مقالات الأصول (جزء 2) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مقالات الأصول (جزء 2) - نسخه متنی

ضیاء الدین عراقی؛ محققین: منذر حکیم، مجتبی موحدی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: مقالات الأصول
المؤلف: آقا ضياء العراقي
الجزء: 2
الوفاة: 1361
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: الشيخ مجتبى الموحدي ، السيد منذر الحكيم
الطبعة: الأولى المحققة
سنة الطبع: جمادي الأولى 1420
المطبعة: باقري - قم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
ردمك: 964-5662-10-9
ملاحظات:
مقالات الأصول

1
مقالات الأصول
تأليف
المحقق الكبير آية الله العظمى
الشيخ ضياء الدين العراقي
(1278 - 1361 ه‍. ق)
الجزء الثاني
تحقيق
الشيخ مجتبى المحمودي السيد منذر الحكيم

3
عراقي، ضياء الدين، 1240 - 1321 ق.
مقالات الأصول / تأليف ضياء الدين العراقي، تحقيق مجتبى المحمودي، منذر
الحكيم. - قم: مجمع الفكر الإسلامي، 1420 ق = 1378.
2 ج.
) 9 - 10 - 5662 - ISBN 964 ج 2 (
فهرستنويسى بر أساس اطلاعات فيپا (فهرستنويسى پيش از انتشار).
فهرستنويسى بر أساس جلد دوم، 1420 ق = 1378.
عربي.
كتابنامه.
1. أصول فقه شيعه. الف: محمودي، مجتبى، محقق.
ب. حكيم، منذر، محقق. ج. عنوان.
7 م 4 ع / 8 / BP 159 312 / 297
كتابخانه ملى إيران 5081 - 78 م
قم - ص. ب 3654 - 37185 - ت: 744810
مقالات الأصول / ج 2
المؤلف: الشيخ ضياء الدين العراقي
تحقيق: الشيخ مجتبى المحمودي / السيد منذر الحكيم
المحققة الأولى / جمادى الأولى 1420 ه‍. ق
تنضيد الحروف: مجمع الفكر الإسلامي
الليتوغراف: نگارش - قم
المطبعة: باقري - قم
الكمية المطبوعة: 1000 نسخة
جميع الحقوق محفوظة لمجمع الفكر الإسلامي

4
بسم الله الرحمن الرحيم

5
بسمه تعالى
توفي المحقق الكبير آية الله العظمى الشيخ ضياء الدين العراقي (قدس سره) سنة
1361 هجرية قمرية في النجف الأشرف على مشرفها آلاف التحية والثناء ولما
يطبع الجزء الثاني من مقالاته. بينما كان الجزء الأول قد طبع في النجف الأشرف
والمؤلف بعد في قيد الحياة.
ومن هنا اعتمد محققا الجزء الأول الذي أصدره مجمع الفكر الإسلامي عام
1414 هجرية على النسخة المطبوعة في حياة المؤلف (قدس سره).
ومن خلال التحقيق والتصحيح لاحظنا أن نسبة الأخطاء قد ازدادت في
الجزء الثاني منهما إذا ما قيست إلى الجزء الأول.
ولم نعثر على نسخة مخطوطة للمؤلف فيما يخص الجزء الثاني سوى جملة من
التصحيحات التي أتحفنا بها فضيلة الحجة السيد محمد حسين الجلالي دام عزه عن
أستاذه العلامة السيد مرتضى الخلخالي والذي يعد أحد المختصين بالمحقق
العراقي (قدس سره)، وقد يكشف ذلك عن انه قد جعله وصيا على كتبه ومؤلفاته.
ولكن هذه التصحيحات لم تستوعب كل أخطاء الكتاب. ومن هنا كانت
المعاناة في تصحيحها كبيرة جدا بالرغم من الإلفة التي يحصل عليها المطالع
لنصوص المحقق العراقي بعد كثرة المطالعة والممارسة والإحاطة بمبانيه ومنهجه
وغرز أفكاره.
وتلخص عملنا في الجزء الثاني من المقالات - بعد اعتمادنا على النسخة
المطبوعة بإيران سنة 1369 هجرية قمرية - فيما يلي:
1 - أدخلنا أكثر التصويبات التي اتحفنا بها السيد الجلالي عن أستاذه

7
الخلخالي إذ بلغت حوالي 700 موردا واستدركنا عليها مجموعة من التصحيحات
المطبعية.
2 - كما صححنا الأغلاط الأدبية (والنحوية) قدر الامكان.
3 - وأضفنا ما يفيد رفع الابهام والاجمال في بعض العبائر بقدر الضرورة،
إذ الضرورات تتقدر بقدرها. كل ذلك بعلائم فارقة واضحة تفيد القارئ موارد
إعمال التصحيح وهي حصر التغيير بين معقوفتين []، إذا أراد أن يعرف الأصل
المطبوع بإيران ويقارنه بالأصل المحقق.
ولا يخفى على العلماء والفضلاء ما تتميز به أفكار ورؤى مدرسة المحقق
العراقي من عمق النظر ودقة الرأي.
وبالرغم مما قيل عنه أنه كان عذب البيان وطلق المنطق ولكن كتابته تميزت
بتعقيد تفرد به من بين معاصريه وأقرانه.
ومن هنا فإننا نترقب من ذوي الفضل أن يتفضلوا علينا بنقودهم البناءة
وآرائهم الكريمة حول ما حققناه في هذا الجزء، كما نشكر جميع الأخوة الذين
ساهموا في اخراج هذا الجزء ونخص منهم بالذكر فضيلة الشيخ محمد باقر حسن
پور وفضيلة الشيخ صادق الكاشاني لتفضلهم بمراجعة الكتاب واستخراج
مصادره واعداده للطبع.
وفي الختام نتمنى لمجمع الفكر الإسلامي دوام التوفيق وتكامل النشاط
العلمي ودوام العطاء وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
حرر في 29 / 7 / 1376
الموافق 18 / جمادى الثانية 1418 ه‍. ق.
المحققان
الشيخ مجتبى المحمودي السيد منذر الحكيم

8
المقالة الأولى
حجية القطع عقلا

9
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أولا: أن كل من وضع عليه قلم التكليف، والتفت إلى تكليفه: إما أن
يقطع به بحيث لا يحتمل خلافه، أم لا يقطع، بل يحتمل في حقه تكليفا، وحينئذ
فإما: أن يكون أحد احتماليه راجحا على الآخر، [أو]: لا، بل هما متساويان
على وجه يوجب في حقه ترديدا بلا عقيدة لأحد الطرفين ولو ظنيا.
ولا شبهة في اختصاص كل واحد بخصيصة من وجوب الطريقية في القطع،
و [إمكانها] في الظن، و [استحالتها] في الشك. وتوضيح ذلك يقتضي طي
الكلام في كل واحد في مقالة، فنقول:

10
[المقالة الأولى]
[حجية القطع عقلا]
لا شبهة في وجوب اتباع القطع عقلا. ومرجع هذا الوجوب في القطع
بالأحكام إلى حكم العقل بتحسين صرف غرضه وإرادته إلى امتثال مولاه، وإليه
يرجع أيضا حكمه بحسن إطاعته.
وأما مع فرض تعلق غرضه بالمتابعة - كتعلق غرضه في أموره التكوينية
بتحصيل مقصوده - فحكم العقل بالحركة على وفق [القطع] ارتكازي غير مرتبط
بباب حكم العقل بالتحسين والتقبيح. كيف، وهذا المعنى ربما يكون جبليا
للحيوانات في حسياتهم.
وعلى أي حال مع حصول القطع بحكم لا يصلح مثل هذا القطع للردع عن
عمله، إذ بالنسبة إلى المرتبة الأخيرة [واضح]، لأن صلاحيته في ظرف فعلية
غرضه بتحصيل المقصود يرجع إلى إمكان نقض غرضه، وهو كما ترى محال وجدانا.
وبالنسبة إلى المرتبة الأولى يرجع إلى منعه عن طاعته، مع أن حكمه
[بحسنها] تنجيزي.
نعم، لو فرض تعليقية حكم العقل بحسن الطاعة لا بأس بردعه في هذه

11
المرتبة الموجب لعدم انتهائه إلى صرف غرضه، ولكن أنى لنا بإثباته؟! كيف!
والوجدان شاهد بتنجيزية حكمه، إذ لا مجال للتصديق بإمكان ترخيص المولى في
معصيته وترك إطاعته.
وهذا المقدار هو الوافي لاثبات المدعى بلا احتياج إلى التشبث ببرهان
المناقضة، إذ البرهان المزبور: إن كان جاريا بالنسبة إلى حكم العقل في المرحلة
الأولى فإنما يتم على التنجيزية، وإلا فعلى إمكان التعليقية لا يكاد يتم البرهان،
لأن الردع حينئذ مانع عن حكم العقل بحسن إطاعة مولاه، فلا يحكم العقل حينئذ
بلزوم صرف غرضه إلى موافقة مولاه. وان كان البرهان جاريا بالنسبة إلى حكم
الشرع من حيث إرادته وترخيصه على خلافه ففيه: إن مرجع ذلك أيضا إلى
ترخيص المولى في ترك العمل في المرتبة اللاحقة مع بقاء إرادته في المرتبة السابقة
بلا تضاد أو مناقضة في البين.
نعم، لو كان المقصود من صحة الردع منعه عن الحركة على وفق المقصود في
ظرف توجه الغرض إليه صح ملازمته لمنع طريقيته وإراءته، كيف! وإراءته
وطريقيته موجبة - للارتكاز - إلى الحركة بنحو العلية، فمنعه حينئذ عن الحركة
مساوق لمنع طريقيته.
ولكن لا أظن أحدا يدعي قابلية القطع للردع في هذه المرتبة الارتكازية كي
يقام عليه البرهان بأن طريقيته وإراءته ذاتية، ويستحيل سلب ذاتي الشئ عنه.
نعم، قصارى ما يمكن [للمخالف] في المقام صرف كلامه إلى المرتبة
السابقة بدعواه: أن حكم العقل بصرف الغرض إلى متابعة المولى تعليقي، وحينئذ
لا يرد عليه أيضا برهان المناقضة.
كما أن بمثل هذا البرهان أيضا لا مجال لاثبات تنجيزية حكم العقل، لأن
ثبوت التنجيزية من مبادي جريان البرهان، ولا يكاد يجري ما لم [تثبت] مباديه

12
كما هو واضح.
وبالجملة: العمدة في إثبات المقامين للقطع هو الوجدان - كما أشرنا - وهو
يكفي ونعم النصير. هذا كله في القطع.
[عدم حجية الظن]
وأما في الظن فلا شبهة في أن احتمال خلافه مانع عن طريقيته الذاتية،
لقصوره حينئذ عن الإراءة الذاتية التامة وجدانا، وحينئذ لا حكم للعقل في مورد
الظن بنفسه لا في المقام الأول ولا في المقام الثاني.
اما المقام الثاني فواضح، إذ الاحتمال المخالف يمنعه عن الحركة إلى مقصوده
لاحتمال عدم مقصوده، وما هو علة للحركة المزبورة هو الجزم بوصوله، المفقود في
المقام.
واما المقام الأول فإن العقل إنما يحكم بصرف غرضه إلى إطاعة مولاه، ومع
احتمال [عدمها] أين [الإطاعة] كي يحكم العقل بصرف الغرض [إليها]، بل
العقل حينئذ مستقل بجواز المخالفة المحتملة.
وبهذه الجهة نقول: بأن الظن بنفسه لا يغني من الحق شيئا، بل يحتاج في
التحريك على وفقه إلى جعل من قبل المولى كي به تصل النوبة إلى المرتبة الأولى
من حكم العقل. نعم لا [تكاد] تصل النوبة إلى المرتبة الثانية في باب الظن بما هو
ظن بالواقع ما لم ينته الأمر إلى الجزم بالغرض ولو في المرتبة المتأخرة عن الظن
بالواقع، وهو أيضا من أحكام اليقين غير مرتبط بالظن أصلا.
نعم، المرتبة الأولى أمكن أن [تتحقق] فيه بجعله، وحينئذ يمتاز الظن عن
القطع بصلاحيته لجعل التحريك على وفقه، بل وجعل الطريقية فيه ولو في الجملة،
دون القطع لأنها ذاتية فيه.
ثم إن الغرض من جعل طريقية الظن تارة صيرورة الظن قائما مقام اليقين

13
في تقديمه على مفاد الأصول العملية التي كان العلم غاية لها، أو قائما مقامه في
موارد كون العلم دخيلا في موضوع الحكم بنحو الشرطية مثلا، وأخرى قيامه
مقام اليقين في المرتبة الأولى من حكم العقل بوجوب الاتباع الملازم لتنجز الواقع
في مورد مصادفته له.
أما قيامه مقام العلم في المقام الأول فيكفيه مجرد عنايته تتميم كشفه في
لسان دليله، إذ حينئذ يصير حاكما على أدلة الأصول والعلوم الموضوعية بتوسعة
العناية المزبورة للغاية تارة والشرط أخرى، كما هو ظاهر. وسيأتي - إن شاء الله -
وجه استفادة هذه العناية من لسان أدلة الطرق كلية في محله.
وأما في قيامه مقام العلم في المقام الثاني ففي كفاية هذا المقدار من العناية بلا
التزام بمعنى آخر في البين مجال منع، خلافا لبعض المعاصرين (1) حيث التزم
بكفاية هذا المقدار لتنجز الواقع المستتبع للحكم العقلي المزبور.
وعمدة نظره إلى أن تنجز الواقع تابع وصول الواقع إلى المكلف أعم من
الوصول الوجداني والعنائي.
وبعبارة أخرى: إن البيان الرافع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان منحصر
بالعلم بالواقع أعم من العلم الحقيقي أو الجعلي، فلولا تتميم الكشف في البين لما كان
لنا بيان رافع لحكم العقل المزبور، إذ لا نعني من البيان إلا رفع الجهل الحاصل
بالوجدان تارة وبالجعل وتتميم الكشف أخرى.
وببيان آخر هو: ان غالب الطرق الشرعية إمضائية لطريقة العقلاء،
ومرجعه إلى بنائهم على تتميم الكشف ووصولهم إلى الواقع بطرقهم في مقام
اعمالهم، فليس عندهم جعل وأمر مخصوص في موارد طرقهم، بل ليس إلا مجرد



(1) الظاهر هو المحقق النائيني، انظر فوائد الأصول 3: 17.
14
بنائهم على إلغاء احتمال الخلاف مقدمة وتوطئة لعملهم على وفقها، ولولا
اقتضاء صرف تتميم الكشف في بنائهم لتنجز الواقع لما يصلح هذا البناء توطئة
لعملهم، إذ لا يكون عملهم على طبق الطرق إلا من جهة صلاحيتها لتنجز الواقع
ووصوله إليهم، وحينئذ يرجع إمضاء الشارع إياهم في هذا البناء إلى رضاه
ببنائهم على تنجيز الواقع بنفس عناية تتميم الكشف المستتبع للعمل على وفقه.
هذا غاية توضيح لبيان كلامهم ونهاية تشييد لأركان مرامهم.
ولكن أقول، و [عليه] التكلان:
إن لازم حصر البيان بالعلم الأعم من الجعلي عدم صلاحية سائر الأصول
التنزيلية المحفوظ في موضوعها الجهل والشك بالواقع، كالاستصحاب على وجه،
وقاعدة الاعتناء بالشك قبل تجاوز المحل، لتنجز الواقع، لعدم العلم بالواقع في
موردها، حيث عدم كون لسانها تتميم الكشف ورفع الجهل.
ومجرد كون مؤدى الدليل تنزيل محتمل البقاء منزلة الواقع لا يجدي في رفع
الجهل الذي هو موضوع هذه الأدلة، فليس في موردها تتميم كشف، ولا علم
بالواقع ولو جعليا.
وأولى من هذه الأصول موارد الأمر (1) بالاختبار في اشتباه الدم،
والأمر (2) بالتسبيك في مورد الجهل بمقدار الواجب في الذهب، والأمر (3) بوجوب
[تعلم الأحكام]، إذ من هذه الأوامر يستفاد حرمة الاقتحام عند الشك بلا تتميم
كشف في موردها.
ولازم ما أفيد عدم صلاحية هذه الموارد لتنجز الواقع واستحقاق العقوبة



(1) انظر الوسائل 2: 535، الباب 1 من أبواب الحيض.
(2) انظر الوسائل 6: 104، الباب 7 وفيه حديث واحد.
(3) أصول الكافي 1: 30 - 31 باب فرض العلم ووجوب طلبه.
15
على مخالفته في مواردها، لعدم بيان وعلم بالواقع ولو جعليا، فيبقى الواقع فيها
حينئذ تحت قبح العقاب بلا بيان. وحينئذ لا محيص - على فرض العقوبة - من
الالتزام بالعقوبة على مخالفة هذه الأصول والقواعد، خالف الواقع أو وافق.
ومرجعه إلى موضوعية الأصول المثبتة في الأحكام، تنزيلية أم غير تنزيلية بلا
صلاحيتها لتنجز الواقعيات.
مع أن الطبع السليم يأبى عن هذا المسلك، وبناء الفقهاء أيضا على غير هذا.
كيف! ويجعلون - في اقتضاء الحكم الظاهري للإجزاء وعدمه - الأمارات
والأصول في سلك واحد، ويبنون الاجزاء على الموضوعية وعدمه على عدمها
من دون نظرهم إلى تفرقة بين الأصول المثبتة والأمارات في ذلك.
وذلك شاهد أن في تنجز الواقعيات لا يكون جهة فرق بين الأمارات
والأصول من حيث المنجزية للواقع بنظرهم، فتدبر في كلماتهم.
بل المرتكز في أذهان العقلاء في احتياطاتهم أيضا ليس على موضوعية
الاحتياط للعقوبة [في] نفسه بل تمام ارتكازهم على كون الواقع بنظرهم منجزا
بمحض أمر مولاهم بأخذهم جانب الاحتياط. وذلك كله شاهد أن المراد بالبيان
الرافع لحكم العقل بقبح العقاب ليس منحصرا بالعلم بالواقع فضلا عن أن يكون
جعليا، هذا.
مع أنه كيف يمكن الالتزام بأن مجرد العلم الجعلي الناشئ عن تتميم الكشف
- بلا نظر إلى جعل بيان - مصحح للعقوبة على الواقع.
إذ من البديهي أن مرجع العلم الجعلي وتتميم الكشف إلى إلغاء احتمال
الخلاف من العبد تنزيلا، كما هو الشأن في جعلية جميع الأشياء بالتنزيل من أي
مقولة، فلا يكون المنزل بوجوده الاعتباري مع المنزل عليه تحت جامع، لعدم
وجود جامع بين المقولات فضلا عن مثل هذه الاعتباريات المحضة الخارجة عن
المقولات طرا.

16
وحينئذ القائل بكفاية الجعل المزبور في تنجيز الأحكام إن أراد: أن مجرد
البناء على محرزية ما لا يكون محرزا وجدانا كاف في المنجزية ولو بلا نظر في هذا
البناء والجعل إلى جهة الاستطراق به إلى الواقع، بل يدعي أن صرف هذا البناء
ولو بلحاظ أثر آخر محضا واف بجعلية الإحراز، [فتشمله] كبرى ترتب حسن
العقاب على البيان ولو جعليا، لفرض صدق المصداق الجعلي على مثله، ففيه: أن
لازمه الحكم بتنجز الأحكام حتى في صورة كون النظر في جعل الإحراز إلى غير
استطراقه، كتقبيل يده واحترامه فقط. ولا أظن التزامه من أحد.
وإن أراد: أن جعل الإحراز بلحاظ الاستطراق موجب للتنجيز لا مطلق
جعله ولولا بهذا اللحاظ فنقول:
إنه إن أراد بذلك شرطية نفس الملحوظ من الاستطراق المزبور وأن لحاظه
فيه طريق إلى دخل ملحوظه، ففيه: أن مرجعه إلى دخل ما هو غرض الشئ في
موضوعه، وبديهي أنه دور صريح.
وإن أراد: أن اللحاظ المزبور بنفسه شرطه فهو أفحش فسادا من الأول،
لبداهة أن لحاظ الشئ لا بد وأن يكون في رتبة لاحقة عن الشئ، كما هو الشأن
في جميع العلوم تصوريا أم تصديقيا بالنسبة إلى معلوماتها.
وحينئذ كيف يعقل شرطية هذا اللحاظ لترتب ملحوظه؟ إذ شأن
[الشرط] أن يرى سابقا [على] مشروطه، وكيف يعقل ملاحظة ما هو لاحق
[لملحوظه] سابقا [عليه] رتبة. ولذا لم يتوهم أحد شرطية العلم بشئ لمعلومه.
وحينئذ لا محيص من إلغاء هذا اللحاظ عن الشرطية ويلتزم بالنقض
المزبور.
وعليه، فلا يرفع هذه الغائلة إلا الالتزام بعدم ترتب التنجيز على مجرد
جعل المحرزية، بل يحتاج إلى سبب آخر يكون مثل هذا الجعل والعناية المزبورة
حاكية عنه، وأنه نحو عناية في بيان المقصود، لا أنه بنفسه مقصود وموضوع أثر.

17
ومن هذا البيان أيضا ظهر حال العقلاء في بنائهم على محرزية شئ في مقام
أعمالهم، فإنه لو كان هذه الأعمال مترتبة على نفس هذه العناية يلزم أيضا أحد
المحذورين: إما إلغاء لحاظ الأعمال عن الشرطية فيلزم النقض المزبور، أو أخذه
شرطا في ترتب الأعمال على جعل محرزية شئ لهم، فيلزمهم أخذ اللحاظ
المتأخر رتبة في ملحوظه سابقا، وهو كما ترى.
وحينئذ لا محيص لهم أيضا إلا من الالتزام بأن مناط أعمالهم شئ آخر
وأن هذه الجهة [دعتهم إلى] جعل المحرزية، لا أن الجعل المزبور بنفسه دعاهم إلى
الأعمال، كما لا يخفى.
وبالجملة نقول: إن لازم منجزية صرف جعل المحرزية - كما توهم (1) - أحد
المحذورين:
إما الالتزام بترتبها على مجرد الجعل ولو بأي لحاظ، فيلزم النقض المزبور.
أو الالتزام بشرطية لحاظ الشئ للشئ، فيلزم حينئذ تقديم ما هو متأخر
رتبة على ملحوظه، وهو أفحش فسادا عن النقض.
ثم إنه بعد ما عرفت ذلك نقول:
إن الأثر الذي يكون لحاظه شرطا في صحة الجعل لا بد وأن يكون أمر
رفعه ووضعه بيده، وعليه أيضا أسسوا أساس عدم حجية الأصول المثبتة.
وحينئذ نقول:
إن مجرد أعمال أنفسهم في معاملاتهم يكفي في تصحيح جعلهم، لكونها
مثبتة منهم. وأما أعمال عبيدهم [فلا] يجدي في صحة جعل الإحراز للعبيد،
لعدم كون أمر رفعها ووضعها بيد المولى، بل لا بد وأن يكون المصحح للجعل في
هذا المقام أمره بالمعاملة، إذ هو المتمشي من قبل المولى بالإضافة إلى العبيد.



(1) انظر فوائد الأصول 3: 17.
18
وحينئذ لو فرض طريقية هذا الأمر، يكفي للمنجزية بلا وصول النوبة إلى
جعل المحرزية محضا.
ولذا ربما يتحقق هذا الأمر لا بلسان جعل المحرزية، كما في الأصول العملية
وأوامر الاختبار كما أشرنا ويكتفى بها في تنجيز الأحكام.
ومن ذلك يلتزم أيضا باشتراك الأمارات والأصول في لب أساس
المنجزية وإن كان بينهما فرق من اختصاص دليل الأمارة بلسان تتميم الكشف
دون غيره.
وبهذه الجهة تقدم الأمارة على الأصول بلسان التحكيم.
نعم ربما استشكل في التحكيم المزبور لو كان لسان دليل الأمارة تنزيل
المؤدى، لعدم وجود علم بالواقع لا حقيقة ولا تنزيلا علاوة على استلزام ذلك
محذور اجتماع اللحاظين في دليل الأمارة، كما قرر في كلماته فراجع (1).
ولذا التزم القائل به بعدم قيام الأمارة مقام العلم الموضوعي، والتزم أيضا
بورود أدلة الأمارة على الأصول لا الحكومة بتكلف بعيد.
ولكن يمكن أن يقال: إنه على هذا المسلك أيضا أمكن الالتزام بالحكومة
ولو من جهة نظر دليل الأمارة بدوا إلى توسعة الحكم وتضييقه بلا احتياج إلى
توسعة في موضوعه. وسيأتي - إن شاء الله - عدم إمكان الحكومة في الأصل
السببي والمسببي إلا بهذا النحو من النظر لا ببركة توسعة الموضوع أو
تضييقه. وتوضيحه موكول إلى محله إن شاء الله.
وكيف كان، ظهر مما تلوناه لك عدم أساس المنجزية بمجرد جعل
المحرزية، وأنه نحو سراب بقيعة [يحسبه] الظمآن ماء (2).



(1) انظر فوائد الأصول 3: 21 و 22.
(2) إشارة إلى الآية الكريمة: 39، من سورة النور.
19
وأضعف من ذلك توهم ترتب المنجزية على مجرد جعل الحجية وأنه من
الأحكام الوضعية كالملكية.
وتوضيح دفعه بأنا لا نرى من الحجية إلا ما هو الثابت لنفس العلم ذاتا،
وبديهي أن ما هو الثابت له ليس إلا القاطعية [للعذر] المساوق للسببية
للاستحقاق. وهذا المعنى غير قابل للجعل أبدا، بل القابل له سببه من الأمر
الطريقي في مورده.
[الأوامر الطريقية]
وحيث آل الأمر إلى الأوامر الطريقية فينبغي طي الكلام في شرح الأوامر
الطريقية بحقيقتها ولوازمها فنقول:
أما حقيقتها فهي إنشاءات في ظرف الجهل، حاكية عن لب الإرادة القائمة
بالمتعلق ومبرزة لها. وحينئذ دائرة إنشائها أوسع من دائرة لب الإرادة الواقعية،
إذ ربما يكون في البين إنشاء بلا إرادة في الواقع أصلا. وبذلك [تمتاز] عن الأحكام
الحقيقية الأصلية، حيث إن دائرة إنشائها بمقدار إرادتها، ومن هذه الجهة ربما
يفترق الأمران في جهة الإثبات لحكم المتعلق على فرض وجوده واقعا، إذ في
الأمر الطريقي لا قصور في [مثبتيته] ومبرزيته له لهذا الوجود، بخلاف الأوامر
الأصلية، إذ هي لا تكون مبرزة إلا لإرادتها المحفوظة في نفسها بلا نظر فيها إلى
إبراز حكم آخر ولو كان موجودا.
بل لك أن تقول: إن شأن الإنشاءات المبرزة - كلية - في ظرف إبرازها أن
لها نحو اتحاد مع المبرز - بالفتح - بحيث قوام حكمية الحكم بهما.
وبهذه الملاحظة صح إطلاق الوساطة في الثبوت أيضا على الإنشاءات
الطرقية كسائر الإنشاءات.
غاية الأمر: الفرق [بينهما] احتياج هذه الوساطة في الأمر الطريقي إلى

20
فرض وجود لب الإرادة واقعا دون سائر الإنشاءات، إذ هي في وساطة
[ثبوتها] لا تحتاج إلى فرض وجود إرادة أخرى، لعدم [أوسعيتها] عن لب
[إرادتها] كما لا يخفى وجهه.
وحيث اتضح تقريب مثبتية الأحكام الطرقية على الوجه المزبور ظهر لك
أمران:
أحدهما: عدم التهافت بين كون الأمارة في القياس موضوع الأكبر في
الكبرى ومنتجا لحكم متعلقه، بخلافه في الاحكام غير الطرقية، إذ الموضوع
للأكبر في [قياسها] لا يكون إلا منتجا لحكم نفسه لا غيره.
وعمدة المنشأ هو أوسعية دائرة الانشاء الطريقي عن لب إرادته هناك دون
المقام، كما أسلفنا.
وثانيهما: أن المثبتية في الأمر الطريقي [حقيقية] بملاحظة مبرزيته
[للإرادة] المحفوظة في مورده أحيانا، فيصدق في حقها (1) أن موضوعها واسطة
لإثبات حكم [متعلقها] المحفوظ في [موردها] حقيقة بلا احتياج إلى جعل
[اثباته] عنائيا. كيف! وبرد (2) البعض السابق في جعل الإحراز بلحاظ تقبيل
اليد والاحترام، وهو كما مر (3).
ثم إن من هذه البيانات ظهر دفع شبهة أخرى وهي: أن المثبتية في ظرف



(1) الظاهر: أن ارجاع الضمائر كما يلي:
" فيصدق في حق الأوامر الطرقية أن موضوعها واسطة لاثبات حكم متعلق هذه
الأوامر المحفوظ في موردها حقيقة بلا احتياج إلى جعل اثبات الحكم عنائيا ".
(2) كذا في الأصل.
(3) قال فيما مر: " إن لازمه الحكم بتنجيز الأحكام حتى في صورة كون النظر في جعل
الإحراز إلى غير استطراقه كتقبيل يده واحترامه فقط. ولا أظن التزامه من أحد ".
21
وجود الحكم الواقعي لا [تخرج] المورد عن الجهل به، فكيف يصير موجبا لتنجز
الواقع المنوط بالبيان الواصل؟
وتوضيح دفعها: بأن مثل هذه الإنشاءات في ظرف وجود الحكم لا قصور في
مبرزيتها له كما عرفت، و [لازمه] كون الحكم المزبور في ظرف وجوده مقرونا
بالبيان الواصل، فيصير الأمر حينئذ دائرا بين عدم الحكم أو وجوده مقرونا بالبيان.
ومرجعه إلى احتمال وجود حكم مقرون ببيانه، ومثله خارج عن موضوع
حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، إذ موضوعه الجهل بحكم على تقدير وجوده لا
يكون مقرونا بالبيان الواصل، فيدخل المقام قهرا تحت قاعدة دفع الضرر
المحتمل.
فإن قلت: إن كل مورد احتمل فيه التكليف - فعلى فرض صدق احتماله -
يقطع بالتكليف، ولازمه كون وجوده واقعا مقرونا بالبيان، فلا يبقى حينئذ
موضوع لقاعدة القبح.
قلت: إن القطع المزبور لما كان وجوده منوطا بأمر مجهول فلا يكاد تصور
وجوده فعلا كي يكون طريقا واصلا.
وهذا بخلاف الإنشاءات المزبورة، فإنها في أصل وجودها لا تكون
[منوطة] بأمر مجهول، بل في بيانيتها ومبرزيتها للحكم الموجود واقعا أحيانا
أيضا لا [تنوط] بشئ، غاية الأمر لو لم يكن في البين حكم فلا يصلح الانشاء
للبيانية من جهة قصوره في الحكم، لا قصور في بيانيته في فرض الوجود، بخلاف
العلم المزبور، إذ على فرض وجود الحكم في الواقع قاصر عن فعلية الوجود فضلا
عن بيانيته، وحينئذ كم فرق بين المقامين؟
وعليه لا نعني من منجزية هذه الأوامر إلا هذا.
ثم إن لنا في دفع الشبهة المزبورة بيانا آخر وهو: إن من المعلوم أن مثل
هذه الإنشاءات الطرقية في ظرف الجهل بالواقع يكشف عن اهتمام المولى بحفظ

22
مقصوده بحسب ما قنع في إبرازه بصرف خطابه الواقعي القاصر عن الشمول
لظرف الجهل بنفسه. ولازمه حينئذ احتمال المكلف تكليفا يقطع بكونه مهتما به
بهذه المرتبة من الاهتمام، وبمثله يخرج أيضا عن موضوع القبح، لأنه تمحض
بصورة عدم الاهتمام بحفظه في ظرف الجهل.
ومن هذه الجهة نلتزم بوجوب النظر إلى المعجزة. ولولا الاهتمام المزبور أو
عدم كفايته في حسن العقاب [لم يكن] وجه لوجوبه مع استقلال العقل بقبح
العقاب بلا بيان.
ثم إنه بعد وضوح وجه المنجزية بتقريب الكشف عن الاهتمام، أو بتقريب
الاقتران بالبيان ربما يكون كل واحد من التقريبين منتجا لشئ في باب
الانسداد. إذ على تقريب الاهتمام ربما لا ينوط إحرازه من قبل جعل شرعي (1) بل
ربما يحرزه العقل من الخارج ولو من جهة الجزم بشدة الاهتمام بالدين وحفظه، كما
هو الشأن في النظر إلى المعجزة، حيث لا يعقل كشف هذا الاهتمام من قبل الشرع
لكونه دوريا.
ومن هذا الباب أيضا كشف الاهتمام من بطلان الخروج من الدين، وأن
هذه الجهة أيضا مدرك إجماعهم على البطلان المزبور من دون احتياج إلى جعل
شرعي أصلا.
وحينئذ من تبعات هذا التقريب عدم [انتهاء] النوبة في نتيجة الانسداد إلى
كشف جعل شرعي، بل لا تكون النتيجة - ببركة بطلان الخروج من الدين عقلا
الموجب لإحراز اهتمامه لحفظ الدين من الخارج - إلا حكومة العقل ولو من جهة
احتمال إيكال الشارع في طرق أحكامه إليه.



(1) الظاهر أن مقصوده هو: أن احراز الاهتمام لا يناط بجعل شرعي، لأن العقل قد يحرزه من
الخارج.
23
نعم لو لم يحرز هذا الاهتمام من الخارج بل كان طريقه منحصرا بالجعل
الشرعي، أو قلنا بعدم كفايته في تنجز الأحكام وانحصر الأمر في البيانية إلى جعل
شرعي إما بتقريبنا الأول أو بتقريب جعل الإحراز - كما توهم - فلا [محيص] في
باب الانسداد - بعد قيام الاجماع أو جهة أخرى على بطلان الاحتياط تماما أو
تبعيضا - من المصير إلى الكشف، إذ لا يبقى للعقل استقلال في تعيين طرق
الأحكام. بل المرجع حينئذ في تعيين أصل الطريق هو الشرع، وأن شأن العقل بعد
تمامية مقدمات الانسداد تعيين ما هو المجعول شرعا. وبقية البيان موكول إلى محله
إن شاء الله.
وحيث اتضحت الفذلكات المسطورة فلنرجع إلى أصل المقصد فنقول:
إن القطع تارة طريقي خارج عن الموضوع وحكمه. وأخرى مأخوذ في
موضوع حكم. وحيث إنه لا يتصور في مورده أمر طريقي فلا محيص من كونه في
القياس واسطة لحكم نفسه لا حكم متعلقه. ولذا لا يطلق عليه الحجة في باب
الأدلة لما أشرنا إليه سابقا.
وحينئذ لا شبهة في قيام الأمارة [مقامه] في تنجيز الأحكام.
كما أنه لا شبهة أيضا في قيام الأمارة مقام العلم بلحاظ سائر آثاره
الشرعية بملاحظة ما في لسان دليلها من تتميم الكشف القابل للنظر إلى أي أمر
شرعي، أو بوجه آخر أشرنا إليه.
وربما تمتاز الأمارة عن الأصل حينئذ بمثل هذا النظر الموجب لتحكيم دليل
الأمارة على الأصل كما لا يخفى.
ثم اعلم أن مجرد حكم العقل بوجوب موافقة القطع حين حصوله بكل
واحد من المعنيين السابقين لا يقتضي معذريته عند المخالفة على الإطلاق، إذ
ربما يقصر في تحصيله ولو من جهة علمه سابقا بأكثرية مخالفته للواقع

24
بالإضافة إلى الطرق المجعولة، ففي هذه الصورة لا يرى العقل معذورية به، مع أنه
في فرض تحصله بتقصير منه العقل يلزمه بالموافقة، فكان المقام من قبيل إلقاء
النفس من الشاهق من كونه معاقبا بتقصيره السابق وإن لم يكن فعلا قادرا على
مخالفة أمره وجدانا، أو بالتزام من عقله على خلافه بلا التفات منه إليه فعلا.
وحينئذ صح دعوى عدم حجية قطعه في حقه بالمعنى المزبور.
وربما أمكن إرجاع جملة من كلمات الأخباريين إلى ذلك.
ويمكن أيضا حمل كلمات جملة منهم إلى منع مرجعية صور البراهين
بملاحظة كثرة المغالطات الحاصلة منها بحيث لو [حصل] منها قطع أحيانا ربما
يزول بتجديد النظر فيها.
ويمكن إرجاعها إلى منع القطع بالحكم العقلي بقاعدة الملازمة، بل يحتاج في
كشف الأمر إلى دلالة ولي الله.
وأردأ الوجوه حمل كلماتهم إلى نفي وجوب الموافقة بدعوى تعليقية حكم
العقل.
وبالجملة لا بد من توجيه كلمات الأخباريين في منع مرجعية القطع الحاصل
من المقدمات [العقلية] بأحد التوجيهات السابقة، كما هو الشأن في من التزم بعدم
حجية قطع القطاع. وإلا فهم أجل شأنا من أن يلتزموا بعدم وجوب موافقة القطع
المزبور مع فرض تنجزية حكم العقل به، لانتهاء الترخيص على خلافه إلى
الترخيص في المعصية وترك الطاعة الذي لا يلتزم بمثله ذو مسكة، والنفس لا
ترضى بنسبة هذا الكلام إلى مثل هؤلاء الأجلاء البارعين في فنونهم.
بقي في المقام خاتمة للمرام، وهو أن فهم العقل عند قيام الطريق على
التكليف ليس إلا لزوم الموافقة عملا، بلا التزامه بلزوم الالتزام بشخص الحكم
الصادر، وجوبا كان أو غيره. نعم، غاية ما يلزم تبعا لتصديق أولياء النعم
والشكر لهم الالتزام بما جاؤوا به، وهو غير الالتزام بكل حكم شخصي شخصي.

25
نعم، ربما يحتاج إلى الالتزام بالأخذ بأحد الطريقين عند تعارضهما بنحو
ينتهي الأمر إلى التنجز بينهما، إذ حينئذ لا مجال للتنجز بينهما عملا محضا، لانتهاء
أمرهما إلى النفي والإثبات غير القابل لتعلق الوجوب التنجزي به. فلا محيص من
أخذ الالتزام في البين، كي يصح أمر التنجيز فيه.
وفي كون الالتزام المزبور حينئذ قيدا للعمل الواجب شرعا أو أنه شرط
لتوجه الأمر إلى الملتزم به، وأن لزوم الالتزام المزبور حينئذ عقلي، مقدمة
لتحصيل الحجة والطريق، وجهان سيأتي شرحه - إن شاء الله - في محله.
وعلى أي حال، ليس المقصود من هذا الالتزام إلا الأخذ بالطريق
والاحتجاج به، وهو غير الالتزام بمضمونه في مقام إطاعته. وما هو محل الكلام
هو ذلك.
ثم إنه لو بنينا على وجوب الموافقة الالتزامية يلزمه في الدوران بين
المحذورين حرمة ترك الالتزام بكلا الحكمين المعلوم أحدهما، ولازمه حرمة
المخالفة الالتزامية وإن لم يكن قادرا على المخالفة العملية، وحينئذ فقد يتوهم عدم
جريان قاعدة الحلية في الطرفين لاستلزامه الالتزام بخلاف المعلوم إجمالا.
ولكن فيه [أن] نتيجة حرمة ترك الالتزام بالطرفين وجوب الالتزام بأحد
المعلومين بنحو الاجمال واقعا، وهذا المعنى لا ينافي الالتزام التفصيلي بالحلية في
مرتبة الظاهر.
وحينئذ لا يلزم من الالتزام بالإباحة الظاهرة طرح الالتزام بالواقع بنحو
الاجمال، فلا مانع من [جريانها] حينئذ، كما هو الشأن في صورة عدم اقتضاء
جريان الأصل في الطرفين طرح [حكم] واقعي كما لا يخفى. ثم إن ذلك كله حكم
القطع التفصيلي.
وأما القطع الاجمالي المتعلق بالعنوان الاجمالي القابل للانطباق على كل
واحد من الطرفين فينبغي [طيه] أيضا في مقالة مستقلة فنقول:

26
المقالة الثانية
وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي

27
[المقالة الثانية]
[وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي]
لا شبهة - أولا - في أن المقدار من العنوان [الاجمالي] المتعلق للقطع غير
قابل لردعه، إذ في هذا المقدار لا ميز بينه وبين القطع بعنوانه التفصيلي في نظر
العقل، فلا محيص في نظر العقل من الحركة نحو الجامع المعلوم في ظرف له الأثر
الملازم لوجود الأثر على فرض انطباقه على كل واحد من الطرفين، وإلا فلو
فرض [الأثر] لأحد الطرفين دون الآخر، صدق بأن الجامع بما هو جامع لا أثر
له، وإنما الأثر لبعض أفراده، ففي مثل هذه الصورة لا حكم للعقل بالحركة على
وفق قطعه بالجامع كما لا يخفى. وحيث عرفت ذلك فنقول:
إن لازم حكم العقل بنحو التنجيز بالحركة على وفق ما تعلق به القطع من
العنوان الاجمالي تنجز ما يحكي العنوان عنه بنحو [التنجيز] بحيث لم يكن قابلا
لردعه، لأوله إلى ردع قطعه. ولقد عرفت أن ردع القطع بما هو قطع غير معقول
[لدى] العقل، وحينئذ، فلو انطبق المقطوع على كل واحد من الطرفين فقد انطبق
عليه ما تنجز عليه حكمه بنحو [التنجيز]، ولازمه إباء ما انطبق عليه هذا المقطوع
عن ورود الترخيص على خلافه أيضا، لأن ترخيصه في ظرف انطباق العنوان
الاجمالي عليه مساوق ردع نفس العنوان، وهو خلف. وحينئذ مع احتمال انطباق

29
المعلوم على كل واحد من الطرفين يستحيل مجئ الترخيص على كل واحد
[منهما] ولو مع عدم معارضته للآخر، لأن الترخيص المزبور في ظرف انطباق
الواقع ينافي التنجز للعنوان المنطبق عليه، ففي الحقيقة مرجع هذا الترخيص إلى
الترخيص في محتمل المعصية وهو كمقطوعها محال.
وبعد هذا البيان لا يبقى مجال دعوى الفرق بين الموافقة القطعية ومخالفتها
بأن مرتبة الحكم الظاهري في [طرف الموافقة محفوظة]، فلا قصور لشمول أدلة
الترخيص الظاهري لها بخلاف [طرف] المخالفة القطعية، فإن مرتبة الحكم
الظاهري [ليست محفوظة] فيه، وبذلك أيضا يمتاز القطع الاجمالي عن التفصيلي.
وتوضيح فساد الدعوى المزبورة بأن ما أفيد إنما يتم على فرض قابلية المحل
للترخيص، وإنما [القصور] في شمول الدليل، لفقد الموضوع، وأما لو كان عمدة
المانع احتمال انطباق ما هو متنجز - بنحو التنجيز - عليه فيستحيل مجئ
الترخيص ولو مع وجود الجهل الذي هو موضوعه، وحينئذ، فحفظ مرتبة الحكم
الظاهري في [طرف الموافقة] لا يجدي، إذ ليس المانع مجرد وجود الحكم الواقعي
كي باختلاف المرتبة يجمع بينه وبين الحكم الظاهري، بل عمدة المانع تنجزه بقطعه
[تنجيزا] بضميمة احتمال انطباقه على المورد.
وأغرب من هذا البيان [ما قيل (1)] في وجه التفكيك بين الموافقة القطعية
ومخالفتها، بأنه من المعلوم ورود الترخيص على أحد الطرفين بحيث لا يجب
الموافقة القطعية في موارد قيام أمارة على تعيين المعلوم في أحد الطرفين الملازم
للترخيص في ترك الآخر ظاهريا، وهكذا في صورة قيام أصل مثبت للتكليف في
أحد الطرفين أو امارة مثبتة غير معينة، [فإنه] لا شبهة حينئذ في عدم وجوب
الطرف الآخر، وذلك شاهد جزمي - أيضا - على عدم علية القطع الاجمالي في



(1) انظر فوائد الأصول 3: 77 و 4: 25، 36.
30
[طرف] الموافقة القطعية، بخلافه في المخالفة القطعية.
وتوضيح الضعف: هو أن الغرض من علية القطع للموافقة القطعية، عدم
صلاحية ورود الترخيص بمحض احتمال الانطباق من جهة الجزم [بتنجيزية]
حكم العقل بتنجز مقطوعه.
وأما مع قيام الأمارة على تعيين المصداق فلا شبهة في أن العقل يكتفي في
امتثال معلومه بإتيان مصداقه ولو ظاهريا [وجعليا]، كما هو الشأن في العلوم
التفصيلية، إذ علية العلم التفصيلي لا تقتضي أيضا أزيد من لزوم موافقة المعلوم
ولو بمصداقه الجعلي، ولذا ربما يحرز مصداقه بقاعدة التجاوز أو الفراغ، ومع ذلك
لا يكتفي العقل بمحتمل المصداقية، بل يحكم حكما تنجيزيا بلزوم تحصيل القطع
بالموافقة.
ولئن شئت قلت: الغرض من علية القطع بالحكم تفصيليا أم إجماليا عليته
في حكم العقل بالاشتغال، وأما في مرتبة الفراغ، فيكتفي العقل بالفراغ الأعم من
الوجداني أو الجعلي.
نعم، لا يكتفي بمحض احتمال الفراغ، ولذا لا يقنع العقل بإتيان ما يحتمل فيه
فقد الشرط بلا قيام أمارة أو أصل محرز لشرطه. وحينئذ لا مجال لقياس مورد
قيام الأمارة على التعيين بصورة عدمه.
وبالجملة: همنا في العلم الاجمالي ليس بأزيد من العلم التفصيلي، فكما أن
معنى علية العلم التفصيلي اقتضاؤه تحصيل الموافقة الأعم من [الوجدانية
والجعلية] وعدم قناعة العقل بتحصيل محتمل الموافقة ومشكوك الفراغ، كذلك
معنى علية القطع الاجمالي - أيضا - ليس إلا هذا المقدار، وحينئذ لا يبقى مجال
إلحاق صورة الشك بالفراغ بصورة قيام الأمارة على تعيين المصداق.
وإلى هذا المعنى - أيضا - نظرهم من أن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ
اليقيني، أعم من الوجداني والجعلي.

31
وأما صورة قيام الأصول المثبتة في أحد الطرفين، فهو - أيضا - بملاحظة
صيرورته سببا لانحلال العلم المانع عن تأثير العلم في مرتبة الاشتغال، فلا
[تكاد] حينئذ [تنتهي] النوبة إلى مقام الفراغ، كي لا يكتفي العقل بمحتمل
الفراغ. وحينئذ لا يبقى مجال الاستشهاد بأمثال هذه الموارد في جواز مجئ
الترخيص في أحد طرفي العلم الاجمالي عند عدم تعيين المعلوم في أحد الطرفين،
كما لا يخفى.
ومن هذه البيانات ظهر المرام من علية العلم الاجمالي لتحصيل القطع
بحصول المعلوم وجدانا، كما في [الموافقة] القطعية أو جعليا، كما في موارد جعل
البدل، ولو بقيام أمارة على تعيين المعلوم في أحد الطرفين.
ولازم ذلك: عدم اكتفاء العقل باتيان أحد الطرفين، ولو بترخيص من الشرع
بلا جعل بدل، لعدم صلاحية الترخيص الشرعي لرفع [إلزام] العقل بتحصيل
الفراغ في ظرف الجزم بالاشتغال، كما هو الشأن في العلوم التفصيلية، كما هو ظاهر.
ثم إن الأغرب من [التقريبين] في وجه التفكيك بين الموافقة القطعية
ومخالفته دعوى أخرى، وهي: إن من البديهي أن العلم الاجمالي بالجامع لا يكاد
يسري إلى الطرفين، بل هو قائم بنفس الجامع في ظرف انحفاظه عن
خصوصية الطرفين ومجردا عنها، وليس حال العلم بمثله كسائر الآثار السارية
إلى الحصص المحفوظة في ضمن أفراده، بل أفراد ما تعلق به العلم عارية عن صفة
المعلومية بجميع شؤونه - وحينئذ - فكل فرد من هذا الجامع بشراشر وجوده تحت
الشك - وحينئذ - فبعد ما لم يسر إليها العلم، فلا يكاد يسري إليها التنجز الذي
هو من شؤون العلم، بل التنجز - أيضا - يقف على ما هو معلوم.
ولازم ذلك: عدم قصور لدى العقل في جواز ترك كل واحد، لعدم تمامية
البيان بالنسبة إليه. نعم، لا يرخص في تركهما، لانتهائه إلى ترك الجامع الذي تم
فيه البيان، حسب الفرض.

32
ومرجع هذا التقريب إلى تجويز ترك الموافقة القطعية، ولو لم يكن في البين
ترخيص من قبل الشرع. ولازمه: عدم احتياجه في جواز ارتكاب أحد الطرفين
إلى فرض عدم المعارضة بين الأصلين، وربما لا يلتزم به جملة من القائلين بجواز
ترك الموافقة عند عدم المعارضة بين الأصلين.
ومرجع ذلك: - في الحقيقة - إلى نفي اقتضاء العلم أزيد من [حرمة]
المخالفة القطعية، ولم يلتزم به مشهورهم، إذ هم معترفون باقتضاء العلم للموافقة،
غاية الأمر: يدعون بقابليته لمنع المانع، لولا معارضة [أحد] الأصلين للآخر.
وعلى أي حال، لا يخلو هذا التقريب - أيضا - عن الضعف، وذلك بأن
العلم بالجامع، وإن لم يسر إلى الأفراد، ولكن التنجز الذي هو نتيجته قائم بالجامع
وتابع له في قابلية السراية إلى ما انطبق عليه الجامع بلا وقوفه بنفس الجامع، غاية
الأمر: القطع به سبب قيام التنجز على موضوعه، ومجرد عدم قابلية السبب
للسراية لا يوجب عدم سراية مسببه تبعا لموضوعه.
وبعبارة أخرى نقول: إن وجه عدم سراية العلم إلى الطرفين، إنما هو من
جهة قيام العلم بنفس الصورة الإجمالية المباينة مع الصور التفصيلية للطرفين، فلا
يسري إليهما، بخلاف التنجز، فإنه من تبعات واقع التكليف، فمع احتمال وجوده في
أيهما يتبعه تنجزه، فيصير كل منهما - حينئذ - محتمل التنجز الملازم لاحتمال الضرر
فيه، فيصير موضوع [حكم] العقل بدفع الضرر المحتمل، لا [بقبح] العقاب، إذ
يكتفي العقل في بيان واقع التكليف بالعلم، ولو بصورته الإجمالية، فلذا كان العلم
المزبور - لولا الترخيص - يقتضي الموافقة القطعية، غاية الأمر نحن نقول: إن هذا
الاقتضاء تنجيزي في ظرف عدم تعيين المصداق وغير قابل للترخيص، لاقتضاء
الاشتغال اليقيني الفراغ اليقيني، ولا يكتفي بالفراغ المحتمل [تنجيزا] بنحو لا
يقبل الترخيص من قبل الشرع، كما هو الشأن في العلوم [التفصيلية].
ولازمه: عدم جواز ترك الموافقة ولو لم يكن تعارض بين الأصلين، كما هو

33
الشأن في فرض جريان قاعدة الطهارة [في] طرف، والاستصحاب في الآخر.
وتوهم عدم جعل الطهارتين في [طرف] القاعدة مسلم لو كانا
[عرضيين]. وأما بنحو الطولية وإناطة أحدهما بعدم الآخر فلا بأس به، وذلك
- أيضا - لو لم نقل بأن المجعول واحد، وأن الطريق إلى جعله ظهوران طوليان في
عموم القاعدة وأدلة الاستصحاب.
هذا مع أن لازم قابلية اقتضاء العلم لمنع المانع عند جريان الاستصحابين
مثلا في الطرفين الالتزام [بالتخيير] في الارتكاب، لا التساقط، لأن الأمر
- حينئذ - يدور بين تخصيص العموم الملازم لسقوطهما أو تقييد إطلاق كل واحد
بعدم ارتكاب الآخر. والتقييد أولى من التخصيص، كما لا يخفى. وحينئذ، لا
مجال للفرار من هذا المحذور إلا دعوى تنجزية حكم العقل عند الاشتغال بعدم
الاكتفاء بالشك بالفراغ، كما هو الشأن في العلوم التفصيلية، فتدبر.
ثم إن من أظرف الكلام توهم إجراء الأصل في أحد الطرفين، وكشف
جعل الآخر بدلا عن الواقع، إذ فساده غني عن البيان، إذ الغرض من جعل
الآخر بدلا عن الواقع، إن كان جعله مصداقا للمعلوم، فشأن الأصول ليس ذلك،
وإن كان الغرض بدليته عن الواقع في ظرف موافقته ولو لم يكن مصداقا جعليا له
[فالعقل] لا يكتفي بذلك، إذ هم العقل بعد الاشتغال ليس إلا تحصيل مصداق ما
في الذمة الذي هو المفرغ لها، هذا.
مع أن اليقين بالبدلية هو المفرغ [لدى] العقل، لاقتضاء الاشتغال الفراغ
اليقيني، فما لم يحرز البدلية أو الانحلال لا يجوز الترخيص في الطرف، وحينئذ كيف
يعقل إحراز ذلك بعموم دليل الترخيص؟ فهل هذا إلا دور مصرح؟
نعم، ربما يرد في بعض الفروض مثل هذا الاشكال، وهو: ما لو كان
التكليف في أحد الطرفين مشروطا بعدم التكليف في الآخر، فإنه لا إشكال
عندهم في جريان استصحاب العدم في الطرف الآخر، وبه يثبت التكليف في

34
طرفه، مع أن المورد تحت العلم الاجمالي بأحد التكليفين المستلزم لعدم جريان
الأصل النافي قبل إحراز المصداق أو الانحلال، وحينئذ كيف يحرز الأصل المثبت
بعموم الأصل النافي في الطرف الآخر.
ولكن يمكن الفرار عنه بإمكان كون النظر في الأصل النافي إلى مجرد إحراز
موضوع المثبت ووسيلة لجريان المثبت، بلا نظر منه إلى إثبات عذر فيه، وأن
العذر إنما يثبت بجريان المثبت، وكأن في المقام نحو حيلة لاثبات الأصول المثبتة
ببركة الأصل النافي، كما أنه لو بنينا على حجية الأصول المثبتة أمكن إجراء هذه
الحيلة في جميع الموارد، ولكنه كما ترى.
ثم إنه قد توهم في الشرع موارد ينتهي الأمر فيها إلى جواز المخالفة القطعية،
ولكل توجيه [تعرضوا له] في المطولات، [فراجع (1)].
[الكلام في التجري]
بقي التنبيه على أمر خاتمة للمرام: وهو أن مخالفة المقطوع إجمالا [أو]
تفصيلا، هل [توجب] - عقلا - استحقاق العقوبة ولو لم يصادف [قطعه] الواقع
أم لا [توجب] الاستحقاق إلا عند المصادفة؟
وعلى فرض عدم الاستحقاق، هل يبقى مجال لحكم الشرع بالحرمة مولويا
أم لا؟ بعد الجزم بعدم [المجال] لإعمال الجهة المولوية من الشرع، على فرض
استقلال العقل بالاستحقاق، كما هو الشأن في باب الإطاعة، فهنا مقامان:
[حكم العقل باستحقاق العقاب على التجري]
المقام الأول في بيان حكم العقل بالاستحقاق أو عدمه:



(1) انظر فرائد الأصول: 28.
35
فقد يقال إن الالتزام باستحقاق العقوبة على العمل المزبور ملازم
لمبغوضيته، ولو بهذا العنوان الثانوي لدى المولى، وذلك ملازم لانقلاب الواقع عما
هو عليه من المحبوبية، فيصير محبوب المولى مبغوضا له، بمحض تخلف قطع عبده
عن الواقع، والوجدان السليم يأبى عن ذلك. مضافا إلى عدم التفات القاطع إلى
مخالفة قطعه كي يصير موضوع حكم العقل باستحقاقه.
وقد يستشكل في الوجه الأول: بأن هذه المبغوضية في رتبة متأخرة عن
الجهل بواقع مرام المولى، وبديهي أنه لا [تضاد] مع ما هو محفوظ في الواقع كي
يوجب الانقلاب، كما هو الشأن في كل أمارة على خلاف الواقع، لما سيجئ بيانه
في مقام دفع شبهة ابن قبة في كلية جعل الطرق.
وفيه أن ذلك كذلك لو كانت مصلحة الذات - أيضا - غير مقتضية لحفظ المرام،
حتى في مرتبة الجهل به، كما هو شأن خطابه الآبي عن شمول مرتبة الجهل بنفسه.
وأما مع إطلاق قيام المصلحة بالذات، فهي مقتضية لحفظه حتى في رتبة
الجهل بخطابه. غاية الامر: الخطاب الواقعي لما كان آبيا عن الشمول لها، فلا
محيص في حفظه من خطاب آخر متوجه إليه في ظرف الجهل المزبور، وحينئذ،
ربما اقتضت مصلحة التسهيل أو جهة أخرى، الاغماض عن حفظه في ظرف الجهل
بخطابه، كما هو الشأن في موارد جعل الطرق أو الترخيصات الظاهرية الأصلية.
ولكن هذا المقدار لا يوجب إلا [قصور] إرادته عن الشمول لهذه المرتبة.
وأما مرتبة محبوبيته الملازمة لإطلاق المصلحة فهي باقية على [حالها]،
وحينئذ في هذه المرتبة، إن لم يكن فيه جهة مبغوضية في البين - كما هو الشأن في
موارد الأوامر الطرقية وكلية الترخيصات الشرعية - فلا إشكال فيه.
وأما إذا كان في هذه المرتبة - أيضا - [قد] انطبق عليه عنوان مبغوض
كالتجري مثلا، يلزم حينئذ انقلاب حال المولى بمحض تخلف طريق عبده،

36
والوجدان يأبى عن ذلك أيضا. وحينئذ ليس لك مجال دعوى رفع التضاد بمحض
عدم مضادة الترخيص الظاهري مع الإرادة الفعلية الواقعية [التي هي] مضمون
خطابه.
كما أنه ليس لك - أيضا - قياس المقام بباب جعل الطرق، وحينئذ لا مجال
لتصديق العقل مع إطلاق المصلحة في حفظ الذات وحبه [لها] مبغوضية العمل
المزبور بعنوانه الثانوي المنظور.
نعم الذي يسهل الخطب هو أن هذا الإشكال إنما يجري في فرض الكلام في
عنوان مقطوع المبغوضية، ولكن كلماتهم آبية عن الشمول لهذا العنوان، بل مركز
بحثهم عنوان التجري المنتزع عن الذات في الرتبة المتأخرة [بنفسها] عن الأمر
به، [قبال] العنوان السابق المنتزع عن الذات المحفوظ في رتبة واحدة [المتأخرة]
عن الواقع بعنوانه لا بنفسه (1)، فإن في هذه الصورة ترى الذات في مرتبة تأثير
الإرادة والمحبة، ومن البديهي ان هذه المرتبة مرتبة سقوطهما لا ثبوتهما، وليس هنا
- أيضا - للمصلحة تأثير في الاشتياق، إذ بفعلية التأثير [تنعزل] عن التأثير، وإنما
[تأثيرها متمحض بقبل] فعلية التأثير، ولذا نقول: إن في مرتبة الإطاعة لا يكون
الأمر موجودا حتى بمبادئه، وما يرى من وجود الأمر - حين الإطاعة - فإنما هو
بحسب الزمان، وإلا بحسب الرتبة الإرادة والاشتياق من دواعي وجوده فكيف



(1) جاء في تعليقة المحقق العراقي على كتاب فوائد الأصول (3: 42) ردا على هذا الاشكال ما
نصه: أن المحبوب في الواقع هو الذات في الرتبة السابقة عن حكمه لأنه موضوعه، والذات
المبغوض في التجري هو الذات الملحوظ في الرتبة اللاحقة عن العلم بحكمه، فالذاتان حيث
كانتا في المرتبتين لا يتعدى حكم كل إلى الآخر، بعد التحقيق بأن موضوع الحكم
ومعروضه في كل مقام هو العنوان لا المعنون بلا إضرار لوحدة المعنون أصلا، لعدم سراية
الحكم إليه كما لا يخفى.
37
يجتمعان رتبة؟ وحينئذ، فلا قصور في حكم العقل بمبغوضيته بمناط مبغوضية
العصيان، وهذه المبغوضية غير [ناشئة] عن المفسدة في العمل، كي [تضادها] في
المقام مصلحته حسب الفرض، بل العقل يشمئز منه مستقلا، ولذا نقول: إن هذا
الحسن غير موجب لإثبات حكم شرعي مولوي، ولو بنينا على الملازمة بين
الشرع والعقل في بحث الملازمة كما لا يخفى، وحينئذ، فصح لنا دعوى أن بمثل هذه
المبغوضية لدى العقل - ولو كان الشرع يتبع العقل أيضا في ذلك - لا يكاد ينقلب
الواقع من المحبوبية القائمة بالذات في الرتبة السابقة [على] الإرادة والاشتياق،
[التي هي] رتبة شأنية وجود المصلحة المؤثرة في مبادئ وجودها وفعلها، كما هو
ظاهر للنظر العميق، هذا كله في الجواب عن الشبهة الأولى.
وأما عن الشبهة الثانية: فبأنه لو فرض قيام المبغوضية بالجامع بين
العصيان والتجري، لا يحتاج في حكمه بالاستحقاق إلى التفاته إلى الخصوصية، بل
يصير نظير من شرب الخمر بخيال كونه متخذا من العنب وهو متخذ من التمر في كفاية
مجرد الالتفات إلى مبغوضية الجامع من مثل الطغيان على المولى، كما هو ظاهر.
وبالجملة نقول: لا يبقى مجال لرفع اليد عن حكم العقل [بمبغوضية] العمل
بمثل هذا البيان، لا بالبيان السابق، لما عرفت من عدم اقتضائه الانقلاب المزبور،
ويؤيد ما ذكرنا ملاحظة الانقياد في المبغوضات الواقعية، إذ لا اشكال ظاهرا في
حسنه كما يشهد له تصريحهم بحسن الاحتياط، مع أنه في تقدير ليس إلا انقيادا،
فلا مجال للجزم بحسنه إلا مع الالتزام بحسن الانقياد.
وتوهم أن الثواب فيه تفضلي، يدفعه تصريحهم بحسنه، وهو يأبى عن
صرف التفضل، مع أن بناء مثل شيخنا العلامة (1) على كفاية حسنه في التقرب في
احتياط العبادات، وهو أيضا يأبى عن التفضل.



(1) انظر فرائد الأصول: 381 التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة.
38
وحينئذ، فكما لا يلزم فيه إشكال الانقلاب، الذي هو خلاف الوجدان،
كذلك في المقام، إذ هما - من تلك الجهة - توأمان يرتضعان من ثدي واحد، فلا
محيص في المقام من الالتزام باستحقاق العقوبة على العمل الخارجي الملازم
لمبغوضيته، كاستحقاق الثواب على العمل في باب الانقياد.
ثم إنه قد يتوهم - في وجه الجمع بين حفظ الواقع على ما هو عليه
ومبغوضية التجري - بأن ما هو مبغوض هو حيث إضافة الوجود إليه، مع محبوبية
نفس الوجود، ويعبر عنه بالمبغوضية الفاعلية والمحبوبية الفعلية.
وفيه: أن ما هو مبغوض هو عنوان التجري الذي هو عبارة عن الفعل
المضاف لا إضافة الفعل [اي ذات الفعل وليست حالة انتساب الفعل إلى عنوان
التجري]، مضافا إلى أن لازم مبغوضية إضافة الفعل مبغوضية نفس الفعل
لكونه مقدمة للإضافة المزبورة.
وأضعف من ذلك الالتزام بعدم المبغوضية وعدم استحقاق العقوبة
بالتجري، وإنما هو يدل على سوء سريرة الفاعل، إذ يكفي في ضعفه مراجعة
الوجدان الحاكم بأن الطغيان على ولي النعمة مما يشمئز منه العقل، ويرى عقوبة
المولى في [محلها]، ولا [يراها] ظلما في حقه، ولا نعني من الاستحقاق الا هذا،
مع أن لازمه الالتزام بالتسوية بين صدور التجري وعدمه منه، عند العلم
بسوء سريرته من الخارج، وهو خلاف وجدان آخر.
وأضعف من الجميع الالتزام بالاستحقاق على عزمه بلا سراية إلى عمله،
[نظير] التشريع، [إذ] العقل لا يرى الاستحقاق على العزم إلا من جهة كونه
طريقا إلى صدور طغيانه، فكان الاستحقاق على العزم من باب استحقاق العبد في
كل واجب أو حرام بالشروع في [تفويته بتفويت] مقدمته. وحينئذ، يبقى هذا
الاستحقاق إلى آخر العمل بلا انقطاعه بمحض الشروع في العمل.
نعم، حيث إن وحدة الطغيان والتسليم وتعدده [تابع لوحدة] الغرض

39
الذي صار العبد بصراط [تفويته] وتعدده، فلا يجدي حينئذ طول الطغيان في
كثرة الاستحقاق مع وحدة الغرض ولا قصره في قلته مع تعدد الغرض.
وبالجملة نقول: إن الحق هو كون التجري كالانقياد موجبا للعقاب استحقاقا
من حين الشروع في المقدمة من عزمه إلى آخر العمل، بلا ورود محذور عليه.
ولعمري إن عمدة الوجه في التزامهم بهذه المسالك ليس إلا من جهة الفرار
عن شبهة الانقلاب، حيث صار مثل هذه الشبهة مغروسا في أذهانهم، فالتزم كل
طائفة في دفعه بما التزم.
وبعد ما عرفت دفع الشبهة بما لا مزيد عليه، لا وجه لرفع اليد عما يقتضيه
الطبع السليم والذوق المستقيم. وهذا المقدار من الوجدان - أيضا - كاف للمدعى،
بلا احتياج إلى البرهان المعروف، كي يجاب بأن عدم العقوبة لأمر غير
[اختياري] ليس بقبيح.
[حكم التجري شرعا]
ثم إنه لو بنينا على عدم الاستحقاق على الفعل، يبقى الكلام في المقام الثاني
من قابلية العمل للحرمة الشرعية و [عدمها].
أقول: مع الالتزام باقتضاء مبغوضية العمل محذور انقلاب الواقع ولو في
عالم المحبوبية، كما هو المغروس في أذهان هؤلاء الجماعة لا مجال لحرمته شرعا،
حتى على توهم عدم اقتضاء التجري غير سوء سريرة الفاعل، لاقتضاء الحرمة
المزبورة - أيضا - انقلاب الواقع.
نعم: بناء على عدم كون مبنى عدم الاستحقاق شبهة الانقلاب، أمكن
القول بالتفصيل بين هذه الأقوال في هذه الجهة، وأنه على مذهب سوء السريرة:
لا بأس بحرمة العمل شرعا، لعدم قصور في إعمال الجهة المولوية حينئذ، ولكن ذلك
على فرض وجود مقتض من الخارج، وإلا فنفس التجري كما لا يقتضي

40
المبغوضية [عقلا] كذلك لا يقتضي الحرمة الشرعية أيضا، كما لا يخفى.
وعلى مذهب الاستحقاق على العزم، أمكن دعوى عدم المجال لإعمال
الجهة المولوية، إذ المقصود منه الدعوة الحاصلة [بإلزام] العقل بترك العزم عليه،
ومع فرض حصوله بلا نهي، فلا فائدة في هذا النهي، فيصير لغوا.
وهكذا على مذهب مبغوضية جهة الايجاد دون الوجود، لأن الغرض من
النهي المولوي ردعه عن ايجاده، وهو بحكم العقل موجود، ففي هذه الصور لا
مجال لإثبات الحرمة الشرعية ولو باقتضاء خارجي، وحينئذ [فلنا] - على فرض
الإغماض عن شبهة الانقلاب - أن ندعي أيضا عدم مجال للحرمة مطلقا: إما لعدم
المقتضي، أو لاثبات المانع، كما لا يخفى.
ثم إنه - بعد ما عرفت مختارنا من عدم اقتضاء مبغوضية عنوان التجري
قلب الواقع عما هو عليه - ظهر حينئذ أنه لا تزاحم بين محبوبية الواقع ومبغوضية
التجري، كي - ببركته - يصير التجري قابلا للأحكام الخمسة بتساوي مقتضى
الطرفين، وازدياد أحدهما على الآخر بمرتبة اللزوم وعدمه.
فما عن الفصول (1) من مصيره إلى التزاحم بينهما [المنتج] للأحكام الخمسة
منظور فيه جدا.
نعم لو اغمض عما ذكرنا، وبنينا على التزاحم ففي لزوم تقديم مفسدة
التجري في المبغوضية على [غيرها]، للغفلة عن الغير، فلا ينفك التجري حينئذ
عن الحرمة، بل لو اغمض عن مانعية الغفلة أيضا لا بد من تقديم حرمة التجري
أيضا، لأنه علة تامة لمبغوضيته [المقدمة] على مقتضى غيره، إذ هو نحو ظلم على
مولاه، و [لا تزاحم] مفسدة أخرى إياه إشكال (2) من أن غفلة المكلف عن



(1) حكى عنه الشيخ (رحمه الله) في فرائد الأصول ص 10، وانظر الفصول الغروية ص 431.
(2) إشكال: مبتدأ مؤخر لقوله السابق: " ففي لزوم تقديم مفسدة التجري ".
41
مصلحة الواقع [المزاحمة] لمفسدة التجري لا [تضر] بإحداث المحبوبية على وفق
المصلحة مع فرض التفات الحاكم [بها]، ومع هذه المحبوبية الواقعية كيف
[تبقى] حرمة التجري على [حالها]، نعم لو كان الغرض إحداث حكم آخر
بنحو يصير داعيا فعليا للمكلف [إلى] الحركة على وفقه [كانت] غفلة المكلف
حينئذ [مانعة] عنه، ولكن مثل هذه الجهة غير مناف مع تأثير المصلحة الواقعية
في محبوبيته، المانعة عن بقاء التجري على حرمته، كما أشرنا، فتدبر.
كما أن مجرد كونه ظلما على مولاه لا يوجب تقدمه على خير كثير لمولاه،
مع فرض قلته بالإضافة إليه، كما في فرض تجريه في عدم قتل ابن المولى بخيال
عدوه فتدبر.
وكيف كان، بعد اختلاف المشارب في هذا المقام ظهر لك مقتضى التحقيق
في المرام: من استحقاق العبد بطغيانه الجامع بين التجري والعصيان للعقوبة حسب
مراتب غرضه شدة وضعفا.
وتوهم أن الاستحقاق في التجري ليس بمقداره في العصيان، لعدم فوت
الغرض في مورده، كلام ظاهري، إذ لفوت الغرض لا يكون دخل في هذه الجهة،
وتمام الدخل لطغيانه. نعم، لمراتب الغرض دخل في مراتب الطغيان لا لفوته دخل
في أصله أو في مرتبته.
نعم، الذي يسهل الخطب في باب التجري ورود النصوص على عدم
العقوبة المحمولة على عدم الفعلية من جهة العفو، جمعا بينها وبين ما ورد [من
النصوص الدالة على العقوبة على النية المحضة والمحمولة - كذلك -] أيضا على
الاستحقاق، فراجع الأخبار في المطولات (1) وتأمل فيها.



(1) انظر فرائد الأصول: 8 - 14.
42
المقالة الثالثة
بيان أحكام الطرق الظنية

43
[المقالة الثالثة]
في بيان أحكام الطرق الظنية
فنقول و [عليه] التكلان: إن المشهور إمكان جعل الطرق غير
العلمية للاستطراق بها إلى [تحصيل] الأحكام بالإمكان الوقوعي الراجع إلى
عدم استلزامه المحال أيضا، بعد الجزم بعدم استحالته ذاتا، الراجع إلى إمكانه
الذاتي الذي هو بحسب الرتبة سابق على إمكانه وقوعا، خلافا لابن قبة، حيث
أنكر إمكانه الوقوعي، بخيال أنه مستلزم لتحليل حرام أو تحريم حلال، وهو
محال، لأوله إلى اجتماع الضدين.
وقد تصدى كل حزب للجواب عن هذه الشبهة بوجه (1):
فمنهم من التزم بأن مرجع جعل الطريق إلى جعل العلم وتتميم الكشف
المستتبع - عقلا - لوجوب الموافقة بلا وجود ترخيص من الشرع كي يستتبع
تحليل حرام، أو جعل حرمة كي يلزم تحريم حلال.
ومنهم من التزم بأن مرجع الجعل إلى جعل [الحجية]، التي هي من



(1) راجع لتفصيل الجواب فرائد الأصول: 40. وكفاية الأصول: 319. وغيرها.
45
الأحكام الوضعية، بلا جعل تكليف كي يلزم المحذور المزبور.
أقول: لا يخفى أن هذين الجوابين مع الإغماض عما شرحناه في مبحث
القطع [من عدم] صلاحية التقريب الأول لإثبات منجزية الطرق المجعولة من
المولى للعبيد، وعدم صلاحية الحجية بمعنى آخر للجعل أيضا، بداهة أن الحجية
بغير [الوسطية] عبارة عن منشأية الشئ لاستحقاق العقوبة، وبهذا المعنى
يطلق " الحجة " على القطع، لا بمعنى [الوسطية]، ولا بمعنى آخر، إذ لا يفهم منه
معنى آخر سوى ما يطلق على القطع، ومن البديهي أن العقل يرى القطع بذاته
سببا للاستحقاق لا بحجيته، [فالحجية بهذا المعنى] وإن [كانت] من الأمور
الاعتبارية و [لكنها منتزعة] عن منشأية الشئ للاستحقاق، لا أن الاستحقاق
المزبور مترتب عليها كما يشهد الوجدان في حجية القطع، ومن البديهي أن مثل
هذا المعنى غير قابل للجعل بلا واسطة، كما لا يخفى، ومع الإغماض عما ذكرنا هنا
أيضا نقول: إ نما يتم الجوابان لو كان الغرض من تحليل الحرام اجتماع الضدين
شرعا. وإلا فلو أرجعناه إلى استحالة نقض الغرض وأن الجعل المزبور موجب
له، فلا يتم الجوابان في دفعه، إذ نفس جعل شئ مستتبع لتفويت مقصوده - ولو
بتوسيط حكم [العقل] بأي لسان وبأي نحو - موجب لنقض غرضه.
مع أن مع الإغماض عن فعلية الغرض المستحيل نقضه، فلا أقل من ناحية
الجعل المزبور يلزم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة، وهما قبيحان من
الحكيم.
وحينئذ لا محيص من الجواب بنحو يدفع الشبهة بوجوبها، وحينئذ، قد
يتوهم أيضا في دفع التضاد ونقض الغرض بمنع فعلية الأحكام الواقعية، بل هي
إنشائية محضة، وأن الفعلية [قائمة] بمؤدى الطرق، وأن إنشائية الأحكام الراجعة
إلى جعل القانون [كافية] في منع لزوم التصويب المجمع على بطلانه. فحينئذ لا

46
يلزم من جعل الطرق نقض غرض، ولا اجتماع الضدين، كما هو ظاهر. لكن - بناء
عليه - [تبقى] الشبهة الأخيرة [بحالها]، وإن كان [أمرها] سهلا، لعدم قبح في
تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة مع الجبران، ولو من جهة اقتضاء مصلحة
أخرى أهم من الأولى، فيجوز العقل [تفويتها] بلا قبح، بل قد يجب التفويت، كما
لا يخفى.
نعم، الذي يرد عليه هو [لزوم] رفع اليد عن ظهور الخطابات الواقعية في
[فعليتها]، حتى بمقدار استعداده الذي هو أزيد من الانشاء المحض. وحينئذ يلزم
تأثير العلم بها [في البلوغ] إلى مرتبة الفعلية، أو عدم وجوب امتثالها، حتى مع
العلم بها. والثاني باطل جزما، وكذا الأول، لأن مرجع تأثير العلم في الفعلية
كون الفعلية المزبورة طارئة على الخطابات في رتبة آبية عن شمول الخطاب
بمضمونه في هذه الرتبة، لاستحالة شمول الخطاب مرتبة العلم بنفسه، كعدم شموله
مرتبة الجهل بنفسه. وحينئذ يستحيل أخذ هذه الفعلية في مضمون الخطاب،
ومرجعه حينئذ إلى جعل الخطابات بمرتبة، وفعلية الإرادة على طبق مضمونها
بمرتبة أخرى بلا صلاحية دلالة مثل هذه الخطابات بمضمونها [على] هذه الفعلية،
بل لا محيص من دال آخر عليها غير هذه الخطابات وحاك عن انقلاب العلوم
الطريقية المنجزة إلى الموضوعية بالإضافة إلى المرتبة السابقة [على] رتبة التنجز.
ولعمري إن الفطرة الأولية تأبى عن الالتزام بهذا المعنى، بل العقلاء يرون
العلم بالخطاب منجزا له بلا توسيط البلوغ إلى مرتبة أخرى، كما هو شأن العلوم
الطريقية في خطاباتهم.
وكيف كان نقول: إن التحقيق في الجواب [أن] يقال - بعد حفظ ظهور
الخطابات الواقعية على فعليتها -: إن مرجع فعلية [مضمون] الخطاب إلى إرادة
المولى حفظ مرامه بمقدار استعداد خطابه، وهو ليس إلا حفظ المقصود بجميع

47
مقدماته المحفوظة في الرتبة السابقة [على] خطابه، بلا شمول الخطاب بمضمونه
[لإرادة] حفظ مرامه من قبل المقدمات المتأخرة عن نفس الخطاب، ولو بمثل
تطبيق العبد خطاب مولاه على المورد مقدمة لحركته، وحينئذ يخرج مثل هذه
المقدمات عن حيطة فعلية الخطاب بمضمونه، فلا بأس حينئذ من ترخيص المولى
[في] تفويت مرامه، ولو بترخيصه [في] ترك تطبيق خطابه على المورد بتحصيل
علمه بخطابه، فضلا عن صورة عدم تمكن العبد عن التطبيق، إذ حينئذ لا يكون
للعبد محرك في هذه المرتبة إلا بإحداث خطاب آخر شامل لمرتبة الجهل بالخطاب
الأول، [لفرض] عدم شمول إطلاق الخطاب الأول لمرتبة الجهل بنفسه، وإن كان
موجودا في زمانه، مع انخفاظه في رتبة نفسه الآبي عن الشمول لهذه المرتبة.
وعليه فللمولى تفويت هذه المقدمة وقناعته [بالخطاب] الأول المستتبع
لإدخاله في موضوع قبح العقاب بلا بيان، وإيكاله [إلى] ترخيص عقله في هذه
المرتبة بتفويت مرامه مع إبقاء الخطاب [الأول] على فعليته بمقدار استعداده لها،
ولو بإرادته حفظ الحرام من ناحية سائر المقدمات غير ما هو دخيل في تطبيقه،
كما هو ظاهر.
ثم إن ذلك كله - بناء على طريقية أوامر الطرق - واضح، إذ مرجع الأمر
الطريقي - كلية - إلى الترخيص في تفويت المرام في ظرف الجهل به عند المخالفة،
من دون اقتضائها (1) لنفي اشتياقها وحبها حتى في ظرف الجهل بها من إطلاق قيام
المصلحة بالذات، المحفوظ في جميع المراتب، إذ نتيجة الترخيص المزبور سلب
إرادة المولى في هذه المرتبة، وهو لا ينافي بقاء اشتياقه حتى في هذه المرتبة بحاله



(1) من دون اقتضاء الأوامر الطرقية لنفي اشتياق المصلحة حتى في ظرف الجهل بالمصلحة
لإطلاق قيام المصلحة بالذات المحفوظ في جميع المراتب.
48
[تبعا] لإطلاق مصلحته، وحينئذ، ربما يشكل أمر موضوعية الطرق، إذ هو
- أيضا - وإن لم يكن متضادا مع فعلية الخطاب الواقعي بمقدار استعداده - كما
أسلفنا - ولكن يضاد الاشتياق، الذي هو من مبادئ الأوامر الحقيقية في مرتبة
الجهل بالخطاب، مع الاشتياق بخلافه في هذه المرتبة الناشئ عن إطلاق قيام
المصلحة بالذات في جميع المراتب على ما أشرنا إليه سابقا في بحث التجري.
وحينئذ، لا محيص - على الموضوعية - إما من رفع اليد عن إطلاق المصلحة
في اقتضائه الاشتياق، حتى في مرتبة الجهل بخطابه، أو رفع اليد عن ظهور إطلاق
أمره في الحقيقة حتى في ظرف المخالفة. ومع عدم الترجيح، لا طريق لإحراز
الموضوعية.
نعم، على الطريقية - أيضا - وإن كان لا بد من تقييد المصلحة في [اقتضائها]
فعلية الإرادة، ولكن لا محيص عنه بلا وجود احتمال آخر يزاحمه. وحينئذ ربما
يظهر للأمر الطريقي جهة ترجيح على الموضوعية، بأن في الموضوعية لا بد من رفع
اليد عن اقتضاء المصلحة للإرادة بجميع [مباديها]، حتى عن مقام حبه واشتياقه،
بخلاف الطريقية، حيث لا يقتضي إلا رفع اليد عن فعلية الإرادة، مع بقاء مباديها
بحسب اقتضاء المصلحة بإطلاقها.
وبمثل هذه البيانات أمكن دعوى أن الأصل في أوامر الطرق هو الطريقية
لا الموضوعية، مضافا إلى اتحاد طريقة الشرع والعقلاء في جعل طرقهم، حيث إنه
ليس المغروس في أذهانهم إلا الطريقية.
ثم إن من هذه البيانات - أيضا - ظهر أن نتيجة الموضوعية في الطرق
المجعولة ليس انقلاب الواقع إلى مؤدى الطرق، كي يصير تصويبا مجمعا على
بطلانه، بل من الممكن أن تكون المصلحة الموجبة لتمشي الإرادة الحقيقية على طبق
مؤدى الطرق، حتى عند المخالفة للواقع - كما هو لازم الموضوعية - [مزاحمة]

49
وأقوى من مصلحة الواقع، وفي مثل هذه الصورة لا يكون لازم الموضوعية
الاجزاء عن الواقع أيضا.
نعم، لو كانت المصلحة المزبورة جابرة لما فات من المصلحة الواقعية،
فلاقتضاء الموضوعية - حينئذ - للإجزاء وجه، ولكن أنى لنا بإحرازه، ومع عدم
الإحراز - أيضا - لا بد من إجراء حكم التزاحم والأخذ بإطلاق دليل الواقع كما
لا يخفى.

50
المقالة الرابعة
جعل الطرق

51
[المقالة الرابعة]
[جعل الطرق]
بعد ما اتضح إمكان جعل الطريق بقي الكلام في وقوعه، فنقول قبل
الشروع في المقصود: ينبغي تأسيس الأصل في مثل هذا الجعل، فيقال:
أولا: أن الغرض من الجعل بحسب لب الواقع لما كان تنجيز الواقع، وأن
المقصود من العمل به الاستطراق إلى مرام المولى بتوسيطه، لا مجرد العمل على
وفق الطريق لا يبقى مجال توهم أصالة الإباحة كما توهم، إذ [هي مناسبة] للمقام
الأخير، وهو أجنبي عن مرحلة الاستطراق المزبور تبعا لتنجز الواقع به، إذ
أصالة الحل المزبورة لا تثبت جواز الاستطراق المسطور، بل الاستطراق
- حينئذ - تحت أصالة العدم.
كما أن هذه المرحلة - على مسلكنا في وجه منجزية الطرق، بل ومسلك
أستاذنا (1) من [التزامه] بجعل الحجية - غير [مرتبطة] بمقام البناء على واقعية
المؤدى أو البناء على انكشافه الملازم لجواز نسبة الحكم المشكوك تعبدا - ببركة



(1) هو المحقق الخراساني في الكفاية: 319.
53
الطرق - إلى المولى.
بل قد عرفت أن أمثال هذه التنزيلات نحو عناية في مقام البيان
غير [مرتبطة] بعالم المنجزية، كيف! ولو قال صريحا: يجب العمل بخبر
الواحد، أو [جعله] حجة بلا عناية تنزيل في البين، لا يجوز مثل النسبة
المسطورة إلى المولى، مع أنه تم في البين مقام تنجزه بأحد البيانين الأخيرين،
وحينئذ لا يبقى مجال تأسيس الأصل في مثل هذا المقصد الأصلي بحرمة
الافتراء وأمثاله، نعم، بناء على مسلك منجزية نفس تتميم الكشف بلا احتياج
إلى جعل آخر أمكن دعوى كون الحجية والمنجزية مساوق النسبة المزبورة.
وحينئذ كان لمثل هذا التأسيس مجال. وربما [توهم] كلمات شيخنا العلامة (1)
- في تأسيسه أصالة الحرمة بمناط الافتراء والكذب عليه - ما هو المقصود من
منجزية الطرق. ولكن أمكن حمل كلماته على جهة طريقية الأمارة و [امتيازها]
عن الأصل [بمثلها] - كما سيجئ عن قريب - لا [على] حيث [المنجزية]
للواقع، [التي هي] جهة مشتركة بين الأمارة والأصول المثبتة - كما لا يخفى -
فتأمل.
نعم، عند الشك في جواز النسبة وعدمه من جهة الشك في إعمال العناية
المزبورة في كيفية البيان، ربما يجري مثل هذا الأصل، حتى على مسلكنا ومسلك
أستاذنا (2) " طاب ثراه "، ولكنه غير مرتبط بعالم المقصد الأصلي من الاستطراق
به لتحصيل الواقع المنجز به - ببركة جعله - بأحد النحوين. وحينئذ فلا محيص
عند الشك في جعل الطريق الراجع لبا إلى الشك في صدور أمر طريقي بالعمل على



(1) انظر فرائد الأصول: 49.
(2) انظر كفاية الأصول: 319.
54
وفقه أو جعل حجية من الرجوع إلى أصالة عدم الجعل المستتبع للجزم بعدم
منجزيته.
وتوهم أن الأصل المزبور لا مجرى له، مع الجزم بعدم المنجزية، [لقبح]
العقاب بلا بيان، لعدم ترتب عمل على هذا الأصل بل هو من لوازم نفس
[شكه]، مدفوع - مضافا إلى جريان هذا الاشكال في كلية الشك في التكاليف
النفسية - [بأن] الغرض من العمل المترتب على الأصل هو الأعمال المترتبة على
الواقع نفيا وإثباتا، - ببركة الأصل - لا مطلق العمل المترتب ولو على الشك
بالواقع نفيا أو اثباتا.
وبهذه الملاحظة [تكون] الأمارة النافية - أيضا - واردة على قاعدة القبح،
كالمثبتة، لا العكس، بخيال التوهم السابق، كتوهم ورود قاعدة الاشتغال
- أيضا - على أصالة الاشتغال، فتدبر.
بقي في المقام مطلب آخر، وهو أن عناية تتميم الكشف، وإن لم [تكن
بنفسها] وافية لتنجيز الأحكام - على ما فصلناه في بحث القطع - ولكن لا محيص
من الالتزام بها في تميز الطرق والأمارات عن الأصول، بل يكون ذلك مبنى
تحكيم الأمارة على الأصل، كما سيأتي في محله إن شاء الله.
وربما يكون المرتكز في أذهان العقلاء - أيضا - هذه التفرقة من ارتكاز
ذهنهم على البناء على مكشوفية الواقع تارة، والبناء على العمل في ظرف عدم
الانكشاف أخرى.
وربما يستفاد مثل البناء على الكشف في الأمارة من جملة من الأخبار، من
حيث لسانها بقوله: " ما أدى إليك عني فعني يؤدي " (1) وقوله: " خذ معالم



(1) الوسائل 18: 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.
55
دينك " (1) إذ مثل هذه الألسنة كناية عن وصول الواقع إلى المكلف، ووصوله
كناية عن العلم به.
وفي قبال ذلك ما دل على الترخيص في ظرف الشك بالواقع الملازم لعدم
وصوله إليه. وحينئذ، لا بأس في مقام تأسيس الأصل في الطرق من التشبث
بحرمة الافتراء لمحض الشك في طريقيته بلا نظر إلى جهة منجزيته كي يرد عليه ما
ذكرنا، فتدبر.
وحيث عرفت مقتضى الأصل في المقام، بقي الكلام في بيان الموارد التي بنوا
على حجيتها أو توهموا، في طي مقالات، فنقول:



(1) لم نعثر على هذا النص والموجود منه هكذا: أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما
احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم. الوسائل 18: 107، الباب 11 من أبواب صفات
القاضي، الحديث 33. ونصوص أخرى قريبة من هذا النص. راجع الوسائل 18: 98،
الباب 11 من أبواب صفات القاضي وغيره من الأبواب.
56
المقالة الخامسة
حجية الظواهر

57
[المقالة الخامسة]
[حجية الظواهر]
في أن من الموارد المزبورة " الأصول الجارية في مباحث الألفاظ " من مثل
أصالة الحقيقة أو العموم أو الإطلاق.
وقد يتوهم إرجاع هذه الأصول الوجودية إلى أصل عدمي واحد وهو:
أصالة عدم القرينة على خلاف الحقيقة. ولكن نقول:
بعد ما كان الغرض من هذه الأصول، وجودية أو عدمية، استكشاف مراد
المتكلم والاستطراق بها لتحصيل مراده مقدمة للعمل، نقول:
إن عدم القرينة على خلاف الحقيقة والعموم - مثلا - إنما يلازم إرادة
الحقيقة بناء على ما هو المعروف من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة،
كما هو مذهب من (1) جعل الخاص المتأخر عن وقت العمل بالعام ناسخا
لا مخصصا.



(1) كما جعله الفاضل التوني في الوافية: 134. والشيخ الأعظم في الفرائد:
790.
59
وأما بناء على جواز إبراز الكلام على خلاف المرام بلا قرينة - كما أشرنا
إليه في المبحث السابق من الدوران بين النسخ والتخصيص - فلا يقتضي مجرد عدم
القرينة على المجاز إرادة الحقيقة حتى بإرادة استعمالية فضلا عن الجدية، وان كان
لدعوى الارتكاز في عدم كون استعمال اللفظ مع شدة ارتباطه بمفهومه ومعناه
عاريا عن معناه حين الاستعمال مجال.
وإلى ذلك أيضا نظر من فكك (1) بين الإرادة الاستعمالية والجدية، لا
بمقتضى أصالة الحقيقة المزبورة كي يقال بعدم [ترتب] أثر عملي على مفاد هذا
الأصل كما لا يخفى.
وحينئذ كيف [تغني] أصالة عدم القرينة في استكشاف الحقيقة؟ بل لا بد من
تأسيس أصل آخر من أنه مع عدم القرينة، لو شك في إرادة الحقيقة أم لا،
الأصل يقتضي إرادة الحقيقة [جدا أم لا]؟ وحينئذ يصير [أصل] عدم القرينة
[منقح] موضوع الأصل الوجودي، لا أنه [مغن] عنه، كي يصير مرجع الأصل
الوجودي إلى العدمي.
نعم هنا شئ آخر هو أن في الأصل الوجودي [هل] يكفي الشك في إرادة
الحقيقة محضا، ولو لم يكن للفظ ظهور فعلي في المراد، ولو من جهة اتصال الكلام
بما يصلح للقرينية من جهة الشك في قرينية الموجود؟ [أو] لا يكفي هذا المقدار؟
بل المدار في الحجية على الظهور الفعلي، ولو في المعنى المجازي الملازم لعدم الحجية
عند الاتصال بمشكوك [القرينية].



(1) لم نعثر على المفكك صريحا، نعم نسب المحقق النائيني إلى الشيخ في مبحث التعادل
والتراجيح توجيه العمومات والمخصصات الواردة في لسان الأئمة بذلك. انظر فوائد
الأصول 2: 517 وفرائد الأصول: 791.
60
كما أنه - على الفرض الأخير - هل يكفي في الحجية مجرد الظهور التصوري
الناشئ عن انسباق المعنى إلى الذهن لتبادر أو قرينة؟ [أو] لا يكفي هذا المقدار
أيضا؟ بل يحتاج إلى الظهور التصديقي الناشئ عن كون المتكلم في مقام الإفادة
والاستفادة، وحينئذ أمكن ترجيح الاحتمال الأخير على البقية من جهة لبية
الدليل من السيرة الموجبة للاقتصار على المتيقن.
نعم بناء على اعتبار الظهور التصديقي ليس المدار على التصديق الظني
الفعلي لقيام السيرة على الخطوط والأسناد القديمة مع الجزم بعدم الظن الفعلي
لهم.
وحينئذ المدار التام على الظهور النوعي [غير] المنافي مع الشك الفعلي
وجدانا.
كما أن المدار ليس على حجية الظهور المزبور لخصوص من قصد إفهامه،
لبداهة الأخذ بإقراره عند تكلمه مع الغير بلا التفات منه على وجود السامع
المزبور في المجلس، فما عن القمي (1) (رحمه الله) في تفصيله هذا منظور فيه، كالنظر في وجه
توجيه كلامه بإرجاعه إلى أصالة عدم الغفلة، إذ لهذا الأصل مقام ولأصالة
الظهور مقام آخر، كما لا يخفى.
نعم في المقام شبهة أخرى من العلم الاجمالي على خلاف ظواهر ما ورد من
الشرع في الكتاب والسنة، ومثل هذا العلم مانع عن حجيتها، ومجرد الفحص عن
المخصص أو القرينة على الخلاف، وعدم الظفر بها - أيضا - غير كاف في رفع العلم
المزبور، لعدم خروج المشكوك عن طرفية العلم المزبور.
ويمكن الفرار عن هذه الشبهة - أيضا - بأن دائرة العلم المزبور ربما تكون



(1) القوانين: 111.
61
بمقدار لو تفحصنا عنه لظفرنا به، إذ حينئذ من أول باب الطهارة إلى آخر الديات
بعد ما كان تحت [مثل] هذا العلم، فالعقل يحكم في كل باب بعدم الإقدام بالعمل
قبل الفحص، فيفحص، فإن ظفر به فيأخذ به، وإلا فيستكشف أنه من الأول
خارج عن دائرة العلم المزبور.
وبمثل هذا العلم الاجمالي يكتفى - أيضا - دليلا لوجوب الفحص عن كلية
الأحكام، فضلا عن الفحص عن المخالف للظواهر، من دون فرق - أيضا - بين
ظواهر الكتاب والسنة، علاوة [على] دعوى معرضية الظواهر المزبورة لقيام
القرينة على خلافها، فيجب الفحص كي به يخرج الظاهر المسطور عن
المعرضية.
نعم، في خصوص ظواهر الكتاب شبهات واهية أخرى في جواز الأخذ بها:
منها إن ظواهر الكتاب ليس لبيان الإفادة والاستفادة، بل أوحي إلى
النبي (صلى الله عليه وآله) لمحض الاعجاز.
ومنها: العلم الاجمالي بوقوع التحريف فيه المخل [بالاستفادة].
ومنها: الأخبار (1) الواردة في حرمة تفسيرها.
ولا يخفى ما في جميعها:
فيمنع الأول بشهادة استشهاد الإمام بنفسه بظاهر القرآن، بل وإحالة
السائل إلى ظواهره بقوله: " يعرف هذا وأشباهه من الكتاب " (2)، علاوة [على
ما] قال: " إن فيه محكمات ومتشابهات " (3).



(1) بحار الأنوار 92: 107، الباب 10 باب تفسير القرآن بالرأي وتغييره.
(2) الوسائل 1: 327، الباب 39 من أبواب الوضوء، الحديث 5.
(3) آل عمران: 7، نقلا بالمعنى.
62
وأما الثاني: فبمنع مانعية هذا العلم، لاحتمال وقوع التحريف في غير
آيات الأحكام من مثل القصص والحكايات.
وأما الثالث: فبمنع كون العمل بصرف الظاهر تفسيرا له، كيف! ومنعه عنه
ينافي إرجاعه (عليه السلام) إلى ظواهر الكتاب، بل واستشهاده في كثير من الموارد
بظاهره، وذلك كله شاهد أن المراد من تفسير القرآن تأويله بما هو خلاف
ظاهره، كما هو ديدن العامة من تأويلاتهم القرآن برأيهم الفاسد، واستغنائهم به
عن الرجوع إلى حجج الله على خلقه، كما يومئ إليه ما أفاد لبعض قضاتهم أو
مفتيهم بقوله: " إنما يعرف القرآن من خوطب به " (1)، [ولا معرفة لك بناسخه]
ومنسوخه.
ويمكن حمل هذا البيان للردع عن عمله قبل الفحص. ونحن نلتزم أن
ظواهره - حينئذ - بحكم المجمل، لا مجال للمصير إليها قبل فهم الناسخ عن
المنسوخ وغيره بالرجوع إلى السنة، كما لا يخفى.
ثم إنه - كرارا - أشرنا إلى أن الأصول المعمولة في الظواهر إنما كانت حجة
عند اليقين بتطبيق مفهوم اللفظ على المورد مع الشك في المراد، وأما صورة القطع
بخلاف حكم العنوان مع الشك في دخول المورد في العنوان، فيتشبث بأصالة
العموم على خروج المورد عن العنوان، وإلا يلزم تخصيص العنوان، فالدليل
حيث كان لبيا، فغير واف باثباته. فراجع مباحث العام والخاص، تعرضنا [له]
هناك (2) - أيضا - فتدبر.



(1) الكافي 8: 312، الحديث 485.
(2) انظر مقالات الأصول 1: 444.
63
خاتمة:
لو [اختلفت] القراءة في كلمة من القرآن مثل قوله تعالى: * (يطهرن) * (1)
[أو] * (يطهرن) * بالتخفيف، [ففي] جواز الأخذ بكل واحد - كما هو الشأن في
قراءته في الصلاة بقوله: " اقرأوا كما يقرأ الناس " (2) - أو التخيير العملي بين
[القراءتين]، أو تساقطهما - كصورة تعارض الآيتين - وجوه: أقواها الأخير،
لعدم الدليل على [التخيير] بالمعنى الأول، لقصور أدلة [التخيير] في تعارض
[النصين] للمقام، بل هي مختصة بالرواية عنهم، لا عن الله.
كما أن [التخيير] العملي فرع حجيتهما [الملازمة] لرفع [الإلزام] عن الفعل
والترك، وعدم تعارضهما الموجب للرجوع إلى أصل ثالث فيتعين الأخير
الموجب للرجوع إلى أصل ثالث، كما لا يخفى.



(1) البقرة: 222.
(2) الوسائل 4: 821، الباب 74، الحديث 1 ولفظ الحديث اقرأ.
64
المقالة السادسة
حجية الاجماع المنقول

65
[المقالة السادسة]
[حجية الاجماع المنقول]
من جملة ما قيل بخروجه عن بحث الأصل السابق الاجماع المنقول، وتتميم
الكلام فيه يحتاج إلى طي مقامات:
المقام الأول: في بيان أن دليل حجية الخبر الواحد [هل] يختص بخصوص
الحسي، أو [يشمل] الحدسي المحض - أيضا - بعد إلحاق الحدسي القريب بالحس،
بل وما شك في حسيته وحدسيته - أيضا - بالحسي؟
الذي يقتضيه النظر في الأدلة المزبورة عدم الشمول للحدسي المحض، لأن
عمدة الدليل على خبر الواحد هو السيرة العقلائية والإجماعات، وحيث إنهما
لبيان [يقتصر] فيهما على المتيقن من كون المستند حسيا أو ما هو قريب بالحسي،
كما يشهد به قبول الإخبار في الملكات الباطنية من قبل آثارها الظاهرية،
فراجع (1).
كما أن في غالب أخبار الآحاد يحتمل اتكاله على حدسه - أيضا -، ومع



(1) ويدل عليه ما جاء في الوسائل 18: 288، الباب 41 من أبواب الشهادات.
67
ذلك ليس بناؤهم على طرد مثل هذا الخبر، بل يأخذون به بمجرد احتمال
[حسيته]، فيكشف ذلك - أيضا - [عن] أن المدار في حجية الخبر عندهم ليس
على الجزم بحسيته، لقلة موارد هذا الجزم في أخبارهم، وهو الشاهد على إلحاق
مشكوك الحسية - أيضا - بالحسية، فما هو مشكوك في بنائهم يختص بالحدسية
المحضة، فيقتصر - حينئذ - في هذه الأدلة اللبية بغيرها.
نعم قد يتوهم الإطلاق في الأدلة اللفظية من الأخبار والآيات.
وفي كونها في مقام البيان - من هذه الجهة - إشكال، لإمكان حمل سوقها
على امضاء طريقة العقلاء، المشكوك اندراج المورد في بنائهم على الطريقية.
ومع الاغماض عن هذه الجهة نقول:
إن آية النبأ (1) في مقام التفكيك بين الفاسق والعادل، ولا يكون [لها] نظرة
إلى كيفية خبر العادل من حيث المستند، خصوصا مع [اقترانها] بالتعليل
المنصرف إلى الجهالة العقلائية، [غير] الآبي عن الشمول للأخبار الحدسية
المحضة، فتأمل.
نعم: آية السؤال (2) والإنذار (3) ربما يتوهم شمولهما للخبر الحدسي، ولكن
لما كان فهم المنذرين وأهل الذكر في الصدر الأول - غالبا - مستندا إلى المبادئ
الحسية، لوضوح المأخذ لديهم بإحساساتهم، فيدخل مثلهم في الحداسين بحدس
قريب إلى الحس، ولا [يشمل] الحدسي المحض، وذلك أيضا لولا شبهة قابلية
حملهما على حجية الفتوى لا الرواية، كما سيأتي إن شاء الله.



(1) الحجرات: 6.
(2) النحل: 43.
(3) التوبة: 122.
68
وأما المقام الثاني: ففي أن الظاهر من لفظ " الاجماع " هو اتفاق أهل الحل
والعقد [الذين] منهم الإمام الملازم لوجوده فيهم.
وقد يستعمل في اتفاق جماعة فيهم الإمام، لاتحاده - مناطا - مع اتفاق
الكل، إذ مناط حجيته - أيضا - تضمنه لوجود الإمام المشترك بين الفرضين.
ثم إن طريق إحراز وجوده [فيهم] تارة حسي من جهة وجدانه اتفاق
الكل الملازم لوجوده فيهم، أو وجدانه جماعة فيهم الإمام، ولو بسماعه من
[سفرائه] و [أصحابه]، وأخرى حدسي ولو من جهة حدسية اتفاق الكل لديه،
أو [تحصيل] اتفاق جماعة فيهم الإمام بحدسه، [ففي] هاتين الصورتين يكون
الإخبار بقول الإمام حدسيا.
ونظيره في الحدسية المحضة لو كان المراد من الاجماع اتفاق جماعة يلازم
قول الإمام:
إما بقاعدة اللطف، أو بصرف حسن الظن بالمتفقين، ولا اشكال في عدم
شمول دليل الخبر مثل [هذا] الإخبار عن الامام، ولو بالملازمة الحدسية.
نعم لا بأس بحجية خبره في مقدار من الاتفاق المحتمل فيه تحصيله بالحس
أو بمبادئ قريبة إلى الحس، ثم يلاحظ أن هذا المقدار يلازم - لدى المنقول إليه - قول الإمام
، أو يضم ما حصله هو بوجدانه ولو بالملازمة الشخصية الاتفاقية، فيؤخذ
بخبره في المحسوس، ويحصل بحدسه القطعي المقصود ويعمل به، وإلا فلا حجية
فيه أبدا.
وأما في بقية الصور [فبمحض] احتمال حسية الخبر يؤخذ به كما يؤخذ بما
كان حدسيا قريبا إلى الحس، كما أشرنا إليه في المقام السابق، فراجع.
المقام الثالث: في أن [ناقل] الاجماع ربما يختلف بقرب زمانه إلى المعصوم
أو سفرائه أو بعده في احتمال حسية [خبره] أو حدسيته محضا، فبالنسبة إلى قريبي

69
العهد - ولو بمثل زمان الغيبة الصغرى - الواصلين إلى سفرائهم عادة - كزمان
السيد ومن تبعه - أمكن عادة احتمال إحراز الإمام في المتفقين أو احراز ملازمة
قولهم لقول الإمام بمبادئ عادية حسية، أو قريبة إليها. وهذا المقدار يكفي
للحجية، لأنه من مصاديق محتمل الحسية والحدسية.
وأما بالنسبة إلى من كان من طبقات بقية الأعلام [بعيد] العهد بالنسبة إلى
زمان الحضور، كمن كان في زمان الغيبة الكبرى بنحو لا [تقتضي] العادة إحراز
الإمام في المتفقين في هذا الزمان، بل غاية الأمر: طريقهم لإحرازه أمور حدسية،
كالشيخ (1) ومن تبعه المتشبثين في احراز رأي الإمام بقاعدة اللطف، أو بصرف
حسن ظنه باتفاق الجماعة، كمن تأخر عن زمان الشيخ (2)، ففي مثلهم: لا مجال
لاحتمال حسية خبره، فضلا عن إحراز حسيته، ففي أمثالهم لا يبقى لنا مجال
الأخذ بإخبارهم عن رأي الإمام، بل ليس إخبارهم - من هذه الجهة - إلا
حدسيا محضا، غير [مندرج] في أدلة حجية الخبر الواحد.
نعم في إخبارهم عن اتفاق الجماعة حيث ربما يكون حسيا أو حدسيا قريبا
[من الحس]، أمكن الأخذ به لو انتهى إلى احراز قول الإمام، ولو بالملازمة
الشخصية عند المنقول إليه، ولو ببركة حسن ظنه بهم بنحو يقطع بالملازمة بين هذا
الاتفاق ورأي الإمام.
نعم لا [تكفي] الملازمة الظنية المحضة إلا إذا كان هذا الظن حجة لديه
بالدليل، إذ حينئذ كان ذلك أيضا بمنزلة الإحراز الوجداني الجزمي، كما أنه لو كان



(1) انظر عدة الأصول: 246 - 247.
(2) راجع معارج الأصول: 126 و 131. وراجع لتفصيل الأقوال قوانين الأصول 1: 349.
ومفاتيح الأصول: 496 - 497.
70
هذا المقدار من الاتفاق ملازما عند المنقول إليه لوجود دليل معتبر عنده، لكان
كافيا في أخذه بنقل الفتاوى. وهذا كله جار - أيضا - في فرض احتمال حسية
الناقل في احراز الفتاوى، بلا لزوم الجزم بالحسية، لما تقدم.
نعم لو فرض الجزم بحدسية إحرازه الفتاوى في المورد بحدسه محضا، كما لو
رأى فقيها متبحرا جعل المسألة في سلك المسلمات، أو طبق اطباقهم على المورد
لمحض اتفاقهم على قاعدة منطبقة - بخياله واجتهاده - على المورد [فلا] مجال
للاعتناء بمثل هذه الأخبار عن اتفاقهم، فضلا عن حيث اخباره عن رأي
الإمام (عليه السلام) وحينئذ فللفقيه ان يشمر [عن] ساعده في ميدان الاجتهاد، ولا
يرفض الاجماع المنقول بقول مطلق، ولا يأخذه على الاطلاق، بل يلاحظ
طبقات المدعين للإجماع، وسعة [باعهم] في تحصيل الاتفاق. [فيتم] احراز
الملازمة عنده لقول الإمام ولو بطريق تعبدي أو لوجود أمارة معتبرة - ولو عند
المنقول إليه - فيأخذ به، ومع عدم إحراز هذه الجهات يرفض نقل الاجماع جدا،
والله العالم بمواقع الأمور.
ثم إن ما ذكرنا كله بتفصيله [جار] في نقل التواتر، فيرفض النقل
المزبور في فرض، ويؤخذ في فرض، من دون فرق بين كون الأثر مترتبا على
نفس التواتر - عند المنقول إليه - أو على مؤدى الخبر المتواتر.
نعم لا بأس بأخذه لو كان الأثر مترتبا على التواتر عند [الناقل]، كما أن في
الأخير ربما يتفق الوثوق الاجمالي بالمحكي عن الحس أو [محتمل] الحسية من
الأخبار المتعددة المجملة، فيؤخذ به بدليل حجية الخبر الموثق، بشرط كونه
أخص مضمونا عن البقية، أو مطابقا معها، وإلا فلا مجال لتشخيصه، فتدبر في
هذا المقام أيضا.
بقي الكلام في فرض تعارض الإجماعين أو المتواترين المنقولين، فنقول:

71
أما صورة حدسية الخبرين - [حتى] من حيث السبب، فضلا عن [مرحلة]
استكشاف رأي الإمام - فلا إشكال في طرحهما.
وأما لو كانا من حيث السبب وتحصيل الاتفاق حسيا أو محتمل الحسية،
فمع فرض ملازمة أحد الطرفين لقول الإمام [بنظر] المنقول إليه، فيؤخذ به
ويطرح الآخر.
وأما لو كان كل واحد من الطرفين ملازما لقول الإمام أو لوجود دليل
معتبر، فلا محيص في الأول حينئذ من التساقط، للعلم بكذب أحدهما المانع عن
حجية كل واحد، وأما في الثاني، فمن الممكن صدقهما، غاية الأمر ينتهي الأمر إلى
تعارض [النصين]، فلا بأس حينئذ [بشمول] دليل الخبر لمثله بعد فرض عدم
مرجح في البين، وإلا [فيقدم ذو] المرجح، ولو من مثل موافقة الكتاب أو مخالفة
العامة، كما لا يخفى.

72
المقالة السابعة
الشهرة الفتوائية

73
[المقالة السابعة]
[الشهرة الفتوائية]
مما قيل بخروجها عن تحت الأصل، الشهرة فتوى، كما هو ظاهر كلماتهم.
وعمدة الوجه تارة: بأن الظن الحاصل منها أقوى مما يحصل عن خبر
الواحد.
وأخرى: بدعوى إطلاق: " خذ بما اشتهر " (1) في المقبولة والمشهورة (2)
لمثلها أيضا.
وثالثة: بحصول الاطمينان [منها] بنحو [تكون] مورد اتكال العقلاء.
ورابعة: بعموم التعليل في المقبولة بأن المجمع عليه لا ريب فيه، إذ ليس
المراد من نفي الريب بالحقيقة، بقرينة فرض الشهرة في الطرفين، ولا نفيه بالإضافة
إلى غيره، لأنه خلاف إطلاق نفي الريب، فلا محيص من حمله على نفي الريب



(1) الوسائل 18: 75، الباب 9، الحديث 1.
(2) عوالي اللآلي 4: 133 ح 231 والمستدرك 17: 303، الباب 9 من أبواب صفات
القاضي، الحديث 2.
75
تعبدا أو تنزيلا، فيشمل عموم العلة ما نحن فيه أيضا، لأنه - أيضا - مما اجمع
عليه. ولا يضر بعموم العلة كون مورد التطبيق خصوص الشهرة رواية، ولو
لكونه قدرا متيقنا في مقام التخاطب، إذ المتيقنية [مضرة] بالإطلاق لا بمثل
عموم وارد بلسان العلة، إذ شأنه توسعة الدائرة تارة، والتضييق أخرى، هذا.
ولكن لا يخفى ما في الجميع:
أما الأول: فبمنع أقوائية الظن الحاصل عن الإخبارات الحدسية
الاجتهادية، مما يحصل عن خبر حسي واحد. كما أن مورد الروايتين إذا كانت
الشهرة [الروائية]، كيف يشمل [الفتوائية]؟ ولو لوجود المتيقن المانع عن
الإطلاق في امتثال العام، كما أن اتكال العقلاء - أيضا - [على مثل] هذه
الاجتهادات الحدسية المحضة أول الكلام، حتى مع إفادة الاطمينان، فضلا عما
لا يفيده.
وأما عموم التعليل فهو فرع شموله للمورد، إذ من البديهي أن الغرض منه
كونه مورد اتفاق الكل. وهذا المعنى يتصور في الشهرة رواية، وعدم [منافاة
فرضها] في الخبرين المتعارضين.
وأما بالنسبة إلى [الشهرة الفتوائية] فلا يتصور [فيها فرضها] في الطرفين.
وعليه [فهي خارجة] عن مصب الحكم، ولو قلنا بنفي الريب فيه [تعبدا] على
الإطلاق، فضلا عن حمله على نفي الريب بالإضافة إلى غيره، لأنه المتيقن منه في
بادئ النظر، كما لا يخفى.

76
المقالة الثامنة
حجية خبر الواحد

77
[المقالة الثامنة]
في حجية [خبر] الواحد
وهي العمدة في نظر الأصحاب في مقام استنباط الأحكام، ولذا جعلوها في
عمدة المسائل الأصولية الراجعة إلى القواعد الواقعة في طريق استخراج الحكم،
أو الراجعة إلى ما ينتهي إليه المجتهد في مقام العمل.
وربما [يشمل] هذا البيان الطرق والأصول العملية، ولو غير التنزيلية
منها، بخلاف البيان الأول، فإنه: يختص بالأدلة الاجتهادية والأصول التنزيلية
الناظرة إلى الواقعيات. ولقد قررنا في أول الكتاب أن مدار كل علم نقلي على
تدوين كليات وافية بغرض مخصوص بلا احتياج إلى تشكيل موضوع للعلم،
بحيث يبحث فيه عن عوارضه.
وعليه: فلا يحتاج - في مسألتنا هذه - إلى إتعاب النفس بجعل الموضوع
الأدلة الأربعة بذاتها، وجعل البحث عن دليليتها [من] عوارض الموضوع،
كيف؟ ومع تعدد الموضوع لا داعي [إلى] جعله علما واحدا، بل ينبغي أن تكون
علوما متعددة حسب تعدد موضوعه، فطرو الوحدة على [الجعليات] ليس إلا
بلحاظ وحدة الغرض، فيلغى حينئذ اعتبار وجود الموضوع عن [المميزية]،

79
وعليه: فلا داعي إلى اتعاب النفس بجعل مسائل العلم حينئذ من عوارض
موضوعه.
وأضعف من ذلك إرجاع الشتات إلى موضوع واحد بجعل
الموضوع عنوان " الدليل "، إذ البحث عن الدليلية - الذي هو المهم في مسائل هذا
العلم - يدخل في المبادئ، بملاحظة أن مرجعه إلى تشخيص نفس الموضوع
بذاته.
ونظيره في الضعف جعل الموضوع السنة المحكية، وإثباتها بالخبر من
عوارضه، إذ مرجع إثباتها - بناء على لسان تتميم الكشف - إلى معلومية السنة
بالخبر، لا [موجوديتها]، إذ هو يناسب تنزيل المؤدى، فلا يتوهم - حينئذ - كونه
بحثا عن وجود الموضوع، كي يدخل في المبادئ.
كما أنه لا مجال لتوهم أن المعلومية التعبدية من آثار شكه، لأنه يقال: إن ما
هو من آثار الشك هو التعبد بقلب شكه يقينا، وأما معلومية السنة فهي من تبعات
هذا التعبد عارضة على نفس السنة لا [على] شكه.
نعم الذي ينبغي أن يقال: هو أن المعلومية [ليست] من عوارض
السنة الخارجية حقيقة، كيف؟ وقد يتخلف مثل هذه الصفة عن وجودها واقعا
فكيف يكون من عوارضها؟ كما أن وجودها التعبدي - أيضا - ربما ينفك عن
وجودها الحقيقي، فلا يكون هذا الوجود أيضا من عوارضها.
نعم لا بأس حينئذ بجعل هذا الوجود من عوارض نفس الذات [المحفوظة]
في طي أنحاء الوجود حقيقيا أم تعبديا، وبناء عليه يدخل في المبادئ لا المسائل،
كما أشرنا.
وكيف كان نقول: إن الأقوال في هذه المسألة من حيث النفي على
الإطلاق قبال الإثبات في الجملة، بضميمة التفصيلات في كلماتهم، كثيرة إلى ما

80
شاء الله.
نعم لا أظن القول بالإثبات المطلق من أحد. وحينئذ ينبغي تقديم وجه
القول بالنفي المطلق، ثم الشروع في وجه الإثبات الجزئي مع تعيين ما هو الحجة
منه، فنقول:
إنه استدل المانعون عن حجية الخبر على الإطلاق - بعد الأصل - بالأدلة
الثلاثة:
فمن الكتاب آيات النهي عن الأخذ بغير العلم (1) وأن الظن غير مغن عن
الحق (2) وأمثالهما.
ومن السنة أخبار النهي عما لا يوافق القرآن، أو المخالف وأنه زخرف (3) أو
اضربه على الجدار (4).
ومن الاجماع ما ادعاه السيد (5) وأتباعه (6) على عدم العمل بأخبار
الآحاد، وأنه بمنزلة الأخذ بالقياس عندهم.



(1) الاسراء: 36.
(2) النجم: 28. ويونس: 36.
(3) راجع الوسائل 18: 78 - 79، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 و 12
و 14 و 15 وغيرها.
(4) التبيان في تفسير القرآن 1: 5 (مقدمة المؤلف) ولفظ الحديث هكذا: " اضربوه عرض
الحائط ".
(5) رسائل السيد المرتضى 1: 24 والمجموعة الثالثة: 309.
(6) كابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 475. وابن إدريس في السرائر 1: 51.
والقاضي في المهذب 2: 598.
81
ولو تم تقريب شيخنا العلامة في تأسيس الأصل - من أن نسبة مؤدى الخبر
إلى الشارع افتراء (1) - أمكن دعوى حكم العقل - أيضا - بعدم جواز [الإسناد]
بالخبر، لقبح الافتراء [عليه فتتم] حينئذ الأدلة الأربعة على مدعى المانعين،
فتدبر.
وعلى أي حال لا يخفى ما في هذه الوجوه من الضعف.
أما آية النهي عن الأخذ بغير العلم فهي إنما تتم لو لم يقم دليل على حجيته،
وإلا فيقتضي لسانه حكومته على هذا الدليل، لأن لسان تتميم الكشف يوجب
العلم بالواقع، فيحكم على الآية المزبورة.
وأما أخبار ما لا يوافق، فهي ظاهرة في نفي الحجية، فهي حينئذ منصرفة
عن موارد الجمع والتوفيق مع الكتاب، بل وما كان بلسان شرح الكتاب وتفسيره
أيضا خارجة عنها، إذ لا يصدق عرفا عدم موافقتها له، وحينئذ ينحصر
موردها بعدم الموافق بنحو التباين غير القابل للتوفيق بينهما عرفا، ونحن - أيضا -
نلتزم به من جهة الجزم بترجيح قطعي السند على الظني.
وأما أخبار المخالفة ففي جملة منها ما دل على عدم صدورها، وحينئذ لا
يبقى مجال لشمولها لموارد الجمع والتفسير للجزم الاجمالي بصدورها، كما أن ما دل
على نفي حجيتها أيضا - كالطائفة السابقة - منصرفة عن موارد الجمع والتفسير،
فيختص مصبها بموارد المخالفة [بنحو التباين] الذي نحن ملتزمون بطرحها كما
أشرنا آنفا.
وأما اجماع السيد فموهون بدعوى الشيخ الاجماع على خلافه (2)، بل مثل



(1) راجع الفرائد: 49.
(2) عدة الأصول 1: 337، طبعة مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
82
دعوى الشيخ - مع قرب عهده بالسيد والتفاته [إلى] دعواه - قرينة تامة على
حمل كلام السيد على عدم الأخذ بكل خبر، ولو مع عدم الوثوق بصدوره، فضلا
عما يوثق بعدمه، وأن غرضه من الدعوى المزبورة على الإطلاق رد العامة [في]
إلقائهم رواياتهم المجعولة في قبال السيد إلزاما له وإفحاما، فأنكر الحجية على
الإطلاق تقية وتورية، وإلا فأصل غرضه نفي حجية ما لا يوثق بصدوره، فضلا
عما يوثق بكذبه، كما أن معقد إجماع الشيخ - أيضا - منصرف عن مثل هذه الأخبار
، فلا معارضة - حينئذ - بين الإجماعين الصادرين عن المتبحرين
[القريبي] العصر، كما لا يخفى. هذا.
مع إمكان حمل كلام السيد على زمان الانفتاح، كوصول يده إلى السفراء
ونوابه [الخاصة]، وحمل كلام الشيخ على زمان الانسداد، ولكن الانصاف أن
الجمع الأول أولى، لإرجاع الأئمة في زمانهم شيعتهم إلى ثقات أصحابهم، كما
[يومئ] إليه جملة من النصوص (1) البالغة إلى حد التواتر، ولو إجمالا، كما لا
يخفى على من راجع.
وحينئذ، فلا اختصاص لحجية الخبر الموثق بخصوص زمان الغيبة الكبرى،
فتدبر.
وأما العقل الحاكم بعدم الافتراء فهو - أيضا - مبني على عدم حجية
الخبر، وإلا - فمع قيام الدليل على الحجية - فلا بأس بهذه النسبة بلا افتراء.
هذا.
ولكن لا يخفى أن هذا الحكم العقلي إنما يلازم عدم الحجية لو كانت



(1) انظر الوسائل 18: 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.
83
الحجية ملزوم تتميم الكشف أو تنزيل المؤدى، وإلا فلا يلازم من قبل الحجية
جواز مثل هذه النسبة، كما أشرنا إليه سابقا، كما لا يخفى، فتدبر.
هذا كله في بيان حجة النافين [مع] جوابها، وأما حجة المثبتين في الجملة،
فينبغي - لكثرة الاهتمام بها - ذكرها في طي مقالة أخرى فنقول:

84
المقالة التاسعة
حجية خبر الواحد من الكتاب الكريم

85
[المقالة التاسعة]
[حجية خبر الواحد من الكتاب الكريم]
في بيان ما يستدل [به] حجية [خبر] الواحد - في الجملة - الموجب
لخروجه عن تحت الأصل السابق، فنقول:
قد يستدل على حجية [خبر] الواحد غير المحفوف بالقرائن القطعية بالأدلة
الأربعة:
فمن الكتاب آية النبأ (1) المعروفة.
وتقريب الدليل تارة بمفهوم الشرط، وأخرى بمفهوم الوصف، وثالثة
لخصوصية في المقام من حيث إن مقتضي التبين ليس في ذات الخبر، كي يجري
في خبر العادل أيضا، بل إنما هو قائم بوصفه من [إضافته] إلى الفاسق. كيف؟
والذات مقدم على الوصف رتبة، فينبغي أن ينتسب التبين إلى الذات [دون]
الوصف.
أقول: مرجع هذا التقريب إن كان إلى كون الذات - ولو في ضمن [خبر]
الفاسق - [مقتضية] للحجية، وأن [اضافتها] إلى الفاسق [مانعة] عن الحجية،



(1) الحجرات: 6.
87
بحيث يسند مقتضي التبين إلى العرض دون الذات، [فلا] شبهة في أن لازم ذلك
كون [الحجية] ثابتة لكل ذات لم [تتصف بأنها صادرة] من الفاسق، وحينئذ،
يصير خبر المجهول حجة عند كل من يجري الأصل في مثله من الأعدام الأزلية،
ولا أظن أحدا - حتى من العاملين بهذا الأصل - أن يلتزم بذلك.
وإن كان وجه اقتضاء العرضي للتبين عدم اقتضاء الحجية فيه، فلا شبهة في
أن لازمه سراية عدم الاقتضاء إلى ذاته أيضا. كيف؟ ومع اقتضاء الذات لها لا
يزاحمه عدم اقتضاء العرضي لها.
وعليه [فكانت] الذات المحفوظة في ضمن خبر الفاسق مقتضية للتبين
أيضا، وحينئذ لا يبقى مجال حصر اقتضاء التبين في العرض بالإضافة إلى الذات
على الإطلاق، بل لا بد وأن يكون الحصر المزبور ناظرا إلى عرضي آخر، من
إضافة الذات إلى العدالة، وهو لا يكون مقدما على وصف الفسق، كي يتم
التقريب السابق، بل لا يكون إلا من باب كلية مفهوم الأوصاف، بلا خصوصية له
في المقام كما لا يخفى.
ثم إن المشهور بنوا - على كلا [التقريبين] لمفهوم الآية - على ضم مقدمة
الأسوئية.
وأورد عليهم: بأن ذلك بناء على كون الوجوب نفسيا، وإلا - فعلى
الشرطية - فيتم الاستدلال بلا احتياج إلى هذه المقدمة.
أقول: إن المراد من التبين إن كان علميا - كما يشعر به بعض كلمات شيخنا
العلامة (1) - فلا شبهة في أن وجوبه ليس إلا للإرشاد إلى طرح خبر الفاسق،
وتحصيل العلم بالمرام، لمحض الاستطراق به إلى الأحكام، لا لقيام غرض قائم به،
ولا لحجية الخبر بشرط العلم، إذ مع وجود العلم تمام الحجة والطريق هو لا غيره.



(1) انظر فرائد الأصول: 119.
88
وحينئذ لا معنى لوجوب التبين نفسيا ولا شرطيا.
وعليه فمرجع الاحتياج إلى المقدمة المزبورة إلى أن الفاسق إذا أخبر يحتمل
صدقه وكذبه، فيجب العلم بحاله مقدمة لامتثال الأحكام، وأما العادل إذا أخبر
فلا يجب تحصيل العلم بحاله وإن كان ذلك للعلم بكذبه، فيرد خبره بلا تبين فهو
مستلزم لأسوئية حال العادل. فلا محيص حينئذ من حمل عدم وجوب تحصيل
العلم بحال العادل من جهة حجيته، لا من جهة وجوب رده للعلم بكذبه.
نعم لو كان التبين ظنيا وثوقيا كان لوجوبه الشرطي مجال. نعم لا معنى
لوجوبه نفسيا - أيضا - إذ المقصود من التبين إنما هو الاستطراق به إلى الأحكام،
لا لغرض قائم بنفسه. كما لا وجه لوجوبه ارشادا لعدم حكم العقل بحجيته في غير
فرض مقدمات الانسداد، كما لا يخفى. فلا محيص حينئذ من حمل وجوبه على
شرطية التبين للعمل [بخبر الفاسق].
ثم معنى وجوبه الشرطي وجوبه الغيري مقدمة للعمل بخبر الفاسق
الواجب بوجوب طريقي، لا نفس الشرطية، إذ إرادة الشرطية من [هيئة] الأمر
في غاية البعد. وحينئذ نقول:
إن المفهوم عدم وجوب التبين غيريا، وذلك تارة لعدم وجوب ذيها،
وأخرى لعدم شرطية التبين فيه. وحينئذ لا يرفع هذه الغائلة إلا برهان الأسوئية،
كما لا يخفى.
وحينئذ، ظهر بما ذكرنا: أن المشهور من الاحتياج إلى مقدمة الأسوئية
- خصوصا على الاحتمال الأخير - هو المتصور، والله العالم بمواقع الأمور.
ثم إنه بعدما اتضح ما ذكرنا يبقى الكلام في بيان التقريبات السابقة في
الاستدلال بالآية المزبورة، فنقول:
أما التقريب الأخير فعلى فرض تماميته، لا بأس باستفادة المفهوم منه،
وذلك لا من جهة أن سوق القضية لتعليق سنخ الحكم على [العرض]، كما هو شأن

89
المفهوم المصطلح. كيف؟ ولو كان سوقه لتعليق الشخص أيضا [لكان] يوجب
سلب الحكم عن خبر العادل، لأنه لا يتصور اقتضاء الذات للتبين بالإضافة إلى
شخص حكم دون شخص، كيف؟ ومناط تقدم الذات رتبة على العرض جار في
كل حكم. وحينئذ، فانتفاء شخص الحكم في المورد بمنزلة انتفاء السنخ في سائر
المقامات، وحينئذ لا قصور في هذا التقريب لإثبات سلب وجوب التبين عن خبر
العادل. ولكن عمدة الكلام في تمامية هذا التقريب في نفسه، على ما شرحناه.
وأما تقريب مفهوم الوصف المصطلح فهو مبني على القول به في كلية
الأوصاف، ولقد تقدم (1) الكلام فيه في طي باب المفاهيم من مباحث الألفاظ،
فراجع.
وأما تقريب مفهوم الشرط فمع البناء على المفهوم في الشروط كلية
استشكل في خصوص المقام بوجهين:
أحدهما: أن القضية سيقت لبيان وجود الموضوع، نظير: " إن وجد
زيد فأطعمه " وهكذا في كل مورد يكون الحكم عقلا منوطا بوجود الشرط، إذ
العقل حينئذ مستقل بالحكم بانتفاء الحكم بانتفاء الشرط الذي هو موضوع
حكمه، ومثل ذا خارج عن مصب الفهوم المصطلح، الذي هو محسوب من
الدلالات اللفظية.
[ثانيهما]: أن القضية الشرطية في المقام [معللة] بعلة جارية في المفهوم
أيضا، والأمر يدور بين رفع اليد عن عموم العلة بالمفهوم أو العكس، ولا شبهة في
أولوية [الثاني]، لأظهرية لسان العلة في [عمومها] عن دلالة اللفظ على المفهوم،
خصوصا إذا كان بالإطلاق في كلام واحد، كما لا يخفى، هذا. أقول:
أما الإشكال الأول فنقول: إن ما أفيد إنما يتم في فرض ملازمة الحكم في



(1) انظر مقالات الأصول 1: 411.
90
القضية مع وجود الشرط عقلا كالمثال المذكور، إذ حكم الموضوع في الخارج لا
ينفك عن وجوده الذي هو شرطه، ففي مثله لا محيص من سوق القضية لبيان
وجود الموضوع. ونظيره أيضا: " إن ركب الأمير فخذ ركابه ".
وأما لو لم يكن الحكم في القضية ملازما عقلا مع وجود الشرط، كما قيل:
" إن وجد زيد يوم الخميس أو إن ركب الأمير حضور بكر " مثلا، [فكون]
القضية في مثله لبيان وجود الموضوع فرع أخذ الخصوصية الطارئة على الموضوع
من ناحية الشرط في المنطوق في طرف المفهوم أيضا. وعليه يلزم سلب المفهوم في
كلية القضايا الشرطية، إذ لازم ذلك صيرورة القضية في طرف السلب من باب
السالبة بانتفاء الموضوع، المستلزم لانتفاء الحكم بانتفائه عقلا، وهو غير مرتبط
بالمفهوم المصطلح الراجع إلى السالبة بانتفاء المحمول.
مثلا في مثل: " إن جاءك زيد فأكرمه " لو اخذت خصوصية المجئ - الذي
هو مأخوذ في موضوع المنطوق بهذه الخصوصية - في طرف المفهوم يصير المعنى:
" إن لم يجئك [زيد] لا يجب إكرام زيد الجائي " فيكون السلب موضوعيا لا
محموليا، وذلك أقوى شاهد على تجريد الموضوع عن الخصوصية المأخوذة فيه في
المنطوق في ناحية المفهوم، كي يصير المفهوم: عدم وجوب إكرام زيد، فيصير
سالبة بانتفاء المحمول.
وحيث اتضح ذلك فنقول: بعد فرض عدم ملازمة الحكم مع الشرط عقلا
بحيث أمكن وجود هذا الحكم في موضوعه مع انتفاء شرطه، [فلا] قصور في أخذ
المفهوم فيه بعد تجريد الموضوع في طرف المفهوم عن الخصوصية الطارئة عليه في
المنطوق.
وحينئذ ففي ما نحن فيه يقال: إن الحكم لم يكن معلقا على وجود النبأ
مطلقا، كوجود زيد كذلك، كي يلازم الحكم عقلا لوجود شرطه، وإنما علق الحكم
على وجوده الخاص من كون وجوده صادرا من الفاسق، وحينئذ فبعد تجريد

91
الموضوع في المفهوم عن هذه الخصوصية فلا يكون الموضوع في المفهوم إلا ذات
النبأ القابل للوجود بدون الخصوصية في الشرط عقلا، فيصير السلب فيه بانتفاء
المحمول. ولا نعني من المفهوم المصطلح إلا هذا. وعليك بجعل المقياس لأخذ
المفهوم وعدمه ملاحظة هذا التجريد وحفظ وجود الموضوع المجرد في طرف المفهوم.
ومن هذا الباب - أيضا - قوله: " إن وجد زيد يوم الخميس " وأمثاله قبال
أخذه الشرط مطلق وجوده، إذ لا معنى حينئذ لتجريد الموضوع عن الشرط في
طرف المفهوم، كما لا يخفى. والعجب من خريت هذه الصنعة (1) كيف غفل عن
لزوم هذا التجريد في طرف المفهوم؟ فتدبر.
وأما الاشكال الثاني فقد يجاب عنه بحكومة المفهوم على العلة، إذ لازم
عدم وجوب التبين حجية خبر العادل [الملازمة] لتتميم كشفه، فلا يبقى معه
جهل كي [تشمله] العلة.
أقول: ما أفيد إنما يتم لو كانت العلة صرف الجهالة، وأما لو كانت العلة
الجهالة الموجبة للندم، فدليل تتميم الكشف لا يرفع هذه الجهالة. كيف؟ ومع تمكنه
من الاحتياط الموصل إلى الأغراض الواقعية [فإن] العمل على طبق الطريق
- أيضا - يوجب الندم، فكيف [ترفع] العلة المزبورة تتميم كشفه إياه، مع أن
الحاكم إنما يقدم على المحكوم ولو كان أضعف ظهورا في ظرف الفراغ عن قوة نظره
إلى مفاد المحكوم؟ وإلا ففي هذا المقام لا بد من الأخذ بأقوى الدليلين، وحيث كان
كذلك فنقول:
إن المفهوم بعدما كان عدم وجوب التبين، قهرا يصير مثل هذه الجهة كاشفا
عن تتميم الكشف بالملازمة، ولازمه كون العلم به مقدما رتبة على العلم بتتميم
الكشف. وحينئذ لا [تنتهي] النوبة إلى هذا العلم إلا في ظرف العلم بعدم وجوب



(1) انظر فرائد الأصول: 116 - 118.
92
التبين من الخارج. وما هذا شأنه كيف يعقل أن يكون نظر تتميم الكشف إلى مثل
هذا الأثر المعلوم من غير ناحية تتميم الكشف؟ إذ شأن النظر المزبور ليس إلا
انكشاف الأمر نفيا وإثباتا من قبل النظر المزبور. وهذا المعنى في المقام مستحيل.
وحينئذ فمنع الحكومة المزبورة في المقام من جهة قصور نظره، لا من جهة قصور
دلالته على أصل الحكم، كما لا يخفى.
ثم إن هذه عمدة [الإشكالات الواردة] على الآية الشريفة، وإلا فبقية
الإشكالات [موهونة] جدا:
مثل أن لازم المفهوم طرح العمل به في مثل مورده من الشبهات
الموضوعية، علاوة على عدم [شموله] للشبهات الحكمية بقرينة المورد.
ومثل معارضة المفهوم مع الآيات الناهية عن العمل بغير العلم، وأن الظن
لا يغني من الحق شيئا.
ومثل أن تعليق التبين [على] الفسق ملازم لعدم حجية مطلق الخبر، إذ
المراد [بالفاسق] " مطلق الخارج عن طاعة الله "، وغيره منحصر بالمعصوم المفيد
قوله للعلم.
ومثل أن الآية لو [دلت] على حجية خبر العدل [لدلت] على حجية خبر
السيد بالإجماع على عدم حجية خبر العادل، فيلزم من وجوده عدمه.
ومثل أن شرطية التبين في خصوص خبر الفاسق [ملازمة] لتخصيص
الآية بالموضوعات، كيف؟ والفحص في خبر العدل - أيضا - في الأحكام واجب.
ومثل أن المسألة أصولية لا يكتفى [فيها] بالظن.
ومثل أن الآية لا [تشمل] الأخبار مع الواسطة، لأن [شمولها] لكل خبر
فرع ترتب أثر على مضمونه، والمفروض أن المخبر به بالخبر الآخر لا أثر له إلا ما
هو مضمون الآية من قبوله الذي هو حكم للخبر، وكيف يشمل - حينئذ - نفسه؟
وبعبارة أخرى: مرجع وجوب قبول الخبر إلى وجوب ترتيب الأثر عليه،

93
وكيف يشمل الأثر نفس هذا الوجوب؟ كيف! ولازمه كون الحكم داخلا في
موضوع نفسه، وهو كما ترى.
[توضيح] وهن هذه الشبهات بأن يقال:
أما الشبهة الأولى [ففيها]: أن غاية ما يلزم تقييد إطلاقه بضم غيره،
لا تخصيصه المستهجن، وأن سياقه يقتضي عدم الفرق بين الشبهة الحكمية
والموضوعية، ومجرد التطبيق على المورد من [الشبهة] الموضوعية لا يقتضي
اختصاصه [بها]، كما لا يخفى.
وأما الثانية فبأن المفهوم حاكم على الآيات، لأنه [بتتميم] كشفه
المرتكز في أذهان العرف في [طرقهم]، يصير الواقع معلوما ويخرج عن صرف
المظنونية.
وأما [الثالثة]: [فبمنع] كون الفسق مطلق الخروج عن طاعة الله حتى في
الصغائر بلا إصرار، مع أن الخروج المقرون بالتوبة والاستغفار عند وجود ملكة
الاجتناب لا يضر بالعدالة، ويخرج به عن عنوان الفسق، وتوهم احتمال الفسق
بهذا الخبر مدفوع بظهور الآية في الفسق من غير [ناحيته]، مضافا إلى الأمر
بالحمل لكلامه على أحسنه (1)، وأحسنه صدقه، فتأمل.
وأما [الرابعة]: فقد يجاب عنه بأن خبر السيد حدسي لا [تشمله] أدلة
حجية خبر الواحد.
وفيه: أن قرب عهد السيد بزمانهم (عليهم السلام) يخرجه عن الحدسية المحضة، إذ
لا أقل من كونه حدسيا قريبا بالحس.
وأضعف منه جواب آخر من انصراف الآية عن مثله، كيف؟ ويلزم كون
المقصود من الآية الدالة على حجية الخبر عدم حجيته، وهو فضيح في الغاية.



(1) الوسائل 8: 614، الباب 161، الحديث 3.
94
وقيل (1): إن ذلك صحيح لو كان المقصود عدم حجية الخبر على الإطلاق.
وإلا فلو كان الغرض عدم حجيته من حين إخبار السيد، وحجية قبله فلا فضاحة
فيه، خصوصا مع خروج قبل زمان السيد عن مورد الابتلاء، على وجه لا يشمله
خبر السيد جزما، وبذلك يدفع توهم عدم الفصل بينهما من طرف عدم الحجية،
كما هو ظاهر.
نعم لا بأس بدعوى عدم الفصل في طرف الحجية. وحينئذ ربما يمنع ذلك
عن الشمول لخبر السيد لو تم عدم الفصل المزبور. هذا كله ما استفدته من
الأساطين.
أقول: في المقام كلام آخر، وهو أن التعبد بإخبار السيد بعدم حجية الخبر
إنما هو في ظرف الشك [في] الحجية واللا حجية. وبديهي أن هذه المرتبة متأخرة
رتبة عن مضمون آية النبأ، ومع هذا التأخر كيف يعقل لمضمون الآية إطلاق
يشمل مرتبة الشك بنفسه كي يستلزم الفضاحة أو يلتزم بالفصل بين الزمانين في
دفع الفضاحة؟
كما أنه لا يمكن بمثل هذا البيان - أيضا - أن يشمل خبر السيد نفسه، ولو
بنحو القضية الطبيعية، إذ على فرض تسليم إمكان شمول الموضوع ما هو من
شؤون حكمه - نظير كل خبري [كاذب] - نمنع الشمول في المقام بمناط استحالة
إطلاق الشئ لمرتبة الشك [في] نفسه هذا.
ولكن يمكن أن يقال: إن هذا الإشكال - كالإشكال الآتي من شمول دليل
حجية الخبر الخبر بالواسطة، أو شمول الخطاب المتعلق بذات العبادة الأمر المتعلق
بدعوة الآمر بالذات - مبني على جعل مفاد الخطاب الأمر الشخصي الكاشف عن
إرادة شخصه. وإلا فلو أريد من عموم الخطاب بالتعبد [بالخبر] سنخ الأمر



(1) لم نعثر على هذا القائل.
95
الجامع بين فرد متعلق بالخبر عن الواقع وفرد آخر متعلق بخبر آخر في طول هذا
الفرد من الحكم من دون لحاظ الشخصين في هذا الخطاب، بل كان كل منهما
مدلولا بدال آخر، فلا قصور حينئذ لشمول إطلاق خطاب واحد لكلا الفردين
من الحكم بالدالين بلا احتياج إلى تعدد خطاب في البين.
ولقد أوضحنا هذه المقالة في بحث الواجبات التعبدية (1)، فراجع.
وحينئذ، يتضح بمثل هذا البيان دفع الإشكال السابع - أيضا - بلا احتياج إلى
الأخذ بالمناط، أو جعل القضية طبيعية، مع ما فيه من الإشكال المشار إليه آنفا.
ولعمري إن جميع الإشكالات الواردة في أمثال المقامات المزبورة مبني على
تخيلهم بأن الخطابات المزبورة أحكام وأوامر شخصية، فوقعوا في حيص وبيص
في الخبر مع الواسطة وباب [القربة] (2).
ونحن نقول: إنه على هذا المبنى لم غفلوا عما ذكرنا من الإشكال لشمول
الخطاب لمثل خبر السيد، والتزموا فيها بأجوبة مخدوشة؟
ولعمري إنهم لو دققوا النظر وفتحوا البصر وحملوا أمثال هذه الخطابات
- بملاحظة مالها من المصاديق الطولية - على انشاء سنخ الحكم الشامل للفرد
السابق رتبة، والآخر اللاحق - كذلك - لما [ورد] إيراد في أمثال هذه المقامات،
كي يحتاج إلى الجواب عنه - أيضا -: بأنه على طريقية الخبر لا إشكال، إذ كل
لاحق طريق إلى سابقه.
مع وضوح فساد هذا البيان بأن مرجع الطريقية - بعد ما كان تتميم كشفه
على مختاره - إن أريد [منه] تتميم كشفه [بالنظر] إلى أثر مؤداه، فبعد ما لا يكون



(1) راجع مقالات الأصول 1: 239.
(2) يقصد باب الأمر بالأمر بالعبادة، حيث إنه بناء على شرعية عبادة الصبي حينئذ يتحقق
قصد القربة منه.
96
له أثر إلا تتميم الكشف، فكيف يشمل تتميم الكشف نفسه؟
وإن أريد تتميم الكشف ولو بلحاظ أثر غير مؤداه فمن الأول [نلتزم]
تتميم كشف أول السلسلة بلحاظ أمر آخر السلسلة، بلا احتياج إلى اثبات
حجية الوسائط، ولا أظن [التزامه] به، فتدبر.
وأما الاشكال الخامس ففيه: أن ما هو واجب في الأحكام، الفحص عن
المعارض المانع عن حجيته، وهو غير مرتبط بالتبين عن حال الخبر المقتضي لها.
وأما الإشكال السادس ففيه: منع عدم حجية الظن في أصول الفقه،
وما بنوا منعها فيه هو أصول الدين، مع ما فيه من الاشكال - أيضا - كما سيأتي
إن شاء الله.
ومن الآيات التي استدلوا بها على حجية [خبر] الواحد آية النفر (1).
بقرينة أن " لولا " التحضيضية ظاهرة في الترغيب والتحريض [على مدخولها]،
ولازمه مطلوبية النفر [المستتبعة] لمطلوبية التفقه في الدين، حيث إنه الغرض من
النفر المرغوب، وهو مستتبع لمطلوبية الحذر، لأنه غاية تفقهه، وأن الغرض من
الحذر - أيضا - العمل على [طبق] انذارهم، وحيث إنه لا معنى لندب الحذر
- على ما أفاده في المعالم (2) - يتم المدعى وفيه: أن إشراب جهة التخويف في
الإنذار يلازم [كون] جهة فهم المنذر [دخيلة] فيه، وهو يناسب مقام الفتوى
والتقليد، وأجنبي عن مقام حجية خبر شخص لا يعرف معناه، بل يحكي ما سمعه
من ألفاظه، بداهة انصراف الإنذار عن مثله.
وحينئذ ليس وجه الإشكال من هذه الجهة إلا انصراف الإنذار عن حيث
" الحكاية " واختصاصه بحيث " التخويف " المنوط بفهمه، حتى في صورة اجتماع



(1) التوبة: 122.
(2) المعالم: 190.
97
جهة " الحكاية " مع " التخويف " - بحيث تكون الحكاية المخصوصة [متضمنة]
للتخويف - فضلا عن مورد افتراق " الحكاية " عنه، كما أشرنا بالمثال (1).
وحينئذ، فالجواب عن هذا الإشكال: بأن التخويف أعم من الصراحة
والضمنية [أجنبي] عن مصب الإشكال هذا.
مضافا إلى إمكان دعوى إهمال الآية من حيث اقتضاء الإخبار - ولو
[ضمنا] - للتخويف، علما أو ظنا، فلا إطلاق فيها على وجه يشمل الخبر غير
العلمي.
وتوهم أن الآية - بعمومها الاستغراقي - تدل على إنذار كل واحد واحد،
فلا مجال لنفي الإطلاق من حيث إفادة إنذارهم العلم وعدمها، مدفوع بأن العموم
الاستغراقي في وجوب الإنذار لا يقتضي إلا وجوب الإخبار على كل واحد، وأما
كون موضوع الوجوب اخبار كل فرد، حتى في حال الانفراد عن غيره، يحتاج
إلى إطلاق حالي، بالنسبة إلى كل فرد فرد الذي يقتضيه العموم الاستغراقي.
كيف؟ ومع عدم إطلاقه من هذه الجهة، لا يكفي لإثبات المدعى وجوب الإخبار
على كل أحد بنحو الاستغراق، إذ لا منافاة بين العموم المزبور مع هذا [التقييد]،
كما هو ظاهر.
وحينئذ، استفادة وجوب إنذار كل واحد مطلقا، ولو لم ينضم إلى غيره،
يحتاج إلى اطلاق آخر زائد عن العموم الاستغراقي.
نعم بعد ثبوت هذا الإطلاق، لا يبقى مجال الإهمال بحسب حال إفادة خبره
العلم و [عدمها]، إذ من المعلوم أن الخبر الواحد - غالبا - لا يفيد العلم، فإهماله
من هذه الجهة يلازم [تنزيل] الإطلاق والعموم المزبور على المورد النادر،



(1) الظاهر أن مراده من المثال هو ما ذكره آنفا من أن الشخص قد يخبر بأمر وهو لا يعرف
معناه بل يحكي ما سمعه من الألفاظ.
98
والآية تأبى عن ذلك.
وأظن أن المستدل - في اكتفائه [بالعموم] الاستغراقي من الإطلاق - نظره
إلى هذه الجهة الأخيرة، وإلا فلو فتح البصر، ونظر إلى الجهة الأولى، لا أظن
قناعته في تمامية الدلالة بصرف عمومها استغراقا، كما لا يخفى.
وحينئذ، [فلنا] دعوى إهمال الآية من الجهة الأولى، مع كون [عمومها]
استغراقيا، نظير وجوب كل مقدمة بنحو الاستغراق، غاية الأمر في حال [انضمامها
بغيرها]، لا مطلقا، فتدبر.
ثم إن في استفادة مطلوبية المدخول من كلمة " لعل " - إما لما اشتهر [بأنها]
للترجي وهو يلازم المطلوبية، أو من جهة كونه غاية للمطلوب، فلا بد وأن يكون
مطلوبا - كلام آخر، إذ كثيرا ما [تستعمل] هذه الكلمة لمحض إبداء الاحتمال، بلا
كونه غاية لما قبله، ولا فيه جهة إشراب المطلوبية، نظير قوله: " علك أن تركع
يوما "، و " لا تكرم زيدا لعله عدوك "، وأمثال ذلك، مما لا [تقتضي] الكلمة
المزبورة إلا إبداء مجرد الاحتمال.
وحينئذ استفادة مطلوبية الحذر لا بد وأن [تكون] من جهة [خارجية]،
لا من الجهتين المزبورتين.
نعم هنا جهة شبهة أخرى، وهي أنه على تسليم استفادة المطلوبية من كلمة
" لعل " بأحد الوجهين، فلا أقل من إشراب جهة جهل فيه. وهذا المعنى لا يناسب
صدوره من الباري عز اسمه.
ويمكن دفعها بأن المقصود من هذه الكلمة بيان حال المنذرين - بالكسر -
لا بيان حال المتكلم، فكأن الباري - عز جلاله - ألقى هذه الكلمة لبيان حالهم،
بأنه لا أقل من احتمالهم في حق المنذر - بالفتح - لا بلحاظ حال نفسه - عز
جلاله -.
ومن جملة ما استدلوا [به] على حجية [خبر] الواحد " آية السؤال "

99
[من] قوله: عز اسمه: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * (1).
وقيل (2): بأن المراد من أهل الذكر هم الأئمة (عليهم السلام) خصوصا مع ظهوره في
حصول العلم من قولهم ورفع الجهل عنهم بكلامهم، وليس ذلك إلا شأن المعصوم،
وإلا فغيره لا يفيد بنفسه - بلا انضمام بكلام غيره - غالبا علما بما أخبر.
مع أن الظاهر من أهل الذكر - على فرض الشمول لغيرهم - ليس مطلق
العامي غير الملتفت إلى معنى ما أخبر به، بل لا يكون ملتفتا إلا إلى ألفاظه المحكية.
وحينئذ ظاهر الآية دخل العلم بما أفاد في المسؤول عنه. ومن هذا شأنه
ليس إلا المفتي بالنسبة إلى مقلده، لا مطلق الخبر والحكاية عما وقع، ولو لم يلتفت
إلى معناه. فلا [ترتبط] الآية - كالآية السابقة - بمقامنا.
ولكن يمكن أن يقال بأن الرواة في الصدر الأول - غالبا - من أهل الذكر
بحسب زمانهم، لكفاية صدقه بمجرد التفاتهم [إلى] مضامين الأخبار الواردة
عليهم، أو [إلى] مضامين كلمات الإمام الصادرة منه بمحضرهم. وحينئذ فمع هذه
الغلبة أمكن حمل هذا القيد على الغالب، كما لا يخفى، فيتعدى حينئذ إلى العامي
البحت بعدم الفصل.
نعم إنما الإشكال أيضا في إطلاقها من حيث وجوب اتباعه، ولو منفردا عن
غيره، أو إهمالها من حيث انضمامه بخبر غيره المفيد قولهم العلم، كما هو المنساق
من الآية: بأنهم يسألون حتى يعلموا، نظير ما ذكرنا في الآية السابقة، فتدبر.
وهنا - أيضا - بعض آيات أخرى، استدلوا بها على حجية [خبر] الواحد،
ووضوح الاشكال فيها منعنا عن التعرض لها، وأوكلناه إلى المطولات، فراجع
إليها وتدبر فيها. هذا كله في الاستشهاد للمدعى بكتاب الله عز اسمه.



(1) النحل: 43. والأنبياء: 7.
(2) قاله الشيخ في الفرائد: 133.
100
المقالة العاشرة
حجية خبر الواحد من السنة الشريفة والإجماع

101
[المقالة العاشرة]
[حجية خبر الواحد من السنة الشريفة والإجماع]
استدلوا لحجية [خبر] الواحد من السنة بأخبار قريبة من التواتر ولا أقل
من كونها متواترة إجمالا، بحيث يعلم إجمالا بصدور واحد منها. ولازمه الأخذ بما
اتفق مضمون الجميع فيه، إذ هو المتيقن في البين.
وحينئذ فلا بد من الأخذ بخبر العادل الموثوق صدوره على وجه يطمئن به،
وإلا فلا مجال للاستشهاد بالسنة على مطلق خبر العدل، ولا مطلق ما يوثق
[بصدوره] أو يطمئن به، وإن لم يكن عدلا.
ثم لو قام مثل هذا الخبر المتيقن من السنة على حجية كل طائفة
مطلقا يؤخذ به، وإلا فلا مجال للتعدي عن مورد اليقين [إلى] غيره، كما هو
ظاهر.
وحينئذ لا يبعد وجود مثل هذا الخبر في زمرة الأخبار الدالة على حجية
الخبر الموثق وإن لم يكن عدلا، فيتم المدعى في الجملة بمثل هذا التقريب في السنة،
والاستشهاد بمثله في قبال توهم إطلاقات الكتاب، فتأمل.
ومن الاجماع ما ظهر منهم ببيانات:

103
منها: الاجماعات المتكررة في كلمات الشيخ (1) ومن تبعه (2)، قبال إجماع
السيد على عدم الحجية.
وربما استشكل في المقام - أيضا - في وجه الجمع بين إجماعي العلمين، مع
قرب عهدهما على وجه يستبعد غفلة اللاحق عن الاجماع السابق.
وربما وجه (3) الجمع المزبور بحمل دعوى إجماع السيد على عدم حجية
الخبر [غير] المحفوف بقرائن موجبة للوثوق بصدوره عن الإمام، وأن غرضه من
هذه الدعوى الكلية ابتلاؤه بأخبار مجعولة من العامة على نحو لا يتمكن من ردهم
إلا بأن يدعي مثل هذا الاجماع المنطبق على مثل هذه الأخبار، [و] أن إجماع
الشيخ على الحجية محمول على المحفوف بما يوجب الوثوق بصدوره عن الامام.
وحينئذ فلا تهافت بين الإجماعين المتقاربين عصرا، مع جلالة [شأنهما]
عن الغفلة فيما [ادعياه]، كما لا يخفى.
وأما توهم جمع آخر بحمل كلام السيد على زمان الانفتاح، وكلام الشيخ
على زمان الانسداد المنقطع يدهم [فيه] عن الوصول إلى الإمام أو نوابه
المخصوصين، ففي غاية البعد، إذ المستفاد من مجموع الأخبار بناء أصحاب الأئمة
على العمل بأخبار الآحاد في الجملة، كما أشرنا إليه، فلا مجال لدعوى عدم حجية
خبر الواحد في زمان الانفتاح.
وتوهم حمل بناء الأصحاب - أيضا - على العمل بالخبر المزبور عند عدم



(1) انظر العدة 1: 337.
(2) كابن طاووس والعلامة المجلسي كما نقل عنهما وعن غيرهما في فرائد الأصول: 156 -
157.
(3) انظر فرائد الأصول: 155 - 156.
104
[تمكنهم] من الوصول إليهم كما يومئ إليه قوله في ذيل أخبار الترجيح: " فارجه
حتى تلقى إمامك " (1) الظاهر في أن العمل بالمرجحات عند عدم وصول يدهم إلى
الإمام، فكذلك في أصل العمل بالخبر بلا معارض، لعدم مجال للفرق بينهما، إذ
الخبر الراجح بحكم غير المعارض [مدفوع] أيضا بأن اختصاص مورد
الترجيح بصورة عدم التمكن من الوصول إليهم لا يقتضي تخصيص حكمه به، فمن
الممكن أوسعية دائرة الحجية - بترجيح أو غيره - عن مورد فرض الراوي
سؤاله في صورة عدم تمكنه [من] الإمام فعند تحيره - لتساوي المرجحات - أمره
بالتوقف حتى يلقى إمامه.
وحينئذ، فالمطلقات في السنة المتواترة - ولو إجمالا - هي المحكمة، ومع هذه
المطلقات يبعد - كمال البعد - حمل كلام مثل السيد الجليل على خلافها، فتدبر.



(1) الوسائل 18: 75، الباب 9، الحديث 1.
105
المقالة الحادية عشرة
حجية خبر الواحد من السيرة

107
[المقالة الحادية عشرة]
[حجية خبر الواحد من السيرة]
ومما استدل [به] لحجية [خبر] الواحد بناء [سيرة] المتشرعة، وإطباقهم
على العمل بأخبار الآحاد، حتى في مقام نقل فتوى المجتهد إلى مقلديه، بل وفي
كل مورد كان له دخل في استنباط حكم كلي شرعي، كما هو الديدن في أخذ معاني
مواد اللغات من اللغوي، وهيئاتها من الصرفي والنحوي، وحالات رجال السند
من علماء الرجال. [بلا كون] ديدنهم على الالتزام بالبينة في مثل هذه الموارد،
ولو من جهة توهم كون الشبهة موضوعية في كثير من الموارد، إذ مرجعية البينة
إنما [هي] في شبهات لا [تنتج] حكما كليا شرعيا وأما فيها: فدليل البينة
[قاصر عن] الشمول لمثلها. بل المرجع فيها ما ارتكز في ذهنهم من العمل [بخبر]
الواحد في شرعياتهم، ولو بملاحظة بنائهم عليه في أمور معاشهم.
ومن هذا البيان ظهر أن مرجع بناء العقلاء أيضا إلى هذه السيرة، إذ المتبع
منهم استقرار بنائهم بارتكاز ذهنهم في شرعياتهم، وإلا فلولا هذا الارتكاز
الموجب لبنائهم المزبور، لما كان بناؤهم في أمور معاشهم على شئ بمتبع، لولا
إمضاء طريقتهم.

109
وتوهم استكشاف هذا الإمضاء بعدم ردعهم - ولو بمقدمات الإطلاق
المقامي - إنما يصح في فرض بنائهم في شرعياتهم أيضا على طبق مرتكزاتهم، إذ
في مثل هذه الصورة على فرض المخالفة يحتاج إلى الردع الموجب لانصرافهم عن
البناء في شرعياتهم، [فما] لم [ينصرفوا] عن البناء في الشرعيات [كشف ذلك]
عن عدم وصول الردع إليهم.
ولازم ذلك: استقرار بنائهم - بما هم [متشرعون] - على العمل بالخبر.
ولا نعني من السيرة إلا ذلك، ومن شؤونها أنها [بوجودها ملازمة] لعدم الردع.
[وما] لا يكون بوجوده ملازما لعدم الردع هو بناؤهم في أمور معاشهم
محضا. ومن المعلوم أن عدم الردع [عنه] - حينئذ - لا يكشف عن إمضاء
طريقتهم، لعدم تمامية مقدمات الإطلاق المقامي في مثله، إذ تماميتها إنما هو في
ظرف بنائهم على العمل في شرعياتهم - أيضا - لا مطلقا.
وعليه: فصح لنا دعوى عدم حجية بناء العقلاء بما هم عقلاء، في أمور
معاشهم إلا بعد ثبوت إمضاء طريقتهم من الشرع. وإثبات ذلك [بمقدمة] عدم
الردع - حينئذ - دونه خرط القتاد.
نعم كشف عدم الردع عن الإمضاء إنما هو في فرض بنائهم بارتكاز ذهنهم
في شرعياتهم أيضا، وفي هذه الصورة نقول:
إن استقرارهم على هذا البناء ملازم مع عدم الردع، الملازم للإمضاء،
ومرجع ذلك إلى بنائهم على شئ بما هم متدينون، لا بما هم عقلاء. ولا نعني من
السيرة إلا هذا، كما أسلفناه.
ثم إنه ربما يؤيد السيرة المزبورة سيرة الأعلام على تمسكهم [في] الحلال
والحرام بخبر الواحد من أول تأسيس الاستنباط والاجتهاد من غير نكير لهم في
الصدر الأول.

110
نعم في الأزمنة المتأخرة بواسطة بعض الشبهات [التزم] بعضهم (1) بمرجعية
الخبر، من باب حجية مطلق الظن، ولكنه لا يوجب مثله رفع اليد عما عليه طريقة
السلف المغروس في أذهان أعلامهم: من مرجعية [خبر] الواحد عندهم، بلا
تعديهم إلى مطلق ما يفيد الظن، كما لا يخفى. وحينئذ، لك أن تجعل ذلك - أيضا -
من البيانات للإجماع المدعى في المقام.
ثم إنه قد يتوهم - في المنع عن حجية بناء العقلاء بما هم عقلاء - [صلاحية]
الآيات الناهية للرادعية.
ولا يخفى ما فيه، بأن ذلك إنما يتم لولا انغراس العمل في شرعياتهم - أيضا -
على طبق بنائهم في معاشهم، وإلا فمع هذا الارتكاز لا يبقى مجال لارتداعهم بمثل
هذه النواهي، بل بمثل هذا الارتكاز يرون الواقع منكشفا وخارجا عن مورد
" ما ليس لهم [به] علم "، وكونه ظنا محضا، فيرون حكومة [خبر] الواحد على
العمومات المزبورة بارتكازهم.
نعم لو اغمض عن هذا الارتكاز، أمكن دعوى رادعية الآيات، لأن
رادعيتها [منوطة] بعمومها للمورد، وهو مستند إلى ظهورها الذي فيه اقتضاء
الحجية تنجيزا. ومع هذا الاقتضاء التنجيزي لا يصلح أن يقدم عليه بناؤهم على
حجية الخبر حكومة أو تخصيصا، لأن مقتضي الحجية - في مثل هذا البناء - معلق
على عدم الردع وسقوط مقتضي حجية الظهور عن التأثير.
ومن المعلوم أن المقتضي التعليقي لا يصلح أن يزاحم المقتضي التنجيزي،
بل المقتضي التنجيزي لا يزال يؤثر أثره ويرفع موضوع المقتضي التعليقي.
ومن هذا البيان ظهر بطلان توهم عدم الرادعية، بخيال [استلزامها]



(1) كالمحقق القمي في القوانين 1: 239 - 240.
111
الدور. كيف! وهذا الدور، بعينه جار في طرف تخصيصه الآيات.
وتوهم أن [استحالة] الدور في طرف الرادعية [تقتضي] عدم الدور في
المخصصية، لأن المخصصية وإن [توقفت] على عدم الرادعية، ولكن عدم الرادعية
لا يتوقف على المخصصية، بل مستند إلى [استحالتها]، للدور مدفوع بأن ذلك
فرع تشكيل الدور - بدوا - في طرف الرادعية، وإلا فلو شكل الدور - بدوا - في
المخصصية، ويقال: إن الرادعية [منوطة] بعدم المخصصية. ولو توقف عدم
المخصصية [على] الرادعية، لدار. فلا محيص من استناده إلى استحالته الذاتية،
للدور. فيلزم - أيضا - ارتفاع الدور في الرادعية.
وحينئذ لك أن تقول: أن [استحالة] الدور في كل طرف - أيضا -
[دورية]، وحينئذ، لا محيص إلا بأن يقال - في أمثال الباب - بعدم التوقف رأسا
بل كان الباب من قبيل المتضادين الملازم وجود كل واحد مع عدم الآخر بلا
توقف في البين.
وبعد ذا نقول: إن المقتضي في كل واحد مزاحم للآخر لو كانا تنجيزيين،
وإلا فلو كان أحدهما تنجيزيا والآخر تعليقيا، كان المقتضي التنجيزي مقدما في
التأثير، وواردا على التعليقي، كما لا يخفى.

112
المقالة الثانية عشرة
حجية خبر الواحد من العقل

113
[المقالة الثانية عشرة]
[حجية خبر الواحد من العقل]
ومما يستدل به على حجية [خبر] الواحد العقل، بتقريبات منها:
العلم الاجمالي بصدور جملة من الأخبار التي [هي] بأيدينا. ومقتضى
العلم المزبور الأخذ بجميعها، تحصيلا لليقين بالبراءة عما [اشتغلت] به الذمة.
وأورد عليه: بأن في المقام علما إجماليا آخر، من جهة ضم طائفة أخرى
من الأمارات بدل مقدار من الخبر، بمقدار المعلوم بالإجمال، فيجب - حينئذ -
الاحتياط في مجموع العلمين، لا في خصوص الأخبار.
وقد يجاب عنه: بأن لازم العلمين انحلال الدائرة الكبيرة بالصغيرة. ولا
يخفى ما في هذا الجواب من أن قاعدة الانحلال إنما تجري في صورة انحصار العلم
الصغير بعلم واحد في الدائرة الكبيرة، على وجه يحتمل انطباق المعلوم الكبير،
بتمامه، على الصغير. وفي المقام ليس الأمر كذلك، إذ بعزل طائفة من الخبر،
وضم طائفة من الأمارات يحدث علم آخر غير العلم الحاصل في دائرة الخبر،
فلا بد - حينئذ - من مراعاة العلمين، وهو لا يحصل إلا [بالاحتياط] في الجميع.
نعم الذي ينبغي أن يقال: إن الأمارات القائمة مقام مقدار من الخبر تارة

115
- من حيث الحكم - مختلفان ولو في الجملة، وأخرى متوافقان.
فعلى الأول: لا محيص من الاحتياط في الدائرتين تحصيلا للفراغ عن
المعلومين.
وأما على الثاني: فلا مقتضي للاحتياط، إلا بالأخذ [بإحدى] الدائرتين
[تخييرا]، لأنه بكل [واحدة] يحصل الفراغ اليقيني عما اشتغلت الذمة به [بلا]
احتياج - حينئذ - إلى الجمع بين الدائرتين، كما لا يخفى.
ثم إن في جريان الأصول المثبتة الشرعية في دائرة الخبر إشكال آخر من
جهة أن قضية العلم بالصدور [هي] العلم بحجية ظاهر لفظه، وهذه الحجة
الشرعية المعلومة إجمالا في هذه الدائرة حاكمة على الأصول الشرعية مطلقا،
مثبتة أم نافية، فقهرا يقع مجموع الأصول الجارية في تمام الأطراف من [النافية]
و [المثبتة] طرفا لما علم في البين من وجود أمارة شرعية حاكمة على الأصول،
فقهرا ينتهي الأمر إلى سقوط أحد الأصول مثلا عن الاعتبار الموجب لسقوط
الجميع، لعدم المرجح، هذا.
ولكن يمكن أن يقال: إن الأصول النافية من الأول غير [جارية]، لمانعية
العلم عنها، فلا يبقى في البين إلا الأصول المثبتة الجارية في بعض الأطراف. ومن
المعلوم عدم ثبوت حجية ظهور على [خلافها]، ومجرد العلم الاجمالي بوجود
أمارة محتملة الانطباق في غير هذا المورد لا يوجب سقوط مثل هذا الأصل مع
إطلاق دليله.
نعم لو كان الأصل المثبت جاريا في تمام الأطراف كان لما أفيد وجه، وذلك
لولا دعوى إمكان تقييد دليل الأصل في مقدار ما هو طرف المعلوم بصورة عدم
العمل بالطرف الآخر، فلازمه حينئذ [التخيير] - في العمل بالأصول المثبتة - بين
الطائفتين، من دون اقتضاء الحكومة المزبورة سقوط الجميع، كما لا يخفى.

116
نعم لا بأس بالعمل بالأصول المثبتة في دائرة غير الأخبار، من سائر
الأمارات بناء على التحقيق من عدم مانعية العلم الاجمالي بالأحكام الواقعية
عن جريانها في تمام أطرافها، فضلا عن [بعضها] فتدبر.
ومن التقريبات ما يقرب [من] التقريب السابق، بدعوى العلم الاجمالي
بالتكاليف، خصوصا بالأصول الضرورية: كالصلاة والصوم وأمثالهما، ولا يحصل
الفراغ إلا بالرجوع إلى الأخبار الواردة في شرحها، وإلا يلزم خروج الأصول
المزبورة عن حقائقها.
وفيه: أن مرجع هذا التقريب إلى التقريب السابق في دائرة أخص منها، فمع
وجود التقريب السابق، لا [تنتهي] النوبة إلى هذا التقريب.
كما أن الجواب عن التقريب الأول واف بجوابه، بلا احتياج إلى التكرار.
ومنها: أنا نعلم بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة، فمع التمكن من العلم
بها (1) تفصيلا فهو، وإلا فيجب التنزل إلى تحصيل الظن بها.
أقول: إن أريد من السنة - الواجب رجوع المكلف [إليها] -: السنة
الحاكية، فمرجعه إلى العلم الاجمالي بوجود حجة في دائرة الأخبار.
ويمتاز - حينئذ - هذا التقريب عن سابقيه بامتياز معلومية الصدور
والحجية. ولازمه - حينئذ - لزوم الأخذ بالمتيقن مطلقا، ومع عدم الوفاء بالفقه
فبالمتيقن بالإضافة، ومع عدم وجود متيقن واف بالفقه رأسا فينزل إلى الظن
بالحجية. وذلك على فرض تمامية مقدمات الانسداد في خصوص دائرة الطرق،
وإلا لا وجه للرجوع إلى الظن [بها] بخصوصه، كما لا يخفى.
وإن أريد من السنة: السنة المحكية، فمرجعه إلى العلم بوجوب الرجوع إلى



(1) الظاهر أن مرجع الضمير هو " السنة ".
117
فعل المعصوم وقوله وتقريره واقعا، فيصير هذا من تقريبات مقدمات الانسداد
[الآتية] إن شاء الله، بل يكون أخص من التقرير في كلية الانسداد، إذ العلم
بالحكم دائرته أوسع من العلم بالسنة، وحينئذ فمع تمامية تلك المقدمات لا
[تنتهي] النوبة إلى هذا التقرير، [كما] أنه لا مساس لذلك بخصوص حجية
الأخبار [التي هي] المدعى فعلا.
ثم إن في المقام تقريبات أخرى منتجة لحجية مطلق الظن بخيال المقرب،
فينبغي جعلها في طي مقالة مستقلة فنقول:

118
المقالة الثالثة عشرة
حجية مطلق الظن

119
[المقالة الثالثة عشرة]
[حجية مطلق الظن]
من جملة ما استدلوا [به] على حجية مطلق الظن: هو أن في مخالفة المجتهد
للحكم الإلزامي مظنة الضرر، ودفع الضرر المظنون واجب.
وفيه أنه لا [تتم] صغراه لو أريد الضرر الدنيوي، ولا [تتم] الكبرى لو
أريد الضرر الأخروي، إلا بضم بقية مقدمات الانسداد على فرض تماميتها.
ومنها: أنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح. وذلك
- أيضا - مبني على ثبوت لزوم الأخذ بأحد الطرفين [تعيينا]. وإلا فمع احتمال
[التخيير] بحلية المشكوك [لا] ينتهي الأمر إلى أصل الترجيح، فضلا عن ترجيح
المرجوح.
ومنها: أن مقتضى الجمع بين العلم الاجمالي بالتكاليف وعدم التمكن عن
تحصيل الموافقة القطعية، التنزل إلى تحصيل الظن بالموافقة.
وفيه: أن هذا البيان يرجع إلى لزوم التبعيض في الاحتياط، والأخذ
بصرف المظنون، وهو كذلك لو بقي العلم الاجمالي بحاله، وإلا فمع انحلاله بوجود
[حجة] أخرى - على ما سيأتي بيانه في الدليل الرابع المعروف بدليل الانسداد -

121
لا يبقى مجال للتبعيض المزبور، كما لا يخفى.
ومنها: دليل الانسداد المعروف، وبه نستعين وعليه التكلان، وهو الدليل
الرابع من أدلة حجية مطلق الظن، المعروف بدليل الانسداد، المنوط إنتاجه
لديهم بطي مقدمات أربع (1)، مع اختلافهم في تمهيد هذه المقدمات بجعل العلم
الاجمالي من المقدمات من بعض (2)، وإسقاطه من آخر (3).
أقول: أولا: أن مدرك بطلان الخروج من الدين إن كان هو العلم
بالتكاليف - ولو إجمالا - المانع عن جريان الأصول النافية في أطرافه، فلا محيص
من جعل العلم المزبور من المقدمات.
وحينئذ نتيجة ذلك - بعد ضم المقدمة الأخرى من عدم لزوم الاحتياط،
للحرج - ليس إلا تبعيض الاحتياط، الراجع إلى كون الظن [بالآخرة] مرجعا في
مقام الإسقاط، وإلا فالمثبت للتكليف ليس إلا العلم المزبور.



(1) هي: أولا: انسداد باب العلم والعلمي بمعظم الأحكام الشرعية.
ثانيا: عدم جواز إهمال التكاليف في الوقائع المشتبهة والرجوع في كل منها إلى البراءة.
ثالثا: بطلان الرجوع إلى الوظائف المقررة للجاهل بالاحكام من الاحتياط التام في
جميع الوقائع والرجوع إلى فتوى الغير أو الرجوع في كل مسألة إلى الأصل الجاري فيها من
البراءة والاستصحاب والتخيير ونحوها.
رابعا: قبح ترجيح المرجوح على الراجح بالأخذ بالموهومات والمشكوكات.
فيتعين العمل بالظن، وقد يضاف إليها مقدمة أخرى خامسة وهي: العلم الاجمالي
بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة في الوقائع المشتبهة. (نهاية الأفكار القسم الأول من
الجزء الثالث: 145).
(2) كالمحقق الخراساني في الكفاية: 356.
(3) كالشيخ الأنصاري في فرائد الأصول: 183.
122
و - حينئذ - لا [تكاد تنتهي] النوبة إلى منجزية الظن، وإنما هو مرجع
في مقام إطاعة ما [تنجز] في حقه بالعلم المزبور.
بل - وبناء على ذلك أيضا - لا معنى لكشف مرجعية الظن من قبل الشرع،
إذ لا مجال لتصرف الشارع وجعله مولويا في مرتبة تحصيل الفراغ عما ثبت
بالعلم أو غيره، بل المرجع في مثله هو العقل المستقل بالحكم في باب الإطاعة بلا
تصرف من الشارع في هذا المقام.
وحينئذ فالنزاع المعروف في الكشف والحكومة لا يكاد يجري على هذا
المسلك إلا على تقدير قيام الظن على تعيين المعلوم بالإجمال في مورده، إذ
حينئذ للشارع تعيين [المفرغ] بلسان جعل البدل، كما هو الشأن في كل علم
إجمالي، بل وفي العلوم التفصيلية أيضا كما أسلفنا. وإلا ففي كل مورد لا يكون
الظن قائما بتعيين المعلوم بالإجمال، بل غاية الأمر قيام الظن على مجرد وجود
التكليف في مورده، مع احتمال كونه غير ما هو معلوم اجمالا، فلا [تكاد تكون]
مرجعية الظن إلا بملاحظة كونه من محتملات [المعلوم] المتنجز فعله، وفي مثله
يستحيل تصرف الشارع فيه، مع فرض الفراغ عن منجزية العلم به. وهو ظاهر
واضح. وحينئذ بعد الجزم بأن النزاع المعروف بينهم كان في مثل هذا الفرض، لا
يكاد يجري النزاع المزبور على هذا المسلك، كما لا يخفى.
نعم لو لم يكن مدرك بطلان الخروج من الدين مثل هذا العلم الاجمالي
بالتكاليف، ولو من جهة الجزم بأنه لو لم يكن في البين مثل هذ العلم، أو لم يكن
العلم الاجمالي منجزا أصلا أيضا، [و] قام الاجماع على بطلان الخروج من
الدين، فلا شبهة في أن مثل هذا الاجماع [التقديري] كاشف عن وجود منجز
بمقدار المعلوم بالإجمال في البين.
وحينئذ لازمه انحلال العلم المزبور بوجود مثل هذا الطريق الاجمالي القائم

123
في أطراف العلم المزبور، فيخرج العلم به حينئذ عن المنجزية. وحينئذ يسقط
العلم الاجمالي عن المقدمية، بل لا بد في الاكتفاء في المقدمة الأولى بقضية بطلان
الخروج المزبور.
ولازمه حينئذ أيضا عدم جريان التبعيض في الاحتياط بمناط مرجعية
الظن في مقام الإسقاط.
بل على فرض انتهاء النوبة إلى مرجعيته، بضم بقية المقدمات، يكون الظن
مرجعا في مقام الإثبات، إذ الفرض خروج العلم السابق بانحلاله عن المثبتية.
وحينئذ ربما يجري على هذا المسلك النزاع المعروف من الكشف والحكومة،
إذ لتصرف الشارع في هذه المرحلة مجال.
وحيث اتضح هذا المقدار فنقول:
إن بنينا على انحصار الطريق المنجز بالعلم بالواقع، ولو جعليا بتتميم كشفه،
أو قلنا بالتكاليف الطرقية، بناء على أن وجه منجزيتها منحصر باقتران الواقع
بالبيان الشرعي الواصل إلى المكلف، كما أشرنا إليه في مبحث القطع. وقلنا أيضا
بقيام الاجماع على عدم مرجعية الاحتياط، ولو لم يكن حرج في الأخذ بمحض
احتمال التكليف - الأعم من الواقعي والظاهري - فلا محيص من استكشاف جعل
بيان من قبل الشرع واصل إلى المكلف، ولو من جهة [إيكال تعيينه] إلى العقل.
وحيث إن من المحتمل جعل طرق عرضية من الشرع، فلا محيص من كون
الطريق المجعول واصلا بنفسه، إذ معنى [الإيكال] إلى العقل [تعيين] إيصاله إلى
المكلف بتوسيط عقله. وحينئذ فبالمقدمة الأخيرة يتعين في الظن بالواقع أو الظن
بالطريق المحتمل جعله من قبل غير مقدمات الانسداد.
نعم لو احتمل في البين جعل طرق - ولو طولية - فلا بد وأن يكون الطريق
المجعول من قبل هذه المقدمات واصلا إلى المكلف ولو بطريقه، إذ مرجعه إلى

124
[ايكال] تعيين الطريق الواصل إلى المكلف إلى العقل ولو كان قائما على المجعول
الآخر المحرز أيضا بمقدمات الانسداد. وحينئذ يتعين هذا الطريق إلى الطريق
بالظن، دون الطريق الآخر، وهذا معنى الواصل ولو بطريقه.
نعم لو احتمل جعل طريق لم يوصل أصلا إلى المكلف، بمعنى عدم [إيكال
تعيينه] إلى العقل أصلا لا [تكاد] حينئذ [تنتهي] النوبة إلى تعيين الظن أصلا،
لكن لازم ذلك ابتلاء المكلف بالعلم الاجمالي في دائرة الطرق، فحينئذ لا بد من
الأخذ بالمتيقن ولو بالإضافة. ومع عدم التيقن في البين [ينتهي] الأمر - بضم أدلة
[الحرج] - إلى التبعيض في الاحتياط في دائرة الطرق المحتملة، على فرض كون
مدرك الاجماع السابق قاعدة نفي الحرج، إذ لا محيص - حينئذ - من مرجعية
الاحتياط ولو تبعيضا في دائرة الطرق المجعولة المستكشفة.
ولكن الانصاف - على فرض تمامية الاجماع المزبور - عدم الأخذ
بالاحتياط والاحتمال ولو تبعيضا، حتى في دائرة الطرق.
وحينئذ، من نتائج هذا المسلك سقوط قاعدة نفي الحرج - أيضا - عن
المقدمية في باب الانسداد، بل عمدة المقدمة - حينئذ، علاوة عما ذكرنا - هذا
الاجماع الموجب للرجوع إلى الطريق الواصل بنفسه أو بطريقه، بلا وصول النوبة
إلى طريق لم يوصل.
ثم إن ذلك أيضا نتيجة انحصار الطريق المنجز للواقع بالعلم بالواقع ولو
جعليا بتتميم كشفه، أو بالأمر الطريقي الكاشف عن الواقع في ظرف الوجود، على
أحد المسلكين السابقين، إذ - حينئذ - ليس للعقل نصيب في إثبات المنجز، بل ذلك
ليس إلا شأن الشارع، ولذا: لا محيص على هذا المسلك - كما أشرنا إليه في المقام
وفي أوائل مسألة القطع - إلا من الكشف في باب الانسداد، ولا يبقى مجال لتوهم
الحكومة أصلا.

125
وأما لو قلنا بإمكان وجود منجز آخر غير مجرد تتميم الكشف والعلم
الجعلي التنزيلي ولو بمثل الأمر الطريقي الكاشف عن اهتمام الشارع بحفظ مرامه
حتى في مرتبة الجهل بخطابه - على ما أسلفنا بيانه في أوائل القطع - فلا شبهة حينئذ
أن أمر التنجيز يدور مدار هذا الاهتمام.
وحيث كان بطلان الخروج من الدين كافيا في إثبات هذا المعنى، فيكفي
- حينئذ - احتماله منجزا عقلا بلا احتياج حينئذ إلى جعل من قبل الشارع بأي
لسان: من تتميم كشف أو جعل حجية أو صرف أمر بالعمل بكذا. ولا نعني
- حينئذ - من حكومة العقل - أيضا - إلا هذا المقدار، كحكمه بوجوب النظر إلى
المعجزة، بلا جعل شرعي في البين أبدا.
وحينئذ، مجرد احتمال [إيكال] الشرع أصل الطريق إلى العقل كاف في منع
كشف المقدمات المزبورة عن جعل شرعي، كما هو ظاهر.
وبعد ما اتضح ذلك فنقول أيضا: إن مراتب الاهتمام في حفظ مرامه ربما
[يختلف]:
فربما يكون الاهتمام بمقدار يكون الشارع في مقام حفظ مرامه حتى في أبعد
المحتملات.
وأخرى لا يكون الاهتمام بهذه المثابة، بل المتيقن كونه حافظا في دائرة
الأقرب منها.
لا طريق إلى الأول. كيف؟ ولازمه الأخذ بجميع المحتملات المستتبع
للحرج، الكافي في الكشف عن عدم الاهتمام بهذه المثابة. وعليه: يتعين في البين
الاحتمال الأخير، كما لا يخفى.
وحينئذ، لا محيص من مرجعية الظن دون غيره، لعدم إحراز الاهتمام الذي
هو مناط حكومة العقل في غير الظنون.

126
وحينئذ، يستنتج من هذه الجهة مرجعية الظن لدى العقل، بلا احتياج إلى
المقدمة الأخيرة أيضا.
كما أنه لا ينافي هذه الحكومة - أيضا - قيام الاجماع السابق على عدم البناء
على الأخذ بالاحتمال، إذ المتيقن من الاجماع المزبور عدم الأخذ بصرف الاحتمال،
بلا إحراز الاهتمام المزبور المصحح لجعل الطرق والأصول - أيضا - كما تقدم.
وحيث عرفت ما ذكرناه من تشريح المرام في هذا المقام عرفت أن في باب
الانسداد مسالك، لكل مسلك لا بد من تشكيل مقدمات مخصوصة به.
منها: مسلك التبعيض في الاحتياط بمناط منجزية العلم الاجمالي،
ومرجعية الظن في مقام [الإسقاط]. فمثل هذا المسلك يحتاج إلى مقدمات:
منها: العلم الاجمالي.
ومنها: لزوم الحرج في الجمع بين المحتملات أجمع وحكم العقل عند الدوران
بين الأخذ بالأقرب والأبعد بتعيين الأقرب.
وفي هذا المسلك يخرج بطلان الخروج من الدين عن المقدمية، بل إنما هو
من لوازم منجزية العلم المزبور.
ولكن قد عرفت أن هذا المسلك منوط ببقاء العلم على منجزيته، وهو فرع
كون مدرك بطلان الخروج من الدين هذا العلم. وإلا فلو قام إجماع على البطلان
المزبور - ولو لم يكن علم في البين - [لزمه] استكشاف وجود منجز آخر في البين
الموجب لانحلاله، المخرج له عن المنجزية.
هذا مضافا إلى أن منجزية هذا العلم فرع عدم ورود ترخيص على بعض
أطرافه بنحو التعيين. وإلا لا مجال لمنجزيته أيضا.
وحينئذ نقول: لازم قاعدة الحرج بضم المقدمة الرابعة إن كان ورود
الترخيص نحو الأبعد على الإطلاق فذلك مانع عن منجزية العلم جزما. وإن كان

127
ورود الترخيص نحو الأبعد في ظرف عدم الإتيان بالأقرب فهو مع كونه مستتبعا
لنحو من الترتب في حكم العقل بمتابعة العلم المزبور لأوله إلى وجوب اتباع
المظنون مطلقا، وفي [ظرف] مخالفته يجب اتباع غيره، لا أظن التزامه من أرباب
الانسداد، إذ تمام همهم مرجعية الظن على الإطلاق، والرخصة في مخالفة غيره
أيضا على الإطلاق. ومن البديهي أن لازمه ورود الترخيص في ترك غير المظنون
على الإطلاق المانع عن منجزية العلم.
وحينئذ لك أن تقول: إن المقدمات المزبورة لا تكاد تنتج ذلك، وعليه:
فأبعد المسالك، بل أردأها هذا المسلك.
ومنها: مسلك مرجعية الظن في مقام الإثبات مع كشف المقدمات عن
جعل شرعي.
وهذا المسلك منوط بمقدمات:
منها: قيام الاجماع على بطلان الخروج من الدين المستتبع لإسقاط العلم
عن المنجزية والمقدمية.
ومنها: انحصار المنجز بالعلم، أو بجعل حكم طريقي - على أحد الوجهين في
منجزيته كما تقدم - ولو جعليا الذي ليس شأن جعله إلا للشرع، بلا نصيب للعقل
في ذلك.
ومنها: قيام الاجماع على عدم مرجعية الاحتياط ولو تبعيضا ولو لم يكن
في البين حرج، أو لم يقم دليل على نفيه.
ومنها: إيكال تعيينه إلى العقل، بتوسيط المقدمة الأخيرة المعروفة من
الأخذ بالأقرب، من دون احتياج - حينئذ في الاستنتاج - إلى قاعدة الحرج أيضا
ف‍ [تخرج] هذه القاعدة - أيضا - عن المقدمية، لكفاية المقدمات المزبورة لمرجعية
الظن بنفسه في تشخيص الحكم أو مرجعية الظن في تعيين الطريق إليه - حسب

128
اختلاف اقتضاء المقدمات -: الطريق الواصل إلى المكلف بنفسه أو بطريقه، على
ما شرحناه.
ولكن قد تقدم: أن عمدة ما يرد على هذا المسلك دفع توهم انحصار البيان
المنجز بجعل الحكم الطريقي أو بالعلم ولو جعليا، ولقد شرحنا في مسألة القطع
فساده، فراجع، ولذا نقول أيضا: إن هذا المسلك - أيضا - دون المسلك السابق في
الرداءة، كما لا يخفى.
ومنها: مسلك مرجعية الظن في مقام الإثبات بحكومة من العقل، بلا كشف
جعل شرعي، وهو المسلك المختار. وهذا المسلك - أيضا - منوط بمقدمات:
منها: الاجماع على بطلان الخروج من الدين ولو لم يكن العلم الاجمالي
منجزا.
ومنها: عدم انحصار المنجز بالعلم أو غيره، بل ومع عدم صلاحية العلم
الجعلي التنزيلي للمنجزية، كما تقدم، وأنه يكفي في المنجز القطع باهتمام الشارع في
حفظ مرامه حتى في ظرف الجهل بخطابه المستكشف ذلك من إنشائه بأي لسان،
أو من الخارج - ولو من مثل: بطلان الخروج من الدين وأمثاله - كمورد النظر إلى
المعجزة، فإن في هذه الصورة يستقل العقل بمنجزية احتماله، بلا نصيب للشرع فيه،
وإنما شأنه إثبات الاهتمام المزبور بجعله وانشائه بأي لسان.
وحينئذ، ربما يستكشف هذا الاهتمام من الخارج بلا توسيط إنشاء وجعل
شرعي، ففي مثله ليس المرجع إلا الحكومة العقلية، خصوصا بعد احتمال إيكال
الشرع في إثبات أصل الطريق إلى العقل. وحينئذ لا مجال لكشف جعل شرعي
أبدا.
ومنها: كون المتيقن من الاهتمام كونه في مقام حفظ المرام في دائرة الأقرب،
دون [غيره] المستتبع لاستقلال العقل فيه بالبراءة، لولا أصل مثبت شرعي فيه.

129
ومن المعلوم أن هذا المقدار ينتج مرجعية الظن بالأحكام، بلا احتياج إلى قاعدة
نفي الحرج، ولا المقدمة الرابعة بتعيين الأقرب وترجيحه، ولا على قيام الاجماع
على عدم مرجعية الاحتياط، إذ يكفي في إثباتها قاعدة البراءة عن موارد لم يثبت
فيها اهتمام بحفظها، بعد احتمال خروج هذه الموارد عن معقد الاجماع، كما أشرنا.
ثم بعد توضيح هذه المسالك بقي في البين أمور:
أحدها: في أن النتيجة على المسلك الأول في مقدار حجية الظن [تابعة]
مقدار دائرة العلم الاجمالي، إذ مرجعية الظن في مرحلة الفراغ [تابعة] مقدار
الاشتغال الحاصل بالعلم المزبور. فان [كانت] دائرة متعلق العلم خصوص الحكم
الواقعي فلا [تكاد تنتهي] النوبة إلى أزيد من الظن به.
وتوهم: أن الظن بالطريق أيضا ظن بالبدل، والعقل لا يفرق بين الظن
بالشئ بنفسه أو ببدله.
مدفوع بأن هم العقل - حينئذ - ليس إلا تحصيل القطع بالفراغ عن الدائرة
التي [تنجز] التكليف بالعلم به، وهذه الدائرة - حسب الفرض - منحصرة بالعلم
بنفس الواقع لا ببدله، وحينئذ: الظن بالبدل لا يجدي شيئا في تحصيل ما
[اشتغلت] الذمة به يقينا، لأن الظن في نفسه لا يغني من الحق شيئا.
نعم، لو [كانت] دائرة العلم المنجز أعم من الحكم الواقعي والظاهري، ففي
مقام الإسقاط بالفراغ [تكون] دائرة الظن أيضا أعم من الواقعي أو الظاهري،
ولازمه حينئذ مرجعية الظن ولو كان قائما بالطريق.
نعم لو كان في البين علم إجمالي بوجود طرق مجعولة لا محيص من الاخذ
بخصوص دائرة الطرق، ولكن أنى لنا بإثباته. وحينئذ:
فما عن الفصول (1) من تخصيص الحجية بالطريق [ببركة] انحصار دائرة



(1) انظر الفصول الغروية: 280 - 281.
130
العلم الصغير بالطرق الموجب لانحلال العلم الكبير به، منظور فيه.
نعم هنا كلام آخر من [بعض] أعاظم المحققين في [حاشية] المعالم (1)،
حيث اختار في الباب حجية خصوص الظن بالطريق بوجه آخر.
وملخص ما يستفاد من كلماته هو: أن مرجعية القطع بالحكم - في حال
الانفتاح - إنما هو بملاحظة استتباعه القطع بالفراغ عما اشتغلت الذمة به، ولولا هذا
القطع الأخير لما حكم العقل باتباع القطع بأداء الواقع أبدا. وذلك يكشف: ان
المهم بنظر العقل تحصيل القطع بالفراغ عما اشتغلت به ذمته، لا مجرد أداء الواقع
السابق [على] القطع بالفراغ. كيف؟ وهذا القطع في رتبة متأخرة عن فراغ ذمته
واقعا. وإذا كان كذلك فلازم الملازمة - بين وجوب تحصيل القطع بحكم في ظرف
الانفتاح ووجوب التنزل إلى الظن به في حال الانسداد - عدم الاكتفاء بمجرد
الظن بأداء الواقع، إذ هو بمجرده لا يوجب القطع بالفراغ عما اشتغلت الذمة به،
ولا الظن به، بل يحتاج مثل هذا الظن إلى حصول الظن بحجيته، لأن حجيته
واقعا [ملازمة] مع حكم العقل بالفراغ عما اشتغلت الذمة بحكمه واقعا،
فحينئذ، الظن بحجيته ملازم مع الظن بالفراغ المزبور، دون مجرد الظن بأداء
الواقع. وحينئذ، لا يرد عليه بأن المهم بنظر العقل مجرد أداء الواقع، فيتنزل إلى
الظن به في حال الانسداد كما [يكتفى بالقطع] به في حال الانفتاح.
وتوضيح الفساد: بأن وجه الاكتفاء بالقطع بأداء الواقع بملاحظة كونه عين
القطع بالفراغ عما اشتغلت [به] الذمة، ولذا اشتهر بأن الاشتغال اليقيني يقتضي
الفراغ اليقيني. وهذه الملازمة منتفية في مجرد الظن بأداء الواقع، بل الملازمة
ثابتة في ظرف حجيته. ولازمه عدم حصول الظن بالفراغ بهذا المعنى إلا في



(1) هداية المسترشدين: 384.
131
فرض تعلق الظن بحجيته أيضا، فلا يتعدى حينئذ إلى مجرد الظن بأداء الواقع
محضا.
نعم الذي ينبغي أن يورد عليه هو أن هم العقل وإن لم يكن مجرد أداء
الواقع، ولكن ليس ممحضا أيضا في تحصيل القطع بالفراغ، بل تمام هم العقل
تحصيل ما يوجب الاشتغال بالواقع، وأن تحصيل القطع بالفراغ من تبعات هذا
الاشتغال قهرا.
وحينئذ، لازم الملازمة السابقة التنزل من القطع بالواقع إلى الظن به، ظن
[حجيته] أم لا، بلا احتياج إلى الظن بالحجية، كما هو ظاهر. هذا.
مضافا إلى منع اقتضاء المقدمات السابقة مثل هذه الملازمة، بل لا [تنتج]
- كما عرفت - إلا حجية ما قطع باهتمام الشارع [به] في حفظ مرامه. والمتيقن
منه صورة الظن بمرامه واقعا، سواء ظن حجيته أم لا، إذ حيث الظن بالحجية
لا يوجب إلا الظن باهتمامه لا القطع به، وهو غير منظور، بل تمام النظر إلى (حيث
الظن) بالاهتمام بمرامه واقعا، فلا يتعدى حينئذ إلى حيث الظن بالحجية، خصوصا
إذا لم يوجب الظن بالواقع. ومع هذه المقدمة في استنتاج حجية الظن على الحكومة
لا يصدق العقل الملازمة السابقة كي يتنزل إلى مطلق الظن بالواقع أو بالحجية
محضا.
وأما على المسلك الثاني: فلا شبهة في أن نتيجة المقدمات تعيين جعل
طريق من الشارع على مطلق حكمه، أعم من الواقعي أو الظاهري. فبالمقدمة
الأخيرة يتعين بالظن بالواقع أو بالطريق من دون احتياج - في إثبات حجية الظن
بالطريق حينئذ - إلى دعوى العلم بجعل الطريق من غير ناحية المقدمات في باب
الانسداد، كي يصير قابلا للاشكال، وموردا للقيل والقال. بل مجرد قيام الاجماع
على عدم الاحتياط بضم المقدمة الأخرى يثبت [الاجتزاء] بجعل طريق

132
حافظ (1) عن سلوك المكلف مسلك الاحتياط، وذلك قابل لأن ينطبق على الظن
بالطريق بلا [خصوصية] للظن بالحكم الفرعي بذلك، كما لا يخفى.
وأما على المسلك الثالث المختار من حكومة العقل [فهي تابعة ل‍] إحراز
الاهتمام المشار إليه سابقا، فبأي مقدار أحرز ذلك يكون احتماله [مرجعا]،
وحينئذ نقول: إنه - بعدما عرفت مراتب الاهتمام وأن المتيقن اهتمامه في الحفظ في
دائرة الأقرب - فلا مجال للتعدي عنه إلى غيره، ولازمه [الاقتصار] في المرجعية
بنفس الظن بالواقع بلا [تعد] منه إلى غيره بمحض كونه مظنون الحجية، إذ في مثله
لا يكون إلا مجرد الظن بالاهتمام، وذلك لا يكفي بعد فرض خروج غير الظن
بالواقع عن المتيقنية في الاهتمام، كما هو ظاهر.
الأمر الثاني: أنه - على مسلك التبعيض ومرجعية الظن في مقام الإسقاط -
لا شبهة في أن الحكم بمرجعية الظن من العقل ليس إلا تنجزيا، ولازمه عدم مجئ
ردع من قبل الشرع في قباله. ولذا نقول بعدم جريان الأصول النافية في أطراف
العلم ولو بلا معارض.
وحينئذ، فالظنون القياسية الواقعة في أطراف العلم لا يكاد [يشملها]
عموم نواهيها.
وتوهم كشفها عن شائبية الواقع كلام ظاهري، إذ النواهي المزبورة في
طول الواقعيات، فكيف تصلح لرفع اليد [بها] عن ظهورها؟
ونظيره في الفساد توهم تعليقية حكم العقل بتعيين الظن في مرحلة الفراغ،
وذلك غير الحكم بحصول الفراغ في فرض تعيينه.
وتوضيح الفساد: هو أن مرجع حكم العقل بتعيين الظن إلى صرف أدلة



(1) أي أن الشارع يكتفي بجعله الطريق الحافظ لمرامه عن سلوك المكلف مسلك الاحتياط.
133
الحرج نحو غيره وإبقاء الظن على مقتضى طرفيته للعلم، لا أن الغرض منه تعيين
الظن في حدوث صفة المفرغية فيه، كما لا يخفى. وحينئذ: لا معنى لتعليقية حكم
العقل في الظن في مقام تعيينه أيضا، كما لا يخفى.
وأما على المسلك الثاني: فلا شبهة في أن اللازم من كشفها عن حجية شئ
شرعا عدم كون المنكشف مما نهي عنه. فمن الأول الظنون القياسية خارجة عن
دائرة المجعولة. كما أنه بناء على المسلك المختار فأمر خروج الظنون القياسية
أوضح، لأن المنجزية بنظر العقل وحكومته [تابعة] الجزم باهتمام الشارع في حفظ
مرامه في مورد الطريق. وهذا المعنى ينافي [الظنون] القياسية، فلا يكون فيها
مناط حكومة العقل أصلا. وحينئذ: لا مجال [للإشكال رأسا] (1) في خروج
[الظنون القياسية] عن دائرة حكم العقل بحجية الظن في باب الانسداد، وعلى
فرض عدم كون مناط حكمه إحراز الاهتمام المزبور، أمكن دعوى تعليقية حكمه
في منجزية الظن في هذا الباب.
ولعمري إن عمدة ما أوقعهم في خروج الظنون القياسية في حيص وبيص
خلطهم بين مسلك التبعيض وغيره، وارتكاز ذهنهم في المقام بتنجزية حكم العقل
بمسلك التبعيض دعاهم [إلى] تسرية الشبهة في باب الانسداد بلا ميز فيه بين
مسلك دون مسلك، فتدبر في المقام فإنه مزلة الاقدام.
الأمر الثالث: انه بناء على مسلك التبعيض وانتهاء الأمر بتنجزية حكم
العقل بتحصيل الفراغ عما علم بأقرب الطرق إلى المعلوم لا محيص من الأخذ
بالظن الممنوع، وطرح الظن المانع، لأن مرجعه إلى الترخيص في مخالفة الظن
الذي كان العقل حاكما بمنجزية أخذه في مقام الفراغ. وفي مثله يأبى العقل عن



(1) في الأصل: (لا مجال كخصوصية مرجحية). وعدلنا عنها بما في النسخة المصححة.
134
مجئ الترخيص على خلافه.
وأما على مسلك الكشف، فبناء على كون المرجع الطريق القائم بالأعم من
الحكم الواقعي والظاهري، فلا محيص من الأخذ بالظن المانع، إذ [بالأخذ به]
يستكشف خروج الممنوع عن [تحت] الجعل، بخلاف ما لو اخذ بالممنوع، فإن
لازمه طرح الظن المانع بلا وجه.
وبعبارة أخرى نتيجة هذا المسلك حجية كل ظن لم يرد على خلافه دليل.
وحينئذ: لو أخذ بالمانع يخرج الممنوع بالتخصص، وأما العكس: فيلزم خروج
المانع بالتخصيص، والتخصص أولى من التخصيص، فتأمل.
وأما على المسلك المختار: فلا شبهة - أيضا - في تعيين الأخذ بالمانع، لعدم
إحراز الاهتمام في غيره، كما لا يخفى.
هذا خلاصة ما أدى إليه فكري القاصر في ميدان هذا الجدال مع مالهم في
مثله، [وبه] ينتهي القيل والقال، فكل ذي نظر أعطى منتهى فكره في تنظيم هذا
الأمر، وملأوا الطوامير في مقدماته، واتخاذ نتائجها بنحو ربما يشتبه الانسان في
[أنه] من أين يدخل؟ ومن أي باب يخرج؟ ولعمري إنك لو تأملت فيما تلوناه
لا يبقى مجال إشكال في المسألة، ومقام شبهة في استنتاجه، فتدبر فيما ذكرناه،
وافهم، واستقم، كي يسهل عليك باب الخروج عن المسألة، وباب دخولك فيها،
وكن في تشريح هذا المقصد العظيم من الشاكرين.
تتميم: قد جرى ديدنهم على [التعرض إلى] اعتبار الظن في أصول الدين
في المقام، ونقول تبعا لهم:
أولا: أن المراد من أصول الدين ما [يجب] العلم به مقدمة لعقد القلب به،
والمتيقن منه لزوم معرفة المنعم على الاطلاق ووسائط النعم، بحكم العقل بأداء
شكر المنعم ووسائط النعم.

135
وكثرة [الاهتمام بهذا] الشكر صارت موجبة [لدى] العقل بلزوم معرفتهم
مع الجهل بهم.
وليس هذا الاحتمال مجرى قبح العقاب بلا بيان، إذ هو في حكم لم يحرز
الاهتمام [بمطلوبيته] حتى في ظرف الجهل به. وإلا فمع إحراز هذا الاهتمام، العقل
يحكم بمنجزية هذا الاحتمال، بلا احتياج إلى عناية تتميم كشف من عقل أو شرع،
إذ الأخير دوري، والأول أيضا ليس شأن العقل ذلك.
ومن ذلك نقول: إن البيان [الرافع] لموضوع القبح مطلق ما يحكم العقل
[بمنجزيته].
وبهذا الوجه أيضا نقول بوجوب النظر إلى المعجزة، لا بقاعدة وجوب دفع
الضرر المحتمل، وإلا فقاعدة قبح العقاب واردة عليها، كما لا يخفى.
وكيف كان نقول: إن العقل بقاعدة شكر المنعم ووسائطه لا يحكم بوجوب
تحصيل معرفة أزيد مما ذكرنا.
نعم، لا بأس بدعوى حكم العقل أيضا بتحصيل الاعتقاد بالحشر ويوم
الجزاء، مقدمة للإيقان بوجوب إطاعة منعمه، وان [كانت تفي] به قاعدة الشكر
أيضا، لأن [إطاعته] والانقياد [له] بل وعقد القلب [به] أيضا من مراتب
شكره (1).
وبعد معرفة المنعم ووسائط [النعم] لا يحكم العقل أيضا بأزيد مما يستفاد
من كلماتهم. وحينئذ ربما يدعى ورود الأمر بالمعرفة مطلقا منهم، ولازمه
تأسيس الأصل في كل ما يشك في لزوم معرفته [لزومها] إلا ما خرج.
و [لكن] يمكن منع هذا الإطلاق، وحينئذ مرجع تأسيس الأصل بعكس ما



(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الأول من الجزء الثالث: 188.
136
سبق. وحينئذ، ربما قام الاجماع أيضا على لزوم معرفة الحشر، وأنه يوم جزاء
ولو إجمالا.
وأما لزوم معرفة ضروريات الدين، فغايته عدم جواز [إنكارها] لا لزوم
[معرفتها] على [تأمل] في عدم [لزومها] أيضا.
ثم إنه مع عدم التمكن من المعرفة للمنعم، ففي لزوم تحصيل الظن وجه، مع
حفظ عقد القلب بمنعميته رجاء. وذلك لولا دعوى منع كون الظن من مراتب
الشكر، بل غايته كونه مقدمة لعقد القلب به الذي هو شكر ومع التمكن [منه]
رجاء - حتى مع الاحتمال - لا وجه للزوم الظن به.
نعم يجب عليه الالتفات إلى هذه الجهة بأن لا يصير غافلا على وجه لا
يتمشى منه عقد القلب ولو رجاء، إذ العقل يحكم بحرمة تفويت شكره، كما لا يخفى.
ثم إنه لو كان في البين حجج شرعية، ففي الاكتفاء بها في الزائد عن لزوم
المعرفة - من سائر آثاره الشكرية وغيرها - وجه، وأما بالنسبة إلى نفس معرفة
المنعم فدوري.
ثم يكفي في المعرفة مجرد الاعتقاد الجازم بالألوهية والنبوة والإمامة، ولو
من غفلته عما يرد عليه من الشبهات كالعقيدة الحاصلة من تقليد الآباء والأجداد.
نعم التقليد بلا عقيدة لا يكاد يكفي مع التمكن من تحصيل المعرفة. نعم مع
عدم التمكن لا بأس بأخذه الاحتمال منهم، لعقد قلبه رجاء، وإلا فلزوم أخذه، بل
جوازه لعقد القلب به جزما ممنوع، لعدم دليل على اتباعهم في هذا المقام، كما
لا دليل على لزوم تقليد العالم أو الأعلم في هذا الباب، لولا دعوى أن حكم العقل
الارتكازي لا يفرق بين هذا المقام وغيره. غاية الأمر دائرة [العالم] هنا أوسع،
فيشمل الآباء والأجداد أيضا.
ولكن يمكن أن يقال: إن الحكم الارتكازي [برجوع] الجاهل إلى العالم إنما

137
هو في الأعمال [المحتاجة] غالبا إلى التعبد بقول الغير. وأما في مثل أفعال القلوب
[القابلة لترتبها] رجاء، فلا يحتاج إلى التعبد بشئ و [إنما] اللازم الفحص عن
المنعم بمقدار لا يغفل عنه، كي لا يفوت عنه عقد قلبه به وانقياده له رجاء.
نعم مع التمكن من تحصيل المعرفة، يجب عليه تحصيلها أداء لمراتب شكره
مهما أمكن، كما لا يخفى.
بقي الكلام في نبذ من مسائل الشكوك، بعد الفراغ عن مباحث الظنون،
فنقول بعونه ومنه وعليه الاتكال والتكلان.

138
[الأصول العملية]

139
بسم الله الرحمن الرحيم
[النسبة بين الامارات والأصول]
اعلم أن الغرض من مسائل [الشكوك] ما كان الشك أو عدم العلم بالواقع
محفوظا ومأخوذا في لسان الخطاب، وبذلك يمتاز عن الخطاب المتعلق بالظنون، إذ
المنساق فيها قلب احتماله بالعلم، وتتميم كشفه، لا إثبات حكم في ظرف الشك،
كما هو شأن أدلة الأصول. وهذا معنى أخذ الشك وعدم العلم في دليل الأمارة
موردا لا موضوعا.
وبذلك المقدار من الفرق ربما لا [تبقى] معارضة بين دليل الأصل
والأمارة، إذ لدليل الأمارة - حينئذ - نظر إلى نفي الشك المأخوذ في
موضوعه.
بل، ولئن فرضنا أن نظر دليل الأمارة إلى تنزيل المؤدى منزلة الواقع، لا
تتميم كشفه، أمكن - أيضا - دعوى حكومته على دليل الأصل، لا بلسان نفي
الموضوع، بل من جهة نظر مثل هذا التنزيل إلى نفس الحكم الثابت بدليل الأصل،
فكأنه قال: بأن الواقع بيدك، فالحكم الثابت لشكه أجنبي عن المورد. ولا نعني
من الحكومة إلا من جهة النظر إلى غيره بوجه.

141
وسيأتي إن شاء الله: أن وجه حكومة الأصل [السببي على المسببي]
أيضا مثل هذا النظر الحكمي لا الموضوعي، كما لا يخفى على الدقيق.
ثم إن نظير هذا الوجه أيضا [نقوله] في تقديم الأصول التنزيلية على
غيرها. وحينئذ، آخر الأصول مرتبة هي غير التنزيلية، كحديث الرفع (1)
وأمثاله. وفي كون قاعدة الحلية أيضا من الأصول التنزيلية أم من غيرها؟
كلام.
وربما يجري نظيره في قاعدة الطهارة - أيضا - ولقد شرحنا (2) في ذيل
مبحث الاجزاء أن [مثل] قاعدة الطهارة، بقرينة فهم الأصحاب، لا بد وأن
يكون من الأصول التنزيلية.
وحينئذ، ربما [تقتضي] وحدة اللسان بينهما حمل قاعدة الحلية - أيضا -
على الأصول التنزيلية، وربما ينتج ذلك في بحث [اللباس] المشكوك في اجرائها
- في اللحم الخارج عن محل الابتلاء - وعدمه.
وذلك - أيضا - لولا دعوى إمكان جعل الحلية حقيقة، بلحاظ [أثرها]
الفعلي، لا بلحاظ العمل، كما هو الشأن في فرض ترتب اللزوم بلحاظ حلية غيره،
كما في فرض وجوب شئ منوطا بحلية شئ آخر واقعا، إذ حينئذ نبتلي بعلم
إجمالي بالتكليف بين أحد الطرفين، ومع علية العلم للتنجز لا يمكن الفرار عن
شبهة الترخيص في أحد الطرفين إلا بالتقريب السابق المنتهي إلى انحلال العلم،
فتدبر.



(1) راجع الخصال 2: 417، الحديث 9 باب التسعة. والوسائل 11: 295، الباب 56 من
أبواب جهاد النفس.
(2) راجع الجزء الأول: 283.
142
وبالجملة: لو بنينا في القاعدتين على كونهما من الأصول التنزيلية،
ففي تقديم الاستصحاب عليهما - حينئذ - نظر، إذ في نظر التنزيل كلاهما
سواء.
نعم، هذا الإشكال إنما يرد على تقدير كون النظر في تنزيل [الاستصحاب]
إلى إبقاء المؤدى، وأما لو كان النظر فيه إلى إبقاء اليقين في ظرف الشك،
فللاستصحاب جهتان:
فمن حيث نظره إلى إبقاء اليقين فحاكم على القاعدتين لإثبات غايتهما به.
ومن حيث أخذ الشك في موضوع هذا التنزيل، كان محكوما للأمارة، كما
أشرنا.
وحينئذ لا يبقى مجال تعريفه أيضا بإبقاء ما كان، إذ مثل هذا التعريف
- مع بنائه على حكومته على قاعدة الطهارة، مع الالتزام بكونها - أيضا - من
الأصول التنزيلية - لا يكاد يتم عند النظر الدقيق، فتدبر في ما قلت برقيق النظر
لا بجليله.
ثم إن الحكومة المزبورة بين الأمارة والأصل، كما [تجري] في صورة كون
أدلة [اعتبارهما] لفظيا، كذلك [تجري] فيما كان دليل اعتبارهما لبيا، كالأمارات
العقلائية بالنسبة إلى أصولهم، حسب ارتكاز أذهانهم - أيضا - بوجود نحوي
الأمارة والأصل عندهم. فمع عدم ردعهم، إذا استكشفنا [حجيتهما] لدى الشرع
- أيضا - [يصير] دليلهما حينئذ لبيا.
وعليه: فقد يستشكل بأن في لب بنائهم على الأمارة في قبال أصلهم، لا بد
وأن يكون لقصور بنائهم على مثل هذا الأصل في المورد.
كيف؟ ومع عدم القصور يلزم تضاد البناءين، وهو كما ترى لا يقتضي
تقديم أحدهما على الآخر، وهو خلف.

143
وحينئذ، نتيجة قصور بنائهم على الأصل في قبال الدليل مستلزم لتقديم
الأمارة على الأصل ورودا لا حكومة، وحينئذ من أين [تتصور] الحكومة في
اللبيات؟
وتوضيح الدفع بأن يقال: بأن ما أفيد كذلك، لو كان بناؤهم على شئ،
توطئة للعمل به مطلقا، وإلا فلو قلنا بإمكان بنائهم على شئ، لا بلحاظ العمل
به، بل كان توطئة لبناء آخر في تطبيق وجوده أو عدمه، بلحاظ العمل المترتب
عليه في عالم التطبيق - نظير ما تصورنا آنفا بجعل الحلية في أحد طرفي العلم لا
بلحاظ العمل على [وفقه]، بل بلحاظ أثر الالتزام بشئ آخر مرتب على وجوده
الموجب لانحلال العلم - فلا قصور في الجمع بين البناء الحقيقي في الكبرى توطئة
لأثر آخر من تنزيل عدمه في عالم التطبيق المستتبع لكون تقديم البناء الثاني
عليه، من باب الحكومة لا الورود، كما لا يخفى.
وبهذا البيان - أيضا - نقول في وجه تقديم أصولهم التنزيلية على غيرها.
ثم إن طبع تقديم الأصول التنزيلية على غيرها تقديم البحث عن الأصول
التنزيلية على غيرها، ولكن بعدما قدم خريت هذه الصنعة (1) بحث البراءة
والاشتغال على بحث الاستصحاب، فنحن: أيضا نقتفي أثره. وربما يكون أكثرية
الجهات في بحثهما [من الجهات في] بحث الاستصحاب موجبا للاهتمام بهما فيقدمان
بحثا على الاستصحاب فنقول:
[صور الشك في الحكم من غير لحاظ الحالة السابقة]
أولا: بعدما لم تلحظ في باب البراءة والاشتغال، الحالة السابقة في



(1) يريد به الشيخ الأعظم الأنصاري في رسائله (فرائد الأصول).
144
حكمهما - [كانت لهما تلك] أم لا - فلا محيص في مقام التقسيم أن يقال: تارة
يشك في الحكم، مع عدم تمامية بيان [أي منجز في البين] ولو بمثل [إيجاب]
الاختيار والاحتياط شرعا، فضلا عن العقلي [منهما]، فلا شبهة في كونه مجرى
البراءة، لولا حكومة أصل تنزيلي عليه، من دون فرق في ذلك بين صورة
التمكن من الاحتياط التام أو عدمه. [فتقع] - حينئذ - صورة دوران الأمر
بين الوجوب والحرمة والإباحة في مجرى البراءة، مع عدم التمكن من الاحتياط
فيه.
وأما إن تم فيه البيان، فلا محيص من خروجه عن مجرى البراءة،
وحينئذ، فإن تمكن من الاحتياط تماما أو تبعيضا، فيجب. فيصير مجرى قاعدة
الاشتغال.
وأما إن لم يتمكن من الاحتياط - رأسا - كالدوران بين المحذورين، فكان
مجرى [التخيير] عقلا.
ولا مجال لإدخاله في مجرى البراءة، بتوهم أن العلم في هذه الصورة
غير منجز، فوجوده بمنزلة العدم، فيدخل في ما لا يتم البيان فيه، إذ لنا أن
نقول:
إن وجه خروج العلم عن المنجزية حكم العقل [بالتخيير] في [ظرف]
القدرة إلى كل واحد من الوجود والعدم، بلا ترجيح. فقهرا مثل هذا الترخيص
المخرج للعلم عن المنجزية من موانع التنجز. فيصير عدم منجزية العلم في الرتبة
المتأخرة عن الترخيص.
فما هذا شأنه فهو غير مرتبط بالترخيص الناشئ عن عدم البيان الذي هو
في الرتبة المتأخرة عن سقوط البيان، لا أنه مسقطه.
وحينئذ كم فرق بين الترخيص المسقط لمنجزية العلم المسمى

145
[بالتخيير] عقلا، وبين الترخيص الحاصل في ظرف الفراغ عن سقوط العلم عن
المنجزية، الراجع إليه الترخيصات [البراءتية]، كما لا يخفى.
وحيث [اتضحت] لك هذه الجهات، فينبغي طي مسألة البراءة في
مقالات.

146
المقالة الرابعة عشرة
أصل البراءة

147
[المقالة الرابعة عشرة]
في أصل البراءة
فنقول: أولا: إن محط البحث في مجرى البراءة وعدمها هو الشبهات
الحكمية التي كان أمر رفعها ووضعها بيد الشارع، سواء كان ذلك في الشك في نفس
الحكم مع العلم بموضوعه، أو من جهة الشك في مفهوم الموضوع نفيا (1) أو صدقا،
أو من جهة الشك في مقدار الموضوع قلة وكثرة، بلا ارتباط بينهما.
وأما في فرض ارتباط الموضوع المردد بين الأقل والأكثر جزءا أم قيدا،
فربما قيل (2) فيه بالاحتياط ممن قال في سابقه - بجميع صوره - بالبراءة. وسيأتي
الكلام فيه في محله إن شاء الله.
وبالجملة نقول: إن في الصور السابقة تارة [تكون] الشبهة تحريمية وأخرى
وجوبية.
وجرى ديدن المجتهدين [فيهما]، بجميع [صورهما] على البراءة.



(1) جاء في النسخة المصححة عند أحد تلامذة المؤلف: نفسا أو صدقا.
(2) نقله النائيني عن المحقق الخراساني في حاشيته على الكفاية، انظر فوائد الأصول 4: 164.
149
وجرى ديدن معظم الأخباريين في جميع الصور المزبورة على الاحتياط.
نعم، في الشبهات الوجوبية [منهما] ربما نسبت (1) إلى بعضهم [البراءة].
وأما في التحريمية - فبقول مطلق - صاروا إلى الاحتياط، كما حكي (2).
ثم إن نزاع الطرفين في الشبهات المزبورة ليس في كبرى قبح العقاب بلا
بيان، ولا في قاعدة دفع الضرر المحتمل في المضار الأخروية، إذ من البديهي أن
كل واحدة من الطائفتين غير منكرين للقاعدتين العقليتين.
كما أنه لا شبهة في ورود قاعدة القبح على القاعدة الأخرى، لعدم احتمال
الضرر بجريان الأولى.
بل تمام نزاع الطرفين في صغرى القاعدتين، فالمجتهدون يدعون بأن
الشبهات المزبورة صغرى قاعدة القبح، والأخباريون يدعون بأنها مجرى
القاعدة الأخرى، ولو ببركة العلم الاجمالي بالتكاليف، أو من جهة ما ورد من
الآيات (3) والأخبار (4) الدالة على إيجاب الشارع الاحتياط فيها. وحينئذ، فعلى
المجتهدين منع هاتين الجهتين.
وحينئذ، فتمام مركز النفي والإثبات بين المجتهدين والأخباريين هو هذه
النقطة من نفي العلم الاجمالي المنجز، ونفي دلالة الأخبار المزبورة على وجوب
الاحتياط، إما بنفسها أو من جهة دلالة نص آخر من كتاب أو سنة، مثلا على



(1) نسبه في مفاتيح الأصول إلى صاحب الوسائل وغيره من المحدثين، انظر مفاتيح الأصول
: 510.
(2) قوانين الأصول 2: 257. وراجع الفوائد الحائرية: 240. وفرائد الا صول: 315.
(3) الاسراء: 36. النساء: 59. البقرة: 195. التغابن: 16. آل عمران: 102.
(4) ذكر الآيات والأخبار مفصلا في فرائد الأصول: 340 - 352.
150
نفي الوجوب المزبور الموجب لحمل [ما ظاهره الوجوب] على الاستحباب، كما
هو الديدن عند ورود أمر في قبال نص على جواز الترك.
ومن هذه البيانات ظهر أنه ليس للمجتهد أن يتشبث في مورد نزاعه مع
الأخباري بقاعدة القبح وما يساوقها من النصوص، ولا للأخباري أن يتشبث
بقاعدة دفع الضرر وما يساوقها من النصوص، إذ مثل هذا الاستدلال من الطرفين
أجنبي عن مركز بحثهم. فليس للمجتهد إلا التشبث بما دل على جواز ارتكاب
الشبهات المزبورة، قبال الاخباري: من تشبثه بما دل على عدم [جواز] ارتكاب
الشبهات المزبورة.
فظهر لك - حينئذ - أنه لا مجال لأن يستدل للبراءة في معركة الآراء بالأدلة
الأربعة بجعل دليل العقل قاعدة القبح، إذ عرفت أن مثل هذه الكبرى أجنبية عن
مورد النزاع، فلا يبقى مجال التشبث به قبال المخالف، إذ هو منكر لصغراه، فعلى
المستدل إثبات صغراه، لا التشبث بالكبرى. فالأولى له الاقتصار بالأدلة
الثلاثة، قبال استدلاله بالنصوص على وجوب الاحتياط في الشبهات.
[وأما في قبال] دعواه العلم الاجمالي المنتهي إلى قاعدة دفع الضرر المحتمل
فمثل الكتاب والسنة الدالين على الترخيص في المشتبه - أيضا - غير واف لرد
مدعاه، إذ مع وجود العلم الاجمالي [المنجز] في البين لا يبقى مجال جريان كبرى
جواز الاقتحام في الشبهات، إذ العقل يمنع عن جريانها في أطراف العلم المنجز ولو
بلا معارض. وحينئذ، لا يفي لإثبات مدعاه إلا منع منجزية هذا العلم عقلا،
لانحلاله.
وبعد ذلك يلغو التشبث بالإجماع في هذا المقام - أيضا - لاحتمال اتكالهم
[على] حكم العقل بانحلال العلم المنتهي إلى قاعدة القبح. ومعه لا يبقى مجال
حدس بمثل هذا الاجماع أيضا.

151
وبعدما عرفت الجهات المزبورة نقول: إنه قد يستدل للبراءة في الشبهات
الحكمية، من الكتاب بآيات منها:
آية عدم التكليف إلا بما آتاها (1).
والظاهر أن المراد من [الإيتاء] هو الاعطاء، وأن إعطاء كل شئ بحسبه.
ففي التكاليف إعطاؤه بإعلامه، كما يشهد [له] التعبير بالأخذ [المقابل] للاعطاء
بقوله: " آخذ معالم ديني " (2).
كما أن الظاهر من إعلامه إبلاغه بخطابه محضا. وأما صورة عدم وصول
الخطاب الصادر إلى المكلفين لظلم الظالمين بلا قصور في إبلاغه بخطابه، فغير
[مشمولة] للآية الشريفة.
وحينئذ، لو كان المراد من التكليف التكاليف الواقعية فغاية ما يستفاد من
الآية أن التكاليف الواقعية وجودها في الواقع توأم مع الخطاب بها، ولازمه أنه
مع عدم الخطاب واقعا لا يكون جعل تكليف واقعا، بل كان مما سكت الله عنه
[و] لم يسكت [عنه] نسيانا. وهذه الجهة أجنبية عن محط البحث.
وإن كان المراد من التكليف [التكاليف الطرقية] المجعولة في ظرف الجهل
بالخطاب فغاية ما يستفاد منها أنه: لو كان تكليف طريقي لا بد من إبلاغه إلى
المكلف بخطابه - ولو في ظرف الجهل بالخطاب المتعلق بالواقع (3) - ولو بألف
واسطة. ولازمه أنه مع عدم وصول خطاب طريقي حافظ للواقع - ولو



(1) قوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) *. الطلاق: 7.
(2) راجع الوسائل 18: 106، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.
(3) المفروض أن التكاليف الطرقية مجعولة في ظرف الجهل بالخطاب الواقعي فلا حاجة لقوله:
" ولو في ظرف الجهل ".
152
بالواسطة - إلى المكلف، فلا يكون في البين مثل هذا الخطاب. هذا، ولكن لا يكفي
ذلك حينئذ ردا على من اعتقد بأن أوامر الاحتياط خطابات طريقية واصلة إلى
المكلف، إذ للأخباري أن يدعي: بأن الخطاب الطريقي المزبور واصل إلى
المكلف ببركة أخبار الاحتياط الواردة في الباب.
وإن كان المراد من التكليف [المنفي] معناه اللغوي من [كلفة] المكلف في
[امتثاله] لما أعلمه بخطابه الواقعي الواصل إليه فهو ليس قابلا للصدور منه إلا
إرشادا لما حكم به عقله. وهو خلاف ظاهر سوق الآية من كونه تعالى ما أحدث
التكليف بغير ما [أعلمه]، إلا أنه أرشد به إلى إحداث غيره من درك العقل
المستقل به.
وبمثل هذا البيان تسقط الآية عن الاستدلال في قبال الأخباري بلا
احتياج إلى ردها بحفظ سياقها مع الفقرة السابقة الراجعة إلى إنفاق المال.
كيف؟ ويمكن - حينئذ - تقريبه بأخذ الجامع بين المال والتكليف من
الموصول.
ولا يرد عليه - حينئذ - بعدم إمكان الجامع منه، لأن نسبة الفعل إلى المفعول
" المطلق " و " به " [مختلفتان].
لإمكان جعل نسبتهما [نشوية]، مضافا إلى أن نسبة الفعل إلى الجامع بين
المفعولين نسبة ثالثة، بلا لزوم اجتماع النسبتين، كما لا يخفى.
ومنها: آية التعذيب (1)، والظاهر من المضي في * (... ما كنا...) *، هو المضي
بالإضافة إلى بعث الرسول. كما أن الاستقبال [فيها] - أيضا - إنما هو بالإضافة إلى
التعذيب، فمعناه ما كان عذاب قبل البعث كلية، بلا اختصاص فيه بالأمم السابقة،



(1) وهي قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) *، الاسراء: 15.
153
إذ هو فرع جعل المضي [فيها] بلحاظ حال التكلم (1)، وهو خلاف ظاهر
[سوقها]، لبداهة أن الاستقبال في بعث الرسول ما أريد منه الاستقبال بلحاظ
حال التكلم، إذ لا يبقى له - حينئذ - معنى، كما لا يخفى.
وأيضا، الظاهر من قوله " ما كنا " أنه ليس من ديدنه وشأنه، مثل قوله
* (ما كنا ظالمين) * (2) وأمثاله.
وحينئذ، فسياق هذا البيان لا يناسب مجرد نفي الفعلية محضا، كي يحتاج إلى
اثبات نفي الاستحقاق بالإجماع، ويفرق بين المقام وباب الملازمة بذلك، ويجعل
بمثل هذا التقرير للآية الشريفة ردا على [القائلين] بالملازمة. كيف؟ وقد عرفت
أن الآية بسوق بيانها ظاهرة في نفي الاستحقاق، فلا يبقى مجال للرد المزبور.
نعم الذي يسهل الخطب هو أن الظاهر من الغاية وإن كان البعث الظاهري،
ولا يشمل مثل العقل، إذ بعثه في مقام التشريع ليس بيده، ولا يناسبه ظهور
" نبعث " في كونه بيده (3)، ولكن حيث إن الغالب - إلا ما شذ وندر من الاحكام -



(1) هذا التعليل للإجابة على فرض اختصاص الحكم في الآية بالأمم السابقة، بتقريب أن
اختصاص الحكم بالأمم السابقة إنما يتم لو كان المضي في الآية بلحاظ حال التكلم وهو
مخالف لسياق الآية، إذ يلزم منه أن يكون الاستقبال بلحاظ حال التكلم أيضا. وهو غير
صحيح، لأن المفروض خاتمية الرسالات برسالة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) فلا يكون هناك بعث في
مستقبل حال التكلم.
(2) الشعراء: 209.
(3) " في كونه بيده " الجار والمجرور متعلقان ب‍ " ظهور " فيكون المعنى ان قوله " نبعث " ظاهر
في كون البعث بيد الشارع وهذا لا يناسب شمول البعث لمثل العقل أيضا إذ بعث العقل ليس
بيد الشارع.
154
يحتاج في اعلامها إلى البعث ظاهرا، كان مثل هذا القيد واردا مورد الغالب، فلا
يبقى له مفهوم ينفي بيانية العقل. [فتبقى] بيانيته [بحالها]، بلا احتياج فيه
- أيضا - بجعل بعث الرسول كناية عن مطلق البيان.
وعليه فلا [تبقى] للآية دلالة على نفي الملازمة أصلا.
وعلى فرض الدلالة، نقول: إن وجه [دلالتها] من جهة حصر الاستحقاق
ببعث الرسول الظاهري، ففي مورد الحكم العقلي لا استحقاق، وبديهي أن ذلك لا
يتم مع فرض استقلال العقل بالحسن - مثلا - إلا باحتمال وجود مزاحم خارجي
مانع عن فعلية الإرادة. ومن البديهي أنه مع [هذا الاحتمال] لا يدعي الملازمة
أحد. [فلا بد للقائل] بالملازمة من جزمه بعدم هذا المزاحم، ومع هذا الجزم، كيف
يصدق هذا الظهور؟ فلا [تصلح] الآية أن [تصير] دليلا ملزما على القائل
بالملازمة، كما لا يخفى.
وحينئذ، ما كان شأن الآية إلا [كونها] دليلا إقناعيا موجبا لإبداء
الاحتمال المزبور الباعث على إنكار الملازمة المسطورة. وليس ذلك المقدار بمهم،
إذ ربما [تختلف] مراتب جزم الأشخاص بحيث لا [تصلح] هذه الآية لإزالته،
فتدبر.
وكيف كان نرجع إلى ما كنا فيه فنقول: إن غاية دلالة الآية - ولو بضم
الاجماع المذكور آنفا - هو إناطة الاستحقاق بالبيان ولو ظاهريا. وذلك عين
كبرى قبح العقاب بلا بيان، مع حصر البيان بالرسول الظاهري، فضلا عن جعله
كناية عن مطلق البيان، أو كون القيد واردا مورد الغالب. ولقد عرفت أن
الأخباري غير منكر لهذه الكبرى، كما شرحناه.
نعم لو كان المراد من بعث الرسول خصوص الإعلام بالواقع، وأن الغرض
من نفي العذاب نفي الاستحقاق من قبله، ولو بنفي إيجاد أسبابه، من إيجاب

155
احتياط أو غيره، كان للاستدلال بها قبال الأخباريين، مجال.
ولكن مع احتمال كون المراد من بعث الرسول مطلق إقامة الحجة، وأن المراد
من نفي التعذيب - أيضا - نفي ديدنه على التعذيب، ولو لقبحه وكونه ظلما،
لا مجال لإثبات مدعى القائل بالبراءة، قبال الأخباريين من الآية الشريفة
فتدبر.
ومنها: آية الوجدان (1)، بتقريب أن عدم وجدان النبي وإن كان ملازما مع
عدم الوجود، ولكن التعبير بهذا العنوان ظاهر في أن مناط الترخيص وجواز
الارتكاب في هذا العنوان دون لازمه، كما هو الشأن في أخذ كل عنوان في [حيز]
الخطاب. وهذه الجهة من الظهورات المسلمة التي [عليها] مدار الاستنباط. ولا
يناسب جعل المورد من الإشعارات الخارجة عن الدلالة، كما توهم.
وحينئذ، مثل هذا البيان واف لرد الأخباري في جواز الاقتحام بمحض
عدم وجدان خطاب على حرمته واقعا، وكان قابلا للقرينية على حمل ما دل على
وجوب الاحتياط على الاستحباب هذا. ولكن نقول:
إن مبنى الأخذ بظهور العنوان في حيز الخطابات اقتضاء الحكمة، [و]
كونه بخصوصيته تمام الموضوع، كما هو الشأن في الاطلاق والتقييد. وهذه الجهة
[منوطة] بتمامية بيان المتكلم في [إلقاء] لفظه بكونه في مقام بيان تمام مرامه به.
وهذه الجهة إنما تتم في صورة لم تكن قابلية وجهة البيان المزبور إلى جهة
أخرى، مثل كونه واردا مورد الغالب، أو لشئ آخر، وإلا يلغو ظهور البيان
الموجب للإطلاق أو التقييد في مفادهما.



(1) وهي قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه) *، الانعام:
145.
156
وحينئذ أمكن في ما نحن فيه كون الغرض من هذا التعبير المجادلة بوجه
أحسن. وبعد ذلك يلغى ظهور عنوانه في [الدخل] بل يحتمل خصوص ما يلازم
عدم الوجود واقعا، فيخرج - حينئذ - عن [محط] الاستدلال [بها] على المرام،
فتدبر.
ومنها: آية التفصيل (1)، بتقريب أن عدم وجود ما [حرم] عليهم [فيما]
فصل منشأ جواز الارتكاب، ولو كان في الواقع حراما.
وفيه أن عدم وجوده ربما يلازم العدم، نظرا إلى ظهور التحديد - في مقام
البيان - في المفهوم الموجب لحصر المحرمات بما فصل. وحينئذ، دلالة الآية على
جواز الارتكاب إنما [هي] بالظهور المزبور لا بالأصل. وحينئذ، ربما [تكون]
هذه الآية أسوأ حالا في الدلالة على المدعى من الآية السابقة، فتدبر.
ومنها: آية الخذلان (2)، بتقريب أن إناطة الخذلان بالبيان يوجب إناطة
مطلق العذاب به بالفحوى.
ولكن يمكن دعوى أن مانعية الجهل للخذلان لا [تقتضي] مانعية الجهل
لمطلق العذاب، فمن المحتمل كون المرام من الآية ذلك. وهو - حينئذ - أخص من
المدعى، فتدبر أيضا.
ومنها: آية التهلكة (3)، الصادرة من خامس آل العباء، في مقام محاجاته



(1) وهي قوله تعالى: * (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم
عليكم إلا ما اضطررتم إليه...) *، الانعام: 119.
(2) قوله تعالى: * (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) *، التوبة:
115.
(3) قوله تعالى: * (ليهلك من هلك عن بينة) *، الأنفال: 42.
157
(عليه سلام الله) مع أعدائه يوم الطف (1).
وتقريبه ظاهر لولا [ظهورها] في مقام بيان معرفة الإمامة وأولي الأمر،
قبال جحود أعدائه ذلك.
ويؤيده - أيضا - ذيله، من قوله: * (ويحيى من حي عن بينة) * الظاهر في
إناطة الحياة - أيضا - بمثل البينة السابقة. وما هذا شأنه ليس إلا الأمور
الاعتقادية، لا التكاليف الفرعية العملية.
وحمله على باب [الاحتجاج] خلاف الظاهر، لولا دعوى كفاية توهمه في
منع الظهور، نظير توهم دفع الحظر في الأوامر، كما لا يخفى.
هذا تمام الكلام في الآيات. وينبغي جعل الاستدلال بالسنة - أيضا - تحت
مقالة مستقلة فنقول:



(1) جاء في اللهوف: " لما سار أبو عبد الله الحسين بن علي صلوات الله عليهما من مكة ليدخل
المدينة... أتته أفواج من مؤمني الجن فقالوا له يا مولانا نحن شيعتك وأنصارك فمرنا بما
تشاء... فقال لهم (عليه السلام) ونحن والله أقدر عليهم منكم ولكن ليهلك من هلك عن بينة وليحيى
من حي عن بينة "، اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس (رحمه الله): ص 28 - 30.
158
المقالة الخامسة عشرة
الاستدلال على البراءة بالسنة الشريفة

159
[المقالة الخامسة عشرة]
[الاستدلال على البراءة بالسنة الشريفة]
من السنة التي استدل بها القائل بالبراءة - قبال الأخباري - حديث
الرفع (1) المعروف، بتقريب: أن من الفقرات التسعة " ما لا يعلمون ".
ومعنى رفعه رفع [آثار] ما لم يعلم من الحكم الواقعي [في] مرتبة الجهل به
ولو بإيجاب الاحتياط، الذي هو من الاحكام الطرقية، كسائر أحكام أدلة
الطرق، التي شأنها إبراز الإرادات الواقعية في ظرف الجهل بها على تقدير
وجودها.
ولذا أشرنا في أوائل القطع بأن لمثل هذه الأحكام [جنبتين]: بملاحظة
محكيها قائمة بنفس الواقع، وبملاحظة إنشائها المبرز لها قائمة بالأمارة في ظرف
الجهل به. ولذا صححنا وقوع مثل الأمارة وسطا لإثبات حكم [متعلقها]، مع أن
لازم [الوسطية] كونه موضوع الأكبر في الكبرى.



(1) الخصال 2: 417 باب التسعة الحديث 9. والوسائل 11: 295 الباب 56 من أبواب
جهاد النفس، الحديث 1 و 3.
161
وبديهي أن الأكبر في كبرى حجية الطرق ليس إلا حكما ظاهريا قائما
بالأمارة، وليس هو من أحكام [متعلقها] (1) القائمة بنفس ذاته في الرتبة
السابقة [على] الجهل به.
[فوسطية] الأمارة لمثل هذا الحكم ليس إلا بلحاظ أن الانشاء القائم
بالأمارة - بلب حقيقته وروحه من الإرادة المبرزة بهذا الانشاء - [قائم] بنفس
المتعلق. وبمثل ذلك [تمتاز] الأحكام الطرقية عن الأحكام الحقيقية النفسية.
ولذا نقول: إنه على الموضوعية لا [تكون] الأمارة وسيطا لحكم المتعلق،
بل [هي] وسط لحكم [نفسها]، كالقطع الواقع موضوعا لحكم آخر، ولذا لا
يصلح للقطع أن يقع وسيطا لحكم متعلقه مثل الظن، لعدم صلاحيته لأن يتعلق به
الحكم الطريقي بملاحظة كونه بنفسه منجزا للواقع، بلا احتياج في منجزيته إلى
حكم طريقي، بخلاف الظن مثلا.
وحينئذ، فالمراد من " رفع ما لا يعلمون " رفع الحكم الواقعي بمرتبة من
مراتب وجوده - ولو بمثل إنشائه - في ظرف الجهل به.
ثم إن المصحح لإطلاق الرفع في المقام، هو وجود المقتضي لمثل هذا الانشاء
في ظرف الجهل بالمرام واقعا، إذ مع وجود المقتضي [يعتبره] العقلاء كأنه موجود
بالعناية، ولذا أطلق السقوط للخيار عند وجود مقتضيه. مع أنه في الحقيقة عبارة
عن عدم الثبوت من الأول. فإطلاق الرفع - في المقام - أيضا [بعين] عناية إطلاق
السقوط في باب شرط سقوط الخيار في [متن] عقده، وكان من باب الحقائق
[الادعائية] لا أن كلمة الرفع [أريد منها] الدفع في المقام، كما توهم.



(1) وليس هو من احكام متعلق الامارة، تلك الأحكام القائمة بنفس ذات المتعلق في الرتبة
السابقة على الجهل بذلك المتعلق.
162
وحينئذ، ملخص معنى هذه الفقرة: أن الامتنان الوارد في مورد الفقرات
التسع [اقتضى] لأن يرفع عن المكلف انشاء حكم حافظ للمرام الواقعي في
ظرف الجهل به مع كمال تمكنه من ايجاده، لمحض الرحمة والرأفة.
ومقتضاه - حينئذ - نفي مضمون ما ورد من السنة على ايجاب الاحتياط،
[بحمله] على الاستحباب. ويكفي [ذلك] ردا للأخباري.
وحينئذ، يكون هذا الحديث الشريف أتم دليل للقائل بالبراءة، قبال
استدلال الأخباريين بالنصوص الآتية، كما لا يخفى.
ثم إنه كما أن إطلاقه يرفع الحكم النفسي، كذلك قابل لرفع الحكم الوضعي
من الجزئية أو الشرطية، بعد كون أمر وضعهما ورفعهما بيده.
وحينئذ، فقد يتوهم صلاحيته لرفع الحكم المنسي أو [الجزئية] المنسية
أيضا بعد إلزام العقل - في حال النسيان عنه - بإتيان البقية، إذ في رفعه
يستكشف إنا رفع الأمر المتعلق بالإعادة، ففيه كمال المنة على العباد أيضا.
هذا.
ولكن فيه: أن ذلك يتم في صورة نظره إلى رفع المنسي مطلقا، ولو بلحاظ
حال انقلابه إلى الالتفات، وإلا فلو كان الظاهر منه رفع المنسي ما دام النسيان،
فلا يستكشف منه - حينئذ - إلا رفع ابقاء الأمر ما دام النسيان، وأما بعده
فالمقتضي للتكليف من المصلحة موجب لإحداث التكليف بالإعادة بعد الانقلاب
[إلى الالتفات].
ولذا نقول: إن مثل هذا الحديث الشريف لا يقتضي الاجزاء في فرض
النسيان، فضلا عن فرض الجهل غير الناظر إلى رفع الواقع أصلا.
ثم على فرض الإطلاق: ففي شمول الحديث نسيان الجزء وجه، إذ مرجع
نسيانه وإن كان نسيان ذاته لا [جزئه]، لكن لا بأس برفع الذات بلحاظ حكمه،

163
ونتيجته - أيضا - عدم وجوب إعادته.
إلا أن تمام الكلام فيه في [إطلاقه] لحال انقلابه إلى الالتفات. كما أشرنا
فتدبر.
لا يقال: إن سوق النص المزبور، في مقام الامتنان، يقتضي حمل الرفع، في
هذه الفقرة، على الإطلاق، وإلا فعلى فرض الاختصاص بحال النسيان فلا امتنان
فيه، لأن العقل - أيضا - مستقل برفعه.
لأنه يقال: ما أفيد كذلك لو أريد من رفع النسيان خصوص ما كان بغير
اختياره، وإلا فمع تمكنه من حفظه فالعقل لا يحكم برفعه، ولو لسوء اختياره
السابق. وحينئذ، ففي رفعه من الشرع - حينئذ - كمال امتنان فيه.
نعم لا بد من تقييده أيضا بصورة كون حفظه حرجيا، كي لا يرد عليه
- أيضا - بمنع شمول الحديث للمقدم على [التفويت] بسوء اختياره السابق، لأنه
أيضا خلاف سوق الحديث من كونه في مقام رفع ما في وضعه خلاف امتنان، ولذا
لا يشمل المقدم على [التفويت] في جميع الفقرات الأخر.
ومن هذا البيان ظهر دفع شبهة أخرى و [هي]: أن ظاهر النص رفع الحكم
في ظرف النسيان، وهو في رتبة متأخرة عن الواقع، كالالتفات [إليه]. ومن
المعلوم أن في هذا الظرف لا يعقل جعل مولوي مماثل للواقع، فأي شئ مرفوع في
هذه الرتبة؟
وتوضيح الدفع: أنه لوجوب حفظ الالتفات بمقدماته ربما ينتهي الأمر إلى
وجوب عقلي في هذه المرتبة، وحيث [إن] أمر رفع هذا الوجوب ووضعه بيده
- ولو بايجابه التحفظ وعدمه - فيصلح هذا الوجوب للرفع برفع منشئه.
ومما ذكرنا ظهر الحال - أيضا - في رفع ما لا يطاق، إذ مرجع رفعه إلى عدم
وجوب [حفظه] بمقدماته عند البلوغ إلى حد الحرج، فكان الحديث من هذه

164
الجهة، مبينا [لمرتبة] من مراتب الحرج، ومساوق نفيه بالآية الأخرى (1). ومن
هنا نقول - أيضا - بعدم لزوم حمل ما لا يطاق على المشقة الشديدة، كما توهم.
نعم في شموله لرفع الحكم الوضعي من الجزء - بلحاظ نفي جزئيته -
إشكال، من جهة أن رفعه لا يقتضي وجوب البقية بعد عدم إطلاق [له] يشمل
حال [فقد] الجزء الآخر، إذ حينئذ، لا ملزم لإتيان البقية، وبه يمتاز عن فرض
النسيان. وهذا الكلام جار في فرض الاضطرار - أيضا - فلا يجري مثله - أيضا -
في الأحكام الوضعية.
نعم لا بأس بجريانه في النفسيات من التكاليف، إذا لم يكن بسوء اختياره
غير المناسب لسوق امتنانه، كما أشرنا إليه.
نعم في مثله لا يحتاج إرجاع رفعه إلى إيجاب تحفظه، لأنه بنفسه قابل لتعلق
الحكم به، فيرفع منة عليه.
وأيضا نقول: إن سوق الامتنان في فقرة الاضطرار يقتضي صحة المعاملة
التي أقدم عليها لاضطراره، لأن بطلانها يوجب ضيقا عليه، لموت عياله من
الجوع. ففي معاملاته لا بأس بشمول الحديث، حتى ما كان اضطراره بسوء
اختياره. ولا يجب عليه الحفظ في هذا المقام، لعدم انتهائه إلى فوت تكليف بسوء
اختياره، وبه يمتاز باب المعاملات عن باب التكاليف، كما أشرنا.
كما أنه يمتاز أيضا [عن] باب الإكراه، من حيث عدم اقتضاء الامتنان
صحة المعاملة في باب الإكراه دون الاضطرار، وإلا فمن [حيث] الطيب الفعلي،
والكره الاقتضائي، كلاهما سيان.



(1) الظاهر أن المقصود بالآية هي آية الحرج: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *
الحج: 78.
165
وتوهم الفرق بينهما باستقلال المضطر بالعمل، بخلاف المكره حيث إنه
بتحميل غيره، لا يجدي فرقا بينهما في الطيب والكره المزبور الذي هو المناط في
المكره عليه في باب المعاملات، ولذا يقال: " إن المأخوذ حياء كالمأخوذ غصبا "
مع أنه لا يكون بأمر غيره والزامه خارجا، كما لا يخفى.
نعم في الالتزام بكون الكره في المكره عليه أيضا اقتضائيا إشكال آخر:
من كونه خلاف ظهور كلية العنوان المأخوذ في موضوع الخطاب في [الفعلية]،
وحينئذ، قد يستشكل بأن [المكره] بعد ما كان باختياره يقدم على المعاملة، فلا
شبهة في وجود مبادئ إرادته [للعمل]، ومع هذه المبادئ لا يتصور كره، إذ الكره
مضاد مع الشوق الذي هو من مبادئ إرادته.
وتوهم كون المكره خاليا عن القصد والإرادة سفسطة، لا يعبأ به بحكم
الوجدان على خلافه.
ونظيره توهم اقتضائية الكره لما عرفت.
والذي يقتضيه التحقيق في المقام حفظ الجهتين على فعليتهما بتوضيح: أنه
إذا كان المكلف واقعا بين المحذورين - ولو من جهة التفاته إلى توعيد غيره -
فيصير أحدهما خارجا عن اختياره. وحينئذ إذا رجح الأهم (1) منهما - ولو
شهوة - يصير حينئذ بصدد اختيار ما هو أقل محذورا، وهذا المقدار من الاختيار
إنما يضاد كرهه بمقدار تعلق إرادته واشتياقه بإيجاده، وهو ليس إلا بسد باب
عدمه المقارن لعدم الأهم.
وأما باب عدمه المقارن لوجوده فهو منسد قهرا بانصرافه عن ايجاد الأهم،
ومع هذا الانسداد القهري يستحيل توجه الإرادة نحوه، فتبقى تلك الجهة على



(1) الأهم هو الأكثر ضررا فيرجح تركه باختياره.
166
[مكروهيتها] فيصدق في حقه أنه اختار شيئا فيه جهة كرهه. ومرجع ذلك
بالآخرة إلى تعلق الطيب ببعض أنحاء وجوده، لا بقول مطلق، فيبقى بعض أنحائه
الاخر على كرهه [ومبغوضيته].
ولقد بينا نظير هذا البيان في مقام تصور العبادات المكروهة في باب اجتماع
الأمر والنهي، كما أن باب الترتب والجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية
- أيضا - إنما يتم بمثل هذا البيان من التفكيك بين أنحاء حفظ الوجود من جهة دون
جهة. ولعمري إن ذلك باب ينفتح منه ألف باب، فتأمل فيه، وكن من الشاكرين.
ثم إنه لا يقاس باب الإكراه بباب الوعد على الخير في ارتكاب مكروهه،
إذ في مثله وجود الشئ مقدمة لمحبوبه، وهذا الوجود [طارد] لجميع الأعدام،
[فتصير] أعدامه مبغوضة.
وهذا بخلاف باب الإكراه على الوجود [فإن] ما هو مقدمة للمبغوض هو
نقيض الوجود الحاصل بفتح باب عدم واحد، والفرار عنه ليس إلا باختيار
نقيضه الذي هو عبارة عن سد واحد منها، كما لا يخفى.
ثم إن مجرى هذه الفقرة مختص بباب المعاملات بالمعنى الأخص بملاحظة
اعتبار الطيب فيها، ولا يكاد يجري في غيرها، إلا إذا وصل [إلى حد] الإلجاء
المساوق لعنوان الاضطرار. وحينئذ هذه الفقرة مع فقرة الاضطرار [متعاكستان]
في المجرى.
ومن جميع هذه البيانات ظهر أن لازم سوق النص المزبور في مورد
الامتنان كون المرفوع في كل فقرة من الفقرات التسع ما يناسب الامتنان، بضم
كون المرفوع من الأمور التي كان أمر [وضعها ورفعها] - ولو بالواسطة - بيد
الشارع. وحينئذ، ربما يكون في كل مورد أثر مخصوص: ففي الخطأ والنسيان
إيجاب التحفظ المستتبع لرفع وجوب الإتيان بالمنسي وما أخطأ، وكذا فيما لا يطاق.

167
وفي الاضطرار رفع الأحكام التكليفية النفسية أو الغيرية الثابتة في غير
موارد المعاملات بالمعنى الأخص، وأما في مثل هذه المعاملات، فرفع أثرها أو
التكليف [المترتب] على هذه الآثار خلاف الامتنان في حق المضطر إلى بيع داره
لقوت عياله.
وفي الإكراه رفع [الأثر] عن كل معاملة يعتبر في صحتها الطيب، بلا
صلاحية [اطلاقه لأن] يرفع الحكم التكليفي من سائر الجهات.
نعم لو وصل أمره إلى الإلجاء فيكفي في رفعه عنوان الاضطرار، [بل] ولا
[تشمل] فقرة الإكراه لمثله، إذ هو ظاهر في شرطية الطيب ومنصرف إليها، فلا
يشمل ما لا يكون الطيب شرطا فيها.
وفي " ما لا يعلمون " رفع إيجاب الاحتياط في ظرف الجهل بالواقع،
بالتقريب المتقدم ذكره.
ثم إن لازم رفع هذه الآثار، على [حسب] اختلافها باختلاف الفقرات
اشتراك الجميع لرفع استحقاق المؤاخذة الناشئة عن قبل الصادر عن هذه
العناوين برمتها. وحينئذ، فلك أن تقول في الجميع: المرفوع هو استحقاق
المؤاخذة ولو بمنشئه.
ولك - أيضا - القول بأن المرفوع جميع آثاره الشرعية [القابلة] للامتنان في
[رفعها]، لما عرفت بأنه ليس من شأن الحديث أزيد من ذلك.
ولك أن تقول - أيضا - بأن المرفوع في كل فقرة ما هو المناسب من أثره،
على ما فصل، وحينئذ لا يبقى مجال الترديد بين الاحتمالات الثلاثة إلا على فرض
قابلية الحديث لرفع الآثار [غير] الامتنانية - أيضا - أو عدم اقتضاء رفع
المؤاخذة الناشئة، كي يكون أحد الاحتمالات رفع المؤاخذة عن نفس هذه
الفقرات، لا الناشئة منها قبال [الأثر] المناسب.

168
ولا يخفى ما في الاحتمالين من وضوح الفساد، إذ سوق امتنان النص آب
عن تخصيص المؤاخذة بخصوص ما يترتب على المذكورات، كما أنه آب عن
الشمول لما لا امتنان فيه، كما لا يخفى.
ثم إن من التسعة: الطيرة والحسد والوسوسة. ومرجع رفع الأول إلى
ردعهم عما التزموا على أنفسهم بتطيراتهم.
ورفع الثاني - أيضا - إلى عدم لزوم [رفعه] ولو بالرياضات والمجاهدات،
وإن كان ذلك مستحسنا في مقام تحسين الأخلاق، كرفع سائر الصفات الذميمة،
[فرفعها] من الواجبات الأخلاقية، لا [الفقهية].
نعم [ترتب] الأثر الخارجي على مثل هذه الصفات ربما يكون حراما
[فقهيا] أيضا.
ومرجع رفع الوسوسة - أيضا - إلى رفع [حرمتها]، إذ ربما [تنجر] إلى
سوء العقيدة.
ففي أمثال هذه الفقرات الثلاث - أيضا - مقتضي التكليف - بنحو [ما]
تقدم - موجود، ففي [رفع] مثلها - تسهيلا على الأمة - كمال امتنان على الأمة.
هذا تمام الكلام في شرح الحديث الشريف، على ما أدى إليه نظري القاصر،
حسب استفادته من الأساطين.
ومنها: حديث الحجب (1)، بتقريب:
إن حجب علمه في مقام التشريع عبارة عن عدم ابلاغ مرامه إليهم بخطابه
واقعا. ومعنى وضعه عنهم حينئذ، عدم انشائه في ظرف الجهل به، ولو بايجاب



(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام): " ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم " الوسائل 18:
119، الباب 12 من صفات القاضي، الحديث 28.
169
[الاحتياط]، لا عدم إنشائه الرافع لجهله واقعا، فلا يشمل مثل هذا الحكم
وضع صرف الخطاب الواقعي، كي يساوق لما سكت.
كيف! وهذا المقدار مستفاد من نفس الموضوع، فلا يبقى مجال لترتيب
حكمه بقوله " موضوع عنهم "، إذ عنوان موضوعه (1) مساوق سكوته عن مرامه
بخطابه واقعا. وبعد ذا لا يعقل أن يكون المراد من الحكم - أيضا - وضع هذا
الخطاب المساوق لسكوته، إذ هو مساوق توضيح الواضح، فلا محيص من أن
يكون المراد من وضعه - الذي هو حكم ما حجب - وضع غير هذا الخطاب الرافع
لجهله، ومرجعه إلى رفع الخطاب في ظرف جهله بالمرام، وهو ليس إلا مثل
[ايجاب] الاحتياط غير الصالح لرفع الجهل، ولا يشمل [رفع صرف] الخطاب
الواقعي الداخل فيما سكت.
فمفاد الحديث، حينئذ، أنه في مورد سكوته عن مرامه، بعدم خطابه واقعا،
رفع الله الخطاب في ظرف جهله بهذا المرام أيضا رأفة ورحمة لهم، مع كمال اقتضائه.
فالحديث، حينئذ، مثل حديث الرفع أيضا دال على نفي ايجاب الاحتياط
المدعى للأخباريين، القابل لحمل ما ورد بلسان وجوب الاحتياط - عند
الشك - على الاستحباب.
نعم هذا الحديث بهذا التقريب مختص بموارد سكوته عن بيان مرامه
الواقعي [بعدم] خطابه واقعا. ولا يشمل غيره، لعدم صدق حجب العلم عنه في
مقام التشريع، فيكون أخص موردا من حديث الرفع السابق، فيحتاج - في
التسرية إلى غيره - [إلى] عدم القول بالفصل.
نعم لو أريد من حجب العلم حجبه في مقام التكوين - على بعد - فشموله



(1) أي ما وضعه الشارع عن الناس.
170
لموارد الجهل بالخطاب الواقعي أوضح، فيساوق - حينئذ - مفاده لمفاد حديث
الرفع السابق. وكان إباؤه عن الحمل [على] مفاد ما سكت أوضح.
وتوهم جعل " ما حجب " - حينئذ - من العناوين المشيرة إلى نفس ذات
تعلق [بها] حجب علمه، فيصير مفاده وضعه بوجوده واقعا مدفوع - علاوة
[على] كونه خلاف [ظاهر] العنوانية في كل ما أخذ في حيز الخطاب - [بأن]
الظاهر منه: أن حجب علمه علة وضعه، فقهرا يكون الوضع في الرتبة المتأخرة
عن الواقع، لا نفس الواقع، فتدبر. وحينئذ، لا مجال لحمل النص على صرف
سكوته عن الواقع بلا تعرض لظرف الجهل بمرامه، كي لا يرتبط بالمقام، كما
أشرنا، فتدبر.
ومنها: قوله (عليه السلام) " لا " في جواب من قال: " من لم يعرف شيئا، هل عليه
شئ؟... " (1) بتقريب: أن مورد السؤال فرض كل شئ لا يعرفه. وأن المراد
من قوله " لا ": عدم عقوبة عليه، ولا كلفة، بجعل الشئ الثاني في كلام السائل
عبارة عن العقوبة أو الكلفة، وأن الغرض من نفي العقوبة [نفيها] تشريعا، ولو
بنفي [منشئها] من إيجاب احتياط عليه، فيصح مثله - أيضا - ردا على
الأخباري.
نعم لو أريد من قوله: " لم يعرف شيئا " غفلته عن جميع أحكامه - كما قد
يتفق في أهل البوادي - أو أريد من قوله: " لا " نفيه إرشادا إلى قبحه بلا بيان فلا
يصلح - حينئذ - ردا على الأخباري، إذ الأول واضح، وهكذا الأخير، لأنه
- حينئذ - عبارة عن الكبرى المسلمة عند الطرفين.
ولكن الانصاف [أن] حمل عدم المعرفة على فرض الغفلة بعيد جدا. غاية



(1) الكافي 1: 164، الحديث 2.
171
الأمر اختصاص مورده بصورة عدم معرفة الأحكام بأجمعها، مع التفاته إليها.
وحينئذ، يكفي هذا المقدار - أيضا - لرد الأخباري بضم عدم الفصل، لو أريد من
قوله: " لا " نفي الشئ تشريعا، إذ - حينئذ - لا محيص من حمله على نفي منشئه،
وحينئذ تمام الكلام و [الإشكال] في هذا النفي، لإمكان كونه في مقام الإرشاد إلى
حكم العقل، فيخرج عن مورد البحث، كما لا يخفى.
ومنها: قوله (عليه السلام): " كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه
فتدعه " (1).
وتقريبه - على خلاف مدعى الأخباري من عدم الحلية في الشبهات
الحكمية خصوصا التحريمية منها - في غاية الوضوح.
نعم ربما يبقى إشكال آخر من تطبيق الكبرى المزبورة في ذيله على موارد
اليد والسوق، وأصالة الصحة، الحاكمة كلها على الكبرى المزبورة.
ويمكن [دفعه] بجعل الصدر حاكيا عن انشاءات الحلية بعنوانات مختلفة،
وجمع الكل ببيان واحد، الذي منها: إنشاء الحلية لعنوان المشكوك مثلا، وحينئذ
يستفاد المدعى من إطلاقه.
نعم الإشكال إنما يرد لو أريد منه إنشاء الحلية للمشكوك بشخصه، ولكن
لازمه طرح ذيله أو صدره، والجمع بين الجهتين بنحو [ما] ذكرنا أولى من الطرح.
نعم، بناء عليه ربما يشكل شموله للشبهات الحكمية، إذ بقية الانشاءات
المحكية كلها في الشبهات الموضوعية. وحينئذ: في غاية البعد حمل الانشاء في
ظرف الشك على الشبهة الحكمية أيضا. بل المتيقن في مقام التخاطب لمثله:
خصوص الشبهة الموضوعية.



(1) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4 مع تفاوت يسير.
172
وحينئذ يكون مثل هذه الرواية مساوقا لنص آخر من قوله: " كل شئ
فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه " (1)، إذ المنساق منه
- كما قيل (2) - إن كل كلي فيه فرد حلال فهو بجميع أنحائه حلال، حتى تعرف
الحرام من أفراده مشخصا في الخارج. وحينئذ، لا يشمل كليا يحتمل أنه لا حلال
فيه.
ولكن يمكن أن يقال في البين - أيضا - [إن] بعض الكليات التي فيها نوع
حلال ونوع حرام، كاللحم بالإضافة إلى الغنم والأرنب، فيشمله العموم، وتثبت
به حلية الفرد الثالث المشتبه مثل لحم الحمير، وأن وجود الفردين المعلومين فيه
- أيضا - منشأ الاشتباه في الفرد الثالث من لحم الحمير، كما هو الشأن في الشبهات
المصداقية، إذ وجود الفردين فيه - أيضا - منشأ الاشتباه [في الفرد] الثالث، وأن
المراد من الغاية معرفة الحرام في دائرة الشبهات كليا كان أو جزئيا.
وتوهم أن المراد من الرواية: حلية ما علم من الفردين في الكلي، بنحو
الاجمال فلا يشمل الفرد الثالث، مدفوع بأن لازم ذلك شمول الرواية لطرفي العلم
الاجمالي، بل و [اختصاصها] به، ولازمه طرح الرواية رأسا بملاحظة علية العلم،
ولو للمخالفة القطعية (3).
وحينئذ، فلا محيص من حمل الرواية على المعنى الأول، وأن العلم التفصيلي
بوجود الفردين منشأ للشك وعدم الغفلة عن وجود الحرام، لمحض الالتفات إلى
وجود حرام فيه ولو تفصيلا.



(1) الوسائل 12: 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(2) انظر فرائد الأصول 329 - 330.
(3) أي علية العلم لحرمة المخالفة القطعية.
173
وعليه: فلا قصور في الرواية للشمول للشبهات الحكمية أيضا بعين الوجه
[لشمولها] الشبهات الموضوعية الخارجة عن أطراف العلم الاجمالي، كما لا
يخفى، فتدبر.
ومنها: قوله " الناس في سعة [ما] لا يعلمون (1)، بتقريب: أن الرواية في
مقام تشريع السعة و [ترخيصها] في [ظرف] الجهل بالواقع. ويساوق
[مفادها] جعل الحلية في ظرف عدم العلم، فيصلح - حينئذ - [للقرينية] على
حمل دليل وجوب الاجتناب - عن المشتبه - على الاستحباب.
نعم لو أريد منه الإرشاد إلى نفي الحرج من قبل العقل - كما لا يبعد -
فيساوق مفاد قبح العقاب بلا بيان، من دون فرق في الاحتمالين أيضا بين كون
" ما " موصولة أو ظرفية، لولا دعوى أنه على الظرفية قابل لحمل عدم العلم على
الجهل بمطلق الوظيفة [الفعلية]. وحينئذ، يكون الحكم بالسعة إرشاديا إلى
الوظيفة العقلية جزما، فتدبر.
ومنها: قوله: " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي " (2) وتقريبه أيضا بعين
التقريب السابق بجوابه.
ومرجعه: إلى الدوران بين جعل الإطلاق تشريعيا - في ظرف الجهل
بالنهي - أم إرشادا إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
وأما احتمال حمل الإطلاق على الإطلاق الواقعي فهو بعيد [في الغاية]،
لأوله إلى توضيح الواضح، نظير ما عرفت في رواية الحجب، فتدبر.



(1) لم نعثر على الرواية بعينها، نعم في المستدرك 18: 20، الباب 12 من أبواب مقدمات
الحدود هكذا: " الناس في سعة ما لم يعلموا ".
(2) الوسائل 18: 127 - 128، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 60.
174
ومنها: قوله " إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم " (1) والظاهر منه
كونه في مقام نفي الاحتجاج بما لم يأتهم، ولو من جهة حكم العقل بقبح عقابه بلا
حجة من قبله. ولا يصلح مثله لرد الأخباري، وهو ظاهر.
ومنها: قوله في باب العدة: " إذا كان بجهالة [فليزوجها] بعدما [تنقضي]
عدتها، فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك... الخ " (2) بناء على كون
المراد من الأعظم ما يشمل العذاب الأخروي أيضا. وإلا فلو اختص بالعذاب
الدنيوي، من مثل الحد أو التعزير فغير مرتبط بالمقام، إذ المعذورية عن
العذاب الدنيوي غير [ملازمة] للمعذورية عن العذاب الأخروي، ولا يبعد
الأخير، ولو سياقا. مع أن ذيل الرواية ربما يوهن إطلاق [صدرها] من
حيث الجهالة بالحرمة، إذ في ذيلها جعل الجهالة من حيث الحرمة مما لا يقدر
معه على الاحتياط، بخلاف الجهالة بأنها في العدة. ولذا جعل الجهالة بالحرمة
أعذر.
ولا وجه للتفكيك بينهما إلا دعوى حمل الجهالة بالحرمة على الغفلة، لبعد
الجهل بها مع الالتفات ممن كان نشوه في الاسلام ومعاشرا مع المسلمين، بخلاف
الجهالة بموضوع العدة، فان الجهل [بها] موضوعا لكثير.
نعم الجهل بأصل ضرب العدة حكما - أيضا - حاله حال الجهل بالحرمة،
وحينئذ ربما يصلح الذيل مع هذا الاحتمال للقرينية على الصدر، فلا تشمل الرواية
[مورد] النزاع، بل في ظرف الالتفات [تختص] بالشبهات الموضوعية المساوقة
للجهل بالعدة موضوعا، فتدبر.



(1) الكافي 1: 164، الحديث 4.
(2) الوسائل 14: 345، الباب 16 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة، الحديث 4.
175
[الاستدلال على البراءة من غير الكتاب والسنة]:
ثم إنه قد يستدل عقلا للقول بالبراءة ب‍ " قاعدة قبح العقاب بلا بيان "، وفي
قباله توهم [معارضتها] بقاعدة " دفع الضرر المحتمل "، بل ورود الثانية على
الأولى، [لكونها] بيانا رافعا لموضوع القبح المزبور.
ولا يخفى ما في الأخير، إذ [بيانيتها منوطة] بتطبيق حكمه بوجوب الدفع،
وهو فرع وجود موضوعه [في] الخارج، إذ يستحيل مجئ الموضوع من قبل
حكمه. وحينئذ لا مجال لاحتمال الضرر من قبل هذا الوجوب، والمفروض عدم
بيان آخر غيره، وحينئذ لا يبقى مجال لاحتمال الضرر، إلا احتماله في ظرف
[اللا بيان] وبديهي أن هذا الاحتمال منفي بقاعدة القبح [فتكون] قاعدة القبح
[واردة] على [الثانية] لا العكس.
نعم الذي يسهل الخطب أن قاعدة القبح بكبراها مسلمة عند الطائفتين،
وإنما نزاعهما في صغراها. وبديهي أن في مورد البحث في الصغرى لا مجال للتشبث
بالكبرى، إذ للأخباري أن يدعي بيانية أدلة الاحتياط من [الأخبار وغيرها]،
فعلى القائل بالبراءة دفع هذه الجهة، كما لا يخفى.
وقد يتشبث للبراءة - أيضا - بالإجماع. وقيل (1) في دفعه بأنه مع وجود
هذا الخلاف العظيم كيف يبقى مجال دعواه؟
ولكن، يمكن أن يقال: إن ما أفيد إنما يتم لو كان وجه حجية الاجماع
قاعدة اللطف، وإلا فلو كان المدرك حسن الظن بفتوى أساطين الفن بنحو
[تقتضي] العادة مطابقة فتواهم مع رأي رئيسهم، [فليست] دعواه [بعيدة] كل



(1) انظر فوائد الأصول 3: 365.
176
[البعد]. ولا [تصلح] فتوى الجامدين [على] مضامين النصوص - مع قلة باعهم
في النظر في أطراف المطلب وفي القرائن الخارجية والداخلية - للمزاحمة مع فتوى
أساطين الفن المتبحرين في صنعتهم مع اتصال [طريقتهم] بطريقة أصحاب الأئمة
وديدنهم، فإن الحدس كله يقتضي كون رأيهم هذا عن رأي رئيسهم، فتدبر.
وقد [يقرب] حكم العقل بالبراءة بأن التكليف بما لا طريق إليه تكليف بما
لا يطاق.
وربما يوجه بأن المقصود من التكليف التوصل به إلى وجود المرام، ولو في
ضمن بقية مقدماته، ومع الجهل به لا يكاد يتوصل به كذلك، لأن لتطبيق المكلف
- أيضا - دخل فيه، ومع عدم تطبيقه للتالي (1) يبقى وجود التكليف لغوا، لعدم
التوصل به إلى المرام رأسا. ولكن يمكن أن يقال: إنه يكفي في الخروج عن اللغوية
كون احتماله موجبا أحيانا لترتب المقصود، ولو بتطبيقه رجاء. وحينئذ، لا يلزم
من الالتزام بوجود التكليف مع الجهل به محذور. وحينئذ، ليس المرخص في
مخالفته إلا قاعدة القبح، كما لا يخفى.
وقد يستدل للبراءة - أيضا - باستصحابها.
وتقريب هذا الاستصحاب بوجوه: فتارة: يراد منه استصحاب نفس
براءة ذمة المكلف، وهو المسمى عندهم باستصحاب حال العقل.
وأخرى: يراد استصحاب عدم اللزوم في مرتبة الجهل بتكليفه الواقعي.
وثالثة: يراد استصحاب عدم اللزوم واقعا.
أما التقريب الأول فلا يكاد [يجري] الاستصحاب فيه، إذ شأن



(1) هذه الكلمة مأخوذة من المحاورة العراقية العامية والمراد منها تأكيد النفي فالمقصود أنه: مع
عدم امكان تطبيقه بأي نحو كان يبقى وجود التكليف لغوا.
177
الاستصحاب على كل واحد من مسلكي الظن والتعبد، إثبات ترخيص في الرتبة
المتأخرة عن الظن بالواقع أو شكه، وليس شأنه - ولو بدليل اعتباره - رفع الشك
أو الظن بالمتيقن السابق. ولازمه احتمال بقاء المستصحب في ظرف جريانه.
وحينئذ، يلزمه احتمال عدم البراءة عن [التكليف]. وهو - مع أنه مقطوع العدم
بقبح العقاب - لا يعقل الترخيص في ظرف الشك به، إذ حكم العقل بتحصيل
البراءة اليقينية حكم تنجيزي يستحيل الترخيص على خلافه.
نعم لو أغمض عما ذكرنا، لا يبقى مجال [لدعوى] أن المستصحب من
الأحكام العقلية وشأن الاستصحاب - على التعبد - عدم إثباته، لأنه يقال:
بأن مثل هذا العقلي [لما] كان بمنشئه شرعيا، فلا بأس بشمول دليل التعبد لمثله.
وأما التقريب الثاني: فلا قصور في شمول دليل الاستصحاب - ولو على
التعبد - لمثله.
وتوهم أن العقل مستقل بهذا الترخيص لقبح العقاب فلا يترتب على
الاستصحاب أثر عملي، مدفوع ب‍ - أنه مضافا إلى إمكان [وجود] أثر
للترخيص الشرعي ولو بمثل توهم الاجزاء به - أن ذلك يتم لو لم يكن واردا على
حكم العقل، ومع وروده عليه فالأثر مترتب عليه دون الترخيص العقلي.
وأما التقريب الثالث: فلا قصور في استصحابه، بلا ورود إشكال عليه
حتى الإشكال الوارد على الوجه الثاني، إذ الاستصحاب بيان لنفي الواقع
ف‍ [ترتفع] به قاعدة [القبح] قهرا، ولا يزاحم الترخيص في ظرف حكم العقل
المتأخر عن الواقع برتبتين، الذي هو نتيجة قاعدة القبح مع الترخيص في ظرف
الجهل بنفس الواقع المتأخر عنه برتبة واحدة، وبه يمتاز المقام [عن] الوجه
السابق، إذ الترخيص الاستصحابي في طول الشك في اللزوم الظاهري، وهو
أيضا متأخر عن الواقع برتبتين، ولذا يجئ منه توهم المزاحمة مع القاعدة هناك
دون المقام، فتدبر بالنظر الدقيق.

178
المقالة السادسة عشرة
أدلة القائلين بالاحتياط في الشبهات الحكمية

179
[المقالة السادسة عشرة]
[أدلة القائلين بالاحتياط في الشبهات الحكمية]
في بيان أدلة القائلين بالاحتياط في الشبهات الحكمية خصوصا التحريمية
منها. وقد استدلوا على مدعاهم بالأدلة الثلاثة:
فمن الكتاب بآيات، منها قوله عز وجل: * (اتقوا الله حق تقاته) * (1)
و * (جاهدوا في الله حق جهاده) * (2) * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (3) و * (لا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة) * (4) * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * (5).
ومنها الآيات الناهية عن العمل بغير علم (6) هذا ما ظفرنا [به] منهم.



(1) آل عمران: 102.
(2) الحج: 78.
(3) التغابن: 16.
(4) البقرة: 195.
(5) النساء: 59.
(6) منها ما ورد في الاسراء: 36.
181
ولا يخفى ما في جميعها.
أما الأولى: فمضافا إلى أن الظاهر من حق التقوى المرتبة الكاملة منه،
ولازمه صدور مرتبة أخرى من التقوى المعلوم حسنه بجميع مراتبه، فيصلح
حينئذ حمله على الترغيب بتحصيل الأكمل، لا لزومه، وإن كان ممكنا، فلا
يضاده، لحسن بقية المراتب أيضا كما لا يخفى. إذ توهم هذا الترغيب يمنع عن حمل
ظهور الأمر على اللزوم، فيكون من باب اتصال الكلام بما يصلح [للقرينية]، مع
أن لزوم تحصيل أعلى المراتب ينافي الترخيصات السابقة الموجبة للاكتفاء بأقل
منها، فالأمر يدور بين طرح الرخصة السابقة رأسا أو حمل هذا الأمر على
الترغيب. ولا شبهة أن الثاني أولى، خصوصا بقرينة قوله تعالى: * (إن أكرمكم
عند الله أتقاكم) * (1).
ومما ذكرنا ظهر حال الآية الثانية، علاوة على ظهورها في الجهاد بالمعنى
الأخص غير المرتبط بالمقام، وحينئذ ربما يناسب حق الجهاد وأعلاه - حينئذ -
مع اللزوم، بلا صلاحية للحمل على المرغوبية، بخلاف الجهاد بالمعنى الأعم، إذ
يجئ فيه ما ذكرناه في التقوى كما لا يخفى.
ومنه ظهر حال الآية الثالثة، علاوة على امكان حمل " ما " على الظرفية
الزمانية، فيدل على لزوم أصل التقوى، لا أعلاه، وظاهر أنه يكفي فيه امتثال ما
تنجز عليه من التكاليف خارجا، بلا احتياج إلى ارتكاب الشبهات [غير
المنجزة] عليه من الخارج.
واما الآية الرابعة ففيها: أنه مساوق حكم العقل بوجوب دفع الضرر
المحتمل في ورود قاعدة القبح عليه، وعدم صلاحية النهي المزبور للبيانية التي



(1) الحجرات: 13.
182
شأنها مجئ التهلكة من قبله، [لأنه] من أحكام المفروغ وجود التهلكة [فيه].
وتوهم أن من الممكن كون المخاطبين بالآية تم في حقهم البيان في الشبهات
بإيجاب الاحتياط، وبقاعدة الملازمة يثبت الايجاب المزبور في حق غير المخاطبين
[فتشملهم] الآية مدفوع [بأن] ذلك فرع شمولها للشبهات، وعدم اختصاصها
بموارد تمامية البيان المعلوم [وجوده] من الخارج، وهو أول الكلام.
نعم لا بأس بجريان هذا التقريب في أخبار الوقوف عند الشبهة الآتية
بتوهم إطلاق الشبهة حتى للبدوية، وسيأتي جوابه إن شاء الله.
وأما الآية الخامسة فموضوعها صورة تمكنهم عن إزالة الشبهة، والمجتهدون
معترفون فيها بعدم جواز الارتكاب، مع إمكان حملها على صورة تعارض
النصين، وأن الغرض من الرد إلى الله والرسول بموافقة الكتاب والسنة، وحينئذ
لا [ترتبط] بباب ارتكاب الشبهات كما لا يخفى.
وأما الآيات الناهية عن الحركة مع عدم العلم فظاهر إطلاقها [إرادة]
عدم العلم بمطلق الترخيص من ناحية الشارع، وحينئذ الترخيصات السابقة
واردة على الآيات الناهية.
نعم لو قيل بانصرافها إلى عدم العلم بالواقع ربما تقع المعارضة بين هذه
النواهي مع الترخيصات السابقة، ف‍ [- يصح] حينئذ رفع اليد عن ظهور النهي
في الإلزام بالترخيص على خلافه، كما هو الديدن في كل نهي أو أمر في قبال
الترخيص على خلافهما.
واستدلوا أيضا بالسنة، بطوائف من الأخبار:
منها: ما دل على الأمر بالوقوف عند الشبهة المعللة بالاقتحام في الهلكة (1).



(1) الوسائل 18: 86، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1 و 116، الباب 12 من
أبواب صفات القاضي، الحديث 15 وغيرهما.
183
ومنها: ما دل على الأمر بالتوقف مطلقا بلا تعليل بالهلكة (1).
ومنها: ما دل على الأمر بالوقوف ورد حكمه إلى الله ورسوله وعدم القول
بالآراء (2).
ومنها: ما دل على الأمر [بالاحتياط] (3).
ومنها: ما دل على النهي عن القضاء بغير علم، بل ومطلق القول به (4).
هذا ما ظفرنا به من الأخبار، ويمكن الجواب عن الجميع:
أما عن الطائفة الأولى: بأن التعليل بالهلكة يوجب اختصاصها بموارد
تمامية البيان.
وتوهم إطلاقها للشبهات البدوية فيجري فيها التقريب السابق الذي
أشرنا إليه في آية [التهلكة] مدفوع بأنه - بعد اقتضاء إطلاق حديث الرفع عدم
ملازمة الشبهة البدوية من الصدر الأول للهلكة برفع إيجاب الاحتياط في حقهم
أيضا - يعارض (5) مضمون هذه الأخبار المقتضي للملازمة المزبورة بالتقريب
السابق المسطور، فيوجب حينئذ تخصيصها بغير الشبهات البدوية بعد الفحص،



(1) الوسائل 18: 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9، و 86، الباب 9 من
أبواب صفات القاضي، الحديث 37.
(2) الوسائل 18: 121، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 31.
(3) الوسائل 18: 112، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1 و 123، نفس
الباب، الحديث 41.
(4) راجع الوسائل 18: 111، الباب 12 من أبواب صفات القاضي.
(5) اي ان اطلاق حديث الرفع حينئذ يعارض مضمون هذه الأخبار المقتضي للملازمة
المزبورة.
184
كما لا يخفى.
وأما الطائفة الثانية: فهي وإن كانت سالمة من الإشكال السابق، ولكن
قابلة للتخصيص بالشبهات الثانوية بحديث الرفع أو الحمل على الاستحباب
بقرينة الترخيصات الأخرى.
وأما الطائفة الثالثة: فهي أيضا مثل الآية الخامسة محمولة على صورة
التمكن من إزالة الشبهة.
وأما الطائفة الرابعة: فمع الإغماض عن الشبهات الواردة عليها في
المطولات نقول: بأنها قابلة للحمل على بيان الحكم الاقتضائي، بقرينة رفع
فعليتها بمثل حديث " الرفع والحجب "، فنتيجتها حينئذ ليس إلا رجحان
الاحتياط خصوصا في مثل قوله: " أرى لك أن تأخذ الحائطة لدينك " (1)،
وقوله: " أخوك دينك " (2)، وأمثالهما الآبية عن استتباعها للمؤاخذة أصلا.
وأما النواهي عن القضاء فنحن أيضا نقول به، وهو لا ينافي معذورية
المكلف، عملا بالأدلة السابقة.
ثم إنهم قد يتشبثون بحكم العقل بوجوب الاحتياط في دائرة الشبهات
بملاحظة [الطرفية] للعلم الاجمالي في دائرتها أجمع بوجود واجبات
ومحرمات منجزة به المنتهي إلى استقلال العقل بوجوب تحصيل الفراغ اليقيني
غير الحاصل إلا بالاحتياط في الشبهات أجمع.
أقول: قد تقدم في بحث الانسداد [أنا] في المقام - بملاحظة بطلان الخروج
من الدين بالضرورة ولو لم يكن في البين علم إجمالي أو لم نقل بمنجزيته رأسا -



(1) الوسائل 18: 122 الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 37.
(2) الوسائل 18: 123 الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 41.
185
[يكشف] وجود طريق معتبر في البين بمقدار يرتفع به محذور الخروج المزبور،
وهذا [المقدار] يكفي لانحلال المعلوم بالإجمال بمثل هذا الطريق. وبه يخرج العلم
الاجمالي المزبور عن المنجزية كما هو مرام القائلين بالانسداد، وأن الظن مرجع في
مقام الإثبات.
بل ولئن اغمض عن ذلك، وقلنا بأن المنجز هو العلم الاجمالي فلا شبهة في
أن قاعدة الحرج بضم المقدمة الأخيرة (1) [توجب] صرف تنجزه في دائرة
الظنون، فلا يفيد مثل هذا العلم لوجوب الاحتياط في الشبهات الخارجة عن
دائرة الظنون رأسا.
إن ذلك كله أيضا خلاف مسلك الأخباريين القائلين بالظنون الخاصة
[التي قام] عليها الدليل من غير ناحية مقدمات الانسداد، التي منها بطلان
الخروج من الدين. وإلا فيكفي قيام الظنون الخاصة من الأخبار بمقدار المعلوم
بالإجمال لانحلال العلم الاجمالي أيضا. وحينئذ - على أي مسلك - لا تنتهي النوبة
إلى وجوب الاجتناب في الشبهات [البدوية] من قبل العلم الاجمالي المسطور.
وحيث انجر الكلام إلى هنا بقي الكلام أولا في وجه خروج العلم الاجمالي
عن المنجزية بقيام الطريق على أحد أطرافه بمقدار المعلوم، ثم في بيان شرائطه
وأقسامه، فهنا مقامات:
المقام الأول: في وجه عدم المنجزية.
فقد يتوهم بأن لازم قيام الطريق على أحد طرفي العلم انقلاب العلم
الاجمالي حقيقة [إلى] العلم التفصيلي، وعدم بقاء العلم على إجماله بحاله كي يكون
منجزا لمعلومه القابل للانطباق على الطرفين.



(1) المتقدمة آنفا.
186
وفيه: أولا بأن ذلك لا يتم في الطرق غير العلمية، لعدم حصول العلم
التفصيلي بالواقع فيها، فلا موجب لانقلاب العلم الاجمالي [بالواقع] عن حاله.
ثم على فرض علمية الطريق لا يجدي وجوده في انقلاب المعلوم بالإجمال
إلى التفصيلي، إذ كل واحد من العلمين متعلق بصورة غير الأخرى، إذ الصور
الإجمالية مباينة مع التفصيلية ذهنا وإن [كانتا متحدتين] أحيانا في الخارج، ومع
اختلافهما فكل علم متقوم بمتعلقه بلا موجب لقلب أحدهما بالآخر.
ولا يقاس المقام بباب الأقل والأكثر، إذ الاجمال هناك في حدي الأقل
والأكثر، وإلا ففي نفس الذات ما [تحقق] من الأول إلا علم تفصيلي بالأقل
والشك في الأكثر. وأين هذا ومقامنا الذي كان الاجمال في نفس الذات باقيا على
حاله وإن تحقق علم تفصيلي بأحد الطرفين كما هو ظاهر. وحينئذ فليس مقامنا
بقول مطلق من باب الانحلال بنحو الحقيقة علمية كانت الطرق التفصيلية أم ظنية.
وحينئذ فالتحقيق أن يقال: إنه مع قيام المنجز - أيما كان - في أحد الطرفين
يخرج العلم الاجمالي عن تمام المؤثرية في هذا الطرف، فقهرا يصير جزء مؤثر.
ومن البديهي أن شأن الجزئية خروجه عن الاستقلال في التأثير، ولازمه عدم
استقلاله [في] تأثيره في الجامع الاجمالي، إذ يستحيل استقلاله في الأثر بالنسبة
إلى الجامع المزبور إلا في صورة سريان الاستقلال المزبور في كل واحد من
الطرفين، فمع عدم قابلية السريان إلى [الطرف] الآخر يستحيل قيام الاستقلال
بحاله بالإضافة إلى الجامع. وحينئذ ينحصر تأثيره الفعلي الضمني بطرف واحد،
فلا يبقى له بالنسبة إلى الآخر تأثير أصلا، إذ هو فرع بقائه على فعلية التأثير
بالنسبة إلى الجامع، فإذا فرضنا انحصار فعلية تأثيره الضمني بالنسبة إلى طرف
واحد فيخرج الجامع عن المؤثرية الفعلية الضمنية، ولازمه عدم تأثيره في الطرف
الآخر رأسا، إذ هو فرع استقلال الجامع في التأثير، والمفروض خروجه عنه.

187
وبعد لا يقتضي [مثل] هذا العلم أثرا بالنسبة إلى الطرف الآخر كما هو ظاهر.
وعليه فليس المقام بالنسبة إلى جميع أنحاء الطرق بل والأصول المثبتة إلا
بمنوال واحد من كون الانحلال في الجميع حكميا لا حقيقيا.
وأما المقام الثاني: فلا شبهة في أن شرط الانحلال فعلية الطريق التفصيلي
حين العلم الاجمالي كي به يخرج عن الاستقلال في الأثر. وحينئذ مجرد قيام طريق
في زمان سابق [على] العلم الاجمالي مع عدم بقائه على طريقيته حال وجود العلم
الاجمالي غير كاف في خروج العلم الاجمالي عن التأثير، من دون فرق بين قيام
الطريق السابق على التكليف السابق الباقي إلى حين العلم الاجمالي بالتكليف
الجديد أو بحدوث تكليف جديد حين وجود المعلوم بالإجمال، إذ مع عدم [بقاء]
الطريق السابق على طريقيته حين العلم الاجمالي لا موجب لانقلاب العلم
الاجمالي عن استقلاله في التأثير في متعلقه القابل للانطباق على طرف التكليف
المحتمل الجديد.
وتوهم أن التكليف الجديد يتنجز فعلا بقيام الطريق عليه سابقا لا معنى له،
إذ كل طريق إنما ينجز التكليف حين وجوده، ولا يصلح [لتنجيزه] ولو بعد
انعدامه، خصوصا لو انقلب الطريق السابق [إلى] ضده أو نقيضه، وحينئذ لا
يكفي مجرد سبق الطريق للانحلال.
كما أن لحوق الطريق زمانا، بل ورتبة أيضا لا يكفي لمنع تأثير العلم
الاجمالي السابق الباقي فعلا عن المنجزية في طرفيه، إذ مع سبق الرتبة فالأمر
واضح، لعدم صلاحية المتأخر رتبة للمنع عن تأثير السابق المقارن معه زمانا.
و [بهذا] البيان أيضا نلتزم بأن العلم بالملاقي والطرف لا يمنع تأثير العلم
السابق عليه رتبة، فلا يبقى لهذا العلم اللاحق محل تأثير أصلا، وسيتضح
توضيحه في محله إن شاء الله.

188
وأما في سبق الزمان فلانتهاء الأمر إلى علم إجمالي بتكليف في زمان وآخر
في زمان آخر بلا قيام طريق [على] واحد من طرفي هذا العلم.
ومجرد قيام الطريق حين وجوده على أحد طرفي العلم بالتكليف في هذا
الآن دفعة لا يجدي [في] منع [منجزية] العلم الآخر التدريجي.
ولئن شئت توضيح الحال فانظر إلى الشكل المرتسم في البين بفرض
كل نقطة تكليفا والخطوط بينهما (1) ميزانا للطرفية للعلم الاجمالي، والدائرة
الصغيرة علما تفصيليا أو مورد اضطرار أو تلف أو الخروج عن [الابتلاء]،
والشكل
هذا.
ولعل بالنظر إلى هذا الشكل يتضح ما تلوناه [عليك] إن شاء الله.
وبهذا البيان نلتزم ببقاء العلم الاجمالي على منجزيته في الطرف الباقي في
صورة تلفه بعد العلم، وسيجئ توضيحه أيضا في محله.
ومن هذا الباب أيضا صور طرو الاضطرار إلى المعين أو الخروج عن
الابتلاء بعد العلم، إذ جميعها تحت بيان واحد من انقلاب العلم في جميع هذه الصور
من الدفعي إلى التدريجي كما لا يخفى.
وتوهم عدم صلاحية العلوم التدريجية للمنجزية لخروج أحد [طرفيها]
عن الابتلاء كلام ظاهري، إذ الغرض من الابتلاء الكافي في [منجزية] العلم
انتهاء أمره إلى العمل بالتكليف ولو تدريجيا، وما هو مضر بمنجزية العلم صور
عدم انتهاء النوبة إلى العمل به أصلا بنحو يكون الخطاب به لغوا ولو عند العقلاء،
وليس الأمر كذلك في المقام، كما هو ظاهر.



(1) أي الخطوط المرتسمة بين النقطتين.
189
مضافا إلى أن لازم ما أفيد عدم منجزية العلم الاجمالي بالمتضادين في
زمان واحد، كالعلم بوجوب [إحدى] الصلاتين أو الصومين أو الحج في
[إحدى] السنتين، وهكذا. ولا أظن التزامه من أحد.
ومن هذه البيانات ظهر أن شرط الانحلال قيام الطريق التفصيلي على أحد
طرفي العلم الاجمالي مقارنا له، سواء كان بحدوثه سابقا أم لاحقا.
ومن شرائطه أيضا عدم قيام الطريق على تعيين المعلوم [بالإجمال] في
طرفه، بأن يكون قائما على صرف وجود تكليف في طرفه بنحو يحتمل كونه غير
المعلوم بالإجمال، وإلا فيخرج العلم عن التأثير، ولو قام هذا الطريق المعين بعد
العلم الاجمالي، لاكتفاء العقل في ظرف الفراغ عن المعلوم بما هو مصداقه ولو
جعليا، كما هو الشأن في العلوم التفصيلية، وهو الذي يعبر عنه بجعل البدل، وهو
في الحقيقة تصرف في مرحلة الفراغ بعد الفراغ عن تأثير العلم في مرحلة الاشتغال
قبال باب الانحلال الذي هو تصرف في تأثير العلم في مرتبة أصل الاشتغال.
ولقد أشرنا إلى المرتبتين في بحث القطع في طي شرح القطع الاجمالي،
وأشرنا هناك أيضا [إلى] عدم [صحة] جعل [البابين] شاهد اقتضاء العلم
للموافقة القطعية بعد الجزم [بعليته] للمخالفة القطعية، إذ نتيجة هذه التفرقة تظهر
في [جريان] الأصل النافي في أحد الطرفين حتى مع عدم الانحلال لا جعل البدل.
مع أن [العقل] حاكم تنجيزا [بتحصيل] الجزم بالفراغ في ظرف الاشتغال وأن
لا يكتفى بصرف الشك في الفراغ، كما هو الشأن في العلم التفصيلي.
ففي الحقيقة روح نزاع العلية والاقتضاء إنما هو في إمكان الترخيص
[الشرعي] الصالح للمانعية في ظرف الجهل بالفراغ فارغا عن تحقق الاشتغال
وعدم [معين] للفراغ.
وأين هذا وباب الانحلال الموجب لعدم تأثير العلم في أصل الاشتغال،

190
وباب جعل البدل المعين للفراغ بلا اكتفاء بصرف الشك في الفراغ، ولذا نقول
كرارا بأن العلم الاجمالي في هذه المرحلة كالعلم التفصيلي، إذ بعد [عليته]
للاشتغال بما تعلق به من الجامع - لعدم قصوره في هذا المقدار عن العلم التفصيلي -
فلا جرم يصير كل واحد من طرفيه مما احتمل فيه التكليف المنجز. والعقل في هذا
المقام أيضا يحكم [تنجيزا] وبنحو العلية في العلم التفصيلي بتحصيل الجزم
بالفراغ، وحينئذ لا يبقى لمرحلة الاقتضاء القابل لمنع المانع في ظرف تأثيره في
الاشتغال - بعدم الانحلال وفي ظرف عدم معين للفراغ كالعلم التفصيلي - [مجال]
أصلا. ولذا نقول بأن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي في العلية المزبورة كما [أفاد]
شيخنا العلامة (1) أعلى الله مقامه في بحث الشبهة الوجوبية بالتصريح بما ذكرنا.
ولعمري إن وقوعهم في حيص وبيص، والتزامهم بالتفكيك في الاقتضاء
والعلية بالنسبة إلى الموافقة القطعية والمخالفة إنما هو من جهة مسامحتهم في تعمق
النظر في المقام. وخذ من شيخنا النحرير في هذه الصنعة بضميمة ما شرحناه في
شرح مرامه وكن من الشاكرين.
المقام الثالث: ان الطريق القائم على أحد الطرفين تارة علمي، وأخرى
تعبدي، وثالثة أصل تنزيلي، أو مثبت غير تنزيلي كإيجاب [الاجتناب]
والاحتياط - شرعيا أم عقليا - ولو بمثل قاعدة الاشتغال من غير ناحية هذا العلم
الاجمالي كقاعدة الاشتغال بالصلاة المشكوك إتيانها في [وقتها] مع العلم
الاجمالي [بوجوبها] أو وجوب صلاة أخرى [خارجة] عن [وقتها] مثلا، فإن
الاشتغال الحاصل من العلم التفصيلي في أحد طرفي العلم الاجمالي مانع عن تأثير
العلم المزبور في الاشتغال بالتقريب السابق، فلا بأس حينئذ بترك المشكوك الآخر



(1) انظر فرائد الأصول 2: 442 وما بعدها.
191
والاكتفاء بمورد القاعدة المسطورة كما لا يخفى.
ثم إن من موارد الانحلال أيضا صورة قيام علم إجمالي آخر على أحد
طرفي العلم الأوسع بمقدار المعلوم بالإجمال كما هو الشأن في بقية الطرق التفصيلية
أيضا.
وإلى هذا الباب مرجع كلام الفصول في تخصيصه الحجية في باب الانسداد
بخصوص الظن بالطريق في قوله: " ومرجع العلمين إلى علم واحد " (1) بلا نظر منه
إلى انقلاب التكاليف الواقعية بمفاد أدلة الطرق كما توهم.
ومن هذا الباب أيضا صورة منجزية الطرق القائمة على أحد طرفي العلم
من الأول مقارنا للعلم الاجمالي من جهة الشبهة قبل الفحص، إذ حينئذ لا يضر
الظفر بأشخاصها بعد العلم الاجمالي زمانا في [موجبيته للانحلال]، إذ بالظفر بها
بعد العلم يستكشف موجبيته لحل العلم السابق من حين وجوده، ولا يرتبط هذا
المقام أيضا بصور الظفر بالأمارة غير المنجزة سابقا، إذ هو الذي أشرنا إليه سابقا
من عدم تأثيره في [منجزية] العلم الاجمالي السابق بنحو التدرج فراجع. وحينئذ
نقول:
إن من هذا الباب مقامنا من كون الطرق الشرعية التفصيلية مانعة
- بمنجزيتها من حين العلم قبل الفحص عنها - عن العلم الاجمالي المسطور. ولولا
هذه المنجزية السابقة قبل الفحص عنها لما يكاد تأثيرها بوجودها المتأخر عن
العلم في منع العلم الاجمالي عن التأثير، وإن كان متعلق الطريق المزبور التكاليف
المقارنة مع المعلوم سابقا، إذ المانع علمها المقارن، لا وجودها واقعا كما شرحناه،
فتدبر في المقام أيضا فإن كلماتهم في المقام أيضا لا [تخلو] عن تشويش، وليس



(1) انظر الفصول الغروية: 277.
192
ذلك أيضا إلا من جهة مسامحتهم في التدقيق، وإلا فهم أجل شأنا من هذه
الاشتباهات، وخذ ذلك أيضا منا وتشكر.
المقام الرابع: هو أن من المعلوم أن من لوازم اقتضاء العلم الاجمالي
للموافقة القطعية - على ما أشرنا إليه سابقا أيضا في بحث العلم الاجمالي - أنه لو
فرض في مورد جريان الاستصحاب في طرف والقاعدة في طرف آخر، يتساقط
الأصلان، ويرجع إلى القاعدة المحكومة في طرف الاستصحاب بلا معارض.
وتوهم عدم جعل الطهارتين مثلا في طرف واحد فلازم سقوط مضمون
الاستصحاب في مورده بالمعارضة عدم بقاء الطهارة في مورده أصلا، فلا يبقى
لمضمون القاعدة مجال وجود كي تجري بلا معارض، مدفوع غاية الدفع.
أولا: بأنه لا مانع لجعل الطهارتين بنحو [الطولية] على وجه يكون
أحدهما في ظرف عدم الآخر، وما هو ممنوع جعلهما عرضا. ومقامنا من قبيل
الأول لا الثاني.
ولئن اغمض عن ذلك نقول: إنه من الممكن جعل الطريق على المجعول
[الواحد] وله ظهوران طوليان بحيث بانعدام حجية أحد الظهورين [تتحقق]
حجية الآخر. ويكفي في الغرض من مثل هذا الجعل انتهاء أمر المكلف في مثل هذا
الفرض إلى أخذه بالطهارة في طرف واحد بلا لزوم اجتنابه عنه.
وبمثل هذا البيان التزموا في تأسيس الأصل في الماء المتمم كرا بالمتنجس
مثلا بأن بعد معارضة الاستصحاب في المائين المتصلين بالآخر وتساقطهما يرجع
إلى قاعدة الطهارة، وليس ببال أحد هنا شبهة عدم جعل الطهارتين مثلا، فراجع
كلماتهم. بل وفي كلية ما أسسوا، بأن مع عدم جريان الأصل الحاكم يرجع إلى
المحكوم من دون [تفصيل] في هذا التأسيس بين كون عدم الجريان للمعارضة أو
[غيرها] مع وحدة المحل أو [غيرها]، مع أن شبهة عدم جعل الحكمين [سيال] في

193
جميع هذه الموارد التي كان سقوط الحاكم [بالمعارضة] مع وحدة المحل فتدبر.
ثم لئن اغمض عن ذلك نقول: إن نتيجة [التفصيل] المزبور بين الاقتضاء
والعلية إنما [تنتهي] إلى التساقط لو كان الأمر يؤول إلى تخصيص دليل أحد
الأصلين، ولكن من الممكن رفع محذور المخالفة القطعية بتقييد دليل الأصل - الذي
هو أهون من التخصيص - بصورة مخالفة الآخر في الطرف الآخر، فإنه حينئذ
يجري الأصل في كل واحد من الطرفين مشروطا بعدم العمل بالآخر، ولازمه
ليس إلا [التخيير] في ارتكاب أحدهما دون الاجتناب عنهما كما لا يخفى.
ولا يدفع أمثال هذه المحاذير إلا بالالتزام بالعلية حتى بالنسبة إلى الموافقة
القطعية بالمعنى الذي أشرنا [إليه] الذي لازمه عدم جريان الأصل النافي حتى في
طرف واحد بلا معارض. ولقد تقدم منا أيضا تقريب علية العلم للموافقة القطعية
في المقام وفي بحث القطع الاجمالي، فراجع.
المقام الخامس: إن نتيجة العلية للتنجيز عدم جريان الأصل النافي [في]
أحد طرفي العلم، وإلا ففي الأمارة النافية لا بأس [بجريانها] بملاحظة [كونها
مثبتة للازمها] من إثبات التكليف في الطرف الآخر، من دون فرق فيه بين
[جريانها] في المقام مقارنا للعلم الاجمالي أم بعده.
نعم مجرد سبق [وجودها] مع عدم [بقائها] على الحجية حين العلم
الاجمالي غير مفيد، كما أشرنا إليه سابقا.
بل وباب قيام الأمارة النافية كلية من باب موارد جعل البدل، لاقتضاء
[لازمها] تعيين المعلوم بالإجمال في طرفه حينئذ.
فكم فرق بين الأمارة النافية [و] المثبتة غير المعينة، فإنه من باب الانحلال
الموجب لعدم تأثيره إلا في صورة مقارنة العلم الاجمالي كما عرفت.
وحينئذ فعمدة الفارق بين الأمارة النافية والأصل النافي هو حجية المثبت

194
في الأمارة دون الأصل وإلا فيجري الكلام السابق في الأصل أيضا.
نعم بين مثبتية الأصل والأمارة فرق، ربما يوجب اختلاف التقريب
في وجه الجريان وهو: أن منشأ مثبتية الأمارة - بملاحظة ملازمة [ظهورها] في
المدلول المطابقي مع [ظهورها التبعي] في المدلول الالتزامي - أن دليل حجية
الظهور لا يفرق بين الدلالتين، [فتكون] الدلالة الالتزامية [مستقلة] تحت
[التعبد] بالظهور وإن [كانت بوجودها] تبعا للدلالة [المطابقية]، ولذا ربما
[تكون] حجة بلا حجية الدلالة المطابقية، كما هو الشأن في موارد التعارض
الموجب لتساقطهما في المدلول المطابقي مع قيامهما على الحجية في [المدلول]
الالتزامي في نفي الثالث كما هو تبانيهم أيضا على ذلك كما لا يخفى. وهذا بخلاف
مثبتية الأصل إذ مرجعه إلى كون نظر التنزيل إلى [الآثار] الشرعية المرتبة على
المنزل - بالفتح - بواسطة [الأثر] العقلي أو كان ترتبه على المنزل [عقليا] وإن لم
يكن في البين واسطة، إذ مثل هذا الأثر لا يكون كشفه إلا بإطلاق التنزيل في
المدلول المطابقي بلا كونه تحت كاشف مستقل قبال الكاشف عن المدلول المطابقي
توسعة أو [تضييقا].
ومثل هذا التقريب أيضا إنما يتم في الأصول التنزيلية، وإلا ففي غيرها
- مثل قاعدة الحلية على أحد الوجهين - لا يكون في البين كشف عن اللوازم
الواقعية الموجبة لتعين المعلوم بالإجمال في طرفه، ولذا نقول: إنه لا مجال لكشف
جعل البدل من مثل هذه الأصول أصلا، وإنما الطريق إليه منحصر بالأمارة
والأصول التنزيلية بناء على المثبتية، إذ بمثلهما حينئذ يستكشف [وجوبه] واقعا
[الذي] هو عين المعلوم بالإجمال ولو بالعناية، غاية الأمر طريق الكشف في
الأمارة دلالته [الأخرى] المتعبد [بها] مستقلا قبال التعبد بالدلالة المطابقية.
وطريق الكشف في الأصول إطلاق نظر التنزيل الذي هو من شؤون المدلول

195
المطابقي بلا استقلال اللازم في التعبد قبال التعبد بإطلاق التنزيل في مدلوله
المطابقي. وحينئذ: ففي الموردين بملاحظة الفرار عن الترخيص بلا جعل بدل يرفع
اليد عن الدلالة على المدلول المطابقي بدوا، ويؤخذ بالدلالة على المدلول
الالتزامي من جهة التفكيك بين التعبدين أو التفكيك في إطلاق نظر التنزيل على
أحد الحكمين.
ثم بعد ثبوت الوجوب المزبور والعلم بجعل البدل يؤخذ بالمدلول المطابقي
تعبدا أو تنزيلا.
نعم لو بنينا على عدم مثبتية الأصول التنزيلية أيضا لا مجال لجريانها في
طرف العلم بلا ثبوت جعل بدل من الخارج، بخلاف الأمارة.
نعم لو كان الوجوب الواقعي للطرف الآخر من الآثار الشرعية للمنزل
بأن يكون الشك فيه مسببا من الشك في الترخيص المزبور لا بأس بالالتزام
بالجريان بالتقريب السابق، ويثبت به جعل البدل، فيترتب عليه الترخيص في
مورده في الرتبة المتأخرة.
ومن هذا الباب صورة نذر صدقة على تقدير عدم كونه مديونا واقعا، إذ
باستصحاب عدم الدين - بالتقريب السابق - يثبت الوجوب المزبور بلا لزوم
المحذور السابق، لما عرفت.
نعم قد يكون الوجوب المسطور مترتبا شرعا على مطلق الحكم الأعم من
الواقعي والظاهري، ففي مثل هذه الصورة ربما يجئ إشكال جريان القاعدة بدوا
[كي] يترتب عليه لازمه، [لاستلزامه] الترخيص بلا جعل بدل في الرتبة
السابقة، وهو المحذور السابق. ولا يمكن جريان ما [ذكرناه] في الأصول التنزيلية
السببية هنا، لإمكان التفكيك بين التنزيلين هناك، بخلاف مقام جعل الحلية في
المقام. مع أن الأصحاب ملتزمون بالجريان في المقام أيضا وإثبات الوجوب

196
المزبور بالأصول [غير] التنزيلية أيضا.
ولعمري إن القائل بالاقتضاء لو تشبث بمثل هذا الفرع لإثبات مدعاه لكان
أمتن من تشبثه ب‍ [موارد] الانحلال وجعل البدل كما أسلفناه. ولكن نقول: إنه
يقع في محذور أشد، كما بينا، خصوصا مع عدم مساعدة العقل للاقتضاء بالتقريب
السابق، فلا بد من علاج هذه الشبهة في هذا الفرع، فنقول - بعونه تعالى -:
أولا إن الأحكام الاقتضائية من الايجاب والحرمة أو الاستحباب والكراهة
لا محيص من نشوها عن المصلحة في المتعلق. وأما الترخيصات الشرعية فتارة
ناشئة عن لا اقتضائية المتعلق وأخرى ناشئة عن اقتضاء في نفس الجعل لمصلحة
فيه من التسهيل على المكلف أو غيره حتى مع فرض اقتضاء الوجوب أو الحرمة
في متعلقه. وحيث كان كذلك نقول:
إن الغرض من جعل الترخيص تارة هو إيجاد العذر والتسهيل للمكلف،
وأخرى [يكون] الغرض من جعله مجرد ترتب الوجوب الذي هو أثره عليه،
[بلا] نظر في جعله إلى إيجاد العذر في حقه بذلك. ففي هذه الصورة لا بأس
[بجعله] في أطراف العلم لمحض ترتب الوجوب الموجب لإسقاط العلم عن
[التأثير] في طرفه.
ففي الحقيقة الغرض من جعل الحلية في المقام أيضا تسهيل الأمر على
المكلف لكن بالواسطة لا بنفسه، فكان مثل هذا الجعل وسيلة لإحداث الوجوب
الباعث لاسقاط [العلم] عن الأثر.
وعليه فلنا أن نقول: إن أمثال هذه الترخيصات وإن لم تكن تنزيلية قابلة
للتفكيك في النظر إلى أثر دون أثر، ولكن بملاحظة نشوها عن المصالح والأغراض
المترتبة على جعلها، قابلة للتفكيك في أصل جعلها بين أثر وغرض دون غرض،
فكانت من هذه الجهة شبيهة بالأصول التنزيلية فتدبر.

197
ثم إن في المقام فرعا آخر، وهو صورة ترتب الوجوب على نفس معذورية
المكلف لا صرف حليته كي يجئ فيه الكلام السابق نظير صورة ترتب وجوب
الحج على مجرد القدرة الناشئة عن معذوريته عن الدين أو تكليف آخر، ففي هذه
الصورة أيضا ينتهي الأمر إلى علم إجمالي بوجوب الحج أو وجوب الدين مثلا،
ولكن منجزية هذا العلم لوجوب الحج مستلزم لعدمه، لأنه ملازم لمنجزيته
لوجوب الدين أيضا، إذ لا يكاد ينفك منجزية العلم الاجمالي في أحد الطرفين عن
منجزيته في الطرف الآخر. وفي المقام يستلزم منجزيته لوجوب الدين [الجزم]
بعدم وجوب الحج واقعا، فأين وجوب الحج حينئذ كي يتنجز؟ [فمثل] هذا
العلم يخرج عن المنجزية رأسا، كما لا يخفى فتدبر في المقام فإنه أيضا من مزال
الأقدام.

198
تنبيهات البراءة

199
[تنبيهات البراءة]
بقي في المقام التنبيه على أمور مهمة في البين.
[1 - عدم ارتباط البراءة باستصحاب حال العقل]
فمنها: إن مفاد قاعدة البراءة هو نفي الكلفة في مرتبة الشك [بالواقع] تارة
بلسان نفي الإيجاب وأخرى بلسان جعل الحلية - على أحد الوجهين - بلا ملاحظة
الحالة السابقة فيها، ولا النظر إلى نفي التكليف واقعا فلا ترتبط هذه القاعدة
بقاعدة الاستصحاب ولا قاعدة " عدم الدليل دليل العدم ". وحينئذ لا وجه
للتفصيل فيها بين ما يعم به البلوى أم لا، علاوة [على] عدم دليل واف بمفاد
القاعدة الثانية، كما لا يخفى.
وحينئذ فتوهم السابقين من جعل أصل البراءة من مصاديق الاستصحاب
ويعبرون عنه باستصحاب حال العقل منظور فيه. ولقد أجاد المحقق آقا
جمال الخوانساري (1) حيث تنبه في زمانه [إلى] اختلاف القاعدتين
وجعل أصل البراءة أصلا برأسه. هذا من مثله في زمانه تحقيق رشيق شكر الله
سعيه.



(1) لم نعثر عليه.
201
[2 - يشترط في البراءة عدم وجود أصل حاكم عليها]
ومنها: إن من شرائط كلية الأصول عدم وجود أصل حاكم [عليها] بل
كون ذلك من الشرائط أيضا مسامحة في التعبير، إذ مع وجود الحاكم لا يبقى مورد
[لجريانها]، وحينئذ فمن لوازم جريان أصالة البراءة عدم جريان أصالة الحرمة
أو الحلية [فيها].
ومن نتائج ذلك عدم جريان أصالة الحل والبراءة في لحم شك بأنه مذكى
أم لامع كونه في سوق مسلم أو بيد مسلم يعامل معه معاملة المذكى.
وفي كفاية صرف يده لإثبات التذكية إشكال من دون فرق في ذلك بين
كون الشك من جهة الشك في القابلية أم لا. وإن لم يكن في البين أمارة الحلية كما
عرفت ففي جريان أصالة عدم التذكية مع الشك في القابلية تفصيل.
فإن قلنا بأن القابلية مثل فري الأوداج [دخيلة] في تحقق التذكية وأن
التذكية أمر معنوي كالطهارة فلا شبهة في جريان أصالة عدم التذكية حتى مع
الشك في القابلية، وبه [تثبت] الحرمة.
وإن قلنا بأن التذكية نفس فري الأوداج بشرائطه الأخرى وأن القابلية
[دخيلة] في تأثيره:
فإن كانت القابلية المشكوكة مسبوقة بوجودها - كما لو شك في أن الجلل في
الحيوان مخرج له عن القابلية أم لا - فلا بأس حينئذ باستصحاب القابلية فيرتب
عليه آثار وجود فري الأوداج وعدمه ولو بالأصل.
وأما إن لم تكن مسبوقة بوجودها فلا شبهة حينئذ في عدم جريان أصالة
عدم التذكية، إذ مع الجزم بوجودها لا أثر لها بلا إحراز قابلية المحل [المفروض]
عدم طريق [لإحرازها]. وحينئذ: فإن كانت القابلية المزبورة من الجهات

202
العارضة على الذات وغير مأخوذة فيها وقلنا أيضا بجريان الأصل في الأعدام
الأزلية فلا بأس بجريان أصالة عدم قابلية الذات ولو [قبل] وجوده [فتثبت] به
الحرمة أيضا، وإلا فلا مجرى لهذا الأصل أيضا. وحينئذ لا بأس بجريان أصالة
الحلية في اللحم المزبور. كما أنه لو أحرزت القابلية وشك في تأثير التذكية - علاوة
[على] الطهارة - في الحلية أيضا أم لا ففي هذه الصورة أيضا لا بأس بجريان
أصالة الحل لعدم أصل حاكم عليها. نعم لو شك حينئذ في ورود فري الأوداج
بشرائطه عليه [كفت] في حرمته أصالة عدمه كما لا يخفى.
[3 - الكلام في رجحان الاحتياط عقلا وشرعا]
ومنها: أنه لا إشكال عندهم في رجحان الاحتياط عقلا، وإنما الكلام في
[قابليته للرجحان] شرعا - المستلزم لحمل ما ورد من أوامر الاحتياط شرعا
على الاستحباب المولوي - أو عدم [قابليته] له كي [يحمل] الأوامر المزبورة على
الارشاد إلى حكم العقل.
أقول: إن كان عنوان الاحتياط عبارة عن إتيان ما هو محتمل للوجوب
فلا قصور في قابليته للاستحباب المولوي طريقيا أم نفسيا بلا مزاحمة مثل هذا
الاستحباب في فرض المخالفة مع الواقع مع فعلية الواقع، نظرا إلى عدم اطلاق في
خطابه الواقعي بنحو يشمل مرتبة الشك بنفسه بلا مانع لمجئ خطاب آخر في هذه
المرتبة بنحو يقتضي ترخيصا [في] مخالفة الواقع في هذه الرتبة كما هو شأن الأوامر
الطرقية، أو يقتضي محبوبيته على خلاف الواقع المستتبع لمنعه عن تأثير المصلحة
رجحان العمل في جميع المراتب حتى مرتبة الشك بخطابه، إذ لا بأس به بعد كون
المصلحة مقتضية لذلك لا [علة]، كما هو الشأن على الموضوعية في سائر الموارد.
نعم بناء على هذا المعنى للاحتياط أمكن منع استقلال العقل في رجحانه
وإنما يستقل برجحان إتيان الفعل بداعي احتمال وجوبه، إذ حينئذ يكون هذا

203
العنوان مأخوذا فيه جهة النشو عن الداعي، فيكون العنوان بذاته في رتبة متأخرة
عن الذات الموضوع للوجوب، لاختلاف الرتبة بين الذاتين [بكون] أحدهما
موضوع الوجوب والآخر معلوله. وهذا بخلاف الفرض السابق، إذ الذات الواحد
محفوظ في طي العنوانين، وحينئذ يكون مثل هذا الذات المتأخر عن الداعي مما
ينطبق عليه عنوان الإطاعة أو الانقياد. وبهذه الجهة يصير موضوع حكم العقل
بالحسن. وفي مثله لا مجال لتصرف الشارع فيه مولويا، فلا محيص من حمل أمره
[على] الارشاد.
وعليه فلا مجال لجعل النفي والاثبات في الرجحان الشرعي المولوي على
منوال واحد، بل على المشي الأول لا محيص من حمل الأوامر الواردة على
الرجحان المولوي، ولا معنى لرجحانه عقلا أيضا. وعلى المشي الثاني لا معنى
لمولوية الأمر الشرعي، بل لا محيص - كأوامر الإطاعة والانقياد - [عن]
الإرشاد.
وعلى أي حال لا يفهم لمثل هذا العنوان في المسألة وجه صحيح، بل في
الحقيقة فيه جهة خلط بين المسلكين. كما لا يخفى فتدبر.
ثم إن الظاهر من عنوان الاحتياط - خصوصا بقرينة استقلال العقل
بحسنه - هو العمل بداعي الاحتمال، لا صرف إتيان مشكوك [الوجوب].
وحينئذ كل ما ورد بلسان الأمر بالاحتياط لا بد من الحمل على الإرشاد إلى
حكم العقل برجحانه.
نعم في بعض الروايات لسان: " من ترك الشبهات فهو لما استبان له
[أترك] " (1). وظاهره تعلق الأمر بعنوان مشتبه الحكم، بل ظاهر التعليل



(1) الوسائل 18: 118 الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 22 مع تفاوت في
بعض الألفاظ.
204
بالأتركية كونه مستحبا نفسيا - بملاحظة صيرورته عادة لترك المحرمات - لا
طريقيا.
اللهم إلا أن [يدعى] عدم تنافيه مع طريقية الأمر أيضا. ولقد تقدم في
مبحث القطع تقديم الطريقية عند الدوران مع الموضوعية، إذ مع الطريقية لا يبقى
إطلاق مصلحة الذات لمحبوبيته في جميع المراتب، لعدم التنافي بين المحبوبية
والترخيص على خلافه لمصلحة في ترخيص العبد ولو للتسهيل عليه، بخلاف
الموضوعية، فإنه عليها لا بد من رفع اليد عن اطلاق اقتضاء المصلحة لمحبوبية
الذات ولو في مرتبة الشك بخطابه كما لا يخفى.
وعلى أي حال فظاهر الرواية إثبات الحكم لعنوان " مشتبه الحكم ". ولقد
تقدم أن مثل هذا العنوان خارج عن مصب حكم العقل بالحسن واستحقاق
المثوبة، فلا قصور حينئذ لمولوية حكمه ولو كان طريقيا.
ومثل هذه الطائفة من الأخبار - قبال الطائفة السابقة - [الأخبار] الآمرة
بعنوان الاحتياط (1)، فإنه بملاحظة حكم العقل بحسنه - لدورانه بين الإطاعة
والانقياد - لا يبقى مجال لمولوية الأمر بالاحتياط، بل لا بد وأن يكون لمحض
الإرشاد - كسائر الأوامر الواردة بعنوان الإطاعة - كما هو ظاهر.
وبالجملة كل مورد ورد الأمر بعنوان المشتبه فلا قصور في ظهور أمره
[في المولوية]، بخلاف ما ورد الأمر بعنوان الاحتياط أو غيره الحاكي عن إتيان
العمل بدعوة الأمر أو احتماله أو ما يساوق احتماله.
[مفاد أخبار من بلغه ثواب]
وربما [صارت] هذه الجهة - من اختلاف العنوان في مولوية الحكم به أو



(1) انظر الوسائل 18: 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضي.
205
إرشاديته - منشأ للاختلاف فيما ورد في الأخبار بألسنة مختلفة، تارة: بلسان " من
بلغه ثواب على عمل فعمل رجاء ذلك الثواب وإن لم يكن كما بلغه، له مثل
ذلك " (1)، وأخرى: بلسان " فعمل التماس ذلك الثواب " (2)، وثالثة: " فعمل
طلب قول النبي " (3).
وروح وجه اختلافهم في مضمون هذه الأخبار هو: أن الترغيب المستفاد
من قوله: " مثل ذلك الثواب " - الذي هو بمنزلة الأمر بالعمل - هل هو متعلق
بعنوان العمل البالغ فيه الثواب كي يكون نظير عنوان مشتبه الحكم الخارج عن
مصب حكم العقل بالرجحان فيكون حينئذ مستحبا مولويا ولو طريقيا كما أشرنا
إلى وجه [ترجيحها] على النفسية المحضة؟ أو أنه متعلق بالعمل المأتي [به]
بداعي البلوغ ورجاء وجود الثواب واقعا كي لا يبقى مجال لإعمال الجهة المولوية،
ويحمل على الإرشاد إلى حكم العقل. وحينئذ لنا أن نقول:
إن الظاهر من قوله (عليه السلام): " بلغه ثواب على عمل فعمل... " [ترتب]
العمل - بظهور فائه - على البلوغ، ولا يكون ذلك إلا بدعوته، فقهرا يصير هذا
العمل المرغوب إليه الذي هو بمنزلة تعلق الأمر به في رتبة متأخرة [عن] العمل
البالغ فيه الثواب، لأن هذا العمل مأخوذ في موضوع بلوغ الثواب، والعمل
المصدر بفاء التفريع معلول البلوغ المزبور، فيصير المقام من قبيل: " أردت
الضرب فضربت " حيث إن الضرب الأول موضوع الإرادة و [تحتها]، والضرب



(1) لم نعثر عليه بعينه في المجاميع الحديثية، نعم يقرب منه ما نقله في كنز العمال 15: 791،
الحديث 43132. وانظر عدة الداعي: 13، أيضا.
(2) الوسائل 1: 60 الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 7 مع اختلاف يسير.
(3) الوسائل 1: 60 الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 4 مع اختلاف يسير.
206
الثاني معلول الإرادة و [فوقها]. ولازمه كون العمل الثاني مساوق عنوان
الاحتياط الذي هو مساوق عنوان الطاعة أو الانقياد الذي يستقل العقل
[بحسنه] وعدم صلاحية الأمر المتعلق به إلا للإرشاد.
وبعد هذا البيان لا يبقى مجال توهم أن جهة البلوغ بالنسبة إلى العمل
المرغوب إليه من الجهات التعليلية، وأن موضوع الترغيب هو ذات العمل لا
العمل بعنوان الرجاء أو البلوغ، فيصير المقام من قبيل: " من سرح لحيته فله كذا "
موضوعا لأمر مستحبي مولوي بلا جهة إرشاد فيه، إذ مجرد تعليله [بالبلوغ]
والرجاء لا يضر بمعلولية العمل لهما، بملاحظة نشوه عن دعوتهما، وما هو مضر
بمولوية أمره هو هذه الجهة، و [بها] يمتاز عن تسريح اللحية المأخوذ في موضوع
الأمر بلا نشوه عن دعوة أمر ولا احتماله ورجائه.
وحينئذ لا محيص من حمل الأمر في المقام على الإرشاد، ولا يبقى له مجال
المولوية كما عرفت في شرح معنى الاحتياط على المختار.
وحينئذ فلقد أجاد شيخنا العلامة حيث حمل هذه الأوامر [على] الإرشاد
بلا شائبة المولوية فيها (1) وإن كان في وجهه نظر، بل عمدة الوجه ملاحظة النكتة
الدقيقة في الفرق بين طولية العملين وبين طولية العنوانين الواردين على العمل
الواحد المحفوظ في رتبة نفسه من [المعروضية] للعنوانين بلا شائبة المعلولية فيه
وأنه أوجب الفرق في صلاحية الأمر بالعمل للمولوية أو عدم [صلاحيته] إلا
للإرشاد.
ولعمري إن غفلتهم عن هذه النكتة [أوقعتهم] في المقام وفي باب التجري
والانقياد في حيص وبيص، وأخذوا بظهور الأمر في المقام وفي باب الاحتياط في



(1) انظر فرائد الأصول: 384، ورسالة " التسامح في أدلة السنن " للشيخ الأعظم: 14 - 15.
207
المولوية ومنعوا في باب التجري أيضا سراية المبغوضية إلى نفس العمل بخيال
[كونها موجبة] لانقلاب الواقع بمحض قيام طريق العبد على خلاف مرامه، وإلا
فلو فتحوا البصر [رأوا] العمل الثاني في طول ما هو معروض طريقه لا يكاد
حينئذ [يتوهم] سراية الأمر الواقعي عن معروضه إلى ما هو معلوله، فلا قصور
لهذا المعلول أن يكون معروض بغض العقل أو حسنه بلا انقلاب الواقع بالنسبة إلى
العمل المعروض عن حاله.
ولئن شئت [قلت]: إن عمدة ما أوقعهم في هذه الغفلة أيضا خيالهم سراية
الأمر والإرادات إلى الخارج، وفي الخارج ليس إلا وجود واحد، بلا تفكيك في
الخارج بين المعروض والمعلول، وإنما هو من شؤون الاعتبارات الذهنية المحضة
الخارجة عن مصب الأحكام طرا.
وتوضيح فساد الوهم واختلال الخيال هو: أن من البديهي في كلية
الصفات الوجدانية - من العلم والإرادة والتمني والترجي وأمثالها - استحالة
تعلقها بالوجود الخارجي بما هو خارجي. كيف! والقطع المخالف للواقع أو الظن
وغيره - بنظر القاطع - متعلق بالخارج ولا خارج في البين، كما أن التمني والترجي
أيضا متعلقان - بنظر المتمني وغيره - [بالخارج] ولا خارج في البين، بل ربما
يكون محالا كما في التمني. وهكذا في الإرادة والكراهة، حيث إن الوجود الخارجي
ملازم لسقوطهما، وإن شأن الإرادات تعلقها بالعمل قبل وجوده، مع أن المريد
أيضا لا يريد إلا الوجود خارجا. وليس الجمع بين هذه الجهات إلا بدعوى أن ما
هو معروض هذه الصفات هو الصور الذهنية لكن لا بما هو شئ في [حيال] ذاته،
بل بما هو مرآة للوجود في عالم التصور بنحو لا يلتفت إلى [اثنينيتهما]، وهو الذي
نعبر عنه بالوجود الخارجي الزعمي لا الحقيقي. ولذا صح دعوى أن صاحب هذه
الصفات لا يرى إلا الوجود خارجا ومع ذلك لا وجود في البين في الخارج حين

208
وجود هذه الصفات.
وليس منشؤه إلا جهة المرآتية المزبورة الموجبة لاعتبار وحدة بينهما ربما
أوجبت هذه الوحدة سراية الصفات من المرئي إلى المرآة وبالعكس وأن كل
واحد [اكتسب] من غيره لونه.
[فالوجود] الذهني بمرآتيته [للخارج اكتسب] لون المصلحة [فتعلقت]
[ببركته] الإرادة [به]، والوجود الخارجي المرئي اكتسب من مرآته اتصافه
بكونه مرادا ومعلوما مع أنه ليس [معروضهما] حقيقة، ولذا نقول في كلية هذه
الصفات: بأن ظرف عروضها [الذهن] وظرف اتصافها [الخارج] قبال سائر
الصفات الخارجية التي كان ظرف عروضها واتصافها [خارجي] كالحرارة
والبرودة مثلا. وفي قبالهما صفات أخرى كان ظرف عروضها واتصافها [ذهني]
كالكلية وأمثالها العارضة على المهيات في صقع الذهن ليس إلا.
وحيث اتضحت هذه الجهات نقول: إن في كلية الخطابات أن ما هو
معروض الخطابات ليس إلا نفس العنوان، وأن المعنون من وجوداتها [خارج]
عن مصب عروضها، وعليه فلا بأس في لحاظ العنوانين طوليين - ذاتا - ويكون
كل واحد متعلق حكم دون الآخر بلا سراية الحكم منهما إلى الخارج أصلا.
وبالله عليك أن لا تأخذ من هذا البيان جواز اجتماع الأمر والنهي في مجمع
واحد، إذ من البديهي أن الجهة المحفوظة في المجمع في عالم اللحاظ بعد ما كان في
عرض عنوان الجامع بنحو قابل لإطلاق الجامع بنحو يشمل المجمع بماله من الجهة
المتحدة مع الجامع ينتهي الأمر فيه بالآخرة إلى سراية الحكم من الجامع إلى
المجمع. وأين هذا ومقامنا من استحالة سراية الحكم من العنوان المعروض إلى
[المعنون]؟
ولقد طولنا الكلام في المقام من جهة تشريح هذه الدقيقة من الفكر الذي لم

209
يسبقني إليه أحد، وهو نحو باب ينفتح به ألف باب، وتدبر فيه وكن من الشاكرين.
[الاحتياط في العبادات]
بقي الكلام خاتمة للمرام [في] جهة إشكال معروف في جريان الاحتياط في
العبادات - بناء على احتياج العبادة إلى دعوة أمر جزمي في مقام التقرب بها -
وإلا فبناء على الاكتفاء في التقرب بها بمجرد [إتيانها] بداعي [أمرها] المحتمل
رجاءا فلا إشكال فيه لإمكان ذلك فيها ولو لم يكن الاحتياط فيها راجحا عقلا
فضلا عن [رجحانه] شرعا.
وحينئذ فقد يقال: إن الغرض من الاحتياط في العبادة هو الاحتياط في
ذات العمل مع قطع النظر عن حيث عباديته وأن عباديته [تتحقق بإتيانه] بداعي
رجحانه الجزمي عقلا.
ودعوى منع صدق الاحتياط على هذا المقدار [صحيحة] لو كان الغرض
منه إتيان الذات باحتمال وجوبه بلا ضم القربة الجزمية، إذ حينئذ لا يكون محرزا
للواقع أصلا، ولا يحتمل الوجوب واقعا، لما حقق في محله أن الأمر الواقعي المتعلق
بالذات لا يكون بنحو الإطلاق بل المتعلق هو الذات التوأم مع القربة.
وأما لو كان المقصود إتيان الذات المحتمل وجوبه التوأم مع القربة الجزمية
الحاصلة من قبل رجحان العمل عقلا فلا قصور فيه.
وتوهم أن العقل لا يحكم إلا برجحان الاحتياط وحينئذ فصيرورته
احتياطا بمثل هذا الرجحان دوري مدفوع: بأنه لا معنى للاحتياط إلا كونه محرزا
للواقع، وهو الذي كان موضوع حكم العقل بالرجحان. ومن البديهي أن إتيان
الذات المحتمل وجوبه محرز [لمرتبة] من العمل (1). وتتميمه ليس إلا بضم القربة



(1) الظاهر أنه يريد أن اتيان الذات حينئذ محرز لمرتبة من الاحتياط في العمل.
210
الجزمية الحاصلة من قبل حكم العقل برجحان أي مرتبة من مراتب الاحتياط.
نعم لو لم يحكم العقل إلا برجحان الاحتياط التام بتمام مراتبه صح ما أفيد
من الدور. ولكن عمدة الكلام فيه.
نعم الذي يرد عليه هو: أن الرجحان الحاكم به العقل مساوق حكمه
باستحقاق الثواب، وهذا المعنى يستحيل أن يترتب إلا [على القربة] الجزمية
حسب الفرض، وحينئذ كيف يصير هذا المعنى علة للقربة والاستحقاق؟
وبعبارة أخرى حكم العقل بالاستحقاق لا يكون إلا في صورة قابلة
[لترتبه] عليه، وهذه القابلية في الحقيقة من شرائط هذا الحكم، وكيف يعقل أن
يصير معلوله؟
نعم لو كان الإتيان بداعي احتمال وجوبه موجبا لترتب مرتبة من الثواب
وتكميله بإتيانه بداعي رجحانه عقلا ولو بنحو الداعي على الداعي كان لما أفيد
وجه. ولكن من التزم باحتياج العبادة إلى القربة الجزمية والرجحان الجزمي لا
يلتزم بتحقق شئ من الرجحان والثواب بدونه، وعليه فلا محيص من الدور
السابق، فتدبر.
نعم الذي يسهل الخطب عدم احتياج العبادة إلى الأمر الجزمي في [التقرب
بها] واستحقاق المثوبة [عليها]، فلا قصور للاحتياط حتى في العبادات أيضا.
[الكلام في الفتوى بالاستحباب على مفاد أخبار " من بلغه ثواب "]
بقي في البين تنبيه آخر وهو: أنه بناء على حمل أخبار " من بلغ " على
صورة دعوة البلوغ [المساوقة] لعنوان الاحتياط، الموجب لحمل الترغيبات
- المساوقة للأمر - على الإرشاد لحكم العقل فلا إشكال في عدم المجال للفقيه أن
يفتي بالاستحباب شرعا، بل ليس له إلا الإرشاد إلى رجحانه لمن وصل إليه الخبر

211
الموجب لاحتماله الوجوب. وأما مع غفلته عن ورود رواية على وجوبه فليس له
هذا الإرشاد إلا في فرض إبداء الاحتمال في حقه. وحينئذ ففي وجوب ذلك عليه
نظر، لعدم دخوله في باب " الإرشاد إلى الاحكام " كي يجب عليه، كما لا يخفى.
كما أنه لو بنينا على استفادة الاستحباب النفسي من الروايات المزبورة
فليس للفقيه أيضا الفتوى بالاستحباب إلا لمن وصل إليه الخبر، كي يصدق في
حقه البلوغ المساوق للوصول، فلا [تشمل] الروايات [من] غفل عن الروايات
الواردة في الكتب كما لا يخفى.
كما أنه لو بنينا على استفادة الاستحباب الطريقي: فإن كان ذلك أيضا ثابتا
لعنوان " من بلغ " فليس للفقيه أيضا الفتوى بمثل هذا الاستحباب أيضا
كالاستحباب النفسي. وأما لو كان ذلك راجعا إلى تتميم كشف الخبر الضعيف
المنتج لحجية الخبر الضعيف في المستحبات - كما يومئ إليه كلماتهم من التعبير
بعنوان التسامح في أدلة السنن في المقام - فأمكن أن يقال بأن دليل تتميم الكشف
كسائر الأدلة والحجج في الأحكام شامل للفقيه، فله حينئذ كشف حكم غيره
فيفتي به، كما هو الشأن في سائر الواجبات والمحرمات من دون احتياج إلى احتمال
[بلوغ الخبر إلى المقلد].
نعم مع التفاته [إليه]: للمجتهد أيضا أن يفتي بالحكم الأصولي من حجية
الخبر الضعيف، بناء على استفادة المجتهد من أدلة الأحكام عدم اختصاصها
بالمجتهد. غاية الأمر يجزي فحصه عن فحص من عجز عن الفحص من العوام،
وإلا فلو بنينا باختصاص أدلتها بخصوص من تمكن عن الفحص فليس للفقيه
أيضا الفتوى بالحكم الأصولي بل لا محيص له إلا الفتوى بالحكم الفرعي بعد
استنباطه عن دليله كما لا يخفى.
ثم من نتائج الاختلاف في الإرشادية والمولوية في مضامين هذه الروايات
أنه:

212
على الإرشادية: لا قصور في شمولها لكل ما يوجب الاحتمال ولو بإلغاء
الخصوصية الموردية، فلا بأس للشمول لفتوى الفقيه أو غيره مما يوجب احتمال
التكليف في حقه.
وأما على الاستحباب طريقيا أم نفسيا: ففي إلغاء الخصوصية الموردية من
بلوغ الرواية إشكال، والقدر المتيقن صورة ورود الرواية، ولا [تشمل] فتوى
الفقيه حينئذ.
كما أنه على الإرشاد لا يكاد [يجرى] حكم الجزء شرعا على ما دلت
الرواية على جزئيته، بخلافه على الاستحباب.
وحينئذ فليس [لمسترسل] اللحية أخذ بلله للمسح على الإرشادية،
بخلافه على الاستحباب، إذ الظاهر من دليله إثبات نحو [من] الاستحباب على
طبق مضمون الرواية - طريقية أو موضوعية - فلو كان مضمون الرواية جزئية
بلة اللحية باسترسالها في الوضوء يثبت بإخباره أيضا مثل هذا الاستحباب، كما
هو الشأن في صورة استفادة الاستحباب النفسي المستقل لشئ. كما لا يخفى،
فتدبر.
[4 - صور تعلق الأمر والنهي بالأفراد والطبيعة
والكلام في جريان البراءة فيهما]
ومنها: أن الأمر تارة يتعلق بالأفراد بنحو الاستغراق، وأخرى بنحو
الطبيعة السارية، وثالثة بنحو الطبيعة الصرفة. وعلى الأخير تارة يكون موضوع
الخطاب - الذي هو متعلق معروضه - مما [أنيط] به الأمر والخطاب، وأخرى كان
هو أيضا في حيز الخطاب بنحو يجب تحصيله مقدمة لمعروضه.
فعلى الأول والثاني: لا شبهة في كون الخطاب انحلاليا موجبا لامتثالات

213
عديدة وعصيانات متعددة، وفي مثله مهما شك في موضوع الخطاب يرجع الشك
فيه إلى الشك في تكليف زائد عما علم. والمرجع فيه البراءة الأصلية من دون فرق
فيهما بين كون الموضوع المزبور مما أنيط به الخطاب أو كان ذلك أيضا في حيز
الخطاب الموجب للزوم تحصيله مقدمة لمعروض التكليف في مورده، إذ قضية
انحلال الخطاب فيهما يوجب الشك في الخطاب الزائد عما علم، والعقل في مثله
يحكم بأن الاشتغال بقدر ما يثبت. وما لم يثبت من قبل المولى، فهو تحت البراءة
الأصلية.
وأما على الثالث: ففي فرض كون الموضوع المشكوك مما أنيط به الخطاب
فلا شبهة في جريان البراءة أيضا، للشك في التكليف من جهة الشك في شرطه.
وأما في فرض كون الموضوع أيضا في حيز الخطاب - ولو مقدمة [لتحصيل]
معروضه - [فالظاهر] أن الشك في الموضوع حينئذ من [قبيل] الشك في القدرة
على شرط المكلف به لا التكليف، وفي مثله يستقل العقل بلزوم صيرورته بصراط
تحصيله إلى [أن ينكشف] الخلاف ولا مجرى للبراءة عقلا ونقلا حينئذ، كما هو
الشأن في كل مورد يرجع الشك في التكليف فيه إلى الشك في القدرة.
وعمدة النكتة الفارقة بين التكليف بالطبيعة الصرفة في هذه الصورة - من
فرض الموضوع أيضا في حيز التكليف حيث بنينا فيه على الاحتياط - [و]
الفرضين السابقين حيث بنينا على البراءة فيهما مع الشك في الموضوع حتى في هذا
الفرض [هي]: ان شأن التكليف بالطبيعة الصرفة كونها في حيز التكليف
[قبل] الانطباق على الفرد في نظر الآمر، ولازمه جعله التطبيق في عهدة المأمور،
والعقل حينئذ مستقل باشتغال ذمة العبد بتطبيق العنوان على مورده، ولازمه لزوم
تحصيل الفراغ عما اشتغلت [به] الذمة مهما أمكن. ولذا نقول بأنه مع الشك في
القدرة على التطبيق يجب صيرورته بصراطه إلى أن ينكشف الخلاف. وأما في

214
الفرضين السابقين [فلا] شبهة في أن المولى في مقام تكليفه لاحظ الطبيعة منطبقة
على [فردها] و [أوجبها] بنحو الاستغراق أو الطبيعة السارية، ففي هذه الصورة
المتكفل لتطبيق الطبيعة في مقام تكليفه هو المولى بلا جعله التطبيق في عهدة
عبده، وحينئذ لا يكون اشتغاله بتكليف المولى بنظر العقل إلا [بما] هو مفروغ
التطبيق، وحينئذ فمع الشك في انطباق الطبيعة على المورد لم يحكم العقل باشتغال
ذمته بمثله، لعدم إحرازه تطبيق مولاه على المورد، فيحكم بإجراء البراءة الأصلية
كما لا يخفى.
ومن هذا البيان ظهر الحال في صورة عدم كون معروض التكليف متعلقا
بموضوع كالتكليف بالصلاة والصوم مثلا فإنه في هذه الصورة أيضا لا بد من
إجراء التفصيل السابق بين كون متعلق التكليف الطبيعة السارية بنحو يكون
الخطاب انحلاليا أو صرف الوجود [فإنه] على الأول عند الشك في وجود
العنوان وانطباقه على المورد [يكون] مجرى البراءة، بخلاف الفرض الأخير، فإنه
مع الشك في التطبيق يجب الاحتياط، بمعنى صيرورته بصراط التطبيق إلى أن
ينكشف عجزه عنه لجريان النكتة السابقة [الفارقة] بين الفرضين في المقام.
وعليه فيصح لنا دعوى أن الخطاب في كل مورد يكون انحلاليا [تكون
صورة] الشك في انطباق العنوان على المورد حتى مع فرض كون الموضوع بجميع
شؤونه في حيز الخطاب [داخلة] في مجرى البراءة الأصلية. وكل مورد لم يكن
انحلاليا فلا بد وأن يفصل بين كون موضوع الخطاب أيضا في حيز التكليف أم لا:
فعلى الأول [تكون] صورة الشك في الانطباق موضوع حكم العقل
بالاحتياط بمعنى صيرورته بصراط تطبيق الخطاب إلى أن ينكشف الخلاف.
وعلى الثاني مع فرض الشك في الموضوع كان مجرى البراءة، للشك في ما
أنيط به التكليف، كما هو الشأن في كل ما شك في وجود شرط تكليفه، كما لا يخفى،

215
هذا كله حال الأوامر.
وأما النواهي فهي أيضا تجري فيها التقسيمات الآتية: من كون النهي متعلقا
بالطبيعة السارية أو بصرف الوجود. وعلى كل تقدير: تارة يكون الخطاب متعلقا
بموضوع خارج عن معروض النهي كشرب الخمر، وأخرى لا يكون لمعروضه
متعلق كالغناء.
ثم في فرض وجود المتعلق تارة يكون الخطاب منوطا به وأخرى لا يكون
منوطا، بل المتعلق أيضا في حيز التكليف. فإن كان النهي متعلقا بالطبيعة السارية
- كما هو الشأن في النواهي النفسية الشرعية طرا، وفي الغيرية غالبا - فالظاهر عند
الشك في المصداق أن المجرى فيه البراءة في جميع هذه الصور من فرض الطبيعة
السارية حتى فيما لا يكون له تعلق بأمر خارجي، لكون الخطاب فيه انحلاليا كما
هو الشأن في الأوامر أيضا في هذا الفرض. وحينئذ لا ثمرة في هذا التشقيق إلا
تكثير سواد.
كما أنه إن كان النهي متعلقا بصرف الوجود [فالظاهر] أيضا عند الشك في
المصداق كون المقام مجرى البراءة أيضا في جميع الصور حتى ما لا يكون له تعلق
بأمر خارجي، نظرا إلى أن المقصود من النهي ترك المنهي عنه، ومن البديهي أن
بسعة أفراد الطبيعي و [ضيقها] تتسع دائرة ترك الطبيعي و [تتضيق]، نظرا إلى أن
ترك الطبيعي عين ترك أفراده لا أمر حاصل منها، كما أن [وجوده] عين وجود
أفراده. ولازمه عند الشك في المصداق [أن] يرجع الشك إلى الشك [في] الترك
[المنبسط] لترك المشكوك، ففي مثله يرجع الشك إلى التكليف بأمر مردد بين
السعة والضيق، وفي مثله لا بأس بجريان البراءة عن التكليف بالترك الزائد
المشكوك كما هو الشأن في باب الأقل والأكثر [الارتباطيين]. وفي هذا المقام
[تفترق] النواهي عن الأوامر حيث إنه في صورة عدم تعلقه بموضوع أو تعلقه

216
بنحو يكون المتعلق أيضا في حيز التكليف العقل مستقل [فيها] بعدم الاكتفاء
بمشكوك المصداق، بل يلزم بتحصيل الفراغ اليقيني، لأن صرف الوجود أمر بحت
بسيط لا ترديد فيه بين السعة والضيق.
نعم لو كان الأمر بشئ منوطا بوجود المتعلق فمع الشك فيه نشك في توجه
الخطاب فيرجع فيه إلى البراءة.
نعم لو علم بوجود المنوط به في التكاليف الوجوبية أو التحريمية بلا شك في
مصداقية شئ فمع القدرة على الامتثال إيجادا أم إعداما فلا إشكال في وجوبهما.
وأما مع عدم القدرة على الامتثال المزبور مع فرض القدرة على تفويت
المنوط به الأمر أو النهي فقد يختلج بالبال حكم العقل بإعدام الشرط لزوما، نظرا
إلى حفظ المولى عن وقوعه في ضيق خناق فوت غرضه، فيجب تفويت الشرط
كي لا يكون له في البين غرض، من دون فرق في ذلك أيضا بين الأوامر
والنواهي.
نعم لو فرض كون المتعلق في حيز التكليف ربما يفرق بين الأمر والنهي بأنه
مع عدم المتعلق يجب إيجاده في الأوامر، وأما لو كان موجودا في النواهي لا يجب
إعدامه ما دام اعدام نفس المنهي عنه كان مقدورا. وإنما يجب إعدام المتعلق في
ظرف عدم القدرة على اعدام المنهي عنه. وعليه تكون هذه الجهة من الجهات
الفارقة بين الأمر والنهي زائدا [على] الفرق بينهما من الجهة السابقة التي أشرنا
[إليها] آنفا، فتدبر.
كما أنه بالبيان المزبور سابقا في وجه الفرق أيضا يظهر النظر فيما أفاد
أستاذنا الأعظم (1) حيث سلك في النواهي المزبورة مسلك الأوامر بالمصير إلى



(1) كفاية الأصول: 402.
217
حكم العقل بلزوم تحصيل عنوان ترك الطبيعة كإيجادها [غير] الحاصل إلا بترك
المشكوك أيضا، غاية الأمر فرق بين الأوامر والنواهي بجريان أصالة بقاء الترك
في النواهي دون الأوامر.
وتوضيح النظر يظهر بالمراجعة إلى ما [بينا] في وجه الفرق بلا احتياج إلى
التكرار.
ثم إن في المقام كلاما لبعض الأعاظم من المعاصرين - على حسب تقرير
تلميذه وفقه الله - ونشير إليه بنحو الاختصار توضيحا للجهات [الفارقة] بيننا
وبينه فنقول:
إن ملخص ما أفاد بطول بيانه بأن معروض التكليف لو لم يكن له تعلق
بموضوع كالصلاة أو الغيبة كان المرجع فيه - بعد إحراز شرائط التكليف من
البلوغ والقدرة - لزوم الإقدام بلا تصور شبهة موضوعية فيها، وإن كان له تعلق
بأمر خارجي ففي كلامه وإن كانت صورة التفصيل بين كون المتعلق مما أنيط به
التكليف وبين كونه أيضا في حيز التكليف ولكن ما بين حكم صورة التفصيل
المزبور، ثم ساق الكلام في التكاليف التحريمية المتعلقة بأمر خارجي، والتزم بأن
التكليف فيها دائما يكون مشروطا بوجود المتعلق ويكون انحلاليا من هذه الجهة
بمقتضى القضايا الحقيقية، ثم ساق الكلام إلى الفرق بين السالبة المحصلة والمعدولة:
بأن في السلب المحصل يكون التكليف انحلاليا والمرجع فيه البراءة بخلاف
المعدولة، إذ تمام النظر فيها إلى تحصيل العنوان من كونه " لا شارب " وأن ترك
الأفراد من محققات حصول هذا العنوان. فالمرجع عند الشك في المحقق هو
الاحتياط، هذا ملخص كلامه على ما فيه من الطول الممل (1).



(1) فوائد الأصول 3: 391 - 395.
218
أقول: لا يخفى ما فيه من الأنظار. منها: ما في جعله التكاليف التحريمية التي
ليس لها تعلق بأمر خارجي كالغناء في سياق التكاليف الوجوبية كالصلاة مثلا،
بكون المرجع فيها قاعدة الاشتغال.
وتوضيح النظر يظهر مما بينا بأن المرجع في النواهي مطلقا - حتى ما كان
متعلقا بصرف الوجود فضلا عن مثل النهي عن الغناء وأمثاله المتعلقة بالطبيعة
السارية - عند الشك في مصداقية شئ للمنهي عنه هو البراءة بملاحظة انحلال
تركه إلى ترك مرتبة ملازم لترك المشكوك أم لا؟ فقهرا يصير أمره مرددا بين
الأقل والأكثر، والمرجع فيه هو البراءة، غاية الأمر الفرق بين صورة التعلق
بالطبيعة السارية أو الصرفة رجوع ترك الطبيعة في الأول إلى الأقل والأكثر
[الاستقلاليين] وفي الثاني رجوع تركه إلى الأقل والأكثر [الارتباطيين]، ولا
فرق بينهما على المختار في جريان البراءة [عقليتها] و [نقليتها]، بل وعلى مختاره
في جريان البراءة النقلية، كما لا يخفى.
ومنها: ما في جعله النواهي المتعلقة بأمر خارجي بأنها دائما من باب إناطة
التكليف بالأمر الخارجي ومن هذه الجهة يكون التكليف فيه انحلاليا.
وتوضيح النظر فيه بما عرفت بأن التكليف في النواهي - بملاحظة كون
المقصود فيها ترك الطبيعي المردد بين ما هو شامل للمصداق المشكوك وبين
عدمه - دائما يكون انحلاليا، تعلق بأمر خارج أم لا، كان منوطا به أم لا. وهذه
الجهة من الانحلال في ترك الطبيعي المردد بين الأقل والأكثر غير [مرتبطة]
بالقضايا الحقيقية، حتى لو سلمنا جريانها في باب التكاليف، فضلا عما أوردنا
عليه في بحث مقدمة الواجب من أن باب التكاليف طرا خارجة عن مصب
القضايا الحقيقية، فراجع (1).



(1) راجع الجزء الأول من هذا الكتاب: 304.
219
ومنها: ما أفاد في الفرق بين السالبة المحصلة والمعدولة بجعل الأول مجرى
البراءة والأخير مجرى الاحتياط بملاحظة لزوم [تحصيل] عنوان كونه " لا
شارب ".
وتوضيح الفساد: بأن نفي الشرب بعدما كان عين نفي أفراده فلا شبهة في
أنه بعين ترك الطبيعة مردد - بقلة الأفراد وكثرتها - بين الأقل والأكثر. وحينئذ
فغاية فرق المعدولة والمحصلة هو كون مثل هذا العدم المردد بين الأقل والأكثر من
قيود العنوان الذي هو كونه كذا في المعدولة ونفس عنوان المكلف به في المحصلة،
ومن البديهي أنه لا فرق في جريان البراءة في مورد الشك بين كون نفس عنوان
الموضوع مرددا بين الأكثر والأقل وبين كون قيده مرددا بينهما. وعلى أي حال لا
مجال لإرجاع تروك الأفراد في المعدولة [إلى] محققات الموضوع المقيد بقيد سلبي،
إذ هو فرع كون عنوان " لا شارب " من العناوين المترتبة على تروك الأفراد،
وهو [مستتبع] لكون تروك الأفراد من أسباب عدم الطبيعة لا عينها، وهو غلط
فاحش. ولقد [بسط] الكلام في هذا المقام في رسالته المستقلة (1) المكتوبة في
اللباس المشكوك، و [فيها] كلمات أخرى أيضا تعرضنا [لها] نحن أيضا في
رسالتنا فراجع ما فيها من قبيل هذه الكلمات بكثير، شكر الله سعيه وسعي مقرره
وفقه الله تعالى.



(1) أي المحقق النائيني في رسالته المسماة برسالة في اللباس المشكوك بغير المأكول. المطبوعة
ضمن (منية الطالب) 2: 289.
220
المقالة السابعة عشرة
أصالة التخيير

221
[المقالة السابعة عشرة]
[أصالة التخيير]
لو دار أمر التكليف بين المحذورين فلا شبهة في حكم العقل فيه [بالتخيير]
بينهما، وأن مثل هذا الحكم أسقط العلم الاجمالي عن البيانية.
وبعد ذا لا مجال لتوهم جريان أدلة البراءة فيه، إذ مجراها في ظرف سقوط
العلم عن التأثير، ولازمه في المقام كونها في الرتبة المتأخرة عن حكم العقل
[بالتخيير]، وحينئذ فمع جريان [التخيير] في الرتبة السابقة الموجبة للعذر لا يبقى
مجال إثبات العذر بأدلة البراءة، كما لا يخفى.
ثم إن ذلك عند تساويهما ملاكا، وإلا فلا مجال [للتخيير] عقلا، بل لا بد من
تقديم احتمال أهمهما مناطا، ولازمه أيضا تقديم الموافقة القطعية [في] الأهم مثلا
على المخالفة القطعية في المهم أو العكس في الواقعة الثانية، كما لا يخفى.
نعم في المقام كلام آخر من كون [التخيير] المزبور - على فرضه - بدويا أم
استمراريا؟
قد يتوهم بدوية التخيير بأن في استمراره يلزم مخالفة العلم [قطعية تدريجية]،
وفي هذه الصورة وإن يلزم موافقته القطعية كذلك، ولكن حيث إن العلم في

223
اقتضائه لعدم المخالفة كان بنحو العلية وبالنسبة إلى الموافقة القطعية بنحو الاقتضاء
[القابل] لمنع المانع فقهرا عليته لترك المخالفة القطعية موجبة لمنع بقاء
[التخيير] الموجب للموافقة القطعية، فلا محيص حينئذ من التخيير البدوي فرارا
عن المخالفة القطعية.
أقول: لا شبهة في أن علية العلم للتنجز بالنسبة إلى المخالفة القطعية
[مرجعها] إلى عدم قابليته لمنع المانع عن التنجيز في ظرف قابلية المعلوم للتنجز
من سائر الجهات. وأما لو لم يكن المعلوم قابلا للتنجز - لكبري لا يطاق - فلم
[يلتزم] أحد بمنجزية العلم التفصيلي فضلا عن العلم الاجمالي.
وحينئذ فمعنى العلية عدم قابليته لمنع المانع في الرتبة المتأخرة عن الواقع
بحيث لا يوجب قصورا في بقاء الواقع على ما هو عليه من قابليته [للتنجز]،
ومرجع ذلك إلى عدم صلاحية الترخيصات الظاهرية لمنع العلم عن تأثيره.
وحيث عرفت معنى اقتضاء العلم أو عليته للتنجز تعرف أن بقاء [التخيير]
واستمراره لا يضر بعلية العلم في المخالفة، إذ حينئذ يدور الأمر بين رفع اليد عن
المخالفة أو الموافقة بكبرى لا يطاق، بداهة أن تحصيل الموافقة القطعية مستلزم لعدم
القدرة على الفرار عن المخالفة القطعية، كما أن الأمر كذلك في [طرف] العكس.
وحيث لا ترجيح في هذا المقام لأحد الطرفين فلا قصور في بقاء [التخيير] بحكم
العقل.
ثم إن ذلك كله أيضا مع الإغماض عن المختار من كون العلم بالنسبة إلى
الموافقة القطعية أيضا - كالمخالفة - علة تامة، وإلا فأمر المزاحمة المزبورة - بلا
ترجيح لأحدهما على الآخر - أظهر.
ثم إن ذلك كله في التوصليات غير القابلة للمخالفة القطعية الدفعية. وأما في
التعبديات القابلة للمخالفة المزبورة - ولو بإتيانها بلا [قربة] - فلا شبهة في منع

224
العقل عن المخالفة القطعية و [لازمه] اضطراره [لأحد] المحتملين من إتيانه
[قربيا] أو تركه [فتدخل] المسألة في صغرى باب الاضطرار [لأحد] طرفي العلم
بلا تعيين. ولقد حققنا - كما سيجئ إن شاء الله في محله - لأبدية إقدامه بأحد
المحتملين وعدم اقتحامه في مخالفة الطرفين، خلافا لما اختاره أستاذنا الأعظم (1) في
مسألة الاضطرار المزبور في الشبهة المحصورة من عدم منجزية العلم حينئذ رأسا،
المستلزم لجواز المخالفة القطعية. ومن العجب حينئذ ذهابه في المقام (2) [إلى] عدم
جواز المخالفة القطعية، فراجع المقامين من كفايته، أطاب الله ثراه وجعل الجنة
مثواه.



(1) كفاية الأصول: 408.
(2) كفاية الأصول: 407.
225
المقالة الثامنة عشرة
منجزية العلم الاجمالي

227
[المقالة الثامنة عشرة]
[منجزية العلم الاجمالي]
في حكم الشبهات الثانوية المقرونة بالعلم الاجمالي. ونحن وإن شرحنا
الحال وبينا المختار فيه في بحث العلم الاجمالي في طي مباحث القطع، ولكن مع ذلك
لا بأس بتكرار المسألة لأنه " المسك ما كررته يتضوع " (1). فنقول:
أولا: إن تمام النظر في هذا المبحث إلى قصور العلم الاجمالي عن المنجزية
وعدمه. ومعلوم أن مثل هذا البحث بالطبع بعد الفراغ عن عدم قصور في التكليف
- الثابت في مورده - عن التنجز بأسبابه. وحينئذ فالبحث عن ثبوت أصل
التكليف في المورد بإطلاق دليله - فضلا عن البحث في إثبات القابلية للتنجز
بأسبابه - غير مناسب للمقام.
وحينئذ فما في رسالة شيخنا الأعظم (2) من سوقه الكلام في المقام إلى إثبات
التكليف بإطلاق دليله تبعيد للمسافة. كيف؟ ومع عدم إطلاق الدليل لا يبقى علم



(1) يتضوع: ينتشر.
(2) انظر فرائد الأصول: 404.
229
بالحكم الذي هو موضوع البحث، كما لا يخفى.
وحيث عرفت ما ذكرنا فاسمع أيضا: [أن] في كل علم إجمالي جهة
انكشاف وجهة سترة، فجهة انكشافه [تتعلق] بصورة إجمالية حاكية عن
الواقع، وجهة سترته [تتعلق] بصورته التفصيلية حاكية عن وجوده.
ولا شبهة في أن نسبة إحدى الصورتين إلى الأخرى [ليست] كنسبة الكلي
إلى الفرد بنحو قابل لحمل المعلوم بالإجمال على مشكوكه، بل كل واحد من العلم
والشك قائم بصورة مباينة لصورة أخرى وإن كانتا [متحدتين] في الوجود
خارجا. ولكن بعد ما [لم تسريا] إلى الخارج وليس ظرف عروضهما إلا الذهن
لا [توجب] وحدة وجود الصورتين [سراية] أحد الوصفين إلى متعلق الآخر،
بل كل وصف واقف على معروضه من الصورة الإجمالية في العلم، والتفصيلية في
الشك.
وبه يمتاز العلم الاجمالي عن العلم التفصيلي القائم بصورة [تفصيلية] بحيث
لا يكاد اجتماعه مع الشك، لأوله إلى اجتماع الضدين.
ولقد بلغني من بعض من يدعي الفضل بأن العلم الاجمالي بالإضافة إلى
متعلقه علم تفصيلي، وهو كما ترى خلط بين الصور الإجمالية مع التفصيلية.
وكيف كان بعدما عرفت الحال يبقى الكلام تارة في أن مجرد تعلق العلم
بالصورة الإجمالية [غير] الحاكية عن الوجود بشراشره - مثل تعلقه بالصور
التفصيلية الحاكية عن الوجود بجميع خصوصياته - كان منجزا لما تعلق به أم لا،
ولو لمانعية إجمال صورته - الملازم للشك [في خصوصيته] - عن منجزيته؟
وأخرى في أنه على فرض منجزيته هل هو مقتض للتنجز حتى بالنسبة إلى
المخالفة القطعية القابل لمنع المانع ولو بجريان الأصول النافية في الطرفين أم ليس
مقتضيا بل كان علة بنحو لا يكون قابلا لمنع المانع؟

230
وعلى هذا التقدير فهل هو علة لخصوص المخالفة القطعية المانع عن جريان
الأصول النافية بالنسبة إلى الطرفين، وباق على اقتضائه بالنسبة إلى الموافقة
القطعية - الموجب لجريان الأصل النافي في أحد الطرفين بلا معارض، وأن
الباعث على سقوط الأصول المزبورة بالمرة مجرد تعارضهما - أم كان بالنسبة إلى
الموافقة القطعية أيضا علة الموجب لعدم جريان الأصل النافي في كل واحد من
الطرفين ولو بلا معارض؟
وقبل الشروع في المقصد ينبغي أولا دفع توهم عدم جريان أدلة الترخيص
الظاهري في أطراف العلم الاجمالي بذاته مع قطع النظر عن مانعية العلم الاجمالي.
و [عمدة] وجه التوهم المزبور خيال معارضة صدر كل رواية مع [ذيلها]
أو [منطوقها] مع [مفهومها].
ودفع هذه الشبهة في غاية الوضوح، إذ - مع الغمض عن منع المفهوم في ما
لا ذيل له كحديث الرفع وأمثاله - أن الذيل والمفهوم آبيان عن جعل حكم على
خلاف الصدر والمنطوق، بل هو موكول إلى نظر العقل في كلية العلوم.
فلو فرض حينئذ حكم العقل بالاقتضاء بالنسبة إلى الموافقة أو المخالفة لا
يمنع الذيل عن إطلاق الصدر، فحينئذ لولا جهة أخرى [تمنع عن الشمول]
لأطراف العلم فلا قصور حينئذ [في نفسها] (1) عن الشمول للمورد، وإنما
الإشكال في مانعية العلم للشمول.
نعم لو قيل: بأن الغاية في دليل الترخيص أعم من العلم الاجمالي أمكن
دعوى أن مقتضى الغاية رفع الترخيص عن المشكوك بمحض حصول العلم
الاجمالي، وفي هذا المقدار كان لتصرف الشارع مجال، إذ له أن يجعل العلم



(1) هناك كلمة لا تقرأ، ولعل المقصود منها هو ما أثبتناه بين المعقوفتين.
231
الاجمالي مانعا عن شمول دليل الترخيص للمشكوك لا مانعا عن صرف عدم
جعل الترخيص للمعلوم كي يقال بأن أمر وضعه ورفعه بالنسبة إلى المعلوم ليس
بيده، كما أشرنا، فليس أمر مانعيته أيضا بيده كي يجعله مانعا، كما لا يخفى هذا.
ولكن يمكن أن يقال: إن هذا الاحتمال لا يجري إلا في عمومات الحلية (1)
وروايات السعة (2). أما عمومات الحلية فاقتران ذيلها بكلمة " بعينه " يمنع عن
الشمول للعلم الاجمالي، وأما رواية السعة فإنما يتم بناء على كون " ما " ظرفية،
وإلا فعلى الموصولية فلا يجئ [فيها] هذا التوهم أصلا، وحينئذ مع قرب
الاحتمال الثاني لا يبقى مجال التشبث بإطلاق [ذيلها] لإثبات غايتية العلم
الاجمالي للترخيص في المشكوكات، وحينئذ يبقى إطلاق البقية - خصوصا مثل
حديث الرفع - بحاله. وعليه فلا مانع عن جريانه إلا مؤثرية العلم الاجمالي في
التنجز، وحينئذ ينبغي صرف الكلام إليه وشرحه في طي مقامات فنقول:
[1 - منجزية العلم الاجمالي لما تعلق به]
أما المقام الأول: فالظاهر عدم قصور في منجزية العلم لما تعلق به، إذ
مناط تمامية الكشف في العلم التفصيلي جار في العلم الاجمالي بالإضافة إلى ما
تعلق به.



(1) منها ما في الوسائل 12: 59 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول و 162
الباب 52 من الأبواب، الحديث 5، و 17: 91 و 92 الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة،
الحديث 1 و 7 وغيرها.
(2) انظر المستدرك 2: 588، الباب 35 من أبواب النجاسات، الحديث 3، 4 و 18: 20،
الباب 12 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.
232
ومجرد امتيازهما في إجمال المتعلق وتفصيله لا يكون فارقا في هذا المقام بعد
قابلية المعلوم بأي صورة من الاجمال أو التفصيل للتنجز والتحميل على العبد.
كيف؟ ووجدان العقل شاهد أن أمر المولى - ولو كان مرددا بين الخصوصيتين -
لا بد من امتثاله بلا دخل لخصوصية أمر فيه دون أمر.
ففي الحقيقة ما هو موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال طبيعة أمر المولى
في أي صورة كانت بلا دخل لخصوصية فيه دون خصوصية، فإذا كان ذلك
موضوع حكم العقل فلا شبهة في انكشافه بتمام الانكشاف، فقهرا يحكم العقل
بصيرورته في عهدة العبد، ولا نعني من تنجزه إلا ذلك.
نعم لو كان لخصوصية الأوامر دخل في وجوب الامتثال كان للتفرقة بين
العلم التفصيلي والإجمالي مجال فرق. ولكن أنى لنا بإثباته، بل دونه خرط القتاد.
وحينئذ فما نسب إلى بعض الفحول من منع منجزية العلم الاجمالي رأسا (1)
في غير محله. ويكفي عليهم استقلال العقل في وجوب امتثال أوامر المولى بمجرد
إحراز طبيعة أمره [بلا] احتياج إلى إحراز فرده بخصوصه، وحينئذ فلو بدل
شيخنا الأعظم (2) في إثبات منجزية العلم الاجمالي اطلاق دليل الحكم بإطلاق
حكم العقل واستقلاله بوجوب الامتثال حتى في مورد العلم الاجمالي كان أنسب،
لما عرفت من أن التشبث بإطلاق دليل الحكم تبعيد للمسافة، إذ مورد البحث هو
العلم الاجمالي بالحكم الملازم للفراغ عن إطلاق الدليل لمورده. وإلا فلا علم
بالحكم أصلا كما لا يخفى.



(1) انظر فرائد الأصول: 444 نقلا عن المحقق القمي (قدس سره). وانظر قوانين الأصول: 262 -
267.
(2) انظر فرائد الأصول: 444.
233
وبعد توضيح المرام في هذا المقام يبقى الكلام في شرح المقام الثاني،
فنقول:
[2 - علية العلم الاجمالي للتنجز]
أما توهم اقتضاء العلم حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية فهو فرع تعليقية
حكم العقل في استقلاله بصيرورة معلومه في عهدة [العبد]. ومرجع ذلك إلى
قابلية المحل لترخيص المولى بترك المطلوب المنكشف لدى العبد بتمام
الانكشاف، ولازمه جريان هذا المناط في العلم التفصيلي أيضا.
كيف! وبعد ما عرفت أن مناط التحميل في نظر العقل إحراز طبيعة أمر
المولى بلا دخل لخصوصية فيه، فلو كان هذا التحميل مشروطا بعدم ترخيص من
المولى على الخلاف فيجري هذا المناط في العلم التفصيلي أيضا. ومن البديهي
أن العقل يأبى عن ذلك ويرى مثل ذلك ترخيصا في المعصية غير اللائق صدوره
من الحكيم.
وبهذه الجهة نقول: إن حكم العقل بوجوب الامتثال في المعلومات
التفصيلية تنجيزي غير قابل للترخيص على الخلاف، فلا جرم يجري مناطه في
العلوم الإجمالية أيضا، لما عرفت من جريان مناط حكمه - بوجوب الامتثال في
العلوم التفصيلية - في الإجمالية أيضا بشهادة أن ما هو المناط في التحميل على
العبيد هو طبيعة أمره لا خصوصيته، وفي هذه الجهة كان العلم التفصيلي والإجمالي
سواء.
لا يقال: إنه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي في تعليقية الحكم، وإنما
الفارق بينهما هو: أن الترخيصات الشرعية الظاهرية غير [المضادة] مع فعلية
الخطاب الواقعي - الذي يكون العلم به موضوع البحث في مورد العلم الاجمالي

234
بملاحظة انحفاظ المرتبة الظاهرية فيه - قابلة للجريان، فيمنع عن حكم العقل
بالتحميل.
بخلافه في العلوم التفصيلية، فإنه بملاحظة عدم شك [فيها ليست] مرتبة
الترخيص الظاهري [محفوظة]، فلا يجري فيها، وحينئذ: فعدم جريان الترخيص
الظاهري في العلوم التفصيلية لقصور في نفس دليل الترخيص، لا لقصور في حكم
العقل [بالترخيص] على خلافه. وذلك هو المنشأ في علية العلم التفصيلي واقتضاء
العلم الاجمالي، مع اشتراكهما في تعليقية حكم العقل فيهما.
لأنه يقال: إن ما أفيد في عدم جريان أدلة الشكوك في مورد العلوم
التفصيلية في غاية المتانة، ولكن لنا أن ندعي: أن لازم تعليقية حكم العقل فيها
أيضا حسب الفرض إمكان الترخيص - في المرتبة المتأخرة عن العلم - [في]
العمل بالمعلوم، بلا مضادته أيضا مع فعلية الواقع بمقتضى خطابه، إذ بعد تعليقية
حكم العقل يكون هذا الترخيص رافعا لموضوع [حكم] العقل بوجوب امتثال
المعلوم.
ففي الحقيقة مثل هذا الترخيص يقع في رتبة حكم العقل بوجوب الامتثال،
وهو في رتبة متأخرة عن الواقع، ولا يوجب أيضا في المعلوم، وإنما شأنه النقص
[في] طريقية علمه، وهو لا ينافي مع بقاء الواقع على فعليته التي هي مضمون
خطابه.
وبهذا البيان لا يبقى مجال توهم مناقضة مثل هذا الترخيص مع فعلية الواقع
على مبنى التعليقية، ولذا أشرنا سابقا في بحث العلم أيضا بأن ببرهان المناقضة لا
مجال لإثبات تنجيزية حكم العقل، فراجع.
وحينئذ لو بنيت على إباء العقل عن مجئ مثل هذا الترخيص أيضا في
مورد العلم التفصيلي فيكشف ذلك إنا عن تنجيزية حكم العقل بلزوم الامتثال في

235
العلوم التفصيلية، وعليه فليكن كذلك في العلوم الإجمالية بعد ما عرفت أن حكم
العقل بوجوب الامتثال فيهما بمناط واحد، ولازمه: كون حكم العقل في كلا
المقامين تنجيزيا. ولا نعني من العلية لحرمة المخالفة القطعية إلا ذلك.
وبعد ما اتضحت هذه الجهة فقد يقال: بأن العلم الاجمالي لا يوجب أزيد
من تنجز ما تعلق به بلا سراية التنجز من مورد العلم إلى غيره تبعا لعدم سراية
العلم منه إلى خصوصيات الطرف، فلا محيص حينئذ من الالتزام بعدم اقتضاء
العلم أزيد من حرمة المخالفة القطعية.
وأما بالنسبة إلى الموافقة القطعية فهو فرع سراية التنجز من الجامع إلى
الخصوصية. ومع عدم سرايته إليها تبعا للعلم به لا موجب لوجوب تحصيل اليقين
بها. فمن الأول لا يكون للعلم اقتضاء التنجز إلا بالنسبة إلى الجامع الاجمالي غير
المستتبع لأزيد من الفرار عن المخالفة القطعية بلا اقتضائه لزوم الموافقة القطعية،
ولازمه عدم انتهاء النوبة في طرف الموافقة القطعية إلى مانعية الأصول الشرعية
كي تدفع بالمعارضة.
أقول لا شبهة في أن تنجز الأحكام إنما هو من لوازم وجودها خارجا، لا
من لوازم صورها الذهنية ولو [بمرآتيتها] للخارج. كيف! وبدون وجود الحكم
خارجا لا تنجز في البين، بل هو اعتقاد التنجز بتبع اعتقاد نفس الحكم بحيث لو
انكشف الغطاء لا يكون في البين حكم ولا تنجز حكم. وذلك شاهد عدم قيام
التنجز [بصورها] المخزونة في الذهن وإن لم يلتفت إلى [ذهنيتها]، وإلا فيستحيل
عدمه مع وجود موضوعه.
نعم غاية ما في الباب أن الحكم بأي صورة منه تعلق به الطريق - تفصيليا
أم إجماليا - يكفي في كسب الحكم بوجوده الواقعي [تنجزه بطريقه]. وذلك المقدار
لا يقتضي تبعية التنجز للعلم في عدم السراية إلى ما هو الموجود من الحكم

236
خارجا. وحينئذ لازم كسب المعلوم التنجز من علمه احتمال وجود الحكم المنجز
في كل طرف، فلازمه احتمال العقوبة بمخالفته، فيجئ فيه كبرى " دفع الضرر
المحتمل "، لا قاعدة " قبح العقاب بلا بيان "، كما هو ظاهر.
ثم إنه بعد ما كان حكم العقل بتنجز المعلوم بعلمه - ولو إجمالا - تنجيزيا كما
أسلفنا [فلازمه] سراية الحكم العقلي التنجيزي في كل محتمل منه. ومن تبعاته إباء
العقل مجئ الترخيص الشرعي على خلاف المحتمل المزبور، لأنه يستلزم
الترخيص في محتمل المعصية وهو في نظر العقل مثل الترخيص في المعصية القطعية
بلا تفاوت بينهما.
ونتيجته عدم جريان الترخيص الشرعي في كل طرف مشكوك ولو بلا
معارض - كما هو الشأن في العلوم التفصيلية - حيث إن الترخيص الشرعي غير
[جار] عند الشك في انطباق المعلوم على المورد. نعم لو قام طريق أو أصل
ظاهري على تطبيق المعلوم على المورد كان لترخيص العقل في الاكتفاء به مجال.
وفي هذه الجهة أيضا لا فرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي، وذلك هو المراد
من جعل البدل الجاري في المقامين، لا أن المراد الاكتفاء بترك أحد الطرفين حتى
مع عدم قيام طريق على التطبيق وإجراء الأصل في أحد الطرفين على فرض عدم
المعارضة، إذ بعد عدم اقتضاء دليل الترخيص كون المعلوم منطبقا على غيره ولو
لعدم كونه مثبتا للازمه العقلي، فمرجع الاكتفاء بترك الآخر إلى الاقتحام فيما
احتمل وجود التكليف المنجز فيه، وهو كما ترى يرجع إلى جواز الاقتحام فيما
احتمل فيه العقوبة. وهو كما ترى يأبى منه العقل، وإلا فيلزم الاقتحام في محتمل
التطبيق في العلوم التفصيلية أيضا.
وبالجملة نقول: إن حال العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي في عدم جواز
الاقتحام في المشكوك مع عدم قيام طريق على تطبيق المعلوم على المورد، وجواز

237
الاقتحام فيه مع قيام الطريق على التطبيق المزبور بالنسبة إلى أحد المحتملين.
ومن ذلك نقول: إن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي في هذه الجهات
المزبورة. وهذا معنى علية العلم مطلقا للتنجز، لا بمعنى عدم قابلية العلم
للترخيص في ما شك في تطبيقه [عليه] حتى مع قيام الدليل على [تعيين]
المصداق، كيف! وهذا المعنى للعلية لم يكن ثابتا حتى في العلم التفصيلي، وحينئذ
فغاية علية العلم التفصيلي هو عدم الاكتفاء بصرف الشك في المصداق واحتمال
تطبيق المعلوم على المورد، ونحن نقول أيضا: بأن هذا المعنى بعينه جار في العلم
الاجمالي طابق النعل بالنعل.
ولئن شئت قلت: إن العلم بأي نحو بعدما أثر في الاشتغال بالتكليف
[تنتهي] النوبة بعده إلى حكم العقل بالفراغ عما اشتغل، ففي هذه المرحلة: إن كان
طريق [على] تعيين تطبيق المعلوم على المورد فمرجعه إلى تعيين الفراغ عما
اشتغلت ذمته به بمثله، والعقل أيضا لا يقتضي أزيد من الفراغ الأعم من الحقيقي أو
الجعلي.
وإن لم يكن في البين معين للفراغ، يحكم العقل حكما تنجيزيا بتحصيل
اليقين بالفراغ وعدم جواز الاكتفاء بشكه، ولقد أبسطنا الكلام في المقام دفعا لما
صدر عن بعض الأعاظم (1) حسب تقرير تلميذه من خلطه بين صورة الشك
[في الفراغ] وبين صورة تعيين المصداق، وجعل فرض الشك في الفراغ في العلم
الاجمالي داخلا في جعل البدل، وجعل ذلك شاهدا على اقتضاء العلم في مقام
التنجز بالنسبة إلى الموافقة القطعية. وبالله عليك ترى كلماته وتشوف (2) مقدار



(1) انظر فوائد الأصول 3: 77. و 4: 352.
(2) كلمة " تشوف " هنا مأخوذة من اللغة العامية العراقية بمعنى " ترى ".
238
الخلط لمقام بمقام؟ ولعمري إن في كلماته من أمثال هذه المغالطات أكثر من أن
تحصى. ولقد أشرنا في باب العلم (1) وكذا في باب الانحلال (2) إلى شطر منها أيضا
فراجع، خصوصا في منع اقتضاء التفكيك المزبور [التخيير] في الترخيص لأحد
الطرفين لا التساقط والاحتياط علاوة على منعه إمكان تصور جريان الأصل
في أحد الطرفين بلا معارض فإن في كلماته ترى العجائب والغرائب ولقد تعرضنا
[لها] سابقا.
ثم إن من أعجب ما في كلماته نسبته (3) إلى شيخنا الأعظم التفكيك بين
المخالفة والموافقة القطعيتين بالعلية والاقتضاء، مع أنه لم يكن في كلماته تصريح
بهذه الجهة، بل غاية ما في البين في كلماته التصريح بتعارض الأصلين
وتساقطهما (4)، فيتوهم منه أنه لولا المعارضة لا مانع من جريان الأصل النافي في
أحد الطرفين بلا معارض، وهو يناسب الاقتضاء في الموافقة لا العلية.
ولكن لا يخفى أن غاية ما يستفاد من هذا الكلام مجرد تلويح على مشرب
الاقتضاء، وإلا فيمكن حمله على بيان الواقع بلا نظر فيه إلى مفهومه من فرض
عدم المعارضة... وحينئذ كيف يزاحم هذا الكلام مع ما في الشبهة الوجوبية من
تصريحه بكون العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي علة تامة للتنجز حتى بالنسبة إلى
الموافقة القطعية فراجع (5).



(1) راجع الصفحة 22 وما بعدها.
(2) راجع الصفحة: 190 وما بعدها.
(3) انظر فوائد الأصول 4: 36.
(4) لم نعثر عليه بعينه، انظر فرائد الأصول: 403 وما بعدها.
(5) راجع فرائد الأصول: 442 - 443.
239
كما أن ما في المقام من تجويزه [الترخيص] في بعض الأطراف عند جعل
الآخر بدلا عن الواقع ربما أوجب أيضا التوهم بأن غرضه من جعله بدلا [مجرد
جواز] تركه بلا تطبيق، فنسب إليه ما نسب، وإلا فلو [حمل] كلامه هذا أيضا
على صورة تطبيق [المعلوم] على المورد ما أظن استفادة الاقتضاء بالمعنى الذي
استفاد من كلامه. فراجع كلماته في المقام (1) وفي الشبهة الوجوبية (2) لا ترى [بدا
من الجمع] بينهما إلا بالنحو الذي ذكرنا، وهو الذي كان [جاريا] في العلوم
التفصيلية أيضا طابق النعل بالنعل، لأن من موارد ترخيص [العقل] لبعض
أطراف العلم موارد الانحلال. ولقد أبسطنا الكلام فيه أيضا في رد استدلال
الأخباريين للاحتياط في الشبهات بدعوى العلم الاجمالي وبينا هناك أيضا جهة
الفرق بين الانحلال وجعل البدل وأن الأول تصرف في رتبة تأثير العلم في
الاشتغال والثاني تصرف في مرتبة الفراغ كما لا يخفى.



(1) فرائد الأصول: 404 - 408.
(2) فرائد الأصول: 443.
240
[تنبيهات العلم الاجمالي]
بقي التنبيه على أمور.
[الشبهة غير المحصورة]
منها: أنه لو [كانت] أطراف العلم الاجمالي غير [محصورة] عرفا
بنحو يكون وجود التكليف في كل محتمل في غاية الضعف الخارج عن مورد بناء
العقلاء على الاعتناء بمثله حتى في أمور معاشهم وأغراضهم فضلا عن ملاحظة
أوامر مواليهم على عبيدهم في فرض عدم العلم منهم رأسا، فيقع الكلام في أن
حال وجود العلم الاجمالي مع هذا الضعف في احتمال وجود المعلوم فيه كحال
ضعف احتمال وجود التكليف مع عدم العلم به المستلزم لكون العلم الاجمالي في
البين كالعدم؟ أم ليس كذلك بل كان العلم الاجمالي على تأثيره ولو في الجملة
المستتبع لحرمة المخالفة القطعية فقط؟ أو يؤثر حتى في الموافقة القطعية؟
ثم إن هذ البحث ممحض في أن كثرة الأطراف بهذه المثابة هل [هي مانعة]
عن تأثير العلم أم لا؟ وحينئذ: فلا بد من فرض المورد خاليا عن موانع [تأثير]
العلم مطلقا حتى في الأطراف المحصورة، كغرض جعل بدل مخصوص في البين
الموجب للاكتفاء بمورده أو الاضطرار بأحد الأطراف ولو بلا تعيين أو خروج

241
بعض أطرافه عن محل الابتلاء وأمثال ذلك.
وتوهم ملازمة كثرة الأطراف مع أحد هذه المحاذير وبذلك يمتاز المحصور
عن غيره مدفوع بأن ما أفيد - لو سلم - إنما يصح في العلم [الاجمالي] في
[الواجبات]، وأما في المحرمات المقصود منها التروك فكثيرا ما تتصور كثرة
الأطراف عارية عن هذه المحاذير، فلم يبق فيها إلا محذور كثرة الأطراف الملازم
لضعف الاحتمال على ما أشرنا.
وحينئذ أمكن أن يقال: إن ضعف الاحتمال في كل واقعة ملازم - مع وجود
العلم المزبور - للاطمئنان بكون المعلوم في غيره.
وتوهم اقتضاء ضعف كل طرف وجود الاطمئنان [بالعدم] فيه وهو
مستلزم للاطمئنان بعدم التكليف في جميع الموارد، وهو مع وجود العلم الاجمالي
بوجوده في بعضها مستحيل.
مدفوع بأنه كذلك لو كان ضعف الاحتمال في كل واحد ملازما للاطمئنان
بعدمه في هذا المورد تعيينا، وأما لو كان ملازما للاطمئنان بوجوده في غيره فلا
يكون لازم الاحتمال المزبور إلا الاطمئنان بالعدم في كل طرف بنحو التبادل، ولا
بأس حينئذ بالجمع بين هذا النحو من الاطمئنان بالعدم بالنسبة إلى جميع الأطراف
مع العلم المزبور.
وحينئذ إن بنينا على حجية هذا الاطمئنان لدى العقلاء - بشهادة بنائهم
على إلغاء الاحتمال البالغ في الضعف بهذه المثابة وأخذهم بالاطمئنان القائم على
طرفه - فقهرا يصير لازم كثرة الأطراف [وجود] جعل بدل في البين، إذ مرجعه
حينئذ إلى العلم الاجمالي على تعيين المعلوم [بالحجة] في بقية الأطراف، وهذا
المعنى مستتبع لعدم وجوب الموافقة القطعية.
وأما بالنسبة إلى المخالفة القطعية فالعلم باق على تأثيره. ويمكن جعل هذه
النكتة مدرك بنائهم على عدم وجوب الموافقة القطعية بمحض كثرة الأطراف ولو

242
مع عدم محذور آخر في تحصيل الموافقة القطعية، لا أن في البين إجماعا تعبديا على
جواز الارتكاب كي يستكشف إنا جعل بدل مخصوص في البين.
نعم ذلك صحيح لو بنينا على عدم حجية الاطمئنان المزبور لدى العقلاء أو
بنينا على ردعهم [عنها] من قبل الشارع، وإلا فمع فرض كون الاطمئنان المزبور
لدى العقلاء من العلوم العادية لهم وارتكاز ذهنهم بالعمل بها وإلغاء احتمال
خلافها، وعدم ثبوت ردع من الشارع في الأحكام الكلية، وعدم ملازمة ردعهم
عنها في الموضوعات - لانحصار مرجعية البينة فيها - لردعهم [عنها] في الأحكام
الكلية، فلا يحتاج في إثبات جواز الارتكاب في الجملة إلى إجماع تعبدي في البين،
علاوة على منع الاجماع المزبور، مع فرض استدلال كل طائفة في جواز ارتكابه
بوجه غير تام: بملازمته للاضطرار أو خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء،
إذ مع هذه التشبثات في الباب لا يبقى مجال حدس بمثل هذه الدعوى بضميمة
عدم حجية الاجماع المنقول.
وحينئذ العمدة في الباب في وجه جواز الارتكاب بمقدار لا يستلزم المخالفة
القطعية - حتى في المحرمات المقصود منها التروك التي في غاية خفة المؤنة - هو
الذي أشرنا [إليه]، وهو يكفي ونعم النصير.
وحيث عرفت ذلك فلك أن تجعل الميزان في غير المحصور ما ذكرنا، وحينئذ
ربما يفرق ذلك بنظر العرف في الوقائع من حيث اعتبارهم وجودا واحدا في
المجتمعات أو متفرقا بأنه مع فرض اعتبار وحدة الوجود ربما يدخل المشتمل على
الحرام في أمور محصورة كما في فرض العلم بوجود حبة حرام من الحنطة أو
[الأرز] في إحدى لقماته المعدودة عند العرف كل لقمة وجودا واحدا مشتملا
على الحرام فيها [فتكون] الشبهة حينئذ محصورة، أو [فرضه] في حبات منها
[المتفرق] كل واحد عن غيره بحيث لا تكون تحت وجود واحد في البين فتكون
الشبهة حينئذ غير محصورة.

243
ثم لو انتهى الأمر إلى الشك في المحصور وغيره فلا محيص من [إلحاقه]
بالمحصور، لعدم إحراز جعل بدل في البين [فالعلم] قهرا يؤثر أثره حتى في وجوب
موافقته القطعية، كما لا يخفى فتدبر.
[الاضطرار إلى بعض أطراف الشبهة المحصورة]
ومنها: أنه إذا اضطر إلى أحد الأطراف في الشبهة المحصورة، فتارة: يكون
الاضطرار إلى طرف معين، وأخرى يتعلق الاضطرار بطرف غير معين. وعلى
التقديرين تارة يكون الاضطرار قبل العلم الباقي إلى حين العلم، وأخرى يكون
الاضطرار بعد العلم.
فإن كان الاضطرار حين حدوث العلم متعلقا بطرف معين فلا شبهة في
مانعيته عن تنجيز العلم، لأنه من المحتمل كون المضطر إليه [هو] مورد التكليف،
فلا يبقى العلم بالخطاب الواقعي بحاله من الفعلية ولو بمقدار استعداد الخطاب له.
نعم لو كان الاضطرار المزبور ناشئا عن تقصير في مقدماته بنحو يخرج عن
صلاحية العذر [فلا] بأس بدعوى بقاء العلم الاجمالي على منجزيته وإن لم يكن فعلا
علم بالخطاب [الفعلي]، إذ مثل هذه الجهة بعد ما لا يكون مانعا عن تنجيز الخطاب
- بمحض تمكنه من حفظه سابقا - فلا [تصلح] ما نعيته عن فعلية الخطاب [للمنع] عن
تنجز الخطاب بطريقه، وكأنه يصير من قبيل إلقاء النفس عن الشاهق.
والظاهر أن إطباق كلماتهم أيضا على مانعية مثل هذا الاضطرار عن
منجزية العلم بل عن وجوده منصرف عن صورة التقصير المزبور، كما لا يخفى.
ولو كان الاضطرار إلى المعين بعد العلم الاجمالي فحاله [حال] قيام
الطريق [بعده] من عدم [مانعيته] عن منجزية العلم بالنسبة إلى الطرف الآخر
لكونه طرفا للعلم الاجمالي التدريجي، ولقد تقدم منا في بحث الانحلال شرح عدم
خروج العلم بمثله عن المنجزية، وهذا الكلام بعينه جار في المقام وفي باب التلف

244
بعد العلم أيضا.
وأما في الاضطرار إلى غير المعين: فغاية ما يمنع يمنع عن إطلاق الخطاب في
كل طرف من حيث وجود طرفه، وأما مع عدمه فلا يكون مثل هذا الاضطرار
مانعا عن فعلية الخطاب، ونتيجة هذا المقدار منعه عن الموافقة القطعية، وأما منعه
عن المخالفة القطعية فيبقى على حاله من دون فرق في المقام بين حدوث الاضطرار
المزبور قبل العلم أم بعده.
وبهذه الجهة [بينا] في باب الانسداد أيضا بأن دليل الحرج لا يوجب رفع
اليد عن التكليف [بالمرة]، بل غايته منعه عن الموافقة القطعية، ونتيجته
حينئذ [التخيير] في الارتكاب لولا مرجحية الظن لأحد الطرفين. وهذه
المرجحية [تختص] بصورة الاهتمام بحفظ التكليف حتى في ظرف الجهل بالواقع،
ولذلك يختص ذلك - بمقتضى برهان الخروج من الدين - بفرض الانسداد، ولا
يكاد يجري في غيره، ولذا ربما يبقى العقل على التخيير في غير فرض الانسداد من
سائر الشبهات موضوعية أم حكمية، ولا أظن التزامهم بمرجحية مجرد الظن
بالتكليف في كل مورد اضطر إلى أحد طرفي العلم بلا تعيين، كما لا يخفى.
وبمثل هذه الجهة ربما أنكرنا المقدمة الرابعة الموجبة لمرجحية الظن بأحد
الطرفين في مورد العلم [الذي يضطر إلى أحد] طرفيه بلا تعيين وأن العمدة في
وجه تعيين الظن عدم إحراز الاهتمام بأزيد من الظنون. وفي الحقيقة مثل هذا
الظن بنفسه حجة لدى العقل الموجب لانحلال العلم الاجمالي، فلا يكاد معه
وصول النوبة إلى التبعيض في الاحتياط بمناط منجزية العلم الاجمالي. وتوضيحه
بأزيد من ذلك منوط بالمراجعة إلى محله المتقدم سابقا.
[يشترط في تنجيز العلم الاجمالي بقاء فعلية التكليف في جميع الأطراف]
ومنها: أن من شرائط منجزية العلم الاجمالي بقاء الخطاب المعلوم في كل

245
طرف على فعليته من حيث الشرائط العقلية، فمع فرض خروج أحد الطرفين
معينا عن فعليته قبل العلم إلى حين وجوده فليس مثل هذا العلم صالحا للتنجيز،
لعدم صلاحية معلومه للتنجز، فلا يبقى صالحا حينئذ له إلا التكليف في الطرف
الآخر غير المعلوم.
نعم لو حصل المانع المزبور بعد العلم لا يمنع ذلك عن منجزية العلم للطرف
الآخر بملاحظة العلم الاجمالي التدريجي كما أشرنا إليه في البحث السابق.
كما أنه لو كان المانع المزبور قائما على أحد طرفي العلم بلا تعيين فلا يمنع إلا
عن الموافقة، وإلا فحرمة المخالفة القطعية لدى العقل [باقية بحالها] كما أسلفناه
حرفا بحرف كما لا يخفى.
ثم إن المانع عن فعلية الخطاب: تارة تلف أحد الطرفين قبل العلم وفي مثله
لا يتصور المانع إلا عن طرف معين، ولذا لا بد فيه [من] التفصيل في منجزية العلم
رأسا بين حصوله حين العلم أم بعده، [ولا يجئ] فيه فرض وجود المانع المزبور
لأحد الطرفين بلا تعيين كي يفصل بين الموافقة القطعية ومخالفته كذلك. [و] تارة
أخرى عجزه عقلا عن موافقته بخروجه عن حيطة قدرته العقلية الوجدانية ففي
هذه الصورة أيضا يجئ جميع الفروض السابقة حتى فرض العجز عن أحد
الطرفين بلا تعيين الملازم للتفكيك بين الموافقة القطعية ومخالفته كذلك. وثالثة
خروج المورد من جهة بعد ابتلائه به بمثابة يكون الخطاب بتركه أو ايجاده قبيحا
لدى العقلاء.
ولئن شئت فعبر عنه بالقدرة العرفية العقلائية، وإلى ذلك نظرهم في شرطية
كون طرف العلم بأي واحد محل ابتلاء المكلف، إذ بدونه يكون الخطاب بمثله
[مستهجنا] جزما، ففي هذه الصورة أيضا تصور تحققه في أحد [الطرفين] بلا
تعيين في غاية الاشكال. وإنما يجئ فيه التفصيل بين [طروه] قبل العلم أم بعده،
فيخرج العلم عن المنجزية رأسا في الأول وعدم خروجه عن منجزيته بالنسبة إلى

246
الطرف الآخر في [الثاني] لوجود العلم الاجمالي التدريجي كما هو الشأن في
[نظائره].
نعم في جميع هذه الفروض أيضا لا بد من تخصيص البحث بفرض وجود
المانع المزبور من دون سبق تقصير منه، وإلا فلو فرض سبق تقصيره بنحو يكون
من قبيل إلقاء النفس عن الشاهق فلا يمنع طرو هذه الجهات عن تأثير العلم
الاجمالي في [التنجيز المستتبع] لوجوب الاجتناب فعلا عن الطرف الموجود
[المقدور]، وذلك أيضا لو لم نقل بشرطية وجود الموضوع أو قدرته للتكليف
شرعا، وإلا فالتقصير السابق في رفع الشرط لا ينافي رفع التنجز عن التكليف،
كما لا يخفى فتدبر.
[حكم ملاقي أحد أطراف المعلوم نجاسته إجمالا]
ومنها: أنه لو لاقى [أحد] طرفي المعلوم نجاسته شئ آخر فهل يقتضي
العلم الاجمالي بالنجاسة في البين وجوب الاجتناب حتى عن الملاقي - بالكسر -
على الاطلاق؟ أو لا يقتضي كذلك على الإطلاق؟ أم فيه تفصيل سيتضح في طي
المقال؟ وجوه.
وقبل الخوض في أصل المسألة ينبغي بيان أمور مقدمة للمقصد:
أحدها: أن وجه [نجاسة] الملاقي - بالكسر - هل هو من جهة صرف التعبد
به؟ غاية الأمر مشروطا بملاقاته مع النجس بلا التزام بالسراية من الملاقي - بالفتح -
إليه بوجه من الوجهين الآتيين. أم ليس إلا من جهة سرايتها مما لاقاه إليه؟
وعلى الأخير هل معنى سرايته كون نجاسة الملاقي - بالفتح - سببا لنجاسة
ملاقيه - بالكسر - نظير سراية الحركة من اليد إلى المفتاح؟ أو أن معناه انبساط نجاسة
الملاقي - بالفتح - بحيث شملت الملاقي - بالكسر - أيضا؟ [فتكون] نجاسة الملاقي
- بالكسر - من مراتب وجود نجاسة الملاقي - بالفتح - [لأنها مسببة] عنه وفي طوله.

247
ونظير باب النجاسة في مثل هذا التشقيق اعتبار الملكية في المنافع والنماءات
بالنسبة إلى ملكية الأعيان من أنه أيضا:
تارة [تعتبر] ملكية المنافع والنماء مستقلة تعبد [بها مشروطة] بملكية
[العين] بلا [التزام] بسراية ملكية من العين إلى المنافع.
وأخرى: [تعتبر] ملكية المنافع أو النماء ناشئة عن ملكية العين كنشو
الحركة للمفتاح من قبل اليد.
وثالثة: [تعتبر] ملكية المنافع من مراتب ملكية العين بحيث بوجود النماء
[تنبسط] الملكية من العين و [تشمل] النماء مثلا، [فتكون] ملكية النماء بعين
ملكية العين ولو بانبساط [وجودها] المتعدي من العين إلى النماء مثلا.
[ثانيها]: أن كل مورد يكون [فيه] للمعلوم بالإجمال أثران: أحدهما
ثابت لنفسه، والآخر لغيره، نظير الأمثلة السابقة، فلا شبهة في أن العلم الاجمالي
بين الشيئين كما هو حاصل بين [نفسيهما] كذلك هو حاصل بين الغير الذي هو من
تبعات وجود المعلوم السابق وبين طرفه. وإنما الكلام في طولية الأثر المترتب على
نفس المعلوم مع الأثر المترتب على الغير الذي هو من تبعات وجود المعلوم
كنجاسة الملاقي - بالكسر - أو ملكية النماء مثلا [التابعتين] لنجاسة الملاقي
- بالفتح - أو ملكية العين. أو كونهما [عرضيين] على التصورات السابقة، فإنه
على الطولية يصير الأثر في أحدهما مسببا عن الآخر، وعلى العرضية يكون
الأثران في عرض واحد بلا سببية ومسببية في البين.
ثالثها: في أن العلم الحاصل بمعلول شئ تارة سبب للعلم بعلته كالعلم
بالدخان الموجب للعلم بوجود النار، وأخرى مسبب عن العلم بوجود علته كما
هو الغالب، وثالثة يكون كلا العلمين ناشئين عن وجود ثالث، كما في إخبار
معصوم مثلا بوجودهما.
والظاهر أنه لا إشكال في هذا المقدار أيضا كما هو الشأن في البراهين الإنية

248
واللمية. وإنما الكلام في أن مجرد طولية المعلوم يكفي في سبق تنجزه ولو كان علمه
في طول العلم بمسببه أم لا يكفي هذا المقدار في سبق التنجز بل تنجزه تابع سبق
علمه؟ وإلا فمع تأخر علمه يكون تنجزه أيضا متأخرا عن تنجز المعلوم الآخر
تبعا لتأخر علمه.
أقول: أمكن أن يقال إن التنجز بعد ما كان معلول علمه، كيف يعقل سبقه
عن علمه؟ بل لا بد من تأخره عن علمه، فلو فرض سبق وجوده [على] المعلوم
الآخر - مع تأخر علمه عن علمه - موجبا لسبق تنجزه يلزم انفكاك العلم
بالمعلول السابق [على] العلم بالعلة عن تنجز متعلقه، لأنه حينئذ قائم بالطرفين
المنجز أحدهما سابقا، ومرجعه إلى انفكاك المعلول الذي هو تنجزه عن علمه
الذي هو علة التنجز له في الرتبة السابقة، وهو كما ترى. وحينئذ لا محيص من
الالتزام بأن تنجز المعلوم تابع سبق علمه لا سبق وجوده واقعا.
وحيث كان كذلك نقول أيضا: إن هذا المقدار لا يوجب إلغاء السببية
والمسببية في الأصل الجاري بينهما، وذلك لأن الأصل الجاري في السبب كان
حاكما على الجاري في المسبب من دون فرق في ذلك بين طولية علمه أو عرضيته،
لأن الأصل في السبب منقح موضوع المسبب، فلا يبقى معه مجال جريان الأصل في
المسبب إلا في فرض سقوط الأصل في السبب بالمعارضة مثلا. ولازمه في المقام
جريان الأصل في المسبب بلا معارض لسقوط الأصل في السبب بالمعارضة على
الفرض.
وبعد ما آل الأمر في المقام إلى ذلك لنا أن نقول: إنه لو بنينا على علية العلم
الاجمالي للموافقة القطعية فلا مجال لجريان الأصل في المسبب ولو كان بلا
معارض. ومقتضاه حينئذ اختصاص التنجز بالمعلوم بالعلم السابق ولو كان
المعلوم في الرتبة اللاحقة، ولا يصلح المعلوم بالعلم اللاحق للتنجز ولو كان المعلوم
بذاته في الرتبة السابقة، لقيام علمه [بطرفيه] المنجز أحدهما بعلمه السابق.

249
نعم لو كان الأمر بعكس هذا الفرض كان التنجز منحصرا بالمعلوم السابق
ولا يصلح المعلوم بالعلم اللاحق قابلا للتنجز، لعين ما ذكرناه. وفي مثله كان
لجريان الأصل في المسبب مجال.
ومن هذا البيان ظهر حال عرضية العلمين كما فرضناه، فإنه حينئذ يجب
الاجتناب عن المعلوم، الملزوم واللازم كليهما، لأنه بعد فرض عرضية العلمين لا
يكون كل واحد من العلم بالملزوم وطرفه والعلم بلازمه وطرفه واردين على ما
تنجز سابقا، بل كل منهما [وارد] على غير المنجز الصالح كل منهما لتنجيز متعلقه،
فيصير المقام قهرا من صغريات " باب العلم الاجمالي بتكليف في طرف وتكليفين
في الطرف الآخر "، وفي مثله يكون العلم الاجمالي منجزا لجميع الأطراف لازما
كان أو ملزوما. وفي مثل هذا المقام أيضا لا مجال لإجراء الأصل المسببي بلا
معارض بعد تعارض الأصل السببي، لما عرفت من منافاته لعلية العلم حتى
بالنسبة إلى الموافقة القطعية.
نعم لو بنينا على اقتضاء العلم للتنجز بمقدار الموافقة القطعية كان للأصل
المسببي حينئذ مجال، كما هو الشأن في الفرض السابق أيضا، ولكن أنى لنا
بإثباته بعد البيانات السابقة، وحينئذ فما عن شيخنا العلامة (1) من جعل المدار
على الأصل المسببي بقول مطلق لا يناسب مع علية العلم للتنجز حتى بالنسبة إلى
الموافقة القطعية.
اللهم [إلا] أن يجعل مبنى كلامه هذا على اقتضاء العلم اللاحق للتنجز ولو
في المعلوم السابق ذاتا ولو بخيال أن العلم الطريقي الملحوظ بالنظر المرآتي عين
معلومه، فقهرا سبق معلومه يسري إليه حسب سراية صفات المرئي إلى المرآة،
فيصير علمه بهذا النظر أيضا سابقا على المعلوم الآخر، فقهرا يصير أثره في التنجز



(1) فرائد الأصول: 424.
250
أيضا سابقا على العلم الآخر، فلا يبقى للعلم باللازم - ولو سابقا واقعا - مجال
التأثير بقول مطلق، فيكون الأصل المسببي أيضا جاريا مطلقا بلا معارض.
وأظن أن هذا التوجيه في ممشاه من الأخذ بالأصل المسببي بقول مطلق
أولى من حمل كلامه هذا على اختيار اقتضاء العلم للموافقة القطعية لا عليته،
بحيث كان قابلا لمنع المانع، كي ينافي ذلك لاطلاق كلامه في قيام المسبب مقام
السبب في فرض تلف السبب، فإنه كما يأتي شرحه - إن شاء الله - لا يناسب
الاقتضاء المزبور، بل مع العلية أنسب، كما سيجئ بيانه في الخاتمة.
هذا مضافا إلى أنه يخالف صريح كلامه في الشبهة الوجوبية بعلية العلم
الاجمالي كالعلم التفصيلي في الموافقة القطعية أيضا، كما أن التوجيه السابق أيضا لا
يقتضي إلا تقدم العلم اللاحق في عالم اللحاظ لا في الواقع، ومن البديهي أن
التنجز من تبعات وجود العلم في مرتبة وجوده واقعا لا في عالم لحاظه الموجب
لسبقه بالعناية لا حقيقة.
مضافا إلى أن طريقية العلم لا [تقتضي] مرآتيته بحيث لا يلتفت إلى نحو
وجوده في [رتبته حقيقة]. كيف! وفي البراهين الإنية ترى العلم بالمعلول متأخرا
عن العلم بالعلة، وهكذا في سائر الموارد، وحينئذ لا يبقى مجال توجيه صحيح
للمشي الذي اختاره (رحمه الله) في المقام من مرجعية الأصل المسببي بقول مطلق، كما لا
يخفى. هذا كله في فرض طولية المعلومين بذاتهما.
وأما لو كانا عرضيين - كما بينا وجهه في الأمثلة السابقة - فنقول: إنه قد
يتوهم أن نفس العلم الاجمالي بأثر الملزوم كاف في تنجز لازمه.
وفيه: أن العلم بالملزوم غير مرتبط بالعلم باللازم، إذ هما تكليفان غير
مرتبط أحدهما بالآخر، غاية الأمر عرضيان. ومجرد عرضيتهما في الوجود لا
يقتضي وحدة العلم بهما كي يكفي في تنجيز اللازم مجرد العلم بالملزوم.
وتوهم أن فرض انبساط النجاسة أو الملكية من طرف الملزوم إلى اللازم يقتضي

251
وحدة الأثر فيهما [المستتبعة] لوحدة التكليف بهما ولازمه كفاية العلم بمثل هذا
التكليف الواحد المنبسط على الملزوم واللازم في تنجزهما بلا احتياج إلى علم آخر.
مدفوع: بأن قوام كل عرض بعد ما كان بمعروضه فمع تعدد المعروض
- خصوصا مع طوليتهما بنفسهما - كيف يعقل الالتزام بوحدة العرض حقيقة؟ فلا
محيص في فرض تعدد الموضوع من تعدد تكليفه، غاية الأمر تلازمهما في عرض
واحد. وبعد ذلك لا محيص أيضا بهذا المناط من تعدد العلم بهما وجودا، لأن
وحدة العلم وتعدده أيضا متقوم بوحدة معلومه وتعدده.
ولئن اغمض عن ذلك وقلنا بوحدة وجود [الأثر] المنبسط على الملزوم
واللازم لا شبهة في أن مثل هذا [الأثر] الواحد قابل للتحليل بقطعة فقطعة،
ولازم ذلك أيضا كون العلم بكل قطعة غير الآخر ولو تحليلا.
وحينئذ نقول أيضا: إن العلم بقطعة [الأثر] القائم بالملزوم لا يكون إلا
منجزا للقطعة المعلومة به لا لقطعة أخرى، وإنما المنجز للأخرى ليس إلا قطعة
العلم المتعلق به، وإن كان العلمان أيضا تحت وجود واحد كما هو ظاهر. وحينئذ لا
محيص في مثل المقام من إدخاله في صغرى باب " العلم الاجمالي بتكليف واحد في
طرف أو تكليفين في طرف "، ومن هذه الجهة نلتزم بوجوب الاجتناب عن
الملزوم واللازم، لا من جهة الاكتفاء بالعلم الاجمالي في [الملزوم] في تنجز اللازم
أيضا كما توهم.
نعم الذي يسهل الخطب في المقام [عدم] صحة العرضية في التكليفين أو
انبساطه سواء في باب نجاسة الملاقي - بالكسر - مع نجاسة ما لاقاه أو في ملكية
النماء والمنافع لملكية العين وأن التحقيق فيهما كون كل واحد من الملزومين (1)



(1) لعل المراد هو " كون كل واحد من اللازمين ناشئا عن ملزومه " بشهادة المثال الذي أتى به
لكن العبارة كما ترى. راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، الصفحة 354.
252
[ناشئا] عن الآخر كنشو حركة المفتاح عن حركة اليد. وبهذا المعنى نلتزم
[بالسراية] في المقامين، لا بمعنى انبساط الأثر من [الملزوم] إلى اللازم بحيث
كأنهما وجود واحد منبسط على الجميع.
وعليه فمقتضى التحقيق في التشقيقات السابقة هو الالتزام بالمعنى [الوسط]
لا الأول ولا الأخير. ولازمه ليس إلا طولية [الأثرين] وفي مثله لا محيص من
اجراء الأصل في المسبب عند سبق العلم بالسبب، وإلا فلا بد من الاجتناب
[عن] المسبب وطرفه، واجراء الأصل في السبب، كما أنه لا بد من الاجتناب عن
كليهما عند عرضية علمهما، كما تصورنا كل ذلك بملاحظة جريان التفصيل في
طولية العلمين أو عرضيتهما، ولازمه عدم كون المدار في أمثال الباب على جريان
الأصل في المسبب بلا معارض، كما لا يخفى فتأمل في أطراف الكلام فإنه من مزال
أقدام الأعلام.
[خاتمة: إذا تلف السبب مقارنا للعلم فهل يقوم المسبب مقامه؟]
بقي في المقام خاتمة للمقصد و [هي] أن في فرض سبق العلم بالسبب قد
يظهر عن شيخنا الأعظم (رحمه الله) في رسائله (1) أنه في [صورة] تلف أحد طرفي العلم
مقارن علمه يقوم المسبب مقامه في وجوب الاجتناب عنه.
وهذا المعنى بناء على علية العلم الاجمالي في وجوب الموافقة القطعية في
غاية المتانة، لأن العلم الاجمالي الحاصل بين اللازم وطرف الملزوم التالف كان
منجزا للطرفين، لعدم سبق علم آخر في البين يمنع عن تنجيز هذا العلم فيؤثر
حينئذ أثره، سواء كان فيه أصل غير معارض لأصل طرفه أو لم يكن.
وأما لو بنينا على اقتضاء العلم في تأثيره في الموافقة القطعية بحيث كان قابلا



(1) انظر فرائد الأصول: 425.
253
لمنع المانع فهذا الكلام إنما يتم في الأصول غير التنزيلية مثل قاعدة الحلية على
وجه، بضميمة كون حلية اللازم أيضا من آثار حلية الملزوم ولو ظاهريا، إذ
حينئذ لا بد وأن يفصل بين صورة عدم التلف المزبور [و] تلفه، فإنه على الأول
تقع المعارضة بين أصالتي الحلية في الملزوم وطرفه، ويبقى الأصل في اللازم بلا
معارض، بخلافه على الثاني فإنه لا مجال لجريان الأصل في التالف لعدم صلاحية
التالف لجعل الحلية الظاهرية فيه، فقهرا تنتهي النوبة إلى أصالة الحلية في اللازم
وهو معارض بأصله في طرف اللازم، فيتساقطان، فيؤثر العلم بينهما أثره، لعدم
وجود مانع عنه.
وأما لو كان الأصل تنزيليا - كالاستصحاب مثلا - فلا شبهة في جريانه حتى
في التالف أو الخارج عن محل الابتلاء بلحاظ ماله من الآثار التي كانت مورد ابتلاء
المكلف فعلا، ولازمه حينئذ معارضة هذا الأصل الجاري في التالف مع الأصل في
طرفه، ويتساقط الأصلان، ويرجع حينئذ إلى الأصل الجاري مستقلا في [اللازم]
المسبب، ونتيجته عدم لزوم الاجتناب عن الملزوم أيضا حتى في فرض التلف، فلا
مجال حينئذ لقيام المسبب مقام السبب عند تلف السبب، كما لا يخفى.
وحينئذ فإطلاق كلامه بالقيام المزبور عند التلف إنما يتم بناء على علية
العلم للموافقة القطعية، كما أن إطلاق كلامه لمرجعية الأصل المسببي عند عدم
التلف إنما يتم على اقتضاء العلم للموافقة القطعية، كما شرحناه.
وعليه فلا مجال للاستشهاد بمثل هذه الكلمات والاطلاقات لمشربه من
العلية والاقتضاء في الموافقة القطعية، بل لا محيص من إيكال مقصده هنا - على ما
فيها من التهافت - إلى شرحه منه، وإلا فخريت هذه الصنعة ومؤسس هذا
الأساس أجل شأنا من أن يجري القلم على خلافه ويتجاسر بأشكاله، اللهم وفقنا
ومن علينا بفهم ما جرى على قلمه الشريف آمين آمين.

254
المقالة التاسعة عشرة
الأقل والأكثر

255
[المقالة التاسعة عشرة]
في الأقل والأكثر
وهو تارة استقلالي بحيث لا يكون امتثال الأقل - ولو مع وجوب الأكثر -
منوطا بضميمته بالأكثر، وأخرى ارتباطي وهو ما كان امتثال الأقل في ظرف
وجوب الأكثر منوطا بانضمام [الأكثر إليه].
ولا إشكال في جريان البراءة عن الأكثر عند دوران الواجب بين الأقل
والأكثر في الفرض الأول، لانحلال الخطاب بمثله إلى خطابات مستقلة بنحو
[يكون] لكل منها امتثال وعصيان مستقل، فمع العلم بوجوب الأقل حينئذ
والشك في وجوب الأكثر لا قصور له عند العقل في جريان البراءة في مثله عن
الأكثر والاكتفاء بالخطاب المعلوم توجهه بالأقل.
نعم قد يشكل ذلك في باب الدين - الذي هو من صغريات الأقل والأكثر
[الاستقلاليين] عند التمكن [من] الفحص بالرجوع إلى الدفتر أو غيره - بأن
الظاهر عدم بنائهم على البراءة عن الأكثر بل للداين إلزامه على الرجوع إلى
دفتره فيجرون البراءة عنه بعد الفحص.
ولكن ذلك المقدار ليس مخالفا لقاعدة البراءة عن الأكثر وإنما هو مخالف

257
لقاعدة عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية.
ولعل وجهه التعدي عما ورد من التسبيك في تعيين نصاب الذهب والفضة.
وربما تعدى بعضهم إلى الفحص عن بلوغ المال إلى حد الاستطاعة وأمثال ذلك في
الماليات المرددة بين الأقل والأكثر، ومنها ما نحن فيه.
و [بقية] الكلام في صحة التعدي عن مورد النص الوارد في [التسبيك] إلى
أمثاله في الماليات وعدم صحته في محله، وله مقام آخر.
وبالجملة لا إشكال في البراءة عن الأكثر خصوصا بعد الفحص في
الموضوعات فضلا عن الأحكام الكلية، وإنما الكلام في جريانها ولو بعد الفحص
في الشبهات الحكمية في الأقل والأكثر [الارتباطيين] فصار ذلك معركة الآراء
وميدانا للجدال بين الأعلام. وتوضيح هذه العويصة يحتاج إلى تقديم مقدمة
رافعة للغواشي عن الأوهام فنقول:
إن محل الكلام في المقام إنما هو في صورة كون الأقل بنفس ذاته وبحصته
المعينة محفوظا في ضمن الأكثر بنحو يكون نسبة الأقل إلى الأكثر كنسبة الضعيف
أو القصير المحفوظين بنفسهما وذاتهما بحصتهما المخصوصة في ضمن الشديد أو
الطويل، وإلا فلو كان المحفوظ في ضمن الأكثر حصة من الذات [المباينة] مع
الحصة الأخرى المحفوظة في ضمن غيره - كالمتواطي المردد بين كون الواجب في
ضمن الأكثر حصة من الطبيعي في ضمن فرد مباين مع حصة أخرى في ضمن فرد
آخر منه كما هو الشأن في الدوران بين كون الواجب هو الطبيعي أو فردا منه
كالانسان بالنسبة إلى زيد أو عمرو مثلا - فهو خارج عن الأقل والأكثر وعن
محط بحثنا فعلا، وداخل في عنوان آخر من الدوران بين التعيين والتخيير.
وربما يصار إلى الاحتياط في هذا العنوان مع البناء [على] البراءة في الأقل
والأكثر وسيجئ توضيحه عن قريب إن شاء الله.

258
وحيث ظهر ذلك نقول أيضا: إن لازم بحث الأقل والأكثر عدم أخذ حد
الأقل في الواجب. كيف! ولو اخذ فيه الحد المزبور [تخرج] المسألة أيضا عن
عنوان البحث المزبور و [تدخل] في عنوان المتباينين كباب القصر والإتمام، ولذا
اشتهر أن باب الأقل والأكثر إنما اخذ الأقل فيه " لا بشرط " عن الزايد، وإلا فلو
اخذ " بشرط لا " يدخل في المتباينين.
لا يقال: إن لازم وجوب الأقل كون حد القلة مأخوذا في الواجب، وإلا
يلزم جواز تعدي الوجوب عن حد القلة إلى غيره، وليس كذلك، لأنه يقال: إن
عدم تعدي الوجوب عن حد القلة إنما هو لقصور الوجوب، لقصور مقتضيه عن
التعدي، وذلك لا يقتضي إلا تحديد الوجوب بحد لا يتعدى عن الأقل، وذلك
المقدار لا يقتضي أخذ حد القلة في موضوع الوجوب، إذ الحد المأخوذ من ناحية
الحكم يستحيل أخذه في الموضوع، بل الموضوع هو نفس الذات التوأم مع القلة لا
بشرطها و [لا] لا بشرطها.
ومن هذا البيان أيضا ظهر فساد توهم الاحتياط عقلا في الأقل والأكثر
ببيان: العلم الاجمالي بوجوب أحد الحدين من الأقل والأكثر، وفي مثله العقل
يلزم بالاحتياط.
وتوضيح الفساد مبني على أخذ حد القلة في الواجب، ولقد عرفت ما فيه.
فإن قلت: إن المراد من حد القلة المأخوذ في الواجب هو الحد الذاتي الثابت
للأفعال بوجودها الخارجي. غاية الأمر كان مأخوذا بنحو اللا بشرطية عن انضمام
[الغير إليه]، ولازم وجوب الأقل المزبور دخول الحد الذاتي بنحو اللا بشرطية
عن انضمام الغير إليه في الأقل الواجب، ومرجعه إلى وجوب الأقل بحده الذاتي
بنحو لو انضم إليه شئ لكان خارجا عنه. وحينئذ لازم العلم الاجمالي المزبور
العلم بوجوب أحد الحدين فيوجب الاحتياط.

259
قلت: كيف يمكن الالتزام بما أفيد والأفعال الخارجية بحدودها لا [تكاد
تتصف] بالأقلية إلا بطرو اعتبار وحدة بين المتكثرات؟ وفي هذا الاعتبار الأقل
مأخوذ في الأكثر بلا حد [كالضعيف] في ضمن الشديد، فأخذ حد القلة في
الواجب حينئذ مساوق أخذ عدم الضميمة إلى الغير فيه، نظير حد الضعيف
في قبال الشديد، وهو مساوق أخذ الأقل بحده الذاتي بشرط لا عن الانضمام.
ولقد عرفت أن مثله داخل في المتباينين المستلزم [للاحتياط] بتكرار وجوده في
ضمن القلة تارة، وفي ضمن الكثرة أخرى، كما لا يخفى.
وبالجملة نقول إن المصير إلى الاحتياط عقلا في باب الأقل والأكثر
بتقريب أخذ حد القلة طرفا للعلم الاجمالي بالواجب في غير محله. مضافا إلى
اقتضاء الاحتياط في مثله [تكرار] العمل في ضمن الأقل تارة وفي ضمن الأكثر
أخرى، لا القناعة باتيان الأكثر، وهو خلاف مرام القائل بالاحتياط في المقام.
وأضعف من ذلك توهم كون الوجوب في المقام مرددا بين الطويل
والقصير، فيشبه [دوران] الأمر بين وجوب واحد من طرف [و] وجوبين في
طرف آخر، وفي مثله لا بد من الاحتياط.
وفيه: أنه وإن كان من [قبيل] الطويل والقصير، ولكن من المعلوم أنه
ليس المقام إلا من الدوران بين كون [هذا] الوجوب قصيرا وبين كون هذا
الوجوب طويلا، ففي الحقيقة لا شبهة في أصل الوجوب الشخصي بمرتبة منه وإنما
الشك في حده المردد بين الطويل [و] القصير، ومثل ذلك لا يدخل في دوران
الأمر بين وجوب واحد في طرف ووجوبين آخرين في طرف. وفي مثله لا يأبى
العقل عن إجراء البراءة عن الزائد المشكوك كما لا يخفى.
وأضعف مما ذكر توهم أن وجوب الأقل في فرض وجوب الأكثر غيري
وأن البراءة عن الأكثر [تقتضي] البراءة عن الأقل أيضا، لتبعية الأقل بوجوبه

260
الغيري للأكثر براءة واشتغالا، فعليه [لا] يبقى للأقل إلا احتمال وجوبه نفسا، فهو
أيضا تحت البراءة، ولازمه الأول إلى المخالفة القطعية، والعقل يأبى عن ذلك
وحينئذ لا محيص في مقام الفرار عن المخالفة القطعية إلا بالاحتياط بإتيان الأكثر.
وتوهم أن العلم في المقام منحل إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي
مدفوع بأن العلم التفصيلي بوجوب الأقل المردد بين النفسي والغيري معلول العلم
الاجمالي بوجوب نفسي بينهما، وبديهي أن العلم التفصيلي المتأخر رتبة كالمتأخر
زمانا غير صالح لحل العلم - على ما شرحناه في بحث الانحلال - فقهرا يؤثر العلم
الاجمالي في الرتبة السابقة أثره.
وتوضيح الضعف في هذا الوجه أيضا يظهر بالمراجعة إلى بحث وجوب
الأجزاء في بحث مقدمة الواجب، وأن التحقيق فيها أيضا كون الأجزاء واجبة
بعين وجوب الكل بلا مغايرة بينهما بالنفسية والغيرية، وحينئذ لا قصور في
جريان قواعد الانحلال في المقام، فلا يبقى مجال توهم انتهاء الأمر إلى المخالفة
القطعية بالبراءة عن الأكثر.
وبالجملة لا مجال للمصير إلى الاحتياط بإتيان الأكثر بمثل هذه الوجوه.
نعم هنا تقريب آخر منسوب إلى الفصول (1) وهو [أمتن] التقريبات وهو:
أن الاشتغال بالأقل يقتضي الفراغ اليقيني عنه، وهو لا يحصل إلا بإتيان الأكثر،
إذ لو ترك الأكثر واحتمل وجوبه لا يكاد يحصل الفراغ عن الأقل، بل الأقل
حينئذ يبقى على وجوبه. نعم يحتمل الفراغ عنه باحتمال وجوبه نفسا، ولكن
اشتغال الذمة اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، ولا يكفي فيه [احتمال] الفراغ، كما هو
ظاهر.



(1) انظر الفصول: 50 و 357.
261
ويمكن الفرار عن هذه الشبهة أيضا: بأن الأقل في ضمن الأكثر ليس إلا
حصة معينة من الذات المحفوظة في ضمن الأكثر، وهذه الحصة بعينها هي الموجودة
في فرض عدم وجدانه الأكثر أيضا، وليس حينئذ الفرق بين الأقل المنضم بالزايد
وغيره إلا من حيث الوجدان لغيره وعدمه.
ومن المعلوم أن ما يجئ في ذمة العبد هو نفس الحصة المعينة، غاية الأمر
عند وجوب الأكثر كان وجوبه ملازما لوجوب الزايد، وحينئذ الخروج من عهدة
الأقل ليس إلا بإتيانه [غيره]، المنوط بإتيان الزايد، لغرض عدم [تغيير] في
خصوصيات الأقل بما هو أقل إلا [بترك] ما لا يلازمه في الوجود، فليس هم
العقل حينئذ إلا [الفراغ] عما جاء [في] ذمته بإيجاده، بلا اهتمامه بإسقاط وجوبه
زايدا عن الفراغ عنه بإيجاده، ولو من جهة ملازمته لإسقاط وجوب الزائد الذي
هو تحت الشك وعدم البيان، كما هو ظاهر. ولقد شرحنا ذلك أيضا بأتم بيان في
بحث " البراءة عن قيد القربة في بحث الأوامر من مباحث الألفاظ " فراجع (1).
بقي في المقام توهم آخر وهو أن تنظير باب الأقل والأكثر بالكليات
المشككة إنما هو في [صورة] عدم وجود خلل فيه بنحو غير قابل للتدارك، وإلا
فلو احتمل فيه مثل ذلك - كصورة إيجاد مشكوك المانعية أو ترك مشكوك
الشرطية كالترتيب والموالاة وأمثالهما [الممنوعة] عن تداركها مثلا - فلا شبهة
في رجوع وجوب الأقل والأكثر إلى وجوب إتمام هذا الفرد الموجود أو إتمام فرد
آخر مباين لهذا الفرد، فيكون المقام حينئذ نظير الكليات المتواطية المرددة بين
فردين متباينين، وقد [عرفت] في مثلها اقتضاء العلم الاحتياط بالتكرار.
وتوضيح دفع هذا الوهم أيضا بأن يقال: إنه قبل حدوث هذا الخلل كان



(1) مقالات الأصول 1: 245.
262
إتمام الفرد السابق من جهة البراءة عن المشكوك واجبا، وبعد طروه لا يكاد
[ينقلب] وجوبه المعلوم أولا [إلى] وجوب آخر، وحينئذ كان وجوب الإتمام
منجزا بالعلم السابق، فالعلم الحادث حينئذ متعلق بما تنجز أحد طرفيه سابقا
بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل. ومثل هذا العلم الاجمالي المتأخر غير صالح
حينئذ للمنجزية كما لا يخفى.
ولئن شئت قلت أيضا: إن مرجع وجوب التمام إلى وجوب تدارك الفائت
في ضمن بقية الأجزاء.
وهذا الوجوب من الأول تحت البراءة والرخصة العقلية في تفويته، فلا
يكاد [يلزم] العقل [ثانيا] بإيجاده. ولازمه كون العلم الاجمالي الحادث قائما بما
هو تحت الترخيص من الأول، ومثله غير صالح للتنجيز الموجب [لإلزامه]
بإتيانه في ضمن بقية الأجزاء كما لا يخفى.
فإن قلت: إن كون الفائت تحت البراءة ووجوب الإتيان بالبقية - الراجع
إلى وجوب الإتمام - إنما هو من جهة انحلال العلم الأول بالعلم التفصيلي والشك
البدوي، وهما ما دام وجودهما [مؤثرا] في البراءة ووجوب الاتمام، وهو ليس
إلا قبل فوت محل التدارك، وأما بعد فوته فينقلب العلم السابق [إلى] العلم
الاجمالي بين المتباينين لا الأقل والأكثر، وحينئذ حدوث هذا العلم الجديد إنما
يكون مقارنا لزوال العلم السابق وشكه، فلا يكون العلم الزايل موجبا لتنجز
معلومه حتى بعد زواله، فلا جرم قام العلم الاجمالي بالطرفين الصالحين للتنجز به،
فلا مانع حينئذ عن تأثيره الموجب لتكرار العمل بالإتمام والإعادة.
قلت: مرجع اقتضاء الشك البدوي [إلى البراءة] عن المشكوك أنه لو
خالف لا يعاقب عليه، وهذا المعنى ملازم لاقتضاء الشك البدوي السابق
الترخيص على تفويته الملازم للعلم الاجمالي المزبور.

263
وهكذا نقول: إن الانحلال السابق أيضا اقتضى حرمة تفويت البقية حتى
في فرض المخالفة للمشكوك، ومرجع ذلك إلى تأثير العلم السابق وشكه البدوي
[أثرهما] المقارن لزوالهما الملازم لعلم إجمالي آخر في رتبة زوالهما، ومعناه ترتب
أثر كل من العلم التفصيلي والشك البدوي في رتبة متأخرة عن زوالهما [المتحدة]
مع وجود العلم الاجمالي الحادث زمانا.
وبعبارة أوضح: نتيجة العلم التفصيلي السابق والشك البدوي [هي]
العقوبة على ترك البقية في ظرف المخالفة للمشكوك، وهكذا في رفع العقوبة عن
المشكوك في ظرف مخالفته. وهذا عين ظرف زوال العلم السابق ووجود العلم
الاجمالي الحادث، وحينئذ كيف يصلح مثل هذا العلم الاجمالي الحادث للتأثير في
العقوبة على المشكوك في [الظرفين]؟
وحينئذ فما قرع سمعك بأن تأثير كل علم في ظرف وجوده في غاية المتانة،
ولكن لا يقتضي ذلك وجود الأثر أيضا في ظرفه بل لا يزال يكون ظرف الأثر
توأما مع زواله، وذلك لأن ظرف استحقاق العقوبة إنما هو في ظرف المخالفة
للواجب أو الحرام، وفي هذا الظرف لا يبقى وجوب ولا حرمة، فيرتفع العلم بهما
أيضا تبعا، ولازمه دائما وجود الأثر من استحقاق العقوبة في ظرف زوال الحكم
وطريقه، الملازم لوجود العلم الاجمالي الحادث. وحينئذ: كيف يكون مثل هذا
العلم مؤثرا في حرمة مخالفة ما رخص في تفويته في ظرفه؟ فتدبر.
وكيف كان لا يبقى مجال دعوى تأثير العلم الاجمالي الحادث المذكور أثره
من التكرار المزبور، إذ لم يتوهم أحد لزوم التكرار في الاحتياط في باب الأقل
والأكثر. بل غاية آمال القائل بالاحتياط في هذا الباب هو لزوم الاقتصار
بالأكثر لا التكرار [المسطور]، وذلك يكشف عن عدم اعتنائهم بمثل هذا العلم
الاجمالي الحادث، ولا نظن له وجها غير ما بيناه.

264
وحينئذ لا يبقى مجال توهم الاحتياط بالتكرار في باب الأقل والأكثر، كما لا
مجال لدعوى الاحتياط بالاقتصار بالأكثر لما عرفت من فساد وجوه توهمه، بل
المحقق كون الأكثر تحت البراءة العقلية فضلا عن [نقليتها]، وجواز الاقتصار
بالأقل.
نعم لو بنينا على الاحتياط بلزوم الأكثر عقلا ففي جريان البراءة النقلية
كلام آخر، ظاهر [جمع جريانها] مع التزامه بالاحتياط عقلا.
ولكن يمكن أن يقال: إن مبنى الاحتياط بعدما كان منجزية العلم الاجمالي
بأحد وجوبي الأقل والأكثر أو العلم التفصيلي بوجوب الأقل فلا مجال لجريان
البراءة عن المشكوك إلا مع الالتزام بعدم علية العلم للموافقة القطعية، بل كان
مقتضيا، وإلا فلا معنى لجريان البراءة النقلية مع علية العلم وتنجيزيته بالنسبة إلى
الموافقة، وحيث تقدم سابقا في بحث العلم وغيره تنجيزية تأثيره حتى بالنسبة إلى
الموافقة القطعية فلا يبقى مجال جريان البراءة في محتمل التنجز بالعلم، لأن
الترخيص في محتمل المعصية كالترخيص في معلومها قبيح، وعليه لا محيص [من]
جريان البراءة الشرعية في المقام إلا بإسقاط العلم المزبور في هذا الباب عن
التأثير ولو بدعوى الانحلال، أو تقريب آخر على ما أسلفنا في وجه دفع شبهات
الاحتياط في المقام فراجع.
وعليه فلا اختصاص في جريان خصوص البراءة الشرعية بل العقل أيضا
يحكم بقبح العقاب من ناحية المشكوك، وحينئذ لا يبقى مجال توهم التفكيك بين
البراءة الشرعية والعقلية في المقام كما لا يخفى.
ثم إن ذلك كله في صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الراجع في الحقيقة
إلى محفوظية الأقل بحدوده الخاصة - غير جهة قلته - في ضمن الأكثر، ومن هذه
الجهة قلنا بشباهتها بالكليات المشككة [المحفوظ] ضعيفها في ضمن قويها.

265
وأما لو كان الواجب دائرا بين الطبيعي على الإطلاق [و] خصوص فرد
فهو خارج عن هذا الباب، إذ إطلاق الطبيعة لفرد آخر في قبال خصوص هذا
الفرد بحيث لا يكون بينهما جهة قلة وكثرة، بل يدور أمره بين حصة من الطبيعي
[و] حصة أخرى [مشمولة] لإطلاقه، لا صرف الطبيعي المهمل المحفوظ في
ضمن هذا الفرد. ولذا في طرف العقوبة أمره يدور بين ترك خصوص هذا الفرد
[و] ترك الفردين، ولازمه العلم الاجمالي بحرمة ترك هذا الفرد مستقلا، أو ترك
فرد آخر مباين معه ضمنا. وفي مثله يرجع الأمر إلى الدوران بين المتباينين كما لا
يخفى.
وحينئذ ففي كلية دوران الأمر بين التعيين والتخيير المرجع هو الاحتياط
على خلاف باب الأقل والأكثر كما لا يخفى.
ثم إنه لا يتوهم بأن باب الشك في الشرط من [قبيل] التعيين والتخيير
بخيال أن الفاقد للشرط مباين مع الواجد وجودا.
لأنه يقال: إن جهة التباين بينهما إنما [هي] من جهة فقدان حد القلة
بوجدان التقييد، ووجد انه بفقدانه، مع حفظ سائر الحدود بشخصها في الأقل
المحفوظ في ضمن الأكثر الواجد [للتقييد]. وأين هذا [و] باب التعيين والتخيير
الراجع إلى الترديد بين الحصتين [المتباينتين] مرتبة ووجودا كما هو الشأن في
أفراد الكليات المتواطية كما هو ظاهر.

266
المقالة العشرون
هل تجب بقية اجزاء المركب عند نسيان بعضها؟

267
[المقالة العشرون]
[هل تجب بقية اجزاء المركب عند نسيان بعضها؟]
إذا نسي بعض أجزاء المركب فمع فرض عدم ظهور الأمر به في أصل
[المشروعية] حتى حال نسيانه فلا شبهة في عدم اقتضائه وجوب البقية حال
النسيان. كما أن أدلة بقية الأجزاء أيضا لا إطلاق لها على وجه يثبت الوجوب
المزبور في هذه الحالة، لأنها بعدما كانت في مقام بيان حقيقة المركب كانت في
دلالتها على مشروعية متعلقه ووجوبه [تبع] إطلاق الأمر بالمركب واقتضائه،
من دون فرق في ذلك بين إطلاق دليل جزئية المنسي وعدمه.
نعم: إنما يثمر مثل هذا الاطلاق في صورة إطلاق دليل المركب لحال
النسيان، فإنه مع عدم إطلاق دليل جزئية المنسي أمكن إثبات وجوب البقية بمثله
ولو لم يكن له ظهور في تعدد المطلوب، لإمكان اختلاف مصاديق واجب واحد.
وتوهم اقتضاء ذلك تخصيص الخطاب [مثل] * (أقيموا الصلاة) *، وأمثالها
[بالناسي] مدفوع بمنع الملازمة لإمكان دخل خصوصية الحالات في اختلاف
مصاديق الطبيعة، وأن المأمور بالطبيعة الجامعة هو المكلف بعنوان ذاتي له أم
عرضي.

269
مع أنه على فرض دخل كل حال في خصوص المأمور به لا يقتضي ذلك
أيضا توجه الخطاب المزبور إلى عنوان [الناسي]، بل من الممكن كونه خطابا
بعنوان المؤمنين الذي [هو إشارة] إلى العناوين الخاصة.
مع أنه على فرض كونه خطابا إلى عناوين الموضوعات تفصيلا - [بتبع]
افراده في صورة - لا يقتضي مثل هذا الخطاب التفات [الناسي] بنسيانه، بل غاية
الأمر يلتفت إجمالا بوجوده في زمرتهم مع جزمه بأن [الناسي] غيره.
وأضعف منه شبهة اقتضاء التفكيك المزبور انفراد [الناسي] بأمر مخصوص
به، وهو أيضا مستحيل لعدم صلاحيته للداعوية، إذ فيه:
أولا: أن مجرد الاختلاف بينهما مصداقا لا ينافي أمر الجميع بنفس الطبيعة
الجامعة بعد صلاحية مثل هذا الأمر للداعوية إلى الجامع وإن لم يلتفت إلى شخص
مصداقه.
مع أنه على فرض توجه الأمر بخصوص المصداق لا بأس بداعوية ذات
الأمر المحفوظة في ضمن الحدين بلا دخل داعوية خصوصية الحد في غرض الآمر
أو المأمور به.
نعم لو كان له دخل يشكل الأمر في هذه الصورة: من غفلته عنه [المانعة]
عن داعوية صورته [العلمية].
وتوهم أن الأمر الشخصي في صورة الغفلة أيضا صار داعيا، غاية الأمر
اشتبه المأمور في تطبيقه مدفوع بأنه مبني على كون الأوامر بوجوداتها الخارجية
داعية، وإلا فبناء على التحقيق من اختصاص داعويتها بصورتها العلمية لا يبقى
مجال هذا التوهم أصلا، كما هو واضح.
وكيف كان مع إطلاق الأمر بالمركب وعدم إطلاق دليل جزئية المنسي
يثبت وجوب البقية في حال النسيان.

270
نعم مع إطلاق دليل الجزئية المزبورة أيضا لا يبقى مجال إثبات الوجوب
المزبور بمقتضى الأدلة الاجتهادية إلا إذا فرض ظهور الأمر بالمركب في تعدد
المطلوب، وإلا فمع عدمه لا طريق إلى اثبات وجوب الباقي من الأدلة الأولية
أصلا ولو كان لدليل المركب إطلاق.
نعم قد يتشبث في [إثباته] بمقتضى الأصول العملية حتى في صورة عدم
إطلاق لدليل المركب حال النسيان أيضا. وذلك تارة ببركة الاستصحاب بعد
زوال النسيان بلحاظ حال النسيان في صورة سبقه بالقدرة والالتفات.
وتقريبه بوجوه:
منها: استصحاب الوجوب الجامع بين النفسي والغيري الثابت لنفس الجزء
السابق.
وفيه: إن ذلك صحيح لو كان كل واحد من نحوي الوجوب ثبوته من
الأول مشكوكا ودار أمر الثابت بين ما هو مقطوع الزوال [و] مشكوك الحدوث
فيدخل في استصحاب القسم الثاني المجمع على جريانه.
ولكن في المقام ليس الأمر كذلك، للجزم بالوجوب الغيري للأجزاء سابقا،
وإنما المحتمل [وجوبها] نفسيا من جهة احتمال مقارنة مناطه بمناط الغيرية أو
قيامه مقامه.
وعلى التقديرين [تدخل] المسألة في استصحاب القسم الثالث من الكلي
غير الجاري جزما، هذا.
مع أن ذلك مبني على الالتزام بالوجوب الغيري في الأجزاء، وهو أيضا
باطل تحقيقا لما حقق في محله.
ومنها: استصحاب الوجوب النفسي الثابت للأكثر بناء على مسامحة العرف
في موضوعه بجعله عرفا الأعم من الواجد لبقية الأجزاء المنسية والفاقد.

271
وفيه: إن هذا المقدار غير كاف في جريانه، للجزم بأن الوجوب السابق
متقوم عقلا بالمنسية، ومعه لا يبقى الشك في بقاء الحكم بنسيان موضوعه، فحينئذ
فلا بد وأن يكون الشك في البقاء متعلقا بحكم آخر محتمل التحقق حين الحكم
الأول أو محتمل البقاء بحدوث مناط آخر، ومن المعلوم أن أحد الحكمين غير
الآخر، وما هو مشكوك البقاء مشكوك الحدوث أيضا. فكيف يجري في مثله
الاستصحاب؟ اللهم إلا أن يدعى أن مسامحة العرف في جعل الحكم السابق أعم
من الواجد والفاقد [ملازمة] مع مسامحتهم في المستصحب أيضا ولكنه لا يخلو
عن تأمل.
ومنها: استصحاب نفس الوجوب الثابت للجزء سابقا ضمنا ولو بدعوى
أن هذه المرتبة من الوجوب المتحقق في ضمن الكل محتمل البقاء وإن كان بقاؤه
مستتبعا لكونه في حد أقصر من حد السابق. وذلك أيضا إما من جهة تبدل مناطه
السابق بمناط آخر مستقل بالجزء المزبور، أو من جهة احتمال قيام مناط آخر يقوم
مقامه، أو من جهة الجزم بمناط آخر فيه، ولكن كان مشكوك الملازمة من حيث
الاستيفاء معه وعدمه لكن لا يخفى ما في الأخير من عدم طريق للجزم المزبور،
وإلا فلا قصور في استصحابه، وأما في الأولين... (1).



(1) الظاهر أن في العبارة سقطا. وجاء في تقريرات بحثه عن الاحتمالين الأولين ما لفظه:
الظاهر أنه لا مانع منه في بعض فروض المسألة فيما كان الشك في بقاء وجوب البقية من جهة
احتمال وجود مناط آخر في البين يقتضي تبدل حده الضمني بحد آخر مستقل، واحتمال
تبدل المناط السابق بمناط آخر مستقل للأجزاء الباقية يقتضي استقلالها في الوجوب عند
[تعذر] الكل فإن في أمثال ذلك لا مانع من جريان الاستصحاب. (نهاية الأفكار القسم
الثاني من الجزء الثالث: 451).
272
ويمكن أن يكون وجود المناط في الباقي أيضا من سنخ ما هو موجود في
ضمن الجميع، فلا يرد الإشكال. فاحتمال وجود مناط آخر وإن كان موجودا،
ولكن احتمال مغايرة المناط يوجب عرفا اختلاف نفس الإرادة عنها وإن لم يكن
كذلك دقة، لأن تكرر السبب وتبدله لا يوجب مغايرة المسبب ولا [تنثلم] به
وحدته. وذلك التشكيك أيضا إنما هو مخصوص بالمورد حيث إن تباين مناطات
الإرادات بنظر العرف [يوجب] تغيير نفسها، وإلا ففي غير المقام - مما كان نسبته
كعمود الخيم بالإضافة إلى الهيئة القائمة [به] - لا بأس بجريان الاستصحاب في
المسبب جدا.
وعليه فلا مجال لإثبات وجوب البقية حال النسيان من جهة هذا الأصل
الجاري حين الالتفات إليه.
ثم على فرض إثبات الوجوب للأقل، لا يكاد يثبت به عنوان الصلاتية
[له]، لكونه مثبتا. ومن جهة ذلك لا يكاد يرتفع به موضوع النزاع عما اشتغلت
الذمة به من التكليف لولا تحقق [وجوده] من المكلف ولو حال النسيان.
وعلى هذا فلا يقتضي مثل هذه الاستصحابات إجزاء أصلا. وحينئذ فصح
لنا بواسطته منع جريان الاستصحاب حينئذ رأسا من جهة أخرى، لعدم ترتب
أثر عملي عليه، إذ حال النسيان لا يتوجه إليه الخطاب المزبور، وبعده لا يوجب
مثله توسعة أو تضييقا عملا على المكلف، ولعل هذه الجهة هي النكتة في عدم
تعرضهم [للاستصحاب] في هذه المسألة وإنما تعرضوا [له] في المسألة الآتية من
فرض الاضطرار لترتب العمل [عليه] حال اضطراره.
نعم لو قيل باقتضاء مثل هذا الحكم الظاهري الاجزاء ولو من جهة الجزم
بعدم ثبوت الواجبين في حق المكلف أمكن ترتب عمل على مثل هذا الأصل لولا
دعوى أن عدم وجوب شئ آخر حينئذ من آثار نفس الاستصحاب

273
لا المستصحب. وما لم يترتب العمل على المستصحب لا يجري الاستصحاب كي
يترتب عليه لوازمه.
نعم لا بأس بجريان حديث الرفع (1) على المختار في صورة التمكن من حفظ
التفاته ولو بمقدار يشق عليه. وأما لو لم يتمكن من [حفظه] أو يمكن لا بمقدار بالغ
إلى [المشقة] فلا يكاد يجري حديث الرفع، لعدم امتنان في رفعه على الأول،
وللإجماع على حرمة تفويت القدرة على حفظ الالتفات في الثاني.
نعم بناء على تقريب العلامة الأستاذ (2) من كون مساق الحديث تعيين
الواجب في الأقل كان لجريانه كمال المنة، لأن [بمثله] يحرز مصداق الواجب المانع
عن جريان قاعدة الاشتغال المضروبة في مورد الشك في وجود الفراغ أو مفرغية
الموجود. ولكن قد تقدم سابقا عدم صلاحية مثل هذا الحديث لإثبات واجبية
الأقل. وعلى فرضه لا يجدي لإثبات كونه تمام المصداق الموجب للإجزاء. كيف!
ولازمه عدم حرمة تفويت الاختيار، و [معه] لا محيص من الالتزام بكون المأتي
به مصداق بعض مراتب الواجب الفعلي، ومثله لا يكون حاكما على دليل وجوب
المركب الشامل لبعد رفع النسيان بإطلاقه. فاطلاقه يقتضي إعادة المأتي به تام
الأجزاء والشرائط عند رفع النسيان.
نعم لو شمل [معقد] الاجماع [صورة] ارتفاع النسيان في الوقت بعد العمل
أمكن دعوى اقتضاء الاجماع المزبور الاجزاء ولو من جهة اقتضاء المأتي به
تفويت ما زاد، على وجه لا يمكن استيفاؤه.
ولكن في إطلاق معقد الاجماع لمثل هذه الصورة نظر. كما أن دليل النسيان



(1) وأما حديث الرفع فلا يجدي بعد رفع النسيان كما لا يخفى. منه (قدس سره).
(2) انظر كفاية الأصول: 416.
274
أيضا منصرف إلى نسيان الطبيعة في تمام الوقت لا في بعضه، كما هو الشأن في دليل
الاضطرار الآتي.
ولئن أبيت إلا عن شموله لمطلق نسيان الجزء حين الإتيان بالمركب نقول
أيضا - بعد الاجماع المزبور الذي كان المتيقن منه [صورة] بقاء النسيان إلى آخر
الوقت - لا يبقى مجال حكومة حديث الرفع - ولو على فرض إثبات واجبية
الأقل - بالنسبة إلى دليل وجوب المركب للجزم بعدم كونه مصداق جميع مراتبه.
غاية الأمر نشك في كون المقدار المزبور ممكن التحصيل أم لا، وفي مثله
كان إطلاق دليل وجوب المركب حاكما بوجوبه، لكون المخصص لبيا.
وعلى فرض عدم إطلاق لدليل المركب فلا أقل من الجزم بوجود التكليف
لولا الشك في مفرغية الموجود، وفي مثله كان العقل حاكما بتحصيل الجزم بالفراغ
[تنجيزيا]، ومعه لا يبقى مجال لجريان أصالة عدم التكليف حال النسيان ومن
جهة قيام مانع آخر مقام النسيان.
كما أنه لا يجري استصحاب الوجوب تعليقيا، لأن التعليق عقلي، وفي مثله
لا يكاد [تجري] التنزيلات الشرعية كما لا يخفى.

275
المقالة الواحدة والعشرون
هل تجب بقية أجزاء المركب عند العجز عن بعضها؟

277
[المقالة الواحدة والعشرون]
[هل تجب بقية أجزاء المركب عند العجز عن بعضها؟]
إذا اضطر إلى بعض أجزاء المركب فمع إطلاق دليل المركب وعدم إطلاق
دليل الجزء لحال الاضطرار فلا إشكال في وجوب البقية.
وأما في غير هذه الصورة فمقتضى القاعدة الأولية سقوط الوجوب.
وتوهم جريان الاستصحاب بالتقريبات السابقة قد عرفت دفع جميعها
وإن كان لجريانه في المقام أثر عملي [و] هو الالزام بإتيان البقية كما هو ظاهر (1).
وأما حديث الرفع (2) المعروف فهو أيضا لا يصلح إلا لرفع ايجاب التحفظ



(1) جاء في هامش النسخة المصححة: " فكر جديد: لا مانع من جريان استصحاب المرتبة
من الوجوب المندكة في ضمن التمام، ثم بعده نشك في وجوب الإعادة من جهة الشك في
الجزئية، وفي مثله لا مجال للتمسك بالإطلاق بعد رفع الاضطرار، لاحتمال وجود موضوعه،
ولا إطلاق لدليل [الواجب] لا أن له إطلاقا ومقيد بالفعل كي يتمسك بالعام في الشبهة
المصداقية في المخصص اللبي، وحينئذ لا بأس بجريان حديث الرفع لرفع جزئية المشكوك
ولو اقتضاء تنزيلا بملاحظة نفي وجوب الإعادة ".
(2) الخصال باب التسعة 2: 417، الحديث 9.
279
ومع عدم التمكن عقلا لا مجال لشمول الحديث لمثله، لعدم منة [في رفعه].
وتوهم شموله لرفع جزئية المضطر إليه فهو - مضافا إلى عدم اقتضائه إثبات
وجوب البقية، كما عرفت شرح الحال في الأقل والأكثر، ولو من جهة عدم اطلاق
لوجوب بقية الأجزاء لحال انفرادها عن غيرها - لا يكاد يجري في المقام من جهة
أخرى يمتاز المقام بها عن المسائل السابقة، و [هي] أن لازم شمول الحديث لرفع
المضطر إليه - على فرض اقتضائه وجوب البقية - وجوب الإتيان بالباقي، ومثله
خلاف المنة المسوق لها الحديث المقتضي لاختصاص جريانه بمورد يوجب
التوسعة على العباد لا التضييق.
ولولا اقتضاؤه الاجزاء ببركة إثبات وجوب الباقي على تقريب أستاذنا
الأعظم (1) لما كان أيضا مجال الجريان في باب النسيان أيضا. نعم لو اقتضى مثل
هذه الجهة لا بأس في جريانه في باب النسيان، إذ بمثله ما كان العقل ملزما بإتيان
البقية، بل العقل من جهة غفلته عن النسيان هو الملزم له، فلا يبقى للحديث إلا أثر
تعيين الواجب المستتبع لنفي وجوب الإعادة.
وهذا بخلاف باب الاضطرار، إذ الملزم باتيان البقية هو العقل بحكم نفي جزئية
المضطر إليه ووجوب الباقي، ومثل ذلك نحو ضيق، خلاف ما هو المسوق له الحديث.
ومن هذه الجهة نفرق بين شرائط الوجوب وشرائط الواجب بل وهو
الفارق بين الشك في الشرطية في العبادات والمعاملات، لعدم اجراء الحديث في
الثاني دون الأول.
نعم في المقام قاعدة أخرى ربما [تقتضي] بعمومها رفع جزئية المضطر إليه
أو شرطيته على وجه يستفاد [منها] أيضا أن يكون الباقي مصداق الواجب في
حال الاضطرار المستلزم لسقوط الوجوب عن الجامع المنطبق على هذا الفرد



(1) المتقدم في الصفحة: 274.
280
وغيره. وبمثله أيضا نرفع اليد عن قاعدة الاشتغال [الجارية] عند الشك في
مفرغية الموجود أو وجود المفرغ.
وعمدة المبنى فيها عموم قوله - في مقام الاستشهاد لرفع شرطية القيام
وجزئية الركوع في المستلقي غير المتمكن منهما حيث قال في ذيله -: " وليس شئ
مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه " (1). ونظيره رواية أخرى حكاها في
الوسائل في باب وجوب القيام في الفريضة مع القدرة (2).
ويؤيدهما عموم " ما غلب الله على العباد فالله أولى بالعذر " (3) بقرينة
تطبيق الإمام هذا العموم في المسلوس على نفي قاطعية القطرات في وضوئه أو
صلاته حيث قال - بعد السؤال عن تقطير القطرات على وجه لا يقدر على
حبسها -: " إن لم تقدر على حبسها فالله أولى بالعذر " (4).
ثم لا يخفى أن الظاهر من مجرى هذه القاعدة [نفي] ما هو مأخوذ في
الواجب على نحو الجزئية أو الشرطية.
وأما ما هو خارج عنه وكان من [مقدماته] العقلية والعادية فمع فرض
الاضطرار عن بعضها (5) لا يقتضي مثل هذه القاعدة الإتيان بالبقية وحينئذ فلا
مجال للتمسك بهذه القاعدة في وجوب الهوي للسجود بمقدار الإمكان عند عدم
التمكن من أصل السجدة، بخلافه في الركوع مع عدم التمكن من البلوغ إلى المقدار
الواجب منه، إذ الانحناء في الركوع داخل في حقيقة ما هو الجزء، غاية الأمر اعتبر



(1) الوسائل 4: 690 الباب الأول من أبواب القيام، الحديث 6.
(2) نفس المصدر، الحديث 7.
(3) الوسائل 3: 59 الباب 20 من أبواب اعداد الفرائض، الحديث 2 مع تفاوت يسير.
(4) الوسائل 1: 210 الباب 19 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 2.
(5) يريد بالاضطرار عن البعض: العجز عن البعض. فالمضطر إليه عنده أعم من الفعل أو الترك.
281
منه مرتبة خاصة، فمع عدم التمكن من هذه المرتبة يسقط دخل الخصوصية فيجب
الباقي من مراتب الانحناء الركوعي.
وهذا بخلافه في طرف السجود فإن الانحناء المزبور خارج عن حقيقته
بالمرة، فمع الاضطرار عن السجود لا وجه لوجوب بقية مراتب الانحناء له التي
هي مقدمة لأصل الجزء بلا [دخلها] في حقيقته أصلا.
بل ولو قلنا بأن ما هو جزء المرتبة الخاصة منه بنحو وحدة المطلوب لا
تعدده كان بقية الانحناءات [الركوعية] من هذا القبيل.
ولكن الظاهر [تسالم] كلهم على ذلك، ولعله من جهة قاعدة الميسور المعروفة
عند المشهور، وذلك أيضا لولا دعوى انصرافها إلى ما هو ميسور من اجزاء
الكل، [لا] ما هو خارج عنه. وإلا فحال هذه القاعدة في عدم إثبات بقية المراتب
من الانحناء [الخارجة] من أجزاء المأمور به مثل القاعدة الأولى. وعليه فلا بد من
قيام دليل آخر على المسألة المزبورة وتمام الكلام فيه موكول إلى محله.
ثم إن مقتضى إطلاق العموم السابق وجوب الباقي بعد رفع الاضطرار وإن لم
يصدق عليه أنه [ميسوره]. ومثل ذلك ربما يوهن مثل هذه العمومات، لعدم بنائهم
ظاهرا على وجوب البقية وإن كان أقل قليل لم يصدق عليه ميسور الكل الواجب.
اللهم إلا أن يعتذر عن ذلك بأن طبع العموم المذكور إنما يقتضي نفي
الوجوب من المضطر إليه. وأما إثبات وجوب الباقي فليس إلا من جهة حكم
الإمام بإتيان البقية، وهذا الحكم خارج عن مفاد العموم، وحينئذ فسوق البيان
وإن كان إعطاء قاعدة كلية - ولذا يتعدى عن موردها - إلا أنه يمكن دعوى
اختصاص ضرب القاعدة في وجوب البقية بخصوص صورة يصدق عليه أنه
[ميسوره] ومن مراتب وجوده عرفا، لا مباينا محضا مع الكل بالأنظار العرفية.
وعليه فيمكن تأييد مثل هذه القاعدة بقاعدة أخرى معروفة و [هي
المسماة] بقاعدة الميسور [المأخوذة] من قوله: " الميسور لا يسقط

282
بالمعسور " (1) أي بسقوطه. ومقتضى عدم سقوطه بقاؤه في عهدة المكلف بنحو
كان ثابتا سابقا من نحوي اللزوم والاستحباب. ولازمه استكشاف أمر آخر
متعلق ببقية الأجزاء بنحو كان متعلقا بالكل وجوبا أم استحبابا.
ولا يرد على هذا البيان ما قيل: من أن النهي عن السقوط إن كان مولويا
وجوبيا فلا يشمل المستحبات، وإلا فلا يقتضي الوجوب في الواجبات أيضا، إذ
هذا الإشكال إنما يرد على فرض جعل جملة " لا يسقط " [إنشائية] وإلا فلو
[كانت] إخبارا أو إنشاء لعدم السقوط عن العهدة فلا بأس [بشمولها] للواجبات
والمستحبات. و [تدل] أيضا على وجوب الاتيان في الواجب واستحبابه في
المستحب.
كما أنه بناء على هذا لا يحتاج إلى حمل السقوط أيضا على السقوط جعلا
وتنزيلا، بل المراد منه هو السقوط الحقيقي عن العهدة، فنفيه عبارة عن ثبوته
كذلك. وبذلك المقدار يثبت المطلوب. كما أن المنصرف من العام المزبور هو ما
يصدق عليه أنه ميسور للكل عرفا، كما هو ظاهر.
ويؤيد الرواية المزبورة عموم قوله: " ما لا يدرك كله لا يترك كله " (2)
بجعل الجملة الثانية أيضا خبرية ومنصرفة إلى عدم تركه بنحو كان يدركه وجوبا
أم استحبابا.
كما أن الظاهر من الجملة الثانية توجه النفي إلى ترك الكل المنتج لسلب
العموم، لا عموم السلب، كي يستهجن المعنى.
فحينئذ فما في رسائل شيخنا العلامة (3) في شرح العبارة منظور فيه.



(1) انظر عوالي اللآلي 4: 58 الحديث 205، وفيه: لا يترك الميسور...
(2) عوالي اللآلي 4: 58 الحديث 207.
(3) فرائد الأصول 2: 498.
283
وقد يتمسك للمدعى بعموم " إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم " (1).
وفي دلالته على المدعى نظر، وذلك لا من جهة استعماله في قضية عكاشة في
الأفراد المستطاعة من الطبيعة، ومعه لا يعقل إرادة الأجزاء من الكل
[لاستلزامها] استعمال اللفظ في المعنيين. كيف! ويمكن إرادة الجامع من الشئ
والموصول على وجه يشمل الطبائع والأفراد والأجزاء من الكل، بل إنما هو من
جهة عدم تمامية الإطلاق [في] الرواية بعد [تطبيقها] في قصة عكاشة على أفراد
الطبيعة (2).
وكيف كان نقول: إن فيما بقي من الأدلة كفاية على تأسيس القاعدة في باب
الاضطرار ببعض أجزاء المركب.
ثم إن ظهور عمومات الاضطرار - في الروايات السابقة - في تعيين ما هو
مصداق الواجب مما لا إشكال فيه، ولازمه الحكومة على دليل المركب بشرح
مصداقه بحسب حال الاضطرار أيضا. ولازمه الاجزاء كما شرحناه.
ولكن ذلك أيضا لو لم يقم إجماع على حرمة تفويت الاختيار، وإلا فلا
مجال لاستكشاف تمام المصداق للواجب. وهذا المقدار مساوق مفاد عدم سقوط
الميسور من المصداق، لا أنه بنفسه هو المصداق، فلا يكاد يجدي هذا المقدار في
اقتضاء الاجزاء، بل إطلاق دليل المركب يقتضي إتيانه ثانيا.
واحتمال وجود المفرغ من جهة احتمال بدلية المأتي به [تدفعه] أصالة عدم
وجود المسقط عن التكليف بالخصوصية، بل أصالة الإطلاق المزبور [تمنع]
بدليته، لكونه من المخصصات اللبية فتأمل، كما هو ظاهر.



(1) عوالي اللآلي 4: 58 الحديث 206 وفيه: " إذا أمرتكم بأمر " ولفظ الحديث ورد في مجمع
البيان 3: 250 ذيل الآية 101 من سورة المائدة.
(2) راجع لتفصيل القصة: مجمع البيان المتقدم آنفا.
284
المقالة الثانية والعشرون
شرطية الفحص في جريان الأصول

285
[المقالة الثانية والعشرون]
[شرطية الفحص في جريان الأصول]
يعتبر في جريان البراءة بل مطلق الأصول النافية للتكليف في الشبهات
الحكمية الفحص بالمقدار المتعارف المخرج للمورد عن معرضية وجود الدليل على
الحكم الكلي الإلهي.
وعمدة الوجه فيه هو دعوى العلم الاجمالي بوجود الأحكام في مقدار من
المسائل المشتبهة في مجموع ما بأيدينا منها مع العلم بأنه على وجه لو تفحص في
المسائل المزبورة لظفرنا بها. ومن المعلوم أن نتيجة مثل هذا العلم عدم الإقدام
على البراءة قبل الفحص، لاحتمال كون المسألة من أطراف المعلوم بالإجمال المانع
عن جريان الأصول النافية فيها ولو من جهة مانعية العلم في البين عن جريان
الأصول.
كما إنه لو تفحصنا في المسألة وما ظفرنا فيها بدليل يستكشف خروجها عن
دائرة المعلوم بالاجمال من أول الأمر. ولو ظفرنا بالفحص في المسائل العديدة
بالدليل بمقدار المعلوم بالإجمال لا يجدي ذلك أيضا في اسقاط العلم عن الاعتبار
بملاك الانحلال، لاحتمال كون العلوم الحادثة علوما متأخرة عن العلم الاجمالي
الأولي ولو بواسطة احتمال حدوث بعضها في المسائل الخارجة عن [طرف] العلم

287
في الدائرة المضيقة ومثل ذلك غير كاف في الانحلال.
نعم لو كان جميع المسائل طرف العلم المزبور كان لهذه الشبهة مجال إذ
العلوم الحادثة حينئذ [هي] عين ما علم بالظفر بها من الأول مقارنا للعلم
الاجمالي، كما أنه لو بنينا على صلاحية العلم المتأخر للانحلال بمحض احتمال
انطباق المعلوم بالإجمال عليه كان للشبهة المزبورة أيضا مجال.
وبالجملة ما تصورنا من خصوصية العلم الاجمالي المزبور كاف في وجوب
الفحص ومانع عن جريان أدلة البراءة. ولو [نقليها] من دون لزوم محذور فيه
أبدا.
ثم لو اغمض عن هذا العلم وكنا وحكم العقل أمكن أيضا دعوى عدم
استقلال العقل بقبح العقوبة.
ومع هذا الشك أو الغفلة الناشئين عن تقصيره في فحصه نظرا إلى إمكان
دعوى أن " لا بيان " الذي هو موضوع حكم العقل بالقبح هو عدم التمكن
[من] الوصول إلى الواقع من الأول. فحينئذ [مع] احتمال تمكنه [منه] قبل
الفحص - ولو ببركة فحصه - لا يكاد [يحرز] مثل هذا الموضوع عند العقل، فلا
جرم [تنتهي] النوبة إلى حكمه بدفع الضرر المحتمل من جهة احتمال تمكنه [من]
الوصول واقعا بفحصه.
وليس ذلك من جهة درك العقل حجية احتمال التكليف قبل الفحص، كي
يكون حال الشك المزبور حال الظن في ظرف الانسداد لدى المشهور، بل إنما هو
من جهة احتمال عدم وجود موضوع حكم العقل بقبح العقوبة من عدم
[البيان] المستقر الناشئ عن عدم التمكن من الوصول إلى الواقع، ومرجعه في
الحقيقة إلى عدم إحراز موضوع حكم العقل بالقبح لا إحراز موضوع حكمه
بالحسن لوجود البيان. غاية الأمر نتيجة مثل هذا الشك هو احتمال الضرر
الموضوع لحكم العقل بوجوب دفعه إلى أن يستقر عدم بيانه بفحصه.

288
وربما [يترتب] على ذين المسلكين نتيجة أخرى: و [هي] أنه على هذا
المشرب كانت العقوبة على الواقع متفرعة على وجدانه الطريق [إليه] على فرض
فحصه بحيث لو لم يكن في الواقع طريق لم يكن تارك الفحص والعامل على خلاف
الواقع معاقبا على مخالفة الواقع وإنما عقابه على تجريه محضا على القول به، وهذا
بخلاف ما لو قيل بحجية الاحتمال، إذ لا بد حينئذ من المصير إلى استحقاقه العقوبة
على مخالفة الواقع كما هو ظاهر.
ثم إن ذلك كله بالنظر إلى حكم العقل محضا من دون فرق فيه بين الشبهات
الموضوعية [و] الحكمية.
ولكن لا يخفى أن حكم العقل بوجوب الفحص حينئذ إنما هو لمحض
الإرشاد إلى تحصيل الاستقرار لعدم بيانه كي يوجد موضوع العذر العقلي الرافع
لاحتمال الضرر.
وعليه فلا يبقى مجال حكمه به لو فرض الجزم بعدم الضرر من قبل ترخيص
الشارع في ظرف الشك في الرافع، ولذا نلتزم بورود الترخيصات الشرعية
[عليه] وعدم صلاحية هذا الحكم العقلي للمعارضة معها.
وحينئذ لولا العلم الاجمالي السابق لما كان مجال منع جريان عمومات
البراءة في الشبهات الحكمية مثل جريانها في الموضوعية جزما.
كما أن عمومات " هلا تعلمت " (1) أيضا غير صالحة لتخصيص أدلة البراءة
النقلية، إذ هي ظاهرة في الإرشاد إلى حكم العقل بوجوب تحصيل العلم مقدمة
للعمل أو لاستقرار جهله الموجب لعذره. ومع قيام الترخيص الشرعي لا يبقى مجال
حكم العقل بوجوب الفحص والتعلم كي يصلح العموم المزبور للإرشاد المذكور.



(1) أمالي الطوسي 1: 9، الحديث 10 وعنه في البحار 1: 178، الحديث 58 وفيهما: " أفلا
تعلمت ".
289
فعمومات الترخيص الظاهري حينئذ [تخرج] المورد عن موضوع
الإرشاد المزبور.
واحتمال أن هذه الأخبار سيقت لاعمال التعبد بوجوب الفحص ينافي سوق
بيانها.
اللهم إلا أن ندعي أن تطبيق المعصوم (عليه السلام) مثل هذه العمومات على
الشبهات البدوية [الحكمية] كاشف إني عن عدم جريان عمومات البراءة فيها.
وحينئذ فلولا العلم الاجمالي سابقا كانت مثل هذه العمومات كافية لإثبات
وجوب الفحص الحاكي عن تخصيص عمومات البراءة النقلية في المورد.
وعليه فلا نحتاج إلى صرف ظهور مثل هذه الأخبار عن الإرشاد إلى حكم
العقل بتحصيل [العلم] مقدمة لعمله، أو لاستقرار حكم عقله باستحقاق
العقوبة أو عدمها على مخالفته.
ثم لو اغمض عن ذلك لا يبقى مجال حمل الأوامر المزبورة على الطريقية،
لأن شأن الأوامر الطريقية كونها في فرض الموافقة بحسب لب الإرادة والعمل
عين إرادة الواقع وعمله. وفي المقام ليس تحصيل العلم بوجوب الصلاة عين
العمل المطلوب واقعا. فلا محيص حينئذ إلا من جعل الأمر بتحصيل العلم أمرا
عرضيا كناية عن النهي عن مخالفة التكاليف المحتملة، فإنه يصلح للطريقية
كنواهي القياس.
كما أنه في فرض بقاء الالتفات بالتكليف مع ترك الفحص لا معنى لجعل
الأمر بتحصيل الفحص مقدميا، لعدم توقف العمل عليه حينئذ بوجه من الوجوه.
نعم في فرض اقتضاء ترك الفحص الغفلة عن التكليف أو عن صورة العمل
أمكن دعوى المقدمية لفحصه، وحينئذ لا بد أن يكون الأمر مقدميا. ولكن ذلك
أيضا لا ينافي إرادة الإرشاد من هذه العمومات وإبقاؤها على ظاهرها. ولذا
صرنا إلى بقية الاحتمالات مع الإغماض من هذا الوجه. كيف! وقد أشرنا أن سوق

290
مثل هذه العمومات [آب] عن إعمال تعبد في البين، بل هو إرشاد إلى ما هو
المغروس في الذهن من لزوم الفحص لتحصيل استقرار الجهل واللا بيان الذي هو
موضوع العذر العقلي.
بل وهذا المعنى غير مختص بالواجبات المنجزة المحتملة أو الموقتة
والمشروطة قبل حصول شرطها، لأن العقل في حكمه بعدم المعذورية مع التقصير
في تحصيل الواقع لا يفرق بين الموارد.
وحينئذ فلا مجال لجريان الإشكال المزبور في المشروطات والموقتات أصلا.
نعم بناء على [الالتزام] بوجوبها غيريا ربما يستشكل على ظاهر المشهور
القائلين باشتراط الوجوب بجميع [مباديه] بوجود الشرط خارجا، فإنه حينئذ
لا إرادة بذيها قبل تحقق الشرط في الخارج. ومعه كيف يعقل وجوب الفحص
غيريا مع فرض تبعية الوجوب الغيري للنفسي.
نعم بناء على مشرب من أرجع الواجبات المشروطة إلى وجوب فعلي
منوط بوجود الشئ في لحاظ الآمر أمكن الجواب عن الشبهة بأن من قبل الطلب
الفعلي المنوط بأمر كذا يترشح طلب غيري منوط بهذا الشئ في لحاظ الآمر.
غاية الأمر قضية إناطة مصلحة ذيها على وجود الشرط بنحو الشرط
المتقدم [اقتضت] كون وجوبه أيضا منوطا بنحو الشرط المتقدم، وهذا بخلاف
المقدمات المفوتة إذ مصلحتها - من [باب الدخل] في تحصيل غرض الآمر -
منوطة بوجود الشرط بنحو الشرط المتأخر.
كيف! ولو كانت المصلحة المقدمية أيضا [منوطة] بوجود الشرط متقدما
يلزم عدم أصل [مقدميتها] فعلا، وهو خلاف الفرض، فيترشح من الواجب المنوط
المزبور حينئذ وجوب آخر منوط بالفرض المذكور، غاية الأمر بنحو الشرط
المتأخر لا المتقدم. وهذا المقدار من الاختلاف بين وجوب المقدمة وذيها
قهري ناش من اختلاف كيفية دخل الشرط في مصلحة الواجب النفسي أو الغيري.

291
وعليه فلا نحتاج إلى التصرف في ظاهر القضايا الشرطية بإرجاعها إلى
المعلقة ولو قلنا بعدم استلزام كل قضية شرطية - عند العلم بتحقق الشرط في
موطنه - قضية تعليقية كما هو الشأن بناء على تبعية الإرادة في [إناطتها] بشئ
و [عدمها] لنفس المصلحة في هذه الجهة، فضلا عما هو التحقيق من الملازمة في
مثل المقام بين القضيتين، وأن كل قضية شرطية [تقتضي] قضية تعليقية في
الواجبات ولو من جهة ما حققناه في محله من تبعية الإرادة في الإناطة وعدمها
لكيفية العلم بالمصلحة [منوطة وغير منوطة] لا لنفسها، إذ حينئذ لا بأس في
وجوب المقدمات المفوتة، ولا إشكال في [وجهه] كما هو ظاهر، فتدبر في المقام
كي لا يختلط عليك الأمر.
ثم إنه لو كان منشأ الإشكال في وجوب المقدمات المفوتة في الموقتات تبعية
وجوبها لوجوب ذيها في لب الإرادة، وأن لب الإرادة في الموقتات غير حاصلة
قبل وقتها، [ف‍] كيف يمكن الالتزام بوجوبها نفسيا تهيئيا، إذ مرجع الواجب
التهيؤي بعدما كان إلى مطلوبية شئ لأجل مقدميته للتهيؤ لأن يتوجه إليه
الإيجاب فيما بعد يبقى لنا سؤال:
إن إرادة هذا الشئ فعلا بعدما لا بد أن [تكون] بتبع فعلية الإرادة إلى
الغرض منه، وهو التهيؤ للإيجاب، أن التهيؤ المزبور هل هو مطلوب في نفسه أو
أن مطلوبيته لأجل تعلق الغرض للإيجاب البعدي؟
والأول باطل جدا فلا بد أن يلتزم حينئذ بتعلق الإرادة فعلا بالإيجاب
البعدي.
ثم يسأل أيضا بأن الإيجاب البعدي مطلوب نفسيا أو أن مطلوبيته لأجل
التوصل به إلى الوجود؟
فإذا كان الوجدان شاهدا للثاني فلا محيص من الالتزام بفعلية الإرادة إلى
الوجود في موطنه، وبه [تنحسم] مادة الإشكال على وجه لا يحتاج إلى الالتزام

292
بتغيير الأسلوب في الجواب وتسمية الواجب الغيري بالوجوب النفسي التهيؤي.
نعم لو أريد من الايجاب خصوص مرتبة التحميل على المكلف لا بجميع
مباديه كان لتصور الوجوب النفسي التهيؤي كمال المجال.
ولكن بناء على ذلك لا نسلم بتبعية وجوب المقدمة بهذا المعنى لإيجاب
ذيها. كيف! وغالب الواجبات النفسية - خصوصا في العرفيات - لبا من قبيل
المقدمات للمطلوبات النفسية، ومع ذلك ما كان مثلها في مرحلة التحميل إليها تبعا
لذيها، وهو واضح.
ومن التأمل في ما ذكرنا كله ظهر ما في جملة من كلمات العلامة الأستاذ في
كفايته خصوصا في التزامه إرجاع المشروطات إلى المعلقات (1)، والحال أنه بناء
على ذلك لا بد له أن يلتزم في بعض المقدمات بالترتب مثل موارد وجوب الفحص
عن الصوم وكفارته على فرض عصيانه وهو (رحمه الله) من المصرين [على] استحالته،
فلا محيص في أمثال المقام من التزامه بجواب آخر خال عن مثل هذا المحذور.
ثم إن مقتضى القاعدة كون الأعمال [المأتي بها] قبل الفحص عن حكمها
من حيث الصحة والفساد تابعة لمطابقتها للواقع. فكل ما هو مطابق للواقع كان
صحيحا مجزيا، وكل ما [يخالفه] كان فاسدا غير مجز.
نعم قد اشتهر في العبادات بطلان عمل تاركي طريق الاجتهاد والتقليد،
ولعله من جهة شبهة اعتبار قصد الوجه أو التميز، وإلا فلا قصور في تقربه ولو
برجاء الواقع.
ولكن قد تقدم الكلام في [اعتبارهما] في العبادات، وأن مقتضى الأصل
والإطلاق منع [اعتبارهما] فيها، فراجع مسألة القطع ترى ما ذكرنا فيها حقيقا
بالقبول.



(1) انظر كفاية الأصول: 426.
293
وعليه فلا وجه لبطلان العمل مع فرض مطابقة المأتي به للواقع متقربا إلى
الله تعالى، كما أن في صورة المخالفة لا وجه [للاجتزاء] به إلا في صورة قيام الدليل
على وفائه بمقدار من المصلحة على وجه يوجب تفويت الزائد بمناط المضادة مع
البقية لا العلية.
ولعل من هذا الباب مسألة [الاجتزاء] بالإتمام في موضع القصر،
والإخفات أو الجهر في موضع الآخر. بل وظاهر إطلاق الرواية شموله لصورة
الجهل [بالتقصير]. ولذا لا بأس بالالتزام باستحقاق العقوبة على تفويت الزائد
بفعله هذا مستندا إلى تقصيره.
نعم هنا إشكال آخر وهو: أن ظاهر الرواية تقرير العامل في عمله
المتعارف كونه عن داعي الأمر الفعلي بالمأتي به. والحال أن قضية مضادته مع
المأمور به واقعا - ولو بلحاظ تضاد المصلحتين - [توجب] سلب الأمر عن الضد
في ظرف الأمر بنفس الواقع.
ويمكن الذب عنه بأن الإشكال إنما يرد لو كان المأتي به في أصل مصلحته
مضادا مع مصلحة الواقع، وإلا فلو قيل بأن التضاد بين حديهما القائمين
بالخصوصيات المفردة للطبيعة فلا بأس حينئذ بالالتزام بتعدد المطلوب على وجه
يكون الجامع بينهما مطلوبا والخصوصية الحدية بينهما في غاية التضاد على وجه لا
يبقى مجال لتحصيل الآخر مع حصول أحد الحدين.
وعليه فلا بأس بإتيان المأتي به بداعي الأمر بالجامع بينهما أيضا بلا
احتياج في تصحيح الأمر به إلى قاعدة الترتب، وان كان مقتضى التحقيق
صحتها أيضا خصوصا مع الغفلة من الواقع بترك فحصه، فإنه أمكن الالتزام
بفعلية الأمر المطلق بالنسبة إلى المأتي به بلا فعلية حين الغفلة بالنسبة إلى الواقع
وأن استحقاقه العقوبة بتفويته إنما هو من جهة تقصيره السابق كمن ألقى نفسه عن
الشاهق، كما هو ظاهر.

294
خاتمة
[ما توهم اشتراطه في جريان البراءة]
حكي عن بعض المحققين (1) أن من شرائط البراءة عدم [استلزامها] إيجاب
شئ آخر أو إضرارا على الغير.
وأورد على الشرط الأول بأنه في فرض ترتب وجوب الشئ على نفس
البراءة عن التكليف بشئ آخر يستحيل عدم ترتب الوجوب المزبور، لأنه
مساوق عدم تحقق الحكم مع وجود تمام موضوعه.
وعلى الشرط الثاني بأن مرجع هذا الشرط إلى اشتراط عدم وجود دليل
حاكم على البراءة، لأن عموم نفي الإضرار وحرمته حاكم على مفاد أدلة البراءة،
وهذا ليس أمرا خارجا عن حقيقة البراءة ومأخوذا في [جريانها] بنحو
الشرطية، بل في الحقيقة مأخوذ في حقيقة البراءة ومفن لها بنفي موضوعها، وليس
مثل هذا المعنى من خصائص البراءة أيضا، بل هو سار في جميع الأصول، هذا.
وأقول: قد يستشكل في مورد كلامه الأول بأن جميع الموارد التي



(1) حكاه الشيخ الأعظم في الفرائد: 529 عن الفاضل التوني وانظر الوافية: 193.
295
[تستلزم فيها] البراءة عن التكليف تكليفا آخر [كانت] من صغريات العلم
الاجمالي بأحد التكليفين. وفي [مثلها] يستحيل جريان البراءة في أحد المحتملين
في رتبة سابقة [على] انحلال علمه بأمارة أو أصل مثبت أو جعل بدل في أحد
الأمرين الطرفين للعلم الاجمالي، والمفروض في المقام أن العلم بوجوب الطرفين
ناش عن البراءة عن الآخر، فالبراءة في المقام بحسب الرتبة مقدمة على العلم
بالتكليف المزبور، والحال أن شأن الأصول النافية عدم الجريان في أطراف العلم
ما لم يعلم بوجوب أحدها إما بمناط الانحلال أو جعل البدل.
بل ومن هذا الإشكال يتولد إشكال آخر في إجراء الأصل السببي النافي
عند كون التكليف الآخر ناشئا عن عدم هذا التكليف واقعا، فإنه في مثل هذه
الصورة ربما يستشكل في اجراء الأصل النافي قبل ثبوت الانحلال وجعل البدل في
بعض أطراف العلم بناء على التحقيق من علية العلم للتنجيز على وجه يكون مانعا
عن جريان الأصل النافي في بعض الأطراف ولو لم يكن في البين معارضة أصلا.
نعم على مشرب اقتضاء العلم بالنسبة إلى الموافقة القطعية وأن سقوط
الأصول النافية في الأطراف من جهة المعارضة لا يكاد يرد إشكال في هذا المقام
لعدم أداء جريان الأصل النافي إلى المخالفة القطعية العملية، ولا إلى التساقط
بالمعارضة. وحينئذ فربما يكون التزامهم بجريان الأصول النافية في هذه المقامات
مؤيدا للاقتضاء لا العلية.
ولكن فيه أيضا بعض التوالي الفاسدة بحيث لا يمكن الالتزام بها: مثل
اقتضاء ذلك استفادة [التخيير] في إجراء الأصول في أطرافه أو جريان قاعدة
الحلية في أحد الطرفين عند معارضة استصحاب مورده بقاعدتها في الطرف
الآخر. وعليه فلا بد من حل مادة الشبهة لا الالتزام بأحد الطرفين بمجرد مشاهدة
نقض عليه.

296
وعليه فنقول - في الشبهة المزبورة على العلية -: بأن التكليف كما أشرت
تارة من تبعات نفس البراءة عن التكليف، وأخرى من تبعات عدمه واقعا.
[ف‍] من الأول: باب وجوب الحج المرتب على البراءة عن الدين. ومن الثاني:
ما لو نذر إعطاء فقير في ظرف عدم تكليف كذا في ساعة كذا.
أما في الصورة الأولى فيمكن أن يقال: إن العلم الاجمالي الحاصل في البين
يستحيل أن يكون منجزا لواحد من الطرفين لأن شأن منجزية العلم كونه محدثا
[لوجوب] الحركة عقلا على وفق المحتملين. ومن البديهي أن مثل هذا المعنى
يستحيل تحققه في المقام، لأن منجزيته للدين على وجه يستتبع حكم العقل على
وفقه مستلزم للقطع بعدم وجوب الحج واقعا، ولازمه ارتفاع العلم الاجمالي
رأسا. كما أن لازم منجزيته للحج عدم منجزيته للدين، فيلزم عدم منجزيته
للحج أيضا، لأن شأن العلم الاجمالي كونه على وجه منجز لكل واحد من
المحتملين.
ولئن شئت قلت: بأن منجزية العلم المزبور لكل واحد من المحتملين
مستلزم لعدمها، وما هذا شأنه فهو محال. وحينئذ فلا بأس في مثل هذا الفرض
من المصير إلى البراءة العقلية فضلا عن النقلية.
وأما في الصورة الثانية فمثل هذا المحذور وإن لم يرد، لأن منجزية العلم
للتكليف في أحد الطرفين غير [منافية] لبقاء العلم الاجمالي بالنسبة إلى الطرف
الآخر، ولا [منافية] أيضا لتأثيره في تنجزه أيضا.
إلا أنه يمكن أن يقال: إن قضية مانعية العلم عن جريان الأصل النافي في
أحد الطرفين، منعه عن اقتضاء بعض لوازمه من الترخيص على خلاف الواقع
المانع عن تنجزه. وهذا المقدار لا ينافي منع شمول دليل التنزيل لنفي التكليف
بلحاظ خصوص أمره الوجودي من إثبات وجوب الطرف، فكان المقام من تلك

297
الجهة نظير الاستصحاب الجاري في الخارج عن محل الابتلاء بلحاظ أثره الذي
هو محل ابتلاء المكلف في كيفية التبعيض في لسان التنزيل بلحاظ [أثر] دون
[أثر].
ومثل هذ المعنى نحو حيلة في اجراء الأصول النافية في أطراف العلم، [و]
إرجاعها لبا إلى الأصل المثبت وان كان بصورة لسانه أصلا نافيا. وبعد ذلك لا
بأس بجريان الأصل العقلي في الطرف الآخر فضلا عن النقلي، لأنه من مصاديق
سقوط العلم عن المنجزية بمناط جعل البدل، كما لا يخفى.

298
المقالة الثالثة والعشرون
قاعدة نفي الضرر

299
[المقالة الثالثة والعشرون]
[قاعدة نفي الضرر]
قد اشتهر في ألسن الفقهاء تمسكهم بقاعدة [نفي] الضرر في كثير من الموارد
حتى [صارت] بين المعاصرين من القواعد المسلمة الفقهية كسائر [قواعد
الفقه] العامة، فلذا ينبغي تنقيح الكلام فيها [في] جهات كي ينكشف الظلام عن
وجه الأوهام فنقول: هنا مقامات:
المقام الأول: إن الضرر ضد النفع، وتقابلهما من قبيل العدم والملكة، فلا
يصلح إطلاق الضرر إلا في مورد قابل لإطلاق النفع في قباله.
فبالنسبة إلى نقص الانتفاع من المباحات الأصلية لا يطلق عليه الضرر،
بل الضرر نحو نقص له مساس إلى الشخص حقا أو مالا أو بدنا أو عرضا أو
سياسة. نعم رب مورد يكون [فيه] للإنسان مساس بالمباحات الأصلية فيصدق
بالنسبة إليه أيضا النفع والضرر. وحينئذ مرجع الضرر إلى النقص من جهة راجعة
إلى الشخص، كما أن مرجع النفع إلى زيادة كذلك.
وأما الضرار فهو مصدر باب المفاعلة، وأريد منه [الإصرار] على الضرر،
كما يشهد له قوله (صلى الله عليه وآله): " إنك رجل مضار " بعد [إصراره]. ومنه أيضا المطالب
والمسافر والمحامي حيث استعملت الهيئة في تكرار المبدأ وامتداده. وقد يتحقق

301
التكرار بين اثنين فتستعمل هذه الهيئة فيما بينهما، ولكن لا اختصاص لذلك به، كما
توهم.
المقام الثاني: بيان مدركها.
وهي أخبار عديدة واردة في موارد عديدة، من جملتها ما في موثقة زرارة
المشتملة على قضية سمرة (1)، وما في ذيل رواية " فضل الماء " (2) وما في ذيل نص
الجار (3)، وخبر الشركة في رأس البعير (4)، وما ورد في باب " الإضرار بطريق
المسلمين " (5) فربما ينتهي أمر نصوصها إلى التواتر ولو إجمالا. وذلك المقدار يكفي
للاتكال سندا، خصوصا مع كونها مورد اتكال الأصحاب.
فلا قصور في سندها، بلا احتياج إلى ضميمة ما اشتملت على نفي الضرر
[وحده] كي [يبقى] مجال احتمال تقطيعها مما سبق. نعم كثيرها غير شامل لعنوان
الاسلام أو الأمة أو المؤمنين، ولكن لا ضير فيه بعدما كان سوقها للامتنان على
الأمة كما لا يخفى.
ولئن أبيت من اقتضاء الفاقد للعنوانين السوق للامتنان نقول: إن بناء
الأصحاب في جعلهم هذه القاعدة من القواعد الامتنانية، وتسلم مثل هذه الجهة
عندهم يوجب جبر رواية ابن مسكان (6) وخبر ابن أثير (7) المشتمل على قوله:



(1) الوسائل 17: 341، الباب 12 من أبواب إحياء الموات، الحديث 3 و 4.
(2) الوسائل 17: 333، الباب 7 من الأبواب، الحديث 2.
(3) دعائم الاسلام 2: 504، الحديث 1805 والمستدرك 13: 447، الباب 10، الحديث 1.
(4) الوسائل 13: 49، الباب 22 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 1.
(5) الوسائل 19: 180، الباب 8 من أبواب موجبات الضمان، الحديث 2.
(6) الوسائل 17: 341، الباب 12، من أبواب إحياء الموات، الحديث 4.
(7) النهاية لابن أثير 3: 81.
302
" في الاسلام ". وحينئذ يكفي هذا المقدار لثبوت الفقرتين في كلام المعصوم، مضافا
إلى ما في الوسائل في الباب الأول من كتاب الفرائض (1). وستتضح نتيجة هذه
الجهة في طي الكلمات إن شاء الله.
وبعدما اتضح سند روايات الباب ينبغي الكلام في دلالتها فتقول: عمدة
النظر في وجه الدلالة إلى ما اشتمل [على] قوله (2) (عليه السلام): " لا ضرر ولا ضرار ".
وحينئذ فاسمع بأن الهيئة الكلامية المزبورة قابلة للحمل على معان: أظهرها
الحمل على نفي الحقيقة بضميمة تقييده بالشريعة ولو من جهة أن نفي تشريع ما
يوجب الضرر موجب لنفي نفس المعلول الناشئ من قبله.
بل ولئن دققت النظر لا يحتاج هذا المعنى إلى تقييد زائد، إذ التقييد إنما
يحتاج [إليه] في مورد قابل للإطلاق، ومعلوم أن نفي الضرر من قبل الشارع في
عالم تشريعه منحصر بما كان ناشئا عن تشريعه، ولا يشمل المضار الخارجية
الأجنبية عن مرحلة التشريع، كما هو ظاهر. وحينئذ لا يحتاج النفي المزبور إلى
التقييد ولا التقدير ولا المجاز ولا مرآتية الضرر عن الأمر الضرري.
كما أن مرجع نفي الضرر - بالمعنى المختار - إلى كون الضرر مانعا عن ثبوت
تشريع حكم باقتضائه. وبهذا المعنى يناسب سوقه مقام الامتنان، لا أن الضرر
[مقتض] للالتزام بتركه، كي يكون من قبيل " لا فسوق ولا جدال ".
كيف! وهذا المعنى لا يناسب التخفيف على الأمة الموجب للامتنان عليهم،
بل كان حينئذ [تحميلا] آخر وإلزاما زائدا عليهم، وهو ينافي بناءهم على سوقه



(1) الوسائل 17: 376، الباب الأول من أبواب موانع الإرث، الحديث 10.
(2) كما في موثقة زرارة ورواية " فضل الماء " ونص الوارد في الجار والفرائض المتقدمة كلها
آنفا.
303
الوارد مساق حديث الرفع (1) وعمومات نفي الحرج (2) من حيث التخفيف على
الأمة بشهادة تصريحهم بعدم شمول عمومه للمقدم على الضرر في المعاملات
الغبنية، فراجع كلماتهم هناك.
مع أنه لا يناسب مع بنائهم على حكومته على سائر القواعد، إذ حينئذ لا
وجه لنظره إليها بل تمام المقصود حرمة الضرر قبال سائر المحرمات وبقية
التكاليف.
مع أن استفادة الحرمة من هذه الهيئة فرع إعمال عناية في الإخبار عن عدم
الشئ بلحاظ العلم بوجود مقتضيه من التحريم وعدم المانع عنه ولو ادعاء، وأن
المراد من الضرر المضار الخارجية التكوينية غير [المرتبطة] بعالم التشريع.
و [لمثل] هذه الجهات - إذا قيست إلى ما استظهرناه منه من توجه النفي إليه
حقيقة في مرحلة تشريع الأحكام - الوجدان يأبى من ترجيح الأول على الثاني،
بل يرجح الثاني بلا تأمل. ويناسبه حينئذ كون الضرر في المجعول مانعا عن جعله
المستتبع لعدم وقوع الضرر من قبل تشريع الأحكام حقيقة بلا احتياج إلى إعمال
عناية أو تجوز أبدا.
وبهذا البيان أيضا ظهر فساد سائر الاحتمالات خصوصا احتمال مرآتية
الضرر للأفعال الضررية، لعدم سنخية بينهما مصححة للمرآتية.
ومجرد سنخية العلية والمعلولية بينهما لا يصحح جهة مرآتية أحدهما عن
الآخر، لأن كل عنوان لا يحكي في عالم التصور إلا عن معنونه لا عن [مقتضياته]
وعلله.



(1) راجع الوسائل 11: 295، الباب 56 من أبواب جهاد النفس.
(2) مثل الآية الكريمة: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * - الحج: 78.
304
وتوهم حكاية العناوين الطولية عن الأخرى كلام ظاهري لا يصدق إلا
في مورد كانت العناوين المتعددة مشتركة في جهة واحدة، كعناوين الأوصاف
الحاكية عن ذات واحدة محفوظة في الجميع. وإلا ففي غيرها لا وجه لحكاية كل
عنوان عن غيره في عالم التصور، كي يصلح مرآتيته عنه كما لا يخفى.
ثم إنه بعدما اتضحت هذه الجهات فاسمع أيضا: أن لازم سوق مثل هذا
العام مساق الامتنان اختصاص مورده بما كان تشريع الحكم فيه خلاف امتنان في
حق الشخص، ولا يشمل أيضا موردا يكون نفي الضرر خلاف الامتنان في حق
غيره. ولازمه عدم صلاحية عموم نفي الضرر لنفي الأحكام الامتنانية مثل سلطنة
المالك على ملكه وحينئذ ربما يجئ الإشكال في تطبيقات النصوص السابقة
[لمثل] هذا العام على عموم سلطنة المالك أو ذوي الحقوق في ملكه و [حقهم].
فمن ذلك ما في رواية سمرة حيث طبق النبي (صلى الله عليه وآله) عموم نفي الضرر على
سلطنة سمرة على عذقه، ومن هذا القبيل تطبيق العموم على سلطنة الشريك على
ماله بجعل الشفعة لشريكه.
ومن جملتها ما في خبر فضل الماء (1) حيث نهى عن منع فضله مطبقا
عليه أيضا عموم نفي الضرر الموجب لرفع سلطنة المالك عن ملكه أو لا أقل عنه
حقه.
ومن هذا الباب أيضا نص الجار (2) المشتمل على السؤال عن جدار رجل
هو سترة بينهما سقط فامتنع من بنائه، قال (عليه السلام): ليس يجب إلا أن يكون وجب
لصاحب الأخرى بحق أو بشرط... إلى قوله (عليه السلام): وإن لم يسقط الجدار ولكن
هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه لهدمه، قال (عليه السلام): لا يترك، وذلك أن رسول



(1) و (2) تقدما في الصفحة 302، الرقم 2 و 3.
305
الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا ضرر ولا ضرار وإن هدمه كلف أن يبنيه. هذا ملخص مضمون
الرواية. وظاهر [ذيلها] نفي سلطنة مالك الجدار عن هدمه لعموم الضرر
والضرار.
ويمكن رفع الاشكال المزبور بما توهم في مضامين هذه النصوص فنقول:
أما التطبيق الوارد في رواية سمرة فيمكن أن يكون نفي الضرر ناظرا إلى
عدم تشريع هتك عرض الأنصاري بورود [سمرة] على عياله فجأة مع فرض
لزوم الحرج على الأنصاري في حفظ عرضه بوجه آخر. وحينئذ يكون الباب من
قبيل تزاحم سلطنة الأنصاري لحفظ عرضه وسلطنة سمرة على حفظ عذقه. ومن
المعلوم أن أهمية حفظ العرض من حفظ المال [اقتضت] تقدم حق الأنصاري
على حق سمرة، ولذا أصر النبي (صلى الله عليه وآله) من أول [الأمر] على الجمع بين الأمرين ولو
بإرضاء [سمرة] ببديل عذقه، فحيث ما رضى بالجمع المزبور قدم النبي (صلى الله عليه وآله) حق
الأنصاري، وأمر بقلع عذق [سمرة] كي ينتفي حق عبور سمرة، حيث لا حق له إلا
للاستطراق إلى عذقه. بل ربما روعي في حقه إبقاء شجريته حيث أمر بغرسه في
مكان آخر. وحينئذ ما ارتفع تسلط سمرة عن عذقه بعموم نفي الضرر كي يرد
إشكال خلاف الامتنان، بل إنما رفع سلطانه عن عذقه بالمزاحمة مع سلطنة
الأنصاري على حفظ عرضه، وطبق عموم نفي الضرر على حفظ سلطنة
الأنصاري لعرضه لأهميته لا نفي سلطنة سمرة على عذقه، وما فيه المحذور هو
الثاني لا الأول كما لا يخفى.
وأما التطبيق الوارد في خبر الشفعة فقد يجاب بأن هذه جملات مستقلة
وأحكام مختلفة واردة في رواية عقبة بن خالد لا ارتباط [لبعضها] بالبعض، وأن
المتأخرين اخذوا كل فقرة فقرة بنحو التقطيع عن هذه الرواية وتخيلوا ارتباط
بعضها ببعض فجاء حينئذ مجال توهم ما ذكرناه من الإشكال.

306
ولكن يمكن أن يقال: إن الرواية المشتملة (1) على هذه الفقرة مضمونها
مغاير لمضمون رواية عقبة و [مشتملة] على حكمين راجعين إلى الشفعة مع وقوع
هذه الفقرة في وسط الحكمين، وفي مثله منتهى البعد في كونه حكما مستقلا غير
مرتبط بباب الشفعة. وعليه فلا استبعاد في دعوى كون هذه الرواية رواية أخرى
مستقلة عن رواية عقبة الطويلة، بل تصلح هذه لشرح رواية عقبة على فرض
ظهورها في استقلال الفقرات، فضلا عن إجمالها من هذه الجهة.
والأولى في الجواب أن يقال: إن الإشكال مبني على جعل مثل هذه الفقرة
من علل تشريع الشفعة. وهو ممنوع، بل من الممكن جعله من نتائج تشريعها
ومعاليلها.
ويؤيد ذلك أنه لو جعل علة لتشريع الشفعة يلزم أن يجعل من حكم
[تشريعها] كي يشمل موارد لا يلزم [فيها] ضرر بترك جعل الشفعة، وهو
أيضا خلاف ظاهر سوق التعليل. وهذه الجهة لا [تكاد ترد] على ما ذكرنا، كما
هو ظاهر. وحينئذ يكون نفي الضرر من علل أخذ الشفيع بشفعته وحقه، فلا
ينافي الامتنان، كما لا يخفى، هذا.
مع إمكان أن يقال: إن ما هو خلاف الامتنان رفع سلطنة المالك عن ماله



(1) روى عقبة بن خالد عن أبي عبد الله قال: قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالشفعة بين الشركاء في
الأرضين والمساكن، وقال لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا رفت الأرف وحدت الحدود فلا
شفعة. ورواه الشيخ [باسناده] عن عقبة بن خالد وزاد: " لا شفعة إلا لشريك غير
مقاسم ". انتهى - الوسائل 17: 319، الباب 5 من أبواب الشفعة، الحديث 1 و 2، ولم نعثر
على الزيادة بالسند المذكور في التهذيب، بل هي موجودة بطريق آخر. انظر التهذيب 7:
166 و 167، الحديثان 737 و 741، نعم الزيادة بالسند المذكور موجودة في الفقيه كما
أشار إليها في الوسائل.
307
- مع حفظ ماليته - للضرر على الغير. وأما تنقيص ما ينتقل إليه بجعل حق فيه لا
يكون خلاف امتنان في حق المشتري، بل نفي الضرر صار موجبا لنقص ماله
- من حين حدوثه - في حقه، ومثل ذا لا يكون خلاف امتنان في حق الغير، بل
كمال امتنان في حق الشريك، فتدبر.
أما ما ورد في النهي عن فضل الماء فقد يجاب عنه أيضا بنحو ما تقدم.
ويرد عليه أيضا نحو ما ذكرنا.
والتحقيق في جوابه أيضا أن يقال - بعد تسليم كون حفر البئر بقصد حيازة
تمام مائه لا بمقدار استقائه، وإلا فلا يبقى مجال إشكال أصلا -:
إن أمثال هذه المياه مورد الانتفاع للاستقاء لكل أحد من الأناسي
والمواشي، فغاية الأمر للمالك أو وليه حق منع الغير عن التصرف، لا أن إذنهم
شرط في الجواز من دون فرق بين أن يكون المالك كبيرا أو صغيرا، بشهادة
السيرة القطعية الدائرة بين الناس الواردين على مثل هذه القنوات واستعمالهم من
مائها بمقدار احتياجهم من سقي ووضوء والأخذ منه بمقدار لا يعد ضررا عرفا
على المالك، وحينئذ ربما كره منعهم عن فضل مثل هذا الماء، حفظا لما فيه من حق
الاستباحة للناس في الجملة بما ليس في غيره.
وبهذه الملاحظة أيضا طبق عموم " نفي الضرر " على المورد تنزيها، ولا
ضير فيه بعد كون " نفي الضرر " بنفي تشريع حكمه. وحيث كان المنع الموجب
لضرر الناس ممنوعا تنزيهيا [فنفي] الضرر الناشئ من قبل هذا المنع أيضا
تنزيهي.
وبعبارة أخرى: تعلق حقوقهم بالماء لولا المنع موجب لقصور مرتبة من
سلطنتهم بنحو لا يكون أخذهم قبل المنع خلاف سلطنتهم، بل في عدم أخذهم
حينئذ ضرر عليهم، فلمراعاة مثل هذا الاقتضاء الاستحبابي منعوا تنزيها من

308
منعهم كي لا يرد على الناس ضرر من قبل [منعهم].
وفي مثل هذا التطبيق روعي كمال الامتنان في حق النفوس بلا خلاف
امتنان في حق المالك كما هو ظاهر.
ويؤيده: أنه لو كان نفي الضرر موجبا لعدم المنع فيلزم أن لا يؤثر منعه، مع
أنه لا يناسب كراهته، إذ لازمه أنه لو منع لكان مؤثرا.
وتوهم عدم الكراهة خلاف ظاهرهم فتدبر.
أما نص الجار بما فيه من التفصيل فنقول أولا: لا شبهة في عدم وجوب
حفظ مال الناس ولا عرضهم ولا نفسهم من غير الهلاك، وإنما يحرم هتك عرض
الغير أو دمه أو ماله على إشكال فيه ما لم يصدق عليه التصرف فيه بغصب أو
نحوه. غاية الأمر يوجب إتلافه ضمانه، وإلا فلا يحرم على الانسان إلا التصرف في
مال الغير. وصدق التصرف على مطلق الإتلاف ممنوع جدا.
وحينئذ لا وجه لحرمة الإتلاف في الأموال لولا قصور سلطنة المالك من
هذا التصرف في ملكه بملاحظة مزاحمته مع سلطنة غيره على حفظ ماله من التلف.
وحيث ظهر ذلك نقول: لا تبقى جهة إشكال في صدر الرواية، لأن انهدام
الجدار بنفسه لا يوجب إلا انهتاك عرض الغير لا هتكه. كما أن بقاء الجدار على
الخراب أيضا لا يوجب إلا بقاء انتهاك الغير لا هتكه. وحينئذ لا موجب لإجبار
المالك على تعميره، خصوصا مع تمكن الجار على حفظ عرضه بطريق آخر بقرينة
قوله للجار: " استر على نفسك ".
نعم لو اشترط الجار تعميره على المالك في ضمن عقد لازم فله حينئذ
اجباره على التعمير وفاء بشرطه.
وإليه أيضا أشار في النص بقوله: " إلا أن وجب عليه بحق أو بشرط... ".
وأما ذيل الرواية المشتمل على النهي من هدمه معللا بعموم " نفي الضرر "

309
فيمكن أن يقال فيه: إن هدم المالك جداره وإن لم يكن ممنوعا في نفسه إن استلزم
تلف مال الغير ما لم يصدق إضافة عنوان الإتلاف إليه، ولكن مع صدق هذه
النسبة أمكن دعوى عدم سلطنته على ماله المنطبق على تصرفه فيه عنوان
" إتلاف مال الغير ".
كما هو الشأن أيضا في عرضه، ففي فرض صيرورته سببا لهتك عرض الغير
أيضا - خصوصا إذا كان قاصدا لإضراره بذلك - فهو غير مشروع حتى مع تمكن
الغير من حفظ نفسه، فضلا عما لو لم يتمكن، لحرجيته.
نعم مع عدم قصد الإضرار قد يتوهم عدم الحرمة مع تمكن الغير من حفظ
نفسه لولا دعوى أن الهتك في هذه الصورة مستند إليهما لا إلى الجار وحده، فلا
يخرج التخريب المزبور أيضا عن الحرمة.
ومن هذه الجهة ربما كان لمالك الدار إجبار الجار على سد روزنته من داره
إلى دار جاره مع أنه في ملكه وتمكن الجار أيضا على حفظ عرضه.
وحينئذ فتطبيق عموم " نفي الضرر " على مثل هذه الموارد لا يكون خلاف
إرفاق في حق غيره، لعدم سلطنته على مثل هذا التصرف في ملكه، بل كمال إرفاق
في حق الجار لئلا ينهتك عرضه من قبله، كما لا يخفى.
بقي في المقام شئ آخر وهو: أن الذي يستفاد من مجموع أخبار الباب هو
تطبيق مثل هذه الكبرى في موارد إتلاف حق الغير عرضا أو انتفاعا أو تملكا.
ولكن يمكن أن يقال: إن في مثل هذه الموارد، مقتضى القواعد الأصلية الأولية
أيضا - لولا هذه الكبرى - نفي تشريع الإتلافات المذكورة بملاحظة قصور سلطنة
الانسان عن التصرفات في ماله الصادق [عليها] عنوان " إتلاف مال الغير "
ولا أقل من دعوى تزاحم السلطنتين الموجب لعدم جواز إقدامه على الإتلاف
المزبور. فللطرف منعه من هذا التصرف غير المشروع، إلا في مورد يكون لبناء

310
الغير إسناد على بنائه، فإنه حينئذ كان في حكم وقوع ملكه في ملكه من سلطنته
على تخليص ملكه وعدم سلطنة الغير على ابقاء ملكه على حاله مع جبران
الضرر إن كان الاستناد بحق، دون غيره، كما لا يخفى.
ثم لئن تأملت موارد تطبيق الأصحاب هذه الكبرى ترى أيضا أن كل
مورد مورد كان الدليل أو القاعدة من الخارج [قد] اقتضى الحكم المعهود في
المورد. كيف! وفي كل مورد - كما سيتضح لك إن شاء الله - نحو خصوصيات الحكم
المعهود فيه على وجه تأبى تلك القاعدة عن إثبات مثلها. فذلك شاهد ترى بأن
تمام المدار والمدرك للحكم ليس مثل هذه الكبرى. غاية الأمر هذه الكبرى كاشفة
عن مرتبة من مراتبه لا عن جميع خصوصياته.
وحينئذ لا غرو في دعوى كون هذه القاعدة سيقت للحكاية عن نفي
الأحكام الضررية بجهات أخرى ثابتة من الخارج من دون [كونها] إنشاء
مستقلا في قبال سائر القواعد، فكان وزان هذه العمومات وزان عموم " كل شئ
لك حلال " (1) في رواية مسعدة [المشتمل] ذيلها على مورد اليد أو الاستصحاب
أو أصالة الصحة الحاكمة جميعها على قاعدة الحلية.
وحللنا هذه الجهة من الإشكال بأنه من الممكن كون هذا العام سيق لبيان
جعل الحلية في جميع الموارد ولو بإنشاءات أخرى من دون كون ذلك إنشاء
مستقلا في قبالها وإنما هو مبين لأنحاء الجعل من الخارج فلا يكون [مفاده]
تأسيس حكم في قبالها.
ففي هذه العمومات أيضا أمكن دعوى عدم كونها حكما تأسيسيا في قبال
الأدلة والقواعد الخارجية المقتضية لنفي التشريع للحكم الضرري بمالها من



(1) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
311
الخصوصيات الزائدة الآبية عن كشفها مثل هذا العام.
وتوضيح هذا المقصد إنما هو بالتعرض لموارد تطبيقات الأصحاب إياها
على مواردها كي به يتضح أن في كل مورد نحو خصوصية للحكم لا تصلح مثل
هذه لإثباتها، وإنما نظر الأصحاب في أصل الحكم إلى وجه آخر، وإنما تشبثهم
بهذه الكبرى لمحض التأييد وبيان ما هو كاشف عن عدم تشريع الحكم الضرري
في المورد ولو بانشاء آخر. ومن هذه الجهة ربما يحتاج في العمل بهذه القاعدة إلى
اتكال الأصحاب [عليها] كي به يفهم أن في مثل هذا المورد أيضا لا يكون الحكم
الضرري مشروعا من الخارج، فنقول:
من جملة الموارد تطبيقهم هذه القاعدة في باب العبادات الضررية. ولا يخفى
أن بناءهم في هذه العبادات على الفساد، مع أن مفاد عموم " نفي الضرر " ليس إلا
نفي تشريع ما يجئ من قبله الضرر ويلقي المكلف فيه، وهو ليس إلا الأمر الفعلي.
وإلا فمجرد المصلحة والرجحان لا يكونان منشأين للضرر ولا يلقيان المكلف
فيه، فلا يقتضي مثل هذا العموم [نفيهما]، خصوصا المصلحة الخارجة عن مرحلة
التشريع رأسا.
وحينئذ لا وجه لفساد العبادة مع الاكتفاء بالتقرب فيها بقصد الرجحان،
كما هو الشأن في الضد المبتلى بالأهم لدى القائل باستحالة الترتب. ولئن اغمض
عن ذلك وبنينا على احتياج العبادة إلى الامر الفعلي نقول: لازم ذلك فساد
العبادة مع العلم بالوجوب والجهل بالضرر، إذ حينئذ لا قصور في محركية هذا
الأمر في الضرر الواقعي مع عدم مانع عنه، والحال أن بناء الأصحاب على
[صحتها].
وأيضا مقتضاه صحة الصلاة في فرض الجهل بالوجوب مع العلم بالضرر
كما في صورة الجهل بدخول الوقت مع العلم بضررية العبادة، نظرا إلى أن الأمر

312
المجهول غير صالح للتحميل والإلقاء في الضرر، فلا يكون مرفوعا بعموم نفي
الضرر، مع أن بناء الأصحاب على فساد العبادة في هذه الصورة. فذلك أعظم
شاهد على أن ليس النظر من الصدر الأول البانين على فساد العبادة أو صحتها
إلى تطبيق مثل هذه الكبرى عليها مستقلا، بل عمدة نظرهم إلى كبريات
النهي عن إلقاء النفس في التهلكة وإضرار البدن. ونسبة هذا النهي إلى الأوامر
من باب التزاحم، الموجب للتفصيل بين العلم بالحرمة [و] الجهل [بها] ولو
من الجهل بالضرر، سواء علم بالوجوب من غير جهة المزاحمة بالحرمة أو لم يعلم
به.
وحينئذ فلا يغرنك تطبيق المتأخرين مثل هذه الكبرى على تلك الموارد
ولو من جهة تأييد الدليل، بل وكشفه [عن] نفي الحكم الضرري في هذا المقام ولو
بانشاء آخر.
ومنها: المعاملات الضررية كالمشتملة على الغبن والعيب والتبعيض وتخلف
الوصف والشرط وأمثالها حيث إن بناء الأصحاب من الصدر الأول على ثبوت
الخيار فيها (1). وقرر ذلك بتقريبين:
أحدهما: أن مرجع الجميع إلى شرط ضمني موجب لثبوت حق للمشروط
له. فتفويت مثل هذا الحق ضرر عليه، ف‍ " لا ضرر ولا ضرار " موجب لجبر هذا
الضرر بالخيار.



(1) كما أشرنا بقرينة تطبيقهم ذلك على المعاملة الغبنية والعيوب وأمثالها من تخلف الوصف
والرؤية ويعبرون عنها بالخيارات الضررية، فلا يتوهم حينئذ أن هذا التطبيق شاهد
استفادة النهي من هيئة " لا ضرر " إذ ذلك لا يناسب مع تمسكهم بها في الخيارات المزبورة.
منه (قدس سره).
313
وثانيهما: أن مرجع الغبن إلى ضرر مالي، وهكذا العيب والرؤية. ومرجع
تبعيض الصفقة وتخلف الشرط إلى ضرر غرضي ناش عن [نقضه]، ويلحق بهما
بعض موارد العيب والرؤية أيضا التي ليس فيها جهة نقص مالي.
ولكن لا يخفى ما في هذا التطبيق أيضا بوجهيه، إذ إرجاع الجميع إلى
الشرط الضمني أول شئ ينكر، بل الباب من قبيل تخلف الداعي غير المنتج في
المعاملات شيئا.
كما أن إطلاق الضرر على مجرد نقض الغرض وتخلف المراد أيضا ممنوع.
والشاهد عليه عدم التزامهم به ولو حصل بعد [العقد].
وكذا في باب النكاح مطلقا ولا باب الطلاق وغيره من سائر الإيقاعات.
فالالتزام به مستلزم إما للزوم تخصيص كثير في مثل هذا العام الوارد مورد
الامتنان على المسلمين أو للالتزام بفقه جديد، وهما كما ترى.
كما أن الالتزام بأن العمل بالقاعدة يحتاج إلى الجبر في العمل اسقاط لها عن
الاعتبار.
كيف! ومثل هذه الموارد المتوهم فيها عمل الأصحاب أمكن منع عملهم بها
مستقلا، إذ نتيجة العمل بها ليس إلا نفي اللزوم، وغايته إثبات السلطنة على
الفسخ. ومثل هذه الجهة لا يفيد حقا قابلا للإسقاط ولا للانتقال إلى الوارث. فمن
أين نظر الأصحاب من الصدر الأول إلى مثل هذه القاعدة الآبية عن إثبات
اللوازم، كما هو ظاهر؟ وذلك أيضا من الموارد التي توهم بعض المشايخ من قبل
السابقين تطبيق القاعدة المزبورة عليها. ولو نظرت بمقتضى البصيرة وألقيت حبل
التقليد عن عنقك ترى عدم المجال لاستفادة تمام المرام من مثل هذه الكبرى، بل
نظر الصدر الأول في اثبات مثل هذه الحقوق إلى مدرك آخر ولو لم يصل الينا
تفصيلا. ولكن يكفي في وجه تحصيله إطباق كلهم على النتيجة المقصودة.

314
وربما يكون وجه تشبثهم [بها] إلى نفي تشريع الضرر ولو بإنشاء
خارجي، فيكشف عن مثل هذه الكبرى في الجملة، كما يكون نظر السابقين أيضا
في تشبثهم بهذه الكبرى إلى ذلك، لا أنها قاعدة مستقلة مؤسسة لحكم مستقل في
أمثال الموارد، كما هو الشأن أيضا في العبادات الضررية كما أشرنا.
ومنها: تطبيقهم إياها في الزوجة الغائب عنها زوجها بعد فحص الحاكم
أربع سنين وتوليه للطلاق، لعموم " نفي الضرر والضرار ".
وفيه: أن الطلاق المزبور خلاف امتنان في حق الزوج الذي بيده الساق
والطلاق، فهذا التطبيق ينافي ديدنهم على كون هذا العام سيق مساق الامتنان،
ولا يوجب جريانه خلاف امتنان في حق غيره. وليس هنا من الخارج سلطنة
للزوجة على التفريق كي لا يكون " لا ضرر " حافظا لهذه السلطنة غير دافعة
لسلطنة غيره، بل سلطنة غيره مدفوعة بمزاحمة سلطنة غيره معه. فحينئذ لا مجال
لقياس المقام بمسألة سمرة والجار كما لا يخفى.
وبالجملة: مقامنا من هذه الجهة شبيه بباب خيار الغبن حيث لا يثبت عند
المتشبث بهذه القاعدة فيه جواز أخذ الأرش من الغابن. مع أن تقريبه كما أفاده
شيخنا العلامة (1) واضح حيث إن جبران الضرر بأحد الأمرين لا خصوص
الخيار.
ولا يدفع هذه الشبهة إلا دعوى أن إثبات السلطنة على الغابن بأخذ
الأرش خلاف امتنان في حقه، وشأن " لا ضرر " ليس إثبات مثل هذا الحكم. فما
نحن فيه من تلك الجهة مثله. فلا مجال لإثبات مثل هذا الحكم بالعموم المزبور، بل
لا بد من كشف دليل آخر، وأن تشبثهم بمثل هذه الكبرى من قبيل تأييد الدليل لا



(1) انظر المكاسب: 235.
315
أنه دليل. خصوصا مع ملاحظة ما أشرنا إليه من أن إثبات أمثال هذه الحقوق
بمثل هذه الكبرى مستلزم لأحد المحذورين السابقين، فتدبر.
ومنها: أبواب تزاحم الحقوق حيث إن ديدنهم فيها على التشبث بعموم نفي
الضرر وربما ينتهي أمرهم إلى تعارض الضررين أو ترجيح ما هو الأهم منهما
لكثرته أو لجهة أخرى.
وتوضيح المقال فيها يقتضي بسط الكلام فيها كي به يرتفع الظلام عن وجه
الأوهام، فنقول:
إن صور تزاحم الحقوق كثيرة:
منها: ما لو حفر بئرا في داره بنحو يضر جدار الغير بأن تخرج الرطوبة
[من] البئر [بما] له من الاستحكام. ومرجعه إلى إتلاف وصفه وخصوصيته. ولا
إشكال حينئذ في ضمانه. وأما حرمته فقد يتوهم بأنه فرع صدق التصرف في مال
الغير الممنوع في المقام، ولولاه لا موجب لحرمته. وحينئذ فلا قصور في سلطنته
على حفر البئر، غاية الأمر عليه جبران جدار الجار، لضمانه، وليس على الجار إلا
إلزامه بذلك الجبران، لا منعه عن حفر البئر.
ولا مجال في مثل المورد أيضا [للتشبث] بعموم " نفي الضرر "، لعدم
حكومته على سلطنة الانسان على التصرف في ماله الذي هو من الأحكام
الارفاقية، كما أشرنا إليه في صدر البحث هذا.
ولكن يمكن أن يقال: إن لمالك الجدار أيضا السلطنة على حفظ جداره بما له
من الخصوصية الخارجية فقهرا تزاحم هذه السلطنة سلطنة مالك الدار لحفر بئره.
وببيان آخر: إن مالك الدار له جميع أنحاء السلطنة في داره غير ما ينطبق
عليه عنوان إتلاف مال غيره. فمن الأول لا يكون لمالك الدار مثل هذا التصرف
المتلف لجدار غيره، وحينئذ يمنع مالك الدار عن حفر البئر المزبور من جهة قصور

316
سلطنته من الأول، لا لعموم " لا ضرر "، كما توهم.
نعم لو تمكن مالك الجدار [من] حفظ جداره بإبقاء استحكامه بتعمير
وغيره أمكن أن يقال إن سلطنته على حفظ جداره لا [تقتضي] منع غيره عن
التصرف في داره، لأن السلطنة على الجامع لا تقتضي منع الخصوصية، كما أن تلف
الجدار إذا كان مستندا إلى مجموع فعله وترك تعمير غيره لا يكاد ينسب
الإتلاف والإضرار إليه مستقلا كي يمنع مثل هذا العنوان عن التصرف في ملكه.
ولا يقاس المقام بباب العرض حيث [يحرم] هتكه ولو مع التمكن [من]
حفظ نفسه، إذ المدار فيه على صدق الهتك ولو ضمنا، بخلاف باب إتلاف المال
فإنه لا بأس به ما لم يصدق عليه الإضرار والإتلاف مستقلا، لانصراف
أدلته إليه، خصوصا مع عدم قصور سلطنة المالك إلا عما ينطبق عليه إتلاف مال
الغير مستقلا. وإنما يتم ما ذكرنا في فرض انحصار سبب التلف في فعله بلا تمكن
لمالك الجدار [من] حفظ جداره إلا بمنع الحافر عن حفر بئره.
وعلى أي حال لا يبقى مجال للتشبث بعموم " لا ضرر " في المورد مستقلا
وتحكيمه على عموم سلطنة الانسان على تصرفه في ملكه وماله، [إذ] المورد بين
أن يكون لمالك الدار السلطنة على حفر البئر مع قطع النظر عن هذا العموم وبين
أن يكون له السلطنة الممنوع صدق الإتلاف والإضرار [عليها]. وعلى فرضه
لا مجال لحكومته على مثل هذا الحكم الارفاقي كما لا يخفى.
ومن التأمل في ما ذكرنا ظهر حكم فرع آخر من فرض إضرار حفر
البالوعة في الدار ببئر جاره، فإنه أيضا: تارة يضر بعين مائه بتنقيصه، وأخرى
بمنفعة الماء بتعفينه السالب لمنفعته، وثالثة بتغيير لونه السالب لوصفه الدخيل في
ماليته، ورابعة بإحداث نحو تنفر للطباع فيه [السالب] لصرف ماليته بلا نقص في
العين ولا المنفعة ولا وصفه.

317
ولا إشكال في الصورة الأخيرة من عدم كون التصرف بحفر البالوعة
ممنوعا حينئذ لعدم صدق عنوان إتلاف المال على هذا التصرف كي يكون ممنوعا،
غاية الأمر ليس في البين إلا إتلاف المالية، وهو لا يكون تحت منع، ولا موجبا
لضمان.
ولم يتوهم أحد أيضا منع مثل هذا التصرف بعموم " نفي الضرر "، ولذا كان
للانسان تقليل القيمة السوقية لأجناس الناس بترخيص جنسه في السوق. بل
هذا أعظم شاهد على ما ذكرنا من أن هذا العموم لا يكون انشاء حكم مستقل ولا
حاكما على عموم سلطنة الناس على أموالهم. وإلا فمثل ذلك من أجلى فرد
الإضرار المنفي بالعموم، كما هو ظاهر.
نعم في بقية الصور حيث صدق إتلاف المال عينا أو وصفا أو صفة لا قصور
في ضمانه، ولا في نفي مشروعيته مع عدم تمكن صاحب البئر [من] الحفظ من التلف،
ومن هذه الجهة لا يكون مالك الدار سلطانا على حفر البالوعة: إما لقصوره بذاته
عن مثل هذا التصرف المتلف لمال الغير، أو لمعارضته سلطنة مالك البئر على حفظ
بئره عن التلف بأي وجه، ولقد تقدم الكلام في نظيره من الفرع السابق.
نعم لا بأس بكشف نفي مشروعيته للإضرار على غيره بمثل هذه الكبرى
ولو من جهة حكايته عن منشئه خارجا، كما هو الشأن في موارد تطبيقات
المعصومين (عليهم السلام) على ما أشرنا.
ومن جملة موارد التزاحم: صور وقوع ملكه في ملك غيره كغرس الشجرة
في أرض الغير أو وقوع ثوبه في صندوق غيره وأمثاله مما يكون تخليص ملكه عن
ملك غيره منوطا بالتصرف في ملك الغير، لا ممحضا في صرف إتلاف ملك غيره
بلا صدق تصرف فيه كما في الفروع السابقة.
فقد يتوهم في أمثال المقام تعارض السلطنتين والضررين، ويؤخذ بالأقل

318
منهما، دفعا لكثرة الضرر الوارد في البين.
والتحقيق في المقام أيضا: أن وقوع أحد الملكين في ملك غيره إما أن يكون
بحق أو بغير حق من غصب ومثله:
فعلى الأول لا شبهة في أن سلطنة الناس على أموالهم تقتضي تفريغ ملكه
عن ملك غيره وتخليصه منه، كما أنه ليس له إبقاء ملك الغير في ملكه، لعدم
سلطنته على ملك غيره بإبقائه في ملكه. وحينئذ فلكل مالك جميع أنحاء السلطنة
على ملكه غير ما ينطبق عليه عنوان الضرب على جدار الغير وتخريبه. ولازمه
عدم سلطنة مالك الأرض على المنع عن تخليص مالك الشجرة شجرته عن
أرضه، إذ مرجع منعه إلى إبقائه في ملكه وهو ليس سلطانا عليه. وحينئذ لا
تزاحم سلطنة صاحب الأرض سلطنة صاحب الغرس حين يريد تخليص ملكه
عن أرض غيره. وهكذا الأمر في عكسه.
نعم قضية احترام [الملك] [موجبة] لضمان التلف الوارد على كل واحد بلا
إقدامه.
نعم لو كان كلا الطرفين مقدمين على التخليص [فلا] ضمان لطرفه بتلف
المال من جبران الشجرة أو طم الحفر في الأرض، كما لا يخفى.
ونظيره في عدم الضمان صورة كون الغرس عن غصب، فإن الغاصب لا
جبران له، لكونه مأخوذا بأشق الأحوال. وحينئذ فلو كان الغصب من الطرفين
كان كإقدام الطرفين على التخليص في نفي الجبران [عنهما]، كما لا يخفى. وعلى أي
حال لا يبقى موقع لعموم " نفي الضرر " في أمثال المقام مستقلا وإن كان صالحا
لكشف مثل هذه الجهة الثابتة من الخارج، كما أشرنا.
ومن التأمل في ما ذكرنا ظهر بطلان بقية الأقوال من الإبقاء بالأجرة أو
التفصيل بين المزروع والشجرة من الإبقاء بالأجرة إلى وقت حصاده للعلم بأمده،

319
دون الشجرة فتقلع مع جبر أو بلا جبر.
ولعل عمدة النظر فيه إلى الجمع بين احترام [الملك] ونفي الضرر من
الطرف الآخر، أو من جهة أن الإذن في الشئ إذن في لازمه.
ولا مجال [للأخير] مع المنع الصريح، ولا الأول، لعدم صلاحية العموم
للتحكيم على مثل هذه القاعدة الارفاقية كما لا يخفى.
ومن موارد التزاحم: إدخال الدابة رأسها في قدر الغير. وفيه أيضا صور
وفروض: من كونه بتفريط من أحد الطرفين، أو منهما، أو ثالث، أو بلا تفريط من
[أحد].
لا إشكال في الأخير حيث إنه يجري ما تقدم في الغرس بحق من أن المقدم
في التخليص يجبر ضرر الآخر، وليس للآخر منعه، لأنه مساوق سلطنة إبقاء مال
الغير في [ماله]. ولقد تقدم أنه ليس لأحد هذه الجهة، كما أن المقدم من الطرفين لا
يستحق جبر نقص في كل واحد من المالين.
ويلحق بذلك المفرط من الطرفين أو من طرف، والمقدم من الآخر، كما أن
المفرط الثالث عليه قرار الضمان بإتلاف المخلص لماله عن مال الغير من دون فرق
في هذا كله بين كون الضررين متساويين أو أحدهما أكثر، إذ لا يكاد ينتهي الأمر
إلى قاعدة " نفي الضرر " كي يلاحظ الأزيد ضررا بمناط الأهمية في باب
التزاحم، كما أشرنا إليه في نظائر المقام من هذه الجهة.
ولو ابتلى بالقدر نفس محترمة كالعبد وغيره، فلا شبهة حينئذ في كسر القدر.
وليس لصاحب القدر حينئذ تخليص قدره ولو بإتلاف مال الغير، إذ هذه القاعدة
إنما تجري لولا جهة أخرى [لازمة] المراعاة في البين. ووجوب حفظ النفس أو
حرمة [إتلافها] جهة زائدة عن مرحلة سلطنة الانسان على ماله كي لا [تبقى] له
السلطنة على إبقاء مال الغير بحفظ ماله.

320
ثم في ضمان الطرف لقدر غيره مع عدم إقدامه على كسر القدر إشكال: من
عدم المقتضي لضمانه من جهة عدم اتلافه وعدم أمر الغير بإتلافه، و [من] كون
المال محترما. ومجرد وجوب اتلافه لا يوجب ولا يقتضي رفع احترامه.
ولكن لا يخفى أن مجرد احترام المال لا يوجب ضمان الغير إلا في فرض
أمره.
اللهم إلا أن يقال: إن أمر الشارع بالإتلاف إحسانا بالنفس يوجب الضمان
على من أحسن له، كما هو الشأن في صورة الإشباع في المخمصة. وحينئذ ففي كون
الضمان على المالك لو كان النفس مملوكا أو على رقبة العبد يتبع به بعد عتقه أو على
بيت المال، وجوه: خيرها أوسطها، إذ الأمر المزبور ليس تعبديا محضا كي يقتضي
كون الضمان على الشارع الراجع إلى بيت المال، بل هو لمحض الإحسان على
النفس، وفي ذلك الإحسان لم [تنظر] جهة المملوكية كي يكون احسانا على مالك
العبد فيضمن له، بل تمام النظر إلى حفظ النفس المحترمة، [و] لا يكون من أحسن
له إلا العبد فيضمن، ويكون على رقبته يتبع به بعد عتقه. كما هو الشأن في الإشباع
في المخمصة أيضا.
نعم لو لم تكن في النفس رقبة كالحيوانات لا يبعد الضمان على مالكها،
لصدق الإحسان في حقهم تبعا. ولو لم يكن له مالك، فلا محيص من كون الضمان في
بيت المال.
وتوهم عدم الضمان حينئذ رأسا ممنوع بعد فرض احترام المال وتسبيب
الإتلاف ولو بالأمر من قبل الغير ولو كان شارعا، كما لا يخفى.
ومنها: ما في جملة [من] كلماتهم من تطبيق العام المزبور على جملة من
المقدمات الضررية كشراء الزاد بأكثر من ثمن مثله في باب الحج، وشراء الماء
كذلك في باب الوضوء، وجواز ارتكاب المحرم من مثل الرجوع إلى حاكم الجور

321
مع انحصار طريق استيفاء الحق به، وكموارد الإكراه على ترك واجب أو فعل
محرم، بل التزموا في فرض [توجه] الضرر [إلى] أحد عدم جواز صرف الضرر
عن نفسه وتحميله على غيره مع قناعة الملزم به ولو بأقل الضررين. ولا يجب على
الغير أيضا ذلك، ولكن التزموا بذلك في صورة [توجه] الإلزام والإضرار إلى
أحدهما بلا تعيين، إذ ربما توهم فيه تعيين تحميل أقل الضررين على صاحبه هذا.
أقول: أما صور المقدمات الضررية فالظاهر أيضا عدم بنائهم على الأخذ
بمطلق الضرر، بل يقيدون بالمجحف الملازم للزوم الحرج عليه. ففي الحقيقة نظرهم
فيه إلى قاعدة الحرج لا الضرر. كيف! وصريح كلماتهم بوجوب شراء الماء
للوضوء ولو بأكثر من ثمنه، وهكذا في باب شراء الزاد للحج، وهكذا نقول في
الرجوع إلى حكام الجور، وإطلاق كلماتهم - لو كان - فيها منزل على الغالب من
كون الضرر مجحفا حرجيا. كما أن الأمر في الإكراه في ترك الواجب أو فعل المحرم
لا بد في المضار المالية أن يكون مجحفا، وإلا أي شخص يفتي بجواز ارتكاب شرب
الخمر أو الزنا من جهة توعيد المكره بهما على أخذ " قران " (1) على تركهما؟!
ولا مجال لقياس هذا الباب بباب المعاملات حيث نكتفي بمثل هذا الإكراه
في الحكم بالفساد، إذ مدار الصحة فيها على طيب النفس غير الحاصل أحيانا بمثل
هذا التوعيد.
وهذا بخلاف باب الواجبات والمحرمات تعبدية كانت أو توصلية، فإن
المدار عندهم فيها على الالجاء والاضطرار غير الحاصل بمطلق الضرر.
كما أن في فرض [توجه] الضرر إلى الشخص ليس له السلطنة على إضرار
الغير، بل هو خلاف سوق الامتنان من العموم المزبور، فإنه لا يوجب خلاف



(1) " القران " الاسم القديم للعملة الإيرانية المعروفة اليوم ب‍ " الريال " الإيراني.
322
الامتنان في حق الغير.
نعم في فرض [توجهه] إلى أحدهما فلكل منهما السلطنة على حفظ نفسه،
ولازم [التوجه] المزبور قهرا قصور سلطنة أحدهما على الحفظ خارجا. ففي مثله
العقل يحكم بالالتزام بأقل الضررين ولو لم يكن مثل هذا العموم في البين.
ولعمري إن مثل هذه الأبواب أيضا من موهنات استفادة التفهيم من هذه
الكبرى مستقلا، فلا محيص فيها من الاقتصار على مقدار ما يستفاد من تطبيق
سائر الكبريات ولو من جهة إطباق كلمة الأصحاب كما أشرنا إليه مرارا.
نعم في بعض النصوص: " من أضر بطريق المسلمين فعليه كذا " (1)، وربما
[تكون] أمثال هذه النصوص أيضا مدرك قاعدة الإتلاف في باب الضمان. وإلا
فلن نجد نصا بهذا اللسان في كلمات المعصوم، فراجع كتاب غصب الجواهر (2)
وغيره ترى ما ذكرنا حقيقا بالقبول، ولكن لا يضر ذلك بما نحن بصدده من أن
عمومات " نفي الضرر " لا [تقتضي] أزيد من حكاية نفي الضرر ونفي تشريع
الحكم الضرري في الشرع والإسلام من كبريات وانشاءات خارجية التي
منها نفي تشريع الإضرار على الغير الملازم لحرمته، لا أن هذه الهيئة أريد بها
النهي عنه ك‍ " لا فسوق ولا جدال " (3) كما توهم بعض مشايخنا كشيخ الشريعة
الأصبهاني (4) (قدس سره)، بل من جهة كشفه عن قصور سلطنة الانسان عن التصرفات



(1) الوسائل 19: 180، الباب 8 من أبواب موجبات الضمان، الحديث 1. وتمامه ما يلي: قال
أبو عبد الله (عليه السلام): " من أضر بشئ من طريق المسلمين فهو له ضامن ".
(2) انظر الجواهر 37: 46 وغيرها من الموارد.
(3) انظر الجواهر 37: 46 وما بعده.
(4) انظر قاعدة لا ضرر ولا ضرار لشيخ الشريعة الأصفهاني: 37.
323
المتلفة لمال الغير أو دمه أو عرضه. وذلك أيضا لا من جهة توهم حكومة هذه
القاعدة على عموم السلطنة على الأموال وحفظ الأعراض كي يرد بأن هذه
القاعدة بملاحظة سوقها الامتناني غير صالحة لرفع هذه الأحكام الارفاقية، بل
من جهة أن الانسان من الأول قاصر السلطنة على التصرف المتلف لمال الغير أو
عرضه بحيث لولا عمومات " نفي الضرر " أيضا لما كان لأحد إتلاف مال غيره أو
عرضه بفعله وحينئذ لك أن تقول: إن هذه القاعدة ما سيقت إلا للإشارة إلى
الموارد التي ثبت [فيها] نفي الحكم الضرري من الخارج، و [كاشفة] عن قصور
سلطنة الانسان أيضا في حد نفسه عن إتلاف وتنقيص لأمر غيره من مال أو دم
أو عرض، لا أن مفادها تأسيس حكم مستقل في قبال سائر القواعد والعمومات.
ولعمري إن مثل هذا البيان في شرح مثل هذه القاعدة المشهورة المعروفة
وإن كان ثقيلا على الأذهان، ولكن لا نتوحش مع الانفراد إذا ساعدنا الدليل
وسلامة الأفهام.
[تنبيهات]
بقي في المقام التنبيه على أمور:
[اختصاص القاعدة بحال الجهل بالضرر]
الأول منها: إن المشهور في كلماتهم - بعد بنائهم على تعميم مفاد القاعدة
المزبورة وحكومتها على سائر القواعد التي منها أصالة اللزوم في المعاملات
الضررية خصوصا العينية منها - التزموا باختصاص جريانها بحال الجهل بالضرر
في هذه المعاملات، جريا على ما تسلموا من كون هذه القاعدة سيقت في مورد

324
الامتنان، ولا امتنان في رفع اللزوم على العالم بالضرر والمقدم عليه من الأول.
ومع هذا التزموا أيضا في المقدم على الجنابة بل وفي كل موضوع يكون حكمه
ضرريا أيضا برفع حكمه، وأفتوا بعدم وجوب غسل الجنابة على المقدم على
الجنابة مع علمه باضطراره.
وحينئذ ربما يتوجه الإشكال في الفرق بين المقامين بحيث لا يكون ثبوت
الحكم في الأول خلاف الامتنان، بخلاف الأخير مع تساويهما في صدق
الإقدام.
وأجاب عن هذا الإشكال أستاذنا العلامة - أعلى الله مقامه - بأن المدار في
منع جريان القاعدة على صدق الإقدام على الضرر. وهذا المعنى في المعاملات
الضررية مع العلم بها موجود، إذ الإقدام على تبديل شئ بنصفه - مثلا - إقدام
على الضرر، وهذا بخلاف الإقدام على موضوع كالجنابة التي [حكمها] وجوب
الغسل، إذ صدق اقدامه على الضرر لا يكون إلا بتوسيط ثبوت الوجوب، وإلا لا
يكاد [يصدق] إقدامه على الضرر أصلا. ومن المعلوم أن ثبوت هذا الوجوب
فرع صدق الإقدام على الضرر وهو دور (1).
أقول: أما تقريره في الجزء الأول من كلامه فنقول فيه: إن من المعلوم أن
مدار مانعية الضرر للزوم المعاملة ليس على حدوثه. كيف! والضرر المعاملي
بنفس صحة المعاملة قد حدث جزما، ولا مجال لنفي هذا الضرر الحادث. وإلا
فلازمه بطلان المعاملة، وهو خارج عن مصب كلماتهم.
فعمدة النظر في نفي اللزوم نفي بقاء الحادث، ولذا يحدث خيارا موجبا للحل
من حين الفسخ، لا من أصله. وحينئذ فمفاد عموم نفي الضرر نفي بقاء الضرر، لا



(1) لم نعثر عليه.
325
نفي حدوثه. وحينئذ فمع العلم بغبنية المعاملة فلا إشكال في صدق إقدامه على
حدوث الضرر.
وأما إقدامه على بقاء هذا الضرر فصدقه منوط بثبوت اللزوم، إذ لولاه لما
يكاد يصدق عليه الإقدام على ضرره، إذ المفروض أن [بمجرد] تبديل مال
بنصفه مع خياره لا تكون المعاملة [ضررية] والمفروض أن هذا اللزوم ثبوته في
المورد منوط بالإقدام فدار.
وحينئذ فتطبيق العموم على بقاء الضرر دوري، وعلى حدوثه كان موجبا
لبطلان المعاملة ولم يلتزموا به، بل حدوث الضرر المعاملي خارج عن مصب
العموم رأسا، كما أشرنا.
وأما تقريره في الجزء الثاني ففيه أيضا: أن وجوب الغسل وغيره
من الأحكام الثابتة لموضوعاتها لدليلها إطلاق يشمل حال الضرر بحيث لو لم
يكن في البين مثل هذه الكبرى في الضرر لكان يثبت حتى مع استلزامه الضرر
جزما.
وهذا بخلاف كبرى لا ضرر، فإنه لا إطلاق [لها] بواسطة [سياقها
الامتناني] لصورة الإقدام على الضرر. وحينئذ مقتضى إطلاق دليل وجوب
الغسل كون [مقتضاه] تنجيزيا، ومقتضى تقييد دليل نفي الضرر كون اقتضاء نفيه
معلقا بعدم صدق الإقدام، وحينئذ يدور الأمر بين الأخذ بالمقتضى التنجيزي
ونحكم بارتفاع دليل المانع للتخصيص أو [الأخذ] بدليل المانع التعليقي، ونحكم
برفع اليد عن المقتضى التنجيزي بلا وجه. ولازمه حينئذ حكم العقل بالأخذ
بالمقتضى التنجيزي وطرح المانع التعليقي.
وببيان آخر: إذا كان تطبيق المانع في مورد منوطا بعدم تأثير المقتضي
يستحيل رافعية هذا المانع لتأثير هذا المقتضي، فقهرا يؤثر المقتضي ويرتفع المانع،

326
لعدم الموضوع.
ولئن شئت قرب الدور بوجه آخر، وهو أن عدم صدق الإقدام فرع عدم
وجوب الغسل، وهو فرع عدم صدق الإقدام.
ولئن تريد نقول: إن عموم لا ضرر إنما يشمل حكما لولا هذا العموم لما
[صدق] عليه الإقدام على الضرر. وفيما نحن فيه ليس كذلك، إذ لولا عموم لا
ضرر صدق على المورد الإقدام على الضرر كما لا يخفى. وحينئذ لا مجال لنفي هذا
الحكم بعموم نفي الضرر، بل لا بد من التماس دليل آخر من كبرى حرمة الإضرار
بالنفس الوارد في جملة من النصوص على ما في تحف العقول (1) وغيره (2).
ومثل هذه الكبرى كانت مفسدته [تنجيزية] كمصلحة الوجوب المزبور.
ويؤيده أيضا: أن المدار في نفي الوجوب أيضا على العلم بالضرر، لا العلم
بالوجوب ولو مع الجهل بضرريته، كما هو لازم تطبيق هذه الكبرى، كما تقدم
شرحه في العبادات الضررية.
كما أنه تقدم أيضا أن مبنى الخيارات الضررية أيضا ليس مثل هذه
الكبرى، وإلا [فهي قاصرة] عن إثبات الحق القابل للإسقاط أو النقل والانتقال،
وذلك كله من شواهد ما تلوناه من منع التعميم في مفاد هذه الكبرى كما توهم،
فتدبر.



(1) تحف العقول: 337، باب ما يحل للانسان أكله، والوسائل 16: 310، باب 1 من أبواب
الأطعمة المحرمة، الحديث 1.
(2) انظر الوسائل 17: 2، الباب 1 من أبواب الأطعمة المباحة و 61 الباب 42 من الأبواب
نفسها والمستدرك 16: 207، الباب 47 من أبواب الأطعمة المحرمة و 361، الباب 32 من
أبواب الأطعمة المباحة.
327
[هل الضرر المنفي هو النوعي أو الشخصي؟]
التنبيه الثاني: أنه بناء على المختار في معنى " لا ضرر " لا تكاد تنتهي النوبة
إلى النزاع الآتي (1)، لأن مفاده إرشاد إلى مقدار تقتضي القواعد الأولية ذلك، ولا
يكون مفاده تأسيس شئ في قبالها. وحينئذ لا بد من التماس وجه آخر يقتضي
عدم مشروعية الضرر ولو من إطباق كلمة الأصحاب في مقام تشبثهم بها لمحض
الكشف عن كبرى أخرى.
نعم على ما توهم يجئ نزاع آخر من أن الضرر المنفي هو الضرر الشخصي
أو النوعي؟
أقول: لا شبهة في أن كل عنوان لا يحكي إلا عن معنونه وما بإزائه. ومن
البديهي عدم انتزاع عنوان من العناوين إلا عن مقام فعلية الشئ الملازم لصورته
التي بها قوام شيئيته. وحينئذ لا يبقى مجال توهم إطلاق عنوان الضرر والنفع
- اللذين [هما] من جملة العناوين - على الضرر الثاني (2)، بل لا محيص من إرادة
الفعلي منه.
ولكن مع ذلك قد يبقى في المقام كلام آخر: بأن المدار في الضرر النافي
للأحكام هو الضرر الفعلي الوارد على كل شخص شخص، أو المدار على الضرر
الفعلي الوارد على نوعهم؟
وحينئذ لا يبقى مجال ترجيح الأول بكبرى ظهور العنوان في الفعلية، بل
لا بد من وجه آخر ولو بأن يقال: إن الظاهر من إلقاء مثل هذا الخطاب على
الأشخاص كون هذا العنوان صادقا في حقهم، ولا يكاد [يصدق] إلا بإرادة



(1) وهو النزاع في أن الضرر المنفي هل هو الضرر الشخصي أو الضرر النوعي؟
(2) أي النوعي، لأنه غير فعلي بالنسبة إلى الشخص.
328
الضرر الفعلي الوارد عليهم لا على نوعهم وإن يكن بالنسبة إلى بعض أشخاصهم
فعليا.
ثم إن هذه الجهة أيضا مبنية على كون هذا العنوان مأخوذا في حيز الخطاب
بنحو الموضوعية للحكم أو بنحو العلية، وإلا فربما يكون حكمه غير سار في جميع
موارد الحكم ولو في حق النوع فضلا عن الشخص قبال العلية المقتضية للسريان
في الموارد حسب الملازمة بين العلة ومعلولها. وحينئذ ربما يشكل تمييز موارد
العلية عن الحكمة، ولا غرو في دعوى أن ظاهر التعليل هو العلية وان الحكمة
تحتاج إلى قرينة من الخارج، ولا مجال للتشبث باطلاق الحكم حتى في صور فقد
هذا العنوان لاثبات كونه حكمة، إذ ظهور العلية حاكم على إطلاق الحكم المعلل
به، ولذا ترى ديدنهم على تضييق دائرة الحكم أو توسعته من قبل ضيق العلة
و [سعتها] دون العكس.
نعم في مقام تشريع الأحكام وبيان جعلها بنحو الاهمال لو علل بجهة أمكن
منع استفادة العلية من مثله، إذ ظهور حاله في كونه في مقام إهمال الجعل والمجعول
يمنع عن الأخذ باطلاق كلامه بنحو يستفاد منه بيان علة تشريعه، بل لهذا المقام
كمال المناسبة مع كون العلل المذكورة حكمة. فعليك بالتدبر التام في أمثال المقام
كي تمتاز هذه مع كونه في مقام بيان الأحكام وشرع الحلال والحرام.
وعلى أي حال مرحلة هذه القاعدة أجنبية عن هذه الورطة، بل ظاهر
العموم - بملاحظة أخذ عنوان الضرر موضوع الحكم بنفيه مع إلقاء هذا الخطاب
إلى أشخاص الأمة - كون المدار فيه على الضرر الشخصي، كما هو ظاهر.
[الشك في الضرر شبهة مصداقية]
التنبيه الثالث: ان الضرر عند الشك [فيه] من الشبهات المصداقية المقتضية
لعدم ترتب حكم عليه من حرمة أو غيره سواء في المضار النفسية أو غيرها، كما

329
هو الشأن في كل حكم شك في مصداقه، بل في المقام يترتب آثار حكم آخر كان
لولاه ثابتا، نظرا إلى أن نسبة هذا العنوان إليه كنسبة التزاحم الراجع إلى مزاحمة
المانع مع المقتضي. وفي مثله كان الأمر للمقتضي حتى مع الشك في المانع، وذلك
أيضا لا من جهة تمامية قاعدة المقتضي والمانع على الإطلاق، بل إنما هو
لخصوصية فيه بملاحظة أن مرجع هذا المانع إلى عدم قدرة الحاكم لتوسعة حكمه
مع تمامية مقتضيه، فيكون نظير عدم قدرة المحكوم له على الامتثال، حيث إن
العقل حاكم بالأخذ باحتمال الحكم. ولا يرى مجرى البراءة إلا مورد الشك في
أصل الاقتضاء.
ومن هذه الجهة نلتزم في جميع مزاحمات الأحكام عند الشك [فيها]
[بالأخذ] باحتمال وجود الحكم بالاحتياط لا البراءة.
وربما يجمع بمثل هذا البيان بين القول بمنع الملازمة بين حكم العقل والشرع
والقول بها، بالالتزام بالأول رأيا وبالأخير عملا، نظرا إلى أن احتمال وجود
المانع عن فعلية الحكم مع الجزم بالاقتضاء والمصلحة فيه بمنزلة العدم من جهة
حكم العقل بالأخذ باحتمال الحكم الفعلي احتياطا، كما لا يخفى.
ففي المقام أيضا لا محيص من الرجوع إلى الوظيفة الثابتة لولا هذا العموم
من مشروعية شئ أو وجوبه.
نعم في بعض الموارد قدم احتمال الضرر، ورفع اليد عن الحكم بمحض
خوفه، إيجابا للاحتياط فيه، ولعله مختص بموارده المنصوصة لولا التعدي منها،
نظرا إلى استفادة هذا الاهتمام في سنخها، كما هو الشأن في النفوس والأعراض،
فتدبر والله العالم.

330
المقالة الرابعة والعشرون
الاستصحاب

331
[المقالة الرابعة والعشرون]
في الاستصحاب
وهو في اللغة: طلب الصحبة. وأطلق بالعناية على " إبقاء ما كان ". وفي
كونه عبارة عن: " المعاملة مع الشئ معاملة بقائه تعبدا " كي يكون فعل المكلف
أو عبارة عن: " الحكم ببقائه كذلك " كي يكون من الأحكام الشرعية التعبدية،
أو " التصديق الظني بالبقاء الحقيقي " كي يكون من الأحكام العقلية غير المستقلة،
وجوه.
ويناسب الأول سائر اشتقاقاته وأن المستصحب - بالكسر - هو المكلف لا
الحاكم.
ويناسب الثاني عدهم الاستصحاب من الأحكام الظاهرية قبال سائر
الأصول.
ويناسب الثالث جعل القدماء إياه في زمرة الأدلة العقلية التي هي عبارة
عن الأحكام الظنية العقلية غير المستقلة كالقياس والاستحسان.
ولا يضر الاختلاف في الأخيرين - بحسب الحقيقة - بوحدة المفهوم في
" إبقاء ما كان " بعد ظهور الهيئة في نحو [إبقائه] عملا. وكذلك [الأولين]، كما
لا يخفى.

333
ثم اعلم: أن القائل بحجية الاستصحاب من باب الظن ظاهر كلامه هو
الظن الشخصي.
ولكن يوهنه استلزامه حصول الظن بطرفي النقيض في شخص المورد
بمحض اختلاف حالته السابقة مثل الماء البالغ إلى حد خاص يكون مستصحب
القلة تارة والكثرة أخرى حسب اختلاف حاليه سابقا. وهو في غاية البعد. مع
أنه على هذا لا معنى لإطلاق التعارض على الاستصحابات المتعارضة ولا
الحكومة على الاستصحابات السببية، بل هو تابع فعلية الظن في أي طرف جعل.
كما أن الموهن لجعله من باب الظن النوعي به لا دليل على حجيته إلا
السيرة. وهو على فرض تماميته يوجب دخول الاستصحاب في أدلة السيرة،
نظير ظواهر الألفاظ. فلا يناسب حينئذ جعله من الأدلة العقلية.
نعم على هذا التقدير يدخل البحث عن أصل وجوده وحجيته في المسائل
الأصولية، [لوقوعه] في طريق إثبات الأحكام الكلية، بمعنى اقتضائه قيام العلم
بالحكم الواقعي تعبدا كسائر المباحث الأصولية المنتهية إلى استنتاج العلم بالحكم
من دليل تتميم كشفه.
وأما بناء على الاحتمال الآخر فلا يكاد ينتهي إلى العلم بالحكم الواقعي،
بل نتيجة القياس على وجه هو الحكم التعبدي الشرعي، [و] على وجه آخر هو
الحكم العقلي الظني المنتهي إلى حكم عقلي قطعي بوجوب اتباعه بمناط
الانسداد. [فادخاله] حينئذ في المسائل الأصولية فرع تعميم مسائله لما ينتهي
إليه المجتهد عند عدم وصوله إلى الواقع أيضا.
ولقد أشرنا في أول مباحث القطع إلى اختلاف الوظائف المجعولة، فمنها ما
كان بلسان تتميم الكشف، ومنها ما كان بلسان إثبات وظيفة في ظرف عدم
الانكشاف. ومن المعلوم أن تنقيح هذه الجهات شأن الأصولي، لأن أصل وضع

334
علم الأصول لبيان هذه الجهات وتنقيح مبادئ هذه الحيثيات، فحينئذ مسائله
قهرا راجعة إلى صنفين:
منها: ما هو مهذب لاستنباط الأحكام الشرعية الواقعية ومنتج للعلم بها
بتوسيط قياس واحد أو قياسين أو أزيد، بمعنى جعل [نتيجة] الأول صغرى
لقياس آخر منتج للعلم المزبور بلا واسطة قياس آخر كذلك.
ومنها: ما ليس شأنها ذلك بل كانت مما ينتهي إليه المجتهد عند عدم وصوله
إلى الواقعيات وحينئذ فجعل الاستصحاب من الصنف الأول أو الثاني مبني على
جعله من الأدلة الشرعية أو من الأصول العملية - شرعية محضة أو عقلية - منهية
إلى مقدمات الانسداد على الحكومة.
[المراد بوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة]
ثم إن الظاهر إطباق [الطرق] المختلفة - في شرح الاستصحاب - في لا بدية
اتحاد القضية [المتيقنة] مع المشكوكة. وإنما الكلام في المراد من الوحدة المزبورة
من أنه مجرد وحدتهما ذاتا وحقيقة وإن [اختلفتا] وجودا ومرتبة، أو وحدتهما
وجودا أيضا وإن [اختلفتا] مرتبة، أو وحدتهما مرتبة أيضا.
فإن كان المراد من الوحدة بالمعنى الأخير فيلزم اختلاف زماني اليقين
والشك، وينطبق الاستصحاب حينئذ على قاعدة اليقين، وهو باطل بالضرورة.
ولذا أطبقوا في باب الاستصحاب على إلغاء هذا المعنى من الوحدة.
كما أن الوحدة بالمعنى الأول أيضا غير [كافية] في الاستصحاب. كيف!
وإلا يلزم جريان الاستصحاب عند اليقين بوجود فرد والشك في بقاء فرد آخر
[من نفس] الحقيقة وهو أيضا باطل بتا.
فلم يبق في البين إلا الوحدة بحسب الحدود الخارجية، ومثل هذا المعنى

335
فرع تحقق [القضيتين] ولو بمنشأ انتزاعهما في الخارج كي يصدق على القضية
المشكوكة [أنها] بقاء المتيقنة خارجا، و [متحدتان] حدا خارجيا.
وحينئذ لازم اعتبار هذا المعنى من الوحدة عدم جريان الاستصحاب في
القضايا الطبيعية والعمومية عند عدم تحقق مصداقهما في الخارج أصلا، مثل: ما لو
شك في الآن الثاني بحرارة طبيعة النار أو سواد طبيعة الجسم الفلاني عند القطع بهما
في الزمان السابق مع فرض عدم وجود مصداق للقضيتين ولا منشأ انتزاع
للعنوانين، إذ [ليست] الوحدة فيهما إلا [ذاتية] محضا. ولقد عرفت عدم
[إثمارها].
ويمكن حل هذا الإشكال بأن مدار الاستصحاب على الوحدة الخارجية،
لكن أعم من الخارجية الفعلية أو الفرضية.
وعمدة الوجه في ذلك هو أن أمثال هذه القضايا بعد ما كانت قضايا حقيقية
شاملة للأفراد الفعلية والفرضية، فكما أن وحدة مصداقهما فعلا في الخارج
[توجب] صدق البقاء الفعلي لهما في الخارج، كذلك وحدة مصداقهما في الوجود
الفرضي [توجب] صدق البقاء الفرضي على مثلها. وهذا نحو من الوحدة بين
[القضيتين] غير الوحدات الثلاثة المزبورة.
ويكفي في الاستصحاب هذا المقدار من الوحدة الخارجية الفرضية
ومرجعه في الحقيقة إلى اتحاد مصاديقهما في الخارج بنحو يكون المصداق متصفا
بالخارجية سابقا. فإن كان اتصافه بها اتصافا فعليا [فالوحدة] الخارجية أيضا
[فعلية]، وإن كان اتصافه بها فرضيا فوحدته أيضا فرضية بلا احتياج - حينئذ
في صدق البقاء على القضية المتيقنة - إلى الوحدة الخارجية الفعلية.
نعم لو لم تشمل القضية الأفراد الفرضية وكانت مختصة بالوجودات الفعلية
لا يكفي في صدق البقاء على القضية المتيقنة مجرد الوحدة الفرضية، بل يحتاج إلى

336
وحدة خارجية فعلية، وذلك المقدار بالنسبة إلى القضايا غير الشرعية ظاهر
واضح.
نعم هنا إشكال آخر في القضايا الشرعية التكليفية بأن في مثلها لما كان
ظرف عروض محمولاتها ذهنيا وإن كان ظرف اتصافها خارجيا، ربما لا يتصور
لموضوعها وحدة خارجية لا فعلية ولا فرضية، لأن الخارج أجنبي عن صقع
عروض هذه المحمولات، بل [ليست] موضوعاتها إلا مجزومات ذهنية، ومن
البديهي أن في المجزومات الذهنية - حيث [إن] وحدتها ليست إلا ذاتية ورتبية
بلا تصور وحدة خارجية فيها ولو فرضية، والمفروض أن الوحدة الذاتية
غير [كافية] في الاستصحاب، والرتبية غير معتبرة فحينئذ - من أين يتصور
البقاء والارتفاع في موضوع القضايا الشرعية التكليفية؟
ولكن يمكن حل هذه الجهة أيضا: تارة بأن ظرف عروضها وإن كان
[الذهن] وبالإضافة إلى المجزومات الذهنية لا يتصور بقاء وارتفاع خارجي،
ولكن ظرف اتصافها [الخارج]. ومن المعلوم أن في هذه المرتبة [نتصور]
الوحدة الخارجية بين [القضيتين]، غاية الأمر أعم من الفعلية والفرضية.
وحيث إن مدار تشخيص الوحدة بين [القضيتين] على الأنظار العرفية،
وكان نظرهم في القضايا الشرعية [مقصورا على] مرحلة اتصافها كما في غير
الشرعيات، يكفي هذا المقدار من الوحدة أيضا في صدق البقاء والنقض في
موضوع القضايا الشرعية.
وأخرى بأن الوحدة الخارجية في نفس العارض [كافية] في [صدق]
البقاء والنقض في الشرعيات، ومن المعلوم أن موضوعات هذه القضايا وإن
كانت ذهنية ولكن محمولاتها خارجية. وإذا صدق بقاء المحمول خارجا على ما
هو موضوعه في ظرف عروضه [كفى] ذلك في وحدة [القضيتين] خارجا،

337
وهو المدار التام أيضا في الاستصحاب. بل في مثل هذه القضايا لا يحتاج إلى
توسعة البقاء إلى الفرضي، بخلافه في القضايا غير الشرعية، إذ بقاء محمولاتها
[تابع] وجود موضوعاتها في الخارج. فما لم يوسع البقاء إلى الفرضي لا يكاد يتم
فيها أمر الاستصحاب.
نعم في بعض المحمولات في غير الشرعيات أيضا ليس لموضوعها خارج
ولا لنفسها أيضا وجود خارج. وإنما الخارج ظرف منشأ اعتبارهما، نظير وجود
المهيات كوجود الانسان وأمثاله، فالوحدة الملحوظة فيها أيضا ليست إلا بلحاظ
وحدة المنشأ الخارجي حدا ولو فرضيا، لا أن المدار فيه أيضا على مجرد الوحدة
الذاتية والطبيعية، كما لا يخفى وذلك ظاهر.
ثم إن في استصحاب الأحكام إشكالا آخر ناش عن خيال رجوع قيود
الحكم فيها أجمع إلى الموضوع، يلازمه كون الشك في بقاء الحكم الشرعي ناشئا
عن الشك في بقاء موضوعه، إما للشك في بقاء قيده المعلوم قيديته [للحكم]، أو
[لفقد] ما شك في قيديته.
وعلى أي تقدير يلازم مثل هذه عدم جريان الاستصحاب للجزم باعتبار
الوحدة بين [القضيتين] على وجه نجزم في الآن الثاني ببقاء موضوع القضية
المتيقنة. وهذا المعنى لا يناسب مع الشك المزبور.
ولكن لا يخفى ما فيه من فساد الخيال الذي أوضحناه في بحث مقدمة
الواجب في شرح الواجبات المشروطة، وأن قيود الحكم من قبيل الجهات
التعليلية له، الموجبة لضيق فرضي في الذات المانع عن إطلاقه وسعة دائرته عن
حكمه، لا أنه يقيد بها، لاستحالة تقيد الموضوع بحكمه وبما هي من [علله]
و [غاياته].
وعليه فالموضوع في الأحكام المشروطة هو نفس الذات البحت البسيط

338
القابل للبقاء في الآن الثاني حتى مع القطع بانتفاء قيد حكم من الأحكام فضلا عن
الشك [فيه].
ولئن اغمض عن هذه الجهة أيضا أمكن دعوى كفاية الوحدة العرفية بين
القضيتين، ولو من جهة تخيلهم بحسب ارتكاز أذهانهم في أحكام عرفية أخرى
كون القيد المزبور من التعليلات غير المكثرة للذوات بحدودها، أو كون الموضوع
في ارتكاز أذهانهم هو نفس الذات، غاية الأمر يشك في دخله في الخطابات
الشرعية بخصوصها أو من جهة كون الذات [محفوظة] في ضمن موضوع الأحكام
وذلك المقدار يكفي في إجراء ماله من الحكم الضمني الثابت لنفس الذات بحتا، كما
لا يخفى. وذلك كله بضميمة كون عموم " حرمة النقض " [مسوقا إلى أنظارهم]،
بل وفي الفرض الأخير لا يحتاج إلى هذه الجهة، بل الأصل المزبور يجري حتى ولو
كان العام مسوقا [إلى الأنظار] الدقيقة كما هو ظاهر.
ثم من هذه البيانات ظهر حال جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية
المستكشفة من الأحكام العقلية على القول بالملازمة المعروفة.
وتوهم عدم تصور الشك في بقاء الحكم الشرعي المنكشف من قبل الحكم
العقلي بخيال: أن مناطها حدوثا وبقاء [عين] مناط الحكم العقلي. ومن المعلوم أن
أمر مناط الأحكام دائر بين الجزم [بتحققه] [و] الجزم [بانتفائه]، لاستحالة
حكم العقل بحسن شئ أو قبحه بلا إحراز مناطه فيه بقاء وحدوثا، ولذا لا يبقى
مجال الشك في بقاء الحكم العقلي، ولم يتوهم أحد جريان الاستصحاب فيه.
مدفوع غاية الدفع بأن إحراز مناط حكم العقل بقبح شئ كما أنه قد يكون
تفصيليا قد يكون اجماليا أيضا. وفي مثله لا بأس بالشك في بقاء مناطه حتى مع
الجزم بانتفاء بعض ماله دخل في العلم بوجوده إجمالا.
وفي مثل هذه الصورة وإن [كنا] نجزم بانتفاء نفس الحكم العقلي، لأنه فرع

339
دركه المنوط بوجود جميع ماله دخل في علمه ولو إجمالا، ولكن ذلك المقدار
لا ينافي الشك [في] بقاء مناطه المستتبع [للشك] في بقاء الحكم الشرعي واقعا،
لأن الأحكام الشرعية [تابعة] للمناطات العقلية ثبوتا وإن كانت تابعة لنفسها
أيضا [إثباتا]، ولكن ذلك المقدار لا يقتضي استتباع عدمها عدم الأحكام
الشرعية في مقام الثبوت وإن [كان مستتبعا له إثباتا]، وهو غير مضر
باستصحابها، بل بمثله يتحقق موضوعه كما لا يخفى.
هذا كله، مع أنه على فرض تسليم تبعية الحكم العقلي لإحراز [مناطه]
تفصيلا نقول: إن غاية الأمر لا يتصور الشك فيه من جهة الشك في قيدية شئ
فيه، وأما الشك في بقاء المناط من جهة الشك في بقاء ما هو معلوم القيدية فهو في
غاية الإمكان وكثير الوقوع، كالشك في بقاء الصدق على مضريته أو الكذب على
نافعيته، ففي مثل هذه الصور وإن لم يتصور بقاء نفس الحكم العقلي أيضا، لكن
بالنسبة إلى ما هو مناطه المستتبع للحكم الشرعي كان للشك في بقائه كمال مجال
لولا الشبهة السابقة في إرجاع قيود الحكم طرا إلى الموضوع.
ولقد عرفت أيضا جوابه بما لا مزيد عليه.
وعليه فما يظهر عن شيخنا العلامة من استشكاله في استصحاب الأحكام
[الشرعية] المستكشفة عن [العقلية] بشبهة الشك في بقاء الموضوع وتسليم
جريانه لو كان مثل هذا الحكم ثابتا بلسان دليل لفظي (1) لا يكاد يتم إلا على
تخيل كون سوق " لا ينقض " بلحاظ الأنظار العرفية في تشخيص الموضوع في
لسان دليله، إذ حينئذ أمكن دعوى الفرق بين لساني الدليل لفظيا وعقليا، إذ في
اللفظي ربما كان الموضوع هو ذات الصدق إذا كان ضارا أو الكذب إذا كان نافعا،



(1) راجع فرائد الأصول: 650 - 651.
340
وهذا بخلاف موضوع حكم العقل، فإن لسان مثله ليس إلا قبح المضار وحسن
المنافع [المشكوكتين] بقاء على الفرض.
وإلا فلو كان سوقه بلحاظ ما يشخصونه على طبق ارتكازاتهم في
[نظائره] من أحكامهم العرفية فلا يبقى مجال التفرقة بين كون دليل الحكم لفظيا أم
عقليا.
مع أن في العقليات أيضا ربما يكون بعض القيود من قبيل التعليل بالنسبة
إلى موضوع الحكم بالقبح والحسن، نظير المضرية والنافعية [فإنهما] أيضا علل
لطرو الحكم على نفس الذات، وأن ما هو قبيح هو علة الضرر، وما هو حسن هو
علة النفع، وان عنوان النافعية والمضرية من العناوين المشيرة إلى الذوات
الخاصة، كعنوان المقدمية، غاية الأمر ليس [له] إطلاق يشمل حال فقدهما، لا
أنه مقيد بمثلها، وذلك ظاهر لمن تدبر في نظائرها.
[أدلة حجية الاستصحاب]
ثم اعلم أنه قد تكاثرت الأقوال في حجية الاستصحاب مطلقا، وعدمه
كذلك، أو التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع، أو بين الأحكام الكلية
والموضوعات الخارجية، إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في المطولات،
بحيث لا يهمنا ذكرها بل المهم تنقيح ما هو المختار بإقامة الدليل على حسب النظر
القاصر، فنقول وعليه التكلان:
إن في مثل هذه المسألة التي هي معركة الآراء خلفا عن سلف لا يبقى مجال
توهم إجماع على ثبوتها أو نفيها، كما لا مجال للتشبث ببناء العقلاء في مثلها تعبدا،
أو من جهة توهم إفادة سبق الحالة السابقة الظن ببقائها شخصيا أم نوعيا،

341
لإمكان منع ذلك. كيف! ومع استقراره لا يبقى مجال مثل هذا البحث العظيم بين
الأعاظم الذين هم بوحدتهم بمثابة ألف عاقل.
نعم مع فرض ثبوت البناء المزبور لا مجال للتشبث - في ردعهم -
بالعمومات الناهية عن العمل بغير العلم، إذ مثل هذا البناء وارد على الآيات
الناهية (1)، لأن [نتيجته] إثبات العلم بالأحكام الخارجة عن موضوع النواهي
تخصصا لا تخصيصا. ولقد شرحنا وجه عدم صلاحية الآيات الناهية
للرادعية في بحث حجية خبر الواحد [الجاري] في المقام أيضا حرفا بحرف
فراجع.
اللهم أن يقال: إن ذلك إنما يتم بناء على كون المراد من " لا تقف ما ليس
لك به علم " (2) عدم العلم بمطلق الوظيفة أعم من الواقعية والظاهرية، وإلا
فلو كان عدم العلم بالواقع فيمكن الفرق بين المقام وباب حجية [خبر] الواحد
ببناء العقلاء، لأن دليل حجية الخبر [يرفع] الشك بالواقع وهنا لا يرفع إلا
الشك [في حكم] الشك، فالشك [في الواقع] الذي هو موضوع " لا تقف " باق
بحاله، فيشمل العموم، فيردع بناءهم. ولكن ذلك بناء على كون بنائهم على
الاستصحاب من باب الأصل وإلا فعلى [الأمارية] فحاله حال خبر الواحد، كما
لا يخفى.
وأيضا لا مجال للتشبث بالحكم العقلي الظني ببقاء ما ثبت بضميمة إدخاله
في صغريات مقدمات الانسداد ولو بالنسبة إلى خصوص الأحكام في دائرتها، إذ



(1) منها ما وردت في سورة يونس الآية: 36 وفي سورة الإسراء الآية: 36 وغيرهما من
الآيات.
(2) الاسراء: 36.
342
مثل ذلك أيضا ممنوع صغرى وكبرى. كيف! وقد صار جواب مثل هذه الشبهة
من قبيل البديهيات الأولية لاشتهار أن ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم.
وما ترى من ديدن الحيوانات في مقام [رجوعها] إلى [محالها] فليس ذلك
من جهة حكم عقولها ببقاء [محالها] ظنا بضميمة [حكمها] باتباع هذا الظن، بل
من جهة [غفلتها] عن الجهات المزاحمة، لقصور أنفسها عن درك مثل هذه
الجهات، فلا جرم [تكون باقية] على [قطعها بمحالها] الموجب للحركة على وفقه
[بتخيلها]، نظير [خوفها] من المحسوسات. فهذه الحركات غير مرتبطة بعالم
القوة العاقلة المخزونة في النفوس الانسانية الموجبة لترجيح [بعض] الاحتمالات
على بعض. فلا مجال حينئذ لجعل حركة الحيوانات بحسب الظاهر على الحالات
السابقة مقياس بناء الانسان عليها، وجعله من [العقليات الارتكازية] أو
الجبليات الطبيعية غير القابلة للردع أبدا.
وحينئذ لم يبق في البين دليل إلا الأخبار الخاصة المشتملة على بعض
التعليلات الموجبة للتعدي إلى غير موردها. فينبغي حينئذ عطف عنان [القلم]
إلى ذكرها، إذ هي العمدة في الباب، ثم التكلم في مقدار دلالتها إطلاقا و [تقييدا]،
فنقول:
إن من جملتها مضمرة زرارة، قال: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء
أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال: يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام
القلب والاذن. فإذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء. قلت: فإن حرك في
جنبه شئ وهو لا يعلم؟ قال: لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ من ذلك
أمر بين، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ولكنه
ينقضه بيقين آخر... (1).



(1) الوسائل 1: 174، باب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
343
ووجه الاستدلال على حجية الاستصحاب مطلقا ظهور قوله " فإنه على
يقين... " في كونه علة لقوله " لا حتى يستيقن " أو الجزاء المحذوف لقوله " وإلا "
المستفاد من قوله " لا، حتى يستيقن ".
وقضية العلية مناسبة لتعميم اليقين غير المنقوض لكل يقين.
مضافا إلى ظهور [التعبير] في كونه في مقام إعطاء الشكل الأول من
القياس المناسب لكلية الكبرى بالنسبة إلى مغزاه الذي هو من جزئياته غالبا
بضميمة ظهور الصغرى [في بيان] حكم كلية اليقين بالوضوء، لا خصوص
وضوئه الشخصي، لظهور أمثال هذه الخطابات في إلغاء أمثال هذه الخصوصيات.
مع أن المناسب لعدم ناقضية الشك هو الاستحكام المخصوص في مطلق
اليقين بشئ، لا خصوص ما يضاف إلى وضوئه، لبداهة أن هذه الإضافة أجنبية
عن ردع الشك عن الناقضية، لعدم [دخلها] في استحكامه المانع عن انتقاضه به.
مع أن هذا التعبير وقع في كبرى لصغريات متعددة من مثل الطهارة الحدثية
تارة، والخبثية تارة أخرى، وركعات الصلاة ثالثة، وهكذا...
ومثل هذه من شواهد عدم اختصاص مثل هذه الكبرى بباب دون باب.
وبهذه الوجوه ربما يرتفع توهم كون اللام في " اليقين " في الكبرى للعهد،
كي يفيد ضرب قاعدة في خصوص اليقين بالوضوء، مع أن لازم هذا المعنى
عدم التعدي عن الوضوء إلى غيره حتى بقية الطهارات الثلاث، والحال أن
بناء الأصحاب على التعدي إليها قطعا خلفا عن سلف، ولم يستشكل في
حجية الاستصحاب في خصوصها أحد من الصدر الأول وإنما التشكيك تمامه في
حجيته في غيرها من سائر الموضوعات والأحكام، فمثل ذلك من [موهنات]
حمل اللام على العهد.
اللهم [إلا] أن يدعى أن وجه تعديتهم اشتراك حكمها في الغالب كما هو

344
الشأن في تعديتهم في الاعتناء بالشك حال العمل إلى الغسل والتيمم من النص
الوارد في خصوص الوضوء وغير ذلك.
وحينئذ لم يبق موهن للعهدية عدا الوجوه السابقة، فإن تمت فيصلح بمثلها
البناء على مخالفة القدماء من الأصحاب المنكرين لكلية الاستصحاب مع
تسليمهم حجيته في خصوص الطهارة الحدثية، إذ عمدة نظرهم إلى هذه الشبهة
من عهدية اللام، وإلا فبناء جلهم على عدم الاعتناء بخصوصية المورد [إذا] كان
الحكم فيه بلسان العلة.
فحينئذ ليس وجه عدم تعديتهم عدم الإطلاق في القضية [الطبيعية] ولو
لوجود المتيقن في مقام التخاطب، لأن مثل هذه الجهة إنما يراعى في غير ما سيق
بلسان التعليل كما هو ظاهر.
وبالجملة نقول: إن العمدة في المقام رفع شبهة عهدية اللام ولقد تقدم منا
وجوه في وهنها.
نعم قد يظهر من بعض الأساطين في كفايته (1) استظهار العموم في الكبرى
حتى على عهدية اللام بتقريب تعلق قوله: " من وضوئه " [بمدلول] " على يقين "،
لا نفس اليقين، وأن المراد أنه من طرف وضوئه على يقين، فيكون الأصغر في
القياس المزبور أنه على يقين، لا خصوص اليقين بالوضوء، فلا تضر حينئذ
عهدية اللام أيضا بعموم اليقين لكل يقين.
ولكن نقول: - مضافا إلى ظهور رجوع المجرور إلى نفس اليقين - إن مرجع
هذا التوجيه إلى اخراج " من وضوئه " عن الجهات التقييدية إلى التعليلية. ومن
البديهي أن دائرة اليقين الناشئ من قبل الوضوء يستحيل أن يكون [لها]



(1) راجع كفاية الأصول: 442.
345
عموم يشمل حال فقد علته فقهرا يراد من " اليقين " في الصغرى معنى مهملا لا
يتعدى عن دائرة اليقين بالوضوء وإن لم يكن مقيدا به، كما هو الشأن في جميع
المعاليل بالإضافة إلى عللها وفي الموضوعات بالنسبة إلى محمولاتها، فالناشئ عن
العلة هو نفس الذات لا بقيد نشوئه عنها، ولكن مثل هذا الذات لا يكون له
إطلاق أيضا يشمل ما لا ينشأ منها.
نعم قد يجعل عنوان النشوء عن العلة الخاصة من عبارته المشيرة إلى مثل
هذه الذات البحت المهملة العارية عن القيد والإطلاق، وبعد ذلك نقول:
إن عهدية اللام في الكبرى توجب الإشارة به إلى هذا اليقين المهمل المشار
إليه بكونه ناشئا عن الوضوء. ومثل هذا المعنى كيف يكون له عموم يشمل كل
يقين، فعموم مثل هذه الكبرى لا يكاد يتم إلا بجعل اللام للجنس ولو بالقرائن
المشار إليها سابقا، وبعد ذلك لا يضر بعموم الكبرى جعل " من وضوئه " من
قيود اليقين، لا من علله كما هو ظاهر. هذا.
ومنها: مضمرة أخرى لزرارة قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو
غيره أو شئ من المني... (إلى قوله) قلت: فإن ظننته أنه قد أصابه ولم أتيقن
ذلك فنظرت فلم أر شيئا فصليت فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة.
قلت: فلم ذلك؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك، فشككت، فليس
ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا. إلى أن قال: قلت: رأيته في ثوبي وأنا في
الصلاة. قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته. وإن لم
تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري
لعله شئ أوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك... الخ (1).



(1) التهذيب 1: 421، الحديث: 1335، والوسائل 2: 1061، الباب 41 من أبواب
النجاسات، الحديث 1، والصفحة: 1065، الباب 44 من الأبواب، الحديث 1.
346
ولا يخفى شهادة فقرتي الرواية صدرا وذيلا على المدعى وتطبيق القاعدة
المزبورة على المورد في الفقرة الأخيرة [ظاهر] من جهة إبداء الإمام احتمال وقوع
نجاسة جديدة من حين حدوث يقين السائل بالرطوبة، فإنه مع هذا الاحتمال
يكون المورد مورد تطبيق الاستصحاب المقتضي لعدم الإعادة، لأنها حينئذ نقض
[ليقينه] السابق بالطهارة بالشك في بقائها إلى حين علمه بالرطوبة، وحينئذ فهذه
الفقرة شاهدة حمل قوله: " وإن لم تشك " على عدم حدوث الشك في [الموضع]
مع العلم بأصله، كما هو المراد من قوله: " إذا شككت في [موضع] منه ثم رأيته "
المحكوم فيه بنقض الصلاة وإعادتها.
وأما تطبيق هذه القاعدة على مورد [السؤال] في الفقرة السابقة ففيه شوب
إجمال لاحتمال أن يكون مراده من النجاسة المرئية هي المظنونة سابقا، فإنه
حينئذ [لا تكون] الإعادة نقض يقين بالشك بل هو نقض يقين بيقين.
وعليه فلا محيص من حمل هذه الفقرة أيضا على فرض رؤيته النجاسة
[المحتمل] وقوعها من حين الرؤية ولو بقرينة الفقرة الأخيرة، وأن فارقهما [محض
الرؤية] بعد الصلاة أو حينها مع شركتهما في سائر الجهات.
ويؤيد ذلك [تغيير] أسلوب العبارة في هذه الفقرة والفقرة السابقة [عليها]
بقوله " وجدته " في الأولى، و " رأيت " - بلا ضمير يحكي عن سبق العهدية - في
الثانية، فله حينئذ كمال الملائمة مع كون المرئي النجاسة المحتمل وقوعها في الحين، لا
أنه هو المظنون سابقا كي يجئ الإشكال السابق، هذا.
ولكن ربما يوهن مثل هذه الجهة سؤال السائل عن التفرقة بين الفرعين
بقوله: " لم ذلك؟ "، إذ بناء على هذا الاحتمال لا يبقى مجال الاستيحاش للسائل مع
ارتكازية الاستصحاب في ذهنه بظهور قوله: " لا ينبغي لك أن تنقض اليقين
بالشك "، فليس ذلك المسؤول [عنه] إلا [دليلا] على كون مراده من النجاسة

347
النجاسة المظنونة سابقا.
[و] عليه فيشكل أمر تطبيق مثل هذه القاعدة على المورد بالتقريب
السابق، خصوصا مع ظهور التعليل في أن تمام المناط في عدم الإعادة هو
الاستصحاب لا أنه جزء [المناط] ومقدمة لكبري [هي] العلة من مثل قاعدة
الاجتزاء في الأمر الظاهري أو شرطية نفس الطهارة الاستصحابية في خصوص
المورد واقعا، إذ بعد عدم ارتكاز ذهنه بمثل هذه التعبديات المحضة لا يبقى مجال
التعليل بمثل الاستصحاب الذي بحسب ارتكاز ذهنه لا يفيد شيئا في المقام، ولا
مجرى له فيه ابدا.
وتوهم أن التعليل بالاستصحاب في مثل هذا المورد يلازم إنا كفاية
الطهارة الظاهرية في الشرطية أو في عدم الإعادة، [فكانت] دلالة مثل هذا
التعليل على المدعى [المبنية] على كبرى أخرى من باب دلالة الإيماء الحاصل من
ضم كلام غير مرتبط بكلام آخر، كدلالة الآيتين على أقل الحمل، مدفوع بأن
ذلك كذلك لو كان لسان التعليل جريان الاستصحاب في المورد تعبدا لا بلسان
[أن] جريانه في المقام على حسب ارتكاز ذهنه، إذ مثل هذا المعنى متفرع
على كون الكبرى الأخرى أيضا [ارتكازية]، وإلا فللسائل أن يقول بأن
الاستصحاب في المقام مع الجزم بمخالفته للواقع غير مفيد كما أشرنا إليه سابقا.
وعلى هذا فربما [تقع] المعارضة بين هذا الظهور الموجب لحمل النجاسة في
المقام أيضا على ما هو محتمل وقوعه من الحين - نظير الفرع الآتي - وبين الظهور
الثاني الموجب لحملها على المظنونة سابقا، فحينئذ لا [تخلو] الرواية عن شوب
إجمال من جهة تهافت بين الاحتمالين.
نعم قد يتوهم رفع إجمال الرواية باستحالة جريان الاستصحاب في المورد
في ظرف عدم ترتب أثر على الطهارة الواقعية، فلا محيص من حمل الرواية على

348
النجاسة [المحتمل وقوعها] من الحين ورفع اليد عن إشعار استيحاش السائل عن
التفرقة بين الفرعين.
وقد يجاب عنه تارة بكفاية شرطيتها فيها اقتضاء، وأخرى بكونه من قيود
إحرازها. ويكفي هذا المقدار في جريان الأصل لكونه قيد [القيد] في الموضوع
وهو مثل قيده.
ولكن لا يخفى ما في الجوابين من [النظر]، إذ مجرد اقتضائه الشرطية ما لم
[يبلغ] الاستصحاب إلى مرتبة الفعلية لا يكاد يترتب عليه أثر عملي وبدونه
لا يجري الأصل وإن كان شرطا شرعيا اقتضائيا.
وأما كونه قيدا للإحراز ففيه: أن ما هو قيده هو وجوده الاعتقادي المقوم
للاعتقاد المنعدم جزما بانعدام اعتقاده. وأما وجوده الواقعي المشكوك ولو حين
الصلاة فهو لم يكن قيدا أصلا.
مع أنه على فرض قيديته يلزم في المقام بطلان صلاته أيضا، للجزم
بانعدامه حسب الفرض، كما لا يخفى.
ونظير هذا الجواب في الاختلال دعوى كون الشرط [هو] الجامع بين
الطهارة الواقعية والظاهرية، إذ من المعلوم أن شرطية الجامع لا تقتضي جريان
الاستصحاب في خصوص [طهارة] كما هو الشأن في صورة ترتب الأثر على
الانسان، فإنه لا يوجب جريان الأصل في شخص زيد.
وعليه فلا [تكون] في البين طهارة استصحابية كي [بها] يتحقق أحد
فردي الجامع.
نعم قصارى ما يتخيل في حل هذه الجهة من الإعضال هو أن يدعى
[كفاية] شرعية الطهارة في [نفسها] لجريان الاستصحاب فيها ولو بلحاظ
[نفسها]، ثم يدعى أن الطهارة المستصحبة ولو بلحاظ [نفسها] شرط واقعي
للصلاة.

349
ولكن لا يخفى أن هذه الجهة أيضا فرع كونها من الأحكام الشرعية
الوضعية، وإلا فعلى [كونها] من الأمور الواقعية المكشوفة بنظر الشارع لا يبقى
مجال [استصحابها] بعد فرض عدم ترتب أثر [عليها] غير صحة هذه الصلاة.
وعليه فلا محيص في دفع المحذور المزبور إلا الالتزام بأن ما هو شرط في
الصلاة ليس إلا الطهارة الواقعية وأن استصحابها في مقام العمل يوجب تدارك
مرتبة من مصلحتها وتفويت محل تدارك البقية، وأن منشأ عدم الإعادة من جهة
فوت محل التدارك لا من جهة حصول [شرطها].
فإذا قلت: إن ظاهر الرواية أن عدم [اعادتها] من جهة تحصيل الصلاة
وصحة المأتي به ولو من جهة وفائه بمرتبة من مراتب غرضه لا من جهة فوت محل
تدارك تمام الصلاة رأسا، وحينئذ فنقول: إن قضية وفاء الطهارة ولو بمرتبة من
المصلحة كونها في عرض الطهارة الواقعية في الوفاء بهذه الجهة، فحينئذ إما أن
نلتزم بوفاء كل منهما - بخصوصيتهما - [بذلك] أو بجامعهما. فعلى الأول يلزم
صدور الواحد من المتكثر مع أن البرهان قاض بخلافه. وعلى الثاني يلزم كون
الشرط هو الجامع بينهما، فلا تنتهي النوبة إلى الطهارة المستصحبة، كما عرفت.
قلت: إن هذه الشبهة مبنية على توهم كون الشرائط الشرعية أيضا من
المؤثرات الحقيقية ولذا استوحشوا في تصوير الشرائط المتأخرة واحتاجوا إلى
توجيه ما ورد في الشرع بهذا المساق. وإلا فبناء على ما حققناه - في بحث الشرط
المتأخر - من رجوع الشرائط الشرعية إلى مالها دخل في خصوصية الماهية التي
بهذه الخصوصية كانت قابلة للوجود [بنفسها] وإنما [هي] ذات مصلحة ويعبر
عنها [بمعطيات] القابلية في الرتبة السابقة على الوجود، فهي غير [مرتبطة]
بالمؤثرات الوجودية. وفي [مثلها] كما يصح تقدمها على المشروط بها أو تأخرها
زمانا كذلك، لا بأس بالالتزام بدخل كل واحد منهما بخصوصهما في الأثر: إما

350
مجتمعا كالتستر والقبلة أو بنحو التبادل مثل ما نحن فيه، لعدم وفاء البرهان المزبور
بشئ في مثل المقام.
وعلى هذا فلا بأس بالالتزام بشرطية كل منهما بخصوصه، غاية الأمر بنحو
ترتب الثاني على عدم الأول كما هو ظاهر.
وعلى ذلك فلا يبقى مجال [الشبهة] في الرواية من هذه الجهة، ولازمه ما
ذكرنا من تزاحم الاحتمالين السابقين الموجب لإجمال الرواية في مرحلة تطبيق
مثل هذه القاعدة على المورد، وإن كان هذا المقدار غير مضر بعموم أصل الكبرى
وكونها من مرتكزات مثل زرارة حيث قال (عليه السلام): " لا ينبغي لك أن تنقض اليقين
بالشك ".
وتقريب التعدي عن موردها من الطهارة الخبثية إلى غيرها بعين ما ذكرنا
سابقا.
ومنها: صحيحة ثالثة لزرارة: " وإن لم يدر في ثلاث هو أو أربع وقد أحرز
الثلاث قام فأضاف إليها ركعة أخرى ولا شئ عليه ولا تنقض اليقين
بالشك... " (1).
وتقريب الاستدلال كما تقدم واضح، إنما الإشكال فيه في تطبيق الأصل
على الركعة المشكوكة مع أنه خلاف بناء الأصحاب والإمامية من عدم البناء فيها
على وفق الاستصحاب الموجب للحمل على الأقل، لما ورد فيه من وجوب البناء
فيها على الأكثر والإتيان بركعة مفصولة بتكبيرة مستقلة وسلام بعد السلام
[من] الركعة المشكوكة، مخيرا في ذلك أيضا بين الركعتين جالسا [و] ركعة
قائما.



(1) الوسائل 5: 321، الباب 10 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 3.
351
ولكن يمكن أن يقال: إن مجرد الإشكال في مرحلة التطبيق - ولو من جهة
حمله على التقية - غير مضر بالاستدلال وبمشروعية أصل الكبرى كما هو الشأن
في حديث الرفع، حيث طبقه الإمام (عليه السلام) تقية على الحلف بالطلاق والعتاق
والصدقة بما يملك (1)، ومع ذلك لم يضر ذلك في مشروعية أصل الكبرى.
وتوهم أن احتمال التقية في مرحلة التطبيق معارض [باحتمالها] في أصل
الكبرى بعد الجزم بإعمال تقية في البين. [فكيف يصح] التمسك بالكبرى؟
مدفوع بأنه كذلك لو [كانت] أصالة الجهة في [طرفه]، ومعه لم ينطبق حتى
مع فرض كون الكبرى تقية مما [لا] يترتب عليه أثر عملي. وإلا فلا مجال
لجريان أصالة الجهة فيه فيبقى الأصل المزبور في أصل الكبرى بلا معارض بلا
إحراز العلم الاجمالي بوجود التقية في البين، كما لا يخفى.
ثم لو اغمض عن تلك الجهة يمكن بطريق آخر [توجيه] الاستدلال
بالرواية على وفق مذهب الخاصة بأن مجرد [تطبيق الأصل] المزبور على صرف
إتيان الركعة بضميمة تخصيص عموم الأصل بالنسبة إلى مانعية التشهد والسلام
والتكبير في البين بخصوص " الا أعلمك " لا يكون تقية، غاية الأمر يقتضي ذلك
- بعلاوة التخصيص المزبور - تعبدا في نظر التنزيل بلحاظ بعض مراتب الطلب
الجامع مع التخيير أيضا بقرينة ما ورد من دليل التخيير [بينها] وبين الركعتين
جالسا كما هو [ظاهر].
ولكن الانصاف أن اقتضاء الاستصحاب بهذا البيان إتيان الركعة المندكة
في ضمن الهيئة الاتصالية ينافي الركعات منفصلا عنها مما لا يساعد [عليه]
العرف وإن لم يكن في تطبيقه بحسب الدقة العقلية قصور.



(1) راجع الوسائل 16: 136، الباب 12 من كتاب الأيمان، الحديث 12.
352
ولئن شئت قلت: إن وجوب ذات الركعة بعدما كان في ضمن وجوب ترك
التشهد والسلام والتكبير [فإتيانها] مستقلا عن سائر الوجوبات الاخر بل وعن
بعض مراتبها بالأصل المزبور من قبيل إثبات بعض مراتب الطلب المندك في
ضمن الشديد دقة المباين معه عند الاستقلال عرفا، وفي مثله لا يجري
الاستصحاب جدا كما لا يخفى.
ومنها: قوله (عليه السلام): " كل من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه
فإن الشك لا ينقض اليقين... " (1).
والتقريب كما تقدم إلا أنه قد يستشكل فيه باحتمال [رجوع] الضمير في
الكلام المستند فيه إلى متعلق اليقين دقة لا مسامحة ومعه لا يرتبط بالاستصحاب،
ولا جامع بينهما كما هو واضح، لأن قوام الكلام بإرجاع شخص الضمير في مقام
تعلق الشك بما تعلق به اليقين دقة أم مسامحة، ومع الاحتمال المزبور يبطل
الاستدلال، ولا يرفع هذه الجهة من الاحتمال إلا دعوى ظهور مثل تلك العبارة
- بقرينة سائر الروايات المعلوم مرادها بقرينة مواردها - في الاستصحاب
[المعروف] فإن تم ذلك فهو، وإلا - ولو من جهة عدم صلاحية القرينة المنفصلة
لرفع الاجمال [في] كلام آخر - لا مجال للتشبث بمثله.
ومجرد تنزيل مغايرة زمان الشك مع اليقين في صدره على الغالب أو على
[سبق المراتب] (2) لا يوجب ظهورا في الاستصحاب غاية الأمر رافع لظهوره



(1) المستدرك 1: 228، الباب الأول من نواقض الوضوء، الحديث 4.
(2) جاء في الأصل على الغالب أو على كسب المرآة لأن مرتبته لا يوجب... وانما عدلنا إلى
ما أثبتناه بالنظر إلى ما جاء في تقريراته (رحمه الله) راجع نهاية الأفكار القسم الأول من الجزء
الرابع: 64.
353
في دخل مغايرة الزمانيين في الحكم، وهذا المقدار لا يجدي في دفع الاحتمال
الطارئ من جهة أخرى، كما هو ظاهر.
ومنها: خبر الصفار عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟
فكتب: " اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وافطر للرؤية " (1).
وتقريب الاستدلال بحمل " اليقين " فيه على وجود شعبان أو على عدم
وجود رمضان وجريان الاستصحاب [فيهما].
ولكن لا يخفى أن الاستصحاب الجاري في المقام - وجوديا أو عدميا -
منحصر باستصحاب مفاد " كان التامة " و " ليس التامة "، وإلا فاستصحاب
مفاد " كان الناقصة " الموجبة لإثبات كون المشكوك من شعبان أو عدم كونه
من رمضان فغير جار قطعا، لعدم إحراز الحالة السابقة. والغرض أن بقاء شعبان
أو عدم وجود [رمضان] أيضا غير مثبت لكون الزمان المشكوك من [أيهما]
فكان من قبيل كرية الماء الموجود [غير] المحرز باستصحاب وجود الكر في
الحوض.
فإذا كان كذلك فنقول: إن الاستصحابين المزبورين إنما يثمران على فرض
ترتب الأثر على مفاد كان التامة من [عدم] وجود رمضان أو وجود شعبان،
وليس الأمر كذلك، كيف! وعدم وجوب الصوم هو من آثار كون الزمان من
شعبان أو عدم كونه من رمضان لا من آثار مجرد بقاء وجود شعبان في العالم أو
عدم وجود رمضان كذلك. وحينئذ فكيف يثمر [الاستصحابان]؟
وعليه فلا مجال لتطبيق مثل هذا المقام على مفاد الاستصحاب، بل من
الممكن كونه ضرب قاعدة مستقلة دالة على [ترتب] وجوب الصوم على اليقين



(1) الوسائل 7: 184، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 13.
354
بالرمضانية لا عدمه على بقية الشعبانية وإلى ذلك أيضا نظر الطوسي في
الكفاية (1).
ومنها: قوله: " كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام ". (2)
بتقريب أن كلمة حتى تدل على استمرار الحلية إلى زمان العلم تعبدا.
ولا نعني من الاستصحاب إلا ذلك.
أقول: لا يخفى أن تلك القضية إن كانت في مقام الحكاية عن الإنشاءات
الواقعية - ولو بقرينة التطبيق في [ذيلها] على مورد اليد وغيرها من الأمارات
والأصول الموضوعية غير [المناسبة] مع كون القضية بنفسها في مقام صرف جعل
الحلية بعنوان مشكوك الحكم - فلا غرو في استفادة القواعد المتعددة من [مثلها].
منها: جعل الحلية للشئ بعنوانه.
ومنها: جعل الحلية الظاهرية له في مرتبة متأخرة عن الشك [في] حكمه.
ومنها: جعل استمرار تلك الحلية إلى زمان العلم.
كل ذلك بمقتضى إطلاق الحلية المحكوم فيها للأعم من الواقعي والظاهري
بضميمة إطلاق الاستمرار الظاهري بالنسبة إلى الحلية الواقعية، فارغا عن ثبوته
بالنسبة إلى الظاهرية، بمعنى [جعلها جارية مستمرة] في نظر واحد، إذ لا قصور
في القضية المزبورة في مقام الحكاية عن هذه الإنشاءات المختلفة من دون لزوم
محذور فيه من مثل: اجتماع اللحاظين في [مفادها]، كما لا يخفى.
ومن هنا ظهر أيضا أن في استفادة الحكم الواقعي والظاهري من المغيا يكفي
مجرد إطلاق المحمول بالنسبة إلى أثر مجعول في رتبة سابقة [على] الشك [فيه] أو



(1) راجع كفاية الأصول: 452.
(2) الوسائل 12: 60، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
355
لاحقة [له] مع حفظ ظهور " الشئ " في خصوص العنوان الأول للمحكوم عليه
المستتبع لجعل التشكيك [في] حكمه من الجهات التعليلية للحكم الظاهري لا
[التقييدية] بلا احتياج فيه إلى تعميم الشئ للعناوين الظاهرية أيضا أو التعميم
لذات ملازم للشك [في] حكمه فيتعدى إلى غيره أيضا بعدم القول بالفصل، كي
يرد على الأول عدم صلاحية " الشئ " لمثل ذلك التعميم، كيف! وإلا فيلزم كون
مجمع العناوين المتعددة أشياء متعددة، وهو كما ترى.
ويرد على الثاني أن مجرد [ملازمة] " الشئ " لعنوان " مشكوك الحكم " لا
يقتضي كون الحكم الثابت بعنوان ذاته حكما ظاهريا بل هو حكم واقعي محض،
كما لا يخفى.
نعم بناء على ما ذكرنا: لا يكاد يستفاد من الرواية الاستصحاب بالمعنى
المشهور ب‍ " إبقاء ما كان "، وسيأتي إن شاء الله في محله الإشارة إلى عدم صلاحية
هذا المعنى للحكومة على سائر الأصول الشرعية ولا حكومة الأصل السببي منه
على المسببي، وإنما الشؤون المزبورة مرتبة على التعبد بإبقاء اليقين بما كان عند
الشك وأن النقض - في اعتبار نقض اليقين - متعلق بنفس اليقين بملاحظة ما
يترتب عليه من الآثار العملية بلا جعله طريقا لإيصال [النقض] إلى المتيقن
واقعا، فانتظر لشرح تلك الجهة في طي التعرف لوجه تقديم الاستصحاب على
سائر الأصول.
وأما لو كانت القضية المزبورة في مقام بناء الحكم بالحلية المستمرة إلى
زمان العلم ففي استفادة القواعد الظاهرية - علاوة على إشكال تطبيق الإمام إياه
على مورد الأمارة والأصول الموضوعية - إشكال، وذلك لأن من المعلوم أن
الحلية بعد فرض كونها مجعولة بهذا الكلام يستحيل أن يكون [لها] عموم
شامل للواقعية والظاهرية، لأن قضية وحدة الجعل كون المجعولين في رتبة

356
واحدة، والمفروض أن جعل الحكم الظاهري بعد الفراغ عن ثبوت حكم واقعي
من جهة أخذ الشك [فيه] في موضوع الحكم أو جهة تعليلية له.
وبهذا الوجه أيضا نقول: بأن الحكم باستمرار الشئ ظاهرا أيضا لا بد
وأن يكون في ظرف الفراغ من حدوثه واقعا ولذا يستحيل أن يكون
الاستصحاب أيضا مجعولا بعين جعل مستصحبه وفي ضمنه، بل لا بد وأن يتعلق به
جعل مستقل في ظرف الفراغ عن وجود مستصحبه واقعا وجعله.
وعليه فنقول: إن في مثل تلك القضية المشتملة على المغيا والغاية وإن أمكن
[اشتمالها] على الجعلين المستقلين، أحدهما متعلق بذات المغيا والآخر بالغاية بضم
كون الغاية في طول جعل [مغياها]، ولكنه خلاف ظاهر القضية من جهتين:
[إحداهما] أن ظاهر أمثال تلك القيود المأخوذة في الكلام ملحوظة تبعا
للمعنى أعم من أن [تكون] الجملة في مقام الحكاية عن الواقع أو في مقام إيقاع
نفس المعنى وانشائه، فلا جرم يكون القيد المأخوذ في الجملة الإنشائية متعلق
إنشائية المقيد به ضمنا، وليس متعلق إنشاء مستقل. وحينئذ فجعل مثل تلك
الغاية بحسب إنشاء مستقل في طول إنشاء مغياه خلاف الظاهر.
وثانيتهما أنه لو كان مثل تلك الغاية في مقام إنشاء استمرار المغيا فلا بد وأن
يكون المراد استمراره الادعائي لاستحالة بقاء الشئ حقيقة في الرتبة المتأخرة
عن الشك [في] نفسه، فلا محيص من جعل استمراره ادعائيا، وهو أيضا خلاف
الظاهر. وحينئذ فحفظ ظهور الغاية من الجهتين لا يمكن إلا بجعل المغيا حلية
ظاهرية كي يكون بوجودها الخاص المستمر مجعولا بجعل واحد متعلق بالمغيا
والقيد ضمنا، ولازمه عدم إفادة القضية إلا مفاد " [قاعدة] الحلية " ليس إلا، بلا
استفادة حكم واقعي ولا استصحابه من [مثلها] أصلا.
نعم ما ذكرنا في عالم الإمكان [يقيني]، ولكن أنى لنا بإثباته؟ كما أن

357
ما هو ممكن أيضا هو خصوص الحكم الواقعي واستصحابه أو مفاد القاعدة
واستصحابها عند الشك في بقائها.
أما الأول فهو واضح كما عرفت تقريبه. وأما الثاني ف‍ [بأن] يراد من
الحلية المجعولة خصوص المجعول في مرتبة متأخرة عن الشك [في الواقع] بنحو
الاجمال فيه بلا إطلاق فيه وبلا احتياج في ظاهريته إلى رجوع الغاية إليه، بل
أريد من الغاية الحكم باستمرارها مستقلا إلى زمان العلم بالنجاسة بحيث
يكون العلم المزبور رافعا لموضوع المستصحب وكان غاية لاستصحابه أيضا من
جهة استلزامه الجزم بانتفاء المستصحب الشخصي وإن كان الشك في بقاء
الحلية للطبيعة المشكوكة باقيا حتى مع العلم بالقذارة الشخصية، وأن غاية
استصحابه ليس إلا العلم بنسخه، لكن يكفي - لجعل العلم بالقذارة أحيانا غاية
الاستصحاب المزبور - ملاحظة شخص القضية الحاكية عن فعلية الحلية الظاهرية
في شخص المشكوك حكمه، فإنه لو شك في بقاء مثل هذا الحكم في الآن الثاني
والثالث وهكذا لا بأس باستصحابه ما لم يقطع زوال المستصحب ولو بزوال
موضوعه أو علته.
وعليه فلا بأس بإمكان الجمع بين القاعدة والاستصحاب في مدلول هذه
القضية بلا لزوم محذور فيه من اجتماع النظرين في مفاد القيد، إذ ذلك إنما يلزم لو
كان وجه ظاهرية الحلية المجعولة في صدر القضية إرجاع الغاية [إليها] ثم
ملاحظتها مستقلا في مقام استصحابها، إذ حينئذ يلزم كون قيد واحد ملحوظا
فيها ضمنا واستقلالا في طي إنشائه وهو محال.
وأما بناء على تقريبنا من جعل قوام ظاهرية الحلية ملاحظتها في مرتبة
متأخرة [من] الشك [في الواقع] بلا ارجاع القيد [إليها] في مقام [انشائها]، بل
كان القيد المزبور متعلق إنشاء مستقل به في مرتبة متأخرة عنه، فلا يرد محذور

358
فيه أصلا، غير أنه خلاف ظاهر القضية من الحيثيتين السابقتين.
نعم في استفادة القواعد الثانية من جعل الحلية الواقعية والظاهرية
واستصحابهما كمال إشكال، وذلك أيضا لا من جهة اجتماع اللحاظين في طرف
القيد، بل من جهة استحالة إطلاق المحمول الواحد المأخوذ في طي إنشاء واحد
لمرتبتي الواقع والظاهر كما عرفت وجهه.
ومن هنا ظهر أيضا بطلان استفادتهما ولو من ناحية إطلاق الموضوع
بالنسبة إلى العناوين الطارية أو إطلاقه بالنسبة إلى شخص ذات ملازم للشك في
حكمه، إذ مثل هذا الاطلاق مستحيل في عرضية واحدة الانشاء وطولية
المنشأ (1).
مضافا إلى منع إطلاق الأول وإلا يلزم أن يكون الواحد المجمع للجهات
أشياء متعددة، وعدم إثمار الثاني، لأن الحكم الثابت للذات الملازم مع الشك [في]
حكمه لا يخرج عن واقعيته، كما لا يخفى.
ومن التأمل في ما ذكرنا ظهر تقريب الاستدلال بعموم " كل شئ
طاهر " (2) إلا أن فيه شبهة أخرى حتى على فرض خبريته حيث إن الطهارة
الظاهرية لا [تكون] حقيقية من جهة محذور اجتماع الضدين أو المثلين حتى مع
اختلاف الرتبتين، بل لا بد وأن [تكون] ادعائية. وبعد ذلك لا [تصلح]
مقدمات الإطلاق [لإثباتها].
نعم بناء على كونهما انتزاعيين عن الحلية والحرمة فلا يكاد حينئذ [يرد]



(1) الظاهر أنه يريد أن يقول: " إن مثل هذا الاطلاق يستحيل أن يكون في عرض واحد مع
الانشاء وفي طول المنشأ أيضا ".
(2) المستدرك 2: 583، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 4.
359
مثل هذا الإشكال أيضا، لعدم التضاد بين الحرمة الواقعية مع الحلية والترخيص
الحقيقي الظاهري، كما لا يخفى على من راجع كلامنا في وجه الجمع بين الأحكام
الظاهرية والواقعية.
هذا كله مضافا إلى اختصاص مثل هذه الرواية بظهور [كونها] في مقام
إنشاء الحكم الآبي من [استفادة] غير مفاد القاعدة [منه] بخلاف مفاد " كل شئ
لك حلال "، فإنه بقرينة تطبيقها على الأمثلة في [ذيلها] لا يمكن تصحيحها إلا
بجعل القضية في مفاد الحكاية عن إنشاءات عديدة [للعناوين] المتعددة، وبعد
ذلك فلا غرو في استفادة تبعية القواعد المعهودة أيضا من إطلاقها.
وتوهم أن استفادة الاستصحاب منها أيضا فرع كون الاستمرار ادعائيا،
لعدم قصور حقيقته بالنسبة إلى الحكم الواقعي بالإضافة إلى مرتبة الظاهر وهو
لا يناسب مع كونه بمعناه الحقيقي واستمرارا حقيقيا بالنسبة إلى الحكم الظاهري
مدفوع ب‍ [أنه] بعد فرض إطلاق المعنى للحكم الواقعي والظاهري يكفي ذلك
قرينة على كيفية تطبيق الاستمرار في مورده الادعائي والحقيقي، ولا قصور في
ذلك بعدما كان من باب الدالين. وما استشكلناه سابقا في استفادة الفردين
المزبورين من الإطلاق إنما هو في صورة عدم وجود قرينة خارجية على كيفية
تطبيق العنوان على الفردين، وقلنا بأن مجرد الإطلاق [بمقدماته] لا يقتضي مثل
[تلك] التوسعة في عالم التطبيق، كما لا يخفى على من له نظر دقيق.

360
[تنبيهات الاستصحاب]

361
بقي التنبيه على أمور:
[1 - عموم حجية الاستصحاب]
[المستصحب الوجودي والعدمي]
منها: أن الظاهر من عموم " اليقين " في أخبار الباب عدم الفرق في حجية
الاستصحاب بين كون المستصحب وجوديا أو عدميا.
وتوهم أن الأعدام - خصوصا الأزلية منها - ليست من الآثار الشرعية
ولا لها أثر شرعي في فرض ترتب الأثر على وجود شئ، مدفوع بأن الأثر الكافي
في صحة الاستصحاب ما كان أمر وضعه ورفعه بيد الشارع وإعدامه أيضا كذلك.
ثم لو فرض ترتبه على وجود موضوع خارجي فكما أن له إبقاء هذا
الوجود بلحاظ ترتب ماله من الوجوب، له أيضا البناء على عدمه بلحاظ رفع
وجوبه، ومن جهة ذلك نقول: إن في استصحاب طرفي النقيض يكفي ترتب الأثر
على أحدهما بلا احتياج إلى ترتبه على كليهما.
[المستصحب الثابت بالاجماع وغيره]
وأيضا لا فرق في حجية الاستصحاب بين كون المستصحب ثابتا من إجماع
أو غيره ولا بين ما كان الدليل عليه حكم العقل بمناط الملازمة وغيره، إذ بعد

363
فرض صدق عموم اليقين بشئ والشك [فيه] عرفا ودقة في بعض المقامات أيضا
- على ما أسلفنا سابقا - لا وجه لتخصيص حجية الاستصحاب حينئذ بحال دون
حال.
[الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية]
وأيضا لا فرق في حجيته بين الشبهات الموضوعية والحكمية.
وتوهم اختصاص مورد غالب الأخبار بالأول مدفوع بأن قضية التعبير
بلسان التعليل أو الكبرى بالكلية [تمنع] عن الاقتصار في مدلوله بمورده ولقد
أشرنا [إلى] شرح ذلك في طي تقريب الاستدلال بها.
وتوهم معارضتها بعمومات وجوب الاحتياط في مطلق الشبهات الحكمية
أوضح دفعا، لحكومة الاستصحاب عليها، مع [أنها لا تمنع] إلا عن حجية النافية
لا المثبتة.
[الاستصحاب في الشك في وجود الرافع ورافعية الموجود]
وأيضا لا فرق بين كون الشك في الرافع وجودا أو رافعية الموجود.
وتوهم أن في الثاني يصدق نقض اليقين باليقين، بوجود ما يصلح للناقضية
في غاية [الدفع]، إذ الظاهر من القضية المزبورة اتحاد متعلق اليقين والشك
واليقين الآخر الناقض، لا كل يقين بشئ يصلح للناقضية.
[الاستصحاب في الشك في المقتضي وفي المانع]
وأيضا لا فرق في حجيته بين كون الشك في بقاء المستصحب من جهة الشك
في المقتضي أو في المانع.

364
وتوهم عدم صدق النقض إلا في ما له جهة استمرار حقيقة أو حكما ولو
من جهة بقاء مقتضيه: إما من جهة أن مادة النقض عبارة عن قطع الهيئة
الاتصالية والاستمرارية، أو ملاحظة أن حفظ وحدة المتعلق في الوصفين
يقتضي حفظ المقتضي في الزمان الثاني كي يصدق بالعناية " اليقين بوجوده
كذلك " فيصير هذا الوجود متعلقا للشك دقة مدفوع.
أما [التقريب] الأول فبمنع كون المصحح صدق النقض. كيف! ولا اطراد
لصدقه في نظائره، [وإنما] المصحح هو جهة إبرام في المتعلق على وجه يضاد مع
انقضائه ونقضه، بشهادة صدقه في كل مورد كان فيه مثل هذا الإبرام حقيقة أم
عناية كالغزل والبيعة والعهد وأمثالها، ومنها اليقين المأخوذ من مادة الإيقان من
الإحكام المنتزع عن بعض مراتب الجزم الذي لا يزول بالتشكيك ولا ينقضه
الشك. وبهذه العناية أطلق اليقين على مطلق قطعه في المقام تنبيها على أن قطعه
حينئذ مطلقا في هذا الباب يقين لا ينقضه الشك، حفظا لمناسبة عدم النقض مع
اليقين دون مطلق مراتب الجزم، ولذا لا يضاف النقض إلى لفظ القطع فضلا عن
الظن والشك.
وما أطلق من لفظ النقض في أخبار الباب أحيانا في مورد الشك إنما هو من
باب الازدواج نظير (1) وقميصا.
وعليه فلا وجه لاعتبار بقاء المقتضي في الزمان الثاني توطئة لصدقه
وتصحيحا له كما هو ظاهر.
وأما التقريب الثاني فبمنع الاعتبار بمثل هذا الاعتبار بعد اكتفاء العرف في
وحدة متعلق الوصفين بصرف بقاء ذاته كذلك.



(1) هنا كلمة ممسوحة في الأصل.
365
ومن التأمل في ما ذكرنا أيضا ظهر عدم الفرق بين كون المستصحب مغيا
بغاية شك في [تحققها] وغيره على ما هو المحكي عن المحقق الخوانساري (1)
خصوصا مع نسبة التفصيل السابق إليه.
و [منه] يعلم أن النسبة بين [هذا] التفصيل والتفصيل السابق عموم من
وجه.
[الاستصحاب في الجعليات الشرعية والعقليات المنتزعة منها]
وأيضا لا فرق بين كونه من الجعليات الشرعية أو الأمور العقلية المنتزعة
منها، لما عرفت من أن الأثر الشرعي المصحح لجريان الأصل المزبور مطلقا ما
كان أمر وضعه ورفعه - ولو بالتوسيط من جهة كون وضع منشأه ورفعه - بيده.
وعليه فلا ينبغي - مع وجود الكبريات الكلية في المقام - المصير إلى واحد
من التفصيلات المذكورة في المطولات، بل هو حجة مطلقا.
[2 - وجوب البناء على إبقاء نفس اليقين دون المتيقن]
ومنها: أن الظاهر من وجوب البناء على اليقين ومن إسناد النقض إلى
" اليقين " وجوب البناء على إبقاء نفس اليقين دون المتيقن، نظرا إلى ظهور أخذه
بنفسه في متعلق النقض.
وجعل مثل هذا العنوان كعنوان " الخطأ والنسيان " في حديث الرفع طريقا
إلى ما يتعلق به اليقين كطريقية الوصفين لما أخطئ وما نسي مما لا وجه [له] في



(1) راجع فرائد الأصول: 560 و 625.
366
المقام ولا داعي له بعد كونه خلاف ظاهر لا يصار إليه إلا بدليل.
وتوهم أنه يكفي دليل " عدم ترتب أثر شرعي [إلا] على اليقين الطريقي "
والحال أن متعلق النقض لا بد وأن يكون له أثر شرعي أو مما له أثر كذلك،
مدفوع بمنع التنزيل المعول [عليه] في المقام بلحاظ مجرد الأثر الشرعي بل تمام
النظر فيه إلى الآثار العملية وما يترب عليه من الأعمال.
ومن البديهي أن الأعمال المترتبة على الآثار الشرعية طرا بتوسيط اليقين
بها. وبهذه الملاحظة صح إضافة الأعمال المزبورة إلى اليقين أيضا.
وبعد ذا فلا بأس بكون نظر التنزيل إلى ما يترتب على نفس اليقين من
الأعمال الشرعية كما هو الشأن في لسان تتميم الكشف في مورد الطرق والأمارات
بلا احتياج فيها أيضا إلى توجيه التنزيل إلى نفس المؤدى والمظنون.
و [بمثل] هذا البيان [ربما] يصحح الاستصحاب في موارد يكون الشك في
بقاء المستصحب موجبا للشك في القدرة في [امتثال] حكمه كاستصحاب حياة
زيد لإثبات وجوب ضيافته وإكرامه. وأيضا [يصحح] الاستصحاب في نفس
الجامع بين الأحكام حتى في مورد لم يترتب عليه إلا حكم العقل بوجوب امتثاله،
بل وبذلك أيضا تصحح الحكومة على الأصول الشرعية الأخرى، و [يقدم]
الجاري في السبب على الجاري في المسبب، وإلا فعلى المشي الآخر يشكل أمر
التقديم بمناط الحكومة أو غيره على ما سيجئ شرحه.
وهم ودفع:
لعلك تقول: إن لازم اعتبار الاستحكام في متعلق اليقين أيضا إبقاء
" اليقين " على ظهوره في موضوعيته، وإلا فلو جعل ذلك طريقا إلى متعلقه فربما
يكون فيه جهة إبرام مصحح لإضافة النقض إليه.
ودفعه بأن لازم طريقيته أيضا إعطاء [لونها لذيها]، كما هو المحسوس [في

367
تلون] السراج بلون الزجاج، فحينئذ صح دعوى كون المتيقنات بعنوان اليقين
[مستحكمة] بنحو استحكام نفس اليقين، وهذا المقدار كاف في إضافة النقض إليها
كما لا يخفى.
وعليه فالعمدة في وجه موضوعية اليقين جهة أخرى غير هذه الجهة.
[3 - ضرورة كون المستصحب موضوع ترتب العمل]
ومنها: أن اللازم [مما] ذكرنا - من كون نظر التنزيل في أخبار النقض إلى
الآثار العملية - كفاية كون المستصحب بنفسه موضوع ترتب الأعمال أو
[وسطيته] فيه بالوسائط الشرعية من دون احتياج إلى أثر مجعول في البين.
ولذلك لا بأس بجريان الاستصحاب في موارد كشف العقل - بالملازمة -
مجرد إرادة الشارع التي هي في النفس النبوي (صلى الله عليه وآله) كيف قائم بالنفس بلا كونها من
الخطابات الاختيارية، بل ربما لا يثمر مجرد جعلية الأثر في جريانه في صورة عدم
ترتب عمل عليه، كما في استصحاب الأحكام الوضعية الجعلية بالنسبة إلى
[الموارد] الخارجة عن محل الابتلاء بالمرة.
وعليه فما هو المعروف من كون قوام الاستصحاب بكون المستصحب أثرا
جعليا أو بماله أثر كذلك ليس بظاهره مرادا جزما، بل تمام القوام في جريانه كون
المستصحب نفس الإرادة الشرعية أو موضوعها، كي بالآخرة ينتهي الأمر إلى
مقام العمل والأمر بالمعاملة، وأن غرضهم من الأثر الجعلي في المقام إنما هو من
جهة ملازمته مع هذه الإرادة ثبوتا أم إثباتا، وإلا فهو بنفسه - مع قطع النظر عن
كشفه [عن] لب الإرادة - لا يكون موضوع عمل ومتعلق أمر بالمعاملة معه
معاملة بقائه.

368
وحينئذ فلا يبقى لبيان جعلية أثر دون أثر ثمرة في باب الاستصحاب. نعم لا
بأس بالتعرض لها في المقام تبعا لجملة الأساطين حيث تعرضوا [لمسألة] جعلية
الأحكام التكليفية والوضعية وانتزاعية الثانية من الأولى في باب الاستصحاب،
وعليه فنقول:
[معنى جعلية الأحكام التكليفية والوضعية]
أولا أن الغرض من جعلية الأحكام الوضعية ليس إلا كون حقائقها أمورا
اعتبارية متقومة بانشائها الناشئ من قصد التوصل بها إلى تلك الحقائق، كما هو
الشأن في جميع الاعتباريات القصدية الجعلية كوضع الألفاظ والتعظيمات
والتوهينات وأمثالها. وفي قبالها كون حقائقها هو اعتبار منتزع عن التكليف ولو
من جهة منشأية التكاليف بنحو ارتباط حاصل بين الشئ وغيره على وجه لا
يكون مثل هذا المعنى متحققا عند عدم التكليف رأسا، كما لا يخفى. وعلى أي حال
نقول:
المعنى المزبور من الجعلية غير متحقق بالنسبة إلى الأحكام التكليفية.
[أما] بالنسبة إلى لب الإرادة فالأمر واضح، وأما بالإضافة إلى مرحلة الايجاب
والبعث وأمثالهما من العناوين [المنتزعة عن] إنشائها فهي وإن كانت أيضا من
الاعتبارات الجعلية لكن ليس جعلها بالمعنى المتقدم. كيف! ولا يحتاج في انتزاع
البعث من إنشاءات الأحكام إلى قصد التوصل بالإنشاءات إلى مثل تلك المعاني،
بل يكفي مجرد قصد التوصل منها إلى إعلام ما في ضميره وإلى مرامه ولو لم يخطر
ببال المنشئ عنوان البعث أصلا. فالغرض من جعلها ادعاء كون المقتضي للحركة
محركا فعليا أو ملزما كذلك أو موجبا. فجعلية مثل تلك العناوين نظير جعلية
جميع الموضوعات الخارجية عند ملتزميها مثل الحياة [الجعلية] وأمثالها في باب
الاستصحاب.

369
وعليه فسوق النزاع في جعلية الأحكام الوضعية [مساق] جعلية الحكم
التكليفي بظاهره ليس في محله.
نعم لو [كانت] جهة التنظير إلى مجرد كون قوام الحكمين بإنشاء من الحاكم
على وجه لا يكاد [يتحققان] بدون إنشائه وإن اختلفا في كيفية قصد التوصل
[بهما]، كان له وجه.
وحيث اتضح ذلك فنقول: إنه لا شبهة في جعلية الحكم التكليفي بالمعنى
المزبور، وإنما الكلام في جعلية الأحكام الوضعية، [واختلف فيها] على أقوال.
وتحقيق الحق فيه أن يقال:
إن الأحكام الوضعية ليست بمساق واحد وطريق فارد:
فمنها: ما هو حاك عن نحو ارتباط بين أمور ناش عن تعلق التكليف بها،
نظير جزئية الشئ للواجب أو الكلية الحاكية عن جهة وحدة [لشتات] ناشئة
عن قبل وحدة التكليف فيها بحيث لو لم يكن في البين تكليف لما [كان لهذه]
الوحدة مجال، وإن كانت له جهة الوحدة من ألف جهة أخرى، فهي منتزعة عن
التكليف، ويستحيل وقوع [مثلها] بحيث يكون جعلا مستقلا أو تبعا، إذ من
البديهي كفاية انتزاعها من مجرد جعل التكليف المتعلق بأمور متعددة بلا نظر في
جعله إلى جعل شئ آخر حتى تبعا في عالم لحاظه. ومن هذا القبيل عنوان الصحة
والفساد [الحاكيان] عن حيثية موافقة الشئ للأمر ومخالفته له.
ومنها: ما هو منتزع عن الربط الحاصل من النظر إليه في مقام جعل
التكليف، نظير إناطة الوجوب بشئ يكون في مقام إنشاء التكليف ملحوظا أيضا
تبعا، بحيث لو لم يلحظ ذلك في مرحلة إنشاء التكليف لما يكاد يتحقق مثل تلك
الإناطة، نظير عنوان الاستطاعة للوجوب المنتزع عن إنشائه منوطا به على وجه
[تكون] تلك الإناطة تحت النظر الانشائي ولو تبعا، فهو من المجعولات التبعية

370
وفي مثلها ربما يكون [الجعل] بدوا متعلقا به فيستتبع مثل ذلك الجعل تكليفا
عكسا للسابق. وهذا الشأن ليس للعناوين السابقة لاستحالة قابلية حقائقها
للجعل البدوي، بخلاف [الحقيقة] المستتبعة للتكليف وهي بنحو خصوصية
التكليف على وجه قابل لتوجيه النظر تارة أصالة عملا إلى الخصوصية للتكليف
فيستتبع جعل الخاص، وأخرى تبعا بتوجيه النظر إلى نفس الخاص فيستتبع
الخصوصية. وهذا بخلاف الجزئية للواجب، إذ [هي] بنحو خصوصية في موضوع
التكليف [ناشئة] عن خصوصية تكليفه، فتمام النظر في مثله ليس إلا إلى جعل
التكليف [بما] له من الخصوصية بلا نظر فيه إلى خصوصية أخرى لا أصالة ولا
تبعا، وإنما العقل ينتزع العنوان المزبور عن موضوع التكليف قهرا بعد جعل
تكليفه.
ثم إن ما ذكرنا من المجعولية التبعية إنما هو بالنسبة إلى [العناوين] المستتبعة
الشرعية القائمة [كالأمور] المأخوذة في تلو أداة الشرط في الإنشاءات الشرعية
المشروطة كقوله (عليه السلام): " إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة " (1) وأمثاله.
ومن المعلوم أن مثله أجنبي [عن] الأسباب الجعلية العقلية المنتزعة عن لحاظ
مصالحها، إذ من البديهي أنها لا تكون تحت جعل أبدا، بل ينتهي منشأها إلى
خصوصية ذاتية وسنخية بين الشيئين قائمة بنفس ذاتهما [آبية] عن مرحلة الجعل
رأسا، كما هو واضح.
ومنها: ما هو منتزع عن الربط بين ذات الشئ وأمر آخر في رتبة سابقة
[على] التكليف، غاية الأمر إضافة ذلك الاعتبار إلى وصف الواجبية المتأخرة
عن وجوبه، وإلا فنفس المضاف بحقيقته غير ناش عن الوجوب، بل هو منتزع



(1) الوسائل 1: 261، الباب 4 من أبواب الوضوء، الحديث الأول.
371
عن ربط آخر قائم بين الشئ وذات شئ آخر، لا بوصف وجوبه. وذلك
نظير مقدمية الشئ للواجب، إذ صفة المقدمية قائمة بالذات بلحاظ ربطها، وإنما
إضافة هذا العنوان إلى الواجب بوصف واجبيته متأخرة عن حيث وجوبه، وإلا
فنفس المقدمية المضافة إلى الواجب ليست من الاعتبارات المتأخرة عن
الوجوب، فمثل تلك العنوانات [ليست] إلا أمورا واقعية كشف عنها الشارع
تارة ومنكشفة بذاتها أخرى، نظير سائر الأمور المضافة إلى الواجب التي كانت
بإضافتها [إليه] متأخرة عنه، لا بنفس ذاتها: [كمكان] الواجب، ولباس
المأمور، وزمان الوجوب، فإن أمثال تلك المضافات إلى الوجوب أو الواجب
بوصف إضافتها متأخرة عن جعل الوجوب ومنتزعة [عنه].
ولكن من البديهي أن مدار انتزاعية الأحكام الوضعية ليس على مثل هذا
المقدار بتا، وإلا يلزم أن يكون جميع العناوين المزبورة من الوضعيات المنتزعة
من التكليف، وهو كما ترى.
ومن هنا نقول: بأن شرطية الشئ للواجب ومسببيته ومقدميته ومانعيته
وعليته له - كعنوان المقدمية الجامعة بين تلك العناوين - ليست من الأحكام
الوضعية المنتزعة عن التكليف أو المجعولة، إذ عدم مجعوليتها بجعل مستقل ظاهر،
وهكذا أمر انتزاعها، لأن ما هو منتزع من التكليف هو حيث إضافتها إلى
الواجب بوصف وجوبه، وإلا فذات المضاف لا يكون إلا عبارة [عن] علية
واقعية قائمة بين ذات الشيئين حتى في رتبة سابقة [على] وجوبه.
ومثل هذه [العلاقة] ربما تكون من الذاتيات غير المرتبطة بعالم الجعل أبدا،
وتارة أمر دخلها في موضوع وجوبه تابع نظره في رتبة سابقة على وجوبه، إذ في
مقام جعل الوجوب قد يتعلق وجوبه بالذات المرتبطة، وأخرى بنفس الذات،
فعلى أي حال فنفس ذلك الربط في مورده جعلي لا بد وأن يكون ملحوظا سابقا

372
[على] التكليف كي يتوجه تكليفه إليه، وهذا الربط المعروض للتكليف منشأ
انتزاع الشرطية، وهو محفوظ في رتبة سابقة [على] التكليف فكيف يتأخر عنه؟
نعم إضافة ذلك الربط إلى الوجوب [متأخرة] عنه كإضافة المكان إليه،
وهو غير مرتبط بنفس حقيقة الشرطية المنتزعة عن الربط المعروض للتكليف.
وحينئذ فكم فرق بين الشرطية المنتزعة عن مثل ذلك الربط وبين الجزئية المنتزعة
عن الوحدة الطارية [على المتعددات] من قبيل وحدة الوجوب، إذ مثل
[تلك] الارتباطات [من حيث] رتبة ذاتها متأخرة عن الوجوب، بخلاف منشأ
انتزاع الشرطية التي هي عبارة عن الربط المأخوذ في موضوع الوجوب، وهكذا
في طرف المانع.
وحينئذ لا مجال لإدخال مثل تلك العناوين في الأحكام الوضعية، إذ
حقيقة الحكم ما يكون بنفس ذاته منتهيا إلى جعل الحاكم، إما بالواسطة أو بلا
واسطة، وفي تلك العناوين المزبورة ليس الأمر كذلك.
وتوهم أن الشرطية وأمثالها - من العناوين المنتزعة عن حيثية معروضية
الإضافة المزبورة للوجوب ومثله - كوصف الموضوعية متأخرة عنه ومنتزعة عنه
وإن كانت بنفس ذاتها سابقة على الوجوب رتبة، وهذا - كما ذكرت - إنما يصح
على فرض انتزاع مثل تلك العناوين عن واقع الإضافة بين الذاتين المأخوذة في
ذات الموضوع لا عن الإضافة [المنتزع] عنها وصف الموضوعية، وليس كذلك،
مدفوع بأنه كيف يمكن تلك الدعوى مع أن [لازمها] عدم انتزاع قيدية شئ
لشئ لولا وجود حكم في البين كوصف موضوعيته، والحال أنه كان الشئ قيدا
للمضاف إليه - كان في العالم حكم أم لا - فذلك شاهد أن منشأ انتزاع القيدية هو
نفس الإضافة المنتسبة بالتقييد الملحوظة في الرتبة السابقة [على] التكليف،
غاية الأمر إضافة ذلك المعنى إلى الوصف الواجب [منوطة] بالوجوب

373
و [متفرعة] عليه، كما لا يخفى. هذا.
ومنها: ما هو قابل للحكاية عن الإضافة والاختصاص الناشئ بين
الشئ والمكلف من جهة تعلق تكاليف متعددة أو تكليف واحد به وقابل للحكاية
[عن] الاعتبار الناشئ [من] صرف جعله سابقا على التكليف.
وربما يرجح الأخير بشهادة ظهور دليله في ترتب التكاليف على الإضافة
المزبورة، وذلك نظير الملكية وأمثالها المنتزعة عن مرحلة جعلها سابقا [على]
التكاليف بملاحظة وقوعها موضوعا [لها] شرعا وعرفا، فمثل تلك الأمور ليست
إلا مجعولة مستقلة على وجه تكون بحقائقها محفوظة قبل ورود التكاليف عليها.
ومن هذا الباب وضع الألفاظ. ولقد شرحنا أمرها في باب الوضع، وبينا فساد
توهم انتزاع حقائقها من تعهد الواضع بذكر اللفظ عند إرادة المعنى، فراجع
[هناك] ترى حقيقة المرام خالية عن شوائب الأوهام.
[4 - تقوم الاستصحاب باليقين والشك الفعليين]
ومنها: أن من المعلوم - بناء على المختار من تعلق النقض بنفس اليقين -
كون قوام الاستصحاب باليقين والشك الفعليين لعدم حصولهما مع الغفلة.
وأما بناء على مذهب من صار إلى توجههما بنفس الثبوت واقعا فإن اليقين
المأخوذ في دليله طريق لإيصال النهي إلى الواقع خصوصا من التزم باستفادة
الاستصحاب من عموم " كل شئ لك حلال " فلا مجال لدعوى ركنية اليقين
والشك في الاستصحاب، بل هو جار حتى مع الغفلة. غاية الأمر كانت الغفلة
مانعة عن تنجزه كسائر الأحكام العقلية الواقعية.
وتوهم أن الأحكام الطرقية بفعليتها مستحيلة في حال الغفلة كلام ظاهري

374
خصوصا على المختار. هذا.
ثم إنه يتفرع على تلك الجهة جريان قاعدة الشك بعد الفراغ في فرض طرو
الغفلة عن الحدث بعد العلم به حتى [إذا] صلى فشك بعده، [إذ] على فرض
جريان الاستصحاب مع الغفلة كانت صلاته محكومة بالفساد، فلا [تصلح]
للصحة ظاهرا. بخلاف ما لو لم يجر، فلا بأس حينئذ [بجريان] قاعدة الفراغ
[المحرزة] للصحة في الموضوع القابل لها.
وتوهم: أن لازم ذلك عدم جريان القاعدة - من جهة اقتضاء الاستصحاب
الجاري حين التفاته فسادها - مدفوع بأن مثل ذلك الأصل - أي الاستصحاب
الجاري حين التفاته - لو كان جاريا لا يبقى [مورد] للقاعدة، بخلاف
الاستصحاب الجاري حين الغفلة، إذ كثيرا ما يبقى مورد للقاعدة، مثل موارد
التفاته إلى الطهارة وجزمه بها حقيقة ثم طرأ شك سار إلى قطعه، هذا.
ولكن لا يخفى ما فيه من أن مجرد جريان الأصل حين الغفلة لا ينتج إلا
خروج العمل عن قابلية الصحة في ظرف وجوده، لا في ظرف جريان القاعدة،
وما هو موضوع القاعدة ليس إلا العمل القابل للحكم بالصحة في ظرف جريانها،
وهو صورة حدوث الشك بعد العمل. وليس إفناء هذه الجهة شأن الاستصحاب
السابق، كما هو ظاهر.
ثم إنه قد أشرنا كرارا: أن من نتائج تعلق حرمة النقض بنفس اليقين
بضميمة استفادة تتميم الكشف من الأمارة حكومتها على هذا الأصل بإثبات
اليقين السابق ورفع الشك اللاحق.
كما أنه بناء على إرجاع حرمة النقض إلى المتيقن واقعا بضميمة اقتضاء
الأمارة تنزيل المؤدى منزلة الواقع لا يلزم أيضا محذور في جريان الاستصحاب
عند قيام الأمارة على الحالة السابقة، إذ مرجعه حينئذ إلى التعبد بالمؤدى بلحاظ

375
آثاره التي منها حرمة نقض اليقين بالشك.
نعم بناء على ذلك المشرب يشكل في وجه تقديم الأمارة اللاحقة، ولذا
تراهم وقعوا في حيص وبيص في وجه تقديمها، ولم يشكل أحد في جريان
الاستصحاب في فرض إحراز الحالة السابقة بالأمارة.
نعم لو كان مفاد الأمارة مجرد جعل الحجية بلا لسان تنزيل فيه مثبت للواقع
ربما يشكل أمر الاستصحاب سواء تعلق النقض بنفس اليقين أو الواقع.
وربما يجاب عن الإشكال على التقدير الثاني بأن شأن الاستصحاب بعدما
كان إثبات الملازمة بين ثبوت الشئ وبقائه تعبدا، أو الحجة على الملزوم حجة
على اللازم (1).
ولكن لا يخفى ما فيه من أن لازم ذلك وقوع المعارضة بين قاعدة الشك بعد
الفراغ والبينة السابقة على الحدث السابق، فلا وجه لتخصيص [تعارضها]
بالاستصحاب كي [ترفع] اليد عن الاستصحاب بالقاعدة من جهة لزوم قلة
الموارد أو انتفائها.
ولا يرد هذا الإشكال على تقريبنا أو التقريب الآخر الموجب للحكومة،
لإمكان دعوى كون جريان القاعدة موجبا لتخصيص دليل البينة بلحاظ بعض
[آثارها] الذي هو حرمة نقض يقينه بالشك فتبقى البينة على حجيتها بالنسبة إلى
سائر الآثار، وذلك بخلاف فرضنا، إذ الملازمة الثابتة بالاستصحاب إنما
[هي] بين البقاء التعبدي وبين الثبوت الحقيقي على الاطلاق، و [لازمها] وقوع
المعارضة [بالعرض] بين دليل البينة حتى بلحاظ سائر الآثار وبين تلك القاعدة



(1) الظاهر أن في العبارة سقطا. راجع: نهاية الأفكار القسم الأول من الجزء الرابع ص 105
التنبيه الثاني.
376
أيضا، فيدور الأمر بين رفع اليد [عن] ذلك العام [و] رفع اليد عن
الاستصحاب أو البينة ولا أظن التزامه من أحد ولعمري إن تلك الجهة - من
ثبوت جعل مؤدى الأمارات - مجرد جعل الحجية (1).
ونظير الإشكال المزبور أيضا يرد بناء على كون مفاد الأمارة جعل حكم
تكليفي بلا لسان تنزيل، ومفاد دليل الاستصحاب أيضا حرمة نقض الواقع
بالشك [فيه].
والجواب السابق مع دفعه جار في المقام أيضا.
نعم لو كان مفاد دليل الاستصحاب حرمة نقض اليقين، قد يتوهم [إحراز]
اليقين بالوجوب المردد بين الظاهري الزائل [و] الواقعي الباقي، كما لا يخفى على
المتأمل و [من] دقق النظر، فيستصحب الكلي المشترك.
لكن فيه أولا: أن المقام من قبيل اليقين بحكم ظاهري شخصي يشك في
مقارنته مع فرد آخر باق، وهو من القسم الثالث [غير] الجاري فيه
الاستصحاب.
مع أن اليقين بالوجوب الحقيقي الجامع إنما يتم لو بنينا على موضوعية
الأمارات، وإلا فبناء على طريقيتها فلا نقطع بالجامع المزبور، أو الظاهري على
تقدير المخالفة الصورية. والجامع بين الوجود الحقيقي والصوري لا أثر له.
نعم لا بأس حينئذ بجريان الاستصحاب [في] الترخيص المردد بين ما هو
في ضمن الالتزام [و] غيره، وهذا المقدار إنما يثمر لرفع شبهة [حرمة] المخالفة،
لا إثبات الوجوب المزبور الملزم للطاعة كما هو ظاهر.
وكيف كان نقول: إن مثل تلك الجهات لا يكاد يتم إلا بالالتزام بحكومة



(1) هكذا جاء في النسخة المطبوعة.
377
الأمارة السابقة على مفاد حرمة النقض بإثبات موضوعه. وإلا فلا يكون المقام
خاليا عن المحذور، كما لا يخفى.
[5 - استصحاب الكلي]
ومنها: أن إضافة " حرمة النقض " أو " التعبد بالبقاء " إلى شئ فرع
وجود الآثار العملية المترتبة على عنوانه ولو بتوسيط اليقين به، كي ببركته يصدق
تعلق الشك بعنوان له الأثر.
ومثل ذلك العنوان تارة كلي وأخرى شخصي.
وعلى التقدير الأخير فتارة يشك في بقاء شخص معين وأخرى مردد.
كما أنه على التقدير الأول [تارة] يكون الشك في الكلي من جهة الشك في
بقاء شخص معين، وأخرى من جهة الشك في بقاء مردد بين الزائل والباقي، وثالثة
من جهة الشك في تبدل فرده السابق الحادث بفرد آخر مشكوك البقاء.
وذلك أيضا تارة في الأفراد المتواطئة وأخرى المشككة.
ومع التشكيك فتارة يكون الباقي من مراتب وجود الحادث عرفا وأخرى
لا يكون كذلك، فتلك جهات وصور من التقسيم في الاستصحاب المزبور.
والذي يقتضيه النظر الدقيق وحال التحقيق: جريان الأصل في الشخص
المعين والكلي الموجود في ضمنه كذلك، أو في ضمن شخص مردد بين الباقي
والزائل، أو في ضمن الفرد المبدل في [التشكيكيات] مع صدق كون الباقي من
مراتب وجود الزائل.
وأما في غيره - أي غير تلك الفروض الأربعة - فلا يكاد يجري الأصل
أبدا، لا في الشخص ولا في الكلي.

378
أما جريان الأصل في الفروض الأربعة السابقة فوجوبه في غير القسم
الثاني من الكلي واضح، لتحقق جميع أركانه من اليقين بعنوان له أثر وشك في
بقائه، فيشمله عموم دليل التعبد ببقائه.
وتوهم أن الكلي لا وجود له أبدا بسعة وجوده في الخارج القابل [للتكثر]
وإنما الخارج ظرف منشأه من الأفراد الخاصة [الجزئية]، ومن البديهي أن ما هو
موضوع الآثار تلك الوجودات الخارجية [الجزئية]، وحينئذ فكيف [تتحقق]
أركان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلي بما هو كلي؟ فلا جرم لا بد من تخصيص
دليل التعبد بالبقاء بالموجودات الخارجية من الأفراد الشخصية فلا يكون حينئذ
في الشرع لاستصحاب الكلي عين ولا أثر، مدفوع غاية الدفع.
[إذ] فيه: أن مرجع تعلق الأحكام بالطبايع - ولو بلحاظ ظرف اتصافها -
كون ما هو المنشأ لانتزاع ذلك المفهوم الواحد موضوع الاتصاف بالواجبية
والمرامية، ومن البديهي أن هذا المنشأ يتحقق بوحدته الذاتية من حدود متكثرة
ومراتب متفاوتة على وجه ربما ينال العقل من [شخص] الوجود الواحد لحيثية
الطبيعة ولحيثيات أخرى صرف الجهة المشتركة بينه وبين غيره، فتجئ تلك
الحيثية في الذهن مجردة عن تمام العلائق، وإن كان ذلك المعنى في الخارج متحققا
ومقرونا بألف علقة. ومن لوازم تجرده عن العلائق صيرورته قابلا للانطباق على
كل فرد، فهذه السعة لانطباق المعنى من لوازم تجرده في الذهن.
ولذا نقول: يستحيل أن يكون الموجود الخارجي بهذه السعة، ولكن مع
ذلك لا يكون ما في الخارج - من صرف الشئ المقرون بالتشخصات - مختلفا مع
المجرد عنها ذهنا، وإنما الاختلاف [فيهما] في مجرد حدود الذات الموجبة لضيق في
التطبيق وسعة. ولا منشأ محفوظ في الموطنين.
وبتلك الملاحظة أمكن دعوى أن الحكم الثابت للطبيعي منشأ لاتصاف

379
نفس الذات - المحفوظة في كل فرد في الخارج - [به]، وذلك المقدار لا يقتضي
سراية الحكم إلى الخصوصية [الحدية] أو المرئية.
ومرجع اتصافه أيضا ليس إلى كونه بوجوده الخاص ولو من حيث الرتبة
متصفا بالوجوب التعيني، بل إلى كونه بما هو متحد مع غيره في الجهة المحفوظة التي
لا تكثر فيها أبدا حتى من حيث الرتبة.
ولازمه اقتضاء مثل هذا الوجوب حرمة بعض أعدامه لا مطلقها، ولذا
نقول: إن وجوب الطبايع إذا قيس إلى أفرادها لا يكون المتصف به إلا حفظ
بعض أنحاء [وجودها]، لا تمامها. ومثل ذلك المعنى أمر معقول غير موجب
لسراية الوجوب إلى الحصص الفردية بتمام [وجودها]. وحينئذ من أين يكون
تعلق الأحكام بالطبايع راجعا إلى تعلقها بالأشخاص الخارجية كي يكون
الاستصحاب مختصا بها وغير [جار] في نفس الطبايع؟
ولعمري إن ذلك المقدار أوضح من أن يبين. والغرض من هذا التطويل
دفع الشبهة عن الأذهان الصافية بحسن ظنهم ببعض من اشتبه عليه الأمر من
كبار أهل الصنعة، ولا بأس به بعد ما كان " الجواد قد يكبو والصارم قد ينبو "،
هذا.
نعم في القسم الثاني من الكلي شبهة أخرى في جريانه و [هي]: ان المحتمل
أن يكون [اليقين] السابق في ضمن ما هو مقطوع الزوال رأسا، ومع ذلك فيحتمل
أن يكون انتقاض اليقين السابق بيقين آخر، ومع ذلك الاحتمال لا يبقى مجال
لشمول عموم حرمة النقض [بالشك ووجوب نقضه] بيقين آخر، لأنه من
قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لنفسه لا لمخصصه المنفصل عنه.
وحل تلك الشبهة: إن القطع بانعدام الشخص لا يقتضي القطع بانعدام
الطبيعي، وما هو متعلق القطع السابق هو الجهة المحفوظة في الفردين على وجه

380
يكون له نحو تعلق بكل واحد من الفردين بعين تعلقه [بالآخر] الذي مرجعه إلى
القطع ببعض انحاء وجوده المتحد مع وجود غيره. ومن البديهي أن هذا النحو من
الوجود يستحيل تعلق اليقين الناقض به بمحض تعلقه بفرد واحد، بل لا بد وأن يكون
متعلقا به على وجه يسري إلى غيره أيضا، وهو لا يمكن إلا أن يتعلق بعدمه
المقرون بعدم غيره، وإلا ف‍ [لو كان] نفس ذات عدمه [متعلقا لليقين] ولو منفردا
من عدم غيره فلا يكون مثل هذا اليقين متعلقا بجهته المشتركة مع غيره. فحينئذ
[فالشك] في بقاء الجهة المشتركة - ولو من جهة الشك في بقاء الطبيعي في ضمن
فرد آخر - متحقق بلا احتمال انتقاضه بيقين آخر، وذلك ظاهر.
وأضعف من ذلك توهم آخر من عدم تعلق الشك في الكليات بعين ما
تعلق به اليقين، أو اليقين إنما تعلق بعنوان قابل للانطباق على كل من المحتملين،
بخلافه في [طرف] الشك فإنه ما تعلق إلا بالطبيعة المهملة الصالحة للجزئية،
وإلا فالمشكوك بقاؤه ليس ذلك الطبيعي القابل للانطباق على الزائل قطعا، فمن
أين اتحد متعلق اليقين والشك؟
وتوضيح الضعف: بان العرف لما تسامح في اختلاف متعلقي الوصفين من
حيث الحدوث والبقاء ويكتفي بصرف وحدتهما وجودا، كذلك يكتفى في المقام
أيضا بهذه المرتبة من الوحدة وان اختلفا اطلاقا واهمالا، كما لا يخفى.
وأضعف من الجميع: أن الشك في بقاء الكلي نشأ عن الشك في [حدوث]
الباقي، واستصحاب عدمه حاكم على استصحاب الكلي.
ووجه الضعف: بمنع كونه مسببا عن الحدوث، [بل] هو ناش عن الشك في
كون الحادث المعلوم هذا وهو ليس مجرى الاستصحاب أصلا.
مع أنه على فرض التسليم ليس ترتب عدم بقاء الكلي على عدم حدوث
الباقي ترتبا شرعيا كي يكون مجال حكومة استصحاب عدمه على استصحاب

381
الكلي، كما هو ظاهر.
هذا كله في وجه جريان استصحاب الكلي في القسم الأول والثاني.
وأما وجه عدم جريانه في القسم الثالث فلأن بقاء الطبيعي في الخارج
- مثل حدوثه - يتبع بقاء الفرد وحدوثه فيه، وذلك لأن بقاء الشئ عين حدوثه
حدا، ومن المعلوم ان تلك العينية من تبعات الخصوصية الفردية، غاية الأمر كما
كان الفرد - بأي نحو من وجوده - منشأ انتزاع ذلك النحو من الوجود الطبيعي
فقهرا يكون بقاء الطبيعي كحدوثه بعين بقاء فرده وحدوثه. وحينئذ فلو فرض في
مورد احتمال تبدل فرد بفرد من أين يصدق على وجود [ه] في الآن الثاني [أنه]
عين حدوثه في السابق حدا كي يصدق عليه بقاؤه؟ نعم غاية ما يصدق عليهما
هي: العينية الذاتية، و [هي] ليس مدار صدق النقض والإبقاء جزما، كما
لا يخفى.
نعم لو كان تبدلهما من باب تبدل صرف الحدود الشخصية - مع حفظ مرتبة
الوجود [المحفوظة] في ضمن جميع الحدود - [فلا] بأس بصدق دعوى البقاء على
الطبيعي حينئذ، وفي مثله لا بأس بجريان الاستصحاب ما لم يبلغ حد الضعف إلى
حد التباين الشديد عرفا، فإنه حينئذ وإن كان عنوان الشك في البقاء بالدقة
محفوظا ولكن لا يخفى أنه لا يكفي ذلك المقدار في جريان الأصل الذي [يكون]
منزلا على الأنظار العرفية، كما هو ظاهر.
ثم إن ذلك كله في صورة ترتب الأثر على الكلي، وأما في فرض ترتب
الأثر على الفرد المردد وجوده [بين] الفردين، المقطوع بقاء أحدهما المعين وزوال
غيره، فنقول: إن العلم بزوال الفرد الخاص تارة [يكون] بعد العلم الاجمالي
بوجود أحد الفردين سابقا، وأخرى قبله، فإن كان بعده فلا إشكال في عدم
مانعية مثل هذا العلم بالتلف لاحقا عن تأثير العلم السابق، كما أسلفنا الكلام في

382
مسألة التلف بعد العلم. ولازمه حكم العقل بترتب آثار المعلوم على الفرد الباقي
تحصيلا للفراغ عما اشتغلت الذمة به سابقا.
واما إن كان التلف سابقا على العلم الاجمالي - وإن كان العلم به بعد
حصوله - فمن حين العلم بالتلف السابق يخرج العلم الاجمالي من التأثير، وفي هذه
[الصورة] كان بناء العلماء على عدم وجوب الاجتناب من الطرف [الآخر].
ومن مثله ربما يظهر أيضا عدم بنائهم على [استصحاب] بقاء الفرد المردد
في البين، كيف وجميع موارد التلف اللاحق كان استصحاب الشخص المردد
موجودا، ونتيجته ليس إلا نظير استصحاب الكلي وهي الخروج عما هو معلوم
بقاؤه تعبدا المستلزم للاجتناب عن المشكوك والباقي بحكم العقل الحاكم بتحصيل
الجزم بالفراغ بالنسبة إلى الأعم من الحكم الواقعي والظاهري.
وبهذا البيان [ترتفع] شبهة عدم الأثر العملي لمثل ذلك الأصل بعدما ثبت
كون [الموجود] هو الباقي وبدونه لا يحكم العقل بالاجتناب عنه.
وفساد هذا البيان يظهر بالتأمل فيما ذكرنا.
وحينئذ فليس نظر الأصحاب في عدم الجريان إلى ذلك البيان، بل عمدة
نظرهم إلى كون التعبد ببقاء الشئ يحتاج إلى الشك [في] عنوانه الذي يكون
بذاك العنوان متعلقا للأثر، كيف ولو تعلق الشك بغيره لما كان [للحكم] ببقائه
تعبدا - الراجع إلى ترتب أثره - معنى أصلا.
وحيث كان الأمر كذلك فنقول: إن الشك في بقاء الفرد المردد ما تعلق
بعنوان له الأثر، كيف وما هو موضوع الأثر [المردد] بين ما هو مقطوع الزوال أو
مقطوع البقاء وبين ما هو مشكوك، ليس إلا بعنوان " ما هو موضوع الأثر " أو
" أحدهما " أو غير ذلك من سائر العناوين العرضية أو الذاتية [الخارجة] عن
تحت [الأمر] جزما، وفي مثلها لا مجال للتعبد ببقائه.

383
وقياس الشك بالعلم الاجمالي في المنجزية - حيث يكتفى في تنجز الواقع
بهذا المقدار من العلم بالعناوين الاجمالية العرضية - ممنوع جدا، إذ حكم العقل
[بالمنجزية] في مثل ذلك الطريق الاجمالي مع فرض قابلية سراية [الأثر] إلى
نفس [الواقع] ببركة ذلك العلم غير مرتبط بمرحلة التعبد بمورد الشك غير
الصالح للسراية إلى مورد اليقين جزما، والمفروض في المقام أن ما هو محل الأثر
بواقعه لا يكون مشكوك البقاء، بل هو ما بين مقطوع الارتفاع [و] مقطوع البقاء،
وما هو مشكوك بقاؤه إنما هو بعنوان لا أثر له ابدا.
وتوهم: أن العنوان المتعلق بالشك مأخوذ بنحو الطريقية إلى شئ آخر،
فيكون واسطة لإيصال التعبد بالبقاء إليه.
مدفوع: بأن طريقيته فرع قابليته لإعمال التعبد فيه، والمفروض أنه لا شك
[في] عنوان من العناوين إلا [في] مثل تلك العناوين العرضية الخارجة من
حيز الأمر، فكيف يصلح صيرورتها واسطة لايصال التعبد إلى سائر العناوين
التي لا يكون واحد منها تحت عنوان الشك [في] بقائه وارتفاعه؟ كما هو ظاهر.
وبذلك البيان ربما يرتفع كثير من المغالطة في أبواب الأصول
والاستصحاب، وعليك بالتأمل فيه، وبالتمييز بين موارد ترتب الأثر على الجامع
أو الشخص المردد.
ثم اعلم، قد جرى ديدنهم على تمثيل استصحاب الكلي باستصحاب
الحدث المردد بين الأصغر والأكبر عند خروج بلل مردد بين البول والمني، وذلك
عند فرض العلم بالطهارة السابقة، أو عدم العلم بالحالة أصلا في غاية الوضوح،
فيستصحب بلحاظ مانعيته للصلاة، وإن كل واحد منهما يقتضي رافعا مخصوصا
بلا كون مثل هذا الأثر للجامع بينهما، ولكنه لا بأس باستصحابه من حيث مانعية
الجامع للصلاة.

384
واما إن كانت الحالة السابقة [على] زمان خروج الرطوبة المرددة
حالة الحدثية [المعلومة]:
فإن كان الحدث المعلوم هو الأكبر، فلا اشكال في عدم وصول النوبة إلى
الاستصحاب الكلي، بل ما لم يصدر منه الفعل كان جاريا لمحدثيته بالحدث الأكبر،
ولا يحتمل حينئذ الاجتزاء بموجب الحدث الأصغر أصلا، لأن البول الصادر عن
الجنب لا أثر له بالنسبة إلى الصلاة من حيث ايجابه على المكلف شيئا. وحينئذ
لا ينتهي الامر في تلك الصورة إلى الشك في بقاء الحدث كي يستصحب.
وأما ان كان الحدث المعلوم هو الأصغر، كما لو رأى الانسان بعد نومه
رطوبة مرددة بين المذي والمني، ففي هذه الصورة إن قلنا بعدم التضاد بين الحدثين
واجتماعهما في زمان واحد، غاية الامر لا أثر للأصغر حين وجود الأكبر، فلا
اشكال أيضا في الاكتفاء بموجب الأصغر، فلا مجال لجريان استصحاب الكلي لأنه
من القسم الثالث الراجع إلى الشك في مقارنة فرد إلى المعلوم تفصيلا، وفي مثله
لا يكون مشكوك البقاء عين المتيقن الحادث كي يشمله عموم حرمة النقض.
وإن لم نقل بعدم التضاد واحتملناه، فكذلك لا مجال لاستصحاب الكلي، إذ
حينئذ وإن كان حين وجود الرطوبة يحصل العلم بالحدث المردد بين الأصغر
والأكبر، بمعنى عدم خلوه عن أحدهما بلا علم تفصيلي في البين، ولكن ذلك
المقدار لا يكفي في جريان الاستصحاب الكلي في الحدث المردد، لأن مع فرض
احتمال اجتماعهما وجودا لم يحرز كون مشكوك البقاء عين ما تيقن [حدوثه]
لاحتمال كون المتيقن الحادث غيره، فلا يثمر مثل ذلك في جريان الاستصحاب
أيضا. وإنما [المجرى] له خصوص فرض العلم الاجمالي بأحد الحادثين على سبيل
منع الخلو والجمع كليهما، وذلك لا يمكن إلا بفرضهما متضادين غير مجتمعين في
زمان واحد، وتلك المضادة أيضا تارة في حديهما وأخرى في ذاتيهما:

385
وعلى الأول تارة: ضعف الأصغر بالنسبة إلى الأكبر ليس بمقدار يصدق
عليه الانعدام عرفا بانقلاب حده إلى الأكبر. وأخرى: كان بتلك المثابة، كضعف
الاصفرار من اللون بالإضافة إلى الاحمرار.
فإن كان من قبيل الأول فلا شبهة في جريان استصحاب شخص الحدث
المعلوم المحفوظ بين الحدثين بعد الوضوء، لاحتمال عدم صلاحيته لرفعه. كما أنه
لا بأس باستصحاب طبيعة الحدث أيضا.
وإن كان من قبيل الثاني والثالث فلا يجري الاستصحاب الشخصي، ولكن
لا بأس بجريان الكلي منه.
وتوهم: أن الوضوء في حال عدم الجنابة كان رافعا لأصل طبيعة الحدث،
فإذا فرض في تلك الصورة الوضوء بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل فلا يبقى
مجال الشك في بقاء الكلي.
مدفوع: بأن رفع الوضوء [للحدث] في [ذلك] الحال من جهة انحصار
الطبيعة بالأصغر وجدانا، وإلا فشأنه ليس إلا رفع الحدث الأصغر، كما هو ظاهر
قوله: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا) * (1) فان ذلك ظاهر في أن الوضوء رافع
لأثر النوم. كما أن قوله: * (ان كنتم جنبا فاطهروا) * (2) [ظاهر في] كون الغسل
رافعا لأثر الجنابة، وإن رفع الطبيعة في كل منهما بالملازمة العقلية الناشئة
من انحصار الفرد من آثار النوم في حال عدم الجنابة شرعا، وحينئذ فمع الشك
في وجود الطبيعي المردد بينهما وجدانا لا يجدي الأصل المزبور مع الوجدان
المذكور في رفع الشك عن بقاء أصل الطبيعة. مع أن لازمه إما الاكتفاء بالوضوء
المزبور حتى في صورة العلم بالطهارة السابقة من جهة استصحاب عدم الجنابة



(1) و (2) المائدة: 6.
386
الحاكم على الشك في صحة الوضوء، بناء على كون الوضوء موضوع الرافع
[لحدث] من لم يكن جنبا. وإن كان الموضوع المحدث بالأصغر الذي لم يكن
جنبا، يلزم عدم الاكتفاء بالوضوء في فرض العلم بعدم الجنابة سابقا مع
الشك في الطهارة [و] الحدث الأصغر [بعد خروج] الرطوبة المرددة بين البول
والمني، ولا أظن التزامه من أحد، إذ هو أيضا مثل المعلوم الحالة من الحدث
الأصغر في اكتفائهم بالوضوء محضا بمقتضى قاعدة الاستصحاب. مع أن موضوع
رافعية الوضوء من عنوان المحدثية بالأصغر فعلا بعد الرطوبة غير محرز كما
لا يخفى.
وبالجملة فنقول: إن المستفاد من مجموع الأدلة أن لكل حدث رافعا
مخصوصا فرافع الأصغر ممحض في الوضوء، والأكبر ممحض بالغسل. [و] مع
تردد الجامع بينهما لا محيص إلا من الجمع بينهما كي به يحصل الجزم بارتفاع
الجامع، وإلا فمهما يكن الشك في الجامع موجودا لا يجوز الاكتفاء بواحد منهما ولو
جرى الف أصل بالنسبة إلى نفي الأكبر أو اثبات الأصغر، إذ مثل تلك الأصول لا
[تصلح] لرفع الشك عن بقاء الجامع إلا على القول بالأصول المثبتة كما هو
واضح.
وعليه فلا محيص - على ذلك الفرض - إلا الابتلاء بالاستصحاب الكلي
الموجب لاثبات [المانع] عن الصلاة، والحال أن ظاهرهم بل وسيرتهم على
الاكتفاء بالوضوء الواحد في مثل ذاك الفرض. وعليه فلا محيص في حل ذلك
إما من كشف بنائهم في المقام على عدم المصير إلى الأصل المزبور عن عدم تضاد
بين الحدثين، أو لا أقل من احتماله، أو من دعوى معارضة هذا الاستصحاب
الكلي باستصحاب الحدث الأصغر بحده الخاص، إذ من آثاره كون الوضوء مؤثرا
في الطهارة الموجب لصحة الصلاة فعلا، إذ مثل ذلك الأصل معارض

387
باستصحاب الحدث المانع من صحة الصلاة فعلا، فيتساقطان، فيبقى استصحاب
الطهارة على تقدير الوضوء بلحاظ الأثر المزبور باقيا بحاله، لأن الأصل في
السبب إذا كان معارضا بمثله يبقى الأصل في المسبب المحكوم جاريا بلا حاكم ولا
معارض.
فإن قلت: إن ترتب الطهارة التعليقية على الحدث الأصغر إنما هو من جهة
انحصار الحدث به، ففي الحقيقة نقول: إن ترتب الطهارة على الوضوء من لوازم
وجود الحدث الأصغر وعدم غيره، فاستصحاب وجوده لا يثبت نفي الغير إلا
[بالأصل] المثبت، فحينئذ فمن أين يحكم بترتب الطهارة التعليقية على بقاء
الأصغر بحده؟
قلت: إن مرجع استصحاب الحدث الأصغر بحده المخصوص إلى استصحاب
حده الملتئم من حيث وجوده وعدم وجود الزائد، ففي الحقيقة ينحل مثل هذا
الأصل إلى الأصلين: وجودي وعدمي، ومن المعلوم أن من آثاره ترتب الطهارة
التعليقية كما عرفت.
نعم لا يترتب على مثل الأصل المزبور نفي الكلي في الحدث، إذ هو من
لوازم نفي الزائد عقلا. كما أن ثبوت الطهارة التعليقية أيضا لا يقتضي نفي الطبيعة
في الحدث أيضا إلا بالملازمة العقلية الثابتة بين وجود كل شئ مع عدم ضده. ولذا
نقول: إن مثل تلك الاستصحابات لا تكفي لنفي الشك عن بقاء الجامع الحدثي،
غاية الامر كانا متعارضين [من] حيث الأثر.
فإن قلت: إن المرتب على الطهارة المزبورة أمر تعليقي، و [صحته] تعليقية
[منوطة فعليتها] بعدم الحدث الذي هو من الموانع، فاستصحابه حينئذ يرفع
تلك الجهة وتلك التعليقية، بل ويمنع عن جريان الأول، لعدم ترتب اثر عملي
عليه.

388
قلت: ذلك كذلك لو كان الحكم بالطهارة بلحاظ تلك الصحة التعليقية،
واما لو كان الحكم [بها] بلحاظ ما [لها] من الصحة التعليقية المترتبة عليها،
فلا بأس بجريانه، لانتهائه بالآخرة إلى الأثر العملي، لان الصحة [الضمنية]
الفعلية لا [تنفك] عن الصحة الفعلية من سائر الجهات حتى في مرحلة
الظاهر.
وتوهم: أن استصحاب المانع يرفع مثل هذه رأسا، لاقتضائه عدم
ترتب الصحة على الشرط ولو ضمنا، فلا يبقى معه مجال لاستصحاب
آخر.
مدفوع جدا، لأن نتيجته وجود المانع أيضا، [وهو يفتح باب] عدم الصحة
من قبله، لا فتحها من جميع الجهات، وإنما يستلزم ذلك أيضا بالملازمة العقلية من
جهة عدم انفكاك فعلية الصحة من ناحية شئ مع فعليتها من سائر الجهات واقعا
و [ظاهرا]، ولازمه حينئذ عدم تحكيم الاستصحاب في وجود المانع [على
الاستصحاب] في طرف الشرط، بل يتعارضان.
نعم لو لم تحرز الصحة الفعلية للشرط على وجه لا يمكن أن يكون التنزيل
بلحاظه - كما في صورة احتمال اقتران الشرط في الزمان السابق أيضا بوجود
المانع - لا يبقى مجال لجريان استصحاب الشرط المزبور حتى مع الشك في وجود
المانع، فضلا عن صورة احراز وجوده بأصل من الأصول، ولكن أين ذلك
ومقامنا الذي تكون الصحة الفعلية الضمنية بالنسبة إلى الطهارة التعليقية قبل
الرطوبة المشتبهة [موجودة وصالحة] لأن يكون تنزيل الطهارة [بلحاظ]
الملازمة للصحة الفعلية من سائر الجهات، بالملازمة العقلية الثابتة في الأعم من
الصحة الواقعية والظاهرية، غاية الامر يعارض مثل هذا استصحاب الحدث،
فإذا فرض سقوطه بالمعارضة مع الأصل الحاكم على هذا الأصل يبقى الأصل

389
المحكوم بلا معارض، كما لا يخفى.
هذا ولو تم وأغمض عن تلك المعارضة لا يبقى مجال دعوى [أخرى]
و [هي]: أن حرمة نقض اليقين [تقتضي] ابقاء اليقين في مورده الذي يترتب
عليه عمل، ومثل هذا اليقين - بملاحظة انحلاله باستصحاب الحدث الأصغر -
لا يقتضي عملا، لكونه منجزا.
[فإنها مدفوعة] بأن عدم ترتب العمل عليه في ظرف الحدوث وفي
الزمان السابق لانحلاله لا ينافي ترتبه على بقائه في ظرف الشك، [و] في هذا
[الظرف] لا يكون منحلا بأصل أو أمارة كما هو ظاهر.
وعليه فالعمدة في وجه [الفرار] عن مثل ذلك الأصل - على فرض
المضادة بين الحدثين - هو إبداء المعارضة بين الأصول السابقة، وإلا فلم أر فعلا
وجها آخر في الفرار عن ذلك الأصل الكلي. وعليك بالتأمل لعلك تجد طريقا
آخر.
[6 - الاستصحاب في الأمور التدريجية]
ومنها: ان المتيقن في الاستصحاب تارة من الأمور القارة وأخرى من
التدريجية، ولا اشكال في شمول أخبار الباب [للأول] لكونها قابلة للبقاء بجميع
شؤونها وحدودها الشخصية بلا تبدل في حدودها، ولا اختلاف في مراتبها، غير
ما ان الشئ الواحد منشأ لانتزاع عناوين مختلفة بلحاظ [وجوده] في أول زمان
تحققه فينتزع عنه الحدوث، و [وجوده] بعد هذا الزمان متصلا بالأول فينتزع عنه
البقاء.
ففي الحقيقة مثل تلك المراتب المختلفة ناشئة عن ملاحظة الوجود الشخصي

390
في الأزمنة المتعددة بلا اقتضاء ذلك المقدار اختلافا في [حدوده] الشخصية
ولا تكثرا في مراتبها الذاتية، كما هو الشأن في صورة ملاحظته في أمكنة
متعددة.
وفي قبالها الأمور التدريجية التي كانت وجودها في كل آن في حد مخصوص
غير حد ثابت له في آن آخر. بل كان مثل ذلك الوجود ما دام [متحققا] مشغولا
بخلع ولبس آخر، ولكن لا يضر هذا المقدار أيضا بوحدته الشخصية الخارجية،
إذ مدار صدقها على اتصال وجوده المحفوظ بين تلك الحدود المتجددة المختلفة بلا
تخلل عدم في البين.
نعم ربما ينتزع العقل من اختلاف تلك الحدود مراتب مختلفة من الوجود
على وجه ينعدم بعضها ويوجد بعض آخر، ولا يزال شأن تلك الوجودات
التصرمية إلا مشغولة بانوجاد مرتبة وانعدام مرتبة أخرى مع حفظ أصل الوجود
[الذي] يكون منشأ انتزاعه من بين تلك المراتب، ولكن هذا المقدار لا يوجب
[جعله] من الأمور القارة التي شأنها عدم تغاير حدودها بمرور الزمان [عليها]،
إذ قد عرفت أن شأن الوجود المزبور في كل آن كونه في حد مخصوص ومرتبة
مخصوصة، غاية الأمر اتصال وجوده من حيث المراتب - من جهة عدم تخلل
العدم في البين - صار منشأ وحدته الشخصية الخارجية، وإلا فهو بنفس ذاته
ليس إلا مجمع الحدود والجهات، بحسب ما لها من المراتب الموهومة المتصورة
بقياس وجوده الآني إلى وجوده سابقا ولاحقا، كما أنه في كل آن مرتبة خاصة،
غير ما هو متحقق سابقا ولاحقا وإن اتحدت المراتب المزبورة ذاتا [و] وجودا
خارجيا.
وعليه فحينئذ تقسيم الحركة إلى القطعية والتوسطية، وجعلهم [الأخيرة]
من الأمور الحقيقية القارة، دون الأولى [المنتزعة] من حيث امتدادها القابل

391
للتقطعيات الموهومة غير الموجودة فعلا أو المتدرجة خارجا (1)، بظاهره غير
مستقيم.
وذلك لما عرفت من أن الأمور القارة لا [تكاد تختلف فيها] حدود الوجود
ومراتبه باختلاف الآنات المارة عليه، بل الوجود في الآن السابق [عين] ما هو
باق في الأخير حدا ومرتبة. بخلافه في المقام، إذ ما هو محفوظ بين المبدأ والمنتهى
ليس على نحو يكون مجمع حدوده ومراتبه محفوظا في كل آن وأين، بل الموجود
في كل آن وأين غير ما هو موجود في آن وأين آخر من حيث الحدود والمرتبة،
وإن كان عينه ذاتا وشخصا بالمعنى المتقدم، بملاحظة اتصال تلك المراتب على
وجه [لا] يكون تخلل عدم في البين، ولكن ذلك المقدار لا يوجب صدق " القار "
عليه.
ولذلك ترى [انهم] استشكلوا في أسماء الزمان: بأن الذات المتلبسة بالمبدأ
بنفسها منقضية، لا أن الانقضاء مختص باتصافها بمبدئها، فذاك الاشكال في
الحقيقة صار منشأ الاشكال في باب الاستصحاب أيضا، بملاحظة أن الذات



(1) إشارة إلى ما حققه الفلاسفة في مسألة وجود الحركة، فإنهم قالوا: إن الحركة اسم لمعنيين:
الأول: الأمر المتصل الذي يبدأ من المبدأ وينتهي في المنتهى، وهذا ما لا حصول له في
الخارج، لأن المتحرك ما دام لم يصل إلى المنتهى فالحركة لم توجد بتمامها، وإذا وجدت فقد
انقطعت وبطلت. فإذا لا وجود له في العين بل هو في الذهن. وهذا مما يسمى بالحركة
القطعية.
الثاني: هو كون الجسم متوسطا بين المبدأ والمنتهى بحيث كل حد من حدود المسافة
فرض فهو ليس قبله وبعده فيه. وهذا هو الامر الموجود في الخارج ويسمى بالحركة
التوسطية. راجع: الاسفار 3: 31.
392
المتلبسة بالصفة إذا كانت بنفسها منقضية، فلا يكاد [يصدق] على مثلها بقاء ما
سبق، إذ شأن البقاء من الذات هو كون الوجود في الآن الثاني [عين] الوجود في
الآن الأول ذاتا وحدا ومرتبة، وإلا فمع فرض اختلاف [الوجود] من جميع
الجهات لا يكاد يصدق عليه البقاء لما سبق، بل هو في كل آن مرتبة أخرى حادثة
متجددة، وإن كان باتصال وجودها [بالسابق] ينتزع منهما وحدتهما شخصا،
ولكن لا يوجب هذا المقدار صدق [البقاء] الذي هو مدار عدم [نقضه].
وحينئذ لا [تكاد تنحل] تلك الشبهة إلا بأمور:
إما بدعوى كفاية الوحدة الشخصية الخارجية - المنتزعة عن فقدان
التخلل بالعدم - في صدق البقاء حقيقة.
أو بدعوى أوسعية صدق النقض عن مورد صدق البقاء بالمعنى المزبور
كذلك.
أو بدعوى صدقهما في المقام عرفا مسامحة، وذلك أيضا إما بدعوى: أن
هذا المقدار من الوحدة الشخصية - المحفوظة بين الحدود المتبادلة والمراتب
المتفاوتة - منشأ مسامحتهم في صدق البقاء على مثله، أو بدعوى: ان بوجود أول
مرتبة من مراتبه يصدق عليه الحدوث وبتلاحق بقية المراتب يصدق عليه البقاء.
وربما يصدق عليه بالمسامحة [الأخيرة] أيضا بالنسبة إلى بعض العناوين
المنتزعة عن مجموع قطعات مخصوصة محصورة بين الحدين، كاليوم والليل
والساعة والدقيقة وأمثالها، بخلاف المسامحة من الجهة الأولى، إذ مجرد الإغماض
عن تعدد المراتب وصدق البقاء على مثلها إنما يتم في صورة عدم دخل المراتب
المتلاحقة في صدق أصل اليوم أو الليل مثلا، وإلا فلا يكاد يتحقق الحدوث إلا
بلحوق بقية الاجزاء أيضا. فمع ذلك كيف يصدق على البقية بقاء عنوان اليوم.
ومن هنا ظهر عدم تمامية تصحيح البقاء بالوجه الأول أيضا، وهكذا الوجه

393
الثاني، ولذا اقتصر الشيخ (رحمه الله) (1) في الفرض المزبور على المسامحة المسطورة
أخيرا.
[فبالتوجيهات] المذكورة [حينئذ] إنما يصح أمر الاستصحاب في الزمان
و [أمثاله] من التدريجيات من حيث شبهة اختلاف القطعات الموجودة ومغايرة
الموجود الفعلي [للمعلوم] سابقا على وجه كان مجال شبهة كون المورد من باب
الشك في الحدوث، لا من حيث شبهة دخل المراتب المتلاحقة في صدق أصل
العنوان على وجه لا يكاد يصدق عليه العلم بالحدوث. وفي الحقيقة مرجع تلك
الشبهة إلى التشكيك في صدق الحدوث على ما علم سابقا، ومرجع الشبهة
الأخرى إلى التشكيك في صدق البقاء على تجدد المراتب المتلاحقة، وتلك الشبهة
جارية في جميع الأمور التدريجية، بخلاف الشبهة الأخرى فإنها مختصة ببعض
العناوين الحاكية عن مجموع قطعات متصلة محدودة بين الحدين ومحصورة بين
الحاصرين.
ثم لا يخفى أن الاستصحاب الجاري في الزمان وغيره من التدريجيات إنما
يكون بنحو مفاد " ليس " التامة وإلا [فبنحو] مفاد " كان " الناقصة المقتضية
لاثبات نهارية الآن المخصوص فلا يكاد يجري ابدا، لعدم احراز الحالة السابقة
لهذا المعنى. وحينئذ فكل أثر يترتب على مثله لا يكاد يثبت ببركة الاستصحاب
كما هو ظاهر. نعم لا بأس بترتب الآثار المترتبة على المعنى الأول من دون فرق
بين كون مورد الاستصحاب نفس القيد أو المقيد به، وذلك أيضا بشرط كون
الشك في بقاء القيد من جهة الشبهة الموضوعية وإلا ففي الشبهة المفهومية لا
يعم الامر في الاستصحاب في مورد من موارده، لأن مرجع الشبهات المفهومية



(1) راجع فرائد الأصول: 644 - 645.
394
طرا إلى تعلق الشك بأمر عرضي خارج عن مورد الأثر فيكون حالها حال
الشخص المردد الذي قد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه بالتقريب المتقدم.
نعم في فرض كون الشبهة موضوعية صرفة لا فرق في جريان الاستصحاب بين
صورة الشك في قيدية الأمر الموجود - كما هو الشأن في فرض كون الشبهة حكمية
محضة (1) -.
ثم في فرض قيدية الزمان في الحكم أو موضوعه لا بد وأن يكون [للقيد]
نحو امتداد قابل الاعتبار والاستمرار فيه وإلا فلو فرض دخل كل آن في
موضوع الحكم فلا يكاد يجري الأصل في القيد بل ولا في المقيد أيضا، بل
المشكوك حينئذ تحت استصحاب العدم، وربما يشك بأنه من أي نحو،
فلا يجري في مثله الاستصحاب لا وجوديا ولا عدميا لاحتمال انتقاض العدم
الأزلي بالوجود.
وتوهم أن المنقلب إلى الوجود من الاعدام الأزلية هو العدم في الزمان
المعين وإلا [فبقية] الأعدام [باقية] تحت الاستصحاب.
مدفوع بان ذلك صح في فرض احراز كون القيد من [قبيل] الأول،
وإلا فعلى فرض كون القيد أمرا واحدا مستمرا لمقيد واحد كذلك فلا يكاد
يجري الاستصحاب المزبور، لأنه بعد فرض تجريد العرف مثل هذا الوجود
عن خصوصية القطعات التحليلية بحسب الآنات المتعددة فحينئذ لا [يرونه]
إلا وجودا واحدا بحتا غير متكثر على حسب التقطيعات المزبورة، ومثل
هذا الوجود ليس له إلا عدم واحد انتقض بوجوده، وبعد هذا لا يبقى محل
الاستصحاب للوجود، والجمع بين النظرين أيضا في هذا المقام غير ممكن.



(1) لم يذكر الصورة الثانية للشك، ولعلها: وبين صورة الشك في وجود القيد.
395
ومن هذه الجهة نلتزم ببطلان توهم تعارض استصحابي الوجود والعدم
حتى [لو] كان الحكم ثابتا للطبيعة السارية ضمن القطعات المستمرة في الآنات
المتوالية ولو لم يكن الزمان إلا ظرفا محضا، من دون اختصاص مورد توهم
التعارض المزبور بصورة اخذ كل آن قيدا وعدمه كي يرد عليه باحتياج
التعارض المزبور إلى التجريد عن الزمان وعدمه كما هو ظاهر.
ثم لا يخفى ان الأسباب المجعولة لمسببات مخصوصة - نظير أسباب الملكية
والطهارة والحدث - [ليست] من قبيل الأسباب الخارجية التي [كانت] نسبتها
إلى المسببات المزبورة من قبيل [نسبة] المؤثرات إلى اثرها الموجب لكونها إما
مؤثرة في حدوثها، وأما بقائها فمستند إلى استعداد ذاتها كي لا يضر ببقائها انعدام
أسباب حدوثها كبقاء بعد بقاء الثاني (1)، أو مؤثرة في بقائها أيضا المستلزم
لانعدام البقاء بانعدام بقاء العلة، بل هي من باب الأمور الاختراعية الباعثة لمنشأ
اختراعها، فربما يكون مثلها بوجودها إلا في منشأ اختراع المنشأ إلى الأبد بلا
صلاحية شئ لرفع مثله (2).
وتارة يكون [بحدوثه] منشأ اعتبار بقاء الشئ كذلك مع صلاحية اعتبار
رفعه برافع مخصوص، ومرجع هذا الاعتبار أيضا إلى دخل عدم الشئ المزبور في
اعتبار بقائه.
وتارة أخرى يكون الشئ بحدوثه منشأ اعتبار حدوث الشئ وبقاؤه
منشأ اعتبار بقائه. واما فرض كون الشئ بحدوثه منشأ اعتبار حدوث الشئ
محضا و [كون] بقائه مستندا إلى استعداد ذاته فهو في مثل الأمور الاعتبارية غير



(1) هكذا في الأصل، ولعل الصحيح: كبقاء البناء بعد فناء الباني.
(2) هكذا في الأصل.
396
متصور لاستحالة استعداد لذاتها بلا دخل لمنشأ اعتبارها فيها، لأنها في الحقيقة
فيئ منشئها، فلا جرم يكون منشئها دخيلا بحدوثه في بقاء الشئ غاية الأمر في
ظرف عدم الامر الفلاني.
ومثل ذلك المعنى في المؤثرات الحقيقية غير متصور ولذا لا بد فيها من
انعزال السبب عن دخل مثله بالنسبة إلى بقاء الشئ بل تمام السبب في بقائه
استعداد ذاته فالمؤثرات الحقيقية في طرف الانعكاس مع الاختراعيات في مثل
هذا الفرض.
وحينئذ فجعل الأسباب الشرعية من سنخ المؤثرات الخارجية في كونها
سبب حدوث الشئ وأن بقاءه مستند إلى استعداد ذاته فرع خروجها عن عالم
الاعتبارات ودخولها في المؤثرات الحقيقية وهو بمعزل عن التحقيق، كيف وفي مثل
تلك الأسباب نرى بالوجدان سببية الايجاب المعدوم حال القبول للملكية،
والالتزام بسببية الايجاب ومثله لامر آخر هو باق إلى حين " تاء " " قبلت " مما
يقطع بخلافه، وبتلك الملاحظة أيضا تصورنا سببية الإجازة المتأخرة للملكية
السابقة ووجهنا [بها] الكشف المشهور خلافا لمن استشكل فيه بخيال كونها من
المؤثرات الخارجية، وحينئذ العجب كل العجب من العلامة الطوسي (1) حيث إنه
في المقام أيضا مشى بمشي شيخنا العلامة (قدس سره) (2) بجعلها بحدوثها أسبابا لحدوث
مسبباتها وأن بقاءها مستند إلى استعداد في ذاتها، والحال أن مثل هذا المعنى شأن
المؤثرات الحقيقية وهو في كمال التجنب عن هذا المعنى في مكاسبه (3) وجعل



(1) راجع كفاية الأصول: 467.
(2) راجع فرائد الأصول: 649.
(3) راجع المكاسب: 94 و 225.
397
أساس مثل هذه الأمور على الاختراعية عن منشأ مخصوص بلا التزامه بتأثير
وتأثر كما لا يخفى على من لاحظ.
[7 - الاستصحاب في الأمور التعليقية]
ومنها: أن المستصحب تارة يكون وجودا تنجزيا وأخرى أمرا تعليقيا،
وعلى الأخير فتارة يكون التعليق منتزعا عن جعل الشارع، [وأخرى] يكون
من الخارجيات [غير] المرتبطة بجعله ابدا، وعلى الأول فتارة يكون التعليق
المزبور واردا في لسان الدليل، وأخرى ليس كذلك بل العقل ينتزع التعليقية
المزبورة من جعل حكمه لعنوان مخصوص بنحو التنجيز، مثل ما لو ورد في لسان
الدليل وجوب اكرام العالم المنشأ لانتزاع قضية أخرى بأنه: لو كان الانسان عالما
[لوجب] اكرامه.
وقد يظهر عن البعض في بحث منجزات المريض من ملحقات حاشيته على
المكاسب التفصيل في [القضايا] التعليقية بين ما كانت واردة كذلك في لسان
الدليل وبين ما ينتزعها العقل من سائر القضايا التنجيزية الشرعية بجريان
الاستصحاب في الأولى دون الثانية باعتذار أنها ليست شرعية ولا لها اثر كذلك
بل عقلية محضة.
ولكن لا يخفى من أن مدار شرعية الأثر في باب الاستصحاب ليس على
الشرعية بلا واسطة بل كل ما ينتهي أمر رفعه ووضعه إليه ولو بالواسطة فهو كاف
في بابه. وبهذه الملاحظة قلنا بأن الكلام في جعلية الأحكام الوضعية وانتزاعها
غير مثمر في مقامنا بل على فرض الانتزاعية أيضا يكفي مجرد انتهاء أمر وضعها
ورفعها إلى الشارع في شرعية الأثر في باب الاستصحاب.

398
نعم هنا اشكال آخر سار في كلية التعليقات حتى الواردة كذلك في لسان
الدليل، وهو أن مرجع التعليق المزبور إلى الملازمة بين وجود الشئ ووجود
الحكم وتلك الملازمة بنفسها ليست من الأحكام الشرعية بل [هي] اعتبار عقلي
قائم بالحكم، وعموم حرمة النقض غير ناظر إلى غير الأحكام وغير ما هو
[موضوعها].
ولا يخفى ما في هذا التوهم والاشكال أيضا بأن مجرد خروج مثل هذا
الاعتبار عن حقيقة الحكم لا ينافي [مجعوليته] ولو بتوسيط جعل الحكم بمعنى كون
أمر [بقائه ورفعه] بيد الشارع ولو بتوسيط رفع حكمه عند وجود ملزومه.
فحينئذ بناء على كون الاستصحاب في المجعولات الشرعية [منتجا] لجعل
مماثله ظاهرا، فنتيجة الاستصحاب في تلك الملازمة أيضا جعل مماثلها، ومن
المعلوم أن لازم تلك الملازمة المجعولة أعم من الواقعية والظاهرية، فعليه وجود
الملزوم عند وجود اللازم ينتهي - ببركته - إلى حكم العقل بوجوب الامتثال في
مقام العمل، فحينئذ لا قصور في عمومات الباب عن الشمول لمثل تلك الملازمات
الشرعية والاعتبارات العقلية.
نعم قد يستشكل الأمر بناء على التحقيق من عدم كون الاستصحاب حتى
في الأحكام الشرعية [منتجا] لجعل مماثل المعلوم سابقا، بل كان [مفاده] الأمر
بالمعاملة مع المتيقن معاملة الواقع، ومرجع ذلك إلى ادعاء [وجوده] بلحاظ ما
يترتب عليه من العمل لا إلى جعل مماثل [له] في مرتبة متأخرة عن الشك
بالواقع، إذ حينئذ يجئ في البين: ان استصحاب الملازمة يرجع إلى تنزيل
الملازمة الواقعية منزلة الوجود بلحاظ ما يترتب عليه من العمل بلا جعل
ملازمة حقيقية في مرحلة الظاهر، ومن البديهي ان العقل لا يحكم حينئذ بملازمة
تنزيل الملازمة مع تنزيل وجود الملزوم عند وجود اللازم ولا مع وجوده حقيقة،

399
فيبقى التنزيل المزبور منفردا عن وجود لازمه حقيقة أم ادعاء، ومن البديهي ان
مثل هذا المعنى لا ينتهي إلى أثر عملي أصلا، ومثله غير مندرج في عمومات الباب
كما هو ظاهر.
هذا ولكن لا يخفى ان هذا الاشكال مبني على المذهب المشهور من أن
مرجع التعليقات الشرعية إلى مجرد جعل الملازمة بين [وجود] الشئ ووجود
الملزوم خارجا كما هو الشأن في التعليقات غير الشرعية من الأوصاف واللوازم
المنوطة بوجود موصوفاتها خارجا، بحيث قبل وجود الموصوفات في الخارج
لا يكون في البين حقيقة الملزوم أصلا بل ليس إلا مجرد الأمر الاعتباري العقلي
المعبر عنه بالملازمة بين الوجودين، كما أشرنا إليها في طي التقرير على طبق
المشهور، وإلا فبناء على التحقيق في تعليقات الأحكام من رجوعها إلى جعل
حقيقة الحكم منوطا بوجود [شروطه] في فرضه ولحاظه، كما هو الشأن في مثل
تلك الصفات الوجدانية من الإرادة والكراهة، فلا بأس بدعوى كونها بمثل هذا
النحو من الوجود موضوع الأثر العملي ومناط حكم العقل بوجوب الامتثال عند
تحقق المنوط به في الخارج من دون حصول تغيير في الحكم المزبور بوجود ما أنيط
به في الخارج أبدا بل الحكم المزبور بنحو كان حاصلا ومتحققا قبل تحقق الشرط
في الخارج.
ولذا نقول بعدم انقلاب الواجب المشروط عن كونه كذلك حين حصول
الشرط، نعم إنما يترتب على وجود شرطه حكم العقل بوجوب امتثاله وهذا معنى
إناطة فاعليته ومحركيته بوجود شرطه بلا تغيير في عالم فعليته. فتمام موضوع
حكم العقل بترتب الأعمال هو هذا الحكم العقلي المنوط، غاية الأمر لا مطلقا بل
[بشرط] فعلية شرطه خارجا.
وحينئذ فلا قصور في ادعاء مثل هذا الحكم عند تحقق المنوط به خارجا في

400
ظرف الشك به بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال بلا التزام بجعل مماثل حقيقة في
مرحلة الظاهر ابدا.
ثم إن ذلك أيضا على فرض مشي القوم من جعل اليقين في الباب طريقا
لإيصال حرمة النقض إلى المتيقن، وإلا فبناء على التحقيق من كونه بنفسه
موضوع حرمة النقض بلحاظ ما يترتب عليه من العمل - على ما أسلفنا - فلنا
تقرير آخر من إجراء الاستصحاب في مثل هذه التعليقيات حتى على المذهب
المشهور في الواجب المشروط بلا احتياج أيضا إلى جعل مماثل ابدا، وذلك
بدعوى أن اليقين بالملازمة في كل مقام مستتبع لليقين بوجود الشئ منوطا
بوجود الملزوم في فرضه ولحاظه، ولذا يصح الإخبار عن وجوده كذلك جزميا
مقرونا بألف حلف، ويقال في الليل: لو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.
وتوهم: أن ذلك إخبار عن الملازمة، غلط واضح، إذ المخبر به هو وجود
الملزوم في ظرف وجود لازمه وهو غير الملازمة. وليس ذلك أيضا إخبارا [عن]
الوجود المنوط في ظرف تحقق ما أنيط به، إذ هذا الوجود المنوط ربما لا يكون
متحققا في العالم ولو من جهة استحالة المنوط به، ومع ذلك يصح الإخبار عنه، كما
في الإخبار عن فساد العالم في ظرف تعدد الآلهة، وليس ذلك إلا من جهة أن
القطع بهذا الوجود منوط بفرض تعددها في لحاظه لا من جهة القطع مطلقا
بالوجود المنوط، ولذا نقول: بأن في مثل هذا المثال أصل اخباره منوط بتبع إناطة
تصديقه به وجدانا لا انه إخبار بوجود أمر منوط، كيف وفي المثال الثاني كذب
محض كما لا يخفى.
وحيث كان الأمر كذلك فنقول: إن قضية القطع بإناطة الوجوب بأمر كذا
- على المذهب المشهور - القطع المنوط بوجوده بتحقق الوجوب، ومن المعلوم أن
مثل هذا القطع المنوط مما يترتب عليه العمل عند تحقق المنوط به خارجا، ولازمه

401
شمول حرمه نقض اليقين لمثله أيضا.
وتوهم أن موضوع العام وهو القطع الفعلي بالوجود مطلقا أم منوطا، وفي
المقام لا يكون قطع فعلي منوط بوجود شئ، إذ في الزمان الثاني كانت الملازمة
حسب الفرض مشكوكة والقطع المنوط إنما يتحقق في ظرف القطع بالملازمة وهو
ليس إلا [في] الآن السابق، فليس في البين قطع فعلي ولو منوطا كي يتوجه إليه
حرمة نقضه بالشك.
مدفوع: بأن ما هو مفقود فعلا هو القطع المنوط بالوجود الفعلي، أما القطع
الفعلي منوطا بالوجود السابق فهو غير حاصل جزما، غاية الأمر كما أن قيد
السبق واللحوق لا بد من إلقائهما في ظرف المتعلق لا بأس بإلقائهما عرفا أيضا في
ظرف المنوط به، فيقال - بنحو الاهمال -: ان اليقين الفعلي بوجود شئ [منوطا]
بوجود شئ آخر لا ينقض بالشك بهذا الوجود لا ينقض بالشك مسامحة منوط
بالوجود الاخر كذلك (1).
ثم لا يخفى أن مثل هذا البيان أيضا جار في التعليقات الخارجية
غير الشرعية التي يكون الأثر الشرعي فيها مترتبا على الوجود المنوط،
وربما يتفرع على مثل هذا البيان الحكم بوجوب التيمم في فرض كون الشخص
مقرونا بوجود ماء وواجدا لمايع آخر شك في اضافته على وجه ليس له حالة
سابقة، ثم فقد الماء الأول، فان مقتضى الاستصحاب التعليقي هو الحكم بالفقدان
على تقدير تلف الماء الأول قبل حصول مشكوك المضافية، والآن كما كان
فيترتب عليه حكم الفقدان من صحة تيممه بلا احتياج أيضا إلى حديث رفع
الواجدية كي يرد عليه بأنه لا يثبت به التكليف لإنه خلاف الامتنان، ومع هذا



(1) كذا في الأصل.
402
الأصل أيضا لا [تنتهي] النوبة إلى حكم العقل بالجمع بين الوظيفتين من جهة
العلم الاجمالي كما لا يخفى.
نعم لو بنينا على أن حرمة النقض متوجهة إلى المتيقن لا يكاد [يجري] مثل
هذا الاستصحاب، لأن الملازمة المعلومة لا يكاد يترتب [عليها] اثر شرعي، وما
هو موضوع الأثر من لوازمه العقلية الواقعية [غير] الثابتة بالاستصحاب حتى
بناء على مشرب من التزم في الشرعيات بجعل المماثل فضلا عن المصير فيها إلى
البناء على الوجود والتعبد به عملا محضا، بل وبناء على ذلك المشرب ربما يعارض
الاستصحاب التعليقي في الشرعيات مع استصحاب التنجيزي السابق، إذا كان
ارتفاعه في فرض وجود المعلق عليه بمناط المعارضة وتقديم جانب التعليق
لحكومة بقاء التعليق على مثله.
وأما بناء على مشربنا فقد يتوهم عدم وصول النوبة إلى المعارضة أصلا، إذ
كما يجري استصحاب الحرمة التعليقية كذلك يجري استصحاب عدم الوجوب
منوطا بعدم المعلق عليه، وان [كان] مثل تلك الإناطة عقلية محضة من قبيل
تزاحم المناطين.
ولكن لا يخفى ما فيه من انه كما أن لنا حينئذ قطعا بعدم الوجوب منوطا
بالمعلق عليه للحرمة، كذلك لنا أيضا قطع مطلق بوجوب الشئ منجزا،
وكل واحد من القطعين مشمول [لحرمة] النقض بلا وجه لتقدم أحدهما على
الآخر بعد فرض عدم كون ارتفاع أحدهما من آثار الآخر شرعا كي يصير أحد
الاستصحابين حاكما على الاستصحاب الآخر كما لا يخفى.
وعليه فلا يخلو مثل تلك المقامات عن شبهة المعارضة على أي واحد من
المشربين، بل وربما يبتلي الاستصحاب في التعليقات الخارجية - على مشربنا -
غالبا باستصحاب نقيضه أو ضده المعلق بنحو التنجز.

403
نعم في بعض الموارد - كما في الفرع السابق - لا يجري الاستصحاب
التنجزي في طرف النقيض، لأنه من الاستصحاب الكلي القسم الثالث، وفي مثله
لا بأس بالتمسك بالاستصحاب التعليقي المثبت لوجوب التيمم بلا معارض كما
لا يخفى.
[8 - استصحاب الأحكام الثابتة للأفراد المتدرجة في الوجود]
ومنها: انه لا فرق في جريان الاستصحاب بين كون المستصحب حكما
ثابتا لاشخاص باقية إلى زمان الشك، أو حكما كليا ثابتا لعنوان كلي منطبق على
الاشخاص [التدريجية]، متباين الوجود مع الموجودات في زمان اليقين، من
دون فرق بين أن يكون مثل هذا الحكم من احكام تلك الشريعة المطهرة أو من
السابقة عند احتمال عدم نسخه بهذه الشريعة.
وتوهم: أن اختلاف الاشخاص في الزمانين موجب لاختلاف الموضوع
ومنشأ للشك في الحدوث، إذ لا يتصور مع الشك في نسخه الشك في بقائه محضا إلا
على فرض تصوير البداء الحقيقي، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
مدفوع: بأن بعد ثبوت الحكم بالنسبة إلى [القطعة] السارية في ضمن
الافراد لا يكاد [يثبت] اختلاف الموضوع في القضية المتيقنة، فبالنسبة إلى
تلك القطعة شك في البقاء محضا، نعم حدوث شك في انطباقها على الأفراد
التدريجية أيضا، وهذه الجهة من [اللوازم الأعم] لبقاء الطبيعة واقعا أم ظاهرا،
ولولا تلك الجهة يشكل أمر الاستصحاب في غالب الموارد، إذ الحكم التكليفي
متعلق بأفعال المكلفين بعنوان كلي مع كون مصاديق الفعل بحسب الزمان تدريجية،
فلولا سراية عنوان الاكرام - الموضوع لبقاء الوجوب بحكم الاستصحاب -

404
[إلى] شخص الاكرام الصادر منه في زمان الشك لما يثمر استصحابه ابدا كما
هو ظاهر.
نعم قد يستشكل في العمومات الاستغراقية الحاكية عن إنشاء أحكام
متكثرة لاشخاص متعددة، فإن جهة الوحدة الملحوظة في تلك القضايا - وهي
عنوان تمام الافراد - وإن كانت من العناوين المبهمة القابلة للانطباق على مصاديق
مختلفة حسب اختلاف زمان بقائها، نظير مفهوم الجمع القابل للانطباق على أقل
المراتب [و] أكثرها، ويتصور في حقها البقاء الموجب لسعة دائرة انطباقها، ولكن
من المعلوم أن مثل هذا العنوان - سواء اخذ في لسان الدليل حرفيا أو اسميا - ليس
بنفسه موضوع الحكم الشرعي ابدا، بل هو في الحقيقة نفس المتكثرات التدريجية،
وأن مثل هذا العنوان من العناوين العرضية المشيرة إليها، كعنوان أحد الفردين في
الفرد المردد، و [في] مثل تلك العناوين العرضية الخارجة عن موضوع الأثر
الشرعي لا يصلح امر الاستصحاب، بل لا بد من اعتبار بقاء في ما هو واقع
الموضوع، وحينئذ [ففي] مثل تلك القضايا لا يتصور الشك في بقاء ما هو موضوع
الحكم الشرعي لان الموجودات في زمان الشك غير المحكيات بالعنوان المزبور في
القضية المتيقنة، كيف ولو كانت محكية [لما كان] مجال [للشك] في بقاء حكمها، بل
الحكم المزبور - على فرض حدوثه لها - مقطوع البقاء، وإنما الشك ممحض في
حدوثه لها ولو من جهة ملازمة الشك في نسخه منه بعد استحالة حقيقة البداء في
حقه تعالى.
ومثل هذا الاشكال أيضا في الالتزام بشمول الحكم في الآن الأول لجميع ما
يتصور له من الفرد في هذا الآن أعم من الفعلية والفرضية، فإنه حينئذ [تكون]
الافراد المتصورة الفرضية تحت حدوث الحكم في الأول ونشك حينئذ في بقائه
بالنسبة إلى الزمان الثاني الذي صارت الفرضيات [فيه] فعلية.

405
وتوهم: أن الحكم الثابت للفرضيات ليس [فعليا] وإنما هي
احكام اقتضائية و [استصحابها] لا ينتج في فعليتها إلا على القول بالأصول
المثبتة.
مدفوع: بأن الغرض من نفي فعليتها إن كان نفي فعلية الإرادة [المتوجهة]
إليها فهو باطل جدا، إذ لا قصور في توجه الإرادة [إلى] الفرضيات بعد العلم
بتمامية المصلحة فيها، وإنما انعدامها مانع عن محركية الإرادة [نحوها]، وهذه
المحركية من شؤون حكم العقل بوجوب امتثالها و [هي] من اللوازم [الأعم] من
الواقع والظاهر، وليس بمثبت أصلا. نعم [من] التزم بعدم الإرادة الفعلية نحو مثل
تلك الوجودات وجعل مثل تلك الأحكام اقتضائية محضة فهو في ضيق من هذا
الإشكال، إذ ترتب فعلية الإرادة على الوجود إنما هو من اللوازم العقلية الواقعية
وشأن الأصل ليس اثباتها، ولذا قلنا في القضايا التعليقية أيضا بأن [جريان
الاستصحاب فيها] فرع الالتزام بكون وجود المعلق عليه خارجا دخيل في
محركية ارادته لا فعليتها، وإلا فيشكل أمر اثباتها بناء على ارجاع الاستصحاب
إلى الأمر بالمعاملة مع المتيقن معاملة الواقع لا إلى جعل المماثل، وإلا [فترتب]
الفعلية المزبورة عند وجود المنوط به من [اللوازم الأعم] الخارج عن مرحلة
[المتيقنية] كما لا يخفى.
ومن هذا البيان نقدر على اجراء الاستصحاب في المقام بنحو التعليق، بان
نقول: ان الوجودات في زمان الشك سابقا لو كانت موجودة لكانت محكومة
بحكم كذا والآن كما كان، وذلك واضح.
ثم بعد هذا البيان لا يحتاج إلى فرض وجود مدرك الزمانين، كي
يستصحب الحكم في حقه ويلحق الباقي به بعدم الفصل كي يحتاج في اثبات
الاشتراك في خصوص الحكم الواقعي [إلى شئ] في المقام فتدبر.

406
[9 - الأصل المثبت]
ومنها: أن مرجع حرمة نقض اليقين بالشك إلى وجوب المعاملة مع المتيقن
السابق معاملة بقائه، ومثل ذلك المعنى مشتمل على عناية تنزيل وادعاء بقاء
للمعاني بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال، نظرا إلى جعل أثر مماثل لما تيقن
أصلا، من دون فرق في هذا المعنى أيضا بين فرض كون المتيقن السابق حكما أو
موضوعا. ففي الحقيقة نظر أمثال تلك التنزيلات إلى الآثار العملية لا الشرعية
وإنما شرعيتها مستفادة من الأمر بتلك المعاملة بعنوان كونها أعمالا شرعية في
بنائه.
وحيث كان الأمر كذلك فنقول: إن قضية تنزيل الحياة والأمر بالبناء
[عليها] تارة [هي] توسعة الحياة من حيث [موضوعيتها] لوجوب الانفاق،
وتوسعة الحياة من هذه الحيثية عين توسعة [محمولها] من وجوب [انفاقه]
و [بتوسعة] وجوب [انفاقه] بلحاظ ما يترتب عليه [من] العمل خارجا
بتلك العناية يصدق ان التنزيل في المتيقن بلحاظ ما يترتب عليه من العمل بلا
واسطة. وأخرى [هي] توسعة الحياة بلحاظ التعبد [بأثرها] الشرعي بلا
واسطة والنظر إلى التعبد [بأثرها] كذلك إلى أن ينتهي إلى العمل ولو بألف
واسطة. وعلى التقديرين لا بأس بشمول اخبار التنزيل [للآثار] الشرعية
المترتبة على الحياة بتوسيط آثار عقلية أو عادية، لإمكان إجراء كلا التقريبين
فيه. ولا [تكاد ترفع] تلك الغائلة بمجرد الالتزام بكون نظر التنزيل منصرفا إلى
الآثار بلا واسطة، إذ مع فرض هذا الالتزام أيضا لا بأس بتصحيح الأصول المثبتة
بالتقريبين السابقين.

407
فحينئذ لا بد في مقام الفرار عن الأصول المثبتة من دعوى انصراف آخر
من كون نظر أمثال تلك الرواية [في] التنزيلات المزبورة هو توسعة القضايا
الشرعية بلا شمولها للقضايا العقلية والعادية.
وتوهم: عدم الاحتياج إلى هذه الدعوى بل يكفي عدم صلاحية مثل تلك
الآثار للجعل حقيقة في مقام التشريع، ومن الواضح كون النظر في تلك التنزيلات
إلى جعل مثل الأمر حقيقة.
مدفوع: بما أشرنا أولا: أن الأمر بالبناء على شئ غير بناء نفس الشارع
على الشئ، وان ما هو مستتبع لجعل مماثل الأمر هو الثاني لا الأول، بل الأول
لا يستتبع إلا البناء على وجود الأمر لا وجوده حقيقة، ولذا قلنا أيضا: بأن
مرجع أمثال تلك التنزيلات إلى التعبد بآثارها لا إلى جعلها حقيقة.
مع أن لازم ما أفيد عدم شمول حرمة النقض [لموارد] ترتب الأثر الشرعي
العملي على آثار شرعية سابقة خارجة عن محل الابتلاء رأسا، كما يتصور فرضه
بتعلق [الأمر] بأمور [طولية] بعضها خارجة عن محل ابتلاء المكلف، فإنه بناء
على كون تنزيل الحياة بلحاظ جعل مماثل الأمر بلا واسطة حقيقة [يستحيل]
شموله لمثل المقام، إذ لا يعقل جعل حقيقة التكليف بالنسبة إلى الأعمال الماضية
الخارجة عن محل الابتلاء فعلا، فلا محيص في مثله من دعوى كون التنزيل في هذا
المقام مستتبعا لوجود الأمر بناء لا حقيقة، ووجوده كذلك بلحاظ وجود أمره
كذلك إلى أن ينتهي إلى العمل.
وعليه فما لم يحرز الانصراف - الذي نحن [ادعيناه] في هذه العمومات - لا
يكاد يخرج بعض الأصول المثبتة عن تحت العام، وهو الجاري بلحاظ الأثر
الشرعي المرتب على [الأثر] العقلي والعادي، واما بلحاظ الترتب على اللازم
والملزوم فلا [تكاد تثبت] حجيتها حتى على تقريبنا، وذلك ظاهر. وعليك

408
بالتأمل فيما ذكرنا تراه حقيقا بالقبول.
وهم ودفع: لعلك تقول: إنه بناء على مشرب كون نظر التنزيل إلى جعل
مماثل الأمر حقيقة وانصرافه إلى الأمر بلا [واسطة] يلزمه عدم شمول عموم
التنزيل للآثار مع الواسطة ولو كانت بتوسيط آثار شرعية، وهو كما ترى.
وتوضيح الدفع بأن قضية جعل الأثر بعناية أنه الأثر الواقعي متضمن
لتنزيل آخر في نفسه المستتبع لجعل أثر آخر بهذه العناية وهكذا إلى أن ينتهي إلى
مقام العمل، وعليه فلا يرد النقض على ذلك المشرب إلا في ما فرضناه من توسيط
الشرعيات الخارجة عن محل الابتلاء غير [القابلة] لجعل مماثل فعلا حقيقة كما هو
ظاهر.
ثم اعلم أن ما ذكرنا في وجه عدم شمول دليل التنزيل بالنسبة إلى آثار
الشئ الثابتة بواسطة الأمور العقلية والعادية جار بالنسبة إلى كل دليل متكفل
لمثل تلك التنزيلات من دون فرق بين كونه من الأصول أو الامارات، فالفرق بين
الأصول والأدلة الاجتهادية حينئذ بالالتزام بحجية المثبت في الثانية دون
[الأولى] ليس من جهة اختلاف دليلهما في كيفية نظر التنزيل فيهما، وإنما المنشأ
الفارق بينهما ممحض [في] اختصاص موضوع التنزيل في أدلة الأصول بخصوص
الملزوم بلا انطباقه على اللوازم أصلا. بخلاف موضوع التنزيل في الامارات فإنها
من جهة حكايتها عن الملزوم واللازم طرا كانت الحكاية المزبورة - التي هي
موضوع التنزيل في الامارات - منطبقة على اللوازم بنحو انطباقها على الملزوم
أيضا. فدليل تصديق حكايتها حينئذ [شامل] لجميع ماله من الحكاية عن الملزوم
واللازم والملازم بلا اختصاص في حجية مثبتها أيضا بنحو دون نحو.
نعم لو فرض في مورد قصور دليل التنزيل عن الشمول لبعض الحكايات
لا بد من الاقتصار فيها أيضا على شمول دليل التنزيل ونلتزم [في] مثله أيضا بعدم

409
حجية مثبته بهذا المقدار، ولكن ليس ذلك من جهة قصور في انطباق موضوع
التنزيل على المورد - كما هو الشأن في الأصول - وإنما هو من جهة قصور في
جريان الدليل بالنسبة إلى تمام موضوعه من الحكاية المزبورة.
ولعل من هذا الباب عدم حجية أصالة الصحة في فعل الغير مع كونها من
الامارات الراجعة إلى اعتبار ظهور حال المسلم في إثبات [لوازمها وملزوماتها]
وإنما [ينحصر] أمر [حجيتها] بالنسبة إلى ترتيب [مالها] من أحكام صحته
و [آثارها]، لعدم قيام السيرة على أزيد من ذلك.
ومن تلك الجهة ظهر لك مطلب آخر من أن مجرد اعتبار الشئ من باب
الكاشفية والأمارية غير ملازم لحجية [مثبته]، وإنما هو تابع اقتضاء دليل
تنزيل [حكايته] لأي مقدار من ذلك كما هو ظاهر.
ثم إن قصور أدلة التنزيل عن الشمول للآثار الشرعية بتوسيط العقلية
والعادية إنما هو في صورة عدم خفاء الواسطة، وإلا ففي هذه الصورة لا قصور
لأدلة التنزيل في شمولها بكل واحد من التقريبات السابقة. ولعله من هذا الباب
بناؤهم على إجراء أصالة عدم وجود المانع في صورة الشك في أصل وجوده في
مجال [الطهارات] الثلاث، إذ مثل هذا العنوان لا يكاد يترتب عليه إلا بتوسيط
الأمر العادي من ملازمته مع وصول الماء أو التراب إلى المحل إلا أنه لخفائه لم يكن
ملحوظا فيجري الأصل لاثبات صحة الطهور.
ولا يرد عليه النقض بصورة الشك في مانعية الموجود حيث إن بناءهم على
الالتفات إليه مع خفاء الواسطة فيه أيضا، وذلك لأن الشك في وصول الماء مسبب
عن الشكين، وإجراء الأصل في أصل وجوده بنحو مفاد كان التامة لا يرفع الشك
عن مانعية الموجود بنحو مفاد كان الناقصة، وهذا الشك أيضا كاف في صحة
الوضوء وغيره بلا أصل يرفعه.

410
ثم إنه قد يلحق بباب خفاء الواسطة صورة الملازمة بين الشيئين على نحو
يلازم تنزيل أحدهما تنزيل الآخر أيضا عرفا. ومن هذا الباب تنزيل القيود من
حيث [طرفية] المقيد فإنه يلازم عرفا مع تنزيل التقييد، ويمكن إلحاقها بخفاء
الواسطة أيضا.
ومن [هذا] البيان يجري الاستصحاب في الشرائط وجودا وعدما لإثبات
صحة المشروط بها وعدمها مع عدم كون مثل هذا الأثر إلا للازم المستصحب
عقلا.
ومن هذا الباب توسعة الموضوع من حيث [موضوعيته] المستتبع لتوسعة
حكمه. وبمثل هذا البيان [يصحح] الاستصحاب في شرائط المأمور به و [قيوده]
مع البناء على عدم كون الشرطية من العقليات المنتزعة عن التكليف - كما هو
المختار - وإلا فأمر جريان الأصل فيها في غاية الوضوح ولو لاقتضائه جعل
المماثل بتوسيط منشئه، ولا نعني من الشرعيات إلا ما كان من هذا القبيل كما لا
يخفى، هذا.
ويمكن تصحيح استصحاب القيود بتقرير آخر أبين من التقرير السابق،
وهو: ان مرجع المقيدات المأمور بها إلى دخل الكينونة في حال كذا في مثل
الطهارة والستر والقبلة وأمثالها في صحة الصلاة، فتلك الكينونة في الحال
المخصوص [وجدانية] وإنما الشك في عنوان ذلك من كونه حالة طهارة أو ستر أو
إلى قبلة وغيرها، فبالاستصحاب [تثبت] تلك العناوين لهذه الحالات
المقارنة للصلاة وجدانا، فيترتب على مثل تلك العنوانات الأثر الشرعي بعد
ثبوت الوجدان المزبور بلا واسطة اثبات أمر آخر بذلك الاستصحاب.
ويؤيد ذلك التقريب ان لازم التقريب الأول جريان الاستصحاب في كل
طرف للإضافة ولو بلحاظ ما يترتب على نفس الإضافات أثر، مثل التقدم

411
والتقارن، حتى بناء [على] خارجيتها وكونها من الأمور القائمة بأطرافها
خارجا، خصوصا على القول [بأن لها] حظ من الوجود الضعيف، ولا أظن
التزامه منهم على هذا المشي، إذ حينئذ يكون حالها حال المحمولات بالضميمة في
كون الأصل في مثلها مثبتا.
نعم لو قلنا بأن أمثال تلك الإضافات من خارجات المحمول - نظير الملكية
وغيرها من الاعتبارات التي لا يكون الخارج إلا ظرفا لمنشئها التي هي
الوجودات الخاصة [الواقعة] طرفا لتلك الإضافات في ظرف الاعتبار، مع عدم
وجود لغير تلك الأطراف في الخارج أصلا - أمكن دعوى أن موضوع الأثر
حينئذ ليس إلا تلك [الذوات] الخارجية، فلا محيص حينئذ إلا في الاكتفاء
باستصحاب مثلها بلحاظ الأثر المرتب عليها بتوسيط العناوين المزبورة.
ولكن قد تقدم - في بعض المباحث السابقة في مباحث الألفاظ - فساد هذا
المبنى، وأن التحقيق ان لمثل تلك الإضافات الموجبة لتغير الهيئة الخارجية نحو
خارجية زائدا عن وجود أطرافها فيه، وعليه فالأثر المترتب على هذه الأمور
غير مرتبط بأطرافها، فاستصحاب أطرافها - لولا دعوى خفاء الواسطة - غير
مجد في ترتيب احكامها.
ثم اعلم أن الآثار العقلية المترتبة على نفس الأمر بالبناء على بقاء المتيقن
مما يترتب قهرا بوجدان موضوعه، وذلك غير مرتبط بترتيب اللوازم العقلية
المترتبة على المنزل بوجوده واقعا، إذ لوازم هذا الأمر الظاهري الوجداني الحقيقي
غير [مرتبطة] بلوازم ما يتحقق بمعونة التنزيل. فحينئذ لا يبقى مجال مقايسة
[مثل] تلك الآثار العقلية على الآثار العقلية المترتبة على حقيقة الحياة غير
المترتبة على جعلها كما لا يخفى.
نعم ما يشبه ذلك توهم ترتب مثل تلك الآثار على الوجوب الادعائي

412
التنزيلي المستفاد من نفس التنزيل، إذ بناء على التحقيق من كون مفاد التنزيل في
أمثال المقام هو البناء على وجود الأثر لا جعله حقيقة لا يكون التنزيل إلا منتجا
لوجوب شئ ادعاء لا حقيقة، وعلى مثل هذا الوجوب أيضا لا [تكاد تترتب]
الآثار العقلية المترتبة على الوجوب الحقيقي مثل حرمة الضد ووجوب مقدمته أو
وجوب امتثاله، وإنما هذه الآثار مترتبة على الأمر الحقيقي بالبناء على الوجوب
لا على الوجوب البنائي الذي هو نتيجة التنزيلات بلحاظ الأعمال. نعم بناء على
كون التنزيل بلحاظ جعل المماثل حقيقة أمكن التفرقة بينهما بما ذكرنا، إلا أنه في
غاية السخافة كما هو ظاهر، والله العالم.
ثم إن المدار في الأثر المصحح للتنزيل - عملا كان أو حكما شرعيا - هو
الأثر الثابت حين توجه الخطاب إلى المكلف، إذ هذا الحين حين الأمر بالتعبد
بلحاظ الأثر العملي أو الشرعي، أعم من أن يكون الخطاب متوجها إليه حين
اليقين بالحدوث بلحاظ بقائه فيما بعد، أو حين الشك في بقائه، وعلى أي حال
المدار في الأثر في المقام هو أثر بقاء الشئ، لأنه ظرف التنزيل وجودا أو عدما.
واما الحدوث المتيقن فهو خارج عن طرفي التنزيل رأسا، إذ تمام النظر في باب
الاستصحاب إلى تنزيل لإبقاء الشئ منزلة بقائه، وفي مثل هذا التنزيل لا بد وأن
يلاحظ أثر البقاء، فأثر الحدوث أجنبي عن هذا التنزيل جدا، ولذا يكتفى في
صحة الاستصحاب على مجرد ترتب العمل على بقائه بلا احتياج إلى وجود أثر
شرعي أو عملي على حدوثه، ووجهه هو الذي أشرنا إليه والله العالم.
[10 - جريان الاستصحاب في الحادث المشكوك زمان حدوثه]
ومنها: ان الاستصحاب كما يجري في صورة الشك في أصل حدوث الشئ

413
رأسا فتجري أصالة عدم حدوثه، كذلك يجري الأصل المزبور في مقدار الشك في
حدوثه مع الجزم بأصل الحدوث في زمان وشك في تعيينه، فإنه لا بأس بجريان
الأصل في مقدار من الزمان الذي شك في الحدوث متصلا بزمان يقينه بلا انتقاضه
بيقين آخر، ولازمه جريان الاستصحاب في الأزمنة المنفصلة المشكوك أصل
وجوده فيها إلى زمان اليقين بأصل الحدوث ولو اجمالا. ولا يضره احتمال انطباق
زمان الحدوث الاجمالي على الزمان السابق [على] زمان علمه، إذ لا يخرج به
عن المشكوكية واقعا لعدم احتمال سراية المعلوم الاجمالي واقعا.
نعم لا يجري في زمان العلم الاجمالي بحدوث الحادث، إذ في هذا الزمان
انتقض اليقين بعدم طبيعة الحدوث بيقين آخر.
ثم إن كان الحادث من الأمور الآنية التي يتصور لها الحدوثات المتعددة
العرضية فلا بأس حينئذ باستصحاب عدم كل واحد من الحدوثات، لتحقق
أركان الاستصحاب فيها. غاية الأمر العلم الاجمالي بتحقق واحد منها موجب
لمعارضة كل واحد من الأصول الباقية [الاخر] في صورة اقتضاء جريان الجميع
طرح تكليف معلوم.
واما إن لم يكن كذلك بل كان الحادث - على فرض حدوثه في زمان -
مقطوع البقاء، ولازمه عدم تصور حدوثات متعددة عرضية بل غاية الأمر له
[أحد] الحدوثات في الأزمنة المتعددة بنحو التبادل، ففي هذه الصورة لا مجال إلا
لاستصحاب عدم طبيعة الحدوث إلى زمان العلم بالوجود، وبمثله يبقى شخص
المحتمل قبل زمان العلم بالوجود، واما الشخص المحتمل تحققه في زمان العلم به فلا
يجري فيه لا بعنوان عدم الطبيعة، للجزم بانتقاضه، ولا بعنوان شخص هذا
الحدوث في هذا الزمان، إذ الشك فيه ناش عن الشك في حده من انسباقه بالعدم،
وإلا فأصل وجوده معلوم تفصيلا، ومن البديهي ان مثل هذا الحد لم يكن معلوم

414
العدم سابقا إذ اليقين بعدمه ملازم لليقين بوجود الشئ سابقا، وهذا اليقين
- علاوة [على] انعدامه - لا يصلح أمر استصحابه، إذ مع فرض اليقين به نقطع
بارتفاع الحدوث ابدا في الفرض، فكيف يشك في مثله كي يبقى مجال لاستصحابه
كما هو ظاهر.
هذا كله لو كان الأثر مترتبا على الحادث بلحاظ اجزاء الزمان، وإن كان
الأثر مترتبا على الحادث بلحاظ اضافته إلى حادث آخر من حيث التقدم عليه
أو التقارن معه أو التأخر عنه، [فإن] قلنا بأن لمثل تلك الإضافات حظا خارجيا
زائدا عن الحدوثات الخاصة الزمانية التي هي طرف تلك الإضافات فلا شبهة في أن
لكل [واحدة] من تلك الصفات الزائدة عدما خارجيا أزليا ولو قبل وجود
طرفيها من الحدوثات الخاصة الزمانية، فلا شبهة في جريان أصالة عدم التقدم
والتأخر والتقارن بنحو مفاد " كان " التامة، غاية الأمر العلم الاجمالي بتحقق
واحد منها مانع عن جريان الجميع عند استلزامه طرح تكليف الزامي.
واما لو قلنا بأن تلك الإضافات من الخارجات [المحمولة التي] لا حظ
لنفسها في الخارج حينئذ، وان الخارج ظرف الذات المنشأ من الحدوثات
الخاصة الزمانية بلا جهة زائدة فيها خارجا، فلا محيص من جريان الاستصحاب
في عدم تلك الحدوثات الخاصة، وعليه فلا بد من المصير إلى جريان استصحاب
عدم الحادث بحسب أجزاء الزمان المتقدم على الحادث الأخير والمقارن له، دون
المتأخر، للعلم بانتقاض العدم السابق جزما، بلا جريان أصالة عدم شخص
الحادث المتأخر في فرض الحدوثات البدلية، لعين ما ذكرناه سابقا في أصالة عدم
الحدوث بالقياس إلى اجزاء الزمان.
ولا مجال في هذا الفرض [لإجراء] أصالة عدم الحدوث المتأخر بلحاظ
بقاء عدم صفة المتأخر أولا، إذ المفروض ان صفة التأخر حينئذ [ليست] من

415
الأمور الخارجية [الموضوعة] للأثر، بل الموضوع على هذا هو شخص الحدوث
الخاص بخصوصيته الذاتية وليس [لمثله] عدم زائد [على] العدم الخاص،
والمفروض ان العدم الخاص المتيقن في ضمن اليقين بعدم الجامع بين الحدوثات
انتقض باليقين بوجوده، وعدم شخص هذا الخاص أيضا ليس إلا بعدم حده
المنتزع عن سبقه بالعدم، وهذا المعنى غير متيقن سابقا، بل على فرض تيقنه لا
يصلح للاستصحاب، للجزم ببقائه إلى الأبد.
وحينئذ لا يبقى مجال [لمعارضة] الأصول في عدم المتيقن و [المقارن]
بأصالة عدم المتأخر. وهذا بخلاف ما لو قلنا بأن لهذه الصفات جهة زائدة من
الحدوثات الخاصة الزمانية فإنه حينئذ وإن [لم يجر] الأصل في ذات الحدوث
المتأخر - لانتقاض يقينه بيقين آخر - ولكن لا بأس بجريانه بلحاظ وصفه، لأن
مثله مسبوق بعدمه الأزلي، وذلك هو الفارق بين جعلها من الخارجيات الزائدة
عن ذوات الحدوثات أو من الاعتباريات التي لا تكون إلا ظرفا لمنشئها من
الحدوثات الخاصة بالخصوصية الذاتية [لها].
نعم لو كان للشئ فرضا حدوثات عرضية وعلم اجمالا بتحقق [أحدها]،
كان لأصالة عدم كل واحد من الخصوصيات الخاصة - لولا العلم والمعارضة -
مجال. وعليه فنقول: ان ما في كفاية العلامة أعلى الله مقامه (1) من إلغاء المعارضة
في الأصول الجارية في أعدام الحدوثات الخاصة الموصوفة بالأوصاف الثلاثة،
إنما يتم في الفرض الأخير، ولكنه لا يناسبه مورد مثاله من موت المتوارثين
[فإن] حدوثاته ليست إلا بدلية وفي مثله لا [تناسب] تلك المعارضة على مبناه
المشار إليه في ذيل تنبيهات الأصل المثبت [من أن الآثار] المترتبة على



(1) راجع كفاية الأصول: 477.
416
الخارجات [المحمولة] في الحقيقة تامة بمناشئها ومركز الاستصحاب حينئذ هو
ذوات [المناشئ] بخصوصياتها الذاتية الخارجية. وبناء على هذا المبنى قد عرفت
بأن الأصل لا يصلح إلا لإثبات عدم المتقدم والمقارن ولا يكاد يجري في عدم
المتأخر، فجريانه فيه فرع جعل المتأخر صفة زائدة خارجية مسبوقة بنفسها
بالعدم أولا، وهذا المبنى على خلاف مختاره كما لا يخفى على من دقق النظر وفتح
البصر.
ومما ذكرنا انقدح الحال في استصحاب عدم اتصاف الذات بهذه الصفات
بنحو مفاد " كان " الناقصة، إذ بناء على المختار من أن أمثال تلك النسب
والإضافات أمور خارجية مسبوقة بنفسها [بالأعدام] الأزلية زائدا [على]
أعدام معروضاتها، فلا بأس بتصوير اليقين السابق لأعدامها في ظرف عدم
[معروضاتها]. فيقال: [انه] قبل وجود المعروض لم يكن كذا، والآن كما كان،
وذلك عين مفاد القضية السالبة المحصلة المعروفة تصديقها مع انتفاء الموضوع.
وأما لو بنينا على عدم كونها من الخارجيات بل الخارج كان ظرفا لمنشأ
اعتبارها من الوجودات الخاصة بحدودها الذاتية وخصوصياتها الواقعية القائمة
بذواتها، فلا يبقى مجال حينئذ لاستصحاب أعدام اتصاف الذوات بها - ولو قبل
وجودها - إذ الذوات الخاصة بالخصوصيات الذاتية غير صالحة الانفكاك في عالم
تفرد [ذواتها] أيضا عن الذاتيات، فلا يمكن حينئذ - في عالم من العوالم - سلب
ذاتيات الشئ عن الشئ ولو قبل وجوده، والممكن، [هو] سلب المحمول الذي
هو من لوازم [وجوده] زائدا [على] ذاته. فلا [يصح] سلب الانسانية بنحو
الجزم عما هو مشكوك الانسانية، بخلاف الصفات الزائدة [على] الذات فإنه
يصح - قبل وجودها في عالم تفرد ذاتها - سلب الصفة الخاصة [عنها] جزما، فمع
الشك في تحققها وتبدل القضية السالبة المحصلة [بنقيضها] حين وجود

417
الموضوع كان لاستصحاب بقاء القضية السالبة المحصلة كمال مجال.
وتوهم: عدم مساعدة العرف على الاستصحاب المزبور حتى في الصفات
الزائدة، نظرا إلى قصر نظرهم في القضية المشكوكة [على] وجود الموضوع
المعدوم في القضية المتيقنة، فلا يرون بين هاتين القضيتين اتحادا أصلا.
مدفوع: بأن مرجع ذلك إلى عدم إحصاء العرف القضية السالبة
بانتفاء الموضوع في السالبة المحصلة، وعهدة هذا المعنى على مدعيه، وإلا فمع
فرض تصديقهم - ولو [بارتكازيتها] - فلا محيص من حفظ وحدة ما يشار
إليه قبل الوجود وبعده، فإنه لم يكن كذا والآن كان كذا ولم يكن أيضا، فتلك
الوحدة كافية في اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة نظير وحدة الموضوع في
استصحاب عدم الشئ أو وجوده من نفس الذوات المقررة في عالمها المحفوظة بين
حالتي الوجود والعدم.
نعم لو كان الأثر لذات الموضوع [للمحمول] السلبي [لما كان] مجال
لاستصحاب مثل هذا المعنى، لعدم العلم بالحالة السابقة من الارتباط بالعدم
المسمى بالقضية المعدولة.
وبالجملة نقول: إنه على [فرض] كون مثل تلك الإضافات اعتبارية محضة
- على وجه لا يكون الخارج إلا ظرفا لمنشئها وان موضوع الآثار في الحقيقة هو
هذه المناشئ - لا يبقى مجال لاستصحاب سلب هذه الأوصاف بنحو السلب
المحصل، ولكن لازمه عدم جريان الاستصحاب في أنظارها من مثل القرشية
وأمثالها من الاعتبارات التي كانت من [الخارجات المحمولة] لا المحمولات
بالضميمة، بل وبناء عليه لا يبقى مجال لاستصحاب سلب الاتصاف ونفي العلقة
فيها بنحو مفاد " كان " التامة أيضا، إذ مثل تلك الجهات الزائدة من الذات
اعتبارية محضة خارجة من موضوع الأثر، وما هو [الموضوع] هو الذوات الخاصة

418
المنشأ لاعتبارها، وفي مثل هذه الذوات لا يبقى مجال إلا لنفي الخاص لا لنفي
الخصوصية الحاكي [عن] سلب الاتصاف، بل مثل تلك الخصوصية الذاتية المنشأ
لاعتبار الاتصاف [بالقرشية] وأمثالها غير مسبوق بالحالة السابقة رأسا سلبا
وايجابا.
وعليه فالتزام أستاذنا العلامة (1) في جريان الاستصحاب وسلب اتصاف
المرأة بالقرشية لا يكاد يناسب مبناه من اعتبارية مثل تلك الإضافات
والارتباطات.
نعم مع الغمض عن تلك الجهة لا يبقى مجال اشكال آخر عليه: من أن
استصحاب سلب الاتصاف كما [يجري] في القرشية كذلك يجري في التقدم
والتأخر وأمثالهما، وذلك المقدار أيضا كاف لسلب الأثر المترتب على وجود
أتصف بكذا بنحو مفاد " كان " الناقصة كما هو الشأن في القرشية بظاهر قوله: إلا
أن [تكون امرأة] قرشية. لإمكان الجواب عنه: بأن في الفرض القرشية لما كانت
واقعة في الجملة الاستثنائية، فيدخل أمر ذاته بجميع عناوينها الأخرى - التي
منها [امرأة] لم تتصف بها - في [المستثنى] منه، فيصير مثل ذلك العنوان ببركة
[عموم المستثنى] منه ذات أثر. وهذا بخلاف ما لو [كان] مزاولا لوجود اتصف
بكذا، إذ مثل هذا الموضوع لا يمكن سلبه إلا بنحو مفاد " ليس " الناقصة غير
[الجاري] بنظره، ولا يكفيه مجرد سلب الاتصاف بنحو مفاد " ليس " التامة.
وهذه المباني وان كانت غالبا بحسب النظر [محلا للمنع] إلا أنها تصلح لرفع
إشكال التهافت بين كلماته كما لا يخفى على المتدرب فيها.
ثم إن ذلك كله في فرض ترتب الأثر على وجود أحد الحادثين إما بلحاظ



(1) راجع كفاية الأصول: 261.
419
[وقوعها] في أجزاء الزمان، أو بملاحظة إضافة كل منهما إلى الآخر بكل واحد
من التقدم والتقارن والتأخر، وأما لو كان الأثر [مترتبا] على أحدهما في زمان
وجود الآخر فعن الطوسي قدس روحه القدوسية (1) التفصيل بين كون الأثر
[للحادث] المتصف بالعدم في حال كذا، فلا يجري الاستصحاب لعدم الحالة
السابقة، وبين كون الأثر لذات العدم إلى كذا فلا قصور فيه من تلك الجهة وإن كان
فيه إشكال من جهة أخرى.
أقول: وتوضيح الفرق بأن الاستصحاب بعد ما كان شأنه مجرد جر
المستصحب إلى زمان كذا أمكن إثبات هذا العنوان باستصحاب الأمر الكذائي
وجوديا أم عدميا في زمان هو عين زمان بقاء المستصحب، بمعنى كون وجود
الشئ في زمان بقاء الأمر بالأصل. وأما لو كان الأثر لنفس اتصاف الشئ بأمر
وجودي أو عدمي فلا يكاد يثمر استصحاب نفس [عدم] الأمر الفلاني إلى زمان
وجود الشئ، إذ بمثل ذلك الاستصحاب لا يثبت ارتباط الموجود بالعدم
واتصافه به، بل غاية الأمر يثبت به أن زمان وجوده زمان عدم الآخر وهذا
المقدار غير كاف لوقوع الأثر الذي هو الذات الموصوف بكونه فاقدا لأمر كذا،
بل يحتاج في هذه الصورة إلى استصحاب نفس العنوان الفاقد [له] والاتصاف
بعدم كذا، ومثل هذا المعنى لا حالة له سابقا. وبهذه الجهة نقول بعدم جريان
الاستصحاب في القضايا المعدولة، ويكفي في اثباتها مجرد استصحاب عدم
الاتصاف بالعدم الأزلي [ولا يكفي استصحاب] عدم وجود الصفة [الحاصل]
قبل وجودها إلى زمانه إلا بتوسيط الملازمة العقلية. ومجرد وحدة منشأ هذه
المفاهيم في الخارج غير كاف في جريان الاستصحاب في بعضها بلحاظ الأثر



(1) راجع كفاية الأصول: 477 - 478.
420
المرتب على بعض آخر كما هو ظاهر، بل تمام موارد الاستصحاب على جريانها
بنحو تطبيق العقل موضوع الأثر على المستصحب بلا توسيط جهة أخرى.
وحينئذ فما أفيد في المقام في غاية المتانة.
إنما الكلام في ما أفاد في اشكاله الأخير في استصحاب ذات العدم إلى زمان
وجود الأخير. وملخص اشكاله: أنه بعد فرض العلم الاجمالي بانتقاض عدم
الشيئين سابقا بوجودهما في أحد الزمانين مع العلم [بتقدم] أحدهما على الآخر
أو تأخره عنه لنا علمان إجماليان بزمانين، أحدهما زمان العلم بانتقاض عدم أحد
الوجودين، والآخر زمان [العلم] بانتقاض الآخر، فمع احتمال [تقدم] الزمان
المعلوم الاجمالي لأحدهما على الآخر [يحتمل] انتقاض علمه بالعدم بهذا الزمان
الاجمالي المعلوم، ومع هذا الاحتمال كيف [يجر عدم] الشئ إلى زمان الغير مع
احتمال الانتقاض بالزمان المعلوم المحتمل كونه واسطة بينه وبين اليقين بالعدم.
أقول: لا يخفى أن ما هو محتمل الواسطية هو نفس [زمان] وجوده واقعا لا
زمان علمه بالوجود، كيف وزمان العلم بالوجود في الأمور التدريجية هو الزمان
الآخر الذي هو زمان العلم بها لا زمان قبله، بل هو طرف العلم الاجمالي، ومن
البديهي ان العلم الاجمالي لا يسري إلى طرفيه [بخصوصيتهما] أصلا. فحينئذ لا
مجال لشبهة الفصل بانتقاض [اليقين] أصلا.
نعم الأولى في المقام تقريب اشكال آخر وهو: ان الشك في بقاء الشئ إلى
زمان وجود شئ آخر ينحل تارة إلى الشك في بقاء الشئ إلى زمان [الآخر]
مع الجزم بكون الزمان مقارنا لوجود الآخر. وأخرى إلى الشك في كون الزمان
المعلوم بكونه آخر بقاء الشئ وجدانا أو استصحابا مقارنا لزمان وجود الآخر
[أو] ليس بمقارن، فعلى الأول [لا] قصور في استصحابه، إذ [شكه] في أصل بقاء
الشئ وارتفاعه، ويجر بالاستصحاب إلى زمان يقطع بمقارنته لزمان وجود

421
الآخر. وأما على الثاني فليس جهة الشك إلا ممحضا في المقارنة، وشأن
الاستصحاب ليس رفع هذا الشك.
وحيث كان كذلك فنقول: إن الشك في بقاء العدم إلى زمان الوجود في
المقام إنما هو من قبيل الآخر لا الأول، كيف والقطع بالمقارنة فرع مجئ
المستصحب إلى زمان الثالث الذي هو زمان العلم بوجودهما وهذا الزمان غير
صالح للاستصحاب، للقطع بالانتقاض فيه بمعنى كون زمان القطع بالانتقاض هو
الأخير من الأزمنة بلا احتمال كونه في الوسط. ففي الحقيقة مرجع الشك في المقام
إلى الشك في بقاء العدم إلى زمان نشك بمقارنته لزمان الوجود، ومثل هذا الشك
غير مرفوع بالاستصحاب بل لا يثبت به إلا ذات البقاء في هذا الزمان الذي هو
منحصر بزمان وسط بين الزمانين، وهذا المقدار غير كاف لترتب الأثر كما لا يخفى.
وظهر مما ذكرنا أيضا بطلان القول بسقوط الاستصحاب في أمثال المقام
بالمعارضة والتساقط كما لا يخفى والله العالم بالحال.
[الاستصحاب فيما إذا كان أحد الحادثين معلوم التاريخ والثاني مجهول
التاريخ]
هذا كله في مجهولي التاريخ. واما لو كان أحد الحادثين معلوم التأريخ
فجميع الشقوق السابقة أيضا جارية في المقام، ولا بأس باستصحاب عدم المقدم
بوصفه منهما، وعدم المقارن والمتأخر بناء على كون مثل تلك الصفات صفات
زائدة [عن] الذوات الخارجية المسبوقة باعدامها الأزلية، كما أنه تجري أصالة
عدم اتصاف الوجودين بعدم هذه الصفات بنحو سلب المحصل، ولا يجري
الأصل في اتصافهما بعدم تلك الصفات بنحو المعدولة، لعدم الحالة السابقة كما
أشرنا سابقا.

422
وأما لو قلنا بعدم كون تلك الصفات أمورا زائدة، بل [أمورا اعتبارية
تابعة] لمنشئها خارجا، فلا جرم لا بد من إجراء الاستصحاب في ذات المنشأ لا
في خصوصيتها، وفي هذه الصورة لا يبقى مجال استصحاب عدم اتصافها بالتقدم
والتأخر. وأما استصحاب عدم وجود المقدم منهما والمتأخر فالأصل في ذات عدم
حدوث مجهول التأريخ جار، وبه يثبت عدم تقدمه على المعلوم وعدم تقارنه، كما
أنه يثبت عدم تأخر المعلوم [عن] المجهول وعدم مقارنته. وأما عدم تقدمه وعدم
تأخر المجهول فلا يكاد يثبت به، لعدم جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ إلى
زمان الآخر الذي هو زمان العلم [بانتقاض العدم] السابق، فلا يثبت به عدم
تأخره ولا عدم تقدم المعلوم. وأما الاستصحاب في نفس معلوم التاريخ فلا يجري
أيضا، لعدم الشك في بقائه وامتداده بحسب الأزمنة كما هو ظاهر.
ومن هنا ظهر أيضا أنه لا بأس بجريان [استصحاب] عدم المجهول تاريخه
إلى زمان المعلوم، بخلاف عدم معلومه فإنه لا شك في بقائه وارتفاعه وإنما الشك
في أن [الزمان] الواقع فيه عدم المعلوم هو زمان مقارنته لوجود الآخر أولا،
ورفع ذلك الشك ليس من شأن الاستصحاب كما تقدم.
[تعاقب الحادثين المتضادين]
بقي الكلام في ما لو تعاقب الحادثان المتضادان أي الحالتان كذلك كالحدث
والطهارة مع الشك في تقدم أحدهما وتأخر الآخر، فمع الجهل بتأريخهما أيضا قد
يظهر عن الشيخ (1) أيضا استصحاب وجود كل واحد، للعلم بصدور كل واحد في
زمان [و] الشك في بقائه وارتفاعه بعده، غاية الأمر بالتعارض يتساقطان.



(1) راجع فرائد الأصول: 667 و 700.
423
وأورد عليه الطوسي (قدس سره) (1) بشبهة الفصل أيضا، لاحتمال تقدم الزمان
المعلوم انتقاض كل منهما على زمان حكم فيه ببقاء كل منهما.
ولقد تقدم جوابه أيضا بأن ما هو الفاصل بين الزمانين ما (2) هو طرف
المعلوم بالاجمال ولا [يحتمل] فيه الفصل بزمان العلم، لان المعلوم بالاجمال من
الزمانين يستحيل سرايته - بوصف معلوميته - إلى طرفيه، فطرفا المعلوم بالاجمال
واقعا [مشكوكان] فلا مجال لتمامية هذه الشبهة لا في المقام ولا في المقام السابق
كما عرفت.
نعم هنا شبهة أخرى في جريان كل واحد من الأصلين في خصوص المقام
بلا [جريانها] في المقام السابق، و [هي] أن الغرض من [استصحاب] الموجود
الاجمالي في كل واحد من المعلومين إن كان جره بالنسبة إلى الأزمنة التفصيلية
ففيه ان زمان الشك فيها غير متصل باليقين، بمعنى انه لو تمشى قهقري لما اتصل
[ب‍] زمان اليقين بالوجود، بل جميعها زمان الشك به. والمنصرف في أخبار الباب
هو احراز تلك الجهة من الاتصال. مع أن جر المتيقن في الزمان الثاني من
الأزمنة التفصيلية غير معقول، لعدم الشك في بقائه، لأنه مردد بين زمان
الارتفاع [و] الحدوث، وفي الزمان الثالث وإن كان مشكوك البقاء ولكن
لا يحتمل فيه الارتفاع، للجزم إما بارتفاعه في الآن السابق أو [ببقائه] في هذا
الآن فلا يكون في البين زمان نشك في بقاء المستصحب وارتفاعه فيه، ونظر
الأخبار هو التعبد بالبقاء في زمان الشك في البقاء والارتفاع فيه.
نعم مثل ذلك المعنى متحقق بالنسبة إلى [الزمان] الاجمالي المشار إلى كونه



(1) راجع كفاية الأصول: 480.
(2) " ما " هنا نافية.
424
بعد زمان اليقين بنحو الاجمال، وفي مثله لا بأس بجريان الاستصحاب ما لم يحتج
إلى تطبيق المعلوم بالاجمال على واحد من الأزمنة التفصيلية، وإلا فلا يكاد
[يصح] تطبيق الزمان الاجمالي المشكوك البقاء والارتفاع فيه على واحد من
الآنات، لما عرفت من أن الزمان الأول مقطوع عدم البقاء فيه والزمان الثاني
لا يحتمل الارتفاع فيه، فكيف ينطبق على كل واحد الزمان الاجمالي الذي شك
فيه البقاء والارتفاع؟ وعمدة النكتة في ذلك [هي] ان مثل تلك الجهة الاجمالية
إذا حصلت من قبل ضم المحتملين فيستحيل انطباقه على كل واحد منهما.
وبعين هذا الوجه أيضا نقول بعدم انطباق المعلوم بالاجمال - الناشئ
[علمه] من ضم كل محتمل إلى الآخر - على كل واحد منهما، فلا يبقى مجال
لاستصحاب واحدة من الحالتين مع قطع النظر عن وجود المعارضة في البين كما
لا يخفى.
ولو فرض العلم بتاريخ واحد منهما فلا بأس باستصحابه، لتحقق شرائطه
وأركانه دون الآخر والله العالم بأحكامه وحقائقها.
[11 - استصحاب النبوة السابقة]
ومنها: أن مورد الاستصحاب ما يترتب ببركته أثر عملي شرعي بلا كفاية
مجرد شرعية الأثر بلا ترتب عمل عليه، وعليه فنقول: إن في ترتب العمل عليه لا
فرق بين كونه من الأعمال الخارجية أو من أفعال القلوب، مثل عقد القلب على
نبوة نبي أو إمامة إمام وعدم [بنائه] في قلبه على كونهما من آثار واقع النبوة
والإمامة، وإلا فمجرد وجوب تحصيل المعرفة بهما المترتب على ظرف الجهل بهما
[لا] يكفي في صحة استصحابهما، لعدم كونه من آثار المستصحب واقعا، وشأن

425
الاستصحاب جريانه في مورد يكون العمل من لوازم واقع المستصحب.
ثم في فرض ترتب الآثار المزبورة على واقع النبوة يجري الاستصحاب
فيها وإن قلنا بأنها من مرتبة كمال نفسه الشريفة بلا احتياج إلى جعل [إلهي]
فيها، كما أنه على فرض عدم ترتب الأثر المزبور على النبوة الواقعية لا يجري
استصحابها وان قلنا بأن النبوة أو الإمامة من المناصب المجعولة الإلهية، إذ مجرد
جعله المستصحب لا يجدي في الاستصحاب ما لم يترتب عليه أثر عملي كما
لا يخفى هذا.
وعلى أي حال لا يجدي مثل هذا الأصل للشاك بين الشريعتين إلا مع
علمه بحجية الاستصحاب لدى كليهما وإلا فمجرد علمه بحجيته لدى الأول أو
الثاني غير مجد في صحته، لأن علمه من قبل الثاني بحجية الاستصحاب دوري،
ومن قبل الأول مستلزم للجزم بمخالفة الاستصحاب للواقع، لملازمة حجيته مع
نسخه واقعا وبذلك يستحيل العلم الاجمالي بنبوة الأول إما واقعا أو استصحابا
كما لا يخفى.
ثم في كونه اقناعيا للشاك المزبور واضح، ولكن ليس شأن المتدينين بدين
النبي السابق أن [يتشبث] به، لأنه على فرض كونه متدينا بدين النبي السابق [لا
مجال له] أن [يتشبث] بالاستصحاب لعدم الدين الحقيقي مع الشك [بحقية دينه]،
كما أنه لا مجال له لالتزام الضدين (1) آخر، نعم له التشبث في مقام إلزام الشاك
المجاهد في تحصيل الواقع في صورة جزمه بحجية الاستصحاب ولو من جهة غفلته
عن مخالفة الثاني للأول كما لا يخفى.
ومن تلك البيانات اتضح فساد تشبث الكتابي في قبال المسلمين



(1) كذا في الأصل.
426
باستصحاب نبوة نبيهم، بلا احتياج إلى الجواب عنه بأنا [معترفون بنبوة] موسى
[إن] أقر بنبينا، وإن كان ذلك أيضا وجه وجيه يرجع مآله إلى أن قطعنا
السابق ملازم للقطع بانتقاضه فيه، لا أن موسى امر كلي له فردان: مقر وغير
مقر، كي يرد عليه بأنه شخصي خاص خارجي كان مقطوع النبوة مطلقا [أو]
لا، فلا معنى للقيد المزبور، لوضوح ان الغرض من ذكر القيد لمحض توضيح
المتيقن وبيان ملازمة وجوده مع اليقين بانتقاضه، خصوصا لو كان طريقنا إلى
نبوته إخبار نبينا أو ما في كتابه المنزل، فإن مثل هذا القطع يستحيل أن يجتمع مع
الشك في البقاء ولو لم يكن هو مقرا أيضا كما لا يخفى.
[12 - استصحاب حكم العام أو الخاص بعد ورود التخصيص]
ومنها: انه لا شبهة في عدم معارضة الاستصحاب مع أصالة العموم
والاطلاق التي هي من الأدلة الاجتهادية، لما أشرنا سابقا في وجهه وسيجئ
توضيحه عن قريب إن شاء الله. وعليه فلو ورد مطلق متكفل لإثبات حكم
للطبيعة السارية في القطعات المحدودة بمقتضى أمر الآنات المتوالية أو عام زماني
كذلك، فلا شبهة في أن مثل هذا المطلق والعام مقتض لإثبات الحكم لجميع
القطعات [المنحلة] بحسب تعدد الآنات على وجه لو قيد بواحد منها واخرج
عنه آن واحد كان الاطلاق والعموم المزبور وافيين لإثبات البقية من دون
احتياج في ذلك المقدار إلى إحراز كون المطلق المزبور له إطلاق بحسب الزمان
على وجه يكون الزمان والآنات المتوالية قيدا، بل مع الجزم بظرفية الزمان
وسراية الطبيعة إلى القطعات المنحلة بحسب ظرفية الآنات يكفي الاطلاق لإثبات
الحكم لبعد الآن الخارج عنها من الآنات المتأخرة.

427
نعم لو كان المطلق متكفلا لإثبات حكم شخصي غير قابل للتحليل بحسب
[الآنات] - وإن كان مقتضى اطلاقه طول امتداد شخصه بطول الزمان، بحيث لو
فرض تخلل عدم في البين ما كان الدليل بعد متكفلا لحكم آخر - لا يبقى مجال
التشبث به بعد فرض خروج آن من وسط الآنات.
نعم لو فرض خروج أوله [أو آخره] أمكن التشبث بالإطلاق المزبور
لإثبات الحكم الشخصي المحدود بحد خاص ملازم لخروج ما خرج، وفي مثل
هذه الصورة - نظير الصورة السابقة - لا مجال للتشبث باستصحاب نقيض هذا
الحكم أيضا فضلا عن ضده الذي تكفله دليل المخصص، حتى مع فرض عدم كونه
إلا متكفلا للحكم الشخصي [غير] القابل للتحليل بحسب الآنات، أو الحكم
القابل له [من] حيث [سراية] موضوعه إلى قطعات محصورة ممتدة بنظر وجداني
بامتداد الأزمنة المخصوصة، مع فرض إجماله بالنسبة إلى بعدها، إذ مرجع
جميع ذلك أصالة الاطلاق والعام المزبورين، فلا مجال لحجية الاستصحاب في
مفاد دليل المخصص بالنسبة إلى الأزمنة المشكوكة، وإن كان الاستصحاب لولا
العموم جاريا.
نعم لو كان لدليل المخصص عموم زماني على وجه يكون كل آن قيدا
لموضوع الحكم، لا مجال للتشبث بالاستصحاب وإن لم يكن في البين دليل المطلق
المزبور أو العام الناظر إلى عموم الزماني كما لا يخفى.
نعم لو فرض عدم تكفل الدليل إلا لبيان شخص حكم ممتد بامتداد الزمان
الفلاني، وفرض تقطيع وسطه بدليل المخصص [جرى الاستصحاب] وذلك أيضا
لو لم يكن لدليله عموم زماني بحيث يكون الفعل في كل آن موضوعا مستقلا لحكم
مستقل غير مرتبط بالآخر، وإلا فلا مجال لاستصحاب مفاد دليل المخصص وإن
كان لاستصحاب بعض حكم العام أيضا مجال، وذلك واضح كما لا يخفى.

428
[13 - عدم جواز نقض اليقين بالظن غير المعتبر]
ومنها: أن الظاهر من عموم حرمة [نقض] اليقين بالشك وإن كان
اختصاص عدم النقض بخصوص مثله، ولكن من المعلوم أن لا خصوصية في هذا
العنوان في الناقضية، بل المدار على مطلق [استتار] الواقع ولو كان في البين ظن
غير معتبر، ويكفي فيه ظهور [ذيله] من جعل الناقض خصوص اليقين، فبقرينة
المقابلة تعرف أن " الشك " المأخوذ في الرواية إنما هو من حيث كونه سترة
للواقع لا من جهة خصوصية فيه، وهذا المقدار لا ينافي مع جعل " الشك " في
الرواية بمعناه الحقيقي، وإنما هو موضوع فيه [من] حيث استاره بلا خصوصية
فيه وان [نكتة] ذكره من جهة كونه أجلى فرد السترة، لا أن المراد من لفظ
الشك خلاف اليقين، كيف وهو مجاز بعيد وفي مثله لا يساعد الطبع السليم كما لا
يخفى.
[14 - عدم شمول روايات الاستصحاب لقاعدة اليقين]
ومنها: أنه لا شبهة بمقتضى تطبيق الكبرى في الرواية على مورد
الاستصحاب في دخوله في العموم المزبور، وإنما الكلام في شمول الكبرى المزبورة
لقاعدة اليقين التي هي عبارة عن عدم نقض اليقين بالشك الساري إلى متعلق
اليقين دقة. وقصارى ما يتخيل فيه أن اليقين فيها أعم من الباقي والزائل كما أن
متعلقه أيضا مطلق الشك والشئ الشامل للحدوث والبقاء [والمستفاد] حينئذ
من الرواية الحكم في مصاديق أربعة من عدم نقض اليقين بالحدوث بالشك

429
[فيه]، واليقين بالبقاء والشك فيه، واليقين بالحدوث والشك في البقاء،
والعكس المنطبق على الاستصحاب القهقري. هذا ولكن يمكن أن يقال: إن
قضية اختلاف متعلق اليقين والشك دقة في الاستصحاب [تقتضي] ارجاع
ضمير الشك [إلى ما] تعلق به بنحو من المسامحة، كما أن وحدة المتعلقين في
القاعدة [تقتضي] - في مقام النظر في إرجاع الضمير المزبور إلى متعلق اليقين - أن
يكون نحو دقة في البين بلا مسامحة عرفية فيه. ومن المعلوم أن الجمع بين هذين
النظرين في إرجاع ضمير واحد غير معقول، فلا جرم إما أن يكون النظر فيه
دقيقا فلا يستفاد من العبارة إلا الفردان من اليقين بالحدوث والشك [فيه]، أو
اليقين بالبقاء والشك [فيه]. وأما اليقين بالحدوث والشك [في] بقائه فهو
مستلزم لكون الضمير الراجع إلى الشئ المتعلق لليقين بنحو من العناية
والمسامحة، فلا يستفاد من الكبرى إلا اليقين بالحدوث والشك في البقاء أو
العكس، وحيث إن مورد تطبيق الرواية هو باب الاستصحاب المعروف فلا
يكاد يستفاد منها الشك الساري ولا استصحاب القهقري أيضا، للشك في
شموله للأخير لو لم نقل بانصرافه إلى الأول والجزم باستحالة شمولها للقاعدة
أيضا كما عرفت.
ولئن شئت توضيح ذلك بأزيد مما ذكرنا فنقول: إن من المعلوم ظهور
القضية - خصوصا بملاحظة لفظ " النقض " أيضا - [في] وحدة متعلقي اليقين
والشك، ومعنى وحدتهما كون مرجع الضمير المقدر في القضية هو القطعة المتعلقة
لليقين من الطبيعة، لا الجامع [بينها] وبين [غيرها] إذ مثل [ذلك] الجامع في
ظرف تجريده عن كونه مما تعلق به اليقين معنى غير مرتبط بما تعلق به يقينه، ومعه
كيف [تحفظ] وحدة المتعلقين؟ وإذا كان في مقام اللحاظ المزبور لا بد من ملاحظة
تلك الحيثية فلا جرم لا بد من إرجاع النظر إلى خصوصية القطعة المزبورة، وبعد

430
ذا يتردد الأمر بين كون النظر إليه دقيقيا أو تسامحيا بلا تصوير جامع بين النظرين
إلا مفهوم النظر الذي هو أجنبي عن [واقعيته] التي بها قوام ارجاع الضمير كما لا
يخفى.
بل ولولا حفظ تلك الخصوصية بين المتعلقين وكون تمام النظر في متعلقي
الوصفين إلى صرف الطبيعة لا يقتضي هذا المقدار إبقاء ما كان. ففي الحقيقة منشأ
استفادة التعبد بالبقاء فيما حدث إنما هو من جهة ملاحظة الخصوصية في المتعلقين،
إذ حينئذ لا يكاد يصدق مثل تلك الجهة إلا بوحدة المتعلقين في الخارج [وجودا
غير] المنفك [عن] كون متعلق الشك جهة بقائه، وإلا فليس في لفظ " اليقين " بقاء
أصلا.
بل ولئن دققت النظر ترى أن المسامحة في إرجاع الضمير المزبور في الرواية
بقرينة موردها [تصلح] أيضا أمر المسامحة في بقاء موضوع الاستصحاب، إذ
لا ينفك مثل تلك المسامحة أيضا عن وحدة المتعلقين بنحو من العناية.
وحينئذ فيكون المقام من باب ايجاد المسامحة في نفس عنوان الحكم بلا
مسامحة حينئذ في تطبيقه، بل كان تطبيق مدلول الرواية على البقاءات المسامحية
من التطبيقات الدقيقة العقلية، نظير سائر العناوين الاخر الواقعية في غير حكم
وضعي [أو] تكليفي، من مثل الأوزان والمقدار وغيرهما.
وبعد هذا البيان لا يبقى مجال الاشكال في شرح اتحاد القضيتين بكونه بنظر
العرف أو بنحو من الدقة أو بحيث دليل تلك الكبرى الايراد (1) لمثل هذا الاشكال
مجال في فرض عدم قرينيته على [تطبيق] مورد الرواية على الاستصحاب، كيف
وبعد التطبيق المزبور لا محيص من اعتبار المسامحة في وحدة المتعلقين، وبعد ذلك



(1) كذا في الأصل.
431
فكما [تصلح] المسامحة أمر الاستصحاب [تصلح] أمر بقاء موضوعه، لبداهة
صدق الشك بما تعلق به اليقين بضرب من العناية مع فرض المسامحة في بقاء
موضوعه (1) من دون احتياج بعد ذلك إلى تعيين ما سبق هذا العنوان من
كيفية الانظار.
نعم ما أفيد إنما يتم لو كان في اليقين لفظ بقاء أو [كلمة] اتحاد كي يتوهم
اختلاف مصاديقهما بحسب الأنظار، إذ ربما يتحقق الاتحاد بين الشيئين وينطبق
عليه بقاء ما حدث بنظر العرف بلا صدقه بنظر العقل، وقد يكون الأمر بالعكس.
فلا بد حينئذ من تعيين ما [سيق] له عنوان البقاء المأخوذ في القضية بأنه بأي واحد
من النظرين يكون [مسوقا]، كيف ومع انتهاء النوبة إلى تلك الجهة لا يبقى مجال
دعوى سوقها بلحاظ [الأنظار] العرفية، إذ مثل تلك الانظار حينئذ لا يكون
مقصودا من دائرة المفهوم [للعنوان] الوارد في الرواية، بل شأنها تطبيق ذلك
العنوان الواقع في الدليل على ما يراه مصداقا بنظره، وفي مثل تلك الجهة لا يكون
الانظار العرفية بمناط إلا في صور العقلية (2) عن المصاديق الحقيقية نوعا، إذ حينئذ
مقدمات نقض الغرض حاكمة على أن المدار على التطبيقات العرفية إلا ما علم
بخطئهم [في] الواقعيات، بل من تلك المقدمات يستكشف بأن المصاديق العرفية
مصاديق حقيقية في غير صور قيام الدليل [على التخطئة] به في نظرهم. وأين
ذلك ومقامنا الذي يراد منه الانظار العرفية حتى مع الجزم بخطئهم في التطبيق
حقيقة؟ إذ المقدمات المزبورة غير وافية أيضا لإثبات هذا المقدار، بل غاية ما
يستفاد [منها] كون القاء الخطاب إليهم بمنزلة ضرب قاعدة في [تعيين] المصاديق



(1) كلمة ممسوحة لا تقرأ.
(2) كذا في الأصل.
432
الواقعية بحسب الأنظار العرفية، ونتيجته ليس [إلا] اتباع نظرهم في مرحلة
التطبيق ما دام الشك في خطئهم، لا اتباعهم حتى مع الجزم بالخطأ كما في المقام. ولا
يساعد دليل على هذا المقدار من سوق القضية بأنظارهم، مضافا إلى عدم
مساعدة المقدمات المزبورة أصل مرادية التطبيقات العرفية في مثل تلك العناوين
ولو في صورة الشك في المصاديق الواقعية، لعدم كون مصاديقها مما يغفل عنها
غالبا.
وعليه فما وجه الفرق بين لفظ البقاء الوارد في المقام و [ألفاظ] الأوزان
والمقادير الواردة في مقامات أخرى؟ حيث ليس [بناؤهم] فيها على التطبيقات
العرفية بل على [الدقيقة] العقلية محضا بلا اعتناء منهم [ب‍] المسامحات العرفية.
وليس تلك الجهات إلا ناشئة عما أشرنا من خيال اخذ عنوان الاتحاد
والبقاء في مورد النص مع فرض اختلاف مصاديقهما بحسب الانظار، وإلا فلم
ينظر إلى ما هو مدلول اللفظ من عدم نقض [اليقين] بالشئ بالشك فيه، بضميمة
صدرها المنطبق على الاستصحابات المتعارفة، إذ حينئذ لا ترى بدا في ارجاع
الضمير في ظرف الشك [فيه] بلا مسامحة حتى [في] أنظار تحديد بقاء الموضوع
أيضا، ومعه لا يبقى حينئذ مجال لمثل [ذلك] الترديد ابدا.
ثم انهم قد وقعوا في حيص وبيص من جهة أخرى في بعض المقامات التي
يكون لسان [دليل] الكبرى [مشتملا] على خصوصية لا يرى العرف بقاء
الموضوع في صور فقد الخصوصية مع احتمال [دخلها] نظير تغير الماء في نجاسة
الماء المتغير، أو عنوان [الكلبية] في نجاسة [الجسم]، ووجه استشكالهم في تلك
المقامات هو أن العرف في مقام فهم كبرى الأثر (1) إن احتملوا دخل القيود



(1) كذا في الأصل.
433
المزبورة في الحكم فلا يحكمون ببقاء القضية المتيقنة بنحو الجزم، وإن لم يحتملوه
فلازمه فهمهم من الكبرى ثبوت الحكم لذات الجسم والماء بلا دخل عنوان
[الكلبية] والجسمية فيه أصلا، ومعه يكون المرجع اطلاق هذا الدليل لا
الاستصحاب، إذ لا يتصور حينئذ شك في بقاء الحكم من قبل انتفاء الخصوصية
محضا، مع أنه ليس كذلك بتا.
ومجرد ظهور الدليل في دخل تلك الخصوصية مع فرض فهم العرف خلاف
هذا الظاهر - بمناسبات ارتكازية عندهم بين الموضوع وحكمه - غير مجد في
الشك المزبور، إذ مثل تلك المناسبات الارتكازية حينئذ بمنزلة القرينة العامة
[الملحقة] بالكلام في اقتضائها [عند] العرف [لصرف الظهور] الوضعي وتعيين
الظهور.
ويمكن حل ذلك الاشكال [تارة] بأن فهم العرف في أمثال تلك القضايا
قرينة صرف ظهور القضية في تعبدية الخصوصية إلى تعليله للحكم، فإنه حينئذ
كان الموضوع ذات الماء والجسم ولكن ليس لازمه اطلاقهما الشامل لصورة فقد
الخصوصية، كما لا يكون فقدها أيضا موجبا للقطع بارتفاع الحكم، لاحتمال قيام
علة أخرى مقامهما، وأخرى بإمكان بقاء ظهور القضية بحاله ومع ذلك [يحتمل]
بقاء الحكم الثابت للذات عند فقد الخصوصية ولو من جهة قابلية بقاء المطلب
المزبور في ضمن حد آخر بلا مفهوم للقضية المقتضي لانتفاء الحكم رأسا بانتفائها.
وقد يجاب عن الشبهة المزبورة بوجه آخر وهو: أن القضية الشرعية وإن
كانت باقية على ظهورها في القيدية بلا قرينة لفهم العرف على خلاف ظهور
القضايا الشرعية أيضا، ولكن العرف في قضاياهم العرفية الارتكازية بالنسبة
إلى نظائر تلك الأحكام يجعلون الموضوع نفس ذات الماء والجسم، وإن عنوان
المتغيرية و [الكلبية] من الحالات المانعة عن شمول اطلاق قضاياهم لصورة

434
فقدها، وإن الغرض من سوق الاستصحاب بحسب [الأنظار] العرفية [هو
سوقه] على حسب أنظارهم في قضايا أنفسهم لا على حسب ما فهموا من القضايا
الشرعية.
ولكن يمكن أن يقال: إن الظاهر من دليل الاستصحاب بعد ما كان سوقه
لتوسعة القضايا الشرعية، فلا محيص من أن يكون النظر في مثله إلى مقتضى ما
فهموا من الدليل الشرعي، وإلا فما هو مضمون قضاياهم مع فرض الجزم
بمخالفتها [للقضايا] الشرعية [أجنبي] عن محط سوق الاستصحاب، وعليه
فلا بد من جعل فهم العرف قرينة على التصرف في ظهور القضايا الشرعية على
فرض العنوانية والقيد بإرادة العلية للحكم على وجه يكون المعروض نفس
الذات، وذلك أيضا على فرض عدم مساعدة مسامحتهم في بقاء الموضوع مع إبقاء
القضية على ظهورها، وإلا فلا يحتاج إلى التصرف فيها أصلا، نظرا إلى ما عرفت
في وجه كون المناط على المسامحات في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب.
ثم لا يخفى أيضا أن الاحتياج إلى بقاء الموضوع خارجا إنما هو في صورة
كون الأثر مترتبا على مفاد " كان " الناقصة من اتصاف الموجود بوصف كذا،
كالقائمية أو العادلية وأمثالهما، وإلا ففي صورة كون الأثر مترتبا على مفاد " كان "
التامة من وجود الذات محضا أو الذات المقيد بالوصف أو الذات المحكوم بكونه
كذا، بنحو يرجع معروض الوجوب المستصحب إلى مفاد الجمل التامة، فلا يحتاج
في جميع تلك الصور إلى وجود الموضوع، بل ربما يجري الاستصحاب في وجود
قيام زيد حتى مع الشك في بقاء زيد أيضا، إذ المستصحب في تمام تلك الصور هو
وجود الماهية التي منها قيام زيد، ومن المعلوم ان الماهية بأي نحو كانت في عالم
تفردها محفوظة، ويكفي في [اتحاد] القضية المتيقنة والمشكوكة - في أمثال تلك
القضايا - هذا المقدار.

435
نعم في المقام شئ آخر وهو أن كفاية ذلك المقدار في استصحاب بقاء
الأوصاف الخارجية وعدم احتياجها إلى احراز وجود معروضاتها في الخارج
فرع حجية الاستصحاب على الاطلاق بلا احتياج إلى إحراز استعداد البقاء في
المستصحب، وإلا فيشكل الأمر في ذلك الاستصحاب أيضا بناء على استحالة
انتقال العرض إلى معروض آخر أو بقائه بلا معروض، إذ حينئذ يكون قوام
استعداد العرض ببقاء موضوعه، فبدون اليقين ببقاء المعروض يستحيل القطع
باستعداد المستصحب [للبقاء]، فيرجع عند الشك [في] بقاء المعروض [إلى]
الشك في كون الحكم حينئذ بارتفاع العرض نقضا أم انتقاضا، ومع ذلك الشك
لم يحرز [دليل] البقاء التعبدي في باب الاستصحاب لمثله.
نعم بناء على إمكان أحد الأمرين لا بأس باحراز الاستعداد المزبور حتى
مع الشك في البقاء، وإلى هذا البيان نظر المحقق الطوسي (قدس سره) (1) في وجه إعتبار
الموضوع في الاستصحاب حيث تشبث بذيل هذا المبنى العقلي، وبعده لا مجال
لرده بأن الكلام في البقاء التعبدي لا البقاء الحقيقي كي يحتاج إلى إثبات مثل تلك
المقدمة العقلية، فراجع كلامه.



(1) راجع الكفاية: 437.
436
[خاتمة في بيان معارضة الاستصحاب مع الامارات أو الأصول]
خاتمة في بيان حكم المعارضة من الاستصحاب مع غيره من الامارات أو
الأصول، فنقول - قبل التعرض لبيان المعارضة في الموارد الخاصة - ينبغي
الإشارة إلى بيان مقدمة ربما يستفاد منها وجه الجمع بحسب الموازين الكلية،
وهي أنه إن كان نظر [دليل اعتبار الشئ] إلى تتميم الكشف مطلقا الراجع
إلى [إلغاء] الشك واحتمال الخلاف، فلا شبهة في أنه كما يقوم بمثل هذا اللسان
مقام العلم الموضوعي على وجه الطريقية والمأخوذ حيث إراءته للواقع في
موضوع حكم، كذلك يقوم مقام الغاية في: كل شئ لك حلال (1) أو طاهر (2)،
ويرفع موضوع " لا يعلم " و " الحجب " في حديث الرفع (3) ومثله، كما أنه بلسانه
رافع تنزيلا للشك الذي هو موضوع البناء على الوجود، أو صحة الموجود، أو
البناء على الأكثر في الركعات، أو البناء على بقاء ما ثبت، أو بقاء اليقين به.



(1) الوسائل 12: 6، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(2) المستدرك 2: 583، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 4.
(3) راجع الوسائل 11: 295، الباب 56، من أبواب جهاد النفس و 18: 119، الباب 12
من أبواب صفات القاضي، الحديث 28.
437
وبالجملة تتميم الكشف دليله رافع حكما لموضوع ما اخذ في حكمه عنوان
عدم انكشاف الواقع.
وإن كان نظر دليل اعتبار الشئ إلى تنزيل مؤداه منزلة الواقع، لا إلى
تتميم جهة الحكاية، فلا يصلح مثل هذا اللسان لرفع الشك عن حقيقة الشئ
حكما أو موضوعا، لا حقيقة ولا حكما، فحينئذ فلو اخذ في موضوع الأصول
الشك [في] بقاء [الشئ] حقيقة، أو عدم العلم بالحرمة أو الوجوب الحقيقي، أو
الشك في الوجود وصحة الموجود كذلك، فلا [تصلح] الأمارة القائمة على الخلاف
لرفع مثل ذلك الشك، أما حكما فواضح، لأن المفروض ان نظر التنزيل متوجه
إلى المؤدى بلا نظر فيه إلى نفي شكه الذي هو موضوع أدلة الأصول. وأما حقيقة
فلأن الموضوع إذا كان الشك [في] حقيقة الحكم والموضوع، فهو بعد قيام
الأمارة على الخلاف أيضا باق على حاله.
وتوهم: أن ما هو موضوع الأصول مطلق عدم الطريق وأن المقصود
معرفة مطلق الطريق، كما أن الغرض من الشك أيضا مطلق عدم [الحجة] على
الواقع، فقيام الطريق على الخلاف [يرفع] الموضوع حقيقة ووجدانا.
مدفوع: بأنه خلاف ظاهر أخذ خصوص المعرفة أو أخذ عنوان الشك
- ولو بمناط إستار الواقع - موضوعا.
كما أن توهم كون الحكم الذي هو متعلق الشك في موضوع الأصول أعم
من الواقعي والظاهري أفسد، إذ حينئذ بعد ظهور الحرمة في الحرمة الحقيقية نظير
الشك في وجود الشئ أو صحة الموجود لا يبقى مجال لهذا التعميم إلا بناء على
تعميم متعلق الشك بالنسبة إلى وجوده الحقيقي والتنزيلي، وإلا فبناء على
ظهور العناوين الحاكية عن الأحكام والموضوعات في الحكاية عن وجوداتها
الحقيقية، بلا شمولها لوجوداتها التنزيلية والادعائية [لا] مجال لرفع شكها

438
[بمجرد] قيام الأمارة على مؤدياتها، إذ ببركة الأمارة لا يثبت إلا وجود متعلقها
عناية وادعاء لا حقيقة.
نعم بناء على موضوعية الطرق في الأحكام أمكن إثبات التعميم في
الحرمة الحقيقية بين [الواقعية والظاهرية] وبهذا المقدار أيضا يثبت أمر ورود
الأمارة، لكنه خلاف المختار، إذ التحقيق يقتضي طريقيتها، ومن البديهي ان
الطرق في صورة المخالفة لا تثبت إلا حرمة أو وجوبا ادعائيا لا حقيقيا، وإلا
[فلبا] ليس [مفادها] إلا مجرد الترخيص على الحركة على [وفقها] كما هو ظاهر.
ومن هنا نقول أيضا كما ظهر أنه لا يصلح أمر الورود تعميم موضوع الحرمة
المعلومة بالنسبة إلى عنوانه الثانوي من مثل ما أخبر به العادل مثلا، إذ هذا
التعميم على فرض تسليمه لا يوجب العلم بالحرمة الحقيقية على الطريقية، فضلا
عن العلم بوجود الشئ الحقيقي في الموضوع الخارجي، [فالشك في] الحرمة
الحقيقية أو وجود الموضوع بعد قيام الأمارات على الخلاف بعد باق، فمن أين
يجئ في البين توهم الورود؟ فلا محيص على هذا المشرب إلا التشبث بدائرة
الجمع بنحو التخصيص أو التخصص كما هو ظاهر.
ومن هذا البناء أيضا ظهر حال الاستصحاب بالنسبة إلى مثل حديث الرفع
وأمثاله المأخوذ في موضوعها عدم العلم.
وبتوضيح آخر أن يقال: إن متعلق حرمة نقض اليقين والأمر بالبقاء إن
كان نفس وجود المتيقن واقعا، فلا شبهة في أن الحكم بإبقاء الشئ في ظرف الشك
لا يوجب العلم بحرمة الشئ بعنوانه الأولي، لا حقيقة ولا ادعاء، إذ التنزيل
المزبور حينئذ غير ناظر إلى جهة الكشف عن الواقع بل ممحض باثبات الوجود في
ظرف الشك [فيه]. فحينئذ من أين يوجب مثله حصول الغاية فيا " كل شئ
لك حلال " أو " رفع [ما لا يعلمون] في حديث الرفع " والحجب وهكذا في

439
غيرها مما اخذ في موضوعها الشك [في] الواقع الحقيقي؟ نعم لو اخذ في موضوع
بقية الأصول الشك [في] الأعم من حقيقة الشئ أو ادعائه، أو عدم العلم
بأعم من وجوده الحقيقي والتنزيلي، كان لما أفيد وجه، لكن أنى لنا باثباته؟
كما عرفت.
وأما لو كان متعلق اليقين نفس اليقين بالشئ في ظرف شكه فلا شبهة في أن
الاستصحاب حينئذ يثبت - في ظرف الشك - التعبد بوجود المتيقن، وهذا المقدار
كاف في إثبات الأحكام المترتبة على عدم العلم والمعرفة التي [هي] نقيض
انكشافه.
نعم في كفايته في رفع الأحكام المترتبة على الشك [في] الواقع وحيث
استتاره الذي هو ضد انكشافه نظر، إذ الموضوع في مثل تلك الأحكام صرف
وجود الشك، وهذا المعنى مأخوذ في موضوع الاستصحاب، ولذا يكون من
الأصول، وليس شأنه رفع مثل [الاستتار] وبذلك يمتاز الاستصحاب عن
الأمارة، وعليه فالشك المأخوذ في موضوع الأصلين بعد باق على حاله، غاية
الأمر محكوم بحكمين متضادين من [التعبد] باليقين بالحرمة [و] التعبد بالحلية بلا
صلاحية أحدهما لرفع موضوع الآخر لا حقيقة ولا تنزيلا، وعليه فلا يصلح
الاستصحاب للحكومة إلا بالنسبة إلى قاعدة الحلية والطهارة ومثل حديث الرفع
وأمثاله، وأما بالنسبة إلى قاعدة البناء على الأكثر في الركعات، أو قاعدة التجاوز
في الشك في الوجود، أو قاعدة الفراغ في الشك في صحة الموجود فالاستصحاب
لا يصلح [للتقدم] بمناط الحكومة والورود، بل لا بد [من] ملاحظة جمع آخر
بينهما ولذا تقدم مثل تلك القواعد على الاستصحاب بمناط التخصيص وإن لم يكن
في البين مخصص خارجي، كما هو ظاهر.
ثم إن ذلك كله في بيان حال الاستصحاب بالنسبة إلى سائر الأصول

440
[الواردة] في مورده، و [أما] حاله بالنسبة إلى الأصول الجارية في الشكوك
المسببة عن شكه، نظير استصحاب طهارة الماء الموجب للتعبد بطهارة الثوب في
قبال استصحاب نجاسة الثوب المطهر به الموجب للتعبد بنجاسته. بل ولئن شئت
توضيح التعارض بأزيد من ذلك فاسمع بأن نتيجة التنزيل في مقامنا ليس توسعة
حقيقة الأثر، من طهارة الثوب واقعا، كيف و [لازمها] الجزم بالطهارة الواقعية
للثوب بمحض غسله بطاهر ظاهري ولو كان في الواقع نجسا، مع أن توسعة
الطهارة الواقعية الثانوية للشئ بمقتضى كبراها في رتبة سابقة [على] الشك [في]
نفسها و [في] موضوعها [تستحيل] بنحو الحقيقة، على وجه [تشمل] الرتبة
اللاحقة عن الشك [في] نفسها، فنظر التنزيل لا يمكن أن يكون إلى تلك الجهة.
نعم لا بأس بذلك إذا كان الموضوع في الكبرى الأثر [الأعم] من الواقعي
والظاهري، وفي مثله لا يحتاج إلى كون نظر التنزيل في الموضوع إلى هذا الأثر،
ولكن ذلك المقدار مما يمكن دعوى القطع على خلافه، خصوصا مع استلزامه
التالي الفاسد السابق كما هو لا يخفى.
وحينئذ ليس الكبرى إلا تطهير الثوب بطاهر واقعي وان نظر التنزيل في
موضوعه أيضا ليس إلا إلى التعبد بطهارة الثوب في ظرف الشك [فيها] كما هو
الشأن في جميع موارد الأصول الموضوعية بالنسبة إلى ترتب احكامها، إذ يرجع
التعبد بالموضوعات إلى التعبد باحكامها، [لا] إلى توسعة الأحكام حقيقة.
وحيث كان الأمر كذلك نقول: إن نتيجة استصحاب طهارة الماء
التعبد بطهارة ثوب غسل به في ظرف الشك بها، ومن المعلوم ان مثل هذا التعبد
في ظرف الشك غير ناظر إلى رفع الشك المزبور، فهو باق بحاله بلا صلاحية
الأصل الموضوعي لرفعه حقيقة ولا حكما، ومن المعلوم أن مثل ذلك الشك
موضوع استصحاب [عدمها] فيتعارضان.

441
ثم إن ذلك كله على فرض كون نظر التنزيل في الاستصحاب الموضوعي
أيضا إلى المتيقن، كي يكون مفاده التعبد بنفس طهارة الماء نظير قاعدة الطهارة
وأمثالها.
وأما بناء على كون نظر التنزيل في الاستصحاب إلى إبقاء اليقين فالأمر
أوضح، إذ التعبد بطهارة الماء لا يقتضي إلا المعاملة مع ما [طهر] به معاملة
الطهارة [لأنها] من شؤون القطع بطهارة الماء، ولا يلازم ذلك مع التعبد باليقين
بإزالة نجاسة ما طهر به، وما هو رافع لاستصحابها هو ذلك دون الأول.
وتوهم الملازمة بين اليقين بطهارة الماء مع اليقين بطهارة الثوب المطهر به،
ولو في مرحلة التنزيل، مدفوع، إذ غاية الحكم بإبقاء اليقين بطهارة الماء [هي]
المعاملة مع الثوب معاملة الطهارة، لا الحكم بحدوث اليقين بها تعبدا.
وبالجملة نقول: إن غاية ما يستفاد من استصحاب طهارة الماء هو ترتيب
الأثر على طهارة ما غسل به، ورفع اليد عما يترتب على نجاسته واقعا، لا رفع اليد
عما يترتب على الشك [في] طهارته كذلك، ومن المعلوم أن استصحاب
[الطهارة] من آثار الشك [فيها] لا نفسها، وذلك ظاهر.
ومن تلك البيانات ظهر وجه الإشكال في تحكيم قاعدة الطهارة والحلية
أيضا على استصحاب الحكم المخالف لمقتضاهما.
كما أن الظاهر من ذيل أخبار الاستصحاب [و] تعريفه كون اليقين
الموضوع لوجوب النقض من سنخ اليقين الذي هو موضوع حرمته وفي سياقه،
[و] كون الناقض اليقين بخلاف المتيقن السابق حقيقة وواقعا، فلا يصلح مجرد
اليقين، فالحكم الظاهري التعبدي الناشئ من قبل حرمة النقض للناقضية (1)،



(1) كذا في الأصل والظاهر أن الجملة ناقصة.
442
فتقريب الورود في المقام من تلك الجهة في غاية الاشكال.
وأشكل منه تقريب الورود بدعوى أن الناقض اليقين بالحكم المخالف
الثابت للشئ ولو بعنوان عدم العلم به، كيف ولازمه ورود " كل شئ لك حلال
وطاهر " على استصحابهما. ونظيره لو كان ثبوت الحكم بعنوان نقض اليقين
بالشك، إذ لازمه ورود نقض اليقين بالشك على عموم " لا تنقض " والحال أن
العرف يرى بينهما المضادة.
نعم هنا مطلب آخر وهو: أن في كل مورد شك في الحكم من جهة الشك في
موضوعه كان اليقين بخلاف المتيقن السابق موجودا، لكن لا مطلقا بل مبنيا على
تحقق الموضوع في لحاظه، كما هو الشأن في كل قضية تعليقية، حيث إن اليقين
بالمعلق في فرض وجود [المعلق] عليه موجود فعلا، غاية الأمر لا عمل لمثل هذا
اليقين إلا في ظرف تطبيق المعلق عليه على المورد، وحينئذ فإذا [طبق] الشارع
إياه في مورد ولو تعبدا [ترتب] على مثل ذلك اليقين العمل المرغوب منه،
وبهذه الملاحظة يقع موضوع حكمه بوجوب نقض اليقين السابق بمثله، و [ترفع]
بتلك العناية حرمة نقض اليقين بالشك، لوجود الناقض من اليقين على خلاف
" المصالح المناقضية " (1) في المورد.
وتوضيح الجواب بأزيد من ذلك: أن حال التعبد بالموضوع بالنسبة إلى
حكم العقل بنقض اليقين السابق باليقين حال التعبد به بالنسبة إلى حكمه بالحركة
على وفق القطع بالفراغ المنوط بوجود موضوعه، فكما أنه يكتفى هناك بوجود
الموضوع ولو تعبدا كذلك في المقام.
ومرجع هذا التقريب إلى تقريب الورود لكي لا تأخذ التقريبات المتقدمة



(1) كذا في الأصل.
443
الباطلة، بل بتقريب آخر مختص بخصوص السببي والمسببي، ولا يجري في غيره
ولو في مثل الأمارة على خلاف الاستصحاب في الحكم أو خصوص الموضوع، بل
فيهما لا بد من المصير إلى الحكومة.
ثم إن من العجب ما حكي عن بعض (1) من الالتزام بمعارضة السببي مع
المسببي، مع أن في صريح الأخبار تعليل عدم وجوب إعادة الصلاة باستصحاب
طهارة ثوبه. هذا كله فيما كان الأصلان سببيا ومسببيا، وأما لو كان الأصلان
الجاريان في أطراف العلم عرضيين، [فتارة يكون] جريانهما منشأ لطرح تكليف
ملزم في البين، وأخرى ليس كذلك، فعلى الأول فلا شبهة في عدم الجريان من
جهة مانعية العلم عنه ولو لم يكن تعارض ولا مناقضة في مدلول [أدلتهما]، بناء
على التحقيق من علية العلم المنجز حتى بالنسبة إلى الموافقة القطعية. نعم لو قلنا
بالاقتضاء بالنسبة إلى الموافقة القطعية دون المخالفة كان المانع عن [جريانهما]
معارضة كل [منهما مع] الآخر. ولئن قيل باقتضاء العلم حتى بالنسبة إلى المخالفة
القطعية كان المانع مجرد مناقضة مدلول الرواية صدرا وذيلا، إذ وجوب النقض
باليقين الاجمالي المتعلق بأحدهما مناقض مع حرمة نقض كل واحد من [اليقينين]
بشكه.
وأما لو لم يكن جريان الأصلين منشأ لطرح تكليف معلوم عملا فلا شبهة
في عدم مانعية العلم الاجمالي لجريان الأصلين حتى بمناط المعارضة بينهما، إذ
المناط فيه انتهاء النوبة في [جريانهما] إلى الترخيص في المعصية، وفي المقام ليس
معصية حسب الفرض جزما. وإنما الكلام في مانعية معارضة صدر الرواية مع
[ذيلها] حيث إن حرمة نقض كل واحد من اليقينين بالشك معارض مع وجوب



(1) لم نعثر عليه.
444
نقض أحد اليقينين باليقين [بالخلاف] بنحو الاجمال.
ويمكن أن يقال - في هذه الجهة - إن ما أفيد كذلك على [فرض كون]
وجوب النقض باليقين مطلقا حتى في مورد لا يلزم من جريانهما طرح ونقض
عملي، وإلا فاطلاق الدليل قاصر الشمول لمثل المورد، فيبقى اطلاق الصدر شاملا
لكلا الشكين.
ثم إن في المقام بعض أمارات أخرى ربما يستشكل في تقديمها عليه، وإنما
الاشكال في وجه التقديم من انه بمناط الحكومة أو التخصيص أو الورود؟ وذلك
مثل اليد والسوق وأصالة الصحة في فعل الغير.
وحيث إن منشأ الاختلاف في وجه التقديم في الأمور المذكورة من جهة
اختلاف النظر في مفاد أدلتها من كونها ناظرة إلى تتميم الكشف أو حكما تعبديا
في ظرف الشك بالواقع واستتاره، فينبغي صرف عنان الكلام إلى بيان أدلتها
وشرح مفادها كي ببركته يتضح المرام في مثل المقام.
أقول: أما اليد فعمدة ما يتمسكون به قوله: " لولاه لما كان للمسلمين " (1)
الظاهر في مقام تقرير بنائهم وسيرتهم على ترتيب أثر الملكية على ما في اليد،
وهذا المقدار كما يناسب تعميم الكشف يناسب التعبد في ظرف الشك به أيضا، وإن
كان الانصاف أن بناء العقلاء في باب اليد على الظهور الناشئ من الغلبة، وان
بناءهم في العمل بها بملاحظة [كشفها] ومثل هذا المعنى يناسب الأمارة
المقتضية للحكومة على الاستصحاب، وعليه فلا يكون تقديم البينة [عليها]
من باب الحكومة بل إنما هو من جهة ضعف [كشفها] عن كشف [البينة لأنها] في
الحقيقة من باب الإلحاق بالأعم الأغلب الذي يترتب على الأمور الحدسية،



(1) الوسائل 18: 215، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.
445
بخلاف البينة فإن حكايتها عن الواقع [مستندة] إلى حس المخبر، فقهرا [تكون]
البينة في [حكايتها] عن الواقع أقوى من اليد فمع التعارض [تكون الحكاية
الأقوى مقدمة] على أضعفها.
ومن هنا ظهر ما في كلام الشيخ (1) حيث التزم بأمارية اليد وجعل وجه
تقديمها عليه حكومتها عليه، ومع ذلك التزم أيضا بحكومة البينة على اليد بتقريب
ان مبناها على الغلبة وإلحاق المشكوك بالأعم الأغلب، وبالبينة ترفع المشكوكية،
فلا موضوع للالحاق.
وتوضيح الضعف أن حيثية المشكوكية إن كانت مأخوذة في حكم العقل
بالإلحاق كي [تصير] نتيجة هذا المعنى راجعة إلى حكم عقلي ظني في ظرف الشك
بالواقع بدوا، وان بحكم العقل المزبور ينقلب الشك البدوي ظنا، فبالبينة يرتفع
موضوع [حكم] العقل بالالحاق، ففيه: أن دليل البينة يستحيل أن يكون ناظرا
إلى رفع هذا الشك تنزيلا، إذ لا يكون أثر شرعي كي يكون التنزيل بلحاظه،
فيلزم حينئذ حكومته على مثل هذا الحكم الفعلي الظني الذي هو موضوع التعبد
به.
وإن كان الغرض دخل حيثية المشكوكية في التعبد الشرعي بظنه فحينئذ
[حكومة] البينة على اليد وإن كانت صحيحة ولكن نقول: من البديهي عدم
اقتضاء دخل الشك المزبور في حكم العقل دخله في التعبد [بظنه] في ظرف
[حصوله] الملازم لزوال الشك المزبور.
وإن أريد بذلك أن الغلبة حاكية عن الواقع في ظرف الشك [فيه] على
وجه لا ينقلب الشك المزبور إلى الظن، وأن مثل هذا الشك موضوع التعبد بها



(1) راجع فرائد الأصول: 706 - 707.
446
وتتميم كشفها في ظرف هذا الشك بقاء وحدوثا، ففيه أنه ينافي الأمارية بل يصير
حال اليد وغيرها المبنية على الغلبة حال الاستصحاب الناظر إلى إثبات اليقين
في ظرف شكه وحينئذ يكون أصلا عمليا في عرض الاستصحاب، وبعد ذلك
لا يبقى مجال تقديمها على الاستصحاب بمناط الحكومة، لفرض أخذ الشك ظرفا
لكل من التعبدين بلا صلاحية واحد منهما للنظر إلى رفع الموضوع.
ثم إن في كون اليد أمارة بالنسبة إلى غير جهة الملكية نفيا واثباتا مجال
اشكال، ولذا استشكل في الجواهر (1) في أماريتها بالنسبة إلى جهة التذكية، وقبول
قول ذي اليد في الطهارة والنجاسة أيضا ليس من جهة أمارية اليد، بل في
أماريتها بالنسبة إلى [اللوازم العادية للملكية] أو ملزومها أيضا إشكال آخر،
ولذا لا [تثبت] بها حيثية الشراء من زيد حتى مع فرض ملازمة ملكيته له، فلو
ادعى الشراء المزبور لا [تكون] اليد أمارة على محط الدعوى حتى مع الملازمة
بينهما فضلا عما لم يكن كذلك. ولذا يصير ذو اليد في تلك الدعوى مدعيا وعليه
الاثبات. وفي انتزاع العين من يده حينئذ إشكال، لعدم خروج يده بمثل تلك
الدعوى عن أماريتها لأصل الملكية. وفي نسبة هذا المعنى أيضا إلى المشهور نظر.
نعم لا بأس بدعوى أن الاستيلاء الخارجي الذي هو عبارة عن اليد على
الشئ أمارة على اختصاص ما في يده مطلقا واطلاق اختصاصه ملازم لملكيته له
ولكن ذلك أيضا ما لم يزاحمه اقتران بنفيها وإذا اقترن بنفيها [فتسقط] اليد عن
الأمارة بالنسبة إلى الملكية، ولكن لا [تسقط] اليد بالنسبة إلى سائر مراتب
الاختصاصات عن الاعتبار، فتؤخذ بها على طبق دعواها من المراتب النازلة
عن الملكية المطلقة إلى أن يصل إلى حد [كونه] وديعة [عنده]، فيقر المال في اليد



(1) راجع الجواهر 8: 56 - 57.
447
المزبور ولو بعنوان كونه وديعة، فكان وزان اليد من هذه الجهة وزان ظهور الكلام
في إطلاق الشئ أو عمومه، إذ لا يرفع اليد عن ظهور اللفظ في بقية المراتب
بمحض مجئ القرائن المنفصلة [على] نفي [أعلاها]، كما لا يخفى على من لاحظ
ظواهر الألفاظ بالنسبة إلى القرائن المنفصلة. هذه كلها حال اليد.
وأما حال أمارية السوق على التذكية فيظهر [وجهها] مما ذكرنا خصوصا
مع اعتبار غلبة المسلمين فيه، إذ مثله يناسب الأمارية ولا يناسب الأصلية أصلا،
فتقديمه على الاستصحاب أيضا ليس إلا من جهة الحكومة. وفي كون السوق
أمارة جهة أخرى غير التذكية من الملكية والطهارة والنجاسة نظر، بل في الرواية
السابقة جهة صراحة في كون المنشأ للحكم بالملكية لما في الأسواق لأربابها
إنما هو اليد، كما أن معنى الطهارة في الأجناس السوقية أيضا لاستصحابها أو
قاعدتها.
وأما حال أصالة الصحة في عمل الغير، الجارية حتى في صورة الشك
[فيها] حال العمل - الذي به يمتاز عما يأتي من قاعدة الفراغ في فعل الانسان
نفسه - فعمدة [مبناها] أيضا هو السيرة الجارية في العبادات والمعاملات،
مضافا إلى امكان [استفادتها من] فحوى أمارية اليد في الرواية السابقة،
ولذا نقول بعدم حجيتها من حيث المثبت، لعدم صلاحيتها لإثبات اللوازم مثل
اليد، بل ما يترتب [عليها] لوازم صحة الشئ وتماميته، كما أن [موردها] مجرد
الشك في صحة العنوان وفساده بعد إحراز العنوان، وفي شمولها [لما] كانت بطبعها
الأولي على الفساد وكون الصحة من تبعات الطوارئ، كصحة بيع الوقف مثلا
إشكال.
كما أن الظاهر [المبنية] عليه سيرتهم هو الحمل على الصحة الواقعية لا
الاعتقادية، وفي جريانها حتى مع كون صحة عمل العامل باعتقاده على خلاف

448
اعتقاد [الحامل] إشكال ناش من عدم جريان مبنى السيرة فيه من كونه مما هو
مسلم في مقام ايجاد العمل على طبق اعتقاده بأنه واقع، فإن ذلك المقدار لا يقتضي
الحمل على الصحة باعتقاد [الحامل]، كما هو ظاهر.
وعلى أي حال لا شبهة ظاهرا في [أماريتها] وإن بناء السيرة في مقام
عملهم عليها على تتميم الكشف، ولازم تتميم كشفها حكومتها على الاستصحاب
الجاري في نفي الصحة أو آثارها، وأما الجاري في نفي ملزومها الشرعي فهو حاكم
عليها، كما هو الشأن في اليد أيضا. وعمدة الوجه في التفصيل المزبور [ما] أشرنا
من أن شأن الامارتين ليس اثبات ملزومهما، بخلاف استصحاب عدمه لأنه ينفي
آثارها الشرعية التي منها صحتها [بتبعاتها].
وأما قاعدة التجاوز والفراغ فهما بنفسهما مفهومان متغايران لا يكونان
تحت جامع قريب على وجه [يمكن] ارادتهما من اللفظ، إذ أحدهما عبارة [عن]
التعبد بوجود الشئ بعد التجاوز [عن] محله، والثاني عبارة عن التعبد على تمامية
الموجود، ومثل ذين المعنيين لا [يمكن] ارادتهما من عبارة واحدة إلا [باستعمالها]
فيهما وهو محال. نعم في التعبد بالوجود أمكن إرادة الجامع بين التعبد بأصل
وجوده والتعبد بوجوده الصحيح عند الشك في صحته، ولكن ذلك أيضا غير
مرتبط بعالم التعبد بصحة الموجود، لرجوع الأول إلى مفاد " كان التامة " والأخير
إلى " كان الناقصة " وأحدهما غير الآخر، وان كانا متلازمين خارجا عقلا.
وأيضا في التعبد بتمامية الموجود أمكن إرادة الجامع بين التعبد بالتمامية مقابل
[النقص] مع الجزم بصحة العمل بعد على وجه يمكن إتمامه، والتعبد بالتمامية مقابل
الفساد الغير القابل للتتميم، ولا إشكال ظاهرا في هذا المقدار، وإنما الكلام في أن
ما ورد في الأخبار حاك عن خصوص المعنى الأول أو هي مختلفة المضمون على
وجه قابل لاستفادة المعنى الثاني أيضا؟

449
فنقول: أمكن أن يقال باختلافها مضمونا، لأن [ظاهر] قوله: " إذا
شككت في شئ ودخلت في غيره فشكك ليس بشئ " (1) - خصوصا بضميمة
موارد استعمالها والسؤال في صدرها - هو الشك في ذات وجوده، فإن الدخول
في الغير من جهة كونه محققا للتجاوز عن محله الذي هو فيه، لا أن مثل تلك الجهة
قيد زائد عن قاعدة التجاوز عن محله، معرفتها بنحو الشرطية (2)، كما أن قوله:
" إذا شككت في شئ مما مضى فامضه كما هو (3) "، ظاهر في التعبد بأن ما مضى
وقع كما ينبغي وقوعه، وهو راجع إلى الشك في تمامية الموجود. وفي هذه القاعدة لم
يحتج [إلى] أزيد من مضي العمل بلا احتياج إلى دخوله في غيره، ولذا كانت
الرواية المزبورة أيضا مطلقة من هذه الجهة، وحينئذ لا يبقى مجال إلقاء التعارض
بين تلك المطلقات والمقيدات كما هو ظاهر.
نعم لا بأس باطلاق مثل تلك الرواية بالنسبة إلى مطلق الشك في التمامية
والنقص، وإن لم يكن العمل بعد السلام، وإن كان محل المشكوك منها باقيا لعدم
صدور مبطل منه ولو سهويا.
وأما إطلاق الطائفة الأولى للشك في وجود الصحيح ولو من جهة الشك في
[واجدية] الترتيب والمولاة ففي غاية الإشكال، ولولا القاعدة الثانية لما يبقى
مجال لتصحيح العمل المزبور.
وتوهم إمكان الاتكال [على] أصالة الصحة في عمل نفسه كعمل غيره،
مدفوع، كيف ولو كان مدرك التصحيح تلك القاعدة لما يبقى مجال الفرق بين صورة
طرو الشك حال العمل أم بعده، كما هو الشأن في سيرتهم على البناء على صحة



(1) و (3) راجع الوسائل 5: 336، الباب 23 من أبواب الخلل في الصلاة، الحديث 1 و 3.
(2) كذا في الأصل.
450
عمل الغير حتى مع الشك [فيها] حال العمل، فيكشف ذلك بأن نظر الأصحاب
في تصحيح العمل في فرض حدوث الشك بعد الفراغ على البناء على صحة
الموجود، وإلا فقاعدة الشك في الوجود منصرفة عن مثله وظاهرة في الشك في
وجود الأعمال الخارجية بذاتها.
نعم هنا اشكال آخر وهو: أن مقتضى قوله: " إنما الشك في شئ لم تجزه "،
في ذيل قوله: " إذا شككت في شئ من الوضوء ودخلت في غيره (1) "، جريان
قاعدة التجاوز في عموم المركبات، ولازمه تخصيص مثل تلك الرواية وتلك العلة
في مورده من الوضوء.
ومن هذه الجهة التزم بعض الأساطين (2) بحمل تلك الرواية على قاعدة
الفراغ، والتزم باختصاص قاعدة التجاوز بخصوص أفعال الصلاة. ولكن
الانصاف إباء لسان تلك الرواية عن الحمل على قاعدة الفراغ بل بجميع فقراتها
[مساوقة للأخبار] الواردة في قاعدة التجاوز، وعليه [فحل] الإشكال فيه
بامكان حمل " غيره " في الرواية على الغير الخارج عن الوضوء بنحو من التقييد
في الغير، بلا لزوم تخصيص في المورد. بل ويمكن استكشاف نحو عناية في الوضوء
بجعل نية أجزائه بمنزلة العدم كي ينحصر الغير بما هو خارج عن وضوئه، وإن
الغرض من الدخول في الغير في المقام أيضا نحو كناية عن تجاوز المحل، غاية الأمر
توسعة المحل ما دام اشتغاله بالوضوء ملازم مع تجاوزه عنه بفراغه عن الوضوء
الملازم غالبا مع الدخول في غيره، وإلا فمجرد الفراغ عن الوضوء كاف في
التجاوز بلا احتياج هنا إلى الدخول في الغير، ولكن ذلك المقدار لا يقتضي حمل



(1) الوسائل 1: 331، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 2.
(2) هو المحقق الخراساني راجع حاشيته على فرائد الأصول: 238.
451
الرواية على قاعدة الفراغ أو تخصيص مورد العلة المستهجن عرفا كما هو ظاهر.
وعلى أي حال ظاهر مثل تلك الروايات كون القاعدتين من [قبيل]
الأصول التعبدية المضروبة في ظرف الشك [في] الواقع، ولقد أشرنا سابقا
[إلى] عدم حكومة الاستصحاب عليها ولا حكومتها أيضا على الاستصحاب،
لعدم صلاحية واحد منهما لرفع موضوع الآخر، بل كل منهما ناظر إلى التعبد
بالشئ في ظرف الشك [في] الواقع بلا نظر منهما إلى نفي [طرفه]، بل لا محيص في
أمثال المقام من الالتزام بالتخصيص من جهة استلزام قلة المورد أو عدمه
[للقاعدتين] على تقدير جريان الاستصحاب في موردها.
نعم في بعض الفقرات تعليل التعبد بقوله: " وهو حينئذ يتوضأ أذكر منه "،
إذا مثل توهم كون مبنى التعبد في المقام على مراعاة الأذكرية النوعية وأنه بلحاظ
تتميم كشفه فلازمه حينئذ كون مثل هذه القواعد أيضا من الأمارات الموضوعية
الحاكمة على الاستصحاب. ولكن [للتأمل] في تلك الجهة [مجال]، إذ مثل هذا
المعنى من العلية ينافي ظهور جعل التعبد في ظرف الشك لان مرجعه إلى نفي الشك
لا التعبد في ظرفه. فالأولى جعل مثل تلك الفقرة بيان حكمة لمثل هذا التعبد لا
علة كي ينافي لسانه. والله العالم.

452
المقالة الخامسة والعشرون
حكم تعارض الأدلة

453
[المقالة الخامسة والعشرون]
في حكم تعارض الأدلة
وعرف التعارض بتنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد.
ولا يخفى أن التنافي المزبور في الحقيقة قائم بنفس الواقع بلا مساس له
بمرحلة الدليل بما هو دليل إلا بنحو من العناية، بملاحظة كون حكاية الدليلين عن
المتنافيين موجبة لتنافيهما في حكايته بعناية أن الحاكي عين المحكي، فيصيران
بحسب الدلالة والحكاية كأنهما متنافيان.
وحينئذ فاتصاف الدليلين بالتنافي المزبور نظير وصف الشئ بحال متعلقه.
وإلا فبالنسبة إلى نفسه لا يكون [تناف] بينهما إلا بالعرض والمجاز.
نعم ربما [تكون] تلك جهة التنافي تنافيا حقيقا قائما بنفس الدليلين بلا
عناية، وهو في الحقيقة مساوق عرض كل واحد نفسه في الدخول تحت دليله.
و [مثل] ذلك المعنى من التنافي أنسب إلى شرح التعارض من التنافي
السابق، إذ هو قريب إلى تعريف الشئ بسببه.
ولعل ذلك هو النكتة في عدول الأستاذ (1) في تعريفه عن تنافي مدلولي



(1) راجع كفاية الأصول: 496.
455
الدليلين إلى تنافيهما في مرحلة الدلالة ومقام الإثبات، بل ومثل هذا المعنى يناسب
لفظ التعارض الوارد في موضوع الأخبار العلاجية المنصرفة [عن] موارد الجمع
العرفي، لعدم صدق تنافي الدليلين في مرحلة الإثبات بالنسبة إلى موارد الجمع،
بخلاف المعنى السابق، إذ هو صادق على موارد الجمع أيضا، فشرح التعارض
بمثله يوجب شموله لموارد الجمع أيضا، فتقع المغايرة بين ذلك العنوان الواقع
موضوعا للبحث وبين العنوان الواقع موضوع الأخبار العلاجية.
نعم لازم ذلك كون البحث عن الجمع وتمييز موارده في مثل هذا المبحث من
المقاصد، نظير البحث عن التعادل والترجيح. وهذا بخلاف المعنى الأول، إذ
البحث عن أحكام الجمع وما يتعلق به في مثل هذا المبحث استطرادي محض،
و [لعل] مثل تلك الجهة أيضا دعى الشيخ (قدس سره) (1) في تعريفه عنوان التعارض
الواقع في موضوع البحث [إلى] ما أفيد، كي يجمع المسائل الثلاث، ويكون
البحث عن كل واحد منها، كما لا يخفى.
ثم إن التعارض بكل واحد من المعنيين لا يكاد يصدق في موارد الورود
التي يكون أحد الدليلين نافيا لموضوع الدليل الآخر حقيقة، كما لا يصدق في
موارد الحكومة أيضا، إذ بعد كون أحد الدليلين ناظرا إلى شرح غيره فلا يرى
العرف تنافيهما حتى بحسب مدلوليهما، بل يرون الحاكم بمنزلة القرائن المتصلة
الحاكية - مع ذيها - عن معنى واحد، غاية الأمر لا يقتضي الحاكم عند انفصاله
قلب ظهور [المحكوم]، بخلاف القرائن المتصلة، فإنها موجبة لقلب الظهور أيضا،
ففي القرائن المتصلة يكون الدال والمدلول واحدا و [تكون] الدلالة على وفق
مدلوله، وهذا بخلاف موارد الحكومة، فإن دلالة المحكوم بعدما لم [تنقلب عما



(1) راجع فرائد الأصول: 750.
456
هي] عليه [فكانت] دلالة المحكوم على خلاف مدلوله، لأن مدلوله هو الذي
تكفله الحاكم لشرحه بلا مغايرة بين مدلوليهما وإن كان في الدلالة بينهما المغايرة
جزما.
وبذلك أيضا تفارق الحكومة الجمع بحمل الظاهر على الأظهر، إذ الغرض
من الحمل في المقام هو رفع اليد عن التعبد بالظهور ببركة الأظهر، لا بمعنى كون
الأظهر قرينة على شرح الظاهر.
كيف! ولا نظر في موارد الجمع بنحو التخصيص أو المجاز لواحد من الدليلين
إلى شرح غيره في مراده. بل كل منهما يثبت معنى غير الآخر [فيطرح] أحدهما
لمحض أقوائية الآخر، وذلك لا ينافي مع بقاء كل منهما على دلالته على مدلول غير
مدلول الآخر مع كمال التنافي أيضا بين المدلولين، غاية الأمر لا يكون أضعفهما
مشمول دليل التعبد في قبال أقواهما. وأين ذلك ومقام الحكومة التي يكون أحد
الدليلين في مقام شرح مدلول غيره ومبينا لمراده ومدلوله؟ إذ في مثله يصدق
كونهما - مجموعا - حاكيين عن مدلول واحد.
فالحكومة من جهة وحدة المدلول فيهما [شبيهة] القرائن المتصلة، ومن
حيث تعدد دلالتهما وعدم انقلاب ظهورهما عما هما عليه كانت شبيهة بموارد
الجمع بالأظهرية، [فهي] في الحقيقة أمر بين الأمرين من القرائن المتصلة وموارد
الجمع بالأظهرية.
ومن نتائجها الأخذ بمدلول الحاكم بعد الفراغ عن جهة حكومته وإن كان
في أصل مدلوله أضعف.
بل ومن الممكن دعوى سراية حكم إجماله إلى المحكوم أيضا بحيث لو كان
مدلول الحاكم مرددا بين الأقل والأكثر لا يبقى مجال الأخذ بمدلول [المحكوم] حتى
بالنسبة إلى المقدار الذي يكون [الدليل] الحاكم مجملا فيه، بخلاف موارد الجمع

457
فإنه يؤخذ بظهور الظاهر ويرفع اليد عن إجمال الأظهر في الجهة الزائدة، فالحاكم
من تلك الجهة أيضا شبيه القرائن المتصلة، غاية الأمر إجمال القرائن المتصلة
[سار] إلى ذيها حقيقة، بخلاف الحاكم، فإن ظهور المحكوم بعد بحاله، غاية الأمر
يترتب حكم المجمل عليه، وذلك ظاهر.
ثم إن في كون معيار الحكومة كون أحد الدليلين في مقام شرح مدلول الغير
بما هو مدلوله المستلزم كونه بمنزلة " أي " التفسيري (الحاكم مع عدم المحكوم) (1)،
أو كونه في مقام شرح مفاد غيره بما هو حكم واقعي وإن استتبع ذلك شرح مدلول
الغير أيضا لكن لا بما هو مدلوله [وجهين]، من ظهور بعض [تعاريفها] في الأول
ومن اقتضاء الأمثلة لها كونها من الثاني.
ويؤيد ذلك أيضا وجود خواص الحكومة - من تقديم [الأضعف] دلالة
وسراية الاجمال حكما - في المعنى الثاني أيضا، وعليه فلا وجه لتخصيص
الحكومة بالقسم الأول كي يلزم خروج الأمثلة المعهودة عن موردها، فيحتاج
إلى المصير إلى بيان وجه الجمع بطور آخر.
ثم إنه لا شبهة في أن الأخذ بدليل الحاكم إنما هو بعد الفراغ عن قوة نظره
بل يقوى عليه، فيقدم في هذه الصورة أقوى الدلالتين ويعامل معهما في تلك الجهة
[كالتعامل] بين سائر المتعارضين. ولقد عرفت أن باب الجمع غير مرتبط بباب
القرائن المتصلة الشارحة للمراد و [الكاشفة] عن المقصود باللفظ الآخر،
ولا بباب الحكومة الشارحة للمراد من الظهور الآخر، بل هو في الحقيقة راجع
إلى ترجيح الأقوى دلالة وطرح الأضعف مع ماله من الدلالة على مدلول
خاص.



(1) كذا في الأصل.
458
وبواسطة ذلك ربما [تظهر] جهة فارقة أخرى بينهما، و [هي] ان في باب
الحكومة لا يخرج سند المحكوم عن الاعتبار حتى لو فرض اقتضاء دليل الحاكم
طرح ظهور المحكوم رأسا بحيث لا يبقى تحت [ظهوره] شئ من مدلوله، لأنه بعد
شرح مراده بمفاده كان بحكم [القرينة] المتصلة في تعيين مراد الظهور، ودليل
التعبد بسنده لا يلغى عن الاعتبار، إذ ينتهي الأمر إلى العمل بمراده ولو بتوسيط
شارحه. وهذا بخلاف باب الجمع فإن دليل الأظهر لا يكون شارحا لمراد العام،
بل العام الظاهر باق بعد على ظهوره في المراد منه مع احتمال كون المراد الواقعي
على طبق ظهوره، غاية الأمر يجب رفع اليد عن حجيته عند قيام حجة أقوى على
خلافه، ولازمه حينئذ بقاء مقدار من الدلالة بحاله لزوما بلا [لزوم طرحه] أجمع،
وإلا يلزم طرح سنده أيضا لعدم انتهاء أمر سنده إلى العمل، بل يصير حال الظاهر
بعد عدم حجية ظهوره وطرحه رأسا حال المجمل المعلوم عدم معنى [للتعبد]
بسنده ومن [الممكن] دعوى كون موارد الجمع من التخصيص والتقييد والمجاز في
الأمر والنهي ليس مما يطرح ظهورها رأسا، بل يبقى تحت ظهور العام والمطلق،
والأمر والنهي و [أمثالها] مقدارا من الدلالة، فيبقى مقدار من مدلوله على وجه
يكون ظهوره حجة فيه، وهو المصحح أيضا للتعبد بسنده.
كما أن اطلاق مثل تلك العناوين في الظهورين المنفصلين أيضا ليس على
الوجه الذي يكون للمتبادر إلى الذهن - من اقتضاء الجمع - كون المراد من العام
هو الخاص واقعا وأمثاله، بل من المحتمل كون المراد منها ما هو ظاهرها، غاية
الأمر قامت الحجة الأقوى على تعيين الحكم الواقع مع احتمال بقاء الظهور على
طبق مراده الجدي بحاله، غاية الأمر ليست تلك الظهورات بحجة في قبال
الأقوى، ونتيجته حينئذ اجراء حكم التخصيص والتقييد والمجاز على مثلها كما هو
ظاهر.

459
ثم إن في وجه تقديم الأظهر على الظاهر جهة إشكال آخر وهو: أنه هو من
جهة أخذ عدم وجود الأقوى واقعا، أو عدم الحجة على الأقوى في موضوع
التعبد بالظهور، [أو] أنه من باب تقديم أقوى المناطين بمناط الأهمية على
الأضعف بلا تقييد في موضوع التعبد بالظهور أصلا - كما هو الشأن في تقديم الأهم
على المهم في سائر أبواب المزاحمات - وجهان، أمكن المصير إلى الأخير، بل
احتمال ذلك كاف في عدم الالتزام بتقييد موضوعه، ولازم ذلك عدم [المجال] في
الالتزام بالورود عند قطعية سنده ولا [الالتزام] بالحكومة عند ظنية سند الأظهر
بالنسبة إلى التعبد بالظاهر، ووجه ذلك ظاهر من جهة عدم نظر دليل التعبد بسند
الأقوى حينئذ إلى توسعة مفاد التعبد بظهور غيره أو تضييقه لعدم تقييد في دليل
التعبد بالظهور.
نعم بناء على التقييد قد يتوهم عدم مجئ الحكومة في المقام، بتقريب
أن الدليل على التعبد بالظهور لبي ولا معنى لمثل هذا العنوان في غير باب
الألفاظ.
وفيه أنه إنما يصح على شرح الحكومة [بكونها شارحة] لمدلول [غيرها]
بما هو [مدلولها] وإلا فلو كانت الحكومة متقومة بنظر الحاكم إلى توسعة مفاد
غيره بما هو أمر واقعي أم تضييقه، لما كان قصور في اطلاقه [في] المقام، إذ
بعد كون موضوع التعبد بالظهور مقيدا بالفرض بعدم قيام الأقوى على خلافه،
فيكون مثل ذلك حكما واقعيا بالإضافة إلى التعبد بسند الأظهر، فيكون لسان
التعبد به أيضا ناظرا إلى توسعة موضوع التعبد بالظهور أو تضييقه بلحاظ العمل
في مرتبة الشك [فيه]، ولا يقتضي هذا المقدار أيضا رفع التعبد بالظهور واقعا
من البين، نظرا إلى عدم تضاد بين التعبدين، كعدم تضاد بين سائر الأحكام
الواقعية والظاهرية.

460
فحينئذ صح دعوى امكان وجود البناءين اللبيين مع كون أحدهما ناظرا
إلى توسعة الآخر أو تضييقه في مرحلة الظاهر المتأخر رتبة عن مرتبة البناء
الواقعي، كما هو الشأن في اقتضاء دليل التعبد بالواقعيات توسعة الواقع [أو]
تضييقه في مرحلة الظاهر.
نعم لو اعتبر في الحكومة قيد آخر وهو كون دليل المحكوم مرجعا عند عدم
الحاكم، لا يبقى مجال اطلاق الحكومة في المقام، لعدم صلاحية دليل الواقعيات
[للتطبيق] على المورد لولا الحاكم، كما أنه لو فرض كون موضوع التعبد بالظهور
مقيدا بعدم العلم بالأظهر لا يبقى أيضا مجال حكومة لسند الأظهر وإن كان ناظرا
إلى تتميم كشفه، إذ من البديهي حينئذ تضاد البناءين وجودا، فمع بناء الثاني
لا يعقل بناء الأول فلا يكون له وجود يصلح لرفعه تنزيلا لا حقيقة.
وعلى أي حال نقول: إن تلك الكلمات إنما تجري على فرض الالتزام
بتقييد موضوع التعبد بالظهور وإلا فبناء على ما ذكرنا لا يكون ترتب التعبد
بالظهور على عدم قيام الأظهر (1) على خلافه ترتبا شرعيا كي يصلح أن يكون
التنزيل المستفاد من التعبد بالسند ناظرا إلى [غيره]، فمن أين [تثبت] الحكومة
المزبورة ولو [بالتقريب] المتقدم؟
كما أنه على هذا المبنى لا يكون موضوع التعبد بالظهور مقيدا بعدم الحجة
على [خلافه] كي يكون التعبد بسند الأقوى رافعا حقيقة لموضوع الآخر وواردا
عليه.
نعم على ذلك المسلك أمكن حينئذ تشكيل الورود بتقريب آخر وهو أن
لازم التزاحم المزبور كون المرجع عند الشك في وجود الأهم هو الأخذ بالمهم



(1) في الأصل: لا يكون عدم ترتب التعبد بالظهور على قيام الأظهر.
461
بحكم العقل بمناط الاشتغال في مطلق الشك في القدرة والمزاحم الأهم. ومن
المعلوم ان موضوع هذا الحكم العقلي معلق على عدم قيام حجة على الأهم،
فبوجود الحجة عليه يرفع موضوع العقل ورودا.
ولا يخفى الفرق بين هذا التقريب من الورود والتقريب السابق المنوط
بكون موضوع التعبد بالظهور واقعا مقيدا بعدم الحجة على وجود الأظهر على
خلافه، فبوجودها يرتفع البناء الواقع برفع موضوعه حقيقة، وهذا بخلاف تقريب
ورودنا، إذ المورد حينئذ ليس البناء على التعبد بالظهور واقعا، بل هو وجودا
وعدما تابع وجود الأظهر على خلافه واقعا وعدمه، وإنما المورد هو قاعدة
الاشتغال الحاكم بالشئ على طبق احتمال وجوده في الواقع، غاية الأمر بعد
ارتفاع حكم العقل لا يكون [للبناء على] الواقع المشكوك [أثر كما لا يخفى].
ثم إن تمييز الأقوائية في الظهور بنظر العرف ولو من جهة القرائن الشخصية
الحافة بالكلام الخارجة عن محط الضبط وتحته، كتشخيص أصل الظهور، ويمكن
جعل الميزان على فرض [جمعها] في كلام واحد، فبأي واحد كان منشأ لقلب
الظهور الآخر فهو الأقوى.
وعلى أي حال ليس المدار على مطلق أقربية [التصرف] في أحدهما
بالإضافة إلى الآخر، كيف وذلك يشمل صورة الدوران بين [التعبدين] وإلا فمن
المعلوم عدم كون مثل [هذا] التصرف ميزان الجمع عرفا.
وما اشتهر بأن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح محمول على الامكان
العرفي غير الصادق على الجمع بالنحو المزبور، فمهما انتهى الأمر إلى مثل [هذه]
التصرفات كان الظهوران عند العرف متعادلين، ومع التعادل لا بد وأن ينتهى إلى
إعمال قواعد السنة من التساقط أو التخيير أو الترجيح.
نعم في المقام مطلب آخر وهو ان الجمع بين الدليلين بمقتضى الأقوائية أيضا

462
إنما يتم في فرض إمكان كون الكلامين صادرين من متكلم واحد أو من هو بمنزلة
الواحد، وحينئذ فلو فرض العلم الاجمالي بعدم صدور أحد الكلامين من الإمام
مثلا فلا يبقى مجال حينئذ لتقديم الأظهر على الظاهر، إذ دليل التعبد بسند الظاهر
يقتضي بالملازمة المدلولية في اخباره عدم صدور غيره من الإمام (عليه السلام)، ولازمه
شرعا نفي التعبد بدلالته وإن كان أقوى من طرفه، كما أن التعبد بظهور غيره بلا
انتهاء النوبة حينئذ إلى التعارض بين الدلالتين فارغا عن سند حاك (1) يقدم
الأقوى حينئذ على غيره بأحد الوجوه المتقدمة.
ولئن شئت قلت بأن مدار الجمع على ظهور كلام إمام ورد على خلافه
أظهر، وفي المقام نقطع بأنه على فرضنا كونه كلام إمام لم يرد على خلافه أظهر، كما
هو الشأن في طرف عكسه.
ومن هنا ظهر أيضا أنه في ظرف تساوي الظهورين من هذا الفرض
لا يكون منشأ التعارض تقادم الظهورين وتعادلهما بل عمدة المنشأ اقتضاء الأخذ
[بكل ظهور طرح موضوع] التعبد بالظهور في الآخر، ولازمه عدم مجئ التعبد
بالسند لعدم انتهائه إلى العمل.
وبالجملة نقول: إن كل مورد يكون التكاذب بين الروايتين من حيث
حكاية كل من المخبرين عن الإمام فهو داخل في مصداق المتعادلين الخارج
عن موارد الجمع، من دون فرق [بين] قوة أحدهما بحسب الدلالة بالإضافة
إلى الآخر و [عدمها] ومن دون فرق أيضا بين تنافيهما في مقول قول الإمام
أم لا.
نعم لو فرض عدم ظهور كلام الإمام في مراده بل كان دالا عليه قطعيا



(1) كذا في الأصل وقد يتضح مقصوده من خلال عبائره التي تلي هذا المقطع.
463
أمكن دعوى الأخذ بسند الطرفين في الفرض الآخر، لعدم مخالفة عملية حينئذ في
اعمال التعبدين وبلا اقتضاء في مدلول كل منهما التزاميا شيئا. فحينئذ يصير حال
المخبرين - من تلك الجهة - حال الاستصحابين الجاريين في [طرفي] العلم
الاجمالي بلا اقتضائه طرح تكليف معلوم اجمالا.
وتوهم أن [معلوم] المخالفة في البين غير صالح لشمول التعبد له، فيبقى بديله
[غير معلوم] الانطباق على كل واحد من الطرفين.
مدفوع بأن مجرد العلم بمخالفة واحد بعنوان إجمالي لا ينافي الشك بل الظن
النوعي في كل واحد بعنوانه التفصيلي بلا ريب، فلا قصور لشمول دليل التعبد
لكل منهما عند عدم محذور فيه من جهة أخرى حسب الفرض. ومجرد اختلاف
لسان التعبد في النظر إلى تتميم الكشف أو التعبد في ظرف عدم الانكشاف لا
يجدي فرقا في مقامنا.
وتوهم أن قضية تتميم الكشف [مضادة] مع فرض الجزم بالمخالفة صحيح
لو أريد شمول الدليل [للعنوان] الاجمالي الذي علم مخالفته، وإلا فبالنسبة إلى
العناوين المفصلة لا كشف فيها على خلاف الواقع أصلا، للجزم بعدم سراية العلم
من العنوان الاجمالي إلى التفصيلي بتا كما هو ظاهر.
ثم إن موضوع البحث في الجمع إنما هو الجمع بين [كلامين لشخص] واحد
أو [من] هما بمنزلة الواحد، وأما لو كانا شخصين فلا دليل أيضا في الجمع بحمل
الظاهر على الأظهر والاطلاق على التقييد وهكذا غير ذلك من موارد الجمع طرا
والله العالم.
وعليه فموضوع البحث في الجمع إنما هو في الكلامين الصادرين من شخص
واحد وبمنزلته، وهو لا يتصور إلا بفرض عدم تكاذب الخبرين في [حكايتهما]
عن الإمام، وإن يكاد منهما من تنافي مدلولي المقول لقوله (عليه السلام)، وفي مثل تلك

464
الصورة أيضا لا يمكن العمل على طبق أحد الخبرين عند فرض تصادم الظهورين.
وعمدة الوجه فيه هو أن المدلول الالتزامي لكل منهما [إذا نفي به] ما هو
مدلول مطابقي [للآخر] فينتهي أمر مفادهما إلى النقيضين، وفي مثله لا يمكن
المصير إلى الوجوب التخييري [الراجعة] إليه المتخيرات في المسألة الفرعية، نظير
خصال الكفارة وأمثالها، وذلك لأن مرجع كل واحد تخييري إلى وجوب حفظ
الوجود من كل طرف على وجه يوجب سد باب بعض أعدامه، وهو العدم
المقارن لبدله، وهذا المعنى لا يمكن إلا مع فرض كونه في فرض عدم البدل
اختياريا، وإلا فيستحيل تعلق التكليف به لعدم تعلقه بأمر حاصل أو أمر
خارج عن حيز الاختيار، وفي المتناقضين كان الأمر من هذا القبيل، إذ في فرض
عدم النقيض كان الشئ حاصلا غير قابل لتعلق التكليف به. و [نظيره] أيضا كل
ضدين لا ثالث لهما، إذ في فرض عدم الآخر كان وجود بدله قهري الحصول، فلا
يبقى مجال تعلق الأمر بسد باب عدمه المقارن لعدم غيره، فلا جرم ينحصر أمر
الوجوب التخييري الفرعي [في] ما لا يكونان ما نعتي الخلو، أعم من أن يكونا
مانعتي الجمع أم لا. وعلى أي حال يخرج ما نحن فيه - بعد فرض حجية المدلول
المطابقي - عن تحت الواجبات التخييرية الفرعية.
نعم لو كان مفاد دليل التعبد وجوب الالتزام بالمؤدى ولو مقدمة للعمل
أمكن تصوير الوجوب التخييري في مفاد دليل التعبد. ولا قصور أيضا
في استفادة ذلك من اطلاق دليل التعبد بعد إمكان رفع اليد عن كل في
صورة الأخذ بالآخر. ويستفاد من مثله حينئذ كون مقتضى القاعدة الأولية
في المتعارضين هو التخيير في مقام الأخذ بكل واحد من الخبرين حتى على
الطريقية.
ولكن لا يخفى ما في هذا المبنى، بداهة أن متعلق وجوب التعبد في كلية

465
باب الأمارات والأصول هو العمل، ولذا لا تجب الموافقة الالتزامية في موارد
الأمارات الغير المتعارضة. وأما إذا كان متعلق الطريقية هو العمل فلا شبهة
- في صورة انتهاء الأمر إلى النقيضين - [في] عدم تصور وجوب تخييري بين
العملين، بل يمكن الجمع بينهما عملا، بالعمل على طبق الوجوب محضا، فإنه
على وفق دليل نفي الوجوب أيضا، ولولا مزاحمة [الأمرين الطريقيين] في مقام
التأثير في تنجز الواقع وعدمه لكان العقل مستقلا بوجوب العمل على طبق ما دل
على الوجوب كي يصير العمل على وفق كليهما، إلا مع قيام الدليل الآخر على
الحرمة فإنه لا بد من التخيير بينهما عملا. ولكن المزاحمة المزبورة تابعة
[للحكم] بوجوب الأخذ على طبق الوجوب مثلا، إذ حكم العقل بوجوب
موافقة الواجبات الطرقية لمحض دفع الضرر المحتمل الناشئ عن تنجز التكليف
المحتمل في مورده، ومع فرض مزاحمة دليل نفي الوجوب في المنجزية [لم يبق]
مجال احتمال الضرر كي يجب دفعه وحينئذ فلا يقتضي على الطريقية الأخذ
بخصوص ما دل على طبق دليل الوجوب جمعا بين العمل بالخبرين، بل لا محيص
حينئذ إلا من التخيير العقلي، نظير صورة قيام الطرفين على [المحذورين]،
ولا نعني من تساقطهما إلا هذا.
بل ولئن بنينا على رجوع مفادهما إلى جعل الحجية أو جعل الكاشف
على ما يقتضيه المطابقة النوعية في الطرفين، أمكن جعل المتعارضين مع ذلك
من باب التزاحم في المقتضيين بلا تكاذب في مقتضاهما من غلبة الايصال النوعي
فيهما، كما أنه قد عرفت أيضا [عدم] مانعية العلم الاجمالي [عن] طريقية
كل واحد بعنوانه التفصيلي بعد عدم صلاحية المعلوم بالاجمال للسراية إلى أطرافه
أبدا.
نعم على مسلكنا من كشف الأوامر الطرقية عن اهتمام الشارع بحفظ غرضه

466
في البين أمكن أن يقال إن المقتضي [للإيجاب] الطريقي هو هذه المصلحة المحتملة
[المهمة]، ومن المعلوم أن دليل نفي الوجوب أيضا كاشف [عن] نفي الاهتمام به،
فقهرا يتزاحمان في المصلحة فيقع بينهما التكاذب في تلك المرحلة [فتمتاز]
الطريقية حينئذ عن الموضوعية، إذ في الموضوعية لما كان قيام الخبر منشأ
لإحداث مصلحة في المتعلق على وفق أمره أو ترخيصه، فقهرا لا يقع بينهما
التكاذب في عالم المقتضى، فكان بابه باب التزاحم. كما أنه لما لم يكن الغرض من
وجوب العمل على الموضوعية [تنجيز] الواقع كان العقل حينئذ ملزما بالعمل
على طبق اللزوم كي يكون عاملا على وفق غيره أيضا. ومع تزاحم
الوجوب والحرمة نحكم بالتخيير بين الفعل والترك عملا، ولكن ذلك أيضا على
فرض عدم اقتضاء دليل نفي الوجوب نفي اقتضائه أيضا، بل كان ذلك لمصلحة
مقتضية للترخيص، وإلا يقع بينهما التكاذب في المقتضيين أيضا، وعليه فلا يلزم
العمل على طبق ما دل على الوجوب حتى بالنسبة إلى السببية، فينتهي أمره
أيضا بالأخرة إلى التخيير بين الفعل والترك عملا، ولازمه مثل المشي على
الطريقية تساقط الخبرين عن الحجية.
بل ولئن شئت قلت: إن العمل على أي واحد من الشيئين على وفق ما دل
على عدم الوجوب، ولكن لا من جهة مرجعية الدال عليه بل لعدم تمامية الملزم
على طرف الوجوب أو الحرمة، ولا بد وأن يكون المرجع حينئذ هو الأصول بلا
تمامية الحجة على أحد الطرفين، من دون فرق في ذلك بين الطريقية والسببية،
ولا نعني من التساقط إلا هذا المعنى كما لا يخفى.
ومن التأمل فيما ذكرنا ظهر فساد القول بكون الأصل على السببية هو
التخيير كما هو الشأن في باب المتزاحمين [في] صورة دوران الأمر بين الضدين
خصوصا لو لم يكن لهما ثالث، فإن الوجوب التخييري شرعا وعقلا غير معقول

467
فيهما، بل غاية الأمر مجرد إرشاد العقل إلى التخيير بينهما عملا لا ايجابهما بنحو
التخيير المنتج لنتيجة في [تركهما] كما هو ظاهر.
وحينئذ فما أفاده الشيخ (1) من المصير إلى التزاحم الذي لازمه التخيير
لا يكاد يتم إلا على فرض وجوب الالتزام والأخذ بكل منهما في قبال العمل،
وهو كما ترى على خلاف ديدنهم على عدم وجوب الموافقة الالتزامية حتى في
الأدلة الظنية، بل لا يجب إلا صرف العمل على طبق الطريق، وحينئذ فكيف يعقل
الوجوب التخييري بين النفي والاثبات في فرض حجية الدلالة الالتزامية أيضا؟
فلا يتصور حينئذ إلا مجرد التخيير العملي بين النفي والاثبات، كما هو الشأن في
[التخيير] بين كل طرفي النقيض ولو لم يكونا مضمون حجة تعتد [بها] وذلك
ظاهر.
ويظهر أيضا وجه النظر في كلمات الطوسي (2) من المصير إلى كون التعارض
بينهما من باب الواجبين إذا أديا إلى وجوب الضدين أو لزوم متناقضين كحرمة
شئ ووجوبه، وإلا فلا يتزاحم بالاقتضاء فيه مع ما فيه من الاقتضاء إلا أن
يكون نفي الوجوب أو الرخصة عن اقتضاء، فيزاحم الحكم الالزامي فيحكم به
بغير الالزام.
وتوضيح الضعف أن ما أفيد [و] دل على وجوب الضدين والنقيضين
إنما يصح بناء على عدم تمامية حجية الخبر في مدلوله الالتزامي وإلا فيؤدي
الأمر بالأخرة إلى تعارض الوجوب وعدمه، وفي مثله إن قلنا بأن مرجع السببية
فيما دل على نفي الالتزام إلى عدم اقتضاء الحجة شيئا، كان الأمر كما أفاد من



(1) راجع فرائد الأصول: 762.
(2) راجع كفاية الأصول: 499 - 500.
468
لزوم الأخذ بأحد الوجوبين في هذا الفرض، وبخصوص الدال على الوجوب
في الفرض الآخر، كما هو الشأن في فرضنا لو قلنا بأن مرجع [سببية النافي إلى]
اقتضائه مصلحة في الترخيص، لأنه يقتضي أيضا في وجوب الضدين الأخذ
بأحدهما جمعا بين الدليلين على أي تقدير بمقدار الامكان، كما أنه في الفرض
الآخر يجب العمل على طبق ما دل على الوجوب جمعا بين العملين الحافظ
للفرضين.
وأما إن قلنا بأن مرجع [سببية النافي] إلى سببية الخبر له في اقتضاء [نفي]
الوجوب فيقع التكاذب بينه وبين ما يقتضي الوجوب في أصل الاقتضاء، ولازمه
حينئذ وصول النوبة إلى التخيير العملي كما في الدوران بين المحذورين، ولا وجه
حينئذ للأخذ على طبق ما يقتضي الوجوب كما هو ظاهر.
فإن قلت: إن ما ذكرت مبني على بقاء إطلاق الحجية في [النافي] والمثبت
على حاله، وأما لو فرض عند وجود التعبد بكل واحد [الأخذ] به والالتزام
بمضمونه فلا بأس حينئذ بالأخذ بكل واحد بنحو البدلية ووجوب التعبد بمضمونه
في ظرف أخذه، بل وإلى هذا المعنى لا بد من ارجاع التخيير في المسألة
الأصولية [التي هي] مقام اختيار التخيير في الأخبار العلاجية الآتية، فلا
يحتاج حينئذ إلى جعل تخصيص في مقتضى دليل الحجية باخراج الفردين عنه
بالمرة كي ينتهي الأمر إلى التساقط على الطريقية، أو التخيير العملي بين الفعل
والترك على السببية الذي هو راجع إلى نحو من التساقط في الحجية حتى على
السببية.
قلت: ما ذكرت صحيح لو كان مثل هذا التقييد في نفسه أمرا معهودا على
وجه ينتقل الذهن من نفي الاطلاق إلى مثل هذا التقييد، ولكنه ليس كذلك، كيف
ولولا وجوب توجيه المحذور في الأخبار العلاجية بمثل ذاك البيان - لانحصار

469
وجه الترجيح في مثله - لما كان مثل هذا القيد بالأخذ [أولى] من تقييد الاطلاق
بنحو آخر موجب للجمع بينهما، ومع كثرة احتمالات التقييد كان بنظر العرف مثل
ذلك الاطلاق آبيا عن تلك التقييدات طرا، فينحصر أمر دليل الأخبار بتخصيصه
بأحد الفردين المستلزم لتساقط حجية كلا الطرفين كما هو [ظاهر].
نعم سائر التقييدات لما يصلح أمر التخيير في المسألة الأصولية فينحصر
عند الوصول إليه أمر توجيهه بكون وجوب التعبد بمضمون كل واحد مشروطا
بأخذه. وكذا [تكون] نتيجة التخيير في المسألة الأصولية (آبيا باليقين) (1) في
المسألة الفرعية، وعمدة النكتة فيه ما ذكرنا بعد الجزم بعدم وجوب الأخذ
و [الالتزام] بالمؤدى شرعا كما هو ظاهر.



(1) كذا في الأصل.
470
[حكم التعارض بالنظر إلى الأخبار العلاجية]
ثم إن ذلك كله حكم تعارض الخبرين بالنظر إلى عموم دليل الحجية، وأما
[حكمه] بالنظر إلى ما يستفاد من الأخبار العلاجية فنقول:
أولا - بعد الجزم بعدم التساقط رأسا ووجود المرجع في حال التعارض في
الجملة - إن الكلام تارة في تأسيس الأصل بالنسبة إلى حال المتعارضين مع قطع
النظر عن عموم دليل الحجية، وأخرى يلاحظ ما ذكرنا بالنسبة إلى عموم دليل
الحجية.
أما في الصورة الأولى فنقول: إنه بعد الجزم بدوران الأمر بين الأخذ
باطلاق الخبر أو وجوب الترجيح وعدم وجود مرجح بين الاحتمالين، يرجع
الأمر في الوجوب الشرعي إلى الالتزام حينئذ بوجوب التعبد بكل واحد
مشروطا بالأخذ، أو وجوب [التعبد بذي] المرجح مطلقا، ولازم ذلك الشك في
وجوب التعبد بذي المزية قبل الأخذ بكل واحد منهما والقطع بعدم وجوب التعبد
بالآخر، كما أنه في صورة الأخذ بغير ذي المزية نشك في وجوب التعبد بكل منهما.
بخلاف ما لو اخذ بذي المزية فإنه يقطع بوجوب التعبد به وعدم وجوب التعبد
بالآخر. وحينئذ فلا يكون مقامنا هذا بالإضافة إلى الوجوب الشرعي من
[قبيل] دوران الأمر بين التعيين والتخيير المستلزم للعلم بالوجوب في كل منهما

471
والشك في تعيين الآخر، إذ ذلك مبني على كون التخيير المحتمل في المقام تخييرا في
المسألة الفرعية وهو لا يمكن الأخذ [به] إلا بالتزام [كون] المؤدى موضوع
الوجوب الشرعي لا شرطه، وهو كما ترى.
كما أنه ليس المقام من قبيل الدوران بين معلوم الحجية و [مشكوكها] وقد
عرفت أنه بناء على ارجاع التخيير إلى التعبد بكل منهما [مشروطا] بالأخذ، لا
يكون قبل أخذ واحد منهما معلوم الحجية جزما.
نعم هنا مطلب آخر وهو: أن المكلف قبل الأخذ بواحد منهما من قبيل
الشك قبل الفحص المتمكن من تحصيل الحجة الشرعية، فيجب - بحكم عقله - ان
يأخذ بأحد الخبرين مقدمة لتحصيل الحجة، وفي هذه الصورة يلزمه العقل بالأخذ
بذي المزية، لأنه يعلم تفصيلا - بعد أخذه - [بحجيته]، بخلاف ما لو أخذ بغيره
فإنه بعد شاك [في حجيته] فلا يخرج به عن عهدة حكم عقله بتحصيل الحجة
الشرعية وذلك ظاهر واضح.
هذا كله لو لوحظ مقتضى الاحتمال الناشئ عن الأخبار العلاجية مع قطع
النظر عن مرحلة العمومات الناظرة إلى اطلاق حجيتها حتى بلحاظ حال
التعارض، وإلا فلو لوحظ الاحتمال المزبور بالنظر إلى العمومات ربما ينتهي أمر
العمومات حينئذ [إلى] التقييد بالأخذ في كل منهما، أو التخصيص باخراج
أحدهما، وفي هذه الصورة لو رجحنا التقييد على التخصيص كان الدليل
الاجتهادي قائما على التخيير وهو مقدم على الأصل السابق. كما أنه لو رجحنا
التخصيص على التقييد يتعين الأخذ بذي المزية اجتهادا، للجزم بعدم احتمال
خروج ذي المزية وبقاء غيرها تحت العام، ولو من جهة كون ذلك داخلا في
مدلول الأخبار العلاجية بمجموعها النافي لتلك الاحتمالات إلزاما.
نعم على فرض هذا الاحتمال أيضا يصير العام محتملا بالنسبة إلى الفردين،

472
فحينئذ لا يبقى مجال الأخذ بكل منهما، للشك في حجيته، لاحتمال تعيين الآخر،
ولكن هذا الاحتمال مقطوع خلافه.
نعم لو دار أمر العمومات بين التقييد والتخصيص ولم يتمكن من ترجيح
أحدهما [تنتهي] النوبة بعد ذلك [إلى] الأصل السابق.
وحيث اتضحت تلك المقدمة فنقول: إن بعد وجود مطلقات التخيير - على
ما حكاه الأستاذ (1) - يبقى الكلام في المخرج منها، فقد يستدل حينئذ [على تعيين]
وجوب العمل بذي المزية المعهودة مطلقا بما دل على الأمر بالأخذ بتمام المرجحات
المعروفة مثل المقبولة (2) والمرفوعة (3).
ولكن في دلالة صدر المقبولة على الترجيح بصفات الراوي من الأعدلية
والأفقهية والأوثقية نظر، إذ ظاهره كونه في مقام ترجيح الحاكم في مقام الحكومة
وغير مرتبط بترجيح الراوي من حيث روايته، وإن كان الحكم من الحاكم [في]
الشبهات الحكمية في الصدر الأول [رواية] أيضا، لكن الحيثية في مقام الترجيح
محفوظة، وظاهره كونه في مقام ترجيح [إحدى] الروايتين من حيث كونه حاكما،
كما هو مفاد خبر داود بن حصين (4) الوارد في مقام ترجيح الحكمين، وهو معمول
به أيضا في باب المرافعات.



(1) راجع كفاية الأصول: 506،.
(2) وهي مقبولة عمر بن حنظلة، راجع الوسائل 18: 75، الباب 9 من صفات القاضي،
الحديث الأول.
(3) وهي مرفوعة زرارة راجع عوالي اللآلي 4: 133، الحديث 229، وعنه في المستدرك
17: 303، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
(4) الوسائل 18: 80، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.
473
وأما [ذيلها] وإن كان ظاهرا في ترجيح الرواية من حيث حكايتها من
الأشهرية وأمثالها، ولكن ظاهره كونه من جهة رجوع المترافعين عند تعارض
الحكمين إلى ترجيح أحد الحكمين بترجيح مستنده، وهو أيضا خلاف ديدن
الأصحاب، إذ ليس بناؤهم عند تعارض الحكمين على الرجوع إلى مستند الحكم،
بل بناؤهم على كون الاختيار بيد المدعي، كما هو الشأن من الأول على كون تعيين
الحاكم بيده على ما حكاه صاحب المستند (1) [بأن] اجماع أصحابنا عليه.
وحينئذ فصح أن يقال إن مثل تلك الفقرة من الذيل أيضا غير معمول به
لدى الأصحاب، فمن أين المقبولة حجة في محل البحث؟
واحتمال حمل تلك الفقرة على قاضي التحكيم منظور فيه، لظهور الرواية في
الشمول [للوقائع] المتجددة عن وقت صدور تلك المقبولة، وفي تلك الصورة
لا يتصور قاضي التحكيم جزما كما هو ظاهر.
وأما خبر المرفوعة فهو وإن كان ظاهرا في ترجيح الرواية من حيث
صفاتها أو صفات الراوي بما هو راو ولكن من جهة [اشتماله] على الترجيح
بموافقة الاحتياط [موهون بعدم عمل المشهور] على وفقه فتأمل.
مع أن في عوالي اللآلي بعد نقل تلك الرواية [قال]: وفي رواية أخرى
[فأرجه] حتى تلقى إمامك (2). وظاهره اشتراك الروايتين من جميع الجهات إلا في
هذه الفقرة، وحينئذ فمن المحتمل كون ذلك من باب الاختلال في المتن، ولازمه
احتمال اختصاص مورد الرواية ووجوب الترجيح بهذه الأمور بزمان الحضور،
كما هو ظاهر المقبولة أيضا، فمن أين يصلح مثل تلك الرواية لتقييد المطلقات
التخييرية؟



(1) انظر المستند 2: 522.
(2) عوالي اللآلي 4: 133، الحديث 230.
474
نعم الذي يصلح لتقييدها ما ورد في الأمر بالعمل بما وافق الكتاب والسنة
وطرح ما خالف (1)، بأن قضية اقتران الأولى بالثانية شاهدة كون الأمر بالأخذ
[بما] وافق الكتاب من باب علاج التعارض بالترجيح لا من باب تميز الحجة عن
اللا حجة في نفسه مع قطع النظر عن مرحلة التعارض، كيف ولازمه وجوب طرح
الموافق للعامة ولو لم يكن معارضا، وهو كما ترى.
ويؤيد ذلك كون ديدن الأصحاب في الفقه على مثل ذين الترجيحين، بل
وديدنهم على الترجيح المزبور وإن كانت الرواية الأخرى واجدة لسائر
[الصفات]، وذلك أيضا من [موهنات] الترجيح بالبقية، خصوصا لو لوحظ
الترتيب بينها على حسب ذكر الترجيح بصفات رواية الراوي من المرجحات
الداخلية مقدمة على مثل تلك المرجحات الخارجية، وعليه فيقتصر في مقام
الترجيح بخصوص هذين المرجحين في قبال اطلاقات التخيير، وفي غيرها يؤخذ
بها ولا يعتنى بسائر المرجحات ولا بمطلق الأقوائية - ولو من جهة احتمال مخالفته
للواقع - عن الاحتمال الموجود في الآخر، وإن لم تبلغ إلى حد الظن بالمطابقة بالظن
النوعي المساوق للأقربية النوعية، فضلا من الظن الشخصي المسمى بالأقربية
الشخصية.
وتوهم ان التعليل في الأخذ بمخالف العامة بأن " الرشد في خلافهم "
يقتضي التعدي إلى كل ما هو أقوى سندا، ولا أقل من الأقرب إلى الواقع نوعا أم
شخصا.
مدفوع بأن الظاهر من العلة بعد ما كان هو الرشد الواقعي المساوق لمطابقة



(1) راجع الوسائل 18: 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الأحاديث: 1 و 10 و 19
و 21 و 29 و 35 و 37.
475
الرواية للواقع بلا احتمال مصلحة أخرى فيه، كيف وهو يقتضي كون الأمر نفسيا
وهو خلاف كونه في سياق الأوامر الطرقية، كما أن الحمل على الرشد
الاعتقادي الجزمي أيضا مناف مع مولوية أمره، فلا محيص إلا من الحمل على
الرشد الغالبي الواقعي أو الرشد بالإضافة إلى غيره أو الرشد الاعتقادي الظني،
والأول لما لم يكن أظهر لا يكون أقصر من البقية. وأما احتمال الرشد
الاطمئناني فهو أيضا خلاف الوجدان باطلاقه، كما هو الشأن في مطلق الظن به،
فتعين الاحتمال في الأولين، وحينئذ فمع اجتماع الجهتين في الترجيح [يؤخذ] به وإلا
فيشكل الترجيح بكل واحد منفردا عن غيره.
ومع التأمل فيما ذكر ظهر حال عموم التعليل بأن " المجمع عليه لا ريب فيه "
إذ الكلام السابق يجري فيه حرفا بحرف. وأما بقية المرجحات فلا يستفاد منها
أزيد من التعبد بخصوصها أو لوجدانها [إحدى] الجهتين السابقتين، بحيث لو
فرض التعدي من العلل المزبورة إلى إحدى الجهتين لا ينافي الأخذ بخصوص بقية
المرجحات عدا الأفقهية، فإن مع التعبد [يكون] مدار الترجيح فيه غير
خصوصية، ومثل ذلك ربما يوهن ظهور أمر التعليل في البقية في العلية لولا احتمال
تعدد المرجح في البين وعدم رجوع جميع المرجحات إلى مرجح واحد، وإن كان
ذلك أيضا ظاهر كلماتهم، إذ هي بين الأخذ بخصوص [الجميع] أو [الغائها]
والتعدي بواسطة العلل إلى مناط واحد سار في غيرها.
ثم إنه لو اغمض من ظهور تلك العلل في [التعدي] لا يبقى مجال التشبث
[به] بحكم مناط قبح ترجيح المرجوح على الراجح، إذ ذلك إنما يتم لو كان مناط
الحجية بتمامه هو هذه المزية، إذ لازمه حينئذ وجوب تأكد مناط [الحجية] في ذي
المزية المستلزم لكون الحكم عند تزاحم المناطين في الطرف الأقوى، وإلا فلو كان
الخبران في الحجية متساويين فلا وجه لمرجحية ما هو خارج عن أصل مناط

476
الحجية، ووجهه ظاهر. مع أن في فرض قيام ذي المزية على عدم الوجوب وغير
ذيها على الوجوب لا يكون العمل بغير ذي المزية ترجيحا بل هو عمل بكليهما.
وأضعف من ذلك التمسك - للأخذ بمطلق الأقوى في الدليلين - ببناء العقلاء،
إذ مثل هذا بأصله منظور فيه، كيف ولازمه عدم اختلافهم في ذلك مع أن جملة
منهم [بانون على التخيير] مطلقا، وجملة منهم [بانون] على الأخذ بالمرجحات
المنصوصة وإن كان الفاقد [منهما] أقوى من جهة المرجحات والقرائن الخارجية،
وبعضهم [بانون] على الأخذ بالأقرب إلى الواقع شخصيا كان أو نوعيا، حتى في
صورة كون طرفه أقوى مناطا ومع هذا [الخلاف] العظيم كيف يصدق قيام بناء
العقلاء على الأخذ بالأقوى حتى يثمر ذلك في الشرعيات؟
مع أن بناء العقلاء على فرض انعقاده إنما يثمر لو كانوا مستمرين على
سيرتهم في الشرعيات كي يصير ذلك من سيرة المتقدمين، وإلا فمجرد بنائهم في
طريقتهم على وجه لا يرتبط بالأمور الشرعية لا يجدي شيئا في الكشف عن
وحدة طريقتهم مع طريقة الشرع، بل مجرد احتمال مخالفتهم [معه] كاف في عدم
الاعتناء ببنائهم بلا احتياج إلى ردعهم الواصل.
اللهم أن يقال إن غفلتهم عن مخالفة شرعهم وخوف ابتلائهم مع تلك الغفلة
بشرعنا منهم يوجب ردعهم الواصل إليهم، ومع عدمه يكفي ذلك لكشف
امضائهم.
نعم يكفي حينئذ [العمومات] الناهية [لردعهم]، اللهم أن يدعى [عدم]
صلاحيتها للردع كما تقدم في بحث حجية الخبر الواحد. وعلى فرض الصلاحية
هناك نقول: إن في المقام إشكالا آخر وهو أنه كان مثل هذا البناء حجة
[مردودة] بالآيات الناهيات في فرض غمض العين عن عموم دليل الحجية
بالنسبة إلى حال التعارض، وإلا فعلى هذا الفرض فغاية الأمر سقوط هذا العام

477
عن الحجية بالنسبة إلى الأطراف المعلومة بالإجمال من التقييد والتخصيص فيها،
ولكن لازم هذا العلم علم آخر اجمالا بدخول أحد الفردين إما ذي المزية مطلقا
أو غيره على تقدير الأخذ به في المطلقات، ولازم ذلك العلم الاجمالي بتخصيص
العمومات الناهية عن غير العلم بالنسبة إلى المعلوم بالاجمال الداخل في
العمومات، وحينئذ فإذا كان مورد بناء العقلاء طرف هذا الاحتمال لا يبقى مجال
حجية العمومات الناهية بالنسبة إليه، فلا يصلح مثلها للرادعية في خصوص المقام
كما هو ظاهر. ولكن لا يخفى ان ذلك لولا تمامية الإطلاقات في طرف التخيير وإلا
فهي صالحة للرادعية والله العالم.
وقد انقدح بطلان التمسك بالإجماع على الأخذ بالأقوى، إذ مع تشتت
آرائهم في مناط الترجيح من حيث المرجحات المنصوصة أو الأقوائية في المناط
أو الأقربية بالنظر كيف يطمئن الانسان بتحقق الاجماع في المسألة؟ ووجهه واضح
ظاهر.
وعليه فالمرجع في صورة فقد ما ذكرنا من موافقة الكتاب ومخالفة العامة
من المرجحات الخارجية، اطلاقات التخيير، ولقد تقدم سابقا أن مرجع هذا
التخيير إلى الأمر بالتعبد [بكل] خبر عند الأخذ به، غاية الأمر يستتبع هذا المعنى
تخير العقل [أحد] الخبرين مقدمة لتحصيل الحجة الشرعية.
وحيث كان الأمر كذلك فنقول: إن مثل تلك الأوامر الطريقية في الأحكام
إن كانت متوجهة إلى المجتهد المتمكن من تحصيل شرط العمل بها من الفحص عن
حالها، المستلزم لعدم كون تلك الطريقة الشرعية [طريقا] إلى الأحكام الكلية،
وإن طريقهم إليها غير منحصرة بخصوص رأي المجتهد فلا شبهة في انحصار فتوى
المجتهد وحجيتها بخصوص [الأحكام] الواقعية للمقلد بلا حجية رأيه في الأحكام
الطريقية وتعيين الطرق للمكلف تعيينا أو تخييرا، وحينئذ ليس له الفتوى

478
بالتخيير في المسألة الأصولية فضلا عن التخيير في المسألة الفرعية، للجزم بعدم
حجية رأيه إلا بالنسبة إلى ما هو وظيفة المقلد، والمفروض ان وظيفته ليست إلا
الأحكام الواقعية التعيينية حسب الفرض، [فتنحصر] حجية فتواه بخصوص
الحكم الواقعي التعييني.
وأما لو قلنا بأن الأحكام الطريقية - كالواقعية - مشتركة بين المجتهد
والمقلد، غاية الأمر كان المجتهد نائبا عن المقلد في تحصيل شرط العمل من الفحص
عن حالها، فلا شبهة في أن رأي المجتهد كما هو حجة في تعيين الحكم الواقعي
باستنباطه من الطرق، كذلك حجة في تعيين الحكم الظاهري المستفاد من أدلة
الأحكام.
ولكن لا يخفى أن مرجع سماع فتواه في تعيين الوظيفة الظاهرية الشرعية إلى
حجية رأيه بالنسبة إلى وجوب العمل بكل واحد من الخبرين مشروطا بأخذه
به، لا حجية رأيه في التخيير بأخذه بأحد الخبرين، كيف وذلك من الأحكام
العقلية الثابتة للمكلف في ظرف تمييز الحجة المشروطة بأخذه، وفي هذه الطرق
كان عقله مستقلا به فلا مجال لتقليده فيه. وفي صورة عدم إحراز [حجيتها]
المزبورة وعدم قدرته على التمييز لا يبقى لحكم عقله [فائدة] في الفتوى بالتخيير
بالنسبة إلى هذه الجهة، نعم لا بأس بجعل فتواه بهذا المعنى كناية عن الفتوى
بملزومه من وجوب التعبد بكل واحد في ظرف الأخذ بأحد الخبرين، وعليه
فصح دعوى عدم صحة الفتوى بالتخيير [في] الأخذ [بأحدهما] حتى في
المسألة الأصولية فضلا عن الفرعية على جميع التقادير.
ثم إن الأمر بالتخيير إن كان بصرف وجوده في موضوع تعارض الخبرين
كان لازمه سقوط الأمر به بأول وجوده من [الاختيار] البدوي، بلا احتمال بقاء
[شخص] هذا الأمر الذي لازمه كون الشك في بقاء التخيير في الآن الثاني من
جهة أمر جديد، وفي مثله لا مجرى لاستصحابه بل الاستصحاب جار [في]

479
وجوب ما اختاره بلا احتياج في وجه المنع إلى التشكيك في الموضوع بجعله
[التحير]، كي يستشكل فيه بأن [التحير] لولا التنجز بعد باق و [التحير] العقلي
[مرتفع] بالتخيير، فيستحيل أن يكون موضوعا، مع أن أخذ [التحير] في
موضوع التخيير لا دليل عليه، وإنما هو حكمة جعل الموضوع عنوان تعارض
الخبرين كما هو ظاهر (1).
نعم لو كانت القضية بالنسبة إلى وجوب التخيير مهملة محتملة لأن يكون
الطلب متعلقا بالطبيعة السارية كان لاستصحاب التخيير مجال، بل لا يبقى مجال
استصحاب بقاء وجوب العمل بما اختار، لحكومة الأول على الثاني. ومنه يظهر
أنه لو كانت القضية ظاهرة في الطبيعة السارية كان المرجع في الآن الثاني هو
الإطلاق بلا احتياج إلى الاستصحاب، ولكن الانصاف أن احتمال الاهمال في مثل
تلك القضية في غاية البعد، فالأمر يدور بين الأول والآخر، وحينئذ نقول: إن
الأمر بالاختيار إن كان أمرا شرعيا كان المتعين هو الأول، لأنه مقتضى طبع
الاطلاق في كلية الأوامر، ولكنه ليس الأمر كذلك بل هو ارشادي إلى حكم العقل
به الذي هو ملزوم الأمر بالتعبد بكل منهما مشروطا بأخذه، ففي الحقيقة ما هو أمر
شرعي هو ملزوم أمر شرعي تلك القضية من القضية التعليقية (2).



(1) هكذا في الأصل وجاء في تقريراته: منع كون موضوع التخيير هو المتحير، إذ لا دليل
على أخذ عنوانه في موضوع التخيير، بل الموضوع هو من جاءه الحديثان المتعارضان،
فالتحير حكمة لجعل الحكم المذكور. نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الرابع: 213.
(2) جاء في التقريرات: بل هو ارشادي إلى حكم العقل به بمناط وجوب تحصيل الحجة
الشرعية للقادر على تحصيلها... وما هو شرعي انما هو ملزومه الذي هو الأمر بالتعبد بكل
منهما في ظرف الأخذ به واختياره. نهاية الأفكار القسم الثاني من الجزء الرابع: 213.
480
وحينئذ فيمكن دعوى أن الظاهر من كلية القضايا الشرطية كون الشرط
هو الطبيعة السارية كما هو شأن العلل الخارجية، فكان اتحاد سوق الشرعيات
من تلك الجهات مع الخارجيات العرفية موجبا لحمل الاطلاق من شروطها على
الطبيعة السارية، كما هو الشأن في نواحيها، ولازمه اقتضاء الاطلاق جريان
التخيير في الآن الثاني وغيره بلا احتياج إلى أصل عملي أصلا.
اللهم إلا أن يقال: ان ذلك كذلك لو كانت القضية الشرطية منطوق الرواية،
[فإن] ظهور سوقها مساق العرفيات يقتضي كون الشرط الطبيعة السارية، وأما
لو لم يكن المنطوق به في القضية إلا مجرد الأمر بالاختيار، فلا شبهة في أن مدار
كيفية أخذ الاطلاق ولو بالنسبة إلى ملزومه تابع اقتضاء الاطلاق في المنطوق،
ومن المعلوم أن طبع مقدمات الحكمة في [منطوق] القضية كون المطلوب ولو
[ارشادا] هو صرف طبيعة الأخذ والاختيار، ولازمه كون الشرط وجوب
التعبد بكل منهما أيضا، [و] هو صرف وجوده المنطبق بتمامه على الاختيار بدو
الأمر، ولازمه حينئذ عدم اقتضاء الاطلاق شرطية كل أخذ للتعبد بكل واحد
منهما، وحينئذ في الآن الثاني نشك في بقاء وجوب ما اختار من جهة احتمال
شرطية الأخذ به بحدوثه للتعبد بمؤداه إلى الأبد، ولا يبقى حينئذ مجال استكشاف
الشرطية السارية في كل آن.
اللهم أن يقال: إن لازم احتمال وجود أمر آخر بالأخذ بنحو التخيير في
الآن الثاني احتمال بقاء وجوب التعبد بالطرف الآخر مشروطا بأخذه،
[فتستصحب] القضية التعليقية في الطرف الآخر، ولا يعارضه استصحاب
وجوب التعبد تعيينا بما اختاره أولا، لعين وجه عدم معارضة الاستصحاب
التخييري في سائر الموارد مع التعليقي فتأمل.

481
[تنبيهات التعارض]
بقي في المقام التنبيه على أمور:
[1 - انقلاب النسبة بين الأدلة]
منها: أنه - بعد ما عرفت من أن مدار الجمع بمقدار مساعدة العرف، فيقدم
على الترجيح أو التخيير سندا - قد يقع الكلام في بعض صغريات الجمع من جهة
دوران الأمر بين انحاء التصرفات من التخصيص أو التقييد أو المجاز أو النسخ،
ولقد تقدم شرح ذلك مستقلا في بحث تعارض الأحوال، وكذلك في ذيل العموم
والخصوص فراجع إليها بلا احتياج إلى تكرار البحث في المقام.
نعم قد يشكل في بعض المقامات التي يقتضي الجمع انقلاب النسبة من أن
المدار في ملاحظة النسبة على ملاحظة نفس الدليلين مع قطع النظر عن جمعه مع
غيره، أم المدار على [ملاحظتهما] بعد جمعه مع غيره؟ والتحقيق: أن مدار الجمع
بعد ما كان على تقديم أقوى الظهورين، وأن القرائن المنفصلة لا توجب انقلاب
الظهور أيضا، فلا محيص حينئذ من لا بدية ملاحظة كل واحد مع الآخر في
[نفسهما] مع قطع النظر عن جمع كل واحد مع الغير، إذ المفروض أن الجمع
لا يوجب انقلاب الظهور شدة وضعفا، فحينئذ لو [كانت] نسبة العام مع كل واحد

482
بدوا عموما مطلقا، فإن أمكن تخصيصه [بهما] فيخصص [بهما] ولا يتقدم أحد
المخصصين على الآخر، وإن اقتضى ذلك انقلاب النسبة مع الغير [بالعموم] من
وجه، بل لو فرض انقلاب مثل هذه النسبة من كل واحد من الطرفين [فلا] مجال
لتقديم أحدهما تخصيصا، لبطلان الترجيح بلا مرجح، ولا أظن القائل بالجمع
وانقلاب النسبة إرادة مثل هذه الصورة أيضا.
وإن لم يمكن التخصيص بهما - ولو لشبهة الاستصحاب - فيقع بين العام
ومجموع الخاصين معارضة، فإن قدم العام فيطرح الخاصان ويعمل بالعام، وإن
قدم الخاصان فيطرح العام سندا ويعمل بالخاصين (1) كما هو ظاهر.
ومن هذا البيان ظهر حال ما لو كانت النسبة بين الاثنين أو [الثلاث]
عموما من وجه، ولكن لو فرض تخصيص أحدهما بغيره [لكانت تنقلب] النسبة
مع الثالث ولو من جهة واحدة [وهي قلة] الافراد [الباقية] وكثرة [غيرها]
الموجب لأظهريته في غير مورد الجمع المزبور، فإنه لا مجال أيضا لملاحظة تقديم
ذلك الجمع المذكور انقلاب النسبة (2) في كل واحد من الطرفين، فإن برهان
الترجيح بلا مرجح أيضا مانع عن الأخذ بأحد الطرفين تعينا كما هو ظاهر.
[2 - في أن المرجحات الصدورية والجهتية والدلالية كلها في عرض
واحد]
ومنها: أنه لا شبهة في أن مرجع أصالة الظهور إلى [إلغاء] احتمال مخالفة



(1) في الأصل: " فإن قدم العام فيطرح العام سندا أو يعمل بالخاصين " والظاهر وجود سقط
في العبارة، ولعل الصحيح ما أثبتناه.
(2) كذا في الأصل.
483
دلالة الكلام على مراده واقعا، كما أن مرجع أصالة السند أو الجهة إلى إلغاء احتمال
عدم صدوره أو عدم كونه لسان المراد الجدي الواقعي قبال احتمال التقية
والتورية، ومن المعلوم ان كل واحد من تلك الأصول الثلاثة لا يكاد يجري بدون
جريان الآخر، لان شرط جريان كل واحد انتهائه إلى العمل وبدون جريان
البقية يستحيل انتهاء الجاري من بقية الأصول إلى العمل. وعليه فقد يتوهم كون
التعبد بكل واحد شرطا للتعبد بالآخر، فكيف ذلك مع كونه شبهة دور؟
وحل الشبهة بأن يقال: إن الانتهاء إلى العمل بعد ما كان منوطا بسد باب
الاحتمالات الثلاثة فمجموع الاحتمالات المفسدة بمنزلة أجزاء مركب في عدم
اطلاق كل واحد لحال انفراده عن غيره في مقام معروضية الحكم الضمني الطاري
عليه من قبل الأمر بكله، كما أنه لا يكون [كل] واحد من الاجزاء مقيدا بوجود
غيره وإلا يلزم تقدم بعض الاجزاء على بعض آخر، مع أن اجزاء كل مركب في
رتبة واحدة بالنسبة إلى مركبه، كيف ووجود المركب في الخارج عين أجزائه،
فكيف يمكن اختلاف الاجزاء المتحدة في عالم الوجود مع المركب بعضها مع بعض
في عالم الرتبة؟ وتلك الجهة برهان قطعي على عدم صحة الالتزام بتقييد بعض
أجزاء المركب ببعض آخر، فلا محيص حينئذ إلا من الالتزام بأن مجرد ما هو جزء
معروض الحكم الضمني - الذي هو عين حكم المركب - هو الحصة من وجود كل
واحد ملازم مع وجود غيره، بلا اطلاق فيها لحال الانفراد ولا [تقيد] لها بحال
الاجتماع.
ومن هذا البيان اتضح حال المقام أيضا حيث إن سد باب كل احتمال بعد
ما لا يترتب العمل إلا بسد مجموعها، فلا محيص حينئذ إلا من دعوى عدم
اطلاق يشمل حال عدم سد غيره، ولا يتقيد أيضا بسد غيره. وبهذه العناية
أمكن دعوى عدم أخذ السد من كل [جهة] موضوع السد من الجهة الأخرى،

484
ومع ذلك لا اطلاق لكل واحد من السدود [لحال] عدم السد من الجهة الأخرى،
ولازم هذا البيان عدم تقديم أحد الأصول الثلاث الجارية في السند أو الجهة
أو الدلالة على الآخر على وجه يكون جريان بعضها [نافيا] لموضوع الآخر،
ولازم ذلك أيضا تزاحم الأصول الثلاثة عند العلم بمخالفة أحدها للواقع
وسقوطها من الاعتبار، إلا في صورة يبقى بظهورها مقدار من الدلالة القابلة
للأخذ بها، إذ حينئذ لا بأس بالأخذ بالجميع بملاحظة العمل المترتب عليه
بالنسبة إلى هذا البعض وطرح الأصول المزبورة بالنسبة إلى البقية، وذلك هو
النكتة في تقديم الجمع الدلالي على العرفي في الجهة أو السند نظرا إلى أن الجمع
المزبور منشأ لطرح مقدار من الدلالة والأخذ بها، على ما عرفت من شرح موارد
الجمع بكونها من هذا القبيل، وفي مثله أمكن إعمال التعبد بالنسبة إلى البقية،
وهذا بخلاف طرح البقية إذ لا يبقى معه مجال التعبد بغيره أصلا، لعدم انتهاء
أمرها إلى عمل أصلا.
ومن هذا البيان أيضا ظهر الحال في [المرجحات الجهتية] بالنسبة إلى
السندية والصدورية من كون كل واحد في عرض الآخر بلا وجه لتقدم [أحدها]
على الآخر بحسب الأصل الأولي، فقد تقدم وجهه. وأما [اخبار] العلاج فغاية
الأمر يترتب [أحدها] على الآخر ذكرا وهو لا يقتضي تقدم الرتبة، فحينئذ صح
لنا دعوى وحدة النسبة بين جميع المرجحات أجمع، بلا احتياج إلى ارجاع
المرجحات الجهتية إلى الصدورية كما صنع في الكفاية (1) ولا اقتضاء في طبع أحد
المرجحين تقدمه على الآخر كما افاده الشيخ (2).



(1) راجع كفاية الأصول: 518 - 519.
(2) راجع فرائد الأصول: 812 - 813.
485
نعم لو تم ما أفيد من كون الترجيح في ظرف الفراغ عن الصدور أمكن إتمام
مدعاه من تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي، لأنه مع المرجح المزبور
لا يبقى مجال لموضوع الجهتي.
ولا يرد على هذا المسلك من أنه كيف يعقل التعبد بالصدور المنتهي
بالأخرة إلى الحمل على التقية التي لم يترتب على مؤداه عمل أصلا؟
إذ يمكن الجواب عنه بأن في التعبد بالصدور لا يحتاج إلى العمل المترتب
على مؤداه الصادر، بل يكفي مجرد العمل المترتب على نفس صدوره من رفع اليد
عن جهة والأخذ بالجهة الأخرى.
ولئن شئت قلت: إن ترجيح أحد الخبرين جهة في [ظرف] صدورهما نحو
عمل مترتب على صدورهما، ولا يحتاج التعبد به إلى عمل مرتب على مضمون
الصادر، والاشكال المزبور مبني على الآخر لا الأول، ولكن ذلك مبني على
مقدمة باطلة من جعل التعبد بالصدور مأخوذا في موضوع الترجيح بجهة
الصدور، وعمدة الكلام في ذلك، إذ لا دليل يساعد على هذا المعنى بل قد تقدم ان
الاحتمالات الثلاث المسدودة كلها بحسب الأصل الأولي وأدلة المرجحات في
عرض واحد، غاية الأمر في خصوص موارد الجمع الدلالي لما يبقى مقدار من
الدلالة القابلة لترتب العمل عليه كان مجال إعمال التعبد من الجهات الثلاث
بالنسبة إلى هذا المقدار، بخلاف التصرف في الجهة من الحمل على التقية أو
[غيرها]، فإنه لما لا يبقى مقدار من المضمون القابل لإعمال [التعبد] بالنسبة إليه
لا مجال للاخذ بواحد منها فلا بد حينئذ من طرح لجميعها.
نعم لو فرض في مورد من موارد التصرف في الجهة أيضا عمل على بعض
مضمونه لا بأس بإعمال التعبد من سائر الجهات بالنسبة إليه أيضا، وفي مثله لو
فرض دوران الأمر بين التصرف في الجهة [أو] الدلالة لا وجه لتقديم أحدهما

486
على الآخر طبعا ورتبة. ومن هذا الباب صورة الدوران بين النسخ والتخصيص
بأن النسخ في الشرعيات بعدما كان من سنخ البداء في التكوينيات فليس
التصرف بالنسخ من باب التصرف في الدلالة، كيف وكثيرا ما يلزم فيه التخصيص
المستهجن، ومع ذلك لا بأس بحمله على النسخ من [قبيل] التصرف في جهة
الحكم بحمله على نحو تورية لا تصرف في [دلالته] المؤدي إلى الاستهجان، ومع
ذلك لما يقتضي مثل هذا التصرف طرحا [لمضمون] الكلام بالمرة لا يقتضي مثله
طرح التعبد من سائر الجهات، وبواسطة ذلك يصير حاله من تلك الجهة نظير
طرح الدلالة في مورد الجمع بنحو التخصيص أو غيره.
وحينئذ لا وجه لتقديم أحد التصرفين على الآخر إلا بمثل الأشيعية
وأمثالها، لا من جهة تقدم أحد التصرفين طبعا على التصرف الآخر، وذلك
هو النكتة في اختلافهم في وجه ترجيح التخصيص على النسخ بأشيعيته وأمثالها،
لا من جهة أن باب النسخ مثل باب التخصيص أيضا من باب التصرف في
الدلالة. ولقد بسطنا شرح الفرق بين التخصيص والنسخ أيضا في مباحث العام
والخاص، ولكن [مبناه] على [تقدم] التصرف في الجهة طبعا على التصرف
في الدلالة [تبعا] لمشي القوم في كلية تلك المسألة، وبنظر إثبات تقديم
التصرف في الدلالة على البقية، ولكن ذلك كله مبني على غمض النظر والأخذ
[بتبعية] أهل النظر، وإلا فمع فتح البصر ودقة النظر يقتضي أن يصار إلى ممشانا
في المقام.
[3 - الكلام في مرجحية الأصول الفقاهتية والظنون غير المعتبرة]
ومنها: ان الأصول الفقاهتية بملاحظة تأخر مضمونها عن الاجتهادية
غير صالحة للمرجحية، لعدم [صلاحيتها] لتقويتها بمضمونها حتى على الترجيح

487
[لمطلق] أقوى الدليلين. وأما الترجيح بالظنون [غير] المعتبرة وغير المنهية
فهو فرع التعدي عن المرجحات المنصوصة إليها وإلا فلا وجه للترجيح بها إلا
في صورة اقتضاء الظن على الخلاف أو عدم الظن على الوفاق خروجه عن
تحت دليل الاعتبار رأسا. نعم في صورة النهي عن الظن كالقياس أمكن استفادة
[منع] الترجيح بها، ولو قيل بتقديم أقوى الدليلين لفحوى أدلة المرجحات أو
معاقد الاجماعات، وفي اقتضاء النهي المزبور دفع ونفيها (1) وإدخال مخالفتها
في عموم دليل اعتباره ولو كان مخصوصا بما ظن على وفاقه أو لم يظن على
خلافه نظر واضح. نعم لا قصور [لاقتضائها] نفي جابريتها، فإنه نحو عمل به
المنهي بعمومات [نهي] العمل بالقياس والله العالم بالاحكام والصلاة على نبيه
وآله.



(1) كذا في الأصل.
488
خاتمة
في الاجتهاد والتقليد
المقالة السادسة والعشرون
الاجتهاد

489
[المقالة السادسة والعشرون]
[الاجتهاد]
الاجتهاد: مأخوذ من الجهد بمعنى المشقة.
وأطلق عناية في الصدر الأول على إعمال القواعد لاستخراج الأحكام،
لأن فيه نحو تحمل للمشقة.
ومن لوازمه استفراغ الوسع لإعمال القواعد المزبورة المنتهية إلى القطع
بالوظيفة الفعلية من الأحكام الواقعية تارة ومن الظاهرية أخرى، شرعية كانت
هذه أيضا أو عقلية.
فحينئذ لا يخرج إعمال مسائل الانسداد عن الاجتهاد حتى على الحكومة،
بل ويدخل فيه إعمال القواعد العقلية الظاهرية: من البراءة والاحتياط والتخيير،
والحال أن نتيجتها ليست الظن بالحكم الشرعي أصلا.
وحينئذ لا يبقى مجال شرح الاجتهاد بما عن الحاجبي (1) من استفراغ الوسع
لتحصيل الظن بالحكم إلا من باب شرح الاسم. وعلى أي حال يكون مثل ذلك



(1) حكاه الشيخ البهائي في زبدة الأصول: 115.
491
المعنى غاية لتنقيح القواعد الممهدة للاستنباط، ولازم ذلك كونه من غايات
الأصول، ولذا كان شأن الأصولي تعريفه في ذيل خاتمة العلم والكتاب كما هو
دأبهم، ومثل ذلك المعنى جهة مشتركة بين العامة والخاصة الأصوليين منهم
والأخباريين، غاية الأمر ربما تختلف أنظارهم في بعض القواعد وحجيتها، مثل
اختلاف القدماء في حجية القياس والاستحسان، والمتأخرين في حجية القطع
الناشئ عن الاحكام العقلية وتمامية البراءة في الشبهات التحريمية البدوية
وأمثالها.
وحينئذ فطعن كل طائفة في اجتهاد [غيرها] في الحقيقة طعن على [نظرها]
في اختيار بعض القواعد، نظير طعن القائلين بالظن المطلق من المجتهدين على
القائل بالظنون الخاصة وبالعكس، وإلا فلا مجال للطعن في اجتهادهم وإعمال كل
طائفة منهم قواعدهم إلا مع تقصيرهم في مقدمات الإعمال من جهة الفحص
وأمثالها.
ثم المراد من الاجتهاد هو [الإعمال] الفعلي كما هو الشأن في الفتوى
والقضاء وغيرهما من سائر الموارد المحفوظة في ضمن الهيئات المصدرية.
نعم في مشتقاتها الوصفية كالمجتهد والقاضي والمفتي وأمثال ذلك من سائر
الأوصاف العرفية إنما اخذ في مفاد هيئاتها نحو توسعة في التلبس الصادق مثل
تلك العناوين على من له ملكة هذه المواد وإن لم يكن له فعلية، لصدق المجتهد
والتاجر على النائم والغافل وأمثالهما ففي الحقيقة مثل تلك التوسعة من مضامين
الهيئة وغير مأخوذة في المادة أصلا.
فشرح الاجتهاد والقضاء بالملكة المزبورة غير [وجيه]، كما يظهر ما ذكرنا
[بالتتبع] في أمثال تلك الصيغ من المشتقات والمصادر.
ثم إن الغرض من إعمال القواعد لما كان هو الوصول إلى تحصيل الوظيفة
الفعلية العملية فلا يكاد يتوصل إلى مثل هذا الغرض إلا بإعمال كل ما يحتاج إليه

492
في المسألة من القواعد، وحينئذ فلا محيص من قدرة المجتهد على إعمال جميعها،
وإلا فلو لم يقدر إلا على إعمال البعض فلا يكاد [تحصل] النتيجة المزبورة، ومع
عدمها فلا يكاد يتحقق الاجتهاد في المسألة.
وحينئذ فلا يقبل الاجتهاد للتجزي من تلك الجهة.
وأما لو قدر على إعمال جميع القواعد المحتاج إليها في مسألة خاصة فلا
قصور في صدق اجتهاده في شخص تلك المسألة وإن قصر باعه [عن] إعمال
قواعد مسألة أخرى غير [مرتبطة] بالمسألة المزبورة.
وتوهم عدم التفكيك بين المسائل في حصول القدرة على إعمالها - ولو من
جهة وجود جهة خفية في تطبيقها على المورد مع كون القاعدة عنده منقحة فضلا
عن عدم تنقيحه بعض قواعدها - في غاية السقوط، لاختلاف درجات الفهم
والنظر على وجه لا يكاد يخفى على ذي مسكة.
نعم، لو سميت الملكة [و] القوة الموجبة للقدرة على مراتب الاستنباط بلفظ
" الاجتهاد " كان لا يكاد للمتجزي فيه بذلك المعنى وجه. ولكن مع ذلك لا يمنع
هذا المقدار عن العمل بما استنبطه في سائر المسائل بإعمال قواعده إلا على القول
باختصاص حجيتها بعنوان المجتهد بالمعنى المزبور. وإثبات كل واحدة من
المقدمتين [دونه] خرط القتاد.
نعم، في اجراء سائر وظائف المجتهدين على مثله كلام، إذ الموضوع في مثلها
عنوان " العارف بالأحكام " و " رواة الحديث " المنصرف عمن علم بحكم مسألة
أو مسألتين.
وعموم من عرف شيئا من أحكامنا (1) أيضا غير ظاهر الشمول لمثله



(1) الوسائل 18: 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 5، وفيه: " يعلم شيئا من
قضايانا " ولعل المصنف (رحمه الله) ذكر الحديث مضمونا.
493
خصوصا مع صدور مثل هذا الكلام عمن هو [عالم ب‍] جميع الأحكام.
كما أن في جواز تقليد غيره إياه - مع عدم إطلاق لدليل التقليد الشامل
لمثله مع فرض وجود الأعلم منه ولو في سائر المسائل، فضلا عن تلك المسألة
أيضا - نظر. وسيأتي الكلام في هذه الجهة أيضا في طي مسائل التقليد.
ثم إن القواعد المعمولة في كل مسألة لا بد وأن [يكون] مجتهدا فيها بحيث لو
فرض تقليده في [واحدة] منها كانت النتيجة تقليدية.
وحينئذ ففي الاكتفاء باجتهاده في سائر القواعد وتطبيقها على المسألة
بضميمة تطبيق المسألة التقليدية عليها وأخذ نتيجة المسألة والعمل فيها حتى مع
مخالفة نظره [لرأي] سائر المجتهدين في المسألة وجهان:
من عدم اقتضاء دليل التقليد إلا وجوب رجوع الجاهل بكل جهة المسألة
إلى العالم، وفي المسألة المزبورة لا يكون هذا الشخص جاهلا بجميع جهات
المسألة، فلا يجب عليه التقليد إلا في هذا البعض.
ومن أن الجاهل بجهة من جهات المسألة جاهل بنفس المسألة. لأن النتيجة
تابعة لأخس المقدمات، بضميمة أنه حينئذ داخل في معاقد إجماعهم بأن من لم
يكن مجتهدا و [كان جاهلا] في مسألة يجب عليه التقليد في هذه المسألة [بتمامها].
[وان كان عارفا ببعض جهات المسألة] (2).
ولكن في إتمام مثل هذا الاجماع - على خلاف ما [يساعده] الارتكاز من
وجوب رجوع الجاهل بكل مسألة إلى العالم بشخص هذه المسألة دون سائر
الجهات التي يرى هذا المقلد نظر غيره خطأ، وأن المدار التام في سائر الجهات على



(1) النص المثبت في النسخة هو: " معهودية ببعض في جهات المسألة ". والظاهر أن المقصود
هو ما أثبتناه في المتن.
494
شخص نظره دون نظر غيره - كمال إشكال وتأمل.
والمسألة بعد ذلك لا [تخلو] عن الإشكال والإجمال، بل الواجب في مثله
متابعة غيره من [المجتهدين] الذي يطابق رأيه في سائر الجهات بأخذ فتواه أيضا
احتياطا، ولا يجب عليه تكرار العمل تارة باجتهاده الناقص وأخرى على طبق
فتوى غيره تحصيلا للمفرغ التعيني، والله العالم.
ثم إن القواعد المعمول بها لا بد أن تكون واقعة في طريق استنباط الأحكام
الكلية، وأما الواقعة في طريق تطبيق الأحكام الكلية على مصاديقها من مثل
قواعد الحساب والهيئة وأمثالهما فهي غير مرتبطة بمرحلة الاجتهاد المعروف بل لا
بأس برجوع المجتهد إلى العالم بها من باب رجوعه إلى أهل الخبرة.
وبالجملة: المناط في القواعد المحتاج إليها في المقام هي كل كلي يقع في طريق
الاستنباط للحكم الكلي ولو بالواسطة، فلا يضر بذلك حرمة نتيجة شخصه بلا
واسطة (1).
فالمسائل الرجالية وإن كانت منتجة لمعرفة حال أشخاص خاصة لكن من
جهة أن نتيجتها بالأخرة حكم كلي إلهي كانت هذه من القواعد المزبورة، ولذا
يحتاج إليها من التزم بحجية الخبر [المزكى بتزكية] العدلين. وأما من التزم بحجية
الخبر الموثوق الصدور من أي وجه وجهة - خصوصا بتوسيط [اتكال] المشهور
[على] سنده - فطريق تحصيل الوثوق غالبا ليس إلا عملهم، وإلا فما هو مطروح
لديهم كان موهون الصدور وغير مشمول لدليل الحجية وإن كانت رواية في غاية
الاعتبار والعدالة، وما هو معمول به لديهم فهو موثوق به وإن كانت في غاية
الضعف.



(1) كذا في الأصل.
495
ولذا ترى ديدن الوحيد البهبهاني في حاشية المدارك (4) على الاتكال
[على] روايات اتكل المشهور [عليها] مصرحا بأن ضعفها منجبر بالشهرة، ردا
على صاحب المدارك الطارح للرواية بمحض ضعف سندها بحسب القواعد
الرجالية مبنيا على أصله من حجية الخبر المصحح [المزكى بتزكية] العدلين.
ثم إن في اقتضاء القواعد الظاهرية للمجتهد الاجزاء بما عمل فيها حتى مع
كشف خلافها كلاما طويلا ولقد [بسطنا] الكلام في مسألة الاجزاء وبنينا هناك
على عدم الاجزاء إلا في صورة كون القاعدة الظاهرية الجارية اقتضت توسعة
موضوع الحكم الواقعي حقيقة، وإلا فإطلاق الأدلة الواقعية يقتضي عدم الاجزاء
بالمأتي به حتى على الموضوعية والسببية فضلا عن الطريقية من دون فرق في ذلك
بين مفاد أدلة الطرق أو الأصول، بل ولقد نقحنا الكلام في بحث حجية [خبر]
الواحد، بأن مفاد أدلة الطرق وبعض الأصول هي الطريقية المحضة المستلزمة
لتخطئة نظر المجتهد [في] الواقعيات أحيانا بلا لزوم تصويبهم مطلقا حتى
التصويب في الأحكام الفعلية الواقعية فضلا عن التصويب في مقتضياتها ومرتبة
إنشائها وإن كان ذلك أيضا ممكنا، بتقريب:
أن المصالح وإنشاءاتها الموجبة في حق المكلفين [بعد] الأداء لا بشرطها
ولا لا بشرطها. نظير بيان المحقق القمي في شرح وضع الألفاظ بكونه في حال
الانفراد لا بشرطه ولا لا بشرطه (5)، وذلك المقدار لا يوجب دورا ولا يمنع عن
فحصها، لاحتمال كونه مشمول الخطابات، فيفحص فإن ظفر بها فهو، وإلا فيجزم



(1) صرح به في موارد عديدة من الحاشية راجع المدارك (الطبعة الحجرية): 17، ذيل قول
السيد: وهي ضعيفة السند...
(2) قوانين الأصول 1: 63.
496
بعدم جعل حكم في حقه واقعا.
ولكن قد عرفت أنه خلاف مقتضيات أدلة الطرق واطلاقات الأحكام
الواقعية علاوة عما ورد من الأخبار المتواترة (6) على اشتراك أحكامه المجعولة بين
العالم والجاهل. وعليه فينحصر أمر التصويب بخصوص الأحكام الظاهرية التي
هي مفاد أدلتها شرعية أو عقلية.
ثم إن في عمل المجتهد بما استنبطه - على [الطريقة] المعروفة - لا يعتبر أزيد
من شرائط تكليفه واجتهاده بلا لزوم عدالة.
وأما قضاؤه وحجية فتواه في حق غيره فلا إشكال في اعتبار العدالة
عندهم.
ويدل عليه ما ورد (7) من ردعهم عن قضاوة العامة بالتعبير عنهم
ب‍ " هؤلاء الفسقة "، الظاهرة في دخل مثل تلك الجهة في مانعيته عن جواز
القضاوة.
وعلى الثاني بعدم الفصل بين القضاوة والفتوى في تلك الجهات. وربما يشعر
[به] ما في بعض الروايات (8) " أن للعوام أن يقلدوا من كان تاركا لهواه مطيعا
لأمر مولاه ".
ولكن في دلالته على المدعى نظر، لأن ظاهر صدره في مقام بيان حكم



(1) لم نعثر على نص صريح في هذا المقام، ولكن قد يستفاد مما ورد في أصول الكافي 1: 59،
باب الرد إلى الكتاب والسنة. والوسائل 18: 111، الباب 12 من أبواب صفات القاضي.
(2) الوسائل 18: 100 باب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6، وفيه: " هؤلاء
الفساق ".
(3) الوسائل 18: 95 باب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.
497
أصول الدين، فلا محيص في مثله من كون التقليد المفيد [للقطع] لا بمعنى التعبد
بقول الغير محضا، ولازمه حينئذ إمكان حمل مثل تلك القيود على الإرشاد. إلا أن
مثل هذا الشخص ينبغي حصول القطع من قوله فيتبع، ولكن مع ذلك لا يخلو في
نفس التعبير عن " الاتباع " قول مثلهم بالتقليد عن إشعاره في اعتبار العدالة في
مثله، بل ربما يشعر باعتبار على مراعاتها فيه، وربما يساعده الاعتبار لكونه في
المقام الشامخ الذي لا يصلح ان [تناله] يد كل متظاهر بالحسن. أعاذنا الله من
اتباع الشهوات ومن مظان الزلات [المفضية] إلى مراتب الدركات ومجاري
الهلكات آمين آمين.
ثم إنه قد يتوهم في مرجع التقليد والقضاوة أن لا يكون قائلا بحجية الظن
المطلق من باب الحكومة من العقل، لعدم صدق العالم بالحكم والعارف بالحلال
والحرام في حقه.
أقول: أما قضاؤه فيمكن صدق دعوى العارف بشئ من أحكامهم على
مثله من جهة [علمه] بالمسائل القطعية من جهة ضرورية المسألة أو [اجماعيتها]
أو ورود القرائن القطعية على وفق اختياره، أو من جهة [تواترها] لفظيا أو
معنويا أو إجماليا، فإن العالم بمثل هذه المواقع يصدق في حقه أنه عرف شيئا من
أحكامهم.
وأما حجية فتواه في حق الغير فيمكن أن يقال إن المدار فيه على رجوع
الجاهل بشخص الوظيفة إلى العالم به.
وحينئذ فإن كان المقلد - في ظرف أخذه بقية [مقدمات] الانسداد عن غير
العالم بها - عارفا [بوظيفته] من تعيين ما هو أقرب الطرق بنظره فيتعين حينئذ ما
هو الأقرب بنظره وإن كان على خلاف نظر المجتهد القائل بالانسداد.
وأما إن لم يكن عارفا بتعيين ما هو الأقرب فيتعين عليه رجوعه إلى من

498
هو عالم بذلك التعيين فيأخذ بما هو أقرب الطرق بنظر مجتهده فيصير المقلد بنفسه
مجريا لدليل الانسداد بلا اعتبار تقليده في ذلك المقدار ومع ذلك لا يتعدى عما
استقر عليه رأي مجتهده، فمثل ذلك المعنى نحو اجتهاد مشوب بالتقليد ولا ضير فيه
بعدما يساعد عليه الدليل.
كما أنه لا [فرق] في كلتا الصورتين بين وجود آخر قائلا بالظنون الخاصة
أو لا، إذ من المعلوم أن في انحلال علمه الاجمالي بوجود الطرق المعتبرة
وعدمها (9)، إذا كان جاهلا فكما أن له الرجوع إلى العالم بالمسألة الفرعية كذلك له
الرجوع إلى العالم بالمسألة الأصولية.
ويشهد بذلك أنه مع علمه بخطأ المجتهد في تطبيق القواعد الأصولية عند
[استخراجه فرعا] يتعين عليه التقليد في المسألة الأصولية دون الفرعية.
وحينئذ فنقول: إنه بالنسبة إلى المسألة الفرعية وإن كان يتعين عليه
الرجوع إلى العالم [بها] لانحصاره بخصوصه ولكن ليس عليه خصوص الرجوع
إلى الغير في المسألة الفرعية بل له أيضا الرجوع إلى خصوص العالم في المسألة
الأصولية ففي تلك المرحلة لا يتعين عليه الرجوع إلى خصوصه بل له الرجوع إلى
عالم آخر قائل بعدم الانحلال وبانسداد باب العلم وحينئذ ينتهي أمره بعد ذلك
إلى الالتزام ببقية التوالي على ما عرفت.
وحينئذ لا وقع للتوهم بأن مع وجود القائل بالظنون الخاصة كان باب
العلم في حقه منفتحا، فلا يبقى مجال بعد ذلك للمشي على طبق مقدمات الانسداد.
إذ ذلك إنما يتم لو كان الواجب عليه اتباع قول أهل العلم في خصوص المسألة
الفرعية، وإلا فإن دليل رجوع الجاهل إلى العالم لا يقتضي تعيين العالم بخصوص



(1) العبارة كما ترى.
499
المسألة الفرعية، بل [مخيرا] بينها وبين الأصولية، فلا يكاد [يصير] إلا باختياره
الرجوع إلى العالم بالمسألة الفرعية، وإلا [فله] أيضا اختيار رجوعه إلى العالم
بالمسألة الأصولية القائل بانسداد باب العلم، ومع هذا الاختيار في ظرف الأخذ
بقوله لا [تكون] فتوى الغير في حقه حجة كي يلزم في حقه انفتاح باب العلم.
وذلك ظاهر.
بقي في المقام مطلب آخر وهو: أن المجتهد مهما يرى شخصه مرجعا للتقليد
بأن رأى انحصار الأمر به، إما لاعتقاده أعلميته من أقرانه بضميمة وجوب تقليد
الأعلم [أو] انحصار المجتهد بشخصه فلا إشكال ظاهرا في وجوب إظهار فتواه
وترغيب الناس بتقليده، نظرا إلى ما دل على وجوب إرشاد الجاهل في الأحكام الكلية
المستفادة من أمثال آيتي النفر والسؤال بل وآية الكتمان. ويومئ إليه
ظاهر كلماتهم في وجوب إعلام المجتهد لمقلديه إذا رجع عن اجتهاده.
ولقد صنف بعض الأعاظم (ره) رسالة (10) في وجوب إرشاد الجاهل في
الأحكام الكلية. ومن صغرياتها مسألتنا.
وأما مع علمه بعدم انحصار المرجعية في حقه - ولو من جهة اعتقاد التسوية
[بينه] وبين غيره - ففي وجوب إظهار نفسه مقدمة لرجوع الغير إليه إشكال، لعدم
مساعدة أدلة وجوب الإرشاد لمثل تلك الصورة، بل ربما لا [تكون] فتواه حجة
في حق غيره إلا في ظرف اختيار المقلد، فليس عليه تحصيل هذا الشرط كي
[تكون] فتواه حجة في حق غيره لينتهي إلى وجوب إرشاد الجاهل. والله العالم.



(1) لم نعثر على الرسالة.
500
المقالة السابعة والعشرون
التقليد

501
[المقالة السابعة والعشرون]
في التقليد
وعرف (1) بالأخذ بقول الغير تعبدا.
ولا يخفى أن المراد من الأخذ ليس إلا الالتزام بحجية رأيه في حقه، وجعله
طريقا إلى نفسه بالنسبة إلى الوظائف التكليفية والوضعية.
واليه يرجع مفاد كلماتهم بأن التقليد مقدمة للعمل لا نفسه، بشهادة صدق
المقلد على الأخذ بالرأي وإن لم يعمل بقول مجتهده فسقا.
ولكن مثل ذلك المعنى لا يكاد أن يكون موضوعا للوجوب الشرعي كيف!
ومفاد دليل وجوب تصديق [الراوي] ليس إلا ما هو المراد من وجوب تصديق
الرواية الراجعة بالأخرة إلى وجوب المعاملة مع الخبر أو الرأي معاملة الواقع أو
العمل به تعبدا.
ولذا لا يجب على العامل بالرواية الالتزام بشئ، بل لا يجب في حقه إلا
العمل، بل صريح فتاويهم بأن المقلد لو عمل أو اتفق عمله على طبق فتوى المجتهد



(1) راجع: المقاصد العلية: 21، وكفاية الأصول: 539.
503
المنحصر حجية فتواه في حقه أجزأه.
نعم في صورة عدم الانحصار ومخالفة آرائهم لما لا يعقل العمل على وفقها
- والمفروض أيضا عدم خلو المكلف عن الطريق والحجية وعدم تعيين واحد
منهما مع التساوي لكونه ترجيحا بلا مرجح - فحينئذ لا محيص من أن يكون
حجية خصوص كل منهما مشروطا بأخذه والالتزام بحجيته وطريقيته، كما هو
الشأن في الخبرين المتعارضين الراجع إليه مفاد التخيير في الأخذ بواحد منهما،
وفي مثله لا يكون الأخذ مقدمة للعمل.
ومثل ذلك المعنى واجب عقلا، [و] مناط حكمه وجوب تحصيل الحجة
على الجاهل قبل الفحص، ولا يكاد يساعد على شرعية هذا المعنى دليل. بل لو
فرض قيام الأمر به في آية أو رواية فلا بد من حمله على الارشاد، لاستقلال العقل
بوجوب الأخذ مقدمة لتحصيل الطريق كي تعمل.
ثم لا يخفى: أن أمر كل تقليد لا بد وأن ينتهي إلى الاجتهاد، لأن مرجع
الحجج التعبدية إلى حجيتها بالغير، ومن البديهي أن كل ما بالغير لا بد وأن ينتهي
إلى ما بالذات، وبهذه الملاحظة لا بد وأن ينتهي أمر التعبد بقول الغير إلى حكم
قطعي وجداني على مرجعية الغير، وهو الذي كان مرتكز عامة الناس بوجوب
رجوع الجاهل بالوظيفة إلى العالم بها. ومثل ذلك الارتكاز الوجداني أيضا مبنى
معاقد الاجماعات على مرجعية العالم للجاهل، ولذا لا يصلح مثله دليلا على
المسألة قبال الارتكاز المزبور.
نعم في المقام مطلب آخر وهو أن قضية ارتكاز العقل على مرجعية العالم
للجاهل هو وجوب اتباع قوله وحجية رأيه في كل جهة كان المقلد جاهلا،
وحينئذ:
فإن كان جاهلا بمرجعية شخص خاص من حيث اعتبار الحياة فيه أو

504
العدالة أو الأعلمية فيجب حينئذ أن يرجع إلى العالم بهذه الخصوصية، وفي هذه
الصورة يفتي العالم بها بما استقر عليه رأيه واستقل به نظره بمقتضى استفادته من
الأدلة الشرعية إطلاقا و [تقييدا].
وأما لو لم يكن الشخص جاهلا بتلك الخصوصيات ولو من جهة اجتهاده
فيها ففي تلك الصورة لا يبقى مجال الرجوع له إلى العالم في تلك الخصوصية، بل
ينحصر مرجعية العالم في حقه بخصوص الأحكام التكليفية. وفي مثله لا يبقى مجال
لاجتهاد المجتهد بالنسبة إلى خصوصيات المقلد (بالفتح)، لعدم ثمرة عملية
لاجتهاده هذا، لعدم إثماره في حقه ولا حق غيره، بل يكون [مثل] ذلك الاجتهاد
منه لغوا محضا، لولا كونه في معرض شمول من كان جاهلا بتلك الجهات.
ولكن لا يخفى أن مثل هذا الفرض قليل الوجود في المقلدين، بل يمكن
دعوى قيام العادة على خلافه، لأن من [يتمكن] من الاجتهاد المزبور كان
مجتهدا في غالب المسائل الفرعية بلا فرق بينهما عادة.
وأما قضية ارتكازه برجوع الجاهل إلى العالم فإنما هو قضية إجمالية
لا يكاد أن يستكشف من [مثلها] سائر الخصوصيات أبدا، فلا يبقى مجال دعوى
[أن] مرجع تعيين الحياة أو الأعلمية أو الأعدلية مثلا وأمثالها هو ما يقتضيه
ارتكاز ذهنه في تعيين العالم المرجع للجاهل.
غاية ما في الباب استقلال العقل بمناط حكمه الاجمالي بمرجعية من هو مجمع
جميع ما احتمل دخله في المرجع من الحي الأعدل الأعلم فيرجع إليه فيما هو
جاهل [به]، ومثل هذا المقدار لا يقتضي نفي مرجعية العالم في تعيين موضوع
الحجة الشرعية حينئذ لطائفة دون طائفة، إذ ليس حكم العقل بمرجعية مجمع
الصفات المزبورة بمناط علمه باعتبار خصوص الجمع كي لا يكون نظر من يبقي
اعتبار بعضها أو يثبت متبعا في حقه، بل انما هو بمناط جهله بالخصوصيات وكون

505
المجمع المزبور قدرا متيقنا من بين المراجع.
ومن هذا البيان اتضح بطلان توهم كون المدار في استفادة مثل تلك
الخصوصيات هو الارتكاز العقلي كي لا يتم منه إقامة دليل آخر على
وفق الارتكاز أو خلافه، بل ويستتبعه لغوية النظر والاجتهاد فيها بقول
مطلق، لعدم صلاحية مثل ذلك حينئذ للمقدمية بالنسبة إلى عمل نفسه أو غيره
أبدا.
وحيث [اتضحت] تلك الجهة فينبغي عطف العنان إلى بيان ما يستفاد منه
وجوب التقليد والنظر فيه من حيث استفادة الاطلاق منها وعدمه فنقول:
إن مقتضى الأصل بعد ما كان عدم حجية قول أحد أو رأيه في حق غيره،
فلا بد في رفع اليد عنه من إقامة الدليل الدال على وجوبه شرعا فنقول:
قد يستدل بمثل الاجماع والسيرة من الأدلة اللبية على وجوب التقليد.
ولكن أمكن دعوى عدم اقتضاء مثلها أزيد مما يقتضيه الارتكاز المزبور،
بل ويمكن أن يكون مدركهما ذلك، فلا يصلحان لأن يكونا دليلا آخر في قبال
حكم العقل الارتكازي المستقل بمرجعية العالم للجاهل. ولقد عرفت آنفا أيضا أن
مثل تلك الأدلة الإجمالية غير وافية لإثبات خصوصيات المرجع من حيث الحياة
والأعلمية والأعدلية.
وعليه فالعمدة في وجه استفادة المدعى ما استدل به من الآيات
والروايات كآيتي النفر (1) والسؤال (2)، نظرا إلى ظهورهما في دخل الفهم والعلم في
المنذر [به] والمسؤول عنه. وبذلك تنصرف الآيتان [عن] باب حجية الرواية من



(1) التوبة: 122.
(2) النحل: 43. الأنبياء: 7.
506
حيث [حكايتها] عن الواقع بلا دخل لجهة الفهم للخبر في حجية [الخبر]. ومن
الرواية ما ورد (1) من الأمر بإفتاء مثله للناس.
ولقد [تعرضا] في الفصول (2) وفي التقريرات (3) [للتشبث] بما دل على
إرجاع بعض [الرواة] إلى بعض، خصوصا بملاحظة كون فتواهم في الصدر الأول
غالبا [بعين] لفظ الخبر ومضمونه.
ولكن يمكن الخدشة فيه بأن أمثال هذه الروايات غير وافية لإثبات
وجوب التقليد، بل ومن الممكن كونها في مقام حجية قول الغير رواية.
ومجرد اتحاد الفتوى والرواية وعدم الميز بينهما في الصدر الأول لا يقتضي
تداخلهما حيثية. ولقد عرفت أن لجهة فهم الراوي دخل في مثل هذه الروايات.
فالعمدة حينئذ الروايات السابقة ومثل الآيتين على وجه.
وعليه ففي إطلاق مثل الآيتين والروايات على وجه يستفاد منها وجوب
قول العالم ورأيه على الإطلاق نظر، إذ غاية ما يستفاد من الآيتين وجوب إظهار
ما فهموا من الحق. وأما إطلاقهما على وجه يستفاد منه التعبد بقوله ولو لم يفد
العلم [ففيه] نظر، فضلا عن اقتضاء اطلاقهما التعبد بقول أي عالم.
وأما الأخبار فلا يخفى أن غاية دلالتها وجوب الافتاء الملازم لوجوب
القبول من مثل المخاطب بخطابه.
وأما أن المخاطب المزبور من كان فاقدا للأوصاف المشكوكة كي يقتضي
حجية فاقد الوصفين أو أحدهما المساوق لإثبات مرجعية العالم على الاطلاق



(1) راجع مستدرك الوسائل 17: 315، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ذيل الحديث 14.
(2) انظر الفصول الغروية: 411.
(3) مطارح الأنظار: 263 - 264.
507
ففيه نظر ظاهر، خصوصا في استفادة حكم الفتوى من حيث خصوصية حياة
المفتي وموته، بل ومع احتمال دخل أعلى مراتب العدالة بمقتضى ما ذكرنا - من
استفادة رواية " من كان صائنا لدينه... " (1) على مثله - لا مجال للاكتفاء بما دونه.
اللهم [إلا] أن يقال إن مقتضى ارتكاز العقل برجوع الجاهل إلى العالم
دخل [العلم] في المرجع في الجملة. وأما دخل أعلى مراتبه فلا يكون العقل
مستقلا بوجوده ولا بعدمه، نظير دخل الحياة.
وأما دخل العدالة والإيمان في حجية الرأي الناشئ عن الاجتهاد الصحيح
بشرائطه من الفحص التام وغيره فيمكن دعوى استقلال العقل بعدمهما.
غاية الأمر لما كان حكمه تعليقيا فيصلح مثل ذلك الردع من قبل الشارع،
ولازمه لزوم الاقتصار على المتيقن مما ثبت ردعه.
ومن المعلوم حينئذ أن المقدار المستفاد من معاقد الاجماعات هو اعتبار
الايمان وطبيعة العدالة الصادقة على أول مرتبة من مراتبها ولا يحتاج إلى تحصيل
أقصاها.
ولعله إلى مثل هذا البيان نظر من قدم قول الأعلم العادل على الأعدل
العالم مع بنائه على عدم إطلاق دليل في أدلة التقليد القابل لأن ينفى بمثله بعض
الخصوصيات المحتملة، بل وتلك الجهة منشأ اعتبار الأعلمية، وإلا فليس لمثل
ذلك العنوان في لسان الدليل عين.
نعم إنما ورد (2) [الترجيح] بالأفقهية في باب الحكم في المقبولة وهو غير
مرتبط بباب الفتوى. وتوهم عدم الفصل بين المقامين في حيز المنع جدا.



(1) الوسائل 18: 95 باب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.
(2) الوسائل 18: 75 باب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
508
وحينئذ فلو اغمض عما ذكرنا من البيان كان لاحتمال الترجيح الحاكم في
باب الحكومة [مجال] ومع هذا الاحتمال لا يبقى وجه لترجيح الأعلم العادل على
الأعدل العالم كما هو المعروف. بل لا بد حينئذ من المصير إلى التخيير في فرض
عدم أحوطية قول أحدهما عن الآخر، وإلا فيتعين بنظر العقل الأخذ بأحوط
القولين، لأن فيه نحو جمع بينهما عملا، ومفرغ للذمة، لأن به يفرغ يقينا.
ومن هنا ظهر الحال بالنسبة إلى الموت والحياة في التقليد البدوي لولا
دعوى قيام معاقد الاجماعات على عدم جواز تقليد الميت بدوا.
كما أن الشأن هو ما ذكرنا أيضا في مسألة تقليد الميت بقاء وتقليد الحي
بالرجوع عنه إليه لولا دعوى استصحاب بقاء الأحكام التكليفية الناشئة عن قيام
رأي المجتهد المثبت سابقا في زمان حياته، بناء على التحقيق من كون رأي المجتهد
كسائر الحجج الشرعية من علل ثبوت الحكم الظاهري على موضوعاتها بلا دخل
لعنوان قيامها على المورد في ثبوت مثل هذا الحكم.
وذلك أيضا بناء على كون مفاد دليل حجية الرأي كسائر أوامر التصديق
في الأمارات هو إحداث احكام تكليفية ظاهرية. إذ حينئذ كان لمثل هذا
الاستصحاب مجال، إذ من المعلوم أنه مع الشك في حجية الرأي حال موت المفتي
نشك في بقاء الحكم التكليفي الظاهري الثابت لعنوان موضوعه فيستصحب مثل
ذلك الحكم وإن لم يجر الاستصحاب في نفس حجية الرأي لما يتم.
بل ولئن قلنا بعدم حجية الرأي في حال الموت أمكن قيام مقتض آخر في
بقاء الحكم الظاهري المزبور، ومعه يبقى مثل تلك الأحكام على [مشكوكيته
فتشمله] أدلة استصحابها، فلا مجال لشبهة الشك في الموضوع في مثلها.
نعم لو بنينا على كون مفاد أدلة الطرق حكما تكليفيا - بل غاية ما في الباب
كونها موجبة لإحداث الأحكام العقلية في مواردها - فلا مجال لجريان

509
الاستصحاب في مثل تلك الأحكام العقلية، وذلك أيضا لا من جهة مجرد عقليتها.
كيف! وهي من العقليات المنتهية إلى جعل شرعي كبعض الأحكام الوضعية من
الجزئية والسببية بل من جهة أن قوام حكم العقل بدركه الوجداني، ومع الشك
جزم العقل بعدم حكمه ودركه، فالأحكام العقلية طرا أمرها دائر بين الأمرين إما
الجزم بالوجود وإما الجزم بالعدم لا بين النفي والاثبات. فلا يكاد يتحقق في مثلها
الشك الذي هو مناط الاستصحاب.
ومن هذه الجهة نقول بعدم جريان الاستصحاب في نفس الجزئية والشرطية
من العقليات المنتزعة الوضعية، بل الاستصحاب جار في نفس المنشأ ثم ينتزع
العقل مثل تلك العناوين عن موضوعاتها، نظرا إلى أن ما هو منشأ انتزاعها أعم
من الواقعي والظاهري. ومهما لا يمكن جريان الاستصحاب في مناشئ تلك
الأحكام لا يبقى مجال لجريانه في نفسها كما هو ظاهر.
وأيضا لو بنينا على عدم كون الأمارات عللا [لثبوت] الأحكام في
موضوعاتها، بل كان لعنوان قيامها دخل في ثبوت الحكم التكليفي الظاهري في
مواردها، أو كان مثل تلك الأمارات بنفسها موضوع حكم وضعي من مثل
الحجية محضا لا يكاد أيضا يجري الاستصحاب في المقام، وذلك لأن الحياة [لها]
دخل تام في نظر العرف في قيام الرأي حدوثا وبقاء بحيث يحكمون بارتفاع الرأي
وانعدامه بانعدام الحياة، ولا أقل من الشك فيه، ومعه لا يبقى مجال استصحاب
عنوان ما قام عليه رأي هذا الشخص، إذ مع احتمال دخل الحياة في إضافة الرأي
إليه عرفا فمع [ارتفاعها] لا [تكون] الوحدة بين القضيتين محفوظة عرفا.
وتوهم كفاية حدوث هذا العنوان في بقاء الحكم المزبور - ولا أقل من
الشك فيه - فيستصحب الحكم لما حدث فيه هذا العنوان في زمان، مدفوع بأن
الحكم حدوثا وبقاء تابع حدوثه وبقائه، بشهادة أنه لو زال الرأي لنسيان غير

510
عادي أو هرم أو جنون أو اغماء لا يجوز اتباع رأيه السابق، فمثل ذلك كاشف عن
اعتبار بقاء الرأي في بقاء حجيته، وأنه لا يكفي مجرد حدوث الرأي في زمان في
بقاء الحجية إلى الأبد.
ومن التأمل في ما ذكرنا ظهر حال ما لم يكن مفاد أدلة الأمارات إلا مجرد
جعل الحجية لنفس الرأي، إذ بعد فرض تقومه بالحياة وجودا [و] عدما لا يبقى
مجال استصحاب حجية رأيه في حال موته خصوصا لو كان رأيه في [تلك
النشأة] ظنا، فإنه يقطع بانعدامه من جهة انكشاف الواقعيات لديه عند انفصاله
عن البدن.
وتوهم استصحاب بقاء رجحانه الموجود في ضمن ظنه - من جهة احتمال
بقائه في ضمن قطعه - مدفوع بأنه كذلك دقة، وإلا فعند العرف كان ضعف مرتبة
الظن غير موجب لبقائه مع ما هو محفوظ في ضمن قطعه.
نعم لو كان رأيه في هذه النشأة قطعيا أمكن استصحابه دقة من جهة الشك
في بقاء قطعه، لأنه قائم بالنفس الناطقة التي لا فناء لها بمحض تجردها وتخليها عن
البدن العنصري.
ولكن بعدما كان جريان الاستصحاب على احتمال إبقاء المستصحب عرفا
لا يكاد يجري الاستصحاب، إذ مع احتمال تقوم بقاء الرأي عرفا بحياته فمع انتفائها
لا يبقى مجال له كما لا يخفى.
وكيف كان نقول: إن العمدة في وجه تصحيح الاستصحاب في المقام إتمام
المقدمتين.
فإن تمتا - كما هو التحقيق في مفاد أدلة كلية الأمارات - فهو، وإلا فللنظر
للاستصحاب مجال، بل لا محيص حينئذ إلا من المصير إلى الأخذ بأحوط القولين
لو كان ذلك في البين، وإلا فمع احتمال تعيين كل واحد وعدم الترجيح لا محيص إلا

511
من الحكم بالتخيير في أخذ كل واحد حذرا عن الترجيح بلا مرجح. وذلك أيضا
بعد الجزم بعدم انتهاء أمر المقام إلى التوقف والتساقط في المدلول المطابقي كي يبقى
المقلد بلا طريق إلى الواقعيات.
وتوهم أن ما هو حجة هو بقاء الرأي المتقدم في حق الميت فلا يبقى مجال
احتمال تعيين البقاء على تقليد الميت إلا بدخل حدوثه في زمان بقاء حجيته إلى
الأبد ولقد عرفت بطلانه أيضا بشهادة ما ذكرنا من الفروض، مدفوع بأن قيام
الاجماع على عدم جواز البقاء على التقليد في الفروض المتقدمة إنما هو لصدق
زوال الرأي حقيقة ودقة. وهذا بخلاف باب الموت، إذ لا مجال لارتفاعه دقة حتى
لو كان في هذه النشأة ظنيا، وإنما العرف لقصور أنظارهم عن عالم المجردات
والنفوس حاكمين بالارتفاع، فشمول معاقد الاجماعات لمثل ذلك الارتفاع
العرفي محل نظر.
فحينئذ لولا الاستصحاب السابق كان لاحتمال تعيين البقاء على تقليد
الميت مجال، ومع ذلك الاحتمال لا مجال لترجيح خصوص الحي.
ثم إن ذلك كله لو قلنا بكون التخيير في الأخذ بأحد المتساويين بدويا أو
كان الميت أعلم من الحي، وإلا فلا مجال لاحتمال تعيين البقاء على تقليد الميت، بل
يجب الاقتصار على الحي لكونه متيقن الحجية والشك في حجية غيره، وفي مثل
تلك الصورة لا يبقى مجال تعيين الأخذ بأحوط القولين أيضا، للجزم بالفراغ من
العمل على طبق فتوى الحي جزما وإن جاز له العمل على وفق رأي الميت مطلقا
إذا كان أحوط. والله العالم بالحقائق.
الحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على سيدنا محمد
وآله الطاهرين المعصومين ولعنة الله على أعدائهم أعداء الله من الآن إلى يوم
الدين آمين آمين يا رب العالمين.

512
/ 1