شرح السير الكبير (جزء 1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

شرح السير الكبير (جزء 1) - نسخه متنی

أبو بكر محمد بن أبي سهل سرخسي؛ محقق: صلاح الدین منجد

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: شرح السير الكبير
المؤلف: السرخسي
الجزء: 1
الوفاة: 483
المجموعة: أهم مصادر رجال الحديث عند السنة
تحقيق: الدكتور صلاح الدين المنجد
الطبعة:
سنة الطبع: 1960 م
المطبعة: مطبعة مصر
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:
شرح كتاب السير الكبير
لمحمد بن الحسن الشيباني
الجزء الأول
[مقدمة الشارح]
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الامام الاجل الزاهد (1) إمام الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل
السرخسي شمس الأئمة:
اعلم بأن السير الكبير آخر تصنيف صنفه محمد رحمه الله في الفقه. لهذا
لم يروه عنه أبو حفص رحمه الله لأنه صنفه بعد انصرافه من العراق، ولهذا
لم يذكر اسم أبى يوسف رحمه الله في شئ منه، لأنه صنفه بعد ما استحكمت
النفرة بينهما، وكلما احتاج إلى رواية حديث عنه قال: أخبرني الثقة، وهو
مراده حيث يذكر هذا اللفظ.
وأصل سبب تلك النفرة الحسد، على ما حكى (2) المعلى قال: جرى
ذكر محمد في مجلس أبى يوسف فأثنى عليه، فقلت له: مرة تقع فيه ومرة
تثنى عليه؟ فقال: الرجل محسود.
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهم الله أن أبا يوسف رحمه الله في أول
ما قلد القضاء كان يركب كل يوم إلى مجلس الخليفة، فيمر به طلبة العلم،
فيقول أبو يوسف: إلى أين تذهبون؟ فيقال له: إلى مجلس محمد. فقال:
أبلغ من قدر محمد أن يختلف إليه؟ والله لأفقهن حجامي بغداد وبقاليها.



(1) ط " الزاهد شمس الأئمة إمام.. ".
(2) ط " حكى عن المعلى ".
1
وعقد مجلس الاملاء لذلك، ومحمد رحمه الله مواظب على الدرس، فلما كان في
آخر حال أبى يوسف رحمه الله رأى الفقهاء يمرون به بكرة فقال: إلى أين؟
فقالوا: إلى مجلس محمد. قال: اذهبوا فان الفتى محسود.
وسببها الخاص ما حكى (1) أنه جرى ذكر محمد في مجلس الخليفة،
فأثنى عليه الخليفة. فخاف أبو يوسف أن يقربه، فخلا به فقال: أترغب
في قضاء مصر؟ فقال محمد: وما غرضك في هذا؟ فقال: قد ظهر علمنا
بالعراق فأحب أن يظهر بمصر. فقال محمد: حتى أنظر. وشاور (2) في ذلك
أصحابه، فقالوا: ليس غرضه قضاؤك ولكن يريد أن ينحيك عن (3) باب
الخليفة. ثم أمر الخليفة أبا يوسف أن يحضره مجلسه، فقال أبو يوسف:
إن به داء لا يصلح معه لمجلس أمير المؤمنين. فقال: وما ذاك؟ قال: به
سلس البول بحيث لا يمكنه استدامة الجلوس (4). قال الخليفة: نأذن (5) له
بالقيام عند ذلك (6). ثم خلا بمحمد وقال: إن أمير المؤمنين يدعوك،
وهو رجل ملول فلا تطل الجلوس عنده. فإذا أشرت إليك (7) فقم. ثم أدخله
على الخليفة. فاستحسن الخليفة لقاءه لأنه كان ذا جمال وكلام واستحسن (8)
كلامه، وأقبل عليه وجعل يكلمه (9). ففي خلال ذلك الكلام أشار
إليه (10) أبو يوسف أن قم. فقطع الكلام وخرج. فقال الخليفة: لو لم يكن
به هذا الداء لكنا نتجمل به في مجلسنا. فقيل لمحمد رحمه الله: لم خرجت



(1) ه‍، ط " يحكى ".
(2) ه‍ " وأشاروا ".
(3) أ " من ".
(4) ط ". البول ولا عليه استدامة الجلوس ".
(5) ه‍ " فأذن ".
(6) ط، ه‍ " عند حاجته ".
(7) ب، ط، أ " عليك ".
(8) ب، أ " فأحسن ".
(9) قوله " وجعل يكلمه " ساقط من ط، وفيها " كلمه ".
(10) ب، أ " عليه ".
2
في ذلك الوقت؟ فقال: قد كنت أعلم أنه لا ينبغي لي أن أقوم في ذلك الوقت،
لكن يعقوب (1) كان (13 آ) أستاذي فكرهت مخالفته.
ثم وقف محمد على ما فعله أبو يوسف، فقال: اللهم اجعل سبب
خروجه من الدنيا ما نسبني إليه. فاستجيبت دعوته فيه. ولذلك قصة معروفة.
ولما مات أبو يوسف لم يخرج محمد إلى جنازته. وقيل إنما لم يخرج
استحياء من الناس، فان جواري (2) أبى يوسف كن يعرضن به فيما يبكينه،
على ما يحكى أن جواريه كن يقلن عند الاجتياز بباب محمد:
اليوم يرحمنا من كان يحسدنا * اليوم نتبع من كانوا لنا تبعا
اليوم نخضع للأقوام كلهم * اليوم نظهر منا الحزن والجزعا
فهذا بيان سبب النفرة.
فأما سبب تصنيف هذا الكتاب أن السير الصغير وقع في يد عبد الرحمن
ابن عمرو الأوزاعي عالم أهل الشام. فقال: لمن هذا الكتاب؟ فقال: لمحمد
العراقي. فقال: وما لأهل العراق والتصنيف في هذا الباب؟ فإنه لا علم لهم
بالسير. ومغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت من جانب
الشام والحجاز دون العراق، فإنها محدثة فتحا. فبلغت مقالة الأوزاعي محمدا (3)
فغاظه ذلك، وفرغ نفسه حتى صنف هذا الكتاب. فحكى أنه لما نظر فيه
الأوزاعي (4) قال: لولا ما ضمنه من الأحاديث لقلت إنه يضع العلم من
عند نفسه. وإن الله عين جهة إصابة (5) الجواب في رأيه. صدق الله،
وفوق كل ذي علم عليم.
ثم أمر محمد رحمه الله أن يكتب هذا الكتاب في ستين دفترا، وأن يحمل
على عجلة إلى باب الخليفة. فقيل للخليفة: قد صنف محمد كتابا يحمل على



(1) ه‍ " لكن أبو يوسف أستاذي ".
(2) ه‍، ط " خدمة ".
(3) ط " فبلغ ذلك محمدا ".
(4) ه‍، ط " فحكى أنه وقع بيد الأوزاعي فلما نظر.. ".
(5) ط " عين جهة الصواب في. ".
3
العجلة إلى الباب. فأعجبه ذلك وعده من مفاخر أيامه. فلما نظر فيه ازداد
إعجابه به. ثم بعث أولاده إلى مجلس محمد رحمه الله ليسمعوا منه هذا الكتاب.
وكان إسماعيل بن توبة (1) القزويني مؤدب أولاد الخليفة، فكان يحضر معهم
ليحفظهم كالرقيب، فسمع الكتاب. ثم اتفق أن لم يبق من الرواة إلا إسماعيل
ابن توبة وأبو سليمان الجوزجاني، فهما رويا عنه هذا الكتاب.



(1) ط " ثوبة ".
4
[سند السرخسي]
قال رضي الله عنه (1):
أخبرنا الشيخ الامام شمس الأئمة أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الحلواني رحمه الله بقراءتي عليه
قال: أنا القاضي الإمام أبو على الحسين بن الحضر بن محمد النسفي، أنا الإمام أبو بكر محمد بن
الفضل وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن حمدان الخطيب المهلبي قالا: أنا عبد الله بن محمد بن يعقوب
الحارثي قال: ثنا أبو محمد عبد (13 ب) الرحيم بن داود السمناني، ثنا أبو إبراهيم
إسماعيل بن توبة القزويني، ثنا محمد بن الحسن رحمه الله.
قال رضي الله عنه:
كان شمس الأئمة الحلواني شيخنا رحمه الله يقول: قال القاضي الامام: كنا نقرأ هذا الكتاب
على الشيخ الامام أبى بكر محمد بن الفضل رحمه الله، فلما انتهينا إلى أبواب الأمان توفى رحمه الله
فقرأناه على الخطيب المهلبي، فإلى أبواب الأمان الرواية عنهما والباقي عن الخطيب.
قال رضي الله عنه:
وأخبرنا به القاضي الحسن علي بن الحسين السغدي قراءة عليه قال: ثنا الحاكم الإمام أبو
محمد عبد الله بن أحمد الكفيني، ثنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد بن الحسن، ثنا أبو القاسم
أحمد بن جم بن عصمة البلخي، أنا نصر بن يحيى، أنا أبو سليمان الجوزجاني، عن محمد بن الحسن
رحمه الله.
قال الشيخ الامام رضي الله عنه:
وأخبرنا به الشيخ الصالح الثقة أبو حفص عمر بن منصور البزار قراءة عليه قال: أنا الحافظ
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان الوراق قال: أنا أبو نصر أحمد بن نصر (2) بن محمد بن اشكاب،
أنا أبو محمد عبد الله بن عبد الوهاب القزويني، ثنا إسماعيل بن توبة القزويني، أنا محمد بن الحسن،
قال:
ثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن شرحبيل بن السمط،



(1) أي السرخسي.
(2) ط " نصير " وهو خطأ.
5
1 [فضيلة الرباط]
1 - عن سلمان الفارسي أنه قال: من رابط يوما في سبيل الله
تعالى كان كصيام شهر وقيامه. ومن قبض مرابطا في سبيل الله
تعالى أجير من فتنة القبر وأجرى عليه عمله إلى يوم القيامة.
وهذا الحديث وإن كان موقوفا على سلمان فهو كالمرفوع إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، لان مقادير أجزية (1) الأعمال لا تعرف بالرأي بل (2)
طريق معرفتها التوقيف.
2 - وقد ذكر بعد هذا:
عن مكحول أن سلمان الفارسي مر بشرحبيل بن السمط وهو
مرابط قلعة بأرض فارس، فقال: ألا أحدثك بحديث سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون لك عونا على منزلك هذا؟ قال:
بلى. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لرباط يوم
خير من صيام شهر وقيامه. ومن مات وهو مرابط أجير من فتنة القبر
ونمى له عمله كأحسن ما كان يعمل إلى يوم القيامة.



(1) ه‍، ط " لان المقادير وأجزية ".
(2) قوله " لا تعرف بالرأي بل " ساقط من ه‍، ط وفيهما " طريق معرفتها التوقيف دون الرأي ".
6
فتبين بهذا أن من كان عنده حديث منهم فتارة كان يرويه وتارة كان
يفتى به من غير أن يروى، فكل ذلك جائز.
والمرابطة المذكورة في الحديث عبارة عن المقام في ثغر العدو لاعزاز (1)
الدين، ودفع شر المشركين عن المسلمين (14 آ).
وأصل الكلمة من ربط الخيل. قال الله تعالى {ومن رباط الخيل} (2)
فالمسلم يربط خيله حيث يسكن من الثغر ليرهب العدو به، وكذلك يفعل (3)
عدوه. ولهذا سمى مرابطة، لان ما كان على ميزان المفاعلة يجرى بين اثنين
غالبا، ومنه سمى الرباط رباطا للموضع المبنى في المفازة (4) ليسكنه الناس
ليأمن المارة بهم من شر اللصوص. وجعل رباط يوم في هذا الحديث كصيام
شهر وقيامه.
3 - وقد روى بعد هذا أكثر من هذا القدر فإنه روى:
عن مكحول أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: إني وجدت غارا في الجبل فأعجبني أن أتعبد فيه وأصلي حتى
يأتني قدري. فقال عليه السلام: لمقام أحدكم في سبيل الله خير من
صلاته ستين سنة في أهله.
وهذا التفاوت إما بحسب التفاوت في الامن والخوف من العدو، فكلما
كان الخوف أكثر كان الثواب في المقام أكثر.
أو بحسب تفاوت منفعة المسلم (5) بمقامه، فان أصل هذا الثواب لاعزاز الدين
وتحصيل المنفعة للمسلمين بعمله. قال عليه السلام: " خير الناس من ينفع الناس ".



(1) ه‍ " بلا اعزاز ".
(2) سورة الأنفال، 8، الآية 60.
(3) ه‍، ط " يفعله ".
(4) ه‍، ط " المفاوز ".
(5) ط " المسلمين ".
7
أو بحسب تفاوت الأوقات في الفضيلة، وبيانه في حديث رواه مكحول
عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لرباط يوم في
سبيل الله صابرا محتسبا من وراء عورة المسلمين في غير شهر رمضان، أفضل
عند الله من عبادة مائة سنة صيام نهارها وقيام ليلها. ولرباط يوم في سبيل الله
صابرا محتسبا من وراء عورة المسلمين في شهر رمضان، أفضل عند الله تعالى
من عبادة ألف سنة صيام نهارها وقيام ليلها. ومن قتل مجاهدا ومات مرابطا
فحرام على الأرض أن تأكل لحمه ودمه، ولم يخرج من الدنيا حتى يخرج من
ذنوبه كيوم ولدته أمه، وحتى يرى مقعده من الجنة، وزوجته من الحور
العين، وحتى يشفع في سبعين من أهل بيته، ويجرى له أجر الرباط إلى يوم
القيامة ".
وفى قوله (1): " أجير من فتنة القبر " دليل لأهل السنة والجماعة على أن
عذاب القبر حق، فان الفتنة هنا بمعنى العذاب. قال الله تعالى {ذوقوا
فتنتكم} (2). وكقوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} (3)
أي عذبوا.
وأصل الفتنة الاختبار. يقول (4) الرجل: فتنت الذهب إذا أدخله
النار ليختبره. ومنه قوله تعالى {وهم (14 ب) لا يفتنون} (5) أي
لا يبتلون. وقوله تعالى {وفتناك فتونا} (6) وقوله تعالى {إن هي إلا فتنتك} (7)
بمعنى الابتلاء أيضا. ومنه يقال: فتانا القبر لمنكر ونكير، فإنهما يختبر ان
صاحب القبر بالسؤال عن إيمانه.
وقيل معنى قوله أجير من فتنة القبر أي من ضغطة القبر. فكل أحد



(1) ه‍ " وفى قوله عليه السلام ".
(2) سورة الذريات، 51، الآية 14.
(3) سورة البروج، 85، الآية 10.
(4) ه‍ " لقول ".
(5) سورة العنكبوت، 29، الآية 2.
(6) سورة طه، 20، الآية 40.
(7) سورة الأعراف، 7، الآية 155.
8
يبتلى بهذا إلا من عصمة الله تعالى منه، على ما روى أنه لما سوى التراب على
سعد بن معاذ رضي الله عنه تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" الله أكبر، الله أكبر، " فارتج البقيع بالتكبير. فقيل له في ذلك، فقال: " إنه
ضغطه القبر ضغطة اختلفت منها أضلاعه، ثم فرج الله عنه. ولو نجا أحد من
ضغطه القبر لنجا هذا العبد الصالح ". ولكن (1) في حديث عائشة رضي الله عنها
أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " تلك الضغطة
للمؤمن بمنزلة الوالدة الشفيقة يشكو إليها ابنها البار بها الصداع، فتضع يدها
على رأسه تغمزه، وهي للمنافق بمنزلة البيضة تحت الصخرة ".
ومعنى هذا الوعد في حق من مات مرابطا والله أعلم أنه في حياته كان
يؤمن المسلمين بعمله فيجازى في قبره بالأمن مما يخاف منه.
أو لما اختار في حياته المقام في أرض الخوف والوحشة لاعزاز الدين
يجازى بدفع الخوف والوحشية عنه في القبر، كما روى أن الصائمين (2) إذا
خرجوا من قبورهم يوم القيامة يؤتون بالموائد يأكلون ويشربون والناس جياع
عطاش في القيامة (3) لانهم اختاروا الجوع والعطش في الدنيا فجازاهم الله
بإعطاء الموائد في الآخرة.
وقوله: وأجرى عليه عمله ونمى له عمله (4) فذلك في كتاب الله عز وجل
قال الله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت
فقد وقع أجره على الله} (5). وقال عليه السلام: " من مات في طريق الحج
كتب الله له حجة مبرورة في كل سنة ".
فهذا هو المراد أيضا في حق كل من مات مرابطا لأنه (6) يجعل بمنزلة
المرابط إلى فناء الدنيا فيما يجرى له في الثواب.



(1) ه‍، ط " الا إن في ".
(2) ه‍، ط " كما روى في الحديث أن المرابطين.. ".
(3) ه‍، ط " في القيامة في الحساب " وقوله في الحساب لا توجد في سائر النسخ.
(4) قوله " ونمى له عمله " ساقطة في ه‍، ط.
(5) سورة النساء، 4، الآية 100.
(6) ط، ه‍ " ولأنه ".
9
والمعنى في ذلك أنه كان بنيته استدامة الرباط لو (1) بقى حيا إلى فناء
الدنيا، والثواب بحسب النية. قال عليه السلام: " الأعمال بالنيات ".
4 - وروى محمد بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
ألا أنبئكم بليلة هي أفضل من ليلة القدر: حارس يحرس في سبيل الله
في أرض خوف لعله لا يؤوب إلى أهله أو رحله.
في الحديث حث (2) على الحراسة للغزاة في أرض الحرب، فقد جعل
ليلة الحارس أفضل من ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر (15 آ).
وكان المعنى فيه أن الحارس يسعى لإزالة الخوف عن المسلمين، والذي
يحيى ليلة القدر يسعى في فكاك نفسه.
وقد روى هذا مرفوعا في حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لمقام ساعة في سبيل الله تعالى أفضل من
إحياء ليلة القدر عند الحجر الأسود ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ثلاثة أعين لا تمسسها (3) نار جهنم: عين فقئت في سبيل الله، وعين بكت
من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله ".
وقوله: لا يؤوب إلى أهله (4) أي يستشهد في وجهه فلا يرجع إلى
أهله. وفيه إشارة إلى أن الحارس في أرض الحرب يعرض نفسه لدرجة
الشهادة لأنه سلم ما باع (5) من الله تعالى على ما قال الله تعالى {إن الله اشترى
من المؤمنين أنفسهم. الآية} (6).



(1) ط " أن لو ".
(2) ط، ه‍ " وفيه حث ".
(3) ط " لا تمسها ".
(4) ط " رحله ".
(5) ط " ويسلم ما باعه قال تعالى.. ".
(6) سورة التوبة، 9، الآية 111.
10
5 - قال محمد رحمه الله: أخبرنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان
قال: من صام يوما في سبيل الله بعدت منه جهنم مسيرة خمسين عاما
للراكب المجد لا يفتر ولا يعرس. لا يفتر أي لا يضعف، ولا يعرس
أي لا ينزل في آخر الليل، وهو التعريس.
والمراد من الحديث أن يجمع بين الصوم والجهاد، فالطاعات (1) كلها
سبيل الله تعالى لأنه يبتغى بها رضاء الله تعالى، غير أن عند الاطلاق يفهم
منه الجهاد. والجمع بينهما أشد على النفس فيكون أفضل، على ما روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أفضل الأعمال قال: " أحمزها (2) "، أي
أشقها على البدن. وهذا أبلغ في قهر النفس الامارة (3). وما روى (4) عن أبي
حنيفة رضي الله عنه أنه كره الجمع بين الصوم والمشي في طريق مكة.
فلذلك للتحرز عن الجدال في الحج. وإليه أشار أبو حنيفة رحمه الله فقال: إذا
جمع بينهما ساء خلقه وجادل رفيقه والجدال في الحج منهي عنه (5). وأما إذا
أمن ذلك فهو أفضل.
ثم بين مسافة (6) تبعيد جهنم خمسين عاما.
6 - وذكر بعد هذا عن عمرو بن عنبسة (6) السلمي أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: من صام يوما في سبيل الله تعالى بوعد (8) من
النار مسيرة مائة عام.



(1) ه‍ " فالطاعة ".
(2) ساقطة في ط.
(3) ط، ه‍ " الامارات بالسوء ".
(4) ط، ه‍ " والذي يروى أن أبا حنيفة كان يكره الجمع.. ".
(5) ساقطة في ب، أ.
(6) ب، أ، ط " بين في مسافة ".
(7) ه‍ " عبسة " أ " عنيسة ".
(8) ه‍ " يبعد ".
11
وفى هذا اللفظ للعلماء قولان: أحدهما الاجراء على ظاهره أن جهنم
تبعد منه. ويؤيد هذا بقوله تعالى {أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها} (1)
لان (2) المراد من التبعيد الامن منه، لان من كان أبعد عن جهنم كان
آمنا منها (3).
والتفاوت بين الحديثين في التقدير بحسب التفاوت في نية المجاهد (15 ب)
أو يكون المراد هو المبالغة في بيان تبعيد جهنم منه لا حقيقة المسافة،
وذكر السبعين والخمسين والمائة للمبالغة في لسان العرب. وأيد هذا قوله تعالى
{إن تستغفر لهم سبعين مرة} (4).
7 - وعن عمر (5) رضي الله عنه أنه كان يهتف بأهل مكة فيقول:
يا أهل مكة! يا أهل البلدة! ألا التمسوا الأضعاف المضاعفة في الجنود
المجندة والجيوش السائرة. ألا وإن لكم العشر (6) ولهم الأضعاف
المضاعفة.
وهذه خطبة الاستنفار لتحريض (7) الناس على الجهاد. وقد فعله
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن. كما قال تعالى {يا أيها النبي حرض
المؤمنين على القتال} (8) ثم اقتدى به عمر رضي الله عنه في تحريض أهل مكة
حين تقاعدوا عن الجهاد.



(1) سورة الأنبياء، 21، الآية 101، 102.
(2) ط، ه‍ " والثاني أن المراد " وهو خطأ.
(3) ط، ه‍ " كان آمن منه ".
(4) سورة التوبة، 9، الآية 80.
(5) ط، ه‍ " عمر بن الخطاب ".
(6) ه‍ " العشرة ".
(7) ط، ب " للتحريض على الجهاد ".
(8) سورة الأنفال، 28 الآية 65.
12
وفى الحديث دليل على أن المجاورة بمكة مشروعة. ينال بها (1) الثواب.
أشار إليه عمر رضي الله عنه في قوله: ألا إن لكم العشر (2)، ولكن الثواب في
الجهاد في سبيل الله أعظم، فحثهم على الجهاد ببيان تحصيل أعلى الدرجات لكي
لا يتخلفوا عن الجهاد معتمدين على أنهم جيران بيت الله وسكان حرمه.
واعتمد فيما ذكر من الأضعاف المضاعفة على قوله {مثل الذين ينفقون أموالهم
في سبيل الله. إلى قوله.. والله يضاعف لمن يشاء} (3). فإذا كان هذا
موعودا لمن ينفق المال في سبيل الله فمن يبذل نفسه في سبيل الله فهو أولى.
والذي يروى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كره (4) المجاورة بمكة،
فتأويله معنيان. أحدهما أنه من كثر مقامه بمكة يهون البيت في عينه لكثرة
ما يراه، أو لكي لا يبتلى في الحرم بارتكاب الذنوب. قال الله تعالى {ومن
يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} (5).
8 - وذكر بعد هذا عن عمر رضي الله عنه [أنه] قال: لا تزال
هذه الأمة على شرعة من الاسلام حسنة، وفى رواية شريعة من
الاسلام (16 آ)، هم فيها لعدوهم قاهرون وعليهم ظاهرون، ما لم يصبغوا
الشعر ويلبسوا المعصفر ويشاركوا الذين كفروا في صغارهم. فإذا فعلوا
ذلك كانوا قمنا أن ينتصف منهم عدوهم.
في الحديث بيان النصرة لهذه الأمة ما داموا مشتغلين (6) بالجهاد.



(1) ه‍، " وهو سبب الثواب ".
(2) ه‍ " العز " وهو خطأ.
(3) سورة البقرة، 2، الآية 261.
(4) ط، ه‍ " أنه استحب لمن فرغ من الحج أن يرجع إلى أهله، فليس ذلك لكراهة المقام،
بل لئلا تنقص حرمة البيت في قلبه بكثرة ما يراه، ولئلا يبتلى.. ".
(5) سورة الحج، 22، الآية 25.
(6) ط، ه‍ " مشغولين ".
13
قال الله تعالى (1) {إن تنصروا الله ينصركم} (2). وفيه بيان أنهم إذا اشتغلوا (3)
بالدنيا واتبعوا اللذات والشهوات وأعرضوا عن الجهاد يظفر (4) عليهم عدوهم.
ومعنى قوله كانوا قمنا أي خليقا وجديرا.
ثم كنى عن اتباع الشهوات بأن يصبغوا الشعر، يريد به (5) الخضاب
لترغيب النساء فيهم. فأما نفس الخضاب فغير مذموم بل هو من سيما المسلمين.
قال عليه السلام: " غيروا الشيب ولا تتشبهوا باليهود ".
وقال الراوي: رأيت أبا بكر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولحيته كأنها ضرام عرفج، بنصب العين ورفعه مرويان. يريد
به أن كان مخضوب اللحية. فمن فعل ذلك من الغزاة ليكون أهيب في عين الأعداء
كان ذلك محمودا منه.
فأما إذا فعل ذلك في حق النساء فعامة المشايخ على الكراهة وبعضهم
جوز ذلك. وقد روى عن أبي يوسف أنه قال: كما يعجبني أن تنزين لي
يعجبها أن أتزين لها.
وقوله: ويلبسوا (6) المعصفر، فيه دليل على أن لبس الثواب الأحمر
مكروه. وقد جاء في حديث ابن عمر رضى الله تعالى عنهما: أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن لبس المعصفر (7)، وعن القراءة في الركوع. وقال
عليه السلام: " إياكم والحمرة فإنها زي الشيطان (8) ". وفى حديث سعد:
رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ملحفة حمراء فأعرض عنى بوجهه،
فذهبت وأحرقتها، ثم رآني فقال: ما فعلت بالملحفة؟ قلت: أحرقتها حين



(1) ط، ه‍ " وبيان ذلك في قوله تعالى ".
(2) سورة محمد، 47، الآية 7.
(3) ط، ه‍ " ركنوا إلى الدنيا ".
(4) ط، ه‍ " ظهر ".
(5) ط، ه‍ " يعنى يغير والشيب بالخضاب ".
(6) ب، أ " ويلبس ".
(7) ه‍، ط " نهاني رسول الله.. أن ألبس المعصفر ".
(8) ب، أ " الشياطين ".
14
رأيتك أعرضت عنى فقال: هلا أعطيتها بعض أهلك؟ وما روى بعد هذا
من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: ما رأيت ذا لمة في حلة
حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنما كان ذلك في الابتداء
ثم كره استعمالها للرجال بعد ذلك. وما روى عن الشعبي أنه كان يلبس المعصفر،
فإنما فعل ذلك فرارا من القضاء، فإنهم أرادوه للقضاء مرارا فلبس المعصفر
ولعب الشطرنج وكان يخرج مع الصبيان لنظر الفيل. حتى رأوا ذلك منه
فتركوه.
وقوله: ويشاركوا الذين كفروا في صغارهم، أي التزموا الخراج واشتغلوا
بالزراعة وقعدوا عن الجهاد. فظاهر هذا اللفظ حجة لمن كره الاشتغال
بالزراعة. وقد روى النبي صلى الله عليه وسلم (16 ب) أنه رأى
شيئا من آلات الحراثة (1) في بيت قوم. فقال: " ما دخل هذا بيت قوم
إلا ذلوا حتى كر عليهم عدوهم (2) ". ولكن تأويله عندنا إذا أعرضوا عن
الجهاد. فأما بدون ذلك فلا بأس بالاشتغال بالزراعة، فان النبي صلى الله عليه
وسلم ازدرع بالجرف، هو اسم موضع (3). ولا بأس بالتزام الخراج وتملك
الأراضي الخراجية، فان الصغار في خراج الرؤوس لا في خراج الأراضي، فان
ابن مسعود والحسن بن علي وأبا هريرة كانت لهم أراض خراجية بسواد العراق،
وكانوا يؤدون الخراج منها.
9 - وذكر محمد رحمه الله بعد هذا عن عثمان رضي الله عنه أنه
قام في أهل المدينة فقال: يا أهل المدينة! خذوا بحظكم من الجهاد
في سبيل الله. ألا ترون إلى إخوانكم من أهل الشام وأهل المصر وأهل



(1) ه‍، ط " الزراعة ".
(2) قوله " حتى كر عليهم عدوهم " ساقط في ه‍، ط وهي فيهما بعد قوله بعد اعرضوا
عن الجهاد.
(3) قوله " هو اسم موضع " لا يوجد في ه‍، ط. والجرف موضع قرب المدينة.
15
العراق؟ فوالله ليوم يعمله أحدكم في سبيل الله تعالى خير له من ألف
يوم يعمله في بيته صائما قائما لا يفطر ولا يفتر.
ومعنى قوله قام بأهل المدينة يعنى قام خطيبا، وهذا أيضا كانت خطبة
استنفار لأهل المدينة كما فعل عمر رضي الله عنه بأهل مكة.
وفيه دليل على أنه لا بأس للمرء أن يحلف صادقا بالله، وإن لم يكن له
حاجة إلى ذلك، فإن عثمان رضي الله عنه حلف على ما ذكر من الوعد للمجاهد
في سبيل الله وكان مستغنيا عن ذلك.
ثم عيرهم عثمان بإخوانهم من أهل الشام ومصر [والعراق]، فإنهم
لم يتقاعدوا عن الجهاد، تحريضا لهم على الجهاد.
ومعنى هذا التفصيل ما بينا أن في الجهاد إعزاز الدين وقهر المشركين
ودفع شرهم عن المسلمين. وذلك غير ظاهر في عمل من يقيم في أهله بالمدينة.
10 - وذكر بعد هذا عن طاووس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " إن الله تعالى بعثني بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي
تحت رمحي أو ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالفني، ومن
تشبه بقوم فهو منهم ".
والمراد بقوله: بعثني بالسيف أي بعثني بالقتال (1) في سبيل الله كما
قال عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس [حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا
قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله] " (2)، ولان
القتال في حق غيره من الأنبياء لم يكن مأمورا به وخص رسول الله صلى الله
عليه وسلم بذلك، وصفته في التوراة: نبي الملحمة عيناه حمراوان من شدة القتال.



(1) ه‍، ط " لأقاتل ".
(2) الزيادة في ه‍، ط.
16
وفى صفة أمته (1): أناجليهم في صدورهم، وسيوفهم على عواتقهم. وإليه
أشار في قوله عليه السلام: " السيوف أردية الغزاة ".
وفى حديث سفيان بن عيينة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأربعة سيوف: سيف لقتال المشركين باشر به القتال بنفسه. وسيف لقتال
أهل الردة كما قال تعالى {تقاتلونهم أو يسلمون} (2) فقاتل به أبو بكر رضي الله عنه
(17 آ) بعده في حق مانعي (3) الزكاة. وسيف لقتال أهل
الكتاب والمجوس كما قال تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله. إلى أن قال:
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (4) فقاتل به عمر رضي الله عنه.
وسيف لقتال المارقين كما قال تعالى {فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا
التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله} (5) فقاتل به على رضي الله عنه على
ما روى عنه أنه قال: أمرت بقتال المارقين والناكثين (6) والقاسطين.
وقوله بين يدي الساعة أي بالقرب من القيامة (7). قال الله تعالى
{أقترب الساعة} (8) وقيل في تفسير قوله (9) {فيم أنت من ذكراها} (10)
فيم السؤال عن الساعة وأنت من أشراطها؟
ومعنى قوله: وجعل رزقي تحت رمحي أو ظل رمحي، قيل هذا كان
في ابتداء الاسلام (11) كان الغازي إذا جنه الليل فركز رمحه عند قوم فعليهم
أن يضيفوه، فإن لم يفعلوا ذلك حتى أصبح كان متمكنا من أن يغرمهم،



(1) ب " أمنه "، ط، ه‍ " هذه الأمة ".
(2) سورة الفتح، 48، الآية 16.
(3) ب، أ " مانع ".
(4) سورة التوبة، 9، الآية 29.
(5) سورة الحجرات، 49، الآية 9.
(6) ب، أ " الناكبين ".
(7) ط، ه‍ " من قيام الساعة ".
(8) سورة القمر، 54، الآية 1.
(9) ط، ه‍ " في معنى قوله ".
(10) سورة النازعات، 79، الآية 43.
(11) ه‍، ط " كان في الابتداء ".
م - 2 السير الكبير
17
ثم انتسخ ذلك بقوله عليه السلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلى بطيبة نفس منه ".
وقيل المراد به حل الغنائم لهذه الأمة، فإنها [ما] كانت تحل لأحد قبل
مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان ذلك في قوله تعالى {فكلوا
مما غنمتم حلالا طيبا} (1). وقال صلى الله عليه وسلم: " خصصت بخمس "
وذكر من جملتها حل الغنائم.
ولم يرد بالظل حقيقة الظل، لكن أراد به الأمان. ومنه قوله: السلطان
ظل الله في الأرض. يريد به الأمان.
ومعنى قوله: وجعل الذل والصغار على من خالفني أي ذلك الشرك
لقوله تعالى {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (2) فهذا بيان الذل على المشركين.
وقيل المراد من الصغار صغار الجزية على ما قال تعالى: {وهم صاغرون} (3)
وقوله من تشبه بقوم فهو منهم، أي تشبه بالمجاهدين في الخروج معهم
والسعي في بعض حوائجهم وتكثير سوادهم، فيكون منهم في استحقاق الغنيمة
في الدنيا والثواب في الآخرة. وفى مثل هذا قال عليه السلام: " هم القوم
لا يشقى؟؟ جليسهم ". في حق العلماء.
11 - وذكر بعد هذا عن مكحول قال: لما قتل ابن رواحة قال
عليه السلام: " كان أولنا فصولا وآخرنا قفولا، وكان يصلى الصلاة لوقتها ".
في الحديث دليل على أنه لا بأس بالثناء على الميت بما هو فيه، وإنما يكره
مجاوزة الحد بذكر ما لم يكن فيه.
ومعنى قوله أولنا فصولا أي من الصف بالخروج إلى المبارزة، وآخرنا
قفولا أي رجوعا عن القتال، فبين شدة رغبته في الجهاد وهو مندوب إليه (4).



(1) سورة الأنفال، 8، الآية 69.
(2) سورة المنافقين، 63، الآية 8.
(3) سورة التوبة، 9، الآية 29.
(4) ط، ه‍ " وهي مندوب إليها ".
18
قال تعالى {فاستبقوا الخيرات} (1) وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من
ربكم} (2). وبين شدة صبره على القتال حيث (17 ب) كان آخرهم
رجوعا. وهو صفة مدح (3). قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اصبروا
وصابروا ورابطوا} (4). ثم بين أنه كان يصلى الصلاة لوقتها، أي مع حرصه.
على القتال كان يحفظ (5) الصلاة لوقتها، وهو أشق ما يكون على المجاهد،
وهو صفة مدح. قال الله تعالى {حافظوا على الصلوات} (6). وجاء في تأويل
قوله تعالى {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا} (7) أنه المحافظة على الصلوات
في وقتها. والحديث حجة على الشافعي فإنه يجيز الجمع بين الصلاتين في السفر،
والجهاد أبدا يكون في حال ما يكون مسافرا. ومع هذا مدحه على محافظة
الصلوات في وقتها، ولو كان الجمع جائزا لما استقام ذلك.
12 - وذكر بعد هذا عن معبد قال: إذا زرعت هذه الأمة
نزع منهم النصر وقذف في قلوبهم الرعب.
وروى بعده عن محمد بن كعب قال: قيل لعلي بن أبي طالب
رضي الله عنه في قوله تعالى: {إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم
فتنقلبوا خاسرين} (8) أهو التعرب؟ قال: لا، ولكنه الزرع.
وتأويل (9) الحديثين واحد. فتأويل الأول: إذا زرعت هذه الأمة



(1) سورة البقرة، 2، الآية 148.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 133.
(3) ب، آ " مدحه ".
(4) سورة آل عمران، 3، الآية 200.
(5) ه‍، ط " يصلى ".
(6) سورة البقرة، 2، الآية 238.
(7) سورة مريم، 19، الآية 87.
(8) سورة آل عمران، 3، الآية 100.
(9) ط، ه‍ " فتأويل الحديثين ما بينا أنهم إذا اشتغلوا بالزراعة مع الاعراض عن الجهاد
أصلا.. ".
19
يعنى إذا اشتغلوا بالزراعة وأعرضوا عن الجهاد أصلا نزع منهم النصر.
فأما إذا اشتغل البعض بالزراعة والبعض بالجهاد فلا بأس به، وينبغي أن يكون
كذلك حتى يتقوى المقاتل بما يكتسبه الزراع ويأمن الزارع [بما] يذب
المقاتل عنه.
قال عليه السلام: " المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا ". وهذا لان الكل
إذا اشتغلوا بالجهاد لا يتفرغون للكسب (1) فيحتاجون إلى ما يأكلون ويعلفون
دوابهم، فلا يجدون فيعجزون عن الجهاد، فيعود على موضوعه بالنقص.
ثم فهموا من معنى الآية التعرب. وهو المقام بالبادية وترك الهجرة
للقتال. وكأنهم اعتمدوا في ذلك ظاهر قوله تعالى {الاعراب أشد كفرا
ونفاقا} (2) فبين لهم على رضي الله عنه أن المراد هو الاعراض عن الجهاد
بالاشتغال بالزراعة، وأيد هذا التأويل قوله تعالى {إن تطيعوا الذين كفروا} (3)
وهذا (4) لان طاعة الكفار فيما يطلبون منا، وهم يطلبون منا الاعراض عن
الجهاد لا نفس الزراعة.
13 - وذكر عن الحسن البصري أن رجلا وضع قرنا له، أي
جعبة، وقام يصلى. فاحتمل رجل قرنه. فلما انصرف نظر فلم ير قرنه،
فأفزعه ذلك. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا يحل لا مرئ
مسلم أن يروع أخاه المسلم.
منهم من يروى: فاحتل (5)، أي حله ليخرج بعض ما فيه، ومنهم من



(1) ط، ه‍ " وهذا لانهم لو اشتغلوا عن آخرهم بالجهاد لم يتفرغوا للكسب ".
(2) سورة التوبة، 9، الآية 97.
(3) سورة آل عمران، 3، الآية 149.
(4) ط، ه‍ " وطاعة الكفار فيما يطلبون منا، وهم كانوا يدعونهم إلى الاعراض عن القتال،
لا إلى الزرع مقصودا ".
(5) ط " ما حيل ".
20
يروى فاحتل (1) بمعنى احتال. والأصح هو الأول، والمعنى أنه رفعه على
وجه لم يشعر به أحد.
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم (18 آ) أنه فعله على
وجه المزاح لا على قصد السرقة، ولكن مع هذا قال ذلك، لأنه حين لم ير
قرنه أفزعه ذلك، والذي مازحه هو الذي أفزعه. فقال: " لا يحل لامرئ
مسلم أن يروع أخاه المسلم ".
فيه بيان عظم حرمة المؤمنين وعظم حرمة المجاهدين في سبيل الله تعالى.
وقد ورد في نظيره آثار مشهورة.
عن الحسن أن رجلا سل سيفه على رجل فجعل يفرقه (2). فبلغ ذلك
الأشعري فقال: لا زالت الملائكة تلعنه حتى غمده. وفى رواية أغمده (3).
يحتمل أنه أراد به مالكا الأشعري، والأصح أنه أراد أبا موسى الأشعري (4)
وهو كالمرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)، لان هذا ليس من باب
ما يعرف بالرأي. وفيه دليل على عظم وزر من روع مسلما بأن شهر عليه سلاحا
وإن لم يكن من قصده أن يضربه (6).
وجاء في الحديث: " من شهر سلاحا على مسلم فقد أطل دمه ". أي
أهدره.
وفى قوله: ما زالت الملائكة تلعنه، إشارة إلى هذا. فإن الملائكة
يستغفرون للمؤمن، وإنما يلعنونه إذا تبدلت صفته. فإنما يحمل على من يفعل
ذلك مستحلا قتل المسلم فيصير كافرا أو قاصدا قتله لايمانه.



(1) ط " فأحيل ".
(2) ط " يفرغه ".
(3) ط " حتى أغمده " وقوله " وفى رواية أغمده " لا توجد في ط.
(4) ط " قيل هذا القائل أبو مالك الأشعري، وقيل أبو موسى الأشعري، وهو الأظهر ".
(5) ط " وما قاله كأنه رواه لان.. ".
(6) ب، أ " نصر به ".
21
14 - قال: وذكر عن سليمان بن بريدة أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمة نساء المجاهدين على
القاعدين كحرمة أمهاتهم. ما من رجل يخالف (1) إلى امرأة رجل من
المجاهدين إلا وقد وقف يوم القيامة فيقال له: هذا خانك في أهلك،
فخذ من عمله ما شئت. فما ظنكم؟
فيه بيان عظم حرمة المجاهدين، لان زيادة حرمة النساء لزيادة حرمة
الأزواج. وإليه أشار الله تعالى في قوله {وأزواجه أمهاتهم} (2). وفى قوله
تعالى {نؤتها أجرها مرتين} (3).
ثم إنما استحق هذا الوعيد لان المجاهد خرج من بيته وجعل أهل أمانة
عند القاعد، وعند الله تعالى. فإذا خان في أهله فقد خان في أمانة الله تعالى،
ولأنه سعى إلى قطع الجهاد (4)، لان المجاهد إذا علم أن غيره يخونه في أهله
لا يخرج، ولا يحل له الخروج من غير ضرورة لان حفظ أهله واجب عليه
عينا، والقتال ليس بواجب عليه عينا، ومتى لم يخرج ينقطع الجهاد فيكون
هو ساعيا في قطع الجهاد وتقوية المشركين على المسلمين (5) فلهذا قال: إنه
يحكم يوم القيامة في عمله يأخذ منه ما شاء.
ثم قال: ما ظنكم، يعنى أتظنون أنه يبقى له شيئا من عمله مع حاجته
إليه في ذلك الوقت.



(1) يقال هو يخالف إلى امرأة فلان أي يأتيها إذا غاب عنها زوجها.
(2) سورة الأحزاب، 33، الآية 6.
(3) = =، 33، " 31.
(4) ط، ه‍ " ثم الذي يخون المجاهد في أهله خائن في أمانة أخيه وخائن في أمانة الله تعالى.
والمجاهد خلف أهله عند القاعدين بأمانة الله، وهو الساعي في منع المجاهد من الخروج لأنه إذا علم
أن غيره.. ".
(5) ط، ه‍ " وكان بهذه الجناية يقوى المشركين على المسلمين " وبعد هذا زيادة لا توجد
في أ، ب وهي " فان المجاهد إذا بلغه ذلك يشتغل به قلبه فلا يجد في القتال، أو يرجع فيقل جند
المسلمين، فربما يقع الدبرة على المسلمين. فلهذا قال. ".
22
وبيان هذا في حديث على (18 ب) رضي الله عنه قال: قال
رسول الله: " لا تؤذوا المجاهدين، فان الله تعالى يغضب (1) لهم كما يغضب (1)
للمرسلين. ويستجيب (2) لهم كما يستجيب (2) للمرسلين. ومن آذى مجاهدا
في أهله فمأواه النار، ولا يخرجه منها إلا شفاعة المجاهد له إن فعل ذلك ".
15 - قال: وذكر بعد ذلك عن معاوية بن قرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: في كل أمة رهبانية، ورهبانية أمتي (3) الجهاد.
ومعنى الرهبانية هو التفرغ للعبادة وترك الاشتغال بعمل الدنيا. وكان
ذلك في الأمم الماضية بالاعتزال عن الناس والمقام في الصوامع. فقد كانت
العزلة فيهم أفضل من العشرة. ثم نفى ذلك رسول الله عليه السلام بقوله:
" لا رهبانية في الاسلام ". وبين طريق الرهبانية لهذه الأمة في الجهاد، لان فيه
العشرة من الناس، والتفرغ عن عمل الدنيا، والاشتغال بما هو سنام الدين.
فقد سمى رسول الله عليه السلام الجهاد سنام الدين. وفيه أمر بالمعروف ونهى
عن المنكر. وهو صفة هذه الأمة، وفيه تعرض لأعلى الدرجات وهو الشهادة.
فكان أقوى وجوه الرهبانية.
16 - وذكر بعد هذا عن أبي قتادة أن رسول الله قام يخطب
الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر الجهاد فلم يدع شيئا أفضل من
الجهاد إلا الفرائض.
يريد به الفرائض التي يثبت فرضها عينا، وهي الأركان الخمسة.
والجهاد فرض أيضا لكنه فرض كفاية، والثواب بحسب وكادة الفريضة (4)،



(1) ط، أ " يعف ".
(2) ط، ه‍ " يستحب ".
(3) ط، ه‍ " هذه الأمة ".
(4) ب، أ " الفرضية ".
23
فما يكون فرضا عينا فهو أقوى، فلهذا استثنى الفرائض من جملة ما فضل رسول
الله عليه السلام الجهاد عليه.
قال: فقام رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت من قتل في سبيل
الله هل ذاك مكفر عنه خطاياه؟ قال: فسكت ساعة حتى ظننا أنه
قد أوحي إليه، ثم قال: نعم. إذا قتل محتسبا صابرا مقبلا غير مدبر،
إلا الدين فإنه مأخوذ به، كما زعم جبريل عليه السلام.
فيه بيان علو درجة الشهداء والشهادة حيث جعل الله [الشهادة] سببا
لتمحيص الخطايا.
وقد جاء في الحديث عن النبي عليه السلام أنه قال: " من استشهد في
سبيل الله فأول قطرة تقطر من دمه تغفر له جميع ذنوبه، وبالقطرة الثانية يكسى
حلة الكرامة، وبالقطرة الثالثة يزوج الحور العين ". وهو معنى الحديث المعروف:
" السيف محاء للذنوب إلا الدين ".
ومن علو حال الشهداء ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: " إن الله
جعل أرواح من استشهد في إخوانكم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة،
وتأكل من ثمارها، ثم تأوى إلى قناديل معلقة في ظل العرش. فلما أصابوا
طيب مأكلهم ومشربهم قالوا: (19 آ) ليت إخواننا يعلمون ما نحن فيه
فيجدون في الجهاد. فيقول (1) الله تعالى: إني مبلغهم عنكم. وهو تأويل
قوله تعالى (2) {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا} (3).
ثم هذه الدرجة للشهيد إذا كان راغبا فيها، وذلك بأن (4) يكون محتسبا
صابرا مقبلا.



(1) ه‍، ط " فقال ".
(2) ط، ه‍ " وفى ذلك نزل قوله تعالى ".
(3) سورة آل عمران، 3، الآية 169.
(4) ط، ه‍ " بأن يكونوا محتسبين صابرين مقبلين ".
24
ثم في الحديث بيان شدة الامر في مظالم العباد. فإنه مع هذه الدرجة
للشهيد بين أنه مطالب بالدين، وأنه قال ذلك عن وحى فإنه قال: كما زعم
جبريل عليه السلام، ليعلم كل أحد أنه لابد من طلب رضا الخصم.
وقيل هذا كان في الابتداء حين نهى رسول الله عليه السلام عن الاستدانة
لقلة ذات يدهم لعجزهم عن قضائه. ولهذا كان لا يصلى على ميت مدين
لم يخلف مالا يقضى به دينه (1)، ثم انتسخ ذلك بقوله عليه السلام: " من ترك
مالا فلورثته، ومن ترك كلا أو عيالا فهو على ".
وقد ورد نظير هذا في الحج، أن (2) النبي عليه السلام دعا لامته
بعرفات فاستجيب له إلا المظالم فيما بينهم. ثم دعا بالمشعر (3) الحرام صبيحة
الجمع، فاستجيب له حتى المظالم. ونزل جبريل عليه السلام يخبره أن الله
تعالى يقضى عن بعضهم حق بعض. فلا يبعد مثل ذلك في حق الشهيد المدين.
فهذا معنى قولنا إنه دخل فيه بعض اليسر.
17 - وذكر بعد هذا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا
سأل النبي عليه السلام فقال: رجل يريد الجهاد في سبيل الله، وهو
يريد عرض الدنيا. فقال عليه السلام: لا أجر له. فأعظم الناس ذلك.
فقالوا للرجل: عد لرسول الله لعلك تفقهه (4)، أي لم تفهمه. فقال:
رجل يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغى عرض الدنيا. فقال: لا أجر
له. ثم أعاد ثالثا، فقال: لا أجر له.
فيه دليل على أنه لا بأس للسائل أن يكرر السؤال، وأنه لا ينبغي للمجيب



(1) ط، ه‍ " ديونه ".
(2) ط، ه‍ ".. في باب الحج فإن. ".
(3) ط، ه‍ " عند المشعر ".
(4) ط، ه‍ " أعد سؤالك لعله لم يفقهه ".
25
أن يضجر من ذلك، فرسول الله عليه السلام لم ينكر عليه تكرار السؤال،
والصحابة أمروه بالإعادة مع أنهم كانوا معظمين له، وكانوا لا يمكنون أحدا
في ترك تعظيمه، فعرفنا أنه ليس في إعادة السؤال ترك التعظيم.
ثم تأويل الحديث من وجهين:
أحدهما أن يرى الخارج من نفسه أنه يريد الجهاد ومراده في الحقيقة
إصابة المال. فهذا حال (1) المنافقين في ذلك الوقت، وهذا لا أجر له.
أو يكون المراد أن يخرج على قصد الجهاد ويكون معظم مقصوده تحصيل
المال في الدنيا، لا نيل الثواب في الآخرة. وفى حال مثله قال عليه السلام:
" ومن كانت هجرته إلى الدنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر
إليه ". وقال للذي استؤجر على الجهاد بدينارين: " إنما لك ديناراك في الدنيا
والآخرة ". فأما إذا كان معظم مقصوده الجهاد وهو يرغب في ذلك في الغنيمة
فهو داخل في جملة مال قال الله تعالى (19 ب) {ليس عليكم جناح أن
تبتغوا فضلا من ربكم} (2) يعنى التجارة في طريق الحج. فكما أن هناك
لا يحرم ثواب الحج فهاهنا لا يحرم ثواب الجهاد.
18 - وقال: وعن خيثمة (3) قال: أتيت أبا الدرداء رضي الله عنه
فقلت: رجل أوصى إلى فأمرني أن أضع وصيته حيث تأمرني. فقال:
لو كنت أنا لكنت أضعها في المجاهدين في سبيل الله، فهو أحب إلى
من أن أضعها في الفقراء والمساكين. وإنما مثل الذين ينفق (4) عند
الموت كمثل الذي يهدى إذا شبع.



(1) ط، ه‍ " على ما كان عليه حال.. ".
(2) سورة البقرة، 2 الآية 198.
(3) ط " وعن أبي حنيفة " وهو خطأ. ب، أ. " وعن أبي خيثمة وفى رواية عن أبي حنيفة ".
وهو خطأ. أثبتنا رواية ه‍.
(4) ب " يعنق " أ " يعتق " أثبتنا رواية ط، ه‍.
26
فيه دليل أن الوصية بهذه الصفة صحيحة (1) بأن تقول للوصي: ضع ثلث
مالي حيث أحببت أو حيث أحبه فلان.
وفيه دليل أن الصرف إلى فقراء المجاهدين أولى من الصرف إلى غيرهم.
لان فيه معنى الصدقة والجهاد بالمال، وإيصال منفعة ذلك إلى جميع المسلمين
بدفع أدى المشركين عنهم بقوته.
ثم بين أن مع هذا كله لا ينال هذا الموصى [من الثواب] (2) ما كان
يناله إن لو فعل بنفسه في حياته. لان في حياته كان ينفق المال في سبيل الله
تعالى مع حاجته إليه، وقد زالت حاجته بموته (3). فهو كالذي يهدى إذا شبع.
وفى نظيره قال عليه السلام: " أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح
شحيح، تأمل (4) العيش وتخشى الفقر، لا حتى إذا بلغت هذه - وأشار
إلى التراقي - قلت: لفلان كذا ولفلان كذا. لقد كان ذلك وإن لم تقل ".
19 - وذكر بعد هذا عن مكحول أنه بلغه أن من لم يجاهد أو لم
يعن مجاهدا أو لم يخلفه في أهله بخير، أصابته قارعة قبل يوم القيامة.
والقارعة هي الداهية التي لا يحتملها المرء ولا يتمكن من ردها. قال الله
تعالى {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة} (5) الآية. وفى هذا
بيان فضيلة الجهاد، ونيل الثواب بالاغاثة للمجاهد، وعظم وزر من خان
المجاهد في أهله. وكأن هذه الخصال الثلاث يعنى ترك الجهاد، وترك إعانة
المجاهدين، والخيانة للمجاهد في أهله، لا تجتمع إلا في منافق. والوعيد
المذكور لائق بحق المنافقين.



(1) ط، ه‍ " فيه دليل صحة الوصية بهذه الصفة ".
(2) الزيادة من ط، ه‍.
(3) ط، ه‍ " لموته ".
(4) ط " مائل " وهو خطأ.
(5) سورة الرعد، 13، الآية 31.
27
20 - قال: وذكر عن الحسن رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: قال ربكم (1) من خرج مجاهدا في سبيلي ابتغاء
مرضاتي فأنا عليه ضامن أو هو على ضامن، إن قبضته أدخلته الجنة،
وإن رجعته رجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة.
وفى الحديث بيان ما وعد الله تعالى للمجاهد في سبيله من الغنيمة في
الدنيا، والجنة في الآخرة.
ولفظ الضمان المذكور في الحديث لبيان الموعود على سبيل المجاز والتوسع
في العبارة (2)، ولا يجب لأحد على الله (20 آ) تعالى ضمان في الحقيقة.
فيكون دليلا على أنه لا بأس بالتوسع بمثل هذه العبارة، فيقال: إن الله ضمن
الرزق لعباده، أو يقال: رزق العباد على الله تعالى. ويكون المراد به أن وعد
لهم ذلك، وهو لا يخلف الميعاد.
21 - قال: وذكر عن الحسن قال: أتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم رجل من المسلمين فقال: ضعفت عن الجهاد، ولى مال،
فمرني بعمل إذا عملته كنت بمنزلة المرابط. قال: مر بالمعروف، وانه
عن المنكر، وأعن الضعيف، وأرشد الأخرق، فإذا فعلت ذلك كنت
بمنزلة المرابط.
في الحديث بيان علو درجة المرابط، فان الرجل إذ (3) عجز عن ذلك
طلب من رسول الله عليه السلام أن يرشده إلى ما يقوم مقام المرابط (4) في



(1) ه‍ " فيما تأثر عن ربه "، ط " فيما يروى عن ربه ".
(2) ه‍ " العبادة " وهو خطأ.
(3) ط، ه‍ " لما ".
(4) ط، ه‍ " المرابطة ".
28
الثواب. وقد أرشده رسول الله عليه السلام إلى ذلك فيما قال (1)، لان الجهاد
أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وهو الشرك، وإعانة الضعيف من المسلمين
بدفع أذى المشركين عنهم، وإرشاد الأخرق وهو المشرك. فمن فعل ذلك
بحسب ما يقدر عليه بنفسه أو بماله فهو بمنزلة المرابط.
22 - قال: وذكر بعد هذا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
إذا تبايعتم بالعين، واتبعتم أذناب البقر، وكرهتم الجهاد، ذللتم حتى
يطمع فيكم عدوكم.
العين جمع عينة وهو نوع بيع أحدثه البخلاء من أكلة الربا للتحرز عن
محض الربا. وقد بينا صورته في " الجامع الصغير " وإنما كره ذلك ابن عمر
رضي الله عنه لان فيها إظهار البخل وترك الانتداب إلى ما ندب إليه الشرع
من إقراض المحتاج.
وقوله: واتبعتم أذناب البقر، أي اشتغلتم بالزراعة وتركتم الجهاد
أصلا. وقد بينا أن ذلك سبب لطمع العدو في المسلمين وكرتهم (2) عليهم
فيذلون بذلك.
23 - وذكر بعد هذا عن ضمرة بن حبيب أن النبي عليه السلام
قال: أعظم القوم أجرا خادمهم.
وفى الحديث (3) حث على الرغبة في خدمة المجاهدين وتعهد دوابهم (4)
فمن فعل ذلك كان له مثل أجر المجاهدين مع استحقاق صفة السيادة في الدنيا.



(1) قوله " فيما قال " ساقط من ط، ه‍.
(2) ب. أ " كربهم ".
(3) ط، ه‍ " وفيه ".
(4) ط، ه‍ " وتعهد حالهم ودوابهم ".
29
قال عليه السلام: " سيد القوم خادمهم ". هذا لان المجاهد لا يتفرغ
للجهاد إلا إذا كان له من يطبخ ويربط دابته، فأما إذا لم يكن احتاج إلى أن
يفعل بنفسه فيتقاعد عن الجهاد، فكان الخادم سببا للجهاد.
24 - وذكر بعد هذا عن مجاهد قال: أردت الجهاد فأخذ ابن
عمر بركابي. فأبيت ذلك عليه فقال: أتكره لي الاجر؟ فقد بلغنا أن
خادم المجاهدين في أهل الدنيا بمنزلة جبريل في أهل السماء.
25 - وذكر بعد هذا عن مجاهد، عن تبيع، وهو ابن امرأة
كعب - عن كعب قال: إذا (20 ب) وضع الرجل رجله في السفينة
خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه. المائد فيه كالمتشحط في دمه
في سبيل الله، والغريق فيه له مثل أجر شهيدين، والصابر فيه كالملك
على رأسه التاج.
قال محمد رحمه الله: وبه نأخذ، فنقول لا بأس بغزو البحر وهو
أعظم أجرا من غيره.
ففي هذا دليل على أن مراد كعب إذا ركب السفينة على قصد الجهاد.
وما يقوله كعب فاما أن يقوله من الكتب المنزلة مما لم يظهر ناسخه في شريعتنا،
أو يقوله سماعا ممن روى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ثم] (1) ركوب السفينة على قصد الجهاد إنما كان أفضل لأنه أشد
وأخوف، وفيه تسليم النفس لابتغاء مرضاة الله، فينال به درجة الشهيد في
تمحيص الخطايا.



(1) الزيادة من ط، ه‍.
30
وقوله المائد (1) فيه يعنى المائل لميل السفينة عند تلاطم الأمواج،
فهذا كالمتشحط في دمه بعدما استشهد في سبيل الله، لأنه معاين سبب الهلاك،
آيس من نفسه على هذه الحال.
والغريق فيه له مثل أجر شهيدين، لأنه باذل نفسه مرتين: حين ركب
السفينة وحين غرقت (2). وكل ذلك منه لابتغاء مرضاة الله.
والصابر فيه كالملك على رأسه التاج: يعنى إذا لم يندم على ما صنع مع
ما عاين من سبب الغرق. فقد تحقق فيه تسليم النفس فهو في الجنة كالملك.
وإنما شبهه بالملك لان الملك ينال بعض شهواته، والشهيد في الجنة ينال كل
شهواته. قال الله تعالى {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} (3) (4).
وإذا ثبت جواز ركوب السفينة للجهاد ثبت جواز ركوبها للحج بالطريق (5)
الأولى، لان فريضة الحج أقوى، وكذلك لا بأس بركوبها على قصد التجارة
إذا كان الغالب السلامة، وهو لا يمنع حق الله تعالى الذي يلزمه فيما يستفيد
من المال.
26 - قال: وذكر بعد هذا عن سهل بن معاذ قال: غزوت مع
عبد الله بن عبد الملك بن مروان في ولاية عبد الملك الصائفة - والصائفة
اسم للجيش العظيم الذين يجتمعون في الصيف، ثم يغزون إذا دخل
الخريف وطاب الهواء - قال: فنزلنا على حصن سنان (6)، فضيق



(1) أ " المايل ".
(2) ط، ه‍ " غرق ".
(3) سورة الزخرف، 43، الآية 71.
(4) في ط، ه‍ زيادة ليست في النسخ الأخرى هي " وليس للملك الذي على رأسه التاج في
الدنيا إلا بعض هذا ".
(5) أ، ب " بطريق ".
(6) ذكر ياقوت أنه في بلاد الروم (معجم البلدان 3: 285).
31
الناس المنازل وقطعوا الطريق. فقال رجل: إني غزوت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم غزوة كذا. فضيق الناس المنازل وقطعوا الطريق
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا في الناس: ألا من ضيق منزلا
أو قطع طريقا فلا جهاد له.
معنى تضييق المنزل أن ينزل بالقرب من موضع نزول أخيه المسلم بحيث
لا يبقى له المربط والمطبخ وموضع قضاء الحاجة. وهذا منهي عنه، لان كل
من نزل بموضع فهو أحق به على ما قال عليه السلام: " منى مناخ من سبق ".
فلا يتمكن من المقام في منزله إلا بما حوله من مواضع قضاء حاجته، فيكون
ذلك حريما لمنزله، وكما لا يكون لغيره أن يزعجه عن منزله لا يكون له أن
يقطع عنه مرافق منزلة بالتضييق عليه.
ومعنى قطع الطريق أن ينزل على الممر أو بالقرب منه على وجه يتأذى
به المارة (21 آ).
ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزجر عن هاتين الخصلتين
في الوعيد ما قال إنه لا جهاد له. أي لا ينال من ثواب المجاهدين ما يناله من
يتحرز عن ذلك، وهذا لان الجهاد شرع لدفع الأذى (1) عن المسلمين،
وهذا الحال مؤذ للمسلمين بفعله.
27 - وذكر بعد هذا عن رجل من الكلاعيين، اسم قبيلة (2)،
من أصحاب معاذ بن جبل قال: إياكم وهذه السرايا، فإنهم يجبنون ويغلون.
وعليكم بفسطاط المؤمنين وجماعتهم (3).



(1) ط، ه‍ " المجاهد دافع الأذى.. ".
(2) قوله " اسم قبيلة " لا يوجد في ط، ه‍.
(3) ط، ه‍ " جماعاتهم ".
32
السرية اسم لعدد قليل يدخلون أرض الحرب. سموا سرية لانهم يسرون
بالليل ويكمنون بالنهار. فكره الخروج معهم في الجهاد، وبين أنهم يجبنون
فيفرون لقلة عددهم إذا حزبهم أمر، ويغلون إذا أصابوا شيئا، لانهم لا يصدرون
عن رأى أمير مطاع فيهم. وهذا (1) مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
[فإنه قال] (2): " لا ينزلن في الخيل (3) النفل، يروى مخففا ومشددا،
فإنهم إن يغنموا يلغوا وإن يقاتلوا يفروا ". والمراد به العدد القليل الذين يخرجون
من دار الاسلام متلصصين من غير أمر الأمير. سماهم نفلا لان مقصودهم النفل
وهو الغنيمة، أو لانهم يتنفلون في الخروج، فان الخروج إنما يلزمهم بأمر الإمام.
وأما الفسطاط المذكور في حديث معاذ فالمراد به الجيش العظيم. سمى
فسطاطا وعسكرا لكثرة ما يستصحبونه من الفساطيط.
وفيه دليل على أنه ينبغي للغازي أن يختار الخروج مع هؤلاء لا مع أصحاب
السرايا، لقوله عليه السلام: " يد الله مع الجماعة فمن شذ شذ من النار ".
28 - وذكر بعده حديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الحث على الجهاد وبيان درجة الخارج للمبارزة بين الصفين.
وقد قدمنا في هذا الباب ما فيه كفاية.
29 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل
ثم أحيا، فأقتل ثم أحيا، فأقتل ثم أحيا (4)



(1) ط، ه‍ " وهو ".
(2) الزيادة من ط، ه‍.
(3) كذا في النسخ ب، أ، ط، وفى ه‍ " الجفل ".
(4) في ه‍، ط لا توجد ثم أحيا الأخيرة.
م - 3 السير الكبير
33
كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: أشهد لله أنه قال ثلاثا
أشهد لله، أي بالله (1).
فيه بيان درجة الشهادة، فان النبي صلى الله عليه وسلم تمناها لنفسه
مع علو درجته، وتمنى تكرار ذلك لنفسه مرة بعد أخرى ليتبين بذلك ما للشهيد
عند الله من الدرجات.
وبيان ذلك في حديث أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " ما من أحد يموت وله عند الله خير فيتمنى الرجوع إلى الدنيا،
وله الدنيا بما فيها إلا الشهيد ". فإنه يتمنى الرجوع ليستشهد ثانيا من عظم ما ينال
من الدرجة.
وفى حديث جابر رضي الله عنه قال: رآني رسول الله صلى الله عليه
وسلم مهتما فقال: (21 ب) ما لك؟ فقلت: استشهد أبى وترك دينا
وعيالا. فقال: ألا أبشرك يا جابر، إن الله تعالى كلم أباك كفاحا، أي
شفاها (2) فقال: تمن يا عبد الله. فقال: أتمنى أن أحيا لأقاتل في سبيلك
ثانيا فأقتل. فقال: قد سبق منى القضاء بأنهم إليها لا يرجعون، ولكني أبلغك
الدرجة التي لاجلها تتمنى ما تتمنى ".
30 - وذكر عن الحسن رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم
بعث جيشا وفيهم ابن رواحة. فغدا الجيش وأقام ابن رواحة ليشهد
الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قضى صلاته رآه فقال:
يا ابن رواحة (3)! ألم تكن في الجيش؟ قال: بلى. ولكني أحببت أن



(1) في ط، ه‍ زيادة " فإن اللام والباء يتعاقبان. يقال أمر له وأمر به ".
(2) ب، أ " مشافها ".
(3) ب، أ " يا ابن أبي رواحة " وهو خطأ.
34
أشهد معك الصلاة. وقد علمت منزلهم فأروح فأدركهم. فقال: والذي
نفس محمد بيده! لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل
غدوتهم.
وفيه حث على الجهاد والتكبير للخروج إلى الجهاد، وأن من كان على
عزم الخروج فلا ينبغي أن يتخلف عن أصحابه لأداء الصلاة الجماعة. ألا
ترى أن النبي عليه السلام قال في حق ابن رواحة ما قال، مع أن الصلاة
خلف رسول الله أفضل.
وفى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ". فهذا يؤيد ما قلنا.
31 - وعن الحسن قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
يخطب فقال: يا خير الناس! فلم يفهم عمر رضي الله عنه ذلك. فقال:
ما تقول؟ فقالوا له: يقول: يا خير الناس. فقال له عمر: ادن إلى (1)،
لست بخير الناس. ألا أنبئك بخير الناس؟ قال: من هو يا أمير المؤمنين؟
قال عمر رضي الله عنه: هو رجل من أهل البادية صاحب صرمة
إبل أو غنم، قدم بإبله أو غنمه إلى مصر من الأمصار فباعها ثم أنفقها
في سبيل الله، فكان مسلحة بين المسلمين وبين عدوهم. فذاك
خير الناس.
والصرمة هي القطعة (2). والمسلحة هي الثغر الذي يوضع فيه السلاح



(1) قوله " ادن إلى " ليس في ط، ه‍.
(2) في القاموس " الصرمة، بالكسر، القطعة من الإبل ما بين العشرين إلى الثلاثين،
أو إلى الخمسين والأربعين.. ".
35
أو من يحمل السلاح، ومنه سمى الرجل الذي يحمل السلاح بين يدي السلطان
مسلحة.
وإنما قال عمر لست بخير الناس إظهارا للتواضع فقد كان هو خير الناس
في أيام خلافته بعد وفاة (1) الصديق رضي الله عنه. وهو نظير ما يروى عن أبي
بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول في حال خلافته: أقيلوني (2)
فلست بخيركم. وقد كان خير الناس بعد النبيين والمرسلين كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وإنما جعل عمر رضي الله عنه صاحب الصرمة خير الناس لأنه بذل من
نفسه وماله لمنفعة المسلمين. وخير الناس من نفع الناس. وقد قال عليه السلام:
" خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه (22 آ) في سبيل الله كلما سمع
هيعة (3) طار إليها ".
ثم قال الرجل: يا أمير المؤمنين! إني رجل من أهل البادية،
وإني أجفو عن أشياء من العلم، فعلمني مما علمك رسول الله. فقال عمر:
أليس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله؟ قال: بلى. قال:
وتقيم (4) الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت؟ قال: بلى.
قال: عليك بالعلانية وإياك والسر. عليك بكل عمل إذا اطلع عليه منك
لم يفضحك، وإياك وكل عمل إذا اطلع عليه منك شأنك وفضحك.
قوله: أجفو عن أشياء أي أجهل. ولهذا سمى الذين يسكنون القرى والمفاوز
أهل الجفاء لغلبة الجهل عليهم. فبين له عمر رضي الله عنه بما ذكره أنه عالم



(1) ط، ه‍ " بعدما قبض ".
(2) ب، أ " اقتلوني " وهو خطأ.
(3) الهيعة الصوت تفزع منه وتخافه من عدو (القاموس).
(4) ط، ه‍ " قال ألست تقيم.. ".
36
[وليس بجاهل] (1). فكأنه اعتمد قوله تعالى {شهد الله أنه لا إله إلا هو
والملائكة وأولو العلم} (2) والمراد المؤمنون.
ومعنى قوله: عليك بالعلانية، أي بسلوك الطريق الجادة، وهو ما عليه
جماعة المسلمين، والتجنب عن المذاهب الباطلة، وهو معنى قوله عليه السلام
" عليكم بدين العجائز ".
والسر ما لا يعرفه جماعة المسلمين. وقيل معناه عليك في الصحبة مع
الناس باتباع العلانية والاكتفاء بما يظهر لك من حالهم، وعليك في معاملة نفسك
بكل عمل إذا اطلع عليه منك لم يشنك، يعنى لا تكون سريرتك مخالفة لعلانيتك،
وما كنت تتمتع منه (3) إذا كنت مع الناس استحياء منهم فامتنع منه إذا خلوت
استحياء من الله تعالى. ومن لم يفعل ذلك شانه الله وفضحه.
32 - ختم محمد رحمه الله الباب بحديث أبي هريرة أن النبي
صلى الله عليه وآله قال: من مات مرابطا مات شهيدا.
يعنى له من الثواب ما للشهيد لأنه بذل نفسه لابتغاء مرضاة الله تعالى،
صابرا على المرابطة حتى أتاه اليقين. والله المعين (4).



(1) الزيادة من ط، ه‍.
(2) سورة آل عمران، 3 الآية 18.
(3) ط، ه‍ " تمتنع من مباشرته ".
(4) ط، ه‍ " والله أعلم ".
37
2 [باب وصايا الامراء
33 - روى حديث ابن بريدة عن أبيه برواية أبي حنيفة رحمه الله أن
النبي عليه السلام كان إذا بعث جيشا أو سرية قال لهم (1): اغزوا باسم الله.
وقد بدأ محمد رحمه الله " السير الصغير " بهذا الحديث، وقد بينا فوائد
الحديث هناك.
ثم بين معنى قوله عليه السلام في آخر هذا الحديث:
وإن أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله فلا تعطوهم.
أنه إنما كره ذلك لا على وجه التحريم بل التحرز عن الاخفار عند
الحاجة إلى ذلك. فكان الأوزاعي يقول: لا يجوز إعطاء ذمة الله للكفار،
ويتمسك بظاهر هذا الحديث، فمقتضى مطلق النهى حرمة المنهي عنه.
وذكر هذا اللفظ في حديث يرويه على رضي الله عنه بطريق أهل
البيت أنه قال: " لا تعطوهم ذمة الله ولا ذمتي، فذمتي ذمة الله (2) " وإنما كره
لهم عندنا لمعنى في غير المنهي عنه، وهو أنهم قد يحتاجون إلى النقض (22 ب)
لمصلحة يرونها (3) في ذلك، وإن ينقضوا عهودهم (4) فهو أهون من أن
ينقضوا عهد الله وعهد رسوله. وقد أشار إلى ذلك في آخر الحديث فقال:



(1) قوله " لهم " لا توجد في ط، ه‍.
(2) قوله " فذمتي ذمة الله " لا توجد في ه‍.
(3) ب " يرونه ".
(4) ه‍ " عهدهم ".
38
فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم آبائكم خير من أن تخفروا ذمة الله تعالى.
والذمة هي (1) العهد قال الله تعالى {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} (2)
ومنه سميت الذمة للآدمي فإنه محمد الالتزام بالعهد.
والمراد بذممهم وذمم آبائهم الحلف والمحالفة (3) التي كانت بينهم في
الجاهلية. ومعنى الاخفار هو نقض العهد. يقال: خفروا إذا عاهدوا،
وأخفروا إذا نقضوا العهد، وذلك لا بأس به عند الحاجة إليه. قال الله تعالى:
{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} (4) منكم ومنهم في العلم،
وذلك للتحرز عن العذر. وفى قوله {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم
من المشركين} (5) ما يدل على ذلك. وأيد ما قلنا قوله عليه السلام: " ثلاثة (6)
أنا خصمهم ومن كنت خصمه خصمته، وقال في تلك الجملة: رجل أعطى
ذمتي ثم خفر، ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا ولم يعطه
أجره ".
ففيه بيان أنه لا بأس بإعطاء ذمته ولكن يحرم الغدر، وأمراء الجيوش
كانوا يعطون الأمان بالله ورسوله، ولم ينكر عليهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما
. فدل أنه لا بأس به.
34 - ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: بعث أبو بكر
الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان على جيش، فخرج معه
يمشى وهو يوصيه. فقال: يا خليفة رسول الله! أنا الراكب وأنت



(1) ب، ه‍ " هو ".
(2) سورة التوبة، 9، الآية 10.
(3) ب، أ " الممالحة ".
(4) سورة الأنفال، 8، الآية 58.
(5) سورة التوبة، 9، الآية 1.
(6) ط، ب، أ " ثلاث ".
39
الماشي، فإما أن تركب وإما أن أنزل: فقال أبو بكر رضي الله عنه:
ما أنا الذي أركب ولا أنت بالذي تنزل. إني أحتسب خطاي (1) هذه
في سبيل الله. الحديث.
فيه دليل على أنه ينبغي للمرء أن يغتم المشي في تشييع الغزاة، على أي
صفة كان، كما فعله الصديق رضي الله عنه. وروى أنه قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من اغبرت قدماه في سبيل الله وجبت له الجنة ".
وفى حديث أنس رضي الله عنه: " ما اجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم
في جوف مسلم ".
35 - وذكر محمد بعد هذا حديث أبي بكر رضي الله عنه بطريق
آخر أنه أتى براحلته ليركب. فقال: بل أمشي. فقادوا راحلته وهو
يمشى، وخلع نعليه وأمسكهما بإصبعيه (2) رغبة أن تغبر قدماه
في سبيل الله.
وإنما فعل ذلك أبو بكر رضي الله عنه هذا اقتداء برسول الله عليه السلام،
فإنه حيث بعث معاذا إلى اليمن شيعه ومشى معه ميلا أو ميلين أو ثلاثة أميال.
ونظير هذا ما روى عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه كان يمشى
في طريق الحج ونجائبه تقاد إلى جنبه. فقيل له: ألا تركب يا ابن رسول الله
عليه السلام؟ فقال: لا. إني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: " من اغبرت
قدماه في سبيل الله لم تمسهما (23 آ) نار جهنم ".
فالمستحب لمن يشيع الحاج أو (3) الغزاة أن يفعل كما فعله أبو بكر رضي الله عنه
.



(1) ه‍ " بخطاياي ".
(2) ط، ه‍ " بإصبعه ".
(3) ه‍، ط " و ".
40
ثم قال: إني موصيك بعشر فاحفظهن:
(1) إنك ستلقى أقواما زعموا أنهم قد فرغوا أنفسهم لله في
الصوامع، فذرهم وما فرغوا له أنفسهم.
وبه يستدل أبو يوسف ومحمد رضي الله عنهما في أن أصحاب الصوامع
لا يقتلون. وهو رواية عن أبي حنيفة أيضا.
وعن أبي يوسف رحمه الله قال: سألت أبا حنيفة عن قتل أصحاب
الصوامع فرأى قتلهم حسنا.
والحاصل أن هذا إذا كانوا ينزلون إلى الناس ويصعد الناس إليهم
فيصدرون عن رأيهم في القتال، يقتلون. فأما إذا أغلقوا (1) أبواب الصوامع
على أنفسهم فإنهم لا يقتلون. وهو المراد في حديث أبي بكر رضي الله عنه
لتركهم القتال أصلا. وهذا لا، المبيح للقتل شرهم من حيث المحاربة، فإذا
أغلقوا الباب على أنفسهم اندفع شرهم مباشرة وتسبيبا. فأما إذا كان لهم رأى
في الحرب وهم يصدرون عن رأيهم فهم محاربون تسبيبا فيقتلون.
(2) قال: وستلقى أقواما قد حلقوا أوساط رؤوسهم، فافلقوها
بالسيف.
والمراد الشمامسة، وهم بمنزلة العلوية فينا. وهم أولاد هارون عليه
السلام. فقد أشار في هذا الحديث بطريق آخر: وتركوا شعورا كالعصائب.
يصدر الناس عن رأيهم في القتال ويحثونهم على ذلك، فمنهم أئمة الكفر، قتلهم
أولى من قتل غيرهم.
وإليه أشار في هذا الحديث بطريق آخر فقال: فاضربوا مقاعد
الشياطين (2) منها بالسيوف. أي في أوساط رؤوسهم المحلوقة. والله لان



(1) ط، ب، أ " طينوا ".
(2) ه‍، ط " الشيطان ".
41
أقتل رجلا منهم أحب إلى من أن أقتل سبعين من غيرهم. قال الله تعالى
{فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم (1)} والمراد بمقاعد الشياطين شعر (2)
رؤوسهم، وذلك يكون في الرأس كما قال أبو بكر رضي الله عنه في إقامة الحد:
اضربوا الرأس فان الشيطان في الرأس.
(3) قال: ولا تقتلن مولودا.
وما من أحد إلا وهو مولود، لكن المراد هو الصبى. سماه مولودا
لقرب عهده بالولادة. والمراد به إذا كان لا يقاتل. فسره في الطريق الآخر
فقال: لا تقتلن صغيرا ضرعا.
(4) قال: ولا امرأة.
والمراد به إذا كانت لا تقاتل، على ما روى أن النبي عليه السلام مر
بامرأة مقتولة فقال: " هاه، ما كانت هذه تقاتل، أدرك خالدا فقل له:
لا تقتلن ذرية ولا عسيفا " (3).
(5) قال: ولا شيخنا كبيرا.
وفى رواية فانيا. يعنى إذا كان لا يقاتل، ولا رأى له في ذلك، فأما
إذا كان يقاتل أو يكون له رأى في ذلك فإنه يقتل، على ما روى عن النبي عليه
السلام أمر بقتل دريد بن الصمة. وكان ذا رأى في الحرب، فأشار عليهم أن
يرفعوا الظعن إلى علياء بلادهم، وأن يلقى الرجال العدو بسيوفهم على متون
الخيل. فلم يقبلوا رأيه، وقاتلوا مع أهاليهم، وكان ذلك سبب انهزامهم.
وفيه يقول (23 ب) دريد بن الصمة:
أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد حتى ضحى الغد



(1) سورة التوبة، 29، الآية 12.
(2) ب، أ، ط " شؤون " أثبتنا رواية ه‍. وفى القاموس " الشؤون موصل قبائل الرأس ".
(3) العسيف الأجير (القاموس).
42
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى (1)
غوايتهم وأنني غير مهتد
فلما كان ذا الرأي في الحرب قتله النبي عليه السلام.
(6 - 8) قال: ولا تعقرن شجرا بدا ثمره، ولا تحرقن نخلا
ولا تقطعن كرما.
وبظاهر الحديث استدل الأوزاعي فقال: لا يحل للمسلمين أن يفعلوا
شيئا مما يرجع إلى التخريب في دار الحرب، لان ذلك فساد، والله لا يحب
الفساد، واستدل بقوله تعالى {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك
الحرث والنسل} (2)، ولما روى في حديث على رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذا في وصاياه لأمراء السرايا.
ذكر أبو الحسن الكرخي الحديث بطوله وقال فيه: إلا شجرا يضركم،
أي يحول بينكم وبين قتال العدو.
واستدل أيضا بما روى في الحديث: أوحى الله تعالى إلى نبئ من
أنبيائه: من أراد أن يعتبر بملكوت الأرض فلينظر إلى ملك آل داود وأهل
فارس. فقال ذلك النبي: أما أهل داود فهم أهل لما أكرمتهم به فمن أهل
فارس؟ فقال: إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي.
وإذا تبين أن السعي في العمارة محمود تبين أن السعي في التخريب (3)
مذموم. ولكنا نقول: لما جاز قتل النفوس، وهو أعظم حرمة (4) من هذه
الأشياء لكسر شوكتهم فما دونه من تخريب البنيان وقطع الأشجار لان يجوز
أولى (5).



(1) ط " رأى ".
(2) سورة البقرة، 2، الآية 205.
(3) ه‍، ط " الخراب ".
(4) لا توجد في ه‍، ط.
(5) ط، ه‍ " لئن يكون مأذونا فيه أولى ".
43
وبيان هذا في قوله تعالى {ولا يطئون موطئا يغيط الكفار ولا ينالون
من عدوه نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} (1).
وتأويل حديث أبي بكر ما أشار إليه محمد رحمه الله في " الكتاب " بعد هذا:
أنه علم بإخبار النبي عليه السلام أن الشام تفتح وتصير للمسلمين،
فنهاهم عن التخريب وقطع الأشجار.
على ما بينه بعد هذا. وهو تأويل الحديث المروى عن النبي عليه السلام
أيضا. ألا ترى أنه نصب المنجنيق على حصن ثقيف وفيه من التخريب
مالا يخفى.
(9 - 10) قال: ولا تذبحن بقرة ولا شاة، ولا ما سوى ذلك
من المواشي إلا لاكل.
لما روى أن النبي عليه السلام نهى عن ذبح الحيوان إلا لاكله. وفى
الحديث دليل على أنه يجوز للغانمين تناول الطعام والعلف في دار الحرب،
وأن ذبح المأكول للاكل من هذه الجملة.
ثم محمد رحمه الله أعاد هذا الحديث بطريق آخر وزاد في آخره:
ولا تغلن.
وفيه بيان حرمة الغلول، وهو اسم لاخذ بعض الغانمين شيئا من الغنيمة
سرا لنفسه سوى الطعام والعلف. وذلك حرام. قال الله تعالى {ومن يغلل
يأت بما غل يوم القيامة} (2) وقال عليه السلام: " الغلول من جمر جهنم ".



(1) سورة التوبة، 9، الآية 120.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 161.
44
قال: ولا تجبنن.
وهذا لقوله تعالى {ولا تهنوا} (1) أي ولا تضعفوا عن القتال وإظهار
الغزاة الجبن لضعفهم عن القتال.
قال: ولا (24 آ) تفسدن ولا تعصين.
قيل معناه ولا تعصيني فيما أمرتك به، ففائدة الوصية إنما تظهر بالطاعة.
وقيل معناه: إن كنت تطلب النصرة من الله تعالى فلا تعصيه.
36 - ثم أعاد محمد رحمه الله الحديث بطريق ثالث برواية
عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي قال:
لما جهز أبو بكر رضي الله عنه الجيوش بعد رسول الله صلى الله
عليه وسلم - وهي جيوش على بعضها أمر شرحبيل بن حسنة، وعلى
بعضها يزيد بن أبي سفيان، وعلى بعضها عمرو بن العاص، رضوان الله
عليهم - وأمرهم بأن يخرجوا ويجتمعوا في بيار شرحبيل، وهي على
ستة أميال من المدينة.
وفيه دليل على أن الامام إذا أراد أن يجهز جيشا ينبغي له أن يأمرهم بأن
يعسكروا خارجا من البلدة في موضع معلوم ليجتمعوا فيه، لان ارتحالهم من ذلك
الموضع بعدما اجتمعوا فيه أيسر من ارتحالهم من بيوتهم جملة.
ثم أتاهم أبو بكر رضي الله عنه، وصلى بهم الظهر، ثم قام فيهم



(1) سورة آل عمران، 3، الآية 139.
45
فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إنكم تنطلقون إلى أرض الشام وهي
أرض سبعة (بالسين).
وفسروه بكثرة السباع المؤذية فيها، وهو تصحيف شبعة أي كثيرة
النعم بها يشبع المرء من كثرة ما يرى من النعم، فكأنه رغبهم في التوجيه إليها
فقال إنكم تنتقلون من الجوع واللأواء بالمدينة إلى مثل هذه الأرض المخصبة.
قال: وإن الله ناصركم، وممكن لكم حتى تتخذوا فيها مساجد
فلا يعلم الله أنكم إنما تأتونها تلهيا.
وإنما قال ذلك سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنه قد جاء
في حديث معروف عن النبي عليه السلام قال: " إنكم ستظهرون على كنوز
كسرى وقيصر " وبهذا يتبين أنه إنما نهاهم عن التخريب وقطع الأشجار لعلمه
أن ذلك كله يصير للمسلمين. وإنما كره لهم أن يأتوها تلهيا لانهم خرجوا
للجهاد، والجهاد من الدين. قال الله تعالى {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا} (1)
قال: وإياكم والأشر! ورب الكعبة لتأشرن.
والأشر نوع طغيان يظهر لمن استغنى. قال الله تعالى {إن الانسان ليطغى.
أن رآه استغنى} (2). فلهذا أقسم أبو بكر رضي الله عنه أنهم يبتلون بذلك
لكثرة ما يصيبون من الأموال مع نهيه إياهم عن ذلك.
ثم الحديث إلى آخره مذكور في الأصل، إلى أن قال:
ثم إذا أنا انصرفت من مقامي هذا فاركبوا ظهوركم، ثم صفوا
إلى صفا واحدا حتى آتيكم.
وهكذا ينبغي للامام أن يفعل إذا عرض الجيش.



(1) سورة الأنعام، 6، الآية 70.
(2) سورة العلق، 96، الآية 6، 7.
46
قال: فمر على أولهم حتى أتى على آخرهم، يسلم عليهم ويقول: اللهم
اقبضهم بما قبضت به بني إسرائيل (24 ب) بالطعن والطاعون. انطلقوا
موعدكم الله.
[وتأويل قوله هذا أنه حثهم على أن يخرجوا لا على قصد الرجوع،
فان تسليم النفس لابتغاء مرضاة الله به يتم، ودعا لهم بالشهادة في قوله:
" اللهم اقبضهم بما قبضت به بني إسرائيل "] (1).
[وقيل] (2) مراده ما قال رسول الله عليه السلام: " فناء أمتي بالطعن
والطاعون ". وقد كان يكثر ذلك بالشام. فسأل أبو بكر رضي الله عنه لهم
درجة الشهادة إن ابتلوا (3) بذلك.
فيه دليل على أنه لا بأس للانسان أن يدعو لغيره (4) بالشهادة لأنه
وإن كان دعاء بالموت صورة فهو دعاء بالحياة معنى.
وبين أبو بكر أن هذا آخر العهد بلقائهم. فأما إن كان مراده الاخبار
يقرب أجله، أو الاخبار بأنهم لا يرجعون إليه فإنه لا يلقاهم قبل القيامة.
قال: فانطلقوا حتى نزلوا بالشام. وجمعت لهم الروم جموعا عظيمة
من مدائن الشام. فحدث بذلك أبو بكر رضي الله عنه. فأرسل إلى
خالد بن الوليد، وهو بالعراق، أن اصرف (5) بثلاثة آلاف فارس
فأمد بهم إخوانك (6) بالشام. ثم قال: العجل العجل. فوالله لقرية
من قرى الشام أحب إلي من رستاق عظيم من العراق.



(1) هذه الزيادة ساقطة في ب.
(2) ساقطة من ب، أ.
(3) قوله " ان ابتلوا " ساقط في ه‍.
(4) أ " غيره ".
(5) ه‍، ط " انصرف ".
(6) أ " إخوانكم ".
47
وهكذا ينبغي للامام أنه إذا بلغه كثرة جمع الأعداء (1) على جيش من
المسلمين أن يمدهم ليتقووا به، وأن يحث المدد على التعجيل ليحصل المقصود
بوصولهم إليهم قبل أن ينهزموا. فالمنهزم لا يرده شئ.
وإنما قدم أبو بكر الشام على العراق لان الشام بلدة مباركة لأنه موضع
المرسلين.
قال: فأقبل خالد مغذا جوادا بمن معه (2).
يريد بقوله مغذا أي مسرعا منقادا لما أتى من أمر الخليفة، يقال: أغذ
القوم إذا أسرعوا السير.
ثم شق الأرض حتى خرج إلى ضمير (3) وذنبة (4) فوجد المسلمين
معسكرين بالجابية (5).
قال: فتسامع بخالد أعراب العرب الذين كانوا في مملكة الروم
ففزعوا له.
لأنه كان مشهورا بالجلادة. وقد سماه النبي عليه السلام سيف الله
وفى ذلك يقول قائلهم: شعر
ألا فاصبحينا (6) قبل خيل أبى بكر
لعل منايانا قريب وما ندري
وقصة هذا مذكورة في المغازي أن قائل هذا البيت كان رجلا من



(1) ب، أ " أعدائه ".
(2) قوله " بمن معه " ساقط من أ.
(3) قرية في آخر حدود دمشق مما يلي السماوة (ياقوت، معجم البلدان).
(4) موضع من أعمال دمشق (ياقوت، معجم البلدان).
(5) قرية، قرب مرج الصفر في حوران من أعمال دمشق (ياقوت، معجم البلدان).
(6) انظر البلاذري، فتوح البلدان، ص 132. وفيه ألا عللاني قبل جيش أبى بكر ".
48
عظماء المرتدين أتته جاريته بقصعة فيها شراب. فأسند ظهره إلى حائط وذكر
هذا البيت. ثم جعل يشرب، فاتفق أن رجلا من أصحاب خالد تسور الحائط (1)
فلما سمع (2) ضرب على عاتقه ضربة ندر (3) منها رأسه في القصعة.
قال: فنزل خالد بن الوليد على الامراء الثلاثة. وسارت الروم
من أنطاكية وحلب وقنسرين وحمص وحماة. وخرج هرقل كارها
لمسيرهم متوجها نحو أرض الروم. وسار باهان في الهرمينية (4) إلى الناس
بمن كان معه. وهرقل ملك الروم، وباهان صاحب جيشه.
فتبين أنهم اجتمعوا عن آخرهم.
واجتمع أمراء المسلمين في خباء يبرمون أمر الحرب بينهم،
وعندهم رجل يقال له قضاعة قد بعثوه فاجتس لهم أمر القوم، ثم جاءهم
فخلوا به.
أي بعثوه جاسوسا. وهكذا ينبغي لأمير الجيش أن يبعث (25 آ)
جاسوسا يأتيه بما يعزم عليه العدو من الرأي، وأن يخلو به إذا رجع لكيلا
يشتهر هو، ولكيلا يقف جميع الجيش على ما قصده العدو، فلا يصير ذلك
سببا لجبنهم.
قال: فأقبل أبو سفيان يتوكأ على عصاه، فقال: السلام عليكم.
فقالوا: وعليك السلام. لا تقربنا.



(1) ط " فاتفق أن تسور رجل من المسلمين الحائط وضرب ".
(2) قوله " فلما سمع " ساقط من ط، ه‍.
(3) ا، ب، ط " بدر " وندر معناه سقط (القاموس).
(4) ه‍ " الهزمنية ".
م - 4 السير الكبير
49
وإنما قالوا ذلك لانهم كانوا يتهمونه بأنه لم يحسن إسلامه.
فقال أبو سفيان: ما كنت أرى أن أعيش حتى أكون بحضرة
قوم من قريش يبرمون أمر حربهم وأنا بينهم ولا يحضروني أمرهم.
وإنما قال هذا لأنه كان مشهورا بينهم بالرأي في الحرب.
فقال بعضهم: هل لكم في رأى شيخكم، فإن له رأيا في الحرب.
قالوا: نعم. فدعوه فدخل. فقالوا: أشر علينا. فقال أبو سفيان:
أنتم الامراء. فقالوا: ما بنا غنى عن رأيك. فقال أبو سفيان: كأني
أرى في المرج تلا عظيما. قالوا: بلى. قال: فإني أرى أن ترتحلوا حتى
تجعلوا ذلك التل خلف ظهوركم، ثم تؤمروا عكرمة بن أبي جهل
على خيل، وتجعلوا معه كل نابض بوتر - أم رام عن قوس. فإن
لي به خبرا - أي علما بأنه يصلح لذلك - فإذا نادى بلال النداء
الأول لصلاة الغداة فليخرج عكرمة، وتلك الرماة معه، فليصف
أولئك الرماة عند صدور خيولهم، فإن هاجهم هيج من الليل كانوا
مستعدين بإذن الله تعالى.
وهذا رأى حسن أشار به عليهم، وقد كان فعله رسول الله عليه السلام
يوم أحد، وكان سببا لانهزام المشركين لولا ما ظهر من عصيان الرماة وهو
طلبهم الغنيمة، على ما قال الله تعالى (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر؟
وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون) (1).



سورة آل عمران، 3، الآية 152.
50
قال: فقبلوا ذلك من رأى أبى سفيان لعلمهم بأنه قد نصحهم،
وأقبلت خيل من الروم عظيمه تريد بياتهم. فسمعوا رغاء الإبل، فلم
يشكوا أن العرب قد هربت وأقبلوا عباديد (1).
أي متفرقين. يقال: طير عباديد إذا كانوا متفرقين.
وسابق بعضهم بعضا من غير تعبية، فوجدوا خيل عكرمة
والرماة مستعدين لم تعلم الروم بهم. فحملوا في وجوه القوم، فلم يزل الله
ينصرهم بقتلهم، حتى إذا (2) كادت الشمس تطلع ولوا هاربين إلى عسكرهم
عند الواقوصة. وانصرف عكرمة وأصحابه إلى عسكر المسلمين. فكان
ذلك أول الفتح.
ثم قاتلوهم بعد ذلك، فأرسل باهان إلى خالد بن الوليد أن اخرج
إلى حتى أكلمك. فبرز خالد وبينهما ترجمان. فقال باهان لخالد: هلم
إلى أمر نعرضه عليكم: تنصرفون ونحمل من كان منكم راجلا ونوقر
لكم ظهوركم. وفى رواية: ونوقر لكم طعاما وأداما، والأول
أصح ونأمر لكم بدنانير خمسة خمسة، فإنا نعلم أنكم في أرض
قليله الخير، وإنما حملكم على المسير ذلك (3). فقال له خالد: ما حملنا
على المسير ما ذكرت من شدة العيش في بلادنا، ولكن قاتلنا من



(1) ط " عناديد " ب، أ " عباديل " والصحيح رواية ه‍. وفى القاموس " العباديد الفرق
من الناس والخيل، الذاهبون في كل وجه ".
(2) ساقطة من ه‍.
(3) في ه‍ وحدها زيادة بعد ذلك " قلة خير بلدكم ".
51
وراءنا في الأمم فشربنا دماءهم، فحدثنا أنه ليس من قوم أحلى دما من
الروم، فأقبلنا إليكم لنشرب دماءكم. فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا:
حق والله ما حدثنا عنهم يعنون ما أخبرنا به أنهم لا ينصرفون
إلا بقبول الدين أو الجزية أو الانقياد لهم شئنا أو أبينا.
37 ثم استدل محمد رحمه الله على جواز قطع النخيل وتخريب
البيوت في دار الحرب بقوله تعالى (ما قطعتم من لينه) (1) الآية.
قال الزهري: هو جميع أنواع النخل ما خلا العجوة.
وقال الضحاك: اللينة النخلة الكريمة؟ والشجرة التي هي طيبة الثمرة.
ونزول الآية في قصه بنى النضير، فإن النبي عليه السلام حين قدم
المدينة صالحهم على أن لا يكونوا عليه ولا له. ثم خرج إليهم يستعين بهم
في دية الكلابيين اللذين (2) قتلهما عمرو بن أمية الضمري، ومعه أبو بكر
وعمر وعلى رضوان الله عليهم. فقالوا: اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك
ونعطيك ما تريد. ثم خلا بهم حيى (3) بن أخطب فقال: لا تقدرون على
قتله في وقت يكون عليكم أهون منه الآن. فهموا بقتل (4) رسول الله عليه
السلام. وجاء جبريل عليه السلام فأخبر بذلك رسول الله عليه السلام. فقام
توجها إلى المدينة. وفى ذلك نزل قوله تعالى (إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم
أيديهم فكف أيديهم عنكم) (5). ثم سار إليهم فحاصرهم وقال: اخرجوا
من جواري، على أن تأتوا كل عام فتجدوا ثماركم. فقالوا: لا نفعل. فحاصرهم
خمس عشرة ليلة. وكانوا قد سدوا دروب أزقتهم، وجعلوا يقاتلون المسلمين



(1) سورة الحشر، 59، الآية 5.
(2) ب، أ " الذين ".
(3) ط " أحي "، أ " حي ".
(4) ط " بقتله ".
(5) سورة المائدة، 5، الآية 11.
52
من وراء الجدر، كما قال الله تعالى {لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة
أو من وراء جدر} (1). فجعل المسلمون يخربون بيوتهم ليتمكنوا من الحرب.
وكلما نقبوا جدار بيت من جانب ليدخلوا نقبوا هم من الجانب الآخر ليخرجوا
إلى بيت آخر، كما قال الله تعالى {تخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} (2).
فلما لحقهم من العسر ما لحقهم، ولم يأتهم أحد من المنافقين، وقد كانوا
وعدوا لهم ذلك - أي المنافقين وعدوا بنى النضيرة النصرة، كما قال الله تعالى
حكاية عنهم {وإن قوتلتم لننصرنكم} (3).
وقد كان أمر رسول الله بقطع النخيل فقطعت. وكان العذق (4) أحب
إلى أحدهم من الوصيف (5). فقال بعضهم لبعض: ليس لنا مقام بعد
النخيل. فنادوه. يا أبا القاسم، قد كنت تنهى عن الفساد فما للنخيل تقطع
وتحرق؟ أتؤمننا على دمائنا وذرارينا وعلى ما حملت الإبل إلا الحلقة - يعنى
السلاح -؟ قال: نعم. ففتحوا الحصون، وأجلاهم على ما وقع الصلح عليه.
وفى رواية: استعمل رسول الله عليه السلام أبا ليلى المازني وعبد الله
ابن سلام أبا لبابة (6) على قطع نخيلهم. وكان أبو ليلى يقطع العجوة (7).
وعبد الله يقطع اللون (8). فقيل لأبي ليلى لم قطعت العجوة؟ قال: لأنها
كانت أغيظ لهم. وقيل لابن سلام: لم قطعت اللون؟ قال: علمت أن الله
مظهر نبيه ومغنمه أموالهم، فأحببت إبقاء العجوة وهي خيار أموالهم. ففي ذلك
نزل قوله تعالى {ما قطعتم من لينة}. الآية.
وفى رواية: نادى اليهود من فوق الحصون: تزعمون أنكم مسلمون
لا تفسدون (26 آ)، وأنتم تعقرون النخل، والله ما أمر بهذا، فاتركوها



(1) سورة الحشر، 59، الآية 14.
(2) سورة الحشر، 59، الآية 2.
(3) سورة الحشر، 59، الآية 11.
(4) العذق: النخلة بحملها (القاموس) وفى أ " الغدر ".
(5) ط " الوضيف ".
(6) ساقط من ب، أ.
(7) العجوة بالحجاز التمر المخشى، ونوع من التمر بالمدينة (القاموس).
(8) اللون جماعة النخل واحدتها لونة ولينة، أو أردأ التمر (القاموس).
53
لمن يغلب من الفريقين. فقال بعض المسلمين: صدقوا. وقال بعضهم: بل
نعقرها كبتا وغيظا لهم. فأنزل الله تعالى {ما قطعتم من لينة} رضاء (1) بما قال
الفريقان.
38 - واستدل بحديث أسامة بن زيد أن النبي عليه السلام كان
عهد أن يغير على أبنى، (2) صباحا ثم يحرق.
وفى رواية: أبيات صباحا. وهو اسم موضع كان قتل أبوه زيد بن
حارثة في ذلك الموضع. ووجد رسول الله عليه السلام موجدة شديدة على ذلك،
وأمره على ثلاثة آلاف رجل، وأمره (3) أن يذهب بهم إلى ذلك الموضع
ويشن الغارة عليهم ثم يحرق. وقبض رسول الله عليه السلام قبل خروجه،
ونفذ أبو بكر رضي الله عنه جيشه كما أمر به رسول الله عليه السلام.
39 - وعن الزهري أن النبي عليه السلام لما مر من أوطاس (4)
يريد الطائف بدا له قصر مالك بن عوف النصري (5)، فأمر به أن
يحرق. وفي ذلك قال حسان.
وهان على سراة بنى لؤي * حريق بالبويرة (6) مستطير
قال محمد رحمه الله: فقد أمر بتحريق قصره وليس بمحاصر له،



(1) ه‍ " رضى لما ".
(2) موضع بالشام من جهة البلقاء (ياقوت، معجم البلدان).
(3) ه‍ " وامرأة ".
(4) أوطاس واد في ديار هوزان كانت فيه وقعة حنين (ياقوت، معجم البلدان).
(5) ب، أ، ط، " النضري " والصواب النصري. انظر هو المشتبه للذهبي.
(6) البويرة موضع منازل بنى النضير اليهود (ياقوت، معجم البلدان) وفى ط " النويرة "
أ " النريرة " وهو خطأ.
54
وإنما أمر به لان فيه كبتا وغيظا له. فقد كان هو أمير الجيش في حصن
الطائف. فعرفنا أنه لا بأس به.
40 - ثم قال: ثم انتهى رسول الله عليه السلام إلى الطائف،
فأمر بكرومهم أن تقطع.
وفى ذلك قصة قد ذكرت في المغازي أنهم عجبوا من ذلك وقالوا:
النخلة (1) لا تثمر إلا بعد عشر سنين، وكيف العيش بعد قطعها؟ ثم أظهر
بعضهم الجلادة، فنادوا من فوق الحصن: لنا في الماء والتراب والشمس
خلف مما تقطعون. فقال بعضهم: هذا إن لو تمكنت من الخروج جحرك.
وأمر رسول الله عليه السلام بقطع نخيل خيبر. حتى مر عمر رضي الله عنه
بالذين يقطعون، فهم أن يمنعهم، فقالوا: أمر به رسول الله عليه السلام.
فأتاه عمر رضي الله عنه فقال: أنت [أمرت] (2) بقطع النخيل؟ قال: نعم.
قال: أليس وعدك الله خيبر؟ قال: بلى. فقال عمر: إذا تقطع نخيلك ونخيل
أصحابك،. فأمر مناديا ينادى فيهم بالنهي عن قطع النخيل.
قال الراوي: فأخبرني رجال رأوا السيوف في نخيل النطاة وقيل لهم:
هذا مما قطع رسول الله عليه السلام.
والنطاة اسم حصن من حصون خيبر. وقد كانت لهم ستة حصون:
الشق، والنطاة، والقموص، والكتيبة (3) والسلالم (4)، والوطيحة (5).
41 - قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى



(1) ب، أ " الحبلة ". والحبلة بالضم الكرم (القاموس).
(2) من ط، ه‍.
(3) ط " الكنيسة "، ه‍ " الكسسة " وهما خطأ. انظر ياقوت مادة الكتيبة.
(4) ط " الملاليم "، ه‍ " السلالة " وهما خطأ. انظر ياقوت مادة السلالم.
(5) كذا وردت في الأموال لأبي عبيد. وعند ياقوت والبلاذري " الوطيح ".
55
خليفته بالشام: انظر من قبلك، فمرهم فلينتعلوا (1) وليحتفوا.
أي يمشوا أحيانا بغير نعل، وأحيانا في النعال ليتعودوا ذلك كله.
وفى رواية: فليتنعلوا (2). وهو صحيح. جاء في الحديث: كان
رسول الله عليه السلام يجب التيامن حتى في تنعله وترجله. يعنى ترجيل الشعر.
والمراد بالترجل النزول عن الدابة. وإنما أمرهم بهذا للاشفاق عليهم حتى
إذا (26 ب) ابتلوا بالمشي حفاة في دار الحرب لا يشق عليهم.
وفى قصة الغار قال أبو بكر رضي الله عنه: فنظرت إلى بطن قدم
رسول الله عليه السلام حين دخل الغار وهو يقطر دما. لأنه لم يتعود الحفية.
ولهذا استحبوا الاحتفاء في المشي بين الفرضين (3).
قال: وليأتزروا وليرتدوا.
أي لا يخرجوا للصلاة وللناس إلا في إزار ورداء. فالصلاة إن كانت
تجرى في ثوب واحد إذا توشح به، فالمستحب أن يصلى في إزار ورداء. وإنما
أمر بالرداء لأنه زي العرب.
قال: وليؤدبوا الخيل.
والمراد به رياضة الخيل لتكون ألين عطفا عند الحاجة، أو ليؤدبوا
الخيل على النفار، على ما جاء في الحديث: " تضرب الدابة على النفار
ولا تضرب على العثار ". لان العثار قد يكون من سوء إمساك الراكب للجام،
والنفار من سوء خلق الدابة فتؤدب على ذلك.
قال: ولا يظهر (4) لهم صليب.



(1) ط " فليشتغلوا ".
(2) ب " فلينتعلوا ".
(3) ب، أ، ه‍ " العرضين ".
(4) ب، أ، ط، ه‍ " يقر ".
56
معناه لا تمكنوا أهل الذمة من إظهار الصليب في أمصار المسلمين والمرور
به في الطرق، لان ذلك يرجع إلى الاستخفاف بالمسلمين، وما أعطيناهم الذمة
على أن يستخفوا بالمسلمين.
قال: ولا يجاورنهم الخنازير.
ومعناه أنهم يمنعون أهل الذمة من إظهار الخمور والخنازير وبيعها في
أمصار المسلمين لان ذلك معصية، ولا يتمكنون من إظهارها، ولكنهم
لا يمنعون من أن يفعلوا ذلك في بيوتهم وكنائسهم التي وقع الصلح عليها،
لان هذا ليس بأشد من شركهم وعبادتهم غير الله. ولا يمنعون من ذلك
في بيوتهم.
قال: ولا يقعدون على مائدة يشرب عليها الخمر.
وهكذا ينبغي للمسلم أن لا يقعد على مثل هذه المائدة، ولكنه يمنع
من شرب الخمر على وجه النهى عن المنكر إن أمكن من ذلك. وأن لا يجوز
من ذلك الموضع، فان اللعنة تنزل عليهم كما قال عليه السلام في أشراط الساعة
" تدار الكاس على موائدهم واللعنة تنزل عليهم ".
قال: ولا يدخلن الحمام إلا بإزار.
لان ستر العورة فريضة. وفى الحديث: " من كان يؤمن بالله وباليوم
الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ولا يدخل (1) حليلته الحمام ".
قال: وإياكم وأخلاق الأعاجم.
يعنى في التنعم وإظهار التجبر، ومما يكون مخالفا لأخلاق المسلمين من
أخلاق الأعاجم وهم المجوس. فقد علمنا أنه لم يرد النهى عما هو من أخلاق المسلمين.



(1) ط " تدخل ".
57
ثم بين محمد رحمه الله تفسير الحديث على ما بينا وقال في آخره:
فإن أرادوا إظهار شئ مما ذكرنا فليفعلوه خارجا من أمصار
المسلمين.
يعنى في القرى، لان المصر موضع أعلام الدين ففي إظهار (1) ذلك
فيها استخفاف بالمسلمين، وذلك ينعدم في القرى. فأهل القرى كما
وصفهم به رسول الله عليه السلام فقال: " هم أهل الكفور، هم أهل
القبور ". يشير إلى جهلهم وقلة تعاهدهم لأمر الدين.
قال الشيخ الامام شمس الأئمة (27 آ) رحمه الله: والصحيح عندي
أن مراد محمد بهذا الجواب قرى الكوفة، فان عامة أهلها (2) أهل الذمة
والروافض. فأما في ديارنا يمنعون من إظهار ذلك في القرى التي يسكنها المسلمون
كما يمنعون في الأمصار، فان القرى في ديارنا لا تخلو عن مساجد الجماعة،
وعن واعظ يعظهم عادة، وذلك من أعلام الدين أيضا.
42 - وذكر عن أبي أسيد الساعدي أن النبي عليه السلام قال
يوم بدر: إذا كثبوكم فارموهم، ولا تسلوا السيوف حتى تغشوهم.
ومعنى قوله كثبوكم قربوا منكم وازدحموا عليكم. وهو أدب حسن
أمرهم بأن يدفعوا العدو عن أنفسهم بالرمي عند الحاجة. وهذا حين كان نهاهم
عن القتال، على ما روى في القصة أنه حين دخل العريش مع أبي بكر رضي الله عنه
للمناجاة نهى الناس عن القتال وقال هذه المقالة.



(1) ط " اجهار ".
(2) ط " فعامتها ".
58
وفى قوله: ولا تسلوا السيوف حتى تغشوهم، بيان أنه لا ينبغي للغازي
أن يسل سيفه حتى يصير من العدو بحيث تصل إليه ضربته، لا أن ذلك مكروه
في الدين، ولكنه من مكايدة العدو، فبريق السيف مخوف للعدو في أول ما يقع
بصره عليه.
وقيل إن سل السيف قبل أن يقرب من العدو فشل. قال الله تعالى
{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (1).



(1) سورة الأنفال، 8، الآية 46.
59
3 [باب الامارة]
43 - قال: ينبغي للامام إذا بعث سرية قلت أو كثرت أن
لا يبعثهم حتى يؤمر عليهم بعضهم.
وإنما يجب هذا اقتداء برسول الله عليه السلام فإنه داوم على بعث السرايا
وأمر عليهم (1) في كل مرة. ولو جاز تركه لفعله مرة تعليما للجواز، ولأنهم يحتاجون
إلى اجتماع الرأي والكلمة، وإنما يحصل ذلك إذا أمر عليهم بعضهم حتى إذا
أمرهم بشئ أطاعوه في ذلك، فالطاعة في الحرب أنفع من بعض القتال.
ولا تظهر فائدة الامارة بدون الطاعة. قال عليه السلام: " من أطاعني فليطع
أميري، ومن عصى أميري فقد عصاني ".
44 - ثم استدل محمد (2) رحمه الله على ما قلنا بحديث عبد الرحمن
ابن عوف رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: إذا اجتمع ثلاثة
نفر فليؤمهم أكثرهم قرآنا وإن كان أصغرهم. وإنما قدمه لأنه أفضلهم
ثم قال: إذا (3) أمهم فهو أميرهم، فذلك أمير أمره رسول الله
عليه السلام.
وبنحو هذا الحديث استدل الصحابة على خلافة أبى بكر رضي الله عنه



(1) ه‍ " عليه ".
(2) ساقطة من ط.
(3) قوله " ثم قال إذا " ساقط من ه‍، وسقط من ط " ثم قال ".
60
وقالوا: قد اختاره رسول الله لأمر دينكم فكيف لا ترضون [به] (1)
لأمر دنياكم
وكذلك إن كانا رجلين ليس معهما غيرهما فالأفضل ان يؤمر أحدهما
على صاحبه، لان ذلك أحرى أن يتطاوعا ولا يختلفا.
45 - وذكر محمد رحمه الله في الكتاب حديث سلمان (2)
ابن عامر:
أن النبي عليه السلام كان في بعض أسفاره، فأسرى من تحت
الليل - أي سار - فتقطع الناس - أي تفرقوا - في غلبة النوم.
فمالت راحلتا أبى بكر (27 ب) وأبى عبيدة رضي الله عنهما بهما إلى
شجرة فجعلتا تصيبان منها وهما نائمان، فاستيقظا وقد مضى النبي
عليه السلام وأصحابه ونزلوا. فلما كانا بحيث يسمعهما النبي ناداهما:
ألا هل أمرتما؟ قالا: بلى يا رسول الله. فقال: ألا رشدتما (3) - أي
أصبتما الصواب -.
وكذلك المسافرون إذا خافوا اللصوص فينبغي لهم أن يؤمروا
عليهم أميرا ليطيعوه ويصدروا عن رأيه عند الحاجة إلى القتال، فأما إذا
لم يخافوا ذلك فلا بأس بأن لا يؤمروا أحدا.
قال: وينبغي أن يستعمل على ذلك البصير بأمر الحرب، الحسن



(1) الزيادة من ط، ه‍.
(2) ط " سليم " ه‍ " سلمان " ب " سليمان ". أنظر تهذيب التهذيب 4: 137.
(3) ه‍ " أرشدتما ".
61
التدبير لذلك، ليس ممن يقحم (1) بهم في المهالك، ولا ممن يمنعهم عن
الفرصة إذا رأوها، لان الامام ناظر لهم، وتمام النظر أن يؤمر عليهم
من جربه بهذه (2) الخصال، فإنه إذا كان يمنعهم من الفرصة يفوتهم
ما لا يقدرون على إدراكه على ما قيل: الفرصة خلسة. وإذا اقتحم
في المهالك من جرأته لم يجدوا بدا من متابعته، ثم يخرج هو بقوته (3)
وربما لا يقدرون على مثل ما قدر هو فيهلكون (4).
46 - وروى في تأييد هذا حديث عمر رضي الله عنه فإنه كان
يكتب إلى عماله: لا تستعملوا البراء بن مالك على جيش من جيوش
المسلمين فإنه هلكة من الهلك يقدم بهم.
والبراء أخو أنس بن مالك رضي الله عنهما كان من جملة كبار صحابة
رسول الله في الزهد. وفى (5) درجته ما قال رسول الله عليه السلام: " رب
أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك ".
وقد روى أن الامر اشتد على المسلمين في بعض الغزوات فقيل للبراء
ابن مالك: ألا تدعو؟ وقد قال رسول الله عليه السلام ما قال. فرفع يديه
وقال: اللهم امنحنا أكتافهم. فولوا منهزمين في الحال.
ومع هذا نهى عمر رضي الله عنه عن تأميره لجرأته فإنه كأنه يقتحم المهالك
ولا يبالي به.



(1) ه‍ " يقتحم ".
(2) ب " هذه ".
(3) ه‍ " لقوته ".
(4) ط " على مثله فيهلكوا ".
(5) ط، ه‍ " من ".
62
ويحكى عن نصر بن سيار مقرب البرامكة الذي أخرجه أبو مسلم عن
مرو أنه قال: اجتمع عظماء العجم على أن من كان صاحب جيش فينبغي
أن يكون فيه عشر الخصال من خصال البهايم: شجاعة كشجاعة الديك،
وتحنن كتحنن (1) الدجاجة يعنى الشفقة، وقلب كقلب الأسد، وغارة
كغارة الذئب، وحملة كحملة الخنزير، وصبر كصبر الكلب - أي على
الحيل -، وحرص كحرص الكركي، وروغان كروغان الثعلب - أي
الحيل، وحذر كحذر الغراب، وسمن كسمن الدابة التي لا ترى مهزولة
أبدا، وهي تكون بخراسان.
47 - قال محمد رحمه الله: فإن كان الأمير لا بصر له بذلك فليجعل
معه وزيرا يبصره ذلك. قال الله تعالى {واجعل لي وزيرا من أهلي.
هارون أخي. اشدد به أزرى. الآية (2)}. فإن لم يجعل معه وزيرا فليدع
الأمير قوما من السرية يبصرون ذلك فيشاورهم فيأخذوا بقوله، لان
النبي عليه السلام كان يشاور الصحابة حتى في قوت أهله وإدامهم،
وبذلك أمر. قال الله تعالى (28 آ) {وشاورهم في الامر} (3). وقال
النبي عليه السلام: ما هلك قوم عن مشورة.
قال: ثم يأمر الناس بذلك فيطيعونه ولا يخالفونه لقوله عليه
السلام: " لا تحل الجنة العاص ". أمر بأن ينادى به يوم خيبر حين
نهاهم عن القتال، فقيل له: استشهد فلان. فقال عليه السلام:



(1) ه‍ " تجبن كتجبن ".
(2) سورة طه، 20، الآية 29 وما بعدها.
(3) سورة آل عمران، 3، الآية 159.
63
أبعد ما نهيت عن القتال؟ قالوا: نعم. فقال: لا تحل الجنة لعاص.
فمع درجة الشهادة قال في حقه ما قال ليبين أن العصيان فيما لا يتيقن فيه
الخطأ من الأمير لا يحل بحال (1).



(1) قوله " بحال " ساقط من ه‍. وفيها بعد ذلك " والله أعلم بالصواب " ط " والله أعلم "
ب " والله الموفق " وقد ضرب عليها.
64
4 [باب مبعث السرايا]
48 - ذكر محمد رحمه الله حديث (1) صخر الغامدي أن النبي عليه
السلام قال: اللهم بارك لامتي في بكورهم. وكان إذا أراد أن يبعث
سرية بعثهم أول النهار.
فيه دليل على أن صاحب الحاجة ينبغي له أن (2) يبتكر (3) للسعي في
حاجته، فذلك أقرب إلى تحصيل مراده ببركة دعاء رسول الله عليه السلام.
وكان رسول الله يقول: البكرة رباح أو نجاح.
ولأجل هذا استحبوا الابتكار لطلب العلم. وقيل إنما ينال العلم ببكور
كبكور الغراب.
وفيه دليل على أن الامام إذا أراد أن يبعث سرية يندب (4) إلى أن
يبعثهم أول النهار.
وقد قيل: ينبغي أن يختار لذلك الخميس والسبت لما (5) روى عن
النبي عليه السلام أنه قال: " اللهم بارك لامتي في بكورها سبتها وخميسها ".



(1) ط " قال: ذكر عن صخر الغامدي " ه‍ " قال: ذكر محمد.. ".
(2) ساقطة من ه‍.
(3) ط، ه‍ " يتبكر ".
(4) ط، ه‍ " يندب ".
5 - ط، ه‍ " قال عليه السلام اللهم.. ".
م - 5 السير الكبير
65
49 - وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا قد
عقل راحلته. فقال: ما يحبسك؟ قال: الجمعة يا أمير المؤمنين. قال:
الجمعة لا تحبس مسافرا، فاذهب.
ففيه دليل على أنه لا بأس بالخروج يوم الجمعة للغزو أو للحج أو لسفر
آخر بخلاف ما يقوله بعض الناس من المتقشفة (1) أنه يكره الخروج يوم
الجمعة للسفر لما فيه من شبه الفرار عن أداء الجمعة (2)، لكنا نقول: الخروج
في سائر الأيام جائز من غير كراهة، وليس فيه فرار عن شطر الصلاة.
والخروج في رمضان جائز، فقد خرج رسول الله من المدينة إلى مكة لليلتين
خلتا من رمضان ولم يكن فيه شبه الفرار عن أداء الصوم. ثم لا شك أن الجمعة
غير واجبة عليه قبل الزوال، وهو مسافر بعد الزوال. ولا جمعة على المسافر،
فكيف يكون سفره فرارا عن واجب عليه؟. وكما يباح له الخروج قبل الزوال
يباح له الخروج بعد الزوال عندنا، خلافا للشافعي رحمه الله، فإنه يعتبر في
وجوب أداء العبادات المؤقت أول الوقت. وإذا كان هو مقيما في أول الوقت
وجب عليه أداء الجمعة على وجه لا يتغير بالسفر عنده (3). كما يجب أداء
الظهر في سائر الأيام على وجه لا يتغير بالسفر عنده.
فأما عندنا فالمعتبر آخر الوقت في حكم وجوب الأداء لا على وجه
لا يتغير. ولهذا لو كان مسافرا في آخر الوقت في سائر الأيام يلزمه صلاة
السفر. ففي هذا اليوم إذا كان يخرج من عمران مصره قبل خروج وقت الظهر
لا يجب عليه الجمعة، ولا بأس له بالمسافر لما قبر الزوال (28 ب). وإن
كان يعلم أنه لا يخرج من مصره حتى يمضى وقت الظهر فليشهد الجمعة،
لأنها تلزم (4) إذا كان في المصر في آخر الوقت، وليس له أن يخرج قبل أدائها.



(1) ط، " بخلاف ما تقول المتفقهة ".
(2) ط " الفرار عن الجمعة ".
(3) ساقطة من ط.
(4) ه‍ " يلزمه " ط " تلزمه ".
66
وفى الكتاب يقول (1):
لأنها فريضة عليه. وهذا التعليل على أصل
محمد، فأصل الفرض عنده في حق المقيم الجمعة. وقد بينا الاختلاف هذا
في كتاب الصلاة. وزفر رحمه الله لا يعتبر آخر الوقت، وإنما يعتبر حال
يضيق (2) الوقت بحيث لا يسع لأداء الجمعة بناء على أصله أن السببية للوجوب
تتعين في ذلك الجزء حتى لا يسع التأخير عنه. ولهذا قال: لا (3) تسقط
الصلاة باعتراض الحيض بعد ذلك. وكذلك إذا كان لا يخرج من مصره حتى
يضيق (4) الوقت فينبغي له أن يشهد الجمعة.
قال: وكان شيخنا الامام شمس الأئمة يقول: عندي في هذه المسألة
نوع إشكال، وهو أن اعتبار آخر الوقت إنما يكون فيما ينفرد هو بأدائه (5)
وهو سائر الصلوات، فأما الجمعة فلا ينفرد هو بأدائها بل مع الامام والناس.
فينبغي أن يلزمه شهود الجمعة. وهذه الشبهة تتقرر على أصل زفر
رحمه الله، فإنه يعتبر التمكن من الأداء، ولهذا يعين السبيبة في الجزء الذي
يتضيق عقبيه وقت الأداء. فأما عندنا فإنما تتعين السببية في آخر جزء
من أجزاء الوقت.
50 - قال: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله
عليه السلام: خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربع مئة، وخير
الجيوش أربعة آلاف، ولن (6) يغلب اثنا عشر ألفا من قلة إذا كانت
كلمتهم واحدة.



(1) ه‍ " وفى كتاب الصلاة لأنها..
(2) ط " تضييق ".
(3) ط " تسقط ".
(4) ب، أ " يتضيق ".
(5) ه‍، ط " وفى هذه المسألة بعض الاشكال عندي فإنه لا ينفرد بأداء الجمعة وإنما يستقيم
اعتبار آخر الوقت فيما ينفرد هو بأدائه.. ".
(6) ط " ولا تغلب ".
67
قيل معنى قوله خير الأصحاب أربعة يعنى خير أصحابي، فيكون إشارة
إلى الخلفاء الراشدين أنهم خير أصحابه.
وقيل بل المراد ما هو الظاهر، وهو دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمه الله
أن الجمعة تتأدى بثلاثة نفر سوى الامام، لان خير الأصحاب ما يتأدى الفرض
بمعاونتهم.
وفيه دليل على أن السرقة أقل من الجيش، وإنما سموا سرية لأنه يسرون
بالليل ويكمنون بالنهار لقلة عددهم. وسمى الجيش جيشا لأنه يجيش بعضه في
بعض لكثرة عددهم. ولم يرد به أن ما دون الأربعة لا يكون سرية،
وإنما مراده أنهم إذا بلغو أربعمائة فالظاهر من حالهم أنهم لا يرجعون من دار
الحرب قبل نيل المراد.
وقوله: ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة، دليل على أنه لا يحل للغزاة
أن ينهزموا وإن كثر العدو إذا بلغوا هذا المبلغ، لان من لا يغلب فهو غالب،
ولكن هذا إذا كانت كلمتهم واحدة. فقد كان المسلمون يوم حنين اثنى عشر
ألفا، ثم ولوا منهزمين كما قال الله تعالى {ثم وليتم مدبرين} (1)، ولكن
لم تكن كلمتهم واحدة، لاختلاط المنافقين والذين أظهروا الاسلام من أهل
مكة بهم يومئذ، ولم يحسن إسلامهم بعد.
فأما عند اتحاد الكلمة فلا يحل لهم الفرار، لأنه ثلاثة جيوش: أربعة
آلاف على الميمنة، وهم خير الجيوش، ومثل (29 آ) ذلك في المسيرة،
ومثل ذلك في القلب. وأدنى الجمع المتفق عليه يساوى أكثر الجمع في الحكم.
51 - وذكر عن رسول الله عليه السلام أنه قال: خير أمراء
السرايا زيد بن حارثة. أقسمه (2) بالسوية وأعدله (3) في الرعية.



(1) سورة التوبة، 9، الآية 25.
(2) ط " أقسمهم ".
(3) ط " أعدلهم ".
68
وزيد هذا مولى رسول الله عليه السلام. فقد كان لخديجة، وهبته
لرسول الله عليه السلام فأعتقه وتبناه إلى أن انتسخ حكم التبني فهو مولاه.
وفيه نزل قوله تعالى {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه} (1) - أي
أنعم الله عليه بالاسلام وأنعمت عليه بالاعتاق - ثم أمره رسول الله عليه السلام
على ثماني سرايا، إلى أن قتل يوم مؤتة، فأثنى عليه أنه خير الامراء، وعين
لتحقيق صفة الخيرية هاتين الخصلتين، لان أمير السرية يحتاج إليهما، وهو
أن يعتبر المعادلة في القسمة بينهم فيما ينالونه، وينصف بعضهم من بعض
فيما يرجعون إليه. فقد فوض ذلك إليه.
وبعض الناس عابوا على محمد رحمه الله في رواية هذا اللفظ، فان من
حق الكلام أن يقول: أقسمهم بالسوية وأعدلهم بالرعية. ولكنا نقول:
روى محمد رحمه الله الخبر بهذا اللفظ فدل على صحة استعماله.
52 - قال: ولا بأس للامام أن يبعث الرجل الواحد سرية
أو الاثنين أو الثلاثة إذا كان محتملا لذلك، لما روى أن النبي عليه السلام
بعث حذيفة بن اليمان في بعض أيام الخندق سرية وحده. وبعث
عبد الله بن أنيس (2) سرية وحده، وبعث دحية الكلبي سرية وحده،
وبعث ابن مسعود وخبابا سرية.
والذي روى أن النبي عليه السلام نهى أن تبعث سرية دون ثلاثة
نفر تأويله من وجهين.
إما أن يكون ذلك على وجه الاشفاق بالمسلمين من غير أن يكون
ذلك مكروها في الدين.



(1) سورة الأحزاب، 33، الآية 37.
(2) ب " المس "، ه‍ " أنيس " ط " أنس ". انظر تهذيب التهذيب 5: 149.
69
أو يكون المراد بيان (1) الأفضل أن لا يخرج أقل من ثلاثة
ليتمكنوا من أداء الصلاة الجماعة على هيأتها بأن يتقدم أحدهم ويصطف
الاثنان خلفه.
وهذا معنى ما روى عن النبي عليه السلام أنه قال: " الراكب شيطان،
والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب ".
ومن حيث المعنى نقول: ليس المقصود من بعث السرايا القتال فقط،
بل تارة (2) يكون المقصود أن يتحسس (3) خبر الأعداء فيأتيه بما عزموا عليه
من السر. وتمكن الواحد من الدخول بينهم لتحصيل هذا المقصود أظهر من
تمكن الثلاثة. وقد يكون المقصود أن يأتيه أحدهما بالخبر ويمكث (4) الآخر
بين الأعداء ليقف على ما يتجدد لهم من الرأي بعد ما ينفصل (5) عنهم الواحد.
وهذا يتم بالمثنى. وقد يكون المقصود القتال، أو التوصل إلى قتل بعض المبارزين
منهم غيلة، وبالثلاثة فصاعدا يحصل هذا المقصود. ولهذا كان الرأي فيه إلى
الأمير يعمل بما فيه نظر للمسلمين.



(1) ساقط من ط.
(2) ط " بأن ".
(3) ط " يجتس ".
(4) ب " يمكن " وهو خطأ.
(5) ط " انفصل ".
70
5 [باب الرايات والألوية]
53 - قال: وينبغي أن تكون ألوية المسلمين بيضا والرايات
سودا، على هذا جاءت الاخبار.
وقد روى عن راشد بن سعد رضي الله عنه قال: كانت راية
رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض.
وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما (29 ب): كانت راية
رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء من برد لعائشة يدعى العقاب.
وهو اسم رايته، كما سمى عمامته السحاب وفرسه السكب وبغلته الدلدل.
ثم اللواء اسم لما يكون للسلطان، والراية اسم لما يكون لكل قائد تجتمع جماعة
تحت رايته.
54 - واختلفت الروايات في أن النبي صلى الله عليه وسلم متى
اتخذ الرايات. فذكر الزهري قال: ما كانت راية قط حتى كانت يوم
خيبر، إنما كانت الألوية.
وذكر غيره أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر كانت
سوداء.
ففي هذا بيان أن الراية كانت قبل خيبر.

71
وإنما استحب في الرايات السوداء لأنه علم لأصحاب القتال، وكل قوم
يقاتلون عند رايتهم، وإذا تفرقوا في حال (1) القتال يتمكنون من الرجوع
إلى رايتهم، والسواد في ضوء النهار أبين وأشهر من غيره خصوصا في الغبار.
فلهذا استحب ذلك.
فأما من حيث الشرع فلا بأس بأن تجعل الرايات بيضا أو صفرا أو حمرا،
وإنما يختار الأبيض في اللواء لقوله عليه السلام: " إن أحب الثياب عند الله تعالى
البيض، فليلبسها (2) أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم ".
واللواء لا يكون إلا واحدا في كل جيش، ورجوعهم إليه عند حاجتهم
إلى رفع أمورهم إلى السلطان. فيختار الأبيض لذلك ليكون مميزا من الرايات
السود التي هي للقواد.
5 - وذكر عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: والله
لقد رأيتني وإني لأعدو في (3) إثر على رضي الله عنه فما أدركته حتى
انتهى إلى الحصن يوم خيبر. فخرجت غادية (4) اليهود، يعنى الذين
يغدون (5) من العمال (6)، - ومنهم من يروى: عادية اليهود والمراد
به الأكابر من المبارزين - قال: ففتحوا بابهم الذي يلي المسلمين.
وكانت لهم حصون (7) من ورائها جدر ثلاثة، يخافون البيات



(1) ط، ه‍ " حالة ".
(2) ه‍ " فليلبسوها ".
(3) أ " على أثر ".
(4) أ، ب، ه‍، " عادية ".
(5) ط " يغدون ".
(6) أ " العمل ".
(7) أ، ب " حصن ".
72
بالنطاة (1)، عملها أكابر اليهود، ولا تطيقها الخيل. فخرجوا من
حصنهم ذلك وتلك الجدر حتى أصحروا للمسلمين - أي خرجوا إلى
الصحراء -، فخرج مرحب وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أنى مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
أضرب أحيانا وحينا أضرب * أكفى إذا أشهد من يغيب
ومرحب الشاعر هذا قتله على رضي الله عنه. والقصة معروفة في
المغازي. ومقصوده ما ذكر في آخر الحديث.
أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق الرايات.
وإنما كانت الألوية قبل ذلك فجعل الرايات يومئذ.
56 - قال محمد رحمه الله: وينبغي أن يتخذ كل قوم شعارا إذا
خرجوا في مغازيهم حتى إن ضل رجل عن أصحابه نادى بشعارهم (2).
وكذلك ينبغي أن يكون لأهل كل راية شعار معروف، حتى إن ضل
رجل عن أهل رايته نادى بشعاره فيتمكن من الرجوع إليهم. وليس
ذلك بواجب في الدين، حتى لو لم يفعلوا يأثموا، ولكنه أفضل وأقوى
على الحرب وأقرب، إلى موافقة ما جاءت به الآثار (3) على ما روى عن
سنان بن وبرة (4) الجهني قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في



(1) أحد حصون اليهود في خيبر. انظر ما سبق في ص 55.
(2) ه‍ " شعارهم ".
(3) ط، ه‍ " الاخبار ".
(4) ط " وبر " وهو خطأ. انظر تهذيب التهذيب.
73
غزوة (1) المريسيع وهي غزاة بنى المصطلق، وكان شعارنا: يا منصور أمت
معناه قد ظفرت بالعدو فاقتل من شئت منهم. وهذا كان شعار النبي
صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وكان شعاره يوم أحد أمت أمت.
57 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم شعار المهاجرين: يا بنى عبد الرحمن. والخزرج: يا بنى
عبد الله. والأوس: يا بنى عبيد الله. وقال لهم رسول الله ليلة في حرب
الأحزاب: إن بيتم الليلة فشعاركم حم. لا ينصرون.
وهو قسم للتأكيد أن الأعداء لا ينصرون.
58 - وكان شعارهم يوم (30 آ) حنين: يا أصحاب سورة البقرة
وبه ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولوا منهزمين، فقال:
يا أصحاب سورة البقرة! إلى أنا عبد الله ورسوله. سائر اليوم. وجعل
يتقدم في نحر العدو، فرجع إليه المسلمون حين سمعوا صوته.
وفى رواية: كان شعارهم يومئذ: حم لا ينصرون. فلما ثاب
المسلمون - أي رجعوا إليه (2) - تولى المشركون. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: انهزموا وياسين.
وهذا قسم أكد به رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره.
فالحاصل أن الشعار هو العلامة، فالخيار في ذلك إلى إمام المسلمين.
إلا أنه ينبغي له أن يختار كلمة دالة على ظفرهم على العدو بطريق التفاؤل.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن.



(1) ه‍ " غزاة ".
(2) ه‍، ط " أي رجعوا إلى رسول الله ".
74
6 [باب الدعاء عند القتال]
59 - ذكر عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان إذا لقى العدو قبل أن يواقعهم (1) قال: اللهم إنا عبادك
وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك. اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم.
وفيه دليل على أنه ينبغي لكل غاز أن يقتدى برسول الله صلى الله
عليه وسلم في الدعاء عند القتال.
وهذا لان المؤمن بالدعاء يستنزل الرزق والنصر ويدفع (2) أنواع البلاء
وشر الأعداء. وبذلك أمرنا، قال تعالى: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي} (3)
وقال: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} (4). وأخبر عن الرسل أنهم دعوا على
الأعداء كما أخبر به عن نوح قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين
ديارا} (5)، وعن موسى وهارون والخليل صلوات الله عليهم كذلك.
60 - قال: وإذا لقى المسلمون المشركين فإن كانوا قوما لم يبلغهم
الاسلام فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم.



(1) ط، ه‍ " يوافقهم ".
(2) ط، ه‍ " يدافع ".
(3) سورة البقرة، 2، الآية 186.
(4) سورة الأعراف، 7، الآية 55.
(5) سورة نوح، 71، الآية 26.
75
لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (1)، وبه أوصى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش فقال: " فادعوهم إلى شهادة
أن لا إله إلا الله "، ولأنهم ربما يظنون أننا نقاتلهم طمعا في أموالهم وسبى ذراريهم
ولو علموا أنا نقاتلهم على الدين ربما أجابوا إلى ذلك من غير أن تقع الحاجة
إلى القتال.
وفى تقدم عرض الاسلام عليهم دعاء إلى سبيل الله تعالى بالحكمة والموعظة
الحسنة، فيجب البداية به.
فإن كان قد بلغهم الاسلام ولكن لا يدرون أنا نقبل منهم
الجزية فينبغي أن لا نقاتلهم حتى ندعوهم إلى إعطاء الجزية. به أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، وهو آخر (2)
ما ينتهى به القتال. قال الله تعالى {حتى يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون} (3)،
وفيه التزام بعض حكام المسلمين والانقياد لهم في المعاملات فيجب عرضه
عليهم إذا لم يعملوا به.
إلا أن يكونوا قوما لا يقبل منهم الجزية كالمرتدين وعبدة الأوثان
من العرب، فإنه لا يقبل منهم إلا الاسلام أو السيف (4).
قال الله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} (5).



(1) سورة الإسراء 17، الآية 15.
(2) أ، ه‍، ط، ب " أحد ".
(3) سورة التوبة، 9، الآية 29.
(4) ط، ه‍ " السيف أو الاسلام ".
(5) سورة الفتح، 48، الآية 16.
76
فإذا أبوا الاسلام قوتلوا غير أن يعرض عليهم إعطاء الجزية. وإن
قاتلوهم قبل الدعوة فقتلوهم هم فلا شئ على المسلمين من دية ولا كفارة.
لان وجوب ذلك يعتمد (1) الاحراز، وذلك بدار الاسلام (2) أو الدين (3)
على حسب ما اختلفوا (4) فيه. فأما مجرد النهى عن القتل بدون الاحراز
لا يوجب الدية والكفارة كما في نساء أهل الحرب وذراريهم. وهذا لان موجب
النهى الانتهاء لا غير، ويقوم المحل حكم (؟) وراء ذلك.
61 - فإن بلغهم الدعوة فإن شاء المسلمون دعوهم دعاء مستقبلا على
سبيل الاعذار والانذار، وإن شاءوا قاتلوهم بغير دعوة لعلمهم بما يطلب
منهم. وربما يكون في تقديم الدعاء (30 ب) بالمسلمين، فلا بأس
بأن يقاتلوهم من غير دعوة.
والذي روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قال: ما قاتل
رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى يدعوهم.
وعن طلحة رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يقاتل المشركين حتى يدعوهم.
فتأويله ما قال محمد رحمه الله في كتابه:
62 - إن النبي صلى الله عليه وسلم أول من جاءهم الاسلام في ذلك



(1) ط، ه‍ " باعتبار الاحراز ".
(2) ط " وذلك بالدار أو بالدين ".
(3) ه‍ " وبالدين هل على.. ".
(4) ب " ما اختارنا فيه " هو خطأ.
77
الوقت، وما كان أكثرهم يعلم أنه إلى ماذا يدعوهم. فلهذا كان تقديم الدعاء.
وهكذا نقل عن إبراهيم أنه سئل عن دعاء الديلم فقال: قد علموا الدعاء.
يريد به أن زماننا مخالف لزمان النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحكم،
أو كان ذلك عن رسول الله على وجه التأليف لهم رجاء أن يتوبوا (1) من غير
أن يكون (2) ذلك واجبا. ألا ترى إلى ما روى أنه كان يقاتل المشركين فتحضر
الصلاة فيصلى بأصحابه، ثم يعود إلى موضعه فيدعوهم.
ومعلوم أن هذا لم يكن إلا على وجه التأليف.
63 - وعن عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا
رضي الله عنه مبعثا (3) فقال له: امض ولا تلتفت، - أي لا تدع
شيئا مما آمرك به -. قال: يا رسول الله! كيف أصنع بهم؟ قال: إذا
نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى
يقتلوا منكم قتيلا، فإن قتلوا منكم قتيلا فلا تقاتلوهم حتى تريهم إياه، ثم
تقول لهم: هل لكم إلى (4) أن تقولوا لا إله إلا الله؟ فإن قالوا نعم فقل
لهم: هل لكم أن تصلوا؟ فإن قالوا نعم فقل لهم: هل لكم أن تخرجوا
من أموالكم الصدقة؟ فإن قالوا نعم فلا تبغ منهم غير ذلك. والله لان
يهدى الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت.
ومعلوم أن هذا كله مما لا يشكل أنه ذكر على وجه التألف من غير
أن يكون واجبا.



(1) ط " يتولوا " وهو خطأ.
(2) ط " كان ".
(3) ط " معنا ".
(4) ساقطة من ط.
78
64 - وعن عبد الرحمن بن عائذ قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا بعث بعثا قال: تألفوا الناس وتأنوا بهم.
ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل بيت، من
مدر (1) ولا وبر، إلا أن تأتوني بهم مسلمين، أحب إلى من أن
يأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم.
وعن أبي عثمان النهدي قال: كنا ندعو وندع.
أي ندعو تارة وندع الدعاء تارة ونغير عليهم. فدل أن كل ذلك
حسن يدعون مرة بعد مرة إذا كان يطمع في إيمانهم. فأما إذا كان
لا يطمع في ذلك فلا بأس أن يغيروا (2) بغير دعوة.
بيانه في الحديث الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين بعث
أبا قتادة بن ربعي في أربعة عشر رجلا إلى غطفان فقال: " شنوا الغارة عليهم
ولا تقتلوا النسوان والصبيان ".
ثم ذكر الراوي حسن تدبير أبى قتادة قال: لما هجمنا على (3)
حاضر منهم عظيم ليلا. - معنى (31 آ) قوله حاضر منهم أي حي منهم،
وهو القبيلة - خطبنا وأوصانا فقال: إذا كبرت فكبروا، وإذا حملت فاحملوا،
ولا تمنعوا في الطلب - أي لا تبعدوا في الذهاب في الغنيمة -. وألف بين
كل رجلين وقال: لا يفارق رجل زميله حتى يقتل أو يرجع إلى فيخبرني خبره.
ولا يأتيني رجل فأسأله عن صاحبه فيقول لا علم لي به.



(1) ط " بدر " وهو خطأ.
(2) ط " نغير ".
(3) في ب، أ " على حصن حاضر ".
79
قال: فأحطنا (1) بالحاضر، فسمعت رجلا يصرخ: يا خضراء،
فتفاءلت وقلت: لأصيبن خيرا - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتفاءل بمثل هذا، فإنه [لما] خرج من الغار مع أبي بكر رضي الله عنه
يريد المدينة مر على بريدة الأسلمي. فأمر أبا بكر أن يسأله عن اسمه. فلما
قال: بريدة، قال: برد لنا الامر، فلما قال: من أسلم، قال: سلمنا -
فعرفنا أنه لا بأس بالتفاؤل على هذه (2) الصفة.
وحين عبر جيش المسلمين جيحون سمعوا رجلا ينادى غلامه يا ظفر،
فقالوا: قد ضفرنا، وآخر ينادى غلامه: يا علوان، فقالوا: قد علونا.
ثم روى نحو هذا عن زيد بن حارثة رضي الله عنه أنه فعله في سرية
كان هو أميرهم، وقال: حين انتهينا إلى الحاضر في غبش (3) الصبح -
يعنى حين اختلط الظلام بالضوء - وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم
على بنى المصطلق، وهم غادون ونعمهم (4) تسقى على الماء، فقتل مقاتلهم،
وسبى ذريتهم، وكان في ذلك السبي جويرية بنت الحارث. وعهد إلى أسامة
أن يغير على أبنى صباحا ثم يحرق. والغارة لا تكون بدعوة.
65 - وذكر عن الحسن قال: ليس للروم دعوة. فقد دعوا
في آباد الدهر (5).
أي قد بلغتهم الدعوة قبل زماننا، أو مراده قد بشر عيسى عليه السلام
إياهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يؤمنوا به إذا بعث كما قال الله تعالى
{ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} (6) وبالله التوفيق.



(1) ه‍ " ثم أحطنا "، ط " يا حطبا ".
(2) ط، ه‍ " بهذه ".
(3) ه‍ " غلس ".
(4) ه‍ " ونعمم ".
(5) ه‍ " الروم ".
(6) سورة الصف، 61، الآية 6.
80
7 [باب البركة في الخيل وما يصلح منها]
66 - ذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
يعنى الجهاد وإرهاب العدو كما قال الله تعالى {ومن رباط الخيل ترهبون
به عدو الله وعدوكم} (1)، فأراد به الاجر لصاحبها، كما قال في حديث آخر:
" الخيل لثلاثة (2): لرجل أجر، وهو أن يمسكها في سبيل الله كلما سمع هيعة (3)
طار إليها ". وأراد الخير استحقاق سهم من الغنيمة بالخيل. وقد سمى الله تعالى
المال خيرا في قوله تعالى {إن ترك خيرا الوصية} (4) والغنيمة (5) خير لأنه
مال مصاب بأشرف الجهات، فيطلق عليه اسم الخير.
67 - وعن صالح بن كيسان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
خير الخيل الشقر (6).
وهذه الصفة في الخيل تبين بالعرف (31 ب) والذنب، فان كانا
أحمرين فهو أشقر، وإن كانا أسودين فهو كميت.



(1) سورة الأنفال، 8، الآية 60.
(2) ه‍ " في حديث أجر الخيل الثلاثة ".
(3) الهيعة صوت العدو تفزع منه (القاموس).
(4) سورة البقرة، 2، الآية 180.
(5) ه‍ " في استحقاق الغنيمة خير.. ".
(6) ه‍ " أشقر ".
م - 6 السير الكبير
81
68 - وعن عبد الله بن أبي نجيح الثقفي رضي الله عنه أنه سمع
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اليمن في الخيل في كل أقرح، أدهم،
أرثم، محجل الثلاثة، طلق اليمنى، فإن لم يكن فكميت بهذه الصفة.
فالأقرح: هو الذي يكون في جبهته بياض بقدر الدرهم أو دون ذلك.
فان كان البياض فوق ذلك فهو أغر.
والأدهم: أسم الأسود منه.
والأرثم: هو الذي يكون البياض في شفته العليا فوق الجحفلة (1).
ومحجل الثلاث طلق اليمنى: هو الذي يكون البياض في قوائمه الثلاث
...؟؟ اليمنى، وهو ضد الأرجل (2).
والأرجل: ما يكون البياض في اليمنى من قوائمه خاصة، وهذا يتشاءم
به، والأول يرغب فيه. وهذا كان معروفا بينهم في الجاهلية، فقررهم النبي
صلى الله عليه وسلم على ذلك، وبين أن البركة فيما يكون بهذه الصفة من الخيل
كما هو عند العوام من الناس.
69 - وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى سعد
ابن أبي وقاص رضي الله عنه: لا تخصين فرسا ولا تجرين فرسا
فوق الميلين.
فمن (3) الناس من أخذ بظاهر الحديث وكره خصاء الفرس لما روى
أن عليا رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:
إنما يفعل ذلك من لا خلاق له في الآخر. أي لا نصيب لهم في الآخرة،



(1) الجحفلة بمنزلة الشفة للخيل والبغال والحمير (القاموس)، وفى ه‍ " الجبهة ".
(2) ط " الا رحل ".
(3) ه‍ " من ".
82
وتأولوا فيه قوله تعالى {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} (1). وجاء في التفسير
أن المراد خصاء الدواب. والمذهب عندنا أنه لا بأس بذلك، فقد تعارفوا
من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر،
[ولا منازع] (2).
وبالاتفاق لا بأس بشراء (3) الفرس الخصي وركوبه (4). وقد كان
فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة. ولو كان هذا الصنيع مكروها
لكان يكره شراؤه (5) وركوبه ليكون زجرا للناس عن ذلك الفعل.
وتأويل النهى في حديث عمر رضي الله عنه ما ذكر محمد رحمه الله في الكتاب:
70 - أن صهيل الخيل يرهب العدو، والخصاء يذهب صهيله.
فكره الخصاء لذلك، لا لأنه حرام في الدين.
والمراد من اللفظ الثاني النهى عن إجراء الفرس فوق ما يحتمله، أو على
وجه التهلى به. فأما إذا كانت المسابقة بالأفراس للرياضة فهو حسن لا بأس به.
71 - وذكر عن عامر الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أجرى وسبق.
يروى سبق بالتشديد والتخفيف. فمعنى الرواية بالتخفيف أنه سبق
صاحبه. ومعنى الرواية بالتشديد أنه التزم على السبق صلة. ولا بأس بالمسابقة
بالأفراس ما لم تبلغ غاية لا تحتملها. جاء في الحديث: تسابق (6) رسول الله
(32 آ) صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما (7) فسبق



(1) سورة النساء، 4، الآية 119.
(2) الزيادة من ط.
(3) ه‍ " بشرى ".
(4) ه‍ " وركوبهم ".
(5) ه‍ " شر له ".
(6) ط " سباق ".
(7) من قوله تسابق إلى هنا ساقط من ه‍.
83
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى أبو بكر، وثلث عمر، رضي الله عنهما.
معنى قوله صلى أن كان رأس دابته عند صلاء دابة رسول الله عليه
السلام (1) وهو الذنب.
72 - وفى حديث مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لا يحضر الملائكة شيئا من الملاهي سوى النضال والرهان.
يعنى الرمي والمسابقة.
73 - وفى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: لا سبق إلا في خف أو نضل أو حافر.
المراد بالحافر الفرس، وبالخف الإبل، وبالنضل الرمي.
74 - وفى الحديث أن العضباء (2) ناقة رسول الله صلى الله
عليه وسلم كانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبق. فشق ذلك
على المسلمين. فقال عليه السلام: ما رفع الله تعالى في الدنيا شيئا
إلا وضعه.
لذلك المسابقة على الاقدام لا بأس بها لحديث الزهري قال:
كانت المسابقة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيل
والركاب والأرجل.



(1) ب، أ " دابته ".
(2) ه‍ " القصواء "، والعضباء الناقة المشقوقة الاذن، ولم تكن ناقة الرسول كذلك،
وإنما هو لقب لقبت به (القاموس).
84
لان الغزاة يحتاجون إلى رياضة أنفسهم حتى إذا ابتلوا بالطلب والهرب
وهم رجاله لا يشق عليهم العدو، لما يحتاجون إلى ذلك في رياضة الدواب.
75 - فإن شرطوا جعلا نظر (1). فإن كان الجعل من أحد الجانبين
خاصة بأن قال لصاحبه إن سبقتني أعطيتك كذا، وإن سبقتك لم آخذ
منك شيئا فهو جائز على ما شرطا (2) استحسانا (3)، لقوله عليه السلام:
المؤمنون عند شروطهم. وفى القياس لا يجوز، لأنه تعليق المال بالخطر.
وأما إذا كان المال مشروطا (4) من الجانبين فهو القمار بعينه. والقمار
حرام، إلا أن يكون بينهما محلل. وصورة (5) المحلل أن يكون معهما
ثالث. والشرط أن الثالث إذا سبقهما أخذ منهما، وإذا سبقاه لم يعطهما
شيئا، فهو فيما بينهما، أيهما سبق أخذ الجعل من صاحبه، فهذا جائز.
وهو مروي عن سعيد بن المسيب. وهذا إذا كان المحلل على دابة يتوهم
أن يسبق (6)، فان كان لا يتوهم ذلك فلا فائدة في إدخاله بينهما، ولا يخرج
به شرطهما من أن يكون قمارا.
قال رضي الله عنه (7): وكان شيخنا الامام شمس الأئمة رحمه الله
يقول على قياس هذا بالجري بين طلبة العلم يفتى فيه بالجوار أيضا. وهو



(1) ط، أ " نظرنا ".
(2) ط " ما شرط ".
(3) ساقطة من ط.
(4) ط " وإن كان الجعل مشروطا ".
(5) ط " وتفسير ".
(6) ه‍ " سبق ".
(7) أي السرخسي.
85
إذا وقع الاختلاف بين اثنين في مسألة وأراد الرجوع إلا الأستاذ (1) وشرط
أحدهما لصاحبه أنه إن كان الجواب كما قلت أعطيتك كذا، وإن كان كما قلت
لا آخذ منك شيئا. فهذا جائز.
وإن كان شرط من الجانبين فهو القمار. وهذا لان في الأفراس إنما جوز
ذلك لمعنى يرجع إلى الجهاد. فيجوز هنا أيضا للحث على الجهاد في التعلم.
76 - وذكر عن صفوان بن عمرو السكسكي أن عمر بن عبد العزيز
كتب إلى أصحاب السكسك ينهاهم عن الركض (32 ب)
والمراد النخاسون. وإنما نهاهم عن ركض (2) يتعب الدابة من غير
حاجة إلى ذلك، أو ركض يكون بتكلف، لان ذلك يغرر المشترى،
والغرور حرام.
والمراد الركض للتلهي من غير غرض. وقد أمرنا بالاحسان إلى الخيول
لارهاب العدو بها. ولا يجوز إتعابها (3) بالركض تلهيا.
77 - قال: ونهاهم أن يتركوا أحدا أن يركب بمنزع في سوطه
يبزع (4) به دابته.
أي بحديدة كما يفعله بعض النخاسين لنخس الدابة عند الركض، وذلك
يجرح الدابة من غير غرض فيه، وربما يسرى (5) (؟). فلهذا نهاهم
عن ذلك كما هو عادة العرب من اتخاذ حديدة في ظاهر الخف عند العقب
لنخس الفرس به، فإنه منهي عنه كما قلنا. وكان عمر بن عبد العزيز ينهى
عن ركض الفرس إلا في حق، أي عند غرض صحيح في الجهاد أو غيره.



(1) ه‍ " الاسناد ".
(2) ه‍ " الركص ".
(3) ه‍ " الغؤها ".
(4) بزع البيطار شرط، وكمنبر المشرط (القاموس).
(5) ط " يشرى ".
86
8 [باب كراهية الجرس]
78 - ذكر عن كعب قال: ما استنفر (1) جيش من المسلمين
إلا بعث الله ملكا ينادى في (2) ظهورهم: اللهم اجعل ظهورها شديدا،
وحوافرها حديدا، إلا ذات الجرس.
79 - وعن خالد بن معدان (3) قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم
راحلة عليها جرس فقال. تلك مطي الشيطان.
80 - وعن أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: العير التي فيها جرس لا تصحبها الملائكة.
فمن العلماء من أخذ بظاهر هذه الآثار، وكرهوا اتخاذ الجرس على
الراحلة في الاسفار في الغزو وغير ذلك.
وكرهوا أيضا اتخاذ الجلاجل في رجل الصغير، على ما يروى عن عائشة
رضي الله عنها أنها رأت امرأة معها صبي (4) وفى رجله جلاجل فجعلت
تقول: نحى عنه ما ينفر الملائكة.
وتأويل هذه الآثار عندنا أنه كره اتخاذ الجرس للغزاة في دار الحرب.



(1) ظ " أسفر ".
(2) ساقطة من ه‍.
(3) ط " خالد بن معدانه ".
(4) ط " صغير ".
87
فإنهم إذا قصدوا أن يبتوا العدو علم بهم العدو بصوت الجرس فيبدرون (1)
بهم. فإذا كانوا سرية علم بهم العدو فأتوهم فقتلوهم. فالجرس في هذه الحالة
يدل المشركين على المسلمين فهو مكروه. وأما ما كان في دار الاسلام فيه
منفعة لصاحب الراحلة فلا بأس به.
يعنى قد ينتفع المسلمون في أسفارهم بصوت الجرس يدفعون (2) به
النوم عن أنفسهم، ومن يضل عن الطريق يتمكن من اللحوق بهم بصوت الجرس
فلا يضل. ومن الدواب ما ينشط في السير بصوت الجرس. فإذا أمنوا
اللصوص، وكان في الجرس منفعة لهم بهذه الصفة فلا بأس باتخاذه. وهو
نظير الحداء (3)، وذلك معروف في العرب. وقد أذن فيه رسول الله صلى
الله عليه وسلم وكان يسير بالليل، والحادي يحدي بين يديه. فعرفنا أنه لا بأس
(33 آ) بمثله، وما يكون في أرجل الصبيان على سبيل اللهو من غير (4)
منفعة فلا يستحب أيضا، وإن كان فيه منفعة فلا بأس.



(1) ط " فبدروا " أ " فيعدون " ولعلها " فيغدرون ".
(2) من هنا إلى قوله فلا يضل ساقط من ط.
(3) ط " الحدو " ب، أ، ه‍ " الحدى ".
(4) ساقطة من ه‍.
88
9 [باب رفع الصوت (1)]
81 - قال: ولا يستحب رفع الصوت في الحرب من غير أن
يكون ذلك مكروها من وجه الدين. ولكنه فشل. فإن كان فيه
تحريض ومنفعة للمسلمين فلا بأس به.
يعنى أن المبارزين يزدادون نشاطا برفع الصوت، وربما يكون فيه (2)
إرهاب للعدو (3) على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " صوت أبى دجانة
في الحرب فئة ". فأما إذا لم يكن فيه منفعة فهو فشل. وربما يدل على الجيش (4)
فلهذا لا يستحب.
82 - وذكر عن الحسن رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يكره رفع الصوت عند ثلاثة: عند قراءة القرآن، وعند
الجنائز، وعند الزحف.
أي القتال.
83 - وعن قيس بن عباد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يكرهون الصوت عند الثلاثة: الجنائز والقتال والذكر.



(1) العنوان ساقط من ط، أ، ب.
(2) ساقطة من ط.
(3) أ " ارهاب العدو ".
(4) ب، أ " الجبن " ه‍ " الجبين ".
89
والمراد بالذكر الوعظ. ففي الحديثين كراهة رفع الصوت عند سماع
القرآن والوعظ. فتبين به أن ما يفعله الذين يدعون الوجد والمحبة مكروه
ولا أصل في الدين. ويستبين (1) به أنه تمنع الصوفية مما يعتادون من رفع
الصوت وتخريق الثياب عند السماع، فان ذلك مكروه في الدين عند سماع
القرآن والوعظ، فما ظنك عند سماع الغناء؟ فأما رفع الصوت عند الجنائز
فالمراد به (2) النوح وتمزيق الثياب وخمش الوجوه، فذلك حرام. والمراد
ما كان عليه أهل الجاهلية من الافراط في مدح الميت عند جنازته، حتى كانوا
يذكرون في ذلك ما هو شبه المحال. وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه (3) ولا تكنوا. أراد (4) به
والله أعلم أن امنعوه عن ذلك ولا تذكروه بسوء.



(1) ه‍ " فبين "، ط " وتبين ".
(2) ساقطة من ط.
(3) في حاشية نسخة ق " معناه قولوا أير أبيك في فيك ولا تقولوا بالكناية يعنى فرج أبيك "
والهن الفرج (القاموس).
(4) من هنا إلى قوله بسوء ساقط من ط، ه‍.
90
10 [باب العمائم في الحرب (1)]
84 - قال: ولبس العمائم في الحرب وغيرها حسن من أمر المسلمين،
فإن العمائم تيجان العرب. وقال صلى الله عليه وسلم: تعمموا تزدادوا حلما.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة (2) يوم الفتح وعليه عمامة
سوداء فعرفنا أن ذلك حسن.
85 - وذكر عن ابن عمر (3) رضي الله عنهما قال: دعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: تجهز، فإني
باعثك في السرية - الحديث - إلى أن قال: وعلى عبد الرحمن عمامة
قد لفها على رأسه. فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأقعده بين يديه،
ونقض عمامته بيديه، ثم عممه بعمامة سوداء وأرخى بين كتفيه شيئا (4)
منها. ثم قال: هكذا فاعتم يا ابن عوف. وإنما فعل ذلك إكراما له،
خصه بهذه الكرامة من بين الصحابة رضي الله عنهم.
وفيه دليل على أن المستحب إرخاء ذنب العمامة بين (33 ب) الكتفين،



(1) هذا العنوان ساقط من ط، أ، ب.
(2) ط " بمكة ".
(3) ط " عمر ".
(4) ساقطة من ه‍، ط.
91
كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. منهم من قدر ذلك بشبر، ومنهم
من قال: إلى وسط الظهر، ومنهم من قال: إلى موضع الجلوس.
وفى هذا دليل على أن يجدد اللف لعمامته (1) لا ينبغي أن يرفعها من
رأسه دفعة واحدة، لكن ينقضها كما لفها. فقد فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم هكذا بعمامة ابن عوف، وذلك بمنزلة النشر غب الطى، فيكون أولى
من النشر والالقاء (على الأرض) (2) دفعة واحدة.



(1) ب، ط، أ " بعمامته ".
(2) الزيادة من ه‍، ظ.
92
11 [باب القتال في الأشهر الحرم]
86 - ذكر عن سليمان (1) بن يسار أنه سئل: هل يصلح للمسلم
أن يقاتل الكفار في الأشهر الحرم؟ قال: نعم. وبه نأخذ.
87 - وكان عطاء يقول: لا يحل القتال في الأشهر الحرم لقوله تعالى
{فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} (2)، ولكنا نقول: هذا
منسوخ، ناسخه قول الله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (3)
يفيد إباحة قتلهم في كل وقت ومكان.
والمراد بقوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} مضى مدة العهد الذي
كان لبعضهم، لا بيان حرمة القتال في الأشهر الحرم. ثم صح أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم غزا الطائف لست مضين من المحرم، ونصب المنجنيق
عليها، وافتتحها في صفر، ونسخ الكتاب بالنسخة المشهورة التي تلقاها (4)
العلماء بالقبول جائز.



(1) ط " سليم " وهو خطأ.
(2) سورة التوبة، 9، الآية 5.
(3) = =، 9، = 5.
(4) ط " تلقتها ".
93
12 [باب هجرة الاعراب (1)]
88 - وعن الحسن رضي الله عنه قال: هجرة الاعراب (2) إذا ضمهم
ديوانهم.
وقد كانت الهجرة فريضة في الابتداء. قال الله تعالى {والذين
آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا} (3).
89 - وقال صلى الله عليه وسلم: (4) ثم ادعوهم (5) إلى التحول إلى دار
المهاجرين فإن أبوا فأخبروهم (6) أنهم كأعراب المسلمين يجرى عليهم حكم
الله الذي يجرى على المسلمين، وليس لهم في الفئ ولا في الغنيمة نصيب.
ومن مذهب الحسن أنه لم ينسخ هذا الحكم، وأن من أسلم من الاعراب
فعليه أن يثبت اسمه في ديوان الغزاة ليكون مهاجرا. فقد كان المقصود بالهجرة
في ذلك الوقت القتال.
وعلى قول أكثر العلماء رضي الله عنهم فرضية (7) الهجرة انتسخت
يوم فتح مكة لقوله صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح، إنما هو جهاد



(1) هذا العنوان ساقط من ب، أ، ط.
(2) ب، أ، ط " الاعرابي ".
(3) سورة الأنفال، 8، الآية 72.
(4) من هنا إلى قوله المهاجرين ساقط من ه‍.
(5) ط " ادعهم ".
(6) ط " فأخبرهم ".
(7) ط " فريضة ".
94
ونية. وقال: المهاجر (1) من أمتي من هجر السوء، أو قال: ما نهى
الله عنه.
90 - وإليه أشار محمد رحمه الله فقال:
إذا وطن (2) الاعرابي مصرا من أمصار المسلمين فقد خرج من
الاعرابية، وصار من أهل الأمصار، التحق في (34 آ) الديوان
أو لم يلحق.
وإنما شرط أن يتوطن مصرا ليتعلم شرائع الدين. فان تمكن من ذلك
في قبيلته فلا حاجة إلى توطن المصر، ولكن إذا تعلم ما يحتاج إليه فقد خرج
من الاعرابية، يعنى ما وصف الله به الاعراب (3) في قوله {وأجدر أن
لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} (4).



(1) ه‍ " المهاجرون ".
(2) ه‍، ط " أوطن ".
(3) قوله " به الاعراب " ساقط من ط.
(4) سورة التوبة، 9، الآية 97.
95
13 [باب صلة المشرك]
91 - وذكر عن أبي (1) مروان الخزاعي قال: قلت المجاهد: رجل من
أهل الشرك بيني وبينه قرابة، ولى عليه مال، أدعه (2) له؟ قال:
نعم، وصله.
وبه نأخذ فنقول: لا بأس بأن يصل المسلم المشرك قريبا كان أو بعيدا،
محاربا كان أو ذميا لحديث سلمة بن الأكوع قال: صليت الصبح مع النبي
صلى الله عليه وسلم، فوجدت مس كف بين كتفي، فالتفت فإذا (3) رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل أنت واهب لي ابنة أم قرفة؟ قلت:
نعم. فوهبتها له. فبعث بها إلى خاله حزن (4) بن أبي وهب، وهو مشرك
وهي مشركة. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة دينار إلى مكة
حين قحطوا، وأمر بدفع ذلك إلى أبى سفيان بن حرب وصفوان بن أمية
ليفرقا (5) على فقراء أهل مكة. فقبل ذلك أبو سفيان، وأبى صفوان وقال (6):
ما يريد محمد بهذا إلا أن يخدع شباننا
ولان صلة الرحم محمودة عند كل عاقل وفى كل دين، والاهداء إلى الغير



(1) أ، ب، ه‍ " ابن مروان ".
(2) ط " ادع له ".
(3) ه‍ فإذا هو رسول الله ".
(4) ط " حزام ".
(5) ط " ليفرقوا ".
(6) ب، أ " فقبل ذلك أبو سفيان وصفوان وقالا.. ".
96
من مكارم الأخلاق. وقال صلى الله عليه وسلم: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
فعرفنا أن ذلك حسن في حق المسلمين والمشركين جميعا.
92 - ثم ذكر عن كعب بن مالك قال: قدم عامر بن مالك،
أخو البراء وهو مشرك. فأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فرسين
وحلتين (1). فقال عليه السلام: لا أقبل هدية مشرك (2).
وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل هدايا المشركين.
وأنه أهدى مع عمرو بن أمية الضمري إلى أبى سفيان تمر عجوة، واستهداه
أدما. فقبل هدية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له الأدم. وأن نصرانيا
أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حريرا يتلألأ، فقبل هديته. وأن
عياض بن حمار المجاشعي أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له:
أسلمت يا عياض؟ فقال: لا. قال عليه السلام: إن الله تعالى نهاني أن أقبل
زبد (3) المشركين، أي عطاياهم.
وذكر الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زبد المشركين،
أي عن قبول هديتهم.
فتأويل ما روى أنه لم يقبل من وجوه:
أحدها: أنه لم يقبل ممن كان يطمع في إيمانه إذ رد هديته ليحمله ذلك
على أن يؤمن ثم يقبل هديته.
أو لم يقبل لأنه كان فيهم من يطالب بالعوض ولا يرضى بالمكافأة بمثل
ما أهدى. وبيان هذا في قوله صلى الله عليه وسلم: " لقد هممت أن لا أقبل
هدية الاعراب. وفى رواية: لا أقبل الهدية إلا من قرشي (34 ب) أو ثقفي ".
وأيد هذا ما روى أن عامر بن مالك كان أهدى إليه فرسين قد كان أحدهما



(1) ط " حليين ".
(2) ه‍ " المشرك ".
(3) الزبد بسكون الباء الرفد والعطاء (النهاية).
م - 7 السير الكبير
97
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقع في أيديهم في بعض الحروب، فعوضه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هديته، فجعل يطلب الزيادة حتى قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته: " ما بال أقوام يهدون ما نعرفه أنه لنا،
ثم لا يرضون بالمكافأة بالمثل ". وإنما لم يقبل هدية عامر لان أباه كان أجار
سبعين نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قتلهم قومه،
وهم أصحاب بئر معونة (1). وفى هذا قصة (2) معروفة، فلهذا رد رسول الله
صلى الله عليه وسلم هديته.
93 - ثم قال محمد رحمه الله: يكره لأمير الجيش أن يقبل
هداياهم. فإن قبلها فليجعلها فيئا للمسلمين (3).
وتكلموا في معنى هذا اللفظ. فقيل هذا ليس بكراهة التحريم، ولكن
مراده التنزيه، لأنه إذا قبل هداياهم لا يأمن أن يتألفهم (4)، على ما جاء في
الحديث: " الهدية تذهب وحر (5) الصدر (6). وقد أمرنا بالغلظة عليهم.
قال الله تعالى: {وليجدوا فيكم غلظة} (7).
وقيل المراد به لا يحل له أن يقبلها على أن يختص بها، ولكنه يقبلها على
أن يجعلها في فئ (8) المسلمين، لانهم أهدوا إليه لمنعته، ومنعته بالمسلمين
لا بنفسه. وكذلك إذا أهدوا إلى قائد من قواد المسلمين بخلاف ما إذا أهدوا
إلى مبارز، فان عزته بقوة في نفسه فتسلم له الهدية.



(1) ط " بنى معاوية ".
(2) ط " قضية ".
(3) ط، ه‍ فيئا لجماعة المسلمين ".
(4) ط " أن تلافيهم " ه‍ " أن يتابع دينهم ".
(5) ط " وغر ". والوحر الحقد والغيط (القاموس).
(6) ط ه‍، " الصدور ".
(7) سورة التوبة، 9، الآية 123.
(8) ط " فيئا في المسلمين ".
98
وأما في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت الهدية له، فان
عزته ومنعته لم تكن بالمسلمين. قال الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (1)
وما كان في حقه توهم الركون بقلبه إذا قبل هداياهم، فلهذا قبلها في بعض
الأوقات.
واختلفت الصحابة رضي الله عنه ومن بعدهم في جواز قبول (2) الهدية
من أمراء الجور، فكان ابن عباس وابن عمر (3) رضى عنهم يقبلان هدية
المختار، وهكذا نقل عن إبراهيم النخعي. وكان أبو ذر وأبو الدرداء رضي الله عنهما
لا يجوزان ذلك. حتى روى أن أمير أهدى إلى أبي ذر رضي الله عنه
مئة دينار فجعل يقول: هل أهدى إلى كل مسلم مثل هذا؟ فقيل: لا.
فردها وقال: {كلا، إنها لظى: نزاعة للشوى} (4).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: للسلطان نصيب من
الحلال والحرام، فإذا أعطاك شيئا فخذه فان ما يعطيه حلال لك.
وحاصل المذهب فيه أنه إن كان أكثر ماله من الرشوة والحرام لم يحل
قبول الجائزة منه ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حلال. وإن كان صاحب تجارة
أو زرع أكثر ماله من ذلك فلا بأس بقبول الجائزة منه ما لم يعلم أن ذلك كله
وجه حرام.
وفى قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية من بعض المشركين
دليل على ما ذكرنا. وبالله التوفيق.



(1) سورة المائدة، 5، الآية 67.
(2) ه‍، ط " قبول هدية من أمير من أمراء الجور ".
(3) " ابن عمر " ساقطة من ط.
(4) سورة المعارج، 70، الآية 15، 16.
99
14 [باب المبارزة]
94 - ذكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه دخل على أخيه
البراء بن مالك وهو يتغنى فقال: أتتغنى؟ (35 آ) فقال: أخشى أن
أموت على فراشي وقد قتلت سبعة وسبعين من المشركين بيدي سوى
ما شاركت فيه المسلمين؟
وفيه دليل على أنه لا بأس للانسان أن يتغنى إذا كان وحده ليدفع به
الوحشة عن نفسه، فإن البراء بن مالك رضي الله عنه كان من زهاد الصحابة
رضي الله عنهم، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أقسم على الله
لأبره ".
ثم كان يتغنى في مرضه حين بقى (1) وحده، واستبعد ذلك من أنس،
فبين (2) أنه لا يفعل هذا (3) تلهيا، ولكن يدفع الوسواس عن نفسه، فإنه
كان يطمع في الشهادة وخشي (4) أن يموت في مرضه فاستوحش من ذلك
وجعل يتغنى. فعرفنا أن هذا القدر لا بأس به، إنما المكروه ما يكون على
سبيل اللهو على ما قال صلى الله عليه وسلم: " أنهاكم عن صوتين أحمقين فاجرين (5)



(1) ط " مع ".
(2) ط " فتبين ".
(3) ساقطة من أ، ب.
(4) ط " حتى ".
(5) ط " فاجرتين ".
100
صوت الغناء فإنه مزمار الشيطان، وخمش الوجوه وشق الجيوب رنة (1)
الشيطان ". يعنى رفع الصوت عند المصيبة.
ثم صح (2) أن البراء رضي الله عنه برئ من مرضه ثم استشهد كما كان
يطمع.



(1) أ، ب ط، ه‍ " ورثة ".
(2) ط، ه‍ " قد صح ".
101
15 [باب من قاتل فأصاب نفسه (1)]
95 - وذكر عن مكحول أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم تناول رجلا من العدو ليضربه فأخطأ فأصاب رجله فنزف
حتى مات. فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أصحابه
رضي الله عنهم: أشهيد هو؟ قال: نعم، وأنا عليه شهيد.
وتأويل الحديث أنه شهيد فيما تناول من الثواب في الآخرة. فأما من
ابتلى بهذا في الدنيا يغسل ويكفن ويصلى عليه، لان الشهيد الذي لا يغسل
من يصير مقتولا بفعل مضاف إلى العدو. وهذا صار مقتولا بفعل نفسه ولكنه
معذور في ذلك، لأنه قصد العدو لا نفسه، فيكون شهيدا في حكم الآخرة،
ويصنع به ما يصنع بالميت في الدنيا.
وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: " المبطون شهيد، والنفساء شهيد،
والمرأة التي تموت بجمع (2) لم تطمث شهيد ". يعنى في أحكام الآخرة لا في
أحكام الدنيا.
ثم اختلفت مشايخنا فيمن تعمد قتل نفسه بحديدة أنه هل يصلى عليه؟
فمنهم من قال: لا يصلى عليه. وما أشار إليه في الكتاب في حق الذي أخطأ
دليل على أنه إذا تعمد ذلك لا يصلى عليه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده



(1) العنوان ساقط من أ، ب، ط.
(2) " أي ماتت مع شئ مجموع فيها غير منفصل من حمل أو بكارة ". كذا في هامش ق.
102
يجأ بها نفسه في نار جهنم خالدا مخلدا، ومن تردى من موضع فهو يتردى (1)
في نار جهنم خالدا مخلدا، ومن شرب سما فمات فهو يشربها في نار جهنم خالدا
مخلدا ".
قال رضي الله عنه (2): وكان شيخنا الامام (3) يقول: الأصح عندي
أن يصلى عليه وأن تقبل توبته إن كان تاب في ذلك الوقت لقوله تعالى {ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء} (4). وتأويل الحديث فيمن استحل ذلك لما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سباب المسلم فسق وقتاله كفر ".
قال (5) رضي الله عنه: وسمعت القاضي الامام (35 ب) على السغدي (6)
يقول: الأصح عندي أنه لا يصلى عليه، لا لأنه لا يصلى عليه، لا لأنه لا توبة له، ولكن لأنه باغ
على نفسه، ولا يصلى على الباغي.
96 - وذكر عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قلت
يا رسول الله! زعم أسيد بن حضير أن عامر بن سنان بن (7) الأكوع
حبط عمله، وكان ضرب يهوديا فقطع رجله ورجع السيف على عامر
فعقره فمات منها. فقال: كذب من قال ذلك. إن له لأجرين (8). إنه
جاهد مجاهد وإنه ليعوم في الجنة عوم الدعموص (9).



(1) ط " تردى ".
(2) ط، ه‍ " قال الشيخ الامام رضي الله عنه " يعنى السرخسي.
(3) ط، ه‍ " كان شيخنا الامام شمس الأئمة.. ".
(4) سورة النساء، 4، الآية 116.
(5) الضمير هنا راجع إلى شمس الأئمة. وفى ط، ه‍ " قال رضي الله عنه (أي السرخسي)
قال الامام: سمعت ".
(6) ط " السعدي " وهو خطأ.
(7) ساقطة من أ، ب، ط.
(8) ه‍ " الأجرين ".
(9) ط " الدغموص " وهو خطأ. والدعموص دويبة أو دودة سوداء تكون في الغدار ان
إذا نشت (القاموس).
103
وبه تقول إنه معذور (1) فيما أصيب به، مثاب على ما صنع. فإنه
جاهد في قتل الكافر مبالغ في ذلك، مصاب حين رجع إليه السيف فعقره،
وصبر على ذلك إلى أن مات، فهو جاهد صابر {إنما يوفى الصابرون أجرهم
بغير حساب} (2). فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم إنه له الأجرين.
97 - قال: وإذا التقت السريتان ليلا من المسلمين وكل (3) واحدة
ترى أن صاحبتها من المشركين فاقتتلوا فأجلوا عن قتلى ثم علموا فلا شئ
عليهم من دية ولا كفارة.
لان كل واحدة (4) من السريتين باشرت دفعا مباحا، فقد قصدت
كل سرية إلى الأخرى، وإنما (5) قتلها الأخرى دفعا عن أنفسهم، وذلك
دفع مأمور به شرعا فلا يكون موجبا دية ولا كفارة.
98 - والأصل فيه ما روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
خرجت طليعتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ليلا فالتقتا
تحت الليل ولا يشعر بعضهم ببعض، ويظنون أنهم العدو. فكانت
بينهم جراحات وقتلى. ثم تنادوا (6) بشعار الاسلام فكف بعضهم عن
بعض. وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جراحاتكم
في سبيل الله. ومن قتل منكم فهو شهيد.



(1) ط " مغدور ".
(2) سورة الزمر، 39، الآية 10.
(3) ط " وكل واحد يرى أن صاحبه ".
(4) ه‍ " كل واحد ".
(5) ط " فإن ".
(6) ط " تبادر اشعار ".
104
99 - وإذا كان القوم من المسلمين يقاتلون المشركين، فقتل
مسلم مسلما ظن أنه مشرك، أو رمى إلى مشرك فرجع السهم فأصاب
مسلما فقتله فعليه الدية والكفارة.
لان هذا صورة الخطأ. والدية والكفارة في قتل الخطأ واجب بالنص.
100 - والأصل في هذا ما روى أن سيوف المسلمين اختلفت (1)
يوم أحد على اليمان أبى حذيفة فقتلوه. فجعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيه الدية فوهبها لهم حذيفة.
وكان المعنى في الفرق بين هذا والأول أن المقتول ها هنا ما كان قاصد
قتل صاحبه الذي قتله، وكانت حرمة نفسه باقية في نفسه، فيجب الدية
صيانة لدمه عن الهدر. وفى الأول (2) المقتول كان قاصدا إلى قتل صاحبه،
وذلك يسقط حرمة نفسه في حقه، فإنما قتله بدفع مباح.



(1) ه‍ " اختلف ".
(2) ه‍ " وفى الفصل الأول ".
105
16 [باب قتل ذي الرحم المحرم (1)]
101 - قال ولا بأس بأن يقتل الرجل من المسلمين كل ذي رحم
محرم منه من المشركين يبتدئ به (2)، إلا الولد خاصة، فإنه يكره
له أن يبتدئ والده بذلك، وكذلك جده من قبل أبيه (36 آ) أو من
قبل أمه وإن بعد إلا أن يضطره إلى ذلك.
لقوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفا} (3) فالمراد الأبوان إذا كانا
مشركين بدليل قوله تعالى: {وإن جاهداك، الآية} (4) وليس من المصاحبة
بالمعروف البداية بالقتل. وأما إذا اضطره إلى ذلك فهو يدفع عن نفسه، وهو
مأمور بالبداية بنفسه في الاحسان إليها ودفع شر القتل عنها أبلغ جهات الاحسان.
ثم الأب كان سببا لايجاد الولد، فلا يجوز للولد أن يجعل نفسه سبب إعدامه (5)
بالقصد إلى قتله، إلا أن يضطره إلى ذلك، فحينئذ يكون الأب هو المكتسب
لذلك السبب بمنزلة الجاني على نفسه على ما هو الأصل أن الملجأ بمنزلة الآلة
للملجئ (6). ولهذا لا يحبس الأب بدين الولد ويحبس بنفقته، لأنه إذا منع
نفقته فقد قصد إتلافه.



(1) هذا العنوان ساقط من أ، ب، ط.
(2) ط " يبتديه به ".
(3 و 4) سورة لقمان، 31، الآية 15.
(5) ه‍ " سببا لاعدامه ".
(6) ط " المنجى ".
106
ثم استدل محمد رحمه الله في الكتاب بما روى:
102 - أن حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن
سلول (1) رضي الله عنهما استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل
أبويهما فنهاها عن ذلك.
وعن عمير (2) بن مالك رضي الله عنه قال قال رجل: يا رسول الله!
إني لقيت أبى في العدو، فسمعت منه مقالة لك سيئة فقتلته.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفى هذا دليل على أنه لا يستوجب بقتله شيئا إذا قتله. لان النبي صلى
الله عليه وسلم لم يأمره بشئ. والسكوت عن البيان بعد تحقق الحاجة إليه
لا يجوز.
وأول (3) الوجوه أن لا يقصده بالقتل (4)، ولا يمكنه من الرجوع
إذا تمكن منه في الصف، ولكنه يلجئه إلى موضع ويستمسك (5) به حتى
يجئ غيره فيقتله. روى في الكتاب حديثا بهذه الصفة قال: فهو أحب إلينا.
فأما إباحة قتل غير الوالدين والمولودين من ذي الرحم المحرم من المشركين فقد
بيناه في الجامع الصغير، وبالله التوفيق.



(1) ابن سلول ساقطة من أ، ب.
(2) ه‍ " عمر " وهو خطأ.
(3) ه‍، ط " وأولى ".
(4) ط " بقتله ".
(5) ط، ه‍ " ويتمسك ".
107
17 [باب البكاء على القتلى]
103 - روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ببني (1) عبد الأشهل
وهم يندبون قتلاهم يوم أحد. فقال: لكن حمزة لا بواكي (3) له.
قالت المرأة التي روت: فخرجنا حتى أتينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فندبنا حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت. حتى
سمعنا نشيجه في البيت. فأرسل إلينا أن قد أصبتم، أو قد أحسنتم.
وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لان حمزة كان سيد
الشهداء يومئذ، لكنه كان غريبا بالمدينة فندبه (3) رسول الله صلى الله
عليه وسلم بما قال.
وذكر في المغازي أن سعد بن معاذ رضي الله عنه لما سمع ذلك من رسول
الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء قومه، وكذلك (4) سعد بن عبادة، وكذلك
معاذ بن جبل. فجاء كل فريق إلى باب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يندبون حمزة رضي الله عنه، فاستأنس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببكائهم
(36 ب) حتى نام.



(1) أ، ب " بيت ".
(2) ط " يواكى ".
(3) ط " فرثاه ".
(4) ب، أ " فكذلك ".
108
ومن ذلك الوقت جرى الرسم بالمدينة أنه إذا مات منهم ميت يبدأون
بالبكاء لحمزة رضي الله عنه. والرجال في تعزية بعضهم بعضا يقولون: مات
رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يزيدون على ذلك.
104 - ثم أعاد الحديث بطريق ابن عمر رضي الله عنهما وزاد في آخره:
فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يبكين. فقال: يا ويحهن!
إنهن لها هنا منذ اليوم. فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم.
فمن العلماء من أخذ بظاهر الحديث وقال: هذه رخصة كانت يومئذ،
وقد انتسخت بما ذكر في آخر الحديث. وأكثرهم على أن رفع الصوت بالبكاء
والنوح قد انتسخ ولا رخصة فيه، على ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " النائحة ومن حولها من مستمعيها عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
وأما البكاء من غير رفع الصوت فلا بأس به لما روى أنه لما قبض إبراهيم
ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أليس قد نهيتنا عن البكاء؟
فقال: " إنما نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين، وأما هذه رحمة (1) يجعلها (2)
الله تعالى في قلوب الرحماء. العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول ما يسخط
الرب ".
وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع امرأة وهو يبكى على ولدها بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" دعها يا عمر، فان القلب حزين، والنفس مصابة، والعهد قريب ". ولكن
مع هذا الصبر أفضل على ما قال الله تعالى {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:
إنا لله وإنا إليه راجعون} (3).



(1) ه‍ " الرحمة ".
(2) ط " فجعلها ".
(3) سورة البقرة، 2 الآية 156.
109
18 [باب حمل الرؤوس إلى الولاة]
105 - وذكر عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قدم على
أبى بكر الصديق (1) رضي الله عنه برأس يناق (2) البطريق. فأنكر ذلك.
فقيل له: يا خليفة رسول الله! إنهم يفعلون ذلك بنا. قال: فاستنان (3)
بفارس والروم؟ لا يحمل إلى رأس، إنما يكفي الكتاب والخبر.
وفى رواية: قال لهم: لقد بغيتم. أي تجاوزتم الحد.
وفى رواية: كتب إلى عماله بالشام: لا تبعثوا إلى برأس، ولكن
يكفيني، الكتاب والخبر.
فبظاهر الحديث أخذ بعض العلماء، وقال: لا يحل حمل الرؤوس إلى
الولاة لأنها جيفة. فالسبيل دفنها لاماطة الأذى، ولان إبانة الرأس مثله،
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور.
وقد بين أبو بكر رضي الله عنه أن هذا من فعل أهل الجاهلية، وقد
نهينا عن التشبه بهم.
وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أنه إذا كان في ذلك كبت وغيظ للمشركين
أو فراغ قلب للمسلمين (4) بأن كان المقتول من قواد المشركين أو عظماء
المبارزين فلا بأس بذلك.



(1) لا توجد في ه‍.
(2) كسحاب. انظر القاموس " ينق ".
(3) ط " فاستبان ".
(4) ه‍ " المسلمين ".
110
ألا ترى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حمل رأس أبى جهل إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حتى ألقاه بين يديه، فقال: هذا
رأس عدوك أبى جهل (1). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر،
هذا فرعوني وفرعون أمتي. وكان شره (ص 37 آ) على وعلى أمتي أعظم
من شر فرعون على موسى وأمته "، وما منعه ولم ينكر عليه ذلك.
106 - وهو معنى ما رواه عن الزهري رحمه الله قال: لم يحمل
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس إلا يوم بدر. وحمل إلى أبى بكر
رضي الله عنه فأنكره. وأول من حملت إليه الرؤوس ابن الزبير
رضي الله عنه.
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس إلى سفيان
ابن عبد الله، قال عبد الله: فضربت عنقه وأخذت برأسه فصعدت إلى جبل
فاختبأت فيه، حتى إذا رجع الطلب وجهت برأسه حتى جئت به النبي صلى
الله وسلم.
وحين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه
يقتل كعب بن الأشرف، جاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر
عليه ذلك.
فتبين بهذه الآثار أنه لا بأس بذلك. والله الموفق.



(1) في ط زيادة " لعنه الله ".
111
19 [باب السلاح والفروسية]
107 - ذكر عن عتبة بن أبي حكيم رضي الله عنه قال: ذكرت
القوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سبقها سلاح قط
إلى خير " يعنى أنه (1) أقوى آلات الجهاد.
فيه حث للغزاة على تعلم الرمي. وفى ذلك آثار منها حديث عقبة بن عامر
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى {وأعدوا لهم
ما استطعتم من قوة} (2) " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثا. وفى حديثه أيضا (3)
" إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه الذي يحتسب به،
ومنبله، والرامي به ".
وقال: " كل لهو ابن آدم باطل إلا ثلاثة: تأديبه فرسه، وملاعبته (4)
أهله، ورميه عن قوسه ".
وما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد بين أبويه إلا لسعد بن أبي
وقاص رضي الله عنه يوم أحد فقال: " ارم فداك أبي وأمي ".
108 - وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب أن
وفروا الأظافير في أرض العدو فإنها سلاح. وهذا مندوب إليه



(1) الضمير راجع إلى القوس. وهي مؤنث وقد تذكر (القاموس).
(2) سورة الأنفال، 8، الآية 60.
(3) ط " وفى حديث أن الله... ".
(4) ط " ملاعبة ".
112
للمجاهدين في دار الحرب، وإن كان قص الأظافير من الفطرة.
لأنه إذا سقط السلاح من يده وقرب العدو منه ربما يتمكن من دفعة
بأظافيره. وهو نظير قص الشوارب فإنه سنة. ثم الغازي في دار الحرب
مندوب إلى أن يوفر شاربه ليكون أهيب في عين العدو فيحصل به الارهاب.
109 - وذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: علموا أولادكم
السباحة، والفروسية (1)، ومروهم بالاحتفاء (2) بين الأغراض (3).
وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن في حديثه
" علموا أولادكم السباحة والرمي، والمرأة الغزل ".
وقال: " اركبوا. وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ".
والحاصل أن ما يعينه على الجهاد فهو مندوب إلى تعلمه، وإلى أن يعود
نفسه ذلك لما فيه من إعزاز الدين وقهر المشركين.
110 - وعن عبيد بن عمير (4) رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لأصحابه رضي الله عنهم يوم فتح مكة: أفطروا فإنه يوم قتال.
وفيه دليل على أن مكة فتحت عنوة (37 ب) بالقتال، وأن الأفضل
للغازي إذا كان يقاتل العدو في شهر رمضان أن يفطر. فإن الصوم ربما يضعفه
عن شئ من القتال. والخلل الذي يتمكن بذلك لا يمكنه تداركه في غير هذا
الوقت. وهو يتمكن من أداء الصوم في عدة من أيام أخر. ولهذا كان الفطر



(1) من هنا إلى قوله السباحة في حديث الرسول الآتي ساقط من ه‍.
(2) ب هنا " الاختفاء ". واحتفى مشى حافيا (القاموس).
(3) ب، أ، ه‍ هنا " الاعراض " والأغراض واحده غرض وهو الهدف يرمى فيه (القاموس).
(4) ط " عبيد الله بن عمر ".
م - 8 السير الكبير
113
أفضل للمريض والمسافر إذا كان يجهده الصوم، فلان يكون أفضل للمسافر
فالمقاتل كان أولى.
111 - وعن عون بن أبي جحيفة عن أبيه رضي الله عنه قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم - يعنى يوم
فتح مكة -. ورأيت بلالا رضي الله عنه أدخل (1) وضوءه إليه ثم أخرجه
يهريقه. فرأيت الناس يبتدرونه، فمن أصاب منه شيئا تمسح (2) به،
ومن لم يصب أخذ من بلل يد صاحبه فتمسح (3) به.
وبه يستدل محمد رحمه الله على طهارة الماء المستعمل، لانهم كانوا
يتبركون بذلك، ولا يتبرك بما هو نجس، فلو كان نجسا لأنكر عليهم ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو حنيفة يعتذر ويقول: لم ينقل أنه بلغ
رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما يستقيم الاحتجاج به أن لو بلغه فلم ينكر
عليهم.
قال: ثم رأيت بلالا رضي الله عنه أخرج عنزة فركزها. وخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء متشمرا. فصلى إلى العنزة
بالناس ركعتين. ورأيت الناس والدواب يمرون بين يديه.
والعنزة شبه الحربة (4) كانت تحمل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم
في أسفاره لتركز بين يديه إذا صلى.



(1) ط " يدخل ".
(2) ط " يمسح ".
(3) ط " فيمسح ".
(4) العنزة رميح بين العصا والرمح فيه زج (القاموس) والزج حديدة طرف الرمح.
114
ومنه عادة الامراء في حمل السلاح أمامهم.
وفيه دليل أنه لا بأس بلبس الثوب الأحمر، وأن المصلى في الصحراء
ينبغي أن يتخذ السترة بين يديه، وأنه إذا كانت السترة بين يدي الامام خاصة
فذلك يكفي. ولا تشترط السترة بين يدي القوم، [لان الامام] (1) بمنزلة
السترة للصف الأول، والصف الأول للثاني. وأنه لا يمنع أحد من المرور
وراء السترة لان السترة تحول بينه وبين المصلى بمنزلة الحائط.
والمقصود من السترة أن يعلم به من يكون بالبعد منه فلا يمر بينه وبين
السترة، ولا يمتنع (2) من المرور وراءه، ولا يحصل ذلك إلا إذا كان طويلا
غليظا. فقيل ينبغي أن يكون طوله ذراعا وغلظته بقدر الإصبع، لما قال:
بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يجزئ من السترة السهم ".
والله المعين (3).



(1) الزيادة من ه‍، ط.
(2) ه‍ " يمنع ".
(3) ط " والله أعلم " ه‍ " والله المعين والله أعلم ".
115
20 [باب الحرب كيف يعبأ له]
وفى نسخة كيف تغشاه (1)
112 - ذكر عن محمد بن إبراهيم بن الحارث رحمه الله قال: لما كان
من الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم في وادى حنين (2)
- وهو واد (3) حدور (4) ذو شعاب ومضايق. وفرق الناس فيه،
وأوعز (5) إلى الناس أن يحملوا على محمد (38 آ) وأصحابه حملة واحدة. -
أي أمرهم بذلك، وتقدم إليهم فيه -.
ومالك (6) هذا كان صاحب الجيش يوم حنين. فكان أمرهم أن
يستصحبوا أهاليهم وأموالهم ليقاتلوا عنهم إن (7) لم يقاتلوا عن دينهم.
فخطأه دريد بن الصمة في هذا الرأي. وقال له: راعى الضأن (8) ماله
وللحرب (9)؟ وهل يرد المنهزم شئ؟ هذا الذي تسوقونه كله غنائم



(1) أ، ب، ه‍ " يغشاه ".
(2) انظر ياقوت، معجم البلدان 3: 354.
(3) ط، ه‍، أ، ب، " وادى ".
(4) أ، ب " حذور " ه‍ " جدور " ق " أجوف ".
(5) ط " وأوغر " ه‍ " وأوعد الناس ".
(6) ه‍ " ومالك بن عوف هذا ".
(7) أ، ب، ه‍ " وإن ".
(8) ط " ضأن ".
(9) ط " والحرب ".
116
محمد وأصحابه (1). قيل: فما الرأي؟ قال: أن تحملوا الظعن إلى علياء
بلادكم. وأن يلقى الرجال بالسيوف على متون الخيل عدوهم. فقال مالك:
لا أغير ما صنعت. فهل غير هذا؟ قال: نعم. اجعل الناس فريقين:
يمنة ويسرة، ليكمنوا (2) في هذه (3) الشعاب والمضايق، حتى إذا دخلها
العدو خرجوا من الجانبين فحملوا عليهم حملة واحدة. فقال: أما هذه
فنعم. وفعل ذلك برأيه. وعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه
فصفهم صفوفا في السحر، ووضع الأولوية في أهلها. الحديث.
إلى أن قال:
فانحدر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادى حنين انحدارا،
وهو واد (4) حدور. ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء
دلدل. فاستقبل الصفوف فطاف عليهم يحثهم على القتال ويبشرهم
بالفتح إن صدقوا وصبروا.
وهكذا ينبغي للامام أن يفعله في موضع الخوف، وبالليل إذا كانوا
بالقرب من العدو.
قال: فبينما هم على ذلك ينحدرون في غبش الصبح إذ حمل المشركون
عليهم حملة واحدة من تلك الشعاب والمضايق فانكشفت أول الخيول



(1) ط " فحمدوه أصحابه ".
(2) ه‍ " ليمكنوا ".
(3) ب، أ " هذا ".
(4) ط، ه‍، أ، ب " وادى ".
117
خيل بنى سليم مولية - يعنى انهزمت راجعة -، ثم تبعهم أهل مكة،
وتبعهم الناس مدبرين لا يلوي أحد على أحد.
وفى المغازي (1) أن إبليس عليه اللعنة نادى: ألا إن محمدا قد قتل.
فليرجع كل ذي دين دينه. فلهذا انهزموا كما قال تعالى {ثم وليتم مدبرين} (2).
وأمعن بعضهم في الانهزام حتى انتهى إلى مكة. وسمع صفوان بن أمية واحدا
من المنافقين يقول: قتل محمد واستراح الناس منه. وكان صفوان يومئذ
مشركا فقال: بفيك الأثلب (3). لرب من قريش أحب إلى من رب من
هوازن إذا كنت مربوبا.
قال: فاقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم في (4) دابته حتى رأى
المسلمين ولوا مدبرين. فثبت قائما، وجرد سيفه وطرح غمده. فجعل
يتقدم في نحر العدو وهو يصيح بأعلى صوته. يا أصحاب الشجرة يوم
الحديبية! الله الله! الكرة على نبيكم.
وذكر في المغازي أنه لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمه
العباس رضي الله عنه على يمينه، وسفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنهما
(38 ب) على يساره. وما كان كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
منذ أسلم يوم فتح مكة إلى هذا الوقت، لكثرة ما كان آذاه بهجائه. فحين
رأى ذلك الحد منه كلمه وعانقه. وبلغ الله صوت رسوله إلى المهاجرين
والأنصار فكبروا بأجمعهم، وحملوا على العدو حملة واحدة، فانهزم العدو قبل
أن يطعنوا برمح أو يضربوا بسيف كما قال الله تعالى {وأنزل جنودا لم تروها
وعذب الذين كفروا. الآية} (5).



(1) ه‍، ط " وفى المغازي ذكر أن.. ".
(2) سورة التوبة، 9، الآية 25.
(3) الأثلب التراب والحجارة أو فتاتها (القاموس).
(4) ط، ه‍ " من ".
(5) سورة التوبة، 9، الآية 26.
118
21 [باب الحرب خدعة (1)]
113 - ذكر عن سعيد (2) بن ذي حدان قال: أخبرني من سمع
عليا رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحرب
خدعة أو خدعة بالنصب. وكلاهما لغة.
وفيه دليل على أنه لا بأس للمجاهد أن يخادع قرنه (3) في حالة القتال،
وأن ذلك لا يكون غدرا منه.
وأخذ بعض العلماء بالظاهر فقالوا: يرخص في الكذب في هذه الحالة،
واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: في الصلح بين اثنين، وفى القتال، وفى
إرضاء الرجل أهله ".
والمذهب عندنا أنه ليس المراد (4) الكذب المحض، فان ذلك لا رخصة
فيه، وإنما المراد استعمال المعاريض. وهو نظير ما روى أن إبراهيم صلوات الله
وسلامه عليه كذب ثلاث كذبات. والمراد أنه تكلم بالمعاريض، إذ الأنبياء
عليهم صلوات الله وسلامه معصومون (5) عن الكذب المحض.



(1) العنوان ساقط من ب، أ، ط موجود في ه‍ وبعده: فيه لغتان بنصب الحاء
وبرفعها وبالنصب أفصح.
(2) ط " سعد " وهو خطأ.
(3) ط، ه‍ " قرينة ".
(4) ط، ه‍ " المراد به ".
(5) ب، أ " معصومين ".
119
وقال عمر: إن في معاريض الكلام لمندوحة عن الكذب.
وتفسير هذا ما ذكره محمد رحمه الله في " الكتاب ".
وهو أن يكلم من يبارزه بشئ وليس الامر كما قال. ولكنه
يضمر خلاف ما يظهره (1) له. كما فعل (2) على رضي الله عنه يوم الخندق
حين بارزه عمرو بن عبد ود قال أليس قد ضمنت لي أن لا تستعين على
بغيرك؟ فمن هؤلاء الذين دعوتهم؟. فالتفت كالمستبعد لذلك فضرب
على ساقيه ضربة قطع رجليه.
وكان من الخدعة أن يقول لأصحابه قولا ليرى من سمعه أن فيه
ظفرا أو أن فيه أمرا يقوى أصحابه، وليس الامر كذلك حقيقة،
ولكن يتكلم على وجه لا يكون كاذبا فيه ظاهرا. على ما روى
أن عليا رضي الله عنه في حروبه كان ينظر إلى الأرض ثم يرفع رأسه
إلى السماء يقول: ما كذبت ولا كذبت. يرى من حضره أن النبي
صلى الله عليه وسلم أخبره بما ابتلى به، وأمره في ذلك بما أمر به أصحابه.
ولعله لا يكون كذلك. فهذا ونحوه لا بأس به.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الجنة
لا يدخلها العجايز ". فلما سمعت العجوز ذلك جعلت تبكي حتى بين لها
صفة أهل الجنة حين يدخلونها.



(1) ه‍ " يظهر ".
(2) ه‍، ط " قال ".
120
ومن هذا النوع أن يقيد كلامه بلعل وعسى، فإن ذلك بمنزلة الاستثناء
(39 آ) يخرج الكلام به من أن يكون عزيمة على ما قال:
بلغنا أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق.
واسم هذا الرجل مذكور في المغازي نعيم بن مسعود [الثقفي].
فقال: يا رسول الله! إن بني قريظة قد غدرت وبايعت أبا سفيان
وأصحابه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فعلنا نحن أمرناها بهذا.
فقال: أنت سمعته يقول هذا؟ قال: نعم. قال: فوالله ما كذب.
وتمام هذه القصة ذكر في المغازي من وجهين:
أحدهما: أن بني قريظة كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى أن جاء الأحزاب ومعهم حيى بن أخطب رأس بنى النضير. فما زال بكعب
ابن الأشرف (1) وبنى قريظة حتى نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله
عليه وسلم وبايعوا أبا سفيان، على أن يغيروهم (2) على المدينة والأحزاب
يقاتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فاشتد الامر على المسلمين
لذلك كما قال الله تعالى {إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم} (3). فجاء
نعيم بن مسعود يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المبايعة، وهو كان
مشركا يومئذ فقال رسول الله الله صلى الله عليه وسلم: " فعلنا أمرناهم بذلك "
يريد (4) أن هذا من مواطأة بيننا وبينهم حتى نحيط بالأحزاب من كل جانب.
فلما خرج من عنده قال له عمر: يا رسول الله، أمر بني قريظة أهون من أن



(1) ه‍ " الاشراف " ب " الأسد " والصحيح ما أثبتنا، انظر تهذيب التهذيب.
(2) ه‍ " يغزوهم ".
(3) سورة الأحزاب، 23، الآية 10.
(4) ه‍ " ليريهم أن ".
121
يؤثر عنك شئ من أجل صنيعهم. فقال صلى الله عليه وسلم: " الحرب
خدعة يا عمر ". فكانت تلك الكلمة سبب تفرقهم وتفرق كلمتهم وانهزامهم.
والوجه الآخر: أنهم بعد هذه المبايعة قالوا لحيي بن أخطب: لا نأمن
أن يطول الامر وتذهب الأحزاب ونبقى مع محمد فيحاصرنا ويخرجنا من ديارنا
كما فعل بك وبأصحابك. فقال حيى بن أخطب: أنا أطلب منهم أن يبعثوا
سبعين من أبناء كبرائهم إليكم ليكونوا رهنا في حصنكم. وكان نعيم بن مسعود
عندهم حين جرت هذه المحاورة، فحثهم على ذلك. فقالوا (1): هو الرأي.
ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره. بما جرى. فقال صلى الله
عليه وسلم: " فلعلنا أمرناهم بذلك ". فجاء إلى أبى سفيان فوجد عنده رسول
بني قريظة يسأله الرهن. فقال له: هل علمت أن محمدا لم يكذب قط؟ قال:
نعم. فقال: إني سمعته الآن يقول كذ. وهذا (2) مواطأة بينه وبين بني قريظة،
ليأخذوا سبعين منكم فيدفعوهم إليه ليقتلهم، وقد ضمن لهم على ذلك إصلاح
جناحهم، يعنى رد بنى النضير إلى؟؟ دارهم. فقالوا: هو كما قلت واللات والعزى.
وكان ذلك يوم الجمعة. فبعث إلى بني قريظة أن اخرجوا على تلك المبايعة
التي بيننا فقد طال الامر. فقالوا: غدا يوم السبت، ونحن لا نكسر السبت.
ومع ذلك لا تخرج حتى تعطونا الرهن (39 ب). فقال أبو سفيان: هو كما
أخبرنا به نعيم. وقذف الله الرعب في قلوبهم فانهزموا في تلك الليلة. وكفى الله
المؤمنين القتال.
قال محمد بن الحسن رحمه الله: فهذا ونحوه من مكايد الحرب
فلا بأس به.



(1) ه‍، ط " فقال ".
(2) ه‍ " وهو ".
122
22 [باب الفرار من الزحف]
114 - قال محمد رحمه الله: لا أحب لرجل من المسلمين به قوة
أن يفر من رجلين من المشركين (1). وهذا لقوله تعالى {ومن يولهم
يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله
ومأواه جهنم وبئس المصير} (2). وفيها تقديم وتأخير معناه: ومن
يولهم يومئذ دبره فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير
إلا محترفا لقتال أو متحيزا إلى فئة، أي سرية، للقتال بالكرة على
العدو من جانب آخر.
أو (3) متحيزا إلى فئة أي ينحاز فيتوجه إليهم. يقال: تحرز وتحيز
إلى فلا أي انضم إليه. والفئة القوة والجماعة.
واختلف أهل التفسير. فقال قتادة والضحاك: كان هذا يوم بدر خاصة،
إذ لم يكن للمسلمين فئة ينحازون إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان معهم. وأكثرهم على أنه لم ينسخ هذا الحكم.
والفرار من الزحف من الكبائر على ما قال صلى الله عليه وسلم: " خمس
من الكبائر لا كفارة فيهن " وذكر في الجملة الفرار من الزحف. وقال:



(1) ط " رجلين مشركين ".
(2) سورة الأنفال، 8، الآية 16: وفى ه‍، ط قوله " فقد باء.. بئس المصير " لا يوجد.
(3) ه‍ " أي ".
123
" إن من أعظم الموبقات الشرك بالله، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم القتال،
وقذف المحصنات ".
ثم إن كان عدد المسلمين مثل نصف عدد المشركين لا يحل لهم الفرار منهم
وكان الحكم في الابتداء أنهم إذا كانوا مثل عشر المشركين لا يحل لهم أن يفروا،
كما قال الله تعالى {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} (1) ومن
أخبر الله أنه غالب فليس له أن يفر.
ثم خفف الامر فقال: {الآن خفف الله عنكم} (2) إلى قوله {فان يكن
منكم فئة صابرة يغلبوا مائتين} (3). وهذا إذا كان بهم قوة القتال بأن كانت
معهم الأسلحة. فأما من لا سلاح له فلا بأس بأن يفر ممن معه السلاح. وكذلك
لا بأس بأن يفر ممن يرمى إذا لم يكن معه آلة الرمي.
ألا ترى (4) أن له أن يفر من باب الحصن، ومن الموضع الذي يرمى
فيه بالمنجنيق لعجزه (5) عن المقام في ذلك الموضع؟ وعلى هذا لا بأس بأن
يفر الواحد من الثلاثة، إلا أن يكون المسلمون اثنى عشر ألفا كلمتهم واحدة.
فحينئذ لا يجوز لهم أن يفروا من العدو وإن كثروا لان النبي صلى الله عليه
وسلم قال: " لن يغلب اثنا عشر ألفا عن قلة، ومن كان غالبا فليس له
أن يفر ".
115 - وذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد وأنا فيهم. فحاص المسلمون حيصة،
يعنى انهزموا من العدو. فلما قدمنا المدينة قلنا: نحن الفرارون. فقال



(1) سورة الأنفال، 8، الآية 65.
(2) سورة الأنفال، 8، الآية 66.
(3) سورة الأنفال، 8، الآية 66.
(4) ط " ألا يرى ".
(5) ه‍ " لعجز ".
124
صلى الله عليه وسلم: بل أنتم العكارون في سبيل الله. أنا لكم فئة
[لترجعوا إلى الجهاد في سبيل الله] (1).
والمراد بالعكار الراجع إلى القتال في سبيل الله (2). يعنى. كان هذا منكم
تحيزا إلى. أنا لكم (40 آ) فئة لترجعوا معي إلى الجهاد في سبيل الله.
116 - قال محمد رحمه الله: قتل أبو عبيد (3) الثقفي، وهو أبو المختار،
يوم قس الناطف (4) - اسم موضع -، وأبى أن يرجع حتى قتل.
فقال عمر رضي الله عنه: يرحم الله أبا عبيد! لو انحاز إلى كنت له فئة.
ففي هذا بيان أنه لا بأس بالانهزام إذا أتى المسلمين (5) من العدو
مالا يطيقهم (6). ولا بأس بالصبر أيضا بخلاف ما يقوله بعض الناس إنه
إلقاء النفس في التهلكة، بل في هذا تحقيق بذل النفس لابتغاء مرضاة الله تعالى،
فقد فعله غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم منهم عاصم بن ثابت حمى
الدبر (7)، وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فعرفنا أنه
لا بأس به، والله الموفق.



(1) من ط، ه‍.
(2) في القاموس " العكار الكرار العطاف، واعتكروا في الحرب، والعسكر رجع بعضه
على بعض فلم يقدر على عده ".
(3) ط " أبو عبيد الله ".
(4) قس الناطف موضع قريب من الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي، كانت به وقعة بين
المسلمين والفرس سنة ثلاث عشرة (ياقوت، معجم البلدان)، وفى ب " قسط الناطق " ه‍
" الناطف " ط " قيس الناطف " وكلها خطأ، والصواب ما أثبتنا.
(5) ط، ه‍ " المسلم ".
(6) ط " يطيقه ".
(7) في هامش ق: الذي حماه الدبر. ا ه‍، والدبر جماعة النحل (القاموس).
125
23 [باب من أسلم في دار الحرب]
ولم يهاجر إلينا
117 - قال: وإذا أسلم رجل من أهل الحرب فقتله رجل من المسلمين
قبل أن يخرج إلى دار الاسلام خطأ فعليه الكفارة ولادية عليه.
118 - وفى الاملاء عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا كفارة عليه
أيضا، لان وجوبها بها باعتبار تقوم الدم لا باعتبار حرمة القتل فقط.
ألا ترى أنها لا تجب بقتل نساء أهل الحرب. وتقوم الدم يكون
بالاحراز بدار الاسلام.
والدليل على وجوب الكفارة قوله تعالى {فان كان من قوم عدو لكم
وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} (1). جاء في التفسير عن عطاء ومجاهد
رحمهما الله: أنه الرجل يسلم فيقتل خطأ قبل أن يأتي المسلمين.
وقيل نزول (2) الآية في رجل يقال له مرداس كان أسلم فقتله أسامة
ابن زيد رضي الله عنهما قبل أن يأتي المسلمين، وهو لا يعلم بإسلامه. فأوجب
الله الكفارة دون الدية.
ثم الدية تجب حقا لله تعالى، والاحراز بالدين يثبت في حق الله تعالى،
وإنما الحاجة إلى الاحراز بالدار فيما يجب من الضمان لحق العباد. وقد قررنا
هذا في " السير الصغير " والله الموفق (3) وبه العون.



(1) سورة النساء، 4، الآية 92.
(2) ه‍ " نزل ".
(3) ط " والله أعلم ".
126
24 [باب دواء الجراحة]
119 - روى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف (1) أن النبي
صلى الله عليه وسلم داوى وجهه يوم أحد بعظم بال.
120 - وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم شج في وجهه يوم أحد
حتى سال الدم على خده وقال: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بدمه
وهو يدعوهم إلى الله؟ فنزل قوله تعالى {ليس لك من الامر شئ} (2).
ثم داوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه، فروى أنه أحرق قطعة
من حصير فداوى به وجهه.
وروى أنه داواه بعظم بال وعصب عليه. وكان يمسح على
الجبائر أياما.
وفيه دليل جواز الاشتغال بالمداواة للجراحات.
121 - وقد كرهه بعض الناس لآثار جاءت في النهى. منها (3)
ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل الجنة من أمتي



(1) اسمه أسعد. انظر تهذيب التهذيب 12: 13.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 128.
(3) ا، ب " منه ".
127
سبعون ألفا بغير حساب (40 ب). قيل: من هم يا رسول الله؟ قال:
الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
122 - واعتمادنا في جواز المداواة على ما روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: تداووا عباد الله! فإن الله لم يخلق داء الا وخلق له
دواء. إلا السام (1) والهرم ".
وما رووا قد انتسخ بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى
سعد بن معاذ رضي الله عنه بمشقص (2) حين رمى يوم الخندق فقطع
أكحله (3). وروى أنه كوى أسعد بن زرارة (4) رضي الله عنه.
ثم وجه التوفيق بين الخبرين.
أنه إذا كان يعتقد أن الدواء هو الذي يشفيه فلا يحل له أن
يشتغل بالتداوي.
وفيه دليل جواز المداواة بعضم بال. وهذا لان العظم لا يتنجس بالموت
على أصلنا، لأنه لا حياة فيه إلا أن يكون عظم الانسان أو عظم خنزير فإنه
يكره التداوي به لان الخنزير نجس العين فعظمه نجس كلحمه لا يجوز الانتفاع
به بحال ما. والآدمي محترم بعد موته على ما كان عليه في حياته. فكما يحرم
التداوي بشئ من الآدمي الحي إكراما له فكذلك لا يجوز التداوي بعظم الميت.
قال صلى الله عليه وسلم: " كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ".



(1) السام الموت (القاموس).
(2) مشقص كمنبر نصل عريض أو سهم فيه ذلك يرمى به الوحش (القاموس).
(3) الأكحل عرق في اليد، أو عرق الحياة (القاموس).
(4) ط " برادة " وهو خطأ. انظر تهذيب التهذيب.
128
123 - وذكر عن الزهري قال: قضت السنة أن لا يسترق
كافر مسلما.
قال: وبه نأخذ إذا أسلم عبد الكافر لم يترك يسترقه ويجبر (1)
على بيعه.
حمل الحديث على استدامة الملك والاستخدام قهرا بملك اليمين، لان
الاسترقاق مستدام، والاستدامة فيما يستدام كالانشاء.
وقيل: المراد ابتداء الاسترقاق في الحر المسلم، فان ذلك لا يثبت الكافر
عليه، وإن أخذه واستبعده. وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم " الاسلام يعلو
ولا يعلى ". والمراد به الحكم دون الاخبار عن الحسن (2)، فإن ذلك يتحقق.
ولا يجوز الخلف فيما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم المسلم مصون (3) عن إذلال الكافر إياه شرعا، وفى تبديل صفة
المالكية بالمملوكية إذلال، وفى الاستخدام قهر، واستدامة الملك فيه إذلال
أيضا، فيصان المسلم عن ذلك بأن يجبر الكافر على بيعه ولا يعتق عليه، لان
ماليته فيه مصونة عن الاتلاف بعقد الذمة. والسبب الذي اعترض بينهما غير
مؤثر في إيجاب الصلة له عليه. ولهذا لا يعتق، بخلاف القريب فإنه يعتق على
قريبه إذا ملكه، لان للقرابة تأثير في استحقاق الصلة.
124 - قال: وينبغي للرجل إذا أسلم أن يغتسل عن (4) الجنابة، لان
المشركين لا يغتسلون عن الجنابة ولا يدرون كيف الغسل في (5) ذلك.



(1) ه‍ " ويخير ".
(2) ه‍ " الحسن ".
(3) ه‍ " مصئون ".
(4) ه‍ " غسل ".
(5) ه‍ " عن ".
م - 9 السير الكبير
129
وفى هذا بيان (41 آ) أن صفة الجنابة تتحقق في الكافر بمنزلة الحدث
إذا وجد سببه، ولكن اختلف مشايخنا في أن الغسل متى يلزمه. فمن يقول:
يخاطبون بالشرائع، يقول: الغسل واجب عليه في حال كفره، ولهذا لو أتى
به صح. ومن يقول: لا يخاطبون بالشرايع، فيقول إنما يلزمه الاغتسال
بعد الاسلام، لان صفة الجنابة مستدامة بعد الاسلام كانشائه. وصحة الاغتسال
منه قبل الاسلام لوجود سببه.
ولهذا لو انقطع دم الحائض قبل أن تسلم ثم أسلمت لا يلزمها الاغتسال
به، لأنه لا استدامة للانقطاع. فإذا لم يوجد السبب بعد الاسلام حقيقة
وحكما لا يلزمها الاغتسال.
ومعنى قوله إنهم لا يدرون كيف الغسل، أنهم لا يأتون بالمضمضة
والاستنشاق في الاغتسال من الجنابة. وهما فرضان، فلهذا يؤمر إذا أسلم
بالاغتسال (1) من الجنابة.
125 - واستدل عليه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن ثمامة
ابن أثال (2) الحنفي لما أسلم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغتسل.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: زعموا أنه أنه صلى ركعتين. فقال
صلى الله عليه وسلم: قد (3) حسن إسلام صاحبكم.
وعن كليب أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه
فقال: احلق عنك شعر الكفر. فحلق رأسه.
126 - قال محمد رحمه الله: ولا نرى هذا من الواجب على الناس



(1) ب، أ " يؤمر إذا بالاغتسال ".
(2) ط " يمامة بن أثال ".
(3) ب، أ " فقد ".
130
ألا ترى أنه لم يأمر به أكثر أصحابه؟ ولعله رأى كليبا معجبا بشعره
فأمره بأن يزيل ذلك عن نفسه لدفع الاعجاب عنه، أو استحب له زيارة
التطهير بأن يزيل عن نفسه ما كان نابتا من شعر رأسه في حال
الكفر. بخلاف ما تقدم من الاغتسال، فإن الامر (1) به كان على سبيل
الايجاب لتقرر سببه.



(1) ط " فإن ذلك الامر به ".
131
25 [باب اتخاذ الانف من الذهب (1)]
127 - وذكر عن عرفجة بن أسعد أنه أصيب أنفه يوم
الكلاب (2) في الجاهلية، فاتخذ (3) أنفا من ورق، فأنتن عليه، فأمره
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب.
وبهذا يأخذ محمد رحمه الله فيقول:
128 - لا بأس بذلك. وكذلك إذا سقطت سنه فلا بأس أن يتخذ
سنا من ذهب أو يضبب أسنانه من ذهب. وهو مروي عن إبراهيم.
وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: يكره ذلك. ولا يرى بأس
بأن يتخذه من الفضة لان استعمال الفضة للانتفاع جائز للرجل دون
استعمال الذهب، بدليل اتخاذ الخاتم.
وتأويل الحديث عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم خص عرفجة بهذه الرخصة.
ثم من أصل أبي حنيفة رضي الله عنه أن العام المتفق على قبوله له يترجح
على الخاص. فرجح الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ
الذهب بيمينه والحرير بشماله وقال: " هذان حرامان على (41 ب) ذكور
أمتي حل لإناثهم (4) "، والله أعلم.



(1) هذا العنوان ساقط من ط. وفى ق زيادة " من الذهب والفضة ".
(2) الكلاب كغراب ماء بين الكوفة والبصرة كان فيه يوم (انظر تفصيله في ياقوت،
معجم البلدان 7: 269).
(3) ه‍ " واتخذ ".
(4) ط " لإناثها ".
132
26 [باب أموال المعاهدين]
129 - [قال] (1): وإذا أودع المسلمون قوما من المشركين فليس
يحل لهم أن يأخذوا شيئا من أموالهم إلا بطيب أنفسهم، للعهد الذي
جرى بيننا وبينهم. فإن ذلك العهد في حرمة التعرض للأموال والنفوس
بمنزلة الاسلام. فكما لا يحل شئ من أموال المسلمين إلا بطيب
أنفسهم فكذلك لا يحل شئ من أموال المعاهدين.
وهذا لان في الاخذ بغير طيب أنفسهم معنى الغدر وترك الوفاء بالعهد.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " في العهود وفاء لا غدر (2) فيه ".
130 - ثم استدل عليه بحديث أبى ثعلبة الخشني رضي الله عنه
أن ناسا من اليهود يوم خيبر جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد تمام العهود فقالوا: إن حظائر لنا وقع فيها أصحابك فأخذوا منها بقلا
أو ثوما (3). فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف
رضي الله عنه فنادى في الناس: إن رسول الله يقول: لا أحل لكم
شيئا من أموال المعاهدين إلا بحق.



(1) من ط، ه‍.
(2) ب، أ " عذر ".
(3) ه‍، ط " فوما ".
133
27 [باب دخول المشركين المسجد]
131 - وذكر عن الزهري أن أبا سفيان بن حرب كان يدخل المسجد
في الهدنة وهو كافر. غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام (1). قال
الله تعالى {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام. الآية} (2).
والمراد بالهدنة الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين
أهل مكة يوم الحديبية. وقد جاء أبو سفيان إلى المدينة لتجديد العهد بعد
ما نقضوا هم العهود (3) وخشوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ودخل المسجد. ولذلك قصة.
فهذا دليل لنا على مالك رضي الله عنه فإنه يقول: لا يمكن المشرك
من أن يدخل شيئا في المساجد.
والدليل على ذلك أن وفد ثقيف لما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمر بأن يضرب لهم قبة في المسجد. فقيل: هم أنجاس. فقال: " ليس
على الأرض من نحاستهم شئ ".
ثم أخذ الشافعي رضي الله عنه بحديث الزهري فقال: يمنعون من
دخول المسجد الحرام خاصة للآية (4).



(1) في ط زيادة " خاصة عند الشافعي " ولا توجد في سائر النسخ.
(2) سورة التوبة، 9، الآية 28.
(3) ط، ه‍ " العهد ".
(4) ه‍ " الآية ". وهي ساقطة من ط.
134
فأما عندنا فلا يمنعون عن ذلك كما لا يمنعون من دخول سائر المساجد
ويستوي في ذلك الحربي والذمي.
وتأويل الآية: الدخول على الوجه الذي كانوا اعتادوا في الجاهلية،
على ما روى أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة.
و (1) المراد القرب من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد الحرام. وبه
نقول إن ذلك ليس إليهم، ولا يمكنون في ذلك بحال.



(1) ط " أو ".
135
28 [باب دخول النساء الحمام وركبهن السروج]
132 - وذكر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كتب أن
لا يدخل الحمام إلا امرأة نفساء أو مريضة.
وبهذا يأخذ من يكره النساء دخول (42 آ) الحمامات. ويستدل
بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة وضعت جلبابها
في غير بيت زوجها فعليها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".
ولما دخلت نساء حمص (1) على عائشة رضي الله عنها قالت: أنتن من اللاتي
تدخلن الحمامات؟ فقلن: نعم. فأمرت باخراجهن وغسل موضع جلوسهن.
فأما عندنا فلا بأس للمرأة أن تدخل الحمام إذا خرجت متعففة واتزرت
حين دخلت الحمام. لان دخول الحمام بمعنى (2) الزينة، وهي النساء أليق
منها بالرجال. أو للحاجة إلى الاغتسال، وأسباب وجوب الاغتسال في حق النساء
أكثر. والرجل يتمكن من الاغتسال بالحياض والأنهار، والمرأة لا تتمكن من ذلك.
وتأويل الحديث أنه إنما كره للمرأة الخروج بغير إذن زوجها. وقد
أمرن بالقرار في البيوت. قال الله تعالى: {وقرن في بيوتكن. الآية} (3).
قال: ولا تركب امرأة مسلمة على سرج. وهذا لقوله صلى الله
عليه وسلم: " لعن الله الفروج على السروج ".



(1) مدينة مشهورة في سورية.
(2) ه‍ " المعنى ".
(3) سورة الأحزاب، 33، الآية 33.
136
ثم المراد إذا ركبت متلهية، أو ركبت متزينة لتعرض نفسها على الرجال
فأما إذا ركبت لحاجتها إلى ذلك بأن كانت ممن (1) يجاهد أو يخرج للحج مع
زوجها فركبت متسترة فلا بأس بذلك.
قال: ولا يترك أهل الكتاب يركبون على السروج ولكن
على الأكف (2)، ويؤمرون بأن يتنطقوا حتى يعرفوا.
أي يتخذوا الزنانير فوق ثيابهم، ويركبون على السروج التي على هيئة
الأكف. وهو الذي يكون في قربوسه شبه الرمانة. وهذا لانهم يمنعون من
التشبه بالمسلمين فيما يكون فيه معنى العز. قال صلى الله عليه وسلم: " أذلوهم
ولا تظلموهم ".
وان عمر بن الخطاب رضي الله عنه صالحهم على أن يشدوا على أوساطهم
الزنانير. وكتب إلى عماله: مروا أهل الذمة بأن يختموا (3) رقابهم بالرصاص،
وأن يتنطقوا ولا يتشبهوا بالمسلمين.
وتمام بيان هذا الفصل يأتي في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
والله الموفق.



(1) ط " بأن كانت تجاهد أو تخرج ".
(2) ط " بل يركبون على السروج التي كهيئة الأكف وهو الذي يكون في قربوسه شبه
الرمانة ويؤمرون.. " وقد خلط المتن بالشرح.
(3) ط " يجمعوا ".
137
29 [باب من الجعائل]
133 - قال أبو حنيفة رضي الله عنه: تكره الجعائل ما دام
للمسلمين قوة، فإذا لم يكن فلا بأس أن يقوى بعضهم بعضا لقوله تعالى
{وجاهدوا في الله حق جهاده} (1) وحق الجهاد أن يجاهدوا (2) بالمال
أو النفس. فإذا كان الذي يخرج صاحب مال ينبغي له أن يجاهد بماله
ونفسه ولا يأخذ من غيره جعلا في عمله لله تعالى، وإذا لم يكن له مال
فلا بأس بأن يأخذ من غيره بطيب (3) نفسه.
ما يتقوى به على الجهاد، ليكون هو مجاهدا بنفسه وصاحب المال
مجاهدا بماله.
134 - كما روى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يغزى العزب (4)
عن ذي الحليلة، وكان يعطى (42 ب) للغازي فرس القاعد.
135 - وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن الجعائل
فقال: من جعله في كراع (5) أو سلاح فلا بأس به.



(1) سورة الحج، 22، الآية 78.
(2) ط " يجاهدوا ".
(3) ط، ق " بطيبة ".
(4) العزب محركة من لا أهل له (القاموس).
(5) في هامش ق " الكراع سمى به الخيل خاصة. وعن محمد: الكراع الخيل والبغال
والحمير. مغرب ملخصا ".
138
وهذا لان صاحب المال إنما أعطى المال ليتقوى به على الجهاد،
حتى (1) يكون هو مجاهدا بماله فيكره له أن لا يستعين به على العدو ويتفضل (2)
لنفسه.
136 - كما روى أنه سئل عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه
عن الرجل يجعل الجعل ثم يبدو له فيجعل أقل مما اجتعل قال: إذا لم يكن
أراد الفضل فلا بأس به.
يعنى إذا لم يكن قصده أن يحبس الفضل ليصرفه على حوائج نفسه
فلا بأس به فيرد، ما فضل على المأخوذ منه إذا رجع. بمنزلة من يحج من غيره
إذا رجع بفضل نفقته يلزمه أن يرده. وهذا لأنه لو لم يرد الفضل كان ذلك
في معنى الاجرة (3) له على عمله، والاستيجار على الجهاد باطل.
137 - وعلى هذا لو أراد الامام أن يجهز جيشا فإن كان في بيت
المال سعة فينبغي له أن يجهزهم بمال بيت المال ولا يأخذ من الناس
شيئا، وإن لم يكن في بيت المال سعة كان له أن يتحكم على الناس
بما يتقوى به الذين يخرجون إلى الجهاد.
لأنه نصب ناظرا لهم، وتمام النظر في ذلك. على ما روى أن معاوية
رضي الله عنه ضرب بعثا على أهل الكوفة، فرفع عن جرير (4) بن عبد الله
وعن ولده فقالا: لا نقبل ذلك، ولكن نجعل من أموالنا للغازي.



(1) ط " وحتى ".
(2) ق " يستفضل " وفى الهامش " يتفضل، نسخة ".
(3) ط " الاجر ".
(4) ب، أ، " عن جرير وولده ".
139
138 - وذكر عن جبير بن نفير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: إن مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل يتقوون به على
عدوهم كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها.
يعنى أن الغزاة يعملون لأنفسهم. قال الله تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم
لأنفسكم} (1) ثم يأخذون الجعل من إخوانهم من المؤمنين ليتقووا به على عدوهم.
وذلك لهم حلال. كما أن أم موسى كانت تعمل لنفسها في إرضاع ولدها وتأخذ
الاجر من فرعون تتقوى به على الارضاع، وكان ذلك حلالا لها.
139 - قال: وإذا أعطى الرجل رجلا (2) جعلا على أن يسلم فأسلم
فهو مسلم، لأنه وجد منه حقيقة الاسلام وهو التصديق والاقرار.
وباشتراط الجعل لا يتمكن خلل في ذلك، فيحكم باسلامه، سلم له
الجعل أو لم يسلم، لان أكثر ما فيه أنه لا يتم رضاه بدون سلامة الجعل له.
وذلك لا يمنع صحة الاسلام، كمن أسلم مكرها. وللذي شرط الجعل أن يمنعه
ذلك إن شاء، وإن أعطاه فهو أفضل. لأنه وعد له ذلك. والوفاء بالعهد
من أخلاق المؤمنين، وخلف الوعد من أخلاق المنافقين. إلا أن الذي أسلم
عامل لنفسه فلا يستوجب الجعل به على (43 آ) غيره، لأنه إنما استوجب
الجعل عليه عوض عمله له، والمال لا يكون عوضا عن الاسلام، وهو ليس
بعامل له ليستوجب عليه العوض. فما وعد له إما أن يكون رشوة أو صلة
لتزداد به رغبته في الاسلام. وواحد منهما لا يتعلق به الاستحقاق قبل التسليم.
فإذا أبى أن يعطيه الجعل فرجع عن الاسلام فهو مرتد، إن لم يرجع إلى الاسلام
ضربت عنقه، لقوله صلى الله عليه وسلم " من بدل دينه فاقتلوه ".
وهذا بخلاف المكره على الاسلام إذا ارتد عن الاسلام فإنه لا يقتل



(1) سورة الإسراء، 17، والآية 7.
(2) ط " الرجل ".
140
استحسانا لان قيام السيف على رأس دليل على أنه غير معتقد بما (1) أقر به،
فيصير ذلك شبهة يندرئ بها القتل. فأما اشتراط الجعل فلا يكون دليلا على أنه
غير معتقد فيتم إسلامه بلا شبهة. فإذا ارتد بعد ذلك قتل.
140 - وذكر عن غالب بن خطاف (2) قال: كنا قعودا بباب
الحسن فأتانا شيخ فسلم علينا وقعد. ثم قال: حدثني أبي عن جدي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل يسلم على قوم إلا
فضلهم بعشر حسنات وإن ردوا.
وفيه دليل على أن البداية بالسلام أفضل، وأن ثواب المبتدئ به
أكثر (3)، لان الجواب يبتنى على السلام، والبادي بالسلام هو المسبب
للجواب، وهو البادئ بالاحسان، والراد يجازى (4) إحسانه بالاحسان.
ثم قال: حدثني أبي عن جدي أنه جعل للقوم مئة من الإبل على
أن يسلموا فأسلموا. فبعثني أبى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخبره
بذلك وأسأل له العرافة. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:
إن أبى يقرأ عليك السلام. فقال: عليه وعليك.
فهذا دليل على أن من بلغ غيره سلاما من غائب ينبغي له أن يرد عليهما
السلام، لان الغائب محسن إليه بالسلام والرسول بالايصال، فينبغي له أن يجازيهما



(1) ط " لما ".
(2) ب، أ " قحطان " ط، ق " القطان وفى هامش ق " بن القحطان ن نسخة " أثبتنا
رواية ه‍. وفى تهذيب التهذيب: " غالب بن خطاف وهو ان أبى غيلان القطان أبو سليمان البصري.. "
وفى التقريب " غالب بن خطاف بضم المعجمة وقيل بفتحها ".
(3) ط " اجزل ".
(4) في الأصول " مجازى ".
(5) ه‍ " عليه وعليك السلام " ط " عليك وعليه السلام ".
141
قال: فقلت: وإنه جعل للقوم مئة من الإبل على أن يسلموا فقد
أسلموا وحسن إسلامهم، أفله أن يرجع فيما أعطاهم؟ قال: إن شاء. فإن
ثبتوا على إسلامهم فذلك وإلا بعثنا إليهم الخيل.
وفى هذا دليل على أن المال الذي شرطه لهم صلة مبتدأة، وأن للواهب
أن يرجع في الهبة ما لم يعوض منها، وأنه لا بأس بأن يرغب غيره في الاسلام
بهذا الطريق. ألا ترى أن سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات منصوص عليه؟
وقد كانوا يعطون ذلك للتأليف (1) بالثبات على الاسلام عند بعض المفسرين،
والترغيب في الاسلام بعد ما وعدوا أن يؤمنوا عند بعضهم.
وفيه دليل على أنهم إذا ارتدوا بعد ما أسلموا على شرط الجعل فإنهم
يقتلون، لان المراد بقوله صلى الله عليه وسلم " بعثنا إليهم الخيل " أي للقتال.
قال: وأمرني أن (43 ب) أسألك له العرافة. قال: إن شاء.
ولكن العرفاء في النار.
أي لا أمنعه (2) ما سأل، ولكن أخبره أنه لا خير له فيما سأل.
والعرافة هي الرياسة، والعريف هو الوازع (3). قال صلى الله عليه
وسلم: " لابد للناس من وازع، والوازع في النار " يعنى أنه يظلمهم ويتكبر
عليهم إذا ترأس غالبا، ومأوى الظالمين والمتكبرين النار. ففيه بيان أن التحرز
عن طلب الرياسة أفضل لأنه أسلم.
141 - قال: وإن أعطى رجل مسلم مسلما مالا على قتل حربي



(1) ط " للتألف ".
(2) ط، قد " ك نمنعه ".
(3) في هامش ق " الوزعة محركة جمع وازع. وهم الولاة المانعون من محارم الله. والوازع
الكلب، والزاجر، ومن يدبر أمور الجيش ويرد من شذ منهم. قاموس ".
142
فقتله فلا بأس بذلك وأحب للذي أعطاه أن يفي (1) له بذلك
ولا يجبر عليه.
لان قتل الحربي جهاد، فمن يباشره يكون عاملا لنفسه أو عاملا لله
تعالى في إعزاز الدين أو الجماعة المسلمين (2) في دفع فتنة المحارب عنهم،
فلا يستوجب الاجر على الذي وعدله المال، لما (3) لم يكن عمله له على الخلوص،
ولكن إن وفى بما وعد له على الخلوص، فهو أفضل.
وإن أبى لم يجبر عليه في الحكم.
142 - ثم روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين (4)
ابن وهب بعد ما أسلم: ألا ترى إلى ما هم به ابن عمك من قتلى؟
فقال: أنا أكفيك يا رسول الله! فاستأجر رجلا من العرب وجعل له
عشرة دنانير على أن يقتله.
وفى رواية: جعل له خمسة أوساق من تمر على أن يقتله. فقتله.
وهذا المقتول عمرو بن جحاش.
وفيه دليل أنه لا بأس بذلك فان ما أعطاه كان بعلم رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا محالة.



(1) ه‍ " يفئ بذلك ".
(2) ه‍ " أو للمسلمين " ط، ق " أو لجماعة المسلمين ".
(3) ه‍ " ما ".
(4) ه‍ " لياسين " وهو خطأ، ط " لبنيامين ".
143
143 - قال: وإن كان الامام أعطاه ذلك من مال بيت المال
فينبغي له أن يفي (1) به له، لان مال بيت المال معد لحوائج المسلمين.
وهذا القاتل من وجه عامل للمسلمين، فينبغي للامام أن يفي (1) له بما وعد
له أن يعطيه من مال بيت مال المسلمين (2)



(1) ه‍ " يفئ ".
(2) ه‍ " من مال المسلمين " ط " من بيت المال المسلمين "، والجملة مطموسة في ق.
144
30 [باب آنية المشركين]
وذبائحهم وطعامهم
144 - قال: لا بأس بأن يؤكل (1) ويشرب في آنية المشركين،
ولكن لتغتسل بالماء قبل أن يؤكل فيها.
لان الأواني لا يلحقها نجاسة الكفر، وإنما يلحقها النجاسة العينية وذلك
يزول بالغسل، فيستوي في هذا الحكم أواني المسلمين والمشركين، إلا أن
المشركين لا ينعمون غسل الأواني. فينبغي للمسلم أن يعيد الغسل، ولا يؤتمن
المشرك على ذلك.
وإن لم يفعل وأخذ بالظاهر فلا بأس به، لان الأصل في الأواني الطهارة.
ولكن الغسل أقرب إلى الاحتياط لما روى عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه
أنه قال: يا رسول الله، إنا نأتى أرض المشركين، أفنأكل في آنيتهم؟
قال: فإن لم تجدوا منها بدا فاغسلوها ثم كلوا فيها.
وباقي الحديث قد بيناه في كتاب الصيد.
وسئل الحسن رحمه الله عن آنية المجوس وصحافهم وبرمهم (2) هل يطبخ
فيها ويؤتدم فيها؟ فقال للسائل: أنقها (3) غسلا ثم اطبخ فيها وائتدم.
وعن ابن سيرين رحمه الله أن (44 آ) أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم كانوا يظهرون على المشركين فيأكلون في آنيتهم ويشربون.



(1) ب، أ " يأكل ".
(2) البرم، بضم فسكون قدر من حجارة (القاموس).
(3) ه‍ " انفها " وهو خطأ.
م - 10 السير الكبير
145
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه أتى بباطية (1) قد شرب فيها خمر.
فأمر بها فغسلت، ثم شرب فيها.
فهذه الآثار تدل على صحة ما ذكرنا.
145 - قال: ولا بأس بطعام النصارى واليهود من الذبائح
وغيرها لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (2)،
ولا بأس بطعام المجوس كله إلا الذبيحة، لقوله صلى الله عليه وسلم
" سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي
ذبائحهم (3) ".
وهذا لان المجوس يدعون إلاهين (4) فلا يصح منهم تسمية الله على
الخلوص، وهو شرط حل الذبيحة، وأهل الكتاب يظهرون التوحيد وإن
كانوا يضمرون في ذلك شركا.
146 - وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لا بأس
بطعام المجوس إلا بالذبيحة.
وعن سويد غلام سلمان قال: أتيت سلمان رضي الله عنه يوم
هزم الله أهل فارس بسلة وجد فيها خبز وجبن وسكين. فجعل يطرح



(1) في هامش ق " الباطنية بغير همز الناجود. وعن أبي عمرو هي شئ من الزجاج عظيم يملأ
من الشراب ويوضع بين يدي الشرب يغرفون منها. مغرب ".
(2) سورة المائدة، 5، الآية 5
(3) في هامش ق: " وفى حديث المجوس: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، أي خذوهم على
طريقتهم واجروا في قبول الجزية مجراهم. نهاية ".
(4) في النسخ " الاثنين ".
146
لأصحابه من الخبز ويقطع لهم من الجبن فيأكلون، وهم مجوس. فعرفنا
أنه لا بأس بطعامهم ما خلا الذبيحة.
وفيه دليل أنه لا بأس للغانمين أن يتناولوا من طعام الغنيمة قبل القسمة.
147 - وعن سعيد بن جبير رضي الله عنهما أنه سئل عن
شواريز (1) المجوس وكوامخهم (2). فقال: لا بأس به.
وهذا لأنه لا يستعمل فيه شئ من الذبيحة، وهم في إصلاح الأطعمة
فيما سوى الذبيحة كالمسلمين.
148 - وسئل الشعبي عن الاكل مع مجوس وهو يزمزم فقال:
كل (3) من طعام المجوس.
ولم يتعرض لما سأله السائل.
وهذا للأثر (4) المروى عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى عماله يأمرهم
أن يمنعوا المجوس من الزمزمة إذا أكلوا. ولكنه أثر شاذ.
ولأجل عقد الذمة نتركهم فيما هو (5) أعظم من ذلك من شرب الخمور
وتناول الخنازير. فلهذا لم يتعرض الشعبي لهذا الجانب، وأفتى له بتناول
طعام المجوس، يعنى (6) ما خلا الذبيحة.



(1) في هامش ق: " جمع شيراز وهو اللبن الرائب إذا استخرج منه ماؤه. مغرب ".
(2) ه‍، ط " كواميخهم ". وفى هامش ق: " والكامخ فارسي تعريب كأمه وهو الردى
من المرى (مغرب) والمرب منسوب إلى المربياء النسبة. وفارسيته أب كأمه ".
(3) ط " يحل ".
(4) ط، ه‍، ق " وهذا الأثر ".
(5) ه‍، ط، " تركهم وما هو أعظم ".
(6) لا توجد في ط.
147
149 - وعن إبراهيم رحمه الله قال: لما فتح أصحابنا السواد
أكلوا من خبزهم.
وقد ذكر الواقدي في المغازي أنهم ظفروا بمطبخ كسرى، وقد أدركت
القدور، وظنوا أن ذلك صبغ، فجعلوا يلطخون لحيتهم بذلك. فقيل: إنه
مأكول. فأكلوا من ذلك حتى أتخموا (1).
ولكن الظاهر أن قدوره كانت لا تخلو عن اللحم، فإنما يحمل على أنه
إنما تناول من ذلك بعض الاعراب الذين لا معرفة لهم بالأحكام ولا يستدل
بفعل أمثالهم على الجواز.
150 - ثم ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن
ذبائح النصارى من أهل الحرب فلم يربها بأسا. وكره تزويج (2) نسائهم.
وإنما كره ذلك مخافة أن يبقى له نسل (44 ب) في دار الحرب،
فأما أن يكون حراما عنده فلا.
151 - واستدل على هذا بحديث على رضي الله عنه (3).
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر (4)
يدعوهم إلى الاسلام. فمن أسلم قبل منه ومن لم يسلم ضربت عليه الجزية،
وأن (5) لا يؤكل لهم ذبيحة ولا ينكح لهم امرأة.



(1) ه‍ " غموا ".
(2) كذا في جميع الأصول ولعلها " تزويج ".
(3) ه‍ " واستدل على هذا الحديث بأن رسول.. ".
(4) هجر بلدة مشهورة بالبحرين (ياقوت، معجم البلدان).
(5) في الأصول " في أن ".
148
فكأنه استدل بتخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس بذلك
على أنه لا بأس بنكاح نساء أهل الكتاب (1). فإنه بنى هذا الكتاب (2)
على أن المفهوم حجة. ويأتي بيان ذلك في موضعه (3).
152 - ثم بين أنه كما لا يحل له أن يطأ المجوسية بالنكاح لا يحل
له أن يطأها بملك اليمين. لان حل الوطئ يبتنى على ملك المتعة.
وذلك لا يثبت للمسلم (4) على المجوسية بسبب ملك اليمين، كما لا يثبت
بسبب النكاح.
فأما الصابئون على قول أبي حنيفة رضي الله عنه فيحل أكل ذبائحهم
ومناكحة نسائهم ولا يكره ذلك. وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لا يحل
ذلك. وهم بمنزلة المجوس.
وهذا الاختلاف في أن الصابئين منهم. فوقع عند أبي حنيفة أنهم
صنف من النصارى يقرأون الزبور، وهذا هو الذي يظهرونه من اعتقادهم.
ووقع عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنهم يعبدون الكواكب ويعتقدون
في أن الكواكب آلهة. وهذا هو الذي يضمرونه من اعتقادهم، ولكنهم
لا يستجيرون إظهار ما يعتقدون قط بمنزلة الباطنية. فبنى أبو حنيفة الجواب
على ما يظهرون، وهما بنيا على ما يضمرون. وعلى ذلك هم بمنزلة المجوس
أو شر منهم. والله الموفق.



(1) في ه‍ زيادة ".. من أهل الحرب ".
(2) ه‍ " فإنه يبنى هذا على أن المفهوم حجة ".
(3) في هامش ق " في باب ما يجب من طاعة الوالي وما لا يجب ".
(4) ه‍ " للمسلمين ".
149
31 [باب الاسلام]
153 - ذكر عن الحسن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله.
فإذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم
على الله.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل عبدة الأوثان،
وهم قوم لا يوحدون الله. فمن قال منهم: لا إله إلا الله، كان ذلك دليلا
على إسلامه.
والحاصل أنه يحكم باسلامه إذا أقر بخلاف ما كان معلوما من اعتقاده،
لأنه لا طريق إلى الوقوف على حقيقة الاعتقاد لنا، فنستدل (1) بما نسمع من
إقراره على اعتقاده. فإذا أقر بخلاف ما هو معلوم من اعتقاده استدللنا به على
أنه بدل اعتقاده. وعبدة الأوثان كانوا يقرون بالله تعالى. قال الله تعالى.
{ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} (2)، ولكن كانوا لا يقرون بالوحدانية
قال الله تعالى: {إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} (3). وقال فيما أخبر
عنهم (4) {أجعل الآلهة إلها واحدا، إن هذا لشئ عجاب} (5).



(1) ط " فيستدل ".
(2) سورة الزخرف، 43، الآية 87
(3) سورة الصافات، 37، الآية 35.
(4) ب، أ، " عنه ".
(5) سورة ص، 38، 5.
150
فمن قال منهم: لا إله إلا الله، فقد أقر بما هو مخالف لاعتقاده (45 آ)
فلهذا جعل ذلك دليل إيمانه فقال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله ".
154 - وعلى هذا المانوية وكل من يدعى إلا هين إذا قال واحد
منهم: لا إله إلا الله، فذلك دليل إسلامه.
فأما اليهود والنصارى فهم يقولون: لا إله إلا الله، تكون هذه
الكلمة دليل إسلامهم. وهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا
لا يقرون برسالته. فكان دليل الاسلام في حقهم الاقرار بأن محمدا
رسول الله. على ما روى [عنه] أنه دخل على جاره اليهودي يعوده
فقال اشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله. فنظر الرجل إلى أبيه
فقال له (1): أجب أبا القاسم. فشهد بذلك ومات. فقال صلى الله عليه
وسلم: " الحمد لله الذي أعتق بي نسمة من النار ". ثم قال لأصحابه:
" لوا (2) أخاكم ".
155 - قال: فأما اليوم (3) ببلاد العراق فإنهم يشهدون أن
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكنهم يزعمون أنه رسول إلى
العرب لا إلى بني إسرائيل. ويتمسكون بظاهر قوله تعالى: {هو الذي



(1) ه‍ " فقال له أبوه ".
(2) لوا أمر من ولى يلي. وفى هامش ق " أي لوا أمره في الدفن والكفن (حصيري) وفى
نسخة الحصيري: " آووا " أي اتخذوا له مأوى وهو القبر ". ا ه‍.
(3) ط، ه‍ " اليهود " وهي أصح.
151
بعث في الأميين رسولا منهم} (1) فمن يقر منهم بأن محمدا رسول الله
لا يكون مسلما حتى يتبرأ من دينه مع ذلك، أو يقر بأنه دخل
في الاسلام. حتى إذا قال اليهودي أو النصراني: أنا مسلم أو أسلمت
لا يحكم بإسلامه. لانهم لا يدعون ذلك. فإن المسلم هو المستسلم للحق
المنقاد له. وهم يزعمون أن الحق ما هم عليه. فلا يكون مطلق هذا اللفظ
في حقهم دليل الاسلام حتى يتبرأ من دينه مع ذلك.
كذلك لو قال: برئت من اليهودية ولم يقل مع ذلك: دخلت
في الاسلام، فإنه لا يحكم بإسلامه، لأنه يحتمل أن يكون تبرأ من
اليهودية ودخل في النصرانية. فإن قال مع ذلك: ودخلت في الاسلام
فحينئذ يزول هذا الاحتمال.
وقال بعض مشايخنا: إذا قال: دخلت في الاسلام يحكم باسلامه وإن
لم يتبرأ مما كان عليه. لان في لفظه ما يدل على دخول حادث منه في الاسلام،
وذلك غير ما كان عليه. فتضمن هذا اللفظ التبري مما كان عليه.
ولو قال المجوسي: أسلمت، أو أنا مسلم، يحكم باسلامه. لانهم
لا يدعون هذا الوصف لأنفسهم ويعدونه شتيمة بينهم يشتم الواحد منها بها
ولده: فيكون ذلك دليل الاسلام في حقه.
156 - وذكر عن الحسن أن رجلا سأله فقال: يا أبا سعيد!
قدمت سفينة من الهند فاشتريت منها علجة مسبية فجئت بها إلى



(1) سورة الجمعة، 62، الآية 2.
152
منزلي فماتت، أفأنبذها أم أغسلها وأصلي عليها؟ فقال: سبحان الله
لا، بل، اغسلها ثم كفنها، ثم صلى عليها، فإنها دخلت في الاسلام.
وتأويله في الصغيرة فإنها إذا سبيت وليس معها واحد من أبويها فإنه
يحكم بإسلامها تبعا لدار الاسلام إذا دخلت فيها. فأما الكبيرة التي قد عقلت
الكفر فلا يحكم باسلامها، فلا يصلى عليها إذا ماتت قبل أن تصف الاسلام،
لان الصلاة على الميت (45 ب) من حق المسلم على المسلم لأجل إيمانه. ولكن
يصنع بها ما سوى الصلاة من الغسل والتكفين والدفن، فإن ذلك (1) سنة
الموتى (2) من بني آدم.
ألا ترى إلى ما روى أن عليا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين مات أبو طالب فقال: إن عمك الضال قد توفى (3). فقال: اذهب
فاغسله وكفنه ووراه.
157 - وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال له:
ماتت أمي وهي نصرانية، أأتبع (4) جنازتها؟ قال: اتبع جنازتها وادفنها
ولا تصل عليها.
وبه نقول إذا لم يكن لها ولد كافر يقوم بدفنها. فإنه ينبغي للولد
المسلم أن يقول بذلك ولا يتركها جزرا (5) للسباع. فقد أمر بالاحسان
إلى والديه، وإن كانا مشركين، وبالمصاحبة معهما بالمعروف لقوله تعالى



(1) قوله " والدفن، فإن ذلك " ساقط من ه‍.
(2) ه‍ " الموت ".
(3) ه‍ " مات " وكذا في ق وفوقها " توفى أصح ".
(4) ب، أ " اتبع ".
(5) الجزر جمع جزرة وهي الشاة السمينة (القاموس).
153
{وصاحبهما في الدنيا معروفا} (1) وليس من الاحسان والمعروف أن
يتركهما بعد الموت جزرا للسباع.
فأما إذا كان هناك من يقوم بذلك من أقاربهما المشركين فالأولى
للمسلم أن يدع ذلك لهم. ولكن يتبع الجنازة إن شاء.
على ما روى أن الحارث بن أبي ربيعة ماتت أمه نصرانية، فتتبع
جنازتها في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. إلا أنه إذا كان
مع الجنازة قوم من أهل دينها فينبغي للمسلم أن يمشى ناحية منهم
ولا يخالطهم فيكون مكثرا سواد المشركين، أو يمشى أمام الجنازة
ليكون معتزلا عنهم.
158 - وذكر عن إبراهيم رحمه الله في السبي (2) إذا أقر بالاسلام
وأسلم ثم مات قبل أن يصلى. قال: يصلى عليه.
وبه نقول، فإنه قبل أن يصلى. تم إسلامه، لان الصلاة من شرائع
الاسلام لا من نفس الاسلام.
وعن سلمة قال: قال: سألت الشعبي عن السبي متى يصلى عليه؟
قال: إذا صلى فصلوا عليه.
وتأويل هذا فيما إذا لم يسمع منه الاقرار بالاسلام (3)، ولكنه صلى
مع المسلمين الجماعة، فان ذلك يوجب الحكم باسلامه عندنا، لان المشركين



(1) سورة لقمان، 31، الآية 15
(2) كذا في جميع النسخ وانفردت ق ب‍ " الصبى ".
(3) ط، ق " باللسان ".
154
لا يصلون بالجماعة على هيئة جماعة المسلمين. وإظهار ما يختص به المسلمون
فعلا يكون بمنزلة إظهار ما يختص به المسلمون قولا، فيصير به مسلما، حتى
إذا رجع عن الاسلام ضربت عنقه إن كان رجلا.
وأما إذا صلى وحده لم يحكم باسلامه إلا في رواية رواها داود بن رشيد
عن محمد أنه إذا صلى إلى قبلة المسلمين يحكم باسلامه، لقوله صلى الله عليه وسلم:
" من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا ".
فأما إذا صام أو أدى الزكاة أو حج لم يحكم باسلامه في ظاهر الرواية.
وفى رواية داود بن رشيد عن محمد قال: إذا حج البيت على الوجه الذي يفعله
المسلمون يحكم باسلامه لأنه ظهر منه فعل ما يختص به المسلمون، فيجعل ذلك
دليلا على إسلامه. والله أعلم.

155
32 [باب الجهاد مع الامراء]
159 - ذكر عن مكحول رحمه الله (1) أنه قال في مرضه الذي
مات فيه (46 آ): حديث كنت أكتمكموه، لولا ما حضرني من
أمر الله ما حدثتكم به.
أي لولا ما أخاف من وعيد كتمان العلم على ما قال صلى الله عليه وسلم
" من كتم علما عنده ألجم يوم القيامة بلجام من نار ". وقال تعالى: {لتبيننه
للناس ولا تكتمونه} (2).
ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكفروا أهل
ملتكم وإن عملوا الكبائر، الصلاة مع كل إمام. الصلاة على كل ميت.
الجهاد مع كل أمير.
وهو دليل لأهل السنة على أن مرتكب الكبائر لا يكفر بارتكابه الكبائر
ولا يخرج من الايمان. قال الله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون
لعلكم تفلحون} (3). ولا شك أن مرتكب الكبائر داخل في جملة من دعاهم
الله إلى التوبة في هذه الآية، وقد سماهم مؤمنين. وهو دليلنا على مالك في جواز
الاقتداء بالفاسق، فان قوله: مع كل إمام، أي فاسقا كان أو عدلا. كما قال
في حديث آخر: " صلوا خلف كل بر وفاجر ".



(1) قوله " رحمه الله " لا يوجد في ه‍، ط، ق.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 187
(3) سورة النور، 24، الآية 31
156
وكذلك الصلاة على كل ميت، أي فاسقا كان أو عدلا بعد أن يكون
مؤمنا غير باغ (1).
وكذلك قوله: الجهاد مع كل أمير، أي عادلا كان أو جائزا. فلا ينبغي
للغازي أن يمتنع من الجهاد معه، ويجوز الأمير لا ينقطع طمع الغزاة في النصرة.
جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا (2): " إن الله يؤيد
هذا الدين بالرجل الفاجر ".
قال مكحول: وخصلتان من رأيي لم أسمع فيهما من رسول الله
شيئا (3): علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان لا تذكروهما إلا بخير.
{تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسئلون
عما كانوا يعملون} (4).
والحديث في الكف عن الصحابة إلا بخير مشهور عن النبي صلى الله
عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: " الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم
غرضا (5)، فمن أحبهم فقد أحبني، ومن آذاهم فقد آذاني ".
وخص مكحول الختنين (6) بالذكر لأنه كان يسمع من بعض أهل
الشام فيهم ما يكره، فلهذا خصهما بالذكر في وصيته.
ثم سمى عليا أولا، وهكذا فيما رواه نوح بن أبي مريم عن أبي حنيفة
رضي الله عنه، فإنه قال: سألته عن مذهب أهل السنة فقال: أن تفضل



(1) ق " غير باغي ".
(2) ه‍، ط زيادة " إلى النبي صلى الله عليه... ".
(3) قوله " شيئا " ساقط من ه‍.
(4) سورة البقرة، 2، الآية 134.
(5) ط " عرضا ".
(6) في هامش ق " قال الجوهري: والختن بفتحتين عند العرب كل من كان من قبل المرأة
كالأب والأخ. والجمع اختان. وختن الرجل عند العامة زوج ابنته. مصباح ".
157
أبا بكر وعمر (1)، وتحب عليا وعثمان، وترى المسح على الخفين، ولا تكفر
أحدا من أهل القبلة، وتؤمن بالقدر، ولا تنطق في الله بشئ.
ومن الناس من يقول: قبل الخلافة كان على مقدما على عثمان، وبعد
الخلافة عثمان أفضل من على.
فأما المذهب عندنا أن عثمان أفضل من على رضوان الله عليهما، قبل
الخلافة وبعدها (2). كما روى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " أبو بكر خليفتي بعد في أمتي، وعمر حبيبي، وعثمان منى، وعلى
أخي وصاحب لوائي ". فنفضلهم على الترتيب الذي ذكره رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
ولم يرد أبو حنيفة (46 ب) رضي الله عنه بما ذكر تقديم على على
عثمان، ولكن مراده أن محبتهما من مذهب أهل السنة. فالواو عنده لا توجب
الترتيب. وإنما ذكر مكحول عليا رضي الله عنه أولا لأنه كان إمام أهل
الشام. وأهل الشام في ذلك الوقت كان يقع بعضهم على على رضي الله عنه،
فلهذا قدمه في الذكر حتى يزجرهم (3) عن ذلك.
160 - وعن مجاهد قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: ما تقول
في الغزو، فقد صنع الامراء ما قد رأيت. قال: أرى أن تغزو، فإنه
ليس عليك مما أحدثوا شئ.
يعنى ما أحدثوا مما تكرهه. وقد روى أنه لما ولى يزيد بن معاوية قال
ابن عمر: إن يكن خيرا شكرنا، وإن يكن بلاء صبرنا، ثم قرأ قوله تعالى
{فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم}. الآية (4).



(1) في هامش ق " نسخة: فقال إنه يحب عليا وعثمان، ويفضل أبو (كذا) بكر وعمر
رضي الله عنهما، ويرى المسح ".
(2) ب، أ " بعده ".
(3) ب، أ، ه‍ " يزجر ".
(4) سورة النور، 24، الآية 54.
158
وعن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: إذا عدل السلطان
فعلى الرعية الشكر، وللسلطان الاجر. وإذا جار فعلى الرعية الصبر، وعلى
السلطان الوزر.
فهذا كله لبيان أنه لا ينبغي أن يترك الجهاد بما يصنعه الامراء من الجور
والغلول.
قال: (1) فإذا أردت ذلك فاجعل طريقك على. فمررت بالمدينة.
فقال: إني أحب أن أعينك في وجهك هذا بطائفة من مالي. قلت:
إذا لا أقبل. إني رجل قد وسع الله عليه. قال: إن غناك لك. إني
أحب أن تكون طائفة من مالي في هذا الوجه. فانطلق يلتمس
القرض فلم يجد أحدا يقرضه، فقال: أتخافون أن لا أقضيكم؟ ثم كتب
إلى قيم له بالشام أن يدفع إلى (2) دنانير قد سماها أستعين بها
على وجهي.
وفيه دليل على أنه لا ينبغي للغازي، وإن كان غنيا، أن يمتنع من قبول
المال إذا علم أن المعطى يعطيه من حلال على وجه الرغبة في الجهاد بالمال،
لان الامتناع عن قبول ذلك في صورة المنع مما هو طاعة، وذلك لا يحل.
قال: فانطلقت فلم أزل (3) مرابطا في جزيرة من البحر سنين،
ثم بدا لبعض أمراء المؤمنين أن يخرب تلك الجزيرة ويخرج أهلها
منها. فوالله لكأنما جئ بي سبيا حيث رجعت إلى أهلي.



(1) أي ابن عمر.
(2) ب، أ، ه‍ " إليه ".
(3) ب، أ " فلم أر ".
159
وإنما شق عليه ذلك، لأنه انقطع عن ثواب المرابطين حين رجع
إلى أهله.
وهكذا ينبغي أن يكون تأسف المؤمن على ما ينقطع عنه من الثواب.
161 - ثم استدل على أنه لا يترك الجهاد بجور الامراء بقوله
صلى الله عليه وسلم: " الجهاد ماض منذ بعثني الله (47 آ) إلى أن يقاتل
آخر عصابة من أمتي الدجال، لا يصده جور جائر ولا عدل عادل ".
ولحديث سليمان بن قيس حيث قال: قلت لجابر: أرأيت إن
كان على إمام جائر أأقاتل معه أهل الضلالة والشرك؟ قال: نعم.
{عليه ما حمل وعليكم ما حملتم، وإن تطيعوه تهتدوا} (1).
ولحديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أصل الاسلام ثلاثة: الكف عمن قال لا إله إلا الله أن تكفروه
بذنب، ولا تخرجوه من الاسلام بعمل: والجهاد ماض منذ بعثني الله
حتى يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال، والايمان بالأقدار كلها.
يعنى ما ذكره في الحديث المشهور حين سأله جبريل عليه السلام:
ما الايمان؟ الحديث، إلى أن قال: والقدر خيره وشره من الله.
وفى (3) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كنا جلوسا
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما



(1) سورة النور، 24، الآية 54.
(2) قوله: " رسول الله... " لا يوجد في ب، أ.
(3) ب، أ " في ".
160
ومع كل واحد منهما فئام (1) من الناس، فسلما على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فرد عليهما السلام. ثم قيل: يا رسول الله، إنهما تكلما في القدر
فقال أبو بكر رضي الله عنه: الحسنات من الله والسيئات منا. وقال عمر
الحسنات والسيئات كلها من الله تعالى. فاتبع طائفة من الناس أبا بكر وطائفة
عمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأقضي بينكما بما قضى به إسرافيل
بين جبرئيل وميكائيل. فإن جبرئيل قال مثل ما قلت يا عمر، وميكائيل قال
مثل ما قلت يا أبا بكر. ثم قالا: إنا إذا اختلفنا اختلف أهل السماء، وإذا
اختلف أهل السماء اختلف أهل الأرض فلنتحاكم إلى إسرافيل. فقضى بينهما
بأن القدر خيره وشره من الله تعالى. وهذا قضائي بينكما. يا أبا بكر، لو شاء
الله أن لا يعصى ما خلق إبليس.
فهذا هو الأصل لأهل السنة في الايمان بالقدر. ولا يظن بميكائيل
وأبى بكر، بما نفيا تقدير الشر من الله، إلا خيرا، لان طالب الصواب قبل
أن يستقر رأيه جاهد في الله حق جهاده.



(1) فوق هذه الكلمة في ق كتب " جماعة ". وفى القاموس " الفئام ككتاب الجماعة من الناس
لا واحد له من لفظه ".
م - 11 السير الكبير
161
33 [باب من يحل له الخمس والصدقة]
162 - وذكر عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة: الغازي في سبيل الله، أو (1) العامل
عليها، أو الغارم، أو رجل اشتراها بماله، أو رجل له جار مسكين
تصدق (2) على هذا المسكين فأهدى إلى الغنى.
وأخذ (3) أهل المدينة بظاهر الحديث وقالوا: تحل الصدقة
للغازي وإن كان غنيا، وللغارم إذا كان غرمه لاصلاح ذات البين
وإن كان غنيا.
ولكن تأويل الحديث عندنا: إذا كان الغازي غنيا في أهله وليس بيده
مال حيث هو فحينئذ لا بأس له أن يأخذ من الصدقة ما يتقوى به.
وكذلك الغارم إذا كان ماله غائبا عنه أو دينا على ظهور الرجال لا يقدر
على أخذه، فهما حينئذ بمنزلة ابن السبيل.
فأما من يكون ماله بحضرته وذلك فوق ما عليه من الدين بقدر نصاب،
لا يحل له أخذ الصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغنى ".
وأما العامل فما يأخذه عمالة (4) وليس بصدقة في حقه، فغناه لا يمنعه
من أخذه، والمشترى من الفقير مبيعا عوضا عن ماله.



(1) ه‍، " و " بدلا من أو في جميع الحديث.
(2) ه‍ " يصدق " وهو خطأ.
(3) ق " وتمسك ".
(4) في هامش ق " العمالة أجر العامل. مغرب ".
162
والذي أهدى إليه المسكين إنما يأخذه هدية لا صدقة، على ما قال
صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة رضي الله عنها: " هي لها صدقة ولنا هدية ".
163 - وذكر عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رجلا سأله
عن التهلكة أهو الرجل إذا (47 ب) ما التقى الجمعان حمل (1) فقاتل
حتى يقتل؟ فقال: لا، ولكنه الرجل يذنب ثم لا يتوب.
وهو المراد بمعنى قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة} (2).
فوقع عند السائل أن من حمل على جماعة من الأعداء يكون ملقيا نفسه
في التهلكة. فبين له البراء بن عازب أن الملقى نفسه في التهلكة من يذنب ثم
لا يتوب، فإنه يصير مرتهنا (3) بصنيعه (4). فأما من حمل على العدو فهو
يسعى في إعزاز الدين، ويتعرض للشهادة التي تستفيد بها الحياة الأبدية،
كيف يكون ملقيا نفسه في التهلكة؟
164 - ثم بين المذهب فقال: لا بأس بأن يحمل الرجل وحده
وإن ظن أنه يقتل إذا كان يرى أنه يصنع شيئا يقتل أو يجرح
أو يهزم.
فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم أحد ومدحهم على ذلك.
وقيل لأبي هريرة: ألم تر أن سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل



(1) ب، ه‍ " فحمل ".
(2) سورة البقرة، 2، الآية 195.
(3) ط " مرتكبا ".
(4) ط " بصنعه ".
163
حتى قتل وألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال: كلا، ولكنه تأول آية من كتاب الله
وهو قوله تعالى {ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله} (1).
فأما إذا كان يعلم أنه لا ينكى فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم.
لأنه لا يحصل بحملته شئ مما يرجع إلى إعزاز الدين، ولكنه يقتل
فقط. وقد قال الله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم} (2).
وهذا بخلاف ما إذا أراد أن ينهى قوما من فساق المسلمين عن منكر
وهو يعلم أنهم لا يمتنعون بنهيه، وأنهم يقتلونه، فإنه لا بأس له بالاقدام
على ذلك، وهو العزيمة. وإن كان يجوز له أن يترخص بالسكوت لان القوم
هناك يعتقدون ما يأمرهم به، فلا بد من أن يكون فعاله مؤثرا في باطنهم.
فأما الكفار غير معتقدين لما يدعوهم إليهم، فالشرط أن تكون حملته بحيث
تنكى فيهم ظاهرا، فإذا كان لا ينكى لا يكون مفيدا فيما هو المقصود فلا يسعه
الاقدام عليه. والله الموفق.



(1) سورة البقرة، 2، الآية 207.
(2) سورة النساء، 4، الآية 29.
164
34 [باب ما يجب من طاعة الوالي وما لا يجب]
165 - [قال:] وإذا دخل العسكر دار الحرب للقتال بتوفيق
الله عز وجل (1) فأمرهم أميرهم بشئ من أمر الحرب، فإن كان فيما أمرهم
به منفعة لهم فعليهم أن يطيعوه لقوله تعالى {أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم} (2)
والمراد الامراء عند بعض المفسرين والعلماء عند بعضهم. وإنما تجب
طاعة العلماء (3) فيما يأمرون به لأنه يأمرونهم بما فيه منفعة للناس في أمر دينهم.
وكذلك إن أمروهم بشئ لا يدرون أينتفعون به أم لا فعليهم أن يطيعوه،
لان فرضية الطاعة ثابتة بنص مقطوع به. وما تردد لهم من الرأي في أن ما أمر
به منتفع أو غير منتفع به لا يصلح معارضا للنص المقطوع.
166 - وقد تكون طاعة الأمير في الكف عن القتال خيرا من
كثير من (4) القتال. وقد يكون الظاهر الذي يعتمده (48 آ) الجند
يدلهم على شئ، والامر في الحقيقة بخلاف ذلك عند الأمير. ولا يرى
الصواب في أن يطلع على ما هو الحقيقة عامة الجند. فلهذا كان عليهم.



(1) قوله " بتوفيق الله.. " لا توجد في ط. وفى ه‍، ق " تعالى " بدلا من " عز وجل ".
(2) سورة النساء، 4، الآية 59.
(3) ه‍، ط، ق " الامراء ".
(4) قوله " كثير من " لا توجد في ه‍.
165
الطاعة ما لم يأمرهم بأمر يخافون فيه الهلكة، وعلى ذلك أكثر (1) رأى
جماعتهم لا يشكون في ذلك. فإذا كان هكذا فلا طاعة له عليهم لقوله
صلى الله عليه وسلم: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".
وفى حديث على رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
سرية وأمر عليهم أميرا. فغضب عليهم أميرهم فأجج نارا وقال: قد أمرتم
بطاعتي فاقتحموها. فمنهم من قال: ندخلها. ومنهم من قال: لا ندخلها،
فانا أسلمنا فرارا من النار. فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخبروه بذلك فقال: " لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا. إنما الطاعة في المعروف
لا في المنكر ".
ومعنى قوله: ما خرجوا منها، أي ينقلون منها إلى نار جهنم، ثم أكبر
الرأي فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته بمنزلة الحقيقة.
167 - فإذا كان عندهم أنهم لو أطاعوه هلكوا كان أمره إياهم
بذلك قصدا منه إهلاكهم واستخفافا بهم. وقد ذم الله تعالى الطاعة
في ذلك فقال {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} (2)
168 - وإن كان الناس في ذلك الامر مختلفين فمنهم من يقول
فيه الهلكة ومنهم من يقول فيه النجاة فليطيعوا الأمير في ذلك.
لان الاجتهاد لا يعارض النص، ولان الامتناع من الطاعة فتح لسان
الأئمة (3) عليهم، وفى إظهار الطاعة قطع ذلك عنهم، فعليهم أن يطيعوه.



(1) ط، ق " أكبر ".
(2) سورة الزخرف، 43، الآية 54.
(3) ب، أ، ه‍ " الأئمة ".
166
169 - إلا أن يأمرهم بأمر ظاهر لا يكاد يخفى على أحد أنه
هلكة، أو أمرهم بمعصية، فحينئذ (1) لا طاعة عليهم في ذلك ولكن
ينبغي أن يصبروا ولا يخرجوا على أميرهم.
لحديث (2) ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " من أتاه من أمير ما يكرهه فليصبر، فان من خالف المسلمين قيد (3)
شبر ثم مات مات ميتة الجاهلية ".
170 - واستدل بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح
مكة بعث خالدا إلى بنى جذيمة (4) فقاتلهم بعد ما سمع الاذان منهم،
وبعد ما وضعوا السلاح. فأمر بهم فأسروا، ثم قال ليقتل كل رجل
منكم أسيره. فأما بنو سليم ففعلوا ذلك، وأما المهاجرون والأنصار
فخلوا أسراهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم
إني أبرأ إليك مما صنع خالد. ثلاث مرات. ثم أرسل عليا رضي الله عنه
فودى (5) لهم ما أصابه خالد من قليل أو كثير.
وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار
على ما صنعوا من تخلية سبيل الأسرى.



(1) ق " فح ".
(2) ه‍ " بحديث ".
(3) في هامش ق " وبينهما قيد رمح أي قدر رمح ".
(4) ه‍ " حذيفة "، ط " خزيمة " الصواب ما أثبتنا.
(5) في هامش ق " وديت القتيل أديه دية أي أعطيت ديته، واتديت أخذت ديته. وإذا
أمرت قلت د فلانا، وللاثنين ديا، وللجماعة دوا ".
167
فعرفنا أنه لا طاعة للأمير على جنده فيما هو معصية، ولا فيما كان
وجه الخطأ فيه بينا. فأما فيما سوى (48 ب) ذلك ينبغي لهم أن يطيعوه لئلا
يفشلوا ولا يتنازعوا كما قال الله تعالى {ولا تنازعوا فتفشلوا} (1).
171 - قال: وينبغي أن يؤمر على الجند العاقل الفاضل، العالم
بالحرب، الرفيق.
وقد بينا هذا فيما تقدم. نقول (2): من يكون هكذا فهو موضع
للإمارة (3)، عربيا كان أو مولى أو غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم " اسمعوا
وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي مجدع (4) ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل ".
وفيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" عليكم بالسمع والطاعة لكل من يؤمر عليكم ما لم يأمركم بالمنكر، ففي المنكر
لا سمع ولا طاعة ".
172 - قال: وإذا نادى الأمير أن يكون فلان (5) وجنده في
الميمنة، وفلان وجنده في المقدمة، وفلان وجنده في الميسرة، وفلان
وجنده في الساقة، فلا ينبغي لأحد أن يترك الموضع الذي أمره
بالكون فيه.
لان هذا من التدبير الحسن في أمر الحرب، فإنما تظهر فائدته بالطاعة.
173 - فإن عصاه عاص (6) فليتقدم إليه الأمير.



(1) سورة الأنفال، 8، الآية 46.
(2) ه‍ " فنقول " ق " يقول ".
(3) في هامش ق " نسخة: الامرة ".
(4) ط " مجذع " وفى هامش ق " نسخة: اجدع ".
(5) ه‍ " فلانا " وهو خطأ.
(6) ب " عاصي ".
168
يعنى لا ينبغي له أن يعاقبه في المرة الأولى لان هذه عثرة منه - وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم (1) "، ولكن
يتقدم إليه وإلى الجند جميعا أنه يؤدب من خالف أمره بعد ذلك، فيكون ذلك
إنذارا منه. قال صلى الله عليه وسلم: " قد أعذر من أنذر ".
وبيان هذا في قوله تعالى {وقد قدمت إليكم بالوعيد} (2)، فإن عصاه
عاص بعد ذلك من غير عذر فما أحسن أدبه في ذلك ليكون ذلك فطاما له
وزجرا لغيره عن إساءة الأدب لمخالفة أمره، فإن امتناع الناس مما لا يحل
لمخالفة العقوبة أكثر من امتناعهم خوفا من الله تعالى. وبه ورد الأثر، قال
صلى الله عليه وسلم: " إن الله يزع (3) بالسلطان فوق ما يزع بالقرآن " (4).
174 - وإن ادعى عذرا يعتذر به وحلف على ذلك فلا سبيل
له عليه، لأنه أخبر بخبر محتمل للصدق (5)، وأكد ذلك بيمينه.
فينبغي أن يكف عنه إذ ليس ها هنا خصم ينازعه في ذلك
وإنما لا يجعل اليمين في جانب المدعى في الخصومات، لان الخصم
ينازعه في ذلك. والشرع جعل اليمين في جانب المنكر دون المدعى.
175 - وإذا نادى منادى الأمير أن الساقة غدا على أهل الكوفة فلا
يتخلفن رجل من أهل الديوان ولا من المطوعة (6). لانهم جميعا رعيته حين
خرجوا للجهاد تحت رايته، فعليهم طاعته، إلا أن يكون الامر المشهور أنه إذا
نادى بهذا يريد به أهل الديوان خاصة، فحينئذ الثابت بالعرف كالثابت بالنص.



(1) في هامش ق " يعنى اتركوا لأهل المروءات زلاتهم. كذا في المناوي ".
(2) سورة ق، 50، الآية 28.
(3) في هامش ق " وزعته كوضع وزعا كففته. قاموس " " والكف الصرف - قاموس ".
(4) ب " ما نزع السلطان فوق ما نزع القرآن " ه‍ " إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن "
ط " ان الله وزع... " والبقية مثل ه‍ أثبتنا رواية ق لقربها من رواية ب، أ.
(5) ط، ق " يحتمل الصدق ".
(6) في هامش " أهل الديوان ما أجرى عليهم وثبت أساميهم في الجريدة، والمطوعة ما خرجوا
طائعين بغير أجر. حصيري ".
169
وإن كان رجل من أهل الكوفة ديوانه مع أهل البصرة، فهو مع أهل ديوانه
وليس مع أهل بلده.
لان أمره راجع إلى الجهاد، وفى الجهاد إنما يجمعهم الديوان لا البلدة
ولان مراده من هذا الامر أن ينضم بعضهم إلى بعض في التناصر، وتناصر
أهل الديوان بالديوان (49 آ) ولهذا يتعاقلون به.
176 - ولو نادى المنادى: الساقة غدا على أصحاب الخيل، فهو
على نحو ما ذكرنا. وينبغي لأصحاب البراذين أن يكونوا مع أصحاب
العراب (1) في ذلك.
لان كلها في الخيل. قال الله تعالى: {والخيل والبغال والحمير} (2)
وقال تعالى (3): {ومن رباط الخيل} (4).
ولما سئل سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين قال: أوفى الخيل صدقة؟
فأصحاب البراذين في ذلك مع أصحاب العراب.
إلا أن يكون المعروف من ذلك أنهم إذا نادوا بذلك يريدون
أصحاب العراب خاصة، لأنها أسرع في الطلب والحرب. فحينئذ يكون
الامر على ما أراد، لان الثابت بالعرف كالثابت بالنص.
177 - وإن قال: الميمنة غدا على أهل المصيصة (5)، فكان
رجل من أهل الكوفة سكن المصيصة لقوله صلى الله عليه وسلم:
" من تأهل ببلدة فهو من أهلها ".



(1) يقال خيل عراب وأعرب ومعربة أي سليمة لا هجنة فيها (القاموس).
(2) سورة النحل، 16، الآية 8.
(3) ب، أ " إلى قوله تعالى ".
(4) سورة الأنفال، 8، الآية 60.
(5) مدينة كانت من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم (ياقوت، معجم البلدان) وهي
اليوم في تركية.
170
ولان من يكون ساكنا في بلدة مقيما بها يعد في الناس من أهلها. ألا ترى
أنا إذا عددنا فقهاء الكوفة ذكرنا في جملتهم النخعي والشعبي وأبا حنيفة رضي الله عنهم
، وهم ما كانوا من الكوفة (1) في الأصل ولكنهم سكنوها.
وإن كان لم يتخذ المصيصة مسكنا فلا يدخل في هذا النداء،
إلا أن يكون ديوانه مع أهل المصيصة فحينئذ يتناوله النداء.
باعتبار انضمامه إلى أهل المصيصة في الديوان.
178 - فإن شد (2) العدو إلى الساقة فلا بأس بأن يعينهم أهل
الميمنة والميسرة إذا خافوا عليهم.
لانهم تواعدوا النصرة حين اجتمعوا على محاربة المشركين، ومن لا يعن
غيره لا يعنه غيره عند حاجته. وفى ترك التعاون ظهور (3) العدو عليهم.
فإذا ظهر العدو على الساقة يقصدون أهل الميمنة والميسرة من ذلك
الجانب فعليهم أن يدفعوا عن أنفسهم بالدفع عن إخوانهم.
179 - قال: فإن كان ذلك يخل بمراكزهم، فلا ينبغي لهم أن
يفعلوا.
لان الامام فوض إليهم حفظ ذلك عينا فيحرم عليهم تضييع ذلك
والاشتغال بحفظ ما هو مفوض إلى غيرهم.



(1) ه‍ " من أهل الكوفة ".
(2) ه‍ " شهد " وهو خطأ.
(3) ه‍ " من ظهور " ولا معنى لمن هنا.
171
180 - وإن أمرهم الامام أن لا يبرحوا (1) من مراكزهم ونهى
عن أن يعين بعضهم بعضا فلا ينبغي لهم أن يعصوه، وإن أمنوا من
ناحيتهم وخافوا على غيرهم.
لان طاعة الامام فرض عليهم بدليل مقطوع به، وما يخافونه موهوم
على ما قيل: أكثر ما يخاف لا يكون.
181 - والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
الرماة يوم أحد أن يقوموا بموضع ولا يبرحوا من مراكزهم. فلما
نظروا إلى المشركين، وقد انهزموا، ذهبوا يطلبون الغنيمة. فكانت
هزيمة المسلمين في ناحيتهم.
كما قال الله تعالى: {حتى إذا فشلتم، وتنازعتم في الامر، وعصيتم
من بعد ما أراكم ما تحبون} (2).
182 - قال: وإن خرج علج من المشركين بين الصفين يدعو
إلى البراز فلا بأس بأن يخرج إليه رجل من المسلمين من غير أن يستأذن
من الامام (49 ب) في ذلك.
لان دلالة الاذن في المبارزة كصريح الاذن، وتسوية الصفوف كان
للقتال، فذلك دلالة الاذن في المبارزة.
ما لم ينههم. فإن نهاهم فليس ينبغي لهم أن يخرجوا.



(1) ق " يتركوا " وفى الهامش " يبرحوا، نسخة ".
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 152.
172
لان الدلالة يسقط اعتبارها عند التصريح بخلافها، كمقدم المائدة بين
يدي الغير إذا نهاه عن الاكل.
وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القتال في بعض أيام
خيبر. فقاتل رجل فقتل. فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الجنة لعاص " (1).
183 - وكذلك إن نهى إنسانا بعينه، فلا ينبغي له أن يخرج
لاحتمال النظر في نهى الامام له، ولا بأس بأن يخرج غيره لبقاء دليل
الاذن في حقه.
والأصل فيه ما روى أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد
ابن عتبة خرجوا يوم بدر يدعون إلى البراز. فخرج إليهم ثلاثة من
فتيان الأنصار. فقالوا لهم: انتسبوا. فانتسبوا. فقال: أنتم أبناء قوم
كرام، ولكنا نريد أكفاءنا من قريش، فارجعوا إلى محمد وقولوا له:
أخرج إلينا أكفاءنا.
هكذا ذكر في المغازي.
وهو دليل على أنه لا بأس بالخروج قبل نهى الامام لان النبي صلى الله
عليه وسلم لم ينكر عليهم ذلك.
وروى محمد (2) رحمه الله هذه القصة من وجه (3) آخر.
184 - فقال: فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجوا



(1) ه‍ " للعاصي ".
(2) ه‍ " محمد بن الحسن ".
(3) ه‍ " وجهه " وهو خطأ.
173
وأحب أن يكون أول القتال من أهل بيته وأمر حمزة بن عبد المطلب
وعلي بن أبي طالب وعبيدة (1) بن الحارث فخرجوا إليهم. وفى ذلك
نزل قوله تعالى {هذان خصمان اختصموا في ربهم} (2).
185 - فإذا تبارز المسلم والمشرك فلا بأس بأن يعين المسلمون
صاحبهم إن قدروا على ذلك.
لان المشرك قاصد إلى قتلهم كما هو قاصد إلى قتل صاحبهم لو تمكن
من ذلك. فلهم أن يدفعوا لو لم يكن قاصدا إليهم كان لهم أن يقتلوه لكونه
مشركا محاربا.
وفى قصة المبارزين يوم بدر (3) ذكر أن عليا رضي الله عنه قتل
الوليد، وحمزة قتل عبيدة، واختلف عبيدة وشيبة ضربتين (4)،
فأعان (5) على وحمزة عبيدة رضي الله عنهما على شيبة حتى قتلاه.
فعرفنا أنه لا بأس.
186 - ولا بأس بأن تخرج الجماعة الممتنعة إلى العلافة (6) بغير
إذن الوالي فيتعلفون ثم يرجعون.



(1) ب، أ " عبيد ".
(2) سورة الحج 22، الآية 19.
(3) ط " يوم أحد ".
(4) ب " ضربين ".
(5) ب " فاعتان ".
(6) يمكن أن تكون بفتح العين، وتشديد اللام، أو بكسر العين وتخفيف اللام. وفى
هامش ق " العلاقة - بتشديد اللام - هي موضع العلف ومعدنه كالملاحة لمعدن الملح ومنبته. مغرب "
وفوق ذلك ما يلي " والعلافة كالصناعة هي طلب العلف وشراؤه والمجئ به. مغرب ".
174
لوجود دلالة الاذن. فان الامام جرهم إلى ذلك الموضع مع علمه أنهم
يحتاجون إلى العلف، وأنه يشق عليهم استصحاب العلف من دار الاسلام،
ولا يجدون في دار الحرب من يشترونه منه، ولأنه أذن لهم فيما فيه كبت وغيظ
للعدو. وفى أخذ العلوفة (1) منهم تحقيق هذا المعنى.
إلا أنهم لا يتمكنون من ذلك إلا بمنعة. فلا بأس بأن يخرجوا
إذا كانوا أهل منعة. ولا يتفرقون إلا بحيث يغيث بعضهم بعضا.
لانهم إذا تفرقوا وبعد (2) بعضهم عن بعض على وجه لا يمكنه أن
يستغيث به إذا حزبه أمر (50 آ) كان معرضا نفسه لأجل المال، فإنه لا يأمن (3)
أن يجتمع عليه نفر من المشركين فيقتلوه.
187 - كما لا يحل للواحد والمثنى أن يخرج ابتداء خوفا من
ذلك، إلا أن يكون بالقرب من العسكر على وجه يتمكن من أن
يستغيث بهم (4) إذا حزبه أمر.
فكذلك لا ينبغي لهم أن يتفرقوا إلا على هذه الصفة.
188 - وإن نادى منادى الأمير بالنهي عن الخروج للعلافة،
فلا ينبغي لأهل منعة ولا لغيرهم أن يخرجوا.
لان دلالة الاذن تنعدم بصريح النهى، وربما يكون النظر في هذا النهى.
إلا أنه ينبغي للامام أن يبعث لذلك قوما.



(1) في هامش ق " العلوفة بالضم جمع علف. مغرب ".
(2) قوله " وبعد " ساقط من ه‍.
(3) ق " لا يأمن من أن ".
(4) ه‍ " لهم " وهو خطأ.
175
189 - وينبغي أن يؤمر عليهم أميرا لتتفق كلمتهم ويتمكنوا (1)
من المحاربة مع المشركين إن ابتلوا بذلك.
190 - وكذلك إن خرجوا متفرقين قبل نهى الامام، فهجم
عليهم العدو، فينبغي لهم أن يجتمعوا ويؤمروا عليهم أميرا ثم يقاتلوا
حتى يلتحقوا بالعسكر.
لان حاجة الجيش إلى ذلك ماسة. والامام ناظر لهم. فإنما يتم النظر منه
إذا بعث لذلك قوما.
لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روينا: " هل أمرتما؟
قال: نعم. فقال: ألا (2) قد رشدتما ".
وقد بينا أن المسافرين يستحب لهم أن يؤمروا عليهم أمرا فما ظنك (3)
في المحاربين؟
191 - وبعد ما نهى الوالي الناس عن الخروج إذا أصابهم
ضرورة من العلف، وخافوا على أنفسهم أو على ظهورهم ولم (4) يجدوا
ما يشترون فلا بأس بأن يخرجوا في طلب العلف.
لان موضع الضرورة مستثنى عن موجب الامر بدليل قوله تعالى
{إلا ما اضطررتم إليه} (5).



(1) ه‍، ب أ، ط " ويتمكنون " أثبتنا رواية ق.
(2) قوله " ألا " ساقطة من ه‍.
(3) في هامش ق " فما ظنكم. نسخة ".
(4) ه‍ " فلم ".
(5) سورة الأنعام، 6، الآية 119.
176
192 - وإن قال الوالي لا يخرجن أحد إلى العلف إلا تحت لواء
فلان، فينبغي لهم أن يراعوا شرطه، فيخرجوا تحت لوائه. فإذا أتوا
القرى فلا بأس بأن يتفرقوا فيها لطلب العلف على وجه يغيث بعضهم
بعضا إذا احتاجوا إليه. فإذا أتاهم العدو فلينضموا إلى صاحب اللواء
حتى يقاتلوا تحت لوائه، وإن لم يكن صاحب اللواء بحضرتهم فليؤمروا
عليهم أميرا.
والحاصل أن ينبغي أن يتحرزوا عن إلقاء النفس في التهلكة بأقصى
ما يتمكنون منه. قال الله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (1).
193 - ولا ينبغي بعد ما خرجوا أن يفارقوا صاحب اللواء،
إلا حيث يمكنهم أن يغيثهم إذا استغاثوا.
لأنا نعلم أن مقصود الامام من قوله لا يخرجوا إلا تحت لواء فلان ليس
الخروج فقط، ولكن مراده: كونوا تحت لوائه إلى أن ترجعوا. ومن يراع
أمره في شئ يراع صفة أمره.
194 - وكذلك لو قال منادي الأمير: من أراد العلف فليخرج
تحت لواء فلان، ولم يكن منه نهى ولا أمر غير هذا، فهذا
بمنزلة النهى.
وقد (50 ب) بينا أنه بنى هذا الكتاب على أن المفهوم حجة، وظاهر



(1) سورة البقرة، 2، الآية 195.
م - 12 السير الكبير
177
المذهب عندنا أن المفهوم ليس بحجة، مفهوم الصفة ومفهوم الشرط في ذلك
سواء. ولكنه اعتبر المقصود يفهمه أكثر الناس في هذا الموضع، لان
الغزاة في العام الغالب لا يقفون (1) على حقائق العلوم. وإن أميرهم بهذا اللفظ
إنما يقصد نهى الناس عن الخروج إلا تحت لواء فلان. فجعل النهى المعلوم
بدلالة كلامه كالمنصوص عليه. وتمام هذه المسألة في الأصول.
195 - قال: ولا أحب إذا (2) انتهوا إلى القرى أن يدخل
القرية الرجل الواحد، لعل فيها قوما مختفين (3) فيقتلوه. ولكن
يدخل عدد القرية متأهبين (4) للقتال. فإن كان فيها أحد أعلم بعضهم
بعضا لقوله تعالى {خذوا حذركم فانفروا ثبات (5) أو انفروا
جميعا} (6).
196 - وإن نهى الأمير المسلمين أن يقطعوا الشجر أو يهدموا
الأبنية فليس ينبغي لهم أن يعصوه في ذلك.
لان في هذا النهى احتمال معنى النظر للمسلمين. وهذا المنع (7) من أمر
الحرب. ولو نهاهم عن القتال كان عليهم أن لا يعصوه ما لم يأت ضرورة
أو معصية، فكذلك إذا نهاهم عن هذه الخصال.



(1) ه‍ " لا يتفقون ".
(2) ه‍ " إذ ".
(3) ه‍ " مختلفين " ق " محنقين ".
(4) ق " متهيئين " وفى الهامش: " نسخة: متاءهبين ".
(5) الثبة الجماعة والعصبة من الفرسان (قاموس).
(6) سورة النساء، 4، الآية 71.
(7) ق، ه‍ " الصنيع ".
178
ولو عقد الأمير لواء الرجل وقال: لا يخرجن معه إلا
ثلاثمائة، فينبغي لهم أن يطيعوه فلا يخرج إلا العدد الذي قال (1).
لان الكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى، فيكون
هذا تصريحا بالنهي عن الزيادة عن العدد المستثنى.
198 - ولو صرح لهم بالنهي مطلقا لم يحل لهم عصيانه.
فكذلك ها هنا:
199 - فإن خرجوا أربعمائة فأصابوا غنائم لم يحرموا الغنيمة مع
أهل العسكر.
وإن كانوا قد أساءوا، لانهم مجاهدون قاصدون إعلاء كلمة الله تعالى
وإعزاز الدين. فمخالفتهم الأمير لا يكون أكثر تأثيرا من مخالفتهم أمر الله تعالى
بارتكاب ما لا يحل. فكما أن ذلك لا يخرجهم من أن يكون مؤمنين فهذا
لا يخرجهم من أن يكونوا غزاة، كيف وهذا النهى بمعنى في غير المنهي عنه،
فإنه ما نهاهم عن الخروج لعين الخروج (2) أو القتال أو الاغتنام (3)، ولكن
للاشفاق عليهم.
200 - فإن كان قد نفلهم الربع بعد الخمس فخرجوا فأصابوا غنائم،
فإن كانت الثلاثمائة الذين أمرهم بالخروج قوما مسمين بأعيانهم ميز
ثلاثة أرباع الغنيمة فأعطى أولئك منها نفلهم.
هكذا ذكر في بعض النسخ، وهو غلط. ولكن الصواب ما ذكره
في بعض النسخ أنه يقول الخمس من هذه الثلاثة الأرباع. ثم يعطيهم من ربع



(1) ط، ه‍ " فلا يخرج إلا على القدر المذكور فيه ".
(2) قوله " لعين الخروج " ساقط من ه‍.
(3) قوله " أو الاغتنام " ساقط من ط.
179
ما بقى نفلهم. لأنه هكذا شرط لهم الربع بعد الخمس. ومراده مما يصيبون،
ومصابهم ثلاثة أرباع الغنيمة.
201 - وذكر بعد هذا هذه المسألة وقال:
يقسم (1) ما جاءوا به (51 آ) بينهم على سهام الخيل والرجالة،
ثم ينظر إلى ما أصاب الثلاثمائة فيخرج الخمس من ذلك، ثم يعطيهم
نفلهم مما بقى.
ووجه التوفيق أنه وضع المسألة هناك فيما إذا كان بعضهم فارسا وبعضهم
راجلا. وها هنا وضع المسألة فيما إذا كان فرسانا كلهم أو رجالة كلهم. فلهذا
ميز لهم ثلاثة أرباع الغنيمة ليعطى منها نفلهم.
وقال في موضع آخر: يرفع الخمس في جميع المصاب (2) أولا ثم
ينظر إلى ثلاثة أرباع الغنيمة فيعطيهم من ذلك نفلهم.
فالحاصل أنه كرر ذكر هذه المسألة في أربعة مواضع في هذا الكتاب.
وأجاب في كل موضع بجواب آخر، فنذكر في كل موضع ما هو صواب من
الجواب وما هو غلط إذا انتهينا إليه إن شاء الله.
قال: ثم نظر إلى الربع الباقي فعزل خمسة ثم جمع ما بقى منه إلى
ما بقى من الثلاثة الأرباع.
فجعل ذلك مع غنايم أهل المعسكر يقسمها بينهم جميعا على قسمة الغنيمة.
وفى بعض النسخ يذكر.



(1) ه‍ " تقسيم ".
(2) في هامش ق " ما يصاب. نسخة ".
180
أنه لا يخمس هذا الربع.
فكأنه بنى ذلك على أن المائة العصاة بمنزلة المتلصصين في دار الحرب
بغير إذن الإمام، فلا يخمس ما أصابوا. وهو غلط. فإنه إنما لا يخمس مصاب
المتلصصين إذا لم يكونوا أهل منعة. وهؤلاء أهل منعة بالانضمام إلى
الثلاثمائة، فلا بد من أن يخمس ما أصابوا.
202 - وإن كانت الثلاثمائة ليسوا قوما بأعيانهم والمسألة
بحالها فإن الامام ينظر إلى ثلاثة أرباع الغنيمة فيخرج منها الخمس
ثم ينظر إلى ربع ما بقى فيقسم بين الأربعمائة بالسوية نفلا لهم.
لان الاستحقاق بالتنفيل يثبت لثلاثمائة منهم، وليس بعضهم أولى
من البعض. فلا بد من قسمة ذلك بينهم بالسوية، لاستوائهم في سبب الاستحقاق
ثم يخرج الخمس من الربع الباقي ويجمع ما بقى منه إلى ما بقى من الثلاثة الأرباع
فيقسمها بينهم وبين جميع العسكر على سهام الخيل والرجال كما هو الحكم في
قسمة الغنيمة بين الغانمين.
203 - فإن كانت المائة العصاة بأعيانهم فرأى الأمير أن يحرمهم
سهمهم مما أصابوا، فقسم ما بقى بين الثلاثمائة وأهل العسكر وحرم
العصاة، ثم ولى آخر يرى ما صنع الأول جورا أمضى صنيعه ذلك
ولم يرده.
لأنه أمضى باجتهاده فعلا مختلفا (1) فيه. فان عند بعض الفقهاء يحرم
العصاة حظهم مما أصابوا ليكون زجرا وفطاما لهم عن العود إلى مثله، وردوا
ذلك إلى حرمان القاتل الميراث بسبب جنايته. وبيان هذا يأتي في باب إحراق



(1) ط، ه‍ " مجتهدا ".
181
رحل الغال (1). وقضاء القاضي في المجتهدات يكون نافذا لا يرد. فلهذا قال:
لا يرد الثاني ما صنع الأول.
204 - قال: ولا ينبغي للرجل أن يخرج إلى الجهاد وله أب
أو أم إلا بإذنه (2).
لان برهما واجب، والتحرز عن عقوقهما فرض عليه بعينه. قال صلى
الله عليه وسلم: " ليعمل (51 ب) البار ما شاء فلن يدخل النار. وليعمل
العاق ما شاء فلن يدخل الجنة ". وقال عليه السلام: " من أصبح ووالداه
راضيان عنه فله بابان مفتوحان إلى الجنة ". فلا ينبغي له أن يسد هذا الباب
بالخروج بغير إذنهما، وهو لا يدرى أنه هل ينتفع بخروجه هو أو غيره
أو لا ينتفع.
205 - وذكر عن عباس (2) بن مرداس أنه قال: يا رسول الله (4)
إني أريد الجهاد. قال: ألك أم؟ قال: نعم. قال: الزم أمك فإن الجنة
عند رجل أمك.
وتفريع المسائل على هذا الأصل في باب بعد هذا، فيؤخر بعض الكلام
فيه إلى ذلك الموضع.
206 - وذكر عن ابن الزبير قال: سألت جابرا أيقاتل العبد
بغير إذن مولاه؟ قال: لا.



(1) ط " في باب آخر ورحل الغال ".
(2) ق وحدها " باذنهما ".
(3) ق، ب " ابن عباس بن مرداس " وهو خطأ. انظر تهذيب التهذيب.
(4) ه‍ " يا رسول الله عليك السلام ".
182
وبه نأخذ.
لان منافعه ملك المولى، فلا يجوز له أن يفوتها عليه بالاشتغال بالقتال.
وماليته ملك المولى، فلا يجوز له أن يعرضها للتلف بالقتال، إلا أن يجيئ
حال ضرورة المسلمين (1) إليه. بأن وقع النفير عاما. فحينئذ لا بأس أن
يخرج لما بينا أن موضع الضرورة مستثنى من لزوم الطاعة شرعا، ولأنه ليس
للمولى في مثل هذه الحالة أن يمنعه، بل يفترض عليه دفع شر المشركين بنفسه
وبما يقدر عليه من ملكه. فلذلك لا يجب على العبد أن يطيعه إن نهاه عن
الخروج.
وكذلك هذا الجواب في حق الولد إذا نهاه والداه (2) في مثل هذه الحالة.
والله الموفق.



(1) ق " للمسلمين ".
(2) ط " والده ".
183
35.
[باب قتال النساء مع الرجال]
وشهودهن الحرب
207 - قال: لا يعجبنا أن يقاتل النساء مع الرجال في الحرب.
لأنه ليس للمرأة بنية صالحة للقتال. كما أشار إليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم في قوله: " هاه، ما كانت هذه تقاتل (1) ". وربما يكون في قتالها
كشف عورة المسلمين، فيفرح به المشركون. وربما يكون ذلك سببا لجرأة
المشركين على المسلمين. ويستدلون به على ضعف المسلمين فيقولون: احتاجوا
إلا الاستعانة بالنساء على قتالنا. فليتحرر عن هذا. ولهذا المعنى لا يستحب
لهن مباشرة القتال.
إلا أن يضطر المسلمون إلى ذلك.
فان دفع فتنة المشركين عند تحقق الضرورة بما يقدر عليه المسلمون جائز
بل واجب.
واستدل عليه بقصة حنين (2) وقد بيناها. وفى أواخر (3) تلك القصة:
قالت أم سليم بنت ملحان، وكانت يومئذ تقاتل شادة على بطنها
بثوب،: يا رسول الله! أرأيت هؤلاء الذين فروا منك وخذلوك،



(1) في هامش ق " مر قوله عليه السلام: " هاه! ما كانت هذه تقاتل " في باب وصايا
الأمراء في الحرب ".
(2) ه‍، ط " خيبر ".
(3) ه‍ " آخر ".
184
فلا تعف عنهم إن أمكنك الله منهم. فقال صلى الله عليه وسلم:
يا أم سليم! عافية الله أوسع. فأعادت ذلك ثلاث مرات، وفى كل
ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: عافية الله أوسع.
وفى المغازي أنها قالت: ألا نقاتل يا رسول الله (52 آ) هؤلاء الفرارين
فنقتلهم كما قاتلنا المشركين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: عافية الله أوسع.
وأية حاجة إلى قتال النساء أشد من هذه الحاجة حين فروا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأسلموه (1).
وفى هذا بيان أنه لا بأس بقتالهن عند الضرورة لان الرسول لم يمنعها
في تلك الحالة، ولم ينقل أنه أذن للنساء في القتال في غير ذلك الحالة.
208 - قال: ولا بأس بأن يحضر منهن الحرب العجوز (2) الكبيرة
فتداوي الجرحى، وتسقي الماء، وتطبخ للغزاة (3) إذا احتاجوا إلى ذلك،
لحديث (4) عبد الله بن قرط الأزدي قال كانت نساء خالد بن الوليد ونساء
أصحابه مشمرات، يحملن الماء للمجاهدين يرتجزن، وهو يقاتل الروم.
والمراد العجائز، فالشواب (5) يمنعن عن الخروج لخوف الفتنة. والحاجة
ترتفع بخروج العجائز.
209 - وذكر عن أم (6) مطاع، وكانت شهدت خيبر (7) مع



(1) في هامش ق " أسلمه خذله. جوهري ".
(2) ق " العجوز ".
(3) ط " ولا بأس للعجائز أن يحضرن الحرب لمداواة الجرحى والطبخ للغزاة.. ".
(4) ه‍ " بحديث ".
(5) ط، ه‍ " فأما غير العجائز من النساء " وفى ه‍ زيادة " فالثواب أن يمنعن.. ".
(6) ق " ابن " وهو خطأ.
(7) في أصل ب " حنينا " ثم صححت في الهامش بخيبر.
185
النبي صلى الله عليه وسلم قالت: رأيت أسلم، حيث شكوا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلقون من شدة الحال. فندبهم إلى
الجهاد (1) فنهضوا. ولقد رأيت أسلم أول من انتهى إلى الحصن فما
غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتحه الله علينا، وهو حصن الصعب
ابن معاذ بالنطاة (2).
ففي هذا بيان أنها كانت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم
يمنعها من ذلك. فعرفنا أنه لا بأس للعجوز أن تخرج لإعانة المجاهدين بما يليق
بها من العمل. والله الموفق.



(1) في هامش ق " القتل. نسخة ".
(2) في هامش ق " وفى حديث خيبر: غدا إلى النطاة ".
186
36 [باب الجهاد]
ما يسع منه وما لا يسع (1)
210 - قال أبو حنيفة رحمه الله: الجهاد واجب على المسلمين:
إلا أنهم في سعة من ذلك حتى يحتاج إليهم. فكان الثوري يقول:
القتال مع المشركين ليس بفرض، إلا أن تكون البداية منهم،
فحينئذ يجب قتالهم دفعا لظاهر قوله {فان قاتلوكم فاقتلوهم} (2)، وقوله
{وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} (3). ولكنا نستدل
بقوله {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار (4)} (5).
وبقوله {وقاتلوا في سبيل الله} (6)، وبقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون
بالله} (7)، وبقوله {وجاهدوا في الله حق جهاده} (8).



(1) في هامش ق " لا يسعك أن تفعل كذا أي لا يجوز، لان الجائز موسع غير مضيق.
مغرب ".
(2) سورة البقرة، 2، الآية 191.
(3) سورة التوبة، 9، الآية 36.
(4) في هامش ق " قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار. أمروا
بقتال الأقرب منهم فالأقرب. أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته فان الأقرب أحق
بالشفقة. بيضاوي ".
(5) سورة التوبة، 9، الآية 123.
(6) سورة البقرة، 2، الآية 190.
(7) سورة التوبة، 9، الآية 29.
(8) سورة الحج، 22، الآية 78.
187
والحاصل أن الامر بالجهاد وبالقتال نزل مرتبا. فقد كان النبي صلى
الله عليه وسلم مأمورا في الابتداء بتبليغ الرسالة والاعراض عن المشركين قال الله
تعالى {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} (1). وقال تعالى {فاصفح
الصفح الجميل} (2).
ثم أمر بالمجادلة بالأحسن كما قال {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة} (3)، وقال {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (4).
ثم أذن لهم في القتال بقوله {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} (5).
ثم أمروا بالقتال إن كانت البداية منهم بما تلا من آيات.
ثم أمروا بالقتال بشرط انسلاخ (6) الأشهر الحرم كما قال تعالى {فإذا
(52 ب) انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} (7).
ثم أمروا بالقتال مطلقا بقوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله، واعلموا أن
الله سميع عليم} (8).
فاستقر الامر على هذا. ومطلق الامر يقتضى اللزوم، إلا أن فرضية
القتال لمقصود إعزاز الدين وقهر المشركين.
فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين، بمنزلة غسل الميت
وتكفينه (9) والصلاة عليه ودفنه. إذ لو افترض على كل مسلم بعينه،



(1) سورة الحجر، 15، الآية 94.
(2) سورة الحجر، 15، الآية 85.
(3) سورة النحل، 16، الآية 125.
(4) سورة العنكبوت، 29، الآية 46.
(5) سورة الحج، 22، الآية 39.
(6) ه‍ "... بالقتال بانسلاخ ".
(7) سورة التوبة، 9، الآية 5.
(8) سورة البقرة، 2، الآية 244.
(9) قوله " وتكفينه " ساقط من ه‍، ب، أ، ط. انفردت بها ق.
188
وهذا (1) فرض غير موقت بوقت، لم يتفرغ أحد لشغل (2) آخر من كسب أو تعلم.
وبدون سائر الاشغال لا يتم أمر الجهاد أيضا. فلهذا كان فرضا على الكفاية.
211 - حتى لو اجتمعوا على تركه اشتركوا في المأثم. وإذا حصل
المقصود بالبعض سقط على الباقين. وفى مثل هذا يجب على الامام
النظر للمسلمين، لأنه منصوب لذلك نائب عن جماعتهم. فعليه أن
لا يعطل الثغور، ولا يدع الدعاء إلى الدين، وحث المسلمين على الجهاد.
وإذا ندب الناس إلى ذلك فعليهم أن لا يعصوه بالامتناع
من الخروج.
ولا ينبغي أن يدع المشركين بغير دعوة إلى الاسلام. أو إعطاء
جزية إذا تمكن من ذلك.
لان التكليف بحسب الوسع.
212 - وإن كانوا قوما لا تقبل منهم الجزية كعبدة الأوثان من
العرب والمرتدين فإنه يدعوهم إلى الاسلام، فإن أبو قاتلهم (3).
وأما المجوس وعبدة الأوثان من العجم في جواز أخذ الجزية منهم (4)
عندنا بمنزلة أهل الكتاب، فيدعوهم إلى إحدى هاتين الخصلتين، ويجب
الكف عنهم إذا أجابوا إلى إحداهما (5)، وإن امتنعوا منهما فحينئذ يقاتلون.



(1) ه‍ " وهو ".
(2) ه‍ " بشغل ".
(3) ه‍ " قاتلوهم ".
(4) ب، أ " عنهم " ولا توجد الكلمة في ط.
(5) ه‍ " أحدهما ".
189
وفى أهل الكتاب العربي وغير العربي سواء. لقوله تعالى {من الذين
أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (1).
وكل (2) مسلم في هذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بعث
داعيا إلى ما بينا، وأمر بالقتال على ذلك مع من أبى.
213 - قال: وإن قالوا للمسلمين وادعونا على أن لا نقاتلكم
ولا تقاتلونا (3) فليس ينبغي للمسلمين أن يعطوهم ذلك لقوله تعالى
{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون} (4).
ولان الجهاد فرض، فإنما تركوا الموادعة على أن تترك فريضة، ولا يجوز
إجابتهم إلى مثل هذه الموادعة، كما لو طلبوا الموادعة على أن لا يصلوا ولا
يصوموا (5).
إلا أن يكون لهم شوكة شديدة لا يقوى عليهم المسلمون.
فحينئذ لا بأس بأن يوادعهم إلى أن يظهر للمسلمين قوة ثم ينبذ إليهم.
قال الله تعالى {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} (6). وصالح رسول الله صلى
الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر
سنين.
ولان حقيقة الجهاد في حفظ قوة أنفسهم أولا ثم في قهر المشركين وكسر
شوكتهم. فإذا كانوا عاجزين (53 آ) عن كسر شوكتهم كان عليهم أن يحفظوا



(1) سورة التوبة، 9، الآية 29.
(2) ه‍ " وكلم " خطأ.
(3) ه‍ " تقاتلون ".
(4) سورة آل عمران، 3، الآية 139.
(5) ق " على أن لا نصلى ولا نصوم " وفى الهامش " أن لا يصلوا ولا يصوموا. نسخة ".
(6) سورة الأنفال، 8، الآية 61.
190
قوة أنفسهم بالموادعة إلى أن يظهر لهم قوة كسر شوكتهم، فحينئذ ينبذون إليهم
ويقاتلون، وهو بمنزلة إنظار المعسر إلى الميسرة كما قال الله تعالى {وإن كان
ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (1).
214 - وكذلك لو قالوا للمسلمين: وادعونا على أن نعطيكم في
كل سنة مالا معلوما على أن تجروا علينا أحكامكم، فليس ينبغي الموادعة
على ذلك لانهم لا يلتزمون شيئا من أحكامنا، وإنما ينتهى القتال بعقد
الذمة لما فيه من التزام أحكام الاسلام فيما يرجع إلى المعاملات، والرضا
منهم بالمقام في دار الاسلام مقهورين.
ولما فيه ترك المحاربة أصلا، ولا يوجد ذلك فيما طلبوا، ولأنهم لو
أجيبوا إلى ذلك ربما يظنون أنا إنما نقاتلهم طمعا في أموالهم، بل لا يشكون
في ذلك، ولا يحل للمسلمين أن يقصدوا ذلك أو يظهروه من أنفسهم.
215 - إلا أن يكون لهم شوكة شديدة فحينئذ تجوز الموادعة
معهم بغير مال يؤخذ منهم. فلان يجوز بمال يؤخذ منهم كان أولى.
وهذا المال لا يؤخذ عوضا عن ترك القتال، وإنما يؤخذ لان مالهم (2)
مباح لنا.
فباعتبار تلك الإباحة يؤخذ هذا المال منهم.
216 - قال: فإذا أراد الخروج إلى الجهاد وله أبوان فليس ينبغي
له أن يخرج حتى يستأذنهما.



(1) سورة البقرة، 2، الآية 280.
(2) ه‍ " أموالهم ".
191
لان بر الوالدين وترك ما يلحق الضرر والمشقة بهما فرض عليه عينا،
والجهاد فرض على الكفاية.
إذا لم يقع النفير عاما.
فعليه أن يقدم الأقوى. وفى خروجه إلحاق الضرر والمشقة بهما. فإن
المجاهد على خطر (1) في التمكن من الرجوع.
217 - فإن أذنا له فليخرج. وإن أذن له أحدهما ولم يأذن له
الآخر فليس ينبغي له أن يخرج مراعاة لحق (2) الذي يأبى منهما.
وكذلك إن أبيا جميعا.
والأصل فيه ما روى أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: إني جئت أجاهد معك، وتركت والذي يبكيان. فقال: " اذهب
فأضحكهما كما أبكيتهما ".
وأفضل الجهاد ما كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أمره بالرجوع لكراهة الوالدين لخروجه.
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال قال:
" الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله ".
فهذا تنصيص على تقديم بر الوالدين على الجهاد. والوالدان في سعة من أن
لا يأذن له إذا كان يدخلهما من ذلك مشقة شديدة، لأنهما يحملانه على ما هو
الأقوى في حقه وهو برهما.
وبهذا تبين أن لا يسعه الخرج بغير إذنهما، لأنه لو كان يسعه ذلك
لكانا يأثمان في منعه، ولو كان يأثمان في منعه لكان هو في سعة من الخروج
حتى يبطل عنهما الاثم.



(1) ه‍ " خطرة ".
(2) ه‍ " مراعاة في حق ".
192
218 - وكذلك إن كان مات أحد أبويه والآخر حي.
لان السبب الموجب للبر في حق الحي منهما كامل.
219 - وإن كان كافرين أو أحدهما كافر (53 ب) والآخر
مسلم فكرها خروجه للجهاد، أو كرهه الكافر منهما، فإن كان إنما
كره ذلك على وجه المخافة (1) على نفسه والمشقة التي تلحقه بخروجه،
فلا ينبغي له أن يخرج.
لأنه في بر الوالدين يستوي الكافر والمسلم. قال الله تعالى {وصاحبهما
في الدنيا معروفا} (2).
والمراد الأبوان المشركان بدليل قوله تعالى {وإن جاهداك على أن
تشرك بي} (3).
220 - وإن كان إنما ينهاه عن ذلك كراهة أن يقاتل أهل دينه
لا شفقة عليه فليخرج ولا يطعه.
لأنه إنما كره خروجه بسبب دعاه الشرك إلى ذلك لا الولاد (4) (؟)، وليس
عليه طاعة في داعية الشرك. وإنما يعرف ذلك بغالب الظن (5) والرأي، لان
فيما لا طريق إلى معرفة حقيقته (6) بيني الحكم فيه على أكثر الرأي.
وهذا إذا كان لا يخاف عليه الضيعة. فإن كان يخاف عليه من
ذلك لم يحل له أن يخرج.



(1) ه‍ " المخالفة ".
(2) و (3) سورة لقمان، 31، الآية 15.
(4) كذا في ب، أ، ه‍، ق. وفى ط " بسبب ادعاء الشرك لا الأولاد ".
(5) ب، أ " بغالب الرأي ".
(6) ه‍ " معرفته حقيقة ".
م - 13 السير الكبير
193
لأنه إذا كان معسرا محتاجا إلى خدمته فخدمته فرض عليه، وإن كان
كافرا. وليس من الصواب أن يترك فرضا عينا ليتوصل إلى ما هو فرض
كفاية. ولان ما يفوته من تضييع والده (1) لا يمكنه (2) تداركه. وهو
يتمكن أن يتدارك الجهاد في وقت آخر.
221 - قال: وإن أذن له الأبوان وله جدان وجدتان فكرهوا
خروجه فلا بأس بأن يخرج.
لأنه في حال قيام الوالدين الأجداد والجدات كالأجانب. ألا ترى أن
في حكم الحضانة والولاية واستحقاق الميراث هم كالأجانب، فكذلك في المنع
عن الخروج لا أمر لهم ما دام الوالدان حيين.
222 - فإن مات الأبوان فأذن له الجد الذي من قبل أبيه
والجدة التي من قبل أمه، ولم يأذن له الآخران - يعنى أب الام وأم
الأب (3) - فلا بأس بأن يخرج.
لان أب الأب عند عدم الأب قائم مقامه بدليل ثبوت الولاية له. وأم
الام عند عدم الام بمنزلتها، بدليل ثبوت حق الحضانة لها. والآخران معهما
بمنزلة سائر الأجانب.
223 - وإن أذن له الآخران ولم يأذن له هذان لم يكن له
أن يخرج.



(1) ه‍، ق " والديه ".
(2) ه‍ " ما لا يمكنه ".
(3) ب، أ " أم الام " وهو خطأ.
194
224 - وإن لم يكن له جدة من قبل الام، ولا جد (1) من قبل
الأب، فاستأذن الآخرين فلم يأذنا له، أو لم يأذن له أحدهما، فالمستحب
له أن يخرج.
لان حق الحضانة لام الأب عند عدم أم الام. وهي في ذلك بمنزلة الام
والجد أب الام وإن لم يجعل كالأب في الولاية فقد جعل كالأب في حكم
القصاص، وفى منع قبول الشهادة له، وحرمة وضع الزكاة فيه. فإذا لم يبق
جد أقرب منه كان هو قائما مقام الأب في منعه من الخروج أيضا.
225 - وإن كان له أم وأب أب فأذن له أحدهما دون الآخر لم
يسع له أن يخرج حتى يأذنا له.
لان أب الأب بمنزلة الأب عند عدمه. فكأن هذا ومن كان أبوه وأمه (2)
حيين في الحكم سواء.
226 - وإن لم يكن له أم وكانت له (54 آ) جدة من قبل الام
وجدة من قبل الأب، فحق الاذن للتي من قبل الام خاصة.
ألا ترى أنها في الحضانة مقدمة على الأخرى، والجدة التي من قبل الأب
لا تقوم مقام الأب بدليل أنه لا تثبت لها الولاية كما تثبت للجد.
227 - ولو كانت الام حية فحق الاذن إليها وليس إلى الجدات
من ذلك شئ.
بمنزلة حق الحضانة. وكذلك مع بقاء الأب ليس للأجداد إذن في
هذا الباب.



(1) ه‍ " جدة " وهو خطأ.
(2) ه‍ " أبواه ".
195
228 - وإن كان له أب وأم أب فليس ينبغي له أن يخرج حتى
يأذن له.
لان أم الأب بمنزلة الام إذا لم يكن سواها أحد في الأمهات بمنزلة الام.
ألا ترى أن حق الحضانة لها؟
وأشار في الكتاب إلى أن له مخالفا في هذه المسألة. ولم يبين من هو.
فكأن هذا المخالف يقول: أم الأب تدلى بالأب. وإذا لم يعتبر إذن الجد الذي
يدلى بالأب مع الأب لم يعتبر اذن أم الأب بالطريق الأولى.
وهذا فاسد. فإنه لو كان له أم، وأم أب، فأذنت له الام كان له أن
يخرج، ولو كان أم الأب. باعتبار هذا الادلاء كالأب أو كالجد أب الأب (1)
لم يكن له أن يخرج إلا بإذنهما.
229 - قال: وكل سفر أراد الرجل أن يسافر غير الجهاد لتجارة
أو حج أو عمرة فكره ذلك أبواه، وهو لا يخاف عليهما الضيعة (2)
فلا بأس بأن يخرج.
لان الغالب في هذه الاسفار السلامة، ولا يلحقهما في خروجه مشقة
شديدة. فان الحزن بحكم الغيبة (3) يندفع بالطمع في الرجوع ظاهرا.
الا أن يكون سفرا مخوفا عليه نحو ركوب البحر، فحينئذ حكم
هذا وحكم الخروج إلى الجهاد سواء.
لان خطر الهلاك فيه أظهر.



(1) ه‍ " الجدات للأب ".
(2) ط، ه‍ " الضياع ".
(3) ه‍ " على الغيبة ".
196
230 - والسفر على قصد التعلم إذا كان الطريق آمنا والامن في
الموضع الذي قصده ظاهرا لا يكون دون السفر للتجارة.
بل هذا فوقه (1) لقوله تعالى {فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة
ليتفقهوا في الدين} (2).
فلا بأس بأن يخرج إليه وإن كره الوالدان إذ كان لا يخاف
الضيعة عليهما.
231 - قال: وإن كان يخرج في التجارة إلى دار الحرب بالأمان
فكرها ذلك فإن كانوا قوما يفون بالعهد معروفين بذلك فلا بأس
بأن يخرج.
لان الغالب هو السلامة، فصار هذا والخروج إلى بلدة أخرى من دار
الاسلام سواء.
232 - وإن كان يخرج في تجارة إلى دار الحرب مع عسكر
المسلمين فإن كان عسكرا عظيما كالصائفة (3) فلا بأس بأن يخرج
وإن كرها خروجه.
لان الغالب من حاله السلامة فإنه لا يعرض نفسه بالاشتغال بالقتال
والعسكر العظيم يقوون على دفع شر العدو عنه وعن أنفسهم.



(1) ه‍ " بل هذا مأمور به ".
(2) سورة التوبة، 9، الآية 122.
(3) في هامش ق " الصائفة الغزوة في الصيف، وبها سميت غزوة الروم، لان سنتهم أن
يغزوا صيفا ويقال عنهم في الشتاء. ومن فسرها بالموضع أو الجيش فقد وهم. وأما قول محمد رح إذا
كانت الصوائف ونحوها من العساكر العظام لا بأس باخراج النساء معهم فعلى التوهم أو التوسع. مغرب ".
197
233 - وإن كانت سرية أو نحوها لم يسعه أن يخرج إلا بإذنهما.
لان خطر الهلاك أظهر في خروجه مع قوم ليس قوة الدفع عنه.
وإن كان لا يخرج للجهاد مع مع هؤلاء بغير إذنهما لخطر الهلاك فكذلك لا يخرج
للتجارة.
234 - وإن كره خروجه للجهاد أولاده أو إخوانه أو أعمامه
أو عماته أو زوجته فلا بأس بأن يخرج إذا كان لا يخاف عليهم الضيعة،
وإنما يخاف منهم الجزع عليه.
لان المنع من ذلك باعتبار وجوب بر الوالدين وغيرهما من الأولاد
والقرابات لا يساويهما في ذلك، فكذلك في المنع من الخروج، إلا أن يخالف
الضيعة على أحد من هؤلاء فحينئذ لا يسعه أن يخرج ويدع من تلزمه نفقته،
لان القيام بتعاهده والانفاق عليه مستحق عليه بعينه. قال صلى الله عليه وسلم:
" كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوته (1) ". وهذا الحكم في الذكور من أولاده
الصغار، والإناث صغار أو كبار إذا لم يكن لهن أزواج، والزمني من الكبار
الذين لا حرفة لهم من ذوي الرحم، لان نفقتهم واجبة عليه شرعا، كذلك
زوجته.
235 - وأما بنوه الكبار الأصحاء وإخوانه الذين لا زمانة (2) بهم
فلا بأس بأن يخرج ويدعهم وإن خاف الضيعة عليهم.
لأنه لو كان حاضرا لم يجبر على نفقتهم وإن ضاعوا، فلا يمتنع خروجه
بسبب خوف الضيعة عليهم. وهذا كله إذا لم يكن النفير عاما.



(1) ط " من يعوله وفى رواية من يقوته ".
(2) في هامش ق " وزمن الشخص زمنا وزمانة فهو زمن (بكسر الميم) من باب تعب.،
وهو مرض يدوم زمانا طويلا، والقوم زمني مثل مرضى. مصباح ".
198
236 - فأما إذا جاء النفير عاما فقيل لأهل مدينة: قد جاء العدو
يريدون أنفسكم أو ذراريكم أو أموالكم. فلا بأس بأن يخرج بغير
إذن والديه.
لان الخروج في مثل هذه الحالة فرض عين على كل واحد. قال الله تعالى
(انفروا خفافا وثقالا) (1). وما يفوته بترك هذه الفريضة لا يمكنه استدراكه،
وما يفوته بالخروج بغير إذن الوالدين يمكنه استدراكه بعد هذا، فيشغتل بما هو
الأهم، ولان الضرر في تركه الخروج أعم، فإن ذلك يتعدى إليه وإلى والديه
وإلى غيرهم من المسلمين.
ولأنه لا يحل لوالديه أن ينهياه عن هذا الخروج فيكون له أن يخرج
ليسقط به الاثم عنهما، ولا طاعة لهما عليه فيما كانا عاصيين فيه. ألا ترى
أن رجلا لو قطع الطريق على رجل ليأخذ ماله أو ليقتله، أو أراد امرأة ليفجر
بها، وهناك من له قوة على أنه يمنعه من ذلك فعليه أن يمنعه، وإن كره ذلك
والداه لم يسعه أن يطيعهما في ذلك ولم يسعهما أن يمنعاه. لان هذا فرض عليه
بعينه، وإنما يلزمه طاعة الوالدين فيما يكون موسعا عليه بين الاتيان والترك.
فأما ما يفترض عليه مباشرته بعينه فليس لوالديه أن يمنعاه من ذلك. أرأيت
لو أريد (2) أحد والديه بشئ من ذلك فنهاه الوالد الآخر أن يعينه شفقة عليه
أينبغي له أن يطيعه ويدع والده ينتهك حرمته؟
ذكر هذا على سبيل الاستقباح (3) لمراعاة إذن الوالدين فيما هو فرض
عليه بعينه.
237 - قال: ولا ينبغي للعبد أن يجاهد بغير إذن مولاه ما لم



(1) سورة التوبة، 9، الآية 41.
(2) ب، أ " أراء ".
(3) ه‍ " الاستفتاح بمراعاة ".
199
يكن النفير عاما. فإذا كان ذلك فله (1) أن يخرج، وليس لمولاه أن يمنعه
من ذلك.
لان فرضية (55 آ) الخروج عند النفير العام كفرضية الصوم والصلاة،
وذلك مستثنى للعبد مما ملكه (2) عليه مولاه.
وإذا تبين هذا في العبد، وللمولى عليه ملك على الحقيقة، تبين في حق
الولد مع الوالدين بطريق الأولى.
238 - وكذلك النساء إذا كانت بهن قوة القتال فليخرجن
إذا كان النفير عاما.
وقد بينا ما صنعت أم سليم يوم حنين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم
يوم أحد: " لمقام نسيبة (3) بنت كعب خير من مقام فلان وفلان " فسمى
جماعة من الذين فروا. وكان النفير عاما. فاستحسن قتال النساء ومدح من
لم يهرب منهن بما قال.
فأما إذا لم يكن النفير عاما فلا ينبغي أن يشتغل النساء بالقتال.
239 - ولا ينبغي للشواب (4) أن يخرجن أيضا في الصوائف
ونحوها.
لان مقامهن في البيوت أقرب إلى دفع الفتنة.



(1) ه‍ فأما إذا كان ذلك فله " ب " فإذا كان له ذلك فله ".
(2) ه‍ " يملكه ".
(3) في هامش ق " ونسيبة بنت كعب وبنت سماك بفتح النون، وبنت تيار وأم عطاء
بضمها. وهن صحابيات. قاموس ".
(4) في هامش ق " والأنثى شابة والجمع شواب مثل دابة ودواب. مصباح ".
200
فأما العجائز فلا بأس بأن يخرجن مع الصوائف لمداواة الجرحى.
جاء عن أم عطية قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في سبع غزوات، فكنت أطبخ لهم وأداوي الجرحى وأسقيهم الماء.
240 - ولا يعجبني أن يباشرن القتال، لان بالرجال غنية عن
قتال النساء. فلا يشتغلن بذلك من غير ضرورة. وعند تحقق الضرورة
بوقوع النفير عاما لا بأس للمرأة أن تقاتل بغير إذن زوجها.
بلغنا أن صفية بنت عبد المطلب قتلت يهوديا تسور عليهم (1)
حصنا كانوا فيه. وإنما كان هذا يوم الخندق. وكان النبي صلى الله عليه
وسلم جمع النساء في أطم (2) من آطام المدينة. وكان حسان بن ثابت
معهن. فجاء يهودي من بني قريظة وأراد أن يتسور الحائط. فأمرت
صفية حسان بن ثابت بأن يقوم إليه بحجر أو خشب فيقتله. فقال
حسان: أنا من أرباب اللسان لست من أرباب الضرب والطعان في
شئ. فقامت بنفسها فقتلته. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
استحسنه منها.
فعرفنا أنه لا بأس بذلك.
241 - وكذلك الغلمان الذين لم يبلغوا إذا أطاقوا القتال فلا بأس



(1) ه‍ " عليهن ".
(2) في هامش ق " الأطم بضمتين القصر، وكل حصن مبنى بحجارة، وكل بيت مربع
مسطح. جمعه آطام وأطوم. قاموس ".
201
بأن يخرجوا ويقاتلوا في النفير العام، وإن كره ذلك الآباء والأمهات.
وفى غير هذا الحالة لا ينبغي لهم أن يخرجوا، إلا أن تطيب أنفسهم بذلك.
242 - قال: بلغنا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أسلم مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن تسع سنين. فلو حضر قتالا
لقاتل. فهذا لا بأس به.
والروايات اختلفت في سن على رضي الله عنه حين أسلم. فالذي ذكره
محمد في هذا الكتاب التسع والعشر.
وفى رواية أنه أسلم وهو ابن سبع سنين.
وفى رواية أن أسلم وهو ابن خمس سنين.
واختلاف الرواية بهذه الصفة يبتنى على اختلاف الناس في سنه
حين قتل.
فقال جعفر بن محمد: قتل وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
وقال (55 ب) الجاحظ (1): قتل وهو ابن ستين.
وقال العتبى (2): قتل وهو ابن ثلاث وستين.
ولا خلاف في أنه أسلم في أول مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بعث بمكة ثلاث عشرة سنة.
وبالمدينة عشرا، والخلافة بعده ثلاثون سنة انتهى ذلك بقتل على رضي الله عنه
فذلك ثلاث وخمسون.
فإن كانت سنة حين قتل ما قاله جعفر بن محمد ظهر أنه أسلم وهو ابن



(1) كذا في النسخ. وفى هامش ق " الحافظ نسخة ".
(2) مهملة في ب. وهي في ق " العتبى " وفى ه‍، ط " القتبى " وفى هامش ق " الشعبي
نسخة ".
202
خمس سنين. وإن كان على ما قاله الجاحظ فقد أسلم وهو ابن سبع سنين.
وإن كان على ما قاله العتبى فقد أسلم وهو ابن عشر سنين.
ولا خلاف أنه لم يكن بالغا حين أسلم. وعليه دل قوله:
سبقتكم إلى الاسلام طرا * غلاما ما بلغت أوان حلم
وإنما حققنا هذا لاعتماد أصحابنا على هذا الحديث في صحة إسلام الصبى.
243 - قال: وإذا خرج القوم إلى الصوائف فأرادوا أن يخرجوا
معهم النساء بغير منفعة إلا المباضعة (1) والخدمة فالمستحب أن لا يفعلوا
ذلك مخافة عليهن.
لان النساء لحم على وضم (2) إلا ما ذب عنهن. ومن خرج للقتال ربما
يبتلى بعارض يشغله بنفسه ولا يتمكن فيه من الذب عن حرمه. واقتضاء
الشهوة بالمباضعة ليس من أصول حوائجه ولا ينبغي أن يعرض حرمه للضياع
لأجله، ولو لم يكره (3) له الخروج بهن إلا لمخافة أن يشتغل بهن عن القتال
لكان ذلك كافيا.



(1) المباضعة الجماع (قاموس).
(2) في هامش ق " الوضم محركة ما وقيت به اللحم عن الأرض من خشب وحصير. قاموس ".
وثمة حاشية ثانية فيها " في حديث عمر رضي الله عنه: إنما النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه.
قال الأصمعي: الوضم الخشبة أو البارية التي يوضع عليها اللحم تقية من الأرض. وقال الزمخشري:
الوضم كل ما وقيت به اللحم. يقول: إنهن في الضعف مثل ذلك اللحم الذي لا يمتنع من أحد إلا
أن يذب عنه ويدفع. وقال الأزهري: إنما خص اللحم على الوضم وشبه به النساء لان من عادة
العرب في باديتها إذا نحر بعير لجماعة يقتسمون لحمه أن يقلعوا شجرا كثيرا ويوضم بعضه على بعض
ويعضى اللحم ويوضع عليه، ثم يلقى لحمه عن عراقه ويقطع على الوضم هبرا للقسم وتؤجج نار فإذا
سقط جمرها اشتوى من حضر شوية بعد شوية على ذلك الحجر لا يمنع أحد منه. فإذا وقعت المقاسم
حول كل شريك قسمه عن الوضم إلى بيته ولم يعرض له أحد. فشبه عمر رضي الله عنه النساء وقلة
امتناعهن على طلابهن من الرجال باللحم ما دام على الوضم ".
(3) ه‍ " يكن " وهو خطأ.
203
فإن كان لابد من إخراجهن (1) فالإماء دون الحرائر.
لان حكم الاختلاط بالرجال في حق الإماء أخف. ألا ترى أن جميع
الناس لهن بمنزلة المحرم في النظر والمس، وأنه لا بأس للأمة أن تسافر بغير
محرم، وليس للحرة ذلك إلا مع زوج أو محرم.
244 - ولكن مع هذا يرخص في إخراج الحرائر والإماء لمن
يقوى على حفظهن إن ابتلى المسلمون بهزيمة، يخرجهن إلى دار الاسلام
إما بقوة نفسه أو بما معه من الظهور والخدم.
لما روى أن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يغزو
قرع بين نسائه وأخرج منهن معه التي تقرع. قالت عائشة رضي الله عنها:
فأصابتني القرعة في السفر الذي أصابني فيه ما أصابني. حين تكلم أهل الإفك
بما تكلموا. وهي غزوة المريسيع غزوة بنى المصطلق من خزاعة.
ومعلوم أنه كان يأمن عليهن من الضياع بمن معه من المسلمين، فمن يكون
بهذه الصفة فلا بأس له بأن يخرجهن، وإنما يكره هذا لمن إذا ابتلى المسلمون
بهزيمة لم يقو على إخراجهن واشتغل بنفسه فيكون مضيعا لهن. والتعرض
لمثل (2) هذا التضييع حرام شرعا.
245 - وكذلك إن كانوا سرية يدخلون أرض العدو فإنه
لا ينبغي لأحد من العجائز أن يخرج معهم لمداواة الجرحى.
لانهم جريدة خيل إذا حزبهم أمر اشتغلوا بأنفسهم، ولا يتمكنون
من الدفع عنها (3)، وهي عاجزة عن الدفع عن نفسها، وإنما يحل لها ذلك
*



(1) في هامش ق " فان كان لابد من مخرجهن نسخة ".
(2) ه‍ " بمثل ".
(3) ه‍ زيادة " وعن أنفسهم ".
204
في الصوائف التي أكبر الرأي فيها أنهم قاهرون لا ينهزمون من العدو فيتمكنون
من الدفع عنها وعن أنفسهم.
والحاصل أن الحكم يبنى على الظاهر (56 آ) فيما يتعذر الوقوف على
حقيقة الحال فيه.
246 - ولا بأس بإدخال المصاحف في أرض العدو لقراءة القرآن
في مثل هذا العسكر العظيم.
ولا يستحب له ذلك إذا كان يخرج في سرية.
لان الغزي ربما يحتاج إلى القراءة من المصحف إذا كان لا يحسن القراءة
عن ظهر قلبه، أو يتبرك بحمل المصحف، أو يستنصر به. فالقرآن حبل الله
المتين من اعتصم به نجا. إلا أنه منهي عن تعريض المصحف لاستخفاف العدو
به. ولهذا لو اشتراه ذمي أجبر على بيعه. والظاهر أنه في العسكر العظيم يأمن
هذا لقوتهم، وفى السرية ربما يبتلى به لقلة عددهم. فمن هذا الوجه يقع الفرق.
والذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يسافر بالقرآن في أرض
العدو ".
وتأويله هذا أن يكون سفره مع جريدة خيل لا شوكة لهم. هكذا
ذكره محمد.
وذكر الطحاوي أن هذا النهى كان في ذلك الوقت لان المصاحف
لم تكثر في أيدي المسلمين. وكان لا يؤمن إذا وقعت المصاحف في أيدي العدو
أن يفوت شئ من القرآن من أيدي المسلمين، ويؤمن من مثله في زماننا
لكثرة المصاحف وكثرة القراء.
قال الطحاوي: ولو وقع مصحف في يدهم لم يستخفوا به لانهم وإن
كانوا لا يقرون بأنه كلام الله فهم يقرون بأنه أفصح الكلام بأوجز العبارات
وأبلغ المعاني فلا يستخفون به، كما لا يستخفون بسائر الكتب.

205
لكن ما ذكره محمد أصح، فإنهم يفعلون ذلك مغايظة للمسلمين، وقد
ظهر ذلك من القرامطة حين ظهروا على مكة، جعلوا يستنجون بالمصاحف (1)
إلى أن قطعا لله دابرهم. ولهذا منع الذمي من شرى المصحف، وأجبر على
بيعه كما أجبر (2) على بيع العبد المسلم.
وكذلك (3) كتب الفقه بمنزلة المصحف في هذا الحكم. فأما كتب الشعر
فلا بأس بأن يحمله مع نفسه، وكذلك إن اشتراه الكافر لا يجبر على بيعه.
247 - وإن دخل إليهم مسلم بأمان فلا بأس بأن يدخل معه
المصحف إذا كانوا قوما يوفون بالعهد.
لان الظاهر هو الامن لما في يده.
فأما إذا كانوا ربما لا يوفون العهد فلا ينبغي له أن يحمل المصحف
مع نفسه إذا دخل دارهم بأمان.
248 - وإذا قال الحربي أو الذمي للمسلم علمني القرآن فلا بأس
بأن يعلمه. ويفقه في الدين لعل الله يقلب قلبه (4).
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن على المشركين
وبه أمر (5) قال الله تعالى: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (6). وقال الله



(1) ق " بالمصحف ".
(2) ه‍، ط " يجبر ".
(3) هذه الفقرة كلها لا توجد في ب، أ.
(4) ق، ب، أ " يقبل بقلبه ".
(5) في هامش ق " وهذا لان النبي عليه السلام كان يقرأ القرآن على المشركين، وهم
كانوا أرباب اللسان فيتلقونه منه، حتى روى أنه عليه السلام كان يقرأ " حم. تنزيل الكتاب
من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب " فتلقن أبو لهب لعنه الله فجعل
يردد في نفسه لحلاوته ويقول: ما أظن هذا من كلام البشر. حتى علم به أبو جهل فوقعت بينهما
وحشة بهذا السبب. من خط الحصيري ".
(6) سورة المائدة، 5، الآية 67.
206
تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (1). ومعلوم أن تمام
هذه الصفة في القرآن والفقه المستنبط من القرآن وهو الحكمة، كما قال الله تعالى:
{ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خير كثيرا} (2). وفسره المفسرون بالفقه.
وإنما يتحقق دعاؤه (56 ب) بهذه الطريق إذا علمه ذلك وفهمه. وقال تعالى
{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} (3) يعنى
يسمع فيفهم. فربما يرغب في الايمان لما يقف عليه من محاسن الشريعة.
وهذا هو المراد من قوله: لعل الله يقلب قلبه (4).
وفى حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" خير الناس من تعلم القرآن وعلمه ". ولم يفصل بين تعليم المسلمين وتعليم الكفار.
وإذا كان يندب إلى تعليم غير المخاطبين رجاء أن يعملوا به إذا خوطبوا،
فلان يندب إلى تعليم المخاطبين رجاء (5) أن يهتدوا به ويعملوا كان أولى.
249 - وإذا دخل المشركون دار الاسلام فأخذوا الأموال
والذراري والنساء، ثم علم بهم جماعة المسلمين، ولهم عليهم قوة،
فالواجب عليهم أن يتبعوهم ما داموا في دار الاسلام، لا يسعهم
إلا ذلك.
لانهم إنما يتمكنون من المقام في دار الاسلام بالتناصر وفى ترك التناصر
ظهور العدو عليهم، فلا يحل لهم ذلك.
وفعل أهل الحرب بهذه الصفة منكر قبيح، والنهى عن المنكر فرض
على المسلمين. والذين وقع الظهور عليهم صاروا مظلومين، ويفترض على



(1) سورة النحل، 16، الآية 125.
(2) سورة البقرة، 2، الآية 269.
(3) سورة التوبة، 9، الآية 6.
(5) ب، أ، " يقبل بقلوبهم ".
(5) ه‍ " لرجاء ".
207
المسلمين دفع الظلم عن المظلوم (1) والاخذ على يد الظالم. قال عليه السلام:
" لا، حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا " (2).
250 - فإن دخلوا بهم دار الحرب نظر (3): فإن كان الذي في
أيديهم ذراري المسلمين، فالواجب على المسلمين أيضا أن يتبعوهم إذا
كان غالب رأيهم (4) أنهم يقوون على استنقاذ الذراري من أيديهم إذا
أدركوهم، ما لم يدخلوا حصونهم.
لانهم ما ملكوا الذراري بالاحراز بدار الحرب، فكونها في أيديهم في
دار الحرب وفى دار الاسلام سواء. والمعتبر تمكن المسلمين من الانتصاف
منهم، وذلك قائم باعتبار الظاهر ما لم يدخلوا حصونهم.
251 - فأما إذا دخلوا حصونهم فإن أتاهم المسلمون حتى يقاتلوهم
لاستنقاذ الذراري فذلك فضل أخذوا به، وإن تركوهم رجوت أن
يكونوا في سعة من ذلك.
لان الظاهر أنهم بعدما وصلوا إلى مأمنهم ودخلوا حصونهم يعجز
المسلمون عن استنقاذ الذراري من أيديهم، إلا بالمبالغة في الجهد وبذل النفوس
والأموال في ذلك. فان فعلوه فهو العزيمة، وإن تركوه لدفع الحرب والمشقة
عن أنفسهم كان لهم في ذلك رخصة. ألا ترى أنا نعلم أن في يد الكفار بالروم



(1) ه‍ " المظلومين ".
(2) في هامش ق " وفى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر المظالم التي وقعت
فيها بنو إسرائيل والمعاصي فقال: " لا والذي نفسي بيده، حتى تأخذوا على يدي الظالم وتأطروه
على الحق أطرا. من لسان العرب " قلنا: وتأطروه أي تعطفوه على الحق كما في النهاية.
(3) ساقطة في ب، أ، ق.
(4) ق " الغالب على رأيهم ".
208
والهند بعض أسارى المسلمين، ولا يجب على كل واحد منا الخروج لقتالهم
لاستنقاذ الأسارى من أيديهم.
252 - فأما إذا كان ما ظهروا عليه المال دون الذراري فإذا دخلوا
دار الحرب وسع المسلمين أن لا يتبعوهم بعد ذلك، وإن كان تبعوهم
فهو أفضل.
لانهم ملكوا الأموال بالاحراز، وانتهت العصمة الثابتة فيها بالاحراز
بدار الحرب فالتحقت بسائر أموالهم. والمسلمون في سعة من أن يتركوا أتباعهم
لاخذ أموالهم من أيديهم، وإن كانوا لو فعلوا ذلك لاعزاز الدين وقهر المشركين
كان أفضل. فكذلك حكم هذه الأموال.
253 - والحكم فيما إذا ظهر أهل الحرب على ذراري أهل الذمة
أو على أموالهم على نحو ما ذكرنا أيضا.
لان المسلمين حين أعطوهم الذمة فقد التزموا دفع الظلم عنهم وهم صاروا
من أهل دار الاسلام. ألا ترى أن إحراز بعقد الذمة للمال والنفس في حكم
الضمان، والعقوبة بمنزلة الاحراز الذي للمسلم. فيستوي الحكم في وجوب
الاتباع، والدليل على الفرق بين الأموال والذراري بعد دخول دار الحرب
انهم لو أسلموا سلمت لهم الأموال، وأمروا برد الذراري. وفى دار الاسلام
لو أسلموا أمروا برد الأموال والذراري. والمسلمون وأهل الذمة في ذلك سواء.
فيتضح الفرق.
254 - وإن كان المسلمون حين بلغهم هذا النفير أكبر الرأي
منهم أنهم إن خرجوا في إثرهم لم يدركوهم (1) حتى يدخلوا حصونهم



(1) ه‍ " يدركوا ".
م - 14 السير الكبير
209
في الذراري، أو حتى يدخلوا في دار الحرب في الأموال، رجوت أن
يكونوا في سعة من ترك الاتباع.
لان البناء على الظاهر جائز في مثل هذا. والظاهر أنهم في الخروج
يتعبون أنفسهم من غير فائدة. وإنما الذي يفترض فيه الخروج بعينه (1)
على كل من يبلغه إذا كان أكبر الرأي منه أنه إذا خرج أدركهم، وقوى على
الاستنقاذ من أيديهم بمنعة (2) من المسلمين على ما بينا.
255 - قال: ولا بأس للذين يسكنون الثغور من المسلمين أن
يتخذوا فيها النساء والذراري وإن لم يكن بين الثغور (3) وبين أرض
العدو أرض للمسلمين.
لانهم يندبون إلى المقام في الثغور. وإنما يتمكنون من المقام بالنساء
والذراري. فالنساء سكن للرجال (4). ولأنهم إذا أقاموا في (57 آ) ذلك
الموضع بالنساء والذراري كثروا بمرور الزمان حتى يصير ذلك الموضع مصرا
من أمصار المسلمين، ويتخذ المسلمون وراء ذلك ثغرا بالقرب من العدو.
ولكن هذا إذا كانوا بحيث لو نزلت بهم جلبة (5) العدو قدروا
على دفع شرهم عن أنفسهم عن ذراريهم. وتمكنوا من أن يخرجوهم
إلى أرض الاسلام.



(1) ه‍ " لعينه ".
(2) ق " بمنعة المسلمين ".
(3) ه‍ " بين ذلك الثغور وبين.. ".
(4) ه‍ " مسكن الرجال ".
(5) ق " حلبة ". وفى هامش ق " الحلبة جمع الفرسان وبالجيم صوت العدو. حصيري "
وإلى جانب ذلك ما يلي " وقوله في السير أن نزلت بهم جلبة العدو، وفى موضع آخر:
ولا يقدرون على دفع جلبة العدو، ويروى حلبة بالحاء وسكون اللام وهي خيل تجتمع.. من
كل أوب، وإذا اجتمع القوم عن كل وجه لحرب قيل اجلبوا.. مغرب ".
210
256 - فأما إذا لم يكن بهذه الصفة.
أي كانوا عددا قليلا لا يتمكنون من دفع جلبة العدو ولا يقدرون على
إخراج الذراري إلى أرض الاسلام.
فإنه لا ينبغي لهم أن يتخذوا النساء في مثل هذه الثغور.
لان الظاهر أنهم يضيعون في مثل هذه الثغور، ويأمنون الضياع في
الفضل الأول. وهو نظير ما سبق من الفصل بين الصائفة والسرية. إلا أن
هناك كره إخراج النساء مع الجيش العظيم للمباضعة، ولم يكره ذلك في الثغر
إذا كثر فيه المسلمون. لان أهل العسكر لا يطول مقامهم في دار الحرب
فلا يحتاجون إلى النساء مدة مقامهم في الظاهر. فأما أهل الثغور فيطول مقامهم
في الثغر، بل يؤمرون بأن لا يبرحوا منها. وإذا كانوا عزابا (1) ضجروا
بالمقام فيها، فلهذا لم ير (2) بأسا بأن يتخذوا فيها النساء والذراري.
257 - فإن قال أهل الثغر: لا نقدر على دفع العدو بأنفسنا إن
أتانا ولكن نستغيث بالمسلمين فيأتينا الغياث منهم فندفع بهم العدو،
فإنه لا ينبغي لهم أن يحملوا النساء والذراري إلى مثل هذه الثغور أيضا.
لانهم لا يقوون على الدفع عنهم بأنفسهم، ولحوق الغوث بهم للدفع
موهوم. ولا يبنى الحكم على الموهوم خصوصا فيما يكون الواجب فيه الاخذ
بالاحتياط. ألا ترى أنه يتوهم أن تقع فتنة أو عصبية بين المسلمين فيشتغل
بعضهم ببعض (3) حتى لا يقدروا على إغاثة (4) تلك الثغور، فيضيع من



(1) ه‍ " غرابا ". وفى هامش ق " وعزب الرجل يعزب من باب قتل عزبة وزان غرفة
وعزوبة إذا لم يكن له أهل فهو عزب بفتحتين وامرأة عزب أيضا. وجمع الرجال عزاب باعتبار
بنائه الأصلي وهو عازب، مثل كافر وكفار. مصباح ".
(2) ه‍ " نر ".
(3) ب، أ " لبعض ".
(4) أ، ه‍، ب " إعانة ".
211
فيها من النساء والذراري. فلهذا لا يستقيم (1) البناء على الغوث. وإنما يبنون
ذلك على شوكة أنفسهم.
258 - وذكر عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " من ترك دابة بمهلكة فهي لمن أحياها ".
وبظاهر هذا الحديث أخذ بعض العلماء فقالوا: إذا ترك الغازي دابته
في هزيمة (2) فأخذها مسلم آخر وأخرجها فهو أحق بها. لان الأول تركها معرضا
عنها، وإنما كان مالكا لها لكونه محرزا لها بيده، فإذا زال ذلك التحقت
بالصيود، فهي لمن أخذها وأحياها.
ولسنا نأخذ به، فإن هذا تسبيب أهل الجاهلية. وقد نفاه الشرع
قال الله تعالى {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة. الآية} (3)
وليس التسبيب في الدواب نظير الاعتاق في العبيد. فبالاعتاق تحدث
فيه صفة المالكية فتنتفى المملوكية. وبالتسبيب لا تحذف صفة المالكية في
الدواب. وإذا بقيت مملوكة كانت لصاحبها. وحرمة الملك باعتبار حرمة المالك
(57 ب) فلا يملكها أحد بالآخذ.
259 - وذكر عن الشعبي أنه قال يأخذها صاحبها ولا نفقة له
على الذي أحياها إن كان أنفق من ماله. وبهذا تبين أن الحديث الأول
وهم. فالشعبي هو الذي رواه، وما كان يفتى بخلاف ما يروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم.



(1) ق " لا يسعهم ".
(2) ق " غنيمة " وفى الهامش " هزيمة. نسخة ".
(3) سورة المائدة، 5، الآية 103.
212
ثم مثل هذا الحديث الشاذ لا يكون معمولا به.
إذا كان مخالفا للأصول. فكان الرجوع إلى المقام المتفق على قبوله
وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه "
أولى.
وكذلك قوله عليه السلام: " من وجد عين ماله فهو أحق به " دليل
على صحة ما قلنا.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: يأخذها صاحبها ويرد على
المنفق ما أنفق عليه من ماله.
وقال الشعبي: ليس عليه شئ من النفقة إن كان أنفق بغير إذنه.
ويقول الشعبي نأخذ لأنه متبرع بالانفاق على ملك الغير بغير إذنه. وهو يريد
أن يلزمه دينا في ذمته لنفسه، وليس لأحد هذه الولاية على غيره.
فأما عمر بن عبد العزيز فكان يقول: دلالة الاذن في الانفاق من صاحبها
معلوم بطريق الظاهر. لأنه لو تمكن من إخراجها أنفق عليها من مال نفسه،
فإذا عجز عن ذلك كان مستعينا بكل من يقوى على ذلك راضيا بأن ينفق عليها
من ماله. ودلالة الاذن كصريح الاذن. ولكنا نقول: هذه الاستعانة والرضا
يحتمل أن يكون منه على وجه الشرع، ويحتمل أن يكون على وجه الرجوع
عليه بما ينفق. والمحتمل لا يصلح حجة لايجاب الدين له في ذمته، وهو نظير
المودع ينفق على الوديعة في حال غيبة صاحبها بغير أمر القاضي، فإنه لا يرجع
على صاحبها بما أنفق لهذا المعنى. كذا هذا. والله الموفق.

213
37 [باب صاحب الساقة]
إذا وجد في أخريات الناس رجلا مع دابته
260 - وإذا جعل أمير العسكر على الساقة (1) رجلا يلحق به
من تخلف فهو حسن في دخول دار الحرب والانصراف منها.
لان فيه نظرا للمسلمين. فالذي يغلبه النوم أو يعيى (2) ربما يجلس
أو ينام للاستراحة في موضع الخوف ثم لا يلتحق بالجيش فيضيع.
261 - وإذا كان على الساقة من يكلفه اللحوق بالعسكر يؤمن
عليه الضياع.
وفى نظيره قال عمر رضي الله عنه: لو تركتم لبعتم أولادكم.
262 - فإن وجد صاحب الساقة رجلا قامت (3) عليه دابته فأمره
أن يترك الدابة ويلتحق بالعسكر كيلا يهلك، فأخذه وألحقه بالعسكر
وترك دابته فهلكت، لم يضمن له شيئا.
لأنه ما تعرض للدابة بشئ، إنما أحسن إلى صاحبها حين ألحقه بالعسكر



(1) في هامش ق " ساقه العسكر آخره " مغرب.
(2) في هامش ق " وعى إذا لم يهتد لوجهه. مختار ".
(3) في هامش ق " وقامت الدابة وقفت. مختار ".
214
ولو أساء (1) إلى صاحبها بأن حبس صاحب المواشي حتى ضاعت مواشيه
لم يضمن شيئا. فإذا أحسن إليه كان أولى. ولان الرجل ابتلى ببليتين: إما
يضيع دابته أو يضيع نفسه (58 آ) إن وقف معها. ومن دفع إلى شرين فعليه
أن يختار أهونهما. وذلك (2) ترك الدابة. فصاحب الساقة أمره بما يحق عليه
فعله شرعا فيكون محسنا، وما على المحسنين من سبيل.
263 - وإن كان أخذ الدابة من يد صاحبها فنحاها عنه ثم منعه
من أخذها، فهلكت، فهو ضامن له قيمتها.
لأنه فوت له يده بضع (3) أحدثه في الدابة، وذلك غصب منه. توضيحه (4)
أنه ما أمر بإزالة يد صاحب الدابة عن الدابة وإنما أمر بإلحاقه بالعسكر. وهو
فيما أمر به غير محتاج إلى التعرض لدابته، فيكون ضامنا له قيمتها إذا أخرجها
من يده كغيره، وكذلك إن ذبحها صاحب الساقة أو ضربها فقتلها فهو ضامن.
وهذا أظهر.
264 - فإن أخذ صاحب الدابة بلجام دابته ففك صاحب الساقة
يده وألحقه بالعسكر وترك الدابة في موضعها لم يضمن شيئا.
لان صنعه حل بيد صاحبها بالدابة.
وهذا دليل لأبي حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله في أن ضمان الغصب
لا يجب إلا باعتبار صنع في المغصوب يفوت يد المالك بتحويله عن الموضع
الذي كان يد المالك عليه ثابتا فيه. فإنه إذا أخذ لجام الدابة ونحاها كان ضامنا،
وإذا فك يد صاحبها عن اللحام لم يكن ضامنا، وتلف الدابة في الموضعين



(1) بياض مكان هذه الكلمة في ه‍. وفى ب " آتي " ولعلها: أسئ.
(2) ه‍ " وذلك في ترك ".
(3) ب " بصنيع ".
(4) ب، ه‍، ط، " يوضحه ".
215
حاصل بسبب واحد، إلا أن محمدا رحمه الله يسلم هذا الأصل فيما يحتمل النقل،
ولكنه يقول فيما لا يحتمل النقل: يقام غيره مقامه باعتبار تفويت ثمرات الملك
على المالك، كما يشترط الإشارة في الدعوى، والشهادة إلى العين فيما يحتمل
النقل إلى مجلس القاضي، ثم فيما لا يحتمل يقام ذكر الحدود مقامه للتيسير.
265 - وكذلك لو كان الرجل راكبا فأنزله كرها وألحقه بالعسكر
لم يضمن دابته.
لأنه لم يصنع فيها شيئا، إنما صنعه في صاحبها.
266 - وإن أخذ صاحب الساقة الرجل فألحقه بالعسكر وترك
دابته فمر بها سرية كانوا على إثرهم فعلفوها وقاموا عليها حتى ألحقوها
بالعسكر، ثم حضر صاحبها فهو أحق بها.
لأنه وجد عين ماله فيكون أحق به. وليس لهم أن يرجعوا عليه بما أنفقوا،
لأنه لم يأمرهم بذلك. وقد بينا هذا.
وحكى أن الزبير بن العوام رضي الله عنه كان له رمح طويل. وكان
إذا شق عليه حمله ألقاه على الطريق فيمر به بعض الاعراب ممن يكون في آخر
العسكر فيأخذه وهو لا يعرف قصته، حتى يأتي به المنزل، فيجئ الزبير ويقول:
جزاك الله خيرا فيما حملت من رمحي. فيأخذه. فعل ذلك غير مرة.
267 - فإن كانوا حين أتوا بها العسكر أخبروا الأمير خبرها
فأمرهم أن ينفقوا عليها حتى يجدوا صاحبها ففعلوا ذلك، ثم حضر
صاحبها، أخذها وأعطاهم ما أنفقوا بعد أمر الأمير (58 ب). ولم
يعطهم شيئا مما أنفقوا قبل ذلك.

216
لان في (1) هذا الامر نظرا لصاحبها باحياء ملكه وإمساكه عليه،
والدابة لا تبقى بدون النفقة، والانسان لا يرضى بالتبرع بالانفاق على ملك
الغير. وللأمير ولاية النظر لكل من عجز عن النظر لنفسه من الجند، فكان
أمره بذلك كأمر صاحب الدابة حين صدر عن ولاية شرعية.
268 - فإن قالوا: أنفقنا عليها بعد الامر كذا، وذلك نفقة مثلها (2)
وقال صاحبها: لم ينفقوا عليها من ذلك شيئا، فالقول قول صاحبها.
لانهم يدعون في ذمته دينا لأنفسهم وهو منكر، فيكون القول قوله
بعدما يحلف على علمه، لأنه استحلاف على فعل الغير، وهو إنفاقهم عليها.
فيكون على العلم دون الثبات.
269 - فإن أقاموا شاهدين مسلمين على ما ادعوا، أو كان
إنفاقهم بعلم الأمير رجعوا على صاحبها.
ولا يلتفت إلى إنكاره لثبوت ما ادعوا بحجة حكمية: وذلك علم الأمير
أو شهادة شاهدين.
270 - فإن كانوا - حين رفعوها إلى الأمير وشهد (3) الشهود
أنهم وجدوها، - لا يدرون لمن هي، إن رأى الامام أن يبيعها
فباعها جاز.
لان ذلك نظر منه (4) لصاحبها. فالانفاق ربما يأتي على ماليتها، وحفظ
ثمنها أيسر من حفظ عينها، وللأمير ولاية النظر على جنده.



(1) ساقطة من ط.
(2) ه‍ " بعد الامر كذلك نفقة مثلها " وفيها سقط.
(3) ط، ه‍ " شهدت ".
(4) ه‍ " فيه ".
217
وليس لصاحبها إذا حضر أن يبطل البيع، وإنما حقه في ثمنها.
271 - فإن كان أمرهم بالانفاق زمانا ثم باعها، فقالوا: اعطنا من
الثمن ما أنفقنا، وأقاموا البينة على ما ادعوا من النفقة قبل أن يحضر
صاحبها أو بعد ما حضر أعطاهم ما أنفقوا بعد أمره.
لانهم استوجبوا ذلك في ذمة صاحبها بإحيائهم مالية هذه الدابة، ولهذا
لو حضر صاحبها كان لهم أن يحبسوها حتى يأخذوا ما أنفقوا، بمنزلة راد الآبق
بحسبه بالجعل. والثمن بدل تلك المالية، فيعطيهم الأمير مقدار حقهم من ذلك.
وهذه البينة مقبولة منهم قبل حضور صاحبها باعتبار أن الأمير خصم فيه
عن صاحبها، كما تقبل البينة منهم في ابتداء الامر بالانفاق، فإنهم لو قالوا
للأمير: وجدنا هذه الدابة ولا نعرف (1) صاحبها أقرهم بأن يأتوه بشهود
على ذلك، ويقبل بينهم ليأمرهم بالانفاق.
272 - فإن لم يأتوه بشهود ورأى الامام النظر في أن يأمرهم
بذلك فلا بأس بأن يقول: أمرتهم أن ينفقوا عليها، على أنه إن كان
الامر كما زعموا رجعوا على صاحبها، وإلا فلست آمرهم بشئ من ذلك.
ويشهد على هذا. أو يقول: أمرتهم يبيعها وإنفاق ثمنها إن كان الامر
كما ذكروا. وإن كان الامر على غير ما زعموا فلست آمرهم بشئ
من ذلك.
وهذا لان الاشهاد بهذه الصفة يتمحض (3) نظرا لصاحبها بأنهم إن



(1) ه‍ " يعرف ".
(2) ب، أ " يأتوا ".
(3) ه‍ " يتمحص ".
218
كانوا صادقين يحيا ملكه بهذا، وإن كانوا غاصبين لا يستفيدون البراءة عما
لزمهم من الضمان بهذا. ولذلك (1) لا يجوز البيع (59 آ) باعتبار هذا الامر
إذا كان من في يده غاصبا.
273 - فإن حضر صاحبها وقد هلك الثمن في يد من باعها بعد
أمر الأمير بهذه الصفة فإن أقر بما أخبره به الأمير فهو برئ من ضمانه
وضمان ثمنه.
لأنه يتبين أن البيع كان بإذنه صحيح.
274 - وإن جحد صاحبها ذلك فالبائع ضامن حتى يقيم البينة على
ما يدعى، فإن أقام البينة على ما يدعى، فالثابت بالبينة كالثابت
باتفاق الخصم.
275 - فإن وجد صاحبها الدابة في يد المشترى كان له أن يأخذها
إذا أقام البينة أنها له.
لأنه وجد عين ماله.
276 - فإن أقام المشترى البينة على مال قاله الواجد وعلى ما أمره
به الأمير سلم له ما اشترى.
لأنه أثبت سبب ملك صحيح لنفسه بالبينة.
277 - وإن لم يكن له بينة أخذ الدابة صاحبها ورجع المشترى
على البائع بالثمن.
لاستحقاق المبيع من يده.



(1) ه‍ " وكذلك ".
219
278 - فإن أقام البائع البينة على ما ادعى، من أنه وجدها ضائعة
وأن الأمير أمره يبيعها برئ هو من الثمن.
بمحضر (1) من الذي استحقه.
وهذا التقييد دليل على مسألة أخرى وهو أن (2) المشترى إذا استحق
منه المبيع فأراد (3) أن يرجع بالثمن على البائع، فأقام البائع بينة على أمر يبطل
به استحقاق المستحق إن كان ذلك بحضرة المستحق تقبل، وإلا فلا ورجع المشترى
فأخذها من المستحق، لان الثابت بالبينة كالثابت باقرار الخصم.
وأي قاض رفع إليه هذه الحادثة وسئل إجازة البيع لم يجزه حتى تقوم
البينة عنده على جميع ما بينا. لان ولاية الإجازة إنما تثبت له إذ ظهر جميع ذلك
عنده ولا يظهر إلا بالحجة. والله المعين.



(1) قوله " بمحضر من الذي.. إلى قوله وإلا فلا " لا يوجد في ب، أ، ط. وقد جعل
في هامش ق وكتب تحته " من خط الحصيري ".
(2) ساقطة من ه‍.
(3) ه‍ " إذا " وهو خطأ.
220
38 [باب سجدة الشكر]
279 - وإذا أتى الأمير أمر يسره فأراد أن يشكر الله تعالى عليه
فلا بأس بأن يكبر مستقبل القبلة، فيخر ساجدا بحمد الله تعالى
ويشكره، ويسبح ويكبر تكبيرة ويرفع رأسه. وهذه سجدة الشكر.
وهي سنة عند محمد، وكذلك في قول أبى يوسف. رواه عنه ابن سماعة.
فأما أبو حنيفة فكان لا يراها شيئا، أي شيئا مسنونا، أو لا يراها شكرا تاما،
فان تمام الشكر في أن يصلى ركعتين كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم فتح مكة.
وقد روى عن إبراهيم النخعي أنه كان يكرهها.
وهكذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة. لأنه لو فعله
من (1) يكون منظورا إليه ربما يظن ظان أن ذلك واجب أو سنة متبعة عند
حدوث النعم، فيكون مدخلا في الدين ما ليس منه. وقال عليه السلام: " من
أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد (2) ".
وما من ساعة إلا وفيها نعمة متجددة لله تعالى على كل أحد من صحة
أو غير ذلك. فلو اشتغل بالسجود عند كل نعمة لم يتفرغ لشغل آخر. ولما
وفق (3) حتى سجد كان ذلك نعمة ينبغي أن يسجد لها ثانيا. ولكن استحسن
محمد الآثار المروية في الباب.



(1) ه‍ " ان ".
(2) في هامش ق " أي مردود عليه. وهو مصدر وصف به. نهاية ".
(3) ه‍ " وقف ".
221
280 - منها ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بشر
ببشرى تسره يخر ساجدا لله (1).
وروى أن عليه السلام مر برجل به زمانة فسجد. ومر به أبو بكر
وعمر (59 ب) ففعلا ذلك.
وفى كتب الحديث يروى أن النبي عليه السلام مر بنغاشى (3)
فسجد.
يعنى ناقص الخلق.
وروى أن أبا بكر رضي الله عنه لما أتاه فتح اليمامة سجد.
وعن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع علي بن أبي طالب
بالنهروان فقال: التمسوه، يعنى ذا الثدية (3). فالتمسوه فلم يجدوه. فجعل



(1) ه‍، ط " خر ل ساجدا ".
(2) في هامش ق " في الحديث أن عليه السلام مر بنغاشى، وروى برجل نغاش،
فخر ساجدا. وروى أنه عليه السلام رأى نغاشا فسجد شكرا. هو القصير في الغاية الضعيف
الحركة. مغرب ".
(3) في هامش ق " في حديث الخوارج ذو الثدية هو تصغير الثدي. وإنما أدخل فيه الهاء،
وإن كان الثدي مذكرا، كأنه أراد قطعة من ثدي. وقيل هو تصغير التندوة بحذف النون لأنها من
تركيب الثدي وانقلاب الياء فيها واوا لضمة ما قبلها، ولم يضر ارتكاب الوزن الشاذ لظهور
الاشتقاق. وروى ذو اليدية، بالياء بدل الثاء، تصغير اليد وهي مؤنثة ". اه‍ نهاية.
ثم تحت هذا ما يلي: " والثدي مذكر. وأما قولهم من لقب علم الخوارج ذو الثدية فإنما جئ
بالهاء في تصغيره على تأويل البضعة. وأما ما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم قتلهم: انظر
فان فيهم رجلا إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة فالصواب إحدى يديه. وذلك أنه كانت مكان يده كمة
مجتمعة على منكبه فإذا مدت امتدت حتى توارى طول يده الأخرى ثم تترك فتعود. مغرب ".
222
يعرق جبينه ويقول: ما كذبت ولا كذبت. فوجدوه في ساقية
أو بئر (1). فسجد على رضي الله عنه سجدة.
وأصل هذا ما روى أنه لما قاتل على رضي الله عنه الحرورية قال
انظروا، فان فيهم رجلا إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة. حدثني نبي الله
أنى صاحبه. فقلبوا القتلى فلم يجدوه. فقال: انظروا، فوالله ما كذبت
ولا كذبت. قالوا: فإن سبعة نفر تحت نخل لم نقلبهم بعد. قال: انظروا.
قال الراوي: فرأيت في رجليه حبلا جروه به حتى ألقوه بين يديه.
فخر لله ساجدا، وقال: أبشروا.
وإنما فعل هذا لأنه أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره
بأن القوم الذي فيهم رجل بهذه الصفة يقاتلونك وهم على الضلالة. فحين
وجدوه كان ذلك نعمة عظيمة. فلهذا خر لله ساجدا. وبالله العون والتوفيق.



(1) ه‍ " أدبر " وهو خطأ.
223
39 [باب صلاة الخوف]
281 - قال محمد رحمه الله: اختلف الناس في صلاة الخوف.
وأحسن الأقاويل فيها ما قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وجامعهما (1)
عليه ابن عمر. وهو أن يجعل الامام الناس طائفتين فتقف طائفة بإزاء
العدو ويصلى بطائفة شطر الصلاة. ثم تذهب هذه الطائفة فتقف بإزاء
العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلى بهم شطر الصلاة. ثم يسلم الامام.
وتذهب هذه الطائفة فتقف بإزاء العدو وتأتي الطائفة الأولى فيقضون
صلاتهم بغير قراءة لانهم أدركوا أول الصلاة، فهم في حكم المتقدمين
في جميعها. ثم تأتى الطائفة الثانية فيقضون ما فاتهم بقراءة لانهم
مسبوقون فيها.
وقد بينا في كتاب الصلاة ما في هذا الباب من اختلاف الآثار واختلاف
العلماء، وما في (2) نوادر أبى سليمان لأبي يوسف من الفرق بينهما إذا كان
العدو في جهة القبلة أو في دبر القبلة في حكم صلاة الخوف.
282 - وذكر هاهنا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن
الامام يصلى بكل طائفة سجدة.



(1) في هامش ق " ووافقهما عليه: نسخة ".
(2) ه‍، ب، أ " وفى ".
224
وإنما أراد به ركعة. وهذه (1) لغة معروفة عند أهل الحجاز. يقولون:
سجد فلان سجدة أي صلى ركعة.
283 - وذكر في حديثه أيضا: فإن كان خوفا هو أشد من
ذلك صلوا رجالا على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي (2) القبلة أو غير
مستقبليها. وإنما أراد إذا كانوا قياما لا مشاة، فإن المشي عمل لا يجوز
الصلاة معه بمنزلة السباحة في البحر والمسايفة (3) في زمان (4) القتال.
284 - وذكر عن (60 آ) محمد بن يحيى (5) أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان إذا سافر فنزل منزلا لم يقعد حتى يصلى ركعتين.
وأهل الحديث يروون هذا الحديث أتم من هذا، لأنه في كل منزل كان
يعين مكان الصلاة أولا فيصلى فيه ركعتين وهكذا ينبغي لكل مسافر أن يفعله،
فان النزول للاستراحة، وذلك نصيب البدن، فالأولى أن يقدم أمر الدين عليه.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته كان يصلى ويسعى في مهنة (6)
أهله، وبه أمر أمته فقال: " لا تتخذوا بيوتكم قبورا ". قيل معناه: لا تصلوا
فيه. وقيل معناه: بأن تناموا فيه من غير حاجة وأن تعينوا أهاليكم في حوائجهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: " جعلت قرة عيني في الصلاة "، وقرة عين أمته
فيما فيه قرة عينه. فالبداية به عند النزول في المنزل أولى.



(1) ه‍ " هذا ".
(2) ه‍ " مستقبل " وهو خطأ.
(3) ه‍ " المسابقة ".
(4) لا توجد في ق، وفى هامشها " في زمان القتال. نسخة ".
(5) في حاشية ه‍ " لا يوجد في الصحابة. ولعله محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري المدني
الفقيه من التابعين. فالحديث مرسل والله أعلم ".
(6) في هامش ق " المهنة بفتح الميم وكسرها الخدمة والابتذال. يقال للأمة إنها لحسنة
المهنة أي الحلب. والمرأة تقوم بمهنة بيتها أي باصلاحه. مغرب ".
م - 15 السير الكبير
225
285 - قال: وإذا ابتلى المسلم بالقتل صبرا فإنه يستحب له أن
يصلى عند ذلك ركعتين ويستغفر بعدهما ذنوبه.
ليكون آخر عمله الصلاة والاستغفار. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من ختم كتابه بالطاعة غفر له ما سلف ". وقال: " الأمور بخواتيمها ".
وفى حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من كان أول كلامه وآخر كلامه قول لا إله إلا الله غفر له ما بين ذلك ".
فلهذا استحبوا أن يلقن الصبى في أول ما يقدر على التكلم كلمة التوحيد،
ويلقن ذلك عند موته أيضا ليكون أول كلامه وآخر كلامه هذا.
286 - ثم الأصل في الباب حديث خبيب (1)، فإنه لما أسر فبيع
بمكة خرجوا به إلى الحل (2) ليقتلوه. فقال: دعوني أصلى ركعتين.
فقالوا: صل. فصلى ركعتين. ثم قال: لولا أن تظنوني جزعت من
الموت لزدت. وفى رواية: أوجزهما وقال: لولا خشية أن يقولوا:
جزع من الموت لطولت صلاتي. ثم نظر في وجوه المشركين فلم ير
إلا شامتا أو إنسانا في يده حجرا أو عصا. فقال: والله ما أرى إلا وجه
عدو! اللهم ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عن السلام، فأقرئ رسولك
وأصحابه منى السلام.



(1) في هامش ق " صلبوه بالتنعيم، وكان الذي تولى صلبه عقبة بن الحارث وأبو هبرة
العبدري. فخبيب أول من صلب في الاسلام، وأول من سن صلاة ركعتين عند القتل. روى
عنه الحارث بن البرصاء. وخبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة الأولى وبعدها ياء ساكنة
جامع الأصول ".
(2) موضع بمكة.
226
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه السلام وهو على المنبر
بالمدينة.
ثم قال خبيب: اللهم أحصهم عددا، والعنهم بددا، ولا تبق
منهم أحدا.
زاد في كتب الحديث أنه التمس منهم أن يكبوه على وجهه مستقبل القبلة
ليقتلوه وهو ساجد، فأبوا عليه. فجعل يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان في الله مصرعي
ثم صلبوه بعد القتل مستدبر الكعبة، فتحولت خشبته حتى صار
مستقبل الكعبة (1).
وقد استحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنعه خبيب عند القتل
من الصلاة ركعتين وسماه سيد الشهداء وقال: " وهو رفيقي في الجنة ". فصارت
سنة من ذلك الوقت.
287 - قال: وصلاة الخوف إنما تكون (2) إذا كانوا (60 ب)
مواقفين للعدو. فأما في حالة المسايفة (3) والمطاعنة والرمي فلا تستقيم
الصلاة لان هذا عمل، ولا تستقيم الصلاة مع الاشتغال بعمل ليس منها
ولكنهم يؤخرون الصلاة إلى أن يفرغوا من ذلك.
لان ما يفوتهم من الصلاة يمكنهم تداركه بعد هذا، وما يفوتهم بالاشتغال
بالصلاة، والكف عن القتال في هذه الحالة لا يمكنهم تداركه.



(1) ه‍ " القبلة ".
(2) ه‍ " يكون ".
(3) ق " المسابقة ".
227
والأصل فيه حديث أبي سعيد الخدري قال: حبسنا يوم
الخندق عن الصلاة إلى هوى (1) من الليل حتى كفينا، كما قال الله تعالى:
{وكفى الله المؤمنين القتال} (2). فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بلالا فأمر فأقام الصلاة صلاة الظهر، فصلاها كأحسن ما كان يصليها
في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها مثل ذلك، ثم المغرب، ثم العشاء،
وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف، فرجالا أو ركبانا.
289 - وفى رواية ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمره فأذن وأقام للأولى، ثم أقام لكل صلاة بعد الأولى.
وفى رواية عنه أنه أمره فأذن وأقام لكل صلاة. وبأي ذلك
أخذت فهو حسن.
وفيه دليل جواز تأخير الصلاة لشغل القتال، وأن المستحب في الفوائت
أن تقضى بالجماعة كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا قياما
على أرجلهم أو ركبانا لا يعملون شيئا صلوا بالايمان ولم يجز لهم تأخير الصلاة،
لان عند العجز عن الركوع والسجود الفرض يتأدى بالايماء، وعجزهم ظاهر.
290 - وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسى رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الأحزاب حتى صلى المغرب. ثم ذكر
بعد ذلك أنه لم يصل فصلاها.



(1) في هامش ق " الهوى بالفتح الحين الطويل من الزمان، وقيل هو مختص بالليل. نهاية ".
(2) سورة الأحزاب، 33، الآية 25.
228
وفيه دليل على أن الترتيب يسقط بعذر النسيان. وقد بينا هذا في كتاب
الصلاة.
ثم يوم الأحزاب هو يوم الخندق أيضا، وقد ذكر في الحديث الأول
أنه ترك أربع صلوات، وفى هذا الحديث ذكر أنه (1) ترك صلاة العصر،
وكلاهما صحيح. فقد روى أنه قال: " شغلونا عن الصلاة الوسطى، ملا الله
قبورهم وبيوتهم نارا " يعنى صلاة العصر.
فوجه التوفيق أن كل واحد من الامرين كان في يوم على حدة، لانهم
بقوا في الخندق سبعة عشر يوما. وكانوا مشغولين بالقتال في أكثر تلك الأيام
ليلا ونهارا والله الموفق.

229
40 [باب الشهيد وما يصنع به]
291 - قال محمد رحمه الله: الشهيد إذا قتل في المعركة لم يغسل،
ويصلى عليه في قوله أهل العراق وأهل الشام. وبه نأخذ
وفى قول أهل المدينة لا يصلى عليه. وممن قال ذلك مالك
ابن أنس.
واعلم أن محمدا رحمه الله سلك في هذا الكتاب للترجيح طريقا سوى
ما ذكره في سائر الكتب (61 آ)، وهو أنه نظر فيما اختلف فيه أهل العراق
وأهل الشام وأهل الحجاز، فرجح ما اتفق عليه فريقان (1) وأخذ به دون
ما تفرد به فريق واحد. وهذا خلاف ما هو المذهب الظاهر لأصحابنا في الترجيح
أنه لا يكون بكثرة العدد. وعليه دل ظاهر قوله تعالى: {إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات، وقليل ما هم} (2). وقال تعالى: {ولكن أكثر الناس
لا يعلمون} (3). وقال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} (4).
ووجه ما اعتبره هاهنا أن مثل هذا الاختلاف إنما يترتب على اشتباه
الأثر (5) فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي، وكان ذلك
أمرا ظاهرا. فتهمة الغلط فيما تفرد به فريق واحد يكون أظهر من تهمة الغلط
فيما اجتمع عليه فريقان كما في هذه المسألة.



(1) ه‍ " الفريقان ".
(2) سورة ص، 38، الآية 24.
(3) سورة الأعراف، 7، الآية 187.
(4) سورة يوسف، 12، الآية 103.
(5) ط، ه‍ " الاشتباه في الآثار ".
230
292 - فإن جابرا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على
شهداء أحد. وأكثر الصحابة يروون أنه صلى عليهم، حتى رووا أنه
صلى على حمزة رضي الله عنه سبعين صلاة. كان موضوعا بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما أتى رجل صلى عليه وعلى حمزة معه.
وكان جابر رضي الله عنه يومئذ قتل أبوه وخاله. فكان مشغولا
بهما، لم يشهد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء، على
ما روى أنه حملهما إلى المدينة فنادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن ادفنوا القتلى في مضاجعهم. فردهما.
ولا شك أن توهم الغلط في روايته أظهر.
293 - ثم أهل المدينة يقولون: إن الصلاة على الميت استغفار له
وترحم عليه، والشهيد يستغنى عن ذلك، فإن السيف محاء للذنوب.
ونحن نقول: الصلاة على الميت من حق المسلم على المسلم كرامة له،
والشهيد أولى بهذه الكرامة. ولا إشكال أن درجة الشهيد دون درجة من غفر له
ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد صلى عليه أصحابه، والناس يقولون: وارحم
محمد وآل محمد في الصلاة، فعلمنا أنه لا يبلغ الشهيد درجة يستغنى بها عن
استغفار المؤمنين والدعاء بالرحمة له. ومن يقول منهم إن الشهيد حي بالنص
ولا يصلى على الحي فهذا ضعيف أيضا، لأنه حي في أحكام الآخرة فأما
في أحكام الدنيا فهو ميت في حقنا، يقسم ميراثه، ويجوز لزوجته أن تتزوج
بعد انقضاء العدة. والصلاة على الميت من أحكام الدنيا إلا أنه لا يغسل ليكون
ما عليه شاهدا له على خصمه يوم القيامة.

231
294 - قال عليه السلام في شهداء أحد: " زملوهم بدمائهم فإنهم
يبعثون يوم القيامة وأوداجهم (1) تشخب دما، اللون لون الدم والريح
ريح المسك ". ولهذا لا ينزع عنه جميع ثيابه (2)، على ما روى أن حمزة
رضي الله عنه كفن في نمرة (3) كانت عليه حين استشهد، ولكن ينزع
عنه السلاح لأنه كان لبسه لدفع البأس فقد انقطع ذلك.
ولان دفن القتلى (61 ب) مع الأسلحة فعل أهل الجاهلية، وقد نهينا
عن التشبه بهم. وكذلك ما لبس من جنس الكفن كالسراويل والقلنسوة
والمنطقة والخاتم والخف. هكذا ذكر عن جماعة من أئمة التابعين. ولأهله أن
يزيدوا في أكفانه ما أحبوا. وبهذا اللفظ يستدل على أن التقدير بثلاثة أثواب
أو بثوبين في كفن الرجال غير لازم.
295 - وإن صار مرتثا فهو شهيد في أحكام الآخرة ولكن
يصنع به ما يصنع بالموتى من الغسل والتكفين.
والمرتث من يصير خلقا في حكم الشهادة مأخوذ من قول القائل: ثوب
رث أي خلق.
296 - فإذا حمل من مصرعه حيا فمات على أيدي الرجال أو مرض
في خيمته فهو مرتث.
لأنه نال بعض الراحة.



(أوداج جمع ودج محركة عرق في العنق (قاموس).
(2) من هنا إلى قوله: " لأنه كان لبسه " ساقط من ق، وقد أضيف في الهامش على أنه في
نسخة ثانية.
(3) النمرة بردة يلبسها الاعراب (قاموس).
232
فأما إذا جر برجله من بين صفين لكيلا تطأه الخيول فإنه
لا يغسل.
لان نقله من مصرعه لم يكن لايصال الراحة إليه.
ولو أكل أو شرب فإنه يغسل.
لأنه نال بعض الراحة بذلك.
297 - قال: وذكر عن زيد بن صوحان قال: لا تنزعوا عنى ثوبا
إلا الخفين، ولا تغسلوا عنى دما، وارمسوني (1) في الأرض رمسا،
فإني رجل محاج أحاج يوم القيامة من قتلني.
ففيه دليل على أنه لا ينزع عن الشهيد من ثيابه إلا ما ليس من جنس
الكفن، وأنه لا يغسل ليكون ما عليه من الدم شاهدا له يوم القيامة.
298 - وعن سعيد بن عبيد أنه خطب الناس بالقادسية فقال:
إنا لاقون غدا فمستشهدون. فلا تغسلوا عنا دما، ولا تكفنونا في ثوب
إلا ما علينا.
وهذه دليل على ما ذكرنا أيضا، وكأنه كره شيئا مما يرجع إلى الزينة
في كفنه لا لان الزيادة لا تحل.
299 - وذكر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم
أحد: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة: زملوهم في ثيابهم. ثم قال: أي



(1) في هامش ق " رمس الميت دفنه من باب طلب. ومنه حديث زيد بن صوحان. مغرب ".
233
هؤلاء كان أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى رجل قدمه في اللحد
قبل صاحبه. وكان يدفن في القبر الاثنين والثلاثة.
وفيه دليل على أنه لا بأس عند الضرورة بدفن الجماعة في قبر واحد.
فالأنصار يومئذ أصابهم قرح وجهد شديد حتى شكوا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم قالوا: إن الحفر علينا لكل إنسان شديد. فقال: " أعمقوا
وأوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة ".
300 - ولكن ينبغي عند الحاجة أن يجعل بين كل ميتين حاجز
من التراب كي يصير في حكم قبرين.
وعلى هذا الوجه لا بأس بدفن المرأة والرجل في قبر واحد على ما رواه
على إبراهيم، ويقدم إلى جانب القبلة أفضلهما وهو الرجل.
فإن كانا رجلين تقدم أفضلهما أيضا على ما قال عليه السلام:
" قدموا أكثرهم أخذا للقرآن. فإن أكثرهم أخذا للقرآن كان
أفضلهم يومئذ.
لانهم يتعلمون القرآن بأحكامه.
301 - ثم روى حديث جابر أن منادى رسول الله صلى الله
عليه وسلم نادى يومئذ: " ادفنوا القتلى في مضاجعهم ".
وهذا حسن ليس بواجب. وإنما صنع (1) هذا رسول الله صلى الله
عليه وسلم لأنه كره المشقة عليهم بالنقل مع ما أصابهم من القرح.



(1) ب، أ، ق " نصنع هذا من رسول الله... أنه " أثبتنا رواية ه‍.
234
302 - وذكر عن محمد بن سيرين قال: استعمل يزيد بن معاوية
على جيش، فكره أبو أيوب الأنصاري الخروج معه، ثم ندم ندامة
شديدة فغزا معه بعد ذلك، فحضر (1)، فأتاه يزيد بن معاوية يعوده
فقال: ألك حاجة؟ قال: نعم. إذا أنا مت فاغسلوني وكفنوني ثم احملوني
حتى تأتوا بلاد العدو ما لم يشق على المسلمين، ثم تأمرهم فيدفنوني.
وهذا أيضا ليس من الواجب ولكنه شئ أحبه إما ليكون أقرب في نحر
العدو فينال ثواب من مات مرابطا أو ليكون أبعد عن الشهرة بكثرة الزيارة.
فقد قال عليه السلام: " لا تتخذوا قبري بعدي معبدا (2) ". وقال: " قاتل الله
اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
وذكر في المغازي أنهم فعلوا ذلك به ودفنوه ليلا، فصعد من قبره
نور إلى السماء، ورأى ذلك من كان بالقرب من ذلك الموضع من المشركين.
فجاء رسولهم من الغد فقال: من كان هذا الميت فيكم؟ قالوا: صاحب لنبينا.
فأسلموا لما رأوا (3).
303 - وذكر عن ابن أبي مليكة قال: مات عبد الرحمن
ابن أبي بكر بالحبشى (4) فنقل منه ودفن بمكة. فجاءت عائشة رضي الله عنها
حاجة أو معتمرة فزارت قبره وقالت:



(1) في هامش ق " حضره الموت واحتضره أشرف عليه وهو في النزع فهو محضور ومحتضر
بالفتح. مصباح ".
(2) ه‍، ق " عيدا " وفى هامش ق " معبدا. نسخة ".
(3) في ه‍ زيادة " وذكر أنه لما بلغوا به إلى أرض الحرب قالوا للمسلمين: لم يبق في دارنا
لا بيعة ولا كنيسة إلا أخربتموها فما حملكم على دفن ميتكم ها هنا؟ ".
(4) ط، ه‍ " بالحبشة " وهو خطأ، ب " بحبشة " خطأ أيضا أثبتنا رواية ق. وفى هامش
ق ما يلي: " وفى حديث عبد الرحمن بن أبي بكر أنه مات بالحبشى هو بضم الحاء وسكون الباء وكسر
الشين بالتشديد موضع قريب من مكة. وقال الجوهري: هو جبل بأسفل مكة. نهاية "
235
وكنا كندماني جذيمة حقبة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا (1)
أنا والله لو شهدتك ما زرتك، ولو شهدتك ما دفنتك إلا في مكانك
الذي مت فيه.
وإنما قالت ذلك لاظهار التأسف عليه حين مات في الغربة،
ولاظهار عذرها في زيارته. فإن ظاهر قوله عليه السلام: " لعن الله
زوارات القبور " يمنع النساء من زيارة القبور. والحديث وإن كان
مؤولا فلحشمة ظاهرة قالت ما قالت.
وفيه دليل أن الأولى أن يدفن القتيل والميت في المكان الذي مات فيه
في مقابر أولئك القوم. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات في
حجرة عائشة رضي الله عنها دفن في ذلك الموضع؟
304 - قال. ولو نقل ميلا أو ميلين أو نحو ذلك فلا بأس به.
وفى هذا بيان أن النقل من بلد إلى بلد مكروه، لأنه قدر المسافة التي
لا يكره النقل فيها بميل أو ميلين. وهذا لأنه اشتغال بما لا يفيد (62 ب)
فالأرض كلها كفات للميت. قال الله تعالى {ألم نجعل الأرض كفاتا (2) أحياء
وأمواتا} (3). إلا أن الحي ينتقل من موضع إلى موضع لغرض له في ذلك،



(1) الأبيات من قصيدة لمتمم بن نويرة يرثى بها أخاه مالك بن نويرة. انظر المفضليات 2: 63
وفى هامش ق " كان (جذيمة من ملوك (؟) فقد ابن أخته فقال: من وجده أعطه
ما يشتهى على. فوجده رجلان فاشتهيا عليه أن يجعلهما ندمانيه. ففعل ولم يفارقاه حتى مات. فجعل
ذلك مثل في العرب لكل من لازم أحدا. من خط الحصيري ".
(2) في هامش ق " الكفات بالكسر الموضع يكف فيه الشئ أي يضم ويجمع. والأرض
كفات لنا. قاموس ".
(3) سورة المرسلات، 77، الآية 25، 26.
236
وذلك لا يوجد في حق الميت. ولو لم يكن في نقله إلا تأخير دفنه أياما كان
كافيا في الكراهة.
305 - وذكر عن الحسن قال: إذا وجد ما يلي صدر القتيل إلى
رأسه غسل وصلى عليه. يعنى إذا وجد أكثر البدن أو نصف البدن
معه الرأس، وبه نأخذ.
فإنه لا تعاد الصلاة على ميت واحد. فلو صلى على النصف أو ما دونه
يؤدى إلى تكرار الصلاة على ميت واحد بأن يوجد النصف الباقي. وهذا
لا يكون فيما إذا وجد أكثر البدن أو النصف ومعه الرأس.
306 - فأما القتيل فإن علم أنه قتل في سبيل الله تعالى لم يغسل.
وإن لم يعلم ذلك غسل.
لان الغسل سنة الموتى من بني آدم، إلا أنه يسقط في حق الشهيد
لمقصود قد بيناه.
فما لم يعلم ذلك وجب غسله بمنزلة سائر الموتى.
307 - وذكر عن أبي برزة الأسلمي أنه صلى ركعتين وهو آخذ
بعنان فرسه. ثم أنسل (1) قياد فرسه من يده. فمضى الفرس على القبلة
وتبعه أبو برزة حتى أخذ بقياد فرسه. ثم رجع ناكصا على عقبيه (2)
فصلى بقية صلاته. فقال الرجل: ما لهذا الشيخ فعل الله به وفعل.



(1) ه‍ " استل " وهو خطأ والنسل سقط.
(2) في هامش ق " نكص على عقبيه " أي رجع.
237
فانصرف أبو برزة من صلاته فقال: من هذا الشاتم لي آنفا؟ إنا صحبنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأينا من يسره. ولو كنت تركت
فرسي حتى تباعد ثم طلبته شق عليه. فقال القوم للرجل: ما كان ينتهى
بك خبثك حتى تتناول رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
تسبه!.
ففي هذا دليل على أنه لا بأس للغازي أن يأخذ بعنان فرسه في الصلاة،
لأنه يبتلى به من ليس له سائس. وإن (1) مشى في صلاته عند تحقق الحاجة
يسيرا وهو مستقبل القبلة لم تفسد صلاته. ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه
كبر عند باب المسجد وركع ودب راكعا حتى التحق بالصف. ولو استدبر
القبلة في مشيه حتى جعلها خلف ظهره كان مفسدا لصلاته لا لمشيه بل لتفويت
شرط الجواز وهو استقبال القبلة. وكأن الرجل استعظم مشيه في الصلاة لأجل
الفرس فنال منه لأنه لم يعرفه، فاستعظم فعله. ثم بين أبو برزة أنه صحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى من يسره، يريد من تيسيره على الناس
فعلا وقولا على ما قال عليه السلام: " خير دينكم اليسر " فبين عذر نفسه ولم
يشتغل بمكافأة من نال منه ففعل ذلك القوم على وجه النيابة عنه. وهذا هو
الطريق المحمود في المعاشرة مع الناس.
308 - قال: ولا بأس للغزاة (63 آ) وغيرهم من المسافرين
أن يصلوا على دوابهم حيث ما كانت وجوههم تطوعا يومون إيماء.
وهذا لان التطوع مستدام غير مختص بوقت. والظاهر أن المسافر يلحقه
الحرج في النزول واستقبال القبلة في كل وقت، فذلك يشبه (2) العذر لاثبات
هذه الرخصة له إذا أراد استدامة الصلاة.



(1) ب، أ، " وإن من مشى... ".
(2) ه‍ " شبه ".
238
والدليل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصلى على حمار وهو متوجه إلى خيبر، وكان ابن عمر رضي الله عنهما
يصنع ذلك أيضا.
وعن جابر رضي الله عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
غزوة أبواء (1) يصلى على راحلته ووجهه قبل المشرق. ورآه يصلى على راحلته
وهو ذاهب إلى خيبر حيث ما توجهت به مقبلا أو مدبرا.
فعرفنا أنه لا بأس بذلك.
309 - ثم ذكر أنه ينبغي للغزاة الذين لا ثياب لهم أن يصلوا
قعودا وحدانا كأستر ما يكون يومون إيماء.
وذلك مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
310 - قال: ولا يعجبنا أن يصلوا جماعة. فإن صلوا جماعة قعد
الامام في وسط الصف لكيلا يقع بصرهم على عورته كما هو السنة
في صلاة النساء بالجماعة (2).
311 - ثم ذكر الجمع بين الصلاتين في الغزو وغيره من الاسفار
أنه لا بأس به فعلا لا وقتا، بأن يؤخر الأولى إلى آخر الوقت ثم ينزل
فيصليها في آخر الوقت ويمكث ساعة حتى يدخل وقت الأخرى
فيصليها في أول الوقت. هكذا فعله ابن عمر رضي الله عنهما: وروى
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هكذا إذا جد به السير.
وقد بينا تمام هذه الفصول في كتاب الصلاة والله الموفق.



(1) ب " انمار " ولا ذكر لها. أثبتنا رواية ق وهي الصحيحة.
(2) في هامش ق " ثم ذكر صفة قعوده فقال: يخرج رجليه إلى القبلة ويوضع (كذا) يديه
بين فخذيه ويغض بصره ما استطاع. في نسخة. كذا بخط الحصيري ".
239
41 [باب صلاة القوم الذين يخرجون إلى العسكر]
ويريدون العدو
312 - قال: إذا كان للمسلمين مدينتان بينهما مسيرة يوم
واحدهما أقرب إلى أرض الحرب، فكتب والى المدينة القريبة إلى
والى المدينة البعيدة أن الخليفة كتب إلى يأمرني بالغزو فأعلم من
قبلك ذلك ليقدموا على فإني شاخص من مدينتي يوم كذا، فخرج
القوم من المدينة البعيدة على قصد الغزو مع والى المدينة القريبة
ولا يدرون أين يريد من أرض الحرب، فإن كان بين المدينة القريبة
وبين أرض الحرب مسيرة يومين فأهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة
كما خرجوا من مدينتهم.
لانهم يتيقنون السفر ثلاثة أيام، فان من المدينة البعيدة إلى المدينة القريبة
مسيرة يوم، ومنها إلى أرض الحرب مسيرة يومين، والغزاة يدخلون دار الحرب
لا محالة فلهذا يقصرون الصلاة.
313 - وإن كانت المسيرة من المدينة القريبة إلى دار الحرب
دون يومين فإنهم يتمون الصلاة.
لانهم (63 ب) لا يدرون أين يريد الوالي، فلعله لا يريد أن يجاوز

240
أول دار الحرب. وإنما يؤخذ في العبادة بالاحتياط. وطريق العبادة الاحتياط
في البناء على المتيقن به دون المحتمل، والغزاة تبع للوالي في نية السفر والإقامة،
لان عليهم طاعته بمنزلة العبد مع مولاه (1) والزوجة مع زوجها.
314 - وإن كان بين في كتابه (2) أين يريد المسير إليه من دار
الحرب فقد زال الاشتباه ببيانه.
فان كان المسير (3) إلى ذلك الموضع مقدار ثلاثة أيام فصاعدا من مدينتهم
قصروا الصلاة وإلا أتموا.
315 - وإن قدموا على والى المدينة القريبة فلم يخرج أياما
فإنهم يقصرون الصلاة ما لم يعزموا على الإقامة خمس عشرة ليلة في المدينة
القريبة (4).
لانهم صاروا مسافرين فما لم يعرفوا على الإقامة في موضعها أو في مدة
الإقامة كانوا مسافرين على حالهم.
ألا ترى أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين ليلة
يقصر الصلاة، وابن عمر رضي الله عنهما أقام بآذربيجان ستة أشهر وكان
يقصر الصلاة؟
316 - وأما أهل المدينة القريبة فإنهم يتمون الصلاة حتى يخبرهم
الأمير أنه يريد سفر ثلاثة أيام فصاعدا، وإذا أخبرهم بذلك فما لم يخرجوا
من مدينتهم يتمون الصلاة أيضا.



(1) ه‍ " في حق مولاه ".
(2) ه‍ " وإن كان في كتابه ".
(3) ه‍، ق " فان كانت المسيرة ".
(4) قوله " القريبة " ساقط من ه‍.
م - 16 السير الكبير
241
وإن خرجوا إلى العسكر ينتظرون أن يخرج الأمير فمن كان
منهم لا يعزم على الرجوع إلى منزلة فإنه يقصر الصلاة وإن أقام في ذلك
المكان شهرا.
لأنه صار مسافرا حين فارق عمران مصره على قصد السفر.
وإن كان من عزمه أن يرجع إلى منزله ساعة من نهار ليقضى
حاجته فإنه يتم الصلاة.
لان عزمه على الرجوع إلى وطنه الأصلي إذا كان هو في فنائها بمنزلة
مقامه في جوفها، فيتم الصلاة حتى يخرج من المدينة راجعا إلى العسكر. وهو
لا يريد الرجعة إلى أهله حتى يغزو، فإذا جعلها خلف ظهره قصر الصلاة لأنه
صار مسافرا بهذا الخروج. وان عزموا على الإقامة في المعسكر خمسة عشر
ليلة أتموا الصلاة لانهم نووا الإقامة في موضعها، فان فناء (1) المصر كجوف
المصر في صحة نية الإقامة فيه.
317 - ولو أن أهل المدينة البعيدة قصروا الصلاة إلى أن ينتهوا
إلى المدينة القريبة فقال الوالي: إن الخليفة كتب إلى أن تغزوا قبل أن
تخرجوا من مدينتكم إلى فصلاتهم التي أدوها تامة.
لانهم كانوا مسافرين وما لم يعرفوا فسخ الوالي عزيمة السفر لا يصيرون
مقيمين، لان التكليف يثبت بحسب الوسع.
ثم عليهم من حين سمعوا هذا الخبر أن يتموا الصلاة.
لانهم عزموا على الرجوع إلى وطنهم الأصلي، وبينهم وبين وطنهم
(64 آ) مسيرة يوم فكانوا مقيمين في الحال.



(1) في هامش ق " الفناء سعة أمام البيوت. وقيل ما امتد من جوانبها. مغرب ".
242
318 - وإن سمع بذلك بعضهم دون بعض فعلى الذين سمعوا
أن يتموا الصلاة، وقصر الذين لم يسمعوا، فصلاتهم صحيحة ليس
عليهم إعادتها.
لان ما يبتنى على السماع لا يثبت حكمه في حق المخاطب ما لم يسمع به
أصله خطاب الشرع، وهذا لان حكم الخطاب إنما يلزم المخاطب إذا تمكن من
العمل بله، وذلك لا يكون إلا بعد السماع. فكانوا مسافرين ما لم يسمعوا
السبب الذي هو فاسخ لعزيمة سفرهم.
319 - فإن كان والى المدينة القريبة كتب إلى أهل المدينة البعيدة:
من أراد منكم الغزو فليوافني في موضع كذا، ولم يخبر أين يريد، وذلك
المكان على مسيرة يومين من المدينة البعيدة، فإن أهلها يتمون الصلاة
حتى ينتهوا إلى ذلك المكان.
لانهم قصدوا أقل من مدة السفر، ولعل من رأى الامام أن يقيم معهم
في ذلك المكان ويبعث السرايا والجيوش من غيرهم ويتمون الصلاة في ذلك
المكان أيضا، لانهم إذا لم يصيروا مسافرين بالقصد إلى ذلك المكان لا يصيرون
مسافرين بالمقام في ذلك المكان أيضا.
320 - فإن أخبرهم الوالي بعد ما نزلوا ذلك المكان أن يسير بهم
مسيرة شهر في دار الحرب، فإنهم يتمون الصلاة ما داموا في ذلك
المكان.
لانهم حصلوا فيه وهم مقيمون، فبمجرد نية السفر لا يصيرون مسافرين
ما لم يرتحلوا منه بمنزلة المقيم ينوى السفر وهو في مصره.

243
321 - فإن قصروا الصلاة قبل أن يرتحلوا من ذلك المكان
فعليهم إعادة الصلاة.
لانهم خرجوا منها قبل إكمال الفرض.
322 - ثم إن خرجوا من ذلك المكان قبل أن يمضى وقتها وقبل
أن يعيدوها صلوها ركعتين ي وآن خرجوا بعد مضى وقتها صلوها أربعا.
لان تقرر الوجوب باعتبار آخر الوقت.
323 - فإذا خرج الوقت وهم مسافرون كان عليهم صلاة السفر.
وإن خرج الوقت وقم مقيمون كان عليهم صلاة المقيمين، ولا يتغير
هذا الحكم بما أدوا.
لان المؤادة كانت فاسدة حين سلموا على رأس ركعتين وهم مقيمون
فكأنهم لم يصلوها أصلا.
324 - فإن سبق أهل المدينة البعيدة إلى ذلك المكان فلم يأتهم
والى المدينة القريبة عشرة أيام وأن ذلك المكان من مدينتهم على مسيرة
يومين أتموا الصلاة.
لما بينا.
325 - وإن كان على مسيرة ثلاثة أيام قصروا الصلاة فيها وإن
أقاموا شهرا أو أكثر.
لانهم صاروا مسافرين بالخروج إليها فلا يصيرون مقيمين ما لم يعزموا

244
على إقامة خمس عشر ليلة (64 ب) وهم منتظرون للوالي في هذا المكان غير
عازمين على إقامة خمس (1) عشرة ليلة.
326 - فإن قصروا الصلاة في ذلك المكان ثم أتاهم كتاب الوالي
أنه قد أمر بالمقام فإنهم يقصرون الصلاة على حالهم حتى يرجعوا
إلى مدينتهم.
لانهم انصرفوا وبينهم وبين مواضع إقامتهم مسيرة سفر فلا يصيرون
مقيمين حتى يدخلوا وطنهم.
327 - قال: وإن دخل المسلمون أرض الحرب فانتهوا إلى حصن
ووطنوا أنفسهم على أن يقيموا عليه شهرا إلا أن يفتحوه قبل ذلك،
أخبرهم (2) الوالي بذلك، فإنهم يقصرون الصلاة.
لانهم لم يعزموا على إقامة خمس عشرة ليلة لمكان الاستثناء، فالفتح قبل
مضى خمس عشرة ليلة محتمل.
328 - وإن أخبرهم الوالي أنه لا يقيم بهم في ذلك المكان فتحوا
أو لم يفتحوا فإنهم يقصرون الصلاة أيضا.
لانهم في دار الحرب محاربون لأهلها والمحارب بين أن يقهر عدوه فيتمكن
من المقام، وبين أن يظهر عليه عدوه فلا يتمكن من المقام. ومثل هذا الموضع
لا يكون موضع الإقامة في حقه، ونية الإقامة في غير موضعها هدر كأهل
السفينة إذا نووا الإقامة في موضع من لجة البحر.



(1) ب، أ " خمسة عشر ليلة ".
(2) ه‍ " فأخبرهم ".
245
329 - ولو أطالوا المقام في دار الحرب حتى وقع الثلج فصاروا
لا يستطيعون الخروج، فعزموا على الإقامة سنتهم حتى يذهب عنهم الثلج
فيخرجون، وهم في غير أمان من أهل الحرب، فإنهم يقصرون الصلاة أيضا.
لانهم لا يأمنون من أن يقاتلهم العدو فيمنعوهم من القرار في ذلك الموضع.
وعن زفر رحمه الله أنه إن كانت لهم منعة وشوكة على وجه ينتصفون
من العدو إن أتاهم يصح بينهم الإقامة باعتبار الظاهر.
وعن أبي يوسف رحمه الله قال: إذا كانوا في الأخبية والفساطيط
لم يصح بينهم الإقامة. وإن كانوا في الأبنية وهم ممتنعون صحت منهم الإقامة.
والأصح ما ذكر محمد رحمه الله لما قلنا (1) ان موضع الإقامة ما يتمكن
المرء من المقام فيه بقدر ما نوى.
330 - واستدل عليه بحديث زائدة بن عمير:
قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: إنا نطيل الثواء (2) بأرض
العدو، يعنى القرار، فكيف أنوي في الصلاة؟ قال: ركعتين حتى
ترجع إلى أهلك. قلت: كيف تقول في العزل؟ قال: إن كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذكر فيه شيئا فهو كما ذكر وإلا فإني أقول فيه
نساؤكم حرث لكم فأتوا (65 آ) حرثكم أنى شئتم (3) من شاء عزل
ومن شاء ترك.



(1) ق " لما بينا ".
(2) في هامش ق " ثوى بالمكان أقام به ثواء وثويا على فعال وفعول ومنه: إنا نطيل الثوى
في دار الحرب. مغرب ".
(3) سورة البقرة، 2، الآية 223.
246
وفيه دليل جواز العزل. وهذا اللفظ مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما
أيضا. واليهود كانوا يكرهون ذلك ويقولون انه المؤودة (1) الصغرى
فنزلت الآية ردا عليهم.
وقد روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن العزل فقال:
إذا أخذ الله ميثاق نسمة من صلب رجل فهول خالقها، وإن صب الماء على
صخرة. فان شئتم فاعزلوا وإن شئتم فاتركوا.
وهكذا يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم. إلا أنه في العزل عن الحرة يحتاج إلى رضاها ليحل له ذلك، وفى العزل
عن أمته لا يحتاج إلى ذلك.
331 - قال: ولو دخل مسلم دار الحرب بأمان ونوى الإقامة
في موضع خمسة عشر يوما أتم الصلاة.
لأنه غير محارب لهم بل هو في أمان منهم، فيتمكن من المقام بقدر
ما نواه كما يتمكن منه في دار الاسلام.
332 - ومن أسلم منهم في دار الحرب فلم يأسروه أو لم يعلموا
بإسلامه فهو يتم الصلاة أيضا ما دام في منزله.
لأنه كان مقيما في هذا الموضع فلا يصير مسافرا ما لم يرتحل منه.
333 - وإن سافر مسيرة ثلاثة أيام فقصر الصلاة ثم انتهى
إلى مقصده في دار الحرب نوى أن يقيم خمسة عشر يوما (2) أتم الصلاة.
لأنه ما لم يتعرض له أهل الحرب فهو يتمكن من القرار في موضعه،
وهو غير محارب لهم فيكون في حكم المستأمن فيهم.



(1) ب " المودة ".
(2) ه‍، ق " خمس عشرة ليلة ".
247
334 - قال: والأسير من المسلمين في أيديهم إن أقاموا به في
موضع يريدون المقام فيه خمسة عشر يوما (1) فعليه أن يتم الصلاة وإن
كان لا يريد المقام معهم بل يكون عازما على الفرار منهم إن تمكن من
ذلك، لأنه مقهور مغلوب في أيديهم، فيكون المعتبر في حقه نيتهم في
السفر والإقامة لا نيته، بمنزلة عبد الرجل وزوجته في دار الاسلام.
فإنه يعتبر في حقهما نية المولى والزوج في السفر والإقامة لا نيتهما.
وكذلك من بعث إليه الخليفة من عماله ليؤتى به من بلد إلى بلد لا تعتبر نيته
في السفر والإقامة، لأنه غير متمكن من تنفيذ قصده. فمن بعثه الخليفة لا يمكنه
من ذلك فكذلك حال الأسير في أيديهم.
335 - وإن كان الأسير انفلت منهم وهو مسافر فوطن نفسه
على إقامة شهر في غار أو غير قصر الصلاة.
لأنه محارب لهم فلا تكون دار الحرب موضع الإقامة في حقه حتى ينتهى
إلى دار الاسلام.
336 - وكذا (2) الذي أسلم في دارهم إذا علموا بإسلامه فطلبوه
فخرج هاربا يريد مسيرة ثلاثة أيام فهو مسافر، وإن أقام في موضع
مختفيا شهر منهم أو أكثر.
لأنه صار محاربا لهم حين طلبوه ليقتلوه.



(1) في هامش ق " خمس عشرة ليلة. نسخة ".
(2) ه‍ " كذلك ".
248
337 - وكذلك المستأمن إذا غدروا به فطلبوه ليقتلوه.
لأنه صار محاربا لهم، وحال هؤلاء كحال من دخل دار الحرب
متلصصا فنوى الإقامة في موضع شهرا، فإنه يكون مسافرا. ونيته الإقامة
لغو، لأنه في غير موضع إقامته.
338 - قال: وإن كان واحد من هؤلاء مقيما بمدينة من دار
الحرب فلما طلبوه ليقتلوه اختفى فيها منهم فإنه يتم الصلاة أيضا.
لأنه كان مقيما في هذه البلدة فلا يصير مسافرا ما لم يخرج منها.
339 - وكذلك إن خرج منها يريد مسيرة يوم أو يومين.
لان المقيم لا يصير مسافرا بنيته الخروج إلى ما دون مدة السفر، بمنزلة
الرجل يخرج إلى ضيعته في بعض القرى (1).
340 - وهؤلاء بمنزلة جيش دخلوا دار الحرب من مسيرة يوم
من منازلهم ولا يريدون أن يسيروا في أرض العدو إلا يوما آخر فلقوا
العدو وقاتلوهم فإنهم يكملون الصلاة وإن طال مقامهم.
لانهم لم يكونوا مسافرين في دار الحرب، فبالقتال لا يصيرون
مسافرين.
341 - ألا ترى أن أهل مدينة من أهل الحرب لو أسلموا
فقاتلهم أهل الحرب وهم مقيمون في مدينتهم فإنهم يتمون الصلاة.



(1) ه‍ " يخرج إلى بعض القرى ".
249
وكذلك إن غلبهم أهل الحرب على مدينتهم فخرجوا منها يريدون
مسيرة يوم فإنهم يتمون الصلاة.
وإن خرجوا منها يريدون مسيرة ثلاثة أيام فقد صاروا مسافرين
يقصرون الصلاة
فإن أقاموا في موضع من دار الحرب عند مدينتهم قصروا
الصلاة أيضا.
لانهم محاربون ومن حصل مسافرا في دار الحرب محاربا للمشركين
لا يصير مقيما بنية الإقامة في موضع منها.
342 - وإن رجعوا مدينتهم ولم يكن المشركون عرضوا لها
فعادوا فيها أتموا الصلاة.
لان مدينتهم كانت دار الاسلام حين أسلموا فيها، وكانت موضع
إقامة لهم، فما لم يعرض (1) لها المشركون فهي وطن أصلى في حقهم. فيتمون
الصلاة إذا وصلوا إليها.
343 - وإن كان المشركون غلبوا عليها وأقاموا فيها ثم إن المسلمين
رجعوا إليها وخلا المشركون عنها فإن كانوا اتخذوها دارا ومنزلا
لا يبرحونها فصارت دار الاسلام يتمون فيها الصلاة.
لأنها صارت في حكم دار الحرب حين غلب المشركون عليها، فحين
ظهر المسلمون عليها وعزموا على المقام فقد صارت دار الاسلام. ونية المسلم
الإقامة في دار الاسلام صحيحة.



(1) ه‍ " يتعرض ".
250
344 - وإن كانوا لا يريدون أن يتخذوها دارا ولكن يقيمون
فيها شهرا ثم يخرجون إلى دار الاسلام قصروا الصلاة.
لان هذا الموضع من جملة دار الحرب، وهم محاربون لهم، فلا يصيرون
مقيمين بنية الإقامة فيها.
345 - وكذلك عسكر من المسلمين دخلوا دار الحرب فغلبوا
على مدينة. فإن اتخذوها دارا فقد صارت دار الاسلام يتمون فيها الصلاة،
فإن لم يتخذوها دارا ولكن هم أرادوا الإقامة بها شهرا أو أكثر فإنهم
يقصرون الصلاة.
لأنها دار الحرب وهم فيها محاربون.
فهذا التخريج بهذه الصفة على قولهما، لأنه بمجرد ظهور أحكام الشرك
في بلدة عند غلبة أهل الحرب عليها تصير دار حرب. فأما عند أبي حنيفة
رحمه الله فيشترط مع هذا أن تكون ملاصقة لدار أهل الشرك.
وأن لا يبقى فيها مسلم أو ذمي آمنا على نفسه وبيان هذا يأتي في موضعه.
وذكر بعد هذا باب من يغسل من الشهداء وباب صلاة الخوف في
الخطا وقد استقصينا شرح مسائل البابين فيما أمليناه من شرح الزيادات فإنه
أعاد تلك المسائل بعينها من غير زيادة ولا نقصان.

251
42 [باب أمان الحر المسلم والصبي والمرأة]
والعبد والذمي
قال رضي الله عنه (1): اعلم بأن أدق مسائل هذا الكتاب وألطفها
في أبواب الأمان. فقد جمع بين دقائق علم النحو ودقائق أصول الفقه. وكان
شاور فيها علي بن حمزة الكسائي رحمه الله تعالى، فإنه كان ابن خالته وكان
مقدما في علم النحو. وقيل من أراد امتحان حفاظ الرواية من أصحابنا فعليه
بباب الاذان من كتاب الصلاة. ومن أراد امتحان المتبحرين في الفقه فعليه
بأمان الجامع، ومن أراد امتحان المتبحرين في النحو والفقه فعليه بأمان السير.
346 - قال: ثم أمان الرجل الحر المسلم جائز على أهل الاسلام
كلهم عدلا كان أو فاسقا، لقوله عليه السلام: " المسلمون تتكافأ دماؤهم
وهم يد على من سواهم (2)، يسعى بذمتهم أدناهم (3) ". والمراد بالذمة
العهد، مؤقتا كان أو مؤبدا، وذلك الأمان وعقد الذمة، فإن كان



(1) أي السرخسي.
(2) في هامش ق " المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم: أي هم مجتمعون على
أعدائهم لا يسعهم التخاذل بل يعاون بعضهم بعضا على جميع الأديان والملل كأنه جعل أيديهم يدا واحدة
وفعلهم فعلا واحدا. نهاية لابن الأثير ".
(3) في هامش ق " يسعى بذمتهم أدناهم أي إذا أعطى أحد الجيش العدو أمانا جاز وكتب على
جميع المسلمين ليس لهم أن يخفروه ولا أن ينقضوا عليه عهده. وقد أجاز عمر أمان عقد على جميع
الجيش. نهاية لابن الأثير ".
252
اللفظ مشتقا من الأدنى الذي هو الأقل كما قال الله تعالى: {ولا أدنى
من ذلك ولا أكثر} (1) فهو تنصيص على صحة أمان الواحد. وإن
كان مشتقا من الدنو وهو القرب كما قال الله تعالى: {فكان قاب
قوسين أو أدنى} (2) فهو دليل على صحة أمان المسلم الذي يسكن الثغور
فيكون قريبا من العدو. وإن كان مشتقا من الدناءة فهو تنصيص على
صحة أمان الفاسق لان صفة الدناءة (66 ب) به تليق من المسلمين.
ثم الحاصل أن في الأمان معنى النصر. فان قوله {إنا فتحنا لك فتحا
مبينا} (3) نزلت في صلح الحديبية، وقد سماه الله فتحا مبينا ونصرا عزيزا.
وكل مسلم أهل أن يقوم بنصرة الدين، ويقوم في ذلك مقام جماعة
المسلمين. ألا ترى أنه إذا تحقق النصرة منه بالقتال على وجه يدفع شر المشركين
سقط به الفرض عن جماعتهم، فكذلك إذا وجد منهم النصرة بعقد الأمان
والصلح كان ذلك كالموجود من جماعة المسلمين.
347 - ولهذا يصح أمان الحرة المسلمة لأنها من أهل النصرة،
إلا أنه ليس لها بنية صالحة لمباشرة القتال، والأمان نصرة بالقول،
وبنيتها تصلح لذلك، ألا ترى أنها تجاهد بمالها.
لان مالها يصلح لذلك كمال الرجل.
348 - والدليل على صحة أمانها أن زينب بنت رسول الله



(1) سورة المجادلة، 58، الآية 7.
(2) سورة النجم، 53، الآية 9.
(3) سورة الفتح، 48، الآية 1.
253
صلى الله عليه وسلم أجارت (1) زوجها أبا العاص بن الربيع، فأجاز رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمانها.
وعن أم هانئ قالت: أجرت (2) حموين لي من المشركين، أي
قريبين، فدخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتفلت (3) عليهما ليقتلهما،
أي قصدهما فجأة، وقال: أتجيرين المشركين؟ فقلت: والله لا تقتلهما
حتى تبدأ بي قبلهما. ثم خرجت وقلت: أغلقوا دونه الباب. فذهبت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفل الثنية (4). فلم أجده ووجدت
فاطمة فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي (5) على. أجرت حموين لي من
المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما. فكانت أشد على من زوجها.
إلى أن طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رهجة الغبار (6).
فقال: مرحبا بأم هانئ (7) فاختة. فقلت: يا رسول الله! ماذا لقيت
من ابن أمي على! ما كدت انفلت منه. أجرت حموين لي من المشركين



(1) ب " أجازت " خطأ.
(2) ب " أجزت " خطأ.
(3) في هامش ق " تفلت علينا فلان أي توثب. ومنه حديث أم هانئ فتفلت عليهما
ليقتلهما. مغرب ".
(4) في هامش ق " الثنية العقبة، والثنية طريق الجبل. وفى رواية: أسفل الثنية يعنى
الكعبة ".
(5) ب " عمى " وهو خطأ.
(6) في هامش ق " أرهج الغبار أثاره. والرهج ما أثير منه. وقوله: وعليه رهج الغبار
من إضافة البيان. وأما رهجة الغبار فليس بشئ. مغرب ".
(7) في هامش ق " هنأه أعطاه هنأ، من باب ضرب. وباسم الفاعل منه كنيت فاختة بنت أبي
طالب. مغرب ".
254
فتفلت عليهما ليقتلهما. فقال: ما كان له ذلك. فقد أجرنا من أجرت وأمنا
من أمنت. ثم أمر فاطمة رضي الله عنها فسكبت له غسلا فاغتسل، ثم صلى
ثماني ركعات في ثوب واحد يخالف بين طرفيه، وذلك ضحى فتح مكة.
فقد صحح رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانها، وبين أنه ما كان لعلى
أن يتعرض لهما بعد أمانها.
وقيل في معنى قوله (1) ثمان ركعات أن ركعتين منهما للشكر على فتح
مكة، وركعتين كان يفتتح صلاة الضحى بهما على ما رواه عمارة (2) بن
رويبة، فأربعا كان يواظب عليهما في صلاة الضحى على ما رواه بن مسعود
رضي الله عنه. ومعنى قوله: مخالفا بين طرفيه أي متوشحا به من طرفيه.
فيكون فيه بيان أنه لا بأس بالصلاة في ثوب واحد متوشحا به.
وعن عمر رضي الله عنه قال: إن كانت المرأة لتأجر على المسلمين
فيجوز ذلك - أي تعطى الأمان للمشركين - وفى رواية: لتأخذ -
أي تأخذ العهد بالصلح والأمان (67 آ)، وهكذا قالت عائشة
رضي الله عنها: إن كانت المرأة لتأخذ على المسلمين.
349 - فأما العبد المسلم فلا أمان له إلا أن يكون يقاتل.
وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف
رحمه الله. وفى الرواية الأخرى وهو قول محمد رحمه الله أمانه صحيح قاتل أو لم
يقاتل، لأنه مسلم من أهل نصرة الدين بما يملكه. والأمان نصرة بالقول،
وهو مملوك له بخلاف مباشرة القتال، فإنه نصرة الدين بما لا يملكه من نفسه
ومنافعه. ولأنه بالأمان يلتزم حرمة التعرض لهم في نفوسهم وأموالهم، ثم يتعدى



(1) ط، ه‍ " صلاته ".
(2) ب " عمار " وهو خطأ. انظر تهذيب التهذيب. 7: 416.
255
ذلك إلى غيره. والعبد في مثل هذا كالحر أصله الشهادة على رؤية هلال
رمضان (1). لكن أبا حنيفة رحمه الله يقول: معنى النصرة في الأمان مستور
فلا يتبين ذلك إلا لمن يكون مالكا للقتال، والعبد المشغول بخدمة المولى غير
مالك للقتال، فلا تظهر الخيرية في أمانة، بخلاف ما إذا كان مقاتلا باذن
المولى، فإنه يظهر عنده الخيرية (2) في الأمان حتى يتمكن من مباشرة القتال،
فيكون تصرفه واقعا على وجه النظر للمسلمين. وإنما يكون الأمان ملتزما
للكف عن قتالهم إذا كان متمكنا من القتال، فأما إذا لم يكن متمكنا من ذلك
كان ملزما غيره ابتداء لا ملتزما، وليس للعبد هذه الولاية.
350 - قال: والأمة كالعبد في ذلك. واستدل محمد رحمه الله فيه
بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال: أمان المرأة والعبد
والصبي جائز.
وتأويل هذا عند أبي حنيفة رحمه الله في العبد المقاتل.
351 - وبحديث الفضل الرقاشي قال: حضرنا أهل حصن.
فكتب عبد أمانا في سهم، ثم رمى به إلى العدو. فكتبنا إلى عمر بن
الخطاب رضي الله عنه. فكتب: إنه رجل من المسلمين، وإن أمانه جايز.
وإنما علل لصحة (3) أمانه بكونه مسلما لا بكونه مقاتلا. ولكن
أبا حنيفة رحمه الله قال: هذا العبد كان مقاتلا لان الرمي بالسهم من عمل
المقاتلين، وأمان المقاتل إنما يصح عنده لكونه رجلا من المسلمين.
وفى المغازي ذكر أنه كتب على سهمه بالفارسية مترسيد (4).



(1) في هامش " رؤية الهلال. نسخة ".
(2) في هامش ق " الحرمة. نسخة ".
(3) ب، ه‍، ط " بصحة " أثبتنا رواية ق.
(4) أي لا تخافوا.
256
352 - فأما أمان الذمي فباطل، وإن كان يقاتل مع المسلمين بأمرهم
لأنه مائل إليهم للموافقة في الاعتقاد، فالظاهر أنه لا يقصد بالأمان النظر
للمسلمين. ثم هو ليس من أهل نصرة الدين، والاستعانة بهم في القتال عند
الحاجة بمنزلة الاستعانة بالكلاب، أو كأن ذلك للمبالغة في قهر المشركين،
حيث يقاتلهم من يوافقهم في الاعتقاد. وهذا المعنى لا يتحقق في تصحيح
أمانهم بل في إبطاله (1).
353 - قال: فأما أمان الغلام الذي راهق من المسلمين أو كان
من الكافرين فعقل الاسلام ووصفه.
فغير جائز على المسلمين في قول أبى (67 ب) حنيفة رحمه الله وفى
قول محمد رحمه الله.
جائز.
لأنه يصح إسلامه إذا كان عاقلا. ومن صح إيمانه صح أمانه بعد إيمانه.
وهذا لان الأمان نصرة الدين بالقول. فإذا اعتبر قول مثله في أصل الدين فذلك
يعتبر في نصرة الدين. وأبو حنيفة رحمه الله يقول في معنى الخيرية والنظر في
الأمان إنه مستور لا يعرفه إلا من اعتدل حاله، واعتدال الحال لا يكون قبل البلوغ،
ثم هو لا يملك القتال بنفسه، وإنما يتبين الخيرية في الأمان لمن يكون مالكا للقتال
مباشرا له. ولم يذكر قول أبي حنيفة فيما إذا كان الصبى مأذونا في القتال.
وكان أبو بكر الرازي يقول: يصح أمانة لكونه متمكنا من مباشرة
القتال بمنزلة العبد.
وغيره من مشايخنا كان يقول: لا يصح أمانه لأنه ليس بمعتدل الحال،
فلا يتم معنى النظر للمسلمين في أمانة والله الموفق.



(1) ه‍، ب، أ، ق " ابطالها " أثبتنا رواية ط.
م - 17 السير الكبير
257
43 [باب الأمان]
ثم يصاب المشركون بعد أمانهم
354 - قال: رجل من المسلمين أمن قوما من المشركين، فأغار
عليهم قوم آخرون من المسلمين فقتلوا الرجال وأصابوا النساء والأموال
فاقتسموها، وولد منهن لهم أولاد، ثم علموا بالأمان، فعلى القاتلين
دية القتلى.
لان أمان الواحد نافذ في حق جماعة السماعة، فيظهر به العصمة والتقوم
في نفوسهم وأموالهم. والقتل من القاتلين كان بصفة الخطأ حين لم يعلموا بالأمان،
أو بصفة العمد إن علموا بالأمان، ولكن مع قيام الشبهة المبيحة وهي المحاربة.
فتجب الدية بقوله تعالى {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة
إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة} (1).
والنساء والأموال مردودة عليهم لبطلان الاسترقاق بعصمة
المحل، ويغرمون للنساء أصدقهن (2) لأجل الوطئ بشبهة، فقد ظهر
أنهم باشروا الوطئ في غير الملك وسقط الحد بشبهة، فيجب المهر
والأولاد أحرار.



(1) سورة النساء، 4، الآية 92. وقوله: وتحرير رقبة مؤمنة ساقط في ب، أ، ق.
(2) في هامش " صدق المرأة مهرها والكسر أفصح وجمعه صدق. والأصدقة قياس
لا سماع " مغرب ".
258
لانهم انفصلوا من حرائر فكانوا أحرار الأصل، بغير قيمة، مسلمين
تبعا لآبائهم، لان الولد يتبع خير الأبوين دينا.
355 - وذكر فيه حديث المهلب بن أبي صفرة قال: حاصرنا
مدينة الأهواز (1) على عهد عمر رضي الله عنه ففتحناها، وقد كان صلحا
لهم من عمر، فأصبنا نساء فوقعنا (2) عليهن. فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه
، فكتب إلينا أن خذوا أولادكم وردوا إليهم نساءهم.
وعن عطاء قال: كانت تستر (3) فتحت صلحا - وهوا اسم موضع -
فكفر أهلها، فغزاهم المهاجرون (4) فسبوهم، وأصاب المسلمون نساءهم
حتى ولدن لهم، فأمر عمر رضي الله عنه برد النساء على حريتهن وفرق
بينهن وبين سادتهن.
فتأويل هذا أن القوم حين كفروا لم يغلبوا على الدار ولم يجر فيها حكم
الشرك ولم تصر دارهم دار حرب. فلهذا لم (68 آ) ير عمر عليهم شيئا.
وعن شويس (5) قال: لقد خشيت أن يكون من صلبي بميسان (6) رجال ونساء.
قالوا: وما ذاك يا فلان؟ قال: كنت جئت بجارية فنكحتها زمانا. ثم جاء
كتاب عمر فرددتها إذ رد الناس. وإنما خاف من ذلك لأنه ردها قبل أن تحيض
عنده، وما كان ينبغي له أن يردها حتى تحيض ثلاث حيض لأنها حرة. وقد



(1) انظر معجم البلدان، 1: 380 وما بعدها.
(2) ب " فوقعن ".
(3) انظر معجم البلدان 2: 386. وفى هامش ق " تستر كجندب بلد. قاموس ".
(4) في هامش ق " المجاهدون. نسخة ". وهي الصواب.
(5) ب " سوس " ه‍ " شريس " أثبتنا رواية ط. ق وفى هامش ق الشوس مصدر شويس.
وهو أن ينظر الرجل بمؤخرة عينه تكبرا أو غيظا وبتصغيره سمى شويس. وكنيته أبو الرقاد. مغرب ".
(6) انظر معجم البلدان 8: 224.
259
وطئها بشبهة فعليها أن تعتد بثلاث حيض، وليس عليه أن يردها حتى تعلم أنها
حامل أو غير حامل (1).
356 - وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: لما بلغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد ببني جذيمة (2) رفع يديه حتى رؤى (3)
بياض إبطيه وهو يقول: " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد. ثلاث
مرات ". ثم دعا عليا رضي الله عنه فقال: خذ هذا المال فاذهب به إلى
بنى جذيمة واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. يعنى ما كان بينهم وبين
أهل مكة من الخماشات (4) والذحول (5) في الجاهلية. قال: فد
لهم ما أصاب خالد. فخرج إليهم على بذلك المال فودى لهم كل ما أصاب
خالد منهم، حتى إنه أدى لهم ميلغة (6) الكلب. حتى إذا لم يبق شئ
يطلبونه وبقيت مع علي بقية من المال، قال على رضي الله عنه: هذه
البقية من المال لكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أصاب خالد



(1) في هامش ق " أبو الرقاد قال: لقد خشيت أن يكون من صلبي بميسان رجال ونساء
- هي من كور العراق -. وإنما قال ذلك لأنه سبى جارية من أهل ميسان قد وطئها زمانا ثم لما أمرهم
عمر رضي الله عنه بتخلية السبي خلى هو تلك الجارية ولم يدر أكانت حاملا أم لا. مغرب ".
(2) في هامش ق " جذيمة كسفينة. قبيلة من عبد القيس. قاموس ".
(3) ب " يرى ".
(4) ب " الحماسات " والخماشات الجراحات كما في هامش ق عن الحصيري. وفى هامش ق
أيضا: " وفى حديث قيس بن عاصم: كانت بيننا وبينهم خمشات في الجاهلية واحدها خماشة، أي
جراحات وجنايات ومن كل ما كان دون القتل والدية من قطع أو جدع أو جرح أو ضرب أو نهب
ونحو ذلك من أنواع الأذى. ومنه حديث الحسن وسئل عن قوله تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها ".
فقال: هذا من الخماش. أراد الجراحات التي لا قصاص فيها.
(5) الذحول: الأحقاد والعداوة (قاموس).
(6) في هامش ق " الميلغ والميلغة بكسرهما الاناء يلغ فيه الكلب في الدم. قاموس ".
260
مما لا يعلمه ولا تعلمونه. فأعطاهم ذلك. ثم انصرف على رضي الله عنه
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر.
وفيه دليل أن المسلمين إذا أصابوا شيئا مما كان في أمان أو موادعة فإنه
يؤدى لهم كل شئ أصيب لهم من دم أو مال. وكان خالد أصاب ذلك خطأ.
وكانت عاقلته رسول الله صلى الله عليه وسلم لان قوته ونصرته كانت به.
ولهذا أدى ذلك بنفسه أو تبرع بأداء ذلك من عنده. وهذا هو الأظهر فان
تحمل العقل (1) في الدماء لا في الأموال، وما أطلق من لفظ الدية في بذل
المال إنما أطلقه على وجه المجاز والاتباع لبذل النفس. فاسم الدية حقيقة إنما
يتناول بذل النفس، ولكن باعتبار معنى الأداء يجوز إطلاقه على بذل المال مجازا.
وفيه دليل جواز الصلح عن الحقوق المجهولة على مال معلوم. فإنه قال:
هذا لكم مما لا يعلمه ولا تعلمونه. واستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذلك منه.
357 - قال: وأيما عسكر من المسلمين حاصروا (2) حصنا
أو مدينة فأسلم بعضهم، كان آمنا على نفسه وماله وأولاده الصغار لقوله
عليه السلام: " فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها "
وقال الله تعالى (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (3).
فأما زوجته وأولاده الكبار إن لم يسلموا معه فهم فئ، لان الصغار
صاروا مسلمين تبعا له. فأما الكبار ما صاروا مسلمين بإسلامه،
وزوجته كذلك، فهم بمنزلة غيرهم من أهل الحرب.



(1) في هامش ق " العقل والمعقلة: الدية. مغرب ".
(2) ه‍، ط " حاصر ".
(3) سورة التوبة، 9، الآية 5.
261
358 - واستدل عليه (68 ب) بحديث الزهري أن ثعلبة
وأسيد ابني سعية (1) وأسيد (2) بن عبيد قالوا لبني قريظة حين كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم محاصرا لهم: يا معشر بني قريظة! أسلموا
تأمنوا على دمائكم وأموالكم هذا والله الذي كان أخبركم به بنو (3) الهيبان (4)
قالوا: ليس به.
وقصة الهيبان مذكورة في المغازي أنه كان حبرا من أحبار الشام
قدم على يهود يثرب قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحضره
الموت فجمعهم فقال: أتدرون لم تركت أرض الخمر والخمير يعنى الخصب
من أرض الشام فنزلت بأرض الجدب والشدة؟ قالوا: لا. قال:
لأجل نبي قد أظل زمانه (5) وهذا مهاجره، وكنت أرجوا أن أدركه،
فمن يدركه منكم فليقرئه منى السلام وليؤمن به، فإنه خاتم النبيين
وخير الخلائق أجمعين.
قال: فلما كانت الليلة التي في صبيحتها نزلوا على حكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم خرج ابنا سعية وابن عبيد حتى أتوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأسلموا وأمنوا على دمائهم وأموالهم.
وفى هذا دليل على أن المحاصر يأمن بالاسلام كما يأمن غير المحاصر.



(1) ب " شعبة " ط " سعيد " وكلاهما خطأ. والصواب ما أثبتنا.
(2) في جميع الأصول أسيد، وفى جوامع السيرة ص 194 أسد.
(3) ه‍، ق، ط " ابن الهيبان " وكانت كذلك في ب ثم ضرب عليها وصححت بنو.
(4) في هامش ق " الهيبان " بفتح الهاء والياء المشددة فيعلان من الهيبة الخوف. مغرب ".
(5) ق " قد أشرف وأظل زمانه ".
262
359 - وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أيما رجل من
العدو أشار إليه رجل بأصبعه إنك إن جئت قتلتك، فجاءه فهو آمن فلا يقتله.
وبعد هذا نأخذ فنقول: إذا أشار إليه بإشارة الأمان وليس يدرى
الكافر ما يقوله فهو آمن.
لأنه بالإشارة دعاه إلى نفسه، وإنما يدعى بمثله الآمن لا الخائف، وما تكلم
به: إن جئت قتلتك، لا طريق للكافر إلى معرفته بدون الاستكشاف منه،
ولا يتمكن من ذلك قبل أن يقرب منه، فلا بد من إثبات الأمان بظاهر
الإشارة وإسقاط ما وراء ذلك للتحرر عن الغدر. فان ظاهر إشارته أمانه له.
وقوله: إن جئت قتلتك، بمعنى النبذ لذلك الأمان. فما لم يعلم بالنبذ كان آمنا
بمعنى قوله تعالى {فانبذ إليهم على سواء} (1) أي سواء منكم ومنهم في العلم
بالنبذ، وأشار إلى المعنى فيه فقال {إن الله لا يحب الخائنين} (2) ومبنى الأمان
على التوسع حتى يثبت بالمحتمل من الكلام فكذلك يثبت بالمحتمل من الإشارة.
360 - وبيان هذا في حديث الهرمزان. فإنه لما أتى به عمر
رضي الله عنه قال له: تكلم. قال أتكلم بكلام حي أم كلام ميت؟ فقال
عمر: كلام حي. فقال: كنا نحن وأنتم في الجاهلية، لم يكن لنا ولا لكم
دين. فكنا نعدكم معشر العرب بمنزلة الكلاب. فإذا أعزكم الله بالدين
وبعث رسوله منكم (3) لم نطعكم. فقال عمر: أتقول هذا وأنت أسير
في أيدينا؟ اقتلوه. فقال: أفيما علمكم نبيكم أن تؤمنوا أسيرا



(1) سورة الأنفال، 8، الآية 58.
(2) السورة والآية نفسها.
(3) ق " فيكم " وفى الهامش " منكم. نسخة ".
263
ثم تقتلوه؟ فقال: متى أمنتك؟ فقال: قلت لي تكلم بكلام حي.
والخائف على نفسه لا يكون حيا. فقال عمر: قاتله الله! أخذ الأمان
ولم أفطن (169) به.
فهذا دليل على التوسع في باب الأمان.
361 - قال: فإذا أمن الامام قوما ثم بدا له أن ينبذ إليهم
فلا بأس بذلك لقوله تعالى {فانبذ إليهم على سواء} (1).
ولان الأمان كان باعتبار النظر فيه للمسلمين ليحفظوا قوة أنفسهم،
وذلك يختص ببعض الأوقات، فإذا انقضى ذلك الوقت كان النظر والخيرية
في النبذ إليهم، ليتمكنوا من قتالهم بعد ما ظهرت لهم الشوكة. والنبذ لغة هو
الطرح قال الله تعالى {فنبذوه وراء ظهورهم} (2).
362 - وإنما يتحقق طرح الأمان بإعلامهم وإعادتهم إلى ما كانوا
عليه قبل الأمان، حتى إن كانوا لم يبرحوا حصنهم فلا بأس بقتالهم
بعد الاعلام.
لانهم في منعتهم، فصاروا كما كانوا.
363 - وإن نزلوا وصاروا في عسكر المسلمين فهم آمنون حتى
يعودوا إلى مأمنهم كما كانوا.
لانهم نزلوا بسبب الأمان، فلو عمل النبذ في رفع أمانهم قبل أن يصيروا
ممتنعين كان ذلك خيانة من المسلمين والله لا يحب الخائنين.



(1) سورة الأنفال، 8، الآية 58.
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 187.
264
364 - ودل على هذا قوله تعالى {وإن أحد من المشركين
استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (1).
واستدل عليه بحديث معاوية، فإنه كان بينه وبين الروم عهد
فكان يشير نحو بلادهم كأنه يقول: حتى نفى بالعهد ثم نغير عليهم.
يعنى أن العهد كان إلى مدة، ففي آخر المدة سار إليهم ليقرب منهم حتى
يغير عليهم مع انقضاء المدة.
قال: وإذا شيخ يقول: الله أكبر! وفاء لا غدر، وفاء لا غدر.
وكان هذا الشيخ عمرو بن عنبسة السلمي.
تبين له بما قال أن في صنعه معنى الغدر، لانهم لا يعلمون أنه يدنو منهم
يريد غارتهم وإنما يظنون أنه يدنو منهم للأمان.
فقال معاوية: ما قولك وفاء لا غدر؟ قال سمعت النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: أيما رجل بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة
ولا يشدها حتى يمضى أمدها وينبذ إليهم على سواء.
وفى هذا دليل التحرز عما يشبه الغدر صورة ومعنى، والله الموفق.



(1) سورة التوبة، 9، الآية 6.
265
44 [باب مالا يكون أمانا]
365 - قال: وإذا دخل المسلم دار الحرب بغير أمان فأخذه
المشركون فقال لهم، أنا رجل، أو جئت أريد أن أقاتل معكم المسلمين،
فلا بأس بأن يقتل من أحب منهم ويأخذ من أموالهم ما شاء.
لان هذا الذي قال ليس بأمان منه لهم، وإنما هو خداع باستعمال معاريض
لكلام. فان معنى قوله: أنا رجل منكم أي آدمي من جنسكم. ومعنى قوله:
جئت لأقاتل معكم المسلمين أي أهل البغي إن نشطتم في ذلك، أو أضمر
في كلامه: عن، أي (1) جئت لأقاتل معكم دفعا عن المسلمين. ولو كان
هذا اللفظ أمانا منه لم يصح، لأنه أسير مقهور في أيديهم فكيف يؤمنهم؟
إنما حاجته إلى طلب الأمان منهم. وليس في هذا اللفظ من طلب الأمان شئ.
366 - ثم استدل عليه بالآثار. فمن ذلك ما روى أن (69 آ)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أنيس سرية وحده إلى
خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي (2) إلى نخلة أو بعرنة (3). وبلغ النبي
صلى الله عليه وسلم أنه يجمع له، أي جمع الجيش لقتاله، وأمره بقتله
وقال: انتسب إلى خزاعة. وإنما أمره بذلك لان ابن سفيان كان منهم.



(1) ه‍ " أو أضمر في كلامه غير انى جئت ".
(2) في الأصول: سفيان بن عبد الله بن نبيح. أثبتنا ما في سيرة ابن هشام 4: 267.
(3) ه‍، ب " بعرفة " وهو خطأ، وفى هامش ق بعرفة كهمزة واد بعرفات. قاموس ".
266
فقال: يا رسول الله! إني لا أعرفه. فقال: إنك إذا رأيته هبته.
وكنت لا أهاب الرجال. فأقبلت عشيشية (1) الجمعة، وهو تصغير
العشية، فحانت الصلاة فخشيت أن أصلى فأعرف فأومأت إيماء
وأنا أمشى.
وبه يستدل أبو يوسف على أن المنهزم ماشيا يومئ ثم يعيد.
قال: حتى أدفع (2) إلى راعية له: فقلت لمن أنت؟ فقالت:
لابن سفيان. فقلت: أين هو؟ قالت: جاءك الآن. فلم أنشب أن (3)
جاء يتوكأ على عصا - أي لم ألبث. فلما رأيته وجدتني أقطر (4).
وفى رواية أفكل، أي ترتعد فرائصي (5) هيبة منه. فجاء فسلم، ثم
نسبني (6) فانتسبت إلى خزاعة (7).
وذكر في الطريق الآخر كنت أعتزي (8) إلى جهينة.
أي أنتسب إليهم.



(1) في هامش ق " وفى حديث أنيس: فأقبلت عشيشة أي عشاء. مغرب ".
(2) في هامش ق " أدفعت إلى كذا بالبناء إلى المفعول أنهيت إليه. مصباح. وفى حديث
ابن أنيس: وأنا أمشى حتى أدفع إلى راعية له. وروى: حتى أرفع. والأصح حتى دفعت. مغرب ".
(3) ه‍ " فلم أنشب إلا أن.. ".
(4) في هامش ق " وفى حديث ابن أنيس وجدتني أقطر عرقا وبولا من شدة الهيبة وانتصابه
على التمييز. مغرب " " وقيل معنى قوله أقطر أي يقطر منه البول للخوف. حصيري ".
(5) في هامش ق " الفريصة " اللحم التي تكون بين الكتف والجنب كذا بخط الحصيري ".
(6) في هامش ق " ويقال نسبني فلان فانتسبت له أي سألني عن النسب وحملني على
الانتساب ففعلت. ومنه حديث ابن أنيس: فجاء فسلم ثم نسبني. والتشديد خطأ. مغرب ".
(7) ب " جماعة ".
(8) ب " اعترى ".
267
ثم قلت له: جئت لأنصرك وأكثرك وأكون معك.
ومعناه لأنصرك بالدعاء إلى الاسلام، وبالمنع عن المنكر وهو قتال
رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما قال عليه السلام " انصر أخاك ظالما
أو مظلوما. فقيل: كيف ينصره ظالما قال: يكفه عن ظلمه ". وقوله أكثرك
أي أجعلك إربا إربا فأكثر أجزاءك إن لم تؤمن وأكون معك إلى أن أقتلك.
فقال للجارية: احلبي، فحلبت. ثم ناولتني فمصصت شيئا يسيرا،
ثم دفعته إليه (1)، فعب (2) فيه كما يعب الجمل، حتى إذا غاب أنفه
في الرغوة صوبته (3) وقلت للجارية: لئن تكلمت لأقتلنك
وذكر بعد هذا: فمشيت معه حتى استحلى حديثي. ثم أربته أنى
وطئت على غصن شوك فشيكت رجلي. فقال: الحق يا أخا جهينة.
فجعلت أتخلف ويستلحقني. فلحقته وهو مولى. فضربت عنقه وأخذت
برأسه. ثم خرجت اشتد حتى صعدت الجبل فدخلت غارا، وأقبل
الطلب (4).
وفى رواية: خرجت الخيل توزع (5) في كل وجه في الطلب،



(1) ب " إلى أبى سفيان " ه‍، ط " إلى ابن سفيان ".
(2) ه‍ " فغب.. يغب " وهو خطأ. وفى هامش ق " العب من باب طلب أن يشرب الماء
بمرة من غير أن يقطع. مغرب ".
(3) ه‍، ط، ب " ضربته " وهو خطأ. " وصوب الاناء أماله إلى أسفل ليجري
ما فيه. مغرب " من هامش ق.
(4) الطلب الطالبون تسمية بالمصدر، أو جمع طالب كخدم وخادم. مغرب " من هامش ق.
(5) في هامش ق " وفى الحديث: فخرجت الحيل تتوزع كل وجه. كذا في متن أحاديث
السير، أي تفرق في الجهات. مغرب ".
268
وأنا متمكن في الجبل. فأقبل رجل معه إداوة (1)، ونعلاه في يده،
وكنت حافيا. فجلس يبول، فوضع إداوته ونعليه. وضربت العنكبوت
على الغار أو قال: خرجت (2) حمامة، فقال لأصحابه: ليس فيه أحد.
فنزل وترك نعليه وإداوته. فخرجت ولبست النعلين وأخذت الإداوة
فكنت أسير الليل وأتوارى بالنهار، حتى جئت المدينة، فوجدت
النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد. فلما رآني قال: أفلح الوجه.
- وهذا لفظ يتكلم به العرب خطابا لمن نال المراد وفاز بالنصرة -
فقلت: وجهك الكريم يا رسول الله. فأخبرته خبري، فدفع إلى
(70 آ) عصا وقال: تخصر بهذه يا ابن أنيس في الجنة فإن المتخصرين
في الجنة قليل (3) ".
قيل معناه: تحكم بها في الجنة كما يتحكم الملوك بما يشاءون. وقيل معناه:
ليكن هذا علامة بيني وبينك يوم القيامة حتى أجازيك على صنيعك بسؤال
الزيادة في الدرجة لك، فان مثلك ممن يكون بينه وبين نبيه علامة فيجازيه
على صنيعه في الجنة.
قيل: فكانت عند ابن أنيس، حتى إذا مات أمر أهله أن
يدرجوها في كفنه.



(1) الإدواة المطهرة. قاموس:
(2) كذا في جميع الأصول. إلا في ه‍ " فرخت ".
(3) في هامش ق " المخصرة قضيب يشير به الخطيب والملك إذا خطاب " وفيه أيضا: وقيل
التخصر أخذ مخصرة أو عصا باليد يتكئ عليها. ومنه قوله عليه السلام لابن أنيس وقد أعطاه عصا
تخصر بها: فان المتخصرين في الجنة قليل. مغرب " وزاد: ولقب بذلك فقيل: عبد الله المتخصر
في الجنة. ومن روى المختصر فقد حرف. مغرب ".
269
ومراده من القصة الاستدلال بقوله جئت لأنصرك وأكثرك فان ذلك
لم يكن أمانا منه.
367 - وذكر حديث يزيد بن رومان قال: لما بلغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم قدوم كعب بن الأشرف وإعلانه بالشر وقوله
الاشعار، وكعب هذا من عظماء اليهود بيثرب، وهو المراد بالطاغوت
المذكور في قوله تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) (1)
وكان يستقصى في إظهار العداوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين قدم مكة بعد حرب بدر. وجعل يرثى قتلاهم، ويهجو رسول الله
صلى الله عليه وسلم في أشعاره، ويحثهم على الانتقام. فمن ذلك القصيدة
التي أولها:
طحنت رحا بدر لمهلك أهله * ولمثل بدر يستهل ويدمع
فلما رجع إلى المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لي
بابن الأشرف؟ فإنه قد آذاني. فقال محمد بن مسلمة: أنا لك يا رسول الله



(1) سورة النساء، 4، الآية 60، وفى هامش ق: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم
آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ". عن ابن عباس رضي الله عنه
أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي عليه السلام ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف.
ثم انهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال: نتحاكم
إلى عمر. فقال اليهودي لعمر: قضى لي رسول الله عليه السلام فلم يرض بقضائه وخاصم إليك.
فقال عمر رضي الله عنه للمنافق: أكذلك؟ فقال: نعم. قال: الزما مكانكما حتى أخرج إليكما.
فدخل وأخذ بسيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد وقال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله
ورسوله. فنزلت. وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل. فسمى الفاروق. والطاغوت
على هذا كعب بن الأشرف. وفى معناه من يحكم بالباطل ويؤثره جملة. سمى بذلك لفرط طغيانه
" لتشبيهه بالشيطان... بيضاوي ".
270
وأنا أقتله. قال. فافعل. فمكث ابن مسلمة أياما لا يأكل ولا يشرب،
فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تركت الطعام والشراب؟ فقال:
يا رسول الله! قلت لك قولا فلا أدرى أفى به أم لا. فقال صلى الله
عليه وسلم: إنما عليك بالجهد.
ومعنى هذا أنه ترك الإصابة من اللذات قبل أن يفي بما وعد لرسول الله
صلى الله عليه وسلم. وهكذا ينبغي لمن قصد إلى خير أن يقدمه على الإصابة
من اللذات. إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين له أن نفسه لا تتقوى
إلا بالطعام والشراب كما قال تعالى {وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام} (1)
وأن عليه الجهد بالوفا بالوعد لا غير.
قال: فاجتمع في قتله محمد وأناس من الأوس منهم عبادة بن بشر
ابن وقش، وأبو نائلة (2) سلكان بن سلامة بن وقش، والحارث
ابن أوس، وأبو عبس بن جبر (3). فقالوا: يا رسول الله! نحن نقتله
فأذن لنا فلنقل، فإنه لابد لنا منه، أي نخدعه باستعمال المعاريض



(1) سورة الأنبياء، 21، الآية 8.
(2) في هامش ق: " أبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش بن رغبة بن زعورا بن عبد الأشهل
الأنصاري الأشهلي. ويقال سلكان لقب واسمه سعد. شهد أحدا. وهو أخو كعب بن الأشرف
القرطبي في الرضاعة. وكان من الرماة المذكورين، ومن أخيار الصحابة، له ذكر في قتل كعب
ابن الأشرف. وكان شاعرا، وهو ممن اشتهر بكنيته. ونائله بالنون وكسر الياء تحتها نقطتان.
وسلكان بكسر السين وسكون اللام وبالنون. وقش بفتح الواو وسكون القاف والشين المعجمة.
ورغبة بضم الراء وسكون الغين المعجمة وبالباء الموحدة. وزعور بفتح الزاء وبالغين المهملة والراء.
جامع الأصول ".
(3) في هامش ق: " اسم أبى عبس عبد الرحمن بن جبر. وقد تقدم في فصل الأسماء. عبس
بفتح العين وسكون الباء الموحدة وبالسين المهملة. وجبر بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة. جامع
الأصول ".
271
وإظهار النيل منك. قال: فقولوا. فخرج إليه أبو نائلة، وكان أخاه
من الرضاعة، فتحدث معه وتناشد الاشعار. ثم قال أبو نائلة: كان
قدوم هذا الرجل علينا من البلاء.
يعنى النبي، ومراده من ذكر البلاء النعمة. فالبلاء يذكر بمعنى النعمة
كما يذكر بمعنى الشدة، فإنه من الابتلاء. وذلك يكون بهما كما قالت الصحابة:
ابتلينا (70 ب) بالضراء فصبرنا. وابتلينا بالسراء فلم نصبر. وقيل في تأويل
قوله تعالى {وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم} (1). أي في إنجائكم من فرعون
وقومه نعمة عظيمة. وقيل: أي في ذبحه أبناءكم واستحيائه نساءكم محنة
عظيمة.
ثم قال: حاربتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وتقطعت السبل
عنا، حتى جهدت (2) الأبدان، وضاع العيال، وأخذنا بالصدقة،
ولا نجد ما نأكل.
قال كعب: قد والله كنت أحدثك بهذا يا ابن سلامة. إن الامر
سيصير إلى هذا.
قال سلكان: ومعي رجال من أصحابي على مثل رأيي. وقد أردت
أن آتيك بهم لنبتاع (3) منك طعاما تمورا وتحسن في ذلك إلينا
ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة.



(1) سورة البقرة، 2، الآية 49.
(2) في هامش ق " وجهد الرجل فهو مجهود من المشقة. يقال: أصابهم قحوط من المطر
فجهدوا (بضم الجيم) واجهدوا شديدا. وجهد عيشهم بالكسر أي نكد واشتد. جوهري ".
(3) ه‍ " فنبتاع " ق " فلنبتاع ".
272
قال كعب: أما إن رفافي تتقصف تمرا من عجوة يغيب
فيها الضرس.
والرفاف جمع الرف وهو الموضع الذي يجمع فيه التمر، شبه الحنبق (1).
وقوله تتقصف أي تتكسر من كثرة ما فيها من التمر. ووصف جودتها بقوله:
يغيب فيها الضرس.
قال: أما والله يا أبا نائلة ما كنت أحب أن أرى هذه الخصاصة.
يعنى شدة الحاجة، وإن كنت لمن أكرم الناس على. فماذا ترهنون؟
أترهنون أبناءكم ونساءكم؟
قال: لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا. ولكنا نرهنك من
الحلقة (2) ما ترضى به يا كعب.
قال: إن في الحلقة (2) لوفاء.
يعنى السلاح. وإنما قال ذلك سلكان كيلا ينكرهم إذا جاءوا إلى السلاح.
فرجع أبو نائلة من عنده على ميعاد. فأتى أصحابه وأجمعوا أمرهم
على أن يأتوه إذا أمسوا. ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء
فأخبروه. فمشى معهم حتى أتى البقيع، ثم وجههم وقال: امضوا على
ذكر الله وعونه (3). ثم دعا لهم. وذلك في ليلة مقمرة مثل النهار.



(1) في هامش ق " الحنبق تعريب خنبه وهي الأنبار تتخذ من الخشب معلقة بالسقف. مغرب ".
(2) ه‍ " الخليعة " خطأ.
(3) ط، ه‍، ق " على بركة الله وعونه " وفى هامش ق " على ذكر الله وعونه. نسخة ".
م - 18 السير الكبير
273
فمضوا حتى أتوه. فلما انتهوا إلى حصنه هتف به أبو نائلة، وكان
ابن الأشرف حديث عهد بعرس. فوثب. فأخذت امرأته بناحية
ملحفته فقالت: أين تذهب؟ إنك رجل محارب، ولا ينزل مثلك في
مثل هذه الساعة. قال: إنما هو أخي أبو نائلة. والله لو وجدني نائما
ما أيقظني. ثم ضرب بيده الملحفة فنزل وهو يقول:
لو دعى الفتى لطعنة لأجابا
ثم نزل إليهم فحياهم، وتحدثوا ساعة، ثم انبسط إليهم، فقالوا:
ويحك يا ابن الأشرف! هل لك أن نمشي إلى شرج العجوز (1) فنتحدث
فيه بقية ليلتنا؟ فقال: نعم. فخرجوا يتمشون. فلما توجهوا قبل الشرج
أدخل أبو نائلة يده في رأس كعب وقال: ويحك يا ابن الأشرف!
ما أطيب عطرك هذا. ثم مشى ساعة فعاد بمثلها. حتى إذا اطمأن إليه
أخذ بقرون رأسه وقال لأصحابه: اقتلوا عدو الله! فضربوه بأسيافهم.
فالتفت عليهم فلم تغن شيئا. يعنى رد بعضها بعضا.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا (2) كان في سيفي وهو يشبه
الخنجر، فانتزعته فوضعته في سرته، ثم تحاملت عليه فغططته، أي
غيبته فيه، حتى انتهى إلى عانته، فصاح عدو الله صيحة ما بقى أطم من



(1) في هامش ق " شرج العجوز موضع أنيس يجتمعون فيه. مغرب. وفى حاشية ه‍ مثل
ذلك، وزاد: في القاموس: عين بقرب المدينة ".
(2) في هامش ق " غاله غولا أهلكه. ومنه المغول، وهو سكين يكون السوط علاقا له.
ومنه: فذكرت مغولا في سيفي. مغرب ".
274
آطام اليهود إلا أوقدت عليه نار، وهذه عادة اليهود يوقدون النار
بالليل عند الفزع.
قال ابن سنينة، يهودي من يهود بنى حارثة، إني لأجد ريح دم
بيثرب مسفوح.
وذكر في المغازي أنه كان بينه وبين ذلك الموضع مقدار فرسخ.
قال: وقد أصاب بعض القوم الحارث بن أوس بسيف وهم
يضربون كعبا فكلمه في رجله، أي جرحه، فلما فرغوا منه خرجوا
يشتدون حتى أخذوا (1) على بنى أمية، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث.
حتى إذا كانوا بحرة العريض (2) وهذه أسماء المواضع - نزف الحارث
الدم، يعنى كثر سيلان الدم من جراحته فعطفوا عليه، أي رحموه
أو حملوه على أعناقهم حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أتوا البقيع
كبروا وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلى. فلما
سمع تكبيرهم عرف أنهم قتلوه. ثم أتوا بصاحبهم الحارث بن أوس إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فتفل على جرحه فلم يؤذه. وأخبروه بخبر
عدو الله، ثم رجعوا إلى أهلهم. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: من ظفر تم به من رجال يهود فاقتلوه.
وإنما قال ذلك لئلا يتجمعوا في كل موضع التحدث بما جرى والتدبير
فيه، وهذا من الحزم والسياسة.



(1) ه‍ " مروا ".
(2) بعاث موضع في نواحي المدينة (معجم البلدان 2: 223) ولم يذكر ياقوت حرة العريض.
275
قال: فخافت اليهود، ولم يخرج عظيم من عظمائهم، ولم ينطقوا
بشئ، وخافوا أن يبيتوا كما بيت ابن الأشرف. وكان ابن سنينة
من يهود بنى حارثة، وكان حليفا لحويصة بن مسعود. وكان أخوه
محيصة قد أسلم، فغدا محيصة على ابن سنينة فقتله. فجعل حويصة يضرب
محيصة، وكان أسن منه، ويقول: أي عدو الله! قتلته. أما والله لرب
شحم في بطنك من ماله - لأنه كان ينفق عليهما. فقال محيصة: والله
لو أمرني بقتلك الذي أمرني بقتله لقتلتك. فقال له: لو أمرك محمد بقتلى
لقتلتني؟ قال: نعم. قال حويصة: والله إن دينا يبلغ منك هذا الدين
معجب. فأسلم حويصة يومئذ وأنشأ محيصة يقول:
يلوم ابن أمي لو أمرت بقتله * لطبقت (1) دفراه بأبيض قاضب
حسام كلون الملح أخلص صقله * متى ما أصوبه فليس بكاذب
وما سرني أنى قتلتك طائعا * ولو أن لي ما بين بصرى ومأرب
ثم أعاد عليه هذا الحديث برواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من
وجه آخر.
368 - أن محمد بنم مسلمة هو الذي أتى ابن الأشرف فقال:
يا كعب! قد جئتك لحاجة. قال: مرحبا بحاجتك. قال: جئتك
أستسلفك تمرا. قال: ما بغيتكم (2) إلى مسألة التمر؟ وإنما قال ذلك



(1) ب " لطعت " خطأ.
(2) ه‍ " بغيتك " وفى هامش ق " وفى بعض النسخ: وما بغيتكم يا آل مسلمة من التمر ".
276
لانهم كانوا يجدون في الجاهلية ألف وسق فقال محمد: إن هذا الرجل
لم يدع عندنا شيئا وأصحابه.
وأراد به لم (71 ب) يدع عندنا شيئا مما كان يضرنا (1) من أمور
الجاهلية أو شيئا من الشرك أو شيئا مما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا
إلا هدانا إليه.
قال كعب: الحمد لله الذي أراك النصرة (2) فانظر حاجتك، ولكن
لابد من رهن. قال: أرهنك درعي، قال: لعلها درع أبيك الزغباء؟
قال: نعم، قال: فأت بمن أحببته وخذ حاجتك، قال: فإني آتيك
في خمر الليل.
أي في ظلمة الليل، والخمر ما وراك.
فإني أكره أن يرى الناس أنى أطلبك أو آتيك في حاجة أو أنى
احتجت الحديث، إلى أن نزل إلى محمد وآنسه شيئا وحادثه، ثم أدخل
يده في رأسه، وكان جعدا فقال: ما أطيب دهنك. قال: إن شئت
أرسلت إليك منه. ثم عاد الثانية، فقال: قد تركت يا محمد أنت
وأصحابك هذا، يعنى الدهن. فاما أن خلل أصابعه في رأسه ضرب
بالخنجر سرته، الحديث.
فقد أخبره أنه يأتيه ليستسلفه تمرا ثم قتله. ولم يك ذلك غدرا.
فتبين أنه لا بأس بمثله والله الموفق.



(1) ه‍ " نصرنا " خطأ. وقوله: مما كان يضرنا إلى الشرك " ساقط من ط.
(2) ق " البصيرة " ط " البصرة ".
277
45 [باب الأمان على الشرط]
369 - قال: وإذا أمن المسلمون رجلا على أن يدلهم على كذا
ولا يخونهم، فإن خانهم فهم في حل من قتله، فخرج عليهم من مدينته
أو حصنه على ذلك حتى صار في أيديهم، ثم خانهم، أولم يدلهم،
فاستبانت لهم خيانته فقد برئت منه الذمة (1) وصار الرأي فيه إلى الامام
إن شاء قتله وإن شاء جعله فيئا.
لان الشرط هكذا جرى بينهم. فقال عليه السلام: " المسلمون عند
شروطهم ". وقال عمر رضي الله عنه: الشرط أملك. أي يجب الوفاء به.
ولأنه كان مباح الدم، علقوا حرمة دمه بالدلالة وترك الخيانة، وتعليق
أسباب التحريم بالشرط صحيح كالطلاق والعتاق، فان انعدم الشرط بقى حل
دمه على ما كان.
ولان النبذ بعد الأمان والإعادة إلى مأمنه إنما كان معتبرا للتحرز عن
الغدر، وبالتصريح بالشرط قد انتفى معنى الغدر.
370 - واستدل عليه بحديث موسى بن جبير قال: أقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم على الكتيبة أربعة عشر يوما - يعنى حصنا من
حصون خيبر - وكان (2) آخر حصونهم. فلما أيقنوا بالهلكة سألوا



(1) ب " ذمته ".
(2) ق، ب " وكانت ".
278
النبي صلى الله عليه وسلم الصلح. فأرسل إلى ابن أبي الحقيق (1): انزل
فأكملك، فقال: نعم، فصالحه على حقن دمائهم ويخرجون من خيبر
وأرضها، ويخلون بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال
أو أراض. وعلى الصفراء والبيضاء والحلقة. وعلى البز إلا ثوب على
ظهر إنسان. قال: وبرئت منكم ذمة الله إن كتمتوني شيئا. فصالحوه
على ذلك.
ثم كتم ابن أبي الحقيق آنية منفضة ومالا كثيرا. كان
في مسك (2) الجمل عند كنانة ابن أبي الحقيق.
وهذه كانت أنواعا من الحلي كانوا يعيرونها أهل مكة، ربما قدم
القادم من (72 آ) قريش فيستعيرها شهرا للعرس، يكون فيهم.
فكان ذلك يكون عند الأكابر فالأكابر من آل أبي الحقيق. حتى
ذكر في المغازي أنه ضاع منها شئ مرة بمكة. فغرم من ضاع على يده
قيمة ذلك عشرة آلاف دينار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين الآنية والأموال التي
خرجتم بها من المدينة حين أجليتكم؟ فقالوا: ذهبت في الحرب يا أبا القاسم.
إنما كنا نمسكها لمثل يومنا هذا، فلا والله ما بقى عندنا منها شئ.
وحلفوا على ذلك. فقال: أفرأيتم إن وجدته عندكم أقتلكم؟ قالوا: نعم.



(1) ب " ابن أبي الحصين " خطأ.
(2) في هامش ق " المسك الجلد. والجمع مسوك كفلس وفلوس. مصباح ".
279
وفى رواية قال لكنانة وربيعة ابني أبى الحقيق: برئت منكما
ذمة الله وذمة رسوله إن كان عندكما. قال: نعم. قال: فكل ما أخذت
من أموالكم فهو حلال لي ولا ذمة لكما؟ قالا: نعم. فأشهد عليهما
أبا بكر وعمر وعليا والزبير وعشرة من يهود. فقام يهودي إلى كنانة
فقال: إن كان عندك أو تعلم علمه فأعلمه لتأمن على دمك، فوالله
ليطلعن عليه، فقد اطلع على غير ذلك مما لم يعلمه أحد، فزبره (1)
ابن أبي الحقيق، فتنحى اليهودي فقعد، ثم أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بهما الزبير بن العوام أن يعذبهما ويستأصل ما عندهما،
فعذب كنانة حتى أجافه (2) فلم يعترف بشئ.
ويحتمل أن يكون هذا قبل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة،
وإن كان بعد ذلك فيحتمل أنه فعل ذلك على سبيل السياسة ليظهر الامر ويتم
الزجر في حق غيره عن مثل هذا التلبيس.
قال: فاعترف ربيعة بن أبي الحقيق فقال: قد رأيت كنانة
يطوف كل غداة بهذه الخربة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير
حتى حفرها واستخرج منها ذلك الكنز.
وفى رواية سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثعلبة بن سلام
ابن أبي الحقيق، وكان رجلا ضعيفا مختلط العقل، قال: ليس لي علم



(1) في هامش ق " الزبر الزجر والمنع. من باب طلب. مغرب ".
(2) في ه‍ وحدها زيادة " أجافه أي جره جائفة ".
280
غير أنى كنت أرى كنانة كل غداة يطوف بهذه الخربة، فإن كان
شيئا دفنه فهو فيها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تلك الخربة
فحفر فوجد ذلك الكنز، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يدفع
كنانة بن أبي الحقيق إلى محمد بن مسلمة ليقتله بأخيه محمود بن مسلمة،
فقد كان هو الذي دلى على محمود الرحى.
وإنما استحل دماءهما وسبى ذراريهما لمكان الشرط الذي جرى بينه
وبينهما، فسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيى بن أخطب،
وكانت تحت كنانة، ومعها ابنة عمها، لم يسب من أهل خيبر غيرهما. وكان
قد وعد دحية الكلبي من سبى خيبر. فسأله أن يعطيه صفية فأعطاه مكانها
ابنة عمها. وأمسك صفية لنفسه، وهي عروس بحدثان (1) ما دخلت على
زوجها.
وذكر في المغازي أنها كانت رأت في منامها في بعض تلك الليالي أن
القمر وقع في حجرها من السماء. فلما أصبحت قصت رؤياها على كنانة
(72 ب)، فلطمها لطمة على وجهها (2) وقال: أتريدين أن تكوني زوجة
محمد؟ ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا أن يذهب بها إلى رحله. فمر بها
وسط القتلى. فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ذهبت بجارية
حديثة (3) السن إلى القتلى. لقد ذهبت منك الرحمة. فاعتذر بلال وقال:
يا رسول الله، ما مررت بها إلا إرادة أن ترى مصارع قومها ولم أدر أنك تكره
يا رسول الله.
وذكر في المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها فتزوجها. فأمر
أم أيمن أن تصلحها له. فبنى بها في الطريق قبل أن ينتهى إلى المدينة. وكانت



(1) حدثان الامر بالكسر أوله وابتداؤه (قاموس).
(2) في هامش ق " على وجهها. نسخة ".
(3) ه‍ " حدثه ".
281
لها منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبب ذلك ما روى أنه لما قرب
بعيرها لتركب بعد ما بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد النبي صلى الله
عليه وسلم أن يركبها بنفسه فأمرها أن تضع رجلها على فخذه وتركب فوضعت
ركبتها على ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعظمت وضع رجلها
على ركبته، وإن كان بأمره. فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
منها، وبعد ما قدموا المدينة دخلت عائشة متنكرة مع النساء منزلها لتراها.
فوجدت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة من نساء عشيرتها.
فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة بين من دخل من النساء، ولم يذكر
لها شيئا حتى عادت إلى منزلها. ثم جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
كيف رأيت صفية؟ فقالت: ما رأيت شيئا غير ابنة يهودي بين يهوديات،
ولكني سمعت أنك تحبها. فقال: لا تقولي يا عائشة. فإني لم أر في وجهها
كبوة حين عرضت عليها الاسلام.
ثم روى أنه كان إذا اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم معها
في موضع يخاطبها: يا ابنة اليهودي. فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم. فقال: إذا قلن لك هذا فقولي: من منكن مثلي؟ أبى نبي وعمى
نبي وزوجي نبي. فإنها كانت من أولاد هارون عليه السلام. فلما قالت ذلك
لهن قالت عائشة رضي الله عنها: ليس هذا من كيسك يا ابنة اليهودي.
ومن جوز التنفيل بعد الإصابة استدل باعطاء النبي صلى الله عليه وسلم
دحية ابنة عم صفية. ولكن تأويل ذلك ما قال محمد:
371 - إن الكتيبة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصا
فلذلك أعطاه الجارية
واستدل من جوز المعاملة بما ذكر في هذا الحديث في بعض الطرق أنهم
قالوا: يا محمد، نحن أرباب الأموال ونحن أعلم بها، فلا تخرجنا. عاملنا
على النصف. وتأويل ذلك لأبي حنيفة رحمه الله قد بيناه في أول كتاب المزارعة
والله الموفق.

282
46 [باب الأمان] (1)
372 - قال: وإذا نادى المسلمون أهل الحرب بالأمان فهم
آمنون جميعا إذا سمعوا أصواتهم (73 آ) بأي لسان نادوهم به
العربية والفارسية والرومية والقبطية في ذلك سواء.
لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه كتب إلى جنوده
بالعراق: إنكم إذا قلتم: لا تخف، أو مترسي، أو لا تذهل (2) فهو
آمن، فإن الله تعالى يعرف الألسنة، والمعنى ما أشار إليه، فإن الأمان
التزام الكف عن التعرض لهم بالقتل والسبي حقا لله تعالى، والله
لا يغرب عنه مثقال ذرة ولا يخفى عليه خافية
ثم فيما يرجع إلى المعاملات يعتبر حصول المقصود بالكلام من غير أن
يختص ذلك بلغة. وإنما اعتبر ذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في العبادات
حيث لم يجوزا التكبير والقراءة بالفارسية، لان تمام الاسلام (3) في وجوب
مراعاة النص لفظا ومعنى. وهذا لا يوجد في المعاملات. وإذا كان الايمان
يصح بأي لسان كان إذا حصل به ما هو المقصود وهو الاقرار والتصديق
فالأمان أولى. وكذلك التسمية على الذبيحة تصح بأي لسان كان لحصول
المقصود. فالأمان أوسع من ذلك كله.



(1) في ه‍ وحدها " باب ألفاظ الأمان ".
(2) أي لا تخف.
(3) كذا في ه‍ وحدها. وفى ق، ط، ب، " تمام الابتلاء في.. ".
283
373 - وإن نادوهم بلسان لا يعرفه أهل الحرب، وذلك معروف
للمسلمين، فهم آمنون أيضا.
لان معرفتهم لذلك حقيقة أمر باطن لا يمكن تعليق الحكم به، فتعلق
الحكم بالسبب الظاهر الدال عليه وهو إسماعهم كلمة الأمان. وهذا أصل كبير
في الفقه. ولهذا شرطنا الاسماع حتى إذا كانوا بالبعد منهم على وجه يعلم أنهم
لم يسمعوا فإنه لا يكون ذلك أمانا، لان هذا ظاهر يمكن الوقوف عليه،
فيمكن تعليق الحكم بحقيقته. ثم لعله كان فيهم ترجمان يعرف معنى نداء المسلمين
فيوقفهم على ذلك. فلو لم يثبت الأمان به كان نوع غدر من المسلمين. والتحرز
عن صورة الغدر واجب. يوضح الفرق أنهم إذا لم يفهموا فإنما كان ذلك بمعنى
من المسلمين حيث نادوهم بلغة لا يعرفونها، فلا ببطل به حكم الأمان في حقهم.
374 - فأما إذا كانوا بالبعد من المسلمين بحيث لا يسمعون
كلامهم.
فإنهم لم يقفوا على مقالة المسلمين لمعنى من جهتهم وهو أنهم لم يقربوا
من المسلمين فلهذا.
لا يثبت حكم الأمان لهم.
375 - قال: وإذا قال المسلمون للحربي أنت آمن، أو لا تخف
أو لا بأس عليك، أو كلمة تشبه هذا فهو كله أمان.
لأنه إنما يخاطب الخائف بمثل هذه العبارات لإزالة الخوف عادة. وإنما
يزول عنه الخوف بثبوت الأمان. وكل مسلم يملك إنشاء الأمان له فيجعل بهذا
اللفظ منشئا، كمن يقول لعبده: أعتقك، أو أنت حر، يجعل منشئا عتقه
بما وصفه.

284
376 - ثم ذكر أمان مختلط العقل إذا كان يعقل الاسلام ويصفه
وهو في ذلك بمنزلة الصبى الذي يعقل كما في أصل الايمان.
وقد بينا الخلاف في أمان الصبى فكذلك مختلط العقل (73 ب).
377 - فإن كان لا يعقل الاسلام ولا يصفه لا يجوز أمانه.
لأنه بمنزلة الصبى الذي لا يعقل. وإن كان عاقلا في أمر معيشته إلا أنه
بالغ لا يصف الاسلام ولا يعقله فهذا بمنزلة المرتد، والمرتد لا يجوز أمانه،
بخلاف الصبى فإنه مسلم تبعا لأبويه أو لأحدهما. وإن كان لا يصف الاسلام
ولا يعقله فإذا كان بحيث يعقل الأمان صح أمانه عند محمد.
378 - قال: وإن أمر أمير العسكر رجلا من أهل الذمة أن
يؤمنهم، أو أمره بذلك رجل من المسلمين فأمنهم فهو جائز.
لان الأمير يملك مباشرة الأمان بنفسه، فيملك الذمي بعد أمره إياه
بذلك. وهذا لان أمان الذمي إنما لا يصح لتهمة ميله إليهم اعتقادا، ويزول
ذلك إذا أمره المسلم به. ويتبين (1) بأمر المسلم إياه أن في أمانه معنى النظر
للمسلمين، وهذا بخلاف ما إذا أمره بالقتال، لأنه بأمره إياه بالقتال لا يتعين
معنى الخيرية في الأمان، فلو تعين ذلك إنما يتعين برأي الكافر وهو متهم
في ذلك، فإذا أمره بالأمان يتعين بهذا الامر معنى الخيرية في الأمان برأي
المسلم ولا تهمة في ذلك.
ثم المسألة على وجهين: إما أن يقول له أمنتكم أو يقول: قل لهم إن فلانا
المسلم يؤمنكم (2). وكل وجه من ذلك على وجهين: إما أن يقول الذمي لهم:
قد أمنتكم، أو يقول: إن فلانا المسلم قد أمنكم. فأما إذا قال له المسلم أمنهم،



(1) ه‍ " وتبين ذلك بأمر ".
(2) ق " إن فلانا يؤمنكم " وفى الهامش " إن فلانا المسلم يؤمنكم. نسخة ".
285
فسواء قال لهم أمنتكم أو أمنكم فلان، فهم آمنون. لأنه صار مالكا للأمان بهذا
الامر، فيكون فيه بمنزلة مسلم آخر، والمسلم إذا قال لهم: أمنتكم أو أمنكم
فلان كانوا آمنين في الوجهين، لأنه أضاف الأمان إلى من يملك إنشاءه،
فيكون ذلك إخبارا منه بأمان صحيح، فيجعل في حكم الانشاء لرفع الغدر.
فان كان المسلم قال له قل لهم إن فلانا أمنكم، فان كان على هذا الوجه
فهم آمنون، لأنه جعله رسولا إليهم، وقد أدى الرسالة على وجهها. فيكون
هذا بمنزلة ما لو كتب إليهم كتاب الأمان، وبعث به على يده. فإذا بلغهم
كانوا آمنين.
وإن قال لهم: أمنتكم. فهذا باطل لأنه خالف ما أمر به، لأنه أمر
بتبليغ الرسالة، وهذا لا يتضمن تمليك الأمان منه. فإذا قال: أمنتكم فهذا
ليس بتبليغ للرسالة ولكنه إنشاء عقد منه مضاف إلى نفسه، وهو ليس من
أهله فيكون باطلا.
379 - قال: والأسير في دار الحرب إذا أمنهم لا يصح أمانه
(74 آ) على غيره من المسلمين.
لان أمانه لا يقع بصفة النظر منه للمسلمين بل لنفسه، حتى يتخلص
منهم. ولان الأسير خائف على نفسه. وإنما يؤمن غيره من يكون آمنا في نفسه.
ولأنهم آمنون منه لكونه مقهورا في أيديهم. فعقده يكون على الغير ابتداء،
وقلما تخلو دارهم عن أسير. فلو صححنا أمانه انسد باب القتال علينا. فإنهم
كلما حزبهم خوف أمروا الأسير حتى يؤمنهم. والقول بهذا فاسد. إلا أنه
فيما بينهم وبينه إن أمنوه وأمنهم فينبغي أن يفي لهم كما يفون له، ولا يسرق
شيئا من أموالهم لأنه غير متهم في حق نفسه. وقد شرط أن يفي لهم فيكون بمنزلة
المستأمن في دارهم.

286
380 - وإن كان في أيديهم عبد مسلم أو أمة مسلمة لم ينبغ (1) له
أن يعرض لهم في ذلك.
لانهم لو أسلموا عليه كان سالما لهم، فحكم هذا وحكم سائر أموالهم سواء.
381 - ولكن لا بأس بأن يأخذ ما وجد في أيديهم من أسير
حر مسلم أو ذمي أو مكاتب أو أم ولد أو مدين لمسلم أو ذمي.
لان هؤلاء لا يجرى عليهم السبي. ألا ترى أنهم لو أسلموا عليه لم يكن
لهم، فهم ظالمون في إمساكهم، وهو بالأمان ما التزم تقريرهم على الظلم،
فكان له أن يزيل ظلمهم بالسرقة أو الغصب حتى يحرجهم، وإنما يلزمه أن
يراعى بالعهد ما يجوز إعطاء العهد عليه. ولا يجوز إعطاء الأمان على ترك
هؤلاء في أيديهم بعد التمكن من أخذهم منهم.
382 - ولو حصل المستأمنون في عسكر المسلمين غير ممتنعين
منهم فبدا للأمير أن ينبذ إليهم فعليه أن يلحقهم بمأمنهم. فإن أبوا أن
يخرجوا وقالوا: تكون مع ذرارينا ونسائنا الذين أسرتموهم فإنه ينبغي
للأمير أن يتقدم إليهم في ذلك على سبيل الاعذار والانذار، ويؤجلهم
إلى وقت يتيسر عليهم اللحوق بمأمنهم في ذلك الوقت، ولا يرهقهم
في الاجل كيلا يؤدى إلى الاضرار بهم، ويقول: إن لحقتم بمأمنكم إلى
أجل كذا أو إلا فأنتم ذمة نضع عليكم الخراج ولا ندعكم ترجعون إلى
مأمنكم بعد ذلك، فإن لم يخرجوا حتى مضت المدة كان ذلك دليل الرضا



(1) ه‍ " لم يتسع " ق، ب " لم ينبغي ".
287
منهم بأن يكونوا ذمة فيكونوا (1) بمنزله قبول عقد الذمة نصا بمنزلة
المستأمنين في دارنا (2) إذا أطالوا المقام.
383 - وإن خاف أمير العسكر إن لقى المسلمون عدوهم أن
يغيروا (3) على عسكرهم، أو خاف أن يقتلوا المسلمين ليلا، فإنه يأمرهم
بأن يلحقوا (74 ب) بمأمنهم، ويوقت لهم في ذلك وقتا، كما بينا، نظرا
منه للمسلمين، ثم يأمرهم في كل ليلة، حتى يمضى ذلك الوقت، أن
يجمعوا في موضع فيحرسوا.
لان الخوف منهم يزداد بالتقدم إليهم في الخروج ومفارقة النساء والذراري،
والتوقيت كان نظرا منه لهم، فينبغي أن ينظر للمسلمين كما ينظر لهم، وطريق
النظر هذا.
فإن مضى ذلك الوقت فصاروا ذمة أمر بهم (4) أن يجمعوا في
موضع كل ليلة ويجعل عليهم حراسا حتى يخرجوا إلى دار الاسلام.
لان الامن لم يقع من جانبهم، وإن جعلهم ذمة بمضي الوقت، بل ازداد
الخوف بما ألزمهم من صغار الجزية. إلا أن الخوف يكون بالليل غالبا فيجعل
عليهم حراسا كل ليلة، فإذا أصبح المسلمون خلوا سبيلهم في العسكر ليكونوا
عند ذراريهم ونسائهم.



(1) ه‍ " فيكون ".
(2) ه‍ " ديارنا ".
(3) ه‍ " أن يغيرهم ".
(4) ه‍ " أمرهم ".
288
384 - وكذلك إذا حصر (1) المسلمون العدو جمعهم في موضع
وجعل عليهم حراسا.
لان الخوف يزداد منهم التقاء الصفين، ويحتاج المسلمون إلى أن
يأمنوا من جانبهم ليتفرغوا لقتال العدو. وذلك إنما يحصل إذا جعل عليهم
حراسا يحرسونهم.
فإن لم يقدروا على أن يحرسهم إلا بأجر استأجر الامام قوما
يحرسونهم من الغنيمة.
لان في هذا الاستئجار منفعة للغانمين. فهو نظير الاستئجار على حفظ
الغنائم، أو على حفظ منفعة الغانمين.
فان قيل: في هذا الحفظ معنى الجهاد فكيف يجوز الاستئجار عليه؟
قلنا: لا كذلك. فالقوم ذمة للمسلمين غير محاربين لهم. فلا يكون
حفظهم جهادا، ولكن يخاف من جانبهم أن يغيروا على غنائم المسلمين وأمتعتهم.
فلا فرق بين الاستئجار على حفظ الغنائم وبين الاستئجار على حفظ هؤلاء
ومنعهم من أخذ الغنائم وقتل المسلمين.
385 - ولو أن مسلما من أهل العسكر في منعتهم أشار إلى
مشرك في حصن أو منعة لهم أن تعال، أو أشار إلى أهل الحصن
أن افتحوا الباب، أو أشار إلى السماء، فظن المشركون أن ذلك أمان،
ففعلوا ما أمرهم به، وقد كان هذا الذي صنع معروفا بين المسلمين وبين
أهل الحرب من أهل تلك الدار أنهم إذا صنعوا كان أمانا، ولم يكن
ذلك معروفا، فهو أمان جائز بمنزلة قوله قد أمنتكم.



(1) ط، ه‍ " حاصر " وفى هامش ق " حاصر. نسخة ".
م - 19 السير الكبير
289
لان أمر الأمان مبنى على التوسع. والتحرز عما يشبه الغدر واجب. فإذا
كان معروفا بينهم فالثابت بالعرف كالثابت بالنص. فلو لم يجعل أمانا كان
غدرا. وإذا لم يكن معروفا فقد اقترن به من دلالة الحال (75 آ) ما يكون
مثل العرف أو أقوى منه، وهو امتثالهم أمره وما أشار عليهم به، فهو من
أبين الدلائل على المسألة. ألا ترى أنهم لو قالوا لهم: اخرجوا حتى تهدموا
هذا الحصن فخرجوا كانوا آمنين؟.
386 - ثم استدل عليه بحديث عمر رضي الله عنه: أيما رجل
من المسلمين أشار إلى رجل من العدو أن تعال فإنك إن جئت قتلتك.
فأتاه، فهو آمن.
وتأويل هذا أنه إذا لم يفهم قوله: إن جئت قتلتك أو لم يسمع. فأما
إذا علم ذلك وسمعه وجاءه مع ذلك فهو فئ، لان دلالة الحال والعرف يسقط
اعتباره إذا صرح بخلافه. ألا ترى أن لو قال: تعالى إن كنت تريد القتال
أو إن كنت رجلا، أو تعالى حتى تبصر ما أفعله معك، فإنه لا يشكل على أحد
أن هذا كلام تهديد لا كلام أمان. فأما قوله: تعالى مطلقا فكلام موافقة. وكذلك
إشارته بالأصابع إلى السماء فيه بيان أن أعطيتك ذمة إله السماء، أو أنت آمن
منى بحق رب السماء. فهو بمنزلة قوله أمنتك.
387 - ولو أن عسكر المسلمين في دار الحرب وجدوا رجلا
أو امرأة، فقال حين وجدوه: جئت أطلب الأمان. فإن لم يكن لهم
علم به (1) حتى هجموا عليه فهو فئ ولا يصدق في ذلك.
لان الظاهر يكذبه فيما يقول. فإنه كان مختفيا منهم إلى أن هجموا عليه.
وإنما يليق هذا بحال من يأتيهم مغيرا لا مستأمنا. فالظاهر أنه يحتال بهذه الحيلة
بعدما وقع في الشبكة فلا يصدق.



(1) ب، ق " فان لم يكن علم بهم "
290
388 - وإن كان ممتنعا في موضع لا يقدر عليه المسلمون، وهم
يسمعون كلامه إن تكلم، فأرادوه ليقتلوه، فلما رأى ذلك لم يتكلم،
ولكنه أقبل فوضع يده في أيديهم، فهو فئ، وللامام أن يقتله،
ولا يقبل قوله إني جئت أطلب الأمان.
لأنه حين أراد المسلمون أسره أو قتله كان متمكنا على أن ينادى بالأمان
فيعلم أيؤمنون أم لا. وقد كان ممتنعا في ذلك الموضع، فحين ترك النداء
بالأمان فهو الذي لم ينظر لنفسه بعد التمكن. فالظاهر أنه أقبل رادا لقصد
المسلمين، فحين لم يتمكن من ذلك احتال بهذه الحيلة.
389 - وإن لم يعرض (1) له المسلمون بقتل ولا أسر فأقبل إليهم
حتى أتاهم فهو آمن.
لان إقباله إليهم دليل المسالمة، فهو بمنزلة النداء بالأمان، بخلاف
الأول. فإقباله بعد قصد المسلمين دليل على أنه قصد المسالمة. ألا ترى
أن تجارهم هكذا يكون الحال بينهم وبين المسلمين يدخلون دار الاسلام من
غير أن ينادوا لطلب (75 ب) الأمان؟
390 - وإن كان في منعة حيث لا يسمع المسلمون كلامه
ولا يرونه، فانحط من ذلك الموضع ليس معه أحد ولا سلاح حتى
أتى المسلمين، فلما كان حيث يسمعهم نادى بالأمان، وهو في ذلك
الموضع غير ممتنع من المسلمين، فهو آمن.
لأنه أتى بما في وسعه من مفارقة المنعة والنداء بالأمان إذا كان بحيث



(1) ه‍، ط " يتعرض ".
291
يسمع المسلمون، وألقى السلاح، فالظاهر أنه جاء طالبا للأمان، فهو آمن أمنوا
أو لم يؤمنوا، لان الشرع أمن مثله. قال تعالى {وإن أحد من المشركين
استجارك فأجره} (1) وقال تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} (2).
391 - وكذلك لو كان معه السلاح إلا أنه ليس عليه هيئة
رجل يريد القتال.
لأنه ربما استصحب السلاح ليبيعه في عسكر المسلمين، أو خاف ضياعه
إن خلفه عندهم، فاستصحبه ضنة (3) منه لسلاحه.
392 - وإن كان أقبل سالا سيفه مادا رمحه نحو المسلمين، فلما
كان في موضع لا يكون ممتنعا منهم نادى الأمان، فهو فئ.
لان الظاهر من حاله أنه أقبل مقاتلا.
والحاصل أن البناء على الظاهر فيما يتعذر الوقوف على حقيقته جائز.
وغالب الرأي يجوز تحكيمه فما لا يمكن معرفة حقيقته، وإن كان يرجع إلى
إباحة الدم. ألا ترى أنه لو رأى إنسانا يدخل بيته ليلا ولا يدرى أنه سارق
أو هارب من اللصوص فإنه بحكم حاله: فان كان عليه سيما اللصوص
أو كان معه آخر يجمع متاعه فلا بأس بأن يقتلهما قبل أن يدنوا منه، وإن كان
عليه سيما أهل الخير فعليه أن يؤويه ولا يسعه أن يرمى إليه.
والدليل على جواز تحكيم السيماء (4) قوله تعالى {يعرف المجرمون بسيماهم} (5)
والدليل على جراز الرجوع أي؟؟ دلالة الحال قوله تعالى: {ولو أرادوا الخروج
لأعدوا له عدة} (6).



(1) سورة التوبة، 9، الآية 6.
(2) سورة الأنفال، 8، الآية 61.
(3) ق " ضنا ".
(4) ه‍ " التحكيم بالسيماء ".
(5) سورة الرحمن، 55، الآية 41.
(6) سورة التوبة، 9، الآية 46.
292
393 - ولو أن عسكرا نزل ليلا في أرض الحرب فجاء مشرك
على الطريق لا يعدو على (1) غيره حتى لقي أول مسالح (2) المسلمين
فسألهم الأمان، إلا أنه في ذلك الموضع غير ممتنع، كان آمنا.
لأنه لأتى بما في وسعه. والظاهر أنه إذا صار بحيث يسمع المسلمين لا يكون
ممتنعا منهم، والنداء بالأمان في موضع لا يسمع المسلمين لا يكون مفيدا شيئا،
فلا معنى لاشتراط.
وذكر في المغازي أن محمد بن مسلمة كان على حرس رسول الله صلى
الله عليه وسلم في بعض الليالي حين كان محاصرا لبني قريظة. فخرج رجلان
ووجههما نحوه. فلما وصلا إليه قال: ما الذي جاء بكما؟ قالا: جئنا
بالأمان (76 آ). فخلى سبيلهما وقال: اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام
ولم يوقف على أثرهما بعد ذلك. وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلم يعاتبه على ذلك.
394 - ولو وجدوا رجلا عليه سلاحه في مؤخر العسكر أو عن
يمينه أو عن شماله يعارض العسكر، فلما بصروا به دعا إلى الأمان،
كان فيئا، وللأمير أن يقتله.
لان الظاهر من حاله أنه جاء متجسسا، أو جاء على قصد أن يبيت
بعض المسلمين. وقد بينا أنه يؤخذ في مثل هذا بغالب الظن والرأي.
395 - وإن أشكل حاله ليس فيه أمر يستدل به على أنه
مستأمن ولا يستدل به على أنه غير مستأمن، ولم يقع في القلوب



(1) ه‍، ط " إلى " وفى هامش ق " إلى. نسخة ".
(2) في هامش ق " المسلحة الجماعة. مغرب " قلت: في القاموس: المسلحة بالفتح الثغر،
والقوم ذوو سلاح.
293
ترجيح أحد الجانبين من حاله، فإنه ينبغي للأمير أن يأخذه فيخرجه
إلى دار الاسلام ويجعله ذمة.
لان عند تحقق المعارضة وانعدام الترجيح يجب الاخذ بالاحتياط،
ومن الاحتياط أن لا يقتله ولا يجعله فيئا لاحتمال أنه جاء مستأمنا، وأن لا يرده
إلى مأمنه لاحتمال أنه جاء مغير، فلا يبطل (1) حكم حرمته بالمحتمل
ولا يجوز إراقة دمه به أيضا.
فيبقى حرا محتبسا في دارنا على التأبيد. فإن أسلم فهو حر لا سبيل
عليه، وإن أبى وضع عليه الخراج.
وكذلك القوم من أهل الحرب يريدون دخول دار الاسلام
ولا يقدرون على أن ينادوا بالأمان إلا في موضع لا يكونون فيه ممتنعين.
فنادوا بالأمان حين انتهوا إلى ذلك المكان، فهم آمنون.
لانهم أتوا بما في وسعهم.
396 - ولو كانوا أهل منعة جاءوا فاستأمنوا، فإن شاء المسلمون
أمنوهم، وإن شاءوا لم يؤمنوهم.
لان أهل المنعة في دارنا كهم في دار الحرب أو في حصونهم، لكونهم
ممتنعين.
397 - ولو كانوا مستأمنين كان للمسلمين أن ينبذوا إليهم إذا



(1) ه‍ وحدها " ويبطل ".
294
كانوا في منعتهم. فيكون لهم أيضا أن يمتنعوا من إعطاء الأمان لهم
بطريق الأولى.
فأما غير الممتنعين لو كانوا مستأمنين لم يجز نبذ الأمان بيننا وبينهم
حتى نلحقهم بمأمنهم.
فكذلك إذا جاءوا طالبين الأمان حتى صاروا غير ممتنعين منا، إلا أن يكون
أمير المسلمين تقدم على أهل تلك الدار من أهل الحرب انه لا أمان لكم عندنا،
فلا يخرجن أحد منكم إلينا. فإذا علموا بذلك فلا أمان لهم. ومن جاء يطلب
الأمان فهو فئ، لأنه أعذر إليهم بما صنع. وقد قال الله تعالى {وقد قدمت
إليكم بالوعيد} (1).
ثم الحاصل (76 ب) أنه من فارق المنعة عند الاستئمان فإنه يكون آمنا
عادة، والعادة تجعل حكما إذا لم يوجد التصريح بخلافه، فأما عند وجود
التصريح بخلافه يسقط اعتباره، كمقدم المائدة بين يدي إنسان إذا قال:
لا تأكل.
398 - ولو وجد المسلمون حربيا في دار الاسلام فقال: دخلت
بأمان، لم يصدق.
لأنه صار مأخوذا مقهورا بمنعه الدار، فهو متهم فيما يدعى من الأمان،
وقول المتهم لا يكون حجة. أرأيت لو أخذه واحد من المسلمين واسترقه
ثم قال: كنت دخلت بأمان أكان مصدقا في ذلك؟
399 - ولو قال رجل من المسلمين أنا أمنته لم يصدق بذلك أيضا.
لأنه أخبر بما لا يملك إنشاءه، وقد ثبت حق جماعة المسلمين في منعه



(1) سورة ق، 50، الآية 28.
295
من الرجوع إلى دار الحرب واسترقاقه. وقول الواحد في إبطال الحق الثابت
بجماعة المسلمين غير مقبول.
400 - فإن شهد بذلك رجلان مسلمان غير المخبر أنه أمنه
فهو آمن.
لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة. ولا شهادة فيه للذي يقول: أنا
أمنته، لأنه يخبر عن فعل نفسه، فيكون دعوى لا شهادة فيه لغير المسلمين،
لأنها تقوم على إبطال حق المسلمين.
401 - وكذلك لو قال: أنا رسول الملك إلى الخليفة لم يصدق
وكان فيئا.
لان هذا منه دعوى الأمان. فان الرسول آمن من الجانبين. هكذا
جرى الرسم في الجاهلية والاسلام. فان أمر الصلح أو القتال لا يلتئم إلا
بالرسول، ولابد من أن يكون الرسول آمنا ليتمكن من أداء الرسالة.
فلما تكلم قوم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان لا ينبغي
أن يتكلم به قال: " لولا أنك رسول لقتلتك ". فتبين بهذا ان الرسول آمن،
ولكن بمجرد دعواه لا يصدق أنه رسول.
402 - فإنه أخرج كتابا يشبه أن يكون كتاب ملكهم
وادعى أنه كتاب ملكهم فهو آمن حتى يبلغ الرسالة. وإنما يثبت
الأمان له ههنا بغالب الظن.
فلعل الكتاب مفتعل. ولكن لما لم يكن في وسعه فوق هذا لأنه لا يجد
مسلمين في دار الحرب ليستصحبهما ليشهدا على أنه رسول من قبله يكتفى منه
بهذا الدليل.

296
فكذلك فيما سبق ولو لم يصحبه دليل ولا كتاب فأخذه واحد من المسلمين
في دار الاسلام فهو فئ لجماعة المسلمين عند أبي حنيفة، لأنه تمكن من أخذه
بقوة المسلمين، فهو بمنزلة من وجد في عسكر المسلمين في دار الحرب فأخذه
واحد، إلا أن هناك يجب (77 آ) فيه الخمس. فيه رواية واحدة.
وفى هذا الفصل روايتان عند أبي حنيفة في إيجاب الخمس، وعند محمد
هو فئ لمن أخذه، لأنه مباح في دارنا. فمن سبقت يده إليه يكون محرزا له
مختصا بملكه كالصيد والحشيش. وفى إيجاب الخمس فيه روايتان عن محمد أيضا.
والحاصل أن عند أبي حنيفة رحمه الله يصير هو مقهورا لمنعه الدار مأخوذا،
حتى لو أسلم قبل أن يوجد كان فيئا، بمنزلة الأسير يسلم بعد الاخذ قبل أن
يضرب الامام عليه الرق. وعند محمد رحمه الله لا يصير مأخوذا بالدار ما لم
يأخذه مسلم، حتى لو أسلم كان حرا. لان الاحراز في الحقيقة يكون باليد
لا بالدار، ولهذا لو رجع إلى داره قبل أن يؤخذ كان حر الأصل، فإذا أخذه
إنسان كان مختصا بملكه، لاختصاصه بإحرازه. فإن قال: إني أمنته قبل أن آخذه
فهو آمن عند محمد، لأنه في الظاهر عبد له. وقد أقر بحريته، ولا تهمة في
إقراره. وينبغي في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله أن لا يكون مصدقا في ذلك،
لان الحق ثابت فيه لجماعة المسلمين. وهو غير مصدق في إبطال حقهم،
وإن لم يؤخذ بعد ما أسلم في دارنا حتى رجع إلى دار الحرب فهو حر لا سبيل
عليه.
أما على قول محمد فلا إشكال فيه، لأنه لو لم يرجع كان حرا، فكذلك
إذا رجع. وعند أبي حنيفة فلأنه وإن صار مأخوذا لا يصير رقيقا ما لم يضرب
عليه الرق. فإذا رجع إلى دار الحرب فقد انعدم عرضية الاسترقاق فيه،
وتقرر حريته في حال إسلامه، فلا يسترق بعد ذلك. بمنزلة الأسير يسلم
وينقلب إلى عسكر أهل الحرب، ثم يؤخذ بعد ذلك. فكما يكون حرا هناك
لا سبيل عليه فكذلك ههنا.
403 - وإذا مر عسكر المسلمين بمدينة من مدائن أهل الحرب

297
ولم يكن لهم بهم طاقة، فأرادوا أن ينفذوا إلى غيرهم، قال لهم أهل
المدينة: أعطونا أن لا تمروا في هذا الطريق على أن لا تقتل منكم
أحدا ولا نأسره.
فإن كان ذلك خيرا للمسلمين فلا بأس بأن يعطوهم ذلك ويأخذوا
في طريق آخر، وإن كان أبعد وأشق.
لانهم لا يأمنون أن يتبعوهم فيقتلوا الواحد والاثنين ممن في أخريات
العسكر. وهذه الموادعة تؤمنهم من ذلك. وقد قبل رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الموادعة يوم الحديبية من الشرط ما هو أعظم من هذا. فان أهل مكة
شرطوا عليه أن يرد عليهم كل من أتى مسلما منهم. ووفى لهم بهذا الشرط،
إلى أن انتسخ. لأنه كان فيه نظر للمسلمين لما كان بين أهل مكة وأهل خيبر
من المواطأة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توجه إلى أحد الفريقين
أغار الفريق الآخر على المدينة. فوادع أهل مكة حتى يأمن من جانبهم إذا
توجه إلى خيبر.
فعرفنا (77 ب) أن مثل هذا الشرط لا بأس بقوله إذا كان فيه نظر
للمسلمين.
404 - فإن قبلوه ثم بدا لهم أن يمروا في ذلك الطريق فلينبذوا
إليهم ويعلموهم بذلك.
لان هذا بمنزلة الموادعة والأمان، فيجب الوفاء به والتحرز عن الغدر
إلى أن ينبذوا إليهم.
405 - فإن قال المسلمون: إن ممرنا في هذا الطريق لا يضرهم
شيئا قيل لهم: لعل لهم في هذا الطريق زروعا ونخلا وكلا يحتاجون

298
إليه، ولا يحبون أن ترعوه، أو لعل لهم مواشي ولا يحبون أن
تعرضوا لها.
فإن قالوا: نمر ولا نتعرض لشئ من ذلك فإن هذا أسهل الطرق،
قيل لهم: وإن لم تأخذوا شيئا، فلعل القوم يكرهون أن تروا حصونهم
ومواشيهم. وتعرفوا الطريق إليهم، فتأتوهم مرة أخرى. أو تروا
لهم عورة من هذا الموضع فتغزوهم مرة أخرى بما رأيتم من
العورة. فليس لكم إلا الوفاء بما قلتم أو النبذ إليهم عملا بقوله تعالى
{فانبذ إليهم على سواء} (1).
406 - ولو قال أهل المدينة: أعطونا (2) على أن لا تشربوا من
ماء نهرنا فأعطيناهم ذلك، فإن كان شربنا يضرهم في مائهم، أو لا نعلم
أيضر ذلك بمائهم أو لا فينبغي أن نفى لهم بذلك. وإن كنا نتيقن أن
ذلك لا يضر بماء نهرهم فلا بأس بأن نشرب من ذلك النهر ونسقي
الدواب بغير علمهم.
لان الشرط كان مفيدا يجب مراعاته. ومن اشتراط مثله يكون متعنتا (3)
لا طالب منفعة أو دافع (4) ضرر. فإذا علمنا أنه لا يضر بهم فهذا شرط
غير مفيد فيلغى. وإذا كان يضر بهم فهذا شرط مفيد لهم فيجب اعتباره، بمنزلة
ما يجرى من الشروط بين المسلمين في المعاملات، وإن كان لا يدرى أيضر



(1) سورة الأنفال.
(2) ط " اعطونا العهد ".
(3) ه‍ " مفتنا " خطأ.
(4) ه‍ " دفع ضرر ".
299
بهم أم لا، فالظاهر أنهم لا يشترطون ذلك إلا لمنفعة لهم أو دفع ضرر عنهم،
لان العاقل لا يشتغل بما لا يفيده شيئا، والبناء على الظاهر واجب ما لم يتبين خلافه.
407 - فإذا احتاج المسلمون إلى ذلك الماء لأنفسهم أو دوابهم
فلينبذوا إليهم ويخبروهم أنهم فاعلون، ثم يشربون. وكذلك الكلأ
هو بمنزلة الماء.
لأنه غير مملوك لهم. وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس
شركة عامة في الكلأ والماء فلا تنقطع (1) شركتهم بهذا الشرط إذا عملوا أنه
لا فائدة لهم فيه.
408 - فأما الزرع والأشجار والثمار إذا أعطوهم أن لا يتعرضوا
لذلك فليس ينبغي لهم أن يتعرضوا لشئ من ذلك أضر بأهل الحرب
أو لم يضر بهم.
لان هذا ملك (78 آ) لهم، ونفوذ تصرف الانسان في ملكه بحكم الملك
لا باعتبار المنفعة والضرر، إلا أن يضطر المسلمون إليه فلينبذوا (2)
إليهم ثم يأخذوا ويعلفوا. لان بهذا الشرط لا تنعدم صفة الإباحة
الثابتة في أملاكهم، ولكن التحرز عن الغدر واجب. وقد حصل ذلك
بالنبذ إليهم.
409 - وإن قالوا أعطونا على أن لا تحرقوا زروعنا (3) ولا كلانا
فأعطيناهم ذلك فلا بأس بأن نأكل منه ونعلف دوابنا.



(1) ه‍ " ينقطع ".
(2) ه‍ " فينبذوا ".
(3) ق " زرعنا ".
300
لان الوفاء إنما يلزمنا بقدر ما قبلنا من الشروط. وذلك الاحراق والاكل
ليس من الاحراق في شئ. ألا ترى أن يحل للانسان أن يأكل ملكه ولا يحل
له أن يحرقه؟ وأهل الشام يكرهون الاحراق في أموال أهل الحرب ولا يكرهون
التناول. ولعلهم إنما شرطوا هذا الشرط لما في الاحراق من الفساد. والأصل
أن ما ثبت بالشرط نصا لا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه.
410 - وإن سألونا (1) أن لا تخرب قراهم فأعطيناهم ذلك فلا بأس
بأن نأخذ ما وجدنا في قراهم من متاع أو علف أو طعام أو غيره
مما ليس ببناء.
لان التخريب يكون في الأبنية. أما أخذ الأمتعة فمن الحفظة (2) لا من
التخريب. ولعلهم كرهوا ذلك لما في التخريب من صورة الافساد. ولكن
كل ما كان في قراهم من خشب أو غيره فليس ينبغي أن نعرض له. وما كان
من خشب موضوع ليس في بناء فلا بأس بأن نأخذه ونوقد به، لان هذا
انتفاع وليس بتخريب. وإنما الذي لا يحل بعد هذا الشرط هدم شئ من
مساكنهم أو تخريبه بالنار، لان ذلك فوق التخريب. فيثبت حكم الشرط فيه
بطريق الأولى.
وإن وجدنا بابا مغلقا ولم نقدر على فتحه فلا ينبغي أن نقلعه قبل النبذ
إليهم، لان هذا تخريب. بخلاف ما إذا قدرنا على فتح الباب، فان فتح
الباب ليس بتخريب، فان لم نقدر على فتحه إلا بكسر الغلق (3) فليس ينبغي
لنا أن نفعل، لان هذا تخريب، والقليل والكثير فيما التزمناه بالشرط نصا
سواء.



(1) ه‍ " سألوا منا ".
(2) ه‍، ط، ب، " الحفظ " وفى ق وحدها " الحفظة " وفى هامش ق: " الحفيظة الغضب
والحمية وكذلك بالكسر. وقد أحفظته أي أغضبته فغضب. جوهري ".
(3) في هامش ق " الغلق بالتحريك المغلاق، وهو ما يغلق ويفتح بالمفتاح. مغرب ".
301
411 - وإن شرطوا علينا أن لا نأكل من زروعهم ولا نعلف
منها فليس ينبغي لنا أن نحرق شيئا منها.
لان الاحراق فوق الاكل في تفويت مقصودهم بالشرط، فيثبت الحكم
فيه بالطريق الأولى، بمنزلة التنصيص على التأفيف في حق الأبوين يكون
تنصيصا على حرمة الشتم بالطريق الأولى. وهذا بخلاف ما إذا شرطوا بأن
لا يحرق، لان الاكل دون التحريق. فان الاحراق إفساد العين، والاكل
انتفاع بالعين. فإذا شرطوا أن لا يأكل فمقصودهم بقاء العين لهم، وذلك ينعدم
بالاحراق كما ينعدم بالاكل. وإذا شرطوا أن لا نحرق فمقصودهم (78 ب)
أن لا يفسد شئ من ملكهم، وليس في الاكل فساد.
412 - فإن اشترطوا أن لا نحرق لهم زروعا (1) فقدرنا على أن
نغرقها بالماء، فليس لنا أن نفعل ذلك.
لان هذا في معنى المنصوص من كل وجه، فان كل واحد منهما إفساد.
413 - وكذلك لو شرطوا أن لا نغرقها فليس ينبغي لنا أن
نحرقها (2).
414 - وكذلك لو شرطوا أن لا نغرق سفينتهم (3) ولا نحرقها
لم ينبغ لنا أن نذهب بها.
لان مقصودهم من هذا بقاء عينها لهم لينتفعوا بها، وذلك يفوت إذا
ذهبنا بها.



(1) ه‍ " زرعا ".
(2) قوله: وكذلك لو شرطوا إلى نحرقها ساقط من ب.
(3) ق " سفنهم ".
302
أرأيت لو شرطوا أن لا نحرق منازلهم ولا نغرقها أكان ينبغي
لنا أن ننقضها فنذهب بخشبها وأبوابها؟ هذا لا ينبغي.
لانهم إنما أرادوا أن لا نستهلكها عليهم. إلا أنه تعذر عليهم التنصيص
على جميع أنواع الاستهلاك، وذكروا ما هو الظاهر من أسبابه وهو التغريق
والاحراق.
415 - ولو شرطوا أن لا نقتل أسراهم إذا أصبناهم، فلا بأس
بأن نأسرهم ويكونوا فيئا ولا نقتلهم.
لان الأسر (1) ليس في معنى ما شرطوا من القتل. فان القتل نقص
البنية. ألا ترى أنه لا بأس بأن نأسر نساءهم وذراريهم وإن كان لا يحل قتلهم
شرعا؟
416 - وإن شرطوا أن لا نأسر منهم أحدا فليس ينبغي لنا أن
نأسرهم ونقتلهم.
لان القتل أشد من الأسر. ومقصودهم بهذا الشرط يفوت بالقتل
كما يفوت بالأسر.
إلا أن تظهر الخيانة منهم بأن كانوا التزموا أن لا يقتلوا ولا يأسروا
منا أحدا، ثم فعلوا ذلك، فحينئذ يكون هذا منهم نقصا للعهد، فلا بأس
بأن نقتل أسراهم وأن نأسرهم كما كان لنا ذلك قبل العهد. ألا ترى أن
أهل مكة لما صاروا ناقضين للعهد لمساعدة بنى بكر على بنى خزاعة



(1) ه‍ " الأسرى ".
303
وكانوا خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير نبذ إليهم فإنه سأل
الله تعالى أن يعمى (1) عليهم الاخبار حتى يأتيهم بغتة؟
فإن فعل ذلك منهم رجل واحد لم يكن ذلك بنقض منهم لعهدهم.
لان فعل الواحد لا يشتهر في جماعتهم عادة، وليس هذا الواحد ولاية
نقض العهد على جماعتهم. ألا ترى أن مسلما لو ارتكب ما لا يحل في دينه
لم يكن ذلك نقضا منه لايمانه، ولو أن ذميا فعل ذلك لم يكن نقضا منه لأمانه.
فإن فعل ذلك جماعتهم أو أميرهم أو واحد منهم على وجه المحاربة (2)
وهم يعلمون بذلك فلا يغيرونه (3) فحينئذ يكون نقضا للعهد منهم.
لان فعل أميرهم يشتهر لا محالة، والواحد منهم إذا فعله مجاهرة فلم يغيروا
عليه فكأنهم أمروه بذلك، على ما قيل إن السفيه إذا لم ينه (4) مأمور.
ومباشرة ذلك الفعل على سبيل المجاهرة بمنزلة النبذ للعهد الذي جرى بيننا وبينهم.
417 - فإن شرطوا (5) على أن لا نقتل أسراهم على أن لا يقتلوا
أسرانا، وأسروا منا أسارى فلم يقتلوهم فلا بأس بأن نأسر نحن أيضا
أسراهم ولا نقتلهم.
لان هذا ليس نقض (79 آ) العهد منهم، فإنهم التزموا بأن لا يقتلوا
وما التزموا بأن لا يأسروا، وإذا بقى العهد نعاملهم كما يعاملوننا جزاء وفاقا.



(1) في هامش ق " عمى عليه الخبر أي خفى. مجاز من عمى البصر. مغرب ".
(2) في هامش ق " على المجاهرة. نسخة ".
(3) في هامش ق " وقوله في السير: وهم يعملونه بذلك فلا يغيرونه ويروى بالعين غير
معجمة من التعبير اللوم. والأول أصح. مغرب ".
(4) ه‍ " ينهه ".
(5) ه‍ " اشترطوا ".
304
418 - وإذا دخل حربي دارنا بأمان فقتل مسلما عمدا أو خطأ
أو قطع الطريق، أو تجسس أخبار المسلمين. فبعث بها إلى المشركين
أو زنى بمسلمة أو ذمية كرها، أو سرق، فليس يكون شئ منها
نقضا (1) منه للعهد.
إلا على قول مالك، فإنه يقول يصير ناقضا للعهد بما صنع. لأنه حين
دخل إلينا بأمان فقد التزم بأن لا يفعل شيئا من ذلك، فإذا فعله كان ناقضا للعهد
بمباشرته (2)، مما يخالف موجب (3) عقده، ولو لم يجعله ناقض العهد بهذا
رجع إلى الاستخفاف بالمسلمين.
ولكنا نقول: لو فعل المسلم شيئا من هذا ليس بناقض لايمانه، فإذا فعله
المستأمن لا يكون ناقضا لأمانه.
419 - والأصل فيه حديث حاطب بن أبي بلتعة فإنه كتب إلى
أهل مكة أن محمدا يغزوكم فخذوا حذركم. ولذلك قصة. وفيه نزل قوله
تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء} (4) فقد
سماه الله تعالى مؤمنا مع ما فعله. وكذلك أبو لبابة بن عبد المنذر حين
استشاره بنو قريظة أنهم إن نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ماذا يصنع بهم، فأمر يده على حلقه يخبرهم أنه يضرب أعناقهم. وفيه
نزل قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} الآية.



(1) ق " بنقض ".
(2) ه‍، ق " لمباشرته ".
(3) ب " ما يخالف من موجب ".
(4) سورة الممتحنة، 60، الآية 1.
م - 20 السير الكبير
305
فعرفنا أن هذا لا يكون نقضا للايمان من المسلم، فكذلك لا يكون
نقضا للأمان من المستأمن، ولكنه إن قتل إنسانا عمدا يقتل به قصاصا لأنه
التزم حقوق العباد فيما يرجع إلى المعاملات.
420 - وإن قذف مسلما يضرب الحد.
لان فيه حق العبد أيضا، فإنه مشروع صيانة لعرضه. ولهذا تسمع
خصومته في الحد، ولا تستوفى إلا به. فأما ما أصاب من الأسباب الموجبة
للحد حقا لله تعالى، كالزنا والسرقة، فالخلاف فيه معروف أنه لا يقام عليه ذلك
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، خلافا لأبي يوسف.
421 - واستدل بصحة مذهبه هنا، بأن المسلمين اختلفوا في أهل
الذمة هل تقام عليهم هذه الحدود. فقال أهل المدينة: لا يقام عليهم
ذلك، ولكن يرفعون إلى حاكمهم ليقيمها عليهم. وذلك مروي عن علي
رضي الله عنه. فاختلافهم في ذلك في حق الذمي، يكون اتفاقا منهم
في حق المستأمن أنه لا يقام عليه. ونحن لم نأخذ بذلك في حق الذمي
لورود النص. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر برجم اليهودي،
ولكن ورود النص في الذمي، لا يوجب ذلك الحكم في حق المستأمن.
لان الذمي ملتزم أحكام الاسلام فيما يرجع إلى المعاملات، فإنه من أهل
دارنا، فيقام عليهم الحدود كلها إلا حد الخمر، فإنه لا يعتقد حرمة شربه،
وبدون اعتقاد الحرمة لا يتقرر السبب. فأما المستأمن فلا يصير من أهل دارنا
ولا التزم شيئا من أحكامنا، وإنما دخل دارنا ليقضى حاجته، ثم يرجع إلى
داره. ولهذا لا يمنع من الرجوع.

306
422 - ولا يجب القصاص على الذمي بقتل المستأمن كما لا يجب
على المسلم.
فلهذا لا يقام عليه ما كان محض حق الله.
ولكنه يؤمر برد ما أخذ من أموال الناس.
ويغرم ما استهلك من ذلك ويكون عليه صداق التي أصابها.
لان الوطئ في غير الملك لا يخلو عن حدا أو مهر، فإذا لم يجب عليه الحد
يلزمه المهر، لان ذلك من حقها.
ويوجع عقوبة على ما صنع ويجلس في السجن على قد ما يرى
الامام.
ويعذر لان في لفظ التعذير ما ينبئ عن معنى التطهير والتعظيم. قال الله
تعالى: {وتعزروه وتوقروه} (1) والكافر ليس من أهله فلهذا قال: يوجع
عقوبة بما صنع من إساءة الأدب والله الموفق.



(1) سورة الفتح، 48، الآية 9.
307
47 [باب ما يصدق المستأمن فيه من أهل]
الحرب وما لا يصدق
423 - وإذا انتهى عسكر المسلمين إلى مطمورة (1) أو حصن
فأقاموا عليها فناداهم قوم من أهلها أمنونا على أهلينا ومتاعنا على أن
نفتحها لكم، ففعلوا ذلك وفتحوها لهم؟ فالقوم الذين سألوا ذلك آمنون
وإن لم يذكروا أنفسهم بشئ.
لان النون والألف أو النون والياء في قوله أمنونا كناية لإضافة المتكلم
ما يتكلم به إلى نفسه. وكلمة على للشرط قال الله تعالى {يبايعنك على أن
لا يشركن بالله شيئا} (2).
وقال تعالى {حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق} (3) أي بشرط
ذلك. فعرفنا أن تقرير كلامهم نحن آمنون مع أهلينا وأموالنا إن فتحناها لكم،
وقد أعطاهم المسلمون ذلك فإذا فتحوا كانوا آمنين.
424 - فإذا خرج (4) أهل المطمورة، فقال الذين أومنوا: هذا



(1) في هامش ق " بنى فلان مطمورة إذا بنى دارا في الأرض أو بيتا. وهذا الذي أراده
محمد رحمه الله في السير. مغرب " قلت: وفى القاموس: المطمورة: الحفيرة تحت الأرض.
(2) سورة الممتحنة، 60، الآية 12.
(3) سورة الأعراف، 7، الآية 105.
(4) ق " فإذا أخرج ".
308
متاعنا لجيد المتاع، وهؤلاء أهلونا لفرهة (1) السبي فالقياس في هذا
أنهم لا يصدقون إلا ببينة تقوم على ذلك من المسلمين العدول.
لان حق المسلمين قد يثبت في جميع ما وجد (2) في المطمورة لظهور
سببه، فهم يدعون المانع بعدما ظهر الاستحقاق بسببه فلا يصدقون على ذلك
إلا بحجة، ولا حجة على المسلمين إلا بشهادة العدول من المسلمين، بمنزلة
ما لو (3) ادعى أحد المتبايعين شرط خيار لم يقبل ذلك منه إلا بحجة.
425 - قال: ولكن العمل (80 آ) بالقياس يتعذر في هذا
الموضع، فإنهم لا يجدون في المطمورة قبل فتح الباب عدولا مسلمين
ليشهدوهم على مالهم من المتاع والأهل. وكما يسقط اعتبار صفة الذكورة
في الشهادة فيما لا يطلع عليه الرجال لأجل الضرورة يسقط اعتبار أصل
الشهادة هنا لأجل الضرورة، ويجب العمل فيه بالاستحسان فنقول:
إن صدقهم السبي الذين ادعوهم بما قالوا فهم مصدقون وهم
آمنون معهم.
لأنهم كانوا في المطمورة جملة.
فإذا تصادقوا على شئ فعلينا أن نأخذ بذلك.
لأنه لا طريق لنا إلى الوقوف على حقيقة ما كان بينهم، فيبنى الحكم على
ما يظهر بتصادقهم.



(1) في هامش ق " الفرهة: جمع فاره. وهو الكيس كصحبة في صاحب. مغرب ".
(2) ه‍، ق، ط " وجدوا ".
(3) ه‍ " ماذا ".
309
وإن كذبوهم بما قالوا كانوا فيئا.
لأنه عند التكذيب لم يثبت السبب الذي بنى الأمان عليه ودعوى
المستأمنين (1)، لا يكون مقبولا على ما كان معهم في المطمورة أنهم أهلونا
إلا بحجة، فان مجرد خبرهم لا يصلح حجة في ذلك، لأنه عارضوهم بالتكذيب
بخلاف الأول. فالسبب هناك قد ثبت فيما بينهم بالتصادق، وعليه بنينا (2)
الأمان فلهذا كانوا آمنين.
246 - فإن كانوا حين كذبهم هؤلاء ادعوا غيرهم أنهم أهلونا لم
يصدقوا على ذلك.
لأنه يتناقض (3) كلامهم، والمناقض لا قول له.
ولانا إنما نقبل قولهم عند التصديق لنوع من الاستحسان، وهو الذي
سبق إلى فهم كل أحد أنهم لا يتجاسرون على التصادق على الباطل في مثل
هذه الحالة. وهذا المعنى ينعدم عند التناقض في الدعوى. فكان جميع من في
المطمورة فيئا، إلا المستأمنين ومن صدقهم في الابتداء أنه من أهليهم.
427 - وإن ادعى بعض السبي رجلان منهم، فقال كل واحد
منهما: هذا من أهلي. فإن صدق المدعى به أحدهما فهو من أهله وكان
آمنا، وإن كذبهما جميعا كان فيئا.
لان السبب الذي رتبنا عليه الأمان لم يثبت بينه وبين واحد منهما.
428 - وأهله امرأته وولده الذي كانوا في عياله من الصغار
والكبار من النساء والرجال.



(1) هامش ق " ودعوة المتأمنين. نسخة ".
(2) ه‍ " بيننا "، ق " يبتنى ".
(3) ه‍ " يناقض "، قال تناقض ".
310
وفى القياس أهله زوجته فقط. لأنه في العرف يقال لمن له زوجة متأهل،
ولمن لا زوجة له غير متأهل. وإن كان يقوله جماعة. ولكنه استحسن فقال:
اسم الاهل يتناول كل من يعوله الرجل في داره وينفق عليه.
ألا ترى في قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام (إن ابني من أهلي) (1)
وقد استثنى الله الزوجة عن الاهل في قصة لوط عليه السلام. قال تعالى
{فأنجيناه وأهله إلا امرأته} (2) وفى قصة نوح {قلنا: احمل فيها من كل
زوجين وأهلك (80 ب) إلا من سبق عليه القول} (3) يعنى زوجته.
فعرفنا أن اسم الاهل يتناول غير الزوجة. ويقال فلان كثير الاهل
إذا كان ينفق على جماعة. وهذا لان بين الاهل والعيال مساواة في الاستعمال
عرفا.
429 - فأما ابن له كبير هو معتزل عنه فليس من أهله. وكذلك
كل ابنة من بناته لها زوج وقد ضمها زوجها إليه فهي ليست
من أهله.
لأنها ليست في نفقته، والأهل من يكون في نفقته في داره، سواء كان
من قرابته أو لم يكن من قرابته.
430 - فإذا تصادقوا على (4) ذلك كانوا آمنين، وأيهم ادعى
ذلك وكذبه المستأمن أو ادعى المستأمن وكذبه المدعي فهو فئ.



(1) سورة هود، 11، الآية 45.
(2) سورة النمل، 27، الآية 57.
(39 سورة هود، 11، الآية 40.
(4) ه‍ " فإذ تصادقوا في قرابته على ذلك ".
311
فإن رجع المكذب منهما إلى تصديق صاحبه وقال: أوهمت (1)
لم يلتفت إلى قوله.
لأنه مناقض في كلام ولان حق المسلمين تقرر فيه بالتكذيب، فلا يبطل
بمجرد رجوعه إلى التصديق.
431 - ولو قالوا آمنونا على أهل بيوتاتنا فالمسألة بحالها. فأهل
بيت كل واحد منهم قرابته من قبل أبيه الذين ينسبون إليه في بلادهم
كما يكون في بلادنا أهل بيت أمير المؤمنين آل عباس، وأهل بيت
علي بن أبي طالب، وأهل بيت طلحة والزبير.
لأنه ليس المراد بيت السكنى، وإنما المراد بيت النسب. والانسان منسوب
إلى قوم أبيه. فعرفنا أن ذلك بيت نسبه وأن من يناسبه إلى أقص أب يعرفون
به فهم أهل بيته.
432 - ولا يكون أم المستأمن ولا زوجته ولا أخواته (2) لامه
ولا خالاته وأخواله من أهل بيته، وإن كانوا في عياله.
لانهم ينسبون إلى غير من ينسب هو إليه. ألا ترى أن أولاد الخلفاء
من الإماء يكونون من أهل بيت الخلافة يصلحون لها؟
433 - وكذلك لو قال: آمنوني على آلى. فالآل وأهل البيت
في عرف الاستعمال سواء.



(1) في هامش ق " الصحيح وهمت. وأوهمت يستعمل في الغلط في الحساب. والمستعمل
في الغلط في غير الحساب وهمت. ولهذا يقال: هذا وهم من فلان ولا يقال هذا إيهام من فلان.
حصيري ".
(2) ط، ه‍ " إخوته ".
312
وكذلك لو قال: آمنوني على جنسي،
لان الانسان من جنس قوم أبيه لا من جنس قوم أمه. ألا ترى أن
إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من قريش وإن كانت أمه قبطية.
وكذا إسماعيل كان من جنس قوم أبيه لا من جنس قوم أمه هاجر.
434 - وإن قال: آمنوني على ذوي قرابتي، أو على أقربائي،
أو على أنسابي (1).
فهذا في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله على كل ذي رحم محرم.
قد بينا هذا في الوصايا في الزيادات. إلا أنه يقع الفرق بين هذه المسألة
وبين مسألة الوصية في فصلين.
أحدهما: أن على قول أبي حنيفة رحمه الله استحقاق الوصية للأقرب
فالأقرب. وها هنا يدخل في الأمان كل ذي رحم محرم، والأقرب والأبعد فيه
سواء. لان ذلك إيجاب بطريق الصلة، والانسان في الصلة يميز بين الأقرب
والأبعد ويرتب الأبعد على الأقرب. وهذا استنقاذ. والانسان عند اكتساب
سبب الاستنقاذ لا يرتب الأبعد على الأقرب.
يوضحه أن في التسوية هناك إضرارا بالأقرب فإنه ينتقض حقه ولا
(81 آ) يجرز الاضرار بالأقرب لمزاحمة (2) الأبعد. وها هنا ليس في التسوية
إضرار بالأقرب، لأنه يثبت الأمان له سواء ثبت للأبعد معه أو لم يثبت.
والفصل الثاني: أن في الوصية لذوي قرابته لا يدخل ولده ووالده،
وإن كانوا لا يرثونه لمعنى من المعاني. وفى الأمان يدخل ولده ووالده استحسانا،
والقياس فيهما سراء، لان اسم القرابة إنما يتناول من يتقرب إلى الغير بواسطة،
فأما من يتصل به بغير واسطة فهو أقرب من أن ينسب إلى القرابة. وأيد هذا



(1) في هامش ق " أنسبائي. نسخة ".
(2) ق " بمزاحة ".
313
أن الله سبحانه وتعالى عطف الأقربين على الوالدين فقال: {الوصية للوالدين
والأقربين} (1) ولكنه استحسن وقال:
435 - مقصوده من طلب الأمان لقرابته استنقاذهم للشفقة
عليهم، وشفقته على سائر القرابات. فلمعرفة المقصود أدخلناهم في الأمان،
ولانا إنما لا ندخلهم في هذا الاسم لأنه يعد من الجفاء أن يقول الرجل
لأبيه هو قريبي. وفى فصل الأمان الجفاء في ترك استنقاذه أو طلب
الأمان لغيره أظهر. فلو أدخلناهم في الاسم ها هنا يؤدى إلى تحقيق
معن البر لا إلى الجفاء والعقوق. فلهذا أدخلوا في الأمان.
436 - قال: ولو استأمنوا على متاعهم ثم ادعوا جيد المتاع فإن
كان ذلك المتاع أخذ من يد بعض أهل المطمورة وسئل عن ذلك
المأخوذ منه، فإن صدقوهم فه مصدقون، وإن كذبوهم كان فيئا.
لأنا عرفنا كون اليد في هذه الأمتعة له إن أن أخذ منه. ولصاحب اليد
قول فيما في يده، كما أن للمرء قولا معتبرا في نفسه. وقد بينا في الأصل أنه يرجع
إلى تصديق المدعى، فكذلك في المتاع يرجع إلى تصديق من كان في يده.
ولا يقال يده زائلة في الحال، لان سبب زوالها الاخذ على وجه الاغتنام.
وما ثبت في الأمان لا يكون محل الداخل بهذه الصفة. وهذا المعنى في النفوس
موجود أيضا فقد صارت مأخوذة منهم بالاغتنام حكما، ومع ذلك اعتبر
تصديقهم فيها باعتبار الأصل.
437 - فإن ادعوا بعد هذا التكذيب متاعا آخر لم يصدقوا
على ذلك.



(1) سورة البقرة، 2، الآية 180.
314
لان في دعواهم الأولى بيان أنه ليس لهم في المطمورة سوى ما ادعوا من
المتاع، وطريق المفهوم الذي نعتبره في هذا الكتاب وكانوا متناقضين فيما يدعون
بعد ذلك.
438 - وإن كذبهم من كان المتاع في يده وقال: هو متاعي،
ثم صدقهم بعد ذلك لم يلتفت إلى هذا التصديق للتناقض، ولتقرر حكم
الاغتنام فيه بالتكذيب، فيكون المتاع فيئا.
439 - وإن وجدنا المتاع في أيدي المستأمنين فقالوا: هو متاعنا
الذي أمنتمونا عليه، فالقول فيه قولهم.
لان أصل اليد لهم، وهي شاهدة لهم من حيث الظاهر. فيبنى الحكم عليه
ما لم يعلم خلافه.
440 - وكل من جعل القول قوله فإن الامام يستحلفه.
لان أكثر (81 ب) ما فيه أنه أمين فيما يخبر. فالقول قوله مع اليمين،
فان تهمة الكذب شرعا إنما تنتفى باليمين.
ولا يستحلفه إلا بالله.
لقوله عليه الصلاة والسلام: " فمن كان منكم حالفا فليحلف بالله
أو ليذر ". إلا أنه يغلظ عليه اليمين.
فإن كان نصرانيا استحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى،
وإن كان يهوديا استحلفه بالله الذي أنزل التوراة على موسى.

315
لان انزجازه عن اليمين الكاذبة عند ذكر هذه الزيادة أظهر، وهو
المقصود بالاستحلاف هاهنا.
قال: وإن كان مجوسيا استحلفه بالله الذي خلق النار.
لهذا المعنى أيضا. وقد قال كثير من مشايخنا: لا يستحلف المجوسي إلا
بالله. لان في ذكر هذه الزيادة معنى تعظيم النار، والنار بمنزلة سائر المخلوقات
من الجمادات، بخلاف ما سبق فهناك فيما يزيد معنى تعظيم الكتابين والرسولين
وذلك يستقيم.
441 - فإن كانوا أمنوهم على أهليهم فقال: هذا من أهلي وصدقه
المدعى ثم قال المدعى ليس من أهلي وقد كذبت، فالقول قول المدعي.
لأنه استفاد الامن بادعائه الأول، فهو بالكلام الثاني يريد إبطال الأمان
الثابت له.
442 - وهو لا يصدق في ذلك لو لم يكن مناقضا (1) فكيف
إذا كان مناقضا (1)، ولو رجع المدعى دون المدعى كان المدعى فيئا.
لأنه أقر على نفسه بالرق للمسلمين، وبكونه من أهل المدعى لا يخرج
من أن يكون مقبول الاقرار على نفسه.
إلا أن يكون المدعى ادعى أنه عبد أو أمة له وصدقه المدعى،
ثم قال بعد ذلك: ليست بمملوك، لم يصدق وكان مملوكا له.
لان بتصديقه صار مملوكا له. فلا يبقى له قول معتبر في إبطال ملكه
بعد ذلك. ومملوكه من أهله فإنه يعوله وينفق عليه فيتناوله الأمان.



(1) ق " متناقضا ".
316
443 - ولو قال المدعى: ليس من أهلي، وليس بمملوك لي.
وكذبه المدعى فهو فئ.
لان المدعى أقر في ملكه بثبوت حق الغانمين وذلك إقرار منه على نفسه.
إلا أنه ليس للأمير أن يقتله.
لأنه صار آمنا عن القتل بتصادقهما في الابتداء أنه مملوك له، فبعد ذلك
لو أبيح قتله إنما يباح بقول المدعى. وقوله ليس بحجة على مملوكه في إباحة دمه.
444 - وإن لم يكن مناقضا، كما لو أقر عليه بالقصاص فكيف
إذا كان مناقضا؟
وإن تصادقا جميعا أنه ليس بمملوك له فللأمير أنه يقتله إن كان
رجلا إن شاء.
لان بقول المدعى انتفى ملكه بإقرار المدعى وثبت أنه لم يتناوله الأمان،
وهو غير متهم فيما يقربه على نفسه من إباحة دمه.
445 - كما لو أقر على نفسه بالقصاص كان إقراره صحيحا، حرا
كان أو مملوكا.
ولو قال المدعى: هو ابني في عيالي، وصدقه المدعى وهو رجل،
فاتهمهما الأمير، فإنه يحلف المدعى. فإن حلف كان حرا وإن لم يحلف
كان فيئا.
لاقراره على نفسه بثبوت حق الغانمين فيه، فان النكول بمنزلة الاقرار.

317
ولكنه لا يقتل.
لأنه آمن من القتل بتصادقهما.
فلو جاز قتله بعد ذلك إنما يجوز بالنكول، والنكول لا يصلح
حجة لإباحة القتل بدليل المدعى عليه بالقصاص في النفس إذا نكل عن
اليمين، فإنه لا يقضى عليه بالقصاص، فهذا مثله.
قال عيسى رحمه الله (1): هذا غلط. لان إباحة القتل هنا ليست باعتبار
النكول بل باعتبار أصل الإباحة، فإنه كان مباح الدم فبنكوله ينتفى المانع
وهو الأمان، فيكون هذا بمنزلة ما لو ادعى القاتل العفو على الولي وجحد
الولي وخلف، فإنه يستوفى القصاص ولا يكون هذا قتلا باليمين.
ولكن ما ذكره في الكتاب أصح، لان الإباحة التي كانت في الأصل
قد ارتفعت بتصادقهما على أنه من أهل المدعى. فلو جاز قتله بعد هذا كان
ذلك بسبب نكوله. وذلك لا يجوز لما في النكول من الشبهة والاحتمال. فقد
يكون للتورع عن اليمين الكاذبة، وقد يكون للترفع عن اليمين الصادقة.
ولا يستحلف المدعى لان المقصود من الاستحلاف لم يحصل. لأنه لا قول له
على ابنه فيما يرجع إلى استحقاق الرق وإباحة القتل. والمقصود بالاستحلاف
هذا.
446 - وإن قال الذي استأمن على متاعه: لمتاع هذا من متاعي (2)
وليس ذلك في يد أحد، فإن كان قال هذا بعد ما صار في أيدي المسلمين
لم يصدق على ذلك إلا ببينة عادلة من المسلمين.



(1) في هامش ه‍ " هو عيسى بن أبان ".
(2) ه‍ " لمتاع هذا متاعي ".
318
لأنه لما لم تعرف فيه يد لأحد فيما مضى وجب المصير إلى اليد الظاهرة
في الحال، وهي للمسلمين موجبة الاستحقاق لهم. فالمدعى يبطل حقا ظهر
سبب استحقاقه للمسلمين. وقوله لا يكون حجة في ذلك فلا بد من بينة
عادلة من المسلمين.
447 - وإن قال ذلك قبل أن يصل المتاع إلى أيدي المسلمين
فالقول قوله مع يمينه.
لان ما كان في المطمورة فيده إليه أقرب من يد المسلمين حين كان في
المطمورة. فكأنه كان في يده حين ادعى ذلك.
448 - وإن كان في يده ويد المسلمين جميعا فوصل ذلك إلى
الأمير وهم متعلقون به، فهو للمستأمن بعد ما يحلف.
لان يده كانت أقرب إليه باعتبار الأصل، وقد علمنا أن يد المسلمين
يد مستحدثة فيه فمع بقاء الأصل لا يعتبر يد المسلمين فيه. ألا ترى أنا لو علمنا
أنهم أخذوه من المستأمن كان القول فيه قول المستأمن؟ فهذا أولى.
449 - وكذلك إن وصل إلى الأمير، وقوم من أهل المطمورة
وقوم من المسلمين متعلقون به، وأهل المطمورة يقرون أنه للمستأمن،
فالقول قولهم.
باعتبار أن اليد في الأصل كانت لهم فلا يعتبر يد المسلمين (82 ب)
بتعلقهم به.
450 - فأما إذا وصلوا إلى الأمير وهو في يد المسلمين خاصة.

319
فقد عرفنا زوال اليد التي كانت في الأصل، ولا يدرى لمن كانت حقيقة:
للمدعى كان، أو للمصدقين له، أو لغيرهم.
فلا يعتبر ذلك.
وإنما يعتبر ما هو معلوم في الحال، وهو في يد المسلمين، فلا يجوز
إزالتها إلا ببينة عدول من المسلمين.
451 - فإن شهد قوم من المسلمين أن الذين في أيديهم ذلك (1)
أخذوه من المستأمنين، أو أقر الذين ذلك في أيديهم أنهم أخذوه من
المستأمنين، أو أقروا أنهم أخذوه من قوم من أهل المطمورة، وأقر
أولئك أنه للمستأمنين فهو رد عليهم.
لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة. والثابت بالاقرار في حق المقر
كذلك. والاستحقاق للمسلمين الآن باعتبار يد الآخذين في بيان جهة الوصول
إلى أيديهم. فلهذا وجب رده على المستأمنين، ولو لم (2) يقر الذين أخذ ذلك
من أيديهم، إلا بعدما أخذه المسلمون منهم. فهذا أو ما لو أقروا به قبل
الاخذ منهم سواء لأنا قد علمنا أن أصل اليد لهم وتلك قائمة حكما لما وجب
اعتبار تصادقهم مع المستأمنين فكان إقرارهم بعد الاخذ منهم بمنزلة إقرارهم قبله.
452 - فإن اقتسم المسلمون المتاع، أو بيع المتاع، ثم ادعى
المستأمنون أن المتاع متاعهم، لم يصدقوا على ذلك إلا ببينة تشهد أن
أخذ منهم أم من قوم كانوا مقرين بالملك لهم قبل القسمة.



(1) ساقطة في ه‍.
(2) ه‍ " ولم ".
320
لان سبب الملك قديم لمن وقع في سهمه أو للمشترى، والملك لا يستحق
بمجرد الظاهر بل بالحجة التامة. وإنما الظاهر حجة لدفع الاستحقاق، وحاجة
المستأمنين هنا إلى استحقاق الملك على الملاك فلا بد من بينة تشهد بما ذكرنا.
453 - فإن أقر المسلمون الذين كانوا أخذوه إنما أخذوه من أيدي
المسلمين، أو من أيدي قوم يقرون أنه للمستأمنين، لم يصدقوا على ذلك.
لانهم (1) لم يبق لهم في المتاع يد ولا ملك، فهم كسائر المسلمين في هذا
الاقرار.
إلا أن يقع شئ من ذلك في سهم الذي أقر فيصدق على نفسه
ويؤخذ منه فيرد على المستأمنين.
لان إقراره في ملك نفسه بمنزلة البينة في حقه أو أقوى،
ولكن لا يعوض.
لان الاستحقاق كان بإقراره، وإقراره ليس بحجة على سائر الغانمين،
فكان لما هو في حقهم متلفا نصيب نفسه، فلا يستحق التعويض من الغنيمة.
454 - فأما السبي فهم مصدقون أنهم من أهل المستأمنين وإن
وقعوا في أيدي المسلمين، ما لم يقتسموا أو يباعوا، سواء كانوا في دار
الحرب أو قد أخرجوا منها.
لان اعتبار يدهم وقولهم في أنفسهم لا يزول إلا بضرب الرق عليهم،
وذلك بالقسمة أو البيع دون الاحراز. ألا ترى أن للامام أن يقتلهم بعد الاحراز؟



(1) ه‍ " لأنه ".
م 21 السير الكبير
321
(83 آ) وليس بعد ضرب الرق عليهم أن يقتلهم. وكذلك له أن يمن عليهم
فيجعلهم ذمة، وإذا فعل كذلك كانوا أحرار الأصل.
455 - فأما إذا اقتسموا أو بيعوا لم يصدقوا على ذلك.
لان الرق قد تقرر فيهم، فلا قول لهم بعد ذلك، ولا يد معتبرة في
أنفسهم.
إلا أن يقوم لهم بينة من المسلمين أنهم تصادقوا مع المستأمنين
قبل القسمة والبيع أنهم من أهليهم، فحينئذ لا سبيل عليهم.
لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة.
456 - وكذلك في المتاع إذا قامت البينة على أنهم تصادقوا على
ذلك قبل الاخذ من أيديهم.
وكأنه جعل الاخذ من أيديهم في المتاع بمنزلة ضرب الرق عليهم بالقسمة
والبيع في نفوسهم، ولكن هذا إنما يستقيم في متاع لم يعلم أن أصل اليد فيه
لمن كان.
457 - وإذا ثبت الاستحقاق بالبينة بهذه الصفة فإن كان مشتريا
رجع بالثمن، وإن كان غازيا أصابه ذلك بالقسمة، عوض قيمته من بيت
مال المسلمين وإن كانت الغنايم كلها قسمت.
لان نصيبه قد استحق، فيستوجب الرجوع بعوضه على الغانمين.
458 - والظاهر أنه يتعذر الرجوع عليهم لتفرقهم، فتكون

322
هذه نائبة من نوائب المسلمين، ومال بيت المال معد لها.
ألا ترى أنه لو بقى من الغنيمة شئ يتعذر قسمته كجوهرة ونحوها يوضع
ذلك في بيت المال، فكذلك إذا ظهر درك يجعل ذلك في بيت المال، لان الغرم
مقابل بالغنم.
459 - وإن كان الذين شهدوا على هذا هم الذين اشتروا أو وقع
المتاع في سهامهم، صدقوا على أنفسهم لإقرارهم. ولا يصدقون على
بيت المال، فلا يثبت لهم حق الرجوع بعوض ولا ثمن، فيؤخذ ما في
أيديهم فيرد على المستأمنين، وتركوا يرجعون بذلك كله إلى دار
الحرب، إلا الكراع (1) والسلاح والرقيق فإنها قد احتسبت في دارنا
حتى نفذ فيها القسمة والبيع. وهذا الاحتباس لحق الشرع وحق جماعة
المسلمين، حتى لا يتقوى أهل الحرب بذلك عليهم. فلا يصدق الملاك
في إبطال حق المسلمين.
وصار هذا بمنزلة ما لو وهبوه للمستأمنين أو باعوه منهم، فلا يمكنون
من إدخاله دار الحرب، بخلاف ما إذ ثبت بالبينة من المسلمين، فان البينة
حجة على المسلمين.
460 - ولو قال الذين أمنوا على أهليهم ومتاعهم: جميع ما في
المطمورة أهلونا، وجميع ما فيها متاعنا، ونحن بطارقتها (2)، وصدقهم
بذلك من فهم فهم مصدقون.



(1) الكراع: اسم يجمع الخيل.
(2) البطارقة: جمع بطريق وهو السيد.
323
لان المعنى (83 ب) الذي لأجله وجب تصديقهم إذا ادعوا بعض
ما فيها، وذلك المعنى موجود في الكل،
لكن هذا إذا لم يعلم خلاف ذلك.
بأن كانوا قوما معروفين بأنهم رؤوس أهل المطمورة.
وأما إذا كان يعلم خلاف ذلك لا يصدقون.
لان التصديق هنا باعتبار نوع من الظاهر، ويسقط اعتبار ذلك إذا
ظهر دليل الكذب.
461 - قال: ولا يدخل في المتاع نقد ولا تبر ولا حلى ولا جوهر.
لان المتاع. وإن كان اسما لما يستمتع (1) به في الحقيقة ولكن الذهب
والفضة والحلي اختصت باسم آخر وهو العين أو الجوهر، وذلك يمنع دخولها
في مطلق اسم المتاع. ولان المتاع ما يكون مبتذلا في الاستمتاع به على وجه
يعنى بالاستمتاع، وهذا لا يوجد في مثل هذه الأعيان لنفاستها.
ويدخل في المتاع ما سواها من الثياب والفرش والستور وجميع
متاع البيت، وفى القياس لا يدخل في ذلك الأواني.
لان في عرف الاستعمال يعطف الأواني على الأمتعة، والشئ لا يعطف
على نفسه، والعطف دليل على أن الأواني غير الأمتعة.
وفى الاستحسان الأواني التي ينتفع بها في البيوت تدخل في المتاع.
لان المفهوم عند الناس من مطلق اسم المتاع ما يستمتع به في البيوت،
ويتأتى به السكنى والمقام في البيوت. وهذا موجود في الأواني.



(1) ه‍ " يتمتع ".
324
ولهذا لا يدخل السلاح والكراع والسروج في ذلك.
لأنه لا يستمتع بها في البيوت، وإنما يستمتع بها عند الركوب أو الحرب -
وذلك ليس من السكنى في البيوت في شئ، وفلا يتناولها مطلق اسم المتاع،
كما لا يتناول النقود والمصاغ والجواهر.
462 - وإن كانوا قالوا آمنونا على مالنا أو على جميع مالنا من
مال، دخل ذلك كله أيضا.
لان اسم المال يعم ذلك كله باعتبار أنه متمول منتفع به، ألا ترى أنه لو
أوصى بثلث ماله لرجل دخل جميع ذلك، فكذلك في الأمان. وإنما يختص
في النذر بالصدقة لفظ المال بمال الزكاة لنوع من الاستحسان، وهو اعتبار
ما يوجبه على نفسه بما أوجبه الله تعالى عليه. وهذا لا يوجد في الأمان، بل
هذا نظير الوصية، لان الوصية أخت الميراث، والارث يثبت في كل مال
فكذلك الوصية. وها هنا إعطاء الأمان على المال نظير اغتنام المال، فكما أن
الاغتنام يثبت في كل مال فكذلك حكم الأمان عند إعطائه بلفظ المال.
463 - وإن قالوا للمسلمين أمنوا أهلينا فقالوا: نعم قد أمناهم
فهم فئ، وأهلوهم آمنون.
لانهم طلبوا الأمان لأهليهم ولم يذكروا (84 آ) أنفسهم بشئ،
صريحا ولا كناية ولا دلالة. فالانسان لا يكون من أهل نفسه، وإنما أهله
غيره. لان المضاف غير المضاف إليه.
فان قيل: نحن نعلم قصدوا بهذا أمان أنفسهم أيضا من وجهين:
أحدهما: أنهم طلبوا الأمان إشفاقا عليه أهليهم، وشفقتهم على أنفسهم
أظهر منه عليه أهليهم.

325
والثاني: أنهم قصدوا بهذا استبقاء أهليهم، وبقاؤهم بمن يعولهم وينفق
عليهم، وذلك أنفسهم. قلنا: نعم هم قصدوا هذا، ولكن حرموا هذا
المقصود حين خذلهم الله فلم يذكروا أنفسهم بشئ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا.
ثم بمجرد القصد لا يثبت لهم الأمان، بل بإعطاء المسلمين إياهم الأمان.
وإنما أعطوا أهليهم فقالوا: أمناهم ولم يقولوا أمناكم.
وقد حكى أن مثل هذه الحادثة وقع في زمن معاوية. وكان الذي يسعى
في طلب الأمان للجماعة قد آذى المسلمين. فقال معاوية رضي الله عنه: اللهم
أغفله عن نفسه. فطلب الأمان لقومه وأهله ولم يذكر نفسه بشئ. فأخذ وقتل.
ثم الانسان في مثل هذه الحالة قد يسعى في استنقاذ أهله من غير أن
يقصد نفسه بذلك، إما لانقطاع طمعه بأنه لا يؤمن إن طلب ذلك لنفسه، أو لأنه
مل من نفسه لفرط الضجر. فباعتبار المقصود الدليل مشترك، وباعتبار اللفظ
لا ذكر له.
ألا ترى أنهم لو قالوا: نضع أيدينا في أيديكم على أن يؤمنوا أبناءنا
ونساءنا. ففعل المسلمون ذلك، لم ندخلهم في الأمان. فان معنى كلامهم:
أن نضع أيدينا في أيديكم لتفعلوا بنا ما شئتم فكذلك ما سبق.
فان قالوا: لم نخرج إليكم على أن نراوضكم (1) في الأمان على أهلينا.
فقالوا لهم: اخرجوا. فلما خرجوا أمنوا أهليهم. فلا سبيل للمسلمين عليهم،
لا باعتبار أنهم أمنوا أهليهم بل باعتبار أنهم حين أمروهم أن يخرجوا للمرواضة.
على الأمان، فهذا أمان منهم لهم.
ألا ترى أنه لو لم يتهيأ بينهم أمان في شئ كان عليهم أن يردوهم إلى
مأمنهم ولا يتعرضوا لهم بشئ بخلاف الأول. فهناك قالوا وهم في المطمورة:
أمنوا أهلينا. فأمنا أهليهم ولم يتناولهم ذلك الكلام، ثم خرجوا لا على طلب
الأمان فكانوا فيئا.



(1) ه‍ " نراضيكم ". وفى هامش ق " وفلان يراوض فلانا على أمر كذا، أي يداريه ليدخله
فيه. مختار. "
326
464 - وإن قالوا أمنونا على ذرارينا فأمنوهم على ذلك، فهم
آمنون وأولادهم، وأولاد أولادهم، وإن سفلوا من أولاد الرجال.
لان اسم الذرية يعم جميع ذلك. فذرية المرء فرعه الذي هو متولد منه،
وهو أصل لذريته. ألا ترى أن الناس كلهم ذرية آدم ونوح صلوات الله
عليهما قال سبحانه وتعالى {أولئك الذين أنعم الله (84 ب) عليهم من النبيين
من ذرية آدم. الآية} (1).
465 - قال: ولا يدخل أولاد البنات في ذلك. هكذا قال ها هنا.
ووجهته أن أولاد البنات من ذرية آبائهم لا من ذرية قوم الام، ألا ترى
أن أولاد الخلفاء من الإماء من ذرية آبائهم، كما قال المأمون:
لا عيب للمرء فيما أن يكون له (2) أم من الروم أو سوداء عجماء (3)
فإنما أمهات الناس أوعية * مستودعات، وللأنساب (4) آباء
466 - وذكر بعد هذا ما يدل على أنه يدخل أولاد البنات
في ذلك.
ووجهته ما بينا أن الذرية اسم للفرع المتولد من الأصل. والأب والام
أصلان للولد. ثم الام من ذرية أبيها. فما يتولد منها يكون من ذريته أيضا.
ومعنى الأصلية والتولد في جانب الام أرجح، لان ماء الفحل يصير مستهلكا
بحضانها في رحمها. فإنما يكون الولد متولدا منها بواسطة ماء الفحل. فإذا جعل
النافلة (5) من ذرية أبى أبيه، فكذلك يجعل من ذرية أبى أمه.



(1) سورة مريم، 19، الآية 58.
(2) ه‍ " لا عيب فيما أن يكون له ".
(3) هذا البيت ساقط في ب.
(4) في هامش ب " وللأبناء. نسخة أصح ".
(5) في هامش ق " ويقال لولد الولد نافلة. مصباح ".
327
وفيه حكاية يحيى بن يعمر (1). فإن الحجاج أمر به ذات يوم
فأدخل عليه وهم بقتله. فقال له: لتقرأن علي آية من كتاب الله تعالى
نصا على أن العلوية ذرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأقتلنك،
ولا أريد قوله تعالى {ندع أبناءنا وأبناءكم} (2). فتلا قوله تعالى {ومن
ذريته داود وسليمان. إلى أن قال: وزكريا ويحيى وعيسى} (3) ثم قال:
فعيسى من ذرية نوح من قبل الأب أو من قبل الام؟ فبهت الحجاج
ورده بجميل. وقال: كأني سمعت هذه الآية الآن (4).
467 - ولو قالوا: أمنونا على أولادنا. فهذا على أولادهم لأصلابهم.
وأولاد أولادهم من قبل الرجال، وأما أولاد البنات فليسوا بأولادهم.
هكذا ذكر ها هنا.
وذكر الخصاف عن محمد رحمهما الله أنهم يدخلون في الأمان أيضا.
لان اسم الأولاد يتناولهم من الوجه الذي قلنا. وأيد ذلك قوله عليه السلام
حين أخذ الحسن والحسين: " أولادنا أكبادنا ".
فأما على هذه الرواية نقول ذلك نوع من المجاز بدليل قوله تعالى {ما كان
محمد أبا أحد من رجالكم} (5) ومن كان ولدك حقيقة كنت أبا له حقيقة،



(1) في هامش ق " يعمر (بضم الأول) وقيل بضم الميم. حصري ".
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 61.
(3) سورة الأنعام، 6، الآية 84.
(4) في هامش ق " وقال: كأني سمعت هذه الآية الآن. نسخة ". وهذه الزيادة لا توجد
في ب، أ، ق. وثمة هامش آخر في ق فيه: " وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: لا يقوى
الاحتجاج بهذه الآية. فان عيسى عليه السلام لم يكن له أب، فاستحال إلى أبيه فانتسب إلى
أمه، وجعل هو من ذرية من كانت أمه من ذريته. أما هنا بخلافه. حصيري ".
(5) سورة الأحزاب، 33، الآية 40.
328
أو كان ذلك لأولاد فاطمة رضي الله عنها على الخصوص. كما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " كل الأولاد ينتمون إلى آبائهم، إلا أولاد فاطمة
فإنهم ينتسبون إلى، أنا أبوهم ". ولكن هذا حديث شاذ، وهو مخالف للكتاب
كما تلونا.
468 - ولو استأمنوا على أولاد أولادهم دخل في ذلك أولاد البنات.
لان اسم ولد الولد حقيقة لمن ولده ولده وابنة ولده. فما ولد لابنته
يكون ولد ولده حقيقة، بخلاف الأول. فقد ذكر هناك أولاده وهم في
الحقيقة ولده هو، ومن حيث الحكم من يكون منسوبا إليه بالولادة وذلك
أولاد الابن دون أولاد البنات (1).
469 - ولو قال: أمنونا على موالينا. ولهم موال وموالي (85 آ)
موال، فكلهم آمنون استحسانا.
في القياس لا يدخل موالى الموالى، لان الاسم لمواليه حقيقة، ولموالي
الموالى مجازا. ألا ترى أنه يستقيم نفيه عنهم فيقال: هؤلاء ليسوا من مواليه؟
ولهذا لا يدخلون في الوصية لمواليه، حتى لا يزاحمون مواليه. ولكنه استحسن
فقال:
470 - موالى الموالى ينسبون إليه بالولاء بواسطة الموالى فهم
بمنزلة أولاد الأولاد مع الأولاد.
وفى الوصية يدخل موالى الموالى إذا لم يكن له موال، إلا عند وجود الفريقين



(1) في هامش ق " فقال رضي الله عنه في الوصية والوقف: قال بعضهم: ولد البنت
لا يناوله اسم الولد إن كانت الوصية باسم الولدان. أما إذا كانت بلفظ الجمع يدخل ولد البنت.
وذكر بعضهم أنه لا يدخل. وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي. ولو أوصى لولد ولده يدخل
ولد البنت عندهم جميعا. حصيري ".
329
لو أثبتنا المزاحمة انتقض نصيب الموالى، ولا يجوز إدخال النقصان على الأقرب
بمزاحمة الأبعد، وهذا لا يوجد في الأمان، فسواء، دخل موالى الموالى أولم يدخلوا
كان الأمان لمواليه بصفة واحدة، والظاهر أن مقصوده استنقاذ الفريقين.
ثم لا نقول بالجمع (1) بين الحقيقة والمجاز، ولكن هذا الاسم للموالي
حقيقة، ولموالي الموالى أيضا صورة، ومجاز، فباعتبار هذه الصورة تتمكن
شبهة (2) في حقهم. والأمان مبنى على التوسع حيث يثبت (3) بمجرد الإشارة
صورة، فلان (4) يثبت بهذا اللفظ أولى. وبه فارق الوصية.
471 - ولو قال: أمنونا على إخواننا ولهم إخوة وأخوات
فهم آمنون.
قال الله تعالى {وإن كانوا إخوة رجالا ونساء} (5) وفى الحقيقة هذه
الصيغة للذكور، إلا أن من مذهب العرب عند اختلاط الذكور بالإناث
تغليب الذكور وإطلاق علامة الذكور على الكل. والمستعمل بهذه الصيغة
بمنزلة الحقيقة.
نقول: فان كان لهم أخوات ليس معهن واحد من الذكور لم يدخلن
في الأمان. لان الإناث المفردات لا تتناولهن صيغة الذكور. فان قيل: أليس
ان الله سبحانه وتعالى قال {فان كان له إخوة فلأمه السدس} (6)، ثم
الأخوات المنفردات يحجبن الام من الثلث إلى السدس؟ قلنا: لا بهذه الآية
بل باتفاق الصحابة واعتبار معنى الحجب وقد بينا ذلك في الفرائض. ولكن
اعتبار المعنى في النصوص الشرعية جائز، فأما في ألفاظ العباد فيراعى عين



(1) ق، ب " بجمع ".
(2) ه‍ " يتمكن شبهه ".
(3) ه‍ " حين ثبت ".
(4) ه‍ " فلان ".
(5) سورة النساء، 4، الآية 176.
(6) سورة النساء، 4، الآية 11.
330
الملفوظ به من غير أن يستقل بتعليله. واسم الاخوة لا يتناوله الإناث المفردات (1)
حقيقة ولا استعمالا.
472 - ولو قالوا: أمنونا على أبنائنا، ولهم بنون وبنات، فهم
آمنون جميعا.
لما بينا في الاخوة. ومن أصحاب من يقول: جوابه في الفصلين قولهما
وقول أبي حنيفة الأول. فأما قوله الآخر فيتناول الذكور خاصة، بمنزلة
الوصية لبني فلان وفلان أبى أولاد، أو لإخوة فلان. ولكن الأصح أن هذا
قولهم جميعا، لأنه يتوسع في باب الأمان ما لا يتوسع في باب الوصية.
فأبوه حنيفة في الوصية اعتبر الحقيقة فقط، فأما في الأمان فيعتبر الحقيقة
وما يشبه الحقيقة بطريق (85 ب) الاستعمال.
473 - فإن لم يكن فيهم ذكر وإنما لهم بنات خاصة، فهن فئ
جميعا.
لان هذه الصيغة لا تتناول الإناث المفردات إلا إذا كان المضاف إليه
أبا قبيلة. وقد بينا هذا في الوصايا أنه إذا أوصى لبني فلان، وفلان أبو قبيلة،
فالمراد بهذه النسبة إلى القبيلة. والإناث المفردات في النسبة بهذا اللفظ
كالذكور، بخلاف ما إذا كان فلان أبا أولاد.
وقد قال بعض مشايخنا: إذا (2) تقدم منه كلام يستدل به على أنه أراد
الأمان لهن بأن قال: ليس لي إلا هؤلاء البنات أو الأخوات فأمنوني على بنى
أو على إخوتي، فحينئذ يستدل بتلك المقدمة أن مراده الإناث فهن آمنات.



(1) ه‍ " المنفردات ".
(2) ه‍ " انه إذا... ".
331
474 - وإن قالوا: أمنونا على أولادنا دخل في هذا الذكور
والإناث المفردات (1) أيضا.
لان الولاد حقيقة في الفريقين. قال الله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم}.
ثم قال: {فان كن نساء فوق اثنتين} (2) فقد فسر الأولاد بالإناث المفردات.
475 - وإن قالوا: أمنونا على بناتنا وأخواتنا، فهذا على الإناث
دون الذكور.
لان صيغة الكلام للإناث خاصة، فلا يدخل فيه الذكور (3) حقيقة
ولا استعمالا. ومن (4) حيث المقصود قد يطلب الأمان للإناث خاصة
لضعفهن، ولعلمه أنه لا يجاب إلى الأمان لو طلبه للذكور بعد (5) ما اتصل
منهم أذى بالمسلمين من حيث القتال.
476 - وإن قالوا: أمنونا على بنينا، فإذا لكلهم بنات إلا لواحد
منهم فإن له ابنا واحدا، كان الأمان عليهم جميعا.
لانهم استأمنوا للكل بكلمة واحدة. وتلك الكلمة تتناول الذكور والإناث
عند الاختلاط، وبالابن الواحد لأحدهم يتحقق الاختلاط.
477 - وإن قالوا: أمنونا، كل واحد منا على بينه، والمسألة
بحالها، كان البنات كلهن فيئا إلا أولاد الرجل الذي له الابن.



(1) ه‍ " المنفردات ".
(2) سورة النساء، 4، الآية 11.
(3) ه‍ " الذكور ".
(4) ه‍ " من ".
(5) ه‍ " لبعض ما ".
332
لان كلمة " كل " توجب (1) الإحاطة على سبيل الانفراد. وقد قال
الله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} (2). وباعتبار انفراد اللفظ في حق كل
واحد (3) منهم لا يتناول هذا اللفظ إلا أولاد الرجل الذي له الابن بخلاف
الأول، لان الكلمة هناك للاحاطة على وجه الاجتماع، والاخوة والأخوات
في هذا بمنزلة البنين والبنات.
478 - ولو قالوا: أمنونا على آبائنا، ولهم آباء وأمهات، فهم
آمنون جميعا.
لان اسم الآباء يتناول الآباء والأمهات. ألا ترى أنهما يسميان أبوين.
قال الله تعالى {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك} (4) وكذلك إن
لم يكن الأب منهم إلا الانسان واحد. فالأمهات والأب الذي معهن آمنون،
لان الاسم حقيقة للكل استعمالا عند الاختلاط.
479 - ولو قالوا: أمنونا على أبنائنا، ولهم أبناء وأبناء أبناء،
فالأمان على الفريقين جميعا استحسانا. وكان ينبغي في القياس أن يكون
الأمان للأبناء خاصة.
لان اسم حقيقة للأبناء مجاز في حق أبناء الأبناء. ولا يجمع بين الحقيقة
والمجاز في لفظ واحد. ولهذا جعل أبو حنيفة الوصية للأبناء خاصة بهذا اللفظ.
إلا إذا لم يكن هناك أبناء، فحينئذ يتناول أبناء الأبناء، لان الحقيقة لما تنحت
وجب (5) استعمال اللفظ بطريق المجاز، ولكنه استحسن ها هنا فقال:



(1) ه‍ " يوجب ".
(2) سورة آل عمران، 3، الآية 185.
(3) ه‍ " كلواحد ".
(4) سورة النساء، 4، الآية 11.
(5) ه‍ " وجبت ".
333
480 - إنما يطلب الأمان لمن يكون مضافا إليه بالبنوة، وباعتبار
الصورة، وهذا يوجد في أبناء الأبناء. فيصير ذلك شبهة يثبت به
الأمان لهم بخلاف الوصية، فإنها لا تستحق بالصورة والشبهة. ثم في
إثبات المزاحمة هناك بين الحقيقة والمجاز إدخال النقص في نصيب الأبناء.
ولا يوجد مثل ذلك في الأمان.
وهذا نظير ما تقدم في قوله: لذوي قرابتي. لان طلب الأمان بهذا
اللفظ لاظهار الشفقة على ما ينسب إليه بالنبوة. وربما يكون ذلك في حق أبناء
الأبناء أظهر منه في حق الأبناء، على ما قيل: النافلة أحب إلى المرء من الولد.
ولو كان لبعضهم أبناء لصلبه، ولبعضهم أبناء فهم آمنون جميعا لما قلنا.
481 - وإن قالوا: أمنونا على أبنائنا، وليس لهم آباء ولهم
أجداد، فليس يدخل الأجداد في ذلك.
وهذا الفصل مشكل. فان اسم الأب لا يتناول الجد حقيقة حتى يجوز
أن ينفى عنه باثبات غيره، فيقال إنه جد وليس بأب، ولكن يتناوله مجازا.
ألا ترى إلى ما روى عن ابن عباس أنه قال لرجل: أي أب لك أكبر؟
فلم يفهم الرجل ما قال. فتلا ابن عباس قوله: تعالى {يا بني آدم} وقال:
أما علمت أن من كنت ابنه فهو أبوك؟
فباعتبار هذا المجاز، أو باعتبار الصورة ينبغي أن يثبت الأمان لهم
كما ذكرنا في أبناء الأبناء. ولكنه فرق بينهما لمعنى آخر فقال:
482 - المجاز تبع للحقيقة. ويمكن تحقيق هذا في أبناء الأبناء.
فإنهم تفرعوا من الأبناء، فكانوا تبعا لهم. ولا يأتي مثل ذلك في

334
الأجداد فإنهم أصول الآباء، مختصون باسم، فكيف يتناولهم اسم الآباء
على وجه الاتباع لفروعهم.
ألا ترى أنه لو قال: أمنوني على أمي، وليست له أم إنما له جدة، أن الأمان
لا يتناولها؟ فان قال قائل: يتناولها باعتبار أن الجدة تسمى أما. قلنا: قد
سمى الله تعالى الحالة أما في قوله تعالى {ورفع أبويه على العرش} (1) أي أباه، وخالته.
وسمى العم أبا في قوله تعالى {قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك: إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق} (2) وإسماعيل كان عما. ثم أحد لا يقول إن العم والحالة يدخلان في
الأمان للآباء. لان كل واحد منهما مختص باسم آخر، به ينسب إليه. فكذلك
الجد والجدة. بخلاف بنى الابن فإنهم ينسبون إليه باسم النبوة، ولكن بواسطة
الابن. فكان الأمان بهذا الاسم متناولا لهم. وهذا بيان لسان العرب، فان
كل قوم في لسانهم الذي يتكلمون به أن الجد والد، كما أن ابن الابن ابن،
فهو داخل في الأمان. وهكذا في لسان الفارسية فإنه يقال للجد پدر پدر كما يقال
للحفيد (3) پسر پسر، والله سبحانه وتعالى الموفق.



(1) سورة يوسف، 12، الآية 105.
(2) سورة البقرة، 2، الآية 123.
(3) ب " للجدة " وهو خطأ.
335
48 [باب المرأة من أهل الحرب]
تخرج مع رجل من المسلمين فيقول: أسرتها.
وهي تقول: جئت مستأمنه
483 - وإذا دخل العسكر دار الحرب فخرج إليهم مسلم كان
أسيرا، أو كان مستأمنا فيهم، أو كان أسلم منهم والتحق بجيش
المسلمين ومعه حربية فقالت: جئت مستأمنة إليكم. وقال المسلم:
جئت بها قهرا. فهذا إنما يكون على ما جاءت عليه المرأة (1)، فإن كانت
مخلاة غير مربوطة تمشى معه حتى إذا انتهت إلى أدنى مسالح المسلمين،
نادت بالأمان أو لم تناد، فهي آمنة.
لان الظاهر شاهد لها، فإنها جاءت مجيئ المستأمنات.
484 - ولو جاءت وحدها بهذه الصفة كانت آمنة، فكذلك
إذا صحبها مسلم في الطريق.
لأنه بمجرد هذه الصحبة لا تثبت اليد عليها المسلم فهي في يد نفسها.
فالذي يسبق إلى فهم (2) كل أحد أنها طاوعته في المجيئ مستأمنة. وقد بينا
أنه فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته يعتبر الظاهر وغالب رأى.



(1) في هامش ق " الحربية. نسخة ".
(2) ق " وهم " وفى الهامش " فهم. نسخة ".
336
485 - وإن كان الرجل جاء بها وهو قاهر لها قد ربطها فنادت
بالأمان أو لم تناد فهي فئ.
لان الظاهر أنه هو الذي أسرها وأخرجها، وقد كانت يده بطريق القهر
ثابتة عليها. وذلك سبب لاستحقاقه نفسها. فإنها حربية لا أمان لها، إلا أنه
حين أحرزها (2) بمنعه الجيش، فالجيش شركاؤه فيها، لان الاحراز بالدار
حصل بهم جميعا.
ولو لم يخرجها إلى عسكر المسلمين ولكن أخرجها إلى دار
الاسلام فهذا والأول سواء. إلا في خصلة واحدة وهو أنه يختص بها
هنا إذا جاء بها قاهرا لها.
لأنه تفرد بإحرازها بدار الاسلام، ولا خمس فيها لأنه ما أصابها على
وجه إعلاء كلمة الله تعالى، فهو بمنزلة ما أخذه المتلصص وأحرزه بدار
الاسلام.
486 - فإن قالت تزوجته وخرجت معه، وقال هو: كذبت،
بل قهرتها وأخرجتها، أو هي أمة اشتريتها، ووهبت لي، لم يصدق
على شئ من ذلك إذا جاءت معه مخلاة.
لأنها في يد نفسها، فإقرارها بأنه زوجها غير مسقط حكم يدها في نفسها.
فكانت مستأمنة. إلا (86 آ) أن يأتي بها مقهورة، يعرف قهره إياها في دار
الحرب. فحينئذ يكون القول قوله. لان باعتبار ما ظهر من القهر في موضعه
سقط حكم يدها في نفسها.



(1) ق " أخرجها " وفى الهامش " احرزها. نسخة " أصح.
م - 22 السير الكبير
337
487 - وكذلك إذا جاء معه برقيق فقالوا: نحن أحرار. فقال
هو: بل هم عبيدي، وقد جاءوا معه غير مقهورين ولا مربوطين.
فالقول قولهم سواء نادوا بالأمان حين انتهوا إلى مسالح المسلمين
أو لم ينادوا.
لانهم لو جاءوا وحدهم بهذه الصفة كانوا آمنين. فكذلك إذا جاءوا معه.
488 - فإن أقام عليهم بينة من المسلمين، أو من أهل الذمة،
أو من المستأمنين، عدول، أنه كان أسرهم وقهرهم، قبلت البينة وكانوا
عبيدا له.
لان الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم.
489 - ولو أقروا أنه قهرهم في دار الحرب، أو علمنا ذلك معاينة،
كانوا عبيدا له. وفى رغم الخصوم أنهم من أهل الحرب مستأمنون.
وشهادة الحربي المستأمن على المستأمن مقبولة، فلهذا قبلت
شهادة الكل.
490 - وإن كان انتهى إلى أدنى مسالح المسلمين وليس بقاهر لهم
ولا يعلم أنهم في يده، فنادوا بالأمان حيث ينادون به، أو لم ينادوا،
فهم آمنون لا سبيل عليهم.
كما لو جاءوا وليس معهم مسلم، وإن لم ينادوا بالأمان، وكانوا
رجالا، ولم يظهر منهم أمر يدل على أنهم جاءوا مستأمنين، ولا يعلم

338
أنه قاهر لهم أيضا، فهو بمنزلة حربي خرج إلى دارنا بغير أمان، وقد
بينا في ذلك.
والحاصل أنه لما لم يكن له يد عليهم حسا فهم في يد أنفسهم حقيقة
وحكما، كان خروجهم معه وخروجهم دونه في الحكم سواء.
491 - ولو كان هذا المسلم خرج ومعه امرأة ولم يستأمن لها،
فأراد المسلمون أخذها لتكون فيئا، فقال: هذه امرأتي، وصدقته
بذلك، فهي امرأته لتصادقهما على النكاح في حال لم يتقرر لأحد فيها
حق. وإذا ثبت النكاح كانت حرة ذمية.
لأنه حين خرج بها بناء على النكاح الذي بينهما فقد أمنها. وأمان الواحد
من المسلمين بعدما خرج من قهر أهل الحرب كأمان جماعتهم.
ثم هي مستأمنة تحت مسلم، فتصير ذمية بمنزلة المستأمنة في دارنا
لو تزوجت مسلما أو ذميا.
وهذا لأن المرأة في المقام تابعة لزوجها، والزوج من أهل دارنا فتصير
هي من أهل دارنا تبعا له.
492 - وكذلك لو خرج بسبي فقال: هؤلاء عبيدي وإمائي،
وصدقوه (1) بذلك.
لانهم تصادقوا على ذلك قبل أن يثبت الحق فيهم للمسلمين. ومعنى
الحاجة والضرورة يتحقق هاهنا. فالمستأمن في دارهم أو الذي أسلم يخرج
*



(1) ه‍ " صدقوا ".
339
عبيده وزوجته، ولا يمكنه أن يستصحب شاهدين مع نفسه (86 ب)
انهم له، فلا بد من بناء الحكم على قولهم إذا تصادقوا عليه.
وإن كذبوه كانوا فيئا. لانهم من أهل الحرب دخلوا في دارنا
بغير أمان.
493 - وإن قالوا نحن عبيد وإماء لأهل الحرب خرجنا نريد
الأمان ولسنا لهذا الرجل: فإن كان قاهرا لهم حين أخرجهم فهم له.
لانهم أقروا بالرق على أنفسهم وذلك يسقط اعتبار يدهم في أنفسهم.
وقد ظهر سبب استحقاقه لهم وهو القهر في موضعه وإن لم يعلم أنهم في يده.
494 - فإذا كانوا نادوا بالأمان حين دنوا من أدنى المسالح فهم
آمنون.
لان لم يثبت له سبب الاستحقاق منهم، وهو اليد القاهرة عليهم. وقد
نادوا بالأمان في موضعه، فالظاهر أنهم صادقون جاءوا مستأمنين.
495 - ولو جاءوا بهذه الصفة وحدهم كانوا آمنين، على ما بينا
أن المستأمنين لا يقدرون على طلب الأمان إلا بهذه الصفة فكذلك
إذا جاءوا معه.
496 - وكذلك إن كان المسلمون يرونهم من على موضع بعيد
لا يسمعون فيه النداء بالأمان، فوقع في قلب المسلمين أنهم يريدون
الأمان، فلما بلغوا إلى الموضع الذي يسمع فيه النداء بالأمان نادوا أولم
ينادوا، فهم آمنون.

340
لانهم جاءوا منقادين، وذلك دليل على أنهم طالبون للأمان، والدليل
في مثل هذا كالصريح.
497 - فإن زعموا أنهم عبيد لأهل الحرب فهم عبيد كما
ذكروا (1).
يمكنون من الرجوع إلى مواليهم كما هو حكم الأمان.
498 - وإن قالوا جئنا مراغمين (2) لموالينا نريد الذمة أو نريد
الاسلام، فهم أحرار لا سبيل لمواليهم عليهم.
ولو جاءوا مستأمنين وأقاموا البينة من المسلمين على ذلك فكذلك.
لانهم أحرزوا أنفسهم بدارنا على مواليهم، ولو قهروا مواليهم فأحرزوهم
بدارنا ملكوهم، فكذلك إذا أحرزوا أنفسهم يملكون رقابهم.
ومن ملك نفسه عتق، ولا ولاء عليه لأحد لأنه عتق بملك
نفسه.
والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الطائف:
" أيما عبد خرج إلينا مسلما فهو حر ". فخرج إليه سبعة أعبد
فأعتقهم. وكانوا يسمون عتقاء الله.
ثم لا فرق بين أن يخرجوا مسلمين أو ذمة، لان الذمي من أهل دارنا
كالمسلم. فيتم فيهم إحراز أنفسهم بالطريقين.



(1) ه‍ " زعموا ".
(2) أي مغاضين.
341
499 - وإن قدم مواليهم فزعموا أنهم أذنوا لهم في الخروج إلى
دار الاسلام للتجارة، فالقول قول الموالى.
لانهم تصادقوا على أنهم كانوا مملوكين لهم، ثم ادعوا سبب زوال ملك
الموالى عنهم، وهو المراغمة (1)، فلا يصدقون على ذلك إلا بحجة، بمنزلة
العبد (87 آ) يدعى أن مولاه أعتقه. وهذا لان الموالى يتمسكون بما هو الأصل،
والأصل أن العبد غير مراغم، والقول قول من يتمسك بالأصل مع يمينه.
فيستحلف الامام الموالى بالله إن طلب العبيد ذلك. ثم إذا حلفوا
أنهم عبيد لهم، وإن كانوا أسلموا، أجبروا على بيعهم.
لان العبد المسلم (2) كما لا يترك في يد الذمي لا يترك في يد الذمي لا يترك في يد الحربي
ليرجع به إلى دار الحرب. وفى الاجبار على البيع هاهنا مراعاة حق العبد
من حيث إزالة ذل الكافر عنه.
500 - والمستأمن يؤخذ (3) بمثال (4) هذا كالذمي فأما من صار
منهم ذمة فإن مولاه يترك يذهب به حيث شاء.
لان المملوك تبع لمولاه، فلا يصلح منه قبول الذمة مقصودا. ألا ترى
أن الحربي المستأمن في دارنا إذا كان معه عبد أدخله مع نفسه، فطلب العبد
أن يكون ذمة لنا لا نجيبه إلى ذلك. فان كان الامام أخذ منه الخراج قبل، رده
على مولاه لأنه كسب عبده. ولا بأس بأن يأخذ منه الخراج قبل أن يأتي مولاه
لأنه يبنى الحكم على الظاهر، وهو في الظاهر مصدق فيما يقول ما لم يأت
من يكذبه.



(1) في هامش ق " خرج مراغما أي مغاضبا. مغرب ".
(2) لا توجد في ه‍، ط.
(3) ه‍ " يواخذ ".
(4) ه‍، ق، ط، " بمثل ".
342
501 - وهذا كله إذا علم أنه كان عبدا له، بحجة سوى إقراره.
وإن لم يعلم ذلك إلا بإقرار العبد فإن كان حين نادى بالأمان أو رآه
المسلمون أخبر أنه عبد جاء غير مراغم لمولاه صدق أيضا، ودفع
إلى مولاه.
لأنه أقر بذلك قبل أن يصير من أهل دارنا، وقبل أن يتعلق حق
المسلمين به، فلا تتمكن التهمة في إقراره.
502 - ولو لم يكن أقر أنه عبد حتى صار ذمة وأخذ منه الخراج
ثم جاء مستأمن فادعى أنه عبده بعثه إلى دار الاسلام للتجارة بأمان،
وصدقه بذلك الذمي، فإن الامام لا يصدقه على ما قبض من الخراج
ليرده، ولا على رقبته ليعيده إلى دار الحرب، ولكنه يجعله عبدا له
بإقراره على نفسه.
لان الاقرار خبر محتمل بين الصدق والكذب (1)، فلا يكون حجة
فيما يتمكن فيه التهمة، فيكون حجة على المقر فيما لا تهمة فيه. وفى صيرورته
ملكا للمقر له لا تهمة فيه. فأما في رده إلى دار الحرب فتتمكن التهمة لأنه صار
من أهل دارنا ممنوعا من الرجوع إلى دار الحرب. فلعله واضع هذا الرجل
حين لم يعجبه المقام في دارنا حتى يقر له بالرق فيرده إلى دار الحرب. وليس
من ضرورة صيرورته عبدا له أن يتمكن من رده إلى دار الحرب، كما
لو اشترى عبدا ذميا في دارنا أو أسلم عبده فيجبر على بيعه ولا يمكن من أن
برده إلى دار الحرب. ولا إشكال أن ما قبض منه من الخراج قد صار حقا
للمقاتلة. فلا تصدق هو (87 ب) في إيجاب رد ذلك على الحربي.



(1) ه‍ " يحتمل الصدق والكذب ".
343
503 - فإن أقام الحربي بينة من المسلمين على ما ادعى من الرق
فإنه يدعه ليرده إلى دار الحرب ويرد عليه ما أخذه من الخراج.
لأنه أثبت حقه بما هو حجة على المسلمين.
504 - وإن شهد على ذلك قوم من أهل الحرب مستأمنون لم
يقبل شهادتهم، ولم يقض عليه بالرق إذا كان هو منكر لذلك.
لأنه ذمي وشهادة الحربي لا تكون حجة على الذمة.
505 - وإن شهد عليه قوم من أهل الذمة جعله عبدا له.
لان في هذا الحكم الشهادة تقوم عليه. وشهادة أهل الذمة حجة على الذمة
ولم تقبل شهادتهم في رد الخراج عليه ولا في رده إلى دار الحرب.
لان في هذا الحكم الشهادة تقوم على المسلمين. وشهادة أهل الذمة ليست
بحجة على المسلمين. وليس من ضرورة ثبوت أحد الحكمين ثبوت الحكم الآخر.
506 - ولو كان أسلم لم يقبل عليه إلا شهود مسلمون. فإذا قضى
بشهادتهم جعله عبدا له وأجبره على بيعه.
كما لو أقر العبد بذلك.
507 - قال: فإذا استأمن الحربي إلى أهل الاسلام فآمنوه (1)
فخرج معه بامرأة وبأطفال صغار فقال: هذه امرأتي، وهؤلاء ولدى.



(1) في هامش ق " فآمنوا. نسخة ".
344
ولم يكن ذكرهم (1) في الأمان فالقياس في هذا أنهم فئ غيره.
لأنه طلب الأمان لنفسه دون غيره (2)، وحكم الأمان لا يتعدى إلى من
كان منفصلا عنه، ولأنه لم يوجد منه استئمان لهؤلاء إشارة ولا دلالة.
ولكن هذا قبيح، فيجعلون جميعا آمنين بأمانه استحسانا.
لأنه إنما يستأمن إلينا فرارا منهم لمعنى هو أعلم به، أو ليقيم في دارنا
زمانا ويتجر بما يتم له. هذا المقصود إذا خرج بزوجته وأولاده الصغار.
فان قلت: المرء مع عياله، فهذا دليل استئمانه لهم، ثم هم تبع له من
حيث إنه يعولهم وينفق عليهم، والتبع يصير مذكورا بذكر الأصل، إلا إذا
كان هناك عرف يمنع منه. والعرف هنا مؤيد لهذا المعنى. ألا ترى أن الذمي
في دارنا يؤدى الجزية، ولا جزية على أتباعه وذراريه من النساء وأولاده
الصغار؟
508 - وكذلك لو جاء معه بسبي كثير فقال: هؤلاء رقيقي.
وصدقوه. أو كانوا صغارا لا يعبرون عن أنفسهم، أو كان معه دواب
عليها متاع ومعها قوم يسوقونها فقال: هؤلاء غلماني. فصدقوه في
ذلك، كان مصدقا مع يمينه.
لما بينا أن الظاهر شاهد له، فإنه يستصحب ماله سواء جاء للتجارة
أو على قصد الفرار منهم. ولو جاء لا شئ معه هلك جوعا في دارنا
وإنما طلب الأمان لنفسه حتى يتمكن من الفرار في دارنا زمانا، فدخل ماله
في ذلك تبعا.



(1) في هامش ق " ولم يذكرهم. نسخة ".
(2) قوله " دون غيره " ساقط في ه‍، ق، ط.
345
إلا أن الامام يستحلفه لتنتفي تهمة الكذب بيمينه. ومن كذبه
من الرقاب (1) الذين معه كان فيئا (88 آ) وجميع ما معه.
لان الرق لم يثبت في حقه إذا كذبه، والتبعية في الأمان تبتنى على ذلك،
فكان هذا حرا حربيا في دارنا لا أمان له، فيكون فيئا مع ما معه.
509 - وإن قال: ليست الدواب دوابي، ولا الذين يسوقونها
بغلماني، ولكن المتاع استأجرتهم ليحمل ذلك معي (2). فصدقوه،
فالقياس أنهم فئ ودوابهم.
لأنه لم يستأمن لهم ولا استأمنوا لأنفسهم إشارة ولا دلالة
وفى الاستحسان هم آمنون مع دوابهم.
لان المستأمن لا يمكنه أن يأتي بالأمتعة إلى دارنا على ظهره ليتجر فيها،
ولكن من عادة التجار الكراء في مثل هذا. وثبوت الأمان لهم من جملة حوائجه.
ومما يتم به مقصوده فيتعدى حكم الأمان إليهم بهذا الطريق، كما يتعدى إلى
زوجته وولده ويصير كأنه استأمن لهم.
510 - وإن كان معه رجال فقال: هؤلاء أولادي. فهم فئ.
لانهم أصول قد خرجوا بالبلوغ من أن يكونوا تبعا له من حكم الأمان،
كما أنهم في حكم الذمة والاسلام لا يتبعونه. وكان ينبغي لهم أن يستأمنوا
لأنفسهم، فإذا لم يفعلوا كانوا فيئا.



(1) ه‍ " الرقاق " وفى هامش ق " الرقاق. نسخة ".
(2) ق، ه‍ " لحمل ذلك معي ".
346
511 - وإن كانوا صغارا يعبرون عن أنفسهم فقال: هم ولدى،
وصدقوه فهم آمنون.
لانهم أتباعه ما لم يبلغوا. ألا ترى أنهم يتبعونه في الذمة والاسلام وإن
كانوا يعبرون عن أنفسهم، فكذلك في الأمان.
وإن كذبوه فهم فئ للمسلمين.
لان نسبهم لا يثبت منه عند تكذيبهم إذا كانوا يعبرون عن أنفسهم،
وقد زعموا أنهم صاروا فيئا حين دخلوا بغير أمان. وقول من يعبر عن نفسه
في هذا مقبول، وإن كان صغير، كمجهول الحال إذا أقر على نفسه بالرق
لانسان وصدقة المقر له.
512 - وإن كان معه صغار لا يعبرون عن أنفسهم فقال: سرقتهم
من دار الحرب وأخرجتهم، أو هم أيتام كانوا في عيالي فأخرجتهم
معي، فهم له لا سبيل عليهم.
لان يده عليهم مستقرة إذا كانوا لا يعبرون عن أنفسهم. فيجب قبول
قوله فيهم. وقد زعم أنه استولى عليهم في دار الحرب بطريق السرقة، فهم
مماليكه واتباع له، أو أنهم في عياله اتباعه بسبب اتفاقه عليهم، وما كانوا
يجيئون إلى دارنا إلا معه، فهم بمنزلة أهله.
513 - ولو خرج بنساء قد بلغن فقال: هؤلاء بناتي. وصدقته
فهن فئ في القياس.
لان معنى التبعية يزول ببلوغهن حتى لا يصرن مسلمات بإسلامه،
فهن بمنزلة الذكور البالغين من أولاده.

347
وفى الاستحسان هن آمنات.
لأنهن في عياله ونفقته، ما لم يتحولن إلى بيوت الأزواج وبنى هذا
الحكم على الظاهر (88 ب). فالنساء لا يستأمن لأنفسهن عادة ولكن
يكن مع آبائهن أو أزواجهن، بخلاف الذكور من الأولاد. لان الذكور
بعد الادراك مقاتلة فلا يحصل الأمان لهم إلا بالاستئمان مقصودا. والنساء آمنات
عن القتل. وإنما حاجتهن إلى الأمان لدفع الاسترقاق عن أنفسهم، ويمكن
إثبات ذلك لهن بالاتباع لآبائهن في حكم الأمان.
514 - وعلى هذا الأمهات والجدات والأخوات والعمات
والخالات ومن جاء معه منهن فهن آمنات، تبعا له، بخلاف الآباء
والأجداد. فإنه لا يتبعه في الأمان أحد من المقاتلة إلا عبده وأجيره
استحسانا، لتحقق حاجته إلى استصحابهم مع نفسه، إما للتجارة فيهم،
أو لنقل أمتعة التجارة بهم.
وكل من كان آمنا بأمانه نعلم أنه كما قال إذا ادعى ذلك وصدقة
الآخر (1) فهو آمن، لتصادقه عليه قبل ثبوت حق المسلمين فيه. وإن
كذبه ثم صدقه كان فيئا.
لان بتكذيبه يثبت حق المسلمين فيه. فتصديقه بعد ذلك إبطال لحق
المسلمين، وهو مناقض في ذلك.
وإن صدقه ثم كذبه كان فيئا أيضا.
لاقراره على نفسه بثبوت حق الاسترقاق فيه، وذلك مقبول منه.



(1) ه‍ " الأجير ".
348
إلا رقيقه وأولاده الصغار الذين يعبرون عن أنفسهم.
أما رقيقة فلان ملكه تقرر فيهم بالتصديق، فلا يبقى لهم قول في إبطال
ملكه.
وأما أولاده فقد ثبت نسبهم بالتصديق وتأكدت حريتهم باعتبار أمانه،
ولا قول لهم بعد ذلك في الاقرار بالرق على أنفسهم، بمنزلة معروف النسب
وحر الأصل إذا أقر بالرق على نفسه، وهو صغير يعبر عن نفسه، فإنه
لا يقبل قوله.
أما ابنه وزوجته وأخته وعمته إذا كذبت بعد التصديق كانت فيئا،
لاقرارها بالرق على نفسها.
فان قيل: فقد ثبت نسب الابنة (1) منه حين صدقته.
قلنا: نعم. ولكن ليس من ضرورة ثبوت نسبها منه بطلان إقرارها
بالرق على نفسها. والبالغة مقبولة القول فيما يضرها، بخلاف الصغير الذي
يعبر عن نفسه، فإنه مقبول القول فيما ينفعه لا فيما يضره، ولا يمكن إثبات
الرق بإقراره ظهرت حريته بتصديقه.
فإن قيل: أليس أن هذا الصغير لو كان في يد رجل وهو مجهول الحال
فأقر بأنه عبده كان عبدا له؟
قلنا: نعم. ولكن لا باقراره بل بدعوى ذلك الرجل. إلا أن من يعبر
عن نفسه لم تكن يد الغير مستقرة عليه. فإذا ادعى أنه حر وجب الاخذ بقوله،
وحين قال: أنا عبد له فقد تقررت يد ذي اليد عليه. فيثبت الرق بدعوى
ذي اليد، وباعتبار يده، كما لو كان ممن لا يعبر عن نفسه. فأما أن يثبت الرق
بإقراره (89 آ) فلا. لان إقرار الصبى بما يتردد بين النفع والضرر لا يصح،
فكيف يصح إقراره بما يضره؟
515 - ولو أن المسلمين حاصروا حصنا فطلب إليهم رجل الأمان



(1) في هامش ق " نسب البنت. نسخة ".
349
على أن ينزل إليهم، فأعطوه ذلك، فخرج ومعه امرأته وولده الصغار
ورقيقه وماله فذلك كله فئ غيره.
لان هذا قد صار مقهورا خائفا على نفسه. وإنما يطلب الأمان لينجو
بنفسه. وفى تحصيل هذا المقصود لا حاجة إلى اتباع شئ من هؤلاء معه،
بخلاف الأول فإنه كان في داره غير خائف. وإنما استأمن إلى دارنا ليسكن
فيها، ويتجر، ولا يتم له هذا المقصود إلا باستصحاب هؤلاء.
والثاني أن حق المسلمين قد ثبت في جميع ما في الحصن هنا، فان المحصور
كالمأخوذ. فلهذا يتوقف حكم تصرفاته. فالحاجة إلى إبطال حق المسلمين
عنهم بعدما ثبت، وذلك بالنص، يكون لا بدلالة الحال. فأما الذي استأمن
إلى دارنا لم يثبت حق المسلمين فيمن استصحبهم معه، وإنما حاجتهم إلى منع
ثبوت حق الاسترقاق فيهم ودلالة الحال يكفي لذلك. ولكن هذا المحصور
إن خرج إلينا بسلاح كما يلبس الناس، راكبا على دابة، ومعه نقد بقدر نفقته
في حقويه (1) فذلك سالم له استحسانا، لأنه لا يمكنه أن يخرج عريانا.
ولو فعل ذلك أنكرنا ما عليه، ويحتاج إلى لبس السلاح أيضا ليرى أصحابه أنه
يخرج إلى القتال أو يدفع شرهم عن نفسه إن رموه بعدما خرج. وربما لا يمكنه
أن يمشى فيحتاج إلى أن يخرج راكبا على دابته، ويحتاج إلى نفقته أيضا لأنه
يعلم أنه لا يعطى شيئا (2) في عسكر المسلمين، فإنه يكفيه منهم أن ينجو رأسا
برأس، ولو لم يستصحب نفقته مات جوعا، فلا يحصل مقصوده. فباعتبار
هذا المعنى يصير هذا القدر مستثنى من جملة ما يستصحبه مع نفسه، فيسلم له،
كما أن الطعام والكسوة مما يشتريه كل واحد من المتفاوضين يصير مستثنى
عن مقتضى الشركة، لعلمنا بوقوع الحاجة إليه استحسانا.



(1) في هامش ق " الحقو بالفتح موضع شد الإزار، وهي الخاصرة. ثم توسعوا حتى سموا
الإزار الذي يشد على العورة حقوا. مصباح ".
(2) ه‍ " شئ ".
350
516 - ثم أوضح الفرق بين المحصور وبين الذي جاء مستأمنا إلى
دارنا فقال:
ألا ترى أن المحصور لو نادى بالأمان وانحظ إلى المسلمين من غير
أن يؤمنوه كان فيئا. والذي جاء إلى أدنى مسالح المسلمين إذا نادى
بالأمان ولم يقل المسلمون له شيئا كان آمنا.
فبهذا تبين أن الدلالة ها هنا تكفى وفى المحصور لا.
517 - ولو أن المسلمين (89 ب) أمنوا رجلا في الحصن ولم
يذكر خروجه (1) إليهم لأمر ينتفع به المسلمون من دلالة أو غيرها،
فهو آمن على نفسه وماله وأولاده الصغار.
لانهم أمنوه ليسكن في موضعه. وإنما يتأتى له السكنى بهذه الأشياء
فيتبعونه في الأمان بخلاف النازل من الحصن فإنه استأمن لينجو بنفسه.
518 - ولو تقدمت مسالح المسلمين إلى أهل الحرب أن من
استأمن منكم إلى دارنا أو إلى عسكرنا في تجارة فهو آمن وحده دون
ما يأتي به فعلموا بذلك، فمن جاء منهم بعد ذلك بسبي لم يبينه للمسلمين
فهو فئ كله لا يسلم له، إلا ما يسلم للمحصور الذي يخرج استحسانا
لانهم قد نبذوا إليهم الأمان فيما يأتون به. وإذا كان النبذ بعد الأمان
يرفع حكم الأمان فاقترانه يمنع ثبوت حكمه. ولانا إنما كنا نثبت الأمان له
فيما يأتي به طريق الدلالة، ولا دلالة مع التصريح بخلافه، ألا ترى أنهم



(1) ه‍، ق، " خروجا إليهم " وفى هامش ق " خروجه. نسخة ".
351
لو أعلموهم أنه لا أمان لمن جاء منهم بطلب الأمان، ثم جاءوا بعد ذلك لم يأمنوا،
إلا أن يعطيهم المسلمون الأمان. فعرفنا بأن حالهم بعد هذا النبذ كحال المحصور.
519 - ولو خرج مسلم من دار الحرب ومعه حربي ينادى
بالأمان، ومعهما مال، فهو في أيديهما أو على دابة ممسكين لها، فقال:
المسلم: هذا عبدي والمال والدابة لي. وقال المستأمن: كذب. بل
جئت مستأمنا والمال مالي. فإن كان الحربي مقهورا برباط أو غيره
فالقول قول المسلم.
لأنه صار عبدا له حين جاء به مقهورا. وليس للعبد يد معارضة ليد
مولاه في المال.
وإن كان غير مقهور فهو حر مستأمن.
لكون الظاهر شاهدا له. ثم يد كل واحد منهما في المال معارضة ليد
صاحبه، فيكون المال والدابة بينهما نصفين.
520 - وإن كان أحدهما راكبا عليها والآخر ممسكا بلجامها فاليد
للراكب دون الممسك باللجام أيهما كان.
لان المركوب نفع للراكب وما على الدابة فهو في يد من في يده الدابة.
521 - وكذلك إن كان ثوبا وأحدهما لابسه والآخر ممسك به،
فالثوب للابس دون الممسك به.
فهو أحق به.

352
522 - وكذلك اليد للراكب دون السائق والقايد للدابة.
فإذا كان المال في يد أحدهما فالقول فيه قول دون صاحبه.
وإن كان أحدهما يقود الدابة والآخر يسوقها فالدابة والمال للقايد.
لأنه ممسك بلجام الدابة فهي وما عليها في يده دون السايق.
523 - فإن كانا خرجا إلى معسكرنا (1) في دار الحرب فقال
المستأمن: هو مالي، وقال المسلم: هو مالي وهبه لي أهل الحرب
أو اغتصبته منهم، وقد كان المسلم أسيرا فيهم، فإن المال في أيديهما
فنصفه للمستأمن باعتبار يده (90 آ) ونصفه فئ لجماعة العسكر.
لان هذا النصف في يد الأسير، وقد أحرزه بمنعة الجيش، فهو فيما يدعى
من الهبة يريد إبطال حق جيش المسلمين في المشاركة معه.
524 - ولا يصدق على ذلك إلا بينة من المسلمين، فإن أقام بينة
من أهل الذمة أو من المستأمنين على ما ادعى، قضى له على المستأمن
بجميع المال.
لان ما أقام من البينة حجة على المستأمن.
وذلك المال يكون كله فيئا لجماعة العسكر وهو فيهم.
لان ما أقام من البينة ليس بحجة في إبطال حق المسلمين فلا يثبت
ما ادعى من الهبة والصدقة في حق المسلمين.



(1) ه‍، ق " عسكرنا " وفى الهامش " معسكرنا. نسخة ".
م - 23 السير الكبير
353
وإن شهد له بذلك قوم من المسلمين فالمال سالم له.
لأنه أثبت ما ادعى بما هو حجة على المسلمين فيجعل كالثابت معاينة.
525 - وإن كان المال في يد المستأمنين خاصة وشهد المسلمون
أنه كان للأسير تصدق به عليه، وأنه أودعه هذا المستأمن، فإن شهدوا
أنه أودعه إياه في منعة أهل الاسلام رد المال عليه.
لان الثابت بالبينة كالثابت معاينة.
وإن شهدوا أنه أودعه إياه في منعة أهل الحرب لم يقض على
المستأمن بشئ من ذلك.
لان هذا سبب كان بينهما بالتراضي في دار الحرب، فالمستأمن من لم يلزم
أحكامنا وإنما أراد أن يتجر عندنا ثم يرجع إلى داره، فلا يسمع القاضي
الخصومة عليه فيما كان جرى بينهما في دار الحرب (1). ألا ترى أن مسلما
ومستأمنا لو دخلا دار الاسلام فادعى أحدهما على صاحبه أنه أدانه دينا في
دار الحرب أو أودعه وديعة وأقام بينة مسلمين على ذلك لم يقض القاضي
بينهما بشئ، إلا أن يسلم المستأمن أو يصير ذميا، فحينئذ يسمع خصومة
كل واحد منهم على صاحبه، لأنه صار من أهل دارنا ملتزما لأحكامنا.
526 - وكذلك لو أن مستأمنين في دارنا ادعى أحدهما على
صاحبه دينا أو وديعة، فإن كانت المعاملة بينهما في دارنا تسمع الخصومة
لأنه مأمور بالانصاف والنظر بينهما مدة مقامهما في دارنا.



(1) ق " فيما كان يجرى في دار الحرب ". وفى هامش " جرى بينهما. نسخة. "
354
527 - وإن كان المعاملة في دار الحرب، لم تسمع الخصومة.
في ذلك، إلا أن يسلما أو يصيرا ذمة. وبعد ذلك إن ادعى أحدهما
على صاحبه أنه غصبه شيئا في دار الحرب لم تسمع هذه الخصومة أيضا.
لأنها دار نهبة. فكل من استولى على شئ ثم أسلم عليه أو صار ذميا
كان سالما له، بخلاف الدين والوديعة، فان ذلك كانت معاملة جرت بينهما
بالتراضي. فتسمع الخصومة فيهما بعد ما صار من أهل دارنا.
528 - وكذلك المسلم والمستأمن إذا خرجا وقد غصب أحدهما
صاحبه شيئا قائما بعينه، ثم أسلم المستأمن، لم يسمع القاضي الخصومة
في ذلك.
لان المسلم إن كان (90 ب) هو الغاصب فقد استولى على مال مباح.
والحربي إن كان هو الغاصب فقد تم إحرازه له بخلاف الدين والوديعة. فان
الاستيلاء والاحراز فيه لا يتحقق فتسمع الخصومة فيه لهذا.
529 - ولو خرج المستأمن وفى أيديهما بغل عليه مال كل واحد
منهما يقول: مالي وفى يدي. فقامت لأحدهما بينة من المسلمين،
قضى القاضي به له.
لأنه نور دعواه بالحجة. وتبين بهذه المسألة خطأ بعض مشايخنا فيما قال:
إن كل واحد من المتداعيين إذا قال ملكي وفى يدي لا يسمع القاضي هذه
الخصومة ويقول: إذا كان ملكك في يدك فماذا تطلب منى؟ فقد نص هنا
على قبول البينة من أحدهما. ووجهه أنه محتاج إليها لدفع منازعة الآخر. والبينة
لهذا المقصود مقبولة. وهو يقول للقاضي: أطلب منك أن تمنعه من مزاحمتي
وتقرره في يدي.

355
فإن قيل: لماذا لم يجعل هذا بمنزلة ما لو كان في يد أحدهما؟ فإن هناك
لا تسمع الخصومة فيه، وهنا في يد كل واحد منهما نصفه. فينبغي أن لا تسمع
الخصومة بينهما فيه ما لم يصر المستأمن من أهل دارنا.
قلنا: في هذا الموضع يدعى كل واحد منهما أنه في دار الاسلام
أو في عسكر المسلمين، فلا بد من أن يسمع الخصومة فيه بينهما، بمنزلة
ما لو ادعى أحدهما على صاحبه أنه أخذه منه في دار (1) الاسلام. فإن شهدت
الشهود أن الغاصب وثب في منعة أهل الحرب حتى تعلق بالبغل مع صاحبه
قبل أن يستأمنا، فإنه يسمع هذه الخصومة أيضا ويقضى به لصاحبه. لأنه
لم يخرج من يد صاحبه ولم يحرزه غاصبه ما دامت يد صاحب معارضة ليده،
بخلاف ما إذا أخرجه من يد صاحبه في منعة أهل الحرب لان هناك قد تم زوال
يد صاحبه.
وق تم الاحراز من الغاصب له. فلهذا لا يقضى للمغصوب منه عليه
بشئ وإن أسلما.
530 - وإن قال المسلم الذي كان أسيرا في دارهم: هذا البغل
وهذا المال كان لهذا المستأمن، أخذته منه في الدار الحرب أو بعد
ما خرجنا. وقال المستأمن: البغل وما عليه لي وهذا كاذب. والبغل
في أيديهما، ففي القياس نصفه للمستأمن باعتبار يده، ونصفه فئ لأهل
العسكر إذا أخرجه إليهم.
لان الأسير بإقراره يريد إبطال حق أهل العسكر بعد ما ثبت حقهم.
وهو غير مقبول القول في حقهم.
وفى الاستحسان يكون ذلك كله للمستأمن.



(1) ساقطة في " ه‍ ".
356
لان حق أهل العسكر إنما يثبت باعتبار يد الأسير، ولابد من قبول
قول الأسير في بيان جهة ثبوت يده على هذا المال. وقد ثبت بقوله: إن
أصل المال كان للمستأمن. فما بقيت يده لا تتقرر يد الأسير عليه، فلا يكون
محرزا له، فلهذا كان للمستأمن. سواء خرجا إلى المعسكر أو إلى دار الاسلام.
531 - ولو كان ذلك في يد الأسير خاصة والمسألة بحالها، فإن
صدقه المستأمن أنه أخذه منه في دار الحرب فلا سبيل للمستأمن عليه.
لأنه قد تم استيلاء المسلم عليه حين انقطع يد المستأمن عنه.
فإن أخرجه إلى المعسكر فهو فئ لجماعتهم.
وإن أخرجه إلى دار الاسلام فهو له خاصة.
بمنزلة ما يخرجه المتلصص ولا خمس فيه.
532 - وإن قال المستأمن إنما أخذه منى في منعة المسلمين فالقول
قول المستأمن.
لأنهما تصادقا أن أصل الملك كان للمستأمن. وبأمانه صار ملكه مغصوبا
محترما. فالأسير يدعى سبب تملك ماله عليه، وهو منكر، فالقول قوله مع
يمينه بالله. ولان أخذه من المستأمن حادث، فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات،
وهو ما بعد حصولهما في دار الاسلام. كمن (1) ادعى تاريخا سابقا في الإخاء
لا يقبل قوله من غير حجة. والله سبحانه هو الموفق.



(1) ق " من ".
357
49 [باب ما يكون أمانا ومالا يكون]
533 - وإذا حاصر المسلمون حصنا في دار الحرب فناداهم رجل
من المسلمين فقال: أنتم آمنون. وكان نداؤه إياهم في موضع لا يسمعون
ذلك فليس هذا بأمان.
لان المقصود من الكلام إسماع المخاطب. فإذا علم أنهم لا يسمعون
كلامه كان لاغيا في كلامه (1) لا معطيا الأمان لهم. ولو كان هذا أمانا لكان
الواحد من المسلمين في هذه البلدة يؤمن الروم والترك والهند فلا يسع للمسلمين
قتالهم حتى ينبذوا إليهم، فكل أحد يعرف أن هذا ليس بشئ.
فان قيل: في الأمان إسقاط الحد (2)، أو تحريم القتل والاسترقاق،
وهذا يتم بالمتكلم به وحده، بمنزلة الطلاق والعتاق.
قلنا: لا كذلك، بل فيه إثبات صفة الامن لهم بكلام. ألا ترى أنهم
لو ردوا أمانه لم يثبت الأمان. ولا يكون إثبات صفة الامن لهم بكلامه في
موضع يعلم أنهم لا يسمعونه.
534 - ولو ناداهم بالأمان بحيث يسمعون الكلام وهو النداء (3)،
إلا أن العلم قد أحاط أنهم لم يسمعوا، بأن كانوا نياما أو متشاغلين
بالحرب، كان ذلك أمانا، حتى لا يحل قتالهم إلا بعد النبذ إليهم.



(1) ق " في الكلام ".
(2) ه‍، ق " الحق ".
(3) ه‍ " بحيث يسمعون النداء ".
358
لان حقيقة سماعهم باطن يتعذر الوقوف عليه، وفى مثله إنما يتعلق الحكم
بالسبب الظاهر الدال عليه وهو أن يكون منه (1) بحيث يسمعون نداءه.
وإذا قام السبب الظاهر مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجودا وعدما،
وهذا لان التحرز عن الغرور واجب (92 ب). ومعنى الغرور يتمكن
إذا كان المنادى منهم بحيث يسمعون نداءه، ولا يتحقق ذلك إذا كان المنادى
منهم بحيث لا يسمعون نداءه.
535 - قال: ألا ترى أنك لو انتهيت إلى رجل منهم نائما
على فراشه فناديته بالأمان وأنت قريب منه بحيث يسمع كلامك فلم
يسمع ذلك لنومه أو لصمم كان به فإنه يكون ذلك أمانا؟
وهذا على أصل أبي حنيفة أظهر، لأنه يجعل النائم كالمنتبه على ما قال
في مسألة الخلوة والصيد الذي يقع عند النائم.
وقال في كتاب الايمان:
إذا حلف لا يكلم فلانا فناداه أو أيقظه فهو حانث في يمينه.
وفى بعض النسخ: فناداه وأيقظه.
وبهذه المسألة تبين أنه سواء أيقظه أو لم يوقظه إذا ناداه وهو منه بحيث
يسمع كلامه فإنه يكون متكلما له.
536 - ولو كتب كتابا فيه أمان ورمى به إليهم فنزلوا على ذلك
كانوا آمنين.



(1) ق " منهم " وفى الهامش " منه. نسخة "
359
لان الكتاب أحد اللسانين (1). فان البيان بالبيان كهو باللسان (2).
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ الرسالة ثم كتب إلى
الآفاق وكان ذلك تبليغا منه، ولأنهم لما وقفوا على ما في الكتاب نزلوا على
ذلك، فلو لم يجعل ذلك أمانا لأدى إلى الغرور. وقد بينا فيه حديث عمر رضي الله عنه
.
537 - وإن وجدوا كتابا فيه أمان لم يرم به إليهم أحد فليس
هذا بأمان.
لان الكتاب جماد لا يتصور منه الأمان. وإنما يكون من الكاتب، وهو
غير معلوم. والأمان من المجهول لا يتحقق. ثم لعل الكتاب مفتعل، أو كتبه
بعض من لا يصح أمانه من أهل الذمة. فلهذا لا يثبت الأمان لهم حتى يعلم
أن الرامي به مسلم بينة تقوم من المسلمين على ذلك، لان حق المسلمين قد ثبت
في استرقاقهم، وهذه البينة تقوم لابطال حقهم.
538 - فإن قال مسلم: أنا رميت به إليهم. فإن كان قال ذلك
قبل أن يظفر بهم المسلمون، فهو مصدق.
لأنه أخبر بما يملك إنشاءه ولا تتمكن التهمة في خبره. ولان حق المسلمين
لم يتقرر فيهم بعد، فيكون تأثير كلامه في منع ثبوت حق المسلمين فيهم،
والواحد من المسلمين يملك ذلك.
539 - وإن قال ذلك بعد ما أعطى القوم بأيديهم لم يصدق
على ذلك، حتى يشهد الشاهدان من المسلمين سواه أنه رمى إليهم.



(1) ق، ه‍ " البيانين ".
(2) ه‍، ق " فإن البيان بالكتابة كهو باللسان " وهو أصح ".
360
لأنه أخبر بما لا يملك إنشاءه، وقصد بإخباره إبطال حق ثابت للمسلمين
فيهم، فلا يقبل قوله على ذلك ولا شهادته. لأنه شهد على فعل نفسه وذلك
دعوى لا شهادة.
540 - فإن شهد سواه مسلمان، يثبت الأمان لهم، وردوا حتى
يبلغوا مأمنهم.
وإن لم يقم بينة فقسموا ووقع بعضهم في سهم المقر، كان حرا
لاقراره بحريته، (92 آ) وكونه آمنا، وإقراره على نفسه في ملكه
صحيح، إلا أنه لا يترك ليرجع إلى دار الحرب.
لان احتباسه في دارنا على التأييد من حق المسلمين وإقراره عليهم غير
مقبول.
فيجعل ذميا إن أبى أن يسلم.
لان من احتبس في دارنا على التأييد يضرب عليه الجزية، بمنزلة الذمي
على ما يأتيك بيانه.
541 - وكذلك لو رأى الامام بيعهم فاشتروا المقر بالأمان
فعليه الثمن.
لانهم في الظاهر أرقاء. ثم يكونون أحرارا في يديه، بمنزلة من اشترى
عبدا قد أقر بحريته، ولا يمكنون من الرجوع إلى دار الحرب لما بينا.
542 - ولو أن مسلما قال للمحصورين: إن الأمير قد أمنكم
وهو كاذب في مقالته ففتحوا حصنهم كانوا آمنين.

361
لأنه أخبرهم بأمان صحيح وهو يملك إنشاء مثله، فيكون إخباره به
إظهار الأمان السابق إن كان، وإنشاء إن لم يكن سبق الأمان، بمنزلة قضاء
القاضي في العقود على أصل أبي حنيفة. ثم مقتضى كلامه أنتم آمنون بأمان
الأمير فافتحوا الباب.
543 - ولو صرح بهذا كانوا آمنين بأمانه. فكذلك إذا ثبت
بمقتضى كلامه. وإن كان المخبر بذلك لهم ذميا أو مستأمنا كانوا فيئا.
لان المخبر به إذا كان كذبا فبالأخبار لا يصير صدقا، ولا يمكن أن
يجعل هذا أمانا من جهته، بمقتضى كلامه، لأنه لا يملك إنشاء الأمان.
544 - وإن كان الأمير قال. أمنتهم، في مجلسه، فلم يبلغهم ذلك
حتى نهاهم الأمير أن يبلغوهم، فذهب رجل سمع ذلك من الأمير فأبلغهم
إياه، فإن كان الذي قال لهم ذلك مسلم فهم آمنون.
لأنه لو كان كاذبا في أصل الخبر كانوا آمنين من جهته كما بينا. فإذا كان
صادقا في أصل الخبر إلا أنه أخبر به بعد نهى الأمير أولى أن يكونوا آمنين.
545 - فإن أبلغهم ذمي ذلك، فإن كان سمع مقالة الأمير الأولى
ولم يسمع مقالته الثانية فالقول آمنون.
لان قول الإمام ذلك في مجلسه أمر لكل سامع بالتبيلغ إليهم دلالة،
والثابت بالدلالة كالثابت بالافصاح بعد ثبوت ولاية التبليغ للسامع لا ينعزل
ما لم يبلغه النهى، بمنزلة عزل الوكيل، والحجر على العبد المأذون، لا يثبت (1)
في حقه ما لم يعلم به، فكان هذا مبلغا أمان الامام إليهم بأمره. وعبارة الرسول
في مثل هذا كعبارة المرسل.



(1) ه‍ " ولا يثبت ".
362
وإن كان سمع المقالتين جميعا والمسألة بحالها فهم فئ.
لأنه حين بلغه النهى صار معزولا عن التبليغ وارتفع حكم ذلك الامر
في حقه.
وهذا لان النهى بمنزلة النبذ لذلك الأمان. إلا أنه إن كان بعد
وصول الأمان إليهم لا يثبت النبذ في حقهم ما لم يعلموا به. فإن كان
قبل الوصول إليهم يثبت حكمه قبل علمهم به.
ألا ترى أن من أذن (92 ب) لعبده في أهل سوقة، ثم حجر عليه
في بيته، لا ينحجر ما لم يعلم به أهل سوقه. ولو أذن له في بيته ثم حجر عليه
قبل أن يعلم أهل سوقه بالاذن كان ذلك حجرا.
546 - ولو قال الأمير لذمي: اذهب فأخبرهم أنى قد أمنتهم،
ثم قال له: ارجع ولا تخبرهم. أو كان كاتبه ذميا فقال: اكتب إليهم
بأمانهم. فأعلمهم، ثم قال: لا تكتب. فكتب إليهم بعد ذلك،
فنزلوا، كانوا فيئا، ولو لم ينه الرسول والكاتب عن ذلك أو نهاه ولم
يسمع حتى كتب إليهم أو بلغهم فنزلوا، كانوا آمنين.
والفقه في الكل التحرز عن صورة الغرور وحقيقته.
547 - ولو أن مسلما قال لأهل الحصن: إن هذا الرجل قد أمنكم،
وأشار إلى شخص معه، فنزلوا، فإذا المحكي عنه ذمي أو مستأمن
فهم فئ، صدق عليه أو كذب.

363
لأنه أخبرهم بأمان باطل فلا يصير به معطيا أمانا صحيحا لهم وهو لم يغرهم
في شئ. ولكنهم اغتروا بأنفسهم حين لم يفحصوا عن حال المحكى عنه
بعد ما عينه لهم منه، أو من الحاكي، أو من غيرهما.
548 - وإن أشار لهم إلى مسلم أو مسلمة كانوا آمنين صدق
في ذلك أو كذب.
لأنه أخبرهم بأمان صحيح فيكون معطيا الأمان لهم حين أضافه إلى من
يصح أمانه.
549 - ولو أن ذميا قال لهم ذلك حكاية عن مسلم، فإن علم أنه
صادق كانوا آمنين، وإن علم أنه كاذب أو لم يعلم أصادق هو أم كاذب
كانوا فيئا.
لأنه لا يملك إعطاء الأمان بنفسه، فهم إذا اعتمدوا خبر من لا يملك
الأمان بنفسه كانوا مغترين لا مغرورين.
550 - وإن قال المحكى عنه صدق فيما قال. فإن كان قال ذلك
في حال بقاء منعتهم ثم نزلوا بعد ذلك فهم آمنون.
لأنه صدق المخبر في حال تملك إنشاء الأمان لهم فلا يكون متهما في
التصديق.
551 - وإن كان قال لهم بعد ما صاروا في أيدينا غير ممتنعين،
لم يصدق على ذلك.
لأنه متهم في هذا التصديق. فقد صار بحال لا يملك إنشاء الأمان لهم،
ولأنه قصد بهذا التصديق إبطال حق ثابت للمسلمين في استرقاقهم.

364
إلا أنه إذا قسمهم الامام فوقع بعضهم في سهم المقر أو فيما
رضخ (1) به الذمي عتق عليهما.
552 - وكذلك إن باعهم الامام فاشتراهم الذمي المخبر أو المسلم
المصدق له، عتقوا جميعا لتصادقهما، على أنهم أحرار آمنون. وذلك
عامل في حق من صار ملكا لهما منهم، ولكن لا يمكنون من
الرجوع إلى دار الحرب.
لان احتباسهم في دارنا من حق المسلمين حين قسمهم الامام إذا باعهم،
وهما لا يصدقان فيما يرجع إلى حق المسلمين. وبالله العون.



(1) في هامش ق " رضخ له إذا أعطاه شيئا قليلا رضخا. واسم ذلك القليل رضيخة ورضخة
ورضخ أيضا. ومنه قوله: إما سهما أو رضخا أي نصيبا وافيا أو شيئا يسيرا. مغرب ".
365
50 [باب الحربي يدخل الحرم غير مستأمن (93 آ)]
553 - وإذا دخل الحربي الذي لا أمان له الحرم فإنه لا يهاج (1)
له بقتل ولا أسر (2).
وهذا أصل علمائنا أن من كان مباح الدم خارج الحرم يستفيد الامن
بدخول الحرم.
قال الله تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا} (3).
وقال عز من قائل: {ومن دخله كان آمنا} (4).
وقال عليه السلام في خطبة يوم الفتح: " إنها لم تحل لأحد قبلي
ولا تحل لأحد بعدي. ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ثم هي حرام إلى
يوم القيامة ".
وإنما قال ذلك لأنه قتل منهم أناسا وهم غير مقاتلين له في تلك الحالة،
ولو كانوا مقاتلين له لم تظهر فائدة تخصيصه بما قال، لان من استحل الحرم
يستحل منه على ما بينه.



(1) في هامش ق " هاجه فهاج أي هيجه وأثاره فثار. وبعثه فانبعث. يتعدى ولا يتعدى
مغرب ".
(2) ه‍ " بالقتل والأسر ".
(3) سورة العنكبوت، 29، الآية 67.
(4) سورة آل عمران، 3، الآية 97.
366
قال ابن عمر رضي الله عنهما: لو وجدت قاتل عمر في الحرم
ما هجته (1).
وقال ابن عباس مثل ذلك. ولم يقل أبوه.
ولكن إنما قال ذلك على سبيل المبالغة في النهى عن قتل أحد في الحرم
ابتداء، وكما لا يقتل لا يؤسر لان فيه إتلافه حكما فالحرمة حياة والرق تلف،
وحكم الحرمة تمنع من ذلك. ألا ترى أن الصيد كما لا يقتل في الحرم لا يتملك
الاخذ.
554 - فإن أسلم قبل أن يخرج فهو حر لا سبيل عليه.
لأنه كان آمنا حرا ما دام في الحرم. وقد تأكدت حريته بالاسلام.
وإن سألنا أن يكون ذمة لنا فإن شئنا أعطيناه ذلك وإن شئنا
لم نعطه.
لأنه مأخوذ مشرف على الهلاك. فالظاهر أنه لا يطلب عقد الذمة ملتزما
لأحكامنا اختيارا بل اضطرارا، ليتمكن به من الفرار. فالرأي إلى الامام.
في إعطاء الذمة له، بمنزلة المأسور قبل ضرب الرق عليه إذا طلب أن يكون ذمة.
555 - وإن أبى أن يسلم وجعل يتردد في الحرم فإنه لا يجالس
ولا يطعم ولا يبايع حتى يضطر ويخرج.
لأنه بسبب الامن الثابت بالحرم يتعذر علينا التعرض له بالإساءة،
ولا يلزمنا الاحسان إليه. فان منع الاحسان لا يكون إساءة، فلهذا لا يجب
قبول الذمة منه إن طلب، لان ذلك إحسان إليه.



(1) في هامش ق " وهاج الشئ يهيج هيجا واهتاج أي ثار. وهاجه غيره. ومنه حديث
الملاعنة. رأى معه امرأته رجلا فلم يهجه، أي لم يزعجه ولم ينظره. نهاية ".
367
إلا أنه لا يمنع منه الكلاء وماء العامة.
لان ذلك حقه. فقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شركة
عامة (1) بين الناس في قوله: " الناس شركاء في ثلاث: الكلاء والماء والنار "
وفى منع حقه منه إساءة إليه وهو معنى قوله:
ولو كان لك أن تمنعه الماء كان لك أن تقتله.
556 - فإن قال الأمير: إني لا آسره ولكن أحبسه، لم يكن له
ذلك أيضا.
لان في الحبس معنى العقوبة.
وكذلك لو قال: أخرجه من الحرم، لم يكن له ذلك.
لان الامن الثابت بسبب الحرم يحرم التعرض له بالحبس والاخراج
كما في حق الصيد.
557 - ولو كانوا جماعة دخلوا الحرم للقتال فلا بأس للمسلمين
(93 ب) أن يقتلوهم لقوله تعالى {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام
حتى يقاتلوكم فيه} (2) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الحرم كله
المسجد الحرام.
أي كالمسجد الحرام في هذا الحكم، ولان حرمة الحرم لا يلزمنا بحمل
الأذى عنهم، كما لا يلزمنا تحمل الأذى عن الصيد حتى أن الضبع إذا صال
على إنسان في الحرم جاز قتله دفعا لأذاه.



(1) ساقطة من ه‍.
(2) سورة البقرة، 2، الآية 19.
368
558 - فإن حمل عليهم المسلمون فانهزموا فأخذوا منهم الأسرى
فلا بأس بأن يقتلوهم.
لانهم لم يراعوا حرمة الحرم. فيكون الحرم في حقهم بمنزلة الحل ابتداء
وانتهاء.
بخلاف الصيد فإنه بعد الصيال إذا هرب لم يحل قتله.
لان الصيد غير عاقل، وإنما عاقل، وإنما يباح دفع أذاه عند قصده حسا، وقد
رفع ذلك بهربه.
فأما الآدمي فعاقل يجوز دفع أذاه بقتله زجرا.
ولهذا شرع القصاص لمعنى الحياة. فكما يجوز قتالهم في الابتداء إذا
قصدوا دفعا لأذاهم وزجرا لهم عن هتك حرمة الحرام، فكذلك يجوز قتلهم
بعد الانهزام والأسر لمعنى الزجر عن هتك حرمة الحرم بطريق الاعتبار.
559 - وكذلك لو دخلوا الحرم مقاتلين ومعهم عيالاتهم،
فهزموا وأخذت عيالاتهم فلا بأس بأن يؤسروا.
لانهم أتباع المقاتلة، وحين التحق الحرم بالحل في حق الأصول لهتكهم
حرمة الحرم فكذلك في حق الاتباع فإن ثبوت الحكم في حق التبع بثبوته
في الأصل.
560 - ولو كانوا قاتلوا في غير الحرم فقتلوا جماعة من المسلمين ثم
انهزموا بعيالاتهم حتى أدخلوهم الحرم فحصلوا في الحرم منهزمين لا فئة
لهم، لم يحل أن يعرض لهم ولا لعيالاتهم.
م - 24 السير الكبير

369
لانهم التجأوا إلى الحرم معظمين لها وكانوا آمنين فيها بخلاف الأول
فإنهم دخلوا الحرم هاتكين حرمتها بالقصد إلى قتال المسلمين فيها.
561 - ولو كانت فئتهم تجمعت بالحرم وصارت لهم منعة فهرب
هؤلاء بعيالاتهم إلى فئتهم في الحرم فلا بأس بقتلهم وأسرهم.
لان الملتجئ إلى فئة يكون محاربا ولا يكون تاركا للحرب.
ألا ترى أن المنهزم من أهل البغي تبع فيقتل، إذ بقيت لهم فئة،
فكذلك في هذا الموضع.
562 - وجميع ما ذكرنا في أهل الحرب هو الحكم في الخوارج
وأهل البغي. إلا أنه لا تسبى ذراريهم ولا نساؤهم.
لانهم مسلمون من أهل دارنا، ولتأكد حريتهم بالاسلام كانوا آمنين
من السبي.
فأما فيما سوى ذلك مما يحل فيه قتلهم ويحرم فهم كأهل الحرب.
والله الموفق.

370
المقدمة
تتضمن هذه المقدمة ثلاثة أقسام:
1 - الشيباني: مصادر ترجمته، ترجمة موجزة له، مؤلفاته، شأن السير الكبير في الشرق والمغرب
2 - السرخسي: مصادر ترجمته، ترجمة موجزة له، شرحه السير الكبير، قيمة هذا الشرح.
3 - مخطوطات شرح السير الكبير، ما اعتمدنا عليه منها في هذه النشرة، وصف المخطوطات،
نهج التحقيق.

371
محمد بن الحسن الشيباني
مصادر ترجمة الشيباني
المصادر القديمة
هجرية
ابن سعد (230): الطبقات الكبرى vii، القسم الثاني ص 78
الخطيب البغدادي (463): تاريخ بغداد، 2: 172 - 182
ابن عبد البر (463): الانتقاء ص 24
الشيرازي (476): طبقات الفقهاء، ص 114
ابن عساكر (571): تاريخ مدينة دمشق (ترجمة الحسن بن فرقد)
ابن خلكان (- 681): وفيات الأعيان، 1: 574
الذهبي (- 748): تاريخ الاسلام (مخطوطة أيام صوفيا)
الذهبي جزء في ترجمته طبع مع مناقب أبي حنيفة
الصفدي (764): الوافي بالوفيات، 2: 332
القرشي (775): الجواهر المضية في طبقات الحنفية، 2: 42
ابن قطلوبغا (- 879): تاج التراجم في طبقات الحنفية ص 40
حاجي خليفة (- 1067): كشف الظنون 2: 1014
التميمي الغزي (- 1099): الطبقات السنية في طبقات الحنفية. (مخطوطة
التيمورية 540 تاريخ، ج 3 ص 288)
اللكنوي (- 1304): الفوائد البهية في طبقات الحنفية، ص 72

372
المصادر الحديثة
الكوثري، محمد زاهد (- 1371 ه‍): بلوغ الأماني في سيرة الإمام محمد
ابن الحسن الشيباني. وفيه ترجمة جيدة جمعت جل ما قيل عن الشيباني، وأفدنا منها
شخت: ثلاث محاضرات في تاريخ الفقه الاسلامي ظهرت في كتابنا: المنتقى
من دراسات المستشرقين،، ص 105 - 106
المصادر الأجنبية
. une histoire du Droit Musulman ' Esquisse d, Schacht
GAL, Brockelmann
Paris 1952
. The Origins of Mohammaden Jurisprusenc, Schacht
Oxford 1950
Aus den Bidliotheren von Konstantonopel und, Schaht
1931 - Berlin 1928, vol Kairo 3 فيه فهرس لمؤلفات الشيباني الموجودة في استامبول.
Lahore 1954. Muslim Conduct of state, Hamidullah

373
" 1. "
كان الحسن بن فرقد جزريا، من ديار بيعة، في شمال الشام، صار
في جند الشام أيام الأمويين وسكن حرستا في غوطة دمشق، وأوتي بسطة في
الغنى. ثم انتقل إلى واسط، فولد له فيها ابنه محمد سنة 132 ه‍، وكانت الدولة
الأموية قد زالت، وبدأ أمر العباسيين.
وانتقل محمد إلى الكوفة فنشأ بها. كانت الكوفة يومئذ مركزا من مراكز
الفقه واللغة والنحو، كما كانت البصرة مركز الأدب واللغة والنحو. وكانت ملتقى
كبار الفقهاء واللغويين والنحاة، كأبي حنيفة وأبى يوسف والثوري والكسائي
والفراء وسلمة وثعلب. فأثرت هذه البيئة في تكوين ثقافة محمد بن الحسن، وجعلته
ينصرف إلى اللغة والشعر وإلى الفقه والحديث، وساعده على ذلك أن أباه خلف
له - إذ توفى - ثلاثين ألفا، أنفقها على ذلك. وقد اتصل بشيوخ كثيرين أخذ
عنهم. فلازم أبا حنيفة أربع سنوات فلما توفى سنة 150 ه‍ أتم الفقه على أبى يوسف.
ثم أخذ يرحل إلى الكبار، فرحل إلى الأوزاعي عالم أهل الشام، وسفيان
ابن عيينة في مكة، وعبد الله بن المبارك في خراسان. هذا إلى كثيرين أخذ عنهم
في البصرة. على أن أهم رحلاته كانت إلى مالك في المدينة. فقد لازمه هناك
ثلاث سنوات، وسمع منه الموطأ مرات. فجمع بذلك طريقة أهل الاستنباط
في الكوفة وهم أهل الرأي، إلى طريقة مالك وطريقة الأوزاعي. فلما عاد شهر
علمه فأقبل عليه الطلبة من كل مكان. وقصده كثيرون من بلدان بعيدة. وهناك
اثنان كانا من أكثر من قصدة شأنا. الأول أسد بن فرات فاتح صقلية، فقد كان
رأى مالكا وسمع موطأه، ثم جاء إلى محمد بن الحسن يسمع الموطأ منه أيضا،

374
فلما عاد إلى أفريقية نشر مذهب أبي حنيفة، بتأثير محمد بن الحسن، في أفريقية
والمغرب، وعلى ضوء كتبه أتم تدوين الأسدية التي هل أصل مدونة سحنون.
والثاني كان الشافعي. فقد قصد إليه ولازمه واستنسخ مصنفاته، وأغدق
محمد بن الحسن عليه من علمه ومن ماله. ثم عاد إلى مصر وأخرج مذهبه.
وهذا الاثنان كان يفرد لهما مجالس خاصة يأخذان بها عنه.
وثمة آخرون لهم شأن كأبي حفص الكبير، الذي أخذ عنه البخاري فقه
أهل الرأي، وأبى سليمان الجوزجاني التي انتشرت به الكتب الستة، وأبى عبيد
القاسم بن سلام، ويحيى بن أكثم، وإسماعيل بن توبة، وغيرهم.
وقد أتيح لمحمد بن الحسن أن يتصل بالخليفة الرشيد، فولاه قضاء الرقة،
ثم عزله بعد فتياه في مسألة أمان الطالبي، وتعرض لغضب الرشيد وفتشت كتبه
خوفا من أن يكونا فيها شئ مما يحض الطالبين على الخروج، ثم أصلحت بينهما
زبيدة فعاد إلى مكانه عنده. وقد ولى قضاء القضاة قبل وفاته بمدة بعد أبي
يوسف.
وكذلك سهم فيما ثار في عصره من مشكلات. فأبدى رأيه في خلق القرآن،
والتجسيم، وتفضيل الخلفاء الأربعة وغير ذلك.
حتى إذا كانت سنة 189 خرج الرشيد إلى الري، ومعه محمد بن الحسن
والكسائي. فمات محمد بن الحسن هناك وقد قارب الستين من عمره. ومات
الكسائي أيضا. فيقال إن الرشيد قال: دفن الفقه واللغة في يوم واحد.

375
" 2 "
ظهرت ثقافة الشيباني كل الظهور في مؤلفاته. فقد انعكست فيها براعته في
العربية، وفهمه أسرارها، وعلمه الكبير في الفقه. ويظهر شأن محمد بن الحسن في الفقه
في ناحيتين: الأولى أنه أكبر أصحاب أبي حنيفة الذين أثروا في نشر هذا المذهب
بكثرة تواليفه. فقد كان من أكثر فقهاء القرن الثاني إنتاجا. والثانية إنتاجا، وفى آرائه أصالة
قد تجعله ذا مذهب خاص. وظلت كتبه متداولة معتمدة بين الناس والثانية أن
الكتب التي ألفت في الفقه كالمدونة والأسدية والام والحجة، قد تأثر أصحابها به،
فألفت على ضوء كتبه.
وأوسع كتبه الأصل، المعروف بالمبسوط. وقد سرد فيه الفروع على مذهب أبي
حنيفة وأبى يوسف. وأبان رأيه في كل مسألة.
والجامع الكبير. قد جمع لأهم المسائل في الفقه. وقيل إنه لم يؤلف في
الاسلام مثله.
والزيادات. وزيادة الزيادات. وقد ألفها بعد الجامع الكبير. استدراكا
لما فاته فيها من مسائل.
والجامع الصغير. روى فيه ما سمعه عن أبي يوسف رواية عن أبي حنيفة.
والسير الصغير. يرويه عن أبي حنيفة. في أمور السير.
والحجج. سرد فيه آراءه في الاحتجاج على أهل المدينة. وهذا الكتاب مع
مسانيد أبي حنيفة يعلمنا الأساس السني للمذهب العراقي في عصر الشيباني وما قبله.

376
وهو أول مثال لما ألف في اختلاف المذاهب. لأنه عنى بالخلافيات بين أهل
الكوفة وأهل المدينة.
وكتاب الآثار. روى فيه عن أبي حنيفة أحاديث مرفوعة وموقوفة ومرسلة.
وأكثرها عن إبراهيم النخعي.
والمخارج والحيل. وقد ذكر الكوثري أن هذا ليس للشيباني وإنما
نسب إليه.
والرقيات. وهي المسائل التي فرعها حينما كان قاضيا في الرقة.
وغير ذلك.
وقد روى فقه أبي حنيفة في تأليف المبسوط والجامع الصغير والسير الصغير وسرد
مذهبه وآراءه في باقي كتبه.
ولأكثر هذه التواليف شروح كثيرة.

377
" 3 "
آخر الكتب التي ألفها الشيباني كتاب السير الكبير. ويقصدون
بالسير المغازي.
وسبب تأليف السير الكبير كان ضربا من المنافسة بين علماء العراق وعلماء
الشام. ويذكر السرخسي - إن صح ما ذكره - أن كتاب السير الصغير وقع
في يد الأوزاعي فقيه أهل الشام وعالمهم. فسأل عن مؤلفه فقيل: هو لمحمد العراقي،
فقال الأوزاعي: ما لأهل العراق والتصنيف في هذا الباب؟ فإنه لا علم لهم بالسير.
ويوضع السرخسي قول الأوزاعي بأن مغازي الرسول كانت من جانب الحجاز
والشام، دون العراق، فأهل الحجاز والشام أعلم بهذه المغازي وألصق بها. فبلغ
محمد بن الحسن قول الشيباني، فانصرف إلى تأليف السير الكبير وجعله في ستين
دفترا، وأرسله إلى الرشيد.
ويدور موضوع الكتاب حول جميع الأمور المتعلقة بالحرب وعلاقتها بالمشركين
وأحكامها. فهو في الحقيقة القانون الدولي للمسلمين في أمور الحرب.
وعلى هذا تكلم محمد بن الحسن عن أهل الاسلام وأهل الحرب المشركين،
وبين أحكام الأسارى من الفريقين، سواء أكانوا رجالا أم نساء أم أطفالا،
وإسلام المشركين، والأمان على اختلاف ضروبه وألفاظه، والمستأمنين، والرسل
الذين يفدون إلى دار الاسلام من دار الحرب، والحصانات التي يتمتعون بها،
والغنائم، والصلح والتحكيم، والفداء، وأحكام السلام والرقيق والكراع،
والأراضي التي يستولي عليها أهل الحرب، في الحرب، وأهل الاسلام في دار

378
الحرب، ونقض المعاهدات، وجرائم الحرب، هذا إلى مئات من المسائل المتعلقة
بأهل الحرب وصلاتهم بالمسلمين في أيام الحرب والسلم معا.
وقد اعتمد الشيباني في ذلك كله على القرآن، أو الأحاديث التي قيلت في مغازي
الرسول على إثر حوادث معينة وقعت، وعلى الاحكام التي وقعت أثناء حروب المسلمين
وفتوحهم، كما أعمل القياس في أحايين كثيرة، وجعل كذلك كله أحكاما جيدة.
ومن هنا يبدو شأن هذا الكتاب في ناحية القانون الدولي الاسلامي. وقد
أعجب به الرشيد عندما اطلع عليه، وعده من مفاخر أيامه. وأرسل ابنيه يستمعانه
على مؤلفه. وزاد الاهتمام به في أيام الدولة العثمانية فترجم إلى اللغة التركية في أيام
السلطان محمود خان، واتخذ أساسا لأحكام المجاهدين العثمانيين في حروبهم مع
الدول الأوربية.
كما عنى به الكثيرون فشرحوه، وأهم شرح له هو شرح السرخسي والجمال
الحصري (636 ه‍).
وقد كان الشيباني، بتأليفه في أمور تتعلق بالقانون الدولي، أسبق من
غروسيوس الهولندي Grotius 1583 - 1645 م الذي عاش في القرن السابع عشر
وسمى أبا القانون الدولي لأنه بحث في بعض الأمور الخاصة بالقانون الدولي. وسبق
من سبق غروسيوس أو عاصروه مثل Vasquez و Suarez و Vitoria.
من الفقهاء النصارى.
وقد تنبه في السنوات الأخيرة لشأن الشيباني من هذه الناحية المشتغلون
بالقانون الدولي، فأسست في غوتنجن بألمانيا جمعية الشيباني للحقوق الدولية
وضمت علماء القانون الدولي والمشتغلين به في مختلف بلاد العالم. وانتخب رئيسا
لها الدكتور عبد الحميد بدوي، الفقيه المصري الكبير، كما انتخبنا نائبا للرئيس.
وتهدف الجميعة إلى التعريف بالشيباني، وإظهار آرائه في هذا الباب، ونشر مؤلفاته
المتعلقة بذلك.

379
- 2 -
محمد بن أحمد السرخسي
مصادر ترجمة السرخسي
المصادر القديمة
القرشي (875): الجواهر المضيئة 2: 29
ابن قطلوبغا (879): تاج التراجم ص 38
حاجي خليفة (1067): كشف الظنون
التميمي الغزي (1099): الطبقات السنية في تراجم الحنيفة
(مخطوطة التيمورية، ج 3 ص 175)
المصادر الغربية
. Islam ' de l. dans Encycl, Heffening
مادة السرخسي
GAL, Broklnann
وانظر مؤلفات شخت العامة

380
" 1 "
لا ندري الكثير عن حياة السرخسي (محمد بن أحمد بن سهل، أبو بكر،
شمس الأئمة)، ولعل ذلك لأنه عاش بعيدا جدا، فيما وراء النهر، وأنه قضى
شطرا من حياته في السجن. الذي نعرفه أنه من سرخس - وهي مدينة قديمة
بين مشهد ومرو -، وأنه تلقى العلم على عبد العزيز الحلواني المتوفى سنة 448 ه‍،
وتخرج به. فبرع في الفقه والكلام والأصول والمناظرة. وتخرج عليه تلاميذ منهم
أبو بكر الحصيري (محمد بن إبراهيم) المتوفى سنة 500 ه‍.
ثم انتقل إلى أوز كند - وهي بلدة فيما وراء النهر من نواحي فرغانة -
وانتقل إلى بلاط خاقانها. لكنه ما لبث أن ألقى به في السجن، سنة 466 ه‍،
لأنه أفتى بأن زواج الخاقان بعتيقته، قبل أن تمضي عدتها حرام. فقضى في سجن
أوزكند ما يقرب من خمس عشرة سنة. وكان طلبة العلم يترددون إليه، فيقفون
أمام سجنه، ويملي عليهم الفقه.
في سجنه هذا أملى المبسوط - في خمسة عشر مجلدا - من خاطره دون مطالعة
كتاب. وكان كلما أنهى إملاء باب أشار إلى أنه أملاه وهو مسجون. وأنهاه
في سنة 477 ه‍. ثم أملى شرح السير الكبير للشيباني من خاطره، في مجلدين
ضخمين. فلما بلغ كتاب الشروط، وقارب الفراغ منه أطلق سراحه، فذهب
إلى مرغينان في ربيع الأول سنة 480، وأتم شرحه هذا في جمادى الأولى من
السنة نفسها.
وقد اختلف في سنة وفاته. فذكر بعضهم أنها كانت سنة 483، وجعلها
آخرون سنة ست وثمانين، وذهب بها فئة إلى حدود التسعين.

381
" 2 "
أما شرحه السير الكبير فقد سلخ فيه ثلاث سنوات تقريبا وقد أملاه إملاء
من حفظه، دون الرجوع إلى نص محمد نفسه. ومن المؤسف أن نص محمد نفسه
فقد فلا نستطيع الرجوع إليه للتأكد من صحة حفظ السرخسي. وكذلك فقد شرح
الجمال الحصيري الذي عاش بدمشق في القرن السابع. وهكذا لم يبق يبن أيدينا
من نص محمد إلا ما رواه السرخسي من ذاكرته وهو في السجن.
ونلاحظ في نص السرخسي ما يلي:
1 - لم يحافظ السرخسي على سند محمد بن الحسن عند روايته أقواله بل
حذفها، واكتفى بالقول: ذكر محمد عن فلان كذا، أو روى محمد عن فلان كذا.
2 - عندما يروى أقوال محمد الخاصة فيقول: قال محمد.
3 - بعد ذكر حديث محمد أو قوله يشرح ما أورد. فقد تأتى بآيات جديدة
أو أحاديث أو حوادث في المغازي تؤيد ما قال. وقد يخالفه أحيانا في آرائه،
أو يبين آراء أبي حنيفة وأبى يوسف وغيرهما، مما خالفهم فيه محمد.
4 - لم يرو السرخسي في نصه كتاب محمد كله، بل حذف أبوابا منه.
فمثلا يذكر أنه حذف بابا بين باب إثبات النسب من أهل الحرب من السبايا،
وباب الحدود في دار الحرب، ولكنه لم يصرح ما هو الباب المحذوف. وعلى هذا
فنحن لا ندري على الضبط ما حذف.
5 - يلاحظ في شرحه ركاكة في العبارة، وطولها. ونصادف غموضا أحيانا.

382
وعدم مراعاة قواعد النحو. ولعل ذلك لأنه فقيه متأخر لم يعن بالعربية عناية الفقهاء
الأولين، ولأنه عاش فيما وراء النهر، ولأنه أملا إملاء فلم يتح له أن يحرر
ما أملاه وأن ينقحه.
6 - روى في مقدمة شرحه قصة الخصومة التي وقعت بينه وبين القاضي
أبى يوسف على أنها صحيحة، والوضع ظاهر عليها.

383
- 3 -
مخطوطات شرح السير الكبير
أوتى شرح السير حظا كبير من الانتشار منذ قيام الدولة العثمانية لان
مذهبها كان مذهب أبي حنيفة، ولان السير الكبير اتخذ دليلا ترجع إليه الدولة
في حروبها - أول الامر - مع الدول غير الاسلامية.
لذلك كانت مخطوطات هذا الشرح التي نسخت في العهد العثماني، منذ القرن
التاسع الهجري، كثيرة جدا. أما الأصول القديمة فقليلة.
وقد عد بروكلمن (1) في تاريخه ما يقرب من (17) نسخة موجودة في مكتبات
استامبول وتركيا وفينا ودمشق. ونحن نضيف (11) نسخة عرفناها ولم يذكرها
بروكلمن. وهي:
1 - مخطوطة مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت. عليها سماع سنة 631 ه‍.
رقم 296. MS 349.
2 - قطعة من الجزء الأول من الشرح في دار الكتب المصرية ناقصة
الآخر، تنتهى بباب المسلم يخرج من دار الحرب. قديمة من القرن السابع على
الأكثر. رقم 770 فقه حنفي.
3 - مخطوطة مكتبة جامعة ليدن، كتبت سنة 800 ه‍. رقم 373. OR
4 - مخطوطة المكتبة الوطنية بباريس. كتبت سنة 864 ه‍. رقم 837 و 838



(1) 291،, Si, GAL
384
5 - مخطوطة أحمد الثالث باستامبول. كتبت في القرن العاشر أو الحادي
عشر على الأكثر، رقم 1149.
6 - مخطوطة مصطفى فاضل (بدار الكتب المصرية) كتبت سنة 1117
رقم 65 فقه حنفي.
7 - مخطوطة الظاهرية بدمشق، كتبت سنة 1130. رقم 5854 عام.
8 - مخطوطة طلعت (بدار الكتب المصرية) كتب سنة 1131.
رقم 887 فقه حنفي.
9 - مخطوطة طلعت، كتبت سنة 1141 ه‍. رقم 1089 فقه حنفي ط.
10 - مخطوطة مصطفى فاضل (بدار الكتب المصرية)، كتبت سنة 1158
رقم 64 فقه حنفي م.
11 - مخطوطة مصطفى فاضل (بدار الكتب المصرية) كتبت في أوائل
القرن الثاني عشر. رقم 66 فقه حنفي م.

385
النسخ التي اعتمدنا عليها ووصفها
لم نستطع الحصول على النسخ الموجودة في استامبول، ما عدا نسخة أحمد
الثالث التي لم يذكرها بروكلمن، فرجعنا إلى النسخ المخطوطة التي عرفناها نحن.
وقد اعتمدنا على النسخ التالية:
1 - نسخة باريس رقم 837
2 - نسخة مصطفى فاضل رقم 66 فقه حنفي م
3 - نسخة أحمد الثالث رقم 1149
4 - نسخة طلعت رقم 887 فقه حنفي
5 - مطبوعة حيدر آباد بالهند
وبعد طبع الجزء الأول، اطلعنا على:
6 - نسخة الجامعة الأميركية ببيروت، وعارضنا النص بها ولم نشر إليها
في الحواشي.
وصف النسخ
1 - مخطوطة باريس: Arabe 837
يتألف المجلد الأول من 248 ورقة، وقد سبق النص بفهرس الأبواب، وجعل
داخل مربعات في كل مربع اسم باب. وبدئ بسر لوحة كتب فيها:
" برسم الخزانة الشريفة العالية المولوية السلطانية المجاهدية المرابطية السيد
الناصري محمد بن عثمان سلطان الممالك الرومية المحروسة خلد الله سلطانه ".

386
ويقابل هذا صفحة نقلت ترجمة السرخسي من غاية البيان وتاج التراجم.
خط المجلد نسخي جميل ما عدا بعض الأوراق كتبت بخط فارسي عادى.
وفى الصفحة 25 سطرا.
والنص محاط بإطار في كل صفحة.
وفى الهامش تصحيحات ومقابلات على الأصل المنقولة منه، وعنوانات
بالمطالب.
وفى آخر هذا المجلد اسم الناسخ محمد بن حجى. وحاشية تذكر: أنه قوبل
على الأصل المنقول منه.
والمجلد الثاني: يبدأ بسر لوحة كالأول. وقد كتب لخزانة السلطان محمد
ابن عثمان وفى آخره ما يلي:
" وكان الفراغ من كتابته نهار الخميس ثامن عشر ذي القعدة الحرام سنة
أربع وستين وثمانمائة بدمشق المحروسة حماها الله تعالى ".
وفى الحاشية:
" الحمد لله. قوبل هو والجزء الذي قبله على النسخة المنقولة منها وهي نسخة
قديمة مؤرخة شهر رمضان المعظم [سنة] إحدى وعشرين وستماية لكن فيها سقم..
بحسب الامكان. وبالله التوفيق ".
فيتضح أن هذه النسخة الخزائنية قد كتبت برسم السلطان محمد بن عثمان،
سنة 864 ونقلت عن أصل كتب سنة 621 ه‍.
2 - مخطوطة مصطفى فاضل: 66 فقه حنفي م.
تقع هذه النسخة في 492 ورقة. كتبت بخط فارسي جميل، وقد أحيطت
الصفحات بإطارات مذهبة. في الصفحة 29 سطرا. في الورقة الأولى شرح معنى

387
السيرة والسير من كتاب المغرب، ونقل ما وجد بخط الامام الحصيري على ظهر
النسخة التي كتبها بخطه، وتملكان. أما في آخره فكتب ما يلي:
" كتبه لنفسه من نسخة قابلها الامام الأوحد العلامة جمال الدين محمود
ابن أحمد بن عبد السيد الحصيري وصححها العبد الفقير إلى الله تعالى الراجي عفو
ربه ومغفرته أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن محمد بن سليم القيسي الدمشقي الحنفي
غفر الله له ولجميع المسلمين آمين ".
وهذه النسخة كتبت في أوائل القرن الثاني عشر، إلا أنها نقلت عن أصل
كتبه جمال الدين الحصيري وصححه، وكان الحصيري في القرن السابع، كما سنرى.
وتمتاز هذه النسخة بأن على هوامشها تصحيحات الجمال الحصيري، وشروحا
لألفاظ النص والشرح الفقيهة، مأخذوة عن المغرب للمطرزي، والنهاية لابن الأثير،
والمصباح، والقاموس. كما تتصف بالصحة والضبط.
3 - نسخة أحمد الثالث: رقم 1149.
تقع هذه النسخة في 353 ورقة، كتبت بخط نسخي جميل، في الصفحة 27
سطرا. يبدأ النص في أول الكتاب رأسا فلا يسبقه فهرس للأبواب، وفى رأس
الورقة الأولى ما يلي:
" إلى الامام الرباني محمد الشيباني رحمه الله ".
وليس على النسخة تاريخ النسخ وإنما هي من القرن العاشر أو الحادي عشر
على الأكثر. وفى طرف الصفحة الآخرة ما يلي:
" تمت المقابلة على يدي العبد الضعيف عبد الله بن أحمد عفا عنه
الملك الصمد ".
ولا يذكر على أي أصل قابلها.

388
وهذه النسخة هي من فئة نسخة باريز، وتشبهها تماما بكل ما فيها. استعنا بها
للتأكد من النسخة المذكورة.
4 - نسخة طلعت: رقم 887 فقه حنفي.
تقع هذه النسخة في 305 ورقات. كتبت بخط نسخي واضح وأحيطت
الصفحات بإطارات. وفى الصفحة 31 سطرا.
على الورقة الأولى وقفية تشعر بأن الذي وقف الكتاب هو عبد الرحمن بك
ابن يوسف بك الغازي أرنوتي سنة 1210، كما ذكر أن عبد الله المرادي المفتى
بدمشق الشام قد تملك النسخة.
وجاء في آخر ورقة:
" وكان الفراغ من كتابته نهار الثلاثاء ثالث عشر شوال المبارك من شهور
سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف ".
وليس عليها اسم الناسخ ولا ذكر للنسخة التي نقلت عنها.
وميزة هذه النسخة أنها ترجع إلى فئة غير فئة المخطوطات التي ذكرناها
وأنها صحيحة واضحة.
5 - نسخة الجامعة الأميركية ببيروت:
هذه نسخة قديمة من القرن السابع الهجري تقع في مجلدين. المجلد الأول في
383 صفحة. في كل صفحة 25 سطرا. كتبت بخط نسخي قديم قليل الاعجام.
تنقص من صفحاتها الصفحة الأولى وما بين صفحات 46 و 50، وفيها صفحات
أصابتها الرطوبة. وفى آخرها خط جمال الدين محمود الحصيري بالثناء على صدر
الدين سليمان الحنفي، سنة 631 ه‍، وأنه قرأ الكتاب عليه.
وهذا يعنى أن هذا المجلد كتب في هذه السنة أو قبلها. والحصيري هذا هو الذي

389
شرح السير ولم يصلنا شرحه، وهو الذي نقلت من نسخته نسخة مصطفى
فاضل 66 م.
أما المجلد الثاني فيقع في 358 صفحة بخط مثل خط المجلد الأول. وفى آخره
سماع على صدر الدين سليمان الحنفي بدمشق مؤرخ سنة 676 ه‍.
ولا شك أن هذه النسخة هي أقدم الأصول وأوثقها، لذلك ما كدنا نطلع
عليها بعد طبع الجزء الأول حتى عارضنا المطبوع بها. فرأينا أنها من أصول فئة
نسخة مصطفى فاضل وطلعت، ولم نجد فروقا ذات شأن فيها.
6 - مطبوعة دائرة المعارف العثمانية: بحيدر آباد.
طبع شرح السير الكبير في حيدر آباد الدكن بالهند سنة 1335، 1336،
بعناية دائرة المعارف العثمانية. في أربعة أجزاء.
وتتصف هذه الطبعة بالسقم، وكثرة الأخطاء المطبعية، وعدم كونها طبعة
علمية تعتمد على مخطوطات كثيرة معارضة. وقد اعتبرناها كأنها نسخة مخطوطة
وأفدنا منها في أحايين كثيرة.

390
نهج التحقيق
لقد بدأنا بتحقيق الكتاب وأمامنا النسخ الأربع الأولى. فاخترنا نسخة
باريز أساسا نقلت وصححت على نسخة من القرن السابع، وهذا أقدم ما عرفنا
من الشرح، واخترنا نسخة مصطفى فاضل لأنها نقلت عن نسخة الحصيري الذي
كان في القرن السابع، والذي صححها فنقلت تصحيحاته إلى هذه النسخة.
وهاتان النسختان ترجعان إلى فئتين مختلفتين من مخطوطات الشرح.
ثم لاحظنا أن نسخة أحمد الثالث إلى فئة مخطوطة باريز المنقولة عن
نسخة في القرن السابع، في حين تنتمي مخطوطة طلعت إلى مخطوطة مصطفى فاضل
المنقولة عن نسخة الحصيري في القرن السابع أيضا، فاعتمدناهما توكيدا
للنسخ الأولى.
فلما اطلعنا على نسخة الجامعة الأميركية، وهي نسخة قاضى قضاة الحنفية
بدمشق الصدر سليمن التي قرأها على الجمال الحصيري، وعارضنا النص بها، وجدنا
أنها من فئة نسخة فاضل ونسخة طلعت. أي النسخ التي مرجعها الحصيري.
فوكدت لنا صحة هذه نص هذه الفئة.
فتكون النسخ هكذا:
أصل من القرن السابع 621 نسخة باريز أحمد الثالث
أصل من القرن السابع قرئ على الحصيري " الجامعة الأمريكية "
أصل من القرن السابع للحصيري نسخة مصطفى فاضل طلعت

391
وعلى هذا فكان أساس اعتمادنا على نسخة باريز ونسخة فاضل. ثم تأكدنا
من صحة النص بنسخة الجامعة الأميركية.
ولم ننس أن ننظر في نسخة الشرح المطبوعة في حيدر آباد والتي هي أقرب إلى
فئة مخطوطات نسخة باريز منها إلى فئة مخطوطات نسخة فاضل، واعتبرناها كأنها
مخطوطة من المخطوطات.
أما عملنا في هذه النشرة فكان ما يلي:
1 - عارضنا الأصول بعضها ببعض وأثبتنا الاختلافات.
2 - أثبتنا حواشي وتفسيرات نسخة فاضل التي وجدنا في إثباتها فائدة.
3 - ميزنا ما يشعر أنه قول الشيباني من قول السرخسي، فجعلنا الأول بحرف
أضخم، والثاني بحرف أصغر. وقد كانت طبعة الهند وضعت أقوال الشيباني بين
().
4 - جعلنا لفقرات أقوال الشيباني أرقاما ليسهل فيما بعد الرجوع إليها ووضع
فهرس بموضوعاتها.
5 - صححنا كثيرا من أخطاء النحو أو أخطاء النسخ الواضحة ولم نشر إليها.
وهذه الأخطاء النحوية موجودة في جميع الأصول، حتى في نسخة الجامعة الأميركية
التي قرئت على الحصيري، مما يدل على أن ذلك من القديم.
6 - شرحنا الألفاظ الفقهية التي تحتاج إلى شرح، وكثيرا ما أغنتنا تعليقات
نسخة مصطفى فاضل عن ذلك.
7 - ضبطنا الاعلام المذكورة في النص عند الحاجة إلى ذلك، وعرفنا
بالأماكن.
8 - ألحقنا بكل جزء فهارس للأحاديث والاعلام والأماكن والأبواب

392
ليسهل الرجوع إليه. وسنلحق بالجزء الأخير، إن شاء الله، فهرسا للموضوعات.
وآخر للألفاظ الفقهية.
وقد بذلنا جهدنا في إخراج النص صحيحا، ومع ذلك فالمرء في المخطوطات
القديمة لا يستطيع مهما أوتى من علم وإحاطة وتبصر أن يجزم بكمال النص الذي
حققه. فليتفضل من يجد فيه خطأ أو خللا بتصحيحه. فإن هذا الكتاب لم يكن
من مفاخر أيام الرشيد وحده بل هو من مفاخر الفكر الاسلامي في كل الاعصار،
هذا الفكر الذي سبق إلى وضع الاحكام الدولية المتعلقة بأهل الحرب ودار الاسلام
منذ القرن التاسع الميلادي، يوم لم يكن في أوربة فكر مشرع ولا قانون دولي.

393
شكر
ولابد أن نختم هذه المقدمة بالشكر الجزيل لأمين جامعة الدول العربية
العام السيد عبد الخالق حسونة، الذي ما كاد يعلم بشأن هذا الكتاب في
القانون الدولي الاسلامي، حتى وافق على إخراجه.
وقد كان للدكتور عبد الحميد بدوي رئيس جمعية الشيباني للحقوق الدولية،
والدكتور نجيب الأرمنازي سفير سورية السابق في مصر، الفضل في تبيان شأن
الكتاب والحث على نشره.
وصادف قرار الجامعة العربية هوى قديما في قلبنا لتحقيق هذا الكتاب،
منذ سلخنا في دراسته ومصاحبته زمنا غير قصير، أيام كنا نعد للدكتوراه في القانون،
في باريس. فلما تفضل الدكتور طه حسين، رئيس المجلس الأعلى لمعهد
المخطوطات، ورأى أن نحقق الكتاب، سارعنا إلى ذلك مغتبطين شاكرين.
وثمة شكر وافر آخر نخص به الدكتور طه حسين، فقد تكرم بقراءة الكتاب
كله قبل طبعه ونبهنا إلى ما سهونا عنه.
جامعة الدول العربية
يونية 1957 صلاح الدين المجد

394
الرموز
ب: نسخة باريس
ق: نسخة مصطفى فاضل
أ: نسخة أحمد الثالث
ط: نسخة طلعت
ه‍.: طبعة الهند بحيدر آباد
<>: ما بينهما أضيف لتوضيح النص، وليس هو من الأصل
[-]: ما بينهما مضاف من النسخ الأخرى
{-}: ما بينهما آية قرآنية
(-): ما بينهما حديث
(-): ما بينهما يدل على أرقام ورقات النسخة ب
آ: الوجه
ب: الظهر
أ: نموذجات
من صفحات النسخ المخطوطة

395
/ 1