الا بعد العلم بها. 76 المنع عنه (1) بالخصوص (2)، فان كفى (3)، وإلا (4) فبضميمة ما لم يظن المنع عنه وان احتمل (5) مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد و ان انسد باب هذا الاحتمال معها كما لا يخفى، وذلك ضرورة أنه (6) لا احتمال مع الاستقلال حسب الفرض (7).
77 ومنه (1) انقدح أنه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي
78 حجية الظن في الأصول أو في الفروع أو فيهما، فافهم (. [1 [1
[1] هذا كله على الحكومة التي بنى عليها المصنف، ولم يذكر هنا ما يترتب على الكشف، فنقول: بناء عليه ان كانت النتيجة الطريق الواصل بنفسه أو بطريقه تعين العمل بالمانع بناء على اعتبار الظن في مقام الترجيح، حيث إن الظن بالمنع يوجب الظن بكون الطريق المنصوب غيره. وان كانت النتيجة الطريق في الجملة ولو لم يصل، فعلى تقدير إمكان الاحتياط ووجوبه يجب العمل بالممنوع، لأنه من أطراف الشبهة وان كان مظنون المنع. وعلى تقدير عدم إمكانه أو عدم وجوبه لا سبيل إلى الاخذ به مع الظن بعدم اعتباره بل لا بد من الاخذ بالمانع، فتأمل. 80 فصل لا فرق (1) في نتيجة دليل الانسداد بين الظن بالحكم من أمارة عليه و بين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية، كقول
81 اللغوي فيما (1) يورث الظن بمراد الشارع من لفظه، وهو واضح. ولا يخفى أن اعتبار ما يورثه (2)
82 يختص [) 1 لا يختص ظاهرا] بما إذا كان مما ينسد فيه باب العلم، فقول أهل اللغة حجة (2) فيما يورث الظن بالحكم مع الانسداد ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد. نعم (3) لا يكاد يترتب عليه
83 أثر آخر (1) من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما (2) من الموضوعات الخارجية الا (3)
84 فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص (1) أو ذاك (2) المخصوص. ومثله (3) الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع
85 خارجي كالظن بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين مثلا لا آخر (1). فانقدح أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد ولو لم يقم دليل على اعتبار قول الرجالي لا من باب الشهادة [1 [2 ولا من باب الرواية (3).
[1] وجه عدم حجية قول الرجالي من باب الشهادة هو ما قيل من انتهاء التعديلات طرا إلى ابن عقدة الذي هو زيدي جارودي ومات على ذلك، والنجاشي، فلو لم يكن الظن حجة لزم إهمال الاحكام المدلول عليها بالروايات. هذا في حال الانسداد. وأما في حال انفتاح باب العلمي كما هو المبنى 86 تنبيه (1) لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى
الصحيح في هذه الاعصار، لتمامية الدليل القائم على حجية خبر الثقة، فيمكن اعتبار الحجية لقول الرجالي واللغوي من باب الرواية، لدلالة قولهما بالالتزام على الحكم الشرعي بعد تعميم ما دل على حجية خبر الثقة في الاحكام للدلالة الالتزامية، وعدم اختصاصه بالمطابقية، فتأمل فيما أوردناه سابقا على إثبات حجية قول اللغوي بالدلالة الالتزامية. فينحصر وجه اعتبار قولهما بالوثوق و الاطمئنان. 87 مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور مهما أمكن في الرواية (1) وعدم الاقتصار على الظن الحاصل منها بلا سد بابه (2) فيه (3)
89 بالحجة (1) من علم أو علمي، وذلك (2) لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي (3) أو ما بحكمه (4) عقلا (5)، فتأمل جيدا.
90 فصل انما الثابت (1) بمقدمات دليل الانسداد في الاحكام هو حجية
91 الظن فيها (1)، لا حجيته في تطبيق (2) المأتي به في الخارج معها، فيتبع (3) مثلا في وجوب صلاة الجمعة يومها لا في إتيانها [1] بل لا بد من علم أو علمي بإتيانها كما لا يخفى.
[1] الأولى تبديله ب (انطباقها) لان ظاهره التفريع على عدم حجية الظن بالانطباق الذي هو من أوصاف المأتي به، بخلاف الظن بالاتيان الذي هو 93 نعم (1) ربما يجري نظير مقدمات الانسداد في الاحكام في
ظن بأصل وجود متعلق الحكم في الخارج، فإنه لم يسبق له ذكرنا في العبارة حتى يفرع عليه عدم حجية الظن بالاتيان. على أن الأولى كما ذكرنا في التوضيح التعبير بالانطباق، لأنه من أوصاف المأتي به دون التطبيق، فإنه فعل المكلف. مضافا إلى: أن ظاهر العبارة حصر عدم حجية الظن الانسدادي بالظن بالانطباق، مع أنه ليس كذلك، إذ المفروض عدم حجية الظن بأصل الوجود وصحة الموجود معا كما يظهر من عبارة شيخنا الأعظم. الا أن يقال: ان مراد المصنف عدم حجيته في كل من الظن بالاتيان و الظن بالانطباق معا، لكنه لتلخيص العبارة غير ما بعد التفريع عما قبله، الا أنه خلاف ظاهر التفريع، للزوم المناسبة بين المفرع والمفرع عليه كما لا يخفى. 94 بعض الموضوعات الخارجية من (1) انسداد باب العلم به غالبا و اهتمام (2) الشارع به بحيث علم بعدم الرضاء بمخالفة [بمخالفته] الواقع بإجراء (3) الأصول فيه مهما [فيما] أمكن، وعدم [) 4 اهتمام
95 الشارع به بحيث علم] وجوب الاحتياط شرعا أو عدم إمكانه عقلا كما (1) في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة مثلا، فلا محيص (2) عن اتباع الظن حينئذ (3) أيضا، فافهم (4).
96 خاتمة يذكر فيها أمران استطرادا الأول (1): هل الظن كما يتبع عند الانسداد
97 عقلا [1 [1 في الفروع
[1] ظاهره اختصاص بحث حجية الظن في الأصول الاعتقادية بالظن الانسدادي، لكن يظهر من القول الثالث وغيره المنقول في الرسائل عموم النزاع 98 العملية المطلوب فيها أولا (1) العمل بالجوارح يتبع (2) في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها عمل الجوانح من الاعتقاد به وعقد (3) القلب عليه
للظن غير الانسدادي، قال الشيخ الأعظم: (الثالث: كفاية الظن مطلقا و هو المحكي عن جماعة. إلخ) فراجع. ثم إن المقصود ان كان إثبات حجية الظن الانسدادي في الأمور الاعتقادية بنفس المقدمات الجارية في الاحكام الفرعية فهو واضح البطلان، لاختصاص الدليل بمورده وهو الفروع، إذ من جملة مقدماته العلم الاجمالي بالأحكام الفرعية و عدم وجوب الاحتياط فيها، ومن المعلوم أنهما أجنبيان عن الأصول الاعتقادية. وان كان المقصود إجراء مقدمات نظير مقدمات الانسداد الجارية في الفروع في الأصول الاعتقادية، ففيه أن المطلوب في القسم الأول منها ليس تحصيل العلم بها حتى يقوم الظن مقامه إذا تعذر، إذ المفروض كفاية عقد القلب عليها وهو يتحقق بدون العلم بما يجب الاعتقاد به، فلا تتم المقدمة الأولى منها. 99 وتحمله والانقياد له أو لا؟ الظاهر لا، فان (1) الامر الاعتقادي وان انسد باب القطع به، الا أن باب الاعتقاد إجمالا بما هو واقعه و الانقياد له وتحمله غير (2) منسد، بخلاف العمل بالجوارح، فإنه لا يكاد يعلم
100 مطابقته (1) مع ما هو واقعه إلا بالاحتياط، والمفروض (2) عدم وجوبه شرعا أو عدم جوازه عقلا، ولا أقرب من العمل على وفق الظن (3). وبالجملة: لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب الأعمال الجوانحية (4) على الظن فيها مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها، فلا يتحمل (5) إلا لما هو الواقع ولا ينقاد إلا له، لا لما هو مظنونه، وهذا بخلاف العمليات (6) فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد.
101 نعم (1) يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن من
102 باب وجوب المعرفة لنفسها (1) كمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداء (2) لشكر بعض نعمائه، ومعرفة (3) أنبيائه، فإنهم وسائط نعمه و آلائه [1]
[1] ان كان غرضه (قده) توقف شكر المنعم على معرفتهم عليهم السلام، ففيه عدم التوقف عقلا، لامكان تحققه بدونها وعدم نهوض برهان عليه أيضا. وان كان غرضه لزوم معرفتهم عليهم السلام، لأنهم وسائط فيضه جل وعلا، ووسائل وصول النعم إلى الخلق بحيث يكون لهم دخل في فعله جل وعلا، فهو ينافي التوحيد الفعلي، ويكون الشكر لهم على حد شكر المنعم الحقيقي شركا بالمنعم بما هو منعم. والحاصل: أن دخلهم عليهم السلام في النعم ليس كدخله تبارك و تعالى فطريا حتى يوجب شكرهم المقتضي لوجوب معرفتهم، فلا ينبغي جعل وجوب معرفتهم في عرض وجوب معرفته جل وعلا، و من باب وجوب شكره عظم شأنه، بل 103 بل وكذا معرفة الإمام عليه السلام على وجه صحيح (1) (×) فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك (2)، ولاحتمال الضرر (3) في تركه (4).
(×) وهو كون الإمامة كالنبوة منصبا إلهيا يحتاج إلى تعيينه تعالى و نصبه، لا أنها من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين وهو الوجه الاخر. لا بد من استناد وجوب معرفتهم إلى وجه آخر، وهو: أن الشكر المناسب لمقام المنعم الحقيقي والمعين من ناحيته لا يعلم إلا من قبل أوليائه عليهم الصلاة والسلام لأنهم وسائط التشريع، لقصور النفوس البشرية عن تلقي الوحي الإلهي بلا وساطة تلك الذوات المقدسة. وبالجملة: فالشكر على الوجه المطلوب له سبحانه وتعالى أوجب معرفتهم، فلا يكون وجوب معرفتهم في عرض وجوب معرفته عز اسمه. وهذا وجه وجيه لا يعتريه ريب. 104 ولا يجب (1) عقلا [1] معرفة غير ما ذكر إلا ما وجب شرعا معرفته كمعرفة الإمام عليه السلام على وجه آخر (2) غير صحيح، أو أمر (3) آخر مما دل الشرع على وجوب معرفته
[1] هذا عدول عما أفاده في تعليقته على الرسائل من انقسام ما يجب معرفته إلى أقسام ثلاثة بقوله: (أحدها ما يجب معرفته عقلا بما هو هو. ثانيها ما يجب معرفته كذلك، لكونه مما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وأخبر به، والا لم يعرف له خصوصية موجبة للزوم معرفته من بين الأشياء. ثالثها ما يجب معرفته شرعا) وجعل من القسم الأول معرفة الله ومعرفة أنبيائه وأوصيائهم عليهم 105
السلام على وجه صحيح، وهو كون الولاية كالنبوة منصبا إلهيا. وجعل من القسم الثاني ما علم ثبوته من الدين ومما جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وآله. أقول: لعل وجه العدول ما نبه عليه بعض محققي المحشين (قده) من أنه إذا كان اللازم في الأمور الاعتقادية مجرد الالتزام النفساني و عقد القلب، واختص وجوب تحصيل العلم والمعرفة ببعضها كما هو صريح كلامه، فلا وجه لعد القسم الثاني مما يجب معرفته، لعدم دليل على وجوبه لا عقلا ولا نقلا، ومع نهوضه على وجوب تحصيل العلم بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله يعم كلا من الأمور الاعتقادية و الاحكام الفرعية، إذ الموجب لتحصيل العلم وهو عنوان مجيئه صلى الله عليه وآله به مشترك بين الكل، فلا وجه لتخصيص الوجوب بالبعض، ومن المعلوم أن نفي هذا الوجوب لا ينافي وجوب الالتزام بجميع ما جاء صلى الله عليه وآله به، لعدم التلازم بينهما، ضرورة إمكان الالتزام بشئ على ما هو عليه مع عدم العلم به تفصيلا، بل ولا إجمالا، كخصوصيات البرزخ والبعث وغيرهما. وأما وجوب الالتزام بذلك مع عدم العلم به، فلان مرجع عدمه إلى عدم الاقرار برسالته صلى الله عليه وآله وسلم فيما أرسل به، وهو ينافي الايمان. وكيف كان، فتحقيق المقام يتوقف على التعرض إجمالا لأمور: الأول: ما مرت الإشارة إليه من أنه لا تلازم بين وجوب الاعتقاد بشئ ووجوب معرفته، بداهة إمكان الالتزام النفساني بذلك على ما هو عليه في الواقع من دون توقفه على العلم به مطلقا حتى إجمالا، كما أنه يمكن العلم بشئ مع عدم الاعتقاد به، بل مع جحده والاعتقاد بخلافه، بشهادة قوله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) كما أنه يمكن اجتماعهما، فالنسبة بينهما عموم من وجه. 106
الثاني: أنه إذا شك في وجوب المعرفة أو الاعتقاد أو أحدهما أو في وجوب المعرفة التفصيلية بعد نهوض الدليل على وجوبها في الجملة، فأصل البراءة ينفى وجوب الجميع، لما فيه من الكلفة والمشقة. الثالث: أنه نفي الريب والاشكال في كلمات جملة من الاعلام عن وجوب معرفة الله عز وجل وصفاته ومعرفة وسائط نعمه وآلائه من الأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام، بل ادعي الاجماع عليه، لكنه غير ظاهر بعد استدلال غير واحد على وجوب المعرفة بأنه عقلي بمناط شكر المنعم، أو فطري بمناط دفع الضرر المحتمل. وكيف كان، فلا ينبغي الارتياب في وجوب هذه المعارف بحيث لا مسرح لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيه، لان موردها عدم اهتمام الشارع بالتكليف في ظرف الجهل به، وأما معه بحيث يحكم العقل بمنجزية الاحتمال كحكمه بها في الشبهات البدوية قبل الفحص، فلا تجري فيه قاعدة القبح، والمقام مثله، لوجود هذا الحكم العقلي أو الفطري فيه. كما لا ينبغي الاشكال في عدم صحة الاستدلال على وجوب هذه المعارف بالأدلة السمعية كتابا وسنة، لتوقف صحته على حجيتهما عند الجاهل بهذه المعارف، وهي غير ثابتة، فينحصر دليل هذا الوجوب بالعقل أو الفطرة، فعلى القول بالتحسين والتقبيح العقليين كما عليه العدلية قد يقال بكون الوجوب عقليا، لان شكر المنعم ودفع الضرر المحتمل عن النفس واجبان عقلا، وهما منوطان بالمعرفة، ومقدمة الواجب واجبة، فوجوب المعرفة حينئذ غيري عقلي. وعلى القول بعدم التحسين والتقبيح العقليين يكون وجوب المعرفة غيريا فطريا. هذا كله بناء على عدم كون المعرفة بنفسها شكرا. 107
وأما بناء على ذلك كما هو ظاهر قول المصنف (قده) تعليلا لوجوب المعرفة (أداء لشكر بعض نعمائه) فيكون وجوبها نفسيا عقليا، لا غيريا بناء على قاعدة التحسين والتقبيح. وبالجملة: فوجوب المعرفة نفسيا عقليا موقوف على كونها بنفسها شكرا، وعلى كون الشكر واجبا، وعلى قاعدة التحسين. والكل مخدوش، لعدم كون مجرد المعرفة بنفسها شكرا للمنعم، لان الشكر لغة هو الاعتراف بالنعمة وفعل الطاعة وترك المعصية، قال في مجمع البحرين: (وشكرت الله اعترفت بنعمته وفعلت ما يجب من فعل الطاعة وترك المعصية) وإليه يرجع ما في الشوارق من (أن الشكر اللغوي هو الثناء على الاحسان) وعرفا كما في الشوارق أيضا (هو الفعل المنبئ عن تعظيم المنعم) فالمعرفة بنفسها ليست شكرا لا لغة ولا عرفا. وبعد تسليم كونها شكرا لا يستلزم حسنها وجوبها. و قاعدة التحسين والتقبيح وان كانت مسلمة عند العدلية، لكن المقام ليس من صغرياتها، لان وجوب دفع الضرر ليس من الاحكام العقلية، بل هو من الفطريات المجبولة عليها النفوس من دون توقفه على حكم العقل بحسنه، بداهة أن كل ذي شعور والتفات وان لم يكن من ذوي العقول يفر من الشئ المضر، كما هو المشاهد في الحيوانات، كما أنه يسعى إلى الشئ النافع ويميل إليه ويرجح فعله على تركه، فان الفرار من الضرر والسعي إلى النفع لا يتوقفان على حكم العقل بحسنه أو قبحه، والا لاختصا بذوي العقول، بل هما من الأمور الفطرية لكل ذي شعور وان كان حيوانا، ولا ربط لهما بالتحسين والتقبيح العقليين. فالحق أن يقال: ان وجوب المعرفة فطري غيري لا شرعي ولا نفسي عقلي. 108
أما فطريته، فلما عرفت من كون دفع الضرر وجلب النفع جبليا لكل ذي شعور، وأما غيريته، فلمقدمية المعرفة لدفع الضرر. ومنه يظهر عدم وجوبها النفسي بعد وضوح مقدميته لدفع الضرر، وانتفاء ملاك النفسية فيه، واحتمال وجوبها كذلك لكونها بنفسها شكرا ضعيف، لما مر أولا من عدم انطباق حد الشكر عليها، وثانيا بعد تسليمه من عدم دلالة حسن الشكر على وجوبه، إذ ليس لازما مساويا للوجوب. واما عدم شرعيته، فلانه لا يصح الاستدلال عليه بالأدلة النقلية كما مر آنفا. الرابع: أنه يجب الاعتقاد والالتزام النفساني بما حصل له من المعرفة بالله تعالى وأنبيائه وأوصيائهم عليهم الصلاة والسلام، لدخل عقد القلب على ذلك قطعا أو احتمالا في أداء الشكر الواجب، بحيث لا يحصل القطع بأدائه الا بالاعتقاد المزبور، فالاخلال به مظنة للضرر الذي يلزم عقلا أو فطرة دفعه، وهذا الوجوب ثابت ولو مع عدم التمكن من المعرفة، لما تقدم من إمكان الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه و عدم توقفه على المعرفة. الخامس: إذا لم يتمكن من تحصيل المعرفة في الأصول الاعتقادية، فهل يقوم الظن مقامها أم لا؟ فيه تفصيل، وهو: أنه ان كان المطلوب فيها عقد القلب والانقياد لها كخصوصيات عالم البرزخ والبعث و الجنة والنار لا المعرفة بذلك، فالظن الخاص حجة فيها، ولا مانع من عقد القلب على مضمونه، وأما الظن المطلق فليس حجة فيها، لعدم جريان دليل الانسداد هنا، إذ من مقدماته عدم وجوب الاحتياط أو عدم جوازه للعسر أو اختلال النظام، ومن المعلوم إمكان 109
الاحتياط في هذا القسم من الأمور الاعتقادية بالالتزام بما هو الواقع على إجماله، وعدم لزوم شئ من العسر والاختلال منه. وان كان المطلوب فيها المعرفة عقلا أو شرعا كمعرفة الله عز وجل و أنبيائه وأوصيائهم عليهم السلام والمعاد الجسماني، فلا يقوم الظن مطلقا - وان كان خاصا - مقام المعرفة، لعدم كون الظن معرفة مع بقاء ظلمة الجهل معه، ولأن العلم مأخوذ في هذه الأمور الاعتقادية على وجه الصفتية، وقد ثبت في محله عدم قيام الامارات غير العلمية مقامه. وعليه فيسقط وجوب المعرفة، لكونه تكليفا بغير مقدور. وأما ما عدا وجوب المعرفة مما يتعلق بالجاهل القاصر فيذكر في ضمن جهات: الأولى: في وجوده في الخارج، الحق أنه بالنسبة إلى معرفة الله سبحانه وتعالى ولو من ناحية الآثار التي تتدين بها العجائز معدوم أو نادر جدا، إذ من له أدنى شعور والتفات إلى وجود نفسه وحدوثه بعد عدمه يحصل له العلم بوجود الصانع، بل هو كذلك بالنسبة إلى النبوة والإمامة العامتين أيضا. نعم الجاهل القاصر بالإضافة إلى النبوة و الإمامة الخاصتين لغموض المطلب أو قلة الاستعداد أو الغفلة في غاية الكثرة. الثانية: أنه لا يستحق العقاب على جهله، إذ المفروض قصوره، والعقل مستقل بقبح المؤاخذة على أمر غير مقدور لكونها ظلما. وبالجملة: فالجاهل القاصر معذور، ولذا لا يعاقب بشرط عدم معاندة الحق وإنكاره، وهذا واضح لا غبار عليه، ولكن مع ذلك التزم المصنف (قده) 110
في تعليقته على المتن وفي مبحثي القطع والطلب والإرادة باستحقاقه للعقاب بناء منه على أنه من تبعات البعد عن المولى الناشئ عن الخباثة المنتهية إلى أمر ذاتي، والذاتي لا يعلل. وقد عرفت في مباحث القطع ضعفه. نعم لا إشكال في عدم قبح مؤاخذة الجاهل المقصر، لعدم كونها عقابا على أمر غير مقدور مع تمكنه من تحصيل المعرفة بالحق، هذا كله في الأمور الاعتقادية التي يجب تحصيل المعرفة بها. وأما ما لا يجب فيها إلا عقد القلب والالتزام، فالبحث عن وجوب المعرفة فيها ساقط، إذ الواجب هو الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه، لا الاعتقاد عن معرفة حتى يجب تحصيلها ويبحث عن حكم الجاهل بها. الثالثة: الظاهر أن أحكام الكفر من النجاسة وعدم التوارث وعدم جواز المناكحة وغيرها تترتب على الجاهل بالأصول الاعتقادية التي تجب المعرفة بها عقلا أو شرعا كمعرفة الباري جل وعلا والنبي و الوصي عليه الصلاة والسلام والمعاد، ضرورة أن أحكام الاسلام أنيطت بمعرفة هذه الأمور، فانتفاؤها يوجب الكفر، ومقتضى إطلاق أدلة تلك الأحكام عدم ترتبها على غير العارف المعترف بتلك الأمور الاعتقادية سواء أكان عارفا جاحدا أم جاهلا مقصرا أم قاصرا بسيطا ومركبا، لصدق عدم العارف المعترف على الجميع. قال المحقق الطوسي والعلامة (قد هما) في التجريد وشرحه: (والكفر عدم الايمان، اما مع الضد بأن يعتقد فساد ما هو شرط في الايمان، أو بدون الضد كالشاك الخالي من الاعتقاد الصحيح). والحاصل: أن الجاهل القاصر وان لم يكن جاحدا محكوم بالكفر. وفي المقام أبحاث كثيرة نافعة لكن التعرض لها ينافي وضع التعاليق. 111 وما لا دلالة (1) على وجوب معرفته بالخصوص لا من العقل ولا من النقل
112 كان (1) أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة، ولا دلالة لمثل قوله تعالى (2): (وما خلقت الجن والإنس) الآية، ولا (3) لقوله صلى الله عليه وآله: (وما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس) [1] ولا (4) لما دل على وجوب
[1] الذي عثرنا عليه بهذا المضمون روايتان مرويتان عن أبي عبد الله عليه السلام إحداهما في الكافي ج 3 ص 264، والأخرى في التهذيب ج 2 ص 236، وروى إحداهما في الوسائل ج 3 ص 25. 113 التفقه وطلب العلم من الآيات والروايات على وجوب (1) معرفته بالعموم، ضرورة (2) أن المراد من (ليعبدون) هو خصوص عبادة الله ومعرفته. والنبوي انما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات، لا بيان حكم المعرفة، فلا إطلاق فيه أصلا. ومثل آية النفر انما هو بصدد بيان
114 المتوسل به إلى التفقه الواجب، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته (1) كما لا يخفى. وكذا ما دل على وجوب طلب العلم انما هو بصدد الحث على طلبه لا بصدد بيان ما يجب العلم به (2). ثم انه (3) لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا أو شرعا
115 حيث إنه ليس بمعرفة قطعا، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن، ومع العجز عنه كان معذورا ان كان (1) عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلة الاستعداد كما هو (2) المشاهد في كثير من النساء بل
116 الرجال، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد ولو لأجل (1) حب طريقة الاباء والأجداد واتباع سيرة السلف، فإنه كالجبلي للخلف، وقلما عنه (2) تخلف [يتخلف.] والمراد من المجاهدة (3)
117 في قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) هو المجاهدة مع النفس بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل، وهي التي كانت أكبر من الجهاد، لا (1) النظر والاجتهاد، والا (2) لادى إلى الهداية، مع أنه يؤدي إلى الجهالة والضلالة الا إذا كانت هناك منه تعالى
118 عناية، فإنه [1 [1 غالبا بصدد إثبات أن ما وجد آباءه عليه هو الحق لا بصدد الحق، فيكون مقصرا مع اجتهاده ومؤاخذا (2) إذا أخطأ على قطعه واعتقاده. ثم لا استقلال للعقل [[2 [3 لا يخفى عدم استقلال العقل] بوجوب
[1] لا يخفى أن هذا التعليل أجنبي عن ظاهر الآية بل صريحها، فان قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا) بقرينة الظرف صريح في كون المجاهدة للوصول إلى الحق والفوز بمعرفته، لأنها مجاهدة في الله، و عليه فينحصر إثبات إرادة خصوص جهاد النفس من الآية الشريفة في قوله تعالى: (لنهدينهم) لكونه قرينة ظاهرة في عدم تخلف المجاهدة عن الواقع في شئ من الموارد، وأن المجاهدة موصلة إلى المطلوب دائما ان لم يكن المراد بالهداية إراءة الطريق. [2] هذا مبني على عدم كون الظن من مراتب العلم، والا - كما لا يبعد ذلك ولو حين عدم التمكن من تحصيل العلم - فيستقل العقل بلزوم تحصيل الظن حينئذ بمناط وجوب شكر المنعم أو غيره، ووجوب الاعتقاد به من دون لزوم التشريع كما قيل، إذ المفروض كون الظن حال انسداد باب العلم من مراتب العلم بحكم العقل الذي هو حجة، فتدبر. 119 تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم فيما (1) يجب تحصيله عقلا لو أمكن (2) لو لم نقل (3) باستقلاله بعدم وجوبه، بل (4) بعدم جوازه،
120 لما (1) أشرنا إليه من أن الأمور الاعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد لها [1] فلا (2) إلجاء فيها أصلا إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه باب العلم، بخلاف الفروع العملية
[1] الأولى تذكير الضمير، لرجوعه إلى الموصول في (بما) المراد به الشئ الذي هو واقع تلك الأمور الاعتقادية، فالأولى سوق العبارة هكذا: يمكن الاعتقاد بما هو واقعها والانقياد له. 121 كما لا يخفى. وكذلك (1) لا دلالة من النقل على وجوبه فيما يجب معرفته مع الامكان شرعا (2)، بل الأدلة الدالة على النهي عن اتباع الظن دليل على عدم جوازه [1] أيضا (3). وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا (4) أن القاصر
[1] الا أن يقال: ان الأدلة الناهية عن اتباع الظن ناظرة إلى عدم جواز متابعته بالاعتقاد بمؤداه لا إلى تحصيله، فلا يكون تحصيله كما هو مفروض البحث منهيا عنه. 122 يكون (1) في الاعتقاديات للغفلة، أو عدم الاستعداد للاجتهاد (2) فيها، لعدم (3) وضوح الامر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها إلا عن تقصير
123 كما لا يخفى، فيكون (1) معذورا عقلا. (×) ولا يصغى إلى (2) ما ربما قيل بعدم وجود القاصر فيها، لكنه (3) انما يكون معذورا غير معاقب على عدم معرفة الحق إذا لم يكن يعانده بل كان ينقاد له على إجماله لو احتمله (4).
(×) ولا ينافي ذلك عدم استحقاقه درجة، بل استحقاقه دركة لنقصانه بسبب فقدانه للايمان به تعالى أو برسوله، أو لعدم معرفة أوليائه، ضرورة أن نقصان الانسان لذلك يوجب بعده عن ساحة جلاله تعالى، وهو يستتبع لا محالة دركة من الدركات، فلا إشكال فيما هو ظاهر بعض الآيات والروايات من خلود الكافر مطلقا ولو كان قاصرا، فقصوره انما ينفعه في رفع المؤاخذة عنه بما يتبعها من الدركات، لا فيما يستتبعه نقصان ذاته ودنو نفسه وخساسته، فإذا انتهى إلى اقتضاء الذات لذلك فلا مجال للسؤال عنه بلم ذلك، فافهم. 124 هذا بعض الكلام مما يناسب (1) المقام. وأما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر والاسلام فهو مع عدم مناسبته (2) خارج (3) عن وضع الرسالة. الثاني: الظن (4) الذي لم يقم على حجيته دليل هل يجبر به ضعف
125 السند أو الدلالة بحيث صار حجة (1) ما لولاه لما كان بحجة، أو يوهن (2)
128 به ما لولاه على خلافه لكان حجة، أو يرجح (1) به أحد المتعارضين بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح لأحدهما، أو كان (2) للاخر منهما أم لا؟ ومجمل القول في ذلك (3): أن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته هو الدخول بذلك (4) تحت دليل الحجية أو
129 المرجحية الراجعة (1) إلى دليل الحجية. كما أن (2) العبرة في الوهن انما هو الخروج بالمخالفة (3) عن تحت دليل الحجية، فلا يبعد (4)
130 جبر ضعف السند في الخبر (1) بالظن بصدوره (2) أو بصحة مضمونه (3) ودخوله بذلك تحت ما دل على حجية ما يوثق، فراجع أدلة اعتبارها (4).
131 وعدم (1) جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد، لاختصاص (2) دليل
132 الحجية بحجية الظهور في تعيين المراد، والظن من أمارة خارجية به لا يوجب (1) ظهور اللفظ فيه كما هو ظاهر، الا فيما (2) أوجب القطع ولو إجمالا باحتفافه بما كان موجبا لظهوره فيه لولا (3) عروض انتفائه. وعدم (4) وهن السند بالظن بعدم صدوره،
133 وكذا (1) عدم وهن دلالته مع ظهوره الا (2) فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهوره فيما (3) فيه ظاهر [ظاهرا]
[1] لكن لا يخفى أن ما ذكره في عدم وهن السند بالظن الموجب للظن بعدم الصدور ينافي قوله: (فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر) لان المدار في الحجية ان كان هو الظن بالصدور أو المطابقة للواقع، فالظن الرافع لهما يوجب الوهن لا محالة، لارتفاع مناط الحجية به، فلاحظ. 134 لولا (1) تلك القرينة، لعدم (2) اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة، ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره أو ظن بعدم إرادة ظهوره (3). وأما (4) الترجيح بالظن فهو فرع دليل على الترجيح به بعد سقوط
135 الامارتين بالتعارض من البين (1)، وعدم (2) حجية واحد منهما بخصوصه وعنوانه وان بقي أحدهما بلا عنوان على حجيته (3) ولم يقم (4) دليل بالخصوص على الترجيح به وإن ادعى شيخنا العلامة أعلى الله مقامه استفادته (5) من الأخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة
136 على ما يأتي تفصيله (1) في التعادل والترجيح [والتراجيح.] و مقدمات الانسداد (2) في الاحكام انما (3) توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة لا الترجيح به ما لم توجب الظن بأحدهما (. [1 [4
[1] الا أن يوجب الظن غير المعتبر ظنا بالحكم أو بالحجية، فان موافقة 137 ومقدماته (1) في خصوص الترجيح لو جرت (2)
أحد الخبرين المتعارضين مثلا لهذا الظن توجب الظن بحجيته، فيندرج في الظن بالطريق الذي هو نتيجة دليل الانسداد، وبذلك يتحقق ترجيح أحدهما على الاخر قهرا، فالظن بالترجيح لا يقصر عن الظن بالحكم الناشئ من قول اللغوي في إيجابه للحجية. 138 انما توجب (1) حجية الظن في تعيين المرجح (2)، لا أنه مرجح، الا (3)
139 إذا ظن أنه (1) أيضا (2) مرجح، فتأمل جيدا (3). هذا (4) فيما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل.
140 وأما ما قام (1) الدليل على المنع عنه كذلك (2) كالقياس، فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح فيما لا يكون لغيره أيضا، وكذا فيما
141 يكون به أحدهما [أحدها 1 (]
142 لوضوح (1) أن الظن القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه (2) لكان حجة بعد المنع عنه لا يوجب (3) خروجه عن تحت دليل الحجية،
143 وإذا كان (1) على وفق ما لولاه لما كان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية. وهكذا (2) لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين، وذلك (3) لدلالة دليل المنع على إلغائه (4) الشارع
144 رأسا، وعدم (1) جواز استعماله في الشرعيات قطعا، ودخله (2) في واحد منها نحو استعمال له فيها كما لا يخفى، فتأمل جيدا (3).
145 المقصد السابع في الأصول العملية (1) وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد
146 الفحص [1] 1 واليأس عن الظفر بدليل
[1] فيترتب على هذه الأصول العلم بالحكم الظاهري عند القائل به، و على القواعد الممهدة للاستنباط العلم بالحكم الواقعي أو ما هو بمنزلته على اختلاف الأقوال في حجية الامارات، ولا يلزم إشكال تعدد علم الأصول من ترتب هذين الغرضين على مسائله، وذلك لوحدة الغرض المترتب على جميعها حيث إنه ليس الا المنجزية أو المعذرية عقلا أو شرعا الموجبة للأمن من العقوبة الذي يهتم لتحصيله العقل، فلا ينثلم ما قيل من: أن تمايز العلوم تمايز الاغراض باختلاف ما يترتب على القواعد الممهدة وعلى الأصول العملية. 147 مما (1) دل [ما دل] عليه حكم العقل أو عموم النقل، والمهم منها أربعة (2)، فان مثل (3) قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة
148 الحكمية (1) وان كان مما ينتهي (2) إليها فيما لا حجة على طهارته و لا على نجاسته، الا أن البحث (3) عنها ليس بمهم، حيث إنها [1] ثابتة بلا كلام من دون حاجة إلى
[1] أو أنها قاعدة في الشبهات الموضوعية، حيث إن الطهارة والنجاسة ليستا من الأحكام الشرعية، وانما هما من الموضوعات الخارجية التي كشف عنها الشارع، وعليه فلا تجري في الشبهات الحكمية حتى يبحث عنها في علم الأصول. لكن فيه ما أفاده المصنف (قده) في تعليقته على المتن، فلاحظ. أو أنها ترجع إلى أصالة البراءة كما عن شيخنا الأعظم (قده). لكن أورد عليه بأنها تجري لاحراز الشرط. مثل طهارة ماء الوضوء و طهارة لباس المصلي. وحاصل هذا الاشكال: أن البراءة أصل ناف لا مثبت، والشرط أمر وجودي فلا يحرز بهذا الأصل النافي، فجريانه لاحراز الشرط كاشف عن مغايرته لقاعدة 149 نقض وإبرام، بخلاف الأربعة وهي البراءة والاحتياط والتخيير
الطهارة، وعدم رجوع هذه القاعدة إلى البراءة حتى يجوز إهمالها اعتمادا عليها. أقول: لعل نظر من قال بذلك إلى كون الطهارة جواز تكليفيا أو منتزعة عنه، فطهارة الماء مثلا هي جواز استعماله، ونجاسته عدم جوازه، فان كان الامر كذلك، فلما حكي عن الشيخ وجه. لكن فيه: - مع أنه خلاف مختاره (قده) في تشريع الطهارة - عدم كفاية مجرد جواز الاستعمال فيما أخذت الطهارة شرطا لصحته كطهارة ماء الوضوء وبدن المصلي ولباسه، إذ لا إشكال في جواز استعمال الماء المتنجس في نفسه تكليفا مع عدم حصول الغرض وهو ارتفاع الحدث والخبث به، فرجوع قاعدة الطهارة إلى أصالة البراءة غير ظاهر. فلعل وجه إهمالهم لقاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكمية في علم الأصول هو: أن النجاسات معدودة محصورة، فالشك في نجاسة غيرها ان كان في نجاسته الذاتية أمكن إثبات طهارته بالاطلاق ولو مقاميا، حيث إن حصر النجاسات الذاتية في عدد معين و عدم بيان غيره دليل على انحصار النجاسات فيه، وطهارة غيره. وان كان الشك في نجاسته العرضية كالشك في انفعال الماء القليل بملاقاته للنجس، أو نجاسة العصير العنبي المغلي، أو نحو ذلك، فالمرجع فيها مع عدم الدليل هو استصحاب الطهارة لا قاعدتها. وبالجملة: فقاعدة الطهارة لا تجري في الشبهة الحكمية مطلقا سوأ كان الشك في النجاسة الذاتية أم العرضية، فلا وجه لذكرها في علم الأصول. نعم بناء على عدم جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية تجري قاعدة الطهارة في الموارد المذكورة وغيرها، فتدبر. 150
ثم إن المصنف (قده) لم يتعرض في المتن لضبط مجاري الأصول الأربعة وتنقيحها. وقد ضبطها في حاشية الرسائل، ورأينا أن إهماله في هذا الشرح غير مناسب، فقد تعرضنا هنا لما اختاره في الحاشية، و حيث إنه (قده) ذكره هناك في ذيل شرح عبارات الشيخ الأعظم (قده) فلا بد أولا من نقل عبارات الرسائل ثم التعرض لكلمات المصنف، وللشيخ في ضبط مجاري الأصول عبارات ثلاث: أما العبارة الأولى فهي: (لأن الشك اما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا، وعلى الثاني فاما أن يمكن الاحتياط أم لا، وعلى الأول فاما أن يكون الشك في التكليف أو في المكلف به، فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني مجري التخيير والثالث مجرى أصالة البراءة، و الرابع مجرى قاعدة الاحتياط). والمستفاد منه: أن مجرى التخيير هو الشك الذي لا يمكن فيه الاحتياط سواء كان الشك في التكليف أم المكلف به، لان قوله: (أم لا) بعد قوله: (فاما أن يمكن فيه الاحتياط) يكون ظاهرا في أن الشك غير الملحوظ معه الحالة السابقة ان لم يمكن فيه الاحتياط مجرى التخيير، سواء كان الشك في التكليف أم المكلف به، بل وان كان التكليف معلوما، لان انقسام الشك إلى كونه في التكليف والمكلف به انما هو بعد بيان مجرى التخيير، فلا يلاحظ في مجرى التخيير اعتبار كون الشك في التكليف أو المكلف به، فتجري قاعدة التخيير فيما لا يمكن فيه الاحتياط مطلقا سواء كان الشك في نفس التكليف كما إذا دار حكم شئ بين الوجوب الحرمة والإباحة، أم في المكلف به مع العلم بالتكليف، كدوران الامر بين المحذورين، فضابط قاعدة التخيير هو عدم إمكان الاحتياط من دون لحاظ كون الشك في التكليف أو المكلف به، فلا يعتبر فيه إلا قيد 151
واحد وهو عدم إمكان الاحتياط. وأما مجرى أصالة البراءة فهو الشك في التكليف مع إمكان الاحتياط فيه، فيعتبر في مجرى البراءة قيدان أحدهما إمكان الاحتياط، و الاخر كون الشك في نفس التكليف. وأما مجرى قاعدة الاحتياط فيعتبر فيه أيضا قيدان: أحدهما إمكان الاحتياط والاخر كون الشك في المكلف به، كدوران متعلق الوجوب مثلا بين صلاتي الظهر والجمعة، أو دوران الحكم الإلزامي بين وجوب شئ كالدعاء عند رؤية الهلال وبين حرمة غيره كشرب التتن، فان الاحتياط في هاتين الصورتين ممكن فيجب. وأما العبارة الثانية المذكورة في حاشية الصفحة الأولى من مباحث القطع فهي هذه: (وبعبارة أخرى: الشك اما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أولا، فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني اما أن يكون الشك فيه في التكليف أولا، فالأول مجرى أصالة البراءة، والثاني اما أن يمكن الاحتياط فيه أو لا، فالأول مجرى قاعدة الاحتياط، والثاني مجرى قاعدة التخيير) والمستفاد من هذه العبارة التي نسبها غير واحد إلى بعض أعاظم تلامذة الشيخ (قدهما) هو: أنه لا يعتبر في مجرى البراءة الا كون الشك في نفس التكليف، وأما إمكان الاحتياط فلم يثبت اعتباره فيه، فالمعتبر في مجرى البراءة على ما يظهر من هذه العبارة قيد واحد وهو الشك في التكليف، بخلاف العبارة الأولى، لظهورها في اعتبار قيدين في مجرى البراءة أحدهما كون الشك في التكليف، والاخر إمكان الاحتياط فيه. 152
فعلى هذا يكون دوران حكم شئ بين الوجوب والحرمة والإباحة مجرى البراءة، لكون الشك فيه في نفس التكليف مع عدم إمكان الاحتياط فيه، ومجرى قاعدة التخيير أيضا بناء على ظاهر العبارة الأولى من كون مجراها عدم إمكان الاحتياط فيه سواء كان الشك في نفس التكليف كهذا المثال أم في المكلف به كدوران الامر بين المحذورين. وأما مجرى قاعدة الاحتياط فهو أن لا يكون الشك في التكليف وأن يمكن فيه الاحتياط، فيعتبر فيه قيدان: أحدهما عدمي وهو عدم كون الشك في التكليف، والاخر وجودي وهو إمكان الاحتياط، كالعلم بوجوب أحد شيئين كصلاتي الظهر والجمعة، لامكان الاحتياط بفعل كلتيهما، وعدم كون الشك في نفس التكليف. وأما مجرى قاعدة التخيير، فهو: أن لا يكون الشك في التكليف وأن لا يمكن فيه الاحتياط، فالشك في وجوب شئ أو حرمته أو إباحته مجرى قاعدة التخيير بناء على العبارة الأولى، لعدم إمكان الاحتياط فيه، إذ لم يعتبر في مجراها الا عدم إمكان الاحتياط، ولم يعتبر فيه الشك في التكليف، ومجرى أصالة البراءة بناء على هذه العبارة، لكون الشك فيه في التكليف، ولم يعتبر في مجراها الا هذا. وأما العبارة الثالثة المذكورة في أوائل البراءة فهي: (والثاني - أي الشك غير الملحوظ معه الحالة السابقة - اما أن يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا، والثاني هو مورد التخيير، والأول اما أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول، واما أن لا يدل، والأول مورد الاحتياط، والثاني مورد البراءة) وظاهره: أن مجرى قاعدة التخيير هو عدم إمكان الاحتياط سواء كان الشك في التكليف أم المكلف به، فالمعتبر فيه قيد واحد وهو عدم 153
إمكان الاحتياط، فدوران حكم شئ بين الوجوب والحرمة والإباحة، وكذا دورانه بين الوجوب والحرمة مجرى قاعدة التخيير بناء على هذه العبارة والعبارة الأولى المذكورة في المتن، ويكون المثال الأول من مجاري البراءة بناء على العبارة الثانية المذكورة في الهامش، لكونه شكا في نفس التكليف، إذ المفروض دورانه بين الوجوب والحرمة والإباحة. هذا توضيح العبارات الثلاث المذكورة في الرسائل لضبط مجاري الأصول وقد أورد المصنف (قده) على جميعها في حاشية الرسائل بوجوه بعضها مشترك بين العبارتين الأوليين المذكورتين في أول الكتاب، وبعضها مشترك بين العبارة الأولى وما ذكره في أول البراءة، وبعضها مختص بالعبارة الأخرى المذكورة في أول القطع. أما المشترك بين العبارتين الأوليين فهو النقض بما إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمة آخر كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة شرب التتن، حيث إن مقتضى هاتين العبارتين أن يكون مثل هذا المثال مجرى البراءة، لكونه شكا في التكليف وهو النوع، إذ لو أريد بالتكليف أعم منه ومن الجنس لم يكن من الشك في التكليف، فورود هذا النقض مبني على إرادة النوع من التكليف مع إمكان الاحتياط، الا أن مختاره فيه الاحتياط. وأما المشترك بين العبارة الأولى وبين ما ذكره في أول البراءة فهو انتقاض مجرى كل من التخيير والبرأة بالآخر في دوران حكم شئ بين الوجوب والحرمة والإباحة، إذ لا يمكن فيه الاحتياط، فمقتضى هاتين العبارتين هو التخيير، مع أنه (قده) اختار فيه البراءة. 154
وأما المختص بالعبارة الأخرى المذكورة في أول القطع فهو انتقاض مجرى البراءة والتخيير بالآخر في صورة دوران حكم شئ بين الوجوب والحرمة، حيث إن مقتضى إطلاق تلك العبارة جريان البراءة في هذه الصورة لكونها من موارد الشك في الحكم، والمفروض عدم تقيد مجرى البراءة في العبارة الأخرى بإمكان الاحتياط فيه، فلا بد من جريان البراءة في هذه الصورة مع أنه (قده) اختار فيها التخيير وجعلها مجرى لهذا الأصل. أقول: تنقيح المقام منوط ببيان أمور: الأول: أن المراد بالتكليف الذي ذكره الشيخ في مجاري الأصول هل هو خصوص النوع أم أعم منه ومن الجنس؟ الانصاف أن كلماته (قده) في ذلك مضطربة، ففي مباحث العلم الاجمالي من رسالة القطع اختار الأعمية، حيث قال: (و ان كانت المخالفة مخالفة لخطاب مردد بين خطابين. في المخالفة القطعية حينئذ وجوه. الثاني عدم الجواز مطلقا. الرابع الفرق بين كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا بالنوع كوجوب أحد الشيئين و بين اختلافه كوجوب الشئ وحرمة آخر. والأقوى من هذه الوجوه هو الوجه الثاني) وفي مبحث البراءة اختار كون التكليف خصوص الوجوب أو الحرمة، حيث قال في مقام تقسيم الشك إلى ما يلاحظ فيه الحالة السابقة وما لا تلاحظ فيه: (لأن الشك اما في نفس التكليف و هو النوع الخاص من الالزام وان علم جنسه كالتكليف المردد بين الوجوب والتحريم) وقال في أول الاشتغال: (الموضع الثاني في الشك في المكلف به مع العلم بنوع التكليف بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ويشتبه الحرام أو الواجب) وقال في المسألة الأولى من مسائل المطلب الثالث الذي عقده لمباحث ما دار أمره 155
بين الوجوب والحرمة: (وليس العلم بجنس التكليف المردد بين نوعي الوجوب والحرمة كالعلم بنوع التكليف المتعلق بأمر مردد حتى يقال ان التكليف في المقام معلوم إجمالا). لكن هذا الكلام لا ينافي ما أفاده من منجزية العلم بالجنس كالعلم بوجوب شئ أو حرمة غيره في مباحث العلم الاجمالي، لان مقصوده هنا نفي تنجيز العلم بالجنس في دوران الامر بين المحذورين، لعدم القدرة على الاحتياط ولذا قال: (حتى يقال ان التكليف في المقام معلوم) أي فيما دار أمره بين المحذورين، بخلاف العلم بالجنس في مباحث العلم الاجمالي، ضرورة إمكان الاحتياط بترك شرب التتن و قراءة الدعاء عند رؤية الهلال إذا علم بوجوبه أو حرمة شرب التتن. الا أن المنافاة بين سائر عباراته باقية على حالها، ضرورة أنه (قده) صرح في أول البراءة والاشتغال بأن المراد بالتكليف هو النوع الخاص من الالزام وان علم جنسه، وفي مباحث العلم الاجمالي صرح بعدم الفرق بين كون الحكم المشتبه وفي مباحث العلم الاجمالي صرح بعدم الفرغ بين كون الحكم المشتبه واحدا بالنوع وبين كونه مختلفا كذلك كوجوب شئ وحرمة آخر، وليس الجامع بين النوعين إلا الجنس وهو الالزام، فأطلق الحكم على الجنس. وجه المنافاة: أن الجنس ان لم يكن تكليفا فكيف يكون العلم به منجزا ولو مع إمكان الاحتياط كوجوب شئ وحرمة شئ آخر، ضرورة أن مجرد إمكانه لا يوجب صيرورة غير الحكم حكما حتى يتنجز بالعلم ويحكم العقل بعدم قبح المؤاخذة على مخالفته كما لا يخفى. الامر الثاني: أن النقوض التي أوردها المصنف على التحديدات الثلاثة 156
لمجاري الأصول في كلمات الشيخ مبتنية على اختصاص التكليف بالنوع الخاص من الالزام وعدم شموله للجنس كما صرح به المصنف (قده) في آخر كلامه. نعم لا يبتني على هذا الاختصاص اشكاله على العبارة الأولى من مباحث القطع وعبارته في أول البراءة بانتقاض كل من مجرى البراءة و التخيير بالآخر بما إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمته وإباحته، فان مقتضى هاتين العبارتين جريان التخيير فيه، مع أن مختار الشيخ فيه البراءة. وجه عدم الابتناء: أنه في كلتا العبارتين جعل ضابط جريان التخيير عدم إمكان الاحتياط سواء علم بجنس التكليف ونوعه أم لا، فالحكم مطلقا مجهول في هذا المثال ولا يمكن فيه الاحتياط، فلا بد أن تجري فيه قاعدة التخيير مع أنه (قده) اختار فيه البراءة. وبالجملة: فالاشكالات التي أوردها المصنف في حاشية الرسائل على مجاري الأصول الثلاثة مبتنية على كون التكليف النوع الخاص من الالزام إلا اشكاله على العبارة الأولى من عبارتي الشيخ في مباحث القطع، فإنه لا يبتني على ذلك فتدبر. الامر الثالث: لا يخفى أن الأحكام التكليفية منحصرة في خمسة: الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة، وقد اختلفوا في بساطتها وتركبها، وعلى التقديرين لا قائل بكونها أكثر من خمسة، فلم نعثر على من يقول بأن نفس الالزام أيضا حكم شرعي مجعول في قبال الأحكام الخمسة. ان قلت: ان التزامهم بوجوب الاحتياط في مثل العلم إجمالا بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة شرب التتن يكشف عن كون الالزام تكليفا، 157
وإلا لم يكن العلم به منجزا له وموجبا للاحتياط. قلت: لزوم الاحتياط في مثل ذلك لا يكشف الا عن منجزية العلم الاجمالي بالالزام الخاص الذي هو التكليف، لا مطلق الالزام المشترك بين الوجوب والحرمة. وبعبارة أخرى: الحكم الخاص المعلوم إجمالا مردد بين حكمين كالموضوع المشتبه بين شيئين. ففي المثال المزبور يكون تنجيز العلم بالالزام المتعلق بالدعاء أو شرب التتن لأجل العلم الاجمالي بنوع مردد بين نوعين، لا لأجل العلم بالجنس، بل العلم به ملزوم للعلم الاجمالي بالنوع الذي هو المنجز. والحاصل: أن الالزام بنفسه لا يكون من الأحكام الخمسة أصلا. و عليه فالحق في ضبط مجاري الأصول أن يقال: (الشك ان لو حظ فيه الحالة السابقة فهو مجرى الاستصحاب، والا فان كان الشك في نفس التكليف فهو مجرى البراءة وان كان الشك في متعلقه مع العلم و لو إجمالا بنفس التكليف فهو مجرى البراءة وان كان الشك في متعلقه مع العلم ولو إجمالا بنفس التكليف فان أمكن فيه الاحتياط فهو مجرى قاعدة الاحتياط، وان لم يمكن فيه ذلك فهو مجرى قاعدة التخيير) وعليه فالملحوظ في أصالة البراءة أمر واحد وهو الشك في التكليف، ولا ينتقض بعض المجاري بالآخر، ففي دوران الامر بين وجوب شئ وحرمته وإباحته يجري البراءة، لكون الشك فيه في نفس الحكم، وفي دورانه بين وجوب شئ وحرمة آخر يجري الاحتياط، لكون الشك في المكلف به مع العلم الاجمالي بنوع التكليف و إمكان الاحتياط فيه. وكذا في العلم الاجمالي بوجوب أحد شيئين كصلاتي الجمعة والظهر، للعلم بالتكليف، ودوران المكلف به بين شيئين. وفي دورانه بين وجوب شئ وحرمته يجري التخيير، لعدم إمكان الاحتياط فيه مع العلم الاجمالي بنوع التكليف. 158
ثم إن المقصود من تحديد المجاري بما ذكرناه انما هو بيان حكم الشك في نفسه وبعنوانه، فالبراءة حكم للشك في التكليف مع الغض عن قيام حجة على الاحتياط مثلا كما هو مختار المحدثين في بعض الشبهات، فلا حاجة إلى تقييد مجرى البراءة بما إذا لم تنهض حجة على المؤاخذة على التكليف المجهول، بل قد تقدم في الجز السابق من هذا الشرح قرب دعوى كون أدلة البراءة النقلية إرشادا إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، وأدلة الاحتياط على فرض تماميتها بيان، ومعه لا يبقى موضوع لأصل البراءة، فاعتبار عدم نهوض حجة على الاحتياط يكون من قبيل الشرط المحقق للموضوع، إذ مع نهوضها عليه ينتفي الشك الذي هو موضوع البراءة، فتدبر. وكيف كان فقد ضبط المصنف (قده) مجاري الأصول في حاشيته على الرسائل بما لفظه: (ان الشك اما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا، والأول مجرى الاستصحاب، وعلى الثاني اما أنه مما يمكن فيه الاحتياط وان لم يكن الشك في أصل الالزام، بل كان الالزام في الجملة معلوما، كما إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمة شئ آخر، أو دار الوجوب أو الحرمة بين شيئين، حيث إنه يمكن الاحتياط فيهما، أو كان الشك فيه وان لم يمكن فيه الاحتياط أم لا، الثاني مجري التخيير، وعلى الأول اما أن يكون في البين حجة ناهضة على التكليف عقلا أو نقلا أم لا، الأول مجرى الاحتياط والثاني مجرى البراءة) ومقتضاه كون ما لا يمكن فيه الاحتياط مطلقا سواء علم التكليف أم لا مجرى التخيير، مع أن الشك في التكليف ليس الا مجرى البراءة، والتخيير و البراءة وان لم يتميزا عملا، الا أنهما متميزان ملاكا، إذ ملاك التخيير كما صرح به المصنف (قده) هو قبح الترجيح بلا مرجح، و ملاك البراءة قبح العقاب بلا بيان. 159 والاستصحاب، فإنها محل الخلاف (×) بين الأصحاب، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومؤونة حجة وبرهان، هذا. مع جريانها (1) في كل الأبواب، واختصاص تلك القاعدة ببعضها، فافهم (2).
(×) لا يقال: ان قاعدة الطهارة مطلقا تكون قاعدة في الشبهة الموضوعية فان الطهارة والنجاسة من الموضوعات الخارجية التي يكشف عنها الشرع. فإنه يقال: أولا نمنع ذلك، بل إنهما من الأحكام الوضعية الشرعية، و لذا اختلفا في الشرع بحسب المصالح الموجبة لشرعهما، كما لا يخفى. وثانيا: انهما لو كانتا كذلك فالشبهة فيهما فيما كان الاشتباه لعدم الدليل على إحداهما كانت حكمية، فإنه لا مرجع لرفعها إلا الشارع، وما كانت كذلك ليست الا حكمية. 160 فصل لو شك [1 [1 في وجوب شئ (×) أو حرمته
(×) لا يخفى أن جمع الوجوب والحرمة في فصل وعدم عقد فصل لكل منهما على حدة، وكذا جمع فقد النص وإجماله في عنوان عدم الحجة انما هو لأجل عدم الحاجة إلى ذلك بعد الاتحاد فيما هو الملاك وما هو العمدة من الدليل على المهم. واختصاص بعض شقوق المسألة بدليل أو بقول لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة. وأما ما تعارض فيه النصان فهو خارج عن موارد الأصول العملية المقررة للشاك على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير، كما أنه داخل فيما لا حجة فيه بناء على سقوط النصين عن الحجية، وأما الشبهة الموضوعية، فلا مساس لها بالمسائل الأصولية، بل فقهية، فلا وجه لبيان حكمها في الأصول الا استطرادا، فلا تغفل. [1] المراد بالشك المأخوذ موضوعا في الأصول العملية خلاف الحجة من العلم والعلمي، لا خصوص المتساوي طرفاه، فكان أبدال الشك بالاحتمال أولى، لأنه أشمل منه، وان كان إطلاق الشك على خلاف العلم الشامل للظن غير المعتبر والاحتمال المتساوي طرفاه شائعا أيضا. 161 ولم تنهض عليه (1) حجة جاز شرعا وعقلا ترك
162 الأول (1) وفعل الثاني، وكان (2) مأمونا من عقوبة مخالفته (3) كان (4) عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص (5) أو إجماله واحتماله الكراهة (6) أو الاستحباب (7)، أو تعارضه (8) فيما لم يثبت بينهما (9) ترجيح بناء (10) على التوقف في مسألة تعارض النصين
163 فيما لم يكن ترجيح في البين [1] وأما بناء على التخيير - كما هو المشهور - فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها (1)، لمكان (2) وجود الحجة المعتبرة وهو أحد النصين فيها (3) كما لا يخفى. وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة: أما الكتاب فبآيات (4)
[1] الأولى أن يضاف إليه: (ولم نقل بالتخيير بينهما أو كان ترجيح ولم نقل بوجوبه) فمرجعية أصالة البراءة في تعارض النصين تختص بما إذا لم نقل بالتخيير في المتكافئين وبوجوب العمل بالراجح إذا كان أحدهما ذا مزية ورجحان. 164 أظهرها (1) قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).
166 وفيه (1): أن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان
169 منة منه تعالى عباده مع استحقاقهم لذلك [1 [1
[1] فيه ما لا يخفى، لعدم جريان عادته تبارك وتعالى على عدم التعذيب مع الاستحقاق منة وتفضلا عليهم، ضرورة أنه عز وجل قد يعفو عن المذنبين وقد يعذبهم، إذ ليس التعذيب مع الاستحقاق مخالفا للعدل والحكمة، بل هو موافق لهما، فالملائم لاستقرار ديدنه جل وعلا على نفي التعذيب هو عدم الاستحقاق، لا التفضل والمنة، فالآية تدل على البراءة، لدلالتها على عدم الاستحقاق الكاشف عن عدم التكليف قبل البيان، ولا تدل على نفي التعذيب الفعلي مع الاستحقاق كما في قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) الدال على نفي العذاب الفعلي مع الاستحقاق، حيث إنه كالصريح في نفي التعذيب الفعلي إكراما لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم مع الاستحقاق، إذ بدونه يستند عدم التعذيب إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع و هو إكرامه صلى الله عليه وآله، فلا مورد لنفي العذاب إكراما و إعظاما لمقامه صلى الله عليه وآله إلا مع وجود المقتضي للتعذيب، ففرق واضح بين هذه الآية وقوله تعالى: (وما كنا 170
معذبين) لدلالة الأولى على الاستحقاق بخلاف الثانية. لا يقال: ان غرض المصنف (قده) من قوله: (لعله كان منة) إبدأ الاحتمال الموجب لبطلان الاستدلال. فإنه يقال: نعم، لكنه لا بد أن يكون الاحتمال في نفسه صحيحا، ومن المعلوم عدم صحته كذلك، لما مر آنفا من عدم استقرار عادته عظمت كبرياؤه على عدم التعذيب مع الاستحقاق تفضلا ومنة. فالمتحصل: أن نفي التعذيب بقرينة (ما كنا) الدال على العادة يدل على التلازم بين نفي الفعلية وعدم الاستحقاق، فالاستدلال بالآية على البراءة متين، ولا يرد عليه إشكال المصنف. كما لا يتوجه عليه ما أفاده الشيخ من ظهور الآية الشريفة في الاخبار عن وقوع التعذيب في الأمم السابقة بعد بعث الرسل، وذلك لما فيه أولا من انسلاخ (ما كنا) ونحوه من الافعال الماضية المنسوبة إليه سبحانه وتعالى عن الزمان ودلالتها على الاستمرار ولو لم نقل بانسلاخها عن الزمان، بدعوى أن المنسلخ عنه هو خصوص صفات الذات كالعلم والقدرة، وأما صفات الافعال فلا موجب لسلخ الزمان عن الافعال المضافة إليها كإرسال الرسل والتعذيب وغيرهما، وذلك لظهور الآية بحسب السياق في بيان الضابط الكلي الذي يقتضيه عدله تعالى شأنه، وهو عدم المؤاخذة قبل البيان وإتمام الحجة، و عليه فلا خصوصية لامة دون أمة، ولا عذاب دون عذاب. وثانيا: بعد تسليم كون الآية اخبارا عن وقوع العذاب الدنيوي في الأمم 171
السالفة - من دلالتها على نفي العذاب الأخروي الذي هو أشد بمراتب من العذاب الدنيوي قطعا، فالتعذيب الأخروي على الحكم المجهول قبل إقامة الحجة والبيان عليه الذي هو مورد البحث منفي جزما. وبالجملة: فالانصاف عدم قصور في دلالة الآية المباركة على البراءة، وعدم ورود شئ من الاشكالات عليها. نعم يرد عليه: أنه لا يستفاد من الآية الشريفة إلا ما يقتضيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهذا لا يجدي في قبال الخصم القائل بأن إيجاب بيان، فهو وارد على القاعدة، لكونه رافعا لموضوعها فلا تصلح الآية لا ثبات البراءة بحيث تعارض أدلة الاحتياط. الا أن يقال: بما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس من إرادة نفي الملزوم - وهو إيجاب الاحتياط - من نفي اللازم وهو التعذيب، حيث إن الاخبار عن نفيه في ظرف عدم البيان كناية عن عدم تشريع وجوب الاحتياط، إذ مع تشريعه لا وجه لنفي التعذيب، فالآية على هذا التقريب مساوقة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع ما لا يعلمون) من حيث الدلالة على ارتفاع الحكم المجهول ظاهرا في قبال من يدعي عدم ارتفاعه كذلك بإيجاب الاحتياط. أقول: ما أفاده (قده) في نفسه متين، لكنه خلاف ظاهر الآية الشريفة و هو عدم العقاب قبل البيان الذي يحكم العقل بقبح العقاب قبله، و هذا بخلاف حديث الرفع، حيث إن الرفع أسند إلى الواقع المجهول، و لما كان الرفع تشريعيا، فلا بد من تعلقه بما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع، ولما كان رفع التكليف المجهول واقعا مستلزما للتصويب، فلا بد من رجوعه إلى إيجاب 172
الاحتياط، فالتكليف المرفوع ظاهرا هو هذا، فيعارض حديث الرفع أدلة الاحتياط. الا أن يدعى أن بعث الرسول كناية عن بيان الاحكام الواقعية، فلا تعذيب قبل بيانها، فان نهض الدليل على وجوب الاحتياط حينئذ وقع التعارض بين هذه الآية وأدلة القائلين بوجوب الاحتياط في الشبهات. لكن فيه: أن بيان الاحكام الظاهرية أيضا وظيفة الرسل، لأنها من شرائع الله تعالى، بداهة أن بيان حكم الموضوع المشكوك حكمه كالحلية والطهارة أيضا من وظائفهم عليهم السلام. والحاصل: أن الآية الشريفة سيقت لبيان ما يقتضيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فهي إرشاد إلى تلك القاعدة، ولا تصلح لمعارضة أدلة الاحتياط الواردة عليها. ثم إن هنا مباحث لا بأس بالإشارة إليها: الأول: أن المحدثين استدلوا بهذه الآية على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع، بتقريب حصر الآية سبب التعذيب في بعث الرسول، فلا عقاب على ارتكاب القبيح العقلي الذي لم ينهض دليل من الشرع على حرمته، ولو كانت قاعدة الملازمة ثابتة لاستحق العقوبة على مخالفة المستقلات العقلية، فهذه الآية دليل على عدم تمامية قاعدة الملازمة. الثاني: أن الفاضل التوني (ره) جمع بين الاستدلال بهذه الآية الشريفة على البراءة وبين رد من استدل بها من المحدثين على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع. أما تقريب الاستدلال بها على البراءة، وكذا تقريب استدلال 173
المحدثين بها على عدم الملازمة بين حكم العقل والشرع فقد عرفتهما آنفا. وأما رد الفاضل التوني (ره) لاستدلال المحدثين على نفي الملازمة، فحاصله: أن الآية تنفي فعلية العذاب، ونفي الفعلية أعم من نفي الاستحقاق، و المفروض أن صحة الاستدلال على عدم الملازمة موقوفة على دلالة الآية على عدم الاستحقاق، وهذه الدلالة مفقودة، فلا تدل الآية على عدم استحقاق العقوبة على المستقلات العقلية كما هو مقصود المستدلين بها على عدم الملازمة، فيمكن أن يكون في مخالفتها استحقاق العقوبة مع عدم فعليتها، لتعقبه بالعفو والغفران، كما ورد في الروايات: أن اجتناب المعاصي الموعد عليها بالنار يكفر ارتكاب ما لم يوعد عليه من المعاصي بالنار. فملخص الرد: أن دلالة الآية على نفي الملازمة منوطة بدلالتها على نفى استحقاق العقوبة، والمفروض عدم دلالتها على نفي الاستحقاق، بل تدل على نفي الفعلية، فلا مانع من استحقاقها على المستقلات العقلية مع العفو. الثالث: أن المحقق القمي (قده) أورد على الفاضل التوني (ره) بأن الجمع بين استدلاله بهذه الآية على البراءة وبين رد المستدلين بها على عدم الملازمة جمع بين المتناقضين، حيث إن الاستدلال بها على البراءة مبني على دلالتها على نفى الاستحقاق، ورد منكري الملازمة مبني على ثبوت الاستحقاق، لان مدعي القاعدة يدعي التلازم بين حكمي العقل والشرع المستلزم لثبوت استحقاق العقاب على مخالفة المستقلات العقلية، كثبوت استحقاقه على مخالفة الأحكام الشرعية، فمنكر القاعدة ينكر هذا الاستحقاق على مخالفة المستقلات العقلية. فالآية الشريفة ان دلت على نفي الاستحقاق، فلا وجه لرد من أنكر الملازمة، 174
لان نفي الاستحقاق من آثار عدم الملازمة ولوازمه، فلا معنى لرد منكرها، إذ لازم رد منكرها الاعتراف بثبوت الاستحقاق، ولكن يتجه الاستدلال بالآية على البراءة. وان دلت على ثبوت الاستحقاق الذي هو من لوازم ثبوت قاعدة الملازمة، فلا وجه للاستدلال بها على البراءة. وبالجملة: فثبوت الاستحقاق الذي هو من لوازم الالتزام بقاعدة الملازمة وعدم الاستحقاق الذي هو من لوازم البراءة متناقضان، و يمتنع اجتماعهما. الرابع: أنه قد دفع بعض إشكال التناقض المذكور بما حاصله: أن إشكال التناقض وارد على الفاضل التوني (ره) ان أراد الاستدلال بالآية الشريفة على البراءة والرد على منكري الملازمة حقيقة، لعدم صلاحية الآية للدلالة على عدم الاستحقاق حتى تكون دليلا على البراءة، وعلى ثبوت الاستحقاق حتى تكون برهانا على رد منكري الملازمة. وأما ان أراد البرهان الحقيقي بالنسبة إلى البراءة و الجدلي بالإضافة إلى رد منكري الملازمة، فلا تناقض كما هو واضح. والتحقيق ما عرفت من أن الآية لا تدل إلا على ما يقتضيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لما مر من أن نفي الفعلية انما هو لعدم المقتضي له، لا لوجود المانع أو عدم الشرط، فيدل على نفي الاستحقاق، ومع ذلك لا يصح الاستدلال بالآية على نفي قاعدة الملازمة، إذ المراد ببعث الرسول كما تقدم بيان الاحكام الشامل للبيان بالرسول الظاهري و الباطني وهو العقل، فلا تدل الآية على عدم استحقاق العقوبة على المستقلات العقلية حتى يصح الاستدلال بها على نفى الملازمة. فالمتحصل من جميع ما ذكرنا: عدم صحة الاستدلال بالآية الشريفة على 175 ولو سلم (1) اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية
البراءة بحيث تعارض أدلة الاحتياط، ولا على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع، فلا مجال للمباحث الأربعة المتقدمة، والله تعالى هو العالم. 176 لما (1) صح الاستدلال بها إلا جدلا، مع وضوح منعه (2)، ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده (3) بأعظم مما علم بحكمه، و ليس (4) حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به فيه (5)، فافهم (6).
177 وأما السنة، فروايات: منها: حديث الرفع [1] حيث عد (ما لا يعلمون) من التسعة
[1] ينبغي التعرض لسند الحديث وان اشتهر توصيفه بالصحة في جملة من الكتب كالفصول والرسائل وتقريرات المحققين النائيني و العراقي وغيرها، قال شيخنا الأعظم (قده): (المروي عن النبي صلى الله عليه وآله بسند صحيح في الخصال كما عن التوحيد) ولعل تخصيصه لصحة السند بما في الخصال للتنبيه على أنه كما روي مرفوعا في الكافي كذلك روي مسندا في غيره مع أبدال (رفع) ب (وضع عن أمتي. إلخ) كما عن التوحيد. ورواه الصدوق في باب التسعة من الخصال هكذا: (محمد بن أحمد بن يحيى العطار عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن سهل بن عبد الله عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رفع عن أمتي تسعة.) والظاهر وقوع التصحيف فيه، وأن الصحيح - كما عن التوحيد - أحمد بن محمد بن يحيى العطار، فان المعدود من مشايخ الصدوق الملقب بالعطار هو أحمد بن محمد بن يحيى، لا ما في الخصال، ويؤيد ما ذكرناه أن صاحب الوسائل نقل الحديث عن الكتابين مبتدأ للسند به، لا بما يظهر من نسخة الخصال المطبوعة باهتمام مكتبة الصدوق. وكيف كان، فلا كلام في وثاقة رواة الحديث إلا أحمد بن محمد بن يحيى العطار، وإطلاق (الصحيح) عليه يتوقف على ثبوت وثاقته، فإنه لم يعنون في كتب الرجال المتقدمة ليظهر حاله، نعم عده الشيخ في رجاله في باب من لم يرو عنهم عليهم السلام 178 المرفوعة فيه،
مقتصرا على رواية التلعكبري عنه، ولم يقع في أسناد كامل الزيارات حتى يشمله التوثيق العام الذي استفاده غير واحد من عبارته. ومع ذلك فقد استدل على وثاقته بوجوه: الأول: أنه من مشايخ الصدوق، وقد اشتهر أن شيخوخة الإجازة تغني عن التوثيق، قال في محكي الوجيزة:: (انه من مشايخ الإجازة و حكم الأصحاب بصحة حديثه). ويتوجه عليه: أن شيخوخة الإجازة لا تكشف عن وثاقة الشيخ كما قرر في محله. الثاني: توثيق الشهيد الثاني في الدراية والشيخ البهائي في المشرق - وان حكي عن الحبل المتين تضعيفه لسند الرواية المشتمل عليه - والسيد الداماد والمقدس الأردبيلي والسماهيجي وغيرهم له، و اعتماد صاحب المعالم على رواياته مع اقتصاره على العمل بالاخبار الصحاح كما يستفاد من اعتباره الايمان والعدالة في الراوي مضافا إلى الاسلام والضبط، فيثبت حينئذ أن أحمد بن محمد عدل إمامي ضابط، ويتم المطلوب. ويتوجه عليه: أنه لم يظهر وجه اعتمادهم عليه، ولعله لرواية الصدوق عنه وكفايته بنظرهم في إثبات وثاقة الرجل مع أن المعتبر في التعديل كونه شهادة عن حس لا حدس. الثالث: توثيق العلامة له، حيث صحح طريق الصدوق إلى عبد الرحمن ابن الحجاج وعبد الله بن أبي يعفور مع اشتمال كلا الطريقين على أحمد بن 179
محمد بن يحيى العطار، وكذلك صحح طريق الشيخ في التهذيب و الاستبصار إلى محمد بن علي بن محبوب مع انحصار الطريق، و طريقه إلى علي بن جعفر في التهذيب ووقوع أحمد في كلا الطريقين، وتثبت وثاقة الرجل حينئذ. ويتوجه عليه: أنه اجتهاد منه، وليس شهادة عن حس كما هو المطلوب في المقام. وأما الايراد عليه (بأن توثيق العلامة مبني على مسلكه وهو أصالة العدالة فيمن لم يرد فيه قدح، ومن المعلوم أنه لا ينفع من لا يعتمد على هذا الأصل) فيتوجه عليه: أن اعتماد العلامة في تعديل الرواة على أصالة العدالة غير ثابت، بل الثابت خلافه، إذ كلامه في كتابه نهاية الوصول ظاهر بل صريح في خلاف هذه النسبة، وأن العدالة عنده هي الملكة، قال في بيان شرائط العمل بخبر الواحد: (البحث الثالث في العدالة وهي كيفية راسخة في النفس تبعث على ملازمة التقوي و المروة، وهي شرط في قبول الرواية) وذهب في البحث الرابع من مباحث الخبر إلى عدم قبول رواية المجهول ولزوم معرفة سيرته و كشف سريرته أو تزكية من عرف عدالته. وقال في المبحث الخامس: (في طريق معرفة العدالة وهي أمران الاختبار والتزكية) و عليه فليس في كلماته من أصالة العدالة عين ولا أثر حتى تكون هي المبنى لتوثيقاته، بل الظاهر أنه أول من ذهب إلى كون العدالة هي الملكة، كما يظهر من صلاة الجواهر حيث نقل عن ذخيرة الفاضل السبزواري: (لم أعثر على هذا التعريف - أي تعريف العدالة بالملكة - لغير العلامة). 180
وبالجملة. فتوثيق العلامة للرجل سليم عن مناقشة بعض أعاظم العصر من ابتنائه على أصالة العدالة، مستظهرا ذلك من كلامه في ترجمة أحمد بن إسماعيل: (ولم ينص علماؤنا عليه بتعديل، ولم يرو فيه جرح، فالأقوى قبول روايته مع سلامتها من المعارض) قال دام ظله: (هذا الكلام صريح في اعتماد العلامة على أصالة العدالة في كل إمامي لم يثبت فسقه). ولكن يتوجه عليه أولا: أنه لا ظهور لقبول الرواية في كونه مستندا إلى هذا الأصل، لقوة احتمال اعتماده على حسن الظاهر، لاماريته عليها. وثانيا: أن ابتناء قبول روايته على أصالة العدالة معارض بما ذكره العلامة في زيد الزراد وزيد النرسي من قوله: (ولما لم أجد لأصحابنا تعديلا فيهما ولا طعنا عليهما توقفت عن روايتهما) فإنه لو اعتمد في التعديل على أصالة العدالة لم يكن لتوقفه هنا وجه أصلا. فالمتحصل: أن توثيقات العلامة لم تكن مبتنية على هذا الأصل. ولكن يتوجه عليه (قده) إشكال آخر، وهو: أنه فسر العدالة بالملكة، و جعل طريق معرفتها الاختبار والتزكية، فان اعتمد في قبول رواية أحمد بن إسماعيل على حسن الظاهر وكان أمارة عليها بنظره، فلا بد من الالتزام بقبول رواية زيد الزراد وزيد النرسي أيضا. وان توقف ثبوتها على الاختبار أو التزكية كما هو صريح عبارته في نهاية الوصول لم يكن لقبول رواية أحمد بن إسماعيل أيضا وجه. الرابع: اعتماد السيرافي وجمع من الأصحاب على روايته، كما يظهر مما حكاه النجاشي عنه في ترجمة الحسين بن سعيد الأهوازي، وأن له ثلاثين كتابا قال: (أخبرني بهذه الكتب غير واحد من أصحابنا من طرق مختلفة كثيرة 181
فمنها ما كتب إلي به أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن نوح السيرافي رحمه الله في جواب كتابي إليه، والذي سألت تعريفه من الطرق إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي رضي الله عنه إلى أن قال: فأما ما عليه أصحابنا والمعول عليه ما رواه عنهما أحمد بن محمد بن عيسى إلى أن قال: وأخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن يحيى العطار القمي، قال: حدثنا أبي وعبد الله بن جعفر الحميري و سعد بن عبد الله جميعا عن أحمد بن محمد بن عيسى.). ولا ريب في ظهور هذا الكلام في اعتماد الأصحاب والسيرافي على ما رواه أحمد بن محمد بن يحيى العطار من كتب الحسين والحسن ابني سعيد الأهوازي خصوصا مع ملاحظة ما ورد في شأن السيرافي من التجليل، قال النجاشي في حقه: (كان ثقة في حديثه متقنا لما يرويه فقيها بصيرا بالحديث والرواية، وهو أستاذنا وشيخنا ومن استفدنا منه، وله كتب كثيرة) وأنت ترى أن في توصيفه بالاتقان لما يرويه وبصيرته بالحديث دلالة على مهارته وتضلعه في نقد الأحاديث وتثبته في نقلها، وهذا أمر زائد على مجرد الضبط المعتبر في الراوي المدلول عليه بأنه ثقة، ومع هذا، فلو كان في الرجل شائبة الغمز هل كان يصح للسيرافي أن يعتمد في رواية كتب الحسين بن سعيد على رواية أحمد بن محمد بن يحيى لها، بل كان عليه أن يقنع بقوله: (والذي عليه أصحابنا) من دون تعقيبه بقوله: (و المعول عليه). ولكن مع ذلك فقد ناقش بعض الأعاظم في دلالته على وثاقة الرجل بقوله: (ويرده أولا: ما عرفت من أن اعتماد القدماء على رواية شخص لا يدل على 182
توثيقهم إياه، وذلك لما عرفت من بناء ذلك على أصالة العدالة التي لا نبني عليها. وثانيا: أن ذلك انما يتم لو كان الطريق منحصرا برواية أحمد بن محمد ابن يحيى، لكنه ليس كذلك، بل إن تلك الكتب المعول عليها قد ثبتت بطريق آخر صحيح وهو الطريق الأول الذي ينتهي إلى أحمد بن محمد بن عيسى، ولعل ذكر طريق آخر انما هو لأجل التأييد). وما أفاده دام ظله لا يخلو من غموض، أما الأول، فلانه لم يثبت اعتماد القدماء بأجمعهم على أصالة العدالة وان ثبت ذلك من الشيخ و أضرابه، وأما السيرافي وغيره من الأصحاب الذين اعتمدوا على روايات الرجل فلم يثبت لنا تعويلهم على الأصل المذكور، وما لم يحرز ذلك لا يتيسر طرح شهادتهم بمجرد احتماله مع كون ظاهر شهادتهم عن حس، ولا أقل من الشك، والمرجع بناء العقلا على العمل بخبر الثقة فيما لم يعلم أنه نشأ من الحدس وإعمال النظر كما هو مبناه دام ظله على ما ذكره في المدخل ص 55. وأما الثاني، فلان السيرافي عد الطريق الثاني إلى كتب الحسين بن سعيد على وزان الطريق الأول، وهذا ظاهر في أن المعول عليه في رواية تلك الكتب هو كل واحد من الطريقين بالاستقلال، وليس في كلامه ما يستشم منه أن الطريق الثاني ذكر تأييدا لا استنادا. والانصاف أنه لا قصور في دلالة كلام السيرافي على اعتبار أحمد و اعتماد الأصحاب على رواياته وركونهم إليها، وهذا المقدار كاف لنا في قبولها وان لم تتصف بالصحة باصطلاح المتأخرين، إذ استظهار عدالة الرجل من العبارة المتقدمة مشكلة وان استظهرها - من مجموع ما تقدم - العلامة المامقاني (قده) 183 فالالزام المجهول [1 [1 مما لا يعلمون، فهو مرفوع
بقوله: (وملخص المقال: أنا لا نتوقف بوجه في عد الرجل من الثقات، وعد حديثه صحيحا). والحاصل: أنه ينبغي التعبير عن حديث الرفع بالمعتبر لا بالصحيح كما هو المتداول عليه. [1] وعليه فالرفع تعلق بنفس الالزام المجهول الواقعي في مرحلة الظاهر خلافا لما يظهر من كلام الشيخ الأعظم (قده) حيث إنه جعل المرفوع إيجاب الاحتياط. وأورد عليه بأنه خلاف ظاهر الحديث، حيث إن ظاهره اسناد الرفع إلى نفس ما لا يعلم وهو الحكم الواقعي لا وجوب الاحتياط، ومع إمكان التحفظ على الظاهر لا وجه لارتكاب خلافه وجعل المرفوع غير الحكم الواقعي. نعم رفع الحكم الواقعي يستلزم نفي وجوب الاحتياط. ويمكن الجمع بين كلامي الشيخ والمصنف (قدهما) بأن معنى رفع الحكم المجهول الواقعي ظاهرا - أي حال الشك - رفع تحريكه ونفي صلاحيته للبعث والدعوة نحو المتعلق أو الزجر عنه، وهذا عين نفي إيجاب الاحتياط، إذ إيجابه يكشف عن كون الحكم الواقعي محركا وباعثا أو زاجرا فعلا، غاية الامر أن محركيته حال الجهل به تكون بإيجاب الاحتياط، وحال العلم به تكون بنفسه. 184
وان شئت فقل: ان رفع الحكم المجهول ظاهرا ليس معناه رفعه حقيقة حتى يلزم التصويب، بل معناه رفع مرتبة محركيته المنوطة بوصوله إلى المكلف، وأصالة البراءة ترفع هذه المرتبة بعد أن كان المقتضي لجعل ما يحركه حال الجهل به موجودا كوجود المقتضي لأصل تشريعه. وعلى هذا فالمراد من رفع الالزام المجهول كما عبر به المصنف ورفع إيجاب الاحتياط - كما عبر به الشيخ - واحد، و الاختلاف انما هو في التعبير فقط. لكن هذا الجمع بين كلاميهما مبني على كون إيجاب الاحتياط نفس الحكم الواقعي، ومتمم قصور محركيته على تقدير وجوده، وحكما صوريا على تقدير عدمه. وأما بناء على مغايرة إيجاب الاحتياط للحكم الواقعي فلا يصح هذا الجمع، ولا يلتئم كلامهما قدس سرهما. وكيف كان فالاستدلال بهذا الحديث الشريف على البراءة مبني على إرادة الحكم من الموصول في (ما لا يعلمون) سواء كان منشأ الشك في الحكم فقد الحجة أم الأمور الخارجية حتى يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية معا، أو إرادة ما يعم كلتا الشبهتين، بأن يقال: رفع الموضوع الكلي فيما لا يعلمون أعم من رفعه بعنوانه الأولي الذاتي كشرب التتن، ومن رفعه بعنوانه الثانوي الناشئ عن احتمال انطباقه على الموجود الخارجي كالخمر المحتمل انطباقه على المائع المردد بين الخمر والخل، فان المرفوع حينئذ هو شرب الخمر المحتمل الانطباق على هذا المائع، لا الخمر بعنوانه الأولي. وبالجملة: فالموضوع الكلي المجهول مرفوع شرعا سواء أكان بعنوانه الأولي أم الثانوي، ويسمى الأول بالشبهة الحكمية والثاني بالشبهة الموضوعية ومع 185
إمكان إرادة كلتا الشبهتين من (رفع ما لا يعلمون) بلا تكلف - لا سيما مع كونه امتنانيا يناسبه التعميم، وخصوصا بالتقريب الأول و هو إرادة الحكم من الموصول - لا وجه لاختصاصه بالشبهة الموضوعية، بدعوى ظهور وصف الموضوع في كونه بحال نفسه لا بحال متعلقه وهو الحكم، فلو كان الموصول الفعل الخارجي المجهول نفسه لا حكمه كالمائع الخارجي المجهول عنوانه كان الحديث مختصا بالشبهة الموضوعية وأجنبيا عن الشبهات الحكمية. وربما يستشهد لهذه الدعوى بوجوه: منها: وحدة السياق، حيث إن المراد بالموصول في غير (ما لا يعلمون) هو الفعل الاكراهي والاضطراري ونحوهما، إذ لا معنى لتعلق الاكراه والاضطرار بنفس الحكم، فالمراد بالموصول في (ما لا يعلمون) أيضا هو الفعل لا الحكم فيختص بالشبهات الموضوعية. وفيه أولا ما قيل من: أن وحدة السياق محفوظة، لان المراد بالموصول في الجميع هو الشئ المبهم الذي ينطبق فيما عدا ما لا يعلمون على الافعال، وفيه على الحكم، يعني: أن المرفوع هو الحكم سواء أ كان الشك فيه ناشئا من فقد الدليل أم من الأمور الخارجية، فالرفع في جميع الفقرات أسند إلى الشئ غاية الامر أنه ينطبق في غير (ما لا يعلمون) من الاضطرار والاكراه وغيرهما على الافعال، وفي (ما لا يعلمون) على الحكم، فوحدة السياق محفوظة. وثانيا: أن وحدة السياق لا تزاحم الحمل على الحقيقة، ولا تقدم عليه، فإذا أسند فعل إلى أمور مجازا كما إذا قيل: (جرى الميزاب و النهر والمطر) فلا توجب وحدة السياق في اسناد الجريان إلى الميزاب و النهر مجازا مجازية اسناد 186
الجريان إلى المطر أيضا، بل مجرد إمكان الحمل على الحقيقة يمنع عن قرينية الظهور السياقي، ومن المعلوم أن اسناد الرفع إلى الافعال الاضطرارية والاكراهية وغيرهما مجازي، لكونه إلى غير ما هو له، وإسناده إلى الحكم فيما لا يعلمون حقيقي، لكونه إلى ما هو له، فلا بد من المصير إليه وعدم الاعتناء بوحدة السياق. ودعوى وحدة الاسناد إلى التسعة، وعدم إمكان اتصاف اسناد واحد بالحقيقي والمجازي، فلا بد من إرادة الفعل فيما لا يعلمون كإرادته من سائر الفقرات حتى يتصف هذا الاسناد الواحد في الكل بوصف واحد وهو المجازية، مندفعة بأن التسعة عنوان مشير إلى تلك الفقرات، فيتعدد الرفع بتعددها، فلا يلزم اتصاف اسناد واحد بالحقيقي والمجازي. فالمتحصل: أن ظهور الرفع في (ما لا يعلمون) في رفع الحكم مطلقا - سواء أكان كليا كما في الشبهة الحكمية أم جزئيا كما في الشبهة الموضوعية - مما لا ينبغي إنكاره، واسناد الرفع فيه حقيقي، لكونه إلى ما هو له كما لا يخفى. ومنها: أن ورود الحديث مورد الامتنان يقتضي أن يكون المرفوع مما فيه ثقل على المكلف، ومن الظاهر أن الثقيل هو الفعل أو الترك، إذ الحكم فعل المولى ولا ثقل فيه على المكلف، فلا بد أن يكون المرفوع فيما لا يعلمون كسائر الفقرات هو الفعل لا الحكم. وفيه: أن الثقل في إلزام المكلف بالفعل أو الترك، إذ بدونه لا ثقل عليه، فالموجب للثقل والضيق هو حكم الشارع، فيصح اسناد الرفع إليه. ومنها: أن الوضع والرفع متقابلان ومتواردان على مورد واحد، ومن 187
الظاهر أن الوضع يتعلق بالفعل، حيث إن التكليف وضع الفعل أو الترك على عهدة المكلف في وعاء التشريع، فالرفع أيضا يتعلق برفع الفعل عن عهدته لا الحكم. وعليه فالمرفوع فيما لا يعلمون هو الفعل. وفيه: أن المرفوع حقيقة ما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع، وذلك ليس الا الحكم الذي هو من أفعاله الاختيارية، فكل من الوضع و الرفع يتعلق بنفس التكليف الذي هو مجعول الشارع، ولو أسند الرفع أو الوضع في الكلام إلى الفعل فلا بد من إرجاعه إلى الحكم، ولذا يقال: انه إثبات الحكم بلسان إثبات الموضوع، أو نفيه بلسان نفي الموضوع، وأنه من النفي المركب، ولو كان اسناد الرفع إلى الفعل إسنادا إلى ما هو له لم يكن للارجاع المزبور وجه، وكان النفي بسيطا لا مركبا، فتقابل الوضع والرفع انما هو بالنسبة إلى الحكم، فيتواردان عليه. وكون الفعل أو الترك في العهدة انما ينتزع عن تشريع الحكم. لا أن الفعل أو الترك بنفسه مجعول على عهدة المكلف. وبالجملة: فهذا الوجه يؤيد بل يدل على أن المرفوع في (ما لا يعلمون) هو الحكم، ولا يدل بوجه على اراده الفعل من (ما لا يعلمون). ولا فرق فيما ذكرنا من أن المرفوع نفس الحكم بين كون ظرف الرفع هو الاسلام في قبال الأديان السابقة، وبين كونه ذمة الأمة الاسلامية في قبال الأمم السابقة، وذلك لأجنبية الظرف عن المظروف، فلو كان الظرف ذمة المكلف لم يقتض ذلك كون متعلق الوضع و الرفع فعل العبد كما قيل. ومنها: أنه لا إشكال في شمول الحديث للشبهات الموضوعية، فأريد الفعل من الموصول في (ما لا يعلمون) قطعا، فلو أريد به الحكم أيضا لزم استعماله 188 فعلا [1 [1 وان كان ثابتا واقعا، فلا مؤاخذة (2) عليه قطعا.
في معنيين وهو غير جائز. وفيه ما عرفت من: أن المراد بالموصول هو نفس الحكم سواء أكان الشك فيه ناشئا من عدم الدليل أم من الأمور الخارجية، فيراد من الموصول كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية من دون لزوم محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى. فالمتحصل: أن الحديث الشريف يدل على البراءة، وأن الاستدلال به عليها متين. [1] لسيدنا الأستاذ (قده) كلام في هذا المقام قد أفاده في مجلس الدرس، وحاصله: أن المرفوع في ما لا يعلمون كما يقتضيه وحدة السياق هو رفع الحكم الواقعي حقيقة كسائر الفقرات المذكورة في الحديث الشريف من دون لزوم محذور التصويب. توضيحه: أن كل تكليف سواء كان في الماليات أم غيرها ينحل إلى حكمين: وضعي و هو جعل متعلقه على عهدة المكلف وإشغال 189
ذمته به، وتكليفي وهو مطالبة متعلقه والتحريك نحوه، ففي حرمة شرب الخمر ووجوب النفقة مثلا يجعل نفس الفعل والترك على العهدة، وهذا المعنى هو المقصود من الوضع. وعليه فالمرفوع في (ما لا يعلمون) هو التكليف دون الوضع المزبور الذي هو الحكم المشترك بين العالم والجاهل على ما قام عليه الاجماع والاخبار، ولا يلزم منه محذور التصويب أصلا، إذ المفروض عدم ارتفاع الحكم المشترك. والذي يدل على ذلك أمور: الأول: ظواهر أدلة البراءة، إذ لا سبيل إلى إنكار ظهورها في الرفع الحقيقي كالرفع في سائر الفقرات، كما لا سبيل إلى التصرف فيها و حملها على الرفع ظاهرا كما في المتن وغيره. الثاني: استحالة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، لامتناع جعل حكمين مثلين أو ضدين لموضوع واحد، وعدم إجداء تعدد الرتبة في جوازه ما لم يرجع إلى تعدد الموضوع كما فصل في محله، فلا بد من كون المرفوع التكليف والثابت المشترك بين الكل هو الوضع. الثالث: ما دل على وجوب قضاء الصلاة والصوم على من تركهما لنوم أو غفلة، لسقوط الخطاب في حالتي الغفلة والنوم، فلا موجب لقضائهما إلا شغل الذمة. فالمتحصل: أن لكل حكم جهتين تكليفا ووضعا، والمرفوع بالبراءة حقيقة هو التكليف، لأنه مترتب على العلم بالوضع، فبدون العلم به لا تكليف حقيقة. أقول: ويتوجه على ما أفاده قدس الله تعالى نفسه الطاهرة أولا: أن ملازمة كل تكليف لوضع غير ثابتة، والأدلة الثلاثة المتقدمة لا تفي بإثباتها، إذ في أولها: 190
أن محذور التصويب كما يرتفع بجعل المرفوع التكليف الواقعي، كذلك يرتفع بجعله إيجاب الاحتياط، ولا مرجح للأول على الثاني. و توهم أن اسناد الرفع في الأول حقيقي وفي الثاني مجازي، فيرجح الأول عليه، فاسد، ضرورة أن الاسناد في كليهما حقيقي، حيث إن المرفوع في كل منهما هو الحكم الشرعي خصوصا إذا قلنا ان إيجاب. الاحتياط هو نفس الحكم الواقعي، فأدلة البراءة ترفعه في مرحلة التنجز، وهذا مراد المصنف (قده) بقوله: (فالالزام المجهول مما لا يعلمون فهو مرفوع فعلا). وفي ثانيها: أن الاستحالة المزبورة ترتفع أيضا بما ذكر من جعل المرفوع إيجاب الاحتياط، فالحكم الواقعي موجود في صقعه، و المرفوع في حالة الجهل به هو تنجزه وباعثيته، بل قد تقدم سابقا أن أدلة البراءة إرشاد إلى البراءة العقلية من دون دلالتها على تشريع حكم حتى نلتجئ إلى الجمع بينه وبين الحكم الواقعي، فلا موجب لجعل المرفوع نفس الحكم الواقعي بوجوده الانشائي كما أفاده قدس سره. وفي ثالثها: أن وجوب القضاء كما يحتمل أن يكون لأجل الوضع، كذلك يحتمل أن يكون لتمامية الملاك، ومع الاحتمال المصادم للظهور يبطل الاستدلال. وثانيا: - بعد تسليم انحلال كل حكم إلى تكليف ووضع - أن لازم هذا المبنى انسداد باب البراءة في الشبهات الحكمية، إذ المفروض ترتب الحكم على العلم بالوضع ترتب الحكم على موضوعه، فنفس الجهل بالوضع يوجب القطع بعدم التكليف، فلا شك فيه حتى ينفي بالبراءة. وان جرت البراءة في الوضع دون التكليف لزم التصويب، إذ لازمه توقف الحكم المشترك بين 191 لا يقال: ليست المؤاخذة [1 [1 من الآثار الشرعية
الكل وهو الوضع على العلم به، وهو محال، لأنه دور. وثالثا: أنه يلزم على هذا المبنى انسداد باب وجوب تعلم الاحكام أيضا، إذ المفروض أنها موقوفة على العلم بالوضع توقف الحكم على موضوعه، وقد ثبت في محله عدم وجوب تحصيل الموضوع، و مجرد العلم الاجمالي باشتغال الذمة بأفعال وتروك لا يجدي في إثبات وجوب التعلم، لأنه علم إجمالي بالموضوع، والمجدي هو العلم بالحكم. الا أن يقال: ان العلم الاجمالي بالموضوع علم إجمالي بالحكم، وهذا كاف في تنجيز الأحكام التكليفية المترتبة على الوضع، وفي وجوب تعلمها. أو يقال: ان التكليف ليس مترتبا على الوضع ترتب الحكم على موضوعه، بل هما في رتبة واحدة، ومعلولان لعلة ثالثة، وحينئذ يكون الرجوع إلى الأدلة موجبا للعلم بكل من الوضع والتكليف، وبه يندفع الاشكال الثاني وهو انسداد البراءة في الشبهات الحكمية، و الاشكال الثالث وهو انسداد باب وجوب تعلم الاحكام. نعم يبقى الاشكال الأول وهو عدم الدليل على انحلال كل حكم إلى تكليف و وضع، ولا بد من مزيد التأمل وإمعان النظر فيما أفاده رفع الله تعالى في الخلد مقامه. [1] لا يخفى أن الاشكال في المؤاخذة من ناحيتين: إحداهما: عدم كونها أثرا شرعيا حتى يصح جريان أصل البراءة التي هي من الأصول العملية فيها. 192
ثانيهما: أن المؤاخذة ليست من آثار التكليف المجهول حتى ترتفع برفعه بل هي من آثار التكليف الفعلي المنجز، فلا عقاب عقلا على ما لم يتنجز. ويندفع الاشكال من الناحية الأولى بما أفاده في المتن والهامش من أن رفع المؤاخذة ليس للتعبد برفع نفسها حتى لا يعقل التعبد به نفيا وإثباتا، بل لنفي موضوعها وهو التكليف الفعلي الواقعي أو الظاهري، فان استحقاقها مترتب على مخالفته بعد وصوله إلى المكلف، فعدم الاستحقاق انما هو لعدم مخالفة التكليف الواصل، سواء كان هناك تكليف واقعا ولم يصل إلى المكلف ولو بإيجاب الاحتياط أم لم يكن أصلا. ويندفع الاشكال من الناحية الثانية بأن المؤاخذة وان لم تكن من آثار التكليف المجهول بما هو مجهول، لكنها من آثار ما يقتضيه الواقع المجهول من إيجاب الاحتياط المصحح للمؤاخذة، فهي أثر الأثر، فرفع التكليف المجهول تعبدا رفع لاثره أعني إيجاب الاحتياط الذي هو موضوع الاستحقاق. وبالجملة: فلا مانع من رفع المؤاخذة بإجراء أصالة البراءة في التكليف المجهول. لكن قد تقدم في مبحث التجري أن موضوع حكم العقل باستحقاق العقوبة 193 كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا، فلا دلالة له (1) على ارتفاعها. (×) فإنه يقال: انها (2) وان لم تكن بنفسها أثرا شرعيا،
هو الظلم على المولى والخروج عن رسوم العبودية، وذلك يتحقق بمخالفة التكليف المنجز وهو الواصل إلى المكلف دون غير الواصل، فإنه ليس موضوعا لحكم العقل باستحقاق العقوبة على مخالفته، فلا مؤاخذة على التكليف المجهول الأولي أو إيجاب الاحتياط. وبالجملة: فجعل المرفوع المؤاخذة ثم الاشكال عليه والجواب عنه مما لا وجه له. فالأولى إجراء البراءة في إيجاب الاحتياط الذي يقتضيه نفس التكليف المجهول أو ملاكه، فان البراءة الشرعية تجري فيما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع وهو إيجاب الاحتياط، ولا حاجة معه إلى تجشم رفع المؤاخذة بالبراءة الشرعية بعد كفاية البراءة العقلية وهي قبح العقاب بلا بيان لنفيها. (×) مع أن ارتفاعها وعدم استحقاقها بمخالفة التكليف المجهول هو المهم في المقام، والتحقيق في الجواب أن يقال: - مضافا إلى ما قلنا - ان الاستحقاق وان كان أثرا عقليا، الا أن عدم الاستحقاق عقلا مترتب على عدم التكليف شرعا ولو ظاهرا، تأمل تعرف. 194 الا أنها (1) مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه من (2) إيجاب الاحتياط [1] شرعا، فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه (3) المستتبع [المتتبع] لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته (4).
[1] ربما يقال: ان جعل إيجاب الاحتياط من آثار التكليف المجهول 195
ومقتضياته حتى يكون التعبد برفعه تعبدا برفع إيجاب الاحتياط لا يخلو من الاشكال، ضرورة أن المقتضي بجميع معانيه أجنبي عن المقام، إذ لو كان بمعنى السبب فلان السبب الفاعلي لكل حكم هو الحاكم، ولو كان بمعنى الغاية فلان مورده هو الفوائد التي يدعو تصورها إلى إيجاد ما يقوم بتلك الفوائد كالجلوس المترتب على السرير خارجا، والداعي تصوره إلى إيجاد السرير، ومن المعلوم أن التكليف المجهول ليس من الفوائد المترتبة على إيجاب الاحتياط حتى يكون تصوره داعيا إلى إيجابه. ولو كان بمعنى مطلق ما يترتب عليه الأثر الشامل لكل حكم يترتب على موضوعه، فلان إيجاب الاحتياط ليس حكما متعلقا بالحكم الواقعي تعلق الحكم بموضوعه. وبالجملة: فالسبب بجميع معانيه أجنبي عن التكليف المجهول. فالأولى أن يقال: ان الملاك كما يدعو إلى تشريع الحكم الواقعي كذلك يدعو إلى ما يوجب وصول الحكم إلى المكلف، إذ لا يستوفي الملاك بمجرد جعل التكليف، بل لا بد في استيفائه من إيصال الحكم إلى المكلف، فكل من التكليف المجهول وإيجاب الاحتياط مسبب عن الملاك، فليس أحدهما ناشئا عن الاخر حتى يندرج في باب الاقتضاء. أقول: لما كان الغرض من التكاليف احداث الداعي العقلي للمكلف، و يتوقف ذلك على وصولها إليه، ومن المعلوم أن وصولها إليه من صفات التكليف وكل موصوف يقتضي وصفه، فبهذه العناية يصح أن يقال: ان التكليف المجهول يقتضي اتصافه بالمحركية المتوقفة على وصوله إلى المكلف، ووصوله إليه في ظرف الجهل به منوط بنصب الطريق أو بإيجاب الاحتياط الذي هو غيره 196
مفهوما وعينه خارجا. والحاصل: أن المجعول الشرعي يقتضي أن يوجد الداعي في المكلف إلى موافقته، ولا يمكن أن يكون داعيا حال الجهل إلا بنصب الطريق أو بإيجاب الاحتياط. وعليه فإيجاب أحدهما لأجل التنجيز مما يقتضيه التكليف بلحاظ احداث الداعي للعبد، فالتنجز المنوط بالوصول إلى المكلف وان لم يكن من مراتب الحكم كما تقدم في بعض التعاليق، لكنه من أوصافه، وكل موصوف يقتضي وصفه، فالحكم المجهول مقتض لوصفه وهو التنجز المتوقف على إيجاب الاحتياط، فيصح رفعه برفع التكليف المجهول تعبدا، لكونه من أوصافه. وعليه فليس إيجاب الاحتياط مقدميا ولا إرشاديا ولا نفسيا، حتى يرد على الأول أولا: أن الوجوب المقدمي معلول لوجوب ذي المقدمة، فيتبعه ثبوتا وفعلية وتنجزا، فلا يعقل أن يتنجز وجوب ذي المقدمة من قبله. وثانيا: أن الاحتياط ليس مقدمة وجودية لما تعلق به التكليف، بل هو عنوان له، فلا اثنينية بينهما وجودا حتى ينطبق عليه عنوان المقدمة الوجودية فيجب بوجوبه. وعلى الثاني: أن الارشاد إلى ترتب استحقاق العقاب على مخالفة الواقع المجهول فرع تنجزه، والمفروض أنه لا منجز له إلا الامر الارشادي بالاحتياط. وعلى الثالث أولا: أن مقتضى النفسية تنجز نفس وجوب الاحتياط بوصوله دون الواقع المجهول، وهو خلف. وثانيا: أنه يلزم اجتماع وجوبين نفسيين على واحد، إذ الاحتياط في محتمل الوجوب انما هو بفعل الواجب، وهو غير معقول. 197 لا يقال (1): لا يكاد يكون إيجابه (2) مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول بل (3) على مخالفة [مخالفته] نفسه كما هو قضية إيجاب غيره (4).
والحاصل: أن إيجاب الاحتياط متمم لقصور محركية التكليف المجهول وليس مغايرا له حقيقة بعد وحدة ملاكهما التي هي مناط وحدة الحكم وان تعدد الخطاب. 198 فإنه يقال (1): هذا (2) إذا لم يكن إيجابه طريقيا [1] وإلا فهو (3) موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول كما هو الحال في غيره من
[1] كون إيجاب الاحتياط طريقيا لا يخلو من إشكال، لأنه يعتبر الكشف الناقص في متعلق الايجاب الطريقي كالأمارات، وليس الاحتياط كاشفا عن الواقع ورافعا لحجابه، فهو كالبراءة حكم على الشك الذي لا يعقل أن يكون طريقا، فالأولى أن 199 الايجاب والتحريم (1) الطريقيين، ضرورة (2) أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به، ويقال: لم أقدمت مع إيجابه؟ ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان، كما يخرج بهما. وقد انقدح بذلك (3) أن رفع التكليف المجهول كان منة على
يقال: (إذا لم يكن إيجابه لتنجيز الواقع). 200 الأمة حيث كان له تعالى وضعه (1) بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط فرفعه (2)، فافهم (3). ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية (4) في (ما لا يعلمون) فان ما لا يعلم من التكليف مطلقا
201
[1] وهناك احتمالان آخران أفادهما أوثق الوسائل بقوله: (وهنا وجه رابع، وهو إبقاؤه على ظاهره من نفي حقيقة الأمور التسعة كما أسلفناه عن الشهيد (ره) في ذيل ما علقناه على ما أورده المصنف على الاستدلال بالخبر وأسلفنا تزييفه هناك، فراجع. وخامس، وهو الحكم بالاجمال، لعدم تعين المراد بعد تعذر إرادة الحقيقة لدورانه حينئذ بين نفي جميع الآثار وخصوص المؤاخذة فيعود الخبر مجملا). 202 كان (1) في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه (2) قابل للرفع و الوضع شرعا [1] وان كان في غيره لا بد من تقدير الآثار أو المجاز في اسناد الرفع إليه (3)، فإنه ليس (4) ما اضطروا وما استكرهوا. إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة.
[1] هذا أحد وجوه تعميم (ما لا يعلمون) للشبهة الحكمية و الموضوعية، وقد تعرض له في حاشية الرسائل في مقام تصحيح اسناد الرفع إلى كل من الشبهتين. لكنه ناقش فيه باستلزامه لاختلاف السياق، قال (قده): (اللهم الا أن يراد من الموصول هو الحكم ليس الا، لكنه أعم من أن يكون منشأ الجهل به هو فقدان النص أو إجماله أو اشتباه الأمور الخارجية، وعدم تميز عنوان الموضوع، وعليه يكون اسناد الرفع في الشبهة الموضوعية أيضا إلى الحرمة 204
ابتداء من دون حاجة إلى تقدير. لكنه يوجب اختلاف ما لا يعلمون مع إخوته في النسق. إلخ) وحديث السياق قد تقدم الكلام فيه. ومنها: إرادة الفعل من الموصول، لكنه بما هو واجب أو حرام، لان الامتنان يقتضي أن يكون المرفوع ثقيلا، سواء كان منشأ الشك فقد الدليل كشرب التتن مثلا، أم الأمور الخارجية كشرب هذا المائع المردد بين خمريته وخليته. وفيه: أن حمل الفعل على أنه واجب أو حرام خلاف ظاهر سائر الفقرات، فان الاكراه وغيره انما هو على نفس الفعل، فالمراد بما لا يعلمون نفس الفعل غير المعلوم عنوانه كشرب مائع لا يعلم أنه خمر أو خل، لا بعنوان أنه واجب أو حرام، فيختص حينئذ بالشبهة الموضوعية. ومنها: إرادة الفعل من الموصول مع تعميم الجهل من حيث الجهل بنفسه أو بوصفه وهو حكمه، فالفعل المجهول بنفسه كشرب المائع المردد بين الخمر والخل والمجهول بحكمه كشرب التتن المشكوك حكمه مرفوع. وفيه: أن ظاهر (ما لا يعلمون) هو قيام الجهل بذات الشئ بحيث يحمل المجهول عليه بالحمل الشائع كما في الشبهات الموضوعية، بخلاف الشبهات الحكمية، فان الجهل فيها قائم بالمتعلق، ضرورة أن شرب التتن معلوم عنوانا ومجهول حكما، فلا يصح حمل المجهول على نفسه بالحمل الشائع، بل يحمل على حكمه، فيكون من قبيل الوصف بحال المتعلق. وعلى هذا فلا يشمل (ما لا يعلمون) الشبهات الحكمية. ومنها: إرادة كل من الموضوع والحكم بأن يراد بالموصول الشئ الجامع 205 نعم (1) لو كان المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) ما اشتبه حاله و لم يعلم عنوانه لكان أحد الامرين (2) مما لا بد منه أيضا (3). ثم لا وجه (4) لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر
بينهما فكل ما لا يعلم من الحكم والموضوع مرفوع. وقد أورد عليه المصنف (قده) في تعليقته على الرسائل بعدم إمكانه، لان اسناد الرفع إلى الحكم اسناد إلى ما هو له وإلى الموضوع اسناد إلى غير ما هو له، ولا جامع بينهما. ويمكن دفعه بأن يقال: ان الرفع لما كان تشريعيا كان اسناده إلى كليهما إسنادا إلى ما هو له، لان معناه حينئذ: أن كل مجهول موضوعا كان أو حكما مرفوع في صفحة التشريع، فكما أن الالزام المجهول مرفوع شرعا، فكذلك الموضوع المجهول مرفوع أي لم يجعل في عالم التشريع موضوعا لحكم، فتدبر. 206
[1] أورد المصنف في حاشية الرسائل على هذا الاستظهار بقوله: (ما يظهر من الخبر لا ينافي تقدير خصوص المؤاخذة مع تعميمها إلى ما كانت مترتبة عليها بالواسطة كما في الطلاق والصدقة والعتاق، فإنها مستتبعة إياها بواسطة ما يلزمها من حرمة الوطء في المطلقة ومطلق التصرف في الصدقة والعتاق. 207 في غير واحد (1) غيرها (2)، فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها أو تمام آثارها (3) التي تقتضي المنة رفعها، كما أن
وبالجملة: لو كان المقدر هو المؤاخذة الناشئة من قبلها بلا واسطة أو معها لا ينافيه ظاهر الخبر، فيوجب تقدير جميع الآثار، فتدبر). 208 ما يكون (1) بلحاظه الاسناد إليها مجازا هو هذا كما لا يخفى، فالخبر (2) دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه منة (3) على الأمة كما استشهد الإمام عليه السلام بمثل (4) هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق.
209 ثم لا يذهب عليك أن المرفوع (1) فيما اضطروا إليه وغيره مما
210 أخذ بعنوانه الثانوي انما (1) هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي [1]
[1] بل بعنوانه الثانوي أيضا ما لم يكن من العناوين الثانوية المذكورة في الحديث الشريف، فلو فرض ثبوت الحرمة مثلا للفعل الضرري ثم طرأ عليه 211 ضرورة (1) أن الظاهر أن هذه العناوين (2) صارت موجبة للرفع، و الموضوع (3) للأثر مستدع لوضعه (4)، فكيف يكون موجبا لرفعه؟
الاكراه وصار الفعل مكرها عليه ارتفعت الحرمة بالاكراه. وبالجملة: لم يظهر وجه لتخصيص المرفوع بما يترتب على الفعل بعنوانه الأولي. اللهم الا أن يكون المقصود العنوان الأولي بالنسبة إلى هذه العناوين الثانوية المذكورة في الحديث وان كان في نفسه عنوانا ثانويا. 212 لا يقال: كيف (1) وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان يكون أثرا لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها (2). فإنه يقال (3): بل انما يكون [تكون] باقتضاء الواقع
213 في موردها [1 [1 ضرورة أن الاهتمام به (2) يوجب إيجابهما [ إيجابها] لئلا يفوت على المكلف كما لا يخفى.
[1] وعليه فيكون الشك موردا لايجاب الاحتياط كمورديته للامارات، وهذا خلاف ما هو ظاهر قوله صلى الله عليه وآله: (رفع ما لا يعلمون) من موضوعية الجهل بالحكم للرفع لا مورديته له. كما أنه خلاف ما بنوا عليه من الفرق بين الامارات والأصول بجعل الشك موردا في الأول، وموضوعا في الثاني، فيخرج حينئذ قاعدة الاحتياط عن الامارات والأصول، لعدم كاشفيتها ولو نوعا حتى تندرج في الامارات، وعدم موضوعية الجهل لها حتى تدخل في الأصول العملية التي موضوعها الشك، إذ المفروض كون الجهل موردا للاحتياط لا موضوعا له، مع أن المسلم عندهم كون قاعدة الاحتياط من الأصول العملية. نعم بناء على الفرق بين الأصول والامارات من ناحية المحمول بأن يراد بالحجية في الامارات إلغاء الشك وتتميم الكشف تكون قاعدة الاحتياط من الأصول العملية، إذ ليس حجيتها بمعنى طريقيتها للواقع وكشفها عنه، لوضوح عدم 214
كشف ناقص فيها حتى يكون دليل حجيتها متمما له كما هو كذلك في الامارات حيث إن فيها كشفا ناقصا، ودليل اعتبارها يتمم هذا النقص على ما قيل. ويمكن أن يريد المصنف (قده) ب (موردها) موضوعية الجهل و الخطأ والنسيان لا يجاب الاحتياط والتحفظ لا ظاهره وهو الظرفية، فان كان كذلك فلا إشكال، إذ المفروض حينئذ موضوعية الشك لقاعدة الاحتياط على حذو موضوعيته لسائر الأصول العملية، فتدبر. ثم انه لا بأس بالتعرض لجملة من المباحث المتعلقة بحديث الرفع مضافة إلى ما تقدم: المبحث الأول: أن حديث الرفع من الأدلة القابلة للتخصيص والتقييد، فلو دل الحديث بإطلاقه على عدم قدح الخلل بأركان الصلاة مثلا كنسيان الركوع أو السجود أو غيرهما من الأركان كان هذا الاطلاق مقيدا بمثل حديث (لا تعاد) لو لم نقل بحكومته على حديث الرفع. المبحث الثاني: أن حديث الرفع يرفع التكليف واقعا فيما عدا (ما لا يعلمون) بسبب الخطأ والنسيان والاضطرار، فالسورة مثلا يرفع أثرها الشرعي وهو كونها جزا للصلاة، وكذا جزئية الاحرام أو شرطيته للحج، ووجوب الترتيب في مناسك منى ترفع بتركهما نسيانا أو إكراها أو اضطرارا، وكذا لو أتى بشئ من موانع الصلاة مثلا كذلك كالتكلم والضحك، فان حديث الرفع يرفع حكم ما يعرضه النسيان ونحوه من الفعل أو الترك. وبالجملة: فالشئ الموضوع لحكم يرفع حكمه بعروض أحد العناوين المذكورة سواء عرضت فعله أم تركه. 215
لا يقال: ان كان الفعل موضوعا للأثر الشرعي فلا مانع من ارتفاعه بالنسيان ونحوه، وأما تركه نسيانا مثلا فليس موضوعا للحكم حتى يرتفع بأحد تلك العناوين، فلا محيص عن اختصاص حديث الرفع بالافعال التي لها آثار شرعية إذا أتى بها نسيانا مثلا، ولا وجه لشموله للتروك، فلا يجري حديث الرفع في ترك السورة نسيانا مثلا، إذ شأنه تنزيل الموجود منزلة المعدوم يعني تنزيل الفعل المأتي به نسيانا كالتكلم في الصلاة منزلة عدمه، حيث إنه ينزل وجود التكلم كعدمه في عدم إبطاله للصلاة، فالحديث يرفع مانعيته. فإنه يقال: انه يكفي في صحة الرفع وإضافته إلى التروك ترتب الأثر الشرعي على الافعال كما قرر في الاستصحاب من صحة جريانه بلحاظ أثر النقيض كاستصحاب عدم البلوغ، وعدم بلوغ المال حد الاستطاعة، وعدم الدين فان المترتب على هذه الاستصحاب ليس إلا عدم الحكم، وجريانها فيها انما هو لأجل أحكام وجود تلك المستصحبات، وبهذه العناية يصح رفع جزئية وشرطية ما عدا الخمسة من أجزاء الصلاة وشرائطها بحديث (لا تعاد) أيضا عند تركها نسيانا، فان ترك السورة ليس موضوعا لحكم حتى يرتفع بسبب تركها نسيانا. ودعوى تنزيل الموجود منزلة المعدوم أجنبية عن مدلول حديث الرفع كأجنبيته عن مدلول حديث (لا تعاد) فان غاية ما يدل عليه الحديثان رفع الحكم عن الشئ بسبب النسيان ونحوه سواء كان المنسي فعلا أم تركا، وليس فيهما من التنزيل عين ولا أثر. نعم لا تبعد دعوى التنزيل في مثل (لا تنقض اليقين بالشك) لاحتمال إرادة تنزيل المشكوك منزلة المتيقن أو الشك منزلة اليقين. مضافا إلى: أن الترك بنفسه قد يكون ذا أثر شرعي كما إذا أكره على ترك 216
ما نذره من صلاة الليل مثلا أو اضطر إليه أو نسيه بناء على كون ترك المنذور مطلقا موضوعا لوجوب الكفارة، فيصح أن يقال: ان حكم الترك الاكراهي أو الاضطراري أو النسياني مرفوع، فلا يوجب الكفارة. وبالجملة: مصب الرفع هو حكم ما تعلق به النسيان والاضطرار و الاكراه سواء أكان أمرا وجوديا أم عدميا، والمراد بالمرفوع جميع الآثار الشرعية المترتبة على المنسي والمضطر إليه والمكره عليه، فجزئية السورة مثلا مرفوعة بتركها نسيانا، ومانعية ما لا يؤكل مرفوعة عند لبسه نسيانا. المبحث الثالث: قد ظهر مما ذكرنا إمكان تصحيح العبادة الفاقدة لجز أو شرط نسيانا أو إكراها أو اضطرارا بحديث الرفع كإمكان تصحيحها به فيما إذا اقترنت بمانع كذلك كالتكلم والتكتف في الصلاة، وغموض ما في ما تقريرات المحقق النائيني قدس سره (من منع التمسك بحديث الرفع لتصحيح العبادة الفاقدة لجز أو شرط تارة بعدم شمول الحديث للأمور العدمية، لعدم محل لورود الرفع على الجز والشرط المنسيين، لخلو صفحة الوجود عنهما، فيمتنع تعلق الرفع بهما، لان رفع المعدوم عبارة أخرى عن الوضع والجعل، فرفع الجز المتروك نسيانا هو وضعه، وأثر وجود السورة هو الاجزاء والصحة وهذا وضع لا رفع. وأخرى بأن المرفوع إذا كان أثر وجود الجز المنسي وهو الاجزاء، ففيه أولا: أنه أثر عقلي لا شرعي حتى يرفع بالحديث. وثانيا: أنه ينتج عدم الاجزاء، وهو مع كونه ضد المقصود خلاف الامتنان. وثالثة بأنه ان أريد جريان الحديث في المركب الفاقد للجز أو الشرط 217
المنسي، حيث إنه أمر وجودي قابل لتوجه الرفع إليه، ففيه أولا: أنه ليس هو المنسي ليتوجه إليه الرفع. وثانيا: أنه لا يجدي رفعه، لان رفع المركب الفاقد لا يثبت كونه هو المركب الواجد الذي قصد إثباته بالحديث، لأنه وضع لا رفع. وان أريد جريانه في أثر الفاقد وهو الفساد، ففيه: أنه أثر عقلي مترتب على عدم انطباق الواجد عليه، فلا تناله يد الرفع التشريعي. ورابعة بأنه لو كان المستند في صحة الصلاة الفاقدة لجز أو شرط حديث الرفع كان اللازم صحة الصلاة بنسيان الجز أو الشرط مطلقا وان كان ركنا، لاطلاق الحديث وعدم تعرضه للتفصيل بين الأركان وغيرها. ثم أيد ذلك بأنه لم يعهد من الفقهاء التمسك بحديث الرفع لصحة الصلاة وغيرها من سائر المركبات) انتهى ما في التقريرات ملخصا. وقد عرفت مما ذكرناه ضعف هذه الوجوه، لان حديث الرفع سيق لبيان رفع آثار الشئ حين نسيانه مثلا، فلو كان جزا ونسي رفع أثره وهو جزئيته، فالسورة ترفع جزئيتها للصلاة حين نسيانها، فتمام المأمور به حينئذ هو ما عدا السورة من سائر الأجزاء على ما هو مقتضى أدلتها بعد ضم حديث الرفع إليها، فيصح أن يقال: السورة المنسية مرفوعة جزئيتها للصلاة، فوزان حديث الرفع وزان حديث (لا تعاد) في نفي دخل ما عدا الخمسة من الاجزاء والشرائط في الصلاة حال النسيان، فكما لا تنزيل في حديث لا تعاد فكذلك لا تنزيل في حديث الرفع، ومن المعلوم أن الجزئية - ولو بمنشأ انتزاعها - قابلة للرفع التشريعي حين عروض النسيان لمتعلقها كالسورة، وكذا الشرطية، فإنها تقبل الرفع حين ترك موضوعها اضطرارا أو إكراها كالوقوف في عرفات في غير يوم عرفة 218
تقية، فشرط صحة الوقوف وهو وقوعه يوم عرفة قد ترك تقية ورفع لأجلها شرطيته، فالوقوف في غير يوم عرفة يقع مأمورا به بعد سقوط شرطه المزبور بحديث الرفع ونحوه من الأدلة المذكورة في محلها، فما ذكرناه في مباحث الحج مع العامة تقية في الجز الثاني من هذا الشرح من الاشكال في جريان حديث الرفع في ترك الجز أو الشرط ليس على ما ينبغي. وبالجملة: فلا فرق في رفع النسيان وأخواته للآثار الشرعية بين عروضها للامر الوجودي والعدمي، والمرفوع هو الأحكام الشرعية المترتبة على الأشياء لعروض أحد هذه العناوين الثانوية عليها فعلا أو تركا، فليس المرفوع في شئ منها الاجزاء حتى يقال: انه حكم عقلي أولا، وأن رفعه خلاف الامتنان ثانيا. وكذا ليس مجرى الحديث المركب الفاقد للجز أو الشرط حتى يرد عليه أولا بعدم كونه هو المنسي. وثانيا بعدم إجرائه، لكونه وضعا لا رفعا. وثالثا بأن أثر الفاقد وهو الفساد عقلي وليس بشرعي حتى يصح رفعه. ومن جميع ما ذكرنا ظهر اندفاع الاشكال الرابع أيضا، ضرورة أن حديث الرفع من الاطلاقات القابلة للتقييد كحديث (لا تعاد) الذي قيد إطلاق عقده المستثنى منه بتكبيرة الاحرام والقيام المتصل بالركوع، فإطلاق حديث الرفع الشامل للأركان يقيد أيضا بما دل على التفصيل بين الأركان وغيرها من حديث (لا تعاد) ونحوه. وأما ما أفاده (قده) من أنه لم يعهد من الفقهاء التمسك بحديث الرفع لصحة الصلاة وغيرها، ففيه: أن جماعة من الفقهاء تمسكوا به في مواضع 219
كالسيد (قده) في الناصريات، قال في كتاب الصلاة المسألة: 94 في حكم التكلم في الصلاة: (الذي يذهب إليه أصحابنا أن من تكلم متعمدا بطلت صلاته، ومن تكلم ناسيا فلا إعادة عليه وانما يلزمه سجدة السهو. دليلنا على أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة بعد الاجماع المتقدم ما روي عنه صلى الله عليه وآله رفع عن أمتي النسيان وما استكرهوا عليه، ولم يرد رفع الفعل، لان ذلك لا يرفع، وانما أراد رفع الحكم، وذلك عام في جميع الأحكام إلا ما قام عليه دليل) فان قوله: (وذلك عام) يدل على عدم خصوصية للتكلم ناسيا، ولا للفعل فلو ترك شئ نسيانا لم يقدح في صحة الصلاة. وقريب منه كلام السيد أبي المكارم في الغنية، حيث قال في كتاب الصلاة قبل الزكاة بأسطر فيما يوجب فواته الجبران بسجدة السهو من نسيان سجدة واحدة والتشهد ما لفظه: (ولمن تكلم بما لا يجوز مثله في الصلاة ناسيا، كل ذلك بدليل الاجماع المشار إليه وطريقة الاحتياط، ويعارض من قال من المخالفين بأن كلام الساهي يبطل الصلاة بما روي من طرقهم من قوله صلى الله عليه وآله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، لان المراد رفع الحكم لا رفع الفعل نفسه، وذلك عام في جميع الأحكام إلا ما خصه الدليل). ونسب شيخنا الأعظم الأنصاري (قده) في طهارته صلى الله عليه و آله 159 إلى المحقق في المعتبر تمسكه بحديث الرفع لصحة صلاة ناسي النجاسة، حيث قال الشيخ: (ولو فرض التكافؤ رجع إلى عموم قوله: لا تعاد الصلاة الا من خمسة. إلى أن قال: بل وقوله صلى الله عليه وآله رفع عن أمتي الخطأ و النسيان، بناء على شموله لنفي الإعادة كما يظهر من المحقق في المعتبر في مسألة ناسي النجاسة) 220
لكن المذكور هناك هكذا (عفي لامتي عن الخطأ والنسيان) نعم تمسك به كما هنا في مسألة التكلم في الصلاة ناسيا ص 195. وكيف كان فالشيخ أيضا تمسك في عبارته المتقدمة بحديث الرفع لصحة صلاة ناسي النجاسة، بل نقل أنه (قده) تمسك به لصحة الصلاة في مواضع أخر، وقد حكي أن العلامة والمحقق الأردبيلي (قدهما) تمسكا به أيضا في مواضع. وبالجملة: فلا إشكال في استدلال غير واحد من الأصحاب بحديث الرفع لصحة الصلاة. المبحث الرابع: المشهور أن حديث الرفع حاكم على أدلة الاحكام الأولية، لأنه متعرض لكيفية الدخل والتشريع، بخلافها، لأنها لا تتعرض إلا لأصل الدخل. توضيحه: أن أدلة الاجزاء والشرائط والموانع مثلا تدل على أصل الجزئية والشرطية والمانعية، ولا تدل على كيفية دخلها، وحديث الرفع يتعرض لكيفية الدخل، وأن جزئيتها أو شرطيتها أو مانعيتها مختصة بغير حال النسيان، فضابط الحكومة وهو تعرض أحد الدليلين لما لا يتكفله الاخر ينطبق على حديث الرفع. وعليه فلا تلاحظ النسبة بينهما وهي العموم من وجه، بتقريب: أن دليل جزئية السورة مثلا يختص بالسورة ويعم بالاطلاق حالات المكلف من الجهل والنسيان والاضطرار، وحديث رفع النسيان مختص بالنسيان ويعم جزئية السورة وغيرها حتى يقال انهما في نسيان السورة مثلا متعارضان، هذا. لكنك خبير بعدم انطباق الضابط المذكور للحكومة على المقام، ضرورة أن كلا من حديث الرفع ودليل الجزئية ونحوها متكفل لما يتكفله الاخر، فان إطلاق دليل جزئية السورة مثلا يدل على جزئيتها المطلقة أي في جميع الحالات 221
من النسيان وغيره، وحديث الرفع يدل على عدم جزئيتها حال النسيان، فهما في هذه الحالة متعارضان، فلا حكومة لحديث الرفع على دليل الجزئية ونحوها. نعم ينطبق الضابط المزبور على مثل (لا شك لكثير الشك) و (من شك بين الاثنتين والثلاث بنى على الثلاث) حيث إن الأول يهدم موضوع الثاني، فهو يتعرض لشئ لا يتعرض له الثاني، ضرورة أنه على تقدير وجود الشك يحكم عليه بالبناء على الثلاث، وقوله: (لا شك) يهدم هذا التقدير وينفيه تشريعا. والحاصل: أن الضابط المذكور لا ينطبق على حديثي الرفع و (لا تعاد الصلاة) إلا بدعوى عدم إطلاق أدلة الاجزاء والشرائط والموانع، لاجمالها، وهي في حيز المنع. أو بمنع انحصار ضابط الحكومة فيما ذكر، وأن موارد النص والظاهر، والأظهر والظاهر أيضا من أقسام الحكومة، ومن المعلوم أن شمول أدلة الاجزاء والشرائط و الموانع لحالات المكلف من النسيان وغيره انما هو بالاطلاق، ومثل حديثي الرفع و (لا تعاد) يشملها بالنصوصية وان كان شموله لنفس المعنونات كالسورة المنسية بالاطلاق، وهذا المقدار كاف في تقدم أدلة أحكام العناوين الثانوية على أدلة أحكام العناوين الأولية. أو يقال في وجه التقدم: ان العرف يحمل العناوين الأولية على الاقتضاء والثانوية على الفعلية. ومن جميع ما ذكرنا يظهر غموض ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من أن حكومة حديث الرفع على أدلة الاحكام الأولية انما هي باعتبار عقد الوضع، نظير قوله عليه السلام: (لا شك لكثير الشك) و (لا سهو مع حفظ الامام) 222
و (لا ربا بين الوالد والولد) ونحو ذلك مما يكون أحد الدليلين متكفلا لما أريد من عقد وضع الاخر. توضيح وجه الضعف: أن هذه الحكومة النافية للحكم بلسان نفي الموضوع يختص موردها بما إذا ثبت حكم لذلك الموضوع حتى يصح نفيه باعتبار حكمه، مثل (لا شك لكثير الشك) فان نفي الشك مع وجوده تكوينا لا معنى له إلا نفى حكمه المجعول له كوجوب البناء على الأكثر، فان هذا الحكم منفي في الشك الكثير أو مع الامام، وكذا نفي حرمة الربا بين الوالد والولد. وأما إذا لم يثبت حكم لموضوع، فلا معنى لنفي الموضوع، إذ لا حكم له حتى يرد النفي عليه باعتبار حكمه. والحكومة بهذا الوجه مفقودة في المقام، إذ مقتضاها نفى الحكم الثابت للنسيان والاضطرار ونحوهما، فلا بد من ثبوت حكم لهذه العناوين أولا حتى يرتفع بمثل حديث الرفع ثانيا كي تكون حكومته باعتبار عقد الوضع. والحاصل: أن حكومة هذا الحديث تنتج ارتفاع الحكم الثابت بالدليل لهذه العناوين الثانوية بنفس طروها، فإذا نهض دليل على وجوب سجود السهو للكلام السهوي، أو وجوب الدية بالقتل خطأ كان حديث الرفع بمقتضى حكومته نافيا لهذين الوجوبين بلسان نفي موضوعيهما أعني الكلام السهوي والقتل الخطائي، وهذا خلاف المدعى أعني نفي الحكم عن الفعل الذي جعل موضوعا له بلا شرط إذا طرا عليه نسيان ونحوه، والمفروض أن مقتضى الحكومة نفى الحكم المجعول للنسيان كنفي حكم الشك عن كثير الشك. فالحق أن يقال: ان ثبت الحكم للفعل مطلقا وبلا قيد كان مثل حديث الرفع 223
مقيدا له، لكفاية موضوعية مثل النسيان للحكم اقتضاء في صحة ورود نفي الحكم عليه بلسان نفي الموضوع، فينفي جزئية السورة مثلا للصلاة حال النسيان وتختص بحال الالتفات. وان ثبت له بعنوان النسيان ونحوه من العناوين الثانوية كان مثل الحديث معارضا له، إذ المفروض ثبوت الحكم له بعنوان النسيان، فمثل حديث الرفع يعارضه، لأنه ينفيه بهذا العنوان أيضا، فلا محالة يقع التعارض بينهما. الا أن يقال: ان تلك الأدلة المثبتة لاحكام لعناوين ثانوية كالنسيان و الاضطرار ونحوهما لأخصيتها تقدم على مثل حديث الرفع، فان مثل ما دل على وجوب سجود السهو للتكلم ناسيا أخص من حديث الرفع، فيتقدم عليه، وإلا يلزم لغوية الاحكام المجعولة لعنوان النسيان ونحوه. وأما ما يقال من: أن المقتضي لشئ يمتنع أن يكون رافعا له، فلا يرفع حديث الرفع الاحكام المترتبة على عنوان النسيان والاضطرار و نحوهما، بل يرفع الاحكام الثابتة للأشياء مع الغض عن طرو هذه العناوين الثانوية عليها، فهو اعتراف بالتعارض الذي مرجعه إلى كون شئ واحد مقتضيا لحكم تارة ورافعا له أخرى، كما إذا دل دليل على وجوب الارغام ودليل آخر على عدم وجوبه، فالارغام مقتض للوجوب تارة ورافع له أخرى، فمجرد امتناع كون مقتضي الشئ رافعا له لا يوجب الغض عن دليل الرفع، وإلا لاقتضى ذلك تقدم الدليل المثبت للتكليف في جميع الأدلة المتعارضة على الدليل النافي له، وهو كما ترى. 224
المبحث الخامس: أن الرفع فيما عدا (ما لا يعلمون) من الأمور التسعة واقعي وفيه ظاهري، إذ لو كان فيه واقعيا لزم التصويب، لإناطة الحكم حينئذ بالعلم به، وهو محال كما ثبت في محله، فلو جرت البراءة فيما لا يعلم ثم انكشف الخلاف. كان الاجتزاء به مبنيا على إجزاء الحكم الظاهري الذي هو أجنبي عن باب تبدل الموضوع كالحضر و السفر حتى يكون الاجزاء فيه مقتضى القاعدة، وحيث انه قد ثبت في محله عدم أجزاء الحكم الظاهري، فمقتضى القاعدة لزوم إعادة الصلاة فيما إذا صلى بلا سورة مثلا استنادا في نفي جزئيتها إلى أصالة البراءة، ثم انكشف الخلاف بنهوض دليل على جزئيتها، الا إذا قام دليل على الاجزاء كحديث (لا تعاد) بناء على جريانه في الجهل بالحكم. وهذا بخلاف ما إذا كان ترك جز أو شرط لأجل الاضطرار أو النسيان أو الاكراه، فان مقتضى واقعية الرفع فيها الاجزاء، لكون التقييد فيما عدا (ما لا يعلمون) واقعيا، فالمأتي به حينئذ هو تمام المأمور به، فالاجزاء فيها على طبق القاعدة، إذ لا يستند كون الفاقد تمام المأمور به إلى حديث الرفع حتى يقال: ان شأنه الرفع دون الوضع. وذلك لان المستند فيه هو نفس أدلة الاجزاء بعد نفي جزئية المرفوع بحديث الرفع، كما لا ينافي ارتباطية المركب كون الباقي تمام المأمور به، ضرورة أن الارتباطية قيد للاجزاء، ومن المعلوم أن المرفوع خرج عن الجزئية، فلا موضوع لاعتبار الارتباطية بالنسبة إليه. وأما اعتبارها في غير المرفوع من سائر الأجزاء فهو باق على حاله. نعم في اعتبار استيعاب الاضطرار ونحوه للوقت في الاجزاء وعدمه خلاف، قد يقال: بعدم اعتباره، لتشخص الطبيعة بالفرد الناقص كتشخصه بالفرد الكامل، 225
وبانطباقها على الناقص يسقط الامر المتعلق بالطبيعة، ولا معنى للامتثال عقيب الامتثال، وهذا ما يقتضيه إطلاق حديث الرفع. لكن الحق خلافه، فالصحيح اعتبار استيعاب العذر من الاضطرار و غيره للوقت في الاجزاء، إذ المأمور به هو صرف الوجود من الطبيعي الواجد لجميع ما اعتبر فيه شطرا وشرطا، فإجزاء الفرد التام انما هو لانطباق الطبيعة بتمام حدوده الواقعة في حيز الامر عليه، بخلاف الفرد الناقص، فان مجرد فرديته للطبيعة لا يوجب الاجزاء، بل لا بد فيه من فرديته لها بما هي مأمور بها. نعم لو كان الاضطرار ونحوه من الاعذار من الموضوعات العرضية كالفقر والغنى والسفر والحضر لم يكن لاعتبار استيعاب العذر للوقت في الاجزاء وجه، إذ المفروض فردية الناقص حينئذ كالتام للمأمور به. لكنه غير ثابت، لما ثبت في محله من طولية الابدال الاضطرارية التي لا يصدق الاضطرار المسوغ لها إلا مع استيعابه لتمام الوقت المضروب للمبدل، إذ المضطر إليه ليس هو الفرد بل الطبيعة في تمام الوقت المضروب لها، والاضطرار إليها موقوف على الاستيعاب. نعم إذا دل الدليل على كفاية العذر في فرد من أفراد الطبيعة في جز من الوقت فلا بأس بالاجزاء حينئذ كحديث (لا تعاد) حيث إن نفس (لا تعاد) لدلالته على الايجاد ثانيا يدل على أن مورده الفرد مطلقا سواء تم أم لم يتم بعد، وسواء كان في سعة الوقت أم في ضيقه، فيجري حديث (لا تعاد) في نفى جزئية السورة المنسية مثلا في أثناء الصلاة وبعدها من دون اعتبار استيعاب هذا العذر للوقت. والحاصل: أن إطلاق حديث الرفع كغيره من أدلة الابدال الاضطرارية 226
محل إشكال، بل منع، فإثبات الاجزاء به في غير العذر المستوعب مشكل جدا. هذا كله في التكاليف الضمنية. وأما التكاليف الاستقلالية كالشك في حرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة تصوير ذوات الأرواح أو حرمة وط الحائض بعد النقاء وقبل الاغتسال ونحو ذلك، فمقتضى (رفع ما لا يعلمون) جواز ذلك كله ظاهرا، كما أنه مقتضى غيره من الاكراه والاضطرار أيضا، غاية الامر أن الرفع فيما لا يعلمون ظاهري و في غيره واقعي كما مرت الإشارة إليه، فإذا أكره على شرب الخمر أو الزنا أو السرقة أو الافطار في شهر رمضان ونحو ذلك، أو اضطر إلى شئ من ذلك جاز له فعلها، وليس بحرام واقعا، بخلاف الارتكاب فيما لا يعلمون، فلو تبين بعد الارتكاب حرمته كان معذورا في فعل الحرام الواقعي. وبالجملة: فحديث الرفع يقدم على أدلة الواجبات والمحرمات حكومة أو تخصيصا على الخلاف المتقدم. ودعوى عدم مسوغية الاكراه لترك الواجب وفعل الحرام إلا إذا بلغ حد الحرج كما عن بعض الأعاظم (قده) (واختصاص مجرى - رفع ما استكرهوا عليه - بالمعاملات بالمعنى الأخص، حيث إن الاكراه على الشئ يصدق بمجرد عدم الرضا بإيجاده الناشئ من الايعاد اليسير أو أخذ مال كذلك) لا تخلو من الغموض، لما فيها أولا: من أنه تقييد لاطلاق حديث الرفع بلا دليل. وثانيا من أنه أخص من المدعى، حيث إنه يدل على عدم مسوغية الاكراه ببعض مراتبه لترك الواجب و فعل الحرام، ولا مضايقة في ذلك بالنسبة إلى بعض الكبائر من 227
المحرمات، ولا ينفي مسوغية الاكراه بجميع مراتبه. وثالثا: من أنه مناف لما ورد بالخصوص في رفع الاكراه للتكاليف التحريمية في موارد: منها: إظهار كلمة الكفر، كقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) ففي مجمع البيان: (قيل نزل قوله: الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان في جماعة أكرهوا وهم عمار وياسر أبوه وأمه سمية وصهيب وبلال وخباب عذبوا، وقتل أبو عمار وأمه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ثم أخبر سبحانه بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال قوم: كفر عمار، فقال صلى الله عليه وآله و سلم: كلا ان عمارا ملي إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه). ومنها: إكراه المرأة على الزنا، فإنه رافع للحد الملازم للحرمة التكليفية كما رواه أبو عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (ان عليا عليه السلام أتي بامرأة مع رجل فجر بها، فقالت استكرهني والله يا أمير المؤمنين، فدرأ عنها الحد) الحديث، وقريب منه غيره. ومنها: إكراه الزوجة على الجماع في نهار شهر رمضان أو في حال الاحرام وغير ذلك من موارد الاكراه على المحرمات، فالاكراه يرفع الحكم التكليفي والوضعي الملازم له أو المترتب عليه. وبالجملة: فالاكراه يجري في الأحكام التكليفية والوضعية معا إلا ما خرج 228
بالدليل، كالجنابة وإتلاف مال الغير والصيد في حال الاحرام، فان الاكراه في هذه الأمور لا يرفع الأحكام الوضعية المترتبة عليها، حيث إن حديث الرفع من العمومات القابلة للتخصيص، فأدلة أمثال هذه الأمور تخصص عموم حديث الرفع. وأما الاكراه في المعاملات، فان كان على ترك إيجاد أصلها أو ما يقومها عرفا كالاكراه على البيع بلا ثمن فلا أثر لهذا الترك حتى يرتفع بالاكراه، فلا يجري فيه حديث الرفع، لعدم تحقق عنوان المعاملة حتى يرتفع أثرها بالاكراه، فعدم الأثر حينئذ انما هو لعدم الموضوع. وان كان الاكراه على إيجاد مانع من موانع صحتها شرعا كالاكراه على بيع أحد المتجانسين بالآخر بالتفاضل، فمقتضى ارتفاع المانع الشرعي بحديث الرفع صحة المعاملة، لكنها تنافي الامتنان الذي هو شرط جريانه، فلا يجري فيه، ولا يحكم بصحة المعاملة الا إذا كان مضطرا، فحينئذ تصح لأجل الاضطرار، حيث إن عدم صحتها يوجب شدة اضطراره، ويكون خلاف الامتنان. ومثله ما إذا كان الاكراه على ترك جز أو شرط، فان الحديث لا يجري في نفي الجزئية أو الشرطية حتى يحكم بصحة المعاملة، لان جريانه خلاف الامتنان إلا مع الاضطرار، فعدم جريانه حينئذ انما هو لأجل عدم الامتنان، لا لعدم الأثر لترك الجز أو الشرط كما قيل، و ذلك لان الحديث ينفي إطلاق الجزئية أو الشرطية لجميع الحالات التي منها تركهما بالاكراه، ومع نفيهما لا بد من الحكم بصحة المعاملة، لان الفاقد حينئذ تمام السبب المؤثر على ما يقتضيه دليل السببية بعد إسقاط الجزئية أو الشرطية بحديث الرفع. الا أن منافاة صحة المعاملة للامتنان 229
مانعة عن جريان الحديث فيها، فلا تسقط الجزئية أو الشرطية بالاكراه حتى يصلح فاقد الجز أو الشرط للسببية والتأثير، وعليه فلا وجه لصحة المعاملة حينئذ. واما الاكراه في الأسباب كالاكراه على قتل الغنم بغير الكيفية الموجبة لذكاتها كالذبح بغير التسمية أو إلى غير القبلة أو فري بعض الأوداج، أو إكراه من طلق زوجته ثلاثا على تزويجها قبل أن ينكحها المحلل، ونحو ذلك، فلا بد فيه من ملاحظة كيفية دخل ما اعتبر في سببيتها، فان اعتبر فيها مطلقا وفي جميع الحالات، فلا يؤثر فيها الاكراه أصلا، وإلا فالاكراه يرفع أثر ما أكره عليه مع موافقة رفعه للامتنان. ففي الاكراه على ترك استقبال الذبيحة أو ترك التسمية يجري الحديث ظاهرا، وبه يرتفع شرطيتهما ويحكم بحلية الذبيحة، وفي غيرهما وكذا سائر الموارد يتبع دلالة أدلة الشرائط، ومن المعلوم اختلاف الأدلة في ذلك فان المتسالم عليه بين الأصحاب عدم ارتفاع شرطية الطهارة الحدثية والخبثية بالاكراه على أسبابها، فلو أكره على الجنابة أو ما يوجب الوضوء أو نجاسة بدنه لا ترتفع شرطية الغسل والوضوء والتطهير للصلاة. وبعبارة أخرى: لو ثبت بأدلة الأسباب سببيتها المطلقة وفي جميع حالات المكلف لم يصلح حديث الرفع لرفع آثارها الشرعية، فلا يقال: (ان الاكراه على الجنابة يرفع شرطية الغسل للصلاة والطواف و نحوهما) كما لا يقال: (ان وجه عدم ارتفاع شرطيته بالاكراه على الجنابة هو منافاة ارتفاعها للامتنان، حيث إن الشرط هو الغسل المستحب في نفسه) وذلك لان المرفوع بناء على جريان الحديث هو حيثية الشرطية، فلا مانع من بقاء الاستحباب النفسي للغسل مع ارتفاع شرطيته الموجبة للضيق. مضافا إلى أن منافاة ارتفاع شرطية 230
الغسل للامتنان تقتضي عدم ارتفاعها بالاكراه على ترك نفس الغسل، مع أن هذا القائل يلتزم حينئذ بسقوط الغسل والانتقال إلى التيمم، فتأمل. نعم إذا بلغ الاكراه حدا لا يقدر معه عرفا على الغسل في تمام الوقت انتقل تكليفه حينئذ إلى التيمم، كما أنه لو بلغ الاكراه على التيمم ذلك الحد كذلك صار كفاقد الطهورين الذي حكم المشهور فيه بسقوط التكليف عنه، أو صار كتارك الصلاة في الوقت عن عذر في وجوب القضاء عليه. وكذا الاكراه على ترك الطهارة الخبثية، فإذا أكره على ترك تطهير البدن أو الساتر إلى أن ضاق الوقت وعجز عن غسلهما سقطت مانعية النجاسة بعدم التمكن من تطهيرهما ووجبت الصلاة كذلك. المبحث السادس: الظاهر أن المرفوع بحديث الرفع ونحوه من أدلة الاحكام الامتنانية في غير الحكم المجهول الذي تجري فيه البراءة هو مجرد الالزام مع بقاء الملاك بحاله، إذ الامتنان يرفع ما يوجب المشقة، ومن المعلوم أن ذلك ليس إلا الالزام، فلا موجب لارتفاع غيره من المصلحة الداعية إلى تشريعه بعد وضوح عدم ضيق ومشقة فيه، بل ارتفاعه خلاف المنة. فما عن المشهور (من كون المرفوع الحكم مع ملاكه، لوجهين: أحدهما عدم الدليل على بقاء الملاك بعد ارتفاع الحكم، والاخر: عرضية البدل الاضطراري ومبدله في مثل الوضوء الحرجي، حيث إن الوضوء محكوم حينئذ بالصحة مع كونه بدلا اضطراريا، ومقتضى طولية الابدال الاضطرارية ترتب مشروعيتها 231
على ارتفاع أحكام مبدلاتها، فالحرج يوجب سقوط وجوب الوضوء الحرجي وثبوت وجوب بدله وهو التيمم، فصحة الوضوء الحرجي توجب عرضية وجوبي التيمم والوضوء، وهذا خلاف مقتضى طولية بدلية الابدال الاضطرارية) لا يخلو من الغموض، لما في كلا الوجهين من الاشكال: إذ في أولهما: أن الامتنان قرينة على كون المرفوع ما يوجب الضيق، و قد عرفت أن الموجب له هو نفس الالزام دون ملاكه، بل ارتفاعه خلاف الامتنان، لأنه يوجب حرمانه عما فيه صلاحه كما أشرنا إليه آنفا. وفي ثانيهما: أن اللازم وهو عرضية صحة البدل والمبدل غير باطل، و الباطل وهو عرضية وجوبيهما غير لازم، وذلك لكفاية المحبوبية والمصلحة في صحة المبدل وعدم احتياجها إلى الامر حتى يلزم عرضية وجوبي المبدل والبدل، بل يلزم عرضية صحتهما، و هو مما لا محذور فيه. بل يمكن نسبة بقاء المصلحة وعدم ارتفاعها بارتفاع الالزام إلى المشهور أيضا الذين نسبت إليهم صحة الوضوء الحرجي، إذ لو كان المرفوع بدليل رفع الحرج التكليف وملاكه معا لم يكن حينئذ لصحة الوضوء الحرجي ونحوه وجه، إذ المفروض ارتفاع كل من الامر وملاكه مع وضوح اعتبار أحدهما في صحة العبادة. وكيف كان فقد ظهر مما بينا ضعف ما عن شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) من (أنه لا دليل على بقاء الملاك والمحبوبية بعد ارتفاع الالزام الذي هو الكاشف عنهما) وجه الضعف ما عرفته من دليلية نفس الامتنان على بقائهما، ومع الشك في بقائهما يجري استصحابهما ويترتب عليه جواز التقرب بهما. نعم يعتبر في بقاء الملاك والمحبوبية في موارد ارتفاع الاحكام امتنانا أن لا يرد 232
فيها نهي كموارد الضرر، فان الماء إذا كان مضرا كانت الطهارة المائية منهيا عنها، والنهي يستدعي المبغوضية المنافية للمحبوبية المتوقفة عليها العبادة، فيقتضي الفساد، وليس فيه ما يقتضي الصحة من أمر أو ملاك. وبالجملة: فالمعتبر في بقاء الملاك عدم ورود نهي في المورد، ولذا يفرق بين الضرر والحرج بصحة العبادة مع الثاني دون الأول. المبحث السابع: أن المرفوع لما كان حكما شرعيا مترتبا على فعل المكلف بما هو فعله، حيث إن متعلقات الأحكام الشرعية هي أفعال المكلفين بما هي أفعالهم، فلا يصح أن يرفع بحديث الرفع الا الحكم المترتب على الفعل بما هو صادر عن المكلف، فلو لم يلاحظ في الأثر الشرعي ترتبه على فعل المكلف بهذه الحيثية، بل لو حظ ترتبه عليه بمطلق وجوده وان صدر عن غير مكلف بل غير إنسان لم يصح نفيه بحديث الرفع في حال أصلا، نظير ملاقاة جسم طاهر لنجس أو متنجس مع الرطوبة، فان الملاقاة مطلقا سواء كان موجدها مكلفا أم صبيا، بل حيوانا أو ريحا توجب النجاسة، وكذا خروج المني من البدن، والتقاء الختانين، وفوت الفرائض التي لها قضاء، فان الجنابة تترتب على الأولين من دون لحاظ كون الخروج والالتقاء فعل المكلف، فلو خرج المني حال النوم، أو حصل التقاء الختانين إكراها أو بفعل ثالث لم يصح أن يتمسك لعدم سببيتهما للحدث الأكبر بحديث الرفع، إذ لم يلاحظ في سببيتهما له فعل المكلف. وكذا لم يلاحظ في وجوب قضاء الصلاة والصوم إلا الفوت وان لم يستند إلى فعل المكلف، فلو فات أداؤهما إكراها أو نسيانا أو حال النوم بدون سبق النية في الصوم وجب قضاؤهما، ولا يصح التشبث 233
بحديث الرفع لنفي وجوبه. ومما ذكرنا يظهر: أنه لا حاجة إلى التمسك بالاجماع لخروج حكم تنجس الملاقي للنجس أو المتنجس عن حديث الرفع كما نسب إلى المحقق النائيني (قده) لما عرفت من أن خروج ذلك ونظائره عنه موضوعي لا حكمي حتى نحتاج في خروجها عنه إلى التشبث بالاجماع. المبحث الثامن: أن البراءة العقلية لما كان ملاكها نفي العقاب اختصت بالتكاليف الالزامية، لاختصاص العقاب بها، فلا تجري في غير الالزاميات. وأما البراءة الشرعية، فان كان الحكم المشكوك غير الإلزامي من التكاليف الاستقلالية كاستحباب صوم يوم خاص أو صلوات مخصوصة في أوقات معينة كالصلوات الواردة بطرق ضعيفة في ليالي الشهور الثلاثة المعظمة بكيفيات خاصة فلا تجري فيه، إذ الغرض من رفع الحكم في مرحلة الظاهر عدم وجوب الاحتياط، وهذا غير حاصل في التكاليف الاستقلالية، إذ لا شك في استحباب الاحتياط عند الشك في استحباب شئ، وهذا كاشف عن عدم ارتفاع التكليف المحتمل في مرحلة الظاهر، فلا يشمله حديث الرفع. وهذا بخلاف التكاليف الضمنية، فالامر بالاحتياط عند الشك فيها وان كان ثابتا بلا كلام، الا أن اشتراط العمل المشتمل عليه به مجهول، فتجري البراءة في شرطيته، إذ لو كان شرطا لما جاز الاتيان بالمركب فاقدا له بداعي الامر. استطراد: قد اشتمل حديث الرفع على الحسد والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق، وقد احتمل أن يكون المرفوع المؤاخذة على هذه الأمور. لكنه ضعيف، لان الرفع تشريعي، والمؤاخذة أمر تكويني، و استحقاقها حكم 234
عقلي، وليس شئ منهما مما تناله يد التشريع وضعا ورفعا، و المناسب للرفع هنا هو الحرمة التي تقتضيها هذه الثلاثة، فهي التي رفعت منة على هذه الأمة. لا يقال: ان متعلق التكليف وجوبيا كان أم تحريميا لا بد أن يكون اختياريا للمكلف، والحسد من الصفات الرذيلة النفسانية غير الاختيارية، فلا حرمة لها ولو اقتضاء حتى يرفعها الحديث. فإنه يقال: نعم، لكن مباديها اختيارية، فيمكن تعلق التحريم بالحسد باعتبار اختيارية مباديه، فالحسد يقتضي جعل الحرمة، والشارع منة على الأمة منع عن تأثيره في مقتضاه، لكن المرفوع حرمة نفس الحسد لا آثاره العملية التي دلت النصوص على حرمة ترتيبها. وكذا المرفوع في الطيرة، فإنه حرمة التزام العرف بالتطير والتشؤم و عدم الاقدام في أمورهم، فالحرمة التي جعلها العقلا مانعة عن تمشية أمورهم وموجبة لصد مقاصدهم مرفوعة - أي غير ممضاة - شرعا، فليس لهم الاعتناء بالتطير في تعطيل أشغالهم وتعويق أعمالهم. وكذا المرفوع في التفكر، فإنه فيه هو الحرمة أيضا، يعني: أن حرمة الوسوسة في أمر الخلقة على احتمال، أو في أمور الخلق وسوء الظن بهم على احتمال آخر مرفوعة، واحتمال كون المرفوع وجوب التحفظ وصرف الذهن وإجالة الفكر في أمور غير مرتبطة بأمر الخلقة بعيد، للاحتياج إلى التقدير، مع أن الرفع أسند إلى نفس هذه الأمور الثلاثة لا إلى أمر آخر. 235 ومنها (1): حديث الحجب (2)، وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع (3).
236 الا أنه (1) ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم
[1] لا إشكال في ذلك، انما الاشكال في صحة اسناد الحجب إليه تعالى في الشبهات الموضوعية مع كون (حجب) بصيغة المعلوم، ضرورة أنه سبحانه وتعالى ليس حاجبا للحكم فيها، بل الحاجب له هي الأمور الخارجية. نعم يتجه التعميم بناء على كونه بصيغة المجهول، لكنه ليس كذلك. فدعوى اختصاص الحديث حينئذ بالشبهات الحكمية قريبة جدا، ولعل أمره (قده) بالفهم إشارة إلى هذا. بل يمكن أن يقال: انه سبحانه وتعالى لم يحجب شيئا من الأحكام الشرعية عن العباد، وبين جميعها للحجج الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين حتى أرش الخدش كما في النصوص، فالمحجوب علمه عن العباد أجنبي عن الاحكام الفرعية ومغاير لها كوقت ظهور الإمام الثاني عشر عجل الله تعالى فرجه الشريف فان علمه محجوب عن العباد، ووجوب الفحص عن ذلك موضوع عنهم. وعليه فحديث الحجب أجنبي عن أدلة البراءة، فالاستدلال به على البراءة مطلقا حتى في الشبهات الحكمية مشكل جدا، وهذا الاشكال لا يجري في سائر أدلة البراءة، لعدم اسناد الحجب فيها إليه جل شأنه، بل المدار فيها هو عدم العلم بالحكم سواء كان الجهل به لمفسدة في إظهار الحجج عليهم السلام له أم لاخفاء العصاة اللئام له. 238 من (1) التكليف، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه (2)، لعدم أمر رسله بتبليغه،
239 حيث إنه (1) بدونه لما صح اسناد الحجب إليه تعالى. [1] ومنها (2) قوله عليه السلام: (كل شئ لك حلال حتى تعرف
[1] ولو سلم دلالة الحديث على البراءة لاختص بالشبهات الحكمية، لاختصاص منشأ الشك بمقتضى اسناد الحجب إليه تعالى بعدم بيان الشارع، وعدم شموله لما إذا كان منشأ الشك الأمور الخارجية، لعدم كون الحجب حينئذ مستندا إليه جل وعلا، ومجرد قدرته سبحانه على رفع جهل العبد تكوينا في الشبهات الموضوعية لا يصحح اسناد الحجب إليه عظمت آلاؤه. فالمتحصل: أن الحديث الشريف لو سلمت دلالته على البراءة لاختص بالشبهات الحكمية. 240 أنه حرام بعينه) [1] حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا
[1] الاستدلال بهذا الحديث لاثبات الإباحة الشرعية الظاهرية منوط بأمور: 242 ولو كان (1) من جهة عدم الدليل على حرمته،
الأول: ترادف لفظي (الحلال والمباح) وذلك غير ثابت، لشيوع استعمال الحلال فيما يقابل الحرام من الأحكام الثلاثة، فيراد بالحلال حينئذ معناه اللغوي وهو الارسال وعدم المنع من ارتكابه سواء كان مباحا بالمعنى الأخص كما هو المقصود هنا أم مستحبا أم مكروها، فإرادة الإباحة بمعناها الأخص من لفظ الحلال موقوفة على قرينة و هي مفقودة. الثاني: شمول الحديث للشبهة الحكمية والموضوعية معا، وهو أيضا غير ثابت، بل الثابت خلافه، لاختصاص هذا المضمون في الروايات بالشبهة الموضوعية وعدم الظفر في جوامع الأحاديث برواية مطلقة دالة على حلية كل شئ مشكوك الحل والحرمة بدون التطبيق على الشبهة الموضوعية كما اعترف به بعض الأعاظم (قده) وان كان ظاهر كلام الشيخ الأعظم في أول المسألة الرابعة في الشبهة الموضوعية التحريمية وصريحه في الاستدلال على البراءة بالاخبار وجود الرواية المزبورة مجردة عن التطبيق المذكور، والمصنف (قده) نقلها أيضا كذلك. لكنها على فرض وجودها من الشواذ التي لا يمكن الاستناد إليها. الثالث: أن الإباحة الشرعية الظاهرية من الحكم الظاهري الذي تقدم في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري امتناع الالتزام به. وعليه فالمراد بالحلال هو ما لا منع من ارتكابه، لعدم تنجز الحكم الواقعي المجهول، فالعقل بمقتضى حكمه بقبح العقاب بلا بيان يرخصه في الارتكاب. 243
والحاصل: أن دلالة الحديث على الإباحة الشرعية الظاهرية منوطة بالالتزام بالحكم الظاهري الذي قد مر حاله سابقا. ثم إن ما في المتن يحتمل أن يكون صدر رواية مسعدة بناء على النسخة الخالية عن ضمير الفصل، ولكنه بقرينة ما في ذيله من الأمثلة المذكورة مختص بالشبهة الموضوعية كسائر روايات الباب، لان قوله عليه السلام: (وذلك مثل الثوب) كالصريح في تطبيق الصدر عليها، بل يمكن منع صلاحيته لاثبات قاعدة الحل حتى في الشبهات الموضوعية أيضا، لأجنبية الأمثلة عن قاعدة الحل الموجبة لاجمال الصدر كما هو واضح، وعليه فالاشكال في هذه الرواية من جهتين: إحداهما من ناحية عدم التوفيق بين الصدر والأمثلة، والأخرى من جهة وجود قرائن وجب اختصاص الصدر بالشبهة الموضوعية، فينبغي التكلم هنا في مقامين: الأول: في التوفيق بين الصدر وما في الذيل من الأمثلة، وقد ذكروا له وجوها: الأول: ما أفاده المصنف (قده) في حاشية الرسائل بقوله: (لكن يمكن أن يقال: انه ليس ذكرها للمثال، بل انما ذكرت تنظيرا لتقريب أصالة الإباحة في الأذهان، وأنها ليست بعادمة النظير في الشريعة المقدسة، فقد حكم بملكية الثوب والعبد مع الشك فيها بمجرد اليد، و بصحة العقد على الامرأة التي شك أنها من المحارم بالنسب والرضاع بمجرد أصالة عدمهما) وهذا التوجيه وان كان مبينا للصدر و رافعا لاجماله ومصححا للاستدلال بعمومه حينئذ للشبهة الحكمية أيضا، لكن أصل هذا الحمل لا قرينة عليه، لان قوله عليه السلام: (و ذلك مثل الثوب) كالصريح في تطبيق الصدر على الذيل وجعله من مصاديق قاعدة 244
الحل. وبالجملة: ظهور الحديث في صغروية الأمثلة المذكورة في ذيله لقاعدة الحل مما لا ينكر. لكن يشكل أيضا كونها أمثلة لها بأنها وان كانت من الشبهات الموضوعية لكن الأصل الجاري فيها ليس هو أصالة الحل كما هو ظاهر، فلا بد من الالتزام اما بإجمال الحديث واما بكون المستفاد منه قاعدة اليد كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الا أن يقال: ان نفس حكومة الأصول الجارية في الأمثلة على أصالة الحل قرينة على عدم تطبيق قاعدة الحل على الأمثلة، وعليه فتوجيه المصنف (قده) في حاشية الرسائل وجيه، ولا يعارضه ظهور قوله عليه السلام: (وذلك) في تطبيق الصدر على الذيل، لأقوائية ظهور الذيل منه، وعليه يكون الصدر في مقام ضرب قاعدة كلية في جميع الشبهات من الموضوعية والحكمية، فالاستدلال به على البراءة في كلتا الشبهتين في محله. الا أن يستشكل في عمومه للشبهة الحكمية بكلمة (بعينه) الظاهرة في اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعية، فتدبر. الثاني: ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) من (أن التنافي بين الصدر والأمثلة انما هو مع البناء على كون الصدر إنشاء للحلية في الأمثلة المزبورة، وأما بناء على كونه حاكيا عن إنشاءات الحلية في الموارد المزبورة بعنوانات مختلفة من نحو اليد والسوق و الاستصحاب ونحوها من العناوين التي منها عنوان مشكوك الحل و الحرمة فلا يرد إشكال، إذ المقصود حينئذ بيان عدم الاعتناء بالشك في الحرمة في هذه الموارد لمكان جعل الحلية الظاهرية فيها 245
بعنوانات مختلفة، غير أنه جمع الكل ببيان واحد). ويرد عليه - مضافا إلى أن شأن الشارع إنشاء الاحكام وتشريعها وان كان بلسان الاخبار لا الاخبار والحكاية عنها - أن لازمه خلو الحديث عن مورد يثبت له الحل بعنوان كونه مشكوك الحل والحرمة. توضيحه: أنه بناء على ما أفاده (قده) من كون الصدر حاكيا عن الحلية الثابتة في الموارد المتعددة بعناوين مختلفة كاليد والسوق و الاستصحاب والمشكوك بما هو مشكوك يلزم أن لا يذكر الإمام عليه السلام موردا لقاعدة الحل، ضرورة أن مستند الحل في الأمثلة المذكورة إما قاعدة اليد وإما الاقرار وإما الاستصحاب، وليس الحل في شئ منها مستندا إلى قاعدة الحل، بأن يكون الحل ثابتا فيه بعنوان مشكوك الحل والحرمة، ومع عدم ذكر مثال لها في تلك الأمثلة كيف يصح حمل الصدر على الحكاية عن الحلية المترتبة على العناوين المختلفة التي منها مشكوك الحكم؟ إذ يلزم حينئذ خلو الحديث عن مورد لحلية المشكوك بما هو مشكوك الحكم، مع أن الصدر متكفل للحلية بهذا العنوان. وبالجملة: فحمل صدر الرواية على الاخبار والحكاية بلا موجب. نعم يمكن أن يقال: ان الرواية في مقام إنشاء الحل لكل شئ لم يعلم حرمته سواء كان عدم العلم موضوعا للحكم بالحلية، أم موردا له بأن لوحظ عدم العلم حاكيا عما يكون موضوعا وموردا له، وحينئذ ينطبق الصدر على جميع الأمثلة التي تجري قاعدة اليد في بعضها، و الاستصحاب في الاخر، وغيرهما في سائرها، فالمشار إليه في قوله: (وذلك) هو الحل المجعول للشئ الذي 246
لم يعلم حرمته، هذا. لكن يبقى الاشكال في عدم ذكر مثال لقاعدة الحل على حاله، مضافا إلى الاشكال في جعل الشك موضوعا و موردا بلحاظ واحد، كما لا يخفى. الثالث: ما أفاده الفقيه الهمداني (قده) في حاشيته على الرسائل من أن: (غرضه عليه السلام: بيان أن الموضوعات التي يبتلي بها المكلف جميعها من المشتبهات التي لا يعلم واقعها، ومع ذلك لا ينبغي الاعتناء بالشك في شئ منها ما لم يعلم كونه حراما بطريق علمي أو ما يقوم مقامه من بينة ونحوها، فهذه الأمثلة بملاحظة كونها موردا لقاعدة اليد وأصالة الصحة تندرج في موضوع هذه القاعدة الكلية التي بينها الإمام عليه السلام، وهي عدم الاعتناء بالشك في الحرمة ما لم تثبت، وعند الاغماض عن هذين الأصلين تكون هذه الموارد مما قام على حرمتها ما هو مثل البينة وهو الأصول الموضوعية الثابت اعتبارها بالأدلة الشرعية، فلاحظ وتدبر) ولكنه كسابقيه لا يخلو من مناقشة، إذ الصدر وان كان إنشاء لا اخبارا، ولكن استفادة تشريع قاعدة الحل بهذه الكلية التي أفادها ممنوعة، ضرورة أن الحلية قد شرعت في مثال الثوب باليد وفي العبد بالاقرار أو يد سيده الأول، وفي سائر الأمثلة بأمور أجنبية عن قاعدة الحل كالاستصحاب، وعدم كون اعتبار الاستصحاب واليد مستندا إلى هذه الكلية، بل إلى ما دل عليها بالخصوص. مضافا إلى امتناع استفادة القاعدة الكلية من الصدر من جهة أخرى أشرنا إليها آنفا، وهي امتناع الاهمال في مقام الثبوت والجعل، فان الشك يلاحظ 247
موضوعا في أصالة الحل وموردا في قاعدتي اليد والاقرار، ولا جامع بين اللحاظين. كما أن الشك في الاستصحاب وان كان موجودا وجدانا، لكنه معدوم تعبدا، لان مفاد مثل (لا تنقض) كما سيجئ إن شاء الله تعالى في محله هو البناء العملي على المتيقن السابق وإلغاء الشك تعبدا، ومن المعلوم أن الحكم على الشك بمعنى اعتبار بقائه حال الحكم عليه كما في غير الاستصحاب من الأصول مغاير لاعتبار عدمه حاله كما في الاستصحاب، إذ لا جامع بين اعتبار البقاء والعدم، فتدبر. ويحتمل أن يكون الصدر دليلا على اعتبار قاعدة اليد، بتقريب: أن قوله عليه السلام: (لك) ظرف مستقر صفة للشئ، و (حلال) خبر (كل شئ) والمعنى: أن كل شئ يكون تحت يدك واستيلائك فهو حلال ما لم ينكشف الخلاف علما أو تعبدا، فالاستيلاء سبب محلل، و لذا يحكم بإباحة تصرف مالك الدار فيما وجده فيها مع عدم علمه بكونه من أمواله. ويشهد لهذا بعض الأمثلة المذكورة في الرواية. و النسخة المشتملة على ضمير الفصل - أي (هو لك) - أظهر فيما ادعيناه. ولكن عويصة التطبيق تمنع عن الالتزام به، إذ لا ربط لبعض الأمثلة المحكوم عليه بالحل بقاعدة اليد، وتوجب إجمال الصدر، فما في رسائل شيخنا الأعظم (قده) من صلاحية الصدر والذيل لاثبات قاعدة الحل مع اعترافه بعدم ارتباط الأمثلة بها لا يخلو من خفاء، إذ مع جعل الأمثلة تطبيقا للصدر - لا تنظيرا له كما ذهب إليه المصنف - فلا محالة يسقط عن الظهور، فلاحظ. ولعل ما تقدم من توجيه المصنف أظهر، حيث جعل الصدر مستقلا لبيان قاعدة 248
الحل، والأمثلة غير موجبة لاجماله، لأنها حينئذ نظائره لا أمثلته، إذ المفروض عدم تطبيق الصدر عليها، وقد تقدم ما يؤيد ذلك بل يدل عليه، فلاحظ. هذا تمام الكلام في المقام الأول. المقام الثاني: في وجود قرائن على اختصاص مفاد الصدر بالشبهة الموضوعية لو سلم ظهوره في إثبات الحلية الظاهرية للمشكوك: أولاها: قوله عليه السلام: (بعينه) وحمله على كونه تأكيدا للمعرفة و العلم كما لعله ظاهر الرسائل خلاف الظاهر، والعجب من المنصف (قده) أنه مع إنكاره لهذا الحمل في فوائده وجعل كلمة (بعينه) حالا من ضمير (انه) الراجع إلى الشئ ليكون من قيود الموضوع و موجبا لقوة ظهور الحديث في خصوص الشبهة الموضوعية استدل به في المتن على أصالة الحل في كلتا الشبهتين. ثانيتها: ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) من (أن القدر المتيقن في مقام التخاطب هو الشبهة الموضوعية، ومعه لا يبقى عموم لقوله عليه السلام: كل شئ لك حلال للشبهة الحكمية) وهذا متين. ولا يرد عليه ما يدعى من اختصاص ذلك بما إذا كان العموم إطلاقيا، و المفروض أن دلالة (كل) على العموم وضعية، فعموم الحديث باق على حاله بلا إشكال. وذلك لان القدر المتيقن لو كان كالقرينة الحافة بالكلام بحيث يصح للمتكلم الاعتماد عليه في بيان مرامه كان صالحا لتقييد المطلق وتخصيص العام من دون فرق في ذلك بين كون الشمول وضعيا وإطلاقيا، فلو قال: (قلد الفقهاء) مثلا وكان المتيقن ممن يجب تقليده هو خصوص عدولهم صح الاعتماد عليه في تخصيصهم بالعدول. 249
ثالثها: أن قوله عليه السلام: (أو تقوم به البينة) قرينة على اختصاص القاعدة بالشبهة الموضوعية، إذ لا يعتبر في رفع اليد عن أصالة الحل في الشبهة الحكمية قيام البينة أو حصول العلم بالحكم، بل يكفي قيام الحجة عليه مهما كانت. والمناقشة فيه بما في تقريرات بعض الأعاظم مد ظله من (أن البينة ليست بمعناها المصطلح بل بمعناها اللغوي وهو ما يتبين به الشئ، فيكون المراد منها مطلق الدليل كما هو المقصود من قوله تعالى: أو لو كنت على بينة من ربي، فلا قرينية لقوله عليه السلام: أو تقوم به البينة على إرادة خصوص الشبهات الموضوعية، إذ المراد حينئذ: أن الأشياء كلها على الإباحة حتى تستبين أي تنفحص وتستكشف أنت حرمتها، أو تظهر حرمتها بقيام دليل من الخارج بلا تفحص واستكشاف، ولا يلزم تخصيص في الموثقة على هذا المعنى، لان البينة المصطلحة والاقرار وحكم الحاكم و الاستصحاب وغيرها من الأدلة كلها داخلة في البينة بهذا المعنى) مندفعة أولا: بأن ما أفيد من (حصول العلم تارة بالتفحص و الاستكشاف وأخرى بقيام دليل من الخارج) مبني على كون (تستبين) بصيغة الخطاب، ولم نظفر عليه بعد المراجعة إلى مصادر الحديث كالكافي والتهذيب والوافي والوسائل فالظاهر أنه بصيغة الغائب كما هو المعروف، فيكون المراد بالغاية حصول العلم بأي سبب كان أو قيام البينة. وثانيا: بأنه ان أريد بالبينة معناها اللغوي - وهو ما يبين الشئ - لزم 250
اتحاد المعطوف والمعطوف عليه، وكون غاية الحل شيئا واحدا وهو العلم، لان مقتضى اشتراك (البينة) و (يستبين) مادة هو اعتبار انكشاف الواقع في في البينة بالعلم، فكأنه قيل: الأشياء على هذا حتى يعلم غير هذا أو يقوم به العلم، ومن المعلوم لغويته ومنافاته لما يقتضيه العطف من المغايرة، وأجنبية العطف التفسيري عن المقام أيضا، لوضوح أظهرية (يستبين) من (البينة) فصون كلام الحكيم عن اللغوية، وظهور العطف في المغايرة خصوصا مع كون العاطف كلمة (أو) يقتضيان رفع اليد عن معناها اللغوي، وحملها اما على مطلق الدليل كما في التقرير المزبور، وإما على معناها المصطلح عليه وهو شهادة رجلين عدلين، ولو لم يكن هذا أظهر من الأول فلا أقل من مساواته له، وهي توجب إجمال الذيل، فلا ينعقد للصدر عموم حتى يستدل به على قاعدة الحل في كلتا الشبهتين، بل المتيقن حينئذ هو الشبهات الموضوعية. لكن الحق عدم وصول النوبة إلى الاجمال، لان الظاهر من لفظ (البينة) هو شهادة رجلين عدلين بحيث تتبادر منها عند الاطلاق كما يدل عليه النصوص الواردة في باب الاشهاد على الطلاق والنكاح و الحدود: فمنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: (جاء رجل إلى علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين اني طلقت امر أتي، قال عليه السلام: ألك بينة؟ قال: لا، قال: اغرب) فان أمره عليه السلام بالبعد عنه الدال على عدم وقوع الطلاق بدون البينة و عدم سؤال الرجل عن معنى البينة يدل على وضوح معناها عند الرجل. وقد حكى محمد بن مسلم فعل 251
أمير المؤمنين عليه السلام بدون اسناده إلى المعصوم عليه السلام في حديث آخر، وفيه: (فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أشهدت رجلين ذوي عدل كما أمرك الله، فقال: لا فقال: اذهب فان طلاقك ليس بشئ). ومنها: رواية العياشي في تفسيره عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ان عمر بن رياح زعم أنك قلت: لاطلاق إلا ببينة، فقال: ما أنا قلته بل الله تبارك وتعالى يقوله). ومنها: ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (انما جعلت البينة في النكاح من أجل المواريث) ونحوها روايات أخرى من نفس الباب. ودلالة هذه الروايات خصوصا الصحيحة ورواية العياشي على أن المراد بالبينة والمرتكز منها في الأذهان في عهد صدور الروايات هو خصوص شهادة العدلين مما لا ريب فيها، وليست هذه الدلالة مستندة إلى قرينة، وذلك لوضوح عدمها. ولا ينافي هذا الانصراف إطلاق البينة على الشهود الأربعة في حد الزنا، مثل ما ورد في خبر الحسين بن خالد عن أبي الحسن عليه السلام في رد المرجوم الهارب من الحفيرة، قال عليه السلام: (ان كان هو المقر على نفسه ثم هرب من الحفيرة بعد ما يصيبه شئ من الحجارة لم يرد، وان كان انما قامت عليه البينة وهو يجحد ثم هرب رد وهو صاغر حتى يقام عليه الحد) حيث إن 252
المراد بالبينة فيها هو شهادة العدلين بشرط انضمام شهادة عدلين آخرين، لا أنها أطلقت على شهادة أربع بما أنها بعض أفرادها حتى ينافي ما ذكرناه من انصرافها في عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى خصوص شهادة العدلين. هذا لو لم نقل بكون اللام فيها للعهد، وإلا فلا حاجة إلى التوجيه المزبور، إذ المراد بها هو البينة المعهودة على الزنا التي هي شهادة أربع رجال، فلم يبق لها إطلاق من أول الامر كي يوجه بما تقدم. وبالجملة: فإرادة غير العدلين من البينة بسبب القرينة لا تنافي إطلاقها على العدلين بلا قرينة. وأما الاستشهاد بالآية الشريفة على أنها بمعناها اللغوي، فهو وان كان صحيحا في نفسه، إذ البينة فيها بمعنى العلم، لارتباطه بالأصول الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها حصول العلم، فهي فيها بمعناها اللغوي، ولكن المدعى أنها ليست في عهد صدور الروايات بهذا المعنى، وقد عرفت ظهورها في خصوص المعنى المصطلح عليه. رابعتها: ما أفاده بعض المدققين (قده) من اقتضاء التطبيق على الأمثلة لاختصاص الصدر بالشبهة الموضوعية، وليس ذلك من تخصيص الوارد بالمورد، بل التطبيق بنفسه قرينة على الاختصاص، لكونه من القرينة المتصلة الحافة بالكلام المانعة من انعقاد ظهور للكلام في العموم. وهو متين بعد الفراغ من حل معضلة التطبيق، إذ المفروض عدم انطباق الصدر على شئ من الأمثلة كما عرفت في المقام الأول، فلا انطباق للصدر على الأمثلة حتى تكون قرينة على الاختصاص. 253 وبعدم (1) الفصل قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط
نعم لو كان التطبيق في المقام صحيحا أمكن دعوى الاختصاص كما قيل في اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة دون مقدمات الاجزاء بقرينة تطبيق الإمام عليه السلام لها على الاجزاء المعنونة استقلالا كالتكبير والقرأة والركوع والسجود، وعدم شمولها لمقدمات الافعال كالهوي والنهوض. 254 فيه (1) وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتم المطلوب (. [1 [2 مع (3) إمكان أن يقال: ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال، تأمل (4).
[1] بل لا يتم المطلوب، لوجود القول بالفصل، حيث إن القائلين بالبراءة في الشبهة التحريمية ذهب جمع منهم إلى وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية، لما حكاه شيخنا الأعظم في الشبهة الوجوبية عن المحقق في المعارج بقوله: (العمل بالاحتياط غير لازم وصار آخرون إلى لزومه وفصل آخرون) و قد مثل 255 ومنها (1): قوله عليه السلام: (الناس في سعة ما لا يعلمون)
له بتطهير الاناء من ولوغ الكلب الذي هو من قبيل الشبهة الوجوبية. كما أن كثيرا من المحدثين القائلين بالاحتياط في الشبهة التحريمية الناشئة من فقد النص ذهبوا إلى البراءة في الشبهة الوجوبية، لما ذكره الشيخ الأعظم في أول الشبهة الوجوبية بقوله: (المعروف من الأخباريين هنا موافقة المجتهدين في العمل بأصالة البراءة). [1] الحديث بهذا المتن موافق لما في رسائل شيخنا الأعظم (قده) ولم 256
أقف على هذا النص بعد الفحص عنه في مظانه، بل نقل في كتب الأصحاب بألفاظ أخرى، ففي القوانين: (الناس في سعة مما لم يعلموا) وفي ثالثة مقدمات الحدائق: (الناس في سعة ما لم يعلموا) وهو محكي الضوابط والمناهج أيضا 257
والمروي في المستدرك عن عوالي اللئالي عن النبي صلى الله عليه وآله، وما ظفرت عليه في كتب الحديث مما يقرب منه لفظا و يوافقه معنى هو رواية السفرة المروية أيضا بألفاظ ثلاثة، ففي معتبرة السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: (ان أمير المؤمنين عليه السلام: سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها و خبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يقوم ما فيها ثم يؤكل، لأنه يفسد وليس له بقاء، فان جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل له: يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي، فقال: هم في سعة حتى يعلموا). وروي هذا الحديث في الجعفريات ونوادر الراوندي مع اختلاف يسير في متنه ففي الأول: (هم في سعة من أكلها ما لم يعلموا حتى يعلموا) وفي الثاني: (هم في سعة من أكلها ما لم يعلموا). ومغايرة العبارات الثلاث المتقدمة لما في كتب الأصحاب واضحة، فلا وجه للنزاع في أن (ما) موصولة أو ظرفية بعد عدم وجودها فيما أسند من هذا الحديث كما في العبارة الأولى، أو وجودها مع تعين كونها ظرفية كما في العبارتين الأخيرتين. وكيف كان، فدلالة الحديث على البراءة ظاهرة، لظهوره في الرخصة و السعة من ناحية الحكم الواقعي المجهول ما لم تنهض عليه حجة. 258
وعلى هذا فالصحيح أن يقال: ان موضوع حديث السعة هو الحكم الذي لم تقم حجة عليه، وهذا الموضوع بنفسه قد حكم عليه بالاحتياط، لقوله عليه السلام: (وقفوا عند الشبهة) فان كان الاحتياط منجزا للواقع ومتمما لقصور محركية الخطاب الأولي فهو وارد على السعة، لوصول الواقع بنفسه إلى المكلف ببركة عنوان ثانوي طار عليه بمثل (احتط) الذي جعله الشارع منجزا له. وان كان وجوبه نفسيا بأن يكون الحكم الفعلي لمحتمل الحرمة وجوب الاحتياط، وقع التعارض بينه وبين الحديث، لتوارد دليلي السعة والاحتياط على عنوان واحد وهو محتمل الحرمة، ومن المعلوم وقوع التنافي بينهما، والمرجع حينئذ قواعد التعارض. هكذا ينبغي تحرير المقام، ومنه يظهر غموض ما أفاده المصنف بقوله: (فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله) لابتنائه على كون الغاية في حديث السعة هو العلم الوجداني بالواقع، فما لم يعلم به فهو في سعة، ويقع التعارض بينه وبين ما يدل على وجوب الاحتياط طريقيا، لعدم إفادته العلم بالواقع كما هو ظاهر. لكن لا ريب في أن العلم في الحديث بمعنى المنجز للواقع والحجة عليه، ولذا ينتفي موضوع البراءة بقيام أمارة غير علمية على الحكم الواقعي، لكونها بيانا عليه. فالمراد بالعلم في الحديث هو الحجة القاطعة للعذر الجهلي، ومع تنجز الحكم الواقعي بدليل الاحتياط ينتفي موضوع البراءة، ويرتفع الترخيص في ترك الواقع ويتبدل بلزوم رعايته. كما أن ما أفاده من ورود دليل الاحتياط - على القول بوجوبه النفسي - على 259 فهم في سعة (1) ما لم يعلم، أو ما دام لم يعلم (2) وجوبه أو حرمته، و من الواضح (3) أنه لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا،
الحديث غير ظاهر، بل هما متعارضان، فيعامل معهما معاملة التعارض، لما عرفت من وحدة موضوعهما وهو الحكم الإلزامي المحتمل، و لا تقدم لأحدهما على الاخر، ومجرد العلم بوجوب الاحتياط لا يوجب تقدمه على الحديث بعد ما كان صريحا في التوسعة و الترخيص في الشبهة. وما أفيد في توجيه الورود من قوله: (فالتكليف الواقعي وان كان مما لا يعلم، الا أن التكليف الفعلي بعنوان آخر معلوم، فإذا علم ولو بعنوان من العناوين الطارية خرج عن كونه مما لا يعلمون، فيكون دليل الاحتياط الموجب للعلم بالتكليف بعنوان آخر رافعا لموضوع دليل البراءة حقيقة) غير مفيد، إذ موضوع التكليف الفعلي الظاهري الاحتياطي هو المشتبه، وهذا بنفسه موضوع أيضا للسعة، والعلم بوجوب الاحتياط لا يجعل المجهول معلوما. وأما التزامنا بالورود على القول بالوجوب الطريقي، فلتنجز الواقع بالامر بالاحتياط، ووصوله إلى المكلف بعنوان عرضي، وهو يكفي في رفع موضوع دليل البراءة، إذ الواصل هو الواقع وان كان بلباس آخر أعني إيجاب الاحتياط. 260 فيعارض به (1) ما دل على وجوبه كما لا يخفى. لا يقال: قد علم به (2) وجوب الاحتياط.
261 فإنه يقال (1): لم يعلم الوجوب أو الحرمة
262 بعد (1) فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله (2)؟ نعم (3) لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان (4) وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه. لكنه عرفت (5) أن وجوبه (6) كان طريقيا لأجل
264 أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا، فافهم (1). ومنها (2): قوله عليه السلام: [1] كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي) ودلالته (3) تتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما
[1] رواه الصدوق مرسلا في صلاة الفقيه هكذا: (وذكر شيخنا محمد 265
ابن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه عن سعد بن عبد الله: أنه كان يقول: لا يجوز الدعاء في القنوت بالفارسية، وكان محمد بن الحسن الصفار يقول: انه يجوز. والذي أقول به: انه يجوز، لقول أبي جعفر عليه السلام: لا بأس أن يتكلم الرجل في صلاة الفريضة بكل شئ يناجي به ربه عز وجل ولو لم يرد هذا الخبر لكنت أجيزه بالخبر الذي روي عن الصادق عليه السلام أنه قال: كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي، و النهي عن الدعاء بالفارسية في الصلاة غير موجود، والحمد لله رب العالمين). 266
والظاهر أنه (قده) استظهر الوصول من الورود، لعدم احتمال إرادة عدم الوجود من قوله: (غير موجود) وان كان ذلك ظاهره، ضرورة أن المترتب على الفحص انما هو عدم الوجدان والوصول لا عدم الوجود والصدور. كما أن المراد من النهي هو النهي عن الشئ بعنوانه الخاص، فيكون دليلا على البراءة. 267
ولكن حكي استناده إليه في أماليه في جعل إباحة الأشياء حتى يثبت الحظر من دين الإمامية، وظاهره إرادة الإباحة الواقعية، فان كان كذلك لم يصح جعل الورود بمعنى الوصول غاية، لان غاية الإباحة الواقعية هي تشريع النهي وصدوره لا وصوله إلى المكلف، فلا بد أن يريد بقوله: (غير موجود) غير صادر. ويؤيده أنه (قده) جعل الاستدلال بهذا الخبر كالاحتجاج بقول أبي جعفر عليه السلام: (لا بأس أن يتكلم الرجل الوارد لبيان الحكم الواقعي، فمراده بقوله: (غير موجود) عدم الصدور كما هو ظاهره لا عدم الوصول، فلا يكون الخبر حينئذ دليلا على البراءة. لكن إرادة عدم الصدور في غاية البعد كما أشرنا إليه آنفا. ورواه الشيخ في أماليه عن الصادق عليه السلام مسندا هكذا: (الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر أو نهي) ولا ريب في كون الورود هنا بمعنى الوصول دون الصدور، كما لا ريب في شمولها للشبهة الوجوبية أيضا، ومعه لا حاجة إلى دعوى عدم الفصل التي استند إليها شيخنا الأعظم (قده) للبراءة في الشبهة الوجوبية، حيث قال: (و الأقوى فيه جريان أصالة البراءة، للأدلة الأربعة المتقدمة مضافا إلى الاجماع المركب). لكن الاشكال في سنده، إذ فيه من لم تثبت وثاقته كعلي بن حبشي، فراجع هذا ما يرجع إلى متن الحديث وسنده. 268
وأما دلالته، فالمصنف (قده) مع بنائه على كون الورود بمعنى الصدور استظهر منه الإباحة الظاهرية، ولذا جعله من أدلة البراءة. ولكن اعترض عليه بعض أعاظم تلامذته (قده) بوجوه سيأتي بيانها بعد التعرض لما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) حول هذا الحديث و محصله: (أن الورود فيه بمعنى الصدور، والمراد بالاطلاق الإباحة الواقعية الثابتة للشئ بعنوانه الأولي دون الإباحة الظاهرية، فالمعنى: كل شئ مباح واقعا حتى يصدر فيه نهي من الشارع، والغرض من الحديث: نفي اعتبار قاعدة الملازمة، وعدم جواز التعويل عليها في استنباط الأحكام الشرعية، فكل شئ يحكم بأنه مباح واقعا وان أدرك العقل قبحه، ولا يحكم بحرمته ما لم يصدر نهي من الشارع المقدس عنه، فلا يلزم حينئذ توضيح الواضحات حتى يستبعد صدوره من الشارع). أقول: فيه - مضافا إلى شمول قاعدة الملازمة للواجبات وعدم اختصاصها بالمحرمات وعدم ملائمة ما أفاده (قده) إلا بناء على وجود كلمة (أو أمر) في الحديث - أنه لا ريب في توقف حكم العقل بحسن شئ أو قبحه على إحراز علته التامة من المقتضي والشرط وعدم المانع، فبدون إحراز هذه الأمور الثلاثة لا يحكم بشئ من الحسن و القبح، ومع إحرازها لا يعقل عدم حكمه به، لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة، فالمنع عن حجية حكم العقل ان كان صغرويا بمعنى قصوره عن إدراك المقتضيات والشرائط والموانع بنحو السلب الكلي فهو ممنوع، لاستقلاله بحسن العدل والاحسان وقبح الظلم و العدوان ونحوها من المستقلات العقلية الواقعة في سلسلة علل الأحكام وملاكاتها. 269
وان كان كبرويا بمعنى عدم حجية مدركات العقل أصلا، فهو ممنوع أيضا إذ لا فرق في حجية البرهان بين الآني واللمي، فكما نستكشف المصالح والمفاسد من العلم بوجوب شئ وحرمة آخر، كذلك نحكم - بنحو اللم - بالوجوب والحرمة عند العلم بالمصالح و المفاسد الملزمة الثابتة في الافعال، لتحقق ما هو مناط حكمه، فالمنع عن حجية الحكم حينئذ مساوق للمنع عن حجية القطع بالحكم. وان كان كلامه (قده) ناظرا إلى منع اسناد الاحكام المستنبطة من الأولويات الظنية والاستحسانات العقلية إلى الشارع، فهو وان كان مسلما، الا أن القائل بقاعدة الملازمة من العدلية يأبى ذلك قطعا. ولا حاجة في رد هذه القاعدة في غير ما يوجب العلم إلى التمسك بهذه المرسلة مع وجود الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة الناهية عن العمل بالظن عموما والقياس خصوصا. وكيف كان فاحتمالات الحديث أربعة، حيث إن المراد بالنهي إما النهي الخاص عن الشئ بعنوانه، أو النهي العام عن الاقتحام في المشتبه، وعلى كلا التقديرين فالورود إما بمعنى الصدور وإما بمعنى الوصول، والاستدلال به على البراءة منوط بإرادة النهي عن الشئ الخاص وكون الورود بمعنى الوصول كما استظهره شيخنا الأعظم، وعلى الاحتمالات الثلاثة الأخرى يكون الحديث أجنبيا عن البراءة إلا بناء على ما تكلفه المصنف كما ستعرفه في التوضيح. مضافا إلى توقف جريان أصالة عدم الورود على القول بجريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية. وأما ما أشرنا إليه من اعتراضات بعض محققي تلامذة المصنف في حاشيته الأنيقة عليه فنتعرض لمحصل بعضها، فنقول وبه نستعين: ان كلامه (قده) يشتمل 270
على جهتين: الأولى في معنى الإباحة التي تستفاد من كلمة (مطلق). الثانية في نفي معنى الصدور عن الورود الذي هو مورد الاستدلال بهذا الحديث، وإثبات أن الورود بمعنى الوصول، لأنه النافع في مسألة البراءة، إذ الورود بمعنى الصدور بإرادة إباحة ما لم يصدر فيه نهي واقعا أجنبي عن البراءة ودليل لإباحة الأشياء قبل الشرع. أما الجهة الأولى فمحصلها بتوضيح منا: أن الإباحة المدلول عليها بقوله عليه السلام: (مطلق) اما عقلية بمعنى اللا حرج العقلي، في قبال الحظر العقلي لكونه عبدا مملوكا، واما شرعية، وهي اما واقعية ثابتة لذات الموضوع لخلوه عن المصلحة والمفسدة، وإما ظاهرية ثابتة للموضوع بما هو مشكوك الحل والحرمة، فالاحتمالات ثلاثة: أما الاحتمال الأول وهو الإباحة بمعنى اللا حرج العقلي، فحاصل الكلام فيه: صحة جعلها مغياة بعدم صدور النهي واقعا، لان الملحوظ فيه حال العقل مع الغض عن الشرع، ومن المعلوم أن غايته صدور النهي من الشارع سواء وصل إلى المكلف أم لم يصل. لكن حمل الإباحة على هذا المعنى الذي يحكم به عقل كل عاقل بعيد غير مناسب للإمام عليه السلام المعد لتبليغ الاحكام خصوصا بملاحظة أن الخبر مروي عن الإمام الصادق عليه السلام بعد ثبوت الشرع وإكمال الشريعة سيما في المسائل العامة البلوى التي يقطع بصدور أحكامها عن الشارع، فلا فائدة في جعل الإباحة مع قطع النظر عن الشرع. وأما الاحتمال الثاني وهو الإباحة الواقعية فمحصله: أنه لا يعقل ورود حرمة في موضوعها، للزوم الخلف، إذ المفروض لا اقتضائية الموضوع للمصلحة 271
والمفسدة، وذلك ينافي فرض اقتضائيته للمفسدة الداعية إلى تشريع الحرمة. لا يقال: لا اقتضائيته انما هي من حيث ذاته، وذلك لا ينافي اقتضائيته للمفسدة بعنوان ثانوي يقتضي الحرمة. فإنه يقال: ظاهر الخبر هو وحدة متعلقي الإباحة والنهي عنوانا، فالماء الذي بعنوانه صار مباحا هو بهذا العنوان يتعلق به النهي، لا بعنوان آخر ينطبق عليه بحيث يكون موضوع النهي ذلك العنوان كالغصب، فورود النهي في الماء المغصوب لا يقتضي صدق ورود النهي في الماء بعنوانه وان صدق بعنوان المغصوب، هذا ما يقتضيه ظاهر الحديث من كون الإباحة مغياة بورود النهي في موردها. وأما إذا أريد بورود النهي تحديد الموضوع وتقييده، فلا يصح أيضا سواء كان بنحو المعرفية والمشيرية بأن يراد أن الموضوع الذي لم يرد فيه نهي مباح، والموضوع الذي ورد فيه نهي ليس بمباح، أم كان بنحو تقييد موضوع أحد الضدين بعدم الضد الاخر حدوثا أو بقاء، وجه عدم الصحة: أنه على الأول يلزم حمل الخبر على ما هو كالبديهي الذي لا يناسب شأن الإمام عليه السلام. وعلى الثاني يلزم شرطية عدم الضد لوجود ضده حدوثا أو بقاء، وقد ثبت في محله عدم معقولية ذلك، فلا معنى لتقييد موضوع الإباحة الواقعية بعدم ورود النهي على كلا التقديرين. فالمتحصل: أنه لا سبيل إلى استظهار الإباحة المالكية وهي اللا حرج العقلي وكذا الإباحة الشرعية الواقعية من الحديث أصلا. وأما الاحتمال الثالث وهو الإباحة الظاهرية الثابتة لمشكوك الحل و الحرمة 272
الناشئة عن المصلحة التسهيلية، فتوضيحه: أنه لا يصح جعل هذه الإباحة مغياة ولا محددة ومقيدة بعدم صدور النهي في موضوعها واقعا، لوجوه ثلاثة: الأول: أن موضوع الإباحة الظاهرية هو الشئ المشكوك حكمه الواقعي، وهذا الموضوع مغيا بالعلم بالحكم، نظير قوله عليه السلام: (كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام) حيث أخذ العلم بالحرمة غاية للحلية الظاهرية، ويستحيل أن تكون الإباحة الظاهرية مغياة بصدور النهي واقعا، وإلا لزم تخلف الحكم عن موضوعه التام، وهو في الاستحالة كتخلف المعلول عن علته التامة. توضيحه: أن موضوع الإباحة الظاهرية - وهو الجهل بالحكم الواقعي - لا يرتفع بمجرد صدور النهي واقعا وعدم العلم به، لاجتماعه معه حينئذ، فان قلنا بارتفاع هذه الإباحة بمجرد صدور النهي واقعا مع بقاء الجهل به لزم ارتفاع الحكم وهو الإباحة الظاهرية عن موضوعه وهو الجهل بالحكم الواقعي، وليس هذا إلا تخلف الحكم عن موضوعه، ولا مناص عن هذا المحذور إلا بجعل الورود بمعنى الوصول. الثاني: أن الإباحة الظاهرية حيث إنها مغياة بصدور النهي واقعا أو مقيدة بعدم صدوره واقعا، فمع الشك في حصول الغاية أو القيد لا يصح ترتيب آثار الإباحة، بل لا بد في ترتيبها من إحراز عدم تحقق الغاية أو القيد - أعني صدور النهي - والمفروض أن عدم صدوره غير محرز وجدانا فلا بد من إحرازه تعبدا بأصالة عدم صدور النهي حتى تثبت الإباحة فعلا للموضوع المشكوك، وحينئذ فان كان الغرض من إجراء الأصل مجرد نفي الحرمة ودفع تبعتها ظاهرا فلا مانع منه، الا أنه ليس من الاستدلال بالخبر، بل بالأصل. 273
وان كان الغرض من إجرائه التعبد بالإباحة المغياة أو المقيدة بعدم صدور الحرمة، أو تحقيق موضوع تلك الإباحة، فحينئذ يرتبط الاستدلال بالخبر، الا أنه لا يجري الأصل لاثبات شئ من هذه الأمور، وذلك لعدم إمكان إرادة الإباحة الواقعية والظاهرية من المرسلة حتى يجري فيها الاستصحاب. واستصحاب الإباحة المالكية بمعنى اللا حرج غير جار أيضا، لعدم كونها حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي. كما لا يجري الأصل أيضا لتحقيق موضوع الإباحة لأنها ان كانت من لوازم عدم النهي الأعم من الواقع والظاهر كوجوب الإطاعة وحرمة المعصية اللذين هما من لوازم الحكم مطلقا وان كان ظاهريا ثابتا بالأصل جرى الأصل فيها، ولكن من الواضح أن الإباحة قبل الشرع هي اللا حرج عقلا حقيقة لا اللا حرج قبل الشرع ظاهرا مع ثبوته واقعا. وبعد عدم جريان الأصل فالاستدلال بالخبر يندرج في التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية، إذ المفروض عدم إحراز عدم صدور النهي حتى يندرج المشكوك في قوله عليه السلام: (كل شئ مطلق) لتثبت إباحته ظاهرا. الثالث: قال (قده): (ان ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعة للإباحة الظاهرية المفروضة، ومقتضى فرض عدم الحرمة إلا بقاء هو فرض عدم الحرمة حدوثا، ومقتضاه عدم الشك في الحلية والحرمة من أول الامر، فما معنى جعل الإباحة الظاهرية المبعوثة بالشك في الحلية والحرمة في فرض عدم الحرمة إلا بقاء) وتوضيحه: أن جعل الورود بمعنى الصدور مستلزم لانقلاب الإباحة الظاهرية المدلول عليها بقوله عليه السلام: (مطلق) إلى الإباحة الواقعية، حيث إن ظاهر قوله: (حتى يصدر) أن الشك دائما هو في بقاء الإباحة لا في 274
حدوثها، لدلالة الغاية على أن المجعول قبل النهي هو حكم آخر، وقد دل قوله: (مطلق) على أنه هو الإباحة لا غيرها، وعليه فيتمحض الشك في بقاء الإباحة لعدم صدور النهي واقعا أو عدم بقائها لصدوره، فقبل الشك في تشريع الحرمة لا ريب في القطع بعدمها، ولازم العلم بعدم النهي هو العلم بالإباحة الواقعية لا الظاهرية، إذ المفروض أنه لا شك في الحرمة قبل صدور النهي حتى يستفاد من قوله عليه السلام: (مطلق) إباحة المشكوك حليته وحرمته ظاهرا، بل المعلوم عدم الحرمة، و من الواضح أن الأشياء قبل الحرمة مباحة واقعا لا ظاهرا، وهذا ما ذكرناه من استلزام جعل الورود بمعنى الصدور لتبدل الإباحة الظاهرية بالواقعية، وأجنبية المرسلة عن مسألة البراءة، وكونها دليلا على إباحة الأشياء قبل الشرع كما مرت الإشارة إليه آنفا. هذا بعض ما أفاده (قده) في الجهة الأولى. وأما الجهة الثانية، فقال فيها: (والتعبير عن الوصول بالورود تعبير شائع لا ينسبق إلى أذهان أهل العرف غيره، بل الظاهر كما يساعده تتبع موارد الاستعمالات: أن الورود ليس بمعنى الصدور أو ما يساوقه، بل هو معنى متعد بنفسه، فهناك بلحاظه وارد و مورود، فيقال: ورد الماء وورد البلد ووردني كتاب من فلان. وان كان بلحاظ إشراف الوارد على المورود ربما يتعدى بحرف الاستعلاء، فالورود من الأمور المتضايفة المتقومة بوجود كلا المتضايفين، وفي المقام يكون الوارد هو الحكم والمورود المكلف، و لو كان معنى الحديث: - كل شئ مطلق حتى يصدر فيه نهي - لزمه تحقق أحد المتضايفين - أعني الحكم - بدون الاخر وهو محال، فلا بد أن يكون الورود بمعنى الوصول. 275
نعم قد يكون الوارد أمرا له محل في نفسه كالحكم، فان متعلق الحكم محل الوارد، مثل (ورد في الخمر نهي) ولا يصح أن يقال: ورده نهي، فان الموضوع - وهو الخمر - محل الوارد باعتبار كونه موضوع حكم الشارع ومتعلق متعلقه، لا المكلف الذي هو المورود، و يكون المكلف مورودا عليه، ولكن في هذا الحديث ليس المورود إلا المكلف لا محل الوارد، ولذا لو لم يكن الوارد محتاجا إلى المحل لا يتعدى إلا بنفسه أو بحرف الاستعلاء بلحاظ الاشراف. و الحاصل: أن التضايف يقتضي وجود مورود للوارد، وورود النهي لما كان بوصوله إلى المكلف فلا مناص من حمله على الوصول لا على الصدور. فالمتحصل: أنه بناء على ما تقدم يتم الاستدلال بالمرسلة على البراءة. هذا توضيح بعض ما أفاده المدقق الأصفهاني في حاشيته الأنيقة. أقول: يمكن المناقشة في مواضع من كلماته قدس سره. منها: ما أفاده في وجه امتناع إرادة الإباحة الواقعية من (مطلق) مع كونها مغياة بصدور النهي - من أن الإباحة متقومة بلا اقتضاء موضوعها للمفسدة فلا يعقل ورود نهي فيه منبعث عن اقتضائه لها - إذ فيه: أن عدم المعقولية انما يتصور فيما إذا كان الموضوع علة تامة للمفسدة التي ينبعث عنها النهي، إذ لا يعقل حينئذ إباحته الناشئة عن عدم اقتضائه للمفسدة، فان اجتماع الاقتضاء واللا اقتضاء من اجتماع النقيضين الممتنع. وأما إذا كان الموضوع مقتضيا للمفسدة لا علة تامة لها، والإباحة ناشئة تارة من عدم المقتضي للمفسدة، و أخرى من تزاحم المقتضيين للوجوب والحرمة مع عدم رجحان أحدهما على الاخر، وثالثة 276
من وجود مانع يمنع عن تأثير المقتضي في تشريع الحرمة، فلا محذور في الاجتماع، لعدم فعلية جميع الملاكات وما يترتب عليها من الاحكام حينئذ، فلا موجب للالتزام بتقوم الإباحة دائما بعدم المقتضي للمفسدة حتى يمتنع اجتماعها مع المقتضي لها، هذا. مضافا إلى: أن الاتصاف بالاقتضاء واللا اقتضاء ليس في زمان واحد، إذ مع دخل الشرائط الخاصة كالزمان والمكان وغيرهما في الملاكات كدخل الشرائط العامة فيها يتضح أنه لا مانع من عروض الحرمة على ما كان مباحا كالجمع بين الأختين، فإنه على ما يظهر من بعض الروايات كان جائزا، ولذا روي أن يعقوب عليه السلام جمع بين أختين ولدتا له يوسف وأخاه يهودا، وفي شرع الاسلام صار حراما، وكذا القصاص في القتل العمدي، فإنه حرام في قتل الوالد ولده وجائز في غيره، وكالربا، فإنها حرام في بعض الموارد وجائز في بعضها الاخر، وغير ذلك من الأشياء التي يتعلق الحل والحرمة بها بعناوينها الأولية، فتأمل. فالمتحصل: أنه لا مانع من كون الإباحة الواقعية مغياة بصدور النهي. ومنها: ما أفاده من امتناع جعل الإباحة الواقعية مع كون (حتى يصدر) قيدا للموضوع وتحديدا له، إذ فيه: أنه بناء على المعرفية و المشيرية يتم معنى الحديث، وليس ذلك بيانا لأمر بديهي غير مناسب لشأن المعصوم عليه السلام، فإنه لو أريد بالاطلاق اللا حرج العقلي كان لما ذكره وجه، مع الغض عما سيأتي من المناقشة فيه أيضا. ولكن المفروض الإباحة الواقعية التي هي من الأحكام الخمسة التكليفية والمتوقفة على الجعل والتشريع جدا، ولولاه لم يصح إسنادها إلى الشارع. ولا يلزم اللغوية من بيان هذه الإباحة مع استقلال العقل باللا حرجية قبال الحظر. 277
وذلك لما فيه أولا من انتقاضه بمثل حديث الرفع مع استقلال العقل بقاعدة القبح. وثانيا من ترتب الأثر الشرعي على جعلها بالخصوص، ضرورة أنه يجري الاستصحاب في نفس هذا المجعول الشرعي عند الشك في ورود النهي عنه، ولا يجري في اللا حرجية العقلية كما صرح هو (قده) به من جهة أنها ليست من مقولة الحكم حتى يتعبد بها بالاستصحاب. نعم ما أفاده (قده) في وجه امتناع تقييد موضوع الإباحة بعدم ورود النهي عنه في غاية المتانة، لما تقرر في محله من أن الضدين في رتبة واحدة وجودا وعدما، وعليه فيمتنع أن يكون عدم صدور النهي قيدا للإباحة. وما أفيد (من أنه خلط بين الأمور التكوينية والاعتبارية، وأن الممتنع هو عدم مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الاخر في التكوينيات دون الاعتباريات التي منها الأحكام الشرعية، فلا مانع من تقييد الإباحة بعدم صدور النهي) غير مفيد، إذ المفروض أن الامر الاعتباري تابع لكيفية اعتباره، فالملكية مثلا من الأمور الاعتبارية المنوطة برضا المالك، فإذا فرض حصولها قبل تحقق رضاه لزم الخلف وعدم شرطية ما فرض شرطا لحصولها، ومقتضى شرطيته وكونه من أجزأ علة الملكية هو تقدمه عليها، وعليه فمجرد كون الإباحة و الحرمة وغيرهما من الاحكام أمورا اعتبارية لا يوجب صحة تقييد الإباحة بعدم ضدها مع تسليم التضاد بينهما الموجب لوحدة رتبتهما. والحاصل: أن ما أفاده (قده) في وجه امتناع أخذ عدم النهي قيدا في موضوع الإباحة الواقعية تام لا غبار عليه، فلا يمكن جعل (المطلق) بمعنى المباح الواقعي. لكن قد عرفت الاشكال في الفرض السابق، وأن إرادة الإباحة الشرعية الواقعية 278
من قوله عليه السلام: (كل شئ مطلق) بمكان من الامكان. ومنها: ما أفاده في أول المحاذير الثلاثة بناء على إرادة الإباحة الظاهرية من لزوم تخلف الحكم عن موضوعه التام، فنقول: انه لا يلزم تخلف الحكم عن موضوعه مطلقا سواء كان صدور النهي غاية أم قيدا. توضيحه: أنه بناء على جعل (حتى يصدر فيه نهي) قيدا للإباحة الظاهرية المدلول عليها ب (مطلق) لا يكون موضوع الإباحة هو المشكوك بقول مطلق، بل موضوعها هو المشكوك المقيد بعدم صدور نهي فيه، وبمجرد صدور النهي تنتفي الإباحة بانتفاء أحد جزأي موضوعها، وهذا ليس من تخلف الحكم عن موضوعه المساوق لتخلف المعلول عن علته التامة المستحيل، إذ تخلف الحكم عن الموضوع الواجد لجميع قيوده وحدوده غير معقول إلا في النسخ، وما قد يرى من التخلف أحيانا ليس منه حقيقة، بل انما هو لتغير بعض قيود الموضوع كالوضوء الحرجي الذي لا يترتب عليه محموله وهو الوجوب، والبيع الضرري الذي لا يترتب اللزوم عليه. وفي المقام لا بد في الحكم بالإباحة الظاهرية من إحراز جزأي الموضوع وهو الشك و عدم صدور النهي، فلو شك في صدور النهي ولم يكن طريق إلى إحراز عدمه لم يحكم عليه بالإباحة الشرعية الظاهرية، لقصور هذه المرسلة عن بيان حكم هذا الموضوع، فلا بد في إحراز حكم الواقعة من الرجوع إلى ساير أدلة البراءة. وبالجملة: لا يلزم تخلف حكم عن موضوع أصلا، لما عرفت من عدم كون الموضوع عنوان (المشكوك) المجامع للشك في صدور النهي أيضا حتى يترتب المحذور. 279
نعم ما أفاده (قده) من محذور تخلف الحكم عن موضوعه التام يتوجه على صاحب الكفاية وغيره ممن يجعل (مطلق) بمعنى المباح الظاهري والورود بمعنى الصدور بناء على كون (حتى يصدر) غاية للحكم بالإباحة لا قيدا لموضوعها، ضرورة أن الموضوع هو ذات المشكوك المجامع للشك في تشريع النهي، وحينئذ فاللازم الحكم بالإباحة رعاية لاقتضاء الموضوع، والتوقف عنه بمقتضى الشك في تحقق الغاية أعني صدور النهي. ومنها: ما أفاده في إجراء الأصل، فنقول: ان أريد بإجرائه إثبات الإباحة بالمعنى الأخص، فهو مثبت، لأنه من إثبات أحد الضدين بنفي الضد الاخر وهو الحرمة، أو لأنه من إثبات ذي الغاية بعدم غايته. وان أريد به إثبات الجواز بمعنى اللا حرج فهو غير جار، لعدم كون الجواز حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي. وان أريد إجراء الأصل في نفس الإباحة فهو وان كان سليما عن مناقشته قدس سره، لما عرفت من إمكان إرادة الإباحة من الحديث، ولكنه مبني على القول بجريان الاستصحاب في الاحكام الكلية. وأما ما أفاده في المحذور الثالث فهو متين لا غبار عليه. ومنها: ما استبعده من حمل الخبر على بيان الإباحة العقلية، لاستقلال عقل كل عاقل باللا حرج قبل الشرع. إذ فيه: أن عدم مناسبة بيان هذه الإباحة لمقام الإمام عليه السلام منوط بأمرين غير ثابتين: أحدهما: أن يكون مرادهم بالقبلية في مسألة (أن الأشياء قبل الشرع على الحظر أو الإباحة) القبلية الزمانية يعني: أن الافعال قبل بعثة الأنبياء عليهم السلام أو قبل التشريع محظورة أو مباحة، فيكون بيان الإمام عليه السلام أنها على الإباحة بعيدا عن مقامه، لكونه بيانا لأمر لا فائدة 280
فيه أصلا، لان الاحكام قد شرعت وبينها النبي صلى الله عليه وآله و الأئمة عليهم السلام، ولا يترتب ثمرة على بيان الإباحة قبل الشرع حينئذ. وأما إذا أريد بالقبلية، القبلية الرتبية كما يساعده عنوان هذه المسألة وأدلة القائلين بالحظر والإباحة والوقف، بمعنى (أن الأشياء بنظر العقل مع الغض عن الشرع هل هي محظورة أم مباحة) فليس بيان الإمام عليه السلام: (كل شئ مطلق) بعيدا عن مقامه، لأنه يرشد إلى أنها على الإباحة فتصلح المرسلة للاستدلال بها على أصالة الإباحة في مسألة الحظر والإباحة. ثانيهما: أن إباحة الأشياء قبل الشرع لو كانت مما يستقل بها عقل كل عاقل كان لما أفاده من الاستبعاد وجه، لأنه بيان لما هو بديهي. و لكن الظاهر خلافه فان نزاع الحظر والإباحة مما تضاربت فيه آراء أعلام العلم والتحقيق، فالسيد المرتضى على الإباحة، وجماعة على الحظر، والشيخان على الوقف، فلو كانت اللا حرجية العقلية كاستحالة اجتماع النقيضين في البداهة والضرورة لم يبق مورد لذلك النزاع، وعليه فلا مانع من حمل (مطلق) على الإباحة المالكية قبل الشرع وكون المرسلة ردا على أصالة الحظر والوقف. ومنها: ما أفاده من أن مقتضى كون الورود من الأمور المتضايفة إرادة الوصول منه دون الصدور، إذ لا يعقل تحقق أحد المتضايفين دون الاخر، والمورود هنا ليس إلا المكلف دون متعلق الحكم. إذ فيه: أن استظهار الوصول من الورود بالتضايف المختص بهذا المعنى كما هو مفروض كلامه (قده) دون معناه الاخر وهو الصدور غير ظاهر، ضرورة أنه لا مجال للبناء على التضايف إلا بعد إثبات كون الورود بمعنى الوصول، وإثباته مع استعمال الورود في كلا المعنيين و هما الصدور والوصول وفرض اختصاص التضايف بالثاني مشكل، بل إثبات ذلك 281
بالتضايف محال، لاستلزامه الدور، بداهة توقف التضايف على كون الورود بمعنى الوصول، والمفروض توقفه على التضايف. نعم لو أريد إثبات معنى الوصول للورود بكثرة موارد الاستعمالات، و أن الورود لم يستعمل غالبا إلا في الوصول الذي يحتاج إلى المورود بحيث لا يتبادر منه عند الاطلاق الا هذا المعنى كان ذلك وجيها، ولم يرد عليه إشكال الدور، لكن ظاهر كلامه (قده) استظهار كون الورود بمعنى الوصول من التضايف، بحيث يكون التضايف بنفسه من الأدلة. وكيف كان، فلو ثبت شيوع استعمال الورود بمعنى الوصول كما هو الظاهر بحيث يتبادر منه هذا المعنى بلا قرينة صح الاستدلال بالمرسلة على البراءة كما استدل بها عليها شيخنا الأعظم (قده) وإلا لم يصح الاستدلال بها لمكان الاجمال. وان لم يثبت الشيوع المزبور أو ادعي ظهوره في الصدور، لان ظاهر الحديث هو بيان الورود في نفسه المساوق للصدور، فكأنه قيل: كل شئ مطلق حتى يصدر فيه نهي، فيراد بالاطلاق حينئذ اللا حرج العقلي، لأنه المناسب لان يغيا بصدور فيه النهي فيه (فيكون) دليلا على الإباحة في مسألة الحظر والإباحة وليس دليلا لمسألة البراءة. كما أنه ليس دليلا على الإباحة الشرعية الواقعية لكل شئ إلى أن يصدر فيه نهي، إذ لازمه تعدد التشريع للموضوع الواقعي، وذلك لان المجعول الشرعي الواقعي أولا لكل شئ على ما يظهر من الحديث هو الإباحة، ثم الحرمة و النهي طار عليها، فكل ما نهي عنه كان مباحا ثم عرض عليه النهي. مع أنه ليس كذلك، لان كل شئ بحسب مقتضى ملاكه يجعل له أحد الأحكام الشرعية، لا أنه يجعل فيه أولا الإباحة ثم الحرمة مثلا، فتدبر. 282 بحكمه بالنهي (1) عنه وان (2) صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد، مع أنه ممنوع (3)، لوضوح صدقه على صدوره عنه (4) سيما (5) بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.
283 لا يقال: نعم (1) ولكن بضميمة أصالة العدم صح [لصح] الاستدلال به وتم. فإنه يقال (2): وان تم الاستدلال به
284 بضميمتها (1) ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه (2)، الا أنه (3) لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا، بل بعنوان أنه (4) مما لم يرد عنه النهي واقعا (5). لا يقال (6):
285 نعم (1) ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم (2) بالإباحة في مجهول الحرمة كان (3) بهذا العنوان أو بذاك العنوان. فإنه يقال (4):
286 حيث إنه (1) بذاك العنوان لاختص (2) بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا، ولا يكاد يعم (3) ما إذا ورد النهي عنه في زمان وإباحة في آخر واشتبها (4) من حيث التقدم والتأخر.
287 لا يقال: هذا (1) لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته. فإنه يقال: وان لم يكن بينها (2) الفصل، الا أنه انما يجدي
288 فيما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل لا الأصل [1] فافهم (1).
[1] لا يقال: ما الفرق بين المقام وبين ما تقدم في حديث الحل، حيث إنه 289
ظاهر في البراءة في الشبهة التحريمية، وقد التزم المصنف بالبراءة في الشبهة الوجوبية بعدم الفصل، فليكن المقام كذلك، ولو كان الدليل هناك حديث الحل، فالدليل هنا استصحاب عدم ورود النهي. فإنه يقال: قد ذكر بعض المدققين الفرق بما حاصله: أن الاستدلال بعدم الفصل في حديث الحل تام، لكون الثابت في كل من الشبهة التحريمية والوجوبية هو البراءة وهو حكم واحد، بخلاف عدم الفصل بين ماله حالة سابقة تجري فيها الإباحة الظاهرية بالاستصحاب، وما ليس له حالة سابقة، فان إثبات الإباحة الظاهرية له يكون بعنوان أنه مجهول الحل والحرمة، وبعد اختلاف منشأ الإباحة الظاهرية بالاستصحاب فيما له حالة سابقة وبعنوان مجهول الحل والحرمة فيما ليس له حالة سابقة لا مجال لدعوى عدم الفصل. ولكن يمكن أن يقال: ان موضوع الإباحة المستفادة من هذه المرسلة هو عنوان (ما لم يرد فيه نهي) وهذا العنوان وان كان مغايرا لعنوان المشتبه الذي لا يجري فيه استصحاب عدم ورود النهي، لكنه ملحق به حكما بالاجماع المركب، والحكم فيهما متحد، إذ لم يثبت الإباحة في العنوان الأول باستصحاب عدم صدور النهي حتى تكون الإباحة التعبدية الثابتة بالاستصحاب مغايرة للإباحة الظاهرية التي يراد إثباتها لعنوان (مجهول الحرمة والحل) بل الأصل ينقح موضوع الحديث، والا لخرج عن الاستدلال بالحديث للإباحة إلى الاستدلال لها بالاستصحاب، وعليه فالثابت بالمرسلة هو الإباحة الظاهرية وان كان 290 وأما الاجماع (1) [1] فقد نقل على البراءة، الا أنه موهون
موضوعها محققا بأصالة العدم، ولا مانع من تسرية هذه الإباحة إلى عنوان (المشتبه حله وحرمته) ببركة عدم الفصل. [1] إذا كان الاجماع على السعة وعدم الضيق من ناحية الالزام الواقعي المجهول، كان معارضا لما دل على وجوب الاحتياط، ولا بد من معاملة أحكام التعارض معهما، لكن كلمات شيخنا الأعظم في نقل تقارير الاجماع لا تساعد على هذا المعنى، إذ ظاهرها أنه إرشاد إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، وحينئذ فأدلة الاحتياط - على فرض تسليمها - حاكمة بل واردة على هذا الاجماع فلا ينهض دليلا على البراءة، لكن عدم نهوضه عليها ليس لوجود المانع وهو أدلة الاحتياط فحسب، حتى تكون دلالته على البراءة - لولا الدليل الحاكم أو الوارد - تامة، بل انما هو لقصور المقتضي فيه وهو كونه إجماعا مدركيا لا تعبديا، وعليه فليس وزانه وزان آية: (وما كنا معذبين) بمعنى كونه للارشاد إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لعدم تماميته في نفسه حتى لو لم تكن أخبار الاحتياط في البين. 291 ولو قيل باعتبار الاجماع المنقول في الجملة (1)
293 فان (1) تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل (2)، ومن واضح النقل (3) عليه دليل بعيد جدا [1]
[1] مضافا إلى عدم تحقق اتفاق الأصحاب بأجمعهم على البراءة فيما لم يرد فيه نص، لاختلاف المحدثين في الشبهة التحريمية، وتفصيل المحقق بين ما يعم به البلوى وغيره، بل الكلمات التي استظهر شيخنا الأعظم منها حكمهم بالإباحة أجنبية عن المدعى - وهي إباحة ما لم يرد فيه نص ظاهرا - إذ مقصود هم بها الإباحة التي يحكم بها العقل أي اللا حرج العقلي، أو الإباحة الواقعية التي هي من الأحكام الخمسة التكليفية، فالمحكي عن السيد المرتضى: (أن ما لا مضرة فيه عاجلا أو آجلا فالأصل فيه البراءة) أي الإباحة بحكم العقل، قال في الذريعة ما لفظه: (والصحيح قول من ذهب فيما ذكرنا صفته من الفعل إلى أنه في العقل على الإباحة، والذي يدل على صحته: أن العلم بأن ما فيه نفع خالص من مضرة عاجلة أو آجلة له صفة المباح، وأنه يحسن الاقدام عليه. إلخ) 294
وقال الشيخ في الفصل الذي عقده للبحث عن أن الأشياء هل هي على الحظر أو الإباحة ما لفظه: (وذهب كثير من الناس إلى أنها على الوقف ويجوز كل واحد من الامرين فيه وينتظر ورود السمع بواحد منهما، وهذا المذهب كان ينصره شيخنا أبو عبد الله رحمه الله، و هو الذي يقوى في نفسي. والذي يدل على ذلك: أنه قد ثبت في العقول أن الاقدام على ما لا يأمن المكلف كونه قبيحا مثل اقدامه على ما يعلم قبحه. إلى أن قال بعد ذكر أدلة القائلين بالحظر والإباحة: و استدلوا أيضا بقوله تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق، وأحل لكم الطيبات وما شاكل ذلك من الآيات، و هذه الطريقة مبنية على السمع، ونحن لا نمتنع أن يدل دليل من السمع على أن الأشياء على الإباحة بعد أن كانت على الوقف، بل عندنا الامر على ذلك، وإليه نذهب، وعلى هذا سقط المعارضة بالآيات) ومن المعلوم أن المقصود من (الطيب) هو المباح الواقعي، ولا ربط له بالإباحة الظاهرية التي هي محل النزاع. هذا مضافا إلى منع دلالة كلام الشيخ على الاجماع على الإباحة، لمعارضته لما ذكره في موضع آخر من العدة في أن الأصل في الحيوان الحرمة وفي غيره الإباحة، من ابتنائه على القول بأصالة الإباحة، قال: (وأما بناء على كون الأشياء على الحظر والمنع، فالجميع يحرم) و هذا ظاهر في اختلاف الأصحاب في عصر الشيخ وقبله في المسألة فكيف ينسب إليه الاجماع على البراءة. وأما كلام ثقة الاسلام في ديباجة الكافي، فالظاهر أنه أجنبي عن البراءة فيما لا نص فيه، فإنه في الخبرين المتعارضين حكم بالتخيير، لوجود الحجة عليه بقوله 295 وأما العقل (1) فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة
عليه السلام: (بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم) وأنه لا وجه للالتزام بالاحتياط فيهما، لاختصاص الامر بالتوقف في مقبولة عمر بن حنظلة بزمن الحضور، ورفع اليد عنه لوجود النص على التخيير، و كيف يستفاد منه أنه التزم بالبراءة فيما لا نص فيه ولا فيما لم يعلم حكمه الواقعي، ولم يظهر منشأ قول شيخنا الأعظم بعد حكاية عبارة الكليني: (فالظاهر أن كل من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك قال به هنا). وأما كلام الصدوق في الاعتقادات، فليس ظاهرا في الإباحة الظاهرية، كما أن استفادة الاجماع التعبدي منه لا تخلو من تأمل. والحاصل: أن الفتاوى التي استند إليها شيخنا الأعظم (قده) في تحصيل الاجماع على البراءة ليست ظاهرة في المدعى، فتدبر جيدا. [1] قد يستشكل كما في حاشية الفقيه الهمداني (قده) على الرسائل في الاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بيان على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية بما محصله: أن كلام الشيخ (قده) يوهم كون المراد بالبيان ما هو وظيفة الشارع أعني بيان الاحكام الكلية، ومن المعلوم اختصاص قاعدة القبح حينئذ بالشبهات 296 التكليف المجهول بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان
الحكمية وعدم جريانها في الموضوع المشتبه بين موضوعين معلومي الحكم، حيث إن بيانه خارج عن وظيفته وانما هو وظيفة العرف، وهذا هو الفارق بين الشبهة الحكمية والموضوعية، ولا بأس بنقل كلامه المتضمن لأولوية تقرير القاعدة هكذا لتشمل كلتا الشبهتين: (قبح المؤاخذة على ما لا طريق للمكلف إلى العلم به بإرشاد عقله أو دلالة الشرع، فالمراد بالبيان في المقام هو مطلق طريق 297 حجة عليه، فإنهما (1) بدونها عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان،
معرفة التكليف لا خصوص الاعلام كما يوهمه العبارة، فليتأمل). توضيحه: أن بيان التكليف لا يختص بإعلام الشارع، بل يراد به كل طريق يؤدي إلى العلم به سواء كان بإرشاد العقل كقاعدة الملازمة و نحوها، أم بدلالة الشرع كالأدلة السمعية، وعليه فيمكن إزالة الجهل في الشبهة الموضوعية بإرشاد عقله الذي هو بيان كبيانية الأدلة النقلية على الاحكام الكلية، فيصح حينئذ الاستدلال بقاعدة القبح على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية كجريانها في الشبهات الحكمية. أقول: ينبغي التكلم أولا فيما أفاده شيخنا الأعظم (قده) ثم النظر في كلام الفقيه الهمداني. أما تمسك الشيخ بقاعدة القبح في الشبهات الموضوعية، فيمكن توجيهه بأن البيان في هذه القاعدة أعم من الدليل الاجتهادي الدال على الحكم الواقعي والدليل الفقاهتي المتكفل للحكم الظاهري كإيجاب الاحتياط في الشبهات مطلقا حتى الموضوعية، حيث إن بيان الحكم الظاهري للمشتبه موضوعا أيضا وظيفة الشارع وان كان تشخيص الموضوع وظيفة العرف، لكن بيان حكم كل موضوع حتى المردد بين عنوانين معلومين حكما كالمائع المردد بين الخمر والخل انما هو وظيفة الشارع كما هو ظاهر قوله (قده): (على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه). فالمتحصل: أنه بناء على التعميم المزبور للبيان المأخوذ في قاعدة القبح لا مانع من الاستدلال بها لجريان البراءة في الشبهات الموضوعية، ولا يرد عليه ما في الحاشية المتقدمة. وأما ما أفاده الفقيه الهمداني (قده) من قوله: (قبح المؤاخذة على ما لا 298 وهما قبيحان بشهادة الوجدان. ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك (1) لا احتمال لضرر العقوبة في
طريق للمكلف) فان أراد بالموصول الحكم الكلي الأولي، فيتوجه عليه: أنه لا يشمل الشبهة الموضوعية، وهو خلاف ما أراده من شمول القاعدة لها كما هو واضح. وان أراد به مطلق الحكم الكلي الشامل للحكم الواقعي والظاهري ليشمل الشبهات الموضوعية، فهو عين التوجيه الذي وجهنا به كلام الشيخ (قده) لكن الظاهر أنه لم يرد هذا المعنى بقرينة قوله: (لا خصوص الاعلام) لظهوره في إعلام الشارع وهو بيان الحكم الكلي. وان أراد به مطلق الحكم حتى الجزئي منه الثابت للموضوع الخارجي، فيتوجه عليه أولا: أن معرفة الاحكام الجزئية ليست منوطة ببيان الشارع، بل هي منوطة بمعرفة العرف انطباق الطبائع الكلية المتعلقة للأحكام على الموضوعات الخارجية. وعليه فتكون قاعدة القبح أجنبية عن الشبهات الموضوعية، ولا يصح الاستدلال بها على جريان البراءة فيها، وهذا خلاف مرامه (قده). وثانيا: أن مقتضى قوله: (قبح المؤاخذة على ما لا طريق للمكلف إلى العلم به. إلخ) اختصاص البراءة بالشبهات التي لا طريق إلى رفعها، مع أن المدعى أعم من ذلك، لبنائهم على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية مطلقا وان أمكن إزالة الشبهة فيها، ولعله (قده) بقوله: (فليتأمل) أشار إلى بعض ما ذكرناه. 299
[1] ويشهد لما ذكرناه من التوجيه أمران: أحدهما: تصريحه الآتي بقوله: 305
(فلا يكون مجال هاهنا.) الدال على عدم كون قاعدة الدفع بيانا على الالزام المجهول. ثانيهما: كلامه في حاشية الرسائل عند الاشكال على الشيخ الأعظم 306
قال في حاشيته التالية لكلامه المتقدم في التوضيح ما لفظه: (وأن وجوب دفع الضرر المحتمل لا يحتاج إليه في رفع قبح المؤاخذة فيما إذا قام فيه احتمالها لولاه، ولا يجدي في قيامه فيما لم يقم لولاه، و لهذا يكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على هذه القاعدة). 307
لكن مراده بالورود في آخر كلامه ليس معناه المصطلح بقرينة عبارتيه المتقدمتين، وصريح كلامه في المتن، حيث إنه أسقط قاعدة الدفع عن البيانية بالكلية، وأنها لا تجدي في إبداء احتمال العقوبة فيما لم يتنجز الحكم بدليل آخر، فلعل التعبير به للمماشاة مع الشيخ الأعظم (قده) حيث صرح بورود هذه على تلك. ومنه يظهر أنه لا وجه للايراد عليه بأن مقتضى ظاهر كلامه هنا و تصريحه بالورود في الحاشية تمامية قاعدة الدفع في نفسها وأنها بيان، لكن ورود قاعدة القبح مانع من جريانها في الشبهة البدوية بعد الفحص، إذ الورود كالحكومة فرع تمامية الدليل المحكوم أو المورود، ولذا تنتهي النوبة إلى علاج المانع بتقديم الوارد والحاكم، و مع تماميته في نفسه يشكل جريان قاعدة القبح، لاستلزامه الدور أيضا، وتقريره كما في حاشية بعض المدققين أن يقال: ان جريان قاعدة قبح العقاب فرع موضوعها وهو عدم البيان، وهو موقوف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر، وعدم بيانيتها موقوف على عدم موضوعها، وعدم موضوعها موقوف على جريان قاعدة قبح العقاب الموقوفة على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر، فعدم بيانيتها أيضا موقوفة على عدم بيانيتها، فكما أن بيانيتها دورية كذلك عدمها. والوجه في عدم ورود الاشكال على كلام المصنف ما عرفته من عدم كون قاعدة الدفع بيانا بنظره حتى تصل النوبة إلى توهم توقف جريان كل منهما على الدور. 308
وكيف كان فالتحقيق في تمامية القاعدة وكونها مصححة للمؤاخذة على مخالفة التكليف الواقعي المجهول يستدعي النظر في موضوع كل منهما ومحموله، فموضوع قاعدة القبح (عدم البيان) ومحمولها قبح العقاب من المعاقب الحكيم. وموضوع الأخرى العقاب المحتمل، ومحمولها الوجوب، وبيانية قاعدة الدفع منوطة بالنظر في محتملات الوجوب، إذ على بعضها تصلح للبيانية، وعلى بعضها الاخر لا تصلح كما سيظهر، فنقول وبه نستعين: ان وجوب الدفع اما شرعي نفسي أو غيري أو طريقي، واما فطري، واما عقلي إرشادي. و الظاهر عدم كونه نفسيا، إذ ضابطه - وهو الوجوب المنبعث عن مصلحة في المتعلق يوجب استحقاق المثوبة على موافقته والعقوبة على مخالفته كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما - لا ينطبق عليه، إذ فيه أولا: أنه ليس احتمال التكليف من العناوين الموجبة لملاك ملزم يقتضي تشريع حكم إلزامي يوجب استحقاق العقوبة على مخالفته حتى يجب دفعها، وإلا لزم التصويب أو التسبيب. وثانيا: أنه بعد تسليمه لا يكون وجوب الدفع أيضا شرعيا نفسيا، لوقوعه حينئذ في سلسلة معلولات الاحكام، فيكون عقليا كحكمه بحسن الإطاعة وقبح المعصية، ولذا يحمل الامر بالإطاعة والنهي عن المعصية على الارشاد إلى ما يحكم به العقل ولا يحملان على الشرعي المولوي. وثالثا: أن غرض المستدل بقاعدة دفع الضرر المحتمل انما هو تنجيز الحكم الإلزامي الواقعي المجهول، ورفع قبح المؤاخذة على مخالفته، وليس غرضه إثبات استحقاق العقوبة بهذه القاعدة على مخالفة التكليف المحتمل بما هو 309
كذلك وان لم يكن في مورده إلزام واقعا حتى يقال: ان وجوب الدفع نفسي وان احتمله الشيخ (قده) في أخبار الاحتياط كما سيأتي إن شاء الله تعالى، بل استظهره هنا أيضا في عبارته التي نقلناها في التوضيح، فان دلالتها على إرادة الوجوب النفسي بقرينة قوله (قده): (فلو تمت عوقب على مخالفتها) في غاية الوضوح، كما وجه به أيضا في حاشية المحقق الآشتياني (قده) حيث قال: (لا معنى لها - أي للقاعدة - إلا بجعلها حكما ظاهريا وطلبا نفسيا) لكن الشيخ (قده) عدل عن الوجوب النفسي في الشبهة المحصورة إلى كونه حكما عقليا إرشاديا، هذا. وقد ظهر مما ذكرنا: أن قاعدة دفع الضرر المحتمل على تقدير الوجوب النفسي لا تصلح لتنجيز الواقع، لعدم ارتباطها به حينئذ، و انما هي قاعدة ظاهرية كما أفاده الشيخ (قده) وقد أشرنا آنفا إلى أن المستدل بها جعلها بيانا على الواقع ومنجزة له. فالمتحصل: أنه لا وجه لجعل وجوب دفع الضرر المحتمل شرعيا نفسيا. كما لا وجه لجعله وجوبا غيريا، إذ ليس هنا واجب نفسي يترشح منه وجوب غيري - بناء على وجوب المقدمة شرعا - على دفع الضرر حتى يصير واجبا مقدميا ويتوقف عليه امتثال الواجب النفسي حتى يجب دفع الضرر المحتمل مقدمة لامتثاله، بل الامر بالعكس، لتوقف نفي استحقاقه على امتثال التكليف الواصل. كما لا وجه لجعل وجوب الدفع طريقيا، حيث إن الوجوب الطريقي 310
- وهو المنشأ بداعي تنجيز الواقع والمنشأ لاستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف الواقعي في صورة الإصابة كما في التعبد بخبر الثقة - لا ينطبق على وجوب الدفع، إذ استحقاق العقوبة مفروض في موضوع القاعدة، فلو ترتب على وجوب الدفع لزم تنجز المنجز، وهو محال، لكونه من تحصيل الحاصل. ولزم أيضا استحقاق عقوبتين على مخالفة تكليف واحد، وهو محال على الحكيم. فما في بعض الكلمات من أن وجوب الدفع طريقيا لغو لا يخلو من غموض. فتلخص من جميع ما ذكرنا: أنه لا وجه لكون وجوب دفع الضرر المحتمل في قاعدته شرعيا مولويا بأنحائه الثلاثة من النفسي والغيري والطريقي. وحيث إن استحقاق العقوبة مفروض في موضوعها، فلا محالة تختص القاعدة بموردين: أحدهما: الحكم الواقعي الواصل إلى المكلف المنجز في حقه، كما في العلم الاجمالي بالنسبة إلى كل واحد من الأطراف. ثانيهما: الحكم الواقعي الذي هو في معرض الوصول كالشبهة البدوية قبل الفحص. وأما بعده فحيث انه لم يصل حكم المولى و خطابه بنحو من الأنحاء إلى المكلف، فلا حكم للعقل بمجرد احتمال وجود الملاك اللازم الاستيفاء بوجوب الامتثال، لعدم احتمال العقاب مع عدم إيجابه الاحتياط، إذ لو كان الغرض مهما بحيث لا يرضى المولى بتفويته لأوجبه. وأما الاستناد في لزوم رعاية الاحتمال إلى حق الطاعة الثابت للمولى الحقيقي على العبد، فغير موجه، إذ لم يثبت حق للمولى على العبد حتى بالنسبة إلى الغرض المحتمل مع بذل العبد وسعه في الفحص عما يدل عليه وعدم 311
الظفر به لو لم نقل باستقرار سيرة العقلا وديدنهم على تقبيح مؤاخذته له كما اعترف به شيخنا الأعظم في الاستشهاد المتقدم في التوضيح. وذلك واضح، فان مدار الإطاعة والعصيان بنظر هم انما هو التكليف الواصل لا وجوده الواقعي، لعدم ترتب الانبعاث والانزجار على الحكم غير الواصل، فلا ملازمة بين احتمالي التكليف والعقاب. فالمتحصل: أن احتمال التكليف بعد الفحص وعدم الظفر بدليل عليه ليس من مراتب وصوله كالعلم به أو قيام العلمي عليه حتى يكون مساوقا لاحتمال العقاب، فالجاهل القاصر معذور بمقتضى ارتكاز العقلا، ولو فرض لزوم رعاية التكليف المحتمل كان على الشارع بيانه مع بنائهم على عدم رعاية الاحتمال. وقد تحصل: أنه يدور الامر بين كون وجوب دفع الضرر المحتمل عقليا إرشاديا كما صرح به شيخنا الأعظم في ثاني تنبيهات الشبهة المحصورة بقوله: (لان حكم العقل بوجوب دفع الضرر بمعنى العقاب المحتمل بل المقطوع حكم إرشادي) وفطريا كما اختاره سيدنا الأستاذ قدس سره في المستمسك. وعلى كل منهما يختص مورد القاعدة بما أحرز موضوعها من الخارج كما عرفت ولذا لا توارد ولا تنافي بينها وبين قاعدة القبح أصلا، لعدم جريان كل منهما في مورد الاخر، فقاعدة الدفع تختص بما تنجز فيه التكليف أو أمكن تنجزه، ولا موضوع لها في الشبهة البدوية بعد الفحص، وقاعدة القبح تجري في هذه، ولا موضوع لها في أطراف العلم الاجمالي وفي البدوية قبل الفحص، لوجود البيان في الأول وإمكان الظفر به في الثاني. 312
ومنه ظهر أنه لا تعارض بين القاعدتين، فان كل واحدة منهما حكم عقلي عملي قطعي، ولا معنى للتعارض بين القطعيين، بل كل ما يتراءى منه التعارض فليس منه حقيقة بل أحدهما رافع لموضوع الاخر. نعم قد يناقش في كون الوجوب عقليا إرشاديا بما في حاشية بعض المدققين (قده) من قوله: (وأما كونها حكما عقليا عمليا، فحيث ان العاقلة لا بعث لها ولا زجر لها، بل شأنها محض التعقل كما مر تفصيله في مبحث الظن وغيره، ومنه تعرف أنه لا معنى لحكم العقل الارشادي، فان الارشادية في قبال المولوية من شؤون الامر، وإذ لا بعث ولا زجر فلا معنى لارشادية الحكم العقلي، فلا محالة ليس معنى الحكم العقلي الا إذعان العقل بقبح الاقدام على الضرر بملاك التحسين والتقبيح العقلائيين). أقول: المستفاد من كلامه (قده) اعتبار قيدين في الارشادية: أحدهما: كون الارشاد بالامر، والاخر كون المرشد هو الشارع. وان شئت فقل: ان الارشادية كالمولوية من وظائف الشارع وخصائصه، وان الامر ينقسم إلى المولوي والارشادي، فليس لغير الشارع الارشاد، كما أنه لا يكون الارشاد بغير الامر. وأنت خبير بما في كليهما، إذ في الأول أن الارشادية التي هي عبارة عن الاخبار عما في الشئ من النفع والضر والصلاح والفساد من الأمور العرفية التي لا تختص بلفظ خاص، بل تتحقق الارشادية بكل ما يحكي عن صلاح الشئ وفساده ولو كان فعلا أو كتابة، ولا تختص بصيغة الامر، بل الغالب في المبرز غيرها كإخبار الطبيب و غيره من أهل الخبرة بما في الأشياء من المنافع والمضار والمصالح والمفاسد. 313 مخالفته، فلا يكون مجال هاهنا (1) لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كي يتوهم أنها (2) تكون بيانا. كما أنه (3) مع احتماله لا حاجة (4) إلى
وفي الثاني: أن الثابت كونه من خصائص الشارع هو إعمال المولوية و السيادة، لأنه المولى الحقيقي المتصرف في النفوس، وأما الارشادية التي حقيقتها الهداية إلى المصالح والمفاسد، فلا وجه لاختصاصها بالشارع، بل كل من يرشد ويهدي إلى مصلحة شئ أو مفسدته يصدق عليه المرشد كما يصدق على دلالته عليهما عنوان الارشاد. فعليه يراد بحكم العقل إرشادا تحسين الاقدام أو تقبيحه على شئ لما أدركه فيه من الصلاح والفساد كما أفاده، وهذا مما لا يقبل الانكار. ونظير هذا الحكم العقلي ما يصفه الطبيب للمريض من المنافع و المضار التي تكون في الأغذية والأدوية. نعم في تسمية هذه الدلالة بالحكم مسامحة. والحاصل: أنه لا مانع من صحة حكم العقل إرشادا كما أفاده شيخنا الأعظم فالامر الارشادي هو البعث الانشائي أو الزجر كذلك بداعي الارشاد إلى الصلاح أو الفساد من دون أن يترتب على موافقته و مخالفته غير ما في نفس الفعل من الصلاح والفساد. 314 القاعدة، بل في صورة المصادفة استحق (1) العقوبة على المخالفة و لو (2) قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل. وأما (3) ضرر غير العقوبة، فهو وان كان محتملا، الا أن المتيقن
315 منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع (1) شرعا ولا عقلا، ضرورة (2) عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا (3) و جوازه شرعا (4). مع أن (5) احتمال الحرمة أو الوجوب
316 لا يلازم [1] احتمال المضرة وان كان ملازما لاحتمال المفسدة
[1] الأولى سوق العبارة هكذا: (لا يلازم احتمال المضرة أو المنفعة وان كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة، لوضوح إلخ). 317 أو ترك المصلحة، لوضوح (1) أن المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الاحكام (2)، وقد استقل العقل بحسن الافعال التي تكون ذات مصالح [المصالح] وقبح ما كان ذات مفاسد [المفاسد] ليست (3) براجعة إلى المنافع والمضار،
318 وكثيرا ما يكون (1) محتمل التكليف مأمون الضرر. نعم (2) ربما يكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا.
319 ان قلت (1):
320 نعم (1)، ولكن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما لا يؤمن [من] مفسدته، وأنه (2) كالاقدام على ما علم مفسدته، كما استدل به شيخ الطائفة قدس سره على أن الأشياء على الحظر أو الوقف. [1] قلت: استقلاله بذلك (3) ممنوع، والسند شهادة الوجدان
[1] استدلال شيخ الطائفة بهذا الحكم العقلي انما هو على الوقف لا عليه أو على الحظر، وقد تقدمت عبارته في بعض التعاليق، في صفحة 295، فراجع. 321 ومراجعة ديدن العقلا من أهل الملل والأديان، حيث إنهم لا يحترزون مما [عما] لا تؤمن مفسدته، ولا يعاملون معه (1) معاملة ما علم مفسدته، كيف (2) وقد أذن الشارع بالاقدام عليه، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح، فتأمل (3).
322 واحتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة بالأدلة الثلاثة (1). أما الكتاب، فبالآيات (2) الناهية عن القول بغير العلم، وعن الالقاء في التهلكة، و الامرة (3) بالتقوى.
323 والجواب: أن القول بالإباحة (1) شرعا وبالأمن من العقوبة
324 عقلا ليس قولا بغير علم، لما (1) دل على الإباحة من النقل (2) وعلى البراءة من حكم العقل (3)، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا، ولا فيه (4) مخالفة التقوي كما لا يخفى. وأما الاخبار، فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة معللا (5)
325 في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة
326 من الاخبار (1) الكثيرة الدالة عليه (2) مطابقة أو التزاما [1 [3
[1] التعبير بالالتزام لا يخلو من مسامحة، لان الدلالة الالتزامية المصطلحة هي دلالة اللفظ على الخارج اللازم عقلا أو عرفا، كدلالة الشمس على الضوء وهذا المعنى أجنبي عن الروايات الامرة بالكف والتثبت والرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، إذ لو أريد به الالتزام النفساني، ففيه أن التوقف في العمل ليس من لوازمه العقلية أو العرفية حتى تكون الدلالة عليه من الدلالة الالتزامية المصطلحة. ولو أريد به نفس التوقف في مقام العمل، ففيه: أنه حينئذ مرادف للوقوف، لا أنه لازم له، فتكون من الروايات الدالة عليه مطابقة لا التزاما كما في بعض الحواشي، فتأمل جيدا. 330 وبما (1) دل على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة.
331 والجواب: أنه (1) لا مهلكة في الشبهة البدوية مع
333 دلالة النقل (1) على الإباحة، وحكم العقل بالبراءة، كما عرفت (2). وما دل على (3) وجوب الاحتياط
334 لو سلم (1) وان كان واردا على حكم العقل، فإنه (2) كفى بيانا على
335 العقوبة على مخالفة التكليف المجهول. ولا يصغى إلى ما قيل (1): من (أن إيجاب الاحتياط ان كان
336 مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول، فهو قبيح (1). وان كان نفسيا فالعقاب على مخالفته الواقع (2) لا على مخالفة الواقع (3) و ذلك (4) لما عرفت
337 من أن إيجابه يكون طريقيا [1 [1
[1] هكذا أورد على كلام الشيخ الأعظم (قده) في حاشية الرسائل أيضا 338 وهو (1) عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة،
وأضاف هناك الاستشهاد بموارد ثلاثة من عبارات الرسائل تدل بالالتزام على أن الامر بالاحتياط طريقي أيضا عند الشيخ، فكان الأولى جعل احتمال الامر الطريقي أحد الاحتمالات في الجواب عن الاشكال، وعدم دوران الامر به بين النفسي والغيري، فراجع الحاشية. وكيف كان، ففي تصوير الامر الطريقي بالاحتياط إشكال، وقد جزم بعض المدققين (قده) بالمنع عنه وإثبات الوجوب النفسي له، ولا بأس بالتعرض له. أما المنع عن وجوبه الطريقي، فلما أفاده بقوله: (لكنك قد عرفت في مبحث جعل الطريق: أن الانشاء بهذا الداعي لا يخلو عن إشكال هو: أن الانشاء بأي داع كان هو مصداق ذلك الداعي بالإضافة إلى ما يرد عليه مفاد الهيئة، فالانشاء بداعي البعث إلى الصلاة مصداق حقيقة للبعث نحو الصلاة، وبداعي الامتحان مصداق للامتحان بالمادة التي تعلقت به الهيئة، وهكذا، ومن الواضح أن القابل للتنجز هو التكليف وللتنجيز هو الخبر أو أمارة أخرى أو اليقين السابق في الاستصحاب أو احتمال التكليف في باب الاحتياط، وما تعلق به مفاد الهيئة الموصوف بأنه تنجزي نفس مادة الاحتياط، فما هو قابل لتعلق البعث الانشائي به غير قابل للتنجز ولا للتنجيز، وما هو قابل للمنجزية والمتنجزية وهو الاحتمال والتكليف غير 339 كما هو (1) الحال في أوامر الطرق والامارات
قابل لتعلق البعث الانشائي به، فالايجاب بداعي تنجيز التكليف الواقعي في جميع الموارد غير معقول). وأما إثبات وجوبه المولوي النفسي، فلما أفاده بقوله: (فلا مناص من جعل الامر بالاحتياط هنا وجعل الامر بتصديق العادل في الاخبار لمن يريد تنجيز الواقع بهما من جعلهما نفسيين لا بمعنى كون الاحتياط بما هو، أو التصديق بما هو مطلوبا في حد ذاته، بل بنحو المعرفية للواجب الواقعي، فالغرض المترتب من فعل صلاة الجمعة يدعو إلى إيجاب صلاة الجمعة بعنوانها، ومع عدم وصوله بعنوانها إلى المكلف يدعو ذلك الغرض إلى إيجابها بعنوان آخر كعنوان تصديق العادل أو عنوان الاحتياط، فلا إيجاب حقيقي إلا الايجاب بالعنوان الواصل بلسان أنه الواقع، فوصوله حقيقة وصول الواقع عرضا وتنجز الواقع عرضا وهو إنشاء بداعي جعل الداعي منبعثا عن ذلك الغرض الواقعي الباعث على الايجاب الواقعي، ولذا يكون مقصورا على صورة موافقة الخبر ومصادفة الاحتمال، وعليه فظهور الامر بالاحتياط في معناه الحقيقي وهو الانشاء بداعي جعل الداعي محفوظ، ولا تصل النوبة إلى الارشاد إلا مع القرينة، ولا قرينة عليه في خصوص أخبار الاحتياط.) ومحصله: أن موضوع الحكم الشرعي يؤخذ تارة بما هو مطلوب نفسي 340
لقيام الملاك به، وأخرى بما هو معرف ومشير إلى ما هو الموضوع لبا وبحسب الواقع، فالأول كقوله: (صل الجمعة يومها) حيث إن موضوع الحكم صلاة الجمعة التي تقوم المصلحة بها، ويكون وجوبها نفسيا، لقيام الملاك بهذا العنوان. والثاني كقوله: (احتط لدينك) فان العنوان المأخوذ موضوعا معرف للأحكام الواقعية غير الواصلة إلى المكلف بعناوينها من وجوب الصلاة وحرمة شرب التتن و نحوهما، وحينئذ فمع إمكان إيصال الحكم بعنوانه إلى المكلف لتحصيل الغرض القائم به، فالامر واضح. ومع تعذر إيصاله كذلك فلا مانع من إيصاله بإيجاب الاحتياط المنبعث عن نفس الغرض الواقعي القائم بصلاة الجمعة، الداعي إلى تشريع وجوبها بذاتها، ويكون هذا الايجاب حافظا لمصلحة الواجب، ومانعا من الوقوع في مفسدة تركه. وعليه فمنشأ مطلوبية الاحتياط هو التحفظ على الواقع بعد تعذر إيصاله إلى المكلف، وهو معرف للتكاليف المجهولة، ولا منافاة بين وجوبه المولوي النفسي ومعرفيته، لتعلق الطلب به وانبعاث الامر به عن الملاكات النفس الامرية الكامنة في المتعلقات. وبالجملة: فليس الامر بالاحتياط منبعثا عن الخطاب الواقعي ومتمما لقصور محركيته، بل هو حكم مستقل في قبال الحكم الواقعي ناش من الغرض النفس الأمري، فهو متحد مع الحكم الواقعي رتبة وفي عرضه، وكلاهما معلولان لعلة ثالثة وهو الملاك. أقول: قد يختلج بالبال أن ما أفاده (قده) لا يخلو عن غموض، أما منع كون الامر بالاحتياط طريقيا، فيتوجه عليه أولا: أن التنجيز هو جعل الواقع بمثابة يترتب على مخالفته العقوبة، والظاهر أن المنجزية - و هي المصححية 341
لاستحقاق المؤاخذة على المخالفة - كالمعذرية - وهي المصححية للاعتذار - لم يتعلق بهما جعل شرعي، بل هما اعتباران عقليان ينتزعان مما يكشف ذاتا عن الواقع كالعلم أو عرضا كالطريق العلمي الكاشف عن الواقع بمعونة تتميم الكشف، فحكم العقل بالتنجيز منوط بموضوعه وهو البيان الواصل من قبل المولى، ومن المعلوم أن مفاد دليل اعتبار الامارة ليس جعل المنجز، بل إلغاء احتمال الخلاف ونحوه، فمدلول (صدق العادل) هو إيصال الواقع إلى المكلف بخبر الثقة المستلزم لكون الخبر منجزا له وقاطعا للعذر الجهلي، فمفاد أدلة الاحتياط أيضا جعل احتمال التكليف الإلزامي بعد الفحص بيانا شرعا على الواقع المحتمل ولو بعنوان آخر معرف له، كبيانية الاحتمال عقلا قبل الفحص. وعليه فما يظهر من كلماته (قده) في مواضع من تعلق الجعل الشرعي بنفس التنجيز لا يخلو من مسامحة. وثانيا: بعد تسليم إمكان جعل المنجز، وعدم اختصاص التنجيز بما يكشف عن الواقع ذاتا، أنه وان لم يتعلق الهيئة بما هو قابل للتنجيز مثل الخبر واليقين السابق في الاستصحاب والاحتمال في باب الاحتياط، لكنه يمكن استكشاف جعل المنجزية إنا من أدلة اعتبار الخبر والاستصحاب والاحتياط، فإنها تتوقف على اعتبار الشارع أولا وإبراز هذا الاعتبار ثانيا، وما دل عليه مطابقة أو التزاما كاف في إثبات المقصود، فان مثل قوله عليه السلام: (صدق العادل) أو (لا تنقض اليقين بالشك) أو (احتط) لو لم يكشف بالملازمة العرفية عن منجزية الخبر واليقين السابق والاحتمال لم يكن مصححا للمؤاخذة على مخالفة المؤدى واليقين السابق والاحتمال على تقدير مصادفة الواقع. 342
وعليه، فما أفاده بقوله (: فما هو قابل لتعلق البعث الانشائي به غير قابل للتنجز ولا للتنجيز وما هو قابل للمنجزية والمتنجزية وهو الاحتمال والتكليف غير قابل لتعلق البعث الانشائي به) وان كان متينا في نفسه، الا أنه لا سبيل إلى حصر الكاشف عن جعل المنجز في قابلية المادة لتعلق الطلب به، بل يكفي ما دل عليه كناية وبالملازمة كما اعترف هو (قده) بذلك في أول بحث الامارات بالنسبة إلى منجزية الامر بتصديق العادل، فليكن الامر بالاحتياط دالا أيضا بالملازمة على منجزية الاحتمال، فكما يكون قوله عليه السلام: (صدق العادل) إنشاء بداعي إيصال الواقع بخبر الثقة، فكذلك قوله عليه السلام: (احتط) إنشاء بداعي جعل الاحتمال بيانا على الواقع المجهول، فيكون منجزا. فالنتيجة: أن تنجيز الواقع بأوامر الاحتياط - كما في المتن - صحيح و معقول في نفسه، الا أن في تسميته بالامر الطريقي مسامحة ظاهرة، كما تقدم في بعض التعاليق. وأما ما أفاده (قده) من إثبات وجوب الاحتياط نفسيا، فلا يخلو أيضا من غموض، إذ فيه أولا: وجود القرينة الداخلية والخارجية على أن الامر به للارشاد، أما الداخلية فهي أمور: أحدها: قوله عليه السلام في أخباره: (احتط لدينك) و (خذ بالحائطة لدينك) ونحوهما، فإنها ظاهرة بل صريحة في أن الامر به انما هو بداعي الارشاد إلى حفظ الدين المراد به الاحكام الواقعية، فالباعث على الامر به ليس الا التحفظ عليها وعدم الابتلاء بمخالفتها الاحتمالية، فهي من جهة ظهورها في الارشاد لا تتفاوت مع أخبار الوقوف التي لا ريب في كون الامر به إرشادا إلى 343
التحرز عن العقوبة والمفسدة الواقعيتين. ثانيها: قوله عليه السلام: (أخوك دينك) حيث إن التنزيل لو كان بلحاظ الوجوب الشرعي لكان اللازم تنزيل الدين منزلة من تجب إطاعته شرعا كالأب ونحوه لا الأخ الذي ليس هو من حيث الاخوة واجب الإطاعة. ثالثها: قوله عليه السلام: (فاحتط لدينك بما شئت) بتقريب: أن المشية غير ملائمة لوجوب الاحتياط، وانما الملائم له (بما استطعت) بدل (بما شئت) فالمشية قرينة جلية على عدم إرادة الوجوب المولوي من الامر بالاحتياط. رابعها: قوله عليه السلام في المقبولة: (وهلك من حيث لا يعلم) ببيان أن الهلاكة ان كانت على مخالفة نفس الامر بالاحتياط كان اللازم أن يقال: (وهلك من حيث يعلم) إذ المفروض العلم بوجوب الاحتياط، ومن المعلوم قبح العقاب على المشتبه الذي لم يتنجز فيه التكليف كالشبهة البدوية بعد الفحص، فلا بد أن يراد ما تنجز فيه التكليف كالمقرونة و البدوية قبل الفحص، فتدبر. وأما القرينة الخارجية، فهي: أن الاحتياط مما لا ريب في كونه من مراتب الإطاعة، ومن المعلوم أن أوامر الإطاعة إرشادية لا مولوية، فكل ما صدر من من الشرع في مراتب الامتثال يحمل على الارشاد، فقوله (قده) في آخر كلامه: (ولا قرينة عليه في خصوص أخبار الاحتياط) لا يخلو من الغموض. وثانيا: أن فرض الامر المولوي به يستلزم أحد محذورين على سبيل منع الخلو، وهما تنجيز المنجز وإرادة المولوية والارشادية من الامر بالاحتياط في استعمال واحد، وذلك لان (الشبهة) المأخوذة موضوعا في أخبار الاحتياط تشمل إطلاقا أو تيقنا الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، وبناء على ما هو الحق 344
من منجزية العلم الاجمالي كالتفصيلي، فان قلنا بشمول أخبار الاحتياط - الدالة على وجوبه النفسي - للشبهة المقرونة فلازمه تنجيز المعلوم بالاجمال ثانيا المستلزم لاستحقاق عقوبتين على المخالفة، و من المسلم أن المنجز لا يتنجز. وان قلنا - فرارا عن هذا المحذور - بإخراج الشبهة المقرونة عن موضوع أخبار الاحتياط، فهو - مضافا إلى كونه إخراجا لما هو المتيقن من مواردها - مستلزم لجعل الامر بالاحتياط في الشبهة المقرونة والبدوية قبل الفحص إرشاديا وفي الشبهة البدوية بعد الفحص مولويا، ومن الواضح امتناع إرادتهما معا منه في استعمال واحد. ومما ذكرنا يظهر أن ما أفاده شيخنا الأعظم من دوران الامر بالاحتياط بين الارشاد والطلب المولوي المشترك بين الوجوب والندب بقوله (قده) في الجواب عن رواية الأمالي: (فبعدم دلالتها على الوجوب، فيحمل على الارشاد أو على الطلب المشترك بين الوجوب و الندب) لا يخلو من غموض، لما عرفت من أن أجلى أفراد الشبهة هي الشبهة المقرونة، فان التزمنا بوجوبه المولوي لزم محذور تنجيز المنجز الذي لا ريب في امتناعه. وان التزمنا باستحبابه المولوي لزم الترخيص في الارتكاب وقد استقل العقل بقبحه، فيكون الحكم بالاستحباب شرعا مناقضا لهذا الحكم العقلي، ومرجعه إلى وجوب الإطاعة وعدمه، وعليه فمع استحالة إرادة كل من الوجوب والندب لا مجال لدعوى الحمل على الطلب الجامع بينهما. فالمتحصل: أنه يتعين حمل ما دل على الاحتياط مطابقة كقوله: (احتط لدينك) أو التزاما - كأخبار الوقوف - على الارشاد، ولا مجال لدعوى الطلب 345 والأصول [1] العملية (1)، الا (2) أنها تعارض بما هو أخص و [أو] أظهر
النفسي لا الوجوبي ولا الاستحبابي، ولا الجامع بينهما. [1] الصواب أن يقال: (وبعض الأصول العملية) كما عبر به في عبارته المتقدمة التي نقلناها عن الحاشية، إذ الامر المولوي الطريقي على فرض تسليمه في الأصول العملية لا يتعلق إلا بالاستصحاب كما لا يخفى. كما أن عبارته في الحاشية (وبعض الأصول كالاستصحاب) لا تخلو أيضا عن المسامحة، لأنها توهم أن هناك أصلا آخر غير الاستصحاب متعلقا للامر المولوي الطريقي، مع أنه ليس كذلك، لانحصار ما يتعلق به الامر الطريقي من الأصول العملية في الاستصحاب، فحق العبارة أن تكون هكذا: (والاستصحاب من الأصول العملية). 346 ضرورة (1) أن ما دل على حلية المشتبه أخص (2)، بل هو (3) في الدلالة على الحلية نص، وما دل (4) على الاحتياط غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط. [1]
[1] لكن قد يرد عليه تارة بأن النسبة بين أخبار الاحتياط وبعض عمومات البراءة هي التباين، لا الأخص مطلقا ولا من وجه، وذلك لان النسبة تلاحظ بين مدلول كل من الدليلين المتعارضين لا ما يراد من اللفظ بعد ملاحظة القرائن 349
المرادية، ومن المعلوم أن موضوع كل من دليلي البراءة والاحتياط عام شامل للشبهة الموضوعية والحكمية مطلقا بدوية كانت أم مقرونة بالعلم الاجمالي، والبدوية مطلقا أيضا يعني قبل الفحص و بعده، لوضوح أن (ما لا يعلمون) (وما حجب) عام كعمومية (الشبهة) وتوهم عدم صدق الشبهة على البدوية قبل الفحص، لكونها في معرض الزوال بالفحص، فلا تشملها أدلة البراءة، فتختص بالشبهة بعد الفحص، فاسد، إذ لازمه خروجها عن دائرة أدلة الاحتياط أيضا، لوحدة الموضوع فيهما مع أنها مشمولة لها قطعا، إذ لا ريب في وجوب الاحتياط قبل الفحص عند الكل. و بالجملة: فالنسبة بين دليلي البراءة والاحتياط هي التباين. وأخرى بأن الأخصية لا تنفع في رفع التنافي في خصوص المقام، فان بعض أخبار البراءة وان كان أخص، ولكن أخبار الاحتياط آبية عن التخصيص كما سيأتي اعتراف المصنف به، فيتعين تقديم أخبار البراءة بمناط أظهريتها في حلية المشتبه. وتحقيق المقام يقتضي بسطا في الكلام، وملاحظة النسبة بين كل من أخبار البراءة والاحتياط بألسنتها المختلفة، فنقول وبه نستعين: أما حديث الرفع فان كان المراد به رفع التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر كما تقدم في كلام المصنف: (فهو مرفوع فعلا) فالتنافي بينه وبين أدلة الاحتياط كما تقدم في كلام المصنف: (فهو مرفوع فعلا) فالتنافي بينه وبين أدلة الاحتياط ظاهر، لاقتضائه عدم فعلية التكاليف الواقعية، واقتضاء تلك الأخبار فعليتها ووصولها إلى العبد بلسان جعل الاحتياط، وهو حجة قاطعة للعذر، ومن المعلوم أن رتبة النافي للفعلية والمثبت لها واحدة، فلا ورود ولا حكومة بينهما، وحينئذ 350
فان تم أظهرية حديث الرفع في الترخيص من ظهور الامر بالاحتياط في الوجوب قدم على دليل الاحتياط، وإلا فيتساقطان بالتعارض، ويحكم بالترخيص عقلا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. وان كان المراد جعل عدم التكليف الواقعي فعليا ظاهرا كما اختاره بعض المحققين (قده) بقوله: (نظرا إلى أن عدم فعلية التكليف بعدم المقتضي أو لوجود المانع غير مجعول، بل المجعول الذي له رفع و وضع شرعا هو الايجاب إنشاء، وعدمه إنشاء، فقوله عليه السلام: رفع ما لا يعلمون - بمنزلة: لا يجب ما لا يعلم وجوبه، ولا يحرم ما لا يعلم حرمته بنحو الجعل و الانشاء، فهو وارد على أخبار الاحتياط، لان موضوع أخبار الاحتياط هو التكليف المجهول ودليل الرفع دليل على عدمه الواقعي فعلا) فلا موضوع كي يصير فعليا بالذات أو بالعرض. لكن نقول: ان عدم فعلية التكليف المجهول وان لم يكن مجعولا، بل كان لوجود المانع وهو الجهل به. وعدم نهوض حجة عليه، لكنه يكفي في صحة نفي فعليته شرعا اقتضاؤه لا يجاب الاحتياط، فرفع فعليته حينئذ رفع لما يقتضيه الجهل به من إيجاب الاحتياط، فيبطل ورود مثل حديث الرفع على دليل الاحتياط، بل هما متعارضان كما أشرنا إليه آنفا. وكيف كان، فان أريد بقوله (قده): (فقوله عليه السلام: رفع ما لا يعلمون بمنزلة لا يجب ما لا يعلم وجوبه ولا يحرم ما لا يعلم حرمته) رفع الوجوب والحرمة واقعا وإخلاء لوح التشريع عنهما حال الجهل، فهو مساوق للتصويب الذي لا نقول به. وان أريد به رفعهما ظاهرا - وأن المرفوع لا مساس له بكرامة 351
الواقع - فلا ورود في البين، لاقتضاء الحديث عدم فعلية الالزام المجهول، واقتضاء دليل الاحتياط فعليته، فتكون النسبة تباينية، إذ المستفاد من أخبار الاحتياط ليس تكليفا نفسيا ظاهريا، بل هو لزوم التحفظ على الواقع، غايته وصوله حال الجهل بأخبار الاحتياط، ولا بد من رفع التعارض بأظهرية حديث الرفع في التوسعة والترخيص من ظهور أخبار الاحتياط في التضييق والمنع. وأما تقديم حديث الرفع بمناط أخصية موضوعه من موضوع أخبار الوقوف والاحتياط، فبيانه: أنه ان أريد بالموصول الالزام المجهول - كما عليه المصنف - فلا يعم الحديث الشبهة المقرونة، لكون الالزام فيها معلوما بناء على ما هو الحق من منجزية العلم الاجمالي كالتفصيلي، فيختص الحديث بالشبهات البدوية مطلقا. وان أريد به الفعل - كما اختاره بعض بلحاظ وحدة السياق - فيختص بالشبهة الموضوعية التي علم حكمها الكلي ولم يعلم عنوان هذا الفعل الخاص من أنه شرب الخل أو شرب الخمر مثلا، وهذا يجري في الشبهة البدوية والمقرونة، أما البدوية فلوضوح أن الشك في خمرية هذا المائع مستلزم للشك في صدق عنوان (شرب الخمر) عليه، وهو مرفوع. وأما المقرونة بالنسبة إلى بعض الأطراف، فلان انطباق المعلوم بالاجمال - وهو وجود الخمر - على كل واحد من الأطراف مشكوك، فهو مرفوع. وأما الشبهة الحكمية فإجراء البراءة فيها يحتاج إلى دليل آخر. وأما حديث الحل، فلا شبهة في كونه نصا في الترخيص، فيقدم على أخبار الاحتياط بلحاظ كون غاية الحل العلم بحرمة ذلك المشتبه، و هذه الغاية لا تتحقق 352
بالعلم بوجوب الاحتياط، لعدم اقتضائه تبدل الجهل بالواقع بالعلم به وصيرورته معلوما، فلا بد من التصرف في دليل الاحتياط بالحمل على الفضل أو على الطلب الجامع. فحديث الحل مقدم على كل حال إما لأخصية موضوعه وهو الشبهة التحريمية وإما لنصوصية محموله. الا أن الاستدلال به حينئذ غير مجد، أما في الشبهة الموضوعية فلأنها مجرى البراءة باتفاق الكل. وأما في الشبهة الحكمية التحريمية فلما عرفت من الاشكال في تعميم أخبار الحل لها، لقوة احتمال اختصاصها بالشبهات الموضوعية التي لا خلاف عند الكل في جريان البراءة فيها. وأما حديث السعة، فهو من ناحية الموضوع عام لا يختص بالشبهة التحريمية الموضوعية وان كان مورد السؤال في معتبرة السكوني ذلك، لكن جوابه عليه السلام ضرب لقاعدة كلية، فتشمل الوجوبية و التحريمية مطلقا، ومن ناحية المحمول وهو (سعة) لو لم يكن نصا في الترخيص، فلا أقل من كونه أظهر من أخبار الاحتياط الظاهرة في التضييق وهذا بلا فرق بين كون (ما) موصولة وظرفية، وان كان الوارد في حديث السفرة متعينا في الثاني، وحينئذ فالجهل بالشئ لا يتبدل إلا بالعلم به بالخصوص لا بمثل إيجاب الاحتياط كما ادعاه شيخنا الأعظم (قده). نعم قد يقال بتقدم أخبار الوقوف عليه لأخصية موضوعها وأظهريتها خصوصا بملاحظة التعليل. لكن فيه: أن أخبار الوقوف للارشاد - كما سيأتي التعرض له - فلا تلاحظ مع الحديث حتى يقال بتقدمها عليه. ولو سلم فنمنع أخصيتها منه، بل النسبة بينهما عموم من وجه، لان أخبار التوقف عامة للشبهة البدوية والمقرونة وخاصة 353
بالتحريمية، والحديث عام للشبهات الوجوبية والتحريمية وخاص بالبدوية، فلا يشمل المقرونة، لأنها مما يعلمون، فيقع التعارض في المجمع وهو الشبهة البدوية التحريمية سواء الحكمية والموضوعية، والتقديم للحديث لأظهريته في الترخيص. وأما حديث الحجب - فهو بعد تسليم دلالته على البراءة - ينفي اشتغال الذمة بما لا يعلم مطلقا، ويعارض الأخبار الدالة على اشتغال الذمة بالمجهول، ويتقدم عليها بالأظهرية، ولكن يختص بالشبهات الحكمية غير المقرونة، ولا يشمل المقرونة، للعلم بالتكليف الكلي فيها، كما لا يشمل الشبهة الموضوعية لظهور الموصول بقرينة اسناد الحجب إليه تعالى في خصوص الحكم الكلي. وأما مرسلة الصدوق فيتعين تقديمها على أخبار الاحتياط، لأخصية موضوعها وهو الشبهة التحريمية الناشئة من فقد النص، ولأظهرية محمولها - أعني مطلق - في الترخيص من ظهور الامر بالاحتياط في الوجوب. ومناقشة شيخنا الأعظم في أخصيته بقوله: (وما يبقى فان كان ظاهره الاختصاص بالشبهة الحكمية التحريمية مثل قوله عليه السلام: كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي، فيوجد في أدلة التوقف ما لا يكون أعم منه، فان ما ورد فيه نهي معارض بما دل على الإباحة غير داخل في هذا الخبر، ويشمله أخبار التوقف، فإذا وجب التوقف هنا وجب فيما لا نص فيه بالاجماع المركب فتأمل). مندفعة بما فيها أولا: - مضافا إلى منع الاجماع، لمعارضته للاجماع على التخيير في المتعارضين وعدم وجوب الوقوف، وكونه مدركيا على فرض تسليمه - 354 مع (1) أن هناك قرائن دالة
من كون مورد أخبار الوقوف - مع اختصاص بعضها بزمن الحضور - هو ما ورد فيه أمر ونهي لا نهي وإباحة كما هو مفروض كلام الشيخ. وثانيا: من معارضة أخبار الوقوف لاخبار التخيير، وذهاب جمع إليه. وثالثا: من أن النهي المأخوذ غاية للمطلق والحل هو النهي المعتبر، لأنه الصالح لرفع الحلية، فليس المراد وصول كل نهي ولو لم يكن معتبرا. وعليه فتعم المرسلة بما لها من الغاية حلية كل فعل محتمل الحرمة سواء لم يصل فيه نهي أصلا كشرب التتن أم ورد فيه خبر ضعيف غير صالح للاعتماد عليه، واسناد مؤداه إلى الشارع، أم ورد فيه خبر معتبر مبتلى بمعارض يدل على الإباحة أو حكم آخر، أم كان مجملا بحسب الهيئة أو المادة. والحاصل: أن المرسلة شاملة لجميع الشبهات البدوية التحريمية، لان غاية الحل والارسال فيها وصول النهي المعتبر بناء على كون الورود بمعنى الوصول. وفي خصوص ما ورد فيه خبران أحدهما حاظر والاخر مبيح، فان كان لأحدهما مزية أخذ به، وفي المتكافئين اما أن نقول بالتوقف أو بالتخيير أو بالتساقط لو لم نستفد حكم المتعارضين من الاخبار العلاجية أصلا، فان أخذنا بأخبار التخيير قيدنا إطلاق المرسلة في مورد التعارض، لوجود الحجة الرافعة لموضوع الأصل، ولا مانع من العمل بالخبر المبيح، فيكون مدلوله موافقا لمقتضى المرسلة وان كان الخبر متقدما عليه مرتبة، لأنه أمارة على الواقع رافع لموضوع الأصل، ولا مانع من العمل بالخبر المبيح، فيكون مدلوله موافقا لمقتضى المرسلة وان كان الخبر متقدما عليه مرتبة، لأنه أمارة على الواقع رافع لموضوع الأصل. وان لم نعمل بالاخبار العلاجية، فإطلاق المرسلة الشمولي لصورة التعارض باق على حاله. 355 على أنه (1)
356 للارشاد (1)،
359 فيختلف (1) إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه. ويؤيده [1 [2 أنه (3) لو لم يكن للارشاد لوجب [) 4 يوجب] تخصيصه لا محالة ببعض (5) الشبهات إجماعا، مع أنه (6) آب عن التخصيص قطعا.
[1] التعبير بالتأييد لا يخلو من مسامحة، لظهوره في أن الاباء عن التخصيص مؤيد لكون الامر به إرشاديا لا قرينة مستقلة، مع أنه من قرائن الارشاد لو لم يكن أقواها، فكان الأولى أن يقال: (ومنها - أي و من القرائن - أنه لو لم يكن للارشاد.). 360 كيف (1) لا يكون قوله: (قف عند الشبهة، فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) للارشاد (2)؟ مع أن المهلكة ظاهرة [ظاهر]
361 في العقوبة [1] ولا عقوبة في الشبهة البدوية (1) قبل إيجاب الوقوف والاحتياط، فكيف يعلل إيجابه (2) بأنه خير من الاقتحام في الهلكة؟
[1] لكن هذا الاستظهار - مع منافاته لما ذكره قبل أسطر بقوله: (فيختلف 362
إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه) إذ لا معنى للارشاد إلى الهلكة بمعنى العقوبة مع فرض استحباب التحرز عنها - ممنوع جدا، إذ التعليل المذكور ورد في مقبولة عمر بن حنظلة بعد الامر بالارجاء (حتى تلقى إمامك) ولا ريب في إرادة العقوبة منها هنا، و كذا في صحيحة جميل. ولكنه ورد في موثقة مسعدة بن زياد للاحتراز عن نكاح المرأة التي بلغه أن لها معه رضاعا محرما، ولا ريب في أن الهلكة فيها ليست بمعنى العقوبة قطعا، لأنها شبهة موضوعية بدوية قد أطبق المحدثون على كونها مجرى البراءة، وهو مورد لاستصحاب عدم الرضاع، مضافا إلى التصريح بحليته في رواية مسعدة بن صدقة، ولا معنى لكونها بمعنى العقوبة ثم تخصيصها بما دل على الترخيص فيها، لأنه من التخصيص بالمورد وإخراجه. ولعله لذا التزم شيخنا الأعظم (قده) بأن الامر به للارشاد المطلق، قال (قده) (فان كان ذلك الهلاك المحتمل من قبيل العقاب الأخروي كما لو كان التكليف متحققا فعلا في موارد الشبهة المحصورة و نحوها. ففي هذه المقامات ونحوها يكون التوقف لازما عقلا وشرعا من باب الارشاد. وان كان الهلاك المحتمل مفسدة أخرى غير العقاب سواء كانت دينية. أم دنيوية كالاحتراز عن أموال الظلمة، فمجرد احتماله لا يوجب العقاب على فعله لو فرض حرمته واقعا إلى أن قال: فخيرية الوقوف عند الشبهة من الاقتحام في الهلكة أعم من الرجحان المانع من النقيض ومن غير المانع منه، فهي قضية تستعمل في المقامين، وقد استعملها الأئمة كذلك.). 363
واستشهد للحمل على الارشاد بما تقدم في التوضيح من تبين حكمة طلب التوقف، وإباء السياق عن التخصيص، وتخصيص الأكثر، و عدم ترتب عقاب على مخالفة الامر بالتوقف غير ما يترتب على ارتكاب الشبهة أحيانا من الهلاك المحتمل. والكل لا يخلو عن غموض، أما الأول، فلان مجرد تبين حكمة الطلب لا يساوق الارشاد، كما يظهر من ملاحظة الحكم الشرعية لبعض الاحكام مثل عدم اختلاط المياه الذي علل به تشريع العدة ووجوب الصلاة لكونها ذكرا له تبارك وتعالى أو ناهية عن الفحشاء و المنكر، وغير ذلك، ولا أظن الالتزام بكون الامر للارشاد بمجرد بيان حكمته، بل هو لازم أعم وليس مساويا للارشادية. وكذا الحال في تعليل قاعدة التجاوز بأنه (حين يتوضأ أذكر منه حين يشك) فان قلت: فرق بين التعليل الوارد في أخبار الوقوف وبين ما ورد من حكمة وجوب الاعتداد، فان الأول كالصريح في الارشاد، بخلاف الثاني، فالمراد بتبين حكمة طلب التوقف هو وجود خصوصية في أخباره تقتضي حملها على الارشاد. قلت: نعم، لكنه يتم بناء على جعل الهلكة بمعنى العقوبة مطلقا كما عليه المصنف (قده) لا بناء على جعلها بمعنى أعم من العقوبة كما عليه الشيخ الأعظم حيث جعلها بمعنى العقوبة تارة وبمعنى المفسدة أخرى، وحينئذ فيشكل بما ذكرنا من أن ذكر الحكمة أعم من الارشادية. وأما الثاني، فلان التخصيص يرد على الشبهة في قوله عليه السلام: (وقفوا 364
عند الشبهة) القابلة له بلا إشكال، لا على التعليل الابي عنه، فان وجوب الاحتياط يستفاد من الامر الدال على مطلوبية التوقف عند كل شبهة، وما دل على الترخيص في الموضوعية صالح للتخصيص، وهو لا ينافي سياق التعليل، فان الوقوف عند كل شبهة خير من الاقتحام فيها، فكأنه قال: (الوقوف عند كل شبهة واجب الا الموضوعية التي ورد الترخيص فيها) ثم علل الامر به بما ذكر. ويشهد لعدم التنافي بين الامر به والترخيص موثقة مسعدة بن زياد، فإنه عليه السلام مع فرض جواز التزويج بالمرأة المرددة بين كونها أجنبية وأختا رضاعية علل رجحان التوقف بأنه خير من الاقتحام في الهلكة، فاعتراف شيخنا الأعظم بعدم كون الهلكة بمعنى خصوص المؤاخذة الأخروية يوجب النقض عليه بأن مجرد الترخيص لا ينافي سياق أخبار الوقوف، ولا يهدم عموم التعليل الجامع بين المانع من النقيض وغيره. وأما الثالث، فبالمنع من لزوم تخصيص الأكثر في القضايا الحقيقية، حيث إن موضوع الحكم فيها هو العنوان لا الافراد، فالمحذور مختص بالقضايا الخارجية كما إذا قال: (أكرم من في المسجد) فيما إذا كان (من في المسجد) عنوانا مشيرا ثم أخرج زيدا وعمرا و غيرهما من الافراد منه إلى أن يبقى واحد أو اثنان تحت العام. هذا. مضافا إلى أن التخصيص إذا كان بعنوان (ما ورد فيه ترخيص) فلا مورد للمحذور المتقدم، مع تصريح الشيخ في قاعدة لا ضرر بعدم قدحه، حيث قال: (وقد تقرر أن تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد جامع لافراد هي أكثر من الباقي، كما إذا قيل: أكرم الناس ودل دليل على اعتبار 365
العدالة خصوصا إذا كان المخصص مما يعلم به المخاطب حال الخطاب) فكأنه عليه السلام قال: (قف عند الشبهة إلا ما ورد الترخيص فيها) فان الخارج عنوان واحد وان كانت مصاديقه أكثر مما بقي. وأما الرابع، فلان عدم ترتب العقوبة على مخالفة الامر غير مساوق للارشاد، إذ الأوامر الطريقية أيضا كذلك مع أنها مولوية، فمخالفة خبر العادل مع فرض الإصابة للواقع لا تستتبع عقابين أحدهما على عصيان الواقع والثاني على عدم تصديق العادل عملا، بل يستحق عقوبة واحدة على التمرد عن الطلب النفسي في المؤدي، وعليه، فاستكشاف إرشادية أوامر الوقوف من عدم ترتب العقوبة على مخالفتها غير تام. كما أن ما أفاده الشيخ الأعظم (قده) من استحباب التحرز إذا كان غير العقاب - الشامل بإطلاقه للاضرار بالنفس - ينافي ما تقدم منه في رد كلام الحاجبي في أول أدلة اعتبار مطلق الظن بقوله: (ثم إن ما ذكرنا من ابتناء الكبرى على التحسين والتقبيح العقليين غير ظاهر، لان تحريم تعريض النفس للهلاك والمضار الدنيوية والأخروية مما دل عليه الكتاب والسنة مثل التعليل في آية النبأ، وقوله تعالى: لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.). فالحق في إثبات إرشادية أوامر الوقوف كأوامر الاحتياط أن يقال: ان تطبيق الهلكة في موثقة مسعدة بن زياد على خصوص المفسدة و عدم إرادة العقوبة منها قرينة على عدم كون الامر بالوقوف فيها للوجوب المولوي، لوضوح أن مورده مجرى الأصل المرخص، وعدم التزام أحد بوجوب التوقف فيه، فإرادة الوجوب المولوي منه توجب خروج مورد الموثقة عنه، واستهجان ذلك 366 لا يقال (1):
بديهي. وكذا الحال في الامر بالوقوف في المقبولة وصحيحة جميل مع كون المراد بالهلكة فيهما العقوبة، حيث إن الوجوب المولوي فيهما يوجب تنجز المتنجز، إذ التكليف في الشبهة المقرونة والبدوية قبل الفحص قد تنجز بمنجز سابق وهو العلم الاجمالي والاحتمال، فلا معنى لتنجزه ثانيا بوجوب التوقف مولويا. فالنتيجة: أنه لا بد من حمل أوامر التوقف على الارشاد، فلا تدل على الوجوب المولوي حتى تعارض أدلة البراءة وتصل النوبة إلى علاج التعارض. 367 نعم (1)، ولكنه يستكشف منه [) 2 عنه] على نحو الان (3) إيجاب الاحتياط من قبل (4) ليصح به (5) العقوبة على المخالفة. فإنه يقال: ان مجرد إيجابه (6) واقعا ما لم يعلم [1] لا يصحح
[1] هذا الجواب لا يدفع الاشكال، لان المستشكل لا ينكر قبح العقاب على المجهول وان كان ذلك إيجاب الاحتياط، وانما يدعي العلم إنا بوجوب الاحتياط الذي هو بيان على المجهول ورافع لقبح العقاب عليه، فدفع الاشكال منحصر بإنكار البرهان الآني في المقام كما يظهر من حاشيته على الرسائل. 369 العقوبة ولا يخرجها عن أنها (1) بلا بيان ولا برهان، فلا محيص (2) عن اختصاص مثله (3) بما يتنجز فيه المشتبه قبل الفحص مطلقا (4)، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، فتأمل جيدا.
371 وأما العقل، فلاستقلاله (1) بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته [1]
[1] لكن شيخنا الأعظم (قده) قرر هذا الدليل العقلي بوجه آخر يختلف عما في المتن، قال (قده): (وأما العقل فتقريره من وجهين: أحدهما: أنا نعلم إجمالا قبل مراجعة الأدلة الشرعية بمحرمات كثيرة يجب بمقتضى قوله تعالى: وما نهاكم عنه فانتهوا ونحوه الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب أو اليقين بعدم العقاب. إلخ). ومن المعلوم مغايرته لما في المتن من وجهين: الأول: افتراقهما في متعلق العلم الاجمالي، حيث إن شيخنا الأعظم (قده) جعل متعلق العلم الجمالي خصوص الشبهات التحريمية، و وجهه واضح، 372 حيث (1) عليم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه
لأنه عقد المطلب الأول من الشك في التكليف للبحث عن حكم الشبهة التحريمية، والمطلب الثاني منه للشبهة الوجوبية، والثالث للدوران بين المحذورين، فكان اللازم جعل المتعلق خصوص الشبهات التحريمية. هذا مضافا إلى أن أصحابنا المحدثين - الا القليل منهم - لم يلتزموا بالاحتياط في الشبهات الوجوبية، وعمدة النزاع معهم في بحث البراءة والاحتياط انما هو في الشبهات التحريمية الناشئة من فقد النص، فلا جدوى في إدراج الشبهة الوجوبية في محل النزاع. والمصنف (قده) جعل متعلق العلم الاجمالي مطلق التكاليف الالزامية لا خصوص الشبهات التحريمية. والوجه في هذا التعميم: أنه عقد فصلا واحدا للبحث عن البراءة والاحتياط وجعل الموضوع (ما لم تقم فيه حجة على التكليف) وهذا شامل للشبهات الموضوعية و الحكمية مطلقا من التحريمية والوجوبية سواء كان منشأ الشك في الحكم الكلي فقد النص أم إجماله أم تعارضه، ومن المعلوم أن إقامة الدليل على هذه الدعوى تستدعي تقرير الدليل العقلي بما يلتئم معها، فلذا عمم المتعلق لما يشتمل على الشبهة الوجوبية كما عممه صاحب الفصول أيضا، حيث قال: (أما الأول - أي دلالة العقل على الاحتياط - فللقطع بثبوت الاشتغال بالأحكام الشرعية، فيجب أن لا يحكم بالبراءة إلا بعد اليقين بها، ولا يقين إلا مع الاحتياط). ومما ذكرنا ظهر متانة تقرير شيخنا الأعظم، إذ لا جدوى في إدراج الشبهة الوجوبية في محل النزاع ثم دعوى انحلال العلم الاجمالي بالنسبة إليها بالظفر 373 وجوبه أو حرمته مما (1) لم يكن هناك حجة على حكمه
بالامارات القائمة عليها. الثاني: أن تقرير المصنف للدليل العقلي متمحض في بيان ما يقتضيه العقل ضرورة أن الكبرى - وهي تنجيز العلم الاجمالي ولزوم مراعاة الاحتياط في الأطراف استنادا إلى قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل - من المستقلات العقلية. بخلاف تقرير شيخنا الأعظم، لأنه استشهد على وجوب الانزجار عن المحرمات بالآية الشريفة. و للمناقشة فيه مجال، أما أولا، فلان قوله تعالى: (وما نهاكم عنه فانتهوا) شامل للنهي التنزيهي، إذ المكروهات منهياته تعالى أيضا كالمحرمات، ومقتضى الامر بالاجتناب عنها تركها وكف النفس عنها، وهذا مما لا يلتزم به أحد. ودعوى اختصاص وجوب الاجتناب بالمحرمات للانصراف أو غيره مجازفة. وأما ثانيا: فلان الامر بالانتهاء عن المحرمات ان كان مولويا لزم الخلف وصيرورة الدليل - المتكفل للكبرى - نقليا لا عقليا. وان كان إرشاديا - كما هو الحق - نظير الامر بالإطاعة كان المناسب أن يقال في تقرير دلالة العقل هكذا: (يجب بحكم العقل المرشد إليه أو المؤكد بقوله تعالى. إلخ) ففي تعبير الشيخ ب (يجب بمقتضى قوله تعالى) مسامحة ظاهرة، هكذا قيل. لكن هذا الاشكال - وان أورده غير واحد على كلام الشيخ الأعظم - مندفع بما تفطن له المحقق الهمداني في حاشية الرسائل بقوله: (وجه الحاجة إلى الاستدلال بالآية الشريفة في مثل المقام مع كون مضمونها من المستقلات العقلية دفع ما قد يتوهم: من عدم استقلال العقل بوجوب الاجتناب عما عدا ما علم 374 تفريغا (1) للذمة بعد اشتغالها، ولا خلاف (2) في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إلا من بعض الأصحاب (3).
حرمته تفصيلا، ولا يتمشى هذا النحو من التوهم في الآية الشريفة، حيث إن مفادها وجوب الاجتناب عن جميع المحرمات الواقعية، و بعد أن علم هذا الخطاب تفصيلا يجب الخروج عن عهدته بالانتهاء عن جميع ما نهى الله تعالى عنه في الواقع، لقاعدة الاشتغال). وحاصله: أن انتصار الشيخ للمحدثين بذكر هذه الآية في الدليل في محله، لان قوله تعالى: (وما نهاكم عنه) يشمل المحرمات المشتبهة أيضا، إذ مقتضى وضع الألفاظ للمعاني الواقعية وجوب الاجتناب عن المحرم الواقعي وان لم يكن معلوما فعلا. ولعل هذا المعنى أجنبي بزعم الأصولي عن حكم العقل، لاختصاص حكمه على زعمه بالمحرم الذي نهض الحجة المعتبرة عليه، فلا يشمل مورد النزاع وهو الشبهة الحكمية التحريمية، ولكن المحدث يدعي استقلال العقل بلزوم الاحتراز عن الشبهة، ويؤكد ذلك بالآية الشريفة بالتقريب المذكور. و عليه فانتصار الشيخ للمحدثين بذكر الآية الشريفة في محله. الا أنه يبقى على المحدثين التخلص عن إشكال التزامهم بالبراءة في الشبهة الموضوعية التحريمية، مع وجود احتمال النهي الواقعي فيها أيضا. 375 والجواب: أن العقل وان استقل بذلك (1)، الا أنه (2) إذا لم
376 ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، وقد (1) انحل ها هنا [1] فإنه (2) كما علم بوجود تكاليف إجمالا كذلك علم
[1] والوجه في الانحلال واضح، لوجود ضابطه - وهو عدم كون المعلوم إجمالا في العلم الاجمالي الصغير أقل عددا من المعلوم إجمالا في العلم الاجمالي الكبير - في المقام، إذ لو كان عدد المعلوم الاجمالي الكبير مائة حكم مثلا كان هذا العدد موجودا أيضا في العلم الاجمالي الصغير بحيث يحتمل انطباق المعلوم الاجمالي الكبير عليه، ولا يبقى معه علم إجمالي بحكم أصلا. وحيث انتهى الكلام إلى انحلال العلم الاجمالي فلا بأس بالتعرض أولا لكون هذا الانحلال في موارده حقيقيا أو حكميا، وثانيا لما يوجب الانحلال، فنقول وبه نستعين: إذا علم إجمالا بوجوب أحد شيئين كالقصر والاتمام مثلا في المسافة التلفيقية مع كون الذهاب أقل من أربعة فراسخ، ثم علم تفصيلا بوجوب أحدهما المعين كالقصر مثلا فلا إشكال ظاهرا في عدم وجوب الاحتياط بالجمع بينهما ولزوم العمل على مقتضى هذا العلم التفصيلي، انما الكلام في أن العلم الاجمالي المزبور هل ينحل حقيقة بمعنى تبدل الصورة العلمية الاجمالية بالعلم التفصيلي أم ينحل حكما بمعنى ارتفاع تنجز المعلوم إجمالا مع بقاء نفس الصورة على حالها؟ قد يقال: ان انحلاله حقيقي، ولعله إما للعلم الوجداني بوجوب فرد خاص والشك في وجوب غيره، نظير القطع باشتغال ذمته بعشرة دنانير مثلا والشك في اشتغالها بأزيد منها. 377
وإما للزوم اجتماع المثلين - أعني العلمين - حيث إن الطبيعة المهملة المعلومة إجمالا عين الطبيعة الخاصة المعلومة تفصيلا في الخارج و متحدة معها، واتحاد المعلومين يوجب اجتماع العلمين، وهو من اجتماع المثلين الممتنع كامتناع اجتماع الضدين. ولا يندفع هذا الاشكال بفرض أطراف الشبهة أكثر من اثنين، بأن يقال: انه بعد خروج المعلوم التفصيلي عن طرفيته للعلم الاجمالي يمكن قيامه بسائر الأطراف. وجه عدم الاندفاع: أنه بعد عزل ما يساوي المعلوم بالاجمال ينتفي العلم الاجمالي في سائر الأطراف، و إلا كان خلاف الفرض، هذا. وأنت خبير بما في كلا الوجهين، إذ في الأول: أن زوال العلم الاجمالي خلاف الوجدان الحاكم بوجود العلمين في مثل العلم بنجاسة الإناء الأبيض تفصيلا والعلم بنجاسة إناء زيد المردد بينه وبين والإناء الأحمر. وفي الثاني: أن الاتحاد المزبور مبني على تعلق العلم بالأمور الخارجية دون الصور الذهنية، إذ يتعدد الموضوع حينئذ، لمغايرة الصورة الحاكية عن المعلوم بالتفصيل للصورة الحاكية عن المعلوم بالاجمال، فموضوع كل واحد من العلمين غير موضوع الاخر، فلا يلزم محذور اجتماع المثلين. ويظهر مما ذكرنا: فساد قياس الانحلال بباب الأقل والأكثر، وذلك للعلم التفصيلي بوجوب الأقل من أول الامر، وكون الشك في وجوب الزائد عليه بدويا بشهادة عدم صدق القضية التعليقية المقومة للعلم الاجمالي عليه، إذ لا يصح أن يقال: (الواجب هو الأقل أو الأكثر) بحيث لو كان الواجب هو الأكثر لم يكن الأقل واجبا كما هو الحال في المتباينين، ضرورة أن الأقل واجب على 378
كل تقدير، ولو كان الواجب هو الأكثر، فالاجمال انما هو في حد القلة والكثرة مع العلم بوجوب ذات الأقل مطلقا. وعليه فالعلم الاجمالي في الأكثر مفقود حقيقة لا حكما، فقياس المقام بذلك فاسد جدا. فالنتيجة: أن العلم الاجمالي باق على حاله، فلا محالة يكون الانحلال حكميا - أي رافعا لتنجيزه - لا حقيقيا. تقريب الانحلال الحكمي: أن العلم الاجمالي كان منجزا مستقلا لمعلومه القابل للانطباق على كل واحد من طرفيه أو أطرافه على البدل، وبعد قيام منجز من علم أو علمي أو أصل في أحد طرفيه أو أطرافه خرج عن الاستقلال في التنجيز بالنسبة إلى هذا الطرف، لعدم قابلية تكليف واحد لتنجيزين، و لخروج هذا الطرف عن قابلية التنجز بالعلم الاجمالي مستقلا يخرج المعلوم بالاجمال - وهو الجامع أيضا - عن قابلية التنجزية، فلا محالة يسقط العلم الاجمالي عن التأثير، إذ معنى منجزيته هو كونه سببا مستقلا في تنجيز متعلقه، وهو غير معقول، لوضوح أن الجامع المطلق لا ينطبق على الطرف الخارج من أطراف العلم الاجمالي، لما عرفت من استحالة اجتماع تنجيزين على تكليف واحد، فلا يبقى إلا تأثير العلم الاجمالي على تقدير خاص وهو انطباق المعلوم الاجمالي على الطرف الآخر، وهو مشكوك من أول الامر، إذ لم يكن ذلك التقدير بالخصوص متعلقا للعلم، بل كان تعلق العلم به من جهة كونه أحد الأطراف التي كان المعلوم الاجمالي قابل الانطباق عليه، فالجامع المطلق الصالح للانطباق غير قابل للتنجز من ناحية العلم الاجمالي مستقلا، وما هو القابل للتنجز - أعني المعلوم المقيد بانطباقه على الطرف الآخر - غير معلوم من الأول، إذ المتنجز أولا بالعلم الاجمالي بالاستقلال هو المطلق القابل للانطباق على 379
كل واحد من الأطراف، وقد سقط ذلك عن التنجز وان كانت صورته الذهنية باقية لبقاء الشك في الطرف الآخر، وهذا هو المراد بالانحلال الحكمي، وعليه استقرت سيرة العقلا، إذ لا يعتنون بغير المعلوم تفصيلا من سائر أطراف العلم الاجمالي. وبعد وضوح معنى الانحلال يظهر أنه لا فرق في ذلك بين كون العلم التفصيلي والاجمالي حقيقيين كالعلم الاجمالي بنجاسة أحد الإناءين والعلم التفصيلي بنجاسة أحدهما، وبين كونهما تنزيليين كقيام بينة على نجاسة أحد الإناءين إجمالا وأخرى على نجاسة أحدهما المعين، وبين كونهما مختلفين كقيام بينة على نجاسة أحد الإناءين لا بعينه وعلم تفصيلي على نجاسة أحدهما بعينه. وبالجملة: فالمثبت للتكليف في طرف بعينه وان كان أصلا - كما إذا فرض أن أحد الإناءين اللذين علم إجمالا بوقوع قطرة دم في أحدهما مستصحب النجاسة يوجب انحلال العلم الاجمالي وسقوطه عن التأثير، فلا يجب الاجتناب عن الطرف الآخر. هذا إذا كان المثبت للتكليف في واحد معين من أطراف العلم الاجمالي - سواء كان علما أم علميا أم أصلا - مقارنا للعلم الاجمالي، وكذا إذا كان متقدما عليه، كما إذا قام علم وجداني أو بينة أو أصل على نجاسة إناء معين، ثم علم إجمالا بوقوع قطرة دم بول فيه أو في إناء آخر، فيحدث العلم الاجمالي غير مؤثر، لحدوثه في ظرف وجود منجز قبله، ويمتنع اجتماع منجزين على الطرف المعين الذي ثبت فيه التكليف. وإذا كان المثبت للتكليف في طرف معين متأخرا عن العلم الاجمالي، 380
فعلى القول بتنجز المعلوم بالاجمال بحدوث العلم إلى الأبد، فالعلم الاجمالي باق على تنجيزه، ولا يرفع العلم التفصيلي أثره. وعلى القول بإناطة تنجز المعلوم بالاجمال بوجود العلم في كل آن، لعدم كون حجيته تعبدية يجري عليهما حين حدوث العلم التفصيلي حكم التقارن، فيسقط العلم الاجمالي عن التنجيز، ويختص وجوب الاجتناب بالمعلوم تفصيلا، فلو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين، ثم علم تفصيلا بنجاسة أحدهما المعين لم يجب الاجتناب إلا عن ذلك المعين، إذ لا منجز لوجوب الاجتناب عن الطرف الآخر على تقدير نجاسته واقعا. ثم انه لا فرق في انحلال العلم الاجمالي حكما بالعلم التفصيلي بين اتفاق التكليفين المعلومين إجمالا وتفصيلا صنفا كالنجاسة، وبين اختلافهما كذلك كالنجاسة والغصبية، فإذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين وعلم بغصبية أحدهما المعين وجب الاجتناب عن المغصوب بترك الشرب والوضوء وسائر التصرفات المحرمة في مال الغير بدون اذنه، وجاز التصرف في الاناء الاخر بالشرب والوضوء، لان المدار في التنجز هو العلم بالتكليف الفعلي المفقود في الطرف الآخر المشكوك فيه. نعم يعتبر في الانحلال الحكمي أن لا يتعرض العلم التفصيلي لتعيين المعلوم بالاجمال، إذ لو كان متعرضا له كما إذا علم تفصيلا بأن النجس المعلوم إجمالا الصالح للانطباق على الاناء الأبيض والأحمر هو خصوص الأبيض، فلا إشكال في انحلال العلم الاجمالي حينئذ حقيقة بالعلم التفصيلي اللاحق، دون السابق والمقارن، لأنهما مانعان عن حصول العلم الاجمالي رأسا، فيشترط في الانحلال الحكمي قيام العلم التفصيلي على ثبوت الحكم في بعض الأطراف من دون 381
تعرض لتعيين المعلوم بالاجمال. هذا إذا كان العلمان حقيقيين. أما إذا كانا تنزيليين، كما إذا قامت بينة على نجاسة أحد الإناءين و أخرى على أن النجس هو الأبيض مثلا، أو كان الاجمالي حقيقيا و التفصيلي تنزيليا كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين وقامت بينة على أن النجس هو الاناء الأحمر، فدليل حجية البينة يجعل تعبدا موضوعها بدلا عن النجس المردد والثابت بالبينة أو العلم الاجمالي، لأنه مقتضى حكومته على دليل حجية البينة الأخرى. وعليه فلا يجب الاجتناب عن الاخر، فالعلم الاجمالي مع البينة وان كان باقيا، لكنه لا أثر له في وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر. وإذا كان الاجمالي تنزيليا والتفصيلي حقيقيا كما إذا قامت بينة على نجاسة أحدهما إجمالا، وعلم تفصيلا بأن النجس هو الاناء الأبيض مثلا، فلا مجال لحجية البينة حينئذ في وجوب الاجتناب عن الاخر، للعلم بعدم انطباق النجس المردد الثابت بالبينة عليه. فقد ظهر: أن الانحلال الحقيقي في موردين: أحدهما: أن يكون العلمان حقيقيين، والاخر أن يكون العلم الاجمالي الأول تنزيليا والثاني تفصيليا حقيقيا مع تعرض العلم التفصيلي لتعيين المعلوم إجمالا. كما ظهر أيضا أن جعل البدل في موردين: أحدهما: كون العلمين تنزيليين، والاخر كون الاجمالي حقيقيا والتفصيلي تنزيليا. والمراد بجعل البدل هو التصرف في ناحية الفراغ عما اشتغلت به الذمة باكتفاء الشارع بما جعله مصداقا للمعلوم بالاجمال وبدلا عنه في مقام الخروج عن عهدة التكليف، ومن المعلوم مغايرته للانحلال الذي هو عبارة عن منع تأثير العلم الاجمالي في تنجيز معلومه 382
وإشغال الذمة به. فتلخص مما ذكرناه أمران: الأول: أن الانحلال في جميع موارده حكمي إلا في العلم التفصيلي اللاحق المتعرض لتعيين المعلوم بالاجمال، دون العلم التفصيلي المقارن والسابق، لأنهما يمنعان عن حصول العلم الاجمالي. الثاني: أن جعل البدل غير الانحلال، لان الانحلال يمنع عن تنجيز العلم الاجمالي وتأثيره في معلومه المطلق القابل للانطباق على كل واحد من أطرافه، ويثبت التكليف في طرف معين، وجعل البدل هو جعل المفرغ عما اشتغلت به الذمة، فالانحلال في مقام إثبات التكليف، وجعل البدل في مقام إسقاطه بعد الفراغ عن ثبوته. ولا يختص جعل البدل بالتكاليف الثابتة بالعلم الاجمالي، بل يجري في التكاليف الثابتة بالعلم التفصيلي أيضا كموارد الأصول الجارية في وادي الفراغ كما لا يخفى. ثم انه بعد بيان بعض ما يتعلق بالانحلال يقع الكلام في تطبيقه على المقام فنقول وبه نستعين: لا ينبغي الاشكال في عدم تأثير العلم الاجمالي في تنجيز معلومه، بل هو منفي حقيقة بالالتفات إلى العلم بصدور روايات متضمنة لاحكام إلزامية بمقدار المعلوم بالاجمال، لانتفائه بعد عزل الروايات عن أطرافه حقيقة، بشهادة تبدل القضية المنفصلة المانعة الخلو اللازمة للعلم الاجمالي وتبدلها بقضيتين حمليتين إحداهما معلومة، والأخرى مشكوكة، إذ يصح أن يقال: التكاليف في الروايات معلومة وفي غيرها من الامارات والوقائع المشتبهة مشكوكة، ولا يصح أن يقال: التكاليف إما في الروايات و إما في غيرها، فلو كانت منتشرة في 383
الجميع لصدقت هذه القضية المنفصلة. نعم يقع الكلام في تقريب الانحلال مع اختلاف الأقوال في كيفية حجية الاخبار، فعلى القول الصحيح من حجيتها ببناء العقلا يتضح حال الانحلال، وأنه حقيقي ان كان لسان دليل اعتبارها تعيين الواقعيات في مؤدياتها كما هو ظاهر بعض الاخبار الارجاعية، مثل ما دل على أن (العمري وابنه عني يؤديان) بداهة أنه كالصريح في كون مؤدى خبره هو الواقع، وذلك لان المعلوم إجمالا وهي الاحكام الواقعية ينطبق حقيقة على الروايات الصادرة. وحكمي ان كان لسانه أن مؤدياتها أحكام إلهية، نظير العلم التفصيلي بثبوت الحكم لطرف معين من أطراف العلم الاجمالي من دون تعرض لتطبيق المعلوم بالاجمال عليه. وعلى القول بحجيتها تعبدا من باب تتميم الكشف أو وجوب العمل بها كما عن شيخنا الأعظم (قده) يكون الانحلال حكميا أيضا، لان الصورة العلمية الاجمالية باقية، غاية الامر أن بعض الأطراف تنجز بمنجز تعبدي، نظير قيام بينة على تعلق تكليف بطرف معين من أطراف العلم الاجمالي. وكذا الحال على القول بكون المجعول في الروايات هي المنجزية و المعذرية، وعلى القول بالسببية وكون مؤديات الامارات أحكاما فعلية ناشئة من قيام الامارات عليها الموجب لحدوث ملاكات فيها تستتبع أحكاما فعلية، لاشتراك هذين المسلكين في تنجز بعض أطراف العلم الاجمالي، وسقوط تأثيره في معلومه المطلق القابل للانطباق على جميع الأطراف. فتلخص مما ذكرنا: أن العلم الاجمالي ينحل بالظفر بالروايات المتكفلة للأحكام الالزامية بمقدار المعلوم بالاجمال من غير فرق في ذلك بين الأقوال في حجية 384 إجمالا [1] بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة (1) أو أزيد (2)،
الروايات إلا في كيفية الانحلال كما عرفت، فان قيام الامارات المعتبرة على الاحكام يكشف عن تنجز التكليف في بعض الأطراف من أول الامر قبل حصول العلم الاجمالي. بل يمكن إنكار العلم الاجمالي، ودعوى أن العلم بالأحكام انما نشأ عن الظفر بالامارات المعتبرة، فلا علم بها قبل العثور عليها حتى يبحث عن أصل انحلاله، أو كيفيته، فيسقط البحث عن العلم الاجمالي في المقام وانحلاله من أصله، فتأمل جيدا. [1] الأولى تبديله ب (تفصيلا) بقرينة تصريحه بذلك في موضعين من كلامه، أحدهما قوله: (إلى علم تفصيلي وشك بدوي) وثانيهما في عبارته الآتية في (ان قلت) مضافا إلى أنه صرح به في حاشية الرسائل مستشكلا على شيخنا الأعظم، بقوله: (الا إذا انقلب الاجمالي بالتفصيلي وأنطبق ما علم إجمالا بما علم تفصيلا) وهذا هو الصحيح، لان المدعى انحلال العلم الاجمالي إلى تفصيلي وشك بدوي بعد الظفر بالطرق والأصول المثبتة، لا انحلاله بالعلم الاجمالي بمؤديات الطرق والأصول، فإنه خارج عن مفروض كلامه وهو الانحلال إلى علم تفصيلي وشك بدوي، إذ لازمه وجود أمر آخر موجب لانحلال العلم الاجمالي بالمؤديات إلى أحكام معلومة تفصيلا. 385 وحينئذ (1) لا علم بتكاليف أخرى غير التكاليف الفعلية في موارد [1] [الموارد] المثبتة من (2) الطرق والأصول العملية. ان قلت (3):
[1] كان الأولى أن يقال: التكاليف الفعلية المثبتة بالطرق والأصول. إلخ. 386 نعم (1)، لكنه إذا لم يكن العلم بها (2) مسبوقا بالعلم بالتكاليف [ بالواجبات.]
[1] ثم إن الظاهر أن ما أورده المصنف هنا بقوله: (ان قلت) تعريض بكلام شيخنا الأعظم، فإنه بعد أن ذكر الانحلال من جهة احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على مؤديات الطرق، صرح بأنه لا فرق في الاقتصار على المؤديات بين العلم بها قبل العلم الاجمالي وبعده، قال (قده) بعد عبارته المتقدمة في ذيل الجواب عن الدليل العقلي: (سواء كان ذلك الدليل سابقا على العلم الاجمالي كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين تفصيلا فوقع قذرة في أحدهما المجهول، فإنه لا يجب الاجتناب عن الاخر، لان حرمة أحدهما معلومة تفصيلا، أم كان لا حقا كما في مثال الغنم المذكور، فان العلم الاجمالي غير ثابت بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبينة) وحاصله: أنه لا عبرة بالعلم الاجمالي بالتكليف بين أطراف محصورة مع العلم التفصيلي بالتكليف في بعض الأطراف، سواء كان العلم 387 قلت (1): انما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق
التفصيلي قبل الاجمالي أم بعده، والوجه في سقوطه عن التأثير هو: أن التنجيز حكم عقلي مترتب على موضوعه وهو العلم الاجمالي الواجد لشرائط التنجيز ومع ارتفاع نفس العلم الاجمالي وزواله عن صقع النفس لا معنى لبقاء حكمه وهو التنجيز. هذا وقد أورد عليه المصنف هنا وفي حاشية الرسائل بالمنع من إطلاق حكمه بسقوط العلم عن التأثير، واختصاصه بما إذا كان العلم التفصيلي بالتكليف في هذا الطرف الخاص أو الاضطرار إليه أو خروجه عن الابتلاء ونحو ذلك قبل العلم الاجمالي. وأما إذا كان بعده كما هو المفروض فالعلم الاجمالي - وهو تردد التكليف بين الأطراف على نحو القضية الحقيقية - وان لم يبق بنفسه، ولكن أثره وهو التنجز باق، فيجب مراعاة التكليف في سائر الأطراف، وعلل هذا الوجوب في حاشية الرسائل بقوله: (وذلك لان العلم الاجمالي بعد تأثيره في التنجز والاشتغال لا عبرة ببقائه وارتفاعه في لزوم تحصيل الفراغ اليقيني من ذاك التكليف ولذا لو فقد بعض الأطراف أو اضطر إليه أو خرج عن مورد الابتلاء كان باقيها على ما كان عليه من وجوب مراعاة جانب التكليف المحتمل فيه بطرو واحدها كما سيصرح به في الشبهة المحصورة. نعم لو كان طرو أحدها أو التكليف ببعضها قبل العلم الاجمالي لكان مانعا من أصل تأثيره). 388 حادثا [آخر) 1 (] وأما إذا لم يكن كذلك (2) بل مما ينطبق [انطبق] عليه ما علم أولا، فلا محالة قد انحل العلم الاجمالي إلى التفصيلي و الشك البدوي. ان قلت (3): انما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار
390 المعلوم بالاجمال ذلك (1) إذا كان قضية [1] قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته (2) فعلا.
[1] لا يخفى اختلال العبارة، والصواب اما حذف (قضية) بأن يقال: (إذا كان قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته) واما حذف (موجبا) بأن يقال: (إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف ثبوته فعلا) و الامر سهل بعد وضوح المطلب. ثم إن ظاهر العبارة تسليم المستشكل الانحلال بناء على كون مؤديات الطرق أحكاما واقعية فعلية كما هو مقتضى حجيتها بنحو السببية، وأن إشكال الانحلال مبني على حجيتها على نحو الطريقية. مع أنه ليس كذلك، لورود إشكال الانحلال على كلا المبنيين في حجية الطرق، ضرورة أنه يمكن مغايرة الاحكام المجعولة بسبب قيام الامارات للتكاليف الواقعية المعلومة أولا بالعلم الاجمالي، ومع إمكان المغايرة لا يحصل العلم الانطباق الذي هو مناط الانحلال، بل لا بد في إسقاط العلم الاجمالي الأولي عن الحجية - من دعوى بدلية مؤديات الطرق عن الاحكام الأولية، و تسمية البدل انحلالا مسامحة، فحجية الطرق تجعل مؤدياتها أبدالا عن الاحكام المعلومة إجمالا في مقام الفراغ، فتدبر. 391 وأما (1) بناء على أن قضية حجيته واعتباره شرعا ليس (2) إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا - وهو (3) تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه - فلا (4) انحلال لما علم بالاجمال أولا، كما لا يخفى. قلت (5): قضية الاعتبار على اختلاف ألسنة
392 أدلته (1) وان كانت [كان]
393 ذلك (1) على ما قويناه في البحث (2)، الا أن (3) نهوض الحجة على ما ينطبق [1] عليه المعلوم بالاجمال في (4) بعض الأطراف يكون عقلا
[1] الأولى أن يقال: (على ما يمكن أن ينطبق عليه المعلوم بالاجمال) حيث إن ظاهر قوله: (ينطبق) هو تسلم الانطباق، فالانحلال حينئذ يصير حقيقيا لا حكميا، وهو ينافي قوله: (يكون عقلا بحكم الانحلال). الا أن يقال: ان مراده (قده) هو إمكان الانطباق بقرينة قوله بعد ذلك: 394 بحكم الانحلال، وصرف (1) تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف،
(هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة.) حيث إن هذه العبارة كالصريح في أن مفروض البحث هو عدم العلم بانطباق المعلوم بالاجمال على مؤديات الامارات، لعدم العلم بكون التكاليف الواقعية المعلومة بالاجمال في موارد الطرق المثبتة للأحكام. أو يقال - وان كان بعيدا - ان مراده بقوله: (أن ينطبق) هو الانطباق من حيث العدد، فالانحلال الحكمي يناط بأمرين: أحدهما: توافق المعلوم إجمالا مع موارد الطرق عددا، والاخر إمكان انطباقه عليها، لاحتمال كون مواردها أحكاما واقعية، إذ مع العلم بكونها أحكاما كذلك يكون الانحلال حقيقيا لا حكميا كما لا يخفى. 395 والعذر (1) عما إذا كان في سائر الأطراف، مثلا (2) إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الإناءين، وقامت البينة على أن هذا إناؤه [1] فلا ينبغي الشك في أنه (3) كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الاخر، ولولا ذلك (4) لما كان
[1] ولا يخفى مغايرة المثال للممثل له، ضرورة أن الطرق والأصول المثبتة لا تتعرض للمعلوم بالاجمال أصلا، ولا تعينه في مؤدياتها و مواردها، وانما تثبت الواقع من غير نظر إلى انطباق المعلوم بالاجمال عليها وعدم انطباقه - كما في مثالنا المتقدم - حيث لم تشهد البينة بأن الاناء المعلوم إجمالا خمريته هو هذا الأبيض، وانما شهدت بأن هذا الاناء الأبيض خمر. وهذا بخلاف مثال المتن، فإنه فرض فيه تعيين البينة الشاهدة للمعلوم بالاجمال، وأن إناء زيد المعلوم حرمته إجمالا هو هذا الاناء المعين. الا أن يقال بانطباق المعلوم بالاجمال على مؤديات الطرق انطباقا قهريا، إذ لا ميز له في نظر العالم إلا كونه واقعيا. 396 يجدي القول بأن قضية اعتبار الامارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية، ضرورة (1) أنها تكون كذلك بسبب حادث وهو كونها
397 مؤديات الامارات الشرعية (1). هذا (2) إذا لم يعلم ثبوت [بثبوت] التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار (3) المعلوم بالاجمال،
398 والا (1) فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه (2) بموارد تلك الطرق بلا إشكال كما لا يخفى. وربما استدل بما قيل: من استقلال (3) العقل بالحظر في الافعال
399 غير الضرورية قبل (1) الشرع، ولا أقل من الوقف وعدم (2) استقلاله لا به ولا بالإباحة، ولم يثبت (3) شرعا إباحة ما اشتبه حرمته،
402 فان (1) ما دل على الإباحة معارض بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط. وفيه أولا (2): أنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف (3) و الاشكال، وإلا لصح (4) الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال (5) على الإباحة.
403 وثانيا (1): أنه تثبت الإباحة شرعا، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط للمعارضة لما دل (2) عليها. وثالثا (3): أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة للقول [1]
[1] الأولى حذف اللام، لأنه مفعول (يستلزم) ولا يحتاج الفعل في عمله إلى لام التقوية. 404 بالاحتياط في هذه المسألة، لاحتمال (1) أن يقال معه بالبراءة، لقاعدة (2) قبح العقاب بلا بيان. [1]
[1] الحق أن يقال: انه لا وجه لهذا الاستدلال أصلا بعد أجنبية كل واحدة من المسألتين عن الأخرى، واختلافهما من وجوه: الأول: من ناحية الموضوع، حيث إن الموضوع في مسألة الحظر و الإباحة هو ذات الفعل مع الغض عن تشريع حكم له مما يستفاد من الأدلة الاجتهادية، والموضوع في مسألة البراءة والاشتغال هو الفعل بلحاظ الشك في حكمه. وبعبارة أخرى: المبحوث عنه في مسألة الحظر والإباحة هو الحكم العقلي من دون نظر إلى الحكم الشرعي، وفي مسألة البراءة و الاحتياط هو الحكم الظاهري المترتب على الشك في الحكم الواقعي، فيمكن للقائل بالحظر في تلك المسألة اختيار الإباحة في مسألة البراءة والاحتياط وبالعكس، فلا تلازم بين المسألتين، ولا وجه للاستدلال بإحداهما على الأخرى. 405
الثاني: من ناحية الملاك، حيث إن ملاك الحظر عقلا في مسألة الحظر والإباحة هو أن العبد بما أنه مملوك إذا تصرف فيما لم يأذن له مالكه خرج بذلك عن رسوم العبودية وارتكب قبيحا عقلا، وملاك الإباحة فيها أن تصرف العبد فيما لم يمنع عنه المولى - من حيث كونه مالكا - ليس خروجا عن زي العبودية حتى يحكم العقل بقبحه و حسن مؤاخذته، فليس ملاك الإباحة عدم وصول التكليف، إذ المفروض عدم لحاظ التكليف بل الملحوظ عدمه. وملاك البراءة عدم تنجز التكليف الواقعي بعدم وصوله إلى المكلف، وملاك الاحتياط تنجزه باحتماله أو بإيجاب الاحتياط شرعا، فالملحوظ في مسألة البراءة والاحتياط تنجز التكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته و عدم تنجزه المانع عن استحقاق العقوبة على المخالفة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. الثالث: من ناحية الأثر، حيث إن الحظر في مسألة الحظر والإباحة لما كان لأجل الخروج عن زي العبودية، إذ المفروض عدم الإذن من المالك في التصرف في ملكه أوجب ذلك استحقاق العقوبة على كل حال، بخلاف الاحتياط في مسألة البراءة والاحتياط، فان استحقاقها على الفعل فيها انما هو من جهة تنجز التكليف الواقعي باحتماله، فالاستحقاق يدور مدار مصادفة الاحتمال للواقع، فلا استحقاق مع عدمها. وأما ما قيل: (من الفرق بينهما بكون مسألة الحظر والإباحة ناظرة إلى حكم الأشياء قبل الشرع كما في المتن وغيره، ومسألة البراءة والاحتياط ناظرة إلى حكم الأشياء بعده) ففيه: أن القبلية الزمانية مفقودة هنا، لعدم خلو زمان عن 406 وما قيل (1) من (أن الاقدام على ما لا تؤمن مفسدته كالاقدام على
التشريع. وكذا سائر أقسام القبلية، فان شيئا منها من الطبعي والرتبي و العلي والشرفي وغيرها لا يناسب المقام، فلعل المراد حكم العقل في مسألة الحظر والإباحة مع الغض عن الشرع وان كان خلاف الظاهر. وكيف كان فالمسألتان متغايرتان موضوعا وملاكا وأثرا ولا تتحدان، فلا يغني البحث في إحداهما عن البحث في الأخرى. مضافا إلى أن مسألة الحظر والإباحة من المسائل الخلافية فلا يصح الاستدلال بها على البراءة كما لا يخفى. 407 ما تعلم فيه المفسدة) ممنوع (1) ولو قيل (2) بوجوب دفع الضرر المحتمل، فان (3) المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا، ضرورة (4) أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الاحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر، والمفسدة فيما فيه المنفعة، واحتمال (5) أن يكون في المشتبه ضرر
408 ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا. مع أن (1) الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا، بل يجب ارتكابه (2) أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز
409 عن ضرره مع القطع به فضلا عن احتماله. [1]
[1] ولا يخفى ما في هذه العبارة من التعقيد وكثرة الضمائر مع اختلاف مراجعها وعدم وجود بعضها في العبارة وخلو صلة الموصول في (مما) عن العائد، فالأولى سوق العبارة هكذا: (بل قد يجب ارتكابه - مع القطع به فضلا عن احتماله - إذا كان ما يترتب عليه أهم في نظر الشارع مما يترتب على الاحتراز عنه). 410 بقي أمور مهمة لا بأس بالإشارة إليها: الأول (1) : [1] أنه انما تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما
[1] لا يخفى أنه لما كان أكثر ما أفاده المصنف هنا ناظرا إلى ما تعرض له شيخنا الأعظم، فينبغي أولا التعرض لبعض كلماته، ثم توضيح المتن، فنقول وبه نستعين: انه (قده) ذكر اشتراط جريان أصالة البراءة بما إذا لم يكن أصل موضوعي حاكم عليها في موضعين من بحث البراءة ثم فرع على الاشتراط 411
المذكور عدم جريان أصالة الحل في لحم الحيوان المشكوك قابليته للتذكية لحكومة أصالة عدم قابليته للتذكية على أصالة البراءة و غيرها من الأصول الفاقدة لجهة الاحراز. قال في خامس تنبيهات الشبهة الحكمية التحريمية: (ان أصالة الإباحة في مشتبه الحكم انما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليها، فلو شك في حل أكل حيوان مع العلم بقبوله التذكية جرى أصالة الحل، و ان شك فيه من جهة الشك في قبوله للتذكية فالحكم الحرمة، لأصالة عدم التذكية). وقال في أول تنبيهات الشبهة الموضوعية التحريمية: (ان محل الكلام في الشبهة الموضوعية المحكومة بالإباحة ما إذا لم يكن أصل موضوعي يقضي بالحرمة. إلى أن قال: ومن قبيل ما لا يجري فيه أصالة الإباحة اللحم المردد بين المذكى والميتة، فان أصالة عدم التذكية المقتضية للحرمة والنجاسة حاكمة على أصالتي الإباحة و الطهارة). وتعرض لبعض ما يرتبط بأصالة عدم التذكية في موضعين آخرين من بحث الاستصحاب. الأول: في استصحاب الكلي، فإنه - بعد نقل رد الفاضل التوني تمسك المشهور باستصحاب عدم التذكية لاثبات نجاسة الجلد المطروح بقوله: (. فعدم المذبوحية لازم أعم لموجب النجاسة. إلخ) - قال (. أقول: ولقد أجاد فيما أفاد من عدم جواز الاستصحاب في المثال المذكور و نظيره، الا أن نظر المشهور في تمسكهم على النجاسة إلى أن النجاسة انما رتبت في الشرع على مجرد عدم التذكية) إلى أن قال: (و الحاصل أن التذكية 412
سبب للحل والطهارة فكلما شك فيه أو في مدخلية شئ فيه فأصالة عدم تحقق السبب الشرعي حاكمة على أصالة الحل والطهارة) إلى آخر ما قال، فراجع. الثاني: في تعارض الاستصحابين عند بيان تقدم الأصل السببي على المسببي، حيث تعرض (قده) لمحكي كلام العلامة في بعض كتبه: (الحكم بطهارة الماء القليل الواقع فيه صيد مرمي لم يعلم استناد موته إلى الرمي) ثم رده بقوله: (أنه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة التي منها انفعال الماء الملاقي له). هذا ما ظفرنا عليه من كلمات شيخنا الأعظم حول أصالة عدم التذكية، وأشرنا إلى مواضعها تسهيلا للطالب، ولعل المتتبع يقف على تعرضه له في موارد أخرى. وكيف كان، فلا بد قبل بيان صور المسألة وما يجري فيه استصحاب عدم التذكية وما لا يجري فيه من توضيح أمرين: أحدهما في معنى الأصل الموضوعي في المقام كما في المتن وبعض عبارات الشيخ الأعظم. ثانيهما: في أن تقدم أصالة عدم التذكية على أصالة البراءة والإباحة و الطهارة هل هو بالورود كما في المتن، أم بالحكومة كما عبر بها شيخنا الأعظم (قده)، فنقول: أما الامر الأول، فتقريبه: أن الأصل الموضوعي يطلق بحسب الاصطلاح على الأصل الجاري في الموضوع لاحراز حكمه كاستصحاب خمرية مائع شك في انقلابه خلا، فإنه رافع لموضوع أصالة الحل فيه، وكاستصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير العنبي المغلي إذا شك في ذهابهما، وكاستصحاب 413
عدالة زيد لاحراز الاحكام المترتبة عليها من جواز الاقتداء به، ونفوذ شهادته وغيرهما. وفي قباله الأصل الجاري في نفس الحكم الشرعي كاستصحاب حرمة مباشرة الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال، وكاستصحاب نجاسة الماء المتغير الزائل تغيره من قبل نفسه، واستصحاب نجاسة الثوب المعلوم نجاسته سابقا، وغير ذلك. ولا ريب في تقدم رتبة الأصل الموضوعي بهذا المعنى على الأصل الحكمي، لتقدم الموضوع على الحكم رتبة، حيث إنه بالنسبة إلى الحكم كالعلة بالنسبة إلى المعلول، فلا يجري الأصل في الحكم مع جريانه في الموضوع سواء كان الأصلان بحسب المفاد متنافيين كما إذا اقتضى الأصل الموضوعي حرمة شئ والأصل الحكمي إباحته كما تقدم من مثال استصحاب خمرية المائع المشكوك انقلابه خلا المقتضي لحرمته وأصالة الحل المقتضية لحلية شربه، أم متوافقين كما في استصحاب عدالة زيد واستصحاب جواز تقليده. والوجه في تقديم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي هو تسبب الشك في الحكم عن الشك في الموضوع، لأن الشك في الموضوع أوجب الشك في الحكم، فالأصل الموضوعي لكونه منقحا للموضوع يرفع الشك عن حكمه، ومعه لا يبقى مجال للأصل الحكمي كما هو الحال في كل أصل سببي ومسببي. وهذا المعنى الخاص المصطلح من الأصل الموضوعي ليس مرادهم في المقام، بل المراد به هنا ما هو أعم منه، فكل أصل تنزيلي وان كان حكميا يقدم على أصالة البراءة كما يشهد بذلك ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) في مقام التفريع على الشرط المذكور أعني عدم وجود أصل حاكم على أصالة البراءة بقوله: (فمثل 414 فيما لم يكن هناك أصل
المرأة المترددة بين الزوجة والأجنبية خارج عن محل الكلام، لان أصالة عدم علاقة الزوجية المقتضية للحرمة، بل استصحاب الحرمة حاكمة على أصالة الإباحة). والوجه في هذا التعميم هو: أن أصالة الإباحة من الأصول غير التنزيلية، وكل أصل تنزيلي وان كان حكميا يقدم على الأصل غير التنزيلي على ما سيأتي في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى. وأما الامر الثاني، فقد جعل شيخنا الأعظم (قده) الوجه في تقدم أصالة عدم التذكية على أصالة الإباحة والحل هو الحكومة، ولكن المصنف (قده) اختار ورود استصحاب الحكم على البراءة العقلية التي هي مقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والبرأة الشرعية التي هي مقتضى حديث الرفع ونحوه. أما وروده على البراءة العقلية فواضح، لان موضوعها عدم البيان العقلي والشرعي على الحكم الواقعي والظاهري، فمع العلم بالوظيفة بأحد الطرق ولو بالاستصحاب لا يبقي مورد للقاعدة. وأما وروده على البراءة الشرعية، فلان مشكوك الحكم إذا جرى فيه الاستصحاب للعلم بحالته السابقة صار معلوم الحكم بعنوان كونه مشكوك البقاء، ومعه لا مجال لجريان أصالة البراءة فيه، لان موضوعها الحكم المجهول من جميع الجهات يعني حدوثا وبقاء، و من الواضح أن الاستصحاب يرفع الشك - الذي هو موضوع البراءة - بقاء ويجعل الحكم معلوما كما كان في السابق. وعليه فتعبير المصنف بالورود هنا لا يخلو من تعريض بكلام شيخنا الأعظم حيث جعل الاستصحاب حاكما على أصالة الحل ونحوها. وانتظر لتفصيل الكلام في خاتمة الاستصحاب إن شاء الله تعالى. 415 موضوعي [1 [1 مطلقا ولو (2) كان موافقا لها، فإنه (3) معه لا مجال لها أصلا، لوروده عليها كما يأتي تحقيقه (4)، فلا تجري (5)
[1] لعل وجه التعبير بالأصل الموضوعي في المتن وفي كلام شيخنا الأعظم هو عدم التسالم على جريان الاستصحاب في الاحكام و وقوع الخلاف فيه، أو إرادة الأصل التنزيلي من الموضوعي كما عن المحقق النائيني (قده) 416 مثلا (1) أصالة الإباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله
لكنه بعيد، وأبعد منه احتمال كون التعبير بالموضوعي لأجل رافعية الأصل التنزيلي لموضوع البراءة، وبشاعته غنية عن البيان، إذ ليس مؤدى نفس الأصل موضوعا حتى يتصف بالموضوعية، ورافعيته لموضوع أصل آخر وهو المحكوم لا تصحح توصيفه بالموضوعية. 417 التذكية (1)، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية،
418 فأصالة عدم التذكية تدرجه [) 1 تدرجها] فيما لم يذك، وهو (2) حرام إجماعا [1] كما إذا مات حتف أنفه، فلا حاجة (3) إلى إثبات
[1] بل هو مقتضى مفهوم قوله تعالى: (الا ما ذكيتم) ويدل عليه أيضا معتبرة أبي بكر الحضرمي، قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن صيد البزاة والصقورة والكلب والفهد، فقال: لا تأكل صيد شئ من هذه إلا ما ذكيتموه إلا الكلب المكلب) لدلالة مفهوم (الا ما ذكيتموه) على حرمة أكل ما لم يذك بالمباشرة أو بإرسال الكلب المعلم، ونحوها كثير من روايات الباب، وفيها ما هي معتبرة أيضا، فراجع. 420 أن الميتة تعم غير المذكى
421 شرعا (1)، ضرورة (2) كفاية كونه (3) مثله حكما، وذلك (4) بأن التذكية انما هي عبارة عن فري الأوداج
422 الأربعة (1) مع سائر شرائطها عن خصوصية في الحيوان التي [1 [2 بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية، ومع الشك في تلك الخصوصية، فالأصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري
[1] الظاهر زيادتها، لتمامية المعنى بدونها، وان فرض بقاؤها فاللازم تعريف (خصوصية) لتطابق الصفة موصوفها. وحق العبارة أن تكون هكذا (عن خصوصية في الحيوان بها يؤثر فيه الطهارة وحدها. إلخ). 423 بسائر شرائطها (1) كما لا يخفى. نعم (2) لو علم بقبوله التذكية وشك في الحلية فأصالة الإباحة
424 فيه محكمة، فإنه حينئذ (1) انما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام، ولا أصل فيه الا أصالة الإباحة [1] كسائر ما شك (2) في أنه من الحلال أو الحرام.
[1] الا أن يقال: ان هنا أصلا حاكما على أصالة الإباحة وهو استصحاب حرمته قبل التذكية إما لحرمة أكل الحيوان ذاتا أو عرضا لعدم التذكية، ومن المعلوم حكومة هذا الاستصحاب على أصالة الإباحة، فيحكم في هذا الفرض بطهارة الحيوان وحرمة لحمه كما قيل. ولا يقاس المقام بمثل شرب التتن مما شك في حكمه الكلي، لانحصار الأصل فيه بأصالة الإباحة، وعدم أصل حاكم عليه بخلاف المقام كما عرفت. اللهم الا أن يدعى جريان أصالة الإباحة في الحيوان القابل للتذكية الموجبة لطهارته قطعا المشكوك كونه حلالا ذاتا، فيحكم بأنه مما يحل أكله، فإذا جرى هذا الأصل في الحيوان كان حاكما على استصحاب حرمته، لتقدم رتبته على الاستصحاب، حيث إن مجرى أصالة الإباحة هو ذات الحيوان، فإذا ثبتت حليته بالأصل وأنه من الحيوانات المحللة كانت التذكية لا محالة واقعة على الحيوان المحلل الاكل، و معه لا مجال لاستصحاب حرمته قبل التذكية، لعدم الشك في الحرمة لأجل عدم التذكية. 425 هذا (1) إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله
فان كان هذا مراد المصنف (قده) بقوله: (ولا أصل فيه الا أصالة الإباحة) فلا بأس به، وإلا فيرد عليه أن مقتضى الاستصحاب في هذا الحيوان المذكى هو الحرمة لا أصالة الإباحة، وهذا الاستصحاب من قبيل القسم الثاني من الاستصحاب الكلي، إذ لو كانت حرمة الحيوان ذاتية، فهي باقية بعد التذكية وان كانت عرضية، فهي مرتفعة بالتذكية، فتدبر. 426 التذكية، كما إذا شك (1) مثلا في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها أم لا (2)؟
427 فأصالة قبوله (1) لها معه محكمة، ومعها (2) لا مجال لأصالة عدم تحققها، فهو (3) قبل الجلل كان يطهر [1] ويحل بالفري بسائر شرائطها، فالأصل أنه (4) كذلك بعده.
[1] لا يخفى أن مقتضى الشك في بقاء القابلية هو استصحاب نفس القابلية التي هي قيد موضوع الحكم التنجيزي وهو الطهارة والحلية الفعليتان، فان استصحاب قيد الموضوع يثبت فعلية الحكم، كما إذا شك المقلد في بقاء عدالة مجتهده، فان استصحاب عدالته يثبت فعلية جواز تقليده. 428
ولم يظهر وجه لعدول المصنف (قده) عن استصحاب القابلية إلى الاستصحاب التعليقي، ولعل وجهه هو كون التذكية عبارة عن الأثر المترتب على فري الأوداج وغيره، واستصحاب القابلية لا يثبت التذكية بهذا المعنى إلا على القول بالأصل المثبت. لكنه لو كان كذلك، فيتوجه عليه أولا: أن التذكية عنده على ما صرح به قبيل هذا هي فري الأوداج مع سائر شرائطها عن خصوصية في الحيوان، وعليه فالقابلية من قيود التذكية، ومن المعلوم صحة جريان الاستصحاب في نفسها وترتب الحكم التنجيزي عليه من دون لزوم إشكال المثبتية. وثانيا: أن الجاري بعد فرض كون التذكية هي الأثر هو الاستصحاب التعليقي الموضوعي لا الحكمي، ضرورة أنه مع إمكان جريان الأصل الموضوعي لا تصل النوبة إلى الأصل الحكمي، فيقال في تقريب الاستصحاب التعليقي الموضوعي: كان هذا الحيوان قبل الجلل إذا قطعت أوداجه بالشروط المخصوصة يصير ذكيا، وهو باق على ما كان، ومعه لا يجري الاستصحاب الحكمي التعليقي، فتأمل جيدا. 429 ومما ذكرنا (1) ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة
430 الموضوعية من الحيوان، وأن (1) أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لأجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا، كما أن (2) أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طرؤ ما يمنع عنه (3)، فيحكم بها (4)
431 فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه (1) كما لا يخفى [1] فتأمل جيدا.
[1] لا يخفى أن مسألة التذكية لما كانت من المسائل المهمة المبتلى بها و اشتملت على الجهات التي اختلفت فيها أنظار الأصحاب ولم يتعرض المصنف لأكثرها، فلا بأس بالتعرض لجملة منها، فنقول وبه نستعين: ان في هذه المسألة مباحث: الأول: أن موضوع حكم الشارع بالطهارة وحدها أو مع الحلية هو المذكى كما أن ما يقابله موضوع حكمه بالحرمة والنجاسة، ولا بد من ملاحظة النسبة بين هذين الموضوعين حتى يتضح جريان الأصل فيهما وعدمه، أو في أحدهما دون الاخر، فاعلم: أن الميتة تطلق تارة على الحيوان الذي زهق روحه بأي وجه اتفق ولو بالتذكية الشرعية، فالنسبة بينهما حينئذ هي العموم والخصوص، إذ كل مذكى ميتة ولا عكس، فالمذكى وعدم المذكى وصفان لما زهق روحه، ولا يتصف الحيوان الحي بشئ منهما. وأخرى على الحيوان غير المذكى مما له قابلية التذكية، والميتة بهذا المعنى تقابل المذكى تقابل العدم والملكة، وعليه فتطلق الميتة بلا عناية على الجنين الذي لم تلجه الروح، وهذا الوجه مع سابقه يشتركان في كون المذكى والميتة وصفين للحيوان غير الحي، وعدم اتصاف الحي بشئ منهما، ويفترقان في صدق الميتة على المذكى في الوجه السابق، لكونه من أفرادها، بخلاف هذا الوجه، فإنها لا تصدق على المذكى، بل هما متقابلان تقابل العدم والملكة كما مر آنفا. 432
وثالثة على الحيوان الذي لم يذك شرعا وان لم يكن له شأنية التذكية، والميتة بهذا المعنى تقابل المذكى تقابل السلب والايجاب لا تقابل العدم والملكة وهذا ظاهر حاشية بعض المحققين (قده) على المتن، حيث قال: (وان كانا متقابلين بتقابل السلب والايجاب بمعنى أن عدم التذكية وان كان عدم ما شأنه أن يكون مذكى وهو ما زهق روحه، لكنه لم يؤخذ العدم هكذا موضوعا للحكم بل أخذ ما يصدق حال الحياة وهو ليس بمذكى، وذلك كعدم البصر يؤخذ تارة بنحو عدم ما من شأنه أن يكون بصيرا، فيساوق العمى، فلا يصدق إلا على الحيوان، وأخرى بنحو السلب المقابل للايجاب، فيقال: الجدار ليس ببصير كما أنه ليس بأعمى، فإذا سلب المذكى عن الحيوان في حال حياته فقد صدق السلب المقابل للايجاب وان لم يصدق العدم المضاف إلى ما من شأنه أن يكون مذكى). ورابعة على الحيوان الذي زهق روحه على وجه خاص وهو الموت حتف الانف، فما خرج روحه بأسباب خارجية وان لم تكن موجبة لذكاته ليس ميتة فمثل الموقوذة والمتردية لا ميتة ولا مذكاة. وعليه فالميتة أمر وجودي، لأنها خرج روحه على الوجه المعهود، و التقابل بينهما تقابل التضاد، ومبنى اعتراض بعض الأصحاب كالفاضل التوني (ره) على المشهور القائلين بجريان أصالة عدم التذكية لاثبات الحرمة والنجاسة في الحيوان الذي شك في تذكيته هو الميتة بهذا المعنى أي ما مات حتف أنفه. توضيح الاعتراض هو سقوط أصالة عدم التذكية بمعارضتها بأصالة عدم الموت حتف الانف، و الرجوع إلى قاعدتي الحل 433
والطهارة، وسيأتي تفصيل البحث فيه إن شاء الله تعالى. إذا عرفت إطلاقات الميتة، فاعلم: أنه بناء على الاطلاق الأول يجري استصحاب عدم التذكية بلا مانع، إذ الموت بمعنى زهوق الروح من دون اعتبار كونه حتف الانف محرز وجدانا، فلا يجري فيه الأصل بأن يقال: الأصل عدم كونه ميتا حتى يعارض أصالة عدم التذكية. و كذا يجري أصالة عدم كونه مذكى على الاطلاق الثاني والثالث بلا مانع، لعدم جريان أصالة عدم كونه ميتا. ومنع جريان أصالة عدم التذكية استنادا إلى عدم كون عدم التذكية حال الحياة موضوعا لحكم حتى يستصحب، إذ المفروض كون المذكى وغير المذكى وصفين للحيوان غير الحي، ممنوع، لكفاية ترتب الأثر على المستصحب بقاء في جريان الاستصحاب، وعدم توقف جريانه على ترتب الأثر على المستصحب حدوثا وبقاء معا، فأصالة عدم التذكية في جميع إطلاقات الميتة جارية بلا مانع إلا في الاطلاق الرابع كما أشرنا إليه آنفا. الثاني: أن عدم المذكى الذي هو موضوع الحرمة والنجاسة تارة يؤخذ بنحو العدم المحمولي وأخرى بنحو العدم النعتي، فعلى الأول يكون الموضوع مركبا من أمرين وجودي وهو زهوق الروح، وعدمي وهو عدم التذكية، فكأنه قيل: الحيوان الذي زهق روحه ولم يذك حرام ونجس، فإذا أحرز زهوق روح حيوان ولم يحرز ذكاته فلا مانع من إحراز عدمها بأصالة عدم التذكية، حيث إن ذكاته كانت معدومة حال حياته، فيستصحب عدمها إلى زمان زهوق روحه، فيتم موضوع الحرمة والنجاسة بضم الأصل إلى الوجدان، كسائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها بالتعبد، نظير استصحاب عدم اذن 434
المالك حين استيلاء الغير على ماله، فان الاستيلاء المحرز بالوجدان بعد ضم عدم اذن المالك بالتصرف فيه إليه يوجب ضمان المستولي عليه، إذ موضوعه مركب من الاستيلاء وعدم اذن المالك، فمع الشك في اذنه لا مانع من استصحاب عدمه. وعلى الثاني يكون الموضوع مقيدا، بمعنى أن موضوع الحرمة و النجاسة هو الزهوق المقيد بعدم كونه عن تذكية شرعية، ومن المعلوم أن هذا الموضوع المقيد لا حالة سابقة له، فلا يجري فيه الأصل. فتحصل: أنه بناء على العدم المحمولي تجري أصالة عدم التذكية و يثبت بها موضوع الحرمة والنجاسة، لكونه من الموضوعات المركبة، وبناء على العدم النعتي الموجب لكون الموضوع من الموضوعات المقيدة لا تجري، لان العدم النعتي لا حالة سابقة له، وإثباته بإجراء الأصل في العدم المحمولي منوط بحجية الأصول المثبتة. الثالث: الظاهر أن موضوع الحرمة والنجاسة شرعا هو عدم المذكى و ان لم يكن ذلك معنى لغويا ولا عرفيا للميتة كما هو ظاهر الآية الشريفة، حيث إن الميتة جعلت فيها في قبال الموقوذة والمتردية و غيرهما، فلا بد أن تكون الميتة غيرها وهو ما مات حتف أنفه، الا أن المراد بها في غير الآية هو عدم المذكى وان لم يصدق عليه الميتة بمعناها اللغوي، فكل ما لم يذك فهو ميتة. ويشهد بذلك جملة من النصوص، كمضمرة سماعة: (إذا رميت وسميت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا) فان الميتة جعلت في مقابل المذكى المستفاد من قوله عليه السلام: (إذا رميت و سميت) فيراد بالميتة 435
حينئذ عدم المذكى. وصحيح ابن الحجاج عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت [ميتة] وما أدركت من سائر جسده حيا فذكه ثم كل منه) فان إطلاق الميت على الشئ المقطوع مع عدم خروج الروح عنه بالموت حتف الانف اما حقيقي كما يظهر من محكي المصباح، حيث فسر الميتة ب (ما لم تلحقه الذكاة سواء مات بحتف أنفه أو قتل وذبح بغير الوجه الشرعي) وفي الصحاح وعن القاموس (أنها ما لم تلحقها الذكاة) واما تنزيلي، وعلى التقديرين يدل هذا الاطلاق على كون ما زهق روحه بغير التذكية ميتا أو بحكمه، وكذا غير ما ذكر من النصوص الدالة على ثبوت ما للميتة - من الأحكام الأربعة وهي النجاسة وعدم صحة الصلاة فيها و حرمة الانتفاع بها ولو في الجملة وعدم جواز الاكل - لغير المذكى تذكية شرعية، هذا. مضافا إلى ما ادعي من التسالم والاتفاق على كون الموضوع للأحكام الأربعة المتقدمة عدم المذكى لا خصوص الميتة وان تغايرا مفهوما، فلا جدوى في إثبات اتحادهما مفهوما وتغايرهما كذلك. ومن هنا يظهر ضعف ما عن الفاضل التوني (ره) (من سقوط أصالة عدم التذكية لمعارضتها بأصالة عدم الموت حتف الانف والرجوع إلى قاعدتي الحل والطهارة) وذلك لان موضوع الحرمة والنجاسة ليس عنوان الميتة حتى يقال: انها أمر وجودي، فيجري فيها أصالة العدم، بل موضوعهما كما عرفت هو عدم المذكى فلا يجري الأصل في الميتة حتى يعارض أصالة عدم التذكية، بل الأصل الجاري بلا مانع هو أصل عدم التذكية، وهو ينقح موضوع النجاسة والحرمة، فلا وجه 436
للحكم بالحلية والطهارة من هذه الناحية. لكن قد يستدل لهما من ناحية أخرى، وهي: أن الطهارة والحلية كما تنشئان عن خصوصية في الحيوان، كذلك الحرمة، فإنها تنبعث عن مفسدة وجودية قائمة بخصوصية وجودية، والنجاسة تنشأ مما يوجب تنفر الطبع، فأصالة عدم التذكية معارضة بأصالة عدم ثبوت تلك الخصوصية المقتضية للحرمة والنجاسة فيرجع حينئذ إلى قاعدتي الحل والطهارة. لكن في هذا الاستدلال أولا ما قيل من: (أن التضاد بين المذكى وما يقابله لا يقتضي نشؤ الحرمة والنجاسة عن خصوصية وجودية في الحيوان، لامكان أن يكون المقتضي لهما نفس زهوق الروح، وفري الأوداج وشرائطه مانعة عن تأثيره في الحرمة والنجاسة، و المفروض أن زهوق الروح محرز بالوجدان وعدم التذكية بالأصل، فيحرز تمام موضوع الحرمة والنجاسة) وثانيا: أن المراد بالخصوصية هو الملاك، وليست هي حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي حتى يصح جريان الأصل فيها وجودا أو عدما، حيث إن الملاكات دواع للأحكام لا نفس الاحكام ولا موضوعاتها. وثالثا: - بعد تسليم اقتضاء التضاد ذلك - أنه بعد تعارض الأصلين تصل النوبة إلى استصحاب الحرمة والطهارة الثابتتين حال الحياة دون قاعدتي الحل والطهارة، لحكومته عليهما، فلا بد من الحكم بالحرمة والطهارة لا الحل والطهارة هذا. ثم انه يحتمل أن يكون منشأ توهم كون الميتة أمرا وجوديا - أعني به خصوص ما مات حتف الانف - استعمالها في الآية الشريفة في هذا المعنى، فان كان 437
كذلك، ففيه: أن استعمالها فيه انما هو بالقرينة، وهي اجتماع الميتة في الآية الشريفة مع الموقوذة والمتردية والنطيحة، إذ العطف يقتضي المغايرة. وأما إفراد الميتة وإطلاقها مجردة عن المذكورات، فلا ينبغي الارتياب في إرادة غير المذكى منها، فليست الميتة بنفسها ظاهرة في خصوص ما مات حتف أنفه. بل يمكن أن يقال: - بعد تسليم كون الميتة لغة خصوص ما مات حتف أنفه - ان المعنى العرفي يقدم على اللغوي عند التعارض، فيحمل الميتة فيما عدا الآية المتقدمة وغيرها - مما ذكر فيه مع الميتة غيرها من الموقوذة والمنخنقة ونحوهما مما زهق روحه بأسباب خارجية غير ما يوجب ذكاة الحيوان - على معناها العرفي العام، وهو غير المذكى. مضافا إلى أنه فسر قوله تعالى: (الا ما ذكيتم) في بعض الروايات بإدراك ذكاة المحرمات المذكورة مما يقبل منها التذكية، فتنقسم المحرمات في الآية باعتبار إمكان ذكاتها بذبحها مع الشرائط إلى المذكى وغيره، والمدار في الحرمة على غير المذكى منها. ووجه ذكر المنخنقة والموقوذة وغيرهما مع شمول الميتة لجميعها على ما في مجمع البيان هو: أن جماعة من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك ولا يعدونه ميتا، انما يعدون الميت الذي يموت من الوجع، فأعلمهم الله تعالى أن حكم الجميع واحد، وأن وجه الاستباحة هو التذكية فقط. فالمتحصل: أن موضوع الاحكام المتقدمة هو عدم المذكى، ولا دخل لخصوص الموت حتف الانف فيها أصلا. 438
الرابع: الوجوه المحتملة في التذكية كثيرة: منها: أن تكون بسيطة متحصلة من فري الأوداج الأربعة بالحديد إلى القبلة مع التسمية وإسلام الذابح وقابلية الحيوان، كالطهارة الحدثية المترتبة على الغسلتين والمسحتين بناء على كون المأمور به هي الطهارة لا الافعال المحصلة لها. ومنها: أن تكون مركبة خارجية من تلك الأفعال مع القابلية المذكورة أو بشرطها، كنفس الغسلتين والمسحتين بناء على تعلق الامر بهما كما هو مقتضى قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم و أيديكم إلى المرافق). ومنها: أن تكون مقيدة بجعل التذكية نفس الامر المتحصل من الأمور المعهودة مقيدا بقابلية المحل. ثم إن القابلية يحتمل أن يراد بها المصلحة الموجبة لتشريع الحل و الطهارة أو الطهارة فقط للحيوان، فالقابلية حينئذ من الملاكات الداعية إلى تشريع الاحكام. ويحتمل أن يراد بها خصوصية ذاتية مقتضية للحكم بالحل والطهارة كخصوصية الغنمية والبقرية والإبلية ونحوها. وقد اختار المصنف أن التذكية فعل المذكي وهو الفري مع الشرائط التي منها قابلية المحل، ووافقه المحقق العراقي (قده) على ما في تقرير بحثه الشريف (لاسناد التذكية في قوله تعالى: (الا ما ذكيتم) إلى الفاعلين الظاهر في أنها من فعلهم، ولما ورد في موثقة ابن بكير من قوله عليه السلام: ذكاه 439
الذبح أم لم يذكه، ولقوله عليه السلام في خبر علي بن أبي حمزة بعد قول السائل: أو ليس الذكي ما ذكي بالحديد؟ بلى إذا كان مما يؤكل لحمه إذ لا ريب في أن اسناد التذكية إلى المذكي ظاهر في كونها فعلا له، ولا وجه لحمل اللفظ على معناه المجازي وهو المسبب. أقول: ان المناقشة في دلالة الموثقة على المدعى ظاهرة، إذ لو كانت التذكية بمعنى الذبح لكان المعنى (ذبحه الذبح) وهو مما لا محصل له، الا أن يكون الذبح بمعنى اسم الفاعل، لكنه لا قرينة عليه، أو يعتمد في الاستدلال على النسخة الأخرى وهي (ذكاه الذابح) فيكون كسائر الروايات الدالة على المقصود مثل قوله عليه السلام في السمك: (ان ذكاته إخراجه من الماء ثم يترك حتى يموت من ذات نفسه)، وقوله عليه السلام: (انما صيد الحيتان أخذها)، وقوله عليه السلام (في ثور تعاصي فابتدره قوم بأسيافهم وسموا فأتوا عليا عليه السلام، فقال: هذه ذكاة وحية ولحمه حلال)، وغيرها من الروايات التي أسندت التذكية فيها إلى المكلف الظاهر في كونها فعلا له. ولو نوقش في استظهار ما ذكرناه بإمكان إرادة المعنى البسيط المتحصل من فري الأوداج بالشرائط مع قابلية المحل، حيث إن الفعل التوليدي يصح اسناده إلى الفاعل كصحة اسناد الفعل المباشري إليه، فيصح أن يقال: (ألقاه 440
في النار فأحرقه) كما يصح أن يقال: (أحرقه بالنار) وعليه فمجرد اسناد التذكية في الآية المباركة إلى الفاعلين، وكذا الامر بها في بعض الاخبار كقوله عليه السلام: (فذكه ثم كل منه) والنهي عن التذكية بغير الحديد بقوله عليه السلام: (لا تذك إلا بحديدة) لا يكشف عن أنها فعل المذكي لا مسبب عن فعله، فاحتمال كونها أمرا بسيطا متحصلا لم يندفع بما ذكر (أمكن دفعه) بأن اسناد المسبب التوليدي إلى الفاعل وان كان صحيحا، الا أن انطباقه على المقام محل تأمل، لوضوح أن ضابطه عدم توسط إرادة فاعل مختار بين الفعل وأثره كالاحراق المترتب على الالقاء في النار، وصدقه على ما نحن فيه منوط بكون التذكية بمعنى الامر البسيط أثرا تكوينيا و خصوصية في الحيوان مترتبة على الذبح بشرائطه قهرا من دون توسط إرادة فاعل مختار بين الذبح مع شرائطه والأثر المترتب عليه كترتب الاحراق على الالقاء في النار بحيث لا يترتب ذلك الامر البسيط على الحيوان إذا زهق روحه بغير الذبح كالنطح والخنق و غيرهما، وليس الامر كذلك، لان ترتب ذلك الامر البسيط على الذبح وشرائطه انما هو بحكم الشارع، وليس قهريا كالاحراق المترتب على الالقاء في النار. والحاصل: أنه بناء على كون التذكية بمعنى الامر البسيط بحكم الشارع لا ينطبق ضابط المسبب التوليدي عليها. الا أن يقال: ان التذكية بهذا المعنى من الأمور الواقعية التي كشف عنها 441
الشارع كما قيل بذلك في الطهارة والنجاسة أيضا. لكنه في كلا المقامين محل تأمل بل منع. فالحق أن التذكية فعل المذكي، والأثر المترتب عليه حكم وضعي مجعول كسائر الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية والحرية و غيرها، فيكون حكم الشارع بحصول الذكاة بالذبح مع الشرائط نظير حكمه بملكية الحائز للمباحات، والترتب انما هو بجعل الشارع، و فعل المكلف موضوع لحكمه، الذي هو كسائر الأحكام الشرعية من أفعاله الاختيارية، ففعل المكلف كإنشاء البيع وحيازة المباحات و فري الأوداج الأربعة بالشرائط موضوع، والملكية والذكاة حكمان وضعيان شرعيان مترتبان عليه، وبهذا يندرج المقام في ضابط الحكم والموضوع ويتضح أجنبيته عن باب المسبب التوليدي المترتب قهرا على سببه. ومع تسليم صغرويته للمسبب التوليدي، فدعوى أظهرية إطلاق التذكية في الاخبار في نفس فعل المكلف - باعتبار إسنادها إليه - من ظهورها في المسبب قريبة جدا. ويؤيده قوله عليه السلام في ما رواه درست عن أبي عبد الله عليه السلام: (قال: ذكرنا الروس من الشاة، فقال: الرأس موضع الذكاة.) فإنه كالصريح في أن التذكية هي نفس الذبح لا ما يتحصل منه، إذ موضعها بذلك المعنى جميع أعضاء الشاة لا خصوص الرأس، وانما الرأس موضع فري الأوداج الذي هو فعل المذكي، و موضوع حكم الشارع بالذكاة. والحاصل: أن التذكية في لسان الشارع ظاهرة في نفس الذبح والنحر 442
وسائر ما يوجب حكم الشارع بحلية لحم الحيوان وطهارته كإخراج السمك من الماء وإرسال الكلب المعلم ونحوهما، وهو معناها العرفي وان كانت في اللغة بمعنى الذبح وحده أو مع النحر كما ستقف عليه. ومما ذكرنا يظهر غموض ما اختاره بعض المحققين في حاشيته على المتن بقوله: (وربما يقال: ان التذكية عرفا بمعنى الذبح، وما اعتبر فيها من التسمية والاستقبال شرائط تأثير الذبح في الحلية و الطهارة، الا أن ظاهر الاستعمالات العرفية والشرعية أنها بمعنى الطهارة والنزاهة وما أشبههما، وإطلاقها على الذبح أو على إرسال الكلب المعلم أو على أخذ الجراد والحيتان وأشباه ذلك لأنها أسباب طيب اللحم للاكل وسائر الاستعمالات أو لما عدا الاكل من الاستعمالات، وذلك لان التذكية والزكاة بمعنى الطيب والنزاهة مفهوم مباين لمفهوم الذبح المطلق والذبح الخاص. إلى أن قال: فاتضح أن الأقوى أن التذكية من الاعتبارات الشرعية الوضعية المتحققة بأسباب خاصة، لا أن الذبح تذكية) وحاصل ما يستفاد من كلامه في الاستدلال على دعواه أمران: الأول: أن التذكية لو كانت نفس الذبح، فلازمه صدق الوصف الاشتقاقي من التذكية على الذبح، بأن يقال: الذبح طيب ونزاهة، مع أن المتصف ب (الطيب) هو اللحم، فإنه الموصوف بأنه ذكي أو مذكى، فلا قيام للذكاة بالذبح. الثاني: أن الحلية والطهارة منوطتان شرعا بالتذكية لا غير، فلو كانت بمعنى الذبح لزم التفكيك بين الحكم وموضوعه، لصدق (المذكى) على 443
الحيوان المذبوح فاقدا لبعض الشرائط، فهو مذكى، ولكنه ليس بحلال ولا طاهر. أقول: ما أفاده (قده) من عدم اتصاف الذبح بأنه نزاهة وطيب وان كان صحيحا في نفسه، الا أن الكلام في اتحاد التذكية والزكاة معنى وهو الطهارة ومغايرتهما، وقد زعم هذا المحقق تراد فهما ورتب عليه ما ذكره، لكن الظاهر أن التذكية ليست بمعنى الطهارة لا لغة و لا عرفا ولا شرعا، وما يكون بمعناها هو الزكاة، ففي لسان العرب: (و أصل الزكاة في اللغة النماء والطهارة والبركة. والتذكية الذبح والنحر) وفي الصحاح: (التذكية الذبح) وفي المجمع: (والتذكية الذبح والنحر) وفي مفردات الراغب: (وذكيت الشاة ذبحتها، وحقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية، لكنه خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه) وقال في الزكاة: (أصل الزكاة النمو الحاصل عن بركة الله تعالى) ولا أثر في كتب اللغة من كون تذكية الحيوان بمعنى تطهيره، بل بمعنى الذبح كما في الصحاح أو مع النحر كما في غيره وان فسره الراغب بما هو أعم منهما. و عليه فالتذكية لغة نفس فعل المذكي لا ما يتحصل منه. كما أن الزكاة بمعنى الطهارة، والتزكية بمعنى التطهير، ومنه قوله تعالى: (يزكيهم ويعلمهم الكتاب) أي يطهرهم من رذائل الأخلاق وذمائم الصفات. هذا بحسب اللغة. والظاهر أنه كذلك عرفا، فليست التذكية بمعنى التطهير والذكاة بمعنى الطهارة حتى يراد منه شرعا المسبب من فعل المذكي بدعوى عدم صحة حمل الطهارة والطيب على الذبح وأن المتصف بالطيب لحم الحيوان لا فعل المذكي، لابتناء ذلك كله على كونها بمعنى الطهارة والنزاهة، مع أنا لم نظفر عليه في 444
اللغة كما لم يكن كذلك عرفا. وأما بحسب الشرع فقد عرفت ظهور طائفة من الاخبار في كون التذكية بمعنى الذبح أو النحر أو غيرهما مما يذهب الحياة، ولا يقدح في ذلك إطلاقها على أخذ الجراد، وإخراج السمك من الماء حيا، و إرسال الكلب المعلم، ورمي الصيد وغير ذلك، إذ الجامع الانتزاعي و هو زهوق الروح على وجه خاص موجود في هذه الموارد. وأما قوله عليه السلام: (الجراد ذكي والحيتان ذكي) و (الحوت ذكي حيه وميته حيث إن المراد أنه طاهر، فهو من باب الاطلاق لا الاستعمال، فلا ينافي كون هذه المادة بمعنى الذبح والنحر لا الطهارة. وأما الوجه الثاني فالاشكال فيه واضح جدا، إذ لم يلتزم أحد من القائلين بأن التذكية هي الذبح بصدق المذكى على الحيوان المذبوح بأي وجه اتفق حتى يلزم التفكيك بين الحكم والموضوع، ضرورة أن الذبح الخاص موضوع الأثر لا الذبح المطلق، ومع عدم تحققه فالحيوان ميتة وغير مذكى، لوضوح انتفاء المشروط بانتفاء شرطه. الخامس: أنه اختلف الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم فيما يقبل التذكية من الحيوان وما لا يقبلها على أقوال، ومجمل الكلام فيه: أن الحيوان اما مأكول كالغنم والبقر والجاموس وغيرها من البري و البحري، ولا إشكال ولا خلاف في قبوله للتذكية، واما غير مأكول، وهو على أقسام: الأول: نجس العين كالكلب والخنزير، وهو لا يقبل التذكية بمعنى عدم 445
تأثير الذبح في طهارته وحلية لحمه، بل هو باق على نجاسته وحرمته بلا إشكال ولا خلاف، بل الاجماع بقسميه عليه، بل الضرورة كما في كتاب الصيد والذباحة من الجواهر. الثاني: طاهر العين الادمي، وهو أيضا لا يقبل التذكية المشروعة في الحيوانات الموجبة للطهارة والحلية أو الطهارة فقط إجماعا أو ضرورة كما في الجواهر. الثالث: الحيوان الطاهر غير الادمي، وهو على قسمين: أحدهما: ما لا نفس سائلة له، ولا تؤثر التذكية في طهارته، لكونه طاهرا في نفسه، كما لا تؤثر في حلية لحمه أيضا، لأنه من غير المأكول كالسمك الذي لا فلس له، كما قيل. لكن فيه: أنه بناء على حرمة الانتفاع بالميتة ولو في الجملة تترتب الثمرة على تذكيته، لأنها تخرجه عن الميتة التي يحرم الانتفاع بها وان لم توجب حلية لحمه. ثانيهما: ما له نفس سائلة من السباع كالأسد والنمر والثعلب ونحوها، والمشهور المنصور وقوع التذكية عليها، بل عن السرائر الاجماع عليه. ويدل عليه مضمرة سماعة المتقدمة: (سألته عن جلود السباع أينتفع بها، قال إذا رميت وسميت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا). وأما المسوخ كالفيل والدب والقرد وغيرها مما تضمنته النصوص من الجريث والضب وغيرهما، وكذا الحشرات التي تسكن باطن الأرض كالفأرة وابن عرس ونحوهما، فالمشهور عدم وقوع التذكية عليهما، وتفصيل البحث في ذلك وتنقيحه موكول إلى محله. 446
والذي يختلج بالبال عاجلا واستفاده أيضا صاحب الجواهر (قده) من مجموع النصوص التي تعرض لها في لباس المصلي هو: أن كل حيوان طاهر العين حال الحياة وان لم يكن مأكول اللحم قابل للتذكية، ولكن لا يصلى فيه عدا ما استثني. وعن صاحب الحدائق (لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم أن ما عدا الكلب والخنزير والانسان يقع عليه الذكاة). واختاره شيخنا الأعظم (قده) في طهارته في رد كلام شارح الروضة من حصر المحللات بأن الأصل قبول كل حيوان للتذكية، قال: (فان أصالة الحل الثابتة بالكتاب في قوله تعالى: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما. إلى أن قال: مضافا إلى قولهم عليهم السلام: كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي. لا يندفع بمثل هذا الاستقراء الضعيف غير الثابت أصله فضلا عن اعتباره). لكن ضم مرسلة الصدوق إلى الاستدلال بالآية الشريفة كتعبيره بأصالة الحل لا يخلو عن مسامحة ظاهرة، لدلالة الآية على حلية كل حيوان بالحلية الواقعية إلا ما خرج، وهذا لا يجامع عدم قبوله للتذكية، فهو حكم واقعي، فكان الأولى التعبير بالعموم لا بأصالة الحل، كما أن مدلول المرسلة حكم ظاهري، لاخذ الشك في موضوع الحلية. الا أن يريد بالاطلاق الإباحة الواقعية بأن يراد بالورود الصدور و التشريع، لكنه جعلها أظهر أدلة البراءة في الرسائل، وهو ينافي إرادة الإباحة الواقعية المترتبة على كون الورود بمعنى الجعل لا الوصول والعلم: وكيف كان، فيدل على العموم قول مولانا الصادق عليه السلام لزرارة في موثقة ابن بكير: (يا زرارة فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شئ منه جائزة إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذابح 447
وان كان غير ذلك مما نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شئ منه فاسدة ذكاه الذبح أو لم يذكه) لظهوره في كون الذبح تذكية لكل حيوان نهي عن أكله وان لم تصح الصلاة في جلده لكونه غير مأكول، ويخصص هذا العموم بما دل على عدم قابلية الحيوان النجس العين والمسوخ والحشرات للتذكية. ثم إن في بعض كتب الحديث (ذكاه الذبح) بدل (الذابح) والظاهر صحة الاستدلال به على التقديرين، لأنه في مقام اعتبار المأكولية في لباس المصلي علاوة على طهارته بالتذكية، فما حرم أكله من الحيوان لا تجوز الصلاة في جلده سواء وقع عليه التذكية - وهي الذبح - أم لم تقع عليه. واسناد التذكية إلى الذابح انما هو لأجل الذبح، فالمراد أنه وقع الذبح على غير المأكول أو لم يقع. فالمتحصل مما ذكرنا: أن مقتضى الجمع بين النصوص قابلية كل حيوان للتذكية التي هي مانعة عن عروض النجاسة التي يقتضيها الموت، فالموت مقتض للنجاسة والتذكية مانعة عنها. إذا تحقق ما ذكرناه من الأمور، فليعلم: أنه - بناء على قابلية كل حيوان طاهر العين غير مأكول اللحم من ذي النفس للتذكية إذا كان له جلد صالح للبس - لا يتصور شبهة حكمية من ناحية قابلية الحيوان لها حتى تجري فيها أصالة عدم التذكية، إذ المفروض قابلية كل حيوان لها عدا ما خرج من نجس العين والحشرات والمسوخ، فالحيوان المتولد من حيوانين أحدهما محلل كالغنم والاخر محرم كالثعلب غير التابع لأحدهما في الاسم محكوم بقبوله للتذكية. 448
نعم يتصور الشبهة الحكمية من غير ناحية القابلية، كما إذا شك في اعتبار الايمان أو طهارة المولد أو الذكورة في المتصدي للتذكية. فان كان لأدلة التذكية إطلاق لفظي كما هو الأظهر بدعوى كون التذكية من الأمور العرفية المتعارفة بين الناس قديما وحديثا وأن الشارع لم يتصرف في مفهومها بل زاد فيه قيودا، فلا إشكال في الرجوع إليه ورفع الشك به، وإلا فالمرجع هو الاطلاق المقامي، لأنه مع تصدي الشارع لبيان موضوع حكمه بماله من الاجزاء والشروط يكون سكوته بعد ذلك وعدم بيان غيرها كاشفا عن عدم دخل أمر آخر في موضوع حكمه، ومع هذا الاطلاق لا تصل النوبة إلى أصالة عدم التذكية. ومع عدم تسليم شئ من هذين الاطلاقين اللفظي و المقامي يكون المرجع في كل من الشبهة الحكمية والموضوعية الأصول العملية، فيقع الكلام في مقامين: الأول في الشبهة الحكمية، و الثاني في الشبهة الموضوعية. أما المقام الأول، فتفصيل الكلام فيه: أن الشبهة الحكمية تارة تكون من جهة القابلية بمعنى المصلحة المقتضية لتشريع الحلية والطهارة أو الطهارة فقط للحيوان بالتذكية، أو بمعنى الخصوصية القائمة بالحيوان بعد فرض تصور الشبهة الحكمية من ناحية القابلية والغض عما ذكرناه من قابلية كل حيوان للتذكية عدا ما خرج. وأخرى تكون للشك في حلية لحم الحيوان، لعدم الدليل على حليته أو إجماله أو تعارضه، أو لاحتمال دخل شئ في تحقق تذكيته كإيمان الذابح و نحوه، أو منع شئ عنها كالجلل بعد إحراز قابلية الحيوان لها. وثالثة تكون للشك في تركب التذكية وبساطتها بعد إحراز القابلية أيضا، فهنا مسائل: الأولى: أن تكون الشبهة من ناحية القابلية بمعنى المصلحة المقتضية لتشريع 449
الحل والطهارة أو الطهارة فقط بالتذكية، وقد تقدم أن أصالة عدم القابلية لا تجري فيها وان قلنا بجريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية، وذلك لعدم الترتب الشرعي بين الاحكام وملاكاتها المقتضية لتشريعها، بل الترتب انما يكون بين الموضوع وحكمه، فلا يجدي في ثبوت الحكم الشرعي استصحاب ملاكه. وبالجملة: علل الاحكام وملاكاتها ليست أحكاما ولا مما يترتب عليها الاحكام ترتبا شرعيا حتى يصح جريان الأصل فيها. ولا فرق فيما ذكرناه من عدم جريان استصحاب العدم في القابلية بمعنى المصلحة والملاك بين كون التذكية أمرا بسيطا ومركبا كما هو واضح. هذا كله بالنسبة إلى القابلية. وأما بالإضافة إلى التذكية، فان كانت بسيطة فلا مانع من جريان أصالة العدم فيها، لأنه مع الشك في القابلية بمعنى الملاك يشك في تحقق التذكية التي هي أمر بسيط، فيجري استصحاب عدمها ويترتب عليه حكم عدم المذكى. وان كانت مركبة من الأمور المتقدمة أو كانت عبارة عن فري الأوداج الأربعة مقيدة بإسلام الذابح والتسمية والاستقبال وكون آلة الذبح من الحديد فلا تجري أصالة عدم التذكية في الحيوان، إذ المفروض تحققها، بل يحكم بطهارته لصيرورته مذكى، وحرمته لاستصحابها، و لا ضير في اختلاف منشأ الحرمة حالتي حياته وموته بعد صدق وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة عرفا، نظير الجلوس في المسجد بداعي البحث مثلا، فإذا شك في بقاء جلوسه إلى الظهر بداعي الصلاة مثلا فلا مانع من استصحابه مع اختلاف دواعي الحدوث و البقاء، لوحدة الجلوس الحدوثي والبقائي عرفا، ومع هذا الاستصحاب لا مجال لقاعدة الحل، لحكومته عليها. 450
لا يقال: ان اختلاف الموضوع - حيث إن الحيوان الحي غير الميت عرفا - مانع عن جريان الاستصحاب كما هو الحال في زوال كل وصف من أوصاف الموضوع. فإنه يقال: لا مانع من جريان الاستصحاب في اللحم والجلد، لان الموت والحياة بالنسبة إليهما من الحالات المتبادلة، فيجري فيه الاستصحاب. المسألة الثانية: أن تكون الشبهة من ناحية القابلية بمعنى الخصوصية الذاتية كالغنمية والبقرية لا الخصوصية الخارجية القائمة بالحيوان، فلا يجري الاستصحاب أيضا في القابلية، بل عدم جريانه هنا أولى من الفرض السابق، إذ مع كون الخصوصية ذاتية لا ينحل الموجود إلى معلوم الوجود ومشكوك الوجود حتى يجري فيه الاستصحاب كما كان هذا الانحلال متحققا في القابلية بمعنى المصلحة، لصحة أن يقال: ان هذا الحيوان حين لم يكن موجودا لم يكن ذا مصلحة أيضا، وبعد حصول العلم بوجوده يشك في وجود مصلحته، فيستصحب عدمها، و هذا بخلاف الخصوصيات الذاتية، فلا يصح أن يقال: ان هذا الغنم الموجود حين كونه معدوما لم تكن الغنمية المترتبة عليها الحلية و الطهارة موجودة فيه، وبعد وجوده يشك في وجود غنميته، فتستصحب، بل هذا المعلوم وجوده إما غنم فهو بذاته قابل للحلية و الطهارة، وإما أرنب فهو بذاته غير قابل لهما، ولا أصل يعين أحدهما، لان شأن الاستصحاب إثبات استمرار المستصحب وبقائه في عمود الزمان لا تعيين الحادث المردد بين شيئين، فلا يجري الاستصحاب في القابلية بهذا المعنى وان سلمنا جريانه في الاعدام الأزلية، لأنه يجري في لوازم الوجود دون الأمور الذاتية ولوازم الماهية. 451
والحاصل: أن الاستصحاب لا يجري في عدم القابلية بهذا المعنى و هو الخصوصية الذاتية، كما لم يجر فيه بمعناها الأول المتقدم في المسألة الأولى. وأما التذكية فان كانت مركبة من فري الأوداج مع إسلام الذابح و التسمية والاستقبال وكون الذبح بالحديد مع قابلية المحل، فلا تجري أصالة عدم التذكية إذ المفروض تحققها، فيحكم بطهارته، لصيرورته مذكى، وحرمته لاستصحابها. وتوهم جريان أصالتي الطهارة والحل، لعدم جريان أصالة عدم التذكية لتحققها حسب الفرض، ولعدم جريان الأصل في عدم القابلية، مندفع بأنه لو انتهى الامر إلى الأصل لكان الجاري هو الأصل الحاكم على هذين الأصلين وهو استصحاب الطهارة والحرمة الثابتتين للحيوان حال حياته. واختلاف منشئهما - لكون الطهارة المتيقنة لأجل الحياة والحرمة لأجل عدم وقوع قطع الأوداج مع الشرائط عليه حال الحياة، وبعد الموت تستند الحرمة إلى عدم القابلية - لا يقدح في جريان الاستصحاب، لعدم انثلام ما هو المدار في جريانه من وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة عرفا بذلك كما تقدم في المسألة الأولى. ونقول هنا توضيحا لوجه عدم القدح: ان المستفاد من قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم) ومثل قوله عليه السلام في بعض النصوص: (إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذابح) كون غير المذكى هو الحيوان الذي زهق روحه ولم يذك، ومن المعلوم أن كلا من الزهوق والذكاة عرض قائم بالحيوان وليس أحدهما نعتا للاخر، فهو من صغريات كبرى التركيب لا التقييد، وزهوق روحه 452
محرز وجدانا ووقوع التذكية كلا أو بعضا عليه مشكوك، فيستصحب عدمه، فيتم الموضوع وهو عدم المذكى بضم الأصل إلى الوجدان، و يترتب عليه حكمه وهو الحرمة، فيصح أن يقال: ان هذا الحيوان لم يقع عليه التذكية إلى أن زهق روحه، فيثبت بالاستصحاب عدم وقوع التذكية عليه من دون أن يكون مثبتا. وان كانت التذكية بسيطة أو مقيدة، فلا مانع من جريان أصالة عدمها، للعلم بعدم التذكية حينئذ حال حياة الحيوان، فيجري استصحابه. المسألة الثالثة: أن تكون الشبهة الحكمية من جهة الشك في حلية الحيوان مع العلم بقبوله للتذكية، ويكون منشأ الشك فيها عدم الدليل على حليته أو حرمته، أو تعارضه أو إجماله، والمرجع في جميع ذلك هو استصحاب الحرمة الثابتة للحيوان حال حياته، إذ لا مانع من جريانه بعد وقوع التذكية عليه، وعدم القدح في اختلاف منشأ الحرمة في حياته وبعد تذكيته كما تقدم في المسألة الثانية. وان شئت فقل: ان الشك في ثبوت حلية الحيوان مع العلم بقبوله للتذكية ووقوعها عليه من الشك في رافعية الموجود، لاحتمال كون التذكية الواقعة عليه رافعة لحرمته الثابتة حال حياته، فتستصحب تلك الحرمة، ومع هذا الاستصحاب الحكمي لا تصل النوبة إلى قاعدة الحل، لحكومته عليها. وربما قيل بعدم جريان هذا الاستصحاب الحكمي، وحاصل ما يقال في وجهه أمران: أحدهما: عدم تسليم حرمة أكل الحيوان الحي حتى يصح استصحابها. ثانيهما: أن حرمة أكله حيا على تقدير تسليمها كانت ثابتة للحيوان المتقوم 453
بالحياة، وما يشك في حليته انما هو اللحم، وذلك مغاير للحيوان، فلا يمكن جريان الاستصحاب فيه. وفي كليهما ما لا يخفى، إذ في أولهما: أن حرمة أكله قبل وقوع التذكية عليه مسلمة. ويدل عليه موثقة عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث (أنه سأله عن الشاة تذبح فيموت ولدها في بطنها، قال: كله فإنه حلال، لان ذكاته ذكاة أمه، فان هو خرج وهو حي فاذبحه وكل، فان مات قبل أن تذبحه فلا تأكله، وكذلك البقر والإبل)، فان الامر بذبح الولد الخارج حيا ظاهر في حرمة أكل الحيوان الحي غير المذكى. ومنه يعلم أن الاستشهاد على الجواز بما دل على جواز أكل السمك الصغير حيا أجنبي عن المدعى، إذ المفروض أن ذكاة السمك تتحقق بإخراجه من الماء حيا ولا دليل على اعتبار زهوق روحه في جواز أكله. وهذا بخلاف مثل الشاة، فان الامر بالذبح الذي يتعقبه زهوق الروح عادة ظاهر في حرمة أكلها قبل زهوق روحها. نعم لا يعتبر أن يستند موتها إلى التذكية، فلو ألقيت بعد الذبح من شاهق مثلا وماتت بذلك لم تحرم. وعليه، فلا مانع من استصحاب الحرمة بعد وقوع التذكية عليها خصوصا بناء على عدم إطلاق المذكى على الحيوان إلا بعد زهوق روحه. وفي ثانيهما: أن موضوع الحرمة هو اللحم، ومن المعلوم أن الموت و الحياة من حالاته المتبادلة، فلا مانع من استصحاب حرمته. 454
وبالجملة: فالحيوان القابل للتذكية المشكوك حل لحمه شرعا محكوم بعد وقوع التذكية عليه بالطهارة والحرمة. الا أن في استصحاب الحرمة منعا تقدم التنبيه عليه في ص 425، فلاحظ. المسألة الرابعة: أن تكون الشبهة الحكمية من جهة الشك في حلية لحم الحيوان، ويكون منشأ الشك فيها احتمال دخل شئ في التذكية كإيمان الذابح وعدم تولده من الزنا وذكورته وبلوغه، كما إذا ذبح صبي غنما وشك في حلية لحمه، لاحتمال دخل البلوغ في الذابح، فلا بد حينئذ بعد منع إطلاق أدلة التذكية لفظيا ومقاميا كما هو المفروض من الرجوع إلى الأصل العملي وهو أصالة عدم التذكية، و هذا من غير فرق بين احتمال دخل البلوغ مثلا في نفس التذكية أو في محصلها، وذلك لسبق العلم بعدمها على كل تقدير، فإذا جرت أصالة عدم التذكية ترتب عليها جميع الأحكام المترتبة على الميتة من النجاسة وبطلان الصلاة وغيرهما، لما عرفت في الامر الثالث من أن الميتة هي عدم المذكى موضوعا أو حكما، فلا وجه لما عن الفاضل النراقي وغيره من الأصحاب (قدس سرهم) من سقوط أصالة عدم التذكية بمعارضتها لأصالة عدم الموت حتف الانف والرجوع إلى قاعدتي الحل والطهارة المقتضيتين لطهارة الحيوان وحلية لحمه. مضافا إلى أنه بعد تسليم التعارض يكون المرجع استصحاب الحرمة و الطهارة الثابتتين حال حياة الحيوان، لا قاعدتي الحل والطهارة، لحكومة الاستصحاب عليهما. كما لا وجه لما في تقريرات بعض أعاظم العصر من (أن التحقيق جريان 455
الأصلين وهما أصالة عدم الموت حتف الانف، لعدم لزوم مخالفة عملية من جريانهما، ومجرد ملازمة عدم التذكية وأصالة عدم الموت حتف الانف، لعدم لزوم مخالفة عملية من جريانهما، ومجرد ملازمة عدم التذكية للموت لكونهما ضدين لا ثالث لهما غير مانع عن جريانهما، لان التفكيك بين اللوازم في الأصول العملية غير عزيز كما في التوضي بالمائع المردد بين الماء والبول، حيث إنه يحكم بطهارة البدن وبقاء الحدث، ففي المقام يحكم بحرمة الاكل، لأصالة عدم التذكية وبالطهارة لأصالة عدم الموت) وذلك لما مر في بعض المقدمات من أن عدم المذكى ليس غير الميتة، بل هو الميتة حقيقة أو حكما، فليسا متغايرين حتى يجري فيهما الأصل. وبالجملة: فالأصل الجاري في الشك في اعتبار شئ في التذكية هو أصالة عدم التذكية دون قاعدتي الحل والطهارة، ودون استصحاب الطهارة والحرمة ودون أصالتي عدم التذكية وعدم الموت المثبتتين للحرمة والطهارة. فتلخص من جميع ما ذكرناه في المقام الأول أمور: الأول: عدم جريان الأصل في الشك في القابلية بكلا معنييها. الثاني: قابلية كل حيوان للتذكية عدا ما استثني. الثالث: إطلاق أدلة التذكية الرافع لاعتبار كل ما يحتمل دخله في التذكية. الرابع: جريان أصالة عدم التذكية بعد منع إطلاق أدلة التذكية والقابلية فيما إذا كانت الشبهة الحكمية ناشئة من إجمال مفهوم التذكية شرعا من حيث كونها أمرا بسيطا أو مقيدا، أو من حيث احتمال شرطية شئ كبلوغ الذابح فيها. وأما إذا كانت الشبهة ناشئة من القابلية مع وضوح حدود مفهوم التذكية فالأصل الجاري في الحيوان حينئذ استصحاب الطهارة والحرمة دون 456
قاعدتي الحل والطهارة. وأما المقام الثاني وهو الشبهة الموضوعية، فله صور أيضا نذكر أحكامها في طي مسائل: الأولى: أن يكون الشك في حلية لحم لدورانه بين كونه من حيوان مأكول اللحم كالغنم وحيوان محرم اللحم كالأسد مع العلم بقبوله للتذكية ووقوعها بجميع شرائطها عليه، والظاهر جريان أصالة الحل فيه كسائر الشبهات الموضوعية من دون توقف على الفحص، و معه لا مجال لاستصحاب حرمة لحمه الثابتة له حال حياة الحيوان، لان قاعدة الحل تثبت كون الحيوان محلل الاكل، والمفروض وقوع التذكية عليه أيضا، لان مرجع الشك حينئذ إلى أن الحيوان المذكى حلال أو حرام، والأصل الجاري فيه أصالة الحل، فما عن الشهيد (قده) من أن الأصل في اللحوم مطلقا هو الحرمة لا يمكن المساعدة عليه في هذا الفرض. وتوجيهه باستصحاب حرمة أكله الثابتة قبل زهوق روحه غير وجيه، لأنه ان أريد بها حرمته الناشئة من عدم التذكية فقد ارتفعت بالتذكية، وان أريد بها حرمته الأصلية، فلا علم بها سابقا حتى تستصحب، ولذا حكم بعدمها بقاعدة الحل كما أشرنا إليه آنفا. وكذا تجري قاعدة الحل فيما إذا تردد اللحم بين كون من الحيوان المحلل كالغنم والمحرم كالقرد مع فرض الشك في قبوله للتذكية، فإنه من الشبهات الموضوعية التي تجري فيها أصالة الحل بدون الحاجة إلى الفحص. الا أن يقال: ان أصالة عدم التذكية في غير صورة العلم بقابلية الحيوان للتذكية مع وقوعها خارجا محكمة، ومقتضاها الحرمة، وفي صورة العلم بقابلية الحيوان للتذكية وحصولها خارجا تجري قاعدة الحل، وعلى كل حال 457
ليس هنا أصل يقتضي حرمة اللحم في جميع الشبهات كما هو ظاهر كلام الشهيد والسيد في العروة وغيرهما قدس الله تعالى أسرارهم، فلاحظ. المسألة الثانية: أن يكون الشك في الحلية لاحتمال عدم قبوله للتذكية ذاتا مع العلم بوقوع الذبح الجامع للشرائط عليه كتردد الحيوان المذبوح لظلمة مثلا بين الغنم والكلب، فعلى القول الصحيح من قابلية كل حيوان للتذكية إلا ما استثني مع البناء على جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية حتى في العناوين الذاتية كعنوان الكلبية مثلا لا مانع من التمسك بعموم ما دل على قابلية كل حيوان للتذكية بعد إجراء استصحاب عدم تحقق العنوان الخارج لاحراز كونه مما يقبل التذكية، فيحكم بطهارته لكونه مذكى، من غير فرق في ذلك بين كون التذكية أمرا بسيطا ومركبا، ضرورة أنه بعد إثبات قابليته للتذكية بالاستصحاب المزبور ووقوع الذبح مع الشرائط عليه كما هو المفروض يصير مذكى وطاهرا وحلالا، لقاعدة الحل التي تجري في كل مشكوك الحل والحرمة، ومنه هذا الحيوان المذكى. ولا مجال لاستصحاب حرمته الثابتة له قبل التذكية، لأنه بعد ثبوت حليته الذاتية بقاعدة الحل ووقوع التذكية عليه لا يبقى شك في حرمته مطلقا، أما الحرمة الذاتية فبقاعدة الحل، وأما العرضية فلارتفاعها بالتذكية. هذا كله بناء على جريان الاستصحاب لاحراز كون الحيوان مما يقبل التذكية. وأما بناء على عدم جريانه فيه لمنع جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية مطلقا أو في خصوص العناوين الذاتية، فيجري أصالة عدم التذكية بناء على بساطة التذكية وتسببها عن الذبح بشرائطه كتسبب الطهارة عن الغسلتين 458
والمسحتين على أحد الوجهين، فيحكم بحرمته ونجاسته، وبناء على كون التذكية نفس فري الأوداج مع الشرائط تجري قاعدة الحل، إذ المفروض العلم بتحقق التذكية بهذا المعنى. فالنتيجة: أن المرجع في هذه المسألة إما أصالة عدم التذكية وإما قاعدة الحل. المسألة الثالثة: أن يكون الشك في الحلية ناشئا من احتمال عروض عنوان مانع عن تذكيته كالجلل بعد العلم بقابليته لها كالشاة مثلا إذا احتمل طرو جلل عليها، لا ينبغي الاشكال في جريان استصحاب عدم المانع، فإذا ذبح على الوجه الشرعي حكم بحليته، لتحقق قيد موضوع الحلية وهو عدم الجلل بالأصل ونفس التذكية بالوجدان، و هذا من غير فرق بين كون التذكية الذبح المقيد بإسلام الذابح و التسمية وغيرهما وبين كونها بسيطة ومركبة، فان وقوع التذكية بأي معنى كانت على حيوان أحرز قابليته لها بالأصل يكون كوقوعها على حيوان أحرزت قابليته للتذكية بالوجدان. وبالجملة: فالحكم في هذه الصورة من الشبهة الموضوعية هو الطهارة والحلية. المسألة الرابعة: أن يكون الشك في الحلية للشك في وقوع أصل الذبح أو في جامعيته للشرائط، كما إذا شك في إسلام الذابح أو في كون الذبح بالحديد مع العلم بقبول الحيوان للتذكية، والمرجع فيها أصالة عدم التذكية المقتضية للنجاسة وحرمة الاكل وعدم جواز الصلاة في أجزائه. نعم إذا كان الذابح مسلما وشك في تحقق بعض ما يعتبر في التذكية، فلا مانع من جريان أصالة 459
الصحة في فعله، فيحكم بوقوع التذكية على الوجه الشرعي، فيكون طاهرا ويحل أكله. ثم إن هنا أمورا ينبغي التنبيه عليها: الأول: أنه قد أورد على أصالة عدم التذكية في موارد جريانها تارة بمعارضتها بأصالة عدم الموت حتف الانف، فيرجع بعد تساقطهما إلى قاعدة الطهارة كما عن الفاضل النراقي (ره) وأخرى بعدم اليقين السابق، توضيحه: أن موضوع الحرمة والنجاسة ليس مطلق عدم التذكية حتى يستصحب، بل خصوص عدمها حال خروج الروح، لطهارة الحيوان الحي قبل التذكية، فلا يقين بالموضوع وهو عدم التذكية حين الزهوق ليستصحب. وثالثة بأن أصالة عدم التذكية لا تثبت إلا الحرمة، لان النجاسة مترتبة على الميتة دون عدم المذكى. والكل كما ترى، إذ في الأول: ما تقدم من أن عدم المذكى هو الميتة حقيقة أو حكما، فليسا متغايرين حتى يجري فيهما الأصل. وفي الثاني ما سبق أيضا من أنه لا مانع من استصحاب عدم التذكية إلى زمان الزهوق، فالموت معلوم وجدانا وعدم تذكيته إلى زمان الزهوق محرز تعبدا، وهذا من الموضوع المركب الذي يحرز كلا أو بعضا بالتعبد، لا من الموضوع المقيد الذي لا يحرز بالأصل إلا على القول بحجية الأصول المثبتة. وفي الثالث: ما مر أيضا من أن الحرمة والنجاسة ثابتتان لغير المذكى مطلقا وان لم يمت حتف أنفه. والحاصل: أنه إذا جرت أصالة عدم التذكية ترتب عليها كل من النجاسة 460
والحرمة. والتفكيك بينهما كما عن الشهيد (قده) وفي تقرير بعض الأعاظم نظرا إلى (أن الحرمة بمقتضى قوله تعالى: إلا ما ذكيتم أنيطت بعدم التذكية، وأما النجاسة فقد علقت على الميتة التي هي الحيوان الذي مات حتف أنفه، فمع الشك في نجاسة غير المذكى تجري فيه قاعدة الطهارة) غير سديد، لما مر من أن عدم المذكى ميتة حقيقة أو حكما، ويترتب عليه جميع أحكام الميتة التي منها النجاسة، فغير المذكى حرام ونجس وتبطل الصلاة فيه. نعم مع عدم جريان أصالة عدم التذكية في مشكوك القابلية يستصحب طهارة الحيوان وحرمته المعلومتان حال حياته، ففي هذه الصورة لا مانع من التفكيك بين الطهارة والحلية. ومنع جريان استصحابهما بدعوى مغايرة الحيوان حيا وميتا، فتجري فيه قاعدتا الحل والطهارة، في غير محله، لان موضوع الاستصحاب هو اللحم والجلد، والحياة والموت من حالاتهما المتبادلة عرفا كما أشرنا إليه سابقا. وقد اتضح مما ذكرنا: ثبوت الملازمة بين النجاسة والحرمة في كل حيوان تجري فيه أصالة عدم التذكية إذا كان مما له نفس سائلة، و أما مع عدم جريانها يجري الاستصحاب الحكمي في طهارته و حرمته، فلا ملازمة حينئذ بين الحرمة والنجاسة، بل يحكم بالطهارة و الحرمة، فما في تقريرات المحقق النائيني رفع في الخلد مقامه: (فالأقوى ثبوت الملازمة بين الحل والطهارة في جميع فروض المسألة) مما لا يمكن المساعدة عليه، لان وجه الملازمة عنده (قده) فيما لا تجري فيه أصالة عدم التذكية هو جريان قاعدتي الحل والطهارة دون استصحاب الحرمة والطهارة، لاختلاف الموضوع في نظره زيد في علو درجته، 461
حيث إن للحياة دخلا في الحكم بالحرمة والطهارة، فيكون الحيوان الحي غير الحيوان الذي زهق روحه، فتنثلم وحدة الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة. لكن قد عرفت عدم وجاهة هذا الوجه، فإجراء الاستصحاب الحكمي مما لا محذور فيه، ومقتضاه الطهارة والحرمة. الامر الثاني: أن جريان أصالة عدم التذكية وكذا استصحاب الطهارة و الحرمة موقوفان على عدم أمارة على التذكية من يد مسلم أو سوقه، حيث إنهما أمارتان عليها حاكمتان على أصالة عدم التذكية و استصحاب الطهارة والحرمة. ويدل على ذلك بعد الاجماع بل الضرورة وسيرة المتشرعة نصوص معتبرة: منها: صحيح البزنطي، قال: (سألته عن الرجل يأتي السوق، فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ فقال: نعم ليس عليكم المسألة، ان أبا جعفر عليه السلام كان يقول: ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان الدين أوسع من ذلك) وقريب منه صحيحة الاخر وصحاح الحلبي وسليمان بن جعفر الجعفري و إسحاق بن عمار وغيرها مما يدل على جواز ترتيب آثار التذكية في موارد خاصة مع اشتمال بعضها على رجحان ترك الفحص و السؤال عن تذكيتها. 462
وبهذه النصوص يجمع بين ما يدل على جواز ترتيب آثار التذكية مطلقا ما لم يعلم بعدمها كموثق سماعة: (سأل أبا عبد الله عليه السلام عن تقليد السيف في الصلاة وفيه الفراء والكيمخت، فقال عليه السلام: لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة) وقوله عليه السلام في رواية علي بن أبي حمزة: (ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه) وبين ما يدل على المنع من ترتيب الأثر مطلقا حتى يعلم أنه مذكى، كقوله عليه السلام في موثق ابن بكير الوارد في المنع عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه: (فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه و ألبانه وكل شئ منه جائزة إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح). ونتيجة هذا الجمع العرفي البناء على عدم التذكية مع الشك فيها، و ترتيب آثار عدمها إلا مع وجود أمارة عليها من بيع المسلم أو صلاته فيه أو غيرهما من التصرفات الدالة على تذكيته، وهذا جمع موضوعي يقيد كلا من إطلاقي الجواز والمنع، ومعه لا تصل النوبة إلى الجمع الحكمي بأن يؤخذ بإطلاق الجواز ويحمل إطلاق المنع على الكراهة مع عدم الامارة، فان المحقق في محله تقدم الجمع الموضوعي على الحكمي، فليست الشبهة في المقام كسائر الشبهات الموضوعية التي تجري فيها قاعدة الحل كما عن صاحب الحدائق (تمسكا بعموم كل شئ يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال، ولذا لم يفرق في الحكم بالحلية بين يد المسلم والكافر) فان ما ذكره (قده) يهدم أساس حكومة بعض الأصول على بعضها الاخر، فكل شبهة موضوعية يكون فيها أصل حاكم لا تصل 463
النوبة معه إلى أصل محكوم، كتردد المرأة بين الزوجة والأجنبية، فإنه يحرم ترتيب آثار الزوجية عليها وان لم نقل بانقلاب الأصل في الموارد الثلاثة، وذلك لاستصحاب الأجنبية، ومعه لا تجري فيها قاعدة الحل أصلا. ثم إن هنا فروعا لا بأس بالتعرض لها إجمالا: الأول: أن المراد بالسوق خصوص سوق المسلمين، لقول أبي جعفر عليه السلام في صحيح الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم: (كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه) ويقيد به إطلاق السوق في سائر النصوص. مضافا إلى انصراف السوق إليه. كما أن المراد باليد مطلق الاستيلاء ولو كان غصبا أو كان المتصدي للبيع ونحوه كافرا وكالة عن مسلم إذ ليس لليد حقيقة شرعية، ومن المعلوم أن معناها العرفي هو مطلق الاستيلاء وان لم يكن مشروعا. الثاني: أن الظاهر اعتبار اليد والسوق وأرض الاسلام من حيث الطريقية والكشف عن الاستعمال الدال على التذكية من دون أن يكون لها موضوعية، فلو لم يكن هناك استعمال كالجلد المطروح في أرض الاسلام، أو كان ولكن لم يكن كاشفا عن التذكية كما إذا صنع الجلد قربة لنقل النجاسات، فلا عبرة حينئذ باليد والسوق وأرض الاسلام. والمراد بالاستعمال أعم من الفعلي كوضع المأكول أو المشروب فيه، ومن الاعدادي كتعريضه للبيع أو للصلاة فيه. ويشهد له - مضافا إلى الانصراف، وأن اعتبار مثل اليد والسوق انما هو لأجل الكشف والطريقية غالبا لا الموضوعية - خبر الأشعري، قال: (كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام: ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال 464
عليه السلام: إذا كان مضمونا فلا بأس) والظاهر إرادة المستعمل فيما يشترط فيه الطهارة من قوله عليه السلام: (مضمونا) إذ إرادة ظاهره خلاف الاجماع. وقول أبي الحسن عليه السلام في خبر إسماعيل بن عيسى: (وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه). كما أن الظاهر أيضا إرادة مطلق محل التكسب والتجارة من السوق وان لم يكن هو السوق العام الذي تقع فيه أنواع التجارات و المعاملات، والتعبير بالسوق في النصوص مبني على ما هو الغالب من وقوع التكسبات فيه. والظاهر أيضا مرجوحية الفحص والسؤال عما في السوق، لقوله عليه السلام في صحيحي البزنطي المتقدم أحدهما: (ليس عليكم المسألة). الثالث: أن المراد بالمسلم في سوقه وأرضه ويده كل من يظهر الشهادتين ولم يحكم بكفره كالنواصب والخوارج والغلاة، فيشمل جميع فرق المسلمين عدا من حكم بكفره سواء اتفقوا في شرائط التذكية أم اختلفوا فيها، وسواء استحلوا طهارة الميتة بالدبغ أم لا، و ذلك لاطلاق (المسلم في النصوص، وعدم تقيده بالولاية أو غيرها، و لقيام سوق المسلمين في عصر صدور الروايات بغير أهل الولاية، فالمراد بسوق المسلمين ما يقابل سوق الكفار. نعم الأحوط الأولى الاجتناب عن الجلود المشتراة ممن يستحل الميتة بالدبغ، لخبر أبي بصير عن الصادق عليه السلام: (كان علي بن الحسين عليهما السلام رجلا صردا لا يدفئه فراء الحجاز، لان دباغها بالقرظ، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو، فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه 465
وألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك، فقال عليه السلام: ان أهل العراق يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون أن دباغه ذكاته) وقريب منه خبر ابن الحجاج. وحملهما غير واحد على الكراهة، لضعف سندهما، لكنه مبني على قاعدة التسامح، وهي في موردها أعني المستحبات محل تأمل، بل منع فضلا عما ألحق به من المكروهات. نعم لا بأس بجعلهما منشأ للاحتياط الاستحبابي بالاجتناب. الرابع: أن يد المسلم تكون تارة مستقلة وأخرى مشتركة، وعلى الأول إما يعلم بسبق يد الكافر عليه وإما يعلم بعدمه وإما يشك في ذلك، لا إشكال في أمارية اليد على التذكية في الصورتين الأخيرتين كما هو واضح. وأما الصورة الأولى، فالحكم فيها النجاسة، اما للنصوص المتقدمة التي قد عرفت أن محصل الجمع بينها البناء على عدم التذكية إلا مع قيام الامارة من يد المسلم أو سوقه على التذكية، وإما لكون يد الكافر أمارة على عدم التذكية كما ذهب إليه في الجواهر، كأمارية يد المسلم على التذكية، وان كان الأقرب هو الأول، لعدم تمامية ما استدل به على أمارية يد الكافر على عدم التذكية من خبري إسماعيل بن عيسى وإسحاق بن عمار، وذلك لأنهما بعد الغض عن سندهما لا يدلان إلا على ثبوت البأس ولزوم السؤال مع عدم غلبة المسلمين وعدم صلاتهم فيه، وهذا مما تقتضيه أصالة عدم التذكية، ولا يدلان على كون ذلك لأجل أمارية يد الكافر على عدم التذكية. 466
نعم مع استعمال المسلم له استعمالا يدل على التذكية كجعله ظرفا للمأكول أو المشروب يحكم بتذكيته، لاطلاق ما دل على أمارية مطلق فعل يصدر من المسلم - مما يدل على التذكية كالصلاة فيه - على كونه مذكى، فحينئذ نرفع اليد عما تقتضيه أصالة عدم التذكية باليد التي هي أمارة عليها. نعم بناء على أمارية يد الكافر على عدم التذكية يمكن أن يقال بتعارض الامارتين والرجوع إلى أصالتي الحل والطهارة مع عدم ترتب أحكام المذكى عليه، فلا يحكم بصحة الصلاة فيه، فتدبر. هذا إذا لم يكن المسلم بمنزلة الآلة وأما إذا كان بمنزلتها فلا عبرة بيده أصلا، و الحكم فيه النجاسة. وعلى الثاني وهو اشتراك اليد بين المسلم والكافر بحيث يكون كل واحد منهما ذا يد فعلية عليه، فعلى القول بأمارية يد الكافر على عدم التذكية كما عليه صاحب الجواهر (قده) كأمارية يد المسلم عليها يقع التعارض بينهما، ويرجع إلى أصالتي الحل والطهارة بناء على عدم جريان استصحاب الحرمة والطهارة، وإلا فهو المعول. وعلى القول بعدم أمارية يد الكافر على عدم التذكية كما هو الصحيح يحكم بكونه مذكى، لامارية يد المسلم على التذكية من دون مانع، ولا حاجة معه إلى جعل اليد أمارة على الملكية ابتداء ثم جعل الملكية أمارة على التذكية. بل لا وجه له، لترتب الملكية على التذكية ترتب الحكم على موضوعه، فان قابلية المحل للملكية شرط لها، فالحكم بها منوط بإحراز القابلية، وبدون إحرازها لا يحكم بالملكية، ومع قيام الامارة على القابلية للتذكية لا تصل النوبة إلى إحرازها بأمارة تدل بالالتزام عليها، لان اليد إذا جعلت أمارة على الملكية 467
كانت دلالتها على التذكية بالاستلزام، بخلاف جعل اليد أمارة على التذكية فإنها تدل حينئذ عليها بالمطابقة. وان شئت فقل: ان الشك في الملكية ناش عن الشك في القابلية لها، فان كان هناك ما يحرز القابلية مطابقة قدم على ما يحرزها التزاما، فتدبر. هذا كله حال يد المسلم استقلالا واشتراكا. وأما يد الكافر، فان كانت غير مسبوقة بيد المسلم أو لم يعلم سبق يد المسلم عليها، فيحكم بنجاسة ما في يده وعدم تذكيته، لأصالة عدم التذكية، ولا يحكم بالطهارة إلا بعد المنع عن جريانها والبناء على جريان استصحاب الطهارة أو قاعدتها. وان كانت مسبوقة بيد المسلم مع الأثر الدال على التذكية حكم بذكاته وطهارته. ووقوعه تحت يد الكافر لا يغيره عما وقع عليه، حيث إن أمارية يد المسلم على التذكية ليست مشروطة ببقاء يده عليه، فإذا حكم بالتذكية حكم بطهارته دائما. والحاصل: أن اليد المتأخرة عن يد المسلم لا أثر لها ولا تؤثر في نجاسة ما كان محكوما بالطهارة قبل وقوعه تحت يد الكافر. الخامس: إذا كان السوق مختصا بالكفار أو بالمسلمين، فلا إشكال، للحكم بنجاسة ما في الأول من اللحم والجلد وطهارته في الثاني. و أما مع اشتراك السوق بينهما، فمع غلبة المسلمين على غيرهم يحكم بالطهارة وكونه مذكى، لقوله عليه السلام في موثق إسحاق بن عمار: (إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس) إذ المستفاد منه أنه مع كون غير أهل الاسلام أيضا في السوق يبنى على إسلام البائع المجهول الحال لأجل الغلبة، فجعلت الغلبة أمارة على إسلام 468
البائع. ومع التساوي أو غلبة الكفار، فان كان البائع مسلما حكم بكون المبيع مذكى، لامارية يده على التذكية. وان كان كافرا وجب السؤال و الفحص وترتيب آثار عدم التذكية عليه لأصالة عدمها إلى أن يثبت بحجة معتبرة ذكاته. وان كان مجهول الحال حكم بعدم كون ما بيده مذكى، لأصالة عدم التذكية وفقد أمارة حاكمة عليها. ودعوى كونه محكوما بالطهارة في صورة التساوي نظرا إلى التسهيل، وحمل قوله عليه السلام في موثق ابن عمار المتقدم: (إذا كان الغالب عليها المسلمين) على الغالب في تلك الاعصار، وعدم كونه من القيود الاحترازية حتى يدور الحكم مداره، غير مسموعة، لعدم كون التسهيل دليلا على الطهارة، ومجرد سهولة الشريعة لا تصلح لاثباتها، لان التسهيل من قبيل الملاكات الداعية إلى التشريع، لا أنه دليل على المجعول في مقام الاثبات، ولا يصح الاستدلال على الطهارة بالتسهيل. ولعدم الوجه في حمل القيد على الغالب، ضرورة أنه خلاف الأصل في القيود، ولا يصار إليه إلا بقرينة هي مفقودة في المقام. وما اشتهر من أن الغلبة في القيد تخرجه عن الاحترازية تمسكا بقوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم) غير وجيه، لأنه لو لم يكن دليل من الخارج على عدم دخل الحجر في حرمة الربيبة لقلنا باختصاص الحكم بالربائب اللاتي في الحجور، كما يقال باختصاص حرمة الربيبة بربيبة دخل الزوج بأمها تمسكا بقوله تعالى: (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) مع أن الدخول بالنساء قيد غالبي، فلا بد من حمله على الغالب، ولم يقل أحد بذلك، لاتفاقهم على عدم حرمتها بدون الدخول بأمها. 469
وبالجملة: فالمعول أصالة عدم التذكية فيما يؤخذ من مجهول الحال مع اختصاص السوق بالكفار أو غلبتهم على المسلمين أو التساوي. وأما مع غلبة المسلمين فضلا عن اختصاص السوق بهم، فيحكم بطهارة ما يؤخذ من مجهول الحال، لما عرفت من ظهور موثقة ابن عمار المتقدمة في كون غلبة المسلمين أمارة على السلام البائع المجهول الحال، فما عن المستند (من الحكم بتذكية ما يؤخذ من مجهول الحال إذا كان في سوق المسلمين) في غاية المتانة. نعم استدلاله عليه بإطلاق نصوص السوق لا يخلو عن المناقشة إذ لا إطلاق فيها بعد ما عرفت من كون السوق وأرض الاسلام عنوانا مشيرا إلى ما هو الموضوع حقيقة من الاستعمال الدال على التذكية، فالوجه في ذلك هو الغلبة التي هي أمارة على إسلام البائع، والمفروض تحقق الاستعمال الكاشف عن التذكية أيضا، وهو التعريض للبيع فيتم موضوع الطهارة. ومن هنا يتضح ضعف ما يظهر من الجواهر (من وجود القول بأمارية السوق مطلقا ولو كان مأخوذا من يد الكافر) لكن ظاهر المستند عدم وجود القائل بها، وذلك لما عرفت من عدم إطلاق في نصوص السوق، وعدم موضوعية له، وطريقيته لاستعمال المسلم بنحو يدل على التذكية. كما يتضح ضعف ما عن الحدائق (من طهارة الجلد المطروح استنادا إلى أنها مما تقتضيه القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى من أن كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال، وكل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر) وذلك لمحكومية قاعدتي الحل والطهارة بأصالة عدم التذكية التي هي دليل المشهور على نجاسة الجلد المطروح. 470
وكما يظهر ضعف ما عن المدارك (من البناء على طهارة الجلد المطروح لقاعدة الطهارة، واستشكاله في أصالة عدم التذكية بعدم حجية الاستصحاب، والاستشهاد بصحيح الحلبي: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الخفاف التي تباع في السوق، فقال عليه السلام: اشتر وصل فيها حتى تعلم أنه ميتة بعينه، ورواية علي بن أبي حمزة: ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه)، وذلك لما قرر آنفا من حكومة أصالة عدم التذكية على قاعدة الطهارة بعد وضوح حجية الاستصحاب كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى. وأما صحيح الحلبي فمورده السوق الذي هو أمارة على التذكية مع وجود الاستعمال الدال عليها. و أما خبر ابن حمزة فهو بعد الغض عن ضعف سنده من المطلقات التي لا بد من تقييدها بوجود أمارة على التذكية، ومما يعارضه النصوص التي علقت جواز الصلاة فيما يؤكل لحمه على العلم بالتذكية كموثقة ابن بكير المتقدمة. فتلخص من جميع ما ذكرناه: أن المأخوذ من يد الكافر محكوم بالنجاسة وعدم التذكية مطلقا سواء كان في السوق المختص بالمسلمين أو الكفار أم المشترك بينهما، وسواء علم عدم سبق يد المسلم عليه أم شك في ذلك. نعم مع العلم بسبق يد المسلم عليه مع تصرفه فيه بما يدل على تذكيته يحكم بطهارته، والوجه في النجاسة في غير هذه الصورة أصالة عدم التذكية من دون أمارة حاكمة عليها. فما في بعض الرسائل العملية (من نفي البعد عن طهارة اللحم و الشحم والجلد المأخوذة من يد المسلم مع العلم بسبق يد الكافر عليها إذا احتمل أن 471
المسلم قد أحرز تذكيته على الوجه الشرعي) لا يخلو من الغموض، لان مجرد احتمال إحراز المسلم تذكيته لا يكفي في أمارية يد المسلم و حكومتها على أصالة عدم التذكية. نعم مع معاملة المسلم المبالي بالدين معه معاملة المذكى، أو العلم بمالكيته لما في يده من الجلد و غيره يحكم بالطهارة. السادس: لو كان ذو اليد كافرا وأخبر بتذكية ما في يده إما باشترائه من مسلم ذكاه أو توكيله مسلما في التذكية، فان حصل الاطمئنان العقلائي من إخباره فلا إشكال في اعتباره، لدخوله حينئذ في العلم العادي النظامي الذي يبني عليه العقلا في أمورهم، ولم يردع عنه الشارع، بل أمضاه. وان لم يحصل الاطمئنان المذكور من إخباره ففي اعتباره من جهة حجية اخبار ذي اليد إشكال، لان مستند اعتبار قول ذي اليد من سيرة العقلا أو اتفاق الفقهاء - كما عن الحدائق - لا يشمل إخبار ذي اليد الكافر، إذ المتيقن من هذين الدليلين اللبيين غير الكافر. نعم النصوص الواردة في الموارد المتفرقة - مثل ما ورد في القصارين والحجامين، و (أن الحجام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة) وما ورد في الدهن المتنجس من (أنه يبينه لمن اشتراه ليستصبح به) وإخبار المعير بنجاسة الثوب الذي بيده) حيث إن ظهورها في اعتبار قول ذي اليد مما لا ينكر - يمكن الاستدلال بها على المطلوب واصطياد قاعدة كلية وهي حجية إخبار ذي 472
اليد منها بالنسبة إلى جميع ما في يده وتحت استيلائه بالحلية و الحرمة والطهارة والنجاسة وغيرها كالتذكية. لكن يستفاد من مجموع صحيح معاوية بن عمار: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج و يقول: قد طبخ على الثلث، وأنا أعرفه أنه يشربه على النصف، فأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال عليه السلام: لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه أنه يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف يخبر أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه و بقي ثلثه يشرب منه؟ قال عليه السلام: نعم) اعتبار عدم اتهام ذي اليد في حجية قوله. والحاصل: أنه لا ينبغي التأمل في حجية قول ذي اليد ولو في خصوص صورة عدم الاتهام. وعليه فما عن شرح المفاتيح وشارح الدروس (من عدم اعتبار قول ذي اليد في خصوص النجاسة، لقوله عليه السلام: كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر، وأن قول ذي اليد ليس من العلم) لا يخلو من الغموض وذلك لان المراد بالعلم مطلق الحجة المعتبرة عقلا أو شرعا من العلم الوجداني والامارة غير العلمية والأصل، بل لا يبعد دعوى اعتبار قول الصبي المميز ذي اليد مع عدم الاتهام أيضا ان لم تكن الأدلة منصرفة عنه. ثم إن الظاهر كفاية مجرد الاستيلاء ولو عدوانا في اعتبار قول ذي اليد وعدم اشتراط كونه مالكا، لعدم دخله في مفهوم اليد عرفا، بداهة صدق مفهومها كذلك على مطلق الاستيلاء ولو كان ظلما و عدم دليل على اعتباره في ترتب آثار اليد عليه شرعا. 473
الامر الثالث: إذا كان هناك جلود من حيوانات مذكاة وجلود من حيوانات غير مذكاة واختلطت بحيث لا يتميز المذكى منها عن غيره، فان كانت الأطراف محصورة وجب الاجتناب عن الجميع، للعلم الاجمالي بنجاسة بعضها، وكذا الحال في اللحوم والشحوم المشتبهة. و ان كانت الأطراف غير محصورة بحيث لا يكون جميعها موردا للابتلاء حتى ينجز العلم الاجمالي لم يجب الاجتناب، بل يجوز الارتكاب، لقاعدة الطهارة. ولا موجب للاجتناب إلا ما يتوهم من جريان أصالة عدم التذكية فيما يكون محل ابتلائه من بعض الأطراف. وهو فاسد، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف المانع عن التعبد بالبقاء، وعن البناء العملي على أن أحد طرفي الشك أعني به المعلوم السابق هو الواقع وان لم يلزم من هذا التعبد مخالفة قطعية عملية كالمقام، إذ لا يلزم من التعبد ببقاء عدم التذكية إلا الاجتناب عن المذكى الواقعي، وهذا مما لا محذور فيه، لكن لا داعي إلى هذا التعبد بعد فرض انعدام موضوعه بانتقاض الحالة السابقة. والحاصل: أن المانع عن جريان الأصول التنزيلية في أطراف العلم الاجمالي هو المحذور في نفس الجعل والتشريع أعني التعبد بما يعلم إجمالا بخلافه، وليس المحذور ما يرجع إلى العبد من المخالفة عملا. وعليه فلا يجري الاستصحاب الحكمي أيضا بالمناط المذكور، فتصل النوبة إلى قاعدة الطهارة. ومن هنا يظهر حال الجلود المجلوبة من بلاد الكفار وما يصنع منها من الخف والنعل وغيرهما مع العلم بنقل جلود من بلاد المسلمين أيضا إلى بلادهم كما هو دأب التجار في هذه الاعصار، وعدم العلم بكون هذا الجلد المجلوب من جلود الكفار أو من جلود المسلمين المنقولة إلى تلك البلاد، فإنه مع عدم جريان 474
استصحابي عدم التذكية والطهارة تجري قاعدة الطهارة. ولكن لا تجوز الصلاة فيه، لعدم إحراز شرطه وهو التذكية والمأكولية. وان شئت فقل: ان وجه عدم جريان استصحاب عدم التذكية في الجلود هو عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين، إذ الشك الفعلي انما نشأ من اشتباه الجلود وعدم تميزها بعد العلم بذكاة جلود بلاد المسلمين وعدم ذكاة جلود بلاد الكفار، فهذا العلم قد تخلل بين القطع بعدم ذكاة الحيوان حال حياته وبين الشك الناشئ عن الاختلاط و عدم تميز الجلود، وزمان هذا الشك غير متصل بزمان القطع الذي كان حال حياة الحيوان. نظير عدم جريان استصحاب نجاسة الدم المردد بين كونه من المسفوح أو المتخلف في الذبيحة، فلا يقال: ان هذا الدم قبل ذبح الحيوان كان نجسا، والآن كما كان، وذلك لعدم اتصال زمان الشك في نجاسته فعلا بزمان اليقين بها حال حياة الحيوان، لأنه بعد الذبح وخروج ما يعتاد خروجه من الدم لقد علم بنجاسة الدم المسفوح وطهارة المتخلف والشك في نجاسة هذا الدم نشأ من الشك في كونه من الطاهر أو النجس، ومن المعلوم أن زمان هذا الشك ليس متصلا بزمان اليقين بنجاسته حال حياة الحيوان، لتخلل اليقين بنجاسة المسفوح وطهارة المتخلف بينهما، فمقتضى القاعدة طهارته، لكونه من الشبهات الموضوعية التي تجري أصالة الطهارة فيها. هذا ما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس. هذا حال الجلود. وأما اللحم والشحم المجلوبان من بلاد الكفار، فمع العلم الاجمالي باختلاطهما بمثلهما من الحيوان المذكى كما إذا علم إجمالا بأن هناك قسمين من الحيوان أحدهما مذكى والاخر غير مذكى كالعلم بأن بعض أفراد السمك 475
يخرج من الماء حيا ويموت خارج الماء، ويؤخذ بعضها من الماء بعد موته فيه، فإذا اشتبه لحم السمك المذكى المجلوب من بلاد الكفر بلحم السمك غير المذكى حكم بطهارته، لعدم كونه مما له نفس سائلة، وبحليته لقاعدة الحل إذ المانع من جريانها اما العلم الاجمالي، و اما أصالة عدم التذكية، وشئ منهما لا يصلح للمانعية. إذ في الأول عدم منجزيته، لخروج أكثر الأطراف عن مورد الابتلاء. وفي الثانية عدم جريانها، لما تقدم آنفا من منافاة التعبد ببقاء المعلوم السابق مع العلم الوجداني بالانتقاض. وكذا الحال في الاستصحاب الحكمي، فلا يحكم بحرمته لاستصحابها. هذا إذا اشتبه المذكى بغيره مما يحل أكله بالأصالة وكانت الحرمة لعدم التذكية. وكذا إذا اشتبه المذكى بغيره مما يحل أكله ذاتا كما إذا شك في كون هذا اللحم المجلوب من بلاد الكفر من السمك الذي له فلس أو مما ليس له فلس، أو في كونه من الغنم أو الخنزير. والحاصل: أنه مع العلم الاجمالي بوجود المذكى من الحيوانات البحرية والبرية في بلاد الكفر واشتباهه بغير المذكى منها في تلك البلاد يمكن الحكم بحليته وطهارة اللحم والشحم المجلوبين من تلك البلاد إلى الممالك الاسلامية المشكوك كونهما من الحيوان المحلل أو المحرم كالغنم والخنزير أو من الحيوان المحلل الذي شك في تذكيته بحيث نشأ احتمال حرمته من الشك في تذكيته لا في حرمته الأصلية. والوجه في الحلية والطهارة قاعدتا الحل والطهارة بعد 476
منع جريان أصالة عدم التذكية واستصحابي الحرمة والطهارة. هذا ما تقتضيه القاعدة، لكن الاحتياط للدين يقتضي الاجتناب. وأما مع عدم العلم الاجمالي بوجود المذكى في بلاد الكفر واحتمال وجوده فيها وعدمه، فمقتضى أصالة عدم التذكية نجاسة الجلود، و حرمة أكل اللحم والشحم ونجاستهما، والتفكيك بين الحرمة و النجاسة بالقول بالحرمة والطهارة في غير محله كما تقدم مفصلا. وأما الألبان ومشتقاتها المجلوبة من بلاد الكفر كالدهن والزبد والجبن وغيرها، فمع احتمال أخذها من مأكول اللحم يحكم بطهارتها وحليتها، لقاعدتيهما الجاريتين في سائر الشبهات الموضوعية أيضا إلا مع العلم بأخذها من غير محلل الاكل، فيحرم حينئذ، أو العلم بمباشرة الكفار لها، فيحكم بنجاستها بناء على نجاستهم. والحاصل: أنه مع احتمال الاخذ من الحيوان المحلل الاكل يحكم بحلية المجلوب وطهارته، من غير فرق في ذلك بين العلم الاجمالي باشتباه المذكى بغيره، أو المحلل الاكل بغيره، وبين عدم العلم بذلك، حيث إن حلية اللبن وما يصنع منه لا تتوقف على التذكية حتى يقال بجريان أصالة عدمها ويترتب عليها الحرمة والنجاسة. نعم لو توقفت على التذكية كدهن السمك، فمع العلم الاجمالي بوجود السمك المذكى وغيره عند الكفار يحكم بطهارته وحليته، لقاعدتيهما، وعدم جريان أصالة عدم التذكية واستصحاب الحرمة، لما مر من العلم بالانتقاض. ومع عدم العلم الاجمالي بوجود المذكى عند الكفار يحكم بحرمته، لأصالة عدم التذكية، وطهارته، لعدم نجاسة ميتة ما ليس له نفس سائلة. 477 الثاني (1): أنه لا شبهة في حسن (2) الاحتياط
478 شرعا [1] وعقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات
[1] أما حسنه العقلي، فلكونه انقيادا للمولى. وأما حسنه الشرعي فلا بد أن يكون إما لانبعاث الامر به عن نفس مصلحة الحكم الواقعي كما أشرنا إليه في بعض تعاليق حديث الرفع بحيث تدعو تلك المصلحة إلى جعل الحكم المماثل للحكم الواقعي تحصيلا له ولغرضه. وإما للامر به لتنجيز الواقع المحتمل حتى يصل المكلف الجاهل إلى الغرض منه، نظير الامر بالطرق لتنجيز الواقعيات على بعض المسالك. وبالجملة: فالرجحان الشرعي لا بد أن يكون لاحد هذين الوجهين. و أما الامر الارشادي فهو أجنبي عن الرجحان الشرعي، إذ لا يأمر الامر به إلا من 479 وغيرها (1). كما لا ينبغي (2) الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط
حيث إنه مخبر بما فيه من الحسن، لا من حيث إنه شارع. فما في ثالث تنبيهات الشبهة الحكمية التحريمية من رسائل شيخنا الأعظم من الترديد في كون الامر بالاحتياط للاستحباب أو للارشاد بعد الجزم برجحانه شرعا لم يظهر له وجه. الا أن يوجه حسنه الشرعي بما في حاشية المصنف على الرسائل في أخبار الاحتياط من قوله: (بل الأولى حملها على مطلق الرجحان إرشادا مع ما هو عليه من ملاك الاستحباب أيضا حسب ما هو مقتضى الجمع بين الاخبار). لكنه واضح المناقشة، إذ تصوير الجامع بين الوجوب والاستحباب و هو مطلق الرجحان بمكان من الامكان، لكونهما من سنخ الطلب المولوي، وهذا بخلاف الامر بالاحتياط، فان فرض الجامع بين الارشاد والاستحباب غير متيسر، إذ الاحتياط من مراتب الإطاعة التي لا تقع موردا للطلب المولوي. نعم لا بأس بجعله لمطلق الارشاد كما تقدم منه فيتبع في وجوبه و استحبابه المرشد إليه، الا أنه أجنبي عما ادعاه من الجمع بين الطلب الاستحبابي والارشادي وعلى هذا فلم يظهر وجه وجيه لما في المتن تبعا لشيخنا الأعظم. 480 وأتى أو ترك (1) بداعي احتمال الامر أو النهي. و ربما يشكل (2) في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الامر بين الوجوب وغير الاستحباب (3) من جهة (4) أن العبادة لا بد فيها
[1] هذا لا يلائم التزامه بجريان الاحتياط في العبادات، وقد استبعد المحقق النائيني (قده) على ما في تقرير بحثه الشريف أن تكون العبارة المتقدمة من قلم الشيخ الأعظم، بل في حاشية المحقق الهمداني: (حكى سيد مشايخنا أدام. 481
بقائه عدم ذكر لفظ - أقواهما - في النسخة المرقومة بخط المصنف (ره) فهو بحسب الظاهر من تحريفات النساخ، وكيف لا ومن المعلوم من مذهب المصنف جريان الاحتياط في العبادات، والاكتفاء في صحة العبادة بحصولها بداعي الامر المحتمل على تقدير مصادفة الاحتمال للواقع) ومنه يظهر أن توجيه العبارة بما في بعض الحواشي (من أنه بالنظر إلى بادئ الرأي فلا ينافي استقرار رأيه في آخر كلامه على جريانه فيها) كما ترى، فتأمل في العبارة. 482 من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا (1) أو إجمالا (2). وحسن الاحتياط عقلا (3) لا يكاد يجدي في رفع الاشكال
483 ولو قيل (1) بكونه موجبا لتعلق الامر به شرعا (2)، بداهة (3)
484 توقفه (1) على ثبوته توقف العارض على معروضه [1] فكيف يعقل
[1] ولا يخفى أن محذور الدور قد أورد به الشيخ الأعظم في ثاني تنبيهات أصل البراءة على استدلال الشهيد في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت على شرعية قضاء الصلوات، لكنه لم يتعرض له في الجواب عن استكشاف الامر الشرعي من حسن الاحتياط بقاعدة الملازمة، فأورد عليه المصنف بما عرفت من أنه كما يستلزم استكشاف الامر المولوي بالاحتياط من الآيات الامرة بالتقوى للدور، فكذا استكشافه من قاعدة الملازمة دوري أيضا، فكان المناسب التنبيه عليه، وعدم الاقتصار في الاشكال على كون الامر بالاحتياط إرشاديا. 486 أن يكون من مبادئ ثبوته (1)؟ وانقدح بذلك (2): أنه لا يكاد يجدي
487 في رفعه (1) أيضا القول بتعلق الامر به من جهة ترتب الثواب عليه (2)، ضرورة (3) أنه فرع
488 إمكانه (1)، فكيف يكون من مبادئ جريانه (2)؟ هذا. مع أن (3) حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الامر به
489 بنحو اللم (1)، ولا ترتب الثواب عليه (2) بكاشف عنه بنحو الان (3)، بل يكون حاله في ذلك (4) حال الإطاعة،
490 فإنه (1) نحو من الانقياد والطاعة [والإطاعة.] وما قيل (2) في دفعه من: (كون المراد بالاحتياط في العبادات
491 هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة)
492 ففيه [فيه] مضافا (1) إلى عدم مساعدة دليل
493 حينئذ (1) على حسنه بهذا المعنى فيها (2)، بداهة (3) أنه ليس باحتياط حقيقة، بل (4)
495 هو أمر (1) لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا (2) نفسيا عباديا، و العقل (3) لا يستقل إلا بحسن الاحتياط والنقل لا يكاد يرشد إلا إليه. نعم (4) لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص
496 العبادة لما كان محيص عن دلالته (1) اقتضاء على أن المراد به ذاك المعنى بناء (2) على عدم إمكانه (3) فيها بمعناه حقيقة كما لا يخفى -
497 أنه (1) التزام بالاشكال وعدم جريانه فيها، وهو (2) كما ترى. قلت (3): لا يخفى أن منشأ الاشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة
498 في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها مما [) 1 ما] يتعلق بها الامر المتعلق بها (2)، فيشكل جريانه حينئذ (3)، لعدم التمكن من قصد القربة المعتبرة فيها. وقد عرفت أنه (4)
[1] لا يخلو من غموض، إذ لا وجه لعدم الاجزاء مع فرض انطباق المأمور به على المأتي به، فعدم الاجزاء أقوى دليل على دخل القربة في متعلق الامر شطرا أو شرطا، والتفصيل موكول إلى محله. نعم بناء على هذا المبنى يندفع إشكال الاحتياط في العبادة. لكن الكلام في المبنى. 499 فاسد (×) وانما اعتبر قصد القربة فيها عقلا لأجل أن الغرض منها (1) لا يكاد يحصل بدونه، وعليه (2) كان جريان الاحتياط فيه (3) بمكان من الامكان، ضرورة [4] التمكن
(×) هذا مع أنه لو أغمض عن فساده لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الاشكال فيها، فكما يلتزم في دفعه بتعدد الامر فيها ليتعلق أحدهما بنفس العمل والاخر بإتيانه بداعي أمره، كذلك فيما احتمل وجوبه منها كان على هذا احتمال أمرين كذلك، أي أحدهما كان متعلقا بنفسه والاخر بإتيانه بداعي ذاك الامر، فيتمكن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء أمره واحتماله، فيقع عبادة وإطاعة لو كان واجبا، وانقيادا لو لم يكن كذلك. نعم كان بين الاحتياط هاهنا وفي التوصليات فرق، وهو: أن المأتي به فيها قطعا كان موافقا لما احتمل وجوبه مطلقا، بخلافه هاهنا، فإنه لا يوافق إلا على تقدير وجوبه واقعا، لما عرفت من عدم كونه عبادة إلا على هذا التقدير، ولكنه ليس بفارق، لكونه عبادة على تقدير الحاجة إليه، وكونه واجبا. ودعوى عدم كفاية الاتيان برجاء الامر في صيرورته عبادة أصلا ولو على هذا التقدير مجازفة، ضرورة استقلال العقل بكونه امتثالا لامره على نحو العبادة لو كان، وهو الحاكم في باب الإطاعة والعصيان، فتأمل جيدا. 500 من الاتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله، غاية الامر أنه لا بد أن يؤتى به (1) على نحو لو كان (2) مأمورا به لكان مقربا بأن يؤتى به بداعي احتمال الامر (3) أو احتمال كونه (4) محبوبا له تعالى، فيقع (5) حينئذ على تقدير الامر به امتثالا لامره تعالى، وعلى تقدير عدمه انقيادا لجنابه تبارك وتعالى ويستحق الثواب على كل حال، اما على الطاعة [الإطاعة] أو الانقياد (6).
501 وقد انقدح بذلك (1): أنه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى
502 تعلق أمر بها، بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشئ (1)، بل كسائر ما علم (2) وجوبه أو استحبابه (3) منها كما لا يخفى.
503 فظهر (1) أنه لو قيل (2) بدلالة أخبار (من بلغه ثواب) على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف لما (3) كان يجدي في
504 جريانه في خصوص ما دل على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف، بل كان (1) عليه مستحبا كسائر ما دل الدليل على استحبابه (2). لا يقال (3): هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي
505 بلغ عليه الثواب بعنوانه (1)، وأما لو دل (2) على استحبابه لا بهذا العنوان (3) بل بعنوان أنه محتمل الثواب لكانت دالة على استحباب الاتيان
506 به بعنوان الاحتياط كأوامر (1) الاحتياط لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الارشادي. فإنه يقال (2): ان الامر بعنوان الاحتياط ولو كان مولويا لكان توصليا، مع (3) أنه لو كان عباديا لما كان مصححا للاحتياط
[1] لكن لا محذور في قصد التقرب بالامر التوصلي، فان كل واجب أو مستحب توصلي يصح نية التقرب بأمره، ويصير به ذلك الواجب أو المستحب عبادة، غاية الامر أن سقوط الامر التوصلي لا يتوقف على قصده كما هو شأن الامر العبادي، وعليه فلا إشكال في إمكان قصد التقرب بأوامر الاحتياط التوصلية نعم لا ملزم بقصد التقرب بها، فتدبر. 507 ومجديا في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه (1) آنفا. ثم (2) انه لا يبعد دلالة
508 بعض تلك الأخبار (1) على استحباب ما بلغ عليه الثواب، فان (2) صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (من بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شئ من الثواب، فعمله كان أجر ذلك له وان كان رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم لم يقله) ظاهرة (3) في أن الاجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغه عنه [منه] صلى الله عليه وآله أنه ذو ثواب.
511 وكون (1) العمل متفرعا على البلوغ
[1] يظهر من صاحب الحدائق في الدرر النجفية: أن هذا الاشكال من شيخه العلامة الشيخ سليمان البحراني أورده على من يستفيد التساهل في أدلة السنن من هذه الأخبار، قال: (وعندي فيه نظر، إذ الأحاديث المذكورة انما تضمنت ترتيب الثواب على العمل، وذلك لا يقتضي طلب الشارع له لا وجوبا ولا استحبابا.). 512 وكونه (1) الداعي إلى العمل غير (2) موجب لان يكون الثواب انما يكون (3) مترتبا عليه فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط
514 بداهة (1) أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها وعنوانا يؤتى به (2) بذاك الوجه والعنوان. وإتيان (3) العمل بداعي (طلب قول النبي) كما قيد به (4) في بعض
515 الاخبار (1) وان كان انقيادا، الا أن (2) الثواب في الصحيحة (3) انما رتب على نفس العمل. ولا موجب (4) لتقييدها به،
516 لعدم (1) المنافاة بينهما، بل (2) لو أتى به كذلك أو التماسا للثواب الموعود كما قيد به في بعضها الاخر لأوتي الأجر والثواب على نفس
517 العمل [1] لا بما هو احتياط وانقياد (1)، فيكشف [2] 2 عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة، فيكون وزانه (3) وزان (من سرح لحيته) أو
[1] لا يخلو من الغموض بعد وضوح كون الثواب مترتبا على قصد الفاعل إطاعة أو انقيادا، فان لم يقصد الامر المتعلق بنفس العمل كما عليه المصنف وقصد الاحتياط فلا وجه لعدم ترتب الثواب عليه، كما لا وجه لترتب الثواب على نفس العمل مع عدم قصد أمره الاستحبابي المتعلق به. والحاصل: أن إلغاء قيدية طلب الثواب ونحوه يوجب عدم ترتب الثواب على قصده، فان نية القربة ليست شرطا في الواجبات التوصلية، لكن قصدها يوجب الثواب. [2] دعوى الكشف مبنية على كون نفس العمل مستحبا مع إتيانه بقصد أمره، والمفروض أن المبنى غير مسلم فالكشف المترتب عليه أيضا مثله. 518 (من صلى أو صام فله كذا) ولعله (1) لذلك أفتى المشهور بالاستحباب، فافهم وتأمل. [1 [2
[1] ينبغي التكلم فيما يتعلق بأخبار من بلغ في مقامي الثبوت والاثبات. أما المقام الأول فمحصله: أن الوجوه المحتملة في أخبار (من بلغ) ستة: اثنان منها مترتبان على الارشاد إلى ترتب الثواب الموعود على العمل من دون تعرض لحكمه، وأربعة منها مترتبة على التشريع والانشاء. أما الأولان فهما الاخبار عن ترتب الثواب الموعود على العمل مطلقا أو مقيدا ببلوغ الثواب فيه. وبعبارة أخرى: ترتب الثواب على نفس العمل أو على العمل المأتي به بداعي رجاء الثواب عليه، والمسألة على هذين الوجهين كلامية. 519
وأما الأربعة، فأولها حجية الخبر الضعيف الفاقد لشرائط حجية خبر الواحد في المستحبات كما هو المشهور بين الأصحاب، قال شيخنا الأعظم (قده) في رسالته المعمولة في هذه المسألة المطبوعة مستقلة ومنضمة مع حاشية أوثق الوسائل ما لفظه: (المشهور بين أصحابنا والعامة التسامح في أدلة السنن بمعنى عدم اعتبار ما ذكروه من الشروط للعمل بأخبار الآحاد من الاسلام والعدالة والضبط في الروايات الدالة على السنن فعلا أو تركا) خلافا لبعضهم كالعلامة وسيد المدارك، والمسألة على هذا الاحتمال أصولية، وهي حجية الخبر الضعيف في المستحبات. وثانيها: استحباب ذات العمل الذي بلغ عليه الثواب، وهو لازم حجية الخبر الضعيف الدال عليه. وثالثها: استحباب العمل مقيدا بعنوان بلوغ الثواب عليه بناء منهم على كونه من الجهات التقييدية والعناوين الثانوية المغيرة لاحكام العناوين الأولية كالضرر والحرج، فلا يكون العمل حينئذ مستحبا إلا ببلوغ الثواب عليه، فقبل العثور على الخبر المبلغ للثواب لا يحكم باستحبابه وان كان ذلك الخبر موجودا واقعا، فليس البلوغ ملحوظا طريقا إلى الواقع حتى يحكم باستحباب ذاته وان لم يعثر المكلف على ذلك الخبر، وانما يلحظ جزا لموضوع الحكم باستحبابه، والمسألة على هذين الوجهين فقهية، والخبر الضعيف محقق لموضوع الاستحباب، لا أنه دليل على الاستحباب. ورابعها: استحباب الانقياد وهو إتيان العمل برجاء ترتب الثواب عليه بناء على إمكان تعلق الامر المولوي به، وإلا فيحمل أمره على الارشاد إلى حسنه 520
العقلي كالأمر بالإطاعة الحقيقية. وأما المقام الثاني وهو مقام الاثبات، فيتوقف تنقيحه على ذكر روايات الباب التي هي مستفيضة، بل في رسالة شيخنا الأعظم المشار إليها (لا يبعد دعوى تواترها معنى) وان كان إثبات هذه الدعوى لا يخلو من تكلف. وكيف كان، فمنها: صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام، وقد تقدمت في المتن، قال عليه السلام: (من بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله شئ من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وان كان رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقله). ومنها: حسنة هشام بل صحيحته عن أبي عبد الله عليه السلام أيضا، وقد تقدمت في التوضيح. ومنها: روايتا محمد بن مروان المتقدمتان عن الصادقين عليهما السلام. ومنها: رواية صفوان عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (من بلغه شئ من الثواب على شئ من الخير فعمل به [فعمله] كان له أجر ذلك و ان كان رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقله [وان لم يكن على ما بلغه.] ومنها: رواية السيد ابن طاوس في الاقبال عن الصادق عليه السلام، قال: (من بلغه شئ من الخير، فعمل به كان له ذلك وان لم يكن الامر كما بلغه). ومنها: رواية أحمد بن فهد الحلي في عدة الداعي قال: (روى الصدوق عن محمد بن يعقوب بطرقه إلى الأئمة عليهم السلام: أن من بلغه شئ من الخير، فعمل به، كان له من الثواب ما بلغه وان لم يكن الامر كما نقل إليه). ومنها: رواية جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وهي مروية من طريق العامة كما عن عدة الداعي هكذا: (روى عبد الرحمن الحلواني مرفوعا 521
إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من بلغه من الله فضيلة، فأخذ بها وعمل بما فيها إيمانا بالله و رجاء ثوابه، أعطاه الله تعالى ذلك وان لم يكن كذلك، فصار هذا المعنى مجمعا عليه عند الفريقين) هذه مجموع روايات الباب، و دعوى تواترها المعنوي كما ترى لو سلم أن الصادر منهم عليهم السلام بالغ إلى هذا العدد، ولكن دعوى اتحاد روايتي الاقبال وعدة الداعي مع ما رواه هشام قريبة جدا. والجامع لشرائط الحجية هو خصوص الأولين. وكيف كان، فقد اختلفت الأنظار فيما يستفاد من هذه الأخبار، فقيل: ان ظاهرها الاخبار عن ترتب الثواب الموعود على العمل من دون نظر إلى حكمه، وهذا الاستظهار قريب جدا، لان (كان له) و (كان أجر ذلك له) في صحيحة هشام وحسنته المتقدمتين كالصريح في ترتب الاجر الموعود على العمل الذي بلغ عليه الثواب، فحاصل المعنى المستفاد منهما: هو إعطاء الاجر الخاص الذي بلغه على عمل بعد إتيان العبد به، فهما ناظرتان إلى ما يترتب على العمل بعد وقوعه من الثواب من دون تعرض لحكمه، لا لبيان إلغاء شرائط حجية خبر الواحد في المستحبات كما هو المراد بقاعدة التسامح في أدلة السنن. وتوهم دلالة إطلاق الموضوع وهو البلوغ على عدم اعتبار شرائط حجية خبر الواحد في المستحبات فاسد، إذ الاطلاق انما سيق لبيان تفضله سبحانه وتعالى على العباد بإعطاء الثواب وعدم دورانه مدار إصابة قول المبلغ للواقع، لا لبيان استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب حتى يقال: ان موضوع 522
الاستحباب وهو البلوغ مطلق سواء كان المبلغ له واجدا لشرائط حجية الخبر أم لا. وبالجملة: فعلى هذا الوجه أعني الارشاد إلى ترتب الاجر على العمل لا وجه لدعوى عدم اعتبار شرائط حجية الخبر في المستحبات تمسكا بإطلاق البلوغ، بل تفرع العمل على البلوغ واستناده إليه كما هو مقتضى الفاء ظاهر في حجية الخبر المبلغ للثواب لئلا يلزم التشريع المحرم وهو الاستناد إلى غير الحجة، فتأمل. وقيل: ان ظاهر أخبار الباب ما هو المشهور عند الأصحاب من حجية الخبر الضعيف في المستحبات، وهذا الاستظهار منوط بإرادة الانشاء من (عمله) و (صنعه) في صحيحة هشام وحسنته المتقدمتين، بأن يكون بمنزلة (فليعمله) و (ليصنعه) ليدل مطابقة على استحباب ذلك العمل، والتزاما على حجية الخبر المبلغ للثواب مطلقا وان لم يكن واجدا لشرائط الحجية، إذ لو كان البلوغ الذي هو موضوع الاستحباب مقيدا لكان على المولى ذكر قيده، لكونه في مقام البيان. ففرق واضح بين الاطلاق في هذا الوجه وبينه في الوجه السابق في التمسك به هنا، لكونه في مقام البيان، بخلافه هناك، لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، بل بصدد بيان التفضل بإعطاء الاجر الموعود. لكن فيه أولا: أن إرادة الانشاء من (فعمله) و (فصنعه) خلاف الظاهر جدا، وان كان استعمال الجملة الخبرية في مقام الانشاء شائعا، لكن الفاء في (فعمله) و (فصنعه) ظاهر في تفرع العمل على البلوغ كتفرع سائر المعاليل على عللها الغائية، ومعناه حينئذ انبعاث العمل عن الثواب البالغ المحتمل، وليس هذا إلا 523
الانقياد. ففي المقام ليس (فعمله) جزاء لمن بلغه حتى يكون البلوغ موضوعا و (فعمله) حكما كي يصير بمنزلة (فليعمله) بل الجزاء (كان أجر ذلك له) فالمستفاد من مجموع هذه الجملة شرطا وجزاء هو ترتب الاجر على العمل المنبعث عن داعي بلوغ الثواب المحتمل، وهذا هو الاحتمال الأول الذي قد عرفت أنه أظهر الاحتمالات، وليس ذلك إلا إرشادا إلى الثواب على الانقياد. وثانيا: - بعد تسليم إرادة الانشاء من الجملة الخبرية المزبورة - أنه لا يدل على حجية الخبر الضعيف في المستحبات، بل يدل على استحباب العمل وكون البلوغ محققا لموضوع الاستحباب، فالدليل على الاستحباب هو أخبار (من بلغ) لا الخبر الضعيف. فالجملة الخبرية بعد تسليم إرادة الانشاء منها لا تدل على حجية الخبر الضعيف في المستحبات لا مطابقة ولا التزاما. أما الأول فواضح، وأما الثاني فلعدم استلزام استحباب العمل حجية الخبر الضعيف الدال عليه مع إمكان أن يكون مستند استحبابه نفس أخبار (من بلغ) كما هو الظاهر. مضافا إلى نفي البعد عن دعوى كون البلوغ الداعي إلى إيجاد العمل منصرفا إلى خصوص المبلغ الذي يعتمد عليه العقلا في أمورهم و هو الخبر الواجد لشرائط الحجية، وهذا الانصراف بعد كون قبح الافتراء والتشريع مرتكزا عندهم من الانصرافات المعتد بها في تقييد الاطلاقات ولا أقل من صلاحيته له، فلا ينعقد إطلاق في البلوغ حتى يصح التمسك به لحجية الخبر الضعيف في المستحبات. ومن هنا يظهر ضعف ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من صحة التمسك بإطلاق البلوغ. وإلى: أن لازمه حجية الخبر الضعيف في الواجبات أيضا إذا كان دالا على 524
الثواب مطابقة بل والتزاما أيضا، لصدق بلوغ الأجر والثواب على كلتا الدلالتين، وهو كما ترى مما لا يلتزم به أحد. الا أن يقال: ان الداعي إلى العمل في الواجبات ليس هو بلوغ الثواب، بل الداعي له هو الفرار من العقاب، فتدبر. وقيل: ان ظاهر صحيحة هشام المتقدمة هو استحباب نفس العمل من دون دخل للبلوغ فيه، وهذا هو الذي استظهره المصنف (قده) من الصحيحة المتقدمة بتقريب: أن ترتب الثواب على العمل الذي بلغه أنه ذو ثواب يتصور على وجهين: أحدهما: ترتبه عليه برجاء إدراك الواقع، وهذا ثواب انقيادي لا يتوقف على وجود أمر مولوي استحبابي متعلق بالعمل، لعدم الحاجة إليه مع كون نفس الانقياد مقتضيا للثواب كالإطاعة الحقيقية، ومعه لا سبيل إلى استكشاف الامر المولوي الموجب لاستحبابه. ثانيهما: ترتب الثواب على نفس العمل، وكون البلوغ جهة تعليلية لا تقييدية، وحيث إن الفعل بنفسه لا يصلح لترتب الثواب عليه، فيستكشف من ذلك كونه لأجل الإطاعة المترتبة على الامر المولوي، وظاهر الصحيحة هو هذا الوجه، لترتب الثواب فيها على نفس العمل كترتبه على نفس تسريح اللحية في (من سرح لحيته فله كذا). وبالجملة: فمن ترتب الثواب على نفس العمل يستكشف كونه لأجل انطباق عنوان الإطاعة المتوقفة على الامر المولوي الاستحبابي عليه. وفيه: أن الاستكشاف المزبور منوط بعدم قرينة أو ما يصلح للقرينية 525
على خلافه، ومعها لا مجال للاستكشاف المذكور، واحتفاف الكلام بالفاء ظاهر في كون العمل متفرعا على البلوغ، والعمل المنبعث عن رجاء إدراك الثواب هو الانقياد الممتنع تعلق الامر المولوي به والمترتب على نفسه الثواب، ولا موجب لرفع اليد عن هذا الظهور، و معه لا مجال لاستكشاف الامر المولوي بنفس العمل والالتزام بترتب الثواب عليه حتى يكون وزانه وزان (من سرح لحيته) فاستظهار استحباب نفس العمل من مثل (من سرح لحيته) في محله، إذ لا مانع منه، بخلاف ما نحن فيه، لوجوده فيه وهو ظهور الفاء فيما عرفت. ومنع دلالة الفاء على التأثير والسببية كما في رسالة شيخنا الأنصاري (قده) بما لفظه: (بل هي عاطفة على نحو قوله: من سمع الاذان فبادر إلى المسجد كان له كذا) خلاف الاصطلاح، لعدم التقابل بين السببية والعطف، بل العاطفة تارة تكون للسببية وأخرى لغيرها، ففي حرف الفاء من كتاب مغني اللبيب: (الفاء على ثلاثة أوجه: الأول: أن تكون عاطفة، وتفيد ثلاثة أمور. إلى أن قال: الامر الثالث السببية، وذلك غالب في العاطفة جملة أو صفة، فالأول نحو فوكزه موسى فقضى عليه، ونحو فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه، والثاني نحو لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون) فالعاطفية لا تمنع عن السببية والتأثير، بل الغالب عليها في عطف الجملة على مثلها كما تقدم في عبارة المغني هو السببية، فإرادة غيرها من الفاء خلاف الغلبة ومنوطة بالقرينة. وبالجملة: فجملتا (فعمله) و (فصنعه) في صحيحة هشام وحسنته لم تستعملا في الانشاء حتى يستفاد منهما حجية الخبر الضعيف في المستحبات كما نسب إلى 526
المشهور، ونفي البعد عنه المحقق النائيني (قده) كما في التقريرات، وقد حكي أنه رفع مقامه اختار في الدورة السابقة استحباب العمل، وأن المستفاد من أخبار (من بلغ) قاعدة فقهية، وفي بعض مجالس أنسه مال إلى أن المستفاد منها الاخبار عن ترتب الثواب الموعود على العمل. وكيف كان فقد عرفت أن هذا الاحتمال هو أقرب الاحتمالات وأوجهها، وعلى هذا لا يرد على أخبار (من بلغ) إشكال معارضتها لأدلة حجية خبر الواحد حتى يجاب عن تارة بما عن الشيخ (قده): من اختصاص أدلة حجية أخبار الآحاد من الاجماع وآية النبأ بالواجبات و المحرمات وعدم شمولها للمستحبات. وذلك لعدم الاجماع على عدم حجية الخبر الضعيف في المستحبات، بل المشهور حجيته فيها. و لاختصاص التعليل بقوله تعالى: (لئلا تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) بالواجبات والمحرمات، وعدم دلالته على عدم حجية خبر الفاسق في سائر الموارد، فلو دلت أخبار (من بلغ) على حجية الخبر الضعيف في المستحبات لم يكن هذا التعليل معارضا لها. وأخرى بما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من وجهين: أحدهما حكومة أخبار (من بلغ) على أدلة حجية خبر الواحد، لأنها ناظرة إلى أن مورد شرائط حجية أخبار الآحاد انما هو غير الأخبار الواردة في المستحبات، وأما هي فلا يعتبر فيها تلك الشرائط. ثانيهما: عدم بقاء مورد لاخبار (من بلغ) ان لم تقدم على أدلة حجية خبر الواحد. وهذه الأجوبة لا تخلو عن مناقشات، لكن لا يهمنا التعرض لها، إذ 527
لا موضوع للاشكال، لتوقفه على دلالة أخبار (من بلغ) على حجية الخبر الضعيف في المستحبات، وقد عرفت عدم ثبوتها، وأن أظهر الاحتمالات فيها هو الارشاد إلى ترتب الثواب الموعود على العمل المتفرع على البلوغ، فلا دلالة فيها على إنشاء حكم مطلقا، لا أصولي و لا فقهي، فلا تعارض بين أخبار (من بلغ) وبين أدلة حجية خبر الواحد حتى يحتاج إلى العلاج بما أفاده العلمان الشيخ والميرزا قدس سرهما. تذنيب: لا يخفى أنه يتفرع على النزاع فيما يستفاد من أخبار (من بلغ) من الارشاد أو الاستحباب أمور: منها: جواز نية الاستحباب على الثاني دون الأول، إذ بناء على الارشاد إلى الثواب لا دليل على استحباب العمل شرعا، فقصده حينئذ تشريع محرم. وعليه فجواز نية استحباب الصلوات المذكورة في بعض كتب الأدعية الواردة بكيفيات خاصة بروايات ضعيفة مع مثوبات خاصة لكل ليلة من ليالي شهري رجب وشعبان منوط بدلالة أخبار (من بلغ) على استحباب العمل أو على حجية الخبر الضعيف في المستحبات، و بدون دلالتها على ذلك لا بد من الاتيان بتلك الصلوات رجاء. ومنها: جواز أخذ البلل من مسترسل اللحية للمسح بناء على استحباب غسله، لأنه من الماء المستعمل في الوضوء. وأما بناء على الارشاد إلى ترتب الثواب على غسله وعدم استفادة استحباب العمل من أخبار (من بلغ) فلا يجوز، لعدم ثبوت استحباب غسله. ولكن عن شيخنا الأنصاري (قده) عدم الجواز وان قيل باستحباب غسله شرعا، فننتقي هذه الثمرة لخصوصية في هذا الفرع 528
والوجه في عدم الجواز ما حكي عن كتاب طهارته زيد في علو مقامه من (عدم الدليل على جواز المسح بكل بلل من الماء المستعمل في الوضوء وجوبا وندبا بل المتيقن بلل المغسول بالأصالة كاللحية الداخلة في حد الوجه). والظاهر أن هذا الوجه منقول بالمعنى، فان ما عثرنا عليه في كتاب الطهارة من العبارة التي يستفاد منها هذا الوجه هو ما ذكره الشيخ (قده) ذيل قول المصنف: (ولو جف ما على يده أخذ من لحيته. إلخ) بقوله (. بل يحتمل أن يجوز المسح بالماء المستعمل لأصل الوضوء ولو من باب المقدمة الوجودية أو العلمية، فيؤخذ من جز الرأس الذي غسل مقدمة ومن المواضع التي حكم المحكوم بوجوب غسلها بقاعدة الاحتياط، بل ومن المواضع التي حكم باستحباب غسلها بمجرد خبر ضعيف أو فتوى فقيه تسامحا، لأنه يكون من أجزاء الفرد المندوب باعتبار اشتماله على هذا الجز. لكن في جميع ذلك نظر، بل لا يبعد وجوب الاقتصار على ما ثبت بالدليل كونه من مواضع الغسل أصالة). وكيف كان فهذا الوجه متين، لان كلمة (اللحية) في مرسل خلف بن حماد: (ان كان في لحيته بلل فليمسح به) وكذا في خبر مالك بن أعين: (فان كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه) وان كانت مطلقة، لشمولها للمسترسل وغيره، لكن الخبرين ضعيفان سندا، بل ودلالة، لان الكلام قد سيق لبيان جواز أخذ البلل من اللحية في قبال الاخذ من سائر الأعضاء من دون نظر إلى استرسال اللحية و عدمه، فتأمل. 529
وأما ما أفاده المصنف (قده) في وجه المنع عن أخذ البلل من مسترسل اللحية في تعليقته على براءة الرسائل: (من أن المسح لا بد من أن يكون ببلل الوضوء، ولا يصح ببلل ما ليس منه وان كان مستحبا فيه) ففيه: أن غسل المسترسل ان كان مستحبا فهو جز الفرد، لا أن يكون مستحبا نفسيا في الوضوء بحيث يعد الوضوء ظرفا له، لأنه خلاف ظاهر الامر بشئ في مركب، حيث إن ظاهره كونه جزا أو شرطا لا مطلوبا نفسيا جعل المركب ظرفا له، فان الامر وان كان بطبعه ظاهرا في كون متعلقه مطلوبا نفسيا، لكنه انقلب هذا الظهور الأولي إلى الظهور الثانوي، وهو الارشاد إلى الجزئية والشرطية كما ثبت في محله، كانقلاب ظهور النهي في المبغوضية النفسية إلى المانعية في النهي عن شئ في شئ كالنهي عن لبس الحرير وما لا يؤكل في الصلاة. ومنها: ترتب الآثار الوضعية على المستحبات الشرعية بناء على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب دون الارشاد إلى إعطاء الثواب، كجملة من الأغسال والأدعية التي ورد فيها أجر جزيل بروايات ضعيفة، فإنه بناء على استحبابها بأخبار (من بلغ) يترتب عليها ارتفاع الحدث الأصغر، وكذا الوضوءات الواردة في موارد خاصة مع ثواب جزيل بروايات غير معتبرة، فإنها - بناء على استحبابها والقول بارتفاع الحدث الأصغر بكل وضوء مستحب يأتي به المحدث - يرتفع بها الحدث، بخلاف البناء على استفادة الارشاد إلى إعطاء الثواب الموعود من أخبار (من بلغ) فإنه لا يرتفع الحدث بتلك الوضوءات كما لا يخفى. وليعلم أن ترتيب الآثار التكليفية والوضعية الثابتة للمطلوبات الشرعية 530
على المورد بناء على استحبابه مشروط بعدم كون تلك الآثار آثارا للمستحب بعنوانه الأولي، إذ لو كانت كذلك لم تترتب عليه إذا كان استحبابه بعنوانه الثانوي كبلوغ الثواب، الا إذا كان البلوغ واسطة ثبوتية لا عروضية، فإذا فرض كون غسل الجمعة بعنوانه رافعا للحدث، وثبت استحبابه بأخبار (من بلغ) بعنوان عرضي وهو البلوغ لم يترتب عليه ارتفاع الحدث كما لا يخفى. ثم إن هنا أمورا ينبغي التنبيه على جملة منها: الأول: أنه هل يلحق بالخبر الضعيف فتوى الفقيه برجحان فعل أم لا؟ فيه وجهان، بل قولان، من صدق بلوغ الثواب بفتواه، لدلالة الرجحان التزاما على الثواب. ومن أن البلوغ في عصر صدور الروايات لما كان بالنقل عن المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، فهو منصرف إلى خصوص الاخبار عن حس، فالاخبار الحدسي الذي منه الفتوى خارج عن منصرف الأدلة. الحق أن يقال: ان المستفاد من أخبار (من بلغ) ان كان هو الاخبار عن إعطاء الثواب كان البلوغ عاما لكل من الحسي والحدسي، لان مناط البلوغ حينئذ هو الاحتمال المقوم للانقياد، ولا يعتد بالانصراف المزبور. وان كان المستفاد منها حجية الخبر الضعيف اختص بالرواية، ولا يشمل الفتوى التي هي خبر حدسي. وقد عرفت أن أظهر الاحتمالات هو الارشاد إلى ترتب الثواب الموعد، فيشمل البلوغ كلا من الخبر الحسي والحدسي، لايجاد كل منهما الاحتمال المقوم للانقياد. نعم لو فرض كشف الفتوى عن الرواية صدق عليها البلوغ، فعلى القول بدلالة أخبار (من بلغ) على حجية الخبر الضعيف في المستحبات أو استحباب 531
العمل لا بأس بالفتوى بالاستحباب. لا يقال: انه كيف تكون فتوى فقيه حجة على فقيه آخر؟ فإنه يقال أولا: ان الحجة هي الرواية المحكية بالفتوى لا نفس الفتوى. وثانيا: ان مستند الاستحباب هي أخبار (من بلغ) والفتوى انما تحقق الموضوع وهو البلوغ الشامل للمطابقي والالتزامي، والبلوغ بالأحاديث التي تضمنتها كتب العامة، فتشمل أخبار (من بلغ) الصلوات والأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله بطرقهم في شهر رمضان وغيره من الأزمنة. الثاني: أنه نسب إلى المشهور إلحاق الكراهة بالاستحباب في التسامح في دليلها، والوجه في ذلك إما قاعدة الاحتياط، وإما دعوى استحباب ترك المكروه وشمول العمل في أخبار الباب للفعل والترك، وأعمية البلوغ من الدلالة المطابقية والالتزامية، حيث إن الخبر الضعيف القائم على الكراهة يدل مطابقة على كراهة الفعل والتزاما على استحباب الترك. وإما تنقيح المناط بتقريب: أن الغرض عدم كون الاحكام غير الالزامية كالالزامية في التوقف على ورود رواية معتبرة بها. أو بتقريب: أن مورد الاخبار وان كان هو الفعل، الا أن ظاهرها هو الترغيب في تحصيل الثواب البالغ من حيث إنه ثواب بالغ، لا لخصوصية فيما يثاب عليه حتى يقتصر على ثواب الفعل، وعليه فلا بأس بإلحاق الكراهة بالاستحباب كما عن المشهور. لكن الجميع مخدوش، إذ في الأول: أن قاعدة الاحتياط تقتضي التوقف في الفتوى وعدم الحكم بالكراهة استنادا إلى الخبر الضعيف، و لا تقتضي الحكم بالكراهة أصلا. نعم مقتضاها الترك عملا، وهو غير المدعى. 532
وفي الثاني: أن انحلال الكراهة إلى حكمين استحباب وكراهة خلاف التحقيق الذي ثبت في محله. ودعوى شمول العمل للترك كشموله للفعل كما ترى، فلا يصار إليه بلا دليل. والبلوغ وان كان أعم من الدلالة المطابقية والالتزامية لكن أعميته هنا منوطة بانحلال الكراهة إلى حكمين، وقد مرت الإشارة آنفا إلى عدمه. وفي الثالث: أن الحجة هي القطع بالمناط، ودون تحصيله خرط القتاد، فان غاية ما يمكن تحصيله هو الظن بالمناط، إذ لا موجب للقطع بعدم دخل خصوصية الفعل وحمله على المثال، ومن المعلوم أن الظن لا يغني من الحق شيئا. وكذا كون الغرض عدم التسوية بين الاحكام الالزامية وغيرها، فان تحصيل القطع بذلك مع قبح التشريع والافتراء كما ترى. وبالجملة: فدعوى تنقيح المناط القطعي بكلا التقريبين المزبورين غير مسموعة وان اختار التقريب الثاني بعض أعاظم المحشين (قده) و لذا ذهب إلى مذهب المشهور من كون الكراهة كالاستحباب في ثبوتها بالخبر الضعيف، وجريان قاعدة التسامح فيها كجريانها في الاستحباب. لكن قد عرفت أنه لا مجال للقاعدة في المستحبات فضلا عن المكروهات. الثالث: أن الظاهر شمول أخبار (من بلغ) للخبر الضعيف مطلقا وان كان موهوم الصدور فضلا عن مشكوكه، لاطلاق البلوغ المؤيد بما في بعض أخباره من (طلب قول النبي) و (التماس ذلك الثواب) و (رجاء ثوابه) الشامل لاحتمال الصدق، فما لم يعلم كذب الخبر يصدق عليه البلوغ. كما أن الظاهر شمول الثواب وهو النفع المستحق المقارن للتعظيم والاجلال لكل من الاجر 533
الدنيوي والأخروي، فالروايات الضعاف التي تدل على ترتب سعة الرزق وطول العمر ونحوهما على بعض الأدعية أو الصلوات أو الختوم توجب صدق بلوغ الثواب عليها، فتشملها أخبار (من بلغ) ولا يصغى إلى دعوى انصراف الثواب إلى خصوص الأخروي، فإنه بدوي يزول بالتأمل، خصوصا بعد ملاحظة ما ورد في كثير من الواجبات والمندوبات من المصالح والمنافع الدنيوية المترتبة عليها. وعليه فيحكم باستحباب العمل البالغ فيه الاجر الدنيوي بناء على استفادته من أخبار (من بلغ) وبترتب الثواب الموعود انقيادا بناء على استفادة الارشاد منها. الرابع: لا تبعد دعوى شمول أخبار (من بلغ) لفضائل المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ومصائبهم وبعض الموضوعات الخارجية، كما إذا قام خبر ضعيف على صدور معجزات من المعصومين عليهم السلام كأمر بعضهم عليه السلام تمثال أسد بافتراس عدو الله تعالى، أو على أن الموضع الخاص مدفن نبي من الأنبياء، أو رأس الامام المظلوم سيد الشهداء عليه السلام، أو مقام عبادة معصوم كمقامات مسجدي الكوفة والسهلة أو غيرهما، أو مسجدية مكان أو غير ذلك. توضيح ذلك: أنه - بعد أعمية بلوغ الثواب من الدلالة المطابقية والالتزامية وأعمية العمل من الفعل والقول - تشمل أخبار (من بلغ) كلا من الشبهات الحكمية والموضوعية، فلا فرق بين قيام خبر ضعيف على ثواب خاص على دعاء مخصوص أو صلاة أو زيارة معصوم، و بين قيامه على كون مكان معين مسجدا أو مقام معصوم أو مدفنه كمدفن هود وصالح على نبينا وآله وعليهما السلام في المكان المعروف الان في وادي السلام من أرض الغري، فان الاخبار بهذه 534
الموضوعات يدل التزاما على ترتب الثواب على الصلاة في المكان الذي قام الخبر الضعيف على مسجديته، وعلى زيارة المعصوم في المحل الذي قام الخبر الضعيف على كونه مدفنه عليه السلام. وقد مر أن البلوغ يصدق على كل من الدلالة المطابقية والالتزامية. فعلى القول بدلالة أخبار (من بلغ) على حجية الرواية الضعيفة في المستحبات أو استحباب العمل يحكم باستحباب زيارة المعصوم عليه السلام واستحباب الصلاة في المكان الذي دل الخبر الضعيف على مسجديته أو مدفنيته لمعصوم، واستحباب نقل الفضائل التي دل خبر ضعيف عليها، ولا يترتب على تلك الموضوعات الثابتة بروايات ضعيفة إلا استحباب العمل المتعلق بها دون أحكام أخر، فلا يحكم بحرمة تنجيس المكان الذي قام خبر ضعيف على مسجديته، ولا وجوب تطهيره ولا حرمة مكث الجنب فيه، ولا غير ذلك من أحكام المساجد. وكذا لا يحكم بحرمة التقدم على قبر المعصوم أو كراهته بقيام رواية ضعيفة على كون مكان معين مدفنه عليه السلام، بل الثابت بها استحباب خصوص زيارته المطلقة والحضور عنده، فلا يثبت بها أيضا استحباب زيارته بالكيفية الخاصة لمن حضر قبره الشريف، لان ثبوت ذلك كله منوط بكون ذلك المكان مدفنه، والرواية الضعيفة قاصرة عن إثباته. وغاية ما يمكن أن يدعى دلالة أخبار (من بلغ) عليه هو استحباب العمل المتعلق به دون غيره من الاحكام والخصوصيات المترتبة على ثبوت الموضوع كما لا يخفى. وعلى القول بعدم دلالة أخبار (من بلغ) إلا على ترتب الثواب دون استحباب 535
العمل، فلا يترتب عليه إلا الثواب الموعود. ثم انه يكفي دليلا على هذا التنبيه صحيحة هشام وحسنته المتقدمتان، لوضوح صدق البلوغ على كل من الدلالة المطابقية والالتزامية، و ان نوقش في صدق السماع كما في الحسنة على الدلالة الالتزامية بدعوى اختصاصه بالنطق وعدم شموله للوازم المعنى المطابقي و ملزوماته، ففي الصحيحة كفاية. ولوضوح صدق العمل على كل من القول والفعل اللذين كلاهما من أفعال الجوارح، فان العمل بكل شئ على حسب ذلك الشئ كما في رسالة شيخنا الأعظم (قده) في مسألة التسامح. ودعوى انصرافه إلى خصوص العمل الصادر مما عدا اللسان من الجوارح غير مسموعة. ولا يخفى أنه مع وفاء صحيحة هشام المتقدمة بالمقصود لا وجه للتمسك بالنبوي ورواية ابن طاوس كما في الرسالة المشار إليها، لعدم ثبوت اعتبارهما. وكذا في التشبث بإجماع الذكرى المعتضد بحكاية ذلك عن الأكثر. ثم انه بناء على دلالة أخبار (من بلغ) على حجية الخبر الضعيف في المستحبات أو استحباب نفس العمل لا مانع من الاخبار باستحبابه، لعدم صدق عنوان محرم كالكذب المخبري والافتراء والقول بغير العلم عليه وان صدق عليه الكذب الخبري واقعا، إذ المدار في الحسن والقبح العقليين على الصدق والكذب المخبريين لا الخبريين اللذين لا حكم لهما عقلا ولا شرعا. نعم لو لم تدل أخبار (من بلغ) على ذلك كان الاخبار قبيحا، فالفضيلة أو المصيبة التي قام عليها خبر ضعيف لا يخرج ذكرهما لضياء القلوب وبكاء العيون عن محذور الافتراء، لعدم قيام الحجة عليهما حتى يعتقد ناقلهما بصدقهما، فمحذور القبح العقلي والحرمة الشرعية مانع 536
عن جواز نقلهما. وما دل على رجحان الإعانة على البر والتقوي ورجحان الابكاء على سيد الشهداء عليه الصلاة والسلام لا يصلح لرفع هذا المحذور، لوضوح تقيدهما بالسبب المباح الذي لا يحرز بدليلي رجحان الإعانة أو الابكاء، حيث إن الدليل لا يشمل ما شك في موضوعيته له فضلا عما إذا أحرز عدمها، كحرمة الغناء في المراثي والأدعية، وتلاوة القرآن، واستعمال آلات الملاهي لإجابة المؤمن التي هي من المستحبات الأكيدة، فان دليل رجحانهما لا يثبت إباحة السبب ولا يرفع قبح الكذب المخبري، فارتفاع هذا المحذور منوط بدلالة أخبار (من بلغ) على حجية الخبر الضعيف الدال على تلك الفضيلة أو المصيبة، أو على استحباب نقلها، لوضوح خروج الفضيلة أو المصيبة بسبب قيام الحجة عليهما عن حيز الكذب المخبري القبيح عقلا والمحرم شرعا، فلا بد من حمل كلام الشهيد الثاني (قده): (جوز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ وفضائل الأعمال) على ما ذكر من دلالة أخبار (من بلغ) على حجية الخبر الضعيف أو استحباب العمل الذي هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب كما في رسالة شيخنا الأعظم، وإلا ففيه المحذور المتقدم، والتخلص عنه منوط بالنقل عن الكتاب المتضمن لها أو الاسناد إلى مؤلفه. الخامس: في حكم الفعل الذي ورد باستحبابه رواية ضعيفة وبعدمه دليل معتبر من رواية أو غيرها، فعلى ما استظهرناه من أخبار (من بلغ) من كونها إرشادا إلى ترتب الثواب الموعود على العمل لا إشكال، لجواز اجتماع الاحتمال مع الحجة التعبدية على الخلاف، فيلتزم بترتب الثواب على العمل وان قامت 537
الحجة التعبدية على عدم استحبابه، إذ لا منافاة بين ما قامت الحجة غير العلمية على عدم استحبابه وبين ترتب الثواب عليه لأجل البلوغ الصادق مع الاحتمال المقوم للانقياد. وأما بناء على دلالة أخبار (من بلغ) على حجية الخبر الضعيف في المستحبات، فان كان البلوغ جهة تقييدية، فلا تعارض بين أخبار (من بلغ) وبين مدلول الخبر الصحيح، لان مقتضى الطريقية دلالة الخبر الصحيح على عدم استحباب العمل ذاتا، وهو يجتمع مع استحبابه بعنوان بلوغ الثواب عليه المترتب على الاحتمال. وان كان البلوغ جهة تعليلية وقع التعارض بينهما، حيث إن ذات العمل مستحب بمقتضى أخبار (من بلغ) وغير مستحب بمقتضى الخبر الصحيح، لان كلا من الخبرين ينفي احتمال خلافه الموجود في الاخر فالخبر الضعيف المثبت للاستحباب ينفي احتمال خلافه، كما أن الخبر المعتبر ينفي احتمال الاستحباب. وكذا الحال فيما إذا كان مفاد أخبار (من بلغ) استحباب العمل، فإنه يجري فيه الوجهان المبنيان على الجهة التقييدية والتعليلية. هذا إذا لوحظت أخبار (من بلغ) مع مدلول الخبر الصحيح. وأما إذا لوحظت مع أدلة حجية الخبر الصحيح، فالظاهر عدم التعارض بينهما، إذ دليل حجية الخبر الصحيح على الطريقية ينزل المؤدى منزلة الواقع، ويلغي احتمال خلافه وهو الاستحباب، حيث إنه المحتمل المخالف لمضمونه، وأخبار (من بلغ) تثبت حجية الخبر الضعيف الذي مدلوله استحباب العمل بعنوان البلوغ، فلا منافاة بين ثبوت الاستحباب له بهذا العنوان وبين نفيه عنه بعنوانه الأولي. 538
نعم بناء على تعليلية البلوغ لا تقييديته يقع التعارض بين أدلة حجية الخبر الصحيح وأخبار (من بلغ) لورود النفي والاثبات على مورد واحد وهو الاستحباب بالعنوان الأولي. وكذا يتعارض مدلولا الخبرين الصحيح والضعيف مع الغض عن اعتبارهما، لكن لا أثر لهذا التعارض كما لا يخفى. ومما ذكرنا يظهر غموض ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) في رسالة التسامح (من وقوع التعارض بين أخبار - من بلغ - وأدلة ذلك الدليل المعتبر، بتقريب: أن كلا منهما يقتضي إلغاء احتمال خلاف مورد الاخر، فيلزم استحباب العمل البالغ عليه الثواب وعدمه، ومقتضى القاعدة التساقط و الرجوع إلى الأصل). وجه الغموض: ما مر آنفا من اختلاف مورد النفي والاثبات، إذ مورد أخبار (من بلغ) استحباب العمل بعنوان البلوغ، ومورد أدلة ذلك الدليل المعتبر نفى استحباب العمل بعنوانه الأولي، ومن المعلوم عدم التنافي بينهما. نعم بناء على تعليلية جهة البلوغ لا تقييديتها يلزم التعارض، لوحدة مورد النفي والاثبات حينئذ. السادس: نسب إلى المشهور حمل رواية ضعيفة وردت بوجوب شئ على الاستحباب، ومرادهم بالحمل - كما في رسالة شيخنا الأعظم (قده) نقلا عن صريح شارح الدروس - هو أن يؤخذ بمضمونه من حيث الثواب دون العقاب لالغاء دلالتها على اللزوم وتنزيلها منزلة المعدوم. وكأنه ناظر إلى تركب معنى الوجوب وعدم ثبوت أحد جزأيه وهو المنع من الترك وبقاء الجز الاخر وهو أصل الطلب الدال على الثواب. وبعبارة أخرى: الرواية الضعيفة أوجبت بلوغ أمرين إلى المكلف: أحدهما الوجوب وهو غير قابل للثبوت، والاخر 539
الثواب وهو قابل للثبوت، فالرواية بهذه الحيثية مشمولة لاخبار من بلغ. وفيه أولا: عدم ثبوت تركب الوجوب كما ثبت في محله. وثانيا: أن مقتضى عدم شمول دليل حجية الخبر للرواية الضعيفة سقوطها عن الاعتبار رأسا، والحمل على الاستحباب لا بد أن يكون للجمع بين الدليلين لا بين الدليل وغيره. وبعبارة أخرى: التصرف في الظهور فرع تسلم الصدور فإذا انهدم أساس الصدور وحكم بعدمه، فلا موضوع للجمع الدلالي الذي مرجعه إلى التصرف في أصالة الظهور. وثالثا: أن الثواب البالغ انما ثبت للمحدود بالحد الوجوبي لا الاستحبابي ولم يعلم بقاؤه بعد ارتفاع الحد الوجوبي، لاحتمال تقومه به الموجب لارتفاعه بانتفاء الوجوب، وهذا واضح جدا بناء على بساطة الوجوب وعدم تركبه من طلب الفعل والمنع من الترك. وبالجملة: يمكن أن يكون الاشكال من جهتين: إحداهما: اختصاص أخبار (من بلغ) ولو من باب القدر المتيقن بالثواب الثابت للمحدود بالحد الاستحبابي لا مطلق الثواب. ثانيتهما: أنه مع الغض عن الجهة الأولى لا دليل على بقاء الثواب بعد ارتفاع الوجوب، ولا مجال لاستصحابه مع تقومه بالوجوب ولو احتمالا. فالمتحصل: أنه لم يظهر وجه وجيه لحمل الخبر الضعيف الوارد بوجوب شئ على الاستحباب سواء أكان الوجوب بسيطا أم مركبا. و منه يظهر حال الرواية الضعيفة الدالة على الحرمة المحمولة على الكراهة. 540 لثالث (1): أنه لا يخفى أن النهي عن شئ إذا كان بمعنى طلب
541 تركه في زمان أو مكان بحيث لو وجد في ذاك
542 الزمان (1) أو المكان (2) ولو دفعة (3) لما امتثل أصلا
545 كان (1) اللازم على المكلف إحراز أنه (2) تركه بالمرة ولو بالأصل، فلا يجوز (3) الاتيان بشئ يشك معه (4) في تركه، إلا (5) إذا كان
546 مسبوقا به ليستصحب (1) مع الاتيان به. نعم [1 [2 لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه (3) على حدة لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد (4)، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه مصداقه (5)
[1] سوق العبارة يقتضي أن يقال: (وإذا كان - أي النهي عن شئ - بمعنى طلب ترك. إلخ) لأنه عدل قوله: (إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان. إلخ). 547 فأصالة (1) البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة. فانقدح بذلك (2): أن مجرد العلم بتحريم شئ لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده [الافراد] المشتبهة فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة (3) أو كان (4) الشئ مسبوقا بالترك،
548 وإلا (1) لوجب الاجتناب عنها عقلا لتحصيل الفراغ قطعا، فكما يجب فيما علم وجوب شئ إحراز إتيانه إطاعة لامره، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم (2) إتيانه امتثالا لنهيه، غاية الامر (3) كما يحرز وجود الواجب بالأصل (4)، كذلك يحرز ترك الحرام به . [1] والفرد (5) المشتبه وان كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه،
[1] هذا في الحرام النفسي، وكذا الغيري المأخوذ شرطا للمأمور به، كما إذا فرض أن لا لابسية ما لا يؤكل لحمه من شرائط المصلي، فإنه لا مانع من استصحاب هذا الوصف حين لبس اللباس المشكوك كونه مما يؤكل، بخلاف ما إذا كان من شرائط المأمور به، كما إذا فرض أنه يعتبر في الصلاة كون لباس المصلي مما يؤكل، فإذا لبس اللباس المشكوك كونه مما يؤكل فاستصحاب لا لابسية ما لا يؤكل لا يجدي، لعدم إثباته كون هذا اللباس مما يؤكل إلا على القول بحجية الأصول المثبتة. 549 الا (1) أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب (2) التحرز عنه، ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا [1 [3 فتفطن.
[1] لما عرفت من أن مقتضى مطلوبية عنوان بسيط - أعني وصف اللاشاربية - مثلا هو ترك كل ما يحتمل فرديته للطبيعة، إذ لا يحرز هذا الوصف إلا بترك محتمل الفردية كمعلومها، فالاقتصار على ترك معلوم الفردية يندرج في الشك في المحصل الذي هو مجرى قاعدة الاشتغال، لا في الشك في التكليف الذي 550
هو مجرى أصالة البراءة. ومن هنا يظهر ضعف ما قد يقال: (من جريان البراءة في محتمل الفردية وجواز ارتكابه نظرا إلى أن صرف الوجود عبارة عن صرف المفهوم الصالح للانطباق على القليل والكثير، فالشك في فردية شئ للطبيعة ملزوم للشك في سعة دائرة متعلق التكليف وضيقها الموجب للرجوع إلى البراءة، فلا موجب حينئذ لترك محتمل الفردية للطبيعة، وليس المقام من الشك في المحصل حتى يجري فيه الاشتغال دون البراءة، إذ لا بد فيه من مغايرته للمتحصل الواجب خارجا، وهي مفقودة في المقام، لكون صرف المفهوم عين القليل و الكثير في ظرف انطباقه عليهما، لا غيرهما، فضابط المحصل أجنبي عما نحن فيه). وجه الضعف: أنه - بناء على ما مر من رجوع مثل قضية (لا تشرب الخمر) إلى المعدولة - ينطبق ضابط المحصل على المقام، إذ المفروض أن المتحصل الواجب هو العنوان البسيط أعني اللاشاربية مثلا، وذلك مغاير لمحصله الذي هو ترك كل شئ علم أو احتمل كونه فردا للطبيعة، لان العلم بتحقق الواجب وهو العنوان البسيط منوط بالترك المستوعب لمحتمل الفردية أيضا، فلا تجري البراءة في محتمل الفردية مع العلم بالمكلف به وعدم إجمال فيه، وكون ترك الافراد مقدمة لحصول العلم به، ولا دليل على اعتبار أزيد من هذه المغايرة بين المتحصل الواجب ومحصله. هذا مما لا ينبغي الاشكال فيه. انما الاشكال في أن الظاهر من تعلق النهي بشئ هل هو لزوم تحصيل عنوان بسيط كاللاشاربية للخمر و اللالابسية لما لا يؤكل مثلا أم لا؟ حيث إن صور تعلق النهي بالطبيعة كثيرة: 551
إحداها: تعلقه بها بنحو السريان بحيث يكون كل فرد من أفرادها متعلقا للحكم، فترك بعضها إطاعة وارتكاب غيره عصيان، والمرجع في الشك في فردية شئ للطبيعة حينئذ هو البراءة. ثانيتها: تعلقه بها بنحو صرف الوجود الصادق على أول وجود الطبيعة، بحيث يكون هو المحرم دون سائر وجوداتها، فإذا شك في فردية شئ لها، فالظاهر جواز ارتكابه، بل جواز ارتكاب معلوم الفردية أيضا بعد ارتكاب أول وجوداتها المفروض حرمته، ضرورة أن المحرم وهو أول وجوداتها قد أتي به، فلا دليل على حرمة سائر الوجودات. وعليه فلا مانع من جريان البراءة، ولا مورد لقاعدة الاشتغال، إذ ليس الشك في سقوط التكليف، بل الشك انما هو في ثبوته كما لا يخفى. ثالثتها: تعلقه بها بنحو يكون مجموع وجوداتها موضوعا واحدا تعلق به النهي، لا كل واحد منها بالاستقلال، فعصيان النهي حينئذ منوط بارتكاب الجميع دون البعض، فلو ارتكب البعض وترك الاخر لم يتحقق العصيان، ولعل من هذا القبيل النواهي المتعلقة بتصوير ذوات الأرواح وتغطية المحرم رأسه وحلقه له، لامكان أن يدعى أن المنهي عنه حرمة تصوير مجموع البدن لا كل جز من أجزائه بالاستقلال، وكذا تغطية رأس المحرم وحلقه له، وتنقيح البحث في هذه المسائل موكول إلى محله. وكيف كان فيجوز في هذه الصورة ارتكاب بعض الافراد المعلومة فضلا عن المشكوكة، بل يجوز الاقتصار في الترك على الافراد المشكوكة وارتكاب جميع الافراد المعلومة، لكونه من صغريات الأقل والأكثر، حيث إن الحرام 552
المتيقن هو الأكثر، فيقتصر في الترك عليه، وفي الأقل وهو الافراد المعلومة تجري البراءة على العكس في الواجبات، فان المتيقن منها هو الأقل، فهو الواجب وتجري البراءة فيما عداه وهو الأكثر. رابعتها: تعلقه بنفي الطبيعة بنحو القضية المعدولة بحيث يكون المطلوب عنوانا بسيطا كما أشرنا إليه آنفا. وهذه الوجوه الأربعة هي محتملات تعلق النواهي بالطبائع ثبوتا. ولعل الاستظهار منها يختلف باختلاف الموارد، فالمرجع خصوصيات الأدلة. ولا يخفى أن تفصيل المصنف وان كان متينا ثبوتا، لكن لا دليل عليه إثباتا حيث إن ظاهر القضايا هو السلب المحصل لا المعدولة، لاحتياجها إلى مئونة زائدة ثبوتا وإثباتا، وعليه فقول شيخنا الأعظم (قده) بجريان البراءة مطلقا ناظر إلى ما هو الغالب في مقام الاثبات. ثم إن ما تقدم في الشبهة التحريمية يجري في الشبهة الوجوبية أيضا، فإذا قال: (أكرم العالم) فتارة يراد به وجوب إكرام طبيعة العالم بحيث لو لم يكرم فردا من أفرادها لم يطع أصلا وان أكرم سائر الافراد، وأخرى يراد به وجوب إكرام كل فرد من أفرادها بنحو العام الاستغراقي. فعلى الأول يجب إكرام كل مشتبه فضلا عن معلوم العالمية، لان امتثال وجوب إكرام الطبيعة المطلقة لا يحرز إلا بإكرام الفرد المشتبه، فهو من قبيل الشك في المحصل، فيجب ذلك أيضا، لتوقف العلم بحصول غرض المولى عليه. وعلى الثاني لا يجب إكرام الفرد المشتبه، لكونه شكا في التكليف، إذ المفروض تعلق الحكم بالافراد، والشك في فردية شئ شك في موضوعيته، والشك في الموضوع يستتبع الشك في الحكم. 553 الرابع (1): أنه قد عرفت (2) حسن الاحتياط عقلا ونقلا، ولا يخفى أنه مطلقا كذلك حتى (3) فيما كان هناك حجة على عدم
554 الوجوب أو الحرمة، أو أمارة (1) معتبرة على أنه (2) ليس فردا للواجب (3) أو الحرام (4) ما لم يخل (5) بالنظام
555 فعلا (1)، فالاحتياط قبل ذلك (2) مطلقا يقع حسنا كان (3) في الأمور المهمة
[1] فما في بعض الحواشي من أن السالبة تكون بانتفاء الموضوع (لان 556 كالدماء والفروج أو غيرها، وكان (1) احتمال التكليف قويا أو ضعيفا
الاحتياط هو الاتيان بمحتمل المطلوبية، ومع القطع بالمبغوضية الناشئة من استلزامه لاختلال النظام لا يعقل كونه احتياطا) لا يخلو من غموض، إذ المصلحة القائمة بالحكم الواقعي المحتمل باقية على حالها حتى فيما إذا استلزم إحرازها الاختلال، وليس مبغوضية الاخلال بنظام النوع في عرض المصلحة الواقعية المحتملة حتى يحصل الكسر والانكسار مع عدم الغلبة، بل هي في طول ملاك الواقع كالمصلحة التسهيلية التي هي في طول المصلحة الواقعية ومتأخرة عنها، ولا تسري إلى الواقع حتى يصير منهيا عنه. ومنه يظهر أن ما أفاده بعض المدققين من (عدم رجحان الاحتياط المخل بالنظام شرعا نظرا إلى وجود المانع منه وهو لغوية تصديق البعث) في غاية المتانة، وتوهم عدم رجحانه في هذا الحال - لعدم المقتضي له، لان الاحتياط هو الاتيان بمحتمل المطلوبية، ومع احتمال المبغوضية فضلا عن القطع بها كما في المقام لا مقتضي لتشريع الاحتياط - ممنوع، لأنه نشأ من الغفلة عن مبناه قدس سره في جعل وجوب الاحتياط مولويا ناشئا من نفس الغرض القائم بالحكم الواقعي، فمصلحة الواقع باقية حتى في حال الاختلال، غير أن الاختلال مانع عن تداركها، فالمقتضي لجعله موجود ويرجع المحذور إلى المانع وهو عدم إمكان تصديق البعث نحوه. 557 كانت [1 [1 الحجة على خلافه أولا، كما أن الاحتياط الموجب لذلك (2) لا يكون حسنا
[1] هذه الجملة مستدركة بما أفاده في صدر التنبيه بقوله: حتى فيما كان هناك حجة. 558 كذلك (1) وان كان (2) الراجح لمن التفت إلى ذلك (3) من أول الامر
559 ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا (1)، فافهم (2).
560 فصل (1) إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمته
561
[1] لكن الذي عثرنا عليه في المبسوط هو هذا: (وان كان قد قطع جميع ذكره فالنسب يلحقه، لان الخصيتين إذا كانتا باقيتين فالانزال ممكن، ويمكنه أن يسحق وينزل، فان حملت عنه اعتدت بوضع الحمل، وان لم تكن حاملا اعتدت بالشهور، ولا يتصور أن تعتد بالاقراء، لان عدة الأقراء انما تكون عن طلاق بعد دخول، والدخول متعذر من جهته). ولا يخفى ما في قوله: (فالتمتع بها بالدخول أو غيره. إلخ) من المسامحة 562
ضرورة أن حكم تمتع الزوج بها يدور بين الحرمة وغير الوجوب، فهو من صغريات الشبهة التحريمية، والدائر بين الوجوب والحرمة انما هو تمكين الزوجة كما بيناه في توضيح عبارته المحكية. 563 لعدم (1) نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا، ففيه وجوه: الحكم (2) بالبراءة عقلا ونقلا، لعموم النقل (3) وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة، للجهل به (4)، ووجوب (5)
566 الاخذ بأحدهما تعيينا (1) أو تخييرا (2)، والتخيير بين (3) الترك والفعل عقلا (4) مع التوقف عن الحكم به رأسا (5)، أو مع (6) الحكم عليه بالإباحة شرعا، أوجهها الأخير (7)، لعدم الترجيح بين الفعل والترك،
567 وشمول مثل (كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام) له [1 [1 ولا مانع عنه (2) عقلا
[1] قد عرفت مما ذكرناه في أدلة البراءة الاشكال في الاستدلال بقاعدة 569 ولا نقلا (1)،
الحل لاثبات الإباحة الظاهرية في الشبهة الحكمية البدوية فضلا عن دوران الامر بين المحذورين، وقلنا هناك باختصاص الدليل بالشبهة الموضوعية، لعدم الظفر بالمتن الذي نقله المصنف وشيخنا الأعظم (قدهما) فما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من اختصاص (كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال) بالشبهة الموضوعية وان كان صحيحا في نفسه، الا أن القائل بأصالة الحل في المقام لم يعتمد عليه، وانما استدل بما في المتن وهو خال عن الظرف، فيكون الاشكال 570
الوارد عليه عدم الظفر به في جوامع الاخبار. ويشكل شموله للمقام أيضا من جهة أخرى، وهي: أن إطلاق الصدر أعني (كل شئ) وان كان شاملا بالنظر البدوي لمورد الدوران بين المحذورين، إلا أن ظاهر الغاية وهي (حتى تعلم أنه حرام) قرينة على كون طرف الحرمة خصوص الحل والإباحة لا الوجوب، وإلا كان اللازم أن يقال: (حتى تعلم أنه حرام أو واجب) كي يندرج محتمل الوجوب في مدلول الصدر، والمفروض أن طرف الحرمة هنا هو الوجوب لا الإباحة، فلا يعمه الصدر. الا أن يقال: ان المراد بالغاية هو العلم بالحرمة مطلقا سواء كان هو العلم بحرمة الفعل أم تركه، فإذا علم بأنه واجب صدق عليه العلم بحرمة تركه، لحصول الغاية الرافعة للحل، فيشمل الحديث صدرا وذيلا دوران الامر بين المحذورين، هذا. لكن فيه: أنه مبني على انحلال كل حكم إلى حكمين، بأن يكون وجوب الفعل مثلا منحلا إلى حكمين وجوب الفعل وحرمة الترك، وذلك ممنوع جدا، لان هذا الانحلال موقوف على تعدد الملاك، بأن يكون في الوجوب مصلحة في الفعل ومفسدة في الترك، وكذا في الحرمة، وعلى تعدد الإرادة والكراهة، وعلى تعدد العقاب 571
في عصيان الوجوب فقط أو الحرمة كذلك، ولا دليل على الانحلال المزبور، بل الأحكام الشرعية كلها بسائط ولا تركب فيها أصلا. هذا مضافا إلى قيام الملاكات الداعية إلى تشريع الاحكام بالافعال دون التروك. وإلى أن مقتضى قوله: (قد ساوق الشئ لدينا الايسا) إرادة الفعل من (شئ) في (كل شئ لك حلال) وعليه فضمير (أنه) في (تعرف أنه حرام) راجع إلى الشئ المراد به الفعل، فلا يشمل الحديث إلا الفعل الدائر حكمه بين الحرمة وغير الوجوب، ولا يشمل (الشئ) الفعل والترك معا حتى يقال: ان (كل شئ) يعم الفعل و تركه، فحينئذ يكون الحديث أجنبيا عن دوران الامر بين المحذورين. ولعل ما ذكرناه - من أن التقابل بين الغاية والمغيا وغيره يقتضي اختصاص الحديث بالشبهة البدوية التحريمية - هو منشأ استظهار المحقق النائيني قدس سره اختصاص الحديث بما كان طرف الحرمة الحل لا الوجوب حتى يشمل الدوران بين المحذورين، فتعليل عدم الشمول بما ذكرناه - من ظهور الغاية وغيره - أولى من دعوى الانصراف التي أفادها شيخنا الأعظم بقوله: (ولكن الانصاف أن أدلة الإباحة فيما يحتمل الحرمة تنصرف إلى محتمل الحرمة وغير الوجوب) لما عرفت من أنه مع ظهور الغاية في ذلك وغيره لا ينعقد الاطلاق من أول الامر، ومع تسليمه فيمكن الخدشة فيه بكونه بدويا غير صالح لتقييد المطلق. مضافا إلى أن تسليم شمول الاطلاق للمورد يقتضي قابلية الحديث للاستدلال به على البراءة في الشبهة الوجوبية غير المقرونة، مع أنه قدس سره تمسك هناك بالاجماع المركب، والحال أن شمول الاطلاق له أسهل مئونة من شموله لما نحن فيه أي مما دار أمره بين الوجوب والحرمة، وعليه فالمتعين 572
إنكار الاطلاق بقرينة المقابلة وغيرها مما عرفت لا منعه بالانصراف، هذا. وقد أورد على التمسك بأصالة الحل هنا بوجوه أخرى: الأول: ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) أيضا من (أن جعل الإباحة الظاهرية مع العلم بجنس الالزام لا يمكن، فان أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالاجمال، لان مفاد أصالة الإباحة الرخصة في الفعل والترك، وذلك يناقض العلم بالالزام وان لم يكن لهذا العلم أثر عملي، وكان وجوده كعدمه في عدم اقتضائه التنجيز، الا أن العلم بثبوت الالزام المولوي حاصل بالوجدان، وهذا العلم لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا، فان الحكم الظاهري انما يكون في مورد الجهل بالحكم الواقعي، فمع العلم به وجدانا لا يمكن جعل حكم ظاهري يناقض بمدلوله المطابقي نفس ما تعلق العلم به) الثاني: ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) على ما في تقرير بحثه الشريف: (من جهة اختصاص جريانها بما إذا لم يكن هناك ما يقتضي الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان. ولئن شئت قلت: ان الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان انما هو في ظرف سقوط العلم الاجمالي عن التأثير، والمسقط له حيثما كان هو حكم العقل بمناط الاضطرار، فلا يبقى مجال لجريان أدلة البراءة العقلية والشرعية، نظرا إلى حصول الترخيص حينئذ في الرتبة السابقة عن جريانها بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك). الثالث: ما أفاده بعض المدققين في جملة ما أورده على شمول أصالة الحل 573
للمقام، وحاصله بتوضيح منا: أن الغاية وهي (حتى تعلم) اما أن تكون شرعية، وهو حصول العلم للمكلف سواء كان مؤثرا في وجوب الموافقة وحرمة المخالفة أم لا، واما أن تكون عقلية بمعنى المنجز أي ما يؤثر في حرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيتين. و الاستدلال بالحديث على حلية ما دار أمره بين المحذورين منوط بجعل الغاية عقلية ليكون المعنى: (كل شئ لك حلال ما لم يقم منجز عليه) وحيث لم يكن العلم بالالزام منجزا، لعدم تأثيره في المخالفة والموافقة القطعيتين، لعدم القدرة عليهما، فالمغيا وهو الحلية باق على حاله، إذ لا أثر لهذا العلم في رفعه. وأما إذا كانت الغاية شرعية، فالغاية محققة، للعلم الاجمالي بالحرمة أو الوجوب، ولازمه ارتفاع المغيا أعني حلية المشكوك ظاهرا، ولا يصح الاستدلال بالحديث هنا. بل لا يصح حتى مع جعل الغاية عقلية، لان ظاهر أدلة البراءة الشرعية بيان معذرية الجهل بالحكم الواقعي، لا معذورية غير القادر على الامتثال، ومن المعلوم أنه لا قصور في العلم الاجمالي هنا، بل هو مطلقا قابل للتأثير، وانما المانع عدم التمكن من الامتثال المعتبر عقلا في استحقاق العقاب على تركه، وحيث إن العجز عن الإطاعة القطعية غير مستند إلى الجهل، بل إلى عدم القدرة عليها، فلا سبيل لاثبات الترخيص بأدلة البراءة، إذ ليست المعذورية هنا لأجل عدم حصول الغاية. الرابع: ما في حاشية الفقيه الهمداني على الرسائل من: (أنه لا معنى للرجوع إلى أصل الإباحة في مثل المقام مما لا يترتب عليه أثر عملي، إذ لا معنى 574
لاجراء الأصل إلا البناء على حصول مؤداه في مقام ترتيب الأثر من حيث العمل والمفروض أنه لا أثر له، فلا معنى للرجوع إليه، فليتأمل). أما الاشكال الأول، فقد أجاب عنه شيخنا المحقق العراقي (قده) - بناء على مبناه من تعلق الأحكام الشرعية بالصور الذهنية التي ترى خارجية لا تتعداها إلى صورة أخرى ولا إلى وجود المعنون في الخارج بشهادة اجتماع اليقين والشك في وجود واحد بتوسط العناوين الاجمالية والتفصيلية - بأن متعلق الالزام المعلوم تفصيلا ليس هو خصوص الفعل ولا خصوص الترك، بل عنوان أحد الامرين، ومجرى الأصل هو الخصوصية المشكوكة بالوجدان، قال المقرر: (فلا محالة ما هو معروض العلم الاجمالي انما هو عبارة عن عنوان أحد الامرين المباين في عالم العنوانية مع العنوان التفصيلي، لا خصوص الفعل ولا خصوص الترك، إذ كل واحد من الفعل والترك بهذا العنوان التفصيلي لهما كان تحت الشك). ولكن يمكن المناقشة فيه أولا: بعدم انفكاك مجرى الأصل عن متعلق العلم هنا، وذلك لان معروض العلم بالالزام وان كان عنوان أحدهما، إلا أن هذا العنوان بما أنه ملحوظ مرآتا للخارج كما هو صريح كلامه (قده) فلا جرم يكون العبرة بذي المرآة وهو الخصوصية التي بنفسها جعلت مجرى للأصل. وثانيا: بأن معروض علم المكلف هو خصوص الفعل وليس دائرا بين الفعل 575
والترك، إذ موضوع الأحكام الشرعية سواء الاقتضائية أم التخييرية هو فعل المكلف، وليس الترك موضوعا لحكم أصلا، إذ المصالح و المفاسد التي هي مناطات الاحكام قائمة بالافعال، ولا ينحل كل حكم إلى حكمين يتعلق أحدهما بالفعل والاخر بالترك حتى المباح، فان معناه الترخيص في الفعل وليس تركه محكوما بحكم ترخيصي آخر غير ما تعلق بالفعل، وقد نبهنا على ذلك في الجز الثالث من هذا الشرح، فلاحظ. وعليه ففعل المكلف لا يخلو بمقتضى العلم الاجمالي بالوجوب أو الحرمة من حكم إلزامي، ويصح الإشارة إليه ويقال: ان هذا الفعل اما واجب واما حرام، ومع العلم التفصيلي بالالزام المتعلق بالفعل كيف يمكن أن يحكم عليه بأنه مباح؟ إذ لا يعقل أن يكون الفعل الواحد مركبا لاعتبارين متضادين أو متناقضين. ومنه ظهر أن مرتبة الحكم الظاهري غير محفوظة هنا كما أفاده المحقق النائيني (قده) ولا تصل النوبة إلى الجمع بين المعلوم بالاجمال وبين الحكم الظاهري بفعلية الثاني دون الأول. أو إلى القول بأن المخالفة هنا التزامية لا بأس بها. نعم لا بد من إرجاع كلامه (قده) إلى أن العلم بالالزام علم إجمالي بإحدى الخصوصيتين، إذ الالزام بنفسه ليس حكما شرعيا مجعولا، لانحصار الاحكام في الخمسة، بل هو منتزع من الوجوب والحرمة، ومجعول الشارع هو نوع التكليف لا غير، فالمقام نظير العلم بالالزام مع تعدد المتعلق، فإنه علم إجمالي بإحدى الخصوصيتين من وجوب هذا أو حرمة ذاك، ولذا يكون منجزا ومصححا للعقوبة على مخالفته. 576
والحاصل: أن أصالة الحل بمدلولها المطابقي تنافي العلم بالالزام، فالمانع من جعلها ثبوتي. وأما الثاني فقد أجيب عنه في حاشية بعض المدققين (قده) بالنقض بالشبهة البدوية، حيث (ان الاضطرار إلى أحد الامرين من الفعل و الترك موجود في تمام موارد الاباحات، لعدم خلو الانسان فيها من الفعل والترك. وهو غير الاضطرار المانع عن مطلق التكليف، لصدور كل من طرفي الفعل والترك بالاختيار). لكن يمكن أن يجاب عنه بالفرق بين المقام والشبهة البدوية، والفارق هو إمكان جعل الاحتياط هناك وعدمه هنا كما هو المفروض، و المكلف وان لم يخل عن الفعل أو الترك هناك، إلا أن شيئا منهما غير مستند إلى الترخيص العقلي بمناط قبح الترجيح بلا مرجح، بل الترك في مثل شرب التتن يستند إلى إيجاب الاحتياط شرعا، والفعل فيه إلى مثل حديث الرفع الموجب للترخيص في مخالفة الالزام المجهول. فالصحيح أن يجاب عنه بعدم وصول النوبة إلى حكم العقل بالتخيير بمناط الاضطرار، ضرورة أن حكمه في أمثال المقام ليس اقتضائيا من جهة كشفه عن الملاك التام كما في حسن العدل وقبح الظلم ونحوهما من المستقلات العقلية، بل من باب عدم الاقتضاء بمعنى أنه معلق على عدم تعيين الوظيفة شرعا كما هو كذلك في كيفية الإطاعة لا أصلها، ومن المعلوم أنه مع وصول الحكم الفعلي أو النافي له إلى المكلف لا يبقى موضوع لحكمه، لإناطته بعدم جعل 577
الوظيفة ولو ظاهرا، ومع العلم بالتكليف الظاهري ترتفع الحيرة كما لو حكم بترجيح جانب الحرمة في المقام، فإنه لا ريب في عدم حكمه بالتخيير ولزوم مراعاة ما قرره الشارع. وبناء على جريان قاعدة الحل في مورد الدوران بين المحذورين قد وصل النافي لفعلية التكليف بلسان جعل الأصل وتثبت الإباحة الظاهرية. ولو أريد بالتخيير التكويني منه كان صحيحا في حد نفسه، الا أنه غير مانع من التعبد بالإباحة الظاهرية. وأما الاشكال الثالث، ففيه: أن الظاهر كون الغاية عقلية لا تعبدية جعلية، فكل ما يكون منجزا للواقع ورافعا لمعذرية الجهل به عقلا هو الرافع للحلية المغياة. ولعل هذا مختار المصنف لو لم يكن ظاهر كلامه في حاشية الرسائل فإنه (قده) - بعد أن أجاب عن المناقضة بين صدر بعض أخبار الاستصحاب وذيله بأنه قضية عقلية محضة ليس فيها إعمال تعبد شرعي حتى يدعى ظهوره الاطلاقي في كل من العلم التفصيلي و الاجمالي بالانتقاض - حكم بذلك في هذه الرواية ورواية أخرى، وقال: (وهكذا يمكن أن يكون حال الغاية في الروايتين بأن يكون غاية عقلية من دون أن يكون حكم شرعي في جانبها، فلا يمنع عن شمول المغيا بإطلاقه ما يصح أن يعمه، فتأمل فإنه دقيق). وعليه فلا قصور في الصدر عن إثبات الحلية في المقام، إذ المفروض أن الغاية المجعولة هي العلم بخصوص الحرام، ومن المعلوم أن العلم بالالزام الدائر بين الوجوب والحرمة ليس علما بخصوص الحرام. 578
وما أفاده في موضع آخر (من قصور أدلة البراءة الشرعية عن إثبات الترخيص وان قلنا بكون الغاية عقلية، لكونها مسوقة لبيان معذرية الجهل لا العجز عن الامتثال كما في المقام) لا يخلو من غموض أيضا، فان اضطرار المكلف إلى أحد الامرين وعجزه عن الامتثال انما نشأ من الجهل بوظيفته، فلو قيل بترجيح احتمال الحرمة أو بالتخيير الشرعي لم يكن اضطرار في البين أصلا، للزوم رعاية ما عينه الشارع في هذا المورد. وعليه، فلا مانع من استكشاف عدم فعلية التكليف مما دل على أصالة الحل، وإسناد الترخيص في الفعل والترك إلى الشارع. وأما الاشكال الرابع، فقد أجيب عنه نقضا بلزوم لغوية التعبد بالامارات النافية للتكليف مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، ولو قيل بصحة اسناد التكليف المنفي إلى الشارع عند قيام الامارة النافية له، وعدم وصول النوبة إلى نفيه بقاعدة القبح، قلنا بكفاية استناد المكلف هنا في كل من فعله وتركه إلى الشارع بما أنه عبد مملوك ينبغي أن يكون وروده وصدوره بأمر الشارع واذنه، فله حينئذ الاتيان بالمحتمل اعتمادا على أصالة الحل والترك كذلك. وقد تحصل: أن عمدة الاشكال هي ما أفاده الميرزا قدس سره. هذا كله في أصالة الإباحة. وأما أصالة البراءة الشرعية المستندة إلى مثل حديث الرفع، فظاهر المتن عدم جريانها. ولعل الوجه فيه ما أفاده المحقق النائيني (قده) من أن الرفع فرع إمكان الوضع، وفي مورد الدوران بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما للفعل الواحد لا تعيينا ولا تخييرا حتى يرفعهما جميعا وتجري 579
البراءة، إذ الملاك ان كان هو المصلحة الملزمة فاللازم كون المجعول هو الوجوب، وان كان هو المفسدة الملزمة فاللازم كون المجعول هو الحرمة، ولا يعقل أن يكون الفعل الواحد واجدا لكلا الملاكين. ومنه يتضح عدم معقولية وضعهما أيضا تخييرا بأن يقول الشارع: (افعل هذا أو اتركه) مع فرض تبعية الحكم الإلزامي للملاك الملزم، وامتناع اجتماع ملاكين ملزمين في فعل واحد، ومع تعذر الوضع لا يعقل تعلق الرفع بكل من الوجوب والحرمة. وأجاب عنه سيدنا الأستاذ (قده) بأن مجرى البراءة هو الوجوب والحرمة تعيينا، فتجري تارة في الوجوب المشكوك فيه وتنفي المؤاخذة على تركه، وأخرى في الحرمة المحتملة وتنفي العقوبة على الفعل، وجعل كل من الوجوب الحرمة تعيينا وان كان محالا، و لكن جريان حديث الرفع منوط باجتماع شرائطه من كون المشكوك فيه حكما شرعيا وكون رفعه منة وعدم مانع من الجعل كما هو الحال في الأصول التنزيلية. وأما ما ذكر من اعتبار إمكان الوضع في إمكان الرفع فلا دليل عليه حتى يمتنع الرفع أيضا بامتناعه، بل شأنية الوضع كافية، ومن الواضح إمكان جعل الوجوب بخصوصه هنا أو الحرمة بعينها كما يلتزم به القائل بترجيح جانب التحريم. والحاصل: أن المرفوع هنا هو الوجوب المحتمل القابل للوضع والرفع التشريعيين، فمجرى الأصل هو كل واحدة من الخصوصيتين، و ليس مفاده مفادا جمعيا رافعا لنفس الالزام المعلوم كما هو الحال في أصالة الحل، ولذا كان رتبة الجعل غير محفوظة فيها. ثم منع (قده) عن جريانها، لوجهين أحدهما: أن شرط جريانها وهو 580
الامتنان مفقود، لحصول التخيير تكوينا بين الفعل والترك، فلا منة في جعل التخيير الحاصل من إجراء البراءة في كل من الوجوب و الحرمة. ثانيهما: أن مثل حديث الرفع انما يجري في مورد للتوسعة على المكلف بحيث لولا جريانه فيه كان في ضيق الاحتياط المتمم لقصور محركية الخطاب الواقعي، ومع تعذر الاحتياط وامتناعه هنا لا يبقى موضوع للرفع. أقول: أما حديث الامتنان فقد عرفت في إيرادات قاعدة الحل أن في جعل الترخيص الشرعي كمال المنة على العبد. ولا دليل على ترتب ثمرة عملية بالخصوص على جريان الأصل النافي للتكليف. وأما إشكاله الثاني فيرد عليه ما أورده على شيخه الميرزا (قدهما) ضرورة أن مفاد حديث الرفع ليس جمعيا، بل يجري مرة في الوجوب المشكوك فيه، وأخرى في الحرمة المحتملة، وقد اعترف (قده) بعدم تبعية الرفع للوضع في كلامه المتقدم، فكيف منع من جريان البراءة هنا؟ إذ عدم قدرة الشارع على وضع الاحتياط مرتين لا يستلزم عدم قدرته على رفعهما، فهو نظير قدرته على أحد الضدين مع عجزه عن كليهما. وأما الاستصحاب، فقد التزم المصنف (قده) بجريانه في المقام، وقد نبه عليه في حاشية على الكتاب في بحث الموافقة الالتزامية، و الظاهر أنه كذلك، لتمامية أركانه. وقد يستشكل عليه تارة ثبوتا بما أفاده المحقق النائيني (قده) وأخرى إثباتا بما في رسائل شيخنا الأعظم، وثالثة بعدم ترتب أثر عملي عليه. أما الأول، فحاصله: دعوى قصور المجعول في الاستصحاب ثبوتا عن شموله لكلا طرفي العلم نظرا إلى مضادة جعل إحرازين تعبديين في الطرفين 581
مع العلم الوجداني بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، لقيام الاستصحاب مقام القطع في الجهة الثالثة وهي الاعتقاد، قال مقرر بحثه الشريف في ضمن كلامه: (وان شئت قلت: ان البناء على مؤدى الاستصحابين ينافي الموافقة الالتزامية فان التدين والتصديق بأن لله تعالى في هذه الواقعة حكما إلزاميا إما الوجوب أو الحرمة لا يجتمع مع البناء على عدم الوجوب والحرمة واقعا). وأما الثاني وهو إشكال مناقضة الصدر والذيل، فقد تقدم توضيحه في بحث الموافقة الالتزامية، فراجع. وأما الثالث، فتقريبه: أن التعبد الاستصحابي لا بد أن يكون بلحاظ الأثر الشرعي، ومع حكم العقل بعدم الحرج في كل من الفعل و الترك لا يبقى أثر عملي لنفي كل واحد من المحتملين بالأصل. أقول: أما الاشكال الأول فتماميته موقوفة على كون مفاد دليل الاستصحاب جعل المحرز التعبدي كما هو الحال في التعبد بخبر الثقة بناء على تتميم الكشف، إذ حينئذ لا يجتمع إحرازان تعبديان مع العلم بانقلاب الحالة السابقة في أحدهما، وعلى هذا بنينا على عدم جريانه في الدوران بين المحذورين كما تقدم في بحث الموافقة الالتزامية. الا أنه ممنوع، ضرورة أن مفاد قوله عليه السلام: (لا تنقض اليقين بالشك) أو (لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك) ليس البناء القلبي على بقاء المتيقن والموافقة الالتزامية له حتى يتوجه ما ذكر من منافاة الابقاءين التعبديين للعلم بالخلاف، بل مفاده البناء العملي على بقاء المتيقن، وعدم الالتفات إلى الشك وإعدامه في وعاء التشريع، ومن المعلوم أن التعبد ببقاء 582
المتيقن بهذا المقدار في كل واحد من الطرفين لا ينافي العلم الوجداني بالانتقاض في أحدهما. وعليه فما ذكرناه في الجز الرابع لا يخلو عن تأمل، بل منع. وأما الاشكال الثاني، فقد تقدم الجواب عنه هناك، وأنه - مضافا إلى عدم اشتمال بعض الاخبار على الذيل - مختص باليقين التفصيلي بمقتضى الانصراف كما في تقرير بحث شيخنا المحقق العراقي (قده). وأما الاشكال الثالث فقد تقدم الجواب عنه أيضا، وأنه مع اقتضاء الاستصحاب لعدم فعلية كل من المحتملين لا تصل النوبة إلى حكم العقل بنفي الحرج في الفعل والترك، فان حكمه في أمثال المقام تعليقي. وقد تحصل: أنه لا مانع من جريان الاستصحاب فيما دار أمره بين الوجوب والحرمة. نعم يختص ذلك بالشبهات الموضوعية دون الحكمية، وذلك لما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى من عدم جريان استصحاب عدم الجعل، إذ لا شك في انتقاض عدم كل حكم بعد الشرع ولو بمثله. هذا كله مع وحدة الواقعة، وأما مع تعددها، فيتفرع على القول بالتخيير عقلا أو شرعا أقوال ثلاثة: التخيير البدوي مطلقا والاستمراري كذلك، والتفصيل بين ما لو بنى على استمرار ما اختاره ثم بدا له العدول فهو استمراري، وبين القصد إلى العدول من أول الامر فبدوي، وقد وجهه المصنف في حاشية الرسائل بأنه لو لم يكن بانيا على ما اختاره أولا ولم يبال بالعدول عنه لم يكن مباليا بمخالفة الواقع تدريجا، فهو قاصد للمعصية في واقعتين، والعقل لا يتفاوت عنده في حكمه بقبح المعصية بين الدفعي والتدريجي، وهذا بخلاف ما لو بنى على ما اختاره ثم بدا له العدول، فان المخالفة التدريجية وان تحققت، إلا أنه لا قبح 583
فيها لعدم القصد إليها. ثم رده بالنقض بجواز عدول المقلد مع بنائه عليه من أول الامر. وبالحل بما إذا كان الخطاب منجزا، ولا تنجز له في المقام. فالعمدة النظر في أدلة القولين الأول والثاني. ولم يتعرض المصنف في الكتاب لهذا البحث حتى يظهر نظره الشريف وان أمكن أن ينسب إليه التخيير الاستمراري من كلام له في حاشية الرسائل. وأما شيخنا الأعظم (قده) ففصل بين ما لو كان منشأ الدوران تعارض الخبرين فاختار فيه البدوي أخيرا بعد أن ذكر الاستمراري استنادا إلى إطلاق ما دل على التخيير، ثم استشكل فيه بأن ظاهر موضوع الأخبار الدالة عليه هو المتحير ولا تحير مع الاخذ بأحدهما، و بين ما لو كان المنشأ غير تعارض الخبرين فحكم بالاستمراري، لان الحاكم به هو العقل ولا إهمال في حكمه. وأورد المصنف في بحث التعادل والترجيح من الكتاب وفي حاشيته على الرسائل هنا على كلامه الأول بأن موضوع أخبار التخيير هو من جاءه الخبران المتعارضان، فان أريد بالمتحير هو هذا فلا شك في بقائه بعد الاخذ بأحدهما أيضا، ومقتضاه الحكم بالتخيير الاستمراري. لبقاء التحير في الحكم الواقعي على حاله. وان أريد به فاقد الطريق فهو وان لم يصدق على من عمل بأحد الخبرين، إلا أنه لم يؤخذ بهذا العنوان موضوعا لقوله عليه السلام: (اذن فتخير) ونحوه. وأورد على كلامه الثاني بأن معنى عدم إهمال حكم العقل هو: أنه إذا أحرز مناط حكمه حكم به وإذا لم يحرزه لم يحكم به، لا أنه لا يتحير في بقاء ما هو ملاك حكمه، فإنه قد يحكم للعلم بموضوع حكمه، كما أنه قد يحكم 584
به من باب القدر المتيقن، نظير حكمه بقبح الكذب الضار بالنفس المحترمة وعدم حكمه به عند عدم ترتب ضرر عليه، وليس ذلك إلا لان حكم العقل انما هو من باب القدر المتيقن، لاجتماع خصوصيات في موضوع، ومع انتفاء بعضها يشك في بقاء ما هو المناط، فينتفي حكمه قطعا، وعليه فالعقل وان استقل بالتخيير في الواقعة الأولى، الا أنه يمكن أن يتحير في بقاء الملاك ولا يحكم بشئ حينئذ وان لم يكن مجال للاستصحاب. ويمكن الجواب عن الأول بأن موضوع أخبار التخيير وان كان (من جاءه الخبران) لكن الملحوظ لبا هو المتحير ولو بمناسبة الحكم و الموضوع، إذ من المحتمل قويا أن تكون الاخبار مسوقة لبيان وظيفة المتحير في الحكم الواقعي لأجل تعارض الخبرين الموجب للحيرة في مقام العمل، وغرض السائل علاج حيرته. ولو لم يكن هذا ظاهر الاخبار فلا أقل من صلاحيته للقرينية، ومعه لا يبقى إطلاق في دليل التخيير بين الخبرين، بل يصير الموضوع مجملا دائرا بين ما هو مقطوع البقاء وما هو معلوم الارتفاع، فلا يجري استصحاب التخيير. وعن الثاني بأن ما أورده على الشيخ الأعظم (قده) من عدم انحصار الحكم العقلي بما إذا كان موضوع حكمه معلوما بالتفصيل كما أفاده المصنف في مباحث الاستصحاب وان كان في غاية المتانة كما سنتعرض له في محله إن شاء الله تعالى لجواز حكمه بحسن شئ أو قبحه من جهة اشتماله على حيثيات وجهات لا يمكنه الإحاطة بما هو ملاك ذلك، الا أنه يحكم بالحسن عند اجتماع الخصوصيات ومع فقد بعضها يشك في موضوع حكمه فلا حكم له قطعا حينئذ. لكن هذا 585
الاشكال أجنبي عن مقصود شيخنا الأعظم، لأنه مع التزامه (قده) بإناطة حكم العقل بما كان الملاك مبينا ومفصلا حكم هنا بالتخيير الاستمراري، لدعوى أن موضوع حكم العقل بالتخيير في الواقعة الأولى باق مع تمام خصوصياته في الوقائع المتأخرة، ولا زال العقل قاطعا بالتخيير، إذ لو كان مناط حكمه قبح الترجيح بلا مرجح لم يفرق في ذلك بين الحدوث والبقاء، وما أفاده المصنف من تطرق الاهمال في حكم العقل أيضا مبني على كون حكمه من باب القدر المتيقن الذي عرفت أنه لا عين ولا أثر له في كلام الشيخ (قده). واستدل للتخيير الاستمراري - مضافا إلى ما أفاده الشيخ الأعظم من حكم العقل بالاستمرار - بإطلاق أدلة التخيير بناء على تنقيح المناط، وباستصحاب التخيير. وكلاهما ممنوع. أما الأول فبما عرفت آنفا. وأما الثاني فبما أفاده الشيخ من عدم المجال له، لعدم الاهمال في حكم العقل. كما لا مجال له ان كان لاستصحاب التخيير الظاهري، لعدم إحراز بقاء الموضوع. أقول: لا مجال لاستصحاب التخيير العقلي حتى مع الغض عما ذكره من عدم إحراز بقاء موضوعه، وذلك لفقد شرط جريانه وهو كون المستصحب بنفسه حكما شرعيا أو موضوعا له، والمفروض أنه حكم عقلي ليس مجرى للتعبد الاستصحابي، فتعليل عدم الجريان بهذا أولى مما أفاده الشيخ. واستدل للتخيير البدوي بقاعدة الاحتياط واستصحاب الحكم المختار واستلزام جواز العدول للمخالفة القطعية. ومنع شيخنا الأعظم (قده) الأول لعدم الموضوع وهو الشك، إذ الحاكم بالتخيير هو العقل الذي لا يتحير في حكمه. 586 وقد عرفت أنه (1)
والثاني بمحكوميته باستصحاب التخيير. لكنه لا يخلو من مسامحة، إذ يعتبر في حكومة الأصل السببي على المسببي أن يكون التسبب شرعيا كما في المثال المعروف أعني غسل الثوب المتنجس بالماء المستصحب الطهارة، ومن المعلوم أن ارتفاع الحكم المختار باستصحاب التخيير عقلي لا شرعي. وعليه فلا بد في المنع عن استصحاب الحكم المختار من التماس وجه آخر. وأما المخالفة العملية القطعية فالظاهر ترتبها على التخيير الاستمراري، لتولد علمين إجماليين آخرين أحدهما العلم الاجمالي بوجوب أحد الفعلين، والاخر العلم الاجمالي بحرمة أحدهما، وامتثال هذين العلمين مستحيل، لان الجمع بين الفعلين والتركين معا متعذر، فيسقط العلمان عن التنجيز بالنسبة إلى الموافقة القطعية، الا أنهما باقيان بالنسبة إلى المخالفة القطعية، لامكان مخالفة العلمين بالفعل في كل من الواقعتين أو الترك كذلك، فيتعين الموافقة الاحتمالية بالفعل مرة والترك أخرى حذرا من القطع بالمخالفة. ومنه يظهر أن ما في بعض الحواشي من أنه لا عبرة بهذا العلم لأنه منتزع من العلوم الاجمالية لا يخلو من خفاء، لوضوح الفرق بين الانتزاع والتولد. 587 لا يجب (1) موافقة الاحكام التزاما ولو وجب [1 [2 لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه (3) ممكنا.
[1] بل يمكن أن يقال: بعدم مانعية وجوب الموافقة الالتزامية عن شمول 589 والالتزام التفصيلي (1) بأحدهما
أصالة الحل للمقام بناء على ما التزموا به من عدم وصول الحكم الواقعي إلى مرتبة الفعلية وكون الظاهري فعليا، إذ مع عدم التنافي بين نفس الحكمين لتعدد المرتبة لا منافاة بين الالتزامين أيضا، وأما المعلوم بالتفصيل وهو الالزام المردد بين الوجوب والحرمة فلا معنى لوجوب الالتزام به مع عدم فعلية نوعه المستلزم لعدم فعلية الجنس أيضا. 590 لو لم يكن تشريعا محرما (1) لما نهض على وجوبه (2) دليل قطعا.
591 وقياسه (1) بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والاخر
592 بين المحذورين، فيتعين الاخذ بأحد الاحتمالين لا القول بالإباحة الظاهرية. [1]
[1] لكن الظاهر عدم كون المناط في القياس هذا الاحتمال، ضرورة أنه التزم في التعادل والترجيح بحجية المتعارضين في نفي الثالث بالدلالة الالتزامية، ولو كان القياس لهذه الجهة لزم كون الحجة العقلية - وهي العلم بالالزام في المقام - أسواء حالا من الحجة التعبدية النافية للثالث، إذ المفروض أنه (قده) أجرى قاعدة الحل في المقام، فيتعين أن يكون الوجه في القياس بعض الاحتمالات الأخرى. ويستفاد من كلامه في حاشية الرسائل وجه آخر غير ما تقدم في التوضيح، قال: (ولا وجه لاستفادة التخيير من فحوى أخبار التخيير، لقوة احتمال أن يكون ذلك فيها لأجل الانقياد والتسليم بكل ما ينسب إليهم عليهم السلام كما في بعض أخباره بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك، لا لمجرد احتمال كل للواقع من دون علم به بينهما ليكون فحواه مقتضيا لذلك في احتمالين علم به بينهما). 593 على الوجوب باطل (1)، فان (2) التخيير بينهما على تقدير كون الاخبار حجة من باب السببية يكون على القاعدة، ومن (3) جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين [1] وعلى (4) تقدير أنها من باب الطريقية، فإنه (5) وان كان على خلاف القاعدة (6)، الا أن أحدهما
[1] الأولى أن يقال: (بين الواجب والحرام المتزاحمين) أو يقال: (ومن قبيل التخيير بين الواجبين المتزاحمين) ولا يخفى أن قياس المقام بباب التزاحم المأموري الذي هو عجز المكلف عن امتثال حكمين فعليين مع الفارق، بل ينطبق عليه ضابط التعارض الراجع إلى عجز المولى عن تشريع حكمين لمتعلق واحد، توضيحه: أنه بناء على السببية يكون قيام خبر الوجوب موجبا لحدوث مصلحة 596 تعيينا (1) أو تخييرا - حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من (2) احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشرائط - جعل [) 3 صار] حجة في هذه الصورة (4) بأدلة الترجيح تعيينا (5) أو التخيير تخييرا، وأين
لازمة الاستيفاء في الفعل، وقيام خبر الحرمة مقتضيا لحدوث مفسدة ملزمة في الفعل أيضا، ومن المعلوم أن كل واحد من الملاكين يدعو الشارع إلى جعل الحكم على طبق ما يقتضيه، وحيث كان متعلق الحكمين واحدا امتنع جعلهما معا بل لا بد من الكسر والانكسار و ملاحظة أهم الملاكين ان كان وإنشاء الحكم على طبقه. وهذا بخلاف باب التزاحم المتقوم بتعدد المبادئ والاغراض والخطابات ولا تمانع بينها في مرحلة الجعل أصلا، وانما حصل التمانع في مقام الامتثال من باب الاتفاق، لعجزه عن إنقاذ الغريقين معا أو إطاعة خطاب (أنقذ) و (لا تغصب) مثلا، فيلزم العقل بمراعاة الأهم ان كان وإلا فيحكم بالتخيير. وعليه، فالظاهر اندراج تعارض الخبرين مطلقا - حتى بناء على السببية - مع وحدة المتعلق في باب التعارض وأجنبيته عن باب التزاحم. 597 ذلك (1) مما إذا لم يكن المطلوب إلا الاخذ بخصوص ما صدر واقعا، وهو (2) حاصل، والاخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه (3) بموصل. نعم (4) لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب
598 والحرمة وإحداثهما (1) الترديد بينهما لكان القياس في محله، لدلالة (2) على الاحتمال الثالث في وجه المقايسة. إلخ. [1]
[1] ويحتمل أن يكون الغرض من بيان المقايسة وجوابها تتميم الكلام في وجوب الموافقة الالتزامية بإثبات وجوبها الشرعي من جهة هذه المقايسة ببيان: أنه يجب الالتزام شرعا بالحكم الواقعي بعنوانه من الوجوب أو الحرمة فان كان ما في صقع الواقع هو الوجوب وجب شرعا الالتزام به والبناء القلبي عليه، وان كان هو الحرمة وجب شرعا الالتزام بها، وحيث تتعذر الموافقة القطعية للالتزام الواجب وجبت موافقته الاحتمالية وهي تتحقق بالالتزام بأحد المحتملين. وأجاب عنه المحقق الأصفهاني (قده) بأن أصل الالتزام الجدي بشئ سنخ مقولة لا تتعلق إلا بما علم، والمعلوم هنا ليس إلا الالزام، وهو مما لم يتعلق به وجوب الموافقة الالتزامية، وانما يتعلق بعنوان الوجوب أو الحرمة المجهولين. أقول: يمكن أن يقال: ان غرض المصنف من بيان القياس ليس ما ذكر، ضرورة أن وجوب الموافقة الالتزامية على تقدير القول به انما هو عقلي عند المصنف لا شرعي. ولو سلم إرادة إثباته شرعا - ولو تنزلا - فإثباته بهذا القياس غير ممكن، لا لما ذكره المحقق المتقدم في الجواب، بل لان التخيير الثابت بين الخبرين ليس إلا في العمل، يعني: أن مفاد قوله عليه السلام في بعض أخبار التخيير: (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك) هو الاستناد إلى أحدهما في مرحلة العمل أي جعله حجة بينه وبين ربه والافتاء على طبقه وأن 599 الدليل على (1) التخيير بينهما على التخيير هاهنا [1] فتأمل جيدا (2).
مضمونه حكم الله تعالى، ولا يستشم منه وجوب الموافقة الالتزامية حتى يتعدى من الخبرين إلى مطلق صور الدوران، فتأمل في العبارة. [1] وهنا احتمال ثالث في باب جعل الطرق أفاده المصنف في حاشية الرسائل، وهو كون الاخبار حجة على الطريقية في غير صورة التعارض، وأما فيها فتكون حجيتها على السببية، لوجود المصلحة في العمل بخبر العادل مع الغض عن جهة الكشف عن الواقع، وربما يستفاد هذا من قوله عليه السلام: 600 ولا مجال هاهنا (1) لقاعدة قبح العقاب
(بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك) وكان سيدنا الأستاذ (قده) يميل إلى هذا المعنى، من جهة أن المناط في الطريقية حيث كان هو الوثوق بالصدور وقد ارتفع بالتعارض فلا بد أن يكون العمل بواحد منهما لمصلحة أخرى غير ما تقتضيه أدلة حجية الخبر على الطريقية المحضة. وسيأتي تفصيل الكلام في باب التعادل والترجيح إن شاء الله تعالى. 601 بلا بيان [1] فإنه (1) لا قصور فيه هاهنا، وانما يكون عدم تنجز
[1] بل لها مجال، لان العلم بالالزام ان كان بيانا رافعا لموضوع القاعدة كان اللازم عدم جريان حديث الحل لنفي كل من الخصوصيتين المشكوكتين لفرض العلم بالالزام هنا. وان لم يكن بيانا كذلك تعين جريان القاعدة، لوجود 602
المقتضي وعدم المانع، ضرورة أن التنجز كما أفاده المصنف قدس سره في حاشية الرسائل وان كان متقوما بأمرين أحدهما البيان و الاخر القدرة على الامتثال، ولا دخل لكل منهما بالآخر، والعلم بالالزام بيان على التكليف مع تعدد متعلقه، إلا أن المراد به في القاعدة بقرينة حكم العقل بقبح العقوبة ليس هو العلم الكاشف عن معلومه فحسب وان لم يكن متمكنا من الموافقة والمخالفة بل المراد به هو البيان المنجز الصالح للبعث والزجر، لان المصحح للعقوبة ليس هو البيان المجرد عن صلاحية التحريك، بل ما يمكن أن يصير داعيا و محركا للمكلف، وحيث لا قدرة له هنا على الامتثال والعصيان القطعيين فلا محالة يكون موضوع قاعدة القبح محققا. ولا يقاس عدم القدرة هنا بعدمها في باب التزاحم كإنقاذ الغريقين حتى يتوهم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان هناك، وذلك لان عدم القدرة هنا ناش عن قصور في البيان يسقطه عن صلاحية التحريك، بخلافه هناك، فان عدم القدرة فيه تكويني بعد تمامية الخطابين، فلا بد فيه من مراعاة قواعد التزاحم. وعليه فما في المتن وحاشية بعض المدققين من التفكيك بين البيان والتمكن المقومين للتنجز وان كان متينا في نفسه، إلا أنه لا يمنع من جريان قاعدة القبح هنا، لما عرفت من أن البيان المأخوذ عدمه في القاعدة ليس إلا خصوص المنجز لا مطلق البيان. ويشهد له أن الغاية في حديث الحل عقلية بمعنى المنجز لا مطلق العلم وان لم يكن مصححا للعقوبة على المخالفة. فما قيل أو يمكن أن يقال في الفرق بين البراءة الشرعية والعقلية: (من أن الحاكم باستحقاق الثواب والعقاب على الطاعة والعصيان لما كان هو العقل 603 التكليف لعدم (1) التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها (2)، والموافقة الاحتمالية (3) حاصلة
فيكفي كون العلم بالجامع مصححا للمؤاخذة، والعذر عن الموافقة القطعية حينئذ هو العجز عنها لا قاعدة القبح، فلا تجري القاعدة حينئذ، لوصول الالزام إلى المكلف. وهذا بخلاف البراءة الشرعية، حيث إن المرفوع هو الخصوصية المشكوكة، إذ ما يكون أمر وضعه ورفعه بيد الشارع هو النوع الخاص لا الجنس فتجري أدلة البراءة الشرعية دون العقلية) لا يخلو من الغموض، لما عرفت آنفا من أن العجز عن الموافقة القطعية انما نشأ من قصور الخطاب عن التحريك، إذ لو كان أحد النوعين من الوجوب والحرمة معلوما تفصيلا كان امتثاله القطعي ممكنا قطعا. وعليه فمقتضى ما ذكرنا عدم الفرق في جريان البراءة بين الشرعية والعقلية فيما دار أمره بين المحذورين، فافهم. 604 لا محالة (1) كما لا يخفى. ثم إن مورد هذه الوجوه (2) وان كان ما إذا لم يكن واحد من
605 الوجوب والحرمة على التعيين تعبديا (1)، إذ لو كانا (2) تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك لم يكن (3) إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع (4) إلى الإباحة، لأنها (5) مخالفة عملية قطعية على ما أفاده
608 شيخنا الأستاذ قدس سره، الا أن (1) الحكم أيضا فيهما (2) إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا بين إتيانه (3) على وجه قربي بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه وتركه (4) كذلك، لعدم الترجيح (5)، وقبحه بلا مرجح. فانقدح (6) أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين
609 بالنسبة (1) إلى ما هو المهم في المقام وان اختص بعض الوجوه بهما (2) كما لا يخفى. ولا يذهب عليك (3) أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل
610 الترجيح في أحدهما على التعيين (1)، ومع احتماله (2) لا يبعد دعوى استقلاله بتعينه [بتبعيته] كما هو (3) الحال في دوران الامر بين التخيير
611 والتعيين في غير المقام (1)، ولكن (2) الترجيح إنما يكون لشدة
612 الطلب (1) في أحدهما (2) وزيادته على الطلب في الاخر بما (3) لا يجوز الاخلال بها في صورة المزاحمة (4) ووجب (5) الترجيح بها (6)، وكذا (7) وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران.
613 ولا وجه لترجيح (1) احتمال الحرمة مطلقا (2) لأجل (3) أن دفع
614 المفسدة أولى من ترك المصلحة، ضرورة (1) أنه رب واجب يكون مقدما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام، فكيف يقدم على احتماله احتماله (2) في صورة الدوران بين مثليهما [1 [3 فافهم.
[1] مع اختصاصه على فرض تسليمه بما أحرز كل من المصلحة والمفسدة وعدم شموله لما احتمل ذلك، وإلا كان الاستدلال به لوجوب الاحتياط في الشبهة البدوية التحريمية حيث يتمحض الشك في الحرمة والإباحة أولى، إذ لا مزاحم لاحتمال المفسدة هناك أصلا، مع عدم التزام أحد به. 615 إلى هنا انتهى الجزء الخامس من كتاب (منتهى الدراية في توضيح الكفاية) وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به إخواننا المحصلين المتقين، وقد وقع الفراغ من تأليفه على يد مؤلفه الأقل محمد جعفر بن محمد علي الموسوي الجزائري الشوشتري المروج عفا الله عن سيئاتهما، في جوار الروضة الشريفة العلوية على من حل بها وأولاده المعصومين أفضل الصلاة والسلام والتحية، والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله المعصومين، واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين.