بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: منتهى الدراية المؤلف: السيد محمد جعفر الشوشتري الجزء: 6 الوفاة: معاصر المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة تحقيق: الطبعة: الثالثة سنة الطبع: 1414 المطبعة: امير - قم المقدسة الناشر: مؤسسة دار الكتاب (الجزائري) للطباعة والنشر ردمك: ملاحظات: منتهى الدراية في توضيح الكفاية تأليف السيد محمد جعفر الجزائري المروج الجزء السادس
1 منتهى الدراية في توضيح الكفاية آية الله السيد محمد جعفر الجزائري المروج الجزء السادس الطبعة الثالثة 1414 مطبعة أمير - قم المقدسة العدد 1500 نسخة الناشر مؤسسة دار الكتاب (الجزائري) للطباعة والنشر تليفون وفاكس 24568 شارع ارم - قم - ايران
2 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأفضل صلواته وأكمل تحياته على أشرف أنبيائه ورسله محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما الامام المبين وغياث المضطر المستكين عجل الله تعالى فرجه الشريف واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين. أما بعد، فقد ساعدنا التوفيق لاعداد الجزء السادس من كتابنا (منتهى الدراية في توضيح الكفاية) للطبع وتقديمه للملأ العلمي، فله الشكر على إنعامه وإفضاله وقد سلكنا في نظمه وترتيبه منهج الاجزاء الخمسة المتقدمة، فالمتن أولا، ويليه الشرح التوضيحي المعلم بالأرقام الموضوعة على كل منهما، كما رمزنا تعاليقنا ب (*) وحواشي الماتن على الكتاب ب (×) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
3 فصل لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من (1) الايجاب أو التحريم،
5 فتارة لتردده بين المتباينين (1)، وأخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين (2)، فيقع الكلام في مقامين
7 المقام الأول في دوران الامر بين المتباينين (1) لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقا ولو (2) كانا (3) فعل
8 أمر وترك آخر [1] ان كان فعليا من جميع الجهات بأن (1) يكون
[1] ان كان غرضه (قده) تعميم متعلق العلم بنوع التكليف للفعل و الترك وعدم اختصاصه بفعلين كالعلم بوجوب الظهر أو الجمعة، ففيه: أن الترك ليس بواجب حتى يقال: انه يعلم إجمالا بوجوب مردد بين فعل الدعاء وترك شرب التتن، ضرورة أن الاحكام لا تتعلق الا بما تقوم به الملاكات الداعية إلى التشريع، ومن المعلوم قيام الملاكات بالافعال دون التروك. وعليه ففعل شرب التتن حرام، لا أن تركه واجب، نعم بناء على انحلال كل حكم إلى حكمين يصح اتصاف ترك شرب التتن بالوجوب، لكنه فاسد كما ثبت في محله. وبالجملة: فمتعلق العلم بنوع التكليف من الايجاب أو التحريم كالعلم الاجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة أو العلم الاجمالي بحرمة شرب التتن أو نكاح الكتابية ليس الا الفعل، فالمتباينان اللذان علم إجمالا بتعلق إيجاب أو تحريم بأحدهما هما الفعلان، فلا وجه لان يقال: سواء كان المتباينان فعل أمر وترك آخر. وان كان غرضه (قده) تعميم البحث للعلم بجنس التكليف وهو الالزام الجامع بين الايجاب والتحريم، ففيه أولا: أن اللازم حينئذ افراد (كان) لا تثنيته، لرجوع اسمه حينئذ إلى التكليف، واللازم على هذا أن يقال: ولو كان وجوب فعل وحرمة آخر. 9 واجدا لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو عليه من
وثانيا: أن عنوان صدر البحث وهو قوله: (مع العلم بالتكليف من الايجاب أو التحريم) الظاهر في العلم بالنوع لا ينطبق عليه، لوضوح عدم انطباقه على العلم بالجنس. وثالثا: أن ما تقدم آنفا من تعلق الاحكام بالافعال دون التروك جار هنا أيضا، إذ العلم الاجمالي بإلزام مردد بين الوجوب والحرمة في مثل الدعاء عند رؤية الهلال وشرب التتن انما تعلق بفعلهما. نعم امتثال حرمة الفعل يتوقف على الترك، وهذا غير تعلق الحرمة بالترك كما هو ظاهر المتن بل صريحه، فتأمل جيدا. 10 الاجمال والتردد والاحتمال، فلا محيص (1) عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته، وحينئذ (2) لا محالة يكون ما دل بعمومه على الرفع أو الوضع (3) أو السعة (4) أو الإباحة (5) مما يعم (6) أطراف العلم مخصصا (7) عقلا، لأجل مناقضتها (8) معه.
13 وان لم يكن (1) فعليا كذلك - ولو كان (2) بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته - لم يكن (3) هناك مانع عقلا ولا شرعا عن شمول أدلة البراءة الشرعية للأطراف.
14
[1] وقد أجاب المصنف عن إشكال التناقض في مداليل الاخبار المشتملة على الذيل بوجوه ثلاثة، تعرض لاثنين منها في حاشية الرسائل ولثالثها في الفوائد. 15
الأول: أن لفظ (الشئ) انما يكنى به عرفا عن المعين لا عن أحد الشيئين أو الأشياء، فيكون كل واحد من الأطراف مشمولا لقوله: (كل شئ) بما هو معين بنحو من التعيين كالإشارة إليه، والعلم الاجمالي بحرمة أحدهما ليس غاية للحل، لعدم كونه موجبا للعلم بحرمة واحد كان معينا بذلك التعيين الموجب لادراجه تحت عموم الصدر. والعلم بحرمة أحدهما بلا عنوان أو بعنوان لا يتعين كل واحد منهما به لا يوجب ارتفاع الحلية السابقة، إذ الغاية معرفة حرمة الشئ المعين بذلك التعيين الملحوظ في المغيا، لتبعية الضمير في (أنه حرام) للمرجع وليس معرفة حرمة أحدهما بلا عنوان أو بعنوان كونه إناء زيد المردد بين الإناءين معرفة بحرمة الشئ وما ذكر هو مقتضى ظهور (الشئ) في التعيين، لا للانصراف حتى يمنع منه بدعوى كونه بدويا. هذا في قاعدة الحل. وكذا الحال في قوله عليه السلام: (ولكن تنقضه بيقين آخر) حيث إن الظاهر منه نقض اليقين بالشئ بيقين آخر، و ليس اليقين بأحد الشيئين اليقين بالشئ عرفا. وهذا الظهور العرفي هو السر في شمول هذه الأخبار لأطراف الشبهة غير المحصورة مع وضوح عدم الفرق في المناقضة اللازمة - لو تمت - في مداليلها بين المحصورة وغيرها. والحاصل: أن مرجع هذا الوجه إلى دعوى شمول الصدر لأطراف العلم الاجمالي بدون لزوم التناقض، إذ المستفاد من الذيل أن الغاية هي العلم بحرمة الشئ المعين الذي أريد من الصدر، فالعلم الاجمالي بحرمة أحد الشيئين أو الأشياء ليس غاية لحلية الشئ المعين حتى يلزم التناقض. 16
الثاني: أن الذيل في أخبار الاستصحاب ليس مسوقا لبيان حكم شرعي مولوي حتى يستدل بإطلاق اليقين على شموله للعلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة كي يتجه محذور المعارضة، وانما الغرض تقريب عدم صلاحية الشك لنقض اليقين به عقلا، وأن ما يصلح ناقضا له هو اليقين اللاحق، من دون نظر إلى أنه ينقض باليقين شرعا مطلقا أو خصوص التفصيلي منه حتى يتمسك بالاطلاق الذي ينشأ منه المعارضة، وعليه فلا مانع من شمول الصدر بعمومه أو إطلاقه لجميع ما يمكن أن يعمها ومنها الأطراف. وهكذا حال الغاية في رواية الحل، بأن يكون غاية عقلية بلا حكم شرعي في جانبها، فلا تمنع عن شمول المغيا بإطلاقه لما يصح أن يعمه، ومن الواضح أن أطراف العلم الاجمالي مما يصح أن يعمها المغيا، فتأمل فإنه دقيق. هذا ما أفاده المصنف (قده) في الحاشية. والظاهر متانة كل منهما في دفع إشكال المعارضة خصوصا الوجه الأول، فان ذلك هو المنسبق من الاطلاقات المتعارفة، لظهور قول القائل: (كل شئ في بيتي أو صندوقي أو بستاني هو ملكي الا أن يعلم أنه ملك أخي أو صديقي مثلا) في أن ما هو متعين لا مردد بين شيئين أو أشياء ملكي، فالفرش مثلا بماله من التعين ملكي، لا الفرش المردد بين فروش أو الظرف المردد بين ظروف عديدة، فان عنوان التردد يحتاج إلى تصور زائد على نفس الشئ، بخلاف التعين، فإنه ليس الا تصور نفس الشئ، فتصور الفرش كاف في تعينه ولا يحتاج تعينه إلى لحاظ آخر، ولذا قيل: ان إطلاق الامر يقتضي التعيينية، لان التعيينية ليست قيدا زائدا على تصور نفس الشئ، بخلاف التخييرية، فإنها تحتاج إلى لحاظ زائد وهو جعل العدل كما هو واضح. 17 ومن هنا (1) انقدح: أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي،
الثالث: قال في الفوائد: (ان ظهور الغاية لو كان فإنما هو بالاطلاق، وهو لا يصلح أن يعارض به ظهور العام بلا كلام، ضرورة أن من مقدمات ظهوره عدم البيان مع كون العام صالحا للبيان، فلا وجه لرفع اليد عن عمومه الا على نحو دائر، أي بسبب ظهور المطلق الموقوف على عدم العموم، وتخصيصه الموقوف على ظهوره، والا لا يصلح قرينة على التخصيص، فيكون بلا وجه. إلخ) لكن يمكن أن يقال بتقدم ظهور الغاية وان كان بالاطلاق على ظهور العام وان كان بالوضع، وذلك لما ثبت في محله من تقدم ظهور القرينة ولو كان بالاطلاق على ظهور ذيلها وان كان بالوضع، ولذا يقدم ظهور (يرمي) في (رأيت أسدا يرمي) - في الرمي بالنبال دون الرمي بالتراب - على ظهور (أسد) في الحيوان المفترس مع كونه بالوضع. نعم مورد حديث تقدم الظهور الوضعي على الظهور الاطلاقي هو ما إذا كانا في كلامين منفصلين انعقد الظهور في كل منهما، فان الظهور الوضعي حينئذ صالح لان يكون رافعا لحجية الظهور الاطلاقي. وعليه فلا محذور في كون الغاية قرينة على إرادة الشبهة البدوية من الصدر وهو (كل شئ) وإرادة العلم مطلقا وان كان إجماليا من الغاية. 18 الا أنه لا مجال (1) للحكم الظاهري مع التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات (2) لا محالة (3) يصير فعليا معه من جميع الجهات، وله (4) مجال مع الاجمالي، فيمكن أن لا يصير فعليا
19 معه (1)، لا مكان جعل الظاهري في أطرافه وان كان فعليا من غير هذه الجهة [1 [2 فافهم.
[1] فيه: أن فعلية الحكم ليست الا بوجود موضوعه بسيطا كان أو مركبا، ومن المعلوم أن هذه الفعلية لا تتوقف على العلم بنفس الحكم لا تفصيلا ولا إجمالا، والا لزم دخل العلم فيه، وهو خلاف الاجماع بل الضرورة. وعليه فيصير الحكم بمجرد وجود موضوعه فعليا علم به المكلف أم لا، والحكم الفعلي بهذا المعنى يصير منجزا بكل من العلم التفصيلي والاجمالي بناء على منجزيته، وحينئذ فالمراد بالعلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي هو وجود الموضوع بماله من الاجزاء و الشرائط من الابتلاء وعدم الاضطرار إلى بعض الأطراف و غيرهما. وبالجملة: فالفعلية اما بمعنى وجود الحكم بوجود موضوعه، واما بمعنى الفعلية الحتمية وهي التنجز، وعلى التقديرين لا فرق بين كون العلم المتعلق به تفصيليا وإجماليا. وعليه فجريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي لعدم كون الحكم فعليا من جميع الجهات لم يظهر له وجه وجيه، بل الحق بناء على منجزية العلم الاجمالي أنه لا تجري الأصول في أطرافه أصلا كالعلم التفصيلي. ولعله إلى ما ذكرنا أو بعضه أشار بقوله: (فافهم). ثم إن ما يعد من موانع الفعلية كالاضطرار والخروج عن الابتلاء و غيرهما يرجع 20
إلى موضوع الحكم، لما عرفت من عدم ترتبه على موضوعه الا بعد وجوده بجميع ما له دخل في موضوعيته له شطرا أو شرطا، فالمراد بالفعلية معنى واحد وهو وجود الحكم بوجود تمام ماله دخل في موضوعه. ولعله إلى بعض ما ذكرنا أشار في مسألة الاضطرار إلى بعض الأطراف، حيث إنه جعل الاضطرار من حدود التكليف وقيوده، فلا فعلية أي لا وجود للحكم مع الاضطرار ونحوه، فتأمل جيدا. هذا كله مضافا إلى أنه لا يجدي مجرد تقسيم الفعلية ثبوتا إلى قسمين في ترتب الأثر من جريان الأصول وعدمه، مع عدم دليل على خصوص أحدهما إثباتا، ولذا لا بد من تأسيس أصل يرجع إليه في جميع موارد العلم الاجمالي. الا أن يعول على كلامه في الفوائد من أن الفقيه ان أحرز بملاحظة الأدلة فعلية الحكم حتى بالنسبة إلى بعض الشبهات الموضوعية كالشك في الاستطاعة المالية وبلوغ المال الزكوي للنصاب تنجز بالعلم الاجمالي. وان لم يحرز الفعلية وشك في أنه حكم إنشائي أو بالغ مرتبة البعث والزجر كان المرجع الأصل النافي للتكليف، لاقتضاء (كل شئ لك حلال) مع قبح الترخيص في المعصية كون المعلوم بالاجمال حكما إنشائيا لا فعليا. لكنه لا يخلو من تأمل. وقد أورد عليه بعض المدققين في حاشيته بوجوه أخرى: الأول: أن سنخ الغرض من المأمور به وان كان يختلف قوة وضعفا، لتفاوت الملاكات الداعية إلى تشريع الاحكام في ذلك، الا أنه لا يصحح الترخيص، ضرورة أن الغرض من التكليف في جميع الأوامر و النواهي الصادرة بداعي البعث والزجر واحد وهو جعل الداعي للمكلف إلى الامتثال، حيث إن محط البحث هو الحكم 21
المنشأ بداعي الطلب لا بدواع أخرى. وبالجملة: فالترخيص وان لم يكن منافيا للغرض من المكلف به، لعدم فعليته من جميع الجهات، لكنه مناف للغرض من نفس التكليف، ضرورة مناقضة الترخيص لإرادة إيجاد الداعي للمكلف إلى الامتثال. الثاني: أن المفروض وجود المقتضي التام في المكلف به، وقد انبعث منه حقيقة البعث والزجر، غاية الامر أنه لا يجب على المولى إيصاله، لكن يترتب على وصوله الاتفاقي حكم العقل بوجوب الإطاعة وحرمة المعصية، ومع فرض عدم قصور العلم الاجمالي في البيانية يلزم تنجز هذا القسم من الحكم الفعلي به. وفرض دخل العلم التفصيلي في تنجزه وقصور الاجمالي شرعا عن تنجيزه خلف، لان الكلام في العلم الملحوظ على نحو الطريقية لا الموضوعية، ولو جعلناه جز الموضوع لزم دخله في تمامية اقتضاء المقتضي الداعي إلى البعث، فما لم يعلم تفصيلا لم يتحقق الملاك التام الداعي للجعل، وهو أيضا خلف. والحاصل: أنه مع حكمه قدس سره كما هو صريح كلامه بعدم الفرق بين أنحاء الوصول لا وجه لعدم تنجيز العلم الاجمالي، إلا مع فرض دخله في الموضوع وهو خلاف الفرض، ضرورة أن الكلام في منجزية العلم الاجمالي الطريقي كالتفصيلي لا بما أنه جز الموضوع و دخيل في الملاك. الثالث: ما أورده على تعدد مراتب الفعلية في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري وغيره من عدم ارتفاع التنافي بين الحكمين الفعليين بحمل الواقعي على التعليقي والظاهري على التنجيزي، وذلك لان الشدة والضعف في الطبيعة الواحدة 22 ثم إن الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالاجمال كان فعليا من جميع الجهات لوجب عقلا موافقته مطلقا ولو كانت (1) أطرافه غير
لا يرفعان تماثل فردين من طبيعة واحدة، ولا تضاد فردين من طبيعتين متقابلتين كما يظهر لمن أمعن النظر في اجتماع سواد ضعيف مع سواد قوي أو سواد ضعيف مع بياض قوي في موضوع واحد. أقول: أما اشكاله الثاني والثالث فالظاهر متانتهما كما أفاده (قده). وأما الأول فقد يختلج في الذهن عدم خلوه عن الغموض، وذلك لان الغرض من كل تكليف إلزامي وان كان إيجاد الداعي إلى الامتثال، لكن هذا الغرض من آثار الملاك الثابت في المكلف به وتوابعه، و ليس له وجود استقلالي، فان كان ذلك الملاك مهما جدا لم يجز الترخيص، وإلا جاز ذلك، فالمناط في جواز الترخيص وعدمه هو ملاك المكلف به قوة وضعفا، لا الغرض القائم بنفس التكليف، ففي فرض عدم الفعلية من جميع الجهات لا مانع من الترخيص، فتدبر. 23 محصورة، وانما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو: أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم مع كونه فعليا لولاه (1) من سائر الجهات. وبالجملة: لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها
24 في التنجز وعدمه فيما (1) كان المعلوم إجمالا فعليا يبعث (2) المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه كذلك (3) مع (4) ما هو عليه من كثرة أطرافه. والحاصل: أن اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب (5) تفاوتا في ناحية العلم،
25 ولو أوجب (1) تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم في (2) فعلية البعث أو الزجر مع الحصر، وعدمها [) 3 وعدمهما] مع عدمه، فلا يكاد يختلف العلم الاجمالي باختلاف الأطراف قلة وكثرة في التنجيز (4) وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها (5) بذلك، وقد عرفت آنفا (6) أنه لا تفاوت بين التفصيلي والاجمالي في ذلك ما لم يكن تفاوت في
[1] كيف يمكن الركون إلى الاجماع المحصل فضلا عن المنقول في مسألة ذكروا فيها وجوها يحتمل بل يظن استناد المجمعين إليها. نعم لو أفادت تلك الوجوه الوثوق والاطمئنان بصحة فتوى المجمعين فلا بأس بالاعتماد عليها، لكنه ليس لأجل حجية الاجماع بل لأجل هذا الوثوق. 26 طرف المعلوم (1) أيضا [1] تأمل تعرف. وقد انقدح (2) أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع
[1] الظاهر زيادة هذه الكلمة، إذ المدار في التنجيز وعدمه هو الفعلية التامة وعدمها، لا تفصيلية العلم وإجماليته ولا كثرة الأطراف و قلتها، ومن المعلوم ظهور (أيضا) في عدم انحصار مناط التنجيز في فعلية المعلوم فقط بل للعلم دخل فيه أيضا، وهذا خلاف ما صرح به آنفا. 27 حرمة مخالفتها [1] ضرورة أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان
[1] الأولى أن يقال: (مع حرمة المخالفة القطعية) وقد تقدم نظيره. [2] هذا ما التزم به شيخنا الأعظم هنا، وصريحه عدم جواز الترخيص في بعض الأطراف إلا مع جعل وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر بدلا ظاهريا 28 فعليا لوجبت موافقته قطعا، والا (1) لم يحرم مخالفته كذلك أيضا (2).
عن الحرام الواقعي، لان رفع اليد عن الواقع ولو على بعض التقادير بعد العلم به من دون جعل بدل قبيح عند العقل، فلو ورد ما يدل على الاذن في بعض الأطراف تخييرا فلا بد أن يستكشف منه جعل البدل، هذا. ولكن لسان الشيخ وهو تلميذه المحقق الآشتياني (قدهما) نقل عن شيخه الأستاذ أنه اختار في مجلس درسه الشريف جواز ترخيص الشارع في بعض الأطراف من دون جعل بدل، بل نسب إليه التزامه به في بحث الانسداد عند إبطال الاحتياط الكلي وإثبات التبعيض فيه. ونبه صاحب الأوثق على كلام الشيخ في الانسداد أيضا. وكيف كان، فقد قرر المحقق الآشتياني كلام شيخه بما حاصله: (أن اذن الشارع في مخالفة الاحتياط الكلي الذي قد يتفق معه فوت الواقع لا بد أن يكون مشتملا على مصلحة جابرة لمفسدة الوقوع في خلاف الواقع فيما يقع فيه. وأما لزوم جعل البدل فلا، إذ يحكم العقل بلزوم الاحتياط الجزئي بعد ترخيص الشارع في ترك الموافقة القطعية، وليس على الشارع تعيين الطريق لامتثال الأحكام الشرعية، إذ الحاكم في كيفية الإطاعة هو العقل الحاكم بأصل وجوب الطاعة أيضا، وانما على الشارع الامضاء ان لم ير المصلحة في النهي عن بعض الكيفيات أو الاذن في مخالفته. لا يقال: مع استقلال العقل بكون طريق الإطاعة الاحتياط الكلي كيف يجوز للشارع النهي عنه، إذ لازمه اما التناقض في كلام الشارع و اما عدم حجية حكم العقل. 29
فإنه يقال: ان حكم العقل بأصل الإطاعة تنجيزي غير قابل لتصرف الشارع، وأما حكمه في كيفيتها فهو معلق على عدم تعيين مرتبة خاصة منها لمصلحة يراها، وبعد اذنه بكيفية خاصة يحكم العقل بمتابعتها من دون إيجاب جعل البدل على الشارع أصلا). هذا حاصل ما حكاه المحقق الآشتياني عن مجلس درس أستاذه الأعظم. والظاهر أن كلامه المذكور في التوضيح مع الغض عن المناقشة المبنائية التي أوردها المصنف عليه، لا يخلو من شئ، وأن ما حكاه المحقق الآشتياني من إمكان الترخيص في بعض الأطراف بدون كون الطرف الآخر مصداقا جعليا للمأمور به أو المنهي عنه أسد وأمتن، لأنه ان أريد بجعل البدل تنجيز الحكم المعلوم بالاجمال في الطرف الآخر ، ففيه: أنه لا حاجة إليه، بل جعله لغو، بل ممتنع، لتنجيزه بالعلم الاجمالي وعدم ارتفاعه بجعل الترخيص في الطرف الآخر، فجعل البدل لأجل التنجيز يوجب تنجز المنجز، وهو محال، لكونه تحصيلا للحاصل. وان أريد بجعل البدل تنزيل الطرف غير المرخص فيه منزلة الواقع المعلوم إجمالا في الآثار الشرعية، ففيه: أن لازمه ترتب أحكام المعلوم بالاجمال عليه كما هو شأن سائر التنزيلات الشرعية نظير (الطواف بالبيت صلاة) فإذا كان المعلوم بالاجمال خمرا مثلا و شرب الطرف المجعول بدلا عنه لزم ترتيب أحكام الخمر من الحرمة و الحد وعدم جواز شهادته والائتمام به وغير ذلك من أحكام شرب الخمر عليه. وهذا كما ترى مما لم يلتزم به أحد، ولذا صرح شيخنا الأعظم في رابع تنبيهات الشبهة المحصورة بعد جملة من الكلام بعدم ترتيب الآثار الشرعية 30
المترتبة على ذلك الحرام عليه، حيث قال: (فارتكاب أحد المشتبهين لا يوجب حد الخمر على المرتكب بل يجري أصالة عدم موجب الحد ووجوبه). هذا كله مضافا إلى ما أورده على جعل البدل شيخنا المحقق العراقي (قده) من إشكالين: أحدهما: لزوم الدور، والاخر إشكال مثبتية الأصل النافي الجاري في بعض الأطراف أما الدور فتقريبه - على ما في تقريرات بحثه الشريف - هو: أن شمول دليل الأصل النافي للتكليف في هذا الطرف متوقف على كون الطرف الآخر بدلا عن الحرام الواقعي المعلوم، لاشتغال الذمة به قطعا، وجعل البدلية منوط بإطلاق دليل الأصل و شموله لمورد العلم الاجمالي، وهذا هو الدور. وأما إشكال المثبتية، فمحصل تقريبه على ما في التقريرات المذكورة أيضا هو: أن الأصول المرخصة إذا فرض جريانها في بعض الأطراف بلا معارض لا تثبت كون المعلوم إجمالا هو المشتبه الاخر، إذ ليست الأصول العملية النافية كالأمارات النافية للتكليف في طرف في الدلالة الالتزامية على تعين المعلوم إجمالا في الطرف الآخر، وكونه مصداقا جعليا له في مقام تفريغ الذمة، لان غاية ما تقتضيه الأصول النافية انما هي الترخيص في ارتكاب ما تجري فيه من دون دلالتها التزاما على كون المعلوم إجمالا هو الطرف الآخر، وان كان لازم البناء على الحلية في طرف مع العلم الاجمالي بحرمة أحدهما كون الحرام في الطرف الآخر، لكن اعتبار هذا اللازم مبني على حجية الأصل المثبت، وقد عرفت إجمالا عدم دلالة الأصل على ذلك. 31
والظاهر أن هذا الاشكال مقتبس مما أجاب به الشيخ الأعظم عن استكشاف جعل البدل من مثل قوله عليه السلام: كل شئ لك حلال، حيث قال (قده): (قلت: الظاهر من الأخبار المذكورة البناء على حلية محتمل التحريم و الرخصة فيه لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلل. ولو سلم فظاهرها البناء على كون كل مشتبه كذلك، وليس الامر بالبناء في كون أحد المشتبهين هو الخل أمرا بالبناء على كون الاخر هو الخمر، فليس في الروايات من البدلية عين ولا أثر). وكيف كان، فاستكشاف جعل البدل من ترخيص الشارع في بعض الأطراف كما في تقريرات المحقق النائيني (قده) غير ظاهر، بل قد عرفت عدم الحاجة إليه أصلا كما أن ما في تقريرات شيخنا المحقق العراقي (قده) من (أن الاذن في ارتكاب بعض الأطراف بدون ذلك مستلزم للاكتفاء بمشكوك المؤمنية بعد القطع بالاشتغال) لا يخلو أيضا عن غموض، هذا. وقد التزم بعض المدققين بامتناع جعل البدل، لأنه لا يخرج من أحد تصويرين لا يخلو شئ منهما عن المحذور، قال قدس سره: (وأما جعل البدل، فتارة بمعنى اشتمال غير الواجب الواقعي في حال الجهل على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواجب الواقعي، فالمأتي به اما هو الواقع أو ما يتدارك به مصلحة الواقع، ولاشتمال غير الواجب الواقعي على مصلحة يتدارك مصلحة الواقع يخير العقل بين إتيانه وإتيان الواقع، وليس ترك الواقع مع فعل ما يستوفي به الغرض منه قبيحا عقلا. ولا منافاة بين العلم الاجمالي بوجوب تعييني واحد واقعا 32
والعلم بوجوبين تخييريين شرعا وعقلا بنحو الواجبين المتزاحمين ظاهرا، فلم يسقط الوجوب الواقعي عن الفعلية ليكون خلفا أو يكون الترخيص التخييري منافيا، بل يسقط بحكم العقل عن التعيينية، لثبوت البدل له، ومثله لا ينافيه الترخيص إلى بدل. وأخرى بمعنى قناعة الشارع في مقام إطاعة أحكامه، واقتصاره على الموافقة الاحتمالية، لما في تحصيل الموافقة القطعية من المفسدة المنافية لما تعلق به غرض الشارع من التسهيل على المكلف. لكنك قد عرفت أن حرمة المخالفة القطعية لبقاء عقاب الواقع، ولولاه لم يكن وجه لحرمة المخالفة القطعية، مع أن عقاب الواقع على حاله وارتفاعه على تقدير المصادفة متنافيان، بداهة أن ضم غير الواقع إلى الواقع لا يوجب ترتب العقاب على مخالفة الواقع. وقد مر نظيره مرارا في مسألة دليل الانسداد. وليس إيجاب الموافقة القطعية مولويا لمصلحة حتى إذا كان تحصيلها ذا مفسدة غالبة يسقط خصوص وجوب الموافقة القطعية، بل ليس هناك على أي حال غرض مولوي، ولا لزوم شرعي، بل ولا عقلي، فلا محالة لا بد من وقوع المزاحمة بين مفسدة الموافقة القطعية والمصلحة المنبعث منها الحكم الواقعي، ومع مغلوبية المصلحة وسقوطها عن التأثير لا تكليف فعلي حتى يحرم مخالفته القطعية. ومنه تعرف أن الاذن في ترك الموافقة القطعية لا يفيد اشتمال غير الواقع على مصلحة بدلية، الا إذا رجع إلى الامر بإتيان الفرد الاخر، و الا فمجرد الترخيص يكشف عن مغلوبية المصلحة الداعية إلى الايجاب الواقعي، فيزول 33
العلم الاجمالي بالوجوب الفعلي). ومحصل اشكاله على التصوير الأول لجعل البدل هو: أن الطرف الفاقد للملاك لا معنى لتدارك الواقع به، إذ ليس الترخيص في ترك الموافقة القطعية موجبا لاشتمال غير الواقع على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع، فلازمه الاذن في مخالفة الواقع المنجز. وعلى التصوير الثاني أمران: أحدهما: استلزام الاذن لارتفاع عقاب الواقع، والمفروض بقاؤه على حاله، وهما متنافيان. والاخر: أن الترخيص في بعض الأطراف مستلزم لجواز المخالفة القطعية، إذ ليس في وجوب الموافقة مصلحة زائدة على ما في نفس الحكم الواقعي، والاذن في تركها لا بد أن يستند إلى مصلحة التسهيل الغالبة على مصلحة الواقع، فيسقط الحكم المترتب عليها عن الفعلية، ومعه يجوز مخالفته القطعية أيضا، إذ القبيح هو مخالفة الحكم الفعلي لا غيره. ومن المعلوم أن القائل بجعل البدل لا يمكنه الالتزام بسقوط الواقع عن الفعلية حتى يجوز مخالفته القطعية، وهذا اللازم الباطل أعني سقوط الواقع عن الفعلية يكشف عن بطلان جعل البدل. ولكن الظاهر عدم خلو كلامه زيد في علو مقامه عن الاشكال. أما الوجه الأول، فيرد عليه أولا: أن تنظير المقام بالخبرين المتعارضين أولى من قياسه بالواجبين المتزاحمين، إذ المقصود أن البدل والمبدل واجبان تخييريان ظاهرا، وهذا يناسب تنظيره بما له الحجية الظاهرية، حيث إن المجعول الواقعي واحد، والاخر لا جعل 34
له، ولكن حكم الشارع بالتخيير الظاهري بينهما انقيادا، وهذا بخلاف التخيير بين المتزاحمين، حيث إنه فيهما واقعي لاشتمال كل منهما على الملاك. وثانيا: أنه مع العلم بكون الحكم الواقعي تعيينيا لا يمكن إنشاء وجوبين تخييريين ظاهريين، لعدم انحفاظ رتبة الجعل، لاعتبار احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقعي، ومع العلم بالمخالفة لا موضوع لجعل الحكم الظاهري. وعليه فأصل ما قرره لجعل البدل لا يسلم من الاشكال. وأما إيراده عليه بعدم قيام غير الواقع مقام الواقع، فسيأتي. وأما المناقشة فيه - بأن وفاء مصلحة البدل بتمام مصلحة المبدل حال الجهل يستلزم عدم صحة جعل الوجوب التعييني للمبدل مطلقا، و لغوية جعله، إذ مقتضى التعيينية عدم استيفاء الملاك بشئ آخر، بل اللازم كون التخيير واقعيا كما في خصال الكفارة، لوفاء كل واحدة منها بغرض الشارع القائم بالأخرى - فيمكن الجواب عنها: بأنه بناء على صحة جعل البدل يستكشف تقيد تعيينية الواجب الواقعي بحال العلم بها، فإذا كانت المصلحة قائمة بالجمعة مثلا صح أن يقال: يتخير المكلف بين الظهر والجمعة إذا لم يعلم بوجوبها تعيينا، ولا إشكال في صحة جعل العلم بمرتبة موضوعا للحكم بمرتبة أخرى، وهذا تخيير ظاهري في طول الوجوب الواقعي، فتدبر. وأما الوجه الثاني وهو قناعة الشارع بالموافقة الاحتمالية، فما وجهه عليه من المحذور يمكن الجواب عنه نقضا بما اختاره (قده) في قاعدتي الفراغ والتجاوز من أن مفادهما الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية. وحلا أولا بعدم اقتضاء الترخيص في بعض الأطراف لسقوط الحكم الواقعي عن الفعلية حتى تجوز مخالفته القطعية، 35
إذ لو كان المقام نظير باب الاجتماع في كون الحركة الشخصية مأمورا بها ومنهيا عنها توجه حديث الكسر والانكسار بين مصلحة الصلاة ومفسدة الغصب ورعاية أقوى الملاكين بناء على كونه من باب التزاحم لا التعارض، ولكن مصلحة التسهيل هنا غير مزاحمة لمفسدة الخمر الواقعي المعلوم بالاجمال، لتعدد الرتبة، إذ الأولى قائمة بنفس الترخيص نظير المصلحة في نفس سلوك الطريق الخاص غير المؤدي إلى الواقع، لا في ذي الطريق حتى تتحقق المنافاة للملاك الواقعي ويصير مغلوبا بها، ضرورة أن التمانع بين الحكم الواقعي والظاهري اما أن يكون في المبدأ واما في المنتهى كما اختاره في الجمع بينهما، ومع قيام الأول بالمجعول والثاني بنفس الجعل يتعدد الموضوع ويرتفع التنافي نعم الحلية في مورد الاضطرار إلى الخمر ليست ظاهرية لكون الاضطرار من قيود الواقع. والحاصل: أن دعوى استلزام القناعة في مقام الامتثال لغلبة مصلحة التسهيل على ملاك الحكم الواقعي عهدتها على مدعيها، لعدم مصادمة مناط الحكم الظاهري للواقعي، والا لاختل الجمع بينهما من ناحية الملاك، وهذا مناف لما اختاره في الجمع بينهما. وثانيا: بعد تسليم المزاحمة بينهما، بأن اللازم رفع اليد عن وجوب الموافقة القطعية، لا سقوط أصل الحكم الواقعي عن الفعلية حتى تجوز مخالفته القطعية، إذ الضرورات تتقدر بقدرها، فلا بد من رفع اليد عن المقدار المبتلى بمزاحمة مصلحة التسهيل وهو الاحتياط التام، ولا وجه لارتفاع فعلية الحكم رأسا، إذ القائل بجعل البدل يدعي أن الشارع بملاحظة ملاك الترخيص يأذن في مخالفة الواقع مع تداركه بالاجتناب عن الطرف الآخر، يعني إبقاء الواقع بنفسه أو بما يتدارك 36 ومنه (1) ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا اما (2) من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه،
به لئلا يبتلي المكلف بمخالفة المعلوم بالاجمال بالمرة، ولا مانع من تنزيل غير الواقع منزلة الواقع إذا كان فيه مصلحة يتدارك بها مفسدة الخمر الواقعي. نعم الترخيص في ترك الواقع لا إلى بدل - لكونه ملقيا في مخالفة الواقع بدون تداركه بشئ - غير معقول، وأما مع فرض تداركه، فلا مانع منه. هذا ما يتعلق بكلام المحقق الأصفهاني (قده) في تعليقته الأنيقة. وقد اتضح من مجموع ما تقدم أنه لا وجه للالتزام بجعل البدل أصلا، فلاحظ وتأمل. ومنه يظهر الاشكال في كلام القائل بجريان الأصل تخييرا في بعض الأطراف وان التزم به بعض الأعاظم (قده) في الدرر، إذ مع كون المعلوم حكما تعيينيا لا ينحفظ معه رتبة جعل الحكم الظاهري. و ليس الاشكال فيه ما أفيد من عدم الدليل عليه لا من ناحية الكاشف و لا المنكشف، فإنه قد ناقش فيه شيخنا المحقق العراقي، فراجع التقريرات. 37 أو (1) من جهة الاضطرار إلى بعضها معينا أو مرددا، أو (2) من
38 جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا الشهر كأيام حيض
39 المستحاضة مثلا لما (1) وجب موافقته، بل جاز مخالفته (2)، وأنه (3) لو علم فعليته - ولو كان (4) بين أطراف تدريجية - لكان منجزا
[1] لا يخفى أنه (قده) ذكر أمثلة ثلاثة وحكم بالاحتياط في اثنين منها و هما العلم الاجمالي بوقوع معاملة ربوية في اليوم أو الشهر، و بنذر ترك الوطء 40 ووجب موافقته، فان التدرج لا يمنع عن الفعلية، ضرورة أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي كالحج في الموسم للمستطيع، فافهم (1).
أو الحلف عليه في ليلة خاصة اشتبهت بين الليلتين أو أزيد. وبالبراءة في واحد منها وهو مثال المرأة المستمرة الدم، لكن لا لما ذكره المصنف بل لوجه آخر سيأتي بيانه. وينبغي قبل التعرض للاستدلال تحرير محل النزاع، فنقول: ان المبحوث عنه هو الفعلان الزمانيان المتدرجان بحسب الوجود بمعنى عدم إمكان وقوع كليهما في الحال، بل يتقيد أحدهما بزمان متأخر أو زماني كذلك. وأما الموجودان بالفعل مع عجز المكلف عن الجمع بينهما دفعة كشرب مائي الإناءين فهما خارجان 41
عن البحث، إذ لا ريب في منجزية العلم الاجمالي حينئذ، للعلم بتوجه الخطاب المنجز إلى المكلف. كما أن مفروض الكلام هو ما إذا لم تكن الأطراف منجزة بمنجز آخر. إذا عرفت هذا، فاعلم: أن الأقوال في مسألة تنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات ثلاثة: الأول: عدم التنجيز مطلقا، فلا مانع من جريان الأصول في الأطراف، لوجود المقتضي - وهو الشك - لجريان الأصل في الطرف الموجود فعلا، وعدم مانع منه، إذ في ظرف جريانه لا يعارضه الأصل الجاري في الطرف المعدوم اللاحق، لإناطة جريانه بوجود موضوعه، وبعد وجوده يجري الأصل فيه بلا معارض، لانعدام كل منهما في ظرف وجود الاخر، وعليه فالخطاب التنجيزي بالحرام المردد بين الموجود في الحال والمستقبل غير موجه إلى المكلف، لفقدان شرطه وهو الابتلاء بالمتعلق، فيندرج كل واحد من الأطراف في ضابط الشك في التكليف لا المكلف به. الثاني: التنجيز مطلقا، وعدم كون التدرج مانعا عن تأثير العلم الاجمالي فيما كان المعلوم تكليفا فعليا، فان المدار في المنجزية هو العلم بالتكليف الفعلي سواء كانت الأطراف دفعية أم تدريجية. الثالث: التفصيل في التدريجيات بالتنجيز فيما إذا لم يكن للزمان دخل موضوعي في الحكم كحرمة الربا والكذب والغيبة ونحوها، و عدمه فيما إذا كان للزمان دخل في الملاك والخطاب كالحيض المردد بين أيام الشهر، فان الاحكام الالزامية المترتبة عليه لم تكن فعلية قبل حلول الزمان الخاص، إذ ليس مجرد العلم بها علما بتكليف 42
بالغ مرتبة البعث والزجر. وكيف كان، ففصل شيخنا الأعظم بين الأمثلة الثلاثة وحكم في مثال المرأة المضطربة أو الناسية لوقتها بعدم التنجيز والرجوع إلى استصحاب الطهر، لعدم الابتلاء دفعة، قال (قده): (فان تنجز تكليف الزوج بترك وطي الحائض قبل زمان حيضها ممنوع، فان قول الشارع: - فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حق يطهرن - ظاهر في وجوب الكف عند الابتلاء بالحائض، إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء، فلا يطلب بهذا الخطاب) وحكم في المثالين الآخرين بالاحتياط. لكن جعل الفارق الابتلاء وعدمه مشكل، إذ لو أريد عدم الابتلاء بالمرة، وصيرورة المكلف أجنبيا عن المتعلق بالكلية لم يتحقق هذا المعنى في المرأة الكذائية، لوضوح ابتلاء الزوج بها في بعض أيام الشهر. وان أريد عدم الابتلاء الفعلي وان ابتلي في المستقبل لم يكن فرق بين المثال وبين المعاملة الربوية التي يعلم بابتلائه بها في يومه أو شهره، مع عدم علمه بأنها أول معاملاته، فيلزم الحكم بعدم الحرمة. وكذا في مثال النذر. وعليه فلا وجه لجعل المناط في جواز المخالفة القطعية عدم الابتلاء الدفعي بتمام الأطراف. مضافا إلى أن التفرقة بين مثال الحيض ونذر فعل في زمان خاص مشكلة أيضا، حيث إن للزمان في كليهما دخلا موضوعيا، لفرض تقيد المنذور بزمان خاص في صيغة النذر، فيكون كالحيض في دخل الزمان في أحكامه. وعليه فليس الزمان المستقبل ظرفا محضا للامتثال كما هو الحال في الربا ونحوه. 43
نعم يتجه ذلك في النذر المطلق كصوم يوم وصلاة ركعتين، لصيرورة وجوب الوفاء بالنذر حينئذ فعليا بمجرد انعقاد النذر، فالزمان يكون ظرفا للامتثال لا قيدا للمنذور، لا في مثل الحلف على صوم يوم معين. وقد وجه بعض المدققين كلام شيخنا الأعظم (قدهما) بقوله: (فعليه يكون مثال الحيض عنده من التكليف المشروط، بخلاف مثالي الحلف والمعاملة الربوية، فإنه ليس الزمان فيهما شرطا لا للتكليف و لا للمكلف به، فالإرادة فيهما فعلية لا على تقدير، فيصح على هذا المبنى دعوى الشيخ الأجل (قده) جريان البراءة في مثال الحيض، لدوران الامر بين المطلق والمشروط الذي لا باعثية له بالفعل، و جريان الاحتياط في مثالي الحلف والمعاملة الربوية، لان التكليف في كل من الطرفين لا قيد له وجوبا وواجبا، فالحكم فعلي لا على تقدير). لكن هذا التوجيه لا يلتئم مع ما اختاره الشيخ الأعظم في الواجب المشروط من فعلية الوجوب ورجوع القيود طرا إلى الواجب، وإنكاره للوجوب المشروط المشهوري، فالإرادة فعلية فيه لا على تقدير، بل المراد فعلي على تقدير، لفرض رجوع القيد إلى المادة، فالواجب المشروط عند الشيخ هو المعلق الفصولي كما تقدم تفصيله في الجز الثاني، فالإرادة فعلية وفاعليتها منوطة بأمر متأخر، وحيث كانت الإرادة فعلية مطلقا، فلا فرق بين كون متعلقها الامر الدفعي و التدريجي، فالمكلف عالم بالإرادة الفعلية، ولكن ظرف العلم دائر بين الموجود الحالي حتى تكون فاعلية الإرادة أيضا في الحال، والموجود الاستقبالي حتى تكون فاعليتها في الاستقبال، لانفكاك فاعلية الإرادة عن فعليتها حينئذ. والحاصل: أن حمل كلام الشيخ على الوجوب المشروط المشهوري - ولذا 44
التزم بالرجوع إلى الأصول النافية للتكليف من استصحاب الطهر و أصالة الإباحة والبرأة - ينافي ما نسب إليه من إنكاره الواجب المشروط والتزامه برجوع القيود لبا إلى المادة وفعلية الوجوب و الحرمة. نعم يمكن ابتناء كلام الشيخ الأعظم (قده) على ما ينسب إليه من عدم كون مقصوده ما هو ظاهر عبارة التقريرات، بل يلتزم هو أيضا باشتراط نفس الوجوب لكن لا من جهة تقييد الهيئة الذي يلتزم به المشهور، بل من باب المحمول المنتسب، فإنه عليه يتم التوجيه المذكور، وقد تعرضنا له في الجز الثاني من هذا الشرح، فلاحظ. وأما التسوية بين مثال النذر والربا بعدم دخل الليلة المستقبلة (لا في مصلحة وجوب الوفاء بالحلف ولا في مصلحة الوفاء، بل حيث إن الحلف تعلق بتركه في الليلة المستقبلة فلذا لا ينطبق الوفاء الواجب الا على ترك الوطء في الليلة المستقبلة) فقد عرفت المناقشة فيها، لعدم كون الزمان ظرفا محضا فيه، ففرق بين النذر والمعاملة الربوية. والحق في المقام ما أفاده سيدنا الأستاذ الشاهرودي في مجلس الدرس وفاقا لشيخه المحقق النائيني (قدهما) من عدم جواز الرجوع إلى الأصول النافية للتكليف أعني استصحاب الطهر من أول الشهر إلى أن يبقى مقدار أقل الحيض، وفيه يرجع إلى أصالة الإباحة، وذلك لحكم العقل به، لفرض تمامية الملاك ولزوم حفظ غرض المولى، نظير المقدمات المفوتة، فان المسير إلى الميقات ليس الا بحكم العقل، لتوقف استيفاء ملاك الحج في الموسم على قطع المسافة وغيره قبل الموسم، فمن تمامية الملاك يستكشف خطاب بحفظه. 45
والحاصل: أن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما يوجب فوات مطلوب المولى مع علم المكلف بأن للمولى حكما إلزاميا ذا مصلحة تامة، ففي باب المقدمات المفوتة يحكم العقل بلزوم حفظ القدرة على ذي المقدمة. وفي المقام يستقل بلزوم ترك الاقتحام في كل واحد من الأطراف مقدمة لحصول غرض المولى، لأنه يحتمل أن يكون ظرف وقوع الوطء المحرم في كل من أول الشهر وآخره هو ظرف تحقق الملاك والخطاب وعليه فلا فرق في منجزية العلم الاجمالي في الأطراف التدريجية بين الأمثلة المتقدمة التي يكون الزمان تارة ظرفا محضا لها كما في المعاملة الربوية، وأخرى دخيلا في الملاك و الخطاب كما في مثال الحيض المردد، بضميمة حكم العقل بقبح تفويت مراد المولى والالقاء في المفسدة. لكن الذي يسهل الخطب أن مثال الحيض أجنبي عن هذا البحث و ليس من أمثلته كما قيل، ضرورة أن الحائض بأقسامها من ذات العادة و المبتدئة والمضطربة والناسية والمستمرة الدم قد اتضحت أحكامها في الشريعة المقدسة. ولو سلم اندراجه في هذا البحث فالحق فيه ما تقدم آنفا. ومما ذكرناه ظهر الغموض في حكم شيخنا الأعظم بالرجوع إلى استصحاب الطهر ثم إلى أصالة الإباحة، فان عدوله عنه إليها في الأيام الأخيرة من الشهر وان كان متينا في نفسه، للعلم بانتقاض للحالة السابقة بعد تحقق الان الأول من ثلاثة أيام في آخر الشهر، فتتعارض الاستصحابات، فيرجع إلى الأصل المحكوم وهو أصالة الإباحة. لكن المجعول وهو الترخيص حيث كان موجبا لتفويت الغرض الملزم كما عرفت فلا يمكن المصير إليه. وتوجيه جريان الاستصحاب بما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) 46
(من أن الأصول النافية للتكليف تجري في الأطراف بلا تعارض، فان الحيض لو كان في آخر الشهر لم تكن الاحكام المختصة به فعلية من أوله، فأصالة عدم الحيض في آخره لا تجري من أول الشهر حتى تعارض بأصالة عدم الحيض في أوله، ولم يجتمع الأصلان في الزمان حتى يتعارضا، لان الحيض في آخر الشهر لا يمكن الابتلاء به من أوله، وكذا العكس. والعلم بالمخالفة الحاصل بعد انقضاء الشهر لا يمنع من جريان الأصول، إذ لا دليل على حرمة حصول العلم بالمخالفة للواقع) أجنبي عن مقصود الشيخ، لتصريحه بأن الجاري في آخر الشهر هو أصالة الإباحة، وأن الاستصحاب لا يجري في تمام الأيام لوجود المانع منه وهو المعارضة، لما عرفت من علم المرأة - بعد انقضاء آن من الثلاثة الأخيرة - بعروض حالتين وهما الطهر و الحيض عليها في هذا الشهر، وجهلها بما تقدم منهما وما تأخر، فلا مجال للاستصحاب. نعم لا بأس بتوجيه العلم بالمخالفة للخطاب بما أفاده من عدم قبح العلم بتحقق المخالفة لخطاب لم يتنجز في ظرفه سواء كان مستندا إلى الاستصحاب النافي فقط أم إليه وإلى أصالة الإباحة. الا أن المفروض عدم تعرض الشيخ لحال العلم بالمخالفة الحاصل بعد انقضاء الشهر حتى يوجه بعدم تعارض الاستصحابات، فتأمل فيما ذكرناه حقه. وأما مثال المعاملة الربوية فقد حكم الشيخ فيه أولا بالاحتياط، وعلى تقدير عدم منجزية العلم الاجمالي في التدريجيات اختار ثانيا الرجوع إلى الأصول العملية بعد عدم حجية الأصول اللفظية في المقام، لما سيأتي، قال (قده): (وفي 47
المثال الثاني إلى أصالة الإباحة والفساد، فيحكم في كل معاملة يشك في كونها ربوية بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها وعدم ترتب الأثر عليها، لان فساد الربا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي). والحق ما أفاده المصنف في الحاشية والفوائد من الحكم بفساد كل معاملة يحتمل كونها طرفا للعلم الاجمالي من جهة الشبهة المصداقية، لان حرمة الربا فعلية والزمان ظرف محض فيها من دون دخل له فيها ملاكا وخطابا. ومع العلم بفعلية الحكم لا مناص من الاحتياط. وعليه فما أفاده الشيخ من مرجعية أصالتي الحل تكليفا والفساد وضعا لا يخلو من شئ، فان الرجوع إلى أصالة الحل فيما شك في كونه ربويا وان كان تاما في نفسه، الا أنها محكومة باستصحاب العدم الأزلي في العقد المشكوك كونه ربويا عند من يرى اعتبار الاستصحاب في الاعدام الأزلية كما ينسب إلى شيخنا الأعظم قدس سره، ومعه كما لا مجال لأصالة الفساد المحكمة في العقود، كذلك لا مجال لقاعدة الحل، لفرض أن أصالة عدم كونه ربويا أصل موضوعي لا يبقي معه موضوع للأصول الحكمية. وما أفاده المحقق الآشتياني (قده) في الشرح من (جريان أصالتي الحل والفساد بأن صحة العقد وضعا تترتب على عدم كونه ربويا، و بجريان أصالة الحل في نفس العقد لا يثبت ذلك فتجري أصالة لفساد) لا يخلو من شئ، لما عرفت من إمكان إحراز العنوان تعبدا باستصحاب عدم كونه ربويا الحاكم على كل من الأصلين المذكورين. 48
ثم إن شيخنا الأعظم (قده) جعل المانع من التمسك بعموم مثل (أوفوا بالعقود) لصحة كل معاملة يشك في كونها ربوية أمرين: أحدهما: أنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية الذي لا يلتزم به. و ثانيهما: إجمال العام، للعلم الاجمالي بالمخصص الموجب لسقوط أصالة العموم عن كونها كاشفة عن المراد الجدي ولو لم يكن هذا العلم منجزا، ولذا تجري الأصول العملية في الأطراف. فالاشكال عليه بما في تقرير المحقق النائيني (قده) من (عدم انحصار المحذور في عروض الاجمال على العام، بل في المقام مانع آخر و هو كونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية سواء قلنا بمانعية العلم الاجمالي أم لم نقل) كأنه نشأ من عدم ملاحظة كلام الشيخ (قده) بتمامه. وقد أورد على جريان أصالتي الإباحة والفساد وإثبات حكومة الأولى على الثانية في التقرير المذكور بما لفظه: (وبالجملة: لا إشكال في أن المنهي عنه في المعاملة الربوية انما هو المعنى الاسم المصدري باعتبار صدوره عن العاقد بالعقد اللفظي أو بغيره، وحرمة المعاملة على هذا الوجه تستتبع الفساد لا محالة، لخروج المسبب عن حيز سلطنة المالك بالمنع الشرعي كما أوضحناه في محله. وكما أن حرمة المعاملة على هذا الوجه تستتبع الفساد، كذلك حلية المعاملة على هذا الوجه تستتبع الصحة، وعلى ذلك يبتني جواز التمسك بقوله تعالى أحل الله البيع لنفوذه وصحته حتى لو كان المراد من الحلية الحلية التكليفية كما استظهره الشيخ (قده) في كتاب البيع، لان حلية البيع على الوجه المذكور تلازم الصحة والنفوذ). لكن الظاهر عدم توجه هذا الاشكال أيضا على الشيخ، فان الأحكام الوضعية حتى الصحة والفساد وان كانت منتزعة من الأحكام التكليفية كما نسب إليه، لكن 49
صحة البيع انما تنتزع من حلية عقد البيع تكليفا، وصريحه في البيع في الاستدلال بالآية الشريفة على صحة المعاطاة وترتب الملك عليها حلية التصرفات لا نفس العقد، قال (قده): (ويدل عليه أيضا عموم قوله تعالى: أحل الله البيع، حيث إنه يدل على حلية جميع التصرفات المترتبة على البيع. إلخ) كما أن كلامه في ذيل تقسيم المكاسب إلى الأحكام الخمسة يشهد بعدم الملازمة بين الحرمة و الفساد، حيث قال: (ومعنى حرمة الاكتساب حرمة النقل والانتقال بقصد ترتب الأثر المحرم، وأما حرمة أكل المال في مقابلها فهو متفرع على فساد البيع، لأنه مال الغير وقع في يده بلا سبب شرعي و ان قلنا بعدم التحريم، لان ظاهر أدلة تحريم بيع مثل الخمر منصرف إلى ما لو أراد ترتيب الآثار المحرمة، أما لو قصد الأثر المحلل فلا دليل على تحريم المعاملة الا من حيث التشريع) مضافا إلى تصريحه في المقام بعدم تبعية فساد المعاملة الربوية لحرمتها تكليفا، و لذا تفسد في حق من لا يخاطب بشئ كالقاصر بالنسيان و الصبي المميز. ومع هذه العبارات الظاهرة في عدم التلازم بين التكليف والوضع لا تصح نسبة الملازمة بين الحلية والصحة إليه (قده) من مجرد استظهار الحلية التكليفية من الآية. نعم لو ادعى دلالة الآية على حلية عقد البيع توجه القول بانتزاع الصحة منها والملازمة بينهما. وعليه فالاشكال المذكور غير وارد على كلام الشيخ، والتفكيك بين الأصلين وهما أصالتا الحل والصحة في محله. الا أن يقال: ان الحلية وان تعلقت بالتصرفات، لكنها تدل بالملازمة على حلية نفس العقد أيضا وصحته، إذ المفروض ترتب التصرفات عليه، فكيف تحل 50
هذه مع عدم حلية سببها وهو الانشاء بداعي تبدل الإضافة وحصول النقل والانتقال، فلا بد أن يكون التسبب بالعقد اللفظي أو الفعلي ممضى شرعا وحلالا تكليفا أيضا، وحينئذ تتجه دعوى التلازم بين حلية عقد البيع المستكشف من حلية التصرفات وصحته، فلو جرت أصالة الحل في العقد المشكوك كونه ربويا ترتب عليه صحة البيع، و لا مجال حينئذ لأصالة الفساد، فتأمل فيما ذكرناه. 51 تنبيهات (1) الأول: أن الاضطرار (2) كما يكون مانعا عن العلم بفعلية [1]
[1] الصواب أن يقال: (مانعا عن العلم بنفس التكليف) بدلا عن العلم بفعليته، لتصريحه بكون الاضطرار من حدود التكليف، لا أنه مانع عن فعليته مع 52 التكليف (1) لو كان إلى واحد معين
فرض وجوده في نفس الامر كما نبهنا عليه في بعض التعاليق المتقدمة. وعبارة شيخنا الأعظم أيضا غير خالية عن المسامحة، لتعبيره بالتنجز، فلاحظ. 53 كذلك (1) يكون مانعا لو كان إلى غير معين، ضرورة (2) أنه (3) مطلقا موجب لجواز ارتكاب (4) أحد الأطراف أو تركه (5) تعيينا أو تخييرا (6)
58 وهو (1) ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا (2). وكذلك لا فرق (3) بين أن يكون الاضطرار كذلك (4) سابقا على حدوث العلم أو لا حقا (5)، وذلك (6) لان التكليف (×) المعلوم بينها
(×) لا يخفى أن ذلك انما يتم فيما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه. و أما لو كان إلى أحدهما المعين، فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجز، لعدم منعه عن العلم بفعلية التكليف المعلوم إجمالا المردد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر ، ضرورة عدم ما يوجب عدم فعلية مثل هذا المعلوم أصلا، و عروض الاضطرار انما يمنع عن فعلية التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه، لا عن فعلية المعلوم بالاجمال المردد بين التكليف المحدود في طرف المعروض والمطلق في الاخر بعد العروض. وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فإنه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقا، فافهم وتأمل. 59 من أول الامر (1) كان محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان (2) التكليف به معلوما،
60 لاحتمال (1) أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين، أو يكون (2) هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين. لا يقال (3): الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس الا كفقد
61 بعضها (1) فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان، كذلك لا ينبغي الاشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار، فيجب الاجتناب عن الباقي (2) أو ارتكابه (3) خروجا (4) عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه. فإنه يقال (5): حيث إن فقد
62 المكلف به (1) ليس من حدود التكليف به وقيوده كان (2) التكليف المتعلق به مطلقا (3)، فإذا اشتغلت الذمة به كان قضيته الاشتغال به يقينا
63 الفراغ عنه كذلك (1)، وهذا (2) بخلاف الاضطرار إلى تركه [1] فإنه (3) من حدود التكليف به وقيوده (4)، ولا يكون (5) الاشتغال به من الأول إلا مقيدا بعدم عروضه، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به (6) إلا إلى هذا الحد، فلا يجب رعايته فيما بعده (7)، ولا يكون (8) [تكون] الا
[1] الأولى إضافة (أو ارتكابه) إليه، إذ الاضطرار إلى الترك انما هو في الشبهة الوجوبية دون التحريمية، فلا بد من عطف (أو ارتكابه) على (تركه) حتى يعم كلا من الشبهة الوجوبية والتحريمية، حيث إن الاضطرار في الشبهة التحريمية يكون إلى ارتكاب بعض أطرافها لا إلى تركه. 64 من باب الاحتياط في الشبهة البدوية، فافهم وتأمل، فإنه دقيق جدا. [1]
[1] وقد تحصل: أن المنجز حيث إنه غير موجود بقاء لانتفائه بالاضطرار، فلا مانع من جريان الأصل المرخص في غير المضطر إليه من الأطراف سواء قلنا بعلية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية كما هو مختاره في المتن، أم باقتضائه له كما هو ظاهر بعض كلمات الشيخ الأعظم (قده). أما على مسلك العلية فلإناطة التنجيز ببقاء العلم، فإنه وان كان طريقا إلى الواقع ومرآة لمتعلقه، الا أنه موضوع لحكم العقل بالتنجيز، فالعلم الاجمالي ما دام موجودا يكون محكوما عقلا بالتنجيز وموضوعا لحكمه بوجوب الإطاعة، ومع ارتفاعه ترتفع منجزيته ووجوب إطاعته أيضا، لارتفاع موضوعه كما هو مقتضى تبعية كل حكم لموضوعه. وأما على مسلك الاقتضاء، فلدوران منجزيته مدار تعارض الأصول الجارية في الأطراف وتساقطها به، ومن المعلوم أن جريانها فرع تحقق موضوعها وهو الأطراف، فمع وجودها تجري الأصول و تتساقط بالتعارض بمعنى قصور أدلة اعتبارها عن شمولها لهذا الحال. وأما بعد خروج بعضها عن الابتلاء أو طروء الاضطرار إلى ارتكابه أو فقده، فلا موضوع لاحد الأصلين، فيجري الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر بلا معارض، وعليه يتجه ما أفاده في المتن من قوله: (فلا يجب رعايته فيما بعده). وفي كفاية حدوث العلم الاجمالي آنا ما للتنجيز أبدا حتى تتعارض الأصول 65
وتتساقط والساقط لا يعود في الطرف الموجود ولو مع انعدام غيره من الأطراف، وعدمها، لكون التعارض متقوما بوجود الأصل المعارض المنوط ذلك بتحقق الموضوع في كل آن، تأمل. ومع اعتبار بقاء العلم فهل المرتفع بالاضطرار هنا هو نفس العلم الاجمالي أم المعلوم مع بقاء العلم؟ تأمل آخر، ولعل هذا صار منشأ لاضطراب نظر المصنف واختلاف آرائه في المسألة، فإنه في المتن والفوائد اختار عدم التنجيز مطلقا، وفي الهامش عدل عنه إلى ما أفاده الشيخ (قده) من التنجيز في الاضطرار إلى المعين إذا طرأ بعد العلم الاجمالي. ويمكن أن يكون عدم تعرضه لبيان شئ في حاشية الرسائل حول تفصيلي الشيخ دليلا على تقريره واختياره لهما وان ناقش في حكم الشيخ - بوجوب الاجتناب عن غير المضطر إليه في الاضطرار إلى غير المعين لكونه بدلا عن الحرام الواقعي - بأنه انما يصح في الاضطرار غير البالغ حد الالجاء، وإلا فالاكتفاء بالموافقة الاحتمالية انما هو بحكم العقل لا الشرع حتى يكون أمره بيده. وكيف كان، فالتحقيق منجزية العلم الاجمالي في الاضطرار إلى المعين إذا كان متأخرا عن العلم، اما لقاعدة الاشتغال كما يستفاد من رسائل شيخنا الأعظم، فالعلم ساقط ذاتا وباق أثرا، واما لدوران المعلوم بين المحدود بالاضطرار والمطلق كما في الهامش، واما لمنجزية العلم الاجمالي في التدريجيات كما في تقرير شيخنا المحقق العراقي (قده) حيث قال: (للعلم الاجمالي التدريجي بالتكليف في الطرف المضطر إليه قبل طروء الاضطرار أو في الطرف الآخر بقاء حال طروه، وهو كاف في المنجزية.). هذا ما أفاده هنا وأحال بيانه إلى ما ذكره (قده) في بحث الانحلال، ولا بد 66
لفهم مقصوده من بيان كلامه هناك، فنقول: قال مقرر بحثه الشريف في توضيح العلم الاجمالي التدريجي ما لفظه: (ان العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الطرفين تبعا لانحلال التكليف المعلوم بحسب الآنات إلى تكليف متعددة ينحل إلى علوم متعددة بعضها دفعي كالعلم بالتكليف المردد بين الطرفين في كل من آنات الأزمنة كالصبح و الزوال في المثال المتقدم، وهو ما لو علم إجمالا أول الصبح بنجاسة أحد الكأسين، ثم علم تفصيلا في أول الزوال بنجاسة أحدهما المعين. وبعضها تدريجي وهو العلم بحدوث التكليف في طرف في الصبح أو بقائه في الطرف الآخر في الزوال مثلا، والذي يسقط عن التأثير حين وجود العلم التفصيلي انما هو العلم الاجمالي الدفعي. وأما الثاني وهو العلم الاجمالي التدريجي فيبقى على تأثيره بعد عدم صلاحية العلم التفصيلي اللاحق للتأثير في تنجيز المعلوم السابق عن نفسه، حيث يحكم العقل في مثله بالاشتغال بالمردد بينهما. و بمثل هذا البيان نقول بلزوم مراعاة العلم الاجمالي في صورة الاضطرار الطاري بعد العلم، وكذا تلف بعض الأطراف أو خروجه عن الابتلاء بعد العلم. إلخ). أقول: لعل هذا أمتن الوجوه في لزوم الاحتياط في الباقي، إذ المفروض وجود العلم الاجمالي التدريجي قبل الاضطرار أو الفقدان أو الخروج عن الابتلاء، ومن المعلوم أنه يوجب تنجز التكليف بالنسبة إلى جميع الأطراف. وعروض الاضطرار ونحوه لا يرفع أثر العلم الاجمالي وهو التنجيز بالنسبة إلى ما بقي من الأطراف. نعم الانحلال إلى تكاليف متعددة لا يخلو من المسامحة، إذ الانحلال إليها منوط بتعدد الموضوع كما إذا تعلق الحكم بطبيعة ذات أفراد كالخمر، فان 67
الحكم حينئذ ينحل إلى أحكام عديدة بتعدد أفراد تلك الطبيعة. و ليس المقام كذلك، ضرورة أن الحكم المعلوم إجمالا تعلق بفرد معين واقعا مجهول عندنا، لتردده بين شيئين أو أشياء، وليس كليا ذا أفراد حتى يقتضي كل فرد منها لاشتماله على الملاك حكما على حدة، فشرط الانحلال إلى أحكام عديدة مفقود هنا. لكن المقصود بالانحلال في المقام انحلال العلم الاجمالي إلى علوم إجمالية تدريجية بحسب تدريجية الزمان محكومة عقلا بالتنجيز. و هذا لا بأس به بناء على حجية العلم الاجمالي في التدريجيات. وأما كلام الشيخ، فقد تقدم بيانه في التوضيح وسيأتي أيضا. وأما بيان المصنف في الهامش فمحصله: أن المناط في وجوب الاحتياط هو بقاء العلم دون المعلوم، وتنجيز العلم يدور مدار العلم حدوثا وبقاء، ولا يكفي حدوثه فقط في بقاء صفة التنجيز له إلى الأبد، وفي المقام لما حصل العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي واجدا لشرائط التنجيز كان احتمال التكليف في كل واحد من الأطراف لازم المراعاة عقلا، وبعد طروء الاضطرار إلى المعين وان لم يبق المعلوم فعليا على أي تقدير، لامكان كون المتعلق هو المضطر إليه، الا أن بقاء المعلوم على صفة الفعلية والتنجز على أي تقدير غير معتبر في بقاء تنجز التكليف بالعلم، بل المعتبر في بقاء تنجزه به بقاء نفس العلم على صفة التنجيز، وعدم تبدل الصورة العلمية بالشك الساري إليه، و هو بعد حصول الاضطرار إلى المعين باق على حاله، فيكون منجزا و يجب متابعته. ولا يعتبر مساواة الأطراف في الطول والقصر، كما يشهد له حكمهم بوجوب صلاة الظهر على من علم إجمالا بوجوب إحدى الصلاتين عليه قبل صلاة العصر في يوم الجمعة، ولم يأت بالجمعة في وقتها، إذ لا ريب في وجوب 68
الاتيان بالظهر عليه حينئذ، مع أنه من دوران التكليف بين المحدود بساعة مثلا ان كان متعلقه صلاة الجمعة وغير المحدود ان كان متعلقه الظهر لامتداد وقتها. ولأجل بقاء العلم بحاله يحكم بلزوم رعاية التكليف في نظائر المقام كالخروج عن الابتلاء أو التلف. وبالجملة: فالمعتبر في وجوب الاحتياط بقاء تنجيز العلم، ولا يقدح في بقائه كون المعلوم محتمل الارتفاع، هذا. لكن يشكل ما أفاده (قده) في كل من المتن - الموافق لما في فوائده - والهامش. أما كون الاضطرار من حدود التكليف وقيوده فهو وان كان كذلك، الا أن المفروض تأخره عن التكليف والعلم به، فالعلم حين حصوله تعلق بالتكليف المطلق المردد بين طرفين أو أطراف، وبالاضطرار إلى طرف معين يشك في تحقق ما يقيد التكليف الواقعي المطلق، لاحتمال كون المضطر إليه هو المباح لا الحرام حتى ترتفع حرمته بالاضطرار، ولا مناص في مثله من الالتزام بالاحتياط الذي يقتضيه الاشتغال اليقيني بالتكليف، فليس الشك في ثبوت التكليف كي يتوجه مرجعية أصالة البراءة فيه، وانما هو في سقوطه بعد ثبوته في الذمة. والاضطرار انما يفيد الحكم الواقعي من زمان عروضه ولا يسري إلى زمان العلم به المفروض تقدمه على الاضطرار، ولذا يجب عليه الاجتناب فعلا عن الحرام وان علم بطروء الاضطرار إليه بعد حين. وبالجملة: لا يحكم بارتفاع الحكم الثابت بالعنوان الأولي بشئ من العناوين الثانوية الرافعة له من الضرر والحرج وغيرهما إلا بعد تحقق ذلك العنوان الثانوي ووروده على نفس موضوع الحكم الأولي. 69
وكلامه في الفرق بين الفقد والاضطرار في المتن وفي الفوائد بقوله: (ان طرو الفقد على بعض الأطراف انما يوجب الشك في سقوط خصوص ما تنجز عليه فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه تحصيلا للقطع بالفراغ قضية للقطع بالاشتغال.) غير ظاهر، ضرورة إناطة فعلية التكليف بوجود موضوعه كإناطتها بعدم الاضطرار إليه، و مع احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على المفقود لا يبقى علم بتكليف فعلي على أي تقدير، كما لا يبقى في صورة ارتكاب بعض الأطراف للاضطرار، فلا يجب رعاية التكليف في الطرف الآخر من باب المقدمة العلمية استنادا إلى حكم العقل بوجوب الإطاعة، و حينئذ يرتفع المانع عن جريان الأصل النافي في ما بقي من الأطراف. و القطع بالاشتغال انما يقتضي القطع الوجداني بالفراغ ما لم يتصرف الشارع في ناحية الامتثال بجعل البدل أو الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية. وعليه فالتحديد في كل من الفقد والاضطرار موجود وان كان الحاكم به في الأول هو العقل، لتقوم كل حكم بوجود موضوعه، وفي الثاني هو الشرع لمزاحمته لأصل الملاك الداعي إلى التشريع. الا أن يقال: ان فقدان الموضوع ينفي القدرة، فالشك فيه شك في القدرة، والعقل فيه يحكم بالاشتغال، فالفرق المزبور بين الفقد و الاضطرار في محله، فتدبر. وأما ما أفاده في الهامش من دوران التكليف بين المحدود والمطلق فهو جار بعينه في فقدان بعض الأطراف، إذ كل علم إجمالي بالتكليف تتولد منه علوم إجمالية دفعية وتدريجية، والزائل بالفقد و الاضطرار ونحوهما انما هو العلم الاجمالي العرضي الدفعي، وأما التدريجي فهو باق بحاله وهو المقتضي للتنجيز. والحاصل: أن وجه التفرقة المزبورة بين الاضطرار والفقدان غير ظاهر. الا أن 70
يوجه كلامه بما ذكره سيدنا الأستاذ (قده) بقوله: (فان شرطية عدم الاضطرار راجعة إلى شرطية عدم المزاحم للمصلحة المقتضية للحكم. وشرطية وجود الموضوع راجعة إلى شرطية عدم المانع من اشتغال ذمة المكلف، فان الاناء المفقود مما لا قصور في مفسدته و لا في تعلق الكراهة بشربه، الا أن العلم بكراهته لا يصلح أن يكون موجبا لاشتغال الذمة به، فيمتنع أن يكون وجوده شرطا للتكليف الذي هو في الحقيقة شرط نفس الإرادة والكراهة ذاتا كما في القدرة، أو عرضا كما في عدم الاضطرار، فوجود الموضوع والابتلاء به نظير وجود الحجة على التكليف ليس شرطا للتكليف وان كان شرطا للاشتغال في نظر العقل.). أقول: هذا البيان غاية ما يقال في توجيه العبارة ولو تم لسلم كلام المصنف في الفرق بين الفقدان والاضطرار مما تقدم من الاشكال، ضرورة أنه على هذا التوجيه لا يكون وجود الموضوع شرطا للتكليف كشرطية عدم الاضطرار له، بل يكون شرطا لاشتغال الذمة الذي هو متأخر عن التكليف، فلا يعقل أن يكون شرطا له. الا أن الشأن في تماميته في نفسه، فان فرض تعلق الإرادة والكراهة بالمفقود أمر غير ظاهر، ضرورة أن مناطات الاحكام من المصالح والمفاسد الكامنة في المتعلقات المستتبعة للإرادة والكراهة انما تقوم بوجود الموضوعات لا بمفاهيمها، فان المعدوم لا يتعلق به إرادة ولا كراهة. نعم يكفي في تشريع الاحكام بإنشائها لموضوعاتها المقدر وجودها بنحو القضية الحقيقية العلم باشتمال تلك الموضوعات على الملاكات. هذا مضافا إلى أن مقتضى قياس وجود الموضوع بقيام الحجة على الحكم هو تمامية التكليف مع عدم اشتغال الذمة به في صورة الفقدان، كتماميته مع عدم قيام 71
الحجة عليه، وعدم اشتغال الذمة به. لكنه لا يخلو من شئ، فان التكليف هو الذي يترتب على الوصول إليه إمكان الداعوية و الزاجرية، و لولاه لم يتجاوز الحكم عن مرتبة الانشاء، ومن المعلوم أن الدعوة إلى المعدوم والزجر عنه كالزجر عن شرب الخمر المعدوم أمر غير معقول، وهذا بلا فرق بين الآراء في حقيقة الحكم من كونه الإرادة و الكراهة المبرزتين أو البعث والزجر الاعتباريين أو الطلب الانشائي أو إنشاء النسبة أو غير ذلك، فان الانشاء بداعي جعل الداعي لا يتمشى من الامر الحكيم مع انعدام الموضوع وفقدانه. وعليه فالحق أنه مع التلف لا مقتضي لتشريع الحكم، إذ الموضوع لقيام الملاك به المستتبع للإرادة والكراهة مقتض له، فيناط به الحكم إناطة المعلول بعلته، فالتلف مانع عن تشريع الحكم بمعنى إعدام المقتضي له، لا أنه مانع عن اشتغال الذمة به مع وجود المقتضي لتشريعه، لان الاشتغال به متأخر عن تشريعه، فقياس وجود الموضوع بوجود الحجة على التكليف مع الفارق، حيث إن الحجة توجب تنجز المجعول وإحراز اشتغال الذمة به بعد الفراغ عن تشريعه من دون دخل للحجة في تشريعه. بخلاف وجود الموضوع، فإنه دخيل في ذلك دخل العلة في المعلول. كما أن الفرق بين وجود الموضوع و الاضطرار هو أن الأول كما عرفت مقتض لملاك الحكم والثاني رافع له. وقد تحصل: أن الحق منجزية العلم الاجمالي في الاضطرار إلى المعين المتأخر عن العلم. وأما الاضطرار إلى أحدهما المخير، فقد عرفت التزام الشيخ الأعظم (قده) فيه بالاحتياط بالنسبة إلى غير المضطر إليه، وهذا هو الصحيح، فان تعلق الاضطرار 72
بالحرام غير محرز، مع أن إحراز تعلقه بالحرام مما لا بد منه بمقتضى كلمة (إليه) في قوله عليه السلام: (رفع ما اضطروا إليه) الا أن هذا لا يلتئم مع مبنى التوسط في التكليف الذي يراد به ثبوت التكليف الواقعي على تقدير، وعدم ثبوته على تقدير آخر بتقييد إطلاقه و تخصيصه بحال دون حال. ولو كان كذلك لجرى الأصل النافي السليم عن المعارض في الطرف الآخر. وقد نسب المحقق النائيني التوسط في التكليف إلى شيخنا الأعظم (قدهما) والعبارة التي يمكن أن يستظهر منها ذلك هي قوله: (فيثبت من ذلك تكليف متوسط بين نفي التكليف رأسا وثبوته متعلقا بالواقع على ما هو عليه، وحاصله ثبوت التكليف بالواقع من الطريق الذي رخص الشارع في امتثاله منه وهو ترك باقي المحتملات). الا أن الظاهر أن غرض الشيخ من التوسط في التكليف هنا هو التوسط في التنجز أي في التكليف المنجز، لا التوسط في أصل التكليف، لأنه (قده) تعرض لهذا الكلام في جواب إشكال أورده على مختاره من لزوم رعاية التكليف في باقي الأطراف في الاضطرار إلى غير المعين، ولو كان مقصوده ما اصطلح عليه المتأخرون من التوسط في أصل التكليف لكان منافيا لما اختاره من منجزية العلم الاجمالي في الاضطرار إلى غير المعين، لعدم كون الترخيص في المقدمة الوجودية حتى يستكشف منه عدم إرادة الحرام الواقعي، وانما هو ترخيص في مقدمة العلم بالامتثال واكتفاء بالإطاعة الاحتمالية، وهذا يلائم التوسط في التنجز دون التوسط في أصل التكليف. وكيف كان، فالقول بالتنجيز هنا مبني على الالتزام بالتوسط في التنجز، يعني 73
وصول التكليف الواقعي إلى مرتبة التنجز على تقدير وعدم وصوله إلى تلك المرتبة على تقدير آخر مع إطلاق التكليف الواقعي وثبوته على كلا التقديرين، حيث إن الاضطرار لا يزاحم حرمة المتنجس واقعا، بشهادة أنه مع العلم به تفصيلا يجب دفع الاضطرار بالمباح، و الذي يوقعه في دفع الاضطرار بالمتنجس هو الجهل به دون الاضطرار، ومن المعلوم عدم المزاحمة بين الجهل والحكم الواقعي، فالجزء الأخير للعلة التامة في ارتكاب المتنجس هو الجهل الموجب للعذر في مخالفة الالزام المجهول، فوجوب الاجتناب عنه غير منجز، لا أنه غير مجعول، هذا. وأما استدلال المصنف على مدعاه من عدم وجوب الاحتياط عن غير المضطر إليه في غير المعين مطلقا بمنافاة الترخيص التخييري للالزام التعييني وسقوط الحرمة التعيينية بالمضادة، فيتوجه عليه عدم التنافي بينهما، إذ ليس الترخيص التخييري المدعى شرعيا واقعيا كما في خصال الكفارة، ولا ظاهريا كما في التخيير بين الخبرين المتعارضين، إذ الاضطرار الرافع للتكليف انما هو فيما إذا تعلق بعين ما تعلق به التكليف، وهو في مفروض البحث تعلق بعنوان أحد الإناءين لا بخصوص ما هو واجد للمناط والمفسدة، فلا ترخيص من قبل الشارع، وانما هو بحكم العقل بعد العجز عن تمييز المتنجس المحرم ارتكابه عن الطاهر، لأهمية وجوب حفظ النفس من حرمة شرب المتنجس، ومن الواضح أن مقدمة الواجب لا تتصف بالوجوب الشرعي حتى يثبت لأجلها التخيير الشرعي. واللا بدية التي يحكم بها العقل انما هي بمعنى معذورية المضطر في ارتكاب ما اضطر إليه إذا صادف الحرام الواقعي، ولا ريب في عدم منافاتها للحرمة الفعلية المنجزة. ومع عدم سقوطها بالمضادة تتعين الموافقة الاحتمالية بالاحتياط بالنسبة إلى غير ما اضطر إليه، لا الترخيص الذي 74
قد يتفق معه تفويت الغرض الملزم. هذا. ومنه يظهر أن إشكال سيدنا الأستاذ (قده) في حقائقه على الشيخ (بأن الاضطرار إلى واحد غير معين من الامرين اضطرار إلى كل منهما تخييرا، ولا فرق بين الاضطرار التعييني والتخييري في رفع فعلية التكليف) لا يخلو من غموض، لان الجز الأخير لعلة ارتكاب النجس ليس هو الاضطرار، بل هو الجهل كما عرفت، فلا مجعول شرعي في المقام. وقد يستدل أيضا على عدم التنجيز بما في حاشية بعض المدققين (من أن المعذورية في ارتكاب أحدهما ورفع عقاب الواقع عند المصادفة ينافي بقاء عقاب الواقع على حاله حتى يحرم المخالفة القطعية، فان ضم غير الواقع إلى الواقع لا يحدث عقابا على الواقع). و فيه: أنه لا ينهض حجة على القائل باقتضاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية مثل الشيخ الأعظم، وانما يجدي القائل بالعلية كما هو مبناه قدس سره، فلاحظ. بقي الكلام في صورة توسط الاضطرار بين سبب التكليف والعلم به، كحصول الملاقاة في الساعة الأولى والاضطرار في الساعة الثانية والعلم الاجمالي في الساعة الثالثة، ولا بأس بالتعرض لها تتميما للفائدة، فنقول: الحق فيها عدم منجزية العلم الاجمالي، وهو مختار سيدنا الأستاذ الشاهرودي وفاقا لشيخه المحقق النائيني (قدهما) في دورته الأخيرة وخلافا لمختاره في الدورة الأولى. أما على القول بالعلية فلعدم العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير بعد انعدام أحد الطرفين قبل حدوث 75
العلم وكون الباقي مما يشك في تعلق التكليف به. وأما على القول بالاقتضاء، فلجريان الأصل النافي في الطرف الموجود بلا معارض له حسب الفرض. ولا ينافي هذا كون العبرة بتقدم المعلوم لا العلم المفروض تأخره، ولذا لو لاقى شئ نجسا وبعد زمان حصل العلم بنجاسة الملاقى ترتب عليه وجوب الاجتناب عما لاقاه من زمان الملاقاة لا من زمان العلم بالنجاسة فالمناط في ترتب الحكم زمان المعلوم لا زمان العلم وذلك ملا عرفت من أن العلم طريق إلى متعلقه وموضوع لحكم العقل بالتنجيز. والعلم الاجمالي اللاحق علم بالموضوع وهو إصابة النجس لاحد الإناءين، لا علم بالتكليف الفعلي، لانعدام أحدهما بالاضطرار، والباقي مما يشك في تعلق التكليف به، ومقتضى الأصل عدمه. 76 الثاني (1): أنه لما كان (×) النهي عن الشئ انما هو
(×) كما أنه إذا كان فعل الشئ الذي كان متعلقا لغرض المولى مما لا يكاد عادة أن يتركه العبد وأن لا يكون له داع إليه لم يكن للامر به والبعث إليه موقع أصلا كما لا يخفى. 77 لأجل أن يصير داعيا للمكلف (1) نحو تركه لو لم يكن له داع آخر (2)، ولا يكاد يكون (3) ذلك الا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به،
80 وأما [1] ما لا ابتلاء به (1) بحسبها فليس للنهي عنه موقع أصلا، ضرورة أنه (2) بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل (3)، كان (4) الابتلاء بجميع الأطراف مما لا بد منه في تأثير العلم، فإنه بدونه (5) لا علم بتكليف فعلي، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به.
[1] الأولى بحسب السياق أن تكون العبارة هكذا: وأما ما لا يمكن عادة ابتلاؤه به فليس للنهي عنه. إلخ. 81 ومنه (1) قد انقدح أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر [1]
[1] ثم انه يمكن معرفة مورد الابتلاء عن غيره بحيث يكون ذلك معيارا له بتبديل العلم الاجمالي بالتفصيلي بالنسبة إلى الطرف الذي لا يعلم الابتلاء به لبعده، أو لمنع مانع من الوصول إليه، أو لبعد اتفاق الابتلاء به عادة، كما إذا أراد شراء دار للسكنى في بلد يعلم بغصبيتها أو غصبية دار أخرى في بلد آخر، فمع فرض علمه تفصيلا بغصبية الدار التي تكون في غير محل سكناه ان لم يكن له شغل بها ولا مما يحتمل السكنى فيها فحينئذ لا عبرة بهذا العلم الاجمالي أصلا. هذا. وقد جعل شيخنا الأعظم المعيار في الابتلاء حسن الخطاب، حيث قال: (والمعيار في ذلك وان كان صحة التكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بالنجاسة وحسن ذلك.) وهذا لا يختلف عما أفاده المصنف غير أنه تعبير له بالملزوم وكلام الشيخ تعبير له باللازم. 82 وانقداح (1) طلب تركه في نفس المولى فعلا هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع اطلاعه على ما هو عليه من (2) الحال. ولو شك في ذلك (3) كان المرجع هو البراءة،
83 لعدم (1) القطع بالاشتغال، لا إطلاق الخطاب (2)، ضرورة (3) أنه لا مجال للتشبث به (4) الا فيما إذا شك في التقييد بشئ بعد (5) الفراغ عن صحة
86 الاطلاق بدونه، لا (1) فيما شك في اعتباره في صحته (2) (×)
(×) نعم لو كان الاطلاق في مقام يقتضي بيان التقييد بالابتلاء لو لم يكن هناك ابتلاء مصحح للتكليف كان الاطلاق وعدم بيان التقييد دالا على فعليته ووجود الابتلاء المصحح لها كما لا يخفى، فافهم. 87 تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى [1]
[1] وتفصيل الكلام: أنه قد اختلفت كلمات الاعلام في شرطية الابتلاء لمطلق التكاليف وعدمها كذلك، والتفصيل باعتباره في المحرمات دون الواجبات على أقوال ثلاثة ينبغي التعرض لها وبيان ما هو الحق منها. ولا بأس قبل الخوض في المطلب بالتنبيه على أمر وهو: أن الشيخ الأعظم استشهد ببعض الفروع الفقهية على اعتبار الابتلاء بتمام الأطراف وجعل وجه عدم منجزية العلم الاجمالي فيها خروج بعضها عن محل الابتلاء. لكن الانصاف عدم ابتناء الحكم بعدم منجزيته في بعضها على الخروج عن الابتلاء، كما في علم إحدى الضرتين بأنها المطلقة أو ضرتها، وكالعلم الاجمالي لواجدي المني في الثوب المشترك، فان كل شخص موضوع لحكم على حدة، فلاحظ وتأمل. نعم يمكن أن يكون من فروع المسألة ما لو علم الزوج بارتداد بعض زوجاته مع غيبة بعضهن، لجواز إجراء استصحاب الزوجية بالنسبة إلى الحاضرة وترتيب آثارها عليها، وعدم جريان الاستصحاب في حق الغائبة حتى يقع التعارض. وقد تعرض المحقق الآشتياني في الشرح لهذا الفرع وغيره من الفروع التي ينحصر وجه عدم منجزية العلم الاجمالي فيها خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فراجع. وكيف كان فينبغي البحث في مقامين: أحدهما في الدليل على اعتبار الابتلاء في تنجز الحكم مطلقا، وعدمه كذلك، والتفصيل بين الواجبات والمحرمات. ثانيهما في حكم الشك في الابتلاء، فنقول وبه نستعين: أما المقام الأول فمحصله: أنك قد عرفت الاستدلال على شرطية الابتلاء بالاستهجان واللغوية وطلب الحاصل. وقد أورد عليه بالنقض بصحة خطاب العصاة من 88
المسلمين، فان المولى مع علمه بعدم ترتب انبعاث العبد وانزجاره عليه كيف تتمشى منه الإرادة والكراهة الجزميتان. وبصحة تكليف الكفار بالفروع بنفس الوجه. وعدم قبح تكليف غالب المكلفين - خصوصا أرباب المروات - و نهيهم عن بعض المحرمات كأكل الحشرات والقاذورات وكشف العورة مع أن دواعيهم مصروفة عنها قطعا، وأمرهم بالانفاق على الزوجة والأولاد ونحوه مما يكون بناؤهم على العمل به وعدم تركه ولو لم يشرع خطاب أصلا. نعم منشأ لغوية الخطاب في الابتلاء وان كان هو بعد المسافة مثلا وفي مورد النقض الصارف النفساني المانع عن الارتكاب. لكن هذا غير فارق. والالتزام بعدم الأمر والنهي المولويين في الموارد المذكورة كما ترى. ولا يخفى أن النافي لشرطية الابتلاء في فسحة من هذا النقض، لصحة التكليف في تمام هذه الموارد. الا أن المحقق النائيني (قده) مع التزامه باعتبار الابتلاء في خصوص التكاليف التحريمية أجاب عنه بما محصله: (الفرق بين عدم القدرة عادة على الفعل وبين عدم إرادته كذلك، لكون الأولى من الانقسامات السابقة على الخطاب، فيمكن دخلها فيه بحيث تكون من قيود موضوع الخطاب كالبلوغ و العقل، وهذا بخلاف الإرادة والإطاعة ونحوهما مما يكون متأخرا عن الخطاب ومترتبا عليه، فان مثلها يمتنع دخله فيه. فلا يمكن أن يتقيد التكليف بحال وجود إرادة العبد ولا بحال عدمها لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد. وعليه فاستهجان الخطاب ثابت عند عدم القدرة العقلية والعادية، بخلاف عدم الإرادة، فالقياس مع الفارق) 89
أقول: ما أفاده من الفرق بين القدرة والإرادة وان كان متينا في نفسه، إذ لا سبيل لتقييد الخطاب بما هو متأخر عنه وكالمعلول له، لا وجودا للزوم طلب الحاصل، ولا عدما للزوم اجتماع المتنافيين، فلا بد من إطلاق الخطاب لحال وجود إرادة المكلف وعدمها، الا أن المدعى عدم إمكان تأثير إيجاب الشارع مع بناء المكلف على الاتيان بالفعل، وعدم تحقق انبعاثه عن أمر المولى مع عزمه على الفعل، و بتعذر الانبعاث يتعذر البعث الجدي من المولى، لان البعث و الانبعاث متضايفان متكافئان في الفعلية والقوة، فالمحذور الذي يدعيه المصنف في الحاشية باق بحاله، هذا. مضافا إلى أن استحالة تقييد الخطاب بالإرادة لا يقتضي ضرورة الاطلاق، بل تقتضي امتناعه بناء على كون تقابل الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة كما هو مذهبه (قده). ثم انه قد استدل لعدم اعتبار الابتلاء بأمور: الأول: ما في حاشية المحقق الأصفهاني (قده) ومحصله: (أن حقيقة التكليف ليست هي جعل الداعي الفعلي إلى الفعل والترك حتى يستحيل في فرض وجود الداعي النفساني، بل هي جعل ما يمكن أن يكون داعيا بحيث لو انقاد العبد للمولى لانقدح الداعي في نفسه بدعوة البعث والزجر، وغاية ما في عدم الابتلاء بالمتعلق هو عدم وجود الداعي له، ولكنه غير مانع من جعل الداعي الامكاني، ولولاه لم يصح توجيه الخطاب إلى العاصي، فإنه لا داعي له إلى الامتثال بل له الداعي إلى الخلاف. ولو بطل التكليف مع عدم الداعي الفعلي للزم بطلان النهي لمن لا داعي له حتى إذ كان المتعلق محل ابتلائه. وليس كذلك قطعا، لصحة التكليف في الفرض. فتمام المناط هو إمكان الدعوة، ولا معنى للامكان الا الذاتي والوقوعي، 90
فيجتمع مع الامتناع بالغير أي بسبب حصول العلة فعلا أو تركا من قبل نفس المكلف. وبهذا يرتفع محذور اللغوية وطلب الحاصل. ويبقى محذور الاستهجان العرفي، وقد دفعه بما حاصله: عدم ارتباط حقيقة التكليف بالعرف بما هم أهل العرف، إذ مدار صحة الخطاب على حسنه العقلي، ومرجعية العرف انما هي في فهم الخطاب الملقى إليهم، و تعيين حدود مفهوم متعلقه، ومن المعلوم أن العقل بمجرد قدرة العبد يحكم بحسن الخطاب وان كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء). الثاني: أن المحاذير المتقدمة من الاستهجان واللغوية وطلب الحاصل انما تترتب إذا كان الغرض من الامر تحقق الفعل كيف ما اتفق و من النهي ترك المنهي عنه كذلك، كما هو الحال في الاحكام العرفية بين الموالي والعبيد. وأما إذا كان المقصود الاتيان بالفعل المستند إلى أمر المولى والمضاف إليه وترك المنهي عنه كذلك ليحصل الكمال النفساني للمكلف، كان الأمر والنهي مما لا بد منه لأجل تحصيل الملكة الفاضلة المتحققة بالاستناد، وبهذا يندفع محذور لغوية الخطاب وطلب الحاصل، لتوقف حصول غرض المولى - وهو الفعل المستند والترك كذلك - على بعثه وزجره. ومن المعلوم أن وجود الداعي النفساني إلى الفعل أو الترك لا ينافي قصد القربة المعتبر في صحة العبادات، وفي تحقق الامتثال في غيرها بنحو الاطلاق، بل قد يجتمعان. 91
الثالث: أن قبح التكليف بالخارج عن الابتلاء انما هو في الخطابات الشخصية المتوجهة إلى آحاد المكلفين، كما إذا خوطب زيد وعمرو بوجوب الاجتناب عن الخمر الموجود في بلاد الكفر، وأما الأحكام الشرعية التي هي أحكام كلية مجعولة على الجميع نظير القوانين العرفية المجعولة لحفظ النظام، فليس فيها الا خطاب واحد قانوني يعم المكلفين المختلفين حسب الحالات والعوارض، ولا يقدح في صحة خطاب (يا أيها الذين آمنوا) و (يا أيها الناس) عجز بعضهم عن الامتثال فالحكم فعلي في حق الجميع، غير أن العجز والجهل عذر عقلي مانع عن تنجز التكليف في حق العاجز والجاهل، والملاك في صحة الخطاب صلوحه لبعث عدد معتد به لا تمامهم، والاستهجان انما يلزم لو علم المتكلم بعدم تأثير ذلك الخطاب العام في كل المكلفين. وعليه فلا تتقيد التكاليف الشرعية بالدخول في محل الابتلاء. هذه عمدة ما ظفرنا عليه من الوجوه لعدم اعتبار الابتلاء في فعلية التكاليف. وفي المسألة بعض الوجوه الأخرى مثل ما اعتمد عليه المحقق النائيني (قده) في دورته الأولى من تمامية الملاك في صورة عدم الابتلاء أيضا. لكنه عدل عنه في دورته الأخيرة. وهو الحق، لعدم كون الملاك غير المطالب بسبب الخروج عن محل الابتلاء مثلا موضوعا لاستحقاق المؤاخذة على مخالفته، فتأمل. وكذا ما أفاده المصنف في الفوائد من أن خطاب (لا تشرب الخمر) بوجوده الانشائي شامل للداخل في الابتلاء والخارج عنه، لأنه خطاب عام على نحو القاعدة والقانون، الا أنه لا يكون تحريما وزجرا فعليا إلا عما كان مورد الابتلاء. ويكفي في صحة التحريم الانشائي وجود المقتضي للتحريم وان لم تتحقق العلة التامة، فمرتبة من الحكم يشترك فيها الجميع ومرتبة أخرى تختص ببعضهم. 92
وهذا الوجه كما ترى لا يجدى أيضا بناء على عدم كون الحكم الانشائي واجدا لما هو المناط للحكم. وهل ينفع هذا المقدار لصحة التمسك بالخطاب عند الشك في الابتلاء أم لا؟ فيه كلام لعلنا نتعرض له في حكم الشك في الابتلاء هذا. وأما تلك الوجوه الثلاثة فالظاهر عدم وفاء شئ منها بحل الاشكال. أما الوجه الأول - وهو تصحيح الخطاب بإمكان الدعوة - فلان مفاد صيغتي (افعل ولا تفعل) وان كان هو ما يمكن أن يكون باعثا و زاجرا كما أفاده (قده) الا أن إمكان الداعوية هنا إمكان الداعوية هنا إمكان استعدادي وهو ما يترقب منه بلوغه من القوة إلى الفعل كما في نظيره من التكوينيات، فان الشجرة ثمرة بالامكان، وحيث إن المفروض وجود الصارف النفسي عن شرب الخمر أو خروجه عن معرضية الابتلاء به مدة العمر، فما ذا يترتب على جعل الزاجر الامكاني الذي لا يصير زاجرا بالفعل أبدا؟ وقياس الامكان الذاتي هنا بإمكان الماهيات الذي لا ينافيه الامتناع بالغير بسبب عدم حصول العلة يكون مع الفارق، فان إمكان الماهية ليس مجعولا اعتباريا للحكيم، ولذا يجتمع بسبب وجود علته وعدمها مع الوجوب بالغير و الامتناع كذلك، وهذا بخلاف الحكم الشرعي، فإنه مجعول اعتباري للشارع، وحقيقة الحكم الجدي هو الانشاء بداعي جعل الداعي بالامكان، ومن المعلوم أن جعل الممكن المستعد إذا لم يترقب منه الدعوة الفعلية في زمن التكليف ولو مرة واحدة لغو، بل طلب للحاصل. نعم ما أفاده ينحل به النقض بتكليف العاصي، حيث إن عدم فعلية البعث والزجر الامكانيين فيه انما هو لأجل إيجاد موانع العبودية بسوء اختياره، والا فالمقتضي 93
للجعل موجود، وتأثيره الفعلي منوط بتخلية النفس عما يزاحم الانقياد للمولى وإطاعة أحكامه. وهذا بخلاف من هو فاعل بالطبع أو تارك كذلك، إذ لا مقتضي لبعثه الامكاني، لفعلية ما يترتب على جعل الامكان الاستعدادي الناشئة من الداعي النفساني. وعليه فما استدل به على اعتبار الابتلاء لا يندفع بهذا الوجه. وأما الوجه الثاني - أعني كون الغرض من التكليف الاستناد إليه في مقام العمل - فهو انما يتم في العبادات التي يعتبر في صحتها إضافتها إلى المولى. وأما التوصليات - وهي العمدة في محل البحث - فلا شك في قيام الغرض فيها بذات الفعل، واكتفاء الشارع بالعمل المجرد عن الاستناد إليه أيضا، فلو كان الغرض قائما بخصوص الفعل المستند إليه لزم كون تشريع الواجب أوسع دائرة من الغرض الداعي إلى الجعل إذ المفروض سقوطه بكل من الفعل المستند إليه وغير المستند إليه، ومن المعلوم أن شمول الحكم لحالات المكلف لا يمكن إلا عن ملاك ينبعث منه الحكم الكذائي، ومع فرض صحة الواجب التوصلي بلا استناد - بل ومع صدوره غفلة - كيف يدعى قيام الغرض بخصوص الفعل المستند؟ والتفكيك بين الملاك والحكم الناشئ منه واضح البطلان، لأنه خلاف مقتضى تبعية الاحكام لملاكاتها. هذا مضافا إلى أن ما أفاده في آخر كلامه من (حصول الامتثال إذا كان كل واحد من الداعي النفساني والامر الإلهي سببا تاما في عالم الاقتضاء بمعنى أن يكون كل واحد منهما كافيا في تحقق الفعل أو الترك مع عدم الاخر) لا يخلو من غموض، إذ لو فرض قيام الاغراض بالافعال والتروك المستندة إلى الأوامر والنواهي الشرعية، فإنما يراد بها الاستناد الفعلي لا التقديري، ومن المعلوم أنه مع وجود الصارف النفساني لا يبقى مجال للاستناد إلى الزاجر الشرعي، فيعود محذور اللغوية. 94
نعم لولا الداعي النفساني إلى الترك لكان المكلف منزجرا بالاستناد إلى النهي الإلهي، الا أن ذلك استناد تعليقي لا عبرة به، إذ الموجب لكمال النفس هو الاستناد الفعلي كما لا يخفى. وأما الوجه الثالث - وهو كون القضايا الشرعية كالقوانين العرفية و ليست أحكاما شخصية - ففيه أولا: أن القضايا الشرعية الكلية إما من القضايا الحقيقية التي ينشأ الحكم فيها على الموضوع المفروض وجوده، وإما من القضايا الطبيعية التي ينشأ الحكم فيها على الطبيعة ويثبت للافراد من باب الانطباق، فخطاب (كتب عليكم الصيام) مثلا إنشاء لوجوب الصيام على المؤمن الذي له وحدة نوعية، وهذا الخطاب وان كان واحدا، لكنه يشمل كل فرد من أفراد المكلفين إما لكون القضية حقيقية، واما لانطباق الطبيعة عليه. وبعد اختصاص كل مكلف بخطاب يعود ما تقدم من المحذور. ومجرد تبعية الاحكام للملاكات التي لا دخل لعلم المكلف وجهله و قدرته وعجزه فيها لا ينفع شيئا، إذ الكلام في استهجان خطاب التارك للمنهي عنه بطبعه لا في وجود المناط في الخارج عن الابتلاء، فإنه ليس محل البحث. وثانيا: أنه - مع تسليم كفاية انبعاث الغالب أو العدد المعتد به و انزجاره في صحة إنشاء الخطاب القانوني - لا يسند به باب النقض ببعض ما يعلم بضرورة الفقه حرمته شرعا مع عدم ميل جل الناس - بل كلهم - إلى ارتكابه لولا طروء العنوان الثانوي، نظير أكل الميتة التي صارت جيفة، فان من له أدنى مسكة يتنفر عنها بالطبع قطعا، فيلزم عدم جعل حرمة أكلها لهؤلاء، ومن المعلوم أنه مخالف لما يعلم من الدين ضرورة، ونظيره من الاحكام التي لا تؤثر في إرادة المكلف و كراهته غير عزيز. وقد تحصل: أن محذور الاستهجان العرفي في الخطاب بالخارج عن الابتلاء 95
الذي هو كالقرينة المتصلة الحافة بالانشاءات الشرعية باق على حاله، ولم يندفع بالوجوه المتقدمة، ولذا فلا مناص من الالتزام بشرطية الابتلاء. وأما النقض بمخاطبة العاصي ونحوه فيندفع بما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) من أن حقيقة التكليف جعل الداعي الامكاني، و من المعلوم أن مثله يتمكن من الانبعاث والانزجار برفع موانع العبودية عن نفسه. وأما من له صارف طبعي عن ارتكاب محرم فيكفي في خروج الخطاب عن اللغوية في حقه إمكان استناده إلى الشارع في مقام التقرب إليه تعالى. وعليه فالاستدلال على اعتبار الابتلاء بالاستهجان العرفي سليم عن الاشكال حلا ونقضا، والله تعالى هو العالم. وأما المقام الثاني: أعني به حكم الشك في الابتلاء، فهو تارة يكون من جهة الشك في أصل دخل الابتلاء بموضوع التكليف في فعلية الحكم وتنجزه، وأخرى من جهة الشبهة في الصدق بعد إحراز أصل الدخل، وثالثة من جهة الشبهة المصداقية. وفي شرح المحقق الآشتياني أن كلام الشيخ الأعظم في حكم الشك في الابتلاء و مرجعية الأصل اللفظي أو العملي فيه شامل للموارد الثلاثة. لكنه لا ريب في كون الشبهة المفهومية والمصداقية محط نظره الشريف، وقد نقلنا بعض عباراته في التوضيح فلاحظ، ومعه لا وجه لدعوى اقتصار كلام الشيخ على بيان حكم الشبهة المصداقية فحسب. وكيف كان فهل المرجع إطلاق أدلة الاحكام الأولية فيما إذا كان دليل الايجاب أو التحريم لفظيا فيلحق مشكوك الابتلاء - بجهاته الثلاث - بمعلومه، أم الأصل العملي وهو إما البراءة كما في المتن أو الاحتياط كما في تقرير بحث شيخنا المحقق العراقي (قده)؟ فيه وجهان. 96
أما وجه التمسك بأصالة الاطلاق - بحيث يصح الرجوع إليها في كل من الشك في أصل دخل الابتلاء وفي الصدق والمصداق - فحاصله: أن خطاب (انما حرم عليكم الميتة مثلا) مطلق شامل للميتة الداخلة في محل الابتلاء والخارجة عنه، والشك في اعتبار الابتلاء به شك في أصل التقييد، وقضية إطلاق الهيئة عدم التقييد، على ما تقرر من اقتضاء الأصل اللفظي إطلاق الوجوب فيما إذا شك في أصل اشتراطه بشئ. وكذا فيما إذا شك فيه من جهة الشبهة المفهومية، فإنه يتمسك بأصالة الاطلاق أيضا إذا كان المقيد والمخصص منفصلا مرددا بين الأقل والأكثر أو بحكمه وهو المخصص اللبي الذي لا يحكم به العقل بالضرورة بل بالنظر والتأمل، كما إذا علم المكلف بخروج الميتة الموجودة في بلاد الهند مثلا عن محل الابتلاء، ودخول الميتة الموجودة في البلد الذي يسكن فيه وما يجاوره من المدن في مورد الابتلاء، وشك في الابتلاء بالميتة الموجودة في البلاد المتوسطة بين بلده وبلاد الهند، لوجود مراتب متفاوتة للقدرة العادية والعرفية أوجبت الشك فيه، فان مقتضى حجية الاطلاق فيما عدا القدر المتيقن من التقييد إلحاق مشكوك الابتلاء بمعلومه، كما يتمسك بعموم (أكرم الأمراء) بعد تخصيصه منفصلا ب (لا تكرم الفساق) في وجوب إكرام من ارتكب منهم صغيرة بلا إصرار، وبه يرتفع الاجمال عنه. وكذا يصح التمسك بالاطلاق فيما إذا كان الشك في الابتلاء من جهة الشبهة المصداقية، كما إذا علم أن الميتة الموجودة في بلاد الهند مثلا خارجة عن محل ابتلائه، والموجودة في بلاد مملكته داخلة فيه، و شك لأجل أمور خارجية في أن البلد الذي فيه الميتة هو من بلاد مملكته أم من بلاد مملكة الهند. والوجه في حجية 97
الاطلاقات في مثل المقام تفصيل شيخنا الأعظم كما في التقريرات المنسوبة إليه (قده) بين المخصص الذي له عنوان - كأغلب ما يكون لفظيا - وبين ما لا عنوان له كأكثر ما يكون لبيا، وفي الثاني يرجع إلى العام، لأنه في حكم المخصص المنفصل اللفظي المردد بين الأقل والأكثر الذي لا يسري إجماله إلى العام. الا أنه قد يمنع من فرض الشبهة هنا مفهومية أو مصداقية بما أفيد من أن الحاكم باعتبار الابتلاء في مقام التنجز هو العقل والعرف اللذان لا يدور حكمهما مدار صدق مفهوم مجمل، بل يتعلق حكمهما بنفس المصاديق من حيث هي، فالخارج عن عموم الخطابات انما هو العاجز الواقعي بأشخاصه لا بعنوانه، وليس هنا عنوان لفظي حتى يؤخذ بعموم لفظه عند الشك في شموله لمشكوك الفردية ويحكم فيه بنفي الحكم عنه، فالمتجه الرجوع إلى الاطلاق في غير المعلوم خروجه عن الابتلاء، فالمقام أجنبي عن مسألة التمسك بالعام في الشبهة المفهومية والمصداقية. لكنك خبير بما فيه، فان دعوى خروج ذوات المصاديق بأشخاصها لا بعنوانها عن العمومات ممنوعة، فان خروجها انما هو لانطباق عنوان عام ذي ملاك عليها اعتبره العقل والعرف من جهة استهجان توجيه الخطاب بما هو خارج عن محل الابتلاء، والا فلا دخل للخصوصيات المفردة في خروجها عن الاطلاقات، وانما يكون خروجها دائرا مدار صدق هذا العنوان، فلا فرق بين كون المقيد العقل و النقل في أن التقييد عنواني لا أفرادي، كما هو الحال في خروج الفرد الكذائي 98
عن عموم (لعن الله بني أمية قاطبة) حيث إن خروجه عنه انما هو لأجل انطباق عنوان المؤمن الذي استقل العقل بقبح لعنه عليه. فعلى هذا ينطبق ضابط الشبهة في الصدق والمصداق على المقام. هذا ما يمكن أن يقال في تقريب التمسك بإطلاق الخطاب. وقد أورد عليه تارة بمنع التمسك به مطلقا، وأخرى في خصوص الشبهة المفهومية، وثالثة في الشبهة المصداقية. أما على الأول، فأمور: أحدها: ما تقدم من المصنف في المتن، وقد عرفته. ثانيها: ما في حاشيته على الرسائل، وحاصله: أن الابتلاء من قيود التنجز المتأخر رتبة عن الخطاب ومن الانقسامات المترتبة عليه، و معه لا يمكن لحاظ إطلاق الخطاب ولا تقييده اللذين هما في رتبة إنشائه بالنسبة إلى الابتلاء حتى يتمسك بالاطلاق لدفع الشك في اعتباره. ثالثها: ما في فوائده من كون الابتلاء من شرائط فعلية التكليف المتأخرة عن مرتبة إنشائه، ومن المعلوم عدم تكفل الانشاء لما هو شرط للرتبة المتأخرة عنه. رابعها: ما في حاشية بعض المدققين من (أن إطلاق الخطاب انما يجدي في نفي القيود الدخيلة في فعلية الحكم شرعا، فله أخذها و رفضها بما هو شارع وأما القيود الدخيلة في فعليته بحكم العقل كالقدرة والوصول والابتلاء ونحوها مما لا دخل له بالشارع، فلا معنى لدفع تقيد الخطاب به بتجرد خطابه منه كما هو واضح). وأجاب المحقق النائيني عن الأول: بأن لازم الاشكال المذكور عدم صحة 99
التمسك بالاطلاق في شئ من المقامات، ضرورة تحقق هذا الاحتمال في جميع الموارد خصوصا على مذهب العدلية القائلين بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، إذ لا طريق إلى إحراز الملاكات الا إطلاقات التي تكون الألفاظ ظاهرة فيها وكاشفة إنا عن وجودها الداعي إلى الجعل. والحاصل: أن السيرة العقلائية الممضاة تكشف عن التطابق بين الإرادتين الاستعمالية والجدية ما لم يترتب عليه محال. وهذا البيان كما ترى واف بدفع الاشكال المتقدم توضيحه. الا أن شيخنا المحقق العراقي وجه كلام الماتن (قدهما) بنحو آخر وهو: أن أصالة الاطلاق حكم ظاهري، وجعله كجعل الحكم الواقعي يتوقف على عدم لغويته وترتب الأثر عليه، فكما أن القدرة العقلية والعادية شرط في صحة الخطاب الواقعي، كذلك شرط في صحة التعبد بصدوره وظهوره، فلا يصح التعبد بهما بالنسبة إلى الخارج عن محل الابتلاء، لعدم ترتب أثر عملي على التعبد بمثله، لفرض عدم القدرة العقلية والعادية عليه، فيكون التعبد به لغوا. وعليه، فإيجاب التعبد بالظهور الاطلاقي مشكوك فيه هنا، للشك في طريقيته إلى الواقع للعمل به من جهة الشك في قابلية المورد لتعلق الخطاب به، فلا قطع بحجية الخطاب حتى يتمسك بالاطلاق لاثبات التكليف الفعلي في مورد الشك. والحاصل: أن المنع عن التمسك بالاطلاق هنا من جهة عدم إحراز قابلية المورد إثباتا لحجية الخطاب فيه من جهة الشك في القدرة التي هي شرط للحكم الظاهري. 100
أقول: وبهذا البيان وان كان يسلم كلام الماتن عن إشكال المحقق النائيني (قده) الا أن الانصاف عدم ظهور المتن في ما استفاده شيخنا العراقي، ولعله فهم ذلك من مجلس درس أستاذه المحقق الخراساني، وعليك بالتأمل فيه. ولو تم هذا التوجيه لم يندفع إشكال التمسك بالاطلاق، للشك في شمول بناء العقلاء لأصالة الاطلاق في هذا المورد، لفرض أن المحذور في نفس مقام الاثبات، ومعه لا مجال لكونه كاشفا عن مقام الثبوت كما يدعيه المحقق النائيني (قده) فتصل النوبة إلى الأصل العملي الذي سيأتي الحديث عنه. ويمكن الجواب عن الثاني بما أفيد أيضا من المنع من قوله: (فان الابتلاء بحكم العقل والعرف من شرائط تنجز الخطاب المتأخر عن مرتبة أصل إنشائه) ضرورة أن القدرة العادية كالعقلية من الانقسامات الأولية السابقة على الانشاء اللاحقة للشئ قبل تعلق الأمر والنهي به، فان ذات المأمور به والمنهي عنه قبل تعلق خطاب الشارع بها تكون معروضة لقدرة المكلف عليها وعجزه عنها، فانقسام المكلف إلى القادر على إيجاد المتعلق والعاجز عنه ليس متأخرا عن مرتبة إنشاء الحكم حتى لا يكون الخطاب الانشائي مطلقا بالنسبة إلى القدرة العرفية ولا مقيدا بها، بل ذلك متقدم على مرتبته، فهو مطلق بالنسبة إلى القدرة العرفية. وتوهم (أن القدرة على إتيان المأمور به مثلا بوصف أنه مأمور به متأخرة عن الامر، ومن المعلوم عدم تكفل الامر لما ينشأ منه ويترتب عليه، فلا يكون مطلقا بالنسبة إلى القدرة أو مقيدا بها كقصد الامر) كاد أن يكون من غرائب الكلام، فان الاستهجان العرفي الذي يدعيه القائل باعتبار الابتلاء انما هو العجز العادي عن المتعلق بما هو هو لا بوصف كونه مأمورا به، وكذا عدم الاستهجان عند الابتلاء 101
به انما هو القدرة على مركب الامر بما هو هو لا بوصف كونه مأمورا به حتى تكون متأخرة عن الانشاء ويستحيل إطلاقه وتقييده بها، هذا. مضافا إلى أنه مع تسليم كون الابتلاء من الانقسامات المتأخرة عن الانشاء لا وجه لجعله شرطا لتنجز الحكم، فإنه - مع منافاته لتصريح المصنف قبل بيان التنبيهات بكونه من شرائط مرتبة الفعلية كعدم الاضطرار إلى بعض الأطراف ونحوه - يرد عليه: أن التنجز الرافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان عبارة عن وصول التكليف بعلم أو علمي إلى المكلف، فلا يكون للابتلاء دخل فيه، فليتأمل. وتوجيه الكلام بما في تقرير شيخنا المحقق العراقي من (أن المقصود من تنجز الخطاب انما هو كونه منشأ لاستحقاق العقوبة على المخالفة، وهذا كما أن للوصول دخلا فيه كذلك للقدرة دخل فيه) مناف لما أفاده المصنف في تربيعه لمراتب الحكم من أن التنجز ليس إلا وصول التكليف البعثي أو الزجري بحجة من علم أو علمي إلى المكلف بحيث يستحق العقوبة على مخالفته، فلاحظ. وأما اشكاله في الفوائد، فيجاب عنه بابتنائه على ما التزم به من المراتب الأربع للحكم، وكون التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة وجعل الاطلاق جمعا بين القيود لا رفضا لها. الا أن الخطاب المدعى شمول إطلاقه لمورد الابتلاء والخارج عنه ليس مجردا عن الداعوية والتحريك حتى يستحيل تقييده بالابتلاء. ويظهر من كلام الشيخ - في بيان وجه اعتبار الابتلاء باستهجان الخطاب بدونه وعدم استهجانه مع الاشتراط به كأن يقول: اجتنب عن الخمر الموجود في بلاد الهند مثلا ان ابتليت به - أن المنشأ بالخطاب الشرعي انما هو الحكم الفعلي الواجد لمرتبة البعث والزجر الموجب لاستحقاق المؤاخذة على مخالفته عند وصوله إلى المكلف، 102
وليس للابتلاء في هذا التعريف عين ولا أثر. وان أبيت عن ذلك فالاطلاق المقامي كاف لنفي دخل الابتلاء، بعد أن اعتبر الشارع أمورا عامة وخاصة في فعلية أحكامه ولم يعتبر الابتلاء فيها مع كونه بصدد البيان، فالسكوت عنه وعدم ذكره في عداد الشروط دليل على عدم اعتباره فيها. ويمكن أن يجاب عن الاشكال الرابع بأن المراد بفعلية الحكم عقلا هو تنجزه المتقوم بوصوله إلى المكلف بعلم أو علمي تقوم المعلول بالجز الأخير لعلته التامة، والقدرة العقلية وان كانت دخيلة في التنجز أيضا، الا أن دخلها فيه إعدادي، ومن المعلوم أن الخطاب لا يتكفل مرتبة التنجز المتأخرة عنه، فيمتنع التمسك بإطلاقه لتنجزه كما لا يخفى. وأما الابتلاء فهو دخيل في عدم استهجان الخطاب عرفا، وليس وزانه وزان القدرة العقلية التي يقبح الخطاب بدونها عقلا، بل وزانه وزان العناوين الثانوية المقدورة عقلا للمكلف كالعسر والضرر ونحو هما في صحة الخطاب معها إطلاقا وتقييدا، فيصح للشارع أن يأمر المكلف بالوضوء مثلا وان كان حرجيا أو ضرريا، كما يصح أن يأمره بالوضوء ان لم يلزم منه شئ منهما. وكذا الحال في الابتلاء، فيصح للشارع أن ينهى المكلف عن شرب المتنجس مطلقا أو مقيدا بالابتلاء به. فالمتحصل: أن تنجز الحكم متقوم بالوصول دون القدرة العقلية و الابتلاء، فإنهما من معداته، فالتمسك بإطلاق الخطاب من هذه الجهة في مشكوك الابتلاء لا محذور فيه. وأما الثاني: وهو الاشكال على مرجعية الاطلاق في الشبهة المفهومية بعد الفراغ عن اعتبار الابتلاء، فحاصله: أنه قد يقال في وجه عدم جواز التمسك به 103
فيها، بأن إجمال مفهوم الابتلاء - الذي هو مقيد لبي متصل بكل خطاب - يسري إلى العام والمطلق كسراية إجمال المخصص المتصل اللفظي إلى العام وسقوط ظهوره به في الموارد المشكوكة. وعليه فإطلاق (حرم عليكم الخمر) محفوف بقرينة عقلية مجملة مفهوما، فكأنه قال: (حرم الخمر المبتلى به) والمفروض عدم الإحاطة بحدود مفهوم الابتلاء، فالقدر المتيقن من فعلية الحرمة هو حرمة الخمر الداخل في محل الابتلاء، والمشكوك دخوله فيه لا سبيل لاثبات حكمه وهو الحرمة بالتشبث بأصالة الاطلاق. لكنك خبير باندفاع هذا الاشكال بما تقدم في تقريب كلام الشيخ في التمسك بالاطلاق ونزيدك هنا توضيحا - بعد تسليم الكبرى - بمنع كون المقام من صغرياتها، ضرورة أن حكم العقل بدخل القدرة العادية في التكليف ليس في الضرورة والوضوح بمثابة حكمه بقبح الظلم وحسن الاحسان ودخل القدرة العقلية في كل تكليف، فإنه يدركه كل ذي مسكة بأدنى التفات، وهذا بخلاف الابتلاء، ولذا استدل عليه بالاستهجان تارة واللغوية أخرى وطلب الحاصل ثالثة، فهو من الحكم العقلي النظري الذي لا يقدح احتفافه بالعام في انعقاد ظهوره في العموم، ولا يخرج به العام عن الحجية إلا فيما علم من التخصيص للمزاحمة وأقوائية ظهوره من ظهور العام، وبعد مرجعية عموم أو إطلاق أدلة المحرمات لا تصل النوبة إلى الأصل العملي. وأما الثالث - وهو الاشكال على التمسك بأصالة الاطلاق في الشبهة المصداقية للابتلاء - فهو ما تقدم منا في بحث العام والخاص من عدم حجية أصالة العموم في مطلق الشبهات المصداقية، وعدم إجراء التفصيل بين المخصص الذي له عنوان 104
وبين ما لا عنوان له، فراجع ما ذكرناه في الجز الثالث. وهل المرجع فيها بعد عدم حجية أصالة الاطلاق قاعدة الاحتياط عقلا كما اختاره شيخنا المحقق العراقي (قده) أم أصالة البراءة كما اختاره الماتن ووافقه بعض أعاظم العصر؟ فيه قولان. أما الأول - وهو أصالة الاحتياط - فمحصل وجهه كما في تقرير بحث المحقق العراقي: صغروية المقام لكبرى العلم بالغرض والشك في القدرة المحكوم عقلا بالاحتياط، فإنه بعد تمامية مقتضيات التكليف من طرف المولى وعدم دخل القدرة العقلية والعادية فيها يستقل العقل بلزوم رعاية الملاك بالاحتياط وعدم الاعتناء باحتمال وجود الموانع الموجبة لقصور العبد عن الامتثال إلى أن يتبين العجز، ولا مجال لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الطرف المبتلى به، لاختصاصها بصورة احتمال قصور المقتضي للحكم المنفي حسب الفرض. ولا ينتقض هذا بما إذا علم خروج أحد الطرفين عن الابتلاء بدعوى أن المبتلى به مما يشك في القدرة عليه، فلا بد من الاحتياط، مع أنه لا يجب بلا إشكال. وذلك لعدم صدق العلم بالغرض والشك في القدرة في مورد النقض، وانما هو علم بالغرض والقدرة على تقدير قيام المقتضي بالداخل في الابتلاء، وعلم بالملاك والعجز على تقدير وجوده في الخارج عن مورد الابتلاء، فلا شك في القدرة، وانما الشك في وجود الملاك في المقدور، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان). ويتوجه على ما أفاده أولا: النقض بما أورده على نفسه مع تسليمه لعدم دخل القدرة بأنحائها في المقتضيات، واختصاص مجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان بما 105
كان احتمال القصور من ناحية بيان المولى لا احتمال وجود المانع من قبل العبد، ضرورة أنه لا يبقى مؤمن لدى العبد في ارتكابه للطرف المقدور أو المبتلى به مع الجزم بخروج الطرف الآخر عن الابتلاء، إذ الشك في قيام الملاك بهذا أو ذاك موجود بالوجدان. وما أفاده في التخلص عن النقض لا يفي به، حيث إن تردد الغرض بين ما هو مقطوع القدرة عليه ما هو مقطوع العجز عنه بنفسه موجب لتحقق الشك في القدرة على الغرض المعلوم، ومقتضاه وجوب الاحتياط تحفظا على الغرض المشكوك تمكنه منه كما هو الحال في نظائر المقام، مثل دوران الحيوان الداخل في الدار بين ما يعلم بموته بعد ثلاثة أيام وما يعلم ببقائه بعدها، ودوران الحدث الناشئ من خروج البلل المشتبه بين الأصغر والأكبر بعد الوضوء، فان التردد بينهما يوجب الشك في بقاء الحيوان بعد ثلاثة أيام في الأول، وفي بقاء كلي الحدث في الثاني. ودوران الغرض في المقام بين ما يقطع بالقدرة عليه على تقدير و يقطع بالعجز عنه على آخر منشأ لحصول الشك في القدرة. وحينئذ فيندرج في كبرى العلم بالغرض والشك في القدرة ولا بد من الاحتياط، مع عدم التزام أحد به، والمفروض عدم جريان قاعدة القبح على مبناه (قده) أيضا. وثانيا بالحل، لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الطرف المبتلى به، لوجود المقتضي وفقد المانع. توضيحه: أن القدرة وان لم تكن دخيلة في الملاك، الا أن البيان المأخوذ عدمه في موضوع قاعدة القبح ليس هو بيان مطلق الغرض و ان لم يكن مقدورا، بل بيان الغرض المقدور، فان وزان الغرض المعلوم وزان التكليف المعلوم، فكما يعتبر في 106
منجزية العلم الاجمالي بالتكليف تعلقه بحكم فعلي على كل تقدير لا على تقدير دون تقدير، فكذا يعتبر في منجزية العلم بالغرض الملزم مقدورية المتعلق على كل تقدير، ومع الجزم بخروج أحد الطرفين عن الابتلاء أو الشك في خروجه عنه لا علم بالغرض المقدور، وانما هو علم بمطلق الغرض، وهو غير منجز. وعليه، فالمقتضي لجريان القاعدة موجود والمانع عنه وهو مخالفة الغرض الملزم الذي لا يرضى المولى بفواته مفقود، فان قيام الملاك بالطرف غير المبتلى به محتمل، وجريان القاعدة في المبتلى به لا يترتب عليه الا احتمال فوت الملاك وهو موجود في تمام موارد الأصول النافية، وليس ذلك مانعا عن جريانها مطلقا لا في المقام ولا في سائر الموارد. ولا تجري القاعدة في الخارج عن الابتلاء، لعدم الأثر العملي على جريانها فيه، لفرض العجز عن ارتكابه. والمشكوك خروجه عن الابتلاء شبهة مصداقية لدليل البراءة فلا تجري فيه. نعم لو ترتب العلم بفوت غرض المولى على تقدير جريان البراءة كان كالعلم بمخالفة التكليف لم تجر فيه قاعدة القبح، ولا بد من الاحتياط حينئذ، كما إذا شك المكلف في القدرة على دفن الميت المسلم لصلابة الأرض ونحوها، أو شك الجنب في كون باب الحرام مفتوحا، فان الفحص والاقدام متعين لئلا يستند فوات غرض المولى إلى تقصير المكلف بل إلى قصوره. والحاصل: أن المترتب على جريان قاعدة القبح في المقام ليس الا احتمال فوات الملاك، وهو غير مانع عنه. وعليه فما أفاده المحقق العراقي (قده) من لزوم الاحتياط عقلا لم يظهر له وجه. وأما الثاني: وهو البراءة فقد استدل له بأن كبرى لزوم الاحتياط في العلم 107
بالغرض والشك في القدرة وان كانت مسلمة، الا أن المقام أجنبي عنها وليس من صغرياتها، إذ الغرض هنا مشكوك والقدرة معلومة، فتجري البراءة عن الغرض. (وبعبارة أخرى: الفرق بين مثال دفن الميت والمقام أن الغرض في المثال معلوم والقدرة مشكوك فيها، وفي المقام الغرض مشكوك فيه والقدرة معلومة، فكم فرق بينهما). ويرد عليه: أن عد المقام من موارد الشك في الغرض انما يتجه لو كان المعتبر خصوص العلم التفصيلي بالغرض دون مطلق العلم ولو كان إجماليا، لكن المفروض خلافه، لجريان البحث في العلم الاجمالي به أيضا، فهو صغرى للشك في القدرة مع العلم بالغرض. و عليه فإذا تردد الملاك المعلوم إجمالا بين المقدور وغيره كان وظيفة العبد الفحص حتى يحرز العجز، ومع تسليم هذه الكبرى في كلام القائل المتقدم وعدم دخل القدرة في ملاكات الاحكام، فالمعلوم غرض قائم اما بهذا الاناء المقدور واما بذاك المشكوك حاله، فلا تجري البراءة، بل لا بد من الفحص. وبعد عدم تمامية ما ذكر وجها لكل من الاحتياط والبرأة في الشبهة المصداقية للابتلاء على الاطلاق، يمكن أن يقال: ان لزوم التحفظ على أغراض المولى عند الشك في القدرة عليها وان كان مسلما، لكونه حكما عقليا أو عقلائيا، الا أنه لا بد من النظر في حده ومورد جريانه، فنقول: لا ريب في اعتباره في مورد العلم التفصيلي بالغرض و الشك في القدرة، كما تقدم في مثالي دفن الميت وغسل المجنب، فان المكلف لو أهمل ذلك حتى فات الغرض كان مقصرا في تفويته، فيقع تحت خطر المؤاخذة. كما لا ريب في عدم اعتبار هذا الحكم العقلي إذا علم 108
إجمالا بغرض مردد بين المقدور وغيره، كالجزم بخروج بعض الأطراف عن الابتلاء. وأما إذا علم إجمالا بالغرض الدائر بين ما يقطع بقدرته عليه وما يشك في قدرته عليه - وهو محط البحث في الشبهة المصداقية للابتلاء - فان تمكن المكلف من الفحص واستعلام حال المشكوك فيه، فلا يبعد دعوى استقرار حكم العقل وسيرة العقلاء على لزوم الفحص و عدم جواز إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الطرف المبتلى به وان لم يتمكن من الفحص لصعوبته لتوقفه على مقدمات بعيدة الحصول كان ملحقا بما علم خروج بعض الأطراف عن الابتلاء، فتجري فيه البراءة بلا معارض. وكذا الحال في ما لو شك في تمكنه من الفحص عن الطرف المشكوك فيه لقرب مقدماته وعجزه عنه لبعدها، فان إطلاق دليل البراءة شامل للمورد، والمتيقن من تقييده هو ما إذا كان مقدمة ظهور حال الفرد المشكوك فيه قريبة. هذا ما يمكن أن يقال في الشبهة المصداقية من التفصيل بين شبهاتها بعد أن لم يكن في البين أصل لفظي يرجع إليه. 109 الثالث (1): أنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم لا تفاوت
110 بين أن يكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة (1). نعم ربما يكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها (2)، أو ارتكابه (3)، أو ضرر (4) فيها، أو غيرهما (5) مما
111 لا يكون معه (1) التكليف فعليا بعثا أو زجرا فعلا [[1] وليست [) 2 و ليس] بموجبة لذلك (3) في غيره، كما أن نفسها ربما تكون موجبة لذلك (4) ولو كانت قليلة في مورد آخر (5)، فلا بد [2] من ملاحظة ذلك [ذاك]
[1] الظاهر عدم الحاجة إليه، إذ المستفاد من كلامه: أن التكليف من البعث أو الزجر لا يكون فعليا مع أحد هذه الموانع، فقوله: (فعلا) مستدرك، فحق العبارة أن تكون هكذا: مما لا يكون معه التكليف البعثي أو الزجري فعليا. [2] الأولى أن تكون العبارة هكذا: فلا بد من ملاحظة أنه يكون في هذا المورد ذلك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالاجمال أو لا يكون. 112 الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالاجمال أنه (1) يكون أو لا يكون في هذا المورد، أو يكون (2) مع كثرة أطرافه، وملاحظة (3) أنه مع أية مرتبة من كثرتها كما لا يخفى. ولو شك (4) في عروض الموجب،
113 فالمتبع هو إطلاق [1] دليل التكليف لو كان (1)، والا (2) فالبراءة
[1] لا يخفى أنه لا بد من تقييد ذلك بما إذا لم يكن مشكوك المانعية عن الفعلية خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، والا لم يصح التمسك بالاطلاق، 115 لأجل الشك في التكليف الفعلي. هذا (1) هو حق القول في المقام. وما قيل (2) في ضبط المحصور وغيره
لما ذكره في التنبيه السابق من رجوع الشك حينئذ إلى أصل التكليف الذي يرجع فيه إلى أصل البراءة. نعم يصح التمسك به فيما إذا كان مشكوك المانعية غير الخروج عن مورد الابتلاء من العسر والضرر مثلا، لصحة الاطلاق بدونهما، حيث إنهما ليسا من القيود المتوقفة عليها صحة الخطاب، فيصح إطلاق الخطاب بالنسبة إليهما، والتمسك به إذا شك في وجودهما. لكن الاشكال في صحة الاخذ بإطلاقه إذا كانت الشبهة مصداقية، فإنه لا يجوز التمسك به عنده في غير المخصص اللبي غير العقلي كما عرفت، وبناء على عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية مطلقا كما تقدم في الجز الثالث، فالمرجع هو الأصل العملي الذي مقتضاه نفي الحكم الإلزامي، للشك فيه، إذ لو كان أحد موانع الفعلية موجودا، فلا حكم. الا أن يكون هناك أصل موضوعي مثبت لفعلية الحكم، فلاحظ وتأمل، فلا بد من تقييد قوله: (فالبراءة) بعدم الأصل الموضوعي. 116 لا يخلو (1) من الجزاف [من الانحراف. [1]]
[1] ولا يخفى أن المناسب للمقام - وهو تبعية تنجيز العلم لفعلية الحكم وعدم كون كثرة الأطراف رافعة لفعليته - بيان وجه عدم الحاجة إلى تلك الضوابط ولو مع صحتها لا الخدشة فيها، لعدم إناطة الفعلية بحصر الأطراف وعدمه، لما عرفت آنفا حتى نحتاج إلى معرفة ضابط الحصر وعدمه، فالأولى أن يقال: (ان ما قيل في ضبط المحصور وغيره مضافا إلى عدم تماميته في نفسه مما لا حاجة إليه، فلا جدوى في التعرض لنقله). وكيف كان، فلا بأس ببيان بعض الضوابط التي ذكروها للشبهة غير المحصورة: منها: كون بعض الأطراف خارجا عن مورد الابتلاء. وفيه: أنه خلاف الفرض، إذ المفروض في الشبهة غير المحصورة اعتبار جميع شرائط التنجيز فيها، وانحصار مانع التنجيز فيها بكون الأطراف غير محصورة. وأما الخروج عن الابتلاء فلا ربط له بالمقام، لكونه بنفسه مانعا عن تنجيز العلم الاجمالي وان كانت الشبهة محصورة. ومنها: ما يظهر من صاحب العروة (قده) من كون نسبة المعلوم بالاجمال إلى الأطراف كنسبة الواحد إلى الألف، حيث قال في الماء المضاف المشتبه في غير 117
المحصور: (وان اشتبه في غير المحصور جاز استعمال كل منها كما إذا كان المضاف واحدا في ألف). وفيه أيضا ما لا يخفى، بداهة أن العلم الاجمالي بنجاسة أو غصبية حبة في ضمن حقة من الحنطة مع كون نسبة الحبة إلى الحقة أزيد من نسبة الواحد إلى الألف بكثير لا يكون من الشبهة غير المحصورة، و لعل نظره (قده) إلى ضعف احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل واحد من الأطراف بحيث لا يعتني به العقلاء، فان كان كذلك فهو يرجع إلى الضابط الآتي. ومنها: أن غير المحصورة ما يعسر عده. وفيه أولا: أنه إحالة إلى أمر غير منضبط، لاختلاف الأشخاص و الأزمان في تحقق العسر بالعد. وثانيا: أن العسر قد يعد بالنسبة إلى بعض الأشياء من شبهة غير المحصورة، كتردد شاة محرمة بالغصب أو غيره بين عشرة آلاف شاة، وقد لا يعد من الشبهة غير المحصورة بالنسبة إلى بعضها الاخر، كتردد حبة واحدة متنجسة من الحنطة مثلا بين مائة ألف حبة: فان العسر مع تحققه في كليهما لا يوجب كون المثال الثاني من الشبهة غير المحصورة. وثالثا: أن التحديد بالعسر ناظر إلى ما يرفع الحكم، ومن المعلوم أن المناط حينئذ هو لحاظ ذلك العنوان الرافع بالنسبة إلى علم المكلف، فالعسر يرفع الفعل العسري أو الترك كذلك. وأما عسر العد مع عدم العسر في الفعل أو الترك فلا يصلح لرفع الحكم حتى يناط به حد الشبهة غير المحصورة، فتدبر. 118
ومنها: ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) من كون كثرة الأطراف بمثابة توجب وهو احتمال التكليف في كل واحد منها بحيث لا يحتمل العقاب في واحد منها، كما صرح المصنف بذلك في توضيح عبارة الشيخ في حاشية الرسائل بقوله: (والأحسن في تقرير الاستدلال بهذا الوجه أن يقال: ان العلم بالتكليف بين أطراف كثيرة غير محصورة لا يوجب تنجزه بحيث يورث مخالفته العقاب، فلا يحتمل العقاب في واحد من الأطراف). وقريب منه ما في تقريرات شيخنا المحقق العراقي (قده) من (أن الضابط فيها هو بلوغ الأطراف في الكثرة بمثابة توجب ضعف احتمال وجود الحرام في كل واحد من الأطراف). وفيه - مضافا إلى ما قيل: من أنه إحالة إلى أمر مجهول، لكون الوهم ذا مراتب كثيرة، فأي مرتبة منها تكون ميزانا للشبهة غير المحصورة، وان أمكن دفعه بأن المدار في احتمال العقاب الموجب لتنجز التكليف على الاحتمال المرجوح، مقابل الراجح والمساوي و هما الظن والشك، وهذا أمر مبين غير مجهول وان كان له مراتب - أن وهن احتمال التكليف ان كان مانعا عن التنجيز لكان مانعا عنه في الشبهة المحصورة أيضا، كما إذا فرض كون احتمال انطباق النجس المعلوم إجمالا بين الإناءين مثلا على أحدهما موهوما، إذ كثرة الأطراف جهة تعليلية لو هن الاحتمال - لا تقييدية - حتى تختص مانعية وهنه لتنجيز العلم بغير المحصورة، فالمدار على موهومية الاحتمال مطلقا لا على علتها، ومن المعلوم أن هذه الموهومية لا تقدح في تنجيز العلم ولزوم الاجتناب عن كليهما، كما لا تقدح في تنجيزه في الشبهات البدوية قبل الفحص، ومساوقتها لاحتمال العقاب إلى أن يحصل المؤمن. 119
ومنها: أن الشبهة غير المحصورة ما يعسر موافقتها القطعية. وفيه أولا: أنه تعريف باللازم الأعم، لعدم اختصاص العسر المزبور بالشبهة غير المحصورة، إذ قد يتفق ذلك في المحصورة أيضا. وثانيا: أن عسر الامتثال اليقيني لا يمنع عن تنجيز العلم الاجمالي حتى يرفع التكليف رأسا كما هو المقصود في غير المحصورة، بل يوجب التنزل إلى الإطاعة الاحتياطية الناقصة. وثالثا: أنه لا انضباط للعسر، لاختلافه بحسب الأشخاص والأزمان، فالإحالة إليه إحالة إلى أمر مجهول، فتأمل. ومنها: أن الضابط هو الصدق العرفي، فما صدق عليه عرفا أنه غير محصور ترتب عليه حكمه. وفيه أولا: أن الرجوع إلى العرف في تشخيص المفاهيم انما يكون في الألفاظ الواقعة في الأدلة الشرعية لترتيب ما لها من الاحكام عليها، ومن المعلوم أن لفظ (غير المحصور) لم يقع في شئ من تلك الأدلة حتى يرجع في تشخيص مفهومه إلى العرف، بل هو اصطلاح مستحدث من الأصوليين. وثانيا: أن الرجوع إلى العرف لا يوجب تميز ضابط غير المحصور عن المحصور، إذ ليس له معنى متأصل عندهم، بل هو من الأمور الإضافية التي تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، فلا جدوى في الرجوع إليهم في تعيين ما هم فيه مختلفون. ومنها: ما اختاره المحقق الهمداني (قده) في الحاشية وذكر ملخصه في مصباحه أيضا، قال في الحاشية: (والحق أن يقال في تفسيرها: الشبهة غير المحصورة 120
هي ما لم تكن أطرافها محدودة مضبوطة غير قابلة للزيادة والنقصان، والمحصورة ما كانت كذلك، فلو علم مثلا بحرمة شاة من قطيع غنم محدودة معينة بحيث لو سئل عن الحرام لجعله مرددا بين آحاد تلك القطيع، فيقول: هذا أو هذا أو ذاك إلى آخرها لكانت الشبهة محصورة سواء قلت أطراف الشبهة أم كثرت. وهذا بخلاف ما لو علم بأن ما يرعاه هذا الراعي بعضها موطوءة ولكن لم يكن له إحاطة بجميع ما يرعاه مما هو من أطراف الشبهة، فليس له حينئذ جعل الحرام مرددا بين آحاد معينة، بل لو سئل عن حال كل فرد لأجاب بأن هذا اما حرام أو الحرام غيره مما يرعاه هذا الراعي على سبيل الاجمال من غير أن يكون له إحاطة بأطراف الشبهة، فحينئذ لا يجب عليه الاجتناب عن كل ما يحيط به من الأطراف. فعمدة المستند لجواز ارتكاب الشبهة غير المحصورة بناء على هذا التفسير الذي هو في الحقيقة إبقاء للفظ على حقيقته انما هي سلامة الأصل فيما أحاط به من الأطراف عن المعارض، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين قلة الأطراف وكثرتها.). لكنك خبير بما فيه من الخروج عن تفسير مراد الأصحاب، فان هذا الضابط راجع إلى تحديد الموضوع بلحاظ حكمه من منجزية العلم الاجمالي وعدمها، مع وضوح أن المقصود بالشبهة المحصورة وما يقابلها من غير المحصورة هو المحصور بلحاظ العدد قلة وكثرة، و أن نفس عدم الحصر مانع عن تنجيز العلم الاجمالي مع اجتماع سائر الشرائط التي منها إمكان الابتلاء بكل واحد من الأطراف. وجعل المناط في المحصور الإحاطة والعلم بتمام الأطراف إجمالا اصطلاح جديد فيه، والا فلا دخل للعلم بالأطراف في كون الشبهة محصورة. وان أريد بها الابتلاء 121
بها فعدم المنجزية حينئذ يستند إلى فقد شرط آخر لا عدم الحصر. والحاصل: أن عنوان المحصور وغير المحصور انما هو بلحاظ قلة الأطراف وكثرتها، ولا دخل للعلم والابتلاء بها فيه أصلا، فضلا عن دعوى أن هذا التفسير إبقاء اللفظ على معناه الحقيقي، فلاحظ. ومنها: ما عن المحقق النائيني (قده) من: (أن ضابط الشبهة غير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدا لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال من أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك، وهذا يختلف حسب اختلاف المعلوم بالاجمال، فتارة يعلم بنجاسة حبة من الحنطة في ضمن حقة منها، فهذا لا يكون من الشبهة غير المحصورة، لامكان استعمال الحقة من الحنطة بطحن وخبز وأكل، مع أن نسبة الحبة إلى الحقة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف. وأخرى يعلم بنجاسة إناء من أواني البلد، فهذا يكون من الشبهة غير المحصورة ولو كانت أواني البلد لا تبلغ الألف، لعدم التمكن العادي من جمع الأواني في الاستعمال وان كان المكلف متمكنا من آحادها، فليس العبرة بقلة العدد وكثرته فقط، إذ رب عدد كثير تكون الشبهة فيه محصورة كالحقة من الحنطة، كما أنه لا عبرة بعدم التمكن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال فقط، إذ ربما لا يتمكن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضا محصورة، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب، بل لا بد في الشبهة غير المحصورة - مما تقدم في الشبهة المحصورة - من اجتماع كلا الامرين، وهما كثرة العدد وعدم التمكن من جمعه في الاستعمال. وبهذا تمتاز الشبهة غير المحصورة من أنه يعتبر فيها إمكان الابتلاء بكل واحد 122
من أطرافها، فان إمكان الابتلاء بكل واحد غير إمكان الابتلاء بالمجموع. والتمكن العادي بالنسبة إلى كل واحد من الأطراف في الشبهة غير المحصورة حاصل، والذي هو غير حاصل التمكن العادي من جمع الأطراف لكثرتها، فهي بحسب الكثرة بلغت حدا لا يمكن عادة الابتلاء بجمعها في الاستعمال بحيث يكون عدم التمكن من ذلك مستندا إلى كثرة الأطراف لا إلى أمر آخر). وملخص ما يستفاد من هذه العبارة بطولها: أنه يعتبر في الشبهة غير المحصورة أمران: أحدهما كثرة الأطراف، والاخر عدم التمكن عادة من جمعها في الاستعمال لكثرة الأطراف لا لأمر آخر كالخروج عن الابتلاء، هذا. ولا يرد عليه ما في تقريرات بعض أعاظم العصر من (أن عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف لا يلازم كون الشبهة غير محصورة، فقد يتحقق ذلك مع قلة الأطراف وكون الشبهة محصورة، كما إذا علمنا بحرمة الجلوس في إحدى غرفتين في وقت معين، فان المكلف لا يتمكن من المخالفة القطعية بالجلوس فيهما في ذلك الوقت). وذلك لما صرح به في عبارته المتقدمة من كون عدم التمكن مستندا إلى كثرة الأطراف لا إلى أمر آخر، ومن المعلوم أن عدم القدرة على ارتكاب جميع الأطراف في مثال الجلوس ونحوه ليس مستندا إلى كثرة الأطراف بل إلى أمر آخر. كما لا يرد عليه أيضا ما في التقريرات المذكورة من (أن عدم القدرة على المخالفة القطعية غير مضبط في نفسه، فإنه يختلف باختلاف المعلوم بالاجمال، 123
وباختلاف الأشخاص، وباختلاف قلة الزمان وكثرته، وغير ذلك من الخصوصيات، فليس له ضابط، فكيف يكون ميزانا لكون الشبهة غير محصورة) لأنه بعد وضوح كون الاحكام انحلالية يكون عدم القدرة على المخالفة كسائر الموانع كالعسر والحرج شخصيا، وكل مكلف يعلم قدرته على المخالفة وعدمها، فلا يلزم أن يكون ضابط كلي للشبهة غير المحصورة بالنسبة إلى جميع المكلفين مع اختلاف شئونهم. نعم يرد عليه ما أورده في التقريرات أيضا بقوله: (وثالثا: ان عدم التمكن من المخالفة القطعية ان أريد به عدم القدرة عليها دفعة، فكثير من الشبهات المحصورة كذلك، وان أريد به عدم التمكن منها و لو تدريجا فقلما تكون شبهة غير محصورة، إذ كثير من الشبهات التي تعد غير محصورة عندهم يتمكن المكلف من ارتكاب جميع أطرافها في ضمن سنة أو أكثر أو أقل). هذا مضافا إلى ما أفاده شيخنا المحقق العراقي من: (أنه ان أريد عدم التمكن من الجمع بينها في زمان قصير، ففيه: أنه يحتاج إلى تحديده بزمان معين، ولا معين في البين. ومن أن لازم الضابط المزبور اندراج شبهة الكثير في الكثير في غير المحصور كما في العلم الاجمالي بنجاسة ألف ثوب في ألفين، مع أنه لا شبهة في لحوقها بالمحصورة كما سيجئ إن شاء الله تعالى. ثم إن هذا الضابط يختص بالشبهات التحريمية غير المحصورة، ضرورة أن عدم التمكن من الجمع في استعمال الأطراف الموجب للمخالفة القطعية العملية 124
مختص بها، إذ في الشبهات الوجوبية يمكن المخالفة القطعية بترك جميع الأطراف. فتحصل من جميع ما ذكرنا: عدم سلامة شئ من الضوابط المذكورة للشبهة غير المحصورة من الاشكال. هذا تمام الكلام في تحديد موضوع الشبهة غير المحصورة. وأما حكمها، فهو على ما ذكروه عدم وجوب الامتثال، لوجوه: الأول: ما أفاده الشيخ الأعظم (قده) من عدم اعتناء العقلاء باحتمال التكليف فيها، لوهنه وفيه ما تقدم آنفا. الثاني: دعوى الاجماع على عدم وجوب الموافقة القطعية فيها كما عن الروض وجامع المقاصد، بل عن المحقق البهبهاني في حاشية المدارك بعد دعواه صريحا أنه من ضرورة الدين. وفيه - مضافا إلى عدم تعرض القدماء له لكونه من المسائل المستحدثة، فلا مجال لدعوى الاجماع في مثله - أنه على فرض تحققه لا يكون إجماعا تعبديا، للعلم بمدركيته أو احتمالها، لصلاحية ما ذكروه من الوجوه للاستناد إليها. الثالث: كون لزوم الامتثال فيها مستلزما للحرج المنفي شرعا. وفيه: أن الحرج شخصي، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص و الأزمان وغير ذلك من الخصوصيات، فدليل الحرج لا ينفي الحكم بالنسبة إلى من لا حرج عليه في الامتثال. وبالجملة: فهذا الدليل أخص من المدعى، بل أجنبي عنه، إذ المقصود كون نفس عدم الحصر مانعا عن التكليف لا أمر آخر من حرج أو ضرر أو غيرهما. الرابع: رواية أبي الجارود، قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن، 125
فقلت له: أخبرني من رأي أنه يجعل فيه الميتة، فقال عليه السلام: أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في جميع الأرضين؟ إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وان لم تعلم فاشتر وبع وكل، والله اني لاعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن، والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان). بتقريب: أن الشبهة فيه غير محصورة، والحكم فيها الحلية وعدم تنجيز العلم الاجمالي. وفيه: ضعف الرواية سندا ودلالة. أما سندا فلاشتماله على محمد بن سنان الذي لم تثبت وثاقته. وأما دلالة، فلظهورها في خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء بقرينة قوله عليه السلام: (حرم ما في جميع الأرضين) فتكون الرواية أجنبية عن الشبهة غير المحصورة، ولو لم يكن هذا المعنى ظاهر الرواية، فلا أقل من مساواته لمعان أخر: أحدها: عدم وجوب الاجتناب عن الجبن المعمول في الأمكنة التي لم يعلم بجعل الميتة فيه لأجل جعل الميتة فيه في مكان معين، وان كان هذا الاحتمال في غاية الوهن والسقوط. ثانيها: كون الرواية في مقام بيان اعتبار السوق واليد في موارد العلم الاجمالي، فإنهما يمنعان عن انطباق المعلوم بالاجمال على بعض الأطراف الذي يكون موردا لأحدهما، لاعتبار يد المسلم وسوقه ما لم يعلم الخلاف، فعدم وجوب الاجتناب 126
حينئذ مستند إلى السوق واليد، لا إلى مانعية عدم انحصار الأطراف عن تنجيز العلم الاجمالي كما هو مورد البحث. ثالثها: أن الحكم بحلية الجبن في الرواية لعله من جهة دخل العلم في الحكم بالنجاسة كما عن صاحب المدارك، لا من جهة كثرة الأطراف ومع هذه الاحتمالات تصير الرواية مجملة غير صالحة للاستدلال بها. الخامس: ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من (عدم حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب الموافقة القطعية. أما عدم حرمة المخالفة القطعية، فلان المفروض عدم التمكن العادي منها بسبب كثرة الأطراف. وأما عدم وجوب الموافقة القطعية، فلان وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعية، لأنها هي الأصل في باب العلم الاجمالي، لان وجوب الموافقة القطعية يتوقف على تعارض الأصول في الأطراف، و تعارضها فيها يتوقف على حرمة المخالفة القطعية ليلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية للتكليف المعلوم في البين، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية كما هو المفروض لم يقع التعارض بين الأصول، ومع عدم التعارض لا تجب الموافقة القطعية). وملخصه: عدم حرمة المخالفة القطعية، لعدم القدرة عليها عادة بنفسه، فيكون عدم حرمتها من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وعدم وجوب الموافقة القطعية أيضا، لتوقف وجوبها على حرمة المخالفة القطعية والمفروض عدم حرمتها، لعدم القدرة عليها، فتجري الأصول في جميع الأطراف بلا تعارض، لان المانع عن جريانها وهو المخالفة القطعية العملية مفقود، والمقتضي له وهو عدم وجوب 127
الموافقة القطعية للشك في تعلق التكليف بكل واحد منها موجود، فيكون وجود العلم بالحكم في الشبهة غير المحصورة كعدمه، فلا تجب موافقته كما لا تحرم مخالفته. وفيه أولا: أن القدرة المعتبرة في الاحكام وهي القدرة على نفس متعلقاتها حاصلة في المقام، إذ عدم التمكن فيه ناش من اشتباه متعلق الحكم بين أمور كثيرة لا يقدر المكلف على الجمع بينها لا من نفس متعلقه، ولذا تجب الإطاعة بالمرتبة المقدورة من مراتبها من التبعيض في الاحتياط أو الإطاعة الظنية أو الاحتمالية إذ الموجب لتنجيز التكليف واستحقاق المؤاخذة على مخالفته هو نفس العلم المنجز، لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل واحد من الأطراف سواء كانت محصورة أم غيرها. وثانيا: أن المخالفة القطعية ليست حراما شرعيا حتى يقال بعدم حرمتها لعدم القدرة عليها كي يلتزم بعدم وجوب الموافقة القطعية أيضا بدعوى الملازمة بينهما، بل قبح المخالفة القطعية عقلي، لكونها موجبة لاستحقاق العقوبة. وثالثا: أنه لا ملازمة بين وجوب الموافقة وحرمة المخالفة القطعيتين، فقد تجب الأولى مع الامكان، ولا تحرم الثانية لعدم التمكن منها، كما إذا علم بحرمة الجلوس في أحد مكانين في وقت معين، فإنه مع عدم التمكن من المخالفة القطعية بالجلوس في كليهما في ذلك الوقت تجب الموافقة القطعية بترك الجلوس فيهما. ورابعا: أن جعل مناط تعارض الأصول مطلقا في جميع الأطراف لزوم المخالفة القطعية العملية مخالف لمبناه (قده) من مانعية المخالفة العملية عن جريان خصوص الأصول غير التنزيلية في أطراف العلم الاجمالي كأصالتي البراءة 128
والطهارة. وأما التنزيلية، فالمانع من جريانها فيها هو نفس العلم لا المخالفة العملية. وبعبارة أخرى: المانع من جريان الأصول التنزيلية فيها عدم محفوظية رتبة الجعل وهي الشك في الحكم فيها، فان البناء على بقاء العلم بالحكم على ما هو قضية دليل الاستصحاب ينافي العلم بانتقاضه، فان هذا العلم رافع للشك الذي هو موضوع الأصل. والمانع من جريان الأصول غير التنزيلية هو منافاتها لمقام الامتثال الراجع إلى المكلف مع محفوظية رتبة الجعل فيها. والحاصل: أن تعليل عدم جريان الأصول مطلقا في الأطراف بلزوم المخالفة القطعية العملية لا يلائم ما أفاده في وجه عدم جريان الأصول من التفصيل بين التنزيلية وغيرها. والحق أن يقال: انه مع فرض العلم الاجمالي بالتكليف الإلزامي وكون الأطراف موردا للابتلاء بمعنى مقدورية كل منها على البدل يكون الحكم منجزا سواء أكانت الشبهة محصورة أم غيرها، وسواء كانت الشبهة وجوبية أم تحريمية. ومجرد إمكان المخالفة القطعية في الشبهة الوجوبية بترك جميع الأطراف دون التحريمية لعدم إمكان المخالفة القطعية بارتكاب الكل فيها ليس بفارق فيما هو المهم أعني تنجيز التكليف في كلتيهما. نعم يوجب ذلك فرقا بينهما من ناحية الامتثال، حيث إنه تجب الموافقة القطعية في الشبهة التحريمية، لامكان اجتناب جميع الأطراف، بخلاف الشبهة الوجوبية، فان الامتثال القطعي فيها بارتكاب جميعها غير مقدور، فتصل النوبة إلى الامتثال الاحتياطي الناقص. ومن جميع ما تقدم يظهر ضعف ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) من 129
أن (ما ذكرناه في وجه عدم وجوب الموافقة القطعية انما يختص بالشبهات التحريمية، لأنها هي التي لا يمكن المخالفة القطعية فيها. و أما الشبهات الوجوبية فلا يتم فيها ذلك، لأنه يمكن المخالفة القطعية فيها بترك جميع الأطراف، وحينئذ لا بد من القول بتبعيض الاحتياط ووجوب الموافقة الاحتمالية في الشبهات الوجوبية). و ذلك لما عرفت من عدم الملازمة بين وجوب الإطاعة وحرمة المعصية القطعيتين، وعدم الفرق بين الشبهة الوجوبية والتحريمية في تنجز الحكم فيهما. بقي أمور ينبغي التنبيه عليها. الأول: أنه إذا شك في كون الشبهة محصورة أو غيرها، فعلى ما قلنا من تنجيز العلم الاجمالي مطلقا من غير فرق فيه بين الشبهة المحصورة وغيرها لا إشكال في حكمه وهو تنجز الحكم المعلوم إجمالا. وأما على الوجوه المذكورة في ضابط عدم الحصر، فيختلف الحكم باختلافها، إذ بناء على مسلك شيخنا الأعظم (قده) لا يتنجز، فيها الحكم، للشك في بيانية العلم الاجمالي عند العقلاء وعدم صلاحيته للتنجيز، فالمرجع في مثله هو البراءة. وبناء على مسلك المحقق النائيني - وهو بلوغ كثرة الأطراف حدا لا يقدر على الجمع بينها عادة - يلحقها حكم المحصور، فتجب الموافقة القطعية (للعلم بتعلق التكليف بأحد الأطراف وإمكان الابتلاء به فيجب الجري على ما يقتضيه العلم إلى أن يثبت المانع من كون الشبهة غير محصورة) ويعضده أن الشك حينئذ في القدرة مع العلم بالخطاب ووجود الملاك، والعقل يستقل في مثله بلزوم 130
الجري على ما يقتضيه العلم وعدم الاعتناء باحتمال العجز. وبناء على الاجماع على عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة يجب مراعاة العلم الاجمالي، لان المتيقن خروجه عن وجوب الجري على طبقه هو الشبهة غير المحصورة، فما لم يحرز ذلك وجب العمل على ما يقتضيه العلم من تنجز التكليف. وكذا بناء على كون المانع عن وجوب الموافقة القطعية العسر والحرج، لوجوب الجري على مقتضى العلم حتى يحرز المانع. الثاني: أنه بناء على عدم تنجيز العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة هل يلحق بها شبهة الكثير في الكثير، فلا يجب الاجتناب عنها، أم يلحق بالمحصورة فيجب الاجتناب عنها؟ فإذا اشتبه مائة غنم مغصوبة في ألف مثلا، فهل يتنجز حرمة التصرف في تمام الأطراف، لان نسبة الواحد إلى العشرة توجب كون الشبهة محصورة، أم لا تتنجز، لان كثرة الأطراف وهي الألف توجب كونها غير محصورة؟ الظاهر اختلاف الحكم باختلاف المسالك في عدم تنجيز العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة، فعلى مسلك شيخنا الأعظم (قده) تلحق بالشبهة المحصورة، لان احتمال التكليف في كل واحد من الأطراف لما كان من قبيل تردد الواحد في العشرة لم يكن موهوما عند العقلاء، بل كان مما يعتنون به. وعلى مسلك المحقق النائيني (قده) لا تلحق بالشبهة المحصورة، فلا تحرم المخالفة القطعية، لعدم التمكن منها، كما لا يجب ما يتفرع عليها من الموافقة القطعية. وبالجملة: فلا يكون العلم الاجمالي في شبهة الكثير في الكثير منجزا. لكن علله في أجود التقريرات بقوله: (نعم في مثل الفرض - أي كون المائة في الألف - 131
لا يكون الشبهة كالعدم، إذ المفروض عدم استهلاك المعلوم بالاجمال فيه حتى يكون تألفا بنظر العقلاء، فيجري فيه حكم الشبهة البدوية). وفيه أولا: أن التعبير بالاستهلاك في المقام غير مناسب، لأنه انعدام المستهلك في المستهلك فيه عرفا الموجب لانتفاء موضوع الحكم، بل المقام من باب الاشتباه بين الافراد المحصورة. وثانيا: أن لازمه انتفاء الحكم رأسا في الشبهة غير المحصورة بانتفاء موضوعه بالاستهلاك. وعليه فاللازم تعليل عدم تنجز الحكم فيها بعدم الموضوع المستلزم لعدم الحكم رأسا، لا تعليل عدم وجوب الموافقة القطعية بعدم حرمة المخالفة القطعية لعدم التمكن منها، فتدبر. وعلى مسلك من ادعى الاجماع على عدم تنجيز العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة يجب الاجتناب في الشبهة التي شك في كونها غير محصورة، لان مورد الاجماع وهو غير المحصورة غير محرز، فلم يثبت مانع عن تنجيز العلم الاجمالي. وكذا الحال على مسلك من استدل بدليل نفي الحرج على عدم تنجيز العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة، وذلك لعدم إحراز المانع عن تنجيزه وهو الحرج في المقام أعني شبهة الكثير في الكثير. وأما رواية الجبن فقد عرفت عدم صحة الاستدلال بها سندا ودلالة. وكيف كان، فمقتضى ما تقدم من عدم الفرق في تنجيز العلم الاجمالي بين الشبهة المحصورة وغيرها تنجيز العلم الاجمالي في الشبهة التي شك في كونها غير 132
محصورة. الثالث: أنه بناء على عدم تنجيز العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة كما نسب إلى المشهور هل يفرض العلم كالعدم؟ فيكون كل واحد من الأطراف محكوما بحكم الشك البدوي، فيجري فيه الأصل العملي الذي يقتضيه ضابطه، أم يجعل الشك في كل واحد منها بمنزلة لعدم كما يظهر من العروة، حيث قال في اشتباه المضاف في غير المحصور: (ويجعل المضاف المشتبه بحكم العدم فلا يجري عليه حكم الشبهة البدوية أيضا) ومقتضى ذلك ارتفاع الحدث بالغسل أو الوضوء بالمشتبه بالمضاف في العدد غير المحصور، إذ المفروض جعل الشك في المضاف كعدمه، وكون المشتبه به محكوما بالاطلاق، فيرتفع به الحدث والخبث. ولعل وجهه عدم اعتناء العقلاء باحتمال إضافة كل واحد من الأطراف، وبناؤهم على عدمها، لكثرة أطراف الشبهة، فإذا كان احتمال الإضافة كعدمه عومل مع محتمل المضاف معاملة المطلق، فان ثبت بناء العقلاء على ذلك واعتباره شرعا ولو بعدم الردع كان ذلك أمارة على إطلاق محتمل الإضافة، ومعه لا يجري استصحاب الحدث والخبث إذا استعمل في رفعهما. لكنه يشكل ذلك أولا: بعدم ثبوت بناء العقلاء عليه. وثانيا: بعدم الدليل على اعتباره، واحتمال كون الغلبة دليلا عليه مدفوع بعدم ثبوتها أولا مع الاختلاف في حكم الشبهة غير المحصورة. وبعدم اعتبارها على فرض تحققها ثانيا، لان غايتها إفادتها الظن، وهو لا يغني من الحق شيئا. 133
وعليه فمقتضى استصحاب الحدث والخبث عدم ارتفاعهما باستعمال مشكوك الإضافة والاطلاق، بل لو لم يجر الاستصحاب، فقاعدة الاشتغال تقضي بلزوم إحراز الطهارة مطلقا المنوط بإحراز إطلاق الماء المستعمل في رفع الحدث والخبث. والحاصل: أنه لا بد من علاج الشك، ومجرد عدم تنجيز العلم الاجمالي ليس علاجا له مع بقائه وجدانا. وعليه فيعامل مع كل واحد من الأطراف معاملة الشبهة البدوية سوأ قلنا بضعف احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل واحد منها كما عليه شيخنا الأعظم (قده) في عدم تنجيز العلم في الشبهة غير المحصورة، أم بما أفاده المحقق النائيني (قده) من كون ملاك عدم التنجيز فيها عدم حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب الموافقة كذلك. إذ غرضهما عدم تنجيز العلم وفرض وجوده كعدمه، وهو لا يرفع الشك عن كل واحد من الأطراف وجدانا، ولا الحكم الثابت له في نفسه مع الغض عن العلم الاجمالي، فيجري فيه الأصل المجعول له من البراءة أو الاشتغال. 134 الرابع: أنه (1) انما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف
135 مما (1) يتوقف على اجتنابه (2) أو ارتكابه (3) حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين [1] في البين، دون غيرها (4)
[1] الأولى تبديله ب (المعلوم) لكونه صفة للواجب أو للحرام، وليس صفة لكليهما معا حتى يصح تثنيته، لان العطف ب (أو) قاطع للشركة و موجب لوحدة الموصوف، فلا بد من افراد الصفة أيضا. نعم يصح التوصيف بالتثنية كما 139 وان كان حاله حال بعضها (1) في كونه محكوما بحكم (2) واقعا. ومنه (3) ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شئ مع أحد [1] أطراف
في المتن ان كان العطف بالواو بدل (أو) لحصول التطابق حينئذ بين الصفة والموصوف، فالأولى سوق العبارة هكذا: بإتيان الواجب المعلوم في البين أو ترك الحرام كذلك دون غيرها. [1] الأولى تبديله ب (بعض) لان المناط في جريان الأصل في الملاقي هو الشك في حكمه، وذلك يتوقف على عدم ملاقاته لجميع الأطراف سواء لاقى واحدا منها أم أكثر، إذ مع ملاقاته لجميعها يعلم حكمه تفصيلا. كما يتوقف على عدم كون عدد الملاقي بمقدار عدد الأطراف، فإذا كانت الأطراف ثلاثة مثلا وعدد الملاقي ثلاثة أيضا، ثم لاقى كل من هذه الثلاثة كل واحد من أطراف الشبهة وجب الاجتناب عن جميع الافراد الملاقية لها كوجوب الاجتناب عن نفس الأطراف، و ذلك لوجود العلم الاجمالي المنجز في نفس الملاقيات أيضا، كما لا يخفى. 140 النجس المعلوم بالاجمال، وأنه (1) تارة يجب الاجتناب عن الملاقى (2) دون ملاقيه فيما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالا بالنجس بينها (3)
141 فإنه (1) إذا اجتنب عنه وطرفه (2) اجتنب عن النجس (3) في البين قطعا ولو (4) لم يجتنب عما يلاقيه،
142 فإنه (1) على تقدير نجاسته لنجاسته (2) كان فردا آخر من النجس قد شك في وجوده كشي آخر شك في نجاسته بسبب آخر (3). ومنه (4) ظهر أنه لا مجال لتوهم
143
[1] لا يخلو من مسامحة ظاهرة، فان موضوع حكم الشارع بوجوب هجره هو عين النجس الواقعي المعلوم بالاجمال. وأما أطراف الشبهة فلا حكم للشارع فيها أصلا، وانما هو حكم العقل بلزوم رعاية احتمال التكليف المنجز في كل واحد من الأطراف تحصيلا للعلم بالامتثال كما لا يخفى. 144 أن قضية (1) تنجز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا (2)، ضرورة (3) أن العلم به انما يوجب
146 تنجز الاجتناب عنه (1) لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر (2) لم يعلم حدوثه وان احتمل. وأخرى (3) يجب الاجتناب عما لاقاه دونه فيما لو علم إجمالا
147 نجاسته (1) أو نجاسة شئ آخر، ثم حدث العلم بالملاقاة والعلم (2) بنجاسة الملاقى أو ذاك الشئ (3) أيضا (4)، فان (5) حال (×) الملاقى
(×) وان لم يكن احتمال نجاسة ما لاقاه الا من قبل ملاقاته. 149 في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الاجمالي (1)، وأنه (2) فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلا، لا إجمالا ولا تفصيلا (3). وكذا (4) لو علم بالملاقاة، ثم حدث العلم الاجمالي، ولكن
150 كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء
151 في حال حدوثه (1) وصار مبتلى به بعده. وثالثة (2) يجب الاجتناب
153 عنهما (1) فيما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم بالملاقاة، ضرورة (2) أنه حينئذ (3) نعلم إجمالا اما بنجاسة الملاقى والملاقي أو بنجاسة
154 شئ آخر كما لا يخفى، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، وهو الواحد (1) أو الاثنان [1 [2
[1] وتفصيل الكلام في المقام منوط بذكر مقدمتين: الأولى: أنه يعتبر في جريان الأصل في ما يلاقي بعض أطراف الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي أمور: الأول: عدم جريان الأصول في أطرافها حتى يجري الأصل في الملاقي بلا مانع من تعارض أو حكومة، فلو فرض جريانها فيها - كما إذا قلنا ان المانع عن جريانها في أطراف العلم الاجمالي هو العلم بالمخالفة العملية، ولم يلزم ذلك في مورد كجريان الاستصحاب في معلومي النجاسة فيما إذا علم إجمالا بطهارة أحدهما، حيث إن استصحاب نجاستهما لا يوجب العلم بالمخالفة العملية - جرت الأصول في الأطراف، وخرج هذا الفرض عن حكم مسألة الملاقاة، ضرورة أن ما يلاقي مستصحب النجاسة محكوم بالنجاسة بلا كلام كالملاقي لمعلومها، لحكومة استصحاب نجاسة الملاقى عليه. والحاصل: أن النزاع في حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة مختص بما إذا لم تجر الأصول في أطرافها، فلو جرت فيها خرج ما يلاقي بعضها عن حريم هذا البحث. ومما ذكرنا يظهر أنه لا منافاة بين فعلية الحكم وجريان الأصول في الأطراف كما عرفت في استصحاب النجاسة في معلومي النجاسة مع العلم الاجمالي بطهارة أحدهما، فلا ملازمة بين فعلية الحكم و تساقط الأصول مطلقا كما قيل بها. 155
الثاني: اختصاص الملاقاة ببعض الأطراف، فالملاقي لجميعها أو لأكثر من عدد المعلوم بالاجمال - كملاقاته لثلاثة من أربعة مع كون المعلوم اثنين - واجب الاجتناب، لكونه معلوم النجاسة تفصيلا، وهو خارج عن حيز هذا البحث، كخروج الملاقي المتعدد بمقدار عدد الملاقى عن حريمه، وقد أشرنا إلى هذا الامر في التعليقة على قول المصنف: (ملاقاة شئ مع أحد أطراف النجس). الثالث: أنهم لما بنوا نزاع وجوب الاجتناب عن الملاقي وعدمه على الخلاف في وجه نجاسة ملاقي النجس، وأنه هل هو التعبد أم السراية، فعلى الأول لا يجب الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف العلم الاجمالي، وعلى الثاني يجب ذلك، فلا بأس بالتعرض إجمالا للخلاف المزبور حتى تظهر حقيقة الحال. فنقول: لا إشكال نصا وفتوى بل وضرورة في نجاسة ملاقي النجس و لزوم الاجتناب عنه، وانما الخلاف في وجه نجاسته وأنه هل هو التعبد المحض بمعنى كون نجاسة الملاقي مجعولا شرعيا بالاستقلال في قبال جعل النجاسة للملاقى وفي عرضه، نظير تشريع النجاسة للخنزير والكافر؟ أم السراية يعني سراية النجاسة من الملاقى إلى الملاقي، وهي اما بنحو الاكتساب بمعنى كون نجاسة الملاقي ناشئة ومسببة عن نجاسة الملاقى كتسبب حرارة الماء عن حرارة النار، و عليه فتكون نجاسة الملاقي في طول نجاسة الملاقى لا في عرضها. واما بنحو الانبساط بمعنى اتساع دائرة النجاسة وصيرورة نجاسة الملاقي من مراتب نجاسة الملاقى، بل هي عينها كانقسام النجس إلى قسمين، فلا تكون نجاسة الملاقي فردا آخر في عرض نجاسة الملاقي كما في التعبد المحض وهي الصورة الأولى، ولا ناشئة عن الملاقى وفي طول نجاسته كما هو مقتضى المعنى الأول من السراية، وانما هي 156
بعض النجاسة التي اتسعت دائرتها. هذا ما قيل أو يمكن أن يقال من الوجوه المحتملة ثبوتا لنجاسة ملاقي النجس، فالكلام يقع في مقامين: الأول فيما يترتب على الوجوه المزبورة من الثمرة، والثاني فيما يمكن استظهاره في مقام الاثبات من الأدلة. أما المقام الأول، فمحصله: أنه بناء على التعبد المحض لا ينبغي الاشكال في عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي، للشك في تشريع النجاسة له، والقطع بعدم انطباق المعلوم إجمالا عليه، إذ المفروض أنه على تقدير ملاقاته للنجس يكون فردا آخر للنجس غير المعلوم إجمالا، و حيث إن نجاسة الملاقى غير معلومة، فلا محالة تكون فردية ملاقيه للنجس أيضا غير معلومة، فالعلم الاجمالي بنجاسة الملاقي والملاقى و الطرف ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير، وانما يكون فعليا على تقدير ملاقاته للنجس المعلوم بالاجمال، ضرورة أن طرف الملاقى ان كان هو المعلوم بالاجمال فقد تنجز بالعلم الاجمالي الأول، ولا معنى لتنجز المنجز ثانيا كما سيظهر وجهه، كما أن حكم ملاقي النجس من حيث اعتبار التعدد وعدمه في التطهير تابع لدليله و لا يشمله دليل نفس النجس، إذ المفروض كون نجاسته أجنبية عن نجاسة الملاقى. وكذا الحال بناء على السراية بمعنى الاكتساب، لأنه يشك في ملاقاته للنجس التي تكون سببا لنجاسته، فلا يجب الاجتناب عن الملاقي حينئذ. نعم بناء على السراية بمعنى الانبساط واتساع دائرة النجاسة يجب الاجتناب عن الملاقي، لأنه في عرض الملاقى طرف للعلم الاجمالي، فتكون الأطراف ثلاثة، وهي المتلاقيان وطرف الملاقى، ولا طولية حينئذ بين الملاقي والملاقى 157
حتى يقال: ان أصل الملاقي يجري في طول أصل الملاقى من دون مانع من التعارض، ولا يجب الاجتناب عن الملاقي لسلامة أصله النافي لوجوب الاجتناب عنه عن المعارض. بل يكون الملاقي في عرض الملاقى وطرفه، فيكون الأصل الجاري فيه في عرض الأصل الجاري في الملاقى وطرفه، فتتساقط الأصول الجارية في الأطراف الثلاثة، فيكون الكل محكوما بلزوم الاجتناب. وبالجملة: ففي صورة التعبد، وكذا بناء على السراية بمعنى الاكتساب لا يجب الاجتناب عن الملاقي، لجريان الأصل المرخص فيه بلا مانع، لكونه في طول الملاقى لا في عرضه حتى يسقط بالتعارض، و أما بناء على السراية بمعنى الانبساط فنفس دليل النجس كما يقتضي الاجتناب عن النجس، كذلك يقتضي وجوبه عن ملاقيه أيضا، لأنه عينه عنوانا، نظير دليل حرمة الربيبة على زوج أمها المدخول بها، فان نفس دليل حرمة الربيبة يدل على حرمة بناتها وان نزلن أيضا عليه، لصدق الربيبة عليهن كصدقها على بنت الزوجة بلا واسطة، هذا. وأما المقام الثاني، فمحصله: أن الظاهر من التعبيرات الواردة في النص والفتوى نظير (إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ) و (ينفعل) و (ينجسه) ونظائرها هو كون النجس سببا لنجاسة ملاقيه، حيث إن التنجيس أسند إلى نفس النجس، وظهور الاسناد في السببية لا ينكر، نظير اسناد حرارة الماء إلى النار. وهذا المعنى - أي كون النجس سببا لنجاسة ملاقيه - هو السراية بمعنى الاكتساب الذي عبر به شيخنا المحقق العراقي (قده)، لكن لا يراد بهذه السببية السببية التكوينية، إذ النجاسة حكم شرعي، وليست أمرا تكوينيا حتى تنشأ عن أمر تكويني كحركة المفتاح الناشئة عن حركة اليد. ولا السببية التشريعية، إذ 158
لازمها عدم مجعولية النجاسة، حيث إن المعلول من رشحات العلة، مع أنها كسائر الأحكام الشرعية من الأفعال الاختيارية للشارع و مجعولاته. مضافا إلى ما ثبت في محله من امتناع جعل السببية، بل المراد بالسببية هنا جعل الشارع النجاسة لشئ عند ملاقاته للنجس. ومع ما ذكرنا من المراد بالسببية، فالتعبير بها هنا كما في تقرير بحث المحقق العراقي (قده) لا يخلو من مسامحة، فالأولى التعبير بالموضوع دون السبب، ولذا كان المراد بالسبب في قولنا: (الدلوك سبب لوجوب الصلاة) و (الاستطاعة سبب لوجوب الحج) و (البيع سبب للملكية) ونحو ذلك موضوعية هذه الأمور للوجوب والملكية، بمعنى أن الشارع عند تحقق هذه الأمور ينشئ الحكم التكليفي أو الوضعي. ففي المقام يراد من سببية النجس لنجاسة ملاقيه أن ملاقي النجس موضوع لحكم الشارع بنجاسته، فالملاقاة محققة لملاقي النجس الذي هو موضوع الحكم، لا واسطة ثبوتية أي علة لتشريع الحكم للموضوع، ضرورة أن علته هي الملاك القائم بالموضوع الداعي إلى جعل الحكم له ولا واسطة عروضية وهي المصححة لاسناد الحكم إلى ذي الواسطة مجازا كعروض الحركة لجالس السفينة بواسطة حركة السفينة، حيث إن اسناد الحركة إلى ذي الواسطة وهو الجالس مجازي، وإلى نفس الواسطة وهي السفينة حقيقي، فان الوساطة بهذا المعنى لا تنطبق على الملاقاة التي هي الواسطة العروضية على الفرض، إذ لازمه كون اسناد النجاسة إلى نفس الملاقاة حقيقيا وإلى ذي الواسطة وهو الملاقي مجازيا، وهذا خلف، 159
إذ المقصود إثبات النجاسة لنفس الملاقي دون الملاقاة. مضافا إلى أنه لا معنى لنجاسة الملاقاة. ولا واسطة إثباتية محضة، وهي ما يوجب التصديق بثبوت الحكم للموضوع من دون دخل له في تشريع الحكم، وذلك لان الملاقاة كما مر آنفا مقومة للموضوع وهو عنوان الملاقي للنجس الذي هو متأخر رتبة عن الملاقاة، والحكم متأخر رتبة عن الموضوع، فالحكم متأخر عن الملاقاة برتبتين، فلو كانت الملاقاة واسطة في الاثبات كانت متأخرة عن الحكم، وهو دور أو خلف. ومما ذكرنا يظهر غموض ما في حاشية بعض المدققين (قده) على المتن من جعل الملاقاة واسطة ثبوتية وعروضية وإثباتية، فلاحظ كلامه رفع الله تعالى مقامه. وكيف كان، فالحق ما تقدم من أن الذي يمكن استظهاره من النص و الفتوى هو سببية النجس لنجاسة ملاقيه بالمعنى المتقدم من السببية. ولا منشأ لاستظهار الوجهين الآخرين - وهما التعبد المحض والسراية بمعنى الانبساط - منهما، فلا وجه للمصير إليهما، مضافا إلى أنهما يوجبان عرضية نجاسة الملاقى وملاقيه، ووحدة رتبة الأصلين الجاريين فيهما الموجبة لتساقطهما، مع أنه خلاف ما بنوا عليه من طولية أصليهما الموجبة لحكومة أصل الملاقى على أصل ملاقيه. وأما ما قيل في وجه عدم تمامية السراية بمعنى الانبساط من استلزامه عدم انفعال ما يلاقي الماء القليل المتنجس بالنجاسة المستهلكة فيه، بتقريب: أنه إذا وقعت قطرة بول مثلا في الماء القليل، ثم لاقى الماء ثوب، فإنه يلزم بناء على 160
السراية بمعنى الانبساط عدم نجاسة الثوب، إذ المفروض استهلاك البول في الماء وإناطة نجاسة الملاقي بسراية عين النجس إليه، و من المعلوم انعدام النجس عرفا بسبب الاستهلاك في الماء القليل، فلا وجود له حينئذ حتى يسري إلى الثوب، فلا بد من الحكم بطهارة الثوب، مع أن المسلم نجاسته، فالتسالم على نجاسة ما يلاقي هذا الماء القليل يكشف عن عدم صحة المبنى أعني السراية بمعنى الانبساط. ففيه: أن الحكم بعدم نجاسة الثوب في المثال المتقدم لو قيل به مبني على عدم منجسية المتنجس وانحصار التنجيس في الأعيان النجسة، وهو فاسد، فان المتنجس أيضا منجس، ومن المعلوم أن الماء القليل المنفعل يسري إلى ملاقيه، فينجسه، فبطلان هذا الحكم من هذه الجهة، لا أنه لازم للسراية بمعنى الانبساط حتى يكون بطلانه كاشفا عن عدم صحة هذا المبنى. فالعمدة في بطلان السراية بمعنى الانبساط عدم الدليل عليها، و تسالمهم على طولية أصلي الملاقى وملاقيه، كما أن هذا التسالم يكشف أيضا عن بطلان التعبد المحض المستلزم لعرضية أصلي الملاقى و ملاقيه، فتأمل جيدا. المقدمة الثانية: أن منجزية العلم الاجمالي منوطة بتعلقه اما بتكليف فعلي على كل تقدير بمعنى تنجز التكليف المعلوم بالاجمال وفعليته في أي طرف من الأطراف كان، كالعلم بوجوب الظهر أو الجمعة، واما بما هو تمام الموضوع للحكم الفعلي كالعلم بخمرية أحد الإناءين، فيجب ترتيب آثار المعلوم بالاجمال في كل ما يكون مقدمة لتحقق العلم بالامتثال. وأما إذا لم يكن كذلك بأن تعلق بما هو جز الموضوع لحكم الشارع 161
لم يكن العلم الاجمالي منجزا، كما إذا علم بأن أحد الجسدين ميت إنسان والاخر جسد حيوان، فان هذا العلم الاجمالي لا يوجب حكم الشارع بوجوب غسل المس، لان حكمه مترتب على مس ميت الانسان، وهذا العلم قد تعلق بجز موضوع الحكم وهو كون الممسوس ميتا، أما جزؤه الاخر - وهو كونه إنسانا - فلم يعلم حتى يتنجز حكمه، لاحتمال كون الممسوس جسد الحيوان، ومعه يجري الأصل النافي مثل أصالة عدم تحقق موجب الغسل أو أصالة البراءة عن وجوبه. وهذا بحسب الكبرى من المسلمات، الا أنه وقع الكلام في تطبيقها على بعض الموارد، فمنها مسألة ملاقي بعض الأطراف، فان موضوع حكم الشارع بالتنجس هو ملاقاة النجس على وجه خاص، و المفروض عدم إحرازه في ملاقي بعض الأطراف، فلا وجه للحكم بالنجاسة، وسيأتي التعرض له. ومنها: ما إذا علم إجمالا بغصبية إحدى الشجرتين أو إحدى الدارين، فهل يلزم ترتيب ما للمعلوم بالاجمال من الأحكام التكليفية و الوضعية على كل واحد من الطرفين أم لا؟ وقد عد المحقق النائيني (قده) هذه المسألة أجنبية عن تلك الكبرى، وأنه لا بد من ترتيب آثار المغصوب وأحكامه على كل واحدة من الشجرتين والدارين و المنافع والتوابع المتصلة والمنفصلة (لان وجوب الاجتناب عن منافع المغصوب مما يقتضيه وجوب الاجتناب عن نفس المغصوب، فان النهي عن التصرف في المغصوب نهي عنه وعن توابعه ومنافعه، فيكفي في وجوب الاجتناب عن المنافع المتجددة فعلية وجوب الاجتناب عن ذي المنفعة وتنجزه بالعلم التفصيلي أو الاجمالي). 162
فالعلم بغصبية إحدى الشجرتين كما يترتب عليه حرمة التصرف تكليفا في الأصل والمنافع والتوابع، كذلك يترتب عليه الحكم الوضعي وهو ضمان نفس العين ومنافعها المتجددة. والثمرة وان لم تكن موجودة حين وضع اليد على الشجرة حتى يحرم التصرف فيها، الا أن ملاكها قد تم بغصب العين المحرم تكليفا والموجب لضمانها وضمان منافعها الموجودة حين الغصب والمتجددة بعد ذلك، فبمجرد وجود الثمرة تترتب حرمة التصرف فيها لا محالة، هذا. ولا يخفى أن ما أفاده (قده) لا يخلو من تأمل، لاندراج المقام في تعلق العلم الاجمالي بجز الموضوع، فلا يحكم بحرمة التصرف في ثمرة إحدى الشجرتين كما لا يحكم بضمانها، فان مجرد العلم بكبرى الحكم لا يوجب اشتغال الذمة به ما لم تحرز صغراها خارجا، و المفروض عدم إحراز صغروية الثمرة المتصرف فيها لثمرة الشجرة المغصوبة، حتى يحكم عليها شرعا بالحرمة والضمان، لاحتمال كونها من الشجرة المباحة، كما تقدم في مثال مس أحد الجسدين، فيجري الأصل الموضوعي ان كان، وإلا فأصالة البراءة عن الضمان. كما يجري الأصل النافي بالنسبة إلى الحرمة التكليفية، لعدم إحراز التصرف العدواني في (ما للغير) الموضوع للحكم بالحرمة، فالمرجع أصالة البراءة. والحاصل: أن ما تقدم من استتباع ضمان العين لضمان المنافع وان كان متينا في نفسه، إلا أنه لا يكفي مجرد ذلك في الحكم بضمان إحدى الشجرتين، فان موضوع الحكم الشرعي هو التصرف في (ما للغير) والعلم الاجمالي بغصبية إحداهما لا يوجب الا لزوم الاجتناب عقلا عنهما دون الحرمة والضمان الشرعيين. وكيف كان فلنعد إلى مسألة الملاقي، وقد عرفت ابتناء القولين على السراية 163
والتعبد كما في الرسائل. وأورد عليه المصنف في حاشية الرسائل بمنع ابتناء القولين على المبنيين المذكورين، قال (قده): (لا يخفى أن تنجس ملاقي النجس و لو جاء من قبل وجوب الاجتناب عنه بأن كان الخطاب الدال على وجوب الاجتناب عنه دالا على وجوب الاجتناب عن ملاقيه عرفا غير مستلزم للحكم بنجاسة ملاقي أحد الطرفين، لان العقل الحاكم في الباب بوجوب الاجتناب انما يحكم به من باب المقدمة العلمية، و هذا الباب مسند في طرف الملاقي، فكيف يتعدى حكمه إلى ما ليس فيه ملاكه ومناطه، فتأمل جيدا). ومحصله: أن نجاسة الملاقي تتوقف على سراية النجاسة من الملاقى المعلوم النجاسة إليه حتى يكون الملاقي محكوما بحكم ملاقاة، و المفروض أن الملاقاة كانت لما هو محتمل النجاسة بالاحتمال المنجز، لكونه مقرونا بالعلم، ولم تكن ملاقاة لمعلوم النجاسة حتى يحكم بنجاسته، فلا وجه حينئذ لتسرية الحكم إلى الملاقي، لما عرفت من أن تمام موضوع حكم الشارع بوجوب الاجتناب عن الملاقي هو ملاقي النجس أو المتنجس بناء على منجسيته، وهو لم يحرز بعد حتى يشمله الدليل. ولكن الظاهر متانة ما أفاده الشيخ (قده) ضرورة أن السراية توجب اتحاد المتلاقيين في الحكم، وليس الغرض إثبات الحكم الشرعي بنجاسة الملاقي حتى يقال: ان الملاقاة هنا لمحتمل النجاسة لا معلومها فلا يحكم بنجاسته، بل الغرض إثبات التنجز له كتنجز ملاقاة، لان مناط لزوم الاجتناب عقلا عنه - وهو المقدمية - موجود في كل من المتلاقيين بوزان واحد، حيث إن الملاقي بناء على السراية 164
بعض الملاقى، فقياس المتلاقيين بناء على السراية على تقسيم ما في أحد الإناءين وصيرورة الأطراف ثلاثة - حيث لا شبهة حينئذ في لزوم الاحتراز عن الكل، فتكون الملازمة حكما بين المتلاقيين كالملازمة بين أبعاض الماء الواحد في وجوب الاحتياط عقلا، لوجود مناط المقدمية - في محله، بل هو عين التقسيم المزبور، وليس قياسا فضلا عن أن يكون مع الفارق، بتوهم (أن وجوب الاحتياط في صورة الانقسام ليس لمجرد الملازمة، بل لأنه تفريق لما تنجز حكمه، بخلاف ما نحن فيه، فإنه لا معنى للملازمة بين ما تنجز وما لم يتنجز) و ذلك لما تقدم من أن السراية عين الانقسام المزبور الوارد على ما تنجز حكمه، فلا يلزم الالتزام بالملازمة بين ما تنجز حكمه وما لم يتنجز حتى يكون قياسا. والحاصل: أن منجزية العلم الاجمالي لا تقتضي أزيد من رعاية المعلوم المنجز في كل واحد من الأطراف في خصوص ما يكون مقدمة للعلم بامتثاله، كما هو كذلك بناء على السراية بمعنى الانبساط. وأما ما لا يكون مقدمة علمية له كما هو كذلك بناء على التعبد فلا يؤثر فيه العلم الاجمالي، وقد تقدم في التوضيح ذكر بعض الأمثلة له. فالحق ابتناء المسألة على ما بناها شيخنا الأعظم عليه. ولعل مراد المصنف هو السراية بمعنى الاكتساب، فان كان كذلك، فإشكاله على شيخه (قدهما) في محله. ومما ذكرنا يظهر أن إشكال المحقق النائيني (قده) - كما في تقرير بحثه - على كلام المصنف في محله، قال المقرر في مقام التفريع على القول بالسراية: (وقد عرفت أنه كل ما كان للمعلوم بالاجمال من الآثار والاحكام يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به، ولا وجه لما 165
ذكره المحقق الخراساني (قده) من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد الطرفين وان كانت نجاسة الملاقي للنجس من الآثار المترتبة شرعا على نفس النجس لأنه على هذا يكون الملاقي طرفا للعلم الاجمالي كالملاقى، ويسقط عنه الأصل النافي للتكليف بنفس سقوطه عن الملاقى بالبيان المتقدم في منافع الدار وما يلحق بها. ولكن يرد على المحقق النائيني (قده) أن المترتب على الملاقي هو نفس التنجز الثابت للملاقى. وأما الأحكام الشرعية الثابتة للمعلوم بالاجمال، فلا تترتب على الملاقي ولو على السراية كما هو المفروض، لعدم العلم بانطباقه على الملاقى حتى يقال بترتبه على ملاقيه، فالثابت له هو الحكم العقلي أعني التنجز فقط كما في نفس الأطراف. إذا عرفت ما ذكرناه من الأمور، فنتعرض لصور الملاقاة وهي ثلاث على ما في المتن. الصورة الأولى: أن تكون الملاقاة بعد العلم الاجمالي بالنجس بينهما، ويستدل على وجوب الاجتناب عن الملاقي بوجهين: الأول السراية، وقد عرفت ضعف المبنى وعدم تماميته، وأن الحق كون الملاقي موضوعا حادثا للحكم بالنجاسة ووجوب الاجتناب عنه، وحيث إن الحكم بالنجاسة في نفس الملاقي مشكوك فيه، فيؤول الشك إلى الشك في موضوعية الملاقي لها، ومع هذا الشك كيف يحكم عليه بالنجاسة؟ الثاني: طرفية الملاقي لعلم إجمالي حادث بوجوب الاجتناب المردد بين 166
الملاقي والملاقى والطرف - بعد العلم الاجمالي بوجوبه بين الأصليين - بحيث يكون مجموع الثلاثة أطراف العلم الثاني، وهذا العلم الاجمالي الثاني يقتضي كون الملاقي محكوما بما حكم به على الأصليين، لكون الملاقي من أطرافه كالملاقى وطرفه. وقد أجيب عنه بوجهين: الأول: ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) من انحلاله بجريان الأصل النافي السليم عن المعارض في الملاقي، لتأخره رتبة عن الأصل الجاري في الأصليين، ضرورة أن نجاسته على تقديرها ناشئة ومسببة عن الملاقى، وحيث يتساقط الأصلان فيهما وليس هو في رتبتهما كي يسقط أيضا بالمعارضة فيجري بلا مانع، وبه ينحل العلم الاجمالي الثاني، لما ثبت في محله من انحلاله بأصل عملي يجري بلا مانع في بعض الأطراف، هذا. ولكن نوقش فيه تارة بما في في حقائق سيدنا الأستاذ (قده) من (أنه مبني على القول بأن المانع من جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي هو المعارضة دون العلم الاجمالي المبتني على كون العلم الاجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية الحاصلة من جريان الأصل في تمام الأطراف، دون وجوب الموافقة القطعية. وقد عرفت أن التحقيق هو الثاني، وحينئذ لا مجال لجريان الأصل في بعض الأطراف وان لم يكن له معارض، لان إجراءه مخالفة احتمالية) وحاصله: أن جريان الأصل في الأطراف مبني على اقتضاء العلم الاجمالي للتنجيز. وأما بناء على عليته التامة له فلا مجال لجريان الأصل في شئ من أطرافه وان لم يكن له معارض، 167
لان إجراءه مخالفة احتمالية، وهي تنافي وجوب الموافقة القطعية. وأخرى: بعد فرض مسلك الاقتضاء بأن إطلاق ما أفاده - من انحلال العلم الاجمالي الثاني بالأصل النافي الجاري في الملاقي السليم عن المعارض لتأخره رتبة عن الأصل الجاري في الأصليين، حيث إن نجاسته على تقديرها ناشئة ومسببة عن الملاقى - لا يخلو من الاشكال، وذلك لسقوط أصل الملاقي في بعض الأحيان بالمعارضة أيضا، كما إذا كان المعلوم إجمالا النجس المردد بين إناءين، ثم لاقى ثوب أحدهما، فان أصالة الطهارة في الثوب وان كانت جارية فيه بلا مانع، لعدم كونها في رتبه الملاقى حتى يعارضها الأصل الجاري فيه، لكنها في رتبة قاعدة الحل الجارية في الإناءين بعد سقوط أصالتي الطهارة فيهما، فتعارضها في هذه الرتبة وتسقط كسقوطها في الإناءين أيضا بالتعارض. ولما لم يكن أثر لأصالة الحل في الثوب فلا تجري فيه، كما لا يجري فيه أصل مرخص آخر، فلا بد من الاجتناب عنه. والحاصل: أن الأصل الجاري في الملاقي ليس في جميع الموارد سليما من المعارض حتى ينحل به العلم الاجمالي الثاني، فما أفاده الشيخ الأعظم (قده) في الجواب عن منجزية العلم الاجمالي الموجب للاجتناب عن الملاقي أخص من المدعى، ولا يجري في جميع الموارد كما لا يخفى. وثالثة: بأن اسناد عدم المعلول إلى وجود المانع فرع تمامية المقتضي كإسناد عدم احتراق الحطب إلى الرطوبة مع وجود النار، وأما مع عدم تمامية المقتضي فلا يصح اسناده إلى وجود المانع، بل لا بد من اسناده إلى عدم المقتضي، لتقدمه رتبة على المانع، والانحلال معناه أنه لولاه لكان العلم الاجمالي مقتضيا للتنجيز، كاقتضاء 168
النار للاحراق لولا المانع كالرطوبة، والمفروض أن العلم الاجمالي الحادث بعد العلم بالملاقاة غير مقتض للتنجيز في حد نفسه، لعدم إمكان تنجز المتنجز، كما سيظهر، فعدم تنجيز هذا العلم الاجمالي الثاني مستند إلى عدم المقتضي له، لا إلى وجود المانع، فلا تصل النوبة إلى إسقاطه عن الاعتبار بالمانع وهو جريان الأصل النافي في بعض الأطراف. هذا كله مضافا إلى أن في كلام الشيخ الأعظم مسامحة أخرى، فان العلم الاجمالي الذي تعرض له بقوله: (ان قلت) مبني على السراية، بشهادة تنظيره بتقسيم ما في أحد الإناءين وصيرورة الأطراف ثلاثة و أنه يجب الاجتناب عن الجميع. وجوابه المتقدم بيانه مبني على القول بالتعبد، فيعود النزاع مبنائيا. الا أن يكون المقصود منع القول بالسراية بنفس هذا الجواب. الوجه الثاني: ما أفاده المصنف من عدم العلم بفرد آخر من النجس في البين وذلك لاستحالة تنجز المنجز، فان التكليف قد تنجز في طرف الملاقى بالعلم الأول، ولا يمكن تنجزه ثانيا بالعلم الثاني، فلا يبقى إلا الشك في حدوث التكليف في الملاقي، وهو موضوع للأصل النافي. وهكذا حكم المصنف في الصورة الثانية، فحكم بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقى فيها، لعدم العلم بفرد آخر من النجس. وقد أورد عليه - كما عن شيخنا المحقق العراقي قدس سره - بأن التفاوت بين الصور الثلاث مبني على كون العلم الاجمالي بحدوثه موجبا لتنجز المعلوم إلى الأبد، وهو ممنوع، كيف لا يمنع؟ ولازمه في صورة ارتفاع العلم بسبب طروء 169
الشك الساري على المعلوم أو حصول العلم بخلافه بقاء التنجز، وهو مما يقطع بخلافه، وهذا ظاهر في العلم التفصيلي بالوجدان فكيف بالاجمالي منه. والتحقيق: أن العلم وان كان طريقا إلى متعلقه، لكنه موضوع لحكم العقل بتنجز المتعلق، فلبقائه دخل في بقاء حكمه كما يحدث التنجز بحدوثه، وعلى هذا فلا أثر لسبق أحد العلمين في إسقاط العلم المتأخر حدوثه عن الأثر، بل التنجز يستند إليهما عند تحقق اللاحق، فالعلم السابق من حين حدوثه يستقل في تنجيز حكم متعلقه الدائر بين الأصليين ويجب الاجتناب عنهما مقدمة، فإذا حدث العلم الثاني بين الملاقي والطرف كان منجزا بالنسبة إلى الطرف أيضا، غاية الامر أن حدوث التنجز كان مستندا إلى العلم الأول، وبعد حدوث الثاني يستند بقاؤه إلى العلمين ويصير اللاحق جز العلة بعد أن كان الأول هو العلة المنحصرة فيه قبل حدوث الثاني. وهكذا الكلام في الصورة الثانية، فيجب فيها الاجتناب عن الملاقى أيضا، ففي الصورتين يجب الاجتناب عن الجميع، وتكون الحال كما لو علم بنجاسة إناءين أو إناء ثالث حيث يجب الاجتناب عن الكل. و عليه فتأخر العلم بوجوب الاجتناب عن الملاقي عن العلم بوجوب الاجتناب عن الملاقى لا يخرج الملاقي عن حكم المعلوم بالاجمال، هذا. وأجاب عنه سيدنا الأستاذ (قده) في المستمسك (بأن إناطة التنجيز بالعلم حدوثا وبقاء غاية ما تقتضيه أن التنجز في حال حدوث العلم الثاني مستند إلى وجود العلم في ذلك الان، لكن هذا المقدار لا يوجب إلحاق الفرض بما لو علم بنجاسة إناءين أو إناء ثالث، إذ في هذا الفرض لما كان أحد العلمين سابقا والاخر لاحقا كان السابق موجبا لانحلال اللاحق به، وسقوطه عن التأثير، بخلاف فرض 170
اقتران العلمين، فإنه يمتنع أن ينحل أحدهما بالآخر، لأنه ترجيح بلا مرجح، فان انحلال أحد العلمين بالعلم الاخر بحيث يسقط العلم المنحل عن التأثير ليس حقيقيا، بل هو حكمي). ومحصل مرامه قدس سره: أن اسناد التنجيز في المقام إلى أسبق العلمين وإيجابه لسقوط المتأخر عن التأثير وانحلاله به ليس بلا مرجح بل معه، وهو سبق أحدهما على الاخر، وهذا بخلاف فرض اقتران العلمين، فإنه يمتنع انحلال أحدهما بالآخر، لان تساوي أقدامهما مانع عن الترجيح، فيكون ترجيحا بلا مرجح. والانحلال في صورة السبق عقلائي بمعنى عدم اعتناء العقلاء باللاحق وعدم كونه حجة على مؤداه، بل الحجة عليه هو السابق. أقول: ينبغي النظر في ما هي حقيقة التنجز، ولما ذا امتنع تنجز ما تنجز سابقا حتى جعل ذلك من المسلمات، فقيل: (المنجز لا ينجز ثانيا) كي يظهر حال بعض ما ورد من كلمات الاعلام في المقام، فنقول وبه نستعين: ان مبنى الاشكال المتقدم مقايسة تأثير العلم وسائر الحجج في التنجيز بالعلل التكوينية، والظاهر أنها مع الفارق، و توضيحه: أنه لا ريب في استقلال العلة التامة في التأثير، وأنه بحدوث العلة الثانية يحصل الاشتراك فيه، ويصير كل منهما جز العلة بعد أن كانت الأولى تمام العلة -، فيستند سخونة الماء حدوثا إلى النار التي أوقدت تحته في الساعة الأولى، ويستند إليها وإلى النار التي أوقدت بجنبه في الساعة الثانية، فكل من النارين تؤثر في بقاء سخونة الماء بعد أن كانت الأولى مستقلة في التأثير حدوثا، كاستناد الأثر إليهما حدوثا فيما إذا أوقدتا معا من أول الامر. وهذا كلام 171
متين، فان العلة تؤثر في المعلول في كل آن، ولا يكفي حدوثها في بقاء الأثر إلى الأبد، وهذا الحديث جار في كل ما يكون مطلقا وجوده مؤثرا في المعلول. لكن الظاهر أن التنجز ليس كذلك، حيث إنه عبارة عن انكشاف الحكم للمكلف ووصوله إليه الموجب لانقطاع عذره الجهلي، وحكم العقل باستحقاق العبد للمؤاخذة على المخالفة، وهذا المعنى في نفسه غير قابل للتعدد، فان العقل انما يحكم باستحقاق العقوبة على عصيان التكليف الواصل بالعلم أو بحجة أخرى، ومن المعلوم أن قيام صرف الوجود من الحجة موضوع لهذا الحكم العقلي، إذ التكليف الواحد بوصوله إلى المكلف له إطاعة واحدة ومعصية كذلك، و يترتب على عصيانه استحقاق العقاب، وهذا الأثر باق ما دامت الحجة الأولى باقية غير مرتفعة بالشك الساري أو العلم بالخطإ، ولا أثر لقيام الحجة الثانية على نفس الحكم في تنجيزه، لوضوح عدم قابلية التنجز الذي هو وصول الحكم الشرعي إلى المكلف بحيث تصح المؤاخذة على مخالفته للتعدد والتكرر، فهو من قبيل تحصيل الحاصل المحال. وعليه فالمنجز الأول باق على تنجيزه الا أن ينكشف خلافه أو يزول بالشك الساري. وعلى هذا فإذا علم إجمالا بوجوب الاجتناب عن النجس المردد بين الأصليين فقد تنجز الوجوب فيهما، والعلم الاجمالي الثاني الحاصل بعد الملاقاة - في الصورة الأولى - لا تؤثر شيئا، لأنه حصل بعد قيام صرف الوجود من الحجة على وجوب الاجتناب المردد بين الملاقى وصاحبه، وشرط منجزية العلم الاجمالي عدم سبق المنجز إلى بعض الأطراف، وإمكان منجزيته على كل تقدير من تقادير احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على الأطراف، والعلم الاجمالي الثاني لا يمكن أن ينجز 172
على أي تقدير، إذ لو كان النجس المعلوم بالاجمال هو الملاقى، فقد تنجز وجوب الاجتناب عنه، وقد تقدم أن التنجز غير قابل للتكرر. ولو كان هو طرف الملاقى فقد تنجز أيضا، فلا مجال لتنجزه ثانيا. وعليه فاستحالة تنجز المنجز انما هي لأجل عدم الموضوع له، لما تقدم من أن موضوع حكم العقل وهو صرف وجود الحجة، وقد قامت أولا حسب الفرض وانكشف بها الواقع وترتب عليه حكم العقل باستحقاق العقوبة، فلا ينكشف ثانيا بوجود حجة أخرى، لعدم تحمل حكم واحد لانكشافين يستتبع كل منهما استحقاق المؤاخذة على المخالفة، ولذا يكون العلم الثاني ترددا صوريا غير موجب لحدوث التكليف، ومن المعلوم أن المنجز هو العلم الاجمالي بالحكم الفعلي على كل تقدير، دون غيره. وبهذا البيان يتضح متانة كلام الماتن وتماميته، والمناقشة في الاشكال المحكي عن شيخنا المحقق العراقي (قده). ومع الغض عما ذكرناه فما أجاب به سيدنا الأستاذ (قده) بظاهره لا يخلو عن تأمل، إذ مع تسليم (إناطة التنجيز في كل آن بالعلم في ذلك الان وعدم استناده إلى العلم في الان قبله، لعدم كفاية حدوث العلم في التنجز إلى الأبد) يمكن دعوى أن إسقاط العقلاء للعلم المتأخر عن التأثير يكون من باب الخطأ في مقام التطبيق، كمسامحتهم في تطبيق الكر على ما دون المقدار الشرعي بقليل، إذ لو بني على كون المنجز - وهو العلم - كسائر العلل في إمكان تشريك المقتضي اللاحق في التأثير بقاء مع المقتضي السابق كان اسناد الأثر إلى أسبق المقتضيين بالخصوص - في تمام الأحوال التي منها حال مقارنة المقتضي المتأخر في الوجود للسابق منهما - بضرب من العناية بحيث 173
لو التفتوا إليه لرفعوا اليد عن سيرتهم، ومن المعلوم أن مثل هذه السيرة لا عبرة بها، فان إمكان تأثير العلة الثانية عقلا فيما أثرت فيه العلة الأولى كاف في الردع عن هذا البناء العقلائي، فان حال العلم في تنجيز معلومه حينئذ كحال الوجود بالنسبة إلى الماهية، حيث إن تحصلها في كل آن انما هو بإفاضة الوجود عليها من مفيضه جل وعلى في ذلك الان، لا آن قبله ولا بعده. وعلى هذا فإذا حصل العلم الثاني - بعد الملاقاة - بوجود النجس بين الملاقي والملاقى وطرفه كان اسناد التنجيز إلى العلم الاجمالي الأول فقط ترجيحا بلا مرجح، لعدم كون الأسبقية مرجحة عقلا بعد عدم القصور في تأثير العلم اللاحق أيضا حسب الفرض، ولما كان تأثير كل واحد من العلمين مستلزما لتوارد علتين مستقلتين على معلول واحد - وهو تنجز التكليف في عدل الملاقى - فلا مناص من تشريك كل منهما في التأثير واسناد التنجيز إليهما معا بقاء بعد أن استقل السابق منهما فيه حدوثا. والحاصل: أن التخلص من الاشكال منوط بالالتزام بعدم قابلية الحكم المنجز للتنجز مرة أخرى على ما أوضحناه. فلو التزمنا بصلاحية كل واحد من العلمين للتنجيز لم تكن دعوى الانحلال العقلائي مجدية فيه، فلاحظ وتدبر. وما قيل من: (أن التنجزات اللاحقة مستندة إلى المنجز الأول، ولذا لو خرج بعض الأطراف عن الابتلاء بقي التكليف على تنجزه في سائر الأطراف) قد عرفت المناقشة فيه، إذ بعد تسليم صلاحية المنجزات اللاحقة للتأثير لا وجه لاستناد التنجز إلى خصوص أسبق العلمين، الا مع عدم قابلية المعلوم للتنجيز ثانيا على ما تقدم. وقد تحصل: أن الحكم في الصورة الأولى وهي لزوم الاجتناب عن الملاقي 174
دون ملاقيه كما أفاده المصنف خال عن الاشكال. الصورة الثانية: وهي لزوم الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى، وقد ذكر المصنف لها موردين: الأول: العلم بنجاسة الملاقي والطرف ثم الالتفات إلى أن الملاقي لو كان نجسا فإنما هو لملاقاته مع شئ ثالث علم إجمالا بنجاسته أو نجاسة الطرف، وقد حكم المصنف فيه بلزوم الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى، وعمدة الاشكالات المتوجهة على تفصيل المصنف ناظرة إلى هذه الصورة وان اشتركت الصورة الثالثة معها في بعضها أيضا. فمنها: ما في تقريرات المحقق النائيني (قده) ومحصله: ابتناء هذا التفصيل على كون حدوث العلم الاجمالي بما أنه صفة قائمة بالنفس تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف وان تبدلت صورته و انقلبت عما حدثت عليه، لأنه عليه يكون المدار على حال حدوث العلم لا المعلوم. لكن الانصاف فساد المبنى، حيث إن المدار في تأثير العلم انما هو على المنكشف والمعلوم لا الكاشف. وفي جميع الصور المفروضة يكون رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقى والطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقي والطرف وان تقدم زمان العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي والطرف على العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي والطرف، لان التكليف في الملاقي انما جاء من قبل التكليف في الملاقى، وحيث إن هذا التقدم والتأخر واقعي، فلا أثر لزمان حصول العلمين تقدم العلم بالمتأخر منهما، أو تقارن حصول العلمين بعد ما كان المعلوم في أحد العلمين سابقا رتبة أو زمانا على المعلوم بالعلم الاخر. 175
ومنها: ما في التقريرات أيضا من إباء الذوق المستقيم عن الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقي مع أن التكليف فيه آت من قبله. ومنها: أنه يلزم انفكاك المسبب عن سببه، مع أن الملازمة واقعية، توضيحه: أن مقتضى عدم منجزية العلم الثاني لوجوب الاجتناب عن الملاقى عدم كونه طرفا للعلم الاجمالي وجريان أصالة الطهارة فيه والتعبد بطهارته ظاهرا، ومقتضاه التعبد بالطهارة الظاهرية في الملاقي أيضا، لئلا يلزم انفكاك المسبب عن سببه، فان نجاسة الملاقي مسببة عن نجاسة ملاقاة واقعا، فلو حكم الشارع بطهارته ظاهرا لعدم كونه طرفا لعلم إجمالي منجز فلا بد من الحكم بطهارة ملاقيه ظاهرا أيضا، قضية للتلازم بينهما حكما، وهذا لا يجتمع مع ما فرض من وجوب الاجتناب عنه عقلا من باب المقدمة العلمية. ومقتضى طهارة الملاقي عدم جريان أصالة الطهارة في الملاقى، لدوران النجس المعلوم إجمالا بينه وبين ما هو في عرضه، فيتساقط الأصلان فهما بالمعارضة. وعليه فلازم الحكم بطرفية الملاقي للعلم الاجمالي هذا المحذور المحال، بخلاف ما إذا انحصر الطرف في الملاقى وما هو في عرضه. وأجيب عن الأول بأن العلم وان كان طريقا إلى متعلقه وكاشفا عنه، الا أنه انما يكون كذلك بالنسبة إلى خصوص الآثار الشرعية المترتبة على متعلقه، كما لو علمنا بنجاسة هذا الاناء من قبل يومين، فان مقتضاه الحكم بنجاسة ملاقيه من زمان الملاقاة لا من زمان العلم، لكونه نجاسته حكما واقعيا لا دخل فيه لعلم المكلف وجهله به، دون الأثر العقلي المترتب على نفس العلم وهو التنجيز الذي يترتب عليه استحقاق العقوبة، فان موضوع التنجز هو قيام الحجة الذاتية أو الجعلية على الوظيفة الفعلية، 176
وإذا كان التنجيز من آثار العلم بالنجاسة لا من آثار وجودها الواقعي، فالعلم الحاصل أولا بين الملاقي وعدل الملاقى يقتضي التنجز بلا مانع منه. ومجرد كون المعلوم بالعلم اللاحق سابقا زمانا أو رتبة لا يوجب سقوط العلم الأول عن التأثير بعد أن كان التنجيز من آثار العلم المتقدم زمانا على الاخر، لا من آثار المتقدم رتبة وان تأخر وجوده، ودوران التكليف بين الملاقى والطرف واقعا لا يمنع من تأثير العلم الأول الحاصل بين الملاقي والطرف، لعدم العلم به، كما لا معنى لتأثير العلم الثاني في زمان قبل حصوله بالنسبة إلى الآثار العقلية حتى يمنع من تأثير العلم السابق، هذا. وما في التقريرات المزبورة من (انحلال العلم السابق باللاحق، لكون معلومه متقدما بالزمان أو بالرتبة على معلوم أسبق العلمين) لم يظهر له وجه، إذ الانحلال في موارده اما حقيقي واما حكمي واما تعبدي. ولا مسرح لدعوى الانحلال الحقيقي فإنه بعد حصول العلم الثاني لم يرتفع الترديد الحاصل أولا بين الملاقي والطرف بل هو باق بحاله، وهو يمنع عن تنجز التكليف في الطرف بالعلم الثاني، لامتناع تنجز المنجز. ولا مجال لدعوى القطع بعدم التكليف في الملاقي. نعم يتبدل المعلوم فيه من الأصالة إلى التبعية، وهذا لا يقدح في تأثير أسبق العلمين. كما لا مجال لدعوى الانحلال التعبدي المنوط بقيام أمارة شرعية على التكليف في بعض الأطراف كالبينة القائمة على أن الخمر المردد بين الإناءين انما هو في الاناء الشرقي مثلا، إذ المتحقق ثانيا هو العلم الاجمالي لا الحجة التعبدية. وأما الانحلال الحكمي أي عدم كون العلم الأول منجزا بعد حدوث العلم الثاني فهو يتم في مثل حصول العلم يوم الجمعة بإصابة النجس بأحد الإناءين 177
الأبيض والأحمر ثم العلم يوم السبت بوقوع القذر في الاناء الأصفر أو الأبيض يوم الأربعاء، فان العلم السابق ينحل باللاحق، إذ يكشف هذا عن عدم كون السابق منهما علما بتكليف فعلي على كل تقدير، و هذا بخلاف المقام، فان التكليف قد تنجز في طرف الملاقى أولا، و يستحيل تأثير العلم الثاني فيه مرة أخرى، فان المنجز لا يتنجز، فكيف ينحل العلم الأول به حكما؟ بل في حاشية المحقق الأصفهاني (قده) أن مانعية العلم الثاني عن تنجيز العلم الأول بقاء مستلزمة للدور، قال: (لان مانعيته فرع كونه علما بحكم فعلي على أي تقدير وغير منجز بمنجز سابق، وكونه كذلك فرع سقوط العلم الأول عن التأثير بقاء إلخ). وتوضيحه: أن العلم الاجمالي المتقدم مقتض للتنجيز، والمانع منه اما هو وجوب الاجتناب عن الملاقى والطرف بوجوده الواقعي قبل تعلق العلم به، وهو باطل، لما عرفت من أن الآثار العقلية تترتب على العلم، إذ هو الصالح للاحتجاج وقطع العذر. فالعلم الاجمالي الأول لا مانع من تنجيزه، فيؤثر. واما هو وجوب الاجتناب عنهما بوجوده العلمي أي بعد حدوث العلم الاجمالي الثاني، وهذا أيضا غير مانع عنه، فان المتأخر من العلمين معدوم حين حدوث المتقدم منهما، و المعدوم ليس محض لا يتقرب منه المانعية، فلا بد أن تكون المانعية بحسب وجوده البقائي موجبة لانحلال العلم الأول، ولكنه باطل أيضا، وذلك لان المانعية تتوقف على كون العلم الثاني علما بحكم فعلي على كل تقدير، ولم يتنجز بعض الأطراف بمنجز سابق. وكونه كذلك يتوقف على عدم منجزية العلم الأول للتكليف بين 178
الملاقي والطرف، وعدم منجزيته يتوقف على تأثير العلم المتأخر، و هذا هو الدور الصريح. أقول: بناء على تسليم اقتضاء العلم الأول للتنجيز فالامر كما أفاده قدس سره من اقتضاء المانعية بقاء للدور. الا أن الظاهر من تقريرات المحقق النائيني (قده) عدم اقتضاء العلم السابق للتأثير إذا لحقه علم آخر يكون معلومه متقدما عليه زمانا أو رتبة، وان كان هذا الكلام في نفسه متهافتا مع دعواه انحلال العلم السابق باللاحق، لاقتضاء الانحلال تمامية اقتضاء العلم في التأثير لولا المانع، وقد سبق مثل هذا التسامح في التعبير من الشيخ كما نبهنا عليه. وكيف كان فالظاهر أن دعوى المحقق النائيني (قده) عدم اقتضاء العلم السابق للتأثير إذا لحقه علم آخر لا تخلو من شئ، لما عرفت من عدم القصور في كاشفية أسبق العلمين، وكون المعلوم به حكما إلزاميا أو موضوعا له، غاية الامر أن المنكشف بالعلم اللاحق سابق زمانا أو رتبة على الأول، الا أنه غير موجب لسقوط السابق عن اقتضاء التأثير مع عدم تنجز الحكم قبله، فلا بد أن يكون تأثير اللاحق في مرحلة المنع بقاء، وإلا استلزم الدور كما عرفت. وبهذا اندفع إشكال المحقق النائيني على المصنف، ومحصله كون التنجيز والتعذير من آثار العلم لا المعلوم. ويجاب عن الثاني أيضا بأن الذي يأباه الذوق الفقهي المستقيم انما هو التفكيك في حكمين لموضوعين يتبع أحدهما الاخر ثبوتا، و لكنك تعرف أن لزوم رعاية التكليف في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي المنجز انما هو حكم عقلي من باب المقدمة العلمية، و نجاسة الملاقي على تقديرها وان كانت تابعة في الوجود 179
الخارجي لنجاسة الملاقى، الا أن التكليف بالاجتناب عن الملاقي قد تنجز بالعلم الأول بين الملاقي والطرف، وبسبب تأثيره سقط العلم الثاني عن قابلية التأثير، فلا يجب الاجتناب عن الملاقى، وحيث انه بناء على التعبد يختص كل من المتلاقيين بجعل شرعي مستقل، فتنجز الخطاب في أحدهما - وهو الملاقي - بسبب العلم الأول لا يوجب تنجزه في الاخر وهو الملاقى. وأجاب المحقق الأصفهاني عن الثالث بما لفظه: (بأنا نلتزم بانفكاك المسبب عن سببه بلحاظ بعض الآثار، لمكان الموجب له، فان التعبد بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي - بالكسر - انما يصح بتبع التعبد بعدمه في الملاقى - بالفتح - إذا لم يكن هناك مانع عقلي أو شرعي. إلى أن قال: ومقتضى التعبد بطهارة الملاقى - بالفتح - بعد تنجز التكليف في الملاقي بالكسر وطرفه ليس الا ترتيب أثر الطاهر بما هو طاهر على الملاقي بالكسر، لا رفع وجوب الاجتناب العقلي التابع للعلم الاجمالي الذي لا مانع منه عند تأثيره، فيجب الاجتناب عقلا عن الملاقي بالكسر وعن طرفه وان كان لا يعامل معه معاملة النجس من حيث ملاقاة شئ معه فضلا عن طرفه، فان خروج الملاقي بالكسر عن وجوب الاجتناب لا يمنع بقاء احتمال التكليف المنجز في الاخر على خلافه، فتدبر جيدا فإنه حقيق به). أقول: الظاهر أن هذا الجواب في غاية المتانة بناء على علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية كما هو مختاره وفاقا لشيخه الأستاذ قدس سرهما، إذ على هذا المسلك يكون العلم موجبا للتفكيك بين طهارة المتلاقيين ظاهرا مع فرض الملازمة بينهما فيها، أو حكومة أصالة الطهارة في الملاقي على أصل الطهارة في 180
الملاقي، لتقدمه رتبة كما في الرسائل، وأنه بمجرد التعبد بطهارة الملاقى يلزم ترتيب آثار الطهارة على الملاقي، والعلم الاجمالي يمنع من التعبد بطهارة الملاقي ظاهرا، أو وجوب الاجتناب عن الطاهر الظاهري. وأما على مبنى اقتضاء العلم الاجمالي - كما لعله هو مبنى الاشكال - فقد يشكل هذا الكلام، من جهة أن حكم العقل بلزوم الاجتناب عن الملاقي ليس الا لرعاية احتمال التكليف فيه ووجوب دفع الضرر المحتمل، ومن المعلوم أن هذا الحكم العقلي معلق على عدم تأمين الشارع وعدم تصرفه في مرحلة الفراغ، إذ معه لا مسرح لحكمه بلزوم تحصيل القطع بالامتثال، وعليه فإذا ورد التأمين الشرعي بلسان أصل الطهارة في الملاقى المستتبع لطهارة ملاقيه ظاهرا، فقد حصل المانع من تنجيز العلم الاجمالي، فلا يجب الاجتناب عن الملاقي حينئذ، الا أن يرفع اليد عن الملازمة بين طهارة المتلاقيين ظاهرا، و الالتزام به كما ترى. والحاصل: أن التخلص من الاشكال المذكور منوط بالالتزام بعلية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية، وأما على مسلك الاقتضاء فالجواب المذكور لا يخلو من شئ، الا أن المصنف ومن تبعه في سعة منه بناء على ما أسسوه من علية العلم الاجمالي له. المورد الثاني للصورة الثانية - وهي وجوب الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى - العلم بالملاقاة ثم حدوث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، وخروج الملاقى عن الابتلاء قبله أو مقارنا له وصيرورته مبتلى به بعده وقد بينا في التوضيح مقصود المصنف (قده) ووجه حكمه بعدم لزوم الاجتناب عن الملاقى اعتمادا على كلماته الشريفة في الفوائد، فراجع. 181
وقد أورد عليه شيخ مشايخنا المحقق النائيني وغيره (بأنه لا أثر لخروج الملاقى عن محل الابتلاء في ظرف حدوث العلم مع عوده إلى محل الابتلاء بعد العلم) والظاهر متانة هذا الاشكال، إذ المفروض دوران المعلوم بالاجمال بين أطراف ثلاثة، وخروج بعضها عن الابتلاء وان كان مانعا عن اشتغال الذمة به، لكن إذا صار مبتلى به ثانيا ارتفع المانع عن الاشتغال، فيجب الاجتناب، وليس في المقام علمان كما في الصورة الأولى كي يشكل عليه بأنه غير منجز، لاستحالة تنجز المنجز. هذا إذا قلنا يدخل الابتلاء في مرتبة تنجز التكليف كما بنى عليه المصنف في حاشية الرسائل. وأما بناء على كونه شرطا لفعلية الخطاب، فالحق معه في عدم تأثير عود الملاقى إلى محل الابتلاء في وجوب الاجتناب عنه. وفي هذا الفرض يرد إشكال شيخنا المحقق العراقي على ما استدل به مثل شيخنا الأعظم من عدم جريان الأصل في المفقود حتى يعارض أصل الطرف ويسلم أصل الملاقي عن المعارضة حتى لا يجب الاجتناب عنه بأن الخروج عن محل الابتلاء لا يمنع عن جريان الأصل فيه إذا ترتب عليه أثر فعلي ولو بالنسبة إلى ما يتبعه، قال في المقالات: (وهذا المعنى بناء على علية العلم الاجمالي في وجوب الموافقة القطعية في غاية المتانة، لان العلم الاجمالي الحاصل بين اللازم وطرف الملزوم التالف كان منجزا للطرفين، لعدم سبق علم آخر في البين يمنع عن تنجيز هذا العلم، فيؤثر حينئذ أثره سواء كان فيه أصل غير معارض لأصل طرفه أو لم يكن. وأما لو بنينا على اقتضاء العلم في تأثيره في الموافقة القطعية بحيث كان 182
قابلا لمنع المانع، فهذا الكلام انما يتم في الأصول غير التنزيلية مثل قاعدة الحل على وجه بضميمة كون حلية اللازم أيضا من آثار حلية الملزوم ولو ظاهريا إلى أن قال: وأما لو كان الأصل تنزيليا كالاستصحاب مثلا، فلا شبهة في جريانه حتى في التالف أو الخارج عن محل الابتلاء بلحاظ ماله من الآثار التي كانت مورد ابتلاء المكلف فعلا، ولازمه حينئذ معارضة هذا الأصل الجاري في التالف مع الأصل في طرفه، ويتساقط الأصلان ويرجع حينئذ إلى الأصل الجاري مستقلا في اللازم المسبب، ونتيجته عدم لزوم الاجتناب عن الملزوم أيضا حتى في فرض التلف، فلا مجال حينئذ لقيام المسبب مقام السبب عند تلف السبب). الصورة الثالثة: حصول العلم بالملاقاة ثم العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى أو عدله مع كون الجميع مورد الابتلاء، فيجب الاجتناب عن جميع الأطراف، لتعلق العلم بتكليف لم يتنجز بمنجز سابق، فيصلح لان يتنجز بهذا العلم، غاية الامر أن التكليف في بعض الأطراف ليس من سنخ التكليف في بعضها الاخر، فإنه بالنسبة إلى الملاقى والطرف هو وجوب الاجتناب عن النجس، وبالنسبة إلى الملاقي هو وجوب الاجتناب عن المتنجس، نظير العلم بنجاسة أحد هذين الإناءين و غصبية الثالث، إذ لا ريب في تنجز الحكم الواقعي بالعلم في هذا المثال. وهنا كذلك، فيدور الامر بين وجوب الاجتناب عن النجس المردد بين الأصليين وعن المتنجس القائم بالملاقي، وهو منجز. والملاقاة الخارجية وان كانت سابقة على العلم الاجمالي، الا أن الموجب الاشتغال الذمة عقلا بالتكليف هو العلم بنجاسة الملاقى والطرف، و هو كما تعلق بالأصليين كذلك تعلق بالملاقي في عرض واحد، لان العلم بالملاقاة 183
جعل المتلاقيين بمنزلة عدل واحد، وهذا مراده قدس سره بقوله: (فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، وهو الواحد أو الاثنان). و المحكي عن المحقق النائيني وفاقا للشيخ الأعظم (قدهما) عدم لزوم الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة، بدعوى أن الأصل الجاري فيه متأخر رتبة عن الأصل الجاري في الملاقى، فيكون سليما عن المعارضة مع أصل الطرف. ويرد عليه ما في تقرير بعض أعاظم العصر (مد ظله) من: أن الأصل الجاري في الملاقي وان كان متأخرا بالرتبة عن الأصل الجاري في الملاقى، لكنه في عرض الأصل الجاري في طرفه، لعدم ترتبه عليه حتى يكون أصله متأخرا عن الأصل الجاري في صاحب الملاقى، فحينئذ تتعارض الأصول الثلاثة ويتنجز التكليف المعلوم. وتوهم تأخر أصل الملاقي عن أصل الطرف بقياس المساواة، حيث إنه متأخر عن أصل الملاقى، وبما أن الأصليين في رتبة واحدة، فيتأخر مرتبة أصل الملاقي عن الطرف أيضا، لان المتأخر عن أحد المتساويين متأخر عن الاخر أيضا، مندفع بتمامية القياس المذكور في التقدم والتأخر الزمانيين والشرفيين دون الرتبيين كما في المقام، فان وجود العلة وعدمها متساويان في الرتبة، ووجود المعلول وان كان متأخرا عن وجود علته، لمكان معلوليته الموجبة لتأخر وجوده رتبة عنها، الا أن ذلك لا يقتضي كونه متأخرا عنها عدما أيضا، إذ لا علية ولا معلولية بينهما في مرتبة العدم. وبعبارة أخرى: التقدم والتأخر رتبة عبارة عن كون المتأخر ناشئا من المتقدم ومعلولا له، وكون شئ ناشئا من أحد المتساويين في الرتبة ومعلولا له لا يقتضي 184
كونه ناشئا من الاخر ومعلولا له أيضا، هذا. مضافا إلى أن أدلة اعتبار الأصول ناظرة إلى الأعمال الخارجية و متكلفة لبيان أحكامها، ومن هنا سميت بالأصول العملية، وغير ناظرة إلى أحكام الرتبة بوجه، ومع فعلية الشك في كل واحد من المتلاقيين لا وجه لاختصاص المعارضة بالأصل السببي بعد تساوي نسبة العلم الاجمالي إليه وإلى الأصل المسببي. نعم التقدم الرتبي انما يجدي على تقدير جريان الأصل في السبب، وأما على تقدير عدم جريانه فيه فهو والأصل المسببي على حد سواء. ولا يخفى أن الأصل في الملاقي وان لم يكن متأخرا رتبة عن أصل طرف الملاقى، الا أنه مع ذلك لا يجري في عرض أصل طرف الملاقى، كي تتعارض الأصول الثلاثة، لان جريان الأصل المسببي منوط بسقوط الأصل السببي كما ثبت في محله، ففي المقام لا يجري الأصل في الملاقي الا بعد سقوطه في الملاقى، ومن المعلوم أن سقوطه منوط بمعارضته لأصل طرفه حتى يسقط أصلاهما معا وتصل النوبة إلى أصل الملاقي. وبالجملة: أصل الملاقي وان لم يكن متأخرا رتبة عن أصل طرف ملاقاة، وذلك يقتضي جريانه في عرض جريان أصله، لكنه مع ذلك لا يجري في عرضه، لإناطة جريانه بسقوط أصل ملاقاة، والمفروض توقف سقوطه على معارضته لأصل طرفه، فجريان أصل الملاقي يتوقف على سقوط أصل صاحب الملاقى. فالنتيجة: أن أصل الملاقي قبل سقوط أصلي الملاقى وطرفه لا يجري حتى يسقط بمعارضته لهما، وبعد سقوطهما يجري بلا مانع، فلا تجتمع الأصول 185
الثلاثة حتى تتعارض كي يجب الاجتناب عن الملاقي. وأما ما أفاده دام ظله (من فعلية الشك في كل واحد من المتلاقيين) ففيه: أن المراد بفعليته ان كان هو وجود الشك وجدانا فلا كلام فيه، لكنه غير مقصود، والا لبطل ما أسسوه من حكومة الأصول بعضها على بعض، إذ الحكومة لا ترفع الشك الموضوع في الأصل المحكوم وجدانا. وان كان هو الشك مع العلاج، ففيه: أن الشك في الملاقي ليس موضوعا للأصل مطلقا، بل بعد سقوط الأصل في الأصليين. ومنه ظهر: أن التقدم الرتبي يوجب إناطة جريان الأصل في المسبب بعدم جريانه في السبب. وأما ما أفاده دام ظله بقوله: (مضافا إلى أن أدلة اعتبار الأصول ناظرة إلى الأعمال الخارجية إلخ) ففيه: أن المراد بالأصول العملية هي الأصول التي يرجع إليها الشاك المتحير في الحكم الواقعي في تعيين وظيفته التي هي أعم من الفعل والترك، فالمراد بالعمل ليس هو خصوص الفعل الوجودي، بل أعم من الفعل والترك، كما يشهد بذلك أصالة الاشتغال، فإنها قد تقتضي الفعل كما في الشبهات الوجوبية، وقد تقتضي الترك كما في الشبهات التحريمية. وكذلك قاعدة التخيير، حيث إن مقتضاها التخيير بين الفعل والترك، فالمراد بالعمل في الأصول العملية هو ما يعم الفعل والترك. وأما قوله مد ظله: (وغير ناظرة إلى أحكام الرتبة بوجه) ففيه: أنه لا إشكال في عدم تكفل شئ من الأدلة لحفظ موضوعه، بل مقتضاها ثبوت الحكم لموضوعه على تقدير وجوده، فلا بد لاحراز الموضوع من دليل آخر، وحينئذ 186
نقول: ان دليل الأصل العملي قاصر عن إثبات موضوعه في الشك المسببي، لان شكه يعالج بدليل الأصل السببي، وموضوعيته للأصل المسببي منوطة بعدم علاجه بجريان الأصل السببي، إذ مع علاجه به يرتفع تعبدا، ولا يبقى حتى يشمله دليل الأصل المسببي. هذا ما يتعلق بحكم الملاقي حسب حالاته المختلفة التي أفادها المصنف هنا وفي الفوائد. ومنه يعلم حكم بعض الصور الأخرى التي لم يتعرض لها قدس سره مثل ما إذا توسط العلم الاجمالي بوجود النجس بين الملاقى وطرفه بين الملاقاة والعلم بها، كما إذا لاقى الثوب الاناء الأبيض يوم السبت مثلا، وعلم إجمالا يوم الأحد بنجاسة الاناء الأبيض أو الاناء الأحمر، ثم علم يوم الاثنين بملاقاة الثوب للاناء الأبيض يوم السبت، فالمسألة عند المصنف ملحقة بالصورة الأولى التي يقتصر فيها على تنجز التكليف في الأصليين، فان الملاقاة وان كانت متقدمة على العلم الاجمالي بنجاسة أحد الإناءين، الا أنه حيث لا علم بها حين العلم الاجمالي بالنجاسة، فيتنجز بهذا العلم الحادث يوم الأحد التكليف بين الأصليين. والعلم بالملاقاة لا يوجب حدوث تكليف جديد بين الملاقي و الطرف، بل هو علم بالموضوع، لتنجز الحكم على تقدير كونه في طرف الملاقى بالعلم الاجمالي السابق، فيصير التكليف في الملاقي مشكوك الحدوث، وهو مجرى الأصل. ودعوى لزوم الاجتناب هنا عن الملاقي أيضا، إذ العبرة بالمعلوم لا العلم، فإنه طريق محض إلى متعلقه، وحيث إن الملاقاة سابقة على العلم، فالتكليف 187
موجود واقعا، ولا بد من الاجتناب كما في الصورة الثالثة، مخدوشة بما تقدم في مطاوي الكلمات من أن النظر إلى الحيث الطريقي للعلم انما هو لترتيب الآثار الشرعية دون مثل التنجيز والتعذير اللذين يكون لقيام الحجة موضوعية لهما عقلا، وحيث إن قيام الحجة على نجاسة أحد الإناءين متأخر عن زمان ملاقاة الثوب للاناء الأبيض، فلا يكون منجزا بالنسبة إلى الملاقي وهو الثوب. وعليه فالعلم الاجمالي السابق كان مقتضيا للتنجيز بلا مانع منه، و العلم الثاني الحاصل بالعلم بالملاقاة غير صالح لتنجيز ما تنجز، فلا يجب الاجتناب عن الثوب الملاقي. هذا بعض الكلام حول مسألة الملاقي، واقتصرنا عليه ولم نستقص الصور بالتفصيل خوفا من الإطالة والخروج عن قانون الشرح، و بهذا فرغنا عن تنبيهات الاشتغال التي عقدها المصنف أو أشار إليها، و بقي أمور لم نتعرض لها تبعا للماتن وان كان المناسب جدا بيانها ولو بنحو الاختصار لئلا تخلو دورة الأصول من مهام أبحاثها. 188 المقام الثاني (1): في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين والحق أن العلم الاجمالي بثبوت التكليف
189 بينهما (1) أيضا (2) يوجب الاحتياط عقلا بإتيان
193 الأكثر (1)، لتنجزه به (2) حيث (3) تعلق بثبوته فعلا. وتوهم انحلاله (4) إلى العلم بوجوب الأقل تفصيلا والشك في
194 وجوب الأكثر بدوا، ضرورة (1) لزوم الاتيان بالأقل لنفسه شرعا أو لغيره كذلك (2) أو عقلا، ومعه (3) لا يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالأكثر فاسد (4) قطعا، لاستلزام الانحلال المحال،
195
[1] قد يقال: (ان الانحلال لا يتوقف على تنجز التكليف على تقديري تعلقه بالأقل وتعلقه بالأكثر، بل الانحلال وتنجز التكليف بالنسبة إلى الأكثر متنافيان لا يجتمعان، فكيف يكون متوقفا عليه، بل الانحلال مبني على العلم بوجوب ذات الأقل على كل تقدير أي على تقدير وجوب الأقل في الواقع بنحو الاطلاق وعلى تقدير وجوبه في الواقع بنحو التقييد، فذات الأقل معلوم الوجوب، انما الشك في الاطلاق و التقييد. وانما نشأت هذه المغالطة من أخذ التنجز على كل تقدير شرطا للانحلال، وهذا ليس مراد القائل بالبراءة). 197
لكنه لا يخلو من غموض، وذلك فان التنافي بين الانحلال والتنجز و ان كان مسلما، الا أن هذا بنفسه منشأ إشكال المصنف هنا وفي حاشية الرسائل على من يدعي انحلال العلم بالجامع بالعلم في طرف معين وان لم يعلم وجهه. وبيان الاشكال زائدا على ما تقدم في التوضيح: أن المنجز سواء كان هو العلم أم غيره من الحجج لا بد من تعلقه بتكليف قابل للتنجز على كل تقدير حتى يوجب شغل العهدة ويلزم العقل بتفريغها عنه، إذ ليس التكليف بوجوده الواقعي غير المنجز سببا لاشتغال الذمة عقلا كما هو واضح، وما لم يتنجز الالزام الشرعي في بعض الأطراف لم يرتفع الترديد ولم يصر الطرف الآخر موردا للشبهة البدوية 198 بداهة (1) توقف لزوم الأقل فعلا اما لنفسه أو لغيره (2) على تنجز
حقيقة أو حكما. وعلى هذا فإذا جرت أصالة البراءة عن الأكثر لم يكن المعلوم - وهو وجوب الأقل - قابلا للتنجز على كل تقدير، لارتفاع تقدير وجوبه الغيري بجريان البراءة في وجوب الأكثر، فلا يبقى إلا احتمال كونه تمام الواجب لا بعضه، فالأقل حينئذ غير معلوم الوجوب على كل تقدير، بل على تقدير وجوبه النفسي فقط، ومن المعلوم أن هذا القدر من العلم بالجامع لا يوجب شغل الذمة، لفرض أن تقدير وجوبه المقدمي منفي بالأصل الجاري في نفي وجوب الأكثر. وعليه فما أفاده المصنف من امتناع الانحلال سليم عن هذه المناقشة. هذا كله مضافا إلى استحالة الانحلال ببيان آخر حكي عن شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) من عدم معقولية انحلال العلم الاجمالي بنفسه، لان العلم بوجوب الأقل هو المعلوم بالاجمال، والترديد انما يكون في كيفيته وأنها هل هي بنحو 199 التكليف مطلقا ولو كان (1) متعلقا بالأكثر، فلو كان لزومه (2) كذلك
الاطلاق أو الاشتراط، فان كان الواجب هو الأكثر كان وجوب الأقل مقيدا به، والا كان مطلقا، ولا ينحل هذا الترديد بنفس العلم بالوجوب، والعلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ حقيقة أو جعلا، والاكتفاء بالأقل امتثال احتمالي غير رافع لخطر العقاب. وأورد عليه بأن الاشتغال اليقيني بغير الأقل لم يثبت حتى يجب عقلا إحراز الفراغ عنه، توضيحه: أن الارتباطية وكون كل جز جزا في نفسه وشرطا لغيره من الاجزاء السابقة واللاحقة منتزعة عن تعلق الامر، فان تعلق بالأكثر كان المشكوك جزا أو شرطا، والا فلا، فالشك في تقيد الأقل بالمشكوك وإطلاقه متأخر رتبة عن انبساط الامر على المشكوك، فالشك متعلق بحد الامر وأن حده ذرع مثلا أو أزيد، فان كان متعلقا بالأكثر لم يكن منجزا، لكونه بلا بيان، إذ المفروض عدم وفاء البيان الا بالأقل، فالعقاب عليه قبيح عقلا. وعليه فتجري البراءة العقلية في وجوب الأكثر، ومعه لا يبقى شك في إطلاق الأقل وتقيده بالمشكوك، لارتفاع منشأ الانتزاع وهو تعلق الامر بالأكثر. فالقول بوجوب الاحتياط بإتيان الأكثر لتردد وجوب الأقل بين كونه بشرط شئ أو لا بشرط ضعيف، لان هذا التردد نشأ من الشك في حد الامر وأنه قصير أم طويل، وحيث إن طوله غير معلوم فالعقاب عليه بلا بيان، هذا. وأجاب عنه سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس بأن ما أفيد متين في غير المركبات الارتباطية، لوجوب الأقل فيه على كل تقدير، و أما فيها فلا، إذ 200 مستلزما لعدم تنجزه (1) الا إذا كان متعلقا بالأقل كان (2) خلفا. [1]
لو كان متعلق الامر هو الأكثر لم يكن الاتيان بالأقل مجديا في سقوط الامر بالأقل، لتقيده بالأكثر. وقياس الامر المتعلق بالمركب الارتباطي بالخيط والخيمة المحيطين بعدة أشياء في غير محله، إذ لا تعلق للخيط بالمخاط، بل يكون إحاطته بالشئ مجرد الاتفاق دون التعلق والارتباط، وإذا قيل إن الخيط قد أحاط بكذا فإنه مجرد عنوان مشير إلى حد الخيط، وهذا بخلاف الأوامر المتعلقة بالمركبات الارتباطية، فان الامر يتعلق بما انبسط عليه، ولذا ينتزع الجزئية لكل ما انبسط عليه، ويتوقف ارتفاعها على جريان البراءة الشرعية فيها على ما ستقف عليه. وبالجملة: المنشأ أمر واحد يتعلق دفعة بمتعلقه المردد بين الأقل و الأكثر، ويؤول الامر إلى أن وجوب الأقل مقيد أم مطلق، ومن المعلوم أن بيان كيفية المجعول كأصله وظيفة الشارع، إذ مع كفاية العلم الاجمالي في البيانية لا مسرح لقاعدة القبح، لعدم صلاحيتها لاثبات إطلاق وجوب الأقل، والاجتزاء به إطاعة احتمالية غير مؤمنة من خطر العقاب عقلا. [1] ثم إن الانحلال يتوقف أيضا على أمور منها: تصور مقدمية الاجزاء الداخلية، وهو ممنوع، الا مع كفاية التقدم الطبعي في صدق المقدمية، لمغايرة الاجزاء حينئذ للكل من وجه، فإنه الاجزاء بقيد الانضمام. ومنها: ترشح الوجوب من ذي المقدمة على مقدمته، وهو كسابقه ممنوع أيضا. ومنها: كفاية العلم بالوجوب الجامع بين النفسي والغيري في مقام الانحلال وعدم اعتبار السنخية بين المعلوم بالتفصيل وما ينحل به، وهو محل نظر أيضا. هذا ما يتعلق بالطريق الأول الذي سلكه شيخنا الأعظم (قده) لانحلال العلم 201 مع (1) أنه يلزم من وجوده
الاجمالي حقيقة بجريان البراءة العقلية. وله (قده) مسلك آخر للانحلال، ومحصله وجوب الأقل قطعا بالوجوب النفسي الجامع بين الوجوبين الاستقلالي والضمني على تقدير تعلق الطلب بالأكثر. ولم يتعرض المصنف (قده) لصحته وفساده لا في المتن ولا في حاشية الرسائل، وقد يدعى ارتضاؤه له، لسلامته من الاشكال الوارد على الوجه الأول، مع أن مختاره في بحث المقدمة وجوب الاجزاء بالوجوب الضمني النفسي، فيقال في تقريب الانحلال: ان الأقل واجب على كل تقدير، أما على تقدير كونه هو الواجب النفسي الاستقلالي فواضح. وأما على فرض كون الواجب هو الأكثر، فللعلم بوجوبه النفسي أيضا المنبسط عليه من وجوب الكل، والعقاب عليه مع البيان، بخلاف المؤاخذة على ترك الأكثر المشكوك فيه فإنه بلا بيان، و ليس الأقل مقدمة للأكثر حتى يكون تنجز وجوبه الغيري منوطا بتنجز الأكثر على تقدير كونه هو المطلوب 202 عدمه، لاستلزامه (1) عدم تنجز التكليف على كل حال (2) المستلزم (3) لعدم
ويعود المحذور، بل المناط في الانحلال هو العلم بوجوب الأقل نفسيا، وقد يورد على الماتن بعدم الوجه في إهمال هذا الطريق الثاني للانحلال العقلي الذي لا ينبغي الاشكال فيه. الا أن يقال: ان مقتضى الارتباطية وتلازم أوامر الاجزاء ثبوتا وسقوطا عدم جواز الاكتفاء عقلا بالأقل، إذ على تقدير كون الواجب هو الأكثر لا يكون الاتيان بالأقل مسقطا للامر ووافيا بالغرض منه، لتقيده بالجز المشكوك وجوبه، ومناط امتناع الانحلال هو عدم العلم بوجوب الأقل على كل تقدير، لعدم تنجز التكليف 203 لزوم الأقل مطلقا (1) المستلزم (2) لعدم الانحلال، وما (3) يلزم من وجوده عدمه محال. نعم (4) انما ينحل إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة، فان وجوبه
على كل تقدير أي سواء كان متعلقا بالأقل أم بالأكثر، فان وجوب الأقل ضمينا مرتبط بوجوب الأكثر، إذ لولا وجوبه لم يكن وجوب للجز أصلا، والمفروض انتفاء وجوب الأكثر بأصالة البراءة، فينتفي احتمال وجوب الأقل ضمنيا، ويبقى احتمال وجوبه الاستقلالي فقط، وقد عرفت توقف الانحلال على العلم بوجوبه على كل تقدير، وليس فليس. وحينئذ فالاكتفاء بالأقل في مقام الامتثال منوط بشمول دليل البراءة الشرعية له، والتفكيك في التنجز بين الأقل و الأكثر، فيقتصر عليه لقيام الحجة على وجوبه، دون الأكثر وان كان هو المأمور به لا الأقل المأتي به، وسيأتي الكلام فيه عند تعرض المصنف للبراءة النقلية إن شاء الله تعالى. 204 حينئذ (1) يكون معلوما له، وانما كان الترديد لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين (2) أو مصلحة أقوى (3) من مصلحة الأقل، فالعقل في مثله وان استقل بالبراءة (4) بلا كلام، الا أنه خارج (5) عما هو محل
205 النقض والابرام في المقام، هذا (1). مع أن (2) الغرض الداعي إلى الامر لا يكاد يحرز الا بالأكثر
206 بناء (1) على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الا وامر و النواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها، وكون (2)
207 الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية (1)، وقد مر (2) اعتبار موافقة الغرض وحصوله (3) عقلا في إطاعة الامر وسقوطه، فلا بد من إحرازه (4) في إحرازها كما لا يخفى. [1]
[1] قد يقال: ان هذا انما يتم فيما إذا كان الفعل المأمور به علة تامة لحصول الملاك والغرض المترتب عليه، ولم يتوسط بينهما إرادة فاعل مختار، وأما فيما 208
إذا كان الفعل معدا لوجود الغرض وأنيط تحققه بأمور خارجة عن قدرة المكلف كما في حرث الأرض وإلقاء البذر فيها لصيرورته سنبلا، فلا يوجب الاحتياط العلم بترتب الملاك على الاتيان بكل ما يحتمل دخله في حصوله. وحيث إن جل الأحكام الشرعية بل كلها من قبيل المعدات لملاكاتها، فلا مجال للتمسك لوجوب الاتيان بالأكثر بلزوم تحصيل العلم عقلا بحصول الغرض المنوط بإتيان الأكثر. لكن فيه: أن المعول في معرفة كون الافعال المتعلقة للأحكام الشرعية معدات أو عللا تامة لترتب ملاكاتها الداعية إلى تشريع أحكامها عليها هو الأدلة المتكفلة لبيان ترتبها على تلك الأفعال، ومن المعلوم ظهورها في ترتبها عليها بدون توسيط مقدمة وضم إرادة فاعل مختار إليها، ومقتضى أصالة التطابق بين مقامي الثبوت والاثبات هو كون الافعال عللا تامة لترتب الملاكات عليها، لا أن تكون معدات لذلك، حيث إن دخل أمر آخر في حصول الغرض يتوقف على مئونة زائدة ثبوتا وإثباتا، والاطلاق كاشف عن انحصار المحصل له في خصوص الفعل المتعلق به الطلب ودافع لاحتمال دخل غيره فيه، و يشهد له ما ورد في خطبة الصديقة الطاهرة صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها: (جعل الصلاة تنزيها من الكبر والزكاة تنمية للمال والامر بالمعروف مصلحة للعامة.). والحاصل: أن عد الأحكام الشرعية كالتكوينيات نظير إلقاء البذر و نحوه مما يكون معدا لحصول الغرض مما لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، وحيث إن الاغراض مترتبة على نفس الافعال فيستكشف منه أن الفعل مستقل في التأثير، ولا بد من الاحتياط حينئذ عند دوران الامر بين ترتب الغرض الملزم على الأقل وترتبه على الأكثر بإتيان الأكثر. 209 ولا وجه للتفصي عنه (1) تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة
210 والاحتياط (1) على ما ذهب إليه مشهور العدلية وجريانها (2) على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرين (3) لذلك، أو بعض العدلية المكتفين (4) بكون المصلحة في نفس الامر (5) دون المأمور به.
211 وأخرى (1) بأن حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون الا بإتيانها على وجه الامتثال، وحينئذ (2) كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا ليؤتى بها مع قصد الوجه مجال (3)، ومعه (4) لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الامر، فلم يبق الا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان (5) ما علم تعلقه (6) به،
212 فإنه (1) واجب عقلا وان لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأسا، لتنجزه بالعلم به (2) إجمالا وأما الزائد عليه (3) لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته (4) فان العقوبة عليه بلا بيان. وذلك (5) ضرورة أن حكم العقل بالبراءة على مذهب الأشعري
213 لا يجدي (1) من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية، بل (2) من ذهب إلى ما عليه غير المشهور، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الامر و مصلحته (3) على هذا المذهب (4) أيضا (5) هو (6) ما في الواجبات
214 من المصلحة وكونها (1) ألطافا، فافهم (2). وحصول اللطف (3) والمصلحة في العبادة وان كان يتوقف على
215 الاتيان بها على وجه الامتثال، الا أنه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الاجزاء وإتيانها على وجهها (1)، كيف (2)؟ ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا (3) كما في المتباينين، ولا يكاد (4) يمكن مع اعتباره، هذا مع (5) وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه
216 كذلك (1)، والمراد [1 [2 بالوجه في كلام من صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب (3) اقترانه به هو وجه نفسه من وجوبه النفسي، لا وجه أجزائه من وجوبها
[1] الأولى أن يقال: (إذ المراد) لأنه تعليل لوضوح الفساد، وليس وجها آخر. ثم إن ما أفاده من كون مورد اعتبار قصد الوجه نفس الواجب دون أجزائه خلاف ظاهر معقد إجماع السيد الرضي (قده) من دعوى الاجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها، حيث إن المراد بأحكامها أحكام أجزائها. 218 الغيري (1) أو وجوبها العرضي (2)، وإتيان (3) الواجب مقترنا بوجهه غاية (4) ووصفا
219 بإتيان (1) الأكثر بمكان من الامكان، لانطباق (2) الواجب عليه ولو كان (3) هو الأقل، فيتأتى من المكلف معه قصد الوجه (4)، واحتمال (5) اشتماله على ما ليس من أجزائه ليس (6) بضائر إذا قصد وجوب المأتي به على إجماله (7) بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه، لا سيما (8) إذا دار الزائد بين كونه جزا لماهيته وجزاء لفرده
220 حيث (1) ينطبق الواجب على المأتي به حينئذ (2) بتمامه وكماله، لان الطبيعي (3) يصدق على الفرد بمشخصاته (4). نعم (5) لو دار
221 بين كونه (1) جزا ومقارنا لما كان (2) منطبقا عليه بتمامه لو لم يكن جزا (3)، لكنه (4) غير ضائر، لانطباقه عليه أيضا (5) فيما لم يكن ذاك الزائد جزا، غايته لا بتمامه (6) بل بسائر أجزائه، هذا. مضافا (7) إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس (8) مما يقطع بخلافه
222 مع أن (1) الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لا بد أن يؤتى به على وجه الامتثال من (2) العبادات. مع أنه (3) لو قيل باعتبار قصد الوجه
223 في الامتثال فيها على وجه (1) ينافيه التردد والاحتمال، فلا وجه (2) معه للزوم مراعاة الامر المعلوم أصلا ولو (3) بإتيان الأقل لو لم يحصل الغرض، وللزم (4) الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله
224 ليحصل (1) القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال، لاحتمال بقائه (2) مع الأقل بسبب بقاء غرضه، فافهم (3)،
225 هذا (1) بحسب حكم العقل. وأما النقل (×) فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض
(×) لكنه لا يخفى أنه لا مجال للنقل فيما هو مورد حكم العقل بالاحتياط، وهو ما إذا علم إجمالا بالتكليف الفعلي، ضرورة أنه ينافيه رفع الجزئية المجهولة، وانما يكون مورده ما إذا لم يعلم به كذلك، بل علم مجرد ثبوته واقعا. وبالجملة: الشك في الجزئية أو الشرطية وان كان جامعا بين الموردين، الا أن مورد حكم العقل مع القطع بالفعلية، ومورد النقل هو مجرد الخطاب بالايجاب، فافهم. 226 برفع جزئية ما شك في جزئيته، فبمثله يرتفع الاجمال والتردد
227 عما (1) تردد أمره بين الأقل والأكثر
[1] قال في حاشية الرسائل: (يمكن أن يقال: ان وجوب واحد من الأقل 228 ويعينه (1) في الأول. لا يقال (2): ان جزئية السورة المجهولة [المنسية] مثلا ليست
والأكثر نفسيا مما لم يحجب علمه عنا ولسنا في سعة منه كما هو قضية العلم به بحكم العقل أيضا حسب الفرض، وهذا ينافي الحكم على الأكثر على التعيين بأنه موضوع عنا ونحن في سعته، فان نفي الوضع و السعة عما علم إجمالا وجوبه مع العلم تفصيلا بوجوب أحد طرفيه يستدعي نفيهما عنه ولو كان هو الطرف الآخر، فلا بد اما من الحكم بعدم شمول هذه الأخبار لمثل المقام مما علم إجمالا وجوب شئ إجمالا، واما من الحكم بأن الأكثر ليس مما حجب علمه، فإنه يعلم وجوب الاتيان به بحكم العقل مقدمة للعلم بإتيان ما لسنا في سعته). والظاهر أن هذه المناقشة غير متجهة على كلام الشيخ (قده) لتوقفها على 229 بمجعولة وليس لها أثر مجعول، والمرفوع (1) بحديث الرفع انما
الالتزام بأمرين أحدهما علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية، وثانيهما كاشفية العلم بالجامع عن الخصوصية القائمة بكل واحد من الأطراف. وكلاهما ممنوع، أما الأول فلان المنسوب إلى الشيخ (قده) مبنى الاقتضاء لا العلية، وان استظهر بعض مشايخنا المحققين من مجموع كلماته القول بالعلية، الا أن لازم جريان الأصل المرخص في بعض الأطراف هو تعليقية حكم العقل بالقطع بالموافقة، ومع شمول حديث الرفع والحجب للأكثر المشكوك وجوبه 230 هو المجعول بنفسه أو أثره، ووجوب (1) الإعادة انما (2) هو أثر بقاء
يحصل الامن من المؤاخذة على تقدير تعلق التكليف به واقعا، فيعود النزاع مبنائيا. وأما الثاني، فلان المعلوم بالاجمال هو الجامع بين الأطراف، ولا علم بتعلق التكليف بكل واحد منها بالخصوص، والا كان معلوما بالتفصيل لا بالاجمال، وهذا خلف كما هو واضح. وغاية ما يقتضيه العلم بالجامع عقلا هو رعاية احتمال التكليف في كل منها من باب المقدمة العلمية ودفع الضرر المحتمل، ومن المعلوم حصول التأمين الشرعي بشمول مثل حديث الحجب لبعض الأطراف، وحيث إن الأقل ليس مجرى للأصل، فيجري في وجوب الأكثر المشكوك فيه بلا مانع. نعم يلزم القطع بالمخالفة للمعلوم بالاجمال لو التزم بشمول دليل الأصل لتمام الأطراف، لكنه أجنبي عن مقالة من يدعي اقتضاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية، هذا. مضافا إلى: أن العلم بالجامع لو اقتضى الاشتغال والمنع عن جريان البراءة لم يفرق فيه بين إجرائها في جزئية المشكوك فيه كما في المتن وبين إجرائها في وجوب الأكثر كما في الرسائل، لاستلزامه لفوات المعلوم بالاجمال في كلتا الصورتين على تقدير تعلقه بالأكثر. ومناقضة الإرادة الفعلية على كل تقدير لعدم الإرادة كذلك على تقدير تعلق الامر بالأكثر واضحة، وقد تقدم منه أن الحكم الفعلي من 231 الامر بعد العلم [التذكر.] مع (1) أنه عقلي، وليس الا من باب وجوب الإطاعة عقلا.
جميع الجهات لا بد من موافقته قطعا، ولا مجال لجعل الترخيص في بعض الأطراف للمناقضة، ومن المعلوم منافاة الترخيص سواء كان بلسان نفي الوجوب أم بلسان نفي الجزئية للعلم بمطلوبية الجامع على كل تقدير. ولعله لذا عدل (قده) في الهامش إلى عدم جريان البراءة النقلية فيما هو مورد حكم العقل بلزوم الإطاعة، فلاحظه. والحاصل: أن مقتضى تنجز الحكم الفعلي من جميع الجهات لزوم امتثاله عقلا، وعدم جواز جريان شئ من البراءتين العقلية والنقلية فيه. وكلامه في عدوله عن مسلك الشيخ (قده) من جريان البراءة في التكليف وهو وجوب الأكثر إلى إجرائه في الوضع أعني الجزئية غير ظاهر الوجه، فإنه في (لا يقال) التزم بمجعولية الجزئية تبعا لجعل منشأ انتزاعها، وهذا رجوع إلى كلام الشيخ من إجراء أصالة عدم وجوب الأكثر، فلا جدوى في إجرائها في الوضع أولا ثم تصحيح ذلك بإجرائها في التكليف ثانيا، إذ لا وجود للوضع المفروض كونه انتزاعيا وراء وجود منشئه وهو التكليف. نعم تخلص من إشكال عدم بقاء الوضع بعد ارتفاع التكليف بالأصل في حاشية الرسائل بجعل الحكم التكليفي سببا للوضعي، ومن المعلوم تحقق الاثنينية وجودا بين كل سبب ومسببه، فلا مانع حينئذ من كون المرفوع في وعاء التشريع هو المسبب فقط وعدم التعرض لسببه، قال (قده) في جواب توهم الملازمة بين 232 لأنه يقال (1): ان الجزئية وان كانت غير مجعولة بنفسها، الا
رفع الأحكام التكليفية والوضعية: (قلت: مجرد تبعيتها لها في الرفع و الوضع لا يقتضي اتحاد رفعها مع رفعها ووضعها مع وضعها، بداهة أن السببية والمسببية تقتضيان الاثنينية لا الاتحاد والعينية). وفيه: أن الاشكال المزبور لا يندفع بما أفاده (قده) سواء أكانت الجزئية منتزعة عن الامر أم مسببة عنه، ضرورة أنه على الأول لا وجود للجزئية حتى تنفي بالأصل، وانما الوجود لمنشأ انتزاعها، إذ الامر الانتزاعي اعتبار يعتبره المعتبر من وجود شئ، فلا وجود له حتى ينفي بأصل البراءة. وعلى الثاني وان كان لكل من السبب والمسبب وجود على حدة، الا أنه لما كان المسبب رشحا وأثرا له فلا يعقل بقاء السبب التام بعد انتفاء مسببه، بل ارتفاعه يكشف عن انتفاء سببه لعدم انفكاك المعلول عن علته التامة، كعدم تعقل عدم تأثير العلة التامة في معلولها. فالنتيجة: امتناع نفي الجزئية مع بقاء الامر سواء كانت الجزئية مسببة عن الامر أم منتزعة عنه. 233 أنها مجعولة بمنشأ انتزاعها، وهذا (1) كاف في صحة رفعها. لا يقال (2): انما يكون ارتفاع الامر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه وهو الامر الأول (3)، ولا دليل (4) آخر على أمر آخر (5) بالخالي عنه (6).
234 لأنه يقال: نعم (1) وان كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه (2)،
235 الا أن نسبة حديث الرفع الناظر إلى الأدلة الدالة على بيان الاجزاء إليها نسبة (1) الاستثناء، وهو (2) معها يكون دالا [دالة] على جزئيتها إلا مع الجهل بها [نسيانها] كما لا يخفى، فتدبر جيدا. [1]
[1] قد يقال: انه بناء على المنع من جريان البراءة العقلية لا دليل على كون الواجب الفعلي هو الأقل ولو ظاهرا حتى يكون الاتيان به مفرغا جعليا عما ثبت في العهدة بالعلم الاجمالي، والوجه فيه توقفه على حجية الأصول المثبتة كي يقتضي نفي وجوب الأكثر كون الواجب هو الأقل، لان رفع المشكوك لا يثبت كون الأقل مطلقا غير مقيد بالمشكوك، لمغايرة الماهية اللا بشرط القسمي للماهية بشرط شئ، وإثبات أحد الضدين بنفي الاخر من أظهر الأصول المثبتة. وقد تفصي منه بوجوه نذكر بعضها، فمنها: ما التزم به المصنف من أن الدليل على وجوب الأقل هو الجمع بين أدلة الاجزاء المعلومة و حديث الرفع، وقد 236
عرفت توضيحه مع تأييده. ولكن ناقش فيه جمع من الأعاظم بما محصله: أنه لا شك في تأخر الرفع الظاهري عن الحكم الواقعي بمرتبتين، لتأخر الظاهري عن موضوعه أعني به الشك الذي هو متأخر عن متعلقه وهو الحكم الواقعي، لكونه من عوارضه، فالواقع متقدم على ما يقتضيه الأصل العملي من الرفع الظاهري برتبتين، ولا ريب في استحالة تحقق المعية في الرتبة بين أمرين يتقدم أحدهما على الاخر، لامتناع اجتماع المتقابلين وان أمكن اجتماعهما زمانا كما يوجد المعلول بوجود علته التامة ويجتمعان زمانا، لا رتبة، لتقدم العلة رتبة على المعلول كما هو واضح. وبناء على هذا يستحيل أن يكون نسبة حديث الرفع إلى أدلة الاجزاء نسبة الاستثناء، إذ الاستثناء كسائر أنحاء التقييد يقتضي اتحاد المطلق والمقيد رتبة، ومع طولية كل حكم ظاهري للحكم الواقعي يمتنع التقييد، الا بأن يكون مفاد حديث الرفع واقعا في رتبة الواقع أو بالعكس، فتنقلب النسبة حينئذ من التقدم والتأخر إلى المعية والاتحاد الرتبي، وهذا مما لا يلتزم به أحد. (وتوهم أن الحكم الظاهري وان لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي، الا أن الحكم الواقعي ولو بنتيجة الاطلاق يكون في مرتبة الحكم الظاهري، وبذلك يمكن تعلق الرفع في تلك المرتبة بفعلية الحكم الواقعي، مدفوع بأنه مع الاعتراف بكون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي كيف يمكن توهم كون الحكم الواقعي ولو بنتيجة الاطلاق في عرض الحكم الظاهري وفي مرتبته، فان مرجع طولية الحكم الظاهري بعد أن كان إلى أخذ الشك في الحكم الواقعي في موضوعه كيف يعقل أن يكون الحكم الواقعي في مرتبة الشك بنفسه، و هل هو إلا دعوى أن المعروض في مرتبة 237
عارضه). وهذا الاشكال لا يخلو من قوة، ولذا قد يوجه المتن بما يسلم معه منه، فقال العلامة المشكيني (قده) بعد توضيح كلام المصنف ما لفظه: (هذا ملخص ما أفاده في درسه في الدورة الأخيرة، ومنه يظهر وجود مسامحة في العبارة، وأن نظر حديث الرفع وكونه بمنزلة الاستثناء انما هو بالنسبة إلى الدليل المجمل لا بالنسبة إلى أدلة الاجزاء المعلومة كما فرضه في العبارة. وظني أن العبارة ناظرة إلى النسخة القديمة، إذ هي صحيحة بناء على فرض النسيان كما لا يخفى، وقد غفل عن تصحيح هذه العبارة عند تصحيح الأول.). أقول: بعد المراجعة إلى النسخ المطبوعة المختلفة لم نظفر على المتن المشتمل على كلمة (المنسية، بعد التذكر، إلا مع نسيانها) بدل (المجهولة، بعد العلم الا مع الجهل بها) إلا في المطبوعة أخيرا مع حواشي العلامة المشكيني (قده). وإلا فالمطبوعة في بغداد في أخريات حياة المؤلف طاب ثراه خالية من (المنسية.) وكذا المطبوعة مع حواشي العلامة القوچاني و غيرهما من النسخ. ونحن عولنا عليها وجعلنا الأصل موافقا لها و (المنسية) بدلا. وهذا هو الأصح، إذ يشهد لكون الصادر من قلم المؤلف (المجهولة) أن الكلام فعلا في الأقل والأكثر الارتباطيين في الاجزاء الخارجية فيما إذا لم يقم دليل على جزئية بعض الاجزاء، وأن المقتضي لجريان أصل البراءة لنفيها ظاهرا موجود أم لا، وأما التمسك بحديث الرفع لصحة العبادة الفاقدة للجز المنسي لعدم جزئيته حال النسيان فهو غير مبحوث عنه فعلا، وانما عقد المصنف ثاني التنبيهات لحكم 238
نسيان الجز وسيأتي إن شاء الله تعالى. وكيف كان، فان أريد من ضم حديث الرفع إلى أدلة الاجزاء المعلومة تصحيح العبادة المجردة عن الجز المنسي فلا ريب في صحته، لحكومة حديث رفع النسيان عليها، وأنه اما مقيد لاطلاقها، واما مبين لاجمالها إذا كانت مجملة، وقد تعرض المصنف لهذا في حاشية الرسائل في بعض تعاليق حديث الرفع، قال: (فيكون - أي حديث الرفع - أيضا حاكما على دليل الجزئية و الشرطية، ويكون مع دليلهما بمنزلة دليل واحد مقيد لاطلاق دليل وجوب المركب أو المشروط لو كان له إطلاق، وإلا فمبين لاجماله إلخ). وان أريد من ضمه إليها إثبات وجوب الأقل وجواز الاكتفاء به في مقام الامتثال وتفريغ الذمة، فيمكن أن يقال: ان أصالة البراءة وان لم تكن في مرتبة إنشاء الحكم الواقعي وفعليته، لكنها في مرتبة تنجزه وعدمه كالاحتياط الذي هو منجز له، فالبراءة نقيض الاحتياط رافعة لتنجزه، وحينئذ يصح أن يكون رفع الحكم المجهول في حكم الاستثناء بالنسبة إلى سائر أدلة أجزأ المركب، فيستثنى الجز المشكوك من تنجز أجزأ المركب، فلو كان جزا واقعا لم يكن منجزا، فالاستثناء بهذه المئونة يصح أن يرد على مشكوك الجزئية، و يقال: أجزأ الصلاة واجبة ومنجزة إلا السورة، فإنها على تقدير وجوبها غير منجزة، وتكون حكومة البراءة عليها كسائر الأصول حكومة ظاهرية لا ينافيها جزئية السورة واقعا. نظير استصحاب الطهارة الحاكم ظاهرا على ما يدل على اشتراط مثل الصلاة بالطهارة. وهذا بخلاف رفع الاضطرار والنسيان وأخواتهما، فان حكومتها على أدلة الاحكام 239
الأولية حكومة واقعية. ولو كان المحذور مجرد تعدد الرتبة - كما تقدم في عبارة تقريرات شيخنا المحقق العراقي (قده) - لتوجه أيضا على جعل الاحتياط منجزا للواقع، إذ هو موصل للحكم غير الواصل بعنوانه إلى المكلف، ولو لم يكن الواقع ولو بنتيجة الاطلاق محفوظا حال الجهل به، لم يتصور بيانية الاحتياط له. ومنها: ما في تقرير بحث المحقق النائيني (قده) من: أن إشكال مثبتية الأصل منوط بكون الاطلاق أمرا وجوديا كما ينسب إلى جملة من المحققين، حيث إن الاطلاق حينئذ كالتقييد يكون أمرا وجوديا، و التقابل بينهما تقابل التضاد، فإثبات الاطلاق بنفي دخل المشكوك يكون من إثبات أحد الضدين بنفي الاخر، وهو من أقوى الأصول المثبتة، لكن الحق كون الاطلاق أمرا عدميا، وهو عدم لحاظ شئ قيدا أو جزا، وحينئذ تجري البراءة عن تقيد الاجزاء المعلومة بالمشكوك ويثبت إطلاقها أي عدم تقيدها به، وعليه فالاطلاق هنا عين مفاد البراءة لا أنه لازم لجريانها في الأكثر كي يتوجه عليه محذور الاثبات. وأورد عليه بعض المحققين بما لفظه: (ان الاطلاق بمعنى اللا بشرطية معنى، وعدم تقيد الماهية بخصوصية معنى آخر، فان اللا بشرطية ملاحظة الماهية بحيث لا تكون مقترنة بخصوصية ولا مقترنة بعدمها، فعدم الاقتران بالخصوصية لازم أعم للماهية اللابشرط والماهية بشرط لا، لا أنه عين لحاظ الماهية لا بشرط. نعم بعد الفراغ عن عدم اقتران الماهية بعدم الخصوصية ينحصر الامر قهرا في الماهية اللا بشرط، وهذا غير العينية) 240
وتوضيحه: قصور حديث الرفع عن إثبات إطلاق الأقل حتى بناء على كون تقابل الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، إلا مع تسليم اعتبار مثبتات الأصول، وذلك لان مدلول الحديث عدم تقيد الأقل بوجود الجز المشكوك فيه، وهذا ليس مساوقا للاطلاق، إذ ليس حقيقته عدم التقيد بالخصوصية فحسب، لان هذا المعنى يتضمنه اعتبار (بشرط لا) أيضا، لعدم كونه مقيدا بوجود القيد، مع وضوح أن (بشرط لا) قسيم الاطلاق، وحقيقة الاطلاق أي (لا بشرط) هو عدم التقيد بكل من وجود الخصوصية وعدمها. وعلى هذا فمعنى إطلاق الأقل هو عدم تقيده مطلقا لا بوجود الجز المشكوك فيه ولا بعدمه، ومن المعلوم أن حديث الرفع لا يتكفل لاثبات إطلاق الأقل بهذا المعنى، إذ مفاده عدم تقيده بوجود المشكوك فيه فحسب، فدعوى أن مدلوله عين إطلاق الأقل وليس لازما لجريانه حتى يكون من الأصل المثبت مخدوشة، لما تقدم من أن الاطلاق - أي اعتبار لا بشرط - ليس مدلول أصالة البراءة، إلا مع انضمام أمر آخر إليه وهو القطع بعدم تقيد الأقل في المقام بعدم الأكثر، فيصير الاطلاق بهذه المئونة من لوازم نفي الأكثر بالأصل، هذا. لكن يمكن أن يقال: ان حقيقة الاطلاق وان كانت كما أفاده (قده) نفى التقيد بالوجود والعدم، وأن مدلول حديث الرفع عدم التقيد بالوجود فقط، الا أنه لا يتوقف مع ذلك جريان الأصل على القول بالأصل المثبت، حيث إن الغرض من التمسك بالأصل مع اقتضاء العلم الاجمالي لشغل الذمة وعدم جريان قاعدة القبح هو تحصيل المؤمن على ترك الأكثر على تقدير كونه متعلق الطلب واقعا، فالمقصود من التمسك بالبراءة الشرعية نفي جزئية المشكوك فيه ظاهرا وإثبات عدم تقيد الأقل بوجود الجز المشكوك فيه. وأما عدم تقيده بعدم الأكثر فهو أمر معلوم 241
لا بحث فيه، فان طرفي العلم الاجمالي هما تقيد الأقل بوجوده وعدم تقيده به، وليس من أطرافه احتمال تقيده بعدمه، إذ ليس المقام من دوران المشكوك فيه بين الجزئية والمانعية حتى يدعى قصور حديث الرفع عن إثبات الاطلاق بمعنى اللا بشرط، وانما هم العقل تحصيل المؤمن من مؤاخذة المولى على ترك المشكوك فيه، ولا ريب في صلاحية البراءة الشرعية للتأمين على تركه، وإثبات إطلاق الأقل بناء على كون تقابل الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، و جريان الأصل النافي للتكليف في بعض أطراف العلم الاجمالي كما يدعيه القائل بالاقتضاء. والحاصل: أن عدم تقيد الأقل بعدم الجز المشكوك فيه معلوم تفصيلا، وليس ذلك طرفا للعلم، وانما طرفاه احتمال دخل وجود المشكوك فيه وعدمه في المأمور به، والتأمين منوط بقيام الحجة على نفي جزئية المشكوك فيه، وليس متوقفا على إثبات الاطلاق بمفاد (لا بشرط) القسيم لاعتبار (بشرط شئ) ومن المعلوم وفاء البراءة الشرعية بما هو المهم بنظر العقل. وعليه فالمنع عن جريان البراءة يتوقف على المناقشة في المبنى و كون التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل التضاد كما قيل. ومنها: أن الأقل واجب نفسي ذاتي لا عرضي منبسط من الامر بالكل على كل واحد من الاجزاء، ويكفي في إثبات هذا الوجوب النفسي الخطاب التفصيلي بوجوب كل واحد من الاجزاء، مثل (وربك فكبر، قوموا لله قانتين، فأقروا ما تيسر منه، اركعوا، اسجدوا) ونحو ذلك من الخطابات المتضمنة للاجزاء، وتجري البراءة عن المشكوك فيه بلا شبهة الاثبات، هذا. و فيه: أن أدلة الاجزاء وان كانت ظاهرة في مطلوبية كل جز نفسيا، إلا أنه 242
لا بد من صرف هذا الظهور إلى الارشاد إلى الجزئية، إذ من المسلم أنه لا يتعدد الامر في المركبات بأن يتعلق أمر بالمركب وأمر نفسي آخر بكل جز منه، بل هو أمر واحد، وحيث إن الواجب في المقام ارتباطي تردد بين الأقل والأكثر، أشكل إثبات وجوب الأقل بأدلة الاجزاء، للشك في مطلوبية الأقل المجرد عن الأكثر، وقاعدة الشغل تقتضي لزوم الاحتياط. إلا أن يقال: ان أوامر الاجزاء وان كانت إرشادا إلى الجزئية، إلا أن بيان الاجزاء لما كان وظيفة الشارع صح التمسك بالاطلاق المقامي لنفي جزئية المشكوك فيه وإثبات كون الواجب هو الأقل من دون لزوم إشكال الاثبات. ومنها: أن نفس العلم الاجمالي يتكفل وجوب الأقل، ولا حاجة إلى ضم حديث الرفع إليه حتى يتوجه محذور مثبتية الأصل. وفيه: أن الأقل المعلوم وجوبه بالعلم الاجمالي انما هو الأقل في ضمن الأكثر للعلم بتعلق الطلب النفسي به استقلالا أو ضمنا، وأن تركه موجب لاستحقاق العقوبة اما عليه واما على فوات الأكثر به. وهذا لا يوجب تعين وجوبه، لوضوح أن العلم بمطلوبية الأقل مرددا بين كونه بشرط شئ ولا بشرط لا يصلح لاثبات العلم بمطلوبيته مجردا عن الجز المشكوك فيه مع فرض الارتباطية. هذا ما يتعلق بجريان البراءة الشرعية في المقام، والوجوه الدافعة لشبهة الاثبات. بقي الكلام في الاستصحاب ولم يتعرض له المصنف، ولا بأس بذكره تتميما للبحث، وقد استدل به للاشتغال تارة وللبراءة أخرى، فنقول وبه نستعين: أما الاستدلال به على الاحتياط، فقد يجعل المستصحب الاشتغال الثابت بحكم العقل بعد العلم 243
الاجمالي، وقد يجعل نفس التكليف المتعلق بالواقع المردد عندنا بين الأقل والأكثر، وليكن المراد به هنا هو الأخير أي استصحاب القدر المشترك من الوجوب، فيتردد الواجب بعد فعل الأقل بين ما هو مقطوع الارتفاع ومقطوع البقاء، فيستصحب ذلك المجعول الشرعي، وهو من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي، نظير استصحاب الحيوان المردد بين البق والفيل، لاجتماع أركان الاستصحاب فيه من القطع بهذا التكليف سابقا والشك في بقائه بعد الاتيان بالأقل. لكن أورد عليه بأنه قاصر عن إثبات وجوب الأكثر ألا على القول بالأصل المثبت، إذ لازم بقاء التكليف المردد بعد فعل الأقل هو تعلقه بالأكثر، هذا. إلا أن يقال: بعدم كون الأصل مثبتا هنا، إذ الثابت بالاستصحاب نفس مجعول الشارع أعني الوجوب المعلوم إجمالا، فيحكم ببقائه تعبدا، ووجوب الاتيان بالأكثر انما هو بحكم العقل من باب وجوب الإطاعة لكل حكم إلزامي واقعي أو ظاهري، فالمترتب على الاستصحاب مجرد الحكم ظاهرا ببقاء التكليف المعلوم الاجمالي، من دون إثبات أن الواجب خصوص الأكثر، فالاتيان به انما هو بحكم العقل تحصيلا للعلم بالفراغ عما اشتغلت به الذمة قطعا، فكلام الشيخ الأعظم (قده) (أن استصحاب الاشتغال لا يثبت لزوم الاحتياط إلا على القول باعتبار الأصل المثبت الذي لا نقول به) لا يخلو من تأمل، فتأمل. ثم ناقش (قده) فيه بوجه آخر، وهو حكومة أخبار البراءة عليه، قال: (لأنه إذا 244
أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الذي حجب العلم بوجوبه كان المستصحب وهو الاشتغال المعلوم سابقا غير متيقن إلا بالنسبة إلى الأقل، واحتمال بقاء الاشتغال حينئذ من جهة كون الواجب هو الأكثر منفي بحكم هذه الأخبار). وأورد عليه المصنف في حاشية الرسائل بما لفظه: (لا يخفى أن استصحاب الاشتغال على تقدير صحته حسب ما عرفت كما هو وارد على حكم العقل بالبراءة لو سلم على ما بيناه، فكذلك هو وارد على هذه الأخبار، فان الأكثر حيث يتعين به الخروج عن عهدة التكليف الثابت بالاستصحاب على تقدير الاتيان بالأقل، فوجوب الاتيان به عقلا تفريغا للذمة وخروجا عن العهدة معلوم، فكيف يكون داخلا فيما حجب، هذا لو لم نقل بالأصل المثبت، وأما على القول به فالأكثر معلوم الوجوب شرعا ليس مما أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على تركه لأجل حجب العلم بوجوبه، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى مزيد بيان). والتحقيق أن يقال: ان كان مفاد حديثي الرفع والحجب نفي المؤاخذة على المجهول كما يرشد إليه قول الشيخ (قده): (فإذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر) وبنينا على اعتبار مثبتات الأصول، فدعوى ورود الاستصحاب على البراءة النقلية أو حكومته عليها في محلها، إذ يحرز وجوب الأكثر حينئذ بالتعبد الاستصحابي، لوضوح أن البيان الموضوع عدمه لقاعدة القبح ما هو أعم من الواقعي و الظاهري، وحيث إن الاستصحاب محرز للواقع عملا، فلازمه اشتغال الذمة بالأكثر، لقيام الحجة عليه. ولا مجال لنفي المؤاخذة عليه بحديث الرفع، لزوال الشك تعبدا ببركة الاستصحاب، لان حديث الرفع بناء على اقتضائه لنفي المؤاخذة مساوق لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا ريب في كونها حينئذ مورودة 245
بالأدلة الشرعية التي منها الاستصحاب، لأنه بيان، ولا يحصل التأمين مع وجود أصل مثبت للتكليف في طرف الأكثر مقدم على حديث الرفع. وان كان المرفوع هو الحكم الواقعي ظاهرا كما هو مختار الماتن، فالظاهر حكومة الاستصحاب أو وروده أيضا على حديث الرفع، لاحراز وجوب الأكثر بالأصل، فلا شك حتى يتحقق موضوع البراءة النقلية. وأما دعوى حكومة أصالة عدم وجوب الأكثر على استصحاب بقاء الجامع، لتسبب الشك في بقائه عن الشك في وجوب الأكثر واقعا، فهي ممنوعة، ضرورة أنه يعتبر في حكومة الأصل السببي على المسببي أن يكون التسبب شرعيا كما في طهارة الثوب المتنجس المغسول بماء محكوم بالطهارة لاستصحابها أو قاعدتها، ومن الواضح فقدان هذا الشرط في المقام، حيث إن تسبب بقاء الكلي عن بقاء الفرد عقلي، وليس أثرا تعبديا له. فضابط الحكومة مفقود هنا، ومن العجيب أن المدعي مع تصريحه باعتبار هذا الشرط في الحكومة التزم هنا بحكومة استصحاب الجامع، تسرية لقاعدة حكومة الأصل السببي على المسببي فيه. وان كان المرفوع هو الحكم الواقعي وقلنا بعدم اعتبار مثبتات الأصول فالظاهر حكومة حديث الرفع على الاستصحاب، إذ المنفي حينئذ وجوب الأكثر المشكوك فيه، والاستصحاب قاصر عن إثبات هذه الخصوصية، لان المستصحب هو الجامع دون الفرد، فالشك في وجوبه باق. ثم إن التعبير بالورود هنا لا يخلو من مسامحة، لعدم زوال الشك عن وجوب الأكثر وجدانا، وانما ألغاه الشارع تعبدا عن الاعتبار ببركة جريان حديث الرفع 246
فيه، فالشك الموضوع للأصل العملي سواء أكان أصلا تنزيليا أم غيره كأصالة البراءة موجود وجدانا. نعم يمكن أن يوجه ذلك بناء على كون المرفوع بالحديث المؤاخذة، وحينئذ يتحد مفاد كلتا البراءتين العقلية والنقلية، وهل يكون تقدم الأصول الشرعية بعضها على بعض بالحكومة أم الورود؟ وجهان، اختار أولهما الشيخ وثانيهما المصنف، وقد أشرنا إلى مجمل النزاع في مسألة أصالة عدم التذكية، وتحقيق المسألة في خاتمة الاستصحاب إن شاء الله تعالى. ودعوى ورود الاستصحاب على البراءة النقلية هنا مع عدم العبرة بالأصل المثبت تتوقف على جريانه في نفس وجوب الأكثر، دون الجامع، ومن المعلوم اختلال بعض أركانه، وهو اليقين السابق بوجوب خصوص الأكثر، إذ المتيقن هو الجامع لا الفرد، ومع عدم اليقين السابق بوجوبه بالخصوص كيف يجري فيه الاستصحاب حتى يدعى وروده على البراءة النقلية؟ وبالجملة: فدعوى ورود استصحاب وجوب خصوص الأكثر على البراءة النقلية في غير محلها، فلا مجال للتعبد ببقاء الأكثر أصلا. هذا ما يقتضيه التأمل في المقام. ومنه يظهر منع إطلاق كلامي الشيخ و المصنف. وأما المنع من استصحاب الاشتغال بما في تقريرات المحقق النائيني (قده) (فقد تقدم في المتباينين من أنه لا يجري في شئ من موارد العلم الاجمالي) فلا يخلو من غموض، إذ ما تقدم منه هناك قصور المجعول فيها عن شموله لأطراف العلم الاجمالي، ولزوم إحرازين تعبديين على خلاف الاحراز الوجداني. والظاهر 247
أن المقام سليم عن هذا المحذور، لفرض جريان الاستصحاب في المعلوم بالاجمال لا في كل واحد من الطرفين حتى يمتنع التعبد بإحرازين على خلاف الاحراز الوجداني. وكان المناسب التعرض لهذا الاشكال فيما سيأتي من استصحاب عدم وجوب الأكثر. هذا كله في استصحاب الاشتغال، وقد عرفت أن وجوب الأكثر لا يثبت به، لعدم العبرة بالأصل المثبت، مضافا إلى معارضته باستصحاب عدم وجوبه. وأما التمسك به للبراءة فيمكن تقريبه بوجوه، من عدم لحاظ الأكثر حين جعل التكليف، أو عدم المجعول، وهو إما بنحو عدم وجوب الأكثر أو خصوص الجز المشكوك فيه أو الجزئية، وكل منها اما بنحو العدم الأزلي أو العدم قبل البلوغ أو قبل الوقت في الموقتات، و قد تعرض شيخنا الأعظم (قده) لبعض محتملات هذا الاستصحاب و المناقشة فيه، وأطال المحقق النائيني (قده) الكلام فيه بذكر شقوق أخرى، والاشكال على كل واحد من محتملات هذا الاستصحاب، فينبغي تحرير المسألة على ضوء ما أفاده ثم النظر في كلماته الشريفة، فنقول: ان كان المستصحب عدم وجوب الجز أو الشرط المشكوك فيه بالعدم الأزلي السابق على تشريع الاحكام، بأن يقال: ان لحاظ الجزئية وتعلق الجعل بها أمر حادث مسبوق بالعدم، ومقتضى الأصل عدم تعلق اللحاظ والجعل بها، فيرد عليه: أنه ان أريد من العدم العدم النعتي الذي هو مفاد ليس الناقصة وهو عدم تعلق الجعل واللحاظ بالمشكوك فيه حين تشريع المركب ولحاظ أجزائه، فهذا العدم لم يكن متيقنا في زمان سابق حتى يستصحب، فإنه في ظرف تعلق الجعل والتشريع واللحاظ بأجزاء المركب اما أن يكون قد شملته عناية الجعل أولا، وليس تعلق الجعل به 248
متأخرا رتبة أو زمانا عن تعلق الجعل بالمركب ليحكم ببقائه وعدم انتقاضه. وان أريد من العدم العدم المحمولي الذي هو مفاد ليس التامة وهو العدم السابق على لحاظ أجزأ المركب وتعلق الجعل به، فهو وان كان متيقنا قبل ذلك، لان أصل الجعل واللحاظ أمر مسبوق بالعدم، الا أن بقاء ذلك العدم إلى ظرف تعلق الجعل بالمركب غير مفيد، الا إذا أريد إثبات تعلق الجعل واللحاظ بخصوص أجزأ الأقل، ولا يمكن إثبات ذلك الا على القول بالأصل المثبت. هذا كله مضافا إلى أن مجرد عدم تعلق اللحاظ والجعل بالجز أو الشرط المشكوك فيه لا أثر له، لان الآثار الشرعية بل العقلية من الإطاعة والعصيان وغيرهما انما تترتب وجودا وعدما على المجعول لا نفس الجعل، فان الحكم الشرعي المتعلق بفعل المكلف انما هو المجعول، ولا أثر لنفس الجعل بما هو قول الا باعتبار أنه يستتبع المجعول فأصالة عدم تعلق الجعل بالمشكوك فيه لا أثر لها، الا إذا أريد بها إثبات عدم المجعول، وذلك مبني على حجية الأصل المثبت أو دعوى خفاء الواسطة. وان كان المستصحب عدم وجوب الأكثر المشتمل على الجز المشكوك فيه بأن يقال: ان تعلق الجعل والتشريع واللحاظ بالصلاة مع السورة أمر حادث والأصل عدمه، أورد عليه أمران: أحدهما: أنه مثبت، لترتب الأثر على عدم المجعول، واستصحاب عدم جعل الأكثر و لحاظه لا أثر له الا إذا أريد منه عدم مجعولية وجوب الأكثر، وهو مثبت بواسطتين واسطة اللحاظ السابق على الجعل، وواسطة الجعل السابق على المجعول. وثانيهما: معارضته بأصالة عدم لحاظ الأقل بحده، فان لحاظ الأقل لا بشرط 249
يباين لحاظه بشرط شئ، وكل من اللحاظين مسبوق بالعدم. هذا كله ان أريد بالعدم العدم الأزلي السابق على تشريع الاحكام. وان كان المستصحب عدم وجوب الجز أو عدم وجوب الأكثر بالعدم السابق على حضور وقت العمل في الموقتات، نظير استصحاب عدم وجوب السورة أو عدم وجوب الصلاة المشتملة على السورة قبل الزوال، فيرد عليه ما أورد على العدم الأزلي، لأنه ان أريد به عدم وجوب الجز بالعدم النعتي فلا يقين به سابقا. وان أريد به عدم وجوبه المحمولي قبل الزوال فهو وان كان متيقنا ولو لعدم وجوب سائر الأجزاء، الا أن بقاء العدم المحمولي إلى حين الزوال لا ينفع الا إذا أريد منه انبساط الوجوب على خصوص الأقل، وهو مثبت. وان كان المستصحب عدم وجوب الأكثر قبل الزوال، فيرد عليه: أنه معارض بأصالة عدم وجوب الأقل، إذ لا وجوب قبل الزوال لا للأكثر ولا للأقل، وهذا العدم قد انتقض بعد الزوال، ولم يعلم أن انتقاضه كان في أي الطرفين، فتجري أصالة عدم كل منهما وتسقط بالمعارضة. وان كان المستصحب العدم حال الصغر السابق على البلوغ، فيرد عليه: أن عدم التكليف بالأكثر أو بالجز المشكوك فيه ليس بنفسه من المجعولات الشرعية، فان معنى عدم وضع قلم التكليف على الصبي كونه مرخى العنان، وأنه لا حرج عليه عقلا في كل من الفعل و الترك، واللا حرجية الشرعية تكون في الموضوع القابل لوضع قلم التكليف عليه، وذلك انما يكون بعد البلوغ. وعليه فالمستصحب ليس مجعولا شرعيا ولا مما يترتب عليه أثر شرعي. وعدم استحقاق العقاب الذي هو أثر عقلي مترتب على ترك الأكثر محرز بالوجدان بنفس الشك فيه، ولا معنى 250
لاحرازه بالتعبد، فإنه من أردأ وجوه تحصيل الحاصل. هذا محصل ما في تقرير بحثه الشريف. أقول: ما أفاده بالنسبة إلى استصحاب عدم وجوب الجز بالعدم الأزلي في غاية المتانة. وأما إيراده على أصالة عدم جعل وجوب الأكثر بأنه مثبت بالنسبة إلى عدم مجعولية الأكثر، فيمكن أن يقال فيه: ان محذور الاثبات متجه لو كان عدم مجعولية الأكثر من لوازم عدم جعله عقلا، ولكن الظاهر اتحاد الجعل والمجعول حقيقة وتغايرهما اعتبارا، فهما كالايجاب والوجوب فان الجعل بالمعنى الاسم المصدري عين المجعول ولا يغايره، فلا يلزم لغوية من استصحاب عدم الجعل بلحاظ ما يترتب على عدم المجعول، كما لا يلزم إشكال الاثبات. وأما إشكال معارضته بأصالة عدم جعل وجوب الأقل لا بشرط، فيمكن دفعه بأن معروض الوجوب انما هو ذوات الاجزاء من دون ملاحظتها لا بشرط أو بشرط شئ، وانما ينتزع هذا الاعتبار من حد الواجب بعد عروض الوجوب على الماهية، ولا شك في أن وجوب ذوات الاجزاء المحدودة بحد الأقل بلا دخل لتقيدها بذلك الحد معلوم، فلا مورد لاستصحاب عدم وجوبها، فأصالة عدم وجوب الأكثر سليم عن إشكال المعارضة. وبهذا يندفع أيضا إشكال الاثبات عن استصحاب عدم وجوب الجز المشكوك فيه بالعدم المحمولي قبل الوقت، وذلك فان الأقل معلوم الوجوب، والاستصحاب انما ينفي الوجوب المشكوك للسورة مثلا. واعتبارات الماهية وان كانت متقابلة، 251
الا أن الغرض ليس إثبات وجوب الأقل لا بشرط حتى يكون من الأصل المثبت بل الغرض نفي وجوب المشكوك فيه، واعتبار اللا بشرطية خارج عن معروض الوجوب كما تقدم. وأما إشكال معارضة أصالة عدم وجوب الأكثر بعد دخول الوقت بأصالة عدم وجوب الأقل، فقد تبين الخلل فيه، للعلم بعد الوقت بانتقاض عدم وجوب الصلاة مثلا بالعلم بوجوب عدة من الاجزاء و هي الأقل، وكون الشك متمحضا في تقيدها بالمشكوك فيه، فلا مقتضي لجريان الأصل في طرف الأقل بعد العلم بوجوبه أصلا. وأما الاشكال على استصحاب عدم الوجوب المتيقن حال الصغر بأنه ليس حكما شرعيا وانما هو اللا حرجية العقلية، فقد أورد عليه مقرر بحثه الشريف (ره) بأنه انما يتم في الصبي غير المميز، وأما المميز فله قابلية الخطاب، ولذا التزموا بمشروعية عباداته. وهذا هو الحق، فإنه لا قصور في شمول عموم الخطابات المتضمنة للأحكام الالزامية له، وحديث رفع القلم انما يرفع الالزام، وعليه فعدم الوجوب قبيل البلوغ ليس لا حرجية عقلية، بل خصوص التكليف الشرعي فيستصحب بعده، ويترتب عليه عدم استحقاق العقاب على ترك الأكثر، ولا يعارض باستصحاب عدم وجوب الأقل، لما تقدم من العلم بوجوبه. وقد تحصل: أنه لو اندفع الاشكال عن جريان الاستصحاب هنا ولو في بعض صور المسألة لم يبق مجال لنفي الأكثر بالبراءة. لكن الكلام في قصور أدلة الأصول العملية عن شمولها لأطراف العلم الاجمالي، وقد تقدم في بحث العلم الاجمالي من مباحث القطع المنع عن جريان شئ من الأصول في الأطراف، فراجع. 252 وينبغي التنبيه على أمور (1): الأول (2): أنه ظهر
253
بيان أقسام الأقل والأكثر في حاشية الرسائل جعل الجز الذهني و التحليلي في قبال الجز الخارجي وحيث تقدم الكلام في الجز الخارجي فينبغي أن يكون المبحوث عنه فعلا غيره. وعليه فالمراد مطلق ما يقابل الاجزاء الخارجية، لا خصوص الشك في الشرطية و في التعيين والتخيير كما سيتضح إن شاء الله تعالى. وكيف كان فحاصل ما أفاده: عدم جريان البراءة العقلية في الشك في الشرط والعام والخاص، وخصوص النقلية في الثاني، بل عدم جريان البراءة العقلية هنا أولى من عدم جريانها فيما تقدم من الشك في الجزئية في الاجزاء الخارجية كما سيظهر إن شاء الله تعالى. وقبل توضيح مرامه ينبغي التعرض لما أفاده شيخنا الأعظم هنا، لان كلام المصنف ناظر إليه وإشكال عليه فنقول: قال (قده) بعد بيان حكم الاجزاء الخارجية في القسم الأول: (وأما القسم الثاني وهو الشك في كون الشئ قيدا للمأمور به فقد عرفت أنه على قسمين. إلخ) وحاصله: أنه (قده) تعرض لحكم موارد ثلاثة من الاجزاء التحليلية أحدها المطلق والمشروط، وثانيها المطلق والمقيد، وثالثها الدوران بين التعيين والتخيير، واختار في كل منها انحلال العلم الاجمالي، فقال في الأول: (فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدم فلا نطيل بالإعادة). وقال في الثاني بعد التعرض لمقالة المحقق القمي - وهي التفصيل بين المطلق والمقيد وبين المطلق والمشروط بجريان البراءة في الثاني والاشتغال في الأول - والمناقشة فيها: (فالتحقيق أن حكم الشرط بجميع أقسامه واحد سواء ألحقناه بالجز أم بالمتباينين). والفرق بين هذين القسمين هو: أن الخصوصية وهي التقيد في الأول منتزعة 254
[1] ثم انه (قده) نبه في آخر كلامه على أمرين متعلقين بالشرط والمانع. 255
الأول: أنه لا فرق في نفي الشرط المشكوك فيه بالأصل بين كونه وجوديا وعدميا، فما تقدم من الكلام لا يختص بالشرائط الوجودية، بل يجري في الموانع أيضا. نعم لا بد من التفصيل في العدمي بين المانع والقاطع، وهو ما لا دخل له في الماهية المأمور بها الا من جهة قطعه للهيئة الاتصالية المعتبرة في العمل شرعا. والأول داخل في محل النزاع وتجري البراءة فيه على المختار، بخلاف الثاني، لوجود الأصل الحاكم فيه و هو استصحاب الهيئة الاتصالية، ومعه لا تصل النوبة لنفي الشك في قاطعيته إلى أصالة البراءة. وهذا الاستصحاب سيأتي الحديث عنه. 256
الثاني: أن منشأ انتزاع الشرطية قد يكون هو التكليف الغيري المتعلق بأجزاء العبادة وشرائطها مثل النهي الغيري عن الصلاة فيما لا يؤكل، فإنه مأخوذ في موضوع الامر والخطاب. وقد يكون هو التكليف النفسي من دون ارتباط له بالماهية المأمور بها نظير إباحة مكان المصلي ولباسه، فان منشأ اعتبارها في الصلاة هو الحرمة النفسية للغصب بناء على الامتناع، واتحاد الصلاة معه مصداقا المانع من تحقق الامتثال والتقرب بالفرد الخاص من العبادة، لأنه من التقرب بالمبغوض. وعلى هذا فشرطية الإباحة للصلاة ليست كشرطية الستر والاستقبال و نحوهما مما دل الدليل على كونها بعناوينها الخاصة شرطا لها. 257
فان كان من قبيل الأول كان من صغريات الأقل والأكثر وجرت فيه البراءة. وان كان من قبيل الثاني كان خارجا عن المقام، لوجود الأصل الحاكم الجاري في الحرمة النفسية المشكوكة، وبه ينتفي الشك تعبدا عن الشرطية كما هو الحال في كل أصل سببي ومسببي، هذا. وقد أورد عليه شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) بمنع إطلاق حكمه بمرجعية الأصل الحاكم في منشأ الانتزاع إذا كان الشك في الشرطية للشك في الحرمة النفسية، وذلك لان منشأ الانتزاع يكون تارة هو التكليف النفسي بوجوده التنجزي المتقوم بوصوله إلى المكلف كما هو أقوى الوجهين في باب الغصب، فان اشتراط عدمه في الصلاة انما هو لأجل وقوع المزاحمة بين خطابي (صل ولا تغصب) وتغليب جانب النهي وتعذر التقرب بالمبغوض، ومن المعلوم أن تقديم 258
أحد الخطابين من باب التزاحم متوقف على تنجزهما المنوط بوصولهما، والا لم يقع التزاحم بينهما كما اتضح في محله. وأخرى بوجوده الواقعي وان لم يتنجز بوصوله إلى المكلف. فعلى الوجه الأول تدور الشرطية مدار تنجز التكليف، ومع عدمه لا شرطية واقعا، لعدم تحقق منشأ الانتزاع بنفس عدم وصول التكليف، فلا مجال لجريان البراءة عن الشرطية حينئذ، لأنه من تحصيل ما هو محرز وجدانا بالتعبد، بداهة أن الشرط على هذا مقطوع العدم، لعدم تنجز منشئه. 259 مما مر (1) حال دوران الامر بين المشروط بشئ ومطلقه (2)، وبين الخاص
وعلى الوجه الثاني يكون الشك في التكليف النفسي ملازما للشك في الشرطية، ولا بد حينئذ من علاج الشك في الشرطية اما بإجراء الأصل النافي في منشأ الانتزاع فقط فيما كان من الأصول التنزيلية، لارتفاع التكليف الواقعي ظاهرا، وبرفعه ترتفع الشرطية المترتبة عليه أيضا، فلا مجال لجريان الأصل في نفس الشرطية، لارتفاع الشك فيها تعبدا بإجراء الأصل في السبب وهو التكليف. واما من إجراء الأصل أيضا في نفي الشرطية ان كان الجاري في نفي الحرمة النفسية من الأصول غير التنزيلية كأصالتي البراءة والحل، لأنهما لا تتكفلان رفع التكليف الواقعي ليترتب عليه نفي الشرطية، بل أقصى ما تقتضيانه هو الترخيص في الفعل والترك، ويبقى الشك في الشرطية على حاله، وعلاجه منحصر بجريان الأصل فيها، ولا يكفي جريان الأصل في منشأ انتزاعها، هذا. لكن الظاهر عدم توجه الاشكال على كلام الشيخ، وذلك أما ما أفيد من الاستغناء عن جريان الأصل فيما كانت الحرمة النفسية المشكوكة بوجودها التنجزي لا الواقعي منشأ لانتزاع المانعية، فلانه مبني على انحصار المنجز في العلم والعلمي، وذلك 260 كالانسان وعامه كالحيوان (1)، وأنه (2) لا مجال هاهنا للبراءة
غير سديد، لمنجزية الاحتمال أيضا في الشبهات الحكمية قبل الفحص، وبعد الفحص لا بد في رفع منجزية الاحتمال من الاستناد إلى أدلة البراءة، والا لزم الاحتياط وعدم الاقتحام في الشبهة تقديما لأدلته على ما دل على البراءة كما ذهب إليه المحدثون في الشبهة التحريمية الناشئة من فقد النص. وبالجملة: فما لم ترتفع منجزية احتمال التكليف المجهول لا يسوغ ارتكاب الشبهة، ومع هذا المنجز هل تصح دعوى القطع بعدم الشرطية المترتبة على الحرمة النفسية المجهولة المنجزة بهذا الاحتمال على تقدير وجودها واقعا؟ فان هذه الدعوى كدعوى القطع بعدم الشرطية المزبورة بناء على القول بلزوم الاحتياط في الشبهات التحريمية. فالمتحصل: أن مجرد الشك في الحرمة النفسية ليس مساوقا للقطع بعدم 261 عقلا (1)، بل كان الامر
الشرط كما هو ظاهر كلامه (قده) بل لا بد من إجراء البراءة في الحرمة لرفع تنجزها حتى يترتب على عدم التنجز عدم الشرطية المشكوكة كما أفاده الشيخ الأعظم (قده) هذا. وأما ما أفيد فيما إذا كان منشأ انتزاع الشرطية هو التكليف بوجوده الواقعي لا التنجزي من التفصيل بين كون الأصل الجاري فيه تنزيليا كالاستصحاب وغير تنزيلي كالبراءة وقاعدة الحل، ففيه: أن الفرق المزبور مبني على إنكار الحكم الظاهري وكون مفاد حديث الرفع ونحوه مجرد الترخيص والعذر في مخالفة بالواقع المجهول على ما تقدم منه في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري. وأما بناء على استفادة الحكم الظاهري من أدلة البراءة، فترتفع الحرمة الواقعية ظاهرا ويتبعها الشرطية المترتبة عليه، ولا فرق حينئذ بين كون الرافع للحرمة الأصل المحرز وغيره، إذ المهم حلية مشكوك الحرمة ظاهرا ولو استندت إلى حديث الرفع، وبه تتم حكومة الأصل النافي للتكليف على الأصل في عدم الشرطية المترتبة عليه، فلا يبقى حينئذ مجال لجريان الأصل في نفي الشرطية. وحيث إن المانعية واقعية كشرطية الطهارة الحدثية، فصحة العبادة المشتملة على هذا المانع منوطة بعدم انكشاف الخلاف، هذا. مضافا إلى أن التمسك بالاستصحاب هنا مناف لما أسسه في بحث البراءة من عدم جريان استصحاب عدم التكليف في الشبهات الحكمية، فلاحظ كلامه هناك، وبه يشكل إجراء استصحاب عدم الحرمة الواقعية هذا. ثم انه قد يوجه التفصيل بين الصورتين بناء على الاخذ بإطلاق كلام الشيخ الشامل لما إذا كان المانع مترتبا تارة على الحرمة المنجزة ليندرج في باب 262 فيهما (1) أظهر،
التزاحم، وأخرى على الحرمة الواقعية وان لم تتنجز. وأما مع منع الاطلاق، وكون مقصوده من الحرمة النفسية خصوص التكليف النفسي المنجز حتى يكون الشرط - كإباحة مكان المصلي - ناشئا من تزاحم خطابي (صل ولا تغصب) كما يظهر من شرح العبارة بما أفاده المحققان الآشتياني والمصنف (قدهما) فالاشكال على تفصيل المحقق النائيني (قده) أظهر. وقد يشكل كلام الميرزا من التمسك بأصالة البراءة فيما إذا ترتبت المانعية على تنجز الحرمة النفسية بأن تقيد الصلاة حينئذ بإباحة المكان مثلا عقلي ناش من امتناع التقرب بالمبغوض، وليس شرعيا مأخوذا قيدا في الماهية المأمور بها كسائر الشروط والموانع، وفي مثله لا تجري البراءة الشرعية، لعدم كون المرفوع شرعيا لحكومة العقل به، كما لا تجري البراءة العقلية أيضا بنظر الميرزا (قده) في دوران الامر بين الأقل والأكثر على ما تقدم في الاجزاء الخارجية و صريحه في هذا البحث. ولازم هذا عدم وجود أصل مؤمن في الشك في هذا القسم من الموانع، فتصل النوبة إلى قاعدة الاشتغال. لكن يمكن دفعه بعدم منافاة حكم العقل بإباحة المكان لجريان البراءة الشرعية، حيث إن هذا الحكم العقلي ليس واقعا في سلسلة معلولات الاحكام كباب الإطاعة والعصيان حتى يمتنع فيه الحكم المولوي نفيا أو إثباتا، بل هو في المقام واقع في سلسلة علل الاحكام كالظلم الذي يجتمع فيه الحكم المولوي أعني الحرمة والعقلي وهو القبح، فتدبر. 263 فان (1) الانحلال المتوهم في الأقل والأكثر لا يكاد يتوهم هاهنا، بداهة أن (2) الاجزاء التحليلية (3) لا يكاد يتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا (4)، فالصلاة مثلا (5) في ضمن الصلاة المشروطة
264 أو الخاصة (1) موجودة بعين وجودها (2)، وفي ضمن صلاة أخرى فاقدة لشرطها (3) وخصوصيتها تكون متباينة (4) للمأمور بها كما لا يخفى. [1]
[1] لا يقال: هذا انما يتم بناء على كون المتصف بالوجوب الغيري خصوص المقدمة الموصلة، إذ مع عدم كون الذات المجردة عن الشرط والقيد مقدمة 265 نعم (1) لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الامر
لتحقق المشروط والمقيد لا وجه لدعوى وجوبها بالوجوب الغيري، لكن المصنف التزم بوجوب مطلق المقدمة، ومقتضاه الالتزام بوجوب الفاقد ولو لم يكن مقدمة لتحقق المشروط والمقيد. فإنه يقال: لا منافاة بين الامرين، حيث إن المصنف ينكر مقدمية الذات المجردة لوجود الحصة الخاصة، وما تقدم منه في بحث المقدمة من عدم وجوب خصوص الموصولة انما هو بالنسبة إلى عنوان المقدمة، ومع تصريحه (قده) هنا بمباينة المشروط والمطلق وعدم وقوع الذات المطلقة في طريق وجود المشروط والمقيد فلا مجال لدعوى المقدمية كي يشكل عليه بما ذكر. والحاصل: أن إنكار الصغرى وهي مقدمية الذات المجردة لتحقق المشروط والمقيد لا ينافي تسليم الكبرى وهي وجوب المقدمة مطلقا وان لم تكن موصلة. 266 بين المشروط وغيره، دون دوران الامر بين الخاص وغيره، لدلالة (1) مثل (2) حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته. وليس كذلك (3) خصوصية الخاص، فإنها انما تكون منتزعة عن نفس الخاص (4)، فيكون الدوران بينه (5) وبين غيره من قبيل الدوران بين المتباينين (6)، فتأمل جيدا. [1]
[1] الحق جريان البراءة عقلا ونقلا في الأقل والأكثر مطلقا سواء كانا من قبيل الجز والكل كتردد أجزأ الصلاة بين ثمانية وعشرة مثلا، أم من قبيل الشرط والمشروط بأقسامه من كون منشأ انتزاع الشرطية شيئا خارجا عن المشروط مباينا له في الوجود كالوضوء للصلاة، وكون منشئه أمرا داخلا في المشروط متحدا معه في الوجود كالايمان والعدالة بالنسبة إلى الرقبة والشاهد مثلا، أم كان الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع كالحيوان والانسان. والوجه في جريان البراءة في مطلق الأقل والأكثر الارتباطيين ولو كانت أجزاؤهما 267
تحليلية هو اجتماع أركان البراءة فيهما، فان أركانها من قابلية موردها للوضع والرفع تشريعا، ومن تعلق الجهل به، ومن كون رفعه منة على العباد موجودة في جميع أقسام الأقل والأكثر، ضرورة أن الشك في شرطية شئ للمركب سواء أكان منشأ انتزاعها موجودا مغايرا للمشروط كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، أم متحدا معه في الوجود كالعدالة بالنسبة إلى الشاهد مثلا يرجع إلى الشك في جعل الشارع، بداهة أن الشرطية مما تناله يد التشريع، فتجري فيها البراءة، فإذا أمر الشارع بعتق رقبة وشككنا في اعتبار خصوصية الايمان فيها ولم يكن لدليله إطلاق جرت فيه البراءة. وكذا إذا أمر المولى بإطعام حيوان وشككنا في أنه اعتبر ناطقيته أولا، فلا مانع من جريان البراءة في اعتبار الناطقية فيه، لان اعتبارها مما تناله يد التشريع، فيصح أن يقال: إطعام الحيوان معلوم الوجوب، وتقيده بالناطقية مشكوك فيه، فيجري في البراءة. وكذا يصح أن يقال: ان عتق الرقبة معلوم الوجوب، وتقيدها بالايمان مشكوك فيه فينفي بالبراءة. ولا يعتبر في الانحلال وجريان أصل البراءة الا المعلوم التفصيلي والشك البدوي، وأما اعتبار كون الشئ المعلوم وجوبه تفصيلا موجودا كأجزاء المركب الخارجي كالصلاة فلا دليل عليه لا عقلا ولا نقلا، وانما المعتبر فيه هو كونه قابلا لتعلق الحكم الشرعي به، وذلك حاصل، لامكان إيجاب عتق مطلق الرقبة وإطعام مطلق الحيوان بدون تقييد الرقبة بالايمان، و تقييد الحيوان بفصل خاص من فصوله وان توقف وجوده على أحد فصوله، الا أنه يمكن لحاظه موضوعا بدون اعتبار فصل خاص من فصوله، فيكون المطلوب حينئذ مطلق وجود الحيوان من دون 268
دخل فصل خاص في موضوعيته. وعليه فتجري البراءة في دوران الامر بين التعيين والتخيير، ففي مثال إطعام الحيوان إذا شك في اعتبار خصوصية الانسان كان من صغريات التعيين والتخيير، لأنه يجب إطعام الانسان إما تخييرا ان كان الواجب إطعام مطلق الحيوان، واما تعيينا ان كان الواجب إطعام خصوص الانسان، فيصح أن يقال: ان المعلوم وجوبه تفصيلا هو إطعام الحيوان، وكونه خصوص الانسان مشكوك فيه، ولم يقم بيان على اعتباره فيجري فيه البراءة العقلية، وكذا النقلية، للجهل باعتبار الخصوصية الموجب لجريان البراءة الشرعية فيه. نعم إذا علم إجمالا بتقيد الجنس كالحيوان بنوع خاص، وتردد بين نوعين أو أنواع دخل في المتباينين، لتباين الحصص الجنسية بالفصول المحصلة لها، فان الانسان مباين لسائر أنواع الحيوان من الفرس والبقر وغيرهما، فلا بد من الاحتياط، ولا مجال لجريان البراءة فيها، فإنها متعارضة في الأنواع، والمفروض أن الواجب إطعام نوع خاص لا مطلق الحيوان حتى يقال: ان وجوب إطعامه معلوم تفصيلا وخصوصية النوع مشكوكة، حيث إن دخل نوع خاص معلوم إجمالا، فلا تجري فيه البراءة كسائر أقسام المتباينين، بل يجب فيه الاحتياط. وبالجملة: فلا فرق في جريان البراءة عقلا ونقلا بين أقسام الأقل و الأكثر من الاجزاء الخارجية والتحليلية، إذا المناط في جريانها عدم البيان، وقابلية المورد للجعل الشرعي، والمفروض وجودهما في جميع أقسام الأقل والأكثر. ومما ذكرنا ظهر ضعف إطلاق ما عن المحقق النائيني (قده) من وجوب الاحتياط فيما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع، بتقريب: (أن الترديد بين الجنس والنوع بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين، فان 269
الانسان بما له من المعنى مباين للحيوان عرفا، فالعلم الاجمالي بوجوب إطعام الانسان أو الحيوان يوجب الاحتياط بإطعام خصوص الانسان، لان نسبة حديث الرفع إلى وجوب إطعام كل من الانسان و الحيوان على حد سواء، فأصالة البراءة في كل منهما تجري وتسقط بالمعارضة، فيبقى العلم الاجمالي على حاله، ومقتضاه الاحتياط بإطعام الانسان، لأنه الموجب للعلم بفراغ الذمة). وذلك لأنه تارة يعلم بوجوب إطعام الحيوان ويشك في تقيده بكونه إنسانا أو غيره، فالشك حينئذ متمحض في تقيد موضوع الحكم بقيد وهو الناطقية أو غيرها، وأخرى يعلم إجمالا بوجوب إطعام حيوان أو إنسان بمعنى أن المولى قال: أكرم حيوانا أو إنسانا، بحيث يتردد الموضوع بينهما، فعلى الأول لا ينبغي الاشكال في جريان البراءة في خصوصية الانسانية أو غيرها، ضرورة أن موضوعية الحيوان للحكم معلوم، ودخل الخصوصية فيه مشكوك، ولم يقم بيان عليه، فتجري فيه البراءة. وعلى الثاني يجب الاحتياط، إذ المفروض دوران الموضوع بين الحيوان والانسان، وهما متباينان، حيث إن الحيوان الذي جعل موضوعا في مقابل الانسان لا يراد به الا الحصة المتفصلة بفصل الناطقية المباينة للحصة المتفصلة بفصل الناهقية، فأصل البراءة في كل منهما يجري ويسقط بالمعارضة، ويبقى العلم الاجمالي على حاله، و مقتضاه الاحتياط بإطعام الانسان وغيره. وكذا ظهر ضعف ما في المتن من عدم جريان البراءة مطلقا الا في المطلق والمشروط، حيث إنه أجرى فيه البراءة الشرعية دون العقلية، مع أن الحكم إذا كان فعليا من جميع الجهات فلا مجال لجريان شئ من البراءتين فيه كما نبه عليه أيضا في الهامش. 270 الثاني: أنه لا يخفى
271 أن الأصل (1) فيما إذا شك في جزئية شئ أو شرطيته في حال نسيانه (2)
272 عقلا ونقلا (1) ما ذكر (2) في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية [1]
[1] لا يقال: لا مجال للاستدلال على الاشتغال عقلا هنا بنفس العلم الاجمالي الدائر بين الأقل والأكثر في الاجزاء، لعدم كونه منجزا هنا، بخلافه هناك، وذلك للفرق بين المقامين، لحدوث الشك هنا بعد الاتيان بالأقل الذي هو العمل الفاقد للمنسي، فالعلم الاجمالي بوجوب مردد بين الأقل والأكثر لا يوجب الاحتياط، لفرض حصوله بعد الامتثال في أحد الأطراف، ومثله لا ينجز، كما لو علم بوجوب صوم أمس أو غد، لعدم تأثير العلم في تكليف ظرف امتثاله متقدم على زمان حصوله، ومعه لا يكون الشك في وجوب التمام - للشك في فساد العمل الناقص - من الشك في التكليف الفعلي حتى يجب الاحتياط. فإنه يقال: ان المقصود تعيين وظيفة المجتهد في أمثال المقام من جهة إجمال النص الدال على الجز والشرط، وتردد مطلوبيته بين الاطلاق والتقييد، ومن الواضح منجزية هذا العلم الاجمالي و اقتضاؤه للاشتغال عقلا، إلا مع دعوى انحلاله بمثل حديث الرفع كما أفاده المصنف، وعليه فالمسألتان من واد واحد فيما يهم المجتهد. ولا يقاس المقام بمثال الصوم، الا إذا تذكر بعد الوقت نسيانه للجز وقلنا أيضا بأن القضاء بفرض جديد، وأما لو تذكر في أثناء الوقت فقاعدة الاشتغال تقضي بلزوم الاستئناف لكون المطلوب الطبيعة لا الفرد. 273 فلو لا مثل حديث الرفع (1) مطلقا (2) و (لا تعاد) في الصلاة (3) يحكم (4) عقلا بلزوم إعادة ما أخل بجزئه أو شرطه نسيانا، كما هو (5) الحال فيما ثبت شرعا جزئيته أو شرطيته
274 مطلقا (1) نصا أو إجماعا (2). ثم لا يذهب عليك (3) أنه كما يمكن رفع الجزئية أو الشرطية في هذا الحال (4) بمثل حديث الرفع،
275 كذلك يمكن تخصيصها (1) بهذا الحال بحسب الأدلة الاجتهادية، كما إذا وجه الخطاب (2) على نحو يعم الذاكر والناسي
276 بالخالي (1) عما شك في دخله مطلقا (2) وقد دل دليل آخر (3) على دخله في حق الذاكر، أو وجه (4) إلى الناسي خطاب يخصه (5) بوجوب (6) الخالي بعنوان آخر عام أو خاص [1] لا بعنوان الناسي كي (7) يلزم استحالة إيجاب ذلك (8) عليه بهذا العنوان
[1] وله وجه ثالث أفاده في حاشية الرسائل، ومحصله: أن يكلف الملتفت بالتمام 277 لخروجه (1) عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة، كما توهم لذلك (2)
ولا يكلف الناسي، بشئ، ولكن يصح فعله للناقص، لاشتماله على المصلحة، ويكفي في بعثه إلى الناقص اعتقاده توجه أمر الملتفت إليه، فيأتي بالناقص بداعي موافقة أمر الملتفت بالتمام). ولا يخفى أن شيئا من الوجوه الثلاثة لا يجدي في مقام تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الالتفات. أما الأول لان، فلأنهما مجرد احتمال في مقام الثبوت، وليس على اعتبارهما في مقام الاثبات للجمع بين الأدلة عين ولا أثر، بل مقتضى حكومة حديث (لا تعاد) على إطلاق أدلة الاجزاء والشرائط للذاكر والناسي هو إطلاق الأدلة لهما في الأركان، واختصاص جزئية غيرها بحال الالتفات، فالذاكر و الناسي يشتركان في الامر بالأركان، ويفترقان في غيرها من الاجزاء التي يلتفت إليها ولا يلتفت إليها. وتقريبه للوجه الأول في حاشية الرسائل سليم عن الاشكال، لموافقته لمقتضى الأدلة قال (قده): (بأن يؤمر بالصلاة مثلا أولا ثم يقيد بدليل دال على جزئية 278 استحالة تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر، وإيجاب (1)
السورة في حال الالتفات إليها بناء على وضعها للأعم، أو يشرح به و بما يدل على سائر ما يعتبر فيها شطرا أو شرطا بناء على وضعها للصحيح، فان الغافل حينئذ يلتفت إلى ما توجه إليه من الامر، و يتمكن من امتثاله حقيقة بإتيان ما هو المأمور به واقعا في هذا الحال و ان كان غافلا عن غفلته الموجبة لكون المأتي به تمام المأمور به). نعم لا يرد على أولهما امتناع أخذ الالتفات قيدا في موضوع الخطاب، لتأخر الالتفات عن الحكم، وذلك لان الممتنع هو أخذه في الحكم دون الموضوع كالمقام كما هو واضح. وأما الوجه الثالث، ففيه: أن الامر بالأركان وبالاجزاء غير المنسية موجود، ولا حاجة معه إلى تصحيح العبادة بالمصلحة. مضافا إلى: أنها لم تقصد، مع أن صحة العبادة المقربة إليه تعالى شأنه منوطة بقصدها ان لم يكن هناك أمر، أو كان وغفل عنه، أو اعتقد عدمه. وإلى: أن تصحيح العبادة بالملاك ليس مسلما ومفروغا عنه. وكيف كان فما أفاده الشيخ من الاستحالة المزبورة في محله. نعم لا ينحصر التخصيص بما ذكره، بل يمكن الجمع بين الأدلة بما تقدم من الحكومة، بل هو المتعين في مقام الاثبات، هذا. 279 العمل الخالي عن المنسي على الناسي، فلا تغفل (1).
لا يقال: انه يمكن توجيه الخطاب إلى كلي الناسي على نحو القضية الحقيقية كإيجاب الحج على كلي المستطيع كذلك وان لم يصح توجيهه إلى الناسي الخارجي، لا نقلا به إلى الذاكر، فما أفاده الشيخ من الاستحالة يختص بمخاطبة الناسي الخارجي الشخصي دون الكلي. فإنه يقال: ان كل خطاب لا يمكن الانبعاث عنه أصلا ولو في زمان من الأزمنة لغو، ومن المعلوم أن المقام كذلك، ضرورة أن أفراد طبيعة الناسي يمتنع أن يطبقوا هذه الطبيعة عليهم، ويرون أنفسهم مأمورين بالامر الموجه إلى عنوان الناسي، بداهة أن إحراز انطباقه عليهم يوجب الانقلاب إلى الذاكر بحيث يمتنع انبعاثهم عن الامر الموجه إلى كلي الناسي، وليس كإيجاب الحج على كلي المستطيع لانبعاث أفراد المستطيع خارجا عن إيجاب الحج على هذا الكلي. فقياس المقام بمثل إيجاب الحج على المستطيع في غير محله، ومن البديهي امتناع صدور اللغو عن الحكيم. فالمتحصل: أن خطاب الناسي بعنوانه كليا وجزئيا غير سديد، و محذور الاستحالة لا يندفع بجعله موضوعا للخطاب ولو على نحو القضية الحقيقية، فتدبر. وتحقيق المقام يستدعي التعرض أولا لامكان توجيه الخطاب بما عدا المنسي وثانيا لإقامة الدليل أمارة أو أصلا على تعلق التكليف به بعد الفراغ عن إمكانه مع اقتضاء نفس الجزئية لسقوط الامر عن المركب بنسيان الجز، إذ ليس في البين الا خطاب واحد متعلق بالمجموع أي بكل جز بشرط الانضمام. 280
أما الأول فقد عرفت الاشكال على إمكان مخاطبة الناسي بما عدا المنسي الا الوجه الأول بالبيان المنقول عن حاشية الرسائل، فلاحظ. وأما الثاني فان ما دل على التكليف بالفاقد ومطلوبيته اما أن يكون دليلا اجتهاديا أو أصلا عمليا. ودلالة الأول تتوقف على النظر في مفاد كل من دليلي المركب و الجز، فإنه لا يخلو اما أن يكون إطلاق في كليهما أو في أحدهما، واما أن لا يكون في شئ منهما، فالصور أربع. ففي الصورة الأولى يدل إطلاق الامر بالمركب مثل الصلاة على مطلوبيته المطلقة، وقيام المصلحة به في تمام الحالات، وعدم سقوطه بنسيان جز أو شرط من المركب، ويدل إطلاق دليل الجز أو الشرط على دخله المطلق في المأمور به، ولازمه سقوط الامر بالمركب بنسيان جزئه أو شرطه، ويقدم هذا الاطلاق على إطلاق الامر بالمركب، لحكومة دليل الجز على دليل المركب، فلا تكليف بما عدا المنسي، لاقتضاء الأصل اللفظي الركنية، وإخلال نقصه السهوي بالمأمور به. ومنه ظهر حكم صورة إطلاق دليل الجز وإجمال دليل المركب بالأولوية، إذ لا إطلاق في الامر بالمركب حتى يعارض إطلاق الامر بالجز. وفي عكس هذه الصورة وهو إطلاق دليل المركب دون الجز بأن كان لبيا كالاجماع، فقد يقال بمطلوبية المركب في تمام الحالات التي منها حال نسيان الجز فيثبت عدم ركنية الجز بمقتضى أصالة الاطلاق في دليل المركب القاضية بمطلوبية المركب وان كان ترك جز منه نسيانا. وفيه: أن إطلاق دليل المأمور به يقتضي جزئية كل واحد من الاجزاء مطلقا 281
حتى حال نسيانه، إذ ليس المركب الا الاجزاء بشرط الانضمام، فمعنى إطلاقه إطلاق كل واحد من الوجوبات الضمنية المستفادة من الامر النفسي بالكل المستلزم لانتفائه بانتفاء جزئه المنسي، فكيف يدعى اقتضاء إطلاقه للاتيان به سواء نسي جزه أم لا، إذ مع نسيانه ينتفي الكل المؤلف من أجزأ مرتبطة، وهذا كله لأجل انبساط الامر بالمركب على كل واحد من أجزائه. لكن الحق خلافه، لان إطلاق دليل المأمور به ناظر إلى الاجزاء بشرط الانضمام وهو الكل، فالاطلاق يتعلق بذلك، لا بكل واحد من الاجزاء بالخصوص، ولا معارض لهذا الاطلاق. وفي الصورة الرابعة وهي عدم انعقاد الاطلاق في شئ من الدليلين تصل النوبة إلى الأدلة الثانوية كما سيتلى عليك، والحكم بأصالة ركنية كل جز وشرط للمركب لا بد أن يكون في هذه الصورة، وإلا فالأصل اللفظي في سائر الصور يعين مقدار الدخل كما عرفت. هذا بناء على فرض الاطلاق ثبوتا في دليل المركب والجز كما قيل. وأما بحسب مقام الاثبات، فينبغي أن يكون مورد النزاع فيه هو الاطلاق بالنسبة إلى عدم المقيد اللفظي دون العقلي كالعجز الناشئ عن النسيان، لقبح مطالبة الناسي كالعاجز، لكون العجز قرينة حافة بكل ما يدل على التكليف ومانعة عن انعقاد الاطلاق في شئ من أدلة المركبات. وكيف كان، ففي انعقاد الاطلاق في دليل الجز مطلقا سواء كان بلسان التكليف مثل (اركع في الصلاة) أم الوضع مثل (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) كما اختاره المحققان النائيني والعراقي (قدهما)، و عدمه كذلك كما يظهر من حاشية المحقق 282
الأصفهاني (قده) والتفصيل بين أنحاء الدلالة كما يحكى عن الوحيد البهبهاني بانعقاد الاطلاق في الوضع دون ما إذا كان بلسان الامر، وجوه أقواها الأول، وذلك لان دليل الجزئية والشرطية ان كان بلسان الوضع، فظهوره في انتفاء الماهية بانتفائه وفساد العمل الفاقد له مما لا ينكر، لدلالته على دخل الجز أو الشرط في حقيقة المركب المأمور به مطلقا، فيشمل جميع حالات المكلف من النسيان والذكر و غيرهما. وان كان بلسان التكليف فقد يقال: باختصاص الجزئية والشرطية المنتزعتين منه بحال الالتفات، لتقيد منشأ انتزاعهما وهو الطلب بالقدرة المفقودة حال النسيان، فلا بعث بالنسبة إلى الناسي، لتبعية الامر الانتزاعي لمنشأ انتزاعه سعة وضيقا. وهذا بخلاف ما إذا كان الدليل بلسان الوضع، إذ لا بعث ولا طلب فيه حتى يتقيد عقلا بالملتفت، بل هو بيان لأمر واقعي وهو الدخل في حقيقة المركب و ماهيته. الا أن الحق خلافه، لتوقف الفرق المزبور على إفادة دليل الجزئية - فيما كان بلسان الامر - وجوب الجز نفسيا حتى يتقيد بحال الالتفات، لامتناع انبعاث غير الملتفت وانزجاره عقلا، لقبح مطالبة الناسي كالعاجز. لكنه ليس كذلك، ضرورة أن الأوامر والنواهي المتعلقة بأجزاء المركبات وشرائطها وموانعها منسلخة عن الطلب المولوي، لظهورها في الارشاد إلى دخل المتعلق في ماهية المركب المأمور به وحدوده جزا أو شرطا أو مانعا، والامر والنهي وان كانا ظاهرين أولا في المولوية، الا أنه انقلب ظهورهما الأولي إلى ظهور ثانوي وهو الارشاد إلى الجزئية والشرطية والمانعية كالواردة منها في الأدلة البيانية، فان استحقاق العقوبة مترتب عقلا على مخالفة التكليف النفسي المولوي كعصيان الامر بالصلاة، ولو كان الامر بالركوع 283
ونحوه من الاجزاء والشرائط والموانع نفسيا لزم تعدد العقوبة، ولا يلتزم به أحد. ويؤيده أن متعلقات تلك الأوامر قد وردت في الأدلة البيانية مثل صحيحة حماد الواردة في الصلاة، حيث بين عليه السلام حقيقتها بلا أمر بالجز والشرط، فلا يكون شأن أوامر الاجزاء الا الارشاد إلى ما فصلته الأدلة البيانية لا غير. وعليه يثبت إطلاق دخل الجز والشرط في المأمور به كما إذا كان بلسان نفى الطبيعة بانتفائه مثل (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب). لا يقال: ان الالتزام بإرشادية أوامر الاجزاء والشرائط ينافي القول بانتزاعية الأحكام الوضعية كالجزئية والشرطية من التكليف وعدم مجعوليتها بالاستقلال، وذلك لارشادية تلك الأوامر لا مولويتها حتى تكون منشأ للانتزاع، فلا بد اما من رفع اليد عن انتزاعية الوضع و الالتزام بتأصله في الجعل كالتكليف، واما من إبقاء أوامر الاجزاء و نحوها على ظهورها الأولي في الطلب النفسي لينتزع منها الجزئية، ولازمه حينئذ اختصاص الجزئية بحال الالتفات والذكر. فإنه يقال: لا تهافت بين الامرين، فان منشأ انتزاع جزئية الركوع مثلا ليس خطاب (اركع في الصلاة) المحمول على الارشاد إلى ما هو الدخيل في الغرض وعدم وفاء الناقص منه بالمصلحة، حتى يتوجه الاشكال، وانما هو الطلب المولوي المتعلق بنفس المركب مثل (أقيموا الصلاة) المنبسط على كل واحد من الاجزاء والشرائط، وتنتزع الجزئية في مقام الاثبات من انبساط ذلك الامر النفسي عليهما و تنسب إلى الشارع لكونه أمرا بالمركب من أمور مرتبطة. فان قلت: على هذا يلزم اختصاص الجزئية بحال الالتفات أيضا، لاستحالة دعوة الغافل والناسي، فالامر النفسي بالجز المنبسط عليه من الامر بالمركب 284
لما كان متقيدا بالقدرة، فما ينتزع منه لا بد أن يكون أيضا كذلك، فلا وجه لدعوى الجزئية المطلقة، والدليل المتكفل لحكم الجز المفروض كونه إرشادا لا بد من كونه إرشادا إلى هذه الجزئية المنتزعة من الامر الضمني، لا إرشادا إلى الجزئية المطلقة والدخل في تمام الحالات. قلت: لا يلزم اختصاص الجزئية بحال الالتفات، للفرق بين ما يدل على جزئية شئ للمأمور به بما هو مأمور به، وبين ما يدل على الجزئية للمركب. والأول مدلول الجزئية المنتزعة من الامر النفسي الضمني بالجز المأخوذ من الامر بالكل وتتقيد بالالتفات، والثاني مدلول مثل (اركع في الصلاة) المفروض كونه إرشادا محضا إلى ما هو الجز للمركب والوافي بغرضه وملاكه، ومن المعلوم عدم تفاوت الأحوال فيما يكون جزا لما تقوم به المصلحة الداعية إلى الامر، فهذه تدل على الجزئية المطلقة. وبهذا تصح دعوى إطلاق الجزئية لحال النسيان وغيره، وعدم الاجتزاء بالفاقد للمنسي، فالاكتفاء بما عدا المنسي انما هو بدليل آخر، والا فالاطلاق المزبور يقتضي عدم الاجتزاء به. وقد تصدى شيخنا المحقق العراقي (قده) لاثبات إطلاقها مع الغض عما تقدم بوجهين آخرين، أحدهما: ما محصله: أن حكم العقل بقبح مطالبة الناسي ليس في الارتكاز والوضوح كقبح مطالبة العاجز في كونه قرينة متصلة بالكلام مانعة عن انعقاد ظهور لدليل الامر بالجز في الاطلاق، بل هو كالقرينة المنفصلة المانعة عن حجية الظهور لا عن أصله، لعدم التفات الذهن إليه الا بعد إمعان النظر و التأمل في المبادي التي أوجبت حكم العقل به، وحينئذ فالساقط عن الاعتبار 285
انما هو حجية ظهور دليل الجز في ناحية التكليف. وأما حجية ظهوره في الحكم الوضعي مطلقا الشامل لحال النسيان فلا مقيد لها ولا قرينة على خلافها، فيؤخذ بظهورها في ذلك. وثانيهما ما لفظه: (يمكن التمسك بإطلاق المادة لدخل الجز في الملاك والمصلحة حتى في حال النسيان، فلا فرق حينئذ في صحة التمسك بإطلاق دليل الجز لعموم الجزئية لحال النسيان بين كونه بلسان الحكم التكليفي أو بلسان الوضع). وقد تمسك المحقق الأصفهاني بهذا الاطلاق أيضا في تعذر الجز أو الشرط. لكن يشكل أول الوجهين حتى مع الالتزام بالتفكيك بين الدلالتين المطابقية والالتزامية في الحجية، لأجنبية المقام عنه، حيث إن اللازم له وجود خارجي وان كان قائما بوجود الملزوم قيام العرض بمعروضه كالشمس وضوئها، وأما الامر الانتزاعي فليس كذلك، لعدم وجود له أصلا، وانما الوجود لمنشأ انتزاعه كالفوقية المنتزعة عن وجود السطح مثلا، ومع فرض تقيد متعلق الطلب عقلا بحال الالتفات فمع الغفلة والنسيان لا يبقى شئ حتى تنتزع الجزئية المطلقة منه. وعليه فالمقام ليس من صغريات تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية و عدمها كي تبتنى المسألة عليها. ويشكل الثاني منهما بعدم الدليل على إطلاق المادة بعد تقيد الهيئة بغير الناسي عقلا مع كون الأصل في القيود وحدة المطلوب، ولذا قيل: (إذا انتفى القيد انتفى المقيد) وحيث إن المقصود إثبات جزئية الركوع المطلقة بمثل (اركع في 286
الصلاة) لا لكونه عبادة ذاتية ومظهرا للطاعة والخضوع له تعالى في نفسه ومع الغض عن جزئيته للصلاة، فبعد سقوط إطلاق الامر لحال النسيان لا دليل في مقام الاثبات على جزئيته المطلقة ودخله في المركب في تمام الحالات. هذا مضافا إلى إمكان دعوى أن الحكم العقلي بقبح مطالبة الناسي لو لم يكن قرينة حافة بالكلام مانعة عن إطلاق المادة كما تقيد إطلاق الهيئة، فلا أقل من صلاحيتها للقرينية، ومن المعلوم إناطة الاطلاق بعدم القرينة وما يصلح لها، فلاحظ. فتحصل: أن الوجه لاثبات إطلاق أدلة الاجزاء والشرائط هو ما ذكرناه. ومنه ظهر الخلل في التفرقة بين كون لسان دليل الجز التكليف و الوضع، فلا نعيد. نعم قد يمنع إطلاق دليل الجز بما في حاشية المحقق الأصفهاني (قده) حيث قال: (ان الجزئية تارة تلاحظ بالإضافة إلى الوفاء بالغرض، وهي من الأمور الواقعية التي لا مدخل للعلم والجهل والنسيان فيها. وأخرى تلاحظ بالإضافة إلى مرحلة الطلب وكون الشئ بعض المطلوب، وهذه حالها حال الامر بالمركب، لان مصحح انتزاعها هو الامر بالمركب، فإذا لم يعقل الامر بالمركب من المنسي وغيره لم يعقل جزئية المنسي بالجزئية الوضعية الجعلية التي بيانها وظيفة الشارع، وحيث إن ظاهر الارشاد إلى الجزئية هي الجزئية شرعا لا واقعا، فإنه أجنبي عن الشارع بما هو شارع وجاعل للأحكام، فلا محالة يكون حاله حال الامر النفسي التحليلي المتعلق بالجز من حيث اختصاصه بغير صورة النسيان وعدم القدرة. ومما ذكرنا يتبين أنه لا فرق بين أن يكون لسان دليل الجز لسان التكليف أو لسان 287
الوضع). ومحصله: أن خطابات الاجزاء والشرائط وان كانت إرشادية لا مولوية، الا أن ذلك لا يستلزم دخل المتعلق في المركب مطلقا حتى حال النسيان، ضرورة توقف الاطلاق على كون المتكلم في مقام بيان ما هو الدخيل في المركب واقعا وفي مرحلة الوفاء بالغرض والملاك، وحينئذ ينعقد الاطلاق وتثبت الجزئية في تمام الحالات، وبيان مثل هذا الدخل في المركب وان كان متمشيا من الشارع الأقدس ثبوتا، الا أنه لا دليل عليه إثباتا، إذ ظاهر مثل قوله عليه السلام: (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) الارشاد إلى دخل القراءة في الصلاة بما هي مأمور بها، لا الاخبار بالجزئية الواقعية مع قطع النظر عن الامر بها، إذ وظيفة الشارع من حيث الشارعية هو بيان الاحكام ومتعلقاتها وما له الدخل فيها شرعا، لا بيان أمر واقعي مثل دخل الركوع في مصلحة الصلاة وملاكها، فإنه أجنبي عن وظيفته بما هو شارع لأنه اخبار عن أمر تكويني خارجي لا مساس له بمقام الشارعية. وعليه فدليل الجزئية وان كان بلسان الوضع، الا أنه إرشاد إلى ما هو الجز للمأمور به، فيكون حاله حال نفس الامر بالمركب مثل (أقيموا الصلاة) في اختصاصه بالقادر على الامتثال، وليس ذلك الا الذاكر والملتفت. وهذا البيان مع دقته كما لا يخفى على المتأمل في كلمات قائله قدس سره في النفس منه شئ، وذلك فان الارشاد إلى ما هو الدخيل في الملاك وان كان غير الاخبار عن جز المأمور به بما هو هو كما أفاده (قده) وظاهر أدلة الاجزاء والشرائط الارشاد بالنحو الثاني لا الأول، الا أنه حيث لا ينفك جزئية المأمور به عن الجزئية 288
للملاك، لفرض تبعية الاحكام لملاكاتها كما عليه العدلية، فلا محالة يكون الارشاد إلى جزئية الركوع للطبيعة المأمور بها إرشادا إلى دخله في المصلحة الداعية إلى الامر بالطبيعة بالبرهان الآني، ولا سبيل للتفكيك بين هذين الارشادين الا مع نفي تبعية الأحكام الشرعية لملكاتها النفس الامرية، وهو خلاف مذهب العدلية. وعليه فالخطاب المتكفل لجزئية القراءة للصلاة وان كان إرشادا إلى جزئيتها للصلاة بما هي مأمور بها لا بذاتها مع قطر النظر عن الامر بها، لكون ذلك وظيفة الشارع لا بيان الأمور الخارجية، الا أنه بمقتضى البرهان الآني اخبار بما هو الدخيل في الغرض، ومن المعلوم عدم تفاوت الأحوال فيها، وهذا هو المقصود من الجزئية المطلقة. هذا كله في اقتضاء أدلة الاجزاء والشرائط والموانع للدخل المطلق الذي به يسقط الامر بالمركب بنسيان جزئه أو شرطه أو إيجاد مانعه كذلك، لولا الدليل الثانوي الدال على صحته فيما لم يكن المنسي من الخمسة المستثناة في حديث (لا تعاد) في خصوص الصلاة، أو ركنا في غيرها كالوقوفين بالنسبة إلى الحج، فان حديث (رفع النسيان) يدل على صحة المأتي به - كما إذا نسي الاحرام من الميقات - مع الغض عن الأدلة الخاصة، وذلك لحكومتها على أدلة الاجزاء و الشرائط حكومة واقعية، فتقيدان إطلاقهما إذا كانا مطلقين، فان مقتضى حديثي (لا تعاد ورفع النسيان) صحة العمل الناقص والاجتزاء به عن التام، ومعه لا تصل النوبة إلى جريان البراءة الشرعية في المقام، لوجود الدليل الحاكم أو الوارد عليها. نعم في التمسك بحديث (رفع النسيان) لتصحيح العمل الفاقد للمنسي 289
إشكال لبعض الأعاظم تعرضنا له ولجوابه في ثاني تنبيهات حديث الرفع في الجز الخامس، فلاحظ. ثم انه قد يورد على قول المصنف هنا: (لولا حديث الرفع مطلقا ولا تعاد في الصلاة) بامتناع الجمع بين البراءة الشرعية و (لا تعاد) لتصحيح الصلاة، فان الثاني حاكم على إطلاق أدلة الاجزاء والشرائط واقعا، فلا بد من فرض إطلاق فيها يتقيد لبا بحال الالتفات بحكومة (لا تعاد) عليه، والأول يتوقف - كما هو مفروض البحث - على إجمال دليل الجز، والشك في سعة دائرة المجعول وضيقها حتى يتحقق موضوع البراءة الشرعية أعني (ما لا يعلم) ومن المعلوم منافاة فرض إجمال الدليل حتى يجري حديث الرفع مع فرض إطلاقه، حتى يجري حديث لا تعاد. هذا ما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) بتوضيح منا. لكن الظاهر سلامة كلام الماتن عن الاشكال، وذلك لعدم اختصاص مورد حديث (لا تعاد) بما يكون دليل الجز مطلقا، بل يجري حتى إذا كان مجملا، ويكون مقتضى حكومته الشارحة تحديد مقدار الدخل، وحيث إن المتسالم عليه جريانه في نسيان الجز والشرط، فهو متحد مع مفاد حديث رفع النسيان، وقد التزم المصنف بكونه مقيدا للتكليف والوضع إذا كان دليله مطلقا ومبينا له إذا كان مجملا و يتجه حينئذ التمسك به هنا، لكونه مبينا لما أريد من دليل الجز و الشرط. نعم يرد عليه: أنه لا مسرح للبراءة الشرعية مع وجود الدليل الاجتهادي. فالبحث عنه لا بد أن يكون مع الغض عن مثل حديث لا تعاد ورفع النسيان. 290
لكن إجمال أدلة الاجزاء والشرائط مجرد فرض، لثبوت الاطلاق في أدلتها ولو مقاميا شاملا لحالتي الالتفات والنسيان، بل مع الغض عنه أيضا يكفي ما دل على عدم سقوط الصلاة بحال في إطلاق الاجزاء والشرائط، فتأمل جيدا. وعليه يتضح وجه المنافاة في الجمع بين البراءة الشرعية ولا تعاد. 291 الثالث (1): أنه ظهر مما مر حال زيادة الجز إذا شك في اعتبار
292 عدمها شرطا أو شطرا (1) في الواجب مع عدم اعتباره (2) في جزئيته،
293 والا (1) لم يكن من زيادته بل من نقصانه (2)، وذلك (3) لاندراجه في الشك في دخل شئ فيه جزا أو شرطا، فيصح لو أتى به مع الزيادة عمدا تشريعا (4) أو جهلا (5) قصورا أو تقصيرا، أو سهوا (6)
294 وان استقل العقل (1) لولا النقل بلزوم (2) الاحتياط لقاعدة الاشتغال. نعم (3) لو كان عبادة وأتى به
295 كذلك (1) على نحو (2) لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه لكان باطلا مطلقا [1 [3
[1] يمكن أن يقال كما قيل بعدم الوجه للبطلان حينئذ، لتحقق داعوية 296 أو في (1) صورة عدم دخله فيه، لعدم (2) تصور [قصد] الامتثال في هذه الصورة (3) مع استقلال العقل بلزوم الإعادة مع اشتباه
الامر الواقعي. لكنه ضعيف، ضرورة أن التقييد يقتضي داعوية الامر التشريعي لا الامر الواقعي على فرض وجوده، فعليه يكون وجود الامر الواقعي كعدمه في عدم انبعاث المكلف عنه، إذ مقتضى التقييد هو الانبعاث عن الامر التشريعي سواء كان هناك أمر واقعا أم لا. ثم انه لا بأس ببيان جملة من صور التشريع: منها: أن يكون التشريع في نفس الامر، بأن يقترح من عند نفسه أمرا أجنبيا عن أمر الشارع، وينبعث عن ذلك الامر القائم بالمجموع من الزائد والمزيد عليه. ومنها: أن يكون التشريع في حد الامر لا في ذاته، بأن يلتزم بتعلق أمر 297 الحال (1) لقاعدة الاشتغال.
الشارع بعشرة أجزأ، مع أنه يتعلق بتسعة أجزأ، فالتشريع يكون في حد الامر وسعته لا في نفسه، فالانبعاث يكون من أمر الشارع، لكن بحده التشريعي دون الشرعي. ومنها: أن يكون في المأمور به، بأن يوسعه ويزيد عليه، فالتشريع يكون في متعلق الامر، فالداعي هو أمر الشارع، لكن مع التوسعة في متعلقه، فيأتي بالمجموع من الزائد والمزيد فيه بأمر الشارع. ومنها: أن يكون في تطبيق المأمور به الخالي عن الزائد على المشتمل عليه ادعاء من دون تصرف في الامر لا في ذاته ولا في حده ولا في متعلقه، بل في تطبيق المأمور به على المأتي به، وأنه هو ادعاء كدعوى أسدية زيد، ومرجع هذا الوجه إلى ادعاء أن متعلق أمر الشارع هذا المشتمل على الزائد، كدعوى أن 298 وأما لو أتى به (1) على نحو يدعوه
الأسد زيد. ثم إن الظاهر عدم تحقق التشريع الذي هو إدخال ما ليس من الدين في الدين الا في العلم والجهل البسيط، إذ في الأول يعلم بعدم كونه من الدين، ومع ذلك يدخله فيه ويسنده إلى الشارع، فهو أجلى أفراد التشريع. وفي الثاني لا يعلم بأنه من الدين فجعله من الدين افتراء على الشارع وإسنادا إليه بغير علم، وهو قبيح عقلا وحرام شرعا. وأما الجهل المركب الحاصل معه الاعتقاد، فلا يتصور فيه التشريع، لوجود الاعتقاد الجزمي فيه بأمر الشارع وان كان مخطئا في اعتقاده في خطأ الامارة غير العلمية في عدم تحقق التشريع معه. و ليس مشرعا لأمر في قبال أمر الشارع. 299 إليه (1) على أي حال كان (2) صحيحا ولو كان (3) مشرعا في دخله
وكيف كان فقد يقال: ان التشريع من الأمور النفسانية التي لا توجب مبغوضية الفعل الخارجي حتى يبطل، بل الفعل معه صحيح، كسائر الصفات النفسانية الذميمة كالحسد، فإنه مع كونه من أقبح الصفات و أبغضها لا يوجب بطلان العبادة ولزوم إعادتها. لكنك خبير بما فيه من الضعف، لان التشريع وان كان من الأمور النفسانية، لكنه في بعض الموارد مانع عن تحقق القربة أي الانبعاث عن أمر الشارع، ومن المعلوم تقوم العبادة بها بحيث تنتفي بانتفاء القربة، فتلزم إعادتها، وليس سائر الصفات النفسانية كالحسد كذلك، ضرورة أنها لا تمنع عن داعوية الامر ولا تنافيها، فان صلاة الحاسد لانبعاثها عن أمرها صحيحة بلا إشكال. 300 الزائد فيه بنحو مع عدم علمه (1) بدخله، فان تشريعه (2) في تطبيق
فالحق أن يقال: ان التشريع ان كان مانعا عن داعوية أمر الشارع كما إذا كان على وجه التقييد كان مبطلا للعبادة، لمنعه عن تمشي قصد القربة، وان لم يكن مانعا عن دعوة الامر كانت العبادة صحيحة، فمانعيته انما هي في صورة التقييد سواء كان التشريع في ذات الامر أم في حده، أم في المأمور به، أم في تطبيقه على المأتي به المشتمل على الزيادة، فالتشريع على وجه التقييد في جميع هذه الصور مبطل للعبادة، لاخلاله بامتثال أمر الشارع. وكذا الحال في التشريع النقيصي، فإذا شرع في تنقيص أجزأ الصلاة و أتى بها كذلك بطلت الصلاة، لانبعاثه عن غير أمر الشارع، وان كان النقص العمدي أيضا مبطلا، لكن لا تصل النوبة إليه بعد بطلانها في نفسها، لعدم قصد القربة. ثم إن في معنى الزيادة وحكمها المستفاد من الجمع بين النصوص مباحث شريفة نتعرض لها تبعا للقوم، فنقول وبه نستعين: ان في المسألة جهات من البحث موضوعا وحكما. الأولى: في تصوير الزيادة في الاجزاء. وقد عرفت في المتن تبعا للشيخ الأعظم (قده) منعه، لأنه بعد استحالة الاهمال الثبوتي ان لوحظ الجز بشرط لا 301 المأتي مع المأمور به، وهو (1) لا ينافي قصده الامتثال والتقرب (2)
فوجوده الثاني يستلزم عدم تحقق القيد العدمي فيؤول إلى النقيصة. و ان لو حظ لا بشرط بالإضافة إلى إيجاده ثانيها وثالثا فالمأمور به بالامر الضمني هو الطبيعي، فالكل هو الجز، وليس وجوده الثاني و الثالث زائدا. لكن يمكن تصويرها بما أفاده بعض المدققين (قده) باعتبار الجز لا بشرط، لكن لا بالمعنى المتقدم، بل بمعنى مطلوبية صرف الوجود من الطبيعة وما هو طارد العدم، قال (قده): (وثالثة أخذ الجز لا بشرط بمعنى اللا بشرط القسمي أي لا مقترنا بلحوق مثله ولا مقترنا بعدمه، فاللاحق لا دخيل في الجز ولا مانع من تحققه، والا فمصداق طبيعة الجز المأخوذ في الصلاة أول ركوع مثلا يتحقق منه، و لكن مراد من يقول باعتبار الجز لا بشرط هذا المعنى لا اللا بشرط المقسمي.). والظاهر أن هذا هو مراد المحقق النائيني أيضا (من تحقق الزيادة إذا كان الجز ناقض العدم وهو أول الوجودات وما عداه زيادة قهرا)، فلا يرد عليه ما في تعليقة المحقق المتقدم (من أن اعتبار أول الوجودات ان كان بنحو بشرط لا كانت الزيادة نقيصة، وان كان بنحو لا بشرط كان الجز هو الطبيعة الصادقة على 302 به على كل حال (1).
القليل والكثير والواحد والمتعدد)، وذلك لان المقصود بصرف الوجود من الركوع مثلا ما يصدق على أول وجود منه لا مقترنا بلحوق مثله ولا مقترنا بعدمه، فيكون وجوده الثاني خارجا عن حريم الجز، وليس دخيلا في اقتضاء الركوع الأول للغرض المترتب عليه حتى يكون الكل جزا ولا مخلا به حتى يكون مانعا. والحاصل: أنه ليس لوجوده الثاني ولا لعدمه دخل في المركب. كما لا بأس بتصوير الزيادة بما أفاده شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) من صدق الزيادة عرفا إذا أخذ الجز بشرط لا، وأو له إلى النقيصة بالدقة العقلية لا ينافي إطلاق الزائد عرفا على الوجود الثاني، فان الخطابات المتضمنة لحكم الزيادة ملقاة إلى العرف. وقد يشكل (بأنه لا كلام في زيادته عرفا، الا أن مثله لا يعقل أن يكون له اعتبار المانعية شرعا بعد فرض اعتبار عدمه شرعا بعين اعتبار الجز بشرط لا) ومحصله: لغوية جعل المانعية للزيادة حينئذ، لكفاية نفس اعتبار الجز بشرط لا في بطلان الصلاة ووجوب إعادتها في رتبة سابقة على جعل المانعية، فلا يترتب البعث والزجر على إنشاء المانعية بلسان مثل (من زاد في صلاته) وعليه فالزيادة العرفية وان كانت متحققة في الفرض، لكنها لا تنفع في لزوم الإعادة، لاستناد البطلان في رتبة سابقة على الزيادة إلى الاخلال بشرط الجز أعني اعتبار وحدته وعدم تكرره. وهذا معنى لغوية جعل مانعية الزيادة الثاني الوجودين، ولا مناص لدفع اللغوية الا بأن يجعل موضوع دليل مانعية الزيادة مختصا بغير ما كان الجز 303
ملحوظا بشرط لا، هذا. لكن يمكن أن يجاب عنه بأن الظاهر وحدة المجعول ثبوتا في أمثال المقام وأن لب مراد المولى بيان إخلال تكرار الركوع بالصلاة و ان عبر عنه في مقام الاثبات تارة بجعل الجز بشرط لا مما يرجع إلى النقيصة عقلا، وأخرى بعنوان (من زاد في صلاته) نظرا إلى صدق الزيادة عرفا على ما عدا الوجود الأول، كما قد يعبر عن الجز تارة بلسان التكليف وأخرى بلسان الوضع كما عرفت في التنبيه المتقدم. والحاصل: أن محذور اللغوية منوط بتعدد المجعول حقيقة حتى يكون الجعل الثاني لغوا، ومع استكشاف وحدته بمعونة القرائن يسلم كلام الميرزا من الاشكال المزبور. نعم يرد على هذا التصوير النقض بما أفاده سيدنا الأستاذ الشاهرودي (قده) من أنه إذا انحنى بمقدار الركوع لا بقصده بل لقتل العقرب أو أخذ الطفل لحفظه عن التلف أو نحوهما، فان الزيادة حينئذ صادقة عرفا، مع أنها لا تعد زيادة في الصلاة حتى تندرج في دليل مانعية الزيادة. لكن يمكن أن يقال: انه لا يتم النقض المزبور حتى بناء على عدم اعتبار القصد في صدق الزيادة في المركبات الاعتبارية، حيث إن الزيادة وان كانت صادقة عرفا لكنها ليست على إطلاقها قادحة، فان الانجناء لمثل ما ذكر من الحوائج قد خرج عن حكم الزيادة وهو المانعية تخصيصا، لا عن موضوعها تخصصا، لما مر من صدق الزيادة عليه. وقد تحصل: أن تصوير الزيادة أمر ممكن، فلا بد من بيان ما يعتبر في صدقها. 304
الجهة الثانية: الظاهر أن قوام الزيادة في المركبات الاعتبارية بأمرين: أحدهما: أن يكون الزائد من سنخ المزيد عليه كالأفعال والأذكار الخاصة في الصلاة. ثانيهما: التجاوز عن الحد المخصوص للمزيد عليه. أما الأول، فلظهور الزيادة الحقيقية فيما يكون الزائد مسانخا للمزيد عليه، والا فلا يخلو إطلاقها عن العناية، وقد مثل له شيخنا المحقق العراقي بزيادة مقدار من الدبس على الدهن، فان الزيادة انما تصدق بالنسبة إلى وزن ما في الظرف، فإنه بعدم ما كان أوقية مثلا بلغ أوقية ونصفا، ولكن لا تصدق بالنسبة إلى نفس الدهن فلا يقال: (زيد في الدهن) فالزيادة كالنقيصة تتقوم بالمسانخة والمماثلة، فإنها حقيقة توسعة في وجود الشئ، ومن المعلوم عدم تحققها بإضافة المباين الأجنبي إليه، نظير ما إذا قرأ البناء، سورة من القرآن حين اشتغاله بالبناء، فإنه لا يعد القراءة بالضرورة جزا للبناء ولا زيادة فيه، كما لا تكون حركة اليد ونحوها في الصلاة زيادة فيها. وأما الثاني: فلتوقف صدق الزيادة على فرض حد خاص للمزيد فيه، بحيث يوجب إضافة الزائد انقلاب حده إلى حد آخر كالماء البالغ نصف الاناء، فزيد عليه إلى أن امتلأ الاناء منه، ضرورة صحة إطلاق الزيادة حينئذ على الماء. وفي المركبات الاعتبارية لا بد من اشتمال الجز على حد خاص ولو اعتبارا كاعتبار بشرط لا أو لا بشرط بالمعنى الثاني الصادق على أول وجود من الطبيعة بحيث يوجب انضمام الوجود الثاني المماثل للوجود الأول انقلاب حده وصدق عنوان الزيادة عليه، لخروج الوجود الثاني عن دائرة اللحاظ. 305
وما ذكرناه من الامرين هو المناط في تحقق الزيادة. ويستفاد هذان الأمران من تعليله عليه السلام للنهي عن قراءة العزيمة في الصلاة بقوله: (لان السجود زيادة في المكتوبة) فأطلق الزيادة على سجود التلاوة بمجرد كونه مسانخا لسجدتي الصلاة المعتبر فيهما عدد مخصوص، مع أن المكلف في مفروض الرواية لم يسجد بقصد سجدتي الركعة التي بيده، بل قصد الخلاف وهو امتثال الامر بسجدة التلاوة، ولا يوجب مجرد قصد الخلاف منع صدق عنوان الزيادة مع كون الزائد من سنخ المزيد عليه حقيقة، ولذا يتعدى عن مورد النص إلى كل ما يكون مسانخا لأجزأ الصلاة كالركوع والقرأة والتشهد. هذا بالنسبة إلى اعتبار السنخية في صدق الزيادة. وأما بالنسبة إلى التجاوز عن الحد، فلان المفروض اعتبار عدد خاص في السجود الصلاتي، وسجدة التلاوة زائدة على ذلك العدد وموجبة لانقلاب الحد. ودعوى اعتبار القصد في صدق الزيادة في المركبات الاعتبارية، وأن إطلاق الزيادة على سجدة التلاوة بضرب من العناية، لأجل (أن قصد الجزئية في القراءة أوجب صدق الزيادة عليها أيضا، وأين ذلك من مثل سجدة الشكر ونحوها مما لا يؤتى به بقصد الجزئية ولا هو من توابع ما أتى به كذلك. أو أن السجدة الواحدة حيث إنها لا استقلال لها بنفسها فلا حافظ لها الا الصورة الصلاتية، فيصدق على مجرد وجودها ولو مع قصد عدم الجزئية أنها زيادة فيها، فلا يشمل مثل سجدتي السهو المشتملتين على التشهد والسلام و نحوهما.) غير مسموعة. أما التوجيه الأول فلانه أخص من المدعى، إذ التعليل بأنها زيادة في المكتوبة 306
غير مختص بما إذا قرأها بعنوان الجزئية للصلاة، بل الحكم كذلك لو قرأها بعد الفراغ من قرأته الصلاتية بعنوان قراءة القرآن، فإنه لم يقصد الجزئية حتى يكون صدق الزيادة عليها لأجل قصد الجزئية بقراءة العزيمة. وأما الثاني، فلان المدعى كفاية نفس المشاكلة والمجانسة بين المنضم والمنضم إليه بلا اعتبار أمر آخر كأن لا يكون للزائد راسم وحدة وجهة استقلال كسجدتي السهو، وصلاة الآيات المضيقة في أثناء الصلاة اليومية، فان وجود راسم الوحدة كعدمه غير دخيل في صدق الزيادة عرفا على المسانخ، بل لا يصح جعل راسم الوحدة مخرجا له عن عنوان الزيادة وان التزم به المحقق النائيني (قده) ولذا أفتى بالصحة في غير مورد النص وهو الاتيان باليومية في أثناء صلاة الآية كما أفتى به جماعة أيضا، كالافتاء بالصحة في مورد النص و هو الاتيان بصلاة الآية في أثناء اليومية. وذلك لورود النقض عليه بما لا يظن الالتزام به، مثل وجوب الاتيان بصلاة المغرب في أثناء العشاء إذا تجاوز عن محل العدول، كما إذا تذكر نسيان المغرب بعد الدخول في ركوع الرابعة ثم الاتيان ببقية صلاة العشاء. وكذا وجوب الاتيان بسجدة السهو الواجبة عليه في الصلاة السابقة في أثناء اللاحقة التي بيده ثم البناء عليها والاتمام، حيث إن وجوب سجدة السهو فوري ولها راسم وحدة كما صرح به. والمتحصل: أن الحق صدق الزيادة على المسانخ مطلقا حتى مع وجود موجب الوحدة والاستقلال، ولذا لا نتعدى عن مورد النص الدال على إتيان صلاة الآيات في أثناء اليومية إلى غيره، فإنه على خلاف القاعدة. وأما الاستدلال على اعتبار قصد الجزئية بما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) 307
من (أن حقيقة الصلاة عبارة عن الافعال والأذكار الخاصة الناشئة عن قصد الصلاتية لا مطلقا ولو مجردة عن قصد الصلاتية، ولذا لا يحرم على الحائض الاتيان بها بعنوان الصلاتية، وعليه فيحتاج صدق الزيادة فيها إلى قصد عنوان الصلاتية بالجز المأتي به أيضا، والا فمع فرض خلوه عن قصد الصلاتية وعنوان الجزئية لها لا يكون المأتي به حقيقة من سنخ الصلاة، فلا يرتبط حينئذ بالصلاة حتى يصدق عليه عنوان الزيادة في الصلاة إلا على نحو من العناية للمشاكلة الصورية) فلا يخلو من غموض، لان الصلاة، وان كانت هي مجموعة من المقولات المتباينة التي جمعها عنوان واحد قصدي يوجب توقف اتصاف كل واحد من تلك المقولات بالجزئية على القصد، ولكن ذلك لا يستلزم توقف صدق الزيادة على القصد أيضا، لكون الزيادة من المفاهيم العرفية غير المتوقفة على القصد كما هو ظاهر، ومن المعلوم أن أدلة مانعية الزيادة ملقاة إلى العرف، فمعنى الزيادة عرفا خال عن اعتبار القصد فيه، فاعتباره فيه لا بد أن يكون بدليل شرعي، و هو مفقود أيضا. وبالجملة: فقد عرفت صدق الزيادة عرفا على المسانخ مطلقا حتى مع قصد الخلاف. وأما غير المسانخ كحركة اليد وضم الطفل و الجارية فليس زيادة في الصلاة وان قصد به الجزئية، ولو أوجب خللا فيها فإنما هو للاقتران بالمانع مثل ما ورد في النهي عن التكتف من أنه عمل وليس في الصلاة عمل. وأما تأييده لمدعاه بجواز سجدة التلاوة في النافلة مع وضوح اشتراك الفريضة والمندوبة في الشرائط والموانع، ولذا لا يجوز تكرار الركوع فيها بقصد الجزئية فلم يظهر وجهه، للفرق بين الصلاة الواجبة و المندوبة في عدة أمور كجواز الاتيان 308
بالنافلة ماشيا وراكبا، وعدم وجوب سجدة السهو فيها، وجواز البناء على كل من الأقل والأكثر في الأوليين، والبناء على الأقل في خصوص الشك بين الاثنتين والثلاث، وجواز ترك السورة فيها، وغير ذلك، وليكن منها أيضا اغتفار الزيادة المتحققة بمجرد انضمام ما يسانخ بعض الاجزاء فيها سواء قصد الجزئية أم لا، أخذا بإطلاق التعليل (فإنه زيادة في المكتوبة) النافي لاعتبار القصد. هذا كله في ما يتقوم به صدق عنوان الزيادة. الجهة الثالثة: في حكمها، وهو مبطلية الزيادة السهوية بل العمدية للعمل وعدمها، فنقول: ان بطلان العمل لا بد وأن يستند إلى الاخلال به اما بفقد شرط أو جز منه، واما بوجود ما اعتبر عدمه من الموانع و القواطع فيه، وإلا فإذا كان المأتي به واجدا لجميع ما اعتبر فيه جزا وشرطا، وفاقدا لما اعتبر عدمه فيه من المانع والقاطع، ولكنه اشتمل على زيادة كان الشك في بطلان العمل حينئذ ناشئا من الشك في تقيد المأمور به بعدمها، وهو يرجع إلى الشك في الأقل و الأكثر في الاجزاء التحليلية، ولا بد حينئذ من النظر في أن دليل المركب هل له إطلاق ينفي قدح الزيادة وإخلالها بالعمل، أم لا؟ بأن لم يكن لفظيا كالاجماع، أو كان ولم تنم مقدمات الحكمة فيه، لكونه في مقام أصل التشريع. فان كان له إطلاق فهو المرجع، والا فتصل النوبة إلى ما يقتضيه الأصل العملي من استصحاب الصحة ونحوه، والا فالبراءة عن مانعية مطلق الزيادة. هذا إذا لم تكن الزيادة موجبة للبطلان من جهة أخرى كالتشريع في الامر بالعبادة لا ما يرجع إلى التطبيق على التفصيل المتقدم. هذا ما تقتضيه القاعدة في المركبات الاعتبارية، الا أنه وردت نصوص تدل 309
على بطلان الصلاة والطواف والسعي بالزيادة مطلقا أو خصوص العمدية، فلا بد من ملاحظتها وما يستفاد منها بعد الجمع بينها، و نحن نقتصر للاختصار على بيان أخبار الزيادة في الصلاة خاصة، فنقول وبه نستعين: ان روايات الصلاة على طوائف: الأولى: ما دل على فسادها بالزيادة مطلقا سواء أكانت عن عمد أم سهو، وهي نصوص: منها: معتبرة أبي بصير، قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: من زاد في صلاته فعليه الإعادة) وظهورها في إخلال مطلق الزيادة بالصلاة مما لا ينكر. لكن قد يشكل الاطلاق (بأن خروج الزيادات السهوية عن موضوع هذا الحكم يصلح لان يكون قرينة صارفة عن الاطلاق، فلا يتعين حينئذ إرادة العمد، لجواز أن يكون المراد بها زيادة الأركان، أو الزيادة في عدد الركعات، والأول وان كان أسبق إلى الذهن في بادي الرأي من حيث مقابلة العمد بالسهو، واشعار نسبة الفعل إلى الفاعل المختار بإرادة الاختيار، ولكن بعد الالتفات إلى ندرة حصول الزيادة عمدا، وكون زيادة الركعة هو الفرد الواضح مما يطلق عليه أنه زاد في صلاته بحيث قد يدعى انصراف الاطلاق إليه يوجب التشكيك فيما أريد من الرواية). وقد ادعي هذا الانصراف في خبر عبد الله بن محمد الوارد في بطلان الطواف بالزيادة فيه (الطواف المفروض إذا زدت عليه مثل الصلاة المفروضة إذا زدت عليها فعليك الإعادة، وكذلك السعي) و أنها منصرفة عن الزيادات المتخللة في 310
الأثناء وتختص بالزيادة اللاحقة سواء أكانت شوطا أم ركعة أم أبعاضهما وان كان الأظهر اختصاصها بالشوط والركعة. لكن ذلك ممنوع، فان إطلاق الزيادة محكم، إذ اختصاص الزيادة المبطلة بالركعة ان كان لأجل أنها القدر المتيقن وجودا فهو غير مانع عن الاطلاق، لعدم كونه متيقنا في مقام التخاطب. وان كان للانصراف كما تقدم في كلام القائل فممنوع أيضا بعد صدق الزيادة على الركعة التامة وعلى أبعاضها، خصوصا بملاحظة النص الآتي الناهي عن قراءة العزيمة في الصلاة معللا بأن السجود زيادة في المكتوبة. و الانصراف لا يمنع عن الاطلاق ما لم يوجب التشكيك في الصدق، و قد عرفت عند بيان ما يعتبر في صدق الزيادة أنها تصدق مع مماثلة الزائد والمزيد فيه بلا اعتبار القصد. وأما توهم دلالة رواية الطواف على كون الزيادة المبطلة في الصلاة هي الركعة كمبطلية الشوط للطواف وعدم مبطلية ما دون الشوط له، فمردود بأن الزيادة على الطواف لا تتوقف على الشوط، بل تصدق على أبعاضه أيضا، الا أن النص دل على عدم تحقق الزيادة المبطلة في الطواف بما دون الشوط، ومن المعلوم أنه لا يوجب رفع اليد عن إطلاق مانعية الزيادة في الصلاة ولو بأبعاض الركعة. هذا بالنسبة إلى إطلاق الرواية للركعة وأبعاضها. وكذا بالنسبة إلى الزيادة العمدية والسهوية، والمنع من الاطلاق بخروج الزيادات السهوية وبإشعار اسناد الفعل إلى الفاعل بصدوره عن اختيار غير متجه. أما خروج الزيادات السهوية في غير الأركان فإنما هو بدليل منفصل غير مانع عن انعقاد الظهور في مانعية مطلق الزيادة، وانما هو مانع عن حجية هذا الظهور 311
الاطلاقي كما في نظائره. وأما اشعار اسناد الفعل إلى الفاعل المختار فمنقوض بحكمهم بضمان المتاع الذي تلف بحركة يد النائم تمسكا بعموم (من أتلف) فالمصحح لاسناد الفعل إلى فاعل ما هو صدوره منه بأي وجه اتفق. ومنها: معتبرة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام، قال: (سألته عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة النجم، أيركع بها أو يسجد، ثم يقوم فيقرأ بغيرها؟ قال: يسجد، ثم يقوم فيقرأ بفاتحة الكتاب ويركع، وذلك زيادة في الفريضة) وحيث إن للشيخ طريقا صحيحا إلى كتاب علي بن جعفر فلا يقدح وقوع حفيده عبد الله ابن الحسن الذي لا توثيق له في سند قرب الاسناد. والذيل يدل على مبطلية الزيادة، وصدر الخبر وان صدر تقية، حيث إنه عليه السلام أمر بالسجود، لكنه لا يوهن الاستدلال بالذيل الصادر لبيان الحكم الواقعي، وهذا المضمون قد ورد في رواية زرارة عن أحدهما عليهما السلام، (لا تقرأ في المكتوبة بشئ من العزائم، فان السجود زيادة في المكتوبة). ومنها: رواية الأعمش عن جعفر بن محمد عليهما السلام في حديث شرائع الدين، قال: (والتقصير في ثمانية فراسخ، وهو بريدان، وإذا قصرت أفطرت، ومن لم يقصر في السفر فلم تجز صلاته، لأنه قد زاد في فرض الله عز وجل. قال شيخنا الأعظم: (دل بعموم التعليل على وجوب الإعادة بكل زيادة في فرض الله عز وجل لكن مورد الرواية - مع الغض عن سندها - الزيادة في فرض الله وهو الركعتان في قبال فرض النبي صلى الله عليه وآله، فلا تدل على إخلال مطلق الزيادة ولو في 312
ثالثة المغرب أو رابعة العشاء مثلا. والحاصل: أن الظاهر منها هي الزيادة على عدد الركعات الذي افترضه الله عليه في السفر، فجعل الركعتين أربعا. ومعه لا مجال للتمسك بإطلاق (زاد في فرض الله) والحكم بإخلال كل زيادة، لقرينية المورد على اختصاص الزيادة المبطلة بما إذا زاد على فرض الله، ولا يكون ذلك إلا بركعة أو ركعتين، وهذا أجنبي عما إذا زاد في السفر بقراءة سورة مثلا، لعدم صدق الزيادة عليها في فرض الله وهو الركعتان، لعدم إتيانه حسب الفرض بركعة ثالثة. وحينئذ فالاستدلال بهذه الرواية على إخلال مطلق الزيادة مخدوش، لأنها أخص من المدعى. فتحصل: أن هذه الطائفة تدل على بطلان الصلاة بكل زيادة سوأ كانت في الأركان أم غيرها وسواء كانت عمدية أم سهوية. الطائفة الثانية: ما تدل على بطلانها بالزيادة السهوية، كقوله عليه السلام في صحيح زرارة وبكير ابني أعين عن أبي جعفر عليه السلام: (قال: إذا استيقن أنه زاد في صلاته المكتوبة ركعة لم يعتد بها واستقبل صلاته استقبالا إذا كان قد استيقن يقينا) وصريحه إناطة بطلان الصلاة في الزيادة السهوية بكون الزائد ركعة، فما دون الركعة ليس مبطلا لها. هذا بناء على المتن المزبور الذي نقله الوسائل عن الكافي والتهذيب المروي عن زرارة وبكير ابني أعين، لكنه في الكافي والتهذيب خال عن (ركعة) فان المتن المذكور فيهما (إذا استيقن أنه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتد بها) فمن العجيب نقل الوسائل ذلك عن الكليني والشيخ معا. 313
نعم في الكافي في باب السهو في الركوع روى عن زرارة المتن المذكور مع كلمة (ركعة) وفي الوسائل أيضا في باب بطلان الصلاة بزيادة ركوع ولو سهوا، وفهم غير واحد كالمجلسي وصاحب الوسائل أن المراد بالركعة هو الركوع بقرينة الروايات الثلاث المشتملة على بطلان الصلاة بالركوع دون السجود. ويمكن تأييد فهمهم لذلك بلغوية جعل المبطلية للركعة بعد القطع بالبطلان بالركوع فقط، أو السجدتين كذلك، إذ الركعة تتألف من ركنين وهما السجدتان والركوع، وبعد فرض مبطلية الركوع للصلاة لا معنى لجعل المبطلية للركعة. وبالجملة: فالمبطل ليس هو تمام الركعة، فلا محيص عن إرادة الركوع من الركعة، فالمعتمد هو المتن الخالي عن الركعة في الرواية المزبورة التي رواها زرارة وبكير، والمستفاد منه هو بطلان الصلاة بكل زيادة سهوية. وقد ظهر أيضا أن المراد بالركعة في الروايات المشار إليها المشتملة على الركعة هو الركوع. الطائفة الثالثة: ما تدل على بطلانها بالزيادة والنقص سهوا في الأركان، وعدم البطلان بالزيادة والنقيصة في غير الأركان، كقوله عليه السلام: (لا تعاد الصلاة إلا من خمسة، الطهور والوقت والقبلة و الركوع والسجود، ثم قال: القراءة سنة والتشهد سنة فلا تنقض السنة الفريضة) فان عقد المستثنى يدل على الحكم الأول وعقد المستثنى منه يدل على الحكم الثاني. الطائفة الرابعة: ما دل على الصحة مطلقا سواء كان بالزيادة أم النقيصة وسواء 314
كان في الأركان أم غيرها، لكن في خصوص السهو، وذلك مثل مرسلة سفيان بن السمط عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (تسجد سجدتي السهو في كل زيادة تدخل عليك أو نقصان) بناء على الاعتماد على مراسيل ابن أبي عمير إما لشهادة الشيخ في العدة في بحث حجية خبر الواحد (بأنه من الذين لا يروون ولا يرسلون الا عن ثقة) و إما لانجبار ضعف السند بعمل المشهور لو لم يكن وجه عملهم بها اعتمادهم على كلام الشيخ. لكن لما لم تكن هذه الشهادة مقبولة عند الشيخ نفسه، لمخالفته لها في جملة من المراسيل كما يظهر من التهذيب والاستبصار - حيث إنه ضعف رواية محمد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في الكتابين بقوله: (فأول ما فيه أنه مرسل، و ما هذا سبيله لا يعارض به الاخبار المسندة) وغير ذلك من الموارد التي ناقش الشيخ فيها بالارسال وان كان المرسل ابن أبي عمير أو غيره من أصحاب الاجماع - صار اعتبار مرسلة سفيان موردا للاشكال، فلا يمكن الحكم باعتبارها من ناحية كلام الشيخ، وكذا من ناحية الجبر بعمل المشهور، لعدم إحراز استنادهم إليها، فاندراجها في كبرى الجبر بالعمل أيضا غير معلوم. وعليه فما في خلل صلاة الجواهر من الاعتماد على هذه المرسلة لكون المرسل ابن أبي عمير لا يخلو من تأمل. وبالجملة: فلم تثبت حجية المرسلة المزبورة حتى يجمع بينها وبين سائر الروايات، فذكر المرسلة في جملة أخبار الباب انما هو على فرض اعتبارها. 315
وهذه الطوائف الأربع غير متعارضة في نقص الاجزاء غير الركنية سهوا، كما أنها ليست متعارضة في الزيادة والنقيصة العمديتين. أما عدم معارضتها في حكم النقيصة غير الركنية فلان الطائفة الأولى منها مختصة بالزيادة، وليست متعرضة لحكم النقيصة، والثانية مختصة بالزيادة سهوا، والأخيرتان تدلان على صحة الصلاة بنقص الجز غير الركني سهوا، نعم عقد المستثنى من حديث (لا تعاد) يدل على بطلانها بنقص الركن سهوا. وأما عدم تعارضها في الزيادة والنقيصة العمديتين، فلدلالة (من زاد) على فساد الصلاة بالزيادة العمدية، ولا معارض لها. وأما النقيصة العمدية، فللزوم لغوية جعل الجزئية والشرطية للاجزاء و الشرائط لو لم توجب النقيصة بطلان المركب، ولزوم الخلف أيضا. ويقع التعارض بينها في زيادة الاجزاء سهوا ركنا كانت أو غيره وفي نقص الأركان سهوا، لاقتضاء المرسلة الصحة، و (لا تعاد) البطلان في خصوص الركن زيادة ونقصا، واقتضاء (من زاد) و (من استيقن) البطلان في الزيادة السهوية ركنا كانت أو غيره. وحيث إن نسبة أخبار الزيادة مع حديث (لا تعاد) تختلف كما سيظهر بالعموم والخصوص من جهة اختصاص الحديث بالنقيصة عن نسيان و نحوه كالجهل القصوري وعدم شموله للزيادة، لان النقيصة هي القدر المتيقن منه، لاحتفافه بما يصلح لان يكون مانعا عن انعقاد الاطلاق لكل من الزيادة والنقيصة وهو عدم تصور الزيادة في الوقت والطهور والقبلة، أو عدم اختصاصه بالنقيصة وشموله لكل منهما سواء أكان الاخلال عن نسيان أو جهل قصوري ممن يرى أن المأتي به هو الوظيفة الفعلية - كما هو الأقوى - فلا بد من ملاحظة النسبة معه على 316
المبنيين فنقول وبه نستعين: انه بناء على اختصاص الحديث بالنسيان وعمومه للزيادة والنقيصة يكون مفاده بطلان الصلاة بالزيادة والنقيصة السهويتين في الأركان دون غيرها على ما هو قضية عقد المستثنى، والنسبة حينئذ مع ما يدل على مانعية الزيادة أعني رواية (من زاد) هي العموم من وجه، لاقتضاء كل منهما بطلان الصلاة بالزيادة السهوية في الأركان و ان دل (لا تعاد) على بطلانها بالنقيصة كذلك، ولدلالة (من زاد) على بطلانها بالزيادة السهوية حتى في غير الأركان، ودلالة (لا تعاد) على صحتها، و (من زاد) أعم منه، لشموله للجهل والعمد و النسيان، وأخص منه، لاختصاصه بالزيادة. كما أن (لا تعاد) أعم منه، لشموله للزيادة والنقيصة، وأخص منه، لاختصاصه بالنسيان حسب الفرض، ومورد اجتماعهما زيادة غير الأركان سهوا، وفيه يتحقق التنافي بين (لا تعاد) المقتضي للصحة و (من زاد) المقتضي للبطلان، ومورد الافتراق من (لا تعاد) هو النقيصة، ومن (من زاد) هو الزيادة العمدية والجهلية. والنسبة وان كانت هي العموم من وجه، الا أن حديث (لا تعاد) حاكم على (من زاد) لان الحديث من الأدلة الثانوية الشارحة للأدلة الأولية المتكفلة لبيان الاجزاء والشرائط والموانع، و (من زاد) يكون من الأدلة الأولية المتكفلة لمانعية الزيادة، فلا تلاحظ النسبة بينهما، و مقتضى هذه الحكومة اختصاص (من زاد) بغير ما يدل عليه (لا تعاد) كالزيادة لا عن نسيان. وكذا الحال بناء على عموم الحديث لغير الناسي، للحكومة. ويختص (من زاد) بالجهل التقصيري. وأما رواية (من استيقن) القاضية بإخلال الزيادة السهوية مطلقا فلا تنافي عقد 317
المستثنى من الحديث كما هو واضح، وهي أعم من المستثنى منه، لشمولها للأركان وغيرها، وأخص منه لاختصاصه بالزيادة، وعقد المستثنى أعم منها، لشموله للزيادة والنقيصة، وأخص منها، لاختصاصه بالأركان، والنسبة هي العموم من وجه، ويتعارضان في زيادة غير الركن سهوا أو جهلا، ولكن لا يعامل معهما معاملة المتعارضين، لتقييد (من استيقن) بحديث (لا تعاد) إذ لو لم يقدم عقد المستثنى لم يبق مورد للحكم بعدم الإعادة في الزيادة السهوية في غير الأركان، مع ظهور كلام الإمام عليه السلام في الفرق بين العقدين، لقرينية المقابلة بين المستثنى منه والمستثنى على أن كل ما يثبت في المستثنى يثبت نقيضه في المستثنى منه، ومن المعلوم أن الثابت في المستثنى وجوب الإعادة في زيادة الأركان ونقصانها سهوا، ونقيضه هو عدم وجوب الإعادة في غير زيادة الأركان ونقصانها كذلك، ويختص (من استيقن) بالأركان، كما أنه بناء على اختصاص (لا تعاد) بالنقيصة لا تعارض، لاختلافهما موردا. وأما مرسلة سفيان الدالة على عدم قدح الزيادة والنقيصة السهويتين مطلقا من غير فرق بين الخمسة وغيرها فهي موافقة لعقد المستثنى منه في حديث (لا تعاد) ولكن يقع التعارض التبايني في عقد المستثنى، لدلالة الحديث على بطلان الصلاة بالخلل في الخمسة سهوا، ودلالة المرسلة بالدلالة المطابقية على كفاية سجدتي السهو للاخلال السهوي ومدلولها الالتزامي صحة الصلاة، ومن المعلوم وقوع التهافت بين ما يدل على الصحة والبطلان. وبعد تساقطهما في المجمع يكون المرجع القاعدة الأولية المقتضية لعدم البطلان. الا أن يعالج التعارض تارة بما أفيد من توقف المعارضة على أن تكون المرسلة 318
متكفلة لبيان حكمين أحدهما نفي وجوب الإعادة لكل زيادة ونقيصة سهوية حتى في الأركان، وثانيهما وجوب سجدتي السهو، وهو ممنوع، لظهورها في بيان الحكم الثاني خاصة إذا أحرز من الخارج صحة الصلاة وعدم مانعية الزيادة السهوية، بلا تعرض لبيان ما يقدح فيه الزيادة وما لا يقدح، وحينئذ يكون لسان عقد المستثنى من حديث (لا تعاد) لسان الشرح والحكومة، ويبين أن الزيادة السهوية في الأركان مبطلة لها، ويرتفع بها موضوع وجوب سجدتي السهو. وأخرى بأظهرية عقد المستثنى في البطلان من ظهور مدلول المرسلة الالتزامي في الصحة، لبنائهم على ترجيح الدلالة المطابقية على الالتزامية. وثالثة بما في تقرير شيخنا المحقق العراقي (قده) من أن الحكم في العامين من وجه وان كان هو التساقط، الا أنه فيما لم يكن مرجح لأحدهما، وهو موجود، فلا بد من تقديم عقد المستثنى لئلا يلزم محذور لغوية الاستثناء الظاهر في الفرق بين الاخلال بالخمسة و غيرها، إذ لو أخرجنا مورد التصادق عن عقد المستثنى بمقتضى المرسلة وحكمنا بالصحة في زيادة الأركان سهوا وخصصنا البطلان بالزيادة العمدية لزم لغوية الاستثناء، لمساواة جميع الاجزاء في إخلال زيادتها العمدية بالصلاة على ما يستفاد من قوله عليه السلام: (ان الله تعالى فرض الركوع والسجود، والقرأة سنة، فمن ترك القراءة متعمدا أعاد الصلاة ومن نسي فلا شئ عليه) مع ضميمة عدم الفصل بين النقيصة والزيادة. وهذا بخلاف ما لو عملنا بعقد المستثنى، إذ لا يلزم لغوية المرسلة، لوجوب السجدتين لكل زيادة و نقيصة في غير الأركان وهذا المضمون أعم من صدر حديث لا تعاد. 319
وهذا الوجه وان كان متينا في نفسه، الا أنه يتوقف على تخصيص مفاد الحديث بالناسي، لكن تخصيصه به بلا موجب، لظهوره في حكم الخلل الواقع في الصلاة في الخمسة وغيرها ممن لا يصح مطالبة الركن منه الا بالامر بالإعادة سواء كان عن نسيان أم جهل أم غفلة، و حينئذ فلا يلزم لغوية الاستثناء لو أخل بالركن سهوا وحكم بصحة الصلاة مع السجدتين، وان كان خلاف المتسالم عليه، لكن لاندراج موارد الخلل غير السهوي في عقد المستثنى تبقى حكمة الاستثناء محفوظة. وأما نسبة المرسلة مع (من استيقن) فهي العموم والخصوص، لدلالة (من استيقن) على بطلان الصلاة بالزيادة السهوية، وهذا أخص من المرسلة الدلالة على صحتها مع كل زيادة ونقيصة مطلقا، فتخصص المرسلة من طرف الزيادة بالركوع أو الركعة بناء على رواية زرارة المشتملة على زيادة الركعة، وبناء على ما رواه زرارة وبكير من إخلال مطلق الزيادة فيستقر التعارض بينهما، وعلاجه منحصر بالتصرف في مدلول كل منهما بحديث لا تعاد. وأما نسبة المرسلة مع حديث (من زاد) الدال على البطلان بكل زيادة عمدا وسهوا سواء كانت في الأركان وغيرها، فهي العموم و الخصوص من وجه لاختصاص المرسلة بالسهو، وشمولها للزيادة و النقيصة، فمادة الاجتماع هي الزيادة السهوية، ومادة الافتراق من طرف المرسلة النقيصة، ومن طرف (من زاد) الزيادة العمدية، ويقع التعارض، والمرجع بعد التساقط حديث (لا تعاد) المبين لكيفية الدخل. وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه: إخلال زيادة الخمسة سواء كان عمديا كما يقتضيه إطلاق (من زاد) أم سهويا كما يقتضيه (لا تعاد) بناء على شموله للزيادة. 320 ثم انه (1) ربما تمسك لصحة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحة، وهو لا يخلو من كلام (2) ونقض وإبرام خارج عما هو المهم
321 في المقام (1) ويأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب (2) إن شاء الله تعالى.
[1] ولعل الأولى في تزييفه أن يقال: ان استصحاب الصحة بمعنى صحة الاجزاء السابقة بحيث لو انضم إليها قبل الزيادة الاجزاء اللاحقة التأم الكل بالمجموع، وبعد الزيادة يشك في بقائها فتستصحب، يرد عليه - مضافا إلى أنه من الاستصحاب التعليقي الذي لا يخلو اعتباره من الاشكال - أنه ان أريد بالأجزاء اللاحقة جميع ما يعتبر فيها شطرا وشرطا، ففيه: أنه لا يحرز حينئذ انضمام تمام الباقي إلى الاجزاء السابقة ليلتئم الكل، لاحتمال شرطية عدم الزيادة في الواجب، 322
والمفروض تحققها. وان أريد بالاجزاء اللاحقة خصوص المعلومة دون المشكوكة، ففيه: أنه لا يقين بالتئام الكل بانضمام الاجزاء اللاحقة المعلومة إلى السابقة مع فرض احتمال دخل عدم الزيادة شرطا في الواجب، بداهة أنه مع احتمال شرطية عدم الزيادة لا يقين بالتئام الكل بانضمام الاجزاء اللاحقة المعلومة دون المشكوكة إلى الاجزاء السابقة حتى يصح استصحاب الصحة بمعنى التئام الكل بانضمام اللاحقة إلى السابقة. وقد يقرر الاستصحاب بأن الزيادة توجب الشك في بقاء القابلية التي كانت معلومة قبل فعل الزيادة، فتستصحب، ثم يورد عليه بأن استصحاب القابلية لا يصلح لاثبات الفعلية، فلا محرز لفعلية الالتحاق التي هي موضوع سقوط الامر. أقول: لم يظهر وجه لعدم صلاحية استصحاب القابلية لاثبات الفعلية بعد كون الملحوظ نفس القابلية المعلومة قبل طروء الزيادة، فان هذه القابلية المستصحبة تلازم الفعلية حين انضمام الاجزاء اللاحقة إلى السابقة، وإلا فلا معنى لاستصحابها، فالاستصحاب على فرض جريانه هنا من الاستصحابات الجارية في الشك في مانعية الموجود، كجريان استصحاب الوضوء عند الخفقة والخفقتين المثبت للوضوء المسوغ للدخول في المشروط بالطهارة. نعم ان أريد بعدم صلاحيته ما تقدم من أنه لا يقين بالقابلية لو أريد بالاجزاء خصوص المعلومة، أو جميع ما يعتبر فيها شطرا وشرطا كان عدم الصلاحية وجيها. 323 الرابع (1): أنه لو علم بجزئية شئ أو شرطيته
324 في الجملة (1) ودار الامر بين أن يكون جزا أو شرطا مطلقا ولو (2) في حال العجز عنه، وبين (3) أن يكون جزا أو شرطا في خصوص حال التمكن منه، فيسقط الامر بالعجز عنه على الأول (4)، لعدم (5) القدرة حينئذ على المأمور به،
325 لا على الثاني (1)، فيبقى متعلقا [) 2 معلقا] بالباقي ولم يكن (3) هناك ما يعين أحد الامرين من (4) إطلاق دليل اعتباره جزا أو شرطا، أو إطلاق (5) دليل المأمور به مع إجمال [1] دليل اعتباره
[1] ظاهره اشتراط اعتبار إطلاق دليل المأمور به بإهمال أو إجمال دليل اعتبار الجز أو الشرط، وعدم إمكان اجتماع إطلاقهما. مع أنه ليس كذلك، ضرورة أن إطلاق دليل المأمور به ليس منوطا بعدم إطلاق دليل اعتبار الجز أو الشرط، فلعل الأولى أبدال العبارة من قوله: (ولم يكن) إلى (لاستقل) بأن يقال: (ولم يدل شئ من دليلي المأمور به واعتبار الجز أو الشرط على تعين أحد الامرين من الدخل مطلقا أو في خصوص حال التمكن لاجمالهما أو إهمالهما). 326 أو إهماله (1) لاستقل (2) العقل بالبراءة عن الباقي، فان العقاب على تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان. لا يقال: نعم (3) ولكن قضية مثل حديث الرفع عدم الجزئية
ومنه يظهر وجه حذف كلمة (إطلاق) في كلا الموردين، إذ الكلام في عدم الدليل على تعين كيفية الدخل من الاطلاق أو التقيد بحال التمكن، وليس مورده عدم الدليل على خصوص إطلاق الدخل في حالتي التمكن والتعذر كما لا يخفى. 327 أو الشرطية الا في حال التمكن منه (. [1 [1
[1] لم يظهر وجه عدوله عما أفاده الشيخ (قده) من إجراء البراءة في وجوب الباقي إلى إجرائها في نفس الجز أو الشرط حتى يتوجه عليه: أن إجراءها فيه خلاف الامتنان، لاستلزامها وجوب الباقي، بل هذا الاشكال يوجب إجراءها في وجوب الفاقد وعدم إجرائها في الجزئية أو الشرطية وان كان ذلك الشك سببيا والشك في وجوب الباقي مسببيا، حيث إن الأصل السببي هنا لا يجري، لكونه مثبتا، فلا محالة يجري في الشك المسببي. وكيف كان فالحق أن يقال: انه لا قصور في شمول أدلة البراءة العقلية و النقلية معا للجز أو الشرط المتعذر، إذ مفروض البحث هو عدم الدليل على إطلاق الجزئية أو الشرطية لحالتي التمكن والتعذر، فعدم البيان الذي هو موضوع حكم العقل بقبح المؤاخذة وكذا عدم العلم الذي هو موضوع البراءة الشرعية محقق، فتجري البراءة العقلية و النقلية معا في الجز أو الشرط. 328 فإنه يقال (1): انه لا مجال هاهنا (2) لمثله، بداهة (3) أنه ورد في
وأما وجوب الباقي فهو غير مستند إلى البراءة حتى يقال بعدم جريانها فيها لكونها خلاف الامتنان، حيث إنها نافية للتكليف لا مثبتة له، وذلك لان وجوب الباقي مستند إلى أدلة الاجزاء والشرائط، لا إلى البراءة حتى يستشكل فيها بأنها تنافي الامتنان. ومنه يظهر: أن المنع عن جريان البراءة الشرعية في الجزئية أو الشرطية وإجراء البراءة العقلية في وجوب الباقي كما عليه المصنف (قده) وإجراء البراءة الشرعية في وجوب الباقي كما عليه الشيخ (قده) لا يخلو من منع، لما عرفت من جريان البراءتين في نفس الجزئية أو الشرطية من دون إشكال المثبتية، وعدم وصول النوبة إلى جريان البراءة الشرعية في وجوب الباقي، فلاحظ وتأمل. 329 مقام الامتنان، فيختص (1) بما يوجب نفي التكليف لا إثباته (2). نعم (3) ربما يقال: بأن قضية الاستصحاب
330 في بعض الصور (1) وجوب الباقي في حال التعذر أيضا (2)،
331 ولكنه (1) لا يكاد يصح الا بناء على صحة القسم الثالث من استصحاب الكلي، أو على (2) المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب وكان [1]
[1] الأولى تبديله ب (وكون) ليكون معطوفا على المسامحة، ومفسرا لها، أو إبداله ب (بأن يكون). 332 ما تعذر مما يسامح به عرفا، بحيث (1) يصدق مع تعذره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي، وارتفاعه (2) لو قيل بعدم وجوبه [1]
[1] وهنا تقريب آخر للاستصحاب بحيث لا يرد عليه إشكال، وهو يتوقف على الالتزام بأمور: الأول: كون وجوب أجزأ المركب نفسيا ضمنيا، لا غيريا مقدميا، لما مر في مقدمة الواجب من بطلان مقدمية الاجزاء. الثاني: كون الموضوع عرفيا صادقا مع وجود ملاكه السابق وتبدله بملاك آخر، وبقاء الأول وحدوث غيره معه، فان الموضوع في جميعها صادق ولا تنثلم وحدته بذلك، وانما تنثلم بكون المتعذر معظم الاجزاء والشرائط كما مر في 333 ويأتي (1) تحقيق الكلام فيه في غير المقام (2)،
التوضيح. الثالث: أن الحدود أمور عدمية لا تؤثر في تعدد وجود المحدود. وبعد الإحاطة بهذه الأمور يتضح وجه صحة استصحاب الوجوب النفسي للباقي، لأن المفروض هو المتيقن سابقا، وزوال حده التمامي لا يضر بذلك، لان الحدود أعدام لا يتعدد بها وجود المحدود، كما لا يقدح بتبدل ملاكه أو حدوث غيره معه بحيث يستند بقاؤه إليهما أو إلى أحدهما، كما إذا قال السيد لعبده: (اجلس في المسجد إلى الزوال لقراءة القرآن) واحتملنا بقاء وجوب الجلوس فيما بعد الزوال الاجل صلاة الظهر أو لجهة أخرى، فإنه لا مانع من استصحاب وجوب الجلوس، إذ الموضوع وهو الجلوس لا يتغير بتغير ملاك الوجوب. ففي المقام لا مانع من استصحاب الوجوب النفسي للباقي وان كان وجوبه البقائي مستندا إلى غير ملاك وجوبه الحدوثي القائم بالتام. نعم يعتبر في هذا الاستصحاب ما تقدم من أمرين: أحدهما: أن لا يكون المتعذر معظم الاجزاء والشرائط، إذ لو كان كذلك انثلمت به وحدة الموضوع، لوضوح قدح هذا التعذر في وحدته عرفا، فلا وجه حينئذ للاستصحاب. ثانيهما: أن يكون التعذر بعد تحقق الوجوب للكل، كما إذا طر العجز عن بعض الاجزاء أو الشرائط بعد دخول وقت الفريضة، والا كان استصحابه تعليقيا. 334
وبالجملة: فاستصحاب الوجوب الشخصي النفسي للباقي مع الشرطين المذكورين جار بلا مانع، ولا يرد عليه شئ من الاشكالات التي أوردت على التقريبين السابقين للاستصحاب، فلاحظ وتأمل. وقد يقرر الاستصحاب بما يرجع إلى القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي، ببيان: أن وجوب المركب مردد بين الطويل و القصير، إذ لو كان متعلقا به على أن يكون الجز المتعذر جزا مطلقا سقط الوجوب بتعذره، لكونه حينئذ قصيرا، ولو كان متعلقا به على أن يكون جزا له في حال التمكن فقط بقي الوجوب، لكونه طويلا، نظير تردد الحيوان بين فرده الطويل وفرده القصير، هذا. لكن الظاهر أجنبيته عن القسم الثاني واندراجه في استصحاب الشخص، حيث إن مورد القسم الثاني هو تردد الكلي بين فرديه اللذين أحدهما طويل العمر والاخر قصيره، نظير تردد الحيوان بين الفيل و البق مثلا، دون ما إذا تردد وصف فرد بين وصفين يوجب أحدهما بقاءه والآخر زواله، فحينئذ يجري الاستصحاب في الفرد، للشك في بقائه، لتردد وصفه بين ما يوجب زواله وما لا يوجبه، نظير ما إذا شك في حياة زيد المريض، للشك في أن مرضه ان كان مهلكا فمات و لم يبق إلى هذا الزمان، وان لم يكن مهلكا فهو حي وباق فعلا، فإنه يستصحب حياته، وليس من استصحاب الكلي أصلا. ففي المقام قيد وجوب الباقي بوجوب الجز المتعذر، وتردد هذا القيد بين كونه مطلقا أو في خصوص حال القدرة، فعلى الأول يرتفع الوجوب عن الباقي وعلى الثاني يبقى فيستصحب. فهذا التقريب يرجع إلى الوجه الثاني، وهو كون المستصحب الوجوب النفسي، مع الفرق بينهما بأن المستصحب في 335 كما أن وجوب الباقي في الجملة [1 [1 ربما قيل
هذا الوجه هو الوجوب النفسي القائم بالباقي، وفي ذلك الوجه هو الوجوب النفسي القائم بالكل، بدعوى وحدة الموضوع مسامحة، فالمستصحب على هذين الوجهين شخصي، وعلى الوجه الأول كلي من القسم الثالث من استصحاب الكلي. [1] بل بالجملة بناء على اعتبار الروايات الثلاث التي استدل بها على اعتبار قاعدة الميسور، وذلك لوفاء الخبر الأول والثالث بوجوب الباقي مطلقا وان لم يكن ميسورا عرفا، لعدم إناطة الوجوب به، ووفاء الخبر الثاني بتعذر الشرط. فمجموع هذه الروايات بناء على اعتبارها تدل على وجوب الباقي سواء كان ميسورا عرفا أم لا، وسواء كان المتعذر جزا أم شرطا. وبالجملة: لما لم تكن بين هذه الروايات منافاة فمقتضى القاعدة هو الاخذ بجميعها.، 336 بكونه (1) مقتضى ما يستفاد من قوله صلى الله عليه وآله: (إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم) وقوله: (الميسور لا يسقط بالمعسور) وقوله: (ما لا يدرك كله لا يترك كله). ودلالة الأول مبنية على كون كلمة (من) تبعيضية (2)
337 لا بيانية (1) ولا بمعنى الباء (. [1 [2
[1] لم يثبت كون كلمة (من) بمعنى الباء نعم حكي عن يونس استعمالها 338 وظهورها (1) في التبعيض وان كان مما لا يكاد يخفى (2)، الا أن (3)
بمعنى الباء استنادا إلى قوله تعالى: (ينظرون إليك من طرف خفي). لكن فيه أولا: أن نقله لا يكفي في ثبوت شيوع استعمالها عندهم في ذلك بحيث يثبت لها ظهور في إرادة الباء منها. وثانيا: استدلاله عليه بالآية الشريفة اجتهاد منه، لانكار غير واحد له، و ادعاء أنها للابتداء، فالاشكال عليه بعدم ثبوت صحة استعمالها بمعنى الباء أولى من جعله بمعنى الباء مخالفا للظاهر كما في عبارة الشيخ (قده) المتقدمة. ولعل احتمال كونها بمعنى الباء نشأ من أن الاتيان يتعدى بالباء إلى المأتي به كقوله تعالى: (ومن يغلل يأت بما غل) فجعل (من) في هذا الخبر بمعنى الباء للتعدية بها إلى المأتي به. وفيه أولا: أنه اجتهاد يتوقف صحته على استعمال (من) بمعنى الباء، وقد 339 كونه بحسب الاجزاء غير واضح، لاحتمال (1) أن يكون بلحاظ
عرفت عدم ثبوته. وثانيا: أن الاتيان يتعدى إلى المأتي به تارة بالباء كالآية المتقدمة، و أخرى بالنفس كقوله تعالى شأنه: (واللاتي يأتين الفاحشة) وعليه فلا موجب لجعل (من) بمعنى الباء للتعدية إلى المأتي به. وأما عدم بيانية (من) في خصوص المقام، فلما عرفت من عدم انطباق ضابطها عليه. مضافا إلى لزوم كون الامر بالاتيان إرشاديا على تقدير إرادة القدرة العقلية من الاستطاعة، ويكون مفاد الحديث حينئذ أجنبيا عن المدعى. فتعين أن يكون (من) هنا للتبعيض، فالاشكال من ناحية إرادة التبعيض منه مندفع. الا أن يستشكل فيه بما في المتن من إرادة التبعيض بحسب الافراد بقرينة المورد، إذ لا معنى لإرادة بعض الاجزاء فيه. وعليه فيكون الخبر أجنبيا عن المقصود. بل يمكن أن يقال: ان المورد قرينة على عدم إرادة التبعيض من كلمة (من) حيث إن الفرد كزيد مثلا ليس بعض الكلي كالانسان، بل تمامه، والحج في كل سنة فرد لكلي الحج لا جزؤه وبعضه، الا بناء على القول بكون وجود الكلي في ضمن الفرد، وأن الكلي الطبيعي كالأب الواحد بالنسبة إلى أولاده. لكن هذا القول غير مرضي كما ثبت في محله، بل الكلي الطبيعي كالآباء مع الأولاد. ومنه يظهر ضعف احتمال أعمية (الشئ) من الكلي ذي الافراد و الكل ذي 340 الافراد. ولو سلم (1) فلا محيص عن أنه هاهنا بهذا اللحاظ (2) يراد
الاجزاء ليشمل كلمة (من) التبعيض بحسب الاجزاء والافراد معا، و ذلك لمباينة لحاظ الفردية للحاظ الجزئية، فيمتنع اجتماعهما في استعمال واحد، فيدور الامر حينئذ بين كون (من) زائدة وكونها بمعنى الباء بناء على صحته. وأما جعلها بيانية فقد تقدم آنفا عدم انطباق ضابط البيانية عليه، فلا يتوقف إرادة التبعيض بحسب الافراد على كون (من) بيانية، بل لا يصح ذلك، وانما تصح إرادته بحسبها مع زيادة (من) أو كونها بمعنى الباء، والمعنى حينئذ: (وإذا أمرتكم بشئ فأوجدوه بقدر استطاعتكم) هذا كله بناء على وجود كلمة (من) في النبوي. وأما بناء على عدمها كما عن صحيح النسائي، حيث إن المروي فيه (إذا أمرتكم بشئ فخذوا به ما استطعتم) فالامر واضح، لان مفاده حينئذ وجوب الاتيان بالشئ المأمور به بمقدار الاستطاعة، وهذا معنى التكرار كما فهمه غير واحد كصاحب الحاشية، أو الارشاد إلى حكم العقل بحسن الإطاعة. وعلى التقديرين يكون الخبر أجنبيا عن عدم سقوط الاجزاء الميسورة بمعسورها، والمقصود إثبات الوجوب المولوي للاجزاء الميسورة وعدم سقوطها بمعسورها. 341 حيث (1) ورد جوابا عن السؤال عن تكرار الحج بعد أمره به، فقد روي (أنه خطب رسول الله، فقال: ان الله كتب عليكم الحج، فقام عكاشة ويروى سراقة بن مالك فقال: في كل عام يا رسول الله فأعرض عنه حتى أعاد مرتين أو ثلاثا، فقال: ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلت نعم لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم (2) و إذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه).
ويؤيد المتن المذكور في صحيح النسائي قوله صلى الله عليه وآله: (فاجتنبوه) لأنه صلى الله عليه وآله في مقام بيان لزوم فعل المأمور به وترك المنهي عنه، فالمناسب أن يكون عدل (فاجتنبوا فأتوا به أو خذوا به) حتى يكون بمنزلة (فافعلوه). والحاصل: أن الاستدلال بهذا النبوي على اعتبار قاعدة الميسور غير سديد والله تعالى هو العالم. 342 ومن ذلك (1) ظهر الاشكال في دلالة الثاني أيضا (2)، حيث (3) لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الاجزاء بمعسورها،
343 لاحتمال (1) إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها (2)، هذا. مضافا (3) إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوما (4)، لعدم (5) اختصاصه بالواجب، ولا مجال معه (6) لتوهم دلالته على أنه بنحو اللزوم، الا (7) أن يكون المراد عدم سقوطه بماله من الحكم
344 وجوبا كان أو ندبا بسبب سقوطه (1) عن المعسور [1] بأن (2) يكون
[1] هذا هو المتعين، لما شاع في الخطابات الشرعية من إرادة الحكم إثباتا أو نفيا من إثبات الموضوع أو نفيه، إذ لا معنى لانشاء وجوب الميسور، حيث إن لازمه وجوب الميسور مطلقا سواء كان حكمه قبل تعذر بعض أجزأ المركب وجوبا أم ندبا. 345 قضية الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه، حيث (1) ان الظاهر من مثله هو ذلك (2)، كما أن الظاهر من مثل (لا ضرر ولا ضرار) هو
وهذا كما ترى خلاف الضرورة الفقهية، إذ لا وجه لتبدل الاستحباب قبل التعذر بالوجوب بعده. والقول باختصاصه بالواجبات يوجب خروج المستحبات عن حيز قاعدة الميسور. كما لا معنى لان يكون (لا يسقط) اخبارا عن ثبوت الميسور تكوينا، إذ لا يعقل أن يكون العدم - أي عدم المعسور - علة لوجود الميسور كما لا يخفى. كما لا معنى لانشاء الوجوب للثبوت، بأن يكون ثبوت الميسور واجبا، إذ ليس ثبوته فعل المكلف حتى يصح تعلق التكليف به. نعم يصح إرادة الاتيان بالميسور، بأن يتعلق إنشاء الوجوب بالاتيان به، حيث إنه فعل المكلف لكن لا بد حينئذ من كونه (يسقط) مبنيا للمفعول من باب 346 نفي ما له من تكليف أو وضع، لا (1) أنها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلف كي لا يكون له دلالة على جريان
الافعال، وجعل (لا) ناهية، وان كان مخالفا للظاهر ومما لا يساعده دليل. وبالجملة: فالمعنى الأول وهو الاخبار عن بقاء حكم الميسور وجوبا أو ندبا وعدم سقوطه بالمعسور هو الذي ينبغي المصير إليه. والا يراد عليه بما في تقريرات بعض أعاظم العصر دامت أيامه الشريفة: (ولكن التحقيق عدم تمامية الاستدلال المذكور، لان السقوط فرع الثبوت، وعليه فالرواية مختصة بتعذر بعض أفراد الطبيعة باعتبار أن غير المتعذر منها كان وجوبه ثابتا قبل طروء التعذر، فيصدق أنه لا يسقط بتعذر غيره، بخلاف بعض أجزأ المركب فإنه كان واجبا بوجوب ضمني قد سقط بتعذر المركب من حيث المجموع، فلو ثبت وجوبه بعد ذلك فهو وجوب استقلالي، وهو حادث، فلا معنى للاخبار عن 347 القاعدة في المستحبات على وجه (1) أو لا يكون له دلالة على وجوب
عدم سقوطه بتعذر غيره) مندفع أولا: بأن فرعية السقوط على الثبوت انما هي ثابتة في الكل لا في الكلي بتعذر بعض أفراده، حيث إن وجوب الاجزاء الميسورة قبل تعذر الاجزاء المعسورة كان ثابتا وان كان وجوبا ضمنيا، وبعد التعذر تحكم القاعدة ببقاء ذلك الوجوب ان كان وجوبا، وببقاء الندب ان كان ذلك ندبا، فالحكم الضمني الثابت للاجزاء وجوبا أو ندبا لم يسقط بتعذر بعضها. ودعوى سقوطه بتعذر المركب من حيث المجموع ممنوعة جدا، لأنها أول الكلام ودعوى بلا برهان، إذ لو كان ذلك مسلما عندهم لما وقع النزاع بينهم في وجوب الباقي، والتمسك لوجوبه بالاستصحاب تارة وبقاعدة الميسور أخرى، ومن المعلوم أن المستصحب هو الوجوب السابق لا وجوب جديد. نعم لو لم تكن قاعدة الميسور كان مقتضى الارتباطية سقوط الامر بالكل، لكن القاعدة تكشف عن سقوطه بالنسبة إلى خصوص الاجزاء المعسورة، وسقوط تقيد الميسورة بها مع بقاء نفس أمرها الضمني. وأما سقوط أوامر الافراد المعسورة من الكلي كسقوط أمر صوم يوم أو أيام من شهر رمضان، فلا وجه لتوهم مسقطيته لأوامر الافراد الميسورة، حتى يحتاج دفعه إلى القاعدة، ضرورة أن كل فرد من أفراد الكلي موضوع مستقل لحكم على حدة، ففي مثال الصوم لا منشأ لتوهم سقوط وجوب صوم أيام يتمكن المكلف منه بتعذر صوم أيام لا يتمكن منه. والحاصل: أن السقوط المتفرع على الثبوت مختص بأجزاء الكل، ولا يشمل أفراد الكلي أصلا، كما لا يشمل أوامر الطبائع المختلفة، ضرورة أنه لا وجه 348 الميسور في الواجبات على آخر (1) فافهم (2).
لتوهم سقوط أمر الصلاة أو الحج أو الزكاة مثلا بتعذر الصوم حتى تجري فيها قاعدة الميسور. فتعذر بعض أفراد الكلي أجنبي عن مورد قاعدة الميسور، فان الميسور من الشئ هو جزؤه، ولا يصدق ذلك إلا على ميسور المركب، فان التمكن من صوم عشرة أيام من شهر رمضان مثلا لا يعد ميسورا للأيام التي لا يتمكن من صومها. وثانيا: - بعد تسليم سقوط الامر الضمني بتعذر المركب من حيث المجموع - بأن اسناد (لا يسقط) إلى نفس الميسور يدل على عدم سقوطه عما كان له من الموضوعية، سواء كان الحكم الثابت له فعلا نفس الحكم الذي كان له قبل تعذر بعض الاجزاء، أم حكما آخر مسانخا له، لصدق موضوعيته في كلتا الحالتين، فكأنه قيل: (الميسور لم يسقط عن الموضوعية في عالم التشريع بسبب سقوط المعسور عن الموضوعية) وان كان الظاهر من بقاء موضوعيته هو بقاء نفس ذلك الحكم الضمني وعدم تبدل شئ منه إلا حده الذي هو أمر عدمي، فقبل تعذر بعض الاجزاء كان المركب محدودا بعشرة أجزأ، وبعده صار محدودا بثمانية مثلا، ومن المعلوم أن الحدود أعدام، ولا تؤثر في وجود المحدودات. وبالجملة: فالاستدلال بالخبر الثاني على فرض صحته سندا ولو بالانجبار لا بأس به، والاشكالات الواردة على دلالته قابلة للدفع. 349 وأما الثالث (1) فبعد تسليم (2) ظهور كون الكل في المجموعي
350 لا الافرادي لا دلالة له (1) الا على رجحان الاتيان بباقي الفعل المأمور به واجبا كان أو مستحبا عند (2) تعذر بعض أجزائه، لظهور (3)
351 الموصول فيما يعمهما، وليس ظهور (1) (لا يترك) في الوجوب لو سلم (2) موجبا [1] لتخصيصه (3) بالواجب لو لم يكن ظهوره في الأعم
[1] بل ظهوره في الوجوب موجب لتخصيص عموم الموصول بالواجب، 352 قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية من النفي (1) وكيف كان فليس ظاهرا في اللزوم هاهنا (2) ولو قيل (3) بظهوره فيه في غير المقام (4).
لكون الذيل قرينة على الصدر، ولأن التخصيص لا يوجب المجاز كما ثبت في محله، بخلاف حمل النهي على الكراهة أو المرجوحية، فإنه يوجب المجاز في الكلمة. وليس ظهور الموصول في العموم قرينة على التصرف في ظهور (لا يترك) في الوجوب، لما مر من أن الذيل قرينة على الصدر، إذ للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء، فالظهور التصديقي في كل كلام منوط بإكماله، وأما الدلالة الاستعمالية فلا عبرة بها في ترتيب الآثار. وهذا من غير فرق بين كون دلالة الموصول على العموم بالوضع و بالاطلاق، لتقدم ظهور القرينة ولو كان بالاطلاق على ظهور ذيها و ان كان بالوضع كما قرر في محله. وعليه فلا قصور في دلالة (لا يترك) على الوجوب، كما لا قصور في دلالة (كله) 353 ثم انه (1) حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور
الأول على الكل المجموعي والمركب ذي الاجزاء، حيث إن إرادة الكل الافرادي منه منوطة بتقدير، بأن يقال: (ما لا يدرك كل أفراده) و هو خلاف الأصل لا يصار إليه بلا دليل، بخلاف إرادة الكل المجموعي، فإنها لا تحتاج إلى تقدير، إذ معناه حينئذ أن الكل الذي لا يدرك كله بسبب تعذر بعض أجزائه يحرم ترك ما تيسر منه، بل يجب الاتيان به حتى لا يترك كله بالعجز وبعضه بالاختيار. بل التعبير بالكل المجموعي هنا في قبال الكل الافرادي مسامحة، إذ المتعارف إرادة المركب ذي الاجزاء من لفظ الكل، لا إرادة الكل المجموعي بأن يلاحظ كل فرد من أفراد الكلي جزا لموضوع الحكم. وبالجملة: فالظاهر أن المراد بالكل في كلا الموردين هو المركب ذو الاجزاء، والمقصود أن المركب إذا لم يمكن بسبب تعذر بعض أجزائه إدراك كله المعبر عنه بالفارسية (همه آن نبايد ترك شود همه آن) بأن يستند ترك بعضه إلى العجز وبعضه إلى الاختيار، بل لا بد من الاتيان ببعضه المقدور حتى لا يترك كله. والحاصل: أن الاستدلال بالخبر الثالث بعد الانجبار بالعمل كالخبر الثاني على اعتبار قاعدة الميسور لا بأس به. 354 على الباقي عرفا (1) كانت القاعدة جارية مع تعذر الشرط أيضا (2) لصدقه (3) حقيقة عليه مع تعذره عرفا،
355 كصدقه (1) عليه كذلك مع تعذر الجز في الجملة (2) وان (3) كان فاقد الشرط مباينا للواجد عقلا (4) ولأجل ذلك (5) ربما لا يكون الباقي الفاقد لمعظم الاجزاء أو لركنها موردا لها (6) فيما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفا وان كان غير مباين لواجد عقلا (. [1] 7
[1] يرد عليه: أن العقل مع نظره الدقي كيف يحكم بعدم قدح المفقود 356 نعم (1) ربما يلحق به شرعا ما لا يعدم بميسور عرفا
في صدق الميسور على فاقده، ولا يحكم العرف مع نظره المسامحي بذلك، مع وضوح أن الامر بالعكس، فان العرف يحكم في بعض الموارد بميسورية الفاقد ولا يحكم بها العقل. نعم يتفقان في الحكم بميسورية الفاقد فيما إذا كان المفقود من قبيل الواجب في الواجب أو المستحب كذلك، ضرورة عدم جزئية المفقود حينئذ للمركب أصلا، لا جزا مقوما ولا غيره، بل هو أجنبي عن أجزأ المركب، وانما جعل المركب ظرفا لمشروعيته. بل الحق منع صدق الميسور حينئذ على الباقي، لأنه نفس المركب، لا جزؤه الميسور حتى تجري فيه قاعدة الميسور، إذ الدليل المثبت لحكمه هو نفس الدليل الأولي لا الثانوي كالقاعدة. 357 بتخطئته (1) للعرف، وأن (2) عدم العد كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد من قيامه في هذا الحال (3) بتمام ما قام عليه الواجد أو بمعظمه في غير الحال (4).
358 والا (1) عد أنه ميسوره. كما (2) ربما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفي لذلك أي للتخطئة، وأنه (3) لا يقوم بشئ من ذلك (4). وبالجملة: ما لم يكن دليل على الاخراج أو الالحاق كان
359 المرجع هو الاطلاق (1) ويستكشف منه (2) أن الباقي قائم بما يكون المأمور به (3) قائما بتمامه [1] أو (4) بمقدار يوجب إيجابه في الواجب
[1] الأولى أن يقال: (أن الباقي قائم بتمام ما يكون المأمور به قائما به، أو بمقدار منه يوجب. إلخ) وذلك لان الغرض قيام الفاقد بتمام ملاك الواجد أو بعضه. والعبارة توهم خلافه، وهو قيام المأمور به الواجد بتمام الملاك، أو مقدار منه، لأنه يتوهم في بادئ النظر عطف (بمقدار) على (بتمامه) وكلاهما معمولا (قائما) وهو خبر (يكون) فعليه يكون القائم بتمام الملاك أو مقدار منه هو المأمور به الواجد لا الباقي الفاقد، وهو خلاف المقصود كما هو واضح. 360 واستحبابه في المستحب، وإذا قام دليل على أحدهما (1) فيخرج أو يدرج تخطئة أو تخصيصا في الأول (2) وتشريكا في الحكم من دون الاندراج في الموضوع (3) في الثاني (4) فافهم (. [1] 5
[1] وقد تلخص من جميع ما ذكرناه حول قاعدة الميسور أمور: الأول: أن الحق تمامية الاستدلال بالخبر الثاني والثالث على قاعدة الميسور. الثاني: أن مورد القاعدة هو المركب ذو الاجزاء دون الكلي الذي تعذر بعض أفراده، ودون الطبائع المتعددة التي تعذر بعضها، سوأ كان المتعذر في المركب 361
جزا من أجزائه أم مرتبة من مراتب بعض أجزائه كمرتبة من مراتب القيام أو الركوع كما يظهر من الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قده) حيث إنه جعل الايماء باليد ميسورا للايماء بالرأس والعين للسجود على ما هو المنصوص، فأوجب هو (قده) الايماء باليد لقاعدة الميسور. وما أفاده (ره) وان كان متينا في نفسه، الا أن في تطبيق القاعدة على المورد المذكور تأملا، حيث إن ميسور الايماء بالرأس والعين للسجود هو الايماء بأحدهما، لا الايماء باليد. 362
وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في جريان القاعدة في المرتبة النازلة من كل جز من أجزأ المركب مع تعذر المرتبة العالية، كعدم الاشكال في جريانها في تعذر جميع مراتب جز من الاجزاء مع تيسر بعضها الاخر. الثالث: أن قاعدة الميسور كغيرها من القواعد العامة الملقاة إلى العرف في كون المتبع في تشخيص مفادها فهم العرف، لأنهم المخاطبون بها، إذ ليس للميسور حقيقة شرعية، فلا بد في معرفة مفهومه من الرجوع إليهم. وإناطة الميسور باشتماله على معظم ملاك التام الذي لا سبيل للعرف إلى معرفته دعوى بلا برهان، فما عن المحقق النائيني وغيره بل المشهور من عدم حجية نظر العرف في تشخيص الميسور، وإناطة جريانها في كل مورد بعمل الأصحاب، و كذا ما يظهر من المصنف من قيام الميسور بمعظم ملاك الواجد حيث قال: (وان عدم العد كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد. إلخ) وقال أيضا: (ويستكشف منه أن الباقي قائم بما يكون المأمور به قائما بتمامه أو بمقدار يوجب إلخ) لا يخلو من الغموض إذ مرجع ذلك إلى تأسيس قاعدة كلية لا يجوز لغير المعصوم عليه الصلاة والسلام تطبيقها على مواردها، وهذا بمكان من الغرابة، إذ لازم ذلك عدم جريان قاعدة الميسور في الماهيات المخترعة الشرعية مطلقا، وفي التوصليات التي لم يطلع العرف على ملاكاتها كما لا يخفى. الرابع: أن القاعدة تجري في كل ما يصدق عليه عرفا ميسور المركب سواء كان حكمه الوجوب كالصلاة، أم الحرمة كحلق اللحية، وحرمة حلق الرأس على المحرم، وحرمة تصوير ذوات الأرواح، فإنه إذا جاز ارتكاب بعض متعلق الحرمة لاكراه أو غيره لم يجز ارتكاب ما تيسر منه، لقاعدة الميسور القاضية بعدم سقوط 363
الحرمة عن الميسور بسبب سقوطها عن المعسور، فجواز حلق طرفي اللحية أو مقدم الرأس لمرض أو غيره لا يسوغ حلق البعض الميسور منهما، فلا يجوز حلق الباقي من الرأس واللحية، وكذا تصوير بعض ذي الروح. وإذا شك العرف في صدقه على مورد ولم يكن دليل على حكمه يرجع فيه إلى الأصل العملي. الخامس: أن قاعدة الميسور من العمومات القابلة للتخصيص كصلاة فاقد الطهورين، والفاقدة لركن ولو مع الاتيان بجميع أجزائها، فإنه مع صدق الميسور العرفي عليهما قطعا قد خرجتا عن حيز قاعدة الميسور بالنص الخاص، والتخطئة ان لم ترجع إلى التخصيص الذي مرجعه إلى الاخراج الحكمي لا يظهر لها معنى صحيح. السادس: أن قاعدة الميسور من الأدلة الاجتهادية المقدمة ورودا أو حكومة على الأصول العملية مطلقا وان كانت تنزيلية كالاستصحاب، وقاعدة الميسور متممة لدلالة أدلة أجزأ المركب وشرائطه حيث لا يكون لها دلالة على كيفية دخل الجز أو الشرط من حيث الاطلاق و الاشتراط. السابع: أن شأن القاعدة التوسعة في أفراد المأمور به وجعل الفاقد للجز أو الشرط من مصاديقه، وعليه فلو كان للمأمور به بدل اضطراري كالتيمم الذي هو بدل طولي للغسل والوضوء، وجرت قاعدة الميسور فيهما كالجبيري منهما لم يشرع التيمم حينئذ، لأنهما ببركة القاعدة صارا من مصاديق المبدل أعني به الغسل والوضوء، و من المعلوم أنه مع التمكن من المبدل لا تصل النوبة إلى البدل الاضطراري الذي هو في طول المبدل. وان شئت فقل: ان قاعدة الميسور حاكمة على أدلة بدلية التيمم، لان القاعدة 364
بإثبات حكم الواجد للفاقد توجد فردا للمبدل، ومن المعلوم أنه مع التمكن منه لا تصل النوبة إلى البدل الذي موضوعه الاضطرار وعدم التمكن من المبدل، فما ذكره شيخنا العظم في الفرائد بقوله: (الثاني لو جعل الشارع للكل بدلا اضطراريا كالتيمم ففي تقديمه على الناقص وجهان. إلخ) من التردد في تقديم الناقص على البدل لا يخلو من الغموض، ضرورة أن الفرد الاضطراري لكونه فردا للمبدل مقدم على البدل المترتب على العجز عن المبدل. الثامن: جريان قاعدة الميسور في المستحبات كجريانها في الواجبات، لما عرفت من دلالة (لا يسقط) في الخبر الثاني على عدم سقوط الميسور عن موضوعيته للحكم الذي ثبت له قبل العسر، من غير فرق بين كونه وجوبا وندبا، ومعه لا حاجة إلى دعوى تنقيح المناط العرفي لاجراء القاعدة في المستحبات كما أفاده الشيخ (قده) بقوله: (الا أن يعلم جريانها في المستحبات بتنقيح المناط العرفي). التاسع: الظاهر عدم اختصاص القاعدة بالعبادات، فتجري في غيرها أيضا كالوصايا والأوقاف، فإذا أوصى شخص بصرف ثلثه في استئجار أشخاص لقضاء صلوات عشر سنين مثلا عنه، أو وقف بستانا أو دكانا أو غيرهما على أن تصرف أجرتها في إطعام عدد معين من الفقراء في كل ليلة من ليالي الجمعة، ولم يف الثلث بما أوصى به، وكذا عوائد الوقف بالموقوف عليه، فان الظاهر مع الغض عن دليل خاص في بعض الموارد جريان قاعدة الميسور فيها، وصرف الثلث و الوقف في المقدار الميسور، وعدم جواز صرفهما في مطلق الوجوه البرية. العاشر: مقتضى ما تقدم من جريان القاعدة في تعذر الشرط عدم اختصاصها بالأحكام التكليفية، وجريانها في الأحكام الوضعية أيضا، فتجري في موانع الصلاة 365
كلبس الحرير للرجال وما لا يؤكل واللباس أو البدن المتنجس، فإنه مع العجز عن تطهير البدن أو اللباس أو الاضطرار إلى لبس الحرير أو ما لا يؤكل تسقط هذه الأمور عن المانعية، لقاعدة الميسور و ان لم يكن هناك دليل خاص على الحكم. وكذلك تجري القاعدة في مراتب المانع، كما إذا تمكن من تخفيف النجاسة عن بدنه، فإنه يجب ذلك، لأنه ميسور مانعية النجاسة، فلا يسقط بتعذر إزالة جميعها، وكذلك سائر الموانع. وكذا الحال في السببية، فان سبب حل الحيوان وهو التذكية أمور، فإذا تعذر بعضها كالاستقبال أو التسمية مثلا جرت فيها قاعدة الميسور، ومقتضاها عدم سقوط سببية ما عدا المعسور منها للتذكية. و كذا في سببية العقود لما يترتب عليها من الملكية أو غيرها. فإنه لا مانع من جريان قاعدة الميسور فيها بعد تعذر بعض ما يعتبر في سببيتها كالعربية، وإثبات سببية ما عدا المعسور منها، والمراد بالسببية هو الموضوعية، فعقد البيع مثلا سبب أي موضوع للحكم بالملكية أو غيرها، وكذلك التذكية سبب للحل أي موضوع لحكم الشارع به، وكذا سببية الحيازة وإحياء الموات للملكية. الحادي عشر: الظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام: (ما لا يدرك كله) صدور العجز عن فعل تمام المركب لا عن اختيار، فان عدم الادراك ظاهر في الفوت القهري لا مطلقا، فلا يشمل التفويت الاختياري كما هو الأظهر في (من أدرك الوقت) أيضا، فلا يشمل من أخر الصلاة عمدا إلى أن بقي من الوقت مقدار ركعة. وعليه فمن كان متمكنا من الصلاة التامة خالية عن الموانع ولم يأت بها بلا عذر حتى ابتلي بموانعها لا تجري القاعدة في الموانع، بل المرجع الأدلة 366
الخاصة الواردة في تلك الموارد. وقد ظهر مما ذكرناه من القيود المعتبرة في قاعدة الميسور - من كون موردها تعذر بعض أجزأ المركب، وعدم كون التعذر بسوء الاختيار - عدم ورود إشكال تخصيص الأكثر عليه، بل في حاشية المصنف على الرسائل: (أن الباقي تحت هذه القاعدة بالنسبة إلى الخارج كالقطرة من البحر) وذلك لخروج كثير من الموارد عن حيز القاعدة تخصصا، ولورود نصوص خاصة في جملة منها توافق القاعدة، ومن المعلوم عدم قدح تلك النصوص الخاصة في عموم القاعدة. الثاني عشر: أنه قد ظهر من اختصاص القاعدة بالمركب ذي الاجزاء عدم جريانها في الواجبين المتزاحمين اللذين لا يقدر المكلف على الاتيان بهما معا، بأن يقال: ان الميسور منهما لا يسقط بالمعسور، بل المرجع حينئذ في المتساويين العقل الحاكم بالتخيير، وبإتيان الأهم منهما في غير المتكافئين ملاكا. ولنختم الكلام بالبحث عن سند الروايات التي استدل بها على قاعدة الميسور، بعد أن كنت مرسلة أرسلها ابن أبي جمهور إلى النبي و الولي صلوات الله عليهما بلا ذكر مأخذها من كتاب أو أصل، ويمكن إثبات اعتبارها بأحد طريقين: الأول: وهو الجاري على ألسنة المتأخرين من دعوى جبر ضعف الارسال بتحقق الشهرة على العمل بها كما في الرسائل وشرح الميرزا الآشتياني وغيرهما، وقد نقل العلامة المتتبع الميرزا فتاح (ره) في عناوينه فروعا كثيرة تزيد على خمسين استشهد بها على استناد الأصحاب إلى هذه القاعدة وعملهم بها، قال (قده): (ومن جملة القواعد المتلقاة من الشرع الكثيرة الدوران المتشتتة الفروع قاعدة الميسور ولزوم الاتيان بالمستطاع، ويتمسك بها في لزوم تخفيف النجاسة كما وكيفا كالغسل 367
مرة وان لم يطهر، وفي غسلات الولوغ، ومنزوحات البئر، وتباعد البالوعة، وقيام غير التراب مقامه في التطهير، ووضوء الأقطع، و الجبيرة في أعداد غسلات الوضوء، والمضمضة، وغسل اليد، و المباشرة في جميع ما تعتبر فيه، وحكاية ما أمكن من الاذان، والآتيان بسائر الدعوات المندوبة، وأعداد مسحات الاستبراء وخرطاته، و جلوس الحائض في مصلاها، ومندوبات الاحتضار والموت، و الغسل بالقراح مع تعذر الخليط من سدر أو كافور، ومن وراء الثياب، وقيام غير الساتر مقامه، والواحد مقام الثلاثة في الكفن، وكفاية التكبيرات في صلاة الميت، والممكن من التربيع للجنازة، وطلب الماء وان لم يكن غلوة أو غلوتين، والمسح مقام الغسل، وظهر اليد موضع بطنها. إلى أن قال: وفوات القيد من زمان أو مكان، أو وصف أو حالة ذاتي أو عرضي قابل للتبدل أم لا، ونظائر ذلك مما لا يخفى على المتتبع). ولا ريب في أن استناد المشهور في العشرات من الفروع إلى قاعدة الميسور مما يشرف الفقيه على القطع بصدور روايات الباب و اعتبارها سندا ودلالة. الا أن المتتبع في الاخبار يجد أن أكثر تلك الفروع منصوصة، وليس مستند الحكم فيها هذه القاعدة، ولولا مخافة التطويل لسردت عليك مقدارا منها. وبعضها أجنبي عن تعذر الجز أو الشرط، لكون المورد من الاستقلاليين، وبعضها مستند إلى قاعدة الاحتياط، ولو بقي بعض الفروع التي يستند فيها إلى القاعدة لم يكن كافيا لتحقق صغرى الجبر بالعمل. مع أن دعوى استناد المشهور إلى هذه القاعدة اجتهاد منه (ره)، وهو ممنوع كما عرفت، لعدم كفاية مجرد الموافقة بين الفتوى و الرواية الضعيفة في 368
تحقق الجبر، لأنها أعم من الاستناد كما هو ظاهر. وعليه فإثبات اعتبار القاعدة بهذا الطريق غير تام. الثاني: إخراج هذه الروايات عن الارسال وإثبات سند لها، ببيان: أنها و ان رويت في الغوالي مرسلة كسائر ما روي فيها، الا أن مؤلف الكتاب ذكر في مقدمته طرقا سبعة لجميع ما رواه فيه، وكلها تنتهي إلى العلامة (قده) ومنه إلى الأئمة المعصومين عليهم الصلاة و السلام، فتكون مسندة، قال في الفصل الأول من مقدمة كتابه: (في كيفية إسنادي وروايتي لجميع ما أنا ذاكره من الأحاديث في هذا الكتاب، ولي في ذلك طرق.) وقال بعد بيان الطريق السابع: (فهذه الطرق السبعة المذكورة لي جميعها تنتهي عن المشايخ المذكورين إلى الشيخ جمال المحققين ثم منه ينتهي الطريق إلى الأئمة المعصومين إلى رسول رب العالمين). وقال: (فبهذه الطرق وبما اشتملت عليه من الأسانيد المتصلة المعنعنة، الصحيحة الاسناد المشهورة الرجال بالعدالة والعلم وصحة الفتوى وصدق اللهجة أروي جميع ما أرويه وأحكيه من أحاديث الرسول وأئمة الهدى عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، فجميع ما أنا ذاكره في هذا الكتاب من الأحاديث النبوية والامامية طريقي في روايتها وإسنادها وتصحيحها هذه الطرق المذكورة عن هؤلاء المشايخ المشهورين بالعمل والفضل والعدالة.). وعلى هذا فروايات كتاب الغوالي ليست مرسلة، بل هي مسندة بفضل ما ذكره في أول الكتاب من مشيخته وطرقه لها، فهي لا تقصر عن بعض مراسيل الصدوق التي حذف وسائطها عند بيان الرواية وذكرها في المشيخة، لخروج الرواية بذلك عن الارسال. 369
وراجعنا شرح سيدنا الجد - السيد الجزائري - أعلى الله مقامه على الكتاب المسمى بالجواهر العوالي فيما يرتبط بالمقام، وأفاد ما حاصله: أما مشايخه وأساتيذه فهم إلى فخر الدين موثقون بتوثيقه، لأنه أثنى على كل واحد منهم بما يناسب حاله، وحيث انه ثقة كما نص عليه جماعة من المتأخرين فتوثيقه لهم حجة أيضا. ثم قال حول شبهة الارسال: (اننا تتبعنا ما تضمنه هذا الكتاب من الاخبار فحصل الاطلاع على أماكنها التي انتزعها منه مثل الأصول الأربعة وغيرها من كتب الصدوق وغيره من ثقات أصحابنا أهل الفقه والحديث). أقول: والامر كما أفاده (قده) فان كثيرا من تلك الروايات موجودة في الكتب الأربعة وغيرها، فمن الممكن أن المؤلف ظفر بكتاب أو أصل معتبر ونقل بعض الاخبار منه. وقد نقل المحدث النوري شطرا من كلام سيدنا الجد وأيد به مختاره في عد كتاب غوالي اللئالي من الكتب المعتبرة. وقد ارتضاه العلامة المجلسي أيضا على ما حكاه السيد في مقدمة شرحه بعد أن كان راغبا عنه في أول الامر. هذا غاية ما يمكن بيانه بهذا الصدد. لكن مع ذلك كله في النفس دغدغة تثبطني عن الركون إلى ما أفيد، و ذلك فإنه وان لم يكن وقوف ابن أبي جمهور على أصل حاو لروايات قاعدة الميسور واطلاعه عليه مستبعدا كما وقع لغيره، بعد أن كان ذلك الأصل مخفيا عن المتقدمين، إلا أن المانع من الالتزام به تصريح المؤلف بأن جميع ما يرويه ينتهي إلى العلامة، ومنه إلى الأئمة عليهم السلام، ومن المعلوم أن في طريق العلامة إليهم عليهم السلام أرباب الكتب الأربعة وغيرها من جوامع الاخبار كالصدوق 370
والمفيد والشيخ وغيرهم، فكيف لم يرو واحد منهم هذه الروايات الثلاث في كتابه، - مع كونها كما ادعاه الميرزا فتاح مستندا و مدركا لكثير من الاحكام الالزامية وغيرها - على حد نقل سائر الأخبار الصحاح والضعاف. ودعوى إمكان خفاء ذلك الأصل عليهم إلى زمان ابن أبي جمهور تنافي تصريحه بأن ما يرويه معنعن السند إلى المحمدين الثلاثة ثم إلى الأئمة عليهم السلام. واحتمال إجازتهم لرواية أصل اختفي على المجيز كاد أن يلحق بالمحالات، كما لا يخفى على من له معرفة بديدن الأصحاب في نقل الاخبار وتثبتهم ودقتهم فيه. وقد تحصل: أن إثبات اعتبار روايات قاعدة الميسور مشكل، لا من ناحية جبر إرسالها بالعمل، لما عرفت من عدم إحرازه، ولا من ناحية جعلها من الاخبار المسندة المعتبرة، الا أن الموجب للبحث عن دلالتها دعوى جمع شهرة العمل بها. وحيث كان المدار في الحجية على الوثوق الشخصي بالصدور، فمن حصل له الاطمئنان به فهو، والا فيشكل الاستدلال بها، وان ذكر صاحب الجواهر (قده) رواية الميسور في عداد الأدلة في عدة موارد كوضوء الأقطع وتعذر الخليط في غسل الميت وصلاة المتوسط في دار مغصوبة وغيرها، الا أن النصوص الخاصة فيها مضافا إلى قاعدة الاشتغال تمنع عن الوثوق بتحقق الجبر بالعمل. 371 تذنيب (1): لا يخفى أنه إذا دار الامر بين جزئية شئ أو شرطيته وبين مانعيته أو قاطعيته لكان من قبيل المتباينين، ولا يكاد يكون من
372 الدوران بين المحذورين [1 [1
[1] كما لا يكاد يكون من صغريات الأقل والأكثر، كما يظهر أيضا من كلمات شيخنا الأعظم (قده) بتقريب: أن المتيقن وجوبه ذوات الاجزاء، والشك انما يكون في اعتبار شئ زائد عليها، ومقتضى الأصل عدمه. وذلك لما تقدم من دخل هذا الزائد قطعا، غاية الامر أنه لا يعلم كيفية دخله في المركب من حيث 373 لا مكان الاحتياط (1) بإتيان العمل مرتين مع ذاك
الجزئية أو الشرطية أو غيرها، فيعلم إجمالا بمطلوبية الطبيعة في ضمن أحد الخاصين، ومن المعلوم مباينة أحدهما للاخر، كالصلاة المقيدة بالحرم الشريف أو الجامع، فان كلا منهما مباينة للأخرى. وبالجملة: فالمقام أجنبي عن باب الأقل والأكثر، فليس من موارد جريان أصالة البراءة وان قلنا بها في الأقل والأكثر كما هو الصحيح. 374 الشئ (1) مرة وبدونه أخرى كما هو أوضح من أن يخفى. [1]
[1] لم يظهر لهذه العبارة الدائرة في الألسن والكتب معنى صحيح، إذ لا بد في المفضل عليه من وجود المبدأ فيه ك (زيد أعلم من عمرو) فلو لم يكن عمرو عالما لم يصح هذا الكلام، ومن المعلوم أنه ليس في الخفاء وضوح حتى يقال: ان المطلب الكذائي أوضح منه، فالصحيح أن يقال في أمثال هذا المقام: أوضح من الواضحات، أو: أوضح من كل واضح. 375 خاتمة في شرائط الأصول (1) أما الاحتياط (2) فلا يعتبر في حسنه شئ أصلا [1] بل يحسن
[1] الا إذا احتمل أداء الاحتياط بدون الفحص إلى ترك واجب أهم، كما إذا صرف ماءه في الوضوء مع احتمال وجوب صرفه فيما هو أهم من الوضوء فإنه يجب عليه الفحص لئلا يفوت عنه الواجب الأهم بتقصيره، كما يجب الفحص في البراءة. ومجرد كون الاحتياط انقيادا إلى المولى لا يجوز ترك الفحص، ولا يرفع قبح تفويت الواجب عقلا. وبالجملة: لما كان حسن الاحتياط عقلا لكونه محرزا للواقع على فرض ثبوته فلا بد من اعتبار عدم مزاحمته لما يوجب قبحه. 376 على كل حال (1)، الا (2) إذا كان موجبا لاختلال النظام [1] ولا تفاوت
[1] أو لحصول الوسوسة الشيطانية، فان كان الاحتياط معرضا لها أعاذنا الله وجميع إخواننا المؤمنين منها خرج عن الحسن إلى القبح، لكونه حينئذ تعويدا للخبيث وإطاعة له، وقد نهي في النصوص عنهما. 377 فيه (1) بين المعاملات والعبادات مطلقا ولو (2) كان موجبا للتكرار فيها. وتوهم (3) كون التكرار عبثا ولعبا بأمر المولى وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة فاسد (4)، لوضوح أن التكرار ربما يكون
378 بداع صحيح عقلائي. [1]
[1] يمكن أن يريد منكر حسن الاحتياط المستلزم للتكرار عبثية هذا الاحتياط بنظر العقل مع التمكن من الامتثال العملي التفصيلي، وأن الاحتياط ليس امتثالا عقلا، والغرض العقلائي من التكرار لا يسوغه و لا يدرجه تحت عنوان الإطاعة أصلا. وعليه فلا يندفع الاشكال بوجود الغرض العقلائي من التكرار كما يقول به من يلتزم بترتب مراتب الإطاعة وطوليتها كما لا يخفى. مضافا إلى: أن ذلك الغرض العقلائي الراجح أو المباح ان كان مانعا عن استقلال القربة في الداعوية، فالظاهر بطلان العبادة، فلا بد من تقيد ذلك الغرض العقلائي بعدم إسقاطه للقربة عن استقلالها في الداعوية حتى لا يندرج في الضميمة 379 مع [1] أنه لو لم يكن بهذا الداعي (1) وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه (2) لما (3) ينافي قصد الامتثال وان كان لاعبا في كيفية امتثاله [2 [4 فافهم.
المانعة عن كون داعي القربة صالحا للاستقلال في البعث إلى العبادة. الا أن يقال: ان هذه الضميمة ليست في عرض قصد القربة، بل في طولها حيث إن الداعي إلى الإطاعة هو الامر فقط، والانبعاث يكون عن البعث مجردا عن كل ضميمة، والضميمة انما تقع في كيفية الإطاعة، وهي متأخرة عن نفس الإطاعة، فليتأمل. [1] لا يخفى أن الترتيب الطبعي يقتضي تقديم هذا الجواب على الأول، بأن يقال: (فاسد أولا بعدم منافاة التكرار لقصد الامتثال، وثانيا: بإمكان نشوء التكرار عن غرض عقلائي على تقدير منافاته له). [2] كيفية الامتثال هي فعل المحتملات التي يحرز بها الواقع، فلو فرض كونها لعبا امتنع انطباق المأمور به على أحد المحتملات حتى يتحقق الامتثال 380
الموجب لسقوط الامر بالعبادة. والحاصل: أن اللعب يصدق على فعل كل محتمل، وهو مانع عن تحقق الامتثال به. ودفع هذه الشبهة منحصر بإنكار صدق اللعب على ما يصدق عليه الانقياد والتحرك عن تحريك المولى. كما أن الكلام في قدح نفس التكرار من حيث هو في حسن الاحتياط، لا القدح من جهة أخرى مقارنة للتكرار أحيانا متوقفة على القصد، فان اتصاف المحتملات باللعب منوط بقصده، ولا يتحقق ذلك مع نشوء فعل تلك المحتملات عن أمر المولى. نعم ان كان الاتصاف بها قهريا اتجه صدق اللعب عليها، لكنه محل التأمل. 381 بل (1) يحسن أيضا فيما قامت الحجة [1 [2 على البراءة من
[1] لا فرق في حسن الاحتياط مع الحجة على نفي التكليف بين كون الحجة النافية له أصلا عمليا كالبراءة ودليلا اجتهاديا كالامارة، إذ موضوع الاحتياط وهو احتمال ثبوت التكليف واقعا متحقق في كلا الفرضين. ثم انه ان لم يلزم التكرار من العمل بالاحتياط مع الحجة النافية للتكليف فلا إشكال، كما إذا قام الدليل على عدم وجوب السورة في الصلاة، فان الاحتياط بإتيان السورة فيها لا يتوقف على تكرار الصلاة، بل يأتي بها مرة واحدة مع السورة وان لزم من الاحتياط تكرار العمل كما إذا قامت الحجة على وجوب صلاة الجمعة، حيث إن الاحتياط مع رعاية هذه الحجة يتوقف على فعل الصلاة مرتين إحداهما أربع ركعات، وثانيتهما ركعتان وخطبتان، فهل يجب عليه تقديم ما يقتضيه الحجة أولا ثم الاتيان بخلافه لاحراز الواقع، أم يتخير في تقديم أيهما شاء؟ قيل بالأول، لان في تقديمه عملا بالوظيفة، وبعده يحتاط بفعل ما يكون على خلاف ما تقتضيه الحجة 382 التكليف لئلا (1) يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته من المفسدة
كصلاة الظهر في المثال، فلو قدمها على صلاة الجمعة اندراج في الامتثال الاحتمالي مع التمكن من التفصيلي، حيث إن معنى حجية الامارة إلغاء احتمال الخلاف، وعدم الاعتناء به، والتقديم اعتناء به. لكن فيه أولا: أن معنى إلغاء احتمال الخلاف ليس إلغاءه مطلقا بنحو يرفع حسن الاحتياط حتى لا يجوز اعتناؤه بنحو الرجاء واحتمال المطلوبية، بل معناه إلغاؤه في قبال اعتباره بنحو الوظيفة، كما في اعتبار ما يقتضيه الامارة، فاحتمال خلاف الامارة لا يراعى بنحو الوظيفة، وأما رعايته بنحو الرجاء وإدراك الواقع فلا بأس بها، ولا تقتضي حجية الامارة نفيها. وثانيا: أن الامتثال الاحتمالي انما يكون فيما إذا كان بانيا على الاكتفاء بأحد المحتملين أو المحتملات، وأما إذا كان بانيا على الاتيان بالجميع فلا يصدق عليه الإطاعة الاحتمالية، بل يصدق عليه الاحتياط. وثالثا: أن العمل بالامارة غير العلمية إطاعة ظنية، فلو صدق الإطاعة الظنية على تقديم العمل بمقتضى الامارة، فاللازم تقديم العمل بخلاف مقتضاها، أو تقديم العمل بمقتضاها بانيا على الاحتياط، لا على الاتيان به من باب حجية الامارة حتى لا يلزم تقديم الامتثال الظني على الاحتياطي. وبالجملة: فالحق عدم لزوم العمل ابتدأ بمؤدى الامارة ثم رعاية الواقع، بل المكلف مخير في تقديم أيهما شاء. نعم الأولى الابتداء بالعمل بما تقتضيه الحجة مراعاة لشأنها، ثم رعاية الواقع بإتيان خلاف مقتضاها. 383 وفوت (1) المصلحة. وأما البراءة العقلية (2) فلا يجوز إجراؤها إلا بعد الفحص واليأس
384 عن الظفر بالحجة على التكليف، لما مرت الإشارة إليه (1) من (2) عدم استقلال العقل بها الا بعدهما.
385 وأما البراءة النقلية (1) فقضية إطلاق أدلتها [1 [2
[1] لقائل أن يمنع إطلاق أدلتها خصوصا بعد إرادة الحجة من العلم الوارد 386 وان كان (1) هو عدم اعتبار الفحص في جريانها، كما هو (2) حالها في
في تلك الأدلة، حيث إن المراد بالحجة كما مر في البراءة العقلية هو الحجة التي يمكن العثور عليها بالفحص، فعدم البيان المأخوذ موضوعا للبراءة العقلية هو بعينه موضوع البراءة النقلية، فالفحص فيها محقق لموضوعها، كالفحص في البراءة النقلية، فلا نحتاج إلى إتعاب النفس في إقامة الدليل على وجوب الفحص في البراءة النقلية، كما لا يمكن إراحة النفس بإجراء أصالة عدم الحجة والعمل بأدلة البراءة بدون الفحص، حيث إن موضوعها ليس مجرد عدم الحجة واقعا حتى يحرز بالأصل، بل عدم الحجة التي يمكن العثور عليها بالفحص على تقدير وجودها، وهذا العدم لا يحرز بالأصل، بل لا بد من الفحص الموجب لليأس عن الظفر به، وللاطمئنان العقلائي و العلم العادي النظامي بالعدم. وبالجملة: إطلاق أدلة البراءة موقوف على كون موضوعها مجرد عدم العلم بالواقع الذي هو حاصل قبل الفحص وبعده، فالأدلة من حيث اعتبار الفحص مطلقة. لكنه كما عرفت في حيز المنع، فلا إطلاق لها حتى يتكلف في تقييده بالوجوه التي تشبثوا بها له. 387 الشبهات الموضوعية، الا أنه (1) استدل على اعتباره بالاجماع (2)،
هذا مضافا إلى أن الحديث الشريف بشهادة سائر الفقرات مسوق لبيان معذرية الجهل بالواقع كمعذرية الاكراه والاضطرار ونحوهما، ومن المعلوم أن الجهل الناشئ من عدم الفحص عن خطاب المولى لا يعد عذرا عند العقلاء، حتى ينعقد إطلاق فيه كي يتوسل إلى تقييده بما بعد الفحص ببعض الوجوه. وإلى: أن استكشاف الاطلاق في مرحلة الاثبات يتوقف على عدم المزاحم لمطابقة الإرادتين الاستعمالية والجدية، ولا ريب في أن الشارع الأقدس مع كثرة ترغيبه في التعلم والتفقه في الدين وحرصه على استنارة القلوب بمعالم الدين ومعارفه يستبعد منه جدا أن يرخص في التمسك بأصالة البراءة قبل الفحص عن 388 وبالعقل (1)، فإنه لا مجال لها بدونه، حيث (2) يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات بحيث (3) لو تفحص عنه لظفر به.
أحكامه، لاستلزامه لنقض الغرض وسد باب تعلم الاحكام، وعدم وجوب الاجتهاد والتقليد، وحينئذ فإذا رخص في مخالفة الواقع أحيانا فلا بد أن يكون ذلك بعد الفحص عن أحكامه لئلا يلزم التنافي بين الامرين. ولو لم يكن هذا قرينة مانعة عن الاطلاق فلا أقل من صلاحيته له، وحيث كان الكلام محفوفا بما يصلح للتقييد فاستظهار الاطلاق منه مشكل جدا. وحديث الحجب أظهر دلالة على هذا المعنى من سائر أخبار البراءة، إذ 389 ولا يخفى (1) أن الاجماع هاهنا (2) غير حاصل، ونقله لوهنه
لا يصح اسناد الحجب إليه تعالى مع تقصير المكلف في الفحص بالمقدار الذي تطمئن النفس معه بعدم الحجة على الحكم. ولو تم الاطلاق كان نافيا لوجوب الفحص في الشبهة الموضوعية و مؤمنا من المؤاخذة على المخالفة، الا أن ينهض ما يدل على وجوبه أيضا فيها كما سيأتي. وكيف كان فالمصنف هنا كما في الرسائل جعل إطلاق أدلة البراءة الشرعية لما قبل الفحص مفروغا عنه، ولذا تشبث لابداء المانع عنه ببعض الوجوه الخمسة التي ذكرها الشيخ الأعظم (قده). لكنه في حاشية الرسائل أناط جريان البراءة في كل من الشبهتين بالفحص، و قال: (ولا إطلاق للنقل الدال على البراءة فيها، لقوة احتمال سوقه مساق حكم العقل، ولا ينافيه كونه في مقام المنة، فإنها بملاحظة عدم إيجاب الاحتياط، مع أنه كان بمكان من الامكان كما حققناه.). وقد عرفت أن الأقرب هو ما ذكره في الحاشية لا ما في المتن. 390 بلا طائل، فان تحصيله (1) في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل
ثم إن الشيخ (قده) ذكر وجوها خمسة لتقييد الاطلاق بما بعد الفحص، وهي الاجماع القطعي، والأدلة الدالة على وجوب تحصيل العلم، و ما دل على مؤاخذة الجهال، وحكم العقل بعدم معذورية الجاهل المقصر القادر على الاستعلام، والعلم الاجمالي الحاصل لكل مكلف قبل الاخذ في استعلام المسائل. ثم اعتمد على حكم العقل، وقال: (فالأولى ما ذكر في الوجه الرابع من أن العقل لا يعذر الجاهل القادر على الفحص كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به العالم به إجمالا، ومناط عدم المعذورية في المقامين هو عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما، فاحتمال الضرر بارتكاب المشتبه غير مندفع بما يأمن معه من ترتب الضرر. مع أن في الوجه الأول وهو الاجماع القطعي كفاية). أقول: أما الاجماع، فيرده ما في المتن من احتمال مدركيته وان سلم تحققه. وأما العقل فان الاستدلال به متين جدا بناء على ما قلنا من وحدة موضوعي البراءتين، حيث إن إحراز موضوعهما وهو عدم الحجة و البيان حتى يجوز التمسك بهما منوط بالفحص، فعدم معذورية الجاهل القادر على الاستعلام انما هو لعدم إحراز موضوع البراءة، فإطلاق أدلة الترخيص لما قبل الفحص كما قيل غير سديد كما مر بعد وحدة موضوعي البراءتين وكون الفحص محققا للموضوع في كلتيهما. ولو سلم الاطلاق فتقييده بحكم العقل - كما تقدم في عبارة الشيخ - لا يخلو من محذور الدور، لوضوح أن هم العقل في أمثال المقام مما يحتمل فيه الحكم 391 صعب (1) لو لم يكن (2) عادة بمستحيل، لقوة (3) احتمال أن يكون
الإلزامي ليس إلا تحصيل المؤمن من عتاب المولى ومؤاخذته، ومثله حكم تعليقي منوط بعدم تأمين الشارع، ومن المعلوم أن إطلاق حديث الرفع لما قبل الفحص وترخيصه في المخالفة الاحتمالية موجب للعذر والامن من العقوبة، ورافع لموضوع حكمه بلزوم الفحص، وتقييد الاطلاق منوط بما يصلح للتقييد في حد نفسه، وإلا لزم الدور، لتوقف اعتبار المقيد على عدم الاطلاق، وتوقف نفي الاطلاق على اعتبار المقيد. ولا محيص عما ذكرناه الا بجعل الحكم العقلي هنا كالقرينة المتصلة الحافة 392 المستند للجل لولا الكل هو ما ذكر من حكم العقل (1)، وأن (2) الكلام
بالكلام المانعة من انعقاد إطلاق أدلة البراءة الشرعية رأسا، والموجبة لاختصاصها بما بعد الفحص من أول الامر. وقد يدعى تقييد الاطلاق للجمع بين أخبار التوقف والبرأة بما في تقرير بعض أعاظم العصر، وحاصله: (أن النسبة بين الطائفتين و ان كانت تباينية، لدلالة إطلاق أخبار البراءة على الترخيص قبل الفحص وبعده، وأخبار التوقف على وجوب التوقف مطلقا، الا أن النسبة تنقلب إلى العموم والخصوص المطلق، وذلك لان مورد جملة من أخبار التوقف هي الشبهة قبل الفحص، كقوله عليه السلام في المقبولة: (فأرجه حتى تلقى إمامك) الامرة بالتفحص عن الحكم الذي يتحقق في زمان الحضور بالتشرف لديه عليه السلام والسؤال منه، وهذا المضمون يقيد إطلاق أخبار البراءة وتختص بما بعد الفحص، و بعد هذا التخصيص تنقلب النسبة التباينية بين أخبار البراءة و التوقف إلى العموم المطلق فتختص أخبار التوقف بما قبل الفحص، و البراءة بما بعده، وهذا هو الحال في جميع المتعارضين، لعدم ملاحظة النسبة بينهما في أنفسهما، بل بعد ورود التخصيص في أحدهما أو كليهما من الخارج). ولكنه لا يخلو من شئ، وذلك أما أولا فلانه لا تعارض بين حديث الرفع 393 في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجز (1)، اما (2) لانحلال
وأخبار التوقف حتى يعامل معهما معاملة التعارض التبايني، والتقييد مع فرض انفصال المقيد، وذلك لحكومة إطلاق (رفع ما لا يعلمون) على الامر بالتوقف حكومة شارحة لدليل المحكوم، حيث إن مثل حديث الرفع يتعرض لما لا يمكن أن يتعرض له ما دل على وجوب التوقف. بيانه: أن حديث الرفع يرفع الشبهة التي هي موضوع وجوب التوقف قبل الفحص، ويسوغ الاقتحام في المشتبه، ضرورة أن كل دليل يثبت الحكم لموضوعه على تقدير وجوده، ولا يدل على وجود هذا التقدير وعدمه، والدليل الحاكم يثبت أو ينفي هذا التقدير. وعليه فارتفاع الشبهة ولو بورود حكم ظاهري هدم لذلك التقدير، كما صرح هو دام ظله به بقوله: (لان أدلة الترخيص تخرجه عن عنوان المشتبه وتدرجه في معلوم الحلية) ومع هذا كيف يجري على هاتين الطائفتين أحكام التعارض؟ وأما ثانيا: فبأن التقييد يتوقف على مسانخة الحكمين الواردين في دليلي المطلق والمقيد، و المفروض في المقام أن مفاد حديث الرفع ترخيص مولوي، والامر 394 العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال، أو لعدم (1) الابتلاء الا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من (2) موارد الشبهات
بالوقوف كما بينه في موضعه إرشاد إلى عدم الوقوع في الهلكة، فكيف يقيد به إطلاق حديث الرفع؟ وذيل موثقة سماعة (يرجئه حتى يلقى من يخبره) وان كان أمرا مولويا قابلا لتقييد إطلاق حديث الرفع، لكنه ينافي ما بعده من قوله عليه السلام: (فهو في سعة حتى يلقاه). هذا لو أريد بأدلة الوقوف خصوص ما يشتمل على هذه المادة. وكذا الحال ان أريد بها ما يدل على الاحتياط مطابقة، فإنه دام ظله التزم بكون الامر فيها للاستحباب لشمولها للشبهة الموضوعية وإبائها عن التخصيص، إذ لا تنافي بين ما يدل على استحباب الاحتياط قبل الفحص وبين ما يدل على جوازه. ولعل ما اختاره من الجمع هنا كان مع الغض عما التزم به في أول البراءة من حمل أوامر التوقف على الارشاد. ومما ذكرنا ظهر غموض ما أفاده الشيخ الأعظم في ذيل دلالة العقل على تقييد إطلاق أدلة البراءة بقوله: (والنقل الدال على البراءة في الشبهة الحكمية معارض بما تقدم من الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط حتى يسأل عن الواقعة، كما في 395 ولو (1) لعدم الالتفات إليها.
صحيحة عبد الرحمن المتقدمة، وما دل على وجوب التوقف، بناء على الجمع بينها وبين أدلة البراءة بحملها على صورة التمكن من إزالة الشبهة) لعدم كون الامر بالوقوف والاحتياط مولويا كما حقق في محله كي يجمع بينها وبين أخبار البراءة. هذا كله في الشبهة الحكمية. وأما الشبهة الموضوعية فبناء على المختار من عدم إطلاق أدلة البراءة الشرعية كالعقلية يتعين الفحص، لفرض أن الترخيص في مخالفة الواقع موقوف على اليأس من استعلام الوظيفة بوجه من الوجوه. و هذا ما اختاره المصنف في حاشية الرسائل، وهو متين. الا أنه يمكن دعوى إجراء الأصل الشرعي في الشبهة الموضوعية قبل الفحص اعتمادا على جملة من النصوص: منها ذيل رواية مسعدة: (و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البينة) بملاحظة ورودها في الشبهة الموضوعية وحصر رافع الحلية في العلم الحاصل اتفاقا وقيام البينة. ومنها: قوله عليه السلام في معتبرة السكوني في السؤال عن حكم السفرة 396
المطروحة: (هم في سعة حتى يعلموا) والسؤال انما هو للحاجة إلى معرفة الوظيفة الفعلية مع عدم أمارة في موردها على التذكية والحلية من سوق المسلم ويده، وانما سأل عن حكمها لاحتمال كونها سفرة مجوسي، فالشبهة موضوعية محضة، وجوابه عليه السلام ظاهر في نفي اعتبار الفحص. ولو كان التفتيش والسؤال عن حالها معتبرا لتعرض له عليه السلام في الجواب خصوصا مع كون المورد مما تجري فيه أصالة عدم التذكية. ومنها: قوله عليه السلام في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: (كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه) ومثله رواية عبد الله بن سليمان عنه عليه السلام أيضا: (كل شئ لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة) وظهور هما - خصوصا الثاني منهما - في عدم لزوم الفحص والسؤال عن حكم الموضوع المشتبه مما لا ينكر. ومنها: ما ورد في عدم التفتيش والسؤال عن حال المرأة التي زوجت نفسها، مع كون المحتمل مهما عند الشارع، ومن موارد انقلاب الأصل فيها إلى الاحتياط، وهو رواية عمر بن حنظلة قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام اني تزوجت امرأة فسألت عنها، فقيل فيها، فقال: وأنت لم سألت أيضا؟ ليس عليكم التفتيش) فان الجملة الأخيرة صريحة في مرجوحية السؤال والتفتيش عن حال المرأة من حيث كونها خلية أو ذات بعل مع إمكان الفحص عن الواقع واستكشافه. نعم ورد الاحتياط في بعض فروع النكاح ويقتصر على مورده، ويقيد به إطلاق الروايات المتقدمة أو عمومها، كما هو الحال في الجمع الموضوعي 397
بين كل مطلق ومقيد. والأدلة المتقدمة وان كان مورد أكثرها الشبهة التحريمية، الا أن الامر كذلك في الشبهة الوجوبية الموضوعية أخذا بعموم (والأشياء كلها على هذا) الوارد في رواية مسعدة لبيان الضابط الكلي لكل شبهة موضوعية، والأمثلة المذكورة قبلها وان كانت من الشبهة التحريمية، لكنها لا تصلح لتقييد الذيل وان أمكن تقييد صدر الرواية بها، وقد سبق الكلام حول هذه الأمثلة في أدلة البراءة فراجع. إلا أنه يرفع اليد عن هذا الاطلاق فيما إذا أحرز أهمية المحتمل، أو توقف امتثال الكبريات الشرعية غالبا على الفحص عن الموضوع، مثل الفحص عن اشتمال المال الزكوي على النصاب، وبلوغ المال حد الاستطاعة، وما يفضل عن مئونة سنته من أرباح المكاسب ونحوها، إذ لو قصر في الفحص واعتمد على أصالة براءة ذمته عن تلك الأحكام المترتبة على موضوعاتها لزم إهمالها، ولا يرضى الشارع به قطعا. ولكنها موارد خاصة تتوقف على إحراز الملازمة بين المخالفة و عدم التفتيش عن حال الموضوع، أو أهمية الملاك الداعي لتشريع الحكم الكلي وعدم رضاه بتفويته، ولا سبيل لدعوى التلازم المذكور في جميع الشبهات الموضوعية الوجوبية كالتحريمية حتى يجب الفحص فيها، إذ التخلف عن الواقع قد يتفق أحيانا في مثل الخمر المحتمل مع عدم التزامهم بوجوب الفحص فيه. والاستدلال بخبر زيد الصائغ في زكاة النقدين الامرة بسبك الفضة المغشوشة بالصفر لأجل تعيين مقدار الفضة الخالصة ثم إخراج زكاتها أجنبي عن الشبهة البدوية التي لا علم بأصل التكليف فيها، لظهورها في العلم إجمالا ببلوغها النصاب 398
والشك في مقداره. والمتحصل: أن المرجع في جميع الشبهات الموضوعية هو أصالة البراءة إلا مع إحراز اهتمام الشارع بالمورد كما في الدماء والأموال و الاعراض، أو توقف الامتثال غالبا على الفحص عن الموضوع كما في مثال الاستطاعة لئلا يلزم تأخير الحج عن عامها. نعم قد يشكل على مرجعية أصالة البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية بعدم جريانها، للقصور في المقتضي، فان البيان الموضوع عدمه للأصل هو بيان الحكم الكلي مثل حرمة شرب الخمر، لا حرمة مصاديق الطبيعة الموجودة في الخارج، فإنه ليس من وظيفته حتى يرتفع بقاعدة القبح، مع وضوح أن مدلول القاعدة نفي المؤاخذة عما يكون بيانه وظيفة المولى وهو الحكم الكلي، وحينئذ لا مؤمن على ارتكاب الموضوع المشتبه على تقدير كونه فردا للحرام. وهذا الاشكال قد اعتمد عليه بعض المحققين (قده) في رسالة اللباس المشكوك. ولكنك خبير بأن وظيفة الشارع في مقام التشريع وان لم تكن بيان أحكام المصاديق الخارجية، إذ عليه بيان الكبريات، لكن الأحكام الشرعية حيث كانت من القضايا الحقيقية فلا محالة يتعلق بكل واحد من أفراد الطبيعة المحرمة حكم مستقل عن أحكام سائر الافراد وله إطاعة ومعصية تخصه. ومن المعلوم أن تنجز كل حكم يتوقف على وصوله وإحراز موضوعه، إذ مع الشك في الموضوع يشك في توجه التكليف المتعلق به أيضا، وبيان الحكم الجزئي وان كان خارجا عن عهدة الشارع، لكن المصحح للعقوبة هو التنجز المتقوم بإحراز كل من الحكم وموضوعه، وليس العلم بحرمة طبيعة الخمر شرعا مع فرض الانحلال، وكون 399 فالأولى [1 [1 الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات (2) والاخبار على وجوب التفقه والتعلم (3) والمؤاخذة (4) على ترك
نفيها من السلب المحصل منجزا لحرمة كلي الخمر بالنسبة إلى هذا المائع المشكوك فيه، إذ لا أثر لحرمة الطبيعة بالنسبة لما شك في فرديته لها، بل لا بد في ترتبه من إحراز فردية شئ لها بعلم أو علمي أو أصل محرز. نعم بناء على كون المجعول الشرعي على نحو القضية المعدولة يتجه الاشكال، لكنه مجرد فرض، وقد تعرضنا لهذا المطلب تبعا للماتن في ثاني تنبيهات البراءة، فلاحظ. [1] قد عرفت في التعليقة السابقة كفاية حكم العقل بلزوم الفحص في البراءة النقلية كلزومه في البراءة العقلية بعد وضوح كون الموضوع في كلتا البراءتين واحدا وهو عدم الحجة، فلا بد من إحراز هذا العدم في جريانهما، ولا يحرز ذلك إلا بالفحص. 400 التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله (1) تعالى (2) كما في الخبر (3) فيقيد بها (4) أخبار البراءة، لقوة (5)
401 ظهورها (1) في أن المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم، لا (2) بترك العمل فيما علم وجوبه ولو (3) إجمالا، فلا (4) مجال
402 للتوفيق (1) بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالا، فافهم (2). ولا يخفى (3) اعتبار الفحص في التخيير العقلي
403 أيضا (1) بعين ما ذكر في البراءة، فلا تغفل (2).
404 ولا بأس (1) بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والاحكام. أما التبعة فلا شبهة في استحقاق
405 العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤديا إليها (1) فإنها (2) وان كانت مغفولة حينها وبلا اختيار، إلا أنها منتهية إلى
406 الاختيار (1)، وهو (2) كاف في صحة العقوبة، بل (3) مجرد تركهما كاف في صحتها وان لم يكن (4) مؤديا إلى المخالفة.
407 مع احتماله (1) لأجل (2) التجري وعدم (3) المبالاة بها. [1]
[1] ثالث الأقوال في استحقاق العقوبة على ترك التعلم والفحص ما أفاده 408 نعم (1) يشكل (2) في الواجب المشروط
المحقق النائيني (قده) من أن العقوبة على ترك التعلم المؤدي إلى مخالفة الواقع. والفرق بينه وبين مذهب المشهور أن العقاب عندهم يكون على نفس المخالفة لا على ترك التعلم، وعنده يكون على ترك التعلم المؤدي إلى مخالفة الواقع، لا على نفس ترك التعلم، لعدم وجوبه النفسي كما ذهب إليه الأردبيلي وسيد المدارك، حيث إن وجوبه طريقي لا يستتبع مخالفته استحقاق العقوبة. ولا على ترك الواقع، لقبح العقاب على المجهول، وإيجاب التعلم لا يخرجه عن الجهالة، فاذن يكون العقاب على ترك التعلم المؤدي إلى ترك الواقع. 409 والموقت (1) ولو (2) أدى تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة
أقول: الظاهر أن ما أفاده الميرزا (قده) هو عين مذهب المشهور، لأنهم أيضا قائلون بعدم ترتب الاستحقاق إلا على ترك الفحص المؤدي إلى مخالفة الواقع، لا على مجرد ترك التعلم وان لم يؤد إلى مخالفته، ولا على مجرد مخالفة الواقع، فان عبارة الشيخ المتقدمة (أما العقاب فالمشهور أنه على مخالفة الواقع لو اتفقت) في غاية الظهور في أن العقاب في صورة ترك التعلم انما هو على مخالفة الواقع، و حاصله: أن ترك التعلم المؤدي إلى فوت الواقع يوجب استحقاق العقوبة. نعم قوله (قده) بعد ذلك: (ولو اتفقت حرمته كان العقاب على شرب العصير لا على ترك التعلم) وان كان صريحا في كون المصادفة للواقع موجبة للاستحقاق، 410 بعدهما فضلا (1) عما إذا لم يؤد إليها، حيث (2) لا يكون حينئذ (3)
لا ترك التعلم كما يراه الأردبيلي والمدارك، لكنه يدل على كون العقاب في صورة أداء ترك التعلم إلى مخالفة الواقع، فقوله: (ولو اتفقت حرمته) يعني: ولو اتفقت حرمته في ظرف ترك التعلم. نعم يقع الكلام في أن العقاب في ظرف الترك المؤدي إلى ترك الواقع هل هو على نفس الواقع كما هو المشهور، أم على ترك التعلم المؤدي إلى مخالفة الواقع كما يراه الميرزا (ره) وهذا النزاع لا ثمرة فيه، ولا يوجب تعدد القول في المسألة. وكيف كان فما أفاده الميرزا (قده) لا يخلو من النظر، لان قبح العقاب على المجهول وعدم كون إيجاب التعلم مخرجا له عن الجهالة، و كذا عدم استتباع ترك الواجب الطريقي للعقاب يقتضيان عدم استحقاق العقوبة أصلا، لا على الواقع، ولا على الطريق ولا على كليهما. إذ المفروض عدم اقتضاء شئ منهما منفردا لاستحقاقها، فكيف يقتضيانه مع اجتماعهما، وهذا نظير أن يقال: ضم العدم إلى العدم يقتضي الوجود، أو يقال: الفاقد لا يعطي الا إذا انضم إليه فاقد مثله. 411 تكليف فعلي أصلا لا قبلهما، وهو واضح (1)، ولا بعدهما، وهو كذلك (2)
ولا يقاس المقام بالمركبات مطلقا حقيقية أم اعتبارية إذا كان الأثر المترتب عليها غير آثار أجزائها حال انفرادها، حيث إن كل واحد من الاجزاء فاقد لذلك الأثر الحادث للمركب. توضيح وجه عدم المقايسة: أن ذلك الأثر يستند إلى آثار الاجزاء في حال الاجتماع، نظير الأثمار المترتبة على الأشجار المركبة. وهذا بخلاف المقام، إذ لا مقتضي لشئ من الواقع والطريق للاستحقاق، و اجتماعهما ليس الا اجتماع اللا اقتضائيين، ومن المعلوم أن اللا اقتضاء لا يصلح لان يكون علة للاقتضاء، إذ لا معنى لعلية العدم للوجود. فالحق أن يقال: ان العقوبة تترتب على كل حال، اما للعصيان ان أدى ترك التعلم إلى مخالفة الواقع وان كان مجهولا، لفرض تنجزه بمجرد الاحتمال كمنجزية الاحتمال في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي، وكمنجزية الاحتياط في الشبهات البدوية التحريمية الناشئة عن فقد الحجة قبل الفحص كما عليه الكل من المحدثين و الأصوليين، وبعد الفحص أيضا كما عليه المحدثون، فان المحقق النائيني معترف بمنجزية الاحتياط للحكم الواقعي المجهول مع عدم خروجه عن الجهالة، فمن الغريب إنكاره اقتضاء الواقع المجهول المنجز هنا لاستحقاق العقوبة. واما للتجري ان لم يؤد ترك التعلم إلى مخالفة الواقع. و الحاصل: أن الأقوى ما في المتن من استحقاق تارك الفحص والتعلم للعقوبة سواء صادف الواقع أم لا. 412 لعدم (×) التمكن منه (1) بسبب الغفلة، ولذا (2) التجأ المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك قدس سرهما إلى الالتزام بوجوب التفقه
(×) الا أن يقال: بصحة المؤاخذة على ترك المشروط أو الموقت عند العقلاء إذا تمكن منهما في الجملة ولو بأن تعلم وتفحص إذا التفت، و عدم لزوم التمكن منهما بعد حصول الشرط ودخول الوقت مطلقا، كما يظهر ذلك من مراجعة العقلاء ومؤاخذتهم العبيد على ترك الواجبات المشروطة أو الموقتة بترك تعلمها قبل الشرط أو الوقت المؤدي إلى تركها بعد حصوله أو دخوله، فتأمل. 413 والتعلم نفسيا تهيئيا (1) فيكون العقوبة على ترك التعلم
414 نفسه (1) لا على ما أدى إليه من (2) المخالفة، فلا إشكال حينئذ (3) في المشروط والموقت [1]
[1] ثم انه يقع الكلام في أن وجوب التعلم هل هو نفسي أم لا؟ فيه وجوه: أحدها: الوجوب النفسي الاستقلالي كوجوب الصلاة والصوم و غيرهما. أو النفسي التهيئي بمعنى تهيؤ المكلف بسبب الفحص و التعلم لامتثال التكاليف الالزامية الوجوبية والتحريمية كما عن المحقق العراقي (قده). ثانيها: الوجوب الطريقي كوجوب سائر الطرق الموجبة مخالفتها لاستحقاق العقوبة عند مصادفتها للواقع. ثالثها: الوجوب الشرطي بمعنى جعل الفحص شرطا تعبديا للعمل بالأصول النافية، وأن معذريتها منوطة بذلك. رابعها: الوجوب الغيري المقدمي، بدعوى كون التعلم مقدمة للعمل. خامسها: الوجوب العقلي بأن يكون إرشادا إلى حكم العقل بلزوم الفحص 415
والتعلم تخلصا عن العقوبة المحتملة، أما للعلم الاجمالي، وإما لمنجزية احتمال التكليف قبل الفحص، وإما لتوقف معذرية الجهل على استقراره المنوط بالفحص. ويستدل للأول بظهور الامر بشئ في مطلوبيته النفسية وقيام الملاك به، وقد تقرر أن إطلاق الصيغة يقتضي النفسية والعينية و التعيينية، فاحتمال وجوب التعلم غيريا مقدمة للعمل يندفع بهذا الظهور، سواء قلنا بوجوبه النفسي، لكونه نورا كما هو الحق في وجوب المعرفة، أم بوجوبه النفسي التهيئي، لكون الحكمة في إيجابه قابلية المكلف لالقاء الخطابات إليه. وعليه فالعقاب على ترك التعلم و الفحص لا على مخالفة الواقع. وقد أورد عليه بما محصله: (أن مقتضى الظهور وان كان ما ذكر، الا أن القرينة الصارفة عنه تقتضي كون وجوب التعلم طريقيا وان ترك العمل بترك الفحص ليس عذرا، وتلك القرينة داخلية وخارجية. أما الداخلية فهي ظهور الامر بالسؤال من أهل الذكر في طريقيته للعمل بما يتعلمونه من الاحكام لا في مطلوبيته النفسية، فان السؤال عن طريق كربلا مثلا انما هو للوصول إلى تلك البلدة المقدسة، ولا خصوصية في العلم بالطريق، وعليه فالترغيب في السؤال من أهل الذكر قرينة على كون الامر به طريقا للعلم بالواقع وإحرازه. وأما الخارجية فروايتان: إحداهما: رواية مسعدة بن زياد، فان قوله: (فهلا تعلمت حتى تعمل) صريح في أن وجوب التعلم انما هو للعمل. وثانيتهما: ما ورد في مجدور صار جنبا فغسلوه فمات فقال عليه السلام: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا ألا يمموه) فان عتابه عليه السلام و دعاءه عليهم لم يكن لمجرد ترك السؤال، بل لترك التيمم أيضا، إذ من الواضح أن مجرد السؤال والتعلم لم 416 ويسهل بذلك (1) الامر في غيرهما لو صعب على أحد ولم تصدق
يكن موجبا لنجاته من القتل، وانما الموجب لنجاته كان هو التيمم، فالامر بالسؤال والتعلم انما هو للعمل لا محالة. هذا مضافا إلى أنه على تقدير أداء ترك التعلم إلى خلاف الواقع، فالقول باستحقاق العقاب على ترك التعلم دون المخالفة بعيد، لان وجوب الفحص انما هو لتنجز الواقع قبله، فكيف يمكن الالتزام بعدم الاستحقاق على مخالفته. والالتزام باستحقاقه على ترك الفحص عنه، فإنه خلف والالتزام باستحقاق عقابين أبعد ولم يقل به أحد، فتعين القول باستحقاق عقاب واحد على مخالفة الواقع دون ترك التعلم، وهذا هو معنى الوجوب الطريقي). أقول: أما القرينة الداخلية المدعاة فلا تخلو من نظر، إذ الكلام في وجوب التعلم نفسيا وعدمه، والامر بالسؤال لا ريب في كونه طريقيا لحصول العلم. 417 كفاية (1) الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة
وأما وجوب التعلم فلا يستفاد منه أنه نفسي أم طريقي، والاستشهاد على الطريقية بالسؤال عن طريق كربلا ممنوع، للقرينة على أن الغرض منه الوصول إلى تلك المدينة المقدسة، فهو سؤال عن مفروغ الطريقية، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية فان دعوى طريقية أوامر التعلم مصادرة على المطلوب. ولا سيما مع ملاحظة مورد الآية وهو أصول العقائد كما يظهر من صدرها: (وما أرسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر.) ولا ريب في أن تحصيل المعارف الإلهية مطلوب نفسي، وله الموضوعية لا المقدمية للعمل، وعليه فلم يتضح قرينية السؤال على طريقية الفحص والتعلم. وأما القرينة الخارجية من معتبرة ابن زياد وغيرها فهي تامة بالنسبة إلى 418 على ما (1) كان فعلا مغفولا عنه وليس بالاختيار
نفي ما يدعيه صاحب المدارك وشيخه الأردبيلي من الوجوب النفسي، لظهورها في عدم معذورية الجاهل التارك للواقع بتركه السؤال والفحص، وبه يسقط الظهور الاطلاقي لأوامر التعلم في المطلوبية النفسية عن الحجية، كما تسقط دعوى الوجوب التهيئي بأن يكون التعلم واجبا نفسيا حتى يتهيأ المكلف لالقاء الخطابات الشرعية إليه، إذ الغافل لغفلته غير قابل لالقائها إليه. وذلك لظهور المعتبرة و غيرها في كون التعلم لمحض العمل لا لمطلوبيته في نفسه الناشئة من كون الحكمة فيه التهيؤ. والحاصل: أن ظهور (هلا تعلمت حتى تعمل) في أن التعلم ليس مقصودا بالذات ومطلوبا لنفسه غير قابل للانكار، الا أن استفادة الوجوب الطريقي منه وهو الانشاء بداعي تنجيز الواقع - كما أراد دام ظله - استظهاره منه ومن نظائره غير واضحة، إذ الوجوب الطريقي كما صرح به في بحث البراءة هو الذي 419 ولا يخفى أنه لا يكاد ينحل هذا الاشكال (1) الا بذلك (2)
يترتب عليه احتمال العقاب ويكون إيجابه منشأ له، لعدم استلزام احتمال التكليف الواقعي لاحتمال العقاب إلا مع تنجز التكليف و وصوله إلى المكلف بنفسه أو بطريقه، كما هو الحال في أوامر الطرق و الامارات، إذ لولاها لم يكن العقاب محتملا. وهذا الضابط لا ينطبق على وجوب الفحص عن أحكام المولى، فإنه (مد ظله) في ثالث أدلة اعتبار الفحص في الرجوع إلى البراءة جعل ذلك مقتضى حكم العقل من باب وجوب دفع الضرر المحتمل، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة قبله، لفرض احتمال العقاب الذي لا بد من دفعه بحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، فإذا استند لزوم الفحص عن أحكام المولى إلى هذا الحكم العقلي، فمقتضاه كون احتمال العقاب في رتبة سابقة على وجوب التعلم كما هو شأن الاستدلال بقاعدة وجوب الدفع على منجزية العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة مثلا لا ناشئا منه. وعليه فالالتزام بأن مناط وجوب الفحص هو حكم العقل بلزوم دفع الضرر 420 أو الالتزام (1) بكون المشروط أو الموقت مطلقا (2) معلقا (3)، لكنه (4)
المحتمل ينافي المصير إلى وجوب التعلم طريقيا مع فرض أن الايجاب الطريقي هو الانشاء بداعي تنجيز الواقع بحيث لولاه لما صح العقاب على المخالفة. وحيث انك قد عرفت في أدلة منع العمل بالبراءة قبل الفحص أن احتمال التكليف الإلزامي من المولى الحقيقي منجز مع جريان عادته على عدم إيصال أحكامه إلى المكلفين إلا بالفحص عنها في مظانها، فالحاكم باستحقاق العبد التارك للفحص للعقاب عند مخالفته للواقع لا محالة هو العقل، وبهذا يمتنع استظهار جعل الايجاب المولوي الطريقي للتعلم لأجل تنجيز الواقع وإبداء احتمال العقاب. وعليه فلا محالة تكون الخطابات الشرعية الامرة بالتعلم إرشادا إلى هذا الحكم العقلي وعدم معذورية الجاهل المقصر، لا حكما مولويا، لعدم وقوع هذا الحكم 421
العقلي في سلسلة علل الاحكام حتى يصح جعل الحكم المولوي في مورده، بل هو واقع في سلسلة معلولاتها كما لا يخفى. ومنه يظهر: أن ما أفاده في الوجه الثالث لكون وجوب التعلم طريقيا لا يجدي لاثباته أصلا، فان عدم استحقاق العقاب إلا على الواقع ليس لازما لخصوص هذا الايجاب، وانما يجري في الوجوب الارشادي أيضا. وقد تحصل: أن الايجاب النفسي بكلا قسميه غير ثابت، كعدم ثبوت الايجاب الطريقي بما أفيد. ويستدل للوجوب الطريقي بما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) ومحصله: عدم دخل وجوب التعلم والاحتياط في الملاك، وإلا لكان عدم الفحص بنفسه موجبا لنقصان ملاك الحكم حتى لو احتاط وأتى بجميع ما يحتمل دخله في الواجب، والالتزام بنقصان الملاك حينئذ بلا ملزم، فلا مصلحة في نفس التعلم حتى يكون كسائر الواجبات النفسية، بل مصلحته ليست إلا طريقيته للخطاب الواقعي 422
المجهول لا متمما لقصور شموله، إذ الخطاب المتمم على أنحاء: فتارة يكون متمما لقصور شمول الخطاب الأولي، ضرورة أنه قاصر عن شموله للقيود المتأخرة عنه كقصد القربة التي يمتنع أن يتكفلها الخطاب الأولي، وكالامر بالغسل قبل الفجر لصوم الغد، إذ بعد كون حقيقة الصوم الامساك عن أمور من الطلوع إلى الغروب مع الشرائط التي منها الطهارة من الحديث الأكبر، فلا بد من إيجاب الغسل على المكلف قبل الطلوع ليمكن تطبيق خطاب الصوم على الواجد لملاكه، وليكون الحاصل من ضم الخطابين ما يقوم به الملاك والمصلحة. وأخرى يكون الخطاب المتمم حافظا للقدرة على استيفاء الملاك في ظرفه كما في المقدمات المفوتة التي يوجب عدمها خروج ذي المقدمة عن قدرة العبد، 423
وذلك كالخطاب المستكشف بالسير إلى الحج من نفس أمر الشارع بالاتيان بالمناسك في وقتها لمن استطاع إليه سبيلا، فان المسير إليه وان لم يكن دخيلا في اتصاف المناسك بالمصلحة، لكونها واجدة للملاك في كلنا حالتي وجود المسير وعدمه، لكن تركه يسلب القدرة على استيفاء مصلحة الحج في الموسم، لوضوح توقف إيجاد الحج في ظرفه للنائي على المسير، وليس وجوبه ناشئا عن ملاك يخصه، بل من متممات الخطاب بذي المقدمة، وهذا بناء على إنكار الشرط المتأخر والواجب المعلق. وثالثة يكون الخطاب الثانوي متمما لقصور محركية الخطاب الأولي، بداهة أن الخطاب بوجوده الواقعي ليس باعثا للمكلف ومحركا له، بل محركيته منوطة بالوصول إليه بعلم أو علمي. وكذا حال الامر بالاحتياط، فإنه طريقي، بخلافه في القسمين الأولين، إذ وجوب الفحص والاحتياط يؤثر في إيصال الواقع إلى العبد وتنجيزه في حقه، ولا دخل لوجوب التعلم في نفس الملاك ولا في القدرة على استيفائه، لامكان إحراز الملاك عملا بالاحتياط. وعليه، فالحق كون وجوب التعلم طريقيا للحكم الواقعي المجهول للتحفظ عليه، والقول بوجوبه نفسيا حتى يكون العقاب على تركه دون ترك الواقع خال عن الدليل. ومن هذا القبيل الأوامر المتعلقة بالطرق والامارات والبناء على اليقين السابق في الاستصحاب و وجوب الاحتياط شرعا. وبوضوح الفرق بين أنحاء الدخل ظهر أن قياس شيخنا الأعظم (قده) لوجوب التعلم على مسألة وجوب حفظ القدرة أو تحصيلها غير ظاهر، لما عرفت من اختلاف سنخي الوجوبين. 424
هذا توضيح مرام الميرزا (قده) في دفع الاشكال في الواجبات المشروطة على ما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس. أقول: ما حققه في أنحاء دخل الخطاب المتمم وفي الوجوب الطريقي متين لا غبار عليه. ولا يرد عليه إشكال شيخنا المحقق العراقي (قده) من (أن الامر الطريقي هو ما يكون بحسب لب الإرادة في فرض الموافقة عين الإرادة الواقعية ويكون موضوعه عين موضوعها. و من المعلوم بالضرورة مباينة الامر بتعلم حكم الصلاة مثلا مع الامر بالصلاة لاختلاف موضوعهما) وذلك لان المعتبر في الايجاب الطريقي هو الانشاء المولوي بداعي تنجيز الواقع، ولا ملاك في متعلقه، كوجوب تصديق العادل وحرمة نقض اليقين بالشك والامر بالاحتياط على القول بشرعيته لا إرشاديته، ودعوى لزوم وحدة المتعلق بلا بينة حتى يمتنع جعل الامر بالفحص طريقيا. نعم قد يشكل كلام الميرزا (قده) بما أوردناه على تلميذه المحقق مد ظله، بيانه: أنه قبل أسطر من هذا البحث جعل مسألة وجوب الفحص عن الاحكام بمناط وجوب النظر في معجزة من يدعي النبوة كما صنعه شيخنا الأعظم (قده) قال مقرر بحثه الشريف: (بل وجوب الفحص عن الأحكام الشرعية يكون من صغريات وجوب الفحص عن معجزة من يدعي النبوة بعد التفاته إلى المبدأ الاعلى، ولا إشكال في استقلال العقل بذلك، والا لزم إفحام الأنبياء) ومقتضى هذا البيان اندراج مسألة وجوب التعلم في كبرى حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، حيث إن المصحح للمؤاخذة على تقدير المخالفة هو نفس احتمال التكليف الإلزامي، 425
وفي مثله يسقط المورد عن قابلية الحكم المولوي، ضرورة أن الايجاب الطريقي المدعى هو المنشأ لاستحقاق العقوبة، لا ما كان العقاب محتملا مع الغض عن هذا الايجاب. وبعد وضوح التنافي بين الامرين لا وجه لاستظهار الوجوب الطريقي. ويستدل للوجوب المولوي الغيري بما في المتن وفاقا لشيخنا الأعظم. لكن يشكل ذلك بأن المقدمة اما مقدمة الوجوب أو الوجود أو العلم، والمعرفة بأحكام الله تعالى ليست مقدمة وجوبية لبرهان الدور أو الخلف. كما لا ينطبق ضابط المقدمة الوجودية عليها، لعدم مساوقة الجهل للعجز عن الامتثال، وإلا لبطل الاحتياط مع فرض عدم التزام القائل به. وإحراز وجه الافعال من الوجوب والاستحباب غير لازم في مقام الإطاعة حتى يناط بالفحص والتعلم لعدم اعتبار التمييز في العبادات. ومع تسليمه فالوجه مختص بالعبادات، ومورد النزاع أعم منها، إذ الدعوى وجوب تعلم تمام الاحكام حتى التوصليات. نعم العلم بموضوعات الاحكام ومتعلقاتها كالقراءة في الصلاة ونحوها مقدمة وجودية، لكنه خارج عن مفروض الكلام أعني تعلم الاحكام. و يزيد في الاشكال في خصوص الواجبات المشروطة بناء على ما اختاره المصنف من رجوع الشرط إلى الهيئة، حيث إنه لا فعلية للخطاب قبل الشرط حتى يترشح الوجوب على مقدمته التي هي علة لوجود الواجب. هذا كله بناء على تسليم الملازمة بين وجوب المقدمة وذيها و استكشاف خطاب شرعي بها. وأما مع إنكارها وكون لزوم الاتيان بالمقدمة لأجل اللابدية العقلية لامتثال الخطاب بذي المقدمة، فالمنع عن إيجاب التعلم غيريا أوضح وجها. هذا لو أريد بالوجوب الغيري ما هو بمناط المقدمية. وان أريد به الوجوب الغيري الاستقلالي كما لعله المراد من آخر كلامه هنا 426
وصريحه في بحث مقدمة الواجب من قوله: (لكنه لا بالملازمة، بل من باب استقلال العقل بتنجز الاحكام على الأنام بمجرد قيام احتمالها) فان أريد به الوجوب الطريقي فيرده ما تقدم في الاستدلال عليه. مضافا إلى أن هذا الوجه العقلي انما يمنع الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، ولا يقتضي لزوم تعلم الاحكام، فله الاحتراز عن مخالفة الاحكام بالاحتياط. وقد ظهر بما ذكرنا أن وجوب الفحص ليس حكما مولويا بأقسامه من الطريقي والنفسي والغيري. كما أنه ليس شرطيا بمعنى اشتراط حجية أدلة الاحكام والأصول النافية بالفحص، لعدم أثر من الشرطية في الأخبار الآمرة بالتعلم، فلا محالة يكون الامر به في الروايات إرشادا إلى حكم العقل بعدم معذورية الجاهل الملتفت المفوت لأغراض المولى بتركه الفحص عنها، إذ مثله يتعين عليه تعلمها أو العمل بالاحتياط. وقد تقدم في بحث البراءة كون أخبار الاحتياط إرشادا إلى حسنه العقلي وليس فيها جهة مولوية. نعم يمكن الالتزام بوجوب التعلم غيريا على الجاهل الملتفت الذي لو أدى ترك الفحص قبل الوقت والشرط إلى الغفلة عن الحكم و المتعلق وخصوصياته بعد تحقق الشرط ودخول الوقت وتعذر عليه الامتثال حتى الاحتياطي منه، وذلك بمناط المفوتية كما يتصور ذلك بالنسبة إلى كثير من أهل البوادي والقرى الذين لم يتعلموا شرائع الاسلام فغفلوا - بسوء اختيارهم - لأجله عن كثير من الواجبات والمحرمات، فيجب الفحص لاستكشاف خطابات بها من نفس الاغراض التامة الكامنة في الافعال المشروطة والمؤقتة، إذ لولاه لصار مسلوب القدرة على المتعلق في ظرفه كما في تفويت الحج في الموسم بترك المسير إليه. 427
وكذا لو قيل بتعدد مراتب الإطاعة وتقدم الامتثال التفصيلي على الاجمالي في صحة العبادة، فإنه حتى مع تمكنه من الاحتياط و معرفته بكيفيته يجب عليه التعلم قبل حصول الشرط. لكن على المختار من عرضية مراتب الإطاعة لا يتعين عليه التعلم، لفرض القدرة على الامتثال بأحد أنحائه في مورد الابتلاء به. وما ذكرناه من وجوب المقدمة غيريا لحكم العقل بمناط التفويت غير ما تقدم من إنكاره بمناط المقدمة الوجودية التي تتوقف على أمرين: أحدهما فعلية خطاب ذي المقدمة، فلا يجري في المشروط و الموقت الذي ليس لهما وجوب فعلي قبل الشرط والوقت. وثانيهما الالتزام بالوجوب الغيري المولوي بقاعدة الملازمة كما عرفت. بقي الكلام في صحة عمل الجاهل الملتفت التارك للفحص وفساده بعد كون الصحة والفساد موافقة العمل للواقع ومخالفته له من دون مدخلية لموافقة الطريق ومخالفته له، وانما الطريق محرز للواقع، فإذا انكشف خطاؤه اندرج العمل المطابق له في المأمور به بالامر الظاهري الذي انكشف خلافه، فلو أتى الجاهل قبل الفحص بعبادة كالصلاة بدون السورة، أو عقد بالفارسية مع تردده في موضوعيته للأثر الشرعي اعتمادا على أصالة البراءة من جزئية السورة وشرطية العربية، وتبين مطابقة ما أتى به للواقع، فلا بد من الحكم بالصحة والاجزاء، الا أن اعتبار قصد التقرب في العبادة يوجب الحكم بالبطلان، لعدم تمشي قصده منه مع تردده، قال شيخنا الأعظم: (أنه إذا أوقع الجاهل عبادة عمل فيها بما يقتضيه البراءة كأن صلى بدون السورة، فان كان حين العمل متزلزلا في صحة عمله بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال فلا شك في الفساد). 428
ودعوى كفاية مطلق الإضافة إليه تعالى في حصول التقرب، فينبغي الحكم بالصحة في الفرض مندفعة بأنه وان كان كذلك، الا أن إضافة العمل إليه تعالى مع تردده في تعلق الامر به وبنائه على الاقتصار عليه لا تتحقق أصلا، لان معنى الإضافة إليه تعالى هو كون العمل له عز وجل على كل حال، ومن المعلوم عدم حصول ذلك مع التزلزل المزبور والبناء على الاقتصار عليه. نعم نلتزم بصحة عبادة الجاهل الغافل عن جزئية السورة، لتمشي قصد القربة منه. وقد يناقش فيما ذكره شيخنا الأعظم (قده) هنا وفي التنبيه الثاني من الشبهة الوجوبية بمنافاته لما أفاده في رابع تنبيهاتها بقوله: (لو انكشف مطابقة ما أتى به للواقع قبل فعل الباقي أجزأ عنها، لأنه صلى الصلاة الواقعية قاصدا للتقرب بها إلى الله) لاقتضاء إطلاق حكمه باجزاء المأتي به عن الواقع عدم الفرق بين قصد إتيان المحتمل الثاني قبل الشروع في الأول وبين قصده في أثناء الأول وبين قصده بعد إتمام الأول قبل انكشاف المطابقة. لكن يمكن منع المنافاة بإنكار إطلاق حكمه بالاجزاء، وذلك لأنه قال بالاجزاء من جهة قصد التقرب بالمأتي به، وأما ما يتحقق به هذا القصد فلم يذكره هنا، وانما ذكره في التنبيه الثاني من لزوم البناء و العزم على إتيان سائر المحتملات من أول الامر، فلو قصد الاقتصار على فعل بعض المحتملات كذلك لم يكن مجزيا عن الواقع حتى مع انكشاف موافقته له، لفرض عدم تمشي قصد القربة منه بنظر الشيخ (قده)، وعليه فلا تهافت بين كلاميه، هذا في العبادات. وأما المعاملات بالمعنى الأعم من العقود والايقاعات، فقد يتوهم فسادها، لان الجاهل التارك للفحص من جهة الشك في ترتب الأثر العملي على ما ينشئه 429
لا يتأتى منه قصد الانشاء، فلا مقتضي لصحتها. وقد دفعه شيخنا الأعظم (قده) بقوله: (ان قصد الانشاء انما يحصل بقصد تحقق مضمون الصيغة وهو الانتقال في البيع والزوجية في النكاح، وهذا يحصل مع القطع بالفساد شرعا فضلا عن الشك فيه، ألا ترى أن الناس يقصدون التمليك في القمار وبيع المغصوب و غيرهما من البيوع الفاسدة) وحاصله: أن الانشاء لا يتعلق إلا بما هو مقدور للمنشئ، ومن المعلوم أن إيجاد مضمون العقد اعتبارا من الزوجية والملكية ونحوهما مقدور له، فينشئه بلا مانع. وأما حكم الشارع بترتب الأثر فليس مقدورا له حتى ينشئه. الا أن يقال بما أفاده بعض المدققين (قده) من أنه كذلك لو كان المنشأ بصيغ العقود والايقاعات أو بالفعل فيها ما يعتبره المنشئ و يبرزه بمبرز من قول أو فعل مع الغض عن إمضاء الشارع له. وأما إذا كان تحقق الامر الاعتباري في صقع الاعتبار متوقفا حقيقة على قصد التسبب ب آلة الانشاء إلى ما هو المؤثر بنظر العرف والشرع، لا ما يعتبره المنشئ بنفسه مع الغض عن إمضائه شرعا وعرفا، فمع الشك والترديد في دخل العربية مثلا في موضوعية الانشاء لترتب الآثار عليه لم يتأت في النفس قصد تحقق ذلك الامر الاعتباري بالصيغة الفارسية مثلا. وعليه فيشكل الحكم بصحة المعاملة من الجاهل بما هو شرط فيها، لمرجعية أصالة الفساد فيها، والتفصيل بين العبادة والمعاملة حينئذ غير وجيه. لكن الظاهر متانة كلام الشيخ في حقيقة الانشاء، وكفاية قصد مضمون الصيغة مما أوجده في وعاء الاعتبار بلا دخل لكونه موضوعا للأثر شرعا، وإلا لزم الحكم ببطلان إنشاء ما علم عدم كونه بمجرده موضوع الأثر شرعا كعقد الفضولي والمكره 430 قد [1] اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية (1) عقلا بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم [2] 2 فيكون الايجاب حاليا (3)
والصبي، إذ موضوعه هو العقد المتعقب بالإجازة والرضا وإمضاء الولي، فإنشاء نفس تلك العقود بقصد ترتب الأثر الشرعي عليها مع العلم بعدم كونها مما يترتب عليها الأثر بدون ما يلحقها من الإجازة و الرضا وإمضاء الولي لغو لا يترتب عليه شئ، بل لا يتأتى إنشاؤها، ولازمه عدم فائدة في تعقبها بالإجازة ونحوها، مع أنه (قده) لا يلتزم به. [1] لكنه لا يثبت الا إمكان كون الواجب من قبيل الواجب المطلق المعلق، وهو لا يدل على الوجود، ومن المعلوم أن مجرد الامكان لا يدفع الاشكال خصوصا إذا كان ما هو ظاهر الكلام على خلافه، وقد ثبت أن مقتضى القواعد العربية كون الشروط قيودا للهيئة لا المادة. [2] عد التعلم من المقدمات الوجودية لا يخلو من المسامحة، وذلك لعدم توقف وجود الواجب عليه حتى يترشح عليه وجوب غيري، بداهة إمكان تحقق الواجب بالاحتياط في ظرف الشك، فلا يتوقف وجود الواجب على العلم به حتى يجب التعلم لأجل المقدمة الوجودية، فلا بد أن يكون وجوبه بوجه آخر. 431 وان كان الواجب استقباليا قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه (1) ولا غير التعلم من مقدماته (2) قبل شرطه أو وقته (3). وأما (4) لو قيل بعدم الايجاب إلا بعد الشرط والوقت كما هو (5) ظاهر الأدلة وفتاوى المشهور، فلا (6) محيص
432 التعلم نفسيا (1) لتكون العقوبة لو قيل بها (2) عن الالتزام [1] بكون وجوب
[1] بل هنا وجه آخر للتخلص عن الاشكال كتعرض له شيخنا الأعظم (قده) وأشار إليه المصنف (قده) في حاشيته المتقدمة بقوله: (الا أن يقال بصحة المؤاخذة على ترك المشروط أو الموقت عند العقلاء. إلخ) ومحصله: استقرار بناء العقلاء على استحقاق تارك الواجبات المشروطة والمؤقتة للعقوبة لأجل ترك التعلم قبل الوقت والشرط، كاستحقاق تارك الواجبات المطلقة لها، ولا يفرقون في الاستحقاق المزبور بين المطلقة والمشروطة، وهذا البناء مما لم يردع عنه الشارع مع إمكان الردع عنه، وعدم الردع في مثله كاف في الامضاء. ثم إن هذا البناء من العقلاء لا يختص بالتعلم، بل يجري في سائر المقدمات التي لو لم يؤت بها قبل حصول الشرط ودخول الوقت لفات الواجب في ظرفه. وبالجملة: تفويت الغرض الملزم والاخلال به لتعجيز العبد نفسه عن القيام بالواجب سواء كان مطلقا أم مشروطا قبيح عند العقلاء، و هذا الملاك جار في جميع المقدمات التي يوجب فواتها فوت الواقع. وعليه فالتعلم واجب عقلا، لا شرعا كما أفاده العلمان الأردبيلي و صاحب المدارك (قدهما). 433 على تركه لا على ما أدى إليه من (1) المخالفة، ولا بأس به (2) كما لا يخفى. ولا ينافيه (3) ما يظهر من الاخبار من كون وجوب التعلم
434 انما هو لغيره (1) لا لنفسه، حيث (2) ان وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب غيره فيكون (3) مقدميا، بل للتهيؤ لايجابه (4)، فافهم (5).
435 وأما الاحكام (1) فلا إشكال في وجوب الإعادة [1] في صورة
[1] الأولى أن يقال: (فلا إشكال في الفساد في صورة المخالفة) فان وجوب الإعادة ليس إلا بقاء الامر الأول المستند إلى عدم امتثاله الذي هو أعم من عدم الاتيان بالمأمور به رأسا، أو الاتيان به على غير وجهه. مضافا إلى عدم كون وجوب الإعادة حكما وضعيا، و الوضعي هو الفساد، فحق العبارة أن تكون هكذا: (فلا إشكال في الفساد مع المخالفة مطلقا عبادة كان أو معاملة). 436 المخالفة، بل في صورة الموافقة أيضا (1) في العبادة فيما لا يتأتى
437 منه قصد القربة (1)، وذلك (2) لعدم الاتيان بالمأمور به (3) مع عدم دليل على الصحة والاجزاء، الا (4) في الاتمام في موضع القصر، أو الاجهار أو الاخفات في موضع الاخر، فورد في الصحيح [1] 5
[1] مقتضى إطلاق الصحيحين صحة الصلاة مع الجهل المركب و البسيط 438
الذي هو مجرى أصالة البراءة، وكذا الجهل القصوري والتقصيري، و من المسلم أن هذا الاطلاق ليس مورد فتوى المشهور، ضرورة أنه مع الجهل مطلقا مع عدم تمشي قصد القربة لم يفت أحد بصحة الصلاة، فلا بد من تقييد إطلاق الجهل فيهما بصورة حصول نية القربة، و هو يتحقق مع الغفلة، أو مع الاتيان رجأ، والإعادة على تقدير المخالفة للواقع، وهاتان الصورتان أجنبيتان عن مورد البحث وهو الشاك العامل بالبراءة قبل الفحص مع التمكن منه، إذ مورد البراءة هو الشك الفعلي المنفك عن الالتفات والتحير المضاد للغفلة و اعتقاد الخلاف اللذين هما مورد فتوى المشهور بصحة عمل الجاهل. فقول المصنف (قده): (وقد أفتى به المشهور) صحيح في هاتين الصورتين، لكنهما غير ما هو محل الكلام من العمل بالبراءة قبل الفحص، فلا بد من فرض البحث في العمل بالبراءة قبل الفحص فيما إذا طرأ الغفلة حين العمل العبادي أو اعتقد الخلاف أو أتى به رجأ حتى يتمشى منه قصد القربة ويصير مما أفتى به المشهور من صحة عمل الجاهل، وإلا فمع فرض الشك الفعلي الملازم للالتفات الذي هو مجرى البراءة يمتنع فرض صحة العبادة، لامتناع تمشي قصد القربة الذي هو مقوم عبادية العبادة. والغرض من هذا التفصيل التنبيه على أن مورد فتوى المشهور مغاير للعمل بالبراءة قبل الفحص إلا بهذا التوجيه الأجنبي عن مورد البراءة، إلا الصورة الثالثة وهي الاتيان بالعبادة رجأ، والبناء على إعادتها مع انكشاف الخلاف. 439 وقد أفتى به المشهور (1) صحة (2) الصلاة وتماميتها في الموضعين مع الجهل مطلقا ولو كان (3) عن تقصير موجب (4) لاستحقاق العقوبة على
440 ترك الصلاة المأمور بها، لان (1) ما أتى بها وان صحت وتمت، الا أنها (2) ليست بمأمور بها (3). ان قلت (4): كيف يحكم بصحتها مع عدم الامر
441 بها (1)؟ وكيف (2) يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها (3) حتى (4) فيما إذا تمكن مما أمر بها
442 كما هو (1) ظاهر إطلاقاتهم بأن علم (2) بوجوب القصر أو الجهر بعد الاتمام والاخفات، وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصرا أو جهرا؟ ضرورة (3) أنه لا تقصير هاهنا (4) يوجب استحقاق العقوبة.
443 وبالجملة: كيف (1) يحكم بالصحة بدون الامر؟ وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة (2)؟ لولا الحكم (3) شرعا بسقوطها وصحة ما أتى بها (4). قلت: انما حكم بالصحة (5) لأجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها (6)
444 وان كانت [1] دون مصلحة الجهر والقصر (1)، وانما لم يؤمر (2) بها لأجل أنه أمر بما (3) كانت واجدة لتلك المصلحة (4) على النحو
[1] الأولى سوق العبارة هكذا: (في حد ذاتها، لكنها دون مصلحة الجهر والقصر، ولذا لم يؤمر بها، بل أمر بها لأكملية مصلحتها) فان قوله: (وان كانت) ظاهر في بيان الفرد الخفي، ففرده الظاهر هو مساواة المصلحتين، أو أكملية مصلحة التمام من القصر، ومن المعلوم عدم إرادتهما في المقام، وان كان قوله: (وانما لم يؤمر بها. إلخ) يوضح المقصود. 445 الأكمل والأتم (1). وأما الحكم (2) باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة، فإنها (3) بلا فائدة [1] إذ (4) مع استيفاء تلك المصلحة
[1] لما كان الكلام مسوقا لبيان وجه استحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة، 446 لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في
فلعل الأولى أن يقال: (وأما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة فلتفويته للمصلحة اللازمة الاستيفاء اختيارا بسبب ترك التعلم المؤدي إلى ذلك، بحيث لا يبقى منها شئ يوجب الإعادة بعد استيفاء مصلحة المأتي به، فلا فائدة حينئذ في الإعادة). ولا يخفى أن مقدار التفاوت بين مصلحتي القصر والتمام مهم يلزم استيفاؤه، ولذا وجب القصر تعيينا، إذ لو كان غير مهم لوجب كل منهما تخييرا مع أفضلية القصر من باب أفضلية أحد فردي الواجب المخير، غاية الامر أنه مع الاتيان بالتمام جهلا لا يمكن تدارك ذلك المقدار المهم من مصلحة القصر، كما عرفت في مثال سقي البستان بماء البئر، فعدم الامر بالإعادة أو القضاء انما هو لأجل عدم إمكان تدارك المقدار الفائت من المصلحة، لا لأجل عدم كونه بالمقدار اللازم الاستيفاء، فهذا الوجه المذكور في المتن لا بأس به. ولا يرد عليه (أن التفاوت ان كان بمقدار يسير، فهو لا يمنع عن الامر بكل منهما في عرض الاخر تخييرا، غايته أن الثاني يكون أفضل. وان كان بمقدار مهم فهذا يوجب الامر بالإعادة أو القضاء لتدارك المهم اللازم) وذلك لان مصلحة غير المأمور به كالتمام في موضع القصر تختص بحال الجهل، ومفوتة لمصلحة المأمور به في هذا الحال بحيث لا يمكن تدارك المقدار المهم الداعي لتشريع وجوب القصر تعيينا ولو بالإعادة أو القضاء، ولذا لم يوجبهما الشارع، فالتفاوت يكون بمقدار مهم، لكنه يفوت ولا يمكن تداركه، فلا تخيير بين القصر والاتمام، لعدم قيامهما بمصلحة واحدة في جميع الحالات توجب جعل الوجوب التخييري بينهما، بل الامر بالقصر تعييني، ولا إعادة ولا قضاء أيضا، لفوت المصلحة الموجبة لهما. 447 المأمور بها (1) ولذا (2) لو أتى بها في موضع الاخر جهلا مع تمكنه من التعلم فقد قصر ولو (3) علم بعده [من التعلم لا يعيد قصرا لو علم بعده] وقد وسع الوقت. فانقدح (4): أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة (5) بعد فعل صلاة الاتمام، ولا (6) من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الاخفات وان كان الوقت باقيا.
448 ان قلت: على هذا (1) يكون كل منهما (2) في موضع الاخر سببا لتفويت الواجب فعلا (3) وما هو السبب لتفويت الواجب كذلك (4) حرام، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام (5). قلت (6):
449 ليس (1) سببا لذلك، غايته [غاية الامر] أنه (2) يكون مضادا له، وقد حققنا في محله (3) أن الضد وعدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا. لا يقال: على هذا (4) فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا في موضع
450 القصر والجهر (1) مع العلم بوجوبهما في موضعهما لكانت صلاته صحيحة وان عوقب على مخالفة الامر بالقصر أو الجهر (2). فإنه يقال (3): لا بأس بالقول
451 به (1) لو دل دليل على أنها (2) تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم، لا (3) احتمال اختصاص أن يكون (4) كذلك في صورة الجهل،
452 ولا بعد أصلا في اختلاف الحال فيها (1) باختلاف حالتي العلم بوجوب شئ والجهل به كما لا يخفى. وقد صار بعض الفحول (2) بصدد بيان إمكان كون
453 المأتي به (1) في غير موضعه مأمورا به بنحو الترتب. وقد حققنا (2) في مبحث الضد امتناع الامر بالضدين مطلقا ولو بنحو الترتب بما
[1] وقد يجاب عن الترتب الذي ذكره كاشف الغطاء (قده) بأن المقام ليس من صغريات الترتب المعروف وأجنبي عنها، حيث إن مورده الضدان اللذان يكون كل منهما واجدا للملاك في عرض الاخر، لا أن يكون ملاك أحدهما منوطا بعصيان خطاب الاخر كالمقام، فان ملاك صلاة التمام منوط بعصيان خطاب صلاة القصر، 454 لا مزيد عليه فلا نعيد. [1]
وليست ذات ملاك في عرض صلاة القصر. لكن الأولى في رد الترتب أن يقال: ان مورد الترتب المصطلح هو الضدان المشتملان على الملاك والمتعلقان للطلب، غاية الامر أن التزاحم في مقام الامتثال أوجب سقوط أحدهما المعين أو غير المعين عن الفعلية، والقائلون بالترتب التزموا بفعلية الطلب في كليهما بنحو الترتب. وليس المقام كذلك، لما تقدم من أن صلاة التمام ليست مأمورا بها وان كانت واجدة للملاك المهم المفوت لمصلحة المأمور به. والحاصل: أن مورد الترتب هو التزاحم المأموري لا الأمري، وفي المقام التزاحم الأمري مفقود، إذ لا أمر إلا بأحد الضدين وهو القصر. وكذا التزاحم المأموري، لأنه متفرع على تعلق الامر بكلا الضدين مع عدم قدرة العبد على امتثال أمر كليهما، والمفروض عدم الامر إلا بأحدهما وهو القصر. [1] وقد تحصل من كلام المصنف في حل الاشكال: أن المأتي به لاشتماله على المصلحة الوافية بمعظم مصلحة المأمور به الفائت مسقط له من دون أن يكون متعلقا للامر، إذ لا يدل النص على أزيد من عدم وجوب الإعادة، وهو لازم أعم لكون التمام في موضع القصر مأمورا به أو مسقطا له بلا تعلق أمر به، لعدم الملازمة بين صحة الشئ و تماميته وبين كونه مأمورا به كما مر سابقا، فاستحقاق العقاب انما هو على ترك القصر الواجب في كلتا حالتي العلم والجهل، وعدم الإعادة يكون لسقوط الواجب بغيره. والظاهر أنه (قده) اقتبسه من كلمات شيخنا الأعظم في الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة التي ذكرها لحل الاشكال، قال (قده): (الثاني منع تعلق الامر بالمأتي به، والتزام أن غير الواجب مسقط عن الواجب، فان قيام ما اعتقد وجوبه 455
مقام الواجب الواقعي غير ممتنع. إلخ) لكنه قدس سره ناقش فيه من جهة قصور مقام الاثبات، وذلك لزعمه أن قوله عليه السلام: (تمت صلاته) ظاهر في كون المأتي به مأمورا به في حقه. ثم أمر في آخر كلامه بالتأمل. وكلامه وان لم يتضمن التفصيل الذي تعرض له المصنف في المتن من النقض والابرام، الا أن المتأمل في عبارته يظهر له أن مرجع كلام المصنف هنا وفي حاشية الرسائل هو ذلك لا غيره، وهو (قده) وان لم يبين مراده كما هو حقه، الا أن تلميذه المحقق الميرزا الآشتياني (قده) أوضح مرامه ببيان واف ودفع كثيرا من الاشكالات عنه، و بمراجعته يظهر وحدة المسلك الذي اختاره المصنف مع ما ارتضاه شيخه الأستاذ في حل الاشكال، ولذا أجاب المصنف في الحاشية - عن إيراد الشيخ على الوجه الثاني - بقوله: (انما يرده ذلك لو كانت ملازمة بين الصحة والتمامية والمأمور بهية، وقد عرفت بما ذكرناه في حل الاشكال عدمها، وأنه يمكن الصحة لأجل الاشتمال على المصلحة). ومما ذكرنا ظهر: أن دعوى مغايرة كلامي الشيخ والمصنف (قدهما) لبا، وعدهما وجهين كما في بعض الكلمات ليست على ما ينبغي. ويمكن أن يستشهد في مقام الاثبات على ما اختاره المصنف في دفع الاشكال بالنسبة إلى خصوص الاتمام للمسافر في موضع القصر بالاخبار، بتقريب: أنه يستفاد منها أن القصر شرع تسهيلا على العباد، بمعنى أن مصلحة التمام والصوم في السفر باقية على حالها ولم تتغير بتشريع القصر، وجعل الله تعالى قصر الصلاة 456
وإفطار الصوم للمسافر هدية للنبي صلى الله عليه وآله وأمته كرامة كما في بعض الروايات مثل ما رواه في الخصال بسنده عن السكوني عن جعفر عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: (ان الله أهدى إلي وإلى أمتي هدية لم يهدها إلى أحد من الأمم، كرامة من الله لنا، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: الافطار في السفر والتقصير في الصلاة، فمن لم يفعل ذلك فقد رد على الله عز وجل هديته) أو رحمة وامتنانا كما في بعضها الاخر، مثل ما عن العلل والعيون عن الفضل ابن شاذان عن الرضا عليه السلام، قال: (وانما قصرت الصلاة في السفر، لان الصلاة المفروضة أولا انما هي عشر ركعات، والسبع انما زيدت فيها بعد، فخفف الله عنه تلك الزيادة لموضع سفره وتعبه ونصبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه و إقامته لئلا يشتغل عما لا بد له منه من معيشته، رحمة من الله و تعظيما عليه، إلا صلاة المغرب، فإنها لم تقصر، لأنها صلاة مقصورة في الأصل). أو صدقة كما في مرسل ابن أبي عمير عن الصادق عليه السلام، قال: (سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ان الله عز وجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالتقصير والافطار، أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة أن ترد عليه؟). وعليه فإذا أتى المسافر بالصلاة تماما أو صام فقد أدرك المصلحة الواقعية، لانحفاظها كما في سائر موارد الاحكام الترخيصية، فان مصلحة التسهيل مما يتدارك بها الواقع. ولا منافاة بين كون القصر و الافطار رخصة وبين كونهما عزيمة، لان الرخصة انما هي في جعلهما هدية للعباد، ومعنى العزيمة أن قبول الهدية واجب كما يشعر به بعض تعبيرات النصوص، لان في بعضها (ان الله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه 457
كما يحب أن يؤخذ بعزائمه). فتحصل إلى هنا أمور: الأول: انحفاظ مصلحة صلاة التمام والصوم في السفر وعدم انتفائها بوجوب القصر والافطار في السفر. الثاني: معنى الرخصة والعزيمة وعدم التنافي بينهما. الثالث: حرمة رد الهدية. لا يقال: ان انحفاظ مصلحة الواقع يستلزم صحة العمل حتى من العالم بالحكم مع أنكم لا تلتزمون به. فإنه يقال: انه كذلك لولا انطباق عنوان مبغوض على المأتي به، و المفروض انطباق عنوان رد الهدية والصدقة عليه في صورة العلم بالحكم، ولا يمكن اتحاد العبادة مع العنوان المبغوض. وهذا بخلاف صورة الجهل، فان رد الهدية لا يصدق عليه، لعدم العلم بكون القصر هدية حتى يردها، فيصح العمل لواجديته لمصلحة الواقع، ويعصي، فيعاقب على ترك قبول الهدية بترك مقدمته أعني التعلم، فلا يكون وجوب التعلم نفسيا. والحاصل: أن الجاهل لا يعلم بوجود هدية للمولى حتى يقبلها، كما أن الجاهل بالهدية وهي القصر - إذا أتى بها فلا يعد قابضا للهدية، نظير قيام التعظيم لزيد، فإنه لا يتصف بالتعظيم له إلا إذا علم بمجئ زيد، وأما لو قام جاهلا بمجيئه لم يعد تعظيما لزيد. والظاهر أن هذا الوجه يكفي لاثبات ما أفاده المصنف في القصر و الاتمام وأما في الجهر والاخفات فمجرد إمكان وجود المصلحة كاف في الالتزام بما أفاده بعد تسالمهم على الصحة الكاشفة إنا عن وجودها. 458
وكيف كان فقد أورد على ما في المتن بوجوه: الأول: ما أفاده شيخ مشايخنا المحقق الميرزا النائيني (قده)، و محصله: (أن المصلحة القصوى ان كانت هي الغرض الداعي إلى الجعل فلا وجه لسقوطها بما يكون فاقدا لتلك المرتبة العليا خصوصا مع إمكان تداركها كما إذا كان الوقت واسعا له، ودعوى عدم القدرة على استئفائها حينئذ باستيفاء المصلحة الأخرى ممنوعة، لقدرة المكلف على إتيان القصر في الوقت بعد الاتيان بالتمام، ولا يعتبر في استئفاء المصالح والاغراض إلا مجرد التمكن من فعل متعلقاتها، وهو حاصل بالوجدان، الا إذا كان ثبوت المصلحة في الصلاة المقصورة مشروطا بعدم سبق الصلاة التامة من المكلف، وهذا خلف، إذ لازمه خلو صلاة القصر عن الملاك حال الجهل المستلزم لعدم استحقاق العقاب على مخالفته. وان لم تكن تلك الخصوصية دخيلة في مصلحة الواجب فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والتمام، غايته كون القصر أفضل الفردين، ولا وجه لاستحقاق العقاب). ويمكن الخدشة فيه بما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس من أن الغرض وان كان هو المصلحة القصوى القائمة بفعل الصلاة القصرية مطلقا حتى في حال الجهل بوجوبها، لكنه فات بإتيان التمام المشتمل على جملة مهمة من المصلحة مفوتة للمقدار الزائد القائم بالقصر مخرجة له عن قابلية الاستيفاء والتدارك، لمكان تضاد المصلحتين، ويسقط الامر بالقصر، لاستيفاء المهم من الملاك. ومفوتية صلاة التمام للمقدار الزائد من المصلحة القائم بالقصر بحيث يخرجه عن قابلية الاستيفاء أمر ممكن، كسقي البستان بالماء المالح الموجب لعدم قابلية 459
سقيه بالماء الحلو، مع استئفاء مقدار مهم من مصلحة السقي بالماء المالح. وهذا الامر الممكن قد دل النص على وقوعه، فيؤخذ بظاهره من عدم الإعادة. فلا مجال لاشكال الميرزا على صاحب الكفاية (قدهما) من لزوم استئفاء المصلحة الزائدة القائمة بالقصر مع فرض القدرة على الاتيان به في الوقت، لما عرفت من أن عدم التمكن من الاستيفاء ليس لأجل عجز المكلف حتى يقال بقدرته عليه، بل الوجه فيه عدم قابلية الملاك الأتم للاستيفاء بعد الاتيان بالتمام كما يدل عليه قوله عليه السلام: (و لا يعيد). الثاني: ما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) من: (أن امتناع استئفاء بقية المصلحة انما هو بسبب حصول المصلحة القائمة بالاتمام بمجرد فعله، مع أن مقتضى ما سلكه (قده) من إمكان تبديل الامتثال بالامتثال - لعدم كون الفعل علة تامة لحصول الغرض فله تبديل الامتثال بامتثال أو في بالغرض - وجوب التبديل تحصيلا للغرض اللازم المراعى على الفرض، فكيف يجتمع مع هذا المسلك مع امتناع الاستيفاء بمجرد وجود الفعل المقتضي لحصول الغرض. إلخ). لكن الظاهر عدم التنافي بين جواز تبديل الامتثال بامتثال أو في بالغرض وبين امتناع استئفاء الملاك الأتم القائم بالقصر مثلا، و أجنبية المقام عن ذلك الباب، لأنه يعتبر في جواز تبديل الامتثال أمران: أحدهما: أن يكون هناك أمر حتى يصدق على إيجاد متعلقه أولا وثانيا عنوان الامتثال كي يعد الايجاد الثاني بدلا عن الامتثال الأول و يصح تبديل الامتثال به. وثانيهما: إمكان الامتثال ثانيا، بأن لا يكون الاتيان الأول علة تامة لسقوط 460
الغرض الداعي إلى الامر، إذ مع عليته التامة لسقوطه لا معنى لتبديل الامتثال، لانتفاء موضوعه وهو الامر كما هو واضح. ومن المعلوم انتفاء كلا الشرطين هنا. أما الأول فلعدم الامر بصلاة التمام كما هو المفروض حتى يصدق الامتثال على فعلها ويجوز تبديله بامتثال آخر وهو الاتيان بالقصر، بل التمام غير واجب مسقط لواجب. وأما الثاني فلان وفاء غير الواجب أعني التمام بمعظم مصلحة الواجب وهو القصر أوجب سقوط أمره، لتبعية الامر حدوثا و بقاء لملاكه. وبالجملة: فإشكال المحقق المتقدم (قده) على المصنف غير وارد، لما عرفت من أجنبية مسألة تبديل الامتثال عما نحن فيه. نعم لهذا الاشكال مجال بناء على تعلق الامر بالتمام بأحد الوجوه الآتية لو لم يكن امتثاله علة تامة لسقوط الغرض، لكن في أصل جواز تبديل الامتثال كلام تعرضنا لشرط منه في مبحث الاجزاء، هذا. وأما ما استبعده في آخر كلامه من الالتزام بعدم استحباب إعادة إتمام هنا جماعة فيعلم منه كون التمام مقتضيا لحصول الغرض لا علة تامة له، ففيه: أن استحباب الإعادة جماعة انما هو لمن صلى الفريضة فرادى، والمفروض عدم كون التمام فريضة، ولا إطلاق في نصوص الجماعة حتى يشمل الفريضة ومسقطها، فالقول بعدم مشروعية إعادتها تماما حتى جماعة قوي جدا. ولا وجه للاستيحاش من ذلك. وبالجملة: فلا وجه للقول باستحباب الإعادة ولو جماعة، لاطلاق (لا يعيد) الشامل لنفي الإعادة مطلقا تماما وقصرا وفرادى وجماعة، والظاهر في مرجوحية الإعادة لو لم نقل بظهوره في نفي المشروعية. فاستبعاد المحقق المذكور لعدم 461
استحباب إعادة التمام جماعة في غاية الغرابة، بل ينبغي أن يعد استحباب إعادته مستبعدا جدا. والحاصل: أن المقام أجنبي عن باب تبديل الامتثال، لما عرفت من اعتبار أمرين فيه كلاهما مفقود هنا. أما الأول فلان التمام علة تامة لسقوط الغرض، وليس مقتضيا له، والمقدار الزائد منه القائم بالقصر الفائت بفعل التمام ليس قابلا للتدارك بالإعادة على ما هو قضية قوله عليه السلام: (لا يعيد). وأما الثاني، فلان المفروض كون التمام مسقطا، لا واجبا متعلقا للامر حتى يعد فعله امتثالا، والآتيان به ثانيا تبديلا للامتثال. فالنتيجة: أنه لا مجال لقياس المقام بمسألة جواز تبديل الامتثال، لما عرفت من أجنبيته عنها. الثالث والرابع: ما في تقرير بعض أعاظم العصر (مد ظله) من قول المقرر: (وفيه أولا: أن التضاد انما هو بين الافعال، وأما التضاد بين الملاكات مع إمكان الجمع بين الافعال فهو أمر موهوم يكاد يلحق بأنياب الأغوال. وثانيا: أن المصلحتين ان كانتا ارتباطيتين فلا وجه للحكم بصحة المأتي به مع فرض عدم حصول المصلحة الأخرى. وان كانتا استقلاليتين لزم تعدد الواجب وتعدد العقاب عند ترك الصلاة رأسا، و هو خلاف الضرورة). أما الاشكال الأول فلم يتضح لنا مقصوده (مد ظله) منه، إذ الملاكات بناء على مبنى مشهور العدلية من كونها في المتعلقات هي من خواص الافعال والآثار الوضعية لها، وكما يمكن وقوع التضاد في الأمور الخارجية ذوات الآثار، كذلك 462
يمكن في الأحكام الشرعية، ويكفي شاهدا عليه في الخارجيات ملاحظة بعض المعاجين التي يصفها الأطباء للمرضى، فرب معجون واجد لصفة كذائية يوجب استئصال مادة المرض كلية، ومعجون آخر يرفع المرض إلى مرتبة، وكل منهما لترتب الفائدة عليه واجدا للمصلحة قطعا، ولكن باستعمال الثاني يسقط مزاج المريض عن الاستعداد و الصلاحية لاستعمال المعجون القائم به الملاك الأتم. وهذا بعينه جار في الأحكام الشرعية، والكاشف عن تضاد الملاكات هو الخطابات، ونصوص الباب تشهد به، إذ قوله عليه السلام: (تمت صلاته ولا يعيد) مع فرض بقاء الوقت وإمكان الاتيان بالوظيفة الأولية يدل على عدم المصلحة فيه، وأنها قد استوفيت ولو بمعظمها لا بتمامها، فلا بد أن يكون عدم الإعادة مستندا إلى سقوط الامر، لتبعيته ثبوتا وسقوطا لملاكه، والمفروض وقوع أحد الفعلين القائم به أحد الملاكين دون الفعل الاخر القائم به الملاك الاخر الذي فات باستيفاء ذاك الملاك، ويجري هذا الكلام في تمام موارد أجزأ غير المأمور به عن المأمور به. والحاصل: أن التزاحم والتضاد بين الملاكات أمر واقع فضلا عن كونه ممكنا وليس من الأمور المستبعدة كأنياب الأغوال. وأما الاشكال الثاني، فهو انما يرد على من يدعي الارتباطية بين مصلحة صفة الجهر في القراءة وبين مصلحة ذات القراءة، أو من يلتزم باستقلال الملاكين، لكن يتعدد الخطاب بكل منهما ولو بالترتب. وأما المصنف (قده) فقد عرفت في توضيح كلامه أنه لا يقول إلا بوجوب الصلاة الجهرية مثلا، والاخفاتية غير واجبة وانما هي مسقطة لما هو الواجب، ومزاحمة لملاك الصلاة الجهرية ومانعية عن استئفاء الغرض القائم بها. 463
وقد تحصل: أن ما اختاره المصنف لحل الاشكال سليم عما أورده عليه المحققان الميرزا النائيني والأصفهاني (قدهما) وتلميذهما المحقق (مد ظله)، ولا محذور في الالتزام به ثبوتا، وانما الكلام في الدلالة عليه إثباتا، إذ قد يقال: بأن جملة (لا شئ عليه) الواردة في الفصيحة وكذا (تمت صلاته ولا يعيد) قد وردتا في روايات نسيان بعض الاجزاء كالقراءة، مثل ما في رواية منصور بن حازم (قد تمت صلاتك إذا كان نسيانا) ونحوها مما ورد في عدم الإعادة في نسيان غير الخمسة، فإنه لم يلتزم في مثلها بعدم كون المأتي به مأمورا به، بل الوظيفة الفعلية هي الفرد الناقص الفاقد للمنسي الذي خرج بالنسيان عن الجزئية، والمفروض أن أخبار المقام قد اشتملت على نفس المضامين الواردة في نسيان بعض الاجزاء، فاستظهار المسقطية هنا مشكل كما أفاده الشيخ في رد الوجه الثاني، هذا. لكن الظاهر أن النقض بأخبار النسيان غير تام، إذ مثل (لا شئ عليه) و نحوه لا يدل إلا على عدم وجوب الإعادة، والاجتزاء بما أتى به، وأما أنه مأمور به أو مسقط فلا دلالة له على شئ منهما، وانما استفيد كون الناقص مأمورا به من حديث (لا تعاد) الدال على إطلاق دخل ما في عقد المستثنى من الاجزاء والشرائط، وتقيد دخل ما في عقد المستثنى منه منهما بحال الذكر. وأما في المقام فاستظهار المسقطية انما هو بمعونة تسليمهم لاستحقاق العقوبة الدال على أن المأتي به غير مأمور به، وأن الحكم بعدم الإعادة انما هو لأجل فوت المصلحة بإتيان الأخرى كما تقدم مفصلا، وعليه فالمدلول عليه ب (لا شئ عليه) هو المسقطية لا غير. وقد ذكروا لحل الاشكال وجوها أخرى: 464
الأول: ما في رسائل شيخنا الأعظم من قوله: (أما بمنع تعلق التكليف فعلا بالواقعي المتروك إما بدعوى كون القصر مثلا واجبا على المسافر العالم. وإما بمعنى معذوريته فيه بمعنى كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع يعذر صاحبه ويحكم عليه ظاهرا بخلاف الحكم الواقعي وإما من جهة القول بعدم تكليف الغافل بالواقع و كونه مؤاخذا على ترك التعلم، فلا يجب عليه القصر لغفلته. وإما من جهة تسليم تكليفه بالواقع، إلا أن الخطاب بالواقع ينقطع عند الغفلة، لقبح خطاب العاجز وان كان العجز بسوء اختياره، فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر، لكنه ليس مأمورا به حتى يجتمع مع فرض وجود الامر بالاتمام). ثم رده بقوله: (لكن هذا كله خلاف ظاهر المشهور، حيث إن الظاهر منهم كما تقدم بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل، و لذا يبطلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب، إذ لولا النهي حين الصلاة لم يكن وجه للبطلان). والظاهر أن الايراد على الوجه المذكور متجه، ولذا يستحق العقوبة بتفويت المصلحة القائمة بما وجب عليه واقعا، وأنه لا بد من كون المأتي به مسقطا بلا تعلق أمر به. إلا أن استشهاده بحكم المشهور ببطلان صلاة الجاهل بحرمة الغصب لا يخلو من تأمل، إذ الحكم بالبطلان لا يساوق وجود النهي الواقعي، لاحتمال استناد بعضهم إلى الملاك وكفاية المبغوضية الواقعية في البطلان كما صرح به في بعض الكلمات من امتناع التقرب بما هو مبغوض للشارع، أو اعتبار الإباحة الواقعية في مكان المصلي، ومع تطرق الاحتمال يمتنع استكشاف وجود النهي الواقعي غير المنجز من الحكم بالبطلان، هذا. مضافا إلى: أن ما أفاده الشيخ على تقدير تسليمه مما تقتضيه القاعدة التي 465
يمكن رفع اليد عنها بدليل خاص، والمفروض وجود الفارق بين المقامين، وهو قوله عليه السلام: (تمت صلاته) الظاهر في تعلق الامر بالمأتي به وصحته، ولا دليل على البطلان في مسألة الجهل بحرمة الغصب، ولذا تندرج في مسألة الاجتماع كما فصل في محله. وطريق حل الاشكال منحصر في ما أفاده في الوجه الثاني الذي نقحه الماتن، وقد تقدم. الثاني: ما أفاده الشيخ الفقيه كاشف الغطاء (قده) من تعلق الامر الترتبي بالمأتي به، وأشار إليه الماتن وتقدم كلامه في التوضيح، و محصله: أن الجهر في الصلوات الجهرية واجب مطلقا، والاخفات فيها واجب على تقدير العزم على عصيان خطاب الجهر. وكذا الحال في وجوب الاخفات في الصلوات الاخفاتية. وبه يجمع بين استحقاق العقوبة على تفويت الواجب الأهم بتركه للتعلم، وصحة المأتي به لصيرورته مأمورا به بالامر الترتبي. هذا. وقد أورد عليه بوجوه بعضها يرجع إلى منع الكبرى، وأكثرها إلى منع الصغرى أما الاشكال الكبروي فهو ما أفاده شيخنا الأعظم من عدم تعقل الترتب في المقامين مما يكون الامر بأحدهما في عرض الاخر، وانما يجري ذلك في الابدال الطولية الاضطرارية. وهذا هو الاشكال العام على تصوير الخطاب الترتبي بين الواجبين المتزاحمين، لاستلزامه اجتماع أمرين فعليين بالضدين موجبين لطلب الجمع بينهما، وهو غير معقول. وقد اعتمد عليه المصنف هنا وفي حاشية الرسائل، ومن المعلوم أن القائل الترتب في فسحة من هذا الاشكال، وقد تعرضنا في بحث الترتب لجل الاشكالات الواردة عليه مع دفعها. وأما الاشكال على صغروية المقام المسألة الترتب فمن وجوه: 466
أولها: ما في تقرير بحث المحقق النائيني (قده) من (أنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون خطاب المهم مشروطا بعصيان خطاب الأهم، وفي المقام لا يمكن ذلك، إذ لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان العاصي، فإنه لا يلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحكم، ولو التفت إلى عصيانه يخرج عن عنوان الجاهل، ولا تصح منه الصلاة التامة، فلا يندرج المقام في صغرى الترتب). وحاصله: أنه يلغو تشريع الامر الترتبي بمثل قوله عليه السلام: (يجب عليك الاخفات في النهارية وان عصيت وجب عليك الجهر) وذلك لأنه ان التفت إلى عصيانه بالجهر بالقراءة فقد صار عالما بوجوب الاخفات عليه ويرتفع ملاك وجوب الجهر حينئذ، وان لم يلتفت إلى هذا الخطاب الترتبي فلا فائدة فيه، لعدم تأثيره في إرادة المكلف. وقد أجاب عنه سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس بأن خطاب المهم ان كان مترتبا على عصيان خطاب الأهم فهو كما ذكره، وأما ان كان مترتبا على مجرد ترك الأهم لا عصيانه ولا إرادة عصيانه فلا يلزم هذا المحذور، وعليه فلا بأس بالترتب في المقام، هذا. لكن الظاهر متانة كلام الميرزا (قده) حتى لو قلنا بترتب خطاب المهم على مجرد ترك الأهم لا عصيانه، وذلك لان الالتفات إلى موضوع الحكم مما لا بد منه في داعوية الامر، إذ مع عدم إحراز الموضوع لا يحرز حكمه حتى ينبعث عنه العبد، ومن المعلوم أنه بمجرد خطاب الشارع له بقوله: (أيها التارك للاخفات أجهر) يصير عالما بوظيفته الأولية، ومن الواضح عدم صحة الجهر منه حينئذ، لأنه بالالتفات 467
إلى موضوع وجوب الجهر يرتفع حكمه. وعليه فإشكال الميرزا على مقالة كاشف الغطاء لا يندفع بما أفاده سيدنا الأستاذ كما تقدم في بحث الترتب. لكن عبارته المنقولة في التوضيح - بعد التأمل فيها - تدفع هذا الاشكال، وذلك لان المناط في امتناع طلب الضدين، هو استحالة اجتماعهما في الزمان على ما يظهر من بعض الكلمات، فيكفي في صحة الامر بالضد مجرد عدم الاتيان بالضد الاخر، سواء كان تركه بالعصيان أم بالعزم عليه أم بغيرهما، والعصيان يتوقف على ترك الطبيعة في تمام الوقت المضروب لها، ولكن العزم عليه يحصل من أول الوقت عزما مستمرا إلى آخره، وشرط الخطاب المترتب بنظر كاشف الغطاء هو العزم على ترك المأمور به الأولي وان حصل في أول الوقت، فبمجرد عزمه على المعصية يتوجه إلى المكلف أمر ترتبي. نعم استحقاق العقوبة على العصيان منوط بترك الامتثال بين الحدين، وهو كالشرط المتأخر لموضوعية العزم على الترك العصياني من أول الوقت للخطاب المترتب، وعليه فالجاهل المقصر الذي تنجز عليه وجوب الاخفات بمجرد زوال الشمس وعزم على ترك التعلم إلى آخر الوقت يصير موضوعا للخطاب الترتبي: (أخفت وان عزمت على العصيان فأجهر) ومع تمشي قصد القربة منه لاحتماله وجوب الاخفات عليه تصح صلاته. وعليه فإشكال الميرزا غير وارد على كاشف الغطاء. ثانيها: ما أورده عليه بعض المدققين في حاشيته على المتن في مثال القصر والاتمام بقوله: (وأما الامر بالاتمام بنحو الترتب على معصية الامر بالقصر بناء على معقولية الترتب في نفسه كما اخترناه في محله فهو غير صحيح أيضا، إذ العصيان المنوط به الامر بالاتمام إما بترك القصر في تمام الوقت أو بامتناع تحصيل الغرض 468
منه، والمفروض بقاء الوقت، كما أن المفروض عدم امتناع الملاك إلا بوجود الاتمام بالتمام حتى يترتب عليه المصلحة التي لا يبقى معها مجال لاستيفاء بقية المصلحة المترتبة على فعل القصر، فلا أمر بالاتمام مقارنا لفعله المقارن لعصيان الامر بالقصر بأحد الوجهين.). وبيانه: أن الخطاب الترتبي بالاتمام في موضع القصر منوط بعصيان الامر بالقصر أو بالامتناع من تحصيل الغرض القائم به، أما العصيان فلم يتحقق ما دام الوقت باقيا مع قدرة المكلف على إعادة الصلاة قصرا، وأما امتناع تحصيل الغرض من صلاة القصر فيتوقف على الاتيان بصلاة التمام والفراغ منها، لأنه ظرف العجز عن استيفاء ملاك القصر، إذ قبل الاشتغال بصلاة التمام يكون قادرا على استيفاء مصلحة القصر، ولا مجال معه للامر بالتمام، وانما يمكن فرض الامر به إذا فرغ من الصلاة التامة حيث لا قدرة له شرعا على صلاة القصر، ومن المعلوم أنه بعد الاتيان بالتمام لا معنى لان يقال له: (قصر وان عصيت فتمم) لأنه قد أتم. والحاصل: أن شرط الامر بالتمام ان كان هو معصية الامر بالقصر، فلا معصية مع بقاء الوقت. وان كان امتناع استيفاء الغرض من القصر فيتعذر الامر، لان ظرف العجز عن تحصيل ملاك القصر هو بعد إتيان التمام، فالامر بالتمام أمر بما هو موجود، لا بعث لما ليس بموجود، فلا معنى للامر الترتبي. وهذا الاشكال مع دقته في نفسه لا يرد على كاشف الغطاء إذ له أن يختار الشق الأول ويقول: ان موضوع الامر الترتبي عصيان المأمور به الأولي المطلق، لا امتناع استيفاء الغرض، ولكن الموضوع هو العزم على المعصية كما صرح به 469
كاشف الغطاء لا نفس المعصية المنوطة بترك الطبيعة في جميع الوقت، فبمجرد العزم ولو في ابتدأ الوقت الموسع يتوجه الخطاب الترتبي إلى المكلف على ما عرفت في جواب الميرزا (قده). ثالثها: ما عن المحقق النائيني أيضا من أجنبية المقام عن بحث الترتب، بتقريب: أنه يعتبر في الترتب عند القائل به أن لا يكون ترك أحد الضدين مساوقا لوجود الضد الاخر، بل لا بد من فرضه في الضدين اللذين لهما ثالث كالإزالة والصلاة، لا مثل الحركة والسكون، فان عصيان الامر بأحدهما مساوق لوجود الضد الاخر، فتوجيه الخطاب الذي يكون باعثا ومحركا بالامكان للمكلف لغو، لأنه خطاب بما هو ضروري الوجود وخارج عن قدرة المكلف، وحيث إن الواجب هو الاخفات في القراءة فبمجرد تركه يتحقق الجهر فيها، ولا معنى لقول الامر: (أخفت في القراءة وان عزمت على عصياني فأجهر فيها). والمناقشة فيه (بأن المأمور به ان كان هو الجهر أو الاخفات في القراءة توجه إشكال لغوية جعل الخطاب الترتبي. وان كان هو القراءة الجهرية والاخفاتية والصلاة قصرا أو إتماما صح الترتب، وذلك لوجود الضد الثالث بترك الصلاة أو بترك القراءة فيها، فليس المقام نظير الامر بالحركة والسكون في امتناع الجعل من المولى الحكيم) غير ظاهرة، إذ المرجع في تعيين أحد الاحتمالين المذكورين هو نصوص الباب، ومن المعلوم دلالتها على عدم الضد الثالث، إذ المخاطب بالجهر والاخفات في القراءة هو خصوص المصلي لا مطلق المكلف أو المصلي التارك للقراءة، لاحظ مثل (الصلوات التي يجهر فيها انما هي في أوقات مظلمة 470
فوجب أن يجهر فيها) الدال على أن متعلق الوجوب الضمني هو الجهر فيها لا وجوب القراءة والجهر بنحو الاستقلال كما في وجوب كل من التسبيحة والطمأنينة في الركوع. وكذا في صحيح زرارة المتقدم (رجل أجهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الاخفاء فيه) الدال على أن الوظيفة هي الاجهار بالقراءة لا القراءة الجهرية، حتى يمكن فرض الضد الثالث بترك القراءة رأسا، لما عرفت من أن الجهر والاخفات وصفان لقراءة المصلي، وهي لا تخلو منهما، فلا يتصور لقراءة المصلي ضد ثالث، بداهة أنها اما جهرية واما إخفاتية كما هو واضح. وكذا الحال في روايات القصر والاتمام، حيث إن الموضوع ليس هو الصلاة تماما أو قصرا، بل هو إتمام الصلاة أو تقصيرها كقوله عليه السلام في معتبرة زرارة: (من قدم التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير) وقوله عليه السلام في معتبرة معاوية عن أبي عبد الله عليه السلام (أدنى ما يقصر فيه المسافر الصلاة، قال: بريد ذاهبا و بريد جائيا) ونحوهما غيرهما، وظهورها في أن متعلق الحكم هو القصر والاتمام في الصلاة لا الصلاة قصرا أو إتماما حتى يدعى الضد الثالث بترك الصلاة رأسا مما لا ينكر. رابعها: ما في تقرير بعض أعاظم العصر (من أن لازم تعلق الامر الترتبي 471
بالمقام هو الالتزام بمحذور تعدد العقاب عند ترك الصلاة رأسا، لأنه ترك واجبين كما في سائر موارد ترك الواجبين المتزاحمين كالصلاة والإزالة، ولكنه باطل لقيام الضرورة والاجماع على استحقاق مؤاخذة واحدة على عصيان خطاب الأهم، فكبرى الامر الترتبي لا تنطبق على المقام). لكنه لا يخلو من غموض، إذ محذور تعدد العقاب انما يتجه في مثل ترك الإزالة والصلاة مما كان لكل من الواجبين ملاك أجنبي عن ملاك الاخر، فإنه لتفويته غرضين ملزمين يستحق مؤاخذتين، ولا بد من التخلص عنه بما قرر في بحث الترتب. وأما في المقام فلم يلزم تفويت مصلحتين مستقلتين حتى يتعدد العقوبة كما قد يقال في استحقاقهما على ترك الصلاة المفروضة المنذور إتيانها في المسجد مثلا، لأنه فوت مصلحة الصلاة والوفاء بالنذر، وانما الفائت هو الملاك الأتم القائم بالصلاة الاخفاتية مثلا، و العقاب على عصيانه لا على ترك الامر بالجهر، فان مصلحته ليست أجنبية عن مصلحة الاخفات، بل هي مرتبة منه ومندكة فيه. وعليه فلا وجه لدعوى تعدد العقاب عند كون الغرض القائم بالمترتب بالنسبة إلى ما يقوم بالمترتب عليه من مقولة التشكيك ومندرجين تحت حقيقة واحدة هي مثل معراج المؤمن. خامسها: ما في التقرير المذكور أيضا من (أن ذلك مناف للروايات الكثيرة الدالة على أن الواجب على المكلف في كل يوم وليلة خمس صلوات، إذ يلزم على القول بالترتب كون الواجب على من أتم صلاته وهو مسافر ثمان صلوات، وكذا على من أجهر في صلاته موضع الاخفات وبالعكس). وهذا كسابقه لا يخلو من شئ، فان دلالة الروايات الكثيرة على وجوب 472
خمس صلوات في اليوم والليلة فقط وان كانت مسلمة كما يظهر من مراجعة ما ورد في أعداد الفرائض وغيرها، إلا أنها مسوقة لبيان ما شرعه الله تعالى أولا على كل مكلف، وليست ناظرة إلى حصر الفرائض في العدد المذكور حتى مع طروء بعض الحالات والعناوين كي تكون منافية لوجوب الاتمام في موضع القصر، والاخفات في موضع الجهر وبالعكس. ولو سلم إطلاق هذه الروايات لفظيا أو مقاميا حتى بالنسبة إلى هذا العنوان، فالتنافي المزبور وان كان ثابتا، الا أن شأنه شأن كل تناف آخر بين المطلق ومقيدة، إذ للقائل بالترتب دعوى انحصار تصحيح المأتي به بتعلق الامر الترتبي به، فلا بد أن يكون قوله عليه السلام: (تمت صلاته ولا يعيد) بضميمة توقف عبادية العمل على الامر حتى يقصده المكلف دالا على هذا الخطاب الترتبي، ويكون الحاصل: وجوب خمس صلوات إلا بالنسبة إلى الجاهل المقصر في الموارد الثلاثة، فان الواجب عليه أزيد، وهو المأمور به الأولي وعدله. وليس هذا التقييد خلافا لضرورة أو دليل قطعي حتى يمنع منه. هذا تمام الكلام حول ما أفاده الشيخ الكبير لاثبات تعلق الامر الترتبي بالمأتي به، وقد عرفت أن عمدة الاشكال عليه هي لغوية الخطاب، وإلا فسائر الايرادات قابلة للدفع. الثالث من وجوه حل الاشكال ما أفاده الفقيه الهمداني (قده) في المصباح والحاشية، واختاره شيخنا المحقق العراقي أيضا، من تعلق الامر بهما بنحو تعدد المطلوب، ومحصل تقريبه: أن طبيعي الصلاة مشتمل على مرتبة من المصلحة اللزومية، ويكون لخصوصية القصرية مصلحة ملزمة زائدة على مصلحة الطبيعي، 473
واجتماع كلتا المصلحتين في هذا الفرد أوجب تأكد طلبه، لا اجتماع أمرين فيه، بل ينبعث من المصلحتين فيها إرادة أكيدة وينبعث منها إيجاب أكيد، فإذا أتى المكلف بالطبيعة في ضمن فرد آخر فقد أحرز المصلحة المقتضية لتعلق الطلب بصرف الطبيعة، لوفاء المأتي به بمصلحة الجامع المتحقق في ضمنه وان فاتت به المصلحة الزائدة القائمة بالخصوصية القصرية، للمضادة بين المصلحتين ولو من جهة حديهما القائمين بالخصوصيات المفردة للطبيعة. وبه يجمع بين صحة المأتي به واستحقاق العقوبة على ترك الواجب، أما صحته فلمطلوبيته بما أنه فرد للجامع الذي تعلق الامر به، وأما الاستحقاق فلتفويت المصلحة الملزمة الزائدة القائمة بخصوصية القصر. ومثل له الفقيه الهمداني بما لو اقتضى الافطار في شهر رمضان وجوب عتق رقبة من حيث هي، ولكن كان في عتق المؤمنة مزية مقتضية لأرجحية عتقها من عتق غيرها كفارة عن الافطار، فهذه المزية قد لا تنتهي إلى مرتبة اللازم وقد تنتهي إليها، فإذا أعتق المكلف رقبة غير مؤمنة فقد أتى بما اقتضته كفارة الافطار، ولكن فوت على نفسه المزية التي وجب عليه رعايتها مهما أمكن، فيستحق المؤاخذة عليه، ولا يمكنه تداركها بعد ارتفاع الطلب المتعلق بنفس الطبيعة ولو مع بقاء وقتها. وتوهم اقتضاء البيان المتقدم للاجتزاء بالفاقد حتى للعالم بوجوب خصوص القصر، مندفع بأنه كذلك لولا اختصاص فردية الفاقد بحال الجهل بالامر بالخصوصية، وإلا فينحصر الفرد في حال العلم بخصوص الواجد، ولا يعقل تحقق المصلحة ولو بمرتبة منها في الفاقد، هذا. 474
وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني (قده) بما لفظه: (أن الإرادة المنبعثة عن المصلحتين في القصر وان كانت واحدة، والايجاب المنبعث عنها كذلك، الا أن الطبيعي المنطبق على الاتمام لا بد من أن يكون مأمورا به بأمر آخر، بداهة أن وجوب الحصة المتخصصة بالقصر غير الحصة المتخصصة بالاتمام، فلا تسري المطلوبية والبعث منها إليها. و من الواضح أيضا أن الامر بالاتمام ليس أمرا بها بما هي إتمام، إذ لا خصوصية لحدها كحد القصر، بل الامر إليها من حيث الامر بطبيعي الصلاة المنطبقة على الاتمام وعلى القصر، فيلزم سريان الامر إلى القصر أيضا كالاتمام، فيلزم توجه بعثين نحو القصر أحدهما بجامعها و الاخر بما هي خاص، ولا يعقل مع تعدد البعث حقيقة تأكده، إذ لا اشتداد في الاعتباريات. بل فرض إرادة أخرى مغايرة لإرادة الحصة المتغايرة مع الجامع توجب عدم تأكد الإرادة، إذ الإرادة بعد الإرادة لا توجب التأكد، بل توجب اجتماع المثلين كما لا يخفى. هذا إذا كان الامر بالجامع والامر بالقصر بنحو التعيين. وأما بنحو التخيير فغير معقول في نفسه، لان التخيير بين الكلي وفرده غير معقول، لأول الامر إلى التخيير بين الشئ ونفسه). ومحصله: أن وجوب كل من الجامع والخصوصية إما أن يكون بنحو الوجوب التعييني أو التخييري، ولا يخلو شئ منهما عن محذور، أما الأول - كما هو ظاهر كلام القائل بتعدد المطلوب - فيترتب عليه محذور اجتماع المثلين المستحيل، وذلك لان الامر بالقصر وان لم يسر إلى خصوصية التمام، الا أن البعث الاعتباري نحو الجامع بين القصر والتمام يسري إلى حصة القصر كسرايته إلى 475
حصة التمام، لاتحاد الكلي الطبيعي مع أفراده، وبسرايته إلى القصر يلزم اجتماع المثلين المستحيل. ودعوى التأكد المصرح به في عبارة المحقق الهمداني غير مسموعة، إذ لا تأكد ولا اشتداد في الاعتباريات، وانما هو تعدد الامر الاعتباري حقيقة، لانبعاث الامر بالجامع عن إرادة متعلقة به وشوق إليه، بلا دخل لشئ من الخصوصيات، وانبعاث الامر بالحصة عن إرادة مضافة إليها، ومع تعدد المراد يختلف الإرادة المتعلقة بكل منهما، والإرادة بعد الإرادة غير قابل للتأكد، بل اللازم هو اجتماع المثلين المحال. وأما الثاني، فغير معقول أيضا، إذ إنشاء الوجوب التخييري بين الجامع والحصة معناه التخيير بين الكلي وفرده، وحيث إن الكلي متحد وجودا مع مصداقه الخارجي، فيلزم التخيير بين الشئ ونفسه، وهو باطل بالضرورة. وعليه فالالتزام يوجب كل من الفردين بنحو تعدد المطلوب مبتلى بهذا المحذور العقلي. لكن الظاهر سلامة ما استصوبه شيخنا العراقي وفاقا للفقيه الهمداني (قدهما) في حل الاشكال من محذور اجتماع المثلين المستحيل، لتوقفه - كاجتماع الضدين - على وحدة الموضوع المنوطة بالالتزام بأمرين: أحدهما كون متعلقات التكاليف الشرعية هي الوجودات الخارجية للطبائع. والاخر سراية الامر بالجامع اللا بشرط إلى الحصص والافراد. وكلاهما ممنوع كما يظهر من ملاحظة موضعين من تقريرات المحقق العراقي: أحدهما مسألة تعلق الاحكام بالطبائع أو الافراد، وثانيهما سراية الامر بعنوان إلى أفراده ومصاديقه، وهما البحث السابع والثامن من الأوامر. 476
ولا بأس بالإشارة إلى مختاره في المبحثين، ففي الأول ذهب إلى أن متعلق الأوامر والنواهي ليس هو الوجود الخارجي، لأنه ظرف سقوط الحكم لا ثبوته، ولا الطبيعة الحالة في الذهن أي الكلي العقلي، ولا الطبيعة من حيث هي، ضرورة قيام الملاكات بما في الخارج، بل مركب المصلحة هو الطبيعي بمعنى ثالث، وهو لحاظه بما هو خارجي بحيث لا يلتفت إلى مغايرته للخارج واثنينيته معه، ولا يرى في هذا اللحاظ التصوري إلا كون الطبيعة عين الخارج ومتحدة معه. و استشهد على ذلك باخبار الجاهل المركب القاطع بخلاف ما هو الواقع، قال المقرر (فلا محيص من المصير في كلية تلك الصفات من العلم والظن والحب والبغض والاشتياق والإرادة ونحوها إلى تعلقها بنفس العناوين والصور الذهنية، غايته بما هي حاكية عن الخارج كما شرحناه، لا بمنشأ انتزاعها وهو المعنون الخارجي لا بدوا ولا بالسراية بتوسيط العناوين والصور.). وفي الثاني اختار عدم السراية ووقوف الطلب على نفس الطبيعي، لان الطلب لكونه معلولا للمصلحة لا يتعلق إلا بما تقوم به، فمع قيامها بصرف الطبيعي وعدم سرايتها إلى حدود الفرية والحصص المقارنة لخواصها يستحيل سراية الطلب إلى تلك الحدود، إذ لازمه عدم تبعية الحكم للملاك. وبعد وضوح هذين المبنيين نقول: بناء على مسلك تعدد المطلوب تعلق أمر بالجامع بين القصر والتمام وآخر بخصوص القصر، وهما في مرحلة الوجود العنواني مختلفان، لتباين الصور الذهنية، و المفروض أيضا عدم سراية الامر بالجامع إلى خصوصيات الافراد، فإحدى المصلحتين قائمة بصرف الوجود من الطبيعة 477
اللا بشرط بالنسبة إلى القصر والتمام، والأخرى قائمة بالقصر، وكما لا يسري الامر من القصر إلى الجامع كما هو واضح، كذلك لا يسري من الجامع إلى خصوصية القصر، إذ المفروض عدم دخل خصوصية الحصة والفرد فيه، لقيام الملاك بنفس الطبيعي وصرف الوجود منه، فلو سرى إلى ما هو محدود بحد القصر لزم أعمية الحكم من الغرض، وهو ضروري البطلان، لتبعية الحكم سعة وضيقا لملاكه، فمطلوبية القصر - لأجل مصداقيته للجامع - مقدمية، ولا يقدح في مطلوبيته النفسية انضمام جهة أخرى وهي مطلوبيته المقدمية إليها لتحقق الطبيعة، لاعتبار وحدة الموضوع في استحالة اجتماع المثلين. نعم إذا كان متعلق الحكم الوجود الخارجي، وسرى الطلب من الجامع اللا بشرط إلى الخصوصية، أو قلنا باتحاد الصور الذهنية، توجه المحذور. لكن قد عرفت أن الطلب كسائر الصفات النفسانية من الإرادة والكراهة يستحيل تعلقه بما في الخارج، بل بالصورة الموجودة في أفق النفس لئلا يلزم خارجية الإرادة أو نفسانية الخارج. وعليه فلا مانع من قيام الملاك الأتم بصلاة القصر والملاك التام بالجامع، و يكون المأتي به مصداق المأمور به. لكن لا يخفى أنه وان لم يلزم الاستحالة العقلية بمناط اجتماع المثلين، الا أنه يمتنع الالتزام بالامر بنحو تعدد المطلوب بمناط اللغوية المانعة للجعل الثاني، وذلك لأن المفروض مطلوبية الجامع بنحو صرف الوجود، وهو الداعي للجاهل بوجوب القصر إلى فعل الصلاة تماما. وحيث إن حقيقة الامر هي الانشاء بداعي جعل الداعي، و بدون ترتب الداعي عليه أصلا يلغو صدوره من الشارع، فالامر بالقصر بالنسبة إلى الجاهل لعدم ترتب احداث الداعي عليه لغو، ومن المعلوم قبح 478
صدور اللغو من الحكيم. وعليه فلا وجه للالتزام بتعدد الامر بنحو تعدد المطلوب في حق الجاهل، يتعلق أحدهما بالطبيعة والاخر بالقصر. الرابع: ما في تقرير بحث المحقق النائيني (قده) ومحصله: أن الواجب على عامة المكلفين أولا وبالذات هو القدر المشترك بين الجهر و الاخفات، يعني أن جز الصلاة هو نفس القراءة من دون مدخلية لخصوص الجهر والاخفات فيها، فجز الصلاة هو الجامع بين الجهر و الاخفات ووجوب خصوص أحدهما في موارد وجوبهما يكون وجوبا نفسيا استقلاليا، غايته أنه يكون ظرف هذين الواجبين الصلاة، فحال الصلاة بالنسبة إلى الجهر والاخفات حينئذ حال الظرف بالنسبة إلى مظروفه، وبعد تعلق العلم بهذا الوجوب النفسي تنقلب النفسية إلى الغيرية والقيدية، ولا مانع من اقتضاء العلم للانقلاب المزبور. وعلى هذا التقريب يرتفع الاشكال من البين، لان العقاب يكون على ترك الواجب النفسي وهو الجهر أو الاخفات. وأما صحة الصلاة الفاقدة لوصف الجهر أو الاخفات فالانطباق المأمور به على المأتي به، حيث إن المأمور به في حال الجهل بوجوب الجهر أو القراءة هو القدر المشترك بين الجهر والاخفات، وقد أتى به بالفرض. والتزم الميرزا بهذا الوجه في مسألة الجهل بالجهر والاخفات، لكن قال بجريانه في مسألة الاتمام في موضع القصر أيضا. وأنت خبير بعدم إمكان المساعدة عليه. أما أولا فلان دعوى كون وجوب الجهر والاخفات نفسيا تأويل في دليلهما بلا موجب، إذ الظاهر منه كسائر أدلة الاجزاء والشرائط هو الارشاد إلى الجزئية و الشرطية لا النفسية، وادعاء الوجوب النفسي منوط بقرينة صارفة مفقودة. وقرينية استحقاق العقوبة مع صحة المأتي به على 479
ذلك ممنوعة كما سيتضح. وأما ثانيا، فلانه يلزم لغوية تشريع الوجوب النفسي، إذ الغرض من التكليف احداث الداعي إلى امتثاله وبعث المكلف وتحريكه نحوه، ومن الواضح أن الدعوة والتحريك فرع تنجز التكليف المترتب على وصوله إلى العبد، والمفروض أنه بالعلم الموجب لوصوله إليه ينقلب من النفسية إلى الغيرية، فلا يكون هذا التكليف النفسي في آن من الآنات محركا للعبد وباعثا له حتى يتمكن من امتثاله، بل لا يقدر عليه في شئ من الأزمنة، فيلزم لغوية تشريع مثل هذا الوجوب. والحاصل: أن التكليف لا بد في محركيته من وصوله إلى المكلف اما بنفسه واما بطريقه، فالتكليف الذي لا يمكن وصوله إلى العبد - لانقلابه بسبب وصوله إليه - يلغو تشريعه كما لا يخفى. وأما ثالثا: فلان لازم الانقلاب المزبور اختصاص الوجوب النفسي بالجهل، إذ لازم عدم بقاء الوجوب النفسي عند العلم به تقيد الوجوب بالجهل، وهو بمكان من الغرابة، بل مستحيل، وذلك لان موضوعية الجهل للوجوب النفسي تقتضي تقدمه عليه كتقدم كل موضوع على حكمه، كما أن عروض الجهل للوجوب كعروض العلم له يقتضي تأخره عنه كتأخر كل عروض عن معروضه. وعليه فالجهل متقدم على الوجوب ومتأخر عنه، وهذا ممتنع. وأما رابعا: فلان العلم حين حدوثه هل يكون متعلقا بالوجوب النفسي أم الغيري؟ فعلى الأول يلزم أن لا يكون العلم بحدوثه موجبا للانقلاب، بل الموجب له وجود العلم بقاء لا حدوثا، وهذا خلاف ظاهر كلامه، لظهوره في انقلاب النفسية إلى الغيرية بحدوث العلم لا بقائه. 480
وعلى الثاني يلزم التصويب المحال، لان العلم بالغيرية موقوف على وجود الوجوب الغيري قبل تعلق العلم به، لتأخر العلم عن متعلقه تأخر المعلول عن علته، والمفروض أن الغيرية منوطة بالعلم، فيكون العلم حينئذ سابقا في الرتبة على الوجوب الغيري، لكونه موضوعا له، كما يكون العلم متأخرا عنه، لكونه عارضا له كتأخر كل عرض عن معروضه، فملاك استحالة الدور وهو اجتماع النقيضين موجود، و هذا هو التصويب المحال. وعليه فما أفاده المحقق النائيني وارتضاه سيدنا الأستاذ في مجلس الدرس غير واف بدفع الاشكال. الخامس: ما اختاره بعض أعاظم العصر (مد ظله) على ما في تقرير بحثه الشريف، ومحصله: الالتزام بصحة العمل المأتي به بمقتضى الدليل، وبعدم استحقاق العقاب في هذه الموارد، إذ مستنده الشهرة و الاجماع، ولا عبرة بهما في المسألة العقلية، مضافا إلى عدم حجية الشهرة في نفسها في الأحكام الشرعية، والاجماع غير محقق، لعدم التعرض لها في كلمات كثير من الأصحاب، فالجاهل بوجوب القصر لو صلى قصرا مع تمشي قصد القربة فاما أن يحكم بصحة صلاته بعد ارتفاع الجهل واما بفسادها. فعلى الأول لا مناص من الالتزام بأن الحكم للجاهل هو التخيير بين القصر والتمام، وهذا هو الصحيح، فيحكم بصحة القصر بمقتضى إطلاقات الأدلة الدالة على وجوب القصر على المسافر، غاية الامر أنه يرفع اليد عن ظهورها في الوجوب التعييني بما دل على صحة التمام، مضافا إلى استبعاد الحكم ببطلان المأتي به قصرا حال الجهل و الامر بإعادة الصلاة قصرا. ويحكم بصحة التمام أيضا للنص 481
الخاص، فالجاهل بوجوب القصر مخير بين القصر والاتمام. وان لم يكن ملتفتا إلى التخيير، فلا موجب لاستحقاق العقاب على الاتيان بالتمام. وعلى الثاني فلا مناص من الالتزام بكون التمام واجبا تعيينيا عند الجهل بوجوب القصر، ومعه كيف يمكن الحكم باستحقاق العقاب على ترك القصر. وكذا الحال في مسألة الجهر والاخفات فلا حاجة إلى الإعادة. لكنه لا يخلو من محذور ثبوتا وإثباتا. أما الأول فلان المجعول في حق الجاهل ان كان هو وجوب القصر والتمام بنحو التخيير، فمن يكون حينئذ موضوع حكم الشارع بالوجوب التعييني؟ مع فرض استحالة الاهمال في مرحلة الجعل، توضيحه: أن تشريع القصر تعيينا إما أن يكون على مطلق المكلف عالما كان بالحكم أم جاهلا به، وإما أن يكون على خصوص العالم بالوجوب التعييني، واما أن يكون على المكلف بنحو الاهمال من حيث العلم و الجهل. فعلى الأول يلزم خلاف المدعى، لصيرورة القصر واجبا تعيينيا على الجاهل كالعالم. وعلى الثاني يلزم الدور أو اجتماع المتقابلين، إذ الموضوع بجميع قيوده - ومنها العلم بالحكم - مقدم على الحكم رتبة ولحاظا، فكيف يؤخذ العلم بالوجوب التعييني في موضوع هذا الحكم. وعلى الثالث يصح الوجوب التعييني، لكن المفروض أن إهمال الحاكم الملتفت في مقام التشريع لموضوع حكمه والأحوال الطارئة عليه محال كما يقول هو مد ظله بذلك، بل إما أن يأخذها ويقيد الموضوع بها، واما أن يرفضها، لعدم دخلها في ملاك حكمه، ولا يعقل الاهمال، كما لا يعقل التقييد. فلا بد من تسليم 482
الاطلاق، ومقتضاه شمول إطلاق الجعل لكل من العالم بالحكم و الجاهل به، وهو ينتج ضد المقصود الذي هو تخيير الجاهل بين القصر و التمام، ومعه كيف يتمشى من الشارع إنشاء الوجوب التخييري للجاهل مع فرض وجود ملاك الوجوب التعييني فيه؟ وعليه فدعوى كون المأتي به مأمورا به بالامر التخييري قد عرفت عدم تماميتها على مبنى استحالة الاهمال في مقام الثبوت. والالتزام بمتمم الجعل الذي مفاده في المقام نتيجة التقييد كما ذهب إليه المحقق النائيني أجنبي عن مقالة هذا المحقق مضافا إلى عدم تماميته في نفسه كما تقدم في مبحث القطع، فلاحظ. وأما إثباتا، فلظهور أخبار الباب في عدم وجوب الجهر في موضع الاخفات وبالعكس، لقوله: (رجل أجهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه) و لو كان الجهر واجبا تخييريا في حق الجاهل بوجوب الاخفات كان ما أتى به مما ينبغي لا مما لا ينبغي، وهذا الظهور النافي لكون المأتي به مأمورا به مما لا ينكر. الا أن يدعى: أن (لا ينبغي) مثل (يكره) لا يدل على أزيد من مطلق المرجوحية، لا خصوص ما ورد عنه منع شرعي، فيمكن فرض تعلق الامر التخييري به مع أفضلية أحد الفردين كما هو الحال في كثير من موارد التخييرات الشرعية. فتأمل. ودعوى ظهور قوله عليه السلام: (تمت صلاته ولا يعيد) في كون التمام مأمورا به حتى يكون واجبا تخييريا غير مسموعة، ضرورة أنه وارد في مقام الامتثال وفراغ الذمة، والاجتزاء به في مرحلة الفراغ لازم أعم من تعلق الامر به، لقوة احتمال كونه مسقطا للواجب من دون أن يكون نفسه واجبا، فلا دليل على تعلق 483 ثم انه ذكر (1) لأصل البراءة شرطان آخران (: [1]) 2
الامر بالتمام الموجب لوجوبه التخييري. هذه عمدة ما ظفرنا عليه من الوجوه المذكورة لحل الاشكال، وقد عرفت أن شيئا منها غير واف بدفعه عدا ما اختاره المصنف. [1] بل ذكر الفاضل التوني (ره) شروطا ثلاثة لمطلق الأصول العدمية، لا لخصوص أصالة البراءة. والشرط الثالث الذي أهمله المصنف قد أشار إليه الشيخ بعد بيان الشرط الثاني بقوله: (كما لا وجه لما ذكره من تخصيص مجرى 484 أحدهما (1): أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.
الأصل بما إذا لم يكن جز عبادة بناء على أن المثبت لأجزأ العبادة هو النص) وغرضه أن الأصل لا يجري في جز العبادة كالسورة لتعين به الواجب، إذ لا بد من تعيين الواجب بالنص لا بالأصل. أقول: هذا ليس شرطا مستقلا، بل من مصاديق الشرط الأول، لأنه مندرج فيما يكون أصل البراءة موجبا لحكم، حيث إن نفي جزئية السورة للصلاة مثلا بالأصل ان كان مثبتا لوجوب الباقي فلا يجري، لان شأن أصل البراءة نفي الحكم لا إثباته، ولعل هذا صار منشأ لعدم ذكر المصنف (قده) لهذا الشرط الثالث. 485 ثانيهما (1): أن لا يكون موجبا للضرر على آخر (2). ولا يخفى (3) أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية
486 بعد الفحص لا محالة تكون جارية (1)، وعدم (2) استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية، والإباحة (3) ورفع التكليف الثابت بالبراءة النقلية لو كان (4) موضوعا لحكم شرعي أو ملازما له [1]
[1] قد يتوهم أن ترتب الحكم الملازم على البراءة النقلية مبني على الأصل المثبت الذي لا نقول بحجيته، فيقتصر في الترتب عليها على الحكم الذي يكون موضوعه نفس البراءة النقلية. وبعبارة أخرى: يقتصر على الحكم اللازم دون الملازم. لكنه فاسد، لأن المفروض أن ذلك الحكم ملازم لنفس مضمون البراءة 488 فلا محيص (1) عن ترتبه عليه بعد إحرازه (2)، فان (3) لم يكن مترتبا عليه، بل على نفي التكليف واقعا، فهي وان كانت جارية، الا أن ذاك الحكم لا يترتب، لعدم (4) ثبوت ما يترتب عليه بها،
النقلية، وهو عدم الحكم، كما مر في وجوب الصلاة فعلا في سعة الوقت الثابت بنفي واجب فوري كأداء دين أو إزالة النجاسة عن مسجد، فان نفيه بالبراءة النقلية يلازم بلا واسطة وجوب الصلاة فعلا. 489 وهذا (1) ليس بالاشتراط. وأما اعتبار (2) أن لا يكون موجبا للضرر، فكل مقام تعمه
490 قاعدة نفي الضرر وان لم يكن مجال فيه (1) لأصالة البراءة، كما هو (2) حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية، الا أنه (3)
491 حقيقة لا يبقى لها مورد، بداهة (1) أن الدليل الاجتهادي يكون بيانا و موجبا للعلم بالتكليف ولو ظاهرا (2). فان كان المراد من الاشتراط ذلك (3) فلا بد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي، لا خصوص قاعدة الضرر (4) فتدبر، والحمد الله على كل حال.
492 ثم انه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاقتصار، وتوضيح مدركها وشرح مفادها وإيضاح نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية (1) أو الثانوية (2) وان كانت أجنبية (3) عن مقاصد الرسالة، إجابة لالتماس بعض الأحبة، فأقول وبه أستعين: انه قد استدل عليها (4) بأخبار كثيرة:
493 منها: موثقة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: (ان سمرة (1) ابن جندب كان له عذق (2) في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن فكلفه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وآله فشكا إليه، فأخبره بالخبر، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه، فقال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلما أبى فساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيعه، فقال: لك بها عذق في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار). وفي رواية الحذاء (3) عن أبي جعفر عليه السلام مثل ذلك (4)،
494 الا أنه فيها بعد الاباء: (ما أراك يا سمرة الا مضارا، اذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه) إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة (1) وغيرها، وهي كثيرة (2). وقد ادعي تواترها (3) مع اختلافها
495 لفظا (1) وموردا [1] فليكن المراد به (2) تواترها إجمالا بمعنى
[1] مقتضى هذه العبارة اعتبار الاتفاق الموردي في التواتر اللفظي و المعنوي بأن تكون قضية شخصية موردا للتواتر اللفظي ان كان نقلها متواترا بألفاظ معينة، 496 القطع بصدور بعضها (1)
وموردا للتواتر المعنوي ان كان نقلها بألفاظ مختلفة، كشجاعة مولانا أمير المؤمنين المنقولة متواترا بنقل ما صدر منه صلوات الله عليه في الحروب، فان القضايا الصادرة منه عليه السلام في الحروب وان كانت على أنحاء مختلفة، لكنها بأسرها تحكي عن شجاعته عليه السلام، فتكون الشجاعة حينئذ من المتواتر المعنوي. لكن على تقدير اعتبار وحدة القضية في التواتر المعنوي يندرج هذا في التواتر الاجمالي، دون المعنوي. الا أن اعتبار وحدة المورد غير معلوم، فالتواتر منحصر في اللفظي والمعنوي، والتواتر الاجمالي الذي أفاده المصنف من الاختلاف لفظا ومعنى أجنبي عن التواتر المصطلح عندهم كما نبهنا عليه في بحث حجية الخبر الواحد. فالانصاف أن كثرة روايات الباب ان بلغت حد التواتر ولم تكن المرسلات عين المسندات ولم تكن مضامينها وقائع مختلفة كانت من التواتر المعنوي، وان كانت وقائع مختلفة لم يفد التواتر الاجمالي بالمعنى المذكور في المتن شيئا 497 والانصاف أنه ليس في دعوى التواتر كذلك (1) جزاف، وهذا (2) مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها، وانجبار (3) ضعفها [1]
في المقام، إذ لم يتحقق التواتر على مدرك القاعدة، مع أجنبية جملة من النصوص المزبورة عن قاعدة الضرر أولا، وعدم ثبوت النقل من المعصوم عليه السلام الا بالنسبة إلى روايتين وهما رواية زرارة وأبي عبيدة الحذاء، وبذلك لا يثبت الاستفاضة فضلا عن التواتر، فيكون مدركها خبر الواحد، ولا بد في صحة الاستناد إليه من اجتماع شرائط الحجية فيه. والحاصل: أن دعوى التواتر الاجمالي بالمعنى المذكور غير ثابتة هنا أولا، وعلى تقدير ثبوتها غير مجدية ثانيا، إذ القطع بصدور واحدة من تلك الروايات مع عدم العلم التفصيلي بها، وأجنبية بعضها عن القاعدة لا يوجب صحة الاستناد إلى ما ينطبق منها على القاعدة، لاحتمال كون الصادر غيرها. [1] لا ينبغي الاشكال في انجبار ضعف الروايات بعمل المشهور بها و استنادهم 498 مع أن بعضها (1) موثقة،
إليها، لكنه بالنسبة إلى خصوص مضامينها دون غيرها، وقد عرفت أن جملة من تلك الروايات أجنبية عن قاعدة الضرر، فانجبار ضعفها بعملهم لا يصحح الاستدلال بها على القاعدة، الا أن يثبت عملهم بكل واحدة من تلك الروايات، وان لم يثبت ذلك فالدليل عليها هو موثقة زرارة المذكورة في المتن، وهي معتبرة كما عرفت في التوضيح. 499 فلا مجال (1) للاشكال فيها من جهة سندها كما لا يخفى. وأما دلالتها (2) فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع [1] من
[1] هذا خلاف ما عليه العرف العام، إذ الضرر عندهم ما يقابل التمام، فان كان شئ ناقصا عما يقتضيه طبعه كما إذا كان إنسان فاقد العين أو غيرها من الأعضاء فإنه يطلق الضرر على هذا الفقدان، كما يطلق عليه النقص، فالضرر ما يقابل التام الذي هو مقتضى طبع الشئ، فهنا أضداد ثلاثة: التمام والضرر والنفع، فالتاجر إذا ربح 500 النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال تقابل العدم والملكة
في تجارته يقال: زيد في ماله، وإذا لم يربح ولم ينقص من رأس ماله شئ لا يطلق عليه الضرر، لأنه لم ينقص شئ من ماله، ولا النفع، إذ لم يزد شئ على ماله بل يطلق عليه التمام. وتقابل التمام والضرر تقابل العدم والملكة، إذ لا يطلق الضرر إلا على ما لا ينبغي أن يكون ناقصا عما يقتضيه طبعه، فوجود البصر للانسان لا يصدق عليه النفع، بل يصدق عليه التمام، وعدمه ضرر، والنفع مزية زائدة على ما تقتضيه الطبيعة، كما إذا فرض أن مقدار رؤية البصر بحسب الطبع مسافة فرسخ، فإذا كان مقدار رؤيتها في شخص فرسخين كان هذا مزية، وهذه المزية نفع، وعدمها عدم النفع، لا أنه ضرر، فالضرر في النفس أو الطرف أو العرض وان كان نقصا فيها، لكنه نقص عما يقتضيه طبع الشئ، لا أنه نقص عن الأوصاف الزائدة عليه، فان نقصها ليس ضررا، بل هو عدم النفع. 501 كما أن الأظهر أن يكون (الضرار) بمعنى الضرر جي به تأكيدا،
فحق العبارة أن تكون هكذا: (فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل التمام من النقص في النفس. إلخ). ثم إن النسبة بين الضرر المقابل للعمام وبين الضرر المقابل للنفع هي التباين، وبين الضرر بالمعنى الأول وبين العيب الذي هو المخالفة للخلقة الأصلية زيادة أو نقيصة هي الأعم والأخص المطلق، إذ كل نقص طبيعي عيب، ولا عكس، إذ الزائد على الخلقة النوعية كالإصبع الزائدة عيب، وليس بضرر، إذ لا نقص فيما تقتضيه الطبيعة، فتأمل. وبين الضرر بالمعنى الثاني وهو المقابل للنفع وبين العيب هي التباين، لعدم صدق شئ من نقص الوصف الزائد الذي هو مزية للطبيعة على ما هو ناقص عن الطبيعة أو زائد عليها. وكذا العكس. ثم إن جعل التقابل بين النفع والضرر تقابل العدم والملكة لا التضاد كما عبر به بعض أهل اللغة، لعله لأجل أن المتقابلين بنحو التضاد لا بد من كونهما وجوديين، 502
والمفروض أن الضرر هو النقص في المال ونحوه، فهما متقابلان بنحو العدم والملكة. لكنه نشأ من الخلط بين مصطلح أهل اللغة والمعقول في كلمة الضد، فإنه عرف في الميزان بالامرين الوجوديين المندرجين تحت جامع. و لكنه في اللغة بمعنى مطلق المقابل للشئ، والمباين والمخالف له الشامل لتمام أنحاء التقابل، قال الراغب في المفردات: (قالوا: والضد هو أحد المتقابلات، فان المتقابلين هما الشيئان المختلفان للذات، وكل شئ قبالة الاخر، ولا يجتمعان في شئ واحد في وقت واحد. و ذلك أربعة أشياء: الضدان. والمتناقضان. والوجود والعدم كالبصر والعمى، والموجبة والسالبة في الاخبار، وكثير من المتكلمين و أهل اللغة يجعلون كل ذلك من المتضادات ويقول: ما لا يصح اجتماعهما) وفي بعض التعبيرات: (الضدان الخلافان). ومع الغض عنه، فلو سلم تقابل العدم والملكة في المقام، فإنما هو بين الضرر والتمام لا النفع، والنفع انما يقابل الضرر بالعرض لا بالذات كما أفاده المحقق الأصفهاني (لان الزيادة تستدعي بقاء المزيد عليه على حده الوجودي، فالنقص بمعنى عدم بقائه على صفة التمامية يستلزم عدم الزيادة، فيقابل الزيادة بالعرض) إذ المقابل له بالذات هو التمام وبالعرض هو الزيادة لاستلزامها للتمامية. الا أن يشكل أن المتقابلات إذا كانت ثلاثة أشياء لم يصح فرض التقابل بينها تقابل العدم والملكة، لتقوم هذا النحو من التقابل كالسلب و الايجاب بموضوعين 503 كما يشهد به (1) إطلاق (المضار) [1] على سمرة، وحكي (2) عن
أحدهما عدمي، الا أن شأنه أن يوجد، بخلاف السلب والايجاب، لعدم اعتبار القابلية في العدمي منهما. لكن يجاب عنه بأن المتقابلين بالأصالة هما الضرر والتمام، وتقابل الضرر مع النفع عرضي، فتأمل. [1] لم يظهر تقريب شهادته بالوحدة مع قوة احتمال إرادة الاضرار من الضرار فبمجرد عدم كونه فعل الاثنين لا يثبت اتحادهما معنى. [2] خامسها: الضيق كما عن القاموس. سادسها: أن الضرار هو السعي في إيصال الضرر. واستظهروا ذلك من بعض الآيات الشريفة كقوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا) وقوله تعالى: (ولا يضار كاتب ولا شهيد) وقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) وقوله صلى الله عليه وآله لسمرة: (انك رجل مضار) و يمكن أن يكون استعماله في هذا المعنى بقرينة نفس هذه الموارد، لا أن يكون من معانيه اللغوية أو العرفية، فلاحظ. 504 النهاية، لا فعل الاثنين (1) وان كان هو الأصل (2) في باب المفاعلة،
ففي المقام لا يبعد أن يراد بالضرار بقرينة المورد السعي في إيصال الضرر أو الاضرار، فمعنى (لا ضرر ولا ضرار) لا ضرر ولا إضرار، بأن يكون المراد بالأول نفي الحكم الضرري وبالثاني حرمة الاضرار بالغير، فليسا متحدين معنى حتى يكون الثاني تأكيدا للأول. و يمكن إرادة الاثنينية منه كما لعله المتبادر من باب المفاعلة، فالمراد نفى الضرر الانفرادي والاشتراكي بنحو الضابط الكلي، وأن الضرر بكلا قسميه منفي شرعا وان لم ينطبق الضرار على المورد، إذ المنطبق عليه خصوص الضرر، فتدبر. 505 ولا الجزاء على الضرر (1)، لعدم تعاهده من باب المفاعلة (2). وبالجملة: لم يثبت له (3) معنى آخر غير الضرر. كما أن الظاهر (4) أن يكون (لا) لنفي الحقيقة، كما هو
506 الأصل [1] في هذا التركيب حقيقة (1) أو ادعاء (2) كناية عن نفي الآثار، كما هو (3) الظاهر من مثل (لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد) [2]
[1] الأولى تأخيره عن قوله: (حقيقة) بأن يقال: (لنفي الحقيقة حقيقة كما هو الأصل في هذا التركيب أو ادعاء) إذ المراد بالأصل هو الوضع، فيلزم انقسام الوضع إلى النفي الحقيقي والادعائي، نظير انقسام الموضوع له إلى المعنى الحقيقي والمجازي، وهذا الانقسام كما ترى. نعم ان كان المراد بالأصل الغلبة فلا بأس بالعبارة المزبورة، لان المعنى حينئذ هو: أن (لا) النافية لنفي الحقيقة كما هو الغالب حقيقة أو ادعاء، فانقسام الغلبة إلى النفي الحقيقي والادعائي صحيح، دون المعنى الحقيقي. [2] لعل الأولى تبديله بمثل (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) مما يكون المنفي فيه غير وصف الكمال، إذ المصحح لنفي الطبيعة ادعاء ومبالغة يعتبر أن يكون من 507 و (يا أشباه الرجال ولا رجال) فان (1) قضية البلاغة [1] في الكلام
الآثار المهمة التي يكون انتفاؤها مساوقا بنظر العرف لانتفاء الطبيعة. وأما انتفاء الصفات الكمالية مع وجود الصفات القوامية فلا يسوغ نفي الحقيقة ادعاء. [1] لا يخفى أن البلاغة غير ملحوظة في روايات الاحكام خصوصا إذا لم تكن الرواة من أهل العلم، فان المقصود فيها تفهيم السائلين بعبارات واضحة جدا بحيث لا يتطرق إليها احتمال خلاف. وعليه فلا تكون الأقربية إلى البلاغة مزية توجب أرجحية إرادته من غيره. 508 هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء (1)، لا نفي الحكم (2) أو الصفة (3) كما لا يخفى. ونفى (4) الحقيقة ادعاء
510 بلحاظ الحكم (1) أو الصفة غير نفي أحدهما ابتدأ مجازا في التقدير أو في الكلمة (2) مما (3) لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة. وقد انقدح بذلك (4)
511 بعد (1) إرادة نفي الحكم الضرري (2)، أو الضرر غير المتدارك (3)، أو إرادة النهي من النفي (4) جدا، ضرورة [1] 5 بشاعة استعمال الضرر
[1] الأولى أن يقال: (مضافا إلى بشاعة. إلخ) لأنه وجه آخر لعدم إرادة ما عدا نفي الموضوع والحقيقة من سائر المعاني، والوجه الأول هو الذي أشار إليه بقوله: (بذلك) لان الباء للسببية، فكأنه قيل: (وقد انقدح بسبب أقربية نفي الحقيقة ادعاء بالبلاغة بعد إرادة نفي الحكم الضرري. إلخ مضافا إلى بشاعة استعمال الضرر.). 512 وإرادة خصوص سبب (1) من أسبابه، أو خصوص غير المتدارك منه (2). ومثله (3) لو أريد ذاك (4) بنحو التقييد، فإنه (5) وان لم يكن ببعيد،
513 الا أنه بلا دلالة عليه غير سديد. وإرادة النهي (1) من النفي وان كان ليس بعزيز (2)، الا أنه لم يعهد من مثل هذا التركيب (3). وعدم (4) إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة
514 لا يكاد (1) يكون قرينة على إرادة واحدة منها بعد (2) إمكان حمله على نفيها ادعاء، بل كان (3) هو الغالب في موارد استعماله.
515 ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر (1) هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها (2) أو المتوهم (3) ثبوته لها كذلك
516 في حال (1) الضرر، لا الثابت (2) له بعنوانه، لوضوح (3) أنه العلة للنفي، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه، بل يثبته و يقتضيه (4).
517 ومن هنا (1) لا يلاحظ النسبة بين أدلة الاحكام، وتقدم أدلته
518 على أدلتها (1)، مع أنها (2) عموم من وجه، حيث (3) انه يوفق بينهما
519 عرفا بأن الثابت (1) للعناوين الأولية اقتضائي يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من (2) عنوان الضرر بأدلته، كما هو (3) الحال في التوفيق بين سائر الأدلة المثبتة (4) أو النافية لحكم الافعال (5) بعناوينها الثانوية
520 والأدلة (1) المتكفلة لحكمها بعناوينها الأولية (2). نعم (3) ربما يعكس الامر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس (4) بنحو الاقتضاء، بل بنحو العلية التامة (5).
521 وبالجملة (1): الحكم الثابت بعنوان أولي تارة يكون بنحو الفعلية مطلقا (2) أو بالإضافة (3) إلى عارض دون عارض
522 بدلالة (1) لا يجوز الاغماض عنها بسبب (2) دليل حكم العارض (3) المخالف له، فيقدم (4) دليل ذاك العنوان (5) على دليله. وأخرى (6) يكون [1] على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الاغماض
[1] سوق الكلام يقتضي أن تكون العبارة هكذا: (وبالجملة ان كانت دلالة 523 عنها بسببه عرفا (1)، حيث (2) كان اجتماعهما قرينة على أنه بمجرد
دليل فعلية الحكم الأولي بنحو الاطلاق أو الإضافة إلى بعض العناوين الثانوية بمثابة لا يجوز الاغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له قدم دليله على دليل حكم العارض. وان كانت بمثابة يجوز الاغماض عنها لزم التوفيق بينهما عرفا بقرينة اجتماعهما بحمل الحكم الأولي على الاقتضائي والعارض على المانع الفعلي). وجه العدول إلى هذه العبارة هو: أن المفروض في التوفيق العرفي المفروغية عن وجود الدلالة في كلام الدليلين، إذ مع فرض إجمال أحدهما يخرج عن مورد التوفيق العرفي، ويندرج في المجمل والمبين. 524 المقتضي، وأن (1) العارض مانع فعلي. هذا (2) ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله (3)، لعدم (4) ثبوت نظره [1] إلى مدلوله
وعليه فلا حاجة إلى قوله (قده): (لو كانت هناك دلالة) الا أن تكون هذه القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، فتدبر. [1] ان كان المراد بالنظر التعرض والشرح لمدلول الدليل المحكوم 525 كما قيل (1).
بكلمة (أي وأعني) وأمثالهما فذلك مجرد فرض ظاهرا، وليس هو مراده قطعا بعد وضوح التزامه بالحكومة في كثير من الموارد التي منها المقام على ما صرح به في عبارته المنقولة في التوضيح مع فقدان التعرض فيها بالنحو المزبور، فهذا يكشف عن عدم كون النظر بتلك الكيفية مراده. والنظر بغير الوجه المزبور موجود هنا، إذ بناء على كون الضرر عنوانا لنفس الحكم يكون المعنى: أن الحكم الشرعي المؤدي إلى الضرر غير مجعول، وهذا البيان ناظر إلى الأحكام الشرعية المؤدية إلى الضرر، وهذا المقدار من النظر كاف في تحقق الحكومة خصوصا بناء على وجود كلمة (في الاسلام) في روايات قاعدة الضرر، إذ معناه حينئذ 526 ثم انقدح بذلك (1) حال توارد دليلي العارضين كدليل نفي العسر
عدم جعل الضرر في الاحكام. وبالجملة: فحكومة (لا ضرر) بناء على المعنى الذي اختاره الشيخ (قده) على أدلة الاحكام الأولية ثابتة، هذا. بل الحكومة بناء على مختار المصنف (قده) من نفي الحكم بلسان نفى الموضوع أيضا ثابتة، لان مفاد (لا ضرر) بناء عليه هو نفي حكم الموضوع الضرري، ومن المعلوم أنه ناظر إلى ذلك الحكم حتى يرفعه حال عروض الضرر على ذلك الموضوع. 527 ودليل نفي الضرر مثلا (1)، فيعامل معهما معاملة المتعارضين (2) لو (3) لم يكن
528 من باب تزاحم المقتضيين، والا (1) فيقدم ما كان مقتضية أقوى وان كان دليل الاخر أرجح وأولى (2). ولا يبعد أن الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب (3)، لثبوت (4) المقتضي فيهما
529 مع (1) تواردهما، لا من باب التعارض، لعدم ثبوته (2) إلا في أحدهما كما لا يخفى. هذا (3) حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر (4). وأما (5) لو تعارض مع ضرر آخر فمجمل القول فيه: ان الدوران
530 ان كان بين ضرري شخص واحد (1) أو اثنين [1 [2 فلا مسرح الا
[1] لا يخفى أن دوران الضرر بين شخصين يشمل كل اثنين من عدم كون أحدهما 531 لاختيار أقلهما (1) لو كان، وإلا (2) فهو مختار. و أما (3) لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره، فالأظهر عدم لزوم
المكره - بالفتح - كما في القسم الثاني المتقدم في التوضيح، ومن كونه أحدهما كما سيأتي في القسم الثالث، كما يشمل الضرر الدائر بينهما الضرر المتوجه من الظالم إليهما، وغيره كما إذا لزم من حفر بالوعة في داره ضرر على الجار، ومن تركه ضرر على نفسه، فان هذين الضررين وردا في عرض واحد عليهما، ويصدق عليهما دوران الضررين بين اثنين. والحاصل: أن ضرر نفسه وضرر غيره من مصاديق الضرر الدائر بين اثنين، فلم يظهر وجه لذكره مستقلا. وان أريد به ما إذا توجه إلى الغير، كما إذا أكرهه الظالم على أخذ مال من زيد، فهو ليس من دوران الضرر بين اثنين، لتوجه الضرر إلى خصوص زيد، غاية الامر أنه أكره على أخذه من زيد. 532 تحمله الضرر ولو كان ضرر الاخر أكثر، فان (1) نفيه يكون للمنة على
533 الأمة، ولا منة على تحمل الضرر لدفعه عن الاخر وان كان أكثر. نعم [1 [1 لو كان الضرر متوجها إليه ليس له (2) دفعه عن نفسه
[1] الأولى تبديله ب (اما) لظهور (نعم) في الاشتراك في الموضوع والاختلاف في الحكم، مثل (جاء القوم إلا زيدا) فان الاختلاف بين المستثنى والمستثنى منه انما هو في الحكم أعني المجئ مع الاشتراك في الموضوع، وهو كونه من القوم، بخلاف ما نحن فيه، فان ما بعد (نعم) أجنبي عما قبله موضوعا، لان دوران الامر بين ضرر نفسه وضرر غيره مخالف لتوجه الضرر إلى نفسه، ضرورة أنه ليس من الدوران أصلا، بل من موارد توجه الضرر أولا وبالذات إلى فرد خاص، فتحمله للضرر حينئذ ليس من تحمل الضرر عن غيره، لعدم وروده على الغير حتى يصدق تحمله عنه. 534 بإيراده على الاخر. اللهم الا أن يقال: [1 [1 ان نفي الضرر وان كان للمنة، إلا أنه (2) بلحاظ نوع الأمة، واختيار الأقل بلحاظ النوع منه، فتأمل (3)،
[1] الأولى جعل هذا عقيب قوله: (وان كان أكثر) لأنه متمم ذلك. 535 قاعدة لا ضرر ولا ضرار
538 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد أنبيائه محمد وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين. أما بعد فلما كانت قاعدة نفي الضرر من القواعد الفقهية التي يكثر البحث عنها والابتلاء بفروعها أحببت أن أتعرض لما هو المهم من جهاتها، فنقول وبه نستعين: ان في هذه القاعدة مبحثين: الأول في مدركها، والثاني في مفادها. أما المبحث الأول، ففيه جهات ثلاث: الأولى في مستندها، الثانية في اشتمال بعض روايات الباب على كلمة (في الاسلام) أو (على مؤمن) بعد (لا ضرر ولا ضرار) وخلو بعضها الاخر عن هاتين الكلمتين. الثالثة: في أن جملة (لا ضرر ولا ضرار) صدرت على وجهين: أحدهما: في ذيل قصة سمرة ومنع فضل الماء ومنع فضل ماء البئر بحيث تكون كبرى لقضية خارجية، والاخر بالاستقلال من دون جعلها كبرى لقضية خارجية، ويقع البحث في أنه يتفاوت ذلك في الاستدلال على اعتبار القاعدة أولا، وسيتضح ذلك إن شاء الله تعالى. أما الجهة الأولى ففي مستند القاعدة، وهي روايات وهاكها: 1 - موثقة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (ان سمرة بن جندب
539 كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فشكاه إليه وخبره الخبر، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وخبره بقول الأنصاري وما شكا، وقال: ان أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمد لك في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر وضرار) 2 - مرسلة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (قال: ان سمرة بن جندب كان له عذق، وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجي ويدخل إلى عذقه بغير اذن من الأنصاري، فقال له الأنصاري: يا سمرة لا تزال تفاجئنا على حال لا نحب أن تفاجئنا عليها، فإذا دخلت فاستأذن، فقال: لا أستأذن في طريق وهو طريقي إلى عذقي، قال: فشكا الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله فأتاه، فقال له: ان فلانا قد شكاك وزعم أنك تمر عليه وعلى أهله بغير اذنه، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل، فقال: يا رسول الله: أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: خل عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا، فقال: لا، قال: فلك اثنان، قال: لا أريد، فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق، فقال: لا، قال: فلك عشرة في مكان كذا وكذا، فأبى، فقال: خل عنه ولك مكانه عذق في الجنة، قال: لا أريد، فقال له رسول صلى الله عليه وآله: انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن، قال: ثم أمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله فقلعت ثم رمي بها إليه، وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: انطلق فاغرسها حيث شئت).
540 3 - رواية أبي عبيدة الحذاء، قال: (قال أبو جعفر عليه السلام: كان لسمرة ابن جندب نخلة في حائط بني فلان، فكان إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شئ من أهل الرجل يكرهه الرجل قال: فذهب الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فشكاه، فقال يا رسول الله: ان سمرة يدخل علي بغير إذني فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتى تأخذ أهلي حذرها منه، فأرسل إليه رسول الله فدعاه، فقال: يا سمرة ما شأن فلان يشكوك ويقول: يدخل بغير إذني فترى من أهله ما يكره ذلك، يا سمرة استأذن إذا أنت دخلت، ثم قال رسول الله: يسرك أن يكون لك عذق في الجنة بنخلتك، قال: لا، قال: لك ثلاثة، قال: لا، قال: ما أراك يا سمرة إلا مضارا اذهب يا فلان فاقطعها [فاقلعها] واضرب بها وجهه). 4 - رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (قضى رسول الله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا أرفت الأرف وحدت الحدود فلا شفعة). 5 - عنه عن أبي عبد الله عليه السلام أيضا، قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نفع الشئ، وقضى صلى الله عليه وآله بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلا، فقال: لا ضرر ولا ضرار). 6 - عنه عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: (لا ضرر ولا ضرار).
541 7 - مرسلة الصدوق عنه صلى الله عليه وآله قال: (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام، فالاسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا). 8 - مرسلة الدعائم: (روينا عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه سئل عن جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط، فامتنع من بنيانه، قال: ليس يجبر على ذلك، الا أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحق أو بشرط في أصل الملك، ولكن يقال لصاحب المنزل، استر على نفسك في حقك ان شئت، قيل له: فان كان الجدار لم يسقط، ولكنه هدمه أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه، قال: لا يترك، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا ضرر ولا ضرار [إضرار] وان هدمه كلف أن يبنيه). 9 - عنه أيضا: (روينا عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام: ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا ضرر و لا ضرار). هذه مجموع ما ظفرنا عليه من الروايات المشتملة على جملة (لا ضرر ولا ضرار) التي هي سند القاعدة، وان لم ترد في رواية الحذاء، لكنا نقلناها باعتبار حكايتها لقصة سمرة واشتمالها على كلمة (مضار) وإلا فالاخبار المتضمنة لمادة الضرر بصيغها المختلفة مثل (أن يضر، هذا الضرار، أضرت، الا أن يضاروا، غير مضار، من ضار مسلما، أن لا يضر) ونحوها كثيرة، ولعل دعوى فخر الدين تواتر نفى الضرر بلحاظ مجموع ما اشتمل على هذه المادة وسيأتي نقل بعضها بالمناسبة، وإلا فما تضمن خصوص جملة (لا ضرر ولا ضرار) لا يبلغ حد التواتر قطعا. ولا بد في الاستناد إلى هذه الجملة إما من إثبات استفاضة نقلها كما في تقرير المحقق النائيني، وإما من تصحيح سند بعضها. وحيث يحتمل اتحاد بعض
542 المرسلات المتقدمة مع المسندات، وعدم اعتبار جميع المسندات، فدعوى الاستفاضة مشكلة. وينتهي الكلام إلى البحث السندي، و الظاهر أن المعتبر منها خصوص موثقة زرارة كما تقدم في توضيح كلام المحقق الخراساني. وأما مرسلة زرارة فهي وان رواها الكافي، لكن الارسال مانع عن الاعتماد عليها، الا بنظر من يطمئن بصدور روايات الكتب الأربعة أو خصوص الكافي، فقد حكي عن بعض الأجلة أن البحث عن أسناد أخباره حرفة العاجز. وعليه فعد الشيخ الأعظم هذه الرواية في عداد ما هو أصح سندا وأوضح دلالة لا يخلو من تأمل. وأما رواية الحذاء، فهي وان كانت مسندة، وطريق الصدوق إلى الحسن بن زياد الصيقل صحيح، الا أن الحسن حيث لم يرد فيه توثيق خاص ولا عام فالاعتماد على روايته مشكل، ومجرد رواية بعض أصحاب الاجماع كيونس بن عبد الرحمن عنه قاصر عن إثبات وثاقته كما تقرر في محله، وإصرار شيخ الشريعة على إثبات اعتبار هذه الرواية لا يخلو من شئ. وأما روايات عقبة بن خالد فهي بناء على المشهور ضعيفة به وبمن يروي عنه أعني محمد بن عبد الله بن هلال. وأما بناء على الاعتماد على عموم توثيق كامل الزيارات وشموله لمن يروي عنه ابن قولويه مع الواسطة، فحيث ان كلا من الرجلين وقع في أسناد كتابه، فيشمله التوثيق العام، وتتصف رواية عقبة بالاعتبار، مضافا إلى ما قيل من أن الراوي عن محمد بن عبد الله هو محمد بن الحسين أبي الخطاب الثقة، لاستبعاد روايته عن غير الثقة، فتأمل. تحديد متن الحديث وأما الجهة الثانية فمحصلها: أنه قد يقال: باندراج المقام في الدوران بين الزيادة والنقيصة، فتجري فيه أصالة عدم الزيادة التي هي المرجع في الدوران
543 المزبور عند أرباب الحديث، كما أجراها بعض في روايات الكر المشتمل بعضها على ثلاثة أشبار ونصف في الابعاد الثلاثة، وبعضها على ذلك في بعض أبعاده، وبذلك ضعفوا مستند القميين القائلين بكفاية بلوغ الماء من حيث المساحة سبعة وعشرين شبرا، هذا. لكن فيه أولا: أن الأصل المزبور وان كان مسلما عند أهل الدراية. لكنه لا أصل له، لتطرق احتمال الغفلة في كل من طرفي الزيادة و النقيصة. وأرجحية احتمال عدم الزيادة على فرض حصولها من احتمال عدم النقيصة ظن لا دليل على اعتباره، ولا عبرة بما ذكروه مستندا لحجية أصالة عدم الزيادة، لأنها وجوه استحسانية. ودعوى كون بناء العقلاء تعبدا على أصالة عدم الزيادة غير مسموعة، حيث إن بناءهم في عملهم انما هو على الاطمئنان، دون التعبد. وثانيا: أن مورد هذا الأصل بعد تسليم اعتباره هو الزيادة المغيرة للمعنى، دون الزيادة غير المغيرة له كما في المقام، حيث إن نفي الضرر شرعا يراد به نفيه في الاسلام، فلا يتفاوت المعنى بوجود كلمة الاسلام وعدمها. كما لا يختل حكومة قاعدة نفي الضرر بعدم كلمة (الاسلام) في مدرك القاعدة كما عن الشيخ (قده) لما عرفت من أن هذه الكلمة بمنزلة القيد التوضيحي، فوجودها كعدمها في عدم التأثير في معنى جملة (لا ضرر) ولا في حكومته على أدلة الاحكام الأولية كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وثالثا: أن مورد جريان أصالة عدم الزيادة هو الرواية التي ثبت اعتبارها، والمفروض أن الرواية المشتملة على كلمتي (الاسلام) و (على مؤمن) مرسلة ولم يثبت انجبارها، فالمستند حينئذ هو الروايات المسندة الخالية عن هاتين الكلمتين، فلا بد من العمل بها و الاستناد إليها دون المرسل كما لا يخفى. ورابعا: أن مورد أصالة عدم الزيادة هو الرواية الواحدة الحاكية لقضية شخصية نقلها واحد بدون زيادة كلمة ونقلها آخر معها، وأما مع إمكان تعدد المروي
544 تارة مع الزيادة وأخرى بدونها كما في المقام، فلا تنافي بينهما، إلا أن هذه الزيادة كما أشرنا إليها لم تثبت في شئ من الاخبار المسندة، وانما تضمنها ما أرسله العلامة في التذكرة وأثبتها ابن الأثير، وهو عامي، فلا مورد لأصالة عدم الزيادة هنا. نعم يترتب فائدة على وجود كلمة (على مؤمن) وهي: اختصاص حرمة الاضرار بالمؤمن الذي ظاهره الايمان بالمعنى الأخص، إذ هو الجدير بالامتنان دون غيره من المعاهد والذمي، بل ولا فرق المسلمين، بل ولا فرق الشيعة غير الفرقة الناجية الاثني عشرية كثرهم الله تعالى في البرية، فلا بد في إثبات حرمة الاضرار بغير المؤمن كحرمة الاضرار بالنفس كحرمة الوضوء والحج الضرريين من التماس دليل آخر. فيختص (لا ضرر) بالحكم الضرري بالنسبة إلى الغير، لكن عمدة الاشكال هي عدم اعتبار المرسلة المتضمنة لكلمة (على مؤمن). وأما الجهة الثالثة: وهي صدور (لا ضرر) مجردا عن قضية خارجية في بعض الروايات كروايتي دعائم الاسلام وغيرها ومقرونا بها في بعضها الاخر كقصة سمرة وأخبار الشفعة ومنع فضل الماء، فمحصل الكلام فيها: أنه يقع الاشكال في أن (لا ضرر) في بعضها كقصة سمرة يصح أن يكون كلية منطبقة على قصة سمرة وغيرها، ولا يصح ذلك في سائر الروايات، فحاصل الاشكال: أن (لا ضرر) فيما ورد مجردا عن قضية خارجية أو معها مع صحة كبرويته لها يكون قاعدة كلية فقهية. وأما فيما ورد مقرونا بقضايا خارجية لا تكون علة تامة للضرر، فلا يصح أن يكون كبرى كلية. وعليه، فكيف يستظهر منه قاعدة كلية تارة وعدمها أخرى؟ وقد تصدى لدفع هذا الاشكال المحقق النائيني والعلامة المتتبع شيخ الشريعة.
545 أما النائيني فمحصل ما أجاب به عن هذا الاشكال هو حمل (لا ضرر) في بعض الروايات على الموضوعية، وفي بعضها الاخر على الملاكية، ولأجل كون الضرر مشككا لا متواطيا يصح جعله ببعض مراتبه موضوعا وببعضها ملاكا. وتوضيحه منوط ببيان أمور: الأول: أن علة الجعل - وهي الملاك الداعي إلى تشريع الحكم - مغايرة لعلة المجعول، وهي موضوع الحكم، حيث إن الملاك حكمة للجعل، فلا اطراد ولا انعكاس له، بخلاف الموضوع، فإنه مطرد ومنعكس، ضرورة أن الحكم يدور مدار موضوعه وجودا وعدما، وإلا يلزم الخلف والمناقضة كما قرر في محله. ثم استشهد للأول بوجوب العدة على المرأة، واستحباب غسل الجمعة، حيث إن ملاك الأول اختلاط المياه واختلال الأنساب مع عدم اطراده، لوجوب العدة على المرأة التي لم يباشرها زوجها مدة مديدة، وملاك الثاني دفع أرياح الإباط مع عدم اطراده أيضا، لاستحبابه مع التنظيف الكامل وعدم أثر لأرياح الإباط. الثاني: أنه لا بد من الاختلاف بين الملاك والموضوع ولو بحسب المترتبة فالكلي المتواطئ لا يصلح لان يقع كليهما، بل لا بد أن يكون مشككا، لما عرفت من المغايرة بين الملاك والموضوع وامتناع اتحادهما. الثالث: أن الأصل في العناوين الواقعة في حيز الخطابات الشرعية أن تكون موضوعات الاحكام، أو من أجزائها وقيودها، لا الفوائد و الآثار التي هي من الأمور الخارجية الداعية إلى تشريع الاحكام، لان بيانها اخبار عن أمور تكوينية، وهو أجنبي عن مقام شارعية الشارع. لكن هذا الأصل متبع ما لم تقم قرينة على خلافه. إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم: أن جملة (لا ضرر) في قضية سمرة تكون موضوعا أي علة للمجعول، لان دخول سمرة إلى حائط الأنصاري بدون الاذن كان
546 علة تامة للضرر، وهو هتك عرضه الذي يعد من أعظم المضار التي لا تتحمل عادة، وصغرويته لكبرى الضرر مسلمة، فيستفاد منه قاعدة كلية، وهي: أن كل فعل ضرري لا حكم له، لان التعدي عن المورد إلى مثله مقتضى العلة المنصوصة. وأما جملة (لا ضرر) في ذيل روايات الشفعة ومنع فضل الماء فلا تصح لان تكون علة للمجعول، ضرورة أن بيع الشريك حصته من أجنبي ليس علة تامة للضرر حتى يكون من صغريات قاعدة الضرر، إذ ربما يكون الشريك الجديد مؤمنا متقيا حسن الأخلاق وأحسن معاشرة له من الشريك القديم، ولا يتضرر من مشاركته، بل ينتفع به، فهذا البيع ليس علة تامة ولا مقتضيا للضرر حتى يكون مصداقا لقاعدة الضرر. وكذا منع فضل الماء، فإنه ليس علة تامة للضرر وهو تلف المواشي، لامكان سقيها من غير هذا الماء أو نقلها إلى مكان آخر. وبالجملة: فبيع الشريك وكذا منع فضل الماء ليسا من العلل التامة للضرر. ولو بني على كون الفعل المقتضي أو المعد للضرر من صغريات قاعدة نفي الضرر لزم من ذلك تأسيس فقه جديد، لجواز التعدي حينئذ إلى جميع ما يشابه هذين الموردين من الافعال المقتضية أو المعدة للضرر، ففي الشفعة يتعدى من موردها وهو غير المنقول إلى المنقول كالفرش وغيره من أثاث البيت، ومن البيع إلى سائر النواقل كالهبة والصلح، ومن منع فضل الماء إلى منع سائر الأموال من الفلوس والبيوت والألبسة وغيرها، فيجوز للفقير أخذ فضول أموال الأغنياء المؤمنين لان منع أموالهم عن الفقراء ضرر على الفقراء. و هذا كما ترى مخالف للضرورة الدينية ومستلزم للهرج والمرج. فهذا المحذور يوجب رفع اليد عن ظهور (لا ضرر) في موردي الشفعة ومنع فضل الماء في الموضوعية، ولزوم حمله فيها على الملاكية التي ليست هي بمطردة ولا منعكسة.
547 والاشكال عليه بأن ضابط حكمة التشريع أيضا لا ينطبق على الواقع في ذيل روايتي الشفعة ومنع فضول الماء، حيث إن ضرر الشريك على فرضه في بعض الموارد يندفع بما هو متقدم طبعا على الاخذ بالشفعة، وهو عدم لزوم بيع الشريك. وكذا منع فضول الماء، فإنه لا يوجب الضرر، بل يوجب عدم النفع. (مندفع) أما في الشفعة، فبأن عدم لزوم البيع يوجب الضرر على البائع، لأنه لا يقدر حينئذ على بيع حصته دائما على وجه اللزوم، فجعل حق الشفعة ناظر إلى دفع الضرر عن كلا الشريكين. وأما منع فضل الماء فقد يكون سببا لتلف المواشي والزرع، وليس في جميع الموارد موجبا لعدم النفع، وهذا الضرر بنحو الموجبة الجزئية كاف في تحقق حكمة التشريع فيه وانطباق ضابطها عليه. فحاصل جواب المحقق النائيني (قده) عن الاشكال هو: كون (لا ضرر) في قصة سمرة علة للمجعول، وفي موردي الشفعة ومنع فضل الماء علة للجعل. ففي الأول يتعدى إلى كل فعل يكون علة تامة للضرر كفعل سمرة كما هو شأن العلة المنصوصة. وفي الثاني يقتصر على الشفعة ومنع فضل الماء كما هو شأن حكمة التشريع المعبر عنها بالملاك وعلة الجعل، هذا. وأما شيخ الشريعة (قده) فقد حسم مادة الاشكال ومنشأه، وجزم بأن (لا ضرر) لم يذكر في النصوص صدرا ولا ذيلا لقضية خارجية - غير قضية سمرة - حتى يستشكل في كيفية الاستظهار منه وأنه علة للجعل أو للمجعول، وإجماله أنه (قده) أتعب نفسه الشريفة بالتتبع والفحص عن ورود هذه الكلمة في كتب أحاديث الفريقين وعدمه، وبعد الظفر بأقضية النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي رواها أحمد بن حنبل مجتمعة عن عبادة ابن صامت عرض عليها الأقضية المروية بطرقنا عن عقبة بن خالد عن الصادق عليه الصلاة والسلام التي فرقها أصحاب الحديث رضوان الله تعالى عليهم على أبواب الفقه، فوجدها مطابقة لها، إلا أن (لا ضرر) كان فيما رواه ابن حنبل مستقلا غير
548 . مصدر ولا مذيل بقضية خارجية، نظير (لا رهبانية في الاسلام) و (لا شغار) ونحو ذلك مما ورد مستقلا، وحصل له بهذا التتبع العلم بأن خبري الشفعة ومنع فضل الماء كانا في الأقضية المروية من طرقنا أيضا خاليين عن جملة (لا ضرر) وأصحاب الحديث حين تدوين الأحاديث جعلوا هذه الجملة في ذيل قضيتي الشفعة ومنع فضل الماء، فليس (لا ضرر) جزا من هاتين الروايتين حتى يقع الاشكال في كيفية الاستظهار منه. وبالجملة: فعلى هذا التتبع ينهدم أساس الاشكال ولا يتصور بقاؤه حتى يدفع بجعل (لا ضرر) تارة علة للمجعول كما في قصة سمرة، و أخرى علة للجعل كما في خبري الشفعة ومنع فضل الماء هذا. وقد اعترض سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس على كلا الجوابين. أما الجواب الأول فبما حاصله: أن دعوى عدم لزوم اطراد الملاكات وانعكاسها، لكونها حكما للتشريع لا عللا له خالية عن البرهان، بل البرهان قائم على خلافها، للزوم الجزاف والترجيح بلا مرجح، ضرورة أن ثبوت حكم لموضوع دون آخر لو لم يكن لملاك فيه وان كان ذلك الملاك موجودا في موضوع آخر كان ترجيحا بلا مرجح، وهو قبيح، مثلا إذا كان اختلاط المياه في المرأة المطلقة المدخول بها داعيا إلى تشريع العدة لها لا يصلح ذلك لان يكون ملاكا لتشريع العدة للمرأة التي تركها الزوج ولم يباشرها مدة مديدة، فان وجود الملاك في بعض الافراد لا يصحح تشريع الحكم في البعض الاخر الفاقد لذلك الملاك أو لغيره، إذ ليس ذلك إلا من تشريع الحكم لفاقد الملاك، وهذا هو الجزاف الذي لا يصدر من العاقل فضلا عن الحكيم. وعليه فحمل (لا ضرر) في خبري الشفعة ومنع فضل الماء على الملاك، ودعوى عدم اطراده وانعكاسه، بعد وضوح بطلان الترجيح بلا مرجح، وكون الاحكام
549 انحلالية ليس على ما ينبغي، بل موضوعية الموضوع انما هي بالملاك، فلا محيص عن اطراده وانعكاسه كالموضوع. فدعوى كون الملاك حكمة لا علة حتى تكون مطردة ومنعكسة خالية عن الشاهد. والموارد التي استشهد بها على عدم اطراد الملاكات وانعكاسها فيها كوجوب العدة واستحباب غسل الجمعة لا تشهد بذلك، لتوقف شهادتها به على دلالتها على انحصار ملاك التشريع في اختلاط المياه في الأول، ودفع أرياح الإباط في الثاني، ومن المعلوم عدم دلالتها على ذلك أصلا، فاحتمال وجود ملاكات أخر لم تظهر لنا بعد باق ولا دافع له. فتلخص مما ذكرنا: أن الاشكال لا يندفع بما أفاده المحقق النائيني (قده). وأما الجواب الثاني فبما محصله: أن الجزم بما أفاده شيخ الشريعة (قده) من أن تذييل خبري الشفعة ومنع فضل الماء بلا ضرر كان من أئمة الحديث، ولم يكن من النبي أو الامام صلوات الله عليهما مشكل جدا، لان ذلك مستلزم لسوء الظن بأئمة الحديث وعدم أمانتهم في ضبط الأحاديث التي تلقوها ونقلها إلى غيرهم كما ضبطوها، وتصرفهم فيها بما يغير المعنى، نظير التقطيعات الموجبة لانقلاب الظهورات واختلاف المعاني، وليس هذا التصرف جائزا لهم، كما لا يجوز النقل بالمعنى إذا كان مغيرا له. والحاصل: أنه لا يمكن الالتزام بما لا يجوز ارتكاب الأصحاب له من النقص والزيادة والنقل المغيرة للمعنى، وقد عرفت اختلاف معنى (لا ضرر) الواقع في ذيل قصة سمرة مع الواقع في ذيل خبري الشفعة ومنع فضل الماء اختلافا فاحشا، حيث إن الواقع في قصة سمرة كبرى كلية، بخلاف ما وقع في ذيل خبري الشفعة ومنع فضل الماء، حيث إنه لا يصح أن يكون كبرى كلية ولو لموردهما. فتلخص من جميع ما ذكرنا: عدم اندفاع الاشكال بشئ من جوابي شيخ الشريعة والنائيني (قدهما) فلا بد من علاج آخر لدفع الاشكال، بأن يقال:
550 . انه يمكن أن يراد بالضرر في حديث منع فضل الماء بقرينة منع فضل الكلأ عدم الانتفاع، حيث إن منع فضل الماء علة تامة لعدم الانتفاع بالكلاء، فضررهم عبارة عن عدم انتفاعهم، فان الضرر خلاف النفع كما عن الصحاح، وضد النفع كما عن القاموس، وحيث إن المورد - وهو الماء - من المشتركات فيتعدى منه إلى مثله من سائر المشتركات، والنهي عن الضرر فيه تنزيهي، ولذا حكم فيه بكراهة منع فضل الماء لا حرمته، هذا. وأما (لا ضرر) في حديث الشفعة، فيمكن أن يراد به سوء الحال كما هو أحد معانيه على ما عن القاموس، حيث إن بيع الحصة من أجنبي يوجب سوء حال الشريك ونقصا في اعتباره ووجاهته بين الناس. هذا ما يمكن أن يقال في دفع الاشكال في مقام الثبوت، ولكن لا دليل عليه إثباتا، فلا يمكن الالتزام به، فالأولى رد علم (لا ضرر) الواقع في ذيل حديثي الشفعة ومنع فضل الماء إلى أهله صلوات الله عليهم أجمعين. هذا ما أفاده سيدنا الأستاذ في مجلس الدرس. وأما قول شيخ الشريعة (قده): (والذي أعتقده أنها كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام كما في رواية عبادة بن الصامت، الا أن أئمة الحديث فرقوها على الأبواب) فتوضيح الجواب عنه موقوف على إيضاح مرامه ببيان كلامه تقديرا لما بذله من جهد بليغ وعناية فائقة لاثبات مقصوده، سيما وقد اختار جمع من الأعاظم ما استظهره من عدم تذيل خبري الشفعة ومنع فضل الماء بقضائه صلى الله عليه وآله بلا ضرر، فجزم به المحقق النائيني لوجوه، ومال إليه المحقق الأصفهاني في تعليقته الأنيقة، فينبغي نقل كلامه ثم التأمل فيه طلبا لحقيقة الحال، قال: (يظهر بعد التروي والتأمل التام في الروايات: أن الحديث الجامع لاقضية رسول الله صلى الله عليه وآله وما قضى به في مواضع مختلفة وموارد متشتتة كان معروفا عند الفريقين أما من طرقنا فبرواية عقبة بن خالد عن الصادق عليه السلام، ومن طرق
551 أهل السنة برواية عبادة بن الصامت، فقد روى أحمد بن حنبل في مسندة الكبير الجامع لثلاثين ألف عن عبادة بن الصامت، قال: ان من قضاء رسول الله أن المعدن جبار والبئر جبار والعجماء جرحها جبار، والعجماء البهيمة من الانعام وغيرها، والجبار هو الهدي الذي لا يغرم. وقضى في الركاز الخمس، وقضى أن ثمر النخل لمن أبرها إلا أن يشترط المبتاع. وقضى أن مال المملوك لمن باعه، الا أن يشترط المبتاع، وقضى أن الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور. وقضى لحمل بن مالك الهذلي بميراثه من امرأته التي قتلتها الأخرى، وقضى في الجنين المقتول بغرة عبد أو أمة، قال: فورثها بعلها وبنوها، قال: وكان له من امرأتيه كلتيهما ولد، قال: فقال أبو القاتلة - المقتضي عليه - يا رسول الله صلى الله عليه وآله كيف أغرم من لا صاح ولا استهل، ولا شرب ولا أكل، فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله هذا من الكهان. قال: وقضى في الرحبة تكون بين الطريق ثم يريد أهلها البنيان فيها، فقضى أن يترك للطريق فيها سبع أذرع، قال: وكان تلك الطريق تر البناء. وقضى في النخلة أو النخلتين أو الثلاث، فيختلفون في حقوق ذلك، فقضى أن لكل نخلة من أولئك مبلغ جريدتها حيز لها. وقضى في شرب النخل من السيل: أن الاعلى يشرب قبل الأسفل ويترك الماء إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، فكذلك تنقضي حوائط أو يفنى الماء. وقضى أن المرأة لا تعطي من مالها شيئا إلا بإذن زوجها. وقضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما سواء. وقضى من أعتق شركا في مملوك فعليه جواز عتقه ان كان له مال. وقضى أن لا ضرر ولا ضرار. وقضى أنه ليس لعرق ظالم حق. وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل الكلأ. وقضى في دية الكبرى المغلظة ثلاثين ابنة لبون وثلاثين حقة وأربعين خلفة. وقضى في دية الصغرى ثلاثين ابنة لبون وثلاثين حقة وعشرين ابنة مخاض وعشرين بني مخاض ذكور).
552 ثم قال (قده): (أقول: وهذه الفقرات كلها أو جلها مروية في طرقنا، موزعة على الأبواب وغالبها برواية عقبة بن خالد، وبعضها برواية غيره. وجملة منها برواية السكوني. والذي أعتقده أنها كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام كما في رواية عبادة بن الصامت، إلا أن أئمة الحديث فرقوها على الأبواب). ثم نقل في مقام الاستشهاد على مدعاه عدة من أقضيته صلى الله عليه وآله المروية بطرقنا، رواها عقبة بن خالد وغيره كما ستقف عليه. ثم قال: (قد عرفت بما نقلنا مطابقة ما روي في طرقنا لما روي في طرق القوم من رواية عبادة بن الصامت من غير زيادة ولا نقيصة، بل بعنوان تلك الألفاظ غالبا، إلا الحديثين الأخيرين المرويين عندنا من زيادة قوله: لا ضرر ولا ضرار وتلك المطابقة بين الفقرات مما يؤكد الوثوق بأن الأخيرين أيضا - وهما روايتا الشفعة والناهي عن منع فضل الماء - كانا مطابقين لما رواه عبادة من عدم التذييل بحديث الضرر، وأن غرض الراوي أنه صلى الله عليه وآله قال: كذا وقال: كذا، لا أنه كان متصلا به وفي ذيله). وقد جزم المحقق النائيني (قده) بما حققه شيخ الشريعة كما ذكرنا وقواه بأمور قال: (بل يشهد اجتماع الأقضية في رواية عقبة أيضا كون الراوي عنه في جميع الأبواب المتفرقة محمد بن عبد الله بن هلال، بل على ما تتبعت يكون الراوي عن محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين، والراوي عن محمد بن الحسين محمد بن يحيى. الثاني: أنه لو كان من تتمة قضية أخرى في رواية عقبة لزم خلو رواياته الواردة في الأقضية عن هذا القضاء الذي هو من أشهر قضاياه صلى الله عليه وآله لأنه لو كان تتمة لقضية أخرى لا يصح عده من قضاياه مستقلا. الثالث: أن كلمة لا ضرار على ما سيجئ من معناها لا تناسب حديث الشفعة ومنع فضل الماء).
553 أقول: لا يخفى أن خبري عقبة بن خالد الواردين في الشفعة وفضل الماء ظاهران بحسب السياق في الجمع بين المروي، أما بناء على كون العاطف في خبر منع فضل الماء (الفاء) كما في الوسائل، فواضح، لظهوره في صدور الجملتين بالترتيب بلا فصل. وأما بناء على كون العاطف الواو كما في الكافي فكذلك، لان ظهور الكلام في صدور الجملتين في واقعة واحدة مما لا ينكر، خصوصا مع تذيل خبر الشفعة بجملة (إذا أرفت الأرف وحدت الحدود فلا شفعة) مما ظاهره صدور الفقرات الثلاث في مجلس واحد بلا تخلل فصل بينها. وببيان أخر: أن فاعل كلمة (قال) التي صدر بها الروايتان ضمير يرجع إلى الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام، و (قال) الواردة على جملة (لا ضرر) اما أن يكون معطوفا على (قال) الأول، ونتيجته كون جملة (لا ضرر) من كلام الإمام الصادق عليه السلام، واما أن يكون معطوفا على (قضى) ومعناه أنه عليه السلام حكى أولا قضاءه صلى الله عليه وآله بالشفعة، ثم حكى عليه السلام قوله صلى الله عليه وآله: (لا ضرر). والظاهر من هذا النقل ونظائره هو الثاني، لان أمانة الراوي تقتضي التحفظ على خصوصيات كلام الامام، وهو سلام الله عليه شرع في حكاية قضاء النبي بالشفعة، ولم يأت بقرينة دالة على انتهاء كلامه صلى الله عليه وآله حتى يكون الباقي من كلام الإمام عليه السلام. و حينئذ فيرتبط الذيل بالصدر من جهة كون مجموع الرواية كلام النبي صلى الله عليه وآله، ويسقط احتمال الجمع في الرواية. وكذا بناء على الاحتمال الأول، فإنه وان كان جملة (لا ضرر) من كلام الإمام عليه السلام، فكأنه ألقى إلى عقبة جملا ثلاثا، أولاها قضاء النبي صلى الله عليه وآله بالشفعة، وثانيتها جملة لا ضرر، وثالثتها قيد الشفعة. ولكنه عليه السلام حيث جمع بين الجمل الثلاث - وان لم تصدر من النبي صلى الله عليه وآله في قضية واحدة - فلا بد أن يكون ذلك لأجل فهمه عليه السلام ارتباط (لا ضرر) بالشفعة، وهو حجة لنا قطعا.
554 والحاصل: أنه على كل واحد من الاحتمالين يرتبط الحكم بالشفعة بلا ضرر، وقد اعترف شيخ الشريعة في كلامه المتقدم بهذا الظهور السياقي، ولكنه ادعى وجود المانع من الاخذ به بما عرفته. وقد دعانا كلامه هذا إلى مزيد التتبع والفحص في الروايات للوقوف على حقيقة الامر، فاستقصينا روايات عقبة بن خالد في تمام الكتب الأربعة - حسبما أشير إلى مواضعها في معجم رجال الحديث - وهي نحو خمسين رواية، ثم تتبعنا أقضية النبي صلى الله عليه وآله المنقولة بطرقنا برواية رجال آخرين غير عقبة، فاتضح لنا بهذا التتبع وجوه تشهد بعدم مطابقة ما روي بطرقنا من أقضيته صلى الله عليه وآله لما روي من طرقهم فضلا عن شدة المطابقة. أولها: أن ما رواه عقبة لا يزيد على سبعة موارد من أقضية النبي صلى الله عليه وآله ستة منها في رواية عبادة وواحدة منها ليست في رواية عبادة، كما ستقف عليه. مع أن أقضية عقبة لم ينفرد هو بنقلها عن الإمام الصادق عليه السلام، بل روى بعضها غيره. ثانيها: أن أقضيته صلى الله عليه وآله المنقولة بطرقنا أزيد من العدد الذي رواه عبادة من أقضيته صلى الله عليه وآله فكيف يحصل الوثوق بمطابقة ما حكاه عبادة لما حكي بطرقنا؟ ثالثها: أن قضاءه صلى الله عليه وآله بعدم جواز تصرف الزوجة في مالها بدون اذن زوجها غير موجود في رواياتنا - على مقدار ما تفحصنا فيها - لا عن النبي صلى الله عليه وآله ولا عن أحد المعصومين عليهم السلام. مع مخالفة هذا الحكم للقواعد المسلمة. ولأجل اقتران هذه الدعوى بالدليل نسرد عليك أقضيته صلى الله عليه وآله التي رواها عقبة، ثم الأقضية التي رواها رجال آخرون مما اشتمل عليه رواية عبادة، ثم أقضيته المنقولة بطرقنا وليست في رواية عبادة، فهاكها: أما ما رواه عقبة بن خالد فهي:
555 1 و 2 - قضاؤه صلى الله عليه وآله بالشفعة ومنع فضل الماء، وقد تقدم نقلهما. 3 - عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (قضى رسول الله في شرب النخل بالسيل: أن الاعلى يشرب قبل الأسفل، يترك من الماء إلى الكعبين، ثم يسرح الماء إلى الأسفل الذي يليه، وكذلك حتى ينقضي الحوائط وينفي الماء). 4 - عقبة بن خالد: (ان النبي صلى الله عليه وآله قضى في هوائر النخل أن تكون النخلة والنخلتان للرجل في حائط الاخر، فيختلفون في حقوق ذلك فقضى فيها أن لكل نخلة من أولئك من الأرض مبلغ جريدة من جرائدها حين بعدها). 5 - عن أبي عبد الله عليه السلام: (قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله: أن ثمر النخل للذي أبرها الا أن يشترط المبتاع) ورواه يحيى بن أبي العلا وغياث بن إبراهيم أيضا عنه عليه السلام. 6 - عن أبي عبد الله عليه السلام: (في رجل أتى جبلا فشق فيه قناة فذهبت الاخر بماء قناة الأول، قال: فقال: يتقاسمان [يتقايسان] بحقائب البئر ليلة ليلة، فينظر أيهما أضرت بصاحبتها، فان رأيت الأخيرة أضرت بالأولى فلتعور، وقضى رسول الله بذلك، وقال: ان كانت الأولى أخذت من ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأول سبيل) وهذا القضاء من الأقضية التي رواها عقبة وليست في رواية عبادة. 7 - عن أبي عبد الله عليه السلام: (كان من قضاء رسول الله: أن المعدن جبار والبئر جبار والعجماء جبار، والعجماء بهيمة الأنعام، و الجبار من الهدر الذي
556 لا يغرم)، ورواه السكوني وزيد بن علي، وفيه قوله صلى الله عليه وآله: (وفي الركاز الخمس) هذا جميع ما رواه عقبة بن خالد من أقضية النبي صلى الله عليه وآله مع عدم انفراده بنقل بعضها كما ذكرنا، وهي دون النصف مما جمعه عبادة في روايته. وأما ما رواه غير عقبة مما اشتملت عليه رواية عبادة فهي: 1 - يحيى بن أبي العلا عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه: (من باع عبدا وله مال فالمال للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك). 2 - الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (أيما رجل وقع على وليدة قوم حراما ثم اشتراها فادعى ولدها، فإنه لا يورث منه شئ، فان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر). 3 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وآله في جنين الهلالية حيث رميت بالحجر فألقت ما في بطنها ميتا فان عليه غرة عبد أو أمة). 4 - سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام: (ان رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وقد ضرب امرأة حلبي فأسقطت سقطا ميتا، فأتى زوج المرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله فاستعدى عليه، فقال الضارب: يا رسول الله ما أكل ولا شرب ولا استهل ولا صاح ولا استبش [استبشر] فقال النبي صلى الله عليه وآله: انك رجل
557 سجاعة، فقضى فيه رقبة). 5 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ما بين بئر المعطن إلى بئر المعطن أربعون ذراعا، و ما بين بئر الناضح إلى بئر الناضح ستون ذراعا، وما بين العين إلى العين - يعني - القناة - خمسمائة ذراع، والطريق يتشاح عليه أهله فحده سبعة أذرع). ونحوه رواية مسمع بن عبد الملك. 6 - وقد وردت روايات متعددة في أنه صلى الله عليه وآله أطعم الجد والجدة السدس وكذا الجدتين، فراجع روايات باب العشرين من أبواب ميراث الأبوين مع الأولاد. 8 - عبد العزيز بن محمد الدراوردي، قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عمن أخذ أرضا بغير حقها وبنى فيها، قال يرفع بناؤه وتسلم التربة إلى صاحبها ليس لعرق ظالم حق). وأما الأقضية المروية عن النبي صلى الله عليه وآله بطرق رجال آخرين وليست في رواية عبادة فكثيرة لا تخفي على المتتبع في الاخبار لا سيما أبواب الشفعة وإحياء الموات والإرث والديات وغيرها، وهي خير شاهد على اختلاف ما روي من أقضية النبي صلى الله عليه وآله بطرقنا لما روي بطرقهم لفظا وعددا، ونحن نكتفي بإيراد شئ منها خوفا من الاطناب الممل، فنقول وبه نستعين: 1 - طلحة بن زيد عن الصادق عن أبيه عليه السلام: (ان رسول الله صلى الله عليه وآله
558 قضى بالشفعة ما لم تؤرف يعني تقسم) وما رواه عبادة من قضائه صلى الله عليه وآله بالشفعة مطلق خال عن قيد التقسيم، فالمنقول عنه بطرقنا مغاير لما روي بطرقهم. 2 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (قضى النبي صلى الله عليه وآله فيمن سرق الثمار في كمه فما أكلوا منه فلا شئ عليه، و ما حمل فيعزر ويغرم قيمته مرتين). 3 - مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (قال أمير المؤمنين عليه السلام: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله في المأمومة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل). 4 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: (ان رسول الله صلى الله عليه وآله قضى في الدامية بعيرا). 5 - عنه أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام: في عبد قتل مولاه متعمدا، قال: يقتل به، ثم قال: وقضى رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك). 6 - عنه أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أخرج ميزابا أو كنيفا أو أوتد وتدا أو أوثق دابة، أو حفر شيئا في طريق المسلمين، فأصاب شيئا فعطب فهو له ضامن). 7 - أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (دية الكلب السلوقي أربعون درهما، جعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، ودية كلب الغنم كبش).
559 8 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (قضى النبي صلى الله عليه وآله في رجل باع نخلا واستثنى نخلة فقضى له رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدخل إليها والمخرج منها ومدى جرائدها). 9 - أبو مريم عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (أتي رسول الله برجل قد ضرب امرأة حاملا بعمود الفسطاط فقتلها، فخير رسول الله صلى الله عليه وآله أولياءها أن يأخذوا الدية خمسة آلاف درهم وغرة وصيف أو وصيفة للذي في بطنها، أو يدفعوا إلى أولياء القاتل خمسة آلاف ويقتلوه). 10 - مرسل الصدوق، قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وآله: أن البئر حريمها أربعون ذراعا، لا يحفر إلى جانبها بئر أخرى لعطن أو غنم). 11 - مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (قال أمير المؤمنين عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: في القلب إذا أرعد فطار الدية، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: في الصعر الدية، والصعر أن يثني عنقه فيصير في ناحية). 12 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: (ان رسول الله صلى الله عليه وآله قضى في الدامية بعيرا وفي الباضعة بعيرين، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة أبعرة).
560 ولنكتف بهذا العدد الميمون شاهدا على عدم مطابقة ما روي بطرقنا من أقضيته صلى الله عليه وآله مع ما رواه عبادة، وبه يشرف الفقيه على القطع بعدم وحدتها فضل عن تأكدها، وقد كان المنع من حجية ظهور السياق في خبري الشفعة ومنع فضل الماء في الجمع بين المروي متوقفا على إثبات وحدة الأقضية المنقولة عنه صلى الله عليه وآله وقد عرفت أنه بمراحل عن الواقع. ومع الغض عما ذكرناه، فإنما تتم قرينية رواية عبادة على المنع من ظهور سياق خبري الشفعة وفضل الماء لو كانت معتبرة في نفسها ومندرجة تحت كبرى دليل حجية الخبر، وقد تصدى شيخ الشريعة (قده) لاثبات صحة الرواية واعتبارها من جهة الاتقان والضبط و كون عبادة من الاجلاء. لكن الظاهر عدم حجية هذه الرواية، لقصور المقتضي فضلا عن وجود المانع. أما الأول فلضعف السند، إذ الموجود في مسند أحمد هكذا: (حدثنا عبد الله، حدثنا أبو كامل الجحدري، حدثنا الفضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة عن العبادة بن الصامت قال: ان من قضاء رسول الله.) لجهالة فضيل بن سليمان، لتعارض كلمات علماء الرجال فيه، فعن ابن معين (انه ليس بثقة) وعن ابن حاتم والنسائي (انه ليس بقوي) وعن ابن حيان (انه صدوق) فالرجل مجهول الحال، ولو قلنا بتقديم الجارح فالامر أوضح. مضافا إلى ما حكي عن البخاري من وجود قطع في السند، لان إسحاق لم يدرك عبادة حتى يروي عنه بلا واسطة. وأما الثاني - أعني وجود المانع - فللزوم طرح ما خالف العامة من الخبرين المتعارضين، إذ لا ريب في معارضة الظهور السياقي لخبري الشفعة وفضل الماء في
561 الجمع بين المروي وتذيل نفس الحكمين بلا ضرر، مع ظهور رواية عبادة في الجمع في الرواية. ورفع اليد عن ظهور الخبرين معناه الاخذ بما رواه العامة وطرح ما خالفهم، وهو أردأ من الاخذ بما وافقهم من أخبارنا، فإذا وجب طرح الخبر المروي بطرقنا لمجرد موافقته لهم، فبالأولية القطعية يجب طرح ما استقلوا بروايته المفروض مخالفته لما روي من طرقنا. هذا كله فيما يتعلق بكلام شيخ الشريعة. وأما ما استشهد به الميرزا - في عبارته المتقدمة - على عدم تذيل خبري الشفعة وفضل الماء ب (لا ضرر) فلا تخلو من المناقشة. أما الأول - وهو دعوى وحدة الراوي الكاشفة عن وحدة الرواية - فبأن الروايات السبع المتقدمة عن عقبة وان كانت بسند واحد، الا أن ذلك لا يكشف عن كونها رواية واحدة في الأصل وزعها أرباب الجوامع على أبواب متفرقة، وانما يكشف عن وحدة الكتاب الذي رويت عنه، فان النجاشي والشيخ في الفهرست ذكرا وجود كتاب لعقبة، ولعل الكليني (قده) وصل إليه كتابه بالسند الذي ذكره في عدة من روايات عقبة، لوجود هذا السند في غير ما يرويه عقبة من أقضية النبي صلى الله عليه وآله، مثل روايته عن أبي عبد الله عليه السلام: (في رجل اشترى متاعا من رجل وأوجبه، غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه، قال: آتيك غدا إن شاء الله.، فسرق المتاع، من مال من يكون؟ قال: من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته فإذا أخرجه من بيته، فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله إليه) وغيرها كثير. ومن المستبعد جدا دعوى كون هذه المجموعة رواية واحدة وزعها الأصحاب على الأبواب، لعدم ارتباط بين الاحكام التي تضمنتها.
562 والحاصل: أن وحدة السند لا تكشف عن وحدة الرواية، بل تدل على وحدة الكتاب، كما أن تعدده لا يدل على تعددها، لامكان رواية جمع حكما واحدا بتمام خصوصياته من المعصوم عليه السلام. هذا مضافا إلى أنه لو سلم اجتماع أقضية النبي صلى الله عليه وآله في رواية عقبة امتنع أيضا اتحادها مع ما رواه عبادة، لاختلافها عددا، فأقضية عقبة سبعة، وأقضية عبادة عشرون، مع مغايرة متونها، فانا نقلنا كلام شيخ الشريعة بطوله، ثم الأقضية المروية بطرقنا لئلا تكون دعوانا بلا بينة، فلاحظ. وأما الثاني - وهو استلزام كون لا ضرر ذيلا لحديث الشفعة لعدم صدوره بالاستقلال - فيرده: أن المتسالم عليه صدور جملة (لا ضرر ولا ضرار) منه صلى الله عليه وآله اما للتواتر الذي ادعاه فخر الدين، وإما للاستفاضة، وإما لاعتبار سند بعض الروايات. وأما صدوره بالاستقلال أو بعنوان الذيل، فليس بذلك الوضوح حتى يجعل قرينة على تقطيع رواية الشفعة وعدها من الجمع في الرواية. ولو بنينا على اعتبار المرسلات فقد روي فيها جملة لا ضرر مستقلة عن النبي صلى الله عليه وآله، كما رواها عقبة عن الإمام الصادق عليه السلام بلا اسناد إليه صلى الله عليه وآله. وأما الثالث، وهو أجنبية (لا ضرار) عن الشفعة فيمكن الجواب عنه - بعد تسليم تعدد مدلولي الضرر والضرار ونفي التأكيد - بأن الموجب لحق الشفعة هو الضرر، وذكر الضرار لأجل اشتهار الكلمتين معا على الألسن. وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه: أن إشكال تذيل خبري الشفعة ومنع فضل الماء بلا ضرر باق بحاله، ولم يندفع ببيان شيخ الشريعة والميرزا النائيني قدس سرهما، حيث لا قرينة على كون جملة (لا ضرر) أجنبية عن قضائه صلى الله عليه وآله بالشفعة وفضل الماء، و ينحصر التخلص عن الاشكال بإسقاط الروايتين سندا عن الاعتبار كما نبهنا عليه في الجهة الأولى، أو جعل (لا ضرر) علة للجعل لا للمجعول. هذا
563 . تمام الكلام في هذا المبحث. المبحث الثاني: في فقه الحديث الشريف، وفيه مقامان: الأول في معاني مفردات ألفاظ الحديث، والثاني في معنى الجملة التركيبية. مفاد كلمة (ضرر) و (ضرار) أما المقام الأول، فتفصيله: أن المعنى العرفي للضرر الذي هو اسم المصدر ويقابله المنفعة التي هي أيضا اسم مصدر عبارة عن النقص في الأموال والأنفس، والمصدر هو الضر في مقابل النفع الذي هو مصدر (نفع) فيقال في النقص المالي والنفسي: ضره الغذاء الفلاني و أضر به، وضره البيع الفلاني وأضر به، ونفعه البيع الفلاني وأضر به، ولا يقال في النقص العرضي: أضر زيد بعمرو مثلا إذا هتك عرضه، أو إهانة، أو نظر إلى أهله، كما لا يقال (نفعه) إذا جلله وأكرمه. وبالجملة: فالضر والنفع والضرر والمنفعة لا تطلق عرفا إلا على النقص المالي والنفسي كما قيل. وأما المعني اللغوي للضرر، فقد ذكر له أهل اللغة معاني: أحدها: الضيق، فعن الصحاح مكان ذو ضرر أي ضيق. ومنها: ما عن القاموس وعن المنجد من أن الضر والضرر (ضد النفع الشدة والضيق وسوء الحال، النقصان يدخل في الشئ). ومنها: ما عن المصباح: الضر بمعنى فعل المكروه، وضره فعل به مكروها. فالمتحصل: أن معنى الضرر والضر عرفا هو النقص المالي والنفسي دون النقص العرضي وغيره، ولغة هو الضيق والشدة وسوء الحال. والمناسب للحديث الشريف من هذه المعاني هو الضيق والشدة، حيث إن سمرة كان مضارا أي مضيقا وموجبا لوقوع الأنصاري في الشدة والحرج والمكروه، لأنه المناسب لقول
564 الأنصاري على ما في مرسلة زرارة: (يا سمرة لا تزال تفجؤنا على حال لا نحب أن تفجأنا عليها) ولما في خبر الحذاء: (فكان سمرة إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شئ من أهل الرجل يكرهه الرجل لا أنه كان موجبا لورود نقص في مال الأنصاري أو نفسه، فاحتمال النقص المالي في مالية داره الناشئ من الدخول فيها بلا اذن ضعيف. فتلخص مما ذكرناه أمور: الأول: أن الضرر عرفا هو النقص في النفس والمال، ويقابله النفع والمنفعة. الثاني: أن بين الضرر والنفع واسطة، لان المال إذا لم ينقص ولم يزد عليه لا يصدق عليه النفع ولا الضرر، فهما من الضدين اللذين لهما ثالث، إذ ليس عدم النفع مساويا للضرر، لوجود الواسطة بينهما كما عرفت. الثالث: أن المناسب من المعاني اللغوية للضرر لمورد الحديث هو الضيق والشدة، دون الضرر المالي أو النفسي. الرابع: أن مادة الضرر تستعمل متعدية إذا كانت مجردة، فيقال (ضره يضره) ومتعدية بالباء إذا كانت من باب الافعال، فيقال: (أضر به) هذا ما يتعلق بمعنى الضرر. وأما الضرار فيحتمل كونه مصدرا للثلاثي المجرد من قبيل كتب كتابا وكتبا، كما تقدم في كلام بعض اللغويين، ويحتمل كونه مصدرا لباب المفاعلة، وهو اما أن يكون من صيغ المزيد فيه، وإما غير مأخوذ من الثلاثي المجرد كما قد يقال في (سافر) حيث لم يصغ من (سفر) بمعنى الكشف، ولا من السفر بمعنى الضرب في الأرض كذا أفيد. لكنه في شرح الكافية جعل (سافر) للمبالغة في نفس معناه الثلاثي المجرد وهو الكشف. وبناء على الاحتمال الثاني، فالمشهور أن الأصل في المفاعلة الاشتراك في
565 المبدأ، وفي خصوص المورد، حيث لا يراد منه فعل الاثنين، فهل هو تأكيد للضرر كما زعمه المحقق الخراساني، أم أنه للتعمد والتقصد بالضرر كما اختاره المحقق الأصفهاني، أو الاصرار عليه كما اختاره المحققان النائيني والعراقي، أو قيام الفاعل مقام إيجاد المادة كما في تقرير بعض الأعاظم، أو للسعي لايجاد المادة كما في مستمسك سيدنا الأستاذ؟ وجوه، بل أقوال. وتنقيح البحث منوط بالنظر أولا: إلى مفاد هيئة المفاعلة - بناء على عدم كون ضرار مصدرا للثلاثي المجرد - وثانيا: إلى ما يمكن أن يدل عليه اللفظ في خصوص المورد، فينبغي البحث في موضعين. الأول: في مفاد باب المفاعلة، والمشهور أنه فعل الاثنين، بل هو الأصل الذي يحمل عليه اللفظ. وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني في تعليقته على الكفاية واختار أن مدلول هذه الهيئة تعدية المادة إلى الغير وإيصالها إليه فيما إذا لم يكن الفعل بنفسه متعديا إلى شخص، والتقصد بإيصالها إليه فيما كان الفعل متعديا بنفسه كما سيتضح. ومحصل كلامه (قده): أن ما يدعيه المشهور غير سديد، وذلك لاستعمال هذه هذه الهيئة في القرآن الكريم وغيره من الاستعمالات الصحيحة مع عدم صحة انتساب المادة إلى الاثنين أو عدم إرادته، وذلك كقوله تعالى: (يخادعون الله، ومن يهاجر إلى الله ويراؤون، و نافقوا، وشاقوا، وناديناه، ومسجدا ضرارا، ولا تمسكوهن ضرارا ولا تؤاخذني) وقولهم: عاجله بالعقوبة، وبارزة بالمحاربة، و ساعده التوفيق، وباشر الحرب، وخالع المرأة، وواراه في الأرض. إلى غير ذلك. ولا ريب في إرادة فعل الواحد في هذه الأمثلة و نحوها. مع أن المشهور فرقوا بين مدلول صيغتي المفاعلة والتفاعل - بعد اشتراكهما في إفادة قيام الفعل بالاثنين - بانتساب المادة إليهما بالأصالة في التفاعل، وبالأصالة إلى أحدهما والتبعية إلى الاخر في المفاعلة.
566 ولكن هذه التفرقة غير معقولة، فلا اشتراك في انتساب المادة إلى اثنين في شئ من البابين. أما في التفاعل، فلان هذه الهيئة موضوعة بإزاء نسبة خاصة من النسب وهي الاختلاط في المبدأ، ولا تتكفل لإفادة نسبتين إلى فاعلين، حيث إن الهيئات موضوعة بوضع المعاني الحرفية، وانما المدلول نسبة خاصة قائمة بطرفين، فمفاد هيئة (التضارب) ما يعبر عنه بالفارسية بقولهم: (بهم زدن) وهي نسبة متقومة بطرفين، وليس مدلول (تضارب زيد وعمرو) نسبة ضرب كل منهما للاخر حتى تعدد النسبة، وانما لوحظ ضرب كل منهما الاخر نسبة واحدة على نهج إضافة مادة واحدة إلى طرفين. وأما في المفاعلة، فلان مفاد هيئة (ضارب زيد عمرا) هذه النسبة الوحدانية ذات الطرفين، فهي متحدة مع مدلول هيئة التفاعل لا غيرها، وعليه فلا مشاركة في شئ من البابين. وأما التفرقة بينهما بالأصالة والتبعية في باب المفاعلة، فان أريد التبعية في مقام الثبوت فممنوعة، لتوقفها على تعدد النسبة حتى يكون انتساب المادة إلى أحدهما تابعا لانتسابها إلى الاخر، وقد عرفت استحالة تعدد النسبة، لان الهيئات موضوعة بوضع الحروف. و ان أريد التبعية في مقام الاثبات كتبعية المدلول الالتزامي للمطابقي، فهي وان كانت صحيحة، لكنها فرع التبعية في مقام الثبوت المفروض استحالتها. والصحيح وجود الفرق الأساسي بين بابي التفاعل والمفاعلة، لكون مفاد الأول النسبة الوحدانية المتقومة بطرفين، ومفاد الثاني تعدية المادة وإنهاؤها إلى الغير، وتوضيحه: أن الفعل الثلاثي المجرد إما أن يكون لازما كجلس، أو متعديا وهو تارة يتعدى بنفسه لا إلى شخص آخر، بل إلى شئ آخر مثل (كتب الحديث) وأخرى يتعدى بنفسه إلى شخص آخر مثل (خدعه). وتعدي الأول والثاني إلى
567 الشخص يتوقف على الاستعانة بحرف الجر مثل (جلس إليه وكتب إليه الحديث) والمدلول المطابقي لباب المفاعلة هو إنهاء المادة إلى الغير بنفسه بدلا عن حرف الجر المستعمل مع الثلاثي المجرد، فمفاد (جالسته وكاتبته) هو معنى (جلس إليه وكتب إليه). وأما المتعدي بنفسه مثل (خدعه) فصوغه من باب المفاعلة يدل على التصدي لانهاء الخديعة إليه، والفعل وان كان متعديا بنفسه إلى الاخر مثل (ضرب زيد عمرا) الا أن هذا التعدي ذاتي مفاد الفعل، بخلاف (خادع وضارب) فان حيثية الانهاء إلى الغير ملحوظة في مقام إفادة النسبة، فإذا صدر منه ضرب واقع على عمرو صدق عليه (أنه ضربه) ولا يصدق (أنه ضاربه) الا إذا تصدى لضربه، ولذا لما أبي سمرة عن الاستئذان قال صلى الله عليه وآله: (انك رجل مضار) أي متصد لا ضرار الأنصاري، لا مجرد كون دخولك ضررا عليه، وليس (لا ضرار) للتأكيد ولا لغيره، بل لنفي التصدي للاضرار. هذا ما حققه الشيخ المدقق الأصفهاني (قده) حول مدلول باب المفاعلة كبرويا، وتطبيقه على (الضرار) وقد أفاد مثل هذه البيانات في حاشيته على المكاسب، غير أنه جعل فيها مدلول المفاعلة المطابقي التعمد والتقصد بالمادة، ولعل مقصوده منه هو التصدي بإيصال المادة إلى الغير الذي ذكره في تعليقته الأنيقة على الكفاية. وعلى كل فليس مفاد شئ منهما أن مدلول باب المفاعلة قيام الفاعل مقام إيجاد المادة بدون تحققها خارجا كما نسب إليه في كلمات بعض أجلة تلامذته، لتصريحه (قده) بأن مدلول هذه الصيغة إيجاد المادة عن قصد، لا مجرد إرادة إيجادها. وكيف كان ففي كلامه (قده) مواقع للنظر، منها: استشهاده على عدم دلالة المفاعلة على المشاركة بعدة من الأمثلة، إذ يتوجه عليه أولا: أن بعض الأمثلة لا يصلح
568 لانتقاض المدعى به، فان دلالة المفاعلة على المشاركة في المادة منوطة بصوغها من الثلاثي المجرد الذي يتحد معناه مع ما اشتق منه سوى أن صوغها من باب المفاعلة يوجب ظهورها في الاشتراك، وأما ما كان ثلاثية والمزيد فيه بمعنيين لبا فلم يدل باب المفاعلة منه على الاشتراك، قال نجم الأئمة (ره) في شرح الشافية في بيان معنى المفاعلة: (أقول: لنسبة أصله - أي لنسبة المشتق منه فاعل - إلى أحد الامرين أي الشيئين) وعليه فإذا كان الفعل الثلاثي بمعنى والمزيد فيه من باب المفاعلة بمعنى آخر لم يدل على الاشتراك حتى ينتقض القول المشهور به، فمثل (ناديناه، باشر نافق، ساعد) خارج عما هو الأصل في هيئة المفاعلة موضوعا. أما الأول أعني (ناديناه) فلان (ندا الرجل بمعنى اعتزل) وهو أجنبي عن (نادى) الذي هو بمعنى صاح. وأما الثاني فلان (سعد) بمعنى (يمن) وهو أجنبي عن (أعان) الذي هو مدلول الفعل من هذا الباب. وأما الثالث فلان (نفق) بمعنى (خرج) ولا ربط له بستر الكفر بالقلب وإظهار الايمان باللسان الذي هو معنى (نافق). وأما الرابع فلان (بشر) بمعنى (اهتم بالامر وتولاه) وهذا المعنى في نفسه غير قابل لصدوره من شخصين بنحو يصدر من كل منهما ويقع على الاخر، فلا بد أن يراد بالفعل المصوغ من باب المفاعلة المبالغة فيه كما يقال في (سافرت وناولته الشئ) فإنهما للمبالغة في الخروج إلى السفر وإعطاء الشئ لغيره، أو بمعنى ثلاثية المجرد، وهكذا حال بعض الأمثلة الأخرى كما لعله سيأتي التعرض له. وثانيا: أن الأمثلة المذكورة لم تبلغ حدا تنافي ما هو المشهور من وضع المفاعلة للاشتراك، إذ هذه الأفعال الخارجة عن الأصل بالقياس إلى ما بقي منها كالقطرة من البحر. ومنها: ما نسبه إلى المشهور من دعواهم وحدة معنى بابي المفاعلة والتفاعل،
569 وانما الفرق في دلالة المفاعلة على انتساب المادة إلى أحدهما بالأصالة وإلى الاخر بالتبعية، ودلالة التفاعل على انتساب المبدأ إليهما بالأصالة. إذ فيه: أن نجم الأئمة الذي هو أسطوانة علم الصرف أنكر هذا في شرح الشافية وادعى وحدة مدلولي البابين، قال: (ثم اعلم أنه لا فرق من حيث المعنى بين فاعل وتفاعل في إفادة كون الشئ بين اثنين فصاعدا، وليس كما يتوهم من أن المرفوع في باب - فاعل - هو السابق بالشروع في أصل الفعل على المنصوب، خلاف باب تفاعل، ألا ترى إلى قول الحسن بن علي عليهما السلام لبعض من خاصمه: سفيه لم يجد مسافها، فإنه سمى المقابل له في السفاهة مسافها وان كانت سفاهته لو وجدت بعد سفاهة الأول). ومنها: ما أورده من المحذور على دلالة بابي التفاعل والمفاعلة على نسبتين من أن الهيئة موضوعة بإزاء نسبة خاصة قائمة بطرفين. إذ يتوجه عليه: أنه لا محذور في دلالة الهيئة الواحدة على نسبتين لا من ناحية الوضع الذي هو الجعل الاعتباري بمعنى جعل اللفظ علامة للدلالة على المعنى المستلزم لاختصاصه به، ولا من ناحية الاستعمال الذي حقيقته إيجاد المعنى باللفظ، فلزيد أنحاء من الوجود الخارجي والذهني ومنها وجوده الجعلي المتحقق بالتلفظ به. أما عدم المحذور من جهة الوضع، فلجواز جعل لفظ المفاعلة والتفاعل علامة على معنيين اسميين، وهما صدور المبدأ من كل منهما. وأما عدمه من ناحية الاستعمال فلان الممتنع على هذا المبنى إيجاد المعنيين بوجود لفظي واحد، لاتحاد الايجاد والوجود حقيقة وتغايرهما اعتبارا. وأما إذا لوحظ المعنيان معا واستعمل اللفظ فيهما بنحو المعية لم يترتب عليه محال، لعدم استعمال اللفظ في كل من النسبتين الصادرتين من طرفين بالاستقلال كما هو الحال في المشترك اللفظي مثل العين المستعملة تارة في العين الجارية
570 وحدها، وأخرى في غيرها، وانما الموضوع له في بابي التفاعل والمفاعلة كل من المادتين على حد العام المجموعي. وما أفاده من كون معنى (تضارب زيد وعمرو) هو الاختلاط المعبر عنه بالفارسية ب (بهم زدن) لا يخلو من تأمل، لفرض قيام المادة بكل من الفاعلين - وهما زيد وعمرو - لصحة استعمال كلمة (من) النشوية مع كل منهما، فيقال: (صدر الضرب ونشأ من زيد وعمرو) فالنسبة متعددة حقيقة، لا أنها واحدة قائمة بطرفين لاستحالة وحدة النسبة مع تعدد من يصدر منه الضرب، ولا جامع للمعاني الجزئية التي منها الهيئات. وعليه فحيث لا محذور ثبوتي في دلالة البابين على قيام المبدأ بكل واحد من الطرفين، فلا مانع من الالتزام به، و يكفي دليلا عليه كلمات علماء الأدب. ومنها: ما أفاده في تحقيق مختاره من أن باب المفاعلة يدل على ما يدل عليه حرف التعدية إذا كان الفعل لازما أو متعديا إلى غير شخص. وان كان الفعل الثلاثي بنفسه متعديا، فصوغ باب المفاعلة منه يدل على التصدي لانهاء المادة إلى الغير. إذ يرد عليه: أنه لا ينطبق على جملة من الاستعمالات الفصيحة القرآنية وغيرها، مثل قوله تعالى: (مهاجرا إلى الله) و (يهاجر إلى الله) فإنه لو كان مدلول المفاعلة المطابقي هو الانهاء إلى الغير المدلول عليه بحرف الجر لزم الاستغناء عن حرف التعدية، مع أنه لا محصل للكلام بدون (إلى) والمفروض أن مادة الهجران بنفسها تفيد الابتعاد عن المهجور، ولا مناص من كون (يهاجر) هنا بمعنى الثلاثي المجرد بمعنى (هجر) مثل (توانيت بمعنى ونيت). مضافا إلى أن التسوية بين مفاد المفاعلة وحرف الجر من كونهما للتعدية لا تخلو من شئ، لان صوغ باب المفاعلة من الفعل الثلاثي اللازم يدل على صدور الفعل من كل منهما بعد أن كان صادرا من أحدهما بدون وقوعه على المفعول به
571 مثل (جلس وجالس) لصدور الجلوس من فاعلين في الثاني، وهذا بخلاف التعدية بحرف الجر، فان معنى (جلس إلى زيد) لم يتغير عما كان قبل التعدية بالحرف، لعدم وقوعه على زيد، وانما يدل الحرف على تخصيص الجلوس وتقييده بكونه إلى جانب زيد لا إلى جنب عمرو، سواء كان زيد نائما أم قائما أم جالسا. وعليه فجعل مدلول حرف الجر والمفاعلة واحدا غير ظاهر الوجه. وأما مسألة الانهاء إلى الغير عن تعمد وتقصد الذي جعله مفاد المفاعلة لخصوص الافعال المتعدية وعدم تغير معانيها، فيردها: المنع من إطلاقه، كما صرح به نجم الأئمة في شرح الشافية، لاختصاص تلك الدعوى على تقدير تسليمها بالافعال التي لا يتغير مفعولها بعد نقلها إلى باب المفاعلة، مثل (ضاربت زيدا) حيث لم يتغير معنى الضرب قبل تلبسه بباب المفاعلة وبعده. وهكذا الحال في بعض الأفعال اللازمة مثل (كأرمته). وأما ما يتغير معناه بنقله إلى باب المفاعلة سواء كان لازما أم متعديا بشهادة تغيير المفعول فلا يتم دعوى أن الهيئة وضعت لانهاء المادة إلى الغير عن تعمد، مثل (نازعت زيدا الحديث) و (جاذبته الثوب) فان النزاع تعدى إلى مفعولين بعد أن كان المجرد منه متعديا إلى مفعول واحد وهو الحديث، وفي الثاني أيضا صار المفعول الأول الضمير بعد أن كان المفعول الواحد هو الثوب، وكذا في الفعل اللازم مثل (سايرته في البرية) والمناط كون المشارك - في باب المفاعلة - نفس المفعول في الثلاثي المجرد، فإنه لا يتعدى إلى مفعولين كشاتمته، وان كان غيره تعدى إلى مفعولين كما في (جاذبته). وما استعرضه من الأمثلة للدلالة على التقصد في إنهاء المادة إلى الغير مثل (خادع وضارب ومضار) فمضافا إلى عدم تماميته في جميع الموارد مثل (قابلته وصادفته) لتصريح المنجد بأن الثاني أعم من كون المواجهة عن قصد وعدمه أنه يشكل تسليمه، لان (خدع) بنفسه يتضمن التقصد، فقد قيل في معناه: (أظهر
572 خلاف ما يخفيه وألحق به المكروه من حيث لا يعلم) وهذا معنى (خادع) أيضا، فهذه المادة تدل على إلحاق المكروه بالغير، لان الخدعة هي المكر والحيلة. ولعل إشراب التعمد في (خادع) لأجل ما حكي عن تبيان الشيخ في تفسير قوله تعالى: (يخادعون الله) من أنه بمعنى قصد الخدعة بدون وقوعها خارجا. وأين هذا من دعوى إصدار الفعل عن قصد؟ ولو تم لاختص بهذه المادة. وأما الاستشهاد بقوله صلى الله عليه وآله: (انك رجل مضار) فسيأتي عدم منافاته للمدعى. وقد تحصل: أن ما أفاده المحقق الأصفهاني في معنى باب المفاعلة لا يمكن المساعدة عليه. فالحق هو المشهور بين النحاة والصرفيين من دلالة هذه الهيئة على المشاركة في المبدأ. وهو لا ينافي دلالتها على معان أخرى أحيانا، فقد وردت بمعنى (فعل) للتكثير في مثل (ضاعفت الشئ) و (ناعمة) أي كثرت أضعافه ونعمته، وبمعنى (أفعل) أي جعل الشئ ذا أصله في مثل (راعنا سمعك وعافاك الله) أي أجعله ذا رعاية لنا وجعلك ذا عافية، وبمعنى الثلاثي المجرد مع المبالغة فيه مثل (بارك الله فيه وناولته وعاودته وراجعته)، هذا تمام الكلام في الموضع الأول. الموضع الثاني: في استظهار معنى (ضرار) في موارد استعماله في الاخبار سواء كان مصدرا للثلاثي المجرد أم المزيد فيه من باب المفاعلة، وسواء قلنا بأن مفاد هيئة المفاعلة التعمد بأنها المادة إلى الغير أم لا، ففي تقريرات المحقق النائيني بعد الاعتراف بأن الأصل في باب المفاعلة المشاركة: (الا أن الظاهر بل المتعين في أغلب موارد استعماله أن يكون بمعنى الضرر. ويحتمل قريبا أن يكون استعمال - لا ضرار - هنا بعناية أخرى، وهي العناية الموجبة لخطابه صلى الله عليه وآله لسمرة بقوله صلى الله عليه وآله: انك رجل مضار، وهي عبارة عن إصرار
573 ذلك الشقي بإضراره على الأنصاري على ما يظهر من متن الحديث. إلى أن قال: فان أغلب موارد استعمال اسم الفاعل من باب المفاعلة هو أن يكون صدور المبدأ نعتا للفاعل، كما يقال: زيد محارب أو مماطل، أو مقاتل، قال الله سبحانه: فضل الله المجاهدين على القاعدين. فحاصل الفرق بين الضرر والضرار: أنه لو كان حكم أو فعل يلزم منه الضرر من دون تعمد إصرار عليه فهو الضرر، وأما ان كان عن قصد إلى ورود الضرر وتعمد عليه فهو الضرار). والانصاف أن موارد استعمال هيئة (ضرار ومضارة) في الكتاب والسنة مختلفة، فقد استعمل تارة متضمنا للقصد بإيصال الضرر إلى الغير. وأخرى بدونه، فمن الأول ما ورد في النهي عن إمساك الزوجة ضرارا، كخبر الحسن بن زياد عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته ثم يراجعها وليس له فيها حاجة، ثم يطلقها، فهذا الضرار الذي نهى الله عز وجل عنه، الا أن يطلق ثم يراجع، وهو ينوي الامساك). وكرواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه السلام (في رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم، فجاء وأشرك فيه رجلا بدرهمين بالرأس والجلد، فقضي أن البعير برئ فبلغ ثمنه دنانير، قال، فقال: لصاحب الدرهمين: خذ خمس ما بلغ، فأبى، قال: أريد الرأس والجلد، فقال: ليس له ذلك، هذا الضرار، وقد أعطي حقه إذا أعطي الخمس). وخبر محمد بن مسلم: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل ورث غلاما وله فيه شركاء، فأعتق لوجه الله نصيبه فقال: إذا أعتق نصيبه مضارة وهو موسر
574 ضمن للورثة، وإذا أعتق نصيبه لوجه الله كان الغلام قد أعتق من حصة من أعتق ويستعملونه على قدر ما أعتق منه له ولهم، فان كان نصفه عمل لهم يوما وله يوم. وان أعتق الشريك مضارا وهو معسر فلا عتق له، لأنه أراد أن يفسد على القوم، ويرجع القوم على حصصهم) ونحوه روايات أخرى من الباب نفسه. ومن الثاني: ما ورد في باب عدم جواز الاضرار بالورثة في الوصية، كخبر السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام، قال: (قال علي عليه السلام: من أوصى ولم يحف ولم يضار كان كمن تصدق به في حياته) بداهة أن بطلان الوصية فيما زاد على الثلث لا يتوقف على قصد الموصي الاضرار بورثته. وما ورد في سقوط ولاية الجد على الصغيرة كموثق عبيد بن زرارة، قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الجارية يريد أبوها أن يزوجها من رجل ويريد جدها أن يزوجها من رجل آخر، فقال: الجد أولى بذلك ما لم يكن مضارا ان لم يكن الأب زوجها قبله، ويجوز عليها تزويج الأب والجد) لوضوح أن سقوط ولاية الجد يدور مدار تضرر الجارية واقعا بالتزويج بالرجل الذي يعينه، وليس لقصد الاضرار - مع بعده في نفسه في خصوص المورد وندرته - دخل في سقوط ولايته، كما لا دليل آخر على سقوط ولايته عند تضررها و لو لم يقصده الجد. وبملاحظة الروايات المتقدمة ونحوها ظهر أنه لا وجه للتفصيل بين الضرر والضرار بأن الغالب من موارد استعمال الأول هو الضرر المالي، والثاني هو التضييق وإيصال الكلفة والالقاء في الحرج والمكروه مستظهرا ذلك من مثل قوله
575 تعالى: (ولا تضار والدة بولدها) ولما ورد في تفسيره من قوله عليه السلام: (لا ينبغي للرجل أن يمتنع من جماع المرأة فيضار بها إذا كان لها ولد مرضع [مرتضع] ويقول لها: لا أقربك فاني أخاف عليك الحبل فتقتلي ولدي، وكذلك المرأة لا يحل لها أن تمنع عن الرجال، فنقول: اني أخاف أن أحبل، فأقتل ولدي، وهذه المضارة في الجماع على الرجل والمرأة) وقوله تعالى: (مسجدا ضرارا) فان الضرار الوارد على المؤمنين ببناء مسجد ضرار معنوي، لاستلزامه تفريق جمعهم واختلاف كلمتهم، وليس المراد النقص في الأموال. و ذلك لما عرفت من أن موارد استعمال (ضرار) مختلفة، والمقصود منه في الآيتين الكريمتين ونحوهما وان كان الالقاء في الحرج و الضيق، لكن دعوى استقرار ظهوره في ذلك كي يحمل عليه في موارد الشك ممنوعة، وقد عرفت إرادة الضرر المالي منه في روايتي الغنوي والسكوني المتقدمتين. وبعد ورود (ضرار ومضارة) في النصوص تارة بما يتضمن قصد الاضرار والتعمد به وأخرى بدونه سواء كان الضرر ماليا أم معنويا، فلا وجه للقول بظهور الصيغة في واحد منها، لاستلزامه مجازية الاستعمال في كل منها بالخصوص بلا قرينة عليه. نعم في خصوص قضية سمرة حيث كان بصدد الاضرار بالأنصاري - بقرينة معارضته لكلام النبي صلى الله عليه وآله حينما أمره بالاستيذان ثم طلب منه بيع النخلة وتعويضها بنخل الجنة وغير ذلك - فالمراد ب (مضار) الوارد في مرسلة زرارة وخبر الحذاء هو الاصرار على الضرر، وكذا المراد من (ضرار) في موثقة زرارة لو لم يكن لمعنى آخر مما قيل فيه. لكن إرادة التعمد في إيصال الضرر حينئذ انما هي بقرينة المورد، فهو من موارد تعدد الدال والمدلول، لا لتضمن نفس الكلمة للقصد و الاصرار، فان إطلاق اللفظ
576 الموضوع للعام وإرادة الخاص منه بدال آخر لا يوجب المجازية كما هو واضح. وعليه، فالعناية التي ادعاها المحقق النائيني في كلامه المتقدم لاستعمال الضرار في قصة سمرة في الاصرار بإضرار الغير تتوقف أولا على إحراز أن (ضرار) مصدر لباب المفاعلة، وثانيا: على دلالة هذا الباب على مزاولة المادة بنحو يتصف بها الفاعل كما مثل بالمجاهد والمماطل ونحوهما. لكنك عرفت المنع منه. و لعله لذا التزم المحقق الخراساني بأن ضرار تأكيد للضرر، لاحتمال كونه مصدرا للثلاثي المجرد، وغير ذلك. وعلى تقدير كونه مصدر باب المفاعلة فلم يظهر لهذا اللفظ مدلول غير معنى الثلاثي، لاختلاف اللغويين في معناه. لكن التأكيد أيضا يتوقف على إحراز وحدة اللفظين، مع أنه يقتضي تكرار (لا ضرر) بنفس الهيئة كما في (دكا دكا) و (صفا صفا) و نحوهما، والاستغناء عن العاطف في التأكيد كما هو واضح، هذا مضافا إلى أصالة الاحتراز والتأسيس وبرودة الزيادة والتأكيد خصوصا مع صدوره ممن كلامه يتلو كلام الخالق في الفصاحة والبلاغة. وقد تحصل: أن الأقوال في (ضرار) مختلفة، وتعيين واحد منها غير مهم في تعيين مفاد القاعدة، إذ المستدل به عليها خصوص (لا ضرر) فلا إجمال في ما يرتبط بالمقام. هذا ما يتعلق بمعنى كلمتي (الضرر والضرار). وأما كلمة (لا) فهي إذا دخلت على اسم الجنس تكون لنفي الطبيعة المستلزم لنفي جميع أفرادها، فان قولنا: (لا رجل في الدار) لا يصح الا إذا لم يكن شئ من أفراد طبيعة الرجل في الدار، هذا. مفاد الهيئة التركيبية لجملة (لا ضرر) وأما المقام الثاني وهو معنى الجملة التركيبية فيحتمل فيه وجوه كثيرة:
577 1 - نفي الحكم الضرري أحدها: ما احتمله شيخنا الأعظم (قده) في رسائله من إبقاء النفي على حاله من إرادة نفي الطبيعة وهي الضرر بجعله عنوانا لنفس الحكم إما باستعمال الضرر فيه بنحو المجاز في الكلمة بعلاقة السببية، حيث إن الحكم الشرعي سبب للوقوع في الضرر كوجوب الوضوء مع الضرر البدني أو المالي، ولزوم البيع الغبني، ضرورة أن وجوب الوضوء ولزوم البيع سببان للضرر عرفا، وهذه السببية تصحح استعمال الضرر في الحكم مجازا. وإما بنحو المجاز في الحذف، بأن يرد من قوله: (لا ضرر) لا حكم ضرري، فالمنفي حينئذ هو طبيعة الضرر في وعاء التشريع، فجنس الحكم الضرري في الشريعة الاسلامية معدوم. وإما بنحو الحقيقة الادعائية بعلاقة السببية، بدعوى أن الحكم الذي هو سبب للضرر كأنه نفس الضرر، فتصح دعوى نفي الضرر حقيقة أي نفي الحكم الشرعي الناشئ منه الضرر. ولم يظهر من كلام الشيخ تعين أحد هذه الوجوه عنده واعتماده عليه، نعم يظهر منه مطلبان: أحدهما بالصراحة، وهو تعذر إرادة المعنى الحقيقي، والاخر بالظهور، وهو عدم تذيل (لا ضرر) ب (على مؤمن) إذ مع تذيله به لا يدل إلا على الحكم الضرري بالنسبة إلى الغير، ولا يشمل مثل وجوب الوضوء الضرري، قال (قده): (فاعلم أن المعنى بعد تعذر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر، بمعنى أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد تكليفيا كان أن وضعيا، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون، فينتفي بالخبر إلى أن قال: وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء الا بثمن كثير) فان
578 هذا المثال أجنبي عن الاضرار بالغير، فقوله: (لا ضرر) حينئذ إما غير مذيل بشئ وإما مذيل بكلمة (في الاسلام). لكن التمثيل بالوضوء الضرري ينافي جعل مدرك القاعدة مرسلة زرارة المشتملة على (على مؤمن) حيث عدها الشيخ أصح ما في الباب سندا وأوضحه دلالة. وكيف كان فمحصل هذا الوجه الذي أفاده الشيخ (قده) هو: أن الحكم الموجب تشريعه للضرر ذاتا كجواز أخذ مال الغير عدوانا، أو إطلاقا كوجوب الوضوء ولزوم البيع ونظائرهما إذا صارت ضررية منفي في الشريعة وغير مجعول فيها، هذا. ويرد عليه بعد تسليم صحة تعنون الحكم بالضرر، والغض عن إناطة صحته بعلية الحكم للضرر دون معديته له كما هو كذلك، حيث إن الحكم واقع في مبادئ علة الضرر، ضرورة أن مجرد وجوب الوضوء مثلا ليس علة تامة له، لتوقف الضرر على استعمال الماء الذي هو منوط بالإرادة المتوقفة على مباديها، فعلقة السببية المصححة لاستعمال لفظ المسبب في السبب مجازا أو لإرادة الحقيقة ادعاء مفقود كفقدان القرينة على المجاز في الحذف. والغض أيضا عن الفرق بين العناوين المبدئية والاشتقاقية بصحة الحمل في الثانية، لوجود الاتحاد بينها، كحمل كل من العالم والعادل والغني مثلا على الاخر، وعدم صحته في الأولى، لعدم الاتحاد بينها كحمل العلم على العدالة مثلا. والحكم والضرر من العناوين المبدئية، فلا يتحدان حتى يصح حمل الضرر على الحكم ويصير عنوانا للحكم، وتفصيل ذلك محرر في الأصول. أولا: أن ذلك يختص بما إذا كان نفس الحكم ضرريا، كوجوب الخمس والزكاة وسائر الواجبات المالية، دون ما إذا كان متعلقه ضرريا كالوضوء الضرري والبيع الغبني ونحو ذلك، مع أن الشيخ (قده) جعل المتعلقات
579 الضررية أيضا من صغريات كبرى (لا ضرر). وثانيا: أن لازم كفاية كون الحكم معدا للضرر في صحة تعنونه بالضرر اندراج كثير من الموارد تحت قاعدة نفي الضرر، كما إذا كان بيع متاعه موجبا لتنزل سعره وورود الضرر الفاحش المالي على أرباب ذلك المتاع، أو كان بيع أراضيه ودكاكينه سببا لضرر شركائه أو جيرانه أو مستأجريه مثلا، إذ يصح أن يقال: ان جواز البيع في هذه الموارد ضرري فيرتفع بقاعدة نفي الضرر، مع بداهة بطلان ذلك، فتأمل. بل يلزم ارتفاع بعض المحرمات القطعية في بعض الحالات، كما إذا تاقت نفس الشاب غير القادر على الزواج إلى ارتكاب بعض المحرمات بحيث يكون تركه وكف النفس عنه ضررا عليه، لامكان أن يقال: ان حرمة ذلك المحرم حينئذ ضرر عليه، فترتفع بقاعدة نفي الضرر، وهو كما ترى. وثالثا: أن المناسب لكون (لا ضرر) الواقع عقيب الامر بالقلع هو نفى الحكم الضرري أي: حق إبقاء العذق في مكانه، والمناسب لكونه نهيا تحريميا هو الواقع عقيب قوله صلى الله عليه وآله: (انك رجل مضار) وحيث انه لم يعلم كون اختلاف المتن من المعصوم عليه السلام حتى يستفاد منه حكمان أحدهما حرمة الاضرار بالمؤمن، والاخر نفي الحكم الضرري، أو من الراوي، فلا محالة تصير الرواية مجملة، و لا يصح الاستدلال بها على المعنى الذي رجحه الشيخ (قده) وهو نفى الحكم الضرري. واحتمال قرينية الامر بالقلع على كون المتن الصادر هو وقوع (لا ضرر) عقيب الامر بالقلع ضعيف، لقوة احتمال كون الامر بالقلع من باب الولاية. ورابعا: أن نفي الطبيعة مع وجود بعض أفرادها غير سديد، لما مر من أنه مستلزم لنفي جميع أفرادها، فذا كان فرد واحد من طبيعة الرجل موجودا في الدار لا يصح أن يقال: (لا رجل في الدار) لمكان التناقض، ومن المعلوم أن نفى
580 طبيعة الحكم الضرري في الاسلام يناقض وجود أحكام ضررية كثيرة فيه كالواجبات المالية طرا، ووجوب الحج والجهاد، وسلب مالية بعض الأموال العرفية كالخمر والخنزير، وهيئات آلات القمار والطرب، فان وجوب الخمس والزكاة والكفارات ضرر على المالكين، وهو من أظهر أفراد طبيعي الحكم الشرعي الناشئ منه الضرر، لأنه بتمام هويته لا بإطلاقه علة للضرر، فهو من أجلى مصاديق الحكم الضرري، ومع وضوح تشريع هذا الوجوب كيف يصح نفي طبيعة الضرر شرعا؟ مضافا إلى: إباء مثله عن التخصيص، لكونه من الاحكام الامتنانية كقاعدة نفى الحرج. ودعوى خروج الموارد المزبورة عن حيز القاعدة تخصصا لا تخصيصا، إما لاختصاص القاعدة بما إذا كان الضرر ناشئا من إطلاق الحكم كالوضوء الضرري لا من نفس الحكم وطبعه كوجوب الخمس وغيره من الأمثلة المتقدمة، وإما لكون الزكاة والخمس و الكفارات حقا للفقراء، والمكلف يؤدي إليهم حقهم، فلا يتضرر المالك شيئا (غير مسموعة) إذ في الأول: أنه خلاف ظاهر كلام الشيخ (قده): (ان الشارع لم يشرع حكما يلزم منه ضرر على أحد) لان ظهوره في ترتب الضرر على نفس الحكم وطبعه أقوى بمراتب من ظهوره في ترتب الضرر عليه بواسطة أو وسائط. كما أن اسناد الضرر إليه بلا واسطة اسناد حقيقي، لكونه إلى ما هو له، بخلاف اسناده إليه مع الواسطة، فإنه اسناد مجازي، لكونه إلى غير ما هو له، فشمول (لا ضرر) بناء على احتمال الشيخ للحكم الذي بهويته يوجب الضرر لا يحتاج إلى عناية، بخلاف الحكم الذي يوجبه بواسطة أو وسائط، فان شموله له يحتاج إلى عناية. وفي الثاني: أن حقية الخمس والزكاة للسادة والفقراء لا تدفع الاشكال بل تسجله، إذ الحقية مترتبة على جعل مقدار من المال الزكوي و المتعلق للخمس
581 لغير المالك العرفي الذي يتحمل المشاق في تحصيله، وهذا الجعل ضرر على المالك، وهذا هو الاشكال، فلا تندفع بالحقيقة المزبورة كما هو واضح. وخامسا: أن التخصيص بعد الغض عن إباء (لا ضرر) عنه كما مر آنفا مستهجن، لكثرته بمثابة تنافي كبروية القاعدة بحسب المحاورات العرفية، إذ وزان قوله: (لا ضرر) وتخصيصه بالمخصصات الكثيرة التي أشير إلى بعضها وزان قوله: (أكرم كل أمير) و تخصيصه بقوله: (لا تكرم فساق الامراء) مع فرض فسق جميعهم إلا واحدا منهم، فهل يصح إبراز وجوب إكرام شخص واحد منهم بصورة كبرى كلية؟ وهل يرتفع استهجان الكلام بكون المخصص عنوانا مع فرض كثرة العناوين الخارجة عن عموم القاعدة كما يظهر من ملاحظة الاحكام الضررية المالية وغيرها في الشريعة المطهرة؟ وسادسا: أن الضرر وان كان ناشئا تارة من الحكم كوجوب الزكاة و غيرها من الواجبات المالية، وأخرى من الموضوع كالصوم والوضوء الضرريين، فلذا يكون نسبته إلى كل منهما نسبة المعلول إلى العلة، ويصح نفي الضرر بلحاظ الحكم أو الموضوع، إلا أن المعهود في المحاورات من هذا التركيب هو إرادة الموضوع دون الحكم، كما في (لا رهبانية ولا نجش ولا شغار ولا غش، ولا بيع ولا عتق إلا في ملك، ولا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة وغيرهما، ولم نعثر على مورد تعلق فيه النفي بالحكم مطلقا من التكليفي والوضعي، ومع عدم الظفر بذلك في المحاورات يشكل صحة إرادة نفي الحكم من (لا ضرر) ويقوى إرادة خصوص الموضوع الضرري منه لا الحكم، ولا الأعم منه ومن الموضوع الضرري. فمحصل هذا الاشكال الاثباتي هو: كون إرادة الحكم من الضرر في حديثه خلاف الاستعمالات المتعارفة في هذا التركيب عند أبناء المحاورة.
582 هذا حال الاحتمال الأول الذي رجحه الشيخ الأعظم (قده) وجعله أقرب إلى المعنى الحقيقي الذي هو الاخبار بنفي طبيعة الضرر. مع أن الترجيح بالأقربية على تقدير تسليمها - وعدم كون إرادة النهي أقرب إلى المعنى الحقيقي - ممنوع، إذ المناط في حجية مداليل الألفاظ ببناء العقلاء هو الظهور، والأقربية إلى المعنى الموضوع له ما لم توجب ذلك لا تكون حجة. ولعله لذا عدل المحققان النائيني والعراقي (قدهما) من هذا الاستعمال المجازي إلى كون المنفي نفس طبيعة الضرر في صقع التشريع حقيقة. وقد أصر عليه الميرزا وشيد أركانه بتمهيد أمور أهمها كون المنفي في وعاء التشريع هو الحكم حقيقة، فالجملة إنشائية، وذلك بعد أن أتعب نفسه الزكية في إثبات كون الضرر عنوانا ثانويا لنفس الأحكام الشرعية من التكليفية والوضعية، أما في الثاني فلان حكم الشارع بلزوم العقد الغبني تشريع للضرر وعلة تامة له من دون توسط أمر آخر. وأما في التكليفية (فلان نفس الالزام كإيجاب الوضوء وان لم يكن علة تامة للضرر، لتوسط إرادة المكلف واختياره، الا أن إرادته حيث كانت مقهورة في عالم التشريع لهذا البعث والجعل الشرعي فبالآخرة ينتهي الضرر إلى البعث والجعل كانتهاء المعلول الأخير إلى العلة الأولى، لا كانتهائه إلى المعد، فإنه فرق بين سقي الزارع وحرثه وبين أمر الشارع وجعله.). لكن قد عرفت فيما أورد على كلام الشيخ أن إيجاب الشارع للوضوء معد لا علة تامة للضرر. وعلى تقدير تسليم العلية التامة، فلا يوجب ذلك كون الاستعمال حقيقيا، فان علاقة السببية والمسببية من أظهر علائق المجاز. ومنه يظهر غموض ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) في مقالاته في مقام الاستظهار من الهيئة الكلامية بقوله: (أظهرها الحمل على نفي الحقيقة بضميمة تقييده
583 بالشريعة ولو من جهة أن نفي تشريع ما يوجب الضرر موجب لنفي نفس المعلول الناشئ من قبله.) إذ نفي الطبيعة حقيقة يتوقف على انعدام تمام أفرادها خارجا، وأما النفي بلحاظ وعاء التشريع فلا يخرج عن الاستعمال المجازي بالعناية. وأما استظهار نفي الحكم بما أفاده الشيخ الأعظم بقوله: (والأظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات و فهم العلماء هو المعنى الأول) فغير تام. أما نفس الجملة فلاحتمال كل من النفي والنهي فيها، بل ربما يكون إرادة التحريم منها أقرب كما سيأتي. وأما فهم الأصحاب فان كان المراد استظهارهم ذلك كان معارضا بفهم اللغويين حيث فسروا الجملة بالنهي، ولولاه أمكن الاستناد إليه، لأنهم من أهل المحاورة بل من أفصح أبنائها وأعرف بأساليب الكلام. وان كان المراد فهمهم ولو بمعونة قرائن كانت لديهم، فلا عبرة به، لعدم حجيته على غيره إلا بناء على جبر ضعف الدلالة كالسند بعمل المشهور، لكن تحقق الشهرة محل تأمل، مضافا إلى منع الكبرى. هذا كله في الاحتمال الأول. 2 - نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ثانيها: ما اختاره المحقق الخراساني (قده) في الكفاية من أن المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، توضيحه: أن الضرر في الخارج موجود، فنفيه لا بد أن يكون بلحاظ حكمه، فالمنفي حقيقة حكمه لا نفسه، والمصحح لتعلق النفي بنفس الضرر مع وجوده تكوينا هو ادعاء عدمه، لأجل عدم ترتب آثاره عليه، وكل شئ لا يترتب عليه أثره المترقب منه ينزل منزلة العدم، كالرجل غير الشجاع الخائف
584 القاعدة عن القتال في ميادين الحرب والجدال، فإنه يصح سلب الرجولية عنه ويقال: أنه ليس برجل لعدم الأثر البارز للرجال وهو الشجاعة مثلا فيه. وبالجملة: فالمنفي حقيقة هو الحكم، لأنه القابل للوضع والرفع التشريعيين، دون الموضوع الخارجي، الا أنه لعدم ترتب الأثر على الضرر نزل وجوده منزلة العدم. ثم انه يعتبر في نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أن يثبت لطبيعة حكم شرعا أو عرفا حتى يكون النفي رافعا لذلك الحكم عن تلك الطبيعة أو بعض أفرادها ك (لا رهبانية في الاسلام) و (لا قياس في الدين) و (لا سرف في الضوء) و (لا ربا بين الوالد والولد) و (لا غيبة لمن تجاهر بالفسق) فان جواز الرهبانية الثابت في الشرائع السابقة وجواز القياس الثابت عند العامة قد ارتفعا عن جميع أفراد الرهبانية والقياس في الاسلام، وحرمة الربا والاسراف والغيبة قد ارتفعت عن بعض أفراد الربا والغيبة والاسراف، ومرجع الأول إلى النسخ، والثاني إلى التخصيص. والوجه في اعتبار هذا الشرط واضح، إذ المفروض أن نفي الموضوع الخارجي شرعا لا يصح إلا بنفي ما يكون وضعه ورفعه بيد الشارع، وليس ذلك إلا الحكم، فنفي الربا وهي الزيادة لا معنى له إلا نفي حكمها الثابت لطبيعة الربا وهو الحرمة، فمعنى (لا ضرر) حينئذ هو نفي الحكم الثابت لعنوان الضرر، فلو فرض أن الضرر كان حكمه الجواز، فقاعدة نفيه تنفي ذلك الحكم، فكل حكم تكليفي أو وضعي مجعول لعنوان الضرر ينفي بقاعدة نفي الضرر، هذا. وأورد عليه أولا: بعدم صحة نفي الحقيقة ادعاء مطلقا، وذلك لان الجملة إما خبرية وإما إنشائية، فان كانت خبرية فلا يصح النفي لا حقيقة ولا ادعاء أما حقيقة فواضح، وأما ادعاء فلان نفي الطبيعة ادعاء وتنزيل وجودها منزلة العدم
585 انما يصح فيما إذا كانت الطبيعة فاقدة للأثر المهم المترقب منها كالشجاعة مثلا في الرجل فإنه يصح أن يقال في حق فاقديها: (يا أشباه الرجال ولا رجال) وأما إذا فقدت غير ذلك الأثر فلا يصحح فقدانه التنزيل المزبور، ومن المعلوم أن الأحكام التكليفية ليست من آثار الافعال الخارجية حتى يصح نفيها بنفي تلك الأحكام، ضرورة أنها أفعال اختيارية للشارع، وآثار تلك الأفعال هي خواصها القائمة بها المسماة بالمصالح والمفاسد، فالمصحح لنفي طبيعة الصلاة هو عدم ترتب مصلحتها الداعية لتشريع حكمها، هذا. مضافا إلى: أن الافعال الخارجية ليست موضوعات الأحكام الشرعية حتى يتوجه نفيها ادعاء، ضرورة كون الخارج ظرفا لسقوطها لا ثبوتها. نعم في الأحكام الوضعية كصحة المعاملة نظير البيع يصح نفي الطبيعة بلحاظ عدم صحتها، فيصح أن يقال: (أن المعاطاة بناء على إفادتها الإباحة دون التمليك ليست بيعا) لعدم ترتب أثر البيع وهو الملكية عليها وان قصد بها البيع. وبالجملة: فنفي الموضوع ادعاء بلحاظ حكمه الشرعي لا يقاس بسلب الرجولية عمن يفقد أثرها البارز، هذا. وان كانت الجملة إنشائية كان النفي حقيقيا لا ادعائيا، لوجود الموضوع بعين وجود الحكم، لكون عروض الحكم عليه من قبيل عروض الوجود على الماهية بناء على أصالة الوجود واعتبارية الماهية، وليس كعوارض الوجود المنوطة بوجود المعروض، وذلك لان حقيقة الحكم هي الإرادة والكراهة القائمتان بنفس المولى، وحيث إن طبيعة هذين الوصفين تعلقية، لاستحالة الشوق المطلق بدون المشتاق إليه، واستحالة كون الخارج طرف الإضافة، وإلا لزم خارجية الامر النفساني أو نفسانية الخارج، وامتناع قيام الصفة بشخص و مقومها بشخص آخر،
586 وجب أن يكون موضوع الحكم الشرعي هو الصورة العلمية في أفق نفس الحاكم، وحينئذ فنفي الحكم المترتب على الموضوع الضرري نفي للموضوع حقيقة لا ادعاء. ويمكن الجواب عنه سواء أكانت الجملة خبرية أم إنشائية. أما إذا كانت خبرية فلان الاحكام وان لم تكن آثار موضوعاتها، لأنها منشئات الشارع ومجعولاته، لكن حيث إن الملاكات التي هي آثار الموضوعات تكون بوجوداتها العلمية داعية لانقداح الإرادة والكراهة في المبادئ العالية، صح نفي تلك الموضوعات ادعاء بلحاظ الربط المتحقق بين كل موضوع وحكمه، لكفاية هذا المقدار من الترتب فيه، فللشارع نفي أصل الربا بين الوالد والولد باعتبار نفي صفته البارزة أعني الحرمة. وما أفاده من أن موطن الموضوع كنفس الحكم هو النفس لا الخارج فهو وان كان متينا، لكن لا يراد به الصورة العلمية للموضوع مع الغض عن الوجود الخارجي، لوضوح أن ما يدعو الشارع إلى الجعل والانشاء ملاحظة قيام الملاك بالموضوع، ومن المعلوم اعتبار وجود الموضوع في وعاء العين، إذ لولا تأثير الخارج في الملاك لم تكن الصورة العلمية المحضة داعية للتشريع. ولذا كان شيخنا المحقق العراقي (قده) مع التزامه بأن المتعلقات هي الصور الذهنية يقول بأنها الصور الذهنية التي ترى خارجية، فوجود المطابق الخارجي للصور النفسية ولو بنحو فرض وجوده لازم حتى تنقدح الإرادة في المبادئ العالية. وأما إذا كانت إنشائية فلا يناط صحة نفي الموضوع بعدم أثره البارز، ضرورة أنه يصح نفي جعله موضوعا للحكم في صفحة التشريع و لو بتبع نفي جعل حكمه، فيصح أن يقال: (الرهبانية مثلا لم تجعل موضوعا للحكم) فان موضوعية الموضوع مجعولة تبعا لجعل الحكم لا أصالة.
587 وما أفاده من كون الحكم بالنسبة إلى الموضوع كعارض الماهية فهو كلام متين، وقد أشرنا إليه في الجز الأول، لكن الظاهر أن مثل هذه الدقائق العقلية لا تتطرق في باب الاستظهار من الأدلة الشرعية الملقاة إلى العرف وان لم نقل باعتبار مسامحاته في مقام التطبيق، فان الأحكام الشرعية أمور اعتبارية، وموضوعاتها من الأمور المتأصلة عندهم، ففي مثل (لا تشرب الخمر) يرون الموضوع بالنظر الدقي هو الخمر الخارجي، لا الصورة العلمية منه القائمة بنفس المولى. وحينئذ فالمنفي هو الحكم بلسان نفي موضوعه نفيا ادعائيا لا حقيقيا، لفرض تقوم النفي الحقيقي بانعدام أفراد الطبيعة خارجا كما في (لا رجل في الدار) وأما مع وجودها خارجا فالنفي بالعناية والادعاء. وبالجملة: يكفي في صحة نفي الموضوع في الانشاء نفي موضوعيته للحكم من دون اعتبار عدم ترتب أثره البارز عليه. وثانيا: بما في تقرير بعض أعاظم العصر (مد ظله) من: (أن المنفي في المقام هو عنوان الضرر، والضرر ليس عنوانا للفعل الموجب للضرر، بل مسبب عنه ومترتب عليه، فلو كان النفي نفيا للحكم بلسان نفي موضوعه لزم أن يكون المنفي في المقام الحكم الثابت لنفس الضرر، لا الحكم المترتب على الفعل الضرري). لكن يرد عليه نقضا بما اختاره من كون المنفي نفس الحكم ابتدأ وفاقا للشيخ الأعظم والمحقق النائيني، حيث إن الضرر ليس عنوانا لنفس الحكم، ولا يحمل عليه بالحمل الشائع، بل مترتب عليه، لعدم كون نفس وجوب الوضوء ضررا على المكلف وانما هو ضرري، فلو لم يصح تعنون العلة والسبب بوصف المعلول والمسبب لم يفرق فيه بين كون الضرر المنفي عنوانا للموضوع أم للحكم، إذ ليس الضرر محمولا على الموضوع ولا على الحكم حينئذ، وهذا لا يلتئم مع جعل
588 مفاد الجملة نفي الحكم، لتوقفه على صحة تعنونه بالضرر. وحلا بورود نظائر هذا الاستعمال في الروايات، من وقوع الضرر عنوانا للفعل الخارجي، وقد تقدم في معنى الضرار ذكر بعض الروايات كطلاق الزوج ضرارا، فليس هذا الكلام مستبعدا عن استعمالات أبناء المحاورة حتى لا يلتزم به. وثالثا: بأن الضرر موضوع للحكم، والموضوع مقتض لحكمه، فكيف يمكن أن يكون رافعا له؟ فيمتنع أن يندرج (لا ضرر) في نفي الحكم بلسان نفى الموضوع. فدلالة الاقتضاء توجب حمل الكلام على بعض الوجوه الآتية من النهي أو إرادة الضرر غير المتدارك، هذا. ويمكن دفعه نقضا وحلا. أما الأول فبالنقض بمثل (لا رهبانية) مما كان موضوعا في الشرائع السابقة لاحكام قد ارتفعت في هذه الشريعة، فان الرهبانية مع موضوعيتها للحكم السابق قد ارتفع عنها ذلك الحكم في هذه الشريعة، فيلزم كون الرهبانية مقتضية للحكم ورافعة له. وامتناع اقتضاء شئ واحد لطرفي النقيض بديهي. وأما الثاني فبأن الحكم الثاني ناسخ للأول ورافع لموضوعية موضوع الحكم الأول ان كان المرفوع نفس طبيعة الموضوع، إذ لا معنى لرفع الحكم عن موضوعه مع تماميته وعدم زوال جز وقيد عنه إلا النسخ الذي حقيقته إنهاء أمد موضوعية موضوع الحكم المنسوخ، أو مقيد له ان كان المرفوع حصة من الطبيعة ك (لا ربا بين الوالد والولد) وإلا يلزم اجتماع الضدين أو النقيضين. ورابعا: بأن الضرر ان كان حراما، فنفيه بلا ضرر يوجب جوازه، وهذا ضد المقصود، إذ الغرض إثبات ما يناسبه من الحرمة، فيمتنع أن يكون (لا ضرر) من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. ويمكن دفعه بأن قاعدة نفي الضرر من الاحكام الامتنانية، ومن المعلوم أن
589 الاضرار بالغير لا منة فيه، بل هو خلاف الامتنان، فشرط جريان هذه القاعدة أن يكون فيها منة على العباد، وإلا فلا تجري، نظير جريان أصل البراءة في كونه من الاحكام الامتنانية. نعم عمدة الاشكال على هذا الوجه هي عدم انطباق ضابط نفي الحكم بلسان نفي الموضوع عليه، حيث إن ضابطه كما مر آنفا نفي الحكم الثابت لطبيعة عن نفسها أو عن بعض أنواعها أو أصنافها، فلا يشمل حكما ثبت لموضوع طرأ عليه ذلك العنوان تصادفا. وعليه فليس وجوب الوضوء الضرري ولزوم الوفاء بالبيع الغبني وسلطنة المالك إذا صارت ضررية ونظائرها من صغريات قاعدة نفي الحكم بلسان نفى الموضوع، ضرورة أن الاحكام في هذه الأمثلة ثبتت لعناوين خاصة من الوضوء والبيع وسلطنة المالك على ماله ولم تثبت لعنوان الضرر حتى ترتفع بقاعدة نفيه. والحاصل: أن لا ضرر بناء على كونه من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع لا يشمل أمثال هذه الموارد مع بناء الأصحاب على شموله لها رفع أحكامها به، فلا بد من إرادة معنى آخر من (لا ضرر) ولا موجب لحمله على نفي الحكم بلسان نفي الموضوع كما التزم به صاحب الكفاية (قده) في رفع الخطأ والنسيان في حديث الرفع، حيث جعل رفع الحكم فيهما من هذا الباب. توضيح عدم الموجب له في المقام ما عرفت من عدم انطباق ضابط نفي الحكم بلسان نفي الموضوع عليه، وعدم دليل خارجي أيضا على لزوم الالتزام بذلك فيه بعد إمكان حمله على معنى آخر من المعاني المحتملة في (لا ضرر) وهذا بخلاف رفع الخطأ والنسيان، فإنه بعد امتناع نفيهما تكوينا، لوجودهما في الخارج فيلزم الكذب، وتشريعا بمعنى نفي الحكم المترتب على عنوانهما، للزوم كون الشئ مقتضيا لحكمه ورافعها له، ولغوية تشريع الحكم لعنوانهما كوجوب سجود
590 . السهو لمن نسي بعض أجزأ الصلاة، أو بمعنى عدم جعلهما شرعا موضوعا لحكم وتنزيلهما منزلة العدم بحيث يكون الفعل الصادر معهما كالفعل الصادر عمدا لكونه خلاف الامتنان، والمفروض أن رفعهما من الاحكام الامتنانية (لا بد) بمقتضى دلالة الاقتضاء أن يكون المرفوع حكم الفعل إذا صدر خطأ أو نسيانا، فصون الكلام عن اللغوية يقتضي معاملة نفي الحكم معهما معاملة نفيه بلسان نفي الموضوع وان لم ينطبق عليه ضابطه. فتلخص من جميع ما ذكرنا: أنه لا سبيل إلى ما اختاره المحقق الخراساني (قده). 3 - تشريع حرمة الضرر ثالثها: ما اختاره بعض كصاحب العناوين (ره) وشيده العلامة شيخ الشريعة الأصفهاني (قده) في رسالته المعمولة في قاعدة نفي الضرر من إرادة النهي من النفي كإرادة البعث من الجملة الخبرية، ببيان: أنه كما يمكن أن يكون الاخبار بالوقوع كناية عن طلب الفعل و إرادته، إذ الاخبار بالوقوع يناسب البعث على الايجاد، كذلك يمكن أن يكون الاخبار بعدم الوقوع كناية عن كراهة الفعل والزجر عنه، إذ المناسب للوقوع وعدمه من الدواعي هو الزجر والبعث دون التهديد والتعجيز وغيرهما من الدواعي، إذ لا مساس لها بالوقوع و عدمه، قال (قده) في رسالته المشار إليها: (والظاهر الراجح عندي بين المعاني الأربعة هو الأول، وهو الذي لا تسبق الأذهان الفارغة عن الشبهات العلمية إلا إليه. إلى أن قال: وليعلم أن المدعى أن حديث الضرر يراد به إفادة النهي عنه، سواء كان هذا باستعمال التركيب في النهي ابتدأ، أو أنه استعمل معناه الحقيقي وهو النفي، ولكن لينتقل منه إلى إرادة النهي. إلى أن قال: فالمدعى ان الحديث يراد به إفادة النهي، لا نفي الحكم الضرري، و لا نفي الحكم المجعول للموضوعات عنها،
591 ولا يتفاوت في هذا المدعى أن استعمال النفي في النهي بأي وجه، وربما كانت دعوى الاستعمال في معنى النفي مقدمة للانتقال إلى طلب الترك أدخل في إثبات المدعى، حيث لا يتجه حينئذ ما يستشكل في المعنى الأول من أنه تجوز لا يصار إليه). ولا يخفى أن كلامه هذا ينادي بأعلى صوته بعدم توقف إرادة النهي من هذا التركيب على استعمال النفي في النهي مجازا، فلا يرد عليه ما في الكفاية من عدم معهودية إرادة النهي من النفي من مثل هذا التركيب حتى يجاب عنه بشيوع إرادة النهي من (لا) التي لنفي الجنس، و بيان موارد كثيرة من هذا التركيب مما علم بإرادة النهي فيها، نظير قوله تعالى: (لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) وقوله تعالى: (فان لك في الحياة أن تقول لا مساس) أي لا تمسني، وقوله صلى الله عليه وآله: (لا أخصاء في الاسلام) و (لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيام) و (لا غش بين المسلمين) و (لا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام) و (لا حمى الا ما حمى الله ورسوله) و (لا حمى في الاسلام ولا مناجشة) وغير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة وكلمات الفصحاء. وبالجملة: فإرادة النهي من الاخبار بعدم الوقوع كإرادة البعث من الاخبار بالوقوع في غاية الكثرة من غير توقف على ارتكاب المجاز في الكلمة باستعمال النفي في النهي حتى يقال: بعدم معهودية إرادة النهي من النفي في مثل هذا التركيب، فان القائل بهذا الوجه الثالث لا يريد النهي بنحو استعمال النفي فيه، بل وزان إرادته وزان إرادة البعث من الجملة الخبرية الدالة على وقوع شئ. والضابط في إرادة النهي من النفي هو كون المنفي فعلا اختياريا للمكلف،
592 إذ المفروض تعلق النهي به، ومن المعلوم اعتبار القدرة في متعلقه كغيره من متعلقات الاحكام طرا، فلا يشمل مثل (لا شك لكثير الشك) و (لا سهو للامام مع حفظ المأموم) و (لا سهو في سهو) و (لا سهو في نافلة) ونظائرها مما لا يكون متعلق (لا) النافية فعلا اختياريا. وهذا الضابط ينطبق على المقام، ويكون كبرى لفعل سمرة كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وآله له لعنه الله: (انك رجل مضار) فإنه بمنزلة الصغرى، لان فعله مضارة وكل مضارة حرام، ففعله لعنه الله حرام، فحمل (لا) على النهي يناسب المورد، بخلاف حمله على غير النهي، فبناء على نفي الحكم الضرري يصير المعنى (انك رجل مضار والحكم الضرري منفي) وعلى نفي الموضوع الضرري (انك رجل مضار والفعل الضرري لا حكم له) وبرودة كلا المعنيين غير خفية على الأذهان المستقيمة. وكيف كان، فإرادة النهي من النفي والاخبار بعدم الوقوع كإرادة البعث من الاخبار بالوقوع وان كانت شائعة في الكتاب والسنة و كلمات الفصحاء، لكن شيوعها ليس بمثابة يوجب الانسباق إلى الذهن عند الاطلاق، بل يتوقف إرادته على قيام قرينة عليه، لشيوع إرادة غير النهي من هذا التركيب أيضا، نظير قوله صلى الله عليه وآله: (لا يتم بعد احتلام، ولا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك، ولا يمين لولد مع والده، ولا للمملوك مع مولاه، ولا للمرأة مع زوجها، ولا نذر في معصية، ولا يمين في قطيعة) و (لا يمين في غضب ولا في قطيعة رحم ولا في جبر ولا في إكراه) و (لاطلاق إلا على كتاب الله ولا عتق إلا لوجه الله) و (لاطلاق إلا لمن أراد
593 الطلاق) و (لاطلاق الا بعد نكاح ولا عتق إلا بعد ملك) و (لاطلاق الا ببينة) و (لا طلاق الا على السنة ولاطلاق إلا على طهر) و (لا ظهار الا ما أريد به الظهار) و (لا إيلا حتى يدخل بها) و (لا سهو على من أقر على نفسه بسهو) و (لا صيام لمن لا يبيت الصيام بالليل) و (لا نكاح الا بولي مرشد وشاهدي عدل) و (لا رهن إلا مقبوضا) و (لا قطع إلا من حرز) و (لا شفعة إلا لشريك غير مقاسم) و (لا شفعة في سفينة ولا في نهر ولا في طريق) وغير ذلك مما يعثر عليه المتتبع. والحاصل: أن إشكال إرادة النهي من النفي هو عدم القرينة عليه بعد ما عرفت من شيوع استعمال هذا التركيب في النهي وغيره بحيث يصير الكلام بدون القرينة
594 على أحدهما مجملا، هذا. مضافا إلى: أنه - مع الاعتراف باستعمال (لا) النافية في معناها الحقيقي وكون النهي مرادا جديا للمولى - يتوجه عليه: أن أصالة التطابق بين الإرادتين الاستعمالية والجدية تقتضي إرادة النفي من (لا ضرر) إلا بقرينة توجب التفكيك بين الإرادتين، وإرادة الحرمة من الأمثلة المستشهد بها لا تصلح لرفع اليد عن أصالة الحقيقة في حرف النفي في المقام. وأما استدلاله بقوله صلى الله عليه وآله: (انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن) على إرادة التحريم، فيرده: أنه وان كان كذلك، إلا أنك عرفت في مدخل البحث أن مرسلة زرارة وخبر الحذاء غير واجدين لشرائط حجية الخبر حتى يستظهر ذلك من كلمة (مضار). وأما تأييد مدعاه بكلام جمع من اللغويين حيث فسروا الجملة ب (لا يضر أحدهما صاحبه) فيكفي في رده عدم اعتبار قول اللغوي في تعيين الأوضاع، ومعارضته بفهم قدماء الأصحاب كالشيخ والسيد ابن زهرة المستدلين بها على خيار الغبن المقتضي لاستفادة النفي منه. خصوصا وقد ادعى فخر الدين تواتر الاخبار على نفي الضرر، فكأن الذوق الفقهي المستقيم آب عن استظهار غير النفي منه. ومنه يظهر المنع من دعوى تبادر الحرمة إلى الأذهان الصافية، إذ المختلفون في فهم النهي أو النفي كلهم من أبناء المحاورة. وقد استدل على إرادة التحريم بوجوه أخرى أيضا. منها: ما في العناوين تارة من (أن المنع والتحريم هو الأنسب بملاحظة كون الشارع في مقام الحكم من حيث هو كذلك، لا في مقام ما يوجد في الدين وما لا يوجد) وأخرى بأن (سياق الروايات يرشد إلى إرادة
595 النهي من ذلك، وأن المراد تحريم الضرر والضرار والمنع عنهما، وذلك إما بحمل (لا) على معنى النهي، وإما بتقدير كلمة مشروع، و مجوز، ومباح في خبره مع بقائه على نفيه، وعلى التقديرين يفيد المنع والتحريم). ومنها: ما في حاشية المحقق الخراساني على الرسائل من (أن الشارع لم يشرع جواز الاضرار بالغير أو وجوب تحمل الضرر عنه كما يظهر من مراجعة ما يوازنه من مثل لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج مثلا، أو يقال مثلا: لا قمار ولا سرقة ولا أكل أموال الناس بالباطل في الاسلام، حيث إن الظاهر منها نفي تشريع ما يناسب الموضوع المنفي فيها من الاحكام). ومنها: ما في حاشية المحقق الأصفهاني (قده) من قوله: (ولكن هنا شبهة ربما تقوي إرادة النهي إلخ). ومحصله: أن الضرر هو النقص، وحمل العنوان المنتزع من المعلول على العلة بالحمل الشائع غير سديد، فلا يقال: (النار حرارة) بل الصحيح أن يشتق من المعلول وصف ثم حمله عليها بأن يقال: (النار حارة) وحيث إن الضرر معلول الحكم الشرعي كما يراه الشيخ أو موضوع حكمه كما اختاره المحقق الخراساني فلا بد من صحة أن يقال: (الوجوب ضرر أو الوضوء ضرر) مع أن الصحيح كون الوضوء أو وجوبه مضرا لا ضررا، ولذا قد يضاف إليه ياء النسبة ويقال: (الوضوء الضرري ليس مجعولا في الاسلام). وهذا أجنبي عما هو المنفي في الحديث، لورود حرف النفي على نفس الضرر لا المشتق منه، والمفروض فساد حمل العنوان القائم بالمعلول على علته، ولا يمكن تصحيح الكلام الا بكون النفي بلحاظ الحكم المتوهم وهو الجواز ونتيجته حرمة الضرر، وهذا التقدير أقرب إلى المعنى الحقيقي من احتمال إرادة
596 النفي منه. لكن للمناقشة في الوجوه المتقدمة مجال، أما ما أفاده صاحب العناوين أولا فيرده: أن الشارع الأقدس المحيط بحقائق الأمور له الاخبار عن الواقعيات كما له إنشاء الاحكام الاعتبارية. وبناء على كون الجملة خبرية لم يتعين حملها على الاخبار عن نفي الضرر خارجا حتى يكون كذبه موجبا لإرادة إنشاء التحريم، لجواز حمله على نفي الضرر في وعاء التقنين والتشريع، وهو مناسب جدا لمقام شارعيته فضلا عن منافاته له، وهذا المعنى أوفق بما اشتمل على كلمة (في الاسلام) ومجرد هذا الاحتمال كاف في عدم استقرار ظهور الجملة في النهي. وأما ما أفاده ثانيا من وحدة السياق فيرده: أن ورود النهي عن الضرار والمضارة انما يقتضي رفع اليد عن أصالة الحقيقة في (لا) النافية الواردة على (ضرار) ولكنه لا يقتضي رفع اليد عنه في خصوص (لا ضرر) لأنه بلا موجب، كما هو واضح. وأما رفع اليد عن النفي بتقدير (مجوز ومباح) فيكفي في رده كونه خلاف الأصل، ولا ملزم للالتزام به، لصحة الكلام بدونه. وأما كلام المحقق الخراساني في الحاشية، فيمكن الخدشة فيه - مضافا إلى عدم انطباق ضابط نفي الحكم المناسب بلسان نفي الموضوع عليه - بأن الحكم المناسب للضرر هو الحرمة لا الجواز خصوصا بملاحظة الأخبار الناهية عن المضارة والاضرار والضرر، و نفي هذا الحكم المناسب خلاف المقصود الذي هو إثبات حرمة الضرر، إذ نفي الحرمة مستلزم للجواز، فيكون حينئذ نظير (لا ربا بين الوالد والولد) في كون المنفي هو الحرمة المجعولة للطبيعة. وأما كلام المحقق الأصفهاني، فان الامر وان كان كما أفاده، لكن يبقى مجال
597 النقض عليه بنفي الحرج في الدين مما لا ريب في كون المنفي هو نفس الحكم الشرعي، مع أن الحرج والمشقة ليس وصفا للحكم، لقيامه بالمكلف، وانما الحكم حرجي أو ملق في الحرج، فالمحمول المنفي في الشريعة هو الحرج لا ما يشتق منه، وقد تعنون الحكم في لسان الدليل بوصف ما هو كالمعلول له، وعليه فمجرد ما أفيد لا يقتضي رفع اليد عن أصالة الحقيقة في (لا) هذا. مضافا إلى: احتمال عدم كون (ضرر) مصدرا، بل هو ك (حسن) صفة مشبهة، ولا ريب في صحة تعنون علته به، لاشتراك بعض الصيغ بين المصدر والصفة المشبهة، أو بين اسم الفاعل والصفة. بل يمكن الجواب الحلي بأن المصحح لأمثال هذا الاستعمال هو صحة الحمل عرفا وان لم يخل عن بعض مراتب المجاز كما في (زيد عدل) بداعي المبالغة في ثبوت الصفة له، وفي حديث (لا ضرر) كذلك، لشدة الربط بين فعل المكلف وحكم الشارع من جهة تبعية الإرادة المأمورية للإرادة الامرية ومقهوريتها لها، فكأن الشارع هو الملقي له في الضرر والحرج، وهذا المقدار مصحح لاستعمال (لا) النافية مجازا في النفي. هذا ما استدل به على إرادة النهي من جملة (لا ضرر) وقد عرفت عدم وفاء شئ منها بإثباته، وان كان احتمال إرادته غير مستبعد من هذا التركيب. وأما الاشكال عليه تارة بما في مقالات شيخنا المحقق العراقي من (أن هذا المعنى لا يناسب التخفيف على الأمة الموجب للامتنان عليهم، بل كان تحملا آخر وإلزاما زائدا عليهم، وهو ينافي بناءهم على سوقه الوارد مساق حديث الرفع وعمومات نفي الحرج من حيث التخفيف على الأمة، بشهادة تصريحهم بعدم شمول عمومه للمقدم على الضرر في المعاملات الغبنية.). وأخرى بما في تقريرات بعض الأعاظم دام ظله من (أن هذا الاحتمال - وهو
598 إرادة النهي - وان كان ممكنا في نفسه، إلا أنه لا يمكن الالتزام به في المقام. أما بناء على اشتمال الرواية على كلمة (في الاسلام) كما في رواية الفقيه ونهاية ابن الأثير فظاهر، لان هذا القيد كاشف عن أن المراد هو النفي في مقام التشريع، لا نفي الوجود الخارجي بداعي الزجر). فلا يخلو من غموض. أما الأول فلان القاعدة وان وردت مورد الامتنان بناء على إرادة النفي، إلا أن الاستناد فيه إلى المتن المشتمل على (على مؤمن) غير ظاهر، لما عرفت من عدم ثبوته في رواية معتبرة، ودعوى الجبر بعمل الأصحاب بخصوص هذا المتن ممنوعة، إذ الموجود في خلاف شيخ الطائفة وغنية السيد ابن زهرة (قدهما) خال عنه، والمحكي عن تذكرة العلامة (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) فإحراز استنادهم إلى خصوص ما اشتمل على (على مؤمن) مشكل ولو سلم ذلك لم ينفع، لاستدلالهم على خيار الغبن بوجوه أخرى كتخلف الشرط الضمني، وسقوط خيار العالم بالغبن يستند إلى إسقاط هذا الحق، لا امتنانية قاعدة الضرر. وأما الثاني، فلان نفي الوجود بداعي الزجر تشريع أيضا لحرمة الاضرار في الاسلام كحرمة الرفث في الحج، فإنه لا فرق في صدق التشريع بين كون المجعول نفي الحكم الضرري وبين كونه حرمة الاضرار، لأنه على التقديرين تكون القضية خبرية سلبية حاكمية عن عدم وقوع الضرر سواء أريد به نفي الحكم الضرري أم الموضوع الضرري، أم حرمة الضرر، فكلمة (الاسلام) لا تشهد بتعين شئ من هذه الاحتمالات الثلاثة، فتأمل جيدا. ولا بأس بالتنبيه على أمر، وهو: أن الشيخ الأعظم بعد استظهاره لنفي الحكم من الحديث قال: (ويحتمل أن يراد من النفي النهي عن ضرر النفس أو الغير ابتدأ أو مجازاة، لكن لا بد أن يراد بالنهي زائدا على التحريم الفساد وعدم
599 المضي، للاستدلال به في كثير من رواياته على الحكم الوضعي دون محض التكليف، فالنهي هنا نظير الامر بالوفاء بالشروط والعقود، فكل إضرار بالنفس أو الغير محرم غير ماض على من أضره، وهذا المعنى قريب من الأول بل راجع إليه.). لكنه لا يخلو من غموض، لتوقفه على الملازمة بين حرمة الاضرار بالغير تكليفا ووضعا، مع أن الأمثلة التي ذكرها المختارة وهو النفي أجنبية عن هذا التلازم، فإنه (قده) مثل للنفي بقوله: (فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون فينتفي بالخبر، وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك، وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء الا بثمن كثير، وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه وإباحته له من دون استئذان من الأنصاري، وكذلك حرمة الترافع إلى حكام الجور إذا توقف أخذ الحق عليه، ومنه براءة ذمة الضار عن تدارك ما أدخله من الضرر). والملازمة المزبورة انما تتجه في مثال سلطنة المالك، لأنها منشأ لتضرر الأنصاري، فيمكن القول بزوال سلطنته من جهة حرمة الاضرار. وأما في سائر الفروع المذكورة فلا، حيث إن المرفوع في مسألة شراء ماء الوضوء بثمن كثير هو الالزام والوجوب لا حرمة الشراء حتى يستلزم فساد الوضوء به. وكذا في مثال حرمة الترافع، فان مجرد تضرر صاحب المال لا يوجب جواز الترافع إليهم لانقاذ حقه. وعقد الغابن ليس حراما تكليفا حتى يلازم حكمه الوضعي وهو جواز العقد. وبيع الشريك حصته ليس حراما حتى يكون سلطنة الشريك على فسخه لأجله. هذا كله مع الغض عما في تنظير (لا ضرر) ب آية وجوب الوفاء بالعقود الدالة على حليتها تكليفا ووضعا بالملازمة العرفية من الاشكال، لامكان تحريم الشارع للضرر من دون أن يكون من موجبات الضمان، كما هو واضح لمن تأمل.
600 والحاصل: أن الفرق بين القول بإفادة الجملة للنفي أو النهي جوهري يظهر ثمرته في الحكومة كما سيأتي التعرض له في التنبيهات إن شاء الله تعالى، ولا سبيل لارجاع الثاني إلى الأول. فالمتحصل: أن عمدة الاشكال على اراده النهي من (لا ضرر) أمران: أحدهما: الاجمال وعدم القرينة عليها، إلا أن يكون المورد قرينة عليها بالتقريب المتقدم بقولنا: (فإنه بمنزلة الصغرى لان فعله مضاره. إلخ) فتأمل. ثانيهما: عدم دلالته على فساد المعاملة الضررية. 4 - نفي الضرر غير المتدارك رابعها: ما عن بعض الفحول كالفاضل التوني والنراقي (قدهما) من أن المنفي هو الضرر غير المتدارك، بمعنى نهي الشارع عن الضرر غير المجبور بشئ من الضمان ونحوه، فالضرر المتدارك بحكم الشارع ينزل منزلة العدم، كما هو كذلك عرفا، ولذا لا يعدون التاجر الذي ربح في إحدى معاملاته عشرين دينارا مثلا وخسر في بعضها هذا المقدار أيضا من التجار الذين خسروا وتضرروا في تجارتهم. وعليه (فلا ضرر) كناية عن لزوم تدارك الضرر شرعا للمتضرر. فهذا الوجه يشترك مع الوجهين الأولين في كون المنفي هو طبيعة الضرر، ويفترق عنهما بأنه مقيد بالتدارك. والمصحح لنفي الطبيعة فيه هو حكم الشارع بلزوم التدارك الذي نزل وجودها منزلة العدم. ونتيجة هذا الوجه لزوم تدارك طبيعة الضرر، هذا. ويرد عليه أولا: أن إرادة الضرر غير المتدارك ان كانت بالاستعمال فيه مجازا فهي خلاف أصالة الحقيقة وتحتاج إلى قرينة صارفة، و هي مفقودة. وان كانت بدال مستقل فهي خلاف أصالة الاطلاق، ويحتاج التقييد إلى الدليل، وهو أيضا
601 مفقود، ومع الشك يكون المتبع أصالتي الحقيقة والاطلاق. وثانيا: أن حكم الشارع بلزوم تدارك الضرر تكليفا لا يصحح نفي طبيعة الضرر بل المصحح له هو تداركه خارجا، فان صرف وجوب رد الأموال المغصوبة على الظلمة والسارقين إلى مالكيها لا يجبر الضرر الوارد على أربابها ولا يصحح نفى طبيعة الضرر عنهم، وانما الجابر له والمصحح لنفيها هو التدارك الخارجي، ولذا أبدل المحقق النائيني (قده) الحكم التكليفي بالوضعي، وهو الضمان واشتغال ذمة الضار بشرط يساره وكونه مؤديا، فحينئذ يصح أن يقال: ان هذا الضرر المجبور بالضمان الكذائي ليس ضررا، هذا. أقول: هذا التقييد منه (قده) لا محيص عنه مع الالجاء إلى الالتزام بهذا الوجه الرابع، لكنه قد عرفت وستعرف أيضا عدم الوجه في الالتزام به. وثالثا: أنه أخص من المدعى، إذ ليس كل ضرر لازم التدارك تكليفا ووضعا، كما إذا فرض غلو سعر كتاب لعزة وجوده، وقد طبعه شخص فصار الكتاب لكثرة وجوده رخيصا، ومن المعلوم أن تنزل القيمة ضرر أورده طابع الكتاب على مالكه مع عدم لزوم تداركه على الطابع. وكاستيراد تاجر لمتاع عزيز الوجود غالي السعر الموجب لنزول قيمته. ونظائره كثيرة. وبالجملة: فنفي طبيعة الضرر لأجل لزوم تداركه شرعا بعد فرض صحته لا يصح، مع عدم لزوم ذلك في كثير من الموارد، لاختصاصه بباب التغريمات والتضمينات، وهو لا يكفي في صحة نفي الطبيعة المستلزم لنفي جميع أفرادها، مع عدم كون الضرر بنفسه من موجبات الضمان. وأما الاشكال عليه بما في رسالة الشيخ الأعظم من: (أن ظاهر قوله عليه السلام: لا ضرر في الاسلام كون الاسلام ظرفا للضرر، فلا يناسب أن يراد به الفعل المضر، وانما المناسب الحكم الشرعي الملقي للعباد في الضرر، نظير قوله: لا حرج في
602 الدين) فغير ظاهر، لعدم قرينية (في الاسلام) على كون المنفي هو الحكم، فان الضرار أيضا منفي في الاسلام، مع أنه لا ريب في كونه في موارد إطلاقه هو الفعل، ولا يصح إرادة الحكم منه كما في إطلاقه على إمساك الزوجة ضرارا وغيره. فيلزم عليه (قده) توجيه وقوع النفي في الاسلام بما يلتئم مع الفعل الضرري أيضا. 5 - تحريم الضرر بالنهي السلطاني أو القضائي خامسها: إرادة النهي من النفي، لكن المراد به النهي السلطاني الصادر عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه رئيس الدولة وسائسها، لا بما أنه مبلغ أحكام الشرع عن الله عز وجل حتى يكون النهي إلهيا كالنهي عن القمار وشرب الخمر ونحوهما من المحرمات الإلهية، وبيانه منوط بالإشارة إلى أمور: الأول: أنه لا إشكال في ثبوت مناصب للنبي صلى الله عليه وآله: منها: النبوة والرسالة أي تبليغ الاحكام الكلية. ومنها: السلطنة على الأمة، لكونه رئيسهم ومدبر أمورهم وسائس بلادهم، وهم رعيته، وأوامره بالنظر إلى هذا المنصب مولوية لا إرشادية كما في الاحكام التي يبلغها عنه تعالى، فان إطاعتها إطاعة له تعالى لا لرسوله بما هو مبلغ الاحكام، بخلاف أوامره السلطانية، فإنها مولوية، وامتثالها إطاعة له صلى الله عليه وآله كما إذا جعل الامارة لشخص على الجيش، فإنه تجب إطاعته لكونه رئيسا على الأمة. ومنها: القضاء وفصل الخصومات، فان حكمه بموازين القضاء نافذ لا يجوز التخلف عنه. وهذه المناصب ثابتة له وللأئمة الهداة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين بالبراهين الواضحة التي ليس المقام محل ذكرها. الثاني: كل ما ورد من رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما بلفظ (قضى) أو (حكم) أو (أمر) وأمثالها ليس المراد منه
603 بيان حكم الله الكلي، ولو أريد منه ذلك كان مجازا أو إرشادا إلى حكم الله، لظهورها في قضائه وحكمه بما أنه قاض أو سلطان، لا من حيث إنه مبلغ للأحكام، إذ ليس للنبي حكم وقضاء بالنسبة إلى الاحكام الكلية. بل يحمل بقرينة الحال أو المقام بعض الأحكام الواردة بعنوان (قال رسول الله أو أمير المؤمنين عليهما السلام) على صدور الحكم المولوي السلطاني أو القضائي لفصل الخصومة، كما إذا ورد أنه صلى الله عليه وآله قال: (أنت رئيس الجيش) أو (هذه الدار لزيد) هذا في مقام الثبوت. الثالث: في تأييد ما تقدم بحسب مقام الاثبات. أما ما ورد بلفظ (قضى) و (حكم) وأريد منه الحكم المولوي فأكثر من أن يحصى، فمنه قوله صلى الله عليه وآله: (انما أقضي بينكم بالبينات والايمان)، وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله يحكم بين الناس بالبينات والايمان)، وعن أبي جعفر عليه السلام قال: (لو كان الامر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأما ما كان من حقوق الله عز وجل أو رؤية الهلال فلا) تدل هذه الرواية على أن هذا التنفيذ وهذه الإجازة هو تنفيذ ولي الأمر والسلطان. وأما ما ورد بلفظ (قال) مع كون المستفاد منه الامر السلطاني فكثير، فمنه رواية عقبة بن خالد الواردة في شق القناة بجنب قناة أخرى وقوله صلى الله عليه وآله: (اقتلوا المشركين واستحيوا شيوخهم وصبيانهم).
604 وإذا ورد عنه: (قال كذا) وشك في أنه صلى الله عليه وآله مخبر عن الله تعالى أو أمر أو نهى باعتبار المنصبين المتفرعين على الرسالة وهما الرئاسة والقضاء فالحمل على الامر المولوي منوط بقيام قرينة من حال أو مقام. إذا عرفت ما ذكرناه، فنقول في توضيح إرادة النهي السلطاني من (لا ضرر): ان هذه الجملة وردت في قصة سمرة تارة عقيب قوله صلى الله عليه وآله للأنصاري: (اذهب فاقلعها وارم بها إليه) كما في موثقة زرارة، وأخرى عقيب قوله صلى الله عليه وآله لسمرة الفاسق: (انك رجل مضار) كما في مرسلته. كما أن هذه الجملة وقعت تارة مسبوقة بلفظ (قضى) كما في رواية عقبة بن خالد في حكاية قضائه صلى الله عليه وآله بمنع فضل الماء، إذ فيها (وقال لا ضرر ولا ضرار) وأخرى غير مسبوقة بلفظ قضى وشبهه كما في مرسلة الدعائم. وقد عرفت أن لفظي (قضى) و (حكم) ظاهران في المولوية لا الارشادية، وأن وجوب الإطاعة انما هو من جهة القضاوة والسلطنة لا من جهة الاخبار عن حكم الله الكلي. وأما لفظا (قال ويقول) ونظائرهما، فان وردت في مقام قطع الخصومات دلت على وجوب الإطاعة من حيث كونه صلى الله عليه وآله قاضيا، وان وردت في مقام جعل الامارة لشخص دلت على الامر السلطاني، لكونه أميرا على الأمة. ففي المقام تكون جملة (لا ضرر) بناء على وقوعها عقيب لفظ (قضى) كما نقل عن مسند أحمد بن حنبل برواية عبادة بن الصامت في ضمن أقضية رسول الله صلى الله عليه وآله ظاهرة في كون النهي عن الضرر نهيا قضائيا تجب إطاعته من حيث إنه صلى الله عليه وآله قاض وحاكم، وبناء على وقوعها عقيب لفظ (فإنه وقال) كما في موثقة زرارة ومرسلته من طرقنا فهي ظاهرة بعد التأمل في صدر قضية سمرة وذيلها وشأن صدور الحديث - وأنه من اشتكاء المظلوم عند السلطان لدفع الظلم والاعتداء - في صدورها منه صلى الله عليه وآله بنحو الامرية بما أنه سلطان الأمة ودافع الظلم عن الرعية، فان الأنصاري
605 رفع الشكوى إليه لدفع ظلم سمرة الطاغي عنه، لا للحكم بينه وبين سمرة، إذ لم يكن هناك شبهة حكمية ولا موضوعية حتى يكون حكمه صلى الله عليه وآله بيانا للحكم الكلي الإلهي، لان لزوم الاستئذان للدخول على الأجنبية حتى تتحجب كان معلوما عندهم، ولم يكن مجرد بيان النهي الكلي مجديا في ارتداع سمرة ورفع يده عن ظلمه، بل المجدي في ذلك هو النهي السلطاني، ومن المعلوم أن الرجوع إليه حينئذ يناسب مقام إمارته على الأمة وكونه دافعا للظلم عنهم، لا مجرد نبوته وتبليغه صلى الله عليه وآله للأحكام عنه سبحانه و تعالى. وعليه فلا يستفاد من (لا ضرر) قاعدة كلية حاكمية على أدلة الاحكام، كما هو مقصود أكثر من تمسك به، بل هو حكم قضائي بناء على نقل ابن حنبل، وسلطاني بناء على النقل من طرقنا. ونتيجته تحديد قاعدة السلطنة خاصة، هذا. لكنه لا يخلو من تأمل، وذلك فان ثبوت المناصب الثلاثة المذكورة للنبي والأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وان كان من المسلمات، إلا أن الكلام في صغروية حديث (لا ضرر) للحكم السلطاني أو القضائي، ضرورة أن الأصل الأولي في كل ما يبينه النبي صلى الله عليه وآله يقتضي صدوره بداعي التشريع وتبليغ الحكم الكلي الإلهي المنزل عليه، إلا مع قيام قرينة توجب رفع اليد عنه. وهي مفقودة في المقام. وتوضيحه: أن هذه الجملة وردت تارة مسبوقة بلفظ (قضى) كما في رواية الشفعة، وأخرى غير مسبوقة به كما في قضية سمرة ورواية دعائم الاسلام وغيرهما. أما ما ورد عقيب (قضى) فلا يدل على كونه حكما مولويا قضائيا، أما وروده في رواية عبادة، ففيه - مضافا إلى ضعفها سندا كما تقدم فيما ذكرناه حول كلام شيخ الشريعة - أنه لا يثبت به الحكم القضائي، لاشتمال روايته على عشرين قضاء أكثرها أحكام كلية إلهية كقضائه بالشفعة، ومنع فضل الماء، وعدم جواز تصرف الزوجة في
606 مالها بدون اذن زوجها، ودية الكبرى المغلظة والصغرى، وأنه ليس لعرق ظالم حق، وأن للجدتين السدس من الميراث، وأن الولد للفراش وللعاهر الحجر، وأن في الركاز الخمس، وغيرها. ولا ريب في أن هذه الأحكام ليست قضائية بل أحكام كلية إلهية، وقد وردت من الأئمة المعصومين عليهم السلام بعنوان (قال أو أمر) و نحوهما مما يدل بحسب الظهور الأولي على بيان ما أوحي إليه أو ألهم إليهم، فمثل وجوب تخميس الركاز حكم إلهي قطعا كما يظهر من ملاحظة بعض أخبار الباب، كمعتبرة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (سألته عن المعادن ما فيها؟ فقال: كل ما كان ركازا ففيه الخمس.) ونحوها غيرها. وقد تعرضنا فيما يتعلق بكلام شيخ الشريعة لجملة من الروايات الحاكية لأقضيته صلى الله عليه وآله وأكثرها متمحض في بيان الاحكام الكلية الإلهية، سواء تصدر بلفظ (قضى) أم (حكم) أم (جعل) أم (أمر) وهذا مما يوهن ظهور ما ورد عنه صلى الله عليه وآله بعنوان (قضى) أو (حكم) ونحوهما في الامر المولوي السلطاني أو القضائي. وأما مثل قوله صلى الله عليه وآله: (انما أقضي بينكم بالبينات والايمان) فليس شاهدا على المدعى، لظهوره في أن ميزان القضاء و فصل الخصومة في الشريعة المقدسة هو الاعتماد على هذه الحجج الظاهرية دون غيرها من الامارات غير العلمية كخبر الواحد والقرعة، وعلم الحاكم لو قيل بعدم اعتباره، فهو يدل على أن المجعول الإلهي لميزان القضاء في الخصومات هو الاخذ بالبينات والايمان لا أن فصل الخصومات بها من شؤون منصب قضائه صلى الله عليه وآله وسلم. وأما رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (لو كان الامر إلينا أجزنا
607 شهادة الرجل الواحد) فلا تدل أيضا على أن تنفيذ شهادة الرجل الواحد مستند إلى ثبوت منصب السلطنة والرئاسة العاملة لهم عليهم السلام، لاحتمال أن يكون بيان هذا التنفيذ اخبارا عن حكم الله تعالى الكلي، لا من خصائص هذا المنصب كما يشهد به عدة روايات، مثل ما أرسله الصدوق بقوله: (قضى رسول الله بشهادة شاهد ويمين المدعي، قال: وقال عليه السلام: نزل جبرئيل بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق، وحكم به أمير المؤمنين عليه السلام بالعراق). والحاصل: أن شيوع استعمال لفظ (قضى وحكم وأمر) في الروايات في تبليغ التكاليف الكلية الإلهية المنزلة عليه صلى الله عليه وآله يمنع من استقرار ظهور للألفاظ المذكورة في كون ما يتلوها من الأوامر والنواهي أحكاما مولوية سلطانية أو قضائية. وحديث (لا ضرر) بناء على وقوعه عقيب (قضى) لا يدل على أنه حكم قضائي. وأما بناء على ما هو الصحيح من أخبار الباب من وقوعه بعد (قال) فظهوره في تحريم الضرر أو نفيه في الشريعة كسائر الأمور المنهي عنها أو المنفية ب (لا) النافية مما لا ينكر، وإرادة الحكم المولوي منه موقوفة على قرينة تدل عليه كما اعترف به القائل بهذا النظر. وما استشهد به على مدعاه لا ينهض بإثباته، لامكان أن يقال: ان غرض الأنصاري لما كان هو رفع الظلم والاعتداء عنه اعتقد بإمكان استيفاء هذا الغرض والوصول إليه بأحد نحوين: أحدهما صدور الحكم السلطاني عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والاخر نهيه صلى الله عليه وآله لسمرة الملعون عن المنكر الذي ارتكبه، لاعتقاد الأنصاري بأن نهيه صلى الله عليه وآله غير نهي الرعية، وأن سمرة ينتهي بنهيه صلى الله عليه وآله ويرتدع بردعه صلى الله عليه وآله خصوصا بناء على ورود (لا ضرر) بعد قوله صلى الله
608 عليه وآله كما في مرسلة زرارة: (انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن) إذ المستفاد منه: (انك مضار، وحرم الله تعالى الاضرار بالمؤمن) ومن المعلوم أن اسناد الحرمة إليه تعالى في مقام الزجر والردع أولى من اسناده إلى نفسه المقدسة صلى الله عليه و آله من حيث ولايته وإمارته، لكونه أوقع في التأثير وترك المنكر والانتهاء والانزجار عنه. فالمراد ب (لا ضرر) حينئذ - والله العالم - هو النهي الإلهي الصادر بداعي النهي عن المنكر الذي هو وظيفة كل مسلم فضلا عن سيد الرسل صلى الله عليه وآله. والحاصل: أن قوله صلى الله عليه وآله: (انك رجل مضار، والاضرار من محارم الله تعالى ومبغوضاته) أوقع في النفس من قوله صلى الله عليه وآله: (أنا حرمت الاضرار بالمؤمن) كما لا يخفى. وإذا شك في كون النهي سلطانيا أو إليها صادرا بداعي النهي عن المنكر، فمقتضى الأصل الذي أشرنا إليه هو الثاني. وان أبيت عن ذلك وأنكرت كلا من الظهور في الثاني وكونه مقتضى الأصل، فلا أقل من تساوي الاحتمالين، فيصير الكلام مجملا ولا يصلح لاستفادة شئ منهما منه. ويمكن تأييد كون النهي إليها بورود (لا ضرر) بنحو القضية الكلية كسائر الأحكام الشرعية التي هي من القضايا الحقيقة، إذ الاحكام القضائية والسلطانية من القضايا الخارجية، فلو كان النهي سلطانيا كان المناسب أن يقال: (انك رجل مضار، وأنا حرمت عليك الاضرار بالمؤمن) ولذا يحمل (لا ضرر) في حديث الشفعة على الحكم الكلي الإلهي بثبوت حق الشفعة مع كونه مسبوقا بلفظ (قضى). وأما الامر بالقلع فهو على كل حال حكم ولائي سلطاني سواء كان لا ضرر نهيا إلهيا أم سلطانيا، إذ لو كان إلهيا - والمفروض أن سمرة الشقي لعنه الله لم يرتدع بل كان مصرا على إدامة ظلمه وإيذائه - اقتضت سلطنته صلى الله عليه وآله على الأمة دفع الظلم
609 عنهم، وحيث إن قطع مادة الفساد كان منوطا بقلع العذق عن محله وإفراغ الأرض عنه أمر صلى الله عليه وآله بقلعه حتى لا يبقى لسمرة حق الاستطراق إليه، حيث إنه لم يكن محل العذق ملكا له، إذ لو كان ملكا له لم يسقط حق عبوره بقلع العذق، بل كان له المرور به، فبقاء العذق في مكان الغير كان اما بإذن مالكه واما بجعل حق له في بقائه. وعلى كلا التقديرين لا يبقى له حق الابقاء، لكونه علة للضرر المنحصر اندفاعه بالقلع المزبور، إذ المفروض عدم انتهائه بنهيه صلى الله عليه وآله، وعدم قبوله للاستئذان من الأنصاري، فالعلاج الوحيد في دفع الظلم هو قلع العذق، لان منشأ الضرر هو بقاؤه في البستان، فلذا أمر صلى الله عليه وآله وسلم حسب ولايته على النفوس والأموال بقلعه. فلا يرد أن امتناعه عن الاستئذان بالدخول إلى دار الأنصاري لا يوجب ارتفاع احترام ماله، حيث إن قلعه يرفع ماليته الشجرية. مضافا إلى: أنه ظالم، وليس لعرق ظالم حق نظير البناء في ملك الغير بدون اذنه، فان لصاحب الأرض هدم البناء وتسليم آلاته إليه من دون ضمان لمالية البناء بعد تعميم الظالم للمضر، وعدم اختصاصه بالغاصب، لان الظالم هو المتجاوز عن حدود العدالة. وإلى: إمكان أن يكون القلع المسقط لمالية العذق حدا لما ارتكبه من تمرده وعصيانه لأمر النبي صلى الله عليه وآله بناء على ثبوت التعزير المالي وكون الامر بالقلع من أدلته، وأعمية التعزير المالي من الاتلاف والنقل إلى بيت المال، فليتأمل. وإلى: احتمال كون لا ضرر الواقع عقيب الامر بالقلع كما في مرسلة زرارة علة له، يعني: أنه لا ضرر عليك في القلع، فالمراد حينئذ (اقلع عذقه، فإنه
610 لا ضمان عليك في قلعه) وان كان هذا الاحتمال لا يخلو من بعد، بل عن إشكال إذ لا مناسبة بين الامر بالقلع وعدم الضمان الذي جعل علة له، بداهة عدم صلاحية كون نفي الضمان علة لوجوب القلع، لعدم الترتب بينهما، فإنه يحرم غصب الأوقاف العامة وإتلافها كالمساجد ونحوها من المشاعر التي ليست منفعتها مملوكة لاحد مع عدم ضمان المتلف والغاصب لها، فمجرد عدم الضمان لا يصلح لان يكون علة لوجوب إتلاف مال الغير أو جوازه كقلع العذق فيما نحن فيه. كما أنه قد يجب الاتلاف مع الضمان كأكل مال الغير في المخمصة. اللهم الا أن يقال كما عن الميرزا (قده): ان (لا ضرر) عقيب الامر بالقلع ليس علة للقلع، بل هو علة لوجوب الاستئذان. لكن فيه: أن وجوب الاستئذان قد استفيد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاستأذن) مع أن انفصال (لا ضرر) عنه بكلام طويل يمنع عن جعله علة لوجوب الاستئذان، لأنه خارج عن طريق أبناء المحاورة في محاوراتهم، ولا يصار إليه إلا مع القرينة، وهي مفقودة. وبالجملة: فالظاهر كون (لا ضرر) علة للامر بالقلع، وعلى ما احتملناه من كون القلع حدا لعصيانه لأمر النبي صلى الله عليه وآله بالاستيذان، وكون (لا ضرر) للنهي يستقيم التعليل، لأنه بمنزلة قوله صلى الله عليه وآله: (اقلع عذقه، لأنه عصى الله تعالى في ارتكاب ما نهاه عنه) فالقلع تعزير لا ضراره بالمؤمن، وهو حرام. أو لان إضراره لا يندفع إلا بقطع مادة الفساد وهو قلع العذق. المختار في فقه الحديث فتلخص من جميع ما ذكرنا: أن الأقرب بحسب المورد كون (لا ضرر) نهيا إلهيا وان كان الامر بالقلع حكما ولائيا، وبه يندفع ظلم سمرة اللعين واعتداؤه
611 على الأنصاري، ولا يستفاد منه حكم كلي كما هو محتمل الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني (قدهما) ولا الضرر غير المتدارك، لما تقدم من الاشكالات الواردة عليها. وما ذكرناه من الأقربية انما هو بحسب مناسبة المورد، لا بحسب الاستعمال، إذ لا شاهد له على ذلك مع كثرة استعمال هذا التركيب في النفي والنهي معا بحيث لا يكون أحدهما شائعا دون الاخر حتى يتبادر ذلك الشائع، بل تعين إرادة أحدهما منوط بالقرينة، وبدونها يصير الكلام مجملا، ولا يستفاد منه شئ. وان كان يمكن تأييد إرادة النهي من (لا ضرر) بالروايات الناهية عن الاضرار بالغير، وقد تقدم بعضها، فتدبر. ثم إن هنا أمورا ينبغي التنبيه عليها: 1 - توجيه الامر بقلع العذق الأول: أنه بناء على ما ذكرنا - من كون الامر بالقلع ولائيا ناشئا من كونه صلى الله عليه وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم، و توقف قطع مادة الفساد على القلع المزبور - لا يبقى مجال للاشكال في أن قاعدة الضرر لا تقتضي سلب احترام المال وعدم ضمانه، قال الشيخ (قده): (وفي هذه القصة إشكال من حيث حكم النبي صلى الله عليه وآله بقلع العذق، مع أن القواعد لا تقتضيه، ونفي الضرر لا يوجب ذلك، لكن لا يخل بالاستدلال). أما اشكاله من ناحية القلع فقد عرفت اندفاعه. وأما قوله (قده): (لكن لا يخل بالاستدلال) ففيه: أن مرجع عدم انطباق العلة على الحكم المعلل إلى خروج المورد عن العموم، وهو كاشف عن عدم إرادة ظاهر العلة من العموم، وذلك يوجب إجمال العلة، ومع إجمالها كيف
612 يصح الاستدلال بها؟ وأي إخلال به أعظم من الاجمال، هذا. وبناء على كون معنى (لا ضرر) نفي تشريع الحكم الضرري الذي أفاده الشيخ (قده) يستقيم التعليل أيضا، لأن جواز دخول سمرة على الأنصاري بلا استئذان ضرر نشأ من استحقاقه لا بقاء عذقه في أرض الأنصاري، وهذا الحق ضرري، فهو غير مجعول. ولا يندفع هذا الضرر إلا بالقلع، فكأنه صلى الله عليه وآله قال: اقلع العذق، لان بقاءه ضرر، ولا ضرر في الشرع. وبالجملة: فيستقيم التعليل على كل من المعنيين المزبورين، بل بناء على نفى الحكم بلسان نفي الموضوع أيضا، لان مفاده نفي الحكم الضرري أيضا، غاية الامر بلسان نفي موضوعه وهو الضرر. 2 - نسبة القاعدة إلى أدلة الاحكام الأولية الثاني: الظاهر حكومة (لا ضرر) على أدلة الاحكام الأولية سواء كان مفاده نفي الحكم الضرري كما هو مختار الشيخ (قده) أم نفي موضوع الحكم الضرري كما عليه المحقق الخراساني (قده) ضرورة أن نفي الموضوع أو حكمه شرعا يرجع إلى التعرض للحكم. والفرق بين المسلكين أن (لا ضرر) بناء على مختار الشيخ شارح للحكم بلا واسطة، إذ معنى نفي الحكم الضرري حينئذ أن الحكم المجعول ينتهي إلى حد الضرر، فإذا انتهى إليه فلا جعل له. وبناء على مذهب صاحب الكفاية شارح لموضوع الحكم. فعلى التقديرين يكون دليل نفي الضرر ناظرا إلى الحكم ومتعرضا له بلا واسطة على الأول، ومعها على الثاني.
613 ثم انه لا بد من الإشارة إلى ضابط الحكومة وأخواتها حتى يتضح الحال، فنقول وبه نستعين: ان أخصر بيان وأوضحه وأسده في تحديدها أن يقال: ان الخارج عن موضوع دليل لا يخلو إما أن يكون خروجه عنه بالتكوين كخروج الجاهل عن موضوع دليل وجوب إكرام العلماء، وهذا يسمى بالتخصص. وإما أن يكون بالتشريع، وهو إما بلسان (المعارضة كخروج زيد العالم عن دليل وجوب إكرام العلماء بلسان (لا تكرم زيدا العالم) و هذا يسمى بالتخصيص، وإما بغير لسان المعارضة، وهو تارة يكون بنفس التعبد والحجية، كخروج مشكوك الحكم كشرب التتن بنفس إيجاب الاحتياط عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فان نفس تشريع إيجابه من دون إحراز الحكم الواقعي به يوجب خروج مشكوك الحكم عن حيز قاعدة القبح، وهذا يسمى بالورود. وأخرى لا يكون بنفس التعبد، بل بإثباته للمؤدى أي إحرازه له من دون لسان المعارضة. كما في قيام الأدلة غير العلمية على حكم كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فإنه يخرج عن موضوع أدلة البراءة الشرعية بثبوت الوجوب له بقيام خبر الواحد عليه، وهذا يسمى بالحكومة، فيعتبر فيها أمور: الأول التعبد، الثاني: عدم كونها بلسان المعارضة، الثالث: كون تقدم الحاكم على المحكوم بالدلالة اللفظية لا بالحكم العقلي. ويتحقق هذه الدلالة بتصرف الحاكم إما في حكم دليل المحكوم، كما إذا قال: (الامر في اغتسل للجمعة ليس للوجوب) إذ لم يصدر لبيان الحكم الواقعي، بل صدر تقية، أو وجوب الوضوء عند الضرر أو الحرج مرفوع، حيث إن إطلاق الوجوب لجميع الحالات متفرع على وجوده، والدليل القائم على عدم جعله في حال الضرر حاكم على ذلك، لأنه يتكفل لكيفية جعله، وأنه منفي حال الضرر، ونفس الوجوب لا يتكفل لذلك.
614 وإما في متعلق حكمه كقوله: (الوضوء الضرري ليس بوضوء) ويكون هذا تصرفا في عقد الوضع، وكذا الاكرام المأمور به في (أكرم العلماء) ليس هو تقبيل أيديهم والتواضع لهم، بل هو إطاعة أوامرهم ونواهيهم. وإما في موضوع حكمه، كقوله: (زيد ليس بعالم) مع كونه عالما بعد إيجاب إكرام العلماء، أو (المال المدفوع إلى الفقير زكاة ليس بزكاة ان لم يكون بقصد القربة) أو (شك كثير الشك ليس بشك أخذ موضوعا لاحكام) إلى غير ذلك من النظائر. وبالجملة: فتقدم الحاكم على المحكوم مستند إلى دلالة لفظية بأحد أنحائها المتقدمة، بخلاف تقدم الخاص على العام، فان تقدمه عليه انما هو بحكم العقل من دون دلالة لفظ أحدهما على الجمع بينهما، فان العقل يجمع بين (أكرم الأمراء) و (لا تكرم زيدا الأمير) اللذين يؤولان بعد انحلال الأول إلى قضيتين متعارضتين لا نظر لاحداهما إلى الأخرى وهما (أكرم زيدا ولا تكرم زيدا) بتقديم الثاني على الأول لأخصيته. فالحكومة والتخصيص يشتركان في كون الخروج في كليهما بعناية التعبد، وفي الاحتياج إلى إثبات المؤدى، ويفترقان في أمرين أيضا: أحدهما: أن الحاكم متفرع على المحكوم، لأنه ناظر إليه وشارح له، بخلاف الخاص، فإنه ليس متفرعا على العام، فيصح أن يقال: (لا تكرم زيدا الأمير) وان لم يكن هناك عام وهو (أكرم الأمراء). والاخر: كون لساني الخاص والعام لسان المعارضة، ولساني الحاكم والمحكوم لسان الملامة والمسالمة كما عرفت في الأمثلة المتقدمة، بداهة عدم المعارضة بين (لا شك لكثير الشك) وبين (إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن علي الأربع) حيث إن الدليل المحكوم يدل على ثبوت الحكم على تقدير وجود
615 موضوعه، ولا يدل على وجود ذلك التقدير أو عدمه، والدليل الحاكم يهدم ذلك التقدير سواء أكان المحكوم بنحو القضية الشرطية كقوله: (إذا شككت فابن علي الأكثر) أم الحملية مثل (كل عالم يجب إكرامه) فإنهما يدلان على وجوب البناء على الأكثر على تقدير وجود موضوعه وهو الشك، أو وجوب إكرام العالم على فرض وجوده، والحاكم يهدم ذلك التقدير ويدل على عدم الموضوع حتى يترتب عليه حكمه، فقوله: (لا شك لكثير الشك) هادم لموضوع وجوب البناء على الأكثر، ولسان هدم الموضوع غير لسان المعارضة، بل لسان المسالمة. والمعارضة انما تكون بين الدليلين مع حفظ الموضوع كوجوب إكرام العالم وعدم وجوب إكرامه، فالحكومة المضيقة ترجع لبا إلى التخصيص، لكن لا بلسان المعارضة. وأما الحكومة والورود فهما يشتركان في كون الخروج تعبديا، ويفترقان في أنه في الأول مستند إلى إثبات المؤدى، وفي الثاني إلى مجرد التعبد. وأما الحكومة الموسعة فهي عبارة عن الحاكم الذي يتصرف في موضوع حكم الدليل المحكوم أو متعلقه بالتوسعة، بأن يدرج في أحدهما ما ليس مصداقا له حقيقة، نظير ما دل على حرمة الخمر ووجوب الحج على المستطيع - وهو المالك للزاد والراحلة - وكون المسافة الموجبة للقصر ثمانية فراسخ امتدادية، فإنها محكومة بما دل على كون الفقاع خمرا، وما دل على أن المبذول له ما يحج به مستطيع، وما دل على كون المسافة التلفيقية موجبة للقصر. ونظير ما دل على أحكام الصلاة، فان دليل تنزيل الطواف منزلة الصلاة حاكم عليه بتوسعة المتعلق وهو الصلاة وإثبات أحكامها للطواف. والحاصل: أن الحاكم سواء كان موسعا أم مضيقا يتكفل لما لا يتكفله المحكوم،
616 ولذا لا يكون بينهما تعارض، حيث إن التعارض منوط بوحدة المتعارضين موضوعا ومحمولا مع اختلافهما في السلب والايجاب، كقوله: (أكرم الأمرأ ولا تكرمهم) وأما مع اختلافهما موضوعا أو محمولا فلا تعارض بينهما، كما إذا قال: (زيد ليس بأمير) فإنه لا يعارض (أكرم الأمراء) الذين يكون زيد منهم. ومما ذكرنا يظهر وجه حكومة (لا ضرر) بناء على مذهبي الشيخ والمحقق الخراساني على أدلة الاحكام الأولية. أما على مذهب الشيخ فلان (لا ضرر) ناظر إلى أحكام الشريعة المطهرة، فان كان فيها حكم يوجب الضرر فهو غير مجعول، فالوجوب الضرري للوضوء لا جعل له، وكذا لزوم البيع الغبني. وأما على مذهب المحقق الخراساني فلان (لا ضرر) ناظر إلى متعلق الحكم، فكل موضوع ضرري لا حكم له. فعلى كلا المعنيين - وهما كون الحكم الضرري لا جعل له أو كون الموضوع الضرري لا حكم له - يكون (لا ضرر) حاكما على أدلة الاحكام الأولية وان كان بينهما فرق، وهو حكومة (لا ضرر) بناء على مذهب الشيخ على قاعدة الاحتياط الموجب للعسر أو الضرر، لان الاحتياط نشأ عن لزوم مراعاة الاحكام الواقعية المجهولة، وعدم حكومته عليها بناء على مذهب صاحب الكفاية، لان الاحتياط ناش عن الجمع بين المحتملات، ولا ضرر ولا عسر في نفس المتعلقات إذ لو كانت معلومة لم يكن في فعلها ضرر ولا حرج كما صرح به في دليل محتملاته احتياطا) ولكن فيه إشكال ذكرناه هناك في الجز الرابع ص 592 فراجع. وعليه فلا وجه للعدول عن الحكومة إلى التوفيق العرفي بالنسبة إلى المعنى الذي اختاره صاحب الكفاية. وأما على مذهب من جعل (لا ضرر) نهيا، فيقدم على أدلة الاحكام الأولية
617 وان كانت النسبة بينهما عموما من وجه، لأعمية الضرر المنهي عنه من الوضوء وغيره، وأعمية الوضوء من الوضوء الضرري وغيره، فيجتمعان في الوضوء الضرري ويقدم دليل النهي على الامر بالوضوء، إذ لو لم يقدم النهي عليه لزم لغويته كما لا يخفى. وقد يقال بتقدم (لا ضرر) - بناء على إفادة النهي - على الاحكام الأولية بوجهين آخرين. أحدهما: ما أفاده شيخ الشريعة، أما في العبادات فلاقتضاء النهي عن العبادة للفساد، فلا فرق في بطلان الوضوء الضرري بين القول بالنهي والنفي. وأما الخيارات فحيث ان الحق عدم استناد شئ منها إلى قاعدة نفي الضرر فهي خارجة عن محل البحث موضوعا. وفيه: أنه منوط بإثبات حرمة الاضرار بالنفس بحديث نفي الضرر، وهو غير مدلوله أعني حرمة الضرر بالمؤمن، وبدلالة الحديث على انتفاء الملاك حال الضرر. مع أن المسألة مختلف فيها، لمكان أن يقال: ان امتنانية القاعدة لا ترفع إلا الالزام، كنفي الحرج، ومن المعلوم أن هذا أجنبي عن الفساد الذي يقتضيه النهي عن الضرر الرافع للمصلحة. وعليه، فالقول بإفادة النهي للفساد لا يلتئم مع مسلك القوم، مع أنه (قده) أراد توجيه فساد الوضوء الضرري ونحوه على مختارهم. والحاصل: أنه بناء على النفي يمكن تصحيح العبادة بالملاك، إذ المنفي بالضرر هو مجرد الالزام، وبناء على النهي لا يمكن تصحيحها، لان النهي يرفع الملاك أيضا. مضافا إلى مخالفته لما صرح به حول (لا ضرر) الواقع ذيل حديث الشفعة من أن المستفاد منه نفي الحكم الوضعي بقوله: (ولا مجال لإرادة ما عدا الحكم الوضعي في حديث الشفعة). وانما رفع اليد عنه لزعمه أن جملة لا ضرر قضاء مستقل لم يصدر من النبي
618 عقيب قضائه بالشفعة. ثانيهما: ما أفاده صاحب العناوين بقوله: (الظاهر من سياق الخبر أن عدم تجويز ذلك ليس محض التعبد الشرعي، بل انما هو شئ يمنع منه العقل أيضا ومناف للحكمة كذلك، فكما هو قبيح غير مجوز بالنسبة إلى المكلفين، فكذا الحكيم على الاطلاق، فإنه أيضا لا يصدر منه مثل ذلك، فيصير المعنى أن الضرر والضرار غير مجوز بل هو قبيح، ويكون القضية مسوقة مساق قاعدة عقلية). وفيه أولا: أن استظهار النهي والتحريم من الخبر منوط بكون الجملة إنشائية، وهو ينافي جعلها إرشادا إلى ما يستقل به العقل بقوله: (ليس محض التعبد الشرعي). وثانيا: أن إلقاء المكلف في الضرر انما يكون قبيحا لو لم يكن الضرر متداركا، وأما مع تداركه بالنفع الدنيوي أو الاجر الأخروي فلا قبح فيه كما اختاره صاحب العناوين بعد مقالته المتقدمة بأسطر بقوله: (فعلى هذا ما ورد في الشرع من التكاليف بعد وجود النفع الأخروي في الجميع، بل النفع الدنيوي من دفع بلية وحفظ مال وزيادة نعمة كما هو مقتضى الآيات والاخبار في الزكاة والصدقة و نظائر ذلك لا يعد ضررا حقيقة). وعليه فمع تدارك الضرر الدنيوي بنفع مثله أو مثوبة أخروية لا يبقى موضوع للضرر حتى يكون تشريعه قبيحا وغير جائز على الحكيم. ومقتضى ذلك لغوية قاعدة نفي الضرر من رأس. والحاصل: أنه لا وجه لنفي الاحكام الضررية بناء على إرادة التحريم منه الا ما ذكرناه من التخصيص. وأما على مذهب من جعل (لا ضرر) من نفي الضرر غير المتدارك، فتقديمه على الأدلة الأولية يكون أيضا بالحكومة، لكونه ناظرا إلى المتعلق وهو الضرر،
619 حيث إن مفاده حينئذ نفي الضرر شرعا لأجل تداركه بضمان أو غيره، فالضرر المجبور بحكم الشرع منفي، هذا. وقد يجمع بين (لا ضرر) وبين أدلة الاحكام الأولية بوجوه أخر: منها: أن قاعدة نفي الضرر من القواعد الامتنانية المانعة عن تأثير الملاكات في فعلية الاحكام الأولية، والامتنان يقتضي تقدم الحكم الامتناني على غيره، هذا. وقد أجيب عنه بأن الكلام في وجه كون الامتنان مقتضيا للتقدم، إذ مجرد الامتنان لا يصلح لذلك. لكن الظاهر أن مراد القائل بهذا الجمع كون الامتنان قرينة على صرف الحكم الأولي عن الفعلية إلى الاقتضائية، وإلا لم يتحقق الامتنان. أو لكون (لا ضرر) أخص من الأدلة الأولية. ومنها: تقدم قاعدة الضرر على أدلة الاحكام الأولية، لأرجحيتها منها بسبب موافقتها لأصل البراءة ونحوها، فنفي الضرر مقرر، و المقرر مقدم على الناقل على ما عن القدماء. وفيه: ما ثبت في محله من عدم صلاحية الأصل لترجيح إحدى الامارتين المتعارضتين، لان الامارة تحرز الواقع، والأصل وظيفة الشاك في الواقع. وان شئت فقل: ان موضوع الأصل هو الشك في الحكم الواقعي، والامارة رافعة للشك، فكيف يعقل ترجيح الامارة بالأصل؟ ومنها: ترجيح قاعدة نفي الضرر على الأدلة الأولية بعمل الأصحاب. وفيه: أن الكلام في وجه العمل بعد البناء على تعارضهما وعدم وصول النوبة إلى التساقط وغيره من أحكام التعارض. ومنها: التوفيق العرفي بين قاعدة الضرر وبين أدلة الاحكام الثابتة لموضوعاتها بعناوينها الأولية بحمل الأول على الحكم الفعلي و الثاني على الاقتضائي. وهذا الجمع الذي أفاده المحقق الخراساني (قده) وان كان مطابقا للواقع، لكن لا بد
620 . من تحقيق وجهه، وأنه من جهة الحكومة أو التخصيص أو الأظهرية أو غيرها، فان جميعها توفيق عرفي، بمعنى أن الجمع بأي نحو منها كان مما يساعده العرف، وليس التوفيق العرفي شيئا غيرها. 3 - قاعدة لا ضرر ترفع الالزام دون الملاك الثالث: قد يقال: انه لما كان نفي الحكم الضرري امتنانيا، فلا محالة يختص بنفي الحكم الإلزامي الوجوبي والتحريمي، لأنه الملقي للمكلف في الضرر، دون الحكم الترخيصي، فإنه لا يلقيه في الضرر، بل الملقي له فيه هو اختياره من دون ارتباط له بجعل الشارع. مضافا إلى: أن نفي الحكم الترخيصي ينافي الامتنان الذي هو شرط جريان حديث نفي الضرر، هذا. لكن فيه: أنه بناء على كون معنى (لا ضرر) نفي الحكم الضرري أو نفى الحكم بلسان نفي الموضوع يلاحظ ضررية الحكم في مقام التشريع، بمعنى أنه إذا عرض عليه عنوان يوجب حدوث ملاك فيه غير ملاكه السابق يتغير به التشريع ويصير حكمه الفعلي تابعا للملاك الحادث، من غير فرق بين إرادة المكلف وعدمها وعلمه به وعدمه، فلو فرض صيرورة الماء أو خبز الحنطة أو بعض الأثمار لشخص في حال مضرا به صدق أن إباحة هذه الأشياء ضررية كضررية وجوب الوضوء مثلا والحكم الضرري لا جعل، له أو هذه الأشياء ضررية والموضوع الضرري لا حكم له، والامتنان موجود أيضا، لان نفي إباحتها في حال مضريتها منة على المتضرر بها، هذا. ثم انه بناء على الاختصاص المزبور يصح ذلك مطلقا سواء كان معنى لا ضرر (أن الحكم الضرري لا جعل له) أم (الموضوع الضرري لا حكم له) ضرورة أنه على التقديرين يكون المنفي هو الحكم اما بلا واسطة كما هو مقتضى المعنى
621 الأول وإما معها أي بلسان نفي الموضوع كما هو مقتضى المعنى الثاني، هذا بناء على إرادة أحد هذين المعنيين. وأما بناء على إرادة النهي من (لا ضرر) فلا يدل إلا على حرمة الاضرار إذا كان (الضرر) مصدرا حتى يصح تعلق النهي به بماله من المعنى المصدري، لكونه حينئذ فعلا اختياريا قابلا لتعلق التكليف به. وأما إذا كان اسم مصدر فعلا يصح تعلق النهي به، لعدم كون معناه حينئذ فعلا اختياريا صالحا لتعلق التكليف به. ثم انه بناء على إرادة النهي من (لا ضرر) يشمل إطلاقه الاضرار بالنفس وبالغير، والاضرار المالي وغيره. ولو نوقش في إطلاقه للاضرار بالغير كفى دليلا على حرمته (لا ضرار). مضافا إلى غيره من النصوص الدالة على حرمة الاضرار بالغير. ثم إن مقتضى كون (لا ضرر) حكما امتنانيا هو ارتفاع مجرد الالزام به مع بقاء الجواز والملاك، لان الحكم الملقي في الضرر هو الالزام دون الترخيص والملاك، نظير قاعدة نفي الحرج، فان المرفوع بها صرف الالزام، ولذا يبنى على صحة الوضوء الحرجي. وعليه فلا بد من الحكم بصحة الوضوء الضرري أيضا فيما إذا لم يكن الضرر متعلقا بالنفس أو الطرف، حيث إنه حينئذ مبغوض وذو مفسدة، ويمتنع أن يكون محبوبا ومقربا لفاعله إلى الله سبحانه وتعالى. كما أن مقتضى امتنانية (لا ضرر) عدم جريانه فيما ينافي الامتنان كموارد الاقدام على الضرر. منها: ما إذا زرع أرض الغير بدون اذنه، فان لمالك الأرض قلع الزرع وان خرج بالقلع عن المالية. ولا تجري فيه قاعدة نفي ضرر الزارع حيث لا يتسلط مالك الأرض على قلعه، حيث إن الضرر نشأ عن سوء اختيار مالك الزرع،
622 لا عن حكم الشارع حتى يقال: أن الحكم الضرري وهو جواز قلع الزرع منفي في الشريعة، أو الموضوع الضرري لا حكم له. وهذا بخلاف جواز إبقاء الزرع، فإنه ضرر على المالك، فينفي بقاعدة نفيه. وبالجملة: فجريان القاعدة في ضرر صاحب الزرع ينافي المنة على مالك الأرض، فلا تجري فيه، بل تجري في ضرر مالك الأرض. ومنها: ما إذا أذن المالك في دفن الميت في ملكه أو في الصلاة فيه، فإنه ليس للمالك الرجوع عن اذنه بعد الدفن، وبعد الشروع في الصلاة تمسكا بقاعدة نفي الضرر، حيث إن المنشأ للضرر ليس هو الحكم الشرعي، بل اذنه الناشئ عن إرادته واختياره، فجريان القاعدة ينافي الامتنان بالنسبة إلى الميت، للزوم نبش قبره. وكذا المصلي، فان جريانها في ضرر المالك ينافي المنة على المصلي، فحرمة النبش وإبطال الصلاة محكمة. ومنها: ما إذا أذن في رهن ماله، فإنه بعد تحقق الرهن ليس له الرجوع عن الاذن، فلو كان في بقاء ماله رهنا ضرر لا تجري فيه قاعدة الضرر، لان اذنه في الرهن مع لزومه من طرف الراهن اقدام على ضرره باختياره من دون دخل علي لحكم الشارع في هذا الضرر حتى يكون موردا لقاعدة نفي الضرر. ومنها: ما إذا نصب لوحا مغصوبا في سفينة أو خشبا مغصوبا في جدار داره، فان لمالكهما إخراجهما عن السفينة والجدار وان تضرر مالك الجدار والسفينة ضررا فاحشا ما لم يبلغ تلف النفس المحترمة، فإنه - مضافا إلى اقدام الغاصب الذي هو الجز الأخير من علة الضرر دون الحكم الشرعي - لا تشمله قاعدة نفى الضرر، لوجه آخر، وهو ما دل على أنه ليس لعرق ظالم حق، فإنه يدل على أنه ليس للغاصب منع مالك اللوح والخشب من استرداد ماله وان تضرر الغاصب بتلف مال من أمواله.
623 . وأما ما في رسالة قاعدة نفي الضرر للعلامة الخوانساري التي هي تقريرات بحث المحقق النائيني (قده) من توجيه عدم شمول القاعدة لهذا الفرع بعدم مملوكية تركيب السفينة وبناء الدار لمالكيهما، فالهيئة في السفينة والدار ليست مملوكة للغاصب حتى يكون رفعها ضررا أي نقصا ماليا عليه، فالخروج عن عموم قاعدة نفي الضرر موضوعي. فلا يخلو من غموض، ضرورة أن الهيئة ليست من المباحات الأصلية قطعا، فلا بد أن تكون ملكا للغاصب، إذ لا موجب لصيرورتها ملكا للمغصوب منه. نعم له إعدامها لاسترداد ماله، فتكون كالمال الذي يصرف في طريق رد المغصوب إلى مالكه، فإنه من مال الغاصب بلا إشكال وان لم تكن الهيئة ملكا للغاصب، وفرض انتقال المغصوب إلى الغاصب بهبة أو غيرها، فبأي سبب تنتقل الهيئة إلى الغاصب، و القول بعدم ملكيته لها حتى بعد هذا الانتقال كما ترى. ومنها: غير ذلك. وهذه الفروع وان كانت محل البحث والنظر، إلا أن الغرض الإشارة إليها، وتفصيلها موكول إلى محله من الفقه الشريف. 4 - موضوع القاعدة الضرر الواقعي لا المعلوم الامر الرابع: لا يخفى أن مقتضى وضع الألفاظ للمعاني الواقعية دون المعلومة والاعتقادية هو كون الضرر الواقعي مطلقا سواء علم أم جهل موضوعا في حديث نفي الضرر. لكن يظهر من الفقهاء في بعض الفروع خلاف ذلك، حيث إنهم لم يعولوا فيها على الضرر الواقعي مع وجوده. منها: حكمهم بصحة الطهارة المائية باعتقاد عدم الضرر مع وجوده واقعا. ومنها: حكمهم بصحة صوم من زعم عدم الضرر مع كونه مضرا واقعا. ومنها: تقييدهم خياري الغبن والعيب بالجهل بهما، مع اقتضاء وجودهما
624 واقعا للخيار من غير فرق في ذلك بين العلم والجهل بهما. وبالجملة: فصارت جملة من الفروع موردا للاشكال، وتصدى غير واحد لدفع الاشكال عنها. أما إشكال الطهارة المائية، فقد أجاب عنه المحقق النائيني (قده) بما حاصله: أن المنفي بحديث (لا ضرر) هو الحكم الضرري في عالم التشريع بحيث يكون الداعي إلى إيجاد الضرر في الخارج حكم الشارع، وهو لا يتحقق مع الجهل بالضرر أو اعتقاد عدمه، إذ لو لم يكن الحكم ثابتا واقعا لوقع في الضرر أيضا، إذ الموقع له في الضرر هو جهله به. وبالجملة: فلا تجري هنا قاعدة الضرر، لعدم علية الحكم الشرعي للضرر مع الجهل به. والظاهر أن هذا الجواب هو ما أفاده الشيخ (قده) في رسالته المعمولة في قاعدة نفي الضرر، حيث قال: (فتحصل أن القاعدة لا تنفي إلا الوجوب الفعلي على المتضرر العالم بتضرره، لان الموقع للمكلف في الضرر هو هذا الحكم الفعلي). فعلى مسلك الميرزا (قده) يتوقف جريان القاعدة على أمرين: أحدهما العلم بعلية الحكم للضرر، والاخر وجود الضرر واقعا. بخلاف مسلك صاحب الكفاية (قده) فإنه لا يتوقف على شئ إلا على كون الفعل مضرا واقعا. وفيه: أن مقتضى ما أفاده الميرزا (قده) تقيد الحكم الضرري بالعلم بضرريته، وهذا تقييد في تشريع نفي الحكم الضرري بلا موجب، فان المراد كون الحكم بنفسه أو بمتعلقه ضرريا، فان كان كذلك فهو منفي في صفحة التشريع سواء علم به المكلف أم لم يعلم. فالحق في الجواب أن يقال: ان ضررية الحكم هنا وان كانت مجهولة، لكن عدم جريان قاعدة نفي الضرر في الطهارة المائية انما هو لأجل فقدان شرطها
625 وهو الامتنان، ضرورة أن بطلانها وإيجاب التيمم عليه وإعادة الصلاة خلاف الامتنان. لا يقال: ان عدم جريان قاعدة الضرر لا يكفي في صحة الطهارة المائية، لان مقتضى عدم جريانها فقدان المانع عن صحتها، وذلك لا يثبت المقتضي لصحتها. فإنه يقال: ان الكلام في وجود المانع. وأما المقتضي لصحتها وهو إطلاق الدليل فلا إشكال في وجوده، فإذا انتفى المانع أثر المقتضي، وأثره الصحة الفعلية. بل يمكن الحكم بالصحة مع جريان قاعدة نفي الضرر في الطهارة أيضا إذ ما عدا ضرر النفس والطرف الذي علم بحرمته ومبغوضيته وامتناع محبوبيته يكون بحكم الحرج، فكما لا ينبغي الاشكال في صحة الطهارة المائية الحرجية فكذلك لا ينبغي الاشكال في صحتها مع الضرر غير النفس والطرف، إذ المرفوع في كل من قاعدتي الحرج والضرر هو الالزام فقط، لأنه الموجب للكلفة والمشقة دون أصل الرجحان والمصلحة، بل رفعهما ينافي الامتنان على العباد. ومنه يظهر فساد توهم أنه لا دليل على بقاء المصلحة بعد ارتفاع الالزام. وبالجملة: فرفع الالزام في هاتين القاعدتين نظير رفعه عن الصبي، فان المرفوع عنه هو مجرد الالزام أيضا مع بقاء الرجحان والملاك على حالهما، ولذا يستدلون بإطلاقات الأدلة على استحباب عبادات الصبي. وعليه فلا حاجة في دفع الاشكال عن صحة الطهارة المائية إلى ما قيل من الاستحباب النفسي للغسل والوضوء من دون قصد غاية من غاياتهما، بتقريب: أن دليل (لا ضرر) حاكم على الاحكام الالزامية، دون غيرها من الاستحباب والإباحة. إذ فيه: - مضافا إلى أن استحبابهما كذلك محل البحث والاشكال - أن أمرهما الاستحبابي لم يكن داعيا إلى إتيانهما حتى يقال بصحتهما أي موافقتهما لأمرهما،
626 إذ ليس المراد باستحبابهما النفسي استحبابهما الذاتي بمعنى كونهما من العبادات الذاتية التي لا تحتاج عباديتها إلى الامر الشرعي كالركوع والسجود، بل المراد بذلك تعلق الامر الاستحبابي بهما مع عدم قصد شئ من غاياتهما. فتلخص مما ذكرنا: صحة الطهارة المائية في صورة الجهل بالضرر والحرج، بل في صورة العلم بهما أيضا، بل صحة غير الطهارة المائية من سائر العبادات أيضا. وقد ظهر مما تقدم ضعف القولين الآخرين في المسألة، وهما: القول بفساد الطهارة المائية مع العلم بالضرر والحرج كما عن المحقق النائيني (قده) والقول بفسادها مع العلم بالضرر، وبصحتها مع العلم بالحرج كما اختاره في العروة وأمضاه جل المحشين، بل قيل: و لعله المشهور بين المتأخرين. واستند أول القولين إلى ما حاصله: أن واجد الماء وفاقده موضوعان عرضيان يشتمل كل منهما على ما لا يحويه الاخر من المصلحة كالمسافر والحاضر، فليس في الطهارة المائية لفاقد الماء ملاكها، بل المصلحة لفاقده منحصرة في الطهارة الترابية، فلا ملاك في الطهارة المائية، كما لا أمر بها بالنسبة إلى فاقد الماء، فالحكم بصحتها منه مع أمره بالتيمم يشبه الجمع بين النقيضين. أما ضعفه فلما مر من أن المنفي بقاعدتي الضرر والحرج هو مجرد الالزام دون الرجحان والملاك، وليس واجد الماء وفاقده كالمسافر والحاضر موضوعين عرضيين حتى تكون الطهارة الترابية للفاقد كصلاة القصر للمسافر، بل هي بدل اضطراري عن المائية، وقد ثبت في محله بقاء مصلحة المبدل في حال مشروعية البدل الاضطراري. وعدم ارتفاعها بعروض الاضطرار، وهذا شأن جميع الابدال الاضطرارية من دون خصوصية للطهارة الترابية كما قرر في محله، هذا. واستند ثاني القولين إلى: ما اشتهر بين المتأخرين من حرمة الاضرار
627 بالنفس المانعة عن استعمال الماء شرعا، والممنوع شرعا كالممتنع عقلا، فالطهارة المائية مبغوضة، والوظيفة منحصرة في التيمم. و هذا بخلاف الحرج، فإنه لا يوجب مبغوضية الفعل، وانما يرفع الالزام الموجب للمشقة، ومع عدم المبغوضية يصلح لان يكون مقربا إليه تعالى شأنه، ولذا تصح الطهارة المائية الحرجية، هذا. وفيه: ما مرت الإشارة إليه من عدم الدليل على حرمة الضرر غير النفسي والطرفي. وعليه فوزان (لا ضرر) وزان (لا حرج) في صحة الطهارة المائية في كلتا صورتي العلم بالضرر والحرج. نعم في الضرر النفسي و الطرفي لا تصح الطهارة المائية، لمبغوضيتها المنافية لمقربيتها. وأما مسألة الصوم، فقد اختلفت كلماتهم في حكمها، ففي العروة في سادس شرائط صحة الصوم: (ولو صام بزعم عدم الضرر فبان الخلاف بعد الفراغ من الصوم، ففي الصحة إشكال، فلا يترك الاحتياط بالقضاء) وهذا الاختلاف نشأ من جهة الاختلاف في أن مانع الصحة هل هو المرض، وخوفه طريق ظاهري إليه؟ أو أن كلا منهما موضوع للمانعية. والنصوص أيضا مختلفة، فمن بعضها يظهر أن المانع خوف الرمد، ومن معضها أنه نفس المرض، ومن بعضها أنه المرض الذي يضر به الصوم، فمع اختلاف النصوص والفتاوى لا يمكن الحكم جزما ببطلان الصوم المضر واقعا مع اعتقاد عدم الضرر، خصوصا مع الامن منه، فلا يعد هذه المسألة من موارد نقض قاعدة نفي الضرر، إلا إذا ثبت كون المانع عن الصوم الضرر الواقعي، وأن الخوف طريق إليه، وذلك غير مسلم وتنقيح المسألة موكول إلى محلها. و أما مسألة خياري الغبن والعيب، فالظاهر أنها غير مبنية على قاعدة نفي الضرر،
628 بل الدليل عليهما هو تخلف الشرط الضمني، وهو سلامة العوضين من العيب في خيار العيب، وتساوي العوضين في المالية في خيار الغبن، واستدلال العلامة (قده) عليه في التذكرة بقوله تعالى: (الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) إشارة إلى الشرط المزبورة أيضا، بتقريب: أن التراضي انما يتحقق في صورة تساوي العوضين من حيث المالية، ومع انكشاف عدمه ينكشف فقدان التراضي المنوط بالتساوي المزبور، هذا. مضافا إلى النصوص الخاصة في خيار العيب كما لا يخفى على من راجعها، ومع العلم بالغبن وعدم تساوي العوضين في المالية أو وجود العيب فيما انتقل إليه يكون الاقدام على الضرر لسلطنته على تبديل ماله بمتاع معيب أو بأقل مما يساوي ماليته، فهذا الاقدام منه إسقاط للشرط الضمني، بل عدم لزوم هذه المعاملة ينافي الامتنان، والغرض العقلائي الذي دعاه إلى هذه المعاملة. وهذا وجه عدم الخيار مع العلم بالغبن والعيب واختصاصه بحال الجهل بهما. 5 - موضوع القاعدة الضرر الشخصي لا النوعي الامر الخامس: مقتضى ما ثبت في محله - من كون الأحكام الشرعية انحلالية، وأنها من قبيل القضايا الحقيقية، ومن تبعية فعلية الحكم لوجود موضوعه تبعية المعلول لعلته، وإلا يلزم الخلف والمناقضة، ومن كون نفي الضرر من الاحكام الامتنانية - هو كون الضرر المنفي في قاعدته شخصيا لا نوعيا، من غير فرق بين معانية المتقدمة من نفي الحكم الضرري، ومن نفي الموضوع الضرري، ومن حرمته، ومن نفي الضرر غير المتدارك، لان قضية المقدمات المذكورة هي عدم ثبوت الحكم لغير موضوعه، فضرر زيد أجنبي عن عمرو، ولا معنى لنفي ضرره عن عمرو الذي لم يقع في الضرر، فهذا من الوضوح كالقضايا التي قياساتها
629 معها. ولا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية كوجوب الطهارة المائية إذا كان ضرريا وبين الأحكام الوضعية كلزوم البيع الغبني، فان حديث نفي الضرر يرفع كليهما. وقد ظهر مما تقدم ضعف ما عن جماعة ومنهم شيخنا الأعظم (قده) في الرسائل من التفصيل بين العبادات والمعاملات بكون الضرر شخصيا في الأولى ونوعيا في الثانية، حيث إنهم استدلوا بقاعدة نفي الضرر لثبوت خيار الغبن وحق الشفعة مع عدم الضرر في جميع مواردهما، لثبوت خيار الغبن مع عدم الضرر كما إذا كان ظهور الغبن حين ارتفاع سعر السلعة بما يتدارك به الغبن، فلزوم البيع حينئذ ليس ضررا على المغبون حتى يرتفع، ومع ذلك يحكم فيه بالخيار. وعدم الخيار مع وجود الضرر كما إذا تنزل السعر بعد البيع بلا فصل، فإنه لا خيار حينئذ، لعدم الغبن حين البيع. واجتماع الخيار و الضرر كما في صورة كون البيع حين إنشائه غبنيا. وكذا الضرر والشفعة، فان النسبة بينهما عموم من وجه كما هو واضح، فلا بد أن يكون الضرر في خيار الغبن وحق الشفعة نوعيا، هذا. وجه الضعف: أن مستند خيار الغبن كما تقدم هو تخلف الشرط الضمني، ومدرك حق الشفعة نصوص خاصة، فقاعدة نفي الضرر أجنبية عنهما. فالنتيجة: أن الضرر في حديث نفي الضرر شخصي من غير فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات. 6 - اختصاص حكومة القاعدة بالأحكام الوجودية الامر السادس: مقتضى كون وزان حديث نفي الضرر وزان حديث رفع التسعة وقاعدة نفي الحرج هو رفع الحكم الثابت بالعمومات أو الاطلاقات، حيث
630 ان مفاد هذا اللسان تنزيل الموجود منزلة المعدوم، فيختص حديث نفي الضرر ونظائره مما يكون لسانه النفي بالأحكام الوجودية. و ان أبيت عن ظهور ذلك في الاختصاص المزبور فلا أقل من كونه المتيقن، فلا وجه حينئذ للاستدلال به على إثبات حكم يلزم من عدمه الضرر. وبعبارة أخرى: شأن قاعدة نفي الضرر رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر، أو رفعه عن الموضوع الضرري، لا وضع الحكم الذي ينشأ من عدمه الضرر، وان حكي عن بعضهم حكمه بالضمان في جملة من الفروع استنادا في ذلك إلى قاعدة نفي الضرر، حيث إن عدم حكم الشارع فيها بالضمان ضرر، فينفي بحديث نفي الضرر، ويحكم بالضمان: منها: ضمان حابس الحر ظلما حتى شردت دابته، أو أبق عبده، أو طار طيره. ومنها: ضمان منافع العبد المحبوس على الحابس. ومنها: ما في العروة الوثقى من جواز تطليق الحاكم زوجة من لا يتمكن من النفقة، بتقريب: أن عدم الحكم بجواز طلاقها للحاكم ضرر عليها فينفي هذا العدم بحديث نفي الضرر، ومقتضاه جواز طلاقها للحاكم، قال في عداد النساء اللاتي يجوز للحاكم الشرعي طلاقهن: (و كذا في الحاضر المعسر الذي لا يتمكن من الانفاق مع عدم صبر زوجته على هذه الحالة، ففي جميع هذه الصور وأشباهها وان كان ظاهر كلماتهم عدم جواز فكها وطلاقها للحاكم، لان الطلاق بيد من أخذ بالساق، إلا أنه يمكن أن يقال بجوازه، لقاعدة نفي الحرج و الضرر، خصوصا إذا كانت شابة واستلزم صبرها طول عمرها وقوعها في مشقة شديدة، ولما يمكن أن يستفاد من بعض الاخبار). وقد نقل بعض أعاظم أساتيذنا (قده) أن صاحب العروة أعلى الله تعالى مقامه
631 أجرى هذه القضية وطلق امرأة لم يتمكن زوجها من الانفاق عليها. والذي أعتقده هو أن السيد (ره) لم يعتمد في ذلك على قاعدة الضرر أو الحرج، بل اعتمد فيه - بعد بنائه على الولاية العامة للفقيه الجامع للشرائط - على الروايات التي بعضها صحيح، وتعرض لها في العروة في هذه المسألة. ولا تعارض تلك الروايات بما دل على (أنها ابتليت فلتصبر) لان مورده امتناع الزوج عن المواقعة، لا عن النفقة. وأما مسألة حبس الحر حتى شردت دابته، فالضمان فيه انما هو لقاعدة الاتلاف الذي هو من موجبات الضمان، لان الحابس صار سببا لذلك، حيث إن ضابط المسبب التوليدي ينطبق عليه. نعم يمكن أن يكون المستند في تلك الفروع حديث نفي الضرر بناء على المعنى الرابع وهو نفي الضرر غير المتدارك، يعني (لا ضرر بدون لزوم التدارك شرعا) بحيث يكون الضرر من موجبات الضمان. لكن قد تقدم الاشكال في صحته. وكيف كان، فالحق ما تقدم من عدم صحة التمسك بقاعدة نفي الضرر لاثبات الحكم وان كان يظهر من كلام شيخنا الأعظم (قده) في رسالته المعمولة في قاعدة نفي الضرر أنه محل الاشكال، حيث قال في التنبيه الثاني - بعد نفي الاشكال عن نفي الاحكام الوجودية بقاعدة نفي الضرر - ما لفظه: (وأما الاحكام العدمية الضررية مثل عدم ضمان ما يفوت على الحر من عمله بسبب حبسه، ففي نفيها بهذه القاعدة فيجب أن يحكم بالضمان إشكال، من أن القاعدة ناظرة إلى نفي ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعية. إلى أن قال: ومن أن المنفي ليس خصوص المجعولات، بل مطلق ما يتدين به ويعامل عليه في شريعة الاسلام وجوديا كان أو عدميا.). وقد ظهر مما ذكرنا ضعف الاستدلال على جريان حديث نفي الضرر في
632 العدميات كجريانه في الوجوديات بفروع كثيرة تقدمت الإشارة إلى بعضها، حيث إنهم زعموا أن الحكم بالضمان أو غيره فيها مستند إلى حديث نفي الضرر، ببيان أن عدم الضمان مثلا ضرر منفي بالحديث، ومن المعلوم أن نفي العدم يفيد الاثبات، فينتج الضمان. وجه الضعف: ما تقدم من أن الضمان أو غيره في تلك الفروع اما مستند إلى الاتلاف، أو اليد، أو النصوص الخاصة كما في تطليق الحاكم زوجة الحاضر المعسر. ولم يظهر استنادهم في شئ منها إلى قاعدة نفي الضرر. وبالجملة: فظهور حديث نفي الضرر في نفي الحكم الوجودي الثابت بالعمومات والاطلاقات مما لا يقبل الانكار، هذا. مضافا إلى: أن العدم ليس حكما شرعيا حتى يكون حديث الضرر نافيا له وحاكما عليه. ودعوى كون العدم حكما شرعيا كشرعية الترك في النواهي والاستصحابات العدمية، وأنه كالوجود مسند إلى الشارع، فلا فرق بينهما في حكومة (لا ضرر) عليهما، لكون كل منهما حكما شرعيا، وعليه فعدم الضمان أيضا حكم شرعي ينفيه حديث نفي الضرر (غير مسموعة) إذ فرق واضح بين العدم الأزلي وهو ما لم يوجد علة وجوده، وبين العدم الشرعي وهو ما وجد علة عدمه، حيث إن الأول أجنبي عن الشارع وغير مسند إليه، غاية الامر أن للشارع إبقاءه على حاله، وطرده بنقيضه، وليس هذا إلا مجرد القابلية للجعل بقاء. وما ورد من (أنه سبحانه وتعالى لم يترك شيئا بلا حكم) لا يدل على مجعولية العدم القابل للجعل حتى يقال: ان العدم مطلقا مجعول، فيرفعه حديث نفي الضرر كما يرفع الحكم الوجودي. وذلك لأنه في مقام بيان تكميل الشريعة وعدم إهمال حكم واقعة من الوقائع، و ليس في مقام بيان سنخ الحكم من كونه وجوديا أو
633 عدميا، أو كون عدم الحكم في موضع قابل للجعل حكما، فلا إطلاق له من هذه الحيثية حتى يشمل الاحكام العدمية الفعلية والشأنية. مضافا إلى: أن هذا الاطلاق بعد تسليمه لا يشمل مطلق العدم، بل خصوص ما جعل موردا لحكم الشارع فعلا، لكونه حينئذ مسندا إلى الشارع بحيث يعد من المجعولات الشرعية، كما إذا تعلق به النهي، أو جرى فيه الاستصحاب، إذ مرجع النهي والاستصحاب المتعلقين به إلى حكم الشارع بإبقائه ووضعه على حاله. إلا أنه مع ذلك لا يشمله مثل حديث نفي الضرر، لظهوره في رفع الحكم الثابت، وقصوره عن إثبات الحكم الوجودي، لكونه حينئذ خلاف مقتضاه من الرفع. وعدم الضمان من قبيل العدم القابل للحكم الشرعي، لا من قبيل ما تعلق به الحكم فعلا، ومن المعلوم أن القابلية للجعل غير فعلية الجعل، وهذا هو الحكم دون الأول، فما أفاده المحقق النائيني (قده) من أن عدم الحكم ليس حكما مجعولا فلا يجري فيه حديث نفي الضرر في غاية المتانة. ولا يرد عليه ما في تقريرات بعض الأعاظم من: (أن عدم جعل الحكم في موضع قابل للجعل جعل لعدم ذلك الحكم، فيكون العدم مجعولا) لما مر من أن مجرد صلاحية العدم للجعل لا يوجب فعلية الجعل وصيرورته من الأحكام الشرعية، هذا. فتلخص مما ذكرناه أمور: الأول: أن حديث نفي الضرر ناف للحكم الوجودي لا مثبت له، فلا يثبت به الضمان أو غيره في موارد عدم ثبوت موجب من موجباتهما فيها من الاتلاف واليد وغيرهما، وإلا يلزم تأسيس فقه جديد، إذ لازمه وجوب تدارك كل ضرر لكل متضرر ولو من بيت المال كالدم في عدم ذهابه هدرا، وهو كما ترى. الثاني: ضعف الاستدلال بجملة من الفروع على كون حديث نفي الضرر مثبتا
634 . للحكم. الثالث: أن العدم الأزلي ليس حكما مجعولا شرعيا، وانما هو قابل للجعل الشرعي، وجعله انما يكون بتشريع علة بقائه، كجعله متعلقا للنهي، أو موردا للاستصحاب، حيث إن العدم في هاتين الصورتين مجعول شرعي. الرابع: أن المرفوع بحديث نفي الضرر في قضية سمرة كما تقدم سابقا هو إما سلطنته على إبقاء عذقه، وإما حرمة تصرف الأنصاري في مال سمرة، فليس المرفوع بالحديث عدم تسلط الأنصاري على قلع العذق حتى يقال: ان حديث نفي الضرر رافع للأحكام العدمية كالوجودية. 7 - شمول القاعدة للضرر الاختياري والقهري الامر السابع: الظاهر أنه لا فرق في الضرر الموضوع لحديث نفي الضرر بين كونه اختياريا كما إذا أوجد المكلف ما يوجب مرضه المانع عن الصوم أو الطهارة المائية أو الصلاة قائما، أو الحج مباشرة، أو غير ذلك من الموارد، وغير اختياري كالأمثلة المزبورة مع عدم كون المرض بفعله الاختياري، فإنه يسقط وجوب هذه الأمور في كلتا صورتي الضرر الاختياري وقهريته. وكذا لا فرق بين كونه جائزا شرعا كإجناب نفسه مع علمه بتضرره بالغسل، وحراما كذلك كإيجاد مرض يسلب القدرة عن الحج مباشرة ما دام حيا. والظاهر أن جميع الابدال الاضطرارية كذلك، لاستلزام الضرر الاختياري العجز عن فعل المبدلات الموجب لفوات مقدار مهم من المصالح الداعية إلى تشريعها، ومن المعلوم أن تفويت المصلحة الملزمة بدون مسوغ حرام. وبالجملة: فإيجاد الضرر من قبيل إيجاد الموضوع وتبديله، ومن المعلوم أن الحكم تابع لموضوعه الفعلي سواء وجد اختيارا على وجه جائز كتبديل السفر
635 بالحضر، أم على وجه حرام كإيجاد المستطيع المرض المانع عن الحج مباشرة بحيث ينقلب تكليفه إلى الاستنابة، وغير ذلك مما يوجب الانتقال إلى البدل الاضطراري بالإرادة والاختيار من دون مجوز شرعي، أم وجد قهريا وبلا اختيار. 8 - الحكم الثابت في مورد الضرر لا يرتفع بالقاعدة الامر الثامن: قد تقدم سابقا أن حديث نفي الضرر وكذا نفي الحرج لا يشملان الاحكام الثابتة بعنوانهما أو في حال وجودهما غالبا بحيث يكون نفيهما في حال وجودهما موجبا لحمل إطلاق الدليل على الفرد النادر، بل يخصص عموم نفى الضرر والحرج بما دل على ثبوت تلك الأحكام الضررية والحرجية. ومن هنا يظهر (أن التمسك) بقاعدتي الضرر والحرج لنفي استحباب زيارة إمامنا المظلوم سيد الشهداء أرواحنا فداه، أو إثبات مرجوحيتها مع اقترانها غالبا خصوصا في الأزمنة السابقة بالمحن والبلايا من الضرر المالي والبدني وإرعاب الزوار وتخويفهم بالقتل وقطع الأطراف، ببيان: أن مورد هاتين القاعدتين هو نفي الحكم الضرري والحرجي مطلقا وان كان ترخيصيا، ومع الغض عن ذلك والبناء على اختصاصهما بالحكم الإلزامي يمكن الاستدلال على عدم الجواز بما دل على حرمة الاضرار بالنفس والالقاء في التهلكة (في غاية الضعف) وذلك لعدم جريان قاعدتي الضرر والحرج في المقام سواء كانت الزيارة واجبة أم مستحبة مع ورود النص على رجحانها والترغيب فيها حال الخوف كما سيأتي بعض النصوص الدالة على ذلك. ومع ورود الدليل على استحبابها، بل وجوبها مع الخوف لا بد من تخصيص عموم قاعدتي الضرر والحرج، كلزوم تخصيصه بكل حكم شرع في مورد الضرر كوجوب الحقوق المالية ووجوب الجهاد، كما أنه لا بد أيضا من تخصيص عموم
636 ما دل على حرمة الاضرار بالنفس والالقاء في التهلكة بذلك. أما النصوص الدالة على رجحان الزيارة، بل وجوبها فكثيرة: منها: ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، قال: (مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام، فان إتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين عليه السلام بالإمامة من الله عز وجل. ومنها: رواية أم سعيد الأحمسية عن أبي عبد الله عليه السلام: (قالت: قال لي: يا أم سعيد تزورين قبر الحسين عليه السلام؟ قالت: قلت: نعم، فقال لي: زوريه، فان زيارة قبر الحسين واجبة على الرجال والنساء). ومنها: رواية عبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر عليه السلام عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (لو أن أحدكم حج دهره ثم لم يزر الحسين بن علي عليهما السلام لكان تاركا حقا من حقوق الله وحقوق رسول الله صلى الله عليه وآله لان حق الحسين عليه السلام فريضة من الله واجبة على كل مسلم. ومنها: غير ذلك. بل يستفاد من بعض النصوص وجوب زيارة سائر الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين أيضا، كرواية الوشاء (قال: سمعت الرضا عليه الصلاة والسلام يقول: ان لكل امام عهدا في عنق أوليائه وشيعته، وان من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا لما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة). بل يفهم من هذه الرواية ونظائرها أن التمسك بحبل ولا يتهم والايمان بإمامتهم لا يتم إلا بزيارتهم صلوات الله عليهم، فلا يكون أحد إماميا إلا بالاعتقاد الجناني
637 بإمامتهم والاقرار اللساني بها والحضور بالبدن العنصري عند قبورهم، فالزيارة هي الجز الأخير لسبب اتصاف المسلم بكونه إماميا، وتركها كفقدان سابقيها يوجب الرفض المبعد عن رحمته الواسعة أعاذنا الله تعالى منه، فالامامة التي هي من أصول الدين يتوقف التدين بها على زيارتهم عليهم السلام، فلها دخل في تحقق هذا الأصل الأصيل الذي هو أساس الدين، فاذن يخرج وجوب الزيارة الذي قال به جماعة كالفقيه المقدم أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه والمحدث الكبير صاحب الوسائل والعلامة المجلسي وغيرهم قدس الله تعالى أسرارهم عن الاحكام الفرعية التي تكون قاعدتا الضرر والحرج حاكمتين عليها، ويندرج في الأصول الاعتقادية التي لا مسرح لقاعدتي الضرر والحرج فيها. وأما النصوص الدالة على الترغيب في زيارته عليه السلام ورجحانه في حال الخوف قولا وتقريرا والنهي عن تركها للخوف، فمنها: ما رواه معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قال: يا معاوية لا تدع زيارة قبر الحسين عليه السلام لخوف، فان من تركه رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان عنده، أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي و فاطمة والأئمة عليهم السلام؟ أما تحب أن تكون ممن ينقلب بالمغفرة لما مضى ويغفر له ذنوب سبعين سنة؟ أما تحب أن تكون ممن يخرج من الدنيا وليس عليه ذنب يتبع به؟ أما تحب أن تكون غدا ممن يصافحه رسول الله صلى الله عليه وآله. ومنها: ما عن محمد بن مسلم في حديث طويل: (قال: قال لي أبو جعفر محمد بن علي عليهما السلام: هل تأتي قبر الحسين عليه السلام؟ قلت: نعم على خوف ووجل فقال: ما كان من هذا أشد فالثواب فيه على قدر الخوف، ومن خاف في إتيانه آمن الله روعته يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين،
638 وانصرف بالمغفرة وسلمت عليه الملائكة، وزاره النبي صلى الله عليه وآله، ودعا له، وانقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء، و اتبع رضوان الله). ومنها: ما رواه يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قلت له: جعلت فداك زيارة قبر الحسين عليه السلام في حال التقية؟ قال: إذا أتيت الفرات فاغتسل ثم البس أثوابك الطاهرة [ثوبيك الطاهرين خ ل] ثم تمر بإزاء القبر، وقل: صلى الله عليك يا أبا عبد الله صلى الله عليك يا أبا عبد الله صلى الله عليك يا أبا عبد الله، فقد تمت زيارتك). ومنها: قول الإمام الصادق عليه السلام في حديث طويل لهشام بن سالم لمن قتل عند الحسين عليه الصلاة والسلام من زواره: (أول قطرة من دمه يغفر له بها كل خطيئة وتغسل طينته التي خلق منها الملائكة حتى تخلص كما خلصت الأنبياء المخلصين، ويذهب عنها ما كان خالطها من أجناس طين أهل الكفر) وبعد بيان مناقب ومثوبات كثيرة له قال عليه السلام لمن حبس من الزوار: (له بكل يوم يحبس ويغتم فرحة إلى يوم القيامة، فان ضرب بعد الحبس في إتيانه كان له بكل ضربة حوراء، وبكل وجع يدخل على بدنه ألف ألف حسنة، ويمحى بها ألف ألف سيئة، ويرفع له بها ألف ألف درجة، ويكون من محدثي رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يفرغ من الحساب فيصافحه حملة العرش، ويقال له: سل ما أحببت) الحديث. وبالجملة: فهذه النصوص توجب الاطمئنان بخروج زيارة الامام المظلوم مولانا أبي عبد الله سيد الشهداء أرواحنا له الفداء مع خوف الضرر والحرج عن حيز
639 قاعدتي الضرر والحرج تخصصا أو تخصيصا. بل لا يبعد أيضا خروج الضرر والحرج المترتبين على ما جرت به العادة في المآتم الحسينية من اللطم على الخدود وشق الجيوب عن هاتين القاعدتين قال الإمام الصادق عليه السلام في حديث طويل رواه خالد بن سدير: (وقد شققن الجيوب ولطمن الخدود الفاطميات على الحسين بن علي عليهما السلام، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب). فان لطم الخدود خصوصا عند العرب مستلزم غالبا للمشقة والتألم وتغير اللون بل والضرر، ومع ذلك حث الإمام عليه السلام على ذلك بدون التقييد بعدم الضرر والحرج، فان التقييد بهما يوجب حمل المطلق على الفرد النادر الذي يكون بيانه بلفظ المطلق خارجا عن طريقة أبناء المحاورة ومستهجنا عندهم كما لا يخفى. بل التعدي عن اللطم إلى غيره مما يصنعه الشيعة جيلا بعد جيل، بل وغيرهم من سائر الفرق الاسلامية في المواكب العزائية بحيث صار من الشعائر الحسينية من الضرب بالأيدي على الصدور وبالسلاسل على الظهور وغير ذلك كتلطيخ وجوههم ورؤوسهم، بل جميع أبدانهم بالوحل أو التراب والتبن كما هو المرسوم في بعض بلاد الشيعة في أيام عاشوراء (غير بعيد) إذ الظاهر أنه لا خصوصية للطم الخدود، والمقصود بيان رجحان إظهار الحزن الشديد والتأثر العميق لمصابه صلوات الله عليه وأرواحنا فداه كما يدل عليه جملة من الروايات، ومن المعلوم اختلاف كيفيات الأعمال المهيجة للشجون والأحزان في مختلف البلاد والأحيان مع كونها بمحضر من العلماء الأعيان، وعدم إنكارهم لها في شئ من الأزمان، فلا خصوصية للطم الخدود وشق الجيوب.
640 فالمتحصل: أن زيارته وإقامة عزائه عليه الصلاة والسلام مع اقترانهما بالضرر والحرج غالبا خارجتان عن عموم قاعدتيهما تخصصا أو تخصيصا. فلا وجه للقول بحرمتهما لهاتين القاعدتين كما قيل. اللهم اجعلنا من شيعته وزواره، والمقيمين لعزائه، والباكين عليه، و من الطالبين بثاره مع وليه الإمام المهدي حجة أهل البيت عجل الله تعالى فرجه الشريف وصلى عليه وعلى آبائه الطاهرين وجعلنا فداه. 9 - حرمة إيراد الضرر المتوجه إلى النفس على الغير الامر التاسع: مقتضى حديث نفي الضرر عدم جواز إضرار إنسان بغيره لدفع الضرر المتوجه إلى نفسه، حيث إن جواز الاضرار بالغير حكم ضرري، فلا جعل له، أو الاضرار به موضوع ضرري لا حكم له، أو هو منهي عنه وحرام. وكذا مقتضى الحديث المزبور عدم وجوب دفع الضرر عن الغير بإضرار نفسه بداهة أن وجوب دفعه عن الغير كذلك حكم ضرري، فهو مرفوع، أو دفع الضرر عن الغير بتحمله عنه موضوع لا حكم له. ويترتب على الأول حكم المشهور بعدم جواز اسناد الجدار المخوف وقوعه إلى جذع الجار، حيث إنه إضرار بمالك الجذع لدفع الضرر المتوجه إلى مالك الجدار من ناحية انهدام حائطه. لكن المحكي عن شيخ الطائفة جواز ذلك مدعيا لعدم الخلاف. والظاهر أن مراده صورة خوف تلف نفس محترمة من وقوع الحائط، فان وجوب حفظ النفس المحترمة يقتضي ذلك، مع ضمان أجرة المثل لمالك الجذع، إذ وجوب حفظها لا يقتضي الا ارتفاع سلطنة مالك الجذع على المنع عن الاسناد المزبور، وأما مالية الجذع فلا وجه لارتفاعها.
641 فهو نظير ارتفاع سلطنة مالك الطعام على المنع عن البيع في المخمصة، فإنه يؤخذ منه قهرا مع بذل ثمنه إليه، هذا. فكلام المشهور محمول على غير صورة تلف النفس سواء تضرر مالك الجذع أم لا، وسواء بذل له أجرة المثل أم لا، فإنه مع عدم رضاه بالاسناد وعدم لزوم تلف نفس محترمة بانهدام الجدار لا يجوز الوضع على الجذع كما عن المشهور. وأما حمل كلام شيخ الطائفة على صورة عدم تضرر المالك أصلا بحيث يكون كالاستظلال بحائط الغير كما في رسالة الشيخ الأعظم (قده) ففيه ما لا يخفى، ضرورة أن مجرد عدم التضرر لا يسوغ الاسناد الذي هو تصرف في الجذع ومناف لسلطنة المالك. وقياسه بالاستظلال مع الفارق، لأنه انتفاع بدون التصرف، ولعله (قده) أشار إليه بالامر بالتأمل. وكيف كان فمثال الجذع أجنبي عن تعارض الضررين، إذ المفروض عدم الضرر أصلا، أو تداركه بأجرة المثل، وليس في البين إلا سلطنة المالك، وهي لا ترتفع إلا بوجوب حفظ النفس، هذا. ويترتب على الثاني جواز إضرار الغير إكراها، كما إذا أمر الظالم زيدا بأخذ مال من عمرو، فان الضرر متوجه أولا إلى عمرو، ولكن في صورة عدم الاخذ منه يأخذه الظالم من نفس زيد، فان مقتضى عدم وجوب دفع الضرر عن الغير بإضرار نفسه جواز إكراه الغير و الاضرار به ما لم يبلغ النفس، هكذا قيل. لكن جواز الاضرار بالغير بسبب إكراه الظالم ليس مبنيا على ذلك، إذ مجرد عدم وجوب دفع الضرر عن الغير بإيراده على نفسه لا يستلزم جواز الاضرار به، لامكان بقاء حرمته الثابتة قبل الاكراه على حالها. فالأولى الاستدلال للجواز بما دل على ارتفاع الحكم بالاكراه، فان الاضرار بالغير حرام إلا مع الاكراه الذي هو من العناوين الثانوية الرافعة للأحكام الأولية،
642 فتدبر. 10 - تعارض الضررين الامر العاشر: في تعارض الضررين، وهو تارة يكون بين ضرري شخص واحد بحيث لا بد له من الوقوع في أحدهما، وأخرى بين ضرري شخصين، وهذا قد يكون بين مالكين، والضرر ناشئا من تصرف أحدهما في ملكه، وقد يكون الضرر قهريا، كما إذا وقع شخصان في طريق حيوان من السباع يفترس أحدهما ان بقيا في ذلك المكان، وقد يكون بتوجيه ضرر من ظالم إلى أحد شخصين تخييرا، وقد يكون بإيراد الضرر ظلما على زيد أولا، وان لم يؤده زيد فيورده على عمرو الذي هو مكره على الاخذ من زيد، ولا بد من عقد فصلين لبيان أحكام تعارض الضررين. الفصل الأول: في تعارض ضرري شخص واحد. الفصل الثاني: في تعارض ضرري شخصين. أما الفصل الأول ففيه مسائل: الأولى: دوران أمر شخص واحد بين ضررين مباحين بناء على عدم حرمة ما عدا ضرري النفس والطرف، فحينئذ يتخير في الاخذ بأي واحد منهما شاء، إذ المفروض عدم الحرمة وإباحة كل منهما. الثانية: ما إذا كان أحد الضررين جائز الارتكاب كتلف المال، والاخر محرم الارتكاب كتلف النفس، لا ينبغي الارتياب في لزوم فعل المباح وترك الحرام. الثالثة: ما إذا كان كل من الضررين حراما، كما إذا كان كلاهما تلف النفس، فلا بد من اختيار ما هو أقل ضررا، والاحتراز عما ضرره أكثر وحرمته أشد، من غير فرق بين كون الضررين متزاحمين ومتعارضين. أما على الأول فواضح، إذ
643 لا بد من مراعاة ما هو أهم أو محتمل الأهمية. وأما على الثاني فللضرورة التي تتقدر بقدرها، وهي تقضي بارتكاب أقلهما ضررا. هذا إذا كان أحدهما أشد حرمة من الاخر، وإلا فالحكم التخيير. وأما الفصل الثاني، ففيه أيضا مسائل: الأولى: أن يكون الضرران بين مالكين، وله صور: إحداها: أن يكون ذلك بفعل أحدهما. ثانيتها: أن يكون ذلك بفعل كليهما. ثالثتها: أن يكون بفعل ثالث. رابعتها: أن يكون ب آفة سماوية. أما الصورة الأولى فقد مثلوا لها بإدخال حيوان رأسه في قدر يملكه غير مالك الحيوان، فان تخليص الحيوان منوط بكسر القدر، و تخليص القدر موقوف على ذبح الحيوان، وجوازهما حكمان ضرريان. لكن هذا المثال ونظيره وهو وقوع دابة شخص في سرداب أو بئر لغير مالك الدابة خارجان عن حريم دوران الضرر بين شخصين، إذ المفروض في هذه الصورة وقوع الضرر، بتعمد أحدهما و تقصيره في حفظ ماله، فإذا كان مالك الحيوان مقصرا في حفظ الحيوان حتى وقع في البئر مثلا، أو أدخل رأسه في قدر الغير كان هو المتضرر، لتفريطه، واندرج في صغريات توجه الضرر إلى شخص معين، وعدم وجوب تحمل غيره ودفعه عنه، وخرج عن دوران الضرر بين شخصين، فالحكم في هذه الصورة لزوم تخليص القدر والسرداب والبئر، ورفع نقصها الناشئ من وقوع الدابة أو دخول رأسه من دون لزوم ضرر على صاحب القدر بذبح الحيوان أو تقطيعه. وليس لصاحب الدابة كسر القدر وهدم السرداب والبئر ودفع قيمتها، لكونه تصرفا في مال الغير بلا مجوز، فان دفع القيمة فرع اشتغال الذمة بها، ومع
644 وجود العين لا وجه لاشتغال العهدة بقيمتها أو مثلها، بل الواجب تخليص العين وتفريغها عما وقع فيها وتسليمها فارغة عنه إلى مالكها، ولا يتحمل صاحب القدر والسرداب والبئر شيئا من الضرر، فليس المقام من الموارد التي يؤخذ فيها بأقل الضررين المتوجهين إلى شخص واحد، فلا يقال: انه يكسر القدر، لكونه أقل ضررا من تلف الحيوان. وأما الصورة الثانية - وهي كون الضرر بفعل كليهما - فالظاهر أن الحكم فيها هو تخيير المالكين في إتلاف أحد المالين بخصوصه مع تحملهما الضرر بالاشتراك، لتحققه بفعلهما، فمقتضى قاعدة العدل والانصاف هو ذلك. ولو امتنعا عن إتلاف أحد المالين رفع الامر إلى الحاكم، وهو يتلف أيهما شاء، ويقسم الضرر بينهما بقاعدة العدل المذكورة المعمول بها في تلف درهم عند الودعي. هذا مع تساوي المالين في المالية. وأما مع اختلافهما فيها فعلى الحاكم إتلاف أقلهما قيمة، إذ لا مجوز لزيادة الضرر على المالكين. وأما الصورة الثالثة - وهي كون الضرر بفعل ثابت غير المالكين - فالظاهر أن المضر مخير في إتلاف أيهما شاء، فان أمره دائر بين ضررين، ولا مرجح لأحدهما على الاخر بعد البناء على كونهما من باب التعارض، وحيث انه ضامن ولا يستطيع على رد كل واحدة من العينين بخصوصيتها إلى مالكها، بل لا بد من رد مالية إحداهما ورد الأخرى بخصوصيتها، فلا محالة يكون مخيرا في إتلاف أيتهما شاء، ودفع ماليتها إلى مالكها. هذا مع تساوي المالين في المالية. وأما مع اختلافهما فيها، فيمكن أن يقال فيه برجحان إتلاف ما هو أقل قيمة، لاحتمال تعينه، حيث إن إتلافه جائز قطعا اما تخييرا وإما تعيينا، ولمراعاة احتمال كونهما من باب التزاحم، فتأمل جيدا. وأما الصورة الرابعة - وهي كون الضرر ب آفة سماوية - فعن المشهور أن حكمها
645 لزوم اختيار أقل الضررين مع ضمان مالك الاخر له، فيكسر القدر لحفظ الدابة في المثال. وقيل في وجهه: ان نسبة جميع الناس إليه سبحانه وتعالى نسبة واحدة، فالكل بمنزلة عبد واحد. وعليه فالضرر المتوجه إلى أحد شخصين كأحد الضررين المتوجه إلى شخص واحد، فلا بد من اختيار أقل الضررين، لكون نفي الضرر الأكثر منة، هذا. والظاهر أنه مبني على عدم انحلال قاعدة نفي الضرر إلى قضايا عديدة بتعدد المكلفين، لكنه ضعيف كما حقق في محله. فالحق أن يقال: ان الضرر توجه إليهما، فان تراضيا بإتلاف أحد المالين بالخصوص مع تحمل الضرر بالاشتراك فلا كلام، وإلا ترافعا إلى الحاكم، وله الخيار في إتلاف أيهما شاء، وتقسيم الضرر بينهما بقاعدة العدل والانصاف، كالصورة الثانية مع تساوي المالين في المالية، ومع اختلافهما فيها يتعين إتلاف أقلهما قيمة، إذ لا مجوز لزيادة الاضرار، ويحتمل التعيين بالقرعة. هذا كله مع عدم أهمية أحد المالين، وإلا فاللازم ترك الأهم وارتكاب الاخر وان كانت قيمة بالأهم أقل من قيمة ذلك. وعليه فإذا أدخل العبد المحقون دمه رأسه في القدر مثلا وجب لتخليصه كسر القدر وان كانت قيمته أكثر من قيمة العبد، ولا يجوز قتل العبد أصلا وان كانت قيمته أقل من قيمة القدر، ويكون الضرر على المالكين بالاشتراك، إذ المفروض كون الضرر ب آفة سماوية. نعم ان كان بفعل مالك العبد أو الأجنبي، فلا ضرر على مالك القدر أصلا، إذ الضمان في الأول على مالك العبد، وفي الثاني على الأجنبي المضر. المسألة الثانية: ما إذا كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر جاره، سواء أكان جاره مالكا لداره أو ذا حق فيها، كما إذا كانت وقفا عليه، فيدور الامر بين حكمين ضرريين، حيث إن كلا من حرمة تصرف المالك في ملكه وجوازه ضرري،
646 لان حرمته تضر بنفسه، وجوازه يضر بجاره. توضيحه: أنه إذا أراد المالك أن يحفر في داره بئرا أو بالوعة مع كون الحفر مضرا بالجار، ففيه صور: الأولى: أن لا يكون له فيه نفع ولا في تركه ضرر مع كون داعيه إلى التصرف الاضرار بالجار. الثانية: هذه الصورة مع كون الداعي إلى الحفر المزبور مجرد الميل النفساني. والحكم فيهما - كما ادعي التسالم عليه - هو الحرمة تكليفا والضمان وضعا. أما الأول، فلحرمة الاضرار بالغير خصوصا الجار، والمفروض عدم ترتب نفع على تصرفه حتى يكون تركه حرجيا كي يرتفع به حرمة الاضرار بالغير، فليس هنا الا عموم السلطنة، وهو محكوم بقاعدة الضرر. وأما الثاني فلقاعدة الاتلاف. الثالثة: أن يكون تصرفه بداعي المنفعة، وتركه مفوتا للمنفعة. الرابعة: أن يكون داعي التصرف التحرز عن الضرر، كما إذا تضرر بترك التصرف. والحكم في الصورة الثالثة عند المشهور هو الجواز، واستدل له بعموم قاعدة (الناس مسلطون على أنفسهم) بعد سقوط قاعدة ضرر الجار بمعارضتها مع قاعدة حرج المالك، بل و ضرره. وأما تقديم قاعدة نفي حرج المالك حكومة على قاعدة نفي ضرر الجار كما في رسائل الشيخ الأعظم (قده) حيث إن منعه عن التصرف في ملكه وحرمته حرج عليه، ففيه: مضافا إلى أنه ليس مطلقا كذلك، إذ ليس منع المالك عن التصرف مطلقا حتى في صورة عدم الحاجة إليه حرجا ومشقة عليه حتى يشمله قاعدة نفي الحرج - أنه لا وجه للحكومة بعد وضوح كون الحرج والضرر في رتبة واحدة حاكمين على أدلة الاحكام الأولية، ولا معنى لحكومة إحدى القاعدتين على الأخرى مع وحدة
647 الرتبة. نعم بناء على كون المقام من صغريات عدم وجوب تحمل الضرر المتوجه إلى الغير بإيراده على نفسه يكون كلام الشيخ (قده) متينا، لان وجوب تحمله لدفعه عن الغير حرج. لكنه ليس كذلك، إذ المفروض أن المضر هو المالك دون غيره حتى يندرج في صغريات عدم وجوب دفع الضرر عن الغير. وأما الحكم في الصورة الرابعة فهو كالصورة الثالثة، بل أولى منها، إذ المفروض تضرره بترك التصرف في ملكه. وقد نقل شيخنا الأعظم (قده) في الرسائل عدم الخلاف في هذا الحكم الا عن صاحب الكفاية، قال في محكي الكفاية: (ويشكل جواز ذلك فيما إذا تضرر الجار تضررا فاحشا، كما إذا حفر في ملكه بالوعة ففسد بها بئر الغير، أو جعل حانوته في صف العطارين حانوت حداد، أو جعل داره مدبغة أو مطبخة). بل صاحب الرياض جعل المتيقن من قاعدة نفي الضرر ما إذا لم يكن غرض الا الاضرار. وكيف كان فما ذكرناه من دليل حكم الصورة الثالثة آت هنا. بل يمكن أن يقال: ان هذه الصورة من مصاديق عدم وجوب تحمل الضرر عن الغير، إذ مرجع ترك التصرف في ملكه إلى دفع ضرر الجار وتحمله عنه، وهو غير واجب. اللهم الا أن يقال: ان مورد عدم وجوب دفع الضرر عن الغير هو ما إذا لم يكن المتحمل للضرر هو المضر، إذ الظاهر أن الدافع للضرر غير الملقي فيه. وبالجملة: فينبغي أن يكون الحكم في الصورتين الأخيرتين بجواز تصرف المالك في ملكه وان تضرر به الجار واضحا. وقد ظهر مما ذكرنا: عدم الحاجة إلى الرجوع إلى أصل البراءة لاثبات جواز تصرف المالك بعد منع جريان قاعدة الضرر صدرا وذيلا لمنافاته للامتنان
648 كما في بعض التقريرات. وذلك لمرجعية عموم قاعدة السلطنة الذي هو دليل اجتهادي، ومعه لا تصل النوبة إلى الأصل العملي. مضافا إلى: أن أصل البراءة أيضا حكم امتناني لا يجري في مورد ينافي الامتنان، حيث إن جواز تصرفه يوجب تضرر الجار كما لا يخفى. هذا كله بالنسبة إلى الحكم التكليفي. وأما الحكم الوضعي فالظاهر أنه لا مانع منه، ولا منافاة بين الجواز التكليفي والحكم الوضعي أعني الضمان، فان ملاك الأول هو عموم سلطنة الملاك على التصرف في أملاكهم، وملاك الثاني قاعدة الاتلاف الذي هو من موجبات الضمان من دون تقيده بالعلم والظن، بل المدار على صدق الاتلاف، فلو ظن أن الكأس الكذائي ماله، فأتلفه، ثم انكشف أنه مال غيره، فلا شبهة في ضمانه له، فالعلم وعدمه دخيلان في الاثم وعدمه، لا في الضمان وعدمه. ثم إن المراد بالضرر المبحوث عنه هو الضرر العرفي سواء كان تلف العين أم نقصها كانفطار جدار الجار بسبب ورود الضرب العنيف عليه، وهذا هو الضرر العيني. وأما الضرر الحكمي كسد أبواب ضوء الشمس والقمر والهواء عليه بسبب تعلية البناء، ففي لحوقه بالضرر العيني وجهان أوجههما العدم، لعدم صدق الضرر عرفا على ذلك، وانما هو عدم الانتفاع، وإذا شك فيه فالأصل عدم الحرمة. نعم يشمل قاعدة نفي الضرر منع ملاك المنافع عن استيفائها كمنع الفقراء والزوار من الانتفاع بالخانات وغيرها من الموقوفات التي يملك الموقوف عليهم منافعها، لصدق الضرر على استيفاء المنفعة كالاستيلاء على العين هذا. كما أن المراد بالمال هو العرفي أيضا، فيشمل جميع الأموال مما كانت موجودة في زمان صدور الروايات ومما لم تكن موجودة فيه، بل حدثت بعده. نعم لا يشمل الأموال العرفية التي ألغى الشارع ماليتها كالخمر والخنزير
649 ان لم يكن لمن هي تحت يده حق اختصاص بها خصوصا مع قابليته للانتقال بالعوض على تفصيل مذكور في بحث الحقوق. فتخلص مما ذكرنا في تصرف المالك في ملكه مع تضرر الجار به حرمة التصرف والضمان في الصورتين الأوليين، والجواز مع الضمان في الصورتين الأخيرتين. المسألة الثالثة: قد يعد من تعارض ضرري شخصين إكراه الجائر شخصا على التولي من قبله، حيث إن تركه ضرر على المتولي، واقدامه ضرر على غيره من الناس. لكن الظاهر أنه أجنبي عن دوران الضرر بين شخصين، وانما هو مندرج في توجه الضرر أولا وبالذات إلى الغير، ومن المعلوم عدم وجوب دفعه بتحمله عنه، حيث إن الاكراه على الولاية مرجعه إلى الاكراه على الاضرار بالناس، ولا يجب على المكره - بالفتح - تحمل الضرر بإيراده على نفسه لدفعه عنهم، إذ المفروض ورود الضرر أولا وبالذات عليهم، ولا منة عليه في نفي الضرر عنهم بتحمله له، لكونه خلاف الامتنان بالنسبة إليه، فتجري قاعدة نفي الضرر في حقه. ولا يعارضها قاعدة نفي ضرر الناس، و ذلك لان ضررهم لم ينشأ عن حكم الشارع بنفي ضرر المكره - بالفتح - وانما نشأ عن ظلم الظالم. وعليه فمقتضى نفى الحرج حيث إن إلزام الشخص بتحمل الضرر لدفعه عن غيره حرج هو جواز التولي من قبل الجائر، فلا يجب عليه ترك التولي، وتحمله للضرر المتوجه على الناس. وبالجملة: هنا كبريات مسلمة ربما تشتبه مصاديقها: إحداها: حرمة الاضرار بالغير. ثانيتها: عدم وجوب تحمل الضرر المتوجه إلى الغير عنه، لكون كل منهما ضررا ينفيه حديث نفي الضرر.
650 مضافا إلى ما في الثانية من لزوم الحرج في إلزام الشخص بتحمل الضرر لدفعه عن غيره، فالمنة تقتضي حرمة الأول، وعدم وجوب الثاني. ثالثتها: عدم جواز دفع الضرر الوارد عليه إلى غيره، لصدق الاضرار بالغير من دون مسوغ له كالاكراه، إذ المفروض توجه الضرر إلى نفسه، فهو المضر دون المكره - بالكسر - إذا كان الضرر اختياريا، وكذا في الضرر القهري كتوجه السيل إلى داره. وأمثلة الأول واضحة. وأمثلة الثاني كثيرة: منها: مسألة التولي من ناحية الجائر بناء على ما تقدم من توجه الضرر أولا إلى الناس، وكون المتولي مكرها في الاضرار بهم. لكن قد عرفت أنه قد يجعل من صغريات الضرر الدائر بين شخصين. ومنها: توجيه الضرر من ظالم إلى أهل قرية بتوسيط رئيسهم، فإنه لا يجب عليه دفع الضرر عنهم بإيراده على نفسه، إلا إذا كان الضرر نفسيا أو عرضيا وتمكن من دفعه، فإنه يجب عليه حينئذ دفعه عنهم. ومنها: ما إذا توجه الضرر كالسيل أو النار أو غير ذلك إلى دار جاره، أو حمل السبع على غنم غيره، فإنه في غير تلف النفس لا يجب عليه دفعه ولا تحمله عنه. إلى غير ذلك من الأمثلة الفقهية. وأمثلة الثالث أيضا كثيرة: منها: ما إذا أخذ الظالم من دهقان القرية مالا بحيث وجه الضرر إليه، فإنه ليس له توجيه الضرر إلى أهل القرية، وتوزيعه عليهم. ومنها: ما إذا توجه السيل أو النار إلى داره، أو حمل الذئب على أغنامه، فإنه ليس له توجيه الضرر إلى دار الجار أو أغنام الغير. المسألة الرابعة: ما إذا أكره الظالم شخصا على دفع مال من نفسه أو من
651 زيد على نحو التخيير، أو أكرهه على دفع مال من زيد أو عمرو مخيرا، فان الضرر في كلتا الصورتين دائر بين شخصين. أما الحكم في هذه الصورة من حيث عدم وجوب تحمله للضرر، فواضح، لعدم توجه الضرر إليه أصلا وانما توجه إلى غيره، فلا يجب عليه دفعه بالتحمل عنه. وأما جواز الاخذ من زيد أو عمرو مطلقا أو في خصوص أقل الضررين ان كان، فالظاهر أن أصل جواز الاخذ لأجل الاكراه لا إشكال فيه، وأما خصوص أقل الضررين، فلا ينبغي أن يكون تعينه موردا للاشكال، ضرورة أن في نفي الضرر الأكثر كمال الامتنان، فلجريان قاعدة نفي الضرر فيه مجال. وأما الضرر الأقل فلا بد من الوقوع فيه، والقدر المتيقن من جواز الاضرار بالغير بسبب إكراه الجائر هو الضرر اليسير دون الكثير، فان الضرورات تتقدر بقدرها. وأما الحكم في الصورة الأولى وهي كون المكره - بالفتح - أحد الشخصين اللذين توجه الضرر إليهما كقول الظالم لزيد: (أعطني مائة دينار من مالك أو من مال عمرو) بحيث يصدق دوران الضرر بين شخصين، إذ لو قال: (أعطني مائة دينار من مالك، وإلا فخذها من مال عمرو أو من أهل القرية مثلا) فهو خارج عن دوران الضرر بين شخصين، ومندرج تحت كبرى توجه الضرر إلى نفسه، وقد تقدم عدم جواز دفعه عن نفسه بإيراده على الغير (فقيل) فيها بجواز الاخذ من عمرو وان كان الضرر كثيرا، وعدم وجوب دفع الضرر عنه بإيراده على نفسه وان كان قليلا بناء على كون الامتنان شخصيا، لتحققه بالنسبة إلى زيد المضر. وبناء على كونه نوعيا لا بد من الترجيح بالأقلية، لكون النوع بمنزلة شخص واحد، وفي الدوران بين ضرري شخص واحد يكون الترجيح بالأقلية، فتأمل.
652 لكن لا يخفى أنه بناء على تزاحم الضررين، ببيان: أن المقتضي لجعل الحكم لكن من الضررين موجود، والمانع عدم إمكان الجمع بين النفيين بنحو لا يقع أحد في ضرر، فاللازم التخيير بينهما ان لم يكن في البين ترجيح، والا فلا بد من الاخذ بأهمهما لا بأقلهما، فإذا كان أحدهما ضررا ماليا والاخر عرضيا قدم العرضي دون المالي، أو كان كل منهما ماليا مع كون أحدهما قليلا مجحفا كما إذا كان المتضرر به فقيرا دون الاخر لكونه غنيا، فضرر الفقير وان كان قليلا يترك ويؤخذ بضرر الغني وان كان كثيرا، لعدم وقوعه بذلك في حرج، فالمدار في الترجيح على الأهمية، لا الأقلية من حيث هي. وبناء على تعارض الضررين - لتعارض الفردين من العام، وتنافيهما الموجب لسقوط العام عن الحجية في كليهما - كما هو مذهب الشيخ (قده) وعدم جريان قاعدة نفي الضرر في شئ منهما يرجع إلى سائر القواعد والأصول، هذا. والحق أن الدوران ان كان بين ضرري شخص واحد كما إذا دار أمره بين أن يبقى في مكانه، فيحترق أو يغرق، وبين أن يفر فيعضه كلب، أو يسقط فينكسر رجله كان من باب التزاحم، لعدم مانع من اجتماع الحكمين في مقام التشريع، بداهة أن المقتضي لجعل نفي الضرر بالنسبة إلى كل واحد من الضررين موجود، الا أنه في مقام الأعمال لا يمكن الجمع بينهما، نظير عدم إمكان الجمع بين إنقاذ الغريقين، فلا بد حينئذ من إجراء حكم التزاحم فيهما من الترجيح بالأهمية، فالأهم منهما مقدم على غيره، ولا عبرة بالترجيح بالأقلية من حيث هي، فلا يقدم الأقل إلا إذا كان أهم، ومن المعلوم أن نفي الضرر الأهم عن شخص منة عليه. وان لم يكن لأحدهما ترجيح، فالحكم التخيير. وان كان الدوران بين ضرري شخصين، فالظاهر أنه من باب التعارض وان كان المقتضي لنفي كل من الضررين هنا موجودا أيضا، إلا أنه لما كان نفي الضرر عن
653 أحدهما مستلزما لثبوته على الاخر، وهذا خلاف الامتنان الذي هو شرط تشريع قاعدة نفي الضرر، فيعلم عدم جعل الشارع لهما، فلا تكون الأقلية مرجحة هنا، لان نفي الأكثر منة على خصوص من نفي عنه، وضرر على غيره، بل لا بد حينئذ من الرجوع إلى سائر القواعد أو الأصول من قاعدتي السلطنة والحرج، وأصل البراءة، والقرعة وغيرها. وكذا الحال في تعارض قاعدتي الضرر والحرج، وتعارض الحكمين الحرجيين، فان شرط الجعل فيها - وهو الامتنان - مفقود، لاستلزام نفي كل منهما ثبوت الاخر، وهو خلاف المنة على الأمة، فلا بد فيها من إعمال قواعد التعارض والرجوع إلى القواعد و الأصول. وأما السلطنة والضرر فلا تعارض بينهما، حيث إن السلطنة من الاحكام الأولية التي تكون قاعدة الضرر حاكمة عليها، ومنع إطلاق السلطنة لصورة الضرر ممنوع، إذ لا معنى لان يكون مفاد (الناس مسلطون على أموالهم) مجرد عدم حجر المالك عن التصرف في ماله، فإنه توضيح للواضح، ويشبه أن يكون من قبيل (النار حارة) وحمل كلام من كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق على هذا الامر البديهي الذي يعرفه كل أحد كما ترى. فالانصاف أنه لا قصور في إطلاق السلطنة لجميع الشؤون المتعلقة بالمال من التصرفات الخارجية والاعتبارية والانتفاعات العادية كالاستظلال بالأشجار والجدران وحفظه من التلف والنقص، فان كل ذلك من شؤون السلطنة على المال، فسلطنة الجار مثلا على حفظ ماله من التلف والنقص ثابتة له، غايته أن ضرر المالك حاكم عليها. وللبحث هنا مجال واسع، الا أن اختلال الحال وتشويش البال و تراكم الهموم والأهوال قد حالت بيني وبين ما أردته من إشباع الكلام والنقض والابرام بما يناسب المقام، ولذا صار هذا آخر ما جرى عليه القلم، وبه انتهت
654 هذه الرسالة الوجيزة الحاوية لجملة من مباحث قاعدة نفي الضرر، وأرجو من فضله سبحانه وتعالى أن يوفقني لتحرير ما بقي من أبحاثها عاجلا، وأسأل إخواني طلاب العلم والورع أيدهم الله تعالى أن يدعوا لي بحسن الختام الذي هو غاية المرام، وأن يتفضلوا علي بإصلاح ما فيها من الخلل، فإنه سجية الكرام، وقد كتب هذه الكلمات مؤلف الكتاب بيده الجانية محمد جعفر بن محمد علي الموسوي الجزائري الشوشتري المروج حامدا له سبحانه وتعالى ومصليا على سيد رسله وآله الطاهرين حجج الله وسادة خلقه.