بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: ابن الأثير الجزء: 10 الوفاة: 630 المجموعة: مصادر التاريخ تحقيق: الطبعة: سنة الطبع: 1386 - 1966م المطبعة: دار صادر - دار بيروت الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر ردمك: ملاحظات: الكامل في التاريخ 10
1 الكامل في التاريخ تأليف الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير المجلد العاشر دار صادر للطباعة والنشر دار بيروت للطباعة والنشر بيروت 1386 ه _ 1966 م
3 بسم الله الرحمن الرحيم 451 ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة ذكر وفاة فرخ زاد صاحب غزنة وملك أخيه إبراهيم في هذه السنة في صفر توفي الملك فرخ زاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وكان قد ثار به ممالكه سنة خمسين واتفقوا على قتله فقصدوه وهو في الحمام وكان معه سيف فأخذه وقاتلهم ومنعهم عن نفسه حتى أدركه أصحابه وخلصوه وقتلوا أولئك الغلمان. وصار بعد أن نجا من هذه الحادثة يكثر ذكر الموت ويحتقر الدنيا ويزدريها وبقي كذلك إلى هذه السنة فأصابه قولنج فمات منه وملك بعده أخوه إبراهيم مسعود بن محمود فأحسن السيرة فاستعد لجهاد الهند ففتح حصونا امتنعت على أبيه وجده وكان يصوم رجبا وشعبان ورمضان. ذكر الصلح بين الملك إبراهيم وجغري بك داود في هذه السنة استقر الصلح بين الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين وبين داود ميكائيل بن سلجوق صاحب خراسان على أن يكون كل
5 واحد منهما على ما بيده ويترك منازعة الآخر في ملكه. وكان سبب ذلك ان العقلاء من الجانبين نظروا فرأوا أن كل واحد من الملكين لا يقدر على أخذ ما بيد الآخر وليس يحصل غير انفاق الأموال وأتعاب العساكر ونهب البلاد وقتل النفوس فسعوا في الصلح فوقع الاتفاق واليمين وكتبت النسخ بذلك فاستبشر الناس وسرهم لما أشرفوا عليه من العافية. ذكر وفاة داود وملك ابنه ألب أرسلان في هذه السنة في رجب توفي جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق أخو السلطان طغرلبك وقيل كان موته في صفر سنة اثنتين وخمسين وعمره نحو سبعين سنة، وكان صاحب خراسان وهو مقابل آل سبكتكين ومقاتلهم ومانعهم عن خراسان فلما توفي الملك بعده خراسان ابنه السلطان ألب أرسلان وخلف داود عدة أولاد ذكور منهم السلطان ألب أرسلان وياقوتي وسليمان وقاورت بك فتزوج أم سليمان السلطان طغرلبك بعد أخيه داود ووصى له بالملك بعده وكان أمره ما نذكره. وكان خيرا عادلا حسن السيرة معترفا بنعمة الله تعالى عليه شاكرا عليها فمن ذلك أنه أرسل إلى أخيه طغرلبك مع عبد الصمد قاضي سرخس يقول له بلغني إخرابك البلاد التي فتحتها وملكتها وجلاء أهلها عنها وهذا ما لا خفاء به في مخالفة أمر الله تعالى في عبادة وبلاده وأنت تعلم ما فيه من سوء السمعة وإيحاش الرعية.
6 وقد علمت أننا لقينا أعداءنا ونحن في ثلاثين رجلا وهم في ثلاثمائة فغلبناهم وكنا وكنا في ثلاثمائة وهم في ثلاثة آلاف فغلبناهم وكنا في ثلاثة آلاف وهم ثلاثين ألفا فدفعناهم وقاتلنا بالأمس شاه ملك وهو في أعداد متوافرة فقهرنا وأخذنا مملكته بخوارزم وهرب من بين أيدينا إلى خمسمائة فرسخ من موضعه فظفرنا به وأسرناه وقتلناه واستولينا على ممالك خراسان وطبرستان وسجستان وصرنا ملوكا متبوعين بعد أن كنا أصاغر تابعين وما تقتضي نعم الله علينا أن نقابلها هذه المقابلة. فقال طغرلبك قل له في الجواب يا أخي أنت ملكت خراسان وهي بلاد عامرة فخربتها ووجب عليك مع استقرار قدمك عمارتها وانا وردت بلادا خربها من تقدمي واجتاحها من كان قبلي فما أتمكن من عمارتها والأعداء محيطة بها والضرورة تقود إلى طرقها بالعساكر ولا يمكن دفع مضرتها عنها. وله مناقب كثيرة تركناها خوف التطويل. ذكر حريق بغداد في هذه السنة احترقت بغداد الكرخ وغيره وبين السورين واحترقت فيه خزانة الكتب التي وقفها أردشير الوزير ونهبت بعض كتبها وجاء عميد الملك الكندري فاختار من الكتب خيرها وكان بها عشرة آلاف مجلد وأربعمائة من أصناف العلوم منها مائة مصحف بخطوط بني مقلة،
7 وكان العامة قد نهبوا بعضها لما وقع الحريق فأزالهم عميد الملك وقعد يختارها فنسب ذلك إلى سوء سيرته وفساد اختياره وشتان بين فعله وفعل نظام الملك الذي عمر المدارس ودون العلم في بلاد الإسلام جميعها ووقف الكتب وغيرها. ذكر انحدار السلطان إلى واسط وما فعل العسكر وإصلاح دبيس في هذه السنة انحدر السلطان طغرلبك إلى واسط بعد فراغه من أمر بغداد فرآها قد نهبت وحضر عنده هزارسب بن بنكير وأصلح معه حال دبيس بن مزيد وأحضره معه إلى خدمة السلطان وأصعد في صحبته إلى بغداد وكذلك صدقة منصور بن الحسن وضمن واسطا أبو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار وضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفر وعبر السلطان إلى جانب الشرقي من دجلة وسار إلى قرب البطائح فنهب العسكر ما بين واسط والبصرة والأهواز. وأصعد السلطان إلى بغداد في صفر سنة اثنتين وخمسين [وأربعمائة] ومعه أبو الفتح بن ورام وهزارسب بن بنكير بن عياض ودبيس بن مزيد وأبو علي بن الملك أبي كاليجار وصدقة بن منصور بن الحسين وغيرهم واجتمع السلطان أيضا سماطا أحضر فيه الجماعة وخلع عليهم وسار إلى بلاد الجبل في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وجعل ببغداد
8 شحنة الأمير برسق وضمنها أبو الفتح المظفر بن الحسين ثلاث سنين بأربع مائة ألف دينار. ذكر عدة حوادث في هذه السنة عزل أبو الحسين بن المهتدي من الخطابة بجامع المنصور لأنه خطب للعلوي ببغداد في الفتنة وأقيم مقامه بها الشرف أبو علي الحسن بن عبد الودود بن المهتدي بالله. وفيها توفي علي بن محمود بن إبراهيم الزوزني أبو أحسن صحب أبا الحسن الحصري وروى عن أبي عبد السلمي وهو الذي نسب إليه رباط الزوزني المقابل لجامع المنصور. وفيها في جمادى الأولى توفي محمد بن علي الفتح بن محمد بن علي أبو طالب العشاري ومولده في المحرم سنة ست وستين وثلاثمائة وسمع الدارقطني وغيره.
9 452 ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة ذكر عود ولي العهد إلى بغداد مع أبي الغنائم بن المحلبان في جمادى الآخرة ورد عدة الدين أبو القاسم المقتدي بأمر الله ولي العهد ومعه جدته أم الخليفة وخرج الناس لاستقباله وجلس في الزبزب وعلى رأسه أبو الغنائم بن المحلبان وقدم له بباب الغربة فرس فحمله ابن المحلبان على كتفه وأركبه وسلمه إلى مجلس الخليفة فشكره وخرج ابن المحلبان فركب في الزبزب وانحدر إلى دار أفردت له بباب المراتب ودخل إلى الخليفة واجتمع به. وكان سبب مسير ولي العهد مع ابن المحلبان أن دخل داره فوحد زوجة رئيس الرؤساء وأولاده بها وهم مطلوبون من البساسيري فعرفوه أن رئيس الرؤساء أمرهم بقصده فأدخلهم إلى أهله وأقام لهم من حملهم إلى ميافارقين فساروا مع قرواش لما أصعد من بغداد ولم يعلم بهم. ثم لقيه أبو الفضل محمد بن عامر الوكيل وعرفه ما عليه ولي العهد ومن معه من إيثار الخروج من بغداد وما هم عليه من تناقض الحال فبعث ابن المحلبان زوجته فأتته بهم سرا فتركهم عنده ثمانية أشهر وكان يحضر ابن
10 البساسيري وأصحابه ويعمل لهم الدعوات وولي العهد ومن معه مستترون عنده يسمعون ما يقول أولئك فيهم. ثم اكترى لهم وسار هو في صحبتهم إلى قريب سنجار ثم حملوا إلى حران وسار مع صاحبها أبي الزمام منيع بن وثاب النميري حين قصد الرحبة وفتح قرقيسيا وعقد لعدة الدين على بنت منيع وانحدروا إلى بغداد. ذكر ملك محمود بن شبل الدولة حلب في هذه السنة في جمادى الآخرة حصر محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرادس الكلابي مدينة جلب وضيق عليها واجتمع مع جمع كثير من العرب فأقام عليها فلم يستهل له فتحها فرحل عنها ثن عاودها فحصرها فملك المدينة عنوة في جمادى الآخرة بعد أن حصرها وامتنعت القلعة عليه. ورسل من بها إلى المستنصر بالله صاحب مصر ودمشق يستنجدونه فأمر ناصر الدولة أبا محمد الحسين بن الحسن بن حمدان الأمير بدمشق أن يسير بمن عنده من العساكر إلى حلب يمنعها من محمود فسار إلى حلب فلما سمع محمود بقربة منه خرج من حلب ودخلها عسكر ناصر الدولة فنهبوها.
11 ثم إن الحرب وقعت بين محمود وناصر الدولة بظاهر حلب واشتد القتال بينهم فانهزم ناصر الدولة وعاد مقهورا إلى مصر وملك محمود حلب وقتل عمه معز الدولة واستقام أمره بها وهذه الوقعة تعرف بوقعة الفنيدق وهي مشهورة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة خلع السلطان طغرلبك على محمود بن الأخرم الخفاجي ووردت إليه إمارة بني خفاجة وولاية الكوفة وسقي الفرات وضمن خواص السلطان هناك بأربعة آلاف دينار كل سنة وصرف عنها رجب بن منيع. وفيها توفي أبو محمد النسوي صاحب الشرطة ببغداد وقد جاوز ثمانين سنة. وفيها سد بنو ورام بثق النهروانات وشرع العميد أبو الفتح في عمارة بثوق الكرخ. وفيها في ذي القعدة توفيت خاتون زوجة السلطان طغرلبك بزنجان فوجد عليها وجدا شديدا وحمل تابوتها إلى الري فدفنت بها. وفيها ثالث جمادى الآخرة انقض كوكب عظيم القدر عند طلوع الفجر من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق فطال لبثه. وفيها جمع عطبة بن صالح بن مرادس وحصر الرحبة وضيق على أهلها فملكها في صفر هذه السنة.
12 وفيها توفيت والدة الخليفة القائم بأمر الله واسمها قطر الندى وقيل بدر الدجى وقيل علم وهي جارية أرمنية. وفيها توفي محمد بن الحسين بن محمد بن الحسن أبو علي المعروف (الجازري النهرواني وكان مكثر من الرواية بالجيم وبعد الألف زاي ثم راء) وفيها توفي باي أبو منصور الفقيه الجبلي بالباء الموحدة وبعد الألف ياء تحتها نقطتان ومحمد بن عبيد بن أحمد بن محمد أبو عمرو بن أبي الفضل الفقيه.
13 453 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة ذكر وزارة ابن دارست للخليفة لما عاد الخليفة إلى بغداد استخدم أبا تراب الأثيري في الإنهاء وحضور المواكب ولقبه حاجب الحجاب وكان قد خدمه بالحديثة وقرب منه فخاطب الشيخ أبو منصور بن يوسف في وزارة أبي الفتح منصور بن أحمد بن دارست وقال إنه يخدم بغير إقطاع ويحمل مالا فأجيب إلى ذلك فأحضر من الأهواز إلى بغداد وخلع عليه خلعه الوزارة منتصف ربيع الآخر وجلس في منصبه ومدحه الشعراء فممن مدحه أبو الحسن الخباز بقصيدة منها: (أمن الملك بالأمين أبي الفتح * وصدت عن الصفوة الأقذاء) (دولة أصبحت وأنت ولي الرأي * فيها لدولة غراء) وهي طويلة. وكان ابن دارست في أول أمره تاجرا للملك أبي كاليجار.
14 ذكر موت المعز بن باديس وولاية ابنه تميم في هذه السنة توفي المعز بن باديس صاحب إفريقية من مرض أصابه وهو ضعف الكبد وكانت مدة ملكه سبعا وأربعين سنة وكان عمره لما ملك إحدى عشرة سنة وقيل ثمان سنين وستة أشهر. وكان رقيق القلب خاشعا متجنبا لسفك الدماء إلا في حد حليما يتجاوز عن الذنوب العظام حسن الصحبة مع عبيدة وأصحابه مكرما لأهل العلم كثير العطاء لهم كريما وهب مرة مائة ألف دينار للمستنصر الزناتي وكان عنده وقد جاءه هذا المال فاستكثره فأمر به فأفرغ بين يديه ثم وهبه له فقيل له لم أمرت فإخراجه من أوعيته قال لئلا يقال لو رآه ما سمحت نفسه به؛ وكان شعر حسن. ولما مات رثاه الشعراء، فمنهم أبو الحسن بن رشيق فقال: (لكل حي وإن طال المدى * لا عز مملكة يبقى ولا ملك) (ولى المعز على أعقابه فرمى * أو كاد ينهد من أركانه الفلك) (مضى فقيدا وأبقى في خزائنه * هام الملوك وما أدراك ما ملكوا) (ما كان إلا حساما سله قدر * على الذين بغوا في الأرض وانهمكوا) (كأنه لم يخض للموت بحر وغى * خضر البحار إذا قيست به برك)
15 (ولم يجد بقناطير مقنطرة * قد أرعيت باسمه إبريزها السكك) (روح المعز وروح الشمس قد قبضا * فانظر بأي ضياء يصعد الفلك) ولما توفي ملك بعده ابنه تميم وكان مولد تميم بالمنصورية التي مقره منتصف رجب سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وولاه المهدية في صفر سنة خمس وأربعين [وأربعمائة]، فأقام بها إلى أن وافاه أبوه المعز لما انتزح عن القيروان من العرب وقام بخدمة أبيه وأظهر من طاعته وبره ما بان به كذب ما كان ينسب إليه. ولما استبد بالملك بعد أبيه سلك طريقه في حسن السيرة ومحبة أهل العلم إلا أنه كان أصحاب البلاد قد طمعوا بسبب العرب وزالت الهيبة والطاعة عنهم في أيام المعز فلما مات ازداد طمعهم وأظهر كثير منهم الخلاف فمن أظهر الخلاف القائد حمو بن مليك صاحب سفاقس واستعان بالعرب وقصد المهدية ليحاصرها فخرج إليه تميم وصافه فاقتتلوا فانهزم حمو وأصحابه وكثر القتل فيهم ومضى حمد ونجا بنفسه وتفرقت خيلة ورجاله وكان ذلك سنة خمس وخمسين [وأربعمائة]. وسار تميم إلى سوسة وكان أهلها قد خالفوا أباه المعز وعصوا عليه فملكها وعفا عن أهلها.
16 ذكر وفاة فريش صاحب الموصل وإمارة ابنه شرف الدولة في هذه السنة توفي قريش بن بدران صاحب الموصل ونصيبين أصابه خروج الدوم من فيه وأنفه وعينيه وأذنيه فحمله ابنه شرف الدولة إلى نصيبين حتى حفظ خزانته بها وتوفي هناك. وسمع فخر الدولة أبو نصر محمد بن جهير حاله فسار من دارا إلى نصيبين وجمع بني عقيل على أن يؤمروا ابنه أبا المكارم مسلم بن قريش عليهم وكان القائم يأمر جابر بن ناشب فزوجه فخر الدولة بأخت مسلم وزوج مسلما بابنه نصر بن منصور. ذكر وفاة نصر الدولة بن مروان في هذه السنة توفي نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي صاحب ديار بكر ولقبه القادر بالله نصر الدولة وكان عمره نيفا وثمانين سنة وإمارته اثنتين وخمسين سنة استولى على الأمور ببلاده استيلاء تاما وعمر الثغور وضبطها وتنعم تنعما لم يسمع بمثله عن أحد من أهل زمانه. وملك من الجواري المغنيات ما اشترى بعضهن بخمسة آلاف دينار وأكثر من ذلك وملك خمسمائة سرية سوى توابعهن وخمسمائة خادم. وكان في مجلسه من الآلات ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار وتزوج من بنات الملوك جملة وأرسل طباخين إلى الديار المصرية وغرم على إرسالهم
17 جملة وافرة حتى تعلموا الطبخ من هناك. وأرسل السلطان طغرلبك هدايا عظيمة من جملتها الحبل الياقوت لذي كان لبني بويه اشتراه من الملك العزيز أبي منصور بن جلال الدولة وأرسل معه مائة ألف دينار سوى ذلك. ووزر له أبو القاسم بن المغربي وفخر الدولة بن جهير ورخصت الأسعار في أيامه وتظاهر الناس بالأموال ووفد إليه الشعراء وأقام عنده العلماء والزهاد. وبلغه أن الطيور في الشتاء تخرج من الجبال إلى القرى فتصاد فأمر أن يطرح لها الحب من الأهراء التي له فكانت في ضيافته طول عمره. ولما مات اتفق وزيره فخر الدولة بن جهير وابنه نصر فرتب نصرا في الملك بعد أبيه وجرى بينه وبين أخيه سعيد حروب شديدة كان الظفر في آخرها لنصر فاستقر في الإمارة بميافارقين وغيرها وملك أخوه سعد آمد. ذكر عدة حوادث . في رجب خلع على الكامل أبي الفوارس طراد بن محمد الزينبي وقلد نقابة النقباء ولقب الكامل ذا الشرفين. وفيها تولى شمس الدين أسامة بن أبي عبد الله بن علي [تولى] نقابة العلويين ببغداد ولقب المرتضى.
18 وفيها في جمادى الأولى انكسفت الشمس جميعها فظهرت الكواكب وأظلمت الدنيا وسقطت الطيور الطائرة. وفيها في شهر رمضان توفي شكر العلوي الحسيني أمير مكة وله شعر حسن فمنه: (قوض خيامك عن أرض تضام بها * وجانب الذل إن الذل مجتنب) (وارحل إذا كان في الأوطان منقصة * فالمندل الرطب في أوطانه حطب) وفيها توفي أبو القاسم علي بن محمد ين يحيى الشمشاطي بدمشق وكان عالما بالهندسة والرياضيات من علوم الفلاسفة وإليه ينسب الرباط الذي عند جامع دمشق.
19 454 ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة ذكر نكاح السلطان طغرلبك ابنة الخليفة في هذه السنة عقد السلطان طغرلبك على ابنة الخليفة القائم بأمر الله وكانت الخطبة تقدمت سنة ثلاث وخمسين [وأربعمائة] مع أبي سعد قاضي الري فانزعج الخليفة وأرسل في الجواب أبا محمد التميمي وأمره أن يستعفي فإن أعفي وإلا تم الأمر على أن يحمل السلطان ثلاثمائة ألف دينار ويسلم واسطا وأعمالها. فلما وصل إلى السلطان ذكر لعميد الملك الوزير ما ورد فيه من الاستعفاء فقال لا يحسن أن يرد السلطان وقد سأل وتضرع ولا يجوز مقابلته أيضا بطلب الأموال والبلاد فهو يفعل أضعاف ما طلب منه. فقال التميمي الأمر لك ومهما فعلته فهو الصواب فبنى الوزير الأمر على الإجابة وطالع به السلطان فسر به وجمع الناس وعرفهم أن همته سمت به الاتصال بهذه الجهة النبوية وبلغ من ذلك ما لم يبلغه سواه من الملوك وتقدم إلى عميد الملك الوزير أن يسير ومعه أرسلان خاتون زوجة
20 الخليفة وأن يصحبها مائة ألف دينار برسم الحمل وما شاكلها من الجواهر وغيرها ووجه معه فرامرز بن كاكويه وغيره من وجوه الأمراء وأعيان الري. فلما وصل إلى الإمام القائم بأمر الله وأوصل خاتون زوجة الخليفة إلى دارها وأنهى حضوره وحضور من معه وذكر حال الوصلة فامتنع الخليفة من الإجابة إليها وقال إن أعقبنا وإلا خرجنا من بغداد. فقال عميد الملك كان الواجب الامتناع من غير اقتراح وعند الإجابة إلى ما طلب فالامتناع سعي على دمي وأخرج خيامه إلى النهروان فاستوقفه قاضي القضاة والشيخ أبو منصور بو يوسف وأنهيا إلى الخليفة عاقبة انصرافه على هذه الوجه وصنع له ابن دارست وزير الخليفة دعوة فحضر عنده فرأى على مسجد مكتوبا معاوية خال علي فأمر بحكه. وكتب من الديوان إلى خمار تكين الطغرائي يتضمن الشكوى من عميد الملك فورد الجواب عليه بالرفق، وكتب الخليفة إلى عميد الملك نحن نرد الأمر إلى رأيك ونعول على أمانتك ودينك. فحضر يوما عند الخليفة ومعه جماعة من الأمراء والحجاب والقضاة والشهود فأخذ المجلس لنفسه ولم يتكلم سواه وقال لخليفة اسأل مولانا أمير المؤمنين التطول بذكر ما شرف به العبد المخلص شاهنشاه ركن الدين فيما رغب فيه ليعرفه الجماعة. فغالطه، وقال قد سطر في المعنى ما فيه كفاية فانصرف عميد الملك مغيظا ورحل فس السادس والعشرين من جمادى الآخرة وأخذ المال
21 معه إلى همذان، وعرف السلطان أن السبب في اتفاق الحال من خمارتكين الطغرائي فتغير السلطان عليه فهرب في ستة غلمان. وكتب السلطان إلى قاضي القضاة والشيخ أبي منصور بو يوسف يعتب ويقول هذا جزائي من الخليفة الذي قتلت أخي في خدمته وأنفقت أموالي في نصرته وأهلكت خواصي في محبته وأطال العتاب وعاد الجواب إليه بالاعتذار. وأما الطغرائي فإنه أدرك ببروجرد فقال أولاد إبراهيم ينال للسلطان إن هذا قتل أبانا ونسأل أن نمكن من قتله وأعانهم عميد الملك فأذن لهم في قتله فساروا إلى طريقه وقتلوه وجعل مكانه ساوتكين وبسط الكندري لسانه وطلب طغرلبك ابنة أخيه زوجة الخليفة لتعاد إليه وجرى ما كان يفضي إلى الفساد الكلي. فلما رأى الخليفة شدة الأمر أذن في تلك وكتب الوكالة ياسم عميد الملك وسيرت الكتب مع أبي الغنائم بن المحلبان وكان العقد في شعبان سنة أربع وخمسين [وأربعمائة] بظاهر تبريز وهذا ما لم يجر للخلفاء مثله فإن بني بويه مع تحكمهم ومخالفتهم لعقائد الخلفاء لم يطمعوا في مثل هذا ولا ساموهم فعله. وحمل السلطان أموالا كثيرة وجواهر نفيسة للخليفة ولولي العهد وللجهة المطلوبة ولوالدتها وغيرهم وجعل يعقوبا وما كان بالعراق للخاتون زوجة السلطان التي توفيت للسيدة ابنة الخليفة.
22 ذكر عزل ابن دارست ووزارة ابن جهير في هذه السنة عزل أبو الفتح محمد بن منصور بن دارست من وزارة الخليفة. وسببه أنه وصل معه إنسان يهودي يقال له ابن علان فضمن أعمال الوكلاء التي لخاص الخليفة بستة آلاف كرغلة ومائة ألف دينار فصح منها ألفا وثلاثون ألف دينار وانكسر الباقي، فظهر عجز ابن دارست ووهنه فعزل وعاد إلى الأهواز فتوفي بها سنة سبع وستين [وأربعمائة]. وكان فخر الدولة أبو نصر بن جهير وزير الدولة بن مروان قد أرسل يخطب الوزارة وبذل فيها بذولا كثيرة إليها وأرسل كامل طراد الزينبي إلى ميافارقين كأنه رسول فلما عاد سار معه ابن جهير كالمودع له فتمم السير معه. وخرج ابن مروان في أثره فلم يدركه، فلما وصل إلى بغداد خرج الناس إلى استقباله وخلع عليه خلع الوزارة يوم عرفة، ولقب الدولة واستقر في الوزارة ومدحه ابن الفضل وغيره من الشعراء. ذكر عدة حوادث في هذه السنة عم الرخص جميع الأصقاع بالبصرة ألف رطل من التمر بثمانية قراريط. وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن لامة بن جعفر القضاعي بمصر.
23 وفيها سار السلطان طغرلبك إلى قلعة الطرم من بلاد الديلم وقرر على مسافر ملكها مائة ألف دينار وألف ثوب. وفيها مات أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقب معز الدولة بحلب وقام أخوه عطية مقامه. وتوفي الحسن بن علي بن محمد أبو محمد الجوهري ومولده سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وكان من الأئمة المكثرين من سماع الحديث وروايته وهو آخر من حدث عن أبي بكر القطيعي والأبهري وابن شاذان وغيرهم.
24 455 ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة ذكر ورود السلطان بغداد ودخوله بابنة الخليفة في هذه السنة في المحرم توجه السلطان طغرلبك من أرمنية إلى بغداد وأراد الخليفة أن يستقبله فاستعفاه من ذلك وخرج الوزير ابن جهير فاستقبله. وكان مع السلطان من الأمراء أبو علي بن الملك أب كاليجار وسرخاب بن بدر وهزارسب وأبو منصور فرامرز بن كاكويه فنزل عسكره في الجانب الغربي فزاد بهم أذى . ووصل عميد الملك إلى الخليفة وطالب بالجهة وبات بالدار فقيل له خطك موجود بالشرط أن المقصود بهذه الوصلة الشرف لا الاجتماع وأنه إن كانت مشاهدة فتكون في دار الخلافة فقال السلطان نفعل هذا ولكن نفرد له من الدور والمساكن ما يكفيه ومعه خواصه وحجابه ومماليكه فإنه لا يمكنه مفارقتهم فحينئذ نقلت إلى دار المملكة في منتصف صفر فجلست على سرير ملبس بالذهب ودخل السلطان إليها وقبل الأرض وخدمها ولم تكشف الخمار عن وجهها ولا قامت هي له وحمل لها شيئا كثيرا من الجواهر وغيرها وبقي كذلك يحضر كل يوم ويخدم وينصرف. وخلع على عميد الملك وعمل السمط عدة أيام وخلع على جميع الأمراء وظهر عليه سرور عظيم وعقد ضمان بغداد على أبي سعيد القايني بمائة وخمسين
25 ألف دينار، فأعاد ما كاد أطلقه رئيس العراقين من المواريث والمكوس وقبض على الأعرابي سعد ضامن البصرة وعقد ضمان واسط على أبي جعفر بن صقالب بمائتي ألف دينار. ذكر وفاة السلطان طغرلبك في هذه السنة سار السلطان من بغداد في ربيع الأول إلى بلد الجبل فوصل إلى الري واستصحب معه أرسلان خاتون ابنة أخيه زوجة الخليفة لأنها شكت إطراح الخليفة لها فأخذ معه فمرض وتوفي يوم الجمعة ثامن شهر رمضان وكان عمره سبعين سنة تقريبا وكان عقيما لم يلد ولدا. وكان وزيره الكندري على سبعين فرسخا فأتاه الخبر فسار ووصل إليه في يومين وهو بعد لم يدفن فدفنه وجلس له الوزير فخر الدولة بن جهير ببغداد للعزاء. وحكى عنه الكندري أنه قال رأيت وأنا بخراسان في المنام كأنني رفعت إلى السماء وأنا في ضباب لا بصر معه شيئا غير أي أشم رائحة طيبة وأنني أنادي أنك قريب من الباري جلت قدرته فاسأل حاجتك لتقضي فقلت لك في نفسي اسأل الله طول العمر فقيل لك سبعون سنة فقلت يا رب ما يكفيني فقيل لك سبعون سنة فقال يا رب ما يكفيني فقيل لك سبعون سنة فقلت يا رب لا يكفيني، فلما مات حسب عميد الملك عمره على التقريب فكان سنة وكانت مملكته بحضرة الخلافة سبع سنين وأحد عشر شهرا واثنى يوما.
26 وأما الأحوال بالعراق بعد وفاته فإنه كتب من ديوان الخلافة إلى شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل إلى نور بن مزيد وإلى هزارسب وإلى بني ورام وغلى بدر بن المهلهل بالاستدعاء إلى بغداد وأرسل لشرف الدولة تشريفا وعمل أبو سعد القايني ضامن بغداد سورا على قصر عيسى وجمع الغلات فانحدر إبراهيم بن شرف الدولة إلى أوانا وتسلم أصحابه الأنبار وانتشرت البادية في البلاد وقطعوا الطرقات. وقدم إلى بغداد دبيس بن مزيد وخرج الوزير ابن جهير لاستقباله وقدم أيضا ورام وتوفي ببغداد أبو الفتح بن ورام مقدم الأكراد الجاوانية فحمل إلى جرجرايا وفارق وشرف الدولة مسلم بغداد ونهب النواحي فسار نور الدولة والأكراد وبنو خفاجة إلى قتاله. ثم أرسل إليه من ديوان الخلعة رسول معه خلعه له وكوتب بالرضا عنه وانحدر إليه نور الدولة دبيس فعمل له شرف الدولة سماطا كثيرا وكان في الجماعة الأشراف أبو الحسين بن فخر الملك أبي غالب بن خلف كان قصد شرف الدولة مستجديا فمضغ لقمة فمات من ساعته. وحكى عنه بعض من صحبة أنه سمع ذلك اليوم يقول اللهم اقبضني فقد ضجرت من الإضافة فلما توفي ورفع من السماط خاف شرف الدولة أن يظن من حضر أنه تناول طعاما مسموما قصد به غيره فقال يا معشر العرب لا برح منكم أحد ونهض وجلس مكان ابن فخر الملك المتوفي وجعل يأكل من الطعام الذي بين يديه فاستحسن الجماعة فعله وعادوا عنه وخلع على دبيس وولده منصور وعاد إلى حلته. ولما رأى الناس ببغداد انتشار الأعراب في البلاد ونهبها حملوا السلاح لقتالهم وكان سببا لكثرة العيارين وانتشار المفسدين.
27 ذكر شيء من سيرته كان عاقلا حليما من أشد الناس احتمالا وأكثرهم كتمانا لسره ظفر بملطفات كتبها بعض خواصه إلى الملك أبي كاليجار فلم يطلعه على ذلك ولا تغير عليه حتى أظهره بعد مدة طويلة لغيره. وحكى عنه أقضى القضاة الماوردي قال لما أرسلني القائم بأمر الله إليه سنة ثلاث وثلاثين [وأربعمائة] كتبت كتابا إلى بغداد أذكر فيه سيرته وخراب بلاده وأطعن عليه بكل وجه فوقع الكتاب من غلامي فحمل إليه فوقف عليه وكتمه ولم يحدثني فيه بشيء ولا تغير عما كان عليه من إكرامي. وكان رحمه الله يحافظ على الصلوات ويصوم الاثنين والخميس وكان لبسه الثياب البياض وكان ظلوما غشوما قاسيا وكان عسكره يغصبون الناس أموالهم وأيديهم مطلقة في ذلك نهارا وليلا. وكان كريما فمن فمن كرمه أن أخاه إبراهيم ينال أسر من الروم لما غزاهم بعض ملوكهم فبذل في نفسه أربعمائة ألف دينار فلم يقبل إبراهيم منه وحمله إلى طغرلبك فأرسل ملك الروم إلى نصر الدولة بن مروان حتى خاطب طغرلبك في فكاكه فلما سمع طغرلبك رسالته أرسل الرومي إلى ابن مروان بغير فداء وسير معه رجلا علويا فانفذ ملك الروم إلى طغرلبك ما لم يحمل في الزمان المتقدم وهو ألف ثوب ديباج وخمسمائة رأس من الكراع إلى غير ذلك وأنفذ مائتي ألف دينار ومائة لبنة فضة وثلاثمائة شهري وثلاثمائة حمار مصرية وألف عنز بيض الشعور سود العيون والقرون وأنفذ إلى ابن مروان عشرة أمناء مسكا وعمر ملك الروم الجامع الذي بناه مسلمة بن عبد الملك بالقسطنطينية وعمر منارته وعلق فيه القناديل وجعل في محاربه قوسا ونشابة وأشاع المهادنة.
28 ذكر ملك السلطان ألب أرسلان لما مات السلطان طغرلبك أجلس عميد الملك الكندي في السلطنة سليمان بن داود جغري بك أخي السلطان طغرلبك. وكان طغرلبك قد عهد إليه بالملك وكانت والدة سليمان عند طغرلبك فلما خطب له بالسلطنة اختلف الأمراء فمضى باغي سليمان وأردم إلى قزوين وخطبا لعضد الدولة ألب أرسلان محمد بن داود جغري بك وهو حينئذ صاحب خراسان ومعه نظام الملك وزيره والناس مائلون إليه فلما رأى عميد الملك الكندري انعكاس الحال عليه أمر بالخطبة بالرأي للسلطان ألب أرسلان وبعده لأخيه سليمان. ذكر خروج حمو عن طاعة تميم بن المعز بإفريقية في هذه السنة خالف حمو بن مليك صاحب مدينة سفاقس بإفريقية على الأمير تميم بن المعز بن باديس فجمع أصحابه واستعان بالعرب وسار إلى المهدية فسمع تميم الخبر فسار إليه بعساكر وسار معه أيضا طائفة من العرب من زغبة ورياح ووصل حمو إلى سلقطة والتقى الفريقان بها وكان بينهما حرب شديدة فانهزم حمو ومن معه وأخذتهم السيوف فقتل أكثر حماته ونجا بنفسه وتفرقت رجاله وعاد تميم مظفرا منصورا.
29 ثم قصد بعد هذه الحادثة مدينة سوسة وكان أهلها قد خالفوا عليه فملكها وعفا عنهم وحقن دماءهم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في المحرم قبض بصر على الوزير أبي الفرج بن المغربي. وفيها دخل الصليحي صاحب اليمن إلى مكة مالكا لها فأحسن السيرة فيها وجلب إليها الأقوات ورفع جور من تقدم وظهرت منه أفعال جميلة. وفيها في ربيع الآخر انقض كوكب عظيم وكان له ضوء كثير. وفيها في شعبان كان بالشام زلزلة عظيمة خرب منها كثير من البلاد وانهدم صور طرابلس. وفيها ملك أمير الجيوش بدر بدمشق للمستنصر صاحب مصر فوصل إليها في الثالث والعشرين من ربيع الآخر وأقام بها واختلف هو والجند فثاروا به ووافقهم العامة فضعف عنهم ففارقها في رجب سنة ست وخمسين [وأربعمائة]. وفيها توفي سعيد بن نصر الدولة بن مروان صاحب آمد من ديار بكر وزهير بن الحسين علي أبي نصر الجذامي الفقيه الشافعي تفقه على أبي حامد الإسفرايني وسمع الحديث الكثير ورواته وكان موته بسرخس.
30 456 ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة ذكر القبض على عميد الملك وقتله في هذه السنة قبض ألب أرسلان على الوزير عميد الملك أي نصر منصور بن محمد الكندري وزير طغرلبك. وسبب ذلك أن عميد الملك قصد خدمة نظام الملك وزير ألب أرسلان وقدم بين يديه خمسمائة دينار واعتذر وانصرف من عنده فسار أكثر الناس معه فخوف السلطان من غائلة ذلك فقبض عليه وأنفذه إلى مرو الروذ وأتى عليه سنة في الاعتقال ثم نفذ اليه غلامين فدخلا عليه وهو محموم فقالا له تب مما أنت عليه ففعل ودخل فودع أهله وخرج إلى مسجد هناك فصلى ركعتين وأراد الغلامان خنقه فقال لست بلص! وخرق خرقة من طرف كمه وعصب عينيه فضربوه بالسيف وكان قتله في ذي الحجة ولف في قميص دبيقي من ملابس الخليفة وخرقة كانت البرد التي عند الخلفاء فيها وحملت جثته إلى كندر فدفن عند أبيه وكان عمره يوم قتل نيفا وأربعين سنة. وكان سبب اتصاله بالسلطان طغرلبك أن السلطان لما ورد نيسابور طلب رجلا يكتب له ويكون فصيحا بالعربية فدل عليه الموفق والد أبي
31 سهل، وأعطاه السعادة وكان فاضلا وانتشر من شعره ما قاله في غلام تركي صغير السن كان واقفا على رأسه يقطع بالسكين قصبة فقال عميد الملك فيه: (أنا مشغول بحبه * وهو مشغول بلعبه) (لو أراد الله خيرا * وصلاحا لمحبه) (نقلت رقة خديه * إلى قسوة قلبه) (صانه الله فما أكثر * إعجابي في عجبه) ومن شعره: (أنت كان بالناس ضيق من مناقشتي * فالموت قد وسع الدنيا على الناس) (مضيت والشامت المغبون يتبعني * فكل لكأس المنايا شارب حاسي) وقال أبو الحسن الباخرزي يخاطب ألب أرسلان عند قتل الكندري: (وعمك أدناه وأعلى محله * وبوأه من ملكه كنفا رحبا) (قضى كل منكما حق عبده * فخوله الدنيا وخولته العقبى) وكان عميد الملك خصيا قد خصاه طغرلبك لأنه أرسله يخطب عليه امرأة ليتزوجها فتزوجها هو وعصى عليه فظفر به وخصاه وأقره على خدمته. وقيل بل أعداء أشاعوا عنه أنه تزوجها فخصى نفسه ليخلص من سياسة
32 السلطنة، فقال فيه علي أبو الحسن الباخرزي: (قالوا محا السلطان منه بعزة * سمة الفحول وكان قرما هائلا) (قلت اسكتوا فالآن فحولة * لما اعتدى عن أنثييه عاطلا) (فالفحل يأنف أن يسمى بعضه * أنثى لذلك جذه متأصلا) يعني بالأنثى واحدة الاثنين. وكان شديد التعصب على الشافعية كثير الوقيعة في الشافعي رضي الله عنه بلغ من تعصبه أنه خاطب السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان فأذن في ذلك فأمر بلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية فأنف من ذلك أئمة خراسان منهم الإمام أبو القاسم القشيري والإمام أبو المعالي الجويني وغيرهما ففارقوا خراسان وقام امام الحرمين بمكة أربع سنين إلى أن انقضت دولته يدرس ويفتي فلهذا لقب إمام الحرمين فلما جاءت الدولة النظامية أحضر من انتزح منهم وأكرمهم وأحسن إليهم وقيل إنه تاب من الوقيعة في الشافعي فإن صح فقد أفلح وإلا فعلى نفسا براقش تجنى. ومن العجب أن ذكره دفن بخوارزم لما خصي دمه مسفوح بمرو وجسده مدفون بكندر ورأسه ما عدا قحفه مدفون بنيسابور ونقل قحفه إلى كرمان لأن نظام الملك كان هناك فاعتبروا يا أولي الأبصار. ولما قرب للقتل قال للقاصد إليه قل لنظام الملك بئسما عودت الأتراك
33 قتل الوزراء، وأصحاب الديوان ومن حفر قليبا وقع فيه ولم يخلف عميد الملك غير بنت. ذكر ملك ألب أرسلان ختلان وهراة وصغانيان لما توفي طغرلبك وملك ألب أرسلان عصى عليه أمير ختلان بلعته ومنع الخراج فقصده السلطان فرأى الحصن منيعا على شاهق فأقام عليه وقاتله فلم يصل منه إلى مراده. ففي بعض الأيام باشر ألب أرسلان القتال بنفسه وترجل وصعد في الجبل فتبعه الخلق وتقدموا عليه في الموقف وألحوا في الزحف والقتال وكان صاحب القلعة على شرافة من سورها يحرض الناس على القتال فأتته نشابة من العسكر فقتلته وتسلم ألب أرسلان القلعة وصارت في جملة ممالكه. وكان عمه فخر الملك بيغو بن ميكائيل في هراة فعصى أيضا عليه وطمع في الملك لنفسه فسار إليه ألب أرسلان في العساكر العظيمة فحصره وضيق عليه وأدام القتال ليلا ونهارا فتسلم المدينة وخرج عمه إليه فأبقى عليه وأكرمه وأحسن صحبته. وسار من هناك إلى صغانيان وأميرها اسمه موسى وكان قد عصى عليه فلما قاربه ألب أرسلان صعد موسى إلى قلعة على رأس جبل شاهق ومعه من الرجال الكماة جماعة كثيرة فوصل السلطان إليه وباشر الحرب لوقته فلم ينتصف النهار حتى صعد العسكر الجبل وملكوا القلعة قهرا وأخذ موسى أسيرا فأمر بقتله فبذل في نفسه أموالا كثيرة فقال السلطان ليس هذا أوان تجارة واستولى على تلك الولاية بأسرها ثم عاد إلى مرو ثم منها إلى نيسابور.
34 ذكر عود ابنة الخليفة إلى بغداد والخطبة للسلطان ألب أرسلان ببغداد في هذه السنة أمر السلطان ألب أرسلان لسيدة ابنة الخليفة بالعود إلى بغداد وأعلمها أنه لم يقبض على عميد الملك إلا لما اعتمده من نقلها من بغداد إلى الري بغير رضا الخليفة وأمر الأمير ايتكين السليماني بالمسير في خدمتها إلى بغداد والمقام بها شحنة وأنفذ أبا سهل محمد بن هبة الله المعروف بابن الموفق للمسير في الصحبة وأمر بالمخاطبة في إقامة الخطبة له فمات في الطريق مجدرا. وهذا أبو سهل من رؤساء أصحاب الشافعي بنيسابور وكان يحضر طعامه في رمضان كل ليلة أربعمائة متفقه ويصلهم ليلة العيد بكسوة ودنانير تعمهم فلما سمع بموته أرسل العميد أبا الفتح المظفر بن الحسين فمات أيضا في الطريق فألزم السلطان رئيس العراقيين بالمسير فوصلوا بغداد منتصف ربيع الآخر وخرج عميد الدولة ابن الوزير فخر الدولة بن جهير لتلقيهم واقترح السلطان أن يخاطب بالولد المؤيد فأجيب إلى ذلك ولقب ضياء الدين عضد الدولة. وجلس الخليفة جلوسا عاما سابع جمادى الأولى وشافه الرسل بتقليد ألب أرسلان للسلطنة وسلمت الخلع بمشهد من الخلق وأرسل إليه من الديوان لأخذ البيعة النقيب طراد الزينبي فوصلوا وهم بنقجوان من أذربيجان فلبس الخلع وبايع للخليفة.
35 ذكر الحرب بين ألب أرسلان وقتلمش سمع ألب أرسلان أن شهاب الدولة قتلمش وهو من السلجوقية أيضا وهو جد الملوك أصحاب قونية وقيصرية وأقصر وملطية يومنا هذا قد عصى عليه وجمع جموعا كثيرة وقصد الري ليستولي عليها فجهز الب أرسلان جيشا عظيما وسيرهم على المفازة إلى الري فسبقوا قتلمش إليها. وسار ألب أرسلان من نيسابور أول المحرم من هذه السنة فلما وصل إلى دامغان أرسل إلى قتلمش ينكر عليه فعله وينهاه عن ارتكاب هذه الحال ويأمره بتركها فإنه يرعى له القرابة والرحم فأجاب قتلمش جواب مغتر بمن معه من الجموع ونهب قرى الري وأجرى الماء على وادي الملح وهي سبخة فتعذر سلوكها فقام نظام الملك قد جعلت لك من خراسان جندا ينصرونك ولا يخذلونك ويرمون ذلك بسهام لا تخطئ وهم العلماء والزهاد فقد جعلتهم بالإحسان إليهم من أعظم أعوانك. وقرب السلطان من قتلمش فلبس نظام الملك السلاح وعبا الكتائب واصطف العسكران. وكان قتلمش يعلم علم النجوم فوقف ونظر فرأى أن طالعه في ذلك اليوم قد قارنه نحوس لا يرى معها ظفر فقصد المحاجزة وجعل السبخ بينه وبين ألب أرسلان ليمتنع من اللقاء فسلك ألب أرسلان طريقا في المياه وخاض غمرته وتبعه العسكر فطلع منه سالما هو وعسكره فصاروا مع
36 قتلمش فاقتتلوا قلم يثبت عسكر قتلمش لعسكر السلطان وانهزموا لساعتهم ومضى منهزما إلى قلعة كردكوه وهي مكن جملة حصونه ومعاقله واستولى القتل والأسر على عسكره فأراد السلطان قتل الأسرى فشفع فيهم نظام الملك فعفا عنهم وأطلقهم. ولما سكن الغبار ونزل العسكر وجد قتلمش ميتا ملقى على الأرض لا يدري كيف كان موته قيل إنه مات من الخوف والله أعلم فبكى السلطان لموته وقعد لعزائه وعظم عليه فقده فسلام نظام الملك ودخل ألب أرسلان إلى مدينة الري آخر المحرم من السنة. ومن العجب أن هذا قتلمش كان يعلم علم النجوم قد أتقنه مع أنه تركي ويعلم غيره من علوم للقوم ثم إن أولاده من بعده لم يزالوا يطلبون هذه العلوم الأولية، ويقربون أهلها قتالهم لهذا غضاضة في دينهم وسيرد من أخبارهم ما يعلم منه ذلك وغيره من أحوالهم. ذكر فتح ألب أرسلان مدينة آني وغيرها من بلاد النصرانية ثم سار السلطان من الري أول ربيع الأول وسار إلى أذربيجان فوصل إلى مرند عازما على قتال الروم وغزوهم فلما كان بمرند أتاه أمير من أمراء التركمان كان يكثر غزو الروم اسمه طغدكين ومعه من عشيرته خلق كثير قد ألفوا الجهاد وعرفوا تلك البلاد وحثه على قصد بلادهم وضمن له سلوك الطريق المستقيم إليها فسلك بالعساكر في مضايق
37 تلك الأرض ومخارمها فوصل إلى نقجوان فأمر بعمل السفن لعبور نهر رأس فقيل له إن سكان خوي وسلماس من أذربيجان لم يقوموا بواجب الطاعة وإنهم قد امتنعوا ببلادهم فسير إليهم عميد خراسان ودعاهم إلى الطاعة وتهددهم إن امتنعوا فأطاعوا وصاروا من جملة حزبه واجتمع عليه هناك من الملوك والعساكر ما لا يحصى. فلما فرغ من جمع العساكر والسفن سار إلى بلاد الكرج وجعل مكانته في عسكره ولده ملكشاه ونظام الملك وزيره فسار ملكشاه ونظام الملك إلى قلعة فيها جمع كثير من الروم فنزل أهلها منها وتخطفوا من العسكر وقتلوا منه فئة كثيرة فنزل نظام الملك وملكشاه وقاتلوا من بالقلعة وزحفوا إليهم فقتل أمير القلعة وملكها المسلمون وساروا منها إلى قالعة سرماري وهي قلعة فيها المياه الجارية والبساتين فقاتلوها وملكوها وأنزلوا منها أهلها وكان بالقرب منها قلعة أخرى ففتحها ملكشاه وأراد تخريبها فنهاه نظام الملك عند لك وقال هي ثغر للمسلمين وشحنها بالرجال والذخائر والأموال والسلاح وسلم هذه القلاع إلى أمير نقجوان. وسار ملكشاه ونظام الملك إلى مدينة مريم نشين وفيها كثير من الرهبان والقسيسين وملوك النصارى وعامتهم يتقربون إلى أهل هذه البلدة وهي مدينة حصينة سورها من الأحجار المبار الصلبة المشدودة بالرصاص والحديد وعندها نهر كبير فأعد نظام الملك لقتالها ما يحتاج إليه من السفن وغيرها وقاتلها وواصل قتالها ليلا ونهارا وجعل العساكر عليها يقاتلون
38 بالنوبة فضجر الكفار وأخذهم الإعياء والكلال فوصل المسلمون إلى سورها ونصبوا عليه السلالم وصعدوا إلى أعلاه لأن المعاول كلت عن نقبه لقوة حجره. فلما رأى أهلها المسلمين على السور فت ذلك في أعضادهم وسقط في أيديهم ودخل ملكشاه البلد ونظام الملك وأحرقوا البيع وخربوها وقتلوا كثيرا من أهلها وأسلم كثير فنجوا من القتل. واستدعى ألب أرسلان إليه ابنه نظام الملك وفرح بما يسره الله من الفتح على يد ولده وفتح ملكشاه في طريقه عدة من القلاع والحصون وأسر من النصارى ما لا يحصون كثرة وساروا إلى سبيذ شهر فجرى بين أهلها وبين المسلمين حروب شديدة وستشهد فيها كثير من المسلمين ثم إن الله تعالى يسر فتحها فملكها ألب أرسلان. وسار منها إلى مدينة أعل لآل وهي حصينة عالية الأسوار شاهقة البنيان وهي من جهة الشرق والغرب على جبل عال وعلى الجبل عدة من الحصون ومن الجانبين الآخرين نهر كبير لا يخاض فلما رآها المسلمون علموا عجزهم عن فتحها والاستيلاء عليها وكان ملكها من الكرج وهكذا ما تقدم من البلاد التي ذكرنا فتحها وعقد السلطان جيرا على النهر عريضا واشتد القتال وعظم الخطب فخرج من المدينة رجلان يستغيثان ويطلبان الأمان والتمسا من السلطان أن يرسل معهما طائفة من العسكر فسير جمعا صالحا فلما جازوا الفصيل أحاط بهم الكرج من أهل المدينة قاتلوهم فأكثروا القتل فيهم ولم يتمكن المسلمون من الهزيمة لضيق المسلك.
39 وخرج الكرج من البلد وقصدوا العسكر واشتد القتال وكان السلطان ذلك الوقت يصلي فاتاه الصريخ فلم يبرح حتى فرغ من صلاته وركب وتقدم من الكفار فقاتلهم وكبر المسلمون عليهم فولوا منهزمين فدخلوا البلد والمسلمين معهم ودخلها السلطان وملكها واعتصم جماعة من أهلها في برج من أبراج المدينة فقاتلهم المسلمون فأمر السلطان بإلقاء الحطب حول البرج وإحراقه فعل ذلك وأحرق البرج ومن فيه وعاد السلطان إلى خيامه وغنم المسلمون من المدينة ما لا يحد ولا يحصى. ولما جن الليل عصفت ريح شديدة وكان قد بقي من تلك النار التي أحرق بها البرج بقية كثيرة فأطارتها الريح فاحترقت المدينة بأسرها وذلك في رجب سنة ست وخمسين [وأربعمائة] وملك السلطان قلعة حصينة كانت إلى جانب تلك المدينة وأخذها وسار منها إلى ناحية فرس ومدينة آني وبالقرب منها ناحيتان يقال لهما سيل ورده ونورة فخرج أهلها مذعنين بالإسلام وخربوا البيع وبنوا المساجد. وسار منها ألية مدينة آني فوصل إليها فرآها مدينة حصينة شديدة الامتناع لا ترام ثلاثة أرباعها على نهر أرس والربع الآخر عميق شديد الجرية لو طرحت فيه الحجارة الكبار لدحاها وحملها والطريق إليها على خندق تليه سور من الحجارة الصم وهي بلد كبيرة عامرة فيها ما يزيد على خمسمائة بيعة فحصرها وضيق عليها إلا أن المسلمين قد أيسوا من فتحها لما أرادوا من حصانتها فعمل السلطان برجا من خشب وشحنه بالمقاتلة ونصب عليه المنجنيق ورماة النشاب فكشفوا الروم عن السور
40 وتقدم المسلمون إليه لينقبوه فأتاهم من لطف الله ما لم يكن في حسبانهم فانهدمت قطعة كبيرة من السور، بغير سبب فدخلوا المدينة وقتلوا من أهلها ما لا يحصى بحيث أن كثيرا من المسلمون عجزوا عن دخول البلد من كثرة القتلى وأسروا نحوا مما قتلوا. وسارت البشرى بهذه الفتوح في البلاد فسر المسلمون وقرئ كتاب الفتح ببغداد في دار الخلافة فبرز خط الخليفة بالثناء على ألب أرسلان والدعاء له. ورتب فيها أميرا في عسكر جراد وعاد عنها وقد راسله ملك الكرج في الهدنة فصالحه على أداء الجزية كل سنة فقبل ذلك، ولما رحل السلطان عائدا قصد أصبهان ثم سار منها إلى كرمان فاستقبله أخوه قاورت بك بن جغري بك داود ثم سار منها إلى مرو فزوج ابنه ملكشاه بابنة خاقان ملك ما وراء النهر وزفت إليه في هذا الوقت وزوج ابنة أرسلان شاه بابنة صاحب غزنة واتحد البيتان البيت السلجوقي والبيت المحمودي واتفقت الكلمة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الأول ظهر بالعراق وخوزستان وكثير من البلاد جماعة من الأكراد خرجوا يتصيدون فرأوا في البرية خيما سودا،
41 وسمعوا منها لطما شديدا، وعويلا كثيرا، وقائلا يقول قد مات سيدوك ملك الجن وأي بلد لم يلطم أهله عليه ويعملون له العزاء قلع أصله وأهلك أهله فخرج كثير من النساء في البلاد إلى المقابر يلطمن وينحن شعورهن وخرج رجال من سفلة الناس يفعلون ذلك وكان ذلك ضحكة عظيمة. ولقد جرى في أيامنا نحن في الموصل وما والاها من البلاد إلى العراق وغيرها نحو هذا وذلك أن الناس سنة ستمائة أصابهم وجع كثير في حلوقهم ومات منه كثير من الناس فظهر ان امرأة من الجن يقال لها أم عنقود مات ابنها عنقود وكل من لا يعمل له مأتما أصابه هذا المرض فكثر فعل ذلك وكانوا يقولون يا أم عنقود اعذرينا قد مات عنقود ما درينا وكان النساء يلطمن وكذلك الأوباش. وفيها ولي أبو الغنائم المعمر بن محمد بن عبيد الله ا لعلوي نقابة العلويين ببغداد وإمارة الموسم ولقب بالطاهر ذي المناقب وكان المرتضى أبو الفتح أسامة قد استعفى من النقابة وصاهر بني خفاجة وانتقل معهم إلى البرية وتوفي أسامة بمشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام في رجب سنة اثنتين وسبعين [وأربعمائة]. وفيها في جمادى الآخرة توفي أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي النحوي المتكلم كان له اختيار في الفقه وكان عالما بالنسب،
42 ويمشي في الأسواق مكشوف الرأس ولم يقبل من أحد شيئا وكان موته في جمادى الآخرة وقد جاوز ثمانين سنة وكان يميل إلى مذهبه مرجئة المعتزلة ويعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار. وفيها انقض كوكب عظيم وكثر نوره فصار أكثر من نور القمر وسمع له دوي عظيم ثم غاب.
43 457 ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمائة ذكر الحرب بين بني حماد والعرب في هذه ا لسنة كانت الحرب بين الناصر بن علناس بن حماد ومن معه من رجال المغربة ومن صنهاجة ومن زناتة العرب عدي والأثبج وبين رياح وزغبة وسليم زمع هؤلاء المعز بن زيري الزناتي على مدينة سبتة. وكان سببها أن حماد بن بلكين جد الناصر كان ب ينه وبين باديس بن المنصور من الخلف وموت باديس محاصرا قلعة حماد ما هو مذكور ولولا تلك القلعة لأخذ سريعا وإنما امتنع هو وأولاده بعده بها وهي من أمنع الحصون وكذلك ما استمر بين القائد ابن حماد والمعز بن باديس ودخول حماد في طاعته ما تقدم ذكره وكذلك أيضا ما كان بين القائد ابن حماد وبين المعز وكان القائد يضمر الغدر وخلع طاعة المعز والعجز يمنعه من ذلك فلما رأى القائد قوة العرب وما نال المعز منهم خلع الطاعة واستبد بالبلاد وبعده ولده محسن وبعده ابن عمه بلكين بن محمد بن حماد وبعده ابن عمه الناصر بن علناس بن محمد بن حماد وكل منهم متحصن بالقلعة وقد جعلوا دار ملكهم. فلما رحل المعز من القيروان وصبرة إلى المهدية تمكنت العرب،
44 ونهبت الناس وخربت البلاد وانتقل كثير من أهلها إلى بلاد بني حماد لكونها جبالا وعرة يمكن الامتناع بها من العرب فعمرت بلادهم وكثرت أموالهم وفي نفوسهم الضغائن والحقود من باديس ومن بعده من أولادهم يرثه الصغير عن كبير. وولي تميم بن المعز بعد أبيه فاستبد كل من هو ببلد وقلعة بمكانه وتميم صابر يداري ويتجلد. واتصل بتميم أن الناصر بن علناس يقع فيه في مجلسه ويذمه وأنه عزم على المسير إليه ليحاصره بالمهدية وأنه قد حالف بعض صنهاجة وزناتة وبني هلال ليعينوه على حصار المهدية فلما صح ذلك عنه أرسل إلى أمراء بني رياح فأحضرهم إليه وقال أنتم تعلمون أن المهدية حصن منيع أكثره في البر غير أربعة أبراج يحميها أربعون رجلا وإنما جمع الناصر هذه العساكر إليكم فقالوا الذي تقوله حق ونحب منك المعونة فأعطاهم المال والسلاح من الرماح والسيوف والدروع والدرق فجمعوا قومهم وتحالفوا واتفقوا على لقاء الناصر. وأرسل إلى من مع الناصر من بنى هلال يقبحون عندهم مساعدتهم للناصر ويخوفونهم منه إن قوي وأنه يهلكهم بمن معه من زناتة وصنهاجة وأنهم إنما يستمر لهم المقام والاستيلاء على البلاد إذا تم الخلف وضعف السلطان فأجابهم بنو هلال إلى الموافقة وقالوا اجعلوا أول حملة تحملونها علينا فنحن نهزم بالناس ونعود عليهم ويكون لنا ثلث الغنيمة فأجابهم إلى ذلك واستقر الأمر.
45 وأرسل المعز بن زيري الزناتي إلى من مع الناصر من زناتة بنحو ذلك فوعدوه أيضا أن ينهزموا فحينئذ رحلت رياح وزناتة جميعها وسار إليهم الناصر بصنهاجة وزناتة وبني هلال فالتقت العساكر بمدينة سبتة فحملت رياح على بني هلال وحمل المعز على زناتة فانهزمت الطائفتان وتبعهم عساكر الناصر منهزمين ووقع فيهم القتل فقتل فيمن قتل القاسم بن علناس أخو الناصر وكان مبلغ من قتل من صنهاجة وزناتة أربعا وعشرين ألفا وسلم الناصر في نفر يسير وغنمت العرب جميع ما كان في العسكر من مال وسلاح ودواب وغير ذلك فاقتسموها على ما استقر بينهم وبهذه الوقعة تم للعرب ملك البلاد فإنهم قدموها في ضيق وفقر وقلة دواب فاستغنوا وكثرت دوابهم وسلاحهم وقل المحامي عن البلاد وأرسلوا الألوية والطبول وخيم الناصر بدوابها إلى تميم فردها وقال يقبح بي أن آخذ سلب ابن عمي فأرضي العرب بذلك. ذكر بناء مدينة بجاية لما كانت هذه الوقعة بين بني حماد والعرب فاهتم تميم بن المعز لذلك وأصابه حزن شديد شديد فبلغ ذلك الناصر وكان له وزير اسمه أبو بكر بن أبي الفتوح وكان رجلا جيدا يحب الاتفاق بينهم ويهوى دولة تميم فقال الناصر ألم أشر عليك أن لا تقصد ابن عمك وان تتفقا
46 على العرب فإنكما لو اتفقتما لأخرجتما العرب. فقال الناصر: لقد صدقت ولكن لا مرد لما قدر فأصلح ذات بيننا فأرسل الوزير رسولا إلى الناصر فاستشار أصحابه فاجتمع رأيهم على محمد بن البعبع وقالوا له: هذا رجل غريب وقد أحسنت إليه وحصل له منك الأموال والأملاك فأحضره وأعطاه مالا ودواب وعبيد وأرسله فسار مع الرسول حتى وصل إلى الناصر فلما أوصل الكتاب وأدى الرسالة قال للناصر معي وصية إليك وأحب أن تخلي المجلس فقال الناصر أنا لا أخفي عن وزيري شيئا فقال بهذا أمرني الأمير تميم، فقام الوزير أبو بكر وانصرف فلما خرج قال الرسول يا مولاي إن الوزير مخامر عليك هواه مع الأمير تميم لا يخفى عنه من أمورك شيئا وتميم مشغول مع عبيد قد استبد بهم وأطرح صنهاجة وغير هؤلاء ولو وصلت بعسكرك ما بت إلا فيها لبغض الجند والرعية لتميم وأنا أشير عليك بما تملك به المهدية وغيرها وذكر له عمارة بجاية وأشار عليه أن يتخذها دار ملك ويقرب من بلاد إفريقية وقال له أنا أنتقل إليك بأهلي، وأدبر دولتك؛ فأجابه الناصر إلى ذلك، وارتاب بوزيره وسار مع الرسول إلى بجاية وترك الوزير بالقلعة. فلما وصل الناصر والرسول إلى بجاية أراه موضع المينا والبلد والدار
47 السلطانية، وغير ذلك فأمر الناصر من ساعته بالبناء والعمل وسر بذلك وشكره وعاهده على وزارته إذا عاد إليه ورجعا إلى القلعة فقال الناصر لوزيره إن هذا الرسول محب لنا، وقد أشار ببناء بجاية، ويريد الانتقال إلينا فاكتب له جواب كتبه ففعل. وسار الرسول، وقد ارتاب به تميم حيث تجدد بناء بجاية عقيب مسيره إليهم وحضوره مع الناصر فيها وكان الرسول قد طلب من الناصر أن يرسل معه بعض ثقاته ليشاهد الأخبار ويعود بها فأرسل معه رسولا يثق به فكتب معه إنني لما اجتمعت بتميم لم يسألني عن شيء قبل سؤاله عن بناء بناء بجاية وقد عظم أمرها عليه واتهمني فانظر إلى من يثق به من العرب ترسلهم إلى موضع كذا فإني سائر إليهم مسرعا وقد أخذت عهود زويلة وغيرها على طاعتك وسير الكتاب فلما قرأه الناصر سلمه إلى الوزير فاستحسن الوزير ذلك وشكره وأثنى عليه وقال لقد نصح وبالغ في الخدمة فلا تؤخر عنه إنفاذ العرب ليحضر معهم. ومضى الوزير إلى داره وكتب نسخة الكتاب وأرسل الكتاب الذي بخط الرسول إلى تميم وكتابا منه يذكر له الحال من أوله إلى آخره، فلما وقف تميم على الكتاب عجب من ذلك وبقي يتوقع له سببا يأخذه به إلا أنه جعل عليه من يحرسه في الليل والنهار من حيث لا يشعر فأتى بعض أولئك الحرس إلى تميم وأخبره أن الرسول صنع طعاما وأحضر عنده الشريف الفهري وكان هذا الشريف من رجال تميم وخواصه فأحضره تميم فقال كنت واصلا إليك وحدثه ان ابن البعبع الرسول دعاني فلما حضرت عنه قال أنا في ذمامك أحب أن تعرفني مع من اخرج من المهدية فمنعه من ذلك وهو خائف فأوقفه تميم على الكتاب الذي بخطه وأمره بإحضاره، فأحضره الشريف.
48 فلما وصل إلى باب السلطان لقيه رجل بكتاب العرب الذين سيرهم الناصر ومعهم كتاب الناصر ومعهم كتاب الناصر إليه يأمره بالحضور عنده فأخذ الكتاب وخرج الأمير تميم فلما رآه السلطان ابن البعبع سقطت الكتب منه فإذا عنوان أحدهما الناصر بن علناس إلى فلان فقال له تميم من أين هذه الكتب فسكت فأخذها وقرأها فقال الرسول ابن البعبع العفو يا مولانا فقال لا عفا الله عنك وأمر به فقتل وغرقت جثته. ذكر ملك ألب أرسلان جند وصيران في هذه السنة عبر ألب أرسلان جيحون وسار إلى جند وصيران وهما عند بخارى وقبر جده سلجوق بجند فلما عبر النهر استقبله ملك جند وأطاعه وأهدى له هدايا جليلة فلم يغير ألب أرسلان عليه شيئا وأقره على ما بيده وعاد عنه بعد أن أحسن إليه وأكرمه ووصل إلى كركانج خوارزم منها إلى مرو. ذكر عدة حوادث في هذه السنة ابتدئ بعمارة المدرسة النظامية ببغداد. وفيها انقض كوكب عظيم وصار له شعاع كثير أكثر من شعاع القمر وسمع له صوت مفزع. وفيها توفي محمد بن أحمد أبو الحسين بن الأبنوسي روى عن الدارقطني وغيره.
49 458 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ذكر عهد ألب أرسلان بالسلطنة لابنه ملكشاه في هذه السنة سار ألب أرسلان من مرو إلى رايكان فنزل بظاهرها ومعه جماعة امراء دولته فأخذ عليهم العهود والمواثيق لولده ملكشاه بأن السلطان بعده وأركبه ومشى بين يديه يحمل الغشية وخلع السلطان على جميع الأمراء وأمرهم بالخطبة له في جميع البلاد التي يحكم إلياس عليها ففعل ذلك وأقطع البلاد مازندران للأمير إينانج بيغو وبلخ لأخيه سليمان بن داود جغري بك وخوارزم لأخيه وولاية بغشور ونواحيها لمسعود بن أرتاش وهو من أقارب السلطان وولاية أسفرار لمودود بن أرتاش. ذكر استيلاء تميم على مدينة تونس في هذه السنة سير تميم صاحب إفريقية عسكرا كثيفا إلى مدينة تونس وبها أحمد بن خراسان قد أظهر عليه الخلاف. وسبب ذلك أن المعز بن باديس أبا تميم لما فارق القيروان والمنصورية
50 ورحل إلى المهدية على ما ذكرناه استخلف على القيروان وعلى قابس قائد بن ميمون الصنهاجي وأقام بها ثلاث سنين ثم غليته هوارة عليها فسلمها إليهم وخرج إلى المهدية فلما ولي الملك تميم بن المعز بعد أبيه رده إليها وأقام عليها إلى الآن، ثم أظهر الخلاف على تميم والتجأ إلى طاعة الناصر بن علناس بن حماد فسير إليه تميم الآن عسكرا كثيرا فلما سمع بهم قائد بن ميمون علم أنه لا طاقة له بهم فترك القيروان وسار إلى الناصر فدخل عسكر تميم القيروان وخربوا دور القائد وسار العسكر إلى قابس وبها ابن خراسان فحصروه بها سنة وشهرين ثم أطاع ابن خراسان تميما وصالحه. وأما القائد فإنه أقام عند الناصر ثم أ رسل إلى امراء العرب فاشترى منهم إمارة القيروان فأجابوه إلى ذلك فعاد إليها فبنى سورها وحصنها. ذكر ملك شرف الدولة الأنبار وهيت وغيرهما في هذه السنة سار شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران صاحب الموصل إلى السلطان ألب أرسلان فأقطعه الأنبار وهيت وحربى والسن والبوازيج ووصل إلى بغداد فخرج الوزير فخر الدولة بن جهير في الموكب فلقيه ونزل شرف الدولة بالحريم الطاهري وخلع عليه الخليفة. ذكر عدة حوادث في العشر الأول من جمادى الأولى ظهر كوكب كبير له ذؤابة طويلة بناحية المشرق عرضها نحو ثلاث أذرع وهي ممتدة إلى وسط السماء،
51 وبقي إلى السابع والعشرين من الشهر وغاب ثم ظهر آخر الشهر المذكور عند غروب الشمس كوكب قد استدار نوره عليه القمر فارتاع الناس وانزعوا ولما أظلم الليل صار له ذوائب نحو الجنوب وبقي عشرة أيام ثم اضمحل. وفيها في جمادى الآخرة كانت بخراسان والجبال زلزلة عظيمة يقيت تتردد أياما تصدعت منها الجبال وأهلكت خلقا كثيرا وانخسف منها عدة قرى وخرج الناس إلى الصحراء فأقاموا هناك. وفيها في جمادى الأولى وقع حريق بنهر معلى فاحترق من باب الجريد إلى آخر السوق الجديد من الجانبين. وفيها ولدت صبية بباب الأزج ولدا برأسين ورقبتين ووجهين وأربع أيدي على بدن واحد. وفي جمادى الآخرة توفي الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ومولده سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وكان إماما في الحديث والفقه على المذهب الشافعي وله فيه مصنفات أحدها السنن الكبير عشر مجلدات وغيره من التصانيف الحسنة كان عفيفا زاهدا ومات بنيسابور. وفي شهر رمضان منها توفي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي ومولد سنة ثمانين وثلاثمائة وعنه انتشر مذهب أحمد رضي الله عنه وكان إليه قضاء الحريم ببغداد بدار الخلافة وهو مصنف كتاب الصفات أتى فيه بكل عجيبة وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض تعالى الله عن ذلك وكان ابن تميمي الحنبلي يقول لقد خرئ أبو يعلى الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء.
52 459 ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة ذكر عصيان ملك كرمان على ألب أرسلان وعوده إلى طاعته في هذه السنة عصى ملك كرمان وهو قرا أرسلان على السلطان ألب أرسلان وسبب ذلك أنه كان له وزير جاهل سولت له نفسه الاستبداد بالبلاد عن السلطان وأن صاحبه إذا عصى احتاج إلى التمسك به فحسن لصاحبه الخلاف على السلطان فأجاب إلى ذلك وخلع الطاعة وقطع الخطبة. فسمع ألب أرسلان فسار إلى كرمان فلما قاربها وقعت طليعته على طليعة قرا أرسلان فانهزمت طليعة قرا أرسلان بعد قتال. فلما سمع قرا أرسلان وعسكره بانهزام طليعتهم خافوا وتحيروا فانهزموا لا يلوي أحد على آخر فدخل فرا أرسلان إلى جيرفت وامتنع بها وأرسل إلى السلطان ألب أرسلان مظهر الطاعة ويسأل العفو عن زلته فعفى عنه وحضر عند السلطان فأكرمه وبكى وأبكى من عنده فأعاده إلى مملكته ولما يغير عليه شيئا من حاله فقال للسلطان إن لي بنات تجهيزهن إليك وأمورهن إليك فأجابه إلى ذلك وأعطى كل واحدة منهن مائة ألف دينا سوى الثياب والإقطاعات.
53 ثم سار منها إلى فراس فوصل إلى إصطخر وفتح قلعتها واستنزل واليها فحمل إليه الوالي هدايا عظيمة جليلة المقدام من جملتها قدح فيروزج فيه منوان من المسك المكتوب عليه اسم جمشيد الملك وأطاعه جميع حصون فارس، وبقي قلعة يقتال لها بهنزاد فسار نظام الملك إليها وحصرها تحت جبلها وأعطى كل من رمى بسهم وأصاب قبضة من الدنانير ومن رمى حجرا ثوب نفيسا ففتح القلعة في اليوم السادس عشر من نزوله ووصل السلطان إليه بعد الفتح فعظم محل نظام الملك عنده فأعلى منزلته وزاد في تحكيمه. ذكر عدة حوادث في المحرم منها توفي الأغر أبو سعد ضامن البصرة على باب السلطان بالري وعقدت البصرة وواسط على هزارسب بثلاثمائة ألف دينار. وفي صفر منها وصل إلى بغداد شرف الملك أبو سعد المستوفي وبنى على مشهد أبي حنيفة رضي اله عنه مدرسة لأصحابه وكتب الشريف أبو جعفر بن البياضي على القبة التي أحدثها: (ألأم تر أن العلم كان مشتتا * فجمعه هذا المغيب في اللحد) (كذلك كانت هذه الأرض ميتة * فأنشرها فضل العميد أبي سعد)
54 وفيها في جمادى الأولى وصلت أرسلان خاتون أخت السلطان ألب أرسلان وهي زوجة الخليفة غلة بغداد واستقبلها فخر الدولة بن جهير الوزير على فراسخ. وفيها في ذي القعدة احترقت تربة معروف الكرخي رحمة الله عليه وسبب حريقها أن قيمها كان مريضا فطبخ لنفسه ماء الشعير فاتصلت النار بخشب وبواري كانت هناك فأحرقته واتصل الحريق فأمر الحليفة أبا سعد الصوفي شيخ الشيوخ بعمارتها. وفيها في ذي القعدة فرغت عمارة المدرسة النظامية وتقرر التدريس بها للشيخ أبي إسحاق الشيرازي فلما اجتمع الناس لحضور الدرس وانتظروا مجيئه تأخر فطلب فلم يوجد. وكان سبب تأخره أنه لقيه صبي فقال له كيف تدرس في مكان مغصوب؟ فتغير نيته عن التدريس بها، فلما ارتفع النهار وأيس الناس من حضوره أشار الشيخ أبو منصور بن يوسف بأبي نصر بن الصباغ صاحب كتاب الشامل وقال لا يجوز أن ينفصل هذا الجمع إلا عن مدرس ولم يبقى ببغداد من بم يحضر غير الوزير فجلس أبو نصر للدرس وظهر الشيخ أبو إسحاق قبل ذلك، ولما بلغ نظام الملك الخبر أقام القيامة على العميد أبي سعد ولم يزل يرفق بالشيخ أبي إسحاق حتى درس بالمدرسة وكان مدة تدريس ابن لصباغ عشرين يوما. في ذي القعدة قتل الصليحي أمير اليمن بمدينة المهجر قتله أحد أمرائها وأقيمت الدعوة العباسية هناك وكان قد ملك مكة على ما ذكرناه سنة خمس وخمسين [وأربعمائة]، وأمن الحجاج في أيامه فأثنوا عليه خيرا وكسى البيت بالحرير الأبيض الصيني ورد حلي البيت إليه،
55 وكان بنو حسن قد أخذوه وحملوه إلى اليمن فابتاعه الصليحي منهم. وفيها توفي عمر بن إسماعيل بن محمد أبو علي الطوسي قاضيها وكان يلقب العراقي لطول مقامه ببغداد وتفقه على أبي طاهر الإسفرايني الشافعي وأبي محمد الشاشي وغيرهما.
56 460 ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة ذكر عدة حوادث في هذه السنة كانت حرب بين شرف الدولة بن قريش وبين بني كلاب بالرحبة وهم في قاعة العلوي المصري فكسرهم شرف الدولة وأخذ أسلابهم وأرسل أعلاما كانت معهم عليها سمات المصري بغداد وكسرت وطيف بها في البلط وأرسلت الخلع إلى شرف الدولة. وفيها في جمادى الأولى كانت بفلسطين ومصر زلزلة شديدة خربت الرملة وطلع الماء من رؤوس الآبار وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألف نسمة وانشقت الصخرة بالبيت المقدس وعادت بإذن الله تعالى وعاد البحر من الساحل مسيرة يوم فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون منه فرجع الماء عليهم فأهلك منهم خلقا كثيرا. وفيها في رجب ورد أبو العباس الخوافي بغداد عميدا من جهة السلطان. وفيها عزل فخر الدولة بن جهير من وزارة الخليفة فخرج من بغداد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد بالفلوجة وأرسل الخليفة إلى أبي يعلى والد
57 الوزير أبي شجاع يستحضره ليوليه الوزارة وكان يكتب لهزارسب بن بنكير فسار فأدركه أجله في الطريق فمات ثم شفع نور الدولة في فخر الملك بن جهير فأعيد إلى الوزارة سنة إحدى وستين [وأربعمائة] في صفر. وفيها كان بمصر غلاء شديد وانقضت سنة إحدى وستين وأربعمائة. وفيها حاصر الناصر بن علناس الأربس بإفريقية فأمن ففتحها وأمن أهلها. وفيها في المحرم توفي الشيخ أبو منصور بن عبد الملك بن يوسف ورثاه ابن الفضل وغيره من الشعراء وعم مصابة المسلمين وكان من أعيان الزمان فمن أفعاله أنه تسلم المارستان العضدي وكان قد دثر واستولى عليه الخراب فجد في عمارته وجعل فيه ثمانية وعشرين طبيبا وثلاثة من الخزان إلى غير ذلك واشترى له الأملاك النفيسة بعد أن كان ليس به طبيب ولا دواء وكان كثير المعروف والصلات والخير ولم يكن يلقب في زمانه أحد بالشيخ الأجل سواه. وفي المحرم أيضا توفي أبو جعفر الطوسي فقيه الإمامية بمشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
58 461 ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة ذكر عدة حوادث في هذه السنة في صفر أعيد فخر الدولة بن جهير إلى وزارة الخليفة على ما ذكرناه فلما عاد مدحه ابن الفضل فقال: (قد رجع الحق إلى نصابه * وأنت من كل الورى أولى به) (ما كنت إلا السيف سلته يد * ثم أعادته إلى قرابه) وهي طويلة. وفي شعبان احترق جامع دمشق وكان سبب احتراقه أنه وقع بدمشق بين المغاربة أصحاب المصريين والمشارقة فشربوا دار مجاورة للجامع بالنار فاحترقت واتصلت بالجامع وكانت العامة تعين المغاربة فتركوا القتال واشتغلوا بإطفاء النار من الجامع فعظم الخطب واشتد الأمر وأتى الحريق على الجامع فدثرت محاسنه وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة.
59 462 ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة ذكر عدة حوادث في هذه السنة أقبل ملك الروم من القسطنطينة في عسكر كثيف إلى الشام ونزل على مدينة منبج ونهبها وقتا أهلها وهزم محمود بن صالح بن مرداس وبني كلاب وابن حسان الطائي ومن معهما من جموع العرب ثم إن ملك الروم ارتحل وعاد إلى بلاده ولم يمكنه المقام لشدة الجوع. وفيها سار أمير الجيوش بدر من مصر في عساكر كثيرة إلى مدينة صور وحصرها وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل فلما حصره وأرسل القاضي إلى الأمير قرلوا مقدم الأتراك المقيمين بالشام يستنجده فسار في اثني [عشر] الف فارس فحصر مدينة صيدا وهي لأمير الجيوش بدر فرحل حينئذ بدر فعاد الأتراك فعاودوا بدر حصر صور برا وبحرا سنة وضيق على أهلها حتى أكلوا الخبز كل رطل بنصف دينار ولم يبلغ غرضه فرحل عنها. وفيها سارت دار ضرب الدنانير ببغداد في يد وكلاء الخليفة وسبب ذلك
60 أن البهرج كثر في أيدي الناس على السكك السلطانية وضرب اسم ولي العهد على الدينار وسمي الأميري ومنع من التعامل بسواه. وفيها ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم ومعه ولده إلى السلطان ألب أرسلان يخبره بإقامة الخطبة للخليفة القائم بأمر الله وللسلطان بمكة وإسقاط خطبة العلوي صاحب مصر وترك الأذان على خير العامل فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار وخلعا نفيسة وأجرى له كل سنة عشرة آلاف دينار، وقال إذا فعل أمير المدينة مهنا كذلك أعطيناه عشرين ألف دينار وكل سنة خمسة آلاف دينار. وفيها تزوج عميد الدولة بن جهير بابنة نظام الملك بالري وعاد إلى بغداد. وفيها في شهر رمضان توفي تاج الملوك هزارسب بن بنكير بن عياض بأصبهان وهو عائد من عند السلطان إلى خوزستان وكان قد علا أمره وتزوج بأخت السلطان وبغى على نور الدولة دبيس بن مزيد وأغرى السلطان به ليأخذ بلاده فلما مات سار دبيس إلى السلطان ومعه شرف الدولة مسلم صاحب الموصل فخرج نظام الملك فلقيهما وتزوج شرف الدولة بأخت السلطان التي كانت امرأة هزارسب وعاد إلى بلادهما من همذان. وفيها كان بمصر غلاء شديد ومجاعة عظيمة حتى أكل الناس بعضهم بعضا وفارقوا الديار المصرية فورد بغداد منهم خلق كثير هربا من الجوع وورد التجار ومعهم ثياب صاحب مصر وآلات نهبت من الجوع وكان فيها أشياء كثيرة نهبت من دار الخلافة وقت القبض على الطائع لله سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ومما نهب أيضا في فتنة البساسيري وخرج من خزانتهم
61 ثمانون ألف قطعة بلور كبار وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج القديم وأحد عشر ألف كزاغند وعشرون ألف سيف محلي وقال ابن الفضل يمدح القائم بأمر الله ويذكر الحال بقصيدة فيها: (قد علم المصري أن جنوده * سنو يوسف منها وطاعون عمواس) (وقامت به حتى استراب بنفسه * وأوجس منه خيفة أي إيجاس) في أبيات. وفيها توفي أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد الواسطي كان أدبيا شاعرا حسن القول فمن قوله: (واحسرتي من قولها * خان عهودي ولها) (وحق من صيرني * وقفا عليها ولها) (ما خطرت بخاطري * إلا كستني ولها) وتوفي محمد بن أحمد أبو غالب بن بشران الواسطي الأديب وانتهت الرحلة إليه في الأدب وله شعر فمنه الزهد: (يا شائدا للقصور كهلا * أقصر فقصر الفتى الممات) (لم يجتمع شملا أهل قصر * إلا قصاراهم الشتات) (وإنما العيش مثل ظل * متنقل ما له ثبات) وفيها توفي القاضي أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن حزم قاضي دمشق وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي العجائز الخطيب بدمشق.
62 463 ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة ذكر الخطبة للقائم بأمر الله والسلطان بحلب في هذه السنة خطب محمود بن صالح بن مرداس بحلب لأمير المؤمنين القائم بأمر الله والسلطان ألب أرسلان. وسبب ذلك أنه رأى إقبال دولة السلطان وقتها وانتشار دعوتها فجمع أهل حلب وقال هذه دولة جديدة ومملكة شديدة ونحن تحت الخوف منهم وهم يستحلون دماءهم لأجل مذاهبكم والرأي أن نقيم الخطبة قبل أن يأتي وقت لا ينفعنا فيه قول ولا بذل. فأجاب المشايخ [إلى] ذلك، ولبس المؤذنون السواد وخطبوا للقائم بأمر الله والسلطان فأخذت العامة حصر الجامع وقالوا هذه حصر علي بم أبي طالب فيأتي أبو بكر بحصر يصلي عليها بالناس. وأرسل الخلفة إلى محمود الخلع مع نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي فلبسها ومدحه ابن سنان الخفاجي وأبو الفتيان بن حيوس وقال أبو عبد الله بن عطية يمدح القائم بأمر الله ويذكر الخطبة وحلب ومكة والمدينة: (كم طائع لك لم تجلب عليه ولم * تعرف لطاعته غير التقى سببا) (هذا البشير بإذعان الحجاز وذا * داعي دمشق وذا المبعوث من حلبا)
63 ذكر استيلاء السلطان ألب أرسلان على حاب في هذه السنة سار السلطان ألب أرسلان إلى حلب وجعل طريقه على ديار بكر فخرج إليه صاحبها نصر بن مروان وخدمه بمائة ألف دينار وحمل إليه إقامة عرف السلطان أنه قسطها على البلاد فأمر بردها. ووصل إلى آمد فرآها ثغرا منيعا فتبرك به وجعل يمر يده على السور ويمسح بها صدره. وسار إلى الرها فحصرها فلم يظفر منها بطائل فسار على حلب وقد وصلها نقيب النقباء أبو الفوارس راض بالرسالة القائمية والخلع فقال له محمد صاحب حلب أسألك الخروج إلى السلطان واستعفاءه لي من الحضور عنده فخرج نقيب النقباء وأخبر السلطان بأنه قد لبس لبس الخلع القائمية وخطب فقال أي شيء يساوي خطبتهم وهم يؤذنون حي على خير العمل ولا بد من الحضور ودوس بساطي؛ فامتنع محمد من ذلك. واشتد الحصار على البلد وغلت الأسعار وعظم القتال وزحف السلطان يوما وقرب من البلد فوقع حجر منجنيق في فرسه فلما عظم الأمر على محمد خرج ليلا ومعه والدته منيعة بنت وثاب النميري فدخلا على السلطان وقالت له هذا ولدي فافعل به ما تحب فتلقاهما بالجميل وخلع على محمد وأعاده إلى بلده فأنفذ إلى السلطان مالا جزيلا.
64 ذكر خروج ملك الروم إلى خلاط وأسره في هذه السنة خرج أرمانوس ملك الروم في مائتي ألف من الروم والفرنج والغرب والروس والبجناك والكرج وغيرهم من طوائف تلك البلاد فجاؤوا في تجمل كثير وزي عظيم وقصد بلاد الإسلام فوصل إلى ملازكرد من أعمال خرط فبلغ السلطان ألب أرسلان الخبر وهو بمدينة خوى من أذربيجان قد عاد من حلب وسمع ما فيه ملك الروم من كثرة الجموع فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو فسير الأثقال مع زوجته ونظام الملك إلى همذان وسار هو في من عنده من العساكر وهو خمسة عشر ألف فارس وجد في السير وقال له إنني أقاتل محتسبا صابرا فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة ابني ملكشاه ولي عهدي؛ وساروا. فلما قارب العدو جعل له مقدمة فصادفت مقدمته عند خلاط مقدم الروسية في نحو عشرة آلاف من الروم فاقتتلوا فانهزمت الروسية وأسر مقدمهم وحمل إلى السلطان فجدع ألفه وأنفذ بالسلب إلى نظام الملك وأمره أن يرسله إلى بغداد فلما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة فقال لا هدنة إلا بالري فانزعج السلطان لذلك فقال له إمامه وفقيهه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان وأرجو أن يكون
65 الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح يدعوني فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال بالساعة التي تكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر والدعاء مقرون بالإجابة. فلما كان تلك الساعة صلى بهم وبكى السلطان فبكى الناس لبكائه ودعا ودعوا معه وقال لهم من أراد الانصراف فلينصرف فما ههنا سلطان يأمر وينهى وألقى القوس والنشاب وأخذ السيف والدبوس وعقد ذنب فرسه بيده عسكره مثله ولبس البياض وتحنط وقال إن قتلت فهذا كفني. وزحف إلى الروم وزحفوا فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه على التراب وبكى وأكثر الدعاء ثم ركب وحمل وحملت إليه العساكر معه فحصل المسلمون في وسطهم وحجز الغبار بينهم فقتل المسلمون فيهم شاؤوا وأنزل الله نصره عليهم فانهزم الروم وقتل منهم ملا يحصى حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى وأسر ملك الروم أسره بعض غلمان كوهرائين فأراد قتله ولم يعرفه فقال له خادم مع الملك لا تقتله فإنه الملك. وكان هذا الغلام قد عرضه كوهرائين على نظام الملك فرده استحقارا له فأثنى عليه كوهرائين فقال نظام الملك عسى أن يأتينا بملك الروم أسيرا فكان كذلك. فلما أسر الغلام الملك أحضره عند كوهرائين فقصد السلطان وأخبره بأسر الملك فأمر باحضاره فلما أحضر ضربه السلطان ألب أرسلان ثلاثة مقارع بيده وقال له ألم أرسل إليك في لهدنة فأبيت؟ فقال: دعني من
66 التوبيخ، وافعل ما تريد! فقال السلطان: ما عزمت ما تفعل بي إن أسرت فقال أفعل القبيح قال له فما تظن أنني أفعل بك قال إما أن تقتلني وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام والأخرى بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائبا عنك قال ما عزمت على غير هذا. ففداه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وأن يرسل إليه عساكر الروم أي وقت طلبها وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم. واستقر الأمر إلى ذلك وأنزله في خيمة وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها فأطلق له جماعة من البطارقة وخلع عليه من الغد فقال ملك الروم أين جهة الخليفة فدل عليه فقام وكشف رأسه وأومأ إلى الأرض بالخدمة وهادنه السلطان خمسين سنة وسره إلى بلاده وسير معه عسكرا أوصلوه إلى مأمنه وشيعه السلطان فرسخا. وأما الروم فلما بلغهم خبر الوقعة وثب ميخائيل على المملكة فملك البلاد فلما وصل أرمانوس الملك إلى قلعة دوقية بلغه الخبر فلبس الصوف وأظهر الزهد وأرسل إلى ميخائيل يعرفه ما تقرر مع السلطان وقال إن شئت ان تفعل ما استقر إن شئت لأمسكت فأجابه ميخائيل بإيثار ما استقر وطلب وساطته وسؤال السلطان في ذلك. وجمع أرمانوس ما عنده من المال فكان مائتي ألف دينار فأرسله إلى السلطان وطبقا ذهبا عليه جواهر بتسعين ألف دينار وحلف له أنه لا يقدر على غير ذلك ثم إن أرمانوس استولى علي أعمال الأرمن وبلادهم ومدح الشعراء السلطان وذكروا هذا الفتح فأكثروا.
67 ذكر ملك أتسز الرملة وبيت المقدس في هذه السنة قصد أتسز بن أوق الخوارزمي وهو من أ مراء السلطان ملكشاه بلد الشام فجمع الأتراك وسار إلى فلسطين ففتح مدينة الرملة وسار منها إلى بيت المقدس وحصره وفيه عساكر المصريين ففتحه وملك ما يجاورهما من البلاد ما عدا عسقلان وقصد دمشق فحصرها وتابعا لنهب لأعمالها حتى خربها وقطع الميرة عنها فضاق الأمر بالناس فصبروا ولم يمكنوه من ملك البلد فعاد عنه وأدام قصد أعماله وتخريبها حتى قلت الأقوات عندهم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة توفي أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني، الفقيه الشافعي، مصنف كتاب الإبانة وغيره. وفي هذه السنة في ذي الحجة توفي الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي صاحب التاريخ والمصنفات الكثيرة ببغداد وكان إمام الدنيا في زمانه وممن حمل جنازته الشيخ أبو إسحاق الشيرازي. وتوفي أيضا فيها في شهر رمضان أبو يعلا محمد بن الحسين بن
68 حمزة الجعفري فقيه الإمامية وحسان بن سعيد بن حسان بن محمد بن عبد الله المنيعي المخزومي من أهل مرو الروذ كان كثير الصدقة والمعروف والعبادة والقنوع بالقليل من القوت والإعراض عن زينة الدنيا وبهجتها وكان السلاطين يزورونه ويتبركون به وأكثر من بناء المساجد والخانقاهات والقناطر وغير ذلك من مصالح المسلمين. وتوفيت أيضا كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية وهي التي تروي صحيح البخاري توفيت بمكة وإليها انتهى علو الإسناد للصحيح إلى أن جاء أبو الوقت.
69 464 ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة ذكر ولاية سعد الدولة كوهرائين شحنكية بغداد في ربيع الأول من هذه السنة ورد إيتكين السلماني شحنة بغداد من عند السلطان إلى بغداد فقصد دار الخلافة وسأل العفو عنه وأقام أياما فلم يجب إلى ذلك. وكان سبب غضب الخليفة عليه أنه قد استخلف ابنه عند مسيره إلى السلطان وجعله شحنة ببغداد فقتل أحد المماليك الدارية فأنفذ قميصه من الديوان إلى السلطان ووقع الخطاب في عزله. وكان نظام الملك يعني بالسليماني فأضاف إلى إقطاعه تكريت فكوتب من ديوان الملك بالتوقف عن تسليمها فلما رأى نظام الملك والسلطان إصرار الخليفة على الاستقالة من ولايته شحنكية بغداد سير سعد الدولة كوهرائين إلى بغداد شحنة عزل السليماني عنها اتباعا لما أمر به الخليفة القائم بأمر الله ولما ورد سعد الدولة خرج الناس لتلقيه وجلس له الخليفة. ذكر تزويج ولي العهد بابنة السلطان في هذه السنة أرسل الإمام القائم بأمر الله عميد الدولة بن جهير ومعه الخلع للسلطان ولولده ملكشاه وكان السلطان قد أرسل يطلب من الخليفة أن يأذن
70 في أن يجعل ولده ملكشاه ولي عهده فأذن وسيرت له الخلع مع عميد الدولة وأمر عميد الدولة أن يخطب ابنة السلطان ألب أرسلان من سفري خاتون لولي العهد المقتدي بأمر الله فلما حضر عند السلطان خطب ابنته فأجيب إلى ذلك. وعقد النكاح بظاهر نيسابور وكان عميد الدولة الوكيل في قبول النكاح ونظام الملك الوكيل من جهة السلطان في العقد وكان النثار جواهر وعاد عميد الدولة من عند السلطان إلى ملكشاه وكان ببلاد فارس فلقيه بأصبهان فأفاض عليه الخلع فلبسها وسار إلى والده وعاد عميد الدولة إلى بغداد، فدخلها في ذي الحجة. ذكر ولاية أبي الحسن بن عمار طرابلس في هذه السنة فر رجب توفي القاضي أبو طالب بن عمارة قاضي طرابلس وكان قد استولى عليها واستبد بالأمر فيها فلما توفي قام مكانه ابن أخيه جلال الملك أبو الحسن بن عمارة ضبط البلد أحسن ضبط ولم يظهر لفقد عمه أشر كفايته. ذكر ملك السلطان ألب أرسلان قلعة فضلون بفارس في هذه السنة سير السلطان ألب أرسلان وزيره نظام الملك في عسكر إلى بلاد فارس وكان بها حصن من أمنع الحصون والمعاقل وفيه صاحبه فضلون،
71 وهو لا يعطي الطاعة فنازله وحصره ودعاه إلى طاعة السلطان فامتنع فقاتله فلم يبلغ بقتاله غرضا لعلو الحصن وارتفاعه فلم يطل مقامهم عليه حتى نادى أهل القلعة بطلب الأمان ليسلموا الحصن إليه فعجب الناس من ذلك وكان السبب فيه أن جميع الآبار التي بالقلعة غارت مياهها في ليلة واحدة فقادتهم ضرورة العطش إلى التسليم فلما طلبوا الأمان أمنهم نظام الملك وتسلم الحصن والتجأ فضلون إلى قلعة القلعة وهي أعلى موضع فيها وفيه بناء مرتفع فاحتمى فيها فسير نظام الملك طائفة من العسكر إلى الموضع الذي فيه أهل فضلون وأقاربه ليحملوهم إليه وينهبوا ما لهم فسمع فضلون الخبر ففارق موضعه مستخفيا فيمن عنده من الجند وسار ليمنع عن أهله فاستقبله طلائع نظام الملك وحمله فتفرق من معه واختفى في نبات الأرض فوقع فيه بعض العسكر فأخذ أسرا وحمله إلى نظام الملك فأخذوه وسار به إلى السلطان فأمنه وأطبقه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة توفي القاضي أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الصمد بن المهتدي بالله الخطيب بجامع المنصور وكان قد أضر ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وكان إليه قضاء واسط وخليفته عليها أبو محمد بن السمال.
72 465 ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة ذكر قتل السلطان ألب أرسلان في أول هذه السنة قصد السلطان ألب أرسلان واسمه محمد وإنما غلب عليه ألب أرسلان ما وراء النهر وصاحبه شمس الملك تكين فعقد علي جيحون جسرا وعبر عليه في نيف وعشرين يوما وعسكره يزيد على مائتي ألف فارس فأتاه أصحابه بمستحفظ قلعة يعرف بيوسف الخوارزمي في سادس شهر ربيع الأول وحمل إلى قرب سريره مع غلامين فتقدم أن تضرب له أربعة أوتاد وتشد أطرافه إليهما فقال له يوسف يا مخنث مثلي يقتل هذه القتلة فغضب السلطان ألب أرسلان وأخذ القوس والنشاب وقال للغلامين خلياه ورماه السلطان بسهم فأخطأه ولم يكن يخطئ سهمه فوثب يوسف يريده والسلطان على سدة فلما رأى يوسف يقصده قام عن السدة ونزل عنها فعثر يريده فوقع على وجهه فبرك عليه يوسف وضربه بسكين كانت معه في خاصرته وكان سعد الدولة واقفا فجرحه يوسف أيضا جراحات ونهض السلطان فدخل إلى خيمة أخرى وضرب بعض الفراشين يوسف بمرزبة على رأسه فقتله وقطعه الأتراك. وكان أهل سمرقند لما بلغهم عبور السلطان النهر وما فعل عسكره بتلك البلاد لا سيما بخارى اجتمعوا وختموا ختمات وسألوا الله أن يكفيهم
73 أمره فاستجاب لهم. ولما جرح السلطان قال ما من وجه قصدته وعدو أردته إلا استعنت بالله عليه ولما كان أمس صعدت على تل فارتجت الأرض تحتي من عظم الجيش وكثرة العسكر فقلت في نفسي أمنا ملك الدنيا وما يقدر أحد علي فعجزني الله تعالى بأضعف خلقه وأنا أستغفر الله تعالى وأستقيله من ذلك الخاطر فتوفي عاشر ربيع الأول من السنة فحمل إلى مرو ودفن عند أبيه ومولده سنة أربع وعشرين وأربعمائة وبلغ من العمر أربعين سنة وشهورا وقيل كان مولده سنة عشرين وأربعمائة وكانت مدة ملكه منذ خطب في السلطنة إلى أن قتل تسع سنين وستة أشهر وأياما ولما وصل خبر موته إلى بغداد جلس الوزير بن جهير للعزاء به في صحن السلام. ذكر نسب ألب أرسلان وبعض سيرته . وهو ألب أرسلان محمد بن داود جغري بك بن ميكائيل بن سلجوق وكان كريما عادلا عاقلا لا يسمع السعايات واتسع ملكه جدا ودان له العالم وبحق قيل له سلطان العالم. وكان رحيم القلب رفيقا بالفقراء كثير الدعاء بدوام ما أنعم الله به عليه اجتاز يوما بمرو على فقراء الخرائين فبكى وسأل الله تعالى أن يغنيه من فضله.
74 وكان يكثر الصدقة فيتصدق في رمضان بخمسة عشر ألف دينار وكان في ديوانه أسماء خلق كثير من الفقراء في جميع ممالكه عليهم الإدرارات والصلاة ولم يكن في جميع بلاده جناية ولا مصادرة قد قنع من الرعايا بالخراج الأصلي يأخذ منهم كل سنة دفعتين رفقا بهم. وكتب عليه بعض السعاة سعاية في نظام الملك وزيره وذكر ماله في ممالكه من الرسوم والأموال وتركت على مصلاة فأخذها فقرأها ثم سلمها إلى نظام الملك وقال له خذ هذا الكتاب فإن صدقوا في الذي كتبوه فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم واشغلهم بما يشتغلون به عن السعاية بالناس وهذه حالة لا يذكر عن أحد من الملوك أحسن منها. وكان كثرا ما يقرأ عليه تواريخ الملوك وآدابهم وأحكام الشريعة ولما اشتهر بين الملوك حسن سيرته ومحافظته على عهوده أذعنوا له بالطاعة والموافقة بعد الامتناع وحضروا عنده من أقاصي مكا وراء النهر إلى أقصى الشام. وكان شديد العناية بكف الجند عن أموال الرعية بلغه أن بعض خواص مماليكه سلب من بعض الرستاقية إزارا فأخذ المملوك وصلبه فارتدع الناس عن التعرض إلى مال غيرهم. ومناقبه كثيرة لا يليق بهذا الكتاب أكثر من هذا القدر منها ألب أرسلان من أولاده ملكشاه وهو صار السلطان بعده وإياز وتكش وبوري برش وتتش وأرسلان أرغو وسارة وعائشة وبنتا أخرى.
75 ذكر ملك السلطان ملكشاه لما جرح السلطان ألب أرسلان أوصى بالسلطنة لابنه ملكشاه وكان معه وامر أن يحلف له العسكر فحلفوا جميعهم وكان المتولي لأمر في ذلك نظام الملك وأرسل ملكشاه إلى بغداد يطلب الخطبة له فخطب له على منابره وأوصى ألب أرسلان ابنه ملكشاه أيضا أن يعطي أخاه قاورت بك بن داود أعمال فارس وكرمان وشيئا عينه من المال وأن يزوج بزوجته وكان قاورت بك بكرمان وأوصى أن يعطي ابنه أياز بن ألب أرسلان ما كان لأبيه داود وخمسمائة الف دينار وقال كل من لم يرض بما أوصيت له فقاتلوه واستعينوا بما جعلته له على حربه. وعاد ملكشاه من بلاد ما وراء النهر في نيف وعشرين يوما في ثلاثة أيام وقام بوزارة ملكشاه نظام الملك وزاد الأجناد في معايشهم سبعمائة ألف دينار وعادوا إلى خراسان وقصدوا نيسابور وراسل ملكشاه جماعة الملوك أصحاب الأطراف يدعوهم إلى الخطبة له والانقياد إليه وأقام إياز أرسلان ببلخ وسار السلطان ملكشاه في عساكره من نيسابور إلى الري.
76 ذكر ملك صاحب سمرقند مدينة ترمذ في هذه السنة في ربيع الآخر ملك التكين صاحب سمرقند مدينة ترمذ وسبب ذلك انه لما بلغه وفاة ألب أرسلان وعود ابنه ملكشاه عن خراسان طمع في البلاد المجاورة له فقصد ترمذ أول ربيع الآخر وفتحها ونقل ما فيها من ذخائر وغيرها إلى سمرقند. وكان إياز بن الب أرسلان قد سار عن بلخ إلى الجوزجان فخاف أهل بلخ فأرسلوا إلى التكين يطلبون منه الأمان فأمنهم فخطبوا له ما فيها وورد إليها فنهب عسكره شيئا من أموال الناس وعاد إلى ترمذ فثار أوباش بلخ بجماعة من أصحابه فقتلوهم فعاد إليهم وأمر بإحراق المدينة فخرج إليه أعيان أهلها وسألوه الصفح واعتذروا فعفا عنهم لكنه أخذ أموال التجار فغنم شيئا عظيما. فلما وصل الخبر إلى إياز عاد من الجوزجان إلى بلخ فوصل غرة جمادى الأولى، فأطاعه أهلها وسار عنها إلى ترمذ في عشرة آلاف فارس في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، فلقيهم عسكر التكين فانهزم إياز فغرق من عسكره في جيحون أكثرهم وقتل كثير منهم ولم ينج إلا القليل.
77 ذكر قصد صاحب غزنة سكلكند وفي هذه السنة أيضا في جمادى الأولى وردت طائفة كثيرة من عسكر غزنة إلى سكلكند وبها عثمان عم السلطان ملكشاه ويلقب بأمير الأمراء فأخذوه أسيرا وعادوا به إلى غزنة مع خزائنه وحشمه فسمع الأمير كمشتكين بلكابك وهو من أكابر الأمراء فتبع آثارهم وكان معه أنوشتكين جد ملوك خوارزم في زماننا فنهبوا مدينة سكلكند. ذكر الحرب بين السلطان ملكشاه وعمه قاورت بك لما بلغ قاورت بك وهو بكرمان وفاة أخيه ألب أرسلان سار طالبا للري يريد الاستيلاء على الممالك فسبقه إليها السلطان ملكشاه ونظام الملك وسارا منها إليه فالتقوا بأقرب من همذان في شعبان وكان العسكر يميلون إلى قاورت بك فحملت مسيرة قاورت علي ميمنة ملكشاه فهزموها وحمل شرف الدولة مسلم بن قريش وبهاء الدولة منصور بن دبيس بن مزيد وهما مع ملك شاة ومن معهما من العرب والأكراد على ميمنة قاورت بك فهزموها وتمت الهزيمة على أصحاب قاورت بك ومضى المنهزمون من أصحاب السلطان ملكشاه إلى حلل شرف الدولة وبهاء الدولة فنهبوها غيظا منهم حيث هزموا عسكر قاورت بك ونهبوا أيضا ما كان لنقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي رسول الخليفة.
78 وجاء رجل سوادي إلى السلطان ملكشاه فأخبره أن عمه قاورت بك في بعض القرى فأرسل من أخذه وأحضره فأمر سعد الدولة كوهرائين فخنقه وأقر كرمان بيد أولاده وسير إليهم الخلع وأقطع العرب والأكراد إقطاعات كثيره لما فعلوه في الوقعة. وكان السبب في حضور شرف الدولة وبهاء الدولة عند ملكشاه أن السلطان ألب أرسلان كان ساخطا على شرف الدولة فأرسل الخليفة نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي إلى شرف الدولة بالموصل فأخذه فسار به إلى ألب أرسلان ليشفع فيه عند الخليفة فلما بلغ الزاب وقف على ملطفات كتبها وزيره أبو جابر بن صقلاب فأخذها شرف الدولة فغرقها وسار مع طراد فبلغهما الخبر بوفاة ألب أرسلان ومسير ابنه ملكشاه فتمما إليه وأما هباء الدولة فإنه كان قد سار بمال أرسله به أبوه إلى السلطان فحضر الحرب بهذا السبب. ذكر تفويض الأمور إلى نظام الملك ثم إن عسكر ملكشاه بسطوا ومدوا أيدهم في أموال الرعية وقالوا ما يمنع السلطان أن يعطينا الأموال إلا نظام الملك فنال الرعية أذى شديد فذكر ذلك نظام الملك للسلطان فبين له ما في هذا الفعل من الوهن وخراب البلاد وذهاب السياسة فقال له افعل في هذا ما تراه مصلحة! فقال له
79 نظام الملك: ما يمكنني أن أفعل إلا بأمرك. فقال السلطان قد رددت الأمر كلها كبيرا وصغيرها إليك فأنت الوالد وحلف له وأقطعه إقطاعا زائدا على ما كان من جملته طوس مدينة نظام الملك وخلع عليه ولقبه ألقابا من جملتها أتابك ومعناه الأمير الوالد فظهر من كفايته وشجاعته وحسن سيرته ما هو مشهور فمن ذلك أن امرأة ضعيفة استغاثت إليه فوقف يكلمها فدفعها بعض حجابه فأنكر ذلك عليه وقال إنما استخدمتك لأمثال هذه فإن الأمراء والأعيان لا حاجة بهم إليك ثم صرفه عن حجابته. ذكر قتل ناصر الدولة بن حمدان في هذه السنة قتل ناصر الدولة أبو علي الحسن بن حمدان وهو من أولاد ناصر الدولة بن حمدان بمصر وكان قد تقدم فيها تقدما عظيما. ونذكر ههنا الأسباب الموجبة لقتله فإنها تتبع بعضها بعضا في حروب وتجارب وكان أول ذلك انحلال أمر الخلافة وفساد أحوال المستنصر بالله العلوي صاحبها وسببه أن والدته كانت غالبة على أمره وقد اصطنعت أبا سعيد إبراهيم التستري اليهودي وصار وزيرا لها فأشار عليها بوزارة أبي نصر الفلاحي فولته الوزارة واتفقا مدة ثم صار الفلاحي ينفرد بالتدبير فوقع بينهما وحشة فخاف الفلاحي أن يفسد أمره مع أم المستنصر،
80 فاصطنع الغلمان الأتراك واستمالهم وزاد في أرزاقهم فلما وثق بهم وضعهم على قتل اليهودي فقتلوه فعظم الأمر على أم المستنصر وأغرت به ولدها فقبض عليه وأرسلت من قتله تلك الليلة وكان بينهما في القتل تسعة أشهر. ووزر بعده أبو البركات حسن بن محمد فوضعه على الغلمان الأتراك فأفسد أحوالهم وشرع يشتري العبيد للمستنصر واستكثر منهم فوضعته أم المستنصر ليغري العبيد المجردين بالأتراك فخاف عاقبة ذلك وعلم أنه يورث شرا وفسادا فلم يفعل فتنكرت له وعزلته عن الوزارة. وولي بعده الوزارة أبو محمد اليازوري من قرية من قرى الرملة اسمها يازور فأمرته أيضا بذلك فلم يفعل وأصلح الأمور إلى أن قتل. ووزر أبو عبد الله الحسين بن البابلي فأمرته بما أمرت به غيره من الوزراء من إغراء العبيد بالأتراك ففعل فتغيرت نياتهم. ثم إن المستنصر ركب ليشيع الحجاج فأجرى بعض الأتراك فرسه فوصل به إلى جماعة العبيد المحدثين وكانوا يحيطون بالمستنصر فضربه أحدهم فجرحه فعظم ذلك على الأتراك ونشبت الحرب ثم اصطلحوا على تسليم الجارح إليهم واستحكمت العداوة فقال الوزير للعبيد خذوا حذركم فاجتمعوا في محلتهم. وعرف الأتراك ذلك فاجتمعوا إلى مقدميهم وقصدوا ناصر الدولة بن حمدان وهو أكبر قائد بمصر وشكوا إليه واستمالوا المصامدة وتعاهدوا وتعاقدوا فقوي الأتراك وضعف العبيد المحدثون فخرجوا من القاهرة إلى الصعيد ليجتمعوا هناك فانضاف إليهم خلق كثير يزيدون على خمسين ألف فارس وراجل فخاف الأتراك وشكوا إلى المستنصر فأعاد
81 الجواب أنه لا علم له بما فعل العبيد وأنه لا حقيقة له فظنوا قوله حيلة عليهم. ثم قوي الخبر بقرب العبيد منهم بكثرتهم فأجفل الأتراك وكتامة المصامدة وكانت عدتهم ستة آلاف فالتقوا بموضع يعرف بكوم الريش واقتتلوا فانهزم الأتراك ومن معهم إلى القاهرة وكان بعضهم قد كمن في خمسمائة فارس فلما انهزم الأتراك خرج الكمين على ساقة العبيد ومن معهم وحملوا عليهم حملة منكرة وضربت البوقات فارتاع العبيد وظنوها مكيدة من المستنصر وأنه قد ركب في باقي العسكر فانهزموا وعاد عليهم الأتراك وحكموا فيهم السيوف، فقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفا وكان يوما مشهودا. وقويت نفوس الأتراك وعرفوا حسن رأي المستنصر فيهم وتجمعوا وحشدوا فتضاعفت عدتهم وزادت واجباتهم للانفاق فيهم فخلت الخزائن واضطربت الأمور وتجمع باقي العسكر من الشام وغيره إلى الصعيد فاجتمعوا مع العبيد فصاروا خمسة عشر الف فارس وراجل وساروا إلى الجيزة فخرج عليهم الأتراك ومن معهم واقتتلوا في الماء عدة أيام ثم عبر الأتراك النيل إليهم مع ناصر الدولة بن حمدان فاقتتلوا فانهزم العبيد إلى الصعيد وعاد ناصر الدولة والأتراك منصورين. ثم إن العبيد اجتمعوا بالصعيد في خمسة عشر الف فارس وراجل فقلق الأتراك لذلك فحضر مقدموهم دار المستنصر لشكوى حالهم فأمرت أم المستنصر من عندها من العبيد بالهجوم على المقدمين والفتك بهم ففعلوا ذلك وسمع ناصر الدولة الخبر فهرب إلى ظاهر البلد واجتمع الأتراك إليه،
82 ووقعت الحرب بينهم وبين العبيد ومن تبعهم من مصر والقاهرة وحلف الأمير ناصر الدولة بن حمدان أنه لا ينزل عن فرسه ولا يذوق طعاما حتى ينفصل الحال بينهم فبقيت الحرب ثلاثة أيام ثم ظفر بهم ناصر الدولة وأكثر القتل فيهم ومن سلم هرب وزالت دولتهم من القاهرة. وكان بالإسكندرية جماعة من العبيد فلما كانت هذه الحادثة طلبوا الأمان فأمنوا وأخذت منهم الإسكندرية وبقي العبيد الذين بالصعيد. فلما خلت الدولة للأتراك طمعوا في المستنصر وقل ناموسه عندهم وطلبوا الأموال فخلت الخزائن فلم يبق فيها شيء البتة واختل ارتفاع الأعمال وهم يطالبون واعتذر المستنصر بعدم الأموال عنده فطلب ناصر الدولة العروض فأخرجت إليهم وقومت بالثمن البخس وصرفت إلى الجند قيل إن واجب الأتراك كان في الشهر عشرين ألف دينار فصار الآن في الشهر أربعمائة ألف دينار. وأما العبيد بالصعيد فإنهم أفسدوا وقطعوا الطريق وأخافوا السبيل فسار إليهم ناصر الدولة في عسكر كثير فمضى العبيد من بين يديه إلى الصعيد الأعلى فأدركهم فقاتلهم وقاتلوه فانهزم ناصر الدولة منهم وعاد إلى الجيزة بمصر واجتمع إليه من سلم من أصحابه وشغبوا على المستنصر واتهموه بتقوية العبيد والميل إليهم ثم جهزوا جيشا وسيروه إلى طائفة من العبيد بالصعيد وقاتلوهم فقتل تلك الطائفة من العبيد فوهن الباقون وزالت دولتهم.
83 وعظم أمر ناصر الدولة وقويت شوكته وتفرد بالأمر دون الأتراك فامتنعوا من ذلك وعظم عليهم وفسدت نياتهم له فشكوا ذلك إلى الوزير وقالوا كلما خرج الخليفة مال اخذ أكثره له ولحاشيته ولا يصل إلينا منه إلا القليل فقال الوزير إنما وصل إلى هذا وغيره بكم فلو فارقتموه لم يتم له أمر فاتفق رأيهم على مفارقة ناصر الدولة وإخراجه من مصر فاجتمعوا وشكوا إلى المستنصر وسألوه أن يخرج عنهم ناصر الدولة فأرسل إليه يأمره بالخروج ويتهدده إن لم يفعل فتخرج من القاهرة إلى الجيزة ونهبت داره ودور حواشيه وأصحابه. فلما كان الليل دخل ناصر الدولة مستخفيا إلى القائد المعروف بتاج الملوك شادي فقبل رجله وقال اصطنعني فقال أفعل فحالفه على قتل مقدم من الأتراك اسمه الدكز والوزير الخطير، وقال ناصر الدولة لشادي تركب في أصحابك وتسير بين القصرين فإذا أمكنتك الفرصة فيهما فاقتلهما. وعاد ناصر الدولة إلى موضعه إلى الجيزة وفعل شادي ما أمره فركب الدكز إلى القصر فرأى شادي في جمعه فأنكره وأسرع فدخل القصر ففاته ثم أقبل الوزير في موكبه فقتله شادي وأرسل إلى ناصر الدولة يأمره بالركوب فركب إلى باب القاهرة فقال الدكز للمستنصر إن لم تركب وإلا هلكت أنت ونحن فركب ولبس سلاحه وتبعه خلق عظيم من العامة والجند واصطفوا للقتال فحمل الأتراك على ناصر الدولة فانهزم وقتل من أصحابه خلق كثير ومضى منهزما على وجهه لا يلوي على شيء وتبعه فل أصحابه فوصل إلى بني سنبس فأقام عندهم وصاهرهم فقوي بهم. وتجهزت العساكر إليه ليبعدوه فساروا حتى قربوا منه وكانوا ثلاث
84 طوائف، فأراد أحد المقدمين أن يفوز بالظفر وحده دون أصحابه فعبر فيمن معه إلى ناصر الدولة وحمل عليه فقاتله فظفر به ناصر الدولة فأخذه أسيرا وأكثر القتل في أصحابه وعبر العسكر الثاني ولم يشعروا بما جرى على أصحابهم فحمل ناصر الدولة عليهم ورفع رؤوس القتلى على الرماح فوقع الرعب في قلوبهم فانهزموا وقتل أكثرهم وقويت نفس ناصر الدولة. وعبر العسكر الثالث فهزمه وأكثر القتل فيهم وأسر مقدمهم وعظم أمره ونهب الريف فأقطعه وقطع الميرة عن مصر برا وبحرا فغلت الأسعار بها وكثر الموت بالجوع وامتدت أيدي الجند بالقاهرة إلى النهب والقتل وعظم الوباء حتى أن أهل البيت الواحد كانوا يموتون كلهم في ليلة واحدة. واشتد الغلاء حتى أن امرأة أكلت رغيفا بألف دينار فاستبعد ذلك فقيل إنها باعت عروضا قيمتها الف دينار بثلاثمائة دينار واشترت بها حنطة حملها الحمال على ظهره فنهبت الحنطة في الطريق هي مع الناس فكان الذي حصل لها مما عملته رغيفا واحدا. وقطع ناصر الدولة الطريق برا وبحرا فهلك العالم ومات أكثر أصحاب المستنصر وتفرق كثير منهم فراسل الأتراك من القاهرة ناصر الدولة في الصلح فاصطلحوا على أن يكون تاج الملوك شادي نائبا عن ناصر الدولة بالقاهرة ويحمل المال إليه ولا يبقى معه لأحد حكم. فلما دخل تاج الملوك إلى القاهرة تغير عن القاعدة واستبد بالأموال دون ناصر الدولة ولم يرسل إليه منها شيئا فصار ناصر الدولة إلى الجيزة واستدعى إليه شادي وغيره من مقدمي الأتراك فخرجوا إليه إلا أقلهم فقبض عليهم
85 كلهم ونهب ناحيتي مصر وأحرق كثيرا منها فسير إليه المستنصر عسكرا فكبسوه فانهزم منهم ومضى هاربا فجمع جمعا وعاد إليهم فقاتلهم فهزمهم وقطع خطبة المستنصر بالإسكندرية ومياط وكانا معه وكذلك جميع الريف وأرسل إلى الخليفة ببغداد يطلب خلعا ليخطب له بمصر. واضمحل أمر المستنصر وبطل ذكره وتفرق الناس من القاهرة وأرسل ناصر إليه أيضا يطلب المال فرآه الرسول جالسا على حصير وليس حوله غير ثلاثة خدم ولم ير الرسول شيئا من آثار المملكة، فلما أدى الرسالة قال أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا البيت على مثل هذا الحصير فبكى الرسول وعاد إلى ناصر الدولة فأخبره الخبر فأجرى له كل يوم مائة دينار، وعاد إلى القاهرة وحكم فيها وأذل السلطان وأصحابه. وكان الذي حمله على ذلك أنه كان يظهر التسنن من بين أهله ويعيب المستنصر وكان المغاربة كذلك فأعانوه على ما أراد وقبض على أم المستنصر وصادرها بخمسين ألف دينار وتفرق عن المستنصر أولاده وكثير من أهله إلى الغرب وغيره من البلاد فمات كثير منهم جوعا. وانقضت سنى أربع وستين [وأربعمائة] وما قبلها بالفتن وانحط السعر سنة خمس وستين ورخصت الأسعار، وبالغ ناصر الدولة في إهانة المستنصر وفرق عنه عامة أصحابه وكان يقول لأحدهما إنني أريد أن أولئك عمل كذا فيسير إليه فلا يمكنه من العمل ويمنعه من العود وكان غرضه بذلك
86 أن يخطب للخليفة القائم بأمر الله ولا يمكنه من وجودهم ففطن لفعله قائد كبير من الأتراك اسمه الدكز وعلم أنه ما تم ما أراد تمكن منه ومن أصحابه فأطلع على ذلك غيره من قواد الأتراك فاتفقوا على قتل ناصر الدولة وكان أمن لقوته وعدم هدوه فتواعدوا ليلة على ذلك فلما كان سحر الليلة التي تواعدوا فيها على قتله جاؤوا إلى باب داره وهي التي تعرف بمنازل العز وهي على النيل فدخلوا من غير استئذان إلى صحن داره فخرج إليهم ناصر الدولة في رداء لأنه كان آمنا منهم فلما دنا منهم ضربوه بالسيوف فسبهم وهرب منهم يريد الحرم فلحقوه فضربوه حتى قتلوه وأخذوا رأسه. ومضى رجل منهم يعرف بكوكب الدولة إلى فخر العرب أخي ناصر الدولة وكان فخر العرب كثير الإحسان إليه فقال للحاجب استأذن لي على فخر العرب وقل صنيعتك فلان على الباب، فأستأذن له فأذن له وقال بعله قد دهمه أمر فلما دخل عليه أسرع نحوه كأنه يريد السلام عليه وضربه بالسيف على كتفه فسقط إلى الأرض فقطع رأسه وأخذ سيفه وكان ذا قيمة عليه وافرة وأخذ جارية له أردفها إلى القاهرة وقتل أخوهما تاج المعالي وانقطع ذكر الحمدانية بمصر بالكلية. فلما كان سنة ست وستين وأربعمائة ولي الأمر بمصر بدر الجمالي أمير الجيوش وقتل الدكز والوزير ابن كدينة وجماعة من المسلحية وتمكن من الدولة إلى أن مات وولي بعده ابنه الأفضل وسيرد ذكرهم إن شاء الله تعالى.
87 ذكر عدة حوادث في هذه السنة أقيمت الدعوة العباسية بالبيت المقدس. وفيها توفي الأمير ليث بن منصور صدقة بن الحسين الدامغان والشريف أبو غنام عبد الصمد بن علي بن محمد المأمون ببغداد وكان موته في شوال ومولده سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وكان عالي الإسناد في الحديث. وفيها في ذي الحجة توفي الشريف أبو الحسين محمد بن علي بن عبد اله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله المعروف بابن الغريق وكان يسمى راهب بني العباس وهو آخر من حدث عن الدارقطني وابن شاهين وغيرهما وكان موته ببغداد. وفيها قتل ناصر الدولة أبو علي الحسين بن حمدان بمصر قتله الدكز وقد تقدم شرحة مستوفى. وفيها توفي الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري النيسابوري مصنف الرسالة وغيرها وكان إماما فقيها أصوليا مفسرا كاتبا ذا فضائل جمة له فرس قد أهدي إليه فركبه نحو عشرين سنة فلما مات الشيخ لم يأكل الفرس شيئا فعاش أسبوعا ومات. وفيها أيضا توفي علي بن الحسن بن علي بن الفضل أبو منصور الكاتب المعروف بابن صربعر وكان نظام الملك قال له أنت ابن صر لا صر بعر فبقي ذلك عليه وهو من الشعراء المجيدين وهجاه ابن البياضي فقال: (لئن نبز الناس قدما أباك * فسموه من شعره صر بعرا)
88 (فإنك تنظم ما صره * عقوقا له وتسمية شعرا) وهذا ظلم من ابن البياضي فإنه كان شاعرا محسنا ومن شعراء ابن صر در قوله: (تزاورن عن أذرعات يمينا * نواشز ليس يطقن البرينا) (كلفن بنجد كأن الرياض * أخذن لنجد عليها يمينا) (وأقسمن يحملن إلا نحيلا * إليه ويبلغن إلا حزينا) (فلما استمعن زفير المشوق * ونوح الحمام تركن الحنينا) (إذا جئتما بانة الواديين * فأخرجوا النسوع وحلوا الوضينا) (فثم علائق من أجلهن * ملاء الدجى والضحى قد طوينا) (وقد أنبأتهم مياه الجفون * بأن بقلبك داء دفينا)
89 466 ثم دخلت سنة وستين وأربعمائة ذكر تقليد السلطان ملكشاه السلطنة والخلع عليه في هذه السنة في صفر ورد كوهرائين إلى بغداد من عسكر السلطان وجلس له الخليفة القائم بأمر الله ووقف على رأسه ولي العهد المقتدي بأمر الله وسلم الخليفة إلى كوهرائين عهد السلطان ملكشاه بالسلطنة وقرأ الوزير أوله وسلم إليه أيضا لواء عقده الخليفة بيده ولم يمنع يومئذ أحد من الدخول إلى دار الخلافة فامتلأ صحن السلام بالعامة حتى كان الإنسان تهمه نفسه ليتخلص وهنأ الناس بعضهم بعضا بالسلامة. ذكر غرق بغداد في هذه السنة غرق الجانب الشرقي وبعض الغربي من بغداد. وسببه أن دجلة زادت زيادة عظيمة وانفتح القورج عند المسناة المغرية وجاء الليل سيل عظيم وطفح الماء من البرية مع ريح شديدة وجاء الماء إلى المنازل ونبع من البلاليع والآبار بالجانب الشرقي وهلك خلق كثير تحت الهدم وشدت الزواريق تحت التاج خوف الغرق. وقام الخليفة يتضرع ويصلي وعليه البردة وبيده القشيب وأتى ايتكين السليماني من عكبرا فقال للوزير إن الملاحين يؤذون الناس في
90 المعابر فأحضرهم، وتهددهم بالقتل، وأمر بأخذ ما جرت به العادة. وجمع الناس وأقيمت الخطبة للجمعة في الطيار مرتين وغرق من الجانب الغربي مقبرة أحمد ومشهد باب التبن وتهدم سوره فأطلق شرف الدولة ألف دينار تصرف في عمارته ودخل الماء من شبابيك البيمارستان العضدي. ومن عجيب ما يحكى في هذا الغرق أن الناس في العام الماضي كانوا قد أنكروا كثرة المغنيات والخمور فقطع أوتار عود مغنية كانت جندي فثار به الجندي الذي كانت عنده فضربه فاجتمعت العامة ومعهم كثير من الأئمة منهم أبو إسحاق الشيرازي واستغاثوا إلى الخليفة وطلبوا هدم المواخير والخانات وتبطيلها فوعدهم أن يكاتب السلطان في ذلك وتفرقوا. ولازم كثير من الصالحين الدعاء بكشفه فاتفق أن غرقت بغداد ونال الخليفة والجند من ذلك أمر عظيم وعمت مصيبته كافة الناس فرأى الشريف أبو جعفر بن موسى بعض الحجاب الذين يقولون نحن نكاتب السلطان ونسعى في تفريق الناس ويقول اسكنوا إلى أن يرد الجواب فقال له أبو جعفر قد كتبنا فجاء جوابنا قبل جوابكم يعني أنهم شكوا ما حل بهم إلى الله تعالى وقد أجابهم بالغرق قبل ورود جواب السلطان.
91 ذكر ملك السلطان ملكشاه ترمذ والهدنة بينه وبين صاحب سمرقند قد ذكرنا أن خاقان التكين صاحب سمرقند ملك ترمذ بع قتل السلطان ألب أرسلان فلما استقامت الأمور للسلطان ملكشاه سار إلى ترمذ وحصرها وطم العسكر خندقها ورماها بالمجانيق فخاف من بها فطلبوا الأمان فأمنهم وخرجوا منها وسلموها. وكان بها أخ لخاقان التكين فأكرمه السلطان وخلع عليه وأحسن إليه وأطلقه وسلم قلعة ترمذ إلى الأمير ساوتكين وأمره بعمارتها وتحصينها وعمارة سورها بالحجر المحكم وحفر خندقها وتعميقه ففعل ذلك. وسار السلطان ملكشاه يريد سمرقند ففارقها صاحبها وأنفذ يطلب المصالحة ويضرع إلى نظام الملك في إجابته إلى ذلك ويعتذر من تعرضه إلى ترمذ فأجيب إلى ذلك واصطلحوا وعاد ملكشاه عنه إلى خراسان ثم منها إلى الري وأقطع بلخ وطخارستان لأخيه شهاب الدين تكش. ذكر عدة حوادث . فيها توفي زعيم الدولة أبو الحسن بن عبد الرحيم بالنيل فجأة وله سبعون سنة وقد تقدم من أخباره ما فيه كفاية. وفيها توفي أياز أخو السلطان ملكشاه وكفي شر عمه
92 قاورت بك. وفي ربيع الأول توفي القاضي أبو الحسين بن أبي جعفر السمناني حمو قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني وولي ابنه أبو الحسن ما كان إليه من القضاء بالعراق والموصل وكان مولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة بسمنان وكان هو وأبوه من المغالبين في مذهب الأشعري ولأبيه فيه تصانيف كثيره مما يستطرف أن يكون حنفي أشعريا. وفيها في جمادى الآخرة توفي عبد العزيز أحمد بن محمد بن علي أبو محمد الكتابي الدمشقي الحافظ وكان مكثرا في الحديث ثقة وممن سمع منه الخطيب أبو بكر البغدادي.
93 467 ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة ذكر وفاة القائم بأمر الله وذكر بعض سيرته في هذه السنة ليلة الخميس ثالث عشر شعبان توفي القائم بأمر الله أمير المؤمنين رضي الله عنه واسمه أبو جعفر بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد. وكان سبب موته أنه كان قد اصابه شرى فافتصد ونم منفردا فانفجر فصاده وخرج منه دم كثير ولم يشعر فاستيقظ وقد صعف وسقطت قوته فأيقن بالموت فأحضر ولي العهد ووصاه نفسه أنه جعل ابن ابنه أبا القاسم عبد الله بن محمد بن القائم بأمر الله ولي عهده. ولما توفي غسله الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي وصلى عليه المقتدي بأمر الله. وكان عمره ستا وسبعين سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام وخلافته أربعا
94 وأربعين سنة وثمانية أشهرا وأياما وقيل كان مولده ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وعلى هذا يكون عمره ستا وسبعين سنة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوما. وأمه أم ولد تسنى قطر الندى أرمنية وقيل رومية أدركت خلافته وقيل اسمها علم وماتت في رجب سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. وكان القائم جميلا مليح الوجه أبيض مشربا خمرة حسن الجسم ورعا دينا زاهدا عالما قوي اليقين بالله تعالى كثير الصبر وكان لقائم عناية بالأدب ومعرفة حسنة بالكتابة ولم يكن يرتضي أكثر من يكتب من الديوان فكان يصلح فيه أشياء وكان مؤثرا للعدل والإنصاف يريد قضاء حوائج الناس لا يرى المنع من شيء يطلب منه. قال محمد بن علي بن عامر الوكيل دخلت يوما إلى المخزن فلم يبق أحد إلا أعطاني قصة فامتلأت أكمامي منها فقلت في نفسي لو كان الخليفة أخي لأعرض عن هذه كلها، فألقيتها في بركة والقائم بأمر ينظر ولا أشعر فلما دخلت إليه أمر الخدم بإخراج الرقاع من البركة فأخرجت ووقف عليها ووقع فيها بأغراض أصحابها ثم قال لي يا عامي ما حملك على هذا فقلت خوف الضجر منها فقال لا تعد إلى مثلها فإنا ما أعطيناهم من أموالنا شيئا إنما نحن وكلاء. ووزر للقائم أبو طالب محمد بن أيوب وأبو الفتح بن دارست ورئيس الرؤساء وأبو نصر بن جهير وكان قاضيه ابن ماكولا وأبو عبد الله الدامغاني.
95 ذكر خلافة المقتدي بأمر الله لما توفي القائم بأمر الله بويع المقتدي بأمر الله عبد الله محمد بن القائم بالخلافة وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة والشيخ أبو إسحاق وأبو نصر بن الصباغ ونقيب النقباء طراد والنقيب الطاهر المعمر بن محمد القضاة أبو عبد الله الدامغاني وغيرهم من الأعيان والأماثل فبايعوه. وقيل كان أول من بايعه الشريف أبو حعفر بن أبي موسى الهاشمي فإنه لما فرغ من غسل القائم وأنشده: (إذا سيدنا منا مضى قام سيد) (ثم ارتج عليه فقال المقتدي: (قؤول بما قال الكرام فعول) فلما فرغوا من البيعة صلى بهم العصر. ولم يكن للقائم من أعقابه ذكر سواه فإن الذخيرة أبا العباس محمد بن القائم توفي أيام أبيه ولم يكن له غيره فأيقن الناس بانقراض نسله وانتقال الخلافة من البيت القادري إلى غيره ولم يشكوا في اختلال الأحوال بعد القائم لأن من عدا البيت القادري كانوا يخالطون العامة في البلد ويجرون مجرى السوقة فلو اضطر الناس إلى خلافة أحدهم لم يكن له ذلك القبول ولا تلك الهيبة فقدر الله تعالى الذخيرة أبا العباس كان له جارية اسمها أرجوان وكان يلم بها فلما توفي ورأت ما نال القائم من المصيبة واستعظمه من انقراض عقبة ذكرت أنها حامل فتعلقت النفوس بذلك فولدت بعد
96 موت سيدها بستة أشهر المقتدي فاشتد فرح القائم وعظم سروره وبالغ [في] الإشفاق عليه والمحبة له. فلما كان حادثة البساسيري كان للمقتدي قريب أربع سنين فأخفاه أهله وحمله أبو الغائم بن المحلبان إلى حران كما ذكرنا ولما عاد القائم إلى بغداد أعيد المقتدي إليه فلما بلغ الحلم جعله ولي عهد ولما ولي الخلافة أقر فخر الدولة بن جهير على وزارته بوصية من القائم بذلك وسير عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير إلى السلطان ملكشاه لأخذ البيعة وكان مسيره في شهر رمضان وأرسل معه من أنواع الهدايا ما يجل عن الوصف. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في شوال وقعت نار ببغداد في دكان خباز بنهر المعلى فاحترقت من السوق مائة وثمانون دكانا سوى الدور ثم وقعت نار في المأمونية ثم في الظفرية ثم في درب المطبخ ثم في دار الخليفة ثم في حمام السمرقندي ثم في باب الأزج ودرب خراسان ثم في الجانب الغربي في نهر طابق ونهر القلائين والقطيعة وباب البصرة واحترق مالا يحصى. وفيها أرسل المستنصر بالله العلوي صاحب مصر إلى صاحب مكة ابن أبي
97 هائم رسالة وهدية جليلة وطلب منه أن يعيد له الخطبة بمكة حرسها الله تعالى وقال إن ايمانك وعهودك كانت للقائم وللسلطان ألي أرسلان وقد ماتا فخطب به بمكة وقطع خطبة المقتدي وكانت مدة الخطبة العباسية بمكة أربع سنين وخمسة أشهر ثم أعيدت في ذي الحجة سنة ثمان وستين [وأربعمائة]. وفيها كانت حرب شديدة بين بني رياح وزغبة ببلاد إفريقية فقويت بنو رياح على زغبة فهزموهم وأخرجوهم من البلاد. وفيها نظام الملك والسلطان ملكشاه جماعة من أعيان المنجمين وجعلوا النيروز أول نقطة من الحمل وكان النيروز قبل ذلك عند حلول الشمس نصف الحوت وصار ما فعله السلطان مبدأ التقاويم. وفيها أيضا عمل الرصد للسلطان ملكشاه واجتمع جماعة من أعيان المنجمين في عمله منهم عمر بن إبراهيم الخيامي وأبو المظفر الإسفزاري وميمون بن النجيب الواسطي وغيرهم وخرج عليه من الأموال شيء عظيم وبقي الرصد دائرا إلى أن مات السلطان سنة خمس وثمانين وأربعمائة فبطل بعد موته.
98 468 ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة ذكر ملك أقسيس دمشق قد ذكرنا سنة ثلاث وستين [وأربعمائة] أقسيس الرملة والبيت المقدس وحصره مدينة دمشق فلما عاد عنها جعل يقصد أعمالها كل سنة إدراك الغلات فيأخذها فيقوى هو وعسكره ويضعف أهل دمشق وجندها فلما كان رمضان سنة سبع وستين سار إلى دمشق فحصرها وأنيرها المعلى بن حيدرة من قبل الخليفة المستنصر فلم يقدر عليها فانصرف عنها في شوال فهرب أميرها المعلى في ذي الحجة. وكان سبب هربه أنه أساء السيرة مع الجند والرعية وظلمهم فكثر الدعاء عليه وثار به العسكر وأعانهم العامة فهرب منهما إلى بانياس ثم منها إلى صور ثم أخذ إلى مصر فحبس بها فمات محبوسا. فلما هرب من دمشق اجتمعت المصامدة وولوا عليهم القصار بن يحيى المصمودي المعروف برزين الدولة وغلت الأسعار بها حتى أكل الناس بعضهم بعضا. ووقع الخلف بين المصامدة وأحداث البلد وعرف أقسيس ذلك فعاد إلى دمشق فنزل عليها في شعبان من هذه السنة فحصرها فعدمت الأقوات،
99 فبيعت الغرارة إذا وجدت بأكثر من عشرين دينارا فسلموها إليه بأمان وعوض انتصار عنها بقلعة بانياس ومدينة يافا من السحل ودخلها هو وعسكره في ذي القعدة وخطب بها يوم الجمعة لخمس بقين من ذي القعدة للمقتدي بأمر الله الخليفة العباسي وكان آخر ما خطب فيها العلويين المصريين وتغلب على أكثر الشام ومنع الأذان يحي على خير العمل ففرح أهلها فرحا عظيما وظلم أهلها وأساء السيرة فيهم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة ملك نصر بن محمود بن مرداس مدينة منبج وأخذها من الروم. وفيها قدم سعد الدولة كوهرائين شحنة إلى بغداد من عسكر السلطان ومعه العميد أبو نصر ناظرا في أعمال بغداد. وفيها وثب الجند بالبطيحة على أميرها أبي نصر بن الهيثم وخالفوا عليه منهم وخرج من ملكه والذخائر والأموال التي جمعها في المدة الطويلة ولم يصحبه من ذلك جميعه شيء وصار نزيلا على كوهرائين شحنة العراق. وفيها انفجر البثوق بالفلوجة وانقطع الماء من النيل وغيره من تلك الأعمال من بلاد دبيس بن مزيد فجلا أهل البلاد ووقع الوباء فيهم، ولم
100 يزل كذلك إلى أن سده عميد الدولة بن جهير سنة اثنتين وسبعين [وأربعمائة]. وفي هذه السنة توفي أبو علي الحسن بن القاسم بن محمد المقري المعروف بغلام الهراس الواسطي بها وكان محدثا علامة في كثير من العلوم. وفي شعبان توفي القاضي أبو الحسين محمد بن محمد بن البيضاوي الفقيه الشافعي وكان يدرس الفقه بدرب السلولي بالكرخ وهو زوج ابنة القاضي أبي الطيب الطبري وعبد الرحمن بن محمد بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود أبو الحسن بن أبي طلحة الداودي راوي صحيح البخاري ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وسمع الحديث وتفقه بالشافعي علي أبي بكر القفال وأبي حامد الإسفرايني وصحب أبا علي الدقاق وأبا عبد الرحمن السلمي وكان عابدا قصده نظام الملك فجلس بين يديه فوعظه وكان في قوله إن الله تعالى سلطك على عباده فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم فبكى وكان موته ببوشنج. وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن متويه الواحدي المفسر مصنف الوسيط والبسيط والوجيز في التفسير وهو نيسابوري إمام مشهور؛ وأبو الفتح منصور بن أحمد بن دارست وزير القائم توفي بالأهواز؛ ومحمد بن القاسم بن حبيب بن عبدوس أبو بكر الصفار النيسابوري الفقيه الشافعي تفقه على أبي محمد الجويني وسمع من الحاكم أبي عبد الله السلمي وأبي عبد الرحمن السلمي وغيرهما. وفيها توفي مسعود بن المحسن بن الحسن بن عبد الرزاق أبو جعفر البياضي
101 الشاعر، له شعر مطبوع فمنه قوله: (يا من لبست لبعده ثوب الضنا * حتى خفيت به عن العواد) (وأنست بالسهر الطويل فأنسيت * أجفان عيني كيف كان رقادي) (إن كان يوسف بالجمال مقطع الأيدي * فأنت مفتت الأكباد)
102 469 ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة ذكر حصر أقسيس مصر وعوده عنها . في هذه السنة سار أقسيس من دمشق إلى مصر وحصرها وضيق إلى أهبها ولم يبق غير أن يملكها فاجتمع أهلها مع ابن الجوهري الواعظ في الجامع وبكوا وتضرعوا ودعوا فقبل الله دعاءهم فانهزم أقسيس من غير قتال وعاد على أقبح صورة بغير سبب فوصل إلى دمشق وقد يفرق أصحابه فرأى أهلها قد صانوا مخلفيه وأمواله فشكرهم ورفع عنهم الخراج تلك السنة. وأتى البيت المقدس فرأى أهله قد قبحوا على أصحابه ومخلفيه وحصروهم في محراب داود عليه السلام فلما قارب البلد تحصن أهله منه وسبوه فقاتلهم ففتح البلد عنوة ونهبه وقتل من أهله فأكثر حتى قتل من التجأ إلى المسجد الأقصى وكف عمن كان عند الصخرة وحدها هكذا يذكر الشاميون هذا الاسم أقسيس والصحيح أنه أتسز وهو اسم تركي، وقد ذكر بعض مؤرخي الشام أتسز لما وصل إلى مصر جمع أمير الجيوش بدرب العساكر واستمد العرب وغيرهم من أهل البلاد، فاجتمع
103 معه خلق كثير، واقتتلوا فانهزم أتسز وقتل أكثر أصحابه وقتل أخ له وقطعت يد أخ آخر وعاد منهزما إلى الشام في نفر قليل من عسكره فوصل إلى الرملة ثم سار منها إلى دمشق. وحكى لي من أثق به عن جماعة من فضلاء مصر أن أتسز لما وصل إلى مصر ونزل بظاهر القاهرة أساء أصحابه السيرة في الناس وظلموهم وأخذوا أموالهم وفعلوا الأفاعيل القبيحة فأرسل رؤساء القرى ومقدموها إلى الخليفة المستنصر بالله العلوي يشكون إليه ما نزل بهم فأعاد الجواب بأنه عاجز عن دفع هذا العدو فقالوا له نحن نرسل إليك من عندنا من الرجال المقاتلة يكونون معك ومن ليس له سلاح تعطيه من عندك سلاحا وعسكر هذا العدو قد أمنوا في البلاد فنثور بهم في ليلة واحدة ونقتلهم وتخرج أنت إليه فيمن اجتمع عندك من الرجال فلا يكون له بك قوة فاجابه إلى ذلك. وأرسلوا إليه ا لرجال وثاروا كلهم في ليلة واحدة بمن عندهم فأوقعوا بهم وقتلوهم عن آخر ولم يسلم منهم إلا من كان عنده في عسكره وخرج إليه العسكر الذي عند المستنصر بالقاهرة فلم يقدر على الثبات لهم فولى منهزما وعاد إلى الشام وكفى أهل مصر شره وظلمه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة ورد بغداد أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري حاجا وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس وفي رباط شيخ الشيوخ وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه تكلم على مذهب الأشعري ونصره وكثر أتباعه والمتعصبون له وقصد خصومه من الحنابلة ومن تبعهم سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة.
104 وكان من المتعصبين للقشيري الشيخ أبو إسحاق وشيخ الشيوخ وغيرهما وجرت بين الطائفتين أمور عظيمة. وفيها تزوج الأمير علي بن أبي منصور بن فرامرز بن علاء الدلوة أبي جعفر بن كاكويه أرسلان خاتون بنت داود عمه السلطان ملكشاه التي كانت زوجة القائم بأمر الله. وفيها كان بالجزيرة والعراق والشام وباء عظيم وموت كثير حتى بقي كثير [من] الغلات ليس لها من يعلمها لكثرت الموت في الناس. وفيها مات محمود بن مرداس صاحب حلب وملك بعده ابنه نصر فمدحه ابنه حيوس بقصيدة يقول فيها: (ثمانية لم تفترق مذ جمعتها * فلا افترقت ما ذب عن ناظر شعر) (ضميرك والتقوى وجودك والغنى * ولفظك والمعنى وعزم والنصر) (وكان لمحمود بن نصر سجية * وغالب ظني أن سيخلفها نصر) فقال والله لو قال سيضعفها نصر لأضعفتها له بما كان يعطيه أبوه وهو ألف دينار في طبق فضة. وكان على بابه جماعة من الشعراء فقال بعضهم: (على بابك المعمور منا عصابة * مفاليس فانظر في أمور المفاليس) (وقد قنعت منك العصابة كلها * بعشر الذي أعطيته لابن حيوس) (وما بيننا هذا التقارب كله * ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس)
105 فقال لو قال بمثل الذي أعطيته لأعطيهم ذلك وأمر لهم بمثل نصفه. وفيها توفي اسبهدوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي الشاعر وكان قد لقي ابن الحجاج وابن نباتة وغيرهما وكان يتشيع وتركه وقال في ذلك: (وإذا سئلت عن اعتقادي قلت ما * كانت عليه مذاهب الأبرار) (وأقول خير الناس بعد محمد * صديقه وأنيسه في الغار) وفيها توفي رئيس العراقين أبو أحمد النهاوندي الذي كان عميد بغداد والشريف أبو جعفر بن أ بي موسى الهاشمي الحنبلي ورزق الله محمد بن أحمد بن علي أبو أسعد الأنباري الخطيب والفقيه الحنفي سمع لحديث للكثير وكان ثقة حافظا وطاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي المصري توفي في رجب سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بصر فمات لوقته وعبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن أحمد المعروف بابن هزار مرد الصريفيني راوية أحاديث علي بن الجعد أخر من رواها وكان ثقة صالحا ومن طريقه سمعناها.
106 470 ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة ذكر عدة حوادث في هذه السنة ورد مؤيد الملك إلى بغداد من العسكر. وفيها اصطلح تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية مع الناصر بن علناس وهو من بني حماد عم جده وزوجه تميم ابنته بلارة وسيرها إليه من المهدية في عسكر وأصحبها من الحلى والجهاز ما لا يحد وحمل الناصر ثلاثين ألف دينار فأخذ منهم تميم دينارا واحدا ورد الباقي. وفيها استعمل تميم ابنه مقلدا على مدينة طرابلس الغرب. وكان ببغداد في هذه السنة فتنة بين أهل سوق المدرسة وسوق الثلاثاء بسبب الاعتقاد فنهب بعضهم بعضا وكان مؤيد الملك بن نظام الملك ببغداد بالدار التي عند المدرسة فأرسل إلى العميد والشحنة فحضرا ومعهم الجند فضربوا الناس فقتل بينهم جماعة وانفصلوا. وفي هذه السنة في ربيع الأول توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن البيضاوي الفقيه الشافعي وكان القاضي أبو الطيب الطبري جده لأمه. وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن النقور أبو
107 الحسين البزاز في رجب وكان مكثرا من الحديث ثقة في الرواية؛ وأحمد بن عبد الملك بن علي أبو صالح المؤذن النيسابوري كان يعظ ويؤذن وكان كثير الرواية حافظا ومولده سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وعبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة الأصبهاني أبو القاسم بن أبي عبد الله الحافظ له تصانيف كثيرة منها تاريخ أصبهان وله طائفة ينتمون إليه في الاعتقاد من أهل أصبهان يقال لهم العبد رحمانية. وفي شوال منها توفيت ابنة نظام الملك زوجة عميد الدلوة بن جهير نفساء بولد مات من يومه ودفنا بدار الخلافة ولم تجر بذلك عادة لأحد فعل ذلك إكراما لأبيها وجلس الوزير فخر الدلوة بن جهير وابنه عميد الدولة زوجها للعزاء في دار بباب العامة ثلاثة أيام.
108 471 ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ذكر عزل ابن جهير من وزارة الخليفة في هذه السنة عزل فخر الدولة أبو نصر بن جهير من وزارة الخليفة المقتدي بأمر الله، ووزر بعده أبو شجاع محمد بن الحسين. وكان السبب في ذلك أن أبا نصر بن القشيري ورد إلى بغداد على ما تقدم ذكره وجرى له الفتن مع الحنابلة لما ذكر مذهب الأشعرية ونصره وعاب من سواهم وفعلت الحنابلة ومن معهم ما ذكرناه فنسب أصحاب نظام الملك ما جرى إلى الوزير فخر الدولة وغلى الخدم. وكتب أبو الحسن محمد بن علي بن أبي الصقر الواسطي الفقيه الشافعي إلى نظام الملك: (يا نظام الملك قد حل * ببغداد النظام) (وبقي القاطن فيها * مستهان مستضام) (وبها أودى له قتلى * غلام وغلام) (والذي منهم تبقى * سالما فيه سهام)
109 (يا قوم الدين لم يبق * ببغداد مقام) (عظم الخطب وللحر * ب اتصال ودوام) (فمتى لم تحسم الداء * أياديك الحسام) (ويكف القوم في * قتل وانتقام) (فعلى مدرسة فيها * ومن فيها السلام) (واعتصام بحريم * لك من بعد حرام) فلما سمع نظام الملك ما جرى من الفتن وقصد مدرسته والقتل بجوارها مع أن ابنه مؤيد الملك فيها عظم عليه فأعاد كوهرائين إلى شحنكية العراق وحمله رسالة إلى الخليفة المقتدي بأمر الله يتضمن الشكوى من بني جهير وسأل عزل فخر الدلوة من الوزارة وأمر كوهرائين بأخذ أصحاب بني جهير وإيصال لمكروه إليهم وغلى حواشيهم. فسمع بنو جهير الخبر فسار عميد الدولة إلى المعسكر يريد نظام الملك ليستعطفه وتجنب الطريق وسلك الجبال خوفا أن يلقاه كوهرائين ويناله فيها أذى فلما وصل كوهرائين إلى بغداد اجتمع بالخليفة وأبلغه رسالة نظام الملك فأمر فخر الدلوة بلزوم منزله ووصل عميد الدلوة إلى المعسكر السلطاني ولم يزل يستصلح نظام الملك حتى عاد إلى ما ألفه منه وزوجه بابنة بنت له وعاد بغداد في العشرين من جمادى الأولى فلم يرد الخليفة أباه إلى وزارته وأمرها بملازمة منازلهما واستوزر أبا شجاع محمد بن الحسين.
110 ثم إن نظام الملك راسل الخليفة في إعادة بني جهير إلى الوزارة وشفع في ذلك فأعيد عميد الدولة إلى الوزارة وأذن لأبيه فخر الدولة في فتح بابه وكان ذلك في صفر سنة اثنتين وسبعين [وأربعمائة]. ذكر استيلاء تتش على دمشق في هذه السنة ملك تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان بدمشق. وسبب ذلك أن أخاه السلطان ملكشاه أقطعه الشام ولم يفتحه في ذلك في تلك النواحي سنة سبعين وأربعمائة فأتى حلب وحصرها ولحق أهلها مجاعة شديدة وكان معه جمع كثير من التركمان فأنفذ إليه أقسيس صاحب دمشق يستنجده ويعرفه أن عساكر مصر قد حصرته بدمشق. وكان أمير الجيوش بدر قد سير عسكرا من مصر ومقدمهم قائد يعرف بنصر الدلوة فحصر دمشق فأرسل أقسيس إلى تاج الدولة تتش يستنصره فسار إلى نصرة أقسيس فلما سمع المصريون بقربه أجفلوا من بين يديه شبه المنهزمين وخرج أقسيس إليه يلتقيه عند سور البلد فاغتاظ منه تتش حيث لم يبعد في تلقيه وعاتبه على ذلك فاعتذر بأمور لم يقبلها تتش فقبض عليه في أحال وقتله من ساعته وملك البلد وأحسن السيرة في أهله وعدل فيهم. وقد ذكر ابن الهمذاني وغيره من العراقيين أن ملك تتش دمشق كان هذه السنة وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي في كتاب تاريخ دمشق أن ملكه إياها كان سنة اثنتين وسبعين [وأربعمائة].
111 ذكر عدة حوادث في هذه السنة ولد الملك بركيارق بن السلطان ملكشاه. وفيها في المحرم وصل سعد الدولة كوهرائين إلى بغداد وضرب الطبل على باب داره أوقات الصلاة وكان قد طلب ذلك من قبل فلم يجب اليه لأنه لم تجر به عادة. وفيها توفي سيف الدولة أبو النجم بدر بن ورام الكردي الجاواني في شهر ربيع الأول ودفن بطسفونج. وفي رجب توفي أبو علي بن البناء المقري الحنبلي وله مصنفات كثيرة وسليم الجوري بناحية جور من دجيل وكان زاهدا يعمل ويأكل من كسبه ولم يكف أحد حاجة وأقام بطنزة من ديار بكر وهي كثيرة الفواكه فلم يأكل بها فاكهة البتة.
112 472 ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة ذكر فتوح إبراهيم صاحب غزنة في بلاد الهند في هذه السنة غزا الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين بلاد الهند فحصر قلعة أجود وهي على مائة وعشرين فرسخا من لهاوور وهي قلعة حصينة في غاية الحصانة كبيرة تحوي عشرة آلاف رجل من المقاتلة فقاتلوه وصبروا تحت الحصر وزحف إليهم غير مرة فرأوا من شدة حربه ما ملأ قلوبهم خوفا ورعبا فسلموا القلعة إليه في الحادي والعشرين من صفر هذه السنة. وكان في نواحي الهند قلعة يقال لها قلعة روبال على رأس جبل شاهق وتحتها غياض أشبه وخلفها البحر وليس عليها قتالا إلا من مكان ضيق وهو مملوء بالفيلة المقاتلة وبها من رجال الحرب ألوف كثيرة فتابع عليهم الوقائع وألح عليهم بالقتال بجميع أنواع الحرب وملك القلعة واستنزلهم منها. وفي موضع يقال له دره نوره أقوام من أولاد الخراسانيين الذين جعل أجدادهم فيها أفراسياب التركي من قديم الزمان ولم يتعرض إليهم أحد من
113 الملوك فسار إليهم إبراهيم ودعاهم إلى الاسلام أولا فامتنعوا من إجابته وقاتلوه فظفر بهم وأكثر القتل فيهم وتفرق من سلم في البلاد وسبى واسترق من النسوان والصبيان مائة ألف. وفي هذه القلعة حوض للماء يكون قطره نحو نصف فرسخ لا يدرك قعره يشرب منه أهل القلعة وجميع ما عندهم من دابة ولا يظهر فيه نقص. وفي بلاد الهند موضع يقال له وره وهو بر بين خليجين فقصده الملك إبراهيم فوصل إليه في جمادى الأولى وفي طريقه عقبات كثيرة وفيها أشجار ملتفة فأقام هناك ثلاثة أشهر ولقي الناس من الشتاء شدة ولم يفارق الغزوة حتى أنزل الله نصره على أوليائه وذله على أعدائه وعاد إلى غزنة سالما مظفرا. وهذه الغزوات لم أعرف تاريخها وأما الأولى فكانت هذه السنة فلهذا أوردتها متتابعة في هذه السنة. ذكر ملك شرف الدولة مسلم مدينة حلب في هه السنة ملك شرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي صاحب الموصل مدينة حلب. وسبب ذلك أن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان حصرها مرة بعد أخرى فاشتد الحصار بأهلها وكان شرف الدولة يواصلهم بالغلات وغيرها.
114 ثم ان تتش حصرها هذه السنة وأقام عليها أياما ورحل عنها وملك بزاعة والبيرة وأحرق ربض عزاز وعاد إلى دمشق. فلما رحل عنها تاج الدولة استدعى أهلها شرف الدولة ليسلموها إليه فلما قاربها امتنعوا من ذلك وكان مقدمهم يعرف بابن الحتيتي العباسي فاتفق أن ولده خرج يتصيد بضيعة له فأسره أحد التركمان وهو صاحب حصن بنواحي حلب وأرسله إلى شرف الدولة فقرر معه أن يسلم البلد إليه إذا أطلقه فأجاب إلى ذلك فأطلقه فعاد إلى حلب واجتمع بأبيه وعرف ما استقر فأذعن إلى تسليم البلد ونادى بشعار شرف الدولة وسلم البلد إليه فدخله سنة ثلاث وسبعين [وأربعمائة]، وحصر القلعة واستنزل منها سابقا ووثابا ابني محمود بن مرداس فلما ملك البلد أرسل ولده وهو ابن عمة السلطان إلى السلطان يخبره بملك البلد وأنفذ معه شهادة فيها خطوط المعدلين بحلب بضمانها وسأل أن يقرر عليه الضمان فأجابه السلطان إلى ما طلب وأقطع ابن عمته مدينة بالس. ذكر مسير ملكشاه إلى كرمان في أول هذه السنة سار السلطان ملكشاه إلى بلاد كرمان فلما سمع صاحبها سلطانشاه بن قاورت بك وهو ابن عم السلطان بوصوله إليها خرج إلى طريقه ولقيه وحمل له الهدايا الكثيرة وخدمه وبالغ في الخدمة فأقره السلطان على البلاد وأحسن إليه وعاد عنه في المحرم سنة ثلاث وسبعين [وأربعمائة] إلى أصبهان.
115 ذكر عدة حوادث في هذه السنة ولد للخليفة المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين ولد سماه موسى وكناه أبا جعفر وزينت بغداد سبعة أيام. وفيها وصل السلطان ملكشاه إلى خوزستان متصيدا فوصل معه خمارتكين وكوهرائين [وكانا يسعيان] في قتل ابن علان اليهودي ضامن البصرة وكان ملتجئا إلى نظام الملك وبين خمارتكين الشرابي وكوهرائين عداوة فسعيا باليهودي لذلك فأمر السلطان بتغريقه فغرق وانقطع نظام الملك عن الركوب ثلاثة أيام وأغلق بابه ثم أشير عليه بالركوب فركب وعمل السلطان دعوة عظيمة قدم له فيها أشياء كثيرة وعاتبه على فعله فاعتذر إليه. وكان أمر اليهودي قد عظم إلى حد أن زوجته توفيت فمشى خلف جنازتها كل من في البصرة إلا القاضي وكان له نعمة عظيمة وأموالا كثيرة فأخذ السلطان منه مائة ألف دينار وضمن خمارتكين البصرة كل سنة بمائة ألف دينا ومائة فرس. وفيها زادت [مياه] الفرات تسعة أذرع فخربت بعض دواليب هيت وخرب نهر فوهة عيسى وزاد تامرا نيفا وثلاثين ذراعا وعلا على قنطرتي طراستان وخانقين الكسرويتين فقطعهما. وفيها في ذي الحجة توفي نصر بن مروان صاحب ديار بكر وملك
116 بعده ابنه منصور ودبر دولته ابن الأنباري. وفيها توفي أبو منصور محمد بن بن عبد العزيز العكبري ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وهو من المحدثين المعروفين وكان صدوقا ومحمد بن هبة الله بن الحسن بن منصور أبو بكر بن أبي القاسم الطبري اللالكائي وولد سنة تسع أربعمائة وحدث عن هلال الحفار وغيره وتوفي في جمادى الأولى. وفيها توفي أبو الفتيان محمد بن سلطان بن حيوس الشاعر المشهور وحدث عن جده لأمه القاضي أبي نصر محمد بن هارون بن الجندي.
117 473 ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة ذكر استيلاء تكش على بعض خراسان وأخذها منه في هذه السنة في شعبان سار السلطان ملكشاه إلى الري وعرض العسكر فأسقط منهم سبعة آلاف رجل لم يرض حالهم فمضوا إلى أخيه تكش وهو ببوشنج فقوي بهم وأظهر العصيان على أخيه ملكشاه واستولى على مرو الروذ ومرو الشاهجان وترمذ وغيرها وسار إلى نيسابور طامعا في ملك خراسان. وقيل بأن نظام الملك قال للسلطان لما أمر بإسقاطهم إن هؤلاء ليس فيهم كاتب ولا تاجر ولا خياط ولا من له صنعة غير الجندية فإذا أسقطوا لا نأمن أن يقيموا منهم رجلا وقالوا هذا السلطان فيكونا لنا منهم شغل ويخرج على أيدينا أضعاف ما لهم من الجاري إلى أن نظفر بهم فلم يقبل السلطان قوله فلما مضوا إلى أخيه وأظهر العصيان ندم على مخالفة وزيره حيث لم ينفع الندم. واتصل خبره بالسلطان ملكشاه فسار مجدا إلى خراسان فوصل إلى
118 نيسابور قبل أن يستولي تكش عليها فلما سمع تكش بقربه منها سار عنها وتحصن بترمذ وقصد السلطان فحصره بها وكان تكش قد أسر جماعة من أصحاب السلطان فأطلقهم واستقر الصلح بينهما ونزل تكش إلى أخيه السلطان ملكشاه ونزل عن ترمذ. ذكر عدة حوادث في هذه السنة تسلم مؤيد الملك بن نظام الملك تكريت من صاحبها المهرباط وفيها توفي أبو علي بن شبل الشاعر المشهور من شعره في الزهد: (أهم بترك الذنب ثم يردني * طموح شباب بالغرام موكل) (فمن لي إذا أخرت ذا اليوم توبة * بان المنايا لي إلى الشيب تمهل) (أعجز ضعفا عن أدا حق خالقي * وأحمل وزرا فوق ما يتحمل) وفيها أيضا توفي العميد أبو منصور بالبصرة. وفيها توفي عبد السلام بن أحمد بن محمد بن جعفر أبو الفتح الصوفي من أهل فارس سافر الكثير وسمع الحديث بالعراق والشام ومصر وأصبهان وغيرها وكانت وفاته بفارس؛ ويوسف بن الحسن بن محمد بن لحسن أبو الهيثم التفكري الزنجاني ولد سنة وتسعين وثلاثمائة وسمع من أبي نعيم الحافظ وغيره وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وأدرك أبا الطيب الطبري وكان من العلماء من العاملين المشتغلين بالعبادة.
119 474 ثم دخلت سنة اربع وسبعين وأربعمائة ذكر خطبة الخليفة ابنة السلطان ملكشاه في هذه السنة أرسل الخليفة الوزير فخر الدلوة أبا نصر بن جهير إلى السلطان يخطب ابنته لنفسه فسار فخر الدولة إلى أصبهان إلى السلطان يخطب ابنته فأمر نظام الملك أن يمضي معه إلى خاتون زوجة السلطان في المعنى فمضيا إليها فخاطباها فقالت إن الملك غزنة وملوك الخانية مما وراء النهر طلبوها وخطبوها لأولادهم وبذلوا أربعمائة ألف دينار فإن حمل الخليفة هذا المال فهو أحق منهم فعرفتها أرسلان خاتون التي كانت زوجة القائم بأمر الله ما يحصل لها من الشرف والفخر بالاتصال بالخليفة وأن هؤلاء كلهم عبيده وخدمه ومثل الخليفة لا يطلب منه المال فأجابت إلى ذلك وشرطت أن يكون الحمل المعجل خمسين ألف دينار وأنه لا يبقى له سرية ولا زوجة غيرها ولا يكون مبيته إلا عندها فأجيبت إلى ذلك فأعطى السلطان يده وعاد فخر الدولة إلى بغداد.
120 ذكر وفاة نور الدولة بن مزيد وإمارة ولده منصور في هذه السنة في شوال توفي نور الدولة أبو الأغر دبيس بن علي بن مزيد الأسدي بمطيراباذ وكان عمره ثمانين سنة وإمارته سبع وخمسون سنة وما زال ممدحا في كل زمان مذكورا بالتفضل والإحسان ورثاه الشعراء فأكثروا وولي بعده ما كان إليه ابنه أبو كامل منصور ولقبه بهاء الدولة فأحسن السيرة واعتمد الجميل وسار إلى السلطان ملكشاه في ذي القعدة واستقر له الأمر وعاد في صفر سنة خمس وسبعين [وأربعمائة]، وخلع الخليفة أيضا عليه. ذكر محاصرة تميم بن المعز مدينة قابس في هذه السنة حصر الأمير تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية مدينة قابس حصارا شديدا وضيق على أهلها وعادت عساكره في بساتينها المعروفة بالغابة فأفسدوها. ذكر عدة حوادث في هذه السنة سار تتش بعد عود شرف الدولة عن دمشق وقصد الساحل الشامي فافتتح أنطرطوس وبعضا من الحصون وعاد إلى دمشق.
121 وفيها ملك شرف الدولة صاحب الموصل مدينة حران وأخذها من بني وثاب النميريين وصالحه صاحب الرهاء ونقش السكة باسمه. وفيها سد ظفر القائمي بثق نهر عيسى وكان خرابا منذ ثلاث سنوات وعشرين سنة وسدا مرارا وتخرب إلى أن سده ظفر. وفيها أرسل السلطان إلى بغداد ليخرج الوزير أبو شجاع الذي وزر للخليفة بعد بني جهير فأرسله الخليفة إلى نظام الملك وسير معه رسولا وكتب معه إلى نظام الملك كتابا بخطه يأمره بالرضا عن أبي شجاع فرضي عنه وأعاده إلى بغداد. وفيها مات ابن السلطان ملكشاه واسمه داود فجزع عليه جزعا شديدا وحزن حزنا عظيما ومنع من أخذه وغسله حتى تغيرت رائحته وأراد قتل نفسه مرات فمنعه خواصه ولما دفن لم يطق المقام فخرج يتصيد وأمر بالنياحة عليه في البلد ففعل ذلك عدة أيام جلس له وزير الخليفة في العزاء ببغداد. وفيها توفي عيد الله بن أحمد بن رضوان أبو القاسم وهو من أعيان أهل بغداد وكان مرضه شقيقة وبقي ثلاث سنين في بيت مظلم لا يقدر يسمع صوتا ولا يبصر ضوءا. وفيها في ذي الحجة توفي أبو محمد بن أبي عثمان المحدث وكان صالحا يقرئ القرآن بمسجده بنهر القلائين. وتوفي علي بن أحمد بن علي أبو القاسم البسري البندار ومولده سنة ست وثمانين وثلاثمائة سمع المخلص وغيره وكان ثقة صالحا. وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن عقيل بن حبش القرشي النحوي.
122 475 ثم دخلت سنة خمس وسبعين وأربعمائة ذكر وفاة جمال الملك بن نظام الملك في هذه السنة في رجب توفي جمال الملك منصور بن نظام الملك وورد الخبر بوفاته إلى بغداد في شعبان فجلس أخوه مؤيد الملك للعزاء وحضر فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الملك معزيين وأرسل الخليفة إليه في اليوم الثالث فأقامه من العزاء. وكان سبب موته أن مسخرة كان للسلطان ملكشاه يعرف بجعفرك يحاكي نظام الملك ويذكره في خلواته مع السلطان فبلغ ذلك جمال الملك وكان يتولى مدينة بلخ وأعمالها فسار من وقته يطوي المراحل إلى والده والسلطان وهما بأصبهان فاستقبله أخواه فخر الملك ومؤيد الملك فأغلظ لهما القول في إغضائهما على ما بلغه عن جعفرك فلما وصل إلى حضرة السلطان رأى جعفرك يساره فانتهره وقال مثلث يقف هذا الموقف وينبسط بحضرة السلطان في هذا الجمع فلما خرج من عند السلطان أمر بالقبض على جعفرك وأمر بإخراج لسانه من قفاه وقطعه فمات. ثم سار مع السلطان وأبيه إلى خراسان وأقاموا بنيسابور مدة ثم أرادوا
123 العود إلى أصبهان وتقدم نظام الملك فأحضر السلطان عميد خراسان وقال له أيما أحب لك رأسك أم رأس جمال الملك؟ فقال: بل رأسي. فقال لئن لم تعمل في قتله لأقتلنك. فاجتمع بخادم يختص بخدمة جمال الملك وقال له سرا الأولى أن تحفظوا نعمتكم ومناصبكم وتدبروا في قتل جمال الملك فإن السلطان يريد أن يأخذه ويقتله ولأن تقتلوه أنتم سرا أصلح لكم من أن يقتله السلطان ظاهرا فظن الخادم أن ذلك صحيح فجعل له اسما في كوز فقاع فطلب جمال الملك فقاعا فأعطاه الخادم ذلك الكوز فشربه فمات فلما علم السلطان بموته سار مجدا حتى لحق نظام الملك فأعلمه بموت ابنه وعزاه، وقال: أنا ابنك، وأنت أولى من صبر واحتسب. ذكر الفتنة ببغداد بين الشافعية والحنابلة ورد إلى بغداد هذه السنة الشريف أبو القاسم البكري المغربي الواعظ وكان أشعري المذهب وكان قد قصد نظام الملك فأحبه ومال إليه وسيره إلى بغداد وأجرى عليه الجراية الوافرة فوعظ بالمدرسة النظامية وكان يذكر الحنابلة ويعيبهم ويقول (وما كفر سليما ولكن الشياطين كفروا) والله ما كفر أحمد ولكن أصحابه كفروا. ثم إنه قصد يوما دار قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني بنهر القلائين فجرى بين بعض أصحابه وبين الحنابلة مشاجرة أدت إلى الفتنة وكثر
124 جمعه فكبس دور بني الفراء وأخذ كتبهم وأخذ منها كتاب الصفات لأبي يعلى فكان يقرأ بين يديه وهو جالس على الكرسي للوعظ فيشنع به عليهم وجرى له معهم خصومات وفتن ولقب البكري من الديوان بعلم السنة ومات ببغداد ودفن عند قبر أبي الحسن الأشعري. ذكر مسير الشيخ أبي إسحاق إلى السلطان في رسالة في هذه السنة في ذي الحجة أوصل الخليفة المقتدي بأمر الله الشيخ أبا إسحاق الشيرازي إلى حضرته وحمله رسالة إلى السلطان ملكشاه ونظام الملك تتضمن الشكوى من العميد أبي الفتح بن أبي الليث عميد العراق وأمره أن بنهي ما يجري على البلاد من النظار فسار فكان كلما وصل إلى مدينة من بلاد العجم يخرج أهلها إليه بنسائهم وأولادهم يتمسحون بركابه ويأخذون تراب بغلته للبركة. وكان في صحبته جماعة من أعيان بغداد منهم الإمام أبو بكر الشاشي وغيره. ولما وصل إلى ساوة خرج جميع أهلها وسأله فقهاؤها كل منهم أن يدخل بيته فلم يفعل ولقيه أصحاب الصناعات ومعهم ما ينثرونه على محفته،
125 فخرج الخبازون ينثرون الخبز وهو ينهاهم فلم ينتهوا وكذلك أصحاب الفاكهة والحلواء وغيرهم وخرج إليه من الأساكفة وقد عملوا مداسات لطافا تصلح لأرجل الأطفال ونثروها فكانت تسقط على رؤوس الناس فكان الشيخ يتعجب ويذكر ذلك لأصحابه بعد رجوعه ويقول ما كان حظكم من ذلك النثار فقال له بعضهم ما كان حظ سيدنا منه فقال: [أما] أنا فغطيت بالمحفة وهو يضحك. فأكرمه السلطان ونظام الملك وجرى بينه وبين إمام الحرمين أبي المعالي الجويني مناظرة بحضرة نظام الملك وأجيب إلى جميع ما التمسه ولم عاد أهين العميد وكسر عما كان يعتمده ورفعت يده عن جميع ما يتعلق بحواشي الخليفة. ولما وصل الشيخ إلى بسطام خرج إليه السهلكي شيخ الصوفية بها وهو شيخ كبير فلما سمع الشيخ أبو إسحاق بوصوله خرج إليه ماشيا فلما رآه السهلكي ألقى نفسه من دابة كان عليها وقبل يد الشيخ أبي إسحاق فقبل أبو إسحاق رجله وأقعده موضعه وجلس أبو إسحاق بين يديه وأظهر كل واحد منهما من تعظيم صاحبه كثيرا وأعطاه شيئا من حنطة ذكر أنها من عهد أبي يزيد البسطامي ففرح بها أبو إسحاق. ذكر حصر شرف الدولة دمشق وعوده عنها في هذه السنة جمع تاج الدولة تتش جمعا كثيرا وسار عن بغداد وقصد بلاد الروم أنطاكية وما جاورها فسمع شرف الدولة صاحب حلب،
126 الخبر، فخافه فجمع أيضا العرب من عقيل والأكراد وغيرهم فاجتمع معه جمع كثير راسل الخليفة بن نصر يطلب منه إرسال نجدة إليه ليحصر دمشق فوعده ذلك فسار إليها، فلما سمع تتش الخبر عاد إلى دمشق، فوصلها أول المحرم سنة ست وسبعين [وأربعمائة]، ووصل شرف الدولة أواخر المحرم وحصر المدينة وقاتله أهلها. وفي بعض الأيام خرج إليه عسكر دمشق وقاتلوه وحملوا على عسكره حملة صادقة وانكشفوا وتضعضعوا وانهزمت العرب وثبت شرف الدولة وأشرف على الأسر وتراجع إليه أصحابه فلما رأى شرف الدولة ذلك ورأى أيضا أن مصر لم يصل إليه منها عسكر وأتاه عن بلاده الخبر أن أهل حران عصوا عليه فرحل عن دمشق إلى بلاده وأظهر أنه يريد البلاد بفلسطين فرحل أولا إلى مرج الصفر فابتاع أهل دمشق وتتش والطرب ثم انه رحل من مرج الصفر مشرقا في البرية وجد في مسيره فهلك من المواشي الكثير مه عسكره ومن الدواب شيء كثير وانقطع خلق كثير. ذكر عدة حوادث في هذه السنة قدم مؤيد الملك بن نظام الملك إلى بغداد من أصبهان فخرج عميد الدولة بن جهير إلى لقائه ونزل بالمدرسة النظامية وضرب على بابه
127 الطبول أوقات الصلوات الثلاث فأعطي مالا جليلا حتى قطعه وأرسل الطبول إلى تكريت. وفيها توفي أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن منده الأصبهاني في جمادى الآخرة بأصبهان وكان حافظا فاضلا والأمير أبو نصر علي بن الوزير أبي القاسم هبة الله بن علي بن جعفر بن ماكولا مصنف كتاب الإكمال ومولده سنة عشرين وأربعمائة وكان فاضلا حافظا قتله مماليكه الأتراك بكرمان وأخذوا ماله.
128 476 ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمائة ذكر عزل عميد الدولة بن جهير عن وزارة الخليفة ومسيرة والده فخر الدولة إلى ديار بكر في هذه السنة في صفر عزل عميد الدولة بن جهير عن وزارة الخليفة ووصل يوم عزل رسول من السلطان ونظام الملك إلى الخليفة يطلبان أن يرسل إليها بني جهير فأذن لهما في ذلك وساروا بجميع أهلهم ونسائهم إلى السلطان فصادفوا منه ومن نظام الإكرام والاحترام وعقد السلطان لفخر الدولة بن جهير بن ديار بكر وخلع عليه وأعطاه الكوسات وسير معه العساكر وأمره أن يقصدها ويأخذها من بني مروان وأن يخطب لنفسه ويذكر اسمه على السكة فسار إليها. ولما فارق بنو جهر بغداد رتب في الديوان أبو الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء وكان قبل ذلك على أبنية الدار وغيرها. ذكر عصيان أهل حران على شرف الدولة وفتحها في هذه السنة عصى أهل حران على شرف الدولة مسلم بن قريش وأطاعوا قاضيهم ابن حلبة وأرادوا هم وابن عطير النميري تسليم البلد إلى
129 جبق أمير التركمان وكان شرف الدولة على دمشق يحاصر تاج تتش بها فبلغه الخبر فعاد إلى حران وصالح ابن ملاعب صاحب حمص وأعطاه سليمة ورفنية وبادر بالمسير إلى حران فحصرها ورماها بالمنجنيق فخرب من سورها بدنة فتح البلد في جمادى الأولى وأخذ القاضي ومعه ابنين له فصلبهم على السور. ذكر وزارة أبي شجاع محمد بن الحسين للخليفة في هذه السنة عزل الخليفة أبا الفتح ابن رئيس الرؤساء من النيابة في الديوان واستوزر أبا شجاع محمد بن الحسين وخلع عليه الوزارة في شعبان ولقبه ظهير الدين ومدحه الشعراء فأكثروا من مدحه وهنأه أبو المظفر محمد بن العباس الأبيوردي بالقصيدة المشهورة التي أولها: (ها إنها مقل الظباء العين * فتكت بسر فؤادي المكنون) ومنها: (فانهل أسراب الدموع كأنها * منح يتابعها ظهير الدين)
130 ذكر قتل أبي المحاسن بن أبي الرضا في هذه السنة في شوال قتل سيد الرؤساء أبو المحاسن بن كمال الملك أبي الرضا وكان قد قرب من السلطان ملكشاه قربا عظيما وكان أبوه يكتب للطغراء فقال أبو المحاسن للسلطان سلم إلي نظام الملك وأصحابه وأنا أسلم إليك منهم ألف ألف دينار فإنهم يأكلون الأموال ويقتطعون الأعمال وعظم عنده ذخائرهم. فبلغ ذلك نظام الملك فعمل سماطا عظيما وأقام عليه مماليكه وهو ألوف من الأتراك وأقام خيلهم وسلاحهم لي حيالهم فلما حضر السلطان قال له إنني قد خدمتك وخدمت أباك وجدك ولي حق خدمه وقد بلغك أخذي لعشر أموالك وصدق هذا آخذه وأصرفه إلى هؤلاء الغلمان الذين جمعتهم لك وأصرفه أيضا إلى الصدقات والصلات والوقوف التي أعظم ذكرها وشكرها وأجرها لك وأموالي وجميع ما أملكه بين يديك وأنا أقنع بمرقعة وزاوية. فأمر السلطان بالقبض على أبي المحاسن وأن تسمل عيناه وأنفذه إلى قلعة ساوة. وسمع أبوه كمال الملك الخبر فاستجار بدار نظام الملك فسلم وبذل مائتي ألف دينار وعزل عن الطغراء ورتب مكانه مؤيد الملك بن نظام الملك.
131 ذكر استيلاء مالك بن علوي على القيروان وأخذها منه في هذه السنة جمع مالك بن علوي الصخري العرب فأكثروا وسار إلى المهدية فحصرها فقام الأمير تميم بن المعز قياما تاما ورحله عنها ولم يظفر منها بشيء فسار مالك منها إلى القيروان فحصرها وملكها فجرد إليه تميم العساكر العظيمة فحصروه بها فلما رأى مالك أنه لا طاقة له بتميم خرج عنها وتركها فاستولى عليها عسكر تميم وعادت إلى ملكه كما كانت. ذكر عدة حوادث في هذه السنة عم الرخص جميع البلاد فبلغ الكر الحنطة الجيدة ببغداد عشرة دنانير. وفيها في جمادى الآخرة توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وأكثر الشعراء مراثيه فمنهم أبو الحسن الخباز والبندنيجي وغيرهما وكان رحمه الله عليه واحد عصره علما وزهدا وعبادة وسخاء وصلي عليه في جامع القصر وجلس أصحابه للعزاء في المدرسة النظامية ببغداد ثلاثة أيام ولم يتخلف أحد عن العزاء. وكان مؤيد الملك بن نظام الملك ببغداد فرتب في التدريس أبا سعد عبد الرحمن بن المأمون المتولي فلما بلغ ذلك نظام أنكره وقال: كان
132 يجب أن تغلق المدرسة بعد الشيخ أبي إسحاق سنة وصلى عليه بباب الفردوس وهذا لم يفعل على غيره وصلى عليه الخليفة المقتدي بأمر الله وتقدم في الصلاة عليه أبو الفتح بن رئيس الرؤساء وهو ينوب في الوزارة ثم صلي عليه بجامع القصر ودفن بباب أبرز.
133 477 ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة ذكر الحرب بين فخر الدولة بن جهير وابن مروان وشرف الدولة قد تقدم ذكر مسير فخر الدولة بن جهير في العساكر السلطانية إلى ديار بكر فلما كانت هذه السنة سير السلطان إليه أيضا جيشا فيهم الأمير أرتق بن أكسب وأمرهم بمساعدته. وكان ابن مروان قد مضى إلى شرف الدولة وسأله نصرته على أن يسلم إليه آمد وحلف كل واحد لصاحبه وكل منهما يرى أن صاحبه كاذب لما كان بينهما من العداوة المستحكمة واجتمعا على حرب فخر الدولة وسارا إلى آمد وقد نزل فخر الدولة بنواحيها فلما رأى فخر الدولة اجتماعهما مال إلى الصلح وقال لا أوثر أن يحل بالعرب بلاء على يدي فعرف التركمان ما عزم عليه فركبوا ليلا وأتوا إلى العرب وأحاطوا بهم في ربيع الأول والتحم القتال واشتد فانهزمت العرب ولم يحضر هذه الوقعة الوزير فخر الدولة أرتق وغنم التركمان حلل العرب ودوابهم وانهزم شرف الدولة وحمى نفسه حتى وصل إلى فضيل آمد وحصره فخر الدولة ومن معه.
134 فلما رأى شرف الدولة أنه محصور خاف على نفسه فراسل الأمير أرتق وبذل له مالا وسأله أن يمن عليه بنفسه ويمكنه من الخروج من آمد وكان هو على حفظ الطرق والحصار فلما سمع أرتق ما بذل له شرف الدولة أذن له في الخروج فخرج منها في الحادي إلى ميافارقين ومعه من الأمراء الأمير بهاء الدولة منصور بن مزيد وابنه سيف الدولة صدقة ففارقوه وعادوا إلى العراق وسار فخر الدولة إلى خلاط. ولما استولى العسكر السلطاني على حلل العرب وغنموا أموالهم وسبوا حريمهم بذل سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد الأموال وافتك اسرى بني عقيل ونساءهم وأولادهم وجهزهم وردهم إلى بلادهم ففعل أمرا عظيما وأسدى مكرمة شريفة ومدحه الشعراء في ذلك فأكثروا فمنهم محمد بن محمد بن خليفة السنبسي يذكر ذلك في قصيدة: (كما أحرزت شكر بني عقيل * بآمد يوم كظهم الحذار) (غداة رمتهم الأتراك طرا * بشهب في حوافلها ازورار) (فما جبنوا ولكن فاض بحر * عظيم لا تقاومه البحار) (فحين تنازلوا تحت المنايا * وفيهن الرزية والدمار) (مننت عليهم وفككت عنهم * وفي أثناء حبلهم انتشار) (ولولا أنت لم ينفك منهم * أسير حين أعلقه الأسار) في أبيات كثيرة، وذكر أيضا البندنيجي أبياتا فأحسن ولولا خوف التطويل لذكرت أبياته.
135 ذكر استيلاء عميد الدولة على الموصل لما بلغ السلطان أن شرف الدولة انهزم وحصر بآمد لم بشك في أسره فخلع على عميد الدولة بن جهير وسيره في جيش كثيف إلى الموصل وكاتب أمراء التركمان بطاعته وسير معه الأمراء آقسنقر قسيم الدولة جد ملوكنا أصحاب الموصل وهو الذي أقطعه السلطان بعد ذلك حلب. وكان الأمير أرتق قد قصد السلطان فعاد صحبة عميد الدولة من الطريق فسار عميد الدولة حتى وصل إلى الموصل فأرسل إلى أهلها يشير عليهم بطاعة السلطان وترك عصيانه ففتحوا له البلد وسلموه إليه وسار السلطان بنفسه وعساكره إلى بلاد شرف الدولة ليملكها فأتاه الخبر بخروج أخيه تكش على ما نذكره. ورأى شرف الدولة قد خلص من الحصر فأرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة وهو مقابل الرحبة فأعطاه العهود والمواثيق وأحضره عند السلطان وهو بالبوازيج فخلع عليه آخر رجب وكانت أمواله قد ذهبت فافترض ما خدم به وحمل للسلطان خيلا رائقة من جملتها فرسه بشار وهو فرسه المشهور الذي نجا به الخيل فجاء سابقا فقام السلطان قائما لما تداخله من العجب. وأرسل الخليفة النقيب طراد الزينبي في لقي شرف الدولة فلقيه بالموصل،
136 فزاد شرف الدولة قوة وصالحه السلطان وأقره على بلاده وعاد إلى جانب خراسان لحرب أخيه. ذكر عصيان تكش على أخيه السلطان ملكشاه قد تقدم ذكره وذكر مصالحته للسلطان فلما كان الآن ورأى بعد السلطان عنه عاود العصيان وكان أصحابه يؤثرون الاختلاط فحسنوا له مفارقة طاعة أخيه فأجابهم وسار معهم فملك مرو الروذ وغيرها إلى قلعة تقارب سرخس وهي لمسعود ابن الأمير ياخز وقد حصنها جهده فحصروه بها ولم يبق غير أخذها منه. فاتفق أبو الفتوح الطوسي صاحب نظام الملك وهو بنيسابور وعميد خراسان وهو أبو علي علي ان يكتب أبو الفتوح ملطفا إلى أبي مسعود بن ياخز وكان خط أب الفتوح أشبه شيء بخط نظام الملك يقول فيه كتبت هذه الرقعة من الري يوم كذا ونحن سائرون من الغد نحوك فاحفظ القلعة ونحن نكبس العدو في ليلة كذا واستدعيا فيجا يثقون به وأعطياه دنانير صالحة وقالا سر نحو مسعود فإذا وصلت إلى المكان الفلاني فأقم به ونم وأخف هذا الملطف في بعض حيطانه فستأخذك طلائع تكش فلا تعترف لهم حتى يضربوك فإذا لعلوا ذلك وبالغوا فأخرجه لهم وقل إنك فارقت السلطان بالري ولك منا الحباء والكرامة. ففعل ذلك وجرى الأمر على ما وصفا وأضر بين يدي تكش وضرب وعر ض على القتل فأظهر الملطف وسلمه إليهم وأخبرهم
137 أنه فارق السلطان ونظام الملك بالري في العساكر وهو سائر فلما وقفوا على الملطف وسمعوا كلام الرجل ساروا من وقتهم وتركوا خيامهم ودوابهم والقدور على النار فلم يصبروا على ما فيها وعادوا إلى قلعة ونج وكان هذا من الفرج العجيب فنزل مسعود وأخذ ما في المعسكر وورد السلطان إلى خراسان بعد ثلاثة أشهر ولولا هذا الفعل لنهب تكش إلى باب الري. ولما وصل السلطان قصد تكش وأخذه وكان قد حلف له بالأيمان أنه لا يؤذيه ولا يناله منه مكروه فأفتاه بعض من حضر بأن يجعل الأمر إلى ولده أحمد ففعل ذلك فأمر احمد بكحله فكحل وسجن. ذكر فتح سليمان بن قتلمش أنطاكية في هذه السنة سار سليمان بن قتلمش صاحب قونية وأقصرا وأعمالها من بلاد الروم إلى الشام فملك مدينة أنطاكية من أرض الشام وكانت بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وسبب ملك سليمان المدينة أن صاحبها الفردوس الرومي وكان قد سار عنها إلى بلاد الروم ورتب بها شحنة وكان الفردوس مسيئا إلى أهلها وإلى جنده أيضا حتى إنه حبس ابنه فاتفق ابنه والشحنة على تسليم البلد إلى سليمان بن قتلمش وكاتبوه يستدعونه فركب البحر في ثلاثمائة فارس وكثير من الرجالة وخرج منه وسار في جبال وعرة ومضايق شديدة حتى
138 وصل إليها للموعد، فنصب السلاليم باتفاق من الشحنة ومن معه وصعد السور واجتمع بالشحنة وأخذ البلد في شعبان فقاتله أهل البلد فهزمهم مرة بعد أخرى وقتل كثير من أهلها ثم عفا عنهم وتسلم القلعة المعروفة بالقسيان وأخذ من الأموال ما يجاوز الإحصاء وأحسن إلى الرعية وعدل فيهم وأمرهم بعمارة ما خرب ومنع أصحابه من النزول في دورهم ومخالطتهم. ولما ملك سليمان أنطاكية أرسل إلى السلطان ملكشاه يبشره بذلك وينسب هذا الفتح إليه لأنه من أهله وممن يتولى طاعته فأظهر ملكشاه البشارة به وهنأه الناس فممن قال فيه الأبيوردي من قصيدة مطلعها: (لمعت كناصية الحصان الأشقر * نا بمعتلج الكثيب الأعفر) (وفتحت أنطاكية الروم التي * نشرت معاقلها على الإسكندر) (وطئت مناكبها جيادك فانثنت * تلقى أجنتها بنات الأصفر) وهي طويلة. ذكر قتل شرف الدولة وملك أخيه إبراهيم قد تقدم ذكر ملك سليمان بن قتلمش مدينة أنطاكية فلما ملكها أرسل إليه شرف الدولة مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمله إليه الفردوس من المال ويخوفه معصية السلطان فأجابه. أما طاعة السلطان فهي شعاري ودثاري والخطبة له والسكة في بلادي وقد كاتبة بما فتح الله على يدي بسعادته من هذا البلد وأعمال الكفار.
139 وأما المال الذي كان يحمله صاحب أنطاكية قبلي، فهو كافر وكان يحمل جزية رأسه وأصحابه وأنا بحمد الله مؤمن، ولا أحمل شيئا. فنهب شرف الدولة بلد أنطاكية فنهب سليمان أيضا بلد حلب فلقيه أهل السواد يشكون إليه نهب عسكره فقال: أنا كنت أشهد كراهية لما يجري ولكن صاحبكم أحوجني إلى ما فعلت ولم تجر عادتي بنهب مال مسلم ولا أخذ ما حرمته الشريعة وأمر أصحابه بإعادة ما أخذوه منهم فأعاده. ثم إن شرف الدولة جمع الجموع من العرب والتركمان وكان بمن معه جبق أمير التركمان في أصحابه وسار إلى أنطاكية ليحصرها فلما سمع سليمان الخبر جمع عساكره وسار إليه فالتقيا في الرابع والعشرين من صفر سنة سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف من أعمال أنطاكية واقتتلوا فمال تركمان جبق إلى سليمان فانهزمت العرب وتبعهم شرف الدولة منهزما فقتل بعد أن صبر وقتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب وكان قبله يوم الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين [وأربعمائة] وذكرته ههنا لتتبع الحادثة بعضها بعضا. وكان أحوال وكان قد ملك من السندية التي على نهر عيسى غللا منبج من الشام وما والاها من البلاد وكان في يده ديار ربيعة ومضر من ألارض الجزيرة والموصل وحلب وما كان لأبيه وعمه قرواش وكان عادلا حسن السيرة والأمن في بلاده عام والرخص شامل وكان يسوس بلاده سياسة عظيمة بحيث يسير الركب والراكبان فلا يخافان شيئا وكان له في كل بلد وقرية عامل وقاض وصاحب خبر بحيث لا يتعدى أحد على أحد.
140 ولما قتل قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس فأخرجوه وملكوه أمرهم وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة بحيث إنه لم يمكنه المشي والحركة لما أخرج ولما قتل شرف الدولة سار سليمان بن قتلمش إلى حلب فحصرها مستهل ربيع الأول سنة ثمان وسبعين [وأربعمائة]، فأقام عليها إلى الخامس ربيع الآخر من السنة فلم يبلغ منها غرضا فرحل عنها. ذكر عدة حوادث . في هذه السنة في صفر انقض كوكب من المشرق إلى المغرب كان حجمه كالقمر وضوءه كضوئه وسار مدى بعيدا على مهل وتؤدة في نحو ساعة، ولم يكن له شبيه من الكواكب. وفيها ولد السلطان سنجر بن ملكشاه في الخامس والعشرين من رجب بمدينة سنجار من أرض الجزيرة مقارب الموصل بينهما يومان عند نزول السلطان بها وسماه أحمد وإنما قيل له سنجر باسم المدينة التي ولد فيها وأمه أم ولد. وفي هذه السنة في جمادى الأولى توفي الشيخ أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن الصباغ الفقيه الشافعي صاحب الشامل والكامل وكفاية المسائل وغيرها من التصانيف بعد أن أضر عدة سنسن وكان مولده أربعمائة؛ والقاضي أبو عبد الله الحسين بن علي البغدادي المعروف بابن البقال وهو من شيوخ أصحاب الشافعي وكان إليه القضاء بباب الأزج وحج لما انقطع الحج على سبيل التجريد وإسماعيل بن مسعدة بن إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم أبو القاسم الإسماعيلي الجرجاني ومولده سنة أربع وأربعمائة وكان إماما فقيها شافعيا محدثا أديبا وداره مجمع العلماء.
141 478 ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ذكر استيلاء الفرنج على مدينة طليطلة في هذه السنة استولى الفرنج لعنهم الله على مدينة طليطلة من بلاد الأندلس وأخذوها من المسلمين وهي أكبر البلاد وأحصنها. وسبب ذلك أن الأذفونش ملك الفرنج بالأندلس كان قد قوي شأنه وعظم ملكه وكثرت عساكره منذ تفرقت بلاد الأندلس وصار كل بلد بيد ملك فصاروا مثل ملوك الطوائف فحينئذ طمع الفرنج فيهم وأخذوا كثيرا من ثغورهم. وكان قد خدم قبل ذلك صاحبها القادر بالله بن المأمون بن يحيى بن ذي النون وعرف من أين يؤتى البلد وكيف الطريق إلى الطريق إلى ملكه فلما كان الآن جمع الأذفونش عساكره وسار إلى المدينة طليطلة فحصرها سبع سنين وأخذها من القادر فازداد قوة إلى قوته. وكان المعتمد على الله أبو عبد الله محمد بن عباد أعظم ملوك الأندلس من المسلمين وكان يملك أكثر البلاد مثل قرطبة وإشبيلية وكان يؤدي إلى الأذفونش ضريبة كل سنة فلما ملك الأذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة على عادته فردها عليه ولم يقبلها منه فأرسل إليه يتهدده ويتوعده أنه يسير إلى مدينة قرطبة ويتملكها إلا أن يسلم إليه جميع الحصون التي في الجبل ويبقى السهل للمسلمين وكان الرسول في جمع كثير كانوا خمسمائة
142 فارس، فأنزله محمد بن عباد وفرق أصحابه على قواد عسكره ثم أمر كل من عنده منهم رجل أن يقتله واحضر الرسول وصفعه حتى خرجت عيناه وسلم من الجماعة ثلاثة نفر فعادوا إلى الأذفونش فأخبروه الخبر وكان متوجها إلى قرطبة ليحاصرها فلما بلغه الخبر عاد إلى طليطلة ليجمع آلات الحصار ورحل المعتمد إلى إشبيلية. ذكر استيلاء ابن جهير على آمد . في المحرم من هذه السنة ملك ابن جهير مدينة آمد. وسبب ذلك أن فخر الدولة ابن جهير كان قد أنفذ إليها ولده زعيم الرؤساء أبا القاسم ومعه جناح الدولة المعروف بالمقدم السلار وأرادوا قلع كرومها وبساتينها ولم يطمع مع ذلك في ففتحها لحصانتها فعم أهلها الجوع وتعذرت الأقوات وكادوا يهلكون وهو هم صابرون على الحصار غير مكترثين له. فاتفق أن بعض الجند نزل من السور لحاجة لهم وتركوا أسلحتهم مكانها فصعد إلى ذلك المكان عدد من العامة تقدمهم رجل من السوداء يعرف بأبي الحسن فلبس السلاح ووقف على ذلك المكان ونادى بشعار السلطان وفعل من ومعه كفعله وطلبوا زعيم الرؤساء فأتاهم وملك البلد واتفق أهل المدينة على نهب بيوت النصارى لما كانوا يلقون من نواب بني مروان من الجور والحكم وكان أكثرهم نصارى فانتقموا منهم.
143 ذكر ملكه أيضا ميافارقين في هذه السنة أيضا في سادس جمادى الآخرة ملك فخر الدولة ميافارقين وكان مقيما على حصارها فوصل إليه سعد الدولة كوهرائين في عسكره نجدة له فجد في القتال فسقط من سورها قطعة فلما رأى أهلها ذلك نادوا بشعار ملكشاه وسلموا البلد إلى فخر الدولة وأخذ جميع ما استولى عليه من أموال بني مروان وأنفذه إلى السلطان مع ابنه زعيم الرؤساء فانحدر هو وكوهرائين إلى بغداد وسار زعيم الرؤساء منها إلى أصبهان في شوال وأوصل ما معه إلى السلطان. ذكر ملك جزيرة ابن عمر في هذه السنة أرسل فخر الدولة جيشا إلى جزيرة ابن عمر وهي لبني مروان أيضا فحصروها فثار أل بيت من أهلها يقال لهم بنو وهبان وهم من أعيان أهلها وقصدوا ببابا للبلد صغيرا يقال له باب البويبة لا يسلكه إلا الرجالة لأنه يصعد إليه من ظاهر البلد بدرج فكسروه وأدخلوا العسكر فملكه وانقرضت دولة بني مروان فسبحان من لا يزول ملكه. وهؤلاء بنو وهمان إلى يومنا هذا كلما جاء إلى الجزيرة من يحصرها يخرجون من البلد ولم يبقى منهم من له شوكة ولا منزلة يفعل بها شيئا وإنما بتلك الحركة يؤخذون إلى الآن.
144 ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الأول وصل أمير الجيوش في عساكر مصر إلى الشام فحصر دمشق وبها صاحبها تاج الدولة تتش فضيق عليها وقتله فلم يظهر منها بشيء فرحل عنها عائدا إلى مصر. وفيها كانت الفتنة بين أهل الكرخ وسائر المحال من بغداد وأحرقوا من نهر الدجاج درب الآخر وما قاربه وأرسل الوزير أبو الشجاع جماعة من الجند ونهاهم عن سفك الدماء تحرجا من الإثم فلم يمكنهم تلافي الخطب فعظم. وفيها كانت زلزلة شديدة بخوزستان وفارس وكان أشدها بأرجان فسقطت الدور وهلك تحتها خلق كثير. وفيها في ربيع الأول هاجت ريح عظيمة سوداء بعد العشاء وكثر الرعد والبرق وسقط على الأرض رمل أحمر وتراب كثير وكانت النيران تضطرم في أطراف السماء وكان أكثرها بالعراق وبلاد الموصل فألقت النخيل والأشجار وسقط معها صواعق في كثير من البلاد حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت ثم انجلى ذلك نصف الليل. وفيها في ربيع الآخر توفي إمام أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ومولده سنة سبع عشرة وأربعمائة وهو الإمام المشهور في الفقه والأصولين وغيرهما من العلوم وسمع الحديث من أبي محمد الجوهري وغيره. وفيها في ذي الحجة توفي محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد
145 بن الوليد أبو علي المتكلم كان أحد رؤساء المعتزلة وأئمتهم ولزم بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج منه من عامة بغداد وأخذ الكلام عن أبي الحسين البصري وعبد الجبار الهمذاني القاضي ومن جملة تلاميذه ابن برهان وهو أكبر منه. وفي هذه السنة توفي القاضي أبو الحسن هبة الله بن محمد بن السيبي قاضي الحريم بنهر معلى ومولده سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وكان يذاكر الإمام المقتدي بأمر الله وولي ابنه أبو الفرج عبد الوهاب بين يدي قاضي القضاة ابن الدامغاني. وفيها في جمادى الأولى توفي أبو العز بن صدقة وزير شرف الدولة ببغداد وكان قد قبض عليه شرف الدولة وسجنه بالرحبة فهرب منها إلى بغداد فمات بعد وصوله إلى مأمنه بأربعة أشهر وكان كريما متواضعا لم تغيره الولاية عن إخوانه. وفيها في رجب توفي قاضي القضاة أبو عبد الله بن الدامغاني ومولده سنة ثمان وتسعين ودخل بغداد سنة تسع عشرة وأربعمائة وكان قد صحب القاضي أبا العلا بن صاعد وحضر ببغداد مجلس أبي الحسين القدوري وولي قضاء القضاة بعده القاضي أبو بكر بن المظفر بن بكران الشامي وهو من أكبر أصحاب القاضي أبو الطيب الطبري. وفيها توفي عبد الرحمن بن مأمون بن علي أبو سعد المتولي مدرس النظامية وهو من أصحاب القاضي حسين المروزي وتم كتاب الإبانة.
146 479 ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة ذكر قتل سليمان بن قتلمش لما قتل سليمان بن قتلمش شرف الدولة مسلم بن قريش على ما ذكرناه أرسل إلى ابن الحتيتي العباسي مقدم أهل حلب يطلب منه تسليمها إليه فأنفذ إليه واستمهله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه وأرسل ابن الحتيتي إلى تتش صاحب دمشق بعده أن يسلم إليه حلب فسار تتش طالبا لحلب فعلم سليمان بذلك فسار نحوه مجدا فوصل إلى تتش وقت السحر على غير تعبية فلم يعلم به حتى قرب منه فعبأ أصحابه. وكان الأمير أرتق بن أكسب مع تتش وكان منصورا لم يشهد حربا إلا وكان الظفر هل وقد ذكرنا فيما تقدم حضوره مع ابن جهير على آمد وإطلاقه شرف الدولة من آمد فلما فعل ذلك خاف أن ينهي ابن جهير ذلك إلى السلطان ففارق خدمته ولحق بتاج الدولة تتش فأقطعه بيت المقدس وحضر معه هذه الحرب فأبلى فيها بلاءا حسنا وحرض العرب على القتال فانهزم أصحاب سليمان وثبت هو في القلب فلما رأى انهزام عساكره اخرج سكينا معه فقتل نفسه، وقيل بل قتل في المعركة واستولى تتش على عسكره. وكان سليمان بن قتلمش في السنة الماضية في صفر قد أنفذ جثة
147 شرف الدولة إلى حلب على بغل ملفوفة في إزار وطلب من أهلها أن يسلموها إليه، وفي هذه السنة في صفر أرسل تتش جثة سليمان في إزار ليسلموها إليه فأجاب ابن الحتيتي أن يكاتب السلطان ومهما أمره فعل فحصر تتش البلد وأقام عليه وضيق على أهله. وكان ابن الحتيتي قد سلم كل برج من أبراجها إلى رجل من أعيان ليحفظه وسلم برجا فيها إلى إنسان يعرف بابن الرعوي ثم إن ابن الحتيتي أوحشه بكلام أغلظ له فيه وكان هذا الرجل شديد القوة ورأى ما الناس فيه من الشدة فدعاه ذلك إلى أن أرسل إلى تتش يستدعيه وواعده ليلة برفع الرجال إلى السور في الحبال فاتى تتش الميعاد الذي ذكره فأصعد الرجال في الجبال والسلاليم وملك تتش المدينة واستجار ابن الحتيتي بالأمير أرتق فشفع فيه وأما القلعة فكان بها سالم بن مالك بن بدران وهو ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش فأقام تتش يحصر القلعة سبعة عشر يوما فبلغه الخبر بوصول مقدمة أخبه السلطان ملكشاه فرحل عنها. ذكر ملك السلطان حلب وغيرها كان ابن الحتيتي قد كاتب السلطان ملكشاه يستدعيه ليسلم إليه حلب لما خاف تاج الدولة تتش فسار إليه من أصبهان في جمادى الآخرة وجعل على مقدمته الأمير برسق وبوزان وغيرهما من الأمراء وجعل طر يقه على الموصل فوصلها في رجب وسار منها فلما وصل إلى حران سلمها إليها ابن الشاطر فأقطعها السلطان محمد بن شرف الدولة وسار إلى الرها،
148 وهي بيد الروم، فحصرها ملكها وكانوا قد اشتروا من ابن عطير وتقدم ذكر ذلك وسار إلى قلعة جعبر فحصرها يوما وليلة وملكها وقتل من بها من بني قشير وأخذ جعبر من صاحبها وهو شيخ أعمى ولدين له وكانت الأذية بهم عظيمة يقطعون الطرق ويلجئون إليها. ثم عبر الفرات إلى مدينة حلب فملك في طريقه مدينة منبج فلما قارب حلب رحل عنها أخوه تتش وكان قد ملك المدينة كما ذكرناه وسار عنها يسلك البرية ومعه الأمير أرتق فأشار بكبس عسكر السلطان وقال إنهم قد وصلوا بهم وبدوا بهم من التعب ما ليس عندهم معه امتناع ولو فعل لظفر بهم. فقال تتش لا أكسر جاه أخي الذي أنا مستظل بظله فإنه يعود بالوهن علي أولا. وسار إلى دمشق ولما وصل السلطان إلى حلب تسلم المدينة وسلم إليه سالم بن مالك القلعة على أن يعوضه عنها قلعة جعبر وكان سالم قد امتنع بها أولا فأمر السلطان أن يرمي إليه رشقا واحدا في السهام فرمى الجيش فكادت الشمس تحتجب لكثرة السهام فصانع عنها بقلعة جعبر وسلمها وسلم السلطان إليه قلعة جعبر فبقيت بيده وبيد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي لعى ما نذكره إن شاء اله تعالى. وأرسل إليه الأمير نصر بن علي بن منقذ الكناني صاحب شيزر فدخل في طاعته وسلم إليه لاذقية وكفر طاب وأفامية فأجابه إلى
149 المسالمة وترك قصده وأقر عليه شيزر. ولما ملك السلطان حلب سلمها إلى قسيم الدولة آقسنقر فعمرها وأحسن السيرة فيها. وأما ابن الحتيتي فإنه كان واثقا بإحسان السلطان ونظام الملك إليه فإنه استدعاهما فلما ملك السلطان البلد طلب أهله أن يعفيهم من ابن الحتيتي فأجابهم إلى ذلك واستصحبه معه وأرسله إلى ديار بكر فافتقر، وتوفي على حال شديدة من الفقر وقتل ولده بأنطاكية قتله الفرنج لما ملكوها. ذكر وفاة بهاء الدولة منصور بن مزيد وولاية ابنه صدقة في هذه السنة في ربيع الأول توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي صاحب الحلة والنيل وغيرهما مما يجاورهما ولما سمع نظام الملك خبر وفاته قال مات أجل صاحب عمامة وكان فاضلا قرأ على علي بن برهان فبرع بذكائه في الذي استفاد منه وله شعر حسن فمنه: (فإن أنا لم أحمل عظيما وأقد * لها ما ولم أصبر على فعل معظم) (ولم أجر الجاني وأمنع حوزه * غداة أنادي للفخار وأنتمي)
150 وله في صاحب له يكنى أبا مالك يرثيه: (فإن كان أودى خدننا ونديمنا، * أبو مالك فالنائبات تنوب) (فكل ابن أنثى لا محالة ميت * وفي كل حي للمنون نصيب) (ولو رد حزنه أو بكاء لهالك، * بكيناه ما هبت صبا وجنوب) ولما توفي أرسل الخليفة إلى ولد سيف الدولة صدقة نقيب العلويين أبا الغنائم يعزيه وسار سيف الدولة إلى السلطان ملكشاه فخلع عليه وولاه ما كان لأبيه وكثر الشعراء مراثي بهاء الدولة. ذكر وقعة الزلاقة بالأندلس وهزيمة الفرنج قد تقدم ذكر ملك الفرنج طليطلة وما فعله المعتمد بن عباد برسول الأذفونش ملك الفرنج وعود المعتمد إلى إشبيلية فلما عاد إليها وسمع مشايخ قرطبة بما جرى ورأوا قوة الفرنج وضعف المسلمين واستعانة بعض ملوكهم بالفرنج على بعض اجتمعوا وقالوا هذه بلاد الأندلس قد غلب عليها الفرنج ولم يبق منها إلا القليل وإن استمرت الأحوال على ما نرى وعادت نصرانية كما كانت. وساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم فقالوا له ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة وإعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها وقد رأينا رأيا نعرضه عليك قال ما هو قالوا نكتب إلى عرب إفريقية ونبذل لهم إذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا وخرجنا معهم مجاهدين في
151 سبيل الله. قال: نخاف إذا وصلوا إلينا يخربون بلادنا كما فعلوا بإفريقية ويتركون الفرنج ويبدؤون بكم والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا. قالوا له: فكاتب أمير المسلمين وأرغب إليه ليعبر إلينا ويرسل بعض قواده. وقدم عليهم المعتمد بن عباد وهم في ذلك فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه فقال له ابن عباد أنت رسولي إليه في ذلك فامتنع وإنما أراد أن يبرئ نفسه من تهمة فألح عليه المعتمد فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين فأبلغه الرسالة وأعلمه ما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش. وكان أمي والمسلمين بمدينة سبتة ففي الحال امر بعبور العساكر إلى الأندلس فأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من عساكره فأقبلت إليه تتلو بعضها بعضا فلما تكاملت عنده عبر البحر وسار فاجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية وكان قد جمع عساكره أيضا وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير وقصده المطوعة من سائر بلاد الأندلس. ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع فرسانه وسار من طليطلة وكتب إلى أمير المسلمين كتابا كتبه له بعض أدباء المسلمين يغلط له القول ويصف ما عنده من القوة والعدد والعدد وبالغ الكاتب بالكتاب فأمر أمير المسلمين أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه وكان كاتبا مفلقا فكتب فأجاد فلما قرأه على أمير المسلمين قال هذا كتاب طويل أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره الذي يكون ستراه له. فلما عاد الكتاب إلى الأذفونش ارتاع لذلك، وعلم أنه بلي برجل له عزم
152 وحزم، فازداد استعدادا فرأى في منامه كأنه راكب فيل وبين يديه طبل صغير وهو ينقر فيه فقص رؤياه على القسيسين فلم يعرفوا تأويلها فأحضر رجلا مسلما عالما بتأويل الرؤيا فقصها عليه فاستعفاه من تعبيرها فلم يعفه فقال تأويل هذه الرؤيا من كتاب الله العزيز وهو قوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) السورة وقوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير)؛ ويقتضي هلاك هذا الجيش الذي تجمعه. فلما اجتمع جيشه رأى كثرته فأعجبته فأحضر ذلك المعبر وقال له بهذا الجيش ألقى إله محمد صاحب كتبكم فانصرف المعبر وقال لبعض المسلمين هذا الملك هالك وكل من معه؛ وذكر قول رسول الله (ثلاث مهلكات) الحديث وفيه (وإعجاب المرء بنفسه). وسار أمير المسلمين والمعتمد بن عباد حتى أتوا أرضا يقال لها الزلاقة من بلد بطليوس وأتى الأذفونش فنزل موضعا بينه وبينهم ثمانية عشر ميلا فقيل لأمير المسلمين إن ابن عباد ربما لم ينصح ولا يبذل نفسه دونك فأرسل عليه أمير المسلمين يأمره أن يكون في المقدمة ففعل ذلك وسار وقد ضرب الأذفونش خيامه في لحف جبل والمعتمد في سفح جبل يتراؤون وينزل أمير المسلمين وراء الجبل الذي عنده المعتمد وظن الأذفونش أن عساكر المسلمين ليس إلا الذي يراه. وكان الفرنج في خمسين ألفا فتيقنوا الغلب وأرسل الأذفونش إلى المعتمد في ميقات القتال وقصده الملك فقال غدا الجمعة وبعده الأحد فيكون اللقاء يوم الاثنين فقد وصلنا على حال تعب واستقر الأمر على هذا،
153 وركب ليلة الجمعة سحرا وصبح بجيشه جيش المعتمد بكرة الجمعة غدرا وظنا منه أن ذلك المخيم هو جميع عسكر المسلمين فوقع القتال بينهم فصبر المسلمون فأشرفوا على الهزيمة. وكان المعتمد قد أرسل إلى أمير المسلمين يعلمه بمجيء الفرنج للحرب فقال احملوني إلى خيام الفرنج فسار إليها فبينما هم في القتال وصل أمير المسلمين إلى خيام الفرنج فنهبها وقتل من فيها فلما رأى الفرنج ذلك لم يتمالكوا أن انهزموا وأخذهم السيف وتبعهم ا لمعتمد من خلفهم ولقيهم أمير المسلمين من بين يديهم ووضع فيهم السف فلم يفلت منهم أحد ونجا الأذفونش في نفر يسير وجعل المسلمون من رؤوس القتلى كوما كثيرة فكانوا يؤذنون عليها إلى أن جيفت فأحرقوها. فكانت الوقعة يوم الجمعة في العشر الأول من شهر رمضان سنة تسع وسبعين [وأربعمائة]، فأصاب المعتمد جراحات في وجهه وظهرت ذلك اليوم شجاعته ولم يرجع من الفرنج إلى بلادهم غير ثلاثمائة مائة فارس وغنم المسلمون كل مالهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك. وعاد ابن عباد إلى إشبيلية ورجع أمير المسلمين إلى الجزيرة ا لخضراء وعبر إلى سبتة إلى مراكش فأقام بها إلى العام المقبل وعاد إلى الأندلس وحضر معه المعتمد بن عباد في عسكره وعبد الله بن بلكين الصنهاجي، صاحب غرناطة في عسكره، وساروا حتى نزلوا على ليط وهو حصن منيع بيد الفرنج فحصروه حصرا شديدا فلم يقدروا على فتحه فرحلوا عنه بعد مدة ولم يخرج إليهم أحد من الفرنج لما أصابهم في العام
154 الماضي، فعاد ابن عباد إلى إشبيلية وعاد أمير المسلمين على غرناطة وهي طريقه ومعه عبد الله بن بلكين فغدر به أمير المسلمين وأخذ غرناطة منه وأخرجه منها فرأى في قصوره من الأموال والذخائر ما لم يحوه ملك قبله بالأندلس ومن جملة ما وجد سبحة فيها أربعمائة جوهرة قومت كل جوهرة بمائة دينار ومن الجواهر ما له قيمة جليلة إلى غير ذلك من الثياب والعدد وغيرها وأخذ معه عبد الله وأخاه تميما ابني بلكين إلى مراكش فكانت غرناطة أول ما ملكه من بلاد الأندلس. وقد ذكرنا فيما تقدم سبب دخول صنهاجة إلى الأندلس وعود من عاد منهم إلى المعز بإفريقية وكان آخر من بقي منهم بالأندلس هذا عبد الله وأخذت مدينته ورحل إلى العدوة. ولما رجع أمير المسلمين إلى مراكش أطاعه من كان لم يطعه من بلاد السوس وورغة وقلعة مهدي، وقال له علما الأندلس إنه ليست طاعته بواجبة حتى يخطب للخليفة ويأتيه تقليد منه بالبلاد فأرسل إلى الخليفة المقتدي بأمر الله ببغداد فأتاه الخلع والأعلام والتقليد ولقب بأمير المسلمين ونصر الدين. ذكر دخول السلطان إلى بغداد في هذه السنة ملكشاه بغداد في ذي الحجة بعد أن فتح حلب وغيرها من بلاد الشام والجزيرة وهي أول قدمة قدمها، ونزل
155 بدار المملكة، وركب من الغد إلى الحلبة ولعب بالجوكان والكرة وأرسل إلى الخليفة هدايا كثيرة فقبله الخليفة، ومن لغد أرسل نظام الملك إلى الخليفة خدمة كثيرة فقبلها وزار السلطان ونظام الملك مشهد موسى بن جعفر وقبر معروف واحمد بن حنبل وأب حيفة وغيرها من القبور المعروفة فقال ابن زكرويه الواسطي يهنئ نظام الملك بقصيدة منها: (زرت المشاهد زورة مشهودة * أرضت مضاجع من بها مدفون) (فكأنك الغيث استهل بتربها * وكأنها بك روضة ومعين) (فازت قداحك بالثواب وأنجحت * ولك الإله على النجاح ضمين) وهي مشهورة. وطلب نظام الملك إلى دار الخلافة ليلا فمضى في الزبزب وعاد من ليلته ومضى السلطان ونظام الملك إلى الصيد في البرية فزارا المشهدين مشهدا أمير المؤمنين علي ومشهد الحسين عليهما السلام ودخل السلطان البر فاصطاد شيئا كثيرا من الغزلان وغيرها وأمر ببناء منارة القرون بالسبيعي وعاد السلطان إلى بغداد ودخل إلى الخليفة فخلع عليه الخلع السلطانية. ولما خرج من عنده لم يزل نظام الملك قائما يقدم أميرا أميرا إلى الخليفة وكلما قدم أميرا يقول هذا العبد فلان بن فلان وأقطاعه كذا وكذا وعدة عسكره كذا وكذا إلى أن أتى على آخر الأمراء، وفوض الخليفة إلى السلطان أمر البلاد والعباد وأمره بالعدل فيهم وطلي السلطان أن يقبل يد الخليفة،
156 فلم يجبه فسال أن يقبل خاتمه فأعطاه إياه فقبله ووضعه على عينه وأمر الخليفة بالعود فعاد. وخلع الخليفة أيضا على نظام الملك ودخل الملك إلى المدرسة النظامية وجلس في خزانة الكتب وطالع فيها كتبا وسمع الناس عليه بالمدرسة جزء حديث وأملى جزاءا آخر وأقام السلطان ببغداد إلى صفر سنة ثمانين [وأربعمائة]، وسار منها إلى أصبهان. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في المحرم جرى بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة فتنة قتل فيها جماعة من جملتهم القاضي أبو الحسن بن القاضي الحسين بن الغريق الهاشمي الخطيب أصابه سهم فمات منه ولما قتل تولى ابنه الشريف أبو تمام ما كان إليه من الخطابة وكان العميد كمال الملك الدهستاني ببغداد فسار بخيله ورجله إلى القنطرة العتيقة وأعان أهل الكرخ ثم جرت بينهم فتنة ثانية في شوال منها فأعان الحجاج على أهل الكرخ فانهزموا وأبلغ الناس إلى درب اللؤلؤ وكاد أهل الكرخ يهلكون فخرج أبو الحسن بن برغوث العلوي إلى مقدم الأحداث من السنة فسألهم العفو فعاد عنهم ورد الناس. وفيها زاد الماء بدجلة تاسع عشر حزيران وجاء المطر يومين ببغداد. وفيها في ربيع الأول ارسل العميد كمال الملك إلى الأنبار فتسلمها من بني عقيل وخرجت من أيديهم.
157 وفيها في ربيع الآخر فرغت المنارة بجامع القصر وأذن فيها. وفيها في جمادى الأولى ورد الشريف أبو القاسم علي بن أبي يعلي الحسني الدبوسي إلى بغداد في تجمل عظيم لم ير مثله لفقيه ورتب مدرسا بالنظامية بعد أبي سعد المتولي. وفيها أمر السلطان أن يزاد في إقطاع وكلاء الخليفة نهر برزى من طريق خراسان وعشرة آلاف دينار من معاملة بغداد. وفيها أقطع السلطان ملكشاه محمد بن شرف الدولة مسلم مدينة الرحبة وأعمالها وحران وسروج والرقة والخابور وزوجه بأخته زليخة خاتون فتسلم البلاد جميعها ما عدا حران فإن محمدا بن الشاطر امتنع من تسليمها فلما وصل السلطان أإلى الشام نزل عنها ابن الشاطر فسلمها السلطان إلى محمد. وفيها وقع ببغداد صاعقتان فكسرت إحداهما أسطوانتين وأحرقت قطنا في صناديق ولم تحترق الصناديق وقتلت الثانية رجلا. وفيها كانت زلازل بالعراق والجزيرة والشام وكثير من البلاد فخربت كثيرا من البلاد وفارق الناس مساكنهم إلى الصحراء فلما سكنت عادوا. وفيها عزل فخر الدولة بن جهير عن ديار بكر وسلمها السلطان إلى العميد أبي علي البلخي وجعله عاملا عليها. وفيها أسقط اسم الخليفة المصري من الحرمين الشريفين وذكر اسم الخليفة المقتدي بأمر الله.
158 وفيها أسقط السلطان المكوس والاجتيازات بالعراق. وفيها حصر تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية مدينتي قابس وسفاقس في وقت واحد وفرق عليها العساكر. وفيها في ربيع الأول توفي أبو الحسن بن فضال المجاشعي النحوي المقري. وفي ربيع الآخر توفي شيخ الشيوخ أبو سعد الصوفي النيسابوري وهو الذي تولى بناء الرباط ينهر المعلى وبنى وقوفه وهو رباط شيخ الشيوخ الآن وبنى وقوف المدرسة النظامية وكان عالي الهمة كثير التعصب لمن يلتجئ إليه وجدد تربة معروف الكرخي بعد أن احترقت وكانت له منزلة كبيرة عند السلطان وكان يقال نحمد الله الذي أخرج رأس أبي سعد من مرقعة ولو أخرجه من قباء لهلكنا. وفيها توفي أبو علي محمد بن أحمد الشيري البصري وكان خيرا حافظا للقرآن ذا مال كثير وهو آخر من روى سنن أبي داود السجستاني عن أبي عمر الهاشمي. وفيها توفي الشريف أبو نصر الزينبي العباسي نقيب الهاشميين وهو محدث مشهور عالي الإسناد.
159 480 ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة ذكر زفاف ابنة السلطان إلى الخليفة في المحرم نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملا مجللة بالديباج الرومي وكان الرومي وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة وثلاث عماريات وعلى أربعة وسبعين بغلا مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقا من فضة لا يقدر ما فيها من الجواهر والحلي وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرسا من الخيل الرائقة عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجوهر ومهد عظيم كثير الذهب. وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهرائين والأمير برسق وغيرهما ونثر أهل نهر معلى عليهم الدنانير والثياب وكان السلطان قد خرج عن بغداد متصيدا ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون زوجة السلطان وبين يديه نحو ثلاثمائة موكبية ومثلها مشاعل ولم يبق في الحريم دكان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك. وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها حسنا وقال الوزير لتركان خاتون سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول: إن الله يأمركم ان تؤدوا
160 الأمانات إلى أهلها، وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره. فأجابت بالسمع والطاعة وحضر نظام الملك فمن دونه من أعيان دولة السلطان وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير وجاء نساء الأمراء الكثير ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها وبين أيديهن الشمع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان. ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان بعد الجميع في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة وسارت إلى دار الخلافة وكانت ليلة مشهودة لم تر ببغداد مثلها. فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله حكي أن فيه أربعين الف منا من السكر وخلع عليهم كلهم وعلى كل من له ذكر في العسكر وأرسل الخلع إلى الخاتون زوجة السلطان وإلى جميع الخواتين وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك. ذكر عدة حوادث في هذه السنة ولد للسلطان ابن من تركان خاتون وسماه محمودا وهو الذي خطب له بالمملكة بعد.
161 وفيها سلم السلطان ملكشاه مدينة حلب والقلعة إلى مملوكه آقسنقر فوليها وأظهر فيها العدل وحسن السيرة وكان زوج دادوا السلطان ملكشاه وهي التي تحضنه وتربيه وماتت بحلب سنة أربع وثمانين [وأربعمائة]. وفيها استبق ساعيان أحدهما للسلطان فضلي والآخر للأمير قماج مرعوشي فسبق ساعي السلطان، وقد تقدم ذكر الفضلي والمرعوشي أيام معز الدولة بن بويه. وفيها جعل السلطان ولي عهده ولده أبا شجاع أحمد ولقبه ملك الملوك عضد الدولة وتاج الملة عدة أمير المؤمنين وأرسل إلى الخليفة بعد مسيره من بغداد ليخطب ببغداد بذلك فخطب له في شعبان ونثر الذهب على الخطباء. وفيها في شعبان انحدر سعد الدولة كوهرائين إلى واسط لمحاربة الدولة بن أبي الجبر صاحب البطايح ولما فارق بغداد كثرت فيها الفتن. وفيها في ذي القعدة ولد أبي الخليفة من ابنة السلطان ولد سماه جعفرا وكناه أبا الفضل وزين البلد لأجل ذلك. وفيها استولى العميد كمال الملك أبو الفتح الدهستاني عميد العراق على مدينة هيت أخذها صلحا ومضى إليها وعاد عنها في ذي القعدة. وفيها وقعت فتنة بين أهل الكرخ وغيرها من المحال قتل فيها كثير من الناس. وفيها كسفت الشمس كسوفا كليا.
162 وفيها توفي الأمير أبو منصور قتلغ أمير الحاج وحج أميرا اثنتي عشرة سنة وكانت له في العرب عدة وقعات وكانوا يخافونه ولما مات قال نظام الملك مات اليوم ألف رجل وولي إمارة نجم الدولة خمارتكين. وفيها في جمادى الأولى توفي إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن سعد أبو القاسم الساوي سمع الحديث الكثير من أبي سعيد الصيرفي وغيره وروى وكان ثقة وطاهر بن الحسين أبو الوفا البندنيجي الهمذاني كان شاعرا أريبا وكان يمدح لا لعرض الدنيا ومدح نظام الملك بقصيدتين كل واحدة منهما تزيد على أربعين بيتا، إحداهما ليس فيهما نقطة والأخرى جميع حروفها منقوطة. وفيها توفيت فاطمة بنت علي المؤدب المعرفة ببنت الأقرع الكاتبة كانت من أحسن الناس خطا على طريقة ابن البواب وسمعت الحديث وأسمعته. وفيها في ذي القعدة توفي غرس النعمة أبو الحسن محمد بن الصابي صاحب التاريخ وظهر له مال كثير وكان له معروف وصدقة.
163 481 ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ذكر الفتنة ببغداد في هذه السنة في صفر شرع أهل باب البصرة القنطرة الجديدة ونقلوا الآجر في أطباق الذهب والفضة وبين أيديهم الدبادب واجتمع إليهم أهل المحال وكثر عندهم أهل باب الأزج في خلق لا يحصى. واتفق أم كوهرائين سار في سميرية وأصحابه يسيرون على شاطئ دجلة بسيره فوقف أهل باب الأزج على امرأة كانت تسقي الناس من مزملة لها على دجلة فحملوا عليها على عادة لهم وجعلوا يكسرون الجرار ويقولون الماء للسبيل فلما رأت سعد الدولة كوهرائين استغاثت به فأمر بإبعادهم عنها فضربهم الأتراك بالمقارع فسل العامة سيوفهم وضربوا وجه فرس حاجبه سليمان وهو أخص أصحابه فسقط عن الفرس فحمل كوهرائين الحنق على أن يخرج من السميرية إليهم راجلا فحمل أحدهم عليه فطعنه بأسفل رمحه فألقاه في إماء والطين فحمل أصحابه على العامة فقاتلوهم وحرصوا على الظفر بالذي طعنه فلم يصلوا إليه وأخذ ثمانية نفر فقتل أحدهم وقطع أعصاب ثلاثة نفر، وأرسل قباءه
164 إلى الديوان وفيه أثر الطعنة والطين يستنفر على أهل باب الأزج ثم إن أهل الكرخ عقدوا لأنفسهم طاقا آخر على باب طاق الحراني وفعلوا كفعل أهل باب البصرة. ذكر إخراج الأتراك من حريم الخلافة في هذه السنة في ربيع الآخر أمر الخليفة بإخراج الأتراك الذين مع الخاتون زوجته ابنة السلطان من حريم دار الخلافة. وسبب ذلك أن تركيا منهم اشترى من طواف فاكهة فتماسكا فشتم الطواف التركي فأخذ التركي صنجة من الميزان وضرب بها رأس الطواف فشجه فاجتمعت العامة وكاد يكون بينهم وبين الأتراك شر واستغاثوا وشنعوا فأمر الخليفة بإخراج الأتراك فأخرجوا عن آخرهم في ساعة واحدة على أقبح صورة وقت العشاء الآخرة. ذكر ملك الروم مدينة زويلة وعودهم عنها في هذه السنة فتح الروم مدينة زويلة من إفريقية وهي بقرب المهدية وسبب ذلك أن الأمير تميم بن المعز بن باديس صاحبها أكثر غزو
165 بلادهم في البحر، فخربها وشتت أهلها فاجتمعوا من كل جهة واتفقوا على إنشاء الشواني لغزو المهدية ودخل معهم البيشانيون والجنويون وهما من الفرنج فأقاموا يعمرون الأسطول أربع سنين واجتمعوا بجزيرة قوصرة في أربعمائة قطعة فكتب أهل قوصرة كتابا على جناح طائر يذكرون وصولهم وعددهم وحكمهم على الجزيرة فأراد تميم أن يسير عثمان بن سعيد المعروف بالمهر مقدم الأسطول الذي له ليمنعهم من النزول فمنعه من ذلك بعض قواده سامه عبد الله بن منكوت لعداوة بينه وبين المهر فجاءت الروم وأرسلوا وطلعوا إلى البر ونهبوا وخربوا وأحرقوا ودخلوا زويلة ونهبوها وكانت عساكر تميم غائبة في قتال الخارجين عن طاعته. ثم صالح تميم الروم على ثلاثين ألف دينار ورد جميع ما حووه من السبي، وكان تميم يبذل المال الكثير في الغرض الحقير فكيف في الغرض الحقير، حكي عنه أنه بذل للعرب لما استولى على حصن له يسمى قناطة ليس بالعظيم اثني عشر ألف دينار حتى هدمه فقيل له سرف في المال فقال هو شرف في الحال. ذكر وفاة الناصر بن علناس وولاية ولده المنصور في هذه السنة مات الناصر بن علناس بن حماد وولي بعده ابنه المنصور فاقتفى آثار أبيه في الحزم والعزم والرياسة ووصله كتب الملوك ورسلهم
166 بالتعزية بأبيه والتهنئة بالملك منهم يوسف بن تاشفين وتميم بن المعز وغيرهما. ذكر وفاة إبراهيم ملك غزنة وملك ابنه مسعود في هذه السنة توفي الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وكان عادلا كريما مجاهدا وقد ذكرنا من فتوحه ما وصل إلينا وكان عاقلا ذا رأي متين فمن آرائه أن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي جمع عساكره وسار يريد غزنة ونزل باسفرار فكتب إبراهيم بن مسعود كتابا إلى جماعة من أعيان أمراء ملكشاه يشكرهم ويعتذر لهم بما فعلوا من تحسين قصد ملكشاه بلاده ليتم لنا ما استقر بيننا من الظفر به وتخليصهم من يده ويعدهم للإحسان على ذلك وأمر القاصد بالكتب أن يتعرض لملكشاه في الصيد ففعل ذلك فأخذ واحضر عند السلطان فسأله عن حاله فأنكر فأمر السلطان بجلده فجلد فدفع الكتب إليه بعد جهد ومشقة فلما وقف ملكشاه عليها تحيل من أمرائه وعاد ولم يقل لأحد من أمرائه في هذا الأمر شيئا خوفا أن يستوحشوا منه. وكان يكتب بخطه كل سنة مصحفا ويبعثه مع الصدقات إلى مكة وكان يقول لو كنت موضع أبي مسعود بعد وفاة جدي محمود لما انفصمت
167 عرى مملكتنا ولكني الآن عاجز عن [أن] أسترد ما أخذوه واستولى عليه ملوك قد اتسعت مملكتهم وعظمت عساكرهم. ولما توفي ملك بعده اينه مسعود ولقبه جلال الدين وكان قد زوجه أبوه بابنه السلطان ملكشاه وأخرج نظام الملك في هذه الأملاك والزفاف مائة ألف دينار. ذكر عدة حوادث في هذه السنة حج الوزير أبو شجاع، وزير الخليفة، واستناب ابنه ربيب الدولة أبا منصور، ونقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي. وفيها أسقط السلطان ما كان يؤخذ من الحجاج من الخفارة. وفيها جمع آقسنقر صاحب حلب عسكره وسار إلى قلعة شيزر فحصرها وصاحبها ابن منفذ وضيق عليها ونهب ربضها ثم صالحه صاحبها وعاد إلى حلب. وفيها توفي أبو بكر أحمد بن أبي حاتم عبد الصمد بن أبي الفضل الغورجي الهروي والقاضي محمود بن محمد بن القاسم أبو عامر الأزدي المهلبي راوية جامع الترمذي عن أبي محمد الجراحي رواه عنهما أبو الفتح الكروخي. وتوفي عبد الله بن محمد بن علي بن محمد أبو إسماعيل الأنصاري الهروي شيخ الإسلام ومولده سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وكان شديد التعصب في المذاهب ومحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الباقرجي ومولده
168 في شعبان، وهو من أهل الحديث والرواية. وفي المحرم توفيت ابنة الغالب بالله بن القادر ودفنت عند قبر أحمد وكانت ترجع إلى دين ومعرف كثير لم يبلغ أحد في فعل الخير ما بلغت. وفي شعبان توفي عبد العزيز الصحراوي الزاهد. وفيها توفي الملك أحمد بن السلطان ملكشاه وبمرو وكان ولي عهد أبيه في السلطنة وكان عمره إحدى عشرة سنة وجاس الناس ببغداد للعزاء سبعة أيام في دار الخلافة ولم يركب أحد فرسا وخرج النساء ينحن في الأسواق واجتمع الخلق الكثير في الكرخ للتفرج والمناحات وسود أهل الكرخ أبواب عقودهم إظهار للحزن عليه.
169 482 ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ذكر الفتنة ببغداد بين العامة في هذه السنة في صفر كبس أهل باب البصرة الكرخ فقتلوا رجى وجرحوا آخر فأغلق أهل الكرخ الأسواق ورفعوا المصاحف وحملوا ثياب الرجلين بالدم ومضوا إلى دار العميد كمال الملك أبي الفتح الدهستاني مستغيثين فأرسل إلى النقيب طراد بن محمد يطلب منه إحضار القاتلين فقصد طراد دار الأمير بوزان بقصر ابن المأمون فطالبه بوزان بهم ووكل به فأرسل الخليفة إلى بوزان يعرفه حال النقيب طراد ومحله ومنزلته فخلة سبيله واعتذر إليه فسكن العميد كمال الملك الفتنة وكف الناس بعضهم عن بعض ثم سار إلى السلطان فعاد الناس إلى ما كانوا فيه من الفتنة، ولم ينقض يوم إلا عن قتلى وجرحى.
170 ذكر ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر في هذه السنة ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر. وسبب ذلك أن سمرقند كان قد ملكها أحمد خان بن خضر خان أخو شمس الملك الذي كان قبله وهو ابن أخي تركات خاتون زوجة السلطان ملكشاه وكان صبيا ظالما قبيح السيرة يكثر مصادرة الرعية فنفروا منه وكتبوا إلى السلطان سرا يستغيثون به ويسألونه القدوم عليهم ليملك بلادهم وحضر الفقيه أبو طاهر بن علك الشافعي عند السلطان شاكيا وكان يخاف من أحمد خان لكثرة ماله فأظهر السفر للتجارة والحج فاجتمع بالسلطان وشكا إليه، وأطمعه في البلاد. فتحركت دواعي السلطان إلى ملكها، فسار من أصبهان. وكان قد وصل إليه، وهو فيها، رسول ملك الروم، ومعه الخراج المقرر عليه فأخذه نظام الملك معهم إلى ما وراء النهر وحضر فتح البلاد فلما وصل إلى كاشغر أذن له نظام الملك في العود إلى بلاده وقال أحب أن يذكر عنا في التواريخ أن ملك الروم حمل الجزية وأوصلها إلى باب كاشغر لينهي إلى صاحبه سعة ملك السلطان ليعظم خوفه منه ولا يحدث نفسه بخلاف الطاعة وهذا يدل على همة عالية تعلو على العيوق. ولما سار السلطان من أصبهان إلى خراسان جمع العساكر من البلاد جميعها،
171 فعبر النهر بجيوش لا يحصرها ديوان ولا تدخل تحت الإحصاء فلما تقطع النهر قصد بخارى وأخذ ما على طريقه ثم سار إليها وملكها وما جاورها من البلاد وقصد سمرقند ونازلها وكانت الملطفات قد قدمها إلى البلد يعدهم النصر والخلاص مما فيه من الظلم وحصر البلد وضيق عليه وأعانه أهل البلد بالإقامات، وفرق أحمد خان صاحب سمرقند أبراج السور على الأمراء ومن يثق إليه من أهل البلد وسلم برجا يقال له برج العيار إلى رجل علوي كان مختصا به فنصح في القتال. فاتفق أن ولدا لهذا العلوي أخذ أسيرا ببخارى فهدد الأب بقتله فتراخى عن القتال فسهل الأمر على السلطان ملكشاه ورمى من السور عدة ثلم بالمنجنيقات وأخذ ذلك البرج فلما صعد عسكر السلطان إلى السور هرب أحمد خان واختفى في بيوت بعض العامة فغمر عليه وأخذ وحمل إلى السلطان وفي رقبته حبل فأكرمه السلطان وأطلقه وأرسله إلى أصبهان ومعه من يحفظه ورتب بسمرقند الأمير العميد أبا طاهر عميد خوارزم. وسار السلطان قاصدا إلى كاشغر فبلغ إلى يوزكند وهو بلد يجري على بابه نهر وأرسل منها رسلا إلى ملك كاشغر يأمره بإقامة الخطبة وضرب السكة باسمه ويتوعده إن خالف بالمسير إليه ففعل ذلك وأطاع وحضر عند السلطان فأكرمه وعظمه وتابع الإنعام عليه وأعاده إلى بلده. ورجع السلطان إلى خراسان فلما أبعد عن سمرقند لم يتفق أهلها
172 وعسكرها المعروفون بالجكلية مع العميد أبي طاهر نائب السلطان عندهم حتى كادوا يثبون عليه فاحتال حتى خرج من عندهم ومضى إلى خوارزم. ذكر عصيان سمرقند كان مقدم العسكر المعروف بالجكلية واسمه عين الدولة قد خاف السلطان لهذا الحادث فكاتب يعقوب تكين أخا ملك كاشغر ومملكته تعرف بآب نباشي وبيده قلعتها واستحضره فحضر عنده بسمرقند واتفقا ثم يعقوب علم أن أمره لا يستقيم معه فوضع عليه الرعية الذين كان أساء إليهم حتى ادعوا عليه دماء قوم كان قتلهم وأخذ الفتاوى عليه وقتله واتصلت الأخبار بالسلطان ملكشاه بذلك فعاد إلى سمرقند. ذكر فتح سمر قند الفتح الثاني لما اتصلت الأخبار بعصيان بالسلطان ملكشاه وقتل عين الدولة مقدم الجكلية عاد إلى سمرقند فلما وصل إلى بخارى هرب يعقوب المستولي على سمرقند ومضى إلى فرغانة ولحق بولايته. ووصل جماعة من عسكره إلى السلطان مستأمنين فلقوه بقرية تعرف بالطواويس ولما وصل السلطان إلى سمرقند ملكها ورتب بها الأمير أبر،
173 وسار في أثر يعقوب حتى نزل بيوزكند وأرسل العساكر إلى سائر الأكتاف في طلبه. وأرسل السلطان إلى ملك كاشغر وهو أخو يعقوب ليجده في أمره ويرسله إليه فاتفق أن عسكر يعقوب شغبوا عليه ونهبوا خزائنه واضطروه إلى أن هرب على فرسه ودخل إلى أخيه بكاشغر مستجيرا به فسمع السلطان بذلك فأرسل إلى ملك كاشغر يتوعده إن لم يرسله إليه أن يقصد بلاده ويصير هو العدو فخاف أن يمنع السلطان وأنف أن يسلم أخاه بعد أن استجار به وإن كانت بينهما عداوة قديمة ومنافسة في الملك عظيمة لما يلزمه فيه العار فأداه اجتهاده إلى أن قبض على أخيه يعقوب وأظهر أنه كان في طلبه فظفر به وسيره مع ولده وجماعة من أصحابه وكلهم بيعقوب وأرسل معهم هدايا كثيره للسلطان وأمر ولده أنه إذا وصل قلعة بقرب السلطان أن يسمل يعقوب ويتركه فإن رضي السلطان بذلك وإلا سلمه إليه. فلما وصلوا إلى القلعة عزم ابن الملك كاشغر أن يسمل عمه وينفذ فيه ما أمره به أبوه فتقدم فكتفه وألقاه على الأرض ففعلوا به ذلك فبينما هم على تلك الحال وقد أحلوا الميل وقد أحموا الميل ليسلموه إذ سمعوا ضجة عظيمة فتركوه وتشاوروا بينهم وظهر عليهم انكسار ثم أرادوا به ذلك سمله ومنع منه بعض فقال لهم يعقوب أخبروني عن حالكم وما يفوتكم الذي تريدونه مني وإذا فعلتم بي شيئا ربما ندمتم عليه. فقل له إن طغرل بن ينال أسرى من ثمانين فرسخا في عشرات ألوف من العساكر وكبس أخاك بكاشغر فأخذه أسيرا ونهب عسكره وعاد
174 إلى بلاده، فقال لهم هذا الذي تريدون تفعلونه بي ليس مما تقربون ه إلى الله تعالى وإنما تفعلونه اتباعا لأمر أخي وقد زال أمره وقد وعدهم الإحسان فأطلقوه. فلما رأى السلطان ذلك ورأى طمع طغرل بن ينال ومسيره إلى كاشغر وقبض صاحبها وملكه لها مع قربه منه خاف أن ينحل بعض أمره وتزول هيبته وعلم أنه متى قصد طغرل سار من بين يديه فإن عاد عنه رجع إلى بلاده وكذلك يعقوب أخو صاحب كاشغر وأنه لا يمكنه المقام لسعة البلاد وراءه وخوف الموت بها فوضع تاج الملك على أن يسعى في إصلاح أمر يعقوب معه ففعل ما أمره به السلطان فاتفق هو ويعقوب وعاد إلى خراسان وجعل يعقوب مقابل طغرل يمنعه من القوة وملك البلاد وكل منهما يقوم في وجه الآخر. ذكر عود ابنة السلطان زوجة الخليفة إلى أبيها وفي هذه السنة أرسل السلطان إلى الخليفة يطلب ابنته طلبا لا بد منه. وسبب ذلك أنها أرسلت تشكوا من الخليفة وتذكر أنه كثير الاطراح لها والإعراض عنا فأذن لها في المسير فسارت في ربيع الأول وسار معها ابنها من الخليفة أبو الفضل جعفر بن المقتدي بأمر الله ومعهما سائر أرباب الدولة ومشى مع محفتها سعد الدولة كوهرائين وخدم دار الخلافة الأكابر وخرج الوزير وشيعهم إلى النهروان وعاد.
175 وسارت الخاتون إلى أصبهان فأقامت بها إلى ذي ا لقعدت وتوفيت وجلس الوزير ببغداد للعزاء سبعة أيام وأكثر الشعراء مراثيها ببغداد وبعسكر السلطان. ذكر فتح مصر عكا وغيرها من الشام في هذه السنة خرجت عساكر مصر إلى الشام في جماعة من المقدمين فحصروا مدينة صور وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل وامتنع عليهم ثم توفي ووليها أولاده فحصرهم العسكر المصري فلم يكن لهم من القوة ما يمتنعون بها فسلموها إليهم. ثم سار العسكر عنا إلى مدينة صيدا ففعلوا بها كذلك. ثم ساروا إلى مدينة عكا فحصروها وضيقوا على أهلها فافتتحوها وقصدوا مدينة جبيل فملكوها أيضا وأصلحوا أحوال هذه البلاد فقرروا قواعدها وساروا عنها إلى مصر عائدين واستعمل أمير الجيوش على هذه الأمراء والعمال. ذكر الفتنة بين أهل بغداد ثانية وفي هذه السنة في جمادى الأولى كثرت الفتن ببغداد بين أهل الكرخ وغيرها من المحال وقتل بينهم عدد كثير واستولى أهل المحال على قطعة كبيرة من نهر الدجاج فنهبوها وأحرقوها فنزل شحنة بغداد
176 وهو خمارتكين النائب عن كوهرائين على دجلة في خيله ورجله ليكف الناس عن الفتنة فلم ينتهوا وكان أهل الكرخ يجرون عليه وعلى أصحابه الجرايات والإقامات. وفي بعض الأيام وصل أهل البصرة إلى سويقة غالب فخرج من أهل الكرخ من لم تجر عادته بالقتال فقاتلوهم حتى كشفوهم فركب خدم الخليفة والحجاب والنقباء وغيرهم من أعيان والحنابلة كابن عقيل والكلوذاني وغيرهما إلى الشحنة وساروا معه إلى أهل الكرخ فقرأ عليهم مثالا من الخليفة يأمرهم بالكف ومعاودة السكون وحضور الجماعة والجمعة والتدين بمذهب أهل السنة فأجابوا إلى الطاعة. فبينما هم كذلك أتاهم الصارخ من نهر الدجاج بأن أهل السنة قد قصدوهم والقتال عندهم فمضوا مع الشحنة ومنعوا من الفتنة وسكن الناس وكتب أهل الكرخ على أبواب مساجدهم خير الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ومن عند هذا اليوم ثار أهل الكرخ وقصدوا شارع ابن أبي عوف ونهبوه وفي جملة ما نهبوا دار أبي الفضل بن خيرون المعدل فقصد الديوان مستنفرا ومعه الناس ورفع العامة الصلبان وهجموا على الوزير في أجرته وأكثروا من الكلام الشنيع وقتل ذلك اليوم رجل هاشمي من أهل باب الأزج بسهم أصابه فثار العامة هناك بعلوي كان مقيما بينهم فقتلوه وحرقوه وجرى من النهب والقتل والفساد أمور عظيمة فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة من مزيد فأرسل عسكرا إلى بغداد فطلبوا المفسدين والعيارين فهربوا منهم فهدمت دورهم وقتل منهم ونفي وسكنت الفتنة وأمن الناس.
177 ذكر حيلة لأمير المسلمين ظهرت ظهورا غريبا كان بالمغرب إنسان اسمه محمد بن إبراهيم الكزولي سيد قبيلة كزولة ومالك جبلها وهو جبل شامخ وهي قبيلة كبيرة وبينه وبين أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مودة واجتماع، فلما كان هذه السنة أرسل يوسف إلى محمد بن إبراهيم يطلب الاجتماع به فركب إليه محمد، فلما قاربه خافه على نفسه فعاد إلى جبله واحتاط لنفسه، فكتب إليه يوسف وحلف له أنه ما أراد به إلا الخير ولم يحدث نفسه بغدر فلم يركن محمد إليه. فدعا يوسف حجاما وأعطاه مائة دينار، وضمن له مائة دينار أخرى إن هو سار إلى محمد بن إبراهيم واحتال إلى قتله فسار الحجام ومعه مشاريط مسمومة فصعد الجبل فلما كان الغد خرج ينادي لصناعته بالقرب من مساكن محمد فسمع محمد الصوت فقال هذا الحجام من بلدنا فقيل إنه غريب فقال أراه يكثر الصياح وقد ارتبت بذلك ائتوني به فأحضر عنده فاستدعى حجاما آخر وأمره أن يحجمه بمشاريطه التي معه فامتنع الحجام الغريب فأمسك وحجم فمات وتعجب الناس من فطنته. فلما بلغ ذلك يوسف ازداد غيظة ولج في السعي في أذى يوصله إليه فاستماله قوما من أصحاب محمد فمالوا إليه فأرسل إليهم جرارا من عسل مسموم فحضروا عند محمد وقالوا قد وصل إلينا قوم معهم جرار من عسل
178 أحسن ما يكون وأردنا إتحافك به واحضروها بين يديه فلما رآها أمر بإحضار خبز وأمر أولئك الذين أهدوا إليه العسل أن يأكلوا منه فامتنعوا واستعفوه من أكله فلم يقبل منهم وقال من لم يأكل قتل بالسيف فأكلوا فماتوا عن آخرهم. فكتب إلى يوسف تاشفين إنك قد أردت قتلي بكل وجه فلم يظفرك الله بذلك فكف عن شرك فقد أعطاك الله المغرب بأسره ولم يعطني غير هذا الجبل وهو في بلادك كالشامة البيضاء في النور الأسود فلم تقنع بما أعطاك الله عز وجل. فلما رأى يوسف أن سره قد انكشف وأنه لا يمكنه في أمره شيء بحصانة جبله أعرض عنه وتركه. ذكر ملك العرب مدينة سوسة وأخذها منهم في هذه السنة نقض ابن علوي ما بينه وبين تميم بن المعز بن باديس أمير إفريقية من العهد وسار في جمع من عشيرته العرب فوصل إلى مدينة سوسة من بلاد إفريقية وأهلها غارون لم يعملوا به فدخلها عنوة وجرى بينه وبين من بها من العسكر والعامة قتال قتل من الطائفتين جماعة وكثر القتل في أصحابه والأسر وعلم أنه لا يتم له مع تميم حال ففارقها وخرج منها إلى حلته في الصحراء. وكان بإفريقية هذه السنة غلاء شديد وبقي كذلك إلى سنة أربع وثمانين وصلحت أحوال أهلها وأخصبت البلاد ورخصت الأسعار وأكثر أهلها الزرع.
179 ذكر عدة حوادث في هذه السنة قطعت الحرامية الطريق على قفل كبير بولاية حلب فركب آقسنقر في جماعة من عسكره وتبعهم ولم يزل حتى أخذهم وقتلهم فأمنت الطريق بولايته. وفيها ورد العميد الأغر أبو المحاسن عبد الجليل بن علي الدهستاني إلى بغداد عميدا وعزل أخوه كمال الملك علة ما ذكرناه. وفيها درس الإمام أبو بكر الشاشي في المدرسة التي بناها الملك مستوفي السلطان في باب إبرز من بغداد وهي المدرسة الناجية المشهورة. وفيها عمرت منارة جامع حلب. وفيها توفي الخطيب أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن عبد الواحد بن أبي ا لحديد السلمي خطيب دمشق في ذي الحجة. وفيها توفي أحمد بن محمد بن صاعد بن محمد أبو نصر النيسابوري رئيسها ومولده سنة عشر وأربعمائة، وكان من العلماء وعاصم بن الحسن بن محمد بن علي بن عاصم العاصمي البغدادي من أهل الكرخ كان ظريفا كيسا له شعر حسن فمنه: (ماذا على متلون الأخلاق * لو زارني فأبثه أشواقي) (وأبوح بالشكوى إليه تذللا * وأفض ختم الدمع من آماقي) (فعساه أن يسمح بالوصال لمدنف * ذي لوعة وصبابة مشتاق) (أسر الفؤاد ولم يرق لموثق * ما ضره لو جاد بالإطلاق)
180 (إن كان قد لبست عقارب صدغه * قلبي فإن رضابه درياقي) وقال أيضا: (فديت من ذبت شوقا من محبته * وصرت من هجره فوق الفراش لقا) (سمعته يتغنى وهو مصطبح * أفديه مصطبحا منه ومغتبقا) (وأخلفتك ابنتي البكر ما وعدت * وأصبح الحبل منها واهيا خلقا) والصحيح أنه توفي سنة ثلاث وثمانين [وأربعمائة]. وفيها في جمادى الآخرة توفي الشريف أبو القاسم العلوي الدبوسي المدرس بالنظامية ببغداد وكان فاضلا فصيحا.
181 483 ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة ذكر وفاة فخر الدولة أبي نصر بن جهير في هذه السنة في المحرم توفي فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير الذي كان وزير الخليفة بمدينة الموصل ومولده بها سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وتزوج إلى أبي العقارب شيخها ونظر في أملاك جارية قرواش المعروفة بسرهنك ثم خدم بركة بن المقلد حتى قبض على أخيه قرواش وحبسه ومضى بهدايا إلى ملك الروم فاجتمع هو ورسول نصر الدولة بن مروان وتقدم فخر الدولة عليه فنازعه رسول لابن مروان فقال فخر الدولة لملك الروم أنا أستحق التقدم عليه لأنه صاحبه يؤدي الخراج إلى صاحبي. فلما عاد إلى قريش با بدران أراد القبض عليه فاستجار بأبي ا لشداد وكانت عقيل تجير على أمرائها وسار إلى خلب فوزر لمعز الدولة أبي ثمال بن صالح ثم مضى إلى ملطية ومنها إلى ابن مروان فقال له كيف أمنتني وقد فعلت برسولي ما فعلت عند ملك الروم فقال حملني على ذلك نصح صاحبي فاستوزره فعمر بلاده.
182 ووزر بعد نصر الدولة لولده ثم سار إلى بغداد وولي وزار ة الخليفة على ما ذكرنا وتولى أخذ ديار بكر من بني مروان على ما ذكرناه أيضا ثم أخذها منه السلطان فسار إلى الموصل فتوفي بها. ذكر نهب العرب البصرة وفي هذه السنة في جمادى الأولى نهب العرب البصرة نهبا قبيحا. وسبب ذلك أنه ورد إلى بغداد في بعض السنين رجل أشقر من سواد النيل يدعى الأدب والنجوم ويستجري الناس فلقبه أهل بغداد تليا وكان نازلا في بعض الخانات فسرق ثيابا من الديباج وغيره وأخفاها في خلفها وسار بها فرآها الذين يحفظون لطريق فمنعوه من السفر اتهاما له وحملوه إلى المقدم عليهم فأطلقه لحرمة العلم. فسار إلى أمير من أمراء العرب من بني عامر وبلاده متاخمة الأحساء وقال له أنت تملك الأرض وقد فعل أجدادك بالحاج كذا وكذا أفعالهم مشهورة مذكورة في التواريخ وحسن نهب له البصرة وأخذها فجمع من العرب ما يزيد على عشرة آلاف مقاتل وقصد البصرة وبها العميد عصمة وليس معه من الجند إلا اليسير لكون الدنيا آمنة من ذاعر ولأن الناس في جنة من هيبة السلطان، فخرج إليهم في أصحابه وحاربهم ولم يمكنهم من دخول البلد فأتاه من أخبره أن أهل البلد يريدون أن يسلموه إلى العرب فخاف ففارقهم وقصد الجزيرة التي هي مكان القلعة بنهر معقل.
183 فلما علم أهل البلد بذلك فارقوا ديارهم وانصرفوا ودخل العرب حينئذ البصرة وقويت نفوسهم وملكوها ونهبوا ما فيها نهبا شنيعا فكانوا ينهبون نهارا وأصحاب العميد عصمة ينهبون ليلا وأحرقوا مواضع عدة، وفي جملة ما أحرقوا دارين للكتب إحداهما وقفت قبل أيام عضد الدولة بن بويه فقال عضد الدولة هذه مكرمة سبقنا إليها وهي أول دار وقفت في الإسلام والأخرى وقفها الوزير أبو منصور بن شاء مردان وكان بها نفائس الكتب وأعيانها، وأحرقوا أيضا النحاسين وغيرها من الأماكن. وخربت وقوف البصرة التي لم يكن لها نظير من جملتها وقوف على الحمال الدائرة على شاطئ دجلة وعلى الدواليب التي تحمل الماء وترقيه إلى قنى الرصاص الجارية إلى المصانع وهي على فراسخ من البلد وهي من عمل محمد بن سليمان الهاشمي وغيره. وكان فعل العرب بالبصرة أول خرق جرى في أيام السلطان ملكشاه فلما فعلوا ذلك وبلغ الخبر إلى بغداد انحدر سعد الدولة كوهرائين وسيف الدولة صدفة بن مزيد إلى البصرة لإصلاح أمورها فوجدوا العرب قد فارقوها. ثم إن تليا أخذ بالبحرين وأرسل إلى السلطان فشهره ببغداد سنة أربع وثمانين [وأربعمائة] على جمل، وعلى رأسه طرطور وهو يصقع بالدرة والناس يشتمونه ويسبهم ثم أمر به فصلب.
184 ذكر عدة حوادث في هذه السنة قدم الإمام أبو عبد الله الطبري بغداد في المحرم بمنشور من نظام الملك بتوليه تدريس المدرسة النظامية ثم ورد بعده في شهر ربيع الآخر من السنة أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي وهو أيضا معه منشور بالتدريس فاستقر أن يدرس يوما والطبري يوما.
185 484 ثم دخلت سنة أر بع وثمانين وأربعمائة ذكر عزل الوزير أبي شجاع ووزارة عميد الدولة بن جهير في هذه السنة في ربيع الأول عزل الوزير أبو شجاع من وزارة الخليفة. وكان سبب عزله أن إنسانا يهوديا ببغداد يقال له أبو سعد بن سمحا كان وكبل السلطان ونظام الملك فلقيه إنسان يبيع الحصر فصفعه صفعة أزالت عمامته عن رأسه فأخذ الرجل وحمل إلى الديوان وسئل عن السبب في فعله فقال هو وضعني على نفسه فسار كوهرائين ومعه ابن سمحا اليهودي إلى عسكر يشكيان وكانا متفقين على الشكاية من الوزير أبي شجاع. فلما سار أخرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بالغيار ولبس ما شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهربوا كل مهرب وأسلم بعضهم فممن أسلم أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب وابن أخيه أبو نصر هبة الله بن الحسن بن علي صاحب الخبر أسلما على يدي الخليفة.
186 ونقل أيضا عنه إلى السلطان ونظام الملك أن يكسر أغراضهم ويقبح أفعالهم حنى انه لما ورد الخبر بفتح السلطان سمرقند قال وما هذا مما يبشر به كأنه قد فتح بلاد الروم هل أتى إلا إلى قوم مسلمين موحدين فاستباح منهم ما لا يستباح من المشركين! فلما وصل كوهرائين وابن سمحا إلى العسكر وشكيا من الوزير إلى السلطان ونظام الملك وأخبراهما بجميع ما يقول عنهما ويكسر من أغراضهما أرسى إلى الخليفة في عزله فعزله وأمره بلزوم بيته وكان عزله يوم الخميس فلما أمر بذلك أنشد: (تولاها وليس له عدو * وفارقها وليس له صديق) فلما مان الغد يوم الجمعة خرج من داره إلى الجامع راجلا واجتمع الخلق العظيم عليه فأمر أن لا يخرج من بيته، ولما عزل استنيب في الوزارة أبو سعد بن موصلايا كاتب الإنشاء وأرسل الخليفة إلى السلطان ونظام الملك يستدعي عميد الدولة بن جهير ليستوزره فسير إليه فاستوزره في ذي الحجة من هذه السنة وركب إليه نظام الملك فهنأه بالوزارة في داره وأكثر الشعراء تهنئته بالعود إلى الوزارة. ذكر ملك أمير المسلمين بلاد الأندلس التي للمسلمين في هذه السنة في رجب ملك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صاحب بلاد المغرب من بلاد الأندلس ما هو بيد المسلمين قرطبة وإشبيلية وقبض على المعتمد بن عباد صاحبها وملك غيرها من الأندلس. ولقد جرى للرشيد بن المعتمد حادثة شبيهة بحادثة الأمين محمد بن هارون
187 الرشيد. قال أبو بكر عيسى بن اللبانة الداني من مدينة دانية كنت يوما عند الرشيد بن المعتمد في مجلس أنسه سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة فجرى ذكر غرناطة وملك أمير المسلمين لها وقد ذكرنا أخذها في وقعة الزلاقة فلما ذكرناها تفجع وتلهف واسترجع وذكر قصرها فدعونا لقصره بالدوام ولملكه بتراخي الأيام فأمر عند أبا بكر الإشبيلي بالغناء فغنى: (يا دار رمية بالعلياء فالسند * أقوت وطال عليها سالف الأبد) فاستحالت مسرته وتجهمت أسرته ثم أمر بالغناء من ستارته فغنى: (إن شئت أن ترى صبرا لمصطبر * فانظر إلى أي حال أصبح الطلل) فتأكد تطيره واشتد اربداد وجهه وتغيره وأمر مغنية أخرى بالغناء فغنت: (يا لهف نفسي على مال أفرقه * على المقلين من أهل المروءات) (إن اعتذاري إلى من جاء يسألني * ما ليس عندي من إحدى المصيبات) قال ابن اللبانة فتلافيت الحال بأن قمت فقلت: (محل مكرمة لا هد مبناه * وشمل مأثرة لا شته الله) (البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفا * ان الرشيد مع المعتد ركناه) (ثاو على أنجم الجوزاء مقعدة * وراحل في سبيل الله مثواه) (حتم على الملك أن يقوي وقد وصلت * بالشرق والغرب يمناه ويسراه)
188 (بأس توقد فاحمرت لواحظه * ونائل شب فاخضرت عذاراه) فلعمري قد بسطت من نفسه وأعدت عليه بعض أنسه على أي وقعت فيما وقع فيه الكل بقولي (البيت كالبيت) وأمر إثر ذلك بالغناء فغني: (ولما قضينا من منى كل حاجة * ولم يبق إلا أن تزم الركائب) فأيقنا أن هذه الطير تعقب الغير. فلما أراد أمير المسلمين ملك الأندلس سار من مراكش إلى سبتة وأقام بها وسير العساكر مع سير بن أبي بكر وغيره إلى الأندلس فعبروا الخليج فأتوا مدينة مرسية فملكوها وأعمالها وأخرجوا صاحبها أبا عبد الرحمن بن طاهر منها وساروا إلى مدينة شاطبة ومدينة دانية فملكوها. وكانت بلنسية قد ملكها الفرنج قديما بعد أن حصروها سبع سنين فلما سمعوا بوقعة الزلاقة فارقوها فملكها المسلمون أيضا وعمروها وسكنوا فصارت الآن للمرابطين. وكانوا قد ملكوا غرناطة نوبة الزلاقة فقصدوا مدينة إشبيلية وبها صاحبها المعتمد بن عباد فحصروه بها وضيقوا عليه فقاتل أهلها قتالا شديدا وظهر من شجاعة المعتمد وشده بأسه وحسن دفاعه عن بلده مالم يشهد من غيره ما يقاربه فكان يلقي نفسه في المواقف التي لا يرجى خلاصة منها فيسلم بشجاعته وشدة نفسه ولكن إذا نفذت المدة لم تغن العدة. وكانت الفرنج قد سمعوا بقصد عساكر المرابطين بلاد الأندلس فخافوا أن يملكوها ثم يقصدوا بلادهم فجمعوا فأكثروا وساروا ليساعدوا
189 المعتمد، ويعينوه على المرابطين فسمع سير بن أبي بكر مقدم المرابطين بمسيرهم ففارق إشبيلية وتوجه إلى لقاء الفرنج فلقيهم وقاتلهم وهزمهم وعاد إلى إشبيلية فحصرها ولم يزل الحصار دائما والقتال مستمرا إلى العشرين من رجب من هذه السنة فعظم الحرب ذلك واشتد الأمر على أهل البلد ودخله المرابطون من واديه ونهب جميع ما فيه ولم يبقوا على سبد ولا لبد وسلبوا الناس ثيابهم فخرجوا من مساكنهم يسترون عوراتهم بأيديهم وسبي المخدرات وانتهكت الحرمات فأخذ المعتمد أسيرا ومعه أولاده الذكور والإناث لعد أن استأصلوا جميع مالهم فلم يصحبهم من ملكهم بلغة زاد. وقيل: إن المعتمد سلم البلد بأمان وكتب نسخة الأمان والعهد واستحلفهم به لنفسه وأهله وماله وعبيده وجميع ما يتعلق بأسبابه فلما سلم إليهم إشبيلية لم يفوا له وأخذوهم أسراء وما لهم غنيمة وسير المعتمد وأهله إلى مدينة أغمات فحبسوا فيها وفعل أمير المسلمين بهم أفعالا لم يسلكها أحد ممن قبله ولا يفعله أحد ممن يأتي بعده إلا من رضي لنفسه بهذه الرذيلة وذلك أنه سجنهم فلم يجر عليهم ما يقوم بهم حتى كان بنات المعتمد يغزلن للناس بأجرة ينفقونها على أنفسهم، وذكر ذلك المعتمد في أبيات ترد عنه ذكر وفاته فأبان أمير المسلمين بهذا الفعل عن صغر نفس ولؤم وقدرة. وهذه أغمات مدينة في سفح جبل بالقرب من مراكش وسيرد من المعتمد عند موته سنة ثمان وثمانين [وأربعمائة]، ما يعرف به محله. قال أبو بكر بن اللبانة زرت المعتمد بعد أسره بأغمات وقلت أبياتا
190 عند دخولي إليه منها: (لم أقل في الثقاف كان ثقافا * كنت قلبا به وكان شغافا) (يمكث الزهر في الكمام ولكن * بعد مكث الكمام يدنو قطافا) (وإذا ما الهلال غاب بغيم * لم يكن ذلك المغيب انكسافا) (إنما أنت درة للمعالي * ركب الدهر فوقها أصدافا) (حجب البيت منك شخصا كريما * مثل ما تحجب الدنان السلافا) (أنت للفضل كعبة ولو اني * كنت أستطيع لالتزمت الطوافا) قال وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب وأشهى من رشفات الحبيب وأدل على السماح من فجر على صباح. ولما أخذ المعتمد وأهله قتل ولداه الفتح ويزيد بين يديه صبرا فقال في ذلك: (يقولون صبرا! لا سبيل إلى الصبر * سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري) (أفتح لقد فتحت لي باب رحمة * كما بيزيد الله قد زاد في أجري) (هوى بكما المقدار عن ولم أمت * فأدعى وفيا قد نكصت إلى الغدر) (ولو عدتما لاخترتما العود في الثرى * إذا أنتما أبصرتماني في الأسر) (أبا خالد أورثتني البث خالدا * أيا صبر مذ ودعت ودعني نصري) وكان المعتمد يكاتبه فضلاء البلاد وهو محبوس بالنثر والنظم يتوجعون له ويذمون الزمان وأهله حيث مثله منكوب فمن ذلك ما قاله عبد الجبار
191 ابن أبي بكر بن حديس وكتبه إليه يذكر مسيرهم عن إشبيلية إلى أغمات: (جرى لك جد بالكرام عثور * وجار زمان كنت منه تجير) (لقد أصبحت بيض الظبي في غمودها * إناثا لترك الضرب وهي ذكور) (ولما رحلتم بالندى في أكفكم * وقلقل رضوى منك وثبير) (رفعت لساني بالقيامة قد أتت * ألا فانظروا كيف الجبال تسير) وقال شاعره ابن اللبانة في حادثته أيضا: (تبكي السماء بدمع رائح غادي * على البهاليل من أبناء عباد) (على الجبال التي هدت قواعدها * وكانت الأرض منها تحت أوتاد) (عريسة دخلتها النائبات على * أساود منهم فيها وآساد) (وكعبة كانت الآمال تعمرها * فاليوم لا عاكف فيها ولا باد) ولما استقصى عسكر أمير المسلمين ملوك الأندلس وأخذ بلادهم ملكوهم وسيرهم إلى بلاد بالغرب وفرقهم فيها؛ (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة). ولما فرغ سير من إشبيلية سار إلى المرية فنازلها وكان صاحبها محمد بن معن بن صمادح فقال لولده ما دام المعتمد بإشبيلية فلا نبالي بالمرابطين فلما سمع بملكهم لها وما جرى للمعتمد مات في تلك الأيام غما وكمدا، فلما مات سار ولده الحاجب وأهله في مراكب ومعهم كل
192 مالهم وقصدوا بلاد بني حماد فأحسنوا إليهم. وكان عمر بن الأفطس صاحب بطليوس ممن أعان سر على المعتمد فلما فتحت إشبيلية رجع ابن الأفطس إلى بلده فسار إليه سير وحاربه فغلبه وأخذ بلده منه وأخذه أسيرا هو وولده الفضل فقتلهما فقال عمر حين أرادوا قتله قدموا ولدي قبلي للقتل ليكون في صحيفتي فقتل ولده قبله وقتل هو بعده واحتوى سير على ذخائرهم وأموالهم. ولم يترك من ملوك الأندلس سوى بني هود فإنه لم يقصد بلادهم وهي شرق المثل بهم وكان قد أعد كل ما يحتاج إليه في لحصار وترك عنده ما يكفيه عدة سنين بمدينة روطة وكانت قلعة حصينة وكانت رعيته تخافه ولم يزل يهادي أمير المسلمين قبل أن يقصد بلاد الأندلس ويملكها ويواصله ويكثر مراسلته فرعى له ذلك حتى أنه أوصى ابنه علي بن يوسف عند موته بترك التعرض لبلاد بني هود وقال اتركهم بينك وبين العدو فإنهم شجعان. ذكر ملك الفرنج جزيرة صقلية في هذه السنة استولى الفرنج لعنهم الله على جميع جزيرة صقلية أعادها الله تعالى على الإسلام والمسلمين.
193 وسبب ذلك أن صقلية كان الأمير عليها سنة ثمان وثمانين وثلاثماءة أبا الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين ولاه عليها العزيز العلوي صاحب مصر وإفريقية فأصابه هذه السنة فالج فتعطل جانبه الأيسر وضعف الجانب الأيمن فاستناب ابنه جعفرا فبقي كذلك ضابطا للبلاد حسن السيرة في أهلها إلى سنة خمس وأربعمائة فخالع عليه أخوه علي وأعانه جمع من البربر والعبيد فأخرج إليه أخوه جعفر جندا من المدينة فاقتتلوا سابع شعبان وقتل من البربر والعبيد خلق كثير وهرب من بقي منهم وأخذ علي أسيرا فقتله أخوه جعفر وعظم قتله على أبيه فكان بين خروجه وقتله ثمانية أيام. وأمر جعفر حينئذ أن ينفى كل بربري بالجزيرة فنفوا إلى إفريقية وأمر بقتل العبيد فقتلوا عن آخرهم وجعل جنده كلهم من أهل صقلية فقل العسكر بالجزيرة وطمع أهل الجزيرة في الأمراء فلم يمض إلا يسير حتى ثار به أهل صقلية واخرجوه وخلعوه وأرادوا قتله. وسبب ذلك أنه ولى عليهم إنسانا صادرهم وأخذ الأعشار من غلاتهم واستخف بقوادهم وشيوخ البلد وقهر جعفر إخوته واستطال عليهم فلم يشعر إلا وقد زحف إليه أهل البلد كبيرهم وصغيرهم فحصروه في قصره في المحرم سنة عشر وأربعمائة، أشرفوا على أخذه فخرج إليهم أبوه يوسف في محفة وكانوا له محبين فلطف بهم ورفق فبكوا رحمة له من مرضه وذكروا له ما أحدث ابنه عليهم وطلبوا أن يستعمل ابنه أحمد المعروف الأكحل ففعل ذلك. وخاف يوسف على ابنه جعفر منهم فسيره في مركب إلى مصر وسار أبوه يوسف بعده ومعهما من الأموال ستمائة ألف دينار وسبعون ألفا وكان ليوسف من الدواب ثلاثة عشر الف حجرة سوى البغال وغيرها،
194 ومات بمصر وليس له إلا دابة واحدة. ولما ولي الأكحل أخذ أمره بالحزم والاجتهاد وجمع المقاتلة وبث سراياه في بلاد الكفرة فكانوا يحرقون ويغنمون يسبون ويخربون البلاد وأطاعه جميع قلاع صقلية التي للمسلمين. وكان للأكحل ابن اسمه جعفر كان يستنيبه إذا سافر فخالف سيرة أبيه ثم إن الأكحل جمع أهل صقلية وقال أحب أن أشليكم على الإفريقيين الذين شاركوكم في بلادهم والرأي إخراجهم فقالوا قد صاهرناهم وصرنا شيئا واحدا فصرفهم ثم أرسل إلى الإفريقيين فقال لهم مثل ذلك فأجابوه إلى ما أراد فجمعهم حوله فكان يحمي أملاكهم ويأخذ الخراج من أملاك أهل صقلية فسار من أهل صقلية جماعة إلى المعز بن باديس وشكوا إليه ما حل بهم وقالوا نحب أن نكون في طاعتك وإلا سلمنا البلاد إلى الروم وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة فسير معهم ولده عبد الله في عسكر فدخل المدينة وحصر الأكحل في الخلاصة ثم اختلف أهل صقلية وأراد بعضهم نصر الأكحل فقتله الذين أحضروا عبد الله بن المعز. ثم إن الصقليين رجع بعضهم على بعض وقالوا أدخلتم غيركم عليكم والله لا كانت عاقبة أمركم فيه إلى خير فعزموا على حرب عسكر المعز فاجتمعوا وزحفوا إليهم فاقتتلوا فانهزم عسكر المعز وقتل منهم ثمانمائة رجل ورجعوا في المراكب إلى إفريقية، وولى أهل الجزيرة عليهم حسنا الصمصام أخا الأكحل فاضطربت أحوالهم واستولى الأراذل وانفرد كل إنسان ببلد وأخرجوا الصمصام فانفرد القائد عبد الله بن منكوت بمازر
195 وطرابنش وغيرهما وانفرد القائد علي بن نعمة المعروف بابن الحواس بقصريانة وجرجنت وغيرهما وانفرد ابن الثمنة بمدينة سرقوسة وقطانية وتزوج بأخت ابن الحواس. ثم إنه جرى بينهما وبين زوجها كلام أغلظ كل منهما لصاحبه وهو سكران فأمر ابن الثمنة بفصدها في عضديها وتركها لتموت فسمع ولده إبراهيم فحضر وأحضر الأطباء وعالجها إلى أن عادت قوتها ولما أصبح أبوه ندم واعتذر إليها بالسكر فأظهرت قبول عذره. ثم إنها طلبت منه بعد مدة أن تزور أخاها فأذن لها وسير معها التحف والهدايا فلما وصلت ذكرت لأخيها ما فعل بها فحلف له أنه لا يعيدها إليه فأرسل ابن الثمنة يطلبها فلم يردها إليه فجمع ابن الثمنة عسكره وكان قد استولى على أكثر الجزيرة وخطب له بالمدينة وسار وحصر ابن الحواس بقصر بانة فخرج إليه فقاتله فانهزم ابن الثمنة وتبعه إلى قرب مدينته قطانية وعاد عنه بعد أن قتل من أصحابه فأكثر. فلما رأى بان الثمنة أن عساكره قد تمزقت سولت له نفسه الانتصار بالكفار لما يريده الله تعالى فسار إلى مدينة مالطة وهي بيد الفرنجة قد ملكوها لما خرج بردويل الفرنجي الذي تقدم ذكره سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة واستوطنها الفرنج إلى الآن وكان ملكها حينئذ رجار الفرنجي في جمع الفرنج فوصل إليهم ابن الثمنة وقال أنا أملككم الجزيرة! فقالوا إن فيها جندا كثيرا ولا طاقة لنا بهم؛ فقال إنهم مختلفون وأكثرهم يسمع
196 قولي ولا يخالفون أمري. فساروا معه في رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة فلم يلقوا من يدافعهم فاستولوا على ما مروا به في طريقهم وقصد بهم إلى قصر بانة فحصروها فخرج إليهم ابن الحواس فقاتلهم فهزمه الفرنج فرجع إلى الحصن، فرحلوا عنه وساروا في الجزيرة واستولوا على مواضع كثيرة وفارقها كثير من أهلها من العلماء والصالحين، وسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس وذكروا له ما الناس فيه بالجزيرة من الخلف وغلبه الفرنج على كثير منها فعمر أسطولا كبيرا وشحنه بالرجال والعدد وكان الزمان شتاء فساروا إلى قوصرة فهاج عليهم البحر فغرق أكثرهم ولم ينج إلا القليل. وكان ذهاب هذا الأسطول مما أضعف المعز وقوى عليه العرب حتى أخذوا البلاد منه فملك حينئذ الفرنج أكثر البلاد على مهل وتؤدة لا يمنعهم أحد، واشتغل صاحب إفريقية بما دهمه من العرب ومات المعز سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وولي ابن تميم فبعث أيضا أسطولا وعسكرا إلى الجزيرة وقدم عليه ولديه أيوب وعليا فوصلوا إلى صقلية فنزل أيوب والعسكر المدينة ونزا علي جرجنت من أيوب ثم انتقل أيوب إلى جرجنت فمر علي بن الحواس أن ينزل في قصره وأرسل هدية كثيرة. فلما أقام أيوب فيها أحبه أهلها فحسده ابن الحواس فكتب إليهم ليخرجوه فلم يفعلوا فساروا إليه في عسكره وقاتله فشد أهل جرجنت من أيوب وقاتلوا معه فبينما ابن الحواس يقاتل أتاه سهم غرب فقتله فملك العسكر عليهم أيوب. ثم وقع بعد ذلك بين أهل المدينة وبين عبيد تميم فتنة أدت إلى القتال ثم زاد
197 الشر بينهم فاجتمع أيوب وعلي أخوه وردعا في الأسطول إلى إفريقية سنة إحدى وستين [وأربعمائة]، وصحبهم جماعة من أعيان صقلية والأسطولية ولم يبق للفرنج ممانع فاستولوا على الجزيرة ولم يثبت بين أيدهم غير قصر بانة وجرجنت فحصرهما الفرنج وضيقوا على المسلمين بهما فضاق الأمر على أهلهما حتى أكلوا الميتة ولم يبق عندهم ما يأكلونه. فأما أهل جرجنت فسلموها إلى الفرنج وبقيت قصر بانة بعدها ثلاث سنين فلما اشتد الأمر عليهم أذعنوا على التسليم فتسلمها الفرنج لعنهم الله سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وملك رجار جميع الجزيرة وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين ولم يترك لأحد من أهلها حماما ولا دكانا ولا طاحونا. ومات رجار بعد ذلك قبل التسعين والأربعمائة وملك بعده ولده رجار فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والسلاحية والجاندارية وغير ذلك وخالف عادة الفرنج فإنهم لا يعرفون شيئا منه وجعل له ديوان المظالم ترفع إليه شكوى المظلومين فينصفهم ولو من ولده وأكرم المسلمين وقربهم ومنع عنهم الفرنج فأحبوه وعمر أسطولا كبيرا وملك الجزائر التي بين المهدية وصقلية مثل مالطة وقوصرة وجرية وقرقنة وتطاول إلى سواحل إفريقية فكان منه ما نذكره إن شاء الله.
198 ذكر وصول السلطان إلى بغداد في هذه السنة في شهر رمضان وصل السلطان إلى بغداد وهي المرة الثانية ونزل بدار المملكة ونزل أصحابه متفرقين ووصل إليه أخوه تاج الدولة تتش وقسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب وغيرهما من زعماء الأطراف وعمل الميلاد ببغداد وتأنقوا في عمله فذكر الناس انهم لم يروا ببغداد مثله أبدا وأكثر الشعراء وصف تلك الليلة فمن قال المطرز: (وكل نار على العشاق مضرمة * من نار قلبي أو من ليلة السذق) (نار تجلت بها الظلماء واشتبهت * بسدفة الليل فيه غرة الفلق) (وزارت الشمس فيها البدر واصطلحا * على الكواكب بعد الغيظ والحنق) (مدت على الأرض بسطا من جواهرها * ما بين مجتمع وار ومفترق) (مث المصابيح إلا أنها نزلت * من السماء بلا رجم ولا حرق) (أعجب بنار رضوان يسعرها * ومالك قائم منها على فرق) (في مجلس ضحكت روض الجنان له * لما جلا ثغره عن واضح يقق) (وللشموع عيون كلما نظرت * تظلمت من يديها أنجم الغسق) (من كل مرهفة الأعطاف كالغصن * المياد لكنه عار من الورق)
199 (إني لأعجب منها وهي وادعة * تبكي وعيشتها من ضربة العنق) وفي هذه المرة أمر بعمارة السلطان فابتدئ في عمارته في المحرم سنة خمس وثمانين وأربعمائة وعمل قبلته بهرام منجمه وجماعة من أصحاب الرصد وابتدأ بعده نظام الملك وتاج والأمراج الكبار بعمل دور لهم يسكنونها إذا قدموا بغداد فلم تطل بعدها وتفرق شملهم بالموت والقتل وغير ذلك في باقي سنتهم ولم تغن عنهم عساكرهم وما جمعوا شيئا فسبحان الدائم الذي لا يزول أمره. ذكر عدة حوادث في هذه السنة رحل ابن أبي هاشم من مكة مستغيثا من التركمان. وفي آخرها مرض نظام الملك ببغداد فعالج نفسه بالصدقة فكان يجتمع بمدرسته من الفقراء والمساكين من لا يحصى وتصدق عنه الأعيان والأمراء من عسكر السلطان فعوفي وأرسل [له] الخليفة خلعا نفيسة. وفيها في تاسع شعبان كان بالشام وكثير من البلاد زلازل كثيرة وكان أكثرها بالشام ففارق النماس مساكنهم وانهدم بأنطاكية كثير من المساكن وهلك تحتها عالم كثير وخرب من سورها تسعون برجا فأمر السلطان ملكشاه بعمارتها. وفيها في شوال توفي أبو طاهر عبد الرحمن بن محمد بن علك
200 الفقيه الشافعي، وهو من رؤساء الفقهاء الشافعية وهو الذي تقدم ذكره في فتح سمرقند ومشى أرباب الدولة السلطانية كلهم في جنازته إلا نظام الملك فإنه اعتذر بعلو السن وأكثر البكاء عليه ودفن عند الشيخ أبي إسحاق بباب أبرز وزار السلطان قبره. وتوفي محمد بن عبد الله بن الحسين أبو بكر الناصح الحنفي قاضي الري وكان من أعيان الفقهاء الحنفية يميل إلى الاعتزال وكان موته في رجب. وفيها في شعبان توفي أبو الحسن علي بن الحسين بن طاوس المقري بمدينة صور.
201 485 ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمائة ذكر الحب بين المسلمين والفرنج بجيان في هذه السنة جمع أذفونش عساكره وجموعه وغزا بلاد جيان من الأندلس فلقيه المسلمون وقاتلوه واشتد الحرب فكانت الهزيمة أولا على المسلمين ثم إن الله تعالى رد لهم الكرة على الفرنج فهزموهم وأكثروا القتل فيهم ولم ينج إلا الأذفونش في نفر يسير وكانت هذه الوقعة من أشهر الوقائع بعد الزلاقة وأكثر الشعراء ذكرها أشعارهم. ذكر استيلاء تتش على حمص وغيرها من ساحل الشام لما كان السلطان ببغداد قدم إليه أخوه تاج الدولة تتش من دمشق وقسيم الدولة آقسنقر من حلب وبوزان من الرهاء لما أذن لهم السلطان في لعود إلى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان أن يسيرا مع عساكرهما في خدمة أخيه تاج الدولة حتى يستولي على ما لخليفة المستنصر العلوي بساحل الشام من البلاد ويسير وهم معه إلى مصر ليملكها. فساروا أجمعون إلى الشام ونزل على حمص وبها ابن الملاعب صاحبها،
202 وكان الضرر به وبأولاده عظيما على المسلمين فحصروا البلد وضيقوا على من به فملكه تاج الدولة وأخذ ابن ملاعب وولديه وسار إلى قلعة عرفة فملكها عنوة وسار إلى قلعة أفامية فملكها أيضا وكان بها خادم للمصري فنزل بالأمان فأمنه ثم سار إلى طرابلس فنازلها فرأى صاحبها جلال الملك بن عمار جيشا لا يدفع إلا بحيلة فأرسل إلى الأمراء الذين مع تاج الدولة وأطمعهم ليصلحوا حاله فلم ير فيهم مطمعا. وكان من قسيم الدولة آقسنقر وزير له اسمه زرين كمر فراسله ابن عمار فرأى عنده لينا فأتحفه وأعطاه فسعى مع صاحبه قسيم الدولة في إصلاح حاله ليدفع عنه وحمل له ثلاثين ألف دينار وتحفا بمثلها وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان بالبلد والتقدم إلى النواب بتلك البلاد بمساعدته والشد معه والتحذير من محاربته فقال آقسنقر لتاج الدولة تتش لا أقاتل من هذه المناشير بيده فأغلظ له تاج الدولة وقال هل أنت إلا تابع لي فقال آقسنقر أنا أتابعك إلا في معصية السلطان ورحل من الغد عن موضعه فاضطر تاج الدولة إلى الرحيل فرحل غضبان وعاد بوزان أيضا إلى بلاده فانتفض هذا الأمر. ذكر ملك السلطان اليمن وكان ممن حضر أيضا عند السلطان ببغداد جبق أمير التركمان وهو صاحب قرميسين وغيرها فأمره السلطان أن يسير هو وجماعة من أمراء السلطان
203 ذكرهم، إلى الحجاز واليمن ويكون أمرهم إلى سعد الدولة كوهرائين ليفتحوا البلاد هناك فاستعمل عليهم سعد الدولة أمير اسمه ترشك فساروا حتى وردوا اليمن فاستولوا عليها وأساءوا السيرة في أهلها ولم يتركوا فاحشة ولا سيئة إلا ارتكبوها وملكوا عدن وظهروا على ترشك الجدري فتوفي في سابع يوم من وصوله إليها وكان عمره سبعين سنة فعاد أصحابه إلى بغداد وحملوه ودفنوه عند قبر أبي حنيفة رحمة الله عليه. ذكر مقتل نظام الملك في السنة عاشر رمضان قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند وكان هو السلطان في أصبهان وقد عاد إلى بغداد فلما كان بهذا المكان بعد أن فرغ من إفطاره وخرج في محفته إلى خيمة حرمه أتاه صبي ديلمي من الباطنية في صورة مستميح أو مستغيث فضربه بسكين كانت معه فقضى عليه وهرب فعثر بطنب خيمة فأدركوه فقتلوه وركب السلطان إلى خيمه فسكن عسكره وأصحابه. وبقي وزير السلطان ثلاثين سنة سوى ما وزر ألب أرسلان صاحب خراسان أيام عمه طغرلبك قبل أن يتولى السلطنة وكانت قد علت سنه فإنه كان مولده سنة ثمان وأربعمائة.
204 وكان سبب قتله أن عثمان بن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولاه جده نظام الملك رياسة مرو وأرسل السلطان إليها شحنة وقال له قودن وهو من أكبر مماليكه ومن أعظم الأمراء في دولته فجرى بينه وبين عثمان منازعة في شيء فحملت عثمان حداثة سنه وتمكنه وطمعه بجده على أن قبض عليه وأخرق به ثم أطلقه وقصد السلطان مستغيثا شاكيا فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالة مع تاج الدولة ومجد الملك البلاساني وغيرهما من أرباب دولته يقول له إن كنت شريكي في الملك ويدك مع يدي في السلطنة فلذلك حكم وإن كنت نائبي وبحكمي فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة وهؤلاء أولاده قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة وولي ولاية كبيرة ولم يقنعهم ذلك حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا وأطال القول وأرسل معهم الأمير يلبرد وكان من خواصه وثقاته وقال له تعرفني ما يقول فربما كتم هؤلاء شيئا. فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة فقال لهم قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره وقمعت الخوارج عليه من أهله وغيرهم منهم فلان وفلان وذكر جماعة من خرج عليه وهو ذلك الوقت يتمسك بي ويلزمني ولا يخالفني فلما قدت الأمور إليه وجمعت الكلمة عليه وفتحت الأمصار القريبة والبعيدة وأطاعه القاصي والداني أقبل يتجنى لي الذنوب ويسمع في السعايات وقولوا له عني إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة وإن اتفاقهما رباط كل رغيبة وسبب كل غنيمة ومتى أطبقت هذه زالت تلك فإن عزم على تغير
205 فليتزود للاحتياط وقبل وقوعه وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه وأطال فيما هذا سبيله ثم قال لهم قولوا للسلطان عني مهما أردتم فقد أهمني ما لحقني من توبيخه وفت في عضدي. فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما جرى عن السلطان وأن يقولوا له ما مضمونه العبودية والتنصل ومضوا إلى منازلهم وكان الليل قد انتصف ومضى يلبرد إلى السلطان فأعلمه ما جرى وبكر الجماعة إلى السلطان وهو ينتظرهم فقالوا له من الاعتذار والعبودية ما كانوا اتفقوا عليه فقال لهم السلطان إنه لم يقل هذا وإنما قال كيت وكيت فأشاروا حينئذ بكتمان ذلك رعاية لحق نظام الملك وسابقته فوقع التدبير عليه حتى تم عليه من القتل ما تم ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يوما وانحلت الدولة ووقع السيف وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له وأكثر الشعراء مراثيه فمن جيد ما قيل قول شبل الدولة مقاتل بن عطية: (كان الوزير نظام الملك لؤلؤة * يتيمة صاغها الرحمن من شرف) (عزت فلم تعرف الأيام قيمتها * فردها غيره منه إلى الصدف) ورأى بعضهم نظام الملك بعد قتله في المنام فسأله عن حاله فقال كان يعرض علي جميع عملي لولا الحديدة التي أصبت بها؛ يعني القتل.
206 ذكر ابتداء حاله وشئ من أخباره أما ابتداء حاله فكان من أبناء الدهاقين بطوس فزال ما كان لأبيه من مال وملكم وتوفيت أمه وهو رضيع فكان أبوه يطوف به على المرضعات فيرضعنه حسبة حتى شب وتعلم العربية وسر الله فيه يدعوه إلى علو الهمة والاشغال بالعلم فتفقه صار فاضلا وسمع الحديث الكثير ثم اشتغل بالأعمال السلطانية ولم يزل الدهر بعلو به ويخفض حضرا وسفرا. وكان يطوف بلاد خراسان ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصرفين ثم لزم أبا علي بن شاذان متولي الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان فحصنت حاله معه وظهرت كفايته وأمانته وصار معروفا عندهم بذلك فلما حضرت أبا علي بن شاذان الوفاة أوصى الملك ألب أرسلان به وعرفه حاله فولاه شغله ثم صار وزيرا له إلى أن ولي السلطنة بعد عمه طغرلبك واستمر على الوزارة لأنه ظهرت منه كفاية عظيمة وآراء سديدة فأدت السلطنة إلى ألب أرسلان فلما توفي ألب أرسلان قام بأمر ابنه ملكشاه وقد تقدم ذكر هذه الجمل مستوفاة مشروحا. وقيل إن ابتداء أمره أنه كان يكتب الأمير تاجر، صاحب بلخ وكان الأمير يصادره في رأس كل سنة ويأخذ ما معه ويقول له قد سمنت يا حسن ويدفع إليه فرسا ومقرعة ويقول هذا يكفيك فلما طال ذلك عليه أخفى أولاده فخر الملك ومؤيد الملك وهرب إلى جغري بك داود والد ألب أرسلان فوقف فرسه في الطريق، فقال: اللهم إني أسألك فرسا
207 تخلصني عليه! فسار غير بعيد. فلقيه تركماني وتحته فرس جواد فقال لنظام الملك انزل عن فرسك فنزل عنه فأخذه التركماني وأعطاه فرسه فركبه وقال له لا تنسني يا حسن. قال نظام الملك فقويت نفسي بذلك وعلمت أنه ابتداء سعادة. فسار نظام الملك إلى مرو ودخل على داود فلما رآه أخذ بيده وسلمه إلى ولده ألب أرسلان وقال له هذا حسن الطوسي فتسلمه واتخذه والدا لا تخالفه. وكان الأمير تاجر لما سمع بهرب نظام الملك سار في أثره إلى مرو فقال لداود هذا كاتبي ونائبي أخذ أموالي فقال له داود حديثك مع محمد يعني ألب أرسلان وكان اسمه محمدا فلم يتجاسر تاجر على خطابه فتركه فتركهم وعاد. وأما أخباره فإنه كان عالما دينا جوادا عادلا حليما كثير الصفح عن المذنبين طويل الصمت كان مجلسه عامرا بالقراء والفقهاء وأئمة المسلمين وأهل الخير والصلاح أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد وأجرى لها الجرايات العظيمة وأملى الحديث بالبلاد ببغداد وخراسان وغيرها وكان يقول إني لست من أهل هذا الشأن لما تولاه ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطار نقله حديث رسول الله. وكان إذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه تجنبه فإذا فرغ
208 لا يبدأ بشيء قبل الصلاة، وكان إذا غفل المؤذن ودخل الوقت يأمره بالأذان وهذا غاية حال المنقطعين إلى العبادة في حفظ الأوقات ولزوم الصلوات. وأسقط المكوس والضرائب وأزال لعن الأشعرية من المنابر، وكان الوزير عميد الملك الكندري قد حسن للسلطان طغرلبك التقدم بلعن الرافضة فأمره بذلك فأضاف إليهم الأشعرية ولعن الجميع فلهذا فارق الكثير من الأئمة بلادهم مثل إمام الحرمين وأبي القاسم القشيري وغيرهما، فلما ولي ألب أرسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه وأعاد العلماء إلى أوطانهم. وكان نظام الملك إذا دخل عليه الإمام أبو القاسم القشيري والإمام أبو المعالي الجويني يقوم لهما ويجلس في مسنده كما هو وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم إليه ويجلسه في مكانه ويجلس هو بين يديه فقيل له في ذلك فقال إن هذين وأمثالهما إذا دخلوا علي يقولون لي أنت كذا وكذا يثنون علي بما ليس بي فيزيدني كلامهم عجبا وتيه وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي وأما أنا فيه من الظلم فتنكسر نفسي لذلك وأرجع عن كثير مما أنا فيه. وقال نظام الملك كتنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة ومسجد أتفرد فيه لعبادة ربي ثم بعد ذلك تمني أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها ومسجد أعبد الله فيه وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل
209 يوم ومسجد أعبد الله فيه. وقيل كان ليلة بأكل الطعام وبجانبه أخوه أبو القاسم وبالجانب الآخر عميد خراسان وإلى جانب العميد إنسان فقير مقطوع اليد فنظر نظام الملك فرأى العميد يتجنب الأكل من المقطوع فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر وقرب المقطوع إليه فأكل معه. وكانت عادته أن يحضر الفقراء ويقربهم إليه ويدنيهم وأخباره مشهورة كثيرة قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد. ذكر وفاة السلطان وذكر بعض سيرته صار السلطان ملكشاه بعد قتل نظام الملك إلى بغداد ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان ولقيه وزير الخليفة عميد الدولة بن جهير وظهرت من تاج الملك كفاية عظيمة، وكان السلطان قد أمر أن تفصل خلع الوزارة لتاج الملك وكان هو الذي سعى بنظام الملك فلما فرغ من الخلع ولم يبق غير لبسها والجلوس في الدست اتفق أن السلطان خرج إلى الصيد وعاد ثالث شوال مرضا وأنشب الموت أظفاره فيه ولم يمنع عنه سعة ملكه وكثرة عساكره. وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيد فحم وافتصد ولم يستوف إخراج الدم فثقل مرضه وكانت حمى محرقة، فتوفي ليلة الجمعة النصف من شوال.
210 ولما ثقل نقل أرباب دولته أموالهم إلى حريم دار الخلافة ولما توفي سترت زوجته تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالية موته وكتمته وأعادت جعفر بن الخليفة من ابنة السلطان إلى أبيه المقتدي بأمر الله وسارت من بغداد والسلطان معها محمولا وبذلت الأموال للأمراء سرا، واستحلفتهم لابنها محمود، وكان تلج الملك يتولى ذلك لها وأرسلت قوام الدولة كربوقا الذي صار صاحب الموصل إلى أصبهان بخاتم السلطان فاستنزل مستحفظ القلعة وتسلمها وأظهر أن السلطان أمره بذلك ولم يسمع بسلطان مثله لم يصل عليه أحد ولم يلطم عليه وجه. وكان مولده سنة سبع وأربعين وأربعمائة وكان من أحسن الناس صورة ومعنى وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن وحمل إليه ملوك الروم الجزية ولم يفته مطلب وانقضت أيامه على أمن عام وسكون شامل وعدل مطرد. ومن أفعاله أنه لما خرج عليه أخوه تكش بخراسان اجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا بطوس فزاره فلما خرج قال لنظام الملك بأي شيء دعوت قال دعوت الله أن ينصرك؛ فقال أما أنا فلم أدع بهذا بل قلت اللهم انصر أصلحنا للمسلمين وأنفعنا للرعية. وحكى عنه أن سواديا لقيه وهو يبكي فاستغاث به، وقال كنت ابتعت بطيخا بدريهمات لا أملك سواها فغلبني عليه ثلاثة نفر من الأتراك فأخذوه مني فقال السلطان له اقعد! ثم أحضر فراشا وقال قد اشتهيت بطيخا وكان ذلك عند أول استوائه وأمره بطلبه من العسكر فغاب ثم عاد
211 ومعه البطيخ، فأمره بإحضار من وجده عنده، فأحضره، فسأله السلطان من أين لك ذلك البطيخ فقال غلماني جاؤوني به فأمر أن يجيء بهم إليه فمضر وأمرهم بالهرب وعاد فقال لم أجدهم فقال للسوادي خذ هذا مملوكي قد وهبته لك عوضا عن بطيخك ويحضر الذيم أخذوه والله لئن أطلقته لأضربن عنقك فأخذه السوادي فاشترى الغلام نفسه منه بثلاثمائة دينار فعاد السوادي إلى السلطان وقال قد بعته نفسه بثلاثمائة دينار فقال أرضيت بذلك قال نعم قال امض مصاحبا. وقال عبد السميع بن داود العباسي: شاهدت ملكشاه وقد أتاه من أرض العراق السفلى من قرية الحدادية يعرفان بابني غزال فلقياه فوقه لهما فقالا إن مقطعنا الأمير خمارتكين قد صادرنا بألف وستمائة دينار وقد كسر ثنيتي أحدنا وأراهما السلطان وقد قصدناك لتقتص لنا منه فإن أخذت بحقنا كما أوجب الله عليك وإلا فالله يحكم بيننا. قال فرأيت السلطان وقد نزل عن دابته وقال ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي واسحباني إلى خواجة حسن يعني نظام الملك فامتنعا من ذلك واعتذر فأقسم عليهما إلا فعلا فأخذ كل واحد منهما بكم من كميه ومشى معهما إلى نظام الملك فبلغه الخبر فخرج مسرعا فلقيه وقبل الأرض وقال يا سلطان العالم ما حملك على هذا فقال كيف يكون حالي غدا عند الله إذا طولبت بحقوق المسلمين وقد قلدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف فإن نال الرعية أذى فأنت المطالب فانظر لي ولنفسك. فقبل الأرض ومشى في خدمته وعاد من وقتي وكتب بعزل الأمير
212 خمارتكين ورد المال عن أقطاعه ورد المال عليها وأعطاها مائة دينار من عنده وأمرهما بإثبات البينة أنه ليقلع ثنيتيه عوضهما فرضيا وانصرفا. وقيل إنه ورد بغداد ثلاث دفعات فخافه الناس من غلاء الأسعار وتعدي الجند فكانت الأسعار أرخص منها قبل قدومه، وكان الناس يخترقون عساكره ليلا ونهارا فلا يخافون أحدا ولم يتعد عليهم أحد وأسقط المكوس والمؤذن من جميع البلاد وعمر الطرق والقناطر والربط التي في المفاوز وحفر الأنهار الخراب وعمر الجامع ببغداد وعمل المصانع بطرق مكة وبنى البلد بأصبهان وبنى منارة القرون في السبيعي بطريق مكة وبنى مثلها بما وراء النهر، واصطاد مرة صيدا كثيرا فأمر بعده فكان عشرة آلاف رأس فأمره بصدقة عشرة آلاف دينار وقال أني خائف من الله تعالى كيف أزهقت أرواح هذه الحيوانات بغير ضرورة ولا مأكلة وفرق من الثياب والأموال بين أصحابه ما لا يحصى وصار بعد ذلك كلما صاد شيئا تصدق بعدده دنانير وهذا فعل من يحاسب نفسه على حركاته وسكناته وقد أكثر الشعراء مراثيه أيضا. وقيل إن بعض أمراء السلطان كان نازلا بهراة مع بعض العلماء اسمه عبد الرحمن في داره، فقال يوما ذلك الأمير السلطان، وهو سكران إن عبد الرحمن يشرب الخمر ويعبد الأصنام من دون الله تعالى، ويحلل الحرام فلم يحبه ملكشاه، فلما كان الغد صحا ذلك الأمير فأخذ السلطان السيف وقال له اصدقني عن فلان وإلا قتلتك! فطلب منه الأمان، فأمنه، فقال:
213 إن عبد الرحمن له دار حسناء وزوجة جميلة فأردت أن تقتله فأفوز بداره وزوجته فأبعده السلطان وشكر اله تعالى على التوقف عن قبول سعايته وتصدق بأموال جليلة المقدار. ذكر ملك ابنه الملك محمود وما كان من حال ابنه الأكبر بركيارق إلى أن ملك لما مات السلطان ملكشاه كتمت زوجته تركان خاتون موته كما ذكرناه وأرسلت إلى الأمراء سرا فأرضتهم واستحلفتهم لولدها محمود وعمره أربع سنين وشهور وأرسلت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة لولدها أيضا فأجابا وشرط أن يكون اسم السلطنة لولدها والخطبة له ويكون المدبر لزعامة الجيوش ورعاية البلد هو الأمير أنر ويصدر عن رأي تاج الملك ويكون ترتيب العمال وجباية الأموال إلى تاج الملك أيضا وكان تاج الملك هو الذي يدبر الأمر بين يدي خاتون. فلما جاءت رسالة الخليفة إلى خاتون بذلك امتنعت من قبوله فقيل لها إن ولدك صغير ولا يجيز الشرع ولايته وكان المخاطب لها في ذلك الغزالي فأذعنت له وأجابت إليه فخطب لولدها ولقب ناصر الدنيا والدين وكانت الخطبة يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال من السنة وخطب له بالحرمين الشريفين. ولما مات السلطان ملكشاه أرسلت تركان خاتون إلى أصبهان في البض على
214 بركيارق بن السلطان وهو أكبر أولاده خافته أن ينازع ولدها في السلطنة فقبض عليه، فلما ظهر موت ملكشاه وثب عليه المماليك النظامية على سلاح كان لنظام الملك بأصبهان فأخذه وثاروا في البلد وأخرجوا بركيارق من الحبس وخطبوا له بأصبهان وملكوه وكانت والدة بركيارق زبيدة ابنة ياقوتي بن داود وهي ابنة عم ملكشاه خائفة على ولدها من خاتون أم محمود فأتاها الفرج بالمماليك النظامية. وسارت تركان خاتون من بغداد إلى أصبهان فطالب العسكر تاج الملك بالأموال فوعدهم فلما وصلوا إلى قلعة برجين صعد إليها لينزل الأموال منها فلما استقرت فيها عصى على خاتون ولم ينزل خوفا من العسكر فساروا عنه ونهبوا خزائنه ولم يجدوا بها شيئا فإنه كان قد علم ما جرى فاستظهر وأخفاه. ولما وصلت تركان خاتون إلى أصبهان لحقها تاج الملك واعتذر بأن مستحفظ القلعة حبسه وأنه هرب منه إليها فقبلت عذره. وأما بركيارق فإنه لما قاربت خاتون وابنها محمود أصبهان خرج منها هو ومن معه من النظامية وساروا نحو الري فلقيهم أرغش النظامي في عساكره ومعه جماعة من الأمراء وصاروا يدا واحدة وإنما حمل النظامية على الميل إلى بركيارق كراهتهم لتاج الملك لأنه كان عدو نظام الملك والمتهم بقتله فلما اجتمعوا حصورا قلعة طبرك وأخذوها عنوة فسيرت خاتون العساكر إلى قتال بركيارق فالتقى العسكران بالقرب من بروجرد فانحاز جماعة من الأمراء الذين في عسكر خاتون إلى بركيارق منهم الأمير يلبرد وكمشتكين الجاندار وغيرهما فقوي بهم، وجرى الحرب بينهم
215 أواخر ذي الحجة، واشتد القتال فانهزم عسكر خاتون وعادوا إلى أصبهان وصار بركيارق في أثرهم بأصبهان. ذكر قتل تاج الملك كان تاج الملك مع عسكر خاتون وشهد الوقعة فهرب إلى نواحي بروجرد فأخذ وحمل إلى عسكر بركيارق وهو يحاصر أصبهان وكان يعرف كفايته فأراد أن يستوزره فشرع تاج الملك في إصلاح كبار النظامية وفرق فيهم مائتي الف دينار سوى العروض فزال ما في قلوبهم. فلما بلغ عثمان نائب نظام الملك الخبر ساءه فوضع الغلمان الأصاغر على الاستغاثة وأن لا يقنعوا إلا بقتل قاتل صاحبهم ففعلوا فانفسخ ما دبره تاج الملك وهجم النظامية عليه فقتلوه وفصلوا أجزاء، وكان قتله في المحرم سنة ست وثمانين [وأربعمائة]، وحمل إلى بغداد أحد أصابعه. وكان كثير الفضائل جم المناقب وإنما غطى جميع محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك وهو الذي بنى تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وعمل المدرسة التي جانبها ورتب بها الشيخ أبا بكر الشاشي وكان عمره حين قتل سبعا وأربعين سنة.
216 ذكر ما فعله العرب بالحجاج والكوفة سار الحجاج هذه السنة من بغداد فقدموا الكوفة ورحلوا منها فخرجت عليهم خفاجة وقد طمعوا بموت السلطان وبعد العسكر فأوقعوا بهم وقتلوا أكثر الجند الذين معهم وانهزم باقيهم ونهبوا الحجاج وقصدوا الكوفة فدخلوها وأغاروا عليها وقتلوا في أهلها فرماهم الناس بالنشاب فخرجوا بعد أن نهبوا وأخذوا ثياب من لقوه من الرجال والنساء فوصل الخبر إلى بغداد فسيرت العساكر منها فلما سمع بهم بنو خفاجة انهزموا فأدركهم العسكر فقتل منهم خلق كثير ونهبت أموالهم وضعفت خفاجة بعد هذه الوقعة. ذكر عدة حوادث . في ربيع الأول عاد السلطان من بغداد إلى أصبهان وأخذ معه الأمير أبا الفضل جعفر بن الخليفة بأمر الله من ابنه السلطان وتفرق الأمراء إلى بلادهم ثم عاد إلى بغداد فتوفي كما ذكرناه. وفيها في جمادى الأولى احترق نهر المعلى فاحترق عقد الحديد إلى خربة الهراس إلى باب دار الضرب واحترق سوق الصناعة والصيارف والمخلطين والريحانيين وكان الحريق من الظهر إلى العصر فاحترق منها
217 الأمر العظيم في الزمان القليل، واحترق من الناس خلق كثير ثم ركب عميد الدولة بن جهير وزير الخليفة وجمع السقائين ولم يزل راكبا حتى طفئت النار. وفي هذه السنة توفي عبد الباقي بن محمد بن الحسين بن ناقيا الشاعر البغدادي سمع الحديث وكان يتهم بأنه يطعن على الشرائع فلما مات كانت يده مقبوضة فلم يطق الغسل فتحها فبعد جهد فتحت فإذا فيها مكتوب: (نزلت بجار لا يخيب ضيفه * أرجي نجاتي من عذاب جهنم) (وإني على خوفي من الله واثق * بإنعامه والله أكرم منعم) وفيها توفي هبة الله بن عبد الوارث بن علي بن أحمد أبو القاسم الشيرازي الحافظ أحد الرحالين في طلب الحديث شرقا وغربا وقدم الموصل من العراق وهو الذي أظهر سماع الجعديات لأبي محمد الصريفيني ولم يكن يعرف ذلك.
218 486 ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة ذكر وزارة عز الملك بن نظام الملك لبركيارق كان عز الملك أبو عبد الله الحسين بن نظام الملك مقيما بخوارزم حاكما فيها وفي كل ما يتعلق بها إليه المرجع في كل أمورها السلطانية، فلما كان قبل أن يقتل أبوه حضر عنده خدمه له وللسلطان فقتل أبوه ومات السلطان فأقام بأصبهان إلى الآن. فلما حصرها بركيارق وكان أكثر عسكره النظامية خرج من أصبهان هو وغيره من إخوته فلما اتصل ببركيارق احترمه وأكرمه وفوض أمور دولته إليه وجعله وزيرا. ذكر حال تتش بن ألب أرسلان كان تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق وما جاورها من بلاد الشام فلما كان قبل موت أخيه السلطان ملكشاه سار من دمشق إليه فلما بهيت بلغة موته فأخذ هيت واستولى عليها وعاد إلى دمشق يتجهز بطلب السلطنة فجمع العساكر وأخرج الأموال وسار نحو حلب،
219 وبها قسيم الدولة آقسنقر فرأى قسيم الدولة اختلاف أولاد صاحبه ملكشاه وصغرهم فعلم أنه لا يطيق دفع تتش فصالحه وصار معه وأرسل إلى باغي سيان صاحب أنطاكية وإلى بوازن صاحب الرها وحران يشير عليهما بطاعة تاج الدولة تتش حتى يروا ما يكون من أولاد ملكشاه ففعلوا وصار معه وخطبوا له في بلادهم وقصدوا الرحبة فحصورها وملكوها في المحرم من هذه السنة وخطب لنفسه بالسلطنة. ثم ساروا إلى نصيبين فحصورها فسب أهلها تاج الدولة ففتحها عنوة وقهرا وقتل من أهلها خلقا كثيرا ونهبت الأموال وفعل فيها الأفعال القبيحة ثم سلمها إلى الأمير محمد بن شرف الدولة العقيلي وسار يريد الموصل وأتاه الكافي بن فخر الدولة ابن جهير وكان في جزيرة ابن عمر فأكرمه واستوزره. ذكر وقعة المضيع وأخذ الموصل من العرب كان إبراهيم بن قريش بن بدران أمير بني عقيل قد استدعاه السلطان ملكشاه سنة اثنتين وأربعمائة ليحاسبه فلما حضر عنده اعتقله فلما حضر عنده اعتقله وأنفذ فخر الدولة بن جهير إلى البلاد فملك الموصل وغيرها وبقي إبراهيم مع ملكشاه وسار معه إلى سمرقند وعاد إلى بغداد فلما مات ملكشاه أطلته تركان خاتون من الاعتقال فسار إلى الموصل. وكان ملكشاه قد أقطع عكته مدينة بلد وكانت زوجته شرف الدولة ولها منه ابنها علي وكانت قد تزوجت بعد شرف الدولة بأخيه إبراهيم،
220 فلما مات ملكشاه قصدت الموصل، ومعها ابنها علي، فقصدها محمد بن شرق الدولة، وأراد أخذ الموصل فافترقت العرب فرقتين فرقة معه وأخرى مع صفية وابنها علي واقتتلوا بالموصل عند الكناسة فظفر علي وانهزم محمد وملك علي الموصل. فلما وصل إبراهيم إلى جهينة وبينه وبين الموصل أربعة فراسخ سمع أن الأمير عليا ابن أخيه شرف الدولة قد ملكها ومعه أمه صفية عمة ملكشاه فأقام مكانه وراسل صفية خاتون وترددت الرسل فسلمت البلد إليه، فأقام به. فلما ملك تتش نصيبين أرسل إليه يأمره أن يخطب له بالسلطنة ويعطيه طريقا إلى بغداد لينحدر ويطلب الخطبة بالسلطنة فامتنع إبراهيم من ذلك فسار تتش إليه وتقدم إبراهيم أيضا نحوه فالتقوا بالمضيع من أعمال الموصل في ربيع الأول وكان إبراهيم في ثلاثين ألفا وكان تتش في عشرة آلاف، وكان آقسنقر على ميمنته وبوزان على ميسرته فحمل العرب على بوزان فانهزم وحمل آقسنقر على العرب فهزمهم وتمت الهزيمة على إبراهيم والعرب وأخذ إبراهيم أسيرا وجماعة من أمراء العرب فقتلوا صبرا ونهبت أموال العرب وما معهم من الإبل والغنم والخيل وغير ذلك وقتل كثير من نساء العرب أنفسهن خوفا من السبي والفضيحة. وملك تتش بلادهم الموصل وغيرها واستناب بها علي بن شرف الدولة مسلم وأمه صفية عمة تتش وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة وساعده
221 كوهرائين على ذلك فقيل لرسوله أنا أنتظر وصول الرسل من العسكر فعاد إلى تتش بالجواب. ذكر ملك تتش ديار بكر وأذربيجان وعوده إلى الشام فلما فرغ تاج الدولة تتش من أمر العرب وملك الموصل وغيرها من بلادهم سار إلى ديار بكر في ربيع الآخر فملك ميافارقين وسائر ديار بكر من ابن مروان وسار منها إلى أذربيجان فانتهى خبره إلى ابن أخيه ركن الدين بركيارق وكان قد استولى على كثير من البلاد منها الري وهمذان وما بينهما فلما تحقق الحال سار في عساكره ليمنع عمه عن البلاد فلما تقارب العسكران قال قسيم الدولة آقسنقر لبوزان إنما أطعنا هذا الرجل لننظر ما يكون من أولاد صاحبنا والآن فقد ظهر ابنه ونريد نكون معه فاتفقا على ذلك وفارقا تتش وصارا مع بركيارق. فلما رأى تاج الدولة تتش ذلك علم أنه لا قوة له بهم فعاد إلى الشام واستقامت البلاد لبركيارق فلما قوي أمره سار كوهرائين إلى العسكر يعتذر من مساعدته لتاج الدولة تتش وأعانه على برسق وتعصب عليه كمشتكين الجاندار فأخذ أقطاعه وأعطى الأمير يلبرد زيادة وولي شحنكية بغداد عوض كوهرائين وتفرق عن كوهرائين أصحابه فكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
222 ذكر حصر عسكر مصر صور وملكهم لها في هذه السنة في جمادى الآخرة ملك عسكر المستنصر بالله العلوي صاحب مصر مدينة صور. وسبب ذلك ما ذكرناه سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة أن أمير الجيوش بدارا وزير المستنصر سير العساكر إلى مدينة صور وغيرها من ساحل الشام وكان من بها قد امتنع من طاعتهم فملكها وقرر أمورها وجعل فيها الأمراء. وكان قد ولي مدينة صور الأمير يعرف بمنير الدولة الجيوشي فعصى على المستنصر وأمير الجيوش وامتنع بصور فسيرت العساكر من مصر إليه وكان أهل صور قد أنكروا على منير الدولة عصيانه على سلطانه فلما وصل العسكر المصري إلى صور وحصروها وقاتلوها ثار أهلها ونادوا بشعار المستنصر وأمير الجيوش وسلموا البلد وهجم العسكر المصري بغير مانع ولا مدافع ونهب من البلد شيء كثير وأسر منير الدولة ومن معه من أصحابه وحملوا إلى مصر وقطع على أهل البلد ستون ألف دينار فأجحفت بهم. ولما وصل منير الدولة إلى مصر ومعه الأسرى قتلوا جميعهم ولم يعف عن واحد منهم.
223 ذكر قتل إسماعيل بن ياقوتي خال بركيارق في هذه السنة في شعبان قتل إسماعيل بن ياقوتي بن داود وهو خال بركيارق وابن عم ملكشاه. وسبب قتله أنه كان بأذربيجان أميرا عليه وأرسلت إليه تركان خاتون زوجة ملكشاه تطمعه أن تتزوج به وتدعوه إلى محاربة بركيارق إلى ذلك وجمع خلقا كثيرا من التركمان وصار أصحاب سرهنك ساوتكين في خيله وأرسلت إليه تركان خاتون كربوقا وغيره من الأمراء في عسكر كثير مددا له فجمع بركيارق عساكره وسار إلى حرب خاله إسماعيل فالتقوا عند الكرج فانحاز الأمير يلبرد إلى بركياق وصار معه فانهزم إسماعيل وعسكره وتوجه إلى أصبهان فأكرمته تركان خاتون وخطبت له وضربت اسمه على الدينار بعد ابنها محمود ملكشاه. وكاد الأمر في الوصلة يتم بينهما فامتنع الأمراء من ذلك لا سيما الأمير أنر وهو مدبر ا لأمر وصاحب الجيش وآثروا خروج إسماعيل عنهم وخافوه وخاف هو أيضا منهم ففارقهم وراسل أخته زبيدة والدة بركيارق في اللحاق بهم فأذنت له في ذلك فوصل إليهم وأقام عندهم أياما يسيرة فخلا به كمشتكين الجاندار وآقسنقر وبوزان وبسطوه في القول فأطلعهم على سره وأنه يريد السلطنة وقتل بركيارق فوثبوا عليه فقتلوه وأعلموا أخته خبره فسكتت عنه.
224 ذكر أخذ الحجاج في هذه السنة انقطع الحج من العراق لأسباب أوجبت ذلك وسار الحاج من دمشق مع أمير أقامه تاج الدولة تتش صاحبها فلما قضوا حجهم عادوا سائرين سير أمير مكة وهو محمد بن أبي هاشم عسكرا فلحقوهم بالقرب من مكة ونهبوا كثيرا من أموالهم وجمالهم فعادوا إليها ولقوه وسألوه أن يعيد عليهم ما أخذ منهم وشكوا إليه بعد ديارهم فأعاد بعض ما أخذ منهم فلما أيسوا منه ساروا من مكة عائدين على أقبح صورة فلما أبعدوا عنها ظهر عليهم جموع من العرب في عدة جهات فصانعوهم على مال ما أخذوه من الحاج بعد أن قتل منهم جماعة وافرة وهلك فيه [كثيرون] بالضعف والانقطاع وعاد السالم على أقبح صورة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في جمادى الأولى قدم إلى بغداد أردشيرين بن منصور أبو الحسين الواعظ العبادي وأكثر الوعظ بالمدرسة النظامية وهو مروزي وقدم بغداد قاصدا للحج وكان له قبول عظيم بحيث أن الغزالي وغيره من الأئمة ومشايخ الصوفية الكبار يحضرون مجلسه وذرع في بعض المجالس الأرض التي فيها الرجال فكان طولها مائة وخمسة وسبعين ذراعا وعرضها مائة
225 وعشرون ذراعا وكانوا يزدحمون ازدحاما كثيرا وكان النساء أكثر من ذلك وكان له كرامات ظاهرة وعبادات كثيرة. وكان سبب منعه من الواعظ أنه نهى أن يتعامل الناس ببيع القراضة بالصحيح وقال هو ربا فمنع من الواعظ أخرج من البلد. وفيها وقعت الفتنة ببغداد بين العامة وقصد كل فريق الآخر وقطعوا الطرقات بالجانب الغربي وقتل أهل النصرية مصلحيا فأرسل كوهرائين أحرقها واتصلت الفتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة وكان للعميد الأغر أبي المحاسن الدهستاني في إطفاء هذه الفتنة أثر حسن. وفيها في شعبان سار سيف الدولة صدقة بن مزيد إلى السلطان بركيارق فلقيه بنصيبين وسار معه إلى بغداد على الموصل فوصلها في ذي القعدة ومعه وزيره عز الملك بن نظام الملك وخرج عميد الجولة والناس إلى لقائه من عقرقوف. وفيها ولد للمستظهر بالله ولد سمي الفضل وكنى أبا منصور ولقب عمدة الدين وهو المسترشد بالله. وفيها في رمضان قتل الأمير يلبرد قتله بركيارق وكان من الأمراء الكبار مع أبيه فزاده بركيارق أقطاع كوهرائين وشحنكية بغداد فلما وصل إلى دقوقا أعيد منها لأنه تكلم فيما يتعلق بوالده السلطان بركيارق بكلان شنيع فلما وصل إليه أصبح مقتولا. وفيها في المحرم توفي علي بن أحمد بن يوسف أبو الحسن القرشي الهكاري المعروف بشيخ الإسلام وكان فاضلا عابدا كثير السماع،
226 إلا أن الغرائب في حديثه كثيره لا يدرى ما سببها والأمير أبو نصر علي بن هبة الله بن علي بن جعفر العجلي المعروف بابن ماكولا مصنف كتاب الإكمال قتله غلمانه الأتراك بكرمان ومولده سنة اثنتين وأربعمائة وكان حافظا. وفيها في توفي أبو محمد عامر الضرير وكان فقيها شافعيا مقرئا نحويا وكان يصلي في رمضان بالإمام المقتدي بأمر الله. وفي جمادى الأولى توفي الأمير أبو الفضل جعفر بن المقتدي وأمه ابنة السلطان ملكشاه ومولده في ذي القعدة سنة ثمانين وإليه تنسب الجعفريات. وفي رجب توفي الشيخ أبو سعد عبد الواحد بن أحمد بن المحسن الوكيل بالمخزن وكان فقيها شافعيا كثير الإحسان إلى أهل العلم وكان محمودا في ولايته. وفيها توفي كمال الملك الدهستاني الذي كان عميد ببغداد. وفي رمضان توفي المشطب بن محمد الحنفي بالكحيل من أرض الموصل وكان الخليفة قد أرسله إلى بركيارق وكان بالموصل ومعه تاج الرؤساء أبو نصر بن الموصل وكان شيخا كبيرا عالما مكرما عند الملوك وحمل إلى العراق ودفن عند أبي حنيفة. وفيه توفي القاضي أبو علي يعقوب بن إبراهيم المرزباني قاضي باب الأزج وولي مكانه القاضي أبو المعالي عزيزي وكان أبو المعالي شافعيا أشعريا مغاليا وله مع أهل باب الأزج أقاصيص وحكايات عجيبة. وفيها توفي نصر بن الحسن بن القاسم بن الفضل أبو الليث وأبو الفتح
227 التنكتي، له كنيتان، سافر [في] البلاد شرقا وغربا روى صحصح مسلم وغيره وكان ثقة ومولده سنة ست وأربعمائة. وفي ذي الحجة منها توفي أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الحنبلي الفقيه وكان وافر العلم غزير الدين حسن الوعظ والسمت.
228 487 ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة ذكر الخطبة للسلطان بركيارق في هذه السنة يوم الجمعة رابع عشر المحرم خطب ببغداد للسلطان بركيارق بن ملكشاه وكان قدمها أواخر سنة ست وثمانين [وأربعمائة]، وأرسل إلى الخليفة المقتدي بأمر الله يطلب الخطبة فأجيب إلى ذلك وخطب له ولقب ركن الدين. وحمل الوزير عميد الدولة بن جهير الخلع إلى بركيارق فلبسها وعرض التقليد على الخليفة ليعلم عليه فعلم فيه وتوفي فجأة على ما نذكره إن شاء الله تعالى وولي ابنه الإمام المستظهر بالله الخلافة فأرسل الخلع والتقليد إلى السلطان بركيارق فأقام ببغداد إلى ربيع الأول من السنة وسار عنها إلى الموصل. ذكر وفاة المقتدي بأمر الله في هذه السنة يوم السبت خامس عشر المحرم توفي الإمام المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن الذخيرة بن القائم بأمر الله أمير المؤمنين فجأة وكان قد أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم فيه فقرأه وتدبره وعلم فيه ثم قدم إليه طعام فأكل منه وغسل يديه وعنده قهرمانته
229 شمس النهار فقال لها ما هذه الأشخاص التي دخلت علي بغير إذن قالت فالتفت فلم أر شيئا ورأيته قد تغيرت حالته واسترخت يداه ورجلاه وانحت قوته وسقط إلى الأرض فظننتها غشية قد لحقته فحللت أزرار ثوبه فوجدته قد ظهرت عليه إمارات الموت ومات لوقته. قالت فتماسكت وقلت لجارية عندي ليس هذا وقت إظهار الجزع والبكاء فإن صحت قتلتك وأحضرت الوزير فأعلمته الحال فشرعوا في البيعة لولي العهد وجهزوا المقتدي وصلى عليه ابنه المستظهر بالله ودفنوه وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام وكانت خلافته تسع عشر سنة وثمانية أشهر غير يومين وأمه أم ولد أرمنية تسمى أرجوان وتدعى قرة العين أدركت خلافته وخلافة ابنه المستظهر بالله، وخلافة ابن ابنه المسترشد بالله. ووزر له فخر الدولة أبو نصر بن جهير ثم أبو شجاع ثم عميد الدولة أبو منصور بن جهير. وقضاته أبو عبد الله الدامغاني ثم أبو بكر الشامي. وكانت أيامه كثيرة الخير واسعة الرزق وعظمت الخلافة أكثر مما كان من قبله وانعمرت ببغداد عدة محال في خلافته منها البصلية والقطيعة والحلبة والمقتدية والأجمة ودرب القيار وخربة بن جردة وخربة الهراس والخاتونيتين.
230 وأمر بنفي المغنيات والمفسدات من بغداد وبيع دورهن فنفين ومنع الناس أن يدخل أحد الحمام إلا بمئزر وقع الهرادي والأبراج التي للطيور ومنع من اللعب بها لأجل الاطلاع على حرم الناس ومنع من إجراء ماء الحمامات إلى دجلة وألزم أربابها بحفر آبار للمياه وأمر أن من يغسل السمك المالح يعبر إلى النجمي فيغسله هناك ومنع الملاحين أن يحملوا الرجال والنساء مجتمعين، وكان قوي النفس عظيم الهمة من رجال بني العباس. ذكر خلافة المستظهر بالله لما توفي المقتدر بأمر الله أحضر ولده أبو العباس أحمد المستظهر بالله وأعلم بموته وحضر الوزير فبايعه وركب إلى السلطان بركيارق فأعلمه الحال وأخذ بيعته للمستظهر بالله. فلما كان اليوم الثالث من موت المقتدي أظهر ذلك وحضر عز الملك بن نظام الملك وزير بركيارق واخوه بهاء الملك وأمراء السلطان وجميع أرباب المناصب النقيبان طراد العباسي والمعمر العلوي في أصحابهما وقاضي القضاة والغزالي والشاشي وغيرهما من العلماء فجلسوا في العزاء وبايعوا، وكان للمستظهر بالله لما بويع ست عشرة سنة وشهران.
231 ذكر قتل قسيم الدولة آقسنقر وملك تتش حلب والجزيرة وديار بكر وأذربيجان وهمذان والخطبة له ببغداد في هذه السنة في جمادى الأولى قتل قسيم الدولة آقسنقر جد ملوكنا بالموصل الآن أولاد الشهيد زنكي بن آقسنقر. وسبب قتله أن تاج الدولة تتش لما عاد من أذربيجان منهزما لم يزل يجمع العساكر فكثرت جموعه وعظم حشده فسار في هذا التاريخ عن دمشق نحو حلب ليطلب السلطنة فاجتمع قسيم الدولة آقسنقر وبوزان وأمدهما ركن الدين بركيارق بالأمير كربوقا الذي صار بعد صاحب الموصل فلما اجتمعوا ساروا إلى طريقه فلقوه عند نهر سبعين قريبا من تل السلطان بينه وبين حلب ستة فراسخ واقتتلوا واشتد القتال بعض العسكر الذين مع آقسنقر فانهزموا وتبعهم الباقون فتمت الهزيمة وثبت آقسنقر فأخذ أسيرا وأحضر عند تتش فقال له لو ظفرت بي ما كنت صنعت قال كنت أقتلك فقال له أنا أحكم عليك بما تحكم علي فقتله صبرا. وسار نحو حلب وكان قد دخلها إليه كربوقا وبوزان فحفظاها منها وحصرها تتش ولج في قتالها حتى ملكها سلمها إليه المقيم بقلعة الشريف ومنها دخل البلد وأخذهما أسيرين وأخذهما إلى حران والرها يسلمهما من بهما وكانتا لبوزان فامتنعوا من التسليم إليه فقتل بوزان وأرسل رأسه إليهم وتسلم البلدين.
232 وأما كربوقا فإنه أرسله إلى حمص فسجنه بها إلى أن أخرجه الملك رضوان بعد قتل أبيه تتش. وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسة لرعيته وحفظا لهم، وكانت بلاده بين رخص عام وعدل شامل وأمن واسع وكان قد شرط على أهل كل قرية من بلاده متى أخذ عندهم قفل أو أحد من الناس غرم أهلها جميع ما يؤخذ من الأموال من قليل وكثير فكانت السيارة إذا بلغوا قرية من بلاده ألقوا رحالهم وناموا وحرسهم أهل القرية إلى أن يرحلوا فأمنت الطرق. وأما وفاؤه وحسن عهده فيكفيه فخرا أنه قتل في حفظ وقت صاحبه وولي نعمته. فلما ملك تتش حران والرها سار إلى الديار الجزيرة فملكها جميعها ثم ملك ديار بكر وخلاط وسار إلى أذربيجان فملك بلادها كلها ثم سار منها إلى همذان فملكها ورأى بها فخر الملك بن نظام الملك وكان بخراسان فسار منها إلى السلطان بركيارق ليخدمه فوقع عليه الأمير فماج وهو من عسكر محمود بن السلطان ملكشاه بأصبهان فنهب فخر الملك فهرب منه ونجا بنفسه فجاء إلى همذان فصادفه تتش بها فأراد قتله فشفع فيه باغي سيان وأشار عليه أن يستوزره لميل الناس إلى بيته فاستوزره وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة منا لخليفة المستظهر بالله وكان شحنته ببغداد ايتكين جب فلازم الخدمة بالديوان وألح في طلبها فأجيب إلى ذلك بعد أن سمعوا أن بركيارق قد انهزم من عسكر عمه تتش على ما نذكره.
233 ذكر انهزام بركيارق من عمه تتش وملكه أصبهان بعد ذلك في هذه السنة في شوال انهزم بركيارق من عسكر عمه تتش وكان بركيارق بنصيبين فلما سمع بمسير عمه إلى أذربيجان سار هو من نصيبين وعبر دجلة من بلد من فوق الموصل وسار إلى إربل ومنها إلى بلد سرخاب بد بدر إلى بقي بينه وبين عمه تسعة فراسخ ولم يكن معه غير ألف رجل وكان عمه في خمسين أف رجل فسار الأمير يعقوب بن آبق من عسكر عمه وهزمه ونهب سواده ولم يبق معه إلا برسق وكمشتكين الجاندار واليارق وهم الكبار فسار إلى أصبهان. وكانت خاتون أم أخيه محمود قد ماتت على ما نذكره فمنعه من بها من الدخول إليها ثم أذنوا له خديعة منهم يقبضوا عليه فلما قاربها خرج أخوه الملك محمود فلقيه ودخل البلد واحتاطوا عليه فاتفق أن أخاه محمودا حم وجدر فأراد الأمراء أن يكحلوا بركيارق فقال لهم أمين الدولة ابن التلميذ الطبيب إن الملك محمودا قد جدر وما كأنه يسلم منه وأراكم تكرهون أن يليكم ويملك البلاد تاج الدولة فلا تعجلوا على بركيارق فإن مات محمود أقيموا ملكا وإن سلم محمود فأنتم تقدرون على كحله فمات محمود سلخ شوال فكان هذا من الفرج بعد الشدة وجلس بركيارق للعزاء بأخيه. وكان مولد محمود في صفر سنة ثمانين وأربعمائة وقصده مؤيد الملك بن نظام الملك فاستوزره في ذي الحجة وكان أخوه عز الملك بن نظام الملك
234 قد مات لما كان مع بركيارق بالموصل وحمل إلى بغداد فدفن بالنظامية وكان أصبح الناس وجها وأحسنهم خلقا وسيرة وكان قد أجرى الناس على ما بأيديهم من توقيعات أبيه في الإطلاقات من خاصة منها ببغداد مائتا كر غلة وثمانية عشر ألف دينار أميري. ثم إن بركيارق جدر بعد أخيه وعوفي وسلم فلما عوفي كاتب مؤيد الملك وزيره الأمراء العراقيين والخراسانيين واستمالهم فعادوا كلهم إلى بركيارق فعظم شأنه وكثر عسكره. ذكر وفاة أمير الجوي مصر في هذه السنة في ذي القعدة توفي أمير الجيوش بدر الجمالي صاحب الجيش بمصر وقد جاوز ثمانين سنة وكان هو الحاكم في دلة المستنصر والمرجوع إليه. وكان قد استعمله على الشام سنة خمس وخمسين وأربعمائة وجرى بينه وبين الرعية والجند بدمشق ما خاف [منه] على نفسه فخرج عنها هاربا وجمع وحشد وقدم إلى الشام فاستولى عليه بأسره سنة ست وخمسين [وأربعمائة]، ثم خالفه أهل دمشق مرة أخرى فهرب منه سنة ستين وخرب العامة والجند قصر الإمارة ثم مضى أمير الجيوش إلى مصر وتقدم بها وصار صاحب الأمر.
235 قال علقمة بن عبد الرزاق العليمي قصدت بدر الجمالي بمصر فرأيت أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم على بابه قد طال مقامهم ولم يصلوا إليه قال فبينا أنا كذلك إذ خرج بدر يريد الصيد فخرج علقمة في أثره وأقام إلى أن رجع من صيده فلما قاربه وقف على نشز الأرض وأومأ برقعة في دية وأنشأ يقول: (نحن التجار وهذه أعلاقنا * در وجود يمينك المبتاع) (قلب وفتشها بسمعك إنما * هي جوهر يختاره الأسماع) (كسدت علينا بالشآم تجارها * قل النفاق تعطل الصناع) (فأتاك يحملها إليك تجارها * ومطيها الآمال والأطماع) (حتى أناخوها ببابك والرجا * من دونك السمسار والبياع) (فوهبت مالم يعطه في دهره * هرم ولا كعب ولا القعقاع) (وسبقت هذا الناس في طلب العلا * فالناس بعدك كلهم أتباع) (يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى * ولجوا إليك جميعهم ما ضاعوا) وكان على يد بدر بازي فألقاه وانفرد عن الجيش وجعل الأبيات وهو ينشدها إلى أن استقر في مجلسه ثم قال لجماعة غلمانه وخاصته من أحبني فليخلع على هذا الشاعر فخرج من عنده ومعه سبعون بغلا يحمل الخلع والتحف وأمر له بعشرة آلاف درهم فخرج من عنده وفرق كثيرا من ذلك الشعراء ولما مات بدر قام بما كان إليه ابنه الأفضل.
236 ذكر وفاة المستنصر وولاية ابنه المستعلي في هذه السنة ثامن عشر ذي الحجة توفي المستنصر بالله أبو تميم معد بن أبي الحسن علي الظاهر لإعزاز دين الله العلوي صاحب مصر والشام وكانت خلافته ستين سنة وأربعة أشهر وكان عمره سبعا وستين سنة وهو الذي خطب له البساسيري في بغداد وقد ذكرنا ذلك. وكان الحسن بن الصباح رئيس هذه الطائفة الإسماعيلية قد قصده في زي تاجر واجتمع به وخاطبه في إقامة الدعوة له ببلاد العجم فعاد ودعا الناس إليه سرا ثم أظهره وملك القلاع كما ذكرناه وقال المستنصر من إمامي بعدك فقال ابني نزر وهو أكبر أولاده الإسماعيلية إلى يومنا هذا يقولون بإمامة نزار. ولقي المستنصر شدائد وأهوالا وانفتقت عليه الفتوق بديار مصر أخرج فيها أمواله وذخائره وقد أتيا على ذكرها هذا سنة سبع وستين وأربعمائة وغيرها. ولما مات ولي بعده ابنه أبو القاسم أحمد المستعلي بالله ومولده في المحرم سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان عهد في حياته بالخلافة لابنه فخلعه الأفضل وبايع المستعلي بالله. وسبب خلعه أن الأفضل ركب مرة أيام المستنصر ودخل دهليز القصر
237 من باب الذهب راكبا، وزار خارج، والمجاز مظلم فلم يره الأفضل فصاح به نزار انزل يا أرمني كلب عن الفرس ما أقل أدبك فحقدها عليه فلما مات المستنصر خلعه خوفا منه على نفسه وبايع المستعلي فهرب نزار إلى الإسكندرية وبها ناصر الدولة أفتكين فبايعه أهل الإسكندرية وسموه المصطفى لدين الله فخطب الناس ولعن الأفضل وأعانه أيضا القاضي جلال الدولة بن عمار قاضي الإسكندرية فسار إليه الأفضل وحاصره بالإسكندرية فعاد عنه مقهورا ثم ازداد عسكرا واسر إليه فحصره وأخذ أفتكين فقتله وتسلم المستعلي نزارا فبنى عليه حائطا فمات وقتل القاضي جلال الدولة بن عمار ومن أعانه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الآخر رأى بعض اليهود بالغرب رؤيا أنهم سيطيرون فأخبر اليهود بذلك فوهبوا أموالهم وذخائرهم وجعلوا ينتظرون الطيران فلم يطيروا وصاروا ضحكة بين الأمم. وفي هذه الشهر كانت بالشام زلازل كثيرة متتابعة يطول مكثها إلا أنها لم يكن الهدم كثيرا.
238 وفيها كانت الفتنة بين أهل نهر طابق وأهل باب الأرحا فاحترقت نهر طابق وصارت تلولا فلما احترقت عبر يمن صاحب الشرطة فقتل رجلا مستورا فنفر الناس منه وعزل في اليوم الثالث. وفيها توفي محمد بن أبي هاشم الحسيني أمير مكة وقد جاوز سبعين سنة ولم يكن له ما يمدح به وكان قد نهب الحجاج سنة ست وثمانين وقتل منهم خلقا كثيرا. وفيها قي ربيع الأول قتل السلطان بركيارق عمه تكش وغرقه وقتل ولده معه وكان ملكشاه قد أخذ لما خرج عليه وكحله وحبسه بقلعة تكريت فلما ملك بركيارق أحضر إليه ببغداد وسار بمسيرة فظفر بملطفات إليه من أخيه تتش على اللحاق به، وقيل إنه أراد المسير إلى بلخ لأن أهلها كانوا يريدونه فقتله فلما غرق بقي بسر من رأى فحمل إلى بغداد عند قبر أبي حنيفة. وفيها في جمادى الآخرة كانت وقعة بين الأمير أنر وتورانشاه بن قاورت بك وكانت تركان خاتون الجلالية والدة محمود بن ملكشاه قد أرسلته في عسكر ليأخذ بلاد فارس من تورانشاه ولم يحسن أنر تدبير بلاد فارس فاستوحش منه الأجناد واجتمعوا مع تورانشاه وهزموا أنر ومات تورانشاه بعد الكسرة بشهر من سهم أصابه فيها. وفيها استولى أصبهبذ بن ساوتكين على مكة حرسها الله غنوة وهرب منها الأمير قاسم بن أبي هاشم العلوي صاحبها وأقام إلى شوال وجمع
239 الأمير قاسم وكبسه بعسفان وجرى بينهما حرب في شوال من هذه السنة فانهزم أصبهبذ ودخل قاسم إلى مكة ومضى أصبهبذ إلى الشام وقدم إلى بغداد. وفيها في رجب أحرق شحنة بغداد وهو أيتكين جب باب البصرة وسبب ذلك أن النقيب طراد الزينبي كان له كاتب يعرف بابن سنان فقتل فأنفذ النقيب إلى الشحنة يستدعي منه من يقيم السياسة فأنفذ حاجبه محمدا فرجمه أهل باب البصرة وأدموه فرجع إلى صاحبه فشكا إليه منهم فأمر أخاه بقصدهم ومعاقبتهم على فعلهم فسار إليهم في جماعة كثيرة وتبعهم أهل الكرخ فأحرقوا ونهبوا فأرسل الخليفة إلى الشحنة يأمره بالكف عنهم فكف. وفيها في رمضان توفيت تركان خاتون الجلالية بأصبهان وهي ابنة طفغاج خان وهو من نسل افراسياب التركي وكانت قد برزت من أصبهان لتسير إلى تاج الدولة تتش لتتصل به فمرضت وعادت وماتت وأوصت إلى الأمير أنر وإلى الأمير سرمز شحنة أصبهان بحفظ المملكة لي ابنها محمود ولم يكن بقي بيدها سوى قصبة أصبهان ومعها عشرة آلاف فارس أتراك. وفيها في ذي القعدة توفي أبو الحسين بن الموصلايا كاتب ديوان الزمام ببغداد.
240 488 ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ذكر دخول جمع من الترك إفريقية وما كان منهم في هذه السنة غدر شاهملك التركي بيحيى بن تميم بن المعز بن باديس وقبض عليه. وكان هذا شاهملك من أولاد بعض الأمراء الأتراك ببلاد الشرق فناله في بلده أمر اقتضى خروجه منه فسار إلى مصر في مائة فارس فأكرمه الأفضل أمير الجوش وأعصاه أقطاعا ومالا، ثم بلغه عنه أسباب أوجبت إخراجه من مصر فخرج هو وأصحابه هاربين فاحتالوا حتى أخذوا سلاحا وخيلا وتوجهوا إلى المغرب فوصلوا إلى طرابلس الغرب وأهل البلد كارهون لواليها فأدخلوهم البلد وأخرجوا الوالي وصار شاهملك أمير البلد. فسمع تميم الخبر فأرسل العساكر إليها فحصروها وضيقوا على الترك ففتحوها ووصل شاهملك معهم إلى المهدية فسر به تميم وبمن معه وقال ولد لي مائة ولد انتفع بهم وكانوا لا يخطئ لهم سهم. فلم تطل الأيام حتى جرى منهم أمر غير تميما عليهم فعلم شاهملك ذلك وكان داهيا خبيثا فخرج يحيى بن تميم إلى الصيد في جماعة من أعيان أصحابه نحو مائة فارس ومعه شاهملك وكان أبوه تميم قد تقدم إليه أن لا يقرب شاهملك فلم يقبل فلما أبعدوه في طلب الصيد غدر به شاهملك فقبض عليه وسار به وبمن أخذ معه من أصحاب إلى مدينة سفاقس.
241 وبلغ الخبر تميما فركب وسير العساكر في أثرهم فلم يدركوهم ووصل شاهملك بيحيى بن تميم إلى سفاقس فركب صاحبها واسمه حمو وكان قد خالف على تميم ولقي يحيى ومشى في ركابه راجلا وقبل بده وعظمه واعترف له بالعبودية فأقام عنده أياما ولم يذكره أبو بكلمة وكان قد جعله ولي عهده فلما أخذ أقام أبوه مقامه ابنا له آخر اسمه المثنى. ثم إن صاحب سفاقس خاف يحيى على نفسه أن يثور معه الجند وأهل البلد ويملكوه عليهم فأرسل إلى تميم كتابا يسأله في إنفاذ الأتراك وأولادهم إليه ليرسل ابنه يحيى ففعل ذلك بعد امتناع وقدم يحيى فحجبه أبوه عنه مدة ثم أعاده إلى حاله ورضي عنه ثم جهز تميم عسكرا إلى سفاقس ويحيى معهم فساروا إليها وحصروها برا وبحرا وضيقوا على الأتراك بها وأقاموا عليها شهرين واستولوا عليها وفارقها الأتراك إلى قابس. وكان تميم لما رضي عن ابنه يحيى عظم ذلك على ابنه فأمر بإخراجه من المهدية بأهله وأصحابه فركب في البحر ومضى إلى سفاقس فلم يمكنه عامله من الدخول إليها وقصد مدينة قابس وبها أمير يقال له مكين بن كامل الدهسماني فأنزله وأكرمه فحسن له مثنى الخروج معه إلى سفاقس والمهدية وأطمعه فيهما وضمن الإنفاق على الجند من ماله فجمع مكين من يمكنه جمعة وسار إلى سفاقس ومعهما شاهملك التركي وأصحابه فنزلوا على سفاقس وقاتلوها.
242 وسمع تميم فجرد إليها جندا فلما علم المثنى ومن معه أنهم لا طاقة لهم بها ساروا عنها غللا المهدية فنزلوا عليها وقاتلوها وكان الذي يتولى القتال من المهدية يحيى بن تميم وظهرت منه شهامة وشجاعة وحزم وحسن تدبير فلم يبلغ أولئك منها غرضا فعادوا خائبين وقد تلف ما كان مع المثنى من مال وغيره وعظم أمر يحيى وصار هو المشار إليه. ذكر قتل أحمد خان صاحب سمرقند في هذه السنة في المحرم قتل أحمد خان صاحب سمرقند وكان قد كرهه عسكره واتهموه بفساد الاعتقاد وقالوا هو زنديق. وكان سبب ذلك أن السلطان ملكشاه لما فتح سمرقند وأسر هذا أحمد خان قد وكل به جماعة من الديلم فحسنوا له معتقدهم وأخرجوه إلى الإباحة فلما عاد إلى سمرقند كان يظهر منه أشياء تدل على انحلاله من الدين فلما كرهه أصحابه وعزموا على قتله قالوا لمستحفظ قلعة كاسان وهو طغرل ينال بك ليظهر العصيان ليسير أحمد خان معهم من سمرقند إلى قتاله فيتمكنوا من قتله فعصى طغرل ينال بك فسار أحمد خان العسكر إلى قتاله فلما نازل القلعة تمكر العسكر منه وقبضوا عليه وعادوا إلى سمرقند وأحضروا القضاة والفقهاء وأقاموا خصوما ادعوا عليه الزندقة فشهد عليه
243 جماعة بذلك فأفتى الفقهاء بقتله فخنقوه وأجلسوا ابن عمه مسعودا مكانه وأطاعوه. ذكر ما فعله يوسف بن آبق ببغداد في هذه السنة في صفر سير الملك تتش يوسف بن آبق التركماني شحنة لبغداد ومعه جمع من التركمان فمنع من دخول بغداد وورد إليه صدقة مزيد صاحب الحلة وكان يكره تتش ولم يخطب له في بلاده فلما سمع ابن آبق بوصوله عاد إلى طريق خراسان ونهب باجسرا وقتله العسكر بيعقوبا فهزمهم ونهبهم أفحش نهب وكأكثر معه من التركمان وعاد إلى بغداد. وكان صدقة قد رجع إلى الحلة فدخل يوسف بن آبق إلى بغداد وأراد نهبها والإيقاع بأهلها فمنعه أمير كان معه من ذلك ثم وصل إليه الخبر بقتل تتش فرحل عن بغداد إلى الموصل وسار من هناك إلى حلب. ذكر الحرب بين بركياق وتتش وقتل تتش في هذه السنة في صفر قتل تتش بن ألب أرسلان. وكان سبب ذلك أنه لما هزم السلطان بركيارق كما ذكرناه سار من
244 موضع الوقعة إلى همذان وقد تحصن بها أمير آخر فرحل تتش عنها فتبعه أمير آخر لأجل أثقاله فعاد عليه تتش فكسره فعاد إلى همذان واستأمن إليه وصار معه. وبلغ تتش مرض بركيارق فسار إلى أصبهان فاستأذنه أمير آخر في فصد جرباذقان لإقامة الضيافة وما يحتاج إليه فأذن له فسار إليها ومنها إلى أصبهان وعرفهم خبر تتش. وعلم تتش خبره فنهب جرباذقان وسار إلى الري وأرسل الأمراء الذين بأصبهان يدعوهم إلى طاعته ويبذل لهم البذول الكثيرة وكان بركيارق مريضا بالجدري فأجابوه يعدونه بالانحياز إليه ووهم ينظرون ما يكون من بركيارق فلما عوفي ارسلوا إلى تتش ليس بيننا غير السيف وساروا مع بركيارق من أصبهان وهم في نفر يسير فلما بلغوا جرباذقان أقبلت إليهم العساكر من كل مكان حتى صاروا في ثلاثين ألفا فاقتتلوا بموضع قريب من الري فانهزم عسكر تتش وثبت هو فقتل قيل قتله بعض أصحاب آقسنقر صاحب حلب أخذا بثأر صاحبه. وكان قد قبض على فخر الملك بن نظام الملك وهو معه فأطلق واستقام الأمر والسلطنة لبركيارق وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه بالأمس ينهزم من عمه تتش ويصل إلى أصبهان في نفر يسير فلا يتبعه أحد ولو تبعه عشرون فارسا لأخذوه لأنه بقي على باب أصبهان عدة أيام ثم لما دخلها أراد الأمراء كحله فاتفق أن أخاه حم ثاني يوم وصوله وجدر فمات فقام في الملك مقامه ثم جدر هو وأصابه معه سرسام فعوفي وبقي مذ كسره عمه إلى أن عوفي وسار عن أصبهان أربعة أشهر لم يتحرك عمه ولا عمل شيئا ولو قصده وهو مريض أو وقت مرض أخيه لملك البلاد: (ولله سر في علاك وإنما * كلام العدا ضرب من الهذيان)
245 ذكر حال الملك رضوان وأخيه دقاق بعد قتل أبيهما كان تاج الدولة تتش قد أوصى أصحابه بطاعة ابنه الملك رضوان وكتب إليه من بلد الجبل قبل المصاف الذي قتل فيه يأمره أن يسير إلى العراق ويقيم بدار المملكة فسار في عدد كثير منهم إيلغازي بن أرتق وكان قد سار إلى تتش فتركه عند ابنه رضوان ومنهم الأمير وثاب بن محمود بن صالح بن مرداس وغيرهما فلما قارب هيت بلغه قتل أبيه فعاد إلى حلب ومعه والدته، فملكها، وكان بها أبو القاسم الحسن بن علي الخوارزمي قد سلمها إلى تتش وحكمه في البلاد والقلعة. ولحق برضوان زوج أمه جناح الدولة الحسين بن ايتكين وكان مع تتش فسلم من المعركة وكان مع رضوان أيضا أخواه الصغيران أبو طالب وبهرام وكانوا كلهم مع أبي القاسم كالأضياف لتحكمه في البلد واستمال جناح الدولة المغاربة وكانوا أكثر جند القلعة فلما انتصف الليل نادوا بشعار الملك رضوان واحتاطوا على أبي القاسم أرسل إليه رضوان أن يطيب قلبه فاعتذر فقبل عذره وخطب لرضوان على منابر حلب وأعمالها ولم يكن يخطب له بل كانت الخطبة لأبيه بعد قتله نحو شهرين. وسار جناح الدولة في تدبير المملكة سيرة حسنة وخالف عليهم الأمير باغي سيان بن محمد بن ألب التركماني صاحب أنطاكية ثم صالحهم وأشار على الملك رضوان بقصد ديار بكر لخلوها من وال يحفظها فساروا جميعا وقدم عليهم أمراء الأطراف الذي كان تتش رتبهم فيها وقصدوا سروج فسبقهم إليها الأمير سقمان بن أرتق جد أصحاب الحصن اليوم،
246 وأخذها ومنعهم عنها وأمر أهل البلد فخرجوا إلى رضوان وتظلموا إليه من عساكره وما يفسدون من غلاتهم ويسألونه الرحيل فرحل عنهم إلى الرها. وكان بها رجل من الروم يقال له الفارقليط وكان يضمن البلد من بوزان فقاتل المسلمين بمن معه واحتمى بالقلعة وشاهدوا من شجاعته ما كانوا لا يظنونه ثم ملكها رضوان وطلب باغي سيان القلعة من رضوان فوهبها له فتسلمها وحصنها ورتب رجالها وأرسل إليهم حران يطلبونهم ليسلموا إليها حران فسمع ذلك قراجة أميرها فاتهم ابن المفتي وكان هذا ابن المفتي قد اعتمد عليه تتش في حفظ البلد فأخذه أخيه فصلبهم. ووصل الخبر إلى رضوان وقد اختلف جناح الدولة باغي سيان وأضمر كل واحد منهما الغدر بصاحبه فهرب جناح الدولة إلى حلب فدخلها واجتمع بزوجته أم الملك رضوان وسار رضوان وباغي سيان فعبر الفرات إلى حلب فسمعوا بدخول جناح الدولة إليها ففارق باغي سيان الملك رضوان وسار إلى أنطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمي وسار رضوان إلى حلب. وأما دقاق بن تتش فإنه كان قد سيره أبوه عمه السلطان ملكشاه ببغداد وخطب له ابنه السلطان وسار بعد وفاة السلطان مع خاتون الجلالية وابنهما محمد إلى أصبهان وخرج إلى السلطان بركيارق سرا، وصار معه، ثم لحق بأبيه وحضر معه الوقعة التي قتل فيها.
247 فلما قتل أبوه أخذ غلام لأبيع اسمه أيتكين الحلبي وسار به إلى حلب وأقام عنده أخيه الملك رضوان فراسله الأمير ساوتكين الخادم الوالي بقلعة دمشق سرا يدعوه ليملكه دمشق فهرب من حلب سرا وجد في السير فأرسل أخوه رضوان عدة من الخيالة فلم يدركوه فلما وصل إلى دمشق فرح به الخادم وأطهر الاستبشار ولقيه فلما دخلها أرسل باغي سيان يشير عليه بالتفرد بملك دمشق عن أخيه رضوان. واتفق وصول معتمد الدولة طغدكين إلى دمشق ومعه جماعة من خواص تتش وعسكره وقد سلموا فإنه كان قد شهد الحرب مع صاحبه وأسر فبقي إلى الآن وخلص من الأسر فلما وصل إلى دمشق لقيه الملك دقاق وأرباب دولته وبالغوا في إكرامه وكان زوج والده دقاق فمال إليه لذلك وحكمه في بلاده وعملوا على قتل الخادم ساوتكين فقتلوه وسار إليهم باغي سيان من أنطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمي فجعله وزيرا لدقاق وحكمه في دولته. ذكر وفاة المعتمد عباد في هذه السنة توفي المعتمد بن عباد الذي كان صاحب الأندلس مسجونا بأغمات المغرب وقد ذكرنا كيف أخذت بلاده منه سنة أربع وثمانين وأربعمائة فبقي مسجونا إلى الآن وتوفي، وكان من محاسن الدنيا كرما وعلما وشجاعة ورياسة تامة وأخباره مشهورة وآثاره مدونة.
248 وله أشعار حسنة فمنها ما قاله لما أخذه ملكه وحبس: (سلت علي الخطوب سيوفها * فجذذن من جسدي الحصيف الأمتنا) (ضربت بها أيدي الخطوب وإنما * ضربت رقاب الآملين بها المنايا) (يا آملي العادات من نفحاتنا * كفوا فإن الدهر كف أكفنا) وله من قصيدة يصف القيد في رجله: (تعطف في ساقي تعطف أرقم * يساورها عضا بأنياب ضيغم) (وإني من كان الرجال بسيبه * ومن سيفه في جنبه وجهنم) وقال يوم عيد: (فيا مضى كنت بالأعياد مسرورا * فصرت كالعبد في أغمات مأسورا) (قد كان دهرك إن تأمر ممتثلا * فردك الدهر منهيا ومأمورا) (من بات بعدك في ملك يسر به * فإنما بات بالأحلام مسرورا) وكان أبو بكر بن اللبانة يأتيه وهو مسجون فيمدحه لا لجدوى ينالها منه بل رعاية لحقه وإحسانه القديم إليه. فلما توفي أتاه فوقف على قبره يوم عيد والناس عند قبور أهليهم وأنشد بصوت عال: (ملك الملوك أسامع فأنادي * أم قد عداك عن الجواب عوادي)
249 (لما خلت منك القصور ولم تكن * فيه كما قد كنت في الأعياد) (فمثلت في هذا الثرى لك خاضعا * وتخذت قبرك موضع الإنشاد) وأخذ في إتمام القصيدة فاجتمع الناس كلهم عليه يبكون ولو أخذنا في تفصيل مناقبه ومحاسنه لطال الأمر فلنقف عند هذا. ذكر وفاة الوزير أبي شجاع في هذه السنة توفي الوزير أبو شجاع محمد بن الحسين عبد الله وزير الخليفة في جمادى الآخرة وأصله من روذراور وولد بالأهواز وقرأ الفقه إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وكان عالما بالعربية وله تصانيف منها ذيل تجارب الأمم وكان عفيفا عادلا حسن السيرة كثير الخير والمعروف، وكان موته بمدينة رسول الله كان مجاورا فيها. ولما حضر الموت أمر فحمل إلى مسجد النبي فوقف بالحضر وبكى وقال يا رسول الله! قال الله عز وجل: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما)؛ وقد جئت معترفا بذنوبي وجرائمي أرجوا شفاعتك. وبكى فأكثر وتوفي من يومه ودفن عند قبر إبراهيم ابن النبي.
250 ذكر الفتنة بنيسابور في هذه السنة في ذي الحجة جمع أمير كبير من أمراء خراسان جمعا كثيرا وسار بهم إلى نيسابور فحصرها فاجتمع أهلها وقاتلوه أشد قتال ولازم حصارهم نحو أربعين يوما فلما لم يجد له مطمعا فيها سار عنها في المحرم سنة تسع وثمانين [وأربعمائة]، فلما فارقها وقعت الفتنة بها بين الكرامية وسائر الطوائف من أهلها فقتل بينهم قتلى كثيرة. وكان مقدم الشافعية أبا القاسم ابن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني ومقدم الحنفية القاضي محمد بن أحمد بن صاعد وهما متفقان على الكرامية ومقدم الكرامية محمشاد فكان الظفر للشافعية والحنفية على الكرامية فخربت مدارسهم وقتل كثير منهم ومن غيرهم وكانت فتنة عظيمة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الآخر شرع الخليفة في عمل سور على الحريم وأذن الوزير عميد الدولة بن جهير للعامة في التفرج والعمل فزينوا البلد وعملوا القباب وجدوا في عمارته. وفيها في شهر رمضان جرح السلطان بركيارق جرحه إنسان ستري
251 له من أهل سجستان في عضده ثم أخذ الرجل وأعانه رجلان أيضا من أهل سجستان فلما ضرب الرجل الجارح اعترف أن هذين الرجلين وضعاه واعترفا بذلك فضربا الضرب الشديد ليقرا على من أمرهما بذلك فلم يقرا فقربا إلى الفيل ليجعلا تحت قوائمه وقدم أحدهما فقال اتركوني وأنا أعرفكم فتركوه فقال لصاحبه يا أخي لابد من هذه القتلة فلا تفضح أهل سجستان بإفشاء الأسرار فقتلا. وفيها توجه الإمام أبو حامد الغزالي إلى الشام وزار القدس وترك التدريس في النظامية واستناب أخاه وتزهد ولبس الخشن وأكل الدون وفي هذه السفرة صنف إحياء علوم الدين وسمعه منه الخلق الكثير بدمشق وعاد إلى بغداد بعدما حج في السنة التالية وسار إلى خراسان. وفيها في ربيع الأول خطب لولي العهد أبي الفضل منصور بن المستظهر بالله. وفيها عزل بركيارق وزيره مؤيدا للملك بن نظام الملك واستوزره أخاه فخر الملك وسبب ذلك ان بركيارق لما هزم عمه تتش وقتله أرسل خادما ليحضر والدته زبيدة خاتون من أصبهان فاتفق مؤيد الملك مع جماعة من الأمراء وأشاروا عليه بتركها فقال لا أريد الملك إلا لها وبوجودها عندي فلما وصلت إليه وعلمت الحال تنكرت على مؤيد الملك وكان نجد الملك أبو الفضل البلاساني قد صحبها في طريقها وعلم أنه لا يتم له أمر مع مؤيد الملك وكان بين مؤيد الملك وأخيه فخر الملك تنكر أم السلطان على أخيه
252 مؤيد الملك أرسل وبذل أموالا جزيلة في الوزارة فأجيب إلى ذلك وعزل أخيه وولي هو. وفي هذه السنة في جمادى الأولى توفي أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي الفقيه الحنبلي وكان عارفا بعدة علوم وكان قريبا من السلاطين. وفيها في رجب توفي أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون المعروف بابن الباقلاني وهو مشهور وموله سنة ست وأربعمائة. وفيها في شعبان توفي قاضي القضاة أبو بكر محمد بن المظفر الشاشي وكان من أصحاب أبي الطيب الطبري ولم يأخذ على القضاء أجرا وأقر الحق مقره ولم يحاب أحدا من خلق الله ادعى عنده بعض الأتراك على رجل شيئا فقال ألك بينة قال نعم! فلان والمشطب الفقيه الفرغاني؛ فقال لا أقبل شهادة المشطب لأنه يلبس الحرير؛ فقال التركي فالسلطان ونظام الملك يلبسان الحرير فقال لو شهدا عندي على باقة بقل لم أقبل شهادتهما وولي القضاء بعده أبو الحسن علي بن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد الدامغاني. وفيها مات القاضي أبو يوسف عبد السلام بن محمد القزويني ومولده سنة إحدى عشرة وأربعمائة وكان مغاليا في الاعتزال وقيل كان زيدي المذهب. وفيها توفي القاضي أبو بكر بن الرطبي قاضي دجيل وكان شافعي
253 المذهب، وولي بعده أخوه أبو العباس أحمد بن الحسن بن أحمد أبو الفضل الحداد الأصفهاني صاحب أبي نعيم الحافظ روى عنه حلية الأولياء وهو أكبر من أخيه أبي المعالي؛ وأبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد الحميدي الأندلسي ولد قبل العشرين وأربعمائة وسمع الحديث ببلده ومصر والحجاز والعراق وهو مصنف الجمع بين الصحيحين وكان ثقة فاضلا وتوفي في ذي الحجة ووقف كتبه فانتفع بها الناس.
254 489 ثم دخلت سنة تسع ثمانين وأربعمائة ذكر قتل يوسف بن آبق والمجن الحلبي في هذه السنة في المحرم قتل يوسف بن آبق الذي ذكر أنه سيره تاج الدولة تتش إلى بغداد ونهب سوادها. وكان سبب قتله أنه كان بحلب بعد قتل تاج الدولة وكان بحلب إنسان يقال له المجن وهو رئيس الأحداث بها وله أتباع كثير فحصر عند جناح الدولة حسين وقال له إن يوسف بن آبق يكاتب باغي سيان وهو على عزم الفساد واستأذنه في قتله فأذن له وطلب أن يعينه بجماعة من الأجناد ففعل ذلك فقصد المجن الدار التي بها يوسف فكسبها من الباب والسطح وأخذ يوسف فقتله ونهب كل ما [كان] في داره وبقي بحلب حاكما فحدثته نفسه بالتفرد بالحكم عن الملك رضوان فقال لجناح الدولة: إن الملك رضوان أمرني بقتلك فخذ لنفسك فهرب جناح الدولة إلى حمص وكانت له فلما انفرد المجن بالحكم تغير عليه رضوان وأراد منه أن يفارق البلد فلم يفعل وركب في أصحابه فلو هم بالمحاربة لفعل ثم أمر أصحابه أن ينهبوا ماله وأثاثه ودوابه ففعلوا ذلك واختفى، فطلب
255 فوجد بعد ثلاثة أيام فأخذ وعوقب وعذب ثم قتل هو وأولاده وكان من السواد يشق الخشب ثم بلغ هذه الحالة. ذكر وفاة منصور بن مروان في هذه السنة في المحرم توفي منصور بن نظام الدين بن ناصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر وهو الذي انقرض أمر بني مروان على يده حين حاربه فخر الدولة بن جهير وكان جكرمش قد قبض عليه بالجزيرة وتركه عند رجل يهودي فمات في داره وحملته زوجته إلى تربة آبائه فدفنته ثم حجت إلى بلد البشنوية فابتاعت ديرا من بلد فنك بقرب جزيرة ابن عمر وأقامت فيه تعبد الله. وكان منصور شجاعا شديد البخل له في البخل حكايات عجيبة فتعسا لطالب الدنيا المعرض عن الآخرة ألا تنظر إلى فعلها بأبنائها بينما هذا منصور ملك من بيت ملك آل أمره إلى أن مات في بيت يهودي نسأل الله تعالى أن يحسن أعمالنا ويصلح عاقبة أمرنا في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه.
256 ذكر ملك تميم مدينة قابس أيضا في هذه السنة ملك تميم المعز مدينة قابس وأخرج منها أخاه عمرا. وسبب ذلك أنها كان بها إنسان يقال له قاضي بن إبراهيم بن بلمونه فمات فولى أهلها عليهم عمرو بن المعز فأساء السيرة وكان قاضي بن إبراهيم عاصيا على تميم وتميم يعرض عنه فسلك عمرو طريقه في ذلك فأخرج تميم العساكر إلى أخيه عمرو ليأخذ المدينة منه فقال له أصحابه يا مولانا كان فيها قاضي توانيت عنه وتركته فلما وليها أخوك جردت إليه العساكر فقال لما كان فيها غلام من عبيدنا كان زواله سهلا علينا وأما اليوم ابن المعز بالمهدية وابن المعز بقابس هذا ما لا يمكن السكوت عليه. وفي فتحها يقول ابن خطيب سوسة القصيدة المشهورة التي أولها: (ضحك الزمان وكان يلقى عابسا * لما فتحت بحد سيفك قابسا) (الله يعلم ما حويت ثمارها * إلا وكان أبوك قبل الغارسا) (من كان في زرق الأسنة خاطبا * كانت له قلل البلاد عرائسا) (فأبشر تميم بن المعز بفتكة * تركتك من أكناف قابس قابسا)
257 (ولوا فكم تركوا هناك مصانعا * ومقاصرا ومخالدا ومجالسا) (فكأنها قلب وهن وساوس * جاء اليقين عنه وساوسا) ذكر ملك كربوقا الموصل في هذه السنة في ذي القعدة ملك قوام الدولة أبو سعيد كربوقا مدينة الموصل وقد ذكرنا أن تاج الدولة تتش أسره لما قتل آقسنقر وبوزان فلما أسره أبقى عليه طمعا في استصلاح حمية الأميرة أنر ولم يكن له بلد يملكه إذا قتله كما فعل بالأمير بوزان فإنه قتله واستولى على بلاده الرها وحران. ولم يزل قوام الدولة محبوسا بحلب إلى أن قتل تتش وملك ابنه الملك رضوان حلبا فأرسل السلطان بركيارق رسولا يأمره بإطلاق وإطلاق أخيه التونتاش فلما سارا واجتمع عليهما كثير من العساكر البطالين فأتيا حران فتسلماها وكاتبهما محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش وهو بنصيبين ومعه ثروان بن وهيب وأبو الهيجاء الكردي يستنصرون بهما على الأمير علي بن شرف الدولة وكان بالموصل قد جعله بها تاج الدولة تتش بعد وقعة المضيع.
258 فسار كربوقا إليهم فلقيه محمد بن شرف الدولة على مرحلتين من نصيبين واستحلفهما لنفسه فقبض عليه كربوقا بعد اليمين وحمله معه وأتى نصيبين فامتنعت عليه فحصرها أربعين يوما وتسلمها وسار إلى الموصل فحصرها فلم يظفر منها بشيء فسار عنها إلى بلد وقتل بها محمد بن شرف الدولة وغرقه وعاد إلى حصار الموصل ونزل على فرسخ منها بقرية باحلافا وترك التونتاش شرقي الموصل فاستنجد علي بن مسلم صاحبها بالأمير جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر فسار إليه نجدة له فلما علم التونتاش بذلك سار إلى طريقه فقاتله فانهزم جكرمش وعاد إلى الجزيرة منهزما وصار في طاعة كربوقا وأعانه على حصر الموصل وعدمت الأقوات بها وكل شيء حتى ما يوقدونه فأوقدوا القير وحب القطن. فلما ضاق بصاحبها علي الأمر فارقها وسار إلى الأمير صدقة بن مزيد بالحلة وتسلم كربوقا البلد بعد أن حصره تسعة أشهر وخافه أهله لأنه بلغهم أن التونتاش يريد نهبهم وأن كربوقا يمنعه من ذلك فاشتغل التونتاش بالقبض على أعيان البلد ومطالبتهم بودائع البلد واستطال على كربوقا فأمر بقتله فقتل في اليوم الثالث وأمن الناس شره وأحسن كربوقا السيرة فيهم وسار نحو الرحبة فمنع عنها فملكها ونهبها واستناب بها وعاد. ذكر عدة حوادث في هذه السنة اجتمع ستة كواكب في برج الحوت وهي الشمس والقمر والمشتري والزهرة والمريخ وعطارد فحكم المنجمون
259 بطوفان يكون في الناس يقارب طوفان نوح فأحضر الخليفة المستظهر بالله بن عيسون المنجم فسأله فقال إن طوفان نوح اجتمعت الكواكب السبعة في برج الحوت والآن فقد اجتمع ستة منها وليس منها زحل فلو كان معها لكان مثل طوفان نوح ولكن أقول إن مدينة أو بقعة من الأرض يجتمع فيها عالم كثير من بلاد كثيرة فيغرقون فخافوا على بغداد لكثرة من يجتمع فيها من البلاد فأحكمت المسنيات والمواضع التي يخشى منها الانفجار والغرق. فاتفق أن الحجاج نزلوا بوادي المياقت بعد نخله فأتاهم سيل عظيم فأغرق أكثرهم ونجا من تعلق بالجبال وذهب المال والدواب والأزواد وغير ذلك فخلع الخليفة على المنجم. وفيها في صفر درس الشيخ أبو عبد الله الطبري الفقيه الشافعي بالمدرسة النظامية ببغداد رتبه فيها فخر الملك بن نظام الملك وزير بركيارق. وفيها أغارت خفاجة على بلد سيف الدولة صدقة بن مزيد فأرسل في أثرهم عسكرا مقدمه ابن عمه قريش بن بدران بن دبيس بن مزيد فأسرته خفاجة وأطلقوه وقصدوا مشهد الحسين بن علي عليه السلام فتظاهروا فيه بالفساد والمنكر فوجه إليهم صدقة جيشا فكبسوهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا في المشهد حتى عند الضريح وألقي رجل منهم نفسه وهو على فرسه من على السور فسلم هو والفرس. وفي هذه السنة في صفر توفي القاضي أبو مسلم وادع بن سليمان قاضي معرة النعمان والمستولى على أمورها وكان رجل زمان همة وعلما. وفيها في ربيع الأول توفي أبو بكر محمد بن عبد الباقي المعروف
260 بابن الخاضبة المحدث وكان عالما. وفيها في رمضان توفي أبو بكر عمر بن السمرقندي ومولده سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. وفيها في رمضان توفي أبو الفضل عبد الملك بن إبراهيم المقدسي المعروف بالهمداني وكان عالما في عدة علوم وقد قارب ثمانين سنة.
261 490 ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة ذكر قتل أرسلان أرغون في هذه السنة في المحرم قتل أرسلان أرغون بن ألب أرسلان أخو السلطان ملكشاه بمرو وكان خراسان. وسبب قتله أنه كان شديدا على غلمانه كثير الإهانة لهم والعقوبة وكانوا يخافونه [خوفا] عظيما فاتفق أنه الآن طلب غلاما له فدخل عليه وليس معه أحد فأنكر عليه تأخره عن الخدمة فاعتذر فلم يقبل عذره وضربه فأخرج الغلام سكينا معه وقتله وأخذ الغلام فقيل له لم فعلت هذا فقال لأريح الناس من ظلمه. وكان سبب ملكه خراسان أنه كان له أيام أخيه ملكشاه من الإقطاع ما مقداره سبعة آلاف دينار وكان معه ببغداد لما مات فسار إلى همذان في سبعة غلمان واتصل به جماعة فسار إلى نيسابور فلم يجد فيها مطمعا فمر إلى مرو وكان شحنة مرو أميرا اسمه قودن من مماليك ملكشاه وهو الذي كان سبب تنكر السلطان ملكشاه على نظام الملك وقد تقدم ذلك في قتل نظام الملك فمال إلى أرسلان أرغون وسلم البلد إليه فأقبلت العساكر إليه وقصد بلخ وبها فخر الملك بن نظام الملك فسار عنها،
262 ووزر لتاج الدولة تتش على ما ذكرناه. وملك أرسلان أرغون بلخ وترمذ ونيسابور وعامة خراسان وأرسل إلى السلطان بركيارق وإلى وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك يطلب أن يقر عليه خراسان كما كانت لجده داود ما عدا نيسابور ويبذل الأموال ولا ينازع في السلطنة فسكت عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود وعمه تتش فلما عزل السلطان بركيارق مؤيد الملك عن وزارته ووليها أخوه فخر الملك واستولى على الأمور مجد الملك البلاساني قطع أرسلان أرغون مراسلة بركيارق وقال لا أرضى لنفسي مخاطبة البلاساني فندب بركيارق حينئذ عمه بوربرس بن ألب أرسلان وسيره في العساكر لقتاله. وكان قد اتصل بأرسلان عماد الملك أبو القاسم بن نظام الملك ووزر له فلما وصلت العساكر إلى خراسان لقيهم أرسلان أرغون وقاتلهم وانهزم منهم وسار منهزما إلى بلخ وأقام بوربرس والعساكر التي معه بهراة. ثم جمع أرغون عساكر جمعة وسار إلى مرو فحصرها أياما وفتحها عنوة وقتل فيها وأكثر وقلع أبواب سورها وهدمه فسار إليه بوربرس من هراة فالتقيا وتصافا فانهزم بوربرس سنة ثمان وثمانين [وأربعمائة]. وسبب هزيمته أنه كان معه من جملة العساكر الذين سير معه بركيارق أميرا آخر ملكشاه وهو من أكابر الأمراء والأمير مسعود بن تاجر وكان أبوه مقدم عسكر داود وجده ملكشاه ولمسعود منزلة كبيرة ومحل عظيم عند كافة الناس وكان بين أمير آخر وبين أرسلان مودة قديمة فأرسل
263 إليه أرسلان أرغون يستميله ويدعوه إلى طاعته فأجابه إلى ذلك. ثم إن مسعود بن ناجر قصد أميرا آخر زائر له ومعه ولده فأخذهما وقتلهما فضعف أمر بوربرس وانهزم من أرسلان أرغون وتفرق عسكره وأسر وحمل إلى أرسلان أرغون وهو أخوه فحسبه بترمذ ثم أمر به فخنق بعد سنة من حبسه وقتل أكابر عسكر خراسان ممن كان يخافه ويخشى تحكمه عليه وصادر وزيره عماد الملك بثلاثمائة ألف دينار وقتله وخرب أسوار مدن خراسان منها سور سبزوار وسور مرو الشاهجان وقلعة سرخس وقهندز نيسابور وسور شهرستان وغير ذلك خربه جميعه سنة تسع وثمانين ثم إنه قتل هذه السنة كما ذكرنا. ذكر استيلاء عسكر مصر على مدينة صور في هذه السنة في ربيع الأول وصل عسكر كثير من مصر إلى ثغر صور بساحل الشام فحصرها وملكها. وسبب ذلك أن الوالي بها ويعرف بكتيلة أظهر العصيان على المستعلي صاحب مصر والخروج عن طاعته فسير إليه جيشا فحصروه بها وضيقوا عليه وعلى من معه من جندي وعامي ثم افتتحها عنوة بالسيف وقتل بها خلق كثير ونهب منها المال الجزيل وأخذ الوالي أسيرا بغير أمان وحمل إلى مصر فقتل بها.
264 ذكر ملك بركيارق خراسان وتسليمها إلى أخيه سنجر كان بركيارق قد جهز بالعساكر مع أخيه الملك سنجر وسيرها إلى خرسان لقتال عمه أرسلان أرغون وجعل الأمير قماج أتابك سنجر ورتب في وزارته أبا الفتح علي بن الحسين الطغرائي فلما وصلوا إلى الدامغان بلغهم خبر قتله فأقاموا حتى لحقهم السلطان بركيارق وساروا إلى نيسابور فوصل إليها خامس جمادى الأولى من السنة وملكها بغير قتال وكذلك سائر البلاد الخراسانية وساروا إلى بلخ. وكان عسكر أرسلان أرغون قد ملكوا بعد قتله أبنا له صغيرا عمره سبع سنين فلما سمعوا بوصول السلطان أبعدوا إلى جبال طخارستان وأرسلوا يطلبون الأمان فأجابهم إلى ذلك فعادوا ومعهم ابن أرسلان أرغون فأحسن السلطان لقاءه وأعطاه ما كان لأبيه من الإقطاع أيام ملكشاه وكان وصوله إلى السلطان في خمسة عشر ألف فارس فما انقضى يومهم حتى فارقوه واتصلت كل طائفة منهم بأمير تخدمه وبقي وحده مع خادم لأبيه فأخذته والدة السلطان بركيارق إليها وأقامت له من يتولى خدمته وتربيته. وسار بركيارق إلى ترمذ فسلمت إليه وأقام عند بلخ سبعة أشهر وأرسل إلى ما وراء النهر فأقيمت له الخطبة بسمرقند وغيرها ودانت له البلاد. ذكر خروج أمير أميران بخراسان مخالفا في هذه السنة لما كان السلطان بركيارق بخراسان خالف عليه أمير اسمه محمد بن سليمان ويعرف بأمير أميران وهو ابن عم ملكشاه وتوجه إلى
265 بلخ واستمد من صاحب غزنة فأمده بجيش كثير وفيلة وشرط عليه أن يخطب له في جميع ما يفتحه من خراسان فقويت شوكته ومد يده في البلاد فسير إليه الملك سنجر بن ملكشاه جريدة ولا يعلم به أمير أميران فكبسه فجرى بينهما قتال ساعة ثم أسر وحمل إلى بين يدي سنجر فأمر به فكحل. ذكر عصيان الأمير قودن ويارقطاش على السلطان واستعمال حبشي على خراسان في هذه السنة عصى يارقطاش وقودن على السلطان بركيارق. وسبب ذلك أن الأمير قودن كان قد صار في جملة الأمير قماج فتوفي والسلطان بمرو فاستوحش قودن وأظهر المرض وتأخر بمرو بعد مسير السلطان إلى العراق وكان من جملة أمراء السلطان أمير اسمه اكنجي وقد ولاه السلطان خوارزم ولقبه خوارزمشاه فجمع عساكره وسار في عشرة آلاف فارس ليحلق السلطان فسبق العسكر إلى مرو في ثلاثمائة فارس وتشاغل بالشرب فاتفق قودن وأمير آخر اسمه يارقطاش على قتله فجمعها خمسمائة فارس وكبسوه بالشرب وقتلوه وساروا إلى خوارزم وأظهروا أن السلطان قد استعملهما عليها فتسلماها. وبلغ الخبر إلى السلطان فتم المسير إلى العراق لما بلغه من خروج الأمير أنر ومؤيد الملك عن طاعته وأعاد أمير داذ حبشي بن التونتاق في جيش
266 إلى خراسان لقتالهما فسار إلى هراة وأقام ينتظر اجتماع العساكر معه فعاجلاه في خمسة عشر ألفا فعلم أمير داذ أنه لا طاقة له بهما فعبر جيحون فسار إليه وتقدم يارقطاش ليلحقه قودن فعاجله يارقطاش وحده وقاتله فانهزم يارقطاش وأخذ أسيرا. وبلغ الخبر إلى قودن فثار به عسكره ونهبوا خزائنه وما معه فبقي في سبعة نفر فهرب إلى بخارى فقبض عليه صاحبها ثم أحسن إليه وبقي عنده وسار من هناك إلى الملك سنجر ببلخ فقبله أحسن قبول وبذل له قودن أن يكفيه أموره ويقوم بجمع العساكر على طاعته فقدر أنه مات عن قريب وأما يارقطاش فبقي أسيرا إلى أن قتل أمير داذ وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ابتداء دولة محمد بن خوارزمشاه في هذه السنة أمر بركيارق الأمير حبشي بن التونتاق على خراسان كم ذكرناه فلما صفت له وقتل قودن كما ذكرناه قبل ولي خوارزم الأمير محمد بن أنوشتكين وكان أبوه أنوشتكين مملوك أمير من السلجوقية اسمه بلكباك قد اشتراه من رجل من غرشستان فقيل له أنوشتكين غر شحه فكبر وعلا أمره وكان حسن الطريقة كامل الأوصاف وكان مقدما مرجوعا إليه وولد له ولد سماه محمدا وهو هذا وعلمه وهرجه وأحسن تأديبه وتقدم بنفسه بالعناية الأزلية، فلما ولي أمير داذ حبشي خراسان كان خوارزمشاه اكنجي قد قتل،
267 وقد تقدم ذكره ونظر الأمير حبشي فيمن يوليه خوارزم فوقع اختياره على محمد بن أنوشتكين فولاه خوارزم ولقبه خوارزمشاه فقصر أوقاته على معدلة ينشرها ومكرمة يفعلها وقرب أهل العلم والدين فازداد ذكره حسنا ومحله علوا. ولما علم ملك السلطان سنجر خراسان أقر محمدا خوارزمشاه على خوارزم وأعمالها فظهرت كفايته وشهامته فعظم سنجر محله وقدره. ثم إن بعض ملوك الأتراك جمع جموعا وقصد خوارزم ومحمد غائب عنها وكان طغرلتكين بن اكنجي الذي كان أبوه خوارزمشاه قبل عند السلطان سنجر فهرب منه والتحق بالأتراك على خوارزم فلما سمع خوارزمشاه محمد الخبر بادر إلى خوارزم وأرسل إلى سنجر يستمده وكان بنيسابور فسار في العساكر إليه فلم ينتظر محمد فلما قارب خوارزم هرب الأتراك إلى منقشلاغ وطغرلتكين أيضا رحل إلى حندخان وكفي خوارزمشاه شرهم. ولما توفي خوارزمشاه ولي بعده ابنه أتسز فمد ظلال الأمن وأفاض العدل وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه وقصد بلاد الأعداء وباشر الحروب فملك مدينة منقشلاغ. ولما ولي بعد أبيه قربه السلطان سنجر وعظمه واعتضد به واستصحبه معه في أسفاره وحروبه فظهرت منه الكفاية والشهامة فزاده تقدما وعلوا وهو ابتداء ملك بيت خوارزمشاه تكش وابنه محمد الذي ظهرت التتر عليه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
268 ذكر الحرب بين رضوان وأخيه دقاق في هذه السنة سار الملك رضوان إلى دمشق وبها أخوه دقاق عزما على أخذها منه فلما قاربها ورأى حصانتها وامتناعها علم عجزه عنها فرحل إلى نابلس وسار إلى القدس ليأخذه فلم يمكنه وانقطعت العساكر عنه فعاد وسعه باغي سيان صاحب أنطاكية وجناح الدولة. ثم إن باغي سيان فارق رضوان وقصد دقاق وحسن له محاصرة أخيه بحلب جزاء لما فعله فجمع عساكر كثيرة وسار ومعه باغي سيان فأرسل رضوان رسولا إلى سقمان بن أرق وهو بسروج يستنجده فأتاه في خلق كثير من التركمان فسار نحو أخيه فالتقيا بقنسرين فاقتتلا فانهزم دقاق وعسكره ونهبت خيامهم وجميع مالهم وعاد رضوان إلى حلب ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق قبل دقاق وبأنطاكية وقيل كانت هذه الحادثة سنة تسع وثمانين [وأربعمائة]. ذكر الخطبة للعلوي المصري بولاية رضوان في هذه السنة خطب الملك رضوان في كثير من ولايته للمستعلي بأمر الله العلوي صاحب مصر. وسبب ذلك أنه كان عنده لأمير جناح الدولة وهو زوج أمه فرأى من رضوان تغيرا فسارا إلى حمص وهي له فلما رأى باغي سيان بعده
269 عن رضوان صالحه وقدم إليه بحلب ونزل ظاهرها. وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أسعد وكان يميل إليه فقدمه بعد مسير جناح الدولة فحسن له مذاهب العلويين المصريين وأتته رسل المصريين يدعونه إلى طاعتهم يبذلون له المال وإنفاذ العساكر إليه ليملك دمشق فخطب لهم بشيزر وجميع الأعمال سوى أنطاكية وحلب والمعرة أربع جمع ثم حضر عنده سقمان بن أرتق وباغي سيان صاحب أنطاكية فأنكر ذلك واستعظماه فأعاد الخطبة العباسية في هذه السنة وأرسل إلى بغداد يعتذر عما كان منه وسار باغي سيان إلى أنطاكية فلم يقم بها غير ثلاثة أيام حتى وصل الفرنج إليها وحصروها وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادث في هذه السنة كانت فتنة عظيمة بخراسان بين أهل سبزوار وأهل خسر وجرد وقتال عظيم قتل بينهم جماعة كثيرة وانهزم أهل خسر وجرد وفيها قتل عثمان وكيل دار نظام الملك وكان سبب قتله أنه كاتب كاتب صاحب غزنة بالأخبار من قبل السلطان فأخذ وحبس بترمذ مدة ثم اطلع عليه وهو في الحبس أنه كان يكاتبه أيضا فقتل. وفي صفر منها قتل عبد الرحمن السميرمي وزير أم السلطان بركيارق قتله باطني غيلة وقتل الباطني بعده.
270 وفيها في شعبان ظهر كوكب كبير له ذؤابة وأقام يطلع عشرين يوما ثم غاب ولم يظهر. وفيها توفي النقيب الطاهر أبو الغنائم محمد بن عبد الله وكان دينا سخيا وكريما متعصبا حنفي المذهب وولي النقابة بعده ولده أبو الفتوح حيدرة. وفيها توفي أبو القاسم يحي بن أحمد السيبي وهو ابن مائة سنة وسنتين وهو صحيح الحواس وكان مقرئا محدثا حاضر القلب. وفيها قتل أرغش النظامي مملوك نظام الملك بالري وكان قد بلغ مبلغا عظيما بحيث إنه تزوج ابنه ياقوتي عم السلطان بركيارق قتله باطني وقتل قاتلة. وقتل برسق في شهر رمضان وهو من أكابر الأمراء قتله باطني وكان برسق من أصحاب السلطان طغرلبك وهو أول شحنة كان ببغداد.
271 491 ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ذكر ملك الفرنج مدينة أنطاكية كان ابتداء ظهور دولة الفرنج واشتد أمرهم وخروجهم إلى بلاد الإسلام واستيلائهم على بعضها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فملكوا مدينة طليطلة وغيرها من بلاد الأندلس وقد تقدم ذكر ذلك. ثم قصدوا سنة أربع وثمانين وأربعمائة جزيرة صقلية وملكوها وقد ذكرته أيضا وتطرقوا إلى أطراف إفريقية فملكوا منها شيئا وأخذ منهم ثم ملكوا غيره على ما تراه. فلما كان سنة تسعين وأربعمائة خرجوا إلى بلاد الشام وكان سبب خروجهم أن ملكهم بردويل جمع جمعا كثيرا من الفرنج وكان نسيب رجال الفرنجي الذي ملك صقلية فأرسل إلى رجال يقول له قد جمعت جمعا كثيرا وأنا واصل إليك وسائر من عندك إلى إفريقية أفتحها وأكون مجاورا لك. فجمع رجار أصحابه واستشارهم في ذلك وقالوا وحق الإنجيل هذا جيد لنا ولهم وتصبح البلاد بلاد النصرانية فرفع رجله وحبق حبقة عظيمة وقال وحق ديني هذه خير من كلامكم قالوا وكيف ذلك قال إذا وصلوا إلي احتاج إلى كلفة كثيرة ومراكب تحملهم إلى إفريقية وعساكر
272 من عندي أيضا فإن فتحوا البلاد كانت لهم وصارت المؤنة لهم من صقلية وينقطع عني ما يصل من المال من ثمن الغلات كل سنة وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي وتأذيت بهم ويقول تميم غدرت بي ونقضت عهدي وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا وبلاد إفريقية باقية لنا متى وجدنا أخذناها، وأحضر رسوله وقال له إذا عزمتم على جهاد المسلمين فأفضل ذلك فتح بيت المقدس تخلصونه من أيديهم ويكون لكم الفخر وأما إفريقية فبيني وبين أهلها أيمان وعهود. فتجهزوا وخرجوا إلى الشام وقيل إن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم ودخول أقسيس إلى مصر وحصرها فخافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه ويكون بينهم وبين المسلمين والله أعلم. فلما عزم الفرنج على قصد الشام ساروا إلى القسطنطينية ليعبروا المجاز إلى بلاد المسلمين ويسيروا في البر فيكون أسهل عليهم فلما وصلوا إليها منعهم ملك الروم من الاجتياز ببلاده وقال لا أمكنكم من العبور إلى بلاد الإسلام حتى تحلفوا لي أنكم تسلمون إلي أنطاكية وكان قصده يحثهم على الخروج إلى بلاد الإسلام ظنا منه أن الأتراك لا يبقون منهم أحدا لما رأى من صرامتهم وملكهم البلاد.
273 فأجابوه إلى ذلك وعبروا الخليج عند القسطنطينية سنة تسعين ووصلوا إلى بلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش وهي قونية وغيرها فلما وصلوا إليها لقيهم قلج أرسلان في جموعه ومنعهم فقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين [وأربعمائة]، واجتازوا في بلاده إلى بلاد ابن الأرمني فسلكوها وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها. ولما سمع صاحبها باغي سيان بتوجههم إليها خاف من النصارى الذين بها فأخرج المسلمين من أهلها ليس معهم غيرهم وأمرهم بحفر الخندق ثم أخرج من الغد النصارى لعمل الخندق أيضا ليس معهم مسلم فعملوا فيه إلى العصر فلما أرادوا دخول البلد منعهم وقال لهم أنطاكية لكم فهبوها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج فقالوا له من يحفظ أبناءنا ونساءنا فقال أنا أخلفكم فيهم فامسكوا وأقاموا في عسكر الفرنج فحصروها تسعة أشهر وظهر من شجاعة باغي سيان وجودة رأيه وحزمه واحتياطه ما لم يشاهد من غيره فهلك أكثر الفرنج موتا ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام وحفظ باغي سيان أهل نصارى أنطاكية الذين أخرجهم وكف الأيدي المتطرقة إليهم. فلما طال مقام الفرنج على أنطاكية راسلوا أحد المستحفظين للأبراج وهو زراد يعرف بروز به وبذلوا له مالا وأقطاعا وكان يتولى حفظ برج يلي الوادي وهو مبني على شباك في الوادي فلما تقرر الأمر بينهم وبين هذا الملعون الزراد جاؤوا إلى الشباك ففتحوه ودخلوا منه صعد جماعة كثيرة بالحبال فلما زادت عدتهم على خمسمائة ضربوا البوق وذلك
274 عند السحر، وقد تعب الناس من كثرة السهر والحراسة فاستيقظ باغي سيان فسأل عن الحال فقيل إن هذا البوق من القلعة ولا شك أنها قد ملكت ولم يكن من القلعة وإنما كان من ذلك البرج فدخله الرعب وفتح باب البلد وخرج هاربا في ثلاثين غلاما على وجهه فجاء نائبه في حفظ البلد فسأل عنه فقيل إنه هرب من باب آخر هاربا وكان ذلك معونة للفرنج ولو ثبت ساعة لهلكوا. ثم إن الفرنج دخلوا البلد من الباب ونهبوه وقتلوا من فيه من المسلمين وذلك في جمادى الأولى. وأما باغي سيان فإنه لما طلع عليه النهار رجع إليه عقله وكان كالولهان فرأى نفسه وقد قطع عدة فراسخ فقال لمن معه أين أنا فقيل على أربعة فراسخ من أنطاكية فندم كيف خلص سالما ولم يقاتل حتى يزيلهم عن البلد أو يقتل وجعل يتلهف ويسترجع على ترك أهله وأولاده والمسلمين فلشدة ما لحقه سقط عن فرسه مغشيا عليه فلما سقط إلى الأرض أراد أصحابه أن يركبوه فلم يكن فيه مسكة [فإنه كان] قد قارب الموت فتركوه وساروا عنه واجتاز به إنسان أرمني كان يقطع الحطب وهو بآخر رمق فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى الفرنج بأنطاكية. وكان الفرنج قد كاتبوا صاحب حلب ودمشق بأننا لا نقصد غير البلاد التي كانت بيد الروم لا نطلب سواها مكرا منهم وخديعة حتى لا يساعدوا صاحب أنطاكية.
275 ذكر سير المسلمين إلى الفرنج وما كان منهم لما سمع قوام الدولة كربوقا بحال الفرنج وملكهم أنطاكية جمع العساكر وسار إلى الشام وأقام بمرج دابق واجتمعت معه عساكر الشام تركها وعربها سوى من كان بحلب فاجتمع معه دقاق بن تتش وطغتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وأرسلان تاش صاحب سنجار وسليمان بن أرتق وغيرهم من الأمراء ممن ليس مثلهم فلما سمعت الفرنج عظمت المصيبة عليهم وخافوا لما هم فيه من الوهن وقلة الأقوات عندهم وسار المسلمون فنازلوهم على أنطاكية وأساء كربوقا السيرة فيمن معه من المسلمين وأغضب الأمراء وتكبر عليهم ظنا منه أنهم يقيمون معه على هذه الحال فأغضبهم ذلك وأضمروا له في أنفسهم الغدر إذا كان قتال وعزموا على إسلامه عند المصدوقة. وأقام الفرنج بأنطاكية بعد أن ملكوها اثني عشر يوما ليس لهم ما يأكلونه وتقوت الأقوياء بدوابهم والضعفاء بالميتة وورق الشجر فلما رأوا ذلك أرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد فلم يعطهم ما طلبوا وقال لا تخرجون إلا بالسيف. وكان معهم من الملوك بردويل وصنجيل وكندفري، والقمص،
276 صاحب الرها وبيمنت صاحب أنطاكية وهو المقدم عليهم وكان معهم راهب مطاع فيهم وكان داهية من الرجال فقال لهم إن المسيح عليه السلام كان حربة مدفونة بالقسيان الذي بأنطاكية وهو عظيم فإن وجدتموها فإنكم تظفرون وإن لم تجدوها فالهلاك متحقق. وكان قد دفن قبل حربة في مكان فيه وعفا أثرها وأمرهم بالصوم والتوبة ففعلوا ذلك ثلاثة أيام فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم ومعهم عامتهم والصناع منهم وحفروا في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر فقال لهم أبشروا بالظفر فخرجوا في اليوم الخامس من الباب متفرقين من خمسة وستة ونحو ذلك فقال المسلمون لكربوقا ينبغي أن تقف على الباب فتقتل كل من يخرج فإن أمرهم الآن متفرقون سهل. فقال: لا تفعلوا أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم ولم يمكن من معالجتهم فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين فجاء إليهم هو بنفسه ومنعهم ونهاهم. فلما تكامل خروج الفرنج ولم يبق بأنطاكية أحد منهم ضربوا مصافا عظيما فولى المسلمون منهزمين لما عاملهم به كربوقا أولا من الاستهانة لهم والإعراض عنهم وثانيا من منعهم عن قتل الفرنج وتمت الهزيمة عليهم ولم يضرب أحد منهم بسيف ولا طعن برمح ولا رمى بسهم وآخر من انهزم سقمان بن أرتق وجناح الدولة لأنهما كانا في الكمين وانهزم كربوقا معهم فلما رأى الفرنج ذلك ظنوه مكيدة إذ لم يجر قتال ينهزم من مثله،
277 وخافوا أن يتبعوهم ومثبت جماعة من المجاهدين وقاتلوا حسبة وطلبا للشهادة فقتل الفرنج منهم ألوفا وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة فصلحت حالهم وعادت إليهم قوتهم. ذكر ملك الفرنج معرة النعمان لما فعل الفرنج بالمسلمين ما فعلوا ساروا إلى معرة النعمان فنازلوها وحصروها وقاتلهم أهلها قتالا شديدا ورأى الفرنج شدة ونكاية ولقوا منهم الجد في حربهم والاجتهاد في قتالهم فعملوا عند برجا من خشب يوازي سور المدينة ووقع القتال عليه فلم يضر المسلمين ذلك فلما كان الليل خاف قوم من المسلمين وتداخلهم الفشل والهلع وظنوا أنهم إذ تحصنوا ببعض الدور الكبار امتنعوا بها فنزلوا من السور وأخلوا الموضع الذي كانوا يحفظونه، فرآهم طائفة أخرى، ففعلوا كفعلهم، فخلا مكانهم أيضا من السور. ولم تزل تتبع طائفة منهم التي تليها في النزول حتى خلا السور فصعد الفرنج إليه على السلاليم فلما علوه تحير المسلمون ودخلوا دورهم فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام فقتلوا ما يزيد على مائة ألف وسبوا السبي الكثير وملكوه أقاموا أربعين يوما وساروا إلى عرقة فحصروها أربعة أشهر ونقبوا سورها عدة ثقوب فلم يقدروا عليها وراسلهم منقذ صاحب شيزر فصالحهم عليها وساروا إلى حمص وحصروها فصالحهم صاحبها جناح الدولة وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا فلم يقدروا عليها.
278 ذكر الحرب بين الملك سنجر ودولتشاه كان دولتشاه من أبناء الملوك السلجوقية فاجتمع عليهم جمع من عساكر بيغو أخي طغرلبك وكان بطخارستان فأخذوا ولوالج وكمنج فسار إليهم السلطان سنجر وعساكره فوصل إلى بلخ فدخلها في رجب من هذه السنة وخرج منها لقتال دولتشاه فلم يكن له من الجموع ما ثبت مقابل عسكر سنجر فعفا عنه من القتل وحبسه ثم بعد ذلك كحله وسير سنجر جيشا إلى مدينة ترمذ فملكوها وسلمها إلى طغرلتكين. ذكر عدة حوادث في هذه السنة فتح تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية جزيرة جربة وجزيرة قرقنة ومدينة تونس وكان بإفريقية غلاء شديد هلك فيه كثير من الناس. وفيها أرسل الخليفة رسولا إلى السلطان بركيارق مستنفرا على الفرنج ومبالغا في تعظيم الأمر وتداركه قبل أن يزداد قوة. وفي هذه السنة في شعبان توفي أبو الحسن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف ومولده سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وكان فاضلا في الحديث. وفيها توفي أبو الفضل عبد الوهاب بن أبي محمد التميمي الحنبلي، وكان
279 فاضلا، فصيحا. وفيها في شوال توفي طراد بن محمد الزينبي وهو علي الإسناد في الحديث وولي نقابة العباسيين من بعده ابنه شرف الدين علي بن طراد. وفيها في ذي القعدة توفي أبو الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة وكان بيته مجمع الفضلاء وأهل الدين ومن جملة من كان عنده إلى أن توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي. وفيها توفي أبو الفرج سهل بن بشر بن أحمد الإسفرايني وهو من أعيان المحدثين.
280 492 ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة ذكر عصيان الأمير أنر وقتله لما سار بركيارق إلى خراسان ولى الأمير أنر بلاد فارس جميعها وكانت قد تغلب عليها الشوانكارة على اختلاف بطونهم وقبائلهم واستعانوا بصاحب كرمان إيران شاه بن قاورت فاجتمعوا وصافوا الأمير أنر وكسروه وعاد مغلولا إلى أصبهان وأرسل إلى السلطان يستأذنه في اللحاق إلى خراسان فأمره بالمقام ببلد الجبال وولاه إمارة العراق وكاتب العساكر المجاورة له بطاعته فأقام بأصبهان وسار منها إلى أقطاعه بأذربيجان وعاد وقد انتشر أمر الباطنية بأصبهان فندب نفسه لقتالهم وحصر قلعة على جبل أصبهان. واتصل به مؤيد الملك بن نظام الملك وكان ببغداد فسار منها إلى الحلة فأكرمه صدقة وسار من عنده إلى الأمير أنر فلما اجتمع بالأمير أنر خوفه هو وغيره من السلطان بركيارق وعظموا عليه الاجتماع به وحسنوا له البعد عنه وأشاروا عليه بمكاتبة غياث الدين محمد بن ملكشاه وهو إذ ذاك بكنجة فعزم على المخالفة للسلطان وتحدث فيه فظهر ذلك فزاد خوفه
281 من السلطان فجمع من العساكر المعروفين بالشجاعة نحو عشرة آلاف فارس وسار من أصبهان إلى الري وأرسل إلى السلطان يقول إنه مملوك ومطيع إن سلم إليه مجد الملك البلاساني وإن لم يسلمه فهو عاص خارج عن الطاعة. فبينما هو يفطر وكانت عادته [أن] يصوم أياما من الأسبوع فلما قارب الفراغ من الإفطار هجم عليه ثلاثة نفر من الأتراك المولدين بخوارزم وهم من جملة خيله فصدم أحدهم المشعل فألقاه وصدم الآخر الشمعة فأطفأها وشربه الثالث بالسكين فقتله وقتل معه جانداره واختلط الناس في الظلمة ونهبوا خزائنه وتفرق عسكره وبقي ملقى فلم يوجد ما يحمل عليه ثم حمل إلى داره بأصبهان ودفن بها. ووصل خبر قتله السلطان بركيارق وهو بخوار الري قد خرج من خراسان عازما على قتاله وهو على غاية الحذر من قتاله وعاقبة أمره وفرح مجد الملك البلاساني بقتله وكان له مثل يومه عن قريب وكان عمر أنر سبعا وثلاثين سنة وكان كثير الصوم والصلاة والخير والمحبة للصالحين. ذكر ملك الفرنج لعنهم الله البيت المقدس كان البيت المقدس لتاج الدولة تتش وأقطعه للأمير سقمان بن أرتق التركماني فلما ظفر الفرنج بالأتراك على أنطاكية وقتلوا فيهم، ضعفوا،
282 وتفرقوا فلما رأى المصريون ضعف الأتراك ساروا إليه ومقدمهم الأفضل بن بدر الجمالي وحصروه وبه الأمير سقمان وإيلغازي ابنا أرتق وابن عمهما سونج وابن أخيهما ياقوتي ونصب عليه نيفا وأربعين منجنيقا فهدموا مواضع من سوره وقاتلهم أهل البلد فدام القتال والحصار نيفا وأربعين يوما وملكوه بالأمان في شعبان سنة تسع وثمانين وأربعمائة. وأحسن الأفضل إلى سقمان وإيلغازي ومن معهما وأجزل لهم العطاء وسيرهم فساروا إلى دمشق ثم عبروا الفرات فأقام سقمان ببلد الرها وسار إيلغازي إلى العراق واستناب المصريون فيه رجلا يعرف بافتخار الدولة وبقي فيه إلى الآن فقصده الفرنج بعد أن حصروا عكا فلم يقدروا عليها فلما وصلوا إليه حصروه نيفا وأربعين يوما ونصبوا عليه برجين أحدهما من ناحية صهيون وأحرقه المسلمون وقتلوا كل من به. فلما فرغوا من إحراقه أتاهم المستغيث بأن المدينة قد ملكت من الجانب الآخر وملكوها من جهة الشمال منه ضحوة نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان وركب الناس السيف ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه المسلمين واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود فاعتصموا به وقاتلوا فيه ثلاثة أيام فبذل لهم الفرنج الأمان فسلموه إليهم ووفى لهم الفرنج وخرجوا ليلا إلى عسقلان فأقاموا بها. وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا منهم جماعة
283 كثيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف وأخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا من الفضة وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم أخذوا تنور من فضة وزنه أربعون رطلا بالشامي وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلا نقرة ومن الذهب نيفا وعشرين قنديلا وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء. وورد المستنفرون من الشام في رمضان إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعد الهروي فأوردوا في الديوان كلاما أبكى وأوجع القلوب وقاموا بالجامع يوم الجمعة فاستغاثوا وبكوا وأبكوا وذكروا ما دهم المسلمين بذلك الشريف المعظم من قتل الرجال وسبي الحريم والأولاد ونهب الأموال فلشدة ما أصابهم أفطروا فأمر الخليفة أن يسير القاضي أبو محمد الدامغاني وأبو بكر الشاشي وأبو القاسم الزنجاني وأبو الوفا بن عقيل وأبو سعيد الحلواني وأبو الحسين بن سماك فساروا إلى حلوان فبلغهم قتل مجد الملك البلاساني على ما نذكره فعادوا من غير بلوغ أرب ولا قضاء حاجة. واختلف السلاطين على ما نذكره فتمكن الفرنج من البلاد فقال أبو مظفر الأبيوردي في هذا المعنى أبياتا منها: (مزجنا دماء بالدموع السواجم * فلم يبق منا عرصة للمراجع)
284 (وشر صلاح المرء دمع يفيضه * إذا الحرب شبت نارها بالصوارم) (فإيها بني الإسلام إن وراءكم * وقائع يلحقن الذري بالمناسم) (أ تهويمة في ظل أمن وغبطة * وعيش كنوار الخميلة ناعم) (وكيف تنام العين ملء جفونها * على هفوات أيقظت كل نائم) (وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم * ظهور المذاكي أو بطون القشاعم) (تسومهم الروم الهوان وأنتم * تجرون ذيل الخفض فعل المسالم) (وكم من دماء قد أبيحت ومن دمي * توارى حياء حسنها بالمعاصم) (بحيث السيوف البيض محمرة الظبا * وسمر العوالي داميات اللهاذم) (وبني اختلاس الطعن والضرب وقفة * تظل لها الولدان شيب القوادم) (وتلك حروب من يغيب عن غمارها * ليسلم بقرع بعدها سن نادم) (سللن بأيدي المشتركين قواضبا * ستغمد منهم في الطلى والجماجم) (يكاد لهن المستجن بطيبة * ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم) (أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى * رماحهم والدين واهي الدعائم) (ويجتنبون النار خوفا من الردى * ولا يحسبون العار ضربة لازم) (أترضى صناديد الأعاريب بالأذى * ويغضى على ذل كماة الأعاجم) ومنها: (فليتهم إذ لم يذودوا حمية * عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم) (وإن زهدوا في الأجرة إذ خمس الوغا * فهلا أتوه رغبة في الغنائم) (لئن أذعنت تلك الخياشيم للبرى * فلا عطسوا إلا بأجدع راغم)
285 (دعوناكم والحرب ترنو ملحة * إلينا بألحاظ النسور القشاعم) (تراقب فينا غارة عربية * تطيل عليها الروم عض الأباهم) (فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه * رمينا إلى أعدائنا بالجرائم) ذكر الحرب بين المصريين والفرنج في هذه السنة في رمضان كانت وقعة بين العساكر المصرية والفرنج وسببها أن المصريين لما بلغهم ما تم على أهل القدس جمع الأفضل أمير الجيوش العساكر وحشد وسار إلى عسقلان وأرسل إلى الفرنج ينكر عليهم ما فعوا ويتهددهم فأعادوا الرسول بالجواب ورحلوا على أثره وطلعوا على المصريين عقيب وصول الرسول ولم يكن عند المصريين خبر وصولهم ولا من حركتهم ولم يكونوا على أهبة القتال فنادوا إلى ركوب خيولهم ولبسوا أسلحتهم وأعجلهم الفرنج فهزموهم وقتلوا منهم من قتل وغنموا ما في العسكر من مال وسلاح وغير ذلك. وانهزم الأفضل فدخل عسقلان ومضى جماعة من المنهزمين فاستتروا بشجر الجميز وكان هناك كثيرا فأحرق الفرنج بعض الشجر حتى هلك من فيه وقتلوا من خرج منه وعاد الأفضل في خواصه إلى مصر نازل الفرنج عسقلان وضايقوها فبذل لهم أهلها قطيعة اثنتي عشر ألف دينار وقبل عشرين ألف دينار ثم عادوا إلى القدس.
286 ذكر ابتداء ظهور السلطان محمد بن ملكشاه كان السلطان محمد وسنجر أخوين لأم وأب أمهما أم ولد ولما مات أبوه ملكشاه كان محمد معه ببغداد فسار مع أخيه محمود وتركا خاتون زوجة والده إلى أصبهان ولما حصر بركيارق أصبهان خرج محمد مختفيا مضى إلى والدته وهي في عسكر أخيه بركيارق وقصد أخاه السلطان بركيارق وسار معه إلى بغداد سنة ست وثمانين وأربعمائة وأقطعه بركيارق كنجة وأعمالها وجعل معه أتابكا له الأمير قتلغ تكين فلما قوي محمد قتله واستولى على جميع أعمال أران الذي من جملته كنجة فعرف ذلك الوقت شهامة محمد. وكان السلطان ملكشاه قد أخذ تلك البلاد من فضلون بن أبي الأسوار الروادي وسلمها إلى سرهنك ساوتكين الخادم وأقطع فضلون أستراباذ وعاد فضلون ضمن بلاده ثم عصى فيها لما قوي فأرسل السلطان إليه الأمير بوزان فحاربه وأسره وأقطع بلاده لجماعة منهم باغي سيان صاحب أنطاكية ولما مات باغي سيان عاد ولده إلى ولاية أبيه في هذه البلاد وتوفي فضلون ببغداد سنة أربع وثمانين [وأربعمائة] وهو على غاية من الإضافة في مسجد على دجلة. وقد ذكرنا فيما تقدم تنقل الأحوال بمؤيد الملك عبيد الله بن نظام الملك وأنه كان عند الأمير أنر فحسن له عصيان السلطان بركيارق فلما قتل
287 أنر سار إلى الملك محمد فأشار عليه بمخالفة أخيه والسعي في طلب السلطنة ففعل ذلك وقطع خطبة بركيارق من بلاده وخطب لنفسه بالسلطنة واستوزر مؤيد الملك. واتفق قتل مجد الملك البلاساني واستيحاش العسكر من السلطان بركيارق وفارقوه وساروا نحو السلطان محمد فلقوه بخرقان فصاروا معه وساروا نحو الري. وكان السلطان بركيارق لما فارقه عسكره سار مجدا إلى الري فأتاه بها الأمير ينال بن أنوشتكين الحسامي وهو من أكابر الأمراء ووصل إليه أيضا عز الملك منصور بن نظام الملك وأمه ابنة ملك الأبخاز ومعه عساكر جمة فبلغه مسير أخيه محمد إليه في العساكر فسار من الري إلى أصبهان فلم يفتح أهلها له الأبواب فسار إلى خوزستان على ما نذكره. وورد السلطان محمد إلى الري ثاني ذي القعدة فوجد زبيدة خاتون والدة أخيه السلطان بركيارق قد تخلفت بعد ابنها فأخذها مؤيد الملك وسجنها في القلعة وأخذ خطها بخمسة آلاف دينار وأراد قتلها وأشار عليه ثقافة أن لا يفعل ذلك فلم يقبل منهم وقالوا له العسكر محبون لولدها وإنما استوحشوا منه لأجلها ومتى قتلت عدلوا إليه فلا تغتر بهؤلاء الجند فإنهم غدروا بمن أحسن إليهم وأثق ما كان بهم فلم يصغ إلى قولهم ورفعها إلى القلعة وخنقت وكان عمرها اثنتين وأربعين سنة فلما أسر السلطان بركيارق مؤيد الملك رأى خطه في تذكرته بخمسة آلاف دينار فكان أعظم الأسباب في قتله.
288 ذكر الخطبة ببغداد للملك محمد لما قوي أمر السلطان محمد سار إليه سعد الدولة كوهرائين من بغداد وكان قد استوحش من السلطان بركيارق فاجتمع هو وكربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب الجزيرة وسرخاب بن بدر صاحب كنكور وغيرها فساروا إلى السلطان محمد فلقوه بقم فرد سعد الدولة إلى بغداد وخلع عليه وسار كربوقا وجكرمش في خدمته إلى أصبهان ولما وصل كوهرائين إلى بغداد خاطب الخليفة في الخطبة للسلطان محمد فأجاب إلى ذلك وخطب له يوم الجمعة سابع عشر ذي الحجة ولقب غياث الدنيا والدين. ذكر قتل مجد الدولة البلاساني قد ذكرنا تحكم مجد الملك أبي الفضل أسعد بن محمد في دولة السلطان بركيارق وتمكنه منها فلما بلغ الغاية التي لا مزيد عليها جاءته نكبات الدنيا ومصائبها من حيث لا يحتسب. وأما سبب قتله فإن الباطنية لما توالى منهم قتل الأمراء الأكابر من الدولة السلطانية نسبوا ذلك إليه وأنه هو الذي وضعهم على قتل من قتلوه وعظم ذلك قتل الأمير برسق فاتهم أولاده زنكي واقبوري وغيرهما مجد الملك بقتله وفارقوا السلطان. وسار السلطان إلى زنجان لأنه بغله خروج السلطان محمد عليه، على
289 ما ذكرنا. فطمع حينئذ الأمراء فأرسل أمير آخر وبلكابك وطغايرك بن اليزن وغيرهم إلى الأمراء بني برسق يستحضرونهم إليهم ليتفقوا معهم على مطالبة السلطان بتسليم مجد الملك ليقتلوه فحضروا عندهم فأرسلوا إلى السلطان بركيارق وهم بسجاس مدينة قريبة من همذان يلتمسون تسليمه إليهم ووافقهم على ذلك العسكر جميعه وقالوا إن سلم إلينا فنحن العبيد الملازمون للخدمة وإن منعنا فارقنا وأخذناه قهرا فمنع السلطان منه فأرسل مجد الملك إلى السلطان يقول له المصلحة أن تحفظ أمراء دولتك وتقتلني أنت لئلا يقتلني القوم فيكون فيه وهن على دولتك فلم تطب نفس السلطان بقتله وأرسل إليهم يستحلفهم على حفظ نفسه وحبسه في بعض القلاع فلما حلفوا سلمه إليهم فقتله الغلمان قبل أن يصل إليهم فسكنت الفتنة. ومن العجب أنه كان لا يفارقه كفنه سفرا وحضرا ففي بعض الأيام فتح خازنه صندوقا طريحا على الأرض فرأى الكفن فقال وما أصنع بهذا إن أمري لا يؤل إلى كفن والله ما أبقى إلا طريحا على الأرض فكان كذلك ورب كلمة لقائلها دعني. ولما قتل حمل رأسه إلى مؤيد الملك بن نظام الملك وكان مجد الملك خيرا كثير الصلاة بالليل كثير الصدقة لا سيما على العلويين وأرباب البيوتات وكان يكره سفك الدماء وكان يتشيع إلا أنه كان يذكر الصحابة ذكرا حسنا ويلعن من يسبهم ولما قتل أرسل الأمراء يقولون للسلطان المصلحة أن تعود إلى الري ونحن نمضي إلى أخيك فنقاتله ونقضي هذا المهم فسار
290 بعد امتناع، وتبعه مائتا فارس لا غير ونهب العسكر سرادق السلطان ووالدته وجميع أصحابه وعاد إلى الري وسار العسكر إلى السلطان محمد. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في شعبان وصل الكيا أبو الحسن بن علي بن محمد الطبري المعروف بالهراس الفقيه الشافعي ولقبه عماد الدين شمس الإسلام برسالة من السلطان بركيارق إلى الخليفة وهو من أصحاب إمام الحرمين أبو المعالي الجويني ومولده سنة خمسين وأربعمائة واعتنى بأمره مجد الملك البلاساني وقام له الوزير عميد الدولة بن جهير لما دخل عليه. وفيها قتل أبو القاسم ابن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني بنيسابور وكان خطيبها واتهم العامة أبا البركات الثعلبي بأنه هو الذي سعى في قتله فوثبوا به فقتلوه وأكلوا لحمه. وفيها كان بخراسان غلاء شديدا تعذرت فيه الأقوات ودام سنتين وكان سببه أن البرد أهلك الزروع جميعها ولحق الناس بعده وباء جارف فمات منهم خلق كثير عجزوا عن دفنهم لكثرتهم. وفيها في شعبان توفي أبو الغنائم الفارقي الفقيه الشافعي بجزيرة ابن عمر وكان إماما فاضلا زاهدا. وفيها في صفر توفي أبو عبد الله الحسين بن طلحة النعالي وعمره
291 نحو تسعين سنة وكان عالي الإسناد في الحديث، وقيل توفي سنة ثلاث وتسعين [وأربعمائة]. وفيها في شعبان توفي أبو غالب محمد بن علي بن عبد الواحد بن الصباغ الفقيه الشافعي تفقه على ابن عمه أبي نصر وكان حسن الخلق متواضعا.
292 493 ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة ذكر إعادة خطبة السلطان بركيارق ببغداد في هذه السنة أعيدت الخطبة للسلطان بركيارق بغداد. وسبب ذلك أن بركيارق سار في العام الماضي من الري إلى خوزستان فدخلها وجميع من معه على حال سيئة وكان أمير عسكره حينئذ ينال بن أنوشتكين الحسامي وأتاه غيره من الأمراء وسار إلى واسط فظلم عسكره الناس ونهبوا البلاد واتصل به الأمير صدقة بن مزيد صاحب الحلة ووثب على السلطان قوم ليقتلوه فأخذوا وأحضروا بين يديه فاعترفوا أن الأمير سر من شحنة أصبهان وضعهم على قتله فقتل أحدهم وحبس الباقون وسار إلى بغداد فدخلها سابع عشر صفر وخطب له ببغداد يوم الجمعة منتصف صفر قبل وصوله بيومين. وكان سعد الدولة كوهرائين بالشفيعي وهو في طاعة السلطان محمد فسار إلى داي مرج ومعه إيلغازي بن أرتق وغيره من الأمراء فأرسل إلى مؤيد الملك والسلطان محمد يستحثهما على الوصول إليه كربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر فأما جكرمش فاستأذن كوهرائين في العود إلى بلده وقال إنه قد اختلت الأحوال،
293 فأذن له، وبقي مع كوهرائين جماعة من الأمراء فاتفقوا على أن يصدروا عن رأي واحد لا يختلفون ثم اتفقت آراؤهم على أن كتبوا إلى السلطان بركيارق يقولون له اخرج فما فينا من يقاتلك. وكان الذي أشار بذا كربوقا وقال لكوهرائين إننا لم نظفر من محمد ومؤيد الملك بطائل وكان منحرفا عن مؤيد الملك فسار بركيارق إليهم فترجلوا وقبلوا الأرض وعادوا معه إلى بغداد وأعاد إلى كوهرائين جميع ما كان أخذ له من سلاح ودواب وغير ذلك واستوزر بركيارق ببغداد الأعز أبا المحاسن عبد الجليل بن علي بن محمد الدهستاني وقبض على عميد الدولة بن جهير وزير الخليفة وطالبه بالحاصل من ديار بكر والموصل لما تولاها هو وأبوه أيام ملكشاه فاستقر الأمر على مائة ألف دينار وستين ألف دينار يحملها إليه وخلع الخليفة على السلطان بركيارق. ذكر الواقعة بين السلاطين بركيارق ومحمد وإعادة خطبة محمد ببغداد في هذه السنة سار بركيارق من بغداد إلى شهر زور فأقام بها ثلاثة أيام والتحق [به] عالم كثير من التركمان وغيرهم فسار نحو أخيه السلطان محمد ليحاربه فكاتبه رئيس همذان ليسير إليها ويأخذ اقطاع الأمراء الذين مع أخيه فلم يفعل وسار نحو أخيه فوقع الحرب بينهم رابع رجب وهو المصاف الأول بين بركيارق وأخيه السلطان محمد بإسبيذ روز ومعناه النهر الأبيض وهو عل عدة فراسخ من همذان.
294 وكان مع محمد نحو عشرين ألف مقاتل وكان محمد في القلب ومعه الأمير سرمز وعلى ميمنته أمير آخر وابنه أياز وعلى ميسرته مؤيد الملك والنظامية وكان السلطان بركيارق في القلب ووزيره الأعز أبو المحاسن وعلى ميمنته كوهرائين وعز الدولة بن صدقة بن مزيد وسرخاب بن بدر وعلى ميسرته كربوقا وغيره فحمل كوهرائين من ميمنة بركيارق على ميسرة محمد وبها مؤيد الملك والنظامية فانهزموا ودخل عسكر بركيارق في خيامهم فنهبوهم وحملت ميمنة محمد على مسيرة بركيارق فانهزمت الميسرة وانضافت ميمنة محمد إليه في القلب على بركيارق ومن معه فانهزم بركيارق ووقف محمد مكانه وعاد كوهرائين من طلب المنهزمين الذين انهزموا بين يديه وكبا به فرسه فأتاه خراساني فقتله وأخذ رأسه وتفرقت عساكر بركيارق وبقي في خمسين فارسا. وأما وزيره الأعز أبو المحاسن فإنه أخذ أسيرا فأكرمه مؤيد الملك بن نظام الملك ونصب له خيما وخركاة وحمل إليه الفرش والكسوة وضمنه عمادة بغداد واعاده إليها وأمره بالمخاطبة في إعادة الخطبة للسلطان محمد ببغداد فلما إليها خاطب في ذلك فأجيب إليه وخطب له يوم الجمعة رابع عشر رجب. ذكر قتل سعد الدولة كوهرائين في هذه السنة في رجب قتل سعد الدولة كوهرائين في الحرب المذكورة قبل وكان ابتداء أمره أنه كان خادما للملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بويه انتقل إليه من امرأة من قرقوب بخوزستان، وكان إذا توجه
295 إلى الأهواز حضر عندها واستعرض حوائجها وأصاب أهلها منه خيرا كثيرا فأرسله أبي كاليجار مع ابنه أبي نصر إلى بغداد فلما قبض عليه السلطان طغرلبك مضى معه إلى قلعة طبرك فلما مات أبو نصر انتقل إلى خدمة السلطان ألب أرسلان ووقاه بنفسه لما جرحه يوسف الخوارزمي. وكان ألب أرسلان أرسله ابنه ملكشاه إلى بغداد فأحضر له الخلع والتقليد ورأى ما لم يره خادم قبله من نفوذ الأمر وتمام القدرة وطاعة أعيان المراء وخدمتهم إياه، وكان حليما كريما حسن السيرة لم يصادر أحدا من أهل ولايته ومناقبه كثيرة. ذكر حال السلطان بركيارق بعد الهزيمة وانهزامه من أخيه سنجر أيضا وقتل أمير داذ حبشي لما انهزم السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد سار قليلا وهو في خمسين فارسا ونزل عتمة واسترح وقصد الري وأرسل إلى من كان يعلم أنه يريده ويؤثر دولته فاستدعاه فاجتمع معه جمع صالح فسار إلى إسفرايين وكاتب أمير داذ حبشي بن التونتاق وهو بدامغان يستدعيه فأجابه يشير عليه بالمقام بنيسابور حتى يأتيه وكان بيده حينئذ أكثر خراسان وطبرستان وجرجان فلما وصل بركيارق إلى نيسابور قبض على رؤسائها وخرج بهم وأطلقهم بعد ذلك وتمسك بعميد خراسان أبي محمد وأبي القاسم بن أبي المعالي الجويني فأما أبو القاسم فمات مسموما في قبضه وقد تقدم أنه قتل سنة اثنتين وتسعين [وأربعمائة].
296 وعاد بركيارق فاستدعى أمير داذ فاعتذر بقصد السلطان سنجر بلاده في عساكر بلخ ويسأل السلطان بركيارق أن يصل إليه ليعينه على الملك سنجر فسار إليه في ألف فارس فلم يعلم قدومه إلا الأمراء الكبار من أصحاب سنجر ولم يعلم الأصاغر لئلا ينهزموا. وكان مع الأمير داذ عشرون ألف فارس فيهم من رجالة الباطنية خمسة آلاف ووقع المصاف بين بركيارق وأخيه سنجر خارج النوشجان؛ وكان الأمير بزغش في ميمنة سنجر والأمير كندكز في ميسرته والأمير رستم في القلب فحمل بركيارق على رستم فطعنه فقتله وانهزم أصحابه وأصحاب سنجر واشتغل العسكر بالنهب فحمل عليهم بزغش وكندكز فقتلا المنهزمين وانهزم الرجالة إلى مضيق بين جبلين فأرسل عليهم الماء فأهلكهم ووقعت الهزيمة على أصحاب بركيارق، وكان قد أخذ والدة أخيه سنجر لما انهزم أصحابه أولا فخافت أن يقتلها بأمه فأحضرها وطيب قلبها وقال إنما أخذتك حتى يطلق أخي سنجر من عنده من الأسرى ولست كفؤا لوالدتي حتى أقتلك فلما أطلق سنجر الأسرى أطلقها بركيارق. وهرب أمير داذ إلى بعض القرى وأخذه بعض التركمان فأعطاه في نفسه مائة ألف دينار فلم يطلقه وحمله إلى بزغش فقتله. وسار بركيارق إلى جرجان ثم إلى دامغان وسار في البرية ورؤي في بعض المواضع ومعه سبعة عشر فارسا وجمازة واحدة، ثم كثر جمعه،
297 وصار معه ثلاثة آلاف فارس منهم جاولي سقاووا وغيره وسار إلى أصبهان بمكاتبة من أهلها فسمع السلطان محمد فسبقه إليها فعاد إلى سميرم. ذكر فتح تميم بن المعز مدينة سفاقس في هذه السنة فتح تميم ابن المعز مدينة سفاقس وكان صاحبها حمو قد عاد فتغلب عليها واشتد أمره بوزير كان عنده قد قصده وهو من كتاب المعز كان حسن الرأي والتدبير فاستقامت به دولته وعظم شأنه فأرسل إليه تميم يطلبه ليستخدمه ووعده وبالغ في استمالته فلم يقبل فسير تميم جيشا إلى حصار سفاقس وأمر الذي جعله مقدم الجيش أن يهدم ما حول المدينة ويحرقه ويقطع الأشجار سوى ما يتعلق بذلك الوزير فإنه لا يتعرض إليه ويبالغ في صيانته ففعل ذلك، فلما رأى حمو ما فعل بأملاك الناس ما عدا الوزير اتهمه فقتله نظام دولته وتسلم عسكر تميم المدينة وخرج حمو منها وقصد مكن بن كامل الدهماني فأقام عنده فأحسن إليه ولم يزل عنده حتى مات. ذكر عزل عميد الدولة من وزارة الخليفة ووفاته لما أطلق مؤيد الدولة وزير السلطان محمد الأعز أبا المحاسن وزير بركيارق وضمنه عمادة بغداد أمره أن يخاطب الخليفة بعزل وزيره عميد
298 الدولة بن جهير فسار من العسكر وسمع عميد الدولة الخبر فأمر أصبهبذ صباوة بن خمارتكين بالخروج إلى طريق الأعز وقتله. وكان أصبهبذ قد حضر الحرب مع بركيارق ولما انهزم العسكر قصد بغداد فخرج إلى طريق الأعز أبي المحاسن فلقيه قريبا من بعقوبا فأوقع بمن معه والتجأ الأعز إلى القرية واحتمى فلما رأى الأصبهبذ صباوة ذلك أرسل إليه يقول إنك وزير السلطان بركياق وأنا مملوكه فإن كنت على خدمته فخرج إلينا حتى نسير إلى بغداد ونقيم الخطبة للسلطان وأنت الصاحب الذي لا يخالف وإن لم تجب إلى هذا فما بيننا غير السيف. فأجابه الأعز إلى ذلك واجتمعا فعرفه صباوة الذي أمره به عميد الدولة من قتلة وباتا تلك الليلة وأرسل الأعز إلى الأمير إيلغازي بن أرتق وكان قد ورد في صحبته وفارقه نحو الراذان فحضر من الليل فانقطع حينئذ أمل صباوة منه وفارقه. وسار الأعز إلى بغداد وخاطب في عزل عميد الدولة فعزل في رمضان وأخذ من ماله خمسة وعشرون ألف دينار وقبض عليه وعلى اخوته وبقي معزولا إلى سادس عشر شوال فتوفي محبوسا في دار الخلافة ومولده في المحرم سنة خمس وثلاثين وأربعمائة وكان عاملا كريما حليما إلا أنه كان عظيم الكبر يكاد يعد كلامه عدا وكان إذا كلم إنسان كلمات يسيرة هني ذلك الرجل بكلامه.
299 ذكر ظفر المسلمين بالفرنج في ذي القعدة من هذه السنة لقي كمشتكين بن الدانشمند طايلو وإنما قيل له ابن الدانشمند لأن أباه كان معلما للتركمان وتقلبت به الأحوال حتى ملك وهو صاحب ملطية وسيواس وغيرهما بيمند الفرنجي وهو من مقدمي الفرنج قريب ملطية وكان صاحبها قد كاتبه واستقدمه إليه فورد عليه في خمسة آلاف فلقيهم ابن الدانشمند فانهزم بيمند وأسر. ثم وصل من البحر سبعة قمامصة من الفرنج وأرادوا تخليص بيمند فأتوا إلى قلعة تسمى أنكورية فأخذوها وقتلوا من بها من المسلمين وساروا إلى قلعة أخرى فيها إسماعيل بن الدانشمند وحصروها فجمع ابن الدانشمند جمعا كثيرا ولقي الفرنج وجعل له كمينا وقاتلهم وخرج الكمين عليهم فلم يفلت أحد من الفرنج وكانوا ثلاثمائة ألف غير ثلاثة آلاف هربوا ليلا وأفلتوا مجروحين. وسار ابن الدانشمند إلى ملطية فملكها وأسر صاحبها ثم خرج إليه عسكر الفرنج من أنطاكية فلقيهم وكسرهم وكانت هذه الوقائع في شهور قريبة.
300 ذكر عدة حوادث في هذه السنة زاد أمر العيارين بالجانب الغربي من بغداد في شعبان وعظم ضررهم فأمر الخليفة كمال الدولة يمن بتهذيب البلد فأخذ جماعة من أعيانهم وطلب الباقين فهربوا. وفيها أيضا انحلت الأسعار بالعراق وكان الكر الحنطة قد بلغ سبعين دينارا وربما زاد كثير في بعض الأوقات وانقطعت الأمطار ويبست الأنهار وكثر الموت حتى عجزوا عن دفن الموتى فحمل في بعض الأوقات ستة أموات على نعش واحد وعدمت الأدوية والعقاقير. وفيها في رجب سار بيمند الفرنجي صاحب أنطاكية إلى قلعة أفامية فحصرها وقاتل أهلها أياما وأفسد زروعها ثم رحل عنها. وفيها في آخر رمضان قتل الأمير بلكابك سرمز بأصبهان بدار السلطان محمد وكان كثير الاحتياط من الباطنية لا يفارقه لبس الدرع ومن يمنع عنه ففي ذلك اليوم لم يلبس درعا ودخل دار السلطان في قلة فقتله الباطنية فقتل واحد ونجا آخر. وفيها توفي أبو الحسن البسطامي الصوفي ورباطه مشهور على دجلة غربي بغداد بناه أبو الغنائم بن المحلبان. وفيها مات أبو نصر بن أبي عبد الله بن جرادة، وأصله من عكبرا، وإليه
301 ينسب مسجد ابن جردة وخرابة ابن جرادة ببغداد. وفيها توفي أبو علي يحيى بن جزلة الطبيب وكان نصرانيا فأسلم وهو مصنف كتاب المنهاج. وفيها في شوال توفي عبد الرزاق الصوفي الغزنوي المقيم برباط عتاب وحج عدة حجات على التجريد ولم يخلف ما تكفن فيه فقالت زوجته إذا مت افتضحنا قال لم نفتضح قالت لأنك ليس لك ما تكفن فيه فقال إنما افتضح إذا خلفت ما أكفن فيه. وفيها في رمضان توفي عز الدولة أبو المكارم محمد بن سيف الدولة صدقة بن مزيد.
302 494 ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة ذكر الحرب بين السلطان بركيارق ومحمد وقتل مؤيد الملك في هذه السنة، ثالث جمادى الآخرة، كان المصاف الثاني بين السلطان بركيارق والسلطان محمد، وقد ذكرنا سنة ثلاث وتسعين [وأربعمائة] انهزام السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد وتنقله في البلاد إلى أصبهان وأنه لم يدخلها وسار منها إلى خوزستان وأتى عسكر مكرم فأتاه الأميران زنكي والبكي ابنا برسق وصارا معه وأقام بها شهرين وسار منها إلى همذان فاتصل به الأمير أياز. وكان سبب ذلك أن أميرا آخر قد مات مذ قريب فاتهم أياز مؤيد الملك بأنه سقاه السم وقوي ذلك عنده أن وزير أمير آخر هرب عقيب موته فازداد ظن أياز باتهامه فظفر بالوزير فقتله. وكان أياز قد جعله أمير آخر ولدا واتصل به العسكري ووصى له بجميع ماله فحين استوحش لهذا السبب كاتب السلطان بركيارق واتصل به ومعه خمسة آلاف فارس وصار من جملة عسكره. وسار السلطان محمد إلى لقاء أخيه فلم تقارب العسكران استأمن الأمير سرخاب بن كيخسرو صاحب آوة إلى السلطان بركيارق فأكرمه.
303 ووقع المصاف ثالث جمادى الآخرة وكان مع السلطان بركيارق خمسون ألفا ومع أخيه السلطان محمد خمسة عشر ألفا فالتقوا فاقتتلوا يومهم أجمع وكان النفر بعد النفر يستأمنون من عسكر محمد إلى بركيارق فيحسن إليهم. ومن العجب الدال على الظفر أن رجالة بركيارق احتاجوا إلى تراس فوصل إليه يوم المصاف بكرة اثنا عشر حملا سلاحا من همذان منها ثمانية أحمال تراس ففرقت فيهم فلما وصلت نزل السلطان بركيارق وصلى ركعتين شكرا لله تعالى. ولم يزل القتال بينهم إلى آخر النهار فانهزم السلطان محمد وعسكره وأسر مؤيد الملك أسره غلام لمجد الملك البلاساني وأحضر عند السلطان بركيارق فسبه وأوقفه على ما اعتمده معه من سب والدته مرة ونسبته إلى مذهب الباطنية أخرى ومن حمل أخيه محمد على عصيانه والخروج عن طاعته إلى غير ذلك ومؤيد الملك ساكت لا يعيد كلمة فقتله بركيارق بيده وألقي على الأرض عدة أيام حتى سأل الأمير أياز في دفنه فيه فحمل إلى تربة أبيه بأصبهان فدفن معه. وكان بخيلا، شيء السيرة مع الأمراء، إلا أنه كان كثير المكر والحيل في إصلاح أمر الملك وكان عمره لما قتل نحو خمسين سنة. وكان السلطان بركيارق قد استوزر في صفر الأعراب أبا المحاسن عبد الجليل بن علي الدهستاني فلما قتل مؤيد الملك أرسل الوزير أبو المحاسن رسولا إلى بغداد وهو أبو إبراهيم الأسداباذي لأخذ أموال مؤيد الملك فنزل ببغداد بدار مؤيد الملك وسلم إليه محمد الشرابي وهو ابن خاله مؤيد الملك،
304 فأخذت منه الأموال والجواهر بعد مكروه أصابه وعذاب ناله وأخذ له ذخائر من مواضع أخر ببلاد العجم منها قطعة بلخش وزنها أحد وأربعون مثقالا. ولما فرغ السلطان بركيارق من هذه الرقعة سار إلى الري فوصل إليه هناك قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل ونور دبيس بن صدقة بن مزيد. ذكر حال السلطان محمد بعد الهزيمة واجتماعه بأخيه الملك سنجر لما انهزم السلطان محمد سار طالبا خراسان إلى أخيه سنجر وهما لأم واحدة فأقام بجرجان وراسل أخاه يطلب منه مالا وكسوة وغير ذلك فسير إليه ما طلب وترددت الرسل بينهما حتى تحالفا واتفقا. ولم يكن بقي مع السلطان محمد غير أميرين في نحو ثلاثمائة فارس فلما استقرت القواعد بينهما سار الملك سنجر من خراسان في عساكره نحو أخيه السلطان محمد فاجتمعا بجرجان، وسار منها إلى دامغان فخربها العسكر الخراساني ومضى أهلها هاربين إلى قلعة كردكوه وخرب العسكر ما قدروا عليه من البلاد وعم الغلاء تلك الأصقاع حتى أكل الناس الميتة والكلاب وأكل الناس بعضهم بعضا. وساروا إلى الري فلما وصلوا إليها
305 انضم إليهم النظامية وغيرهم فكثر جمعهم وعظمت شوكتهم وتمكنت من القلوب هيبتهم. ذكر ما فعله السلطان بركيارق ودخوله بغداد لما كان السلطان بركيارق بالري بعد انهزام أخيه محمد اجتمعت عليه العساكر الكثيرة فصار معه نحو مائة فارس ثم إنهم ضاقت عليهم الميرة فتفرقت العساكر فعاد دبيس بن صدقة إلى أبيه وخرج الملك مودود بن إسماعيل بن ياقوتي بأذربيجان فسير إليه قوام الدولة كربوقا في عشيرة آلاف فارس واستأذن الأمير أياز في أن يقصد داره بهمذان يصوم بها شهر رمضان ويعود بعد الفطر فأذن له وتفرقت العساكر لمثل ذلك وبقي في العدد القليل. فلما بلغه أن أخويه قد جمعا الجموع وحشد الجنود وأنهما لما بلغهما قلة من معه جدا في المسير إليه وطويا المنازل ليعاجلاه قبل أن يجمع جموعه وعساكره فلما قارباه سار من مكانه وقد طمع فيه من كان يهابه وأيس منه من كان يرجوه فقصد نحو همذان ليجمع هو وإياز فبلغه أن إياز قد راسل السلطان محمدا ليكون معه ومن جملة أعوانه خوفا على ولايته وهي همذان وغيرها فلما سمع ذل عاد عنها وقصد خوزستان فلما قرب من تستر كاتب الأمراء بني برسق يستدعيهم إليه فلم يحضروا لما علموا أن أياز لم يحضر وللخوف من السلطان محمد، فسار نحو العراق فلما بلغ حلوان أتاه رسول الأمير أياز يسأل التوقف ليصل إليه.
306 وسبب ذلك أن أياز راسل السلطان محمدا في الانضمام إليه والمصير في جملة عسكره فلم يقبله وسير العساكر إلى همذان ففارقها منهزما ولحق بالسلطان بركيارق فأقام السلطان بركيارق بحلوان ووصل إليه أياز وساروا جميعهم إلى بغداد. وأخذ عسكر محمد ما تخلف للأمير أياز بهمذان من مال ودواب وبرك وغير ذلك فإنه أعجل عنه وكان من جملته خمسمائة حصان عربية قيل كان يساوي كل حصان منها ما بين ثلاثمائة دينار إلى خمسمائة دينار ونهبوا داره وصادروا جماعة من أصحابه وصودر رئيس همذان بمائة ألف دينار. لما وصل أياز إلى بركيارق تكاملت عدتهم خمسة آلاف فارس وقد ذهبت خيامهم وثقلهم ووصل بركيارق إلى بغداد سابع عشر ذي القعدة وأرسل الخليفة إلى طريقه أمين الدولة بن موصلايا يلتقيه في الموكب، ولما كان عيد الأضحى أنفذ الخليفة منبرا إلى دار السلطان وخطب عليه الشريف أبو الكرم وصلى صلاة العيد ولم يحضر بركيارق لأنه كان مريضا. وضاقت الأموال على بركيارق فلم يكن عنده ما يخرجه على نفسه وعلى عساكره فأرسل إلى الخليفة يشكو الضائقة وقلة المال ويطلب أن يعان بما يخرجه فتقرر الأمر بعد المراجعات على خمسين ألف دينار حملها الخلفية إليه ومد بركيارق وأصحابه أيديهم إلى أموال الناس فعم ضررهم وتمنى أهل البلاد زوالهم عنهم، ودعتهم الضرورة إلى أن ارتكبوا خطة شنعاء وذلك أنه قدم عليهم أبو محمد عبد الله بن منصور المعروف بابن صليحة،
307 قاضي جبلة من بلاد الشام وصاحبها منهزما من الفرنج على ما نذكره ومعه أموال جليلة المقدار فأخذوها منه. ذكر خلاف صدقة بن مزيد على بركيارق في هذه السنة خرج الأمير صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد صاحب الحلة عن طاعة السلطان بركيارق وقطع خطبته من بلاده وخطب فيها للسلطان محمد. وسبب ذلك أن الوزير الأعز أبا المحاسن الدهستاني وزير السلطان بركيارق أرسل إلى صدقة يقول له قد تخلف عندك لخزانة السلطان ألف ألف دينار وكذا دينارا لسنين كثيرة فإن أرسلتها وإلا سيرنا العساكر إلى بلادك وأخذناها منك فلما سمع هذه الرسالة قطع الخطبة وخطب لمحمد فلما وصل السلطان بركيارق إلى بغداد على هذه الحالة أرسل إليه مرة بعد مرة يدعوه إلى الحضور عنده فلم يجب إلى ذلك فأرسل إليه الأمير أياز يشير عليه بقصد خدمة السلطان ويضمن له كل ما يريده فقال لا أحضر ولا أطيع السلطان إلا إذا سلم وزيره أبا المحاسن إلي وإن لم يفعل فلا يتصور مني الحضور عنده أبدا ويكون في ذلك ما يكون فإن سلمه إلي فأنا العبد المخلص في العبودية بالحسن والطاعة. فلم يجب إلى ذلك فتم على مقاطعته وأرسل إلى الكوفة وطرد عنها النائب بها عن السلطان واستضافها إليه.
308 ذكر وصول السلطان محمد إلى بغداد ورحيل السلطان بركيارق عنها في هذه السنة في السابع والعشرين [من] ذي الحجة وصل السلطان محمد وسنجر إلى بغداد وكان السلطان محمد لما استولى على همذان وغيرها سار إلى بغداد فلما وصل إلى حلوان سار إليه إيلغازي بن أرتق في عساكره وخدمه وأحسن في الخدمة وكان عسكر محمد يزيد على عشرة آلاف فارس سوى الأتباع. فلما وصلت الأخبار بذلك كان بركياق على شدة من المرض يرجف عليه خواصه بكرة وعشيا فماج أصحابه وخافوا واضطربوا وحاروا وعبروا به في محفة إلى الجانب الغربي فنزلوا بالرملة ولم يبق في بركيارق غير روح يتردد وتيقن أصحابه موته وتشاوروا في كفنه وموضع دفنه. فبينما هم كذلك غذ قال لهم إني أجد نفسي قد قويت وحركتي قد تزايدت فطابت نفوسهم وساروا وقد وصل العسكر الآخر فتراءى الجمعان بينهما دجلة وجرى بينهما مراماة وسباب وكان أكثر ما يسبهم عسكر محمد يا باطنية يعيرونهم بذلك ونهبوا البلاد في طريقهم إلى أن وصلوا إلى واسط. ووصل السلطان محمد إلى بغداد فنزل بدار المملكة فبرز إليه توقيع الخليفة المستظهر بالله يتضمن الامتعاض من سوء سيرة بركيارق ومن معه،
309 والاستبشار بقدومه، وخطب له بالديوان ونزل الملك سنجر بدار كوهرائين وكان محمد قد استوزر بعد مؤيد الملك خطير الملك أبا منصور محمد بن الحسين وقدم إليه في المحرم سنة خمس وتسعين [وأربعمائة] الأمير سيف الدولة صدقة وخرج الخلق كلهم إلى لقائه. ذكر حال قاضي جبلة هو أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة وكان والده رئيسها أيام كان الروم مالكين لها على المسلمين يقضي بينهم فلما ضعف أمر الروم وملكها المسلمون وصارت تحت حكم جلال الملك أبي الحسن علي بن عمار صاحب طرابلس كان منصور على عادته في الحكم فيها فلما توفي منصور قام ابنه أبو محمد مقامه وأحب الجندية واختار الجند فظهرت شهامته فأراد ابن عمار أن يقبض عليه فاستشعر منه وعصى عليه وأقام الخطبة العباسية فبذل ابن عمار لدقاق بن تتش مالا ليقصده ويحصره ففعل وحصره فلم يظفر منه بشيء وأصيب صاحبه أتابك طغتكين بنشابة في ركبته وبقي أثرها. وبقي أبو محمد بها مطاعا إلى أن جاء الفرنج لعنهم الله فحصروها فأظهر أن السلطان بركيارق قد توجه إلى الشام وشاع هذا فرحل الفرنج فلما تحققوا اشتغال السلطان عنهم عاودوا حصاره فأظهر أن المصريين قد توجهوا لحربهم فرحلوا ثانيا ثم عادوا فقرر مع النصارى الذين بها أن
310 يرسلوا الفرنج ويواعدهم إلى برج من أبراج البلدة ليسلموه إليهم ويملكوا البلد فلما أتتهم الرسالة جهزوا ثلاثمائة رجل من أعيانهم وشجعانهم فتقدموا إلى ذلك البرج فلم يزالوا يرقون في الجبال واحدا بعد واحد وكلما صار عند ابن صليحة وهو على السور رجل منهم قتله إلى أن قتلهم أجمعين فلما صار عند ابن صليحة وهو على السور رجل منهم قتله إلى أن قتلهم أجمعين فلما أصبحوا رمى الرؤوس إليهم فرحلوا عنه. وحصروه مرة أخرى ونصبوا على البلد برج خشب وهدموا برجا من أبراجه وأصبحوا وقد بناه أبو محمد ثم نقب في السور نقوبا وخرج من الباب وقاتلهم فانهزم منهم وتبعوه فخرج أصحابه من تلك النقوب فأتوا الفرنج من ظهورهم فولوا منهزمين وأسر مقدمهم المعروف بكند اصطبل فافتدى نفسه بمال جزيل. ثم علم أنهم لا يقعدون عن طلبه وليس له من يمنعهم عنه فأرسل إلى طغتكين أتابك يلتمس منه إنفاذ من يثق به ليسلم إليه ثغر جبلة ويحميه ليصل هو إلى دمشق بماله وأهله فأجابه إلى ما التمس وسير ولده الملوك بوري فسلم إليه البلد ورحل إلى دمشق وسأله أن يسيره إلى بغداد ففعل وسيره ومعه من يحميه إلى أن وصل الأنبار. ولما صار بدمشق أرسل ابن عمار صاحب طرابلس إلى الملك دقاق وقال سلم إلي ابن صليحة عريانا وخذ ماله أجمع وأنا أعطيك ثلاثمائة ألف دينار فلم يفعل فلما وصل إلى الأنبار أقام بها أياما ثم سار إلى بغداد وبها السلطان بركيارق، فلما وصل أحضره الوزير الأعز أبو المحاسن عنده،
311 وقال له السلطان محتاج والعساكر يطالبونه بما ليس عنده ونريد منك ثلاثين ألف دينار وتكون لك منة عظيمة تستحق بها المكافأة والشكر فقال السمع والطاعة ولم يطلب أن يحط شيئا وقال إن رحلي ومالي في الأنبار بالدار التي نزلتها فأرسل الوزير إليها جماعة فوجدوا فيها مالا كثيرا وأعلاقا نفيسة فمن جملة ذلك ألف ومائة مصاغا عجيب الصنعة ومن الملابس والعمائم التي لا يوجد مثلها شيء كثير. كان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث التي بعد انهزام السلطان محمد إلى ههنا بعد قتل الباطنية فإنها كانت أواخر السنة وكان قتلهم في شعبان وإنما قدمناها لنتبع بعض الحادثة بعضا لا يفصل بينها شيء. وأما تاج الملوك بوري فإنه لما ملك جبلة وتمكن منها أساء السيرة هو وأصحابه مع أهلها وفعلوا بهم أفعالا أنكروها فراسلوا القاضي فخر الملك أبا علي عمار بن محمد بن عمار صاحب طرابلس وشكوا إليه ما يفعل بهم وطلبوا منه أن يرسل إليهم بعض أصحابه ليسلموا إليه البلد ففعل ذلك سير إليهم عسكر فدخلوا جبلة واجتمعوا بأهلها وقاتلوا تاج الملوك ومن معه فانهزم الأتراك وملك عسكر بن عمار جبلة وأخذوا تاج الملوك أسيرا وحملوه إلى طرابلس فأكرمه ابن عمار وأحسن إليه وسيره إلى أبيه بدمشق واعتذر إليه صورة الحال وأنه خاف أن يملك الفرنج جبلة.
312 ذكر قتل الباطنية في هذه السنة في شعبان أمر السلطان بركيارق بقتل الباطنية وهم الإسماعيلية وهم الذين كانوا قديما يسمون قرامطة، ونحن نبتدئ بأول أمرهم الآن ثم بسبب قتلهم. فأول ما عرف من أحوالهم أعني هذه الدعوة الأخيرة التي اشتهرت بالباطنية والإسماعيلية في أيام السلطان ملكشاه فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلا فصلوا صلاة العيد في ساوة ففطن بهم الشحنة فأخذهم وحبسهم ثم سئل فيهم فأطلقهم فهذا أول اجتماع كان لهم. ثم إنهم دعوا إنهم دعوا مؤذنا من أهل ساوة كان مقيما بأصبهان فلم يحبهم إلى دعوتهم فخافوه أن ينم عليهم فقتلوه فهو أول قتيل لهم وأول دم أراقوه فبلغ خبره إلى نظام الملك فأمر بأخذ من يتهم بقتله فوقعت التهمة على نجار اسمه طاهر فقتل ومثل به وجروا برجله في الأسواق فهو أول قتيل منهم وكان والده واعظا. وقدم إلى بغداد مع السلطان بركيارق سنة ست وثمانين [وأربعمائة] فحظي منه ثم قصد البصرة فولي القضاء بها ثم توجه في رسالة إلى كرمان فقتله العامة في الفتنة التي جرت وذكروا أنه باطني. ثم إن الباطنية قتلوا نظام الملك وهي أول فتكة مشهورة كانت لهم وقالوا قتل نجارا فقتلناه به.
313 وأول موضع غلبوا وتحصنوا به بلد عند قاين كان متقدمه على مذهبهم فاجتمعوا عنده وقووا به فاجتازت بهم قافلة عظيمة من كرمان إلى قاين فخرج عليهم ومعه أصحابه والباطنية فقتل أهل القفل أجمعين ولم ينج منهم غير رجل تركماني فوص إلى قاين فأخبر بالقصة، فتسارع أهلها مع القاضي الكرماني إلى جهادهم فلم يقدروا عليهم. ثم قتل نظام الملك ومات السلطان ملكشاه فعظم أمرهم واشتدت شوكتهم وقويت أطماعهم. وكان سبب قوتهم بأصبهان أن السلطان بركيارق لما حصر أصبهان وبها أخوه محمود وأمه خاتون الجلالية وعاد منهم ظهرت مقالة الباطنية بها وانتشرت وكانوا متفرقين في المحال فاجتمعوا وصاروا يسرقون من قدروا عليه من مخالفيهم ويقتلونهم فعلوا هذا بخلق كثير وزاد الأمر حتى أن الإنسان كان إذا تأخر عن بيته عن الوقت المعتاد تيقنوا قتله وقعدوا للعزاء به فحذر الناس وصاروا لا ينفرد أحد, أخذوا في بعض الأيام مؤذنا أخذه جار له باطني فقام أهله للنياحة عليه فأصعده الباطنية إلى سطح داره وأروه أهله كيف يلطمون ويبكون وهو لا يقدر [أن] يتكلم خوفا منهم. ذكر ما فعل بهم العامة بأصبهان لما عمت هذه المصيبة الناس بأصبهان أذن الله تعالى في هتك أستارهم والانتقام منهم فاتفق أن رجلا دخل دار صديق له فرأى فيها ثيابا،
314 ومداسات وملابس لم يعهدها فخرج من عنده وتحدث بما كان فكشف الناس عنها فعلموا أنه من المقتولين. وثار الناس كافة يبحثون عمن قتل منهم ويستكشفون فظهروا على الدروب التي هم فيها وأنهم كانوا إذا اجتاز بهم إنسان أخذوه إلى دار منها وقتلوه وألقوه في بئر في الدار قد صنعت لذلك. وكان على باب درب منها رجل ضرير فإذا اجتاز به إنسان يسأله أن يقوده خطوات إلى باب الدرب فيفعل ذلك فإذا دخل الدرب أخذ وقتل فتجرد للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي الفقيه الشافعي وجمع الجم الغفير بالأسلحة وأمر بحفر أخاديد وأوقد النيران وجعل العامة يأتون بالباطنية أفواجا ومنفردين فيلقون في النار وجعلوا إنسانا على أخاديد النيران وسموه مالكا فقتلوا منهم خلقا كثيرا. ذكر قلاعهم التي استولوا عليها ببلاد العجم واستولوا على عدة حصون منها قلعة أصبهان وهذه القلعة لم تكن قديما وإنما بناها السلطان ملكشاه. وسبب بنائها أنه كان قد أتاه رجل من مقدمي الروم فأسلم وصار وعه فاتفق أنه سار يوما إلى الصيد فهرب منه كلب حسن الصيد وصعد
315 هذا الجبل فتبعه السلطان والرومي معه فوجده موضع القلعة فقال له الرومي لو أن عندنا مثل هذا الجبل لجعلنا عليه حصنا ننتفع به فأمر ببناء القلعة ومنع منها نظام الملك فلم يقبل قوله فلما فرغت جعل فيها دزدارا. فلما انقضت أيام السلطان ملكشاه وصارت أصبهان بيد خاتون أزالت الدزدار وجعلت غيره فيها وهو إنسان ديلمي اسمه زيار فمات وصار بالقلعة غسان خوزي فاتصل به أحمد بن عطاش وكان الباطنية قد ألبسوه تاجا وجمعوا له أموالا وقدموه عليهم مع جهله وإنما كان أبوه مقدما فيهم فلما اتصل بالدزدار بقي معه ووثق به وقلده الأمور فلما توفي الدزدار استولى أحمد بن عطاش عليها ونال المسلمين منه ضرر عظيم من أخذ الأموال وقتل النفوس وقطع الطريق الخوف الدائم فكانوا يقولون إن قلعة يدل عليها كلب ويشير بها كافر لا بد وأن يكون خاتمه أمرها الشر. ومنها الموت وهي من نواحي قزوين قيل إن ملكا من ملوك الديلم كان كثير التصيد فأرسل يوما عقابا وتبعه فرآه قد سقط على موضع هذه القلعة فوجده موضعا حصينا فأمر ببناء قلعة عليه فسماها إله موت ومعناه بلسان الديلم تعليم العقاب ويقال لذلك الموضع وما يجاوره طالقان. وفيها قلاع حصينة أشهرها الموت، وكانت هذه النواحي في ضمان شرفشاه الجعفري وقد استناب فيها رجلا علويا فيه بله وسلامة صدر. وكان الحسن بن الصباح رجلا شهما كافيا عالما بالهندسة والحساب والنجوم والسحر وغير ذلك وكان رئيس الري غسان يقال له أبو مسلم وهو صهر نظام الملك فاتهم الحسن بن الصباح بدخول جماعة من دعاة
316 المصريين عليه فخافه ابن الصباح وكان نظام الملك يكرمه وقال له يوما من طريق الفراسة عن قريب يضل هذا الرجل ضعفاء العوام، فلما هرب الحسن من أبي مسلم طلبه فلم يدركه. وكان الحسن من جملة تلامذة ابن عطاش الطبيب الذي ملك قلعة أصبهان ومضى ابن الصباح فطاف البلاد ووصل إلى مصر ودخل على المستنصر صاحبها فأكرمه وأعطاه مالا وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته فقال له الحسن فمن الإمام بعدك فأشار إلى ابنه نزار وعاد من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر والروم ورجع إلى خراسان ودخل كاشغر وما وراء النهر يطوف على قوم يضلهم فلما رأى قلعة الموت واختبر أهل تلك النواحي أقام عندهم وطمع في إغوائهم ودعاهم في السر وأظهر الزهد ولبس المسح فتبعه أكثرهم والعلوي صاحب القلعة حسن الظن فيه يجلس إليه يتبرك به فلما أحكم الحسن أمره دخل يوما على العلوي بالقلعة فقال له ابن الصباح اخرج من هذه القلعة فتبسم العلوي وظنه يمزح فأمر ابن الصباح بعض أصحابه بإخراج العلوي فأخرجوه إلى دامغان وأعطاه ماله وملك القلعة. ولما بلغ الخبر إلى نظام الملك بعث عسكرا إلى قلعة الموت فحصروه فيها وأخذوا عليه الطرق فضاق ذرعه بالحصر فأرسل من قتل نظام الملك فلما قتل رجع العسكر عنها. ثم إن السلطان محمد بن ملكشاه جهز نحوها العساكر فحصرنا وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
317 ومنها طبس وبعض قهستان وكان سبب ملكهم لها أن قهستان كان قد بقي فيها بقايا من بني سيمجور أمراء خراسان أيام السامانية وكان قد بقي من نسلهم رجل يقال له المنور وكان رئيسا مطاعا عند الخاصة والعامة فلما ولي كلسارغ قهستان ظلم الناس وعسفهم وأراد أختا للمنور بغير حل فحمل ذلك المنور على أن التجأ إلى الإسماعيلية وصار معهم فعظم حالهم في قهستان واستولوا عليها ومن جملتها خور وخوسف وزوزن وقاين وتون وتلك الأطراف المجاورة لها. ومنها قلعة وسنمكوه ملكوها وهي بقرب أبهر سنة أربع وثمانين [وأربعمائة] وتأذى بهم الناس لا سيما أهل أبهر فاستغاثوا بالسلطان بركيارق فجعل عليها من يحاصرها فحوصرت ثمانية أشهر وأخذت منهم سنة تسع وثمانين [وأربعمائة]، وقتل كل من بها عن آخرهم. ومنها قلعة خالنجان على خمسة فراسخ من أصبهان كانت لمؤيد الملك بن نظام الملك وانتقلت إلى جاولي سقاووا فجعل بها إنسانا تركيا فصادقه نجار باطني وأهدى له هدية جميلة ولزمه حتى وثق به وسلم إليه مفاتيح القلعة فعمل دعوة للتركي وأصحابه فسقاهم الخمر فأسكرهم واستدعى ابن عطاش فجاء في جماعة من أصحابه فسلم إليهم القلعة فقتلوا من بها سوى التركي فإنه هرب؛ وقوي ابن عطاش بها وصار له على أهل أصبهان القطائع الكثيرة. ومن قلاعهم المذكورة أستوناوند وهي بين الري وآمل ملوكها بعد ملكشاه نزل منها صاحبها فقتل وأخذت منه. ومنها أردهن وملكها أبو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصباح.
318 ومنها كردكوه وهي مشهورة. ومنها قلعة الناظر بخوزستان وقلعة الطنبور وبينها وبين أرجان فرسخان أخذها أبو حمزة الإسكاف وهو من أهل أرجان سافر إلى مصر وعاد داعية لهم. وقلعة خلادخان وهي بين فارس وخوزستان وأقام بها المفسدون نحو مائتي سنة يقطعون الطريق حتى فتحها عضد الدولة بن بويه وقتل من بها. فلما صارت الدولة لملكشاه أقطعها الأمير أنر فجعل بها دارا فأنفذ إليه الباطنية الذين بأرجان يطلبون منه بيعها فأبى فقالوا نحن نرسل إليك من يناظرك حتى يظهر لك الحق فأجابهم إلى ذلك فأرسلوا إليه إنسانا ديلميا يناظره وكان للدزدار مملوك قد رباه وسلم إليه مفاتيح القلعة فاستماله الباطني فأجابه إلى القبض على صاحبه وتسليم القلعة إليهم فقبض عليه وسلم القلعة إليهم ثم أطلقه واستولوا بعد ذلك على عدة قلاع هذه أشهرها. ذكر ما فعله جاولي سقاووا بالباطنية في هذه السنة قتل جاولي سقاووا خلقا كثيرا منهم. وسبب ذلك أن هذا الأمير كانت ولايته التي بين رامهرمز وأرجان.
319 فلما ملك الباطنية القلاع المذكورة بخوزستان وفارس وعظم شرهم وقطعوا الطريق بتلك البلاد واقف جماعة من أصحابه حتى أظهروا الشغب عليه وفارقوه وقصدوا الباطنية أنهم معهم وعلى رأيهم فأقاموا عندهم حتى وثقوا بهم. ثم أظهر جاولي أن الأمراء بني برسق يريدون قصده وأخذ بلاده وأنه عازم على مفارقتها لعجزه عنهم والمسير إلى همذان فلما ظهر ذلك وسار قال من عند الباطنية من أصحابه [ممن] لهم الرأي أننا نخرج إلى طريقه ونأخذه وما معه من الأموال فساروا إليه في ثلاثمائة من أعيانهم وصناديدهم فلما التقوا صار من معهم من أصحاب جاولي عليهم ووضعوا السيف فيهم فلم يفلت منهم سوى ثلاثة نفر صعدوا إلى الجبل وهربوا وغنم جاولي ما معهم من دواب وسلاح وغير ذلك. ذكر قتل صاحب كرمان الباطني وملك غيره كان تيرانشاه بن قاورت بك هو الذي قتل الأتراك الإسماعيلية وليسوا منسوبين إلى هذه الطائفة الباطنية إنما نسبوا إلى أمير اسمه إسماعيل وكانوا من أهل السنة قتل منهم الفي رجل صبرا وقطع أيدي ألفين ونفق عليه إنسان يقال له أبو زرعة، كان كاتبا بخوزستان،
320 فحسن له مذهب الباطنية فأجاب إليه. وكان عنده فقيه حنفي يقال له أحمد بن الحسين البلخي كان مطاعا في الناس فأحضره عنده ليلا وأطال الجلوس معه فلما خرج من عنده أتبعه بمن قتله فلما أصبح الناس دخلوا عليه وفيهم صاحب جيشه فقال لتيرانشاه أيها الملك من قتل هذا الفقيه أيها الملك من قتل هذا الفقيه؟ فقال أنت شحنة البلد تسألني من قتله! فقال أنا أعرف قاتله ونهض من عنده ففارقه في ثلاثمائة فارس وسار إلى أصبهان فأرسل في أثره ألفي فارس ليردوه فقاتلهم وهزمهم وصار إلى أصبهان وبها السلطان محمد ومؤيد الملك فأكرمه السلطان وقال أنت والد الملوك. وامتعض عسكر كرمان بعد مسيره واجتمعوا وقاتلوا تيرانشاه وأخرجوه عن مدينة بردسير التي هي مدينة كرمان فلما فارقها اتفق القاضي والجند وأقاموا أرسلانشاه بن كرمانشاه بن قاورت بك وسار تيرانشاه إلى مدينة بم من كرمان فحاربه أهلها ومنعوه منها وأخذوا ما معه من أموال وجواهر وقصد قلعة سميرم وتحصن بها وفيها أمير يعرف بمحمد بهستون فأرسل أرسلانشاه جيشا حصروا القلعة فقال محمد بهستون لتيرانشاه انصرف عني فلست أرى الغدر بك وأنا رجل مسلم ومقامك عندي يؤذيني وأتهم بك في ديني فلما عزم على الخروج أرسل محمد بهستون إلى مقدم الجيش الذين يحاصرونهم يعلمه بمسير تيرانشاه فجرد عسكرا إلى طريقه فخرجوا عليه وأخذوه وما معه وأخذوا أيضا أبا زرعة فأرسل أرسلانشاه فقتلهما وتسلم جميع بلاد كرمان.
321 ذكر السبب في قتل بركيارق الباطنية لما اشتد أمر الباطنية وقويت شوكتهم وكثر عددهم صار بينهم وبين أعدائهم ذحول وإحن فلما قتلوا جماعة من الأمراء الأكابر وكان أكثر من قتلوا من هو في طاعة محمد مخالف للسلطان بركيارق مثل شحنة أصبهان سرمز وأرغش وكمش النظاميين وصهره وغيرهم نسب أعداء بركيارق ذلك غيه واتهموه بالميل إليهم. فلما ظفر السلطان بركيارق وهزم أخاه السلطان محمدا وقتل مؤيد الملك وزيره انبسط جماعة منهم في العسكر واستغووا كثيرا وأدخلوهم في مذهبهم وكادوا يظهرون بالكثرة والقوة وحصل العسكر منهم طائفة من وجوههم وزاد أمرهم فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل فصار يخافهم من يخالفهم حتى أنهم لم يتجاسر أحد منهم لا أمير ولا متقدم على الخروج من منزله حاسرا بل يلبس تحت ثيابه درعا حتى أن الوزير الأعز أبا المحاسن كان يلبس زردية تحت ثيابه واستأذن السلطان بركيارق خواصه في الدخول عليه بسلاحهم واستأذن السلطان بركيارق خواصه في الدخول عليه بسلاحهم وعرفوه خوفهم ممن يقاتلهم فأذن لهم في ذلك. وأشاروا على السلطان أن يفتك بهم قبل أن يعجز عن تلافي أمرهم وأعلموه ما يتهمه الناس به من الميل إلى مذهبهم حتى أن عسكر أخيه السلطان محمد يشنعون بذلك وكانوا في المصاف يكبرون عليهم ويقولون يا باطنية فاجتمعت هذه البواعث كلها فأذن السلطان في قتلهم والفتك بهم وركب
322 هو والعسكر معه وطلبوهم وأخذوا جماعة من خيامهم ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف. وكان ممن اتهم بأنه مقدمهم الأمير محمد بن دشمنزيار بن علاء الدولة أبي جعفر كاكويه صاحب يزد فهرب وسار يومه وليلته فلما كان اليوم الثاني وجد في العسكر قد ضل الطريق ولا يشعر فقتل وهذا موضع المثل أتتك بخائن رجلاه ونهب خيامه فوجد عنده السلاح المعد وأخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقتلوا وقتل منهم جماعة براء لم يكونوا منهم سعى بهم أعداؤهم، وفيمن قتل ولد كيقباذ مستحفظ تكريت فلم يغير والده خطبة بركيارق ولكن شرع في تحصين القلعة وعمارتها ونقض جامع البلد وكان يقاربها لئلا يؤتى منه وجعل بيعة في البلد جامعا وصلى الناس فيه. وكتب إلى بغداد بالقبض على أبي إبراهيم الأسداباذي الذي كان قد وصل إليها رسولا من بركياق ليأخذ مال مؤيد الملك وكان من أعيانهم ورؤوسهم فأخذ وحبس فلما أرادوا قتله قال هبوا أنكم قتلتموني أتقدرون على قتل من بالقلاع والمدن فقتل ولم يصل عليه أحد وألقي خارج السور وكان له ولد كبير قتل بالعسكر معهم. وقد كان أهل عانة نسبوا إلى هذا المذهب قديما فأنهي حالهم إلى الوزير أبي شجاع أيام المقتدي بأمر الله فأحضرهم إلى بغداد فسئل مشايخهم عن الذي يقال فيهم فأنكروا وجحدوا فأطلقهم. واتهم أيضا الكيا الهراس المدرس بالنظامية بأنه باطني ونقل ذلك عنه إلى السلطان محمد فأمر بالقبض عليه فأرسل المستظهر بالله من استخلصه وشهد له بصحة الاعتقاد وعلو الدرجة في العلم فأطلق.
323 ذكر حصر الأمير بزغش قهستان وطبس في هذه السنة جمع الأمير بزغش وهو أكبر أمير مع السلطان سنجر جموعا كثيرة وقواهم بالمال والسلاح وسار إلى بلد الإسماعيلية فنهبه وخربه وقتل فيهم فأكثر وحصر طبس وضيق عليها بالمنجنيق فخرب كثيرا من سورها وضعف من بها ولم يبق إلا أخذها فأرسلوا إليه الرشا الكثيرة واستنزلوه عما كان يريده منهم فرحل عنهم وتركهم فعادوا عمارة ما انهدم من سورها وملؤوها ذخائر من سلاح وأقوات وغير ذلك ثم عاودهم بزغش سنة سبع وتسعين [وأربعمائة] فكان ما نذكره عن شاء الله تعالى. ذكر ما ملك الفرنج من الشام فيها سار كندفري ملك الفرنج بالشام وهو صاحب البيت المقدس إلى مدينة عكا بساحل الشام فحصرها فأصابه سهم فقتله. وكان قد عمر مدينة يافا وسلمها إلى قمص من الفرنج اسمه طنكري فلما قتل كندفري سار أخوه بغدوين إلى البيت المقدس في خمسمائة فارس وراجل فبلغ الملك دقاق صاحب دمشق خبره فنهض إليه في عسكره ومعه الأمير جناح الدولة في جموعه فقاتله فنصر على الفرنج. وفيها ملك الفرنج مدينة سروج منن بلاد الجزيرة وسبب ذلك أن الفرنج كانوا قد ملكوا مدينة الرها بمكاتبة من أهلها لأن أكثرهم أرمن وليس بها
324 من المسلمين إلا القليل فلما كان الآن جمع سقمان بسروج جمعا كثيرا من التركمان وزحف إليهم فلقوه وقاتلوه فهزموه في ربيع الأول فلما تمت الهزيمة على المسلمين سار الفرنج إلى سروج فحصروها وتسلموها وقتلوا كثيرا من أهلها وسبوا حريمهم ونهبوا أموالهم ولم يسلم إلا من مضر منهزما. وفيها ملك الفرنج مدينة حيفا وهي بالقرب من عكة على ساحل البحر ملكوها عنوة وملكوا أرسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها. وفيها في رجب ملكوا مدينة قيسارية بالسيف وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في شهر رمضان قدم الخلفية المستظهر بالله بفتح جامع القصر وأن يصلي فيه صلاة التراويح ولم يكن جرت بذلك عادة وأمر بالجهر ببسم الله الرحمن الرحيم هذا أيضا لم تجربه عادة وإنما ترك الجهر بالبسملة في جوامع بغداد لأن العلويين أصحاب مصر كانوا يجهرون بها فترك ذلك مخالفة لهم لا اتباعا لمذهب أحمد الإمام وأمر أيضا بالقنوت على مذهب الشافعي فلما كانت الليلة التاسعة والعشرون ختم في جامع القصر وازدحم الناس عنده وكان زعيم الرؤساء أوب القاسم علي بن فخر الدولة بن جهير أخو عميد الدولة قد أطلق من الاعتقال فاختلط بالناس وخرج إلى ظاهر بغداد من ثلة في السور وسار إلى سيف الدولة صدقة بن مزيد،
325 فاستقبله وأنزله وأكرمه. وفيها في المحرم توفي جمال الدولة أبو نصر ابن رئيس الرؤساء ابن المسلمة وهو أستاذ دار الخلفية. وفيه توفي القاضي أحمد بن محمد بن عبد الواحد أو منصور بن الصباغ الفقيه الشافعي وأخذ الفقه عن ابن عمه الشيخ أبي نصر بن الصباغ وكان يصوم الدهر وروى الحديث عن القاضي أبي الطيب الطبري وغيره. وفيه توفي شرف الملك أبو سعد محمد بن منصور المستوفي الخوارزمي بأصبهان وكان مستوفيا في ديوان السلطان ملكشاه فبذل مائة ألف دينار حتى ترك الاستيفاء وبنى مشهدا على قبر أبي حنيفة رحمة الله عليه ومدرسة بباب الطاق ومدرسة بمرو جميعها للحنفيين. وفيها في صفر توفي القاضي أبو المعالي عزيزي وكان شافعيا أشعريا وهو من جيلان وله مصنفات كثيرة حسنة وكان ورعا مع أهل باب الأزج أخبار ظريفة وكان قاضيا عليهم وكانوا يبغضونه ويبغضهم. وتوفي أسعد بن مسعود بن علي بن محمد أبو إبراهيم العتبي من ولد عتبة بن غزوان نيسابوري ولد سنة أربع وأربعمائة وروى عن أبي بكر الحميري وغيره. وتوفي في صفر محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طوق أبو الفضائل الربعي الموصلي الفقيه الشافعي تفقه على أبي إسحاق الشيرازي؛
326 وسمع الحديث من أبي الطيب الطبري وغيره وكان ثقة صالحا. وتوفي في ربيع الأول منها محمد بن علي بن عبيد الله بن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان أبو نصر القاضي الموصلي وهو صاحب الأربعين الودعانية وقد تكلموا فيها فقيل إنه سرقها وكانت تصنيف زيد بن رفاعة الهاشمي والغالب على حديثه المناكير. وتوفي فيها في ربيع الأول نصر بن أحمد بن عبد الله بن البطر القاري أبو الخطاب ومولده سنة وتسعين وثلاثمائة سمع ابن رزقويه وغيره وصارت إليه الرحلة لعلو إسناده وكان سماعه صحيحا.
327 495 ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة ذكر وفاة المستعلي بالله وولاية الأمر بأحكام الله في هذه السنة توفي المستعلي بالله العلوي الخليفة المصري لسبع عشرة خلت من صفر وكان مولده في العشرين من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وكانت خلافته سبع سنين وقريب من شهرين وكان المدير لدولته الأفضل. ولما توفي ولي بعده ابنه أبو علي المنصور ومولده ثالث عشر المحرم سنة تسعين وأربعمائة وبويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبوه وله خمس سنين وشهر وأربعة أيام ولقب الآمر بأحكام الله ولم يكن [بين] بالخلافة قط أصغر منه ومن المستنصر وكان المستنصر أكبر من هذا ولم يقدر [أن] يركب وحده على الفرس لصغر سنه وقام بتدبير دولته الأفضل ابن أمير الجيوش أحسن قيام ولم يزل كذلك يدبر الأمر إلى أن قتل سنة خمس عشرة وخمسمائة.
328 ذكر الحرب بين السلطان بركياق والسلطان محمد والصلح بينهما في هذه السنة في صفر كان المصاف الثالث بين السلطان بركيارق ومحمد. قد ذكرنا سنة أربع وتسعين [وأربعمائة] قدوم السلطان محمد إلى بغداد ورحيل السلطان بركيارق عنها إلى واسط مريضا فأقام السلطان محمد ببغداد إلى سابع عشر المحرم من هذه السنة وسار عنها هو وأخوه السلطان سنجر يقصد خراسان والسلطان محمد يقصد همذان. فلما سار محمد عن بغداد وصلت الأخبار أن بركيارق قد اعترض خاص الخليفة بواسط وسمع منه في حق الخليفة ما يقبح نقله فأرسل الخليفة وأعاد السلطان محمدا إلى بغداد وذكر له ما نقل إليه عزم على الحركة مع محمد إلى قتال بركيارق فقال السلطان محمد لا حاجة إلى حركة أمير المؤمنين فإني أقوم في هذا القيام المرضي وسار عائدا ورتب ببغداد أبا المعالي المفضل بن عبد الرزاق في جباية الأموال وإيلغازي شحنة. وكان لما دخل بغداد قد خلف عسكره بطريق خراسان فنهبوا البلاد وخربوها فأخذهم السلطان محمد معه وجد السير إلى روذراور. وأما السلطان بركيارق فقد تقدم سنة أربع وتسعين [وأربعمائة] أنه سار من بغداد عند وصول محمد إليه قاصدا إلى واسط فلما سمع عسكر واسط
329 بقربه منهم خافوا منه وأخذوا نساءهم وأولادهم وأموالهم وجمعوا السفن جميعها وانحدروا إلى الزبيدية فأقاموا هناك. ووصل السلطان وهو شديد المرض يحمل في محفة وقد هلك من دواب عسكره ومتاعهم الكثير فإنهم كانوا يجدون السير خوفا أن يتبعهم السلطان محمد أو الأمير صدقة صاحب الحلة فكانوا كلما جاوزوا قنطرة هدموها ليمتنع من يجتاز بها من اتباعهم. ولما وصلوا إلى واسط عوفي بركيارق ولم يكن له ولأصحابه همة غير العبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فلم يجد هناك سفينة وكان الزمان شاتيا شديد البرد والماء زائدا وكان أهل البلد قد خافوهم فلزموا الجامع فخلت الطرق والأسواق من مجتاز فيها فخرج القاضي أبو علي الفارقي إلى العسكر واجتمع إلى الأمير أياز والوزير واستعطفهما للخلق وطلب إنفاذ شحنة لتطمئن القلوب فأجابوه إلى ملتمسه وقالوا له نريد أن تجمع لنا منن بعير دوابنا في الماء ونسبح معها فجمع لهم من شباب واسط وأعطاهم الأجرة الوافرة فعبروا دوابهم من الخيل والبغال والجمال وكان الأمير أياز بنفسه يسوق الدواب ويفعل ما يفعله الغلمان ولم يكن معهم غير سفينة واحدة انحدرت مع السلطان من بغداد فعبروا أموالهم ورحالهم فيها فلما صاروا في الجانب الشرقي اطمأنوا ونهب العسكر البلد فرجع القاضي وجدد الخطاب في الكف عنهم فأجيب إلى ذلك فأرسل معه من يمنع من النهب.
330 ثم أن عسكر واسط أرسلوا إلى بركيارق يطلبون الأمان ليحضروا لخدمة السلطان فأمنهم فحضر أكثرهم عنده وساروا معه إلى بلاد بني برسق فحضروا أيضا عنده وخدموه واجتمعت العساكر عليه. وبلغه مسير أخيه محمد عن بغداد فسار يتبعه على نهاوند فأدركه بروذراور وكان العسكران متقاربين في العدة كل واحد منهما أربعة آلاف فارس من الأتراك فتصافوا أول يوم جميع النهار ولم يجر بينهم قتال لشدة البرد وعادوا في اليوم الثاني ثم توافقوا كذلك ثم كان الرجل يخرج من أحد الصفين فيخرج غليه من يقاتله فإذا تقاربا اعتنق كل واحد منهما صاحبه وسلم عليه ويعود عنه. ثم خرج الأمير بلدجي وغيره من عسكر محمد إلى الأمير أياز والوزير فاجتمعوا واتفقوا على الصلح لما قد عم الناس من الضرر والملل والوهن فاستقرت القاعدة أن يكون بركيارق السلطان ومحمد الملك ويضرب له ثلاث نوب ويكون له من البلاد جنزة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل وأن يمده السلطان بركيارق بالعساكر حتى يفتح ما يمتنع عليه منها وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وانصرف الفريقان من المصاف رابع ربيع الأول وسار بركيارق إلى مرج قراتكين قاصدا ساوة والسلطان محمد إلى أسداباذ وتفرق العسكر وقصد كل أمير قطاعه.
331 ذكر الحرب بين السلطان بركيارق ومحمد وانفساخ الصلح بينهما في هذه السنة في جمادى الأولى كان المصاف الرابع بين السلطان بركيارق وأخيه محمد. وكان سببه أن السلطان محمد سار من روذراور من الوقعة المذكورة إلى أسداباذ ومنها إلى قزوين ونسب الأمراء الذين سعوا في ذلك الصلح إلى المخامرة عليه والتقاعد به، فوضع رئيس قزوين أن يتوسل إليه بأولئك الأمراء ليحضر دعوته فاستشفع بهم إلى السلطان فحضر دعوته بعد أن امتنع ووصى خواصه بحمل السلاح تحت أقبيتهم وحضر الدعوة ومعه الأمير أيتكين وبسمل فقتل الأمير بسمل وهو من أكابر الأمراء وكحل الأمير أيتكين. وكان الأمير ينال بن أنوشتكين الحسامي قد فارق بركياق وأقام مجاهدا للباطنية الذين في القلاع والجبال فقصد الآن السلطان محمد وسار معه إلى الري يضرب النوب الخمس واجتمعت إليه العساكر وأقام ثمانية أيام وأقام أخوه السلطان بركيارق في اليوم التاسع ووقع بينهما المصاف عند الري وكانت عدة العسكريين متقاربة كل عسكر منهما عشرة آلاف فارس فلما اصطفوا حمل الأمير سرخاب بن كيخسرو الديلمي صاحب آبة على الأمير ينال فهزمه وتبعه في الهزيمة جميع عسكر محمد وتفرقوا
332 ومضى معظمهم نحو طبرستان ولم يقتل في هذا المصاف غير رجل واحد قتل صبرا. ومضى قطعة من المنهزمين نحو قزوين ونهبت خزائن محمد ومضى في نفر يسير إلى أصبهان وحمل هو عليه بيده ليتبعه أصحابه وسار في طلبه الأمير البكي بن برسق أياز إلى قم وتتبع بركيارق أصحاب أخيه محمد وأخذ أموالهم. ذكر حصار السلطان محمد بأصبهان لما انهزم السلطان محمد من الوقعة التي ذكرناها بالري مضى إلى أصبهان في سبعين فارسا والبلد في حكمه وفيه نائبه ومعه من الأمراء الأمير ينال وغيره من الأمراء ودخل المدينة في ربيع الأول وأمر بتجديد ما تشعث من السور وهذا السور هو الذي بناه علاء الدولة بن كاكويه سنة تسع وعشرين وأربعمائة عند خوفه من طغرلبك وأمر محمد بتعميق الخندق حتى صعد الماء فيه وسلم إلى كل أمير كان معه في البلد ألف ومائة فارس وخمسمائة راجل ونصب المنجنيق. ولما علم السلطان بركيارق بمسير أخيه محمد إلى أصبهان سار يتبعه فوصلها في جمادى الأولى وعساكره كثيرة تزيد على خمسة عشر ألف فارس ومعها مائة ألف من الحواشي وأقام يحاصر البلد وضيق عليه. وكان السلطان محمد يدور كل ليلة على سور البلد ثلاث دفعات فلما زاد
333 الأمر في الحصار، أخرج الضعفاء والفقراء من البلد حتى خلت المحال وعدمت الأقوات وأكل الناس الخيل والجمال وغير ذلك وقلت الأموال فاضطر السلطان محمد إلى أن يستقرض من أعيان البلد فأخذ مالا عظيما ثم عاود الجند الطلب فقسط على أهل البلد شيئا آخر وأخذه منهم بالشدة والعنف فلم تزل الأسعار تغلو حتى بلغ عشرة أمنان من الحنطة بدينار وأربعة أرطال لحما بدينار وكل مائة رطل تبنا بأربعة دنانير ورخصت الأمتعة وهانت لعدم الطالب. وكانت الأسعار في عسكر بركيارق رخيصة فبقي الحصار على البلد إلى عاشر ذي الحجة فلما رأى السلطان محمد أنه لا قدرة له على الدفع عن البلد وكلما جاء أمره يضعف قوي عزمه على مفارقته وقصد جهة أخرى يجمع فيها العساكر ويعود بدفع الخصم عن الحصار فسار عنا لبلد في مائة وخمسين فارسا ومعه الأمير ينال واستخلف بالبلد جماعة من الأمراء الكبار في باقي العسكر فلما فارق العسكر والبلد لم يكن في دوابهم ما يدوم على السير لقلة العلف في الحصار فنزل على ستة فراسخ. فلما سمع بركيارق بمسيره سير وراءه الأمير أياز في عسكر كثير وأمره بالجد في السير في طلبه فقيل إن محمدا سبقهم فلم يدركوه فرجعوا، وقيل بل أدركوه فأرسل إلى الأمير أياز يقول أنت تعلم أن لي في رقبتك عهودا وأيمانا ما نقضت ولم يكن مني إليك ما تبالغ في أذاي فعاد عنه وأرسل له خيلا وأخذ علمه والجتر وثلاثة أحمال دنانير،
334 وعاد إلى بركيارق فدخل عليه وأعلام أخيه السلطان محمد منكوسة، فأنكر بركيارق ذلك وقال إن قد أساء فلا ينبغي أن يعمل معه هذا فأخبره الخبر، فاستحسن ذلك منه. فلما فارق محمد أصبهان اجتمع من المفسدين والسوادية ومن يرد النهب ما يزيد على مائة ألف نفس وزحفوا إلى البلد بالسلاليم والدبابات وطموا الخندق بالتبن والتصقوا بالسور وصعد الناس في السلاليم فقاتلهم أهل البلد قتال من يريد [أن] يحمي حريمه وماله فعادوا خائبين، فحينئذ أشار الأمراء على بركيارق بالرحيل فرحل ثامن عشر ذي الحجة من السنة واستخلف على البلد القديم الذي يقال له شهرستان ترشك الصوابي في ألف فارس مع ابنه ملكشاه وسار إلى همذان وكان هذا من أعجب ما سطر إن سلطانا محصورا قد تقطعت مواده وهو يخطب له في أكثر البلاد ثم يخلص من الحصر الشديد وينجو من العساكر الكثيرة التي كلها قد شرع إليه رمحه وفوق إليه سهمه. ذكر قتل الوزير الأعز ووزارة الخطير أبي منصور في هذه السنة ثاني عشر صفر الوزير الأعز أبو المحاسن عبد الجليل بن محمد الدهستاني وزير السلطان بركيارق على أصبهان وكان مع بركيارق محاصرا لها فركب هذا اليوم من خيمته إلى خدمة السلطان فجاء شاب أشقر قيل إنه كان من غلمان أبي سعيد الحداد وكان الوزير قتله في العام الماضي فانتهز الفرصة فيه وقيل كان باطنيا فجرحه عدة جراحات فتفرق أصحابه عنه ثم عادوا إليه فجرح أقربهم منه جراحات أثخنته وعاد إلى
335 الوزير فتركه بآخر رمق. وكان كريما واسع الصدر حسن الخلق كثير العمارة ونفر الناس منه لأنه دخل في الوزارة وقد تغيرت القوانين ولم يبق دخل ولا مال، ففعل للضرورة ما خافه الناس بسببه. وكان حسن المعاملة مع التجار فاستغنى به خلق كثير فكانوا يسألونه ليعاملهم فلما قتل ضاع منهم مال كثير. حكي أن بعض التجار باعه متاعه بألف دينار فقال له خذ بها حنطة من الراذان خمسين كرا كل كر بعشرين دينارا فامتنع التاجر من أخذها وقال لا أريد غير الدنانير فلما كان من الغد دخل إليه التاجر فقال له يهنيك يا فلان فقال وما هو قال خبر حنطتك فقال ما لي حنطة ولا أريدها قال بلى وقد بيعت كل كر بخمسين دينارا فقال أنا لم أتقبل بها فقال الوزير ما كنت لأفسخ عقدا عقدته قال فخرجت وأخذت ثمن الحنطة ألفين وخمسمائة دينار وأضفت غليها مثلها وعاملته فقتل فضاع الجميع. وكان قد نفق عليه عمل الكيمياء واختص به إنسان كيميائي فكان يعده الشهر بعد الشهر والحول بعد الحول وقال له بعض أصحابه وقد أحاله عليه بكر حنطة فاستزاده لو كان صادقا في عمله لما كان يستزيد من القدر القليل وقتل ولم يصح له منه شيء. ولما قتل الأعز أبو المحاسن وزر بعده الوزير الخطير أبو منصور الميبذي الذي كان وزير السلطان محمد. وكان سبب فراقه لوزيره محمد أنه كان معه بأصبهان وبركيارق يحاصره،
336 وقد سلم إليه محمد بابا من أبوابها ليحفظها فقال له الأمير ينال بن أنوشتكين كنت كلفتنا ونحن بالري لنقصد همذان وقلت أنا أقيم بالعسكر من مالي وأحصل لهم ما يقوم بهم ولا بد من ذلك فقال له الخطير أنا أفعل ذلك فلما كان الليل فارق البلد وخرج من الباب الذي كان مسلما إليه وقصد بلده ميبذ وأقام بقلعتها متحصنا فأرسل إليه السلطان بركيارق وحصره فنزل منها مستأمنا فحمل على بغل بإكاف إلى العسكر فوصله في طريقه قتل الوزير الأعز وكتاب السلطان له بالأمان وطيب قلبه فلما وصل إلى العسكر خلع عليه واستوزره. حادثة يعتبر بها في سنة ثلاث وتسعين [وأربعمائة] بيع رحل بني جهير ودورهم بباب العامة ووصل ثمن ذلك إلى مؤيد الملك ثم قتل في سنة أربع وتسعين مؤيد الملك وبيع ماله وتركته وأخذ الجميع وحمل إلى الوزير الأعز هذه السنة وبيع رحله واقتسمت أمواله وأخذ السلطان ومن ولي بعده أكثرها وتفرقت أيدي سبا وهذا عاقبة خدمة الملوك. ذكر الفتنة بين إيلغازي وعامة بغداد في هذه السنة في رجب كانت فتنة شديدة بين عسكر الأمير إيلغازي بن أرتق شحنة بغداد وبين عامتها.
337 وسببها أن إيلغازي كان بطريق خراسان إلى بغداد فلما وصل أتى جماعة من أصحابه إلى دجلة فنادوا ملاحا ليعبر بهم فتأخر فرماه أحدهم بنشابة فوقعت في مشعره فمات فأخذ العامة القاتل وقصدوا باب النوبي فلقيهم ولد إيلغازي مع جماعة فاستنقذه ورجمهم العامة بسوق الثلاثاء فمضى إلى أبيه مستغيثا فأخذ حاجب الباب من له في هذه الحادثة عمل فلم يقنع إيلغازي ذلك فعبر بأصحابه إلى محلة الملاحين المعروفة بمربعة القطانين، وتبعهم خلق كثير فنهبوا ما وجدوا وقدروا عليه فعطف عليهم العيارون فقتلوا أكثرهم. ونزل من سلم في السفن ليعبروا دجلة فلما توسطوها ألقى الملاحون أنفسهم في الماء وتركوهم فغرقوا فكان الغرق أكثر من القتل وجمع إيلغازي التركمان وأراد نهب الجانب الغربي فأرسل إليه الخليفة قاضي القضاة والكيا الهراس المدرس بالنظامية فمعناه من ذلك فامتنع. ذكر قصد صاحب البصرة مدينة واسط وعوده عنها في هذه السنة في العشرين من شوال قصد الأمير إسماعيل صاحب البصرة مدينة واسط للاستيلاء عليها. ونحن نبتدئ بذكر إسماعيل وتنقل الإخوان به إلى أن ملك البصرة وهو إسماعيل بن سلانجق وكان إليه في أيام ملكشاه شحنكية الري ولما وليها كان أهل الري والرستاقية قد أعيوا من وليهم وعجز الولاة عنهم فسلك معهم طريقا أصلحهم بها وقتل منهم مقتلة عظيمة فتهذبوا بها وأرسل من شعورهم إلى السلطان ما عمل منه مقاود وشكلا للدواب ثم عزل عنها. ثم إن السلطان بركيارق أقطع البصرة للأمير قماج فأرسل إليها هذا الأمير
338 إسماعيل نائبا عنه فلما فارق قماج بركيارق وانتقل إلى خراسان حدثته نفسه بالتغلب على البصرة والاستبداد فانحدر مهذب الدولة بن أبي الجبر من البطيحة إليه ليحاربه ومعه معقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي صاحب الجزيرة الدبيسية فأقبلا في جمع كثير من السفن والخيل ووصلوا إلى مطارا. فبينما معقل يقاتل قريبا من القلعة التي بناها ينال بمطارا وجددها إسماعيل وأحكمها أتاه سهم غرب فقتله فعاد ابن أبي الجبر إلى البطيحة وأخذ إسماعيل سفنه وذلك سنة إحدى وتسعين [وأربعمائة] فاستمد ابن أبي الجبر كوهرائين فأمده بأبي الحسن الهروي وعباس بن أبي الجبر فلقياه فكسرهما وأسرهما وأطلق عباسا على مال أرسله أبوه واصطلحا. وأما أبي الجبر فبقي في حبسه مدة ثم أطلقه على خمسة آلاف دينار فلم يصح له منها شيء. وقوي حال إسماعيل فبنى قلعة بالأبلة وقلعة بالشاطىء مقابل مطارا وصار مخوف الجانب وأمن البصريون به وأسقط شيئا من المكوس واتسعت إمارته باشتغال السلاطين وملك المشان واستضافها إلى ما بيده. فلما كان هذه السنة كاتبه بعض عسكر واسط بالتسليم إليه، فقوي طمعه في واسط، فأصعد في السفن إلى نهر أبان وراسلهم في التسليم فامتنعوا من ذلك وقالوا راسلناك وقد رأينا غير ذلك الرأي فأصعد إلى الجانب الشرقي فخيم تحت النخيل، وسفنه بين يديه، وخيم جند واسط حذاءه،
339 وراسلهم وعدهم وهم لا يجيبونه. واتفقت العامة مع الجند وشتموه أقبح شتم فلما أيس منهم عاد إلى البصرة وساروا بإزائه من الجانب الآخر فوصل إلى العمر وعبر طائفة من أصحابه فوق البلد وهو يظن أن البلد خاليا وأن الناس قد خرجوا منه لما رأى كثرة من بإزائه فيوقع الحريق في البلد فإذا رجع الأتراك عاد هو من ورائهم فكان ظنه خائبا لأن العامة كانوا على دجلة أولهم في البلد وآخرهم مع الأتراك بإزائه. فلما عبر أصحابه عاد الأتراك عليهم ومعهم العامة فقتلوا منهم ثلاثين رجلا وأسروا خلقا كثيرا وألقى الباقون أنفسهم في الماء فأتاه من ذلك مصيبة لم يظنها وسار أعيان أصحابه مأسورين وعاد إلى البصرة وكان عوده من سعادته فإنه كان قد قصد الأمير أبو سعد محمد بن مضر بن محمود البصرة ذلك الوقت وله أعمال واسعة منها نصف عمان وجناية وسيراف وجزيرة بني نقيس. وكان سبب قصده إياها أنه كان قد صار مع إسماعيل إنسان يعرف بجعفرك وآخر اسمه زنجويه والثالث بأبي الفضل الأبلي فأطمعوه في أن يعمل مراكب يرسل فيها مقاتلة في البحر إلى هذا أبي سعد وغيره فعمل نيفا وعشرين قطعة فلما علم أبو سعد الحال أرسل جماعة كثيرة من أصحابه في نحو خمسين قطعة فأتوا إلى دجلة البصرة وذلك في السنة الخالية فأقاموا
340 بها محاربين، وظفروا بطائفة من أصحاب إسماعيل وقتلوا صاحب قلعة الأبلة وكاتبوا بني برسق بخوزستان يطلبون أن يرسلوا عسكرا ليساعدوهم على أخذ البصرة فتمادى الجواب وركن الطائفتان إلى الصلح على أن يسلم إليهم إسماعيل جعفرك ورفيقه ويقطعهم مواضع ذكروها من أعمال البصرة فلما رجعوا لم يفعل شيئا من ذلك وأخذ مركبين لقوم من أصحاب أبي سعيد فحمله ذلك على أن سار بنفسه في قطع كثيرة تزيد على مائة قطعة بين كبيرة وصغيرة ووصل إلى فوهة نهر الأبلة. وخرج عسكر إسماعيل في عدة مراكب ووقع القتال بينهم وكان البحريون في نحو عشرة آلاف وإسماعيل في سبعمائة وأصعد البحريون في دجلة فأحرقوا عدة مواضع وتفرق عسكر إسماعيل فبعضه بالأبلة وبعضه بنهر الدين وبعضه في مواضع آخر فلما ضعف إسماعيل عن مقاومة أبي سعد طلب من وكيل الخليفة على ما يتعلق بديوانه من البلاد أن يسعى في الصلح فأرسل إليه في ذلك فأعاد الجواب يذكر قبح ما عامله به إسماعيل مرة بعد أخرى وتكررت الرسائل بينهم فأجاب إلى الصلح فاصطلحا واجتمعا وعاد أبو سعد إلى بلاده وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية جميلة. ذكر وفاة كربوقا وملك موسى التركماني الموصل وجكرمش بعده وملك سقمان الحصن في هذه السنة في ذي القعدة توفي قوام الدولة كربوقا عند مدينة خوي وكان السلطان بركيارق قد أرسله في العام الماضي إلى أذربيجان، كما
341 ذكرناه، فاستولى على أكثرها وأتى إلى خوي فمرض بها ثلاثة عشر يوما وكان معه أصبهبذ صباوة بن خمارتكين وسنقرجه فوصى إلى سنقرجه وأمر الأتراك بطاعته وأخذ له على عسكره العهد ومات على أربعة فراسخ من خوي ولف في زلية لعدم ما يكفن فيه ودفن بخوي. وسار سنقرجه وأكثر العسكر إلى الموصل فتسلمها، فأقام بها ثلاثة أيام وكان أعيان الموصل قد كاتبوا موسى التركماني وهو بحصن كيفا ينوب عن كربوقا فيها وسألوه أن يبادر إليهم ليسلموا إليه البلد فسار مجدا فسمع سنقرجه بوصوله فظن أنه جاء إليه خدمة له فخرج ليستقبله في أهل البلد فلما تقاربا نزل كل واحد منهما لصاحبه عن فرسه واعتنقا وبكيا على قوام الدولة فتسايرا. فقال سنقرجه لموسى في جملة حديثه أنا مقصودي من جميع ما كان لصاحبنا المخدة والمنصب والأموال والولايات لكم وبحكمكم. فقال موسى من نحن حتى يكون لنا مناصب ودسوت الأمر في هذا إلى السلطان يرتب فيه من يريد ويولي من يختار وجرى بينهما محاورات فجذب سنقرجه سيفه وضربه صفحا من يريد ويولي من يختار. وجرى بينهما محاورات فجذب سنقرجه سيفه وضربه صفحا على رأسه فجرحه فألقى موسى نفسه إلى الأرض وجذب سنقرجه فألقاه إلى الأرض وكان مع موسى ولد منصور بن مروان الذي كان أبوه صاحب ديار بكر فجذب سكينا وضرب بها رأس سنقرجه فأبانه ودخل موسى البلد وخلع على أصحاب سنقرجه وطيب نفوسهم فصارت الولاية له. ولما سمع شمس الدولة جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر الخبر
342 قصد نصيبين وتسلمها وسار موسى قاصدا إلى الجزيرة فلما قارب جكرمش غدر بموسى عسكره وصاروا مع جكرمش فعاد موسى إلى الموصل وقصده جكرمش وحصره مدة طويلة فاستعان موسى بالأمير سقمان بن أرتق وهو يومئذ بديار بكر وأعطاه حصن كيفا وعشرة آلاف دينار فسار إليه فرحل جكرمش عنه. وخرج موسى لاستقبال سقمان فلما كان موسى عند قرية تسمى كراثا فوثب عليه عدة من الغلمان القوامية فقتلوه رماه أحدهم بنشابة فقتله فعاد أصحابه منهزمين ودفن على تل هناك يعرف الآن بتل موسى ورجع الأمير سقمان إلى الحصن فملكها وهي بيد أولاده إلى يومنا هذا سنة عشرين وستمائة وصاحبها حينئذ غازي بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن ارتق. وقصد جكرمش الموصل وحصرها أياما ثن تسلمها صلحا وأحسن السيرة فيها وأخذ القوامية الذين قتلوا موسى فقتلهم واستولى بعد ذلك على الخابور وملك العرب والأكراد فأطاعوه. ذكر حال صنجيل الفرنجي وما كان منه في حصار طرابلس كان صنجيل الفرنجي لعنه الله قد لقي قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش صاحب قونية وكان صنجيل في مائة ألف مقاتل وكان قلج أرسلان
343 في عدد قليل فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم كثير وأسر كثير وعاد قلج بالغنائم والظفر الذي لم يحسبه. ومضى صنجيل مهزوما في ثلاثمائة فوصل إلى الشام فأرسل فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس إلى الأمير ياخز خليفة جناح الدولة على حمص فإلى الملك دقاق بن تتش يقول من الصواب أن يعاجل صنجيل إذ هو في العدة القريبة فخرج الأمير ياخز بنفسه وسير دقاق ألفي مقاتل وأتتهم الأمداد من طرابلس فاجتمعوا على باب طرابلس وصافوا صنجيل هناك فأخرج مائة من عسكره إلى أهل طرابلس ومائة إلى عسكر دمشق وخمسين إلى عسكر خمص وبقي هو في خمسين. فأما عسكر حمص فإنهم انكسروا عند المشاهدة وولوا منهزمين وتبعتهم عسكر دمشق. وأما أهل طرابلس فإنهم قاتلوا المائة الذين قاتلوهم فلما شاهد ذلك صنجيل حمل في المائتين الباقية فكسروا أهل طرابلس وقتلوا منهم سبعة آلاف رجل ونازل صنجيل طرابلس وحصرها. وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصارها وكذلك أهل السواد وأكثرهم نصارى فقاتل من بها أشد قتال فقتل من الفرنج ثلاثمائة ثم إنه هادنهم على مال وخيل فرحل عنهم إلى مدينة أنطرسوس وهب من أعمال طرابلس فحصرها وفتحها وقتل من بها من المسلمين ورحل إلى حصن الطوبان وهو يقارب رفنية ومقدمه يقال له ابن العريض فقاتلهم فنصر عليه أهل الحصن وأسر ابن العريض منه فارسا من أكابر فرسانه فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير فلم يجبه ابن العريض إلى ذلك.
344 ذكر ما فعله الفرنج في هذه السنة أطلق الدانشمند بيمند الفرنجي صاحب أنطاكية وكان قد أسره وقد تقدم ذكر ذلك وأخذ منه مائة ألف دينار وشرط عليه إطلاق ابنة باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية وكانت في أسره. ولما خلص بيمند من أسره عاد إلى أنطاكية فقويت نفوس أهلها ولم يستقر حتى أرسل إلى أهل العواصم وقنسرين وما جاورها يطالبهم بالإتاوة فورد على المسلمين من ذلك ما طمس المعالم التي بناها الدانشمند. وفيها سار صنجيل إلى حصن الأكراد فحصره فجمع جناح الدولة عسكره ليسير إليه ويكسبه فقتله باطني بالمسجد الجامع فقيل إن الملك رضوان ربيبه وضع عليه من قتله فلما قتل صبح صنجيل حمص من الغد ونازلها وحصر أهلها وسلك أعمالها. ونزل القمص على عكة في جمادى الآخرة وضيق عليها وكاد يأخذها ونصب عليها المنجنيقات وأبراج وكان له في البحر ست عشرة قطعة فاجتمع المسلمون من سائر السواحل وأتوا إلى منجنيقاتهم وأبراجهم فأحرقوها وأحرقوا سفنهم أيضا وكان ذلك نصرا عجيبا أذل الله به الكفار. وفيها صار القمص الفرنجي صاحب الرها إلى بيروت من ساحل الشام وحصرها وضايقها وأطال المقام عليها فلم ير طمعا فرحل عنها. وفيها في رجب خرجت عساكر مصر إلى عسقلان ليمنعوا الفرنج عما بقي في أيديهم من البلاد الشامية فسمع بهم بردويل، صاحب القدس،
345 فسار إليهم في سبعمائة فارس وقاتلهم فنصر الله المسلمين وانهزم الفرنج وكثر القتل فيهم وانهزم بردويل فاختفى في أجمة قصب فأحرقت تلك الأجمة ولحقت النار بعض جسده ونجا منها إلى الرملة فتبعه المسلمون أحاطوا به فتنكر وخرج منها إلى يافا وكثر القتل والأسر في أصحابه. ذكر عود قلعة خفتيذ كان إلى سرخاب بن بدر في هذه السنة عادت قلعة خفتيذ كان إلى الأمير سرخاب بن بدر بن مهلهل. وكان سبب أخذها منه أن القرابلي وهو من قبيل من التركمان يقال لهم سلغر كان قد أتى إلى بلد سرخاب فمنعه من المراعي وقتل جمعة من أصحابه فمضى قرابلي إلى التركمان واستجاش بهم وجاء في عسكره كثير فلقيه سرخاب وقاتله قرابلي من أصحابه الأكراد قريبا من ألفي رجل وانهزم سرخاب إلى بعض جباله في عشرين رجلا. فلما سمع المستحفظان بقلعة خفتيذ كان ذلك وكانا رجلين حدثتهما أنفسهما بالاستيلاء عليها وكان بها ذخائره وأمواله وقدرها يزيد على ألفي ألف دينار فتملكاها واجتاز بها السلطان بركيارق فأنفذا إليه مائتي ألف دينار واستولى التركمان على جميع بلاد سرخاب بن بدر دقوقا وشهرزور فلما كان هذا الوقت قتل أحد المستحفظين الآخر وأرسل
346 إلى سرخاب يطلب منه الأمان ليسلم إليه القلعة فأمنه على نفسه وعلى ما حصل بيده من أموالها فسلمه إليه ووفى له. ذكر قتل قدرخان صاحب سمرقند قد ذكرنا قبل قدوم الملك سنجر مع أخيه السلطان محمد إلى بغداد وعوده إلى خراسان فلما وصل إلى نيسابور خطب لأخيه محمد بخراسان جميعها ولما كان ببغداد طمع قدرخان جبريل بن عمر صاحب سمرقند في خراسان لبعده عنها وجمع عساكر تملأ الأرض قيل كانوا مائة ألف مقاتل فيهم مسلمون وكفار وقصد بلاد سنجر. وكان أمير من أمراء سنجر اسمه كندغدي قد كاتب قدرخان بالأخبار وأعلمه مرض سنجر بعد عوده إلى بلاده وأنه قد أشفى على الهلاك وقوي طمعه بالاختلاف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد وبشدة عداوة بركيارق لسنجر وأشار عليه بالسرعة مهما الاختلاف واقع وأنه متى أسرع ملك خراسان والعراق فبادر قدرخان وأقدم وقصد البلاد، فبلغ السلطان سنجر الخبر وكان قد عوفي فبادر وسار نحوه قاصدا قتاله ومنعه عن البلاد وكان من جملة من معه كندغدي المذكور وهو لا يتهمه بشيء مما فعل فوصل إلى بلخ في ستة آلاف فارس فبقي بينه وبين قدرخان
347 نحو خمسة أيام فهرب كندغدي إلى قدرخان وحلف كل واحد منهما لصاحبه على الاتفاق والمناصحة وسار من عنده إلى ترمذ فملكها. وكان الباعث للكندغدي على ما فعل حسده للأمير بزغش على منزلته. ثم تقدم قدرخان فلما تدانى العسكران أرسل سنجر يذكر قدرخان العهود والمواثيق القديمة فلم يصغ إلى قواه وأذكى سنجر العيون والجواسيس على قدرخان فكان لا يخفي عنه شيء من خبره فأتاه من أخبر أنه نزل بالقرب من بلخ وأنه خرج متصيدا في ثلاثمائة فارس فندب سنجر عند ذلك الأمير بزغش لقصده فسار إليه فلحقه وهو على تلك الحال فقاتله فلم يصبر من مع قدرخان فانهزموا وأسر كندغدي وقدرخان وأحضرهما عند سنجر، فأما قدرخان فإنه قبل الأرض واعتذر فقال له سنجر إن خدمتنا أو لم تخدمنا فما جزاؤك إلا السيف ثم أمر به فقتل. فلما سمع كندغدي الخبر نجا بنفسه في قناة ومشى فيها فرسخين تحت الأرض على ما به من النقرس، وقتل فيها حيتين عظيمتين وسبق أصحابه إلى مخرجها وسار منها في ثلاثمائة فارس إلى غزنة. وقيل: بل جمع سنجر عساكر كثيرة والتقى هو وقدرخان وجرى بينهما مصاف وقتال عظيم كثير فيه القتل فيهم فانهزم قدرخان وعسكره وحمل أسيرا إلى سنجر فقتله وحصر ترمذ وبها كندغدي فطلب الأمان فأمنه سنجر ونزل إليه وسلم ترمذ فأمره سنجر بمفارقة بلاده فسار إلى غزنة فلما وصل إليها أكرمه صاحبها علاء الدولة وحل عنده المحل الكبير.
348 واتفق أن صاحب غزنة عزم على قصد أوتان وهي جبال منيعة على أربعين فرسخا من غزنة وقد عصا عليه فيها قوم وتحصنوا بمعاقلها ووعور مسالكها فقاتلهم عسكر علاء الدولة فلم يظفروا منهم بطائل فتقدم كندغدي منفردا عنهم فأبلى بلاء حسنا ونصر عليهم وأخذ غنائمهم وحملها إلى علاء الدولة فلم يقبل منها شيئا ووفرها عليه فغضب العسكر وحسدوه على ذلك وعلى قربه من صاحبهم ونفاقه عليه فأشار بقبضه وقالوا إنا لا نأمن أن يقصد بعض الأماكن فيفعل في أمر الدولة ما لا يمكن تلافيه فقال قد تحققت قصدكم ولكن بمن أقبض عليه فإني أخاف أن آمركم بالقبض عليه فينالكم منه ما لا تفتضحون به فقالوا الصواب أن توليه ولاية ويقبض عليه إذا سار إليها فولاه حصنين جرت عادته أن يسجن فيهما من يخاف جانبه فسار إليهما. فلما قاربهما عرف ما يراد منه فأحرق ماله ونحر جماله وسار جريدة وكان في مدة مقامه بغزنة يسأل عن الطرق وتشعبها فإنه ندم على قصد تلك الجهة فلما سار سأل راعيا عن الطريق التي يريدها فدله فأخذه معه خوفا أن يكون قد غره ولم يزل سائرا إلى أن وصل إلى قريب هراة فمات هناك وهو من مماليك تتش بن ألب أرسلان الذي كحله أخوه ملكشاه وسجنه بتكريت وقد تقدم ذكر حادثته.
349 ذكر ملك محمد خان سمرقند في هذه السنة احضر السلطان سنجر محمدا أرسلان خان بن سليمان بن داود بغراخان من مرو وملكه سمرقند بعد قتل قدرخان وكان هذا محمد خان من أولاد الخانية بما وراء النهر وأمه ابنة السلطان ملكشاه فدفع عن ملك آبائه فقصد مرو وأقام بها إلى الآن. فلما قتل قدرخان ولاه سنجر أعماله وسير معه العساكر الكثيرة فعبروا فعبروا النهر فأطاعه العساكر بتلك البلاد جميعها وعظم شأنه وكثرت جموعه إلا أنه انتصب له أمير اسمه هاغوبك وزاحمه في الملك فطمع فيه فجرى له معه حروب احتاج في بعضها إلى الاستنجاد بعساكر على ما سنذكره بعد إن شاء الله تعالى. ولما ملك محمد خان البلاد أحسن إلى الرعايا بوصية من سنجر وحقن الدماء وصار بابه مقصدا وجنابه ملجأ. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الأول خرج تاج الرؤساء ابن أخت أمين الدولة أبي سعد بن الموصلايا إلى الحلة السيفية مستجيرا بسيف الدولة صدقة. وسبب ذلك أن الوزير الأعز وزير السلطان بركيارق كان ينتسب إليه أنه هو الذي يميل جانب الخليفة إلى السلطان محمد فسار خائفا، واعتزل خاله أمين
350 الدولة الديوان وجلس في داره فلما قتل الوزير الأعز على ما ذكرنا عاد تاج الرؤساء من الحلة إلى بغداد وعاد خاله إلى منصبه. وفي ربيع الأول أيضا ورد العميد المهذب أبو المجد أخو الوزير الأعز إلى بغداد نائبا عن أخيه ظنا منه أن إيلغازي لا يخالفهم حيث كان بركيارق ومحمد قد اتفقا كما ذكرناه فقبض عليه إيلغازي ولم يتغير عن طاعة محمد. وفيها في جمادى الأولى ورد إلى بغداد ابن تكش بن ألب أرسلان وكان قد استولى على الموصل فخدعه من كان بها حتى يسير عنها إلى بغداد ففعل فلما وصل إليها زوجه إيلغازي بن أرتق ابنته. وفيها في شهر رمضان استوزر الخليفة سديد الملك أبا المعالي بن عبد الرزاق ولقب عضد الدين. وفيها صفر قتل الربعيون بهيت قاضي البلد أبا علي بن المثنى وكان ورعا فقيها حنفيا من أصحاب القاضي أبي عبد الله الدامغاني وكان هذا القاضي على ما جرت به عادة القضاة هناك من الدخول بين القبائل فنسبوه في ذلك إلى التحامل عليهم فقتله أحدهم فندم الباقون على قتله وقد فات الأمر. وفيها بنى سيف الدولة صدقة بن مزيد الحلة بالجامعين وسكنها وإنما كان يسكن هو وآباؤه وقبله في البيوت العربية.
351 وفي جمادى الأولى قتل المؤيد بن شرف الدولة مسلم بن قريش أمير بني عقيل قتله بنو نمير عند هيت قصاصا. وفيها توفي القاضي البندنيجي الضرير الفقيه الشافعي انتقل إلى مكة فجاور بها أربعين سنة يدرس الفقه ويسمع الحديث ويشتغل بالعبادة. وفيها توفي أبو عبد الله الحسين بن محمد الطبري بأصبهان وكان يدرس فقه الشافعي بالمدرسة النظامية وقد جاوز تسعين سنة وهو من أصحاب أبي إسحاق. وفيها توفي منظور بن عمارة الحسيني أمير المدينة على ساكنها الصلاة والسلام وقام ولده مقامه وهو من ولد المهنا وقد كان قتل المعمار الذي أنفذه مجد الملك البلاساني لعمارة القبة التي على قبر الحسن بن علي والعباس رضي الله عنهما وكان من أهل قم فلما قتل البلاساني قتله منظور بعد أن أمنه وكان قد هرب معه إلى مكة فأرسل إليه بأمانه.
352 496 ثم دخلت سنة ست وتسعين ذكر استيلاء ينال على الري وأخذها منه ووصوله إلى بغداد كانت الخطبة بالري للسلطان بركيارق فلما خرج السلطان محمد من أصبهان على ما ذكرناه ومعه ينال بن أنوشتكين الحسامي استأذنه في قصد الري وإقامة الخطبة له بها فأذن له فسار هو وأخوه علي بن أنوشتكين فوصلا إليها في صفر فأطاع من بها من نواب بركيارق وخطب لمحمد بالري واستولى ينال على البلد وعسف أهله وصادرهم بمائتي ألف دينار وأقام بها إلى النصف من ربيع الأول فورد إليه الأمير برسق بن برسق من عند السلطان بركيارق فوقع القتال بينهم على باب الري فانهزم ينال وأخوه علي. فأما علي فعاد إلى ولايته قزوين وسلك ينال الجبال فقتل من أصحابه كثير وتشتتوا فأتى إلى بغداد في سبعمائة رجل فأكرمه الخليفة واجتمع هو وإيلغازي وسقمان ابنا أرتق بمشهد أبي حنيفة وتحالفوا على مناصحة السلطان محمد وساروا إلى سيف الدولة صدقة فحلف لهم أيضا على ذلك وعادوا.
353 ذكر ما فعله ينال بالعراق . قد ذكرنا وصول ينال بن أنوشتكين إلى بغداد قبل فلما استقر ببغداد ظلم الناس بالبلاد جميعا وصادرهم واستطال أصحابه على العامة بالضرب والقتل والتقسيط وصادر العمال. فأرسل إليه الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني ينهاه عن ذلك ويقبح عنده ما يرتكبه من الظلم والعدوان وتردد أيضا إلى إيلغازي، وكان ينال قد تزوج هذه الأيام بأخته وهي التي كانت زوجة تاج الدولة تتش حتى توسط الأمر معه فمضوا إليه وحلفوه على الطاعة وترك ظلم الرعية وكف أصحابه ومنعهم فحلف ولم يف باليمين ونكث ودام على الظلم وسوء السيرة. فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة وعرفه ما يفعله ينال من نهب الأموال وسفك الدماء وطلب منه أن يحضر بنفسه ليكف ينال فسار من حلته في رمضان ووصل بغداد رابع شوال وضرب خيامه بالنجمي واجتمع هو وينال وإيلغازي ونواب ديوان الخليفة وتقررت القواعد على مال يأخذه ويرحل عن العراق فطلب ينال المهلة فعاد صدقة عاشر شوال إلى حلته وترك ولده دبيسا ببغداد ليمنعه من الظلم والتعدي عما استقر الأمر عليه فبقي ينال إلى مستهل ذي القعدة وسار إلى أوانا فنهب وقطع الطريق وعسف الناس وبالغ في الفعل القبيح وأقطع القرى لأصحابه فأرسل الخليفة إلى صدقة في ذلك فأرسل ألف فارس وساروا إليه ومعهم جماعة من أصحاب الخليفة وإيلغازي شحنة بغداد فلما سمع ينال
354 بقربهم منه عبر دجلة وسار إلى باجسرى وشعثها وقصد شهرابان فمنعه فقاتلهم فقتل بينهم قتلى ورحل عنهم وسار إلى أذربيجان قاصدا إلى السلطان محمد وعاد دبيس بن صدقة وإيلغازي شحنة بغداد إلى مواضعهم. ذكر وصول كمشتكين القيصري شحنة إلى بغداد والفتنة بينه وبين إيلغازي وسقمان وصدقة في هذه السنة منتصف ربيع الأول ورد كمشتكين القيصري إلى بغداد شحنة أرسله إليها السلطان بركيارق وقد ذكرنا وقد ذكرنا في السنة المتقدمة رحيل بركيارق من أصبهان إلى همذان فلما أوصلها أرسل إلى بغداد كمشتكين شحنة فلما سمع إيلغازي وهو شحنة ببغداد للسلطان محمد أرسل إلى أخيه بن أرتق صاحب حصن كيفا يستدعيه إليه ليعتضد به على منعه وسار إلى سيف الدولة صدقة بالحلة واجتمع به وسأله تجديد عهد في دفع من يقصده من جهة بركيارق فأجابه إلى ذلك وحلف فعاد إيلغازي. وورد سقمان في عساكره ونهب في طريقه تكريت وسبب تمكنه منها أنه أرسل جماعة من التركمان إلى تكريت معهم أحمال جبن وسمن وعسل فباعوا ما معهم وأظهروا أن سقمان قد عاد من الانحدار فاطمأن أهل البلد ووثب التركمان تلك الليلة على الحراس فقتلوهم وفتحوا الأبواب وورد إليها سقمان ودخلها ونهبها ولما وصل بغداد نزل بالرملة.
355 وأما كمشتكين فوصل أول ربيع إلى قرميسين وأرسل إلى من له هوى مع بركيارق وأعلمهم بقربه منهم، فخرج إليه جماعة منهم بالبندنيجين وأعلموه الأحوال وأشاروا عليه بالمعاجلة فأسرع السير فوصل إلى بغداد منتصف ربيع الأول ففارق إيلغازي داره واجتمع بأخيه سقمان وأصعد من الرملة ونهبا بعض قرى دجيل فسار طائفة من عسكر كمشتكين وراءهما ثم عادوا عنهما وخطب للسلطان بركيارق ببغداد كمشتكين القصري إلى سيف الدولة القناع ببغداد في مخالفته وسار من الحلة إلى جسر صرصر فقطعت خطبة بركيارق ببغداد، ولم يذكر على منابرها أحد من السلاطين واقتصر الخطباء على الدعاء للخليفة لا غير. ولما وصل سيف الدولة إلى صرصر أرسل إلى إيلغازي وسقمان وكان بحربي يعرفهما أنه قد أتى لنصرتهما فعادا ونهبا دجيلا ولم يبقيا على قرية كبيرة ولا صغيرة وأخذت الأموال وافتضت الأبكار ونهب العرب والأكراد الذين مع سيف الدولة بنهر ملك إلا أنهم لم ينقل عنهم التركمان أخذ النساء والفساد معهن لكنهم استقصوا في أخذ الأموال بالضرب والإحراق وبطلت معايش الناس وغلت الأسعار فكان الخبز يساوي عشرة أرطال بقيراط فصار ثلاثة أرطال بقيراط وجميع الأشياء كذلك. فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة في الإصلاح فلم تستقر قاعدة إيلغازي وسقمان ومعهما دبيس بن سيف الدولة صدقة من دجيل فخيموا بالرملة فقصدهم جماعة كثيرة من العامة فقاتلهم، فقتل من
356 العامة أربعة نفر وأخذ منهم جماعة فأطلقوا أسلحتهم وازداد الأمر شدة على الناس فأرسل الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن بن الدامغاني وتاج الرؤساء بن الموصلايا إلى سيف الدولة يأمره بالكف عن الأمر الذي هو ملابسه ويعرفه ما الناس فيه ويعظم الأمر عليه فأظهر طاعة الخليفة أن أخرج القيصري من بغداد وإلا فليس غير السيف وأرعد وأبرق. فلما عاد الرسول استقر الأمر على إخراج القيصري من بغداد ففارقها ثاني عشر ربيع الآخر وسار إلى النهروان وعاد سيف الدولة إلى بلده وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد وسار القيصري إلى واسط فخاف الناس منه وأرادوا الانحدار منها ليأمنوا فمنعهم القيصري وخطب لبركيارق بواسط ونهبوا كثيرا من سوادها. فلما سمع صدقة ذلك سار إلى واسط فدخلها وعدل في أهلها وكف عسكره عن أذاهم ووصل إليه إيلغازي بواسط وفارقها القيصري ونزل متحصنا بدجلة فقيل لسيف الدولة إن هناك مخاضة فسار إليها بعسكره وقد لبسوا السلاح فلما رآهم عسكر القيصري تفرقوا عنه وبقي في خواص أصحابه فطلب الأمان من سيف الدولة فآمنه فحضر عنده فأكرمه وقال له قد سمنت وتركتنا نسمن أخرجتنا من بغداد ثم من واسط ونحن لا نعقل. ثم بذل صدقة الأمان لجميع عسكر واسط ومن كان مع القيصري سوى رجلين فعادوا إليه فأمنهما، وعاد القيصري إلى بركيارق وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط وخطب بعده لسيف الدولة وإيلغازي واستتاب كل
357 واحد منهما فيها ولده وعاد عنها في العشرين من جمادى الأولى وأمن أهل واسط مما كانوا يخافونه. فأما إيلغازي فإنه أصعد إلى بغداد وأما سيف الدولة صدقة فإنه عاد إلى الحلة وأرسل ولده الأصغر منصورا مع إيلغازي إلى المستظهر بالله يسأله الرضا عنه فإنه كان قد سخط بسبب هذه الحادثة فوصل إلى بغداد وخاطب في ذلك فأجيب إليه. ذكر استيلاء صدقة على هيت كانت مدينة هيت لشرف الدولة مسلم بن قريش أقطعه إياها السلطان ألب أرسلان ولم تزل معه حتى قتل فنظر فيها عمداء بغداد إلى أن مات السلطان ملكشاه ثم أخذها أخوه تتش بن ألب أرسلان فلما استولى بركيارق أقطعها لبهاء الدولة ثروان بن وهب بن وهيبة وأقام هو وجماعة من بني عقيل عند سيف الدولة صدقة وكانا متصافيين وكان صدقة يزوره كثيرا ثم تنافر. وكان سبب ذلك أن صدقة زوج بنتا له من ابن عمه وكان ثروان قد خطبها فلم يجبه إلى ذلك فتحالفت عقيل وهم في حلة سيف الدولة أن يكونوا يدا واحدة عليه فأنكر صدقة ذلك وحج ثروان عقيب ذلك وعاد مريضا فوكل به صدقة وقال لا بد من هيت فأرسل ثروان حاجبه وكتب خطه بتسليم البلد إليه.
358 وكان بهيت حينئذ محمد بن رافع بنت رفاع بن ضبيعة بن مالك بن مقلد بن جعفر وأرسل صدقة ابنه دبيسا مع الحاجب ليتسلمها فلم يسلم إليه محمد فعاد دبيس إلى أبيه فلما أخذ صدقة واسطا هذه النوبة وأصعد في عسكره إلى هيت فخرج إليه منصور بن كثير ابن أخي ثروان ومعه جماعة من أصحابه فلقوا سيف الدولة وحاربوه ساعة من النهار. ثم إن جماعة من الربعيين فتحوا لسيف الدولة البلد أصحابه فلما رأى ذلك منصور ومن معه سلموا البلد إليه فملكه يوم نزوله وخلع على منصور وجماعة من وجوه أصحابه وعاد إلى حلته واستخلف عليه ابن عمه ثابت بن كامل. ذكر الحرب بين بركيارق ومحمد في هذه السنة ثامن جمادى الآخرة كان المصاف الخامس بين السلطان بركيارق والسلطان محمد. وكانت كنجة وبلاد أران جميعها للسلطان محمد وبها عسكره ومقدمهم الأمير غزغلي فلما طال مقام محمد بأصبهان محصورا توجه غزغلي والأمير منصور بن نظام الملك وابن أخيه محمد بن مؤيد الملك بن نظام قاصدين لنصرته ليراهم بعين الطاعة. وكان آخر ما تقام فيه الخطبة لمحمد زنجان مما يلي أذربيجان فوصلوا إلى الري في العشرين من ذي الحجة سنة خمس وتسعين [وأربعمائة]، ففارقه
359 عسكر بركيارق ودخلوه وأقاموا به ثلاثة أيام. وصلهم الخبر بخروج السلطان محمد من أصبهان وأنه وصل إلى ساوة فساروا إليه ولحقوه بهمذان ومعه ينال وعلي ابنا أنوشتكين الحسامي فبلغ عددهم سنة آلاف فارس فأقاموا بها إلى أواخر المحرم فأتاهم الخبر بأن السلطان بركيارق قد أتاهم فتلونوا في رأيهم فسار ينال وعلي ابنا أنوشتكين إلى الري على ما ذكرناه، وعزم السلطان محمد على التوجه إلى شروان، فوصل إلى أردبيل فأرسل إليه الملك مودود بن إسماعيل بنت ياقوتي صاحب بعض أذربيجان وكانت قبله لأبيه إسماعيل بن ياقوتي وهو خال السلطان بركيارق وكانت أخته زوجة السلطان محمد وهو مطالب السلطان بركيارق بثأر أبيه وقد تقدم مقتله أول دولة بركيارق وقال له ينبغي أن تقدم إلينا لتجتمع كلمتنا على طاعتك وقتال خصمنا؛ فسار إليه مجدا وتصيد في طريقه بين أردبيل وبيلقان وانفرد عن عسكره فوثب عليه نمر وهو غافل فجرح السلطان محمدا في عضده فأخذ سكينا بها جوف النمر فألقاه عن فرسه ونجا. ثم إن مودود بن إسماعيل توفي في النصف من ربيع الأول وعمره اثنتان وعشرون سنة ولما بلغ بركيارق اجتماع السلطان محمد والملك مودود سار غير متوقف فوصل بعد موت مودود وكان عسكر مودود قد اجتمعوا على طاعة السلطان محمد وحلفوا له وفيهما سكمان القبطي ومحمد بن باغي سيان الذي كان أبوه صاحب أنطاكية وقزل أرسلان بن السبع الأحمر،
360 فلما وصل بركيارق وقعت الحرب بينهما على باب خوي من أذربيجان عند غروب الشمس ودامت إلى العشاء الآخرة. فاتفق أن الأمير أياز أخذ معه خمسمائة فارس مستريحين وحمل بهم وقد أعيا العسكر من الجهتين على عسكر السلطان محمد فكسرهم وولوا الأدبار لا يلوي أحد على أحد. فأما السلطان بركيارق فإنه قصد جبلا بين مراغة وتبريز كثير العشب والماء فأقام به أياما وسار إلى زنجان. وأما السلطان محمد فإنه سار مع جماعة من أصحابه إلى أرجيش من بلاد أرمينية على أربعين فرسخا من الوقعة وهي من أعمال خلاط من جملة أقطاع الأمير سكمان القبطي وسار منها إلى خلاط واتصل به الأمير علي صاحب أرزن الروم وتوجه إلى آني وصاحبها منوجهر أخو فضلون الروادي ومنها سار إلى تبريز من أذربيجان. وسنذكر باقي أخبارهم سنة سبع وتسعين [وأربعمائة] عند صلحهم إن شاء الله. وكان الأمير محمد بن مرشد مؤيد الملك بن نظام الملك مع السلطان محمد في هذه الرقعة فمر منهزما ودخل ديار بكر وانحدر منها إلى جزيرة ابن عمر وسار منها إلى بغداد وكان في حياة أبيه يقيم ببغداد في سوق المدرسة فاتصلت الشكاوى منه إلى أبيه فكتب إلى كوهرائين بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة وتوجه سنة اثنتين وتسعين [وأربعمائة] إلى مجد الملك البلاساني، ووالده حينئذ بكنجة عند السلطان محمد قبل أن يخطب لنفسه بالسلطنة، وتوجه بعد قتل مجد الملك إلى والده وقد صار وزير السلطان محمد وخطب
361 لمحمد بالسلطنة وبقي قتل والده واتصل بالسلطان محمد وحضر معه هذه الحرب فانهزم. ذكر عزل سديد الملك وزير الخليفة ونظر أبي سعد بن الموصلايا في الوزارة في هذه السنة منتصف رجب قبض على الوزير سديد الملك أبي المعالي وزير الخلفية وحبس في دار بدار الخلافة وكان أهله قد وردوا عليه من أصبهان فنقلوا إليه وكان محبسه جميلا. وسب عزله جهله بقواعد ديوان الخلافة فإنه قضى عمره أعمال السلاطين وليس لهم هذه القواعد ولما قبض عاد أمين الدولة بن الموصلايا إلى النظر في الديوان. ومن عجب ما جرى من الكلام الذي وقع بعد أيام أن سديد الملك كان يسكن في دار عميد الدولة بن جهير وجلس فيها مجلسا عاما يحضره الناس لوعظ المؤيد عيسى الغزنوي فأنشدوا أبياتا ارتجلها: (سديد الملك سدت وخضت بحرا * عميق اللج فاحفظ فيه روحك) (وأحي معالم الخيرات واجعل * لسان الصدق في الدنيا فتوحك) (وفي الماضين معتبر فأسرج * مروحك في السلامة أو جموحك) ثم قال سديد الملك من شرب من مرقة السلطان احترقت شفتاه ولو
362 بعد زمان ثم أشار إلى الدار وقرأ: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم) فقبض على الوزير بعد أيام. ذكر ملك الملك دقاق مدينة الرحبة في هذه السنة في شعبان ملك الملك دقاق بن تتش صاحب دمشق الرحبة وكانت بيد إنسان اسمه قايماز من مماليك السلطان ألب أرسلان فلما قتل كربوقا استولى عليها فسار دقاق وطغتكين أتابكه إليه وحصراه بها ثم رحل عنه. وتوفي قايماز هذه السنة في صفر وقام غلام تركي اسمه حسن فأبعد عنه كثيرا من جنده وخطب لنفسه وخاف من دقاق فاستظهر وأخذ جماعة من السلارية الذين يخافوهم فقبض عليهم وقتل جماعة من أعيان البلد وحبس آخرين وصادرهم فتوجه دقاق إليه وحصره فسلم العامة البلد إليه واعتصم حسن بالقلعة فأمنه دقاق فسلم القلعة إليه فأقطعه أقطاعا كثيرا بالشام وقرر أمر الرحبة وأحسن إلى أهلها وجعل فيها من يحفظها ورحل عنها إلى دمشق.
363 ذكر أخبار الفرنج بالشام كان الأفضل أمير الجيوش بمصر قد أنفذ مملوكا لأبيه لقبه سعد الدولة ويعرف بالطواشي إلى الشام لحرب الفرنج فلقيهم بين الرملة ويافا ومقدم الفرنج يعرف ببغدوين لعنه الله تعالى وتصافوا واقتتلوا فحملت الفرنج حملة صادقة فانهزم المسلمون. وكان المنجمون يقولون لسعد الدولة إنك تموت مترديا فكان يحذر من ركوب الخيل حتى أنه ولي بيروت وأرضها مفروشة بالبلاط فقلعه خوفا أن تزلق به فرسه أو يعثر فلم ينفعه الحذر عند نزول القدر فلما كانت هذه الوقعة انهزم فتردى به فرسه فسقط ميتا، وملك الفرنج خيمه وجميع ما للمسلمين. فأرسل الأفضل بعده ابنه شرف المعالي في جمع كثير فالتقوا هم والفرنج بيازوز بقرب الرملة فانهزم الفرنج وقتل منهم مقتلة عظيمة وعاد من سلم منهم مفلولين فلما رأى بغدوين شدة الأمر وخاف القتل والأسر ألقى نفسه واختفى فيه فلما أبعد المسلمون خرج منه إلى الرملة وسار شرف المعالي بن الأفضل من المعركة ونزل على قصر بالرملة وبه سبعمائة من أعيان الفرنج وفيهم بغدوين فخرج متخفيا إلى يافا وقاتل ابن الأفضل من بقي خمسة عشر يوما ثم أخذها فقتل أربعمائة صبرا ثلاثمائة إلى مصر. ثم اختلف أصحابه في مقصدهم فقال قوم نقصد البيت المقدس
364 ونتملكه؛ وقال قوم نقصد يافا ونملكها. فبينما هم في هذا الاختلاف إذ وصل إلى الفرنج خلق كثير في البحر قاصدين زيارة البيت المقدس فندبهم بغدوين للغزو معه فساروا إلى عسقلان وبها شرف المعالي فلم يكن يقوى بحربهم فلطف الله تعالى بالمسلمين فرأى الفرنج البحرية حصانة عسقلان وخافوا البيات فرحلوا إلى يافا وعاد ولد الأفضل إلى أبيه فسير رجلا يقال له تاج العجم في البر وهو من أكبر مماليك أبيه وجهز معه أربعة آلاف فارس وسير في البحر رجلا يقال له القاضي ابن قادوس في الأسطول على يافا ونزل تاج العجم على عسقلان فاستدعاه ابن قادوس إليه ليتفقا على حرب الفرنج فقال تاج العجم ما يمكنني أن أنزل إليك إلا بالأمر ولم يحضر عنده ولا أعانه فأرسل القادوسي إلى قاضي عسقلان وشهودها وأعيانها وأخذ خطوطهم بأنه أقام على يافا عشرين يوما واستدعى تاج العجم فلم يأته ولا أرسل رجلا فلما وقف الأفضل على الحال أرسل من قبض على تاج العجم وأرسل رجلا لقبه جمال الملك فأسكنه عسقلان وجعله متقدم العساكر الشامية. وخرجت هذه السنة وبيد الفرنج لعنهم الله البيت المقدس وفلسطين ما عدا عسقلان ولهم أيضا يافا وأرسوف وقيسارية وحيفا وطبرية ولاذقية وأنطاكية ولهم بالجزيرة الرها وسروج. وكان صنجيل يحاصر مدينة طرابلس الشام والمواد تأتيها وبها فخر الملك
365 ابن عمار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الفرنج ويقتلون من وجدوا وقصد بذلك أن يخلو السواد ممن يزرع لثقل المواد من الفرنج فيرحلوا عنه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة سادس المحرم توفيت بنت أمير القائم بأمر الله التي كانت زوجة السلطان طغرلبك وكانت موصوفة بالدين وكثرة الصدقة وكان الخليفة المستظهر بالله قد ألزمها بيتها لأنه أبلغ عنها أنها تسعى في إزالة دولته. وفيها في شعبان أيضا استوزر المستظهر بالله زعيم الرؤساء أبا القاسم بن جهير واستقدمه من الحلة من عند سيف الدولة صدقة وقد ذكرنا في السنة المتقدمة سبب مسيره إليها فلما قدم إلى بغداد خرج كل أرباب الدولة فاستقبلوه وخلع عليه الخلع التامة وأجلس في الديوان ولقب قوام الدين. وفيه أيضا قتل أبو المظفر بن الخجندي بالري وكان يعظ الناس فقتله رجل علوي حين نزل من كرسيه وقتل العلوي ودفن الخجندي بالجامع، وأصل بيت الخجندي من مدينة خجندة بما وراء النهر وينسبون إلى المهلب ابن أبي صفرة وكان نظام الملك قد سمع أبا بكر محمد بن ثابت الخجندي يعظ بمرو فأعجبه كلامه وعرف محله من الفقه والعلم فحمله إلى أصبهان وصار مدرسا بمدرسته بها فنال جاها عريضا،
366 ودنيا واسعة، وكان نظام الملك يتردد إليه ويزوره. وفيها جمع ساغربك بما وراء النهر جموعا كثيرة وهو من أولاد الخانية وقصد محمد خان الذي ملكه السلطان سنجر سمرقند ونازعه في ملكها فضعف محمد خان عنه فأرسل إلى السلطان سنجر يستنجده فسار إلى سمرقند فأبعد عنه ساغربك وخانه واحتمى منه وأرسل يطلب الأمان من سنجر والعفو فأجابه إلى ما طلب وحضر ساغربك وقرر الصلح بينه وبين محمد خان وحلف كل منهما لصاحبه وعاد إلى خراسان فوصل إلى مرو في ربيع الأول سنة سبع وتسعين وأربعمائة. وفيها توفي أبو المعالي الصالح ساكن باب الطاق وكان مقلا من الدنيا له كرامات ظاهرة.
367 ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة ذكر ملك بلك بن بهرام بن أرتق مدينة عانة في هذه السنة في المحرم استولى بلك بن بهرام بن أرتق وهو ابن أخي إيلغازي بن أرتق على مدينة عانة والحديثة وكان له مدينة سروج فأخذها الفرنج منه وسار عنها إلى عانة وأخذها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط فقصد بنو يعيش سيف الدولة صدقة بن مزيد ومعهم مشايخهم فسألوه الإصعاد إليها وأن يتسلمها منهم ففعل وأصعد معهم. فرحل التركمان وبهرام عنها وأخذ صدقة رهائنهم وعاد إلى حلته فرجع بلك إليها ومعه ألفا رجل من التركمان فمانعه أصحابه قليلا واستدل على المخاضة إليها فخاضها وعبر ملكهم ونهبهم وسبى جميع حرمهم وانحدر طالبا هيت من الجانب الشامي فبلغ إلى قريب منها ثم رجع من يومه، ولما سمع صدقة جهز العساكر ثم أعادهم عند عود بلك.
368 ذكر غارة الفرنج على الرقة وقلعة جعبر في هذه السنة في صفر أغار الفرنج من الرها على مرج الرقة وقلعة جعبر وكانوا لما خرجوا من الرها افترقوا فرقتين وأبعدوا يوما واحدا تكون الغارة على البلدين فيه ففعلوا ما استقر بينهم وأغاروا واستاقوا المواشي وأسروا من وقع بأيديهم من المسلمين فكانت القلعة والرقة لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب سلمها إليه السلطان ملكشاه سنة تسع وسبعين [وأربعمائة] وقد ذكرناه فيها. ذكر الصلح بين السلطان بركيارق ومحمد في هذه السنة وقع الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه. وكان سببه أن الحروب تطاولت بينهما وعم الفساد فصارت الأموال منهوبة والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والقرى محرقة، والسلطنة مطموعا فيها محكوما عليها وأصبح الملوك مقهورين بعد أن كانوا قاهرين وكان الأمراء الأكابر يؤثرون ذلك ويختارونه ليدوم تحكمهم وانبساطهم وإدلالهم.
369 وكان السلطان بركيارق حينئذ بالري والخطبة له بها وبالجبل وطبرستان وخوزستان وفارس وديار بكر والجزيرة وبالحرمين الشريفين. وكان السلطان محمد أذربيجان والخطبة له فيه وببلاد أرانية وأرمينية وأصبهان والعراق كلها ما عدا تكريت. وأما أعمال البطائح فيخطب ببعضها لبركيارق وببعضها لمحمد وأما البصرة فكان يخطب فيها لهما جميعا. وأما خراسان فإن السلطان سنجر كان يخطب له في جميعها وهي من حدود جرجان إلى ما وراء النهر ولأخيه السلطان محمد. فلما رأى السلطان بركيارق المال عنده معدوما والطمع من العسكر زائدا أرسل القاضي أبا المظفر الجرجاني الحنفي وأبا الفرج بن عبد الغفار الهمذاني المعروف بصاحب قراتكين إلى أخيه محمد في تقرير قواعد الصلح فسار إليه وهو بالقرب من مراغة فذكرا له ما أرسلا فيه ورغباه في الصلح وفضيلته وما شمل البلاد من الخراب وطمع عدو الإسلام في أطراف الأرض فأجاب إلى ذلك وأرسل فيه رسلا واستقر الأمر وحلف كل واحد منهما لصاحبه وتقررت القاعدة أن السلطان بركيارق لا يعترض أخاه محمدا في الطبل وأن لا يذكر معه على سائر البلاد التي صارت له وأن لا يكاتب أحدهما الآخر بل تكون المكاتبة من الوزيرين ولا يعارض أحد من العسكر قصد أيهما شاء وأن يكون للسلطان محمد من النهر المعروف بإسبيذروذ إلى باب الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام ويكون له من بلاد العراق بلاد سيف الدولة صدقة.
370 فأجاب بركيارق إلى هذا وزال الخلف والشغب وأرسل السلطان محمد إلى أصحابه بأصبهان يأمرهم بالانصراف عن البلد وتسليمه إلى أصحاب أخيه وسار السلطان بركيارق إلى أصبهان فلما سلمه إليه أصحاب أخيه وسار السلطان بركيارق إلى أصبهان فلما سلمه إليه أصحاب أخيه دعاهم إلى أن يكونوا معه وفي خدمته فامتنعوا ورأوا لزوم خدمة صاحبهم فسماهم أهل العسكرين جميعا أهل الوفاء وتوجهوا من أصبهان ومعهم حريم السلطان محمد إليه وأكرمهم بركيارق وحمل لأهل أخيه المال الكثير ومن الدواب ثلاثمائة جمل ومائة وعشرين بغلا تحمل الثقل وسير معهم العساكر ويخدمونهم. ولما وصت رسل السلطان بركيارق إلى الخليفة المستظهر بالله بالصلح وما استقرت القواعد عليه حضر إيلغازي بالديوان وسأل في إقامة الخطبة لبركيارق فأجيب إلى ذلك وخطب له بالديوان يوم الخميس تاسع عشر جمادى الأولى وخطب له من الغد بالجوامع وخطب له أيضا بواسط. ولما خطب إيلغازي ببغداد لبركيارق وصار في جملته أرسل الأمير صدقة إلى الخليفة يقول كان أمير المؤمنين ينسب إلي كل ما يتجدد من إيلغازي من إخلال بواجب الخدمة وشرط الطاعة ومن اطراح المراقبة والآن فقد أبدى صفحته للسلطان الذي استنابه وأنا غير صابر على ذلك بل أسير لإخراجه عن بغداد.
371 فلما سمع إيلغازي ذلك شرع في جمع التركماني وورد صدقة بغداد فنزل مقابل التاج وقبل الأرض ونزل في مخيمه بالجانب الغربي ففارق إيلغازي بغداد إلى يعقوبا وأرسل إلى صدقة يعتذر من طاعته لبركيارق بالصلح الواقع وأن إقطاعه حلوان وغيرها في جملة بلاده وأن بغداد التي هو شحنة فيها قد صارت له فذلك الذي أدخله في طاعته فرضي عنه صدقة وعاد إلى الحلة. وفي ذي القعدة سيرت الخلع من الخليفة للسلطان بركيارق وللأمير أياز ولوزير بركيارق وهو الخطير العهد بالسلطنة وحلفوا جميعهم للخليفة وعادوا. ذكر ملك الفرنج جبيل وعكا من الشام في هذه السنة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة لاذقية فيها التجار والأجناد والحجاج وغير ذلك واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس فحصروها معه برا وبحرا وضايقوها وقاتلوها إماما فلم يروا فيها مطمعا فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل فحصروها وقاتلوا عليها قتالا شديدا فلما رأى أهلها عجزهم عن الفرنج أخذوا أمانا وسلموا إليهم فلم تف الفرنج لهم بالأمان وأخذوا أموالهم واستنقذوها بالعقوبات وأنواع العذاب.
372 فلما فرغوا من جبيل ساروا إلى مدينة عكا استنجدهم الملك بغدوين ملك الفرنج صاحب القدس على حصارها فنازلوها وحصروها في البر والبحر. وكان الوالي بها اسمه بنا ويعرف بزهر الدولة الجيوشي نسبة إلى الملك الجيوش الأفضل فقاتلهم أشد قتال فزحفوا إليه غير مرة فعجز عن حفظ البلد فخرج منه وملك الفرنج البلد بالسيف قهرا بأهله الأفعال الشنيعة وسار الوالي به إلى دمشق فأقام بها ثم عاد إلى مصر واعتذر إلى الأفضل فقبل عذره. ذكر غزو سقمان وجكرمش الفرنج لما استطال الفرنج خذلهم الله تعالى بما ملكوه من بلاد الإسلام واتفق لهم اشتغال عساكر الإسلام وملوكه بقتال بعضهم بعضا فتفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء واختلفت الأهواء وتمزقت الأموال. وكانت حران لمملوك من مماليك ملكشاه اسمه قراجة فاستخلف عليها إنسانا يقال له محمد الأصبهاني وخرج في العام الماضي فعصى الأصبهاني على قراجة وأعانه أهل البلد لظلم قراجة. وكان الأصبهاني جلدا شهما فلم يترك بحران من أصحاب قراجة سوى غلام تركي يعرف بجاولي وجعله أصفهسلار العسكر وأنس به فجلس معه يوما للشرب فاتفق جاولي مع خادم له على قتله فقتلاه وهو سكران.
373 فعند ذلك سار الفرنج إلى حران وحصروها. فلما سمع معين الدولة سقمان وشمس الدولة جكرمش ذلك وكان بينهما حرب وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه وكل منهما يستعيد للقاء صاحبه وأنا أذكر سبب قتل جكرمش له إن شاء الله تعالى أرسل كل منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لتلافي أمر حران ويعلمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى وثوابه فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه وسارا فاجتمعا على الخابور وتحالفا وسارا إلى لقاء الفرنج. وكان مع سقمان سبعة آلاف فارس التركمان ومع جكرمش ثلاثة آلاف فارس من الترك العرب والأكراد فالتقوا على نهر البليخ وكان المصاف بينهم هناك فاقتتلوا فأظهر المسلمون الانهزام فتبعهم الفرنج نحو فرسخين فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاؤوا وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم ووصلوا إلى الأموال العظيمة لأن سواد الفرنج كان قريبا وكان بيمند صاحب أنطاكية وطنكري صاحب الساحل قد انفرد وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم إذا اشتدت الحرب فلما خرجا رأيا الفرنج منهزمين وسوادهم منهوبا فأقاما إلى الليل وهربا فتبعهم المسلمون وقتلوا من أصحابهما كثيرا، وأسروا كذلك، وأفلتا في ستة فرسان. وكان القمص بردويل صاحب الرها قد انهزم مع جماعة من قمامصتهم وخاضوا نهر البليخ فوحلت خيولهم فجاء تركماني من أصحاب سقمان
374 فأخذهم، وحمل بردويل إلى خيم صاحبه وقد سار فيمن معه لاتباع بيمند فرأى أصحاب جكرمش أن أصحاب سقمان قد استولوا على مال الفرنج ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل فقالوا لجكرمش أي منزلة تكون لنا عند الناس وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا وحسنوا له أخذ القمص فأنفذ أخذ القمص من خيم سقمان فلما عاد سقمان شق عليه الأمر وركب أصحابه للقتال فردهم وقال لهم لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمهم باختلافنا ولا أوثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين. ورحل لوقته وأخذ سلاح الفرنج وراياتهم وألبس أصحابه لبسهم وأركبهم خيلهم وجعل يأتي حصون شيحان وبها الفرنج فيخرجون ظنا منهم أن أصحابهم نصروا فيقتلهم ويأخذ الحصن منهم فعل ذلك بعدة حصون. وأما جكرمش فإنه سار إلى حران فتسلمها واستخلف بها صاحبه وسار إلى الرها فحصرها خمسة عشر يوما وعاد إلى الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام سقمان ففاداه بخمسة وثلاثين دينارا ومائة وستين أسيرا من المسلمين وكان عدة القتلى من الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل. ذكر وفاة دقاق وملك ولده في هذه السنة في شهر رمضان توفي الملك دقاق بن تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق وخطب أتابكه طغتكين لولد له صغير له سنة
375 واحدة، وجعل اسم المملكة فيه ثم قطع خطبته وخطب لبكتاش بن تتش عم هذا الطفل في ذي الحجة وله اثنتا عشرة سنة. ثم إن طغتكين أشار عليه بقصد الرحبة فخرج إليها فملكها وعاد فمنعه طغتكين من دخول البلد فمض إلى حصون له، وأعاد طغتكين خطبة الطفل ولد دقاق. وقيل إن سبب استيحاش بكتاش من طغتكين أن والدته خوفته منه وقالت إنه زوج والدة دقاق وهي لا تتركه حتى تقتلك ويستقيم الملك لولدها فخاف ثم إنه حسن له من كان يحسد طغتكين مفارقة دمشق وقصد بعلبك وجمع الرجال والاستنجاد بالفرنج والعود إلى دمشق وأخذها من طغتكين فخرج من دمشق سرا في صفر سنة ثمان وتسعين [وأربعمائة]، ولحقه الأمير أيتكين الحلبي وهو من جملة من قرر مع بكتاش ذلك وهو صاحب بصرى فعاثا في نواحي حوران ولحق بهما كل من يريد الفساد وراسلا بغدوين ملك الفرنج يستنجدانه فأجابهما إلى ذلك وسار إليهما فاجتمعا به وقررا القواعد معه وأقاما عنده مدة فلم يريا منه غير التحريض على الإفساد في أعمال دمشق وتخريبها فلما يئسا من نصره عادا من عنده، وتوجها في البرية إلى الرحبة فملكها بكتاش وعاد عنها.
376 واستقام أمر طغتكين بدمشق واستبد بالأمر وأحسن إلى الناس وبث فيهم العدل فسروا به سرورا كثيرا. ذكر استيلاء صدقة على واسط في هذه السنة في شوال انحدر سيف الدولة صدقة بن مزيد من الحلة إلى واسط في عسكر كثير وأمر فنودي بها في الأتراك من أقام فقد برئت منه الذمة فسار جماعة منهم إلى بركيارق وجماعة إلى بغداد وصار مع صدقة جماعة منهم ثم إنه أحضر مهذب الدولة بن أبي الجير صاحب البطيحة وضمنه البلد لمدة آخرها السنة بخمسين ألف دينار وعاد إلى الحلة وأقام مهذب الدولة بواسط إلى سادس ذي القعدة وانحدر إلى بلده. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الأول أطلق سديد الملك أبو المعالي من الاعتقال وهو الذي كان وزير الخليفة ولما أطلق هرب إلى الحلة السيفية ومنها إلى السلطان بركيارق فولاه الإشراف على ممالكه. وفيها توفي أمين الدولة أبو سعيد العلاء بن الحسن بن الموصلايا فجأة وكان قد أضر وكان بليغا فصيحا وكان ابتداء خدمته للقائم بأمر الله سنة
377 اثنتين وثلاثين وأربعمائة خدم الخلفاء خمسا وستين سنة كل يوم تزداد منزلته حتى ناب عن الوزارة وكان نصرانيا فأسلم سنة أربع وثمانين [وأربعمائة] وكان كثير الصدقة جميل المحضر صالح النية ووقف أملاكه على أبواب البر ومكاتباته مشهورة حسنة؛ ولما مات خلع على ابن أخته أبي نصر ولقب نظام الحضرتين وقلد ديوان الإنشاء. وفيها كانت ببغداد بين العامة فتن كثيرة وانتشر العيارون. وفيها قتل أبو نعيم بن ساوة الطبيب الواسطي وكان الحذاق في الطب وله فيه إصابات حسنة. وفيها عزل السلطان سنجر وزيره المجير أبا الفتح الطغرائي. وسبب ذلك أن الأمير بزغش وهو إصفهسلار العسكر السنجري ألقى إليه ملطف فيه لا يتم لك أمر مع هذا السلطان ووقع إلى سنجر لا يتم لك مع الأمير بزغش مع كثرة جموعه فجمع بزغش أصحاب العمائم وعرض عليهم الملطفين فاتفقوا على كاتب الطغرائي وظهرت عليه فقتل وقبض سنجر على الطغرائي وأراد قتله فمنعه بزغش وقال له حق خدمة فأبعده إلى غزنة. وفيها جمع بزغش كثيرا من عساكر خراسان وأتاه كثير من المتطوعة وسار إلى قتال الإسماعيلية فقصد طبس وهي لهم فخربها وما جاورها من القلاع والقرى وأكثر فيهم القتل والنهب والسبي وفعل بهم الأفعال العظيمة ثم إن أصحاب سنجر أشاروا بأن يؤمنوا ويشرط عليهم أنهم لا يبنون حصنا ولا يشترون سلاحا ولا يدعون أحدا
378 إلى عقائدهم فسخط كثير من الناس هذا الأمان وهذا الصلح ونقموه على سنجر ثم إن بزغش بعد عوده من هذه الغزاة توفي وكانت خاتمة أمره الجهاد رحمه الله. وفي هذه السنة توفي أبو بكر علي بن أحمد بن زكرياء الطريثيتي وكان صوفيا محدثا مشهورا. وفي رجب توفي القاضي أبو الحسين أحمد بن محمد الثقفي قاضي الكوفة ومولده في ربيع الدامغاني وولي القضاء بعده ابنه أبو البركات. وفي ربيع الآخر توفي أو عبد الله الحسين بن علي بن البسري البندار المحدث ومولده سنة أربع وأربعمائة.
379 498 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة ذكر وفاة السلطان بركيارق في هذه السنة ثاني شهر ربيع الآخر توفي السلطان بركيارق بن ملكشاه وكان قد مرض بأصبهان بالسل والبواسير فسار منها في محفة طالبا بغداد فلما وصل إلى بروجرد ضعف عن الحركة فأقام بها أربعين يوما فاشتد مرضه فلما أيس من نفسه خلع على ولده ملكشاه وعمره حينئذ أربع سنين وثمانية أشهر وخلع على الأمير أياز وأحضر جماعة الأمراء وأعلمهم أنه قد جعل ابنه ولي عهده في السلطنة وجعل الأمير أياز أتابكه وأمرهم بالطاعة ومساعدتهما على حفظ السلطنة لولده والذب عنها فأجابوا كلهم بالسمع والطاعة وبذل النفوس والأموال في حفظ ولده وسلطنته عليه واستحلفهم على ذلك فحلفوا وأمرهم بالمسير إلى بغداد فساروا فلما كانوا على اثني عشر فرسخا من بروجرد وصلهم خبر وفاته وكان بركيارق قد تخلف على عزم العود إلى أصبهان فعاجلته منيته. فلما سمع الأمير أياز بموته أمر وزيره الخطير المبيذي وغيره بأن يسيروا مع تابوته إلى أصبهان فحمل إليها ودفن في تربة جددتها له سريته ثم ماتت بعد أيام فدفنت بإزائه وأحضر أياز السرادقات والخيام والجار والشمسة وجميع ما يحتاج إليه السلطان فجعله برسم ولده ملكشاه.
380 ذكر عمره وشئ من سيرته لما توفي بركيارق كان عمره خمسا وعشرين سنة ومدة وقوع اسم السلطنة عليه اثنتي عشرة سنة وأربعة أشهر وقاسى من الحروب واختلاف الأمور عليه ما لم يقاسه أحد واختلفت به الأحوال بين رخاء وشدة وملك وزواله وأشرف في عدة نوب بعد إسلام النعمة على ذهاب المهجة. ولما قوي أمره في هذا الوقت وأطاعه المخالفون وانقادوا له أدركته منيته ولم يهزم في حروبه غير مرة واحدة وكان أمراؤه قد طمعوا فيه للاختلاف الواقع حتى أنهم كانوا يطلبون نوابه ليقتلوهم فلا يمكنه الدفع عنهم وكان متى خطب له ببغداد وقع الغلاء. ووقفت المعايش والمكاسب وكان أهلها مع ذلك يحبونه ويختارون سلطانه. وقد ذكرنا من تقلب الأحوال به ما وقفت عليه ومن أعجبها دخوله أصبهان هاربا من عمه تتش فمكنه عسكر أخيه محمود صاحبها من دخولها ليقبضوا عليه فاتفق أن أخاه محمودا مات فاضطربوا إلى أن يملكوه وهذا من أحسن الفرج بعد الشدة. وكان حليما كريما صبورا عاقلا كثير المداراة لا يبالغ في العقوبة وكان عفوه أكثر من عقوبته.
381 ذكر الخطبة لملكشاه بن بركيارق . في هذه السنة خطب لملكشاه بن بركيارق بالديوان يوم الخميس سلخ ربيع الآخر وخطب له بجوامع بغداد يوم الجمعة وكان سبب ذلك أن إيلغازي شحنة بغداد سار في المحرم إلى السلطان بركيارق وهو بأصبهان يحثه على الوصول إلى بغداد رحل مع بركيارق فلما مات سار مع ولده ملكشاه والأمير أياز إلى بغداد فوصلوها سابع عشر ربيع الآخر ولقوا في طريقهم بردا شديدا لم يشاهدوا مثله بحيث أنهم لم يقدروا على الماء لجموده. وخرج الوزير أبو القاسم علي بن جهير فلقيهم من ديالى وكانوا خمسة آلاف فارس وحضر إيلغازي والأمير طغايرك بالديوان وخاطبوا في إقامة الخطبة لملكشاه بن بركيارق فأجيب إليها وخطب له ولقب بألقاب جده ملكشاه وهي جلال وغيره من الألقاب ونثرت الدنانير عند الخطبة له. ذكر حصر السلطان محمد جكرمش بالموصل لما اصطلح السلطان بركيارق والسلطان محمد كما ذكرناه في السنة الخالية وسلم محمد مدينة أصبهان إلى بركيارق وسار إليها أقام محمد بتبريز من أذربيجان إلى أن وصل أصحابه الذين بأصبهان فلما وصلوا استوزر سعد الملك أبا المحاسن لحسن أثره [الذي] كان في حفظ أصبهان، وأقام إلى صفر من
382 هذه السنة وسار إلى مراغة ثم إلى إربل يريد قصد جكرمش صاحب الموصل ليأخذ بلاده. فلما سمع جكرمش بمسيره إليه جدد سور الموصل ورم ما احتاج إلى إصلاح وأمر أهل السواد بدخول البلد وأذن لأصحابه في نهب من لم يدخل. وحصر محمد المدينة وأرسل إلى جكرمش يذكر له الصلح بينه وبين أخيه أن في جملة ما استقر أن تكون الموصل وبلاد الجزيرة له وعرض عليه الكتب من بركيارق إليه بذلك والأيمان على تسليمها إليه وقال له أين أطعت فأنا لا آخذها منك بل أقرها بيدك وتكون الخطبة لي بها فقال جكرمش إن كتب السلطان وردت إلي بعد الصلح تأمرني أن لا أسلم البلد إلى غيره. فلما رأى محمد امتناعه باكره القتال وزحف إليه بالنقابين والدبابات وقاتل أهل البلد أشد قتال وقتلوا خلقا كثيرا لمحبتهم لجكرمش لحسن سيرته فيهم فأمر جكرمش ففتح في السور أبواب لطاف يخرج منها الرجالة يقاتلون فكانوا يكثرون القتل في العسكر ثم زحف محمد مرة فنقب في السور أصحابه وأدركهم الليل فأصبحوا وقد عمره أهل البلد وشحنوه بالمقاتلة وكانت الأسعار عندهم رخيصة في الحصار كانت الأسعار وعندهم رخيصة في الحصار كانت الحنطة تساوي كل ثلاثين مكوكا دينارا والشعير [كل] خمسون مكوكا بدينار. وكان بعض عسكر جكرمش قد اجتمعوا بتل يعفر فكان يغيرون على أطراف العسكر ويمنعون الميرة عنهم فدام القتال عليهم إلى عاشر جمادى الأولى فوصل الخبر إلى جكرمش بوفاة السلطان بركيارق فأحضر أهل
383 البلد، واستشارهم فيما يفعله بعد موت السلطان فقالوا أموالنا وأرواحنا بين يديك وأنت أعرف بشأنك فاستشر الجند فهم أعرف بذلك فاستشار أمراءه فقالوا لما كان السلطان حيا قد كنا على الامتناع ولم يتمكن أحد من طروق بلدنا وحيث توفي فليس للناس اليوم سلطان غير هذا والدخول تحت طاعته أولى. فأرسل إلى محمد يبذل الطاعة ويطلب وزيره سعد الملك ليدخل إليه فحضر الوزير وأخذ بيده وقال المصلحة أن تحضر الساعة عند السلطان فإنه لا يخالفك في جميع ما تلتمسه وأخذ بيده وقام فسار معه جكرمش فلما رآه أهل الموصل جعلوا يبكون ويضجون ويحثون التراب على رؤوسهم فلما دخل على السلطان محمد أقبل عليه وأكرمه وعانقه ولم يمكنه من الجلوس وقال ارجع إلى رعيتك فإن قلوبهم إليك وهم متطلعون إلى عودك فقبل الأرض وعاد ومعه جماعة من خواص السلطان وسأل السلطان من الغد أن يدخل البلد لتزين له فامتنع من ذلك فعمل سماطا بظاهر الموصل عظيما وحمل إلى السلطان من الهدايا والتحف ولوزيره أشياء جليلة المقدار. ذكر وصول السلطان إلى بغداد وصلحه مع ابن أخيه والأمير أياز لما وصل خبر وفاة السلطان بركيارق إلى أخيه السلطان محمد وهو يحاصر الموصل جلس للعزاء وأصلح جكرمش صاحب الموصل كما ذكرناه، وسار إلى بغداد ومعه سكمان القطبي وهو ينسب إلى قطب الدولة إسماعيل
384 بن ياقوتي بن داود وإسماعيل ابن عم ملكشاه وسار معه جكرمش وغيرهما من الأمراء. وكان سيف الدولة صدقة صاحب الحلة قد جمع خلقا كثيرا من العساكر فبلغت عدتهم خمسة عشر ألف فارس وعشرة آلاف راجل وأرسل ولديه بدران ودبيسا إلى السلطان محمد يستحثه على المجيء إلى بغداد. فلما سمع الأمير أياز بمسيره إليه خرج هو والعسكر الذين معه من الدور ونصبوا الخيام بالزاهر خارج بغداد وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعله فبذلوا له الطاعة وأيمن على قتاله وحربه، ومنعه عن السلطنة، والاتفاق معه على طاعة ملكشاه بن بركيارق. وكان أشدهم في ذلك ينال وصباوة فإنهم بالغوا في الأطماع في السلطان محمد والمنع له من السلطنة فلما تفرقوا قال له وزيره الصفي أبو المحاسن يا مولانا إن حياتي مقرونة بثبات نعمتك ودولتك وأنا أكثر التزاما بك من هؤلاء وليس الرأي ما أشاروا به فإن كلامهم يقصد أن يسلك طريقا وأن يقيم سوقا لنفسه بك وأكثرهم يناوئك في المنزلة وإنما يقعد بهم عن منازعتك قلة العدد والمال والصواب مصالحة السلطان محمد وطاعته وهو يقرك على إقطاعك ويزيدك عليه مهما أردت. فتردد رأي الأمير أياز في الصلح والمباينة إلا أن حركته في المباينة ظاهرة وجمع السفن التي ببغداد عنده وضبط المشارع من متطرق إلى عسكره وإلى البلد.
385 ووصل السلطان محمد إلى بغداد يوم الجمعة لثمان بقين من جمادى الأولى ونزل عند الجانب الغربي بأعلى بغداد وخطب له بالجانب الغربي ولملكشاه بن بركيارق بالجانب الشرقي وأما جامع المنصور فإن الخطيب قال فيه اللهم أصلح سلطان العالم! وسكت. وخاف الناس من امتداد أشر والنهب فركب أياز في عسكره وهم عازمون على الحرب وسار إلى أن أشرف على عسكر السلطان محمد وعاد إلى مخيمه فدعا الأمراء إلى اليمين مرة ثانية على المخالصة لملكشاه فأجاب البعض وتوقف البعض وقالوا قد حلفنا مرة ولا فائدة في إعادة اليمين لأننا إن وفينا بالأولى وفينا بالثانية، وإن لم نف بالأولى فلا نفي بالثانية. فأمر أياز حينئذ وزيره الصفي أبا المحاسن بالعبور إلى السلطان محمد في الصلح وتسليم السلطنة إليه وترك منازعته فيها فعبر يوم السبت لسبع بقين من الشهر إلى عسكر محمد واجتمع بوزيره سعد الملك أبي المحاسن سعد بن محمد فعرفه ما جاء فيه فحضر عند السلطان محمد وأدى الصفي رسالة صاحبه أياز واعتذر عما كان منه أيام بركيارق فأجابه محمد جوابا لطيفا سكن به قلبه وطيب نفسه وأجاب إلى ما التمسه منه من اليمن. فلما كان الغد حضر قاضي القضاة والنقيبان والصفي وزير أياز عند السلطان محمد فقال له وزيره سعد الملك إن أياز يخاف لما تقدم منه،
386 وهو يطلب العهد لملكشاه ابن أخيك ولنفسه وللأمراء الذين معه فقال السلطان أما ملكشاه فإنه ولدي ولا فرق بيني وبين أخي وأما أياز والأمراء فاحلف لهم ألا ينال الحسامي وصباوة فاستحلفه الكيا الهراس مدرس النظامية على ذلك وحضر الجماعة اليمين. فلما كان من الغد حضر الأمير أياز عند السلطان محمد فلقيه وزير السلطان وكافة الناس ووصل سيف الدولة صدقة ذلك الوقت ودخلا جميعا إلى السلطان فأكرمهما وأحسن إليهما وقيل بل ركب السلطان ولقيهما ووقف أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وأقام السلطان ببغداد إلى شعبان وسار إلى أصبهان وفعل فيها ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر قتل الأمير أياز في هذه السنة ثالث عشر جمادى الآخرة قتل الأمير أياز قتله السلطان محمد. وسبب ذلك أن أياز لما سلم السلطنة إلى السلطان محمد وسار في جملته واستحلفه لنفسه فلما كان ثامن جمادى الآخرة عمل دعوة عظيمة في داره وهي دار كوهرائين ودعا السلطان إليها وقدم له شيئا كثيرا من جملته الحبل البلخش الذي أخذ من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك وقد تقدم ذكر ذلك وحضر مع السلطان سيف الدولة صدقة بن مزيد.
387 وكان من الاتفاق الردي أن أياز تقدم غلمانه ليلبسوا السلاح من خزانته ليعرضهم على السلطان فدخل عليهم رجل من أبهر يتطايب معهم ويضحكون منه مع كونه يتصوف فقالوا له لا بد من أن نلبسك درعا فألبسوه الدرع تحت قميصه وتناولوه بأيديهم وهو يسألهم أن يكفوا عنه فلم يفعلوا فلشدة ما فعلوا به هرب منهم ودخل بين خواص السلطان معتصما بهم فرآه السلطان مذعورا وعليه لباس عظيم فاستراب به فقال لغلام له بالتركية ليلمسه من غير أن يعلم أحد ففعل فرأى الدرع تحت قميصه فأعلم السلطان بذلك فاستشعر وقال إذا كان أصحاب العمائم قد لبسوا السلاح فكيف الأجناد وقوي استشعاره لكونه في داره وفي قبضته فنهض وفارق الدار وعاد إلى داره. فلما كان ثالث عشر الشهر استدعى السلطان الأمير صدقة وإياز وجكرمش وغيرهم من الأمراء فلما حضروا أرسل إليهم أنه بلغنا أن قلج أرسلان بن سلمان بن قتلمش قصد ديار بكر ليتملكها ويسير منها إلى الجزيرة وينبغي أن تجتمع آراؤكم على من يسير غليه ليمنعه ويقاتله فقال الجماعة ليس لهذا غير الأمير أياز فقال أياز ينبغي أن أجتمع أنا وسيف الدولة صدقة بن مزيد على هذا الأمر والدفع لهذا القاصد فقيل ذلك للسلطان فأعاد الجواب يستدعى أياز وصدقة والوزير سعد الملك ليحرر الأمر في حضرته فنهضوا ليدخلوا إليه. وكان قد أعد جماعة من خواصه ليقتلوا أياز إذا دخل إليه فلما دخلوا ضرب أحدهم رأسه فأبانه فأما صدقة فغطى وجهه بكمه وأما
388 الوزير فإنه غشي عليه ولف أياز في مسح وألقي على الطريق عند دار المملكة وركب عسكر أياز فنهبوا ما قدروا عليه من داره فأرسل السلطان من حماها من النهب وتفرق أصحابه من يومهم وكان زوال تلك النعمة العظيمة والدولة الكبيرة في لحظة بسبب هزل ومزاح. فلما كان من الغد كفنه قوم من المتطوعة ودفنوه في المقابر المجاورة لقبر أبي حنيفة رحمه الله. وكان عمره قد جاوز أربعين سنة وهو من جملة مماليك السلطان ملكشاه ثم صار بعد موته في جملة أمير آخر فاتخذه ولدا، وكان غزير المروءة شجاعا حسن الرأي في الحرب. وأما وزيره الصفي فإنه اختفى ثم أخذ وحمل إلى دار الوزير سعد الملك ثم قتل في رمضان وعمره ست وثلاثون سنة وكان من بيت رياسة بهمذان. ذكر وفاة سقمان بن أرتق كان فخر الملك عمار صاحب طرابلس قد كاتب سقمان يستدعيه إلة نصرته على الفرنج وبذل له المعونة بالمال والرجال فبينما هو يتجهز للمسير أتاه كتاب طغتكين صاحب دمشق يخبره أنه مريض قد أشفى على الموت وأنه يخاف إن مات وليس بدمشق من يحميها أن يملكها الفرنج ويستدعيه ليوصي إليه، وبما يعتمده في حفظ البلد. فلما رأى أسرع في
389 السير عازما على أخذ دمشق وقصد الفرنج في طرابلس وإبعادهم عنها فوصل إلى القريتين. واتصل خبره بطغتكين فخاف عاقبة ما صنع ولقوة فكره زاد مرضه ولامه أصحابه على ما فرط في تدبيره وخوفوه عاقبة ما فعل وقالوا له قد رأيت سيدك تاج الدولة لما استدعاه إلى دمشق ليمنعه كيف قتله عينه عليه. فبينما هم يدبرون الرأي بأي حيلة يردونه أتاهم الخبر بأنه وصل القريتين ومات وحمله أصحابه وعادوا به فأتوهم فرج لم يحسبوه وكان مرضه الذي مات به الخوانيق يعتريه دائما فأشار عليه أصحابه بالعود إلى حصن كيفا، فامتنع وقال بل أسير فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفا من الموت وإن أدركني أجلي كنت شهيدا سائر في جهاد فساروا فاعتقل لسانه يومين ومات في صفر وبقي ابنه إبراهيم في أصحابه وجعل في تابوت وحمل إلى الحصن. وكان حازما داهيا ذا رأي كثير الخير، وقد ذكرنا سبب أخذه لحصن كيفا. وأما ملكه ماردين فإن كربوقا خرج من الموصل فقصد آمد وحارب صاحبها فاستنجد صاحبها وهو تركماني بسقمان فحضر عنده وصاف كربوقا. وكان عماد الدين زنكي بن آقسنقر حينئذ صبيا قد حضر مع كربوقا ومعه جماعة كثيرة من أصحاب أبيه فلما اشتد القتال ظهر سقمان، فألقى
390 أصحاب آقسنقر زنكي ولد صاحبهم بين أرجل الخيل وقالوا قاتلوا عن ابن صاحبكم فقاتلوا حينئذ قتالا شديدا فانهزم سقمان وأسروا ابن أخيه ياقوتي بن أرتق فسجنه كربوقا بقلعة ماردين وكان صاحبها إنسانا مغنيا للسلطان بركيارق فطلب منه ماردين وأعمالها فأقطعه إياها فبقي ياقوتي في حبسه مدة فمضت زوجة أرتق إلى كربوقا وسألته إطلاقه فأطلقه فنزل عند ماردين وكانت قد أعجبته فأقام ليعمل في تملكها والاستيلاء عليها. وكان من عند ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها المغني وأغاروا على أعمال ماردين عدة دفعات فراسله ياقوتي يقول قد صار بيننا مودة وصداقة وأريد أن أعمر بلدك بأن أمنع عنه الأكراد وأغير على الأماكن وآخذ الأموال أنفقها في بلدك وأقيم في الربض فأذن له في ذلك فجعل يغير من باب خلاط إلى بغداد فصار ينزل معه بعض أجناد القلعة طلبا للكسب وهو يكرمهم ولا يعترضهم فأمنوا إليه. فاتفق أن في بعض الأوقات نزل معه أكثرهم فلما عادوا من الغارة أمر بقبضهم وتقييدهم وسبقهم إلى القلعة نادى من بها من أهليهم إن فتحتم الباب وإلا ضربت أعناقكم فامتنعوا فقتل إنسانا منهم فسلم القلعة من بها إليه وبقي بها. ثم إنه جمع جميعا وسار إلى نصيبين وأغار على بلد جزيرة ابن عمر هي لجكرمش فلما عاد أصحابه بالغنيمة أتاهم جكرمش وكان ياقوتي قد أصابه مرض عجز معه عن لبس السلاح وركوب الخيل فحمل إلى فرسه
391 فركبه، وأصابه سهم فسقط منه فأتاه جكرمش وهو يجود بنفسه فبكى عليه وقال له ما حملك على ما صنعت يا ياقوتي فلم يجبه فمات ومضت زوجة أرتق إلى ابنها سقمان وجمعت التركمان وطلبت بثار ابن ابنها حصر سقمان نصيبين وهي الحرب لجكرمش فسير جكرمش إلى سقمان مالا كثيرا فأخذه ورضي وقال إنه قتل في الحرب ولا يعرف قاتله. و ملك ماردين بعد ياقوتي أخوه علي وصار في طاعة جكرمش واستخلف بها أميرا اسمه علي أيضا فأرسل علي الوالي بماردين إلى سقمان يقول له ابن أخيك يريد أن يسلم ماردين إلى جكرمش فسار سقمان بنفسه وتسلمها فجاء إليه علي ابن أخيه وطلب إعادة القلعة إليه فقال إنما أخذتها لئلا يخرب البيت فأقطعه جبل جور ونقله إليه. وكان جكرمش يعطي عليا كل سنة عشرين ألف دينار فلما أخذ عمه سقمان ماردين منه وأرسل علي إلى جكرمش يطلب منه المال فقال إنما كنت أعطيتك احتراما لماردين وخوفا من مجاورتك والآن فاصنع ما أنت صانع فلا قدرة لك علي. ذكر حال الباطنية هذه السنة بخراسان في هذه السنة سار جمع كثير من الإسماعيلية من طريثيث عن بعض أعمال بيهق وشاعت الغارة في تلك النواحي وأكثروا القتل في أهلها،
392 والنهب لأموالهم والسبي لنسائهم ولم يقفوا على الهدنة المتقدمة. وفي هذه السنة اشتد أمرهم وقويت شوكتهم ولم يكفوا أيديهم عمن يريدون قتله لاشتغال السلاطين عنهم فمن جملة فعلهم أن قفل الحاج تجمع هذه السنة مما وراء النهر وخراسان والهند وغيرها من البلاد فوصلوا إلى جوار الري فأتاهم الباطنية وقت السحر فوضعوا فيهم السيف وقتلوهم كيف شاؤوا وغنموا أموالهم ودوابهم ولم يتركوا شيئا. وقتلوا هذه السنة أبا جعفر بن المشاط وهو من شيوخ الشافعية أخذ الفقه عن الخجندي وكان يدرس بالري ويعظ الناس فلما نزل من كرسيه أتاه باطني فقتله. ذكر حال الفرنج هذه السنة مع المسلمين بالشام في هذه السنة في شعبان كانت وقعة بين طنكري الفرنجي صاحب أنطاكية وبين الملك رضوان صاحب حلب انهزم فيها رضوان. وسببها أن طنكري حصر حصن أرتاح وبها نائب الملك رضوان فضيق الفرنج على المسلمين فأرسل النائب بالحصن إلى رضوان يعرفه ما هو فيه من الحصر الذي أضعف نفسه ويطلب النجدة فسار رضوان في عسكر كثير من الخيالة وسبعة آلاف من الرجالة منهم ثلاثة آلاف من المتطوعة فساروا حتى وصلوا قنسرين وبينهم وبين الفرنج قليل فلما رأى طنكري كثرة المسلمين أرسل إلى رضوان يطلب الصلح فأراد أن يجيب فمنعه أصبهبذ صباوة وكان قد قصده وسار معه بعد قتل أياز فامتنع من الصلح،
393 واصطفوا للحرب فانهزمت الفرنج من غير قتال ثم قالوا نعود ونحمل عليهم حملة واحدة فإن كانت لنا وإلا انهزمنا فحملوا على المسلمين فلم يثبتوا وانهزموا وقتل منهم وأسر كثير. وأما الرجالة فإنهم كانوا قد دخلوا معسكر الفرنج لما انهزموا فاشتغلوا بالنهب فقتلهم والفرنج ولم ينج إلا الشريد فأخذ أسيرا وهرب من في أرتاح إلى حلب وملكه الفرنج لعنهم الله تعالى وهرب أصبهبذ صباوة إلى طغتكين أتابك بدمشق فصار معه ومن أصحابه. ذكر حرب الفرنج والمصريين في ذي الحجة من هذه السنة كانت وقعة بين الفرنج والمسلمين كانوا فيها على السواء. وسببها أن الأفضل وزير صاحب مصر كان قد سير ولده شرف المعالي في السنة الخالية إلى الفرنج فقهرهم وأخذ الرملة منهم ثم اختلف المصريون والعرب وادعى كل واحد منهما أن الفتح له فأتاهم سرية الفرنج فتقاعد كل فريق منهما بالآخر حتى كاد الفرنج يظهرون عليهم فرحل عند ذلك شرف المعالي إلى أبيه بمصر فنفذ ولده الآخر وهو سناء الملك حسين في جماعة من الأمراء نهم جمار الملك النائب بعسقلان للمصريين وأرسلوا إلى طغتكين أتابك بدمشق يطلبون منه عسكرا فأرسل إليهم أصبهبذ صباوة ومعه ألف وثلاثمائة فارس. وكان المصريون في خمسة آلاف وقصدهم بغدوين الفرنجي، صاحب
394 القدس، وعكة، ويافا، في ألف وثلاثمائة فارس، وثمانية آلاف راجل فوقع المصاف بينهم بين عسقلان ويافا فلم تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى فقتل من المسلمين ألف ومائتان ومن الفرنج مثلهم وقتل جمال الملك أمير عسقلان. فلما رأى المسلمون أنهم قد تكافأوا في النهاية قطعوا الحرب وعادوا إلى عسقلان وعاد صباوة إلى دمشق وكان مع الفرنج جماعة من المسلمين منهم بكتاش بن تتش وكان طغتكين قد عدل في الملك إلى ولد أخيه دقاق وهو طفل وقد ذكرناه فدعاه ذلك إلى قصد الفرنج والكون معهم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة عظم فساد التركمان بطريق خراسان من أعمال العراق وقد كانوا قبل ذلك ينهبون الأموال ويقطعون الطريق إلا أنهم عندهم مراقبة فلما كان هذه السنة أطرحوا المراقبة وعملوا الأعمال الشنيعة فاستعمل إيلغازي بن أرتق وهو شحنة العراق على ذلك البلد ابن أخيه بلك بن بهرام بن أرتق وأمره بحفظه وحياطته ومنع الفساد عنه فقام في ذلك القيام المرضي وحمى البلاد وكف الأيدي المتطاولة وسار بلك إلى حصن خانيجار وهو من أعمال سرخاب بن بدر فحصره وملكه. وفيها في شعبان جعل السلطان محمد قسيم الدولة سنقر البرسقي شحنة
395 بالعراق وكان موصوفا بالخير والدين وحسن العهد لم يفارق محمدا في حروبه كلها. وفيها أقطع السلطان محمد الكوفة للأمير قايماز وأوصى صدقة أن يحمي أصحابه من خفاجة فأجاب إلى ذلك. وفيها في شهر رمضان وصل السلطان محمد إلى أصبهان فأمن أهلها ووثقوا بزوال ما كان يشملهم من الخبط والعسف والمصادرة وشتان بين خروجه منها هاربا متخفيا وعوده إليها سلطانا متمكنا وعدل في أهلها وأزال عنهم ما يكرهون وكف الأيدي المتطرقة إليهم من الجند وغيرهم فصار كلمة العامي أقوى من كلمة الجندي ود الجندي قاصرة عن العامي من هيبة السلطان وعدله. وفيها ذكر الجدري في كثير من البلدان لا سيما العراق فإنه كان به كله ومات به من الصبيان ما لا يحصى وتبعه وباء كثير وموت عظيم. وتوفي في هذه السنة في شوال أحمد بن محمد بن أحمد أبو علي البرداني الحافظ ومولده سنة ست وعشرين وأربعمائة سمع ابن غيلان والبرمكي والعشاري وغيرهم. وتوفي أبو المعالي ثابت بن بندار بن إبراهيم البقال ومولده سنة ست عشرة وأربعمائة سمع أبا بكر البرقاني وأبا علي بن شاذان وكانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة. وفي رابع جمادي الأولى توفي أبو الحسن محمد بن علي بن أبي الصقر،
396 الفقيه الشافعي ومولده سنة تسع وأربعمائة وكان أديبا شاعرا فمن قوله: (من قال لي جاه ولي حشمة * ولي قبول عند مولانا) (ولم يعد ذاك بنفع على * صديقه لا كان من كانا) وفيها أيضا توفي أبو نصر ابن أخت ابن الموصلايا وكان كاتبا للخليفة جيد الكتابة وكان عمره سبعين ولم يخلف وارثا لأنه أسلم وأهله نصارى فلم يرثوه وكان يبخل إلا أنه كان كثير الصدقة؛ وأبو المؤيد عيسى بن عبد الله بن القاسم الغزنوي كان واعظا شاعرا كاتبا قدم بغداد ووعظ بها ونصر مذهب الأشعري وكان له قبول عظيم وخرج منها فمات بإسفراين.
397 499 ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة ذكر خروج منكبرس على السلطان محمد في هذه السنة في المحرم أظهر منكبرس ابن الملك بوربرس بن ألب أرسلان وهو ابن عمر السلطان محمد العصيان للسلطان محمد والخلاف عليه. وسبب ذلك أنه كان مقيما بأصبهان فلحقته ضائقة شديدة وانقطعت المواد عنه فخرج منها وسار إلى نهاوند فاجتمع عليه بها جماعة من العسكر وظاهره على أمره جماعة من الأمراء وتغلب على نهاوند وخطب لنفسه بها وكاتب الأمراء بني برسق يدعوهم إلى طاعته ونصرته. وكان السلطان محمد قد قبض على زنكي بن برسق فكاتب زنكي إخوته وحذرهم من طاعة منكبرس وفيها من الأذى والخطر وأمرهم بتدبير الأمر في القبض عليه. فلما أتاهم كتاب أخيهم بذلك أرسلوا إلى منكبرس يبذلون له الطاعة والموافقة فسار إليهم وساروا إليه فاجتمعوا به وقبضوا عليه بالقرب من أعمالهم وهي بلد خوزستان وتفرق أصحابه وأخذوا منكبرس إلى أصبهان فاعتقله السلطان مع بني عمه تكش وأخرج زنكي بن برسق وأعاده إلى مرتبته واستنزله وإخوته عن أقطاعهم وهي ليشتر، وسابور خواست
398 وغيرها، ما بين الأهواز وهمذان وقطعهم عوضها الدينور وغيرها. واتفق أن ظهر بنهاوند أيضا في هذه السنة رجل من السواد ادعى النبوة فأطاعه خلق كثير من السوادية واتبعوه وباعوا أملاكهم ودفعوا إليه أثمانها فكان يخرج ذلك جميعه وسمى أربعة من أصحابه أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وقتل بنهاوند فكان أهلها يقولون ظهر عندنا في مدة شهرين اثنان ادعى أحدهما النبوة والآخر المملكة فلم يتم لواحد منهما أمره. ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج في هذه السنة في صفر كانت وقعة بين طغتكين أتابك صاحب دمشق وبين قمص كبير من قمامصة الفرنج. وسبب ذلك أنه تكررت الحروب والغارات بين عسكر دمشق وبغدوين فتارة لهؤلاء [وتارة له]، ففي آخر الأمر بنى بغدوين حصنا بينه وبين دمشق نحو يومين فخاف طغتكين من عاقبة ذلك وما يحدث به من الضرر فجمع عسكره وخرج إلى مقاتلتهم فسار بغدوين ملك القدس وعكا وغيرهما إلى هذا القمص ليعاضده ويساعده على المسلمين فعرفه القمص غناه عنه وأنه قادر على مقارعة المسلمين إن قاتلوه فعاد بغدوين إلى عكا.
399 وتقدم طغتكين إلى الفرنج واقتتلوا واشتد القتال فانهزم أميران من عسكر دمشق فتبعهما طغتكين وقتلهما وانهزم الفرنج إلى حصنهم فاحتموا به فقال طغتكين من أحسن قتالهم وطلب مني أمرا فعلته معه ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيته خمسة دنانير فبذل الرجالة نفوسهم وصعدوا إلى الحصن وخربوه وحملوا حجارته إلى طغتكين فوفى لهم بما وعدهم وأمر بالقاء الجارة في الوادي وأسروا من بالحصن فأمر بهم فقتلوا كلهم واستبقى الفرسان أسراء وكانوا مائتي فارس ولم ينج ممن كان في الحصن إلا القليل. وعاد طغتكين إلى دمشق منصورا فزين البلد أربعة أيام وخرج منها إلى رفنية وهو من حصون الشام وقد تغلب عليه الفرنج وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس فحصره طغتكين وملكه وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج. ذكر الحرب بين عبادة وخفاجة في هذه السنة كانت حرب شديد بين عبادة وخفاجة. وسببها أن رجلا من عبادة أخذ منه جماعة خفاجة جملين فجاء إليهم وطالبهم بهما فلم يعطوه شيئا فأخذ منهم غارة أحد عشر بعيرا فلحقته
400 خفاجة وقتلوا من أصحابه رجلا وقطعوا يد آخر، وكان ذلك بالموقف من الحلة السيفية ففرق بينهم أهلها. فسمعت عبادة الخبر فتواعدت وانحدرت إلى العراق للأخذ بثأرها وساروا مع جماعة من أمرائهم فبلغت عدتهم سبعمائة فارس وكانت خفاجة دون هذه العدة فراسلهم خفاجة يبذلون الدية ويصطلحون فلم تجبهم إلى ذلك عبادة وأشار به سيف الدولة صدقة فلم تقبل عبادة فالتقوا واقتتلوا بالقرب من الكوفة ومع عبادة الإبل والغنم بين البيوت فمكنت لهم خفاجة ثلاثمائة فارس وقاتلوهم مطاردة من غير جد في القتال فداموا كذلك ثلاثة أيام ثم إنهم اشتد بينهم القتال واختلطوا حتى تركوا الرماح وتضاربوا بالسيوف. فبينما هم كذلك وقد أعيا الفريقان من القتال إذ طلع كمين خفاجة وهم مستريحون فانهزمت عبادة وانتصرت عليهم خفاجة وقتل من وجوه عبادة اثنا عشر رجلا ومن خفاجة جماعة وغنمت خفاجة الأموال من الخيل والإبل والغنم والعبيد والإماء صدقة بن مزيد الغنم والعبيد والإماء. وكان الأمير صدقة بن مزيد قد أعان خفاجة سرا فلما وصل المنهزمون إليه هنأهم صدقة بالسلامة فقال له بعضهم ما زلت أقاتل وأضارب وأنا طامع في الظفر بهم حتى رأيت فرسك الشقراء تحت أحدهم فعلمت أنهم
401 أجلبوا علينا بخيلك وأننا لا طاقة لنا بهم فنصروا علينا بمعونتك وفلونا بحدك فلم يجبه صدقة. ذكر ملك صدقة البصرة هذه السنة في جمادى الأولى انحدر سيف الدولة من الحلة إلى البصرة فملكها. وقد ذكرنا فيما تقدم إسماعيل بن أرسلانجق من البصرة ونواحيها وأقام بها عشر سنين نافذ الأمر وازداد قوة وتمكنا بالاختلاف الواقع بين السلاطين وأخذ الأموال السلطانية وكان قد راسل صدقة وأظهر له أنه في طاعته وموافقته فلما استقر الأمر للسلطان محمد أراد أن يرسل إلى البصرة مقطعا يأخذها من إسماعيل فخاطب صدقة في معناه حتى أقرت البصرة عليه فأنفذ السلطان عميد إليها ليتولى ما يتعلق بالسلطان هناك فمنعه إسماعيل ولم يمكنه من عمله وفعل ما خرج به عن حد المجاملة فأمر السلطان صدقة بقصده وأخذ البصرة منه فتحرك لذلك. فاتفق ظهور منكبرس وخلافه على السلطان وأنه على قصد واسط فسر إسماعيل بذلك وزاد انبساطه وأرسل صدقة حاجبا له وكان قبله قد خدم أباه وجده إلى إسماعيل يأمره بتسليم الشرطة وأعمالها إلى مهذب الدولة بن أبي الجبر لأنها كانت في ضمانه فوصل إلى الشرطة وأخذ منها أربعمائة
402 دينار، فأحضره إسماعيل وحبسه وأخذ الدنانير منه فلما رأى صدقة مكاشفته سار من حلته وأظهر أنه يريد قصد الرحبة ثم جد السير إلى البصرة فلم يشعر إسماعيل إلا بقربه منها ففرق أصحابه في القلاع التي استجدها بمطارا ونهر معقل وغيرهما واعتقل وجوه العباسيين وقاضي البصرة ومدرسها وأعيان أهلها. ونازلهم صدقة فجرى قتال بين طائفة من عسكره وطائفة من البصريين قتل فيه أبو النجم بن أبي القاسم الورامي وهو ابن خال سيف الدولة صدقة فمما مدح به سيف الدولة ورثي به أبو النجم بن أبي القاسم قول بعضهم: (تهن يا خير من يحمي حريم حمى * فتحا أغثت به الدنيا مع الدين) (ركبت للبصرة الغراء في نخب * غر كجيش غلي يوم صفين) (هوى أبو النجم كالنجم المنير بها * لكنه كان رجما للشياطين) وأقام صدقة محاصرا لإسماعيل بالبصرة فأشار على سيف الدولة صدقة بعض أصحابه بالعود عنها وأعلموه أنهم لا يظفرون بطائل فأشار عليهم بالمقام وقالوا إن رحلنا كانت كسرة؛ وكان رأي سيف الدولة المقام وقال إن تعذر علي فتح البصرة لم يطعني أحد واستعجزني الناس. ثم إن إسماعيل خرج من البلد وقاتل صدقة فسار بعض أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد ودخلوه وقتلوا من السوادية الذين جمعهم إسماعيل خلقا كثيرا وانهزم إسماعيل إلى قلعته بالجزيرة فأدركه بعض أصحاب سيف الدولة وأراد قتله ففداه بنفسه فوقعت الضربة فيه فأثخنته فنهبت البصرة وغنم من معه من عرب البر وغيرهم، ما
403 فيها، ولم يسلم منهم غلا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد فإن العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها وحملوا المربد وعمت المصيبة لأهل البلد سوى من ذكرنا وامتنع إسماعيل بقلعته. فاتفق أن المهذب بن أبي الجبر انحدر في سفن كثيرة وأخذ القلعة التي لإسماعيل بمطارا وقتل بها خلقا من أصحاب إسماعيل وحمل إلى صدقة كثيرا فأطلقهم. فلما علم إسماعيل بذلك أرسل إلى صدقة يطلب الأمان على نفسه وأهله وأمواله فأجابه إلى ذلك وأجله سبعة أيام فأخذ كل ما يمكنه حمله مما يعز عليه وما يقدر على حمله أهلكه بالماء وغيره، ونزل إلى سيف الدولة وأمن سيف الدولة أهل البصرة من كل أذى ورتب عندهم شحنة وعاد إلى الحلة ثالث جمادى الآخرة وكان مقامه بالبصرة سنة عشر يوما. وأما إسماعيل فإنه لما سار صدقة إلى الحلة قصد هو الباسيان إلى أن وصله ماله في المراكب وسار نحو فاس وصار يتعنت أصحابه وزوجته وقبض على جماعة من خواصه وقال لهم أنتم سقيتم ولدي أفراسياب السم حتى مات وكان قد مات في صفر من هذه السنة ففارقه كثير منهم حتى زوجته فارقته وسارت إلى بغداد. وأخذته الحمة وقويت عليه فلما بلغ رامهرمز انفرد في خيمته ولم يظهر لأصحابه يوما وليلة فظهر لهم موته فنهبوا ماله وتفرقوا فأرسل الأمير برامهرمز فردهم وأخذ ما معهم من أمواله ودفن بالقرب من
404 إيذج، وكان عمره قد جاوز خمسين سنة وكانت سيرته قد حسنت في أهل البصرة أخيرا. ذكر حصر رضوان نصيبين وعوده عنها في هذه السنة في شهر رمضان حصر الملك رضوان بن تتش نصيبين. وسبب ذلك: أنه عزم على حرب الفرنج واجتمع معه الأمراء إيلغازي بن أرتق الذي كان شحنة بغداد وأصبهبذ صباوة وألبي بن أرسلان تاش صاحب سنجار وهو صهر جكرمش صاحب الموصل فقال إيلغازي الرأي أننا نقصد بلاد جكرمش وما والاها فنملكها ونتكثر بعسكرها والأموال ووافقه ألبي فسار نصيبين ف عشرة آلاف فارس مستهل رمضان وكان قد جعل فيها أميرين من أصحابه في عسكر فتحصنوا بالبلد وقاتلوا من وراء السور فرمى ألبي بن أرسلان تاش بنشابة فجرح جرحا شديدا فعاد إلى سنجار. وأما جكرمش فإنه بلغه الخبر بنزولهم على نصيبين وهو بالحامة التي بالقرب من طنزة يتداوى بمائها من مرضه فرحل إلى الموصل وقد أجفل إليها أهل السواد فخيم على باب البلد عازما على حرب رضوان واستعمل المخادعة فكاتب أعيان عسكر رضوان رغبهم حتى أفسد نياتهم وتقدم إلى أصحابه بنصيبين بخدمة الملك رضوان وبإخراج الإقامة إليه مع الاحتراز منه، وأرسل إلى رضوان يبذل له خدمته والدخول في
405 طاعته، ويقول له: إن السلطان محمدا قد حصرني ولم يبلغ مني غرضا فترحل عن صلح وإن قبضت على إيلغازي الذي قد عرفت أنت وغيرك فساده وشره فأنا معك ومعينك بالرجال والأموال والسلاح. فاتفق هذا ورضوان قد تغيرت نيته مع إيلغازي فازداد تغيرا وعزم على قبضه فاستدعاه يوما وقال له هذه بلاد ممتنعة وربما استولى على حلب والمصلحة مصالحة جكرمش واستصحابه معنا فإنه يسير بعساكر كثيرة التجمل ونعود إلى قتال الفرنج فإن ذلك مما يعود باجتماع شمل المسلمين فقال له إيلغازي إنك جئت بحكمك وأنت الآن بحكمي لا أمكنك من المسير بدون أخذ هذه البلاد فإن أقمت وإلا بدأت قتالك. وكان إيلغازي قد قويت نفسه بكثرة من اجتمع عنده من التركمان وكان الملك رضوان قد واعد قوما من أصحابه ليقبضوا عليه فلما جرى ما ذكرناه أمرهم رضوان فقبضوا عليه وقيده فلما سمع التركمان الحال أظهروا الخلاف والامتعاض ففارقوا رضوان والتجؤوا إلى سور المدينة وأصعد إيلغازي إلى قلعتها وخرج من بنصيبين من العسكر فأعانوه فلما رأى التركمان ذلك تفرقوا ونهبوا ما قدروا عليه من المواشي وغيرها، ورحل رضوان من وقته وسار إلى حلب. وكان جكرمش قد رحل من الموصل قاصدا الحرب القوم، فلما بلغ تل يعفر أتاه المبشرون بانصراف رضوان على اختلاف وافتراق فرحل إلى سنجار ووصلت إليه رسل رضوان تستدعي منه النجدة ويعتد عليه ما فعل بإيلغازي فأجابه مغالطة ولم يف له بما وعده ونازل سنجار ليشفي غيظه من صهره ألبي بن أرسلان تاش بما اعتمده من معاداته، ومظاهرة
406 أعدائه، وكان ألبي على شدة من المرض بالسهم الذي أصابه على نصيبين فلما نزل جكرمش عليها أمر ألبي أصحابه أن يحملوه إليه فحملوه في محفة عنده وأخذ يعتذر مما كان منه وقال جئت مذنبا فافعل بي ما تراه فرق له وأعاده إلى بلده فلما عاد قضى نحبه، فلما مات عصى على جكرمش من كان بسنجار وتمسكوا بالبلد فقاتله بقية رمضان وشوال ولم يظفر منهم بشيء فجاء تميرك أخو أرسلان تاش عم ألبي فأصلح حاله مع جكرمش وبذل له الخدمة فعاد إلى الموصل. ذكر ملك طغتكين بصرى قد ذكرنا سنة سبع وتسعين [وأربعمائة] حال بكتاش بن تتش وخروجه من دمشق واتصاله بالفرنج ومعه أيتكين الحلبي بصرى وسيرهما إلى الرحبة وعودهما عنها فلما ضعفت أحوالهم سار طغتكين إلى بصرى فحصرها وبها أصحاب أيتكين فراسلوا طغتكين وبذلوا له التسليم إليه بعد أجل قرروه بينهم فأجابهم إلى ذلك فرحل عنهم إلى دمشق فلما انقضى الأجل هذه السنة تسلمها وأحسن إلى من بها ووفى لهم بما وعدهم وبالغ في إكرامهم وكثر الثناء عليه والدعاء له ومالت النفوس إليه وأحبوه.
407 ذكر ملك الفرنج حصن أفامية في هذه السنة ملك الفرنج حصن أفامية من بلد الشام. وسبب ذلك: أن خلف بن ملاعب الكلابي كان متغلبا على حمص وكان الضرر به عظيما ورجاله يقطعون الطريق فكثر الحرامية عنده فأخذها منه تتش بن ألب أرسلان وأبعده عنها فتقلبت به الأحوال إلى أن دخل إلى مصر فلم يلتفت إليه من بها فأقام بها. واتفق أن المتولي لأفامية من جهة الملك رضوان أرسل إلى صاحب مصر وكان يميل إلى مذهبهم يستدعي منهم من يسلم إليه الحصن وهو من أمنع الحصون وطلب ابن ملاعب منهم أن يكون هو المقيم به وقال إنني أرغب في قتال الفرنج وأؤثر الجهاد فسلموه إليه وأخذوا رهائنه فلما ملكه خلع طاعتهم ولم يرع حقهم فأرسلوا إليه يتهددونه بما يفعلونه بولده الذي عندهم فأعاد الجواب أنني لا أنزل من مكاني وابعثوا إلي ببعض أعضاء ولدي حتى آكله فأيسوا من رجوعه إلى الطاعة وأقام بأفامية يخيف السبيل ويقطع الطريق واجتمع عنده كثير من المفسدين فكثرت أمواله. ثم إن الفرنج ملكوا سرمين وهي من أعمال حلب وأهله غلاة في التشيع فلما ملكه الفرنج تفرق أهله فتوجه القاضي الذي به إلى ابن ملاعب وأقام عنده فأكرمه وأحبه ووثق به فأعمل القاضي الحيلة عليه وكتب
408 إلى أبي طاهر، المعروف بابن الصائغ وهو من أعيان أصحاب رضوان ووجوه الباطنية ودعاتهم ووافقهم على الفتك بابن ملاعب وأن يسلم أفامية إلى الملك رضوان فظهر شيء من هذا فأتى إلى ابن ملاعب أولاده وكانوا قد تسللوا إليه من مصر وقالوا له قد بلغنا عن هذا القاضي كذا وكذا والرأي أن تعاجله وتحتاط لنفسك فإن الأمر قد اشتهر وظهر فأحضره ابن ملاعب فأتاه في كمه مصحف لأنه رأى أمارات الشر فقال له ابن ملاعب ما بلغه عنه فقال له أيها الأمير قد علم كل أحد أني أتيتك خائفا جائعا فأمنتني وأغنيتني وعززتني فصرت ذا مال وجاه فإن كان بعض من حسدني على منزلتي منك ما غمرني من نعمتك سعى بي إليك فأسألك أن تأخذ جميع ما معي وأخرج كما جئت. وحلف له على الوفاء والنصح فقبل عذره وأمنه. وعاود القاضي مكاتبة أبي طاهر بن الصائغ وأشار عليه أن يوافق رضوانا على إنفاذ ثلاثمائة رجل من أهل سرمين وينفذ معهم خيلا من خيول الفرنج وسلاحا من أسلحتهم ورؤوسا من رؤوس الفرنج ويأتون إلى ابن ملاعب ويظهرون أنهم غزاة ويشكون من سوء معاملة الملك رضوان وأصحابه لهم وأنهم فارقوه فلقيهم طائفة من الفرنج فظفروا بهم ويحملون جميع ما معهم إليه فإذا أذن لهم في المقام اتفقت آراؤهم على أعمال الحيلة عليه ففعل ابن
409 الصائغ ذلك، ووصل القوم إلى أفامية وقدموا إلى ابن ملاعب بما معهم من الخيل وغيرها فقبل ذلك منهم وأمرهم بالمقام عنده وأنزل عنده وأنزلهم في ربض أفامية. فلما كان في بعض الليالي نام الحراس بالقلعة فقام القاضي ومن بالحصن من أهل سرمين ودلوا الحبال واصعدوا أولئك القادمين جميعهم وقصد أولاد ابن ملاعب وبني عمه وأصحابه فقتلوهم وأتى القاضي وجماعة معه إلى ابن ملاعب وهو مع امرأته فأحس بهم فقال من أنت فقال ملك الموت جئت لقبض روحك فناشده الله فلم يرجه عنه وجرحه وقتله وقتل أصحابه وهرب ابناه فقتل أحدهما والتحق الآخر بأبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر فحفظه لعهد كان بينهما. ولما سمع ابن الصائغ خبر أفامية سار إليها وهو لا يشك أنها له فقال له القاضي إن وافقتني وأقمت معي فبالرحب والسعة ونحن بحكمك وإلا فارجع من حيث جئت فأيس ابن الصائغ منه، وكان أحد أولاد ابن ملاعب بدمشق عند طغتكين غضبان على أبيه فولاه حصنا وضمن على نفسه حفظ الطريق فلم يفعل وقطع الطريق وأخذ القوافل فاستغاثوا إلى طغتكين منه فأرسل إليه من طلبه فهرب إلى الفرنج واستدعاهم إلى حصن أفامية وقال ليس فيه غير قوت شهر فأقاموا عليه يحاصرونه فجاع أهله وملكه الفرنج وقتلوا القاضي المتغلب عليه وأخذوا ابن الصائغ فقتلوه وكان هو الذي أظهر مذهب الباطنية بالشام. هكذا ذكر بعضهم أن أبا طاهر بن الصائغ قتله الفرنج بأفامية، وقد قيل إن ابن بديع رئيس حلب قتله سنة سبع وخمسمائة بعد وفاة رضوان وقد ذكرناه هناك والله أعلم.
410 ذكر نهب العرب البصرة قد ذكرنا استيلاء المير صدقة على البصرة وأنه استناب بها مملوكا كان لجده دبيس بن مزيد اسمه التونتاش وجعل معه مائة وعشرين فارسا فاجتمعت ربيعة والمنتفق ومن انضم إليها من العرب وقصدوا البصرة في جمع كثير فقاتلهم التونتاش فأسروه وانهزم أصحابه ولم يقدر من بها على حفظها فدخلوها بالسيف أواخر ذي القعدة وأحرقوا الأسواق والدور الحسان ونهبوا ما قدروا عليه وأقاموا ينهبون ويحرقون اثنين وثلاثين يوما وتشرد أهله في السواد ونهبت خزانة كتب كثيرة موقوفة وقفها القاضي أبو الفرج بن أبي البقاء. وبلغ الخبر صدقة فأرسل عسكرا فوصلوا وقد فارقها العرب ثم إن السلطان محمدا أرسل شحنة وعميدا إلى البصرة وأخذها من صدقة وعاد أهلها إليها وشرعوا في عمارتها. ذكر حال طرابلس الشام مع الفرنج كن صنجيل الفرنجي لعنه الله قد ملك مدينة جبلة وأقام على طرابلس يحصرها فحيث لم يقدر أن يملكها بنى بالقرب منها حصنا وبنى تحته ربضا،
411 وأقام مراصدا لها، ومنتظرا وجود فرصة فيها، فخرج الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس فأحرق ربضه ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة ومعه جماعة من القمامصة والفرسان فانخسف بهم فمرض صنجيل من ذلك عشرة أيام ومات وحمل إلى القدس فدفن فيه. ثم إن ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرة إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس فحملوها في البحر فأخرج إليها فجر الملك بن عمار أسطولا فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد فظفر المسلمون بقطعة من الروم فأخذوها وأسروا من كان بها وعادوا. ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين إلى هذا الوقت فعدمت الأقوات به وخاف أهله على نفوسهم وأولادهم وحرمهم فجلا الفقراء وافتقر الأغنياء وظهر من ابن عمار صبر عظيم وشجاعة ورأي سديد. ومما أضر بالمسلمين فيها أن صاحبها استنجد سقمان بن أرتق فجمع العساكر وسار إليه فمات في الطريق على ما ذكرناه وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه. وأجرى ابن عمار الجرايات على الجند والضعفاء فلما قلت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد فأخذ من رجلين من الأغنياء مالا مع غيرهما فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا إن صاحبنا صادرنا فخرجنا إليكم لنكون معكم وذكروا له أنه تأتيه الميرة من عرفة والجبل فجعل الفرنج جمعا على ذلك الجانب يحفظه من دخول شيء إلى البلد فأرسل ابن عمار وبذل الفرنج مالا كثيرا ليسلموا الرجلين إليه فلم يفعلوا فوضع عليهما من قتلهما غيلة.
412 وكانت طرابلس من أعظم بلاد الإسلام وأكثرها تجملا وثروة فباع أهلها من الحلي والأواني الغربية ما لا حد عليه حتى بيع كل مائة درهم نقرة بدينار وشتان بين هذه الحالة وبين حال الروم أيام السلطان ألب أرسلان وقد ذكرت ظفره بهم سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وكان بعض أصحابه وهو كمشتكين دواتي عميد الملك هرب منه خوفا لما قبض على صاحبه عميد الملك وسار إلى الرقة فملكها وصار معه مثير من التركمان فيهم الأفشين وأحمد شاه فقتلاه وأرسلا أمواله إلى ألب أرسلان ودخل الأفشين بلاد الروم وقاتل الفردوس صاحب أنطاكية فهزمه وقتل من الروم خلقا كثيرا. وسار ملك الروم من القسطنطينية إلى ملطية فدخل الأفشين بلاده ووصل إلى عمورية وقتل في غزاته مائة ألف آدمي ولما عاد إلى بلاد الإسلام وتفرق من معه خرج عليه عسكر الرها وهي حينئذ للروم ومعهم بنو نمير من العرب فقاتلهم ومعه مائتا فارس فهزمهم ونهب بلاد الروم فأرسل إلى ألب أرسلان في ذلك فصالح الروم على مائة ألف دينار وأربعة آلاف ثوب أصنافا وثلاثمائة رأس بغالا فشتان بين الحالتين. وأقول شتان بين حال أولئك المرذولين الذي الذين استعجزهم وبين حال الناس في زماننا هذا وهو سنة ست عشرة وستمائة مع الفرنج أيضا والتتر وسترى ذلك مشروحا إن شاء الله تعالى لتعلم الفرق نسأل الله تعالى
413 أن ييسر للإسلام وأهله قائما يقوم بنصره وأن يدفع عنهم بمن أحب من خلقه وما ذلك على الله بعزيز. ذكر عدة حوادث في هذه السنة ورد إلى بغداد إنسان من الملثمين ملوك الغرب قاصدا إلى دار الخلافة فأكرم وكان معه إنسان يقال له الفقيه من الملثمين أيضا فوعظ الفقيه ف جامع القصر واجتمع له العالم العظيم وكان يعظ وهو متلثم لا تظهر منه غير عينيه وكان هذا الملثم قد حضر مع ابن الفضل أمير الجيوش بمصر وقعته مع الفرنج وأبلى بلاء حسنا. وكان سبب مجيئه إلى بغداد: أن المغاربة كانوا يعتقدون في العلويين أصحاب مصر الاعتقاد القبيح فكانوا إذا أرادوا الحج يعدلون عن مصر وكان أمير الجيوش بدر والد الأفضل أراد إصلاحهم فلم يميلوا إليه ولا قاربوه فأمر بقتل من ظفر به منهم فلما ولي ابنه الأفضل أحسن إليهم واستعان بمن قاربه منهم على حرب الفرنج وكان هذا من جملة من قاتل معه فلما خالط المصريين خاف العود إلى بلاده فقدم بغداد ثم عاد إلى دمشق ولم يكن للمصريين حرب مع الفرنج إلا وشهدها فقتل في بعضها شهيدا وكان شجاعا فتاكا مقداما. وفيها في ربيع الآخر ظهر كوكب في السماء له ذؤابة كقوس قزح،
414 آخذة من المغرب إلى وسط السماء وكان يرى قريبا من الشمس قبل ظهوره ليلا وبقي يظهر عدة ليال ثم غاب. وفيها وصل الملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش صاحب بلاد الروم إلى الرها ليحصرها وبها الفرنج فراسله أصحاب جكرمش المقيمون بحران ليسلموها إليه فسار إليهم وتسلم البلد وفرح الناس لأجل جهاد الفرنج فأقام بحران أياما ومرض مرضا شديدا أوجب عوده إلى ملطية فعاد مريضا وبقي أصحابه بحران. وفي هذه السنة توفي الشيخ أبو منصور الخياط المقري إمام مسجد ابن جردة وكان خيرا صالحا. وفيها قتل القاضي أبو العلاء صاعدين أبي محمد النيسابوري الحنفي بجامع أصبهان قتله باطني. وفيها توفي أبو الفوارس الحسين بن علي بن الحسين بن الخازن صاحب الخط الجيد وعمره سبعون سنة قيل إنه كتب خمسمائة ختمة. وفيها في المحرم توفي القاضي أبو الفرج عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة وله ثلاث وثمانون سنة وكان من الفقهاء الشافعية المشهورين تفقه على الماوردي وأبي إسحاق وأخذ النحو عن الرقي والدهان وابن برهان وكان عفيفا مقدما عند الخلفاء والسلاطين. وفيها في المحاضرة توفي سهل بن أحمد بن علي الأرغياني أبو الفتح الحاكم تفقه على الجويني وبرز ثم ترك المناظرة وبنى رباطا، واشتغل
415 بالعبادة وقراءة القرآن. وفيها في صفر توفي الأمير مهارش بن مجلي وله نحو ثمانين سنة وهو الذي كان الخليفة القائم عنده بالحديثة وكان كثير الصلاة والصوم يحب الخير وأهله ولما توفي ملك الحديثة بعده ابنه سليمان.
416 500 ثم دخلت سنة خمسمائة ذكر وفاة يوسف بن تاشفين وملك ابنه علي في هذه السنة توفي أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ملك الغرب والأندلس وكان حسن السيرة خيرا عادلا يميل إلى أهل الدين والعلم ويكرمهم ويصدر عن رأيهم، ولما ملك الأندلس على ما ذكرناه جمع الفقهاء وأحسن إليهم فقالوا له ينبغي أن تكون ولايتك من الخليفة لتجب طاعتك على الكافة فأرسل إلى الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين رسولا ومعه هدية كثيرة وكتب معه كتابا يذكر ما فتح الله من بلاد الفرنج وما اعتمده من نصرة الإسلام ويطلب تقليدا بولاية البلاد فكتب له تقليدا من ديوان الخلافة بما أراد ولقب أمير المسلمين، وسيرت إليه الخلع فسر بذلك سرورا كثيرا وهو الذي بنى مدينة مراكش للمرابطين وبقي على ملكه خمسمائة فتوفي وملك بعده البلاد ولده علي بن يوسف وتلقيب أيضا أمير المسلمين فازداد في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم وكان إذا وعظه أحدهم خشع عند استماع الموعظة ولان قلبه لها وظهر ذلك عليه. وكان يوسف بن تاشفين حليما كريما دينا خيرا يحب أهل العلم والدين ويحكمهم في بلاده وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام، فمن ذلك أن ثلاثة نفر اجتمعوا فتمنى أحدهم ألف دينار يتجر بها وتمنى
417 الآخر عملا يعمل فيه لأمير المسلمين وتمنى الآخر زوجته النفزاوية وكانت من أحسن النساء ولها الحكم في بلاده فبلغه الخبر فأحضرهم وأعطى متمني المال ألف دينار واستعمل الآخر وقال للذي تمنى زوجته يا جاهل ما حملك على هذا الذي لا تصل إليه ثم أرسله إليها فتركه في خيمة ثلاثة أيام تحمل إليه كل يوم طعاما واحدا ثم أحضرته وقالت له ما أكلت هذه الأيام؟ قال: طعاما واحدا فقالت كل النساء شيء واحد وأمرت له بمال وكسوة وأطلقته. ذكر قتل فخر الملك بن نظام الملك في هذه السنة قتل فخر الملك أبو المظفر علي بن نظام الملك يوم عاشوراء وكان وزارته قصد نيسابور لأصحابه رأيت الليلة في المنام الحسين بن علي عليه السلام وهو يقول عجل إلينا وليكن إفطارك عندنا وقد اشتغل فكري به ولا محيد عن قضاء الله وقدره، وقالوا له يحييك الله، والصواب أن لا تخرج اليوم والليلة من دارك فأقام يومه يصلي ويقرأ القرآن، وتصدق بشيء كثير.
418 فلما كان وقت العصر خرج من الدار التي كان بها يريد دار النساء فسمع صوت صياح متظلم شديد الحرقة وهو يقول ذهب المسلمون فلم يبق من يكشف مظلمة ولا يأخذ بيد ملهوف فأحضر عنده رحمة له فحضر فقال ما حالك فدفع إليه رقعة فبينما فخر الملك يتأملها إذ ضربه بسكين فقضى عليه فمات فحمل الباطني إلى سنجر فقرره فأقر على جماعة من أصحاب السلطان كذبا وقال إنهم وضعوني على قتله وأراد أن يقتل بيده وسعايته فقتل من ذكر وكان مكذوبا عليهم ثم قتل الباطني بعدهم وكان عمر فخر الملك ستا وستين سنة. ذكر ملك صدقة بن مزيد تكريت في هذه السنة في صفر تسلم الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد قلعة تكريت وقد ذكرنا فيما تقدم أنها كانت لبني مقن العقليين وكانت إلى آخر سنة سبع وعشرين وأربعمائة بيد رافع بن الحسين بن مقن فمات ووليها ابن أخيه أو منعة خميس بن تغلب بن حماد ووجد بها خمسمائة ألف دينار سوى المصاغ وتوفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ووليها ولده أبو غشام. فلما كان سنة أربع وأربعين [وأربعمائة] وثب عليه عيسى فحبسه وملك القلعة والأموال فلما اجتاز به طغرلبك سنة ثمان وأربعين [وأربعمائة] صالحه على بعض المال فرحل عنه.
419 وخافت زوجته أميرة بعد موته أن يعود أبو غشام يملك القلعة فقتله وكان بقي في الحبس أربع واستنابت في القلعة أبا الغنائم بن المحلبان فسلمها إلى أصحاب السلطان طغرلبك فسارت إلى الموصل فقتلها ابن أبي غشام بأبيه وأخذ شرف الدولة مسلم بن قريش مالها، ورد طغرلبك أمر القلعة إلى إنسان يعرف بأبي العباس الرازي فمات بها ستة أشهر فملكها المهرباط وهو أبو جعفر محمد بن أحمد بن خشنام من بلد الثغر فأقام بها إحدى وعشرين سنة ومات ووليها ابنه سنتين وأخذتها منه تركان خاتون وليها لها كوهرائين. ثم ملكها بعد وفاة ملكشاه قسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب فلما قتل صارت للأمير كمشتكين الجاندار فجعل فيها رجلا يعرف بأبي المصارع ثم عادت إلى كوهرائين أقطاعا ثم أخذها منه مجد الملك البلاساني فولى فيها كيقباذ بن هزار سب الديلمي فأقام بها اثنتي عشرة سنة فظلم أهلها وأساء السيرة، فلما اجتاز به سقمان بن أرتق سنة ست وتسعين [وأربعمائة] ونهبها ليلا وسقمان ينهبها نهارا. فلما استقر السلطان محمد بعد موت أخيه بركيارق أقطعها للأمير آقسنقر البرسقي شحنة بغداد فسار إليها وحصرها مدة تزيد على سبعة أشهر حتى ضاق على كيقباذ الأمر فأرسل صدقة بن مزيد ليسلمها إليه فسار إليها في صفر هذه السنة وتسلمها منه وانحدر البرسقي ولم يملكها. ومات كيقباذ بعد نزوله من القلعة بثمانية أيام وكان عمره ستين سنة، واستناب صدقة بها ورام بن أبي فراس بن ورام وكان كيقباذ ينسب إلى الباطنية وكان موته من سعادة صدقة فإنه لو أقام عنده لعرض صدقة لظنون الناس في اعتقاده ومذهبه.
420 ذكر الحرب بين عبادة وخفاجة في هذه السنة في ربيع الأول كانت حرب بين عبادة وخفاجة ظفرت عبادة، وأخذت بثأرها من خفاجة. وكان سبب ذلك أن سيف الدولة صدقة أرسل ولده بدران في جيش إلى طرف بلاده مما يلي البطيحة ليحميها من خفاجة لأنهم يؤذون أهل تلك النواحي فقربوا منه وتهددوا أهل البلاد فكتب إلى أبيه يشكو منهم ويعرفه حالهم فأحضر عبادة وكانت خفاجة قد فعلت بهم العام الماضي ما ذكرناه فلما حضروا عنده قال لهم ليتجهزوا مع عسكره ليأخذوا بثأرهم من خفاجة فساروا في مقدم عسكره فأدركوا حلة من خفاجة من بني كليب ليلا وهم غارون لم يشعروا بهم، فقالوا من أنتم فقالت عبادة نحن أصحاب الديون فعلموا أنهم عبادة فقاتلوهم وصبرت خفاجة فبينما هم في القتال إذ سمع طبل الجيش فانهزموا وقتلت منهم عبادة جماعة، وكان فيهم عشرة من وجوههم وتركوا حرمهم فأمر صدقة بحراستهن وأمر العسكر أن يؤثروا عبادة بما غنموه من أموال خفاجة خلفا لهم عما أخذ منهم في العام الماضي. وأصاب خفاجة من مفارقة بلادها ونهب أموالها وقتل رجالها أمر عظيم وانتزحت إلى نواحي البصرة وأقامت عبادة في بلاد خفاجة. ولما انهزمت خفاجة وتفرقت ونهبت أموالها جاءت امرأة منهم إلى الأمير
421 صدقة، فقالت له: إنك سبيتنا وسلبتنا قوتنا وغربتنا وأضعت حرمتنا قابلك الله في نفسك وجعل صورة أهلك كصورتنا فكظم الغيظ واحتمل لها ذلك وأعطاها أربعين جملا ولم يمض غير قليل حتى قابل الله صدقة في نفسه وأولاده فإن دعاء الملهوف عند الله بمكان. ذكر مسير جاولي سقاوو إلى الموصل وأسر صاحبها جكرمش في هذه السنة في المحرم أقطع السلطان محمد جاولي سقاوو الموصل والأعمال التي بيد جكرمش، وكان جاولي قبل هذا قد استولى على البلاد التي بين خوزستان وفارس، وأقام بها سنين وعمر قلاعها وحصنها وأساء السيرة في أهلها وقطع أيديهم وجدع أنوفهم وسمل أعينهم. فلما تمكن السلطان محمد من السلطنة خافه جاولي وأرسل السلطان إليه الأمير مودود بن التونتكين فتحصن منه جاولي وحصره مودود ثمانية أشهر فأرسل جاولي إلى السلطان إنني لا أنزل إلى مودود فإن أرسلت غيره نزلت فأرسل إليه خاتمه مع أمير آخر فنزل جاولي وحضر الخدمة بأصبهان فرأى من السلطان ما يجب وأمره السلطان بالمسير إلى الفرنج ليأخذ البلاد منهم وأقطعه الموصل وديار بكر والجزيرة كلها. وكان جكرمش لما عاد من عند السلطان إلى بلاده كما ذكرنا وعد من نفسه الخدمة وحمل المال فلما استقر ببلاده لم يف بما قال وتثاقل في الخدمة وحمل المال فأقطع بلاده لجاولي فجاء إلى بغداد وأقام بها إلى
422 أول ربيع الأول وسار إلى الموصل وجعل طريقه على البوازيج فملكها ونهبها أيام بعد أن أمن أهلها وحلف لهم أنه يحميهم فلما ملكها سار إلى إربل. وأما جكرمش فإنه لما بلغه مسيره إلى بلاده كتب في جمع العساكر فأتاه كتاب أبي الهيجاء بن موسك الكردي الهذباني صاحب إربل يذكر استيلاء جاولي على البوازيج ويقول له إن لم تعجل المجيء لنجتمع عليه ونمنعه وإلا اضطررت إلى موافقته والمصير معه. فبادر جكرمش وعبر إلى شرقي دجلة وسار في عسكر الموصل قبل اجتماع عساكره وأرسل إليه أبو الهيجاء عسكره مع أولاده فاجتمعوا بقرية باكلبا من أعمال إربل. ووافاهم جاولي وهو في ألف فارس وكان جكرمش في ألفي فارس ولا يشك أنه يأخذ جاولي باليد فلما اصطفوا للحرب حمل جاولي من القلب على قلب جكرمش فانهزم من فيه وبقي جكرمش وحده لا يقدر على الهزيمة لفالج كان به فهو لا يقدر [أن] يركب وإنما يحمل في محفة فلما انهزم أصحابه قاتل عنه ركابي أسود قتالا عظيما فقتل وقاتل معه واحد من أولاد الملك قاورت بك بن داود اسمه أحم فقاتل بين يديه فطعن فجرح وانهزم فمات بالموصل ولم يقدر أصحاب جاولي على الوصول إلى جكرمش حتى قتل الركابي الأسود فحينئذ أخذوه أسيرا وأحضروه عند جاولي فأمر بحفظه وحراسته. وكانت عساكر جكرمش التي استدعاها قد وصلت إلى الموصل بعد مسيره فساروا جرائد ليدركوا الحرب فلقيهم المنهزمون ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
423 ذكر حصر جاولي سقاوو الموصل وموت جكرمش لما انهزم العسكر وأسر جكرمش وصل الخبر إلى الموصل فأقعدوا في الأمر زنكي بن جكرمش وهو صبي عمره إحدى عشرة سنة وخطبوا له وأحضروا أعيان البلد والتمسوا منهم المساعدة فأجابوا إلى ذلك. وكان مستحفظ القلعة مملوكا لجكرمش اسمه غزغلي فقام في ذلك المقام المرضي وفرق الأموال التي جمعها جكرمش والخيول وغير ذلك على الجند وكاتب سيف الدولة صدقة وقلج أرسلان والبرسقي شحنة بغداد بالمبادرة إليهم ومنع جاولي عنهم ووعدوا كلا منهم أن يسلموا البلد إليه. فأما صدقة فلم يجبهم إلى ذلك ورأى طاعة السلطان، وأما البرسقي وقلج أرسلان فنذكر حالهما. ثم إن جاولي حصر الموصل ومعه كرماوي بن خراسان التركماني وغيره من الأمراء وكثر جمعه وأمر أن يحمل جكرمش كل يوم على بغل وينادي أصحابه بالموصل ليسلموا البلد ويخلصوا صاحبهم مما هو فيه ويأمرهم هو بذلك فلا يسمعون منه وكان يسجنه في جب ويوكل به من يحفظه لئلا يسرق فأخرج في بعض الأيام ميتا وعمره نحو ستين سنة وكان شأنه قد علا ومنزلته قد عظمت وكان قد شيد سور الموصل وقواه وبنى عليها فصيلا وحفر خندقها وحصنها غاية ما يقدر عليه. وكان مع جكرمش رجل من أعيان الموصل يقال له أبو طالب بن
424 كسيرات وبنو كسيرات إلى الآن بالموصل من أعيان أهلها وكان أبو طالب قد تقدم عند جكرمش وارتفعت منزلته واستولى على أموره وحضر معه الحرب فلما أسر جكرمش هرب أبو طالب إلى إربل وكان أولاد أبي الهيجاء صاحب إربل قد حضروا الحرب مع جكرمش وأسرهم جاولي فأرسل إلى أبي الهيجاء يطلب ابن كسيرات فأطلقه وسيره إليه فأطلق جاولي ابن أبي الهيجاء فلما حضر ابن كسيرات عند جاولي ضمن له فتح الموصل وبلاد جكرمش وتحصين الأموال فاعتقله اعتقالا جميلا. وكان قاضي الموصل أبو القاسم بن ودعان عدوا لأبي طالب فأرسل إلى جاولي يقول له إن قتلت أبا طالب سلمت الموصل إليك فقتله وأرسل إليه فأظهر الشماتة به وأخذ كثيرا من أمواله وودائعه فسار به الأتراك غضبا لأبي طالب ولتفرده بما أخذ من أمواله فقتلوه وكان بينهما شهر واحد وقد رأينا كثيرا وسمعنا ما لا تحصيه [من] قرب وفاة أحد المتعاديين بعد صاحبه. ذكر الحرب بين ملك القسطنطينية والفرنج . في هذه السنة كانت وحشة مستحكمة بين ملك الروم صاحب القسطنطينية وبين بيمند الفرنجي فسار بيمند إلى بلد ملك الروم ونهبه وعزم على قصده فأرسل ملك الروم إلى الملك قلج أرسلان بن سليمان صاحب قونية وأقصرا وغيرهما من تلك البلاد يستنجده فأمده بجمع من عسكره فقوي بهم وتوجه إلى بيمند فالتقوا وتصافوا واقتتلوا وصبر الفرنج بشجاعتهم وصبر الروم ومن معهم لكثرتهم ودامت الحرب ثم أجلت الوقعة عن هزيمة
425 الفرنج وأتى القتل على أكثرهم وأسر كثير منهم والذين سلموا عادوا إلى بلادهم بالشام وعاد عسكر قلج أرسلان إلى بلادهم عازمين على المسير إلى صاحبهم بديار الجزيرة فأتاهم خبر قتله على ما نذكره إن شاء الله تعالى فتركوا الحركة وأقاموا. ذكر ملك قلج أرسلان الموصل قد ذكرنا أن أصحاب جكرمش كتبوا إلى الأمير صدقة وقسيم الدولة البرسقي والملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش السلجوقي صاحب بلاد الروم يستدعون كلا منهم إليهم ليسلموا البلد إليه. فأما صدقة فامتنع ورأى طاعة السلطان وأما قلج أرسلان فإنه سار في عساكره فلما سمع جاولي سقاوو بوصوله إلى نصيبين رحل عن الموصل؛ وأما البرسقي فإنه كان شحنة بغداد فسار منها إلى الموصل فوصلها بعد رحيل جاولي عنها بالجانب الشرقي فلم يلتفت أحد إليه ولا أرسلوا إليه كلمة واحدة فعاد في باقي يومه. ثم إن قلج أرسلان لما وصل إلى نصيبين أقام بها حتى كثر جمعه فلما سمع جاولي بقربه رحل من الموصل إلى سنجار وأودع رحله بها واتصل به الأمير إيلغازي بن أرتق وجماعة من عسكر جكرمش فصار معه أربعة آلاف فارس فأتاه كتاب الملك رضوان يستدعيه إلى الشام ويقول له إن الفرنج قد عجز من بالشام عن منعهم فسار إلى الرحبة. وأرسل أهل الموصل وعسكر جكرمش إلى قلج أرسلان وهو بنصيبين،
426 استحلفوه لهم، فحلف واستحلفهم على الطاعة له والمناصحة وسار معهم إلى الموصل فملكها في الخامس والعشرين من رجب ونزل بالمعرفة وخرج إليه ولد جكرمش وأصحابه فخلع عليهم وجلس على التخت وأسقط السلطان محمدا وخطب لنفسه بعد الخليفة وأحسن إلى العسكر وأخذ القلعة من غزغلي مملوك جكرمش وجعل له فيها دزدارا ورفع الرسوم المحدثة يف الظلم وعدل في الناس وتألفهم وقال من سعى إلي بأحد قتلته فلم يسع أحد بأحد وأقر القاضي أبا محمد عبد اله بن القاسم بن الشهرزوري على القضاء بالموصل وجعل الرياسة لأبي البركات محمد بن خميس وهو ولد شيخنا أبي الربيع سليمان. وكان في جملة قلج أرسلان الأمير إبراهيم بن ينال التركماني صاحب آمد ومحمد بن جبق التركماني صاحب حصن زياد وهو خرتبرت. فأما إبراهيم بن ينال فكان سبب ملكه لمدينة آمد أن تاج الدولة تتش حين ملك ديار بكر سلمها إليه فبقيت بيده. وأما محمد بن جبق فكان سبب ملكه لحصن زياد أن هذا الحصن كان بيد الفلادروس الرومي ترجمان ملك الروم وكانت الرها وأنطاكية من أعماله فلما ملك سليمان بن قتلمش والد هذا قلج أرسلان أنطاكية وملك فخر الدولة بن جهير ديار بكر ضعف الفلادروس عن إقامة ما يحتاج إليه حصن زياد من الميرة والإقامة فأخذه جبق وأسلم الفلادروس على يد السلطان ملكشاه وأمره على الرها فلم يزل عليها حتى مات وأخذها الأمير بزان بعده.
427 وكان بالقرب من حصن زياد حصن آخر بيد إنسان من الروم اسمه إفرنجي وكان يقطع الطريق ويكثر قتل المسلمين فأرسل إليه جلق هدية وخطب إليه مودته وأن يعين كل واحد منهما صاحبه فأجابه إلى ذلك فكان جبق يعين إفرنجي على قطع الطريق وغيره وكذلك إفرنجي يعين جبق فلما وثق كل واحد بصاحبه أرسل إليه جبق إني أريد قصد بعض الأماكن وطلب أن يرسل إليه بصاحبه فأرسلهم إيه فلما ساروا معه في الطريق تقدم بكتفهم وحملهم إلى قلعة إفرنجي وقال لأهليهم والله لئن لم تسلموا غلي إفرنجي لأضربن أعناقهم ولآخذن الحصن عنوة ولأقتلنكم على دم واحد ففتحوا له الحصن وسلموا إليه إفرنجي فسلخه وأخذ أمواله وسلاحه وكان عظيما ومات جبق فولي بعده ابنه محمد. ذكر قتل قلج أرسلان وملك جاولي الموصل قد ذكرنا أن قلج أرسلان لما وصل إلى نصيبين سار جاولي عن الموصل إلى سنجار ثم إلى الرحبة فوصلها في رجب وحصرها إلى الرابع والعشرين من شهر رمضان، وكان صاحبها حينئذ يعرف بمحمد بن السباق وهو من بني شيبان رتبه بها الملك دقاق لما فتحها وأخذ ولده رهينة وحمله معه إلى دمشق فلما توفي أرسل هذا الشيباني قوما سرقوا ولده وحملوه إليه فلما وصل إليه خلع الطاعة للدمشقيين وخطب في بعض الأوقات لقلج أرسلان فلما وصل إليها جاولي وحصرها أرسل إلى الملك رضوان يعرفه أنه على الاجتماع به ومساعدته على من يحاربه ويشترط عليه أنه إذا
428 تسلم البلاد سار معه ليكشف الفرنج عن بلاده فلما استقرت القاعدة بينهما حضر عنده رضوان فاشتد الحصار على أهل البلد وضاقت عليهم الأمور واتفق جماعة كانوا بأحد الأبراج وأرسلوا إلى جاولي واستحلفوه على حفظهم وحراستهم وأمروه أن يقصد البرج الذي هم فيه عند انتصاف الليل ففعل ذلك فرفع من في البرج أصحابه إليهم في الحبال فضربوا بوقاتهم وطبولهم فخذل من في البلد ودخله أصحاب جاولي في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان ونهبوه إلى الظهر ثم أمر برفع النهب ونزل إليه محمد الشيباني صاحب البلد وأطاعه وصار معه. ثم إن قلج أرسلان لما فرغ من أمر الموصل سار عنها إلى جاولي سقاوو ليحاربه وجعل ابنه ملكشاه في دار الإمارة وعمره إحدى عشرة سنة ومعه أمير يدبره وجماعة من العسكر وكانت عدة عسكره أربعة آلاف فارس بالعدة الكاملة والخيل الجيدة. وسمع العسكر بقوة جاولي فاختلفوا وكان أول من خالف عليه إبراهيم بن ينال صاحب آمد فإنه فارق خيامه وأثقاله وعاد من الخابور إلى بلده وكذلك غيره، وعمل قلج أرسلان على المطاولة لما بلغه من قوة جاولي وكثرة جموعه وأرسل إلى بلاده يطلب عساكره لأنها كانت ملك الروم نجدة له عن قتال الفرنج كما ذكرناه فلما وصل إلى الخابور بلغت عدته خمسة آلاف. وكان مع جاولي أربعة آلاف من جملتهم الملك رضوان وجماعة من عسكره إلا أن شجعانه أكثر واغتنم جاولي قلة عسكر أرسلان فقاتله قبل وصول عساكره إليه فالقوا في العشرين من ذي القعدة فحمل قلج أرسلان
429 على القوم بنفسه حتى خالطهم فضرب يد صاحب العلم فأبانها ووصل إلى جاولي بنفسه فضربه بالسيف فقطع الكزاغند ولم يصل إلى بدنه وحمل أصحاب جاولي على أصحابه فهزموهم واستباحوا نقلهم وسوادهم فلما رأى قلج أرسلان انهزام عسكره علم أنه إن أسر فعل به فعل من لم يترك للصلح موضعا لا سيما وقد نازع السلطان في بلاده واسم السلطنة فألقى نفسه في الخابور وحمى نفسه من أصحاب جاولي بالنشاب فانحدر به الفرس إلى ماء عميق فغرق وظهر بعد أيام فدفن بالشمسانية وهي قرى الخابور. وسار جاولي إلى الموصل ولما وصل إليها فتح أهلها له بابها ولم يتمكن من بها من أصحاب قلج أرسلان من منعهم ونزل بظاهر البلد وأخذ كل واحد من أصحاب جكرمش الذي حضر الوقعة مع قلج أرسلان إلى جهة فلما ملك جاولي الموصل أعاد خطبة السلطان محمد وصادر جماعة من بها من أصحاب جكرمش وسار إلى جزيرة ابن عمر وبها حبشي بن جكرمش ومعه أمير من غلمان أبيه اسمه غزغلي فحصره مدة ثم صالحوه وحملوا إليه ستة آلاف دينار وغيرها من الدواب والثياب ورحل عنهم إلى الموصل وأرسل ملكشاه بن قلج أرسلان إلى السلطان محمد. ذكر أحوال الباطنية بأصبهان وقتل ابن عطاش في هذه السنة ملك السلطان محمد القلعة التي كان الباطنية ملكوها بالقرب من أصبهان واسمها شاه دز، وقتل صاحبها أحمد عبد الملك بن عطاش،
430 وولده وكانت هذه القلعة قد بناها ملكشاه واستولى عليها بعده أحمد بن عبد الملك بن عطاش. وسبب ذلك أنه اتصل بدزدار كان لها فلما استولى أحمد عليها وان الباطنية بأصبهان قد ألبسوه تاجا وجمعوا له أموالا وإنما فعلوا ذلك به لتقدم أبيه عبد الملك في مذهبهم فإنه كان بليغا حسن الخط سريع البديهة عفيفا وابتلي بحب هذا المذهب وكان هذا ابنه أحمد جاهلا لا يعرف شيئا وقيل لابن الصباح قلعة الموت لماذا تعظم ابن عطاش مع جهله قال لمكان أبيه لأنه كان أستاذي. وصار لابن عطاش عدد كثير وبأس شديد واستفحل أمره بالقلعة فكان يرسل أصحابه لقطع الطريق وأخذ الأموال وقتل من قدروا على قتله فقتلوا خلقا كثيرا لا يمكن إحصاؤهم وجعلوا له على القرى السلطانية وأملاك الناس ضرائب يأخذونها ليكفوا عنها الأذى فتعذر انتفاع السلطان بقراه والناس بأملاكهم وتمشى لهم الأمر بالخلف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد. فلما صفت السلطنة لمحمد ولم يبق له منازع لم يكن عنده أمر أهم من قصد الباطنية وحربهم والانتصاف للمسلمين من جورهم وعسفهم فرأى البداية بقلعة أصبهان التي بأيديهم لأن بها أكثر وهي متسلطة على سرير ملكه، فخرج بنفسه فحاصرهم في سادس شعبان. وكان قد عزم على الخروج أول رجب فساء ذلك من يتعصب لهم من العسكر فأرجفوا أن قلج أرسلان بن سليمان قد ورد بغداد وملكها وافتعلوا في ذلك مكاتبات ثم أظهروا أن خللا قد تجدد بخراسان فتوقف
431 السلطان لتحقيق الأمر فلما ظهر بطلانه عزم عزيمة مثله وقصد حربهم وصعد جبلا يقابل القلعة من غربيها ونصب له التخت في أعلاه واجتمع له من أصبهان وسوادها لحربهم الأمم العظيمة للذحول التي يطالبونهم بها وأحاطوا بجبل القلعة ودوره أربعة فراسخ ورتب الأمراء لقتالهم فكان يقاتلهم كل يوم أمير فضاق الأمر بهم واشتد الحصار عليهم وتعذرت عندهم الأقوات. فلما اشتد الأمر عليهم كتبوا فيها ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين في قوم يؤمنون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن ما جاء به محمد حق وصدق وإنما يخالفون في الإمام هل يجوز للسلطان مهادنتهم وموادعتهم وأن يقبل طاعتهم ويحرسهم من كل أذى فأجاب أكثر الفقهاء بجواز ذلك، وتوقف بعضهم فجمعوا للمناظرة ومعهم أبو الحسن علي بن عبد الرحمن السمنجاني وهو من شيوخ الشافعية فقال بمحضر من الناس يجب قتالهم ولا يجوز إقرارهم بمكانهم ولا ينفعهم التلفظ بالشهادتين فإنهم يقال لهم أخبرونا عن إمامكم إذا أباح لكم ما حظره الشرع أو حظر عليكم ما أباحه الشرع أتقبلون أمره فإنهم يقولون نعم وحينئذ تباح دماؤهم بالإجماع وطالت المناظرة في ذلك. ثم إن الباطنية سألوا السلطان أن يرسل إليهم من يناظرهم وعينوا على أشخاص من العلماء منهم القاضي أبو العلاء صاعد بن يحيى شيخ الحنفية بأصبهان وقاضيها وغيره فصعدوا إليهم وناظروهم وعادوا كما صعدوا،
432 وإنما كان قصدهم التعلل والمطاولة فلج حينئذ السلطان في حصرهم فلما رأوا عين المحاققة أذعنوا إلى تسليم القلعة على أن يعطوا عوضا عنها قلعة خالنجان وهي على سبعة فراسخ من أصبهان وقالوا إنا نخاف على دمائنا وأموالنا من العامة فلا بد من مكان نحتمي به منهم فأشير على السلطان إجابتهم إلى ما طلبوا فسألوا أن يؤخرهم إلى النوروز ليرحلوا إلى خالنجان ويسلموا قلعتهم وشرطوا أن لا يسمع قول منتصح فيهم وإن قال أحد عنهم شيئا سلمه لهم وإن من أتاه منهم رده إليهم فأجابهم إليه وطلبوا أن يحمل إليهم من الإقامة ما يكفيهم يوما بيوم فأجيبوا إليه في كل هذا وقصدهم المطاولة انتظارا لفتق أو حادث يتجدد. ورتب لهم وزير السلطان سعد الملك ما يحمل إليهم كل يوم من الطعام والفاكهة وجميع ما يحتاجون إليه فجعلوا هم يرسلون ويباعدون من الأطعمة ما يجمعونه ليمتنعوا في قلعتهم، ثم إنهم وضعوا من أصحابهم من يقتل أميرا كان يبالغ في قتالهم فوثبوا عليه وجرحوه وسلم منهم فحينئذ أمر السلطان بإخراب قلعة خالنجان وجدد الحصار عليهم فطلبوا أن ينزل بعضهم ويرسل السلطان معهم من يحميهم إلى أن يصلوا إلى قلعة الناظر بأرجان وهي لهم وينزل بعضهم ويرسل معهم من يوصلهم إلى طبس وأن يقيم البقية منهم في ضرس من القلعة إلى أن يصل إليهم من يخبرهم بوصول أصحابهم فينزلون حينئذ ويرسل معهم من يوصلهم إلى ابن الصباح بقلعة الموت فأجيبوا إلى ذلك فنزل منهم إلى الناظر وإلى طبس وساروا وتسلم
433 السلطان القلعة وخربها. ثم إن الذين ساروا إلى قلعة الناظر وطبس وصل منهم من أخبر ابن عطاش بوصولهم فلم يسلم السن الذي بقي بيده ورأى السلطان منه الغدر والعود عن الذي قرر فأمر بالزحف إليه فزحف الناس عامة ثاني ذي القعدة، وكان قد قل عنده من يمنع ويقاتل فظهر منهم صبر عظيم وشجاعة زائدة وكان قد استأمن إلى السلطان إنسان من أعيانهم فقال لهم إني أدلكم على عورة لهم فأتى بهم إلى جانب لذلك السن لهم لا يرام فقال لهم اصعدوا من ههنا إنهم قد ضبطوا هذا المكان وشحنوه بالرجال فقال إن الذي ترون أسلحة وكزاغندات قد جعلوها كهيئة الرجال لقتلهم عندهم. وكان جميع من بقي ثمانين رجلا فزحف الناس من هناك فصعدوا منه وملكوا الموضع وقتل أكثر الباطنية واختلط جماعة منهم مع من دخل فخرجوا معهم وأما ابن عطاش فإنه أخذ أسيرا فترك أسبوعا ثم إنه أمر به فشهر في جميع البلد وسلخ جلده فتجلد حتى مات وحشي جلده تبنا وقتل ولده وحمل رأساهما إلى بغداد وألقت زوجته نفسها من رأس القلعة فهلكت وكان معها جواهر نفيسة لم يوجد مثلها فهلكت أيضا وضاعت وكانت مدة البلوى بابن عطاش اثنتي عشرة سنة. د
434 ذكر الخلف بين سيف الدولة صدقة ومهذب الدولة صاحب البطيحة في هذه السنة اختلف سيف الدولة صدقة بن مزيد ومهذب الدولة السعيد بن أبي الجبر صاحب البطيحة وانضاف حماد بن أبي الجبر إلى صدقة وأظهر معاداة ابن عمه مهذب الدولة ثم اتفقوا. وكان سبب ذلك أن صدقة لما أقطعه السلطان محمد مدينة واسط ضمنها منه مهذب الدولة واستناب في الأعمال أولاده وأصحابه فمدوا أيديهم في الأموال وفرطوا فيها وفرقوها فلما انقضت السنة طالبه صدقة بالمال وحبسه ثم سعى في خلاصه بدران بن صدقة وهو صهر مهذب الدولة فأخرجه من الحبس وأعاده إلى بلده البطيحة. وضمن حماد بن أبي الجبر واسطا فانحل على مهذب الدولة كثير من أمره فآل إلى الاختلاف بعد الاتفاق فإن المصطنع إسماعيل جد حماد والمختص محمدا والد مهذب الدولة أخوان وهما ابنا أبي الجبر وكانت إليهما رياسة أهلهما وجماعتهما فهلك المصطنع وقام ابنه أبو السيد المظفر والد حماد مقامه وهلك المختص محمد وقام ابنه مهذب الدولة مقامه وصارا يتنازعان ابن الهيثم صاحب البطيحة ويقاتلانه إلى أن أخذه مهذب الدولة أيام كوهرائين وسلمه إلى كوهرائين فحمله إلى أصبهان فهلك في طريقها فعظم أمر مهذب الدولة وصير كوهرائين أمير البطيحة فصار ابن عمه وجماعة تحت حكمه.
435 وكان حماد شابا فأكرمه مهذب الدولة وزوجه بنتا له وزاد في أقطاعه فكثر ماله فسار يحسد مهذب الدولة ويضمر بغضه وربما ظهر في بعض الأوقات وكان مهذب الدولة يداريه بجهده، فلما هلك كوهرائين انتقل حماد عن مهذب الدولة وأظهر ما في نفسه فاجتهد مهذب الدولة في إعادته إلى ما كان فلم يفعل فسكت عنه فجمع النفيس بن مهذب الدولة جمعا وقصد حمادا فهرب منه إلى سيف الدولة بالحلة فأعاده صدقة ومعه جماعة من الجند فحشد مهذب الدولة فأرسل حماد إلى صدقة يعرفه ذلك فأرسل إليه كثيرا من الجند فقوي عزم مهذب الدولة على المحاربة لئلا يظن به العجز فأشار عليه أهله بترك الخروج من موضعه لحصانته فلم يفعل وسير سفنه وأصحابه في الأنهر فجعل حماد وأخوه له الكمناء واندفعوا من بين أيديهم فطمع أصحاب مهذب الدولة وتبعوهم فخرج عليهم الكمناء فلم يسلم منهم إلا من لم يحضر أجله فقتل منهم وأسر خلق كثير فقوي طمع حماد وأرسل إلى صدقة يستنجده فأرسل إليه مقدم جيشه سعيد بن حميد العمري وغيره من المقدمين وجمعوا السفن ليقاتلوا مهذب الدولة فرأوا أمرا محكما فلم يمكنهم الدخول إليه. وكان حماد بخيلا ومهذب الدولة جوادا فأرسل إلى سعيد بن حميد الإقامات الوافرة والصلات الكثيرة واستماله فمال إليه واجتمع به وتقرر الأمر على أن أرسل مهذب الدولة ابنه النفيس إلى صدقة فرضي عنه وأصلح بينهم وبين حماد ابن عمهم وعادوا إلى حال حسنة من الاتفاق وكان صلحهم في ذي الحجة سنة خمسمائة.
436 قتل وزير السلطان ووزارة أحمد بن نظام الملك في شوال من هذه السنة قبض السلطان محمد على وزيره سعد الملك أبي المحاسن وأخذ ماله وصلبه على باب أصبهان وصلب معه أربعة نفر من أعيان أصحابه والمنتمين إليه أما الوزير فنسب إلى خانة السلطان وأما الأربعة فنسبوا إلى اعتقاد الباطنية وكانت مدة وزارته سنتين وتسعة أشهر وكان في ابتداء حاله يصحب تاج الملك أبا الغنائم وتعطل بعده ثم استعمله مؤيد الملك فجعله على ديوان الاستيفاء وخدم السلطان محمدا لما حصره أخوه السلطان بركيارق بأصبهان خدمة حسنة ولما فارقها محمد حفظها الحفظ التام وقام المقام العظيم فاستوزره محمد ووسع له في الإقطاع وحكمه في دولته ثم نكبه وهذا آخر خدمة الملوك. وما أحسن ما قال عبد الملك بن مروان أنعم الناس عيشا من له ما يكفيه وزوجة ترضيه ولا يعرف أبوابنا هذه الخبيثة فتؤذيه. ولما قبض الوزير استشار السلطان فيمن يجعله وزيرا فذكر له جماعة فقال السلطان إن آبائي دروا على نظام الملك البركة ولهم عليه الحق الكثير وأولاده أغذياء نعمتنا ولا معدل عنهم فأمر لأبي نصر أحمد هذا بالوزارة ولقب ألقاب أبيه قوام نظام الملك صدر الإسلام. وكان سبب قدومه إلى باب السلطان أنه لما رأى انقراض دولة أهل بيته
437 لزم داره بهمذان فاتفق أن رئيس همذان وهو الشريف أبو هاشم آذاه فسار إلى السلطان شاكيا منه ومتظلما فقبض السلطان على الوزير وأحمد هذا في الطريق فلما وصل إليه ذكره وخلع عليه خلع الوزارة وحكمه ومكنه وقوى أمره وهذا من الفرج بعد الشدة فإنه حضر شاكيا فصار حاكما. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في صفر عزل الوزير أبو القاسم علي بن جهير وزير الخليفة فقصد دار سيف الدولة صدقة ببغداد ملتجئا إليها وكانت ملجأ لكل ملهوف فأرسل إليه صدقة من أخذه إليه إلى الحلة وكانت وزارته ثلاث سنين وخمسة أشهر وأياما وأمر الخليفة بنقض داره التي بباب العامة وفيها عبرة فإن أباه أبا نصر بن جهير بناها بأنقاض أملاك الناس وأخذ بسببها أكثر ما دخل فيها فخربت عن قريب. ولما عزل استنيب قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني ثم تقررت الوزارة في المحرم من سنة إحدى وخمسمائة لأبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب وخلع عليه فيه. وفيها في شوال توفي الأمير أبو الفوارس سرخاب بن بدر بن مهلهل المعروف بابن أبي الشوك الكردي وكانت له أموال كثيرة وخيول لا تحصى وولي الأمر بعده أبو منصور بن بدر وقام مقامه وبقيت الإمارة في بيته مائة وثلاثين سنة وقد تقدم من أخباره ما فيه كفاية.
438 وفي هذه السنة توفي أبو الفتح أحمد بن محمد بن أحمد بن سعيد الحداد الأصبهاني ابن أخت عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن مندة ومولده سنة ثمان وأربعمائة وكان مكثرا من الحديث مشهورا بالرواية. وفيها توفي أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج البغدادي في صفر وهو مكثر من الرواية وله تصانيف حسنة وأشعار لطيفة وهو من أعيان الزمان وعبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب أبو محمد الشيرازي الفقيه ولي التدريس بالنظامية ببغداد سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وكان يروي الحديث أيضا وأبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي المعروف بابن الطيوري البغدادي ومولده سنة إحدى عشرة وأربعمائة وكان مكثرا من الحديث ثقة صالحا عابدا وأبو الكرم المبارك بن الفاخر بن محمد بن يعقوب النحوي سمع الحديث من أبي الطيب الطبري والجوهري وغيرهما وكان إماما في النحو واللغة.
439 501 ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة ذكر قتل صدقة بن مزيد في هذه السنة في رجب قتل الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزبد الأسدي أمير العرب وهو الذي بنى الحلة السيفية بالعراق، وكان قد عظم شأنه وعلا قدره واتسع جاهه واستجار به صغار الناس وكبارهم فأجارهم. وكان كثير العناية بأمور السلطان والتقوية ليده والشد منه على أخيه بركيارق حتى أنه جاهز بركيارق حتى أنه جاهز بركيارق بالعداوة ولم يبرح على مصافاة السلطان محمد وزاده محمد أقطاعا من جملته مدينة واسط وأذن له في أخذ البصرة ثم أفسد ما بينهما العميد أبو جعفر محمد بن الحسين البلخي وقال في جملة ما قال عنه إن صدقة قد عظم أمره وزاد حاله وكثر إدلاله ويبسط في الدولة وحمايته كل من يفر إليه من عند السلطان وهذا لا تحتمله الملوك لأولادهم ولو أرسلت بعض أصحابك لملك بلاده وأمواله. ثم إنه تعدى ذلك حتى طعن في اعتقاده ونسبه وأهل بلده إلى مذهب الباطنية وكذب وإنما كان مذهبه التشيع لا غير؛ ووافق أرغون السعدي أبا جعفر العميد وانتهى ذلك إلى صدقة وكانت زوجة أرغون بالحلة وأهله
440 فلم يؤاخذهم بشيء مما كان له أيضا هناك [من] بقايا خراج ببلده فأمر صدقة أن يخلص ذلك إليه بأجمعه ويسلم إلى زوجته. وأما سبب قتله فإن صدقة كان كما ذكرنا يستجير به كل خائف من خليفة وسلطان وغيرهما وكان السلطان محمد قد سخط على أبي دلف سرخاب بن كيخسرو صاحب وآبة فهرب منه وقصد صدقة فاستجار به فأجاره فأرسل السلطان يطلب من صدقة أن يسلمه إلى نوابه فلم يفعل وأجاب إنني لا أمكن منه بل أحامي عنه وأقول ما قاله أبو طالب لقريش لما طلبوا منه رسول الله: (ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن آبائنا والحلائل) وظهر منه أمور أنكرها السلطان فتوجه إلى العراق ليتلافى هذا الأمر فلما سمع صدقة استشار أصحابه في الذي يفعله فأشار عليه ابنه دبيس بأن ينفذه إلى السلطان ومعه الأموال والخيل ليستعطف له السلطان، وأشار سعيد بن حميد صاحب جيش صدقة بالمحاربة وجمع الجند وتفريق المال فيهم واستطال في القول فمال صدقة إلى قوله وجمع العساكر إليه عشرون ألف فارس وثلاثون ألف راجل فأرسل المستظهر بالله يحذره عاقبة أمره وينهاه عن الخروج عن طاعة السلطان ويعرض له توسط الحال فأجاب صدقة إنني على طاعة السلطان لكن لا آمن على نفسي في الاجتماع به وكان الرسول بذلك عن الخليفة نقيب النقباء علي بن طراد الزينبي.
441 ثم أرسل السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي إلى صدقة يطيب قلبه ويزيل خوفه ويأمره بالانبساط على عادته ويعرفه عزمه على قصد الفرنج ويأمره بالتجهيز للغزاة معه فأجاب إن السلطان قد أفسد أصحابه قلبه علي وغيروا حالي معه وزال ما كان عليه في حقي من الإنعام وذكر سالف خدمته ومناصحته، وقال سعيد بن حميد صاحب جيشه لم يبق لنا في صلح السلطان مطمع ولترون خيولنا بحلوان؛ وامتنع صدقة من الاجتماع بالسلطان. ووصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ربيع الآخر ومعه وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك وسير البرسقي شحنة بغداد في جماعة من الأمراء إلى صرصر فنزلوا عليها وكان السلطان جريدة لا يبلغ عسكره ألفي فارس، فلما تيقن ببغداد مكاشفة صدقة أرسل إلى الأمراء يأمرهم بالوصول إليه والجد في السير وتعجيل ذلك، فوردوا إليه من كل جانب. ثم وصل كتاب صدقة إلى الخليفة في جمادى الأولى يذكر أنه واقف عند ما يرسم له ويقرر من حاله مع السلطان ومهما أمرته من ذلك امتثله فأنفذ الخليفة الكتاب إلى السلطان فقال السلطان أنا متمثل ما يأمر به الخليفة ولا مخالفة عندي فأرسل الخليفة إلى صدقة يعرفه إجابة السلطان إلى ما طلب منه ويأمره بإنفاذ ثقته ليستوثق له ويحلف السلطان على ما يقع الاتفاق عليه فعاد صدقة عن ذلك الرأي وقال إذا رحل السلطان عن بغداد أمددته بالمال والرجال وما يحتاج إليه في الجهاد وأما الآن وهو ببغداد وعسكره بنهر
442 الملك فما عندي مال ولا غيره وأن جاولي سقاوو وإيلغازي بن أرتق أرسلا إلي بالطاعة لي والموافقة معي على محاربة السلطان وغيره ومتى أردتهما وصلا إلي في عساكرهما. وورد إلى السلطان قرواش بن شرف الدولة وكرماوي بن خراسان التركماني وأبو عمران فضل بن ربيعة بن حازم بن الجراح الطائي وآباؤه كانوا من أصحاب البلقاء والبيت المقدس منهم حسان بن المفرج الذي مدحه التهامي وكان فضل تارة مع الفرنج وتارة مع المصريين فلما رآه طغتكين أتابك على هذه الحالة طرده من الشام فلما طرده التجأ إلى صدقة وعاقده فأكرمه صدقة وأهدى إليه هدايا كثيرة منها سبعة آلاف دينار عينا. فلما كانت هذه الحادثة بين صدقة والسلطان سار في الطلائع ثم هرب إلى السلطان فلما وصل خلع عليه وعلى أصحابه وأنزله بدار صدقة ببغداد فلما سار إلى قتال صدقة استأذنه فضل في إتيان البرية ليمنع صدقة من الهرب إن أراد ذلك فأذن له فعبر بالأنبار وكان آخر العهد به. وأنفذ السلطان في جمادى الأولى إلى واسط الأمير محمد بن بوقا التركماني فأخرج عنها نائب صدقة وأمن الناس كلهم إلا أصحاب صدقة فتفرقوا ولم ينهب أحد وأنفذ خيله إلى بلد قوسان وهو من أعمال صدقة فنهبه أقبح نهب وأقام عدة أيام فأرسل صدقة إليه ثابت بن سلطان وهو ابن عم صدقة ومعه عسكر فلما وصلوا إليها خرج منها الأتراك وأقام ثابت بها وبينه وبينهم دجلة. ثم إن ابن بوقا عبر جماعة من الجند ارتضاهم وعرف شجاعتهم فوقفوا على موضع مرتفع على نهر سالم يكون ارتفاعه نحو خمسين ذراعا،
443 فقصدهم ثابت وعسكره لم يقدروا يقربون الترك من النشاب والمدد يأتيهم من ابن بوقا وجرح ثابت في وجهه وكثر الجراح في أصحابه فانهزم هو ومن معه وتبعهم الأتراك فقتلوا منهم وأسروا ونهب طائفة من الترك مدينة واسط واختلط بهم رجاله ثابت فنهبت معهم فسمع ابن بوقا فركب إليهم ومنعهم وقد نهبوا بعض البلد ونادى في الناس بالأمان، وأقطع السلطان أواخر جمادى الأولى مدينة واسط لقسيم الدولة البرسقي وأمر ابن بوقا بقصد بلد صدقة ونهبه فنهبوا فيه ما لا يحد. وأما السلطان محمد فإنه سار عن بغداد إلى الزعفرانية ثاني جمادى الآخرة فأرسل إليه الخليفة وزيره مجد الدولة بن المطلب يأمره بالتوقف وترك العجلة خوفا على الرعية من القتل والنهب وأشار قاضي أصبهان بذلك واتباع أمر الخليفة فأجاب السلطان إلى ذلك فأرسل الخليفة إلى صدقة نقيب النقباء علي بن طراد وجمال الدولة مختصا الخادم فسار إلى صدقة فأبلغاه رسالة الخليفة يأمره بطاعة السلطان وينهاه عن المخالفة فاعتذر صدقة وقال ما خالفت الطاعة ولا قطعت الخطبة في بلدي وجهز ابنه دبيسا ليسير معهما إلى السلطان. فبينما الرسل وصدقة في هذا الحديث إذ ورد الخبر أن طائفة من عسكر السلطان قد عبروا من مطير اباذ وأن الحرب بينهم وبين أصحاب صدقة قائمة على ساق فتجلد صدقة لأجل الرسل وهو يشتهي الركوب إلى أصحابه خوفا عليهم وكان الرسل إذا سمعوا ذلك ينكرونه لأنهم قد تقدموا إلى العسكر عند عبورهم عليهم أنه لا يتعرض أحد منهم إلى حرب حتى نعود فإن الصلح قد قارب فقال صدقة للرسول كيف أثق أرسل ولدي
444 الآن وكيف آمن عليه وقد جرى ما ترون فإن تكفلتم برده إلي أنفذته فلم يتجاسروا على كفالته، فكتب إلى الخليفة يعتذر عن إنفاذ ولده بما جرى. وكان سبب هذه الوقعة أن عسكر السلطان لما رأوا الرسل اعتقدوا وقوع الصلح فقال بعضهم الرأي أننا ننهب شيئا قبل الصلح فأجاب البعض وامتنع البعض فعبر من أجاب النهر ولم يتأخر من لم يجب لئلا ينسب إلى خور وجبن ولئلا يتم على من عبر وهن فيكون عاره وأذاه عليهم فعبروا بعدهم أيضا فأتاهم أصحاب صدقة وقاتلوهم فكانت الهزيمة على الأتراك وقتل منهم جماعة كثيرة وأسر جماعة من أعيانهم وكثير من غيرهم وغرق منهم الأمير محمد بن باغي سيان الذي كان أبوه صاحب أنطاكية وكان عمره نيفا وعشرين سنة وكان محبا للعلماء وأهل الدين وبنى بإقطاعه من أذربيجان عدة مدارس ولم يجسر الأتراك يعرفون السلطان بما أخذ منهم من الأموال والدواب خوفا منه حيث فعلوا ذلك بغير أمره. وطمع العرب بهذه الهزيمة وظهر منهم الفخر والتيه والطمع وأظهروا أنهم باعوا كل أسير بدينار وأن ثلاثة باعوا أسيرا بخمسة قراريط وأكلوا بها خبزا وجعلوا ينادون من يتغذى بأسير ويتعشى بآخر وظهر من الأتراك اضطراب عظيم. وأعاد الخليفة مكاتبة صدقة بتحرير أمر الصلح فأجاب أنه لا يخالف
445 ما يؤمر به وكتب صدقة أيضا إلى السلطان يعتذر مما نقل عنه ومن الحرب التي كانت بين أصحابه وبين الأتراك وأن جند السلطان عبرت إلى أصحابه فمنعوا عن أنفسهم بغير علمه وأنه لم يحضر الحرب ولم ينزع يدا من طاعة ولا قطع خطبته من بلده. ولم يكن صدقه كاتبه قبل هذا الكتاب، فأرسل الخليفة نقيب النقباء وأبا سعد الهروي إلى صدقة فقصدا السلطان أولا وأخذا يده بالأمان لمن يقصده من أقارب صدقة فلما وصلا إلى صدقة وقالا له عن الخليفة إن إصلاح قلب السلطان موقوف على إطلاق الأسرى ورد جميع ما أخذ من العسكر المنهزم فأجاب أولا بالخضوع والطاعة ثم قال لو قدرت على الرحيل من بين يدي السلطان لفعلت لكن ورائي من ظهري وظهر أبي وجدي ثلاثمائة امرأة ولا يحملهن مكان، ولو علمت أنني إذا جئت السلطان مستسلما قبلني واستخدمني لفعلت لكنني أخاف أنه لا يقبل عثرتي ولا يعفو عن زلتي. وأما ما نهب فإن الخلق كثير وعندي من لا أعرفه وقد نهبوا ودخلوا البر فلا طاقة لي عليهم ولكن إن كان السلطان لا يعارضني فيما في يدي ولا فيمن أجرته وأن يقر سرخاب بن كيخسرو على إقطاعه بسارة وأن يتقدم إلى ابن بوقا بإعادة ما نهب من بلادي وأن يخرج وزير الخليفة يحلفه بما أثق إليه من الإيمان على المحافظة فيما بيني وبينه فحينئذ أخدم بالمال وأدوس بساطه بعد ذلك. فعادوا بهذا ومعهم أبو منصور بن معروف رسول صدقة فردهم الخليفة وأرسل السلطان معهم قاضي أصبهان أبا إسماعيل. فأما أبو إسماعيل
446 فلم يصل إليه وعاد من الطريق وأصر صدقة على القول الأول فحينئذ سار السلطان ثامن رجب من الزعفرانية وسار صدقة في عساكره إلى قرية مطر وأمر جنده بلبس السلاح واستأمن ثابت بن سلطان بن دبيس بن علي بن مزيد وهو بان عم صدقة إلى السلطان محمد وكان يحسد صدقة وهو الذي تقدم ذكره أنه كان بواسط فأكرمه السلطان وأحسن إليه ووعده الإقطاع. ووردت العساكر إلى السلطان منهم بنو برسق وعلاء الدولة أبو كاليجار كرشاسب بن علي بن فرامرز أبي جعفر بن كاكويه وآباؤه كانوا أصحاب أصبهان وفرامرز هو الذي سلمها إلى طغرلبك وقتل أبوه مع تتش. وعبر عسكر السلطان دجلة ولم يعبر هو فصاروا مع صدقة على أرض واحدة بينهما نهر والتقوا تاسع عشر رجب وكانت الريح في وجوه أصحاب السلطان فلما التقوا صارت في ظهورهم وفي وجوه أصحاب صدقة ثم إن الأتراك رموا بالنشاب فكان يخرج في كل رشقة عشرة آلاف نشابة فلم يقع سهم إلا في فرس أو فارس وكان أصحاب صدقة كلما حملوا منعهم النهر من الوصول إلى الأتراك والنشاب ومن عبر منهم لم يرجع وتقاعدت عبادة وخفاجة وجعل صدقة ينادي يا آل خزيمة يا آل ناشرة يا آل عوف؛ ووعد الأكراد بكل جميل لما ظهر من شجاعتهم وكان راكبا على فرسه المهلوب ولم يكن لأحد مثله فجرح الفرس ثلاث جراحات وأخذه الأمير أحمديل بعد قتل صدقة فسيره إلى بغداد في سفينة فمات في الطريق. وكان لصدقة فرس آخر قد ركبه حاجبه أبو نصر بن تفاحة فلما رأى
447 الناس وقد غشوا صدقة هرب عليه فناداه صدقة فلم يجبه وحمل صدقة على الأراك فضربه غلام منهم على وجهه فشوهه وجعل يقول أنا ملك العرب أنا صدقة فأصابه سهم في ظهره وأدركه غلام اسمه بزغش كان أشل فتعلق به وهو لا يعرفه وجذبه عن فرسه فسقط إلى الأرض هو والغلام فعرفه صدقة فقال يا بزغش ارفق فضربه بالسيف فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى البرسقي فحمله إلى السلطان فلما رآه عانقه وأمر لبزغش بصلة. وبقي صدقة طريحا إلى أن سار السلطان فدفنه إنسان من المدائن وكان عمره تسعا وخمسين سنة وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وحمل رأسه إلى بغداد وقتل من أصحابه ما يزيد على ثلاثة آلاف فارس فيهم جماعة من أهل بيته وقتل من بني شيبان خمس وتسعون رجلا وأسر ابنه دبيس بن صدقة وسرخاب بن كيخسرو الديلمي الذي كانت هذه الحرب بسببه فأحضر بين يدي السلطان فطلب الأمان فقال قد عاهدت الله أنني لا أقتل أسيرا فإن ثبت عليك أنك باطني قتلتك وأسر سعيد بن حميد العمري صاحب جيش صدقة وهرب بدران بن صدقة إلى الحلة فأخذ من المال وغيره ما أمكنه وسير أمه ونساءه إلى البطيخة إلى مهذب الدولة أبي العباس أحمد بن أبي الجبر، وكان بدران صهر مهذب الدولة على ابنته ونهب من الأموال ما لا حد عليه. وكان له من الكتب المنسوبة الخط شيء كثير ألوف مجلدات وكان
448 يحسن يقرأ ولا يكتب وكان جوادا حليما صدوقا كثير البر والإحسان ما برح ملجأ لكل ملهوف يلقى من يقصده بالبر والتفضيل ويبسط قاصديه ويزورهم وكان عادلا والرعايا معه في أمن ودعة وكان عفيفا لم يتزوج على امرأته ولا تسرى عليها فما ظنك بغير هذا؟ ولم يصادر أحدا من نوابه ولا أخذهم بإساءة قديمة وكان أصحابه يودعون أمواله في خزانته ويدلون عليه إدلال الولد على الوالد ولم يسمع برعية أحبت أميرها كحب رعيته له. وكان متواضعا محتملا يحفظ الأشعار ويبادر إلى النادرة رحمه اله لقد كان من محاسن الدنيا. وعاد السلطان إلى بغداد ولم يصل إلى الحلة وأرسل إلى البطيحة أمانا لزوجة صدقة وأمرها بالظهور فأصعدت إلى بغداد فأطلق السلطان ابنها دبيسا وأنفذ معه جماعة من الأمراء إلى لقائها فلما لقيها ابنها بكيا بكاء شديدا ولما وصلت إلى بغداد أحضرها السلطان واعتذر من قتل زوجها وقال وددت أنه حمل إلي حتى كنت أفعل معه ما يعجب الناس به من الجميل والإحسان لكن الأقدار غلبتني واستحلف ابنها دبيسا أنه لا يسعى بفساد. ذكر وفاة تميم بن المعز صاحب إفريقية وولاية ابنه يحيى في هذه السنة في رجب توفي تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية وكان شهما شجاعا ذكيا له معرفة حسنة وكان حليما كثير العفو عن
449 الجرائم العظيمة وله شعر حسن فمنه أنه وقع حرب بين طائفتين من العرب وهم عدي ورياح فقتل رجل من رياح ثم اصطلحوا وأهدروا دمه وكان صلحهم مما يضر به وببلاده فقال أبياتا يحرض على الطلب بدمه، وهي: (متى كانت دماؤكم تطل * أما فيكم بثأر مستقل) (أغانم ثم سالم إن فشلتم * فما كانت أوائلكم تذل) (ونمتم عن طلاب الثار حتى * كأن العز فيكم مضمحل) (وما كسرتم فيه العوالي * ولا بيض تفل ولا تسل) فعمد إخوة المقتول فقتلوا أميرا من عدي واشتد بينهم القتال وكثرت القتلى حتى أخرجوا بني عدي من إفريقية. قيل إنه اشترى جارية بثمن كثير فبلغه أن مولاها الذي باعها عقله وأسف على فراقها فأحضره تميم بين يديه وأرسل الجارية إلى داره ومعها من الكسوات والأواني الفضة وغيرها ومن الطيب وغيره شيء كثير ثم أمر مولاها بالانصراف وهو لا يعلم بذلك فلما وصل إلى داره ورآها على تلك الحال وقع مغشيا عليه لكثرة سروره ثم أفاق فلما كان الغد أخذ الثمن وجميع ما كان معها وحمله إلى دار تميم فانتهزه وأمره إعادة جميع ذلك إلى داره. وكان له في البلاد أصحاب أخبار يجري عليهم أرزاقا سنية ليطالعوه بأحوال أصحابه لئلا يظلموا الناس فكان بالقيروان تاجر له مال وثروة فذكر في بعض الأيام التجار تميما ودعوا له وذلك التاجر حاضر فترحم على أبيه المعز ولم يذكره فرفع ذلك إلى تميم فأحضره إلى قصره وسأله هل ظلمتك فقال لا قال فهل ظلمك بعض أصحابي قال لا قال فلم أطلقت لسانك أمس بذمي؟ سكت فقال: لولا أن يقال شره في
450 ماله لقتلتك ثم أمر به فصفع في حضرته قليلا ثم أطلقه فخرج أصحابه ينتظرونه فسألوه عن خبره فقال أسرار الملوك ولا تذاع فصارت بإفريقية مثلا. ولما توفي كان عمره تسعا وسبعين سنة وكانت ولايته ستا وأربعين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوما وخلف من الذكور ما يزيد على مائة ومن النبات ستين بنتا ولما توفي ملك بعده ابنه يحيى بن تميم وكانت ولايته بالمهدية لأربع بقين من ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة وكان عمره حين ولي ثلاثا وأربعين سنة وستة أشهر وعشرين يوما ولما ولي فرق أموالا جزيلة وأحسن السيرة في الرعية. ذكر ملك يحيى قلعة قليبية لما ملك يحيى بن تميم بعد أبيه جرد عسكريا كثيفا إلى قلعة قليبية وهي من أحصن قلاع إفريقية فنزل عليها وحصرها حصارا شديدا ولم يبرح حتى فتحها وحصنها وكان أبو تميم قد رام فتحها فلم يقدر على ذلك ولم يزل مظفرا منصورا لم يهزم له جيش.
451 ذكر قدوم ابن عمار بغداد مستنفرا في هذه السنة في شهر رمضان ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد قاصدا باب السلطان محمد مستنفرا على الفرنج طالبا تسيير العساكر لإزاحتهم والذي حثه على ذلك أنه لما طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس على ما ذكرناه ضاقت عليه الأقوات وقلت واشتد الأمر عليه وعلى أهل البلد فمن الله عليهم سنة خمسمائة بميرة في البحر من جزيرة قبرس وأنطاكية وجزائر البنادقة فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد بعد أن كانوا استسلموا. فلما بلغ فخر الملك انتظام الأمور للسلطان محمد وزوال كل مخالف رأى لنفسه وللمسلمين قصده والانتصار به فاستناب بطرابلس ابن عمه ذا المناقب وأمره بالمقام بها ورتب معه الأجناد برا وبحرا وأعطاهم جامكية ستة أشهر سلفا كل موضع إلى من يقوم بحفظه بحيث إن ابن عمه لا يحتاج إلى فعل شيء من ذلك وسار إلى دمشق فأظهر ابن عمه الخلاف له والعصيان عليه ونادى بشعار المصريين فلما عرف فخر الملك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله الخوابي ففعلوا ما أمرهم. وكان ابن عمار قد استصحب معه من الهدايا ما لم يوجد عند ملك مثله من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة والخيل الرائقة فلما وصلها لقيه عسكرهما وطغتكين أتابك وخيم على ظاهر البلد وسأله طغتكين الدخول إليه يوما واحدا إلى الطعام وأدخله حمامه وسار عنها ومعه ولد طغتكين يشيعه.
452 فلما وصل إلى بغداد أمر السلطان كافة الأمراء بتلقيه وإكرامه وأرسل إليه شبارته وفيها دسته الذي يجلس عليه ليركب فيها فلما نزل إليها قعد بين يدي موضع السلطان فقال له من بها من خواص السلطان قد أمرنا أن يكون جلوسك في دست السلطان فلما دخل على السلطان أجلسه وأكرمه وأقبل عليه بحديثه وسير الخليفة خواصه وجماعة أرباب المناصب فلقوه وأنزله الخليفة وأجرى عليه الجراية العظيمة وكذلك أيضا فعل السلطان وفعل معه ما لم يفعل مع الملوك الذين معهم أمثاله وهذا جميعه ثمرة الجهاد في الدنيا ولأجر الآخرة أكبر. ولما اجتمع بالسلطان قدم هديته وسأله السلطان عن حاله وما يعانيه في مجاهدة الكفار ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم فذكر له حاله وقوة عدوه وطول النجدة وضمن أنه إذا سيرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه فوعده السلطان بذلك وحضر دار الخلافة وذكر أيضا نحو مما ذكره السلطان وحمل هدية جميلة نفيسة وأقام إلى أن رحل السلطان عن بغداد في شوال فأحضره عنده بالنهروان قد تقدم إلى الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين ليسير معه العساكر التي سيرها إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال جاولي سقاوو ليمضوا معه إلى الشام وخلع عليه السلطان خلعا نفيسة وأعطاه شيئا كثيرا وودعه وسار ومعه الأمير حسين فلم يجد ذلك نفعا وكان ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
453 ثم إن فخر الملك بن عمار عاد إلى دمشق منتصف المحرم سنة اثنتين وخمسمائة فأقام بها أياما وتوجه منها مع العسكر من دمشق إلى جبلة فدخلها وأطاعه أهلها. وأما أهل طرابلس فإنهم راسلوا الأفضل أمير الجيوش بمصر يلتمسون منه واليا عندهم ومعه الميرة في البحر فسير إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب واليا ومعه الغلة وغيرها مما تحتاج إليه البلاد في الحصار فلما صار فيها قبض على جماعة من أهل ابن عمار وأصحابه وأخذ ما وجده من ذخائره وآلاته وغير ذلك وحمل الجميع إلى مصرفي البحر. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في شعبان أطلق السلطان محمد الضرائب والمكوس ودار البيع والاجتيازات وغلا ذلك مما يناسبه بالعراق وكتبت به الألواح وجعلت في الأسواق. وفيها في شهر رمضان ولي القاضي أبو العباس بن الرطبي الحسبة ببغداد. وفيه أيضا عزل الخليفة وزيره مجد الدين بن المطلب برسالة من السلطان بذلك ثم أعيد إلى الوزارة بإذن السلطان وشرط عليه شروطا منها العدل وحسن السيرة وأن لا يستعمل أحدا من أهل الذمة.
454 وفيها عاد أصبهبذ صباوة من دمشق وكان هرب عند قتل أياز فلما قدم أكرمه السلطان وأقطعه رحبة مالك بن طوق. وفيها سابع شوال خرج السلطان إلى ظاهر بغداد عازما على العود إلى أصبهان وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر وسبعة عشر يوما. وفيها في ذي الحجة احترقت خرابة فهلك فيها كثير من الناس وأما الأمتعة والأموال وأثاث البيوت فهلك منها ما حد له وخلص خلق بنقب نقبوه في سور المحلة إلى مقبرة باب أبرز وكان بها جماعة من اليهود فلم ينقلوا شيئا لتمسكهم بسبتهم؛ وكان بعض أهله عبروا إلى الجانب الغربي للفرجة على عادتهم في السبت الذي يلي العيد فعادوا فوجدوا بيوتهم قد خربت وأهلهم قد احترقوا وأموالهم قد هلكت. ثم تبع ذلك حريق في عدة أماكن منها درب القيار وقراح ابن زرين فارتاع الناس لذلك وأبطلوا معايشهم وأقاموا ليلا ونهارا يحرسون بيوتهم في الدروب على السطوح وجعلوا عندهم الماء المعد لإطفاء النار فظهر أن سبب هذا الحريق أن جارية أحبت مولاها فوافقته على المبيت عندها في دار مولاها سرا وأعدت له ما يسرقه إذا خرج ويأخذها هي أيضا معه فلما أخذها النار في الدار وخرجا فأظهر الله عليهما وعجل الفضيحة لهما فأخذا وحبسا. وفيها جمع بغدوين ملك الفرنج عسكره وقصد مدينة صور وحصرها وأمر ببناء حصن عندها على تل المعشوقة وأقام شهرا محاصرا لها فصانعه
455 واليها على سبعة آلاف دينار فأخذها ورحل عن المدينة وقصد مدينة صيدا فحصرها برا ونصب عليها البرج الخشب ووصل الأسطول المصري في الدفع عنها والحماية لمن فيها فقاتلهم أسطول الفرنج فظهر المسلمون عليهم فاتصل بالفرنج مسير عسكر دمشق نجدة لأهل صيدا فرحلوا عنها بغير فائدة. وفيها ظهر كوكب عظيم له ذوائب فبقي ليالي كثيرة ثم غاب. وتوفي في هذه السنة في شعبان إبراهيم بن مياس بن مهدي أبو إسحاق القشيري الدمشقي سمع الحديث الكثير من الخطيب البغدادي وغيره. وتوفي في ذي القعدة أبو سعيد إسماعيل بن عمرو بن النيسابوري المحدث كان يقرأ الحديث للغرباء قرأ صحيح مسلم على عبد الغافر الفارسي عشرين مرة.
456 502 ثم دخلت سنة اثنتين وخمسمائة ذكر استيلاء مودود وعسكر السلطان على الموصل وولاية مودود في هذه السنة في صفر استولى مودود والعسكر الذي أرسله السلطان معه على مدينة الموصل وأخذوها من أصحاب جاولي سقاوو، وقد ذكرنا سنة خمسمائة استيلاء جاولي عليها وما جرى بينه وبين جكرمش والملك قلج أرسلان وهلاكها على يده وصار معه بعد ذلك العسكر الكثير والعدة التامة والأموال الكثيرة، وكان السلطان محمد قد جعل إليه ولاية كل بلد يفتحه فاستولى على كثير من البلاد والأموال. وكان سبب أخذ البلاد منه أنه استولى عليها وعلى الأموال الكثيرة منها لم يحمل إلى السلطان منها شيئا فلما وصل السلطان إلى بغداد لقصد بلاد سيف الدولة صدقة أرسل إلى جاولي يستدعيه إليه بالعساكر وكرر الرسل إليه فلم يحضر وغالط في الانحدار إليه وأظهر أنه يخاف أن يجتمع به ولم يقنع بذلك حتى كاتب صدقة وأظهر له أنه معه ومساعده على حرب السلطان وأطعمه في الخلاف والعصيان. فلما فرغ السلطان من أمر صدقة وقتله كما ذكرناه تقدم إلى الأمراء بني برسق وسكمان القطبي ومودود بن التونتكين وآقسنقر البرسقي ونصر
457 بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي وأبي الهيجاء صاحب إربل بالمسير إلى الموصل وبلاد جاولي وأخذها منه فتوجهوا نحو الموصل فوجدوا جاولي عاصيا قد شيد سور الموصل وأحكم ما بناه جكرمش وأعد الميرة والأقوات والآلات واستظهر على الأعيان بالموصل فحسبهم وأخرج من أحداثها ما يزيد على عشرين ألفا ونادى متى اجتمع عاميان على الحديث في هذا الأمر قتلتهما وخرج عن البلد ونهب السواد. وترك بالبلد زوجته ابنة برسق وأسكنها القلعة ومعها ألف وخمسمائة فارس من الأتراك سوى غيرهم وسوى الرجالة ونزل العسكر عليها في شهر رمضان سنة إحدى وخمسمائة وصادرت زوجته من بقي بالبلد وعسفت نساء الخارجين عنه وبالغت في الاحتراز عليهم فأوحشهم ذلك ودعاهم إلى الانحراف عنها، وقوتل أهل البلد قتالا متتابعا فتمادى الحصار بأهلها من خارج والظلم من داخل إلى آخر المحرم والجند بها يمنعون عاميا من القرب من السور. فلما طال الأمر على الناس اتفق نفر من الجصاصين ومقدمهم جصاص يعرف بسعدي على تسليم البلد وتحالفوا على التساعد وأتوا وقت صلاة الجمعة والناس بالجامع وصعدوا برجا وأغلقوا أبوابه وقتلوا من به من الجند وكانوا نياما فلم يشعروا بشيء حتى قتلوا وأخذوا سلاحهم وألقوهم إلى الأرض وملكوا برجا آخر. ووقعت الصيحة وقصدهم مائتا فارس من العسكر ورموهم بالنشاب وهم يقاتلون وينادون بشعار السلطان فزحف عسكر السلطان إليهم ودخلوا البلد من ناحيتهم وملكوه ودخله الأمير مودود ونودي بالسكون والأمن وأن يعود الناس إلى دورهم وأملاكهم وأقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية
458 أيام وراسلت الأمير مودود أن يفرج لها عن طريقها وأن يحلف لها عن الصيانة والحراسة فحلف وخرجت إلى أخيها برسق بن برسق ومعها أموالها وما استولت عليه وولي مودود الموصل وما ينضاف إليها. ذكر حال جاولي مدة الحصار وأما جاولي فإنه لما وصل عسكر السلطان إلى الموصل وحصرها وسار عنها وأخذ معه القميص صاحب الرها الذي كان قد أسره سقمان وأخذه منه جكرمش وقد ذكرنا ذلك وسار إلى نصيبين وهي حينئذ للأمير إيلغازي بن أرتق وراسله وسأله الاجتماع به واستدعاه إلى معاضدته وأن يكون يدا واحدة وأعلمه أن خوفهما من السلطان ينبغي أن يجعلهما على الاحتماء منه فلم يجبه إيلغازي إلى ذلك ورحل عن نصيبين ورتب بها ولده وأمره بحفظها من جاولي وأن يقاتله إن قصده، وسار إلى ماردين. فلما سمع جاولي ذلك عدل عن نصيبين وقصد دارا وأرسل إلى إيلغازي ثانيا في المعاني وسار بعد رسول الله فبينما رسوله عند إيلغازي بماردين لم يشعر إلا جاولي معه في القلعة وحده وقصد أن يتألفه ويستميله فما رآه إيلغازي قام إليه وخدمه ولما رأى جاولي محسنا للظن فيه غير مستشعر منه لم يجد إلى دفعه سبيلا فنزل معه وعسكرا بظاهر نصيبين وسارا منها إلى سنجار وحاصراها مدة فلم يجبهما صاحبه إلى صلح فتركاه وسارا نحو الرحبة وإيلغازي يظهر لجاولي المساعدة ويبطن الخلاف وينتظر فرصة
459 لينصرف عنه فلما وصلا إلى عرابان من الخابور هرب إيلغازي ليلا وقصد نصيبين. ذكر إطلاق جاولي للقمص الفرنجي لما هرب إيلغازي من جاولي سار جاولي إلى الرحبة فلما وصل إلى ماكسين أطلق القمص الفرنجي الذي كان أسيرا بالموصل وأخذه معه واسمه بردويل وكان صاحب الرها وسروج وغيرهما وبقي في الحبس إلى الآن وبذل الأموال الكثيرة فلم يطلق فلما كان الآن أطلقه جاولي وخلع عليه وكان مقامه في السجن ما يقارب خمس سنين وقرر عليه أن يفدي نفسه بمال وأن يطلق أسرى المسلمين الذين في سجنه وأن ينصره متى أراد ذلك منه بنفسه وعسكره وماله. فلما اتفقا على ذلك سير القمص إلى قلعة جعبر وسلمه إلى صاحبها سالم بن مالك حتى ورد عليه ابن خالته جوسلين وهو من فرسان الفرنج وشجعانها وهو صاحب تل باشر وغيرها وكان أسر مع القمص في تلك الوقعة ففدى نفسه بعشرين ألف دينار فلما وصل جوسلين إلى قلعة جعبر أقام رهينة عوض القمص وأطلق القمص وسار إلى أنطاكية وأخذ جاولي جوسلين من قلعة جعبر فأطلقه وأخذ عوضه أخا زوجته وأخا زوجة القمص وسيره إلى القمص ليقوى به وليحثه على إطلاق الأسرى وإنفاذ المال وما ضمنه فلما وصل جوسلين إلى منبج أغار عليها ونهبها وكان معه جماعة من أصحاب جاولي فأنكروا عليه ذلك ونسبوه إلى الغدر فقال إن هذه المدينة ليست لكم.
460 ذكر ما جرى بين هذا القمص وبين صاحب أنطاكية لما أطلق القمص وسار إلى أنطاكية أعطاه طنكري صاحبها ثلاثين ألف دينار وخيلا وسلاحا وثيابا وغير ذلك. وكان طنكري قد أخذ الرها من أصحاب القمص حين أسر فخاطبه الآن في ردها عليه فلم يفعل فخرج من عنده إلى تل باشر فلما قدم عليه جوسلين وقد أطلقه جاولي سره ذلك وفرح به. وسار إليهما طنكري صاحب أنطاكية بعساكره ليحاربهما قبل أن يقوى أمرهما ويجمعا عسكرا ويلتحق بهما جاولي وينجدهما فكانوا يقتتلون فإذا فرغوا من القتال اجتمعوا وأكل بعضهم مع بعض وتحادثوا وأطلق القمص من الأسرى المسلمين مائة وستين أسيرا كلهم من سواد حلب وكساهم وسيرهم. وعاد طنكري إلى أنطاكية من غير فصل حال في مغني الرها فسار القمص وجوسلين وأغارا على حصون طنكري صاحب أنطاكية والتجأ إلى ولاية كواسيل وهو رجل أرمني ومعه خلق كثير من المرتدين وغيرهم وهو صاحب رعبان وكيسوم وغيرهما من القلاع شمالي حلب فأنجد القمص بألف فارس من المرتدين وألفي راجل فقصدهم طنكري فتنازعوا في أمر الرها فتوسط بينهم البطرك الذي لهم وهو عندهم كالإمام الذي للمسلمين لا يخالف أمره وشهد جماعة من المطارنة والقسيسين أن بيمند خال طنكري قال له لما أراد ركوب البحر والعود إلى بلاده،
461 أن يعيد الرها إلى القمص إذا خلص من الأسر فأعادها عليه طنكري تاسع صفر وعبر القمص الفرات ليسلم إلى أصحاب جاولي المال والأسرى فأطلق في طريقه خلقا كثيرا من الأسرى من حران وغيرهما. وكان بسروج ثلاثمائة مسلم ضعفي فعمر أصحاب جاولي مساجدهم وكان رئيس سروج مسلما قد ارتد فسمعه أصحاب جاولي يقول في الإسلام قولا شنيعا فضربوه وجرى بينهم وبين الفرنج بسببه نزاع فذكر ذلك للقمص فقال هذا لا يصلح لنا ولا للمسلمين؛ فقتله. ذكر حال جاولي بعد إطلاق القمص لما أطلق جاولي بماكسين سار إلى الرحبة فأتاه أبو النجم بدران وأبو كامل منصور ابنا سيف الدولة صدقة وكانا بعد قتل أبيهما بقلعة جعبر عند سالم بن مالك فتعاهدوا على المساعدة والمعاضدة ووعدهما أنه يسير معهما إلى الحلة وعزموا أن يقدموا عليهم بكتاش بن تكش بن ألب أرسلان فوصل إليهم وهم على هذا العزم الأصبهبذ صباوة وكان قصد السلطان فأقطعه الرحبة وقد ذكرناه فاجتمع بجاولي وأشار عليه أن يقصد الشام فإن بلاده خالية من الأجناد والفرنج قد استولوا على كثير منها وعرفه أنه متى قصد العراق والسلطان بها أو قريبا منها لم يأمن شرا يصل إليه فقبل قوله وأصعد عن الرحبة فوصل إليه رسل سالم بن مالك صاحب
462 قلعة جعبر يستغيث به من بني نمير وكانت الرقة بيد ولده علي بن سالم فوثب جوشن النميري ومعه جماعة من بني نمير فقتل عليا وملك الرقة. فبلغ ذلك الملك رضوان فسار من حلب إلى صفين فصادف تسعين رجلا من الفرنج معهم مال من فدية القمص صاحب الرها قد سيره إلى جاولي وأسر عددا منهم وأتى الرقة فصالحه بنو نمير على مال فرحل عنهم إلى حلب فاستنجد سالم بن مالك جاولي وسأله أن يرحل إلى الرقة ويأخذها ووعده بما يحتاج إليه فقصد الرقة وحصرها سبعين يوما فضمن له بنو نمير مالا وخيلا فأرسل إلى سالم إنني في أمر أهم من هذا وأنا بإزاء عدو ويجب التشاغل به دون غيره وأنا عازم على الانحدار إلى العراق فإن تم أمري فالرقة وغيرها لك ولا أشتغل عن هذا المهم بحصار خمسة نفر من بني نمير. ووصل إلى جاولي الأمير حسن بن أتابك قتلغ تكين وكان أبوه أتابك السلطان محمد فقتله وتقدم ولده هذا عند السلطان واختص به فسيره مع فخر الملك بن عمار ليصلح الحال مع جاولي ويأمر العساكر بالمسير مع ابن عمار إلى جهاد الكفار فحضر عند جاولي وأمر بتسليم البلاد وطيب قلبه عن السلطان وضمن الجميل إذا سلم البلاد وأظهر الطاعة والعبودية فقال جاولي أنا مملوك السلطان وفي طاعته وحمل إليه مالا وثيابا لها مقدار جليل وقال له سر إلى الموصل ورحل العسكر عنها فإني أرسل معكم من يسلم ولدي إليك رهينة وينفذ السلطان إليها من يتولى أمرها
463 وجباية أموالها؛ ففعل حسين ذلك وسار معه صاحب جاولي فلما وصلا إلى العسكر الذي على الموصل وكانوا لم يفتحوها بعد فأمرهم حسين بالرحيل فكلهم أجاب إلا الأمير مودود فإنه قال لا أرحل إلا بأمر السلطان وقبض على صاحب جاولي وأقام على الموصل حتى فتحها كما ذكرناه. وعاد حسين بن قتلغ تكين إلى السلطان فأحسن النيابة عن جاولي عنده وسار جاولي إلى مدينة بالس فوصلها ثالث عشر صفر فاحتمى أهلها منه وهرب من بها من أصحاب الملك رضوان صاحب حلب فحصرها خمسة أيام وملكها بعد أن نقب برجا من أبراجها فوقع على النقابين فقتل منهم جماعة وملك البلد وصلب جماعة من أعيانه عند النقب وأحضر القاضي محمد بن عبد العزيز بن الياس فقتل وكان فيها صالحا ونهب البلد وأخذ منه مالا كثيرا. ذكر الحرب بين جاولي والفرنج وفي هذه السنة في صفر كان المصاف بين جاولي سقاوو وبين طنكري الفرنجي صاحب أنطاكية. وسبب ذلك أن الملك رضوان كتب إلى طنكري صاحب أنطاكية يعرفه ما عليه جاولي من الغدر والمكر والخداع ويحذره منه ويعلمه أنه على قصد حلب وأنه إن ملكها لا يبقى للفرنج معه بالشام مقام وطلب منه النصرة والاتفاق على منعه فأجابه طنكري إلى منعه وبرز من أنطاكية فأرسل إليه رضوان ستمائة فارس فلما سمع جاولي الخبر أرسل إلى القمص،
464 صاحب الرها يستدعيه إلى مساعدته وأطلق له ما بقي عليه من مال المفاداة فسار إلى جاولي فلحق به وهو على منبج فوصل الخبر إليه وهو على هذه الحال بأن الموصل قد استولى عليها عسكر السلطان وملكوا خزائنه وأمواله فاشتد ذلك عليه وفارقه كثير من أصحابه منهم أتابك زنكي بن آقسنقر وبكتاش النهاوندي وبقي جاولي في ألف فارس وانضم إليه خلق من المطوعة فنزل بتل باشر. وقاربهم طنكري وهو في ألف وخمسمائة فارس من الفرنج وستمائة من أصحاب ملك رضوان سوى الرجالة فجعل جاولي في ميمنته الأمير أقسيان والأمير التونتاش الأبري وغيرهما وفي المسيرة الأمير بدران بن صدقة وأصبهبذ صباوة وسنقر دراز وفي القلب القمص بغدوين وجوسلين الفرنجيين وقعت الحرب فحمل أصحاب أنطاكية على القمص صاحب الرها، واشتد القتال فأزاح طنكري عن موضعه وحملت ميسرة جاولي على رجالة أنطاكية فقتلت منهم خلقا كثيرا ولم يبق غير هزيمة صاحب أنطاكية فحينئذ عمد أصحاب جاولي إلى جنائب القمص وجوسلين وغيرهما من الفرنج فركبوها وانهزموا فمضى جاولي ورآهم فلم يرجعوا وكانت طاعته قد زالت عنهم حين أخذت الموصل منه فلما رأى أنهم لا يعودون معه أهمه نفسه وخاف من المقام فانهزم وانهزم باقي عسكره. فأما أصبهبذ صباوة فسار نحو الشام وأما بدران بن صدقة فسار إلى قلعة جعبر، وأما ابن جكرمش فقصد جزيرة ابن عمر، وأما جاولي
465 فقصد الرحبة، وقتل من المسلمين خلق كثير ونهب صاحب أنطاكية أموالهم وأثقالهم وعظم البلاء عليهم من الفرنج وهرب القمص وجوسلين إلى تل باشر والتجأ خلق كثير من المسلمين ففعلا معهم الجميل وداويا الجرحى وكسوا العراة وسيراهم إلى بلادهم. ذكر عود جاولي إلى السلطان لما انهزم جاولي سقاوو قصد الرحبة فلما قاربها بات دونها في عدة فوارس فاتفق أن طائفة من عسكر الأمير مودود الذين أخذوا الموصل منه أغاروا على قوم من العرب يجاورون الرحبة فقاربوا جاولي وهم لا يشعرون به ولو علموا لأخذوه. فلما رأى الحال كذلك علم أنه لا يقدر [أن] يقيم في الجزيرة ولا بالشام ولا يقدر على شيء يحفظ به نفسه ويرجع إليه ويداوي به مرضه غير قصد باب السلطان محمد عن رغبة واختيار وكان واثقا بالأمير حسين بن قتلغ تكين فرحل من مكانه وهو خائف حذر قد أخفى شخصه وكتم أمره وسار إلى عسكر السلطان وكان بالقرب من أصبهان فوصل إليه في سبعة عشر يوما من مكانه لجده في السير فلما وصل المعسكر قصد الأمير حسين فحمله إلى السلطان فدخل إليه وكفنه تحت يده فأمنه وأتاه الأمراء يهنونه بذلك وطلب منه السلطان الملك بكتاش بن تكش فسلمه إليه فاعتقله بأصبهان.
466 ذكر الحرب بين طغتكين والفرنج والهدنة بغيرها في هذه السنة كانت حرب شديدة بين طغتكين أتابك والفرنج وسببها أن طغتكين سار إلى طبرية وقد وصل إليها ابن أخت بغدوين الفرنجي ملك القدس فتحاربا واقتتلا وكان طغتكين في ألفي فارس وكثير من الرجالة، وكان ابن أخت ملك الفرنج في أربعمائة فارس وألفي راجل. فلما اشتد القتال انهزم المسلمون فترجل طغتكين ونادى بالمسلمين وشجعهم فعادوا الحرب كسروا الفرنج وأسروا ابن أخت الملك وحمل إلى طغتكين فعرض عليه الإسلام فامتنع منه وبذل في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار وإطلاق خمسمائة أسير فلم يقنع طغتكين منه بغر الإسلام فلما فلم يجب قتله بيده وأرسل إلى الخليفة والسلطان الأسرى ثم اصطلح طغتكين وبغدوين ملك الفرنج على وضع الحرب أربع سنين، وكان ذلك من لطف الله تعالى بالمسلمين ولولا هذه الهدنة لكان الفرنج بلغوا من المسلمين بعد الهزيمة الآتي ذكرها أمرا عظيما. ذكر انهزام طغتكين من الفرنج في هذه السنة انهزم أتابك طغتكين من الفرنج. وسبب ذلك أن حصن عرقة وهو من أعمال طرابلس كان بيد غلام للقاضي فخر الملك أبي علي بن عمار صاحب طرابلس وهو من الحصون
467 المنيعة فعصى على مولاه فضاق به القوت وانقطعت عنه الميرة لطول مكث الفرنج في نواحيه فأرسل إلى أتابك طغتكين صاحب دمشق وقال له أرسل من يتسلم هذا الحصن مني قد عجزت عن حفظه ولأن يأخذه المسلمون خير لي دنيا وآخرة من أن يأخذه الفرنج. فبعث إليه طغتكين صاحبا له اسمه إسرائيل في ثلاثمائة رجل فتسلم الحصن فلما نزل غلام ابن عمار منه رماه إسرائيل في الأخلاط بسهم فقتله وكان قصده بذلك أن يطلع أتابك طغتكين على ما خلفه بالقلعة من المال. وأراد طغتكين قصد الحصن للاطلاع عليه وتقويته بالعساكر والأقوات وآلات الحرب فنزل الغيث والثلج مدة شهرين ليلا ونهارا فمنعه، فلما زال ذلك سار في أربعة آلاف فارس ففتح حصونا للفرنج منها الأكمة فلما سمع السرداني الفرنجي بمجيء طغتكين وهو على حصار طرابلس توجه في ثلاثمائة فارس فلما أشرف أوائل أصحابه على عسكر طغتكين انهزموا وخلوا ثقلهم ورحالهم ودوابهم للفرنج فغنموا قووا به وزاد في تجملهم. ووصل المسلمون إلى حمص على أقبح حال من التقطع ولم يقتل منهم أحد لأنه لم تجر حرب، وقصد السرداني إلى عرقة فلما نازلها طلب من كان بها الأمان فأمنهم على نفوسهم وتسلم الحصن فلما خرج من فيه قبض على إسرائيل وقال لا أطلق عنه إلا بإطلاق فلان وهو أسير كان بدمشق من الفرنج منذ سبع سنين ففودي به وأطلقا معا.
468 ولما وصل طغتكين إلى دمشق بعد الهزيمة أرسل إليه ملك القدس يقول له لا تظن أنني أنقض الهدنة للذي تم عليك من الهزيمة فالملوك ينالهم أكثر مما نالك ثم تعود أمورهم إلى الانتظام والاستقامة؛ وكان طغتكين خائفا أن يقصد بعد هذه الكسرة فينال من بلده كل ما أراد. ذكر صلح السنة والشيعة ببغداد في هذه السنة في شعبان اصطلح عامة بغداد السنة والشيعة، وكان الشر منهم على طول الزمان وقد اجتهد الخلفاء والسلاطين والشحن في إصلاح الحال فتعذر عليهم ذلك إلى أن أذن الله تعالى فيه وكان بغير واسطة. وكان السبب في ذلك أن السلطان محمدا لما قتل ملك الغرب صدقة كما ذكرناه خاف الشيعة ببغداد أهل الكرخ وغيرهم لأن صدقة كان يتشيع هو وأهل بيته فشنع أهل السنة عليهم بأنهم نالهم غم وهم لقتله فخاف الشيعة وأغضوا على سماع هذا ولم يزالوا خائفين إلى شعبان فلما دخل شعبان تجهز السنة لزيارة قبر مصعب بن الزبير وكانوا قد تركوا ذلك سنين كثيرة ومنعوا منه لتنقطع الفتن الحادثة بسببه. فلما تجهزوا للمسير اتفقوا على أن يجعلوا طريقهم في الكرخ فأظهروا ذلك فاتفق رأي أهل الكرخ على ترك معارضتهم، وأنهم لا يمنعونهم فصار السنة تسير أهل كل محلة منفردين ومعهم من الزينة والسلاح شيء كثير وجاء أهل باب المراتب ومعهم فيل قد عمل من خشب وعليه الرجال بالسلاح وقصدوا جميعهم الكرخ ليعبروا فيه فاستقبلهم أهله بالبخور
469 والطيب والماء المبرد والسلاح الكثير وأظهروا بهم السرور وشيعوهم حتى خرجوا من المحلة. وخرج الشيعة ليلة النصف منه إلى مشهد موسى بن جعفر وغيره فلم يعترضهم أحد من السنة فعجب الناس لذلك ولما عادوا من زيارة مصعب لقيهم أهل الكرخ بالفرح والسرور فاتفق أن أهل باب المراتب انكسر فيلهم عند قنطرة باب حرب فقرأ لهم قوم: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) إلى آخر السورة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة عاد منصور بن صدقة بن مزيد إلى باب السلطان فتقبله وأكرمه وكان قد هرب بعد قتل والده إلى الآن والتحق أخوه بدران بن صدقة بالأمير مودود الذي أقطعه السلطان الموصل فأكرمه وأحسن صحبته. وفيها في نيسان زادت دجلة زيادة عظيمة وتقطعت الطرق وغرقت الغلات الشتوية والصيفية وحدث غلاء عظيم بالعراق بلغت الكارة الدقيق الخشكار عشرة دنانير إمامية وعدم الخبز رأسا وأكل الناس التمر والباقلاء الأخضر وأما أهل السواد فإنهم لم يأكلوا جميع شهر رمضان ونصف شوال سوى الحشيش والتوت. وفيها في رجب عزل وزير الخليفة أبو المعالي هبة الله ووزر
470 له أبو قاسم علي بن أبي نصر بن جهير. وفيها في شعبان تزوج الخليفة المستنصر بالله بابنة السلطان ملكشاه وهي أخت السلطان محمد وكان الذي خطب النكاح القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد السابوري الحنفي وكان المتولي لقبول العقد نظام الملك أحمد بن نظام الملك وزير السلطان بوكالة من الخليفة وكان الصداق مائة ألف دينار ونثرت الجواهر والدنانير العقد بأصبهان. وفيها تولى مجاهد الدين بهروز شحنكية بغداد وكان سبب ذلك أن السلطان محمدا كان قبض على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد صاحب المخزن وعلي أبي الفرج بن رئيس الرؤساء واعتقلهم عنده ثم أطلقهم الآن وقرر عليهم مالا يحملونه إليه فأرسل مجاهد الدين بهروز لقبض المال وأمره السلطان بعمارة دار المملكة ففعل ذلك وعمر الدار وأحسن إلى الناس فلما قدم السلطان إلى بغداد ولاه شحنكية العراق جميعه وخلع على سعيد بن حميد العمري صاحب جيش صدقة وولاه الحلة السيفية وكان صارما حازما ذا رأي وجلد. وفيها في شوال ملك الأمير سكمان القطبي صاحب خلاط مدينة ميافارقين بالأمان بعد أن حصرها وضيق على أهلها عدة شهور فعدمت الأقوات بهات واشتد الجوع بأهلها فسلموها. وفي هذه السنة في صفر قتل قاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي بهمذان وكان قد تجرد في أمر الباطنية تجردا عظيما وصار يلبس درعا حذرا منهم ويحتاط ويحترز فقصده إنسان عجمي يوم جمعة،
471 ودخل بينه وبين أصحابه فقتله؛ وقتل صاعد بن محمد بن عبد الرحمن أبو العلاء قاضي نيسابور يوم عيد الفطر قتله باطني وقتل الباطني ومولده سنة ثمان وأربعين وأربعمائة وسمع الحديث وكان حنفي المذهب. وفي هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر فأتى الخبر إلى ملك الفرنج فسار إليه وعارضه في البر وأخذ كل من فيه ولم يسلم منهم إلا القليل ومن سلم أخذه العرب. وفيها في فصح النصارى ثار جماعة من الباطنية في حصن شيزر على حين غفلة من أهله في مائة رجل فملكوه وأخرجوا من كان فيه وأغلقوا بابه وصعدوا إلى القلعة فملكوها وكان أصحابها بنو منقذ قد نزلوا منها لمشاهدة عيد النصارى وكانوا قد أحسنوا إلى هؤلاء الذين أفسدوا كل الإحسان فبادر أهل المدينة الباشورة فأصعدهم النساء في الحبال من الطاقات وصاروا معهم وأدركهم الأمراء بنو منقذ أصحاب الحصن فصعدوا إليهم فكبروا عليهم وقاتلوهم فانخذل الباطنية وأخذهم السيف منكل جانب فلم يفلت منهم أحد وقتل من كان على مثل رأيهم في البلد. وفيها وصل إلى المهدية ثلاثة نفر غرباء فكتبوا إلى أميرها يحيى بن تميم يقولون إنهم يعلمون الكيمياء فأحضرهم عنده وأمرهم أن يعلموا شيئا يراه من صناعتهم فقالوا نعمل النقرة فأحضر لهم ما طلبوا من آلة وغيرها وقعد معهم هو والشريف أبو الحسن وقائد جيشه اسمه إبراهيم وكانا يختصان به فلما رأى الكيماوية المكان خاليا من جمع
472 ثاروا بهم، فضرب أحدهم يحيى بن تميم على رأسه فوقعت السكين في عمامته فلم تصنع شيئا ورفسه يحيى فألقاه على ظهره ودخل يحيى بابا وأغلقه على نفسه فضرب الثاني الشريف فقتله وأخذ القائد إبراهيم السيف فقاتل الكيماوية ووقع الصوت فدخل أصحاب الأمير يحيى فقتلوا الكيماوية وكان زيهم زي أهل الأندلس فقتل جماعة من أهل البلد على مثل زيهم وقيل للأمير يحيى إن هؤلاء رآهم بعض الناس عند المقدم بن خليفة، واتفق أن الأمير أبا الفتوح بن تميم أخا يحيى وصل تلك الساعة إلى القصر في أصحابه قد لبسوا السلاح فمنع من الدخول فثبت عند الأمير يحيى أن ذلك بوضع منهما فأحضر المقدم بن خليفة وأمر أولاد أخيه فقتلوه قصاصا لأنه قتل أباهم وأخرج الأمير أبا الفتوح وزوجته بلارة بنت القاسم بن تميم وهي ابنة عمه ووكل بهما في قصر زياد بين المهدية وسفاقس فبقي هناك إلى أن مات يحيى وملك بعده ابنه على سنة تسع وخمسمائة فسير أبا الفتوح وزوجته بلارة إلى ديار مصر في البحر فوصلا إلى إسكندرية على ما نذكره إن شاء الله. وفيها في المحرم قتل عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد أبو المحاسن الروياني الطبري الفقيه الشافعي مولده سنة خمس عشرة وأربعمائة وكان حافظا للمذهب ويقول لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من قلبي. وفيها في جمادى الآخرة توفي الخطيب أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي الشيباني اللغوي صاحب التصانيف المشهورة وله شعر ليس بالجيد. وفيها في رجب توفي السيد أبو هاشم زيد الحسيني العلوي رئيس
473 همذان، وكان نافذ الحكم ماضي الأمر وكانت مدة رياسته لها سبعا وأربعين سنة وجده لأمه الصاحب أبو القاسم بن عباد وكان عظيم المال جدا فمن ذلك أنه أخذ منه السلطان محمد في دفعة واحدة سبعمائة ألف دينار لم يبع لأجلها ملكا ولا استدان دينارا وأقام بعد ذلك بالسلطان محمد عدة شهور في جميع ما يريده وكان قليل المعروف. وفيها في ذي الحجة توفي أبو الفوارس الحسن بن علي الخازن الكاتب المشهور بجودة الخط وله شعر منه: (غنت الدنيا لطالبها * واستراح الزاهد الفطن عرف الدنيا فلم يرها * وسواه حظه الفتن) (كل ملك نال زخرفها * حظه مما حوى كفن يقتني مالا ويتركه * في كلا الحالين مفتتن) (أملي كوني على ثقة * من لقاء الله مرتهن أكره الدنيا وكيف بها * والذي تسخو به وسن) (لم تقدم قبلي على أحد * فلماذا الهم والحزن) وقيل توفي سنة تسع وتسعين وأربعمائة وقد ذكر هناك.
474 503 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة ذكر ملك الفرنج طرابلس وبيروت من الشام في هذه السنة حادي عشر ذي الحجة ملك الفرنج طرابلس. وسبب ذلك أن طرابلس كانت قد صارت في حكم صاحب مصر ونائبه فيها والمدد يأتي منه وقد ذكرنا ذلك سنة إحدى وخمسمائة. فلما كان هذه السنة أول شعبان وصل أسطول كبير من بلد الفرنج في البحر ومقدمهم قمص كبير اسمه ريمند بن صنجيل ومراكبه مشحونة بالرجال والسلاح والميرة فنزل على طرابلس وكان نازلا عليها قبله السرداني ابن أخت صنجيل وليس بابن أخت بل هو هذا ريمند قمص آخر فجرت بينهما فتنة أدت إلى الشر والقتال فوصل طنكري صاحب أنطاكية إليها بمعونة للسرداني ووصل الملك بغدوين صاحب القدس في عسكره فأصلح بينهما ونزول الفرنج جميعهم على طرابلس وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها من أول شعبان وألصقوا أبراجهم بسورها فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك سقط في أيديهم وذلت نفوسهم وزادهم ضعفا تأخر الأسطول المصري عنهم بالميرة والنجدة. وكان سبب تأخره أنهم فرغوا منه ومن البحث عليه واختلفوا فيه أكثر
475 من سنة وسار فردته الريح فتعذر عليهم الوصول إلى طرابلس ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ومد الفرنج القتال عليها من الأبراج والزحف فهجموا على البلد وملكوه عنوة وقهرا يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة ونهبوا ما فيها وأسروا الرجال وسبوا النساء والأطفال ونهبوا الأموال وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة وكتب دور العلم الموقوفة ما لا يحد ولا يحصى فإن أهلها كانوا من أكثر أهل البلاد أموالا وتجارة وسلم الوالي الذي كان بها وجماعة من جندها كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها فوصلوا إلى دمشق وعاقب الفرنج أهلها بأنواع العقوبات وأخذت دفائنهم وذخائرهم من مكامنهم. ذكر ملك الفرنج جبيل وبانياس لما فرغ الفرنج من طرابلس سار طنكري صاحب أنطاكية إلى بانياس وحصرها وافتتحها وأمن أهلها ونزل مدينة جبيل وفيها فخر الملك بن عمار الذي كان صاحب طرابلس وكان القوت فيها قليلا فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة بالأمان وخرج فخر الملك بن عمار سالما. ووصل عقيب ملك طرابلس الأسطول المصري بالرجال والمال والغلال وغيرها ما يكفيهم سنة فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيام
476 للقضاء النازل بأهلها وفرقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور وصيدا وبيروت. وأما فخر الملك بن عمار فإنه قصيد شيزر فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني واحترمه وسأله أن يقيم عنده فلم يفعل وسار إلى دمشق فأنزله طغتكين صاحبها وأجزل له في الحمل والعطية وأقطعه أعمال الزيداني وهو عمل كبير من أعمال دمشق وكان ذلك في المحرم سنة اثنتين وخمسمائة. ذكر الحرب بين محمد خان وساغربك في هذه السنة عاد ساغربك وجمع العساكر الكثيرة من الأتراك وغيرهم وقصد أعمال محمد خان بسمرقند وغيرها فأرسل محمد خان إلى سنجر يستنجده فسير إليه الجنود واجتمع معه أيضا كثير من العساكر وسار إلى ساغربك فالتقوا بنواحي الخشب واقتتلوا فانهزم ساغربك وعساكره وأخذت السيوف منهم مأخذها وكثر الأسر فيهم والنهب فلما فرغوا من حربهم وأمن محمد خان من شر ساغربك عاد العسكري السنجري إلى خراسان فعبروا النهر إلى بلخ. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في المحرم سير السلطان وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك إلى قلعة الموت لقتال الحسن بن الصباح ومن معه من الإسماعيلية،
477 فحصروهم وهجم الشتاء عليهم فعادوا ولم يبلغوا منه غرضا. وفيها في ربيع الآخر قدم السلطان إلى بغداد وعاد عنها في شوال من السنة أيضا. وفيها في شعبان توجه الوزير نظام الملك إلى الجامع فوثب به الباطنية فضربوه بالسكاكين ورجح رقبته فبقي مريضا مدة ثم برأ وأخذ الباطني الذي جرحه فسقي الخمر حتى سكر ثم سئل أصحابه فأقر على جماعة بمسجد المأمونية فأخذوا وقتلوا. وفيها عزل وزير الخليفة وهو أبو المعالي بن المطلب ووزر بعده الزعيم أبو القاسم بن جهير فخرج ابن المطلب من دار الخليفة مستترا هو وأولاده واستجار بدار السلطان. وفيها جهز يحيى بن تميم صاحب إفريقية خمسة عشر شينيا وسيرها إلى بلاد الروح فلقيها أسطول الروم وهو كبير فقاتلوهم وأخذوا ست قطع من شواني المسلمين ولم ينهزم بعد ذلك ليحيى جيش في البحر والبر. وسير ابنه أبا الفتوح إلى مدينة سفاقس واليا عليها فثار به أهلها فنهبوا قصره وهموا بقتله فلم يزل يحيى يعمل الحيلة عليهم حتى فرق كلمتهم وبدد شملهم وملك رقابهم فسجنهم وعفا عن دمائهم وذنوبهم. وفيها توفي الأمير إبراهيم ينال صاحب آمد وكان قبيح السيرة مشهورا بالظلم فجلا كثير من أهلها لجوره وملك بعده ولده وكان أصلح حالا منه. وفيها في ثامن ذي القعدة ظهر في السماء كوكب من الشرق له ذؤابة ممتدة إلى القبلة وبقي يطلع إلى آخر ذي الحجة ثم غاب.
478 504 ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة ذكر ملك الفرنج مدينة صيدا في هذه السنة في ربيع الآخر ملك الفرنج مدينة من ساحل الشام. وسبب ذلك: أنه وصل في البحر إلى الشام ستون مركبا للفرنج مشحونة بالرجال والذخائر مع بعض ملوكهم ليحج البيت المقدس وليغزو بزعمه المسلمين فاجتمع بهم بغدوين ملك القدس وتقررت القاعدة بينهم أن يقصدوا بلاد الإسلام فرحلوا من القدس ونزلوا مدينة صيدا ثالث ربيع الآخر من هذه السنة وضايقوها برا وبحرا. وكان الأسطول المصري مقيما على صور فلم يقدر إنجاد صيدا فعمل الفرنج برجا من الخشب وأحكموه وجعلوا عليها ما يمنع النار عنه والحجارة وزحفوا به، فلما عاين أهل صيدا ذلك ضعفت نفوسهم وأشفقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فأرسلوا قاضيها ومعه جماعة من شيوخها إلى الفرنج وطلبوا من ملكهم الأمان فأمنهم على أنفسهم وأموالهم،
479 والعسكر الذي عندهم ومن أراد المقام به عندهم أمنوه ومن أراد المسير عنهم لم يمنعوه وحلف لهم على ذلك فخرج الموالي وجماعة كثيرة من أعيان أهل البلد في العشرين من جمادى الأولى وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان وكانت مدة الحصار سبعة وأربعين يوما. ورحل بغدوين عنها إلى القدس ثم عاد إلى صيدا بعد مدة يسيرة فقرر على المسلمين الذين أقاموا بها عشرين ألف دينار فأفقرهم واستغرق أموالهم. ذكر استيلاء المصريين على عسقلان كانت عسقلان للعلويين المصريين ثم إن الخليفة الآمر بحكم الله استعمل عليها إنسانا يعرف بشمس الخلافة فراسل بغدوين ملك الفرنج بالشام وهادنه وأهدى إليه مالا وعرضا فامتنع به من أحكام المصريين عليه إلا فيما يري من غير مجاهرة بذلك. فوصلت الأخبار بذلك إلى الأمر بأحكام الله صاحب مصر وإلى وزيره الأفضل أمير الجيوش فعظم الأمر عليهما وجهزا عسكرا وسيراه إلى عسقلان مع قائد كبير من قواده وأظهرا انه يريد الغزاة وأنفذا إلى القائد سرا أن يقبض على شمس الخلافة الحال فامتنع من الحضور عند
480 العسكر المصري وجاهر بالعصيان وأخرج من كان عنده من عسكر مصر خوفا منهم. فلما عرف الأفضل ذلك خاف أن يسلم عسقلان إلى الفرنج فأرسل إليه وطيب قلبه وسكنه وأقره على عمله وأعاد عليه أقطاعه بمصر. ثم إن شمس الخلافة خاف أهل عسقلان فأحضر جماعة من الأرمن واتخذهم جندا ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة أربع وخمسمائة فأنكر الأمر أهل البلد فوثب به قوم من أعيانه وهو راكب فجرحوه فانهزم منهم إلى داره فتبعوه وقتلوه ونهبوا داره وجميع ما فيها ونهبوا بعض دور غيره من أرباب الأموال بهذه الحجة وأرسلوا إلى مصر بجلية الحال إلى الآمر والأفضل فسرا بذلك وأحسنا إلى الواصلين بالبشارة وأرسلا إليه وليا يقيم به ويستعمل مع أهل البلد الإحسان وحسن السيرة فتم ذلك وزال ما كانوا يخافونه. ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب وغيره في هذه السنة جمع صاحب أنطاكية عساكره من الفرنج وحشد الفارس والراجل وسار نحو حصن الأثارب وهو بالقرب من مدينة حلب بينهما ثلاثة فراسخ وحصره ومنع عنه الميرة فضاق الأمر على من به من المسلمين فنقبوا من القلعة نقبا قصدوا أن يخرجوا منه إلى خيمة صاحب أنطاكية فيقتلوه فلما فعلوا ذلك وقربوا من خيمته استأمن إليه صبي أرمني فعرفه الحال فاحتاط واحترز منهم وجد في قتالهم حتى ملك الحصن قهرا وعنوة وقتل من أهله ألفي رجل وسبى وأسر الباقين.
481 ثم سار إلى حصن زردنا فحصره وفعل بأهله مثل الأثارب فلما سمع أهل منبج بذلك فارقوها خوفا من الفرنج وكذلك أهل بالس وقصد الفرنج البلدين فرأوهما وليس بهما أنيس فعادوا عنهما. وسار عسكر من الفرنج إلى مدينة صيدا فطلب أهلها منهم الأمان فأمنوهم وتسلموا البلد فعظم خوف المسلمين منهم وبلغت القلوب الحناجر وأيقنوا باستيلاء الفرنج على سائر الشام لعدم الحامي له والمانع عنه فشرع أصحاب البلاد الإسلامية بالشام في الهدنة معهم فامتنع من الإجابة إلا على قطيعة يأخذونها إلى مدة يسيرة فصالحهم الملك رضوان صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار وغيرها من الخيول والثياب وصالحهم صاحب صور على سبعة آلاف دينار وصالحهم ابن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار وصالحهم علي الكردي صاحب حماة على ألفي دينار، وكانت مدة الهدنة إلى وقت إدراك الغلة وحصادها. ثم إن مراكب أقلعت من ديار مصر فيها التجار ومعهم الأمتعة الكثيرة فوقع عليها مراكب الفرنج فأخذوها وغنموا ما معا لتجار وأسروهم فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد مستنفرين على الفرنج فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء وغيرهم فقصدوا جام السلطان واستغاثوا ومنعوا من الصلاة وكسروا المنبر فوعدهم السلطان إنفاذ العساكر للجهاد وسير من دار الخلافة منبرا إلى جامع السلطان فلما كان الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة ومعهم أهل بغداد فمنعهم حاجب الباب من الدخول فغلبوه على ذلك ودخلوا الجامع وكسروا شباك المقصورة،
482 وهجموا إلى المنبر فكسروه وبطلت الجمعة أيضا فأرسل الخليفة إلى السلطان في المعنى يأمره بالاهتمام بهذا الفتق فتقدم حينئذ إلى من معه من الأمراء بالمسير إلى بلادهم والتجهز للجهاد وسير ولده الملك مسعودا مع الأمير مودود صاحب الموصل وتقدموا إلى الموصل ليلحق بهم الأمراء ويسيرون إلى قتال الفرنج وانقضت السنة وساروا في سنة خمس وخمسمائة وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادث في هذه السنة عزل نظام الملك أحمد من وزارة السلطان ووزر بعده الخطير محمد بن الحسين الميبذي. وفيها ورد رسول ملك الروم إلى السلطان يستنفره على الفرنج ويحثه على قتالهم ودفعهم عن البلاد وكان رسوله قبل وصوله أهل حلب وكان أهل حلب يقولون للسلطان أما تتقي الله تعالى أن يكون ملك الروم أكثر حمية منك للإسلام حتى قد أرسل إليك في جهادهم! وفيها في رمضان زفت ابنة السلطان ملكشاه إلى الخليفة وزينت
483 بغداد وغلقت وكان بها فرحة عظيمة لم يشاهد الناس مثلها. وفيها هبت بمصر ريح سوداء أظلمت بها الدنيا وأخذت بأنفاس الناس ولم يقدر أحد [أن] يفتح عينيه ومن فتحها لا يبصر يده، ونزل على الناس رمل ويئس الناس من الحياة وأيقنوا بالهلاك ثم تجلى قليلا وعاد إلى الصفرة وكان ذلك من أول وقت العصر إلى بعد المغرب. وفيها في المحرم توفي الكيا الهراس الطبري واسمه أبو الحسن علي بن محمد بن علي وكان من أعيان الفقهاء الشافعية أخذ الفقه عن إمام الحرمين الجويني ودرس بعده في النظامية ببغداد وتوفي بها ودفن عند تربة الشيخ أبي إسحاق ودرس بعده في النظامية الإمام أبو بكر الشاشي. وفيها توفي أبو الحسين إدريس بن حمزة بن علي الرملي الفقيه الشافعي من أهل الرملة بفلسطين تفقه على أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي وعلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ودخل خراسان وولي التدريس بسمرقند وتوفي فيها.
484 505 ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة ذكر مسير العساكر إلى قتال الفرنج في هذه السنة اجتمعت العساكر التي أمرها السلطان بالمسير إلى قتال الفرنج فكانوا الأمير مودود صاحب الموصل والأمير سكمان القطبي صاحب تبريز وبعض ديار بكر والأمير إيلبكي وزنكي ابنا برسق ولهما همذان وما جاورها والأمير أحمديل وله مراغة وكوتب الأمير أبو الهيجا صاحب إربل والأمير إيلغازي صاحب ماردين والأمراء البكجية باللحاق بالملك مسعود ومودود فاجتمعوا ما عدا الأمير إيلغازي فإنه سير ولده أياز وأقام هو فلما اجتمعوا وساروا إلى بلده سنجار ففتحوا عدة حصون للفرنج وقتل من بها منهم وحصروا مدينة الرها مدة ثم رحلوا عنها من غير أن يملكوها. وكان سبب رحيلهم عنها أن الفرنج اجتمعت جميعها فارسها وراجلها وساروا إلى الفرات ليعبروه ليمنعوا الرها من المسلمين فلما وصلوا إلى الفرات بلغهم كثرة المسلمين فلم يقدموا عليه وأقاموا على الفرات، فلما رأى
485 المسلمون ذلك رحلوا عن الرها إلى حران ليطمع الفرنج ويعبروا الفرات إليهم ويقاتلوهم فلما رحلوا عنها جاء الفرنج ومعهم الميرة والذخائر إلى الرها فجعلوا فيها كل ما يحتاجون إليه بعد أم كانوا قليلي الميرة وقد أشرفوا على أن يؤخذوا وأخذوا كل من فيه عجز وفقر وعادوا إلى الفرات فعبروه إلى الجانب الشامي وطرقوا أعمال حلب فأفسدوا ما فيها ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسبوا خلقا كثيرا. وكان سبب ذلك أن الفرنج لما عبروا إلى الجزيرة خرج الملك رضوان صاحب حلب إلى ما أخذه الفرنج من أعمالها فاستعاد بعضه ونهب منهم وقتل فلما عادوا وعبروا الفرات فعلوا بأعماله ما فعلوا. وأما العسكر السلطاني فإنه لما سمع بعود الفرنج وعبورهم الفرات رحلوا إلى الرها وحصروها فرأوا أمرا محكما قد قويت نفوس أهلها بالذخائر التي تركت عندهم وبكثرة المقاتلين عنهم ولم يجدوا مطمعا فرحلوا عنها وعبروا الفرات فحصروا قلعة تل باشر خمسة وأربعين ورحلوا عنها ولم يبلغوا غرضا. ووصلوا إلى حلب فأغلق الملك رضوان أبواب البلد ولم يجتمع بهم، ثم مرض هناك الأمير سكمان القطبي فعاد مريضا فتوفي في بالس فجعله أصحابه في تابوت وحملوه عائدين إلى بلاده فقصدهم إيلغازي ليأخذهم ويغنم ما معهم فجعلوا تابوته في القلب وقاتلوا بين يديه فانهزم إيلغازي وغنموا ما معه وساروا إلى بلادهم.
486 ولما غلق الملك رضوان أبواب حلب ولم يجتمع بالعساكر السلطانية رحلوا إلى معرة النعمان واجتمع بهم طغتكين صاحب دمشق ونزل على الأمير مودود فاطلع من الأمراء على نيات فاسدة في حقه فخاف أن تؤخذ منه دمشق فشرع في مهادنة الفرنج سرا وكانوا قد نكلوا عن قتال المسلمين فلم يتم ذلك وتفرقت العساكر. وكان سبب تفرقهم أن الأمير برسق الذي هو أكبر الأمراء كان به نقرس فهو يحمل في محفة ومات سكمان القطبي كما ذكرنا وأراد الأمير أحمديل صاحب مراغة العود ليطلب أن يقطعه ما كان لسكمان من البلاد وأتابك طغتكين صاحب دمشق خاف الأمراء على نفسه فلم ينصحهم إلا أنه حصل بينه وبين مودود صاحب الموصل مودة وصداقة فتفرقوا لهذه الأسباب وبقي مودود وطغتكين بالمعرة فساروا منها ونزلوا على نهر العاصي. ولما سمع الفرنج بتفرق عساكر الإسلام طمعوا وكانوا قد اجتمعوا كلهم بعد الاختلاف والتباين وساروا إلى أفامية فسمع بهم سلطان بن منقذ صاحب شيزر فسار إلى مودود وطغتكين وهون عليهما أمر الفرنج وحرضهما على الجهاد فرحلوا إلى شيزر ونزلوا عليها ونزل الفرنج بالقرب منهم فضيق عليهم عسكر المسلمين الميرة ولزوهم بالقتال والفرنج يحفظون نفوسهم ولا يعطون مصافا فلما رأوا قوة المسلمين عادوا إلى
487 أفامية وتبعهم المسلمون فتخطفوا من أدركوه في ساقتهم وعادوا إلى شيزر في ربيع الأول. ذكر حصر الفرنج مدينة صور لما تفرقت العساكر اجتمعت الفرنج على قصد مدينة صور وحصرها فساروا إليها مع الملك بغدوين صاحب القدس وحشدوا وجمعوا ونازلوها وحصروها فساروا إليها مع الملك بغدوين صاحب القدس وحشدوا وجمعوا ونازلوها وحصروها في الخامس والعشرين من جمادى الأولى وعملوا عليها ثلاثة أبراج علو البرج سبعون ذراعا وفي كل برج ألف رجل ونصبوا عليها المجانيق وألصقوا أحدها إلى سور البلد وأخلوه من الرجال. وكانت صور للآمر بأحكام الله العلوي ونائبه بها عز الملك الأعز فأحضر أهل البلد واستشارهم في حيلة يدفعون بها شر الأبراج عنهم فقام شيخ من أهل طرابلس وضمن على نفسه إحراقها وأخذ معه ألف رجل بالسلاح التام ومع كل رجل منهم حزمة حطب فقاتلوا الفرنج إلى أن وصلوا البرج الملتصق بالمدينة فألقى الحطب من جهاته وألقى فيه النار ثم خاف أن يشتغل الفرنج الذين في البرج بإطفاء النار ويتخلصوا فرماهم بجرب كان قد أعدها مملوءة من العذرة فلما سقطت عليهم اشتغلوا بها وبما نالهم من سوء الرائحة والتلويث فتمكنت النار منه فهلك كل من به إلا
488 القليل، وأخذ منه المسلمون ما قدروا عليه بالكلاليب ثم أخذ سلال العنب الكبار وترك فيها الحطب الذي قد سقاه بالنفط والزفت والكتان والكبريت ورماهم بسبعين سلة واحرق البرجين الآخرين. ثم إن أهل صور حفروا سراديب تحت الأرض ليسقط فيها الفرنج إذا زحفوا إليهم ولينخسف برج إن عملوه وسيروه إليهم فاستأمن نفر من المسلمين إلى الفرنج، وأعلموهم بما علموه فحذروا منها. وأرسل أهل البلد إلى أتابك طغتكين صاحب دمشق، يستنجدونه ويطلبونه ليسلموا البلد إليه فسار في عساكره إلى نواحي بانياس وسير إليهم نجدة مائتي فارس فدخلوا البلد فامتنع من فيه بهم واشتد قتال الفرنج خوفا من اتصال النجدات ففني نشاب الأتراك فقاتلوا بالخشب وفني النفط فظفروا بسرداب تحت الأرض فيه نفط لا يعلم من خزنه. ثم إن عز الملك صاحب صور أرسل الأموال إلى طغتكين ليكثر من الرجال ويقصدهم ليملك البلد فأرسل طغتكين طائرا فيه رقعة ليعلمه وصول المال ويأمره أن يقيم مركبا بمكان ذكره لتجئ الرجال إليه فسقط الطائر على مركب الفرنج فأخذه رجلان مسلم وفرنجي فقال الإفرنجي نطلقه لعل فيه فرجا لهم فلم يمكنه المسلم وحمله إلى الملك بغدوين فلما وقف عليه سير مركبا إلى المكان الذي ذكر طغتكين وفيه جماعة من المسلمين الذين استأمنوا إليه من صور فوصل إليهم العسكر فكلموهم بالعربية فلم ينكروهم وركبوا معهم فأخذوهم أسرى وحملوهم إلى الفرنج فقتلوهم
489 وطمعوا في أهل صور فكان طغتكين يغير على أعمال الفرنج من جميع جهاتها وقصد حصن الحبيس في السواد من أعمال دمشق وهو للفرنج فحصره وملكه بالسيف وقتل كل ما فيه وعاد إلى الفرنج الذين على صور. وكان يقطع الميرة عنهم في البر فأحضروها في البحر وخندقوا عليهم لم يخرجوا إليه فسار إلى صيدا وأغار على ظاهرها فقتل جماعة من البحرية وأحرق نحو عشرين مركبا على الساحل وهو مع ذلك يواصل أهل صور بالكتب يأمرهم بالصبر والفرنج يلازمون قتالهم وقاتل أهل صور قتال من أيس من الحياة فدام القتال إلى أوان إدراك الغلات فخاف الفرنج أن طغتكين يستولي على غلات بلادهم فساروا عن البلد عاشر شوال إلى عكا وعاد عسكر طغتكين إليه وأعطاهم أهل صور الأموال وغيرها ثم أصلحوا ما تشعث من سورها وخندقها وكان الفرنج قد طموه. ذكر انهزام الفرنج بالأندلس في هذه السنة خرج أذفونش الفرنجي صاحب طليطلة بالأندلس إلى بلاد الإسلام بها يطلب ملكها والاستيلاء عليها وجمع وحشد فأكثر وكان قد قوي طمعه فيها بسبب موت أمير المسلمين يوسف بن تاشفين فسمع أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين الخبر فسار إليه في عساكرها وجموعه فلقيه فاقتتلوا واشتد القتال وكان الظفر للمسلمين وانهزم
490 الفرنج وقتلوا قتلا ذريعا وأسر منهم بشر كثير وسبى منهم وغنم من أموالهم ما يخرج من الإحصاء فخافه الفرنج بعد ذلك وامتنعوا من قصد بلاده وذل أذفونش حينئذ وعلم أن في البلاد حاميا لها وذابا عنها. وفي هذه السنة في جمادى الآخرة توفي الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الإمام المشهور.
491 506 ثم دخلت سنة ست وخمسمائة في هذه السنة في المحرم سار مودود صاحب الموصل إلى الرها فنزل عليها ورعى عسكره زروعها ورحل عنها إلى سروج وفعل بها كذلك وأهمل الفرنج ولم يحترز منهم فلم يشعر إلا وجوسلين صاحب تل باشر قد كسبهم وكانت دواب العسكر منتشرة في المرعى فأخذ الفرنج كثيرا منها وقتلوا كثيرا من العسكر فلما تأهب المسلمون للقائه عاد عنهم إلى سروج. وفيها رحل السلطان محمد بن بغداد وكان مقامه هذه المرة خمسة أشهر، فلما وصل إلى أصبهان قبض على زين الملك أبي سعد القمي وسلمه إلى الأمير كاميار لعداوة بينهما فلما وصل إلى الري أركبه كاميار على دابة بمركب ذهب وأظهر أن السلطان خلع عليه على مال قرره عليه فحصل بذلك مالا كثيرا من أهل القمي ثم صلبه وكان سبب قبضه أنه كان يكثر الطعن على الخليفة والسلطان. وفيها كان ببغداد رجل مغربي يعمل الكيمياء بزعمه اسمه أبو علي فحمل إلى دار الخلافة وكان آخر العهد به. وفيها ورد إلى بغداد يوسف بن أيوب الهمذاني الواعظ وكان من الزهاد
492 العابدين فوعظ الناس بها فقام إليه رجل متفقه يقال له ابن السقاء فآذاه في مسألة وعاوده فقال له اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر ولعلك تموت على غير دين الإسلام فاتفق بعد مديدة أن ابن السقاء خرج إلى بلاد الروم وتنصر. وفيها في ذي القعدة سمع ببغداد صوت هدة عظيمة ولم يكن بالسماء غيم حتى يظن أنه صوت رعد ولم يعلم أحد أي صوت كان. وفيها توفي بسيل الأرمني صاحب الدروب ببلاد ابن لاون فسار طنكري صاحب أنطاكية أول جمادى الآخرة إلى بلاده طمعا في أن يملكها فمرض في طريقه فعاد إلى أنطاكية فمات ثامن جمادى [الآخرة] وملكها بعده ابن أخته سرخالة واستقام الأمر فيها بعد أن جرى بين الفرنج خلف بسببه فأصلح بينهم القسوس والرهبان. وفيها توفي قراجة صاحب حمص وكان ظالما وقام ولده مكانه وكان مثله في قبح السيرة. وفي هذه السنة توفي المعمر بن علي أبو سعد بن أبي عمامة الواعظ البغدادي ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة وكان له خاطر حاد ومجون حسن وكان الغالب على وعظه أخبار الصالحين. وتوفي أحمد بن الفرج بن عمر الدينوري والد شهدة، وكان يروي
493 عن أبي يعلى بن الفراء وابن المأمون وابن المهتدي وابن النقور وغيرهم وكان حسن السيرة متزهدا. وتوفي أبو العلاء صاعد بن منصور بن إسماعيل بن صاعد الخطيب النيسابوري وكان من أعيان الفقهاء وولي قضاء خوارزم وكان يروي الحديث.
494 507 ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة ذكر قتال الفرنج وانهزامهم وقتل مودود في هذه السنة في المحرم اجتمع المسلمون وفيهم الأمير مودود بن التونتكين صاحب الموصل وتميرك صاحب سنجار والأمير أياز بن إيلغازي وطغتكين صاحب دمشق. وكان سبب اجتماع المسلمين أن ملك الفرنج بغدوين تابع الغارات على بلد دمشق ونهبه وخربه أواخر سنة ست وخمسمائة وانقطعت المواد عن دمشق فغلت الأسعار فيها وقلت الأقوات فأرسل طغتكين صاحبها إلى الأمير مودود يشرح له الحال ويستنجده ويحثه على الوصول إليه فجمع عسكرا وسار فعبر الفرات آخر ذي القعدة سنة ست وخمسمائة فخافه الفرنج. وسمع طغتكين خبره فسار إليه ولقيه بسلمية واتفق رأيهم على
495 قصد بغدوين ملك القدس فساروا إلى الأردن فنزل المسلمون عند الأقحوانة ونزل الفرنج مع ملكهم بغدوين وجوسلين صاحب جيشهم وغيرهما من المقدمين والفرسان المشهورين ودخلوا بلاد الفرنج مع مودود وجمع الفرنج فالتقوا عند طبرية ثالث عشر المحرم واشتد القتال وصبر الفريقان ثم إن الفرنج انهزموا وكثر القتل فيهم والأسر، وممن أسر ملكهم بغدوين فلم يعرف فأخذ سلاحه وأطلق فنجا وغرق منهم في بحيرة طبرية ونهر الأردن كثير وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم ووصل الفرنج إلى مضيق دون طبرية فلقيهم عسكر طرابلس وأنطاكية فقويت نفوسهم بهم وعاودوا الحرب فأحاط بهم المسلمون من كل ناحية وصعد الفرنج إلى جبل غرب طبرية فأقاموا به ستة وعشرين يوما والمسلمون بإزائهم يرمونهم بالنشاب فيصيبون من يقرب منهم ومنعوا الميرة عنهم لعلهم يخرجون إلى قتالهم فلم يخرج منهم أحد فسار المسلمون إلى بيسان ونهبوا بلاد الفرنج بين عكا إلى القدس وخربوها وقتلوا من ظفروا به من النصارى وانقطعت المادة عنهم لبعدهم عن بلادهم فعادوا ونزل بمرج الصفر. وأذن الأمير مودود وأذن للعساكر في العود والاستراحة ثم الاجتماع في الربيع لمعاودة الغزاة وبقي في خواصه ودخل دمشق في الحادي والعشرين من ربيع الأول ليقيم عند طغتكين إلى الربيع فدخل الجامع يوم الجمعة في ربيع الأول ليصلي فيه وطغتكين فلما فرغوا من الصلاة وخرج إلى صحن
496 الجامع، ويده في يد طغتكين وثب عليه باطني فضربه فجرحه أربع جراحات وقتل الباطني وأخذ رأسه فلم يعرف أحد فأحرق. وكا صائما فحمل إلى دار طغتكين واجتهد به ليفطر فلم يفعل وقال لا لقيت الله إلا صائما فمات من يومه رحمه الله فقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله. وكان خيرا عادلا كثير الخير؛ حدثني والدي قال كتب ملك الفرنج إلى طغتكين بعد قتل مودود كتابا من فضوله إن أمة قتلت عميدها يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها. ولما قتل تسلم تميرك صاحب سنجار ما معه من الخزائن وحملها إلى السلطان ودفن مودود بدمشق في تربة دقاق صاحبها وحمل بعد ذلك إلى بغداد فدفن في جوار أبي حنيفة ثم حمل إلى أصبهان. ذكر الخلف بين السلطان سنجر ومحمد خان والصلح بينهما في هذه السنة كثر الحديث عند سنجر أن محمد خان بن سليمان بن داود قد مد يده إلى أموال الرعايا وظلمهم ظلما كثيرا وأنه خرب البلاد بظلمه وشره وأنه قد صار استخف بأوامر سنجر ولا يلتفت إلى شيء منها فتجهز سنجر وجمع عساكره وسار يريد قصده بما وراء النهر فخاف
497 محمد خان، فأرسل إلى الأمير قماج وهو أكبر أمير مع سنجر يسأله أن يصلح الحال بينه وبين سنجر وأرسل أيضا إلى خوارزمشاه بمثل ذلك وسألهما في إرضاء السلطان عنه واعترف بأنه أخطأ فأجاب سنجر إلى صلحه على شرط أن يحضر عنده ويطأ بساطه فأرسل محمد خان يذكر خوفه لسوء صنيعه ولكنه يحضر الخدمة ويخدم السلطان وبينهما نهر جيحون ثم يعاود بعد ذلك الحضور عنده والدخول إليه فحسنوا الإجابة إلى ذلك والاشتغال بغيره فامتنع ثم أجاب. وكان سنجر على شاطئ جيحون من الجانب الغربي وجاء محمد خان إلى الجانب الشرقي فترجل وقبل الأرض وسنجر راكب وعاد كل واحد منهما إلى خيامه ورجعوا إلى بلادهم وسكنت الفتنة بينهما. ذكر عدة حوادث في هذه السنة سار قفل عظيم من دمشق إلى مصر فأتى الخبر إلى بغدوين ملك الفرنج فسار إليه وعارضه في البر فأخذهم أجمعين ولم ينج منهم إلا القليل ومن سلم أخذه العرب. وفي هذه السنة توفي الوزير أبو القاسم علي بن محمد بن جهير وزير الخليفة المستظهر بالله ووزر بعده الربيب أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان.
498 وتوفي فيها الملك رضوان بن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان صاحب حلب وقام بعده بحلب ابنه ألب أرسلان الأخرس وعمره ست عشرة سنة وكانت أمور رضوان غير محمودة قتل أخويه أبا طالب وبهرام وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينة، ولما ملك الأخرس استولى على الأمور لؤلؤ الخادم ولم يكن للأخرس معه إلا اسم السلطنة ومعناه للؤلؤ ولم يكن ألب أرسلان أخرس وإنما في لسانه حبسة وتمتمة وأمه بنت باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية، وقتل الأخرس أخوين له أحدهما اسمه ملكشاه وهو من أبيه وأمه واسم الآخر مباركشاه وهو من أبيه وكان أبوه فعل مثله فلما توفي قتل ولداه مكافأة لما اعتمده مع أخويه. وكان الباطنية قد كثروا بحلب في أيامه حتى خافهم ابن بديع رئيسها وأعيان أهلها فلما توفي قال ابن بديع لألب أرسلان في قتلهم والإيقاع بهم فأمره بذلك فقبض على مقدمهم أبي طاهر الصائغ وعلى جميع أصحابه فقتل أبا طاهر وجماعة من أعيانهم وأخذ أموال الباقين وأطلقهم فمنهم من قصد الفرنج وتفرقوا في البلاد. وفي هذه السنة توفي ببغداد أبو بكر أحمد بن علي بن بدران الحلواني الزاهد منتصف جمادى الأولى روى الحديث عن القاضي أبي الطيب الطبري وأبي محمد الجوهري وأبي طالب العشاري وغيرهم وروى عنه خلق كثير ومن آخرهم أبو الفضل عبد الله بن الطوسي خطيب الموصل. وإسماعيل بن أحمد بن الحسين بن علي أبو علي بن أبي بكر البيهقي الإمام ابن الإمام ومولده سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وتوفي بمدينة بيهق ولوالده تصانيف كثيرة مشهورة.
499 وشجاع بن أبي شجاع فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ ومولده سنة ثلاثين وأربعمائة وروى عن أبيه وأبي القاسم وابن المهتدي والجوهري وغيرهم. والأديب أبو المظفر محمد بن أحمد بن محمد الأبيوردي الشاعر المشهور وله ديوان حسن ومن شعره: (تنكر لي دهري ولم يدر أنني * أعز وأحداث الزمان تهون) (وظل يريني الخطب كيف اعتداؤه * وبت أريه الصبر كيف يكون) وله أيضا: (ركبت طرفي فأذرى دمعه أسفا * عند انصرافي منهم مضمر الياس) (وقال حتام تؤذيني فإن سنت * حوائج لك فاركبي إلى الناس) وكانت وفاته بأصبهان وهو من ولد عنبسة بن أبي سفيان بن حرب الأموي. وتوفي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي الإمام الفقيه الشافعي في شوال ومولده سنة سبع وعشرين وأربعمائة سمع أبا بكر الخطيب وأبا يعلى بن الفراء وغيرهم وتفقه على أبي عبد الله محمد بن الكازروني بديار بكر وعلى أبي إسحاق الشيرازي ببغداد وعلى أبي نصر بن الصباغ. وفيها توفي أبو نصر المؤتمن بن أحمد بن الحسن الساجي الحافظ المقدسي ومولده سنة خمس وأربعين وأربعمائة وكان مكثرا من الحديث وتفقه على أبي إسحاق وكان ثقة.
500 508 ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة ذكر مسير آقسنقر البرسقي إلى الشام لحرب الفرنج في هذه السنة سير السلطان محمد الأمير آقسنقر البرسقي إلى الموصل وأعمالها واليا عليها لما بلغه قتل مودود وسير معه ولده الملك مسعودا في جيش كثيف وأمره بقتال الفرنج وكتب إلى سائر الأمراء بطاعته فوصل إلى الموصل واتصلت به عساكرها وفيهم عماد الدين زنكي بن آقسنقر الذي ملك هو وأولاده الموصل بعد ذلك وكان له الشجاعة في الغاية. واتصل به أيضا تميرك صاحب سنجار وغيرهما فسار البرسقي إلى جزيرة ابن عمر فسلمها إيه نائب مودود بها وسار معه إلى ماردين فنازلها البرسقي حتى أذعن له إيلغازي صاحبها وسير معه عسكرا مع ولده أياز فسار عنه البرسقي إلى الرها في خمسة عشر ألف فارس فنازلها في ذي الحجة وقاتلها وصبر له الفرنج وأصابوا من بعض المسلمين غزة فأخذوا منهم تسعة رجال وصلبوهم على سورها فاشتد القتال حينئذ وحمى المسلمون وقاتلوا فقتلوا من الفرنج خمسين فارسا من أعيانهم وأقام عليها شهرين وأياما. وضاقت الميرة على المسلمين فرحلوا من الرها إلى سميساط بعد أن خربوا بلد الرها وبلد سروج وبلد سميساط وأطاعه صاحب مرعش على ما
501 نذكره ثم عاد إلى شحنان فقبض على أياز بن إيلغازي حيث لم يحضر أبوه ونهب سواد ماردين. ذكر طاعة صاحب مرعش وغيرها البرسقي في هذه السنة توفي بعض كنود الفرنج ويعرف بكواسيل وهو صاحب مرعش وكيسوم ورعبان وغيرها فاستولت زوجته على المملكة وتحصنت من الفرنج وأحسنت إلى الأجناد وراسلت آقسنقر وهو على الرها واستدعت منه بعض أصحابه لتطيعه فسير إليها الأمير سنقر دزدار صاحب الخابور فلما وصل إليها أكرمته وحملت إليه مالا كثيرا. وبينما هو عندها إذ جاء جمع من الفرنج فواقعوا أصحابه وهم نحو مائة فارس واقتتلوا قتالا شديدا ظفر فيه المسلمون بالفرنج وقتلوا منهم أكثرهم وعاد سنقر دزدار وقد أصحبته الهدايا للملك مسعود والبرسقي وأذعنت بالطاعة ولما عرف الفرنج ذلك عاد كثير ممن عندها إلى أنطاكية. ذكر الحرب بين البرسقي وإيلغازي وأسر إيلغازي لما قبض البرسقي على أياز بن إيلغازي سار إلى حصن كيفا وصاحبها الأمير ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان فاستنجده فسار معه في عسكره وأحضر
502 خلقا كثيرا من التركمان وسار إلى البرسقي فلقيه أواخر السنة واقتتلوا قتالا شديدا صبروا فيه فانهزم البرسقي وعسكره وخلص أياز بن إيلغازي من الأسر فأرسل السلطان إليه يتهدده فخافه وسار إلى الشام إلى حميه طغتكين صاحب دمشق فأقام عنده أياما. وكان طغتكين أيضا قد استوحش من السلطان لأنه نسب إليه قتل مودود فاتفقا على الامتناع والالتجاء إلى الفرنج والاحتماء بهم فراسلا صاحب أنطاكية وحالفاه فحضر عندهما على بحيرة قدس عند حمص وجددوا العهود وعاد إلى أنطاكية وعاد طغتكين إلى دمشق وسار إيلغازي إلى الرستن على عزم قصد ديار بكر وجمع التركمان والعود فنزل بالرستن ليستريح فقصده الأمير قرجان بن قراجة صاحب حمص وقد تفرق عن إيلغازي أصحابه فظفر به فرجان وأسره ومعه جماعة من خواصه وأرسل إلى السلطان يعرفه ذلك ويسأله تعجيل إنفاذ العساكر لئلا يغلبه طغتكين على إيلغازي. ولما بلغ طغتكين الخبر عاد إلى حمص وأرسل في إطلاقه فامتنع قرجان وحلف إن لم يعد طغتكين لنقتلن إيلغازي فأرسل إيلغازي إلى طغتكين أن الملاجة تؤذيني وتسفك دمي والمصلحة عودك إلى دمشق. فعاد. وانتظر قرجان وصول العساكر السلطانية فتأخرت عنه فخاف أن ينخدع أصحابه لطغتكين ويسلموا إليه حمص فعدل إلى الصلح مع إيلغازي على أن يطلقه ويأخذ ابنه أياز رهينة ويصاهره ويمنعه من طغتكين وغيره فأجابه إلى ذلك فأطلقه وتحالفا وسلم إليه ابنه أياز وسار عن حمص
503 إلى حلب وجمع التركمان وعاد إلى حمص وطالب بولده أياز وحصر قرجان إلى أن وصلت العساكر السلطانية فعاد إيلغازي على ما نذكره. ذكر وفاة علاء الدولة بن سبكتكين وملك ابنه وما كان منه مع السلطان سنجر في هذه السنة في شوال توفي الملك علاء الدولة أبو سعد مسعود بن أبي المظفر إبراهيم بن أبي سعد مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزة بها وملك بعده ابنه أرسلانشاه وأمه سلجوقية وهي أخت السلطان ألب أرسلان بن داود، فقبض على إخوته وسجنهم وهرب أخ له اسمه بهرام إلى خراسان فوصل إلى السلطان سنجر بن ملكشاه فأرسل إلى أرسلانشاه في معناه فلم يسمع منه ولا أصغى إلى قوله فتجهز سنجر للمسير إلى غزنة وإقامة بهرامشاه في الملك. فأرسل أرسلانشاه إلى السلطان وترك التعرض له وقال للرسول إن رأيت أخي وقد قصدهم وسار نحوهم أو قارب أن يسير فلا تمنعه ولا تبلغه الرسالة فإن ذلك يفت في عضده ويوهنه ولا يعود ولأن يملك أخي الدنيا أحب إلي. فوصل الرسول إلى سنجر وقد جهز العساكر إلى غزنة وجعل على مقدمته الأمير أنر مقدم عسكره ومعه الملك بهرامشاه فساروا حتى بلغوا بست واتصل بهم فيها أبو الفضل نصر بن خلف صاحب سجستان.
504 وسمع أرسلانشاه الخبر فسير جيشا كثيفا فهزماه ونهباه وعاد من سلم إلى غزنة على أسوأ حال فخضع حينئذ أرسلانشاه وأرسل إلى الأمير أنر يضمن له الأموال الكثيرة ليعود عنه ويحسن للملك سنجر العود عنه فلم يفعل. وتجهز السلطان سنجر بعد أنر للمسير بنفسه فأرسل إليه أرسلانشاه امرأة عمه نصر تسأله الصفح عن قصده وهي أخت الملك سنجر من السلطان بركيارق، وكان علاء الدولة أبو سعد قد قتل زوجها ومنعها من الخروج عن غزنة وتزوجها فسيرها الآن أرسلانشاه فلما وصلت إلى أخيه أوصلت ما معها من الأموال والهدايا وكان معها مائتا ألف دينار غير ذلك وطلب من سنجر أن يسلم أخاه بهرام إليه. وكانت موغرة الصدر من أرسلانشاه فهونت أمره عل سنجر وأطعمته في البلاد وسهلت الأمر عليه وذكرت له ما فعل بإخوته وكان قتل بعضا وكحل بعضا من غير خروج منهم عن الطاعة فسار الملك فلما وصل إلى بست أرسل خادما من خواصه إلى أرسلانشاه في رسالة فقبض عليه في بعض القلاع فسار حينئذ سنجر مجدا فلما سمع بقربه من أطلق الرسول ووصل سنجر إلى غزنة ووقع بينهما المصاف على فرسخ من غزنة بصحراء شهراباذ وكان أرسلانشاه في ثلاثين ألف فارس وخلق كثير من الرجالة ومعه مائة وعشرون فيلا على كل فيل أربعة نفر فحملت الفيلة على القلب وفيه سنجر فكان من فيه ينهزمون فقال سنجر لغلمانه الأتراك ليرموها بالنشاب فتقدم ثلاثة آلاف غلام فرموا الفيلة رشقا واحدا جميعا فقتلوا منها عدة فعدلت الفيلة عن القلب إلى الميسرة وبها أبو الفضل صاحب سجستان وجالت عليهم فضعف من في الميسرة، فشجعهم أبو الفضل،
505 وخوفهم من الهزيمة مع بعد ديارهم وترجل عن فرسه بنفسه وقصد كبير الفيلة ومتقدمها ودخل تحتها فشق بطنها وقتل فيلين آخرين. ورأى الأمير أنر وهو في الميمنة ما في المسيرة من الحرب فخاف عليها فحمل من وراء عسكر غزنة وقصد الميسرة واختلط بهم وأعانهم فكانت الهزيمة على الغزنوية وكان ركاب الفيلة قد شدوا أنفسهم عليها بالسلاسل فلما عضهم الحرب وعمل فيهم السيف ألقوا أنفسهم فبقوا معلقين عليها. ودخل السلطان سنجر غزنة في العشرين من شوال سنة عشر وخمسمائة ومعه بهرامشاه. فأما القلعة الكبيرة المشتملة على الأموال وبينها وبين البلد تسعة فراسخ وهي عظيمة لا مطمع فيها ولا طريق عليها. وكان أرسلانشاه قد سجن فيها أخاه طاهرا الخازن وهو صاحب بهرامشاه واعتقل بها أيضا زوجة بهرامشاه فلما انهزم أرسلانشاه استمال أخوه طاهر المستحفظ بها فبذل له وللأجناد الزيادات فسلموا القلعة إلى الملك سنجر. وأما قلعة البلد فإن أرسلانشاه كان قد اعتقل بها رسول سنجر فلما أطلقه بقي غلمانه بها فسلموا القلعة أيضا بغير قتال. وكان قد تقرر بين بهرامشاه وبين سنجر أن يجلس بهرام على سرير جده محمود بن سبكتكين وحده وأن تكون الخطبة بغزنة للخليفة وللسلطان محمد وللملك سنجر وبعدهم لبهرامشاه فلما دخلوا غزنة كان سنجر راكبا وبهرامشاه بين يديه راجلا حتى جاء السرير فتصعد بهرامشاه فجلس
506 عليه ورجع سنجر وكان يخطب له بالملك ولبهرامشاه بالسلطان على عادة آبائه فكان هذا من أعجب ما يسمع به. وحصل لأصحاب سنجر من الأموال ما لا يحد ولا يحصى من السلطان والرعايا، وكان في دور لملوكها عدة دور على حيطانها ألواح الفضة وسواقي المياه إلى البساتين من الفضة أيضا فقلع من ذلك أكثره ونهب، فلما سمع سنجر ما يفعل منع عنه بجهده وصلب جماعة حتى كف الناس. وفي جملة ما حصل للملك سنجر خمسة تيجان قيمة أحدها يزيد على ألفي ألف دينار وألف وثلاثمائة قطعة مصاغ مرصعة وسبعة عشر سريرا من الذهب والفضة. وأقام بغزنة أربعين يوما حتى استقر بهرامشاه وعاد نحو خراسان، ولم يخطب بغزنة لسلجوقي قبل هذا الوقت حتى إن السلطان ملكشاه مع تمكنه وكثرة ملكه لم يطمع فيه وكان كلما رام ذلك منع منه نظام الملك. وأما أرسلانشاه فإنه لما انهزم قصد هندوستان واجتمع عليه أصحابه فقويت شوكته فلما عاد سنجر إلى خراسان توجه إلى غزنة فلما عرف بهرامشاه قصده إياه وتوجه إلى باميان وأرسل إلى الملك سنجر يعلمه الحال فأرسل إليه عسكرا. وأقام أرسلانشاه بغزنة شهرا واحدا وسار يطلب أخاه بهرامشاه فبلغه وصول عسكر سنجر فانهزم بغير قتال للخوف الذي قد باشر قلوب أصحابه ولحق أوغنان فسار أخوه بهرامشاه وعسكر سنجر في أثره وأخربوا البلاد التي هو فيها وأرسلوا إلى أهلها يتهددونهم فسلموه بعد المضايقة فأخذه متقدم جيش الملك سنجر وأراد حمله إلى صاحبه فخاف بهرامشاه
507 من ذلك، فبذل له مالا فسلمه إليه فخنقه ودفنه بتربة أبيه بغزنة وكان عمره سبعا وعشرون سنة وكان أحسن إخوته صورة. وكان قتله في جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة وإنما ذكرناه ههنا لتتصل الحادثة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في جمادى الآخرة كانت زلزلة شديدة بديار الجزيرة والشام وغيرهما فخربت كثيرا من الرها وحران وسميساط وبالس وغيرها وهلك خلق كثير تحت الهدم. وفيها قتل تاج الدولة ألب أرسلان بن رضوان صاحب حلب قتله غلمانه بقلعة حلب وأقاموا بعده أخاه سلطانشاه بن رضوان وكان المستولي عليه لؤلؤا الخادم. وفيها توفي الشريف النسيب أبو القاسم علي بن إبراهيم بن العباس الحسيني في ربيع الآخر بدمشق.
508 509 ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة ذكر انهزام عسكر السلطان من الفرنج قد ذكرنا ما كان من عصيان إيلغازي وطغتكين على السلطان وقوة الفرنج فلما اتصل بالسلطان محمد جهز عسكرا كثيرا وجعل مقدمهم الأمير برسق بن برسق صاحب همذان ومعه الأمير جيوش بك والأمير كنتغدي وعساكر الموصل والجزيرة وأمرهم بالبداءة بقتل إيلغازي فإذا فرغوا منهما قصدوا بلاد الفرنج وقاتلوهم وحصروا بلادهم. فساروا في رمضان من سنة ثمان وخمسمائة وكان عسكرا كثير العدة وعبروا الفرات آخر السنة عند الرقة فلما قاربوا حلب راسلوا المتولي لأمرها لؤلؤا الخادم ومقدم عسكرها المعروف بشمس الخواص يأمرونها بتسليم حلب وعرضوا عليهما كتب السلطان بذلك فغالطا في الجواب وأرسلا إلى إيلغازي وطغتكين يستنجد أنهما فسارا إليهم في ألفي فارس ودخلا حلب فامتنع من بها حينئذ عن عسكر السلطان وأظهروا العصيان فسار الأمير
509 برسق بن برسق إلى مدينة حماة وهي في طاعة طغتكين وبها ثقله فحصرها وفتحها عنوة ونهبها ثلاثة أيام وسلمها إلى الأمير قرجان صاحب حمص. وكان السلطان قد أمر أن يسلم إليه كل بلد يفتحونه فلما رأى الأمراء بذلك فشلوا وضعفت نياتهم في القتال بحيث تؤخذ البلاد وتسلم إلى قرجان فلما سلموا حماة إلى قرجان سلم إليهم أياز بن إيلغازي وكان قد سار إيلغازي وطغتكين وشمس الخواص إلى أنطاكية واستجاروا بصاحبها روجيل وسألوه أن يساعدهم على حفظ مدينة حماة فلما بلغهم فتحها. ووصل إليهم بأنطاكية بغدوين صاحب القدس وصاحب طرابلس وغيرهما من شياطين الفرنج اتفق رأيهم على ترك اللقاء لكثرة المسلمين وقالوا إنهم عند هجوم الشتاء يتفرقون واجتمعوا بقلعة أفامية وأقاموا نحو شهرين فلما انتصف أيلول ورأوا عزم المسلمين على المقام تفرقوا فعاد إيلغازي إلى ماردين وطغتكين إلى دمشق والفرنج إلى بلادها وكانت أفامية وكفر طاب للفرنج فقصد المسلمون كفر طاب وحصروها فلما اشتد الحصر على الفرنج ورأوا الهلاك قتلوا أولادهم ونساءهم وأحرقوا أموالهم ودخل المسلمون البلد عنوة وقهروا وأسروا صاحبه وقتلوا من بقي فيه من الفرنج وساروا إلى قلعة أفامية فرأوها حصينة فعادوا عنها إلى المعرة وهي للفرنج أيضا وفارقهم الأمير جيوش بك إلى وادي بزاعة فملكه. وسارت العساكر عن المعرة إلى حلب وتقدمهم ثقلهم ودوابهم،
510 على جاري العادة والعساكر في أثره متلاحقة وهم آمنون لا يظنون أحدا يقدم على القرب منهم. وكان روجيل صاحب أنطاكية لما بلغه حصر كفر طاب سار في خمسمائة فارس وألفي راجل للمنع فوصل إلى المكان الذي ضربت فيه خيام المسلمين على غير علم بها فرآها خالية من الرجال المقاتلة لأنهم لم يصلوا إليها فنهب جميع ما هناك وقتل كثيرا من السوقية وغلمان العسكر ووصلت العساكر متفرقة فكان الفرنج يقتلون كل من وصل إليهم. ووصل الأمير برسق في نحو مائة فارس فرأى الحال فصعد تلا هناك ومعه أخوه زنكي وأحاط بهم السوقية والغلمان واحتموا بهم ومنعوا الأمير برسق من النزول فأشار عليه أخوه ومن معه بالنزول والنجاة بنفسه فقال لا أفعل بل أقتل في سبيل الله وأكون فداء المسلمين فغلبوه على رأيه فنجا هو ومن معه فتبعهم الفرنج نحو فرسخ ثم عادوا وتمموا الغنيمة والقتل وأحرقوا كثيرا من الناس وتفرق العسكر وأخذ كل واحد جهة. ولما سمع الموكلون بالأسرى المأخوذين من كفر طاب ذلك قتلوهم وكذلك فعل الموكل بإياز بن إيلغازي قتله أيضا وخاف أهل حلب وغيرها من بلاد المسلمين التي بالشام فإنهم كانوا يرجون النصر من جهة هذا العسكر فأتاهم ما لم يكن في الحساب وعادت العساكر عنهم إلى بلادها. وأما برسق وأخوه زنكي فإنهما توفيا في سنة عشر وخمسمائة وكان برسق خيرا دينا وقد ندم على الهزيمة وهو يتجهز للعود إلى الغزاة فأتاه أجله.
511 ذكر ملك الفرنج رفنية وأخذها منهم في هذه السنة في جمادى الآخرة ملك الفرنج رفنية من أرض الشام وهي لطغتكين صاحب دمشق وقووها بالرجال والذخائر وبالغوا في تحصينها فاهتم طغتكين لذلك وقوى عزمه على قصد بلاد الفرنج بالنهب لها والتخريب فأتاه الخبر عن رفنية لخلوها عن عسكر يمنع عنها وليس هناك إلا الفنج الذي رتبوا لحفظها فسار إليها جريدة فلم يشعر من بها إلا وقد هجم عليهم البلد فدخله عنوة وقهرا وأخذ كل من فيه من الفرنج أسيرا فقتل البعض وترك البعض وغنم المسلمون من سوادهم وكراعهم وذخائرهم ما امتلأت منه أيديهم وعادوا إلى بلادهم سالمين. ذكر وفاة يحيى بن تميم وولاية ابنه علي في هذه السنة توفي يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية يوم عيد الأضحى فجأة وكان منجم قد قال له في منستير مولده إن عليه قطعا في هذا اليوم فلا تركب فلم يركب وخرج أولاده وأهل دولته إلى المصلى فلما انقضت الصلاة حضروا عنده للسلام عليه وتهنئته وقرأ القراء وأنشد الشعراء وانصرفوا إلى الطعام فقام يحيى من باب آخر ليحضر معهم على الطعام فلم يمش غير ثلاث خطا وقع ميتا وكان ولده
512 علي بمدينة سفاقس فأحضر وعقدت له الولاية ودفن بالقصر ثم نقل إلى التربة بالمنستير وكان عمره سنتين وخمسين سنة وخمسة عشر يوما وكانت ولايته ثمان سنين وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوما وخلف ثلاثين ولدا فقال عبد الجبار بن محمد بن حمديس الصقلي يرثيه ويهنئ ابنه عليا بالملك: (ما أغمد الغضب إلا جرد الذكر * ولا اختفى قمر حتى بدا قمر) (بموت يحيى أميت الناس كلهم * حتى إذا ما جاءهم نشروا) (أن يبعثوا بسرور من تملكه * فمن منية يحيى بالأسى قبروا) (أوفى علي فسن الملك ضاحكة * وعينيها من أبيه دمعها همر) (شقت جيوب المعالي بالأسى فبكت * في كل أفق عليه الأنجم الزهر) (وقل لابن تميم حزن ما دهما * فكل حزن عظيم فيه محتقر) (قام الدليل ويحيى لا حياة له * إن المنية لا تبقي ولا تذر) وكان يحيى عادلا في رعيته ضابطا لأمور دولته مدبرا لجميع أحواله رحيما بالضعفاء والفقراء يكثر الصدقة عليهم ويقرب أهل العلم والفضل وكان عالما بالأخبار وأيام الناس والطب وكان حسن الوجه أشهر العين إلى الطول ما هو. ولما استقر علي في الملك جهز أسطولا إلى جزيرة جربة وسببه أن
513 أهلها كانوا يقطعون الطريق ويأخذون التجار فحصرها وضيق على من فيها فدخلا تحت [طاعته]، والتزموا ترك الفساد وضمنوا إصلاح الطريق وكف عنهم ذلك وصلح أمر البحر وأمن المسافرون. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في رجب قدم السلطان محمد بغداد ووصل إليه أتابك طغتكين صاحب دمشق في ذي القعدة وسأل الرضا عنه فرضي عنه السلطان وخلع عليه ورده إلى دمشق. وفيها أمر الإمام المستظهر بالله ببيع البدرية وهي منسوبة إلى بدر غلام المعتضد بالله وكانت من أحسن دور الخلفاء وكان ينزلها الراضي بالله ثم تهدمت وصارت تلا، فأمر القادر بالله أن يسور لأنها مع الدار الأمامية ففعل ذلك فلما كان الآن أمر ببيعها وعمرها الناس. وفيها في شعبان وقعت الفتنة بين العامة وسببها أن الناس لما عادوا من زيارة مصعب اختصموا على من يدخل أولا فاقتتلوا وقتل بينهم جماعة وعادت الفتن بين أهل المحال كما كانت ثم سكنت. وفيها أقطع السلطان محمد الموصل وما كان بيد آقسنقر البرسقي للأمير جيوش بك وير ولده الملك مسعود وأقام البرسقي بالرحبة وهي أقطاعه
514 إلى أن توفي السلطان محمد وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها توفي إسماعيل بن محمد بن ملة الأصبهاني أبو عثمان بن أبي سعيد الواعظ سمع الكثير وحدث ببغداد وغيرها وعبد الله بن المبارك بن موسى السفطي أبو البركات له رحلة وله تصانيف وكان أديبا.
515 510 ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة ذكر قتل أحمديل بن وهسوذان في هذه السنة أول محرم حضر أتابك طغتكين صاحب دمشق دار السلطان محمد ببغداد وحضر جماعة من الأمراء ومعهم أحمديل بن إبراهيم بن وهسوذان الروادي الكردي صاحب مراغة وغيرها من أذربيجان طغتكين فأتاه رجل متظلم وبيده رقعة وهو يبكي ويسأله أن يوصلها إلى السلطان فأخذها من يده فضربه الرجل بسكين فجذبه أحمديل وتركه تحته فوثب رفيق للباطني وضرب أحمديل سكينا فأخذتهما السيوف وأقبل رفيق لهما وضرب أحمديل ضربة أخرى فعجب الناس من إقدامه بعد قتل صاحبيه وظن طغتكين والحاضرون أن طغتكين كان المقصود بالقتل وأنه أمر السلطان فلما علموا أنهم باطنية زال هذا الوهم. ذكر وفاة جاولي سقاوو وحال بلاد فارس معه في هذه السنة توفي جاولي سقاوو، وكان السلطان ببغداد عازما على المقام بها فاضطر إلى المسير إلى أصبهان ليكون قريبا من فارس لئلا تختلف عليه،
516 وقد ذكرنا حال جاولي بالموصل إلى أن ملكت منه وأخذها السلطان فلما قصد السلطان ورضي عنه أقطعه بلاد فارس فسار جاولي إليها ومعه ولد السلطان جغري وهو طفل له من العمر سنتان وأمره بإصلاحها وقمع المفسدين بها فسار إليها، فأول ما اعتمده فيها أنه لما توسط بلاد الأمير بلدجي وهو من كبار مماليك السلطان ملكشاه ومن جملة بلاده كليل وسرماه وكان متمكنا بتلك البلاد. راسله جاولي ليحضر خدمة جغري ولد السلطان وعلم جغري أن يقول بالفارسي خذوه فلما دخل بلدجي قال جغري على عادته خذوه وقتل ونهبت أمواله. وكان لبلدجي من جملة حصونه قلعة إصطخر وهي من أمنع القلاع وأحصنها وكان بها أهله وذخائره وقد استناب في حفظها وزيرا له يعرف بالجهرمي فعصى عليه وأخرج إليه أهله وبعض المال ولم تزل في يد الجهرمي حتى وصل جاولي إلى فارس فأخذها منه وجعل فيها أمواله. كان بفارس جماعة من أمراء الشوانكارة وهم خلق كثير لا يحصون ومقدمهم الحسن بن المبارز المعروف بخسرو وله فسا وغيرها فراسله جاولي ليحضر خدمة جغري فأجاب إنني عبد السلطان وفي طاعته فأما الحضور فلا سبيل غليه لأنني قد عرفت عادتك مع بلدجي وغيره ولكنني أحمل إلى السلطان ما يؤثره. فلما سمع جاولي جوابه علم أنه لا مقام
517 له بفارس معه، فأظهر العود إلى السلطان وحمل أثقاله على الدواب وسار كأنه يطلب السلطان ورجع الرسول إلى خسروا فأخبره فاغتر وقعد للشرب وأمن. وأما جاولي فإنه عاد من الطريق إلى خسرو جريدة في نفر يسير فوصل إليه وهو مخمور نائم فكسبه فأنبهه أخوه فضلوه فلم يستيقظ فصب عليه الماء البارد فأفاق وركب من وقته وانهزم وتفرق أصحابه، ونهب جاولي ثقله وأمواله وأكثر القتل في أصحابه ونجا خسروا إلى حصنه وهو يبن جبلين يقال لأحدهما أنج. وسار جاولي إلى مدينة فسا فتسلمها ونهب كثيرا من بلاد فارس منهم جهرم وسار إلى خسرو وحصره مدة وضيق عليه فرأى من امتناع حصنه وقوته وكثرة ذخائره ما علم [معه] أن المدة تطول عليه فصالحه ليشتغل بباقي بلاد فارس ورحل عنه إلى شيراز فأقام بها ثم توجه إلى كازرون فملكها وحصر أبا سعد محمد بن مما في قلعته وأقام عليها سنتين صيفا وشتاء فراسله جاولي في الصلح فقتل الرسول فأرسل إليه قوما من الصوفية فأطعمهم الهريسة والقطائف ثم أمر بهم فخيطت أدبارهم وألقوا في الشمس فهلكوا؛ ثم تقدما عند أبي سعد فطلب الأمان فأمنه وتسلم الحصن. ثم إن جاولي أساء معاملته فهرب فقبض على أولاده وبث الرجال في أثره فرأى بعضهم زنجيا يحمل شيئا فقال ما معك فقال زادي ففتشه فرأى دجاجا وحلواء السكر فقال ما هذا من طعامك فضربه فأقر على أبي سعد وأنه يحمل ذلك إليه فقصدوه وهو في شعب جبل فأخذه الجندي وحمله إلى جاولي فقتله.
518 وسار إلى دارابجرد وصاحبها اسمه إبراهيم فهرب صاحبها منه إلى كرمان خوفا منه وكان بينه وبين صاحب كرمان صهر وهو أرسلانشاه بن كرمانشاه بن أرسلان بك بن قاورت فقال له لو تعاضدنا لم يقدر علينا جاولي وطلب منه النجدة. وسار جاولي بعد هربه منه إلى حصار رتيل رننه يعني مضيف رننه وهو موضع لم يؤخذ قهرا قط لأنه واد نحو فرسخين وفي صدره قلعة منيعة على جبل عال وأهل دارابجرد يتحصنون به إذا خافوا فأقاموا به وحفظوا أعلاه. فلما رأى جاولي حصانته سار يطلب البرية نحو كرمان كأنما أمره ثم رجع من طريق كرمان إلى دارابجرد مظهرا أنه من عسكر الملك أرسلانشاه صاحب كرمان فلم يشك أهل الحصن أنهم مدد لهم مع صاحبهم فأظهروا السرور وأذنوا له في دخول المضيق فلما دخله وضع السيف فيمن هناك فلم ينج غير القليل ونهب أموال أهل دارابجرد وعاد إلى مكانه وراسل خسروا يعلمه أنه عازم على التوجه إلى كرمان ويدعوه إليه فلم يجد بدا من موافقته فنزل إليه طائعا وسار معه إلى كرمان وأرسل إلى صاحبها القاضي أبا طاهر عبد الله بن طاهر قاضي شيراز يأمره بإعادة الشوانكارة لأنهم رعية السلطان ويقول إنه متى أعادهم عاد عن قصد بلاده وإلا قصده فأعاد صاحب كرمان جواب الرسالة يتضمن الشفاعة فيهم حيث استجاروا به. ولما وصل الرسول إلى جاولي أحسن إليه وأجزل له العطاء وأفسده على
519 صاحبه، وجعله عينا له عليه وقرر معه إعادة عسكر كرمان ليدخل البلاد وهم غارون فلما عاد الرسول وبلغ السيرجان وبها عساكر صاحب كرمان ووزيره مقدم الجيش أعلم الوزير ما عليه جاولي من المقاربة وأنه لا يفارق ما كرهوه وأكثر من هذا النوع وقال لكنه مستوحش من اجتماع العساكر بالسيرجان وأن أعداء جاولي طمعوا فيه بهذا العسكر والرأي أن تعاد العساكر إلى بلادها. فعاد الوزير والعساكر وخلت السيرجان وسار جاولي في أثر الرسول فنزل بفرج وهي الحد بين فارس وكرمان فحاصرها فلما بلغ ذلك ملك كرمان أحضر الرسول وأنكر عليه إعادة العسكر فاعتذر إليه وكان مع الرسول فراش لجاولي ليعود إليه بالأخبار فارتاب به الوزير فعاقبه فأقر على الرسول فصلب ونهبت أمواله وصلب الفراش وندب العساكر إلى المسير إلى جاولي فساروا في ستة آلاف فارس. وكانت الولاية التي هي الحد بين فارس وكرمان بيد إنسان يسمى موسى وكان ذا رأي ومكر فاجتمع بالعسكر وأشار عليهم بترك الجادة المسلوكة، وقال إن جاولي محتاط بها وسلك بهم طريقا غير مسلوكة بين جبال ومضايق. وكان جاولي يحاصر فرج وقد ضيق على من بها وهو مدمن الشرب فسير أميرا في طائفة من عسكره ليلقى العسكر المنفذ من كرمان فسار الأمير فلم ير أحدا فظن أنهم قد عادوا فرجع إلى جاولي وقال إن العسكر
520 كان قليلا فعاد خوفا منا فاطمأن حينئذ جاولي وأدمن شرب الخمر. ووصل عسكر كرمان إليه وهو سكران نائم فأيقظه بعض أصحابه وأخبره فقطع لسانه فأتاه غيره وأيقظه وعرفه الحال فاستيقظ وركب وانهزم وقد تفرق عسكره منهزمين فقتل منهم وأسر كثير وأدركه خسرو وابن أبي سعد الذي قتل جاولي أباه فسارا معه في أصحابهما فالتفت فلم ير معه أحدا من أصحابه الأتراك فخاف على نفسه منهم فقالا له إنا لا نغدر بك ولن ترى منا إلا الخير والسلامة وسارا معه حتى وصل إلى مدينة فسا واتصل به المنهزمون من أصحابه وأطلق صاحب كرمان الأسرى وجهزهم وكانت هذه الوقعة في شوال سنة ثمان وخمسمائة. وبينما جاولي يدبر الأمر ليعاود كرمان ويأخذ بثأره توفي الملك جغري ابن السلطان محمد وعمره خمس سنين وكانت وفاته في ذي الحجة سنة تسع وخمسمائة ففت ذلك في عضده فأرسل ملك كرمان رسولا إلى السلطان وهو ببغداد يطلب منه منع جاولي عنه فأجابه السلطان إنه لا بد من إرضاء جاولي وتسليم فرج إليه فعاد الرسول في ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة فتوفي جاولي فأمنوا ما كانوا يخافونه فلما سمع السلطان سار عن بغداد إلى أصبهان خوفا على فارس من صاحب كرمان. ذكر فتح جبل وسلات وتونس في هذه السنة حصر عسكر علي بن يحيى صاحب إفريقية مدينة تونس وباه أحمد بن خراسان وضيق على من بها فصالحه على ما أراد.
521 وفيها فتح أيضا جبل وسلات بإفريقية واستولى عليه وهو جبل منيع ولم يزل أهله طول الدهر يفتكون بالناس ويقطعون الطريق فلما استمر ذلك منهم سير إليهم جيشا فكان أهل الجبل ينزلون إلى الجيش ويقاتلون أشد قتال فعمل قائد الجيش الحيلة في الصعود إلى الجبل من شعب لم يكن أحد يظن أنه يصعد منه فلما صار في أعلاه في طائفة من أصحابه ثار إليه أهل الجبل فصبر لهم وقاتلهم فيمن معه أشد قتال وتتابع الجيش في الصعود إليه فانهزم أهل الجبل وكثر القتل فيهم ومنهم من رمى نفسه فتكسر ومنهم من أفلت واحتمى جماعة كثيرة بقصر في الجبل فلما أحاط بهم الجيش طلبوا أن يرسل إليهم من يصلح حالهم فأرسل إليهم جماعة من العرب والجند فثار بهم أولئك بالسلاح فقتلوا بعضهم وطلع الباقون إلى أعلى القصر ونادوا أصحابهم من الجيش فأتوهم وقاتلوهم بعضهم من أعلى القصر وبعضهم من أسفله فألقى من فيه من أهل الجبل أيديهم فقتلوا كلهم. ذكر الفتنة بطوس في هذه السنة في عاشوراء كانت فتنة عظيمة بطوس في مشهد علي بن موسى الرضا عليه السلام. وسببها أن علويا خاصم في المشهد يوم عاشوراء بعض فقهاء طوس فأدى ذلك إلى مضاربة وانقطعت الفتنة ثم استعان [كل] منهما بحزبه، فثارت فتنة عظيمة حضرها جميع أهل طوس وأحاطوا بالمشهد وخربوه وقتلوا
522 من وجدوا فقتل بينهم جماعة ونهبت أموال جمة وافترقوا. وترك أهل المشهد الخطبة أيام الجمعات فيه فبنى عليه عضد الدين فرامرز بن علي سورا منيعا يحتمي به من المسهد على من يريده بسوء وكان بناؤه سنة خمس عشرة وخمسمائة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة وقعت النار في الحظائر للمدرسة النظامية ببغداد فاحترقت الأخشاب التي بها واتصل الحريق إلى درب السلسلة وتطاير الشرر إلى باب المراتب فاحترقت منه عدة دور واحترقت خزانة كتب النظامية وسلمت الكتب لأن الفقهاء لما أحسوا بالنار نقلوها. وفيها توفي عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول أبو محمد الأندلسي السرقسطي وكان فقيها فاضلا ورد نحو العراق سنة خمسمائة وسار إلى خراسان فسكن مرو الروذ فمات بها وله شعر حسن فمنه: (ومهفهف يختال في أبراده * مرح القضيب اللدن تحت البارح) (أبصرت في مرآة فكري خده * فحكيت فعل جفونه بجوارحي) (ما كنت أحسب أن فعل توهمي * يقوي تعديه فيجرح جارحي) (لا غرو إن جرح التوهم خده * فالسحر يعمل في البعيد النازح) وفيها في شعبان توفي أبو القاسم علي بن محمد بن أحمد بن بيان
523 الرزاز ومولده في صفر سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وهو آخر من حدث عن أبي الحسن بن مخلد وأبي القاسم بن بشران. وفيها توفي أبو بكر محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني رئيس الشافعية بمرو ومولده سنة ست وأربعين وأربعمائة وسمع الحديث الكثير وصنف وله فيه آمال حسنة وتكلم على الحديث فأحسن ما شاء. وفيها توفي محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني أبو الخطاب الفقيه الحنبلي ومولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وتفقه على أبي يعلى بن الفراء.
524 511 ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة ذكر وفاة السلطان محمد وملك ابنه محمود في هذه السنة في الرابع والعشرين من ذي الحجة توفي السلطان محمد ملكشاه بن ألب أرسلان وكان ابتداء مرضه في شعبان وانقطع عن الركوب وتزايد مرضه ودام وأرجف عليه بالموت، فلما كان يوم عيد النحر حضر السلطان وحضر ولده السلطان محمود على السماط فنهبه الناس ثم أذن لهم فدخلوا إلى السلطان محمد وقد تكلف القعود لهم وبين يديه سماط كبير فأكلوا وخرجوا فلما انتصف ذو الحجة أيس من نفسه فأحضر ولده محمودا وقبله وبكى كل واحد منهما وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة وينظر في أمور الناس وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة فقال لوالده إنه يوم غير مبارك يعني من طريق النجوم فقال صدقت ولكن على أبيك وأما عليك فمبارك بالسلطان فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين. وفي يوم الخميس الرابع والعشرين أحضر الأمراء وأعلموا بوفاته وقرئت وصيته إلى ولده محمود يأمره بالعدل والإحسان. وفي الجمعة الخامس والعشرين منه خطب لمحمود بالسلطنة. وكان مولد السلطان محمد ثامن عشر من شعبان من سنة أربع وسبعين وأربعمائة وكان عمره سبعا وثلاثين سنة وأربعة أشهر وستة أيام وأول ما دعي له
525 بالسلطنة ببغداد في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين [وأربعمائة]، وقطعت خطبته عدة دفعات على ما ذكرناه ولقي من المشاق والأخطار ما لا حد عليه فلما توفي أخوه بركيارق صفت له السلطنة وعظمت هيبته وكثرت جيوشه وأمواله وكان اجتمع الناس عليه اثنتي عشرة سنة وستة أشهر. ذكر بعض سيرته كان عادلا حسن السيرة شجاعا فمن عدله أنه اشترى مماليك من بعض التجار، وأحالهم بالثمن على عامل خوزستان فأعطاهم البعض ومطل الباقي فحضروا مجلس الحكم وأخذوا معهم غلمان القاضي فلما رآهم السلطان قال لحاجبه انظر حال هؤلاء فسألهم عن حالهم فقالوا لنا خصم يحضر معنا مجلس الحكم فقال من هو؟ قالوا السلطان؛ وذكروا قصتهم فأعلمه ذلك فاشتد عليه وأكره وأمر بإحضار العامل وأمره بإيصال أموالهم والجعل الثقيل ونكل به حتى يمتنع غيره عن مثل فعله، ثم إنه كان يقول بعد ذلك لقد ندمت ندما عظيما حيث لم أحضر معهم مجلس الحكم فيفتدي بي غيري ولا يمتنع أحد عن الحضور فيه وأداء الحق. فمن عدله: أنه كان خازن يعرف بأبي أحمد القزويني قتله الباطنية فلما قتل أمر بعرض الخزانة فعرض عليه فيها درج فيه جوهر كثير نفيس فقال إن هذا الجوهر عرضه علي من أيام وهو ملك أصحابه وسلمه
526 إلى خادم ليحفظه وينظر من أصحابه فيسلم إليهم فسأل عنهم وكانوا تجارا غرباء وقد تيقنوا ذهابه وأيسوا منه فسكتوا فأحضرهم وسلمه إليهم. ومن عدله أنه أطلق المكوس والضرائب في جميع البلاد ولم يعرف منه فعل قبيح وعلم الأمراء سيرته فلم يقدم أحد منهم على الظلم وكفوا عنه ومن محاسن أعماله ما فعله مع الباطنية على ما نذكره. ذكر حال الباطنية أيام السلطان محمد قد تقدم ذكر ما اعتمده من حصر قلاعهم ونحن نذكر ههنا زيادة اهتمامه بأمرهم فإنه رحمه اله تعالى لما علم أن مصالح البلاد والعباد منوطة بمحو آثارهم وإخراب ديارهم وملك حصونهم وقلاعهم جعل قصدهم دأبه. وكان، في أيامه، المقدم عليهم، والقيم بأمرهم الحسن بن الصباح الرازي صاحب قلعة الموت وكانت أيامه قد طالت وله منذ ملك قلعة الموت ما يقارب ستا وعشرين سنة وكان المجاورين له في أقبح صورة من كثرة غزواته وقتله وأسره رجالهم وسبي نسائهم فسير إليه السلطان العساكر على ما ذكرناه فعادت من غير بلوغ غرض فلما أعضل داؤه ندب لقتاله الأمير أنوشتكين شيركير صاحب آية وساوة وغيرهما فملك منهم عدة قلاع منها قلعة كلام ملكها في جمادى الأولى سنة خمس وخمسمائة وكان مقدمها يعرف بعلي بن موسى فأمنه ومن معه وسيرهم
527 إلى الموت وملك منهم أيضا قلعة بيرة وهي على سبعة فراسخ من قزوين وأمنهم وسيرهم إلى الموت أيضا. وسار إلى قلعة الموت فيمن معه من العساكر وأمده السلطان بعدة من الأمراء فحصرهم وكان هو من بينهم صاحب القريحة والبصيرة في قتالهم مع جودة رأي وشجاعة فبنى عليها مساكن يسكنها هو ومن معه وعين لكل طائفة من الأمراء أشهرا يقيمونها ينيبون ويحضرون وهو ملازم الحصار وكان السلطان ينقل إليه الميرة والذخائر والرجال فضاق الأمر على الباطنية وعدمت عندهم الأقوات وغيرها، فلما اشتد عليهم الأمر نزلوا نساءهم وأبناءهم مستأمنين ويسألون أن يفرج لهم ولرجالهم عن الطريق ويؤمنوا فلم يجابوا إلى ذلك وأعادهم إلى القلعة قصدا ليموت الجميع جوعا. وكان ابن الصباح يجري لكل رجل منهم في اليوم رغيفا وثلاث جوزات فلما بلغ بهم الأمر إلى الحد الذي لا مزيد عليه بلغهم موت السلطان محمد فقويت نفوسهم وطابت قلوبهم، ووصل الخبر إلى العسكر المحاصر لهم بعدهم بيوم ولزموا على الرحيل فقال شيركير إن رحلنا عنهم وشاع الأمر نزلوا إلينا وأخذوا ما أعددناه من الأقوات والذخائر والرأي أن نقيم على قلعتهم حتى نفتحها وإن لم يكن المقام فلا بد من مقام ثلاثة أيام حتى ينفذ منا ثقلنا وما أعددناه ونحرق ما نعجز عن حمله لئلا يأخذه العدو. فلما سمعوا قوله علموا صدقه فتعاهدوا على الاتفاق والاجتماع فلما
528 أمسوا رحلوا من غير مشاورة ولم يبق غير شيركير ونزل إليه الباطنية من القلعة فدافعهم وقاتلهم وحمى من تخلف من سرقة العسكر وأتباعه ولحق بالعسكر فلما فارق القلعة غنم الباطنية ما تخلف عندهم. ذكر حصار قابس والمهدية في هذه السنة جهز علي بن يحيى صاحب أفريقية أسطولا في البحر إلى مدينة قابس وحصرها. وسبب ذلك أن صاحبها رافع بن مكن الدهماني أنشأ مركبا بساحلها ليحمل التجار في البحر وكان ذلك آخر أيام الأمير يحيى فلم ينكر يحيى ذلك جريا على عادته في المداراة فلما ولي علي الأمر بعد أبيه أنف من ذلك وقال لا يكون لأحد من أهل أفريقية أن يناوئني في إجراء المركب في البحر بالتجار فلما خاف رافع أنم يمنعه علي التجأ إلى اللعين رجار ملك الفرنج بصقلية واعتضد به فوعده رجار أن ينصره ويعينه على إجراء مركبه في البحر وأنفذ في الحال أسطولا إلى قابس فاجتازوا بالمهدية فحينئذ تحقق على اتفاقهما وكان يكذبه. فلما جاز أسطول رجار بالمهدية أخرج على أسطوله في أثره فتوافى الجميع إلى قابس فلما رأى صاحبها أسطول الفرنج والمسلمين لم يخرج مركبه فعاد أسطول الفرنج وبقي أسطول علي يحصر رافعا بقابس مضيقا عليها.
529 ثم عادوا إلى المهدية، وتمادى رافع في المخالفة لعلي وجمع قبائل العرب وسار بهم حتى نزل على المهدية محاصرا لها وخادع عليا وقال إنني إنما جئت للدخول في الطاعة وطلب من يسعى في الصلح وأفعاله تكذب أقواله فلم يجبه عن ذلك بحرف. وأخرج العساكر وحملوا على رافع ومن معه حملة منكرة فألحقوهم بالبيوت ووصل العسكر إلى البيوت فلما رأى ذلك النساء صحن وولولن فغارت العرب وعاودت القتال واشتد حينئذ الأمر إلى المغرب ثم افترقوا وقد قتل من عسكر رافع بشر كثير ولم يقتل من جند علي غير راجل واحد من الرجالة. ثم خرج عسكر علي مرة أخرى فاقتتلوا أشد من القتال الأول كان الظهور فيه لعسكر علي فلما رأى رافع أنه لا طاقة له بهم رحل عن المهدية ليلا إلى القيروان فمنعه أهلها من دخولها فقاتلهم أياما قلائل ثم دخلها فأرسل علي إليه عسكرا من المهدية فحصروه فيها إلى أن خرج عنها وعاد إلى قابس ثم إن جماعة من أعيان أفريقية من العرب وغيرهم سألوا عليا في الصلح فامتنع ثم أجاب إلى ذلك وتعاهد عليه. ذكر الوحشة بين رجار والأمير علي كان رجار صاحب صقلية بينه وبين الأمير علي صاحب أفريقية مودة وكيدة إلى أن أعان رافعا كما تقدم قبل فاستوحش كل منهما من صاحبه ثم بعد ذلك خاطبه رجار بما لم تجر عادتهم به فتأكدت الوحشة فأرسل رجار رسالة فيها خشونة فاحترز علي منه وأمر بتجديد الأسطول وأعداد الأهبة للقاء العدو وكاتب المرابطين بمراكش في الاجتماع معه على الدخول إلى صقلية فكف رجار عما كان يعتمده.
530 ذكر قتل صاحب حلب واستيلاء إيلغازي عليها في هذه السنة قتل لؤلؤ الخادم وكان قد استولى على قلعة حلب وأعمالها بعد وفاة الملك رضوان وولي أتابكية ولده ألب أرسلان، فلما مات أقام بعده في الملك سلطانشاه بن رضوان وحكم في دولته أكثر من حكمه في دولة أخيه، فلما كان هذه السنة سار منها إلى قلعة جعبر ليجتمع بالأمير سالم بن مالك صاحبها فلما كان عند قلعة نادر نزل يريق الماء فقصده جماعة من أصحابه الأتراك وصاحوا أرنب أرنب! وأوهموا أنهم يتصيدون ورموه بالنشاب فقتل فلما هلك [نهبوا] خزانته، فخرج إليهم أهل حلب فاستعادوا ما أخذوه. وولي أتابكية سلطانشاه بن رضوان شمس الخواص ياروقتاش فبقي شهرا وعزلوه وولي بعده أو المعالي بن المليحي الدمشقي ثم عزلوه وصادروه. وقيل كان سبب قتل لؤلؤ أنه أراد قتل سلطانشاه كما قتل أخاه ألب أرسلان قبله ففطن به أصحاب سلطانشاه فقتلوه. وقيل كان قتله سنة عشر وخمسمائة والله أعلم. ثم إن أهل حلب خافوا من الفرنج فسلموا البلد إلى نجم الدين إيلغازي فلما تستلمه لم يجد فيه مالا ولا ذخيرة لأن الخادم كان قد فرق الجميع وكان الملك رضوان قد جمع فأكثر فرزقه الله غير أولاده فلما رأى إيلغازي خلوا البلد من الأموال صادر جماعة من الخدم بمال صانع به الفرنج وهادنهم مدة يسيرة تكون بمقدار مسيره إلى ماردين، وجمع العساكر والعود،
531 فلما تمت الهدنة سار إلى ماردين على هذا العزم واستخلف بحلب ابنه حسام الدين تمرتاش. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في رابع عشر صفر انخسف القمر انخسافا كليا. وفي هذه الليلة هجم الفرنج على ربض حماة من الشام وقتلوا من أهلها ما يزيد على مائة رجل وعادوا. وفيها في يوم عرفة كانت زلزلة بالعراق والجزيرة وكثير من البلاد وخرجت ببغداد دور كثيرة بالجانب الغربي. وفيها مات أحمد العربي ببغداد وكان من عباد الله الصالحين له كرامات وقبره يزار بها. وفي هذه السنة في شوال توفي أبو علي محمد بن سعد بن إبراهيم بن نبهان الكاتب وعمره مائة سنة وكان عالي الإسناد روى عن أبي علي بن شاذان وغيره والحسن بن أحمد بن جعفر أبو عبد الله الشقاق الفرضي الحاسب وكان واحد عصره في علم الفرائض والحساب وسمع الحديث من أبي الحسين بن المهتدي وغيره. وفيها مات الكزايكس ملك القسطنطينية وملك بعده ابنه يوحنا وسلك سيرته. وفيها مات دوقس أنطاكية وكفى الله شره.
532 512 ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ذكر ما فعله السلطان محمود بالعراق وولاية البرسقي شحنكية ببغداد لما توفي السلطان محمد وملك بعده ابنه محمود ودبر دولته الوزير الربيب أبو منصور أرسل إلى الخليفة المستظهر بالله يطلب أن يخطب له ببغداد فخطب له في الجمعة ثالث عشر المحرم وكان شحنة بغداد بهروز. ثم إن الأمير دبيس بن صدقة كان عند السلطان محمد مذ قتل والده على ما ذكرناه فأحسن إليه وأقطعه أقطاعا كثيرا فلما توفي السلطان محمد خاطب السلطان محمودا في العود إلى بلده الحلة فأذن له في ذلك فعاد إليها فاجتمع عليه خلق كثير من العرب والأكراد وغيرهم، وكان آقسنقر البرسقي مقيما بالرحبة وهي أقطاعه وليس بيده من الولايات شيء فاستخلف عليها ابنه عز الدين مسعودا وسار إلى السلطان محمد قبل موته عازما على مخاطبته في زيادة أقطاعه فبلغه وفاة السلطان محمد قبل وصوله إلى بغداد. وسمع مجاهد الدين بهروز بقربه من بغداد فأرسل إليه يمنعه من دخولها فسار إلى السلطان محمود فلقيه توقيع السلطان بولاية شحنكية بغداد وهو بحلوان وعزل بهروز. وكان الأمراء عند السلطان يريدون البرسقي، ويتعصبون له، ويكرهون
533 مجاهد الدين بهروز، يحسدونه لقربه كان عند السلطان محمد وخافوا أن يزداد تقدما عند السلطان محمودا وحكما فلما تولى البرسقي شحنكية بغداد هرب بهروز إلى تكريت وكانت له. ثم إن السلطان ولى شحنكية بغداد الأمير منكوبرس وهو من أكابر المراء وقد حكم في دولة السلطان محمود فلما أعطي الشحنكية سير إليها ربيبه الأمير حسين بن أزبك أحد الأمراء الأتراك وهو صاحب أسداباذ لينوب عنه ببغداد والعراق وفارق السلطان من باب همذان واتصل به جماعة الأمراء البكجية وغيرهم. فلما سمع البرسقي خاطب الخليفة المستظهر بالله ليأمره بالتوقف إلى أن يكاتب السلطان ويفعل ما يرد به الأمر عليه فأرسل إليه الخليفة فأجاب أن يرسم الخليفة بالعود عدت وإلا فلا بد من دخول بغداد فجمع البرسقي أصحابه وسار إليه فالتفوا واقتتلوا فقتل أخ حسين وانهزم هو ومن معه وعادوا إلى عسكر السلطان فكان ذلك في شهر ربيع الأول قبل وفاة المستظهر بالله بأيام. ذكر وفاة المستظهر بالله في هذه السنة سادس عشر شهر ربيع الآخر توفي المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله وكان مرضه التراقي وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة
534 أشهر وستة أيام وخلافته أربعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوما ووزر له عميد الدولة أبو منصور بن جهير وسديد الملك أبو المعالي المفضل بن عبد الرزاق الأصبهاني وزعيم الرؤساء أوب القاسم بن جهير ومجد الدين أبو المعالي هبة الله بن المطلب ونظام الدين أبو منصور الحسين بن محمد وناب عن الوزارة أمين الدولة أبو سعيد بن الموصلايا وقاضي القضاة أبو الحسن علي بن الدامغاني ومضى في أيامه ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة وهم تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان والسلطان بركيارق ومحمد ابنا ملكشاه. ومن غريب الاتفاق أنه لما توفي السلطان ألب أرسلان توفي بعده القائم بأمر الله ولما توفي السلطان ملكشاه توفي المقتدي بأمر الله ولما توفي السلطان محمد توفي بعده المستظهر بالله. ذكر بعض أخلاقه وسيرته كان رضي الله عنه لين الجانب كريم الأخلاق يحب اصطناع الناس ويفعل الخير ويسارع إلى أعمال البر والمثوبات مشكور المساعي لا يرد مكرمة تطلب منه. وكان كثير الوثوق بمن يليه غير مصغ إلى سعاية ساع ولا ملتفت إلى قوله ولم يعرف منه تلون وانحلال عزم بأقوال أصحاب الأعراض. وكانت أيامه سرور الرعية فكأنها من حسنها أعياد، وكان إذا بلغه ذلك فرح به وسره إذا تعرض سلطان أو نائب له إلى أذى أحد بالغ في إنكار ذلك والزجر عنه.
535 وكان حسن الحظ جيد التوقعات لا يقاربه فيها أحد يدل على فضل غزير وعلم واسع؛ ولما توفي صلى عليه ابنه المسترشد بالله وكبر أربعا ودفن في حجرة له كان يألفها ومن شعره قوله: (أذاب حر الهوى في القلب ما جمدا * لما مددت إلى رسم الوداع يدا) (وكيف أسلك نهج الاصطبار وقد * أرى في مهوى الهوى قددا) (قد خلف الوعد بدر قد شغفت به * من بعد ما قد وفى دهري بما وعدا) (إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي * من بعد هذا فلا عاينته أبدا) ذكر خلافة الإمام المسترشد بالله لما توفي المستظهر بالله بويع ولده المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد بن المستظهر بالله وكان ولي عهد قد خطب له ثلاثا وعشرين سنة فبايعه أخواه ابنا المستظهر بالله وهما أبو عبد الله محمد وأبو طالب العباس وعمومته بنو المقتدي بأمر الله وغيرهم من الأمراء والقضاة والأئمة والأعيان. وكان المتولي لأخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغاني وكان نائبا عن الوزارة فأقره المسترشد بالله عليها، ولم يأخذ البيعة قاض غير هذا، وأحمد
536 ابن أبي داود فإنه أخذها للواثق بالله والقاضي أبو علي إسماعيل بن إسحاق أخذها للمعتضد بالله. ثم إن المسترشد عزله القضاة عن نيابة الوزارة واستوزر أبا شجاع محمد بن الربيب أبي منصور وزير السلطان محمود وكان والده خطب في معنى ولده حتى استوزر وقبض على صاحب المخزن أبي طاهر يوسف بن أحمد الحزي. ذكر هرب الأمير أبي الحسن أخي المسترشد وعوده لما اشتغل الناس ببيعة المسترشد بالله ركب أخوه الأمير أبو الحسن بن المستظهر بالله سفينة ومعه ثلاثة نفر وانحدر إلى المدائن وسار منها إلى دبيس بن صدقة بالحلة فأكرمه دبيس وعلم منه وفاة المستظهر بالله وأقام له الإقامات الكثيرة فلما علم المسترشد بالله خبره أهمه ذلك وأقلقه وأرسل إلى دبيس يطلب منه إعادته فأجاب بأنني عبد الخليفة وواقف عند أمره ومع هذا فقد استذم بي ودخل منزلي فلا أكرهه على أمر أبدا. وكان الرسول نقيب النقباء شرف الدين علي بن طراد الزينبي فقصد الأمير فقصد الأمير أبا الحسن وتحدث معه في عوده وضمن له عن الخليفة كل ما يريده فأجاب إلى العود وقال إنني لم أفارق أخي لشر أريده وإنما الخوف حملني على مفارقته فإذا أمنني قصدته وتكفل دبيس بإصلاح الحال
537 بنفسه والمسير معه إلى بغداد فعاد النقيب وأعلم الخليفة الحال فأجاب إلى ما طلب منه. ثم حدث من أمر البرسقي ودبيس ومنكوبرس ما ذكرناه فتأخر الحال وأقام الأمير أبو الحسن عند دبيس إلى ثاني عشر صفر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ثم سار عن الحلة إلى واسط وكثر جمعه وقوي الإرجاف بقوته وملك مدينة واسط وخيف جانبه فتقدم الخليفة المسترشد بالله بالخطبة لولي عهده ولده أبي جعفر المنصور وعمره حينئذ اثنتا عشرة سنة فخطب له ثاني ربيع الآخر ببغداد وكتب إلى البلاد بالخطبة له وأرسل إلى دبيس من مزيد في معنى الأمير أبي الحسن وأنه الآن قد فارق جواره ومد يده إلى بلاد الخليفة وما يتعلق به وأمره بقصده ومعاجلته قبل فوته فأرسل دبيس العساكر إليه ففارق واسط وقد تحير هو وأصحابه فضلوا الطريق ووصلت عساكر دبيس فصادفوهم عند الصلح فنهبوا أثقاله وهرب الأكراد من أصحابه والأتراك وعاد الباقون إلى دبيس. وبقي الأمير أبو الحسن في عشرة من أصحابه وهو عطشان وبينه وبين الماء خمسة فراسخ وكان الزمان قيظا فأيقن بالتلف وتبعه بدويان فأراد الهرب منهما فلم يقدر فأخذاه وقد اشتد به العطش فسقياه وحملاه إلى دبيس فسيره إلى بغداد وحمله إلى الخليفة بعد أن بذل له عشرين ألف دينار فحمل إلى الدار العزيزة وكان بين خروجه وعوده إليها أحد عشر شهرا. ولما دخل على المسترشد بالله قبل قدمه وقبله المسترشد وبكيا وأنزله
538 دارا حسنة كان هو يسكنها قبل أن يلي الخلافة وحمل إليه الخلع والتحف الكثيرة وطيب نفسه وأمنه. ذكر مسير الملك مسعود وجيوش بك إلى العراق وما كان بينهما وبين البرسقي ودبيس في هذه السنة في جمادى الأولى برز البرسقي ونزل بأسفل الرقة في عسكره ومن معه وأظهر أنه على قصد الحلة وإجلاء دبيس بن صدقة عنها. وجمع دبيس جموعا كثيرة من العرب والأكراد وفرق الأموال الكثيرة والسلاح. وكان الملك مسعود بن السلطان محمد بالموصل مع أتابكه أي أبه جيوش بك فأشار عليهما جماعة ممن عندهما بقصد العراق فإنه لا مانع دونه فسارا في جيوش كثيرة ومع الملك مسعود وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس وقسيم الدولة زنكي بن آقسنقر جد ملوكنا الآن بالموصل وكان من الشجاعة في الغاية ومعهم أيضا صاحب سنجار وأبو الهيجاء صاحب إربل وكرباوي بن خراسان التركماني صاحب البوازيج فلما علم البرسقي قربهم خافهم. وكان البرسقي قديما قد جعله السلطان محمد أتابك ولده مسعود على ما ذكرناه وإنما كان خوفه من جيوش بك فلما قاربوا بغداد سار إليهم ليقاتلهم ويصدهم فلما علم مسعود وجيوش بك ذلك أرسلوا إليه الأمير
539 كرباوي في الصلح وأعلمه أنهم إنما جاؤوا نجدة له على دبيس واصطلحوا وتعاهدوا واجتمعوا. ووصل مسعود إلى بغداد ونزل بدار المملكة ووصلهم الخبر بوصول الأمير عماد الدين منكبرس المقدم ذكره في جيش كثير فسار البرسقي عن بغداد نحوه ليحاربه ويمنعه عنها فلما علم به منكبرس قصد النعمانية وعبر دجلة هناك واجتمع هو ودبيس بن صدقة. وكان دبيس قد خاف من الملك مسعود والبرسقي فبنى أمره على المحاجزة والملاطفة فأهدى إلى مسعود هدية حسنة وللبرسقي وجيوش بك فلما وصل خبر وصول منكبرس راسله واستماله واتفقا على التعاضد والتناصر واجتمعا كل واحد منهما قوي بصاحبه فلما اجتمعا سار الملك مسعود والبرسقي وجيوش بك ومن معهم إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس فلما وصلوا المدائن أتتهم الأخبار بكثرة الجمع معهما فعاد البرسقي والملك مسعود وعبرا نهر صرصر وحفظا المخاضات عليه ونهبت الطائفتان السواد نهبا فاحشا نهر الملك ونهر صرصر ونهر عيسى وبعض دجيل واستباحوا النساء. فأرسل المسترشد بالله إلى الملك مسعود والبرسقي ينكر هذه الحال ويأمرهم بحقن الدماء وترك الفساد ويأمر بالموادعة والمصالحة، وكان الرسل سديد الدولة بن الأنباري والإمام الأسعد الميهني مدرس النظامية فأنكر البرسقي أن يكون جرى منهما شيء من ذلك وأجاب إلى العود إلى بغداد فوصل من أخبره منكبرس ودبيسا قد جهزا ثلاثة آلاف فارس مع منصور أخي دبيس والأمير حسين بن أزبك ربيب منكبرس وسيراه وعبر عند درزيجان ليقطعوا مخاضة عند ديالى إلى بغداد لخلوها من
540 عسكر يحميها ويمنع عنها. فعاد البرسقي إلى بغداد وعبر الجسر لئلا يخاف الناس ولم يعلموا الخبر وخلف ابنه عز الدين مسعودا على عسكره بصرصر واستحب معه عماد الدين زنكي بن آقسنقر فوصل إلى ديالى ومنع عسكر منكبرس من العبور فأقام يومين فأتاه كتاب ابنه عز الدين مسعود يخبره أن الصلح قد استقر بين الفريقين فانكسر نشاطه حيث جرى هذا الأمر ولم يعلم به وعاد نحو بغداد وعبر إلى الجانب الغربي وعبر منصور وحسين فسارا في عسكرهما خلفه فوصلوا بغداد عند نصف الليل فنزلا عند جامع السلطان. وسار البرسقي إلى الملك مسعود فأخذ بركه وماله وعاد إلى بغداد فخيم عند القنطرة العتيقة وأصعد الملك مسعود وجيوش بك فنزلا عند البيمارستان وأصعد دبيس ومنكبرس فخيما تحت الرقة، وأقام عز الدين مسعود البرسقي عند منكبرس منفردا عن أبيه. وكان سبب هذا الصلح أن جيوش بك كان قد أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيادة له وللملك مسعود فوصل كتاب الرسول من العسكر يذكر أنه لقي من السلطان إحسانا كثيرا وأنه أقطعهم أذربيجان فلما بلغه رحيلكم إلى بغداد اعتقد أنكم قد عصيتم عليه فعاد عما كان استقر ويقول إن السلطان قد جهز عسكرا إلى الموصل فوقع الكتاب بيد منكبرس فأرسله إلى جيوش بك وضمن له إصلاح السلطان له وللملك مسعود وكان منكبرس
541 متزوجا بأم الملك مسعود واسمها سرجهان وكان يؤثر مصلحته لذلك واستقر الصلح وخافا من البرسقي أن يمنع منه فاتفقا على إرسال العساكر إلى درزيجان لينفذ في مقابلته البرسقي ليخلو العسكر منه ويقع الاتفاق فكان الأمر في مسيره على ما تقدم. وكان البرسقي محبوبا إلى أهل بغداد لحسن سيرته فيهم فلما استقر الصلح ووصلوا إلى بغداد تفرق عن البرسقي أصحابه وجموعه وبطل ما كان يحدث به نفسه من التغلب على العراق بغير أمر السلطان وسار عن العراق إلى الملك مسعود فأقام معه واستقر منكبرس في شحنكية بغداد وودعه دبيس بن صدقة وعاد إلى الحلة بعد أن طالب بدار أبيه بدرب فيروز وكانت قد دخلت في جامع القصر ببغداد فصولح عنها بمال. وأقام منكبرس ببغداد يظلم ويعسف الرعية ويصادرهم فاختفى أرباب الأموال وانتقل جماعة إلى حريم دار الخلافة خوفا منه وبطلت معايش الناس وأكثر أصحابه الفساد حتى أن بعض أهل بغداد زفت إليه امرأة تزوجها فعلم بعض أصحاب منكبرس فأتاه وكسر الباب وجرح الزوج عدة جراحات وابتنى بزوجته فكثر الدعاء ليلا ونهارا واستغاث الناس لهذه الحال وأغلقوا الأسواق فأخذ الجندي إلى دار الخلافة فاعتقل أياما ثم أطلق. وسمع السلطان بما يفعله منكبرس ببغداد فأرسل إليه يستدعيه ويحثه على اللحوق به وهو يغالط ويدافع وكلما طلبه السلطان في جمع الأموال والمصادرات فلما علم أهل بغداد تغير السلطان عليه واستدعاءه إياه طمعوا فيه فسار حينئذ منكبرس عنهم خوفا أن يثوروا به وكفى الناس شره وظهر من كان مستترا.
542 ذكر وفاة ملك الفرنج وما كان بين الفرنج وبين المسلمين في ذي الحجة من سنة إحدى عشرة وخمسمائة توفي بغدوين ملك القدس وكان قد سار إلى ديار مصر في جمع الفرنج قاصدا ملكها والتغلب عليها وقوي طمعه في الديار المصرية وبلغ مقابل تنيس وسبح في النيل فانتقض جرح كان به فلما أحس بالموت عاد إلى القدس فمات ووصى ببلاده للقمص صاحب الرها وهو الذي كان أسره جكرمش وأطلقه جاولي سقاوو، واتفق أن هذا القمص كان قد سار إلى القدس يزور بيعة قمامة فلما وصى إليه بالملك قبله واجتمع له القدس والرها. وكان أتابك طغتكين قد سار عن دمشق لقتال الفرنج فنزل بين دير أيوب وكفر بصل باليرموك فخفيت عنه وفاة بغدوين حتى سمع الخبر بعد ثمانية عشر يوما وبينهم نحو يومين فأتته رسل ملك الفرنج بطلب المهادنة فاقترح عليه طغتكين ترك المناصفة التي بينهم من جبل عوف والحنانة والصلت والغور فلم يجب إلى ذلك وأظهر القوة فسار طغتكين إلى طبرية فنهبها وما حولها وسار منها نحو عسقلان. وكانت للمصريين وبها عساكرهم كانوا قد سيروها لما عاد ملك القدس المتوفى عن مصر وكانوا سبعة آلاف فارس فاجتمع بهم طغتكين وأعلمه المقدم عليهم أن صاحبهم تقدم إليه بالوقوف عن رأي طغتكين والتصرف على ما يحكم به فأقاموا بعسقلان نحو شهرين ولم يؤثروا في الفرنج أثرا فعاد طغتكين إلى دمشق فأتاه الصريخ بأن مائة وثلاثين فارسا من الفرنج أخذوا
543 حصنا من أعماله يعرف بالحبس ويعرف بحصن جلدك سلمه إليهم المستحفظ به وقصدوا أذرعات فنهبوها فأرسل إليهم تاج الملك بوري بن طغتكين فانحازوا عنه إلى جبل هناك فنازلهم فأتاه أبوه ونهاه عنهم فلم يفعل وطمع فيهم فلما أيس الفرنج قاتلوا قتال مستقتل فنزلوا من الجبل وحملوا على المسلمين حملة صادقة هزموهم بها وأسروا وقتلوا خلقا كثيرا وعاد الفل إلى دمشق على أسوأ حال. فسار طغتكين إلى حلب وبها إيلغازي فاستنجده وطلب منه التعاضد على الفرنج فوعده المسير معه فبينما هو بحلب أتاه الخبر بأن الفرنج قصدوا حوران من أعمال دمشق فنهبوا وقتلوا وسبوا وعادوا فاتفق رأي طغتكين وإيلغازي على عود طغتكين إلى دمشق وحماية بلاده وعود إيلغازي إلى ماردين وجمع العساكر والاجتماع على حرب الفرنج فصالح إيلغازي من يليه من الفرنج على ما تقدم ذكره وعبر إلى ماردين لجمع العساكر وكان ما نذكره سنة ثلاث عشرة [وخمسمائة]، إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادث في هذه السنة انقطع الغيث وعدمت الغلات في كثير من البلاد وكان أشده بالعراق فغلت الأسعار وأجلى أهل السواد وتقوت الناس بالنخالة وعظم الأمر على أهل بغداد بما كان يفعله منكبرس بهم. وفيها أسقط المسترشد بالله من الإقطاع المختص به كل جور وأمر أن لا يؤخذ إلا ما جرت به العادة القديمة, أطلق ضمان غزل الذهب وكان
544 صناع السقلاطون والممزج وغيرهم ممن يعمل منه يلقون شدة من العمال عليها وأذى عظيما. وفيها تأخر مسير الحجاج تأخرا أرجف بسببه انقطاع الحج من العراق فرتب الخليفة الأمير نظر خادم أمير الجيوش يمن وولاه من أمر الحج ما كان يتولاه أمير الجيوش وأعطاه من المال ما يحتاج إليه في طريقه وسيره فأدركوا الحج وظهرت كفاية نظر. وفيها وصل مركبان كبيران فيهما قوة ونجدة للفرنج بالشام فغرقا وكان الناس قد خافوا ممن فيهما. وفيها وصل رسول إيلغازي صاحب حلب وماردين إلى بغداد يستنفر على الفرنج ويذكر ما فعلوا بالمسلمين في الديار الجزرية وأنهم ملكوا قلعة عند الرها وقتلوا أميرها ابن عطير فسيرت الكتب بذلك إلى السلطان محمود. وفيها نقل المستظهر إلى الرصافة وجميع من كان مدفونا بدار الخلافة وفيهم جدة المستظهر أم المقتدي وكان وفاتها بعد المستظهر ورأت البطن الرابع من أولادها. وفيها كثر أمر العيارين بالجانب الغربي من بغداد فعبر إليهم نائب الشحنة في خمسين غلاما أتراكا فقاتلهم فانهزم منهم ثم عبر إليهم من الغد في مائتي غلام فلم يظفر بهم وهب العيارون يومئذ قطفتا. وفي هذه السنة في شعبان توفي أبو الفضل بكر بن محمد بن علي بن الفضل الأنصاري من ولد جابر بن عبد الله وهو من بلد بخارى وكان من أعيان الفقهاء الحنفية حافظا للمذهب. وتوفي أبو طالب الحسين بن محمد بن علي بن الحسن الزينبي نقيب النقباء ببغداد في صفر واستقال من النقابة فوليها أخوه طراد وكان من أكابر
545 الحنفية وروى الحديث الكثير. وفيها في ذي الحجة توفي أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن مندة الأصبهاني المحدث المشهور من بيت الحديث وله فيه تصانيف حسنة. وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن الخازن وكان أديبا ظريفا له شعر حسن فمنه قوله وقد قصد زيارة صديق له فلم يره فأدخله غلمانه إلى بستان في الدار وحمام فقال في ذلك: (وافيت منزله فلم أر صاحبا * إلا تلقاني بوجه ضاحك) (والبشر في وجه الغلام نتيجة * لمقدمات ضياء وجه الملاك) (ودخلت جنته وزرت جحيمه * فشكرت رضوانا ورأفة مالك)
546 513 ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ذكر عصيان الملك طغرل على أخيه السلطان محمود كان الملك طغرل بن محمد لما توفي والده بقلعة سرجهان وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم وأقطعه والده سنة أربع ساوة وآوة وزنجان وجعل أتابكه الأمير شيركير الذي تقدم ذكره في حصار قلاع الإسماعيلية فازداد ملك طغرل بما فتحه شيركير من قلاعهم فأرسل إليه السلطان محمود الأمير كنتغدي ليكون أتابكا له ومديرا لأمره ويحمله إليه فلما وصل إليه حسن له مخالفة أخيه وترك المجيء إليه واتفقا على ذلك. وسمع السلطان محمود الخبر فأرسل شرف الدين أنوشروان ابن خالد ومعه خلع وتحف وثلاثون ألف دينار ووعد أخاه بإقطاع كثير زيادة على ماله إذا قصده واجتمع به فلم تقع الإجابة إلى الاجتماع وأجاب كنتغدي بأننا في طاعة السلطان وأي جهة أراد قصدناها ومعنا من العساكر ما تقاوم بها من يرسم بقصده. فبينما الخوض معهم في ذلك ركب السلطان محمود من باب همذان في عشرة آلاف فارس جريدة في جمادى الأولى وكتم مقصده وعزم على أن يكبس أخاه والأمير كنتغدي فرأى أحد خواصه تركيا من أصحاب الملك طغرل فأعلم السلطان به فقبض عليه فعلم رقيق كان معه الحال فسار عشرين
547 فرسخا في ليلة، ووصل إلى الأمير كنتغدي وهو سكران فأيقظه بعد جهد وأعلمه الحال فقصد الملك طغرل فعرفه ذلك وأخذه متخفيا وقصد قلعة سميران فضلا عن الطريق إلى قلعة سرجهان وكانا قد فارقاها وجمعا العساكر وكان ضلالهما هداية لهما إلى السلامة فإن السلطان محمودا جعل طريقه على سميران وقال إنها حصنهما الذي فيه الذخائر والأموال وإذا علما بوصوله إليها سار إليها فربما صادفهما في الطريق فسلما منه بما ظناه عطبا لهما. ووصل السلطان إلى العسكر فكبسه ونهبه وأخذ من خزانة أخيه ثلاثمائة ألف دينار وذلك المال الذي أنقذه له وأقام السلطان محمود بزنجان وتوجه منها إلى الري ونزل طغرل من سرجهان ولحق هو وكنتغدي بكنجة وقصده أصحابه فقويت شوكته وتمكنت الوحشة بينه وبين أخيه محمود. ذكر الحرب بين سنجر والسلطان محمود في هذه السنة في جمادى الأولى كانت حرب شديدة بين سنجر وابن أخيه السلطان محمود ونحن نذكر سياقة ذلك. قد ذكرنا سنة ثمان وخمسمائة مسير السلطان سنجر إلى غزنة وفتحها وما كان منه فيها ثم عاد عنها إلى خراسان فلما بلغه وفاة أخيه السلطان محمد وجلوس ولده السلطان محمود في السلطنة وهو زوج ابنة سنجر لحقه حزن عظيم
548 لموت أخيه وأظهر من الجزع والحزن ما لم يسمع بمثله وجلس للعزاء على الرماد وأغلق البلد سبعة أيام وتقدم إلى الخطباء بذكر السلطان محمد بمحاسن أعماله من قتال الباطنية وإطلاق المكوس وغير ذلك. وكان سنجر يلقب بناصر الدين فلما توفي أخوه محمد تلقب بمعز الدين وهو لقب أبيه ملكشاه وعزم على قصد بلد الجبل والعراق وما بيد محمود ابن أخيه فندم على قتل وزيره أبي جعفر بن فخر الملك أبي المظفر بن نظام الملك. وكان سبب قتله أنه وحش الأمراء واستخف بهم فأبغضوه وكرهوه وشكوا منه إلى السلطان وهو بغزنة فأعلمهم أنه يؤثر قتله وليس يمكنه فعل ذلك بغزنة. وكان سنجر قد تغير على وزيره لأسباب منها أنه أشار عليه بقصد فلما وصل إلى بست أرسل أرسلانشاه صاحبها إلى الوزير وضمن له خمسمائة ألف دينار ليثني سنجر عن قصده فأشار عليه بمصالحته والعود عنه وفعل مثل ذلك بما وراء النهر ومنها أنه نقل عنه أنه أخذ من غزنة أموالا جليلة عظيمة المقدار ومنها ما ذكر من إيحاشه الأمراء وغير هذه الأسباب. فلما عاد إلى بلخ قبض عليه وقتله وأخذ ماله وكان له من الجواهر والأموال ما لا حد عليه والذي وجد له من العين ألفا ألف دينار فلما قتله استوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرزاق ابن أخي نظام الملك ويعرف بابن الفقيه إلا أنه لم تكن له منزلة ابن فخر الملك عند الناس في علو المنزلة فلما اتصل به وفاة أخيه ندم على قتله لأنه كان يبلغ به من الأغراض والملك ما لا يبلغه بكثرة العساكر لميل الناس إليه ومحله عندهم. ثم إن السلطان محمود أرسل إلى عمه سنجر شرف الدين أنو شروان
549 ابن خالد وفخر الدين طغايرك بن اليزن ومعهما الهدايا والتحف وبذل له النزول عن مازندران، وحمل مائتي ألف دينار كل سنة فوصلا إليه وأبلغاه الرسالة فتجهز ليسير إلى الري فأشار عليه شرف الدين أنو شروان يترك القتال والحرب فكان جوابه في ذلك أن ولد أخي صبي وقد تحكم وزيره والحاجب علي. فلما سمع السلطان محمود بمسير عمه نحو ووصول الأمير أنر في مقدمته إلى جرجان تقدم إلى الأمير علي بن عمر وهو أمير حاجب السلطان محمد وبعده صار أمير حاجب السلطان محمود بالمسير وضمن له جمعا كثيرا من العساكر والأمراء فاجتمعوا في عشرة آلاف فارس فساروا إلى أن قاربوا مقدمة سنجر التي عليها الأمير علي بن عمر يعرفه وصية السلطان محمد بتعظيم سنجر والرجوع إلى أمره ونهيه والقبول منه وأنه ظن أن سنجر يحفظ السلطنة على ولده السلطان محمود وأخذ عليها بذلك العهود فليس لنا أن نخالفه وحيث جئتم إلى بلادنا لا نحتمل ذلك ولا نقضي عليه وقد علمت أن معك خمسة آلاف فارس فأنا أرسل إليك أقل منهم لتعلم أنكم لا تقاوموننا ولا تقومون بنا. فلما سمع الأمير أنر ذلك عاد عن جرجان ولحقه بعض عسكر السلطان محمود، فأخذوا قطعة من سواده وأسروا عدة من أصحابه. وكان السلطان محمود قد وصل إلى الري وهو بها، وعاد الأمير علي بن عمر إليه فشكره على فعله وأثنى عليه وعلى عسكره الذين معه.
550 وأشير على السلطان محمود بملازمة الري والمقام بها، وقيل إن عساكر خراسان إذا عملوا بمقامك فيها لا يفارقون حدودهم ولا يتعدون ولايتهم فلم يقبل ذلك وضجر [من] المقام وسار إلى جرجان. ووصل السلطان محمود الأمير منكبرس من العراق في عشرة آلاف فارس والأمير منصور بن صدقة أخو دبيس والأمراء البكجية وغيرهم وسار محمود إلى همذان وتوفي بها وزيره الربيب واستوزر أبا طالب السميرمي وبلغه وصول عمه سنجر إلى الري فسار نحوه قاصدا قتاله فالتقيا بالقرب من ساوة ثاني جمادى الأولى من السنة وكان عسكر السلطان محمود قد عرفوا المفازة التي بين يدي عسكر سنجر وهي ثمانية أيام فسبقوهم إلى الماء وملكوه عليهم. وكان العسكر الخراساني في عشرين ألفا ومعهم ثمانية عشر فيلا اسم كبيرها باذهو ومن الأمراء الكبار ولد الأمير أبي الفضل صاحب سجستان وخوارزمشاه محمد والأمير أنر والأمير فماج واتصل به علاء الدولة كرشاسف بن كاكويه صاحب يزد وهو صهر السلطان محمد وسنجر على أختهما وكان أخص الناس بالسلطان محمد فلما توفي السلطان محمود تأخر عنه فأقطع بلده لقراجة الساقي الذي صار صاحب بلاد فارس فسار حينئذ علاء الدولة إلى سنجر وهو من ملوك الديلم وعرف سنجر الأحوال والطريق إلى قصد البلاد وما فعله الأمراء من أخذ الأموال وما هم عليه من اختلاف الأهواء وحسن قصد البلاد. وكان عسكر السلطان محمود ثلاثين ألفا ومن الأمراء الكبار الأمير علي بن عمر أمير حاجب والأمير منكبرس وأتابكه غزغلي وبنو برسق،
551 وسنقر البخاري وقراجة الساقي ومعه تسعمائة حمل من السلاح. واستهان عسكر محمود بعسكر عمه بكثرتهم وشجاعتهم وكثرة خيلهم فلما التقوا ضعف نفوس الخراسانية لما رأوا لهذا العسكر من القوة والكثرة فانهزمت ميمنة سنجر وميسرته واختلط أصحابه واضطرب أمرهم وساروا منهزمين لا يلوون على شيء ونهب من أثقالهم شيء كثير وقتل أهل السواد كثيرا منهم. ووقف سنجر بين الفيلة في جمع من أصحابه وبإزائه السلطان محمود ومعه أتابكه غزغلي فألجأت سنجر الضرورة عند تعاظم الخطب عليه أن يقدم الفيلة للحرب وكان من بقي معه قد أشاروا عليه بالهزيمة فقال إما النصر أو القتل وأما الهزيمة فلا. فلما تقدمت الفيلة ورآها خيل محمود تراجعت بأصحابها على أعقابها فأشفق سنجر على السلطان محمود في تلك الحال وقال لأصحابه لا تفزعوا الصبي بحملات الفيلة فكفوها عنهم وانهزم السلطان محمود ومن معه في القلب وأسر أتابكه غزغلي فكان يكاتب السلطان ويعده أنه يحمل إليه ابن أخيه فعاتبه على ذلك فاعتذر بالعجز فقتله وكان ظالما قد بالغ في ظلم أهل همذان فعجل الله عقوبته. ولما تم النصر والظفر للسلطان سنجر أرسل من أعاد المنهزمين من أصحابه إليه ووصل الخبر إلى بغداد في عشرة أيام فأرسل دبيس بن صدقة إلى المسترشد بالله في الخطبة للسلطان سنجر فخطب له في السادس والعشرين من جمادى الأولى وقطعت خطبة السلطان محمود. وأما السلطان محمود فإنه سار من الكسرة إلى أصبهان ومعه وزيره أبو طالب السميرمي والأمير علي بن عمر وقراجة. وأما سنجر فإنه سار إلى همذان فرأى قلة عسكره واجتماع العساكر على ابن أخيه فراسله في الصلح وكانت والدته تشير عليه بذلك،
552 وتقول قد استوليت على غزنة وأعمالها وما وراء النهر وملكت ما لا حد عليه وقررت الجميع على أصحابه فاجعل ولد أخيك كأحدهم. وكانت والدة سنجر هي جدة السلطان محمود فأجاب إلى قولها ثم كثرت العساكر عند سنجر منهم البرسقي، وكان عند الملك مسعود بأذربيجان من حين خروجه عن بغداد إلى هذه الغاية فقوي بهم فعاد الرسول وأبلغه عن الأمراء الذين مع السلطان محمود أنهم لا يصالحونه حتى يعود إلى خراسان فلم يجب إلى ذلك وسار من همذان إلى كرج وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح ووعده أن يجعله ولي عهده فأجاب إلى ذلك واستقر الأمر بينهما وتحالف عليه. وسار السلطان محمود إلى عمه سنجر في شعبان فنزل على جدته والدة سنجر وأكرمه عمه وبالغ في ذلك وحمل له السلطان محمود هدية عظيمة فقبلها ظاهرا وردها باطنا ولم تقبل منه سوى خمسة أفراس عربية وكتب السلطان سنجر إلى سائر الأعمال التي بيده كخراسان وغزنة وما وراء النهر وغيرها من الولايات بأن يخطب للسلطان محمود بعده وكتب إلى بغداد مثل ذلك وأعاد عليه جميع ما أخذ من البلاد سوى الري وقصد بأخذها أن تكون له في هذه الديار لئلا يحدث السلطان محمود نفسه بالخروج. ذكر غزاة إيلغازي بلاد الفرنج في هذه السنة سار الفرنج من بلادهم إلى نواحي حلب فملكوا بزاعة وغيرها وأخربوا بلد حلب ونازلوها ولم يكن بحلب من الذخائر ما يكفيها شهرا واحدا وخافهم أهلها خوفا شديدا ولو مكنوا من القتال لم يبق بها
553 أحد، لكنهم منعوا من ذلك وصنعوا الفرنج أهل حلب على أن يقاسموهم على أملاكهم التي بباب حلب فأرسل أهل البلد إلى بغداد يستغيثون ويطلبون النجدة فلم يغاثوا. وكان الأمير إيلغازي صاحب حلب ببلد ماردين يجمع العساكر والمتطوعة للغزاة فاجتمع عليه نحو عشرين ألفا وكان معه أسامة بن المبارك بن شبل الكلابي والأمير طغان أرسلان بن المكر صاحب بدليس وأرزن وسار بهم إلى الشام عازما على قتال الفرنج. فلما علم الفرنج قوة عزمهم على لقائهم وكانوا ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل فنزلوا قريبا من الأثارب بموضع يقال له تل عفرين بين جبال ليس لها طريق إلا من ثلاث جهات وفي هذا الموضع قتل شرف الدولة مسلم بن قريش. وظن الفرنج أن أحدا لا يسلك إليهم لضيق الطريق فأخلدوا إلى المطاولة وكانت عادة لهم إذا رأوا قوة من المسلمين وراسلوا إيلغازي يقولون له لا تتعب نفسك بالمسير إلينا فنحن واصلون إليك فأعلم أصحابه بما قالوه واستشارهم فيما يفعل فأشاروا إليه بالركوب من وقته وقصدهم ففعل ذلك وسار إليهم ودخل الناس من الطرق الثلاثة ولم تعتقد الفرنج أن أحدا يقدم عليهم لصعوبة المسلك إليهم فلم يشعروا إلا وأوائل المسلمين قد غشيهم فحمل الفرنج حملة منكرة فولوا منهزمين فلقوا باقي العسكر متتابعة فعادوا معهم وجرى بينهم حرب شديدة وأحاطوا بالفرنج من جميع جهاتهم وأخذهم السيف من سائر نواحيهم فلم يفلت منهم غير نفر
554 يسير وقتل الجميع وأسروا. وكان في جملة الأسرى نيف وسبعون فارسا من مقدميهم وحملوا إلى حلب فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار فلم يقبل منهم وغنم المسلمون منهم الغنائم الكثيرة. وأما سيرجال صاحب أنطاكية فإنه قتل وحمل رأسه وكانت الوقعة منتصف ربيع الأول فما مدح به إيلغازي في هذه الوقعة قول العظيمي: (قل ما تشاء فقولك المقبول * وعليك بعد الخالق التعويل) (واستبشر القرآن حين نصرته * وبكى لفقد رجاله الإنجيل) ثم تجمع من سلم من المعركة مع غيرهم فلقيهم إيلغازي أيضا فهزمهم وفتح منهم حصن الأثارب وزردنا وعاد إلى حلب وقرر أمرها وأصلح حالها ثم عبر الفرات إلى ماردين. ذكر وقعة أخرى مع الفرنج في هذه السنة سار جوسلين صاحب تل باشر في جمع من الفرنج نحو مائتي فارس من طبرية فكبس طائفة من طي يعرفون ببني خالد،
555 فأخذهم، وأخذ غنائمهم وسألهم من طبرية عن بقية قومهم من بني ربيعة فأخبروه أنهم من وراء الحزن بوادي السلالة بين دمشق وطبرية فقدم جوسلين مائة وخمسين فارسا من أصحابه وسار هو في خمسين فارسا على طريق آخر وواعدهم الصبح ليكسبوا بني ربيعة فوصلهم الخبر بذلك فأرادوا الرحيل فمنعهم أميرهم من بني ربيعة وكانوا في مائة وخمسين فارسا فوصلهم المائة وخمسون من الفرنج من الفرنج معتقدين أن جوسلين قد سبقهم أو سيدركهم فأضل الطريق وتساوت العدتان فاقتتلوا وطعنت العرب خيولهم جعلوا أكثرهم رجالة وظهر من أميرهم شجاعة وحسن تدبير وجودة رأي فقتل من الفرنج سبعون وأسر اثنا عشر من مقدميهم بذل كل واحد في فداء نفسه مالا جزيلا وعدة من الأسرى. وأما جوسلين فإنه ضل في الطريق وبلغه خبر الوقعة فسار إلى طرابلس فجمع بها جمعا وأسرى إلى عسقلان فأغار على بلدها فهزمه المسلمون هناك فعاد مفلولا. ذكر قتل منكوبرس في هذه السنة قتل الأمير منكوبرس الذي كان شحنة بغداد وقد تقدم حاله. وكان سبب قتله أنه لما انهزم مع السلطان محمود وعاد إلى بغداد نهب عدة مواضع من طريق خراسان وأراد دخول بغداد فسير إليه دبيس بن صدقة من منعه فعاد وقد استقر الصلح بين السلطانين سنجر ومحمود،
556 فقصد السلطان سنجر فدخل إليه ومعه سيف وكفن فقال له أنا لا أؤاخذ أحدا وسلمه إلى السلطان محمود وقال هذا مملوك فاصنع به ما تريد فأخذه. وكان في نفسه منه غيظ شديد لأسباب منها أنه لما توفي السلطان محمد أخذ سريته والدة الملك مسعود قهرا قبل انقضاء عدتها ومنها جراءته عليه واستبداده بالأمور دونه ومسيره إلى شحنكية بغداد والسلطان كاره لذلك لكنه لم يقدر على منعه ومنها وما فعله بالعراق من الظلم، إلى غير ذلك فقتله صبرا وأراح العباد والبلاد من شره. ذكر قتل الأمير علي بن عمر في هذه السنة أيضا قتل الأمير علي بن عمر حاجب السلطان محمد وكان قد صار أكبر أمير مع السلطان محمود وانقادت العساكر له فحسده الأمراء وأفسدوا حاله مع السلطان محمود وحسنوا له قتله فعلم فهرب إلى قلعة برجين وهي بين بروجرد وكرج وكان بها أهله وماله وسار منها في مائتي فارس إلى خوزستان وكانت بيد أقبوري بن برسق وابني أخويه أرغلي بن يلبكي وهندو بن زنكي فأرسل إليهم وأخذ عهودهم بأمانه وحمايته. فلما سارا إليهم عسكرا منعوه من قصدهم فلقوه على ستة فراسخ من تستتر فاقتتلوا فانهزم هو وأصحابه فوقف به فرسه فانتقل إلى غيره فتشبث ذيله بسرجه الأول فأزاله فعاود التعلق فأبطأ فأدركوه وأسروه وكاتبوا السلطان محمودا في أمره فأمرهم بقتله فقتل وحمل رأسه إليه.
557 ذكر الفتنة بين المرابطين وأهل قرطبة في هذه السنة وقيل سنة أربع عشرة [وخمسمائة]، كانت فتنة بين عسكر أمير المسلمين علي بن يوسف وبين أهل قرطبة. وسببها: أن أمير المسلمين استعمل عليها أبا بكر يحيى بن رواد فلما كان يوم الأضحى خرج الناس متفرجين فمد عبد من عبيد أبي بكر يده إلى امرأة فأمسكها فاستغاثت بالمسلمين فأغاثوها فوقع بين العبيد وأهل البلد فتنة عظيمة ودامت جميع النهار والحرب بينهم قائمة على ساق فأدركهم الليل فتفرقوا فوصل الخبر إلى الأمير أبي بكر فاجتمع إليه الفقهاء والأعيان فقالوا المصلحة أن تقتل واحدا من العبيد الذين أثاروا الفتنة فأنكر ذلك وغضب منه وأصبح من الغد وأظهر السلاح والعدد يريد قتال أهل البلد، فركب الفقهاء والأعيان والشبان من أهل البلد وقاتلوه فهزموه وتحصن بالقصر فحصروه وتسلقوا إليه فهرب منهم بعد مشقة وتعب فنهبوا القصر وأحرقوا جميع دور المرابطين ونهبوا أموالهم وأخرجوهم من البلد على أقبح صورة. واتصل الخبر بأمير المسلمين فكره ذلك واستعظمه وجمع العساكر من صنهاجة وزناتة والبربر وغيرهم فاجتمع له منهم جمع عظيم فعبر إليه سنة خمس عشرة وخمسمائة وحصر مدينة قرطبة فقاتله أهلها قتال من يريد [أن] يحمي دمه وحريمه وماله فلما رأى أمير المسلمين شدة قتالهم دخل السفراء بينهم وسعوا في الصلح فأجابهم إلى ذلك على أن يغرم أهل قرطبة المرابطين ما نهبوه من أموالهم واستقرت القاعدة على ذلك وعاد من قتالهم.
558 ذكر ملك علي بن سكمان البصرة في هذه السنة استولى على البصرة. وسبب ذلك أن السلطان محمدا كان قد أقطع الصرة الأمير آقسنقر البخاري فاستخلف بها نائبا يعرف بسنقر البياتي فأحسن السيرة إلى حد أن الماء بالبصرة ملح فأقام سفنا وجرارا للضعفاء والسابلة تحمل لهم الماء العذب فلما توفي السلطان محمد عزم هذا الأمير سنقر على القبض على أمير اسمه غزغلي مقدم الأتراك الإسماعيلية وهو مذكور، وحج بالناس على البصرة عدة سنين وعلى أمير آخر اسمه سنقر ألب وهو مقدم الأتراك البلدقية فاجتمعا عليه وقبضاه وقيداه وأخذا القلعة وما وجداه له. ثم إن سنقر ألب أراد قتله فمنعه غزغلي فلم يقبل منه فلما قتله وثب غزغلي على سنقر ألب فقتله ونادى في الناس بالسكون واطمأنوا. وكان أمير الحاج من البصرة هذه السنة أمير اسمه علي بن سكمان أحد الأمراء البلدقية، وكان في نفس غزغلي عليه حقد حيث تم الحج على يده ولأنه خاف أن يأخذ بثأر سنقر ألب إذ هو مقدم البلدقية فأرسل غزغلي إلى عرب البرية يأمرهم بقصد الحجاج ونهبهم فطمعوا بذلك وقصدوا الحجاج فقاتلوهم وحماهم ابن سكمان وأبلى بلاء حسنا وجعل يقاتلهم وهو سائر نحو البصرة إلى أن بقي بينه وبين البصرة يومان فأرسل إليه غزغلي يمنعه من قصد البصرة فقصد العوني أسفل دجلة هذا العرب يقاتلونه فلما وصل إلى العوني حمل على العرب حملة صادقة، فهزمهم. وسار غزغلي إلى علي بن سكمان في عدد كثير، وكان علي في قلة،
559 فتحاربا، واقتتلت الطائفتان، فأصابت فرس غزغلي نشابة فسقط وقتل وسار علي إلى البصرة فدخلها وملك القلعة وأقر عمال آقسنقر البخاري ونوابه كاتبه بالطاعة وكان عند السلطان وسأله أن يكون نائبا عنه بالبصرة فلم يجبه آقسنقر إلى ذلك فطرد حينئذ نواب آقسنقر واستولى على البلد وتصرف تصرف الأصحاب مستبدا، واستقر فيه، وأحسن السيرة إلى سنة أربع عشرة [وخمسمائة]، فسير السلطان محمود الأمير آقسنقر البخاري في عسكر إلى البصرة فأخذها من علي بن سكمان. ذكر عدة حوادث في هذه السنة أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهدا الدين بهروز إلى شحنكية العراق وكان بها نائب دبيس بن صدقة فعزل عنها. وفيها في ربيع الأول توفي الوزير ربيب الدولة وزير السلطان محمود ووزر بعده الكمال السميرمي وكان ولد ربيب الدولة وزير المسترشد فعزل بعده عميد الدولة أبو علي بن صدقة ولقب جلال الدين وهذا الوزير وهو عم الوزير جلال الدين أبو الرضا صدقة الذي وزر للراشد والأتابك زنكي على ما نذكره. وفيها ظهر قبر إبراهيم الخليل وقبور ولديه إسحاق ويعقوب عليهم السلام بالقرب من البيت المقدس ورآهم كثير من الناس لم تبل أجسادهم عندهم في المغارة قناديل ذهب وفضة هكذا ذكره حمزة بن أسد التميمي في تاريخه والله أعلم.
560 وفيها في المحرم توفي قاضي القضاة أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني ومولده في رجب سنة تسع وأربعين وأربعمائة وولي القضاء بباب الطاق من بغداد إلى الموصل وله من العمر ست وعشرون سنة وهذا شيء لم يكن لغيره، ولما توفي ولي قضاء القضاة الأكمل أبو القاسم علي بن أبي طالب الحسين بن محمد الزينبي وخلع عليه ثالث صفر. وفيها هدم تاج الخليفة على دجلة للخوف من انهدامه وهذا التاج بناه أمير المؤمنين المكتفي بعد سنة تسعين ومائتين. وفيها تأخر الحج فاستغاث الناس وأرادوا كسر المنبر بجامع القصر فأرسل إلى دبيس من صدقة ليساعد الأمير نظر على تسيير الحجاج فأجاب إلى ذلك، وكان خروجهم من بغداد ثاني عشر ذي القعدة وتوالت عليهم الأمطار إلى الكوفة. وفيها أرسل دبيس بن صدقة القاضي أبا جعفر عبد الواحد بن أحمد الثقفي قاضي الكوفة إلى إيلغازي بن أرتق بماردين يخطب ابنته فزوجها منه إيلغازي وحملها الثقفي معه إلى الحلة واجتاز بالموصل. وفيها في جمادى الأولى توفي أبو الوفا علي بن عقيل بن محمد بن عقيل شيخ الحنابلة في وقته ببغداد وكان حسن المناظرة سريع الخاطر وكان قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته على أبي الوليد فأراد الحنابلة قتله فاستجار بباب المراتب عدة سنين ثم أظهر التوبة حتى تمكن من الظهور وله مصنفات من جملتها كتاب الفنون.
561 514 ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة ذكر عصيان الملك مسعود على أخيه السلطان محمود والحرب بينهما في هذه السنة في ربيع الأول كان المصاف بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود حينئذ له الموصل وأذربيجان. وكان سبب ذلك أن دبيس بن صدقة كان يكاتب جيوش بك أتابك مسعود بحثه على طلب السلطنة للملك مسعود ويعده المساعدة وكان عرضه أن يختلفوا فينال من الجاه وعلو المنزلة ما ناله أبوه باختلاف السلاطين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه على ما ذكرناه. وكان قسيم الدولة البرسقي أتابك الملك مسعود قد فارق شحنكية بغداد وقد أقطعه مسعود مراغة مضافة إلى الرحبة وبينه وبين دبيس عداوة محكمة فكاتب دبيس جيوش بك يشير عليه بقبض البرسقي وينسبه إلى الميل إلى السلطان محمود وبذل له مالا كثيرا على قبضه فعلم البرسقي ذلك ففارقهم إلى السلطان محمود فأكرمه وأعلى محله وزاد في تقديمه. واتصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني الطغرائي بالملك مسعود،
562 فكان ولده أبو المؤيد محمد بن أبي إسماعيل يكتب الطغراء مع الملك فلما وصل والده مسعود بعد أن عزل أبا علي بن عمار صاحب طرابلس سنة ثلاث عشرة [وخمسمائة] باب خوى فحسن ما كان دبيس يكاتب به من مخالفة السلطان محمود والخروج عن طاعته. وظهر ما هم عليه من ذلك فبلغ السلطان محمود الخبر فكتب إليهم يخوفهم إن خالفوه ويعدهم الإحسان إن أقاموا على طاعته وموافقته فلم يصغوا إلى قوله وأظهروا ما كانوا عليه وما سيرونه وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة وضربوا له التوب الخمس وكان ذلك على تفرق من عساكر السلطان محمود فقوي طمعهم وأسرعوا السير إليه ليلقوه وهو مخف من العساكر فاجتمع إليه خمسة عشر ألفا فسار أيضا إليهم فالتقوا عند عقبة أسداباذ منتصف ربيع الأول واقتتلوا من بكرة إلى آخر النهار. وكان البرسقي في مقدمة السلطان محمود وأبلى يومئذ بلاء حسنا فانهزم عسكر الملك مسعود آخر النهار وأسر منهم جماعة كثيرة من أعيانهم ومقدميهم وأسر الأستاذ أبو إسماعيل وزير مسعود فأمر السلطان بقتله وقال قد ثبت عندي فساد دينه واعتقاده فكانت وزارته سنة وشهرا وقد جاوز ستين سنة وكان حسن الكتابة والشعر يميل إلى صنعة الكيمياء وله فيها تصانيف قد ضيعت من الناس أموالا لا تحصى. وأما ملك مسعود فإنه لما انهزم أصحابه وتفرقوا قصد جبلا بينه وبين الوقعة اثني عشر فرسخا فاختفى فيه ومعه غلمان صغار فأرسل ركابيه عثمان إلى أخيه يطلب له الأمان فسار إلى السلطان محمود وأعلمه حال أخيه مسعود،
563 فرق له، وبذل له الأمان وأمر آقسنقر بالمسير إليه وتطبيب قلبه وإعلامه بعفوه وإحضاره فكان مسعود بعد أن أرسل يطلب الأمان قد وصل بعض الأمراء إليه وحسن له اللحاق بالموصل وكانت له ومعها أذربيجان وأشار عليه بمكاتبة دبيس بن صدقة ليجتمع به ويكثر جمعه ويعاود طلب السلطنة فسار معه من مكانه. ووصل البرسقي فلم يره فأخبره بمسيره فسار في أثره وعزم على طلبه ولو إلى الموصل وجد في السير فأدركه على ثلاثين فرسخا من مكانه ذلك وعرفه عفو أخيه وضمن له ما أراد وأعاده إلى العسكر فأمر السلطان محمود العساكر باستقباله وتعظيمه ففعلوا ذلك وأمر السلطان أن ينزل عند والدته وجلس له وأحضره واعتنقا وبكيا وانعطف عليه محمود ووفى له بما بذله وخلطه بنفسه في كل أفعاله فعد ذلك من مكارم محمود، وكانت الخطبة بالسلطنة لمسعود بأذربيجان وبلد الموصل والجزيرة ثمانية وعشرين يوما. وأما أتابكه جيوش بك فإنه سار إلى عقبة أساداباذ وانتظر الملك مسعود فلم يره وانتظره بمكان آخر فلم يصل إليه فلما أيس منه سار إلى الموصل ونزل بظاهرها وجمع الغلات من السواد إليها واجتمع إليه عسكره فلما سمع بما فعله السلطان مع أخيه وأنه عنده علم أنه لا مقام له على هذا الحال فسار كأنه يريد الصيد فوصل إلى الزاب وقال لمن معه إنني عزمت على قصد السلطان محمود وأخاطر بنفسي فسار إليه فوصل وهو بهمذان ودخل إليه فطيب قلبه وأمنه وأحسن إليه. وأما دبيس فإنه كان بالعراق فلما بلغه خبر انهزام الملك مسعود
564 نهب البلاد وأخربها وفعل فيه الأفاعيل القبيحة إلى أن أتاه رسول السلطان محمود وطيب قلبه فلم يلتفت. ذكر حال دبيس وما كان منه لما كان منه ببغداد وسوادها من النهب والقتل والفساد ما لم يجر مثله أرسل إليه الخليفة المسترشد بالله رسالة ينكر عليه ويأمره بالكف فلم يفعل فأرسل إليه السلطان وطيب قلبه وأمره بمنع أصحابه عن الفساد فلم يقبل وسار بنفسه إلى بغداد وضرب سرادقه بإزاء دار الخلافة وأظهر الضغائن التي في نفسه وكيف طيف برأس أبيه وتهدد الخليفة وقال إنك أرسلت تستدعي السلطان فإن أعدتموه وإلا فعلت وصنعت فأعيد جواب رسالته إن عود السلطان وقد سار عن همذان غير ممكن ولكنا نصلح حالك معه. وكان الرسول شيخ الشيوخ إسماعيل فكف على أن تسير الرسل في الاتفاق بينه وبين السلطان وعاد عن بغداد في رجب. ووصل السلطان في رجب إلى بغداد فأرسل دبيس زوجته ابنة عميد الدولة بن جهير إليه ومعها مال كثير وهدية نفيسة وسأل الصفح عنه فأجيب إلى ذلك على قاعدة امتنع منها ولزم لجاجه ونهب جشيرا للسلطان فسار السلطان عن بغداد في شوال إلى قصد دبيس بالحلة واستصحب ألف سفينة ليعبر فيها فلما علم دبيس مسير السلطان أرسل يطلب الأمان فأمنه وكان قصده أن يغالطه ليتجهز فأرسل نساءه إلى البطيحة وأخذ أمواله وسار عن الحلة بعد أن نهبها إلى إيلغازي ملتجئا إليه، ووصل السلطان إلى الحلة فلم ير أحدا فبات بها ليلة واحدة وعاد.
565 وأقام دبيس عند إيلغازي وتردد معه ثم إنه أرسل أخاه منصورا في جيش من قلعة جعبر إلى العراق فنظر الحلة والكوفة وانحدر إلى البصرة وأرسل إلى يرنقش الزكوي يسأله أن يصلح حاله مع السلطان فلم يتم أمره فأرسل إلى أخيه دبيس يعرفه ذلك ويدعوه إلى العراق فسار من قلعة جعبر إلى الحلة سنة خمس عشرة [وخمسمائة]، فدخلها وملكها، وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر ويعد من نفسه الطاعة فلم يجب إلى ذلك. وسيرت إليه العساكر فلما قاربوه فارق الحلة ودخل إلى الأزير وهو نهر سنداد ووصل العسكر إليها وهي فارغة قد أجلى أهلها عنها وليس بها إقامة فكانت الميرة تنقل من بغداد وكان مقدم العسكر سعد الدولة يرنقش الزكوي فترك بالحلة خمسمائة فارس وبالكوفة جماعة أخرى تحفظ الطريق على دبيس وأرسل إلى عسكر واسط يحفظ ففعلوا ذلك وعبر عسكر السلطان إلى دبيس فبقي بين الطائفتين نهر يخاض فيه مواضع فتراسل يرنقش ودبيس واتفقا على أن يرسل دبيس أخاه منصورا رهينة ويلازم الطاعة ففعل وعاد العسكر إلى بغداد سنة ست عشرة [وخمسمائة].
566 ذكر خروج الكرج إلى بلاد الإسلام وملك تفليس في هذه السنة خرج الكرج وهم الخزر إلى بلاد الإسلام وكانوا قديما يغيرون فامتنعوا أيام السلطان ملكشاه إلى آخر أيام السلطان محمد، فلما كان هذه السنة خرجوا ومعهم قفجاق وغيرهم من الأمم المجاورة فتكاتب الأمراء المجاورون لبلادهم واجتمعوا منهم الأمير إيلغازي ودبيس بن صدقة، وكان عنده الملك طغرل بن محمد وأتابكه كنتغدي، وكان لطغرل بلدأران ونقجوان إلى أرس فاجتمعوا وساروا إلى الكرج فلما قاربوا تفليس، وكان المسلمون في عسكر كثير يبلغون [ثلاثين] ألفا، فالتقوا واصطف الطائفتان للقتال فخرج من القفجاق مائتا رجل فظن المسلمون إنهم مستأمنون فلم يحترزوا منهم ودخلوا بينهم ورموا بالنشاب فاضطرب صف المسلمين فظن من بعد أنها هزيمة فانهزموا وتبع بعضهم بعضا منهزمين ولشدة الزحام صدم بعضهم بعضا فقتل منهم عالم عظيم. وتبعهم الكفار عشرة فراسخ يقتلون ويأسرون فقتل أكثرهم وأسروا أربعة آلاف رجل ونجا الملك طغرل ودبيس وعاد الكرج فنهبوا بلاد الإسلام وحصروا مدينة تفليس واشتد قتالهم لمن بها وعظم الأمر وتفاقم الخطب على أهلها ودام الحصار إلى سنة خمس عشر [وخمسمائة] فملكوها عنوة. وكان أهلها لما أشرفوا على الهلاك قد أرسلوا قاضيها وخطيبها إلى الكرج في
567 طلب الأمان فلم تصغ الكرج إليهما فأحرقوا بهما ودخلوا البلد قهرا وغلبة واستباحوه ونهبوه ووصل المستنفرون منهم إلى بغداد مستصرخين ومستنصرين سنة ست عشرة [وخمسمائة]، فبلغهم أن السلطان محمودا بهمذان فقصدوه واستغاثوا به فسار إلى أذربيجان وأقام بمدينة شهر رمضان وأنفذ عسكرا إلى الكرج وسيرد ذكر ما كان منهم إن شاء الله تعالى. ذكر غزوات إيلغازي هذه السنة في هذه السنة أرسل المسترشد بالله خلعا مع سديد الدولة بن الأنباري لنجم الدين إيلغازي وشكره على ما يفعله من غزو الفرنج ويأمره بإبعاد دبيس عنه، وسار أبو علي بن عمار الذي كان صاحب طرابلس مع ابن الأنباري إلى إيلغازي ليقيم عنده يعبر الأوقات بما ينقم به عليه فاعتذر بإبعاد دبيس ووعد به ثم سار إلى الفرنج وكان قد جمع لهم جمعا فالتفوا بموضع اسمه ذات البقل من أعمال حلب فاقتتلوا واشتد القتال وكان الظفر له. ثم اجتمع إيلغازي وأتابك طغتكين صاحب دمشق وحصروا الفرنج في معرفة قنسرين يوما وليلة ثم أشار أتابك طغتكين بالإفراج عنهم كيلا يحملهم الخوف على أن يستقتلوا ويخرجوا إلى المسلمين فربما ظفروا؛
568 وكان أكثر خوفه من دبر خيل التركمان وجودة خيل الفرنج فأفرج لهم إيلغازي فساروا عن مكانهم وتخلصوا وكان إيلغازي لا يطيل المقام في بلد الفرنج لأنه كان يجمع التركمان للطمع فيحضر أحدهم ومعه جراب فيه دقيق وشاة ويعد الساعات لغنيمة يتعجلها ويعود فإذا طال مقامهم تفرقوا ولم يكن له من الأموال ما يفرقها فيهم. ذكر ابتداء أمر محمد بن تومرت وعبد المؤمن وملكهما في هذه السنة كان ابتداء أمر المهدي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت العلوي الحسني وقبيلته من المصامدة تعرف بهرغة في جبل السوس من بلاد المغرب نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير ونذكر أمره وأمر عبده المؤمن هذه السنة إلى أن فرغ من ملك المغرب لنتبع بعض الحادثة بعضا. وكان ابن تومرت قد رحل في شبيبته إلى بلاد الشرق في طلب العلم وكان فقيها فاضلا عالما بالشريعة حافظا للحديث عارفا بأصولي الدين والفقه متحققا بعلم العربية، وكان ورعا ناسكا ووصل في سفره إلى العراق واجتمع بالغزالي والكيا واجتمع بأبي بكر الطرطوشي بالإسكندرية، وقيل أنه جرى له حديث مع الغزالي فيما فعله بالمغرب من التملك فقال له الغزالي إن هذا لا يتمشى في هذه البلاد ولا يمكن وقوعه لأمثالنا. كذا قال بعض مؤرخي المغرب والصحيح أنه لم يجتمع به فحج من هناك
569 وعاد إلى المغرب، ولما ركب البحر من الإسكندرية مغربا غير المنكر في المركب وألزم من به بإقامة الصلاة وقراءة القرآن حتى انتهى إلى المهدية وسلطانها حينئذ يحيى بن تميم سنة خمس وخمسمائة فنزل بمسجد قبلي مسجد السبت وليس له سوى ركوة وعصا وتسامع به أهل البلد فقصدوه يقرأون عليه أنواع العلم وكان إذا مر به منكر وأزاله فلما كثر ذلك منه أحضره الأمير يحيى مع جماعة من الفقهاء فلما رأى سمته وسمع كلامه أكرمه واحترمه وسأله الدعاء. ورحل عن المدينة وأقام بالمنستير مع جماعة من الصالحين مدة وسار إلى بجاية ففعل فيها مثل ذلك فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملالة فلقيه بها عبد المؤمن بن علي فرأى فيه من النجابة والنهضة ما تفرس فيه التقدم والقيام بالأمر فسأله عن اسمه وقبيلته فأخبره أنه من قيس عيلان ثم من بني سليم فقال ابن تومرت هذا الذي بشر به النبي حين قال إن الله ينصر هذا الدين في آخر الزمان برجل من قيس فقيل من أي قيس؟ فقال من بني سليم فاستبشر بعبد المؤمن وسر بلقائه؛ وكان مولد عبد المؤمن في مدينة تاجرة من أعمال تلمسان وهو من عائد قبيل من كومرة نزلوا بذلك الإقليم سنة ثمانين ومائة. ولم يزل المهدي ملازما للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في طريقه إلى أن وصل إلى مراكش دار مملكة أمير المسلمين يوسف بن علي بن تاشفين فرأى فيها من المنكرات أكثر ما عاينه في طريقه فزاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فكثر أتباعه وحسنت ظنون الناس فيه فبينما هو في بعض الأيام في طريقه إذ رأى أخت أمير المسلمين في موكبها ومعها من الجواري
570 الحسان عدة كثيرة، وهن مسفرات وكانت هذه عادة الملثمين يسفر نساؤهم [عن] وجوههن، ويتلثم الرجال فحين رأى النساء كذلك أنكر عليهن وأمرهن بستر وجوههن وضرب هو وأصحابه دوابهن فسقطت أخت أمير المسلمين علي بن يوسف فأحضره وأحضر الفقهاء ليناظروه فأخذ يعظه ويخوفه فبكى أمير المسلمين وأمر أن يناظره الفقهاء فلم يكن فيهم من يقوم له لقوة أدلته الذي فعله. وكان عند أمير المسلمين بعض وزرائه يقال له مالك بن وهيب فقال يا أمير المسلمين إن هذا والله لا يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يريد إثارة فتنة والغلبة على بعض النواحي فاقتله وقلدني دمه فلم يفعل ذلك، فقال: إذ لم تقتله فأحبسه وخلده [في] السجن وإلا أثار شرا لا يمكنه تلاقيه فأراد حبسه فمنعه رجل من أكابر الملثمين يسمى بيان بن عثمان فأمر بإخراجه من مراكش فسار إلى أغمات ولحق بالجبل فسار فيه حتى التحق بالسوس الذي فيه قبيلة هرغة وغيرهم من المصامدة سنة أربع عشرة [وخمسمائة]، فأتوه، واجتمعوا حوله. وتسامع به أهل تلك النواحي فوفدوا عليه وحضر أعيانهم بين يديه، وجعل يعظهم ويذكرهم بأيام الله ويذكر لهم شرائع الإسلام وما غير منها وما حدث من الظلم والفساد وأنه لا يجب طاعة دولة من هذه الدول لاتباعهم الباطل بل الواجب قتالهم ومنعهم عما هم فيه فأقام على ذلك نحو سنة وتابعه هرغة قبيلته وسمى أتباعه الموحدين وأعلمهم أن النبي بشر بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلا وأن مكانه الذي يخرج منه المغرب الأقصى فقام إليه عشرة رجال أحدهم عبد المؤمن فقالوا لا يوجد هذا إلا فيك فأنت المهدي فبايعوه على ذلك.
571 فانتهى خبره إلى أمير المسلمين، فجهز جيشا من أصحابه وسيرهم إليه فلما قربوا من الجبل الذي هو فيه قال لأصحابه إن هؤلاء يريدونني وأخاف عليكم منهم فالرأي أن أخرج بنفسي إلى غير هذه البلاد لتسلموا أنتم فقال له ابن توفيان من مشايخ هرغة هل تخاف شيئا من السماء؟ فقال: لا، بل من السماء تنصرون فقال ابن توفيان فيأتينا كل من في الأرض ووافقه جميع قبيلته فقال المهدي أبشروا بالنصر والظفر بهذه الشرذمة وبعد قليل تستأصلون دولتهم وترثون أرضهم. فنزلوا من الجبل ولقوا جيش أمير المسلمين فهزمهم وأخذوا أسلابهم وقوي ظنهم في صدق المهدي حيث ظفروا كما ذكر لهم. وأقبلت إليه أفواج من الحلل التي حوله شرقا وغربا وبايعوه، وأطاعه قبيلة هنتاتة وهي من أقوى القبائل فأقبل عليهم واطمأن إليهم، وأتاه رسل أهل تين ملل بطاعتهم وطلبوه إليهم فتوجه إلى جبل تين ملل واستوطنه وألف لهم كتابا في التوحيد وكتابا في العقيدة ونهج لهم طريق الأدب بعضهم مع بعض والاقتصار على القصير من الثياب القليل الثمن، وهو يحرضهم على قتال عدوهم وإخراج الأشرار من بين أظهرهم. وأقام بتين ملل وبنى له مسجدا خارج المدينة فكان يصلي فيه الصلوات هو وجمع ممن معه عنده ويدخل البلد بعد العشاء الآخرة فلما رأى كثرة أهل الجبل وحصانة المدينة خاف أن يرجعوا عنه فأمرهم أن يحضروا بغير سلاح، ففعلوا ذلك عدة أيام ثم إنه أمر أصحابه أن يقتلوهم، فخرجوا
572 عليهم وهم غارون فقتلوهم في ذلك المسجد، ثم دخل المدينة فقتل فيها وأكثر وسبى الحريم ونهب الأموال فكان عدة القتلى خمسة عشر ألفا وقسم المساكن والأرض بين أصحابه وبنى على المدينة سورا وقلعة على رأس جبل عال. وفي جبل تين ملل أنهار جارية وأشجار وزروع والطريق إليه صعب فلا جبل أحصن منه، وقيل إنه لما خاف أهل تين ملل نظر فرأى كثيرا من أولادهم شقرا زرقا والذي يغلب على الآباء السمرة وكان لأمير المسلمين عدة كثيرة من المماليك الفرنج والروم يغلب على ألوانهم الشقرة وكانوا يصعدون الجبل في كل عام مرة ويأخذون ما لهم فيه من الأموال المقررة لهم من جهة السلطان فكانوا يسكنون بيوت أهله ويخرجون أصحابها منها فلما رأى المهدي أولادهم سألهم ما لي أراكم سمر الألوان وأرى أولادكم شقرا زرقا فأخبروه خبرهم مع مماليك أمير المسلمين فقبح الصبر على هذا وأزرى عليهم وعظم الأمر عندهم فقالوا له فكيف الحيلة في الخلاص منهم وليس لنا بهم قوة فقال إذا حضروا عندكم في الوقت المعتاد وتفرقوا في مساكنكم فلقم كل رجل منكم إلى نزيله فليقتله واحفظوا جبلكم فإنه لا يرام ولا يقدر عليه فصبروا حتى حضر أولئك العبيد فقتلوهم على ما قرر لهم المهدي فلما فعلوا ذلك خافوا على نفوسهم من أمير المسلمين فامتنعوا في الجبل وسدوا ما فيه من طريق يسلك إليهم فقويت نفس المهدي بذلك. ثم إن أمير المسلمين أسل إليهم جيشا قويا فحصروهم في الجبل وضيقوا عليهم ومنعوا عنهم الميرة فقتلت عند أصحاب المهدي الأقوات،
573 حتى صار الخبز معدوما عندهم وكان يطبخ لهم كل يوم من الحساء ما يكفيهم فكان قوت كل واحد منهم أن يغمس يده في ذلك الحساء ويخرجها فلما علق عليها قنع به ذلك اليوم فاجتمع أعيان أهل تين ملل وأرادوا إصلاح الحال مع أمير المسلمين فبلغ الخبر بذلك المهدي بن تومرت وكان معه إنسان يقال له عبد الله الونشريشي يظهر البله وعدم المعرفة بشيء من القرآن والعلم وبزاقه يجري على صدره وهو كأنه معتوه ومع هذا فالمهدي يقربه ويكرمه ويقول إن لله سرا في هذا الرجل سوف يظهر. وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم يف السر بحيث لا يعلم أحد ذلك منه، فلما كان سنة تسع عشرة [وخمسمائة]، وخاف المهدي من أهل الجبل خرج يوما لصلاة الصبح فرأى إلى جانب محرابه إنسانا حسن الثياب طيب الريح فأظهر أنه لا يعرفه وقال من هذا فقال أنا أبو عبد الله الونشريشي! فقال له المهدي: إن أمرك لعجب! ثم صلى، فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا فقال إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي، فانظروه وحققوا أمره فلما أضاء النهار عرفوه، فقال له المهدي ما قصتك؟ قال إنني أتاني الليلة ملك من السماء فغسل قلبي وعلمني القرآن والموطأ وغيره من العلوم والأحاديث. فبكى المهدي بحضرة الناس ثم قال له نحن نمتحنك فقال افعل. وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أي موضع سئل وكذلك الموطأ وغيره من كتب الفقه والأصول فعجب الناس من ذلك واستعظموه. ثم قال لهم إن الله تعالى قد أعطاني نورا أعرف به أهل الجنة من أهل
574 النار وآمركم أن تقتلوا أهل النار وتتركوا أهل الجنة وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي. فسار المهدي والناس معه وهم يبكون إلى تلك البئر وصلى المهدي عند رأسها وقال يا ملائكة الله إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت فقال من بها صدق وكان قد وضع فيها رجالا يشهدون بذلك فلما قيل ذلك من البئر قال المهدي إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة والمصلحة أن تطم لئلا يقع فيها نجاسة أو ما لا يجوز فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طمها ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان فحضروا للتمييز فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته فيقول هذا من أهل النار فيلقى من الجبل مقتولا وإلى الشاب الغر ومن لا يخشى فيقول هذا من أهل الجنة فيترك على يمينه فكان عدة القتلى سبعين ألفا فلما فرغ من ذلك أمن على نفسه وأصحابه واستقام أمره. هكذا سمعت جماعة من فضلاء المغاربة يذكرون في التمييز وسمعت منهم من يقول إن ابن تومرت لما رأى كثرة أهل الشر والفساد في أهل الجبل أحضر شيوخ القبائل وقال لهم إنكم لا يصح لكم دين ولا يقوى إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإخراج المفسد من بينكم فابحثوا عن كل من عندكم من أهل الشر والفساد فانهوهم عن ذلك فإن انتهوا وإلا فاكتبوا أسماءهم وارفعوها إلي لأنظر في أمرهم. ففعلوا ذلك وكتبوا له أسماءهم من كل قبيلة ثم أمرهم بذلك مرة ثانية وثالثة ثم جمع المكتوبات فأخذ منها ما تكرر من الأسماء فأثبتها عنده ثم جمع الناس قاطبة ورفع الأسماء التي كتبها ودفعها إلى الونشريشي المعروف بالبشير وأمره أن يعرض القبائل ويجعل أولئك المفسدين في جهة الشمال ومن عداهم من جهة اليمين
575 ففعل ذلك، وأمر أن يكتف من على شمال الونشريشي فكتفوا وقال إن هؤلاء أشقياء وقد وجب قتلهم؛ وأمر كل قبيلة أن يقتلوا أشقياءهم فقتلوا عن آخرهم فكان يوم التمييز. ولما فرغ ابن تومرت من التمييز رأى أصحابه الباقين على نيات صادقة وقلوب متفقة على طاعته فجهز منهم جيشا وسيرهم إلى جبال أغمات وبها جمع من المرابطين، فقاتلوهم فانهزم أصحاب ابن تومرت وكان أميرهم أبو عبد الله الونشريشي، وقتل منهم كثير وجرح عمر الهنتاتي وهو أكبر أصحابه وسكن حسن حسه ونبضه، فقالوا مات فقال الونشريشي: أما إنه لم يمت ولا يموت حتى يملك البلاد فبعد ساعة فتح عينيه وعادت قوته إليه فافتتنوا به وعادوا منهزمين إلى ابن تومرت فوعظهم وشكرهم على صبرهم. ثم لم يزل بعدها يرسل السرايا في أطراف بلاد المسلمين فإذا رأوا عسكرا تعلقوا بالجبل فأمنوا. وكان المهدي قد رتب أصحابه مراتب فالأولى يسمون أيت عشرة يعني أهل عشرة وأولهم عبد المؤمن ثم أبو حفص الهنتاتي وغيرهما وهم أشرف أصحابه وأهل الثقة عنده والسابقون إلى متابعته؛ والثانية أيت خمسين يعني أهل خمسين وهم دون تلك الطبقة وهم جماعة من رؤساء القبائل؛ والثالثة أيت سبعين يعني أهل سبعين وهم دون التي قبلها، وسمى عامة أصحابه والداخلين في طاعته موحدين، فإذا ذكر الموحدون في أخبارهم فإنما يعني أصحابه وأصحاب عبد المؤمن بعده. ولم يزل أمر ابن تومرت يعلو إلى سنة أربع وعشرين [وخمسمائة]، فجهز
576 المهدي جيشا كثيفا يبلغون أربعين ألفا، فأكثرهم رجالة وجعل عليهم الونشريشي وسير معهم عبد المؤمن فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها وضيقوا عليها وبها أمير المسلمين علي بن يوسف فبقي الحصار عليها عشرين يوما، فأرسل أمير المسلمين إلى متولي سجلماسة يأمره أن يحضر معه الجيوش، فجمع جيشا كثيرا وسار فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مراكش من غير الجهة التي أقبل منها فاقتتلوا واشتد القتال وكثر القتل وأصحاب المهدي فقتل الونشريشي أميرهم فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميرا عليهم. ولم يزل القتال بينهم عامة النهار وصلى عبد المؤمن صلاة الخوف الظهر والعصر والحرب قائمة ولم تصل بالمغرب قبل ذلك فلما رأى المصامدة كثيرة المرابطين وقوتهم أسندوا ظهورهم إلى بستان يسمى عندهم البحيرة فلهذا قيل وقعة البحيرة وعام البحيرة وصاروا يقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل وقد قتل من المصامدة أكثرهم. وحين قتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن فطلبه المصامدة فم يروه في القتلى فقالوا رفعته الملائكة ولما جنهم الليل سار عبد المؤمن ومن سلم من القتلى إلى الجبل. ذكر وفاة المهدي وولاية عبد المؤمن لما سير الجيش إلى حصار مراكش مرض مرضا شديدا فلما بلغه خبر الهزيمة اشتد مرضه وسأل عن عبد المؤمن فقيل هو سالم؛ فقال ما مات
577 أحد، الأمر قائم وهو الذي يفتح البلاد. ووصى أصحابه باتباعه وتقديمه وتسليم الأمر إليه والانقياد له ولقبه أمير المؤمنين. ثم مات المهدي وكان عمره إحدى وخمسين سنة وقيل خمسا وخمسين سنة ومدة ولايته عشرين سنة وعاد عبد المؤمن إلى تين ملل وأقام بها يتألف القلوب ويحسن إلى الناس، وكان جوادا مقداما في الحروب ثابتا في الهزاهز إلى أن دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة فتجهز وسار في جيش كثير وجعل يمشي مع الجبل إلى أن وصل إلى تادلة فمانعه وقاتلوه فقهرهم وفتحها وسائر البلاد التي تليها ومشى في الجبال يفتح ما امتنع عليه وأطاعه صنهاجة الجبل. وكان أمير المسلمين قد جعل ولي عهده ابنه سير فمات فأحضر أمير المسلمين تاشفين من الأندلس وكان أميرا عليها فلما حضر عنده جعله ولي عهده سنة إحدى وثلاثين [وخمسمائة]، وجعل معه جيشا وصار يمشي في الصحراء قبالة عبد المؤمن في الجبال. وفي سنة اثنتين وثلاثين كان عبد المؤمن في النواظر وهو جبل عال مشرف، وتاشفين في الوطأة، [وكان] يخرج من الطائفتين قوم يتراءون ويتطاردون ولم يكن بينهما لقاء ويسمى عام النواظر. وفي سنة ثلاث وثلاثين توجه عبد المؤمن مع الجبل في الشعراء حتى انتهى إلى جبل كرناطة فنزل في أرض صلبة بين شجر ونزل تاشفين قبالته في الوطأة في أرض لا نبات فيها وكان الفصل شاتيا فتوالت الأمطار أياما كثيرة لا يقلع فصارت الأرض التي فيها تاشفين وأصحابه كثيرة
578 الوحل تسوخ فيها قوائم الخيل إلى صدورها ويعجز الرجل عن المشي فيها وتقطعت الطرق عنها فأوقدوا رماحهم وقرابيس سروجهم وهلكوا جوعا وبردا وسوء حال. وكان عبد المؤمن وأصحابه في أرض خشنة صلبة في الجبل لا يبالون بشيء والميرة متصلة إليهم وفي ذلك الوقت سير عبد المؤمن جيشا إلى وجرة من أعمال تلمسان ومقدمهم أبو عبد الله محمد بن رقو وهو من أيت خمسين، فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى بن فانو متولي تلمسان فخرج في جيش من الملثمين فالتقوا بموضع يعرف بخندق الخمر فهزمهم جيش عبد المؤمن وقتل محمد بن يحيى وكثير من أصحابه وغنموا ما معهم ورجعوا؛ فتوجه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى غمارة فأطاعوا قبيلة بعد قبيلة وأقام عندهم مدة. وما برح يمشي في الجبال وتاشفين يحاذيه في الصحارى فلم يزل عبد المؤمن كذلك إلى سنة خمس وثلاثين، فتوفي أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش وملك بعده ابنه تاشفين فقوي طمع عبد المؤمن في البلاد إلا أنه لم ينزل الصحراء. وفي سنة ثمان وثلاثين توجه عبد المؤمن إلى تلمسان فنازلها وضرب خيامه في جبل بأعلاها ونزل تاشفين على الجانب الآخر من البلد وكان بينهم مناوشة فبقوا كذلك إلى سنة تسع وثلاثين فرحل عبد المؤمن عنها إلى جبل تاجرة ووجه جيشا مع عمر الهنتاتي إلى مدينة وهران فهاجمها بغتة وحصل هو وجيشه فيها، فسمع [بذلك عبد المؤمن] فسار إليها، فخرج منها عمر ونزل تاشفين بظاهر وهران على البحر في شهر رمضان سنة تسع
579 وثلاثين، فجاءت ليلة سبع وعشرين منه وهي ليلة يعظمها أهل المغرب وبظاهر وهران ربوة مطلة على البحر وبأعلاها ثنية يجتمع فيها المتعبدون وهو موضع معظم عندهم فسار إليه تاشفين في نفر يسير من أصحابه متخفيا لم يعلم به إلا النفر الذين معه وقصد التبرك بحضور ذلك الموضع مع أولئك الجماعة الصالحين فبلغ الخبر إلى عمر بن يحيى الهنتاتي فسار لوقته بجميع عسكره إلى ذلك المتعبد وأحاطوا به وملكوا الربوة فلما خاف تاشفين على نفسه أن يأخذوه ركب فرسه وحمل عليه إلى جهة البحر فسقط من جرف عال على الحجارة ورفعت جثته على خشبة وقتل كل من كان معه. وقيل إن تاشفين قصد حصنا هناك على رابية وله فيه بستان كبير فيه كل الثمار فاتفق أن عمر الهنتاتي مقدم عسكر عبد المؤمن سير سرية إلى ذلك الحصن يعلمهم بضعف من فيه ولم يعلموا أن تاشفين فيه فألقوا النار في بابه فاحترق فأراد تاشفين الهرب فركب فرسه فوثب الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور فسقط في النار فأخذ تاشفين فاعترف فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن فمات في الحال لأن رقبته كانت قد اندقت فصلب وقتل كل من معه وتفرق عسكره ولم يعد لهم جماعة وملك بعد أخوه إسحاق بن علي بن يوسف. ولما قتل تاشفين أرسل عمر إلى عبد المؤمن بالخبر فجاء من تاجرة في يومه بجميع عسكره وتفرق عسكر أمير المسلمين واحتمى بعضهم بمدينة وهران، فلما وصل عبد المؤمن دخلها بالسيف وقتل فيها ما لا يحصى ثم سار إلى تلمسان وهما مدينتان شوط فرس أحدهما تاهرت،
580 وبها عسكر المسلمين والآخر أقادير وهي بناء قديم فامتنعت أقادير وغلقت أبوابها وتأهب أهلها للقتال. وأما تاهرت فكان فيها يحيى بن الصحراوية فهرب منها بعسكره إلى مدينة فاس، وجاء عبد المؤمن إليها فدخلها لما فر منها العسكر ولقيه أهلها بالخضوع والاستكانة فلم يقبل منهم ذلك وقتل أكثرهم ودخلها عسكره ورتب أمرها ورحل عنها وجعل على أقادير جيشا يحصرها وسار إلى مدينة فاس سنة أربعين فنزل على جبل مطل عليها وحصرها تسعة أشهر وفيها يحيى بن الصحراوية وعسكره الذي فروا من تلمسان فلما طال مقام عبد المؤمن عمد إلى نهر يدخل البلد فسكره بالأخشاب والتراب وغير ذلك فمنعه من دخول البلد وصار بحيرة تسير فيها السفن ثم هدم السكر فجاء الماء دفعة واحدة فخرب سور البلد وكل ما يجاور النهر من البلد أراد عبد المؤمن أن يدخل البلد فقاتله أهله خارج السور فتعذر عليه ما قدره من دخوله. وكان بفاس عبد الله بن خيار الجياني عاملا عليها وعلى جميع أعمالها فاتفق هو وجماعة من أعيان البلد وكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس فأجابهم إليه فتحوا له بابا من أبوابها فدخله عسكره وهرب يحيى بن الصحراوية وكان فتحها آخر سنة أربعين وخمسمائة وسار إلى
581 طنجة، ورتب عبد المؤمن أمر مدينة فاس وأمر فنودي في أهلها من ترك عنده سلاحا وعدة قتال حل دمه فحمل كل من في البلد ما عندهم من سلاح إليه فأخذه منهم. ثم رجع إلى مكناسة فعل بأهلها مثل ذلك وقتل من بها من الفرسان والأجناد. وأما العسكر الذي كان على تلمسان فأنهم قاتلوا أهلها ونصبوا المجانيق وأبراج الخشب بالدبابات؛ وكان المقدم على أهلها الفقيه عثمان فدام الحصار نحو سنة فلما اشتد الأمر على أهل البلد اجتمع جماعة منهم وراسلوا الموحدين أصحاب عبد المؤمن بغير علم الفقيه وعثمان وأدخلوهم البلد فلم يشعر أهله إلا وسيف يأخذهم فقتل أكثر أهله وسبيت الذرية والحريم ونهب من الأموال ما لا يحصى ومن الجواهر ما لا تحد قيمته ومن لم يقتل بيع بأوكس الأثمان، وكان عدة القتلى مائة ألف قتيل، وقيل إن عبد المؤمن هو الذي حصر تلمسان وسار منها إلى فاس والله أعلم. وسير عبد المؤمن سرية إلى مكناسة فحصروها مدة ثم سلمها إليهم أهلها بالأمان فوفوا لهم. وسار عبد المؤمن من فاس إلى مدينة سلا ففتحها وحضر عنده جماعة من أعيان سبتة فدخلوا في طاعته فأجابهم إلى بذل الأمان وكان ذلك سنة إحدى وأربعين [وخمسمائة].
582 ذكر ملك المؤمن مدينة مراكش لما فرغ عبد المؤمن من فاس وتلك النواحي سار إلى مراكش وهي كرسي مملكة الملثمين وهي من أكبر المدن وأعظمها وكان صاحبها حينئذ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين وهو صبي فنازلها، وكان نزوله عليها سنة إحدى وأربعين [وخمسمائة] فضرب خيامه في غربيها على جبل صغير وبنى عليه مدينة له ولعسكره وبنى بها جامعا وبنى له بناء عاليا يشرف منه على المدينة ويرى أحوال أهلها وأحوال المقاتلين من أصحابه وقاتلها قتالا كثيرا وأقام عليها أحد عشر شهرا فكان من بها من المرابطين يخرجون يقاتلونهم بظاهر البلد واشتد الجوع على أهله وتعذرت الأقوات عندهم. ثم زحف إليهم يوما وجعل لهم كمينا وقال لهم إذا سمعتم صوت الطبل فأخرجوا وجلس هو بأعلى المنظرة التي بناها بشاهد القتال وتقدم عسكره وقاتلوا وصبروا ثم إنهم انهزموا لأهل مراكش ليتبعوهم إلى الكمين الذين لهم فتبعهم الملثمون إلى أن وصلوا إلى مدينة عبد المؤمن فهدموا أكثر سورها وصاحت المصامدة بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبل ليخرج الكمين فقال لهم اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد؛ فلما خرج أكثر أهله أمر بالطبل فضرب وخرج الكمين عليهم ورجع المصامدة المنهزمون إلى الملثمين فقتلوهم كيف شاؤوا وعادت الهزيمة على الملثمين فمات في زحمة الأبواب ما لا يحصيه إلى الله سبحانه.
583 وكان شيوخ الملثمين يدبرون دولة إسحاق بن علي بن يوسف لصغر سنه فاتفق أن إنسانا من جملتهم يقال له عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمنا وأطلعه على عوراتهم وضعفهم فقوي الطمع فيهم واشتد عليهم البلاء ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج وفنيت أقواتهم وأكلوا دوابهم، ومات من العامة بالجوع ما يزيد على مائة ألف إنسان فأنتن البلد من ريح الموتى. وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم فجاؤوا إليهم نجدة فلما طال عليهم الأمر راسلوا عبد المؤمن يسألون الأمان فأجابهم إليه ففتحوا له بابا من أبواب البلد يقال له أغمات فدخلت عساكره وملكوا المدينة عنوة وقتلوا من وجدوا ووصلوا إلى دار أمير المسلمين فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين فقتلوا وجعل إسحاق يرتعد رغبة في البقاء ويدعو لعبد المؤمن ويبكي فقام إليه الأمير سير بن الحاج وكان إلى جانبه مكتوفا فبزق في وجهه وقال تبكي على أبيك وأمك اصبر صبر الرجال فهذا رجل لا يخاف ولا يدين بدين فقام الموحدون إليه بالخشب فضربوه حتى قتلوه وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقدم إسحاق على صغر سنه فضربت عنقه سنة اثنتين وأربعين [وخمسمائة] وهو آخر ملوك المرابطين وبه انقرضت دولتهم وكانت مدة ملكهم سبعين سنة وولي منهم أربعة يوسف وعلي وتاشفين وإسحاق. ولما فتح عبد المؤمن مراكش أقام بها واستوطنها واستقر ملكه ولما قتل عبد المؤمن من أهل مراكش فأكثر فيهم القتل اختفى كثير من أهلها، فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنودي بأمان من بقي من أهلها فخرجوا فأراد أصحابه المصامدة قتلهم وقال هؤلاء صناع وأهل الأسواق
584 من ننتفع به فتركوا وأمر بإخراج القتلى من البلد فأخرجوهم وبنى بالقصر جامعا كبيرا وزخرفه فأحسن عمله وأمر بهدم الجامع الذي بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين. ولقد أساء يوسف بن تاشفين في فعله بالمعتمد بن عباد وارتكب بسجنه على الحالة المذكورة أقبح مركب فلا جرم سلط الله [عليه في] عقابه من أربى في الأخذ عليه وزاد فتبارك الحي الدائم الملك الذي لا يزول ملكه وهذه سنة الدنيا فأف لها ثم أف نسأل الله أن يختم أعمالنا بالحسنى ويجعل خير أيامنا يوم نلقاه بمحمد وآله. ذكر ظفر عبد المؤمن بدكالة في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة سار بعض المرابطين من الملثمين إلى دكالة فاجتمع إليه قبائلها وصاروا يغيرون على أعمال مراكش وعبد المؤمن لا يلتفت إليهم فلما كثر ذلك منهم سار إليهم سنة أربع وأربعين [وخمسمائة] فلما سمعت دكالة بذلك انحشروا كلهم إلى ساحل البحر في مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس وكانوا موصوفين بالشجاعة. وكان مع عبد المؤمن من الجيوش ما يخرج عن الحصر وكان الموضع الذي فيه دكالة كثير الحجر والحزونة فكمنوا فيه كمناء ليخرجوا على عبد المؤمن إذا سلكه فمن الاتفاق الحسن له أنه قصدهم من غير الجهة التي فيها الكمناء فانحل عليهم ما قدروه وفارقوا ذلك الموضع فأخذهم السيف، فدخلوا
585 البحر، فقتل أكثرهم وغنمت إبلهم وأغنامهم وأموالهم وسبي نساؤهم وذراريهم فبيعت الجارية الحسناء بدراهم بصيرة. وعاد عبد المؤمن إلى مراكش مظفرا منصورا وثبت ملكه وخافه الناس في جميع المغرب وأذعنوا له بالطاعة. ذكر حصر مدينة كتندة في هذه السنة يعني سنة أربع عشرة وخمسمائة خرج ملك من ملوك الفرنج بالأندلس يقال له ابن ردمير فسار حتى انتهى إلى كتندة وهي بالقرب من مرسية في شرق الأندلس فحصرها وضيق على أهلها، وكان أمير المسلمين علي بن يوسف حينئذ بقرطبة ومعه جيش كثير من المسلمين والأجناد المتطوعة فسيرهم إلى ابن ردمير فالتقوا واقتتلوا أشد القتال وهزمهم ابن ردمير هزيمة منكرة وكثر القتل في المسلمين وكان فيمن قتل أبو عبد الله بن الفراء قاضي المرية وكان من العلماء العاملين والزهاد في الدنيا العادلين في القضاء. ذكر عدة حوادث في هذه السنة كسر بلك بن أرتق عفراس الرومي وقتل من الروم خمسة آلاف رجل على قلعة سرمان من بلد ايدكان وأسر عفراس وكثير من عسكره.
586 وفيها أغار جوسلين الفرنجي صاحب الرها على جيوش العرب والتركمان وكانوا نازلين بصفين غربي الفرات وغنم من أموالهم وخيلهم ومواشيهم شيئا كثيرا ولما عاد خرب بزاعة. وفيها تسلم أتابك طغتكين صاحب دمشق مدينة تدمير والشقيف. وفيها أمر السلطان محمود الأمير جيوش بك بالمسير إلى حرب أخيه طغرل فسار إليه فسمع طغرل وأتابكه كنتغدي ذلك فسار إلى كنجة من بين يدي العسكر ولم يجر قتال. وفيها في المحرم توفي خالصة الدولة أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب بن السبي صاحب المخزن ببغداد وولي مكانه الكمال أبو الفتوح حمزة بن طلحة المعروف بابن البقشلام والد علم الدين الكاتب المعروف. وفي جمادى الأولى منها توفي أبو سعد عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري الإمام وكان أخذ العلم من قرابته والطريقة أيضا ثم استفاد أيضا من إمام الحرمين أبي المعالي الجويني وسمع الحديث من جماعة ورواه وكان حسين الوعظ سريع الخاطر ولما توفي جلس الناس في البلاد البعيدة للعزاء به حتى في بغداد برباط شيخ الشيوخ.
587 515 ثم دخلت سنة خمس عشرة وخمسمائة ذكر إقطاع البرسقي الموصل في هذه السنة في صفر أقطع السلطان محمود مدينة الموصل وأعمالها وما ينضاف إليها كالجزيرة وسنجار وغيرها الأمير آقسنقر البرسقي. وسبب ذلك أنه كان في خدمة السلطان محمود ناصحا له ملازما له في حروبه كلها، وكان له الأثر الحسن في الحرب المذكورة بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود وهو الذي أحضر الملك مسعود عند أخيه السلطان محمود فعظم ذلك عند السلطان محمود فعظم ذلك عند السلطان محمود لما حضر جيوش بك عند السلطان محمود وبقيت الموصل بغير أمير ولي عليها البرسقي وتقدم إلى سائر الأمراء بطاعته وأمره بمجاهدة الفرنج وأخذ البلاد منهم فسار إليها في عسكر كثير وملكها وأقام يدبر أمورها ويصلح أحوالها. ذكر وفاة الأمير علي وولاية ابنه الحسن إفريقية في هذه السنة توفي الأمير علي بن يحيى بن تميم صاحب أفريقية في العشر الأخير من ربيع الآخر، وكان مولده بالمهدية وقد تقدم من حروبه
588 وأعماله ما يستدل به على علو همته ولما توفي ولي الملك بعده ابنه الحسن بعهد أبيه وقام بأمر دولته صندل الخصي لأنه كان عمره حينئذ اثنتي عشرة سنة لا يستقل بتدبير الملك فقام صندل في الحفظ والاحتياط فلم تطل أيامه حتى توفي فوقع الاختلاف بين أصحابه وقواده كل منهم يقول أنا المقدم على الجميع وبيدي الحل والشد فلم يزالوا كذلك إلى أن فوض أمور دولته إلى قائد من أصحاب أبيه يقال له أبو عزيز موفق فصلحت الأمور. ذكر قتل أمير الجيوش في هذه السنة في الثالث والعشرين من رمضان قتل أمير الجيوش الأفضل بن بدر الجمالي وهو صاحب الأمر والحكم بمصر، وكان ركب إلى خزانة السلام ليفرقه على الأجناد على جاري العادة في الأعياد فسار معه عالم كثير من الرجالة والخيالة فتأذى بالغبار فأمر بالبعد عنه وسار منفردا معه رجلان فصادقه رجلان بسوق الصياقلة فضرباه بالسكاكين فجرحاه وجاء الثالث من ورائه فضربه بسكين في خاصرته فسقط عن دابته ورجع أصحابه فقتلوا الثلاثة وحملوه إلى دار الأفضل فدخل عليه الخليفة وتوجع له وسأله عن الأموال فقال أما الظاهر منها فأبو الحسن بن أسامة الكاتب يعرفه وكان من أهل حلب وتولى أبوه قضاء القاهرة وأما الباطن فابن البطائحي يعرفه؛ فقالا: صدق. فلما توفي الأفضل ثقل من أمواله ما لا يعلمه إلا الله تعالى وبقي الخليفة داره نحو أربعين يوما والكتاب بين يديه والدواب تحمل وتنقل ليلا
589 ونهارا، ووجد له من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة القليلة الوجود ما لا يوجد مثله لغيره واعتقل أولاده وكان عمره سبعا وخمسين سنة وكانت ولايته بعد أبيه ثمانية وعشرين سنة منها آخر أيام المستنصر وجميع أيام المستعلي إلى هذه السنة من أيام الآمر. وكان الإسماعيلية يكرهونه لأسباب منها تضييعه على إمامهم وتركه ما يجب عندهم سلوكه معهم ومنها ترك معارضة أهل السنة في اعتقادهم والنهي عن معارضتهم وإذنه للناس في إظهار معتقداتهم والمناظرة عليها فكثر الغرباء ببلاد مصر. وكان حسن السيرة، عادلا، حكي أنه لما قتل وظهر الظالم بعده اجتمع جماعة واستغاثوا إلى الخليفة وكان من جملة قولهم إنهم لعنوا الأفضل فسألهم عن سبب لعنهم إياه فقالوا إنه عدل وأحسن السيرة ففارقنا بلادنا وأوطاننا وقصدنا بلده لعدله فقد أصابنا بعده هذا الظلم فهو كان سبب ظلمنا فأحسن الخليفة إليهم وأمر بالإحسان إلى الناس. ومنها أن صاحبه الآمر بأحكام الله صاحب مصر وضع منه، وسبب ذلك ما ذكرناه قبل ففسد الأمر بينهما فأراد الآمر أن يضع عليه من يقتله إذا دخل عليه قصره للسلام أو في أيام الأعياد فمنعه من ذلك ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد وهو الذي ولي الأمر بعده بمصر وقال له في هذا الفعل شناعة وسوء سمعة لأنه قد خدم دولتنا هو وأبوه خمسين سنة لم يعلم
590 الناس منهم إلا النصح لنا والمحبة لدولتنا وقد سار ذلك في أقطار البلاد فلا يجوز أن يظهر منا هذه المكافأة ومع هذا فلا بد وأن نقيم غيره مكانه ونعتمد عليه في منصبه متمكن مثله أو ما يقاربه فيخاف أن نفعل فعلنا بهذا فيحذر من الدخول إلينا خوفا على نفسه وإن دخل علينا كان خائفا مستعدا للامتناع وفي هذا الفعل منهم ما يسقط المنزلة والرأي أن تراسل أبا عبد الله بن البطائحي فإنه الغالب على أمر الأفضل والمطلع على سره وتعده أن توليه منصبه وتطلب منه أن يدير الأمر في قتله لمن يقاتله إذا ركب فإذا ظفرنا بمن قتله قتلناه وأظهرنا الطلب بدمه والحزن عليه فنبلغ غرضنا ويزول عنا قبح الأحدوثة. فعلوا ذلك فقتل كما ذكرناه. ولما قتل ولي بعده أبو عبد الله بن البطائحي الأمر ولقب المأمون وتحكم في الدولة فبقي كذلك حاكما في البلاد إلى سنة تسع عشرة [وخمسمائة] فصلب كما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عصيان سليمان بن إيلغازي على أبيه في هذه السنة عصا سليمان بن إيلغازي بن أرتق على أبيه بحلب وقد جاوز عمره عشرين سنة حمله على ذلك جماعة من عنده فسمع والده الخبر فسار مجدا لوقته فلم يشعر به سليمان حتى هجم عليه فخرج إليه معتذرا فأمسك عنه وقبض على من كان أشار عليه بذلك منهم أمير كان قد التقطه أرتق، والد إيلغازي ورباه اسمه ناصر فقلع عينيه وقطع لسانه، ومنهم:
591 إنسان من أهل حماة من بيت قرناص كان قد قدمه إيلغازي على أهل حلب وجعل إليه الرياسة فجازاه بذلك وقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فمات. وأحضر ولده وهو سكران فأراد قتله فمنعه رقة الوالد فاستبقاه فهرب إلى دمشق فأرسل طغتكين يشفع فيه فلم يجبه إلى ذلك واستناب بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار بن أرتق ولقبه بدر الدولة وعاد إلى ماردين. ذكر إقطاع ميافارقين إيلغازي في هذه السنة أقطع السلطان محمود مدينة ميافارقين للأمير إيلغازي. وسبب ذلك أنه أرسل ولده حسام الدين تمرتاش وعمره سبع عشرة سنة إلى السلطان ليشفع في دبيس بن صدقة ويبذل عنه الطاعة وحمل الأموال والخيل وغيرها، وأن يضمن الحلة كل يوم بألف دينار وفرس وكان المتحدث عنه القاضي بهاء الدين أبوا لحسن علي بن القاسم بن الشهرزوري، فتردد الخطاب في ذلك ولم ينفصل حال فلما أراد العود أقطع السلطان إياه مدينة ميافارقين وكانت مع الأمير سكمان صاحب خلاط فتسلمها إيلغازي وبقيت في يده ويد أولاده إلى أن ملكها صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
592 ذكر حصر بلك بن بهرام الرها وأسر صاحبها في هذه السنة سار بلك بن بهرام ولد أخي إيلغازي إلى مدينة الرها فحصرها وبها الفرنج وبقي على حصرها مدة فلم يظفر بها فرحل عنها فجاءه إنسان تركماني وأعلمه أن جوسلين صاحب الرها وسروج قد جمع من عنده من الفرنج وهو عازم على كبسه وكان قد تفرق عن بلك أصحابه وبقي في أربعمائة فارس فوقف مستعدا لقتالهم. وأقبل الفرنج فمن لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج وصلوا إلى أرض قد نضب عنها الماء فصارت وحلا غاصت خيولهم فيه فلم تتمكن مع ثقل السلاح والفرسان من الإسراع والجري فرماهم أصحاب بلك بالنشاب فلم يفلت منهم أحد وأسر جوسلين وجعل يف جلد جمل وخيط عليه وطلب منه أن يسلم الرها فلم يفعل وبذل في فداء نفسه أموالا جزيلة وأسرى كثيرة فلم يجبه إلى ذلك وحمله إلى قلعة خرتبرت فسجنه بها وأسر معه ابن خالته واسمه كليام وكان من شياطين الكفار وأسر أيضا جماعة من فرسانه المشهورين فسجنهم معه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة توفيت جدة السلطان محمود لأبيه وهي والدة السلطان سنجر وكانت تركية تعرف بخاتون السفرية وكان موتها بمرو فجلس
593 محمود ببغداد للعزاء فيها وكان عزاء لم يشاهد مثله الناس. وفيها توفي الخطير محمد بن الحسين الميبذي ببلاد فارس وهو في وزارة الملك سلجوق ابن السلطان محمد وكان قديما وزر للسلطانين بركيارق ومحمد وكان جوادا حليما سمع أن الأبيوردي هجاه فلما سمع الهجو مضه فعض على إبهامه وصفح عنه وخلع عليه ووصله. وفيها توفي الشهاب أبو المحاسن عبد الرزاق عبد الله وزير السلطان سنجر وهو ابن أخي نظام الملك وكان يتفقه قديما على إمام الحرمين الجويني فكان يفتي ويوقع ووزر بعده أبو طاهر سعد بن علي بن عيسى القمي وتوفي بعد شهور فوزر بعده عثمان القمي. وفيها في جمادى الأولى أوقع أتابك طغتكين بطائفة من الفرنج فقتل منهم وأسر وأرسل من الأسرى والغنيمة للسلطان وللخليفة. وفيها تضعضع الركن اليماني من البيت الحرام زاده الله شرفا من زلزلة وانهزم بعضه وتشعث بعض حرم النبي وتشعث غيره من البلاد وكان بالموصل كثير منها. وفيها احترقت دار السلطان كان قد بناها مجاهد الدين بهروز للسلطان محمد ففرغت قبل وفاته بيسير فلما كان الآن احترقت. وسبب الحريق أن جارية كانت تختضب ليلا فأسندت شمعة إلى الخيش فاحترق وعلقت النار منه في الدار واحترق فيها من زوجة السلطان محمود بنت السلطان سنجر ما لأحد عليه من الجواهر والحلي والفرش والثياب وأقيم الغسالون يخلصون الذهب وما أمكن تخليصه وكان الجوهر جميعه قد هلك غلا الياقوت الأحمر.
594 وترك السلطان الدار لم تجدد عمارتها وتطير منها لأن أباه لم يتمتع بها ثم احترق فيها من أموالهم الشيء العظيم، واحترق قبلها بأسبوع جامع أصبهان وهو من أعظم الجوامع وأحسنها أحرقه قوم من الباطنية ليلا وكان السلطان قد عزم على أخذ حق البيع وتجديد المكوس بالعراق بإشارة الوزير السميرمي عليه بذلك فتجدد من هذين الحريقين ما هاله واتعظ فاعرض عنه. وفيها في ربيع الآخر انقض كوكب عشاء وصار له نور عظيم وتفرق منه أعمدة عند انقضاضه وسمع عند ذلك صوت هدة عظيمة كالزلزلة. وفيها ظهر بمكة إنسان علوي وأمر بالمعروف فكثر جمعه ونازع أمير مكة ابن أبي هاشم وقوي أمره وعزم على أن يخطب لنفسه فعاد ابن أبي هاشم وظفر به ونفاه على الحجاز إلى البحرين وكان هذا العلوي من فقهاء النظامية ببغداد. وفيها ألزم السلطان أهل الذمة ببغداد بالغيار، فجرى فيه مراجعات انتهت إلى أن قرر عليهم السلطان عشرون ألف دينار وللخليفة أربعة آلاف دينار. وفيها حضر السلطان محمود وأخوه الملك مسعود عند الخليفة فخلع عليهما وعلى جماعة من أصحاب السلطان منهم وزيره أبو طالب السميرمي وشمس الملك عثمان بن نظام الملك والوزير أو نصر أحمد بن محمد بن حامد المستوفي وعلى غيرهم من الأمراء. وفيها في ذي القعدة وهو الحادي والعشرون من كانون الثاني سقط بالعراق جميعه من البصرة إلى تكريت ثلج كثير وبقي على الأرض خمسة عشر يوما وسمكه ذراع وهلكت أشجار النارنج والأترج والليمون،
595 فقال فيه بعض الشعراء: (يا صدور الزمان ليس بوفر * ما رأيناه في نواحي العراق) (إنما عم ظلمكم سائر الخلق * فشابت ذوائب الآفاق) وفيها هبت بمصر ريح سوداء ثلاثة أيام فأهلكت كثيرا من الناس وغيرهم من الحيوانات. وفيها توفي أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري صاحب المقامات المشهورة وهزارسب بن عوض الهروي وكان قد سمع الحديث كثيرا.
596 516 ثم دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة ذكر طاعة الملك طغرل لأخيه السلطان محمود وفي المحرم من هذه السنة أطاع الملك طغرل أخاه السلطان محمودا وكان قد خرج عن طاعته كما ذكرناه وقصد أذربيجان في السنة الخالية ليتغلب عليها وكان أتابكه كنتغدي يحسن له ذلك يقويه عليه فاتفق أنه مرض وتوفي في شوال سنة خمس عشرة [وخمسمائة]. وكان الأمير آقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة عند السلطان محمود ببغداد فاستأذنه في المضي إلى أقطاعه فأذن له فلما سار عن السلطان ظن أنه يقوم مقام كنتغدي من الملك طغرل فسار إليه واجتمع به وأشار عليه بالمكاشفة لأخيه السلطان محمود وقال له إذا وصلت إلى مراغة اتصل بك عشرة آلاف فارس وراجل فسار معه فلما وصلوا إلى أردبيل أغلقت أبوابها فساروا عنها إلى قريب تبريز فأتاهم الخبر أن السلطان محمود سير الأمير جيوش بك إلى أذربيجان وأقطعه البلاد وأنه نزل مراغة في عسكر كثيف من عند السلطان. فلما تيقنوا ذلك عدلوا إلى خونج وانتقض عليهم ما كانوا فيه، وراسلوا الأمير شيركير الذي كان أتابك طغرل أيام أبيه يدعونه إلى أنجادهم وقد كان كنتغدي قبض عليه بعد موت السلطان محمد على ما ذكرناه ثم أطلقه
597 السلطان سنجر، فعاد إلى أقطاعه، أبهر وزنجان وكاتبوه فأجابهم واتصل به وسار معهم إلى أبهر فلم يتم لهم ما أرادوا فراسلوا السلطان بالطاعة فأجابهم إلى ذلك فاستقرت القاعدة أول هذه السنة وتمت. ذكر حال دبيس بن صدقة وما كان منه قد ذكرنا سنة أربع عشرة [وخمسمائة] حال دبيس بن صدقة وصلحه على يد يرنقش الزكوي ومقامه بالحلة وعود يرنقش إلى السلطان ومعه منصور بن صدقة أخو دبيس وولده رهينة فلما علم الخليفة بذلك لم يرض به وراسل السلطان محمودا في إبعاد دبيس عن العراق إلى بعض النواحي. وتردد الخطاب في ذلك وعزم السلطان على المسير إلى همذان فأعاد الخليفة الشكوى من دبيس وذكر أنه يطالب الناس بحقوقه منها قتل أبيه وأن يحضر السلطان آقسنقر البرسقي من الموصل ويوليه شحنكية بغداد والعراق ويجعله في وجه دبيس ففعل السلطان ذلك وأحضر البرسقي فملا وصل إليه زوجه والدة الملك مسعود وجعله شحنة بغداد وأمره بقتال دبيس إن تعرض إلى البلاد. وسار السلطان عن بغداد في صفر من هذه السنة وكان مقامه ببغداد سنة وسبعة أشهر وخمسة عشر يوما فلما فارق بغداد والعراق تظاهر دبيس بأمور تأثر بها المسترشد بالله وتقدم إلى البرسقي بالمسير إليه وإزعاجه عن الحلة فأرسل البرسقي إلى الموصل وأحضر عساكره وسار إلى الحلة
598 وأقبل دبيس نحوه فالتقوا عند نهر بشير شرقي الفرات واقتتلوا فانهزم عسكر البرسقي. وكان سبب الهزيمة أنه رأى في مسيرته خللا وبها الأمراء البكجية فأمر بإلقاء خيمته عند الميسرة ليقوى قلوب من بها فلما رأوا الخيمة وقد سقطت ظنوها عن هزيمة فانهزموا وتبعهم الناس والبرسقي. وقيل بل أعطى رقعة فيها إن جماعة من الأمراء منهم إسماعيل البكجي يريدون الفتك به فانهزم وتبعه العسكر ودخل بغداد ثاني ربيع الآخر، وكان في جملة العسكر نصر بن النفيس بن مهذب الدولة أحمد بن أبي الجبر وكان ناظر بالبطيحة لريحان محكويه خادم السلطان لأنها كانت من جملة أقطاعه وحضر أيضا المظفر بن حماد بن أبي الجبر وبينهما عداوة شديدة فالتقيا عند الانهزام بساباط نهر ملك فقتله المظفر ومضى إلى واسط محتفيا وسار منها إلى البطيحة وتغلب عليها وكاتب دبيسا وأطاعه. وأما دبيس فإنه لم يعرض لنهر ملك ولا غيره وأرسل إلى الخليفة أنه على الطاعة ولولا ذلك لأخذ البرسقي وجميع من معه وسأل أن يخرج الناظر إلى القرى التي لخاص الخليفة لقبض دخلها. وكانت الوقعة في حزيران وحمى البلد فأحمد الخليفة فعله وترددت الرسل بينهما فاستقرت القاعدة أن يقبض المسترشد بالله على وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة ليعود إلى الطاعة فقبض على الوزير ونهبت داره ودور أصحابه والمنتمين إليه وهرب ابن أخيه جلال الدين أو الرضا إلى الموصل. ولما سمع السلطان خبر الوقعة قبض على منصور بن صدقة أخي دبيس وولده ورفعهما إلى قلعة برحين وهي تجاوز كرج.
599 ثم إن دبيسا أمر جماعة من أصحابه بالمسير إلى أقطاعهم بواسط فساروا إليها، فمنعهم أتراك واسط فجهز دبيس إليهم عسكرا مقدمهم مهلهل بن أبي العسكر وأرسل إلى المظفر بن أبي الجبر بالبطيحة ليتفق مع مهلهل ويساعده على قتال الواسطيين فاتفقا على أن تكون الوقعة تاسع رجب، وأرسل الواسطيون إلى البرسقي يطلبون منه المد فأمدهم بجيش من عنده وعجل مهلهل في عسكر دبيس ولم ينتظر المظفر ظنا منه أنه بمفرده ينال منهم ما أراد وينفرد بالفتح فالتقى هو والواسطيون ثامن رجب فانهزم مهلهل وعسكره وظفر الواسطيون وأخذ مهلهل أسيرا وجماعة من أعيان العسكر وقتل ما يزيد على ألف قتيل ولم يقتل من الواسطيين غير رجل واحد. وأما المظفر بن أبي الجبر فإنه أصعد من البطيحة ونهب وأفسد وجرى من أصحابه القبيح فلما قارب واسطا سمع بالهزيمة فعاد منحدرا. وكان في جملة ما أخذ العسكر الواسطي من مهلهل تذكرة بخط دبيس يأمره فيها بقبض المظفر بن أبي الجبر ومطالبته بأموال كثيرة أخذها من البطيحة فأسلوا الخط إلى المظفر وقالوا هذا خط الذي تختاره وقد أسخطت الله تعالى والخلق كلهم لأجله فمال إليهم وصار معهم، فلما جرى على أصحاب دبيس من الواسطيين ما ذكرنا شمر عن ساعده في الشر وبلغه أن السلطان كحل أخاه فجز شعره ولبس السواد ونهب البلاد وأخذ كل ما للخليفة بنهر مالك فأجلى الناس إلى بغداد. وسار عسكر واسط إلى النعمانية فأجلوا عنها عسكر دبيس واستولوا
600 عليها وجرى بينهم هناك وقعة كان الظفر [فيها] للواسطيين، وتقدم الخليفة إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس فبرز في رمضان وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر قتل السميرمي وفي هذه السنة قتل الوزير الكمال أبو طالب السميرمي وزير السلطان محمود سلخ صفر وكان قد برز مع السلطان ليسير إلى همذان فدخل الحمام وخرج بين يديه الرجالة والخيالة وهو في موكب عظيم بسوق المدرسة التي بناها خمارتكين التتشي واجتاز في منفذ ضيق فيه حظائر الشوك فتقدم أصحابه لضيق الموضع فوثب عليه باطني وضربه بسكين فوقعت في البغلة وهرب إلى دجلة وتبعه الغلمان فخلا الموضع فظهر رجل آخر فضربه بسكين في خاصرته وجذبه عن البغلة إلى الأرض وضربه عدة ضربات. وعاد أصحاب الوزير فحمل عليهم رجلان باطنيان فانهزموا منهما ثم عادوا وقد ذبح الوزير مثل الشاة فحمل قتيلا وبه نيف وثلاثون جراحة وقتل قاتلوه. ولما كان في الحمام كان المنجمون يأخذون له الطالع ليخرج فقالوا هذا وقت جيد وإن تأخرت يفت طالع السعد فأسرع وركب وأراد أن يأكل طعاما فمنعوه لأجل الطالع فقتل ولم ينفعه قولهم. وكان وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر وانتهب ماله وأخذ السلطان
601 خزانته، ووزر بعده شمس الملك بن نظام الملك وكانت زوجة السميرمي قد خرجت هذا اليوم في موكب كبير معها نحو مائة جارية وجمع من الخدم والجميع بمراكب الذهب فلما سمعن بقتله عدن حافيات حاسرات وقد تبدلن بالعز هوانا وبالمسرة أحزانا فسبحان من لا يزول ملكه. وكان السميرمي ظالما كثير المصادرة للناس سئ السيرة فلما قتل أطلق السلطان ما كان جدده من المكوس وما مضعه على النجار والباعة. ذكر القبض على ابن صدقة وزير الخليفة ونيابة علي بن طراد في جمادى الأولى قبض الخليفة على وزيره جلال الدين بن صدقة وقد تقدم ذكره قبل وأقيم نقيب النقباء شرف الدين علي بن طراد الزينبي في نيابة الوزارة فأرسل السلطان إلى المسترشد بالله في معنى وزارة نظام الملك وكان أخا شمس الملك عثمان بن نظام الملك وزير السلطان محمود فأجيب إلى ذلك واستوزر في شعبان. وكان قد وزر لسلطان محمد سنة خمسمائة ثم عزل ولزم دارا استجدها ببغداد إلى الآن فلما خلع على نظام الملك وجلس في الديوان طلب أن يخرج ابن صدقة ذلك طلب من الخليفة أن يسير إلى حديثة عانة ليكون عند الأمير سليمان بن مهارش فأجيب إلى ما طلب. وسار إلى الحديثة فخرج عليه في الطريق إنسان من مفسدي التركمان يقال
602 له يونس الحرامي، فأسره ونهب أصحابه فخاف الوزير أن يعلم دبيس فأرسل إلى يونس وبذل له مالا يأخذه منه للعداوة التي بينهما فقرر أمره مع يونس على ألف دينار يعجل منها ثلاثمائة ويؤخر الباقي إلى أن يرسله من الحديثة. وراسل عامل في بلد الفرات في تخليصه وإنفاذ من يضمن الباقي الذي عليه فأعمل العامل الحيلة في ذلك فأحضر إنسانا فلاحا وألبسه ثيابا فاخرة وطيلسانا وأركبه وسير معه غلمانا وأمره أن يمضي إلى يونس ويدعي أنه قاضي بلد الفرات ويضمن الوزير منه بما بقي من المال فسار السوادي إلى يونس فلما حضر عن الوزير ويونس احترماه وضمن السوادي الوزير منه وقال له أقيم عندك إلى أن يصل المال مع صاحب لك تنفذه مع الوزير فاعتقده يونس صدق ذلك وأطلق الوزير ومعه جماعة من أصحابه فلما وصل الحديثة قبض على من معه منهم فأطلق يونس ذلك السوادي والمال الذي أخذه حتى أطلق الوزير أصحابه وعلم الحيلة التي تمت عليه. ولما سار الوزير من عند يونس لقي أنسانا أنكره فأخذه فرأى معه كتابا من دبيس إلى يونس يبذل ستة آلاف دينار ليسلم الوزير إليه وكان خلاصه من أعجب الأشياء. ذكر قتل جيوش بك في هذه السنة قتل الأمير جيوش بك الذي كان صاحب الموصل وقد ذكرنا خروجه على السلطان محمود وعوده إلى خدمته فلما رضي عنه أقطعه أذربيجان
603 وجعله مقدم عسكره، فجرى بينه وبين جماعة من الأمراء منافرة ومنازعات فأغروا به السلطان فقتله في رمضان على باب تبريز. وكان تركيا من مماليك السلطان محمد عادلا حسن السيرة ولما ولي الموصل والجزيرة كان الأكراد بتلك الأعمال قد انتشروا وكثر فسادهم وكثرت قلاعهم والناس معهم في ضيق والطريق خائفة فقصدهم وحصر قلاعهم وفتح كثيرا منها ببلد الهكارية وبلد الزوزان وبلد البشنوية وخافه الأكراد وولى قصدهم بنفسه فهربوا منه في الجبال والشعاب والمضايق وأمنت الطرق وانتشر الناس واطمأنوا وبقي الأكراد لا يجسرون أن يحملوا السلاح لهيبته. ذكر وفاة إيلغازي وأحوال حلب بعده في هذه السنة في شهر رمضان توفي إيلغازي بن أرتق بميافارقين وملك ابنه حسام الدين تمرتاش قلعة ماردين وملك ابنه سليمان ميافارقين وكان بحلب ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق فبقي بها إلى أن أخذها ابن عمه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة أقطع السلطان محمود الأمير آقسنقر البرسقي مدينة واسط وأعمالها مضافا إلى ولاية الموصل وغيرها مما بيده وشحنكية العراق، فلما أقطعها البرسقي سير إليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر الذي كان والده
604 صاحب حلب وأمره بحمايتها فسار إليها في شعبان ووليها وقد ذكرنا أخبار زنكي في كتاب الباهر في ذكر ملكه وملك أولاده الذين هم ملوكنا الآن فينظر منه. وفيها ظهر معدن نحاس بديار بكر قريبا من قلعة ذي القرنين. وفيها زاد الفرات زيادة عظيمة لم يعهد مثلها فدخل الماء إلى ربض قلعة جعبر وكان الفرات حينئذ بالقرب منها فغرق أكثر دوره ومساكنه وحمل فرسا من الربض وألقاه من فوق السور إلى الفرات. وفيها بنيت مدرسة بحلب لأصحاب الشافعي. وفيها توفيت ابنة السلطان سنجر زوج السلطان محمود. وفيها في شعبان قدم إلى بغداد البرهان أبو الحسن علي بن الحسين الغزنوي وعقد مجلس الوعظ في جميع المواضع وورد بعده أبو القاسم علي بن يعلى العلوي ونزل رباط شيخ الشيوخ فوعظ في جامع القصر والتاجية ورباط سعادة وصار له قبول عند الحنابلة وحصل له مال كثير لأنه أظهر موافقتهم. وورد بعده أبو الفتوح الأسفرايني ونزل برباط شيخ الشيوخ أيضا ووعظ في هذه المواضع وفي النظامية وأظهر مذهب الأشعري فصار له قبول كثير عند الشافعية وحضر مجلسه الخليفة المسترشد بالله وسلم إليه رباط الأرجوانية والدة المقتدي بالله بدرب زاخي. وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن عمر أبو محمد السمرقندي أخو أبي القاسم بن السمرقندي ومولده بدمشق سنة أربع وأربعين وأربعمائة ونشأ ببغداد وسمع الصريفيني وابن النقور وغيرهما وسافر الكثير وكان حافظا
605 للحديث عالما به. وفي ذي الحجة توفي عبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف أبو طالب ومولده سنة ست وثلاثين وأربعمائة وسمع البرمكي والجوهري والعشاري وكان ثقة حافظا للحديث.
606 517 ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة ذكر مسير المسترشد بالله لحرب دبيس في هذه السنة كان الحرب بين الخليفة المسترشد بالله وبين دبيس بن صدقة. وكان سبب ذلك أن دبيسا أطلق عفيفا خادم الخليفة وكان مأسورا عنده وحمله رسالة يفها تهديد للخليفة بإرسال البرسقي إلى قتاله وتقويته بالمال، وأن السلطان كحل أخاه وبالغ في الوعد ولبس السواد وجز شعره وحلف لينهبن بغداد ويخربها فاغتاظ الخليفة لهذه الرسالة وغضب وتقدم إلى البرسقي بالتبريز إلى حرب دبيس فبرز في رمضان سنة ست عشرة [وخمسمائة]. وتجهز وبرز من بغداد، واستدعى العساكر فأتاه سليمان بن مهارش صاحب الحديثة في عقيل وأتاه قرواش بن مسلم وغيرهما. وأرسل دبيس إلى نهر ملك فنهب وعمل أصحابه كل عظيم من الفساد فوصل أهله إلى بغداد فأمر الخليفة فنودي بغداد لا يتخلف من الأجناد أحد ومن أحب الجندية من العامة فليحضر فجاء خلق كثير ففرق الأموال والسلاح.
607 فلما علم دبيس الحال كتب إلى الخليفة يستعطفه ويسأله الرضا عنه فلم يجب إلى ذلك وأخرجت خيام الخليفة في العشرين من ذي الحجة من سنة ست عشرة فنادى أهل بغداد النفير النفير الغزاة الغزاة وكثر الضجيج من الناس وخرج منهم عالم كثير لا يحصون كثرة وبرز الخليفة رابع عشرة ذي الحجة وعبر دجلة وعليه قباء وعمامة سوداء وطرحه وعلى كتفه البردة وفي يده القطيب وفي وسطه منطقة حديد صيني ونزل الخيام ومعه وزير نظام الدين أحمد بن نظام الملك ونقيب الطالبيين ونقيب النقباء علي بن طراد وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل وغيرهم من الأعيان. وكان البرسقي قد نزل بقرية جهار طاق ومعه عسكره فلما بلغهم خروج الخليفة عن بغداد عادوا إلى خدمته، فلما رأوا الشمسة ترجلوا بأجمعهم وقبلوا الأرض بالبعد منه. ودخلت هذه السنة فنزل الخليفة مستهل المحرم بالحديثة بنهر الملك واستدعى البرسقي والأمراء واستحلفهم على المناصحة في الحرب ثم سروا إلى النيل ونزلوا بالمباركة وعبى البرسقي أصحابه ووقف الخليفة من وراء الجميع في خاصته وجعل دبيس أصحابه صفا واحدا ميمنة وميسرة وقلبا وجعل الرجالة بين يدي الخيالة بالسلاح وكان قد وعد أصحابه بنهب بغداد وسبي النساء فلما تراءت الفئتان بادر أصحاب دبيس وبين أيديهم الإماء يضربن بالدفوف والمخانيث بالملاهي ولم ير في عسكر الخليفة غير قارىء ومسبح وداع فقامت الحرب على ساق. وكان مع أعلام الخليفة الأمير كرباوي بن خراسان، وفي المساقة سليمان بن مهارش، وفي ميمنة عسكر البرسقي الأمير أبو بكر بن إلياس مع الأمراء البكجية فحمل عنتر بن أبي العسكر في طائفة من عسكر دبيس على ميمنة
608 البرسقي، فتراجعت في أعقابها، وقتل ابن أخ للأمير أبي بكر البكجي وعاد عنتر وحمل حملة ثانية على هذه الميمنة فكان حالها في الرجوع على أعقابها كحالها الأول فلما رأى عسكر واسط ذلك ومقدمهم الشهيد عماد الدين زنكي بن آقسنقر حمل وهم معه على عنتر ومن معه وأتوهم من ظهورهم فبقى عنتر في الوسط وعماد الدين وعسكر واسط من ورائه والأمراء البكجية بين يديه فأسر عنتر وأسر معه بريك بن زائدة وجميع من معها ولم يفلت أحد. وكان البرسقي واقفا على نشز من الأرض وكان الأمير آق بوري في الكمين في خمسمائة فارس فلما اختلط الناس خرج الكمين على عسكر دبيس فانهزموا جميعهم وألقوا نفوسهم في الماء فغرق كثير منهم وقتل كثير. ولما رأى الخليفة اشتداد الحرب جرد وكبر وتقدم إلى الحرب فلما انهزم عسكر دبيس وحملت الأسرى إلى بين يديه أمر الخليفة أن تضرب أعناقهم صبرا. وكان عسكر دبيس عشرة آلاف فارس واثني عشر ألف راجل وعسكر البرسقي ثمانية آلاف راجل ولم يقتل من أصحاب الخليفة غير عشرين فارسا وحصل نساء دبيس وسراريه تحت الأسرى سوى بنت إيلغازي وبنت عميد الدولة بن جهير فإنه كان تركهما في المشهد. وعاد الخليفة إلى بغداد فدخلها يوم عاشوراء من هذه السنة ولما عاد الخليفة إلى بغداد ثار العامة بها ونهبوا مشهد باب التبن وقلعوا أبوابه فأنكر الخليفة ذلك وأمر نظر أمير الحاج بالركوب إلى المشهد وتأديب من فعل وأخذ ما نهب ففعل وأعاد البعض وخفي الباقي عليه. وأما دبيس بن صدقة فإنه لما انهزم نجا بفرسه وسلاحه وأدركته
609 الخيل، ففاتها وعبر الفرات فرأته امرأة عجوز وقد عبر فقالت له دبير جئت؟ فقال دبير من لم يجئ. واختفى خبره بعد ذلك وأرجف عليه بالقتل ثم ظهر أمره أنه قصد غزية من عرب نجد فطلب منهم أن يحالفوه فامتنعوا عليه وقالوا إنا نسخط الخليفة والسلطان فرحل إلى المنتفق واتفق معهم على قصد البصرة وأخذها فساروا إليها ودخلوها ونهبوا أهلها وقتل الأمير سخت كمان مقدم عسكرها وأجلى أهلها. فأرسل الخليفة إلى البرسقي يعاتبه على إهماله أمر دبيس حتى تم له من أمر البصرة ما أخربها فتجهز البرسقي للانحدار إليه فسمع دبيس ذلك ففارق البصرة وسار على البر إلى قلعة جعبر والتحق بالفرنج وحضر معهم حصار حلب وأطمعهم في أخذها فلم يظفروا بها فعادوا عنها، ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل ابن السلطان محمد فأقام معه وحسن له قصد العراق وسنذكره سنة تسع وعشرين [وخمسمائة]، إن شاء الله تعالى. ذكر ملك الفرنج حصن الأثارب في هذه السنة، في صفر، ملك الفرنج حصن الأثارب من أعمال حلب. وسبب ذلك: أنهم كانوا قد أكثروا قصد حلب وأعمالها بالإغارة والتخريب والتحريق وكان بحلب حينئذ بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق وهو صاحبها ولم يكن له بالفرنج قوة وخافهم فهادنهم على أن يسلم الأثارب ويكفوا عن بلاده فأجابوه إلى ذلك وتسلموا الحصن وتمت الهدنة بينهم واستقام أمر الرعية بأعمال حلب وجلبت إليهم الأقوات وغيرها ولم تزل الأثارب بأيدي الفرنج إلى أن ملكها أتابك زنكي بن آقسنقر على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
610 ذكر ملك بلك حران وحلب في هذه السنة في ربيع الأول ملك بلك بن بهرم مدينة حران وكان يحصرها فلما ملكها سار منها إلى مدينة حلب. وسبب مسيره إليها أنه بلغه أن صاحبها بدر الدولة قد سلم قلعة الأثارب إلى الفرنج فعظم ذلك عليه وعلم عجزه من حفظ بلاده فقوي طمعه في ملكها فسار إليها ونازلها في ربيع الأول وضايقها ومنع الميرة عنها وأحرق زروعها فسلم إليه ابن عمه البلد والقلعة بالأمان غرة جمادى الأولى من السنة وتزوج ابنه الملك رضوان وبقي مالكا لها إلى أن قتل على ما نذكره. ذكر الحرب بين الفرنج والمسلمين بإفريقية قد ذكرنا أن الأمير علي بن يحيى صاحب إفريقية لما استوحش من رجال صاحب صقلية جدد الأسطول الذي له وكثر عدده وعدده وكاتب أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين بمراكش بالاجتماع معه على قصد جزيرة صقلية فلما علم رجار ذلك كف عن بعض ما كان يفعله فاتفق أن عليا مات سنة خمس عشرة [وخمسمائة] وولي ابنه الحسن وقد ذكرناه فلما خلت سنة ست [عشر وخمسمائة] سير أمير المسلمين أسطولا ففتحوا نقوطرة بساحل بلاد قلورية فلم رجار أن عليا
611 كان سبب ذلك، فجد في تعمير الشواني والمراكب وحشد فأكثر منع من السفر إلى أفريقية وغيرها من بلاد الغرب فاجتمع له من ذلك ما لم يعهد مثله قبل كان ثلاثمائة قطعة فلما انقطعت الطريق عن إفريقية توقع الأمير الحسن بن علي خروج العدو إلى المهدية فأمر باتخاذ العدد وتجديد الأسوار وجمع المقاتلة فأتاه من أهل البلاد ومن العرب جمع كثير. فلما كان في جمادى الآخرة سنة سبع عشرة [وخمسمائة] سار الأسطول الفرنجي في ثلاثمائة قطعة فيها ألف فارس وفرس واحد، إلا أنهم لما ساروا من موسى علي فرقتهم الريح وغرق منهم مراكب كثيرة ونازل من سلم منهم جزيرة قوصرة ففتحها وقتل من بها وسبى وغنموا وساروا عنها فوصلوا إلى إفريقية ونازلوا الحصن المعروف بالديماس أواخر جمادى الأولى فقاتلهم طائفة من العرب كانوا هناك والديماس حصن منيع في وسطه حصن آخر وهو مشرف على البحر. وسير الحسن من عنده من الجموع إلى الفرنج وأقام هو بالمهدية في جمع آخر يحفظها وأخذ الفرنج حصن الديماس وجنود المسلمين محيطة بهم فلما كان بعد ليال اشتد القتال على الحصن الداخل فلما كان الليل صاح المسلمون صيحة عزيمة ارتجت لها الأرض وكبروا فوقع الرعب في قلوب الفرنج فلم يشكوا أن المسلمين يهجمون عليهم فبادروا إلى شوانيهم وقتلوا بأيديهم كثيرا من خيولهم وغنم المسلمون منها أربعمائة فرس ولم يسلم معهم غير فرس واحد، وغنم المسلمون جميع ما تخلف عن الفرنج وقتلوا كل من عجز عن الطلوع إلى المراكب. فلما صعد الفرنج إلى مراكبهم أقاموا بها ثمانية أيام لا يقدرون على النزول
612 إلى الأرض، فلما أيسوا من خلاص أصحابهم الذين في الديماس ساروا والمسلمون يكبرون عليهم ويصيحون بهم وأقامت عساكر المسلمين على حصن الديماس في أمم لا يحصون كثرة فحصروه فلم يمكنهم لحصانته وقوته فلما عدم الماء على من به من الفرنج وضجروا من مواصلة القتال ليلا ونهارا ففتحوا باب الحصن وخرجوا فقتلوا عن آخرهم وذلك يوم الأربعاء منتصف جمادى الآخرة من السنة وكانت مدة إقامتهم في الحصن ستة عشر يوما. ولما رجع الفرنج مقهورين أرسل الأمير الحسن البشرى إلى سائر البلاد وقال الشعراء في هذه الحادثة فأكثروا وتركنا ذلك خوف التطويل. ذكر استيلاء الفرنج على خرتبرت وأخذها منهم في هذه السنة في ربيع الأول استولى الفرنج على خرتبرت من بلاد ديار بكر. وسبب ذلك أن بلك بن بهرام بن أرتق كان صاحب خرتبرت فحصر قلعة كركر وهي تقارب خرتبرت فسمع الفرنج بالشام الخبر فسار بغدوين ملم الفرنج في جموعه إليه ليرحله عنها خوفا أين يقوى بملكها فلما سمع بلك بقربه منه رحل إليه والتقيا في صفر واقتتلا فانهزم الفرنج وأسر ملكهم ومعه جماعة من أعيان فرسانهم وسجنهم بقلعة خرتبرت، وكان بالقلعة أيضا جوسلين صاحب الرها وغيره من مقدمي الفرنج كان قد أسرهم سنة خمس عشرة [وخمسمائة]، وسار بلك عن خرتبرت إلى حراز في ربيع الأول فملكها فأعمل الفرنج الحيلة باستمالة بعض الجند فظهروا وملكوا القلعة.
613 فأما الملك بغدوين فإنه اتخذ الليل جملا ومضى إلى بلاده واتصل الخبر ببلك صاحبها فعاد في عساكره إليها وحصرها وضيق على من بالقلعة واستعادها من الفرنج وجعل فيها من الجند من يحفظها وعاد عنها. ذكر قتل وزير السلطان وعود ابن صدقة إلى وزارة الخليفة في هذه السنة قبض السلطان محمود على وزيره شمس الملك عثمان بن نظام الملك وقتله. وسبب ذلك أنه لما أشار على السلطان بالعود عن حرب الكرج وخالفه وكانت الخيرة في مخالفته تغير عليه وذكره أعداؤه عنده بسوء ونبهوا على تهوره وقلة تحصيله ومعرفته بمصالح الدولة فقد رأى السلطان فيه. ثم إن الشهاب أبا المحاسن وزير السلطان سنجر كان قد توفي وهو ابن أخي نظام الملك وزر بعده أبو طاهر القمي وهو عدو للبيت النظامي فسعى مع السلطان سنجر حتى أرسل إلى السلطان محمود يأمره بالقبض على وزيره شمس الملك فصادف وصول الرسول وهو متغير عليه فقبض عليه وسلمه إلى طغايرك فبعثه إلى بلده خلخال فحبسه فيها. ثم إن أبا نصر المستوفي الملقب بالعزيز قال للسلطان محمود لا نأمن أن يرسل السلطان سنجر بطلب الوزير ومتى اتصل به لا نأمن شرا يحدث منه وكان بينهما عداوة فأمر السلطان بقتله فلما دخل عليه السياف ليقتله
614 قال أمهلني حتى أصلي ركعتين فعل فلما صلى جعل يرتعد وقال للسياف سيفي أجود من سيفك فاقتلني به ولا تعذبني فقتل ثاني جمادى الآخرة. فلما سمع الخليفة المسترشد بالله ذلك عزل أخاه نظام الدين أحمد من وزارته وأعاد جلال الدين أبا علي بن صدقة إلى الوزارة وأقام نظام الدين بالمثمنة التي في المدرسة النظامية ببغداد. وأما العزيز المستوي فإنه لم تطل أيامه حتى قتل على ما نذكره جزاء لسعيه في قتل الوزير. ذكر ظفر السلطان محمود بالكرج في هذه السنة اشتدت نكاية الكرج في بلد الإسلام وعظم المر على الناس لا سيما أهل دربند شروان فسار منهم جماعة كثيرة من أعيانهم إلى السلطان وشكوا إليه ما يلقون منهم وأعلموه بما هم عليه من الضعف والعجز عن حفظ بلادهم فسار إليهم والكرج قد وصلوا إلى شماخي فنزل السلطان في بستان هناك وتقدم الكرج إليه فخافهم العسكر خوفا شديدا. وأشار الوزير شمس الملك عثمان بن نظام الملك على السلطان بالعود [من] هناك فلما سمع أهل شروان بذلك قصدوا السلطان وقالوا له نحن نقاتل مهما أتت عندنا وإن تأخرت عنا ضعفت نفوس المسلمين وهلكوا فقبل وقولهم وأقام بمكانه. وبات العسكر على رجل عظيم وهم بينة المصاف فأتاهم الله بفرج من
615 عنده وألقى بين الكرج وقفجاق اختلافا وعداوة فاقتتلوا تلك الليلة ورحلوا شبه المنهزمين: (وكفى الله المؤمنين القتال) وأقام السلطان بشروان مدة ثم عاد إلى همذان فوصلها في جمادى الآخرة. ذكر الحرب بين المغاربة وعسكر مصر في هذه السنة وصل جمع كثير من لواتة من الغرب إلى داير مصر فأفسدوا فيها ونهبوها وعملوا أعمالا شنيعة فجمع المأمون بن البطائحي الذي وزر بمصر بعد الأفضل عسكر مصر وسار إليهم فقاتلهم فهزمهم وأسر منهم وقتل خلقا كثيرا وقرر عليهم خرجا معلوما كل سنة يقومون به وعادوا إلى بلادهم وعاد المأمون إلى مصر مظفرا منصورا. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في صفر أمر المسترشد بالله ببناء سور بغداد وأن يجبي ما يخرج عليه من البلد فشق ذلك على الناس وجمع من ذلك مال كثير فلما علم الخليفة كراهة الناس لذلك أمر بإعادة ما أخذ منهم فسروا بذلك وكثر الدعاء له. وقيل إن الوزير أحمد بن نظام الملك بذل من ماله خمسة عشر ألف دينار وقال نقسط الباقي على أرباب الدولة.
616 وكان أهل بغداد يعملون بأنفسهم فيه وكانوا يتناوبون يعمل بعمل أهل كل محلة منفردين بالطبول والزمور وزينوا البلد وعملوا فيه القباب. وفيها عزل نقيب العلويين وهدمت دار علي بن أفلح وكان الخليفة يكرمه فظهر أنهما عين لدبيس يطالعانه بالأخبار وجعل الخليفة نقابة العلويين إلى علي بن طراد نقيب العباسيين. وفيها جمع الأمير بلك عساكره وسار إلى غزاة بالشام فلقيه الفرنج فاقتتلوا فانهزم وقتل منهم وأسر بشر كثير من مقدميهم ورجالتهم. وفيها كان في أكثر البلاد غلاء شديد وكان أكثره بالعراق فبلغ ثمن كارة الدقيق الخشكار ستة دنانير وعشرة قراريط وتبع ذلك موت كثير وأمراض زائدة هلك فيها كثير من الناس. وفيها في صفر توفي قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسني أمير مكة وولي بعده ابنه أو فليتة وكان أعدل وأحسن سيرة فأسقط المكوس وأحسن إلى الناس. وفيها توفي عبد الله بن الحسن بن أحمد بن الحسن أبو نعيم بن أبي علي الحداد الأصبهاني ومولده سنة ثلاث وستين وأربعمائة وهو من أعيان المحدثين سافر الكثير في طلب الحديث. وفيها سار طغتكين صاحب دمشق إلى حمص فهجم [على] المدينة ونهبها وأحرق كثيرا منها وحصرها وصاحبها فرجان بالقلعة فاستمد صاحبها طغان أرسلان فسار إليه في جمع كثير فعاد طغتكين إلى دمشق. وفيها لقي أسطول مصر أسطول البنادقة من الفرنج فاقتتلوا وكان الظفر للبنادقة وأخذ من أسطول مصر عدة قطع وعاد الباقي سالما.
617 وفيها سار الأمير محمود بن قراجة صاحب حماة إلى حصن أفامية فهجم على الربض بغتة فأصابه سهم من القلعة في يده فاشتد ألمه فعاد إلى حماة وقلع الزنج من يده ثم عملت عليه فمات منه واستراح أهل عمله من ظلمه وجوره؛ فلما سمع طغتكين صاحب دمشق الخبر سير إلى حماة عسكرا فملكها وصارت في جملة بلاده ورتب فيها واليا وعسكرا لحمايتها.
618 518 ثم دخلت سنة ثمان عشرة وخمسمائة ذكر قتل بلك بن بهرام بن أرتق وملك تمرتاش حلب في هذه السنة في صفر قبض بلك بن بهرام بن أرتق صاحب حلب على الأمير حسان البعلبكي صاحب منبج وسار إليها فحصرها فملك المدينة وحصر القلعة فامتنعت عليه فسار الفرنج إليه ليرحلوه عنها لئلا يقوى بأخذها فلما قاربوا ترك على القلعة من يحصرها وسار في باقي عسكره إلى الفرنج فلقيهم وقاتلهم فكسرهم وقتل منهم خلقا كثيرا، وعاد إلى منبج فحصرها فبينما هو يقاتل من بها أتاه سهم فقتله لا يدري من رماه، واضطرب عسكره وتفرقوا وخلص حسان من الحبس فكان حسان الدين تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق مع ابن عمه بلك فحمله مقتولا إلى ظاهر حلب وتسلمها في العشرين من ربيع الأول من هذه السنة وزال الحصار عن قلعة منبج وعاد إليها صاحبها حسان واستقر تمرتاش بحلب واستولى عليها. ثم إنه جعل فيها نائبا له يثق إليه ورتب عنده ما يحتاج إليه من جند وغيرهم وعاد إلى ماردين لأنه رأى الشام كثيرة الحرب مع الفرنج، وكان رجلا يحب الدعة والرفاهة فلما عاد إلى ماردين أخذت حلب منه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
619 ذكر ملك الفرنج مدينة صور بالشام كانت مدينة صور لخلفاء العلويين بمصر ولم تزل كذلك إلى سنة ست وخمسمائة فكان بها وال من جهة الأفضل أمير الجيوش وزير الآمر بأحكام الله العلوي يلقب عز الملك، وكان الفرنج قد حصروها وضيقوا عليها ونهبوا بلدها غير مرة فلما كان سنة ست جهز ملك الفرنج وجمع عساكره ليسير إلى صور فخافهم أهل صور فأرسلوا إلى أتابك طغتكين صاحب دمشق يطلبون منه أن يرسل إليهم أميرا من عنده يتولاهم ويحميهم وتكون البلد له وقالوا له إن أرسلت إلينا واليا وعسكرا وإلا سلمنا البلد إلى الفرنج؛ فسير إليهم عسكرا وجعل عندهم واليا اسمه مسعود وكان شهما شجاعا عارفا بالحرب ومكايدها وأمده بعسكر وسير إليهم ميرة ومالا فرقة فيهم. وطابت نفوس أهل البلد ولم تغير الخطبة للآمر صاحب مصر ولا السكة، وكتب إلى الأفضل بمصر يعرفه صورة الحال ويقول متى وصل إليها من مصر من يتولاها ويذب عنها سلمتها إليه ويطلب أن الأسطول لا ينقطع عنها بالرجال والقوة فشكره الأفضل على ذلك وأثنى عليه وصوب رأيه فيما فعله، وجهز أسطولا وسيره إلى صور فاستقامت أحوال أهلها ولم يزل كذلك إلى سنة ست عشرة بعد قتل الأفضل فسير إليها أسطولا على جاري العادة وأمر المقدم على الأسطول أن يعمل الحيلة على الأمير مسعود الوالي بصور من قبل طغتكين ويقبض عليه ويتسلم البلد منه. كان السبب في ذلك أن أهل صور أكثروا الشكوى منه إلى الآمر بأحكام
620 الله، صاحب مصر، بما يعتمده من مخالفتهم والإضرار بهم فسار الأسطول فأرسى عند صور فخرج مسعود إليه للسلام على المقدم عليه فلما صعد إلى المركب الذي فيه المقدم اعتقله ونزل البلد واستولى عليه وعاد الأسطول إلى مصر وفيه الأمير مسعود فأكرم وأحسن إليه وأعيد إلى دمشق. وأما الوالي من قبل المصريين فإنه طيب قلوب الناس وراسل طغتكين يخدمه بالدعاء والاعتضاد وأن سبب ما فعل هو شكوى أهل صور من مسعود فأحسن طغتكين الجواب وبذل من نفسه المساعدة. ولما سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قوي طمعهم فيها وحدثوا نفوسهم بملكها وشرعوا في الجمع والتأهب للنزول عليها وحصرها فسمع الوالي بها للمصريين الخبر فعلم أنه لا قوة له ولا طاقة على دفع الفرنج عنها لقلة من بها من الجند والميرة فأرسل إلى الآمر بذلك فرأى أن يرد ولاية صور إلى طغتكين صاحب دمشق فأرسل إليه بذلك فملك صور ورتب بها من الجند وغيرهم ما ظن فيه كفاية. وسار الفرنج إليهم ونازلوهم في ربيع الأول من هذه السنة وضيقوا عليهم ولازموا القتال فقلت الأقوات وسئم من بها القتال وضعفت نفوسهم وسار طغتكين إلى بانياس ليقرب منهم ويذب عن البلد ولعل الفرنج إذا رأوا قربه منهم رحلوا فلم يتحركوا ولزموا الحصار فأرسل طغتكين إلى مصر يستنجدهم فلم يجدوه وتمادت الأيام وأشرف على الهلاك فراسل حينئذ صاحب دمشق، وقرر الأمر على أن يسلم المدينة إليهم ويمكنوا من بها من الجند والرعية من الخروج
621 منها بما يقدرون عليه من أموالهم ورحالهم وغيرها فاستقرت القاعدة على ذلك وفتحت أبواب البلد وملكه الفرنج وفارقه أهله وتفرقوا في البلاد وحملوا ما أطاقوا وتركوا ما عجزوا عنه ولم يعرض الفرنج إلى أحد منهم ولم يبق إلا الضعيف عجز عن الحركة. وملك الفرنج البلد في الثالث والعشرين من جمادى الأولى من السنة، وكان فتحه وهنا عظيما على المسلمين فإنه من أحصن البلاد وأمنعها فالله يعيده إلى الإسلام ويقر أعين المسلمين بفتحه وبمحمد وآله. ذكر عزل البرسقي عن شحنكية العراق وولاية يرنقش الزكوي في هذه السنة عزل البرسقي عن شحنكية العراق ووليها سعد الدولة يرنقش الزكوي. وسبب ذلك أن البرسقي نفر عنه المسترشد بالله فأرسل إلى السلطان محمود يلتمس منه أن يعزل البرسقي عن العراق ويعيده إلى الموصل فأجابه السلطان إلى ذلك، وأرسل البرسقي بأمره بالعود إلى الموصل والاشتغال بجهاد الفرنج فلما علم البرسقي الخبر شرع في جباية الأموال ووصل نائب يرنقش فسلم إليه البرسقي الأمر وأرسل السلطان ولدا صغيرا مع أمه إلى البرسقي ليكون عنده فلما وصل الصغير إلى العراق خرجت العساكر والمواكب إلى لقائه وحملت له الإقامات، وكان يوم دخوله يوما مشهودا وتسلمه البرسقي وسار إلى الموصل وهو ووالدته معه. ولما سار البرسقي إلى الموصل كان عماد الدين زنكي بن آقسنقر بالبصرة قد سير البرسقي إليها ليحميها فظهر من حمايته لها ما عجب منه الناس ولم يزل
622 يقصد العرب ويقاتلهم في حللهم حتى أبعدوا إلى البر، فأرسل البرسقي يأمره باللحاق به فقال لأصحابه: قد ضجرنا مما نحن فيه كل يوم للموصل أمير جديد ونريد نخدمه وقد رأيت أن أسير إلى السلطان فأكون معه فأشاروا عليه بذلك سار إليه فقدم عليه بأصبهان فأكرمه وأقطعه البصرة وأعاده إليها. ذكر ملك البرسقي مدينة حلب في هذه السنة في ذي الحجة ملك آقسنقر البرسقي حلب وقلعتها. وسبب ذلك أن الفرنج لما ملكوا مدينة صور على ما ذكرناه طمعوا وقويت نفوسهم وتيقنوا الاستيلاء على بلاد الشام واستكثروا من الجموع ثم وصل إليهم دبيس بن صدقة صاحب الحلة فأطمعهم طمعا ثانيا لا سيما في حلب وقال لهم إن أهلها شيعة وهم يميلون إلي لأجل المذهب فمتى رأوني سلموا البلد إلي وبذل لهم على مساعدته بذولا كثيرة وقال إنني أكون ههنا نائبا ومطيعا لكم فساروا معه إليها وحصروها وقاتلوا قتالا شديدا ووطنوا نفوسهم على المقام الطويل وأنهم لا يفارقونها حتى يملكوها وبنوا البيوت لأجل البرد والحر. فلما رأى أهلها ذلك ضعفت نفوسهم وخافوا الهلاك وظنوا لهم من صاحبهم تمرتاش الوهن والعجز وقلت الأقوات عندهم فلما رأوا ما دفعوا إليه من هذه الأنساب أعملوا الرأي في طريق يتخلصون به فرأوا أنه ليس لهم غير البرسقي صاحب الموصل فأرسلوا إليه يستنجدونه ويسألونه
623 المجيء ليسلموا البلد إليه فجمع عساكره وقصدهم وأرسل إلي من بالبلد وهو في الطريق يقول إنني لا أقدر على الوصول إليكم والفرنج يقاتلونكم إلا إذا سلمتم القلعة إلى نوابي وصار أصحابي فيها لأنني لا أدري ما يقدره الله تعالى إذا أنا لقيت الفرنج فإن انهزمنا منهم وليست حلب بيد أصحابي حتى أحتمي أنا وعسكري بها لم يبق منا أحد وحينئذ تؤخذ حلب وغيرها. فأجابوه إلى ذلك وسلموا القلعة إلى نوابه فلما استقروا فيها واستولوا عليها سار في العساكر التي معه فلما أشرف عليها رحل الفرنج عنها وهو يراهم فأراد من في مقدمة عسكره أن يحمل عليهم فمنعهم هو بنفسه وقال قد كفينا شرهم وحفظنا بلدنا منهم والمصلحة تركهم حتى يتقرر أمر حلب ونصلح حالها ونكثر ذخائرها ثم حينئذ نقصدهم ونقاتلهم فلما رحل الفرنج خرج أهل حلب ولقوه وفرحوا به وأقام عنده حتى أصلح الأمور وقررها. ذكر عدة حوادث في هذه السنة انقطعت الأمطار في العراق والموصل وديار الجزيرة والشام وديار بكر وكثير من البلاد فقلت الأقوات وغلت الأسعار في جميع البلاد ودام إلى سنة تسع عشرة [وخمسمائة]. وفيها وصل منصور بن صدقة أخو دبيس إلى بغداد تحت الاستظهار فمرض بها فأحضر الخليفة الأطباء وأمرهم بمعالجته وأحضره عنده وجعل في حجرة وأدخل أصحابه إليه.
624 وفيها سار دبيس من الشام بعد رحيله عن حلب وقصد الملك طغرل فأغراه بالخليفة وأطمعه في العراق وكان ما نذكره سنة تسع عشرة إن شاء الله تعالى. وفيها مات الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية صاحب الموت وقد تقدم من أخباره ما يعلم به محله من الشجاعة والرأي والتجربة. وفيها أيضا توفي داود ملك الأبخاز وشمس الدولة بن نجم الدين إيلغازي وفيها ثار أهل آمد بمن فيها من الإسماعيلية وكانوا قد كثروا فقتلوا منهم نحو سبعمائة رجل فضعف أمرهم بها بعد هذه الوقعة. وفيها في صفر توفي محمد بن مرزوق بن عبد الرزاق الزعفراني وهو من أصحاب الخطيب البغدادي. وفيها توفي أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح الفقيه المعروف بابن الحمامي لأن أباه كان حماميا وكان حنبليا تفقه على ابن عقيل ثم صار شافعيا وتفقه على الغزالي والشاشي.
625 519 ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة ذكر وصول الملك طغرل ودبيس ابن صدقة إلى العراق وعودهما عنه قد ذكرنا مسير دبيس بن صدقة إلى الملك طغرل من الشام فلما وصل إليه لقيه وأكرمه وأحسن إليه وجعله من أعيان خواصه وأمرائه فحسن إليه دبيس قصد العراق وهون عليه وضمن له أنه يملكه فسار معه إلى العراق فوصلوا دقوقا في عساكر كثيرة فكتب مجاهد الدين بهروز من تكريت يخبر الخليفة خبرهما فتجهز للمسير ومنعهما، وأمر يرنقش الزكوي شحنة العراق أن يكون مستعدا للحرب وجمع العساكر والأمراء البكجية وغيرهم فبلغت عدة العساكر اثني عشر ألفا سوى الرجالة وأهل بغداد وفرق السلاح. وبرز خامس صفر وبين يديه أرباب الدولة رجالة وخرج من باب النصر وكان قد أمر بفتحه تلك الأيام وسماء باب النصر ونزول صحراء الشماسية ونزل يرنقش عند السبتي ثم سار فنزل الخالص تاسع صفر. فلما سمع طغرل بخروج الخليفة عدل إلى طريق خراسان وتفرق أصحابه في النهب والفساد ونزل هو رباط جلولاء فسار إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في عسكر كثير فنزل الدسكرة، وتوجه طغرل ودبيس إلى الهارونية وسارا الخليفة فنزل بالدسكرة هو الوزير واستقر الأمر بين
626 دبيس وطغرل أن يسيرا حتى يعبرا ديالى وتامرا ويقطعا جسر النهروان ويقيم دبيس ليحفظ المعابر ويتقدم طغرل إلى بغداد فيملكها وينهبها فسارا على هذه القاعدة فعبرا تامرا ونزل طغرل بينه وبين ديالى. وسار دبيس على أن يلحقه طغرل فقدر الله تعالى أن الملك طغرل لحقه حمى شديدة ونزل عليهم من المطر ما لم يشاهدوا مثله وزادت المياه وجاءت السيول والخليفة بالدسكرة، وسار دبيس في مائتي فارس وقصد معرة النهروان وهو تعب سهران وقد لقي هو وأصحابه من المطر والبلل ما آذاهم وليس معهم ما يأكلون ظنا منهم أن طغرل وأصحابهم يلحقونهم فتأخروا لما ذكرناه فنزلوا جياعا قد نالهم البرد وإذ قد طلع عليهم ثلاثون جملا تحمل الثياب المخيطة والعمائم والأقبية والقلانس وغيرها من الملبوس وتحمل أيضا أنواع الأطعمة المصنوعة قد حملت من بغداد إلى الخليفة فأخذ دبيس الجميع فلبسوا الثياب الجدد ونزعوا الثياب الندية وأكلوا الطعام وناموا في الشمس مما نالهم تلك الليلة. وبلغ الخبر أهل بغداد فلبسوا السلاح وبقوا يحرسون الليل والنهار، ووصل الخبر إلى الخليفة والعسكر الذين معه أن دبيسا قد ملك بغداد فرحل من الدسكرة ووقعت الهزيمة على العسكر إلى النهروان وتركوا أثقالهم ملقاة بالطريق لا يلتفت إليها أحد ولولا أن الله تعالى لطف بهم بحمى الملك طغرل وتأخره وإلا كان قد هلك العسكر والخليفة أيضا، وأخذوا، وكان السواقي مملوءة بالوحل والماء من السيل فتمزقوا ولو لحقهم مائة فارس لهلكوا. ووصلت رايات الخليفة ودبيس وأصحابه نيام وتقدم الخليفة،
627 وأشرف على ديالى، ودبيس نازل غرب النهروان والجسر ممدود شرق النهروان فلما أبصر دبيس شمسة الخليفة قبل الأرض بين يدي الخليفة وقال أنا العبد المطرود فليعف أمير المؤمنين عن عبده فرق الخليفة له وهم بصلحه حتى وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه، وركب دبيس ووقف بإزاء عسكر يرنقش الزكوي يحادثهم ويتماجن معهم ثم أمر الوزير الرجالة فعبروا ليمدوا الجسر آخر النهار فسار حينئذ دبيس عائدا إلى الملك طغرل وسير الخليفة عسكرا مع الوزير في أثره وعاد إلى بغداد فدخلها وكانت غيبته خمسة وعشرين يوما. ثم إن الملك طغرل ودبيسا عادا وسارا إلى السلطان سنجر فاجتازا بهمذان فقسطا على أهلها مالا كثيرا وأخذوه وغابوا في تلك الأعمال فبلغ خبرهم السلطان محمود فجد السير إليهم فانهزموا من بين يديه وتبعتهم العساكر فدخلوا خراسان إلى السلطان سنجر وشكيا إليه من الخليفة ويرنقش الزكوي. ذكر فتح البرسقي كفر طاب وانهزامه من الفرنج في هذه السنة جمع البرسقي عساكره وسار إلى الشام وقصد كفر طاب وحصرها فملكها من الفرنج وسار إلى قلعة عزاز وهي من أعمال حلب من جهة الشمال وصاحبها جوسلين فحصرها فاجتمعت الفرنج فارسها وراجلها، وقصدوه ليرحلوه عنها فلقيهم وضرب معهم مصافا واقتتلوا قتالا شديدا صبروا كلهم فيه فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر كثير. وكان عدد القتلى أكثر من ألف قتيل من المسلمين وعاد منهزما إلى حلب،
628 فخلف بها ابنه مسعودا وعبر الفرات إلى الموصل ليجمع العساكر ويعاود القتال وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر قتل المأمون بن البطائحي في هذه السنة في رمضان قبض الآمر بأحكام الله العلوي صاحب مصر على وزيره أبي عبد الله البطائحي الملقب بالمأمون وصلبه وإخوته. وكان ابتداء أمره أن أباه كان من جواسيس الفضل بالعراق فمات ولم يخلف شيئا فتزوجت أمه وتركته فقيرا فاتصل بإنسان يتعلم البناء بمصر ثم صار يحمل الأمتعة بالسوق الكبير فدخل مع الحمالين إلى دار الأفضل أمير الجيوش مرة بعد أخرى فرآه الأفضل خفيفا رشيقا حسن الحركة حلو الكلام فأعجبه فسأل عنه فقيل هو ابن فلان فاستخدمه مع الفراشين ثم تقدم عنده وكثرت منزلته وعلت حالته حتى صار وزيرا. وكان كريما واسع الصدر قتالا سفاكا للدماء وكان شديد التحرز كثير التطلع إلى أحوال الناس من العامة والخاصة من سائر بلاد مصر والشام والعراق وكثر الغمازون في أيامه. وأما سبب قتله فإنه كان قد أسل جعفرا أخا الآمر ليقتل الآمر ويجعله خليفة وتقررت القاعدة بينهما على ذلك فسمع الوزير بذلك أبو الحسن بن أبي أسامة وكان خصيصا بالآمر قريبا منه وقد ناله من الوزير أذى واطراح
629 فحضر عند الآمر وأعلمه الحال فقبض عليه وصلبه وهذا جزاء من قابل الإحسان بالإساءة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة توفي شمس الدولة سالم بن مالك صاحب قلعة جعبر وتعرف قديما بقلعة دوس. وفيها قتل القاضي أبو سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي بهمذان قتله الباطنية وكان قد مضى إلى خراسان في رسالة الخليفة إلى السلطان سنجر فعاد فقتل وكان ذا مروءة غزيرة وتقدم كثير في الدولة السلجوقية. وفيه هذه السنة توفي هلال بن عبد الرحمن بن شريح بن عمر بن أحمد وهو من ولد بلال بن رباح مؤذن رسول الله وكنيته أبو سعد طاف البلاد وسمع وقرا القرآن وكان موته بسمرقند.
630 520 ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة ذكر حرب الفرنج والمسلمين بالأندلس في هذه السنة عظم شأن ابن ردمير الفرنجي بالأندلس واستطال على المسلمين فخرج في عساكر كثيرة من الفرنج وجاس في بلاد الإسلام وخاضها حتى وصل إلى قريب قرطبة وأكثر النهب والسبي والقتل فاجتمع المسلمون في جيش عظيم زائد الحد في الكثرة وقصدوه فلم يكن بهم طاقة فتحصن منهم حصن منيع له اسمه أرنيسول فحصره وكبسهم ليلا فانهزم المسلمون وكثر القتل فيهم وعاد إلى بلاده. ذكر قصد بلاد الإسماعيلية بخراسان في هذه السنة أمر الوزير المختصر أبو نصر أحمد بن الفضل وزير السلطان سنجر بغزو الباطنية وقتلهم أين كانوا وحيثما ظفر بهم ونهب أموالهم وسبى حريمهم وجهز جيشا إلى طريثيث وهي لهم وجيشا إلى بيهق من أعمال نيسابور وكان في هذه الأعمال قرية مخصوصة بهم اسمها طرز ومقدمهم بها إنسان اسمه الحسن بن سمين.
631 وسير إلى كل طرف من أعمالهم جميعا من الجند ووصاهم أن يقتلوا من لقوه منهم فقصد كل طائفة إلى الجهة التي سيرت إليها فأما القرية التي بأعمال بيهق فقصدها العسكر فقتلوا كل من بها وهرب مقدمهم وصعد منارة المسجد وألقى نفسه منها فهلك. وكذلك العسكر المنفذ إلى طريثيث قتلوا من أهلها فأكثروا وغنموا من أموالهم وعادوا. ذكر ملك الإسماعيلية قلعة بانياس في هذه السنة عظم أمر الإسماعيلية بالشام وقويت شوكتهم وملكوا بانياس في ذي القعدة منها. وسبب ذلك أن بهرام ابن أخت الأسداباذي لما قتل خاله ببغداد كما ذكرناه هرب إلى الشام وصار داعي الإسماعيلية فيه وكان يتردد ويدعو أوباش الناس وطغامهم إلى مذهبه فاستجاب له منهم من لا عقل له فكثر جمعه إلا أنه يخفي شخصه فلا يعرف وأقام بحلب مدة ونفق على ايلغازي صاحبها. وأراد ايلغازي أن يعتضد به لاتقاء الناس شره وشر أصحابه لأنهم كانوا يقتلون كل من خالفهم وقصد من يتمسك بهم وأشار إيلغازي على طغتكين صاحب دمشق بأن يجعله عنده لهذا السبب فقبل رأيه وأخذه إليه فأظهر حينئذ شخصه وأعلن عداوته فكثر أتباعه من كل من يريد الشر والفساد وأعانه الوزير أبو طاهر بن سعد المرغيناني قصدا للاعتضاد به على ما يريد فعظم شره واستفحل أمره وصار أتباعه أضعافا مما كانوا فلولا
632 أن عامة دمشق يغلب عليهم مذاهب أهل السنة وأنهم يشددون عليه فيما ذهب إليه لملك البلد. ثم إن بهرام رأى من أهل دمشق فظاظة وغلظة عليه فخاف عاديتهم فطلب من طغتكين حصنا يأوي إليه هو ومن اتبعه فأشار الوزير بتسليم قلعة بانياس إليه فسلمت إليه فلما سار إليها اجتمع إليه أصحابه من كل ناحية فعظم حينئذ خطبه وجلت المحنة بظهوره واشتد الحال على الفقهاء والعلماء وأهل الدين لا سيما أهل السنة والستر والسلامة إلا أنهم لا يقدرون على أن ينطقوا بحرف واحد خوفا من سلطانهم أولا ومن شر الإسماعيلية ثانيا فلم يقدم أحد على إنكار هذه الحال فانتظروا بهم الدوائر. ذكر قتل البرسقي وملك ابنه عز الدين مسعود في هذه السنة ثامن ذي القعدة قتل قسيم الدولة آقسنقر البرسقي صاحب الموصل بمدينة الموصل قتله الباطنية يوم جمعة بالجامع وكان يصلي الجمعة مع العامة وكان قد رأى تلك الليلة في منامه أن عدة من الكلاب ثاروا به فقتل بعضها ونال منه الباقي ما أذاه فقص رؤياه عل أصحابه فأشاروا عليه بترك الخروج من داره عدة أيام فقال لا أترك الجمعة لشيء أبدا فغلبوا على رأيه ومنعوه من قصد الجمعة فعزم على ذلك فأخذ المصحف يقرأ فيه فأول ما رأى: (وكان أمر الله قدرا مقدورا) فركب إلى الجامع عل عادته وكان يصلي في الصف الأول فوثب بضعة
633 عشر نفسا عدة الكلاب التي رآها فجرحوه بالسكاكين فجرح هو بيده منهم ثلاثة وقتل رحمه الله. وكان مملوكا تركيا خيرا يحب أهل العلم والصالحين ويرى العدل ويفعله وكان من خير الولاة يحافظ على الصلوات في أوقاتها ويصلي من الليل متهجدا. حكى لي ولوالدي رحمه الله عن بعض من كان يخدمه قال كنت فراشا معه فكان يصلي كل ليلة كثيرا وكان يتوضأ هو بنفسه ولا يستعين بأحد ولقد رأيته في بعض ليالي الشتاء بالموصل وقد قام من فراشه وعليه فرجية صغيرة وبر وبيده إبريق فمشى نحو دجلة ليأخذ ماء فمنعني البرد من القيام ثم إنني خفته فقمت بين يديه لآخذ الإبريق منه فمنعني وقال يا مسكين ارجع إلى مكانك فإنه برد فاجتهدت لآخذ الإبريق فلم يعطني وردني إلى مكاني ثم توضأ وقام يصلي. ولما قتل كان ابنه عز الدين مسعود بحلب يحفظها من الفرنج فأرسل إليه أصحاب أبيه بالخبر فسار إلى الموصل ودخلها أول ذي الحجة وأحسن إلى أصحاب أبيه بها وأقر وزيره المؤيد أبا غالب بن عبد الخالق بن عبد الرزاق على وزارته وأطاعه الأمراء والأجناد، وانحدر إلى خدمة السلطان محمود فأحسن إليه وأعاده ولم يختلف عليه أحد من أهل بلاد أبيه. ووقع البحث عن حال الباطنية والاستقصاء عن أخبارهم فقيل إنهم كانوا يجلسون إلى إسكاف بدرب إيليا فأحضر ووعد الإحسان إن أقر فلم يقر فهدد بالقتل فقال إنهم وردوا من سنين لقتله فلم يتمكنوا منه إلى
634 الآن؛ فقطعت يداه ورجلاه وذكره ورجم بالحجارة فمات. ومن العجب أن صاحب أنطاكية أرسل إلى عز الدين بن البرسقي يخبره بقتل والده قبل أن يصل إليه الخبر وكان قد سمعه الفرنج قبله لشدة عنايته بمعرفة الأحوال الإسلامية. ولما استقر عز الدين في الولاية قبض على الأمير بابكر بن ميكائيل وهو من أكابر الأمراء وطلب منه أن يسلم ابن أخيه قلعة إربل إلى الأمير فضل وأبي علي ابني أبي الهيجاء وكان ابن أخيه قد أخذها منه سنة سبع عشرة [وخمسمائة] فراسل ابن أخيه فسلم إربل إلى المذكورين. ذكر الاختلاف الواقع بين المسترشد بالله والسلطان محمود كان قد جرى بين يرنقش الزكوي شحنة بغداد وبين نواب الخليفة المسترشد بالله نفرة تهدده الخليفة فيها فخافه على نفسه فسار عن بغداد إلى السلطان محمود في رجب من هذه السنة وشكا إليه وحذره جاب الخليفة وأعلمه أنه قد قاد العساكر ولقي الحروب وقويت نفسه ومتى لم تعالجه بقصد العراق ودخول بغداد ازداد قوة وجمعا ومنعك عنه وحينئذ يتعذر عليك ما هو الآن بيده. فتوجه السلطان نحو العراق فأرسل إليه الخليفة يعرفه ما البلاد وأهلها عليه من الضعف والوهن بسبب دبيس وإفساد عسكره فيها وأن الغلاء قد اشتد بالناس لعدم الغلات والأقوات لهرب الأكرة عن بلادهم ويطلب
635 منه أن يتأخر هذه الدفعة إلى أن ينصلح حال البلاد ثم يعود إليها فلا مانع له عنها وبذل له على ذلك مالا كثيرا. فلما سمع السلطان هذه الرسالة قوي عنده ما قرره الزكوي, أبى أن يجيب إلى التأخر وصم العزم وسار إليها مجدا فلما بلغ الخليفة الخبر عبر هو وأهله وحرمه ومن عنده من أولاد الخلفاء إلى الجانب الغربي في ذي القعدة مظهرا للغضب والانتزاح عن بغداد إن قصدها السلطان فلما خرج من داره بكى الناس جميعهم بكاء عظيما لم يشاهد مثله فلما علم السلطان ذلك اشتد عليه وبلغ منه كل مبلغ فأرسل الخليفة ويسأله العود إلى داره فأعاد الجواب أنه لا بد من عودك هذه الدفعة فإن الناس هلكى بشدة الغلاء وخراب البلاد وأنه لا يرى في دينه أمن يزداد ما بهم وهو يشاهدهم فإن عاد السلطان وإلا رحل هو عن العراق لئلا يشاهد ما يلقى الناس بمجيء العساكر. فغضب السلطان لقوله ورحل نحو بغداد وأقام الخليفة بالجانب الغربي فلما حضر عيد الأضحى خطب الناس وصلى بهم فبكى الناس لخطبته وأرسل عفيفا الخادم وهو من خواصه في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن آقسنقر وكان له حينئذ البصرة. وقد فارق البرسقي واتصل بالسلطان فأقطعه البصرة فلما وصل عفيف إلى واسط سار إليه عماد الدين فنزل بالجانب الشرقي وكان عفيف بالجانب الغربي فأرسل إليه عماد الدين يحذره القتال ويأمره بالانتزاح عنها فأبى ولم يفعل فعبر إليه عماد الدين واقتتلوا فانهزم
636 عسكر عفيف وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر مثلهم وتغافل عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما. ثم إن الخليفة جمع السفن جميعها إليه وسد أبواب دار الخلافة سوى باب النوبي وأمر حاجب الباب ابن الصاحب بالمقام فيه لحفظ الدار ولم يبق من حواشي الخليفة بالجانب الشرقي سواه. ووصل السلطان إلى بغداد في العشرين من ذي الحجة ونزل بباب الشماسية ودخل بعض عسكره إلى بغداد ونزلوا في دور الناس ذلك إلى السلطان فأمر بإخراجهم وبقي فيها من له دار وبقي السلطان يراسل الخليفة بالعود ويطلب الصلح وهو يمتنع. وكان يجري بين العسكريين مناوشة والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطان أفحش سب ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة ونهبوا التاج وحجر الخليفة أول المحرم سنة إحدى وعشرين [وخمسمائة]، وضج أهل بغداد من ذلك فاجتمعوا ونادوا الغزاة فأقبلوا من كل ناحية ولما رآهم الخليفة خرج من السرداق والشمسة على رأسه والوزير بين يديه وأمر بضرب الكوسات والبوقات ونادى بأعلى صوته يا لهاشم وأمر بتقديم السفن ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحدة وكان له في الدار ألف رجل مختفين في السراديب فظهروا وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب فأسر منهم جماعة من الأمراء ونهب العامة دار وزير السلطان ودور جماعة من الأمراء ودار عزيز الدين المستوفي ودار الحكيم أوحد الزمان الطبيب وقتل منهم خلق كثير في الدروب. ثم عبر الخليفة إلى الجانب الشرقي ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد وأمر بحفر الخنادق فحفرت بالليل وحفظوا بغداد من عسكر السلطان ووقع الغلاء عند العسكر واشتد الأمر عليهم، وكان القتال كل
637 يوم عليهم عند أبواب البلد وعلى شاطئ دجلة وعزم عسكر الخليفة على أن يكسبوا عسكر السلطان فغدر بهم الأمير أبو الهيجاء الكردي صاحب إربل وخرج كأنه يريد القتال فالتحق هو وعسكره بالسلطان. وكان السلطان قد أرسل إلى عماد الدين بواسط يأمره أن يحضر هو بنفسه ومعه المقاتلة في السفن وعلى الدواب في البر فجمع كل سفينة في البصرة وإلى بغداد وشحنها بالرجال المقاتلة وأكثر من السلاح وأصعد فلما قارب بغداد أمر كل من معه في السفن وفي البر بلبس السلاح وإظهار ما عندهم من الجلد والنهضة فسارت السفن في الماء والعسكر في البر على شاطئ دجلة قد انتشروا وملؤوا الأرض برا وبحرا فرأى الناس منظرا عجيبا كبر في أعينهم وملأ صدورهم، وركب السلطان والعسكر إلى لقائهم فنظروا إلى ما [لم] يروا مثله وعظم عماد الدين في أعينهم وعزم على قتال بغداد حينئذ والجد في ذلك في البر والماء فلما رأى الإمام المسترشد بالله الأمر على هذه الصورة وخروج الأمير أبي الهيجاء من عنده أجاب إلى الصلح وترددت الرسل بينهما فاصطلحا واعتذر السلطان مما جرى وكان حليما يسمع سبه بأذنه فلا يعاقب عليه وعفا عن أهل بغداد جميعهم. وكان أعداء الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداد فلم يفعل وقال لا تساوي الدنيا فعل مثل هذا. وأقام ببغداد إلى رابع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين [وخمسمائة]، وحمل الخليفة من المال إليه كل ما استقرت القاعدة عليه وأهدى له سلاحا وخيلا وغير ذلك فمرض السلطان ببغداد فأشار عليه الأطباء بمفارقتها فرحل إلى همذان فلما وصلها عوفي.
638 ذكر مصاف بين طغتكين أتابك والفرنج بالشام في هذه السنة اجتمعت الفرنج وملوكها وقمامصتها وكنودها وساروا إلى نواحي دمشق فنزلوا بمرج الصفر عند قرية يقال لها سقحبا بالقرب من دمشق فعظم الأمر على المسلمين واشتد خوفهم، وكاتب طغتكين أتابك صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها وجمعهم وكان هو قد سار عن دمشق إلى جهة الفرنج واستخلف ابنه تاج الملوك بوري فكان بها كلما جاءت طائفة أحسن ضيافتهم وسيرهم إلى أبيه فلما اجتمعوا سار بهم طغتكين إلى الفرنج فالتقوا أواخر ذي الحجة واقتتلوا واشتد القتال فسقط طغتكين عن فرسه فظن أصحابه أنه قتل فانهزموا وركب طغتكين فرسه ولحقهم وتبعهم الفرنج وبقي التركمان لم يقدروا أن يلحقوا بالمسلمين في الهزيمة فتخلفوا فلما رأوا فرسان الفرنج قد تبعوا المنهزمين وأن معسكرهم وراجلهم ليس له مانع ولا حام حملوا على الرجالة فقتلوهم ولم يسلم منهم إلا الشريد ونهبوا معسكر الفرنج وخيامهم وأموالهم وجميع ما معهم وفي جملته كنيسة فيها من الذهب والجواهر ما لا يقوم كثرة فنهبوا ذلك جميعه وعادوا إلى دمشق سالمين لم يعدم منهم أحد. ولما رجع الفرنج من أثر المنهزمين ورأوا رجالتهم قتلى وأموالهم منهوبة تموا منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه وكان هذا من الغريب أن طائفتين تنهزمان كل واحدة منهما من صاحبتها.
639 ذكر عدة حوادث في هذه السنة حصر الفرنج رفنية من أرض الشام وهي بيد المسلمين وضيقوا عليها فملكوها. وفيها توفي أبو الفتح أحمد بن محمد بن محمد الغزالي الواعظ وهو أخو الإمام أبي حامد محمد وقد ذمه أبو الفرج بن الجوزي بأشياء كثيرة منها روايته في وعظه الأحاديث التي ليس له بصحيحة والعجب أنه يقدح فيه بهذا وتصانيفه هو ووعظه محشو به مملوء منه نسأل الله أن يعيذنا من الوقيعة في الناس ثم يا ليت شعري أما كان للغزالي حسنة تذكر مع ما ذكر من المساوي التي نسبها إليه لئلا ينسب إلى الهوى والغرض؟
640 521 ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة ذكر ولاية الشهيد أتابك زنكي شحنكية العراق في هذه السنة في ربيع الآخر أسند السلطان محمود شحنكية العراق إلى عماد الدين زنكي بن آقسنقر. وكان سبب ذلك أن عماد الدين لما أصعد من واسط في التجمل والجمع الذي ذكرناه وقام في حفظ واسط البصرة وتلك النواحي القيام الذي عجز غيره عنه عظم في صدر السلطان وصدور أمرائه فلما عزم السلطان على المسير عن بغداد نظر فيمن يصلح أن يلي شحنكية العراق يأمن معه من الخليفة فاعتبر أمراء وأعيان دولته فلم ير فيهم من يقوم في هذا الأمر مقام عماد الدين فاستشار في ذلك فكل أشار به وقالوا لا تقدر على رقع هذا الخرق وإعادة ناموس هذه الولاية ولا تقوى نفس أحد على ركوب هذا الخطر غير عماد الدين زنكي فوافق ما عنده فأسند إليه الولاية وفوضها إليه مضافة إلى ماله من الأقطاع وسار عن بغداد وقد اطمأن قلبه من جهة العراق فكان الأمر كما ظن.
641 ذكر عود السلطان عن بغداد ووزارة أنو شروان بن خالد في هذه السنة ف يعاشر ربيع الآخر سار السلطان محمود عن بغداد بعد تقرير القواعد بها ولما عزم على المسير حمل إليه الخليفة الخلع والدواب الكثيرة فقبل ذلك جميعه وسار. ولما أبعد عن بغداد قبض على وزيره أبي القاسم علي بن القاسم الأنسابادي في رجب لأنه اتهمه بممالاة المسترشد بالله لقيامه في أمره وإتمام الصلح مقاما ظهر أثره فسعى به أعداؤه فلما قبض عليه أرسل السلطان إلى بغداد أحضر شرف الدين أنو شروان بن خالد وكان مقيما بها فلما علم بذلك جاءته الهدايا من كل أحد حتى من الخليفة وسار عن بغداد خامس شعبان فوصل إلى السلطان وهو بأصبهان فخلع عليه خلع الوزارة وبقي فيها نحو عشرة أشهر ثم استعفى منها وعزل نفسه وعاد إلى بغداد في شعبان سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. وأما الوزير أبو القاسم فإنه بقي مقبوضا إلى أن خرج السلطان سنجر إلى الري سنة اثنتين وعشرين فأخرجه من الحبس في ذي الحجة وأعاده إلى السلطان محمود وهي الوزارة الثانية.
642 ذكر وفاة عز الدين بن البرسقي وولاية عماد الدين الموصل وأعمالها في هذه السنة توفي عز الدين مسعود بن البرسقي وهو صاحب الموصل وكان موته بمدينة الرحبة، وسبب مسيره إليها أنه لما استقامت أموره في ولايته وراسل السلطان محمودا وخطب له ولاية ما كان أبوه يتولاه من الموصل وغيرها فأجاب السلطان إلى ما طلب فرتب الأمور وقررها فكثر جنده وكان شجاعا شهما فطمع في التغلب على بلاد الشام فجمع عسكره وسار إلى الشام يريد قصد دمشق فابتدأ بالرحبة فوصل إليها ونازلها وقام يحاصرها فأخذه مرض حاد وهو محاصر لها فتسلم القلعة ومات بعد ساعد فندم من بها على تسليمها إليه. ولما مات بقي مطروحا على بساط لم يدفن وتفرق عنه عسكره ونهب بعضهم بعضا فشغلوا عنه ثم دفن بعد ذلك وقام بعده أخ له صغير واستولى على البلاد مملوك للبرسقي يعرف بالجاولي ودبر أمر الصبي وأرسل إلى السلطان يطلب أن يقرر البلاد على ولد البرسقي وبذل الأموال الكثيرة على ذلك. وكان الرسول في هذا الأمر القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي بن القاسم الشهرزوري وصلاح الدين محمد أمير حاجب البرسقي فحضرا دركا السلطان ليخاطبا في ذلك وكانا يخافان جاولي ولا يرضيان بطاعته والتصرف بما يحكم به فاجتمع صلاح الدين ونصير الدين جقر الذي صار نائبا عن أتابك عماد الدين بالموصل وكان بينهما مصاهرة وذكر له صلاح الدين ما
643 ورد فيه وأفشى إليه سره فخوفه نصير الدين من جاولي وقبح طاعته وقرر في نفسه أنه إنما أبقاه لحاجته إليهم ومتى أجيب إلى مطلوبه لا يبقي على أحد منهم. وتحدث معه في المخاطبة في ولاية عماد الدين زنكي وضمن له الولايات والأقطاع الكثيرة وكذلك للقاضي بهاء الدين الشهرزوري فأجابه إلى ذلك وأحضره معه عند القاضي بهاء الدين وخاطباه في هذا الأمر وضمنا له كل ما أراده فوافقهما على ما طلبا وركب هو وصلاح الدين إلى دار الوزير وهو حينئذ شرف الدين أنو شروان بن خالد وقالا له قد علمت أنت والسلطان أن ديار الجزيرة والشام قد تمكن الفرنج منها وقويت شوكتهم بها فاستولوا علة أكثرها وقد أصبحت ولايتهم من حدود ماردين إلى عريش مصر ما عدا البلاد الباقية بيد المسلمين وقد كان البرسقي مع شجعته وتجربته وانقياد العساكر إليه يكف بعض عاديتهم وشرهم فمذ قتل ازداد طمعهم وهذا ولده طفل صغير ولا بد من رجل شهم شجاع ذي رأي وتجربة يذب عنها ويحفظها ويحمي حوزتها وقد أنهينا الحال لئلا يجري خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين فيختص اللوم بنا ويقال لم لا أنهيتم إلينا جلية الحال؟ فرفع الوزير قولهما إلى السلطان فاستحسنه وشكرهما عليه وأحضرهما واستشارهما فيمن يصلح للولاية فذكرا جماعة منهم عماد الدين زنكي،
644 وبذلا عنه تقربا إلى خزانة السلطان مالا جليلا فأجاب السلطان إلى توليته لما يعلمه من كفايته لما يليه فأحضروه وولاه البلاد كلها وكتب منشوره بها. وسار فبدأ بالبوازيج ليملكها ويتقوى بها ويجعلها ظهره لأنه خاف من جاولي أنه ربما صده عن البلاد فلما دخل البوازيج سار عنها إلى الموصل. فلما سمع جاولي بقربه من البلد خرج إلى تلقيه ومعه جميع العسكر فلما رآه جاولي نزل عن فرسه وقبل الأرض بين يديه وعاد في خدمته إلى الموصل فدخلها في رمضان، وأقطع جاولي الرحبة وسيره إليها وأقام بالموصل يصلح أمورها ويقرر قواعدها فولى نصير الدين دزدارية القلعة وجعل إليه سائر دزدارية القلاع وجعل صلاح الدين أميرا حاجبا وبهاء الدين قاضي قضاة بلاده جميعها وزاده أملاكا وأقطاعا واحتراما، وكان لا يصدر إلا عن رأيه. فلما فرغ من أمر الموصل سار عنها إلى جزيرة ابن عمر وبها مماليك البرسقي فامتنعوا عليه فحصرهم وراسلهم وبذل لهم البذول الكثيرة إن سلموا فلم يجيبوه إلى ذلك فجد في قتالهم وبينه وبين البلد دجلة فأمر الناس فألقوا أنفسهم في الماء ليعبروه إلى البلد ففعلوا وعبر بعضهم سباحة وبعضهم في السفن وبعضهم في الأكلاك وتكاثروا على أهل الجزيرة وكانوا قد خرجوا عن البلد إلى أرض بين الجزيرة ودجلة تعرف بالزلاقة ليمنعوا من يريد عبور دجلة، فلما عبر العسكر إليهم قاتلوهم ومانعوهم فتكاثر عسكر عماد الدين عليهم فانهزم أهل البلد ودخلوه وتحصنوا بأسواره واستولى عماد الدين على الزلاقة فلما رأى من بالبلد ذلك ضعفوا ووهنوا وأيقنوا أن البلد يملك سلما أو عنوة فأرسلوا يطلبون الأمان فأجابهم إلى
645 ذلك، وكان هو أيضا مع عسكره بالزلاقة فسلموا البلد إليه فدخله هو وعسكره. ثم إن دجلة زادت تلك الليلة زيادة عظيمة لحقت سور البلد وصارت الزلاقة ماء فلو أقام ذلك اليوم لغرق هو وعسكره ولم ينج منهم أحد فلما رأى الناس ذلك أيقنوا أن أمرا هذا بدايته لعظيم. ثم سار عن الجزيرة إلى نصيبين وكانت لحسام الدين تمرتاش صاحب ماردين فلما نازلها سار حسان الدين إلى ابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان بن أرتق وهو صاحب حصن كيفا وغيرها فاستنجده على أتابك زنكي فوعده النجدة بنفسه وجمع عسكره وعاد تمرتاش إلى ماردين وأرسل رقاعا على أجنحة الطيور إلى نصيبين يعرف من بها من العسكر أنه وابن عمه سائران في العسكر الكثير إليهم وإزاحة عماد الدين عنهم ويأمرهم بحفظ البلد خمسة أيام. فبينما أتابك في خيمته إذ سقط طائر على خيمة تقابله فأمر به فصيد فرأى فيه رقعة فقرأها وعرف ما فيها فأمر أن يكتب غيرها يقول فيها إنني قصدت ابن عمي ركن الدولة وعدني النصرة وجمع العساكر وما يتأخر عن الوصول أكثر من عشرين يوما ويأمرهم بحفظ البلد هذه المدة إلى أن يصلوا وجعلها في الطائر وأرسله فدخل نصيبين فلما وقف من بها على الرقعة سقط في أيديهم وعلموا أنهم لا يقدرون أن يحفظوا البلد هذه المدة فأرسلوا إلى الشهيد وصالحوه وسلموا البلد إليه فبطل على تمرتاش وداود وما كانا عزما عليه وهذا غريب ما يسمع. فلما ملك نصيبين سار عنها إلى سنجار فامتنع من بها عليه ثم صالحوه
646 وسلموا البلد إليه وسير منها الشحن إلى الخابور فملكه جميعه ثم سار إلى حران وهي للمسلمين وكانت الرها وسروج والبيرة وتلك النواحي جميعها للفرنج وأهل حران معهم في ضر عظيم وضيق شديد لخلو البلاد من حام يدب عنها وسلطان يمنعها فلما قارب حران خرج أهل البلد وأطاعوه وسلموا إليه ملكها أرسل إلى جوسلين صاحب الرها وتلك البلاد وراسله وهادنه مدة يسيرة وكان رضه أن يتفرغ لإصلاح البلاد وجند الأجناد وكان أهم الأمور إليه أن يعبر الفرات إلى الشام ويملك مدينة حلب وغيرها من البلاد الشامية فاستقر الصلح ببينهم وأمن الناس، ونحن نذكر ملك حلب إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادث في هذه السنة قتل معين الملك أبو نصر أحمد بن الفضل وزير السلطان سنجر قتلته الباطنية وكان له في قتالهم آثار حسنة ونية صالحة فرزقه الله الشهادة. وفيها ولي السلطان شحنكية بغداد مجاهد الدين بهروز لما سار أتابك زنكي إلى الموصل. ويها رتب الحسن بن سليمان في تدريس النظامية ببغداد وفيها أوقع السلطان سنجر بالباطنية في الموت فقتل منهم خلقا كثيرا قيل كانوا يزيدون على عشرة آلاف نفس.
647 وتوفي في هذه السنة علي بن المبرك أبو الحسن المقري المعروف بابن الفاعوس الحنبلي ببغداد في شوال وكان صالحا. وفي شوال توفي محمد بن عبد الملك بن إبراهيم بن أحمد أبو الحسن بن أبي الفضل الهمذاني الغرضي صاحب التاريخ.
648 522 ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ذكر ملك أتابك عماد الدين زنكي مدينة حلب في هذه السنة أول المحرم ملك عماد الدين زنكي بن آقسنقر مدينة حلب وقلعتها ونحن نذكر كيف كان سبب ملكها فنقول قد ذكرنا ملك البرسقي لمدينة حلب وقلعتها سنة ثمان عشرة [وخمسمائة]، واستخلافه بها ابنه مسعودا ولما قتل البرسقي سار مسعود عنها إلى الموصل وملكها واستناب بحلب اسمه قومان ثم إنه ولي عليها أميرا اسمه قتلغ أبه وسيره بتوقيع إلى قومان بتسليمها فقال بيني وبين عز الدين علامة لم أرها ولا أسلم إلا بها وكانت العلامة بينهما صورة غزال وكان مسعود بن البرسقي حسن التصوير فعاد قتلغ أبه إلى مسعود وهو يحاصر الرحبة فوجده قد مات فعاد إلى حلب مسرعا. وعرف الناس موته فسلم الرئيس فضائل بن بديع البلد وأطاعه المقدمون به واستنزلوا قومان من القلعة بعد أن صح عنده وفاة صاحبه مسعود وأعطوه ألف دينار فتسلم قتلغ أبه القلعة في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين [وخمسمائة]، فظهر منه بعد أيام جور شديد وظلم عظيم ومد يده إلى أموال الناس لا سيما التركات فإنه أخذها وتقرب إليه الأشرار فنفرت قلوب الناس منه. وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق الذي قديما
649 صاحبها فأطاعه أهلها وقاموا ليلة الثلاثاء ثاني شوال فقبضوا على كل من كان بالبلد من أصحاب قتلغ أبه وكان أكثرهم يشربون في البلد صبحة العيد وزحفوا إلى القلعة فتحصن قتلغ أبه فيها بمن معه فحصروه ووصل إلى حلب حسان صاحب منبج وحسن صاحب بزاعة لإصلاح الأمر فلم ينصلح. وسمع الفرنج بذلك فتقدم جوسلين بعسكره إلى المدينة فصونع بمال فعاد عنها ثم وصل بعده صاحب أنطاكية في جمع من الفرنج فخندق الحلبيون حول القلعة فمنع الداخل والخارج إليها من ظاهر البلد وأشرف الناس على الخطر العظيم إلى منتصف ذي الحجة من السنة. وكان عماد الدين قد ملك الموصل والجزيرة فسير إلى حلب الأمير سنقر دراز والأمير حسن قراقوش وهما من أكابر البرسقي وقد صاروا معه في عسكر قوي ومعه التوقيع من السلطان والجزيرة والشام فاستقر الأمر أن يسير بدر الدولة بن عبد الجبار وقتلغ أبه إلى الموصل إلى عماد الدين فسارا إليه، وأقام حسن قراقوش بحلب واليا عليها ولاية مستعارة فلما وصل بدر الدولة وقتلغ أبه إلى عماد الدين أصلح بينهما ولم يرد واحدا منهما إلى حلب وسير حاجبه صلاح الدين محمدا الياغيسياني إليها في عسكر فصعد إلى القلعة ورتب الأمور وجعل فيها واليا. وسار عماد الدين إلى الشام في جيوشه وعساكره فملك في طريقه مدينة منبج وبزاعة وخرج أهل حلب إليه فالتقوه واستبشروا بقدومه ودخل البلد واستولى عليه ورتب أموره وأقطع أعماله الأجناد والأمراء فملا فرغ من الذي أراده قبض على أبه وسلمه إلى ابن بديع فكحله فمات قتلغ أبه واستوحش ابن بديع فهرب إلى قلعة جعبر واستجار بصاحبها فأجاره.
650 وجعل عماد الدين في رياسة حلب أبا الحسن علي بن عبد الرزاق ولولا أن الله تعالى من على المسلمين بملك أتابك بلاد الشام لملكها الفرنج لأنهم كانوا يحصرون بعض البلاد الشامية وإذا علم ظهير الدين طغتكين بذلك جمع عساكره وقصد بلادهم وحصرها وأغار عليها فيضطر الفرنج إلى الرحيل لدفعه عن بلادهم فقدر الله تعالى أنه توفي هذه السنة فخلا لهم الشام من جميع جهاته من رجل يقوم بنصرة أهله فلطف الله بالمسلمين بولاية عماد الدين ففعل بالفرنج ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر قدوم السلطان سنجر إلى الري في هذه السنة خرج السلطان سنجر من خراسان إلى الري في جيش كثير. وكان سبب ذلك: أن دبيس بن صدقة لما وصل إليه هو والملك لما وصل إليه هو والملك طغرل على ما ذكرناه لم يزل يطعمه في العراق ويسهل عليه قصده ويلقي في نفسه أن المسترشد بالله والسلطان محمودا متفقان على الامتناع منه، ولم يزل به حتى أجابه إلى المسير إلى العراق فلما ساروا وصل إلى الري وكان السلطان محمود بهمذان فأرسل إليه السلطان سنجر يستدعيه إليه لينظر هل هو على طاعته أم قد تغير على ما زعم دبيس، فلما جاءه الرسول بادر إلى المسير إلى عمه فلما وصل إليه أمر العسكر جميعه بلقائه وأجلسه معه على التخت وبالغ في إكرامه، وأقام عنده إلى منتصف ذي الحجة ثم عاد السلطان سنجر إلى خراسان وسلم دبيسا إلى السلطان محمود ووصاه بإكرامه وإعادته إلى بلده ورجع محمود إلى همذان ودبيس معه ثم سارا إلى العراق، فلما
651 قاربا بغداد خرج الوزير إلى لقائه وكان قدومه تاسع المحرم سنة ثلاث وعشرين [وخمسمائة]. وكان الوزير أبو القاسم الأنساباذي قد قبض السلطان محمود عليه فلما اجتمع بالسلطان سنجر أمر بإطلاقه فأطلقه وقرره سنجر في وزارة ابنته التي زوجها السلطان محمود فلما وصل معه إلى بغداد أعاده محمود إلى وزارته في الرابع والعشرين من المحرم وهي وزارته الثانية. ذكر عدة حوادث في هذه السنة ثامن صفر توفي أتابك طغتكين صاحب دمشق وهو مملوك الملك تتش بن ألب أرسلان وكان عاقلا خيرا كثير الغزوات والجهاد للفرنج حسن السيرة في رعيته مؤثرا للعدل فيهم وكان لقبه ظهير الدين ولما توفي ملك بعده ابنه تاج الملوك بوري وهو أكبر أولاده بوصية من والده له بالملك وأقر وزير أبيه أبا علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته. وفيها مستهل رجب توفي الوزير جلال الدين أبو علي بن صدقة وزير الخليفة وكان حسن السيرة جميل الطريقة متواضعا محبا لأهل العلم مكرما لهم وله شعر حسن فمنه في مدح المسترشد بالله: (وجدت الورى كالماء طعما ورقة * وأن أمير المؤمنين زلاله) (وصورت معنى العقل شخصا مصورا * وأن أمير المؤمنين مثاله) (ولولا طريق الدين والشرع والتقى * لقلت من الإعظام جل جلاله)
652 وأقيم في النيابة بعده شرف الدين علي بن طراد الزينبي ثم جعل وزيرا وخلع عليه آخر شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وعشرين [وخمسمائة]، ولم يوزر للخلفاء من بني العباس هاشمي غيره. وفيها هبت ريح شديدة أسود لها الآفاق وجاءت بتراب أحمر يشبه الرمل وظهر في السماء أعمدة كأنها نار فخاف الناس وعدلوا إلى الدعاء والاستغفار فانكشف عنهم ما يخافونه.
653 523 ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة ذكر قدوم السلطان محمود إلى بغداد في هذه السنة في المحرم قدم السلطان محمود بغداد بعد عوده من عند عمه السلطان سنجر ومعه دبيس بن صدقة ليصلح حاله مع الخليفة مع المسترشد بالله فتأخر دبيس عن السلطان، ثم دخل بغداد ونزل بدار السلطان واسترضى عنه الخليفة فامتنع الخليفة من الإجابة إلى أن تولي دبيس شيئا من البلاد وبذل مائة ألف دينار لذلك. وعلم أتابك زنكي أن السلطان يريد أن يولي دبيس الموصل فبذل مائة ألف دينار وحضر بنفسه إلى خدمة السلطان فلم يشعر السلطان به إلا وهو عند الستر وحمل معه الهدايا الجليلة فأقام عند السلطان ثلاثة أيام وخلع عليه وأعاده إلى الموصل. وخرج السلطان بتصيد فعمل له شيخ المزرفة دعوة عظيمة أمتار منها جميع عسكر السلطان وأدخله إلى حمام في داره وجعل فيها عوض الماء ماء الورد فأقام إلى رابع جمادى الآخرة وسار عنها إلى همذان وجعل بهروز على شحنكية بغداد وسلمت إليه الحلة أيضا.
654 ذكر ما فعله دبيس بالعراق وعود السلطان إلى بغداد لما رحل السلطان إلى همذان ماتت زوجته وبر ابنة السلطان سنجر وهي إلي كانت تعني بأمر دبيس وتدافع عنه فلما ماتت انحل أمر دبيس. ثم إن السلطان مرض مرضا شديدا فاخذ دبيس ابنا له صغيرا وقصد العراق فلما سمع المسترشد بالله بذلك جند الأجناد وحشد. وكان بهروز بالحلة فهرب منها فدخلها دبيس في شهر رمضان فلما سمع السلطان الخبر عن دبيس أحضر الأميرين قزل والأحمديلي وقال: أنتما ضمنتما دبيسا مني وأريده منكما، فسار الأحمديلي إلى العراق إلى دبيس ليكف شره عن البلاد ويحضره إلى السلطان. فلما سمع دبيس الخبر أرسل إلى الخليفة يستعطفه ويقول: ان رضيت عني فأنا أرد أضعاف ما أخذت وأكون العبد المملوك؛ فتردد الرسل ودبيس يجمع الأموال والرجال فاجتمع معه عشرة آلاف فارس كان قد توصل في ثلاثمائة فارس ووصل الأحمديلي بغداد في شوال وسار في أثر دبيس. ثم إن السلطان سار إلى العراق فلما سمع دبيس بذلك أرسل إليه هدايا جليلة المقدار وبذل ثلاثمائة حصان منعلة بالذهب ومائتي ألف دينار ليرضى عنه السلطان والخليفة فلم يجبه إلى ذلك ووصل السلطان إلى بغداد في ذي القعدة فلقيه الوزير الزينبي وأرباب المناصب فلما تيقن وصوله رحل إلى البرية وقصد البصرة وأخذ منها أموالا كثيرة للخليفة والسلطان هناك من الدخل فسير السلطان ف يأثره عشرة آلاف فارس ففارق البصرة ودخل البرية.
655 ذكر قتل الإسماعيلية بدمشق قد ذكرنا فيما تقدم قتل إبراهيم الأسداباذي ببغداد وهرب ابن أخته بهرام إلى الشام وملكه قلعة بانياس ومسيره إليها ولما فارق دمشق أقام بها خليفة يدعو الناس إلى مذهبه فكثروا وانتشروا وملك هو عدة حصون من الجبال منها القدموس وغيره وكان بوادي التيم من أعمال بعلبك أصحاب مذاهب مختلفة من النصيرية والدرزية والمجوس وغيرهم وأميرهم اسمه الضحاك فسار إليهم بهرام سنة اثنتين وعشرين [وخمسمائة] وحصرهم وقاتلهم فخرج إليه الضحاك في ألف رجل وكبس عسكر بهرام فوضع السيف فيهم وقتل منهم مقتلة كثيرة وقتل بهرام وانهزم من سلم وعادوا إلى بانياس على أقبح صورة. وكان بهرام قد استخلف في بانياس رجلا من أعيان أصحابه اسمه أصحابه اسمه إسماعيل فقام مقامه وجمع شمل من عاد إليهم منهم وبث دعاته في البلاد وعاضده المزدقاني أيضا وقوى نفسه على ما عنده من الامتعاض بهذه الحادثة والهم بسببها. ثم إن المزدقاني أقام بدمشق عوض بهرام إنسانا اسمه أبو الوفا فقوى أمره وعلا شأنه وكثر أتباعه وقام بدمشق فصار المستولي على من بها من المسلمين وحكمه أكثر من حكم صاحبها تاج الملوك ثم إن المزدقاني راسل الفرنج ليسلم إليهم مدينة دمشق ويسلموا إليه مدينة صور واستقر الأمر بينهم على ذلك وتقرر بينهم الميعاد يوم جمعة ذكروه وقرر المزدقاني مع الإسماعيلية أن
656 يحتاطوا ذلك اليوم بأبواب الجامع فلا يمكنون أحدا يخرج منه ليجيء الفرنج ويملكوا البلاد فبلغ الخبر تاج الملوك صاحب دمشق فاستدعى المزدقاني إليه فحضر وخلا معه فقتله تاج الملوك وعلق رأسه على باب القلعة ونادى في البلد بقتل الباطنية فقتل منهم ستة آلاف نفس وكان ذلك منتصف رمضان من السنة وكفى الله المسلمين شرهم ورد على الكافرين كيدهم. ولما تمت هذه الحادثة بدمشق على الإسماعيلية خاف إسماعيل والي بانياس أن يثور به وبمن معه من الناس فيهلكوا فراسل الفرنج وبذل لهم تسليم بانياس إليهم والانتقال إلى بلادهم فأجابوه فسلم القلعة إليهم وانتقل هو ومن معه من أصحابه إلى بلادهم ولقوا شدة وذلة وهوانا وتوفي إسماعيل أوائل سنة أربع وعشرين [وخمسمائة]، وكفى الله المؤمنين شرهم. ذكر حصر الفرنج دمشق وانهزامهم لما بلغ الفرنج قتل المزدقاني والإسماعيلية بدمشق عظم عليهم ذلك وتأسفوا على دمشق حيث لم يتم ملكها وعمتهم المصيبة فاجتمعوا كلهم صاحب القدس وصاحب أنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من الفرنج وقمامصتهم ومن وصل إليهم في البحر للتجارة والزيارة فاجتمعوا في خلق عظيم نحو ألفي فارس وأما الراجل فلا يحصى وساروا إلى دمشق ليحصروها. ولما سمع تاج الملوك بذلك جمع العرب والتركمان فاجتمع معهم ثمانية آلاف فارس ووصل الفرنج في ذي الحجة فنازلوا البلد وأرسلوا إلى أعمال
657 دمشق لجمع الميرة والإغارة على البلاد فلما سمع تاج الملوك أن جمعا كثيرا قد ساروا إلى حوران لنهبه وإحضار الميرة سير أميرا من أمرائه يعرف بشمس الخواص في جمع من المسلمين إليهم وكان خروجهم في ليلة شاتية كثيرة المطر ولقوا الفرنج من الغد فواقعوهم واقتتلوا وصبر بعضهم لبعض فظفر بهم المسلمون وقتلوهم فلم يفلت منهم غير مقدمهم ومعه أربعون رجلا وأخذوا ما معهم وهي عشرة آلاف دابة موقرة وثلاثمائة أسير وعادوا إلى دمشق لم يمسهم قرح، فلما علم من عليها من الفرنج ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب فرحلوا عنها شبه منهزمين وأحرقوا ما تعذر عليهم حمله من سلاح وميرة وغير ذلك، وتبعهم المسلمون والمطر شديد والبرد عظيم يقتلون كل من تخلف منهم فكثر القتلى منهم وكان نزولهم ورحيلهم في ذي الحجة من هذه السنة. ذكر ملك عماد الدين زنكي مدينة حماة في هذه السنة ملك عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل مدينة حماة. وسبب ذلك أنه عبر الفرات إلى الشام وأظهر أنه يريد جهاد الفرنج وأرسل إلى تاج الملوك بوري بن طغتكين صاحب دمشق يستنجده ويطلب منه المعونة على جهادهم فأجاب المراد وأرسل من أخذ له العهود والمواثيق، فلما وصلت التوثقة جرد عسكرا من دمشق مع جماعة من الأمراء وأرسل إلى
658 ابنه سونج وهو بمدينة حماة يأمره بالنزول إلى العسكر والمسير معهم إلى زنكي فعل ذلك فساروا جميعهم فوصلوا إليه فأكرمهم وأحسن لقاءهم وتركهم أياما. ثم إنه قدر بهم فقبض على سونج ولد تاج الملوك وعلى جماعة الأمراء المقدمين ونهب خيامهم وما فيها من الكراع واعتقلهم بحلب وهرب من سواهم، وسار من يومه إلى حماة فوصل إليها وهي خالية من الجند الحماة الذابين فملكها واستولى عليها ورحل عنها إلى حمص وكان صاحبها قرجان بن قراجة معه في عسكره وهو الذي أشار عليه بالغدر تاج الملوك فقبض عليه ونزل على حمص وحصرها وطلب من قرجان صاحبها أن يأمر نوابه وولده فيها بتسليمها فأرسل إليهم بالتسليم فلم يقبلوا منه ولا التقوا إلى قوله فأقام عليها محاصرا لها ومقاتلا لمن فيها مدة طويلة فلم يقدر على ملكها فرحل عنها عائدا إلى الموصل واستصحب معه سونج بن تاج الملوك ومن معه من الأمراء الدمشقيين. وترددت الرسل في إطلاقهم بينه وبين تاج الملوك واستقر الأمر على خمسين ألف دينار فأجاب تاج الملوك إلى ذلك ولم ينتظم بينهم أمر. ذكر عدة حوادث في هذه السنة ملك بيمند صاحب أنطاكية حصن القدموس من المسلمين. وفي هذه السنة أيضا وثب الإسماعيلية على بعد اللطيف بن الخجندي رئيس
659 الشافعية بأصبهان فقتلوه وكان ذا رياسة عظيمة وتحكم كثير. وفي هذه السنة توفي الإمام أبو الفتح أسعد بن أبي نصر الميهني الفقيه الشافعي مدرس النظامية ببغداد وله طريقة مشهورة في الخرف وتفقه على أبي المظفر السمعاني وكان له قبول عظيم عند الخليفة والسلطان وسائر الناس. وفيها توفي حمزة بن هبة الله بن محمد بن الحسن الشريف العلوي الحسني النيسابوري سمع الحديث الكثير ورواه ومولده سنة تسع وعشرين وأربعمائة وجمع مع شرف النفس والتقوى وكان زيدي المذهب.
660 ثم دخلت سنة أربع وعشرين وخمسمائة ذكر ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند من محمد خان وملك محمود بن محمد خان المذكور في هذه السنة في ربيع الأول ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند. وسبب ذلك أنه كان قد رتب فيها لما ملكها أولا أرسلان خان محمد بن سليمان بت بغراخان داود أنه كان قد رتب فيها لما ملكها أولا أرسلان خان محمد بن سليمان بن بغراخان داود فأصابه فالج فاستناب ابنا له يعرف بنصر خان وكان شهما شجاعا، وكان بسمرقند إنسان علوي فقيه مدرس إليه الحل والعقد والحكم في البلد فاتفق هو ورئيس البلد على قتل نصر خان فقتلاه وكان أبوه محمد خان غائبا فعظم عليه واشتد، وكان له ابن آخر غائب في بلاد تركستان فأرسل إليه واستدعاه فلما قارب سمرقند خرج العلوي ورئيس البلد إلى استقباله فقتل العلوي في الحال وقبض على الرئيس. وكان والده أرسلان خان قد أرسل إلى السلطان سنجر رسولا يستدعيه ظنا منه أن ابنه لا يتم أمره مع العلوي والرئيس فتجهز سنجر وسار يريد سمرقند فلما ظفر ابن أرسلان خان بهما ندم على استدعاء السلطان سنجر فأرسل إليه يعرفه أنه قد ظفر بالعلوي والرئيس وأنه وابنه على الطاعة ويسأله العود إلى خراسان فغضب سنجر من ذلك وأقام أياما، فبينما هو في الصيد إذ رأى اثني عشر رجلا في السلاح التام فقبض عليهم وعاقبهم فأقروا أن محمد خان أرسلهم ليقتلوه ثم سار سمرقند فملكها
661 عنوة ونهب بعضها ومنع من الباقي وتحصن منه محمد خان ببعض تلك الحصون فاستنزله السلطان سنجر بأمان بعد مدة. فلما نزل إليه أكرمه وأرسله إلى ابنته زوجة السلطان سنجر فبقي عندها إلى أن توفي. وأقام سنجر بسمرقند حتى أخذ المال والسلاح والخزائن وسلم البلد إلى الأمير حسن تكين وعاد إلى خراسان فلم يلبث حسن تكين أن مات فملك سنجر بعده عليها محمود بن محمد خان بن سليمان بن داود المقدم ذكره، وقيل إن السبب غير ما ذكرناه وسيرد ذكره سنة ست وثلاثين للحاجة إلى ذكره هناك. ذكر فتح عماد الدين زنكي حصن الأثارب وهزيمة الفرنج لما فرغ عماد الدين زنكي من أمر البلاد الشامية حلب وأعمالها وما ملكته وقرر قواعده عاد إلى الموصل وديار الجزيرة ليستريح عسكره ثم أمره بالتجهز للغزاة فتجهزوا وأعدوا واستعدوا وعاد إلى الشام وقصد حلب فقوي عزمه على قصد حصن الأثارب ومحاصرته لشدة ضرره على المسلمين. وهذا الحصن بينه وبين حلب نحو ثلاثة فراسخ بينها وبين أنطاكية، وكان من به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها الغربية حتى على رحى لأهل حلب بظاهر باب الجنان بينها وبين البلد عرض الطريق وكان أهل البلد معهم في ضر شديد، وضيق، كل يوم قد أغاروا عليهم ونهبوا أموالهم فلما رأى الشهيد هذه الحال صمم العزم على حصر هذا الحصن فسار إليه ونازله.
662 فلما علم الفرنج بذلك جمعوا فارسهم وراجلهم وعلموا أن هذه وقعة لها بعدها فحشدوا وجمعوا ولم وتركوا من طاقتهم شيئا إلا استنفدوه فلما فرغوا من أمرهم ساروا نحوه فاستشار أصحابه فيما يفعل وكل أشار بالعود عن الحصن فإن لقاء الفرنج في بلادهم خطر لا يدري على أي شيء تكون العاقبة فقال لهم إن الفرنج متى رأونا قد عدنا من أيديهم طمعوا وساروا في أثرنا وخربوا بلادنا ولا بد من لقائهم على كل حال. ثم ترك الحصن وتقدم إليهم فالتقوا واصطفوا للقتال وصبر كل فريق لخصمه واشتد الأمر بينهم ثم إن الله تعالى أنزل نصره على المسلمين فظفروا وانهزم الفرنج أقبح هزيمة ووقع كثير من فرسانهم في الأسر وقتل منهم خلق كثير، وتقدم عماد الدين إلى عسكره بالإنجاز وقال هذا أول مصاف عملناه معهم فلنذقهم من بأسنا ما يبقي رعبه في قلوبهم ففعلوا ما أمرهم ولقد اجتزت بتلك الأرض سنة أربع وثمانين وخمسمائة ليلا فقيل لي إن كثيرا من العظام باق إلى ذلك الوقت. فلما فرغ المسلمون من ظفرهم عادوا إلى الحصن فتسلموه عنوة وقتلوا وأسروا كل من فيه وأخربه عماد الدين وجعله دكا وبقي إلى الآن خرابا ثم سار منه إلى قلعة حارم وهي بالقرب من أنطاكية فحصرها وهي أيضا للفرنج فبذل له أهلها نصف دخل بلد حارم وهادنوه فأجابهم إلى ذلك وعاد عنهم وقد استدار المسلمون بتلك الأعمال وضعفت قوى الكافرين وعلموا أن البلاد قد جاءها ما لم يكن لهم في حساب وصار قصاراهم حفظ ما بأيديهم بعد أن كانوا قد طمعوا في ملك الجميع.
663 ذكر ملك عماد الدين زنكي أيضا مدينة سرجي ودارا لما فرغ من أمر الأثارب وتلك النواحي عاد إلى ديار الجزيرة وكان قد بلغه عن حسان الدين تمرتاش بن إيلغازي صاحب ماردين وابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان صاحب حصن كيفا قوارص فعاد إليهم وحصر مدينة سرجي وهي بين ماردين ونصيبين فاجتمع حسام الدين وركن الدولة وصاحب آمد وغيرهم وجمعوا خلقا كثيرا من التركمان بلغت عدتهم عشرين ألفا وساروا إليه فتصافوا بتلك النواحي فهزمهم عماد الدين وملك سرجي. فحكى لي والدي قال لما انهزم ركن الدولة داود قصد بلد جزيرة ابن عمر ونهبه فبلغ الخبر عماد الدين فسار نحو الجزيرة وأراد دخول بلد داود ثم عاد عنه لضيق مسالكه وخشونة الجبال التي في الطريق وسار إلى دارا فملكها وهي من القلاع في تلك الأعمال. ذكر وفاة الآمر وخلافة الحافظ العلوي في هذه السنة ثاني ذي القعدة قتل الآمر بأحكام الله أبو علي بن المستعلي العلوي صاحب مصر خرج إلى منتزه له فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه لأنه كان سئ السيرة في رعيته وكانت ولايته تسعا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعمره أربعا وثلاثين سنة
664 وهو العاشر من ولد المهدي عبيد الله الذي ظهر بسجلماسة وبنى المهدية بإفريقية، وهو أيضا العاشر من الخلفاء العلويين من أولاد المهدي أيضا. فلما قتل لم يكن له ولد بعده ابن عمه الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله ولم يبايع بالخلافة وإنما بويع له لينظر في الأمر نيابة حتى يكشف عن حمل إن كان للآمر فتكون الخلافة فيه ويكون هو نائبا عنه. ومولد الحافظ بعسقلان لأن أباه خرج من مصر إليها في الشدة فأقام بها فولد ابنه عبد المجيد هناك ولما ولى استوزر أبا علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي واستبد بالأمر وتغلب على الحافظ ومحجر عليه وأودعه في خزانة ولا يدخل إليه إلا من يريده أبو علي وبقي الحافظ له اسم لا معنى تحته ونقل أبو علي كل ما [كان] في القصر إلى داره من الأموال وغيرها ولم يزل الأمر كذلك إلى أن قتل أبو علي سنة ست وعشرين [وخمسمائة] فاستقامت أمور الحافظ وحكم في دولته وتمكن من ولايته وبلاده. ذكر عدة حوادث في هذه السنة توفيت الخاتون ابنة السلطان سنجر وهي زوجة السلطان محمود.
665 وفيها قتل بيمند الفرنجي صاحب أنطاكية. وفيها توفي نصير الدين محمود بن مؤيد الملك نظام الملك في شعبان ببغداد ووقع الحريق في داره بعد وفاته وفي حظائر الحطب والسوق التتشي فذهب من الناس أموال كثيرة. وفيها وزر الرئيس أبو الذواد المفرج بن الحسن بن الصوفي لصاحب دمشق تاج الملوك. وفيها كان الرصد بالدار السلطانية شرقي بغداد تولاه البديع الاصطرلابي ولم يتم. وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة شوكتين فنال منها خوف شديد وأذى عظيم. وفيها في ذي الحجة خرج الملك مسعود بن محمد من خراسان وكان عند عمه السلطان سنجر ووصل إلى ساوة ووقع الإرجاف أن عزمه على مخالفة أخيه السلطان محمود قوي وأن عمه سنجر أمره بذلك فاستشعر السلطان محمود وسار عن بغداد إلى همذان فلما وصل إلى كرمانشاهان وصل إليه أخوه الملك مسعود وخدمه ولم يظهر للإرجاف أثر فاقطعه السلطان مدينة كنجة وأعمالها وسيره إليها. وفيها كانت زلزلة عظيمة في ربيع الأول بالعراق وبلد الجبل والموصل والجزيرة فخربت كثيرا. وفيها ملك السلطان محمود قلعة الموت. وفيها توفي إبراهيم بن عثمان بن محمد أبو إسحاق الغزي من أهل غزة مدينة بفلسطين من الشام ومولده سنة إحدى وأربعين وهو من الشعراء المجيدين فمن قوله من قصيدة يصف فيها الأتراك:
666 (في فتية من جيوش الترك ما تركت * للرعد كراتهم صوتا ولا صيتا) (قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة * حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا) وله في الزهد: (إنما هذه الحياة متاع * والسفيه الغوي من يصطفيها) (ما مضى فات والمؤمل غيب * ولك الساعة التي أنت فيها) وفيها توفي الحسين بن محمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن محمد الدباس أبو عبد الله النحوي الشاعر المعروف بالبارع أخو أبي الكرم بن فاخر النحوي لأمه ولد سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة وله شعر مليح فمنه قوله: (ردي على الكرى ثم اهجري سكني * فقد قنعت بطيف منك في الوسن) (لا تحسبي النوم قد أوحشت أطلبه * إلا رجاء خيال منك يؤنسني) (تركتني والهوى فردا أغالبه * ونام ليلك عن هم يؤرقني) وهي طويلة. وفيها توفي هبة الله بن القاسم بن محمد بن عطاء بن محمد أبو سعد المهرواني النيسابوري ومولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وكان محدثا حافظا صالحا.
667 525 ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة ذكر أسر دبيس بن صدقة وتسليمه إلى عماد الدين زنكي في هذه السنة في شعبان أسر تاج الملوك بوري بن طغتكين صاحب دمشق الأمير دبيس بن صدقة صاحب الحلة وسلمه إلى أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر. وسبب ذلك أنه لما فارق البصرة على ما ذكرناه جاءه قاصد من الشام صرخد يستدعيه إليها لأن صاحبها كان خصيا فتوفي هذه السنة وخلف جارية سرية له فاستولت على القلعة وما فيها وعلمت أنها لا يتم لها ذلك إلا بأن تتصل برجل له قوة ونجدة فوصف لها دبيس بن صدقة وكثرة عشيرته وذكر لها حاله وما هو عليه بالعراق فأرسلت تدعوه إلى صرخد لتتزوج به وتسلم القلعة وما فيها من مال وغيره إليه فأخذ الأدلاء معه وسار من أرض العراق إلى الشام فضل به الأدلاء بنواحي دمشق فنزل بناس من كلب كانوا شرقي الغوطة فأخذوه وحملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق فحبسه عنده. وسمع أتابك عماد الدين زنكي الخبر وكان دبيس يقع فيه وينال منه فأرسل إلى تاج يطلب منه دبيسا ليسلمه إليه ويطلق ولده، ومن
668 معه من الأمراء المأسورين وإن امتنع من تسليمه سار إلى دمشق وحصرها وخربها ونهب بلدها فأجاب تاج الملك إلى ذلك وأرسل أتابك سونج بن تاج الملوك والأمراء الذي معه وأرسل تاج الملوك دبيسا فأيقن دبيس بالهلاك ففعل زنكي معه خلاف ما ظن وأحسن إليه وحمل له الأقوات والسلاح والدواب وسائر أمتعة الخزائن وقدمه حتى على نفسه وفعل معه ما يفعل مع أكابر الملوك. ولما سمع المسترشد بالله بقبضه بدمشق أرسل سديد الدولة بن الأنباري وأبا بكر بن بشر الجزري من جزيرة ابن عمر إلى تاج الملوك يطلب منه أن يسلم إليه لما كان متحققا به من عداوة الخليفة فسمع سديد الدولة بن الأنباري بتسليمه إلى عماد الدين وهو في الطريق فسار إلى دمشق ولم يرجع وذم أتابك زنكي بدمشق واستخف به وبلغ الخبر عماد الدين فأرسل إلى طريقه من يأخذه إذا عاد فلما رجع من دمشق قبضوا عليه وعلى ابن بشر وحملوهما إليه فأما ابن بشر فأهانه وجرى في حقه مكروه وأما ابن الأنباري فسجنه. ثم إن المسترشد بالله شفع فيه فأطلق ولم يزل دبيس مع زنكي حتى انحدر معه إلى العراق على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود في هذه السنة في شوال توفي السلطان محمود بن السلطان محمد بهمذان، وكان قبل مرضه قد خاف وزيره أبو القاسم الأنساباذي من جماعة من الأمراء وأعيان الدولة منهم عزيز الدين أبو نصر أحمد بن حامد المستوفي والأمير أنوشتكين المعروف بشيركير وولده عمر وهو أمير حاجب السلطان
669 وغيرهم، فأما عزيز الدين فأرسله مقبوضا عليه إلى مجاهد الدين بهروز بتكريت ثم قتل بها وأما شيركير وولده فقتلا في جمادى الآخرة. ثم إن السلطان مرض وتوفي في شوال وأقعد ولده الملك داود في السلطنة باتفاق من الوزير أبي القاسم وأتابكه آقسنقر الأحمديلي وخطب له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان ووقعت الفتنة بهمذان وسائر بلاد الجبل ثم سكنت فلما اطمأن الناس وكنوا سار الوزير بأمواله إلى الري فأمن فيها حيث هي للسلطان سنجر. وكان عمر السلطان محمود لما توفي نحو سبع وعشرين سنة، وكانت ولايته للسلطنة اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرين يوما وكان حليما كريما عاقلا يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه مع القدرة قليل الطمع في أموال الرعايا عفيفا عنها كافا لأصحابه عن التطرق إلى شيء منها. ذكر عدة حوادث في هذه السنة ثار الباطنية بتاج الملوك بوري طغتكين صاحب دمشق فجرحوه جرحين فبرأ أحدهما وتنسر الآخر وبقي فيه ألمه إلا أنه يجلس للناس ويركب معهم على ضعف فيه. وفيها توفي الأمير أبو الحسن بن المستظهر بالله أخو المسترشد بالله في رجب. وفيها في شوال توفي الحسن بن سلمان بن عبد الله أبو علي الفقيه الشافعي
670 الواعظ مدرس النظامية ببغداد وأصله من الزوزان. والخطيب أبو نصر أحمد بن عبد القاهر المعروف بابن الطوسي خطيب الموصل توفي في ربيع الأول. وحماد بن مسلم الدباس الرحبي الزاهد المشهور وصاحبا الكرامات وسمع الحديث وله أصحاب وتلامذة كثيرون ساروا ورأيت الشيخ أبا الفرج بن الجوزي قد ذمه وثلبه ولهذا الشيخ أسوة بغيره من الصالحين فإن ابن الجوزي قد صنف كتابا سماه تلبيس لم يبق فيه على أحد من سادة المسلمين وصالحيهم. وهبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني الكاتب ومولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة سمع أبا علي بن المهذب وأبا طالب بن غيلان وغيرهما. وهو راوي مسند أحمد بن حنبل والغيلانيات وغيرا ومحمد بن الحسن بن علي بن الحسن أو غالب الماوردي ولد سنة خمسين وأربعمائة بالبصرة وسمع الحديث الكثير وروى سنن أبي داود السجستاني وكان صالحا.
671 526 ثم دخلت سنة ست وعشرين وخمسمائة ذكر قتل أبي علي وزير الحافظ ووزارة يأنس وموته في هذه السنة في المحرم قتل الأفضل أبو علي بن الأفضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ لدين الله العلوي صاحب مصر. وسبب قتله أنه كان قد حجر على الحافظ ومنعه أن يحكم في شيء من الأمور قليل أو جليل وأخذ ما في قصر الخلافة إلى داره وأسقط من الدعاء ذكر إسماعيل الذي هو جدهم، وإليه تنسب الإسماعيلية وهو ابن جعفر بن محمد الصادق وأسقط من الآذان حي على خير العمل ولم يخطب للحافظ وأمر الخطباء أن يخطبوا له بألقاب كتبها لهم وهي السيد الأفضل الأجل سيد مماليك أرباب الدول والمحامي عن حوزة الدين وناشز جناح العدل على المسلمين الأقربين والأبعدين ناصر إمام الحق في حالتي غيبته وحضوره والقائم بنصرته بماضي سيفه وصائب رأيه وتدبيره أمير الله على عباده وهادي القضاة إلى اتباع شرع الحق واعتماده ومرشد دعاة المؤمنين بواضح بيانه وإرشاده مولى النعم ورافع الجور عن الأمم ومالك فضيلتي السيف والقلم أبو علي أحمد بن السيد الأجل الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش. وكان إمامي المذهب يكثر ذم الآمر والتناقص به فنفر منه شيعة
672 العلويين ومماليكهم وكرهوا وعزموا على قتله فخرج في العشرين من المحرم من هذه السنة إلى الميدان يلعب بالكرة مع أصحابه فكمن له جماعة منهم مملوك إفرنجي كان للحافظ فخرجوا عليه فحمل الفرنجي عليه فطعنه فقتله وحزوا رأسه وخرج الحافظ من الخزانة التي كان فيها ونهب الناس دار أبي علي وأخذ منها ما لا يحصى وركب الناس والحافظ إلى داره فأخذ ما بقي فيها وحمله إلى القصر. وبويع يومئذ الحافظ بالخلافة وكان قد بويع له بولاية العهد وأن يكون كافلا لحمل إن كان للآمر فلما بويع بالخلافة استوزر أبا الفتح يأنس الحافظي في ذلك اليوم بعينه ولقب أمير الجيوش وكان عظيم الهيبة بعيد الغور كثير الشر فخافه الحافظ على نفسه وتخيل منه يأنس فاحتاط ولم يأكل عنده شيئا ولا شرب، فاحتال عليه الحافظ بأن وضع له فراشه في بيت الطهارة ماء مسموما فاغتسل به فوقع الدود في سفله وقيل له متى قمت من مكانك هلكت فكان يعالج بأن يجعل اللحم الطري في المحل فيعلق به الدود فيخرج ويجعل عوضه فقارب الشفاء، فقيل للحافظ إنه قد صلح وان تحرك هلك فركب إليه الحافظ كأنه يعوده فقام له ومشى بين يديه وقعد الحافظ عنده ثم خرج من عنده فتوفي من ليلته وكان موته في السادس والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة. ولما مات يأنس استوزر الحافظ ابنه حسنا وخطب له بولاية العهد وسيرد ذكر قتله سنة تسع وعشرين [وخمسمائة]. و إنما ذكرت ألقاب أبي علي تعجبا منها، ومن حماقة ذلك الرجل فإن وزير صاحب مصر وحدها إذا كان هكذا فينبغي أن يكون وزير السلاطين
673 السلجوقية كنظام الملك وغيره يدعون الربوبية على أن تربة مصر هكذا تولد ألا ترى إلى فرعون يقول: (أنا ربكم الأعلى)، وإلى أشياء أخر لا نطيل بذكره. ذكر حال السلطان مسعود والملكين سلجوق شاه وداود واستقرار السلطنة بالعراق لمسعود لما توفي السلطان محمود بن السلطان وخطب ببلاد الجبل وأذربيجان لولده الملك داود على ما ذكرناه سار الملك داود من همذان في ذي القعدة من سنة خمس وعشرين [وخمسمائة] إلى زنجان فأتاه الخبر أن عمه السلطان مسعود قد سار من جرجان ووصل إلى تبريز واستولى عليها فسار الملك داود إليه وحصره بها وجرى بينهما قتال إلى سلخ المحرم سنة ست وعشرين [وخمسمائة] ثم اصطلحا. وتأخر الملك داود وأرسل يطلب الخطبة ببغداد وكانت رسل الملك داود قد تقدمت في طلب الخطبة فأجاب المسترشد بالله أن الحكم في الخطبة إلى السلطان سنجر أن لا يأذن لأحد في الخطبة فإن الخطبة ينبغي أن تكون له وحده فوقع ذلك منه موقعا حسنا.
674 ثم إن السلطان مسعودا كاتب عماد الدين زنكي صاحب الموصل وغيرها يستنجده ويطلب مساعدته فوعده النصر فقويت بذلك نفس مسعود على طلب السلطنة. ثم إن الملك سلجوق شاه بن السلطان محمد سار أتابكه قراجة الساقي صاحب فارس وخوزستان في عسكر كثير إلى بغداد فوصل إليها قبل وصول السلطان مسعود ونزل في دار السلطان وأكرمه الخليفة واستحلفه لنفسه. ثم وصل رسول السلطان مسعود يطلب الخطبة ويتهدد إن منعها فلم يجب إلى ما طلبه فسار حتى نزل عباسية الخالص وبرز عسكر الخليفة وعسكر سلجوقشاه وقراجة الساقي نحو مسعود إلى أن يفرغ من حرب أتابك عماد الدين زنكي وسار يوما إلى المعشوق وواقع عماد الدين زنكي فهزمه وأسر كثيرا من أصحابه، وسار زنجي منهزما إلى تكريت فعبر فيها دجلة وكان الدزدار بها حينئذ نجم الدين أيوب فأقام به المعابر فلما عبر أمن الطلب وسار إلى بلاده لإصلاح حاله وحال رجاله وهذا الفعل من نجم الدين أيوب كان سببا لاتصاله به والمصير في جملته، حتى آل بهم الأمر إلى ملك مصر والشام وغيرهما على ما نذكره. وأما السلطان مسعود فإنه سار من العباسية إلى الملكية ووقعت الطلائع بعضها على بعض ثم لم تزل المناوشة تجري بينه وبين أخيه سلجوقشاه يومين وأرسل سلجوقشاه إلى قراجة يستحثه على المبادرة، فعاد سريعا وعبر
675 دجلة إلى الجانب الشرقي فلما علم السلطان مسعود بانهزام عماد الدين زنكي رجع إلى ما ورائه وأرسل إلى الخليفة يعرفه وصول السلطان سنجر إلى الري وأنه عازم على قصد الخليفة وغيره وإن رأيتم أن نتفق على قتاله ودفعه عن العراق ويكون العراق لوكيل الخليفة فأنا موافق على ذلك فأعاد الخليفة الجواب يستوقفه. وترددت الرسل في الصلح فاصطلحوا على أن يكون العراق لوكيل الخليفة وتكون السلطنة ويكون سلجوقشاه ولي عهده وتحالفوا على ذلك وعاد السلطان مسعود إلى بغداد فنزل بدار السلطان ونزل سلجوقشاه في دار الشحنكية وكان اجتماعهم في جمادى الأولى. ذكر الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجر لما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر إلى بلاد الجبال ومعه الملك طغرل بن السلطان محمد وكان عنده قد لازمه فوصل إلى الري، ثم سار منها إلى همذان فوصل الخبر إلى الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود بوصوله إلى همذان فاستقرت القاعدة بينهما على قتاله وأن يكون الخليفة معهم وتجهز الخليفة فتقدم قراجة الساقي والسلطان مسعود وسلجوقشاه نحو السلطان سنجر، وتأخر المسترشد بالله عن المسير معهم فأرسل إلى قراجة وألزمه وقال إن الذي تخاف من سنجر آجلا أنا أفعله عاجلا فبرز حينئذ وسار على تريث وتوقف إلى أن بلغ إلى خانقين وأقام بها. وقطعت خطبة سنجر من العراق جميعه ووصلت الأخبار بوصول عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة إلى قريب بغداد، فأما دبيس فإنه ذكر أن السلطان سنجر أقطعه الحلة وأرسل إلى المسترشد بالله يضرع ويسأل
676 الرضا عنه فامتنع من إجابته إلى ذلك. وأما عماد الدين زنكي فإنه ذكر أن السلطان سنجر قد أعطاه شحنكية بغداد فعاد المسترشد بالله إلى بغداد وأمر أهلها بالاستعداد للمدافعة عنها وجند أجنادا جعلهم معهم. ثم إن السلطان مسعودا وصل إلى داد مرج فلقيهم طلائع السلطان سنجر في خلق كثير فتأخر السلطان مسعود إلى كرمانشاهان ونزل السلطان سنجر في أسداباذ في مائة ألف فارس فسار مسعود وأخوه سلجوقشاه إلى جبلين يقال لهما كاو وما هي فنزلا بينهما ونزل السلطان سنجر كنكور فلما سمع بانحرافهم أسرع في طلبهم فرجعوا إلى ما ورائهم مسيرة أربعة أيام في يوم وليلة. فالتقى العسكران يعولان عند الدينور وكان مسعود يدافع الحرب انتظارا لقدوم المسترشد فلما نازله السلطان سنجر لم يجد بدا من المصاف وجعل سنجر على ميمنته طغرل ابن أخيه محمد وقماح وأمير أميران وعلى ميسرته خوارزمشاه أتسز بن محمد مع جمع من الأمراء وجعل مسعودا على ميمنة قراجة الساقي والأمير قزل وعلى ميسرته يرنقش بازدار ويوسف جاووش وغيرهما، وكان قزل قد واطأ سنجر على الانهزام. ووقعت الحرب وقامت على ساق، وكان يوما مشهودا فحمل قراجة الساقي على القلب وفيه السلطان سنجر في عشرة آلاف فارس من شجعان العسكر وبين يديه الفيلة فلما حمل قراجة على القلب رجع الملك طغرل وخوارزمشاه إلى وراء ظهره فصار قراجة في الوسط فقاتل إلى أن جرح عدة جرحات وقتل كثير من أصحابه وأخذ هو أسيرا وبه جرحات كثيرة فلما رأى السلطان مسعود ذلك انهزم وسلم من المعركة،
677 وقتل يوسف جاووش وحسين أزبك وهما من أكابر الأمراء، وكانت الوقعة ثامن رجب من هذه السنة. فلما تمت الهزيمة على مسعود نزل سنجر وأحضر قراجة فلما حضر قراجة سبه وقال يا مفسد أي شيء ترجو بقتالي قال كنت أرجو أن أقتلك وأقيم سلطانا أحكم عليه فقتله صبرا وأرسل إلى السلطان مسعود يستدعيه فحضر عنده وكان قد بلغ خونج فلما رآه قبله وأكرمه وعاتبه على العصيان عليه ومخالفته وأعاده إلى كنجة وأجلس الملك طغرل ابن أخيه محمد في السلطنة وخطب له في جميع البلاد وجعل في وزارته أبا القاسم الأنساباذي وزير السلطان محمود وعاد إلى خراسان فوصل إلى نيسابور في العشرين من رمضان سنة ست وعشرين [وخمسمائة]. وأما المسترشد بالله فكان منه ما نذكره. ذكر مسير عماد الدين زنكي إلى بغداد وانهزامه لما سار المسترشد بالله من بغداد وبلغه انهزام السلطان مسعود عزم على العود إلى بغداد فأتاه الخبر بوصول عماد الدين زنكي إلى بغداد ومعه دبيس بن صدقة وكان السلطان سنجر قد كاتبهما وأمرهما بقصد العراق والاستيلاء عليه فلما علم الخليفة بذلك أسرع العود إليها وعبر إلى الجانب الغربي، وسار فنزل بالعباسية ونزل عماد الدين بالمنارية من دجيل والتقيا بحصن البرامكة سابع عشري رجب فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة وبها جمال الدولة إقبال فانهزموا منه وحمل نظر الخادم من ميسرة الخليفة على
678 ميمنة عماد الدين ودبيس وحمل الخليفة بنفسه واشتد القتال فانهزم دبيس وأراد عماد الدين الصبر فرأى الناس قد تفرقوا عنه فانهزم أيضا وقتل من العسكر جماعة وأسر جماعة وبات الخليفة هناك ليلته وعاد من الغد إلى بغداد. ذكر حال دبيس بعد الهزيمة وفيها عاد دبيس بعد انهزامه المذكور يلوذ ببلاد الحلة وتلك النواحي وجمع جمعا وكانت تلك الولاية بيد إقبال المسترشدي فأمد بعسكر من بغداد فالتقى هو ودبيس فانهزم دبيس واختفى في أجمة هناك وبقى ثلاثة أيام لم يطعم شيئا ولم يقدر على التخلص منها حتى أخرجه حماس على ظهره. ثم جمع جمعا وقصد واسط وانضم إليه عسكرها وبختيار وشاق وابن أبي الجبر ولم يزل فيها إلى أن دخلت سنة سبع وعشرين [وخمسمائة]، فنفذ إليهم يرنقش بازدار وإقبال الخادم المسترشدي في عسكر فاقتتلوا في الماء والبر فانهزم الواسطيون ودبيس وأسر بختيار وشاق وغيره من الأمراء. ذكر وفاة تاج الملوك صاحب دمشق في هذه السنة في رجب توفي تاج الملوك بوري بن طغتكين صاحب دمشق.
679 وسبب موته أن الجرح الذي كان به من الباطنية وقد ذكرناه اشتد عليه الآن وأضعفه وأسقط قوته فتوفي في الحادي والعشرين من رجب ووصى بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل ووصى بمدينة بعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد. وكان بوري كثير الجهاد شجاعا مقداما سد مسد أبيه وفاق عليه وكان ممدحا أكثر الشعراء مدائحه لا سيما ابن الخياط وملك بعده ابنه شمس الملوك وقام بتدبير الأمر بين يديه الحاجب يوسف بن فيروز شحنة دمشق وهو حاجب أبيه واعتمد عليه وابتدأ أمره بالرفق بالرعية والإحسان إليهم فكثر الدعاء له والقصاد عليه. ذكر ملك شمس الملوك حصن اللبوة وحصن رأس وحصره بعلبك في هذه السنة ملك شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق حصن اللبوة وحصن رأس. وسبب ذلك أنهما كانا لأبيه تاج الملوك وفي كل واحد منهما مستحفظ يحفظه فلما ملك شمس الملوك بلغه أن أخاه شمس الدولة محمدا صاحب بعلبك قد راسلهما واستمالهما إليه فسلما الحصنين إليه وجعل فيهما من الجند ما يكفيهما فلم يظهر بذلك أثر بل راسل أخاه بلطف يقبح هذه الحال ويطلب أن يعيدهما إليه فلم يفعل فأغضى على ذلك وتجهز من غير أن يعلم أحدا.
680 وسار هو وعسكره آخر ذي القعدة فطلب جهة الشمال ثم عاد مغربا فلم يشعر من بحصن اللبوة إلا وقد نزل عليهم وزحف لوقته فلم يتمكنوا لنصب منجنيق ولاغيره فطلبوا الأمان فبذله لهم وتسلم الحصن من يومه وسار من آخر النهار إلى حصن رأس فبغتهم وجرى الأمر فيه على تلك القضية وتسلمه وجعل فيهما من يحفظهما. ثم رحل إلى بعلبك وحصرها وفيها أخوه شمس الدولة محمد وقد استعد وجمع في الحصن ما يحتاج إليه من رجال وذخائر فحصرهم شمس الملوك وزحف في الفارس والراجل وقاتله أهل البلد على السور ثم زحف عدة مرات فملك البلد بعد قتال شديد وقتلى كثيرة وبقي الحصن فقاتله وفيه أخوه ونصب المجانيق ولازم القتال فلما رأى أخوه شمس الدولة شدة الأمر أرسل يبذل الطاعة ويسأل أن يقر ما بيده وجعله أبوه باسمه فأجابه إلى مطلوبه وأقر عليه بعلبك وأعمالها وتحالفوا وعاد شمس الملوك إلى دمشق وقد استقامت له الأمور. ذكر الحرب بين السلطان طغرل والملك داود في هذه السنة في رمضان كانت الحرب بين الملوك طغرل وبين ابن أخيه الملك داود بن محمود وكان سببها أن السلطان سنجر أجلس الملك طغرل في السلطنة كما ذكرناه، وعاد إلى خراسان لأنه بلغه أن صاحب
681 ما وراء النهر أحمد خان قد عصى عليه فبادر إلى العود لتلافي ذلك الخرق فلما عاد إلى خراسان عصى الملك داود على عمه طغرل وخالفه وجمع العساكر بأذربيجان وبلاد كنجة وسار إلى همذان فنزل مستهل رمضان عند قرية يقال لها وهان بقرب همذان. وخرج إليه طغرل وعبى كل واحد منه أصحابه ميمنة وميسرة وكان على ميمنة السلطان طغرل بن برسق وعلى ميسرته قزل وعلى مقدمته قراسنقر، وكان على ميمنة داود يرنقش الزكوي ولم يقاتل فلما رأى التركمان ذلك نهبوا خيمه وبركه جميعه ووقع الخلف في عسكر داود فلما رأى أتابكه آقسنقر الأحمديلي ذلك ولى هاربا وتبعه الناس في الهزيمة وقبض طغرل على يرنقش الزكوي وعلى جماعة من الأمراء. وأما الملك داود فإنه لما انهزم بقي متحير إلى أوائل ذي القعدة فقدم بغداد ومعه أتابكه آقسنقر الأحمديلي فأكرمه الخليفة وأنزله بدار السلطان وكان الملك مسعود بكنجة فلما سمع انهزام الملك داود توجه نحو بغداد على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادث في هذه السنة قبض المسترشد بالله على وزيره شرف الدين علي بن طراد الزينبي واستوزر أنو شروان بن خالد بعد أن امتنع وسأل الإقالة.
682 وفي هذه السنة قتل أحمد بن حامد بن محمد أبو نصر مستوفي السلطان محمود الملقب بالعزيز بقلعة تكريت وقد تقدم سبب ذلك سنة خمس وعشرين [وخمسمائة]. وفي المحرم منها قتل محمد بن الحسين أبو الحسين بن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي مولده في شعبان في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وسمع الحديث من الخطيب أبي بكر وابن الحسين بن المهتدي وغيرهما وتفقه قتله أصحابه غيلة وأخذوا ماله. وفي جمادى الأولى توفي أحمد بن عبيد الله بن كادش أبو العز العكبري وكان محدثا مكثرا. وتوفي فيها أبو الفضل عبد الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء وكان أديبا وله شعر حسن فمنه ما كتبه إلى جلال الدين بن صدقة الوزير: (أ مولانا جلال الدين يا من * أذكره بخدمتي القديمة) (ألم تك قد عزمت على اصطناعي * فماذا صد عن تلك العزيمة؟)
683 527 ثم دخلت سنة سبع وعشرين وخمسمائة ذكر ملك شمس الملوك بانياس في هذه السنة في صفر ملك شمس الملوك صاحب دمشق حصن بانياس من الفرنج. وسبب ذلك أن الفرنج استضعفوه وطمعوا فيه وعزموا على نقض الهدنة التي بينهم فتعرضوا إلى أموال جماعة من تجار دمشق بمدينة بيروت وأخذوها فشكى التجار إلى شمس الملوك فراسل في إعادة ما أخذوه وكرر القول فيه فلم يردوا شيئا فحملته الأنفة من هذه الحالة والغيظ على أن جمع عسكره وتأهب ولا يعلم أحد أين يريد. ثم سار وسبق خبره أواخر المحرم من هذه السنة ونزل على بانياس أول صفر وقاتله لساعته وزحف إليه زحفا متتابعا وكانوا غير متأهبين وليس فيه من المقاتلة من يقوم به وقرب من سور المدينة وترجل بنفسه وتبعه الناس من الفارس والراجل ووصلوا إلى السور فنقبوه ودخلوا البلد عنوة،
684 والتجأ من كان من جند الفرنج إلى الحصن وتحصنوا به فقتل من البلد كثيرا من الفرنج وأسر كثيرا ونهبت الأموال، وقاتل القلعة قتالا شديدا ليلا ونهارا فملكها رابع صفر بالأمان وعاد إلى دمشق فوصلها سادسه. وأما الفرنج فإنهم لما سمعوا نزوله على بانياس شرعوا يجمعون عسكرا يسيرون إليه فأتاهم خبر فتحها فبطل ما كانوا فيه. ذكر حرب بين المسلمين والفرنج في هذه السنة في صفر سار ملك الفرنج صاحب البيت المقدس في خيالته ورجالته إلى أطراف أعمال حلب فتوجه إليه الأمير أسوار النائب بحلب فيمن عنده من العسكر وانضاف إليه كثير من التركمان فاقتتلوا عند قنسرين فقتل من الطائفتين جماعة كثيرة وانهزم المسلمون إلى حلب، وتردد ملك الفرنج في أعمال حلب فعاد أسوار وخرج إليه فيمن معه من العسكر فوقع على طائفة منهم فأوقع بهم وأكثر القتل فيهم والأسر فعاد من سلم منهزما إلى بلادهم وانجبر ذلك المصاب بهذا الظفر، ودخل أسوار حلب ومعه الأسرى ورؤوس القتلى وكان يوما مشهودا. ثم إن طائفة من الفرنج من الرها قصدوا أعمال حلب للغارة عليها فسمع بهم أسوار فخرج إليهم هو والأمير حسان البعلبكي فأوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم في بلد الشمال وأسروا من لم يقتل ورجعوا إلى حلب سالمين.
685 ذكر عود السلطان مسعود إلى السلطنة وانهزام الملك طغرل قد تقدم ذكر انهزام السلطان مسعود من عمه السلطان سنجر وعوده إلى كنجة وولاية الملك طغرل السلطنة وأنه تحارب هو والملك داود ابن أخيه محمود وانهزام داود ودخوله بغداد فلما بلغ السلطان مسعود انهزام داود وقصده بغداد سار هو إلى بغداد أيضا فلما قاربها لقيه داود وترجل له وخدمه ودخلا بغداد. ونزل مسعود بدار السلطنة في صفر من هذه السنة وخاطب في الخطبة له فأجيب إلى ذلك وخطب له ولداود بعده وخلع عليهما، ودخلا إلى الخليفة فأكرمهما ووقع الاتفاق على مسير مسعود وداود إلى أذربيجان وأن يرسل الخليفة معهما عسكر فساروا فلما وصلوا إلى مراغة حمل أقسنقر الأحمديلي مالا كثيرا وإقامة عظيمة وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان وانهزم من بها من الأمراء مثل قراسنقر وغيره من بين يديه وتحصن منه كثير منهم بمدينة أردبيل فقصدهم وحصرهم بها وقتل منهم مقتلة عظيمة وانهزم الباقون. ثم سار بعد ذلك إلى همذان لمحاربة أخيه الملك طغرل فلما سمع طغرل بقربه برز إلى لقائه فاقتتلوا إلى الظهر ثم انهزم طغرل وقصد الري واستولى السلطان مسعود على همذان في شعبان، ولما استقر مسعود بهمذان قتل آقسنقر الأحمديلي قتله الباطنية، فقيل إن السلطان مسعودا وضع عليه من قتله.
686 ثم إن طغرل لما بلغ قم عاد إلى أصبهان ودخلها وأراد التحصن بها فسار إليه أخوه مسعود ليحاصره بها فرأى طغرل أن أهل أصبهان لا يطاوعونه على الحصار فرحل عنهم إلى بلاد فارس واستولى مسعود على أصبهان وفرح أهلها به وسار من أصبهان نحو فارس يقتص أثر أخيه طغرل فوصل إلى موضع بقرب البيضاء فاستأمن إليه أمير من أمراء أخيه معه أربعمائة فارس فأمنه فخاف طغرل من عسكره أن ينحازوا إلى أخيه فانهزم من بين يديه وقصد الري في رمضان وقتل وزيره أبا القاسم الأنساباذي في الطريق، وفي شوال قتله غلمان الأمير شيركير الذي سعى في قتله كما تقدم ذكره. وسار السلطان مسعود يتبعه فلحقه بموضع يقال له ذكراور فوقع بينهما المصاف هناك فلما اشتبكت الحرب انهزم الملك طغرل فوقع عسكره في أرض قد نضب عنها الماء وهي وحل فأسر منهم جماعة من الأمراء منهم الحاجب تنكر وابن بغرا فأطلقهم السلطان مسعود، ولم يقتل في هذا المصاف إلا نفر يسير ورجع السلطان مسعود إلى همذان. تم المجلد العاشر