كتاب الفتوح (جزء 6) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

كتاب الفتوح (جزء 6) - نسخه متنی

احمد بن اعثم کوفی؛ محقق: علی شیری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: كتاب الفتوح
المؤلف: أحمد بن أعثم الكوفي
الجزء: 6
الوفاة: 314
المجموعة: مصادر سيرة النبي والائمة
تحقيق: علي شيري ( ماجستر في التاريخ الإسلامي )
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1411
المطبعة: دار الأضواء
الناشر: دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع ص ب 40 / 25 غبيري - أو 6641 / 113 الحمرا . / تلكس 23717 بيدر أو 23407 هادي - بيروت - لبنان
كتاب الفتوح
للعلامة أبي محمد أحمد بن أعثم الكوفي
(المتوفى نحو سنة 314 ه‍ / 926 م)
الجزء السادس

175
بسم الله الرحمن الرحيم
ابتداء أخبار الأزارقة
قال: والأزارقة (1) يومئذ قد جمعوا جموعا كثيرة، وخرجوا من البصرة فصاروا



(1) الأزارقة: باب من النسب، وهو أن يسمى كل واحد منهم باسم الأب، إذا كانوا ينسبون إليه ونظيره
المهالبة والمسامعة والمناذرة. قد تنسب الجماعة إلى الواحد على رأي أو دين فيكون له مثل نسب الولادة كما
قالوا: أزرقي لمن كان على رأي ابن الأزرق.
والأزارقة وهم أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي ضرب من الخوارج الذين كانوا من قبل على رأي واحد
لا يختلفون إلا في الشيء الشاذ من الفروع. وبعد اختلافهم وافتراقهم صارت الخوارج على أربعة
أضرب:
- الإباضية وهم أصحاب عبد الله بن إباض.
- الصفرية - واختلفوا في تسميتهم - فقال قوم: سموا بابن الصفار، وقال آخرون - وأكثر المتكلمين
عليه هم قوم نهكتهم العبادة فاصفرت وجوههم.
- ومنهم البيسهية وهم أصحاب أبي بيهس.
- ومنهم الأزارقة وهم أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي.
ومما ذكره فيهم الشهرستاني في الملل والنحل ص 56 قال: وبدع الأزارقة ثمانية منها: أن أطفال
المشركين في النار مع آبائهم، إسقاط الرجم عن الزاني إذ ليس في القرآن وإسقاط حد القذف عمن
قذف المحصنين من الرجال مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء وأنه يجوز أن يبعث الله نبيا
يعلم أنه يكفر بعد نبوته أو كان كافرا بعد البعثة، وأنهم جوزوا الكبائر والصغائر على الأنبياء عليهم
السلام، وأنهم أكفروا القعدة عن القتال (وانظر الفرق للبغدادي ص 56).
وكان من أمرهم أنهم عزموا على أن يقصدوا مكة لما توجه ابن عقبة يريد المدينة يوم الحرة يمنعون الحرم
منه واتفقوا على امتحان ابن الزبير فإن كان على رأيهم بايعوه. وذهبوا وقاتلوا مع ابن الزبير ولم يبايعوه ثم
ناظروه (انظر الكامل للمبرد 3 / 1206)...
تفرقت الخوارج عن ابن الزبير لما تولى عثمان فصارت طائفة إلى اليمامة وكان فيمن صار إلى البصرة
نافع بن الأزرق الحنفي.
177
إلى الأهواز (1)، فغلبوا عليها وعلى جميع كنوزها، وقتلوا عمالها وجبوا أموالها،
ورئيسهم يومئذ أبو راشد (2) بن الأزرق الحنفي، وقد بايعته الأزارقة وسموه أمير
المؤمنين. قال: وكتب أمير البصرة عبد الله بن الحرث (3) إلى عبد الله بن الزبير
بذلك، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله أمير المؤمنين من عبد الله بن
الحرث (3)، أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أيده الله أن نافع بن الأزرق الحنفي
وعطية بن الأسود وعبيدة (4) بن هلال اليشكري وأخاه (5) محرز بن هلال، أنهم قد
صاروا إلى الأهواز، فغلبوا عليها وأخذوا أموالها وقتلوا عمالها وقتلوا أهلها، وقد
لحق بهم من أهل البصرة وغيرها من كان على دينهم ويرى برأيهم، وقد عقدوا لواء
ورأسوا على أنفسهم نافع بن الأزرق الحنفي، وقد والله هالنا أمرهم يا أمير المؤمنين!
وأنا أحببت أن لا أطوي ذلك عنك لترى في ذلك رأيك - والسلام.
قال: فكتب إليه عبد الله بن الزبير: أما بعد فقد ورد كتابك علي تذكر فيه أمر
الأزارقة وما كان من اجتماعهم بالأهواز وغلبهم عليها، فإذا ورد كتابي هذا فاقرأه على
وجوه أهل البصرة، وتدارك هؤلاء الخوارج قبل أن يكثر جمعهم، وابعث إليهم
برجل يرتضيه أهل البصرة، وقوه بالمال والسلاح والرجال، ولا تقصر في شيء مما
كتبت به إليك - والسلام.
قال: فلما ورد كتاب عبد الله (6) بن الزبير على عبد الله بن الحرث وقرأه أرسل



(1) وكان خروجهم من البصرة سنة 64 وذلك بعد موت يزيد بن معاوية ووثوب الناس بعبيد الله بن زياد
وضعف أمره فكسر الخوارج أبواب السجون وخرجوا منها (وقيل إن عبيد الله كلم فيهم فأطلقهم،
فأفسدوا البيعة عليه، وفشوا في الناس، يدعون إلى محاربة السلطان ويظهرون ما هم عليه، حتى
اضطرب على عبيد الله أمره) وتحول عبيد الله عن دار الإمارة إلى الأزد، واشتغل الناس بقتال الأزد
وربيعة وبني تميم وقيس، فاغتنمت الخوارج اشتغال الناس ببعضهم البعض فتهيئوا واجتمعوا، وخرجوا
مع ابن الأزرق...
(2) وهي كنية نافع بن الأزرق.
(3) في الطبري والأخبار الطوال والكامل للمبرد " الحارث " وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن
عبد المطلب الملقب ب‍ " ببة ". وكان الناس بالبصرة قد اصطلحوا عليه يصلي بهم.
(4) بالأصل " عبيد الله " وما أثبت عن الطبري.
(5) بالأصل " أخوه ".
(6) الأصل: عبيد الله.
178
إلى وجوه أهل البصرة فجمعهم، منهم الأحنف بن قيس التميمي، وسويد بن
منجوف (1) الذهلي، ومالك بن مسمع الجحدري ومن أشبههم من سادات العرب،
فشاورهم في أمر الأزارقة. قال: فسكت (2) القوم ولم يشيروا بشيء، وقال: انظرنا
الآن أيها الأمير ثلاثة أيام حتى ندبر رأيا في ذلك ونلقاك بعد ذلك إن شاء الله تعالى.
قال: ثم انصرف القوم إلى منازلهم وأنشأ الصلتان العبدي في ذلك يقول:
أما لسويد لا تشير ومالك * وأحنف ما بعد الثلاثة يذهب
وما لهم لا ينظرون لواحد * يدور عليه الرأي لا يتذبذب
ولو شهد الصهر المصلب أجمعوا * عليه جموعا ثم لم يتهيب
وكان الذي يثني الحسام باسمه * وأولهم بعد المهلب مطلب
فإن رجع الله المهلب لم نخف * عدوا له في الحرب ناب ومخلب
قال: ثم اتفقت آراء أهل البصرة على رجل من قريش يقال له مسلم بن
عبيس (3) بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فمشوا إليه
وسألوه أن يسير إلى الأزارقة، فأجاب إلى ذلك. ثم إنه جمع سبعمائة (4) رجل وخرج
إلى الأزارقة فالتقى بهم (5).
وأقام ابن الحنفية بالطائف لا يرى ابن الزبير ولا يذكره، ويقولون إن هذا
الرجل في نفر من أصحابه، وقيل: إنهم كانوا أربعين رجلا. قال: وأنشد في
ذلك (6):



(1) عن جمهرة ابن حزم، وبالأصل: " متخوف ".
(2) الأصل: فسكتوا.
(3) في الأصل: " قيس " وما أثبت عن الأخبار الطول والكامل للمبرد وزيد فيه: وكان دينا شجاعا.
(4) في الأخبار الطوال ص 270: خمسة آلاف فارس.
(5) وكان نافع بن الأزرق قد اشتدت شوكته وكثرت جموعه وأقام بالأهواز يجبي الخراج ويتقوى به ثم أقبل
نحو البصرة حتى دنا من الجسر.
وقد سار إليه ابن عبيس في أبطال البصرة ولما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس فقال: إني ما
خرجت لإمتيار ذهب ولا فضة، وإني لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم،
فمن كان الجهاد شأنه فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع فرجع نفر يسير ومضى الباقون معه. فلما صاروا
بدولاب (وهو موضع بقرب الأهواز) خرج إليهم نافع فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح وعقرت
الخيل وكثرت الجراح والقتل وتضاربوا بالسيوف فقتل في المعركة ابن عبيس.
(6) الأبيات في مروج الذهب 3 / 95 ونسبت للسيد الحميري (وهو إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن
مفرغ الحميري، شاعر مشهور) وهي في ديوانه ص 379.
179
ألا قل للوصي فدتك نفسي * أطلت بذلك الجبل المقاما
أضر (1) بمعشر زاروك منا * وسموك الخليفة والإماما
وعادوا فيك (2) أهل الأرض طرا * مقامك عنهم ستين (3) عاما
وما ذاق ابن خولة طعم موت * ولا وارت له أرض عظاما
لقد أمسى برونق (4) شعب رضوى * تراجعه الملائكة الكلاما (5)
وقال السيد بن محمد الحميري في ذلك:
يا شعب رضوى بالمزية لا ترى * حتى متى تحمى وأنت قريب
غاب ابن خولة غيبة ما غابها * قبل ابن خولة في الحياء غريب
إني لأرجو أن أومله كما * قد كان يؤمل يوسف يعقوب
لو غاب عنا ألف عام أيقنت * منا النفوس بأنه سيؤوب
[وقال أيضا في قصيدة له:
أيا راكبا نحو المدينة جسرة * عذافرة تهوى (6) بها كل سبسب
إذا ما هداك الله عاينت (7) جعفر * فقل يا أمين الله وابن المهذب
ألا يا أمين الله وابن رسوله * أتوب إلى الرحمن ثم تأوبي
إليك من الأمر الذي كنت مطنبا * معاندة مني لنسل المطيب
وما كان قولي في ابن خولة مطنبا * أحارب فيه جاهدا كل معرب
ولكن روينا عن وصي محمد * وما كان فيما قال بالمتكذب
بأن ولي الأمر يفقد (8) لا يرى * ستيرا كفعل الخائف المترقب (4)



(1) في الأصل: أظل " وما أثبت عن الديوان.
(2) عن الديوان ومروج الذهب وبالأصل قل.
(3) في الديوان ومروج الذهب: سبعين.
(4) في الديوان: بمورق.
(5) عن مروج الذهب، وبالأصل:
بنا حفة الملائكة الكراما
(6) عن الأغاني وبالأصل: وفيها غدا نطوي.
(7) في الأغاني لاقيت.
(8) من الديوان ص 116 وبالأصل: " يقعد ".
(9) بالأصل: " سنيا كمثل الخائف المترهب " وأثبتنا عجزه عن الديوان.
180
يسير بنصر الله من بيت ربه * على سؤدة منه وأمر مسبب
يسير إلى أعدائه بلوائه * فيفا هم قتلى بحران مغضب
ولما روى أن ابن خولة غائب (1) * صرفنا إليه قولنا لم نكذب
وقلنا هو المهدي والعالم الذي * يعيش به من عدله كل مجدب
فإن قلت لا فالحق (2) قولك والذي * أمرت فحتم غير ما متعصب
فأشهد ربي أن قولك حجة * على الخلق طرا من مطيع ومذنب
فإن ولي الأمر والعالم الذي * تطلع نفسي نحوه بتطرب (3)
له غيبة لا بد من أن يغيبها (4) * فصلى عليه الله من متغيب
ألا أيها اللاحي علينا دع الجفا * فما أنت فيما قلته بمصوب (5)
أتلحى أمين الله بعد أمينه * وصاحب حوض شربه غير مشرب
له من لجين صير الدهر كله * ومن كوثر المعروف عينا بمنقب
وبطحاؤه مسك ودر حصاؤه * ومطهر ما بين اللجين ومذهب (6)
متى ما يرد مولاه يسقى ومن يرد * عدو له ممن برى الله يضرب
فتب توبة من ضيم آل محمد * إلى الله تنجو من عظيم التحوب].
ذكر اجتماع أهل البصرة عند الأمير
الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة (1)
واتفاقهم على المهلب بن أبي صفرة
قال: ثم أرسل الحارث بن عبد الله (8) إلى أكابر أهل البصرة وأشرافهم



(1) بالأصل: " غالبا ".
(2) عن الديوان وبالأصل: " والحق ".
(3) عجزة بالأصل: " به تطلع نفسي دونه تتقرب " وما أثبت عن الديوان.
(4) بالأصل: " أن يستعينها " وما أثبت عن ديوانه.
(5) من هنا الأبيات من قصيدة أخرى، انظر ديوان السيد الحميري ص 119.
(6) البيت في الديوان:
وحافاته در ومسك ترابه * وقد حاز ماء من لجين مذهب
(7) مر قريبا أن ابن عبيس توجه لقتال الخوارج وقد قتل في المعركة عند دولاب، وقتل أيضا أمير الخوارج
نافع بن الأزرق فأمر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب الحميري وأمرت الخوارج عبد الله بن الماحوز
التميمي واقتتلوا واستمر القتال أياما ثم إن ببة كره القتال (على ما ذكر المبرد في الكامل) فكتب أهل
البصرة إلى ابن الزبير يخبرونه بذلك ويسألونه أن يولي عليهم واليا. فكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر
فولاه البصرة فولى أخاه عثمان حرب الأزارقة فخرج إليهم في اثني عشر ألفا وقاتلهم بسوق الأهواز،
وانهزم أهل البصرة وخاف الناس خوفا شديدا وعزل ابن الزبير عمر بن عبيد الله وولى الحارث بن
عبد الله بن أبي ربيعة، المعروف بالقباع، على البصرة. (انظر الطبري 7 / 86 ابن الأثير 2 / 649
الأخبار الطوال ص 271 الكامل للمبرد 3 / 1236).
(8) بالأصل عبد الله بن الحرث خطأ. انظر المصادر السابقة.
181
فجمعهم عنده، ثم أقبل عليهم فقال: يا أهل البصرة! إنه قد أظلكم عدو غالب، له
نار لاهبة، وقد أصاب فيكم مصائب عظاما حتى تحاماه الناس، ولكن هاتوا رأيكم
وسموا لي رجلا يقوم بهذا الأمر فينتدب لحرب هؤلاء الخوارج! قال: فتكلم بعض
القوم وقال: أصلح الله الأمير! إنه ليس لهذا العدو أحد يقوم بأمره إلا المهلب بن أبي
صفرة (1)، لأنه رجل له حزم وعزم ومعرفة بالحروب. فقال الحارث بن عبد الله (2):
لعمري! لقد صدقتم فيما ذكرتم من أمر المهلب، لكنه غائب بناحية خراسان كما
علمتم فكيف الرأي في ذلك؟ فقالوا: الرأي أن تكتب إليه كتابا على لسان أمير
المؤمنين عبد الله بن الزبير وتبعث إليه رسولا من قبلك، فلعله يرجع إلى بصرة (3)
لحرب هؤلاء القوم.
قال: فعندها كتب الحارث بن عبد الله إلى المهلب بن [أبي] صفرة: بسم الله
الرحمن الرحيم، من عند أمير المؤمنين، أما بعد فإن عاملي بالبصرة كتب إلي كتابا
يذكر فيه أن قوما من خوارج الأزارقة المارقة خرجوا من البصرة بعد أن قتلوا سادات



(1) في الكامل للمبرد 3 / 1326 أن الحارث بن عبد الله أراد تولية حارثة بن بدر الغداني، وكان قد سأله
الولاية والمدد وكان حارثة ممن خرج لقتال الخوارج مع ابن عبيس، وبعد هزيمة عثمان بن عبيد الله استمر
على حربهم، ولما عزم الحارث على توليته قام إليه رجل من بكر بن وائل وقال له: إن حارثة ليس بذلك
إنما هو رجل شراب وفيه يقول رجل من قومه:
ألم تر أن حارثة بن بدر * يصلي وهو أكفر من حمار
ألم تر أن للفتيان حظا * وحظك في البغايا والعقار
فكتب إليه القباع: تكفى حربهم إن شاء الله.
وتوجه الزبير بن علي من أصحاب ابن الماحوز إلى البصرة، فضج الناس إلى الأحنف، فأتى القباع
فقال له: أصلح الله الأمير إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا وفيئنا ولم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا،
قال: فسموا رجلا، فقال الأحنف: ما أرى لها إلا المهلب بن أبي صفرة.
(2) بالأصل: عبد الله بن الحرث.
(3) بالأصل: مصره.
182
أهلها، ثم إنهم نزلوا بلد الأهواز فتغلبوا عليها وأصابوا جندا من المسلمين كبتوا
عدوهم، وقد عزموا على أن يقبلوا إلى أرض البصرة لقتل الرجال وأخذ الأموال
وهتك الحريم وسبي الذرية، وقد رأيت أن تكون أنت الذي تلي قتالهم، لأنك
ميمون الطلعة مبارك على أهل مصرك، والأجر في ذلك أعظم من كل أجر، فسر
رحمك الله راشدا، فإنه لن يفوتك سلطان خراسان (1).
قال: فلما فرغ من الكلام (2) قام المهلب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما
بعد، ما أنا إلا رجل منكم يعزوني ما يعزو كم من فرح وترح، وهذا أمر لا بد منه،
غير أني أريد أن أسألكم شرطا (3) يشرطه لي الأمير وتضمنه لي العامة، فإن أجبتموني
إلى ذلك نهضت إلى حرب عدوكم واستعنت الله على ذلك - والسلام -. قالوا:
فانهض بنا إذا إلى الأمير حتى يكون ذلك بحضرته.
قال: فنهض المهلب ونهض القوم معه حتى دخلوا على الحارث (4) بن عبد الله
المخزومي فسلموا عليه وأخذوا مجالسهم، وأقبل الأمير على المهلب فقال: أبا
سعيد! إني أرى أهل مصرك قد أجمعوا عليك ولا أظن أنهم أجمعوا على خطأ،
فاجمع إليك سادات أهل مصرك وادفع عنا ضرر هؤلاء - والسلام -.
قال: فلما قال ذلك أقبل عليه المهلب فقال: أيها الأمير! إني دون ما قالوا،
ولعلي كما يظنون، وأريد منكم أن أختار من الرجال ما أريد، وإذا قلت أمرا لا
تكونوا دونه! فقالوا: لك ذلك (5)! وأنشأ رجل منهم في ذلك يقول:



(1) نص الكتاب في الطبري 5 / 615 - 616 باختلاف بين النصين.
(2) وفي الأخبار الطوال ص 271 أن الحارث بن عبد الله كتب إلى ابن الزبير يسأله ذلك، فكتب ابن الزبير
إلى المهلب كتابا ولاه أمر الخوارج الأزارقة وانظر الفرق للبغدادي ص 57، أما في الكامل للمبرد أن
الحارث وأشراف أهل البصرة اجتمعوا إلى المهلب وطلبوا منه التوجه لحرب الأزارقة فرضي بعد أن شرط
عليهم شروطا كتبوها له عليهم (انظر الكامل للمبرد 3 / 1240 - 1241).
(2) كأن في الكلام سقطا، والظاهر أنه لما وصله الكتاب أتى، وحضر اجتماعا مع أشراف أهل البصرة وسمع
مقالتهم (الكامل للمبرد 3 / 1240 الطبري 5 / 616).
(3) في الكامل للمبرد: شروطا. وفي الأخبار الطوال: خصالا.
(4) بالأصل: الحرث.
(5) في الطبري 5 / 616 وذكر الشروط التي شرطها المهلب:
أ - أن تجعلوا لي ما غلبت عليه.
ب - أن تعطوني من بيت المال ما أقوي به من معي.
ج - أن أنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوي الشرف من أحببت.
وانظر الكامل لابن الأثير 2 / 649 الأخبار الطوال ص 272 والكامل للمبرد 3 / 1240 - 1241.
183
شمت المهلب (1) والحوادث جمة * والشامتون (2) بنافع بن الأزرق
إن مات غير مداهن في دينه * ومتى يمر بذكر نار يصعق
والموت ضيف (3) لا محالة نازل (4) * من لا يصبحه نهارا يطرق
فلئن أمير المؤمنين أصابه * ريب المنون فمن يصبه يغلق (5)
ورمى المهلب جمعنا بجموعه * وبما أصبنا بالصبور المنتقي
نعم الخليفة من حدا بجنوده * لي ابن ماحوز بقية من بقي
ولئن رمينا بالمهلب إنه * شيخ العراق وعز أهل المشرق
فلعلنا نسخي به ولعله * يسخي بنا في بعض ما قد نلتقي (6)
بالسمر نختطف النفوس ذوابلا * وبكل أبيض صارم ذي (7) رونق
فنذيقه في حربنا ويذيقنا * كل مقالته (8) لصاحبه ذق
قال: ثم بايعت (9) الأزارقة لعبيد الله بن ماحوز (10) فجعلوه في موضع نافع بن
الأزرق وعقدوا له البيعة، وسار المهلب حتى وافى الأهواز (11) وسارت إليه الأزارقة
نيف عن عشرين ألفا وفيهم يومئذ نيف عن أربعة آلاف فارس ممن عليه درعان.



(1) في الكامل للمبرد 3 / 1229 شمت ابن بدر.
(2) في الكامل: والجائرون.
(3) في المبرد: " حتم " وفي الأخبار الطوال ص 274: أمر.
(4) في المصدرين: واقع.
(5) عن المبرد، وبالأصل: ويصبه تتعلق. قال في رغبة الأمل 7 / 250 ذلك مستجاز من غلق الرهن: إذ
بقي في يد المرتهن لا يقدر راهنه على تخليصه. يريد أنه لا يجد من يخلصه.
(6) البيت في الأخبار الطوال:
ولعله يشجي بنا ولعلنا * نشجى به في كل ما قد نلتقي
(7) بالأصل: " ذو " وما أثبت عن الأخبار الطوال.
(8) عن الأخبار الطوال وبالأصل: مقاتلة.
(9) بالأصل: بايعوا.
(10) بالأصل: عبد الله بن ماحور وما أثبت عن الطبري. وابن الأثير والكامل للمبرد. وفي الأخبار الطوال
فكالأصل.
(11) في عشرين ألفا كما في الأخبار الطوال ص 272 وفي الكامل للمبرد 3 / 1241 في اثني عشر ألفا.
184
هذه أول وقعة كانت للأزارقة
مع المهلب بن أبي صفرة
قال: وعبت الأزارقة يومئذ خيولها، وعبى المهلب أصحابه، وكان على
ميمنته ابناه زيد وحرون، وعلى ميسرته ابنه المغيرة وقبيصة، وعلى جناح ميمنته ابنه
عبد الملك، وعلى جناح ميسرته ابنه المفضل، وفي كمينه ابنه زياد ومروان، وبين
يديه ابناه محمد وحماد. ثم وقف المهلب بين الصفين ورفع صوته فقال: يا بني!
إن أول غزوكم إنصافكم لإخوتكم المسلمين وأن تؤاسوهم بأنفسكم، وإن أول
إنصافي لكم أن لا أظلمكم حقكم في أمر الحسين، فباشروا الحرب بأنفسكم،
واستقبلوا حر السيوف بوجوهكم وسنان الرماح بصدوركم ونحوركم، واعلموا أنها
منزلتان: إما شهادة وإما ظفر. قال: وجعلت الأزارقة تسمع كلام المهلب ووصيته
لأولاده فأيقنوا بالموت.
قال: ثم دعا المهلب بغلام له يقال له ذكران (1) فدفع إليه اللواء، وقال: تقدم
بين يدي! وإياك أن ترجع، فإنك إن رجعت ضرب عنقك، وإن وقفت لي في هذا
اليوم فأنت حر وجاريتي ريحانة لك! قال: فتقدم ذكران بين يدي المهلب، ودنا
القوم بعضهم من بعض، فاقتتلوا قتالا شديدا، وأقبل صاحبهم عبيد الله (2) بن ماحوز
وقتل أخوه عثمان، وقتل منهما نيف على ثلاثمائة رجل من أبطال الأزارقة في معركة
واحدة، ثم وقعت عليه الهزيمة فانهزموا، فأنشأ عوف بن بشر السبتي من أصحاب
المهلب في ذلك يقول:
قد نفينا العدو أمس عن الجي‍ * ش وقد زحزحوا عن الأهواز
بطعان مهالك القتل فيه * موشك الحلف للنفوس العراز



(1) في الكامل للمبرد 3 / 1256: ذكوان.
(2) كذا، ولعله يشير هنا إلى المعركة التي وقعت بسوق الأهواز بين عثمان أخو عبيد الله بن معمر - والي البصرة
قبل الحارث بن عبد الله - وابن الماحوز، وقد لا حظنا ذلك قريبا. إذ لم تشر المصادر إلى أخ لعبيد الله بن
ماحوز اسمه عثمان أو إلى مقتله.
وفي الطبري 5 / 616 أن المهلب خرج إليهم في أشراف الناس وفرسانهم ووجوههم فحازهم عن الجسر
و دفعهم عنه... فارتفعوا إلى الجسر الأكبر، ثم سار إليهم في الخيل والرجال، ارتفعوا فوق ذلك مرحلة
أخرى فلم يزل يجوزهم ويرفعهم مرحلة بعد مرحلة ومنزلة بعد منزلة حتى انتهوا إلى منزل من منازل
الأهواز يقال له سلي وسلبري.
185
وببيض تفرى الروؤس من القو * م كأن الضباب برق الحجاز
في مقام أحر من لهب الجم‍ * ر كتربة يد الرحاز
إن من رد هؤلاء عن الحر * ر لأهل الصلاح والإعزاز
ذلكم شيخنا المهلب حسبي * من بناتي عليه بالإنجاز
قد دعونا لها الرجال فحاموا * دونها فعل حائفين عجاز
قد مضى ما مضى وذاك ابن ماحو * ز صريع لناطقات الحراز
قال: وسار المهلب نحو الأزارقة حتى وافاهم بسلى وسلبري (1).
هذه وقعتهم الثانية
قال: ودنا القوم بعضهم من بعض، ثم اختلطوا فاقتتلوا قتالا شديدا أشد ما
كان من قتالهم الأول (2)، قال: ودارت الحرب عليهم يوما وليلة يموج بعضهم في
بعض، فلا تسمع إلا وقع السيوف على المغافر والحجف، وأنشأ رجل منهم يذكر
من قتل في ذلك اليوم ومن اليوم الذي قبله وهو يقول:
لعمري وقد بات الحياة وطيبها (3) * برضوان ربي بالخليفة عالم
غداة نكر الخيل تدمى نحورها * بدولاب يوم المأزق المتلاحم (4)
بكل فتى رخو النجاد كأنه * شهاب بدا تحت السيوف الصوارم
سقى الله أرضا لا تلوح وأعظما * بدولاب صوب الهاطلات الرهائم (5)
هم أدركوا فوز الحياة وخلدها * وما خاف شر البيع يوما كغانم
فإن تك قتلى يوم سلي (6) تتابعت * فلم تركت أرماحنا (7) من قماقم



(1) عن الطبري، وبالأصل: " بشبلي وشكيري ".
(2) انظر تفاصيل أوردها الطبري 5 / 618 والكامل للمبرد 3 / 1256.
(3) صدره في هامش الكامل للمبرد 3 / 1259:
لعمري لقد بعنا الحياة وحبها
(4) البيت في الكامل للمبرد:
غداة نكر المشرفية فيهم * بسولاف يوم المأزق المتلاحم
ونسب البيتان الثاني والأخير لعبيدة بن هلال انظر شعر الخوارج ص 92.
(5) البيت في هامش الكامل للمبرد:
سقى الله أجسادا تلوح عظامها * من الغيث صوب المدجنات الرمائم؟
(6) عن الكامل للمبرد وبالأصل: شبلي.
(7) في الكامل للمبرد: فكم غادرت أسيافنا.
186
هنالك صرعى بالفلاة فأصبحت * صوائح هم تعلون بين المآثم
قال: وأصبح القوم على حربهم ليس منهم من بلغ عن صاحبه. قال: وتعالى
النهار والأمر ملتحم بين الفريقين حتى أن بعضهم كاد أن يأكل بعضا من شدة
الحرب. قال: وضرب المهلب على رأسه ضربة (1) منكرة فسقط عن فرسه إلى
الأرض وأحدقت به بنوه، فجعلوا يحامون عن أشد المحاماة. قال: وصاح رجل من
أهل البصرة: قتل المهلب ورب الكعبة! فانهزم الناس عن المهلب هزيمة قبيحة
يظنون أن قد قتل: قال: وأفاق المهلب بن أبي صفرة من غشوته فاستوى على فرسه
وجعل يقاتل، وكبر أصحابه، فانهزمت الأزارقة لذلك انكسارا شديدا، ثم صاح
المهلب ببنيه، وحمل الناس معه من الأزارقة مائتي رجل، وانهزموا حتى صاروا إلى
بلد يقال لها إيذج (2) فنزلوا هنالك.
قال: وأقبل الفتى من شعراء أهل البصرة يقال له سعد بن سعيد الأزدي حتى
دخل على الحارث (3) فقال: لا تطلب (4) المقام عندنا إلا أن تسمع الخبر أن المهلب
قد قتل، فإن كان قد قتل فما بقي في البصرة مقام إن كان قد قتل هو وأولاده وبنو
عمه! قال ثم أنشأ ذلك الفتى في ذلك يقول:
[أيا حار يا بن السادة الصيد هب لنا * رحيلك (5) لا ترحل ولم يأتك الخبر
فإن (6) كان أودى بالمهلب يومه (6) * فقد كسفت يا حار شمسك والقمر
فما لك من بعد المهلب رجعة (7)
ولا لك بالمصرين سمع ولا بصر



(1) في الأخبار الطوال ص 273 وأصابته ضربة في وجهه، أغمي عليه منها.
(2) بالأصل: " ايدخ " وما أثبت عن معجم البلدان، وهي بلد بين خوزستان وأصبهان.
(3) بالأصل: الحرث.
(4) في الأخبار الطوال ص 273 وبلغ أهل البصرة أن المهلب قتل، فرج المصر بأهله، وهم أميرهم
الحارث بن أبي ربيعة أن يهرب، فكتب إليه رجل من بني يشكر.
(5) في الأخبار الطوال: مقامك.
(6) " فإن... يومه " عن الأخبار الطوال وبالأصل: قد... نومه.
(7) في الأخبار الطوال: وما... عرجة وما...
187
فدونك فالحق بالحجاز ولا تقم * ببلدتنا إن المقام على خطر
وإن كان حيا لم يصب فحياته * على أي حال كان في حربه ظفر (1)
وكن آمنا واعلم بأنك آخذ * به النصف ممن كان في جده الصغر
ألم تر أن الناس أجمع رأيهم * عليه ولما لم يجد مثله بشر
فقالوا جميعا فيه قولة واحد * ولم ينههم عنه التفكر والنظر
قال: واجتمع الناس في مسجد البصرة، فجعلوا يبكون وينوحون، وجعل
الأحنف بن قيس يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون على هلك المهلب وأصحابه وجماعة
المسلمين. قال: فوثب غلام من بني تميم من بني سعد فقال: والله! ما قتل
المهلب ولا قتل أحد من بني عمه في هذه الوقعة، غير أن الذين صاروا إليهم
منهزمين إنما هم أعداء المهلب، وإنما حسده على ما كان منه في الإسلام والرفع عن
بيضة هذا البلد، وو الله الخبر الصحيح أنا لقينا الأزارقة بموضع يقال له سلي
وسلبري (2)، فأطبقنا الحرب عليهم يوما وليلة يموج بعضنا في بعض، ثم أصبحنا
على ذلك من شأننا، وضرب المهلب على رأسه ضربة سقط إلى الأرض، فخبأه بنوه
وحموا عنه، فقاتلناهم فرزقنا عليهم الظفر وقتلنا منهم مقتلة عظيمة، وقتل صاحبهم
عبيد الله بن ماحوز (3) وأخوه عثمان في معركة واحدة، وبايع القوم من بعدهم ابن
أخيه قطري بن الفجاءة المازني (4)، وقد والله هزمناهم بحمد الله وعونه حتى بلغناهم
إلى حدود أصبهان من بلاد إيذج (5)، فعلى هذا تركت الناس في آخر أمورهم، فكل



(1) البيت في الأخبار الطوال:
وإن كان حيا كنت بالمصر آمنا * وكان بقاء المرء فينا هو الظفر
(2) الأصل: شبلي وشكيري.
(3) الأصل: ماخور.
(4) في الكامل للمبرد 3 / 1261 الزبير بن علي.
(5) بالأصل: " ايدخ " وفي الكامل للمبرد: " أرجان " وفي الطبري 5 / 619 فخرجوا نحو كرمان وأصبهان.
188
من كذبني بعد هذا الأمر فهو الكذاب، ثم إنه أنشأ يقول:
أبا بحر إني والبنية صادق * خبير وما مثلي بمثلك يلعب
ولا تكذب الرفاد ما يعبأوا به * إذا لم يكن في الأرض مرعى ومشرب
وقد كان حقا جار حكمي عليكم * وإن كان زورا فاشتموني واضرب
بسلى وسلبري (1) جماجم أصبحت * رفاتا ونهيا قد حواه المهلب
وذاك ابن ماحوز هناك مجندل * قتيل وعثمان هناك محلب (2)
وأطبقت الهيجاء يوما وليلة * علينا وإياهم ليوث وتلهب
فلا صد منا لا ولا من عدونا * غداة الوغى حد ولا أرو مسلب (3)
وأقشعت الغماء عنا وشيخنا * جزى الله خيرا بالدماء مخضب
فلما رأينا وجهه لم يكن لنا * سوى الجهر بالتكبير حين يقرب
قصدنا إليه إذ رأينا جبينه * وقلنا فدتك النفس والأم والأب
على ذا تركت القوم آخر أمرهم * فمن قال كذب فالمكذب أكذب
قال: فأخذ الأحنف بيد الفتى وجاء به حتى أدخله إلى الأمير فحدثه بالحديث
على جهته، فأدركه الأمير وأمر له بخلعة وجائزة
ذكر كتاب المهلب بن أبي صفرة إلى أهل البصرة
بالسلامة والبشرى وما قتل فيها من الأزارقة (4) بسم الله الرحمن الرحيم، للأمير الحارث (5) بن عبد الله وجماعة المسلمين
من أهل البصرة، من المهلب بن أبي صفرة، سلام عليكم، أما بعد! فإنه لا يوهن
الإسلام خروج من خرج منه، ولا يعيبه إلحاد من ألحد فيه، وقد كانت الحرب
استوقدت بنا وبعدونا وحمي الوطيس بيننا، فجاء القضاء بأمر جاوز فيه الأمل، ومن
يكيده للإسلام كثير وناصروه قليل، وليس كل من يقاتل عن الإسلام من أهله، ولكن
من يقاتل عن دين الإسلام فهو من أهله، وقد كان العدو أصاب في إخواننا مصائب



(1) بالأصل: بشبكي وشكيري.
(2) كذا بالأصل.
(3) كذا بالأصل.
(4) انظر نسخة الكتاب في الطبري 5 / 619 والكامل للمبرد 3 / 1260 باختلاف بين النصوص.
(5) بالأصل: الحرث.
189
عظاما فيما مضى، فأصبح اليوم العدو دريئة (1) رماحنا وضرائب سيوفنا، فالحمد لله
الذي سقى الحي وثأر القتيل، فإن الحمد به تتم النعمة وتزيد في السلامة، وأشكره
فإن الشكر يهئ المزيد - والسلام - قال: فلما قرأ الأمير الكتاب فرح بذلك واستبشر،
ثم أمر به فقرئ على المنبر (2): فأنشأ رجل من بني ضبة في ذلك يقول:
إن ربا رمى الخوارج بالذ * ل لأهل أن تحمدوه كثيرا (3)
إذ رموا بالمهلب بن أبي صفرة * شيخ ترى الصغير كبيرا
لا يزال (4) المهلب بن أبي صفرة * ما عاش بالعراق أميرا
فإذا مات فالرجال نساء * لا يساوون بعده قطميرا
فجزاك الإله يا بن أبي صف‍ * رة عنا جزاءه الموفورا
قد أمنا بك العدو على المص‍ * ر ووقرت منبرا وسريرا
قال: ثم رجع المهلب بوجوه الأزارقة، بعث بها إلى البصرة مع قوم من
أصحابه لينظروا إليها.
قال: وبلغ ذلك الأزارقة، فخرج نفر منهم حتى عارضوا أصحاب المهلب
بموضع يقال له الزائدان (5) فقاتلوهم حتى أخذوا منهم تلك الرؤوس ثم أخذوها
وصلوا عليها ودفنوها. قال: ورجع أصحاب المهلب إلى المهلب من شدة أنفس
الأزارقة وحفظهم له منهم، فأنشأ كعب بن معدان الأشقري في ذلك يقول:



(1) الدريئة: الحلقة التي يتعلم الرامي الطعن والرمي عليها، والبعير أو غيره الذي يستتر به الصائد من
الوحش يختل حتى إذا أمكن رمية رمى.
(2) زيد في الطبري 5 / 620 فلما أتى هذا الكتاب الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بعث به إلى ابن الزبير
فقرئ على الناس بمكة.
وكتب الحارث إلى المهلب:
أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه نصر الله إياك، وظفر المسلمين فهنيئا لك يا أخا الأزد بشرف الدنيا
وعزها، وثواب الآخرة وفضلها، والسلام عليك ورحمة الله.
وانظر الكامل للمبرد 3 / 1261 وزيد فيه أيضا أن أهل البصرة كتبوا إليه يهنئونه.
(3) البيت في الأخبار الطوال ص 274.
إن ربا أنجى المهلب ذا الطو * ل لأهل أن تحمدوه كثيرا
(4) بالأصل: لا زال، وما أثبت عن الأخبار الطوال.
(5) كذا بالأصل، ولم نجده.
190
قل للأزارقة الذين تمرقوا * بسلى وسلبري (1) لقيت نحوسا
قتل المهلب جمعكم وأخذتم * من رسله بالزائدان رؤوسا
قد تكتموها فاستروها وأقبلوا * جهدا على تلك النفوس نفوسا
وبكوا عليها كل ذر شارق * واسوا وظلوا عاكفين عبوسا
كم مثلها منكم له كم مثلها * بؤسا لمن عاد المهلب بؤسا
قال: ثم أرسل عبد الله بن الزبير إلى الحارث بن عبد الله (2) المخزومي فعزله
عن البصرة (3) وولى بعده ابن معمر القرشي من بني تيم (4) بن مرة (5). قال: وسارت
الأزارقة من الموضع الذي كانوا فيه حتى صاروا إلى موضع يقال له الرجان (6) من
أرض فارس، واجتمع إليهم خلق كثير ممن كان على رأيهم حتى صاروا في اثنين
وثلاثين ألفا.
ذكر خطبة قطري بن الفجاءة
قال: فعندها قام فيهم أميرهم قطري بن الفجاءة المازني خطيبا، فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا معشر المهاجرين! فإن يكن أمس عليكم فاذكروا ما كان
عليه، إنكم قتلتم (7) مسلم بن عبيس (8) القرشي، وهزمتم عثمان بن عبيد الله بن
معمر القرشي وهو سيد من سادات أهل الحجاز، وفضحتم حارثة بن بدر الغداني (9)
وعميم (10) المهلب وهو سيد الأزد وعميد أهل البصرة، وهكذا المسلمون مع عدوهم،



(1) بالأصل: بشبكي وشكيري.
(2) بالأصل: عبد الله بن الحرث.
(3) في الأخبار الطوال ص 274 أن سبب عزل ابن الزبير عامله على البصرة هو ما بلغه عنه من عزمه على
الهرب بعد أن وصلته أخبار عن مقتل المهلب بن أبي صفرة. (4) بالأصل: تميم خطأ.
(5) في الأخبار الطوال ص 274 ولى البصرة، بعد عزله، أخاه مصعب بن الزبير، وفيما ذكره الطبري
5 / 622 أن ابن الزبير ولى سنة 65 أخاه مصعبا المدينة بعد عزل عبيدة بن الزبير.
(6) كذا بالأصل، وفي معجم البلدان والكامل للمبرد: أرجان. وهي بين الأهواز وفارس.
(7) بالأصل: أيكم قبلهم.
(8) بالأصل: عيسى، وقد مر.
(9) بالأصل: العرابي وما أثبت عن الأغاني، انظر سياق نسبه فيها.
(10) بالأصل: تميم.
191
لهم، مرة وعليهم أخرى (ليميز الله الخبيث من الطيب) (1)، واعلموا أنه لم يؤت
قوم في ديارهم إلا ذلوا، فسيروا بنا إلى المهلب وثقوا من ربكم بالنصر -
والسلام - (2).
قال: وسار (3) الأزارقة حتى صاروا إلى قنطرة أربك (4) من بلد الأهواز، فإذا
هم بالمغيرة بن المهلب هناك في خيل عظيمة، فلما نظروا إليه كبروا ثم حملوا.
وهذه الوقعة الثالثة
قال: وحمل عليهم المغيرة بن المهلب في أهل البصرة واقتتل القوم على
قنطرة أربك (5)، ونظر قطري بن الفجاءة إلى المغيرة فحمل عليه وهو لا يعرفه،
والتقيا بضربتين فبادره المغيرة بضربة أرداه عن فرسه. قال: فوثب قطري بن الفجاءة
من الأرض سريعا فاستوى على فرسه، واشتبك الحرب بين الفريقين، فاقتتلوا قتالا
شديدا: فقتل جماعة من الأزارقة وولت الأزارقة الأدبار منهزمين، وأنشأ رجل منهم
يقال له عبيدة بن هلال يقول (6):
لعمري لئن كنا أصبنا بنافع * وأمسى ابن ماحوز قتيلا ملحبا (7)
فقد عظمت تلك الرزية فيهما * وأعظم من هاتين خوفي المهلبا
رمينا بشيخ يفلق الهام (8) رأيه * يراه رجال حول رايته أبا
بقايا عن الحر المهلب عنوة * وعن صحصح الأهواز معنى مشذبا
وأحنى علينا يوم أربك (9) ثانيا * وكان من الأيام يوما عصبصبا
فإن يهزموا بأربك (9) فاصبروا له * وقولوا لأمر الله أهلا ومرحبا



(1) سورة الأنفال الآية 37.
(2) الخطبة باختلاف في الكامل للمبرد 3 / 1261 ونسبت إلى الزبير بن علي، زعيمهم، وهو من بني سليط بن
يربوع.
(3) بالأصل: وساروا.
(3) بالأصل: " أدرك " وما أثبت عن معجم البلدان، وهي بلد من نواحي الأهواز وعنده قنطرة مشهورة.
(5) بالأصل: إربل.
(6) الأبيات في شعر الخوارج ص 130 ونسبت إلى قطري بن الفجاءة.
(7) الملحب: المضروب بالسيف، والمقطع.
(8) شعر الخوارج: يفلق الصخر.
(9) بالأصل: إربل.
192
فما الدين كالدنيا ولا الطعن كالمني * ولا الضر كالسرا ولا الليث ثعلبا
قال: وهم المغيرة بن المهلب أن يتبع الأزارقة، فأرسل إليه أبوه: أن يا بني
لا تعجل وذر القوم فوجه منهزمين (1) فيها ولا تجرحهم، فإن الكلب إذا جرحته عقر!
قال: فقبل المغيرة ما أمر به المهلب ورجع إلى تستر فنزلها.
قال: وأقبل إليه أخوه يزيد بن المهلب في خيل عظيمة. قال: ومضت
الأزارقة حتى ساروا إلى سابور من أرض فارس، فنزلوها وغلبوا عليها وجبوا أموالها
وخففوا عن أهلها المؤنة، وسار إليهم المهلب في جيشه، وبلغهم ذلك فمضوا إليه
حتى أدركوه بموضع يقال له النوبندجان (2).
ذكر خطبة المهلب قبل الوقعة
قال: فلما عاين القوم بعضهم بعضا واصطفت الخيلان، قام المهلب في
أصحابه خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! أكرموا هذه الخيل،
فإنها تنفعكم غدا عند اللقاء، فأجلوا السلاح لتقاتلوا به الأعداء، وأحسنوا حمله
لتنظروا يوم الوغى، وتعلموا القتال لتنصروا به مخارج الحياة، وأطيلوا الرماح فإنها
قرون الخيل، ولا تعالوا في السيوف فإنها مأمورة، واتخذوها فإنها شفار، وعيروا
الجبان بالجبن حتى يقاتل، ولا تقولوا: الحين يحثه (3)، ولم يفر قوم قط إلا وهنوا
وإن كان رأيهم حازما، وليس كل عاد يرجع ولا كل سلامة تدوم، وهؤلاء القوم
يقاتلونكم على دينكم ودنياكم، فإن غلبوكم فلا دين لكم ولا دنيا، فقاتلوهم على ما
يقاتلونكم عليه - والسلام - قال: فأجابه الناس على ما يحب واعتذروا إليه مما كره،
فأنشأ المغيرة بن حبناء التميمي في ذلك يقول:
يعلمنا المهلب كل يوم * قتال القوم تعليم الكتاب
ويلبسنا السلاح إذا أمنا * لنحذق لبسه والنقع كأب
وعاب حياتنا بالجن حتى * كأن حياتنا دين المعاب
ويجزي المحسنين بما أتوه، ويعفي المذنبين من العتاب



(1) بالأصل: منهزمون.
(2) بالأصل: " التوسد خان " وما أثبت عن معجم البلدان، ونوبندجان: مدينة من أرض فارس من كورة
سابور.
(3) بالأصل: تحثه.
193
ويضرب دوننا بالسيف صلتا * ويضرب كل مطرد الكعاب
سخي بالنهاب (1) بها وفي * إذا ما ساد (2) أصحاب النهاب (3)
وفاصل خطبة عظمت وجلت * عظيم عنده فصل الخطاب
فلولا أن سيف أبي حديد * لصاح إليه بالشكوى غراب
ولولا أن رمح أبي سعيد * طويل طال عن عرسي حجابي
كفى وشفى النفوس أبو سعيد * وقد أعيى (4) علينا كل باب
فدال لي (5) ونعمتنا علينا * وفاه إلهنا يوم الحساب
وهذه الوقعة الرابعة
قال: واقتتل القوم طول النهار، وكانت على المهلب وأصحابه، وفي آخره
على الأزارقة فانشكفوا وذلك في وقت المساء، فلم يتبعهم المهلب ليلة ذلك. فلما
أصبح ارتحل في آثارهم وذلك في يوم ماطر كثير الثلج والزلق، حتى وافاهم بموضع
يقال له كركان (6)، فلما عاين القوم بعضهم بعضا اصطفوا وجردوا الصفاح وأشرعوا
الرماح (7).
وهذه الوقعة الخامسة
قال: وخرج عبيدة بن هلال اليشكري في كتيبة حسناء من فرسان الأزارقة
وعلى رأسه بيضة، وقد غرز في العمامة ريشة سوداء، حتى وقف بين الجمعين فنادى
بأعلى صوته: أيها الناس! أنا عبيدة بن هلال اليشكري! فهل من مبارز؟ قال:
فعرفه أصحاب المهلب فلم يعجلوا في الخروج إليه، فجعل يجول في ميدان الحرب
وهو يرتجز ويقول:



(1) بالأصل: بالتهاب.
(2) بالأصل: سادم.
(3) بالأصل: التهاب.
(4) بالأصل: أعي.
(5) كذا بالأصل. (6) كركان: مدينة مشهورة بين طبرستان وخراسان.
(7) في الأخبار الطوال: ص 275 فالتقوا في يوم شديد المطر فقاتلهم فهزمهم فأخذوا نحو كرمان.
فلم يزل المهلب يسير في طلبهم من بلد إلى بلد ويواقعهم وقعة بعد وقعة طول ما ملك عبد الله بن الزبير
إلى مقتله، وخلوص الأمر لعبد الملك بن مروان.
194
إني لمذك للشراة نارها * وغاسل بالطعن عنها عارها
ومانع ممن أتاها دارها * حتى أقر بالقنا قرارها
ولا أخاف في الورى شرارها * أولا فهبني جاهلا أوزارها
قال: فخرج إليه فتى من أهل عمان يقال له ميسرة بن عبد الله اليحمدي على
فرس له أدهم وهو يقول:
يا لك من يوم عجاج وعلق * وعارض أمطرنا فيه رشق
والأرض فيها دافق الدحض زلق * وللحرون سورة فيها فلق
ونائل في الله أعمى قد مرق
قال: فحمل عليه عبيدة بن هلال اليشكري فقتله - رحمه الله -.
ثم جال وطلب البراز، فخرج إليه حبيب بن المهلب، وكان يقال له حبيب
الحرون لشدة قتاله وثباته في الحرب، قال: ونظر إليه عبيدة بن الهلال فحمل عليه
على غير معرفة، وحقق عليه حبيب بن المهلب فطعنه طعنة أرداه عن فرسه، قال:
فوثب عبيدة ومر هاربا على وجهه حتى لحق بأصحابه وهو لما فيه من طعنة حبيب.
قال: المغيرة بن حبناء في ذلك يقول:
لا تلومي على القتال عريبا * إن بالكازرون يوما عجيبا
إذ أتانا عبيدة بن هلال * فاغرا فاه بالدماء خضيبا
فأراه عن النزال بطيا * وبما قد أراه فيها مهيبا
إن تعد للنزال تلقاه حتفا * وعسى ذاك أن يكون قريبا
قال: وانهزمت الأزارقة في جوف الليل نحو سابور، فقال المهلب لأصحابه:
ذروا القوم لا تتبعوهم، فو الله ما انصرفوا حتى انقضت القتال لشدة حرب أعداء الله،
فذروهم حتى نصبح، فإنا لاحقون بهم إن شاء الله ولا قوة إلا بالله.
قال: وأصبح المهلب فنادى في أصحابه وسار حتى وافى القوم بسابور، فلما
نظروا إلى رايته وقد طلعت بادروا، وقد خرجوا إليه في تعبية وزينة وسلاح وآلة لم
يكونوا أظهروها قبل ذلك.

195
وهذه الوقعة السادسة
وخرج عمرو القناء العنبري (1) وكان من المعدودين في الأزارقة يرتجز ويقول:
اليوم عمرو وغدا عبيدة * كلاهما شوكته شديدة
كلاهما غايته بعيدة * كلاهما طعنته عنيدة
كلاهما صعدته جريدة * كلاهما وقعته مبيدة
كلاهما فراره مكيدة
قال: فما لبث عمرو أن خرج إليه حبيب الحرون وبين يده رجل من أهل البصرة
وهو يرتجز ويقول:
هذا حبيب وغدا مغيرة * كلاهما مدحته قصيرة
كلاهما بغضته كبيرة
قال: ثم التقى القوم فاقتتلوا من وقت الضحى إلى أن اختلط الظلام وصاح
الحبيب: يا معشر الأزارقة! أنا الحبيب بن المهلب، أنا الحرون، أنا خدن الحرب
الزبون، والله لا رجعت وأنتم وقوف! وصاح به عمرو القناء (2): يا حبيب! أنا عمرو
ابن عميرة (3) العنبري (4)، حلقت لحاهم وجبت خصاهم أن ترجع أو نرجع. قال:
وبات الفريقان على ظهور الخيل يجول بعضهم على بعض حتى أصبحوا، فجعلوا
يصلون على ظهور خيلهم بالإيماء والتكبير، ثم اختلطوا واشتد القتال وتضرج
الفريقان بحمرة الدماء. قال: ونظر عمرو إلى حبيب بن المهلب فحمل عليه،
قال: فسبقه حبيب فطعنه طعنة نكسه عن فرسه وحملته الأزارقة، فالتفت عمرو
القناء (5) وهو لما به، فصاح المهلب ببنيه وبأشد أصحابه ثم حمل وحملوا عليه،
فولت الأزارقة الأدبار، قال: والسيف في أقفيتهم حتى دخلوا مدينة سابور، وقد قتل



(1) الأصل: " عمرو القيناء العنيزي " وما أثبت عن معجم الشعراء، وهو من بني سعد بن زيد مناة من
تميم. حارب مع قطري بن الفجاءة وعبيدة بن هلال ثم انحاز إلى عبد ربه الكبير. وانظر الكامل للمبرد
3 / 1290.
(2) بالأصل: القيناء.
(3) بالأصل: عمير.
(4) بالأصل: العنيزي.
(5) بالأصل: القيناء.
196
منهم جماعة كثيرة فأنشأ مجاهد بن عصم التميمي في ذلك يقول:
إنما تطمع الأزارق في الحر * ب إذا لم يكن قتال حبيب
فإذا ولي القتال حبيب * فلهم عند ذاك منه نحيب
سل لعمرو القنا غداة كنان ال‍ * مهرة والسنان منه خضيب
لم يرده الحرون حتى رآه * مقدم الخيل معلما ما يجيب
فأراه الصدود ثم بني المه‍ * ر كأن الحرون بازي طلوب
إنه في احتياله ابن أمية اب‍ * نة الشيخ والحرون أريب
(و) جناه نحلا لحاشية البر * د فمرعى عمير منها جذيب
قال: ونزل المهلب على مدينة سابور محاصرا للأزارقة، وجعل يجبي ما حوله
من بلاد فيأهن (1) فيفرق ذلك في أصحابه، وسائر ذلك له ولأولاده وأهل بيته.
ذكر حمزة بن عبد الله بن الزبير
وولايته بالبصرة
قال: وأرسل عبد الله بن الزبير إلى عمر (2) بن عبد الله فعزله عن البصرة وولى
مكانه ابنه حمزة (3)، قال: فتقدم حمزة بن عبد الله واليا على البصرة (4)، قال: وكان
حمزة جوادا شيخا سخيا لا يملك نفسه من سخائه غير أن أهل البصرة لم يرتضوا به
أميرا عليهم واستضعفوه ولقبوه بقعيقعان (5) فغضب من ذلك، ثم كتب إلى أبيه
يستعفيه من الولاية، فعزله وأرسل مكانه مصعب بن الزبير (6).
قال: فقدم مصعب أميرا على البصرة من قبل أخيه عبد الله بن الزبير فنزل في
دار الإمارة، فلما كان من الغد خرج وصار إلى المسجد الأعظم، فصعد المنبر



(1) بالأصل: فأيهن.
(2) بالأصل: عمرو.
(3) ثمة اختلاف في اسم الوالي على البصرة، وما ورد في الطبري هنا أن حمزة بن عبد الله بعث واليا على
البصرة بعدما عزل أبوه المصعب بن الزبير عنها 5 / 117.
(4) وكان ذلك في سنة 67 ه‍.
(5) وكان قد ذهب يوما إلى الأهواز فلما رأى جبلها قال: هذا قعيقعان - لموضع بمكة - فسمي الجبل قعيقعان.
(6) في الطبري 6 / 117 ظهرت منه خفة وضعف... ولما خلط وظهر منه ما ظهر... كتب الأحنف إلى ابن
الزبير بذلك وسأله أن يعيد مصعبا.
197
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل البصرة! اتقوا الله ربكم، ولا تظلموا أمراءكم،
فقد بلغني أنكم تلقبونهم (1) بالألقاب القبيحة، وذاك أنكم لقبتم الحارث بن
عبد الله (2) فسميتموه القباع، ولقبتم ابن أخي حمزة (3) بن عبد الله فسميتموه
قعيقعان، ألا! وإني قد لقبت نفسي الجزار - والسلام (4) -.
ثم نزل عن المنبر وصلى بالناس، وانصرف إلى منزله. قال: واتقاه الناس
وخافوا منه خوفا شديدا.
ذكر كتاب مصعب بن الزبير
إلى المهلب بن أبي صفرة
بسم الله الرحمن الرحيم من مصعب بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة أما
بعد، فإن الناس لو أعطوا كل إنسان على قدره لقدمت في العرب قاطبة غير مدافع،
لما قد بقي الله بك العدو، وغلب بك على البلاد، فإن طاعتك وحسن بلائك قد بلغ
بك عندنا كل الذي تحب، وما نرجو لك به من ثواب الله أجزل وأفضل، وأنت عندنا
الأمين، ولك بذلك عندنا المزيد والكرامة والفضيلة - والسلام عليك ورحمة الله
وبركاته -.
قال: فلما وصل كتاب مصعب بن الزبير إلى المهلب وقرأه علم أنه ولي
البصرة، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، للأمير مصعب بن الزبير من
المهلب بن أبي صفرة، فسلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد فأمر رسول الأمير
أيده الله أتاني كتابه يذكر طاعتي وحسن بلائي والذي بلغ بي عنده من حسن المنزلة،
وأنا أسأل الله أن يودع للأمير حق أهل الطاعة، وأسأله لأهل الطاعة التمام على معرفة
حسن الخليقة وطاعة ولاة الأمر، وأنا أعلم الأمير أيده الله أن لو علمت بقدومه البصرة
أميرا عليها لبدأته بالكتاب معرفة إيجابا لحقه وسرورا بمقدمه، فأصلح الله الأمير ومد
لنا في عمره - والسلام -.



(1) بالأصل: " تلقبوهم ".
(2) بالأصل: عبد الله بن الحرث.
(3) بالأصل: عمرو.
(4) انظر الطبري 6 / 93 وفيه أن هذه الخطبة خطبها مصعب بعد قدومه البصرة واليا عليها بعد عزل
عبد الله بن الزبير القباع عنها.
198
ولم يزل المهلب باقيا على حرب الأزارقة في أرض سابور (1) حتى يتبعه عند
الأمير من يتبعه من العداوة والحسد، وقالوا: أيها الأمير! إن المهلب رجل يحب
مطاولة العدو لما يجبي من البلاد، ولو عزلته ووليت غيره حرب الأزارقة لكان في ذلك
هلال العدو وتوفير المال على أمير المؤمنين - والسلام (2) -.
ذكر عزل المهلب عن حرب الأزارقة
وتولية عمر بن عبيد الله (3) بن
معمر التميمي حرب الأزارقة
قال: فعزل مصعب بن الزبير المهلب عن حرب الأزارقة، فرجع المهلب حتى
نزل بموضع يقال له الزائدان مع بنيه وعشيرته، وسار عمر (3) بن عبيد الله يريد حرب
الأزارقة حتى إذا صاروا بهرمز كتب إلى الأزارقة بهذه الأبيات:
[و] قل للأزارق (4) الذين تجمعوا * بسابور إني لست مثل المهلب
يقاتلكم حتى إذا ما رآكم * أقام فلم يبعد ولم يتقرب
و كان امرؤ يجبي الخراج بكيده * يخرب (5) أخلاق البلاد لمجلب (6)
فأطمعكم (7) فيه تقارب خطوه * إليكم وهذا منه شبه التلعب (9)
على أنه قد نال حظا برفقه * وهيبته في كل شرق ومغرب
ورأى ومن أرتبى يبني مكانه * وحوض ساري في مباح المخضب
تركت شعابا (9) من لؤي بن غالب * مشاريع للبيت العتيق المحجب



(1) سابور كورة مشهورة بأرض فارس بينها وبين شيراز خمسة وعشرون فرسخا.
(2) وقيل في عزله أن مصعب بن الزبير أراد أن يوليه بلاد الموصل والجزيرة وأرمينية ليكون بينه وبين عبد
الملك بن مروان.
(ابن الأثير 3 / 20 والكامل للمبرد 3 / 1265).
(3) بالأصل: عمرو بن عبد الله، وما أثبت عن الكامل للمبرد 3 / 1266 وابن الأثير 3 / 20.
(4) بالأصل: للأزارقة.
(5) بالأصل: يضرب.
(6) بالأصل: يجلب.
(7) بالأصل: فأطعمكم.
(8) الأصل: الملعب.
(9) بالأصل: شعاب.
199
على ضربكم بالبيض حتى أقصكم، بها بعد ظفر بالوشيج المغلب
وأسقيكم ضربا من الموت مرة * ويكفي لكم يوما بدهر عصبصب
ولست بوقاف إذ الخيل أحجمت * ولا فاضحا في الحرب أمي ولا أب
فهذا فعالي في لؤي بن غالب * وديني على ما عبتم دين مصعب
قال: فأجابه عبيدة (1) بن هلال اليشكري وهو يقول (2):
تأن ولا تعجل علينا ابن معمر * فلست وإن أكثرت مثل المهلب
ولا لك في الحرب المحلب حظة (3) * ولا لك من يفديك بالأم والأب (4)
فلو غيرنا تلقاه قلنا ألا اذهبوا * ولو غيرنا يلقاه قلنا له اذهب
ولكن منينا بالحفيظة كلنا * جلادا وطعنا بالوشيج المغلب
كذلك كنا كلنا يا بن معمر * وأنت كبيت العنكبوت المذبذب
فإن رمتها منا ولست بفاعل * ركبت بها من حربنا شر مركب
ولسنا بأنكاس قصار رماحنا * ولا نحن نخشى وثبة المتوثب
ولسنا نقول الدهر عصمة أمرنا * على كل حال كان طالع مصب (5)
ولكن نقول الحكم لله وحده * وبالله نرضى والنبي المقرب
قال: وسار ابن معمر حتى نزل قريبا من سابور، وعلمت الأزارقة هنالك
وأمسكوا عنه ومكنوه، حتى إذا كان الليل إذ الأزارقة قد وافته من أربعة أوجه، كل
وجه منها رئيس من رؤسائهم: عبيدة بن هلال اليشكري من وجه، وعطية بن الأسود
الحنفي من وجه، وعمرو القنا (6) العنبري من وجه، وفي الوجه الرابع صاحبهم
قطري بن الفجاءة المازني (7)، وهذه أول وقعة لعمر بن عبيد الله (8) مع الأزارقة،



(1) بالأصل: عبيد خطأ.
(2) الأبيات في شعر الخوارج ص 107.
(3) شعر الخوارج: الملحة خطة.
(4) بعده في شعر الخوارج:
كما كانت الأحياء طرا تقوله * له كل يوم مستحيل عصبصب
(5) شعر الخوارج: طاعة مصعب.
(6) بالأصل: " ألقينا " وقد مر.
(7) في ابن الأثير أن الخوارج استعملوا عليهم بعد قتل عبيد الله بن الماحوز الزبير بن الماحوز (3 / 20).
(8) بالأصل: عمرو بن عبد الله.
200
قال: وفزع أصحاب عمر (1) إلى أسلحتهم ودوابهم فاستووا عليها ودنوا من الأزارقة،
وإذا قطري بن الفجاءة أمام أصحابه يهدر كالفنيق من الإبل وهو يرتجز ويقول (2):
الليل فيه للشراة نيل * والليل فيه للغواة ويل
وحفظهم فيها هوى وسيل * ورقين (3) كأنهن السيل
والحرب فيها بهج وويل (4) * يوما بيوم وكذلك الليل (5)
رجل لرجل خيل لخيل (6)
قال: فلما سمع ابن معمر كلامه في سواد الليل قصده. قال: فحمل عليه
قطري بن الفجاءة بعمود كان في يده، فضربه ضربة على بيضته فهشمها على رأسه،
فولى ابن معمر من بين يديه هاربا [حتى] اختلط بأصحابه وتقدم عبيدة بن هلال
اليشكري في قبيلة من الأزارقة وهو يرتجز ويقول (7):
كان المزوي (8) إذا بدا له * إن يلقح الحرب دعا أشباله
ثم حداهم في الوغى فعاله (9) حتى يكونوا عندنا أمثاله
لعل هذا طالب فعاله * لا تطمعن فينا فلن تناله
قال: ورفعت الأزارقة المشاعل على رؤوس الجبال وأطراف الرماح واشتد
القتال، فالتفت ابن معمر إلى رجل من عبد القيس يقال له الأعلم فقال له: ويحك يا
أخا عبد القيس! إنك قد كنت مع المهلب في حروبه لهؤلاء القوم فكيف كان يصنع؟
فقال له الأعلم (10): أيها الأمير! إنه قد ذهب الرأي وبقي الصبر. قال: ثم تقدم
الأعلم بسيفه نحو عبيدة بن هلال وهو يقول:



(1) بالأصل: عمرو.
(2) الأرجاز في شعر الخوارج ص 108 - 109 ونسبت إلى عبيدة بن هلال اليشكري.
(3) في شعر الخوارج: وفتن.
(4) الرجز في شعر الخوارج: والحرب فينا دول وغول.
(5) شعر الخوارج: الكيل.
(6) شعر الخوارج: ولخيل خيل.
(7) الأرجاز في شعر الخوارج ص 132 ونسبت إلى قطري بن الفجاءة.
(8) شعر الخوارج: " المزوني " ولعله: المازني.
(9) شعر الخوارج: نعاله.
(10) بالأصل: " لا أعلم ".
201
أنصفتنا في الحرب يا عبيده * أثبت فإن غايتي بعيده
وعدتي إن ترمها شديده
وجمرتي يوم الوغى شديده * كم من وعيد لك في قصيدة
إن الوعيد غاية الوليدة
ثم التقيا جميعا الأعلم العبدي وعبيدة بن هلال فتضاربا بسيفهما ساعة ثم
افترقا.
قال: وصاح قطري بن الفجاءة أن يا معشر المهاجرين! إن الليل أخو الهول،
فاثبتوا لحرب هؤلاء المحلين. قال: فاضطرب القوم اضطرابا شديدا ليلتهم تلك،
حتى إذا أصبحوا انهزم أصحاب ابن معمر هزيمة قبيحة وأخذتهم سيوف الأزارقة
فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ثم زحفوا إلى سواد ابن معمر فاستباحوه وأخذوا جميع ما
فيه، ثم رجعوا إلى سابور بالغنائم.
قال: وأقبل ابن معمر إلى أصحابه فقال: يا أهل البصرة! (1) لو كنتم تقاتلون
معي كقتالكم مع المهلب إذا لبلغت الذي أريد من حرب هذا العدو، ولكنكم
تقولون (2): هذا رجل حجازي، خيره لغيرنا وشره علينا، وأيم الله! لقد أردت أن
أكتب فيكم إلي أمير المؤمنين فأشكوكم إليه، لكني كرهت أن يتمادى بكم اللجاج
ويتمادى بي الغضب.
قال: فقام إليه عمران بن عصام العنبري فقال: أيها الأمير! إن المهلب كان
يقاتل بنا قتال الصعلوك ويسوسنا سياسة الملوك، حتى سكنا إليه في الليل وآنسنا به في
النهار. قال: فغضب ابن معمر من قول العنبري ثم دعا بدفتر الجند فحلق على
اسمه، فتركه العنبري وصار إلى المهلب فحدثه بالقصة على جهتها، فقربه المهلب
وأدناه وزاد في الكرامة.
قال: وبلغ أهل البصرة ما قتل منهم فاغتموا لذلك، قال: وطمعت الأزارقة
بعد هذه الوقعة في أخذ البصرة وغيرها، وندم مصعب بن الزبير على عزل المهلب
وتوليته ابن معمر (3)، وعلم أن لا يقوم بحرب الأزارقة غير المهلب لأنه قد ذاقهم



(1) في الكامل للمبرد 3 / 1267 لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب لرجوت أن أفني هذا العدو.
(2) في الكامل للمبرد: قرشي حجازي بعيد الدار، خيره لغيرنا، فتقاتلون معي تعذيرا.
(3) ومما قاله مصعب: العجب لعمر، قطع هذا العدو الذي هو بصدد محاربته أرض فارس فلم يقاتلهم ولو
قاتلهم وفر كان أعذر له. وكتب إليه: يا بن معمر ما أنصفتني، تجبي الفيء وتحيد عن العدو، فاكفني
أمرهم.
202
ومارسهم واختبرهم وعرف حربهم. قال: وأقبل ابن زياد على مصعب بن الزبير
وأقام عنده، قال: وعلم مصعب بن الزبير أنه لا يقوم بأمر العراق إلا مصعب ولا يقوم
بأمر الأزارقة إلا المهلب.
ابتداء أخبار عين الوردة
ثم نرجع بعد ذلك
إلى أخبار الأزارقة
قال: وتحركت الشيعة بالكوفة ولقي بعضهم بعضا بالتلاوم والندم (1) على ما
فرطوا فيه من قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، وأنهم دعوا إلى نصرته فلم
ينصروه بعد أن كانوا كاتبوه، وعلموا أنهم لا يغسل (2) عنهم الإثم والخطأ إلا أن
يخرجوا فيقتلوا من قتله ويأخذوا بدمه حيث كان من مشارق الأرض ومغاربها. قال:
وكان بعضهم يمشي إلى بعض ويدبرون آراءهم بينهم ولا يطلعون أحدا على ما هم
فيه، وكان أكثر خوفهم من أهل مصرهم لأن أكثرهم قتلة الحسين رضي الله عنه.
قال: ثم إنهم تفرقوا إلى هؤلاء خمسة نفر من الشيعة وهم من أصحاب علي بن أبي
طالب رضي الله عنه: سليمان (3) بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة (4) الفزاري
ورفاعة بن شداد البجلي وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي وعبد الله بن [وال -] (5)
التيمي.
قال: واجتمع هؤلاء القوم في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، وكان أول من
تكلم منهم المسيب بن نجبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنا قد ابتلينا
بطول العمر في هذه الدنيا والتعرض لأنواع البلاء والفتن، فنسأل الله أن لا يجعلنا
ممن يقال (6) له غدا: (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا



(1) في الطبري 5 / 552 والتندم، وفي ابن الأثير: والمنادمة.
(2) الطبري: لا يغسل عارهم والإثم عنهم في مقتله.
(3) عن الطبري وبالأصل: داود.
(4) الأصل: نحية وما أثبت عن الطبري.
(5) زيادة عن الطبري.
(6) الطبري: يقول له.
203
فما للظالمين من نصير) (1) وقد علمتم أن الله تبارك وتعالى في موطنين من مواطن
ابن بنت نبينا عليه السلام فوجدنا كتابين وذلك أن الحسين بن علي رضي الله عنهما
أتتنا كتبه (2) وقدمت علينا رسله وأعذر إلينا في أمره يسألنا (3) أن ننصره علانية وسرا،
فنحينا عنه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا، فلا نحن نصرناه بأيدينا، ولا دفعنا عنه
بألسنتنا. ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له نصرة من عشائرنا، فما عذرنا غدا
عند الله، وما حجتنا بين يدي نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وقد قتل ابنه وحبيبه وريحانته بين أظهرنا! لا
والله! ما لنا عذر غير أن نخرج فنقتل من قتله أو شارك في دمه وأعان على قتله،
فعسى الله تبارك وتعالى [أن] يرضى بذلك عنا (4).
قال: ثم تكلم رفاعة بن شداد البجلي فقال: أما بعد، فقد هديت إلى أرشد
الأمور ونكأت بقولك حزازات (5) الصدور، وذلك أنك بدأت بحمد الله ودعوت إلى
جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك مستجاب لك مقبول
قولك - والسلام (6) (7) -.
قال: ثم تكلم سليمان وكان شيخ القوم وعميدهم فقال: أما! إنه دهر ملعون
قد عظمت فيه الرزية وشمل فيه الخوف والمصيبة، وذلك إنا كنا ندعوهم (8) إلى
بيعتنا ونحثهم على المصير إلينا، فلما قدموا إلينا أبينا (9) وعجزنا وتربصنا حتى قتل
حبيبنا وولد (10) نبينا وسبطه وسلالته وهو في ذلك يستصرخ فلا يصرخ، ويدعو فلا



(1) سورة فاطر الآية 37.
(2) انظر العبارة في الطبري 5 / 552.
(3) في ابن الأثير: فسألنا.
(4) في الطبري 5 / 553 أيها القوم، ولوا عليكم رجلا منكم فإنه لا بد لكم من أمير تفزعون إليه، وراية
تحفون بها، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
(5) بالأصل: حرارات.
(6) انظر بقية كلامه في الطبري 5 / 553.
(7) زيد في الطبري 5 / 553 قال: ثم تكلم عبد الله بن وال وعبد الله بن سعد. فحمدا ربهما وأثنيا عليه
وتكلما بنحو من كلام رفاعة بن شداد، فذكرا المسيب بن نجبة بفضله، وذكرا سليمان بن صرد بسابقته،
ورضاهما بتوليته. فقال المسيب بن نجبة: أصبتم ووفقتم، وأنا أرى مثل الذي رأيتم، فولوا أمركم
سليمان بن صرد.
(8) في الطبري: إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا ونمنيهم النصر ونحثهم على القدوم.
(9) الطبري: ونينا.
(10) بالأصل: وليد.
204
يجاب، ويستغيث فلا يغاث، وبقي أكلته لرماحهم حتى قتلوه ثم عدوا عليه فسلبوه
بعد أن قتلوا شيعته وانتهكوا حرمته، ألا! فانهضوا فقد سخط الله عليكم ولا ترجعوا
إلى الحلائل والأبناء أبدا - رضي الله عنكم! ولا أظه راضيا دون أن تناجزوا من قتله
أو شارك في دمه، ألا! فلا تهابوا الموت، فو الله ما هابه أحد قط إلا ذل! فانهضوا
وكونوا كبراءة بني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم موسى عليه السلام: (يقوم إنكم ظلمتم
أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عن
بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) (1)، ألا! فاحدوا الصفاح (2)، وركبوا أسنة الرماح (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) (3) ولا تهنوا عن
لقاء الفاسقين.
قال: فعندها وثب خالد بن [سعد بن] (4) نفيل الأزدي فقال: أما والله! لو
علمت أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي (5) ويرضي عني ربي إذا لقتلها، ولكن هذا
الأمر إنما أمر به القوم من بني إسرائيل لما عبدوا العجل من دون الله فأمر الله سبحانه
وتعالى نبيه موسى بن عمران أن يأمرهم بقتل أنفسهم عقوبة لهم، غير أني أشهدكم
أن كل مال أصبحت أملك سوى فرسي وسلاحي فهو صدقة على المسلمين أقويهم
على قتال الفاسقين.
ثم وثب [أبو] (6) المعتمر بن حنش بن ربيعة الكناني فقال: وأنا أيضا أشهدكم
على ذلك فما أملكه فهو صدقة. قال: ثم وثب [أبو] الجويرية العبدي والأسود بن
ربيعة الكندي فقالا مثل ذلك، وتبايعت الشيعة على مثل ذلك. قال: ثم إنهم قلدوا
أمورهم سليمان بن صدر الخزاعي فجعلوه أميرهم وقائدهم، وعزموا على الخروج
على قتلة الحسين رضي الله عنه، فاتفقت آراؤهم على أن يخرجوا في غرة ربيع
الآخر (7)، ثم إنهم كتبوا إلى شيعة أهل البصرة وشيعة المدائن فخبروهم بما قد عزموا



(1) سورة البقرة الآية 54.
(2) الطبري: اشحذوا السيوف.
(3) سورة الأنفال الآية 60.
(4) زيادة عن الطبري 5 / 555.
(5) عن الطبري وبالأصل: ديني.
(6) زيادة عن الطبري.
(7) وذلك سنة 65 ه‍.
205
عليه، فأجابوهم إلى ذلك. قال: وكتب إليهم سعد بن حذيفة [بن] اليمان من
المدائن: أما بعد، فقد قرأنا كتابكم إلينا (1) وفهمنا الذي دعوتمونا إليه من هذا
الأمر، ونحن مجتهدون معدون مسرجون ملجمون ننتظر الأمر ونلتمس الأجر ونجيب
الداعي ونتبع الراعي، فإذا جاء الصريخ أقبلنا ولم نرجع - والسلام (2) -.
قال: وكتب إليهم المثنى بن مخربة (3) العبدي من البصرة يجيبهم إلى
ذلك (4).
قال: فلما التأم لهؤلاء القوم أمرهم وعزموا على ما قد عزموا عليه، أقبلوا إلى
دار الإمارة وفي أيديهم السيوف حتى هجموا على عمرو بن حريث المخزومي، وهو
يومئذ أمير الكوفة من قبل عبد الملك بن مروان (5)، فأخرجوه من القصر مطرودا،
وأقعدوا مكانه عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الجمحي - وكان يلقب بدحروجة
الجعل - قال: فبايعه أهل الكوفة على أنه من قبل عبد الله بن الزبير. قال: وبلغ
ذلك عبد الله بن الزبير فسره ذلك.
ذكر مفارقة المختار بن أبي
عبيد عبد الله بن الزبير وخروجه عليه
قال: وعزم المختار بن أبي عبيد على مفارقة عبد الله بن الزبير فجعل يقدم في
ذلك ويؤخر.
قال: وقدم هانئ بن [أبي -] (6) حية الهمداني إلى مكة يريد العمرة، فأقبل
إليه المختار بعد أن فرغ من عمرته فقال له: يا أخا همدان! ألا تخبرني عن الناس



(1) وكان سليمان بن صرد قد كتب كتابا إلى سعد. انظر نسخته في الطبري 5 / 555 - 556.
(2) نسخة الكتاب في الطبري 5 / 557 باختلاف.
(3) عن الطبري 5 / 558 وابن الأثير، وبالأصل: مخرمة.
(4) نص كتاب المثنى إلى سليمان بن صرد عن الطبري 5 / 558 أما بعد، فقد قرأت كتابك، وأقرأته
إخوانك، فحمدوا رأيك واستجابوا لك، فنحن موافوك إن شاء الله للأجل الذي ضربت وفي الموطن
الذي ذكرت والسلام عليك.
(5) كذا بالأصل، وفي الطبري 5 / 558 وأمير العراق عبيد الله بن زياد، وهو بالبصرة، وخليفته بالكوفة
عمرو بن حريث المخزومي.
(6) عن الطبري 5 / 569، وفي ابن الأثير: هانئ بن جبة.
206
كيف تركتهم بالكوفة؟ فقال: تركتهم والله وقد استوسقوا لصاحبك هذا عبد الله بن
الزبير، ولو كان لهم رجل يجمعهم على رأيهم لأكل بهم الأرض. قال: فقال له
المختار: لا عليك يا أخا همدان، فأنا والله أجمعهم على الحق (1)، وأنفي بهم
الباطل (2)، وأقتل بهم كل جبار عنيد إن شاء الله ولا قوة إلا بالله. قال: فقال له
هانئ بن [أبي -] حية: ويحك يا أبا إسحاق (3)! اتق الله ولا توضع في الضلال
والفتنة، فإن صاحب الفتنة هو أقرب شيء أجلا وأسوأ الناس عملا. قال: فقال له
المختار: سبحان الله يا أخا همدان! ما لي وللفتنة! إنما أدعو إلى الطاعة (4)
والجماعة، ولكن خبرني عن سليمان بن صرد وأصحابه هل شخص إلى قتال
المحلين؟ قال: لا، ولكنه عازم على ذلك. قال: فسكت المختار ثم انصرف إلى
منزله، فلما كان الليل وثب فاستوى على فرسه وخرج من مكة بغير علم من
عبد الله بن الزبير، فلم يصبح إلا على مرحلتين من مكة، ثم سار مجدا يريد
الكوفة، حتى إذا صار بالقرعاء (5) وجده رجل من أهل الكوفة يقال له سلمة بن
مرثد (6)، فسلم عليه المختار وقال: من أين أقبلت يا سلمة؟ قال: أقبلت من
الكوفة، قال: فكيف خلفت بها أهلها؟ فقال: خلفتهم والله كغنم رعاء تهادوا
وتمردوا، [فقال له المختار بن أبي عبيد: أنا الذي أحسن رعايتها وأبلغ
نهايتها -] (7)، فقال له سلمة: يا بن أبي عبيد! اتق الله فإنك ميت ومبعوث
ومحاسب ومجزي بعملك من خير وشر. قال: ثم افترقا، وسار المختار حتى انتهى
إلى نهر الحيرة (8) وذلك في يوم الجمعة، فنزل واغتسل فيه، ثم لبس ثيابه واعتم
بعمامته وتقلد بسيفه، ثم ركب وأقبل حتى دخل الكوفة نهارا، فجعل يمر على
مجالس القوم ويقف عليهم ويسلم ويقول لهم: أبشروا بالفرج! فقد جئناكم بما
تحبون وأنا المسلط على الفاسقين والطالب بدماء أهل بيت نبي رب العالمين. ثم



(1) في الطبري 5 / 578 على مر الحق.
(2) الطبري: وأنفي بهم ركبان الباطل.
(3) بالأصل: أبا عبد الله: انظر الإصابة، وفي الطبري: يا بن أبي عبيد.
(4) الطبري: الهدى.
(5) بالأصل: " بالفرغا " وما أثبت عن الطبري، والقرعاء: منزل في طريق مكة من الكوفة.
(6) عن الطبري، وبالأصل: كريث.
(7) زيادة عن الطبري 5 / 578.
(8) الحيرة: مدينة على ثلاثة أميال من الكوفة.
207
أقبل إلى المسجد الأعظم فنزل، ثم دخل المسجد فصلى، واستشرف الناس
ينظرون إليه ويقولون: هذا المختار بن أبي عبيد (1)، وما قدم إلا لأمر ونحن نرجو به
الفرج.
قال: ثم قعد المختار في المسجد حتى صلى الظهر والعصر ونهض وعليه
ثياب رثة حتى صار إلى باب المسجد فركب وأقبل حتى نزل في دار سلم (2) بن
المسيب وهي داره التي لا تعرف إلا به. فلما كان من الغد بعث إلى وجوه الشيعة
فدعاهم ثم قال لهم: اعلموا أني قد جئتكم من عند ولي الأمر، ومعدن الفضل،
ووصي الوصي، والإمام المهدي، محمد بن علي ابن الحنيفة، بعثني إليكم أمينا
ووزيرا وعاملا (3) وأميرا، وقد أمرني بقتال المحلين، والطلب بدم ابن بنت نبي رب
العالمين، وهذا أمر لكم فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام
النعماء. قالت الشيعة: يا أبا إسحاق! أنت موضع ذلك، غير أن الناس اجتمعوا
إلى سليمان بن صرد الخزاعي وأنت تعلم أنه شيخ الشيعة اليوم فلا تعجل إلى أن تنظر
[وينظر] ويؤول الأمر إلى ما تحب إن شاء الله ولا قوة إلا بالله. قال: فسكت المختار
وأقام بالكوفة ينتظر ما يكون من أمر سليمان بن صرد (4).
قال: وعلم عبد الله بن الزبير أن المختار قد صار إلى الكوفة فاتقى أن يفسد
عليه البلد، فأرسل إلى عامر بن مسعود الجمحي فعزله عن الكوفة وولى عليها
[عبد الله بن يزيد الأنصاري، قال: فقدم عبد الله بن يزيد أميرا على الكوفة من
قبل] عبد الله بن الزبير وقدم معه إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله على خراج
الكوفة (5). قال: وأقبل رؤساء أهل الكوفة على عبد الله بن يزيد (6) فسلموا عليه.
وهنؤه بالولاية، فقال لهم: يا أهل الكوفة! ما هذا الذي يبلغني عن سليمان بن صرد
وأصحابه؟ فقالوا: أيها الأمير! يذكر أنه يطلب بدم الحسين بن علي رضي الله



(1) بالأصل: عبيد الله.
(2) عن الطبري 5 / 579 وبالأصل: مسلم.
(3) في الطبري ومنتجبا وأميرا.
(4) في الطبري 5 / 561 انشعبت إليه طائفة تعظمه وتجيبه وتنتظر أمره، وعظم الشيعة مع سليمان بن صرد.
(5) وكان قدوم عبد الله بن يزيد يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان سنة 64. وكان المختار قد قدمها قبله
بثمانية أيام. (الطبري 5 / 560).
(6) بالأصل: عبيد الله بن زيد، وما أثبت عن الطبري.
208
عنهما. فقال عبد الله بن يزيد (1): نعم هذا الرأي وأنا معهم ومعينهم أيضا على
ذلك.
قال: وخرجت الشيعة من عند عبد الله بن يزيد (2) وبقي عنده رجل من شيعة
بني أمية يقال له يزيد (3) بن الحارث بن رويم، فقال: أصلح الله الأمير! إن
سليمان بن صرد وأصحابه قد عزموا على أن يخرجوا عليك بالكوفة، فاجمع إليك
أصحابك ثم انهض إليهم فضع فيهم السيف من قبل أن يخرجوا عليك (4)، فقال
عبد الله بن يزيد: يا هذا! ولم يخرج علي سليمان بن صرد؟ فقال: لأنهم يزعمون
أنهم يطلبون بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما، قال عبد الله بن يزيد (5): الله
أكبر! أنا قتلت الحسين! لعن الله من قتله وشارك في دمه ودماء إخوته وأهل بيته
وشيعته رضي الله عنهم! ومن لم تكن مصيبة الحسين بن علي دخلت عليه ما هو
بمؤمن. قال: فقام الرجل من عنده نادما على ما تكلم.
ذكر خروج سليمان بن صرد وأصحابه إلى قتال أهل الشام
قال: ونادى سليمان بن صرد في أصحابه. فجعلوا يخرجون من منازلهم على
الخيل العتاق وقد أظهروا الآلة والسلاح، فجعلوا يسيرون في أسواق الكوفة،
والناس يدعون لهم بالنصر والظفر (6)، حتى إذا صاروا إلى النخيلة عسكروا بها.
قال: وخرج سليمان بن صرد من الكوفة في نفر من أصحابه، حتى إذا أشرف على
أصحابه وعسكره لم يعجبه ما رأى من قلة الناس، فدعا برجلين من أصحابه
حكيم من منقذ الكندي والوليد بن غصين (7) الكناني فقال لهما: اركبا فمرا بالكوفة،
وناديا في الناس: من أراد الجنة ورضاء الله والتوبة فليلحق بسليمان بن صرد إلى
النخيلة! قال: ففعلا ما أمرهما به وناديا في الكوفة. قال: وسمع ذلك رجل من



(1) بالأصل عبيد الله بن زيد.
(2) بالأصل: زيد.
(3) بالأصل: " زيد " وما أثبت عن الطبري 5 / 561.
(4) انظر مقالة ابن رويم في الطبري 5 / 561.
(5) الأصل: زيد.
(6) وكان ذلك مع هلال شهر ربيع الآخر سنة 65، وقد كان واعد أصحابه عامة الخروج في تلك الليلة
للمعسكر بالنخيلة، كما لاحظناه قريبا.
(7) عن الطبري، وبالأصل: " عصين " وفي ابن الأثير: عصير.
209
الأزد يقال له عبد الله بن خازم وله امرأة يقال لها سهلة بنت سبرة، فلما سمع النداء
وثب إلى ثيابه فلبسها، وأفرغ عليه سلاحه وأمر بإسراج فرسه، فقالت له ابنته: ما لي
أراك متأهبا؟ فقال: إن أباك يريد أن يفر من ذنوبه، فقالت له امرأته: ما شأنك؟
ويحك! خبرني قضيتك، فقال: ويحك أيتها المرأة! إني سمعت الداعي (2)
فأحببت أن أجيبه، وأنا أطلب بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما وإخوته وأهل بيته
رضوان الله عليهم حتى أموت أو يقضي الله في ذلك من أمره ما يحب ويرضى،
قال: فقالت له امرأته: ويحك! على من تخلف أهلك وولدك؟ فقال: على الله
وحده، قال: ثم رفع عبد الله بن خازم طرفه نحو السماء فقال: اللهم إني أستودعك
أهلي وولدي فاحفظني فيهم، وتب علي مما فرطت في نصرة ابن بنت نبيك
محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال: ثم خرج حتى لحق سليمان بن صرد.
قال: فعرض سليمان أصحابه، قال: وكانوا في ديوانه قبل أن يقدم المختار
إلى الكوفة ستة عشر ألفا، فلما كان ذلك اليوم عرضهم إذا هم ألف رجل أو يزيدون
قليلا (3). قال: فقال سليمان بن صرد: ما أظن هؤلاء مؤمنين، أما يخافون الله في
الذين أعطونا من صفقة إيمانهم (4). قال: فقال له المسيب بن نجبة الفزاري: إنه لا
ينفعك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من خرج من نفسه، فلا تنتظرن أحدا وأكمش (5)
أمرك واستعن بالله وتوكل عليه، وقل: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: فعندها وثب سليمان قائما على قدميه متكئا على فرس له عربية فقال:
أيها الناس! إنه من كان إنما أخرجته معنا إرادة الله وثواب الآخرة فذاك منا ونحن منه
ورحمة الله عليه حيا وميتا، ومن كان يريد متاع الدنيا وحرثها فلا والله! ما معنا فضة
ولا ذهب (6)، ولسنا نمضي إلى شيء نحوزه ولا إلى غنيمة نأخذها، وما هي إلا
سيوفنا في رقابنا، ورماحنا في أكفنا، ومعنا زاد بقدر البلغة إلى لقاء عدونا



(1) عن الطبري 5 / 583 وبالأصل: " برة ".
(2) الطبري: داعي الله.
(3) في الطبري 5 / 584 أربعة آلاف، وفي رواية: ألفي رجل.
(4) زيد في الطبري: ليجاهدن ولينصرن، فأقام بالنخيلة ثلاثا يبعث ثقاته من أصحابه إلى من تخلف عنه
يذكرهم الله وما أعطوه من أنفسهم فخرج إليه نحو من ألف رجل.
(5) كمش الرجل في أمره: مضى وأسرع.
(6) زيد في الطبري: ولا خز ولا حرير.
210
عبيد الله بن زياد - لعنه الله وأصحابه! فمن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا. قال:
فقال له صخير (1) بن حذيفة بن هلال المزني: صدقت رحمك الله! والله ما لنا خير
في صحبة من الدنيا [همته ونيته -] (2)، وما أخرجنا إلا التوبة من ذنوبنا والطلب
بدماء أهل بيت نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد علمنا أنا إنما نقدم على حد السيوف وأطراف
الرماح. قال: فناداه الناس من كل جانب: ألا إنا لا نطلب الدنيا ولا (3) لها خرجنا.
قال: وتهيأ الناس للمسير وعزموا على ذلك، وجعل عبد الله بن عوف (4) بن
الأحمر الأزدي يحرض الناس على ذلك ويذكر ما كان منه، فبدأ ذلك في أيام صفين
وحروبها فأنشأ يقول:
صحوت وودعت الصبا والغوانيا * وقلت لأصحابي: أجيبوا المناديا
وقولوا له إذ قام إلى الهدى * وقتل العدى (5): لبيك لبيك داعيا
وشدوا له إذ سعر الحرب أزره * ليجزي امرؤ يوما بما كان ساعيا
وقودوا إلى الأعداء كل طمرة * وقودوا إليكم سانحات المذاكيا
وسيروا إلى القوم المحلين جنة * وهزوا حرابا نحوهم وعواليا
ألسنا بأصحاب الحريبة والأولى * قتلنا بها ما كان حيران باغيا
و نحن شمرنا لابن هند بجحفل * كركن حوى يرجى إليه الدواهيا
فلما التقينا بين الطعن إننا * بصفين كان الأصرع المتهاديا
دلفنا فأقبلنا صدورهم بها * غداة رددناها صماء صواديا
فزدناهم من كل وجه وجانب * وجرناهم جور الدعا للمتاليا
رميناهم حتى أرانا صفوفهم، فلم تر إلى ملجيا أو ركابيا
وحتى ظللنا ما نرى من معقل * وألفيت للقتلى جميعا قداتيا
وحتى استغاثوا بالمصاحف واتقوا * بها وقعات يختطفن المحافيا
فدع ذا ولا تيأس له من ثوابه * وتب واغز للرحمن إن كنت غازيا
ألا وانع خير الناس جدا ووالدا * حسينا لأهل الدين أن كنت ناعيا



(1) عن الطبري 5 / 585 وبالأصل: حصين.
(2) زيادة عن الطبري.
(3) في الطبري: وليس.
(4) عن الطبري وبالأصل: " عور ".
(5) في مروج الذهب 3 / 111 وقبل الدعا.
211
ليبك حسينا من رعى الدين والتقى * وكان غياثا للضعيف وكا فيا
ويبك حسينا كل عار ولابس * وأرملة لا تحمل الدهر حافيا
ويبك حسينا ذو أمان وحفظة * عديم وأيتام عد من المواليا (1)
لحا الله قوما أشخصوه وعودوا * فلم ير يوما الناس منهم مواسيا
ولا موفيا بالعهد إذ حمي الوغى * ولا زاجرا عند المحلين ناهيا
ولا قائلا لا تقتلوه فيستحوا * ومن يقتل الزاكين يلقى المخازيا
فلا تلق إلا باكيا ومقاتلا * وذا فخرة يحمي عليه معاديا
سوى عصبة لم يتق القتل دونه * يشبهها إذ ذاك أسدا ضواريا
وقوه بأيديهم وجرد وجوههم * وباعوا الذي يفنى بما هو باقيا
وأضحى (2) حسين (3) للرماح دريئة * وغودر مسلوبا لدى الطف (4) ثاويا
قتيلا كأن لم تغن في الناس ليلة * جزى الله قوما أسلموه المخازيا
فيا ليتني إذ ذاك كنت شهدتهم (5) * وضاربت (6) عنه السائبين (7) الأعاديا
ودافعت عنه ما استطعت مجاهدا * وأعلمت سيفي فيهم وسنانيا
ولكن قعدنا في معاشر ثبطوا * وكان قعودي ظلة من ضلاليا
وأنستني الأيام من نكباتها * فإني لن ألقى لي الدهر ناسيا
فيا ليتني غودرت فيمن أجابه * وكنت له من مقطع القتل واديا
سقى الله قبرا ضمن المجد والتقى * بغربية الطف الغمام الغواديا
فتى خير سيم الخيف لم تقبل التي * تذل عزيزا أو تجر المساويا
ولكن مضى لا يملأ الروع نحره * فبورك مهديا شهيدا وهاديا



(1) البيت في مروج الذهب 3 / 112
لبيك حسينا مرمل ذو خصاصة * عديم وأيتام تشكى المواليا
المرمل: الذي نفد زاده، والخصاصة: الفقر.
(2) في مروج الذهب: فأضحى.
(3) عن مروج الذهب، وبالأصل: حسينا.
(4) عن مروج الذهب وبالأصل: " لذي اللطف ".
(5) في مروج الذهب: شهدته.
(6) في مروج الذهب: فضاربت.
(7) في مروج الذهب: الشانئين.
212
فصلى عليه الله ما هبت الصبا * وما لاح نجم أو تحدر هاويا
فلو أن صدها ريك وفاته * حصون بلاد والجبال الرواسيا
لزال جبال الأرض من عظم فقده * وأضحى له الحصن المشيد خاويا
وقد كسفت شمس الضحى لمصابه * وأصحبت الآفاق عبرا بواكيا
فيا أمة ضلت وتاهت (1) سفاهة * أنيبوا وأرضوا (2) الواحد المتعاليا
وقوموا بحد الوال من حد سيفنا * بخيلكم واتقوا الله عاليا
وكان شراه بالنفوس وبالقنا * جهارا وقدما كان من كل ساريا
وفتيان صدق صرعوا حول بيته * كراما وهم كانوا الولاة الأكابيا
وإخوتنا كانوا إذا الليل جنهم * تلوا طول فرقان به والمثانيا
أصابهم أهل الشقاوة والأذى * فحتى متى لا تبعث الخيل شاميا
وحتى متى لا أعتلي بمهند * فذاك ابن وقاص وأدرك ثاريا
وإني ابن عوف (3) أن راحة منيتي * بيوم لهم منها تشيب النواصيا
قال: وعزم سليمان بن صرد على الرحيل، فناداه الناس من كل مكان: أي
رحمك الله! إنك قد عزمت على المسير إلى عبيد الله بن زياد وقد علمت أن الذي
قتل الحسين وتولى قتله هو عمر (4) بن سعد وأصحابه، فأين تذهب وههنا تذر
الأقتال، وهم معك في البلد، ابدأ بعمر (5) بن سعد فاقتله ثم سر بنا إلى غيره.
قال: فقال سليمان بن صرد: إن عمر (4) بن سعد ضعيفة قوته، ذليلة عدته، والذي
قاد الجيوش إلى صاحبنا الحسين وقال له: " مالك عندي أمان دون أن تستسلم
فأنفذ (6) فيك حكمي " هو الفاسق ابن الفاسق عبيد الله بن زياد، فإن أظفرنا الله به
رجونا أن من بعده أهون منه شوكة، وإن تستشهدوا فلما عند الله خير وأبقى، فعليكم
بالصلاة في جوف الليل وبذكر الله تعالى كثيرا، وتقربوا إليه ما استطعتم، فإنكم لن
تنالوا إلى ربكم بشيء هو أكثر ثوابا من الصلاة والجهاد، لأن الصلاة عماد الدين



(1) في مروج الذهب: تاهت وضلت.
(2) في مروج الذهب: فأرضوا.
(3) بالأصل: " عمرو " خطأ.
(4) بالأصل: عمرو خطأ.
(5) الأصل: " بعمرو " خطأ.
(6) الطبري 5 / 586 فأمضي.
213
والجهاد سنام العمل، وقد علمتم أن للدنيا تجارا وللآخرة تجارا (1)، فأما تاجر الدنيا
فإنه مكب عليها راتع فيها، لا يبتغي بها بدلا، وأما تاجر الآخرة فإنه ساع لثوابها لا
يشتري بها ثمنا قليلا، ويؤمل منها ثوابا جزيلا، يظل قائما وقاعدا، ويبيت راكعا
وساجدا، لا يطلب فضة ولا ذهبا، ولا وفرا ولا نسبا، ثم قال: أيها الناس! إنا
مدلجون الليل من منزلنا إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله.
قال: ثم أدلج سليمان بالناس ليلة الجمعة من شهر ربيع الآخر لخمس مضين
منه (2) حتى نزل على شاطئ الفرات بموضع يقال له أقساس (3) من بني مالك، ثم
إنه عرض الناس هنالك فإذا به قد نقص منهم ألف ومائة رجل - زيادة أو نقصانا،
فقال سليمان بن صرد: والله ما أحب من تخلف عنكم أن يكون معكم، لأنهم لو
كانوا معكم ما زادوكم إلا خبالا، فاحمدوا الله على رجعتهم عنكم.
قال: وسار القوم من ليلتهم تلك إلى أن أصبحوا [و] أشرفوا على قبر
الحسين بن علي رضي الله عنهما، فلما عاينوه رفعوا أصواتهم بالبكاء والنحيب، ثم
إنهم رموا أنفسهم عن دوابهم وجعلوا يقولون: اللهم! إنا خذلنا ابن بنت نبينا وقد
أسأنا وأخطأنا، فاغفر لنا ما قد مضى من ذنوبنا، وتب علينا إنك أنت التواب
الرحيم، اللهم ارحم الحسين الشهيد ابن الشهيد! وارحم إخواننا الذين حصنوا
أنفسهم بالشهادة، اللهم! إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
قال: ثم تقدم رجل من خيار أهل الكوفة يقال له وهب بن زمعة الجعفي حتى
وقف على القبر باكيا، ثم قال: والله لقد جعله (4) الأعداء للسيل عرضا وللسباع
مطعما! فلله حسين ولله يوم حسين! لقد غادروا منه يوم وافوه ذا وفاء وصبر وعفاف
وبأس وشدة وأمانة ونجدة ابن أول المؤمنين وابن بنت نبي رب العالمين، قلت حماته
وكثرت عداته، فويل للقاتل، وملامة للخاذل! إن الله تبارك وتعالى لم يجعل للقاتل
حجة ولا للخاذل معذرة، إلا أن يناصح الله في التوبة فيجاهد الفاسقين، فعسى الله
عند ذلك يقبل التوبة ويقيل العثرة، قال: ثم أنشأ يقول:



(1) عن الطبري: وبالأصل: أن الدنيا تجارا والآخرة تجازى.
(2) سنة خمس وستين للهجرة (الطبري 5 / 588).
(3) عن الطبري، وبالأصل: " أفسى ".
(4) بالأصل: جعلوه.
214
تبيت نساء من أمية نوما * وبالطف قتلى ما ينام حميمها
وما ضيع الإسلام إلا قبيلة * بأمر فزكاها ودام نعيمها
وعادت قناة الدين في كف ظالم * إذا مال منها جانب لا يقيمها
فأقسم لا تنفك نفسي حزينة * وعيني سفوحا لا يجف سجومها
حياتي أو تلقى أمية وقعة * ينال بها حتى الممات قرومها
لقد كان في أم الكتاب وفي الهدى * وفي الوحي لم ينسخ لقوم علومها
فرائض في الميراث قد تعلمونها * يلوح لذي اللب البصير أرومها
بها دان من قبل المسيح ابن مريم * ومن بعده لما أمر بريمها
فأما لكل غير آل محمد * فيقضي بها حكامها وزعيمها
وأما لميراث الرسول وأهله * فكل براهم رمها وجسيمها
فكيف وضلوا بعد خمسين حجة * يلام على هلك الشراة أديمها
قال: فضج الناس بالبكاء والنحيب، فأقاموا عند القبر يومهم ذلك وليلتهم
يصلون ويبكون ويتضرعون، فنادى فيهم سليمان بن صرد بالرحيل، فجعل الرجل
بعد الرجل يأتي القبر فيودعه ويترحم على الحسين ويستغفر (1) الله له، ثم إنهم
ازدحموا على القبر كازدحامهم على الحجر الأسود وهم يقولون (2): اللهم! إنا قد
خرجنا من الديار والأموال، وفارقنا الأهلين والأولاد، نريد جهاد الفاسقين
المحلين، الذين قتلوا ابن بنت نبيك، فتب علينا وارزقنا الشهادة يا أرحم الراحمين!
اللهم! إنا نعلم أنه لو كان الجهاد فيهم بمطلع الشمس أو بمغرب القمر أو بمنقطع
التراب لكان حقيقا علينا أن نطلبه حتى نناله، فإن ذلك هو الفوز العظيم والشهادة
التي ثوابها الجنة.
قال: وسار القوم من منزل قبر الحسين رضي الله عنه ولزموا الطريق الأعظم،
فجعل رجل منهم يقول (3):
خرجن يلمعن بنا أرسالا * عوابسا قد تحمل الأبطالا (4)



(1) بالأصل: ويستغفرون.
(2) في الطبري 5 / 590 نسب القول إلى المثنى بن مخربة باختلاف.
(3) الأرجاز في الطبري 5 / 591 ومروج الذهب 3 / 112 ونسبت إلى عبد الله بن الأحمر.
(4) في المصدرين، عوابسا يحملننا الأبطالا.
215
نريد أن نلقى بها الأقيالا (1) * الفاسقين (2) الغدر الضلالا
وقد رفضنا الأهل والأموالا * والخفرات البيض والحجالا
زجوا به التحفة والجمالا * لنرضي المهيمن الجلالا (3)
قال: وسار القوم حتى بلغوا إلى موضع يقال له القيارة (4) وإذا كتاب أمير الكوفة
عبد الله بن يزيد (4) الأنصاري قد ورد على سليمان بن صرد وأصحابه.
ذكر كتاب أمير الكوفة
إلى سليمان بن صرد وأصحابه (6)
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد وأصحابه
المؤمنين، أما بعد فإن كتابي إليكم كتاب ناصح لكم مشفق عليكم، إنكم تريدون
المسير، بالعدد اليسير، إلى الجمع الكثير، والجيش الكبير، وقد علمتم أن من
أراد أن (7) يقلع الجبال من أماكنها تكل معاوله ولا يظفر بحاجته، فيا قومنا! لا
تطمعوا عدوكم في أهل بلدكم، فإنكم خيار قومكم، ومتى ظفر بكم عدوكم طمع
في غيركم من أهل مصركم وهلاككم ومن خلفكم، يا قومنا! (إنهم إن يظهروا
عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) (8) فارجعوا واجعلوا
أيدينا وأيديكم اليوم واحدة على عدونا وعدوكم، فإنه متى اجتمعت كلمتنا ثقلنا (9)
على عدونا، فلا تستعيبوا (10) نصحي ولا تخالفوا أمري، وأقبلوا حين تقرأون كتابي
هذا أقبل [الله] بكم إلى طاعته وأدبر بكم عن معصية - والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته -.



(1) الطبري: " الأقتالا "، والأقتال جمع قتل وهو العدو.
(2) في المصدرين: القاسطين.
(3) الرجز في المصدرين.
نرضي به ذا النعم المفضالا
(4) عن الطبري 5 / 591 وبالأصل: العيادة.
(5) بالأصل: زيد.
(6) نسخة الكتاب في الطبري 5 / 591.
(7) الطبري: أن ينقل الجبال عن مراتبها.
(8) سورة الكهف الآية 20.
(9) الطبري: نظهر.
(10) الطبري: لا تستغشوا.
216
قال: فلما قرأ سليمان بن صرد الكتاب أقبل على أصحابه وقال: والله لا أرى
لكم الرجوع عما عزمتم عليه إما الشهادة أو الفتح! ونحن نريد الآخرة قال: ثم جعل
سليمان بن صرد يتمثل بهذا البيت وهو لبعض العرب (1):
أرى لك شكلا غير شكلي فأقصري * عن اللوم إذ بدلت واختلف الشكل
ذكر كتاب سليمان بن صرد
جواب كتاب عبد الله بن يزيد
للأمير عبد الله بن يزيد من سليمان بن صرد وأصحابه (2) أما بعد فقد قرأنا
كتابك أيها الأمير وعلمنا ما نويت، فنعم أخو العشيرة أنت ما علمناك في المشهد
بالمغيب! غير أنا سمعنا الله تعالى يقول في كتابه وقوله الحق: (إن الله اشترى من
المؤمنين وأنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا
عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم
الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) (3)، وأعلمك أيها الأمير أن القوم قد
استبشروا ببيعتهم الذي بايعوه وقد تابوا إليه (4) وتوكلوا عليه من عظيم ذنوبهم
- والسلام عليك ورحمة الله وبركاته -.
قال: فلما ورد الكتاب على عبد الله (5) بن يزيد وقرأه أقبل على جلسائه فقال:
استمات القوم ورب الكعبة! وأول خبر يأتيكم عنهم أنهم قتلوا بأجمعهم، والله لا
قتلوا حتى يكثر القتل بينهم وبين عدوهم.
ذكر حبس المختار بالكوفة
قال: وعلم المختار أن سليمان بن صرد قد مضى في أصحابه وحدثته نفسه أنه
ليس يرجع منهم أحد، فجعل يبعث إلى الشيعة ويشاورهم في الخروج، قال: وبلغ



(1) البيت في الطبري 5 / 592 لرجل من بني كنانة.
(2) نسخة الكتاب في الطبري 5 / 592.
(3) سورة التوبة الآية 111.
(4) الطبري: إنهم قد تابوا من عظيم جرمهم، وقد توجهوا إلى الله.
(5) الأصل: عبيد الله خطأ.
217
ذلك عمر (1) بن سعد بن أبي وقاص، فأقبل ومعه نفر من أصحابه (2) حتى دخل على
عبد الله (3) بن يزيد فقال: أيها الأمير! إن المختار بن أبي عبيد صاحب فتنة، وقد
بلغني أن قوما من هؤلاء الترابية يختلفون إليه ولست آمنه، فابعث إليه الساعة فخذه
وخلده السجن، فإنك لا تقوى به. فأرسل عبد الله (3) بن يزيد إلى إبراهيم بن
محمد بن طلحة فخبره بذلك، فركب من ساعته في جماعة من خاصته وأعوانه حتى
صار إلى دار المختار ثم قال: اهجموا عليه فأخرجوه، فقال له إبراهيم بن محمد:
يا بن أبي عبيد: ما هذا الذي يبلغنا عنك؟ فقال المختار: كل ما (4) بلغكم عني
فإنه باطل وزور. قال: وأقبل عمر (5) بن سعد على فرس له حتى وقف على المختار
وقد أخرج من منزله، فقال لإبراهيم بن محمد بن طلحة: أيها الرجل! هذا رجل
يريد أن يخرج عليكم في مصركم هذه فيفسد عليكم البلد، فأوثقوه بالحديد وخلدوه
السجن إلى أن يستقيم للناس الأمر (6). قال: وإذا رسول الأمير عبد الله بن يزيد قد
أقبل إلى إبراهيم فقال: يقول لك الأمير: شد المختار كتافا وامض به إلى السجن
حافيا! قال: فقال إبراهيم بن طلحة للرسول: يا هذا! ولم هذا؟ والله ما هذا جزاؤه
من أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير وقد أبلى بين يديه البلاء الحسن وقاتل القتال
الشديد! فلما ذا يشده كتافا ويسوقه إلى السجن حافيا ولم ير منه بعد إلا حسنا، وإنما
أخذناه على التهمة والظن (7). قال: ثم أمر به إبراهيم بن محمد السجن فحبس (8).
ومشى قوم من وجوه أهل الكوفة إلى عبد الله بن يزيد فقالوا: أيها الأمير! إن
المختار بن أبي عبيد رجل من شيعة آل محمد عليه السلام وأنت عارف به قديما
وحديثا، وإنما قدم علينا لأنه رأى أمن أمير المؤمنين حفوة فأحب أن يكون في
ناحيتنا، ولم (9) يظهر لنا ولا لك عداوة منه ولا حربا، فإن رأى الأمير أن يشفعنا فيه!



(1) بالأصل: عمرو.
(2) في الطبري 5 / 580 قال عمر بن سعد وشبث بن ربعي ويزيد بن الحارث بن رويم.
(3) بالأصل: عبيد الله.
(4) بالأصل: كلما.
(5) الأصل: عمرو.
(6) الطبري 5 / 581 وخلدوه في السجن حتى يستقيم أمر الناس.
(7) في الطبري جعل قول إبراهيم بن محمد لعبد الله بن يزيد وقول عبد الله لإبراهيم، انظر 5 / 581.
(8) في الطبري قال إبراهيم لعبد الله: ألا تشد عليه القيود؟ فقال: كفى له بالسجن قيدا.
(9) بالأصل: أو لم.
218
قال: فأبى عبد الله بن يزيد ذلك. قال: فانصرف القوم مغضبين.
قال: وبلغ المختار ذلك فجعل يقول وهو في السجن: أما! ورب البحار،
والنخل والأشجار، والهامة والعقار (1)، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار!
لأقتلن كل جبار بكل (2) مهند خطار، حتى إذا أقمت عمود الدين، ورأيت (2) شيعة
المسلمين، وشفيت غليل الصادين (4)، من أولاد القاسطين وبقية المارقين،
وأدركت بثأر أولاد النبيين، لم يكثر (5) علي زوال الدنيا ولم أحتفل (6) بالموت إذا
أتى، إذ كان المصير إلى دار الجزاء.
قال: ثم كتب المختار إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: أما
بعد: فإني حبست بالكوفة مظلوما وظن بي [الولاة] ظنونا كاذبة، فاكتب إلى
هذين (7) الواليين الصالحين كتابا لطيفا، عسى الله أن يفرج عني (8) من أيديهما
ببركتك - والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. قال: فكتب عبد الله بن عمر إلى
عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة: أما بعد، فقد علمتما (9) الذي بيني
وبين المختار من الصهر والقرابة والذي بيني وبينكما من المودة (10) - والسلام عليكما
ورحمة الله وبركاته -.
قال: فلما ورد كتاب عبد الله بن عمر على عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن
محمد بن طلحة فأرسلا إلى المختار فأخرجاه من السجن ثم قالا له: أعطنا كفيلا أن
لا تحدث أمرا والزم منزلك! قال: فتقدم عشرة من وجوه الشيعة فضمنوه. قال: ثم
سكت المختار ولزم منزله.



(1) في الطبري 5 / 581 والمهامه والقفار.
(2) عبارة الطبري: بكل لدن خطار، ومهند بتار في جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار، ولا بعزل أشرار.
(3) الطبري: ورأيت شعب صدع المسلمين.
(4) الطبري: وشفيت غليل صدور المؤمنين.
(5) الطبري: لم يكبر.
(6) الطبري: ولم أحفل.
(7) في الطبري 6 / 8 إلى هذين الظالمين.
(8) الطبري: أن يخلصني.
(9) عن الطبري، وبالأصل: " علمتم ".
(10) زيد في الطبري: فأقسمت عليكما بحق ما بيني وبينكما لما خليتما سبيله حين تنظران في كتابي هذا.
219
ثم رجعنا إلى أخبار سليمان
ابن صرد وأصحابه
قال: وسار سليمان بن صرد وأصحابه من القيارة (1) حتى صاروا إلى هيت (2)،
ثم رحل من هيت إلى عانات (3) وما يليها، حتى صار إلى مدينة قرقيسيا (4) وبها يومئذ
رجل من العرب يقال له زفر بن الحارث الكلابي من بني كلاب، فلما نظر إلى خيل
المسلمين قد أقبلن من ناحية الكوفة كأنه اتقى من ناحيتهم فأمر بأبواب مدينتهم
فغلقت.
قال: ونزل المسلمون حذاء مدينته على شاطئ الفرات، ودعا سلمان بن
صرد بالمسيب بن نجبة الفزاري فقال له: صر إلى ابن عمك هذا فخبره إنا لسنا إياه
أردنا، وإنما نريد عبيد الله بن زياد وأصحابه - لعنهم الله - الذين قتلوا الحسين بن
علي رضي الله عنهما، وقل له يخرج إلينا سوقا حتى نتسوق وننظر ما يكون من خبر
هؤلاء، ثم نرحل إليهم ولا قوة إلا بالله وإن شاء الله.
قال: فأقبل المسيب بن نجبة حتى نزل في زورق، وعبر وصار إلى باب
قرقيسيا وكلم الناس فقالوا له: من أنت؟ فقال: أنا رجل من أهل هذا العسكر وأنا
ابن عم صاحب مدينتكم هذه، قال: فانطلق القوم إلى الملك فخبروه بذلك، فأذن
له في الدخول، فدخل المسيب وصار إلى زفر فدخل وسلم عليه فرد عليه السلام
وأدناه وأجلسه إلى جانبه، ثم سأله عن حاله وأمره، فقال له المسيب: إنا لسنا إياك
أردنا ولا لك قصدنا، إنما نريد هذا الفاسق عبيد الله بن زياد وأصحابه الذين قتلوا ابن
بنت نبي رب العالمين، فإن رأيت أن تخرج لنا سوقا فإنا لا نقيم ههنا إلا يومين أو
ثلاثة (5) ثم نرحل عنك إن شاء الله. قال فقال له زفر بن الحارث: إنا لم نغلق باب
مدينتنا هذه لأجل العسكر، ولكن السمع والطاعة. ثم دعا زفر بولد له يقال له هذيل
وأمره أن يخرج لهم سوقا وزاد في إكرامهم، ثم أخرج إليهم الدقيق الكثير والشعير



(1) بالأصل: القتادة.
(2) هيت: بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار.
(3) عانات بلد بين الرقة وهيت، وبالأصل: غانات.
(4) قرقيسيا: بلد على نهر الخابور قرب رحبة مالك بن طوق.
(5) في الطبري 5 / 593 إلا يوما أو بعض يوم.
220
وجميع ما يحتاجون إليه، فظل القوم يومهم ذلك والثاني مخصبين لا يحتاجون إلى
شيء من ذلك السوق الذي خرج إليهم.
فلما كان اليوم الثالث نادى فيهم سليمان بن صرد بالرحيل، فرحل الناس
وخرج إليهم صاحب قرقيسيا زفر بن الحارث، فجعل يسايرهم ساعة ثم أقبل على
سليمان بن صرد ومن معه من الرؤساء فقال: إني لأرى لكم خيلا عتاقا ورجالا هينة
حسنة قل ما رأيت مثلها غير (1) أني أخبركم أن هذا اللعين عبيد الله بن زياد قد ترك
الرقة لما بلغه من مسيركم إلى ما قبله، وقد وجه نحوكم بخمسة من قواده، منهم:
الحصين بن نمير السكوني وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري وأدهم بن محرز
الباهلي وربيعة بن المخارق الغنوي (2) وحملة (3) بن عبد الله الخثعمي، وقد أتوكم
بالشوك والشجر وفي عدة لا طاقة لكم بها. قال فقال سليمان: على الله توكلنا وعلى
الله فليتوكل المتوكلون. فقال زفر بن الحارث: نعم ما قلت! ولكن هل أدلكم على
أمر أعرضه عليكم لعل الله تبارك وتعالى يجعل لنا ولكم فيه فرجا؟ فقال سليمان:
وما ذلك؟ فقال: إن شئتم فتحنا لكم باب مدينتنا فتدخلونها فيكون أمرنا وأمركم
واحدا (4) وأيدينا وأيديكم على القوم واحدة، وإن شئتم نزلتم على باب مدينتنا
ونعسكر نحن إلى جانبكم، فإذا جاء هذا العدو قاتلناه جميعا، فعسى الله تبارك
وتعالى أن يظفركم. قال فقال سليمان: إنه قد عرض علينا هذا أهل مصرنا بالكوفة
فلم نفعل وكتب بذلك إلينا فأبينا، فقال زفر: أما إذا أبيتم ذلك فافهموا عني ما أقول
لكم فإني عدو للقوم لخصال شتى، وأنا أحب أن يجعل الله الدائرة عليهم وأنا لكم
محب، وأحب أن يحفظكم الله بالعافية، فاسمعوا مشورتي عليكم وأقبلوها مني فإنها
مشورة ناصح ودود، واعلموا (5) أن القوم قد فصلوا من الرقة إلى ما قبلكم أربعمائة
فارس من أشد فرسان عسكره، وقال له: سر حتى تلقى أول عسكره، فإذا عاينتهم
فاحمل عليهم بمن معك من أصحاب هؤلاء حملة ترعب بها قلوبهم.
قال: فسار المسيب في أصحابه الذين معه حتى إذا أصبح الصباح وأشرف



(1) بالأصل: غيري.
(2) عن الطبري 5 / 594 وبالأصل: العدوي.
(3) في الطبري ومروج الذهب 3 / 113 جبلة.
(4) الأصل: واحد.
(5) انظر مشورة زفر في الطبري 5 / 595 باختلاف.
221
على عسكر شرحبيل بن ذي الكلاع ونظر إليه صاح بأصحابه أن كبروا عليهم: يا
سباع العراق! قال: فحمل أهل العراق على أهل الشام فانهزموا وقد ألقى الله الرعب
في قلوبهم. قال: وسارت أهل الشام حتى وافوا أهل العراق بعين الوردة يزيدون
على عشرين ألفا، وأهل العراق يومئذ في ثلاثة آلاف وثلاثمائة رجل. قال: ثم
تعبي أهل الشام وكان على ميمنتهم جبلة بن عبد الله (1)، وعلى ميسرتهم ربيعة بن
المخارق (2) الغنوي، وعلى جناحهم شرحبيل [بن] ذي الكلاع الحميري، وفي
القلب الحصين. قال: وزحف القوم بعضهم على بعض. قال: وصاح أهل
الشام: يا أهل العراق! هلموا إلى طاعة أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان،
فناداهم أهل العراق: يا أهل الشام! هلموا إلى طاعة أهل بيت النبوة، فإنهم أحق
بهذا الأمر من بني مروان، أو ادفعوا إلينا ابن مرجانة عبيد الله بن زياد، قال: وجعل
سليمان بن صرد ينادي بأعلى صوته: يا شيعة آل محمد! يا من يطلب بدم الشهيد
ابن فاطمة! أبشروا بكرامة الله عز وجل، فو الله ما بينكم وبين الشهادة ودخول الجنة
والراحة من هذه الدنيا إلا فراق الأنفس والتوبة والوفاء بالعهد! ثم كسر سليمان بن
صرد جفن سيفه وتقدم نحو أهل الشام وهو يرتجز ويقول:
إليك ربي تبت من ذنوبي * وقد علاني في الورى مشيبي
فارحم عبيدا غير ما تكذيبي * واغفر ذنوبي سيدي وحوبي
ثم حمل ولم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة وقتل - رحمه الله (3) -.
قال: وتقدم المسيب بن نجبة الفزاري فجعل يطعن في أهل الشام وهو يقول:
لقد منيتم يا أخي جلادي * بيت المقام مقفص الأعادي
ليس بفرار ولا حياد * أشجع من ليث عرين عادي (4)
ثم حمل فلم يزل يقاتل حتى قتل - رحمه الله -. قال: وتقدم عبد الله بن



(1) في الأصل: عبد الله بن الضحاك بن قيس الفهري، وما أثبت عن الطبري 5 / 598.
(2) عن الطبري، وبالأصل: مخارف بن ربيعة.
(3) رماه يزيد بن الحصين بسهم كما في الطبري 5 / 599.
(4) ذكر الطبري 5 / 600 ومروج الذهب 3 / 113 أرجازا أخرى أرتجزها وهو يقاتلهم منها:
قد علمت ميالة الذوائب * واضحة اللبات والترائب
إني غداة الروع والمقانب * أشجع من ذي لبدة موائب
222
سعد بن نفيل الأزدي فأخذ الراية فرفعها لأهل الكوفة وجعل يقول: رحمكم الله!
إخوتي! (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) (1) قال: وتقدم
بالراية فجعل يطعن بها في أعراض أهل الشام وهو يقول:
ارحم الهي عبدك التوابا * ولا تؤاخذه فقد أنابا
لا كوفة يبقى ولا عراقا * لا بل يريد الموت والعتاقا
قال: ثم حمل ولم [يزل] يقاتل حتى قتل - رحمه الله (2) -.
قال: وتقدم رفاعة بن شداد البجلي نحو صفوف أهل الشام وهو يرتجز
ويقول:
يا رب إني تائب إليكا * قد اتكلت شدتي عليكا
قدما أزجى الخير من يديكا * فاجعل ثوابي علي لديكا
ثم حمل فلم يزل يقاتل حتى جرح، فرجع إلى أصحابه مجروحا، ثم التفت
رجل من أهل المدائن (3) فقال: ويحكم يا أهل العراق! ما لكم بهؤلاء طاقة، وذلك
أنا إذا قتلناهم لم يتبين ذلك عليهم لكثرتهم، وإذا قتلوا منا بان لهم ذلك لقلتنا،
فارجعوا بنا رحمكم الله إلى بلدنا لعل الله أن يكفينا أمرهم. قال: فقال له
عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي: يا هذا الرجل! بئس والله ما قلت! لقد أشرت
علينا بمشورة ما أردت بها إلا هلاكنا، والله لئن وليناهم الأدبار ليركبن أكتافنا فلا نبلغ
إلا فرسخا واحدا حتى نقتل عن آخرنا. قال: وتقدم صخر (4) بن حذيفة وكان
مزنيا (5) من خيار أهل الكوفة وزهادهم حتى وقف بين الجمعين ومعه يومئذ نيف عن
ثلاثين رجلا من بني عمه، فأقبل عليهم فقال: يا بني عمي! إن هؤلاء الذين
تقاتلونهم هم الذين قتلوا ابن بنت رسول الله الحسين بن علي رضي الله عنهما وساروا
برأسه إلى يزيد بن معاوية منكوب الدماغ، يريدون بذلك الزلفى والمرتبة والجائزة،
فانظروا ولا تهابوا الموت فإنه لاقيكم ولا ترجعوا إلى الدنيا التي (6) خرجتم منها فإنها



(1) سورة الأحزاب الآية 23.
(2) طعنه ابن أخي ربيعة بن المخارق بن ثغرة نحره فقتله. (عن الطبري).
(3) في الطبري رجل من بني كنانة يقال له الوليد بن غضين.
(4) في الطبري: صحير.
(5) بالأصل: مزني.
(6) بالأصل: الذي.
223
لن تبقى لكم دارا. قال: ثم تقدم صخر (1) بن حذيفة هذا وهو يرتجز ويقول:
بؤسا لقوم قتلوا حسينا * بؤسا وتعسا لهم وحينا
أرضوا يزيد ثم لاقوا شينا * ولم يخافوا بغيهم علينا
ثم حمل وحمل معه قومه وعشيرته، فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل منهم
جماعة. قال: فناداه قوم من أهل الشام: من أنت ويلك خبرنا باسمك ونسبك؟
فقال: يا بقية القاسطين! أنا من بني آدم، فقالوا: كلنا من بني آدم، فمن أنت
منهم؟ فقال: لا أحب أن أعرفكم نفسي يا محرقي البيت الحرام! قال: ثم جعل
يرتجز ويقول:
إني إلى الله من الذنب أفر * أنوي ثواب الله فيمن قد أسر
وأضرب القرن بمصقول (2) بتر * ولا أبالي كلما كان قدر
قال: ثم حمل عليهم، فأحدقوا به فقتلوه، ثم عرف بعد ذلك فقال رجل من
أهل الشام: هذا عبيد الله بن عبيد الرافعي (3)، هذا فارس مزينة قاطبة.
قال: فعندها عزم أهل العراق على التنحي من أيدي أهل الشام، ثم إنهم
دفنوا قتلاهم في جوف الليل وسووا عليهم الأرض لكي لا يعرفوا، وخرج القوم ليلا
يريدون العراق، فكانوا لا يمرون بجسر إلا جازوا عليه وقطعوه، ولا يجوزون على
قنطرة إلا كسروها وغوروها (4).
قال: فأصبح أهل الشام فلم يروا منهم أحدا فخبروا بذلك أميرهم الحصين بن
نمير السكوني فلم يبعث في طلبهم حتى وصلوا إلى قرقيسيا، فأقاموا بها أياما
واستراحوا، ثم ساروا منها إلى هيت، وقد مات منهم في الطريق جماعة. قال:
فخرج إليهم عبد الله بن يزيد الأنصاري أمير الكوفة فاستقبلهم وعزاهم.



(1) في الطبري: صحير.
(2) الأصل: بمسقول. خطأ.
(3) كذا.
(4) في الطبري 5 / 604 نظر رفاعة بن شداد إلى كل رجل قد عقر به وإلى كل جريح لا يعين على نفسه فدفعه
إلى قومه ثم سار بالناس ليلته كلها حتى أصبح بالتنينير فعبر الخابور وقطع المعابر ثم مضى لا يمر بمعبر إلا
قطعة.
224
قال: وخرج إليهم أيضا المختار بن أبي عبيد فعزاهم (1) وقال: أبشروا فقد
فضيتم ما عليكم وبقي ما علينا، ولن يفوتنا منهم من بقي إن شاء الله تعالى.
انقضاء حديث عين الوردة وما كان [بها -] من الحروب.
ابتداء خروج المختار بن أبي عبيد وما كان منه
قال: وأرسل عبد الله بن الزبير إلى عبد الله بن يزيد الأنصاري فعزله عن
الكوفة وولى مكانه عبد الله بن مطيع العدوي. قال: فقدم عبد الله بن مطيع أميرا
على الكوفة وذلك في رمضان من سنة خمس وستين ليلة الخميس لثلاث (2) بقين من
الشهر، فدخل إلى قصر الإمارة، فلما كان من الغد نادى في الناس أن يحضروا
المسجد الأعظم، فحضروا وفيهم يومئذ المختار بن أبي عبيد وجماعة من أصحابه
الذي كانوا بايعوه، وجاء عبد الله بن مطيع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه
وقال (3): أما بعد يا أهل الكوفة! فإن أمير المؤمنين بعثني أميرا عليكم وأمرني بحياطة
مصركم، فاتقوا الله عباد الله ولا تختلفوا، وإن لم تفعلوا فلا تلوموني ولوموا أنفسكم
والسلام، فو الله لأوقعن بالسقيم العاصي، ولأقيمن أود (4) المرتاب.
قال: فالتفت المختار إلى من كان حوله من الشيعة فقال: إنه قد تكلم بما قد
سمعتم، فقوموا فردوا عليه ولا تمهلوه! قال: فوثب إليه السائب بن مالك الأشعري
فقال: أيها الأمير! إنا قد سمعنا كلامك، إن أمير المؤمنين أمرك أن لا تحمل عنا
ونحن نشهدك أن لا نرضى أن تحمل علينا فيئنا ولكن يكون ذلك في فقرائنا، وأما ما



(1) كذا، وفي الطبري 5 / 605 وأقبل أهل الكوفة إلى الكوفة، فإذا المختار محبوس. وفي موضع آخر
ص 606 أن المختار كتب إلى رفاعة بن شداد حين قدم من عين الوردة:
أما بعد، فمرحبا بالعصب الذين أعظم الله لهم الأجر حين انصرفوا، ورضي انصرافهم حين قفلوا.
أما ورب البنية التي بنى ما خطا خاط منكم خطوة ولا رتا رتوة إلا كان ثواب الله له أعظم من ملك الدنيا.
إن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه الله فجعل روحه مع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين،
ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون، إني أنا الأمير المأمور والأمين المأمون وأمير الجيش وقاتل الجبارين
والمنتقم من أعداء الدين والمقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا وأبشروا واستبشروا أدعوكم إلى كتاب الله
وستة نبيه (ص) وإلى الطلب بدماء أهل البيت والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلين والسلام.
(2) الطبري 6 / 10 لخمس بقين.
(3) انظر خطبته في الطبري 6 / 10 - 11.
(4) في الطبري: ولأقيمن درء الأصعر المرتاب.
225
ذكرت من سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وسيرة عثمان بن عفان فلسنا نقول في
القوم إلا خيرا (1) غير أنا نحب أن تسير فينا سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
رضي الله عنه، فليس علي عندنا بدون عمر ولا عثمان، وإن فعلت ذلك وإلا فلست
لنا بأمير ولا نحن لك برعية - والسلام -.
قال: وتكلم عامة الناس بما تكلم به السائب بن مالك الأشعري وقالوا:
أحسنت يا سائب! فلا يعدمك المسلمون! قال: فقال عبد الله بن مطيع: يا هؤلاء!
اسكتوا، فو الله ما نسير فيكم إلا بما تحبون.
قال: ثم نزل عن المنبر ودخل إلى منزله وأقبل إليه إياس بن (2) مضارب
العجلي وهو صاحب شرطته، فقال: أصلح الله الأمير! إن الذي اعترض عليك في
المسجد وقال ما قال هو رجل من الأشعريين من رؤساء أصحاب المختار، ولست
آمن المختار أن يخرج عليك في عملك هذا، ولكن ابعث إليه الساعة فادعه إليك،
فإذا جاءك فاحبسه إلى أن يستقيم أمر الناس، ومعه قوم من أهل مصرك هذا قد بايعوه
سرا، وكأنك به وقد خرج عليك ليلا ونهارا. قال: فدعا عبد الله بن مطيع برجلين
من أصحابه: أحدهما زائدة بن قدامة، و [الآخر] الحسين بن عبد الله الهمداني،
وقال لهما: انطلقا إلى المختار فادعواه (3) إلي! قال: فأقبلا حتى دخلا على
المختار، فسلما عليه ثم قالا: يا أبا إسحاق! أجب الأمير، فإنه يدعوك لأمر أحب
فيه مشورتك. قال: فعمزه زائدة بن قدامة (4) وفهمها المختار فقال (5): يا غلام!
الق علي ثقيلا، فإني أجد في نفسي. قال: ثم رمى نفسه وتمثل بهذا البيت:
إذا ما معشر كرهوا أمورا (6) * ولم يأتوا الكريهة لم يهابوا
ثم قال: ارجعا إلى الأمير فأعلماه حالي وما أجد في بدني. فقال له زائدة بن



(1) لم يرد في خطبته بالأصل ذكر عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان، وقد ورد ذكرهما في نص الخطبة التي
أوردها الطبري 6 / 10
(2) عن الطبري 6 / 11 وبالأصل: الناس من
(3) الأصل: فادعوه.
(4) في الطبري قرأ قول الله تبارك وتعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك...).
(5) في الطبري: ألقوا علي القطيفة، ما أراني إلا وقد وعكت إني لأجد قفقفة شديدة.
(6) في الطبري 6 / 12 تركوا نداهم.
226
قدامة: إني فاعل ذلك يا أبا إسحاق! قال المختار: وأنت يا أخا همدان فأعذرني
عنده، فإنه خير لك عندي! فقال الهمداني: أفعل ذلك ولا أخبر الأمير عنك إلا
ما تحب. ثم أقبلا حتى دخلا على عبد الله بن مطيع فخبراه بعلة المختار، فصدقهما
ولها عن ذكر المختار.
قال: وجعل المختار يجمع أصحابه ويقول: تهيأوا وكونوا على أهبة الخروج
والطلب بدماء أهل بيت نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ذكر خروج الشيعة إلى محمد ابن الحنيفة
يسألونه (1) عن المختار
قال: فخرج جماعة منهم (2) حتى قدموا إلى مكة على محمد بن علي، فلما
دخلوا عليه وسلموا رد عليهم السلام وقربهم وأدناهم وقال: ما الذي أقدمكم إلى مكة
وما هذا وقت الحج؟ فقالوا: حاجة مهمة، فقال محمد بن علي: أفعلانية أم سرا؟
فقالوا: بل سرا، فتنحى معهم ناحية من مجلسه، ثم قالوا له: أنتكلم؟ فقال:
تكلموا، فقالوا له (3): فداك يا بن أمير المؤمنين! إنكم أهل بيت قد خصكم الله
بالفضل، وأماط عنكم الجهل، وقد أصبتم بأبي عبد الله الحسين بن علي رضي الله
عنهما مصيبة قد [عظمت] بالمؤمنين، وقد قدم علينا المختار بن أبي عبيد ذكر أنه
قد جاءنا من قبلك، وأنك الذي أرسلته إلينا لتطلب بدم الحسين، وهو مقيم بين
أظهرنا من قبل أن يقتل سليمان بن صرد وأصحابه، وقد بايعناه وعزمنا على الخروج
معه لنأخذ بدمائكم أهل البيت، غير أنا أحببنا أن نستطلع رأيك في ذلك، فإن أمرتنا
باتباعه اتبعناه، وإن نهيتنا عنه اجتنبناه.
فقال محمد: أما ما ذكرتم من الفضل الذي خصصنا به فذاك فضل الله يؤتيه
من يشاء من عباده، وأما ما ذكرتم من مصيبتنا بالحسين بن علي رضي الله عنه فذلك



(1) الأصل: يسألوه.
(2) ومنهم: عبد الرحمن بن شريح وسعيد بن منقذ الثوري وسعر بن أبي سعر الحنفي والأسود بن جراد
الكندي وقدامة بن مالك الجشمي.
وحسب رواية الطبري 6 / 12 - 13 أنهم ذهبوا إلى محمد ابن الحنفية يسألونه هل يرخص لهم باتباع
المختار فيما يدعوهم إليه.
(3) كان الذي تقدمهم بالكلام عبد الرحمن بن شريح. وانظر مقالته في الطبري 6 / 13.
227
في الكتاب مسطور، وأما ما ذكرتم من أمر المختار بن أبي عبيد فو الله لقد وددت أن
الله تعالى قد انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه - والسلام -. قال: فودعه القوم
وخرجوا من عنده وهم يقولون: قد رضي بذلك ولو لا أنه رضي بالمختار لكان نهانا
عن ذلك.
قال: والمختار قد علم بخروجهم إلى محمد بن علي، فعظم (1) ذلك عليه
وخشي أن يأتيه من محمد ابن الحنفية ما يحرك الناس (2) عنه. فلما قدموا أرسل
إليهم فدعاهم، ثم قال: هاتوا ما عندكم! فقالوا: عندنا أنا أمرنا باتباعك والخروج
معك. قال المختار: الله أكبر! أنا أبو إسحاق أنا جرار القاسطين.
ثم أرسل المختار إلى وجوه الشيعة فجمعهم في داره، فلما اجتمعوا حمد الله
وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، يا شيعة آل محمد المصطفى! إن نفرا منكم أحبوا أن
يعلموا مصداق ما جئت به إليكم، فرحلوا (3) إلى أبي القاسم الإمام المهدي،
فاستخبروه عما جئت به إليكم، فخبرهم أني وزيره وظهيره، وقد أمركم باتباعي
وطاعتي فيما (4) أدعوكم إليه والطلب بدماء أهل بيت نبيكم - والسلام -.
قال: فتكلم عبد الرحمن بن شريح الهمداني فقال: أيها الناس! إنا أحببنا أن
نستخبر لأنفسنا خاصة ولكم عامة، فقدمنا مكة إلى أبي القاسم محمد بن علي،
فخبرناه بخبر المختار بن أبي عبيد، فأمر بمظاهرته وموازرته وبإجابته إلى ما دعانا
إليه (5).
قال: فبايعه الناس. فقال المختار. فقال المختار لأصحابه: ما تقولون في ابن الأشتر؟
فقالوا: نقول إنه سيد قومه بهذا المصر، فإن هو ساعدنا على أمرنا نرجو بعون الله
النصرة على عدونا، فإنه رجل شريف وابن شريف، وبعد فإنه بعيد الصوت (6) في
قومه وذو عز وعشيرة وعدد. قال المختار: فصيروا إليه، كلموه وادعوه إلى ما نحن



(1) الطبري 6 / 14 فشق.
(2) الطبري: يخذل الشيعة عنه.
(3) عن الطبري 6 / 14 وبالأصل: فدخلوا.
(4) الطبري: فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين.
(5) عن الطبري وبالأصل: دعى عليه.
(6) في الطبري 6 / 15 الصيت.
228
عليه، وأعلموه أن الذي أمرنا به من الطلب بدماء أهل البيت ورغبوه في ذلك، فإن
فعل وإلا صرت إليه أنا بنفسي.
ذكر بيعة إبراهيم بن الأشتر للمختار
ابن أبي عبيد
قال: فخرج جماعة من أهل الكوفة من أوجههم (1)، وفيهم يومئذ أبو عثمان
النهدي وعامر الشعبي ومن أشبههما، حتى صاروا إلى ابن الأشتر فدخلوا إليه وسلموا
عليه، فرد عليهم السلام ورفعهم وقرب مجلسهم، ثم قال: تكلموا بحاجتكم!
فقالوا (2): يا أبا النعمان! إنا أتيناك في أمر نعرضه عليك وندعوك إليه، فإن قبلته
كان (3) الحظ فيه لك، وإن تركته فقد أدينا إليك النصيحة، ونحن نحب أن (4) نكون
عند مشورتك. فتبسم إبراهيم بن الأشتر وقال: إن مثلي لا يخاف غائلته (5)، وإنما
يفعل ذلك الصغار الأخطار الدقاق همما، فقولوا ما أحببتم. قال: فقالوا له: إن
الأمر على ما ذكرت وأحببت. ثم تكلم أحمر (6) بن شميط البجلي وقال: يا أبا
النعمان! إني لك ناصح وعليك مشفق، وإن أباك رحمة الله عليه هلك يوم هلك وهو
سيد الناس في محبة أهل البيت، وقد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت إليك منزلة
أبيك في الناس، ويكون في ذلك قد أحييت أمرا كان ميتا، وأنت أولى بذلك فخرا
وسؤددا. فقال لهم: قد أجبتكم إلى ما دعوتم إليه من الطلب بدماء أهل البيت
صلوات [الله] عليهم على أنكم تولوني هذا الأمر. قال: فقال له يزيد (7) بن أنس:
والله إنك لأهل ذلك ومحله ولكنا بايعنا هذا الرجل المختار بن أبي عبيد، لأنه قد
جاءنا من عند أبي القاسم محمد بن علي، وهو الأمير والمأمور بالقتال، وقد أمرنا
بطاعته، وليس إلى خلافه من سبيل. قال: فسكت عنهم إبراهيم بن الأشتر ولم
يجبهم إلى شيء.



(1) منهم: أحمر بن شميط ويزيد بن أنس وعبد الله بن كامل وعبد الله بن شد الله. كما في الطبري 6 / 15.
(2) كان الذي تكلم منهم يزيد بن أنس كما في الطبري.
(3) الطبري: كان خيرا لك.
(4) الطبري: أن يكون عندك مستورا.
(5) زيد في الطبري: ولا سعايته.
(6) عن الطبري، وبالأصل: أحمد.
(7) عن الطبري، وبالأصل: زيد.
229
فلما رأوه لم يرد عليهم جوابا وثبوا وانصرفوا إلى المختار فخبروه بذلك. قال:
فسكت عنه المختار ثلاثة أيام، ثم دعا بجماعة من أصحابه الذين وثق بهم، وخرج
بهم ليلا حتى أتى منزل إبراهيم بن الأشتر، ثم استأذن عليه فأذن له، فدخل المختار
ومن معه، فأجلسهم على الوسائد، وجلس المختار مع ابن الأشتر على فراشه، ثم
تكلم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال:
أما بعد يا أبا النعمان! فإني ما قصدتك في وقتي هذا إلا لأن هذا كتاب
المهدي إليك يدعوك إلى الطاعة، فإن أبيت فهذا الكتاب حجة عليك وسيغني الله
المهدي وشيعته عنك، وإن فعلت ذلك فقد أصبت حظك ورشدك، وهذا الكتاب
إليك! فقام الشعبي إلى إبراهيم بن الأشتر وناوله الكتاب وفيه (1): أما بعد فقد
وجهت إليك بوزيري وأميني الذي ارتضيته لنفسي المختار بن أبي عبيد وقد أمرته
بقتال عدوي والطلب بدم أخي، فإن ساعدته كان لك عندي يد عظيمة ولك بذلك
أعنة الخيل من كل جيش غاز (2) وكل (3) مصر ومنبر من الكوفة إلى أقاصي أرض الشام
ومصر، ولك بذلك الوفاء بعهد الله وميثاقه، وإن أبيت ذلك هلكت هلاكا لا تستقيله
أبدا - والسلام عليك ورحمة الله وبركاته -.
قال: فلما بلغ إبراهيم بن الأشتر آخر الكتاب أقبل على المختار بن أبي عبيد
فقال: يا أبا إسحاق! إني كتبت إلى محمد بن علي قبل ذلك اليوم وكتب إلي فما
كان يكاتبني إلا باسمه واسم أبيه، وقد أنكرت ههنا قوله المهدي. قال فقال له
المختار: صدقت أبا النعمان! ذلك زمان وهذا زمان (4). قال: فبسط المختار يده
فبايعه ابن الأشتر. ثم دعا بأطباق فيها فاكهة كثيرة فأكلوا، ثم أمر بشراب من عسل
غير سكر فشربوا، ثم قال: يا غلام! علي بداوة وبياض! فقال: يا شعبي! اكتب
إلي أسماء هؤلاء الشهود بأجمعهم، فقال الشعبي: وما تصنع بهذا رحمك الله؟
فقال: على حال أحب أن تكون أسماؤهم عندي. فقال: وكتب الشعبي أسماءهم
ودفعهم إليه. ثم قال المختار فخرج وخرج معه أصحابه ومعهم إبراهيم بن الأشتر إلى



(1) نسخة الكتاب في الطبري 6 / 16.
(2) بالأصل: غازي.
(3) عن الطبري، وبالأصل: وكل منبر ومصير.
(4) زيد في الطبري 6 / 17 قال إبراهيم: فمن يعلم أن هذا كتاب ابن الحنفية إلي. فقال له يزيد بن أنس
وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم فقالوا: نشهد أن هذا كتاب محمد بن علي إليك.
230
باب الدار، ومضى المختار إلى منزله.
فلما أصبح أرسل إلى الشعبي فدعاه وقال: إني أعلم أنك لم تشاهد البارحة
بما شهد أصحابي لا أنت ولا أبوك، فما منعكما عن ذلك؟ قال: فسكت الشعبي
ولم يقل شيئا، فقال له المختار: تكلم بما عندك، أترى هؤلاء الذين شهدوا البارحة
علي على حق شهدوا أم على باطل؟ فقال الشعبي: لا والله يا أبا إسحاق! ما أدري
غير أنهم سادة أهل العراق وفرسان الناس ولا أظنهم شهدوا إلا على حق. وكان قد
علم وتيقن أن المختار كتب ذلك من نفسه.
قال: وجعل إبراهيم بن الأشتر يختلف إلى المختار في كل ليلة فيجلس عنده
ثم ينصرف إلى منزله فلم يزالوا كذلك أياما يدبرون أمرهم بينهم حتى اجتمعت لهم
آراؤهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الآخر (1) سنة
ست وستين.
قال: فوطنوا أنفسهم على ذلك هم وشيعتهم، فأقبل إياس بن مضارب (2)
العجلي وهو صاحب شرطة عبد الله بن مطيع فدخل عليه وقال: أصلح الله الأمير!
إن المختار بن أبي عبيد خارج عليك لا محالة، وذلك أنه قد بايعه إبراهيم بن
الأشتر، وفي ديوانه بضعة عشر (3) ألف رجل ما بين فارس وراجل، فخذ حذرك.
قال: فأرسل عبد الله بن مطيع إلى قواده فجمعهم ثم أخبرهم بالذي اتصل به من أمر
المختار وما يريد من الخروج عليه، ثم قال: أريد منكم أن يكفيني كل رجل منكم
ناحيته التي هو فيها، فإن سمعتم الأصوات قد علت في جوف الليل فتوجهوا إليهم
بالخيل واكفوني أمرهم، فقالوا: نفعل ذلك أيها الأمير! فلا يهولنك أمر المختار ولا
من بايعه، فإنما بايعه شرذمة من هؤلاء الترابية. ثم خرج القوم من عنده فصار عبد
الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني إلى جبانة (4) السبيع من همدان، فصار كعب بن
أبي كعب إلى جبانة بشر، وصار زحر بن قيس إلى جبانة كندة (5) والشمر بن ذي



(1) في الطبري 6 / 18 ربيع الأول.
(2) في الأخبار الطوال ص 290: نضار.
(3) بالأصل: عشرة.
(4) عن الطبري، وبالأصل: حسابه.
(5) بالأصل: كند وما أثبت عن الطبري.
231
الجوشن عليه لعنة الله إلى جبانة سالم، وعبد الرحمن بن مخنف بن سليم إلى جبانة
الصائدين (1)، ويزيد (2) بن الحارث بن رؤيم إلى جبانة مراد، وشبث (3) بن ربعي
إلى جبانة السبخة. قال: فنزل هؤلاء القواد في هذه المواضع من الكوفة في يوم
الاثنين في الآلة والسلاح.
ذكر وقعة خروج المختار
قال: وخرج إبراهيم بن الأشتر تلك الليلة وهي ليلة الثلاثاء من منزله بعد عشاء
الآخرة يريد دار المختار، وقد بلغه أن الجبانات (4) شحنت بالخيل والرجال،
والشرط قد أحاطوا بالأسواق، قال: فجعل إبراهيم بن الأشتر يسير (5) في نحو مائة
رجل من بني عمه عليهم الدروع وقد ظاهروها (6) بالأقبية حتى صاروا إلى دار
عمرو بن حريث المخزومي وجازوها إلى دار سعيد بن قيس الهمداني رضي الله عنه
ثم إلى درب أسامة إذ هم بإياس بن مضارب (7) العجلي صاحب الشرطة، وقد أقبل
فاستقبلهم في نفر من أصحابه في أيديهم السلاح وقال: من هؤلاء؟ فقال إبراهيم بن
الأشتر: نحن هؤلاء فامض (8) لشأنك! قال: وما هذا الجمع الذي مضى معك يا بن
الأشتر، فو الله إن أمرك لمريب، وقد بلغني أنك تمر ههنا في كل ليلة في جمعك
هذا، ولا والله لا تزايلني أو آتي بك الأمير فيرى فيك رأيه، فقال ابن الأشتر: خل
ويلك سبيلنا وامض لشأنك! أنك تأتي بي الأمير؟ فقال: نعم والله ولا صرت إلا معي
إلى الأمير! فقال له إبراهيم: يا عدو الله ألست من قتلة الحسين بن علي. قال:
فالتفت إبراهيم إلى رجل من أصحاب إياس بن مضارب يكنى أبا قطن الهمداني (9)
فتناول رمحه من يده ثم حمل على إياس بن مضارب فطعنه طعنة في صدره نكسه عن



(1) عن الطبري وبالأصل: الصامد.
(2) عن الطبري وبالأصل: زيد.
(3) عن الطبري، وبالأصل: شبيب.
(4) الأصل: الحبايات.
(5) بالأصل: نسير.
(6) أي ستروها وأخفوها.
(7) في ابن الأثير: ابن أبي مضارب. وفي الأخبار الطوال: نضار.
(8) الأصل: فامضي.
(9) وكان صديقا لإبراهيم بن الأشتر. كما في الطبري.
232
فرسه، ثم قال لأصحابه، انزلوا فحزوا رأسه! قال: فنزل (1) أصحاب إبراهيم بن
الأشتر إلى إياس بن مضارب فحزوا رأسه ومضى (2) أصحابه هاربين على
وجوههم (3).
وأقبل إبراهيم بن الأشتر إلى المختار فدخل عليه، فقال قوم: أيها الأمير! إنا
كنا قد عزمنا على أن نخرج ليلة الخميس وقد حدث أمر لا بد من الخروج له، فقال
المختار: وما القصة؟ قال: استقبلني إياس بن مضارب في جماعة من أعوانه
فكلمني بكذا وكذا فقتلته وهذا رأسه مع أصحابي على الباب، فقال له المختار:
بشرك الله بالخير فهذا أول الظفر إن شاء الله تعالى. قال: ثم صاح المختار برجل
من أصحابه فقال: يا سعيد بن منقذ! قم فاشعل النيران في هوادي (4) القصب! وقم
يا عبد الله (5)! فناد (6): يا منصور أمت يا منصور أمت! وقم أنت يا سفيان بن ليل (7)
وأنت يا قدامة بن مالك! فناديا (8) في الناس: يا لثأرات الحسين بن علي! ثم قال:
يا غلام علي بدرعي وسلاحي، فجعل المختار يصب الدرع على بدنه وهو يقول:
قد علمت بيضاء [حسناء -] (9) الطلل * واضحة الخدين عجزاء الكفل
أني غداة الروع مقدام بطل * لا عاجز فيها ولا وغد فشل
قال: ثم خرج المختار من منزله على فرس له أدرهم أغر محجل ومعه إبراهيم
ابن الأشتر على كميت له أرثم وقد رفعت النار بين أيديهم في هوادي القصب والناس



(1) بالأصل: فنزلوا.
(2) بالأصل: ومضوا.
(3) في الأخبار الطوال ص 290 أن إياس بن نضار (مضارب) وقد رأى كثرة تردد ابن الأشتر على المختار
هدده: إن أمرك يريبني، فلا أرينك راكبا ولا تبرحن منزلك فأضرب عنقك. وأخبر ابن الأشتر بذلك
المختار واستأذنه في قتله فأذن له.
(4) في الطبري الهرادي بالراء. والهرادي جمع هردية هي قصبات تضم ملوية بطاقات الكرم تحمل عليها
قضبانه. وفي ابن الأثير: في الهوادي والقصب.
(5) في الطبري: عبد الله بن شداد.
(6) الأصل: فنادي.
(7) عن الطبري 6 / 20 وبالأصل: السبيل، وفي ابن الأثير 2 / 66 ليلى.
(8) عن ابن الأثير، وبالأصل: فنادوا، وفي الطبري: فناد.
(9) زيادة عن الطبري.
233
ينادون من كل موضع: يا لثأرات الحسين بن علي! قال: فالتأم (1) الناس إلى
المختار في جوف الليل من كل ناحية، وجاءه عبيد الله بن الحر في قومه وعشيرته.
قال: فجعل إبراهيم بن الأشتر ينتخب السكك التي فيها الأمراء والجند الكثير
فيهجم عليهم هو والمختار وعبيد الله بن الحر ومن معهم من أجنادهم فيكشفونهم
كشفة بعد كشفة والمختار يقول في خلال ذلك: اللهم إنك تعلم أننا إنما غضبنا لأهل
بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اللهم فانصرنا على من قتلهم وتمم لنا دعوتنا إنك على كل شيء
قدير. قال: وإذا برجل من أصحاب عبد الله بن مطيع يقال له سويد بن عبد الرحمن
أقبل في خيل عظيمة، فنظر إليه إبراهيم بن الأشتر فقال: مكانك أيها الأمير في
موضعك هذا (2) ودعني وهؤلاء القوم، فقال: ثم نادى ابن الأشتر في أصحابه وقال:
يا شرطة الله إلي إلي. قال: فأحاطت به بنو أمية عمه من قبائل مذحج والنخع، فقال
لهم: انزلوا عن دوابكم فإنكم أولى بالنصر والظفر من هؤلاء الفساق الذين خاضوا
في دماء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فنزل (3) الناس عن دوابهم ونزل معهم ابن
الأشتر بنفسه، ثم دنوا من أصحاب عبد الله (4) بن مطيع وطاعنوهم طعانا عنيدا،
وضاربوهم ضرابا شديدا، وهزموهم حتى بلغوا بهم إلى الكناس (5). ثم استوى ابن
الأشتر وأصحابه على دوابهم وأقبلوا نحو المختار فأخذوا على مسجد الأشعث بن
قيس ثم على مسجد جهينة ثم في السكة التي ينتهي منها إلى دار أبي عبيد الله
الجدلي حتى خرجوا إلى الموضع الذي فيه المختار وأصحابه، فاشتد القتال هنالك
وعلت الأصوات وإذا بشبث (6) بن ربعي الرياحي وحجار بن أبجر (7) العجلي قد
أقبلوا في قبيلة عظيمة من أصحاب عبد الله (8) بن مطيع، قال: وكبر إبراهيم بن
الأشتر تكبيرة وحمل وحمل (9) معه أصحابه وكشفوهم حتى تفرقوا في الأزقة. قال:



(1) الأصل: فالتأموا.
(2) وكانوا جميعا في جبانة أثير (عن الطبري).
(3) الأصل: فنزلوا.
(4) الأصل: عبيد الله.
(5) الطبري: الكناسة.
(6) الأصل: شبيب.
(7) عن الطبري وبالأصل: الحر.
(8) الأصل: عبيد الله.
(9) الأصل: وحملوا.
234
وأقبل [أبو] (1) عثمان النهدي في قومه من بني نهد وفي يده راية صفراء وهو ينادي:
يا لثأرات الحسين بن علي! إلي إلي أيها الحي المهتدون! فأتت إليه الناس من كل
ناحية فحملوا وحمل على أصحاب عبد الله بن مطيع. قال: فلم تزل الناس في تلك الليلة
في قتال تذكروا فيها ليلة الهرير بصفين إلى أن أصبحوا. قال: ونظر المختار إلى
الفجر وقد طلع فنادى في أصحابه، وخرج من الكوفة حتى نزل ظهر دير هند مما يلي
بستان زائدة في السبخة (2)، قال: وجعل (3) الناس يخرجون إليه من كل ناحية على
كل صعب وذلول، حتى التأم (4) إليه الناس.
قال: وجعل عبد الله (5) بن مطيع يوجه إليه بالكراديس كردوسا بعد كردوس،
فأول كردوس زحف إلى المختار شبث (6) بن ربعي الرياحي في أربعة آلاف، وراشد بن
إياس بن مضارب العجلي في ثلاثة آلاف، وحجار بن أبجر (7) العجلي في ثلاثة
آلاف، والغضبان بن القبثري في ثلاثة آلاف، والشمر بن ذي الجوشن في ثلاثة
آلاف، وعكرمة بن ربعي في ألف، وشداد بن المنذر في ألف، وسويد بن عبد
الرحمن (8) في ألف، قال: فزحفت الخيل نحو المختار في عشرين ألف فارس أو
يزيدون.
قال: وأشرف رجل (9) من أصحاب المختار على حائط من حيطان الكوفة
فجعل ينظر إلى هذه العساكر وقد وافت، فقوم قد صلوا وقوم لم يصلوا بعد وإذا بإمام
بين أيدي القوم وهو يقرأ بهم (إذا زلزلت الأرض زلزالها) (10) فقال هذا الرجل الذي
هو من أصحاب المختار: أرجو أن يزلزل الله بكم سريعا إن شاء الله تعالى! قال:
ثم قرأ في الركعة الثانية بأم الكتاب [و] (والعاديات ضبحا) (11) فقال هذا الرجل



(1) زيادة عن الطبري 6 / 22.
(2) بالأصل: الشجة.
(3) الأصل: وجعلوا.
(4) الأصل: التأموا.
(5) الأصل: عبيد الله.
(6) الأصل: شبيب.
(7) الأصل: الحر.
(8) عن الطبري: وبالأصل: عبد الرحمن بن سعيد.
(9) هو أبو سعيد الصيقل. الطبري 6 / 23.
(10) سورة الزلزلة الآية الأولى.
(11) سورة العاديات الآية الأولى.
235
الذي هو من أصحاب المختار: الغارة عليكم سريعا إن شاء الله. قال: فلما سلم
الإمام قال له رجل من أصحابه: يا هذا! لو كنت قرأت بنا سورتين أطول من هاتين
قليلا؟ قال: فسمعه شبث (1) بن ربعي الرياحي فقال: يا سبحان الله العظيم! أترون
الترك والديلم قد نزلوا بساحتكم! وتقول: لو قرأت بنا سورتين أطول من هاتين!
نعم، قد كان يجب عليه أن يقرأ بكم البقرة وآل عمران.
قال: وأقبل سعر بن أبي سعر الحنفي إلى المختار فقال: أيها الأمير! إنه قد
وافتك عساكر عبد الله (2) بن مطيع يتلو بعضها بعضا مستعدين للحرب عازمين على
الموت، فاصنع ما أنت صانع! فقال له المختار: يا أخا بني حنيفة! فإن الله تبارك
وتعالى يكسر شوكتهم ويهزمهم الساعة إن شاء الله ولا قوة إلا بالله.
قال: وأصحرت العساكر من الكوفة، وكان كلما ينظر إلى قائد من أصحابه
أخرج إليه المختار بقائد من قواده في مثل قوته وعدته (3). قال: واختلط القوم فجعل
إبراهيم بن الأشتر يحمل من ناحية وعبيد الله بن الحر يحمل من ناحية أخرى،
والمختار مرة يحرض الناس على القتال ومرة يحمل ويقاتل (4)، حتى إذا كان وقت
الضحى انهزم أصحاب عبد الله (5) بن مطيع هزيمة قبيحة وقتل منهم جماعة، فصاح
بهم شبث (6) بن ربعي الرياحي فقال: شوه لكم يا حماة السوء! ويلكم تنهزمون من
عبيدكم وأراذلكم! قال! فتراجع (7) إليه الناس فاقتتلوا ساعة، وأخذ رجل من
أصحاب المختار أسيرا، فأتي به إلى شبث بن ربعي الرياحي حتى أوقف بين يديه،
فقال له شبث: من أنت؟ قال: أنا خليد مولى حسان بن محدوج الذهلي (8) فقال له



(1) الأصل: شبيب.
(2) الأصل: عبيد الله.
(3) بعث إبراهيم بن الأشتر قبل راشد بن إياس، ونعيم بن هبيرة قبل شبث بن ربعي وولى يزيد بن أنس
خيله وخرج هو (أي المختار) في الرجالة.
(4) انظر تفاصيل حول القتال وردت في الطبري 6 / 24 - 25 وابن الأثير 2 / 668 والأخبار الطوال
ص 291 - 292.
(5) بالأصل: عبيد الله.
(6) الأصل: شبيب، وقد صححت أينما وردت في الخبر.
(7) الأصل: فتراجعوا.
(8) عن الطبري، وبالأصل: الهذلي.
236
شبث: يا بن كذا وكذا! أتركت بيع الصحناة (1) بالكناس ثم بايعت المختار الكذاب
على قتال من أعتق رقبتك من الرق! قال: ثم قدمه شبث بن ربعي فضرب عنقه
صبرا.
قال: ووقعت الهزيمة ثانية على أصحاب عبد الله بن مطيع حتى دخلوا أزقة
الكوفة. فأقبل المختار في عساكره حتى وقف على أفواه السكك وأمر أصحابه
بالقتال، فاقتتلوا قتالا لم يسمع به ولا بمثله. قال: وجعل السائب بن مالك
الأشعري ينادي (2): ويحكم يا شيعة آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! إنكم قد كنتم تقتلون قبل
اليوم، وتقطع أيديكم وأرجلكم من خلاف، وتسمل أعينكم، وتصلبون أحياء على
جذوع النخل، وأنتم إذ ذاك في منازلكم لا تقاتلون أحدا، فما ظنكم اليوم بهؤلاء
القوم إن هم ظهروا عليكم! فالله الله في أنفسكم وأهاليكم وأموالكم وأولادكم!
قاتلوا أعداء الله المحلين، فإنه لا ينجيكم اليوم إلا الصدق واليقين، والطعن
الشزر، والضرب الهبر (3)، ولا يهولنكم ما ترون من عساكر هؤلاء القوم فإن النصر
مع الصبر. قال: فعندها رمت الناس بأنفسهم عن دوابهم، قال: ثم جثوا على
الركب وشرعوا الرماح وجردوا الصفاح وفوقوا السهام وثار القتام، واصطفقوا بالصفوف
إصطفاقا، وتشابك (4) القوم اعتناقا، فصبر القوم بعضهم لبعض ساعة، وقتل من
الفريقين جماعة، وانهزم أصحاب عبد الله (5) بن مطيع، واقتحم المختار وأصحابه
الكوفة، وعلت الأصوات وتصايح المشايخ والنساء من فوق البيوت ونادوا: يا أبا
إسحاق! الله الله في الحرم! قال: فصاح عليهن: لا بأس عليكن، الزموا
منازلكن، فأنا السليط على المحلين الفاسقين أولاد الفاسقين.
قال: وجعل عبد الله بن مطيع ينادي بأعلى صوته: أيها الناس! إن من
أعجب العجائب عندي عجزكم عن عصبة منكم قليل عددها، خبيث دينها، ضالة
مضلة، يقاتلونكم على غير حق شجاعة منهم وجرأة على هذا الخلق، كروا (6)



(1) الصحناء: بالكسر، إدام يتخذ من السمك يمد ويقصر، والصحناة أخص منه (اللسان).
(2) نسب هذا القول في الطبري 6 / 26 إلى يزيد بن أنس.
(3) في الطبري: والضرب الدراك على هامهم.
(4) الأصل: وتشابكوا.
(5) الأصل: عبيد الله، وقد صححت أينما وردت في الخبر.
(6) الطبري 6 / 28 أخرجوا إليهم.
237
عليهم وامنعوا حريمكم ومصركم ودينكم. قال: فبينا عبد الله بن مطيع كذلك يشجع
أصحابه ويحرضهم على القتال إذ بإبراهيم بن الأشتر وعبيد الله بن الحر قد أقبلا
في قريب من أربعة آلاف فارس ما يرى منهم إلا الحدق. فلما نظر إبراهيم بن الأشتر
إلى عبد الله بن مطيع نادى بأعلى صوته: أنا إبراهيم بن الأشتر! أنا ابن الأفعى
الذكر! ثم التفت إلى أصحابه فقال: شدوا عليهم فداكم عمي وخالي! ولا يهولنكم
أسماء قوادهم: شبث بن ربعي وحجار بن أبجر (1) والغضبان بن القبثري وسويد بن
عبد الرحمن وفلان وفلان، فو الله لئن أذقتموهم حر الصفاح وشباة الرماح ولا وقفوا
لكم أبدا، إيه فداكم أبي وأمي.
قال: ثم حمل ابن الأشتر وعبيد الله بن الحر وحمل الناس معهم، وحمل
المختار من ناحية أخرى، وانهزم الناس حتى صاروا إلى باب المسجد الجامع،
ودخل عبد الله بن مطيع إلى قصر الإمارة في حشمه وغلمانه ونفر من خاصة أصحابه،
وأمر بباب القصر فغلق، وتفرق الناس وصاروا إلى منازلهم هاربين، وأقبلت الخيل
حتى أحدقت بالقصر (2) فقال عبد الله بن مطيع: أيها الناس! إنه ربما غلب أهل
الباطل على أهل الحق، وقد ترون غلبة المختار، فهاتوا الآن أشيروا علي برأيكم!
قال: فقال شبث بن ربعي: أصلح الله الأمير! الرأي عندي أن تأخذ لنفسك من هذا
الرجل أمانا ثم تخرج إليه ونخرج معك، وإلا دام الحصار علينا في هذا القصر.
فقال عبد الله بن مطيع: والله إني لأكره لنفسي أن آخذ منه أمانا والأمور لأمير المؤمنين
مستقيمة بأرض الحجاز وأرض البصرة وبلاد المشرق عن آخره. قال فقال له
شبث بن ربعي: أيها الأمير! فتخرج إذا من القصر ولا يشعر بك أحدا فتصير إلى من
تثق به من أهل هذا القصر فتنزل عنده أياما حتى يستقر المختار ويسكن شرة أصحابه
فتخرج وتلحق بأصحابك. وأشار عامة من معه في القصر بمثل هذا.
فلما كان الليل جمع إليه أصحابه، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال (3): أما أنتم
فجزاكم الله عني خيرا وعن أمير المؤمنين! وبعد فإني ما علمتكم إلا سامعين مطيعين
وناصحين، وإنما خرج علي سفهاؤكم وعبيدكم، وأنا مبلغ ذلك صاحبي عنكم



(1) الأصل: الحر.
(2) في الطبري 6 / 30 فلما اشتد الحصار على ابن مطيع وأصحابه كلمه الأشراف، فقام إليه شبث فقال:
أصلح الله الأمير! انظر لنفسك ولمن معك، فو الله ما عندهم غناء عنك ولا عن أنفسهم.
(3) انظر مقالته في الطبري 6 / 31 وابن الأثير 2 / 671.
238
ومعلمه طاعتكم وما أشرتم به علي من صلاح أمري. قال فقال له شبث بن ربعي:
وأنت أيها الأمير فجزاك الله عنا خير الجزاء! فو الله لقد عففت عن أموالنا، وأكرمت
أشرافنا، ونصحت لصاحبك وقضيت الذي وجب عليك، ولا والله أصلح الله الأمير
ما كنا بالذين نفارقك أبدا إلا ونحن منك (1) في إذن: قال فقال عبد الله بن مطيع:
أنتم في أوسع الإذن، والله إني لأرجو أن يقتل الله هذا الكذاب قريبا، ثم ترجعون
إلى مراتبكم التي كنتم عليها ومنازلكم إن شاء الله سريعا، غير أني قد رأيت الساعة
أن أخرج من هذا القصر ولا يتبعني منكم أحد. قال: ثم وثب عبد الله بن مطيع في
جوف الليل متنكرا، فخرج من قصر الإمارة في زي امرأة فأخذ على درب الروميين
حتى صار إلى دار أبي موسى الأشعري وعلم به آل أبي موسى فآووه وكتموا عليه
أمره.
قال: وأصبح من في القصر من أصحاب عبد الله بن مطيع فصاحوا وطلبوا
الأمان، وبلغ ذلك إبراهيم بن الأشتر فأعطاهم الأمان، فخرجوا من القصر وأقبلوا
إلى المختار فبايعوه وأخبروه بخروج عبد الله بن مطيع من القصر، فقال المختار: وما
علينا من عبد الله بن مطيع، ذلك رجل كان بالكوفة أميرا فلم يجد بدا من القتال.
قال: ثم نادى المختار في الناس فأعطاهم الأمان، واتصل بهم أن عبد الله بن مطيع
قد هرب، فجعل الناس يخرجون إلى المختار فيبايعونه حتى بايعه الناس
بأجمعهم (2).
ذكر غلبة المختار على الكوفة
وبيعة الناس له بها
قال: فعندها فتح المختار بيت المال الذي لعبد الله بن الزبير، فأصاب فيه
تسعة آلاف ألف درهم، ثم نادى في الناس: الصلاة جامعة! فاجتمعت الناس إلى



(1) عن الطبري وبالأصل: لك.
(2) وفي الأخبار الطوال ص 292 فلما رأى ابن مطيع ضعفه عن القوم سأل الأمان على نفسه ومن معه من
أصحابه فأجابه المختار إلى ذلك، فأمنه.
فخرج ابن مطيع وأظهر المختار إكرامه وأمر له من بيت المال بمائة ألف ألف درهم وحفظ فيه قرابته من
عمر بن الخطاب وقال له: ارحل إذا شئت.
239
المسجد الأعظم وخرج المختار من (1) قصر الإمارة حتى دخل المسجد فصعد المنبر
فحمد الله وأثنى عليه.
ذكر كلام المختار على المنبر
ثم قال: الحمد لله الذي وعد وليه النصر، ووعد عدوه الخسر والخذل
والختر، وجعله فيه إلى آخر الدهر قضاء مقضيا، [و] وعدا مأتيا، وقولا مقبولا،
وأمرا مفعولا، وقد خاب من افترى، أيها الناس! قد مدت لنا غاية، ورفعت لنا
راية، فقيل لنا في الراية أن ارفعوها ولا تضعوها، وفي الغاية أن (2) خذوها ولا
تدعوها، فسمعنا دعوة الداعي وقبلنا قول الراعي (3)، فكم من ناع وناعية لقتلى في
الواعية! ألا! فبعدا لمن طغى وبغى، وجحد ولغى، وكذب وعصى، وأدبر
وتولى، ألا! فهلموا عباد الله إلى بيعة الهدى، ومجاهدة الأعداء والذب عن الضعفاء
من آل محمد المصطفى، على قتال المحلين، وأنا الطالب بدم ابن بنت نبي رب
العالمين، أما! ومنشئ السحاب، الشديد العقاب، السريع الحساب، منزل
الكتاب، العزيز الوهاب، القدير الغلاب، لأنبشن قبر ابن شهاب، المفتري
الكذاب، المجرم المرتاب! ولأنفين الأحزاب، إلى دار بلاد الأعراب! ثم ورب
العالمين، ورب البلد الأمين، وحرمة طور سينين، لأقتلن الشاعر الهجين، أعسى
الباغضين، وشويعر الحنظلين، وزاجر البارقين، وابن همام اللعين، وأولياء
الكافرين، وأعوان الظالمين، وبقايا القاسطين، وإخوان الشياطين، الذين اجتمعوا
على الأباطيل، وتقولوا على الأقاويل، وتمثلوا بالأماثيل، وجاؤوا بالأماحيل،
وتسكعوا في الأضاليل، بأقوال المجاهيل، الكذبة الأراذيل! ألا! فطوبى
لعبد الله، وعبيد وأخي ليلة الطريدة، ولذي الأخلاق الحميدة، والعزائم الشديدة.
والمقالات الرشيدة، والأفاعيل السديدة، والآراء العتيدة، والنفوس السعيدة.
قال: ثم قعد على المنبر ووثب قائما وقال: أما! والذي جعلني بصيرا، ونور
قلبي تنويرا، لأحرقن بالمصر دورا! ولأنبشن بها قبورا! ولأشفين بها صدروا!
ولأقتلن جبارا كفورا، ملعونا وغدورا! وكفى بالله هاديا ونصيرا، وعن قليل ورب



(1) في الأصل: في.
(2) الطبري 6 / 32 أن أجروا إليها ولا تعدوها.
(3) الطبري: الواعي.
240
الحرم، والبيت المحرم، والركن المكرم، والمسجد المعظم، وحق النون
والقلم، ليرفعن لي العلم، من الكوفة إلى إضم، إلى أكناف ذي سلم، من العرب
والعجم! ثم لأتخذن من بني تميم أكثر الخدم.
قال: ثم نزل عن المنبر فصلى ركعتين بالناس ودخل إلى قصر الإمارة واحتفل
عليه الناس بالبيعة، فلم يزل باسطا يده والناس يبايعونه على كتاب الله وسنة نبيه
محمد صلى الله عليه وآله وسلم والطلب بدماء أهل البيت، والمختار يقول: تقاتلون من قاتلنا، وتسالمون
من سالمنا، والوفاء عليكم ببيعتنا، لا نقيلكم ولا نسقيلكم، حتى بايع الناس من
العرب والموالي وغير ذلك من سائر الناس.
قال: وإذا الخبر قد اتصل به أن عبد الله بن مطيع مختف في دار أبي موسى،
قال: فسكت المختار ولم يقل شيئا، حتى إذا كان الليل دعا بعبد الله بن كامل
الهمداني ودفع إليه عشرة آلاف درهم (1) وقال له: صر إلى دار أبي موسى الأشعري
وادخل على عبد الله بن مطيع وأقرءه مني السلام وقل له: يقول لك الأمير: إني قد
علمت بمكانك وليس مثلي من أساء إلى مثلك وقد وجهت إليك بما تستعين به على
سفرك، فخذه والحق بأهلك وصاحبك. قال: فخرج عبد الله بن مطيع من الكوفة
في جوف الليل هاربا واستحيى أن يصير إلى مكة فيعيره عبد الله بن الزبير بفراره من
المختار، فصار إلى البصرة وبها يومئذ مصعب بن الزبير نائبا عليها من قبل أخيه
عبد الله بن الزبير.
قال: واحتوى المختار على الكوفة فعقد لأصحابه وولاهم البلاد من أرمينية
وآذربيجان وأران وحوران والماهين إلى الري وأصفهان، فجعل يجبي خراج
البلاد (2).
قال: وكان محمد بن الأشعث بن قيس الكندي عاملا على الموصل من قبل
عبد الله بن الزبير، فلما قدم عامل المختار على الموصل لم يكن لمحمد بن الأشعث
به طاقة فخرج عن الموصل هاربا، وأقبل إلى قرية يقال لها تكريت فنزلها، ثم كتب



(2) الطبري 6 / 33 مائة ألف درهم. وفي الأخبار الطوال ص 292 مائة ألف ألف، وقد أشرنا قريبا إلى ما
ورد فيه حول ابن مطيع.
(2) انظر الألوية والتعيينات التي عقدها المختار لأصحابه في الطبري 6 / 32 - 34 ابن الأثير 2 / 672 والأخبار
الطوال ص 292 باختلاف في الأسماء والمناطق التي ولوا عليها.
241
إلى عبد الله بن الزبير: أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أيده الله أن عامل المختار قدم
الموصل وهو عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وقد كنت عزمت على محاربته
ومنعه من الدخول إلى البلد، غير أن عامة أصحابي خذلوا واستأمنوا إليه فلم يكن لي
بالرجل طاقة، فتنحيت من بين يديه إلى قرية يقال لها تكريت، فنزلتها أنتظر بذلك
أمر أمير المؤمنين ورأيه - والسلام -. قال: فكتب إليه عبد الله بن الزبير: أما بعد فقد
وصل إلي كتابك وفهمت الذي ذكرت فيه من تنحيك عن البلد، ولا عذر لك عندي
في ذلك أن تخلي أرض الموصل وخراجها وحصونها ومزارعها، وتخرج عنها بلا قتال
وقد أمرتك عليها، فأنت تأكل منها الكثير وتبعث إلي منها اليسير! فوالله لو لم
تقاتلهم (1) مناصحة لأميرك وطلبا للثواب من الله تبارك وتعالى لقد كان يجب عليك أن
تقاتل عن بلد أنت أميره! فلم تقاتل غضبا لربك ولا نصرة لإمامك ولا مخافة على
سلطانك! فسوءة لما أتيت به ولما جاء منك! فلقد عجزت عن عدوك وضيعت ما
وليتك - والسلام -
ذكر محمد بن الأشعث وقدومه على المختار
قال: وبلغ المختار أن محمد بن الأشعث مقيم بتكريت، فدعا بابنه
عبد الرحمن فقال له: أنت في طاعتي وأبوك في طاعة عبد الله بن الزبير، ما الذي
يمنعه من المسير إلي والدخول في طاعتي؟ أما والله لقد هممت أن أوجه إليه من
يأتيني به يتل تلا فأفعل ما أضمر له في قلبي! أو ليس من قتلة الحسين بن علي!
أو ليس هو الذي قال للحسين يوم كربلا: وأي قرابة بينك وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال فقال له
عبد الرحمن: أعز الله الأمير! فأنا أخرج بإذنك فآتيك به شاء أو أبى إن شاء الله
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال: فأذن له المختار في ذلك.
فخرج عبد الرحمن من الكوفة حتى قدم على أبيه محمد بن الأشعث وهو نازل
بتكريت، فدخل وسلم عليه ثم جلس، فقال له: ما وراءك يا بني؟ قال له: ورائي
أن هذا الرجل قد ظهر على الكوفة وسائر البلاد، وقد استوسق له الأمر وأطاعه
الناس، وقد سأل عنك وذكرك، أخاف أن يبطش بمن قتل الحسين بن علي فلم يترك
منهم أحدا، وأنت ممن سار إلى الحسين، وليس جلوسك ههنا بشيء لأنه ليس
معك جيش تمتنع به، وأنت بالكوفة أعز منك ههنا، وبعد فلا والله ما رأيت شيخا



(1) الأصل: لم نقاتلهم.
242
يرضى لنفسه بما ترضاه لنفسك! إنك قد أقمت في مثل هذه القرية في غير كثرة من
عدد ولا كثيف من جمع ولا إمارة ولا منعة وأنت أنت. قال: فتبسم محمد بن
الأشعث ثم قال: يا بني! إني قد علمت أنك لم تأتني ولم تعرضي علي هذا الرأي إلا
خوفا من المختار.
قال: ثم أقبل محمد بن الأشعث على من عنده أصحابه وقال: إن ابني
هذا له نخل بالكوفة على شاطئ الفرات، وإنما يريد أن أكون أنا مقيما بالكوفة حتى
يأمن هو في نخله وماله وأنا فلست أبالي بذلك النخل كان أم لم يكن، قال: فلم
يزل عبد الرحمن يلين لأبيه في الكلام ويخوفه مرة ويرغبه أخرى حتى أجابه إلى ما
أراد. قال: ثم خرج محمد بن الأشعث من تكريت في جماعة من أصحابه وبني
عمه حتى قدم الكوفة، ثم دخل على المختار فسلم عليه بالإمارة وقال: أيها الأمير!
الحمد لله الذي نصرك، وأعزك وأظهرك، وبعدوك أظفرك، إذ أنجز دعوتك،
وأعلى رتبتك، ورفع منزلتك، فإنك دعوت دعوة هدى وأنجيتنا من الضلالة
والعمى، قال: فقال له المختار: أبا عبد الرحمن! إن الذي غضبنا له هو نصرنا،
وبعدوه أظفرنا، وإن لربنا تعالى جندا لا يغلب، وملكا لا يسلب، وليس من يوم
يأتي بعد يوم إلا والله تعالى معز فيه للمؤمنين مذل فيه للكافرين، حتى يعود الدين كما
بدأ. ثم أدناه المختار وأجلسه معه على سريره، ووعده ومناه وأمر له بجائزة سنية،
وصرفه إلى منزله.
قال: وجعل المختار يجلس للناس في كل غدوة وعشية فيقضي بين
الخصمين، فإذا عاقه عائق أمر شريحا القاضي أن يجلس فيقضي بين الناس (1).
قال: وأحبه الناس حبا شديدا، ودر له جلب البلاد، وحمل إليه الخراج من جميع
عماله. قال: ثم أرسل إلى وجوه أصحابه وثقاته، فجمعهم عنده ثم قال: اعلموا
أنه ليس يسوغ لي الطعام ولا أحب أن أروى من الماء وقتلة الحسين بن علي أحياء
يمشون في هذه الدنيا! وقد استوسق لي الأمر وأطاعني الناس، ولست بالناصر لآل
محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن لم أطلب بدمائهم، وأقتل من قتلهم، وأذل من جهل حقهم! ولكن
سموهم لي فعلي أن أطهر الأرض منهم.



(1) ثم إن الناس تناولوا شريحا وأنه ممن شهد على حجر بن عدي، وأنه خان هانئ بن عروة فيما لم يبلغ عما
أرسله به، وأن عليا بن أبي طالب (رضي) قد عزله عن القضاء فتمارض شريح، فعزله المختار وجعل مكانه
عبد الله بن عتبة بن مسعود ثم عبد الله بن مالك الطائي.
243
ذكر من قتله المختار بالكوفة من قتلة
الحسين بن علي رضي الله عنهما
وممن شارك في دمه
قال: فجعل أصحابه يسمون رجلا بعد رجل فجعل يؤتى بهم إليه فمنهم من
يقطع يديه، ومنهم [من] يقطع رجليه، ومنهم من يقطع يديه ورجليه، ومنهم من
يبقر بطنه، ومنهم من يقطع عينيه، ومنهم من يجدع أنفه وأذنيه، ومنهم من يقطع
لسانه وشفتيه، ومنهم من يضربه بالسياط حتى يموت، ومنهم من يقطع بالسيوف إربا
إربا، ومنهم من يضرب عنقه صبرا، ومنهم من يحرق بالنار حرقا. قال: فلم يزل
كذلك حتى قتل منهم مقتلة عظيمة، ومثل بهم كل مثلة (1).
قال: وأقبل قوم من أعوان المختار حتى اقتحموا دار خولي بن يزيد الأصبحي
وهو الذي احتز رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما، وكانت له امرأة يقال لها
العيوف (2) بنت مالك بن غفير الحضرمي، فلما نظرت إلى أصحاب المختار وقد دخلوا
دارها فقالت: يا هؤلاء! ما شأنكم وما تريدون؟ فقال لها أبو عمرة (3) صاحب شرطة
المختار: لا بأس عليك، أين زوجك؟ فقالت: لا أدري - وأشارت بيدها إلى
المخرج (4) -، قال: فدخلوا عليه وإذا هو جالس وعلى رأسه قوصرة، فأخذوه وأتوا به
إلى المختار، فقالوا: أيها الأمير! هذا خولي بن يزيد وهو الذي احتز رأس
الحسين، قال: فأمر به المختار فذبح بين يديه ذبحا، ثم أمر بجسده فأحرق بالنار.
ثم أتي برجل يقال له بحر بن سليم الكلبي حتى أدخل على المختار فقالوا:
أيها الأمير! هذا الذي أخذ خاتم الحسين! فقطع إصبعه مع الخاتم! فقال: اقطعوا
يديه ورجليه ودعوه يشحط في دمه. قال: فلم يزل المختار كذلك حتى فعل بهم
الأفاعيل.



(1) قتل منهم 248 قتيلا كما في الطبري 6 / 51.
(2) عن ابن الأثير 2 / 682 وبالأصل: العبوق.
(3) عن الأخبار الطوال ص 292 وبالأصل: أبو عمر.
(4) في ابن الأثير: وكانت تعاديه منذ جاء برأس الحسين.
244
ذكر مقتل عمر بن سعد وابنه حفص
قال: ثم دعا المختار بأبي عمرة صاحب شرطته فقال له: اذهب الساعة في
جماعة من أعوانك حتى تهجم على عمر بن سعد فتأتيني به، فإذا دخلت عليه
وسمعته يقول: يا غلام! علي بطيلساني، فاعلم أنه إنما يدعو بالسيف، فبادر إليه
بسيفك فاقتله وأتني برأسه! قال: فلم يشعر عمر بن سعد إلا وأبو عمرة قد وافاه في
أعوانه، فلما نظر إليه بقي متحيرا ثم قال: ما شأنكم؟ فقال: أجب أمير المؤمنين!
فقال: إن الأمير قد علم بمكاني وقد أعطاني الأمان، فهذا أمانه عندي، قد أخذه لي
[عبد الله بن] (1) جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي، ثم قال: يا غلام علي
بالأمان! وإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أمان المختار بن أبي عبيد الثقفي
لعمر (2) بن سعد بن أبي وقاص، إنك آمن بأمان الله على نفسك (3) وأهلك وولدك
وأهل بيتك، ولا تؤاخذ بحدث كان منك قديما ما سمعت وأطعت ولزمت منزلك إلا
أن تحدث حدثا، فمن لقي عمر (4) بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد لا
يتعرض له إلا بسبيل خير، شهد على ذلك السائب بن مالك الأشعري وأحمر بن
شميط (5) البجلي وعبد الله بن كامل الهمداني وعبد الله بن شداد الجهني ويزيد بن
أنس الأسدي وفلان ابن فلان، شهدوا على المختار بن أبي عبيد بالعهد والميثاق
والأمان لعمر بن سعد وولده إلا أن يحدث حدثا وكفى بالله شهيدا - والسلام - ".
فقال له أبو عمرة صاحب شرطة المختار: صدقت أبا حفص! قد كنا
حضورا عند الأمير أيده الله حين كتب لك هذا الأمان، غير أنه يقول إلا أن يحدث
حدثا، ولعمري لقد دخلت المخرج مرار فأحدثت إحداثا، وليس مثل المختار من
يغلط، وإنما عنى هذا الإحداث، وليس يجب أن يغنى عن مثلك وقد قتلت ابن بنت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسين بن علي وابن فاطمة، ولكن أجب الأمير فلعله إنما يدعوك
لأمر من الأمور، قال: فإني أفعل، يا غلام علي بطيلساني! فقال أبو عمرة: يا
عدو الله! لمثلي يقال هذا، وسل سيفه ثم ضرب ضربة على رأسه، سقط منها على



(1) عن الطبري 6 / 60.
(2) الأصل لعمرو.
(3) الطبري 6 / 60 نفسك ومالك.
(4) الأصل: لعمرو.
(5) الأخبار الطوال: سميط.
245
قفاه. ثم [قال] لأعوانه: خذوا رأسه! قال: فأخذوا رأس عمر (1) بن سعد وأتي به
حتى وضع بين يدي المختار وابنه حفص بن عمر بن سعد واقف بين يديه، وهو ابن
أخت المختار، فقال له المختار: أتعرف هذا الرأس يا حفص؟ قال: نعم هذا
رأس أبي ولا خير في العيش من بعده، ثم قال: فقدم حفصا بعمر، قال: فتقدم
حفص فضربت عنقه صبرا، ثم وضع رأسه إلى جنب رأس أبيه، فقال المختار:
هذا بالحسين وهذا بعلي بن الحسين ولا سواء، فو الله لو قتلت ثلاثة أرباع قريش لما
وفوا بأنملة واحدة من أنامل الحسين رضي الله عنه (2).
قال: ثم وجه المختار بالرأسين إلى مكة إلى محمد ابن الحنفية ووجه أيضا مع
الرأسين ثلاثين (3) ألف دينار وكتب إليه (4): بسم الله الرحمن الرحيم، للمهدي
محمد بن علي، من المختار بن أبي عبيد، سلام عليك، أما بعد فإن الله تبارك
وتعالى بعثني نعمة لأوليائكم ونقمة على قاتليكم وأعدائكم، فهم من بين قتيل وأسير
طريد، فأحمد الله على ذلك أيها المهدي حمدا تستوجب منه المزيد في العاجلة،
والمغفرة في الآجلة، وقد وجهت إليك برأس عمر بن سعد ورأس ابنه حفص بن
عمر، وقد قتلت من شارك في دم الحسين بن علي وأهل بيته ممن قدرت عليه
بالكوفة، ولن يعجز الله من بقي منهم، ولست أنام ولا يسوغ لي الطعام حتى لا يبقى
أحد ممن شارك في دماء أهل بيتك، وأنا أرجو أن يقتل الله عزو جل عبيد الله بن زياد
وأصحابه المحلين، فأظهر منه ومن شيعته البلاد، وقد وجهت إليك أيها المهدي
ثلاثين (5) ألف دينار لتفرقها على من أحببت من أهل بيتك ومن التجأ إليك من
شيعتك، فاكتب إلي في ذلك برأيك اتبعه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قال: ثم دفع الكتاب والمال والرأسين إلى مسافر بن سعيد الهمداني (6)
وظبيان بن عمارة التميمي، وضم إليهما عشرين رجلا، ووجه بهم إلى محمد ابن



(1) الأصل: عمرو.
(2) وكان السبب في تهييج المختار على قتله أن يزيد بن شراحيل الأنصاري أتى محمد ابن الحنفية وجرى الحديث
إلى أن تذاكرا المختار، فقال ابن الحنفية: إنه يزعم أنه لنا شيعة وقتلة الحسين عنده على الكراسي
يحدثونه. فلما عاد يزيد أخبر المختار بذلك. فعمد إلى قتله (ابن الأثير 2 / 682 - 683).
(3) الأصل: ثلاثون.
(4) نسخة الكتاب في الطبري 6 / 62.
(5) الأصل: ثلاثون.
(6) في الطبري 6 / 62 مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي.
246
الحنفية وهو يومئذ بمكة، وهو جالس في نفر من شيعته يحدثهم ويقول لهم: ألا
ترون إلى المختار بن [أبي] عبيد يزعم أن محب لنا، وأنه من شيعتنا، وأنه يطلب
بدماء أهل البيت، وقتلة الحسين بن علي جلوس على الكراسي يحدثهم ويحدثونه،
حتى لقد بلغني عن عمر بن سعد وابنه حفص أنهما يغدوان إليه ويروحان - والله
المستعان -. قال: فما خرجت الكلمة من فيه حينا إلا وكتاب المختار قد وافاه مع
الرأسين والمال، فلما وضعت الرأسان بين يديه وقرأ الكتاب حول وجهه إلى القبلة
وخر ساجدا، ثم رفع رأسه وبسط كفيه وقال: اللهم لا تنس هذا اليوم للمختار!
اللهم واجز به عن أهل بيت نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير الجزاء! فو الله ما على المختار بعد
هذا من عتب! قال: ثم أخذ ذلك المال ففرق منه بمكة ما فرق، ووجه بالباقي إلى
المدينة ففرق في أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم من أولاد المهاجرين والأنصار -
رضي الله عنهم أجمعين -.
ذكر ما جرى بين محمد ابن الحنفية
وعبد الله بن الزبير وما كان في أمر البيعة
وما كان بينهم من العداوة والبغضاء
قال: ونظر عبد الله بن الزبير إلى المختار وغلبته وغلبته على البلاد فعلم أنه إنما يفعل
ذلك بظهر محمد ابن الحنفية، فأرسل إليه أن هلم فبايع فإن الناس قد بايعوا،
فأرسل إليه ابن الحنفية: إذا لم يبق أحد من الناس غيري أبايعك، قال: فأبى ابن
الزبير أن يتركه وأبى ابن الحنفية أن يبايع، وجرى بينهم كلام كثير، فأرسل ابن الزبير
إلى نفر من أصحاب ابن الحنفية فدعاهم ثم قال لهم: إني أراكم لا تفارقون هذا
الرجل، فمن أنتم فإني لا أعرفكم؟ فقالوا: نحن قوم من أهل الكوفة (1)، قال:
فما يمنعكم من بيعتي وقد بايعني أهل بلدكم؟ لعله قد غركم هذا المختار الكذاب!
فقالوا: يا هذا! ما لنا وللمختار، إننا لو أردنا أن نكون مع المختار لما قدمنا هذه
البلدة، نحن قوم قد اعتزلنا أمور الناس وأتينا هذا الحرم، فنزلناه لكيلا نقتل ولا نقتل
ولا نؤذي ولا نؤذى، فنحن ههنا مقيمون عند هذا الرجل محمد بن علي، فإذا
اجتمعت الأمة على رجل واحد دخلنا فيما دخل فيه الناس. قال: فقال عبد الله بن



(1) كانوا سبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة. منهم أبو الطفيل عامر بن واثلة. (ابن الأثير).
247
الزبير: فأنا لا أفارقكم أو تبايعوا طائعين أو مكرهين، قالوا: فإننا لا نبايع أبدا أو
نرى صاحبنا هذا قد بايع. قال: فغضب ابن الزبير ثم قال: ومن صاحبكم؟ فو الله!
ما صاحبكم هذا برضي في الدين، ولا محمود الرأي، ولا راجح العقل، ولا لهذا
الأمر بأهل. قال: فقال له رجل من القوم يقال له معاذ بن هانئ: أيها الرجل! إننا
لا ندري ما يقول، ولكنا رأيناه على مثل هدانا وأمرنا وطريقتنا، وقد اعتزل الناس وما
هم فيه، ونحن قعود بهذا الحرم لكيلا نقتل ولا نؤذى إلى أن يجمع الله أمر الأمة على
ما شاء من خلقه، فندخل فيما دخل فيه الأسود والأبيض، فأجبناه على ذلك ولزمنا
هديه وطريقته ومذهبه، ومع ذلك فإنه لا يعيش والسلام، ولا يكافئ بالسوء، ولا
يغتاب الغائب ولا يمكر به، ثم إنه قد أمرنا أن نكف أيدينا ولا نسفك دماءنا، ففعلنا
ما أمرنا به، ولعمري يا بن الزبير! لئن لم يخالفك أحد من الناس إلا كخلافنا إياك
فإنه لم يدخل عليك في ذلك شيء من الضرر.
قال: ثم تقدم عبد الله بن هانئ وهو أخو هذا المتكلم فقال: يا بن الزبير!
إننا قد سمعنا كلامك وما ذكرت به ابن عمك من السوء، ونحن أعلم به منك وأطول
له معاشرة، وهو والله الرجل البر، الطيب الطعمة، الكريم الطبيعة، الطاهر
الأخلاق، الصادق النية، وهو من ذلك أنصح لهذه الأمة منك، لأنك أنت رجل
تدعو الناس إلى بيعتك، فمن لا يبايعك استحللت ماله ودمه، وهو رجل لا يرى
ذلك، وبعد يا بن الزبير فإننا ما خليناك وتركنا هذا الأمر أن تكونوا ولاة علينا إلا
لمكان الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنكم أولى الناس بمنزلته وميراثه وقيامه في أمته، إذ كنتم
من قريش، فإننا سلمنا إليكم هذا الأمر من هذا الطريق، فإن أنتم عدلتم بينكم كما
عدلنا عليكم علمت أنت خاصة أن صاحبنا هذا محمد بن علي هو أهل لهذا الأمر
وأولى الناس به، لمكان أبيه علي بن أبي طالب، فإن أبيت أن تقر بهذا الأمر أنه
مكذب فإننا وجدناه رجلا من صالحي العرب، معروف الحسب، ثابت النسب، ابن
أمير المؤمنين، وابن أول ذكر صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فغضب ابن الزبير وقال:
من ههنا أهزؤه وأوجؤه في قفاه! قال ابن هانئ: يا بن الزبير إن حرم الرحمن وجوار
البيت الحرام الذي من دخله كان آمنا.
قال: ثم تقدم أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني فقال: يا بن الزبير! (إن
تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) (1) فقال ابن



(1) سورة القصص الآية 19.
248
الزبير: وأنت ههنا يا بن واثلة؟ فقال: نعم أنا ههنا يا بن الزبير؟ فاتق (1) الله ولا
تكن ممن (إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) (2). قال: أفلا تسمع إلى كلام
هذا الرجل الذي يضرب لي الأمثال ويأتيني بالمقاييس؟ فقال عبد الله بن هانئ:
(إني عذب بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) (3). قال: فازداد
غضب ابن الزبير ثم [قال] لأصحابه: ادفعوهم عني، فإنهم بئس العصابة.
قال: فأخرجوا من بين يديه وأقبلوا إلى محمد ابن الحنفية فأخبروه بما كان
بينهم وبين ابن الزبير، فقال لهم: جزاكم الله عني من قوم خير الجزاء! أما! إني
أتقي عليكم من هذا المسرف على نفسه، وأرى لكم من الرأي أن تعتزلوني وتكونوا
قريبا مني إلى أن تنظروا ما يكون من عاقبة أمري وأمره، فإني أكره أن تكونوا معي
ولعله ينالكم منه أمر أغتم لكم منه. قال: فقال أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني.
جعلت فداك يا بن أمير المؤمنين! والله ما أنطق إلا بما في قلبي، ولا أخبر إلا عن
نفسي، وأنا أشهد الله في وقتي هذا أني قد رضيت أن أقتل إن قتلت، وأن أؤسر إن
أسرت، وأن أحبس إن حبست، وأن أشبع إن شبعت، وأن أجوع إن جعت، وأن
أظمأ إن ظمئت، ولا والله لا أفارقك في عسر ولا يسر ولا ضيق ولا جهد ما أردتني
وقبلتني! أرى لك ذلك علي فرضا واجبا وحقا لازما، وما لا أبغي به منك جزاء
وإكراما، ولا أريد بذلك إلا ثواب الله والدار الآخرة ودفع الظلم عن أهل بيت
محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: ثم وثب معاذ بن هانئ الكندي فقال: جعلت فداك! نحن شيعتك
وشيعة أبيك من قبلك، نؤاسيك بأنفسنا، ونقيك بأيدينا، ونحن معك على الخوف
والأمن والخصب والجدب، إلى أن يأتيك الله تبارك وتعالى بالفرج من عنده، غضب
ابن الزبير بذلك أم رضي.
قال: فقال محمد ابن الحنفية: إن قدرتم على ذلك فأنا أستأنس بكم، وإن
عرضت لكم مآرب وأشغال (4) فأنتم في أوسع العذر.



(1) الأصل: فاتقي.
(2) سورة البقرة الآية 206.
(3) سورة غافر الآية 27.
(4) الأصل: اشتغال.
249
قال: فبينا القوم كذلك إذا بعمر (1) بن عروة بن الزبير قد أقبل حتى دخل على
محمد ابن الحنفية فسلم ثم قال: إن أمير المؤمنين يقول لك: هلم فبايع أنت
وأصحابك هؤلاء الذين معك، فإنكم [إن] لم تفعلوا حبستكم وأطلت حبسكم.
قال: فسكت (2) القوم وأقبل عليه ابن الحنفية فقال له: ارجع إلى عمك فقل له:
يقول لك محمد بن علي: يا بن الزبير! أصبحت منتهكا للحرمة، متلبثا في الفتنة،
جريا على نفسك الدم الحرام، فعش رويدا، فإن أمامك عقبة كؤودا، وحسابا
طويلا، وسؤلا حفيا، وكتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وبعد فو الله لا
بايعتك أبدا أو لا يبقى أحد إلا بايعك، فاقض ما أنت قاض! قال: فرجع عمر بن
عروة بن الزبير إلى عمه عبد الله بن الزبير، فقال لهم محمد: مهلا يا قوم!
لا تفعلوا فو الله ما أحب أني أمرتكم بقتل حبشي أجدع وإنه أجمع لي بعد ذلك سلطان
العرب قاطبة من المشرق إلى المغرب.
قال: وخشي عبد الله بن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا محمد ابن الحنفية
إذا كان له مثل المختار بالكوفة فكأنه هم بالإساءة وبأصحابه، قال: وعلم ابن
الحنفية بذلك فكتب إلى المختار.
ذكر كتاب محمد ابن الحنفية رحمه الله إلى
المختار يستغيث به مما قد نزل به
من ابن الزبير
من محمد بن علي إلى المختار بن [أبي] عبيد ومن بحضرته من شيعة أهل
البيت، سلام عليكم، أما بعد فإني أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الجنة، وأن يصرف
عنا وعنكم عوارض الفتنة، وإني كتبت إليكم كتابي هذا وأنا وأهل بيتي وجماعة من
أصحابي محصرون لدى البيت الذي من دخله كان آمنا، وقد منعنا عذب الماء،
وطيب الطعام، وكلام الناس، يتهدد في كل صباح ومساء بأمر عظيم، وأنا أنشدكم
الله الذي يجزي بالإحسان ويتولى الصالحين أن لا تخذلوا أهل بيت نبيكم! فتندموا



(1) الأصل: بعمرو.
(2) الأصل: فسكتوا.
(3) الأصل: وهموا.
250
كما ندمتم قبل اليوم عن قعودكم عن الحسين بن علي، إذ قتل بساحة أرضكم ثم لم
تمنعوهم ولم تدفعوا عنهم، فأصبحتم على ما فعلتم نادمين، هذا كتابي إليكم وهو
حجة عليكم - والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته -.
قال: ثم وجه ابن الحنفية بهذا الكتاب إلى المختار، فلما قرأ المختار كتاب
ابن الحنفية خنقته العبرة واستعبر باكيا ثم قال: يا غلام! ناد (1) في الناس: الصلاة
جامعة! قال: فنادى المنادي واجتمع الناس إلى المسجد الأعظم، وخرج المختار
حتى دخل المسجد وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! هذا
كتاب مهديكم وصريح آل نبيكم، يستغيث بكم ما نزل به من ابن الزبير، فأغيثوه
وأعينوه، فلست بأبي إسحاق إن لم أنصره نصر مؤازر، وإن لم أحزب (2) الخيل في
آثار الخيل كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل (3) من عاداه الويل. ثم قال: يا أبا
المعتمر! أخرج فعسكر بدم هند، بجد وجد، على خيل طائر وسعد. وأخرج أنت
يا هانئ بن قيس! فعسكر بدار السري بن وقاص العاصي، المداهن الحياص،
الذي زعم أنه لنا سلم، وأنه من أهل العلم، قد علمت أنه من أهل الخيانة والظلم.
قال: فخرج الناس فعسكروا كما أمرهم به المختار، فدعا المختار بأبي
عبد الله الجدلي وكان من خيار أهل الكوفة وأكابرهم، فدفع إليه أربعمائة ألف
درهم (4) وأمره بالمسير إلى محمد ابن الحنفية ثم كتب إليه: بسم الله الرحمن
الرحيم، للمهدي محمد بن علي، من المختار بن أبي عبيد، أما بعد فقد قرأت
كتابك وأقرأته شيعتك وإخوانك من أهل الكوفة، وقد سيرت إليك الشيعة إرسالا يتبع
أولاهم أخراهم (5)، وبالله أقسم قسما صادقا لئن لم يكف عنك من تخاف غائلته
على نفسك وأهل بيتك لأبعثن إليك الخيل والرجال ما يضيق به مكة على ما عاداك
وناواك، حتى يعلم ابن الزبير أنك أعز منه نفرا ودعوة وأكثر نفيرا، فأبشر فقد أتاك
الغوث وجاءك الغيث، وقد وجهت إليك بأربعمائة ألف درهم لتجعلها فيمن أحببت



(1) الأصل: نادي.
(2) في الطبري 6 / 76 وابن الأثير 2 / 688 أسرب.
(3) الطبري وابن الأثير: يحل بابن الكاهلية الويل.
(4) في ابن الأثير أنه بعث بالأموال مع ظبيان بن عمارة، ومعه أربعمئة.
(5) وأرسل أيضا: يونس بن عمران في أربعين، وعمير بن طارق في أربعين. ومع أبي عبد الله الجدلي سبعين
راكبا من أهل القوة (انظر الطبري 6 / 76 وابن الأثير 2 / 689).
251
من أهل بيتك وشيعتك، وقد سرحت إليك رجالا ينصرونك ويحفظون المال حتى
يؤدوه إليك، ثم يقومون بين يديك فيقاتلون عدوك ويدفعون الظلم عنك وعن أهل
بيتك فأبشر بالجيش الكبير والجند الكثير، والله الذي أنا له لو لم أعلم أني أعز لك
ولأهل بيتك بهذا المكان إذا لسرت إليك بنفسي وأذب عنك وعن أهل بيتك وعن
وليك وشيعتك، دفع الله عنك وعنهم السوء أجمعين - والسلام عليك ورحمة الله
وبركاته -.
قال: فخرج الناس من الكوفة يريدون مكة إلى محمد ابن الحنفية وسبق إليه
الكتاب، فلما قرأه حمد الله على ذلك، وأقبلت الخيل نحو مكة أرسالا يتلو بعضها
بعضا، فلما دخلوا أقبلوا إلى محمد ابن الحنفية فجعلوا يفدونه بآبائهم وأمهاتهم وهم
يقولون: جعلنا فداك يا بن أمير المؤمنين! فخل بيننا وبين ابن الزبير حتى يرى أننا
أعز نفرا. فقال لهم ابن الحنفية (1): مهلا فإني لا أستحل القتال في حرم الله وحرم
رسوله محمد صلى عليه وآله وسلم
قال: وبلغ ابن الزبير ذلك، فقام في أصحابه خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم
قال: أما بعد فالعجب كل العجب من هذه العصبة الرديئة السيئة الترابية الذين
يناووني في سلطاني ثم إنهم ينعون حسينا ويسمعوني ذلك (2) حتى كأني أنا الذي
قتلت الحسين بن علي، والله لو قدرت على قتلة الحسين لقتلتهم، وهؤلاء الذين
كاتبوا الحسين بن علي فأطمعوه في النصر! فلما صار إليهم خذلوه وأسلموه لعدو.
قال: ثم أرسل ابن الزبير إلى أبي عبد الله (3) الجدلي وأصحابه القادمين من
الكوفة فدعاهم ثم قال: أخبروني عنكم يا أهل الكوفة أما كفاكم خروجكم مع
المختار وإفسادكم على العراق حتى قدمتم هذا البلد تناووني في سلطاني! أتظنون
أني أخلي صاحبكم هذا دون أن يبايع وتبايعوا أنتم أيضا معه صاغرين! قال فقال له
أبو عبد الله (4) الجدلي: إي والركن والمقام، والحل والحرام، وهذا البلد الحرام،



(1) وكان ابن الزبير قد حصر محمد ابن الحنفية وأهل بيته وشيعته وسبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة
وحبسهم بزمزم وتوعدهم بالقتل والإحراق إن لم يبايعوا. وكان وصول أهل الكوفة وقد بقي من الأجل
الذي ضربه لهم ابن الزبير يومان. (الطبري 6 / 76 وابن الأثير 2 / 689).
(2) وكان قد دخلوا المسجد الحرام ومعهم الرايات وهم ينادون يا لثارات الحسين...
(3) بالأصل: عبيد الله. خطأ.
(4) الأصل: أبو عبيد.
252
وحرمة الشهر الحرام! لتخلين سبيل صاحبنا ابن علي ولينزلن من مكة حيث يشاء ومن
الأرض حيث يحب أو لنجاهدنك بأسيافنا جهادا وجلادا يرتاب منه المبطلون. قال:
وإذا محمد ابن الحنفية قد أقبل في جماعة من أصحابه حتى دخل المسجد الحرام،
قال: ونظر ابن الزبير فإذا أصحابه كثيرو أصحاب ابن الحنفية قليل، غير أنهم
مغضبون مجمعون على الحرب محبون لذلك، فعلم أن جانبهم خشن، وأن وراءهم
شوكة شديدة من قبل المختار فجعل يتشجع ويقول لإخوته وأصحابه: ومن ابن
الحنفية وأصحابه هؤلاء! والله ما هم عندي شيء! ولو أني هممت بهم لما مضى
ساعة من النهار حتى تقطف رؤوسهم كما يقطف الحنظل. قال له رجل من أصحاب
ابن الحنفية (1): والله يا بن الزبير! لئن رمت ذلك منا فإني أرجو أن يوصل إليك من
قبل أن ترى فينا ما تحب. قال: ثم ضرب الطفيل (2) بيده إلى سيفه فاستله فهم أن
يفعل شيئا، فقال ابن الحنفية لأبيه: يا أبا الطفيل! قل لابنك فليكف عما يريد أن
يصنع. ثم أقبل على أصحابه فقال: يا هؤلاء! مهلا فإني أذكركم الله إلا كففتم عنا
أيديكم وألسنتكم، فإني ما أحب أن أقاتل أحدا من الناس، ولا أقول للناس إلا
حسنا، ولا أريد أيضا أن نازع ابن الزبير في سلطانه ولا بني أمية في سلطانهم، ولا
أدعوكم إلى أن يضرب بعضكم بعضا بالسيف، وإنما آمركم أن تتقوا الله ربكم، وأن
تحقنوا دماءكم، فإني قد اعتزلت هذه الفتنة التي فيها ابن الزبير وعبد الملك بن
مروان إلى أن تجتمع الأمة على رجل واحد، فأكون كواحد من المسلمين. قال:
فقال رجل من أصحاب عبد الله بن الزبير: صدق والله الرجل - يعني ابن الحنفية!
والله ما هذه إلا فتنة كما قال! والسعيد عندي من اعتزلها. قال: فصاح به ابن الزبير
وقال: اسكت أيها الرجل! فإنك لا تعقل ما يأتي وما تدري من هذا حتى يسمع قوله
ويؤخذ برأيه، إنما كان هذا مع أخويه الحسن والحسين كالعسيف الذي لا يؤامر ولا
يشاور. قال فقال له محمد ابن الحنفية: كذبت والله لو مت! ما كان إخواني بهذه
المنزلة، ولكنهم كانوا أخوي وشقيقي، وكنت أعرف لهم فضلهم ونسبهم وقرابتهم
من الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كانوا يعرفون لي من الحق مثل ذلك، وما قطعوا أمرا
دوني مذ عقلت، وأما قولك: إنه لا ينبغي أن يسمع قولي ولا يؤخذ برأيي، فأنا



(1) هو قيس بن مالك (الطبري 6 / 77).
(2) بالأصل: واثلة بن الطفيل خطأ. وكان أبو الطفيل عامر بن واثلة بن وجوه أهل الكوفة المحبوس مع
ابن الحنفية في زمزم والطفيل ابنه بقي إلى أيام ابن الأشعث وقتل معه بدير الجماجم.
253
والله أوجب حقا على الأمة منك وأحق بالمودة والنصر لحق علي بن أبي طالب وقرابته
من الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم! ولو أني أعتمد على الناس بحق النبوة أنها في بني هاشم دون
غيرهم لكان ينبغي لذوي الرأي والعلم أن يأخذوا برأيي ويستمعوا لقولي، ويكونوا
لي أود ومني أسمع ولي أنصح منهم لك يا بن الزبير.
قال: فلم يزل هذا الكلام بين محمد ابن الحنفية وبين عبد الله بن الزبير وقد
ضاق الناس بعضهم بعضا في المسجد الحرام عليهم السلاح، والمعتمرون يمشون
بينهم بالصلح حتى سكت ابن الزبير ولم يقل شيئا، وخرج ابن الحنفية ومن معه من
أصحابه حتى نزل في شعب أبي طالب، ثم جمع أصحابه فقسم عليهم من المال
الذي وجه به المختار ما قسم، وقسم باقي ذلك في أهل بيته وقرابته، وأقام في ذلك
الشعب ممنوعا، فهذا أول خبر ابن الحنفية مع ابن الزبير، وسنرجع إلى أخبارهم
بعد هذا إن شاء الله ولا قوة إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم رجعنا إلى حديث المختار
قال: ثم عزم المختار على هدم دار أسماء بن خارجة الفزاري وإحراقها لأنه
كان ممن عمل في قتل مسلم بن عقيل رضي الله عنهم. قال فجعل يقول: أما ورب
السماء والماء ورب الضياء والظلماء! لتنزلن نار من السماء، حمراء دهماء سحماء،
فلتحرقن في دار أسماء. قال: وبلغ ذلك أسماء بن خارجة فقال: إنه قد سجع
وليس ههنا مقام بعد هذا قال: ثم خرج أسماء من داره هاربا حتى صار إلى البادية،
وأرسل المختار إلى داره ودور بني عمه فهدمها عن آخرها.
ثم دعا برجل من أصحابه يقال له حوشب بن يعلى الهمداني فقال: ويحك يا
حوشب! أنت تعلم أن محمد بن الأشعث من قتلة الحسين بن علي، وهو الذي قال
له بكربلاء ما قال، الله ما يهنئني النوم ولا القرار ورجل من قتلة الحسين بن علي
يمشي علي وجه الأرض! وقد بلغني أنه في قرية إلى جنب القادسية فسر إليه في مائة
رجل من أصحابك فإنك تجده لاهيا متصيدا، أو قائما متلبدا، أو خائفا متلددا، أو
كامنا مترددا (2)، فاقتله وجئني برأسه. قال: فخرج حوشب بن يعلى الهمداني في
مائة رجل من أصحابه حتى صار إلى قرية محمد بن الأشعث، وعلم ابن الأشعث



(1) في الطبري 6 / 66 كامنا متغمدا.
254
بذلك فخرج من باب له آخر في جوف الليل هاربا ومضى نحو البصرة إلى معصب بن
الزبير. قال: وأصبح حوشب بن يعلى هذا وقد علم أن محمد بن الأشعث قد
هرب فكتب إلى المختار بذلك، فكتب إليه المختار أنك قد ضيعت الحزم ولم
تأخذ بالوثيقة، فإذا قد فاتك الرجل فأهدم قصره، وأخرب قريته، وأتني بأمواله!
قال: فهدمت دار محمد بن الأشعث، وأمر المختار بنقضها فبنوا به دار حجر بن
عدي الكندي رحمه الله (1).
قال: وصار محمد بن الأشعث إلى مصعب بن الزبير فالتجأ إليه، فقال له
مصعب: ما وراءك؟ فقال: ورائي والله أيها الأمير الترك والديلم! هذا المختار بن
أبي عبيد قد غلب على الأرض، فهو يقتل الناس كيف شاء، وقد قتل إلى الساعة
هذه ممن يتهم بقتال الحسين بن علي أكثر من ثلاثة آلاف، وقد كان أعطاني الأمان
ثم إنه بعث إلي ببعض أصحابه فأراد قتلي فهربت إليك، فهذه قصتي وهذه حالي،
ثم وثب رجل من كندة ممن قدم مع محمد بن الأشعث حتى وقف بين يدي
مصعب بن الزبير فأنشأ يقول أبياتا مطلعها:
إن قوما من كندة الأخيار * بين قيس وبين آل المذار (2)
إلى آخرها. قال: فقال له مصعب بن الزبير: يا أخا كندة! إني قد فهمت
كلامك، وإني أعمل برأي أمير المؤمنين، وهو الذي ولاني البصرة وأمرني بحرب
الأزارقة، وهذا المهلب بن أبي صفرة في وجوههم يحاربهم، فلا تعجلوا فإن
المختار له مدة هو بالغها. قال: فأقام محمد بن الأشعث عند مصعب بن الزبير
بالبصرة، وبلغ عبد الملك بن مروان ما فيه المختار من غلبته على البلاد وقتله
للناس، فأحب أن يبدو به قبل غيره، ثم يتفرغ لعبد الله بن الزبير وأخيه مصعب بن
الزبير - والله أعلم -
ابتداء مسير عبيد الله بن زياد إلى العراق ومقتله
قال: فدعا عبد الملك بن مروان بعبيد الله بن زياد، فضم إليه ثمانين (3) ألفا



(1) وكان زياد بن أبيه قد هدمها. (الطبري).
(2) عن معجم البلدان، وبالأصل: المزار.
(3) الأصل: ثمانون.
255
من أجناده وأهل الشام، ثم وضع لهم الأرزاق وأعطاهم وأمرهم بالسمع والطاعة
لعبيد الله بن زياد، ثم أقبل عليه فقال له: يا بن زياد! أنت تعلم أن أبي مروان كان
قد أمرك بالمسير إلى العراق على أنك تأتي الكوفة فتقتل أهلها وتنهبها ثلاثا، ثم إن
الموت عاجله فمضى لسبيله، والآن فإني وليتك على هذا الجيش فسر نحو الجزيرة
والعراق، فإذا فرغت من المختار فسر إلى مصعب بن الزبير فاكفني أمره، ثم سر إلى
عبد الله بن الزبير بالحجاز فألحقه بأخيه مصعب، فإذا فرغت من ذلك فلك جميع ما
غلبت عليه بسيفك من أرض الشام إلى مطلع الشمس. قال: فسار عبيد الله بن زياد
من الشام ومعه ثمانون ألفا من الخيل والجنود حتى صار إلى بلاد الجزيرة ونزل أرض
نصيبين.
قال: وبلغ ذلك عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني وهو يومئذ عامل
المختار على الموصل وما والاها، فكتب إلى المختار يخبره بذلك. قال: وخرجت
مقدمة عبيد الله بن زياد في عشرين ألفا نحو الموصل، وخرج عامل المختار عن
الموصل هاربا حتى صار إلى تكريت فنزلها، وأقبل عبيد الله بن زياد في جيشه ذلك
حتى نزل الموصل، وبلغ ذلك المختار فكتب إلى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس:
أما بعد فقد بلغني أيضا كتابك وفهمت ما ذكرت من أمر عبيد الله بن زياد، وقد
بلغني أيضا نزوله أرض الموصل ونزولك بتكريت، وقد لعمري أصبت الرأي في
تنحيك من بين يديه إذ كنت لا تقوم لجيشه، فانظر لا تبرحن في موضعك ذلك حتى
يأتيك أمري - والسلام -.
قال: ثم دعا المختار برجل من سادات الكوفة وشجعانهم يقال لهم يزيد بن
أنس الأسدي، فقال له: يا يزيد! إنك قد علمت أن العاقل (1) ليس كالجاهل، وأن
الحق ليس كالباطل، وإني أخبرك خبر من [لم -] (2) يكذب، ولم يخالف ولم
يرتب، إننا نحن المؤمنون، الميامين المساليم العالمون (3)، وإنك صاحب الخيل
العتاق، وفارس أرض العراق، وسنورد خيلك حياض المنون، ومنابت الزيتون،
غائرة عيونها، لاحقة بطونها، وهذا ابن زياد قد أقبل في المحلين وأبناء القاسطين،



(1) في الطبري 6 / 39 العالم.
(2) عن الطبري.
(3) الطبري: الغالبون.
256
فسر إليه في المؤمنين، واطلب بدم ابن بنت نبي رب العالمين. قال: فقال له
يزيد بن أنس: أيها الأمير! اضمم إلي ثلاثة آلاف فارس ممن أنتخبهم أنا، وخلني
والوجه (1) الذي توجهني، فإن احتجت إلى مدد فإني سأكتب إليك بذلك إن شاء الله
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال: فقال له المختار: اخرج فانتخب من أحببت
من الناس على بركة الله وعونه.
قال: فخرج يزيد بن أنس فجعل ينتخب القائد بعد القائد، والرجل بعد
الرجل، حتى انتخب ثلاثة آلاف من سادات فرسان العرب، ثم إنه فصل من الكوفة
فخرج معه المختار والناس يشيعونه، حتى إذا صار إلى دير أبي موسى أقبل عليه
المختار يوصيه فقال له: يا يزيد! انظر إذا لقيت العدو نهارا فلا تنظرهم (2) إلى
الليل، وإن أمكنتك الفرصة فلا تؤخرها، وليكن عندي خبرك في كل يوم، وإن
احتجت إلى مدد فاكتب إلي في ذلك مع أني أمدك بالخيل والرجال حتى يكتفي إن
شاء الله ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال: فقال يزيد بن أنس: أيها الأمير! ما
أريد منك أن تمدني إلا بالدعاء وكفى لي به مددا - والسلام -. قال: ثم ودعه وسار.
وكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني: أما بعد فقد
توجه إلى ما قبلك يزيد بن أنس، وهو من قد علمت في البأس والشدة، فإذا قدم
عليك فخل (3) بينه وبين البلاد، وكن تحت رايته سامعا مطيعا له - والسلام -.
ذكر مسير يزيد بن أنس إلى محاربة عبيد الله
ابن زياد وهي الوقعة الأولى
قال: وسار يزيد بن أنس حتى صار إلى تكريت وصار إليه عبد الرحمن بن
سعيد في ألف رجل، فصار يزيد في أربعة آلاف فارس، وأقبل حتى نزل على
خمسة فراسخ من أرض الموصل (4)، وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد فوجه إليه بقائد من
قواد أهل الشام يقال له ربيعة بن مخارق الغنوي في ثلاثة آلاف فارس، وأتبعه بقائد



(1) الطبري: والفرج.
(2) الطبري 6 / 40 فلا تناظرهم.
(3) الأصل: فخلي، وما أثبت عن الطبري.
(4) بمكان يقال له بنات تلي (الطبري 6 / 40 وابن الزبير 2 / 672).
257
آخر يقال له عبد الله بن حملة الخثعمي (1) في ثلاثة آلاف، قال: وأقبل القوم حتى
نزلوا حذاء يزيد بن أنس.
قال: واعتل يزيد بن أنس في ليلته تلك علة شديدة وأصبح موعوكا لما به،
فدعا بحمار له مصري فاستوى عليه وجعل يجول في عسكره وغلمانه يمسكونه من
ضعفه أن لا يسقط من الحمار، فجعل يوصي أصحابه ويقول: يا شرطة الله!
اصبروا تؤجروا، وصابروا عدوكم تظفروا، وقاتلوا أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان
كان ضعيفا، فقد ترون ما بي من العلة فإن هلكت فأميركم من بعدي ابن عمي
ورقاء (2) بن عازب الأسدي، فإن أصيب فعبد الله بن ضمرة العذري (3)، فإن أصيب
فسعر بن أبي سعر الحنفي. قال: ثم نزل عن الحمار ووضع له كرسي، فجلس
عليه وجعل يقول: إن شئتم فقاتلوا عن أميركم وإن شئتم فعن أنفسكم ودينكم،
وخذوا بدم ابن بنت نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم دنا القوم بعضهم من بعض فاقتتلوا ساعة، وحمل ورقاء بن عازب الأسدي
على رجل من أهل الشام فضربه ضربة نكسه عن فرسه قتيلا. ثم ساح بأهل العراق
فحملوا وحمل معهم، وانهزم أهل الشام هزيمة قبيحة، ووضع أهل العراق فيهم
السيف، فجعلوا يقتلونهم خمسة فراسخ حتى ألحقوهم بصاحبهم عبيد الله بن
زياد (4)، وقد قتل منهم من قتل، وأسر منهم ثلاثمائة رجل أو يزيدون، فأتي بهم إلى
يزيد بن أنس وهو لما به حتى أوقفهم بين يديه فجعل يؤمي بيده أن اضربوا أعناقهم!
قال: فضربت أعناقهم عن آخرهم.
فلما كان الليل اشتدت العلة بيزيد بن أنس فتوفي في بعض الليل (5)
رحمه الله! فغسل وكفن وحفر له ناحية من العسكر، وتقدم ورقاء بن عازب الأسدي
فصلى عليه، ودفن في جوف الليل وسوي قبره بالأرض لكيلا يعلم أحد بموضع



(1) في الأصل: عبد الله بن جملة الخثعمي، وما أثبت عن الطبري وابن الأثير.
(2) عن الطبري، وبالأصل: ورقة بن نوفل.
(3) عن الطبري، وبالأصل: الغنوي.
(4) انظر تفاصيل أوردها الطبري 6 / 41 - 42. وابن الأثير 2 / 674.
(5) في ابن الأثير: مات آخر النهار.
258
قال: وأصبح أهل العراق مغمومين بموت صاحبهم يزيد بن أنس، فقال لهم
ورقاء بن عازب: أيها الناس! دعوا عنكم هذا الجزع الذي قد تداخل كم، فكل حي
ميت، فلا تشربوا قلوبكم الهم والغم، فهذا عبيد الله بن زياد بإزائكم في (1) خلق
عظيم، وقد علمتم من قد التأم إليه من أهل الجزيرة، ولا أظن أن لكم به طاقة،
فإني أعلم أننا إن قاتلناهم كنا مخاطرين، وإن هزمناهم لن ينفعنا هزيمتهم شيئا لكثرة
جمعهم وعددهم. قال: فقالوا: أيها الأمير! الرأي عندنا أن تنصرف حتى ننصرف
معك. قال: فرحل القوم في جوف الليل نحو العراق.
وبلغ ذلك المختار وأهل الكوفة فأرجف منهم من أرجف وتكلم أعداء المختار
ما تكلموا ولم يعلموا ما الخبر، وظنوا أنه قد قتل يزيد بن أنس وأن أصحابه قد
أبيدوا. قال: واغتم المختار أيضا لذلك ولم يدر ما قصة يزيد بن أنس وأصحابه،
ثم أتاه الخبر بعد ذلك بأن يزيد بن أنس إنما مات من علة نزلت به، وأن أصحابه
انصرفوا من غير هزيمة. قال: فطابت نفس المختار بذلك، وقدم أصحاب يزيد بن
أنس الكوفة يخبرون بما كان من أمرهم. قال: فعندها دعا المختار بإبراهيم بن
الأشتر، فعقد له عقدا وضم إليه أصحاب يزيد بن أنس وغيرهم من فرسان هل
الكوفة ورجالتهم (2) وقال له: سر إلى عدوك فناجزهم وطالعني بأخبارك في ليلك
ونهارك، وإن رأيت أمرا لا طاقة لك به فلا تلق بيدك إلى التهلكة، واكتب إلي حتى
أمدك بخيل ورجال ما تكتفي بهم إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال: فخرج إبراهيم بن الأشتر حتى ضرب عسكره بموضع يقال له حمام أعين (3)،
وعزم (4) أهل الكوفة على أن يغدروا بالمختار.
ذكر خروج أهل الكوفة على المختار
و غدرهم به ومحاربتهم إياه
قال: وعزم أهل الكوفة على أن يغدروا بالمختار وأن ينقضوا عهده وبيعته،



(1) الطبري: في ثمانين ألفا من أهل الشام.
(2) في الطبري أن المختار علم خبر جيش يزيد بن أنس من عين له من أنباط السواد قبل وصولهم الكوفة وأنه
عقد لابن الأشتر على سبعة آلاف رجل وسار بهم قبل دخول جيش ابن أنس الكوفة وأمره أن يرد معه
جيش ابن أنس إن التقى بهم. 6 / 43. وانظر الأخبار الطوال 293.
(3) حمام أعين موضع بالكوفة منسوب إلى أعين مولى سعد بن أبي وقاص.
(4) الأصل: عزموا.
259
فجعل بعضهم يقول لبعض: والله لقد تأمر علينا هذا الكذاب غير رضا منا، ولقد
عمد إلى عبيدنا وموالينا، فقربهم وأدناهم وحملهم على الخيل، وأعطاهم الأموال،
وأطعمهم الفيء، وقد علمتم ما كان لنا فيهم من المنافع لأيتامنا وأراملنا.
قال: ثم اجتمعوا في منزل شبث (1) بن ربعي فذكروا له ذلك، وكان شبث من
أشراف بني تميم، وكان جاهليا إسلاميا فارسا، لا يدفع عن حسب ولا شرف، بطلا
شجاعا، فلما ذكروا له ذلك قال لهم: لا تعجلوا حتى ألقاه فأكمله في ذلك، قال:
ثم أقبل شبث حتى دخل على المختار فسلم وجلس، ثم تكلم فلم يترك شيئا مما
أنكره عليه أهل الكوفة إلا ذكره له، حتى ذكر أمر العبيد والموالي، فقال: أيها
الأمير! وأعظم الأشياء عليك أنك عمدت إلى عبيدنا وهم فيئنا الذين أفاء الله بهم
فأخذتهم إليك، ثم لم ترض بأخذهم حتى جعلتهم شركاءنا في فيئنا، ولا يحل لك
أيها الأمير هذا في دينك ولا يجمل بك في شرفك! قال: فقال له المختار: فإني
أرضيكم بكل ما تحبون وأغنيكم من كل ما تكرهون على أنكم تقاتلون معي بني أمية
وعبد الله بن الزبير، وآخذ عليكم بذلك عهودا ومواثيق وأيمانا مغلظة أنكم لا تغدرون
ولا تنكثون. قال: فقام شبث بن ربعي من عند المختار وصار إلى قومه وذكر لهم
ذلك، فغضبوا غضبا شديدا وضجوا وقالوا: لا والله ما نقاتل معهم أحدا ولكنا نقاتله
وننقض عليه بيعته.
ثم عزم (2) القوم على محاربة المختار، وأقبل إليهم رجل من أشرافهم يقال له
عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فقال: يا هؤلاء! اتقوا الله ولا تخرجوا على هذا
الرجل فقد بايعتموه أنكم لا تغدرون به، وأنا أخاف عليكم أنكم إن قاتلتموه أن
تختلفوا وتتخاذلوا فيظفر بكم، لأن الرجل اليوم محتو على بلدكم، ومعه أشرافكم
وشجعانكم وفرسانكم، ومعه أيضا عبيدكم وأولادكم (3)، فكفوا عن الرجل ولا
تقاتلوه، فهذا مصعب بن الزبير بالبصرة ولو قد فرغ من حرب الأزارقة لسار إليه
وكفاكم أمره، وهذا عبيد الله بن زياد بالموصل في ثمانين ألفا ويزيدون، فعسى الله



(1) الأصل: شبيب. وصححت أينما وقعت في الخبر.
(2) الأصل: عزموا.
(3) في الطبري 6 / 45 عبيدكم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة وعبيدكم ومواليكم أشد حنقا عليكم من
عدوكم.
260
تبارك وتعالى أن يكفيكم أمره بأحدهم. قال فقال له الأشراف من أهل الكوفة: يا بن
مخنف! ننشدك بالله أن لا تفسد علينا ما اجتمعنا عليه من أمرنا. قال: فأمسك عنهم
عبد الرحمن بن مخنف ثم قال: يا هؤلاء! فإني ممسك عنكم فافعلوا ما بدا لكم،
ولكن إن كنتم قد عزمتم على الخروج عليه فلا تعجلوا وتلبثوا حتى يمضي إبراهيم بن
الأشتر إلى عبيد الله بن زياد، ويبقى المختار ههنا في نفر يسير، فعند ذلك فافعلوا ما
بدا لكم إن لم يكن لكم ناصر ينصره ويذب عنه.
قال: فسكت أهل الكوفة عن المختار، حتى إذا علموا أن ابن الأشتر قد بلغ
ساباط المدائن نادوا وخرجوا وارتفعت الضجة، ولم يبق أحد بالكوفة ممن كان
مختفيا وشارك في قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما إلا ظهر. قال: ونقض القوم
بيعة المختار وخرجوا عليه، فخرج الشمر بن ذي الجوشن في جبانة السكون (1)،
وخرج كعب بن أبي كعب في جبانة بشر، وخرج إسحاق [بن محمد -] (2) بن
الأشعث في جبانة كندة، وخرجت (3) قبائل همدان في جبانة السبيع.
قال: فصارت الكوفة كلها على المختار سيفا واحدا، فلما رأى ذلك دعا
برجل من خاصته يقال له عمرو بن توبة فأمره بالركض إلى إبراهيم بن الأشتر يخبره
بقصته، وكتب: انظر، لا تضع كتابي من يدك أو تقبل إلي راجعا بجميع من معك،
فإن أهل الكوفة قد نقضوا بيعتي وخرجوا علي - والسلام، فالعجل العجل.
قال: فمضى الرسول إلى إبراهيم بن الأشتر، وبعث المختار برسله إلى هؤلاء
الذين خرجوا عليه فقال: يا هؤلاء! أخبروني ما الذي حملكم على نقض بيعتي
والخروج علي! وأخبروني ما الذي تريدون! فإني نازل بحيث تحبون. فقالوا:
نريد أن تعتزل عنا فإنك زعمت أن محمد ابن الحنفية أرسلك إلينا وقد كذبت على
ابن الحنفية. قال: فرجعت الرسل إلى المختار فأخبروه بذلك، فأرسل إليهم
المختار أن يا هؤلاء فلا عليكم، ها أنا ههنا بين أظهركم مقيم، فابعثوا برسلكم إلى
ابن الحنفية واسألوه عن ذلك ولا تعجلوا.
قال: وجعل المختار يرسل إليهم رسولا بعد رسول كل ذلك ليشغلهم عن



(1) في الطبري 6 / 45 بني سلول في قيس.
(2) زيادة عن الطبري.
(3) في الطبري: خرج عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني.
261
حربه إلى أن يقدم ابن الأشتر، والقوم يأبون ذلك، ثم إنهم ساروا إليه يريدون قتاله
وقتله، والمختار يومئذ في قريب من أربعة آلاف، فلما رأى أنهم قد بغوا عليه أمر
أصحابه بالحرب فاقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل، وباتوا على حرب وأصبحوا على
حرب، والمختار يعلم أن لا طاقة له بهم.
قال: وإذا إبراهيم بن الأشتر وافى يوم الثاني فصلى الفجر على باب
الجسر، ثم أقبل بخيله ورجله حتى دخل الكوفة قال: وعلم (1) أولئك الخارجون
أن ابن الأشتر قد وافى، فافترقوا فرقتين، فصارت ربيعة ومضر على حدة، واليمن
على حدة. فقال ابن الأشتر للمختار: أيها الأمير! أي الفريقين تحب أن أكفيك
اليمن أو ربيعة ومضر؟ فقال المختار: إذا أخبرك أبا النعمان! أن اليمن هم قومك
وعشريتك ولعلك إن حاربتهم أبقيت عليهم، فدعني واليمن وعليك بربيعة ومضر!
قال: فسار إبراهيم بن الأشتر في جيشه ذلك حتى صار إلى الكناسة (2) وقد اجتمع
بالكناسة يومئذ خلق كثير من ربيعة ومضر. قال: فسار إبراهيم بن الأشتر في جيشه
ذلك حتى صار إلى الكناسة وقد اجتمع، فلما نظروا إلى ابن الأشتر حملوا وحمل
عليهم، واقتتل القوم وصبر بعضهم لبعض.
ذكر وقعة جبانة السبيع
قال: وسار المختار إلى جبانة السبيع وبها يومئذ قبائل اليمن، وقد اجتمعوا
على عبد الرحمن [بن سعيد -] (3) بن قيس الهمداني، قال: فالتقى القوم هنالك
فقاتل بعضهم بعضا، وعلت الأصوات من كل ناحية.
وجعل ابن الأشتر يقول: ويحكم يا معشر ربيعة ومضر! انصرفوا عني،
فحسبكم مني، أنا ابن الأشتر، أنا ابن الضل الذكر، والله ما أحب أن يصاب أحد
منكم على يدي! قال: فأبوا عليه، واشتد القتال حتى انتصف بعضهم من بعض،
ثم وقعت الهزيمة بعد ذلك فانهزموا هزيمة قبيحة من بين يديه، فأبقى عليهم ابن
الأشتر فلم يتبعهم (4).



(1) الأصل: وعلموا.
(2) عن الطبري 6 / 47 وبالأصل: الكناس.
(3) زيادة عن الطبري 6 / 48.
(4) انظر تفاصيل أوردها الطبري عن قتال المختار لقبائل اليمن، وقتال ابن الأشتر مضر 6 / 49 - 50.
262
قال: وجاء البشير إلى المختار أن القوم قد انهزموا من بين يدي ابن الأشتر،
فكبر المختار وكبر أصحابه، وسمع هؤلاء الذين يقاتلونه التكبير ففزعوا لذلك وعلموا
أن أصحابهم قد انهزموا، فانكسروا انكسارا شديدا، ثم ولوا مدبرين، فمنهم من
اختفى في منزله، ومنهم من خرج هاربا في البرية على وجهه، ومنهم من لحق
بمصعب بن الزبير بالبصرة فكان معه، ووضعت الحرب أوزارها. فقال المختار
لأصحابه: انظروا كم قتل من الناس! وفتشوا البيوت فأتوني بهؤلاء الذين خرجوا
علي ونقضوا بيعتي! قال: فحصر من كان قتل من أصحاب المختار فكانوا مائة
وخمسة وثلاثين (1) رجلا، وأحصي من قتل من الخارجيين عليه فكانوا ستمائة
وأربعين (2) رجلا، فذلك سبعمائة وخمسة وسبعون رجلا.
ذكر القوم الذين عرضوا على المختار
فقتلهم صبرا
قال: ثم جعل أصحاب المختار يفتشون الدور ويخرجون القوم إلى المختار
مكتفين، فكان المختار كلما قدم إليه رجل يسأل عنه، فإن كان ممن قاتل
الحسين بن علي رضي الله عنهما وشهد عليه بذلك أمر به فضربت عنقه صبرا، وإن
كان من قتلة الحسين أمر به فقطعت يده، ومنهم من يقطع يده ورجله، ومنهم من
يأمر به فيكبل بالحديد ويلقى في السجن.
قال: وإذا برجل أسود قد أتي به حتى وقف بين يديه، قال: فجعل الأسود
يرتعد ويقول (3):
أمنن علي اليوم يا خير معد * وخير من صلى وخير من سجد
وخير من حل بقوم ووفد * وخير من لبى لجبار صمد
قال: فقال له المختار: إني قد سمعت كلامك بالأمس وتحريضك، وأنت



(1) الأصل: ثلاثون.
(2) الأصل: أربعون.
(3) الأرجاز لسراقة بن مرداس، وهي في ديوانه ص 74. والطبري 6 / 54 باختلاف بعض الألفاظ.
وقد ورد في الطبري أنه: لما خرج المختار من جبانة السبيع، وأقبل إلى القصر، أخذ سراقة بن مرداس
يناديه بأعلى صوته (وذكر الأرجاز) فبعث به المختار إلى السجن فحبسه ليلة ثم أرسل إليه من الغد
فأخرجه.
263
تنادي وتقول: أيها الناس قاتلوا الكذاب! أخبرني ما علمك بأني كذاب؟ نعم أنا
الكذاب، نعم أنا الكذاب كما زعمت إن لم أذيقك حر الحديد. قال: فأمر به،
فضربت عنقه صبرا.
خبر سراقة بن مرداس (1) البارقي
قال: وكان آخر من قدم عليه رجل من القوم بهي جميل، فقال له المختار:
من أنت؟ فقال: أيها الأمير! أنا سراقة بن مرداس البارقي، ولست ممن قاتل
الحسين بن علي ولا مشارك في دمه، فاسمع كلامي ولا تعجل! فقال له المختار:
فقل ما تشاء فإني سامع منك، فأنشأ يقول:
ألا أبلغ أبا إسحاق أنا * نزونا نزوة كانت علينا
خرجنا لا نرى الأبطال (2) شيئا * وكان خروجنا بطرا وحينا
نراهم في صفوفهم قليلا * وهم مثل الدبى لما التقينا
برزنا إذ رأيناهم إليهم (3) * وأما القوم قد برزوا إلينا
لقينا منهم ضربا عنيدا (4) * وطعنا مسحجا حتى انثنينا
زففت الخيل يا مختار زفا * بكل كتيبة قتلت حسينا
نصرت على عدوك كل يوم * بكل حضارم لم يلق شينا (5)
كنصرة أحمد في يوم بدر * ويوم الشعب إذ لاقى حنينا
فصفحا إذ قدرت فلو قدرنا (6) * لجرنا في الحكومة واعتدينا
تقبل توبة مني فإني * سأشكر إن جعلت النقد دينا
قال: فقال له المختار: إني قد سمعت شعرك وأنت ممن قاتلني ولا بد من



(1) الأصل: مرادس خطأ.
(2) الطبري 6 / 54 وابن الأثير 2 / 680 الضعفاء، وفي الأخبار الطوال ص 303 الإشراك دينا.
(3) الطبري: فلما رأينا القوم.
(4) الطبري: طلحفا وطعنا صائبا.
(5) البيت في الطبري:
نصرت على عدوك كل يوم * بكل كتيبة تنعى حسينا
(6) صدره في الطبري:
فاسجح إذ ملكت فلو ملكنا
264
قتلك أو تخليدك السجن، قال فقال سراقة: ولم ذلك فو الله فعليه كذا وكذا إن
لم أر الملائكة بالأمس تقاتل معك، فلما وضعت الحرب أوزارها رأيت الملائكة تطير
بين السماء والأرض، فقال له المختار: وأنا أحلف أنك ما رأيت شيئا مما رأيت من
أمر الملائكة، وقد حلفت بالله كاذبا، وقد حقنت لك دمك فأخرج عن الكوفة والحق
بأي بلد شئت (1)! قال فقال سراقة: صدقت والله أصلح الله الأمير ما رأيت شيئا وما
كنت في يمين حلفت بها ساعة قط أشد اجتهادا ولا مبالغة في الكذب من تلك
اليمين، ولكني خفت سيفك. قال: ثم خرج سراقة بن مرداس من الكوفة هاربا
حتى صار إلى مصعب بن الزبير فحدثه بقصته، ثم أنشأ يقول:
ألا أبلغ أبا إسحاق أني * رأيت البلق دهما مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا * علي قتالكم حتى الممات (2)
أرى عيني ما لم تبصراه (3) * كلانا عالم بالترهات
إذا قالوا أقول لكم (4) كذبتم * وإن خرجوا لبست لهم أداتي
قال: فبلغ المختار ما قاله سراقة (5) بن مرداس فقال: أما أنا فلو علمت ذلك
منه لما أفلت من مخالبي.
ذكر مقتل الشمر بن ذي الجوشن
ثم دعا المختار بغلام له أسود يقال له رزين (6)، وكان فارسا بطلا، فقال: ويلك
يا رزين! قد بلغني عن الشمر بن ذي الجوشن أنه قد خرج عن الكوفة هاربا في نفر
من غلمانه ومن اتبعه (7)، فأخرج في طلبه فلعلك تأتيني به أو برأسه، فإني ما أعرف



(1) جاء قول المختار هذا لسراقة سرا وكان قد خلا به، وكان قبل قد أمره أن يصعد المنبر ويعلم الناس بما
رأى من أن الملائكة كانت تقاتل مع جيش المختار. (انظر الطبري 6 / 55 ابن الأثير 2 / 680 الأخبار
الطوال ص 303).
(2) البيت في الأخبار الطوال ص 303:
كفرت بدينكم وبرئت منكم * ومن قتلاكم حتى الممات
(3) الطبري والأخبار الطوال: ترأياه.
(4) الطبري: لهم.
(5) الأصل: سرادقة.
(6) في الطبري 6 / 52 وابن الأثير 2 / 678 والأخبار الطوال ص 301 زربي.
(7) كان مقيما بدست ميسان كما في الأخبار الطوال ص 301.
265
من قاتل الحسين بن علي أعتى منه ولا أشد بغضا لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فاستوى رزين على فرسه وخرج في طلب الشمر بن ذي الجوشن فجعل
يسير مسيرا عنيفا، وهو في ذلك يسأل عنه فيقال له: نعم إنه قد مر بنا آنفا، فلم يزل
ذلك حتى نظر إليه من بعيد، قال: وحانت من الشمر التفاته فنظر إلى رزين غلام
المختار فقال لغلمانه: سيروا أنتم فإن الكذاب قد بعث بهذا الفارس في طلبي!
قال: ثم عطف الشمر على غلام المختار وتطاعنوا برمحي هم، طعنه الشمر طعنة قتله
ثم مضى.
قال: وبلغ ذلك المختار فاغتم لذلك غما شديدا، ثم دعا برجل يقال له عبد
الرحمن بن عبيد الهمداني، فضم إليه عشرة من أبطال أصحابه ثم قال: يا عبد
الرحمن! إن الشمر قد قتل غلامي رزينا ومر على وجهه، ولست أدري أي طريق
سلك، ولكني أنشدك بالله يا أخا همدان ألا قررت عيني أنت ومن معك بقتله إن
قدرتم على ذلك.
قال: فخرج عبد الرحمن بن عبيد في عشرة من أصحاب المختار في طلب
الشمر بن ذي الجوشن، فجعلوا يسيرون وهم يسألون عنه ويمضون على الصفة،
قال: والشمر قد نزل إلى جانب قرية على شاطئ الفرات يقال لها الكلتانية (1) وهو
جالس في غلمانه، ومعه قوم قد صحبوه من أهل الكوفة من قتلة الحسين بن علي
رضي الله عنهما، وهم آمنون مطمئنون، والشمر قد نزع درعه ورمى به ورمى ثيابه
واتزر بمئزر وجلس، ودوابه بين يديه ترعى، فقال له بعض أصحابه ممن كان معه:
إنك لو رحلت بنا عن هذا المكان لكان الصواب فإنك قد قتلت غلام المختار، ولا
نأمن أن يكون قد وجه في طلبنا! قال: فغضب الشمر من ذلك وقال: ويلكم أكل
هذا خوفا وجزعا من الكذاب، والله لا برحت من مكاني هذا إلى ثلاثة أيام ولو جاءني
الكذاب في جميع أصحابه! قال: فو الله ما فرغ من كلامه حينا حتى أشرفت عليه
خيل المختار، فلما نظر إليهم وثب قائما فتأملهم، قال: ونظروا إليه وكان أبرص،
والبرص على بطنه وسائر بدنه كأنه ثوب ملمع. قال: ثم ضرب بيده إلى رمحه ثم دنا
من أصحاب المختار وهو يومئذ متزر بمنديل وهو يرتجز ويقول:



(1) عن الطبري 6 / 52 وابن الأثير 2 / 679.
266
تيمموا ليثا هزبرا باسلا (1) * جهما محياه يدق الكاهلا
لم يك (2) يوما من عدو ناكلا * إلا كذا مقاتلا أو قاتلا
يمنحكم طعنا وموتا عاجلا (3)
قال: فقصده عبد الرحمن بن عبيد وهو يرتجز ويقول:
يا أيها الكلب العوي العامري * أبشر بخزي وبموت حاضر
من عصبة لدى الوغى مساعر * شم الأنوف سادة مغاور
يا قاتل الشيخ الكريم الطاهر * أعني حسين الخير ذي المفاخر
وابن النبي الصادق المهاجر * وابن الذي كان لدى التشاجر
أشجع من ليث عرين خادر * ذاك على ذو النوال الغامر
قال: ثم حنق عليه الهمداني فطعنه في نحره طعنة فسقط عدو الله قتيلا، ونزل
إليه الهمداني فاحتز رأسه، وقتل أصحابه عن آخرهم، وأخذت أموالهم وأسلحتهم
ودوابهم، وأقبل الهمداني برأسه ورؤوس أصحابه إلى المختار حتى وضعها بين
يديه، فلما نظر المختار إلى ذلك خر ساجدا لله، ثم أمر برأس الشمر وأصحابه
فنصبت بالكوفة في وجه الحدادين حذاء المسجد الجامع، ثم أمر لهذا الهمداني
بعشرة آلاف درهم وولاه أرض حلوان.
ثم رجعنا إلى الحديث الأول
وخبر عبيد الله بن زياد
قال: ثم دعا المختار بإبراهيم بن الأشتر فقال له: أبا النعمان! إننا قد عرفنا
ممن كان بغى علينا، فاجمع الآن إليك أصحابك وسر إلى عدوك عبيد الله بن زياد
وأصحابه المحلين، فإن احتجت إلى مدد فاكتب إلي حتى أمدك بالخيل والرجال،



(1) الرجز في الطبري 6 / 54 وابن الأثير 2 / 679.
نبهتم ليث عرين باسلا
(2) في الطبري وابن الأثير: لم ير.
(3) الرجز في الطبري:
يبرحهم ضربا ويروي العاملا
وفي ابن الأثير: ينزحهم.
267
حتى تكتفي إن شاء الله ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال فقال له ابن الأشتر: أيها
الأمير! إني خارج كما ذكرت وأمرت، لكني لا أحب أن يخرج معي عبيد الله بن
الحر في هذا الجيش، فإنه رجل معجب بنفسه، وخاف أن يغدر بي في وقت
حاجتي إليه! فقال المختار: صدقت أبا النعمان هو كذلك ولكن داره وأحسن إليه
واملأ عينه من المال، فإنه ابن عمك، ولعلي إن أمرته بالتخلف عنك أن يجد في
نفسه من ذلك عليك، ولكن عليك بمداراته مهما استطعت، واعلم أني منتظر لأمرك
وما يكون منك في قتال الفاسقين، وأنا أرجو أن تلحق الآخرين بالأولين.
قال: فخرج إبراهيم بن الأشتر من الكوفة يوم السبت لثمان خلون (1) من ذي
الحجة سنة ست وستين، ومعه يومئذ عشرة آلاف فارس وسبعة آلاف راجل، وقد
رفع رأسه إلى السماء وهو يقول: اللهم عمرنا في طاعتك، ولا تجعلنا من أهل
معصيتك، اللهم اذكرنا ولا تنسانا، وانصرنا ولا تخذلنا، وارفعنا ولا تضعنا، وأعزنا
ولا تذلنا، إنك واسع الرحمة قريب من المحسنين. قال: وخرج المختار في نفر من
أصحابه لتشييعه فجعل يقول: اللهم انصر من صبر، واخذل من كفر، ومن عصا
ومن فجر، وبايع وغدر، وعلا وتجبر، فصار إلى سقر، لا تبقي ولا تذر، ليذوق
العذاب الأكبر. قال: ثم أقبل على ابن الأشتر فقال: أبا النعمان! احفظ عني
ثلاث خصال أوصيك بها: خف (2) الله في السر والعلانية، وعجل المسير إلى
عدوك، فإذا (3) عاينتهم فناجزهم وحاكمهم إلى الله فإنه أحكم الحاكمين! أفهمت ما
أوصيتك؟ فقال: نعم أيها الأمير قد فهمت. قال: فسر الآن راشدا، صحبك الله
وسلمك، وردك سالما.
قال: ثم رجع المختار إلى الكوفة، ومضى ابن الأشتر في جيشه وهو
يقول (4):
أما وحق المرسلات عرفا * وعصفه للعاصفات عصفا
لنعسفن من بغانا عسفا * حتى نسوم القوم منا خسفا



(1) في الطبري 6 / 81 وابن الأثير 2 / 693 بقين.
(2) عن الطبري 6 / 82 وابن الأثير 2 / 694 وبالأصل: حفظ.
(3) في الطبري 6 / 82 وإذا لقيت عدوك فناجزهم ساعة تلقاهم، وإن لقيتهم ليلا فاستطعت ألا تصبح حتى
تناجزهم وإن لقيتهم نهارا فلا تنتظر بهم الليل حتى تحاكمهم إلى الله.
(4) بعض الأرجاز في الطبري 6 / 81 إلى المختار.
268
زحفا إليهم لا نمل زحفا * حتى نلاقي (1) بعد صف صفا
وبعد ألف قاسطين ألفا * نكشفهم لدى الهياج كشفا
ثم سار ابن الأشتر في جيشه ذلك حتى صار إلى المدائن، فنزلها أياما ثلاثة،
ثم رحل عنها وجد السير حتى صار بتكريت، فلما نزلها أمر بجباية خراجها، فجبي
له الخراج في أيام قلائل، فأخذه وفرقه على من كان معه من أصحابه، وبعث إلى
عبيد الله بن الحر بخمسة آلاف درهم. قال: فغضب ابن الحر لذلك، ثم بعث إلى
ابن الأشتر فقال: أيها الأمير! أتبعث إلي بخمسة آلاف درهم وتقبض لنفسك على ما
بلغني عشرة آلاف درهم! والله ما أنا بدونك في هذا العسكر، ولا كان الحر بن
عمرو بدون أبيك مالك بن الحارث، فلم تأخذ أنت من المال ما آخذه أنا. قال:
فبعث إليه ابن الأشتر: والله يا بن عم! ما أخذت إلا كما أخذت وقد وجهت إليك
بالخمسة آلاف درهم التي صارت إلي. قال: فأبى ابن الحر أن يقبل من ذلك
شيئا، وعزم على مخالفة القوم والخروج عليهم.
ابتداء خبر عبيد الله بن الحر الجعفي
قال أهل العلم كما حدثني به غير واحد من جمع (2) هذه العلوم أن عبيد الله بن
الحر كان رجلا من سادات أهل الكوفة، وبها ولد وبها نشأ، وهو عبيد الله بن
الحر بن عمرو بن خالد بن المجمع بن مالك بن كعب بن (3) عوف بن حريم بن (3)
جعفي، وكان مقيما بالكوفة في خلافة عثمان بن عفان، قال: فلما قتل عثمان وكان
من أمر الجمل ما كان، خرج عبيد الله بن الحر إلى معاوية بالشام فالتجأ إليه، ولم
يشاهد حرب الجمل، حتى إذا قدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه من البصرة إلى
الكوفة وخرج إلى الشام فحاربه معاوية فدعاه ثم قال: يا بن الحر! إننا احتجنا إلى
معاونتك ولك عندنا بالرضا! فقال له ابن الحر: إني لا يتهيأ لي ذلك لأنني رجل من
الكوفة وهؤلاء الذين مع علي بن أبي طالب أكثرهم قومي وعشائري، ولم أخرج من
عندهم مكرها، ولم يقتل علي عثمان بن عفان فأقاتله! فإن رأيت أن تعفيني من قتال
علي فافعل أنت، فإذا انصرف عنك علي فأقاتل من شئت من بعده. قال: فغضب



(1) في الطبري وابن الأثير: لنقتلن بعد.
(2) الأصل: جميع. (3) عن جمهرة ابن حزم ص 385 وبالأصل: سعد بن عوف بن.
269
عليه معاوية وجفاة، فلزم ابن الحر منزله فلم يشهد مشهدا من حروب صفين (1)، ولم
يزل كذلك إلى أن كان من أمر الحكمين ما كان، ورجع علي رضي الله عنه إلى
الكوفة فنزلها، وأرسل معاوية إلى عبيد الله بن الحر فدعاه ثم قال: يا بن الحر!
دعوناك بالأمس إلى قتال رجل قد سار إلينا يريد بوارنا واستئصالنا فلم تجبنا ولم تقاتل
معنا، والآن فقد كفانا الله تبارك وتعالى أمر علي وصار إلى الكوفة، غير أنه بلغني أن
جماعة من العرب يصيرون إليك في جوف الليل فيكونون عندك، فإذا أصبحوا
تفرقوا، فمن هؤلاء يا بن الحر؟ فقال: هؤلاء أصحابي الذين قدموا معي من بلدي
فيشاورونني في أمورهم وأشاورهم في أمري ومقامي بأرض الشام! فقال له معاوية:
أتظن نفسك قد تطلعت إلى الكوفة والكينونة مع علي بن أبي طالب؟ فقال ابن
الحر: إنه والله لعلى ما ظننت، وأن بلدي أحب إلي من غيره، وإنه لقبيح بي أن
أترك قومي وعشيرتي وأقيم بالشام غريبا في غير داري ووطني، وأما ما ذكرت من علي
فو الله ما أشك أنه على الحق وأنه إمام هدى. فقال رجل من جلساء معاوية: كذبت
يا بن الحر! بل نحن على الحق ومن أومأت إليه على الباطل، وما قاتلناه إلا ديانة.
فقال ابن الحر: أنت والله أكذب وألأم ولقد قاتلت أخا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمه ظلما
وعدوانا. قال: ثم وثب ابن الحر فخرج من عند معاوية مغضبا حتى صار إلى
منزله، والتفت معاوية إلى ذلك الرجل فقال: بئس ما صنعت، نحن أحوج إلى أن
ترضي رجلا مثل هذا من أن تسخطه.
قال: وأرسل ابن الحر في جوف الليل إلى أصحابه وبني عمه فأمرهم بالخروج
معه في وقتهم ذلك، فخرج نحو الكوفة في أصحابه هؤلاء وبني عمه وهم خمسة
وثلاثون نفرا، فجعل يسير حتى إذا أصبح مر ببعض مشايخ معاوية فقاموا إليه وقالوا:
من أنت أيها الرجل؟ فقال أنا عبيد الله بن الحر، قالوا: فأين تريد؟ قال: في
حاجة، قالوا: فإننا نخاف أن تكون مخالفا لأمير المؤمنين وتريد الخروج عليه،
ولسنا بتاركيك أو يأتينا فيك الخبر [من] عند أمير المؤمنين، فالتفت ابن الحر إلى
أصحابه فقال: دونكم القوم! فهذه أول الغنيمة! قال: فشد أصحاب عبيد الله بن
الحمر على هؤلاء القوم، فقتلوا منهم من قتلوا، وهربوا الباقين على وجوههم،
وأخذت دوابهم وأسلحتهم.



(1) كذا، وفي الطبري 6 / 128 وابن الأثير 3 / 25 شهد مع معاوية صفين (وكان معه لمحبته عثمان: عبارة
ابن الأثير) ولم يزل معه حتى قتل علي.
270
وسار ابن الحر فجعل لا يمر بقرية من قرى الشام إلا أغار عليها هو وأصحابه،
فلم يزل كذلك حتى قدم الكوفة، وبها يومئذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه،
فصار ابن الحر إلى منزله فإذا قد زوجت امرأته برجل من العرب (1)، قال: فهم ابن
الحر أن يخاصم أولياء المرأة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له بعض
بني عمه: أتخاصم إلى رجل كنت بالأمس عليه مع معاوية؟ فقال ابن الحر: والله ما
كنت عليه ساعة قط، ولو كنت عليه ما خفت أن يجور علي في الحكم. قال: ثم
اختصم ابن الحر مع أولياء المرأة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقضى علي
رضي الله عنه بالمرأة لابن الحر! فانتزعت المرأة من ذلك الرجل وردت إلى ابن
الحر. وأقام ابن الحر بالكوفة مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يغدو إليه
ويروح (2). فلم يزل كذلك إلى أن قتل علي رضي الله عنه، ومات الحسن بن
علي، ومات زياد بن أبيه، وولي عبيد الله بن زياد البصرة والكوفة من قبل يزيد بن
معاوية، فأنف عبيد الله بن الحر أن يناله القوم بسوء، فخرج عن الكوفة فنزل بقصر
بني مقاتل بن سليمان الحميري، فلم يزل هنالك مقيما إلى أن قتل مسلم بن
عقيل بن أبي طالب رضي الله عنهم، وإلى أن وافى الحسين بن علي فنزل بقصر بني
مقاتل ثم بعث إلى ابن الحر يسأله النصرة فأبى عليه، فتركه الحسين رضي الله عنه
ومضى إلى كربلاء فقتل هنالك - رضي الله عنه -، وبلغ ذلك ابن الحر فندم على تركه
الحسين ندامة شديدة، وقال في ذلك أبياتا قد أخلفناها في مقتل الحسين رضي الله
عنه.
قال: ثم أقبل ابن الحر حتى دخل الكوفة بعد مقتل بالحسين بثلاثة أيام، وبها
يومئذ عبيد الله بن زياد فهو يفتقد أشراف الناس إذا دخلوا عليه فلا يرى فيهم
عبيد الله بن الحر، فلما دخل ونظر إليه ابن زياد وقال: أين كنت يا بن الحر؟ قال:
كنت مريضا أصلح الله الأمير، فقال: مريض القلب أم مريض الجسد؟ فقال ابن
الحر: أما قلبي فإنه لم يمرض قط والحمد لله، وأما جسدي فقد كان مريضا وقد
من الله علي بالعافية فقال: أبطلت يا بن الحر! ما كنت مع عدونا الحسين بن علي؟
فقال: إني لو كنت مع الحسين لم يخف عليك مكاني أيها الأمير! فقال ابن زياد:



(1) يقال له عكرمة بن الخبيص (ابن الأثير 3 / 25).
(2) في ابن الأثير عاد إلى الشام فأقام به حتى قتل علي، فلما قتل أقبل إلى الكوفة. ويفهم من رواية الطبري أنه
بقي في الشام أيام معاوية - ولم يغادر إلى الكوفة - ولم يزل معه حتى قتل علي.
271
أما معنا فلم تكن، فقال: صدقت أيها الأمير لا أكن معك ولا عليك. قال ابن
زياد: وما منعك من نصرة أمير المؤمنين يزيد؟ فقال منعني من ذلك قول الله تعالى:
(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) (1). قال: فغضب ابن زياد وهم
بقتل عبيد الله بن الحر في ذلك الوقت، ثم إنه خاف أن يشوش عليه أهل الكوفة
فسكت، وخرج عبيد الله بن الحر فصار إلى منزله ثم جمع أصحابه وخرج من الكوفة
ليلا ومعه أصحابه وبنو عمه، وطلبه عبيد الله بن زياد لكي يرضيه ويعتذر إليه فلم يظفر
به (2).
قال: ومضى عبيد الله بن الحر نحو السواد وأنشأ، وجعل يقول أبياتا
مطلعها (3):
يقول أمير (4) غار وابن غار * ألا كنت قاتلت الشهيد (5) ابن فاطمه
إلى آخرها. قال: ثم جعل عبيد الله بن الحر يغير على أطراف السواد
وأصحابه، ويفعل ما يفعل، وليس أحد يطلبه إلى أن مات معاوية، وإلى أن مات
مروان بن الحكم، وإلى أن مات عبد الملك بن مروان، وإلى أن قتل سليمان بن
الصرد وأصحابه - رحمة الله عليهم - بعين الوردة، وإلى أن صار المختار بن أبي
عبيد (6) إلى الكوفة وبايعه من أهلها من بايع، وبلغ ذلك ابن الحر فأقبل حتى دخل
الكوفة، ثم صار إلى المختار فبايعه ونصره في حروبه الأول، وفي جبانة السبيع،
ثم خرج مع إبراهيم بن الأشتر، فلما صار معه إلى تكريت وكان منه إليه ما كان عزم
على مخالفته ومخالفة المختار، فهذا أول خبره (7).



(1) سورة هود الآية 113.
(2) في ابن الأثير 3 / 25 أن الشرط الذين طلبوه لقوه وقالوا له أجب الأمير، فقال: أبلغوه عني أني لا آتيه
طائعا أبدا ثم أجرى فرسه وأتى منزل أحمد بن زياد الطائي، فاجتمع إليه أصحابه ثم خرج حتى أتى
كربلاء... ثم مضى إلى المدائن.
(3) في ابن الأثير 3 / 25.
(4) عن ابن الأثير، وفي الأصل: أميري.
(5) في ابن الأثير: الحسين.
(6) الأصل: أبي عبيد الله.
(7) لم يشر الطبري إلى مبايعته للمختار وفيه أنه كان على علاقة صدامية مع المختار ولم يزل كذلك حتى قتل
المختار انظر تفاصيل أوردها الطبري 6 / 129 - 130.
272
ثم أرسل إلى وجوه أهل العسكر فأختدعهم ثم مناهم وأوعدهم الغنائم، ثم
قال: ما تصنعون بمحاربة عبيد الله بن زياد وأنتم لا تدرون ما يكون الأمر غدا،
اتبعوني فإني أغنيكم وأغني عاقبتكم من بعدكم. قال: فأجابوه إلى ذلك. قال:
فخرج بهم من العسكر في جوف الليل، الواحد بعد الواحد، والاثنين بعد الاثنين،
والثلاثة بعد الثلاثة، حتى اجتمع (1) ثلاثمائة رجل، فسار بهم عبيد الله بن الحر،
فما أصبح إلى على عشرين فرسخا من تكريت، ثم أنشأ يقول أبياتا مطلعها:
عجبت سليمى أن رأتني ساحبا * خلق القميص بساعدي خدوش
إلى آخرها. قال: وأصبح ابن الأشتر وقد فقد عبيد الله بن الحر، فاغتنم
لذلك ولم يدر أي طريق سلك وظن أنه قد مضى مستأمنا إلى عبيد الله بن زياد.
قال: وجعل ابن الحر لا يمر ببلد إلا أغار على أهله حتى جمع مالا عظيما،
قال لأصحابه: اقسموا هذا المال بينكم، فلا حاجة لي إلى شيء منه. قال:
فاقتسموا ذلك المال بقلنسوة رجل منهم، فأنشأ ابن الحر يقول أبياتا مطلعها.
أنا الحر وابن الحر يحمل منكبي * طوال الهوادي مشرفات الحوارك
إلى آخرها. قال: وجعل كل من كان مبغضا للمختار يصير إلى عبيد الله بن
الحر، حتى صار ابن الحر في خمسمائة فارس، وبلغ ذلك إبراهيم بن الأشتر فكتب
إلى المختار يعلمه بذلك، فقال: قد كان ابن الأشتر أعرف به مني، ولكني لم أقبل
منه.
قال: وأقبل ابن الحر حتى صار إلى هيت وبها يومئذ نائب المختار، فكبسها
ابن الحر وقتل نائبها وأخذ أموالها. ثم سار إلى الأنبار وبها يومئذ نائب للمختار،
فكبسها وقتل نائبها، واحتوى على بيت المال فأصاب فيه مالا جزيلا. فقال
لأصحابه: اقتسموا هذا المال بينكم! قال: فاقتسموه بقلنسوة رجل يقال له دلهم بن
زياد المرادي وكانت على مثال المكوك، ثم أنشأ ابن الحر يقول أبياتا مطلعها:
أنا الحر وابن الحر يحمل منكبي * شديد القصيري في العباد رحيل
إلى آخرها. قال: وبلغ ذلك المختار فضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم يدر



(1) الأصل: اجتمعوا.
273
ما يصنع، والمختار يومئذ بين جمرتين: جمرة عن يمنه مصعب بن الزبير يومئذ
بالبصرة، والجمرة العظمى عبيد الله بن زياد بالموصل في ثلاث وثمانين (1) ألفا.
قال: فدعا المختار برجل من ثقاته يقال له عبيد الله (2) بن كامل الهمداني، فقال
له: اركب الساعة في مائة رجل من أصحابك، وصر إلى دار عبيد الله بن الحر
فاهدمها، وخذ امرأته فضعها في السن. قال: فسار عبيد الله بن كامل إلى دار ابن
الحر فهدمها، ولم يمنعه مانع خوفا من المختار، وأخذ امرأته - ويقال لها أم
توبة (3)، واسمها سلمى بنت خالد الجعفية - فحبسها. وبلغ ذلك عبيد الله بن
الحر، فقال لأصحابه: أبلغكم ما صنع المختار، أنه هدم داري وحبس أهلي في
السجن فقالوا: قد بلغنا فأمرنا بأمرك! فقال: لا تعجلوا! وأنشأ وجعل يقول:
ألم تعلمي يا أم توبة أنني * على حدثان (4) الدهر غير بليد
أشد حيازيمي لكل كريهة * وإني على ما نالني لجليد (5)
هم هدموا داري وساقوا حليلتي * إلى سجنهم والمسلمون شهودي
وهم أعجلوها أن تشد خمارها * فلله هذا الدهر كيف يعود (6)
فلست بابن الحر إن لم أرعهم * بخيل عليها الدارعون قعود (7)
وإن لم أصبح شاكرا بكتيبة * فعالجت بالكفين غل حديدي
قال: ثم جمع عبيد الله بن الحر أصحابه وصار بهم نحو الكوفة حتى كبسها
غلسا والناس في الصلاة، فلم يكذب أن أقبل إلى باب السجن فكسره وأخرج امرأته
عنوة وكل من كان في السجن من النساء. قال: ووقعت الضجة في الكوفة بأن
عبيد الله بن الحر قد كبس السجن وأخرج امرأته، ففزع الناس وبلغ ذلك المختار
فوجه إليه بعبد الله بن كامل الهمداني وأحمر (8) بن شميط البجلي. قال: ونظر إليهم



(1) الأصل: ثمانون.
(2) في الطبري: عبد الله.
(3) في الطبري 6 / 129 أم سلمه الجعفية.
(4) عن الطبري 6 / 130 وبالأصل: حدثات.
(5) عجزه في الطبري: وإني على ما ناب جد جليد.
(6) عجزه في الطبري: فيا عجبا هل الزمان مقيدي.
(7) العجز في الطبري: بخيل تعادى بالكماة أسود.
(8) الأصل: أحمد خطأ، وقد مر مرارا.
274
عبيد الله بن الحر فحمل عليهم بأصحابه، فجعل يقاتلهم ويسوق امرأته بين يديه ولم
يتبعه أحد من أصحاب المختار، فأنشأ يقول أبياتا مطلعها (1):
ألم تعلمي يا أم توبة أنني * أنا الفارس الحامي حقيقة (2) مذحج
إلى آخرها.
قال: ثم نزل عبيد الله بن الحر على ميلين من الكوفة، والمختار يظن أنه قد
رحل ومضى، حتى إذا كان الليل عبى أصحابه وأقبل رويدا حتى كبس الكوفة من
ناحية قبائل همدان، فوقع بحي منهم يقال لهم بنو شبام (3) فقاتلهم وقاتلوه ساعة، ثم
قصده مولى لهم يقال له الأحمق، والتقيا بضربتين بادره عبيد الله بن الحر بضربة
أبدى عن دماغه فسقط قتيلا، ثم حمل عليهم ففرقهم يمنة ويسرة، ثم قال
لأصحابه: انصرفوا عنهم الآن فقد أدركت من حي شبام ما أردت ليلتي هذه، ثم
أنشأ عبيد الله (4) بن الحر يقول أبياتا مطلعها:
صبحت شباما غارة مشمعلة * وأخرى نشاهدها صباحا لشاكر
إلى آخرها. قال: وأرسل المختار إلى قبائل همدان من أرحب وشبام وشاكر
والسبيع ويام، فقال: شوه لكم يا معشر همدان! أن يكون رجل منكم يأتي في نفر
من هؤلاء المتلصصة فيكبس دياركم، ثم يقتل ويفعل ويخرج ويخرج عنكم سالما، أما لكم
أنفة؟ أما فيكم من يخاف أن يعير بهذا آخر الدهر؟ قال فقال (5) القوم: كفيت أيها
الأمير! وأي ذلك لعار علينا كما ذكرت، غير أننا عزمنا على المسير إليه حيث كان،
وليس نرجع إليك إلا برأسه، فأبشر لذلك وقر عينا.
قال: ثم اجتمعت قبائل همدان في ثلاثمائة فارس، حتى وافوا الكوفة في



(1) الأبيات في الطبري 6 / 129 وابن الأثير 3 / 26.
(2) في الطبري وابن الأثير: حقائق.
(3) وكان عبيد الله بن الحر قد أبلغ أن عمرو بن سعيد بن قيس الهمداني هو الذي هدم منزله واقتاد امرأته
(الأخبار الطوال ص 297 الطبري 6 / 130) وقد أشار عبيد الله إلى ذلك بقوله:
وما ترك الكذاب من جل مالنا * ولا الرزق من همدان غير شريد
أفي الحق أن ينهب ضياعي شاكر * وتأمن عندي ضيعة ابن سعيد
(4) الأصل: عبد الله.
(5) الأصل: فقالوا.
275
رونق الضحى، وهمدان يومئذ في ثلاثمائة من قبائلهم وثلاثمائة من أصحاب
المختار، فلم يشعروا إلا وعبيد الله بن الحر قد وافاهم حاسر الرأس وهو يرتجز
ويقول:
إني أنا الحر وابن الحر * ذو حسب مذحج وفخر
وقادح لكم غداة الذعر * بالضرب أحيانا وطعن شزر
قال: وتنادت همدان من كل ناحية، وحملوا عليه وحمل عليه السبيع، ويقول
له عمرو بن نفيل: إلي يا بن الحر! ودع الناس جانبا! قال: فحمل عليه [ابن]
الحر، والتقيا بضربتين ضربة ألزمه الحضيض، ثم ولى وولى القوم الأدبار، فكف
عنهم ابن الحر وقال لأصحابه: لا تتبعوهم! فحسبهم ما نالهم عارا، وكفاهم ما
نالهم به ذلا وشنارا، إنهم أصبحوا في ديارهم فما حموا كريما، ولا منعوا حريما.
قال: ثم خشي عبيد الله بن الحر أن تدهمه خيل المختار بأجمعها أو تجتمع
عليه أهل الكوفة فلا يكون له بهم طاقة، فصاح بأصحابه ومضى حتى خرج من
الكوفة، فأنشأ يقول أبياتا مطلعها:
لقيت شباما عند مسجد مخنف * وقبل شبام شاكرا وسبيعا
إلى آخرها.
قال: ثم جعل عبيد الله بن الحر يغير على سواد الكوفة، ويقتل نواب
المختار، ويمثل بهم، ويكبس المدن والقرى، ويأخذ الأموال حتى إذا علم أنه قد
استقل بالأموال واكتفى من الرجال والآلة والسلاح سار إلى البصرة. وبها يومئذ
مصعب بن الزبير في وجوه الأزارقة، فاستأمن إليه عبيد الله بن الحر. قال: فقربه
مصعب وأدناه وأجلسه معه على سريره وأكرمه كرامة لم يكن مثلها أحدا قبله ممن
قصده، وجعل ابن الحر يحدث مصعبا بما كان من أمره وأمر المختار وإبراهيم بن
الأشتر قال: وبلغ ذلك المختار، فكأنه سر بمسير عبيد الله بن الحر إلى
مصعب بن الزبير، فهذا أول خبر عبيد الله بن الحر وخروجه على المختار، وسنرجع
إلى خبره قتل المختار وخروجه على مصعب بن الزبير - إن شاء الله ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم -.

276
ثم رجعنا إلى خبر إبراهيم بن الأشتر
وعبيد الله بن زياد
قال: ثم كتب المختار إلى إبراهيم بن الأشتر أن صر إلى أرض الموصل فناجز
عدوك، فقد كفانا الله أمر ابن الحر، فإن أظفرنا الله بابن زياد وأصحابه المحلين لن
نرهب بعده أحدا من الظالمين - والسلام -. قال: فلما ورد كتاب المختار على
إبراهيم بن الأشتر نادى في أصحابه، ثم سار بهم فجعل يطوي البلاد طيا حتى نزل
على خمسة فراسخ من الموصل (1)، وعبيد الله بن زياد يومئذ بالموصل قد أخذ
خراجها وفرقه في أصحابه، فلما بلغه مسير ابن الأشتر إلى ما قبله رحل من الموصل
في ثلاثة وثمانين ألفا، حتى نزل قريبا من عسكر إبراهيم، وإبراهيم يومئذ في أقل
من عشرين ألفا.
خبر عمير بن الحباب السلمي
قال: وفي عسكر عبيد الله بن زياد يومئذ من الأشراف رجل يقال له عمير بن
الحباب، فأرسل إليه إبراهيم بن الأشتر أن قد أعطيتك الأمان، ولك عندي الحبا
والكرامة إن رزقني الله من هذا الجيش السلامة، فهلم إلينا رحمك الله آمنا مطمئنا
قال: فخرج إليه عمير في جوف الليل في ألف فارس من بني عمه ومواليهم، حتى
وافا إلى ابن الأشتر، فأكرمه ابن الأشتر وأوعده ومناه وبر أصحابه بمال فرقه عليهم
قال: وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد فأقلقه ذلك (2) وقال: يخرج رجل من عسكري في
ألف فارس ولا يعلم به، أن هذا الأمر لا يراد.
قال: وأقبل ابن الأشتر على عمير بن الحباب هذا فقال: إني رأيت أن خندق
على عسكري خندقا، فما الذي تراه؟ فقال له عمير بن الحباب مهلا أيها الأمير! فإن
القوم يحبون أن يطاولوك، فإن طاولتهم فهو خير لهم، ولكن ناجزهم فإنهم قد ملئوا
خوفا ورعبا، ولا تدعهم أن يشاموا أصحابك فيذوقهم يوما بعد يوم فيجترئوا عليهم،



(1) في خازر إلى جنب قرية يقال لها باربيثا (الطبري). وفي ابن الأثير: بارشيا.
(2) في الطبري 6 / 86 وابن الأثير 3 / 5 أن عمير بن الحباب السلمي التقى بإبراهيم بن الأشتر ليلا وبايعه
واتفق معه إن بدأ القتال ينهزم بمن معه من الناس ثم انصرف إلى معسكره مع عبيد الله بن زياد. وانظر
الأخبار الطوال ص 294 - 295.
277
ولكن صادمهم بخيلك ورجلك، فإنك بحمد الله على الحق وإنهم على الباطل،
والله مظفرك بهم وناصرك عليهم بحوله وقوته. قال فقال ابن الأشتر: الآن قد علمت
أنك ناصح لي، ولقد أصبت الرأي فيما أشرت به علي، وبهذا أوصاني صاحبي
المختار، وأنا عازم على ما أشرت، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قال: وجعل عبيد الله بن زياد يقول لأصحابه: إني لأعجب من هذا الغلام
إبراهيم بن الأشتر ومسيره إلي بهذا الجيش وعهدي به بالأمس بالكوفة، وقد كان
بلعب بالحمام، ولعل أجله قد اقترب. قال: وبات (1) الفريقان ليلتهم تلك وابن
الأشتر لا يغمض لا هو ولا أحد من أصحابه لما يريدون أن يقدموا عليه من محاربة
ذلك الخلق العظيم، حتى إذا كان قريبا من وقت السحر وثب القوم وصلوا بغلس،
وعبي ابن الأشتر أصحابه، فجعل على ميمنته سفيان بن يزيد بن المغفل (2) الأزدي،
وعلى ميسرته علي بن مالك الجشمي (3)، وعلى أعنة الخيل الطفيل بن لقيط
الحنفي، وعلى الرجالة مزاحم بن مالك السكوني (4).
ابتداء الوقعة ومن قتل فيها
قال: وزحف القوم بعضهم إلى بعض، وتقدمت الرجالة بين أيديهم، وابن
الأشتر ينهاهم عن الجزع والفشل، ثم زخف بأصحابه رويدا حتى إذا أشرف على تل
عظيم فنظر إلى عسكر القوم وتأملهم، وأهل الشام بعد لم يتحركوا ولا ظنوا أن أهل
العراق يقدمون عليهم، فلما نظروا إلى الخيل وقد وافتهم بادروا إلى خيولهم،
وقدموا الرجالة بين أيديهم، فخيل هم ستون ألفا ورجالتهم اثنان وعشرون ألفا. قال:
فعباهم عبيد الله بن زياد. فجعل على ميمنته شرحبيل بن ذي الكلاع، وعلى ميسرته
ربيعة بن مخارق الغنوي، وعلى جناح ميسرته عبد الله بن حملة الخثعمي، وفي
القلب يومئذ الحصين بن نمير السكوني (5). قال: وأنفض عليهم أهل العراق
مستعدين للموت وهم يقولون: اللهم إننا ما خرجنا إلى حرب هؤلاء القوم إلا شارين



(1) الأصل: وباتوا الفريقين.
(2) عن الطبري 6 / 87 وبالأصل: معقل.
(3) من الطبري وبالأصل: الحثمي.
(4) في الطبري وبعث عبد الرحمن بن عبد الله على الخيل، وجعل على رجالته الطفيل بن لقيط وكانت رايته مع
مزاحم بن مالك.
(1) انظر في تعبئة ابن زياد جيشه الطبري 6 / 88 - 89 وابن الأثير 3 / 6 باختلاف بين النصوص.
278
بدمائنا وأموالنا الجنة، طالبين بدماء أهل بيت نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فانصرنا عليهم كيف
شئت وأنى شئت، إنك على كل شيء قدير. قال: فوقف الفريقان بعضهم ينظر إلى
بعض، وتقدم رجل من عتاة أهل الشام ومردتهم يقال له عوف بن ضبعان الكلبي حتى
وقف بين يدي الجمعين على فرس أدهم ثم نادى: ألا يا شيعة أبي تراب! ألا يا شيعة
المختار الكذاب! ألا يا شيعة ابن الأشتر المرتاب! من كان منكم يدل بشجاعته
وشدته فليبرز إلي إن كان صادقا، وللقرآن معانقا! ثم جعل يجول في ميدان الحرب
وهو يترجز ويقول:
أنا ابن ضعبان الكريم المفضل * إني أنا الليث الكمي الهذلي
من عصبة يبرون من دين علي * كذاك كانوا في الزمان الأول
يا رجال! فما لبث أن خرج إليه الأحوص بن شداد الهمداني وهو يرتجز
ويقول: (1)
أنا ابن شداد على دين علي * لست لمروان ابن ليلى بولي (2)
لأصطلين الحرب فيمن يصطلي * أحوص نار الحرب حتى تنجلي (3)
قال: فجعل الشامي يشتم الأحوص بن شداد، فقال له الأحوص (4): يا هذا لا
تشتم إن كنت غريبا، فإن الذي بيننا وبينكم أجل من الشتيمة، أنتم تقاتلون عن بني
مروان، ونحن نطالبكم بدم ابن بنت نبي الرحمن، فادفعوا إلينا هذا الفاسق اللعين
عبيد الله بن زياد، الذي قتل ابن بنت نبي رب العالمين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى نقتله
ببعض موالينا الذين قتلوا مع الحسين بن علي، فإننا لا نراه للحسين كفؤا فنقتله به،
فإذا دفعتموه إلينا فقتلناه جعلنا بيننا وبينكم حكما من المسلمين، فقال له الشامي:
إننا قد جربناكم (5) في يوم صفين عندما حكمنا وحكمتم، فغدرتم ولم ترضوا بما
حكم عليكم. قال: فقال له الأحوص بن شداد: يا هذا إن الحكمين لم يحكما



(1) الأرجاز في الطبري 6 / 50 ونسبت إلى عبد الله بن شداد.
(2) في الطبري: لست لعثمان بن أروى بولي.
(3) في الطبري:
لأصلين اليوم فيمن يصطلي * بحر نار الحرب غير مؤتل
(4) نسب هذا القول في الطبري 6 / 87 إلى عبد الله بن زهير السلولي.
(5) عن الطبري، وبالأصل: حاربناكم.
279
برضا الجميع، وأحدهما خدع صاحبه الآخر، والخلافة لا تعقد في الخديعة، ولا
يجوز في الدين إلا النصيحة، ولكن ما اسمك أيها الرجل؟ فقال الشامي: اسمي
منازل الأقران حلال! فقال له الأحوص بن شداد: ما أقرب الاسمين بعضهم من
بعض، أنت منازل الأبطال، وأنا مقرب الآجال! ثم حمل عليه الأحوص والتقيا
بضربتين ضربه الأحوض ضربة سقط الشامي قتيلا، فجال الأحوص في ميدان
الحرب ونادى: يا قتلة الحسين: هل من مبارز! فخرج إليه داود بن عروة الدمشقي
مقنعا في الحديد على كميت له وهو يقول:
أنا ابن من قاتل في صفينا * قتال قرم لم يكن غبينا
بل كان فيها بطلا حرونا * مجربا لدى الوغا كمينا
قال: فضمه إليه الأحوص بن شداد الهمداني وجعل يقول:
يا بن الذي قاتل في صفينا * ولم يكن في دينه غبينا
كذبت قد كان بها مغبونا * مذبذبا في أمره مفتونا
لا يعرف الحق ولا اليقينا * بؤسا له لقد مضى ملعونا
قال: ثم التقيا فضربه الأحوص ضربة ألحقه بصاحبه، ثم رجع إلى صفه
وخرج الحصين بن نمير الكسوني وهو يقول شعرا، قال: فما لبث أن خرج
إليه فتى من أهل الكوفة يقال له شريك بن جدير التغلبي (1) مجيبا له وهو يقول شعرا.
قال: فحاوله الحصين بن نمير السكوني فالتقيا بضربتين، ضربه الثعلبي ضربة جدله
قتيلا، فدخل على قتلة الحسين رضي الله عنه من أهل العراق مدخل عظيم.
وتقدم إبراهيم بن الأشتر يومئذ على فرس له أغر محجل حتى وقف بين
الجمعين، ثم نادى بصوت جهوري (2): ألا يا شرطة الله! يا شيعة الحق! ألا يا
أنصار الدين! قاتلوا المحلين وأولاد القاسطين، وأعوان الظالمين، وجنود ابن
مرجانة اللعين، أيها الناس! لا تطلبوا أثرا بعد عين، هذا عبيد الله بن زياد، قاتل
الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم * هذا الذي حال بين الحسين وبين الماء
الفرات أن يشربوه وهم ينظرون إليه، هذا الذي بعث إلى الحسين بن علي أن لا أمان
لك عندي أو تنزل على حكمي، ثم عدا عليه فقتله وقتل أهل بيته، وساق حرم



(1) عن الطبري 6 / 90 وابن الأثير 3 / 7 وبالأصل: حريم الثعلبي.
(2) انظر الطبري 6 / 88.
280
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كسبايا الروم والترك والديلم من بلد إلى بلد، حتى أدخلوا على يزيد،
إنه ما فعل فرعون ببني إسرائيل ما فعل هذا الملعون بأهل البيت الذين أذهب الله
عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وما هو قد جاءه الله بكم وجاءكم به، ولا أنتم في
بلدكم ولا هو في بلده، والله إني لأرجو أن يكون الله تعالى لم يجمع بينكم وبينه في
هذا الموضع إلا لهلاكه وهلاك من معه من هؤلاء المحلين.
قال: ثم تقدم إبراهيم بن الأشتر قدام أصحابه فجعل يضرب بسيفه قدما قدما وهو
يقول شعرا. قال: ثم حمل وحمل (1) معه أهل العراق بأجمعهم، ثم اختلط (2)
القوم فاصطفقوا بالسيوف، وتطاعنوا بالرماح، وتراموا بالسهام، وجعل إبراهيم بن
الأشتر يقول لصاحب رايته: تقدم بين يديك، فداك أبي وأمي ولا تجزع! فو الله ما
أشبه هذا اليوم إلا بيوم الخميس وليلة الهرير بصفين. قال: فجعل صاحب راية ابن
الأشتر يتقدم وأهل العراق يقاتلون ويتبعون الراية. قال: ونظر رجل من أهل الشام
إلى صاحب راية ابن الأشتر فحمل عليه، والتقوا واعتنقوا وسقطوا جميعا عن فرسهم
إلى الأرض، فجعل يقول هذا: اقتلوني وأين كذا وكذا! وهذا يقول: اقتلوني وأين
كذا وكذا! فقتل الشامي وانفلت صاحب راية ابن الأشتر.
قال: وحان وقت الصلاتين جميعا الظهر والعصر، فما صلى القوم إلا
بالإيماء والتكبير، حتى إذا كان في وقت اصفرار الشمس انهزام (3) أهل الشام نحو
مدينة الموصل، وأخذهم السيف، والقوم ينهزمون والسيف في أقفيتهم، واختلط
الظلام. ونظر إبراهيم بن الأشتر إلى رجل من القوم وعليه بزة حسنة، ودرع سابغ،
وعمامة خز دكناء، وديباجة خضراء من فوق الدرع، وقد أخرج يده من الديباجة وفيها
صفيحة له مذهبة. قال: فقصده ابن الأشتر لا لشيء إلا لتلك الصفيحة التي في يده
والفرس التي تحته، حتى إذا لحقه لم يكذب أن ضربه ضربة فشرقت يداه وغربت
رجلاه، واتكأ ابن الأشتر في ركابه فتناول الصفيحة، وغار الفرس فلم يقدر عليه! ولم يبصر الناس بعضهم بعضا من شدة الظلمة، فتراجع أهل العراق إلى عسكرهم
والخيل لا تطأ إلا على القتلى.



(1) الأصل: وحملوا.
(2) الأصل: اختلطوا.
(3) الأصل: انهزموا.
281
قام: وأصبح (1) الناس وقد فقد من أهل العراق ثلاثمائة وسبعون رجلا، وأهل
الشام قد كانوا في اثنين وثمانين ألفا فانفلت عشرة آلاف وثمانية رجال عامتهم
جرحي، وقد ذكر ذلك بعض الشعراء في شعر له، قال: ثم اقبل ابن الأشتر على
أصحابه فقال: ويحكم إني أتبعت البارحة رجلا وقد اختلط الظلام، فشممت منه
رائحة المسك، ورأيت في يده هذه الصفيحة، ورأيت تحته فرسا جوادا فلم أزل حتى
ضربته ضربة شرقت يداه وغربت رجلاه، فمددت يدي فأخذت هذه الصفيحة وفاتني
الفرس! فقال له بعض أصحابه: أصلح الله الأمير! الفرس عندي وأنا آتيك به، وقد
جعله الله لك. قال ابن الأشتر: فصيروا إذا إلى شاطئ الفرات موضع كذا وكذا
فإنكم ترون الرجل قتيلا، فانظروا من هو؟ فإن نفسي تحدثني أنه عبيد الله بن زياد!
فمضوا فوجدوه، فأتوا برأسه حتى وضعوه بين يديه، فلما رآه كبر وخر ساجدا، ثم
رفع رأسه وقال: الحمد لله الذي أجرى قتله على يدي. فأنشأ بعض أصحابه في
ذلك يقول أبياتا مطلعه (2):
أتاكم غلام من عرانيين مذحج * جري على الأعداء غير نكول
إلى آخرها. قال: ثم أمر إبراهيم بن الأشتر برأس عبيد الله بن زياد، ورأس
الحصين بن نمير السكوني وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وربيعة بن مخارق
الغنوي ومن أشبههم من رؤساء أهل الشام، فجمعت ثم قورت ونفضت، وكتبت
الرقاع وعلقت في آذانهم بأسمائهم، ثم جمعت أيضا رؤوس القوم عن آخرها وبعث
بها إلى المختار، وكتب إليه ابن الأشتر يعلمه بالوقعة، وكيف أهلك الله القوم،
وأباد خضراءهم، وبدد شملهم.
قال: فوردت الرؤوس يومئذ على أهل الكوفة زيادة على سبعين ألف رأس،
وفي أوائلها رأس عبيد الله بن زياد. قال: فقوم من شيعة بني أمية اشتد عليهم
ذلك، وأما شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجعلوا يكبرون ويقولون: الحمد لله الذي قتل
المحلين، وشفا غليل المؤمنين.
قال: وبعث المختار برأس عبيد الله بن زياد والحصين وشرحبيل ومن أشبههم



(1) الأصل: أصبحوا.
(2) هو سراقة بن مرداس البارقي قالها يمدح إبراهيم بن الأشتر. الطبري 6 / 92 ابن الأثير 3 / 9 البداية
والنهاية. وديوانه ص 81.
282
إلى محمد ابن الحنفية، وأما باقي هذه الرؤوس فصلبت حول الكوفة. وكتب
المختار إلى محمد ابن الحنفية رضي الله عنه كتابا و [وجه] معه ثلاثون ألف دينار.
ذكر الكتاب إلى محمد ابن الحنفية رضي الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم، للمهدي محمد بن علي، من المختار بن أبي
عبيد، سلام عليك! أما بعد، فالحمد لله الذي طلب لك بالأوتار، وأخذ لك بالثأر
ومن الأشرار وأبناء الفجار، فقتلهم في كل فج بقهر، وغرقهم في كل بحر ونهر،
فشفى بذلك قلوب المؤمنين، وأقر به عيون المسلمين، وأهلك المحلين الفاسقين،
وأولاد القاسطين، فأبادهم رب العباد أجمعين، فنزل بهم ما نزل بثمود وعاد،
وغرقهم تغريق فرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، قد
قتلوا أشر قتلة، ومثل بأشرافهم أقبح مثلة، فاحمد الله أيها المهدي على ما أتاك،
واشكره على ما أعطاك، وأنعم عليك وأولاك، وقد وجهت إليك بثلاثين ألف دينار
لتصرفها في أهل بيتك وقرابتك ومن لجأ إليك من شيعتك - والسلام عليك أيها
المهدي ورحمة الله وبركاته.
قال: فلما ورد كتابه على محمد ابن الحنفية وقرأه على أهل بيته وشيعته خر
القوم سجدا. ثم قام محمد ابن الحنفية وصلى ركعتين شكرا لله تعالى إذ قتل
عبيد الله بن زياد وأصحابه، ثم أمر بالرؤوس أن تنصب خارج الجسر، فمنعه ابن
الزبير من ذلك وأمر بالرؤوس فدفنت، ثم قسم محمد ابن الحنفية ذلك المال في
أهل بيته وشيعته وقرابته.
قال: ونظر عبد الله بن الزبير إلى غلبة المختار على البلاد، فاشتد ذلك
عليه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم يدر ما يصنع، قال: وسار ابن الأشتر
حتى نزل الموصل، واحتوى على أرض الجزيرة كلها، فأخذها وجبى خراجها،
ووجه ببعض ذلك إلى المختار، وفرق باقي ذلك على أصحابه. قال: فصارت
الكوفة وسوادها إلى حلوان إلى الماهين إلى الري وما والاها في يدي المختار،
والجزيرة بأجمعها من ديار ربيعة ومضر في يد إبراهيم بن الأشتر ونوابه بها (1)، والشام



(1) أنفذ إبراهيم عماله إلى البلاد فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله (أخوه لأمه) إلى نصيبين، وولى
السفاح بن كردوس على سنجار، وزفر بن الحارث على قرقيسيا وحاتم بن النعمان الباهلي حران والرها
وسميساط وناحيتها وعمير بن الحباب كفرتوثا وطور عبدين ومسلم بن ربيعة العقيلي على آمد (ابن الأثير
3 / 8 الأخبار الطوال ص 297).
283
كلها وأرض مصر إلى الواحات (1) في يدي عبد الملك بن مروان، والحجاز كلها
وأرض اليمن في يد عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب بن الزبير بالبصرة، والمهلب بن
أبي صفرة من قبل مصعب في وجوه الأزارقة يحاربهم.
ابتداء مسير مصعب من البصرة إلى الكوفة
ومقتل المختار رحمه الله
قال: ونظر مصعب بن الزبير إلى إبراهيم بن الأشتر وقد احتوى على البلاد من
الجزيرة وقد بقي المختار بالكوفة، فعزم على المسير إليه وكتب إلى المهلب بن أبي
صفرة: أما بعد، فإننا قد عزمنا على المسير إلى الكوفة إلى محاربة المختار
الكذاب، غير أني قد أحببت أن تشهد أمرنا، فإذا ورد كتابي هذا عليك فول (2)
بعض أولادك حرب الأزارقة وأقبل إلينا راشدا إن شاء الله - والسلام -. قال: ثم دفع
الكتاب إلى محمد بن الأشعث بن قيس الكندي (3) فقال له: سر إلى المهلب فليس
له أحد سواك، فإنه إذا نظر إليك رسولا علم أن الأمر جد فلا يتخلف، وانظر لا
تفارقه وأشخصه معك إن شاء الله ولا قوة إلا بالله.
قال: فأخذ محمد بن الأشعث الكتاب وسار إلى المهلب والمهلب يومئذ
بسابور من أرض فارس يحارب الأزارقة، فلما قرأ الكتاب قال: يا سبحان الله! أما
وجد الأمير بريدا سواك؟ فقال محمد بن الأشعث: أبا سعيد! والله ما أنا ببريد
لأحد: غير أن نساءنا وأبناءنا وأموالنا وعقارنا ومنازلنا في يد المختار، وقد غلبنا على
ذلك وأجلانا عن بلدنا، وهذا إبراهيم بن الأشتر قد غلب على بلاد الجزيرة وخالف
على المختار، والمختار اليوم فليس معه جيش، وإنما هو شرذمة قليلة، وإني لأرجو
أن يظفرنا الله به فنرجع إلى نعمتنا التي لم تزل لنا ولآبائنا من قبلنا.



(1) الواحات:... ثلاث كور في غربي مصر ثم في غربي الصعيد (معجم البلدان).
(2) الأصل: فولى.
(3) في الطبري 6 / 94 وابن الأثير 3 / 10 أن مصعب بن الزبير أرسل كتابا إلى المهلب يدعوه فيه للمجئ إليه
لمحاربة المختار فأبطأ عليه كراهية الخروج معه وقد اعتل عليه بشيء من الخراج. فأرسل عندئذ إليه
محمد بن الأشعث.
284
قال: فدعا المهلب برؤساء أصحابه فأحضرهم بين يديه، ثم حمد الله وأثنى
عليه وقال: أيها الناس! إن الأزارقة ليس يريدون إلا ما في أيديهم، والمختار يريد
ما يكون في أيديكم، وهذا كتاب مصعب بن الزبير يأمرني فيه بالقدوم عليه،
فاستمعوا له وأطيعوا أمره! فو الله ما رأيت صوابا قط إلا سبقني إليه، وقد تعلمون أنه
ليث عبوس، للأقران فروس، وهو خليفتي عليكم (1) إلى حين رجوعي إليكم - إن شاء
الله ولا قوة إلا بالله العلي العظيم -.
قال: ثم ودع المهلب أولاده وأهل عسكره، وسار في ألف رجل من فرسان
عسكره حتى قدم البصرة، ودخل على مصعب بن الزبير، فقربه وأدناه وأجلسه معه
على سريره، وأمر له بخلعة وجائزة ثم أمره بالتأهب إلى محاربة المختار. فقال له
المهلب: أيها الأمير! أنا متأهب لك فاعزم إذا شئت! قال: فعندها أمر مصعب
عسكره وأصحابه أن يعسكروا عند الجسر الأعظم. ثم خرج وخرج (2) الناس معه من
البصرة، وجعل على كل قبيلة من قبائل العرب رئيسا يقتدون به وبرأيه وينتهون إلى
أمره، فعلى قريش وأحلافها عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى بني تميم كلها
الأحنف بن قيس التيمي، وعلى قيس عيلان قيس بن الهيثم (3) السلمي، وعلى بني
بكر بن وائل مالك بن مسمع الجحدري، وعلى قبائل عبد القيس مالك بن المنذر بن
الجارود العبدي، وعلى قبائل كندة محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، وعلى
قبائل مذحج عبيد الله بن الحر الجعفي، وعلى قبائل الأزد يومئذ المهلب بن أبي صفرة.
قال: وبلغ ذلك المختار فعلم أنه قد أوتي من قبل إبراهيم بن الأشتر، لأنه قد



(1)، كذا بالأصل ويبدو أن هناك نقصا في الكلام. والعبارة في الكامل للمبرد 3 / 1265 أن مصعب كتب إلى
المهلب: أن أقدم علي واستخلف ابنك المغيرة ففعل فجمع الناس فقال لهم: إني قد استخلفت عليكم
المغيرة وهو أبو صغيركم رقة ورحمة وابن كبيركم طاعة وبرا وتبجيلا وأخو مثله مواساة ومناصحة فلتحسن له
طاعتكم وليلن له جانبكم فو الله ما أردت صوابا قط إلا سبقني إليه. ثم مضى إلى مصعب.
وكتب مصعب إلى المغيرة بولايته وكتب إليه: إنك لم تكن كأبيك، فإنك كاف لما وليتك، فشمر واتزر
وجد واجتهد
وفي الأخبار الطوال ص 305 لم يستخلف أحدا بل سأل قطري بن الفجاءة الموادعة إلى أجل. فأجابه
إلى ذلك.
(2) الأصل: خرجوا.
(3) عن الطبري 6 / 95 وابن الأثير 3 / 10 وبالأصل: الهضيم.
285
خذله وقعد عنه، فقام في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (1): أما بعد يا
أهل الكوفة! فإن أهل مصركم الذين بغوا عليكم، وقتلوا ابن بنت نبيكم الحسين بن
علي، قد كانوا لجأوا إلى أمثالهم من الفاسقين، فاستعانوا بهم عليكم، لما علموا
أن ابن الأشتر خذلني وقعد عن نصرتي، وقد بلغني أنهم خرجوا من البصرة في جيش
لجب إلى قبلكم، وإنما يريدون قتلي ليضمحل الحق، وينتعش الباطل، ويقتل
أولياء الله، ألا فانتدبوا رحمكم الله مع الأحمر بن شميط (2) البجلي، فإني أرجو أن
يهلكهم الله على أيديكم هلاك عاد وثمود وما ذلك على الله بعزيز. قال: فأجابه (3)
الناس إلى ذلك من كل جانب وقالوا: سمعنا وأطعنا.
ثم خرج وخرج بهم الأحمر بن شميط حتى عسكر بهم على موضع يقال له
حمام أعين، وخرج إليه أمراء الأجناد فعسكروا معه في قريب من ثلاثة آلاف فارس
وراجل، ثم سار الأحمر بأهل الكوفة حتى نزل المذار (4) وأقبل إليه مصعب بن الزبير
حتى نزل قريبا منه في سبعة آلاف ما بين فارس وراجل ودنا القوم بعضهم من بعض،
وتقدم عباد بن الحصين الحبطي (5) حتى وقف بين الجمعين ثم نادى بأعلى صوته:
ألا يا شيعة المختار! إننا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى بيعة أمير
المؤمنين عبد الله بن الزبير. قال: فقال عبد الله بن كامل الهمداني: ونحن أيضا
ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى بيعة المختار بن [أبي] عبيد،
وإلى أن نجعل هذا الأمر شورى في آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فمن زعم أنه أحق بهذا الأمر
منهم برئنا منه في الدنيا والآخرة وجاهدناه حق الجهاد.
قال: فلما سمع مصعب بن الزبير ذلك غضب فقال: احملوا عليهم! فحمل
عباد بن الحصين في قبيلة عظيمة على أصحاب المختار، فلم يزل منهم واحد عن
موقفه قال: فعندها صاح محمد بن الأشعث وقال: يا أهل العراق! إلى متى



(1) الطبري 6 / 95.
(2) في الأخبار الطوال ص 305 سليط. وفي معجم البلدان: سميط.
(3) الأصل: أجابوه.
(4) عن الطبري 6 / 96 ابن الأثير 3 / 10 والأخبار الطوال ص 305 والكامل للمبرد 3 / 1265 وبالأصل:
المدائن.
والمذار: بين واسط والبصرة.
(5) عن الطبري 6 / 99 وبالأصل: الحنطي.
286
وحتى متى نكون أذلاء مشردين مطرودين عن أهلنا وأولادنا، كروا عليه كرة صادقة
فإنهم مغلوبون إن شاء الله. قال: فاضطرب القوم وتصادموا، وحنق بعضهم على
بعض، ووقعت الهزيمة على أصحاب المختار (1)، وقتل صاحبهم الأحمر بن شميط
وانكشفوا فولوا الأدبار، وأخذهم السيف، فأما الرجالة فما التفت منهم أحد، وأما
الخيل فما انفلت منهم إلا الجواد، فدخل أقلهم إلى الكوفة بأشر حالة تكون حتى
صاروا إلى المختار، فأخبروه بذلك، فأنشأ الأعشى يقول شعرا (2).
قال: ونزل بالمختار أمر عظيم من قتل أصحابه، وأيقن بالهلكة، ولم يجد بدا
من التشجع، وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر كتابا بعد كتاب يسأله المسير إليه فلم
يفعل، وأقبل مصعب بن الزبير حتى نزل في موضع واسط، ثم أمر أصحابه الرجالة
فقعدوا في السفن وساروا إلى نهر يخرجهم إلى الفرات. قال: وبلغ ذلك المختار
فأمر كل نهر علم أن يحمل من الفرات فسكر (3) بعضها بعضا، فبقيت سفن أصحاب
مصعب في الطين، فلما نظروا إلى ذلك خرجوا من السفن وأقبلوا يسيرون نحو
الكوفة ومصعب قد سار في خيلة على الظهر حتى وافى أصحابه.
قال: ودعى المختار برجل من أصحابه فاستخلفه على الكوفة، وقد أعد في
القصر جميع ما احتاج إليه من آلة الحصار، ثم أقبل حتى نزل بحروراء (4) ودنا القوم
بعضهم من بعض. فقال المختار: يا له من يوم لو حضرني فيه ابن الأشتر! ولكنه
قعد عني وخذلني، ووالله ما من الموت بد! قال: واختلط الفريقان (5)، فأرسل
مصعب بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة يقول: أبا سعيد! رحمك الله ما تنتظر
أن تحمل على من بإزائك؟ أما ترى إلى تعبية جيش هذا الكذاب! فالتفت المهلب
إلى بعض أصحابه فقال: إن الأمير (6) أعزه الله يظن أننا نلعب، ولا يعلم أني قاتلت



(1) انظر تفاصيل حول المعركة ووردت في الطبري 6 / 97 وابن الأثير 3 / 10 والأخبار الطوال ص 305.
(2) ذكرت الأبيات في الطبري 6 / 97 والأخبار الطوال ص 306 ومطلعها:
ألا هل أتاك والأنباء تنمي * بما لاقت بجيلة بالمذار
في أبيات.
(3) عن الطبري، وبالأصل: فكسر. وسكر النهر أي سد فاه.
(4) عن الطبري 6 / 99 والأصل: حزوي، وحروراء: قرية بظاهر الكوفة.
(5) الأصل: واختلط الفريقين.
(6) الأصل: الأشتر خطأ.
287
قتالا هو أشد من هذا، ولكن احملوا واستعينوا بالله واصبروا.
قال: ثم حمل المهلب وحمل الناس معه حملة صادقة، فحطموا أصحاب
المختار وكشفوا، فصاح المختار بأصحابه: لا بأس عليكم أنا أبو إسحاق أنا جزار
القاسطين، أين أصحاب الصبر واليقين، إلي إلي رحمكم الله! قال: فثاب إليه
زهاء عن خمسمائة رجل، ليس فيهم رجل إلا وهو يعد برجال، فجعلوا يقاتلون قتالا
لم يسمع الناس بمثله، والتفت رجل من أصحاب المختار يقال له عبد الله بن عمرو
النهدي فقال: ويحكم أروني الموضع الذي فيه محمد بن الأشعث، فإنه ممن قاتل
الحسين بن علي وشارك في دمه! فقالوا: ألا ترى هو في الكتيبة الحمراء على
الفرس الأدهم؟ فقال: بلى قد رأيته، فدعوني وإياه. ثم رفع رأسه إلى السماء
وقال: اللهم إننا على ما كنت عليه بصفين، اللهم وإني أبرأ إليك ممن قتل أهل
البيت بيت نبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو شارك في دمائهم. قال: ثم حمل حتى خالط
أصحاب مصعب بن الزبير، فجعل يضرب فيهم ضربا منكرا وهو في ذلك يلاحظ
محمد بن الأشعث، حتى إذا أمكنته الفرصة وحمل عليه، ضربه ضربة على رأسه
جدله صريعا (1). قال: واختلط الناس من أصحاب ابن الزبير بعبد الله بن عمرو هذا
فقتلوه.
قال: وجعل المختار يقول: بأبي وأمي أنتم كروا على الحرب، كروا كروا
على الثعالب الرواغة! قال: فجعل أصحاب المختار يقاتلون بين يديه أشد قتال
يكون، وصاح مصعب بن الزبير بأصحابه وقال: سوءة لكم يا معشر العرب! أما
ترون ما نحن فيه من أصحاب هذا الكذاب، أما فيكم من يحامي على دين أو
حسب! قال: فعندها اجتمع (2) أصحاب أبطال العرب الذين كان المختار أخرجهم من
الكوفة، مثل عبيد الله (3) بن الحر وشبث (4) بن ربعي وغيرهم من سادات أهل
الكوفة، ثم حملوا على أصحاب المختار فهزمهم ولحق رجل منهم من أهل الكوفة
عبيد الله (5) بن علي بن أبي طالب وهو لم يعرفه، فضربه من ورائه ضربة على حبل



(1) اختلفوا فيمن قتله قيل قتله مالك بن عمرو أبو نمران النهدي، وكندة تزعم أن عبد الملك بن أشاءة
الكندي هو الذي قتله (الطبري 6 / 101 ابن الأثير 3 / 11).
(2) الأصل: اجتمعوا.
(3) الأصل: عبد الله.
(4) الأصل: شبيب.
(5) الأصل: وابن الأثير 3 / 13 وفي البداية والنهاية 8 / 288 عمير بن علي بن أبي طالب، وفي الأخبار الطوال
ص 306 وتاريخ خليفة ص 264 عمر بن علي.
قال الدينوري أنه قدم على المختار من الحجاز فقال له المختار: هل معك كتاب بن محمد ابن الحنفية،
فقال عمر: لا، فقال المختار انطلق حيث شئت فلا خير لك عندي، فسار إلى مصعب، فاستقبله في
بعض الطريق وأقبل معه حتى حضر الوقعة، فقتل فيمن قتل من الناس.
288
عاتقه، جدله قتيلا.
قال: وصار أصحاب مصعب بن الزبير إلى حيطان الكوفة. ونزل المختار عن
فرسه ونزل معه أشداء أصحابه، وركبوا على أفوه السكك، فلم يزالوا يقاتلون من
وقت المغرب إلى الصباح، وانهزم المختار حتى دخل إلى قصر الإمارة، فقال له
بعض أصحابه: أيها الأمير! أما خبرتنا أن نقتل مصعب بن الزبير في وقعتنا هذه؟
فقال: بلى! ولكن أما تسمع قول الله تعالى، (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم
الكتاب) (1).
قال: وأصبح مصعب فعبي أصحابه تعبية الحرب، وأقبل نحو الكوفة حتى
دخلها في جيشه ذلك، والمهلب بن أبي صفرة على يساره فقال له: أبا سعيد! يا له
من فتح ما أهنأه لو لا قتل محمد بن الأشعث، فقال المهلب: صدقت أيها الأمير،
قد قتل عبيد الله (2) بن أبي طالب أيضا، قال مصعب: فإننا ما قتلناه وإنما قتله من
كان من شيعته وشيعة أبيه. قال: ودخل أصحاب المختار إلى منازلهم، ودخل قوم
منهم إلى قصر الإمارة، فصاروا مع المختار عازمين على الموت.
ذكر محاصرة المختار في القصر إلى وقت مقتله رحمه الله
قال: وجاءت الخيل حتى أحدقت بالقصر، فحاصروا المختار ومن فيه حصارا
شديدا، حتى منه العطش، فكانوا ربما بذلوا في الرواية من الماء الدينار والدينارين
والثلاثة. قال: وكانت (3) النساء في أول الأمر يأتين فيدخلن في القصر إلى أقاربهن
بالطعام والماء، فبلغ ذلك مصعب بن الزبير فمنع النساء من ذلك. ثم قطع عنهم
الماء، فكانوا يمزجون ماء البئر بالعسل والدوشاب (4) والتمر ويشربونه لما ينالهم من
العطش.



(1) سورة الرعد الآية 39.
(2) أنظر ما لاحظناه قريبا بشأنه.
(3) الأصل: وكانوا.
(4) الأصل: الدوشار.
289
قال: وجعل أصحاب مصعب ينادون المختار من خارج القصر ويقولون: يا
ابن دومة! كيف ترى ما أنت فيه من الحصار، هذا جزاء من خالف على أمير
المؤمنين عبد الله (1) بن الزبير وطلب الأمر لغيره! قال: فأشرف عليهم المختار من
أعالي القصر ثم قال: يا جند المرأة! يا أعوان البهيمة! يا بقايا السيف! أتعيرونني
بأمي دومة، حسناء الحومة، التي لا تسمع فيها اللائم لومة، أما والله لو كان من
يعيرني بدومة من الفريقين عظيما لما عيرني بها، ولكن إن كنتم رجالا فاثبتوا لي
قليلا، فو الله لأقاتلنكم قتال مستقل قد أئس من الحياة.
قال: ثم نزل المختار عن حائط القصر، فصب عليه سلاحه واستوى على
فرسه، وجعل يتمثل بقول قيس غيلان بن سلمة بن معتب (2) الثقفي وهو يقول:
ولو يراني (3) أبو غيلان إذ حسرت * عني الهموم بأمر ما له طبق
لقال (4) رعبا ورهبا يجمعان معا * غنم الحياة وهول النفس والشفق
والموت أحمد شيء بالكريم إذا * ما قاله الدهر والآجال تخترق (5)
قال: ثم أمر بباب القصر ففتح، وخرج في نحو من مائتي رجل ممن يثق
بهم، فكر على أصحاب مصعب فهزمهم حتى ركب بعضهم بعضا. قال: ونظر إليه
رجل من أصحاب البصرة يقال له يحيى بن ضمضم (6) الضبي، وكان إذا كرب خطت
رجلاه في الأرض لطوله، ولم يكن في أصحاب مصعب بن الزبير أفرس منه، فحمل
على المختار ليضربه وضربه، فاستقبله المختار بضربة على جبينه أطار قحف رأسه
فخر صريعا، وحملت الكتائب على المختار من كل جانب، فجعل يحاربهم ويرجع
إلى ورائه حتى دخل القصر، واشتد الحصار على القوم، فجعل السائب بن مالك
الأشعري يتمثل بقول عبيد الله بن حذاق حيث يقول أبياتا مطلعها:



(1) الأصل: عبيد الله.
(2) عن الطبري 6 / 107 وبالأصل: مغيث.
(3) عن الطبري، وبالأصل: تراني.
(4) عن الطبري، وبالأصل: فقلت.
(5) البيت في الطبري:
إما تسف على مجد ومكرمة * أو إسوة لك فيمن تهلك الورق
(6) عن الطبري 6 / 106 وبالأصل: ظمظم.
290
هل للفتى من نياب الدهر من واقي * أم هل لحتم إذا ما حم من راقي
إلى آخرها. قال: فسمع المختار هذه الأبيات من السائب بن مالك الأشعري
فقال: لله در عبد الله بن حداق (1) ما أجود معناه في هذا القول، أما والله لو لا ما نحن
فيه لأحببت أن أحفظ هذه الأبيات، وو الله يا سائب! إن لو كان معي عشرة لعلمت
أننا نقهر مصعبا (2) وأصحابه.
قال: ثم أقبل المختار على أصحابه فقال: ويحكم اخرجوا بنا حتى نقاتل
هؤلاء القوم فنقتل كراما، فو الله ما أنا بآئس إن أنتم صدقتموهم القتال أن تنصروا
عليهم. قال: فأجابه أصحابه إلى ذلك، وقالوا: ما الرأي إلا ما رأيت! وليس
يجب أن نعطي بأيدينا ولا نحكم هؤلاء على دمائنا، فاعزم على ما أنت عازم عليه من
أمرك فها نحن بين يديك. قال: فعندها بعث المختار إلى امرأته أم ثابت الفزارية
بنت سمرة بن جندب، فأرسلت إليه بطيب كثير وحنوط، فقام واغتسل وأفرغ عليه
ثيابه وتحنط ووضع ذلك الطيب في (3) رأسه ولحيته، ووثب أصحابه يفعلون
كذلك، فقال له رجل منهم (4): أبا إسحاق! أما بد من الموت؟ قال: قد رأيت
والله عبد الله بن الزبير على الحجاز، وبني أمية على الشام، ومصعبا على العراق،
ولم أكن بدون واحد منهم. وإنما خرجت أطلب بدماء أهل البيت الذين أذهب الله
عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وقد والله أشفيت نفسي من أعدائهم وممن شارك في
دمائهم، ولست أبالي بعد هذا كيف أتاني الموت قال: ثم استوى على فرسه وجعل
يرتجز ويقول شعرا (5). ثم أمر بباب القصر ففتح، وخرج معه نفر (6) من أصحابه فلم
يزل يقاتل ويقاتلون معه حتى قتلوا بأجمعهم وبقي المختار وحده، فجعل يقاتل
والسهام تأخذه، فصاح مصعب بن الزبير بأصحابه أن احدقوا به فقد قتلت أنصاره.
قال: فأحاطت به الخيل من كل جانب، فجعل يكر عليهم ويكرون عليه حتى بلغوا
به إلى الموضع الذي فيه حوانيت الزياتين اليوم، فأحاطوا به هنالك وألجأوه إلى



(1) كذا، وقد مر قريبا عبيد الله بن حذاق!؟ ولم نجده.
(2) الأصل: مصعب.
(3) الطبري 6 / 107 على.
(4) هو السائب بن مالك الأشعري.
(5) في الطبري 6 / 107 أورد هنا الأبيات التي تمثل بها المختار لغيلان بن سلمة بن معتب، التي مرت قريبا.
(6) خرج في تسعة عشر رجلا (الطبري 6 / 107).
291
جدار هناك وقصده رجلان (1) من بني حنيفة أخوان (2) يقال لأحدهما طرفة (3) والآخر
طراف (4) ابنا عبد الله بن دجاجة الحنفي وضرباه جميعا بأسيافهما. فسقط المختار
إلى الأرض، فنزلا إليه فذبحاه واحتزا رأسه وأقبلا به إلى مصعب بن الزبير، قال:
فأمر مصعب بقطع يده اليمنى، فقطعت وسمرت على باب القصر، ثم أمر برأسه
فنصب في رحبة الحدادين.
ثم أقبل مصعب وأصحابه حتى أحدقوا بالقصر فجعلوا ينادون لمن في القصر
ويقولون: اخرجوا ولكم الأمان! فقد قتل الله صاحبكم. قال: ففتح القوم باب
القصر وخرجوا، فأخذوا بأجمعهم حتى أتي بهم مصعب بن الزبير، فقدموا حتى
وقفوا بين يديه، وجعل رجل منهم (5) يقول:
ما كنت أخشى أن أرى أسيرا * ولا أرى مدمرا تدميرا
إن الذين خالفوا الأميرا * قد رغموا (6) وتبروا تتبيرا
قال: فرفع مصعب رأسه إليه فقال: الحمد لله الذي أمكن منكم يا شيعة
الدجال! قال: فتكلم رجل منهم يقال له بحير بن عبد الله السلمي (7)، فقال: لا
والله ما نحن بشيعة الدجال، ولكنا شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما خرجنا بأسيافنا إلا طلبا
بدمائهم، وقد ابتلانا الله بالأسر وابتلاك بالعفو أيها الأمير، والصفح والعفاف وهما
منزلتان: منزلة رضا ومنزلة سخط، فمن عفا عفي عنه، ومن عاقب لم يأمن من
القصاص! وبعد فإننا إخوانكم في دينكم وشركاؤكم في حظكم، ونحن أهل
قبلتكم، لسنا بالترك ولا بالديلم، وقد كان منا ما كان من أهل العراق وأهل الشام،
فاصفح إن قدرت.
قال: فكان مصعب بن الزبير قد رق لهذا المتكلم وأصحابه وهم بإطلاقهم



(1) بالأصل: قصدوه رجلين.
(2) عن الطبري 6 / 108 وبالأصل: أخوين.
(3) عن الطبري 6 / 108 وابن الأثير 3 / 14 وبالأصل: طارف.
(4) عن الطبري وابن الأثير، وبالأصل: طريفه.
(5) اسمه عبد الرحمن. (الطبري 6 / 108).
(6) عن الطبري وبالأصل: زعموا.
(7) في ابن الأثير 3 / 14 المسكي، وفي الطبري 6 / 109 المسلي.
292
فوثب أشراف العرب (1) فقالوا: أيها الأمير! إن هؤلاء هم الذين قتلوا أبناءنا وإخواننا
وبني أعمامنا، وفي إطلاقهم فساد عليك في سلطانك وعلينا في أحسابنا قال:
مصعب: فشأنكم إذا بهم! قال: فاتكوا عليهم بالسيوف فقتلوهم صبرا - رحمة
الله عليهم -.
قال: وأقبل مصعب حتى دخل قصر الإمارة، فجلس على سرير المختار، ثم
أرسل إلى امرأتي المختار أم ثابت بنت سمرة بن جندب الفزارية وعمرة بنت
النعمان بن بشير الأنصارية، فلما أتي بهما قال لهما مصعب: ما تقولان (2) في
المختار؟ فقالت الفزارية: نقول فيه كما تقولون فيه، فقال مصعب: أحسنت اذهبي
فلا سبيل عليك. فقالت الأنصارية: ولكني أقول كان عبدا مؤمنا، محبا لله ورسوله
وأهل بيت رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنكم إن قتلتموه لم تبقوا بعده إلا قليلا فغضب
مصعب بن الزبير ثم أمر بها فقتلت (3). فقال بعضهم (4) في ذلك:
إن من أعجب العجائب عندي * قتل بيضاء حرة عطبول (5)
قتلت هكذا على غير جرم (6) * إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا * وعلى المحصنات (7) جر الذيول



(1) في الطبري 6 / 109 فقام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث...
ووثب: محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني.... وانظر مقالتهما عنده.
(2) عن الطبري 6 / 112 وبالأصل: تقولون.
(3) الأصل: والأخبار الطوال وفي الطبري وابن الأثير أن مصعبا كتب بشأنها إلى أخيه فأمره بقتلها.
(4) في الطبري 6 / 112 وابن الأثير 3 / 16 عمر بن أبي ربيعة. ولم تنسب الأبيات في مروج الذهب 3 / 119
ولا في الأخبار الطوال ص 310 والكامل للمبرد 3 / 117.
(5) في مروج الذهب: الأعاجيب والمرأة العطبول: الفتية الجميلة الممتلئة الطول. والبيت في الكامل
للمبرد:
إن من أعظم الكبائر عندي * قتل حسناء غادة عطبول
(6) صدره في الأخبار الطوال:
فقتلوها بغير ذنب سقاها
وفي مروج الذهب:
قتلوها ظلما على غير جرم
وفي الكامل للمبرد:
قتلت باطلا على غير ذنب
(7) في مروج الذهب والكامل للمبرد: وعلى الغانيات.
293
قال: ثم بعث مصعب برأس المختار إلى مكة إلى عبد الله بن الزبير، فأمر
عبد الله بن الزبير برأس المختار فنصف بالأبطح، ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس
فقال: يا بن عباس إنه قد قتل الله الكذاب، فقال ابن عباس: رحم الله المختار كان
رجلا محبا لنا عارفا بحقنا، وإنما خرج بسيفه طالبا بدمائنا وليس جزاؤه منا أن نسميه
كذابا.
ذكر كتاب مصعب بن الزبير إلى إبراهيم
ابن الأشتر رحمه الله
من مصعب بن الزبير، إلى إبراهيم بن الأشتر، سلام عليك! أما بعد (1)،
فقد قتل الله المختار وشيعته الذين دانوا بالكفر، وكادوا بالسحر، وإننا ندعوك إلى
كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، فإن
أجبت إلى ذلك فأقبل إلينا آمنا مطمئنا، فإن لك أرض الجزيرة وما غلبت عليه بسيفك
من أرض المغرب ما بقيت وبقي سلطان آل الزبير، ولك بذلك عهد الله وميثاقه،
وأشد ما أخذ (2) على أنبيائه من عهد وعقد - والسلام -.
قال: وعلم عبد الملك بن مروان أن المختار قتل، فكتب إلى إبراهيم بن
الأشتر (3): بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك بن مروان أمير
المؤمنين، إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عليك! أما بعد، فقد علمت ما كان
من آل الزبير أنهم تشغبوا على أئمة الهدى، ونازعوا (4) أهل الحق، وألحدوا في
بيت الله الحرام، والله ممكن منهم وخاذلهم، وجاعل دائرة السوء عليهم عن قريب
إن شاء الله، وأنا أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قبلت وأجبت فلك
بذلك سلطان العراق وما غلبت عليه من أرض المشرق أبدا ما بقيت وبقي سلطان آل
مروان، ولك بذلك عهد الله وميثاقه - والسلام -.
قال: فدعا إبراهيم بخاصة أصحابه فاستشارهم في ذلك، فقال له قوم: أيها
الأمير الرأي عندنا أن تدخل في طاعة عبد الملك بن مروان، فقال لهم ابن الأشتر:



(1) نسخته في الطبري 6 / 110.
(2) عن الطبري وبالأصل: ما أشد.
(3) نسخة الكتاب في الطبري 6 / 111.
(4) الطبري: ونازعوا الأمر أهله.
294
ويحكم إنه ليس بالشام قبيلة إلا وقد وترتها (1) وقتلت رجالها في يوم عبيد الله، وما
كنت بالذي اختار على مصري مصرا ولا على عشيرتي عشيرة، واللحاق بالعراق
أحب إلي وأعود علي.
قال: ثم نادى في أصحابه وارتحل نحو الكوفة إلى مصعب بن الزبير، فلما
دخل على مصعب قربه وأدناه، وأجلسه معه على سريره، ثم خلع عليه وأمر له
بجائزة سنية، وصرفه إلى منزله، ثم كتب إلى أخيه عبد الله (2) بن الزبير، فأخبره
بأمر ابن الأشتر وأنه قد دخل إلى الكوفة، فسر عبد الله بن الزبير بذلك سرورا
شديدا. ثم ولى مصعب بن الزبير المهلب بن أبي صفرة أرض الموصل وعزله عن
حرب الأزارقة، واستوت العراق والجزيرة والحجاز واليمن وأرمينية وآذربيجان لآل
الزبير، والشام ومصر إلى آخر المغرب في يد عبد الملك بن مروان.
ثم رجعنا إلى أخبار عبيد الله بن الحر
وخروجه على مصعب بن الزبير
قال: وكان مصعب بن الزبير قد ولى رجلا سخيا يقال له زجر بن قيس الجعفي
جميع سواد الكوفة، قال: وكان زجر بن قيس هذا رجلا سخيا، لا يبقي على
شيء، فأتلف مال السواد، حتى كسر على مصعب سبعون ألف درهم، فأخذه
مصعب فحبسه، فلم يكن عنده ما يؤدي.
قال: وجاء عبيد الله بن الحر حتى دخل على مصعب بن الزبير وسأله في
زجر بن قيس، فأبى عليه أن يشفعه فيه، فقال ابن الحر: أيها الأمير! المال على
من دونه! فأطلقه. فلما كان بعد ذلك بمدة يسيرة بعث مصعب إلى عبيد الله بن الحر
يقتضيه المال، فقال ابن الحر للرسول: ارجع إلى الأمير فقل له يقول لك
عبيد الله بن الحر: أيها الأمير! أما ما كان لك علينا فإنك تقتضيه منا، وما كان لنا
عليك فلا تؤديه! أيها الأمير! إنما سرت إليك إلى البصرة معونة وتقوية لك! وقدمت
معك إلى بلدي فأعنتك بنفسي وعشائري حتى قتلت المختار وظفرت بما تريد،
لنصير منك إلى ما صار غيرنا من الولاية والحبا والكرامة، وكان ما وعدتنا قديما



(1) عن الطبري، وبالأصل: ورتها.
(2) الأصل: عبيد الله.
295
ورجونا هبأ منثورا. قال: فسار الرسول إلى مصعب بن الزبير فأخبره بذلك، فأمسك
عنه مصعب وفي قلبه منه ما في قلبه، فأنشأ عبيد الله بن الحر في ذلك يقول:
متى تسألوني ما علي وتمنعوا ال‍ * ذي لي لم أستطع على ذلكم صبرا
أهان وأقضى ثم ترجى نصيحتي * وإني امرؤ يوفي نصيحته قسرا
رأيت أكف المفضلين لديكم * ملأى وكفي من عطائكم صفرا
وقدما كففت النفس عما يريبكم * ولو شئت قد أغليت في حربكم قدرا
ولو شئت قد سارت إليكم كتائب * رآها سراعا نحو عقوتكم غبرا
عليها رجال لا يخافون في الوغا * سهام المنايا والردينية السمرا
قال: ثم أرسل عبيد الله بن الحر إلى فتيان صعاليك العرب فدعاهم وأخذ
بيعتهم على أن يخرجوا معه على مصعب بن الزبير، فأجابوه إلى ذلك، ثم خرج معه
القوم وهم سبعون رجلا في جوف الليل، حتى إذا صار على فرسخين من الكوفة.
قال: واتصل هذا الخبر بمصعب بن الزبير، فكأنه اغتم لذلك وخشي أن يخرج عليه
ابن الحر في سواد الكوفة، فبعث إليه برجل يقال له سيف بن هانئ وكتب إليه: أما
بعد! فقد بلغني ما قد عزمت عليه من أمرك، وقد وجهت إليك رسولي أدعوك فيه
إلى طاعتي على أنك تقاتل معي أهل الشام، ولك عندي بذلك خراج بادوريا (1)
تأخذه لنفسك عفوا صفوا، فتفرقه فيمن أحببت من أهل بيتك وأصحابك وعشيرتك،
فكف عما تريد أن تصنع - والسلام -.
قال: فلما قرأ عبيد الله بن الحر ضحك لذلك وقال: أو ليس لي خراج
بادوريا (2) وغير بادوريا (2) من السواد، لا والله لا أجبت مصعبا إلى شيء أبدا. ثم
أقبل على الرسول فقال له: إني أراك فتى ظريفا، فهل لك أن تصحبني فأغنيك عن
مصعب بن الزبير؟ فقال له الفتى: جعلت فداك وإني أخاف على أهل بيتي
وعشيرتي إن أنا فعلت ذلك، فلا تكلفني من الأمر ما لا أطيق. قال: فانصرف إلى
صاحبك راشدا فأخبره بما سمعت. قال: فجاء سيف بن هانئ إلى مصعب فأخبره
بذلك، فأنشأ عبيد الله بن الحر يقول في ذلك أبياتا مطلعها:
أيرجو ابن الزبير اليوم نصري * لعاقبه ولم أنصر حسينا



(1) عن الطبري 6 / 132 وبالأصل: بادرونا
(2) بالأصل: بادروانا.
296
إلى آخرها.
قال: فأرسل مصعب بن الزبير إلى وجوه أهل الكوفة فأحضرهم إلى مجلسه
وأخبرهم بقصة عبيد الله بن الحر، فقال له رجل منهم: أصلح الله الأمير، إني
أخبرك عنه بأمر! فقال مصعب: وما ذلك؟ فقال: إنه جاء يوم (1) من الأيام فاستأذن
عليكم فلم يأذن له الحاجب، وجاء مسلم بن عمرو الباهلي فدخل، وجاء
المهلب بن أبي صفرة فدخل، وجاء إليك الناس واحدا بعد واحد، ثم دخل بعد
ذلك عبيد الله بن الحر، فلما خرج سمعته يقول أبياتا حفظتها منه وهي هذه
الأبيات (2):
بأي بلاء أم بأية نعمة * بمسلم قبلي يبتدي والمهلب (3)
ويدعى ابن منجوف أمامي كأنه * يطاعن قلبي بالوشيج المغلب (4)
بسوء بلاء أم لقتل عشيرتي * أذل وأقصى عن حجابات مصعب
قال: فقال له مصعب: دع هذا! هذا شيء ما لنا به علم، ولكن هاتوا آراءكم
وأشيروا علي بمشورة يعم صلاحها! قال فقال له بعض جلسائه: أصلح الله الأمير!
إن عبيد الله بن الحر رجل صعلوك يأكل خبزة بسيفه، وهو مع ذلك رجل مطاع في
قومه وعشيرته لما يعلمون من بأسه وشدته، ولقد كان خالف على المختار بن أبي
عبيد وقاتله غير مرة، وقد خالف أيضا على معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد
وعبيد [الله] بن زياد، وهو رجل لا يرى لأحد عليه طاعة، ويوشك أن يثور في هذا
السواد، فقتل ويفسد ويجلب الأموال كما فعل من قبل، والرأي في ذلك أن يبعث
إليه الأمير - أيده الله - بالبر والألطاف ويعده ويمنيه حتى يقع في يده، ثم يخلده
السجن، فقال مصعب: هذا هين يسير إن قبل ذلك منا.



(1) الأصل: يوم.
(2) في الطبري 6 / 136 أن عبيد الله بن الحر قال هذه الأبيات يعاتب مصعبا، ويذر له تقريبه سويد بن
منجوف، وكان سويد خفيف اللحية.
(3) في الطبري وابن الأثير 3 / 27: تقدم قبلي مسلم والمهلب
يعني مسلم بن عمرو والد قتيبة.
(4) عجزه في الطبري: خصي أتى للماء والعير يسرب.
297
قال: ثم جعل مصعب يتلطف له ويعرض عليه الولاية ويهدي إليه الهدايا.
قال: فلم يزل كذلك حتى رجع إلى الكوفة، فلما دخل وسلم على مصعب لم يرد
عليه السلام ثم قال: يا بن الحر! كيف صنعت؟ فقال: صنعت ما قد علمت وكذا
يصنع الرجال الذين فيهم خير (1) إذا لم يعطوا الرضا. قال مصعب! فأين أصحابك
الذين معك؟ قال: خلفتهم ورائي وجئتك وحدي، فإن كان منك ما أريد وما ضمنته
لهم فذاك، وإن أسأت إلي وخالفت ما قرأت عنك في كتابك كان (2) أصحابي من
ورائي يفعلون ما آمر. قال: ثم أمر به مصعب فقيد بقيد ثقيل، ودعا بسجان يقال له
واصل، فقال له: خذ هذا إليك وضيق عليه في السجن ما استطعت.
قال: فدعا واصل السجان بأعوانه وأمرهم فحملوا عبيد الله بن الحر من بين
يدي مصعب حملا حتى انطلقوا به إلى السجن، فلما رآه أهل السجن كبروا
وشمتوا. قال: وأقبل السجان فأخذ رداء كان على عاتق عبيد الله بن الحر وقال له:
يا بن الحر! أريد أن تكسوني هذا الرداء فإنه رداء نفيس وقلما رأيت مثله! قال:
فتبسم ابن الحر وقال: والله إن هذا ما أنت له بأهل، ولكن خذه ولا تلبسه، وبعه
لغيرك وانتفع بثمنه. قال: فأخذ واصل السجان رداء عبيد الله بن الحر فتردى به،
وجعل يخطر فيه ليغيضه ذلك، فأنشأ عبيد الله بن الحر يقول في ذلك أبياتا مطلعها:
فلم أر يوما مثل يوم شهدته * أبت شمسه مع غيمه أن تغيبا
إلى آخرها. قال: فأقام ابن الحر في السجن شهرا كاملا، ثم كتب بعد ذلك
إلى مصعب بكتاب بتهدده فيه بقومه وعشيرته ويخوفه من نفسه إن هو انفلت من
السجن أن تجتمع إليه الجموع فيناويه في عزه وسلطانه، ثم [كتب] في كتابه أبياتا
مطلعها:
لنعم ابن أخت المرء يسجن مصعب * لطارق ليل خائف أو لنائل
إلى آخرها.
قال: فلما نظر مصعب بن الزبير في كتاب ابن الحر وشعره غضب لذلك وزبد
وتمعر، ثم أرسل إلى وجوه أهل الكوفة فدعاهم، ثم قال: هذا ابن عمكم



(1) بالأصل: خيرا.
(2) بالأصل: كانوا.
298
عبيد الله بن الحر يتوعدني بالقتال إن هو أفلت من يدي، والله لأطيلن حبسه ولأزيدن
في حديده، ولأذيقنه طعم الذل والهوان. ثم أمر مصعب فزيد في حديده، وأمر
فضيق عليه في السجن أشد الضيق.
فلما بلغ ابن الحر ما هو فيه من ثقل الحديد وضيق الحبس كتب إلي بني عمه
يشكو إليهم ويقول أبياتا مطلعها:
[و] من مبلغ الفتيان أن ابن عمهم * أتى دونهم باب منيع وحاجبه (1)
إلى آخرها قال: فلما وصلت هذه القصيدة إلى بني عمه كأنهم تحركوا
لذلك، وقال بعضهم لبعض: لا والله ما هذا بحسن أن يكون أخونا وابن عمنا
محبوسا يقاسي ثقل الحديد وضيق السجن ونحن آمنون. قال: ثم وثب رجل منهم
يقال له عطية بن عمر الجعفي (2) فقال: يا هؤلاء! قوموا بنا إلى هذا الأمير حتى
نكلمه في صاحبنا، فإن هو شفعنا فيه وإلا ثرنا عليه فقاتلناه، فما هو أعز علينا ولا
أعظم في عيوننا من المختار بن [أبي] عبيد الذي قتلناه في ساعة من النهار
قال: وبلغ ذلك مصعب بن الزبير، فسكت عن القوم كأنه لم يعلم بشيء من
ذلك، فلما كان الليل بعث إلى عطية بن عمر (3) الجعفي فأتي به في منزله، ثم أمر
به مصعب فبطح بين يديه فضربه ثلاثمائة قضيب، ثم أمر به فقد وحمل إلى
السجن، فحبس مع عبيد الله بن الحر. قال: وأصبحت قبائل الأزد ومذحج بالكوفة
وقد بلغهم ذلك، فكأنهم هموا بالمصعب ثم إنهم كفوا يومهم ذلك.
قال: ونظر عبيد الله بن الحر إلى عطية بن عمر وجزعه من ذلك الضرب
والحبس، فقال: لا تجزع يا عطية! فإن الدهر يومان: يوم نعيم ويوم بؤس، والله
يا عطية لأخرجن أنا وأنت من هذا السجن، ولأنغصن على مصعب بن الزبير عيشه،
ولأدعون أهل السواد والناحيتين إلى المشمرخ (4) ولأحتوين على الفرات إلى هيت
وعانات، ولآخذن خراج الشوش وما يليها من الرساتيق والقرى، ولأكرمن من جاءني



(1) البيت من عدة أبيات في ابن الأثير 3 / 27 والطبري 6 / 131 وروايته فيه:
من مبلغ الفتيان أن أخاهم * أتى دونه باب شديد وحاجبه
(2) في الطبري 6 / 136 عطية بن عمرو البكري، وكان قد حبس مع عبيد الله ثم أطلقه مصعب.
(3) في الطبري: عمرو.
(4) كذا، ولم نجده.
299
من الفتيان والصعاليك بالأموال والخيل والأثاث الفاخر إن شاء الله ولا قوة إلا بالله
العلي العظيم، فلا تجزع يا بن عمر، فما أقرب الفرج لأنه لم تكن شدة قط إلا
جعل الله من بعدها فرجا ورخاء، ثم أنشأ في ذلك يقول أبياتا مطلعها:
قول له صبرا عطي فإنما * هو السجن حتى يجعل الله مخرجا
إلى آخرها (1).
قال: فلما بلغ قومه هذه القصيدة كأنها حركتهم، وقال بعضهم لبعض: إذ
كان غدا فاجتمعوا بنا حتى ندخل على هذا الأمير نكلمه في صاحبنا، فإن هو شفعنا
فيه وأخرجه من سجنه وإلا عاودناه في ذلك. قال: ثم بعثوا إلى عبيد الله بن الحر
أننا عزمنا على أننا نسير إليه ونكلمه في أمرك، وقد أحببنا أن يكون معنا أبو النعمان
إبراهيم بن الأشتر، فلا عليك أن تبعث إليه رسولا وتسأله أن يركب معنا، فإنه عظيم
القدر عند الأمير، ولعله أن يستحي من فيشفعه فيك. قال: فكتب عبيد الله (2) بن
الحر إلى إبراهيم بن الأشتر، ثم أثبت في رقعته هذه الأبيات:
بان الملامة لا تبقي ولا تدع * ولا يزيدك إلا أنها جزع
لم يبق معذرة سعد فأعذرها * ولا مزاد وكانوا بئس ما صنعوا
والحارثيون (3) لم أرض الذي نطقوا * عند الأمير وشر المنطق الشنع
تبادروا أنهم نأتي أميرهم * وللمذلة في أعناقهم خضعوا
فقد وردتم فذوقوا غب مصدر كم * لا ينهكم بعده ري ولا شبع
ماذا يقولون وابن الحر محتبس * همت به مذحج والأنف مجتدع
قد جللت مذحج ما ليس يغسله * ماء الفرات لأن لم يشهد النجع
الضاربون من الأقوام هامهم * بحيث يقرع عن هاماتها الصلع
والطاعنون ولم ترعش أكفهم * إذا العوالي بأيدي القوم يخترع
شم العرانين سادات كأنهم * بيض السيوف التي لم يعلها الطبع



(1) بعده في الطبري 6 / 136:
أرى الدهر لي يومين يوما مطردا * شريدا ويوما في الملوك متوجا
أتطعن في ديني غداة أتيتكم * وللدين تدني الباهلي وحشرجا
ألم تر أن الملك قد شين وجهه * ونبغ بلاد الله قد صار عوسجا
(2) بالأصل: عبد الله.
(3) بالأصل: والحاريثون.
300
أرجو قيام أبي النعمان إذ وهبوا * ومثله بجسيم الأمر يضطلع
فإن يفك عبيد الله من كبل * فليس بعدك في إخراجه طمع
فاجهد فدى لك والأقوام كلهم * ما بعدها من مساعي الخير متبع
فابسط يديك فإن الخير مبتدر * عليائه وجدود القوم تصطرع
قد قدمت لك مسعاة ومأثرة * من مالك وكذاك الخير منتجع
والأمن والخوف أيام مداولة * بين الرجاء وبين الضيق متسع
قال: فلما وردت هذه الأبيات على إبراهيم بن الأشتر كأنه تحرك لذلك، ثم
بعث إلى قومه وعشيرته فجمعهم. قال: واجتمعت أيضا وجوه اليمن، وأقبل بهم
حتى دخل على مصعب بن الزبير، فلما قضى التسليم قال: أعز الله الأمير! إنه لو
وجد أحد على عبيد الله بن الحر كوجدي عليه لما كلمه أبدا من أجل الفعل الذي
فعله بي في أيام المختار، وأما في وقته هذا فلا أعلم ذنبا يجب عليه الحبس، ووالله
أعز الله الأمير! لقد وجهت إليه وأنت بالبصرة، فقدم عليك في أربعمائة فارس لا
يرى منهم إلا الحدق في تعبية حسنة من الآلة والسلاح الكامل، ولقد بلغني أنه تجهز
إليك يوم تجهز بنيف على مائتي ألف درهم، ثم قدم معك هذه البلدة فقاتل المختار
قتالا عجيبا فعجب منه أهل بلده ولن يروك إلى هذه الغاية، وليس يجب على الأمير
أصلحه الله أن يجمع عليه أمرين: ذهاب مال وضيق حبس - والسلام -.
قال: فلما سمع مصعب بن الزبير كلام إبراهيم بن الأشتر ورأى من معه من
بني عمه وعشيرته كأنه استحيى ولم يحب أن يردهم بغير قضاء حاجة، فقال. إني قد
سمعت كلامك ومقالتك أبا النعمان، وأنا نازل عنده ما تحب. قال: فجزاه ابن
الأشتر ومن معه خيرا وأثنوا عليه جميلا، وانصرفوا إلى منازلهم. ثم بعثوا إلى
عبيد الله بن الحر أن قد صرنا إلى الأمير - أصلحه الله - وكلمناه في أمرك، فأجابنا
إلى كل ما نحب ولكن لا عليك أن تكتب إليه كتابا لطيفا تعتذر إليه فيه مما فرقت به
عنده والسلام. قال: فعندها كتب عبيد الله بن الحر إلى مصعب بن الزبير هذه
الأبيات:
تذكرت قبل اليوم آية خلة * أضرت بحقي عندكم وهو واجب
وما في قناتي من وصوم تعيبها * ولا ذم رحلي فيكم من أصاحب
وتعلم إن كاتمته الناس أنني * عليك ولم أظلم بذلك عاتب
وما أنا راض بالذي غيره الرضا * فلا تكذبنك ابن الزبير الكواذب

301
رأيتك تعصيني وتشمت شانيا * كأني بما لم اجترم لك رائب
فإن كان من عندي فبين فأنني * لصرمكم يا بن الزبير لهائب
وإن كان من غيري فلا تشمت العدى * بنا وتدارك دفع ما أنت قارب
وإن كان هذا الصرم منك لعلة * فصرح ولا تخفي الذي أنت راكب
ففي كل مصر قاسط تعلمونه * حريص على ما سرني لك راهب
أرى الحرب قد درت عليك وفتنة (1) * تضرم في الحافات منها المحاطب
فحسبك قد جربتني وبلو تني * وقد ينفع المرء الكريم التجارب
ألم تعلموا أني عدو عدوكم * وتشفى بنا في حربكم من تحارب
أناضل عنكم في المغيب عشيرتي * وأما بنفسي دونكم فأضارب
لكم بارد الدنيا ويصلى بحرها * إذا أعصى بالهاب السيوف القواضب
فلسنا كراما إن رضينا بذاكم * ولم تتأهب في الحديد الكتائب
ولولا أمير المؤمنين وبيعتي * لقد كثرت حولي عليك الجلائب
قال: فلما وصلت هذه الأبيات إلى مصعب بن الزبير ونظر فيها، أرسل إلى
عبيد الله بن الحر فأخرجه من محبسه وخلع عليه وحمله على فرس، وأمر له بمال.
قال: وسأله ابن الحر في ابن عمه عطية فأطلقه (2). قال: فصار ابن الحر إلى
منزله.
فلما كان من الغد بعث إليه مصعب أني قد جعلت لك خراج بادوريا (3)
ونواحيها فهو لك ولمن أحببت من أهل بيتك أبدا ما دام لآل الزبير سلطان بالعراق،
قال: ثم أرسل مصعب إلى عماله فصرفهم عن بادرويا (4)، فأخذ خراجها وقسمه في
أصحابه وبني عمه، ثم قال: انظروا لا أدعو بأحد منكم في وقت من الأوقات إلا
جاءني على فرس فأره وسلاح شاك، فإني قد عزمت على الخروج على مصعب بن
الزبير، وعلى الغارة على البلاد، ولا أموت إلا كريما
قال: ثم خرج من الكوفة ليلا فلحق به الناس من كل ناحية حتى صار في



(1) الأصل: فتية.
(2) مر أن عطية أطلق من الحبس قبل خروج عبيد الله بن الحر منه (الطبري 6 / 136).
(3) عن الطبري، وقد مرت، وبالأصل: " بادرونا ".
(4) الأصل: بادرونا.
302
خمسمائة رجل ما فيهم أحد إلا وعليه درع سابغ وبيضة محكمة. قال: فعندها عزم
عبيد الله بن الحر على الغارة، ثم كتب إلى مصعب بن الزبير بهذه الأبيات:
فلا كوفة أمي ولا بصرة أبي * ولا أنا يثنيني عن الرحلة الكسل (1)
فلا تحسبني ابن الزبير كنا عس * إذا حل أغفى أو يقال له ارتحل
فإن لم أزرك الخيل تردي عوابسا * بفرسانها حولي فما أنا بالبطل (2)
وإن لم تر الغارات من كل جانب * عليك وتندم عاجلا أيها الرجل
فلا وضعت عندي حصان قناعها * فلا تجد عيني (3) بالأماني والعلل
فإنك لو أعطيتني خرج فارس * وأرض سواد كلها وقرى الجبل
وجدك لم أقبل ولم آت خطة * تسرك فآيس من رجوعي لك الهبل
بل الدهر أو تأتيك خيل عوابس * شوازب قب تحمل البيض والأسل
بفتيان صدق لا ضغاين بينهم * يواسون من أقوى ويعطون من سأل
ألم يأتكم يوم العذيب تجالدي * به شيعة المختار بالمفصل الأقل
وبالقصر قد جربتموني فلم أحم * ولم أك وقافا ولا طائشا فشل
ويا رزأ أقوام بقصر مقاتل * وضاربت فرسانا ونازلت من نزل
قال: ثم سار عبيد الله بن الحر في أصحابه حتى صار إلى موضع يقال له
نفر (4)، فأغار على البلاد وأخذ الأموال ففرقها على أصحابه، ثم سار إلى موضع
يقال له كسكر ففعل مثل ذلك. قال: فلم يزل ابن الحر على ذلك من شأنه يغير على
البلاد ويقتل الرجال ويحوي الأموال، وبلغ ذلك مصعب بن الزبير فأرسل إلى
إبراهيم بن الأشتر ووجوه أهل الكوفة فدعاهم، ثم قال: هذا عبيد الله بن الحر الذي
كلمتموني فيه حتى أخرجته من السجن وأكرمته بغاية الإكرام، فخرج من الكوفة سرا
واجتمع إليه من اجتمع، فالآن هو يفعل ما يفعل. قال فقال القوم: أصلح الله
الأمير! نحن إنما كلمناك في أمره لأننا رأينا أهل المصر قد فسدت قلوبهم عليك من



(1) يروى هذا البيت لسحيم بن وثيل الرياحي.
(2) عجزه في الطبري 6 / 132:
بفرسانها لا أدع بالحازم البطل
(3) الطبري: ولا عشت إلا بالأماني والعلل.
(4) نفر: كانت في أعمال كسكر ثم دخلت في أعمال البصرة. والصحيح أنها من أعمال الكوفة (معجم
البلدان).
303
أجله، ولم نعلم الذي في قلبه، والآن فالأمير - أصلحه الله - أعلى به عينا.
قال: فعندها دعا مصعب بن الزبير برجل من فرسانه يقال له كريب بن زيد
المازني، فضم إليه ألف رجل من فرسان أهل الكوفة والبصرة، ووجه بهم نحو
عبيد الله بن الحر.
قال: فخرجت الخيل من الكوفة، وبلغ ذلك ابن الحر، فسار إليهم في
أصحابه، حتى إذ هو وافى بهم بموضع يقال له الزنين (1)، فقاتلهم هنالك قتالا
شديدا، فقتل من أصحابه نفر يسر، وقتل من أصحابه مصعب بن الزبير جماعة،
وولي الباقون أدبارهم هرابا نحو الكوفة، فأنشأ ابن الحر يقول أبياتا مطلعها:
أقول لفتياني الصعاليك أسرجوا * عناجيج أذني سيرهن وجيف
إلى آخرها.
قال: ثم أقبل عبيد الله بن الحر على أصحابه فقال: أخبروني عنكم يا معاشر
العرب لماذا نعقد لآل الزبير بيعة في أعناقنا؟ فو الله ما هو بأشجع منا لقاء، ولا أعظم
منا غني (2)، ولقد عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى آبائنا من قبل بأن الأئمة من قريش،
منا غنى (2)، ولقد عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى آبائنا من قبل بأن الأئمة من قريش،
فاستقيموا لهم ما استقاموا لكم، فإذا نكثوا أو غذروا فضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم
سيروا إليهم قدما قدما حتى تبيدوا خضراءهم، وبعد فإن هذا الأمر لا يصلح إلا لمثل
خلفائكم الماضين مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فو الله لا نرى لهؤلاء فينا يدا
فنكافيهم عليها، ولا نبذل لهم نصحا، ولا نلقي إليهم أزمتنا، لأننا ما رأينا بعد
الأئمة الماضين إلى وقتنا هذا إماما صالحا، وقد علمتم أن قوي الدنيا ضعيف
الآخرة، [فعلام تستحل حرمتنا] (3) ونحن أصحاب القادسية والمدائن وجلولاء
وحلوان ونهاوند، وما كان بعد ذلك نلقى الأسنة بنحورنا، والسهام بصدورنا،
والسيوف بجباهنا، وحر وجوهنا، وإلا فليس يعرف لنا فضل ولا يعطى حقنا، ولا
يلتفت إلينا، فقاتلوا عن حريمكم وذودوا عن فيئكم، فإن ظفرنا بما نريد فذاك حتى
يرجع الحق إلى أهله، وإن قتلنا شهداء دون حريمنا وأموالنا وأهالينا، فأي الأمرين
كان لكم فيه الفضل؟ ألا! إني قد أظهرت لهؤلاء العداوة والشحناء وقلبت لهم ظهر



(1) كذا، ولم نجده.
(2) في الطبري 6 / 131 غناء.
(3) زيادة عن الطبري 6 / 132 وابن الأثير 3 / 27.
304
المجن، وقد أتيتهم بمكة والبصرة ناصرا ومعينا، فما شكروا ولا حفظوا ولا رعوا إلي
حقا، لكنهم سجنوني وقيدوني فضيقوا علي جهدهم وطاقتهم - والسلام -. قال ثم
أنشأ يقول:
وقدما أتينا أن يقر ظلامه * وقدما وثقنا كل فتق من الأمر
وكم من أبي قد سلبناه وقره * بأسيافنا حتى أقام على العسر
بضرب يزيل الهام عن سكناته * وطعن بأطراف المثقفة السمر
ومن شيعة المختار قبل سقيتها * بضرب على هاماتهم مبطل السحر
قال: ثم سار ابن الحر إلى موضع يقال له عين التمر، وبعين التمر يومئذ رجل
يقال له بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني في خمسمائة فارس (1)، فلما علم أن ابن
الحر قد وافاه خرج إليه في أصحابه ودنا (2) القوم بعضهم من بعض فاقتتلوا ساعة،
فقتل من أصحاب بسطام ثلاثون رجلا وانهزم بسطام في باقي أصحابه، ودخل
عبيد الله بن الحر إلى عين التمر فأخذ أموالها وقسمها في أصحابه. وبلغ ذلك
بسطام بن مصقلة فرجع إلى حرب ابن الحر ثانية، فلما توافت الجيشان ودنا بعضهم
من بعض نادى بسطام بأعلى صوته: يا بن الحر! هل لك في مبارزتي؟ قال:
فتبسم ابن الحر ثم قال: شر دهرك آخره، والله ما ظننت أن مثلك يسألني المبارزة
أيام حياتي. ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه فاعتنقا جميعا وخرا عن فرسيهما
إلى الأرض، فاستوى عبيد الله بن الحر على صدر بسطام فأخذه أسيرا، وولى (3)
أصحاب بسطام منهزمين وقد قتل منهم جماعة، وأسر منهم جماعة وهي مائة
وعشرون رجلا، فنظر إليهم ابن الحر فإذا عامتهم من بني عمه من الأزد ومذحج
وقبائل اليمن، فقال: سوءة لكم يا معشر اليمن! إذ كنتم قومي وعشيرتي وتضربون
في وجهي بالسيف مع مصعب بن الزبير، أما والله لو لا أن أخشى العرب أن تحدث
عني أني قتلت قومي وعشائري صبرا لما نجا منكم أحد، ولكن امضوا إلى قومكم
فإنني قد مننت عليكم بأرواحكم. قال: فأطلقهم عبيد الله بن الحر عن آخرهم،
ولم يقتل منهم أحد إلا من قتل في المعركة، ثم أنشأ يقول أبياتا مطلعها:



(1) الطبري 6 / 132 خمسين ومائة فارس.
(2) الأصل: ودنوا.
(3) الأصل: ولوا.
305
ألا هل أتى الفتيان بالمصر إنني * أسرت بعين التمر أروع ماجدا
إلى آخرها.
قال: وبلغ مصعب بن الزبير ما فعله عبيد الله بن الحر بعين التمر، فأرسل إلى
وجوه العرب فدعاهم ثم قال: يا أهل الكوفة! إنكم قد علمتم ما لقيت من هذا
الرجل، وقد عزمت على أن آخذ كل قرابة له بالكوفة من ذكر وأنثى فأضعه في
الحبس، فلعله إذا بلغه ذلك يرجع عما هو عليه من فعاله التي هو يفعلها. قال فقال
له بعضهم: أيها الأمير! إن الله عزو جل يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فإن
كان عبيد الله بن الحر فعل ما فعل، فما ذنب القرابات وما ذنب النساء أن يحبسن بلا
جرم كان منهن؟ قال: ثم تكلم إبراهيم بن الأشتر فقال: أصلح الله الأمير! إنه وإن
كان عبيد الله بن الحر قد فعل هذا الفعل فقد فعل كذلك بالمختار، وذلك أن المختار
عمد إلى امرأته أم توبة الجعفية فحبسها في السجن، فلعله قد بلغك ما كان منه أنه
كبس الكوفة صباحا في أصحابه وكسر باب السجن وأخرج امرأته قسرا، ثم لم يرض
بذلك حتى أخرج كل من كان في السجن من النساء وهو في ذلك يقاتل أصحاب
المختار، حتى تخلص سالما هو وأصحابه. فقال ابن الزبير: قاتله الله من رجل فما
أشجع قلبه، والله! ما رأيت ولا سمعت برجل في دهرنا هذا اجتمع فيه ما في ابن
الحر، من كرم نفس وشجاعة قلب وصباحة وجه وعفة فرج، غير أنه لا يحتمل على
هذه الأفاعيل التي يفعلها.
قال: وعزم مصعب على أن يوجه إليه بجيش كثير من الكوفة، وعلمت بذلك
بنو عمه فكتبوا إليه، فلما نظر في كتب بني عمه تبسم لذلك وأنشأ يقول (1):
يخوفني (2) بالقتل قومي وإنما * أموت إذا حان (3) الكتاب المؤجل
لعل القنا تدني بأطرافها الغنى * فنحيا (4) كراما أو نكر فنقتل (5)
ألم تر أن الفقر يزري بأهله * وأن الغنى فيه العلي والتجمل



(1) الأبيات في الطبري 6 / 133 وابن الأثير 3 / 28.
(2) عن الطبري وبالأصل: " تخوفني ".
(3) في الطبري وابن الأثير: جاء.
(4) عن الطبري، وبالأصل: " فمحى ".
(5) عن الطبري، وبالأصل: نكير فيقتل.
306
إذا كنت ذا رمح وسيف مصمم * على سابح أدناك مما تؤمل
وإنك إن لم تركب الهول لم تنل، من المال ما يرضى الصديق ويفضل
إذ المرء لا قاني ومل حياته * فلست أبالي أينا كان أول
ثم إن مصعبا كتب إليه كتابا: أما بعد، يا بن الحر! فإن حلمي هو الذي
يردعني من أن أعجل عليك، ولو أردت ذلك لما عظم علي أمرك ولو كنت في جيش
بعدد خوص العراقين، فالله الله في نفسك انظر لها غيرك، واقبل إلى العاقبة،
واكفف عما أنت عليه، وسلني أي عمل شئت وأحببت حتى أوليك إياه، لا يعترض
عليك معترض، وإن أبيت سرت إليك بنفسي وخيلي ورجلي، واستعنت الله عليك -
والسلام -.
قال: فكتب إليه ابن الحر: أما بعد، يا بن الزبير! فإن كتابك ورد علي
فقرأته، وفهمت ما فيه وما دعوتني (1) إليه من طاعتك والكف عن محاربتك، ووالله
لقد دعاني إلى نصره من هو خير منك أما وأبا وأصلا وحسبا (2) وفرعا وحسبا
الحسين بن علي وفاطمة الزهراء فلم أنصره، وإني على ذلك لمن النادمين، وأظن
أني لمن الخاسرين، إلا أن يداركني رحمة رب العالمين، وأما وعيدك إياي المسير
إلي بخيلك ورجلك فأنت وأصحابك أهون علي من جرامقة الجزيرة على عرب
الحجاز - والسلام -. ثم أثبت في أسفل كتابه أبياتا مطلعها:
أتاني وعيد ابن الزبير فلم أرع * وما مثل قلبي بالوعيد مروع
إلى آخرها.
قال: ثم مضى عبيد الله بن الحر فجعل يغير على السواد يمنة ويسرة، فيهزم
الرجال ويحوي الأموال فيقسمها في أصحابه، ثم أمر فجعل يقطع البلاد، حتى صار
إلى مدينة يقال لها تكريت على شاطئ الدجلة، وبها يومئذ عامل المهلب بن أبي
صفرة فأخذه عبيد الله بن الحر فضرب عنقه صبرا (3)، ثم دخل إلى مدينة تكريت
فاحتوى على أموالها. ثم سار منها يريد الموصل، وبها يومئذ المهلب بن أبي صفرة
من قبل مصعب بن الزبير، فلما بلغه خبر عبيد الله بن الحر سار إليه في أربعة آلاف



(1) الأصل: دعتني.
(2) كذا، وقد تكررت، ولعل الصواب: ونسبا.
(3) في الطبري 6 / 133 هرب عامل المهلب عن تكريت.
307
فارس. قال: وبلغ ذلك عبيد الله بن الحر، فرجع إلى تكريت فنزلها، ثم أرسل
إلى من كان مع المهلب من بني عمه أن اكفوني أمركم ودعوني والمهلب، فإني أقوم
به وبحربه إن شاء الله تعالى.
ذكر وقعة عبيد الله بن الحر
مع المهلب بن أبي صفرة
قال: وعبيد الله بن الحر يومئذ في قريب من ألف فارس، على ميمنته
عمرو بن جندب الأزدي، وعلى ميسرته المحسن بن خليد الحرمي، قال:
وتصادم (1) القوم واشتبكت الحرب بين الفريقين، فقتل من أصحاب عبيد الله بن
الحر قريبا من ثلاثمائة فارس وقتل من أصحاب المهلب مثل ذلك، ووقعت الهزيمة
على أصحاب ابن الحر، فانهزموا حتى بقي في مائة رجل أو أقل من ذلك، فقاتل
ساعة بهم وانهزموا عنه المائة فبقي في تسعة، فقتل من التسعة رجلان (2) فبقي في
سبعة، فقتل من السبعة أربعة فبقي في ثلاثة، فقتل من الثلاثة عمرو بن جندب
الأزدي، وكان فارسا بطلا لا يصطلى له بنار، فبقي عبيد الله بن الحر في رجلين
أحدهما المحسن بن خليد الحرمي و [الآخر] عبد الله بن قيس الخثعمي، فقال
لهما (3) ابن الحر: لا تيئسا من الحياة واحملا (4) معي فإني حامل! ثم حسر عن رأسه
وحمل في هذين الراجلين على أصحاب المهلب، فلما خالطهم ضرب رجلا منهم
ضربة فصرعه عن فرسه، ثم ضرب ثانيا وثالثا وصاح: أنا ابن الحر! فولى القوم
منهزمين من بين يديه يركب بعضهم بعضا. قال: وتراجع (5) إليه أصحابه الذين كانوا
انهزموا عنه، فاحتوى عبيد الله على سواد المهلب، وجعل يذكر هذه الوقعة (6) وما



(1) الأصل: وتصادموا.
(2) الأصل: رجلين.
(3) الأصل: لهم.
(4) الأصل: واحملوا.
(5) الأصل: وتراجعوا.
(6) لم نجد فيما لدينا من مصادر ذكرا لهذه الوقعة وما في الطبري 6 / 133 أن عبيد الله أقام في تكريت يجبي
خراجها: فوجه إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي والجون بن كعب الجون في ألف وأمدهما المهلب
بيزيد بن المغفل في خمسمئة... فقاتلهم يومين وهو في ثلاثمئة فخرج جرير بن كريب وقتل عمرو بن
جندب الأزدي وفرسان كثير من فرسانه وتحاجزوا عند المساء وخرج عبيد الله بن تكريت.
308
ناله فيها فأنشأ يقول أبياتا مطلعها:
فإن تك خيلي يوم تكريت أجمحت * وقتل فرساني فما كنت دانيا
إلى آخرها. قال: ثم بعث عبيد الله بن الحر برجال من أصحابه في جوف
الليل إلى عمرو بن جندب وأصحابه القتلى، فدفنوا على شاطئ الفرات حذاء مدينة
تكريت، ثم أقبل راجعا نحو الكوفة وهو يقول:
وأبيض قد نبهته بعد هجعة * فقام يشد السرج والمرء ناعس
عليه دلاص كالأضاة وبيضة * تضيء كما يذكى من النار قابس
ثم أقبل حتى نزل قريبا من الكوفة وبلغ ذلك مصعب بن الزبير فدعا
بحجار (1) بن أبجر العجلي فضم إليه خمسة آلاف فارس ووجه بهم نحو عبيد الله بن
الحر، فسارت الخيل من الكوفة حتى وافته بموضع يقال له دير الأعور، ودنا القوم
بعضهم من بعض فاقتتلوا، فقتل من أصحاب عبيد الله بن الحر جماعة وفشت فيهم
الجراحات، وذلك في أول النهار، ثم وقعت الهزيمة بعد ذلك على أصحاب
مصعب بن الزبير، فانهزموا حتى تقاربوا من الكوفة وقد قتل منهم من قتل، واحتوى
عبيد الله بن الحر على ما قدر (2) عليه من دواب القوم وأسلحتهم وأسلابهم.
ثم أقبل ابن الحر حتى نزل بموضع يقال له صرصر فعسكر هنالك، وجعل
مصعب بن الزبير يجمع له الجموع حتى اجتمع إليه نيف عن سبعة آلاف فارس،
فضمهم مصعب بن الزبير إلى مسلم بن عمرو (3) الباهلي والحجاج بن حارثة
الخثعمي. قال: وسارت العساكر من الكوفة نحو عبيد الله بن الحر حتى وافوه على
نهر صرصر، وقد التأم (4) إلى الناس فصار في ألف وثلاثمائة فارس ما منهم إلا فارس
مذكور. قال: ودنا (5) القوم بعضهم من بعض، واستأمن قوم من أصحاب مصعب بن
الزبير إلى عبيد الله بن الحر، فلما رأى أصحاب مصعب ذلك وقع فيهم الفشل،
فانهزموا متفرقين في البلاد، وغنم ابن الحر وأصحابه ما كان لهم من مال ودواب
وسلاح، ثم أنشأ وجعل يقول أبياتا مطلعها:



(1) عن الطبري 6 / 134 وابن الأثير 3 / 28 وبالأصل: الحرث.
(2) الأصل: قدروا.
(3) عن الطبري، وقد مر، وبالأصل: عمر.
(4) الأصل: التأموا.
(5) الأصل: ودنوا.
309
نفيت لصوص الأرض ما بين عانة * إلى جازر حتى مدينة دسترا (1)
إلى آخرها.
قال: ثم كتب مصعب بن الزبير إلى يزيد (2) بن رؤيم الشيباني يأمره بالمسير
إلى عبيد الله بن الحر، قال: وكان يزيد بن رؤيم يومئذ بالمدائن من قبل مصعب بن
الزبير، فلما ورد عليه كتاب مصعب سار (3) إلى عبيد الله بن الحر حتى وافاه في
موضع يقال له باجسرى (4) والتقى القوم هنالك، فاقتتلوا ساعة، فقتل من أصحاب
يزيد بن رؤيم جماعة، وانهزم الباقون (5) وأتبعه عبيد الله بن الحر حتى وافاه
بالمدائن. قال: وتحصن يزيد بن رؤيم في قصر المدائن، وأحدق عبيد الله بن الحر
وأصحابه بالقصر حتى أصبحوا، ثم أنهم استمدوا بأهل مدينة الرومية فاجتمع أهل
المدينتين جميعا على عبيد الله بن الحر وأصحابه، فقاتلهم ساعة فعلم أنه لا طاقة له
بهم، فجعل يقاتلهم هو وأصحابه حتى تخلص من المدائن سالما.
ثم تقدم إلى سورا (6) وبها يومئذ عبد الرحمن العجلي من قبل مصعب بن
الزبير، فخرج (7) إلى محاربة عبيد الله بن الحر وأصحابه، فقال ابن الحر
لأصحابه: فداكم أبي وأمي! احملوا عليهم حملة صادقة، فلعلي أن أغنمكم مال
سورا! قال: فصبر القوم بعضهم لبعض ساعة، ثم انهزم أهل سورا حتى دخلوا إلى
المدينة، واحتوى ابن الحر وأصحابه على أسلابهم وأموالهم ودوابهم، ثم أنشأ ابن
الحر يقول أبياتا مطلعها (8):



(1) عانة: بلد مشهور بين الرقة وهيت.
وجازر: قرية من نواحي النهروان من أعمال بغداد قرب المدائن.
دسترا: كذا، ولم نعثر عليه.
(2) في الطبري 6 / 134 يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني.
(3) في الطبري: قدم ابنه حوشبا.
(4) عن الطبري، وبالأصل: جسرى. وباجسرا: بليدة في شرقي بغداد.
(5) الأصل: وانهزموا الباقين.
(6) سورا: موضع بالعراق من أرض بابل.
(7) في الطبري 6 / 134 وابن الأثير 3 / 29 أن الذي خرج لملاقاة ابن الحر هو بشير بن عبد الرحمن بن بشير
العجلي.
(8) الأبيات في الطبري 6 / 135.
310
سل (1) ابن رؤيم عن جلادي وموقفي * بإيوان كسرى لا أوليهم ظهري
إلى آخرها.
ذكر الأسود الذي كان يقطع الطريق واسمه الغداف (5)
وكيف قتله عبيد الله بن الحر
قال: ثم سار عبيد الله بن الحر حتى نزل مدينة الأنبار، فلما رآه أهلها كأنهم
اتقوه وهموا بالهرب من المدينة، فنادى فيهم ابن الحر: ليس عليكم من بأس!
أقيموا بمدينتكم أنتم آمنون! فتراجع القوم إلى منازلهم وأسواقهم، ثم أنهم حملوا
إليه الميرة والهدايا، فقبلها منهم وقال: إن كانت لكم حاجة فاسألوني إياها. قال:
فتقدم إلى جماعة منهم من أهل الأنبار فقالوا: نعم، أيها الأمير! إن حاجتنا إليك
حاجة لله فيما يرضي الله، ولك فيها ثواب عظيم. قال: وما ذاك؟ قالوا: ههنا
حبشي يقال له الغداف (3) يقطع الطريق وحده ما بين مدينتنا هذه إلى مدينة هيت، ثم
إنه يأتي مدينتنا هذه ليلا ونهارا، فلا يقدم عليه أحد لما يعلمون من بأسه وشدته،
فإذا بلغه أن امرأة حسناء في موضع من المواضع هجم على تلك الدار فيأخذ المرأة
ويكتف زوجها ثم يفجر بها، فإن تكلم زوجها قتله ثم يخرج، فلا يقدر أحد عليه،
فإن رأيت أن تريحنا منه وأهل هذه البلدة يقرون لك بالعبودية إلى آخر الدهر! قال:
فتغير وجه عبيد الله بن الحر وأدركته الغيرة والأنفة، ثم أقبل على أهل الأنبار فقال:
وأين يكون هذا الأسود؟ فقالوا: في وادي كذا وكذا قريبا من شاطئ الفرات.
قال: فدعا عبيد الله بن الحر بفرسه فاستوى عليه وأخذ سيفه وتقلد رمحه، ثم أقسم
على أصحابه أنه لا يتبعه أحد منهم، ثم خرج من الأنبار في جوف الليل وهو يقول:
وأبيض قد نبهته بعد هجعة * وقد لبس الليل القميص الأرندجا
وجدت عليه مغرما فقبضته * وفرجت ما يرجا به أن يفرجا
وكنت إذا قومي دعوني لنجدة * شددت نطاقي حين أدعى وأسرجا
فأكشف غماها وأكسب مغنما * وأطفي الذي قد كان فيها مؤججا



(1) الطبري: سلوا.
(2) لم نجد هذه الرواية فيما لدينا.
(3) الأصل: الغذاف، وقد صححت أينما وجدت في الخبر.
311
قال: ثم سار عبيد الله بن الحر حتى صبح الوادي الذي فيه الغداف، فنزل
عن فرسه إلى ماء يجري في أول الوادي، فتوضأ ثم وثب فصلى الفجر وعنان فرسه
في يده. ثم وثب فاستوى على فرسه وجعل يتلفت يمنة ويسرة فلا يرى أحدا حتى إذا
بزغت الشمس وإذا هو بالغداف وقد خرج من شعب من شعاب ذلك الوادي على
فرسه له أدهم أغر محجل، وفي يده رمح له طويل، وعلى رأسه عمامة له حمراء،
وإذا هو أسود آدم، مشرف عظيم من الرجال. قال: فوقف له ابن الحر حتى حاذاه
وصار قبالته، فقال له الغداف أيها الرجل! من أيت أقبلت؟ قال: من الأنبار، قال:
فأين تريد؟ قال: أريد إلى هيت، قال الغداف: بلغني أن عبيد الله بن الحر قد نزل
بالأنبار، فأين يريد؟ قال: لاعلم لي بذلك، فقال الغداف: لقد بلغني عنه شدة
وفروسية وإقدام على الرجال، ولعله ما نازل بطلا، ولقد كنت أحب أن أزوره وأراه،
وأنظر إلى جلادته ومنازلته للرجال! قال: ثم جعل يساير عبيد الله بن الحر ويسأله عن
حاله، حتى إذا أصحر عن الوادي قال له الغداف: انزل عن فرسك وانج! فقال له
ابن الحر: أو تعرفني؟ قال: لا، قال: فأنا ابن الحر وإياك أردت يا كلب! ثم
حمل عليه واختلفا بطعنتين، فطعنه ابن الحر طعنة نكسه عن فرسه، ثم نزل إليه
فذبحه واحتز رأسه [ووضع] في مخلاة، وأخذ سلاحه وسلبه، وأقبل يريد الأنبار،
وأنشأ يقول:
إني رأيت بواد غبار رجلا * مثل الهزبر إذا ما ساور البطلا
ضخم الفريسة لو أبصرت قامته * وسط الرجال إذا شبهته جملا
سايرته ساعة ما بي مخافته * إلا التلفت حولي هل أرى دغلا
أنشأ يسائلني عنه وأطعنه * فخر يهوي على الخيشوم منجدلا
دهدهته بين أحجار وأودية * لا يعلم الناس غيري علم ما فعلا
يدعى الغداف وقد مالت علاوته * إن الغداف وربي وافق الأجلا
قال: ثم وافا عبيد الله بن الحر حتى دخل الأنبار وأمر برأس الغداف فنصب
على باب المدينة. قال: وفرح أهل الأنبار بذلك فرحا شديدا ثم حملوا إليه هدايا
كثيرة من الأطعمة والأشربة وغير ذلك، فقبلها منهم.
قال: وأقبل رجل من الأنبار وقال: أيها الأمير هل تعلم بالعراق من يدانيك أو
يقوم مقامك؟ فقال: نعم، رجلا واحدا يقال له جرير بن مشجعة الجعفي، وهو
اليوم مع بني عمه بالكوفة، ولو أنه معي أو في أصحابه أربعة مثله لكبست الكوفة

312
فقتلت مصعبا واحتويت على ماله، وعسى أن يكون ذلك إن شاء الله. ثم جعل
يقول:
لو أن لي مثل جرير أربعة * صبحت بيت المال حتى أجمعه
ولم يلهني مصعب ومن معه * نعم الفتى ذلكم ابن مشجعه (1)
ذكر مسير عبيد الله بن الحر
إلى عبد الملك بن مروان بالشام
يسأله المعونة على مصعب بن الزبير
قال: ثم أقبل عبيد الله بن الحر على أصحابه وقال: تهيأوا الآن! فإني قد
عزمت أن أسير بكم إلى الشام إلى عبد الملك بن مروان وأسأله المعونة على
مصعب بن الزبير، فلعلي أشفي بنفسي منه ومن أصحابه قبل الموت. قال: ثم
نادى في أصحابه وترحل نحو الشام، وأنشأ يقول أبياتا مطلعها:
وبالشام إخواني وجل عشيرتي * وقد جعلت نفسي إليك تطلع
إلى آخرها.
قال: ثم سار حتى صار إلى دمشق وبها يومئذ عبد الملك بن مروان، فوقف
ببابه ثم استأذن له، ودخل فسلم، فرد عليه عبد الملك السلام، ثم أدناه وأقعده معه.
على سريره، ثم دعا بالخلع فخلع عليه، وأمر له بمائة ألف درهم، فقال له
عبيد الله بن الحر: يا أمير المؤمنين! لم أزرك للمال، إنما أريد أن توجه معي رجالا
أقاتل بهم مصعب بن الزبير، فلست بآيس من أخذ العراق لك يا أمير المؤمنين!
فأجابه عبد الملك بن مروان إلى ذلك، ثم أمر بمائة ألف درهم أخرى، وأمر له
ولأصحابه بالمنازل والإنزال، وأجرى عليهم الأرزاق. ثم أمر له بأربعة آلاف رجل
من أهل الشام (2)، فأعطاهم الأرزاق وضمهم إليه وأمرهم بالمسير معه.
قال: فسار القوم مع عبيد الله بن الحر حتى صاروا إلى الرقة، ثم انحدروا



(1) الأرجاز في الطبري 6 / 133.
(2) في الطبري 6 / 135 وجهه في عشرة نفر نحو الكوفة. وفي ابن الأثير 3 / 29: قال له: سر بأصحابك
وادع من قدرت عليه وأنا ممدك بالرجال.
313
على الفرات حتى صاروا إلى الأنبار، قال: فنزل عبيد الله بن الحر ومن معه من
الأنبار يوما ثانيا، ثم إنهم تذاكروا شيئا من أمر صفين وما كان من محاربة أهل العراق
لهم، فوثب بعضهم على بعض فاقتتلوا هنالك حتى تفانى الفريقان (1) جميعا من أهل
الشام وأصحاب عبيد الله بن الحر على غير شيء. قال: وانفلت نفر من أهل
الشام، فمروا هاربين على وجوههم، وبقي عبيد الله بن الحر في نفر يسير من
أصحابه.
ذكر مقتل عبيد الله بن الحر
قال: وكان مصعب بن الزبير يومئذ بالبصرة وخليفته الحارث بن عبد الله بن أبي
ربيعة (2) بالكوفة. فلما بلغه ما فيه عبيد الله بن الحر قلة أصحابه اغتنم ذلك،
فدعا برجل من بني سليم يقال له عبيد بن العباس، فضم إليه خمسمائة فارس وأمره
بالمسير إلى عبيد الله بن الحر.
قال: فسارت الخيل نحو عبيد الله بن الحر، فلما نظر الخيل وقد وافته التفت
إلى من بقي من أصحابه فقال: يا بني الأحرار! اركبوا خيولكم وموتوا كراما! وإلا
أخذتم أسارى فعرضتم على السيف كما عرض أصحاب المختار من قبلكم (3).
قال: فركب أصحابه وهم يومئذ أقل من خمسين دجلا، وركب عبيد الله بن الحر
وجعل يقول:
يا لك يوما قل فيه ثقتي * وغاب عني معشري وأسرتي
ومذحج طرا وجل إخوتي * وصحبتي الحامون لي في كربتي
يا قيس غيلان أصبتم فرصتي * وما أبالي إن أتت منيتي (4)
قال: ثم حمل عليهم في أصحابه على قلتهم * فقاتل ساعة فقتل من أصحابه



(1) الأصل: تفانوا الفريقين.
(2) الأصل: وانفلتوا.
(3) الأصل: عبيد الله بن الحارث بن أبي ربيعة، وقد مر.
(4) وكان أصحابه قد قالوا له: نحن نفر يسير وهذا الجيش لا طاقة لنا فيه.
(5) في ابن الأثير 3 / 30:
يا لك يوما فات فيه نهبي * وغاب عني ثقتي وصحبي
314
نيف على ثلاثين رجلا وبقي في بضعة عشر رجلا، فقاتل حتى بقي خمسة، فجعل
يرتجز ويقول:
لو أن لي من شيعتي رجالا * مشاعرا أعرفهم أبطالا
لأحسنوا من دوني القتالا * ولم يهابوا في الوغى الآجالا
قال: وقتل أصحابه الخمسة فبقي عبيد الله بن الحر يقاتل وحده وأحاطت به
الخيل من كل جانب، قال: فطعنه رجل من بني محارب (1) يكنى أبا كدية (2)،
فصرعه عن فرسه على شاطئ الفرات وغار فرسه، فوثب قائما وبقي يقاتلهم راجلا
في جوف الماء، والقوم يرمونه بالسهام، ولا يدنو أحد منه غير أنهم يقولون: كيف
ترى هذه السهام يا بن الحر! فقال لهم: إن كنتم رجالا كما تزعمون فابرزوا إلي
واحدا بعد واحد حتى تعلموا أينا ابن الحر! قال: وأثخن بالجراحات فلم يستطع أن
يقاتل القوم، فعمد إلى زورق من تلك الزوارق، فجلس فيه وقال لصحابه: عبرني
إلى ذلك الجانب من الفرات وسلبي لك! قال: فجعل صاحب زورق يقذف به حتى
صار إلى نصف الفرات وأصحاب مصعب ينادون صاحب الزورق: ويحك أيها
الملاح! إن الذي معك هو طلب أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير وطلب مصعب بن
الزبير، فاحذر على نفسك ورد الزورق إلينا ولك عشرة آلاف درهم! قال: فهم
الملاح أن يرده إليهم. فلما حول رأس الزورق قام إليه عبيد الله بن الحر ليمنعه من
ذلك، فقبض عليه الملاح وكان قويا في بدنه فاعتنقا جميعا واضطربا في الزورق ثم
سقطا جميعا في الفرات فغرقا: وإذا بشيخ على شاطئ الفرات ينتف لحيته ويقول:
يا بختيار! يا بختيار! فقيل ما: ما قصتك يا شيخ؟ فقال: وما قصتي، هذا الملاح
الذي غرق هو ابني بختيار، وكان يقتل هو الأسد في هذا البلد وحده إذا قدر عليه
لشجاعته وشدته، وكان يحمل هذا الزورق الذي لا يحمله عشرون رجلا فيخرجه من
الفرات ويقيره ويرده إلى الماء وحده، حتى بلي بشيطان كم هذا فلم يفارقه حتى رمى
به وغرق. قال: فجعل أصحاب مصعب بن الزبير يضحكون من الشيخ ويقولون
له: لا عليك يا شيخ فإن الذي غرق ابنك وغرق معه عبيد الله بن الحر الجعفي،
ولم يكن بالعراق أشجع منه قلبا، فتعز عن ابنك واحتسبه. قال: فقال الشيخ: إن



(1) في ابن الأثير 3 / 30 رجل من باهلة.
(2) عن ابن الأثير وبالأصل: أبا كربه.
315
ابني لم يكن يغرقه إلا شيطان من شياطين هذه الدنيا.
قال: ثم دعا أصحاب مصعب بن الزبير بالغواصين، فغاصوا في الفرات حتى
أخرجوا عبيد الله بن الحر من الماء، فاحتزوا رأسه وصلبوه على شاطئ الفرات، ثم
بعثوا برأسه إلى أمير الكوفة الحارث بن عبد الله (1) بن أبي ربيعة، فوجه الحارث
بالرأس إلى مصعب بن الزبير بالبصرة، ووجه مصعب بالرأس إلى أخيه عبد الله بن
الزبير.
قال: وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فجزع، عليه جزعا شديدا، ثم قال: لله
درك يا بن الحر! قد كنت فارس حرب، وكاشف كرب وفارس همة، وسداد ثغر،
فلأسعدنك الله حيا وميتا، فلعمري لقد بلوك فلما وجدوك خوارا ولا فرارا، لكنهم
ألفوك كرارا نفاعا ضرارا، وبالله يحلف عبد الملك ليأخذن بثأرك وثأر غيرك إن شاء
الله ولا قوة إلا بالله. قال: فأنشأ أنس بن معاوية البكري يقول أبياتا مطلعها:
يا عين أبكي عبيد الله ما طلعت * شمس النهار وأذري الدمع تسكابا
إلى آخرها.
ثم رجعنا إلى أخبار محمد ابن الحنفية رضي الله عنه وعبد الله
ابن الزبير وما كان بينهم من خلاف
أحدهم على صاحبه
قال: ونظر عبد الله بن الزبير أنه قد صفت له العراقان جميعا والبصرة والكوفة
بقتل المختار بن أبي عبيد وعبيد الله بن الحر، فأرسل إلى محمد ابن الحنفية بأخيه
عروة بن الزبير أن هلم فبايع، فقد قتل الله الكذاب، وابن الحر المرتاب، والأمة قد
استوسقت، والبلاد قد افتتحت، فادخل فيما دخل فيه الناس من أمر البيعة، وإلا
فإننا منابذوك.
قال: فغضب محمد ابن الحنفية من ذلك، ثم أقبل على عروة بن الزبير
فقال: بؤسا لأخيك ما ألجه في إسخاط الله، وأغفله من طاعة الله، أنا أبايع أخاك
وعبد الملك بن مروان بالشام يرعد ويبرق؟ قال: ثم وثب رجل من أصحابه فقال:



(1) الأصل: عبيد الله.
316
جعلت فداك يا بن أمير المؤمنين علي الرضي وابن عم النبي، والله! ما الرأي عندنا
إلا أن توثق هذه الساعة في الحديد وتحبسه عندك، فإن أمسك عنك أخاه وبعث
بالرضا وإلا قدمت هذا فضربت عنقه! فقال محمد ابن الحنفية: سبحان الله! أو
يكون هذا الذي ذكرت من أعمال الجبابرة وأهل الغدر؟ معاذ الله أن نقتل من لم
يقتلنا، أو نبدأ بقتال من لم يقاتلنا. قال: ثم أقبل ابن الحنفية على عروة بن الزبير
فقال له: انطلق إلى أخيك هذا فقال له عني (1): إنك ذكرت أنه قد استوسق لك
الناس وفتحت لك البلاد، وهذا عبد الملك بن مروان حي قائم يدعى له بالشامات
كلها وأرض مصر، وفي يده مفاتيح الخلافة، ولست أدري ما يكون من الحدثان،
فإذا علمت أنه ليس أحد يناويك في سلطانك بايعتك ودخلت في طاعتك والسلام.
قال: فرجع عروة إلى أخيه عبد الله بن الزبير فأخبره بذلك.
ذكر خطبة محمد ابن الحنفية رضي الله عنه
وكلامه لأصحابه
قال: ثم قام محمد ابن الحنفية في أصحابه خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه
وقال: أيها الناس! إن هذه الأمة قد ضلت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ربها، وتاهت عن
معالم دينها إلا قليلا منها، فهم يرقعون في هذه الدنيا حتى كأنهم لها خلقوا، وقد
نسوا الآخرة حتى كأنهم بها لم يؤمروا، فهم يضلون على الدنيا أنفسهم، ويقطعون
فيها أرحامهم، ويفرطون لها عن سنة نبيهم، ولا يبالون ما أتوه فيها من نقص دينهم
إذا سلمت لهم دنياهم، اللهم فلا تنسنا ذكرك، ولا تؤمنا مكرك، ولا تجعل الدنيا لنا
هما، ولا تحرمنا صحبة الصالحين في دار السلام.
قال: ثم أقبل على أصحابه فقال: إني أرى ما بكم من الجهد، ولو كان
عندي فضل لم أدخره عنكم، وقد تعلمون ما ألقى من هذا الرجل الذي قرب دماؤه،
وأساء جواره، وظهرت، عداوته، واشتدت ظعينته، يريد أن يثور بنا (2) في مكاننا هذا،
وقد أذنت لمن أحب منكم أن ينصرف إلى بلاده، فإنه (3) لا لوم عليه مني، وأنا مقيم
في هذه الحرم أبدا حتى يفتح الله لي وهو خير الفاتحين. قال: فقام إليه أبو عبد الله



(1) في ابن الأثير 2 / 689 فقال ابن الحنفية: بؤسا لأخيك ما ألجه فيما أسخط الله وأغفله عن ذات الله.
(2) عن ابن الأثير 2 / 689 وبالأصل: " يثور إلينا ".
(3) ابن الأثير: فإنه لا ذمام عليه منا ولا لوم.
317
الجدلي، وكان من خيار أصحابه فقال: سبحان الله! يا أبا القاسم نحن نفارقك على
هذه الحالة وننصرف عنك؟ لا والله ما سمعنا إذا ولا أبصرنا ما نقلنا أقدامنا، وثبتت
قوائم سيوفنا في أكفنا، وعقلنا عن الله أمرنا ونهينا.
قال: ثم وثب عبد الله بن سلع (1) الهمداني فقال: ثكلتني أمي وعدمتني إن
أنا فارقتك وانصرفت عنك إلى أحد من الناس هو خير منك أو شبية بك! والله ما نعلم
مكان أحد هو أصلح منك في وقتنا هذا، ولكن نصير معك، فإن نمت فمجدا وإن
نقتل فشهداء، ولا والله لئن أقتل معك على بصيرة محتسبا لنفسي أحب إلي من أن
أوتى أجر عشرين (2) شهيدا معك.
قال: ثم وثب محمد بن بشر الشاكري فقال: يا بن خير الأخيار وابن أبر الأبرار
ما خلا النبيين والمرسلين! والله لئن آكل الأطعمة المحرقة والحلوى البالية والميتة
والدم على حال الضرورة أحب إلي من البقاء مع القوم الظالمين، لأنه قد ابتلي
الصالحون من قبلنا، فكانت تقطع أيديهم وأرجلهم، وتسمل أعينهم، ويصلبون
على جذوع النخل أحياء، كما فعل ابن سمية زياد بن أبيه وابن مرجانة عبيد الله بن
زياد الفاجر الفاسق بشيعتكم، فكانوا يقتلون صبرا كما قتل حجر بن عدي
وأصحابه، وكل ذلك كانوا يقتلون وعلى ذلك كانوا يصبرون. قال فقال لهم
محمد ابن الحنفية: جزاكم الله من صحابة خير ما جرى الصالحين الصابرين.
قال: وجد عبد الله بن الزبير في عداوة محمد ابن الحنفية كل ذلك ليبايع ابن
الحنفية، وهو يأبى ذلك. قال: وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فكتب إلى
محمد ابن الحنفية: أما بعد فقد بلغني ما به ابن الزبير مما لست له أهل، وأنا عن
قليل سائر إليه إن شاء الله ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فانظر إذا قرأت كتابي هذا
فسر إلى ما قبلي أنت ومن معك من شيعتك، وانزل حيث شئت من أرض الشام آمنا
مطمئنا إلى أن يستقيم أمر الناس، فنختار أي الخصال أحببت - والسلام -.
قال: فعندها عزم محمد ابن الحنفية على المسير إلى الشام، وكتب
عبد الله بن عباس إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد فإنه قد توجه إلى بلادك رجل
منا لا يبدأ بالسوء، ولا يكافئ على الظلم، لا بعجول ولا بجهول، سريع إلى



(1) كذا. ولم نعثر عليه.
(2) الأصل: عشرون.
318
الحق، أصم عن الباطل، ينوي العدل، ويعاف الحيف، ومعه نفر من أهل بيته
وعدة رجال من شيعته، لا يدخلون دارا إلا بإذن، ولا يأكلون إلا بثمن، رهبان
بالليل، ليوث بالنهار، فاحفظنا فيهم - رحمك الله! فإن ابن الزبير قد نابذنا ونابذناه
بالعداوة - والسلام -.
ذكر كتاب عبد الملك بن مروان إلى
ابن عباس مجيبا له عما كتب به إليه
قال: فكتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فقد أتاني كتابك توصيني
فيه بمن توجه إلى ما قبلي من أهل بيتك، فما أسرني بصلة رحمك وحفظ وصيتك!
وكل ما هويت من ذلك فمفعول متبع، فانزل بي حوائجك رحمك الله إن أحببت فلن
أعرج عن حاجة لك قبلي، فإنك أصبحت عظيم الحق علي مكينا لدي، وفقنا الله
وإياك لأفضل الأمور - والسلام عليك ورحمة الله وبركاته -.
قال: فعندها تجهز محمد ابن الحنفية وخرج من مكة فيمن معه من أهل بيته
وأصحابه، وبين يديه رجل من شيعته يرتجز ويقول أبياتا مطلعها (1):
هديت يا مهدي يا بن المهتدي * أنت الذي نرضى به ونقتدي
إلى آخرها.
قال: ثم جعل أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني يرتجز أيضا بين يدي
محمد ابن الحنفية وهو يقول أبياتا مطلعها:
يا إخوتي يا شيعتي لا تبعدوا * إن زعيم لكم أن ترشدوا
إلى آخرها.
قال: ثم سار محمد ابن الحنفية حتى صار إلى مدينة مدين، وبها يومئذ عامل



(1) في مروج الذهب 3 / 94 وخرج إلى أيلة، فأقام بها سنين ثم قتل ابن الزبير.
وفي ابن الأثير 2 / 690 فخرج ابن الحنفية وأصحابه إلى الشام وخرج معه كثير عزة وهو يقول:
هديت يا مهدينا ابن المهتدي * أنت الذين نرضى به ونقتدي
أنت ابن خير الناس بعد النبي * أنت إمام الحق لسنا نمتري
يا بن علي سر ومن مثل علي
319
من قبل عبد الملك بن مروان يقال له مطهر بن يحيى العتكي، فلما نظر إليه هؤلاء
القوم أمر بباب المدينة فأغلق، ولقي من ناحيتهم فناداهم (1) أصحاب محمد: يا
أهل مدين! لا تخافوا فإنكم آمنون، إنما نريد منكم أن تقيموا لنا السوق حتى نتسوق
منه ما نريد، نحن أصحاب محمد بن علي بن أبي طالب، لسنا نرزأ أحدا شيئا ولا
نأكل شيئا إلا بثمن، قال: ففتح (2) أهل مدين باب مدينتهم وأخرجوا لهم الأنزال.
فقال محمد ابن الحنفية لأصحابه: أيها الناس! إني قد وطئت بكم آثار الأولين،
وأريتكم ما فيه معتبر وتبصرة لكم إن كنتم تعقلون، ألم تروا ديار عاد وثمود وقوم لوط
وأصحاب مدين، كانوا عمار الأرض من قبلكم وسكانها، أعطوا من الأموال ما لم
تعطوا، وأوتوا من الأعمار ما لم تؤتوا، فأصبحوا في القبور رميما كأنهم لم يعمروا
الأرض طرفة عين، ولم تكن لهم الدنيا بدار.
قال: ثم سار محمد ابن الحنفية وأصحابه حتى نزلوا مدينة أيلة (3)، فجعلوا
يصومون النهار ويقومون الليل، وجعل كل من مر بهم وقدم إلى دمشق يحدث عنهم
ويقول: ما رأينا قوما قط خيرا من هؤلاء القوم الذين قد دخلوا أرض الشام، إنما هم
صيام وقيام، لا يظلمون أحدا ولا يؤذون مسلما ولا معاهدا، يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر. قال: وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فندم على كتابه إلى
ابن الحنفية وسؤاله إياه أن يقدم إلى بلاد الشام لما شاع في الناس من خبره وحسن
الثناء عليه.
ذكر كتاب عبد الملك بن مروان
إلى محمد ابن الحنفية من دمشق وجوابه إياه
أما بعد، فإنك قدمت إلى بلادنا بإذن منا، وقد رأيت أن لا يكون في سلطاني رجل
لم يبايعني، فإن أنت بايعتني فهذه مراكب قد أقبلت من أرض مصر إلى أيلة، فيها
من الأطعمة والأمتعة والأشياء كذا وكذا، فخذ ما فيها لك، ومع ذلك ألف ألف درهم
أعجل لك منها مائتي ألف درهم، وتؤخرني بقيتها إلى أن أفرغ من أمر ابن الزبير
ويجتمع الناس إلى إمام واحد، وإن أنت أبيت أن تبايع فانصرف إلى بلد لا سلطان



(1) الأصل: فنادوهم.
(2) الأصل: ففتحوا.
(3) أيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام.
320
لنا بها - والسلام.
قال: فكتب إليه محمد ابن الحنفية: أما بعد، فإننا قدمنا هذه البلاد بإذنك إذ
كان موافقا لك، ونحن راحلون عنها بأمرك إذ كنت كارها لجوارنا - والسلام عليك
ورحمة الله وبركاته -.
قال: ثم خرج محمد ابن الحنفية من أيلة راجعا إلى مكة ومعه أهل بيته
وأصحابه وهو يتلو هذه الآية: (قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب
والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على
الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء
الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت
خير الفاتحين) (1).
قال: ثم سار ابن الحنفية حتى صار إلى مدين، أقبل على أصحابه فقال: يا
هؤلاء! أنتم نعم الإخوان والأنصار ما علمتكم، ولو كان عندي ما يسعكم لأحببت أن
لا تفارقوني أبدا حتى تنجلي هذه الغمة، فإن أحببتم فانصرفوا إلى مصركم
محمودين، فإنكم تقدمون إلى الناس وبهم إليكم حاجة، وأنا سأقدم إلى مكة إلى
معاندة ابن الزبير، ولا أحب أن تكونوا مجهودين. قال: فعندها ودع أصحابه
وانصرفوا إلى الكوفة، وبها يومئذ مصعب بن الزبير فأرسل إليهم فدعاهم، وقال
من أنتم؟ وما أقدمكم إلى مصرنا هذا ذنبكم؟ فقالوا: نحن أصحاب محمد ابن
الحنفية ولم نقدم لسوء، إنما قدمنا إلى بلدنا فاجعل لنا أرزاقنا واصطنعنا، وإن
دخلت ذلك دخلنا في بيعتك وأقررنا في بلدنا وعشائرنا. قال: فأمرهم مصعب بن
الزبير فبايعوه وأقاموا عنده.
ومضى ابن الحنفية بمن معه من أهل بيته ومواليه حتى نزل بشعب أبي طالب
بمكة، وبلغ عبد الله بن الزبير فأرسل إليه أن ارتحل عن هذا الشعب أنت وأصحابك
هؤلاء الذين معك، وإلا هلم فبايع. فقال ابن الحنفية لرسوله: ارجع إليه وقل له إن
الله تعالى قد جعل هذا البلد آمنا وأنت تخيفني فيه، ولست بشاخص عن مكاني هذا
أبدا إلى أن يأذن الله لي في ذلك، فاصنع ما أنت صانع! وجرى بينهم اختلاف



(1) سورة الأعراف الآيتان 88 و 89.
321
شديد، وبلغ ذلك من كان بالكوفة من أصحابه الذين فارقوه، فرجعوا إليه في
جمعهم حتى نزلوا في الشعب وقالوا: والله لا نفارقك أبدا أو لنموتن بين يديك!
قال: وأمسك ابن الزبير عن ابن الحنفية وكف عنه إلى أن حجت الناس.
فلما كان يوم النفر (1) أرسل بأخيه عروة بن الزبير وعبد الله بن مطيع العدوي
في رجال من قريش إليه، فأقبل القوم حتى دخلوا الشعب إلى ابن الحنفية فقالوا: إن
أمير المؤمنين يأمرك أن تتنحى عن هذا الشعب الذي أنت نازل فيه، فإنه قد عزم إن
لم تفعل ولم تنتقل إلى موضع غيره أن يسير إليك حتى يناجزك، فإن أردت الشخوص
فهذا يوم الجمعة قم فانفر مع الناس وامض إلى حيث شئت من البلاد! قال: فسكت
ابن الحنفية وقام رجل من أصحابه يقال له معاذ بن هانئ فقال: أيها المهدي! إن
هذا البلد قد جعل الله عزو جل، الناس فيه سواء العاكف فيه والباد، وليس أحد أحق
به من أحد، وهذا الرجل قد ألحد في الحرم وسفك فيه الدم، وقد بعث إليك مرة
بعد أخرى يأمرك بالتنحي عنه، فإنه هو أبى إلا إشخاصك تركا لأمر الله وجرأة عليه
فقد بدأك بالظلم وبما لم تكن تستحله، وقد اضطرك وإيانا إلى ما لا صبر لك عليه
فخل بيننا وبينه، فو الله! إني لأرجو أن آتيك به سلما أو يقتل هؤلاء أصحابه الفساق
الجبارون وأعداء الصالحين، فإنما هم أعراب أهل اليمامة وجهال أهل مكة، ولقد
قاتلهم قوم ينوون رضوان الله وثواب الآخرة، ولما ثبتوا للطعان والضراب ولا تذعروا
بدعارة أولاد الحجل. قال: فغضب عبد الله بن مطيع من ذلك، ثم أقبل على ابن
الحنفية فقال: يا أبا القاسم! لا يغرنك عن نفسك حائك أهل اليمن هذا وأشباهه،
فإني أعلم أنهم إن أوردوك لم يصدروك، أفليس هم قتلة أبيك وابن عمك وأخيك!
فقال ابن الحنفية: لا، بل هم أنصاري وشيعتي الذين عليهم أعتمد بعد الله تعالى.
فقال عبد الله بن مطيع: اقبل مني، إما أن تبايع هذا الرجل وإلا فأنج بنفسك من قبل
التورط ومن قبل أن تتمنى النجاة ولات حين نجاة. قال: فقال معاذ بن هانئ
لعبد الله بن مطيع: يا بن نساجة العبا! نحن نسلم لك ولصاحبك هذا، ولما نقتل
بين يديه أو نبيدكم عن آخركم؟ قال: وارتفعت أصوات القوم، فسكتهم ابن الحنفية
عن آخرهم، ثم أقبل على أصحابه فقال: أخبروني عنكم ماذا عندكم من الرأي،
فإني أكره سفك الدماء في حرم الله وحرم رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال أصحابه: الرأي
رأيك، فانظر ما هو الصواب فألقه إلينا، فإننا لن نعدوه، إن أمرتنا بقتال القوم



(1) يوم النفر: اليوم الذي ينفر فيه الناس من منى إلى مكة وهو الثالث من يوم النحر.
322
قاتلناهم، وإن أمرتنا بالكف عنهم كففنا وحمدنا الله على ذلك ورجونا الخيرة فيما
قضى الله عزو جل من ذلك وقدر.
قال: فأطرق ابن الحنفية ساعة وقال: اللهم! إن هذا الرجل قد ظلمني
وتعدى علي في إخراجه إياي من حرمك وحرم رسولك محمد صلى الله عليه وآله وسلم، اللهم! فألبسه
لباس الذل والخوف، وسلط عليه وعلى أشياعه وناصريه من (1) يسومهم سوء
العذاب، اللهم! عاقبه بخطيئته، واجعل دائرة السوء عليه بسوء نيته وجريرته،
وخذه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله، وأنزل به بأسك وغضبك الذي لا
ترده عن القوم المجرمين. قال: ثم عزم ابن الحنفية على المسير إلى الطائف هو
وأصحابه.
ذكر ما جرى بين عبد الله بن عباس
وابن الزبير في أمر محمد ابن الحنفية
قال: وبلغ ذلك عبد الله بن عباس أن ابن الحنفية يريد أن يمضي إلى
الطائف، فأقبل مغضبا حتى دخل على عبد الله بن الزبير فقال: يا هذا! والله ما
ينفعني تعجبي منك ومن ائتزازك وجرأتك على بني عبد المطلب، تخرجهم من حرم
الله وحرم رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم بالحرم وأعظم فيه نصيبا منك، أما والله إن عواقب
الظلم لترد إلى مساءة وندامة. فقال له ابن الزبير: يا بن عباس! إنه قد قتل الله
المختار الكذاب الذي كنتم تمدون أعينكم إلى نصرته لكم، فقال ابن عباس: يا بن
الزبير دع عنك المختار، فإنه قد بقيت لك عقبة تأتيك من أرض الشام، فإذا قطعتها
فأنت أنت. قال: فغضب ابن الزبير ثم قال: والله يا بن عباس ما منك أعجب بل
أعجب من نفسي! كيف أدعك تنطق بين يدي بملء فيك. قال: فتبسم ابن عباس
ثم قال: والله ما نطقت بين يدي أحد من الولاة كما نطقت بين يديك! ولقد نطقت
وأنا غلام (2) بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر الصديق فعجبوا لتوفيق الله إياي، ولقد
نطقت وأنا رجل (3) بين يدي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب
وكانوا يرونني أحق من نطق، يستمع رأيي ويقبل مشورتي، وهؤلاء الذين ذكرتهم من



(1) في ابن الأثير 2 / 690: من يسومهم الذي يسوم الناس.
(2) الأصل: غلاما.
(3) الأصل: رجلا.
323
بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خير منك ومن أبيك. قال: فازداد غضب ابن الزبير ثم قال: لقد
علمت أنك ما زلت لي ولأهل بيتي مبغضا منذ كنت، ولقد كتمتم بغضكم يا بني
هاشم أربعين (1) سنة، فقال ابن عباس: فازدد إذا بي قضبا، فو الله لا نبالي أحببتنا
أم أبغضتنا! قال له ابن الزبير: اخرج عني، لا أراك تقربني! قال ابن عباس: أنا
أزهد فيك من أن تراني عندك. قال ابن الزبير: دع عنك هذا واذهب إلى عمك هذا
فقل ليخرج عن جواري ولا يتربص، فإني ما أظنه سالما مني أو يصيبه مني ظفر.
قال ابن عباس: ما ولوعك بابن عمي وما تريد منه؟ قال: أريد منه أن يبايع كما بايع
غيره! قال ابن عباس: مهلا يا بن الزبير! احذر، فإن مع اليوم غدا. قال ابن
الزبير: صدقت مع اليوم غد، وليس يجب عليك أن تكلمني في رجل ضعيف
سخيف، ليس له قدم ولا أثر محمود. قال: فتنمر ابن عباس غضبا ثم قال له: إنه
ليس على هذا صبر يا بن الزبير! والله إن أباه لأفضل من أبيك، أسرته خير من
أسرتك، وإني لفي نفسه خير منك، وبعد فرماه الله بك إن كان شرا منك في الدين
والدنيا.
قال ثم خرج ابن عباس من عند ابن الزبير مغضبا، وأقبل حتى جلس في
الحجر، واجتمع إليه قوم من أهل بيته ومواليه، فقالوا: ما شأنك يا بن عباس؟
فقال: ما شأني! أيظن ابن الزبير أني مساعده على بني عبد المطلب؟ والله إن
الموت معهم لأحب إلي من الحياة معه، أما والله! إن كان ابن الحنفية سخيفا ضعيفا
كما يقول لكانت أنملته أحب إلي من ابن الزبير وآل الزبير، فإنه والله عندي لأوفر
عقلا من ابن الزبير وأفضل من دينا وأصدق منه حياء وورعا! قال فقال له رجل من
جلسائه: يا بن عباس! إنه قد ندم على ما كان من كلامه، وهو الذي بعثنا
اعتذارا. قال ابن عباس: فليكف عن أهل بيته، فقد قال القائل " غثك خير من
سمين غيرك ". أما والله! لو فتح لي من بصري لكان لي ولابن الزبير ولبني أبيه يوم
أرونان.
ذكر ما جرى بين ابن عباس
وابن الزبير أيضا من كلام قبيح
قال: وبلغ ابن الزبير أن ابن عباس يقول فيه ما يقول: فخرج من منزله في عدة من



(1) الأصل: أربعون.
324
أصحابه حتى وقف في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إن
فيكم رجلا أعمى الله قلبه كما أعمى الله بصره، يزري على عائشة أم المؤمنين،
ويعيب طلحة والزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحل المتعة، فاجتنبوه، جنبه الله
السداد.
قال: وكان ابن عباس يومئذ حاضرا، فلما سمع ذلك وثب قائما على قدميه،
ثم قال (1): يا بن الزبير! أما ما ذكرت من أم المؤمنين عائشة، فإن أول من هتك
عنها الحجاب أنت وأبوك وخالك وقد أمرها الله عز وجل أن تقر في بيتها، فلم تفعل
فتجاوز الله عنها ورحمها، وأما أبوك وأنت وخالك طلحة وأشياعكم، فلقد لقيناكم
يوم الجمل فقاتلناكم، فإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم المؤمنين، وإن كنا كفارا
فقد كفرتم بفراركم من الزحف، وأما ذكرت للمتعة أني أحلها، فإني إنما كنت أفتيت
فيها في خلافة عثمان بن عفان وقلت: إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير لمن
اضطر إليها، حتى نهاني عنها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقال: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رخص فيها على حد الضرورة، وسمعته حين حرمها ونهى عنها
بعد ذلك، وإن الله تبارك وتعالى قد حرمها ونهى أن يرخص فيها، فما رخصت فيها
لأحد بعد ذلك إلى يومي هذا، فإنه قد كان يجب عليك أن لا تذكر المتعة فإنك إنما
ولدت من متعة، فإذا نزلت عن منبرك هذا فصر إلى أمك فسلها عن بردي
عوسجة (2)، قال: فقال له ابن الزبير: اخرج عني، لا تجاورني! فقال: نعم والله
لأخرجن خروج من يقلوك ويذمك. ثم قال ابن عباس: اللهم! إنك قادر على



(1) في مروج الذهب 3 / 98: فقال: يا بن الزبير:
قد أنصف القارة من راماها * إنا إذا ما فئة نلقاها
نرد أولاها على أخراها
... وأما قولك أم المؤمنين، فبنا سميت أم المؤمنين، وبنا ضرب عليها الحجاب.
(2) في مروج الذهب 3 / 98: أما قولك في المتعة فسل أمك تخبرك، فإن أول متعة سطح مجمرها لمجمر سطع
بين أمك وأبيك (يريد متعة الحج).
وفي موضع آخر 3 / 99 عن أسماء بنت أبي بكر: قالت لما قدمنا مع رسول الله (ص) في حجة الوداع
أمر من لم يكن معه هدي أن يحل قالت: فأحللت، فلبست ثيابي، وتطيبت وجئت حتى جلست إلى
جنب الزبير، فقال: قومي عني. فقلت: ما تخاف؟ قال: أخاف أن أثب عليك. فهذا الذي أراد ابن
عباس. وفي موضع آخر 3 / 98: فانقطع ابن الزبير، ودخل على أمه أسماء فأخبرها، فقالت:
صدق.
325
خلقك وقائم على كل نفس بما كسبت، اللهم! وإن هذا الرجل فقد أبدى لنا العداوة
والبغضاء فارمه منك بحاصب، وسلط عليه من لا يرحمه.
قال: ثم خرج ابن عباس من مكة إلى الطائف ومحمد ابن الحنفية في
أصحابه، وجعل ابن عباس يقول بمن معه: أيها الناس! إن الله عز وجل قد حرم
هذا الحرم منذ خلق السماوات والأرض وهؤلاء القوم قد أحلوه، ولكن انظروا متى
يقصمهم الله ويغير ما بهم. قال فقيل له: يا بن عباس! أتعني ابن الزبير أم
الحصين بن نمير السكوني؟ قال: بل أعني جميعهم وأعني الأمير الشامي يزيد بن
معاوية الذي بتر الله عمره وقبضه على أسوء عمله.
قال: وسار (1) القوم حتى نزلوا الطائف وأخلوا مكة لعبد الله بن الزبير. قال:
وكان عبد الله بن عباس يقوم في أهل الطائف خطيبا فيذكر ابن الزبير بالقبيح ويذكر
فعله بمحمد ابن الحنفية وسائر بني هاشم، فلم يزل كذلك إلى أن أدركته الوفاة (2)،
وتوفي بالطائف، وصلى عليه محمد ابن الحنفية ودفن هنالك فقبره بالطائف بواد يقال
له وادي وج.
قال: وأقام ابن الحنفية بالطائف لا يرى الزبير ولا يذكره إلى أن خرج إلى
اليمن، فيذكر شيعته الذين يقولون بالرجعة أنه دخل شعبا يقال له شعب رضوى في
أربعين رجلا من أصحابه فلم ير له إلى اليوم أثر (3).
ذكر ابتداء فتنة البصرة وشغب أهلها
وما كان بينهم من الحرب والعصبية
قال: أبو محمد عبد الله بن محمد البلوي حدثني أبو الحسن (4) علي بن
محمد القرشي قال حدثني عثمان بن سليم عن مجالد عن الشعبي قال: ما رأينا



(1) الأصل: ساروا.
(2) مات سنة 68 وقيل في سنة 69 وله إحدى وسبعون سنة، وقيل إنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وصلى
عليه محمد بن الحنفية، وكان قد ذهب بصره. (3) في مروج الذهب 3 / 139 مات في سنة 81 ودفن بالبقيع وصلى عليه أبان بن عثمان بن عفان، وقبض وهو
ابن 65 سنة وقيل إنه مات بالطائف، وقيل إنه مات ببلاد أيلة وقد تنوزع في موضع قبره. وانظر ما يقوله
الكيسانية في ذلك مروج الذهب 3 / 94.
(4) مر في الجزء الثاني من كتابنا: أبو الحسين.
326
بالعراق أميرا كان أعنى بأمر الرعية من مصعب بن الزبير، كان يشتد في موضع الشدة
ويلين في موضع اللين، وكان يعطي الجند في السنة عطاءين: عطاء في الشتاء،
وعطاء في الصيف.
قال: وكبر على عبد الملك بن مروان مكان عبد الله بن الزبير بالحجاز ومكان
أخيه مصعب بن الزبير بالعراقين، وكان عبد الملك يخرج في كل سنة من دمشق
حتى يأتي موضعا يقال له وادي بطنان من وادي قنسرين فيعسكر هنالك، فإذا جاء
الشتاء واشتد البرد انصرفوا جميعا، عبد الملك إلى الشام ومصعب إلى العراق (1).
قال: ثم إن مصعب بن الزبير خرج من البصرة كما كان يخرج وخلف عليها
عاملا يقال له عبد الله بن عبيد المخزومي (2) وأقبل إلى الكوفة فنزلها، وكتب
عبد الملك بن مروان إلى شيعته بالبصرة يأمرهم أن يثوروا بها وأن يأخذوا إن قدروا
على ذلك. قال: وكان أهل البصرة يومئذ إنما هم صنفين، زبيريون ومروانيون،
فتحركت شيعة بني مروان بالبصرة فهاجوا بها يأخذونها. وبلغ ذلك مصعب بن الزبير
وهو يومئذ بالكوفة فدعا برجل يقال له زحر بن قيس الجعفي، وضم إليه ألف فارس
وأمره بالمسير إلى البصرة، وأتبعه برجل يقال له قطن (3) بن عبد الله الحارثي في ألف
فارس. قال: وثارت شيعة عبد الملك بن مروان وشيعة آل الزبير، فاقتتلوا في
موضع يقال له المربد (4)، ووقعت الهزيمة على المروانيين وأخذتهم سيوف آل الزبير
حتى بلغوا بهم إلى آخر المربد، قال: وأسر رجل من شيعة آل مروان يقال له
مالك بن مسمع الجحدري (5) وكان من سادات البصرة، وفي ذلك يقول بعض شعراء
أهل البصرة حيث يقول شعرا. قال: ثم أتى بمالك بن مسمع هذا حتى وقف بين
يدي عامل البصرة عبد الله بن عبيد المخزومي خليفة مصعب بن الزبير، فلما نظر إليه
قال: عدو الله! وأنت أيضا من شيعة بني مروان ونحن لا نعلم، وقد بلغ من قدرك
ما تؤلب على آل الزبير، يا أعور العين! يا أعمى القلب! ألست الذي يقول فيك



(1) في الطبري 6 / 151 كان عبد الملك يقرب من مصعب حتى يبلغ بطنان حبيب ويخرج مصعب إلى باجميرا،
ثم تهجم التاء فيرجع كل واحد منهما إلى موضعه.
(2) في الطبري 6 / 152 عبيد الله بن عبيد الله بن معمر.
(3) عن الطبري 6 / 156 وبالأصل: " قطر ".
(4) محلة عن محال البصرة.
(5) أصيبت عين مالك بن مسمع وضجر من الحرب. ولم يرد أنه أسر لا في الطبري ولا في ابن الأثير.
327
شاعر بني تميم حيث يقول:
إذا الجهل أمسى قاعدا لم نقم له * ونضرب رأس الجهل حين يقوم
تعلم أبا غسان أنك إن تعد * تعد لك بالبيض الرقاق تميم
تقاضوك عينا مرة فقضيتها * وفي عينك الأخرى عليك خصوم
قال: ثم أمر به إلى السجن (1). قال: وهرب يومئذ كل من كان من شيعة
المروانيين (2) فاختفوا في منازلهم وندموا على حربهم وما كان منهم.
قال: وبلغ ذلك مصعب بن الزبير فدعا بإبراهيم بن الأشتر فاستخلفه على
الكوفة وأقبل مغضبا حتى دخل إلى البصرة مسرعا، ثم دعا بخليفته عبد الله بن عبيد
المخزومي فقال له: ما صنعت بالقوم الذين خرجوا عليك؟ فقال: إني قد حبست
بعضهم - أصلح الله الأمير! والباقون فإني لم أقدر عليهم، قال مصعب بن الزبير:
اعرض على الذين حبستهم حتى أراهم! قال: فعرضهم عليه.
قال: وكان أول من قدم عليه أبو حاضر الأسدي وهو الذي كان رأس البلية،
فلما نظر مصعب بن الزبير قال له (3): يا بن كذا وكذا! ذهب الناس الذين فيهم خير
عرفوا أنفسهم فأنت ما بالك لا تعرف نفسك يا بن نعجة! لئن بقيت لك لأردنك إلى
أصلك.
قال: ثم أتي برجل يقال له مرة بن محكان التميمي وكان ممن يشتم آل الزبير
ويقول فيهم القبيح، فلما نظر إليه قال: يا بن الخنا! وأنت أيضا ممن يبتدع إلى
الفتنة ويطلب زوال دولة آل الزبير! ثم قال: من ههنا؟ اضربوا عنقه! قال: فأخرج
مرة بن محكان (4) ليضرب عنقه وقد رفع صوته وهو يقول (5):



(1) كذا وفي الطبري 6 / 153 خاف ألا يجيز المصعب أمان عبيد الله فلحق مالك بثأج. فقال الفرزدق يذكر
مالكا:
ونحن نفينا مالكا عن بلاده * ونحن فقأنا عينه بالنيازك
(2) الأصل: المروانيون.
(3) انظر الطبري 6 / 155.
(4) في الطبري 6 / 155 وبعث مصعب خداش بن يزيد الأسدي في طلب من هرب من أصحاب خالد،
فأدرك مرة بن محكان فأخذه فقال مرة:
(5) الأبيات في الطبري 6 / 155.
328
بني أسد إن تقتلوني تحاربوا * تميما إذا الحرب العوان (1) اشمعلت
بني أسد هل فيكم من هوادة * فتعفون إن (2) كانت بي النعل زلت
أيمشي خداش بالبصيرة آمنا (3) * وقد نهلت منا الرماح وعلت
فلا تحسب الأعداء إن غبت عنهم * وأوديت يوما أن حربي تخلت (4)
قال فقدمه خداج بن يزيد الأسدي فضرب عنقه صبرا.
ثم أتي بعبد العزيز بن بشر التميمي، فلما وقف بين يدي مصعب بن الزبير
قال: يا بن الأقطع (5)! أليس جدك الذي سرق عنز النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتي به إليه، فإن كان
خمسة أشبار لم يقطعه، ثم أتي به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد ذلك وقد
سرق عنزا آخر فقطعه، يا بن الأقطع! إنما أنت علج، وأصل أبيك من كرمان
و هجرته إلى البحرين، أما والله! لئن بقيت لك لتعلمن غب ما فعلت يا بن الخنا.
ثم أتي بعبيد الله (6) بن أبي بكرة، فلما نظر إليه مصعب بن الزبير قال له: يا
ابن الفاعلة! أما تعرف نفسك وابن من أنت؟ إنما (7) كانت أمك أم الأحر بمنزلة كلبة
صارف بزت عليها عدة كلاب على عدة ألوان، فجاءت (8) لكل كلب بما يشبهه، أما
والله لئن بقيت لك لأردنك إلى مواليك سريعا إن شاء الله عز وجل.
قال: ثم أتي بعبد الله بن عثمان (9)، فلما نظر إليه مصعب بن الزبير قال له:
يا بقية آل ثمود! وأنت أيضا ممن يدعي الرئاسة والعروبية! والله لقد اجتمعت فيك
خصال ثلاث ما اجتمعت في أحد مثلك: واحدة أنك من ثقيف، وثقيف إنما كان
عبدا فاسقا مسفقا يسمى ثقيفا، وأخرى أن العرب قاطبة لا تعرف لكم نسبا، والثالثة



(1) عن الطبري وبالأصل: العواني.
(2) عن الطبري وبالأصل: إذ.
(3) في الطبري: تمشى خداش في الأسكة آمنا.
(4) عجزه في الطبري:
وأوريت معنا أن حربي كلت
(5) في الطبري 6 / 154 يا بن المشتور.
(6) عن الطبري 6 / 154: وابن الأثير 3 / 39 وبالأصل: بعبد الله.
(7) في الطبري 6 / 154: إنما أنت ابن كلبة تعاورها الكلاب.
(8) الطبري: فجاءت بأحمر وأسود وأصفر من كل كلب بما يشبهه.
(9) وهو عبد الله بن عثمان بن أبي وقاص.
329
أنك من أهل بيت لا يعرف لهم أصل، وأيم الله! لئن بقيت لك يا مؤنث لألحقنك
بأصلك (1)
قال: فلم يزل مصعب بن الزبير كذلك، كلما قدم إليه رجل ممن خرج
عليه، يكلمه بمثل هذا الكلام وأشباهه. قال: ثم جمعهم بأجمعهم وأمرهم بطلاق
نسائهم، فطلقوا مخافة سيفه، ثم أمر بهدم دورهم، فهدمت عن آخرها، ثم أخذ
أموالهم وتركهم فقراء.
ثم دعا بخليفته عبد الله بن عبيد المخزومي فقال له: إني راحل إلى الكوفة
لأمر لا بد منه، ولكن إن تحرك من هؤلاء القوم أحد فابعث إلي برأسه، قال: ثم
رحل إلى الكوفة فنزلها.
ذكر مسير عبد الملك بن مروان إلى العراق
ومقتل مصعب بن الزبير وابنه عيسى وإبراهيم
ابن الأشتر والحرب العظيم الذي كانت بينهم
قال: وبلغ عبد الملك بن مروان ما فعل مصعب بن الزبير بشيعته بالبصرة،
فاغتم لذلك غما شديدا، ثم إنه تهيأ للمسير إلى العراق، فدعا بسلاحه الذي يلبسه
فوضعه بين يديه، ثم دعا بكرسي فجلس عليه، وأقبلت إليه امرأته عاتكة بنت
يزيد بن معاوية ومعها جوار لها حتى وقفت بين يديه، فقالت: يا أمير المؤمنين!
أنشدك الله إن غزوت آل الزبير في هذه السنة، فقد علمت أنهم أشأم أهل بيت في
قريش، فقال عبد الملك بن مروان: يا عاتكة! إنه قتل شيعتي بالبصرة، وأذلوا
وطلقت نساؤهم وخربت دورهم وأخذت أموالهم، وقد أزمعت على المسير فلا بد لي
من ذلك، فإما أن يبيدوني أو أبيدهم. قال: فبكت عاتكة وتبسم عبد الملك بن
مروان، وجعل يتمثل بقول كثير حيث يقول:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه * حصان عليها نظم (2) در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه * بكت فبكى (3) مما عناها قطينها



(1) في الطبري 6 / 155 فقال: أعلي تكثر وأنت علج من أهل هجر، لحق أبوك بالطائف وهم يضمون من
تأشب إليهم يتعززون به أما والله لأردنك إلى أصلك.
(2) في ابن الأثير 3 / 51 عقد.
(3) في ابن الأثير: وبكى.
330
ثم دعا عبد الملك بن مروان بأخيه أبان بن مروان فاستخلفه على الشام،
فخرج يريد العراق ومعه ثلاثة وستون ألفا من أهل الشام وأهل مصر فسار حتى صار
إلى قرقيسياء.
ذكر زفر بن الحارث الطائي وعبد الملك
ابن مروان ونزوله عليه ومحاربته له
قال: وكان بقرقيسياء يومئذ رجل يقال له زفر بن الحارث الكلابي، وكان زفر
ممن يتوالى آل الزبير ويقول بفضلهم وقد كان قاتل مروان بن الحكم مع الضحاك بن
قيس يوم مرج راهط، وهو الذي يقول هذه الأبيات (1):
أريني سلاحي يا أمام فإنني (2) * أرى الحرب لا تزداد (3) إلا تماديا
أتاني عن مروان بالغيب أنه * يريد دمي أو قاطع من لسانيا
وفي العيش منجاة وفي الأرض مهرب * إذا نحن رفعنا لهن المثانيا
أتذهب كلب لم تنلها رماحنا * وتترك قتلى راهط هي ما هيا
أيذهب (4) يوم واحد أسأته * بصالح أيامي وحسن بلائيا
فلا نوم (5) حتى تنحط الخيل بالقنا * وللقوم عندي وقعة هي ما هيا (6)
قال: فلما نزل عبد الملك بن مروان بقرقيسياء أقبل على أصحابه فقال:
والله! إني لأكره أن أخلف هذا الرجل ورائي وأسير إلى غيره وقد علمت أنه ممن
يبغضنا ويتوالى آل الزبير. ثم أرسل إليه عبد الملك بن مروان يدعوه إلى طاعته،
فأبي عليه زفر بن الحارث وخاف منه خوفا شديدا ولم يخرج إليه. قال: فأمر
عبد الملك بن مروان بالمجانيق فركبت ثم نصبت على حصن قرقيسياء، وجعل القوم



(1) الأبيات في الطبري 5 / 541 مروج الذهب 3 / 105 ابن الأثير حوادث سنة 64، الأغاني 17 / 112
(ساسي) شرح ديوان الحماسة التبريزي 1 / 153.
(2) في المصادر: لا أبا لك.
(3) عن المصادر وبالأصل: يزداد.
(4) عن المصادر، وبالأصل: ويذهب.
(5) في الطبري وابن الأثير: فلا صلح.
(6) العجز في المصادر:
وتثأر من نسوان كلب نسائيا.
331
يرمون الحصن بالحجارة رميا متداركا، وجعل رجل من أهل الشام يقول في ذلك:
كيف ترى قيسا يرى قيسا * حمقا يرى ذاك بها أم كيسا
نقذف فيها زفرا وأوسا * بكل خطار يميس ميسا
قال: فكان الذي يرمي بهذه المجانيق رجل يقال له حسان (1) بن بحدل، وقد
ذكره زفر بن الحارث في قصيدة له حيث يقول:
لقد تركتني منجنيق ابن بحدل * أخاف من (2) العصفور حين يطير
ملحا علي بالحجارة دائبا * لأني وقور والكريم وقور
فلما رأي زفر بن الحارث أن عبد الملك بن مروان قد ألح عليه برمي الحجارة
كأنه اتقى على نفسه وعلى أهله وماله: فاستجدى وخضع وذل وطلب الأمان، فأعطاه
عبد الملك بن مروان ذلك (3)، فخرج إليه زفر بن الحارث فأمنه عبد الملك بن مروان
وخلع عليه وسار من قرقيسياء (4) يريد العراق، فعبر الفرات وشق البلاد حتى خرج
إلى أرض الجزيرة، ثم سار حتى نزل مدينة الموصل وأنشأ شاعر له (5) يقول في ذلك
أبياتا مطلعها:
لعمري لقد أصحرت خيلنا * بأكناف دجلة للمصعب
إلى آخرها.
ثم سار عبد الملك بن مروان من الموصل يريد العراق، وبلغ ذلك مصعب بن
الزبير فعزم على محاربته، فخرج من الكوفة حتى عسكر على عشرة فراسخ منها لكي
يتلاحق به الناس، فإذا قد خذله عامة أصحابه، فاغتم لذلك غما شديدا، ثم دعا
بعبد الله بن أبي فروة مولى عثمان فقال له: ويحك! ما ترى؟ قال! أرى الناس قد
خذلوك، فاستخلف على عملك رجلا من أصحابك وشد رواحلك والحق بأمير
المؤمنين بالحجاز فكن معه هنالك، فقال مصعب بن الزبير: إني لأكره أن تتحدث



(1) في ابن الأثير 3 / 59: حريث.
(2) في ابن الأثير 3 / 60 " أحيد عن ".
(3) استقر الصلح بينهما على أمان الجمع ووضع الدماء والأموال وأن لا يبايع زمر عبد الملك حتى يموت
عبد الله بن الزبير للبيعة له في عنقه وأن يعطى مالا يقسمه في أصحابه (ابن الأثير 3 / 61).
(4) قرقيساء مدينة من مدن الجزيرة فوق مصب الخابور الأكبر في الفرات.
(5) هو عدي بن زيد بن عدي كما في الأخبار الطوال ص 311 والأبيات في الطبري 7 / 151 والأغاني
9 / 305.
332
العرب عني بذلك أني ركعت أو رجعت عما أريد أن أصنع، ولكن هل لك أن تسير
معي؟ فقال: لا والله أصلح الله الأمير؟ ما يتهيأ لي ذلك فلا تجشمني من الأمر ما لا
أطيقه.
قال: وجعل مصعب بن الزبير ينظر إلى أصحابه ويستقل هم، ثم دعا بفرسه
فركبه وركب الناس معه، ثم التفت إلى عروة بن المغيرة بن شعبة فقال: ويحك يا
عروة! حدثني عن الحسين بن علي كيف صنع في حرب عبيد الله بن زياد؟ قال:
فجعل عروة بن المغيرة يحدثه عن الحسين بن علي رضي الله عنهم وكيف قتل. قال:
مصعب بن الزبير: فلنا أسوة بأبي عبد الله الحسين، قال: فضرب مصعب بن الزبير
بسوطه على قربوص الفرس متمثلا بهذا البيت وهو يقول:
إن الألى بالطف (1) من آل هاشم * تأسوا فسنوا (2) للكرام التاسيا
قال: وسار مصعب بن الزبير في أصحابه، وسار إليه عبد الملك بن مروان
حتى وافاه بموضع يقال له دير الجاثليق، فعبي عبد الملك بن مروان أصحابه
هنالك.
ذكر الوقعة بدير الجاثليق
قال: فعبي عبد الملك بن مروان أصحابه، فكان على ميمنته عبد الله بن
يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد بن معاوية، وفي القلب محمد بن
مروان أخو عبد الملك. وعبى مصعب بن الزبير أصحابه، فكان على ميمنته
حمزة بن يزيد العتكي، وعلى ميسرته عبد الله بن أوس الجعفي، وفي القلب
إبراهيم بن الأشتر. ودنا القوم بعضهم من بعض، فتراموا بالسهام ساعة ثم اختلطوا
واشتبك الحرب بينهم، فجعل إبراهيم بن الأشتر يقاتل بين يدي مصعب بن الزبير
قتالا لم يسمع الناس بمثله، حتى قتل من أهل الشام جماعة. قال: وأحدق به
الخيل من كل جانب فطعنوه حتى صرعوه عن فرسه، ثم اجتمعت عليه السيوف
فوقعت به نيف على ثلاثين ضربة (3)، ثم برد ثم احتز رأسه - رضي الله عنه - فأتي به



(1) عن الطبري 6 / 156 والأخبار الطوال ص 311 وابن الأثير 3 / 53 وبالأصل: إن الأولى باللطف.
(2) عن الطبري وبالأصل: فنسبق.
(3) قتله عبيدة بن ميسرة مولى بني عذرة (ابن الأثير) وفي مروج الذهب: مولى بني يشكر. قال: وقد تنوزع.
في أخذ رأسه فزعم أن ثابت بن يزيد مولى الحصين بن نمير الكندي هو الذي أخذه، وقيل: عبيد بن
ميسرة.
333
إلى عبد الملك بن مروان، فوضعه بين يديه، فأنشأ بعض أهل الكوفة (1) يقول في
ذلك:
سأبكي ولو لم تبك فرسان مذحج * على فارس ما زال في الحرب مجلبا (2)
فتى لم يكن في إمرة (3) الحرب جاهلا * ولا بمطيع في الوغى من تهيبا
أمان بجوال العنان لجامه * وقال لمن خفت ركائبه اركبا
أبان أنوف الحي قحطان قبله * وأنف نزار قد أبان فأوعبا
فمن كان (4) أمسى خائنا لأميره * فما خان إبراهيم في الحرب مصعبا
قال: فلما قتل إبراهيم بن الأشتر رضي الله عنه تضعضع ركن مصعب بن
الزبير، فالتفت إلى قطن (5) بن عبد الله الحارثي فقال له: أبا عثمان! قدم خيلك
يرحمك الله! فقال: ما أرى ذلك صوابا، قال مصعب بن الزبير: ولم ذلك؟
فقال: إني أخاف أن تسفك دماء مذحج في غير شيء، لأن القوم كثير، قال:
فالتفت مصعب بن الزبير إلى محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني فقال
له: أبا عبد الرحمن! لو قدمت رأيتك قليلا نحو أهل الشام! قال: ما رأيت أحدا
فعل ذلك فأفعله أنا. قال: فعندها قال مصعب بن الزبير: وإبراهيماه! ولا إبراهيم
لي اليوم! رضي الله عنك يا إبراهيم يا بن الأشتر.
قال: فصاح به محمد بن مروان: يا معصب! يا بن الزبير! لك الأمان على
ما حدثت، وقد آمنك أمير المؤمنين على ما كان منك، فلا تقتل نفسك. قال:
مصعب بن الزبير: أمير المؤمنين بالحجاز - يعني أخاه عبد الله بن الزبير -. قال:
ورمي مصعب بن الزبير بالسهام حتى أثخن بالجراحات فكاد أن يسقط عن فرسه.
قال: وجعل ابنه يقاتل بين يديه قتالا شديدا، فصاح به محمد بن مروان، إن كان



(1) هو عبيد الله بن الزبير، والأبيات في ابن الأثير 3 / 57.
(2) البيت في ابن الأثير:
سأبكي ولو لم تبك فرسان مذحج * على فارس ما زال في الحرب مجلبا
(3) في ابن الأثير: مرة.
(4) في ابن الأثير: فمن يك.
(5) بالأصل: قطر، وقد مر.
334
أبوك قد أبى أن يستأمن فهلم أنت إلينا فأنت آمن! فقال له أبوه: إن بني عمك قد
آمنوك فصر إليهم فإني مقتول، فقال عيسى: لا والله! لا تحدث عني نساء قريش
بهذا أبدا. قال: ثم جعل عيسى يقاتل بين يديه حتى قتل، فنزلوا إليه فاحترزوا رأسه
وأتوا إلى عبد الملك بن مروان حتى وضعوه بين يديه.
قال: وبقي مصعب بن الزبير لا يقدر أن يحرك يدا ولا رجلا من كثرة
الجراحات، فحمل عليه عبيد الله بن زياد (1) بن ظبيان التميمي فطعنه طعنة نكسه عن
فرسه، ثم جال في ميدان الحرب وهو يقول:
نحن قتلنا مصعبا وعيسى * وكم قتلنا قبله رئيسا
قرما شجاعا بطلا نفيسا * به يؤوس مصرنا تأسيسا (2)
قال: ثم نزل رجل من أهل الشام إلى مصعب بن الزبير فاحتز رأسه وجاء به
إلى عبد الملك بن مروان فوضعه بين يديه، وأنشأ بعض أهل الكوفة (3) في ذلك
يقول:
لقد أورث (4) المصرين حزنا (5) وذلة * قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما جاهدت في الله (6) بكر بن وائل * ولا صبرت يوم اللقاء تميم
لعمري لقد ضاع الزمان ولم يكن (7) * بها مضري يوم ذاك كريم
جزى الله كوفانا هناك ملامة * وبصري هم إن المليم مليم



(1) عن الطبري 6 / 159 وبالأصل: " عبد الله بن يزيد " وفي الأخبار الطوال ص 313 عبد الله بن ظبيان.
وما ورد في الطبري أن زائدة بن قدامة طعنه وأن عبيد الله بن زياد بن ظبيان احتز رأسه. وانظر ابن
الأثير 3 / 54 وفي الإمامة والسياسة 2 / 37 أن غلاما لعبيد الله بن زياد بن ظبيان ضرب مصعبا بالسيف فقتله
وأن عبيد الله جاء برأسه إلى عبد الملك.
(2) في ابن الأثير 3 / 54 مكانها:
نعاطي الملوك الحق ما قسطوا لنا * وليس علينا قتلهم بمحرم
(3) هو عبد الله بن قيس الرقيات كما في مروج الذهب 3 / 130 والأخبار الطوال ص 313. والطبري
6 / 161.
(4) في الأخبار الطوال: ورد.
(5) في مروج الذهب والطبري: خزيا، وفي الأخبار الطوال: خزي.
(6) الطبري ومروج الذهب: فما نصحت الله.
(7) الطبري صدره فيه: ولكنه ضاع الذمام ولم يكن.
335
قال: ثم أمر عبد الملك بن مروان برأس مصعب بن الزبير ورأس ابنه عيسى
ورأس إبراهيم بن الأشتر، فحملت على رؤوس الرماح فطافوا بها في أجناد أهل
الشام، فأنشأ حماد بن أبي ليلى يقول في ذلك:
إن الرزية يوم مس‍ * كن والمصيبة والفجيعة
بابن الحواري الذي * لم يخطه يوم الوقيعة
غدرت به مضر العرا * ق وأمكنت منه ربيعه
فأصبت ثأرك يا ربي‍ * ع وكنت سامعة مطيعه
يا لهفتي بالدير لو * كانت له بالدير شيعه
أو لم يخونوا عهده * أهل العراق بني اللكيعه (1)
قال: ثم سار عبد الملك بن مروان حتى قدم الكوفة وقد انهزم (2) الناس بين
يديه، فدخل إلى قصر الإمارة ونادى في الناس فأعطاهم الأمان، ثم دعاهم إلى
بيعته، فصاروا إليه طائعين غير مكرهين.
ذكر الكلام الشعبي (1) بين يدي
عبد الملك بن مروان
قال: والشعبي (4) يومئذ جالس في مجلسه بين يديه، فقال: يا أمير
المؤمنين! ما رأيت شيئا هو أعجب من هذه الأمور، قال عبد الملك بن مروان:
وما ذاك يا شعبي؟ قال: دخلت هذا القصر فرأيت عبيد الله بن زياد في موضعك هذا
قاعدا ورأس الحسين بن علي بين يديه، ثم دخلت بعد ذلك فرأيت المختار بن أبي
عبيد قاعدا في موضعك هذا ورأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم دخلت بعد ذلك
فرأيت مصعب بن الزبير قاعدا في موضعك هذا ورأس المختار بن أبي عبيد بين
يديه، وقد دخلت الآن فرأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك! قال (5): فقال عبد
الملك بن مروان: صدقت يا شعبي! ولله عز وجل في أمره تدبير.



(1) عن معجم البلدان، وبالأصل: الوكيعة.
(2) الأصل: انهزموا.
(3) هو عامر بن شراحيل الشعبي الحميري.
(4) الخبر في مروج الذهب 3 / 131 عن أبي مسلم النخعي.
(5) في مروج الذهب: قال: فوثب عبد الملك بن مروان، وأمر بهدم الطاق الذي على المجلس.
336
قال: ثم وثب عبد الملك بن مروان قائما ودعا بدابته، فركب وخرج من
القصر حتى صار إلى الموضع يقال له النخيلة (1) فنزلها، وعرضت عليه قبائل العرب
هنالك، ففرض لكل قوم من المال على أقدارهم.
ذكر مسير الحجاج بن يوسف الثقفي
عليه ما يستحقه إلى الحجاز
ومقتل عبد الله بن الزبير
ثم جمع عبد الملك بن مروان وجوه العرب إليه وقال: أيها الناس! إني راحل
إلى الشام ولا بد لي من ذلك، ولكن هل من رجل جلد البجرة يكفيني أمر عبد الله بن
الزبير! قال: فأقصر الناس عن ذلك ولم يجبه أحد بشيء.
وأقبل الحجاج بن يوسف إلى يزيد بن أبي بشر السكسكي - وهو صاحب شرطة
عبد الملك بن مروان - فقال: أيها الأمير! إني قد رأيت البارحة في منامي رؤيا
عجيبة كأني قد أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته حتى أخرجته من جلده، فإن رأيت
أن تخبر أمير المؤمنين بذلك. قال فقال له يزيد بن أبي بشر: أنت غلام أحمق
وتحتاج أن تؤدب، فقال له الحجاج: إن أنت أعلمت أمير المؤمنين بذلك وإلا أنا
احتال في إعلامه وألزمتك الملامة من قبله. قال: فأقبل يزيد بن أبي بشر حتى دخل
على عبد الملك بن مروان فقال: يا أمير المؤمنين! إن هذا الغلام الثقفي الذي معنا
الحجاج بن يوسف بن الحكم يذكر أنه رأى في منامه كذا وكذا، وقد رأيت له همة
فأحببت أن أخبر أمير المؤمنين بذلك، فقال عبد الملك بن مروان: علي به! فأتي
بالحجاج، فلما أدخل إليه قال: ما الذي رأيت؟ قال: يا أمير المؤمنين! رأيت
عبد الله بن الزبير كأني أخذته وسلخته حتى أخرجته من جلده، قال عبد الملك بن
مروان: وهل فيك من خير؟ قال: نعم حيث أحببت يا أمير المؤمنين! قال عبد
الملك بن مروان: فإني قد دعوت لها غيرك فأبى، وأرجو أن تكون عند ما تقول.
قال: ثم دعا عبد الملك بن مروان بالخلع فخلعها عليه وحمله (2)، وضم إليه



(1) بالأصل: " النخلة " والنخيلة موضع قرب الكوفة على سمت الشام.
(2) في تولية الحجاج حرب عبد الله بن الزبير قرار اتخذه عبد الملك لم يكن كما ذكر بسبب منام رآه الحجاج،
ونرى أن الأمر يتجاوز ذلك وأن هناك أسبابا جوهرية حتمت على عبد الملك اتخاذ هذا القرار منها:
أن عبد الملك انتدب الناس لقتال ابن الزبير - بعد مقتل مصعب - فأقصر الناس عن ذلك ولم يجبه
أحد.
ولعل فيما أورد الدينوري ما يجيب على ذلك: فإنه انتدب قدامة بن مظعون ثم عزله فورا. وانتدب
الحجاج وهذا يدل على عدم ثقته بالعساكر المنتدبة وبابن مظعون نفسه.
- المهارة التي أظهرها الحجاج في قيادة مؤخرة الجيش في معارك العراق.
- تلهف الحجاج لقتال ابن الزبير، ربما للثأر لمقتل والده، وقد قيل إنه قتل في الربذة في معركة بين
جنود ابن الزبير والحملة التي أرسلها عبد الملك سنة 65. حتى أنه أقسم أنه لا يقرب الطيب ولا النساء
إلا إذا قتل ابن الزبير.
(1) في تاريخ اليعقوبي في 20 ألفا وقيل في ستة آلاف. وفي ابن الأثير: ألفين وقيل ثلاثة آلاف.
(2) أقام الحجاج في الطائف شهورا (مروج الذهب) وفي الأخبار الطوال أنه بعد أن أقام شهرا بالطائف كتب
إلى عبد الملك: " إنك يا أمير المؤمنين متى تدع ابن الزبير يعمل فكره، ويستجيش أنصاره، وتتوب إليه
فلا له كان في ذلك قوة له، فائذن في معاجلته " فأذن له.
وكان عبد الملك يرسل إلى الحجاج الجيوش رسلا حتى توافي الناس عنده قدر ما يظن أنه يقدر على قتال
عبد الله بن الزبير (الإمامة والسياسة).
337
ستة آلاف رجل: ألفين من أهل الشام، وألفين من أهل مصر، وألفين من فرض
العراق (1). ثم قال: يا حجاج! انظر أن لا تطأ الحرم بالخيل والجنود، ولكن انزل
حيث شئت من أرض الحجاز، وامنع ابن الزبير الميرة، وخذ عليه الطرق واستعمل
فيه الحصار إلى أن يأتيك رأيي! قال الحجاج: أفعل ذلك يا أمير المؤمنين.
قال: فلما خرج الحجاج من عند عبد الملك بن مروان وثب ابن الأسود
النخعي فقال: يا أمير المؤمنين! إنك قد أمرت هذا الغلام الثقفي بالمسير إلى مكة
فأمره أن لا يهتك أستارها، ولا ينفر أطيارها، وليأخذ على ابن الزبير شعابها وجبالها
وأنقابها، حتى يموت فيها جوعا أو يخرج عنها مخلوعا. قال عبد الملك بن مروان:
إننا قد أوصيناه بذلك ولن يتعد أمرنا إن شاء الله.
قال: ثم رحل عبد الملك بن مروان إلى الشام ورحل الحجاج نحو مكة، غير
أنه أقبل حتى نزل الطائف وبها يومئذ محمد ابن الحنفية، فأرسل إليه الحجاج يدعوه
إلى المشاورة في أمر عبد الله بن الزبير، فلم يأته ابن الحنفية ولا أشار عليه بشيء،
فأمسك عنه الحجاج ولم يؤذه.
ثم كتب إلى عبد الملك بن مروان يعلمه بنزوله الطائف وأن عبد الله بن الزبير
قد جمع جموعا كثيرة، ثم سأله الحجاج المدد، فأمده عبد الملك بن مروان بستة
آلاف أخر، منهم أربعة آلاف من أهل الشام وألفا رجل من أهل مصر، فأما أهل
مصر فأقبلوا في البحر، وأقبل أهل الشام على البر. قال: فقدمت العساكر على
الحجاج وهو بموضع يقال له الهدة بين مكة والطائف (2).

338
قال: فعندها قام الحجاج فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا
أعوان الحق! إن الله تبارك وتعالى قد أعزكم بالطاعة، وخصكم بها دون غيركم،
وقد علمتم ما عليه عبد الله بن الزبير بن شق العصا والخلاف على أمير المؤمنين،
وقد ألحق في الحرم وسفك فيه الدم، ونحن سائرون إليه غدا إن شاء الله ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم.
قال: فلما كان الغد نادى الحجاج في الناس بالرحيل نحو مكة وذلك يوم
الثلاثاء، وأقبل حتى نزل بالأبطح (1). وبلغ ذلك عبد الله بن الزبير، فخرج إليه في
أهل مكة وغيرهم ممن بايعه قبل ذلك، ودنا القوم بعضهم من بعض، فاقتتلوا
يومهم، فلما أمسوا انصرف الحجاج إلى بئر ميمون بن سعيد الحضرمي فنزل
هنالك، وانصرف عنه عبد الله بن الزبير. فلما كان من الغد زحف (2) القوم بعضهم
إلى بعض فاقتتلوا، ودام الحرب بينهم أياما كثيرة.
وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فكتب إلى الحجاج: أما بعد فقد بلغني ما
كان من محاربتك لعبد الله بن الزبير، فإذا ورد عليك كتابي هذا فابعث إليه واسأله
الدخول في طاعتي وأعطه الأمان، فإن هو قبل ذلك فاحمله إلي مكرما، وإن أبى
فجد في حربه، ولا تقصرن فيما كتبت به إليك - والسلام -.
فلما ورد كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج وقرأه بعث به إلى عبد الله بن
الزبير، قال: فقرأ عبد الله بن الزبير كتاب عبد الملك بن مروان، فأقبل حتى دخل
على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فأخبر بما كتب به عبد
الملك بن مروان إلى الحجاج، فقالت له أمه: يا بني! إنك قد ناديت القوم بالمنافرة
وأسرعت لهم المدافعة، وغير هذا كان أخصب جنابا لعيشك، فأما إذ كنت لا تريد
أن تكون ذنبا لبني أمية فاجعل الثقة بالله حشو قلبك ولا تحتجرن على بغي يوبقك
مصدره - والسلام -. قال: فقال عبد الله: أحسنت يا أماه! وفقك الله وسددك، فقد



(1) الأبطح بين مكة ومنى، المسافة منه إليهما واحدة.
(2) الأصل: زحفوا.
339
قدحت عن شعل الحزم لما جعل الله عندك من وفور البصيرة، أما إنهم لو كانوا
يطلبون مني ما يطلبون لإصلاح الأمة وتثبيت الألفة إذا لأجبتهم إلى ما يريدون ولو كان
فيه موتي وفرجي وذهاب نفسي، ولكني رأيتهم قد شنوا علي مغار التعدي وسعوا إلي
في سنن الظلم والعدوان، وفي موادعتي إياهم ذم العرب وعار الأبد، ولكني أقاتلهم
في الله محتسبا، فإن أبلغ بقتالي إياهم ظفرا فذاك الذي أريد، فإنما طلبت العدل
للرعية، وإن تؤخرني الأسباب فلا أكون صريع الارتياب.
قال: وعلم الحجاج أن ابن الزبير ليس يجيبه إلى شيء، فأمر أصحابه فتفرقوا
عليه من كل وجه: من ذي طوى، ومن أسفل مكة، ومن قبل الأبطح، فاشتد
الحصار على عبد الله بن الزبير وأصحابه، فنصبوا المجانيق (1) وجعلوا يرمون البيت
الحرام بالحجارة، وهم يرتجزون بالأشعار (2). قال: وجعلت الحجارة لا تهد لكنها
تقع في المسجد الحرام كالمطر، وكان (3) رماة المنجنيق إذا هم ونوا وسكتوا ساعة
فلم يرموا يبعث إليهم الحجاج فيشتمهم ويتهددهم بالقتل، فأنشأ بعضهم يقول في
ذلك أبياتا مطلعها:
لعمر أبي الحجاج لو خفت ما أرى * من الأمر ما أمست تعذلني نفسي
إلى آخرها. قال: فلم يزل الحجاج وأصحابه يرمون بيت الله الحرام
بالحجارة حتى انصدع الحائط الذي على بئر زمزم عن آخره. قال: وانتقضت الكعبة
من جوانبها. قال: ثم أمرهم الحجاج فرموا بكيزان النفط والنار، حتى احترقت
الستارات كلها فصارت رمادا، والحجاج واقف ينظر في ذلك كيف تحترق
الستارات، وهو يرتجز ويقول:
أما تراها ساطعا غبارها * والله فيما يزعمون جارها
فقد وهت وصدعت أحجارها * ونفرت منها معا أطيارها
وحان من كعبته دمارها * وحرقت منها معا أستارها
لما علاها نفطها ونارها



(1) الأصل: المناجنيق.
(2) وكان الحجاج استعمل على المنجنيق ابن خزيمة الخثعمي فجعل يرمي أهل المسجد ويقول:
خطارة مثل الفنيق الملبد * نرمي بها عواذ أهل المسجد
(3) بالأصل: كانوا.
340
قال: فلما نظر عبد الله بن الزبير إلى ما نزل ببيت الله الحرام خرج إلى القوم
في أصحابه، فجعل يقاتل حتى قتل من القوم جماعة، ثم حمل عليه أصحاب
الحجاج حتى ألجأوه إلى المسجد الحرام، وأمر الحجاج فأخذت الأبواب على
عبد الله بن الزبير.
قال: فعندها التفت عبد الله بن الزبير إلى أصحابه وهم أقل من ثلاثمائة رجل
فقال: من منكم يكره الموت فليلحق بالقوم وهو في حل من بيعتي! فقال له
عبد الله بن مطيع العدوي: لا والله ما كنت أفعل ذلك ولم يتحدث العرب عني بهذا
أبدا فقال له عبد الله بن الزبير: وصلتك رحم يا بن أخ. قال: ثم أقبل عليه
عبد الله بن عمير الليثي فقال: يا بن حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! لا والله! لا كان ذلك
أبدا.
قال: فعندها خرج عبد الله بن الزبير إلى القوم فجعل يحمل عليهم، فقتل
الواحد بعد الواحد قتل منهم جماعة، وقتل من أصحابه أيضا كذلك. قال: وجعل
عبيد الله بن مطيع يكر على أصحاب حجاج وهو يرتجز ويقول:
أنا الذي فررت يوم الحرة * والألح لا يهرب (1) إلا مرة
ما أحسن الكرة بعد الفرة * وأقبح الفرة بعد الكرة (2)
قال: فلم يزل القوم على ذلك حتى أمسوا، وأمر الحجاج أصحابه أن لا يزالوا
عن أبواب المسجد وأن يحرسوا عبد الله بن الزبير لكيلا يهرب. قال: وجعل
عبد الله بن الزبير يطوف ليلته تلك بالبيت الحرام، وأخوه عروة يطوف معه وهو
يقول: يا أمير المؤمنين! أنشدك الله في نفسك أن تتلفها، فقد قضيت ما عليك،
وقد قاتلت حتى أبليت عذارا. قال: وعبد الله بن الزبير ساكت (3) لا يجيبه بشيء،
حتى إذا أسفر الصبح تقدم إلى المقام فأذن وصلى بمن بقي معه من أصحابه فقرأ بهم
الركعة الأولى بأم الكتاب وسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بأم الكتاب وسورة
الإخلاص (4).
فلما انفتل من صلاته وثب فخرج من باب المسجد مناوشا لأصحاب الحجاج



(1) في ابن الأثير 3 / 72: والحر لا يفر.
(2) في ابن الأثير: واليوم أجزي فرة بكره.
(3) الأصل: ساكتا.
(4) في الطبري 6 / 191 وأقام المؤذن فصلى بأصحابه، فقرأ (ن والقلم) حرفا حرفا ثم سلم.
341
حتى دخل على امرأتيه فودعهم، ثم خرج من عندهم يريد إلى أمه ليودعها، فإذا بها
قد استقبلته ومعها درج فيه حنوط وطيب وكافور، فلما نظر إليها دنا فقبل بين عينيها،
ثم بكى إليها وعزاها وصبرها، فقالت له: يا بني! اجمع عليك ثيابك، واشدد
عليك إزارك وأعقد تكتك إلى ورائك، ولا تجمع على نفسك أمرين، الظفر بدمك
والجدل بجزعك، ولكن عليك بالصبر، فإنه من شيم آبائك. قال: فتبسم
عبد الله بن الزبير ثم قال: الحمد لله الذي وهب لك يا أماه بجميل الصبر ما أرى
أنهم يقتلونني فيما قد شحنت صدورهم خنقا وتركت جموعهم فرقا (1).
قال: ثم ودعها وأقبل إلى المسجد الحرام، فإذا القوم قد استقبلوه بالسيوف والرماح،
فحمل عليهم حملة فكشفهم، ثم دخل المسجد الحرام واجتمع (2) إليه أصحابه، ودخل (2)
إليه أصحاب الحجاج من جميع أبواب المسجد، فلم يزل يقاتلهم حتى بقي في
سبعين رجلا، ثم قاتلهم حتى بقي في ثلاثين رجلا (3). قال: وتكاثروا عليه من كل
جانب، واعتوره رجلان من أهل الشام، فضربه أحدهما بسيفه فأوهنه، وضربه
الآخر على رأسه فسقط، وتكاثرت عليه السيوف حتى قتل (4). قال: وكبر أصحاب
الحجاج بقتله، فسمعت أمه التكبير فقالت: قتل والله ابني عبد الله! فإنا لله وإنا إليه
راجعون، فقد أحسن ابني حين لم يعط بيده ولم يبع القوم دينه. قال: وحمل
أصحاب الحجاج على من بقي من أصحاب عبد الله بن الزبير، فقتلوا عن آخرهم
في المسجد الحرام، ثم جزوا بأرجلهم حتى أخرجوا عن المسجد سحبا، وأمر
بعبد الله بن الزبير فصلب منكسا وأمر برأسه فحمل إلى عبد الملك بن مروان، وكتب
إليه يخبره بالخبر على جهته.
قال أهل العلم: فكان مقتل عبد الله بن الزبير يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة
خلت من جمادى الأولى (5) سنة ثلاث و [سبعين، وله نيف و -] سبعون سنة (6) -



(1) انظر مقابلته لأمه وما جرى بينهما من حديث الطبري 6 / 188 ومروج الذهب 3 / 136 والإمامة والسياسة
2 / 39.
(2) الأصل: واجتمعوا... ودخلوا...
(3) الأصل: رجل.
(4) في ابن الأثير 3 / 73 قتله رجل من مراد.
(5) في الطبري يوم الثلاثاء 17 جمادى الأولى وفي الأخبار الطوال وتاريخ خليفة وتاريخ الإسلام للذهبي
فكالأصل وفي ابن الأثير: يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة. وفي مروج الذهب: يوم الثلاثاء ل‍ 14 ليلة
خلت من ربيع الأول.
342
والله أعلم. وأقبل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم حتى وقف حذاء
عبد الله بن الزبير، فنظره مصلوبا منكسا فتأمله ساعة وبكى واستغفر له وقال: والله يا
ابن الزبير لئن علتك رجلاك اليوم فطال ما قمت عليها في ظل الليل بين يدي ربك،
وإني لأسمع قوما يزعمون أنك شر هذه الأمة، ولقد أفلحت أمة أنت شرها.
قال: وانصرف عبد الله بن عمر إلى منزله، وأقبلت إليه أمه في اليوم الثالث
حتى وقفت قبالته ثم بكت وقالت: اللهم! إني راضية عنه فارض عنه، ثم أقبلت
حتى دخلت على الحجاج (1) فوقف عليه ثم قالت: يا حجاج! أما آن لهذا الراكب
أن ينزل؟ فقال الحجاج: أما روحه فإلى مالك، وأما جثمانه ففي طريق البلاء.
فقالت: كذبت يا حجاج! إن الله تبارك وتعالى في ذلك أعدل من أن يجمع على
ابني سيف القاسطين وثأر الظالمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يكون في أمتي رجلان:
أفاك ومبير (2)، فأما الأفاك فصاحبك عبد الملك بن مروان، وأما المبير فأنت يا
حجاج! فقال: صدقت يا أسماء أنا مبير المنافق، فقالت: علمك شاهد عليك!
ثم ولت وهي باكية، فرق لها الحجاج وأمر بابن الزبير فنزل عن خشبته وحمل إليها،
فأمرت به فصب عليه الماء وحنط وكفن وصلي عليه ودفن.
قال: وهرب عروة بن الزبير من الحجاج فصار إلى عبد الملك بن مروان مستأمنا
إليه فآمنه وأكرمه، وبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد يا
أمير المؤمنين! فإن عامة أموال عبد الله بن الزبير عند أخيه عروة وقد التجأ إلى أمير
المؤمنين، ولست أقدر على شيء من أموال عبد الله إلى أن يوجه لي أمير المؤمنين
بعروة من الزبير - والسلام -. قال: فهم عبد الملك بن مروان أن يسلم عروة بن الزبير
إلى الحجاج (3)، ثم إنه استحيا من ذلك وتذمم أن يكون يسلم رجلا قد التجأ إليه،



(6) زيادة عن تاريخ الإسلام. وفي مروج الذهب وتاريخ اليعقوبي: وله 71 سنة. وفي تاريخ خليفة: ولد
عام الهجرة.
(1) انظر مقابلة أسماء - أم عبد الله بن الزبير - للحجاج في مروج الذهب 3 / 138 وابن الأثير 3 / 76.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه 44 كتاب فضائل الصحابة 58 باب ح 229 ص 1971 ومسند أحمد 2 / 26
وانظر مروج الذهب 3 / 138 وفيه: يخرج من ثقيف كذاب ومبير، فأما الكذاب فهو المختار، وأما المبير
فما أظنك إلا هو.
(3) في الأخبار الطوال ص 316 فقال عروة (لما أمر عبد الملك أحد حراسه: انطلق بعروة إلى الحجاج): يا
بني مروان: ما ذل من قتلتموه، بل ذل من ملكتموه. فندم عبد الملك، وخلى سبيل عروة.
343
فكتب إلى الحجاج أن لا سبيل لك على عروة فإني قد أمنته على نفسه وماله وأهله
وولده فلا تعاودني في أمره بعدها - والسلام -. قال: فأمسك عنه الحجاج وجعل يتبع
أموال عبد الله بن الزبير حتى احتوى على أمواله بأجمعها.
ثم كتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بأن الكعبة قد انتقض بعضها لما
أصابها من حجارة المجانيق، وقد كنت هممت على بنائها، فلم أحب أن أقدم على
شيء من أمرها دون أن أستطلع رأي أمير المؤمنين. قال: فلما ورد كتاب الحجاج
على عبد الملك بن مروان دفع إليه ما أحب من الأموال، وكتب إلى الحجاج: إني
قد بعثت إليك بأخي عبد الله بن مروان ليكون هو الذي يتولى أمر الكعبة، فإن الكعبة
لا يبنيها ولا يتولى أمرها إلا قرشي، فإذا قدم عليك فقم معه وأعنه، وإن احتاج إلى
شيء من المال فادفع إليه، واضمم إليه جماعة من مشايخ قريش من أهل مكة ليقوموا
معه في بناء الكعبة - والسلام -. قال: وقدم عبد الله (1) بن مروان ثم إنه أمر بهدم
الجانب الذي يلي زمزم وما يليه إلى الركن اليماني، فهدم ذلك الجانب كله إلى
آخره (2)، وأخذ الناس في البناء فكانت الحجارة كلها لا يحملها إلا مشايخ قريش،
وهم الذين يبنون البيت والحجاج واقف يأمر وينهي، حتى إذا فرغ من بناء الكعبة
وغلق عليها بابها وألبست الكسوة، انصرف عبد الله بن مروان إلى الشام، وأقام
الحجاج بمكة ينتظر أمر عبد الملك بن مروان.
ذكر محمد ابن الحنفية رضي الله عنه
وعبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف
قال: وإذا كتاب عبد الملك بن مروان قد ورد على محمد ابن الحنفية: أما
بعد! فإذا أتاك كتابي وبلغك رسولي فأخرج إلى عاملي الحجاج بن يوسف فبايعه
واستقم، فإن الناس قد بايعوا واستقاموا، فإن فعلت ذلك منعت مني مالك وأهلك
وولدك، وإلا فو الذي لا إله إلا هو لئن أنت أبيت وتربصت وارتبت وقدمت رجلا
وأخرت أخرى لأسقيتك بكأس ابن الزبير ولأنزلنك بالمنزلة التي أنزلت بها نفسك -
والسلام -.



(1) بالأصل: عبيد الله.
(2) انظر الطبري 6 / 195 وابن الأثير 3 / 78 - 79 ومروج الذهب 3 / 100 - 101.
344
قال: [فكتب -] (1) إليه ابن الحنفية: أما بعد! فقد أتاني كتابك ترعد لي
وتبرق، وتذكر أن الناس قد بايعوا واستقاموا، وإنه لم يكن من شأني أن أبايع أحدا
حتى يجتمع الناس على رجل واحد، كنت أنت أم غيرك، وأيما واحد من الناس
رضوا به بايعته، وإلا فهذا مكاني حتى يحكم الله بيني وبين من أرادني بسوء وهو
أحكم الحاكمين، وأما ما ذكرت أنك تسقيني بكأس ابن الزبير إن أنا لم أستقم ولم
أبايع، فإن ذلك ليس إليك ولا بيدك، إن لله تعالى في كل يوم ثلاثمائة لمحة يحيي
ويميت، ويعز ويذل، ويرفع ويضع، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقد رجوت
أن يلحقك بعض لمحاته فيرد عني كيدك وبغيك وظلمك - والسلام (2) -.
قال: فلما ورد كتاب محمد ابن الحنفية على عبد الملك بن مروان غضب
لذلك، ثم استشار أهل الشام في قتله، فكل أشار عليه بذلك. قال: واتقى ابن
الحنفية وخشي أن يكتب إلى الحجاج فيأمره فيه بأمر، ولم يجد من البيعة لعبد
الملك بن مروان بدا، فعزم على الكتاب إليه في ذلك.
ذكر كتاب محمد ابن الحنفية
إلى عبد الملك بن مروان
قال: فدعا ابن الحنفية برجل من شيعته يكنى أبا عبد الله ويعرف بالجدلي
وكان من خيار شيعته، فكتب معه كتابا إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد! فإني لما
رأيت هذه الأمة قد اختلفت نيتها، وضيعت دينها، وسفهت أحلامها، ونبذت علم
كتاب الله ربها، وسفكت دماءها بغير حق، اعتزلتهم إلى البيت الحرام الذي من
دخله كان آمنا، لأمنع بذلك دمي من الجهال والضلال والظالمين وكل جبار عنيد لا
يؤمن بيوم الحساب، وتركت الناس أشياعا وأحزابا، كل يعمل على شاكلته، والله
يقضي بالحق ويحكم يوم القيامة بين الخلق، فيجزي الذين أساؤوا بما عملوا
ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وقد كان من رأيي ورأي من اتبعني واقتدى برأيي أن
لا يجتمع بأحد اختلف (3) الناس عليه، ولا يخالف أحدا اجتمع (4) الناس له، وقد رأينا



(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) انظر مروج الذهب 3 / 139 وفيه أن كلام ابن الحنفية هذا قاله للحجاج بن يوسف.
(3) الأصل: اختلفوا.
(4) الأصل: اجتمعوا.
345
أن قد اجتمع (1) الناس لك ونحن عصابة قليلون، وقد بعثنا إليك رسولا ليأخذ منك أمانا
وعلى الوفاء لنا بذلك عهدا وثيقا فإن أجبت إلى ذلك كنا إليك سراعا، وإن أبيت فأرض
الله واسعة، ولمن اتقى تكون العاقبة، وقد أردت بهذا الكتاب اتخاذ الحجة عليك،
وفقنا الله وإياك لمراشد الأمور - والسلام -.
قال: فمضى رسول ابن الحنفية إلى عبد الملك بن مروان، وإذا رسول
الحجاج قد أقبل إلى ابن الحنفية أن هلم فبايع! وإلا ألحقتك بمن قد علمت -
والسلام - قال: فأرسل إليه ابن الحنفية: إني كتبت إلى عبد الملك بن مروان كتابا
وأرسلت إليه رسولا ليأخذ لي منه أمانا، وإنما انتظاري لجواب الكتاب، ثم البيعة إذا
أعطاني ما سألت - والسلام. قال: فأرسل إليه الحجاج: يا بن الحنفية! وتشترط
على أمير المؤمنين الشروط! والله لتبايعن طائعا أو كارها وإلا ألحقتك بابن الزبير.
قال: فكره ابن الحنفية أن يبايع الحجاج من قبل أن يقدم إليه رسول بالأمان من عند
عبد الملك بن مروان وقال: ولج الحجاج في أمره حتى اتقاه ابن الحنفية على
نفسه (2)، وأقبل عبد الله بن عمر بن الخطاب حتى دخل على الحجاج فقال: أيها
الأمير! ما تريد من هذا الرجل؟ فوالله إنه لخير فاضل، وما أعلم في زمانه رجلا (3)
مثله ولا أزكى على الله أحدا، فكف عنه أيها الأمير! فإنه قد كتب إلى ابن عمه كتابا
وإنما ينتظر الجواب ثم يبايع. قال: فكف عنه الحجاج، وإذا بأبي عبد الله الجدلي
قد أقبل بالجواب من عبد الملك بن مروان: أما بعد! فقد قدم رسولك بكتابك،
فقرأته وفهمت ما ذكرت فيه وما نويت بذلك، وأنت لعمري عندنا البر المحمود،
فأقبل إلينا آمنا مطمئنا مأمونا حبيبا قريبا، ولك بذلك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله
محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأشد ما أخذ الله على أنبيائه ورسله من العهود والمواثيق المؤكدة الغليظة
أنك لا تهاج ولا تؤذي في سلطاننا أبدا ما بقيت أنت ولا أهلك ولا ولدك ولا أحد من



(1) الأصل: اجتعموا.
(2) في مروج الذهب 3 / 139 أن محمد ابن الحنفية كتب إلى عبد الملك:
إن الحجاج قد قدم بلدنا، وقد خفته، فأحب ألا تجعل له علي سلطانا بيد ولا لسان.
فكتب عبد الملك إلى الحجاج: إن محمد بن علي كتب إلي يستعفيني منك، وقد أخرجت يدك عنه
فلم أجعل لك عليه سلطانا بيد ولا لسان فلا تتعرض له.
(3) الأصل: رجل.
346
أصحابك شاهدا ولا غائبا، ولا يبدو لك منا شيء من المكروه، ولعمري! لئن نحن
ألجأناك إلى الذهاب في الأرض الواسعة فقد ظلمناك وجفوناك وقطعنا رحمك، وما
أنت لذلك بأهل لفضلك وإسلامك وحقك وقرابتك، فهلم إلي حين تقرأ كتابي إن
شئت ذلك إلى الرحب والسعة والأثرة وحسن المنزلة - والسلام عليك ورحمة الله
وبركاته -.
قال: وجعل عبد الملك بن مروان يقول لمن عنده: وما سبيلنا على ابن
الحنفية، فقد والله سلم وغنم، ودارت لنا رحاها واضطرب بنا أمواجها.
قال: فلما ورد كتاب عبد الملك بن مروان على ابن الحنفية وقرأه، أقبل إلى
الحجاج فبايع لعبد الملك بن مروان.
ثم تهيأ الحجاج للرحيل إلى الشام إلى عبد الملك بن مروان، واستخلف على
مكة رجلا من قبله ثم تجهز، وخرج معه ابن الحنفية، فقال الحجاج: يا بن
الحنفية! انظر إذا قدمت على أمير المؤمنين أن تثني علي بما رأيت مني! فقال:
أفعل ذلك إن شاء الله تعالى.
قال: فلما قدم الحجاج على عبد الملك بن مروان ومعه ابن الحنفية دخل
الحاجب فأعلمه بذلك، قال: فأذن عبد الملك بن مروان لمحمد ابن الحنفية قبل
الحجاج فدخل، فلما رآه عبد الملك بن مروان قال: مرحبا بك وبقرابتك وبحقك!
إلى ههنا إلى ههنا! ثم أدناه وأجلسه معه على سريره، وأقبل عليه يسأله ويحدثه
ساعة، ثم أذن للحجاج بعد ذلك فدخل، فلما نظر ابن الحنفية جالسا مع
عبد الملك بن مروان حسده على ذلك وشق عليه ما رأى من إقبال عبد الملك بن
مروان عليه، فقال: يا أمير المؤمنين! والله لقد أردت أن أضرب عنقه لو لا ما كنت
قدمت إلي فيه، فقال له ابن الحنفية: أما والله يا حجاج! فبذراعك وعدتك وباعك
وقوتك ورهطك فلا، وكان مثلك الذي يقدر على مثلي دون أن تراق الدماء،
ولكن بذراع هذا وقوته وسلطانه نلت ما نلت. فقال عبد الملك بن مروان - رحمه
الله -: صدقت! لعمري هو كما تقول يا أبا القاسم! ثم أقبل عبد الملك بن مروان
على الحجاج فقال: مهلا يا حجاج! لا تسمعن أبا القاسم بعدها سوءا فلست له
بكفء! فقال ابن الحنفية: أريد منك يا أمير المؤمنين أن ينزع عني سلطانه، فلا
يكون لمثله علي سلطان! فقال عبد الملك بن مروان: لا سلطان له ولا لأحد من

347
الناس عليك دوني، ولك في كل سنة إلى رحلة، ليس عليك فيها أميرا ولا مأمور،
ولا تسألني حاجة إلا قضيتها لك، ورأيت ذلك لك علي غنما وحقا واجبا.
قال: ثم أمر له عبد الملك بن مروان في وقته بثلاثمائة ألف درهم، فأخذها
وفرق على أصحابه منها مائة ألف درهم، ووجه بمائتي ألف إلى مكة والمدينة،
فقسمت هنالك في أهل بيته وأقر بائه وسائر أولاد المهاجرين والأنصار، ثم إنه استأذن
عبد الملك بن مروان بعد ذلك بالانصراف إلى المدينة! فإذن له في ذلك وأحسن
جائزته، ووصله أيضا بمال جزيل يزيد على مائتي ألف درهم. قال: فسار محمد
ابن الحنفية في أصحابه حتى قدم المدينة سالما مغبوطا فرحا مسرورا، فلم يزل مقيما
بها. قال: واستوت البلاد كلها لعبد الملك بن مروان.
ذكر ملك عبد الملك بن مروان وأخباره وما كان
منه بعد أن استوسقت له الأمور
قال: فلما استوسق الأمر لعبد الملك بن مروان ودان (1) له الناس بالسمع
والطاعة ولم يكن أحد يناويه، دعا برجل يقال له أمية بن عبد الله بن خالد القرشي
فعقد له عقدا وولاه بلاد خراسان (2)، ودعا بخالد بن عبد الله بن [خالد بن -] أسيد
القرشي فعقد له عقدا وولاه العراقين: البصرة والكوفة.
قال: فسار أمية بن عبد الله بن خالد حتى دخل بلاد خراسان من قبل
عبد الملك بن مروان. قال: وكان أمية بن عبد الله سخيا جوادا، وهو الذي يقول
فيه نهار بن توسعة الشاعر هذه الأبيات:
أمية يعطيك اللهي إن سألته * وإن أنت لم تسأل أمية أضعفا
ويعطيك ما أعطاك جذلان ضاحكا * إذا عبس الكز اللئيم وقفقفا
يرى الجود دوما سنه بمدامه * فلا يتبع المعروف منا ولا خفا
هنيئا مريئا جود كف ابن خالد * إذا الباخل الكفين أعطى تكلفا



(1) الأصل: دانوا.
(2) وكان ذلك سنة 74 وقد عزل عنها بكير بن وشاح.
وكان سبب تولية أمية أن أهل خراسان كتبوا إلى عبد الملك أن خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلا على
رجل من قريش لا يحسدونه ولا يتعصبون عليه. وكانت تميم اختلفت بطونها فيها.
348
قال: فدخل أمية بن عبد الله أرض خراسان وبها يومئذ رجل يقال له بكير بن
وشاح التميمي متغلبا عليها.
ذكر بكير بن وشاح التميمي وأمية بن عبد الله
ابن خالد وبحير (1) بن الورقاء
قال: فلما بلغ بكير بن وشاح قدوم أمية بن عبد الله عاملا على بلاد خراسان
ذلك عليه واتقاه على نفسه. قال: وكان في سجنه ابن عم لعبد الله بن خازم السلمي
يقال له بحير بن ورقاء، فكأنه أحب أن يصالحه ويستظهر به على أمية بن عبد الله،
فأرسل إليه أني إنما كنت حبستك على الظن والتهمة، والآن فقد أحببت صلحك
على أن يكون أمري وأمرك واحدا، وتكون أيدينا واحدة على كل من ناوانا ووافانا
وأراد زوال النعمة عنا! قال: فأبى بحير بن ورقاء أن يصالحه (2)، فأقبل ضرار بن
حصين (3) الطائي حتى دخل على بحير بن ورقاء وهو في السجن فقال له: يا هذا!
والله ما رأيت أحدا يحب أن ينسب إلى الحمق والعجز سواك، يدعوك بكير بن وشاح
إلى الصلح ويتنصل إليك من ذنبه فتأبى عليه! والله لو بعث إليك فقتلك لما انتطحت
فيك عنزان، يا هذا! صالح ابن عمك، واخرج من سجنك، وأنت على رأس
أمرك، فو الله لأنت حيا خير من أن تكون ميتا. قال: فقبل بحير بن ورقاء مشورة
الطائي وصالح بكير بن وشاح وخرج من سجنه، وأعطاه بكير بن وشاح أربعين (4)
ألف درهم، وحلفه أن لا يخونه ولا يغتاله ولا يكون في نفسه من بكير إلا الخير.
قال: وقدم أمية بن خالد بن عبد الله خراسان فنزل مدينة مرو، ثم إنه جعل
بكير بن وشاح خليفته وصاحب أمره (5)، وجعل بحير بن ورقاء على شرطته. ثم
خرج غاديا حتى بلغ تخوم الترك (6) فقاتل وقتل وغنم، ثم إنه انصرف راجعا وبكير بن



(1) عن الطبري 6 / 199 وابن الأثير 3 / 80 وبالأصل: بجير بالجيم، وقد صححت في كل مواضع الخبر.
(2) زيد في الطبري 6 / 199 وقال: ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة. فمشت بينهما السفراء، فأبى
بحير.
(3) عن الطبري، وبالأصل: حصن.
(4) الأصل: أربعون.
(5) ولاه أمية طخارستان بناء لرغبته، وبعد أن وشى به بحير أمره بالمقام عنده... ثم ولاه غزو ما وراء
النهر. ثم أمره بالمقام وقال له: لعلي أغزو فتكون معي.
(6) استخلف أمية على خراسان ابنه زيادا، وتجهز للغزو ثم سار وسار معه بكير... فقال أمية لبكير: قد
خفت ألا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها، وليتكها... ورجع بكير إلى
مرو فأخذ ابن أمية فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أمية فأجابوه (انظر الطبري حوادث سنة 77).
349
وشاح على مقدمته. قال: فسبقه بكير بن وشاح فدخل فتحصن بها مخالفا عليه،
قال: وأقبل أمية بن عبد الله وقد أنكر ذلك من فعل بكير حتى صار إلى مدينة مرو،
فمنعه بكير بن وشاح أن يدخلها. قال: فأقام أمية على باب مرو أربعة أشهر لا يقدر
على الدخول إلى مرو لحصانتها. قال: ثم دخلت السفراء بينهم بالصلح، فصالحه
أمية على أن يعطيه مائتي ألف درهم وعلى أن يسوغه ما أخذ من أموال خراسان قبل
ذلك. قال: ففتح بكير بن وشاح باب مدينة مرو، فدخلها أمية بعد أربعة أشهر وفي
قلبه من بكير بن وشاح ما في قلبه.
قال: وأقبل إليه صاحب شرطته بحير بن ورقاء فقال: أيها الأمير! إن بكير بن
وشاح فعل ما فعل، والآن يريد أن يخرج عليك، فكن منه على حذر؟ قال: فكأن
أمية لم يصدق ذلك، ثم أرسل إليه الدسس واستبحث واستخبر فإذا الأمر على ما قاله
بحير بن ورقاء. قال: فدعا أمية ببكير بن وشاح هذا، فقال له: يا عدو نفسه!
أكلت أموال خراسان هذه المدة وأمير المؤمنين عنك مشغول بآل الزبير، ثم إني
قدمت هذا البلد وقدمتك ورفعت قدرك، وجعلتك خليفتي وصاحب أمري، وجعلت
جيشي تحت يديك، ثم إنك غدرت وتحصنت بمدينة مرو وأنا على بابها أربعة
أشهر، ثم إني صفحت عنك وسوغتك ما أكلت وأخذت من أموال خراسان، ودفعت
إليك مائتي ألف درهم، والآن تريد أن تخرج علي! قال فقال بكير: أصلح الله
الأمير، مكذوب علي، ما أعلم من هذا شيئا! قال: فأقام عليه أمية البينة بذلك،
ثم قال: من يقوم إليه فيضرب عنقه؟ فقام بحير بن ورقاء فقال: أيها الأمير! أنا
أستحل دمه، فإنه رجل فاسق غدار، وهو الذي قتل ابن عمي عبد الله بن خازم
السلمي! قال أمية: فدونك إياه إذا. قال: فضرب بحير بن الورقاء بيده إلى سيفه
فاستله، فقال له بكير بن وشاح: لا تقتلني أنت ودع الأمير، كيف فإنك مطالب
بدمي! فقال له بحير: أنت إنما تقول هذا من جزع القتل، فقال له بكير بن وشاح:
ستعلم ذلك عن قريب يا بحير! فقدمه بحير بن الورقاء فضرب عنقه صبرا، ثم أنشأ
يقول:
يظن بكير أن ما في أضالعي * من الحقد يمحوه الكسا والدراهم
وإني سأغضي عن أمور كثيرة * وقتل فتى آذاه ذو الفضل خازم

350
فلست بخير يا بكير وخيره * لئن لم تقم يوما عليك المآتم
على بطل قد فلق السيف رأسه * صريع نجيع تعتريه القشاعم
قال: واحتوى أمية بن عبد الله على أموال بكير بن وشاح وقليلاه فاختاره
لنفسه، وأقام في بلاد خراسان ليس أحد ينازعه في سلطانه، وجعل يغزو أطراف
خراسان غزوا متداركا، فكلما فتح فتحا أو أصاب نفلا أخرج منه الخمس فوجه به
إلى عبد الملك بن مروان وقسم باقي ذلك في أصحابه، حتى استقل وكثرت عنده
الأموال، فأحب الراحة والرفاهية وترك الغزو، ولم يغز (1) أحدا، وأضر ذلك بأهل
خراسان، فكتب بعض الأجناد إلى عبد الملك بن مروان بكتاب يخبره فيه بقعود
أمية بن عبد الله عن الغزو، وأثبت في آخر كتابه هذه الأبيات:
أضاع أمير المؤمنين ثغورنا * وأطمع فينا المشركين ابن خالد
وبات على لين الحشايا منعما * يلاعب أمثال الدمى في المجاسد
وليس أخو الهيجاء من بات آمنا * وأضحى بطينا همه في الثرائد
ولكن أخوها من يبيت مشمرا * يناجي هموما قائما غير قاعد
قال: فلما قرأ عبد الملك بن مروان كتاب أهل خراسان هم أن يعزل أمية بن
عبد الله عن خراسان، ثم إنه لم ير ذلك رأيا، فكتب إليه يعذله على قعوده عن
الجهاد ويحضه على قتال العدو، وأعلمه في كتابه إن هو لم يغز بالمسلمين يعزله
ويستبدل به غيره. قال: وكان أمية يغير بالناس أيام الصيف والربيع، ويريحهم في
أيام الشتاء والخريف، فلم يزل على ذلك من شأنه حينا من دهره متمسكا بخراسان
إلى وقت عزله، وسنرجع إلى خبره بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ذكر الجزيرة وأرمينية وأذربيجان
وما كان بها من الحروب
قال: ثم دعا عبد الملك بن مروان بأخيه محمد بن مروان، فعقد له عقدا
وولاه الجزيرة وبلاد أرمينية وأذربيجان، وضم إليه جيشا كثيفا. قال: فخرج
محمد بن مروان من بلاد الشام في جيشه ذلك ومعه مسلمة بن عبد الملك بن مروان
حتى نزل أرض الجزيرة، ثم دعا برجل من أصحابه يقال له عبيد الله بن أبي شيخ



(1) الأصل: لم يغزو.
351
العوي (1) فضم إليه عشرة آلاف رجل من أهل الشام وأمره بالدخول إلى بلاد أرمينية
لمحاربة من بها من الخزر وأصناف الكفار.
قال: فسار عبد الله (2) بن أبي شيخ في جيشه ذلك حتى دخل بلاد أرمينية،
وعلم أهل البلد بذلك، فاجتمعوا على المسلمين في خلق كثير يزيدون على مائة
ألف، فقتلوهم عن آخرهم حتى ما انفلت منهم أحد، ثم احتووا على أموالهم
وأسلحتهم، وما كان لهم من شيء فأخذوه.
قال: وبلغ ذلك محمد بن مروان، فاغتم لما قد نزل بالمسلمين وضاق به
الأمر، ثم نادى في الناس وسار بنفسه في أربعين ألفا، حتى إذا توسط بلاد أرمينية
اجتمعت الروم والأرمن في جمع عظيم، فقاتلهم محمد بن مروان أشد القتال حتى
خشي الفضيحة والغلبة لكثرة ما اجتمع عليه من الكفار، ثم إن الله تعالى هزم
المشركين وأمكن بالمسلمين من أكنافهم، فقتلوا منهم بشرا كثيرا وسبوهم، واحتووا
على بلادهم وأموالهم. قال: ثم أرسل محمد بن مروان بعد ذلك إلى ساحاتهم
وأحرارهم (3) فوعدهم من نفسه الرضا وأنه يعطيهم ما يريدون ويولي عليهم من
يحبون، فلم يزل كذلك حتى اطمأنوا إليه ووثقوا بناحيته ثم اجتمعوا إليه، فصالحهم
على أمر من الأمور أرضاهم به، ثم قال: إني لست أثق بكم ولكن ادخلوا إلى
كنائسكم هذه واحلفوا لي فيها بما أخلفكم أنكم لا تغدرون! ثم أعطوني بعد ذلك
الرهائن وانصرفوا إلى بلادكم! قال: فأجابوه إلى ذلك، ثم دخلوا الكنائس
ليحلفوا، فلما علم أنهم صاروا بأجمعهم في الكنائس أمر بأبوابها فأغلقت عليهم،
ثم ضربت الكنائس وما فيها بالنار والنفط، فسميت تلك الكنائس المحترقة إلى يومنا
هذا (4).
قال: ثم دعا محمد بن مروان بابن أخيه مسلمة بن عبد الملك فضم إليه جيشا
وأمره بالمسير إلى مدينة الباب لمحاربة الخزر الذين بها، وبها يومئذ نيف على ثمانين
ألفا من الخزر، قال: فسار مسلمة في جيشه ذلك حتى نزل على مدينة الباب،



(1) كذا، ولم نعثر عليه.
(2) كذا، وقد مر قريبا: عبيد الله.
(3) أحرار أرمينيا: هم الذين كانوا نبلاء بأرض أرمينيا قبل أن تملكها الفرس، ثم إن الفرس أعتقوهم لما
ملكوا وأقروهم على ولايتهم.
(4) انظر فتوح البلدان للبلاذري ص 207.
352
فجعل مسلمة يحاربهم أياما كثيرة وليال، وهو في ذلك لا يقدر عليها ولا يطمع فيها
لحصانتها ووثاقة سورها، لأن سورها إنما كان من بناء أنو شروان بن قباذ بن فيروز
ملك فارس مما يبنى في الدهر الأول.
قال: فبينا مسلمة كذلك وإذا برجل من الخزر قد أقبل إليه خوفا على نفسه
وأهله وولده، فقال: أيها الأمير! إني قد أقبلت إليك راغبا في دينك، أريد الدخول
في الإسلام على أن تجعل لي معاشا أعيش به أنا وعيالي وأدلك على موضع تدخل
منه أصحابك إلى هذه المدينة! قال: فضمن له مسلمة أن يعطيه ما أراد، فأسلم
الخزري ووجه معه مسلمة بألف رجل من أشد أصحابه، وذلك في أول الليل.
قال: وجعل (1) أصحاب مسلمة يسيرون وذلك الخزري بين أيديهم حتى صعد بهم
الجبل من ناحية الوادي، ثم أحدر هم إلى موضع من السور قد كان (2) أهل الباب
آمنون من ذلك الموضع، لا يخافون أن يؤتون منه. قال: فجعل الخزري يداخل
الرجل بعد الرجل من المسلمين حتى أدخل بعضهم. قال: وبادرتهم أهل الباب من
داخل المدينة ووقعت الصيحة فاجتمعوا على المسلمين، واقتتل الناس في ليلتهم
تلك قتالا شديدا حتى كاد يسمع وقع السيوف على البيض والدرق كوقع الحديد بعضه
على بعض، حتى إذا كان وقت السحر رفع المسلمون أصواتهم بالتكبير، وصاح
رجل من عسكر مسلمة: ألا إنه الظفر ورب الكعبة! قال: وركب مسلمة في
المسلمين ليعينوا إخوانهم، وفتحت الخزر بابا من أبواب المدينة وخرجوا هاربين
على وجوههم، وصارت المدينة ونساؤهم في أيديهم وأولادهم.
قال: وعزم مسلمة على هدم سور المدينة، فقال له بعض أصحابه: لا تهدم
هذا السور، فلعلنا نحتاج إلى هذه المدينة فتريد أن تكلفنا بناء هذا السور بالمؤنة
الكثيرة، ولعلنا لا نبلغ من إحكامه ما نريد! فقال مسلمة: صدقت، ولكني حلفت
أن أهدمه ولا بد لي من ذلك! فقال: فأهدم بعضه واترك بعضه، قال: فأمر مسلمة
بهدم بعض السور لمكان يمينه.



(1) باب الأبواب على بحر طبرستان، وهي مدينة تكون أكبر من أردبيل (انظر في بنائها ما ذكره ياقوت في
معجم البلدان).
(2) الأصل: جعلوا.
(3) الأصل: كانوا.
353
ثم رحل بالمسلمين حتى صار إلى عمه محمد بن مروان بالغنائم الكثيرة،
ومحمد بن مروان يومئذ في وسط بلاد أرمينية. قال: وجاءت الخزر ثانية حتى نزلت
مدينة الباب كما كانت من قبل، وأقام محمد بن مروان بأرض أرمينية ضابطا لها وقد
أذل من بها من الكفار ومعه ابن أخيه مسلمة بن عبد الملك، فلم يزالوا هنالك إلى
وقت من الأوقات - وسنرجع إلى خبرهم إن شاء الله تعالى -.
ثم رجعنا إلى خبر الأزارقة
قال: ثم كتب عبد الملك بن مروان إلى خالد بن عبد الله بن أسيد (1) وهو أمير
العراقين فأمره أن يوجه المهلب بن أبي صفرة إلى حرب الأزارقة. قال: فعزم
خالد بن عبد الله على حرب الأزارقة، وبلغ ذلك قطري بن الفجاءة صاحب
الأزارقة، فقام فهم خطيبا وقال: يا معاشر المهاجرين! إنه قد صار أمرنا إلى ما كنا
عليه، وقد كان الناس في المهابة على ما كانوا عليه. فقال له عبيدة بن هلال: يا
أمير المؤمنين! أولا تخاف يوما مثل يوم عبد الله (2) بن ماحوز؟ فقال قطري: إننا
نخاف ولكن مع الخوف رجاء. قال: ثم سار من بلاد فارس حتى تقاربوا من الأهواز
فجبوا الخراج وقتلوا من ناواهم وقوي أمرهم، وتسارع الناس إليهم من كل ناحية.
وأقبل وجوه أهل البصرة إلى خالد بن عبد الله بن أسيد (3) فقالوا: أصلح الله
الأمير! إن المهلب بن أبي صفرة ولي (4) نعمة أهل هذا المصر قد أمنوا به البلاء
وألبسوا به العافية، وليس عليه أثار ولا له حاسد، وقد صار أمر الأزارقة إلى ما كانوا
عليه بالأمس، وليس لهم غير المهلب لأنه قد ذاقهم ومارسهم في غير موطن، وهو
السيف الذي لا يغمد، والحجر الدامغ لمن عند. قال فقال خالد بن عبد الله: إني



(1) عن الطبري، وقد مر، وبالأصل: " أسد القشيري " وفي الطبري 6 / 196 أن عبد الملك كتب إلى
بشر بن مروان وكان واليا على البصرة كتابا يأمره فيه أن يبعث المهلب إلى حرب الأزارقة. انظر نسخة
الكتاب في الطبري 6 / 196.
وتوجه المهلب إلى الأزارقة، ولم يلبث الناس إلا عشرا حتى أتاهم نعي بشر بن مروان، واستخلاف
خالد.
(2) الأصل: عبيد الله.
(3) الأصل: أسد.
(4) في الكامل للمبرد 3 / 1282 إنما أمن أهل هذا المصر بأن المهلب بالأهواز... وإن نحيت المهلب لم نأمن
على البصرة الأزارقة.
354
قد سمعت كلامكم وأنا نازل عندما تحبونه إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
قال: فخرج (1) الناس من عنده، وأقبل خالد على من كان عنده من بني عمه
فقال: ويحكم يا معشر قريش! والله لقد ذهب المهلب بحظ هذا المصر وأمير
المؤمنين يظن أن أحدا لا يقوم مقام المهلب، وأيم الله لولا أني أكره أن يكون من
يدي أمر يعصيه أمير المؤمنين (2) لبعثت أخي عبد العزيز إلى حرب الأزارقة! فقال له
بعض بني عمه: أيها الأمير! إن أمير المؤمنين قد رأى مكان أخيك عبد العزيز فلا
تعصه وابعث المهلب إلى حرب الأزارقة كما أمرت. فقال خالد بن عبد الله: حتى
أنظر في ذلك.
قال: وغلبت الأزارقة على الأهواز (3) فعزم خالد بن عبد الله أنه يسير إليهم
بنفسه، وأشار عليه نفر من بني عمه بذلك فقالوا: أيها الأمير! إنك إن سرت إلى
الأزارقة بنفسك فهزمتهم سقطت منزلة المهلب من عيون الناس ونظر الناس إليك بعين
الجلالة.
قال: فعندها عزم خالد بن عبد الله (4) على المسير إلى الأزارقة بنفسه وأقبل
إليه المهلب فقال: أيها الأمير! إنك سائر إلى هؤلاء القوم وأنا أعلم بحربهم منك،
وليس لك بد من أن تحمل أموالك وسلاحك في السفن، فانظر إذا تقاربت من القوم
فاعمل على أن تدخل سفنك إلى نهر الأهواز، وتخندق على عسكرك خندقا ثم
تقاتلهم بخيلك ورجلك، فإن غلبتهم تقدمت، وإن غلبوك رجعت إلى خندقك.
قال: فتبسم خالد ثم قال: يا أبا سعيد! إن الأمر أسرع من ذلك وأسرع مما تذهب
إليه، أتظن أني أريد أن أشتو هنالك، إنه ليس الخندق من شأني. قال: فانصرف



(1) بالأصل: فخرجوا.
(2) وكان الأمر بإرسال المهلب إلى حرب الأزارقة قد جاء - كما ذكرنا - مباشرة بكتاب من عبد الملك إلى بشر بن
مروان.
(3) والسبب في ذلك، أن المهلب لما سار بالناس، ولم يلبث إلا قليلا جاءه النعي بموت بشر فانصرف عنه كثير
من الناس من أهل البصرة والكوفة. (الطبري) ولما أبي خالد إلا عزل المهلب فقد قدم المهلب البصرة
وكان هذا أيضا من الأسباب التي أضعفت التصدي للخوارج.
(4) الأصل: عبيد الله.
355
المهلب إلى منزله (1) وهو يقول: إني لأرى أمرا ضائعا.
قال: وجمع خالد بن عبد الله ما أراد من المال والسلاح وما يحتاج إليه من آلة
الحرب، فحمل ذلك كله في السفن وعلى الظهر في الآلة والسلاح الشاك، فاقتتل
القوم قتالا شديدا، وانهزم خالد بن عبد الله وسلمت سفنه بجميع ما فيها من مال
وسلاح، ثم ملؤها (2) قصبا وأشعلوا فيها النار وأطلقوها، فأقبلت السفن تهوي والنار
ملتهبة فيها كأنه الجبال. قال: وصاحت الأزارقة: يا خالد! يا مفلس! يا
مخذول! ذهبت أموالك وبقيت فضيحتك، قال: فأنشأ كعب بن معدان الأشقري (3)
يقول أبياتا مطلعها:
أيا ابن أسيد لست ممن ترومهم * فخلهم من يومهم للمهلب
إلى آخرها.
قال: وأقبل رجل من الأزد إلى المهلب فقال له: أبا سعيد! ما يقعدك فقد
بلغت الأزارقة إلى فسطاط مازن؟ قال: فتبسم المهلب ثم قال: قد كنت أرى هذا
بعينه: قال: ثم دعا المهلب بابنه يزيد، فقال له: يا بني ناد في قومك واخرج إلى
القوم فإني لا حق بك إن شاء اله تعالى ولا قوة إلا بالله. قال: فخرج يزيد بن
المهلب فنادى في قومه من الأزد، فأجابوه سراعا، فخرج في خمسمائة (4) رجل
[من] بيته وسائر قومه، فالتقى القوم فاقتتلوا ساعة (5)، وانهزمت الأزارقة من بين
يدي المهلب وأصحابه حتى صاروا إلى الأهواز فنزلوها، فأنشأ صاحبهم قطري بن
الفجاءة يقول:
ألم يأتها أني لعبت بخالد * وجاوزت حد اللعب لو لا المهلب (6)
وإنا أخذنا ماله وسلاحه * وسقنا له نيرانها تتلهب
فلم يبق منه غير مهجة نفسه * وقد كان منه الموت شبرا وأقرب



(1) كذا، وما في الكامل للمبرد 3 / 1283 أن المهلب كان في عسكر خالد، في فرقة من فرقة.
(2) يعني الخوارج، انظر تفاصيل أوردها حول هذه المعركة المبرد في الكامل ج 3 / 1283.
(3) بالأصل: الأشعري.
(4) في الكامل للمبرد 3 / 1284: في مائة فارس.
(5) انظر ما ورد في الكامل للمبرد 3 / 1284.
(6) يعرض بخالد بن عبد الله ويذكر ضعفه في لقاء الأزارقة، وكيف تغيرت الحال حين تولى القيادة المهلب.
356
ولكن منينا بالمهلب أنه * رجا (1) قاتل في داخل الخلق منسب
قال: فخرج المهلب إلى البصرة، فقال له خالد بن عبد الله بن أسيد: أردت
أمرا كنت أولى به مني، أنت والله أعلم بحرب القوم، غير أني قد رأيت رأيا! قال
المهلب: وما ذاك؟ أصلح الله الأمير! فقال: أوليك خراج الأهواز فتمضي إليها
وتنفي الأزارقة عنها وتقيم بها، وأولي أخي عبد العزيز حرب القوم، فقال له
المهلب: أيها الأمير! أنا لا أصلح للخراج، وأخوك عبد العزيز لا يصلح لحرب (2)
الأزارقة، لأن هذا الأمر له شأن يسكع عنده الجبان ويثبت عنده الحازم.
قال: ثم وثب رجل من بني تميم يقال له سلمة بن عبد الله السعدي وكان
شاعرا مجيدا، فأنشأ يقول أبياتا مطلعها:
أيا ابن أسيد وكنت امرأ * من أهل الحجاز من أهل الورع
إلى آخرها. ثم أنشأ الصلتان العبدي في ذلك يقول أبياتا مطلعها:
أيا ابن أسيد تبعت الهوى * وشر الفعال الهوى والمنى
إلى آخرها. قال: فغضب خالد بن عبد الله من مقالة هؤلاء القوم وأبى أن يوجه
إلى حرب الأزارقة إلا أخاه عبد العزيز. قال: وإنما أراد خالد بن عبد الله (3) أن يري
أهل البصرة غناه عن المهلب وأن يسقط منزلته من عيون الناس، وأمره بالمسير إلى
الأهواز ليجبي خراجها وينفي الأزارقة عنها. قال: وعلمت الأزارقة أن المهلب سار
إلى ما قبلهم، فتنحوا من بين يديه إلى أرض فارس، ونزل المهلب بالأهواز على
خراجها.
وتهيأ عبد العزيز للمسير إلى الأزارقة، فانتخب من الرجال ما أراد، وقربت
أثقاله للرحيل، فأنشأ رجل من عبد القيس يقول أبياتا مطلعها:
أمامة لا تلحي فإنك مائقة * على طول ليلى من حذار الأزارقة
إلى آخرها. قال: وسار عبد العزيز في جيشه ذلك (4)، وكتب خالد بن



(1) في شعر الخوارج ص 127: شجى قاتل.
(2) الأصل: للحرب.
(3) الأصل: عبيد الله.
(4) في ثلاثين ألفا (الكامل للمبرد 3 / 1286).
357
عبد الله إلى الملك بن مروان: أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أيده الله بأن
المهلب بن أبي صفرة رجل يجبي البلاد ويطاول العدو، وقد وليته خراج الأهواز،
وقد بعثت أخي عبد العزيز إلى حرب الأزارقة ومناجزتهم، وأمثال المهلب في الناس
كثير. قال: فكتب إليه عبد الملك بن مروان: أما بعد فإن خطأي فيك حين وليتك
أمر العراق كخطئك في عبد العزيز حيت توليته الحرب وتولي المهلب الخراج، انظر
إذا ورد عليك كتابي هذا فاضمم أخاب عبد العزيز إلى المهلب، وابعث المهلب إلى
حرب الأزارقة، فإنه رجل قد عرفهم وجربهم ومارسهم في غير موطن قبل هذا اليوم -
والسلام (1) -.
قال: فكتم خالد بن عبد الله هذا الكتاب ولم يظهره للناس، قال: وجزع أهل
البصرة من إرسال عبد العزيز إلى حرب الأزارقة وعلموا أنه لا يقوم بحربهم. قال:
وكتب عبد الله بن رفاع العامري من الشام إلى خالد بن عبد الله بهذه الأبيات:
قد أتاك الذي رأيت من الأم‍ * ر فأخطأت كل رأي سديد
ليس للشام بالعراق عميد * غير شيخ يكنونه بسعيد
ذاك ذاك المهلب بن أبي صف‍ * رة لا زال في العلى والمزيد
ليس يدري النحوس أين رأوه * وهداه إليه سعد السعود
ليس عبد العزيز قد علم النا * س كشيخ العراق يا بن أسيد
ليس مثل المهلب بن أبي صف‍ * رة فينا المتوج الصنديد
أجمع الناس في البلاء علي‍ * ه حين خافوا من العدو المبيد
فنفاهم بالضرب في قحف الرأ * س وطعن يصمي الرشاش شديد
فلئن أنت لم تعده إلى القو * فما ما تخافه ببعيد
إن عبد العزيز يصلح للخف‍ * ض وقرب النساء وأكل الثريد
ولجزر الجزور والعصب والري‍ * ط وذا الكبش النطاح الصيد
إن يكن يهزم الكتائب بالطع‍ * ن وقرع الحديد فوق الحديد
فادعون ذاك الذي منع المص‍ * ر ولم يبق غير قطع الوريد
بعد أن زالت الكعاب عن الخد * ر جهارا وشاب رأس الوليد



(1) في الطبري 6 / 170 - 171 أن خالد بن عبد الله كتب إلى عبد الملك بعد هزيمة عبد العزيز، انظر فيه
نسخة كتابه وانظر رد عبد الملك عليه. وانظر الكامل للمبرد 3 / 1296 - 1297.
358
رد عبد العزيز واستقبل الأم‍ * ر فما من أزاله برشيد
قال: فبلغ هذا الشعر المهلب وكان يبعث إلى عبد الله بن رفاع هذا في كل سنة
بعشرة آلاف درهم وأوصى بنيه به بعده، وكان يزيد بن المهلب يجريها عليه إلى أن
مات.
قال: وسار عبد العزيز بن عبد الله نحو الأزارقة فجعل يطوي البلاد حتى صار
إلى فارس. قال: وسمعت به الأزارقة فطمعوا فيه ولم يعدوه بشيء، فسار إليه
قطري بن الفجاءة وعبيدة بن هلال وعطية بن الأسود وعمرو القنا وصالح بن مخراق
وعبد ربه الكبير وعد ربه الصغير، فسار إليه هؤلاء السبعة في سبعة آلاف من نخبة
الأزارقة حتى صاروا إلى دار أبجرد بأرض يقال لها جور. فلما أرهجت الخيل من بعد
التفت عبد العزيز إلى دهقان دار أبجرد فقال: هذه التي أراها بقر أو غنم؟ قال فتبسم
الدهقان ثم قال: أيها الأمير! هذه خيل العدو، ألا تراها كأنها حبل ممدود.
قال: ودنت الخيل بعضها من بعض، فاقتتل (1) القوم ساعة، وانهزم عبد
العزيز من بين يدي الأزارقة، ووضع السيف في أصحابه، فقتل منهم مقتلة عظيمة
واصطلم العسكر بما فيه (2)، وأخذت امرأة عبد العزيز وهي (3) ابنة المنذر بن (3)
الجارود العبدي، فأنشأ بعض أهل البصرة (4) يقول:
عبد العزيز فضحت جيشك كلهم * وتركتهم صرعى بكل سبيل
من بين ذي عطش يجود بنفسه * وملحب بين الرجال قتيل
وتركت قومك (5) لا أمير عليهم * فارجع بخزي (6) في الحياة طويل
ونسيت عرسك إذ تقاد سبية * تبكي العيون برنة وعويل



(1) الأصل: اقتتلوا.
(2) الطبري 6 / 169 وفي الكامل للمبرد 3 / 1287 أن عبد العزيز ناهضهم ساعة ثم انهزموا مكيدة فاتبعهم
فقال له الناس لا تتبعهم فإنا على غير تعبية فأبى، فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة... ونزل
خلفهم وكان لهم في بطن العقبة كمين فلما صاروا وراءها خرج عليهم الكمين... وانحاز عبد العزيز
واتبعه الخوارج فرسخين يقتلونهم كيف شاؤوا.
(3) عن الطبري 6 / 169 وبالأصل: أم.
(4) هو ابن قيس الرقيات، والأبيات في الطبري 6 / 173.
(5) الطبري: جيشك.
(6) الطبري: بعار.
359
ثم قدمت الأزارقة امرأة عبد العزيز فنودي عليها كما ينادى على الإماء، فبلغت
[قيمتها] كذا وكذا ألفا، فتقدم قطري بن الفجاءة فضرب عنقها (1)، فأنشأ الصلتان
العبدي يقول:
عبد العزيز فضحت جيشك كلهم * وتركتهم صرعى بكل مكان
لما رأيت أبا نعامة مقبلا * يدعو عبية والرماح دواني
وأخاهما عمرو القنا وفوارسا * شم الأنوف معانقي الأقران
ولعبد رب في الهياج غماغم * ولصالح شغب على الفرسان
أسلمت عرسك والبلاء موكل * بالقوم عند تشاجر المرآن
وزعمت أنك كالمهلب نجدة * فحرمتها والبيت ذي الأركان
قال: وأقبل المنهزمون (2) من أصحاب عبد العزيز حتى صاروا إلى الأهواز،
وبها يومئذ المهلب بن أبي صفرة فخبروه بأمر الوقعة، فاغتم المهلب لذلك غما
شديدا، ثم أمر بالجسور فقطعت خوفا من أن تدخل الأزارقة إلى البصرة. وبلغ ذلك
أهل البصرة فنزل بهم أمر عظيم من هزيمة عبد العزيز وفضيحته وقتل المسلمين، ثم
خرجت رؤساؤهم إلى الأهواز إلى المهلب فقالوا له: أبا سعيد! أرأيت ما نزل
بالمسلمين من هذا العدو؟ فقال لهم المهلب: قد رأيت ذلك، غير أن خالد بن
عبد الله اتبع هواه وجاءني بأخيه، فولاه أمرا أعظم منه وولاني أمرا أصغر مني، وإنما
أراد بذلك ما قد علم، فو الله ما ضرني ولا نفعه، ولا وضعني ولا رفعه، وإنما
أراد بذلك ما قد علم، فو الله ما ضرني ولا نفعه، ولا وضعني ولا رفعه، غير أنه
أهدى خطأه إلينا هذه المصيبة الذي قد استوى فيها المعزى والمعزى عليه، وقد
قطعنا هذه الجسور ونحن مقيمون حتى ننظر ما يكون بعد هذا.
قال: ثم دعا المهلب رجلا من أصحابه يقال له الصعب بن يزيد الجهضمي
فقال له: ويحك يا صعب! إنه قد أبطأ عنا خبر عبد العزيز، فلا ندري قتل أم
أفلت؟ وأخوه خالد بن عبد الله قد شغلته الفضيحة عن طلبه (3)، ولكن احمل معك



(1) في الطبري 6 / 169 " أبو الحديد الشني "، وفي المبرد 3 / 1289 " العبدي " وقيل إنه التحق بعد
بالبصرة فرآه آل المنذر فقالوا: ما ندري أنحمدك أم نذمك؟ فكان يقول: ما فعلته إلا غيرة وحمية.
(2) بالأصل: أقبلوا المنهزمين.
(3) وكان المهلب قد أرسل إلى خالد فتى من الأزد أخبره بهزيمة أخيه عبد العزيز (انظر الطبري 6 / 170
والكامل للمبرد 3 / 1293).
360
شيئا من الكسوة وامض (1)، فلا ترجعن إلا بخبره حيث كان من أرض الله! قال:
فحمل الصعب بن يزيد ما أمر به المهلب وخرج من الأهواز، فلم يزل يسير حتى
دخل أرض فارس، ثم جعل يسأل عن عبد العزيز حتى أصابه في أداني أرض
جروز (2) مما يلي دار أبجرد في خرابة عند عجوز، ومعه شرذمة من أصحابه، وإذا
هو جالس يوقد نارا، فلما نظر إليه الصعب بن يزيد ناداه فقال: مرحبا بالصابر
المخذول! قال: فرحب به عبد العزيز ثم قال: كيف تركت أبا سعيد - يعني
المهلب؟ فقال له الصعب: أبو سعيد والله كثير البكاء عليك، لائم لأخيك فيك.
فقال عبد العزيز: معك شيء من الطيب؟ قال: نعم معي طيب وكسوة. قال:
فبكى عبد العزيز ثم قال: يا صعب كان المهلب أولى مني بما أنا فيه، وكنت أحوج
إلى ما في يده منه، يا صعب! النار والعار هزيمة من يدي عدو وفضيحة في حرمة،
إني لأستحيي أن أرفع رأسي إليك، قال: ثم جعل يقول:
ألم ترني والله بالغ أمره * تمنيت أمرا والأماني طوائل
تمنيت ما كان المهلب ناله * وزين ذاك الجحدري مقاتل
فلم آل في حرب الأزارق مثله * ولا مثله في الناس حاف وناعل
أبى الله إلا أن يبين فضله * وكل سؤول كالذي قلت قائل
منيت بأمر ينكس الرأس مثله * أردده في الصدر والدمع هامل
قال: ثم بكى عبد العزيز وانتحب، فكساه الصعب بن يزيد ما كان معه من
الثياب ودفع إليه الطيب الذي حمله له. ثم رجع إلى المهلب فأخبره بذلك. فقال
المهلب: ويحك يا صعب فكيف رأيت؟ فقال: أيها الأمير! لا تسأل عن شيء،
رأيته والله بشر وعر، أما النهار ففي أفنية النخل، وأما الليل ففي دهليز عجوز. فقال
المهلب: والله ما أظنه يجتمع مع الناس في مجلس بعد هذه الفضيحة، فأنشأ
المغيرة بن حبناء التميمي في ذلك يقول أبياتا مطلعها:
قرت العين بالذي حدث الصع‍ * ب به من فضوح عبد العزيز



(1) الأصل: امضي.
(2) جروز موضع من بلاد فارس، كانت فيه وقعة بين الأزارقة وأهل البصرة وأميرهم عبد العزيز (معجم
البلدان).
361
إلى آخرها. قال: ثم إن عبد العزيز مضى إلى مكة (1) فأقام بها حياء من
الناس.
قال: واجتمعت الأزارقة وشجع بعضهم بعضا وأقبلوا يريدون البصرة، وبلغ
ذلك خالد بن عبد الله أمير البصرة، فضاقت عليه الأرض بما رحبت ولم يد رما
يصنع، ثم كتب إلى المهلب: أما بعد! فإني كنت عصيتك يوم الأهواز وعصيتك
في عبد العزيز، وأنا أكره أن أعصيك اليوم، وليس لهذا العدو الكلب أحد سواك،
وإنما تقاتل عن مصرك وتذب عن حريمك، فسر رحمك الله إلى عدوك، وأفرج هذه
الغمة عن بلدك - والسلام -.
قال: فلما ورد الكتاب على المهلب وقرأه نادى في أصحابه فجمعهم إليه. ثم
قال: اعلموا أنكم جندي الذي جيشكم الله لنكاية هذا العدو، ولو دخلتم البصرة لم
تحشروا إلى ثانيه إلا بالسيف، وأنا أعلم إن اتصل خبر عبد العزيز بأمير المؤمنين عبد
الملك بن مروان فإن خالدا لمعزول لا محالة (2)، وهذا عدو قد كلب علينا، وليس
يجمل بنا إلا الإمساك عنه، ولكنا نسير إليه فنكفه عن مصرنا إلى أن يأتي أمر أمير
المؤمنين. قال فقال الناس: أيها الأمير! أمرك سمع وطاعة، فسر بنا رحمك الله
حيث شئت.
قال: فسار المهلب من الأهواز يريد الأزارقة، وبلغهم ذلك فساروا نحوه،
والتقى القوم فاقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل ثم تحاجزوا، وبات الفريقان جميعا
يحرسان بعضهم بعضا.
فلما كان من الغد وثب المهلب فعبي أصحابه ميامن ومياسر وكمناء وأجنحة،
وعبت الأزارقة كذلك، ودنا الجيشان بعضهم من بعض. وخرج رجل من فرسان



(1) في الكامل للمبرد 3 / 1293 قدم على خالد هو المهلب.
(2) مر أن خالدا أرسل بكتاب إلى عبد الملك يخبره بهزيمة أخيه وجواب عبد الملك به.
قال المبرد في الكامل 3 / 1296 أنهى عبد الملك كتابه إلى خالد: وقد جعلت عقوبتك عزلك.
وولى بشر بن مروان وهو بالكوفة وكتب إليه:
أما بعد فإنك أخو أمير المؤمنين، يجمعك وإياه مروان بن الحكم، وإن خالدا لا مجتمع له مع أمير
المؤمنين دون أمية فانظر المهلب بن أبي صفرة فوله حرب الأزارقة فإنه سيد بطل مجرب، وأمدده من أهل
الكوفة بثمانية آلاف رجل.
362
الأزارقة يقال له الحصين بن مالك شاكا في سلاحه، حتى وقف بين الجمعين على
فرس له أدهم الكغداف، ورفع صوته وجعل يقول أبياتا مطلعها:
إن عبد العزيز يوم جزور (1) * كان يرجو رجا المهلب فينا
إلى آخرها. قال: فالتفت حبيب بن المهلب إلى رجل من أصحابه يقال له
سعد بن نجد فقال له: ما ترى يا سعد؟ فقال: إن شئت كفيتك الرجل ولكنه عار
عليك، لأنه قد سمى باسمك ولا أظنه يطلب غيرك، فقال حبيب: صدقت، ولا
أحب أن يبارزه غيري، ثم حمل عليه حبيب والتقيا بطعنتين، طعنة في لبته طعنة
فقتله. فلما قتل الحصين بن مالك جزعت الأزارقة عليه جزعا شديدا، فأنشأ
عبيدة بن هلال اليشكري (2) يقول في ذلك:
قل للحصين لقد أصبت سعادة * بما كنت ما مارسته بمصيب
وما كان في جمع المحلين فارس * يبارزه في النقع غير حبيب
وأي امرئ يأوي الجزور بمعرك * يهاب ولكن كنت غير هيوب
فيا رب يوم قد دعاني لمثلها * فلم أك فيما سألني بمجيب
قال: ثم تقدم محرز بن هلال أخو عبيدة بن هلال حتى وقف بين الجمعين
على فرس له وهو يقول: اللهم! إني أسألك الجنة ومرافقة أهل النهروان، ثم حمل
فلم يزل يقاتل مقبلا غير مدبر حتى قتل.
قال: فدخل على الأزارقة من مقتل محرز بن هلال مدخل عظيم و [اغتموا]
غما شديدا، وتقدم أخوه عبيدة بن هلال بعد ذلك حتى وقف بين الجمعين على فرس
له يرثي أخاه محرزا، وهو يقول أبياتا مطلعها:
عجبت لأحداث الملاء وللدهر * وللحين يأتي المرء من حيث لا يدري
إلى آخرها (4) قال: ثم حمل عبيدة بن هلال فقاتل قتالا شديدا، واستماتت



(1) بالأصل: جرور. وقد مرت قريبا جروز.
(2) الأصل: السكري.
(3) الأبيات في شعر الخوارج ص 109.
(4) بعده في شعر الخوارج ص 110:
إذا ذكرت نفسي مع الليل محرزا * تأوهت من حزن عليه إلى الفجر
سرى محرز والله أكرم محرزا * بمنزل أصحاب النخيلة والنهر
انظر معجم البلدان (النخيلة).
363
الأزارقة بعد مقتل محرز بن هلال، فعزموا على المناجزة والقتال. قال: وثبت لهم
المهلب وأصحابه إلى الزوال وصارت الدائرة عليهم، فقتل منهم بشر كثير وولوا
مدبرين، واحتوى المهلب وأصحابه على كراعهم وعامة أموالهم.
واتصل الخبر بأهل البصرة فاشتدت لذلك ظهورهم، ثم وثب الأحنف بن قيس
فقال: يا أهل البصرة! اشكروا الله ثم المهلب، فو الله لقد جلا الله به عنا أمرا عجز
عنه القرم الحازم! والله! أن لو قلنا أن البصرة كلها للمهلب وأن الله تعالى أفاءها عليه
كما أفاء غيرها على غير لصدقنا. قال: فقال (1) الناس: صدقت أبا بحر! ولن
يجحد ذلك إلا عدو الإسلام، قال: فأنشأ حنظلة بن عرادة في ذلك يقول:
أقول وعيني تجتلي كل كوكب * ألا إن هذا المصر فيء المهلب
نفى الذل عن أبنائنا ونسائنا * مولهة من بين بكر وثيب
فلولا دفاع الله عنا لحلقت * بنا يوم جاؤوا الجسر عنقاء مغرب
وقد كسفت شمس النهار وأطبقت * صبابة يوم أزرقي عصبصب
فلا تكفروه واشكروه وعقبه * ولا الابن مما كان بالأمس كالأب
قال: وبلغ عبد الملك بن مروان ما كان من أمر عبد العزيز وفضيحته
بدار أبجر، فأقبل على جلسائه ثم قال: إن خالد بن عبد الله عصاني في الذي أمرته
ولست أقدر على عقوبة له هو أكثر من عزله وفضيحته في قريش. ثم كتب إليه: أما
بعد! فلو كانت عقوبتي إياك على قدر ذنبك (2) إذا لأتاك مني ما لا تقوم له ولا بقية
بعده (3) ولكني جعلت عقوبتك عزلك، وذلك أني عهدت إليك في المهلب بن أبي
صفرة عهدا وأمرتك بتقدمه، فلما ملكت أمرك آثرت أخاك على طاعتي، وإني الآن
قد وليت بشر بن مروان ما في يدك من العمل، فسلمه إليه - والسلام -.
ذكر ولاية بشر بن مروان العراقين
قال: وكان بشر بن مروان يومئذ عاملا على الكوفة، فضمت إليه البصرة فكان



(1) بالأصل: فقالوا.
(2) عن الكامل للمبرد 3 / 1296 وبالأصل: دينك.
(3) في الكامل للمبرد: لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه.
364
عامل العراقين جميعا. قال: فدعا بشر بن مروان بعمرو بن حريث المخزومي
فاستخلفه على الكوفة وأقبل إلى البصرة، فلما دخلها واستقر بها وإذا كتاب عبد
الملك بن مروان وقد ورد عليه (1): أما بعد يا بشر! فإن أخو أمير المؤمنين وشقيقه،
ومن زينه زينه وشينه شينه، فإن خالد بن عبد الله أمرته بأمري فقدم أمره وأخر أمري،
وذلك أنه عزل رجلا مثل المهلب حجر الإسلام وشجا العدو، واستعمل ملكا لم
يدعه إليه إلا قرب رحمه واتباع هواه، فإياك يا بشر أن تعزل المهلب عن حرب
الأزارقة! فأعزلك كما عزلت خالدا - والسلام. قال: ثم أثبت عبد الملك بن مروان
في كتابه إلى أخيه بهذه الأبيات:
يا بشر إنك إن عصيت فهذه * فعل كفعل أبي أمية خالد
عزل المهلب والمهلب حية * صماء ما لسليمها من عائد
وجاء أخاه بالذي قعدت به * حره علي ولم أكن بالراقد
عاجلته قبل العتاب بعزله * وأخفته ببوارق ورواعد
ولو أنني أمهلته يمشي بها * مرحا وكان أبو أمية رائدي
أطرى أخاه كأنني عريته * وتشرب الصهباء شرب البارد
فلقد جنى عبد العزيز جناية * ما عارها أبدا بعار بائد
وجدوا الدواء بكل داء معضل * إلا دواء الحمق ليس بواجد
فارم الأزارق بالمهلب إنه * شيخ العراق وفيهم كالواحد
وكفى به لله درك وحده * قد يكتفي من رأيه بالواحد
قال: فكتب إليه بشر بن مروان: أما بعد يا أمير المؤمنين! فإني كنت للمهلب
على حالة نقلني الله عنها إلى ما هو خير منها، ولو وكلني الله إلى رأي لرضيت بغير
رضا وأخذت من غير ثقة، ولكنه أدراني الخطأ خطأ والصواب رأيا، وقد أنفذت في
المهلب ما أمرني به أمير المؤمنين أيده الله تعالى، ولم يكن يأتيه مني إلا ما يحبه -
والسلام -. قال: ثم أثبت بشر (2) في كتابه هذه الأبيات:
سواء ومن أرسى ثبيرا مكانه * عصيتك أو دليت في ظلمة القبر
وللموت أدنى من خلافك طرفة * وهل لي إن خالفت أمرك من عذر



(1) انظر الكامل للمبرد 3 / 1297 والطبري 6 / 196.
(2) الأصل: بشرا.
365
إذا كان بشر في الأمور كخالد * وصاحبه الأدنى فشلت يدا بشر
رأى خالد عزل المهلب للذي * أراد وكانت تلك من عجب الدهر
أيعزل ميمون النقيبة حازما * لأجبن من بوم يروع من صقر
فلا أحرم الدهر المهلب سوله * ولا أخرج الدهر المهلب من أمري
إذا أنا لم أتبع هواك فما الذي * أقول لربي يوم ألقاه في الحشر
فأمرك عندي يملأ الصدر هيبة * وأهون منه ما يضيق به صدري
قال: ثم دعا بشر بن مروان بأسماء بن خارجة الفزاري وعكرمة بن ربعي
البكري فقال لهم: إنه قد ورد علي هذا الكتاب في المهلب من أمير المؤمنين وهوائي
من ورائي في غيره. فما الذي عندكم من الرأي؟ فقال أسماء بن خارجة: أيها
الأمير! إن أمير المؤمنين ما ولاك ما أنت فيه إلا ليعمل برأيك، فامض هواك فيمن
يريد، فقال له عكرمة بن ربعي (1): أيها الأمير! لا تفعل فإن عزل المهلب عن
الأزارقة متصل بعزلك، وإن أمير المؤمنين لا يحملك على مخالفته، فلا تخالفه
وأنفذ المهلب إلى حرب الأزارقة فليس لهم أحد سواه.
قال: فلم يلتفت بشر بن مروان إلى مقالة عكرمة بن ربعي وغلبه هواه ورأيه،
فأرسل إلى المهلب فعزله عن حرب الأزارقة وأمره بالرجوع إلى البصرة، فرجع
وطمعت الأزارقة في الظفر، فرجعوا من سابور فارس حتى نزلوا الأهواز، ثم كتب
صاحبهم قطري بن الفجاءة إلى بشر بهذه الأبيات:
ألا قل لبشر إن بشرا مصبح * بخيل كأمثل السراجين شزب
يقحمها عمرو القنا وعبيدة * مفدى خلال النقع بالأم والأب
هنالك لا تبكي عجوز على ابنها * فأبشر بجذع للأنوف موعب
ألم ترنا والله بالغ أمره * ومن غالب الأقدار بالشر يغلب
رجعنا إلى الأهواز والخيل عكف * على الخير ما لم يرمنا بالمهلب
قال: فلما سمع بشر بن مروان هذه الأبيات كأنه أفكر في قوله، ثم دعا وجوه
الناس فقال لهم: أخبروني هل تعلمون مكان أحد يقوم بحرب الأزارقة غير المهلب؟



(1) في الكامل للمبرد 3 / 1298 أن عكرمة أشار على المهلب أن يكتب إلى عبد الملك يعلمه بمرض المهلب،
فكتب إليه مع وفد فأطلعه أحد أعضاء الوفد أن علة المهلب لا تمنعه من الخروج فقال عبد الملك: أراد
بشر أن يفعل ما فعل خالد. فكتب إليه يعزم عليه أن يولي المهلب.
366
قال: فتكلم (1) قوم ممن يبغضون المهلب ويحسدونه فقالوا: نعم أيها الأمير! هذا
محمد بن عمير بن عطارد وهو رجل من ربيعة، وهذا زحر بن قيس هو رجل من
اليمن، وكل واحد من هؤلاء يمكنه القيام بحرب الأزارقة! قال: فأرسل بشر بن
مروان إلى أولئك الثلاثة (2) فدعاهم ثم ندبهم إلى حرب الأزارقة، فقالوا: أيها
الأمير! إنه قد دعي إلى هذا الأمر قبل اليوم من هو أكثر منا غنى فلم يقدموا عليه ولم
يقوموا به، وليس لهذا الأمر إلا الملهب. قال: وكان بشر لم يعجبه ذلك، فأنشأ
رجل من الأزد في ذلك يقول:
يا بشر إنك للمهلب ظالم * والظلم عند المسلمين قبيح
فارجع ففيك وفي أخيك بقية * طال اللجاج وطال ذا التجليح
إن المهلب لا يبل سليمه * وعدوه حتى الممات جريح
وله إذا عدم الرجال عقولهم، عقل يبيد به الرجال صحيح
ما زال مذ عقدت يدا آراؤه * تغدو عليه خطة وتروح
ليس الذين دعوتهم أمثاله * وهواك في غير المهلب ريح
فاز المهلب بالفعال وقدحهم * فيما ألم من الأمور تسيح
فارم (3) العدو به ولكن مستقينا * أن العدو بسهمه مذبوح
ألزمته ذنبا ولو أنصفته * مات العتاب وأوتر التصريح
قال: ففشا هذا الشعر في الناس حتى انتهى إلى بشر بن مروان، فأيقن بشر (4)
أن الأزارقة غالبة على البلاد، فقال: والله إني لأستحي أني رأيت المهلب بالأمس
غناي عنه وأحتاج إليه اليوم بالأهواز وغدا بالجسر وبعد غد (5) بالبصرة، وإنما يعمل
برأي أمير المؤمنين فامض المهلب إليهم ودع اللجاج.
قال: فعندها بعث بشر بن مروان إلى المهلب فدعاه، وقد عمد إلى امرأته هند
بنت أسماء بن خارجة فأقعدها من ورائه خلف الحجلة لتكون هي التي تكلم



(1) بالأصل: فتكلموا.
(2) كذا، ولم يرد في الأصل إلا اثنان. ولعل الثالث هو عمر بن عبيد الله فقد ورد في الكامل للمبرد أن بشر
هم بتوليته حرب الأزارقة 3 / 1298 وانظر الطبري 6 / 196.
(3) الأصل: فأرمي.
(4) الأصل: بشرا.
(5) الأصل: غدا.
367
المهلب. فلما دخل المهلب وسلم، رد عليه بشر السلام، ثم أمره بالجلوس
فجلس، وكلمته امرأة بشر فقالت: أبا سعيد! إننا منك وأنت منا وإن كنا في غيرك،
وهذا بشر بن مروان أخو أمير المؤمنين وشقيقه، وإن أخطأ فيك أمس فقد أصاب
اليوم، وقد دعاك إلى أمر قد دعاك إليه من كان قبله، فأجبه إلى ما يدعوك إليه
والسلام. قال فقال المهلب: إني قد سمعت كلامك أيتها المرأة! ولكن ليقل الأمير
- أكرمه الله - ما أحب. قال: فتكلم بشر بن مروان فقال: أبا سعيد! لا تنظرن إلى ما
كان مني بالأمس، فإن هذا العدو قد كلبوا على الأرض وقد نزلوا منزلهم الأول بأماني
الشيطان، وليس لهم أحد سواك، وإنما تجيب أمير المؤمنين وتدفع عن مصرك،
وتصلح أمرا قد أفسده غيرك، وقد حال ما كان في صدري من أمرك، فهات الآن ما
عندك؟ فقال المهلب: أيها الأمير! إني قد علمت الذي كان في قلبك، والأمير
أيده الله أهل أن يتفانى عنه (1) وإن كانت منه زلة، عندي أن أقاتل هذا العدو على ما
قاتلتهم أمس. قال بشر: فلك إذا ما كان لأصحابك قبل اليوم، أعطيك وإن أردت
المزيد بعد الوفاء. قال: فدعا بشر بخلعة فجعلها عليه وقلده سيفا وعقد له عقدا،
فخرج المهلب من عند بشر بن مروان حتى صار إلى منزله، فلما كان من الغد نادى
في الناس فجمعهم، ثم وضع لهم العطاء فأعطاهم وتجهز، وخرج من البصرة في
عشرة آلاف رجل من قومه من الأزد ومواليهم وثمانية آلاف من أخلاط القبائل، ثم
سار يريد الأهواز، ورحلت الأزارقة من الأهواز حتى لحقت بسابور فارس، ودخل
المهلب إلى الأهواز فأقام بها ثلاثا، ثم رحل حتى نزل بمدينة رامهرمز (2) في جميع
أصحابه.
قال: واعتل بشر بن مروان بالبصرة علة شديدة واستسقى بطنه فمات (3)، وبلغ
ذلك المهلب فاغتم غما شديدا، وتفرق عنه عامة أصحابه فدخلوا البصرة، وبقي
المهلب برامهرمز في زيادة على عشرة آلاف، فقام في الناس خطيبا، فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إن كنتم إنما تقاتلون هذا العدو لبشر بن مروان فقد
مات بشر، وإن كنتم إنما تقاتلون لله فاثبتوا على ما أنتم عليه، فإن أمير المؤمنين حي



(1) كذا بالأصل.
(2) رامهزمز: مدينة مشهورة بنواحي خوزستان.
(3) ولم يلبث الناس في رامهزمز إلا عشرة أيام حتى جاءهم نعي بشر (الطبري 6 / 197). وفي الكامل للمبرد
3 / 1300 " شهرا ".
368
والعراق لا بد لها من أمير - والسلام -.
قال: وبلغ الأزارقة موت بشر بن مروان ففرحوا لذلك، وكتب رجل منهم إلى
المهلب وأصحابه بهذه الأبيات:
قل لقوم مع المهلب قد ما * ت ابن مروان فارجعوا بسلام
ودعوا رامهزمز وقراها * لا تمنوا أماني الأحلام
قبل أن يعطف الجياد عليكم * عطفة الليث بالرماح الدوامي
وسيوف مهندات خفاف * تترك الليث مقعصا في القتام
قال: فكتب إليه كعب بن معدان الأشقري (1) بهذه الأبيات:
إن بشرا والله يرحم بشرا * ويقي وجهه عذاب الجحيم
وبري الدهر قوسه فرماه * بخطوب من الخطوب عظيم
فلئن كانت المنون أتته * إن فينا لمنع هذا الحريم
بأب الحرب وابنها وأخيها * حل في منصب واسم كريم
[و] تمنى عناه في سالف الأز * د عظام النهى وأهل الحلوم
ذاك ذاك المهلب بن أبي صف‍ * رة في الحرب كالهزبر الشنيم
حاد عنه عبيدة بن هلال * ثم عمرو القنا بأنف رغيم
واسألوا عبد ربه ورؤوسا * وذرى وائل وحي تميم
من يقود الجياد يعثر في النقع * بفرسانها دوامي الشكيم
ثم لا انصرف الأعنة والخيل * صحاحا كذا بغير كلوم
قال: ثم قام قطري بن الفجاءة في الأزارقة خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم
قال: أما بعد يا معشر المهاجرين فإن بشر بن مروان قد مات وتفرق (2) الناس عن
المهلب إلا قليل منهم، وهذا العراق ليس به أمير، فهل لكم أن تغنموا الفرصة من
المهلب بن أبي صفرة بوقعة تواقعوه بها؟ فلعلنا أن نظفر منه بشيء. قال: فقام
عبيدة بن هلال اليشكري فقال: يا أمير المؤمنين! إن المهلب لا يقيم بدار مضيعة،
وقد بقي معه من أصحابه من يثق بهم، وهم الذين سرنا إليهم بالأمس فنفونا عن جسر



(1) الأصل: الأشعري. خطأ.
(2) الأصل: تفرقوا.
369
الأهواز حتى بلغوا إلى سابور، ولو أن المهلب رأى منا تحركا لم نبال (1) أن يسير
إلينا فيمن معه فيلقانا، كان الأمر له أم عليه. قال: فقام عبد ربه الكبير فقال: يا
أمير المؤمنين! دع عنك كلام عبيدة بن هلال، فإن المهلب لا يبرح من رامهرمز أبدا
ولو أقام بها وحده أو يأتيه المدد، فإن أردته فهذا وقته ما دامت الخيل قد تفرقت عنه.
قال: فقام عمرو القنا فقال: يا أمير المؤمنين! دع عنك كلام هؤلاء، واترك المهلب
ما تركك وأرده ما أرادك، فليس الذي في يده بأعظم مما في يديك، وإنك إن
خاطرت لم يخاطر لأنه شيخ العراق ومعرك الحروب غير مدافع. قال: فقال
قطري بن الفجاءة: أما إنه لولا علمي بأن المشورة فيها البركة لما شاورتكم في شيء
أبدا: غير أني أعلم رأيكم إن تركتم المهلب اليوم وطلبتموه غدا ندمتم أشد الندامة.
قال: وكتب المهلب إلى عبد الملك بن مروان يعلمه بجموع الأزارقة وما قد
أزمعوا عليه من أخذ العراق. قال: فعندها ضاقت الأرض على عبد الملك بن
مروان، ولم يدر ما يصنع، وخشي أن تتغلب الأزارقة على البلاد، فأرسل إلى أهل
بيته وخاصته فجمعهم، ثم جمع سادات العرب ممن لهم النجدة والقوة والجلد، ثم
قام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه.



(1) الأصل: نبالي.
370
/ 1