بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: ابن الأثير الجزء: 11 الوفاة: 630 المجموعة: مصادر التاريخ تحقيق: الطبعة: سنة الطبع: 1386 - 1966م المطبعة: دار صادر - دار بيروت الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر ردمك: ملاحظات: الكامل في التاريخ 11
1 الكامل في التاريخ تأليف الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير المجلد الحادي عشر دار صادر للطباعة والنشر دار بيروت للطباعة والنشر بيروت 1386 ه _ 1966 م
3 بسم الله الرحمن الرحيم ذكر حصر المسترشد بالله الموصل في هذه السنة (527) حصر المسترشد بالله مدينة الموصل في العشرين من شهر رمضان وسبب ذلك ما تقدم من قصة الشهيد زنكي ببغداد على ما ذكرناه قبل فلما كان الآن قصد جماعة من الأمراء السلجوقية باب المسترشد بالله وصاروا معه فقوي بهم. واشتغل السلاطين السلجوقية بالخلف الواقع بينهم فأرسل الخليفة الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الإسفرايني الواعظ إلى عماد الدين زنكي برسالة فيها خشونة زادها أبا الفتوح زيادة ثقة بقوة الخليفة وناموس الخلافة فقبض عليه عماد الدين زنكي وأهانه ولقيه بما يكره فأرسل المسترشد بالله إلى السلطان مسعود يعرفه الحال الذي جرى من زنكي ويعلمه أنه على قصد الموصل وحصرها وتمادت الأيام إلى شعبان فسار عن بغداد في النصف منه في ثلاثين ألف مقاتل. فلما قارب الموصل فارقها أتابك زنكي في بعض عسكره وترك الباقي بها
5 مع نائبه نصير الدين جقر دزدارها والحاكم في دولته وأمرهم بحفظها ونازلها الخليفة وقاتلها وضيق على من بها، وأما عماد الدين فإنه سار إلى سنجار وكان يركب كل ليلة ويقطع الميرة عن العسكر ومتى ظفر بأحد من العسكر أخذه ونكل به. وضاقت الأمور بالعسكر أيضا وتواطأ جماعة من الجصاصين بالموصل على تسليم البلد فسعى بهم فأخذوا وصلبوا. وبقي الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر ولم يظفر منها بشيء ولا بلغه عمن بها وهن ولا قلة ميرة وقوت فرحل عنها عائدا إلى بغداد فقيل إن نصر الخادم وصل إليه من عسكر السلطان وأبلغه عن عسكر السلطان مسعود ما أوجب مسيره وعوده إلى بغداد؛ وقيل بلغه إن السلطان مسعودا عزم على قصد بغداد فعاد بالجملة وإنه رحل عنها منحدرا في شبارة في دجلة فوصل إلى بغداد يوم عرفة. ذكر ملك شمس الملوك مدينة حماة وفي هذه السنة أيضا في شوال ملك شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك صاحب دمشق مدينة حماة وقلعتها وهي لأتابك زنكي بن آقسنقر أخذها من تاج الملوك كما ذكرنا ولما ملك شمس الملوك قلعة بانياس أقام بدمشق إلى شهر رمضان من هذه السنة وسار إلى حماة في العشر الأخير منه. وسبب طمعه أنه بلغه أن المسترشد بالله يريد [أن] يحصر الموصل فطمع وكان الوالي بحماة قد سمع الخبر فتحصن واستكثر من الرجال والذخائر ولم
6 يبق أحد من أصحاب شمس الملوك إلا وأشار عليه بترك قصدها لقوة صاحبها فلم يسمع منهم، وسار إليها وحضر المدينة وقاتل من بها يوم العيد وزحف إليها من وقته فتحصنوا منه وقاتلوا فعاد عنهم ذلك اليوم. فلما كان الغد بكر إليهم وزحف إلى البلد من جوانبه فملكه قهرا وعنوة وطلب من به الأمان فأمنهم وحصر القلعة ولم تكن في الحصانة والعلو على ما هي اليوم فإن تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قطع جبلها وعملها هكذا في سنين كثيرة فلما حصرها عجز الوالي بها عن حفظها فسلمها إليه فاستولى عليها وعلى ما بها من ذخائر وسلاح وغير ذلك، وسار منها إلى قلعة شيزر وبها صاحبها من بني منقذ فحصرها ونهب بلدها فراسله صاحبها وصانعه بمال حمله إليه فعاد إلى دمشق فوصل إليها في ذي القعدة من السنة المذكورة. ذكر هزيمة صاحب طرابلس الفرنجي وفي هذه السنة عبر إلى الشام جمع كثير من التركمان من بلاد الجزيرة وأغاروا على بلاد طرابلس وغنموا وقتلوا كثيرا فخرج القمص صاحب طرابلس في جموعه فانزاح التركمان من بين يديه فتبعهم فعادوا إليه وقاتلوه فهزموه وأكثروا القتل في عسكره ومضى هو ومن سلم معه إلى قلعة بعرين فتحصنوا فيها وامتنعوا عن التركمان فحصرهم التركمان فيها فلما طال الحصار عليهم نزل صاحب طرابلس ومعه عشرون فارسا من أعيان أصحابه سرا فنجوا وساروا إلى طرابلس وترك الباقين في بعرين يحفظونها، فلما وصل
7 إلى طرابلس كاتب الفرنج فاجتمع عنده منهم خلق كثير وتوجه بهم نحو التركمان ليرحلهم عن بعرين، فلما سمع التركمان بذلك قصدوهم والتقوهم وقتل بينهم خلق كثير وأشرف الفرنج على الهزيمة فجمعوا نفوسهم وعادوا على حمية إلى رفنية فتعذر على التركمان اللحاق بهم إلى وسط بلادهم فعادوا عنهم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة اشترى الإسماعيلية بالشام قلعة حصن القدموس من صاحبه ابن عمرون وصعدوا إليه وقاموا بحرب من يجاورهم من المسلمين والفرنج وكانوا كلهم يكرهون مجاورتهم. وفيها وقع الخلف بالشام فقاتل بعضهم بعضا ولم تجر لهم بذلك عادة قبل هذه السنة وقتل بينهم جماعة. وفيها في جمادى الآخرة أغار الأمير سوار مقدم عسكر زنكي بحلب على ولاية تل باشر فغنم الكثير فخرج إليه الفرنج في جموع كثيرة فقاتلوه فظفر بهم وأكثر القتل فيهم وكان عدة القتلى نحو ألف قتيل وعاد سالما. وفيها تاسع ربيع الآخر وثب على شمس الملوك صاحب دمشق بعض مماليك جده طغدكين فضربه بسيف فلم يعمل فيه شيئا وتكاثر عليه مماليك شمس الملوك فأخذوه وقرر ما الذي حمله على ما فعل فقال أردت إراحة المسلمين من شرك وظلمك ولم يزل يضرب حتى أقر على جماعة أنهم وضعوه
8 على ذلك فقتلهم شمس الملوك بغير تحقيق وقتل معهم أخاه سونج فعظم ذلك على الناس ونفروا عنه. وفيها توفي الشيخ أبو الوفاء الفارسي وكان له جنازة مشهودة حضرها أعيان بغداد. وفيها في رجب توفي القاضي أبو العباس أحمد بن سلامة بن عبد الله بن مخلد المعروف بابن الرطبي الفقيه الشافعي قاضي الكرخ وتفقه على أبي إسحاق وأبي نصر بن الصباغ وسمع الحديث ورواه وكان قريبا من الخليفة يؤدب أولاده. وتوفي أبو الحسين علي بن عبد الله بن نصر المعروف بابن الزاغوني الفقيه الحنبلي الواعظ وكان ذا فنون توفي في المحرم. وتوفي علي بن يعلى بن عوض بن القاسم الهروي كان واعظا وله بخراسان قبول كثير وسمع الحديث فأكثر؛ ومحمد بن أحمد بن علي أبو عبد الله العثماني وهو من أولاد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان. وكان محمد يلقب بالديباج لحسنه وأصله من مكة وهو من أهل نابلس، وكان مغاليا في مذهب الأشعري وكان يعظ توفي في صفر. وفيها توفي أبو فليتة أمير مكة وولي الإمارة بعده ابنه القاسم. وفيها توفي العزيز بن هبة الله بن علي الشريف العلوي الحسيني فجأة بنيسابور وكان جده نقيب النقباء بخراسان وعرض على العزيز هذا نقابة
9 العلويين فامتنع وعرض عليه وزارة السلطان فامتنع ولزم الانقطاع والاشتغال بأمر آخرته. وفيها توفي قاضي قضاة خراسان أبو سعيد محمد بن أحمد بن صاعد وكان خيرا صالحا.
10 528 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة ذكر ملك شمس الملوك شقيق تيرون ونهبه بلد الفرنج في هذه السنة في المحرم سار شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق منها إلى شقيف تيرون وهو في الجبل المطل على بيروت وصيدا وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم قد تغلب عليه وامتنع به فتحاماه المسلمون والفرنج يحتمي على كل طائفة بالآخرين فسار شمس الملوك إليه في هذه السنة وأخذه منه في المحرم وعظم أخذه على الفرنج لأن الضحاك كان لا يعترض إلى شيء من بلادهم المجاورة له فخافوا شمس الملوك فجمعوا عساكرهم فلما اجتمعت ساروا إلى بلد حوران فخرجوا أمهات البلد ونهبوا ما أمكنهم نهبه نهبة عظيمة. وكان شمس الملوك لما رآهم يجمعون جمع هو أيضا وحشدوا وحضر عنده جمع كثير من التركمان وغيرهم فنزل بإزاء الفرنج وجرت بينهم مناوشة عدة أيام ثم إن شمس الملوك نهض ببعض عسكره وجعل الباقي قبالة الفرنج وهم لا يشعرون وقصد بلدهم طبرية والناصرة وعكا وما يجاورها من
11 البلاد فنهب وخرب وأحرق وسبى النساء والذرية وامتلأت أيدي من معه من الغنائم واتصل الخبر بالفرنج فانزعجوا ورحلوا في الحال لا يلوي أخ على أخيه وطلبوا بلادهم. وأما شمس الملوك فإنه عاد إلى عسكره على غير الطريق الذي سلكه الفرنج فوصل سالما ورأى الفرنج بلادهم خرابا ففت في أعضادهم وتفرقوا وراسلوا في تجديد الهدنة فهادنهم شمس الملوك في ذي القعدة للسنة. ذكر عود الملك طغرل إلى الجبل وانهزام الملك مسعود في هذه السنة عاد الملك طغرل بن محمد بن ملكشاه ملك بلاد الجبل جميعها وأجلى عنها أخاه السلطان مسعودا. وسبب ذلك أن مسعودا لما عاد من حرب أخيه طغرل بلغه عصيان داود ابن أخيه السلطان محمود بأذربيجان فسار إليه وحصره بقلعة روئين وكان قد تحصن بها واشتغل بحصره فجمع الملك طغرل العساكر واستمال بعض قواد مسعود ولم يزل يفتح البلاد فكثرت عساكره وقصد مسعودا فلما قارب قزوين سار مسعود نحوه فلما تراءى العسكر فارق مسعودا من أمرائه من كان قد استماله طغرل فبقي في قلة من العسكر فولى منهزما أواخر رمضان. وأرسل إلى المسترشد بالله في القدوم [إلى] بغداد، فأذن له، وكان نائبه بأصفهان البقش السلاحي ومعه الملك سلجوق شاه فلما سمع بانهزام مسعود قصد بغداد أيضا فنزل سلجوق شاه بدار السلطان فأكرمه
12 الخليفة وأنفذ إليه عشرة آلاف دينار، ثم قدم مسعود بغداد وأكثر أصحابه ركاب جمال لعدم ما يركبونه ولقي في طريقه شدة فأرسل إليه الخليفة الدواب والخيام والآلات وغيرها من الأموال والثياب فدخل الدار السلطانية ببغداد منتصف شوال وقام طغرل بهمذان. ذكر حصر أتابك زنكي آمد والحرب بينه وبين داود وملك زنكي قلعة الصور في هذه السنة اجتمع أتابك زنكي وتمرتاش صاحب ماردين وقصدا مدينة آمد فحصراها فأرسل صاحبها إلى داود بن سقمان صاحب حصن كيفا يستنجده فجمع عساكره وغيرها وسار نحو آمد ليرحلهما عنها فالتقوا على باب آمد وتصافوا في جمادى الآخرة فاقتتلوا فانهزم داود وعاد مفلولا وقتل جماعة من عسكره. واقام زنكي وتمرتاش على آمد محاصرين لها وقطعا الشجر وشعثا البلد ثم عادا عنها من غير بلوغ غرض فقصد زنكي قلعة الصور من ديار بكر وحصرها وضايقها فملكها في رجب من هذه السنة واتصل به ضياء الدين أبو سعيد بن الكفرتوثي فاستوزره زنكي وكان حسن الطريقة عظيم الرياسة والكفاية محبا للخير وأهله.
13 ذكر ملك زنكي قلاع الأكراد الحميدية في هذه السنة استولى عماد الدين زنكي على جميع قلاع الأكراد الحميدية منها قلعة العقر وقلعة شوش وغيرهما. وكان لما ملك الموصل أقر صاحبها الأمير عيسى الحميدي على ولايتها وأعمالها ولم يعترضه على شيء مما هو بيده؛ فلما حضر المسترشد إلى الموصل حضر عيسى هذا عنده وجميع الأكراد عنده فأكثر فلما رحل المسترشد عن الموصل أمر زنكي أن تحصر قلاعهم فحصرت مدة طويلة وقوتلت قتالا شديدا إلى أن ملكت هذه السنة فاطمأن إذا أهل السواد المجاورون لهؤلاء القوم فإنهم كانوا معهم في ضائقة كبيرة من نهب أموالهم وخراب البلاد. ذكر ملك قلاع الهكارية وكواشى وحكي عن بعض العلماء من الأكراد ممن له معرفة بأحوالهم أن أتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها. خاف أبو الهيجاء بن عبد الله صاحب قلعة أشب والجزيرة ونوشى فأرسل إلى أتابك زنكي من استحلفه له وحمل إليه مالا وحضر عند زنكي بالموصل فبقي مدة ثم مات فدفن بتل توبة ولما سار عن أشب إلى الموصل أخرج ولده أحمد بن أبي الهيجاء
14 منها خوفا أن يتغلب عليها وأعطاه قلعة نوشى وأحمد هذا هو والد علي بن أحمد المعروف بالمشطوب من أكابر أمراء صلاح الدين بن أيوب بالشام. ولما أخرجه أبوه من أشب استناب بها كرديا يقال له باو الأرجي فلما مات أبو الهيجاء سار ولده أحمد من نوشى إلى أشب ليملكها فمنعه باو وأراد حفظها لولد صغير لأبي الهيجاء اسمه علي فسار زنكي بعسكره فنزل على أشب وملكها. وسبب ملكها أن أهلها نزلوا كلهم إلى القتال فتركهم زنكي حتى قاربوه واستجرهم حتى أبعدوا عن القلعة ثم عطف عليهم فانهزموا فوضع السيف فيهم فأكثر القتل والأسر، وملك زنكي القلعة في الحال وأحضر جماعة من مقدمي الأكراد فيهم باو فقتلهم وعاد عنها إلى الموصل ثم سار عنها ففي غيبته أرسل نصير الدين جقر نائب زنكي وخرب أشب وخلى كهيجة ونوشى وقلعة الجلاب وهي قلعة العمادية وأرسل إلى قلعة الشعباني وفرح وكوشر والزعفران وألقى وسروة وهي حصون المهرانية فحصرها فملك الجميع واستقام أمر الجبل والزوزان وأمنت الرعايا من الأكراد. وأما باقي الهكارية جبل صور وهرور والملاسي ومابرما وبابوخا وباكزا ونسباس فإن قراجة صاحب العمادية فتحها من مدة طويلة بعد قتل زنكي وهذا قراجة كان أميرا قد أقطعه زين الدين على بلد الهكارية بعد قتل زنكي ولم أعلم تاريخ فتح هذه القلاع فلهذا ذكرته هاهنا. وحكى غير هذا بعض فضلاء الأكراد وخالف فيه فقال إن زنكي لما فتح قلعة أشب وخربها وبنى قلعة العمادية ولم يبق في الهكارية إلا صاحب جبل صور وصاحب هرور ولم يكن لهما شوكة يخاف منها عاد إلى الموصل،
15 فخافه أصحاب القلاع الجبلية فاتفق أن عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الربية وألقى وفرح وغيرها توفي وملكها بعده ولده علي وكانت والدته خديجة بنت الحسن أخت إبراهيم إبراهيم وعيسى وهما من الأمراء مع زنكي وكانا بالموصل فأرسلها ولدها علي إلى أخويها وطلبا له الأمان من زنكي وحلفاه له ففعل ونزل إلى خدمة زنكي وأقره على قلاعه واشتغل زنكي بفتح قلاع الهكارية وكان الشعباني بيد أمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر فأخذه منه وقربه منه لكبره وقلة أعماله. وكان نصير الدين يكره صاحب الربية وغيرها فحسن لزنكي القبض عليه فأذن له في ذلك فقبض عليه ثم ندم زنكي على قبضه فأرسل إلى نصير الدين أن يطلقه فرآه قد مات قيل إن نصير الدين قتله ثم أرسل العسكر إلى قلعة الربية فنازلوها بغتة فملكوها في ساعة وأسروا كل من بها من ولد علي وإخوته وأخواته وكانت والدة علي خديجة غائبة فلم توجد فلما سمع زنكي الخبر بفتح الربية سرة وأمر أن تسير العساكر إلى باقي القلاع التي لعلي فسارت العساكر فحصروها فرأوها منيعة فراسلهم زنكي ووعدهم الإحسان فأجابوه إلى التسليم على شرط أن يطلق كل من في السجن منهم فلم يجبهم إلى ذلك إلا أن يسلموا أيضا قلعة كواشى فمضت خديجة والدة علي إلى صاحب كواشى واسمه خول وهارون وهو من المهرانية فسألته النزول عن كواشى فأجابها إلى ذلك وتسلم زنكي القلاع وأطلق الأسرى فلم يسمع بمثل هذا فقال ينزل عن مثل كواشى لقول امرأة فإما أن يكون أعظم الناس مروءة لا يرد من دخل بيته وإما أن يكون أقل الناس عقلا واستقامت ولاية الجبال.
16 ذكر عدة حوادث في هذه السنة أوقع الدانشمند صاحب ملطية بالفرنج الذين بالشام فقتل كثيرا منهم وفيها اصطلح الخليفة وأتابك زنكي. وفيها في ربيع الأول عزل أنو شروان بن خالد عن وزارة الخليفة؛ وفيها توفيت أم المسترشد بالله؛ وفيها سير المسترشد عسكر إلى تكريت فحصروا مجاهد الدين بهروز فصانع عنها بمال فعادوا عنه. وفيها اجتمع جمع من العساكر السنجرية مع الأمير أرغش وحصروا قلعة كردكوه بخراسان وهي للإسماعيلية وضيقوا على أهلها وطال حصرها وعدمت عندهم الأقوات فأصاب أهلها تشنج وكزاز وعجز كثير منهم عن القيام فضلا عن القتال فلما ظهرت أمارات الفتح رحل الأمير أرغش فقيل إنهم حملوا إليه مالا كثيرا وأعلاقا نفيسة فرحل عنهم. وفيها توفي الأمير سليمان بن مهارش العقيلي أمير بني عقيل وولي الإمارة بعده أولاده مع صغر سنهم وطيف بهم في بغداد رعاية لحق جدهم مهارش فإنه هو الذي كان الخليفة القائم بأمر الله عنده لما فعل به البساسيري ما ذكرنا. وفيها توفي الفقيه أبو علي الحسن بن إبراهيم بن فرهون الشافعي الفارقي ومولده سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وتفقه على أبي عبد الله الكازروني فلما توفي الكازروني انحدر إلى بغداد وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وأبي نصر الصباغ وولي القضاء بواسط وكان خيرا فاضلا لا يواري ولا يحابي أحدا في الحكم.
17 وفيها توفي عبد [الله] بن محمد بن أحمد بن الحسن وأبو محمد بن أبي بكر الفقيه الشافعي تفقه على أبيه وكان يعظ ويكثر في كلامه من التجانس فمن ذلك قوله أين القدود العالية والخدود الوردية مثلت بها والله العافية والوردية وهما مقبرتان بنهر معلى ومن شعره: (الدمع دما يسيل من أجفاني * إن عشت مع البكا فما أجفاني) (سجني شجني وهمني سماني * العاذل بالملام قد سماني) (والذكر لهم يزيد في أشجاني * والنوح مع الحمام قد أشجاني) (ضاقت ببعاد منيتي أعطاني * والبين يد الهموم قد أعطاني) وفيها توفي ابن أبي الصلت الشاعر ومن شعره يذم ثقيلا: (لي صديق عجبت كيف استطاعت * هذه الأرض والجبال ثقله) (أنا أرعاه مكرما وبقلبي * منه ما يتلف الجبال أقله) (هو مثل المشيب أكره رؤياه * ولكن أصونه وأجله) وله أيضا: (ساد صغار الناس من عصرنا * لا دام من عصر ولا كانا) (كالدست مهما هم أن ينقضي * صار به البيدق فرزانا) وفيها توفي محمد بن علي بن عبد الوهاب أبو رشيد الفقيه الشافعي من أهل طبرستان وسمع الحديث أيضا ورواه وكان زاهدا عابدا أقام بالجزيرة وهي جزيرة ابن عمر سنين منفردا يعبد الله سبحانه وتعالى وعاد إلى آمل وقبره يزار.
18 529 ثم دخلت سنة تسع وعشرين وخمسمائة ذكر وفاة الملك طغرل وملك مسعود بلد الجبل قد ذكرنا قدوم السلطان مسعود إلى بغداد منهزما من أخيه الملك طغرل وأن الخليفة أكرمه وحمل إليه ما يحتاج إليه مثله وأمره بالمسير إلى همذان وجمع العساكر ومنازعة أخيه طغرل في السلطنة والبلاد ومسعود يعد ويدافع الأيام والخليفة يحثه على ذلك ووعده أن يسير معه بنفسه وأمر أن يبرز خيامه إلى باب الخليفة. وكان قد اتصل الأمير البقش السلاحي وغيره من الأمراء بالخليفة وطلبوا خدمته فأجابهم وصاروا معه واتفق أن إنسانا أخذ معه ملطفات من طغرل إلى هؤلاء الأمراء بالأقطاع لهم فلما رأى الخليفة ذلك قبض على أمير منهم اسمه غلبك ونهب ماله فاستشعر غيره من الأمراء الذين مع الخليفة فهربوا إلى عسكر السلطان مسعود فأرسل الخليفة إليه في إعادتهم إليه فلم يفعل واحتج بأشياء فعظم ذلك على الخليفة وحدث بينهما نفرة ووحشة أوجبت تأخره عن المسير معه وأرسل إليه يلزمه بالمسير معه أمرا جزما فبينما الأمر على هذا إذ جاءه الخبر بوفاة أخيه طغرل وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة وكان مولده سنة ثلاث وخمسمائة في المحرم وكان خيرا عاقلا عادلا قريبا إلى الرعية محسنا إليه، وكان قبل موته قد خرج مكن داره يريد السفر لقتال أخيه مسعود فدعا له الناس، فقال:
19 ادعوا بخيرنا للمسلمين. ولما توفي ووصل الخبر إلى مسعود سار من ساعته نحو همذان وأقبلت العساكر جميعها إليه واستوزر شرف الدين أنو شروان بن خالد وكان قد خرج صحبته هو وأهله ووصل مسعود إلى همذان واستولى عليها وأطاعته البلاد جميعها وأهلها. ذكر قتل شمس الملوك وملك أخيه في هذه السنة رابع عشر ربيع الآخر قتل شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغدكين صاحب دمشق وسبب قتله أنه ركب طريقا من الظلم ومصادرات العمال وغيرهم في أعمال البلد وبالغ في العقوبات لاستخراج الأموال وظهر منه بخل زائد ودناءة نفس بحيث أنه لا يأنف من أخذ الشيء الحقير بالعدوان إلى غير ذلك من الأخلاق الدنيئة وكرهه أهله وأصحابه ورعيته. ثم إنه ظهر عنه أنه كاتب عماد الدين زنكي أنه يسلم إليه دمشق ويحثه على سرعة الوصول وأخلى المدينة من الذخائر والأموال ونقل الجميع إلى صوبه وتابع الرسل إلى زنكي يحثه على الوصول إليه ويقول له إن أهملت المجيء سلمت البلد إلى الفرنج فسار زنكي فظهر الخبر بذلك فامتعض أصحاب أبيه وجده وأقلقهم وذكروا الحال لوالدته فساءها وأشفقت منه ووعدتهم بالراحة من هذا الأمر. ثم إنها ارتقبت الفرصة في الخلوة من غلمانه فلما رأته على ذلك أمرت غلمانها بقتله فقتل وأمرت بإلقائه على موضع في الدار ليشاهده غلمانه
20 وأصحابه فلما رأوه قتيلا سروا لمصرعه وبالراحة من شره. وكان مولده سابع جمادى الآخرة سنة ست وخمسمائة وقيل كان سبب قتله أن والده كان له صاحب اسمه يوسف بن فيروز وكان متمكنا منه ما حاكما في دولته في دولة شمس الملوك بعده فاتهم بأم شمس الملوك ووصل الخبر إليه بذلك فهم بقتل يوسف فهرب منه إلى تدمر وتحصن بها وأظهر الطاعة لشمس الملوك فأراد قتل أمه فبلغها الخبر فقتله خوفا منه والله أعلم. ولما قتل ملك بعده أخوه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك وحلف له الناس واستقر له الملك بعده والله أعلم. ذكر حصر أتابك زنكي دمشق في هذه السنة حصر أتابك زنكي دمشق ونازلها أول جمادى الأولى، وسببه ما ذكرنا من إرسال شمس الملوك صاحبها إليه واستدعائه ليسلمها إليه فلما وصلت كتبه ورسله سار إليها فقتل شمس الملوك قبل وصوله ولما عبر الفرات أرسل إليه رسلا في تقرير قواعد التسليم فرأوا الأمر قد فات إلا أنهم أكرموا وأحسن إليهم وأعيدوا بأجمل هيئة وعرفوا زنكي بقتل شمس الملوك وأن القواعد عندهم مستقرة لشهاب الدين والكلمة متفقة على طاعته فلم يحفل زنكي بهذا الجواب،
21 وسار إلى دمشق فنازلها وأجفل أهل السواد إليها واجتمعوا فيها على محاربته. ونزل أولا شماليها ثم انتقل إلى ميدان الحصى وزحف وقاتل فرأى قوة ظاهرة وشجاعة عظيمة واتفاقا تاما على محاربته وقام معين الدين أنز مملوك جده طغدكين في هذه الحادثة بدمشق قياما مشهودا وظهر من معرفته بأمور الحصار والقتال وكفايته ما لم يرو ما كان سبب تقدمه واستيلائه على الأمور بأسرها على ما نذكر إن شاء الله تعالى. فبينما هو يحاصرها وصل رسول الخليفة المسترشد بالله وهو أبو بكر بن بشر الجزري من جزيرة ابن عمر بخلع أتابك زنكي ويأمره بصلح صاحب دمشق الملك ألب أرسلان محمود الذي مع أتابك زنكي فرحل عنها لليلتين مضين من جمادى الأولى من السنة المذكورة. ذكر قتل حسن بن الحافظ قد ذكرنا سنة ست وعشرين وخمسمائة أن الحافظ لدين الله صاحب مصر استوزر ابنه حسنا وخطب له بولاية العهد فبقي إلى هذه السنة ومات مسموما؛ وسبب ذلك أنه كان جريئا على سفك الدماء وكان في نفس الحافظ على الأمراء الذين أعانوا أبا علي بن الأفضل حقد ويريد الانتقام منهم من غير أن يباشر ذلك بنفسه فاستوزر ابنه وأمره بذلك فتغلب على الأمر جميعه واستبد به ولم يبق لأبيه معه حكم وقتل من الأمراء المصريين ومن أعيان البلاد جمعا حتى قيل إنه قتل في ليلة واحدة أربعين أميرا.
22 فلما رأى أبوه تغلبه عليه أخرج له خادما من خدم القصر الأكابر فجمع الجموع وحشد من الرجالة خلقا كثيرا وتقدم إلى القاهرة ليقاتل حسنا ويخرجه منها فأرسل له جماعة من خواصه وأصحابه فقاتلوهم فانهزم الخادم وقتل الرجال الذين معه وعبر الباقون إلى الجيزة فاستكان الحافظ فصبر تحت الحجر. ثم إن الباقين من الأمراء المصريين اجتمعوا واتفقوا على قتل حسن وأرسلوا إلى أبيه الحافظ وقالوا له إما أنك تسلم ابنك إلينا لنقتله أو نقتلكما جميعا فاستدعى ولده إليه واحتاط عليه وأرسل إلى الأمراء بذلك فقالوا لا نرضى إلا بقتله فرأى أنه إن سلمه إليهم طمعوا فيه وليس إلى إبقائه سبيل، فأحضر طبيبين كانا له أحدهما مسلم والآخر يهودي فقال لليهودي نريد سما نسقيه لهذا الولد ليموت ونخلص من هذه الحادثة فقال أنا لا أعرف غير النقوع وماء الشعير وما شاكل هذا من الأدوية فقال أنا أريد ما أخلص به من هذه المصيبة فقال له لا أعرف شيئا فأحضر المسلم وأمره بذلك فصنع له شيئا فسقاه الولد فمات لوقته فأرسل الحافظ إلى الجند يقول لهم إنه قد مات فقالوا نريد ننظر إليه فأحضر بعضهم عنده فرأوه وظنوه قد عمل حيلة فجرحوا أسافل رجليه فلم يجر منها دم فعلموا موته وخرجوا. ودفن حسن وأحضر الحافظ الطبيب المسلم وقال له أخرج من عندنا من القصر وجميع مالك من الإنعام والجامكية باق عليك وأحضر اليهودي وقال أعلم أنك تعرف ما طلبته منك ولكنك عاقل فتقيم في القصر عندنا. وكان حسن سئ السيرة ظالما جريئا على سفك الدماء وأخذ الأموال، فهجاه الشعراء فمن ذلك ما قال المعتمد بن الأنصاري صاحب الترسل المشهور: (لم تأت يا حسن بين الورى حسنا * ولم تر الحق في دنيا ولا دين)
23 (قتل النفوس بلا جرم ولا سبب * والجور في أخذ أموال المساكين) (لقد جمعت بلا علم ولا أدب * تيه الملوك وأخلاق المجانين) وقيل إن الحافظ لما رأى ابنه تغلب على الملك وضع عليه من سقاه السم فمات والله أعلم. ولما مات حسن استوزر الحافظ الأمير تاج الدولة بهرام وكان نصرانيا فتحكم واستعمل الأرمن على الناس فاستذلوا المسلمين وسنذكر أخباره سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة إن شاء الله تعالى. ذكر مسير المسترشد إلى حرب السلطان مسعود وانهزامه في هذه السنة كان الحرب بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان مسعود في شهر رمضان، وسبب ذلك أن السلطان مسعود لما سافر من بغداد إلى همذان بعد موت أخيه طغرل وملكها فارقه جماعة من أعيان الأمراء منهم يرنقش بازدار وقزل آخر وسنقر الخمارتكين والي همذان وعبد الرحمن بن طغايرك وغيرهم خائفين منه مستوحشين ومعهم عدد كثير ومعهم دبيس بن صدقة وأرسلوا إلى الخليفة يطلبون منه الأمان ليحضروا في خدمته فقيل له إنها مكيدة لأن دبيسا معهم؛ وساروا نحو خوزستان واتفقوا مع برسق بن برسق فأرسل الخليفة إليهم سديد الدولة ابن الأنباري بتوقيعات إلى الأمراء المذكورين بتطييب نفوسهم والأمر بحضورهم.
24 وكان الأمراء المذكورون قد عزموا على قبض دبيس والتقرب إلى الخليفة بحمله إليه فبلغه ذلك فهرب إلى السلطان مسعود وسار الأمراء إلى بغداد في رجب فأكرمهم الخليفة وحمل إليهم الإقامات والخلع وقطعت خطب السلطان مسعود من بغداد وبرز الخليفة في العشرين من رجب على عزم المسير إلى قتال مسعود وأقام في الشفيعي فعصى عليه بكبه صاحب البصرة فهرب إليها فراسله وبذل له الأمان فلم يعد إليه. وتريث الخليفة عن المسير وهؤلاء الأمراء يحسنون له الرحيل ويسهلون عليه الأمر ويضعون عنده أمر السلطان مسعود فسير مقدمته إلى حلوان فنهبوا البلاد وأفسدوا ولم ينكر عليهم شيئا ثم سار الخليفة ثامن شعبان ولحق به في الطريق الأمير برسق بن برسق فبلغت عدتهم سبعة آلاف فارس. وتخلف بالعراق مع إقبال خادم المسترشد بالله ثلاثة آلاف فارس وكان السلطان مسعود بهمذان في نحو ألف وخمسمائة فارس وكان أكثر أصحاب الأطراف يكاتبون الخليفة ويبذلون له الطاعة فتريث في طريقه فاستصلح السلطان مسعود أكثرهم حتى عادوا إليه فصاروا نحو خمسة عشر ألف فارس وتسلل جماعة كثيرة من عسكر الخليفة حتى بقي في خمسة آلاف، وأرسل أتابك زنكي نجدة فلم يلحق. وأرسل الملك داود ابن السلطان محمود وهو بأذربيجان إلى الخليفة يشير بالميل إلى الدينور ليحضر بنفسه وعسكره فلم يفعل المسترشد وسار حتى بلغ دايمرج وعبى أصحابه فجعل في الميمنة يرنقش بازدار ونور الدولة سنقر وقزل آخر وبرسق بن برسق وجعل في المسيرة جاولي
25 وبرسق شراب سلار وأغلبك الذي كان الخليفة قد قبض عليه وأخرجه من محبسه. ولما سمع السلطان مسعود خبرهم سار إليهم مجدا فواقعهم بدايمرج عاشر رمضان وانحازت ميسرة الخليفة إلى السلطان مسعود فصارت معه واقتتلت ميمنة الخليفة وميسرة السلطان قتالا ضعيفا ودارت عساكر السلطان حول عساكر الخليفة وهو ثابت لم يتحرك من مكانه وانهزم عسكره وأخذ هو أسيرا ومعه جمع كثير من أصحابه منهم الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي وقاضي القضاة وصاحب المخزن ابن طلحة وابن الأنباري والخطباء والفقهاء والشهود وغيرهم وأنزل الخليفة في خيمة وغنموا ما في معسكره وكان كثيرا فحمل الوزير وقاضي القضاة وابن الأنباري وصاحب المخزن وغيرهم من الأكابر إلى قلعة سرجهان وباع الباقون نفوسهم بالثمن دون الطفيف ولم يقتل في هذه المعركة أحد وهذه أعجب ما يحكى. وعاد السلطان إلى همذان وأمر فنودي من تبعنا إلى همذان من البغاددة قتلناه فرجع الناس كلهم على أقبح حال لا يعرفون طريقا وليس معهم ما يحملهم، وسير السلطان الأمير بك أبه المحمودي إلى بغداد شحنة فوصلها سلخ رمضان ومعه عبيد فقبضوا جميع أملاك الخليفة وأخذوا غلاتها. وثار جماعة من عامة بغداد فكسروا المنبر والشباك ومنعوا من الخطبة وخرجوا من الأسواق يحثون التراب على رؤوسهم ويبكون ويصيحون وخرج النساء حاسرات في الأسواق يلطمن واقتتل أصحاب الشحنة وعامة بغداد فقتل من العامة ما يزيد على مائة وخمسين قتيلا وهرب الوالي وحاجب الباب.
26 وأما السلطان فإنه سار في شوال من همذان إلى مراغة لقتال الملك داود ابن أخيه محمود وكان قد عصى عليه فنزل على فرسخين من مراغة والمسترشد معه فترددت الرسل بين الخليفة وبين السلطان في الصلح فاستقرت القاعدة على ما نذكره إن شاء الله والله الموفق. ذكر قتل المسترشد بالله وخلافة الراشد بالله لما قبض المسترشد بالله أبو منصور بن الفضل بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد على ما ذكرناه جعله السلطان مسعود في خيمة ووكل به من يحفظه وقام بما يجب من خدمته وترددت الرسل بينهما في تقرير قواعد الصلح على مال يؤديه الخليفة وأن لا يعود يجمع العساكر وأن لا يخرج من داره فأجاب السلطان إلى ذلك وأركب الخليفة وحمل الغاشية بين يديه ولم يبق إلا أن يعود إلى بغداد فوصل الخبر أن الأمير قزان خوان قد ورد رسولا من السلطان سنجر فتأخر مسير المسترشد لذلك وخرج الناس مع السلطان مسعود إلى لقائه وفارق الخليفة بعض من كان موكلا به وكانت خيمته منفردة عن العسكر فقصده أربعة وعشرون رجلا من الباطنية ودخلوا عليه فقتلوه وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحة ومثلوا به فجدعوا أنفه وأذنيه وتركوه عريانا وقتل معه نفر من أصحابه منهم أبو عبد الله بن سكينة وكان قتله يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة وبقي حتى دفنه أهل مراغة. وأما الباطنية فقتل منهم عشرة وقيل بل قتلوا جميعهم والله أعلم.
27 وكان عمره لما قتل ثلاثا وأربعين سنة وثلاثة أشهر وكانت خلافته سبعة عشر سنة وستة أشهر وعشرين يوما وأمه أم ولد وكان شهما شجاعا كثير الإقدام بعيد الهمة وأخباره المذكورة ترى على ما ذكرناه وكان فصيحا بليغا حسن الخط ولقد رأيت خطه في غاية الجودة ورأيت أجوبته على الرقاع من أحسن ما يكتب وأفصحه. ولما قتل المسترشد بالله بويع ابنه الراشد بالله أبو جعفر المنصور ولقب الراشد بالله وكان أبوه قد بايع له بولاية العهد في حياته وجددت له البيعة بعد قتله يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي القعدة وكتب السلطان مسعود إلى بك آبه الشحنة ببغداد يبايع له وحضر الناس البيعة وحضر بيعته أحد وعشرون رجلا من أولاد الخلفاء وبايع له أبو النجيب ووعظه وبالغ في الموعظة وأما جمال الدولة المسترشدي فكأنه كان ببغداد في طائفة من العسكر فلما جرت هذه الحادثة عبر إلى الجانب الغربي وأصعد إلى تكريت وراسل مجاهد الدين بهروز وحلفه وصعد إليه إلى القلعة. ذكر مسير السلطان سنجر إلى غزنة وعوده عنها في هذه السنة في ذي القعدة سار السلطان سنجر من خراسان إلى غرنة وسبب ذلك أنه نقل إليه عن صاحبها بهرام شاه أنه تغير عن طاعته وأنه قد مد يده إلى ظلم الرعايا واغتصاب أموالهم.
28 وكان السلطان سنجر هو الذي ملك غرنة وقد ذكرناه سنة تسع وخمسمائة فلما سمع هذه الأخبار المزعجة سار إلى غرنة ليأخذها أو يصلحه فلما رأى الطريق أبعد أدركهم شتاء شديد البرد كثير الثلج وتعذرت عليهم الأقوات والعلوفات فشكا العساكر إلى السلطان ذلك وذكروا له ما هم فيه من الضيق وتعذر ما يحتاجون إليه فلم يجب عنه بغير التقدم أمامه، فلما قارب غزنة أرسل بهرام شاه إلى سنجر رسلا يتضرع ويسأل الصفح عن جرمه والعفو عن ذنبه فأرسل إليه سنجر المقرب جوهر الخادم وهو أكبر أمير عنده ومن جملة أقطاعه مدينة الري في جواب رسالته يجيبه عن العفو عنه إن حضر عنده وعاد إلى طاعته فلما وصل إلى بهرام شاه أجابه إلى ما طلب منه من الطاعة وحمل المال والحضور عنده بنفسه وأظهر من الطاعة والانقياد لما يحكم به السلطان سنجر شيئا كثيرا. وعاد المقرب جوهر ومعه بهرام شاه إلى سنجر فلما قاربه سبق المقرب إلى السلطان سنجر وأعلمه بوصول بهرام شاه وأنه بكرة غد يكون عنده وعاد المقرب إلى بهرام شاه ليجيء بيد يديه، وركب سنجر من الغد في موكبه لتلقيه وتقدم بهرام شاه ومعه المغرب فلما عاين موكب سنجر والشتر على رأسه نكص على عقبيه عائدا فأمسك المقرب عنانه وقبح فعله وخوفه عاقبة ذلك فلم يرجع وولى هاربا ولم يصدق بنجاته ظنا منه أن سنجر يأخذه ويملك بلده وتبعه طائفة من أصحابه وخواصه ولم يعرج على غزنة وسار سنجر إلى غزنة فدخلها وملكها واحتوى على جميع ما فيها وجبى أموالها وكتب إلى بهرام شاه يلومه على ما فعله ويحلف له أنه ما أراد به شرا ولا له في بلده مطمع ولا هو ممن تلون صنيعته وتعقب حسنته معه سيئة وإنما قصده لإصلاحه فأعاد بهرام شاه الجواب يعتذر ويتنصل ويقول إن الخوف
29 منعه من الحضور ولا لوم على من خاف من السلطان وتضرع في عوده إلى الإحسان فأجابه سنجر إلى أن يعيد عليه بلده وفارق غزنة عائدا إلى بلاده فوصل إلى بلخ في شوال سنة ثلاثين وخمسمائة واستقر ملك غزنة لبهرام شاه ورجع إليها مالكا لها ومستوليا عليها. ذكر قتل دبيس بن صدقة بالتاريخ في هذه السنة قتل السلطان مسعود دبيس بن صدقة على باب سرادقه بظاهر مدينة خوى أمر غلاما أرمنيا بقتله فوقف على رأسه وهو ينكت الأرض بأصبعه فضرب رقبته وهو لا يشعر وكان ابنه صدقة بالحلة فاجتمع إليه عسكر أبيه ومماليكه وكثر جمعه واستأمن إليه الأمير قتلغ تكين وأمر السلطان مسعود بك آبه أن يأخذ الحلة فسار بعض عسكره إلى المدائن وأقاموا مدة ينتظرون لحاق بك آبه فلم يسر إليهم جنبا وعجزا عن قصد الحلة لكثرة العسكر بها مع صدقة وبقي صدقة بالحلة إلى أن قدم السلطان مسعود إلى بغداد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فقصده وأصلح حاله معه ولزم خدمته. ومثل هذه الحادثة تقع كثيرا وهو قرب موت المتعاديين فإن دبيسا كان يعادي المسترشد بالله ويكره خلافته ولم يكن يعلم أن السلاطين إنما كانوا يبقون عليه ليجعلوه عدة لمقارنة المسترشد فلما زال السبب زال المسبب والله أعلم بذلك.
30 ذكر حصر عسكر يحيى المهدية في هذه السنة سير يحيى بن عيد العزيز بن حماد صاحب بجاية عسكرا ليحصروا المهدية وبها صاحبها الحسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس وكان سبب ذلك أن الحسن أحب ميمون بن زيادة أمير طائفة كبيرة من العرب ومال إليه وأكثر الإنعام عليه فحسده غيره من العرب فساروا إلى يحيى بن العزيز بأولادهم وجعلوهم رهائن عنده وطلبوا منه أن يرسل معهم عسكرا ليملكوا المهدية فأجابهم إلى ذلك وهو متباطئ فاتفق أنه وصله كتب من بعض مشايخ المهدية بمثل ذلك فوثق إلى ما أتاه وسير عسكرا كثيرا واستعمل عليهم قائدا كبيرا من فقهاء الصحابة يقال له مطرف بن حمدون. وكان هذا يحيى بن العزيز هو وإياه يحضرون المعز بن باديس وأولاده بعده فسارت العساكر الفارس والراجل ومعهم من العرب جمع كثير حتى نزلوا على المهدية وحصروها برا وبحرا وكان مطرف يظهر التقشف والتورع عن الدماء وقال إنما أتيت الآن لأتسلم البلد بغير قتال فخاب ظنه فبقي أياما لم يقاتل ثم إنهم باشروا فظهروا أهل المهدية عليهم وأثروا فيهم وتتابع القتال وفي كل ذلك الظفر لأهل البلد وقتل من الخارجين جم غفير. وجمع مطرف عسكره برا وبحرا لما يئس من التسليم وقاتل أشد قتال فملكت شوانيه شاطئ البحر وقاربوا من السور فاشتد الأمر فأمر الحسن بفتح الباب وخرج أول الناس وحمل هو ومن معه عليهم وقال: أنا الحسن! فلما سمع من يقاتله ذلك سلموا عليه،
31 وانهزموا عنه إجلالا له ثم أخرج الحسن شوانيه تلك الساعة من المينا فأخذ من تلك الشواني أربع قطع وهرب الباقي. ثم وصلت نجدة من رجار الفرنجي صاحب صقلية في البحر في عشرين قطعة فحصرت شواني صاحب بجاية فأمرهم الحسن بإطلاقها فأطلقوها ثم وصل ميمون بن زيادة في كثير من العرب لنصرة الحسن فلما رأى ذلك مطرف وأن النجدات تأتي الحسن في البر والبحر علم أنه لا طاقة له بهم فرحل عن المهدية خائبا وأقام رجار الفرنجي مظهرا للحسن أنه مهادنه وموافقه وهو مع ذلك يعمر الشواني ويكثر عددها. ذكر استيلاء الفرنج على جزيرة جربة كانت جزيرة جربة من بلاد أفريقية قد استوت في كثرة عمارتها وخيراتها غير أن أهلها طغوا فلا يدخلون تحت طاعة سلطان ويعرفون بالفساد وقطع الطريق فخرج إليها جمع من الفرنج أهل صقلية في أسطول كثير وجم غفير فيه من مشهوري فرسان الفرنج جماعة فنزلوا بساحتها وأداروا المراكب بجهاتها. واجتمع أهلها وقاتلوا قتالا شديدا فوقع بين الفريقين وقعات عظيمة فثبت أهل جربة فقتل منهم بشر كثير فانهزموا وملك الفرنج الجزيرة وغنموا أموالها وسبوا حريمها ونساءها وأطفالها وهلك أكثر رجالها ومن بقي منهم أخذوا لأنفسهم أمانا من صاحب صقلية وافتكوا أسرارهم وسببهم وحريمهم والله أعلم بذلك.
32 ذكر ملك الفرنج حصن روطة من بلاد الأندلس في هذه السنة اصطلح المستنصر بالله بن هود والسليطين الفرنجي صاحب طليطلة مدة عشر سنين وكان السليطين قد أدمن غزو بلاد المستنصر وقتالها حتى ضعف صاحبها عن مقاومته لقلة جنوده وكثرة الفرنج فرأى أن يصالح مدة يستريح فيها هو وجنوده ويعتدون للمعاودة فترددت الرسل بينهم فاستقر الصلح على أن يسلم المستنصر إلى السليطين حصن روطة وهو من أمتع الحصون وأحصنها فاستقرت القاعدة واصطلحوا وتسلمت منه الفرنج الحصن وفعل المستنصر فعلة لم يفعلها قبله أحد. ذكر حصر ابن ردمير مدينة أفراغة وهزيمته وموته وفي هذه السنة حصر ابن ردمير الفرنجي لعنه الله مدينة أفراغة من شرق الأندلس وكان الأمير تاشفين بن علي بن يوسف بمدينة قرطبة أميرا على الأندلس لأبيه فجهز الزبير بن عمرو اللمتوني من قرطبة ومعه ألف فارس وسير معه ميرة كثيرة إلى أفراغة. وكان يحيى بن غانية الأمير المشهور أمير مرسية وبلنسية من شرق الأندلس وإليه الأمر بها لأمير المسلمين علي بن يوسف فتجهز في خمسمائة فارس وكان عبد الله بن عياض صاحب مدينة لاردة فتجهز في مائتي فارس فاجتمعوا وحملوا الميرة وساروا حتى أشرفوا على مدينة أفراغة وجعل الزبير الميرة أمامه وابن غانية أمام الميرة وابن عياض أمام ابن غانية وكان شجاعا وكذلك جميع من معه.
33 وكان ابن ردمير في اثني عشر ألف فارس فاحتقر جميع الواصلين من المسلمين فقال لأصحابه اخرجوا وخذوا هذه الهدية التي أرسلها المسلمون إليكم وأدركه العجب ونفذ قطعة كبيرة من جيشه فلما قربوا من المسلمين حمل عليهم ابن عياض وكسرهم ورد بعضهم على بعض وقتل فيهم والتحم القتال وجاء ابن ردمير بنفسه وعساكره جميعا مدلين بكثرتهم وشجاعتهم فحمل ابن غانية وابن عياض في صدورهم واشتد الأمر بينهم وعظم القتال وكثر القتل في الفرنج وخرج في الحال أهل أفراغة جميعهم ذكرهم وأنثاهم صغيرهم وكبيرهم إلى خيام الفرنج فاشتعل الرجال بقتل من وجدوا في العسكر واشتغل النساء بالنهب وحملوا جميع ما وجدوه هناك إلى المدينة من قوت وعدد وآلات وسلاح وغير ذلك. وبينما المسلمون والفرنج في القتال إذ وصل إليهم الزبير في عسكره فانهزم ابن ردمير وعسكره ولم يسلم منهم إلا القليل ولحق ابن ردمير بمدينة سرقسطة فلما رأى ما قتل من أصحابه مات مفجوعا بعد عشرين يوما من الهزيمة وكان أشد ملوك الفرنج بأسا وأكثرهم تجردا لحرب المسلمين وأعظمهم صبرا كان ينام على طارقته بغير وطاء وقيل له هلا تسريت من بنات أكابر المسلمين اللاتي سبيت منهم فقال الرجل المحارب ينبغي أن يعاشر الرجال لا النساء وأراح الله منه وكفى المسلمين شره. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في شعبان زلزلت الأرض بالعراق والموصل وبلاد الجبل وغيرها وكانت الزلزلة شديدة وهلك فيها كثير من الناس والله أعلم.
34 530 ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة ذكر الحرب بين عسكر الراشد وعسكر السلطان مسعود في هذه السنة وصل يرنقش الزكوي من عند السلطان مسعود يطالب الخليفة بما كان قد استقر على المسترشد من المال وهو أربعمائة ألف دينار فذكر أنه لا شيء عنده وأن المال جميعه كان مع المسترشد بالله فنهب ثم بلغ الراشد بالله أن يرنقش يريد التهجم على دار الخلافة وتفتيشها ليأخذ المال فجمع العساكر لمنعها وأمر عليهم كج آبه وأعاد عمارة السور. فلما علم يرنقش بذلك اتفق هو وبك آبه شحنة بغداد وهو من أمراء السلطان على أن يهجموا على دار الخليفة يوم الجمعة فبلغ ذلك الراشد بالله فاستعد لمنعهم وركب يرنقش ومعه العسكر والأمراء البكجية ومحمد بن عكر في نحو خمسة آلاف فارس ولقيهم عسكر الخليفة فأخرجوا عسكر السلطان إلى دار السلطان فساروا إلى طريق خراسان ثم انحدر بك أبه إلى واسط وسار يرنقش إلى البندنيجين ونهبت العامة دار السلطان.
35 ذكر اجتماع أصحاب الأطراف على حرب مسعود ببغداد وخروجهم عن طاعته في هذه السنة اجتمع كثير من الأمراء وأصحاب الأطراف على الخروج عن طاعة السلطان مسعود فسار الملك داود ابن السلطان محمود في عسكر أذربيجان إلى بغداد فوصلها في رابع صفر ونزل بدار السلطان ووصل أتابك عماد الدين زنكي بعده من الموصل ووصل يرنقش بازدار صاحب قزوين وغيرهما والبقش الكبير صاحب أصفهان وصدقة بن دبيس صاحب الحلة ومعه عنز بن أبي العسكر الجاواني يدبره ويتم نقص صباه وابن برسق وابن الأحمديلي وخرج إليهم من عسكر بغداد كج أبه والطرنطاي وغيرهما وجعل الملك داود في شحنكية بغداد يرنقش بازدار وقبض الخليفة الراشد بالله على ناصح الدولة أبي عبد الله الحسن بن جهير أستاذ الدار وهو كان السبب في ولايته وعلى جمال الدولة إقبال المسترشدي وكان قدم إليه من تكريت وعلى غيرهما من أعيان دولته فتغيرت بنات أصحابه عليه وخافوه. فأما جمال الدولة فإن أتابك زنكي شفع فيه شفاعة تحتها إلزام فأطلق وصار إليه ونزل عنده. وخرج موكب الخليفة مع وزيره جلال الدين أبي الرضا بن صدقة إلى عماد الدين لتهنئته بالقدوم فأقام الوزير عنده وسأله أن يمنعه من الخليفة فأجابه إلى ذلك وعاد الموكب بغير وزير وأرسل زنكي من حرس دار
36 الوزير من الهب ثم أصلح حاله مع الخليفة وأعاده إلى وزارته. وكذلك أيضا عبر عليه قاضي القضاة الزينبي وسار معه إلى الموصل ثم إن الخليفة جد في عمارة السور فأرسل له الملك داود من قلع أبوابه وأخرب قطعة منه فانزعج الناس ببغداد ونقلوا أموالهم إلى دار الخلافة وقطعت خطبة السلطان مسعود وخطب للملك داود وجرت الأيمان بين الخليفة والملك داود وعماد الدين زنكي وأرسل الخليفة إلى أتابك زنكي مائتي ألف دينار لينفقها. ووصل الملك سلجوق شاه إلى واسط فدخلها وقبض على الأمير بك ونهب ماله وانحدر أتابك زنكي إليه لدفعه عنها واصطلحا وعاد زنكي إلى بغداد وعبر إلى طريق خراسان وحث على جمع العساكر للقاء السلطان مسعود. وسار الملك داود نحو طريق خراسان فنهب العسكر البلاد ووصلت الأخبار بمسير السلطان مسعود إلى بغداد وفارق الملك داود وأتابك زنكي فعاد أتابك زنكي إلى بغداد وفارق الملك داود وأظهر له أنه يمضي إلى مراغة إذا فارق السلطان مسعود همذان فبرز الراشد بالله إلى ظاهر بغداد أول رمضان وسار إلى طريق خراسان ثم عاد بعد ثلاثة أيام ونزل عند جامع السلطان ثم دخل إلى بغداد خامس رمضان وأرسل إلى داود وسائر الأمراء بالعود إلى بغداد فعادوا ونزلوا في الخيام وعزموا على قتال السلطان مسعود من داخل سور بغداد. ووصلت رسل السلطان يبذل من نفسه الطاعة والموافقة للخليفة والتهديد لمن اجتمع عنده فعرض الخليفة الرسالة عليهم فكلهم رأى قتاله فقال لهم الخليفة وأنا أيضا معكم على ذلك.
37 ذكر ملك شهاب الدين حمص في هذه السنة في الثاني والعشرين من ربيع الأول تسلم شهاب الدين محمود صاحب دمشق مدينة حمص وقلعتها وسبب ذلك أن أصحابها أولاد الأمير خيرخان بن قراجا والوالي بها من قبلهم ضجروا من كثرة تعرض عسكر عماد الدين زنكي إليها وإلى أعمالها وتضييقهم على من بها جندي وعامي فراسلوا شهاب الدين في أن يسلموها له ويعطيهم عوضا عنها تدمر فأجابهم إلى ذلك وسار إليها وتسلمها منهم في التاريخ المذكور وسلم إليهم تدمر وأقطع حمص مملوك جده معين الدين أنز وجعل فيها نائبا عنه ممن يثق إليه من أعيان أصحابه وعاد عنها إلى دمشق. فلما رأى عسكر زنكي بحلب وحماة خروج حمص عن أيديهم تابعوا الغارات إلى بلدها والنهب له والاستيلاء على كثير منه فجرى بينهم عدة وقائع وأرسل شهاب الدين إلى زنكي في المعنى واستقر الصلح بينهم وكف كل منهم عن صاحبه. ذكر الفتنة بدمشق في هذه السنة وقعت الفتنة بدمشق بين صاحبها والجند وسبب ذلك أن الحاجب يوسف بن فيروز كان أكبر حاجب عند أبيه وجده ثم إنه خاف أباه شمس الملوك وهرب منه إلى تدمر فلما كان في هذه السنة
38 سأل أن يحضر إلى دمشق وكان يخاف جماعة المماليك لأنه كان أساء إليهم وعاملهم أقبح معاملة فكلهم عليه حنق لا سيما في الحادثة التي خرج فيها شمس الملوك وقد تقدمت فإنه أشار بقتل جماعة برأيه وبقتل سونج بن تاج الملوك فصاروا كلهم أعداء مبغضين. فلما طلب الأمان والحضور إلى دمشق أجيب إلى ذلك فأنكر جماعة الأمراء والمماليك قربه وخافوه أن يفعل بهم مثل فعله الأول فلم يزل يتوصل معهم حتى حلف لهم واستحلفهم وشرط على نفسه أنه لا يتولى من الأمور شيئا. ثم إنه جعل يدخل نفسه في كثير من الأمور فاتفق أعداؤه على قتله فبينما هو يسير مع شهاب الدين وإلى جانبه أمير اسمه بزاوش يحادثه إذ ضربه بزاوش بالسيف فقتله فحمل ودفن في تربة والده بالعقيبة. ثم إن بزاوش والمماليك خافوا فلم يدخلوا البلد ونزلوا بظاهره وأرسلوا يطلبون قواعد استطالوا فيها فأجابهم إلى البعض فلم يقبلوا منه ثم ساروا إلى بعلبك وبها شمس الملوك محمد بن تاج الملوك صاحبها فصاروا معه فالتحق بهم كثير من التركمان وغيرهم وشرعوا في العيث والفساد واقتضت الحال مراسلتهم وملاطفتهم وإجابتهم إلى ما طلبوا واستقرت الأحوال على ذلك وحلف كل منهم لصاحبه فعادوا إلى ظاهر دمشق ولم يدخلوا البلد. وخرج شهاب الدين صاحب دمشق إليهم واجتمع بهم وتجددت الأيمان وسار بزاوش مقدم العسكر وإليه الحل والعقد وذلك في شعبان وزال الخلف ودخلوا البلد والله أعلم.
39 ذكر غزاة العسكر الأتابكي إلى بلاد الفرنج في هذه السنة في شعبان اجتمعت عساكر أتابك زنكي صاحب حلب وحماة مع الأمير أسوار نائبه بحلب وقصدوا بلاد الفرنج على حين غفلة منهم وقصدوا أعمال اللاذقية ولم يتمكن أهلها من الانتقال عنها والاحتراز فنهبوا منها ما يزيد عن الوصف وقتلوا وأسروا وفعلوا في بلاد الفرنج ما لم يفعله بهم غيرهم. وكان الأسرى سبعة آلاف أسير ما بين رجل وامرأة وصبي ومائة ألف رأس من الدواب ما بين فرس وبغل وحمار وبقر وغنم وأما ما سوى ذلك من الأقمشة والعين والحلي فيخرج عن الحد وأخربوا بلد اللاذقية وما جاورها ولم يسلم منها إلا القليل وخرجوا إلى شيزر بما معهم من الغنائم سالمين منتصف رجب فامتلأ من الأسارى والدواب وفرح المسلمون بذلك فرحا عظيما ولم يقدر الفرنج على شيء يفعلونه مقابل هذه الحادثة عجزا منهم ووهنا. ذكر وصول السلطان مسعود إلى العراق وتفرق أصحاب الأطراف ومسير الراشد بالله إلى الموصل قيل لما بلغ السلطان مسعود اجتماع الملوك والأمراء، ببغداد، على خلافه،
40 وخطب للملك داود ابن أخيه السلطان محمود جمع العساكر وسار إلى بغداد فنزل بالملكية فسار بعض العسكر حتى شارفوا عسكره وطاردوهم وكان في الجماعة زين الدين علي أمير من أمراء أتابك زنكي ثم عادوا ووصل السلطان فنزل على بغداد وحصرها وجميع العساكر فيها. وثار العيارون ببغداد وسائر محالها وأفسدوا ونهبوا وقتلوا حتى أنه وصل صاحب لأتابك زنكي ومعه كتب فخرجوا عليه وأخذوها منه وقتلوه فحضر جماعة من أهل المحال عند الأتابك زنكي وأشاروا عليه بنهب المحال الغريبة فليس فيها غير عيار ومفسد فامتنع من ذلك ثم أرسل بنهب الحريم الظاهري فأخذ منه من الأموال الشيء الكثير وسبب ذلك أن العيارين [كثروا] فيه وأخذوا أموال الناس ونهبت العساكر غير الحريم من المحال وحصرهم السلطان نيفا وخمسين يوما فلم يظهر بهم فعاد إلى النهروان عازما على العود إلى همذان فوصله طرنطاي صاحب واسط ومعه سفن كثيرة فعاد إليها وعبر فيها إلى غربي دجلة وأراد العسكر البغدادي منعه فسبقهم إلى العبور واختلفت كلمتهم فعاد الملك داود إلى بلده في ذي القعدة وتفرق الأمراء. وكان عماد الدين زنكي بالجانب الغربي فعبر إليه الخليفة الراشد بالله وسار معه إلى الموصل في نفر يسير من أصحابه فلما سمع السلطان مسعود بمفارقة الخليفة وزنكي بغداد سار إليها واستقر بها ومنع أصحابه من الأذى والنهب. وكان وصوله منتصف ذي القعدة فسكن الناس واطمأنوا بعد الخوف الشديد وأمر فجمع القضاة والشهود والفقهاء وعرضوا عليهم اليمين التي حلف بها الراشد
41 بالله لمسعود وفيها بخط يده إني متى جندت أو خرجت أو لقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر فأفتوا بخروجه من الخلافة وقيل غير ذلك وسنذكره في خلافة المقتفى لأمر الله. وكان الوزير شرف الدين علي بن طراد وصاحب المخزن كمال الدين بن البقشلامي وابن الأنباري مع السلطان لأنهم عنده مذ أسرهم مع المسترشد بالله فقدحوا في الراشد ووافقهم على ذلك أصحاب المناصب ببغداد إلا اليسير لأنهم كانوا يخافونه وكان قد قبض بعضهم وصادر بعضا واتفقوا على ذمه فتقدم السلطان بخلعه وإقامة من يصلح فخلع وقطعت خطبته في بغداد في ذي القعدة وسائر البلاد وكانت خلافته أحد عشر شهرا وأحد عشر يوما وقتله الباطنية على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر خلافة المقتفي لأمر الله لما قطعت خطبة الراشد بالله استشار السلطان جماعة من أعيان بغداد منهم الوزير علي بن طراد وصاحب المخزن وغيرهما فيمن يصلح أن يلي الخلافة فقال الوزير أحد عمومة الراشد وهو رجل صالح قال من هو قال من لا أقدر أن أفصح باسمه لئلا يقتل فتقدم إليهم بعمل محضر في خلع الراشد فعملوا محضرا ذكروا فيه ما ارتكبه من أخذ الأموال وأشياء تقدح في الإمامة ثم كتبوا فتوى ما تقول العلماء فيمن هذه صفته هل يصلح للإمامة أم لا فأفتوا أن من هذه صفته لا يصلح أن يكون إماما. فلما فرغوا
42 من ذلك أحضروا القاضي أبا طاهر بن الكرخي فشهدوا عنده بذلك فحكم بفسقه وخلعه وحكم بعده غيره ولم يكن قاضي القضاة حاضرا فإنه كان عند أتابك زنكي بالموصل. ثم إن شرف الدين الوزير ذكر للسلطان أبا عبد الله الحسين وقيل محمد بن المستظهر بالله ودينه وعقله وعفته ولين جانبه فحضر السلطان دار الخلافة ومعه الوزير شرف الدين الزينبي وصاحب المخزن البقشلامي وغيرهما وأمر بإحضار الأمير أبي عبد الله المستظهر من المكان الذي يسكن فيه فأحضر وأجلس في الميمنة ودخل السلطان إليه والوزير وتحالفا وقرر الوزير القواعد بينهما وخرج السلطان من عنده وحضر الأمراء وأرباب المناصب والقضاة والفقهاء وبايعوا ثامن عشر ذي الحجة ولقب المقتفي لأمر الله. قيل سبب اللقب إنه رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يلي الخلافة بستة أيام وهو يقول له إن هذا الأمر يصير إليك فاقتف بي فلقب بذلك ولما استخلف سيرت الكتب الحكمية بخلافته إلى سائر الأمصار واستوزر شرف الدين علي بن طراد الزينبي فأرسل إلى الموصل وأحضر قاضي القضاة أبا القاسم علي بن الحسين الزينبي ابن عم الوزير وأعاده إلى منصبه وقرر كمال الدين حمزة بن طلحة على منصبه صاحب المخزن وجرت الأمور على أحسن نظام. وبلغني أن السلطان مسعودا أرسل إلى الخليفة المقتفي لأمر الله في تقرير إقطاع يكون لخاصته فكان جوابه إن في الدار ثمانين بغلا تنقل الماء من دجلة فلينظر السلطان ما يحتاج إليه من يشرب هذا الماء ويقوم به فتقررت القاعدة
43 على أن يجعل له ما كان للمستظهر بالله فأجاب إلى ذلك. وقال السلطان لما بلغه قوله لقد جعلنا في الخلافة رجلا عظيما والمقتفي عم الراشد هو والمسترشد ابنا المستظهر وليا الخلافة وكذلك السفاح والمنصور أخوان وكذلك المهدي والرشيد أخوان وكذلك الواثق والمتوكل أخوان وأما ثلاث إخوة ولوا الخلافة فالأمين والمأمون والمعتصم وهم أولاد الرشيد والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المعتضد والراضي والمتقي والمطيع بنو المقتدر وأما أربعة أخوة ولوها فالوليد وسليمان وهشام ويزيد بنو عبد الملك بن مروان لا يعرف غيرهم. وحين استقرت الخلافة للمقتفي أرسل إليه الراشد بالله رسولا من الموصل مع رسول أتابك زنكي وكان كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري فأحضر في الديوان وسمعت رسالته وحكى لي والدي عنه قال لم حضرت الديوان قيل لي تبايع أمير المؤمنين فقلت أمير المؤمنين عندنا في الموصل وله في أعناق الخلق بيعة متقدمة. وطال الكلام وعدت إلى منزلي. فلما كان الليل جاءتني امرأة عجوز سرا واجتمعت بي وأبلغتني رسالة عن المقتفي لأمر الله مضمونها عتابي على ما قلته واستنزالي عنه فقلت غدا أخدم خدمة يظهر أثرها. فلما كان [الغد] حضرت إلى الديوان وقيل لي في تعين البيعة فقلت أنا رجل فقيه قاضي ولا يجوز لي أن أبايع إلا أن يثبت عندي خلع المتقدم. فأحضروا الشهود وشهدوا عندي في الديوان بما أوجب خلعه فقلت هذا ثابت لا كلام فيه ولكن لا بد لنا في هذه الدعوى من نصيب لأن أمير
44 المؤمنين قد حصل له خلافة الله في أرضه والسلطان فقد استراح ممن كان يقصده ونحن بأي شيء نعود؟ فرجع الأمر إلى الخليفة فأمر أن يعطي أتابك زنكي صريفين ودرب هارون وجرى ملكا وهي من خاص الخليفة ويزداد في ألقابه وقال هذه قاعدة لم يسمع بها لأحد من زعماء الأطراف أن يكون لهم نصيب من خاص الخليفة. وكانت بيعة كمال الدين سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ولما عاد كمال الدين الشهرزوري سير على يد المحضر الذي عمل بخلع الراشد فحكم به قاضي القضاة الزينبي بالموصل وكان عند أتابك زنكي. ذكر عدة حوادث في هذه السنة عزل السلطان مسعود وزيره شرف الدين أنوشروان بن خالد وعاد إلى بغداد وقام بداره معزولا ووزر من بعده كمال الدين أبو البركات بن سلمة الدركزيني وهو من خراسان. وفيها ثار العيارون ببغداد عند اجتماع العساكر بها وفتكوا في البلد ونهبوا الأموال ظاهرا وكثر الشر فقصد الشحنة شارع دار الرقيق وطلب العيارين فثار عليه أهل المحال الغربية فقاتلهم وأحرق الشارع فاحترق فيه خلق كثير ونقل الناس أموالهم إلى الحريم الظاهري فدخله الشحنة ونهب منه مالا كثيرا.
45 ثم وقعت فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج وبين أهل المأمونية وقتل بينهم جماعة ثم اصطلحوا. وفيها سار قراسنقر في عساكر كثيرة في طلب الملك داود بن السلطان محمود فأقام السلطان مسعود ببغداد ولم يزل قراسنقر يطلب داود حتى أدركه عند مراغة فالتقيا وتصافا واقتتل العسكران قتالا عظيما فانهزم داود وأقام قراسنقر بأذربيجان وأما داود فإنه قصد خوزستان فاجتمع عليه هناك عساكر كثيرة من التركمان وغيرهم فبلغت عدتهم نحو عشرة آلاف فارس فقصد تستر وحاصرها وكان عمه الملك سلجوق شاه بن السلطان محمد بواسط فأرسل إلى أخيه السلطان مسعود يستنجده فأمده بالعساكر فسار إلى داود وهو يحاصر تستر فتصافا فانهزم سلجوقشاه. وفيها توفي محمد بن حمويه أبو عبد الله الجويني وهو من مشايخ الصوفية المشهورين وله كرامات كثيرة ورواية الحديث. وتوفي أيضا محمد بن عبد الله بن أحمد بن حبيب العامري الصوفي مصنف شرح الشهاب وأنشد لما احتضر: (ها قد مددت يدي إليك فردها * بالعفو لا بشماتة الأعداء) وتوفي أيضا أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الفراوي الصاعدي راوي صحيح مسلم عن عبد الغافر الفارسي وطريقه اليوم أعلى الطرق واليه الرحلة من الشرق والغرب وكان فقيها مناظرا يخدم الغرباء بنفسه وكان يقال الغراوي ألف راوي رحمه الله ورضي عنه.
46 531 ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة ذكر تفرق العساكر عن السلطان مسعود في هذه السنة في المحرم أذن السلطان مسعود للعساكر التي عنده ببغداد بالعود إلى بلادهم لما بلغه أن الراشد بالله قد فارق أتابك زنكي من الموصل فإنه كان يتمسك بالعساكر عنده خوفا أن ينحدر به إلى العراق فيملكه عليه فلما أراد أن يأذن للأمير صدقة بن دبيس صاحب الحلة زوجة ابنته تمسكا به. وقدم على السلطان مسعود جماعة من الأمراء الذين حاربوه مع الملك داود منهم البقش السلاحي وبرسق بن برسق صاحب تستر وسنقر الخمارتكين شحنة همذان فرضي عنهم وأمنهم وولى البقش شحنكية بغداد فعسف الناس وظلمهم. وكان السلطان مسعود بعد تفرق العساكر عنه قد بقي معه ألف فارس وتزوج الخليفة فاطمة أخت السلطان مسعود في رجب والصداق مائة ألف دينار وكان الوكيل في قبول النكاح وزير الخليفة علي بن طراد الزينبي والوكيل عن السلطان وزيره الكمال الدركزيني ووثق السلطان حيث صار الخليفة وصدقة بن دبيس بن صدقة صهريه وحيث سار الراشد بالله من عند زنكي الأتابك والله أعلم.
47 ذكر عزل بهرام عن وزارة الحافظ ووزارة رضوان في هذه السنة، في جمادى الأولى هرب تاج الدولة بهرام وزير الحافظ لدين الله العلوي صاحب مصر وكان قد استوزره بعد قتل ابنه حسن سنة تسع وعشرين وخمسمائة وكان نصرانيا أرمنيا فتمكن في البلاد واستعمل الأرمن وعزل المسلمين وأساء السيرة فيهم وأهانهم هو والأرمن الذين ولاهم وطمعوا فيهم فلم يكن في أهل مصر أنف من ذلك إلا رضوان بن الريحيني فإنه لما ساءه ذلك وأقلقه جمعا كثيرا وقصد القاهرة فسمع به بهرام فهرب إلى الصعيد من غير حرب ولا قتال وقصد مدينة أسوان فمنعه واليها من الدخول إليها وقاتله فقتل السودان من الأرمن كثيرا فلما لم يقدر على الدخول إلى أسوان أرسل [إلى] الحافظ يطلب الأمان فأمنه فعاد إلى القاهرة فسجن بالقصر فبقي مدة ثم ترهب وخرج من الحبس. وأما رضوان فإنه وزر للحافظ ولقب بالملك الأفضل وهو أول وزير للمصريين لقب بالملك ثم فسد ما بينه وبينه الحافظ فعمل الحافظ في إخراجه فثار الناس عليه منتصف شوال في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة وهرب من داره وتركها بما فيها فنهب الناس منها ما لا يحد ولا يحصى وركب الحافظ فسكن الناس ونقل ما بقي في دار رضوان إلى قصره. وأما رضوان فسار يريد الشام يستنجد الأتراك ويستنصرهم فأرسل إليه الحافظ الأمير بن مصال ليرده بالأمان والعهد أنه لا يؤذيه فرجع إلى القاهرة فحبسه الحافظ عنده في القصر وقيل إنه توجه إلى الشام، وهو
48 الصحيح، وقصد صرخد فوصل إليها في ذي القعدة ونزل على صاحبها أمين الدولة كمشتكين فأكرمه وعظمه وأقام عنده. ثم سار إلى مصر سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ومعه عسكر فقاتل المصريين عند باب النصر وهزمهم وقتل منهم جماعة كثيرة وأقام ثلاثة أيام فتفرق عنه كثير ممن معه فعزم على العود إلى الشام فأرسل إليه الحافظ الأمير ابن مصال فرده وحبسه عنده في القصر وجمع بينه وبين عياله وأهله فأقام في القصر إلى سنة ثلاث وأربعين [خمسمائة]، فنقب الحبس وخرج منه وقد أعدت له خيل فهرب عليها وعبر النيل إلى الجيزة فحشد وجمع المغاربة وغيرهم وعاد إلى القاهرة فقاتل المصريين عند جامع ابن طولون وهزمهم ودخل القاهرة فنزل عند جامع الأقمر فأرسل إلى الحافظ يطلب منه مالا ليفرقه على عادتهم فإنهم كانوا إذا وزروا وزيرا أرسلوا إليه عشرين ألف دينار ليفرقها فأرسل الحافظ عشرين ألف دينار فقسمها وكثر عليه الناس وطلب زيادة فأرسل إليه عشرين ألف دينار ففرقها فتفرق الناس وخفوا عنه فإذا الصوت قد وقع وخرج إليه جمع كثير من السودان وضعهم الحافظ عليه فحملوا على غلمانه فقاتلوهم فقام يركب فقدم إليه بعض أصحابه فرسا ليركبه فلما أراد ركوبه ضرب الرجل رأسه بالسيف فقتله وحمل رأسه إلى الحافظ فأرسله إلى زوجته فوضع في حجرها فألقت به وقالت هكذا يكون الرجال ولم يستوزر الحافظ أحدا وباشر الأمور بنفسه إلى أن مات.
49 ذكر فتح المسلمين حصن وادي ابن الأحمر من الفرنج وفي هذه السنة في رجب سار عسكر دمشق مع مقدمتهم الأمير بزاوش إلى طرابلس الشام فاجتمع معه كثير من الغزاة المتطوعة والتركمان أيضا خلق كثير فلما سمع القمص صاحبها بقربهم من ولايته سار إليهم في جموعه وحشوده فقاتلهم وانهزم الفرنج وعادوا إلى طرابلس في صورة سيئة قد قتلت فرسانهم وشجعانهم فلما عادوا نهب المسلمون من أعمالهم أكثرها وحصروا حصن وادي ابن الأحمر وضيقوا عليه فملكوها عنوة ونهبوا ما فيه وقتلوا المقاتلة وسبوا الحريم والذرية وأسر الرجال فاشتروا أنفسهم بمال جزيل وعاد المسلمين إلى دمشق سالمين والله أعلم. ذكر حصر زنكي مدينة حمص في هذه السنة في شعبان سار أتابك زنكي إلى مدينة حمص وقدم إليها حاجبه صلاح الدين محمد الياغيسياني وهو أكبر أمير معه وكان ذا مكر وحيل أرسله ليتوصل مع من فيها ليسلموها إليه، فوصل إليها وفيها معين الدين أنز وهو الوالي عليها والحاكم فيها وهو أيضا أكبر أمير بدمشق وحمص أقطاعه كما سبق ذكره فلم ينفذ فيه مكره فوصل حينئذ زنكي إليها وحصرها وعاود مراسلة أنز في التسليم غير مرة تارة بالوعد وتارة بالوعيد واحتج بأنها ملك صاحبه شهاب الدين وأنها بيده أمانة ولا يسلمها
50 إلا عن غلبة فأقام عليها إلى العشرين من شوال ورحل عنها من غير بلوغ غرض إلى بعرين فحصرها وكان منه ومن الفرنج ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ملك زنكي قلعة بعرين وهزيمة الفرنج وفي هذه السنة، في شوال، سار أتابك زنكي من حمص كما ذكرناه وحصر قلعة بعرين وهي للفرنج تقارب مدينة حماة وهي من أمنع الحصون وأحصنها فلما نزل عليها قاتلها وزحف إليها فجمع الفرنج فارسهم وراجلهم وساروا في قضهم وقضيضهم وملوكهم وقمامصتهم وكنودهم إلى أتابك زنكي ليرحلوه عن بعرين فلم يرحل وصبر لهم إلى أن وصلوا إليه فلقيهم وقاتلهم أشد قتال وصبر الفريقان ثم أجلت الوقعة عن هزيمة الفرنج وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب واحتمى ملوكهم بحصن بعرين لقربه منهم فحصرهم المسلمون ومنع أتابك زنكي عنهم كل شيء حتى الأخبار فكان من به منهم لا يعلم شيئا من أخبار بلادهم لشدة ضبط الطرق وهيبته على جنوده. ثم إن القسوس والرهبان دخلوا بلاد الروم وبلاد الفرنج وما والاها من بلاد النصرانية مستنفرين على المسلمين وأعلموهم أن زنكي إن أخذ قلعة بعرين ومن فيها من الفرنج ملك جميع بلادهم في أسرع وقت لعدم المحامي عنها وأن المسلمين ليس لهم نية إلا قصد البيت المقدس فحينئذ اجتمعت النصرانية وساروا على
51 الصعب والذلول وقصدوا الشام مع ملك الروم وكان منهم ما نذكره. وأنا زنكي فإنه جد في قتال الفرنج فصبروا وقلت عليهم الميرة والذخيرة فإنهم كانوا غير مستعدين ولم يكونوا يعتقدون أن أحدا يقدر عليهم بل كانوا يتوقعون ملك باقي البلاد بالشام فلما قلت الذخيرة أكلوا دوابهم وأذعنوا بالتسليم ليؤمنهم ويتركهم يعودون إلى بلادهم فلم يجبهم إلى ذلك فلما سمع بقرب ملك الروم من الشام واجتماعه بمن بقي من الفرنج أعطى لمن في الحصن الأمان وقرر عليهم تسليم الحصن ومن المال خمسين ألف دينار يحملونها إليه فأجابوه إلى ذلك فخرجوا وسلموا إليه فلما فارقوه بلغهم اجتماع من اجتمع بسببهم فندموا على التسليم حيث لا ينفعهم الندم وكان لا يصلحهم شيء من الأخبار البتة فلهذا سلموا. وكان زنكي في مدة مقامه عليهم فتح المعرة وكفر طاب من الفرنج فكان أهلها وأهل سائر الولايات التي بينها وبين حلب وحماة مع أهل بعرين في الخزي لأن الحرب بينهم قائمة على ساق والنهب والقتل لا يزال بينهم فلما ملك أمن الناس وعمرت البلاد وعظم دخلها وكان فتحا مبينا ومن رآه علم صحة قولي. ومن أحسن الأعمال ما علمه زنكي مع أهل المعرة فإن الفرنج لما ملكوها كانوا قد أخذوا أملاكهم فلما فتحها زنكي الآن حضر من بقي من أهلها معهم أعقاب من هلك وطلبوا أملاكهم فطلب منهم كتبها فقالوا إن الفرنج أخذوا كل ما لنا،
52 والكتب التي للأملاك فيها فقال اطلبوا دفاتر حلب وكل من عليه خراج على ملك يسلم إليه ففعلوا ذلك وأعاد على الناس أملاكهم وهذا من أحسن الأفعال وأعدلها. ذكر خروج ملك الروم من بلاده إلى الشام قد تقدم أن الفرنج أرسلوا إلى ملك القسطنطينية يستصرخون به ويعرفونه ما فعله زنكي فيهم ويحرضونه على لحاق البلاد قبل أن تملك ولا ينفعه حينئذ المجيء فتجهز وسار مجدا فابتدأ وركب البحر وسار إلى مدينة أنطاكية وهي له على ساحل البحر فأرسى فيها وأقام ينتظر وصول المراكب التي فيها أثقاله وسلاحه فلما وصلت سار عنها إلى مدينة نيقية فحصرها وأن أصحابها صالحوه على مال يؤدونه إليه وقيل بل ملكها. وسار عنها إلى مدينة أذنة ومدينة المصيصة وهما بيد ابن ليون الأرمني صاحب قلاع الدروب فحصرهما وملكهما. ورحل إلى عين زربة فحصرها وملكها عنوة، وملك تل حمدون وحمل أهله إلى جزيرة قبرس وعبر ميناء الإسكندرية. وخرج إلى الشام فحصر مدينة أنطاكية في ذي القعدة وضيق على أهلها وبها صاحبها الفرنجي ريمند فترددت الرسل إليهم ومشوا بينهم فتصالحا ورحل عنها إلى بغراس ودخل منها إلى بلد ابن ليون الأرمني فبذل له ابن ليون أموالا كثيرة ودخل في طاعته والله أعلم.
53 ذكر عدة حوادث في هذه السنة رابع وعشرين في أيار ظهر بالشام سحاب أسود وأظلمت له الدنيا وصار الجو كالليل المظلم ثم طلع بعد ذلك سحاب أحمر كأنه النار أضاءت له الدنيا وهبت ريح عاصفة ألقت كثيرا من الشجر وكان أشد ذلك بحوران ودمشق وجاء بعده مطر شديد وبرد كبار. وفيها عاد مؤيد الدين أبو الفوارس المسيب بن علي بن الحسين المعروف بابن الصوفي من صرخد إلى دمشق وكان قد أخرج هو وأهله من دمشق إلى صرخد فبقوا فيها إلى الآن وعادوا وولي أبو الفوارس الرياسة بدمشق وحكم فيها حكما ماضيا وكان ذا رياسة عظيمة ومروءة ظاهرة. فيها كثرت الأمراض ببغداد وكثر الموت فجأة بأصفهان وهمذان. وفيها سار أتابك زنكي إلى دقوقا فحضرها وملكها بعد أن قاتل على قلعتها قتالا شديدا. وفيها توفي أبو سعيد أحمد بن محمد بن ثابت الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان وتفقه على والده ودرس بالنظامية بأصفهان. وتوفي أبو القاسم هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري ومولده يوم عاشوراء سنة خمس وثلاثين وأربعمائة وهو آخر من روى عن أبي الحسن زوج الحرة وقد روى الخطيب أبو بكر بن ثابت عن زوج الحرة أيضا وكانت وفاة الخطيب سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
54 532 ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ذكر ملك أتابك زنكي حمص وغيرها من عمل دمشق وفي هذه السنة السنة في المحرم وصل أتابك زنكي إلى حماة وسار منها إلى بقاع بعلبك فملك حصن المجدل وكان لصاحب دمشق وراسله مستحفظ بانياس وأطاعه وهو أيضا لصاحب دمشق وسار إلى حمص فحصرها وأدام قتالها فلما نازل ملك الروم حلب رحل عنها إلى سلمية فلما انجلت حادثة الروم على ما ذكرناه عاود منازلة حمص وأرسل إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمه ليتزوجها واسمها زمرد خاتون ابنة جاولي وهي التي قتلت ابنها شمس الملوك وهي التي بنت المدرسة بظاهر دمشق المطلة على وادي شقرا ونهر بردى فتزوجها وتسلم حمص مع قلعتها. وحملت الخاتون إليه في رمضان وإنما حمله على التزوج بها ما رأى من تحكيمها في دمشق فظن أنه يملك البلد بالاتصال إليها فلما تزوجها خاب أمله ولم يحصل على شيء فأعرض عنها.
55 ذكر وصول ملك الروم إلى الشام وملكه بزاعة وما فعله بالمسلمين قد ذكرنا سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة خروج ملك الروم من بلاده وشغله بالفرنج وابن ليون فلما دخلت هذه السنة وصل إلى الشام وخافه الناس خوفا عظيما وقصد بزاعة فحصرها وهي مدينة لطيفة على ستة فراسخ من حلب فمضى جماعة من أعيان حلب إلى أتابك زنكي وهو يحاصر حمص فاستغاثوا به واستنصروه فسير معهم كثيرا من العساكر فدخلوا إلى حلب ليمنعوها من الروم إن حصروها. ثم إن ملك الروم قاتل بزاعة ونصب عليها منجنيقات وضيق على من بها فملكها بالأمان في الخامس والعشرين من رجب ثم غدر بأهلها فقتل منهم وأسر وسبى وكان عدة من جرح فيها من أهلها خمسة آلاف وثمانمائة نفس وتنصر قاضيها وجماعة من أهلها نحو أربعمائة نفس. وأقام الروم بعد ملكها عشرة أيام يتطلبون من اختفى فقيل لهم إن جمعا كثيرا من أهل هذه الناحية قد نزلوا المغارات فدخنوا عليهم وهلكوا في المغاور. ثم رحلوا إلى حلب من الغد في خيلهم ورجلهم فخرج إليهم أحداث حلب فقاتلوهم قتالا شديدا فقتل من الروم وجرح خلق كثير وقتل بطريق
56 جليل القدر عندهم وعادوا خاسرين وأقاموا ثلاثة أيام فلم يروا فيها طمعا فرحلوا إلى قلعة الأثارب فخاف من فيها من المسلمين فهربوا عنها تاسع شعبان فملكها الروم وتركوا فيها سبايا بزاعة والأسرى ومعهم جمع من الروم يحفظونهم ويحمون القلعة وساروا فلما سمع الأمير أسوار بحلب ذلك رحل فيمن عنده من العسكر إلى الأثارب فأوقع بمن فيها من الروم فقتلهم وخلص الأسرى والسبي وعادوا إلى حلب. وأما عماد الدين زنكي فإنه فارق حمص وسار إلى سلمية فنازلها وعبر ثقله الفرات إلى القرة وأقام جريدة ليتبع الروح ويقطع عنهم الميرة. وأما الروم فإنهم قصدوا شيزر فإنها من أمنع الحصون وإنما حصروها لأنها لم تكن لزنكي فلا يكون له في حفظها اهتمام وانما كانت للأمير أبي العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني فنازلوها ونصب عليها ثمانية عشر منجنيقا فأرسل صاحبها إلى زنكي يستنجده فسار إليه فنزل على نهر العاصي بالقرب منها بينها وبين حماة وكان يركب كل يوم ويسير إلى شيزر هو وعساكره ويقفون بحيث يراهم الروم ويرسل السرايا فتأخذ من ظفرت به منهم. ثم انه أرسل إلى ملك الروم يقول له انكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال فانزلوا منها إلى الصحراء حتى نلتقي فإن ظفرت بكم أرحت المسلمين منكم وان ظفرتم استرحتم وأخذتم شيزر وغيرها. ولم يكن له بهم قوة وانما كان يرهبهم بهذا القول وأشباهه فأشار فرنج الشام على ملك الروم بمصافقته وهونوا أمره عليه فلم يفعل وقال أتظنون أن ليس له من العسكر إلا ما ترون إنما هو يريد أن تلقونه فيجيئه من نجدات المسلمين ما لا حد له.
57 وكان زنكي يرسل أيضا إلى ملك الروم يوهمه بأن فرنج الشام خائفون منه فلو فارق مكانه تخلفوا عنه، ويرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من ملك الروم ويقول لهم إن ملك بالشام حصنا واحدا ملك بلادكم جميعا؛ فاستشعر كل من صاحبه فرحل ملك الروم عنها في رمضان وكان مقامه عليها أربعين يوما وترك المجانيق وآلات الحصار بحالها فسار أتابك [زنكي] يتبع ساقة العسكر فظفر بكثير ممن تخلف منهم وأخذ جميع ما تركوه. ولما كان الفرنج على براعة أرسل زنكي القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري إلى السلطان مسعود يستنجده ويطلب العساكر فمضى إلى بغداد وأنهى الحال إلى السلطان وعرفه عاقبة الإهمال وأنه ليس بينه وبين الروم إلا أن تملك حلب وينحدروا مع الفرات إلى بغداد فلم يجد عنده حركة فوضع انسانا من أصحابه يوم جمعة فمضى إلى جامع القصر ومعه جماعة من رنود العجم وأمرهم أن يثور بهم إذا طلع الخطيب المنبر ويصيح ويصيحون معه وا إسلاماه وأدين محمداه ويشق ثيابه ويرمي عمامته من رأسه ويخرج إلى دار السلطان والناس معه يستغيثون كذلك ووضع إنسانا آخر يفعل بجامع السلطان مثله. فلما صعد الخطيب المنبر قام ذلك الرجل ولطم رأسه وألقى عمامته وشق ثوبه وأولئك معه وصاحوا فبكى الناس وتركوا الصلاة ولعنوا السلطان وساروا من الجامع يتبعون الشيخ إلى دار السلطان يستغيثون ويبكون فخاف السلطان فقال احضروا إلي ابن الشهرزوري فأحضر، فقال كمال الدين لقد خفت منه مما رأيت فلما دخلت قال لي أي فتنة أثرت فقلت ما فعلت شيئا أنا كنت في بيتي وإنما الناس يغارون للدين والإسلام ويخافون
58 عاقبة هذا التواني فقال أخرج إلى الناس ففرقهم عنا واحضر غدا واختر من العسكر ما تريد؛ ففرقت الناس وعرفتهم ما أمر به من تجهيز العساكر وحضرت الغد إلى الديوان فجهزوا إلي طائفة عظيمة من الجيش فأرسلت إلى نصير الدين بالموصل أعرفه ذلك وأخوفه من العسكر إن طرقوا البلاد فإنهم يملكونها، فأعاد الجواب يقول البلاد لا شك مأخوذة فلأن يأخذها المسلمون خير من أن يأخذها الكافرون. فشرعنا في التحميل وإذا قد وصلني كتاب أتابك زنكي من الشام يخبر برحيل ملك الروم ويأمرني بأن لا أستصحب من العسكر أحدا فعرفت السلطان ذلك فقال العسكر قد تجهزت ولا بد من الغزاة إلى الشام؛ فأعد الجهد وبذل الحزم له ولأصحابه حتى عاد العسكر. ولما عاد ملك الروم عن شيزر مدح الشعراء أتابك زنكي وأكثروا فمن ذلك ما قاله المسلم بن الخضر بن قسيم الحموي من جملة قصيدة أولها: (بعزمك أيها الملك العظيم * تذل لك الصعاب وتستقيم) ومن جملتها هذه الأبيات: (ألم تر أن كلب الروم لما * تبين أنه الملك الرحيم) (فجاء فطبق الفلوات خيلا * كأن الجحفل الليل البهيم) (وقد نزل الزمان على رضاه * ودان لخطبه الخطب العظيم) (فحين رميته بك في خميس * تيقن أن ذلك لا يدوم) (وأبصر في المفاوضة منك جيشا * فأحرب لا يسير ولا يقيم) (كأنك في العجاج شهاب نور * توقد وهو شيطان رجيم) (أراد بقاء مهجته فولى * وليس سوى الحمام له حميم)
59 وهي قصيدة طويلة ومن عجيب ما يحكى أن ملك الروم لما عزم على حصر شيزر سمع من بها ذلك، فقال الأمير مرشد بن علي صاحبها وهو يفتح مصحفا: اللهم بحق من أنزلته عليه إن قضيت بمجيء ملك الروم فاقبضني إليك! فتوفي بعد أيام. ذكر الحرب بين السلطان مسعود والملك داود ومن معه من الأمراء لما فارق الراشد بالله أتابك زنكي من الموصل سار نحو أذربيجان فوصل مراغة وكان الأمير منكبرس صاحب فارس ونائبه بخوزستان الأمير بوزابة، والأمير عبد الرحمن طغايرك خلخال، والملك داود بن السلطان محمود، مستشعرين من السلطان [مسعود]، خائفين منه، فتجمعوا ووافقوا الراشد على الاجتماع لتكون أيديهم واحدة ويردوه إلى الخلافة فأجابهم إلى ذلك إلا أنه لم يجتمع معهم. ووصل الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد باجتماعهم فسار عنها في شعبان نحوهم فالتقوا ببنجن كشت فاقتتلوا فهزمهم السلطان مسعود وأخذ الأمير منكبرس أسيرا فقتل بين يديه صبرا وتفرق عسكر مسعود في النهب واتباع المنهزمين. وكان بوزابة وعبد الرحمن طغايرك على نشز من الأرض فرأيا السلطان
60 مسعودا وقد تفرق عسكره عنه فحملا عليه وهو في قلة فلم يثبت لهما وانهزم، وقبض بوازبة على جماعة من الأمراء منهم صدقة بن دبيس صاحب الحلة ومنهم ولد أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان وعنتر بن أبي العسكر وغيرهم وتركهم عنده فلما بلغه قتل صاحبه منكبرس قتلهم أجمعين وصار العسكران منهزمين وكان هذا من أعجب الاتفاق. وقصد السلطان مسعود أذربيجان وقصد الملك داود همذان ووصل الراشد بعد الوقعة فاختلفت آراء الجماعة فبعضهم أشار بقصد العراق والتغلب عليه وبعضهم أشار باتباع السلطان مسعود للفراغ منه فإن ما بعده يهون عليهم وكان بوزابة أكبر الجماعة فلم ير ذلك وكان غرضه المسير إلى بلاد فارس وأخذها بعد قتل صاحبها منكبرس قبل أن يمتنع من بها عليه فبطل عليهم ما كانوا فيه وسار إليها فملكها وصارت له مع خوزستان. وسار سلجوق شاه ابن السلطان محمد إلى بغداد ليملكها فخرج إليه البقش الشحنة بها ونظر الخادم أمير الحاج وقاتلوه وكان عاجزا مستضعفا ولما قتل صدقة بن دبيس أقر السلطان مسعود الحلة على أخيه محمد بن دبيس وجعل معه مهلهل بن أبي العسكر أخا عنتر المقتول يدبره أمره. ولما كان البقش شحنة بغداد يقاتل سلجوق شاه ثار العيارون ببغداد ونهبوا الأموال وقتلوا الرجال وزاد أمرهم حتى كانوا يقصدون أرباب الأموال ظاهرا ويأخذون منهم ما يريدون ويحملون الأمتعة على رؤوس الجمالين فلما عاد الشحنة قتل منهم وصلب وغلت الأسعار وكثر الظلم منه وأخذ المستورين بحجة العيارين فجلا الناس عن بغداد إلى الموصل وغيرهما من البلاد.
61 ذكر قتل الراشد بالله لما وصل الراشد بالله إلى همذان وبها الملك داود بوزابة ومن معهما من الأمراء والعساكر على ما تقدم ذكره ثم سار إلى خوزستان مع الملك داود ومعهما خوارزم شاه فقاربا الجزيرة فسار السلطان مسعود ليمنعهم عن العراق فعاد الملك داود إلى فارس وعاد خوارزم شاه إلى بلاده بقي الراشد وحده فلما أيس من عساكر العجم سار إلى أصفهان. فلما كان الخامس والعشرون من رمضان وثب عليه نفر من الخراسانية الذين كانوا في خدمته فقتلوه وهو يريد القيلولة، وكان في أعقاب مرض برئ منه ودفن بظاهر أصفهان بشهرستان فركب من معه فقتلوا الباطنية. ولما وصل الخبر إلى بغداد جلسوا للعزاء به في بيت النوبة يوما واحدا وكان أبيض أشقر حسن اللون مليح الصورة مهيبا شديد القوة والبطش. قال أبو بكر الصولي الناس يقولون إن كل سادس يقوم بأمر الناس من أول الإسلام لا بد من أن يخلع وربما قتل. قال فتأملت ذلك فرأيته كما قيل فإن أول من قام بأمر هذه الأمة محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن رضي الله عنهم فخلع ثم معاوية ويزيد ابنه ومعاوية بن يزيد ومروان وعبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير فخلع ثم عبد الله وأخوه سليمان وعمر بن عبد العزيز ويزيد وهشام ابنا عبد الملك والوليد بن يزيد بن عبد الملك فخلع وقتل؛ ثم لم ينتظم أمر بني أمية ثم ولي السفاح،
62 والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين فخلع وقتل والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين فخلع وقتل؛ والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي والمقتدر فخلع ثم رد ثم قتل؛ ثم القاهر والراضي والمتقي والمستكفي والمطيع والطائع فخلع؛ ثم القادر والقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد والراشد فخلع وقتل. قلت في هذا نظر لأن البيعة لابن الزبير كانت قبل البيعة لعبد الملك بن مروان جعله بعده لا وجه له والصولي إنما ذكر إلى أيام المطيع لله ومن بعد ذكره غيره. ذكر حال ابن بكران العيار في هذه السنة في ذي الحجة عظم أمر ابن بكران العياد ببغداد والعراق وكثرت أتباعه وصار يركب ظاهرا في جمع من المفسدين وخافه الشريف أبو الكرم الوالي ببغداد فأمر أبا القاسم ابن أخيه حامي باب الأزج أن يشتد إليه ويلبس سراويل فتوة منه ليأمن من شره. وكان ابن بكران يكثر المقام بالسواد ومعه رفيق له يعرف بابن البزاز فانتهى أمرهما إلى أنهما أراد أن يضربا باسمهما سكة في الأنبار فأرسل الشحنة والوزير شرف الدين الزينبي إلى الوالي أبي الكرم وقالا إما أن تقتل ابن بكران وإما أن نقتلك؛ فأحضر ابن أخيه وعرفه ما جرى وقال له إما أن تختارني ونفسك وإما أن تختار ابن بكران فقال: أنا أقتله. وكان لابن بكران عادة يجيء في بعض الليالي إلى ابن أخي أبي الكرم فيقيم في داره ويشرب عنده فلما جاء على عادته وشرب أخذ أبو القاسم سلاحه ووثب
63 به فقتله وأراح الناس من شره ثم أخذ بعده يسير رفيقه ابن البزاز وصلب وقتل معه جماعة من الحرامية فسكن الناس واطمأنوا وهدأت الفتنة. ذكر قتل الوزير الدركزيني ووزارة الخازن في هذه السنة قبض السلطان مسعود على وزيره العماد أبي البركات بن سلمة الدركزيني واستوزر بعده كمال الدين محمد بن الحسين الخازن وكان الكمال شهما شجاعا عادلا نافذ الحكم حسن السيرة أزال المكوس ورفع المظالم وكان يقيم مؤنة السلطان. ووظائفه وجمع له خزائن كثيرة وكشف أشياء كثيرة كانت مستورة يخان فيها ويسرق فثقل على المتصرفين وأرباب الأعمال فأوقعوا بينه وبين الأمراء لا سيما قراسنقر صاحب أذربيجان فإنه فارق السلطان وأرسل يقول إما أن تنقذ رأس الوزير وإما خدمنا سلطانا آخر فأشار من حضر من الأمراء بقتله وحذروه فتنة لا تتلافى، فقتله على كره منه، وأرسل إلى قراسنقر فرضي وكانت وزارته سبعة أشهر، وكان قتله سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. ووزر بعده أبو العز طاهر بن محمد البروجردي وزير قراسنقر ولقب عز والملك وضاقت الأمور على السلطان مسعود واستقطع الأمراء البلاد بغير اختياره ولم يبق له شيء من البلاد البتة إلا اسم السلطنة لا غير.
64 ذكر عدة حوادث في هذه السنة ملك حسام الدين تمرتاش إيلغازي صاحب ماردين قلعة الهتاخ من بلاد ديار بكر أخذها من بعض بني مروان الذين كانوا ملوك ديار بكر جميعها وهذا آخر من بقي فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه ولا يتطرق إليه النقص ولا التغيير. وفيها انقطعت كسوة الكعبة لما ذكرناه من الاختلاف فقام بكسوتها رامشت التاجر الفارسي كساها من الثياب الفاخرة بكل ما وجد إليه سبيل فبلغ ثمن الكسوة ثمانية عشر ألف دينار مصرية وهو من التجار المسافرين إلى الهند كثير المال. وفيها توفيت زبيدة خاتون ابنة السلطان بركيارق زوج السلطان مسعود وتزوج بعدها سفري ابنة دبيس بن صدقة في جمادى الأولى وتزوج ابنة قاورت وهو من البيت السلجوقي إلا أنه كان لا يزال يعاقر الخمر ليلا ونهارا فلهذا سقط اسمه وذكره. وفيها قتل السلطان مسعود بن البقش السلاحي شحنة بغداد وكان قد ظلم الناس وعسفهم وفعل ما لم يفعله غيره من الظلم فقبض عليه وسيره إلى تكريت فسجنه بها عند مجاهد الدين بهروز ثم أمر بقتله فلما أرادوا قتله ألقى بنفسه في دجلة فغرق فأخذ رأسه وحمل إلى السلطان وجعل السلطان شحنة العراق مجاهد الدين بهروز فعمل أعمالا صالحة منها أنه عمل مسناة النهروان وأشباهها وكان حسن السيرة كثير الإحسان.
65 وفيها درس الشيخ أبو منصور بن الرزاز بالنظامية ببغداد. وفيها أرسل الخليفة إلى أتابك زنكي في إطلاق قاضي القضاة الزينبي فأطلق وانحدر إلى بغداد فخلع عليه الخليفة وأقره على منصبه. وفيها كان بخراسان غلاء شديد طالت مدته وعظم أمره حتى أكل الناس الكلاب والسنانير وغيرهما من الدواب وتفرق أكثر أهل البلاد من الجوع. وفيها توفي طغان أرسلان صاحب بدليس وأرزن من ديار بكر [وولي بعده ابنه فرني] واستقام له الأمر. وفيها في شهر صفر جاءت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وديار بكر والموصل والعراق وغيرهما من البلاد فخربت كثيرا منها وهلك تحت الهدم عالم كثير. وفيها توفي أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي الفتح الدينوري الفقيه الحنبلي ببغداد وكان ينشد كثيرا هذه الأبيات: (تمنيت أن تمسي فقيها منظرا * بغير عياء والجنون فنون) (وليس اكتساب المال دون مشقة * تلقيتها فالعم كيف يكون) وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن عمر أبو الحسن الكرخي ومولده سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وكان فقيها محدثا سمع الحديث بكرخ وأصفهان وهمذان وغيرهما. وفي شعبان منها توفي القاضي أبو العلاء صاعد بن الحسين بن إسماعيل بن صاعد وهو ابن عم القاضي أبي سعيد وولي القضاء بنيسابور بعد أبي سعيد.
66 533 ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة ذكر الحرب بين السلطان سنجر وخوارزم شاه في هذه السنة في المحرم سار السلطان سنجر إلى خوارزم شاه وهو ابن ملكشاه محاربا لخوارزم شاه أتسز بن محمد وسبب ذلك أن سنجر بلغه أن أتسز يحدث نفسه بالامتناع عليه وترك الخدمة له وأن هذا الأمر قد ظهر على كثير من أصحابه وأمرائه فأوجب ذلك قصده وأخذ خوارزم شاه فجمع عساكره وتوجه نحوه فلما قرب من خوارزم شاه في عساكره خرج خوارزم شاه إليه في عساكره فلقيه وعني كل واحد منهما عساكره وأصحابه فاقتتلوا فلم يكن للخوارزمية قوة بالسلطان فلم يثبتوا وولوا منهزمين وقتل منهم خلق كثير ومن جملة القتلى ولد لخوارزم شاه فحزن عليه أبوه حزنا عظيما ووجد وجدا شديدا. وملك سنجر خوارزم وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ولد أخيه محمد ورتب له وزيرا وأتابكا وحاجبا، وقرر قواعده وعاد إلى مرو في جمادى الآخرة من هذه السنة فلما فارق خوارزم عائدا انتهز خوارزم شاه الفرصة فرجع إليها وكان أهلها يكرهون العسكر السنجري ويؤثرون عودة خوارزم شاه فلما عاد أعانوه على ملك البلد ففارقها سليمان شاه واختلفا بعد الاتفاق ففعل خوارزم شاه في خراسان سنة ست وثلاثين وخمسمائة ما نذكر إن شاء الله.
67 ذكر قتل محمود صاحب دمشق وملك أخيه محمد في هذه السنة في شوال قتل شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري بن طغدكين صاحب دمشق على فراشه غيلة قتله ثلاثة من غلمانه خواصه وأقرب الناس إليه في خلوته وجلوته وكانوا ينامون عنده فقتلوه وخرجوا من القلعة وهربوا فنجا أحدهم وأخذ الآخران فصلبا. وكتب معين الدين أنز من دمشق إلى أخيه جمال الدين محمد بن بوري صاحب بعلبك وهو بها بصورة الحال واستدعاه ليملك بعد أخيه فحضر في أسرع وقت فلما دخل البلد جلس للعزاء بأخيه وحلف له الجند وأعيان الرعية وسكن الناس وفوض أمر دولته إلى معين الدين أنز مملوك جده وزاد في علو مرتبته وصار هو الجملة والتفصيل وأقطعه بعلبك وزوجه بأمه وكان أنز خيرا عاقلا حسن السيرة فجرت الأمور عنده على أحسن نظام. ذكر ملك زنكي بعلبك في هذه السنة في ذي القعدة سار عماد الدين أتابك زنكي بن آقسنقر إلى بعلبك فحصرها ثم ملكها وسبب ذلك أن محمودا صاحب دمشق لما قتل كانت والدته زمرد خاتون عند أتابك زنكي بحلب قد تزوجها فوجدت لقتل ولدها وجدا شديدا وحزنت عليه وأرسلت إلى زنكي وهو بديار
68 الجزيرة تعرفه الحادثة وتطلب منه أن يقصد دمشق ويطلب بثأر ولدها. فلما وقف على هذه الرسالة بادر في الحال من غير توقف ولا تريث وسار مجدا ليجعل ذلك طريقا إلى ملك البلد وعبر الفرات عازما على قصد دمشق فاحتاط من بها واستعدوا واستكثروا من الذخائر ولم يتركوا شيئا مما يحتاجون إليه إلا وبذلوا الجهد في تحصيله وأقاموا ينتظرون وصوله إليهم فتركهم وسار إلى بعلبك. وقيل كان السبب في ملكها أنها كانت لمعين الدين أنز كما ذكرناه وكان له جارية يهواها فلما تزوج أم جمال الدين سيرها إلى بعلبك فلما سار زنكي إلى الشام عازما على قصد دمشق سير إلى أنز يبذل له البذول العظيمة ليسلم إليه دمشق فلم يفعل. وسار أتابك إلى بعلبك فوصل إليها في العشرين من ذي الحجة في السنة فنازلها في عساكره وضيق عليها وجد في محاربتها ونصب عليها من المنجنيقات أربعة عشر عددا ترمي ليلا ونهارا فأشرف من بها على الهلاك وطلبوا الأمان وسلموا إليه المدينة وبقيت القلعة وبها جماعة من الشجعان شجعان الأتراك فقاتلهم فلما أيسوا من معين ونصير طلبوا الأمان فأمنهم فسلموا إليه القلعة فلما نزلوا منها وملكها غدر بهم وأمر بصلبهم فصلبوا ولم ينج إلا القليل، فاستقبح الناس ذلك من فعله واستعظموه وخافه غيرهم وحذروه لا سيما أهل دمشق فقالوا لو ملكنا لفعل بنا مثل فعله بهؤلاء فازدادوا نفورا وجدوا في محاربته. ولما ملك زنكي بعلبك أخذ الجارية التي كانت لمعين الدين أنز بها، فتزوجها بحلب فلم تزل بها إلى أن قتل فسيرها ابنه نور الدين محمود إلى
69 معين الدين أنز وهي كانت أعظم الأسباب في المودة بين نور الدين وبين أنز والله أعلم. ذكر استيلاء قراسنقر على بلاد فارس وعوده عنها وفي هذه السنة جمع أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان عساكر كثيرة وسار طالبا بثأر أبيه الذي قتله بوزابة في المصاف المقدم ذكره فلما قارب السلطان مسعودا أرسل إليه يطلب منه قتل وزيره الكمال فقتله كما ذكرناه فلما قتل سار قراسنقر إلى بلاد فارس فلما قاربها تحصن بوزابة منه في القلعة البيضاء ووطئ قراسنقر البلاد وتصرف فيها وليس له دافع ولا مانع إلا أنه لم يمكنه المقام وملك [المدن] التي في فارس فسلم إلى الملك سلجوق شاه بن السلطان محمود وقال له هذه البلاد لك فاملك الباقي. وعاد إلى أذربيجان فنزل حينئذ بوزابة من القلعة سنة أربع وثلاثين [خمسمائة] وهزم سلجوق شاه وملك البلاد وأسر سلجوق شاه وسجن في قلعة بفارس. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في صفر توفي الوزير شرف الدين أنو شروان بن خالد معزولا ببغداد وحضر جنازته وزير الخليفة فمن دونه ودفن في داره ثم نقل إلى الكوفة فدفن في مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب،
70 عليه السلام وكان فيه تشيع وهو كان السبب في عمل المقامات الحريرية وكان رجلا عاقلا شهما دينا خيرا وزر للخليفة المسترشد وللسلطان محمود وللسلطان مسعود وكان يستقيل من الوزارة فيجاب إلى ذلك ثم يخطب إليها فيجب كارها. وفيها قدم السلطان مسعود بغداد في ربيع الأول وكان الزمان شتاء وصار يشتي بالعراق ويصيف بالجبال ولما قدمها أزال المكوس وكتب الألواح بإزالتها ووضعت على أبواب الجوامع والأسواق وتقدم أن لا ينزل جندي في دار عامي من أهل بغداد إلا بإذن فكثر الدعاء له والثناء عليه وكان السبب في ذلك الكمال الخازن وزير السلطان. وفيها في صفر كانت زلازل كثيرة هائلة بالشام والجزيرة وكثير من البلاد وكان أشدها بالشام وكانت متوالية عشر ليال كل ليلة عشر دفعات فخرب كثير من البلاد ولا سيما حلب فإن أهلها لما كثرت عليهم فارقوا البلاد والبيوت وخرجوا [إلى] الصحراء، وعدوا ليلة واحدة جاءتهم ثمانين مرة ولم تزل بالشام تتعاهدهم من رابع صفر إلى تاسع عشرة وكان معها صوت وهزة شديدة. وفيها أغار الفرنج على أعمال بانياس فسار عسكر دمشق في أثرهم فلم يدركوهم فعادوا. وفيها توفي أبو القاسم طاهر بن طاهر الشجاعي النيسابوري بها ومولده سنة ست وأربعين وأربعمائة وكان إماما في الحديث مكثرا عالي الإسناد. وتوفي عبد الله بن أحمد بن عبد القاهر بن محمد بن يوسف أبو القاسم بن أبي الحسين البغدادي بها ومولده سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة؛ وعبد
71 العزيز بن عثمان بن إبراهيم بن محمد الأسدي البخاري كان قاضي بخارى وكان من الفقهاء أولاد الأئمة حسن السيرة. وتوفي محمد بن شجاع بن أبي بكر بن علي بن إبراهيم اللفتواني الأصفهاني بأصفهان في جمادى الآخرة ومولده سنة ست وتسعين وأربعمائة وسمع الحديث الكثير بأصفهان وبغداد وغيرهما.
72 534 ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ذكر حصار أتابك زنكي دمشق في هذه السنة حصر أتابك زنكي دمشق مرتين فأما المرة الأولى فإنه سار إليها في ربيع الأولى من بعلبك بعد الفراغ من أمرها وتقرير قواعدها وإصلاح ما تشعث منها ليحاصرها فنزل البقاع وأرسل إلى جمال الدين محمد صاحبها يبذل إليه بلدا يقترحه ليسلم إليه دمشق فلم يجبه إلى ذلك فرحل وقصد دمشق فنزل على داريا ثالث عشر ربيع الأول فالتقت الطلائع واقتتلوا وكان الظفر لعسكر زنكي وعاد الدمشقيون منهزمين فقتل كثير منهم. ثم تقدم زنكي إلى الموصل فنزل هناك ولقيه جمع كثير من جند دمشق وأحداثها ورجالة الغوطة فقاتلوه فانهزم الدمشقيون وأخذهم السيف فقتل فيهم وأكثر وأسر كذلك ومن سلم عاد جريحا. وأشرف البلد ذلك اليوم على الأخذ وأن يملك لكن عاد زنكي وأمسك عند عشرة أيام وتابع الرسل إلى صاحب دمشق وبذل له بعلبك وحمص وغيرهما مما يختاره من البلاد فمال إلى أن يسلم وامتنع غيره من أصحابه من ذلك وخوفوه عاقبة فعله وأن يفعل ويغدر كما فعل بأهل بعلبك فلما لم يسلموا إليه عاد القتال والزحف. ثم إن جمال الدين محمدا صاحب دمشق مرض ومات ثامن شعبان وطمع
73 زنكي حينئذ في البلد وزحف إليه زحفا شديدا ظنا منه أنه ربما يقع بين المقدمين والأمراء خلاف فيبلغ به الغرض وكان ما أمله بعيدا فلما مات جمال الدين ولي بعده مجير الدين أبق ولده وتولى ترتيب دولته معين الدين أنز فلم يظهر لموت أبيه أثر مع أن عدوهم على باب المدينة فلما رأى أنز أن زنكي لا يفارقهم ولا يزول عن حصرهم راسل الفرنج واستدعاهم إلى نصرته وأن يتفقوا على دفع زنكي عن دمشق وبذل لهم بذولا وأن يحضر بانياس ويأخذها ويسلمها وخوفهم من زنكي إن ملك دمشق فعلموا صحة قوله وعلموا أنه إن ملكها لا يبقي لهم معه بالشام مقام وأن الفرنج اجتمعوا وعزموا على المسير إلى دمشق ليجتمعوا مع صاحبها وعسكرها على قتال زنكي فحين علم زنكي بذلك سار إلى حوران خامس رمضان عازما على قتال الفرنج قبل أن يجتمعوا بالدمشقيين، فلما سمع الفرنج خبره لم يفارقوا بلادهم فلما رآهم كذلك عاد إلى حصر دمشق [ونزل] بعذرا شماليها سادس شوال فأحرق عدة قرى من المرج والغوطة ورحل عائدا إلى بلاده. ووصل الفرنج إلى دمشق واجتمعوا بصاحبها وقد رحل زنكي فعادوا فسار معين الدين أنز إلى بانياس في عسكر دمشق وهي في طاعة زنكي كما تقدم ذكره ليحصرها ويسلمها إلى الفرنج وكان واليها قد سار قبل ذلك منها بجمعة إلى مدينة صور للإغارة على بلاده فصادفه صاحب أنطاكية وهو قاصد إلى دمشق نجدة لصاحبها على زنكي فاقتتلا فانهزم المسلمون وأخذوا إلى بانياس فقتل ونجا من سلم إلى بانياس وجمعوا معهم كثيرا من البقاع وغيرها وحفظوا القلعة فنازلها معين الدين فقاتلهم وضيق عليهم ومعه طائفة من الفرنج فأخذها وسلمها إلى الفرنج.
74 وأما الحصر الثاني لدمشق فإن أتابك لما سمع الخبر بحصر بانياس عاد إلى بعلبك ليدفع عنها من يحصرها فأقام هناك فلما عاد عسكر دمشق بعد أن ملكوها وسلموها إلى الفرنج فرق أتابك زنكي عسكره على الإغارة على حوران وأعمال دمشق وسار هو جريدة مع خواصه فنازل دمشق سحرا ولم يعلم به أحد من أهلها فلما أصبح الناس ورأوا عسكره خافوا وارتج البلد واجتمع العسكر والعامة على السور وفتحت الأبواب وخرج الجند والرجالة فقاتلوه فلم يمكن زنكي عسكره من الإقدام في القتال لأن عامة عسكره كانوا قد تفرقوا في البلاد والنهب والتخريب وإنما قصد دمشق لئلا يخرج منها عسكر إلى عسكره وهم متفرقون فلما اقتتلوا ذلك اليوم قتل بينهم جماعة ثم أحجم زنكي عنهم وعاد إلى خيامه ورحل إلى مرج راهط وأقام ينتظر عودة عسكره فعادوا إليه وقد ملأوا أيديهم من الغنائم لأنهم طرقوا البلاد وأهلها غافلون فلما اجتمعوا عنده رحل بهم عائدا إلى بلادهم. ذكر ملك زنكي شهرزور وأعمالها في هذه السنة ملك أتابك زنكي شهرزور وأعمالها وما يجاورها من الحصون وكانت بيد قفجاق بن أرسلان تاش التركماني وكان حكمه نافذا على قاصي التركمان ودانيهم وكلمته لا تخالف يرون طاعته فرضا فتحامى الملوك قصده ولم يتعرضوا لولايته لأنها منيعة كثيرة المضايق فعظم شأنه وازداد جمعه وأتاه التركمان من كل فج عميق. فلما كان هذه السنة سير إليه أتابك زنكي عسكرا فجمع أصحابه ولقيهم فتصافوا واقتتلوا فانهزم قفجاق واستبيح عسكره، وسار الجيش
75 الأتابكي [في أعقابهم فحصروا الحصون والقلاع فملكوها جميعها وبذلوا الأمان لقفجاق فصار إليهم وانخرط في سلك العساكر] ولم يزل هو وبنوه في خدمة البيت على أحسن قضية إلى بعد سنة ستمائة بقليل وفارقوها. ذكر عدة حوادث في هذه السنة جرى بين أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله وبين الوزير شرف الدين على ابن طراد الزينبي منافرة وسببها أن الوزير كان يعترض الخليفة في كل ما يأمر به فنفر الخليفة من ذلك، فغضب الوزير ثم خاف فقصد دار السلطان في سميرية وقت الظهر ودخل إليها واحتمى بها فأرسل إليه الخليفة في العود إلى منصبه فامتنع وكانت الكتب تصدر باسمه واستنيب قاضي القضاة الزينبي، وهو ابن عم الوزير وأرسل الخليفة إلى دار السلطان رسلا في معنى الوزير فأرخص له السلطان في عزله فحينئذ أسقط اسمه من الكتب وأقام بدار السلطان ثم عزل الزينبي من النيابة وناب سديد الدولة بن الأنباري. وفيها قتل المقرب جوهر وهو من خدم السلطان سنجر وكان قد حكم في دولته وجميعها من جملة أقطاعه ومن مماليكه عباس صاحب
76 الري وكان سائر عسكر السلطان يخدمونه ويقفون ببابه وكان قتله بيد الباطنية وقف له جماعة منهم بزي النساء واستغثن به فوقف يسمع كلامهم فقتلوه، فلما قتل جمع صاحبه العساكر وقصد الباطنية فقتل منهم وأكثر وفعل بهم ما لم يفعله غيره ولم يزل يغزوهم ويقتل فيهم ويخرب بلادهم إلى أن مات. وفيها زلزلت كنجة وغيرها من أعمال أذربيجان وأران إلا أن أشدها كان بكنجة فخرب منها الكثير وهلك عالم لا يحصون كثرة قيل كان الهلكى مائتي ألف وثلاثين ألفا وكان من جملة الهلكى ابنان لقراسنقر صاحب البلاد وتهدمت قلعة هناك لمجاهد الدين بهروز وذهب له فيها من الذخائر والأموال شيء عظيم. وفيها شرع مجاهد الدين بهروز في عمل النهروانات سكر سكرا عظيما سرد الماء إلى مجراه الأول وحفر مجرى الماء القديم وخرق إليه مجراة تأخذ من ديالى ثم استحال بعد ذلك وجرى الماء ناحية من السكر وبقي السكر في البر لا ينتفع به أحد ولم يتعرض أحد إلى رده إلى مجراه عند السكر إلى وقتنا هذا. وفيها انقطع الغيث ببغداد والعراق ولم يجئ غير مرة واحدة في أذار ثم انقطع ووقع الغلاء وعدمت الأقوات بالعراق. وفيها في جمادى الآخرة دخل الخليفة بفاطمة خاتون بنت السلطان مسعود وكان يوم حملها إلى دار الخليفة يوما مشهودا غلقت بغداد عشرة أيام وزينت وتزوج السلطان مسعود بابنة الخليفة المقتفي لأمر الله، وعقد عليها، وأستقر أن يتأخر زفافها خمس سنين لصغره؛ وفيها، في ربيع الأول، توفي القاضي أبو الفضل يحيى ابن قاضي دمشق المعرف بالزكي.
77 535 ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة ذكر مسير جهاردانكي إلى العراق وما كان منه في هذه السنة أمر السلطان مسعود الأمير إسماعيل المعروف بجهاردانكي والبقش كون خر بالمسير إلى خوزستان وفارس وأخذها من بوزابة وأطلق لهم نفقة على بغداد فساروا فيمن معهما إلى بغداد فمنعهم مجاهد الدين بهروز عن دخولها فلم يقبلوا منه فأرسل إلى المعابر فخسفها وغرقها وجد في عمارة السور وسد باب الظفرية وباب كلواذى وأغلق باقي الأبواب وعلق عليها السلاسل وضرب الخيام للمقاتلة. فلما علم بذلك عبرا بصرصر وقصدا الحلة فمنعا فقصدا واسط فخرج إليهم الأمير طرنطاي وتقاتلوا فانهزم طرنطاي ودخلوا واسطا فنهبوها ونهبوا بلد فرسان والنعمانية ولفهم طرنطاي إلى حماد بن أبي الخير صاحب البطيحة ووافقهم عسكر البصرة وفارق إسماعيل والبقش عسكرهما وصارا مع طرنطاي فضعف أولئك فصار إلى تستر واستشفع إسماعيل إلى السلطان فعفا عنه.
78 ذكر عدة حوادث في هذه السنة وصل رسول من السلطان سنجر ومعه بردة النبي، صلى الله عليه وسلم، والقضيب وكان قد أخذا من المسترشد فأعادهما الآن إلى المقتفي. وفي هذه السنة توفي أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان وأرانية بمدينة أردبيل وكان مضره السل وكان من مماليك الملك طغرل وسلمت أذربيجان وأرانية إلى الأمير جاولي الطغرلي وكان قراسنقر عظم محله على سلطانه وخافه السلطان. وفيها كان بين أتابك زنكي وبين داود سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا حرب شديدة وانهزم داود وملك زنكي من بلاده قلعة بهمرد وأدركه الشتاء فعاد إلى الموصل. وفيها ملك الإسماعيلية حصن مصيات بالشام وكان واليه مملوكا لبني منقذ أصحاب شيزر فاحتالوا عليه ومكروا به حتى صعدوا إليه وقتلوه وملكوا الحصن وهو أيديهم إلى الآن. وفيها توفي سديد الدولة بن الأنباري واستوزر الخليفة بعده نظام الدين أبا نصر محمد بن جبير وكان قبل ذلك أستاذ الدار. وفيها توفي يرنقش بازدار صاحب قزوين. وفيها في رجب ظفر ابن الدانشمند صاحب ملطية وغيرها من تلك النواحي بجمع من الروم فقتلهم وغنم ما معهم.
79 وفيها في رمضان سارت طائفة من الفرنج فخرج إليهم العسكر الذي بعسقلان فقاتلهم فظفر المسلمون وقتلوا من الفرنج كثيرا فعادوا منهزمين. وفيها بنيت المدرسة الكمالية ببغداد بناها كمال الدين أبو الفتوح بن طلحة صاحب المخزن ولما فرغت درس فيها الشيخ أبو الحسن بن الخل وحضره أرباب المناصب وسائر الفقهاء. وفيها في رجب مات القاضي أبو بكر بن محمد بن عبد الباقي الأنصاري قاضي المارستان عن نيف وسبعين سنة وله الإسناد والعوالي وكان عالما بالمنطق والحساب والهيئة وغيرها من علوم الأوائل وهو آخر من حدث في الدنيا عن إسحاق البرمكي والقاضي أبي بكر الطبري وأبي طالب العشاري وأبي محمد الجوهري وغيرهم. وتوفي الإمام الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الأصفهاني عشر ذي الحجة ومولده سنة تسع وخمسين [وأربعمائة]، وله التصانيف المشهورة وتوفي يوسف بن أيوب بن يوسف بن الحسين بن يعقوب الهمذاني من أهل بروجرد وسكن مرو وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وروى الحيث واشتغل بالرياضيات والمجاهدات ووعظ ببغداد فقام إليه متفقه يقال له ابن السقاء وسأله وآذاه في السؤال فقال: اسكت إني أشم منك ريح الكفر! فسافر الرجل إلى بلد الروم وتنصر. وفيها مات أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر الشهور.
80 536 ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة ذكر انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا وملكهم ما وراء النهر ثم ذكر أصحاب التواريخ في هذه الحادثة أقاويل نحن نذكرها جميعها للخروج من اختلافها وعدتها، فنقول: في هذه السنة من المحرم وقيل في صفر انهزام السلطان سنجر من الترك الكفار وسبب ذلك أن سنجر كان قتل ابنا لخوارزم شاه أتسز بن محمد كما ذكرناه قبل فبعث خوارزم شاه إلى الخطا وهم بما وراء النهر يطعمهم في البلاد ويروج عليهم أمرها وحثهم على قصد مملكة السلطان سنجر فساروا في ثلاثمائة ألف فارس وسار إليهم سنجر في عساكره فالتقوا بما وراء النهر واقتتلوا أشد قتال وانهزم سنجر وعساكره وقتل منهم مائة ألف قتيل منهم اثنا عشر ألفا كلهم صاحب عمامة وأربعة آلاف امرأة وأسرت زوجة السلطان سنجر وتم السلطان منهزما إلى ترمذ وسار منها إلى بلخ. ولما انهزم سنجر قصد خوارزم شاه مدينة مرو فدخلها مراغمة للسلطان سنجر وقتل بها وقبض على أبي الفضل الكرماني الفقيه الحنفي وعلى جماعة من الفقهاء وغيرهم من أعيان البلد. ولم يزل السلطان سنجر مسعودا إلى وقتنا هذا لم تنهزم له راية ولما تمت
81 عليه هذه السنة الهزيمة أرسل إلى السلطان مسعود أذن له في التصرف في الري وما يجري معها على قاعدة أبيه السلطان محمد، وأمره أن يكون مقيما فيها بعساكره بحيث إن دعت حاجة استدعاه لأجل هذه الهزيمة فوصل عباس صاحب الري إلى بغداد بعساكره، وخدم السلطان مسعودا خدمة عظيمة، وسار السلطان إلى الري امتثالا لأمر عمه سنجر. وقيل: إن بلاد تركستان وهي كاشغر وبلاد بلاساغون وختن وطراز وغيرها مما يجاورها من بلاد ما وراء النهر كانت بيد الملوك الخانية الأتراك وهم مسلمون من نسل أفراسياب التركي إلا أنهم مختلفون وكان سبب إسلام جده شبق قراخاقان أنه رأى في منامه كأن رجلا نزل من السماء فقال بالتركية ما معناه أسلم تسلم في الدنيا والآخرة فأسلم في منامه وأصبح فأظهر إسلامه. فلما مات قام مقامه ابنه موسى بن شبق ولم يزل الملك بتلك الناحية في أولاده إلى أرسلان بن علي بن موسى بن شبق فخرج على قدرخان فانتزع الملك منه فقتل قدرخان كما ذكرناه سنة أربع وتسعين وأربعمائة وأعاد الملك إلى أرسلان خان وثبت قدمه وخرج خوارج فاستصرخ السلطان سنجر فنصره وأعاده إلى ملكه. وكان من جنده نوع من الأتراك يقال لهم القارغلية والأتراك الغزية الذين نهبوا خراسان على ما نذكره إن شاء الله وهم نوعان نوع يقال لهم أجق وأميرهم طوطى بن دادبك وقوم يقال برق وأميرهم يقال له قرعوت بن عبد الحميد فحسن الشريف الأشرف بن محمد بن أبي شجاع العلوي السمرقندي لولد أرسلان خان المعروف بنصر خان طلب الملك من أبيه
82 وأطمعه فسمع محمد بن خان الخبر فقتل الابن والشريف الأشرف. وجرت بين أرسلان خان وبين جنده القارغلية وحشة دعتهم إلى العصيان عليه وانتزع الملك منه فعاود الاستعانة بالسلطان سنجر فعبر جيحون بعساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة وكان بينهما مصاهرة فوصل إلى سمرقند وهرب القارغلية من بين يديه. واتفق أن السلطان سنجر خرج إلى الصيد فرأى خيالة فقبض عليهم فقررهم فأقروا أن أرسلان خان وضعهم على قتله فعاد إلى سمرقند فحصر أرسلان خان بالقلعة فملكها وأخذه أسيرا وسيره إلى بلخ فمات بها وقيل بل غدر به سنجر واستضعفه فملك البلد منه فأشاع عنه ذلك. فلما ملك سمرقند استعمل عليها بعده قلج طمغاج أبا المعالي الحسن بن علي بن عبد المؤمن المعروف بحسن تكين وكان من أعيان بيت الخانية إلى الآن إلا أن أرسلان خان اطرحه فلما ولي سمرقند وكان هذا حسن ابن أخت سنجر لم تطل أيامه فمات عن قليل فأقام سنجر مقامه الملك محمود بن أرسلان خان محمد بن سليمان بن داود بغراخان وهو ابن الذي أخذ منه سنجر سمرقند وكان هذا محمود ابن أخت سنجر وكان قبل ذلك سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة قد وصل الأعور الصيني إلى حدود كاشغر في عدد كثير لا يعلمهم إلا الله فاستعد له صاحب كاشغر وهو الخان أحمد بن الحسن وجمع جنوده فخرج إليه. والتقوا فاقتتلوا وانهزم الأعور الصيني وقتل كثير من أصحابه ثم إنه مات فقام مقامه كوخان الصيني. وكو بلسان الصين لقب لأعظم ملوكهم وخان لقب الملوك الترك فمعناه أعظم الملوك وكان يلبس لبسة ملوكهم من المقنعة والخمار وكان مانوي
83 ولما خرج من الصين إلى تركستان انضاف إليه الأتراك الخطا وكانوا قد خرجوا قبله من الصين وهم في خدمة الخانية أصحاب تركستان. وكان أرسلان خان محمد بن سليمان يسير على ستة عشر ألف خركاة ومنزلهم على الدروب التي بينه وبين الصين يمنعون أحدا من الملوك أن يتطرق إلى بلاده وكان لهم على ذلك جرايات وإقطاعات فاتفق أنه وجد عليهم في بعض السنين فمنعهم عن نسائهم لئلا يتوالدوا فعظم عليهم ولم يعرفوا وجها يقصدونه وتحيروا فاتفق أن اجتاز بهم قفل عظيم فيه الأموال الكثيرة والأمتعة النفسية فأخذوه وأحضروا التجار وقالوا لهم إن كنتم تريدون أموالكم فعرفونا بلدا كثير المرعى فسيحا يسعنا ويسع أموالنا فاتفق رأي التجار على بلد بلاساغون فوصفوه لهم فأعادوا إليهم أموالهم وأخذوا الموكلين الذين كانوا بهم لمنعهم عن نسائهم وكتفوهم وأخذوا نساءهم وساروا إلى بلاساغون وكان أرسلان خان يغزوهم ويكثر جهادهم فخافوه خوفا عظيما. فلما طال ذلك عليهم وخرج كوخان الصيني انضافوا إليه أيضا فعظم شأنهم وتضاعف جمعهم وملكوا بلاد تركستان وكانوا إذا ملكوا المدينة لا يغيرون على أهلها شيئا بل يأخذون من كل بيت دينارا من أهل البلاد وغيرها من القرى وأما المزروعات وغير ذلك فلأهلها وكل من أطاعهم من الملوك شد في وسطه شبه لوح فضة فتلك علامة من أطاعهم. ثم ساروا إلى بلاد ما وراء النهر فاستقبلهم الخاقان محمود بن محمد من حدود خجندة في رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة واقتتلوا فانهزم الخاقان محمود بن محمد وعاد إلى سمرقند فعظم الخطب على أهلها،
84 واشتد الخوف والحزن وانتظروا البلاء صباحا ومساء وكذلك أهل بخارى وغيرهما من بلاد من وراء النهر وأرسل الخاقان محمود إلى السلطان سنجر يستمده وينهي إليه ما لقي المسلمون ويحثه على نصرتهم فجمع العساكر فاجتمع عنده ملوك خراسان صاحب سجستان والغور وملك غزنة وملك مازندران وغيرهم فاجتمع إليه أكثر من مائة ألف فارس وبقي العرض ستة أشهر. وسار سنجر إلى لقاء الترك فعبروا إلى ما وراء النهر في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة فشكا إليه محمود بن محمد خان من الأتراك القارغلية فقصدهم سنجر فالتجأوا إلى كوخان الصيني ومن معه من الكفار وأقام سنجر بسمرقند فكتب إليه كوخان كتابا يتضمن الشفاعة في الأتراك القارغلية ويطلب منه أن يعفو عنهم فلم يشفعه فيهم وكتب إليه يدعوه إلى الإسلام ويهدده إن لم يجب إليه ويتوعده بكثرة عساكره ووصفهم وبالغ في قتالهم بأنواع السلاح حتى قال وإنهم يشقون الشعر بسهامهم فلم يرض هذا الكتاب وزير السلطان طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك فلم يصغ إليه وسير الكتاب فلما قرئ الكتاب على كوخان أمر بنتف لحية الرسول وأعطاه إبرة وكلفه شق شعرة من لحيته فلم يقدر أن يفعل ذلك فقال كيف يشق غيرك شعرة بسهم وأنت عاجز عن شقها بإبرة؟ واستعد كوخان للحرب وعنده جنود الترك والصين والخطا وغيرهم وقصد السلطان سنجر فالتقى العسكران وكانا كالبحرين العظيمين بموضع يقال له قطوان وطاف بهم كوخان حتى ألجأهم إلى واد يقال له درغم وكان على ميمنة سنجر الأمير قماج وعلى ميسرته ملك سجستان والأثقال
85 وراءهم، فاقتتلوا خامس صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وكانت الأتراك القارغلية الذين هربوا من سنجر من أشد الناس قتالا ولم يكن ذلك اليوم من عسكر السلطان سنجر أحسن قتالا من صاحب سجستان فأجلت الحرب عن هزيمة المسلمين فقتل منهم ما لا يحصى من كثرتهم واشتمل وادي درغم على عشرة آلاف من القتلى والجرحى، ومضى السلطان سنجر منهزما وأسر صاحب سجستان والأمير قماج وزوجة السلطان سنجر وهي ابنة أرسلان خان فأطلقهم والحسام عمر بن عبد العزيز بن مازة البخاري الفقيه الحنفي المشهور ولم يكن في الإسلام وقعة أعظم من هذه ولا أكثر ممن قتل فيها بخراسان. واستقرت دولة الخطا والترك والكفار بما وراء النهر وبقي كوخان إلى رجب من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فمات فيه وكان جميلا حسن الصورة لا يلبس إلا الحرير الصيني له هيبة عظيمة على أصحابه ولم يسلط أميرا على أقطاع بل كان يعطيهم من عنده ويقول متى أخذوا الأقطاع ظلموا وكان لا يقدم أميرا على أكثر من مائة فارس حتى لا يقدر على العصيان عليه وكان ينهي أصحابه عن الظلم وينهي عن السكر ويعاقب عليه ولا ينهي عن الزنا ولا يقبحه. وملك بعده ابنة له فلم تطل مدتها حتى ماتت فملك بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد وبقي ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن أخذه منهم علاء الدين محمد خوارزم شاه سنة اثنتي عشرة وستمائة على ما نذكره إن شاء الله.
86 ذكر ما فعله خوارزم شاه بخراسان قد ذكرنا قبل قصد السلطان سنجر خوارزم وأخذها من خوارزم شاه أتسز وعوده إليها وقتل ولد خوارزم شاه، [وأنه هو الذي راسل الخطا وأطمعهم في بلاد الإسلام فلما لقيهم السلطان سنجر وعاد منهزما] سار خوارزم شاه إلى خراسان فقصد سرخس في ربيع الأول من السنة. فلما وصل إليها لقي الإمام أبا محمد الزيادي وكان قد جمع بين الزهد والعلم فأكرمه خوارزم شاه إكراما عظيما ورحل من هناك إلى مرو الشاهجان فقصده الإمام أحمد الباخرزي وشفع في أهل مرو وسأل أن لا يعترض إليهم أحد من العسكر فأجابه إلى ذلك ونزل بظاهر البلد واستدعى أبا الفضل الكرماني الفقيه وأعيان أهلها فثار عامة مرو وقتلوا بعض أهل خوارزم شاه وأخرجوا أصحابه من البلد وأغلقوا أبوابه واستعدوا للامتناع فقاتلهم خوارزم شاه ودخل مدينة مرو سابع عشر ربيع الأول من السنة وقتل كثيرا من أهلها. وممن قتل إبراهيم المروزي الفقيه الشافعي وعلي بن محمد بن أرسلان وكان ذا فنون كثيرة من العلم وقتل الشريف علي بن إسحاق الموسوي وكان رأس فتنة وملقح شر وقتل كثيرا من أعيان أهلها وعاد إلى خوارزم واستصحب معه علماء كثيرا من أهلها ومنهم أبو الفضل الكرماني وأبو
87 منصور العبادي والقاضي الحسين بن محمد الأرسابندي وأبو محمد الخرقي الفيلسوف وغيرهم. ثم سار إلى شوال من السنة إلى نيسابور فخرج إليه جماعة من فقهائها وعلمائها وزهادها وسألوه أن لا يفعل بأهل نيسابور ما فعل بأهل مرو فأجابهم إلى ذلك لكنه استقصى في البحث عن أموال أصحاب السلطان فأخذها وقطع خطبة السلطان سنجر أول ذي القعدة وخطبوا له فلما ترك الخطيب ذكر السلطان سنجر وذكر خوارزم شاه صاح الناس وثاروا وكادت الفتنة تثور والشر يعود جديدا وإنما منع الناس ذوو الرأي والعقل نظرا في العاقبة فقطعت إلى أول المحرم سنة سبع وثلاثين فأعيدت خطبة السلطان سنجر. ثم سير خوارزم شاه جيشا إلى أعمال بيهق فأقاموا بها يقاتلون أهلها خمسة أيام ثم سار عنها ذلك الجيش ينهبون البلاد وعملوا بخراسان أعمالا عظيمة ومنع السلطان من مقاتلة أتسز خوارزم شاه لأجل قوة الخطا بما وراء النهر ومجاورتهم وملك خوارزم شه هذه البلاد وغيرها من خراسان. ذكر عدة حوادث في هذه السنة ملك أتابك زنكي بن آقسنقر مدينة الحديثة ونقل من كان بها من آل مهراش إلى الموصل ورتب أصحابه فيها. وفيها أيضا خطب لزنكي بمدينة آمد وصار صاحبها في طاعته وكان قبل ذلك موافقا لداود على قتال زنكي فلما رأى قوة زنكي صار معه.
88 وفيها عزل مجاهد الدين بهروز عن شحنكية بغداد ووليها قزل أمير آخر وهو من مماليك السلطان محمود وكان له بروجرد والبصرة فأضيف إليه شحنكية بغداد ثم وصل السلطان إلى بغداد فرأى من تبسط العيارين وفسادهم ما ساءه فأعاد بهروز إلى الشحنكية فتاب كثير منهم ولم ينتفع الناس بذلك لأن ولد الوزير وأخا امرأة السلطان كانا يقاسمان العيارين فلم يقدر بهروز على منعهم. وفيها تولى عبد الرحمن طغايرك حجبة السلطان واستولى على المملكة وعزل الأمير تبر الطغرلي عنها وآل أمره إلى أن مشى في ركاب عبد الرحمن. وفيها توفي إبراهيم السهاوي مقدم الإسماعيلية فأخرجه ولد عباس صاحب الري في تابوته. وفيها حج كمال الدين بن طلحة صاحب المخزن وعاد وقد لبس ثياب الصوفية وتخلى عن جميع ما كان عليه وأقام في داره مرعي الجانب محروس القاعدة. وفيها وصل السلطان إلى بغداد وكان الوزير الزيني بدار السلطان كما ذكرناه فسأل السلطان أن يشفع فيه ليرده الخليفة إلى داره فأرسل السلطان وزيره إلى دار الخلافة ومعه الوزير شرف الدين الزيني وشفع أن يعود إلى داره فأذن له في ذلك وأعاد أخاه إلى نقابة النقباء فلزم الوزير داره ولم يخرج منها إلا إلى الجامع.
89 وفيها أغار عسكر أتابك زنكي من حلب على بلاد الفرنج فنهبوا وأهرقوا وظفروا بسرية الفرنج فقتلوا فيهم وأكثروا فكان عدد القتلى سبعمائة رجل. وفيها أفسد بنو خفاجة بالعراق فسير السلطان مسعود سرية إليهم من العسكر فنهبوا خلتهم وقتلوا من ظفروا به منهم وعادوا سالمين. وفيها سير رجار الفرنجي صاحب صقلية أسطولا إلى أطراف أفريقية فأخذوا مراكب سيرت من مصر إلى الحسن صاحب أفريقية وغدر بالحسن ثم راسله الحسن وجدد الهدنة لأجل حمل الغلات من صقلية إلى أفريقية لأن الغلاء كان فيها شديدا والموت كثير. وفيها توفي أبو القاسم عبد الوهاب بن عبد الواحد الحنبلي الدمشقي وكان عالما صالحا. وفيها توفي ضياء الدين أبو سعيد الكفرتوثي وزير أتابك زنكي وكان حسن السيرة في وزارته كريما رئيسا. وفيها توفي أبو محمد بن طاوس إمام الجامع بدمشق في المحرم وكان رجلا صالحا فاضلا. وفيها توفي أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبي الأشعث المعروف بابن السمرقندي ولد بدمشق سنة أربع وخمسين وأربعمائة وكان مكثرا من الحديث.
90 537 ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة ذكر ملك عماد الدين أتابك زنكي قلعة أشب وغيرها من الهكارية في هذه السنة أرسل أتابك زنكي جيشا إلى قلعة أشب وكانت أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها وبها أموالهم وأهلهم فحصروها وضيقوا على من بها فملكوها فأمر بإخرابها وبناء القلعة المعروفة بالعمادية عوضا عنها وكانت هذه القلعة العمادية حصنا عظيما من حصونهم فخربوه لكبره لأنه كبير جدا وكانوا يعجزون عن حفظه فخربت الآن أشب وعمرت العمادية وإنما سميت العمادية نسبة إلى لقبه وكان نصير الدين جقر نائبه بالموصل قد فتح أكثر القلاع الجبلية. ذكر حصر الفرنج طرابلس الغرب وفي هذه السنة سارت مراكب الفرنج من صقلية إلى طرابلس الغرب فحصروها وسبب ذلك أن أهلها في أيام الأمير الحسن صاحب أفريقية لم يدخلوا أبدا في طاعته ولم يزالوا مخالفين مشاقين له قد قدموا عليهم من بني مطروح مشايخ يدبرون أمرهم فلما رآهم ملك صقلية كذلك جهز إليهم جيشا في البحر فوصلوا إليهم تاسع ذي الحجة فنازلوا البلد وقاتلوه،
91 وعلقوا الكلاليب في سوره ونقبوه. فلما كان الغد وصل جماعة من العرب نجدة لأهل البلد فقوي أهل طرابلس بهم فخرجوا إلى الأسطول فحملوا عليهم حملة منكرة فانهزموا هزيمة فاحشة وقتل منهم خلق كثير ولحق الباقون بالأسطول وتركوا الأسلحة والأثقال والدواب والآلات فنهبها العرب وأهل البلد ورجع الفرنج إلى صقلية فجهزوا أسلحتهم وتجهزوا إلى المغرب فوصلوا إلى جيجل فلما رآهم أهل البلد هربوا إلى البراري والجبال فدخلها الفرنج وسبوا من أدركوا فيها وهدموها وأحرقوها وأخربوا القصر الذي بناه يحيى بن العزيز بن حماد للنزهة ثم عادوا. ذكر عدة حوادث في هذه السنة خرج حسن أمير الأمراء على السلطان سنجر بخراسان. وفيها توفي محمد بن دانشمند صاحب ملطية والثغر واستولى على بلاده الملك مسعود بن قلج [أرسلان] صاحب قونية وهو من السلجوقية. وفيها خرج من الروم عسكر كثير إلى الشام فحصروا الفرنج بأنطاكية فخرج صاحبها واجتمع بملك الروم وأصلح حاله معه وعاد إلى مدينته ومات في رمضان من هذه السنة؛ ثم إن ملك الروم بعد أن صالح صاحب أنطاكية سار إلى طرابلس فحصرها ثم سار عنها. وفيها قبض السلطان مسعود على الأمير ترشك وهو من خواص الخليفة وممن ربي عنده وفي داره فساء ذلك الخليفة ثم أطلقه السلطان حفظا لقلب الخليفة. وفيها كان بمصر وباء عظيم فهلك منه أكثر البلاد.
92 538 ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة ذكر صلح الشهيد السلطان مسعود في هذه السنة وصل السلطان مسعود إلى بغداد على عادته في كل سنة وجمع العساكر وتجهز لقصد أتابك زنكي وكان حقد عليه حقدا شديدا. وسبب ذلك أن أصحاب الأطراف الخارجين على السلطان مسعود كانوا يخرجون عليه على ما تقدم ذكره فكان ينسب ذلك إلى أتابك زنكي ويقول هو الذي سعى فيه وأشار به لعلمه أنهم كلهم كانوا يصدرون عن رأيه فكان أتابك زنكي لا شك يفعل ذلك لئلا يخلو السلطان فيتمكن منه ومن غيره؛ فلما تفرغ السلطان هذه السنة جمع العساكر ليسيروا إلى بلاده فسير أتابك يستعطفه ويستميله فأرسل إليه السلطان أبا عبد الله بن الأنباري في تقرير القواعد فاستقرت القاعدة على مائة ألف دينار يحملها إلى السلطان ليعود عنه فحمل عشرين ألف دينار أكثرها عروض؛ ثم تنقلت الأحوال بالسلطان إلى أن احتاج إلى مداراة أتابك وأطلق له الباقي استمالة له وحفظا لقلبه وقعود السلطان عنه كان سببه حصانة بلاده وكثرة عساكره وأمواله. ومن جيد الرأي ما فعله الشهيد في هذه الحادثة فإنه كان ولده الأكبر
93 سيف الدين غازي لا يزال عند السلطان سفرا وحضرا بأمر والده فأرسل إليه ثانية وأرسل إليه نائبه بها نصير الدين جقر فيقول له ليمنعه عن الدخول إلى الموصل والوصول إليه فهرب غازي وبلغ الخبر ولده فأرسل إليه يأمره بالعودة إلى السلطان ولم يجتمع به وأرسل معه رسولا إلى السلطان يقول له إن ولدي هرب خوفا من السلطان لما رأى تغيره علي وقد أعدته إلى الخدمة ولم اجتمع به فإنه مملوكك والبلاد لك فحل ذلك من السلطان محلا عظيما. ذكر ملك أتابك بعض ديار بكر وفي هذه السنة سار أتابك زنكي إلى ديار بكر ففتح منها عدة بلاد وحصون فمن ذلك مدينة طنزة ومن ذلك مدينة أسعرد ومدينة حيزان وحصن الدوق وحصن قطليس وحصن ناتاسا وحصن ذي القرنين وغير ذلك مما لم يبلغ غيره هذه الأماكن وأخذ أيضا من بلد ماردين مما هو بيد الفرنج حملين والموزر وتل موزر وغيرها من حصون جوسلين ورتب أمور الجميع وخلى فيها من الأجناد من يحفظها وقصد مدينة آمد وحاني فحصرهما وأقام بتلك الناحية مصلحا لما فتحه محاصرا لما لم يفتحه.
94 ذكر أمر العيارين ببغداد وفي هذه السنة زاد أمر العيارين وكثروا لأمنهم من الطلب بسبب ابن الوزير وابن قاورت أخي زوجة السلطان لأنهما كان لهما نصيب من الذي يأخذه العيارون. وكان النائب في شحنكية بغداد مملوكا اسمه إيلدكز وكان صارما مقداما ظالما فحمله الإقدام إلى أن حضر عند السلطان فقال له السلطان إن السياسة قاصرة والناس قد هلكوا قال يا سلطان العالم إذا كان عقيد العيارين ولد وزيرك وأخا أمرتك فأي قدرة لي على المفسدين وشرح له الحال فقال له الساعة تخرج وتكبس عليهما أين كانا وتصلبهما فإن فعلت وإلا صلبتك فأخذ خاتمه وخرج فكبس على ابن الوزير فلم يجده فأخذ من كان عنده وكبس على ابن قاورت فأخذه وصلبه فأصبح الناس وهرب ابن الوزير وشاع الأمر ورئي ابن قاورت مصلوبا فهرب أكثر العيارين وقبض على من أقام وكفي الناس شرهم. ذكر حصر سنجر خوارزم وصلحه مع خوارزم شاه قد ذكرنا سنة اثنتين وثلاثين [خمسمائة] مسير سنجر إلى خوارزم وملكه لها وعود أتسز خوارزم شاه إليها وأخذها وما كان منه بخراسان بعد ذلك فلما كان في هذه السنة سار السلطان سنجر إلى خوارزم شاه فجمع
95 خوارزم شاه عساكره وتحصن بالمدينة ولم يخرج منها لقتال لعلمه أنه لا يقوى لسنجر. وكان القتل يجري بين الفريقين من وراء السور فاتفق [في] يوم من بعض الأيام [أن] هجم أمير من أمراء سنجر اسمه سنقر على البلد من جانب الغربي فلم يبق غير ملكه قهرا وعنوة وكان مثقال التاجي هجم من الشرق فانهزم مثقال عند البلد وبقي سنقر وحده في البلد فقوي عليه خوارزم شاه أتسز فأخرجه من البلد وبقي سنجر وحده واشتد في حفظه فلما رأى السلطان قوه البلد وامتناعه عزم على العود إلى مرو ولم يمكنه من غير قاعدة تستقر بينهما فاتفق أن خوارزم شاه أرسل رسلا يبذل المال والطاعة والخدمة ويعود إلى ما كان عليه من الانقياد فأجابه إلى ذلك واصطلحا، وعاد سنجر إلى مرو وأقام خوارزم شاه بخوارزم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة سير أتابك زنكي عسكر إلى مدينه عانه من أعمال الفرات فملكوها. وفيها في المحرم توفي أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنباطي الحافظ ببغداد ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة. وفيها توفي أبو الفتوح محمد بن الفضل بن محمد الأسفرايني الواعظ من أهل اسفراين من خراسان وأقام مدة ببغداد يعظ وسار إلى خراسان، فمات ببسطام، وكان إماما فاضلا صالحا، وكان بينه وبين علي الغروي تحاسد،
96 فلما مات حضر الغزنوي عزاءه ببغداد وبكى وأكثر فقال بعض أصحاب أبي الفتوح للغزنوي كلاما أغلظ له فيه فلما قام الغزنوي لامه بعض تلامذته على حضور الغزاء وكثرة البكاء وقال له كنت مهاجرا لهذا الرجل فلما مات حضرت عزاءه وأكثرت البكاء وأظهرت الحزن قال كنت أبكي على نفسي كان يقال فلان وفلان فمن يعدم النظير أيقن بالرحيل وأنشد هذه الأبيات: (ذهب المبرد وانقضت أيامه * وسينقضي بعد المبرد ثعلب) (بيت من الآداب أصبح نصفه * خربا وباق نصفه فسيخرب) (فتزودوا أن تكتبوا أنفاسه * إن كانت الأنفاس مما يكتب) وفيها توفي الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي في رمضان معزولا ودفن بداره بباب الأزج ثم نقل إلى الحربية. وفيها توفي أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري النحوي المفسر وزمخشر إحدى قرى خوارزم.
97 539 ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ذكر فتح الرها وغيرها من البلاد الجزيرة مما كان بيد الفرنج في هذه السنة سادس جمادى الآخرة فتح أتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر مدينة الرها من الفرنج وفتح غيرها من حصونهم بالجزيرة أيضا وكان ضررهم قد عم بلاد الجزيرة وشرهم قد استطار فيها ووصلت غاراتهم إلى أدانيها وأقاصيها وبلغت آمد ونصيبين ورأس العين والرقة. وكانت مملكتهم بهذه الديار من قريب ماردين إلى الفرات مثل الرها وسروج والبيرة وسن ابن عطير وحملين والموزر والقرادي وغير ذلك وكانت هذه الأعمال مع غيرها مما هو غرب الفرات لجوسلين وكان صاحب رأي الفرنج والمقدم على عسكرهم لما هو عليه من الشجاعة والمكر. وكان أتابك يعلم أنه متى قصد حصرها اجتمع فيها من الفرنج ما يمنعها فيتعذر عليه ملكها لما هب عليه من الحصانة فاشتغل بديار بكر ليوهم الفرنج أنه غير متفرغ إلى قصد بلادهم فلما رأوه أنه غير قادر على ترك الأرتقية وغيرهم من ملوك ديار بكر حيث أنه محارب لهم اطمأنوا وفارق جوسلين الرها وعبر الفرات إلى بلاد الغربية فجاءت عيون أتابك إليه فأخبرته
98 فنادى في العسكر بالرحيل وأن لا يتخلف عن الرها أحد من غد يومه وجمع الأمراء عنده وقال قدموا الطعام وقال لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن غدا معي بباب الرها فلم يتقدم إليه غير أمير واحد وصبي لا يعرف لما يعلمون من إقدامه وشجاعته وأن أحدا لا يقدر على مساواته في الحرب فقال الأمر لذلك الصبي ما أنت في هذا المقام فقال أتابك دعه فوالله إني أرى وجها لا يتخلف عني. وسار والعساكر معه ووصل إلى الرها وكان هو أول من حمل على الفرنج وحمل ذلك الصبي وحمل فارس من خيالة الفرنج على أتابك عرضا فاعترضه ذلك الأمير فطعنه فقتله وسلم الشهيد ونازل البلد وقاتله ثمانية وعشرين يوما فزحف إليه عدة دفعات وقدم النقابين فنقبوا سور البلد ولج في قتاله خوفا من اجتماع الفرنج والمسير إليه واستنقاذ البلد منه فسقطت البدنة التي نقبها النقابون [وأخذ] البلد عنوة وقهرا وحصر قلعته فملكها أيضا ونهب الناس الأموال وسبوا الذرية وقتلوا الرجال. فلما رأى أتابك البلد أعجبه ورأى أن تخريب مثله لا يجوز في السياسة فأمر فنودي في العساكر برد ما أخذوه من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم وإعادة ما غنموه من أثاثهم وأمتعتهم فردوا الجميع عن آخره لم يفقد منه شيء إلا النادر الذي أخذ وفارق من أخذه العسكر فعاد البلد على حاله الأول وجعل فيه عسكرا يحفظه وتسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات ما عدا البيرة فإنها حصينة منيعة وعلى شاطئ الفرات فسار إليها وحصرها وكانوا قد أكثروا ميرتها ورجالها،
99 فبقي على حصارها إلى أن رحل عنها ما نذكره إن شاء الله تعالى. حكي أن بعض الحكماء بالأنساب والتواريخ قال كان صاحب جزيرة صقلية قد أرسل سرية في البحر إلى طرابلس الغرب وتلك الأعمال فنهبوا وقتلوا وكان بصقلية إنسان من العلماء المسلمين وهو من أهل الصلاح وكان صاحب صقلية يكرمه ويحترمه ويرجع إلى قوله ويقدمه على من عنده من القسوس والرهبان وكان أهل ولايته يقولون إنه مسلم بهذا السبب. ففي بعض الأيام كان جالسا في منظرة تشرف على البحر وإذ قد أقبل مركب لطيف وأخبره من فيه أن عسكره دخل بلاد الإسلام وغنموا وقتلوا وظفروا وكان المسلم إلى جانبه وقد أغفى فقال له الملك يا فلان أما تسمع ما يقولون قال: لا! قال إنهم يخبرون بكذا وكذا أين كان محمد عن تلك البلاد وأهلها؟ فقال له: كان غاب عنهم وشهد فتح الرها وقد فتحها المسلمون الآن؛ فضحك منه من كان هناك من الفرنج فقال الملك لا تضحكوا فوالله ما يقول إلا الحق فبعد أيام وصلت الأخبار من فرنج الشام بفتحها. وحكى لي جماعة من أهل الدين والصلاح أن إنسانا صالحا رأى الشهيد في النوم فقال له: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي بفتح الرها. ذكر قتل نصير الدين جقر وولاية زين الدين على كوجك قلعة الموصل في هذه السنة، في ذي القعدة قتل نصير الدين جقر نائب أتابك زنكي بالموصل والأعمال جميعها التي شرق الفرات.
100 وسبب قتله أن الملك ألب أرسلان المعروف بالخفاجي ولد السلطان محمود كان عند أتابك الشهيد وكان يظهر للخلفاء والسلطان مسعود وأصحابه بالأطراف أن هذه البلاد لهذا الملك وأنا نائبه فيها وكان ينتظر وفاة السلطان مسعود ليخطب له بالسلطنة ويملك البلاد باسمه، وكان هذا الملك بالموصل هذه السنة ونصير الدين يقصده كل يوم ليقوم بخدمة إن عرضت له فحسن له بعض المفسدين طلب الملك وقال له إن قتلت نصير الدين ملكت الموصل وغيرها من البلاد ولا يبقى مع أتابك زنكي فارس واحد فوقع هذا منه موقعا حسنا وظنه صدقا فلما دخل نصير الدين إليه وثب عليه من عنده من أجناد أتابك ومماليكه فقتلوه والقوا برأسه إلى أصحابه ظنا منهم أن أصحابه يتفرقون ويخرج الملك ويملك البلد. وكان الأمر خلاف ما ظنوه فإن أصحابه وأصحاب أتابك الذين في خدمته لما رأوا رأسه قاتلوا من بالدار مع الملك واجتمع معهم الخلق الكثير وكانت دولة أتابك مملوءة بالرجال والأجناد ذوي الرأي والتجربة ثم دخل إليه القاضي تاج الدين يحيى بن الشهرزوري ولم يزل به يخدعه وكان فيما قال له لما رآه منزعجا يا مولانا لم تحرد من هذا الكلب هذا وأستاذه مماليك والحمد لله الذي أراحنا منه ومن صاحبه على يدك وما الذي يقعدك في هذه الدار قم لتصعد القلعة وتأخذ الأموال والسلاح وتملك البلد وتجمع الجند وليس دون الموصل مانع. فقام معه وأصعده القلعة فلما قاربها أراد من بها من النقيب والأجناد القتال فتقدم إليهم القاضي تاج الدين وقال لهم افتحوا الباب وتسلموه وافعلوا به ما أردتم ثم فتح الباب ودخل الملك والقاضي إليها ومعهما من أعان على قتل نصير الدين فسجنوا ونزل القاضي.
101 وبلغ الخبر أتابك زنكي وهو يحاصر قلعة البيرة وقد أشرف على ملكها فخاف أن تختلف البلاد الشرقية بعد قتل نصير الدين ففارق البيرة وأرسل زين الدين علي بن بكتكين إلى قلعة الموصل واليا على ما كان نصير الدين يتولاه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة قبض السلطان مسعود على وزيره البروجردي ووزر بعده المزربان بن عبيد الله بن نصر الأصفهاني وسلم إليه البروجردي فاستخرج أمواله ومات مقبوضا. وفيها كان أتابك عماد الدين زنكي يحاصر البيرة وهي للفرنج شرق الفرات بعد ملك الرها وهي من أمنع الحصون وضيق عليها وقارب أن يفتحها فجاءه خبر قتل نصير الدين نائبه بالموصل فرحل عنها وأرسل نائبا للموصل وأقام ينتظر الخبر فخاف من بالبيرة من الفرنج أن يعود إليهم وكانوا يخافونه خوفا شديدا، فأرسلوا إلى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها له فملكها المسلمون. وفيها خرج أسطول الفرنج من صقلية إلى ساحل أفريقية والغرب ففتحوا مدينة برشك وقتلوا أهلها وسبوا حريمهم وباعوه بصقلية على المسلمين. وفيها توفي تاشفين بن علي بن يوسف صاحب المغرب وكانت ولايته تزيد على أربع سنين، وولي بعده أخوه وضعف أمر الملثمين وقوي عبد المؤمن وقد ذكرنا ذلك سنة أربع عشرة وخمسمائة.
102 وفيها في شوال ظهر كوكب عظيم له ذنب من جانب المشرق وبقي إلى نصف ذي القعدة ثم غاب، ثم طلع من جانب الغرب فقيل هو هو وقيل بل غيره. وفيها كانت فتنة عظيمة بين الأمير هاشم بن فليتة بن القاسم العلوي الحسيني أمير مكة والأمير نظر الخادم أمير الحاج فنهب أصحاب هاشم الحجاج وهم في المسجد يطوفون ويصلون ولم يرقبوا فيه إلا ولا ذمة. وفيها في ذي الحجة توفي عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله بن حمدويه أبو المعالي المروزي بمرو وسافر الكثير وسمع الحديث الكثير وبني بمرو رباطا ووقف فيه كتبا كثيرة وكان كثير الصدقة والعبادة. وتوفي محمد بن عبد الملك بن حسن بن إبراهيم بن خيرون أبو منصور المقري في رجب ومولده في رجب سنة أربع وخمسين وأربعمائة وهو آخر من روى عن الجوهري بالإجازة، وتوفي في رجب. وفي ذي الحجة منها توفي أبو منصور سعيد بن محمد بن عمر المعروف بابن الرزاز مدرس النظامية ببغداد ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة وتفقه على الغزالي والشامي، ودفن في تربة الشيخ أبي إسحاق.
103 540 ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة ذكر اتفاق بوزابة وعباس على منازعة السلطان في هذه السنة سار بوزابة صاحب فارس وخوزستان وعساكره إلى قاشان ومعه الملك محمد [ابن السلطان محمود ووصل إليهما الملك سليمان شاه] ابن السلطان محمد واجتمع بوزابة والأمير عباس صاحب الري واتفقا على الخروج عن طاعة السلطان مسعود وملكا كثيرا من بلاده. ووصل الخبر إليه وهو ببغداد ومعه الأمير عبد الرحمن طغايرك وهو أمير حاجب حاكم في الدولة وكان ميله إليهما فسار السلطان في رمضان عن بغداد ونزل بها الأمير مهلهل ونظر وجماعة من غلمان بهروز وسار السلطان وعبد الرحمن معه فتقارب العسكران ولم يبق إلا المصاف فلحق سليمان شاه بأخيه مسعود وشرع عبد الرحمن في تقرير الصلح على القاعدة التي أرادوها وأضيف إلى عبد الرحمن ولاية أذربيجان وأرانية إلى ما بيده وصار أبو الفتح بن دارست وزير السلطان مسعود وهو وزير بوزابة فصار السلطان معهم تحت الحجر وأرسلوا بك أرسلان بن بلنكري المعروف بخاص بك وهو ملازم السلطان وتربيته وصار في خدمته عبد الرحمن ليحقن دمه وصار الجماعة في خدمة السلطان بالصورة لا بالمعنى والله أعلم.
104 ذكر استيلاء علي بن دبيس بن صدقة على الحلة في هذه السنة سار علي بن دبيس إلى الحلة هاربا فملكها وكان سبب ذلك أن السلطان لما أراد الرحيل من بغداد أشار عليه مهلهل أن يحبس علي بن دبيس بقلعة تكريت فعلم ذلك فهرب في جماعة يسيرة نحو خمسة عشر فمضى إلى الأزير وجمع بني أسد وغيرهم وسار إلى الحلة وبها أخوه محمد بن دبيس فقاتله فانهزم محمد وملك علي الحلة. واستهان السلطان أمره أولا فاستفحل وضم إليه جمعا من غلمانه وغلمان أبيه وأهل بيته وعساكرهم وكثر جمعهم فسار إليه مهلهل فيمن معه في بغداد من العسكر وضربوا معه مصافا فكسرهم وعادوا منهزمين إلى بغداد. وكان أهلها يتعصبون لعلي بن دبيس وكانوا يصيحون إذا رأوا مهلهلا وبعض أصحابه يا علي! كله. وكثر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل من الركوب. ومد علي يده في أقطاع الأمراء بالحلة وجعلهم على السور لحفظه وراسل عليا فأعاد بأنني العبد المطيع مهما رسم لي فعلت فسكن الناس ووصلت الأخبار بعد ذلك أن السلطان مسعودا تفرق خصومه عنه فازداد سكون الناس.
105 ذكر عدة حوادث حج بالناس هذه السنة قايماز الأرجواني صاحب أمير الحاج نظر واحتج بأن بركه نهب في كسرة الحلة وأن بينه وبين أمير مكة من الحروب ما لا يمكنه معه الحج. وفيها اتصل بالخليفة عن أخيه أبي طالب ما كرهه فضيق عليه واحتاط على غيره من أقاربه. وفيها ملك الفرنج لعنهم الله مدينة شنترين وماجة وماردة وأشبونة وسائر المعاقل المجاورة لها من بلاد الإسلام بالأندلس فخيب الله ظنه وكان ما نذكره. وفيها سار أسطول الفرنج من صقلية ففتحوا جزيرة قرقنة من أفريقية فقتلوا رجالها وسبوا حريمهم فأرسل الحسن صاحب أفريقية إلى رجال ملك صقلية يذكره بالعهود التي بينهم فاعتذر بأنهم غير مطيعين له. وفي هذه السنة توفي مجاهد الدين بهروز الغياثي وكان حاكما بالعراق نيفا وثلاثين سنة ويرنقش الزكوي صاحب أصفهان وكان أيضا شحنة بالعراق وهو خادم أرمني لبعض التجار. ونوفي الأمير إيلدكز شحنة بغداد والشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد بن الخضر الجواليقي اللغوي ومولده في ذي الحجة سنة خمس وستين
106 وأربعمائة وأخذ اللغة عن أبي زكريا التبريزي وكان يؤم بالمقتفي أمير المؤمنين. وتوفي أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن أحمد بن سليمان أبو سعيد بن أبي الفضل الأصفهاني ومولده سنة ثلاث وستين وأربعمائة، وروى الحديث الكثير وكان على سيرة السلف كثير الاتباع للسنة رحمة الله عليه.
107 541 ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ذكر ملك الفرنج طرابلس الغرب في هذه السنة ملك الفرنج لعنهم الله طرابلس الغرب وسبب ذلك أن رجار ملك صقلية جهز أسطولا كثيرا وسيره إلى طرابلس فأحاطوا بها برا وبحرا ثالث المحرم فخرج إليهم أهلها وأنشبوا القتال فدامت الحرب بينهم ثلاثة أيام. فلما كان اليوم الثالث سمع الفرنج بالمدينة ضجة عظيمة وخلت الأسوار من المقاتلة، وسبب ذلك أن أهل طرابلس كانوا قبل وصول الفرنج بأيام يسيرة قد اختلفوا فأخرج طائفة منهم بني مطروح وقدموا عليهم رجلا من الملثمين قدم يريد الحج ومعه جماعة فولوه أمرهم فلما نازلهم الفرنج أعادت الطائفة الأخرى بني مطروح فوقع الحرب بين الطائفتين وخلت الأسوار فانتهز الفرنج الفرصة ونصبوا السلالم وطلعوا على السور واشتد القتال فملكت الفرنج المدينة عنوة وقهرا بالسيف فسفكوا دماء أهلها وسبوا نساءهم وأخذوا أموالهم وهرب من قدر على الهرب والتجأ إلى البربر والعرب فنودي بالأمان في الناس كافة، فرجع كل من فر منها. وأقام الفرنج ستة أشهر حتى حصنوا سورها وحفروا خنادقها ولما عادوا أخذوا رهائن أهلها ومعهم بنو مطروح والملثم ثم أعادوا رهائنهم،
108 وولوا عليها رجلا من مطروح وأخذوا رهائنه وحده واستقامت أمور المدينة وألزم أهل صقلية والسفن والروم بالسفر إليها فانعمرت سريعا وحسن حالها. ذكر حصن زنكي حصن جعبر وفنك في هذه السنة سار أتابك زنكي إلى حصن جعبر وهو مطل على الفرات، وكان بيد سالم بن مالك العقيلي سلمه السلطان ملكشاه إلى أبيه لما أخذ منه حلب وقد ذكرناه فحصره وسير جيشا إلى قلعة فنك وهي تجاور جزيرة ابن عمر بينهما فرسخان فحصرها أيضا وصاحبها حينئذ الأمير حسام الدين الكردي البشنوي. وكان سبب ذلك أنه كان لا يريد أن يكون في وسط بلاده ما هو ملك غيره جزما واحتياطا فنازل قلعة جعبر وحصرها وقاتله من بها فلما طال عليه ذلك أرسل إلى صاحبها مع الأمير حسان المنجي لمودة كانت بينهما في معنى تسليمهما وقال له تضمن عني الأقطاع الكثير والمال الجزيل فإن أجاب إلى التسليم وإلا فقل له والله لأقيمن عليك إلى أن أملكها عنوة ثم لا أبقي عليك ومن الذي يمنعك مني؟ فصعد إليه حسان وأدى إليه الرسالة ووعده وبذل له ما قيل له فامتنع من التسليم فقال له حسان فهو يقول لك من يمنعك من قتالي ومن يمنعك مني فقال يمنعني منه الذي منعك من الأمير بلك فعاد حسان وأخبر الشهيد بامتناعه ولم يذكر له هذا فقتل أتابك بعد أيام. كانت قصة حسان مع بلك ابن أخي إيلغازي أن حسانا كان صاحب
109 منبج، فحصره بلك وضيق عليه فبينما هو كذلك في بعض الأيام يقاتله جاءه سهم لا يعرف من رماه فقتله وخلص حسان من الحصر وقد تقدم ذكره وكان هذا القول من الاتفاق الحسن. ولما قتل أتابك زنكي رحل العسكر الذين كانوا يحاصرون قلعة فنك عنها وهي بيد عقاب صاحبها إلى الآن وسمعتهم يذكرون أنهم لهم بها نحو ثلاثمائة سنة ولهم مقصد حسن وفيهم وفاء وعصبية يأخذون بيد كل من يلتجئ إليهم ويقصدهم ولا يسلمونه إلى طالبه كائنا من كان. ذكر قتل أتابك عماد الدين زنكي وشئ من سيرته في هذه السنة لخمس مضين من ربيع الآخر قتل أتابك الشهيد عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل والشام وهو يحاصر قلعة جعبر على ما ذكرناه قتله جماعة من مماليكه ليلا غيلة وهربوا إلى قلعة جعبر فصاحوا على من بها من أهلها من العسكر يعلمونهم بقتله وأظهروا الفرح فدخل أصحابه إليه فأدركوه وبه رمق. حدثني والدي عن بعض خواصه قال دخلت إليه في الحال وهو حي فحين رآني ظن أني أريد قتله فأشار إلي بأصبعه السبابة يستعطفني فوقعت من هيبته فقلت يا مولاي من فعل هذا فلم يقدر على الكلام وفاضت نفسه رحمه الله. قال وكان حسن الصورة أسمر اللون مليح العينين قد وخطه
110 الشيب وكان قد زاد عمره على ستين سنة لأنه كان لما قتل والده صغيرا كما ذكرناه قبل ولما قتل دفن بالرقة. وكان شديد الهيبة على عسكره ورعيته عظيم السياسة لا يقدر القوي على ظلم الضعيف وكانت البلاد قبل أن يملكها خرابا من الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنج فعمرها وامتلأت أهلا وسكانا. حكى لي والدي قال رأيت الموصل وأكثرها خراب بحيث يقف الإنسان قريب محلة الطبالين ويرى الجامع العتيق والعرصة ودار السلطان وليس بين ذلك عمارة قط وكان الإنسان لا يقدر على المشي إلى الجامع العتيق إلا ومعه من يحميه لبعده عن العمارة وهو الآن في وسط العمارة وليس في هذه البقاع المذكورة كلها أرض مراح قال وحدثني أيضا أنه وصل إلى الجزيرة في الشتاء فدخل الأمير عز الدين الدبيسي وهو من أكابر أمرائه ومن جملة أقطاعه مدينة دقوقا ونزل في دار إنسان يهودي فاستغاث اليهودي إلى أتابك وأنهى حاله إليه فنظر إلى الدبيسي فتأخر ودخل البلد وأخرج بركه وخيامه قال فلقد رأيت غلمانه ينصبون خيامه في الوحل وقد جعلوا على الأرض تبنا يقيهم الطين وخرج فنزلها وكانت سياسته إلى هذا الحد. وكانت الموصل من أقل بلاد الله فاكهة فصارت فلي أيامه وما بعدها من أكثر البلاد فواكه ورياحين وغير ذلك. وكان أيضا شديد الغيرة ولا سيما على نساء الأجناد وكان يقول: إن
111 لم تحفظ نساء الأجناد وإلا فسدن لكثرة غياب أزواجهن في الأسفار. وكان أشجع خلق الله أما قبل أن يملك فيكفيه أنه حضر مع الأمير مودود صاحب الموصل مدينة طبرية وهي للفرنج فوصلت طعنته باب البلد وأثرت فيه وحمل أيضا على قلعة عقر الحميدية وهي على جبل عال فوصلت طعنته إلى سورها إلى أشياء أخر. وأما بعد الملك فقد كان الأعداء محدقين ببلاده وكلهم يقصدها، ويريدون أخذها وهو لا يقنع بحفظها حتى أنه لا ينقضي عليه عام حتى يفتح من بلادهم فقد كان الخليفة المسترشد بالله مجاوره في ناحية تكريت وقصد الموصل وحصرها ثم إلى جانبه من ناحية شهرزور وتلك الناحية السلطان مسعود ثم ابن سقمان صاحب خلاط ثم داود بن سقمان صاحب حصن كيفا ثم صاحب آمد وماردين ثم الفرنج من مجاورة ماردين إلى دمشق ثم أصحاب دمشق فهذه الولايات قد اختلطت بولايته من كل جهاتها فهو يقصد هذا مرة وهذا مرة ويأخذ من هذا ويصانع هذا إلى أن ملك من كل من يليه طرفا من بلاده وقد أتينا على أخباره في كتاب الباهر في تاريخ دولته ودولة أولاده فليطلب من هناك. ذكر ملك ولديه سيف الدين غازي ونور الدين محمود لما قتل أتابك زنكي أخذ نور الدين محمود ولده خاتمه من يده وكان حاضرا معه وسار إلى حلب فملكها. وكان حينئذ يتولى ديوان زنكي ويحكم في دولته من أصحاب العمائم
112 جمال الدين محمد بن علي وهو المنفرد بالحكم ومعه أمير حاجب صلاح الدين محمد الياغيسياني فاتفقا على حفظ الدولة وكان مع الشهيد أتابك الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود فركب ذلك اليوم وأجمعت العساكر عليه وحضر عنده جمال الدين وحسنا له الاشتغال بالشرب والمغنيات والجواري وأدخلاه الرقة فبقي بها أياما لا يظهر ثم سار إلى ماكسين فدخلها وأقام بها أياما وجمال الدين يحلف الأمراء لسيف الدين غازي بن أتابك زنكي ويسيرهم [إلى] الموصل. فلما وصلوا إلى سنجار أرسل جمال الدين إلى الدزدار يقول له ليرسل إلى ولد السلطان يقول له إني مملوكك ولكن نبغي الموصل فإن ملكتها سلمت إليك سنجار فسار إلى الموصل فأخذه جمال الدين وقصد به مدينة بلد وقد بقي معه من العسكر القليل فأشار عليه بعبور دجلة فعبرها إلى الشرق في نفر يسير. وكان سيف الدين غازي بمدينة شهرزور وهي أقطاعه فأرسل إليه زين الدين علي نائب أبيه بالموصل يستدعيه إلى الموصل فحضر قبل وصول الملك فلما علم جمال الدين بوصول سيف الدين إلى الموصل أرسل إليه يعرفه قلة من معه فأرسل إليه بعض عسكره فقبضه وحبس في قلعة الموصل واستقر ملك سيف الدين البلاد وبقي أخوه نور الدين بحلب وهي له، وسار إليه صلاح الدين الياغيسياني مدبر أمره والقائم بدولته، وحفظها وقد استقصينا شرح هذه الحادثة في التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية.
113 ذكر عصيان الرها لما قتل أتابك كان جوسلين الفرنجي الذي كان صاحب الرها في ولايته وهي تل باشر وما يجاورها فراسل أهل الرها وعامتهم من الأرمن وحملهم على العصيان والامتناع من المسلمين وتسليم البلد إليه فأجابوه إلى ذلك وواعدهم يوما يصل إليهم فيه وسار في عساكره إلى الرها وملك البلد وامتنعت القلعة عليه بمن فيها من المسلمين فقاتلهم فبلغ الخبر إلى نور الدين محمود بن زنكي وهو بحلب فسار مجدا إليها في عسكره فلما قاربها أخرج جوسلين هاربا عائدا إلى بلده ودخل نور الدين المدينة ونهبها حينئذ وسبى أهلها. وفي هذه الدفعة نهبت وخلت من أهلها ولم يبق منهم إلا القليل وكثير من الناس يظن أنها نهبت لما فتحها الشهيد وليس كذلك. وبلغ الخبر إلى سيف الدين غازي بعصيان الرها فسير العساكر إليها فسبقه الملك نور الدين إلى البلد واستباحه وهم في الطريق فعادوا. ومن أعجب ما يحكى أن زين الدين عليا الذي كان نائب الشهيد وأولاده بقلعة الموصل جاءه هدية أرسلها إليه نور الدين من هذا الفتح وفي الجملة جارية فلما دخل إليها وخرج من عندها وقد اغتسل وقال لمن عنده تعلمون ما جرى لي في يومنا هذا قالوا لا قال لما فتحنا الرها
114 مع الشهيد وقع في يدي من السبي جارية رائعة أعجبني حسنها ومال قلبي إليها فلم يكن أسرع من أن أمر الشهيد فنودي برد السبي والمال المنهوب وكان مهيبا مخوفا فرددتها وقلبي متعلق بها فلما كان الآن جاءتني هدية نور الدين وفيها عدة جوار فيها تلك الجارية فوطئتها خوفا أن تقع مثل تلك الدفعة. ذكر استيلاء عبد المؤمن على جزيرة الأندلس في هذه السنة سير عبد المؤمن بن علي جيشا إلى جزيرة الأندلس فملكوا ما فيها من بلاد الإسلام. وسبب ذلك أن عبد المؤمن لما كان يحاصر مراكش جاء إليه جماعة من أعيان الأندلس منهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن حمدين ومعهم مكتوب يتضمن بيعة أهل البلاد التي هم فيها لعبد المؤمن ودخولهم في زمرة أصحابه الموحدين وإقامتهم لأمره فقبل عبد المؤمن ذلك منهم وشكرهم عليه وطيب قلوبهم وطلب منهم النصرة وطلبوا منه النصرة على الفرنج فجهز جيشا كثيفا وسير معهم وعمر أسطولا وسيره في البحر فسار الأسطول إلى الأندلس وقصدوا مدينة إشبيلية وصعدوا في نهرها وبها جيش من الملثمين فحصروها برا وبحرا وملكوها عنوة وقتل فيها جماعة وأمن الناس فسكنوا واستولت العساكر على البلاد وكان لعبد المؤمن من بها.
115 ذكر قتل عبد الرحمن طغايرك وعباس صاحب الري في هذه السنة قتل السلطان مسعود أمير حاجب دولة عبد الرحمن طغايرك وهو صاحب خلخال وبعض أذربيجان والحاكم في دولة السلطان وليس للسلطان معه حكم. وكان سبب قتله أن السلطان لما ضيق عليه عبد الرحمن وبقي معه شبه الأسير ليس له في البلاد حكم حتى أن عبد الرحمن قصد غلاما كان للسلطان وهو بك أرسلان المعروف بابن خاص بك عقل وتدبير وجودة قريحة وتوصل لما يزنه بعقله فجمع عبد الرحمن العساكر وخاص بك فيهم وقد استقر بينه وبين السلطان مسعود أن يقتل عبد الرحمن فاستدعى [خاص] بك جماعة ممن يثق بهم وتحدث معهم في ذلك فكل منهم خاف الإقدام عليه إلا رجلا اسمه زنكي وكان جاندارا فإنه بذل من نفسه أن يبدأه بالقتل ووافق خاص بك على القيام في الأمر جماعة من الأمراء فبينما عبد الرحمن في موكبه ضربه زنكي الجاندار بمقرعة حديد كانت في يده على رأسه فسقط إلى الأرض فأجهز عليه خاص بك وأعانه على حماية زنكي والقائمين معه من كان واطأه على ذلك من الأمراء، وكان قتله بظاهر جنزة. وبلغ الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد ومعه الأمير عباس صاحب الري وعسكره أكثر من عسكر السلطان فأنكر ذلك وامتعض منه فداراه السلطان ولطف به واستدعى الأمير البقش كون خر من اللحف
116 وتتر وهو أمير اللحف وتتر الذي كان حاجبا فلما قوي بهما أحضر عباسا إليه في داره فلما دخل إليه منع أصحابه من الدخول معه وعدلوا إلى حجرة وقالوا له اخلع الزردية فقال إن لي مع السلطان أيمانا وعهودا فلكموه وخرج له غلمان أعدوا لذلك فحينئذ تشهد وخلع الزردية وألقاها وضربوه بالسيوف، واحتزوا رأسه وألقوه إلى أصحابه، ثم ألقوا جسده ونهب رحله وانزعج البلد لذلك. وكان عباس من غلمان السلطان محمود حسن السيرة عادلا في رعيته كثير الجهاد للباطنية قتل منهم خلقا كثيرا وبنى رؤوسهم منارة بالري وحصر قلعة الموت ودخل إلى قرية من قراهم فألقى فيها النار فأحرق كل من فيها ن رجل وامرأة وصبي وغير ذلك وقتل [دفن] بالجانب الغربي، فأرسلت ابنته فحملته إلى الري فدفنته هناك، وكان مقتله في ذي القعدة. ومن الاتفاق العجيب أن العبادي كان يعظ يوما فحضره عباس فأسمع بعض أهل المجلس ورمى بنفسه نحو الأمير عباس فضربه أصحابه ومنعوه خوفا عليه لأنه كان شديد الاحتراس من الباطنية لا يزال لابسا الزردية لا تفارقه الغلمان الأجلاد فقال له العبادي كم هذا الاحتراز والله لئن قضي عليك بأمر لتحلن أنت بيدك أزرار الزردية فينفذ القضاء فيك. وكان والله كما قال، وقد كان السلطان استوزر ابن دارست وزير بوزابة كارها على ما تقدم ذكره فعزله الآن لأنه اختار العزل والعود إلى صاحبه بوزابة فلما عزله قرر معه أن يصلح له بوزابة ويزيل ما عنده من الاشمئزاز بسبب قتل عبد الرحمن وعباس فسار الوزير وهو لا يعتقد النجاة فوصل إلى بوزابة وكان ما نذكره.
117 ذكر عدة حوادث في هذه السنة حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت. وفيها توفي الأمير جاولي الطغرلي صاحب أرانية وبعض أذربيجان وكان قد تحرك للعصيان وكان موته فجأة مد قوسا فنزف دما فمات. وتوفي شيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل بن أبي سعيد الصوفي مات ببغداد ودفن بظاهر رباط الدوري بباب البصرة ومولده سنة أربع وستين وأربعمائة، وقام في منصبه ولده عبد الرحيم. وفيها توفي مسعود بن بلال شحنة بغداد وسار السلطان عنها. وفيها كان بالعراق جراد كثير أمحل أكثر البلاد. وفيها ورد العبادي الواعظ رسولا من السلطان سنجر إلى الخليفة ووعظ ببغداد وكان له قبول بها وحضر مجلسه السلطان مسعود فمن دونه، وأما العامة فإنهم كانوا يتركون أشغالهم لحضورهم مجلسه والمسابقة إليه. وفيها بعد قتل الشهيد زنكي بن آقسنقر قصد صاحب دمشق حصن بعلبك وحصره وكان به نجم الدين أيوب بن شاذي فخاف أن أولاد زنكي لا يمكنهم انجاده بالعاجل فصالحه وسلم القلعة إليه وأخذ منه أقطاعا ومالا وملكه عشر قرى من بلاد دمشق وانتقل أيوب إلى دمشق فسكنها وأقام بها. وفي هذه السنة في ربيع الآخر توفي عبد الله بن علي بن أحمد المقري ابن بنت الشيخ أبي منصور ومولده في شعبان سنة أربع وستين وأربعمائة وكان مقرئا نحويا محدثا وله تصانيف في القراءات.
118 542 ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ذكر قتل بوزابة لما اتصل بالأمير بوزابة قتل عباس جمع عساكره من فارس وخوزستان وسار إلى أصفهان فحصرها وسير عسكرا آخر إلى همذان وعسكر ثالثا إلى قلعة الماهكي بلد اللحف فأما عسكره بالماهكي فإنه سار إليهم الأمير البق كون خر فدفعهم عن أعماله وكانت أقطاعه ثم عن بوزابة سار عن أصفهان يطلب السلطان مسعودا فراسله السلطان في الصلح فلم يجب إليه وسار مجدا فالتقيا بمرج قراتكين وتصافا فاقتتل العسكران فانهزم منه السلطان مسعود وميسرته واقتتل القلبان أشد قتال وأعظمه صبر فيه الفريقان وصار الحرب بينهما فسقط بوزابة عن فرسه بسهم أصابه وقيل بل عثر به الفرس فأخذ أسيرا وحمل إلى السلطان فقتل بين يديه وانهزم أصحابه لما أخذ هو أسيرا. وبلغت هزيمة العسكر السلطاني من الميمنة والميسرة إلى همذان وخراسان وقتل من الفريقين خلق كثير وكان هذا الحرب من أعظم الحروب الكائنة بين الأعاجم.
119 ذكر طاعة أهل قابس للفرنج وغلبة المسلمين عليها كان صاحب مدينة قابس قبل هذه السنة إنسانا اسمه رشيد فتوفي وخلف أولادا، فعمد مولى له اسمه يوسف إلى ولده الصغير واسمه محمد فولاه الأمر وأخرج ولده الكبير معمرا واستولى يوسف على البلد وحكم على محمد لصغر سنه. وجرى من أشياء من التعرض إلى حرم سيده والعهدة على ناقله، وكان من جملتهن امرأة من بني قرة فأرسلت إلى أخوتها تشكو إليهم ما هي فيه فجاء أخرتها لأخذها فمنعها منهم وقال هذه حرمة مولاي ولم يسلمها فسار بنو قرة ومعمر بن رشيد إلى الحسن صاحب أفريقيا وشكوا إليه ما يفعل يوسف فكاتبه الحسن في ذلك فلم يجبه وقال لئن لم يكف الحسن عني وإلا سلمت قابس إلى صاحب صقلية فجهز الحسن العسكر إليه فلما سمع يوسف بذلك أرسل إلى رجار الفرنجي صاحب صقلية وبذل له الطاعة وقال له أريد منك خلعة وعهدا بولاية قابس لأكون نائبا عنك كما فعلت مع بني مطروح أصحاب طرابلس فسير إليه رجار الخلعة والعهد فلبسها وقرئ العهد بمجمع من الناس. فجد حينئذ الحسن في تجهيز العسكر إلى قابس فساروا إليها ونازلوها وحصروها فثار أهل البلد بيوسف لما اعتمده من طاعة الفرنج وسلموا البلد إلى عسكر الحسن وتحصن يوسف في القصر فقاتلوه حتى فتحوه وأخذ يوسف أسيرا فتولى عذابه معمر بن رشيد وبنو قرة فقطعوا ذكره وجعلوه في فيه وعذب بأنواع العذاب. وولي معمر قابس مكان أخيه وأخذ بنو قرة أختهم وهرب عيسى أخو يوسف وولد يوسف وقصدوا رجار صاحب صقلية فاستجاروا
120 به وشكوا إليه ما لقوا من الحسن فغضب لذلك وكان ما نذكره سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة من فتح المهدية إن شاء الله تعالى. وهذا الذي كان من يوسف والله أعلم ذكر حادثة ينبغي أن يحتاط العاقل من مثلها كان هذا يوسف صاحب قابس قد أرسل رسولا إلى رجار صاحب صقلية فاجتمع هو والحسين رسول صاحب المهدية عنده فجرى بين الرسولين مناظرة فذكر رسول يوسف الحسن ونال منه وذمه ثم إنهما عادا في وقت واحد وركبا البحر كل واحد منهما في مركبه فأرسل رسول الحسن رقعة على جناح طائر يخبره بما كان من رسول يوسف فسير الحسن جماعة من أصحابه في البحر فأخذوا رسول يوسف وأحضروه عند الحسن فسبه وقال ملكت الفرنج بلاد الإسلام وطولت لسانك بذمي ثم أركبه جملا وعلى رأسه جلاجل وطيف به في البلد ونودي عليه هذا جزاء من سعى أن يملك الفرنج بلاد المسلمين فلما توسط المهدية ثار به العامة فقتلوه بالحجارة. ذكر ملك الفرنج المرية وغيرها من الأندلس في هذه السنة في جمادى الأولى حضر الفرنج مدينة المرية من الأندلس وضيقوا عليها برا وبحرا فملكوها عنوة وأكثروا القتل بها والنهب،
121 وملكوا أيضا مدينة بياسة وولاية جيان وكلها بالأندلس ثم استعادها المسلمون بعد ذلك منهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ملك نور الدين محمود بن زنكي عدة مواضع من بلدة الفرنج في هذه السنة دخل نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلد الفرنج ففتح منه مدينة ارتاح بالسيف ونهبها وحصر مابولة وبصرفون وكفرلاثا وكان الفرنج بعد قتل والده زنكي قد طمعوا وظنوا أنهم بعده يستردون ما أخذه فلما رأوا من نور الدين هذا الجد في أول أمره علموا أن ما أملوه بعيد. ذكر أخذ الحلة من علي بن دبيس وعوده إليها في هذه السنة كثر فساد أصحاب علي بن دبيس بالحلة وما جاورها وكثرت الشكاوى منه فأقطع السلطان مسعود الحلة سلاركرد فسار إليها من همذان ومعه عسكر وانضاف إليه جماعة من عسكر بغداد وقصدوا الحلة فجمع على عسكره وحشد والتقى العسكران بمطيراباذ فانهزم علي وملك سلاركرد الحلة واحتاط على أهل علي ورجعت العساكر وأقام هو بالحلة ومماليكه وأصحابه وسار علي بن دبيس فلحق بالبقش كون خر وكان بأقطاعه في اللحف متجنيا على السلطان فاستنجده فسار معه إلى واسط واتفق هو الطرنطاي وقصدوا الحلة فاستنقذوها من سلاركرد في ذي الحجة وفارقها سلاركرد وعاد إلى بغداد.
122 ذكر عدة حوادث في هذه السنة في جمادى الأولى خطب للمستنجد بالله يوسف بن المقتفي لأمر الله بولاية العهد. وفيها ولي عون الدين يحيى بن هبير كتابة ديوان الزمام ببغداد وولي زعيم الدين يحيى بن جعفر المخزن. وفيها في ربيع الأول مات أبو القاسم طاهر بن سعيد بن أبي سعيد بن أبي الخير الميهني شيخ رباط البسطامي ببغداد. وفي ربيع الآخر توفيت فاطمة خاتون بنت السلطان محمد زوجة المقتفي لأمر الله. وفي رجب منها مات أبو الحسن محمد بن المظفر بن علي بن المسلمة ابن رئيس الرؤساء، ومولده سنة أربع وثمانين [وأربعمائة] وكان قد تصوف وجعل داره التي في القصر رباطا للصوفية. وفيها سار سيف الدين غازي بن زنكي إلى قلعة دارا فملكها وغيرها من بلد ماردين ثم سار إلى ماردين وحصرها وخرب بلدها ونهبه. وكان سبب ذلك أن أتابك زنكي لما قتل تطاول صاحب ماردين وصاحب الحصن إلى ما كان قد فتحه من بلادهما فأخذاه فلما ملك سيف الدين وتمكن سار إلى ماردين وحصرها وفعل ببلدها الأفاعيل العظيمة فلما رأى صاحبها وهو حينئذ حسام الدين تمرتاش ما يفعل في بلده قال كنا نشكو من أتابك الشهيد وأين أيامه لقد كانت أعيادا قد حصرنا غير مرة فلم يأخذ هو ولا أحد من عسكره مخلاة تبن بغير ثمن ولا تعدى هو وعسكره حاصل السلطان وأرى هذا ينهب البلاد ويخربها.
123 ثم راسله وصالحه وزوجه ابنته ورحل سيف الدين عنه وعاد إلى الموصل وجهزت ابنة حسام الدين وسيرت إليه فوصلت وهو مريض قد أشفى على الموت فلم يدخل بها وبقيت عنده إلى أن توفي وملك قطب الدين مودود فتزوجها على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها اشتد الغلاء بأفريقية ودامت أيامه فإن أوله كان سنة سبع وثلاثين وخمسمائة وعظم الأمر على أهل البلاد حتى أكل بعضهم بعضا وقصد أهل البوادي المدن من الجوع فأغلقها أهلها دونهم وتبعه وباء وموت كثير حتى خلت البلاد وكان أهل البيت لا يبقى منهم أحد وسار كثير منهم إلى صقلية في طلب القوت ولقوا أمرا عظيما.
124 543 ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ذكر ملك الفرنج مدينة المهدية بإفريقية قد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة, مسير آهل يوسف صاحب قابس إلى رجار ملك صقلية واستغاثتهم به فغضب لذلك وكان بينه وبين الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية صلح وعهود إلى مدة سنتين وعلم أنه فاته فتح البلاد في هذه الشدة التي أصابتهم وكانت الشدة دوام الغلاء في جميع المغرب من سنة سبع وثلاثين إلى هذه السنة وكان أشد ذلك سنة اثنتين وأربعين فإن الناس فارقوا البلاد والقرى ودخل أكثرهم إلى مدينة صقلية وأكل الناس بعضهم بعضا وكثر الموت في الناس فاغتنم رجار هذه السنة فعمر الأسطول وأكثر منه فبلغ نحو مائتين وخمسين شينيا مملوءة رجالا وسلاحا وقوتا. وسار الأسطول عن صقلية ووصل إلى جزيرة قوصرة وهي ما بين المهدية وصقلية فصادفوا بها مركبا ووصل إلى المهدية فأخذ أهله واحضروا بين يدي جرجي مقدم الأسطول فسألهم عن حال أفريقية ووجد في المركب قفص حمام فسألهم هل أرسلوا منها فحلفوا بالله أنهم لم يرسلوا منها
125 شيئا، فأمر الرجل الذي كان في الحمام صحبته أن يكتب بخطه إننا لما وصلنا جزيرة قوصرة وجدنا بها مراكب من صقلية فسألناهم عن الأسطول المخذول فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينية. وأطلق الحمام فوصل إلى المهدية فسر الأمير الحسن والناس وأراد جرجي بذلك أن يصل بغتة ثم سار وقدر وصولهم إلى المهدية وقت السحر ليحيط بها قبل أن يخرج أهلها فلو تم له ذلك لم يسلم منهم أحد فقدر الله تعالى أن أرسل عليهم ريحا هائلا فلم يقدروا على السير إلا بالمقاذيف فطلع النهار ثاني صفر في هذه السنة قبل وصولهم فرآهم الناس فلما رأى جرجي ذلك وأن الخديعة فاتته أرسل إلى الأمير الحسن يقول إنما جئت بهذا الأسطول طالبا بثأر محمد بن رشيد صاحب قابس ورده إليها وأما أنت فبيننا وبينك عهود وميثاق إلى مدة ونريد منك عسكرا يكون معنا. فجمع الحسن الناس من الفقهاء والأعيان وشاورهم فقالوا نقاتل عدونا فإن بلدنا حصين فقال أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا برا وبحرا ويحول بيننا وبيت الميرة وليس عندنا ما يقوتنا شهرا فنؤخذ قهرا وأنا أرى سلامة المسلمين من الأسر والقتل خيرا من الملك وقد طلب مني عسكرا إلى قابس فإن فعلت فما يحل لي معونة الكفار على المسلمين وإن امتنعت يقول انتقض ما بيننا من الصلح وليس يريد إلا أن يثبطنا وحتى يحول بيننا وبين البر وليس لنا بقتاله طاقة والرأي أن نخرج بالأهل والولد وننزل عن البلد فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا.
126 وأمر في الحال بالرحيل وأخذ معه من حضره وما خف حمله وخرج الناس على وجههم بأهليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم ومن الناس من اختفى عند النصارى وفي الكنائس وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية إلى ثلثي النهار فلم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد فوصل الفرنج ودخلوا البلد بغير مانع ولا دافع ودخل جرجي القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه إلا ما خف من ذخائر الملوك وفيه جماعة من حظاياه ورأى الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيء غريب يقل وجود مثله فختم عليه وجمع سراري الحسن من قصره. وكان عدة من ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحسن تسعة ملوك ومدة ولايتهم مائة سنة وثمانين سنة من إحدى وستين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وكان بعض القواد قد أرسله الحسن إلى رجار برسالة فأخذ لنفسه وأهله منه أمانا فلم يخرج معهم ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين ونودي بالأمان خرج من كان مستخفيا وأصبح جرجي من الغد فأرسل إلى من قرب من العرب فدخلوا إليه فأحسن إليهم وأعطاهم أموالا جزيلة وأرسل من جند المهدية الذين تخلفوا بها جماعة ومعهم أمان لأهل المهدية الذين خرجوا منها ودواب يحملون عليها الأطفال والنساء وكانوا قد أشرفوا على الهلاك من الجوع ولهم بالمهدية خبايا وودائع فلما وصل إليهم الأمان رجعوا فلم يمض غير جمعة حتى رجع أكثر أهل البلد. وأما الحسن فإنه سار بأهله وأولاده وكانوا اثني عشر ولدا ذكرا غير الإناث وخواص خدمه قاصدا إلى محرز بن زياد وهو بالمعلقة فلقيه في طريقه أمير من العرب يسمى حسن بن ثعلب فطلب منه مالا انكسر له في
127 ديوانه، فلم يمكن الحسن من إخراج مال لئلا يؤخذ فسلم إليه ولده يحيى رهينة وسار فوصل في اليوم الثاني إلى محرز وكان الحسن قد فضله على جميع العرب وأحسن إليه ووصله بكثير من المال فلقيه محرز لقاء جميلا وتوجع لما حل به فأقام عنده شهورا والحسن كاره للإقامة فأراد المسير إلى ديار مصر إلى الخليفة الحافظ العلوي واشترى مركبا لسفره فسمع جرجي الفرنجي فجهز شواني ليأخذه فعاد الحسن عن ذلك وعزم على المسير إلى عبد المؤمن بالمغرب فأرسل كبار أولاد يحيى وتميما وعليا إلى يحيى بن عبد العزيز وهو من بني حماد وهما أولاد عم يستأذنه في الوصول إليه وتجديد العهد به والمسير من عنده إلى عبد المؤمن فأذن له يحيى فسار إليه فلما وصل لم يجتمع به يحيى وسيره إلى جزيرة بني مزغناي هو وأولاده ووكل به من يمنعهم من التصرف فبقوا كذلك إلى أن ملك عبد المؤمن بجاية سنة سبع وأربعين [خمسمائة] فحضر عنده وقد ذكرنا حاله هناك. ولما استقر جرجي بالمهدية سير أسطولا بعد أسبوع إلى مدينة سفاقس وسير أسطولا آخر إلى مدينة سوسة فأما سوسة فإن أهلها سمعوا خبر المهدية وكان واليها علي بن الحسن الأمير فخرج إلى أبيه وخرج الناس لخروجه فدخلها الفرنج بلا قتال ثاني عشر صفر؛ وأما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من العرب فامتنعوا بهم فقاتلهم الفرنج فخرج إليهم أهل البلد فأظهر الفرنج الهزيمة وتبعهم الناس حتى ابعدوا عن البلد ثم عطفوا عليهم فانهزم قوم إلى البلد وقوم إلى البرية وقتل منهم جماعة ودخل الفرنج البلد فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثير وأسر من الرجال وسبي الحريم وذلك في الثالث والعشرين من صفر ثم نودي بالأمان فعاد أهلها إليها وافتكوا حرمهم وأولادهم ورفق بهم وبأهل سوسة والمهدية وبعد ذلك وصلت كتب من رجار لجميع أهل إفريقية
128 بالأمان والمواعيد الحسنة. ولما استقرت أحوال البلاد سار جرجي في أسطول إلى قلعة إقليبية وهي قلعة حصينة فلما وصل إليها سمعته العرب فاجتمعوا إليها ونزل إليهم الفرنج فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منه خلق كثير فرجعوا خاسرين إلى المهدية وصار للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس ومن المغرب إلى دون القيروان والله أعلم. ذكر حصر الفرنج دمشق وما فعل سيف الدين غازي بن زنكي في هذه السنة سار ملك الألمان من بلاده في خلق وجمع عظيم من الفرنج عازما على قصد بلاد الإسلام وهو لا يشك في ملكها بأيسر قتال لكثرة جموعه وتوفر أمواله وعدده فلما وصل إلى الشام قصده من به من الفرنج وخدموه وامتثلوا أمره ونهيه فأمرهم بالمسير معه إلى دمشق ليحصرها ويملكها بزعمه فساروا معه ونازلوها وحصروها وكان صاحبها مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن طغدكين وليس له من الأمر شيء وإنما الحكم في البلد لمعين الدين أنز مملوك جده طغدكين وهو الذي أقام مجير الدين وكان معين الدين عاقلا عادلا خيرا حسن السيرة فجمع العساكر وحفظ البلد. وأقام الفرنج يحاصرونهم ثم إنهم زحفوا سادس ربيع الأول بفارسهم وراجلهم فخرج إليهم أهل البلد والعسكر فقاتلوهم وصبروا لهم وفيمن خرج للقتال الفقيه حجة الدين يوسف بن ذي باس الفندلاوي المغربي كان شيخا كبيرا فقيها صالحا فلما رآه معين الدين، وهو
129 راجل قصده وسلم عليه وقال له يا شيخ أنت معذور لكبر سنك ونحن نقوم بالذب على المسلمين وسأله أن يعود فلم يفعل وقال له قد بعت واشترى مني فوالله لا أقلته ولا استقلته يعني قول الله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة). وتقدم فقاتل الفرنج حتى قتل عند النيرب نحو نصف ف سخ عن دمشق وقوي الفرنج وضعف المسلمون فتقدم ملك الألمان حتى نزل بالميدان الأخضر فأيقن الناس بأنه يملك البلد وكان معين الدين قد أرسل إلى سيف الدين غازي بن أتابك زنكي يدعوه إلى نصرة المسلمين وكف العدو عنهم فجمع عساكره وسار إلى الشام واصطحب معه أخاه نور الدين محمود من حلب فنزلوا بمدينة حمص وأرسل إلى معين الدين يقول له قد حضرت ومعي كل من يحمل السلاح من بلادي فأريد أن يكون نوابي بمدينة دمشق لأحضر وألقى الفرنج فإن انهزمت دخلت أنا وعسكري البلد واحتمينا به وإن ظفرنا فالبلد لكم لا أنازعكم فيه. فأرسل إلى الفرنج يتهددهم إن لم يرحلوا عن البلد فكف الفرنج عن القتال خوفا من كثرة الجراح وربما اضطره إلى قتال سيف الدين فأبقوا على نفوسهم فقوي أهل البلد على حفظه واستراحوا من ملازمة الحرب وأرسل معين الدين إلى الفرنج الغرباء يقول لهم إن ملك المشرق قد حضر فإن رحلتم وإلا سلمت البلد إليه وحينئذ تندمون؛ وأرسل إلى فرنج الشام يقول لهم بأي عقل تساعدون هؤلاء علينا وأنتم تعلمون أنهم إن ملكوا دمشق أخذوا ما بأيدكم من البلاد الساحلية وأما أنا فإن رأيت الضعف عن حفظ البلد سلمته إلى سيف الدين وأنتم تعلمون أنه إن ملك دمشق لا يبقى لكم معه مقام في الشام فأجابوه إلى التخلي عن ملك الألمان
130 وبذل لهم تسلم حصن بانياس إليهم. واجتمع الساحلية بملك الألمان وخوفوه من سيف الدين وكثرة عساكره وتتابع الأمداد إليه وإنه ربما أخذ دمشق وتضعف عن مقاومته ولم يزالوا به حتى رحل عن البلد وتسلموا قلعة بانياس وعاد الفرنج الألمانية إلى بلادهم وهي بزوراء القسطنطينية وكفى الله المؤمنين شرهم. وقد ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق أن بعض العلماء حكى له أنه رأى الفندلاوي في المنام فقال له ما فعل الله بك وأين أنت فقال غفر لي وأنا في جنات عدن على سرر متقابلين. ذكر ملك نور الدين محمود بن زنكي حصن العزيمة لما سار الفرنج عن دمشق رحل نور الدين إلى حصن العزيمة وهو للفرنج فملكه. وسبب ذلك أن ملك الألمان لما خرج إلى الشام كان معه ولد الفنش صاحب طليطلة وهو من أولاد أكابر ملوك الفرنج وكان جده هو الذي أخذ طرابلس من القمص إلى نور الدين محمود وقد اجتمع هو ومعين الدين أنز ببعلبك، يقول له ولمعين الدين ليقصدا حصن العزيمة ويملكاه ولد الفنش فسارا إليه مجدين في عساكرهما وأرسلا إلى سيف الدين وهو بحمص يستنجدانه،
131 فأمدهما بعسكر كثير من الأمير عز الدين أبي بكر الدبيسي صاحب جزيرة ابن عمر وغيرها فنازلوا الحصن وحضروه وبه ابن الفنش وامتنع به فزحف المسلمون إليه غير مرة وتقدم إليه النقابون فنقبوا السور فاستسلم حينئذ من به من الفرنج فملكه المسلمون وأخذوا كل من به من فارس وراجل وصبي وامرأة وفيهم ابن الفنش وأخربوا الحصن وعادوا إلى سيف الدين وكان مثل ابن الفنش كما قيل خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بغير أذنين. ذكر الخلف بين السلطان مسعود وجماعة من الأمراء ووصولهم إلى بغداد وما كان منهم بالعراق في هذه السنة فارق السلطان مسعود جماعة من أكابر الأمراء وهم من أذربيجان إيلدكز المسعودي صاحب كنجة وأرانية وقيصر ومن الجبل البقش كون خر وتتر الحاجب وهو مسعودي أيضا وطرنطاي المحمودي شحنة واسط والدين وقرقوب وابن طغايرك. وكان سبب ذلك ميل السلطان إلى خاص بك واطراحه لهم فخافوا أن يفعل بهم مثل فعله بعبد الرحمن وعباس وبوزابة ففارقوه وساروا نحو العراق فلما بلغوا حلوان خاف الناس ببغداد وأعمال العراق وغلت الأسعار وتقدم الإمام المقتفي لأمر الله بإصلاح السور وترميمه وأرسل الخليفة إليهم بالعبادي الواعظ فلم يرجعوا إلى قوله ووصلوا إلى بغداد في
132 ربيع الآخر والملك محمد ابن السلطان محمود معهم ونزلوا بالجانب الشرقي وفارق مسعود بلال شحنة بغداد البلد خوفا من الخليفة وسار إلى تكريت وكانت له فعظم الأمر على أهل بغداد ووصل إليهم علي بن دبيس صاحب الحلة فنزل بالجانب الغربي فجند الخليفة أجنادا يحتمي بهم. ووقع القتال بين الأمراء وبين عامة بغداد ومن بها من العسكر واقتتلوا عدة دفعات، ففي بعض الأيام انهزم الأمراء الأعاجم من عامة بغداد مكرا وخديعة وتبعهم العامة فلما أبعدوا عادوا عليهم وصار بعض العسكر من ورائهم ووضعوا السيف فقتل من العامة خلق كثير ولم يبقوا على صغير ولا كبير وفتكوا فيهم فأصيب أهل بغداد بما لم يصابوا بمثله وكثر القتلى والجرحى وأسر منهم خلق كثير فقتل البعض وشهر بالبعض ودفن الناس من عرفوا ومن لم يعرف ترك طريحا بالصحراء وتفرق العسكر في المحال الغربية فأخذوا من أهلها الأموال الكثيرة ونهبوا بلد دجيل وغيره وأخذوا النساء والولدان. ثم إن الأمراء اجتمعوا ونزلوا مقابل التاج وقبلوا الأرض واعتذروا وترددت الرسل بينهم وبين الخليفة إلى آخر النهار وعادوا إلى خيامهم ورحلوا إلى النهروان فنهبوا البلاد وأفسدوا فيها وعاد مسعود بلال شحنة بغداد من تكريت إلى بغداد. ثم إن هؤلاء الأمراء تفرقوا وفارقوا العراق وتوفي الأمير قيصر بأذربيجان وهذا كله والسلطان مسعود مقيم ببلد الجبل والرسل بينه وبين عمه السلطان سنجر متصلة وكان السلطان سنجر قد أرسل إليه يلومه على تقديم خاص بك ويأمره بإبعاده ويتهدده بأنه إن لم يفعل فسيقصده
133 ويزيله عن السلطنة؛ وهو يغالط ولا يفعل فسار السلطان سنجر إلى الري فلما علم السلطان مسعود بوصوله سار إليه وترضاه واستنزله عما في نفسه فسكن وكان اجتماعهما سنة أربع وأربعين [خمسمائة] على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر انهزام الفرنج بيغرى في هذه السنة هزم نور الدين محمد بن زنكي الفرنج بمكان اسمه يغرى من أرض الشام وكانوا قد تجمعوا ليقصدوا أعمال حلب ليغيروا عليها فعلم نور الدين فسار إليهم في عسكره فالتقوا بيغرى واقتتلوا قتالا شديدا أجلت المعركة عن انهزام الفرنج وقتل كثير منهم وأسر جماعة من مقدميهم ولم ينج من ذلك الجمع إلا القليل وأرسل من الغنيمة والأسارى إلى أخيه سيف الدين وإلى الخليفة ببغداد وإلى السلطان مسعود وغيرهم. وفي هذه الوقعة يقول ابن القيسراني في قصيدته التي أولها: (يا ليت أن الصد مصدود * أو لا فليت النوم مردود) ومنها ما هو في ذكر نور الدين: (وكيف لا يثنى على عيشنا المحمود * والسلطان محمود) (وصارم الإسلام لا ينثني * إلا وشلو الكفر مقدود) (مكارم لم تك موجودة * إلا ونور الدين موجود) (وكم له من وقعة يومها * عند الملوك الكفر مشهود)
134 ذكر ملك الغورية غزنة وعودهم عنها في هذه السنة قصد سوري بن الحسين ملك الغور مدينة غزنة فملكها وسبب ذلك أن أخاه ملك الغورية [قبله محمد بن الحسين كان قد صاهر بهرام شاه مسعود بن] إبراهيم، صاحب غزنة، وهو من بيت سبكتكين، فعظم شأنه بالمصاهرة، وعلت همته، فجمع جموعا كثيرة وسار إلى غزنة ليملكها. وقيل إنما سار إليها مظهرا الخدمة والزيارة وهو يريد المكر والغدر فعلم به بهرام شاه فأخذه وسجنه ثم قتله فعظم قتله على الغورية ولم يمكنهم الأخذ بثأره. ولما قتل ملك بعده أخوه سام بن الحسين فمات بالجدري وملك بعده أخوه الملك سوري بن الحسين بلاد الغور، وقوي أمره وتمكن في ملكه فجمع عسكره من الفارس والراجل وسار إلى غزنة طالبا بثأر أخيه المقتول وقاصدا ملك غزنة فلما وصل إليها ملكها في جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وفارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند وجمع جموعا كثيرة وعاد إلى غزنة وعلى مقدمته السلار الحسين وإبراهيم العلوي أمير هندوستان وكان عسكر غزنة الذين أقاموا مع سوري بن الحسين الغوري وخدموه قلوبهم مع بهرام شاه وإنما هم بظواهرهم مع سوري فلما التقى سوري وبهرام شاه رجع عسكر غزنة في المحرم سنة أربع وأربعين [خمسمائة] وصلب الملك سوري مع السيد الماهياني في المحرم أيضا من السنة.
135 وكان سوري أحد الأجواد له الكرم الغزير والمروءة العظيمة حتى إنه كان يرمي الدراهم في المقاليع إلى الفقراء لتقع بيد من تقع ومن يتفق له. ثم عاود الغورية وملكوها وخربوها وقد ذكرناه سنة سبع وأربعين وذكرنا هناك ابتداء دولة الغورية لأنهم في ذلك الوقت عظم محلهم وفارقوا الجبال وقصدوا خراسان وعلا شأنهم وفي بعض الخلف كما ذكرناه والله أعلم. ذكر ملك الفرنج مدنا من الأندلس في هذه السنة ملك الفرنج بالأندلس مدينة طرطوشة وملكوا معها جميع قلاعها وحصون لاردة وأفراغة ولم يبق للمسلمين في تلك الجهات شيء إلا واستولى الفرنج على جميعه لاختلاف المسلمين بينهم وبقي بأيدهم إلى الآن. ذكر عدة حوادث في هذه السنة توفي أبو بكر المبارك بن الكامل بن أبي غالب البغدادي المعروف أبو بالخفاف سمع الحديث الكثير وكان مفيد بغداد.
136 وفيها غلت الأسعار بالعراق وتعذرت الأقوات بسبب العسكر الوارد وقدم أهل السواد إلى بغداد منهزمين قد أخذت أموالهم وهلكوا جوعا وعريا وكذلك أيضا كان الغلاء في أكثر بلاد خراسان وبلاد الجبل وأصفهان وديار فارس والجزيرة والشام وأما المغرب فكان أشد غلاء بسبب انقطاع الغيث ودخول العدو إليها. وفيها توفي إبراهيم بن نبهان الرقي ومولده سنة تسع وخمسين وأربعمائة وصحب الغزالي والشاشي وروى الجمع بين الصحيحين للحميدي عن مصنفه. وفيها في ذي القعدة توفي الإمام أبو الفضل الكرماني الفقيه الحنفي إمام خراسان.
137 544 ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة ذكر وفاة سيف الدين غازي بن أتابك زنكي وبعض سيرته وملك أخيه قطب الدين في هذه السنة توفي سيف الدين غازي بن أتابك زنكي صاحب الموصل بها بمرض حاد ولما اشتد مرضه أرسل إلى بغداد واستدعى أوحد الزمان فحضر عنده فرأى شدة مرضه فعالجه فلم ينجح فيه الدواء وتوفي أواخر جمادى الآخرة، وكانت ولايته ثلاث سنين وشهرا وعشرين يوما وكان حسن الصورة والشباب وكانت ولادته سنة خمسمائة ودفن بالمدرسة التي بناها بالموصل وخلف ولدا ذكرا فرباه عمه نور الدين محمود وأحسن تربيته وزوجه ابنة أخيه قطب الدين مودود فلم تطل أيامه وتوفي في عنفوان شبابه فانقرض عقبه. وكان كريما شجاعا عاقلا وكان يصنع كل يوم لعسكره طعاما كثيرا بكرة وعشية فأما الذي بكرة فيكون مائة رأس غنم جيدة وهو أول من حمل على رأسه السنجق وأمر الأجناد أن لا يركبوا إلا بالسيف في أوساطهم والدبوس تحت أركبهم فلما فعل ذلك اقتدى به أصحاب الأطراف وبنى المدرسة الأتابكية العتيقة بالموصل وهي من أحسن المدارس ووقفها
138 على الحنفية والشافعية وبنى رباطا للصوفية بالموصل أيضا على باب المشرعة ولم تطل أيامه ليفعل ما في نفسه من الخير وكان عظيم الهمة ومن جملة كرمه أنه قصده شهاب الدين الحيص بيص وامتدحه بقصيدته التي أولها: (إلام يراك المجد في زي شاعر * وقد نحلت شوقا فروع المنابر) فوصلت بألف دينار عين سوى الخلع وغيرها. ولما توفي سيف الدين غازي كان أخوه قطب الدين مقيما بالموصل فاتفق جمال الدين الوزير وزين الدين علي أمير الجيش على تمليكه فأحضروه واستحلفوه وحلفوا له وأركبوه إلى دار السلطنة وزين الدين في ركابه وأطاعه جميع بلاد أخيه سيف الدين كالموصل والجزيرة والشام. ولما ملك تزوج الخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش التي كان قد تزوجها أخوه سيف الدين وتوفي قبل الدخول بها وهي أم أولاد قطب الدين سيف الدين وعز الدين وغيرهما من أولاده. ذكر استيلاء نور الدين على سنجار لما ملك قطب الدين مودود الموصل بعد أخيه سيف الدين غازي كان أخوه الأكبر نور الدين محمود بالشام وله حلب وحماة فكاتبه جماعة من الأمراء وطلبوه وفيمن كاتبه المقدم عبد الملك والد شمس الدين محمد وكان حينئذ
139 مستحفظا بسنجار فأرسل إليه يستدعيه ليتسلم سنجار فسار جريدة في سبعين فارسا من أمراء دولته فوصل إلى ماكسين في نفر يسير قد سبق من أصحابه. وكان يوما شديد المطر فلم يعرفهم الذي يحفظ الباب فأخبر الشحنة أن نفرا من التركمان المتجندين قد دخلوا البلد فلم يستتم كلامه حتى دخل نور الدين الدار على الشحنة فقام إليه وقبل يده ولحق به باقي أصحابه، ثم سار إلى سنجار فوصلها وليس معه غير ركابي وسلاح دار ونزل بظاهر البلد. وأرسل إلى المقدم يعلمه بوصوله فرآه الرسول وقد سار إلى الموصل وترك ولده شمس الدين محمدا بالقلعة فأعلمه بمسير والده إلى الموصل وأقام من لحق أباه بالطريق فأعلمه بوصول نور الدين فعاد إلى سنجار فسلمها إليه فدخلها نور الدين وأرسل إلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب الحصن يستدعيه إليه لمودة كانت بينهما فوصل إليه في عسكره فلما سمع أتابك قطب الدين وجمال الدين وزين الدين بالموصل بذلك جمعوا عساكرهم وساروا نحو سنجار فقال لهم جمال الدين ليس من الرأي محاقته وقتاله فإننا نحن قد عظمنا محله عند السلطان وما هو بصدده من الغزاة وجعلنا أنفسنا دونه وهو يظهر للفرنج تعظيما وأنه تبعنا ولا يزال يقول لهم إن كنتم كما يجب وإلا سلمت البلاد لصاحب الموصل
140 وحينئذ يفعل بكم ويصنع فإذا لقيناه فإن هزمناه طمع السلطان فينا ويقول هذا الذي كان يعظمونه ويحتمون به أضعف منهم وقد هزموه وإن هو هزمنا طمع فيه الفرنج ويقولون إن الذين كان يحتمي بهم أضعف منه وقد هزمهم وبالجملة فهو ابن أتابك الكبير. وأشار بالصلح وسار هو إليه فاصطلح وسلم سنجار إلى أخيه قطب الدين وسلم مدينة حمص والرحبة بأرض الشام إليه وبقي الشام له وديار الجزيرة لأخيه واتفقا وعاد نور الدين إلى حلب وأخذ معه ما كان قد ادخره أبو عماد الدين أتابك فيها من الخزائن وكانت كثيرة جدا. ذكر وفاة الحافظ وولاية الظافر [ووزارة] ابن السلار في هذه السنة في جمادى الآخرة توفي الحافظ لدين الله عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المنتصر بالله العلوي صاحب مصر وكانت خلافته عشرين سنة إلا خمسة أشهر وعمره نحو من سبع وسبعين سنة ولم يزل في جميعها محكوما عليه يحكم عليه وزراؤه حتى أنه جعل ابنه حسنا وزيرا وولى عهده فحكم عليه واستبد بالأمر دونه وقتل كثيرا من أمراء دولته وصادر كثيرا فلما رأى الحافظ ذلك سقاه سما فمات وقد ذكرناه. ولم يل الأمر من العلويين المصريين من أبوه غير خليفة غير الحافظ
141 والعاضد وسيرد ذكر نسب العاضد وولي الخلافة بعده بمصر ابنه الظاهر بأمر الله أبو منصور إسماعيل بن عبد المجيد الحافظ واستوزر ابن مصال فبقي أربعين يوما يدبر الأمور فقصده العادل بن السلار من ثغر الإسكندرية ونازعه في الوزارة وكان ابن مصال قد خرج من القاهرة في طلب بعض المفسدين من السودان فخالفه العادل بالقاهرة وصار وزيرا. وسير عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي في عسكره وهو ربيب العادل إلى ابن مصال فظفر به وقتله وعاد إلى القاهرة واستقر العادل وتمكن ولم يكن للخليفة معه حكم. وأما سبب وصول عباس إلى مصر فإن جده يحيى أخرج أبا الفتوح من المهدية فلما توفي يحيى وولي بعده بلاد إفريقية ابنه علي بن يحيى ابن تميم [بن يحيى صاحب] إفريقية أخرج أخاه أبا الفتوح والد عباس من أفريقية سنة تسع وخمسمائة فسار إلى الديار المصرية ومعه زوجته بلارة بالعادل بن السلار. وشب العباس وتقدم عند الظافر حتى ولي الوزارة بعد العادل فإن العادل قتل في المحرم سنة ثمان وأربعين [خمسمائة]. قيل: وضع ربيبه عباس من قتله فلما قتل ولي الوزارة بعده وتمكن منها وكان جلدا حازما ومع هذا ففي أيامه أخذ الفرنج عسقلان واشتد وهن الدولة بذلك؛ وفي أيامه أخذ نور الدين محمود دمشق من مجير الدين أبق وصار الأمر بعد هذا إلى أن أخذت مصر منهم على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
142 ذكر عود جماعة من الأمراء إلى العراق في هذه السنة في رجب عاد البقش كون خر والطرنطاي وابن دبيس ومعهم ملكشاه ابن السلطان محمود إلى العراق وراسلوا الخليفة في الخطبة لملكشاه فلم يلتفت إليه وجمع العساكر وحصن بغداد وأرسل إلى السلطان مسعود يعرفه بالحال فوعده بالوصول إلى بغداد فلم يحضر. وكان سبب ذلك ما ذكرناه من وصول عمه السلطان سنجر إلى الري في معنى خاص بك فلما وصل إلى الري سار إليه السلطان مسعود ولقيه واسترضاه فرضي عنه فلما علم البقش بمراسلة الخليفة إلى مسعود نهب النهروان وقبض على الأمير علي بن دبيس في رمضان فلما علم الطرنطاي بذلك هرب إلى النعمانية. ووصل السلطان مسعود منتصف شوال ورحل البقش كون خر من النهروان وأطلق علي بن دبيس فلما وصل السلطان إلى بغداد قصده علي وألقى بنفسه بين يديه واعتذر فرضي عنه. وذكر بعض المؤرخين هذه الحادثة سنة أربع وأربعين [خمسمائة]، وذكر أيضا مثلها سنة ثلاث وأربعين فظنهما حادثتين وأنا أظنها واحدة ولكنا تبعناه في ذلك ونبهنا عليه.
143 ذكر قتل البرنس صاحب أنطاكية وهزيمة الفرنج في هذه السنة غزا نور الدين محمود بن زنكي بلاد الفرنج من ناحية أنطاكية وقصد حصن حارم وهو للفرنج فحصره وخرب ربضه ونهب سواده ثم رحل إلى حصن أنب فحصره أيضا، فاجتمعت الفرنج مع البرنس صاحب أنطاكية وحارم وتلك الأعمال وساروا إلى نور الدين ليرحلوه عن أنب فلقيهم واقتتلوا قتالا عظيما وباشر نور الدين القتال ذلك اليوم فانهزم الفرنج أقبح هزيمة وقتل منهم جمع كثير وأسروا مثلهم. وكان ممن قتل البرنس ملك بعده ابنه بيمند وهو طفل فتزوجت أمه ببرنس آخر ليدبر البلد إلى أن يكبر ابنها وأقام معها بأنطاكية ثم إن نور الدين غزاهم غزوة أخرى فاجتمعوا ولقوه فهزمهم وقتل فيهم وأسر وكان فيمن أسر البرنس الثاني زوج أم بيمند فتمكن حينئذ بيمند بأنطاكية وأكثر الشعراء مديح نور الدين وتهنئته بهذا الظفر فإن قتل البرنس كان عظيما عند الطائفتين وممن قال فيه القيسراني الكاتب في القصيدة المشهورة التي أولها:
144 (هذي العزائم لا ما تدعي القضب * وذي المكارم لا ما قالت الكتب) (وهذه الهمم اللاتي متى خطبت * تعثرت خلفها الأشعار والخطب) (صافحت يا ابن عماد الدين ذروتها * براحة للمساعي دونها تعب) (ما زال جدك يبني كل شاهقة * حتى بنى قبة أوتادها الشهب) (أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة * فؤاد رومية الكبرى لها يجب) (ضربت كبشهم منها بقاصمة * أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب) (طهرت أرض الأعادي من دمائهم * طهارة كل سيف عندها جنب) ذكر الخلف بين صاحب صقلية وملك الروم في هذه السنة اختلف رجار الفرنجي صاحب صقلية وملك القسطنطينية وجرى بينهما حروب كثيرة ودامت عدة سنين فاشتغل بعضهم ببعض عن المسلمين ولولا ذلك لملك رجار جميع بلاد أفريقية. وكان القتال بينهم برا وبحرا والظفر في جميع ذلك لصاحب صقلية حتى إن أسطوله في بعض السنين وصل إلى مدينة القسطنطينية ودخل فم المينا وأخذوا عدة شواني من الروم وأسروا جمعا منهم ورمى الفرنج طاقات قصر الملك بالنشاب وكان الذي يفعل هذا بالروم والمسلمين جرجي وزير صاحب صقلية فمرض عدة أمراض منها البواسير والحصا ومات سنة ست وأربعين وخمسمائة فسكنت الفتنة واستراح الناس من شره وفساده ولم يكن عند صاحب صقلية من يقوم مقامه بعده.
145 ذكر عدة حوادث في هذه السنة زلزلت الأرض زلزلة عظيمة فقيل إن جبلا مقابل حلوان ساخ في الأرض. وفيها ولي أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزارة الخليفة المقتفي لأمر الله وكان قبل ذلك صاحب ديوان الزمام وظهر له كفاية عظيمة عند نزول العساكر بظاهر بغداد وحسن قيام في ردهم فرغب الخليفة فيه فاستوزره يوم الأربعاء رابع ربيع الآخر سنة أربع وأربعين [خمسمائة] وكان القمر على تربيع زحل فقيل له لو أخرت لبس الخلعة لهذه التربيعات فقال وأي سعادة أكبر من وزارة الخليفة ولبسها ذلك اليوم. وفيها في المحرم توفي قاضي القضاة علي بن الحسين الزيني وولي القضاء عماد الدين أبو الحسن علي بن أحمد الدامغاني. وفيها في المحرم رخصت الأسعار بالعراق وكثرت الخيرات وخرج أهل السواد إلى قراهم. وفيها توفي الأمير نظر أمير الحاج وكان قد سار بالحاج إلى الحلة فمرض واشتد مرضه واستخلف على الحاج قايماز الأرجواني وعاد إلى بغداد مريضا فتوفي في ذي القعدة وكان خصيا عاقلا خيرا له معروف كثير وصدقات وافرة.
146 وفيها توفي أحمد بن نظام الملك الذي كان وزير السلطان محمد والمسترشد بالله. وفيها توفي علي بن رافع بن خليفة الشيباني وهو من أعيان خراسان وله مائة وسبع سنين شمسية. ومات الإمام مسعود الصوابي في المحرم منها. وفيها توفي معين الدين أنز نائب أبق صاحب دمشق وهو كان الحاكم والأمر إليه وكان ابق صورة أمير لا معنى تحتها. وفيها توفي القاضي أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني أبو بكر قاضي تستر وله شعر حسن فمنه قوله: (ولما بلوت الناس أطلب عندهم * أخا ثقة عند اعتراض الشدائد) (تطلعت في حالي رخاء وشدة * وناديت في الأحياء هل من مساعد) (فلم أر فيما ساءني غير شامت * ولم أر فيما سرني غير حاسد) (تمتعتما يا ناظري بنظرة * وأوردتما قلبي أمر الموارد) (أعيني كفا عن فؤادي فإنه * من البغي سعى اثنين في قتل واحد) وفيها توفي أبو عبد الله عيسى بن هبة الله بن عيسى البزاز وكان ظريفا وله شعر حسن كتب إليه صديق له رقعة وزاد في خطابه فأجابه: (قد زدتني في الخطاب حتى * خشيت نقصا من الزيادة) (فاجعل خطابي خطاب مثلي * ولا تغير علي عاده)
147 545 ثم دخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة ذكر أخذ العرب الحجاج في هذه السنة رابع عشر المحرم خرج العرب زعب ومن انضم إليها على الحجاج بالغرابي بين مكة والمدينة فأخذوهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وكان سبب ذلك أن نظرا أمير الحاج [لما عاد من الحلة على ما ذكرنا وسار على الحاج] قايماز الأرجواني وكان حدثا غرا فسار بهم إلى مكة فلما رأى أمير مكة قايماز استصغره وطمع في الحاج وتلطف قايماز الحال معه إلى أن عادوا. فلما سار عن مكة سمع باجتماع العرب فقال للحاج من المصلحة ألا نمضي إلى المدينة فضج العجم وهددوه بالشكوى منه إلى السلطان سنجر فقال لهم فأعطوا العرب مالا نستكفي به شرهم فامتنعوا من ذلك فسار بهم إلى الغرابي وهو منزل يخرج إليه من مضيق جبلين فوقفوا على فم مضيق وقاتلهم قايماز ومن معه فلما رأى عجزه أخذ لنفسه أمانا وظفروا بالحجاج وغنموا أموالهم وجميع ما معهم وتفرق الناس في البر وهلك منهم خلق كثير لا يصحون كثرة ولم يسلم إلا القليل
148 فوصل بعضهم إلى المدينة وتحملوا منها إلى البلاد وأقام بعضهم مع العرب حتى وصل إلى البلاد. ثم إن الله تعالى اقتص للحاج من زعب فلم يزالوا في نقص وذلة ولقد رأيت شابا منهم بالمدينة سنة ست وسبعين وخمسمائة وجرى بيني وبينه مفاوضة قلت له فيها إنني والله كنت أميل إليك حتى سمعت أنك من زعب فنفرت وخفت شرك فقال لم فقلت بسبب أخذكم الحاج فقال لي أنا لم أدرك ذلك الوقت وكيف رأيت الله صنع بنا والله ما أفلحنا ولا نجحنا قل العدد وطمع العدو فينا. ذكر فتح حصن فاميا في هذه السنة فتح نور الدين محمود بن الشهيد زنكي حصن فاميا من الفرنج وهو مجاور شيزر وحماة على تل عال من أحصن القلاع وأمنعها فسار نور الدين إليه وحصره وبه الفرنج وقاتلهم وضيق على من بها منهم فاجتمع من بالشام من الفرنج وساروا نحوه ليرحلوه عنهم فلم يصلوا إلا وقد ملكه وملأه ذخائر وسلاحا ورجالا وجميع ما يحتاج إليه فلما بلغ سير الفرنج إليه رحل عنه وقد فرغ من أمر الحصن وسار إليهم يطلبهم فحين رأوا أن الحصن قد ملك وقوة عزم نور الدين على لقائهم عدلوا عن طريقه ودخلوا بلادهم وراسلوه في المهادنة وعاد سالما مظفرا ومدحه الشعراء وذكروا هذا الفتح فمن ذلك قال ابن الرومي من قصيدة أولها: (أسنى الممالك ما أطلت منارها * وجعلت مرهفة الدسار دسارها) (وأحق من ملك البلاد وأهلها * رؤوف تكنف عدله أقطارها)
149 ومنها في وصف الحصن: (أدركت ثأرك في البغاة وكنت يا * مختار أمة أحمد مختارها) (ضاءت نجومك فوقها ولطالما * باتت تنافثها النجوم شرارها) (عارية الزمن المعير ثمالها * منك المعيرة فاسترد معارها) (أمست مع الشعرى العبور وأصبحت * شعراء تستغلي الفحول شوارها) وهي طويلة. ذكر حصن الفرنج قرطبة ورحيلهم عنها في هذه السنة سار السليطين وهو الأذفونش وهو ملك طليطلة وأعمالها وهو من ملوك الجلالقة نوع من الفرنج في أربعين ألف فارس إلى مدينة قرطبة فحصرها وهي في ضعف وغلاء فبلغ الخبر إلى عبد المؤمن وهو بمراكش فجهز عسكرا كثيرا وجهز مقدمهم أبا زكريا يحيى بن يرموز ونفذهم إلى قرطبة فلما قاربوا منها لم يقدروا أن يلقوا عسكر السليطين في الوطاء وأرادوا الاجتماع بأهل قرطبة ليمنعوها لخطر العاقبة بعد القتال فسلكوا الجبال الوعرة والمضايق المتشعبة فساروا نحو خمسة وعشرين يوما في الوعر في مسافة أربعة أيام في السهل فوصلوا إلى الجبل المطل على قرطبة فلما رآهم السليطين وتحقق أمرهم رحل عن قرطبة. وكان [فيها] القائد أبو الغمر السائب من ولد القائد ابن غلبون
150 وهو من أبطال أهل الأندلس وأمرائها فلما رحل الفرنج خرج منها لوقته وصعد إلى ابن يرموز وقال له انزلوا عاجلا وادخلوا البلد ففعلوا وباتوا فيها فلما أصبحوا من الغد رأوا عسكر السليطين على رأس الجبل الذي كان فيه عسكر عبد المؤمن فقال لهم أبو الغمر هذا الذي خفته عليكم لأني علمت أن السليطين ما أقام إلا طالبا لكم فإن من الموضع الذي كان فيه طريق سهلة ولو لحقكم هناك نال مراده منكم ومن قرطبة فلما رأى السليطين أنهم قد فاتوه علم أنه لم يبق له طمع في قرطبة فرحل عائدا إلى بلاده وكان حصره لقرطبة ثلاثة أشهر والله أعلم. ذكر ملوك الغورية هراة في هذه السنة سار ملك الغور الحسن بن الحسين وكان أهلها قد كاتبوه وطلبوا تسليمها إليه هربا من الأتراك لهم وزوال هيبة السلطنة عنهم فامتنع أهل هراة عليه ثلاثة أيام ثم خرجوا إليه وسلموا البلد وأطاعوه فأحسن إليهم وأفاض عليهم النعم وغمرهم بالعدل وأظهر طاعة للسلطان سنجر والقيام على الوفاء له والانقياد إليه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة أمر علاء الدين محمود بن مسعود الغالب على أمر طريثيث إقامة الخطبة للخليفة ولبس السواد ففعل الخطيب
151 ذلك فثار به عمه وأقاربه ومن وافقهم وقاتلوه وكسروا المنبر وقتلوا الخطيب. وكان فعل علاء الدين هذا لأن أباه كان مسلما فلما تغلب الإسماعيلية على طريثيث أظهر موافقتهم وأبطن اعتقاد الشريعة وكان يناظر على مذهب الشافعي وازداد تقدما بطريثيث وجرت أمورها بإرادته فلما حضر الموت أوصى أن يغسله فقيه شافعي وأوصى إلى ابنه علاء الدين إن أمكنه أن يعيد فيها إظهار شريعة الإسلام فعل فلما رأى من نفسه قوة فعله فلم يتم له. وفيها كثر المرض بالعراق لا سيما ببغداد وكثر الموت أيضا فيها ففارقها السلطان مسعود. وفيها توفي الأمير علي بن دبيس بن صدقة صاحب الحلة بأسد أباد واتهم طبيبه محمد بن صالح بالمواطأة عليه فمات الطبيب بعده بقريب. وفيها استوزر عبد المؤمن صاحب بلاد المغرب أبا جعفر بن أبي أحمد الأندلسي وكان مأسورا عنده فوصف له بالعقل وجودة الكتابة فأخرجه من الحبس واستوزره وهو أول وزير كان للموحدين. وفي هذه السنة في المحرم جلس يوسف الدمشقي مدرسا في النظامية ببغداد وكان جلوسه بغير أمر الخليفة فمنع يوم الجمعة من دخول الجامع فصلى في جامع السلطان ومنع من التدريس فتقدم السلطان مسعود إلى الشيخ أبي النجيب بأن يدرس فيها فامتنع بغير أمر الخليفة فاستخرج السلطان إذن الخليفة في ذلك فدرس منتصف المحرم من السنة.
152 وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن علي مهران الفقيه الشافعي تفقه على الهراسي وولي قضاء نصيبين ثم ترك القضاء وتزهد فأقام بجزيرة ابن عمر ثم انتقل إلى جبل ببلد الحصن في زاوية وكان له كرامات ظاهرة. وفيها مات الحسن بن ذي النون بن أبي القاسم بن أبي الحسن المسعري أبو المفاخر النيسابوري، سمع الحديث الكثير وكان فقيها أديبا دائم الاشتغال يعظ الناس وكان مما ينشد: (مات الكرام وولوا وانقضوا ومضوا * ومات من بعدهم تلك الكرامات) (وخلفوني في قوم ذوي سفه * لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا)
153 546 ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة ذكر انهزام نور الدين من جوسلين وأسر جوسلين بعد ذلك في هذه السنة جمع نور الدين محمود عسكره وسار إلى بلاد جوسلين الفرنجي وهي شمال حلب منها تل باشر وعين تاب وإعزاز وغيرها وعزم على محاصرتها وأخذها وكان جوسلين لعنه الله فارس الفرنج غير مدافع قد جمع الشجاعة والرأي فلما علم بذلك جمع الفرنج فأكثر وسار نحو نور الدين فالتقوا واقتتلوا فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر جمع كثير وكان في جملة من أسر سلاح دار نور الدين فأخذه جوسلين ومعه سلاح نور الدين فسيره إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية وأقصرا وقال له هذا سلاح زوج ابنتك وسيأتيك بعده ما أعظم منه. فلما علم نور الدين الحال عظم عليه ذلك وعمل الحيلة على جوسلين وهجر الراحة ليأخذ بثأره وأحضر جماعة من أمراء التركمان وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين وسلموه إليه إما قتيلا أو أسيرا لأنه علم أنه متى قصده بنفسه احتمى بجموعه وحصونه فجعل التركمان عليه العيون فخرج متصيدا فلحقت به طائفة منهم وظفروا به فصانعهم
154 على مال يؤديه إليهم فأجابوه إلى إطلاقه إذا حضر المال فأرسل في إحضاره فمضى بعضهم إلى أبي بكر بن الداية نائب نور الدين بحلب فأعلمه الحال فسير عسكرا معه فكبسوا أولئك التركمان وجوسلين معهم فأخذوه أسيرا وأحضروه عنده وكان أسره من أعظم الفتوح لأنه كان شيطانا عاتيا شديدا على المسلمين قاسي القلب وأصيبت النصرانية كافة بأسره. ولما أسر سار نور الدين إلى قلاعه فملكها وهي تل باشر وعين تاب وإعزاز وتل خالد وقورس والراوندان وبرج الرصاص وحصن البارة وكفر سود وكفرلاثا ودلوك ومرعش ونهر الجوز وغير ذلك من أعماله في مدة يسيرة يرد تفصيلها. وكان نور الدين كلما فتح منها حصنا نقل إليه من كل ما تحتاج إليه الحصون خوفا من نكثة تلحق المسلمين من الفرنج فتكون بلادهم غير محتاجة إلى ما يمنعها من العدو ومدحه الشعراء فممن قال فيه القيسراني من قصيدة في ذكر جوسلين: (كما أهدت الأقدار للقمص أسره * وأسعد قرن من حواه لك الأسر) (طغى وبغى عدوا على غلوائه * فأوبقه الكفران عدواه والكفر) (وأمست عزاز كاسمها بك عزة * تشق على النسرين لو أنها وكر) (فسر واملك الدنيا ضياء وبهجة * فبالأفق الداجي إلى ذا السنا فقر)
155 (كأبي بهذا العزم لا فل حده * وأقصاه بالأقصى وقد قضي الأمر) (وقد أصبح البيت المقدس طاهرا * وليس سوى جاري الدماء له طهر) ذكر حصر غرناطة والمرية من بلاد الأندلس في هذه السنة سير عبد المؤمن جيشا كثيفا نحو عشرين الف فارس إلى الأندلس مع أبي حفص عمر بن يحيى الهنتاتي وسير معهم نساءهم فكن يسرن مفردات عليهن البرانس السود ليس معهن غير الخدم ومتى قرب منهن رجل ضرب بالسياط. فلما قطعوا الخليج ساروا إلى غرناطة وبها جمع من المرابطين فحصرها عمر وعسكره وضيقوا عليها فجاء إليه أحمد بن ملحان صاحب مدينة وادي آش وأعمالها بجماعته ووحدوا وصار معه وأتاه إبراهيم بن همشك صهر ابن مردنيش صاحب جيان وأصحابه ووحدوا وصاروا أيضا معه فكثر جيشه وحرضوه على المسارعة إلى ابن مردنيش ملك بلاد شرق الأندلس ليبغته بالحصار قبل أن يتجهز. فلما سمع ابن مردنيش ذلك خاف على نفسه فأرسل إلى ملك برشلونة من بلاد الفرنج يخبره، ويستنجده ويستحثه على الوصول إليه فسار إليه الفرنجي في عشرة لاف فارس وسار عسكر عبد المؤمن فوصوا إلى حمة بلقوارة وبينها وبين مرسية التي هي مقر ابن مردنيش مرحلة
156 فسمعوا بوصول الفرنج فرجع وحصر مدينة المرية وهي للفرنج عدة شهور فاشتد الغلاء في العسكر وعدمت الأقوات فرحلوا عنها وعادوا إلى إشبيلية فأقاموا بها. ذكر عدة حوادث في هذه السنة فلي ربيع الآخر توفي العبادي الواعظ واسمه المظفر بن اردشير بخوزستان وكان الخليفة المقتفي لأمر الله قد سيره في رسالة إلى الملك محمد بن السلطان محمود ليصلح بينه وبين بدر الحويزي فتوفي هناك وجلس ولده ببغداد للعزاء وأقيم بحاجب من الديوان العزيز. وكان ابنه يجلس ويعظ ويذكر والده ويبكي هو والناس كافة ونقل العبادي إلى بغداد ودفن بالشونيزي ومولده سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وسمع الحديث من أبي بكر السروي وزاهر الشحامي وغيرهما، ورواه. وفيها انفجر بثق النهروان الذي أتمه بهروز بكثرة الزيادة في تامرا وإهمال أمرها حتى عظم ذلك وتضرر به الناس. وفيها سار الأمير قجق في طائفة من عسكر السلطان سنجر إلى طريثيت بخراسان وأغار على بلاد الإسماعيلية فنهب وسبى وخرب وأحرق المساكن وفعل بهم أفاعيل عظيمة وعاد سالما.
157 547 ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة ذكر ملك عبد المؤمن بجاية وملك بني حماد في هذه السنة سار عبد المؤمن بن علي إلى بجاية وملكها وملك جميع ممالك بني حماد وكان لما أراد قصدها سار من مراكش إلى سبتة سنة ست وأربعين [خمسمائة]، فأقام بها مدة يعمل الأسطول ويجمع العساكر القريبة منه. وأما ما هو على طريقه إلى بجاية من البلاد فكتب إليهم ليتجهزوا ويكونوا على الحركة أي وقت طلبهم والناس يظنون أنه يريد العبور إلى الأندلس فأرسل في قطع السابلة عن بلاد شرق المغرب برا وبحرا. وسار من سبتة في صفر سنة سبع وأربعين [خمسمائة] فأسرع السير وطوى المراحل والعساكر تلقاه في طريقه فلم يشعر أهل بجاية إلا وهو في أعمالها وكان ملكها يحيى بن العزيز بن حماد آخر ملوك بني حماد وكان مولعا بالصيد واللهو لا ينظر في شيء من أمور مملكته قد حكم فيها بنو حمدون فلما اتصل الخبر بميمون بن حمدون جمع العسكر وسار عن بجاية نحو عبد المؤمن فلقيهم مقدمته وهي تزيد على عشرين ألف فارس
158 فانهزم أهل بجاية من غير قتال ودخلت مقدمة عبد المؤمن بجاية قبل وصول عبد المؤمن بيومين وتفرق جميع عسكر يحيى بن العزيز وهربوا برا وبحرا وتحصن يحيى بقلعة قسطنطينية الهواء وهرب أخواه الحرث وعبد الله إلى صقلية ودخل عبد المؤمن بجاية وملك جميع بلاد ابن العزيز بغير قتال. ثم إن يحيى نزل إلى عبد المؤمن بالأمان فأمنه وكان يحيى قد فرح لما أخذت بلاد أفريقية من الحسن بن علي بن فرحا ظهر عليه فكان يذمه ويذكر معايبه فلم تطل المدة حتى أخذت بلاده ووصل الحسن بن علي إلى عبد المؤمن في جزائر بني مزغنان وقد ذكرنا سنة ثلاث وأربعين [خمسمائة] سبب مصيره إليها واجتمعا عنده فأرسل عبد المؤمن يحيى بن العزيز إلى بلاد المغرب وأقام بها وأجرى عليه شيئا كثيرا. وأما الحسن بن علي فإنه أحسن إليه وألزمه صحبته وأعلى مرتبته فلزمه إلى أن فتح عبد المؤمن المهدية فجعله فيها وأمر واليها أن يقتدي برأيه ويرجع إلى قوله. ولما فتح عبد المؤمن بجاية لم يتعرض إلى مال أهلها ولا غيره وسبب ذلك أن بني حمدون استأمنوا فوفى لهم بأمانه. ذكر ظفر عبد المؤمن بصنهاجة لما ملك عبد المؤمن بجاية تجمعت صنهاجة في أمم لا يحصيها إلا الله تعالى وتقدم عليهم رجل اسمه أبو قصبة واجتمع معهم من كتامة ولواتة
159 وغيرها خلق كثير وقصدوا حرب عبد المؤمن فأرسل إليهم جيشا كثيرا ومقدمهم أبو سعيد يخلف وهو من الخمسين فالتقوا في عرض الجبل شرقي بجاية فانهزم أبو قصبة وقتل أكثر من معه ونهبت أموالهم وسبيت نساؤهم وذراريهم. ولما فرغوا من صنهاجة ساروا إلى قلعة بني حماد وهي من أحصن القلاع وأعلاها لا ترام على رأس جبل شاهق لا يكاد الطرف يحققها لعلوها ولكن القدر إذا جاء لا يمنع منه معقل ولا جيوش فلما رأى أهلها عساكر الموحدين هربوا منها في رؤوس الجبال وملكت القلعة وأخذ جميع ما فيها من مال وغيره وحمل إلى عبد المؤمن فقسمه. ذكر وفاة السلطان مسعود وملك ملكشاه محمد بن محمد في هذه السنة أول رجب توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمذان وكان مرضه حمى حادة نحو أسبوع وكان مولده سنة اثنين وخمسمائة في ذي القعدة ومات معه سعادة البيت السلجوقي فلم يقم له بعده راية يعتمد بها ولا يلتفت إليها: (فما كان قيس هلكه هلك واحد * ولكنه بنيان قوم تهدما) وكان رحمه الله حسن الأخلاق كثير المزاح والانبساط مع الناس فمن ذلك أن أتابك زنكي صاحب الموصل أرسل إليه القاضي كمال الدين
160 محمد بن عبد الله ابن القاسم الشهرزوري في رسالة فوصل إليه وأقام معه في العسكر فوقف يوما على خيمة الوزير حتى قارب أذان المغرب فعاد إلى خيمته فأذن المغرب وهو في الطريق فرأى إنسانا فقيها في خيمة فنزل إليه فصلى معه المغرب ثم سأله كمال الدين من أين هو فقال أنا قاضي مدينة كذا فقال له كمال الدين القضاة ثلاثة قاضيان في النار وهو أنا وأنت وقاض في الجنة وهو من لم يعرف أبواب هؤلاء الظلمة ولا يراهم فلما كان الغد أرسل السلطان وأحضر كمال الدين إليه فلما دخل عليه ورآه ضحك وقال القضاة ثلاثة فقال كمال الدين نعم يا مولانا فقال والله صدقت ما أسعد من لا يرانا ولا نراه ثم أمر أن تقضى حاجته وأعاده من يومه. وكان كريما عفيفا عن الأموال التي للرعايا حسن السيرة فيهم من أصلح السلاطين سيرة وألينهم عريكة سهل الأخلاق لطيفا فمن ذلك أنه اجتاز يوما في بعض أطراف بغداد فسمع امرأة تقول لأخرى انظري إلى السلطان فوقف وقال حتى تجيء هذه الست تنظر إلينا. وله فضائل كثيرة ومناقب جمة وكان عهد إلى ملكشاه ابن أخيه السلطان محمود فلما توفي خطب له الأمير خاص بك ورتب الأمور وقررها بين يديه وأذعن له جميع العسكر بالطاعة. ولما وصل الخبر إلى بغداد بموت السلطان مسعود هرب الشحنة بها وهو مسعود بلال إلى تكريت واستظهر الخليفة المقتفي لأمر الله على داره ودور أصحاب السلطان ببغداد وأخذ كل ما لهم فيها وكل من كان عنده وديعة لأحد منهم أحضرها بالديوان وجمع الخليفة الرجال والعساكر وأكثر التجنيد وتقدم بإراقة الخمور من مساكن أصحاب السلطان ووجد في دار مسعود بلال شحنة بغداد كثير من الخمر فأريق ولم يكن الناس
161 يظنون أنه شرب الخمر بعد الحج وقبض على المؤيد الألوسي الشاعر وعلى الحيص بيص الشاعر ثم أطلق الحيص بيص وأعيد عليه ما أخذ منه. ثم إن السلطان ملكشاه سير سلاركرد في عسكر إلى الحلة فدخلها فسار إليه مسعود بلال شحنة بغداد وأظهر له الاتفاق معه فلما اجتمعا قبض عليه مسعود بلال وغرقه واستبد بالحلة فلما علم الخليفة ذلك جهز العساكر إليه مع عون الدين بن هبيرة فسار إليه فلما قاربوا الحلة عبر مسعود بلاد الفرات إليهم وقاتلهم فانهزم من عسكر الخليفة ونادى أهل الحلة بشاعر الخليفة فلم يدخلها وتمت الهزيمة عليه وعلى أصحابه فعاد [إلى] تكريت وملك عسكر الخليفة الحلة وسير الوزير عسكرا إلى الكوفة وعسكرا إلى واسط فملكوها. ثم إن عساكر السلطان وصلت إلى واسط ففارقها عسكر الخليفة فلما سمع الخليفة ذلك تجهز بنفسه وسار عن بغداد إلى واسط ففارقها العسكر السلطاني وملكها الخليفة وسار منها إلى الحلة ثم عاد إلى بغداد فوصلها تاسع عشر ذي القعدة وكانت غيبته خمسة وعشرين يوما. ثم إن خاص بك بن بلنكري قبض على الملك ملكشاه الذي خطب له بالسلطة بعد مسعود وأرسل إلى أخيه الملك محمد سنة ثمان وأربعين وهو بخوزستان يستدعيه وكان قصده أن يحضر عنده فيقبضه ويخطب لنفسه بالسلطنة فسار الملك محمدا إليه فلما وصل أجلسه على تخت السلطنة أوائل صفر وخطب له بالسلطنة وخدمه وبالغ في خدمته وحمل له هدايا عظيمة جليلة المقدار. ثم إنه دخل إلى الملك محمد ثاني يوم وصوله فقتله محمد وقتل معه زنكي الجاندار وألقى برأسهما فتفرق أصحابهما ولم ينتطح فيها
162 عنزان، وكان ايدغدي التركماني المعروف بشملة مع خاص بك فنهاه عن الدخول إلى الملك محمد فلم ينتبه فقتل ونجا شملة فنهب جشير الملك محمد ومضى طالبا خوزستان وأخذ محمد من أموال خاص بك شيئا كثيرا واستقر محمد في السلطنة وتمكن وبقي خاص بك ملقى حتى أكلته الكلاب وكان صبيا تركمانيا اتصل بالسلطان مسعود فتقدم على سائر الأمراء ثم كان هذا خاتمة أمره. ذكر الحرب بين نور الدين محمود وبين الفرنج في هذه السنة تجمعت الفرنج وحشدت الفارس والراجل وساروا نحو نور الدين وهو ببلاد جوسلين ليمنعوه عن ملكها. فوصلوا إليه وهو بدلوك فلما قربوا منه رجع إليهم ولقيهم وجرى المصاف بينهم عند دلوك واقتتلوا أشد قتال رآه الناس وصبر الفريقان ثم انهزم الفرنج وقتل منهم وأسر كثير وعاد نور الدين إلى دلوك فملكها واستولى عليها ومما قيل في ذلك: (أعدت بعصرك هذا الأنيق * فتوح النبي وأعصارها) (فواطأت يا حبذا أحدبها * وأسررت من بدر أبدارها) (وكان مهاجرها تابعيك * وأنصار رأيك أنصارها) (فجددت إسلام سلمانها * وعمر جدك عمارها) (وما يوم أنب إلا كذاك * بل طال بالنوع أشبارها)
163 (صدمت عزيمتها صدمة * أذابت مع الماء أحجارها) (وفي تل باشر باشرتهم * بزحف تسور أسوارها) (وإن دالكتهم دلوك فقد * شددت فصدقت أخبارها) ذكر الحرب بين سنجر والغورية في هذه السنة كان بين السلطان [سنجر] وبين الغورية حرب وكانت دولتهم أول ما قد ظهرت وأول من ملك منهم رجل اسمه الحسين بن الحسين ملك جبال الغور ومدينة فيروزكوه وهي تقارب أعمال غزنة وقوي أمره وتلقب بعلاء الدين وتعرض إلى أعمال ثم جمع جيشا وقصد هراة محاصرا لها فنهب عسكره ناب وأوبة ومارباد من هراة الرود وسار إلى بلخ وحصرها فقاتله الأمير قماج ومعه جمع من الغز فغدروا به وصاروا مع الغوري فملك بلخ فلما سمع السلطان سنجر بذلك سار إليه ليمنعه فثبت له علاء الدين واقتتلوا فانهزم الغورية وأسر علاء الدين وقتل من الغورية خلق كثير ولا سيما الرجالة وأحضر السلطان سنجر علاء الدين بين يديه وقال له يا حسين لو ظفرت بي ما كنت تفعل فأخرج له قيد فضة وقال كنت أقيدك بهذا وأحملك إلى فيروزكوه فخلع عليه سنجر ورده إلى فيروزكوه فبقي بها مدة. ثم إنه قصد غزنة وملكها حينئذ بهرام شاه بن مسعود بن محمود بن سبكتكين فلم يثبت بها بين يدي علاء الدين بل فارقها إلى مدينة كرمان وهي مدينة بين غزنة والهند وسكانها قوم يقال لهم أبغان، وليست
164 هذه بالولاية المعروفة بكرمان فلما فارق بهرام شاه غزنة ملكها علاء الدين الغروي، وأحسن السيرة [في أهلها] واستعمل عليهم أخاه سيف الدين سوري، وأجلسه على تخت المملكة، وخطب لنفسه ولأخيه سيف الدين بعده. ثم عاد علاء الدين إلى بلد الغور وأمر أخاه أن يخلع على أعيان البلد خلعا نفيسة ويصلهم بصلات سنية ففعل ذلك وأحسن [إليهم، فلما] جاء الشتاء ووقع الثلج وعلم أهل غزنة أن الطريق قد انقطع [إليهم فكاتبوا بهرام شاه الذي كان صاحبها واستدعوه إليهم]، فسار نحوهم في عسكره فلما قارب البلد ثار أهله على سيف الدين فأخذوه بغير قتال وكان العلويين هم الذين تولوا أسره وانهزم الذين كانوا معه فمنهم من نجا ومنهم من أخذ ثم إنهم سودوا وجه سيف الدين وأركبوه بقرة وأطافوا به البلد ثم صلبوه وقالوا فيه أشعارا يهجونه وغنوا بها حتى النساء. فلما بلغ الخبر إلى أخيه علاء الدين الحسين قال شعرا معناه إن لم أقلع غزنة في مرة واحدة فلست الحسين بن الحسين ثم توفي بهرام شاه وملك بعده ابنه خسروشاه وتجهز علاء الدين الحسين وسار إلى غزنة سنة خمسين وخمسمائة فلما بلغ الخبر إلى خسروشاه سار عنها إلى لهاوور وملكها علاء الدين ونهبها ثلاثة أيام وأخذ العلويين الذين أسروا أخاه فألقاهم من رؤوس الجبال وخرب المحلة التي صلب فيها وأخذ النساء اللواتي قيل عنهن أنهن كن يغنين بهجاء أخيه والغورية فأدخلهن حماما ومنعهن من الخروج حتى متن فيه. وأقام بغزنة حتى أصلحها، ثم عاد إلى فيروزكوه، ونقل معه من
165 أهل غزنة خلقا كثيرا وحملهم المخالي مملوءة ترابا فبنى به قلعة فلي فيروزكوه وهي موجودة إلى الآن وتلقب بالسلطان المعظم وحمل الخبر على عادة السلاطين السلجوقية، وقد تقدم سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة من أخبارهم وفيه مخالفة لهذا في بعض الأمر وكلا سمعناه ورأيناه في مصنفاتهم فلهذا ذكرنا الأمرين وأقام الحسين على ذلك مدة واستعمل ابني أخيه وهما غياث الدين وشهاب الدين. ذكر ملك غياث الدين وشهاب الدين الغوريين لما قوي أمر عمهما علاء الدين الحسين بن الحسين استعمل العمال والأمراء على البلاد وكان ابنا أخيه وهما غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام وشهاب الدين أبو المظفر محمد بن سام فيمن استعمل على بلد من بلاد الغور اسمه سنجة وكان غياث الدين يلقب حينئذ شمس الدين ويلقب الآخر شهاب الدين فلما استعملهما أحسنا السيرة في عملهما وعدلا وبذلا الأموال فمال الناس إليهما وانتشر ذكرهما فسعى بهما من يحسدهما إلى عمهما علاء الدين وقال إنهما يريدان الوثوب بك وقتلك والاستيلاء على الملك فأرسل عمهما يستدعيهما إليه فامتنعا وكانا قد علما الخبر فلما امتنعا جهز اليهما عسكرا مع قائد يسمى خروش الغوري فلما التقوا انهزم خروش ومن معه وأسر هو وأبقيا عليه وأحسنا إليه وخلعا عليه وأظهرا عصيان عمهما وقطعا خطبته فتوجه إليهما علاء الدين وسارا هما أيضا إليه فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم علاء الدين وأخذ أسيرا وانهزم عسكره فنادى فيهم ابنا أخيه بالأمان فأحضرا عمهما وأجلساه على التخت،
166 ووقفا في خدمته فبكى علاء الدين وقال هذان صبيان قد فعلا ما لو قدرت عليه منهما لم أفعله وأحضر القاضي في الحال وزوج غياث الدين بنتا له وجعله ولي عهده وبقي كذلك إلى أن مات. فلما توفي ملك غياث الدين بعده وخطب لنفسه في الغور وغزنة بالملك وبقي كذلك إلى أن ملك الغز غزنة بعد موت علاء الدين طمعوا فيها بموته وبقيت بأيديهم خمس عشر سنة يصبون على أهلها العذاب ويتابعون الظلم كعادتهم في كل بلدة ملكوها ولو أنهم لما ملكوا أحسنوا السيرة في الرعايا لدام ملكهم فلم يزل الغز بغزنة هذه المدة وغياث الدين يقوي أمره ويحسن السيرة والناس يميلون إليه ويقصدونه إليه ويقصدونه. ذكر ملك غياث الدين غزنة وما جاورها من البلاد لما قوي أمر غياث الدين جهز جيشا كثيفا مع أخيه شهاب الدين إلى غزنة فيه أصناف الغورية والخلج والخراسانية فساروا إليها فلقيهم الغز وقاتلوهم فانهزم الغورية وثبت شهاب الدين فيمن ثبت معه على صاحب علمهم فقتله وأخذ العلم وتركه على حاله فتراجع الغز ولم يكونوا علموا بما كان من شهاب الدين فجاؤوا يطلبون عملهم فكلما جاء إليه طائفة قتلهم فأتى على أكثرهم ودخل غزنة وتسلمها وأحسن السيرة في أهلها وأفاض العدل.
167 وسار في غزنة إلى كرمان وشنوران فملكها ثم تعدى إلى ماء السند وعمل على العبور إلى بلد الهند وقصد لها وورد بها يومئذ خسروشاه بن بهرام شاه المقدم ذكر والده فلما سمع خسروشاه بذلك سار فيمن معه إلى ماء السند فمنعه من العبور فرجع عنه وقصد خرشابور فملكها وما يليها من جبال الهند وأعمال الأبغان والله أعلم ذكر ملك شهاب الدين لهاوور لما ملك شهاب الدين جبال الهند قوي أمره وجنانه وعظمت هيبته في قلوب الناس وأحبوه لحسن سيرته فلما خرج الشتاء وأقبل الربيع من سنة تسع وسبعين وخمسمائة سار نحو لهاوور في جمع عظيم وحشد كثير من خراسان والغور وغيرها فعبر إلى لهاوور وحصرها وأرسل صاحبها خسروشاه إلى أهلها يتهددهم إن منعوه وأعلمهم أنه لا يزول حتى يملك البلد وبذل لخسروشاه الأمان على نفسه وأهله وماله ومن الأقطاع ما أراد وأن يزوج ابنته بابن خسروشاه على أن يطأ بساطه ويخطب لأخيه فامتنع عليه وأقام شهاب الدين محاصرا له مضيقا عليه فلما رأى أهل البلد والعسكر ذلك ضعفت نياتهم في نصرة صاحبهم فخذلوه فأرسل لما رأى ذلك قاضي البلد والخطيب يطلبون له الأمان فأجابه شهاب الدين إلى ذلك وحلف له وخرج إليه ودخل الغورية إلى المدينة وبقي كذلك شهرين مكرما عند شهاب الدين، فورد رسول من غياث الدين إلى شهاب الدين يأمره بإنفاذ خسروشاه إليه.
168 ذكر انقراض دولة سبكتكين لما أنفذ غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين يطلب إنفاذ خسروشاه إليه أمره شهاب الدين بالتجهز والمسير فقال أنا لا أعرف أخاك ولا لي حديث إلا معك ولا يمين إلا في عنقك فمناه وطيب قلبه وجهزه وسيره وسير معه ولده وأصحبهما جيشا يحفظونهما فسارا كارهين فلما بلغا فرشابور خرج أهلها إليهما يبكون ويدعون لهما فزجرهم الموكلون بهما وقالوا سلطان يزور سلطانا آخر لأي شيء تبكون وضربوهم فعادوا وخرج ولد خطيبها إلى خسروشاه متوجعا له قال فلما دخلت عليه أعلمته رسالة أبي وقلت إنه قد اعتزل الخطابة ولا حاجة بي إلى خدمة غيركم فقال لي سلم عليه وأعطاني فرجة فوطا ومصلى من عمل الصوفية وقال هذه تذكرة أبيك عند أبي فسلمها إليه وقل له در مع الدهر كيفما دار أنشد بلسان فصيح: (وليس كعهد الدار يا أم مالك * ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل) قال فانصرفت إلى أبي وعرفته الحال فبكى وقال قد أيقن الرجل بالهلاك ثم رحلوا فلما بلغوا بلد الغور لم يجتمع بهما غياث الدين بل أمر بهما فرفعا إلى بعض القلاع فكان آخر العهد بهما. وهو آخر ملوك آل سبكتكين وكان ابتداء دولتهم سنة ست وستين وثلاثمائة فتكون مدة ولايتهم مائتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريبا وكان ملوكهم من أحسن الملوك سيرة ولا سيما جدهم محمود فإن آثاره في الجهاد معروفة وأعماله للآخرة مشهورة: (لو كان يقعد فوق الشمس من كرم * قوم بآبائهم أو مجدهم قعدوا)
169 فتبارك الذي لا يزول ملكه ولا تغيره الدهور فأف لهذه الدهور وأف لهذه الدنيا الدنية تفعل هذا بأبنائها نسأل الله تعالى أن يكشف عن قلوبنا حتى نراها بعين الحقيقة وأن يقبل بنا إليه وأن يشغلنا به عما سواه إنه على كل شيء قدير. هكذا ذكر بعض فضلاء خراسان أن خسروشاه آخر ملوك آل سبكتكين وقد ذكر غيره أنه توفي في الملك وملك بعده ابنه ملكشاه وسنذكر في سنة تسع وخمسين وخمسمائة وبالجملة فابتداء دولة الغورية عندي فيها خلف ولو ينكشف الحق فأصلحه إن شاء الله تعالى. ذكر الخطبة لغياث الدين بالسلطنة لما استقر ملكهم بلهاوور واتسعت مملكتهم وكثرت عساكرهم وأموالهم كتب غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين بإقامة الخطبة به بالسلطنة وتلقب بألقاب السلاطين كان لقبه شمس الدين فتلقب غياث الدين والدنيا معين الإسلام قسيم أمير المؤمنين ولقب أخاه بعز الدين ففعل شهاب الدين ذلك وخطب له بالسلطنة. ذكر ملك غياث الدين وغيرها من خراسان لما فرغ شهاب الدين من إصلاح أمر لهاوور وتقرير قواعدها سار إلى أخيه غياث الدين فلما اجتمع به استقر رأيهما على المسير إلى خراسان وقصد
170 مدينة هراة ومحاصرتها فسارا في العساكر الكثيرة إليها وكان بها جماعة من الأتراك السنجرية فنازلا البلد وحصراه وضيقا على من به فاستسلموا اليهما وأرسلوا يطلبون الأمان منهما فأجاباهم إلى ذلك وأمناهم فتسلما البلد وأخرجا من فيه من الأمراء السنجرية واستناب فيه غياث الدين خزنك الغوري وسار غياث الدين وأخوه إلى فوشنج فملكاها ثم إلى باذغيس وكالين وبيوار فملكاها أيضا وتسلم ذلك جميعه غياث الدين وأحسن السيرة في أهل البلاد ورجع إلى فيروزكوه ورجع شهاب الدين إلى غزنة وكان ينبغي أن حوادث الغورية تذكر في السنين وإنما جمعناها ليتلو بعضها بعضا ولأن فيه ما لم يعرف تاريخه فتركناه بحاله. ذكر مالك شهاب الدين مدينة آجرة من بلد الهند لما رجع شهاب الدين من خراسان إلى غزنة أقام بها حتى أراح واستراح هو وعساكره ثم سار إلى بلد الهند فحاصر مدينة آجرة وبها ملك من ملوك الهند فلم يظفر منه بطائل وكان للهندي زوجة غالبة على أمره فراسلها شهاب الدين أنه يتزوجها فأعادت الجواب أنها لا تصلح له وانها لها ابنة
171 جميلة تزوجه إياها فأرسل إليها يجيبها إلى التزويج بابنتها فسقت زوجها سما فمات وسلمت البلد إليه. فلما تسلمه أخذ الصبية فأسلمت وتزوجها وحملها إلى غزنة وأجرى عليها الجرايات الوافرة ووكل بها من علمها القرآن وتشاغل عنها فتوفيت والدتها ثم توفيت هي بعد عشر سنين ولم يرها ولم يقربها فبنى لها مشهدا ودفنها فيه وأهل غزنة يزورون قبرها. ثم عاد إلى بلد الهند فذل له صعابها وتيسر له فتح الكثير من بلادهم ودوخ ملوكهم وبلغ منهم ما لم يبلغه أحد قبله من ملوك المسلمين. ذكر ظفر الهند على المسلمين لما اشتدت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند وإثخانه في أهلها واستيلاؤه عليهم اجتمع ملوكهم وتآمروا بينهم ووبخ بعضهم بعضا فاتفق رأيهم على الاجتماع والتعاضد على حربه فجمعوا عساكرهم وحشدوا وأقبل إليهم الهنود من كل فج عميق على الصعب والذلول وجاؤوا بحدهم وحديدهم وكان الحاكم على جميع الملوك المجتمعين امرأة هي من أكبر ملوكهم. فلما سمع باجماعهم ومسيرهم إليه تقدم هو أيضا إليهم في عسكر عظيم منن الغورية والخلج والخراسانية فالتقوا واقتتلوا فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم المسلمون وركبهم الهند يقتلون ويأسرون وأثخنوا فيهم وأصاب شهاب الدين ضربة بطلت منها يده اليسرى وضربة أخرى على رأسه سقط منها إلى الأرض وحجز الليل بين الفريقين فأحس شهاب الدين بجماعة من غلمانه الأتراك في ظلمة الليل وهم يطلبونه في القتلى ويبكون،
172 وقد رجع الهنود إلى ورائهم فكلمهم وهو على ما به من الجهد فجاؤوا إليه مسرعين وحملوه على رؤوسهم رجالة يتناوبون حمله حتى بلغوا مدينة آجرة مع الصباح. وشاع خبر سلامته في الناس فجاؤوا إليه يهنئونه من أقطار البلاد فأول ما عمل أنه أخذ امراء الغورية الذين انهزموا عنه وأسلموه فملأ مخالي خيلهم شعيرا وحلف لئن لم يأكلوه ليضربن أعناقهم فأكلوه ضرورة وبلغ الخبر إلى أخيه غياث الدين فأرسل إليه يلومه على عجلته وإقدامه وأنفذ إليه جيشا عظيما. ذكر ظفر المسلمين بالهند لما سلم شهاب الدين وعاد إلى آجرة وأتاه المدد من أخيه غياث الدين وعاد الهنود جددوا سلاحهم ووفروا جمعهم وأقاموا عوض من قتل منهم وسارت ملكتهم وهم معها في عدد يضيق عنه الفضاء فراسلها شهاب الدين يخدعها بأنه يتزوجها فلم تجبه إلى ذلك وقالت إما الحرب وإما أن تسلم بلاد الهند وتعود إلى غزنة فأجابها إلى العود إلى غزنة وأنه يستأذن أخاه غياث الدين؛ فعل ذلك مكرا وخديعة. وكان بين العسكرين نهر وقد حفظ الهنود المخاضات فلا يقدر أحد من المسلمين [أن] يجوزه؛ وأقاموا ينتظرون ما يكون جواب غياث الدين بزعمهم فبينما هم كذلك إذ وصل إنسان هندي إلى شهاب الدين وأعلمه أنه يعرف مخاضا قريب من عسكر الهنود وطلب أن يرسل معه جيشا يعبرهم المخاض،
173 ويكسبون الهنود وهم غارون آمنون فخاف شهاب الدين أن تكون خديعة ومكرا فأقام له ضمناء من أهل آجرة والمولتان فأرسل معه جيشا كثيفا وجعل عليهم الأمير الحسين ابن خرميل الغوري وهو الذي صار بعد صاحب هراة وكان من الشجاعة والرأي بالمنزلة المشهورة. فسار الجيش مع الهندي فعبروا النهر فلم يشعر الهنود إلا وقد خالطهم المسلمون ووضعوا السيف فيهم فاشتغل الموكلون بحفظ المخاضات فعبر شهاب الدين بعد هذه الوقعة من بلاد الهند وأمن معرة فسادهم والتزموا له بالأموال وسلموا إليه الرهائن وصالحوه وأقطع مملوكه قطب الدين أيبك مدينة دهلي وهي كرسي الممالك التي فتحها من الهند فأرسل عسكرا من الخلج مع محمد بن بختيار فملكوا من بلاد الهند مواضع ما وصل إليها مسلم قبله حتى قاربوا حدود الصين من جهة المشرق. وقد حدثني صديق لي من التجار بوقعتين تشبه هاتين الوقعتين المذكورتين وبينهما بعض الخلاف وقد ذكرناهما سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.
174 ذكر عدة حوادث في هذه السنة توفي يعقوب الكاتب ببغداد وكان يسكن بالمدرسة النظامية وحضر متولي التركات وختم على الغرفة التي كان يسكنها بالمدرسة فثار الفقهاء وضربوا المتولي وهذه عادتهم فيمن يموت بها وليس له وارث فقبض حاجب الباب على رجلين من الفقهاء وعاقبهما وحبسهما فأغلق الفقهاء المدرسة وألقوا كرسي الوعاظ في الطريق وصعدوا سطح المدرسة ليلا واستغاثوا وتركوا الأدب. وكان حينئذ مدرسهم الشيخ أبا النجيب فجاء وألقى نفسه تحت التاج يعتذر فعفي عنه. وفيها توفي حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين وميافارقين وكانت ولايته نيفا وثلاثين سنة وتولى بعده ابنه نجم الدين ألبي. وفيها مات أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي الشافعي المحدث ومولده سنة تسع وخمسين وأربعمائة. وفيها توفي أبو الأسعد عبد الرحمن القشيري في شوال وهو شيخ شيوخ خراسان. وفيها في المحرم باض ديك ببغداد بيضة وباض بازي بيضتين وباضت نعامة لا ذكر معها بيضة.
175 548 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ذكر انهزام سنجر من الغز ونهبهم خراسان وما كان منهم في هذه السنة في المحرم انهزم السلطان من الأتراك الغز وهم طائفة من الترك مسلمون كانوا بما وراء النهر فلما ملك الخطا أخرجوهم منه كما ذكرنا فقصدوا خراسان وكانوا خلقا كثيرا فأقاموا بنواحي بلخ يرعون في مراعيها وكان لهم أمراء اسم أحدهم دينار والآخر بختيار والآخر طوطي والآخر أرسلان والآخر جغر والآخر محمود فأراد الأمير قماج وهو مقطع بلخ إبعادهم فصانعوه بشيء بذلوه له فعاد عنهم فأقاموا على حالة حسنة لا يؤذون أحدا ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة. ثم إن قماج عاودهم وأمرهم بالانتقال عن ببلده فامتنعوا وانضم بعضهم إلى بعض واجتمع معهم غيرهم من طوائف الترك فسار قماج إليهم في عشرة آلاف فارس فجاء إليه أمراؤهم وسألوه أن يكف عنهم ويتركهم في مراعيهم ويعطونه من كل بيت مائتي درهم فلم يجبهم إلى ذلك وشدد عليهم في الانتزاح عن بلده فعادوا عنه واجتمعوا وقاتلوه فانهزم قماج ونهبوا ماله ومال عسكره وأكثروا القتل في العسكر والرعايا
176 واسترقوا النساء والأطفال وعملوا كل عظيمة وقتلوا الفقهاء وخربوا المدارس. وانتهت الهزيمة بقماج إلى مرو وبها السلطان سنجر فأعلمه الحال فراسلهم سنجر يتهددهم فأمرهم بمفارقة بلاده فاعتذروا وبذلوا بذلا كثيرا ليكف عنهم ويتركهم في مراعيهم فلم يجبهم إلى ذلك وجمع عساكره من أطراف البلاد واجتمع معه ما يزيد على مائة ألف فارس وقصدهم ووقع بينهم حرب شديد فانهزمت عساكر سنجر وانهزم هو أيضا وتبعهم الغز قتلا وأسرا فصار قتلى العسكر كالتلال، وقتل علاء الدين قماج وأسر [السلطان سنجر وأسر] معه جماعة من الأمراء، [فأما الأمراء] فضربوا أعناقهم وأما السلطان سنجر فإن أمراء الغز اجتمعوا وقبلوا الأرض بين يديه وقالوا نحن عبيدك لا نخرج عن طاعتك فقد علمنا أنك لم ترد قتالنا وإنما حملت عليه فأنت السلطان ونحن العبيد فمضى على ذلك شهران أو ثلاثة ودخلوا معه إلى مرو وهي كرسي ملك خراسان وطلبها منه بختيار إقطاعا فقال السلطان هذا دار الملك ولا يجوز أن تكون أقطاعا لأحد فضحكوا منه وحنق له بختيار بغمه فلما رأى ذلك نزل عن سرير الملك ودخل خانكاه مرو وحنق له بختيار بغمه فلما رأى ذلك نزل عن سرير الملك ودخل خانكاه مرو وتاب عن الملك. واستولى الغز على البلاد وظهر منهم من الجور ما لم يسمع بمثله وولوا على نيسابور واليا فقسط على الناس كثيرا وعسفهم وضربهم وعلق في الأسواق ثلاثة غرائر وقال أريد ملء هذه ذهبا فثار عليه العامة فقتلوه ومن معه فركب الغز ودخلوا نيسابور ونهبوها نهبا مجحفا وجعلوها قاعا
177 صفصفا، وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوا وقتلوا القضاة والعلماء في البلاد كلها فممن قتل الحسين بن محمد الأرسابندي والقاضي علي بن مسعود والشيخ محيي الدين محمد بن يحيى وأكثر الشعراء في مرائي محمد بن يحيى فممن قال فيه علي ابن إبراهيم الكاتب: (مضى الذي كان يجني الدر من فيه * يسيل بالفضل والإفضال واديه) (مضى ابن يحيى الذي قد كان صوب حيا * لا بر شهر ومصباحا لداجيه) (خلا خراسان من علم ومن ورع * لما نعاه إلى الآفاق ناعيه) (لما أماتوه مات الدين وا أسفا * من ذا الذي بعد محيي الدين يحييه) ويتعذر وصف ما جرى منهم بتلك البلاد جميعا ولم يسلم من خراسان شيء لم تنهبه الغز غير هراة ودهستان لأنها كانت حصينة فامتنعت. وقد ذكر بعض مؤرخي خراسان من أخبارهم ما فيه زيادة وضوح وقال إن هؤلاء الغز قوم انتقلوا من نواحي الثغر من أقاصي الترك إلى ما وراء النهر في أيام المهدي وأسلموا واستنصر بهم المقنع صاحب المخاريق الشعبذة حتى تم أمره فلما سارت العساكر إليه خذله هؤلاء الغز وأسلموه وهذه عادتهم في كل دولة كانوا فيها وفعلوا مثل ذلك مع الملوك الخاقانية إلا أن الأتراك القارغلية قمعوهم وطردوهم من أوطانهم فدعاهم الأمير زنكي بن خليفة الشيباني المستولي على حدود طخارستان إليه وأنزلهم بلاده وكانت بينه وبين الأمير قماج عداوة أحكمتها الأيام للمجاورة التي بينهما وكل منهما يريد أن يعلو على الآخر ويحكم عليه،
178 فتقوى بهم زنكي وساروا معه إلى بلخ لمحاربة قماج فكاتبهم قماج فمالوا إليه وخذلوا زنكي عند الحرب فأخذ زنكي وابنه أسيرين فقتل قماج ابن زنكي وجعل يطعم أباه لحمه ثم قتل الأب أيضا، وأقطع قماج الغز مواضع وأباحهم مراعي بلاده. فلما قام الحسين بن الحسين الغوري وقصد بلخ خرج إليه قماج وعساكره ومعه الغز ففارقه الغز وانضموا إلى الغوري حتى ملك مدينة بلخ فسار السلطان سنجر إلى بلخ ففارقها الغوري بعد قتال انهزم منه ثم دخل إلى السلطان سنجر لعجزه عن مقاومته فرده إلى غزنة. وبقي الغز بنواحي طخارستان وفي نفس قماج منهم الغيظ العظيم لما فعلوه معه فأراد صرفهم عن بلاده فتجمعوا وانضم إليهم طوائف من الترك وقدموا عليهم أرسلان موقا التركي فجمع أرسلان قماج عسكره ولقيهم فاقتتلوا يوما كاملا إلى الليل فانهزم قماج وعسكره وأسر هو وابنه أبو بكر فقتلوهما واستولوا على نواحي بلخ وعاثوا فيها وأفسدوا بالنهب والقتل والسلب. وبلغ السلطان سنجر الخبر فجمع عساكره وسار إليهم فراسلوه يعتذرون ويتنصلون فلم يقبل عذرهم ووصل إليهم مقدمة السلطان وفيها محمد بن أبي بكر بن قماج المقتول والمؤيد أي أبه في المحرم من سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ووصل بعدهم السلطان سنجر فالتقاه الغز بعد أن أرسلوا يعتذرون ويبذلون الأموال والطاعة والانقياد إلى كل ما يؤمرون به فلم يقبل سنجر ذلك منهم وسار إليهم فلقوه وقاتلوه وصبروا له ودام قتالهم فانهزم عسكر سنجر وهو معهم فتوجهوا إلى بلخ على أقبح
179 صورة، وتبعهم الغز واقتتلوا مرة ثانية فانهزم السلطان سنجر أيضا ومضى منهزما إلى مرو في صفر من السنة فقصد الغز إليها فلما سمع العسكر الخراساني بقربهم منهم أجفلوا من بين أيديهم هاربين لما دخل في قلوبهم من خوفهم والرعب منهم فلما فارقها السلطان والعسكر دخلها الغز ونهبوها أفحش نهب وأقبحه وذلك في جمادى الأولى من السنة وقتل بها كثير من أهلها وأعيانها منهم قاضي القضاة الحسن بن محمد الأرسابندي والقاضي علي بن مسعود وغيرهما من الأئمة العلماء. ولما خرج سنجر من مرو قصد بوزابة وأخذه الغز أسيرا وأجلسوه على تخت السلطنة على عادته وقاموا بين يديه وبذلوا له الطاعة ثم عاودوا الغارة على مرو في رجب من السنة فمنعهم أهلها وقاتلوهم قتالا شديدا بذلوا فيه جهدهم وطاقتهم ثم إنهم عجزوا فاستسلموا إليهم فنهبوها أقبح من النهب الأول لم يتركوا بها شيئا. وكان قد فارق سنجر جميع أمراء خراسان ووزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك ولم يبق عنده غير نفر يسير من خواصه وخدمه فلما وصلوا إلى نيسابور أحضروا الملك سليمان شاه بن السلطان محمود فوصل إلى نيسابور تاسع عشر جمادى الآخرة من السنة فاجتمعوا عليه وخطبوا له بالسلطنة، وسار في هذا الشهر جماعة من العسكر السلطاني إلى طائفة كثيرة من الغز فوقعوا بهم وقتلوا منهم كثيرا وانهزم الباقون إلى أمرائهم الغزية فاجتمعوا معهم. ولما اجتمعت العساكر على الملك سليمان شاه وساروا إلى مرو يطلبون الغز فبرز الغز إليهم فساعة رآهم العسكر الخراساني انهزموا وولوا على
180 أدبارهم، وقصدوا نيسابور وتبعهم الغز فمروا بطوس وهي معدن العلماء والزهاد فنهبوها وسبوا نساءها وقتلوا رجالها وخربوا مساجدها ومساكن أهلها ولم يسلم من جميع ولاية طوس إلا البلد الذي فيه مشهد علي بن موسى الرضا ومواضع أخر يسيرة لها أسوار. وممن قتل من أعيان أهلها إمامها محمد المارشكي ونقيب العلويين بها علي الموسوي وخطيبها إسماعيل بن المحسن وشيخ شيوخها محمد بن محمد وأفنوا من بها من الشيوخ الصالحين وساروا منها إلى نيسابور فوصلوا إليها في شوال سنة تسع وأربعين [خمسمائة]، ولم يجدوا دونها مانعا ولا مدافعا فنهبوها نهبا ذريعا وقتلوا أهلها فأكثروا حتى ظنوا أنهم لم يبقوا بها أحد حتى أنه أحصي في محلتين خمسة عشر ألف قتيل من الرجال دون النساء والصبيان وسبوا نساءها وأطفالها وأخذوا أموالها وبقي القتلى في الدروب كالتلال بعضهم فوق بعض واجتمع أكثر أهلها بالجامع المنيعي تحصنوا به فحصرهم الغز فعجز أهل نيسابور من منعهم فدخل الغز إليهم فقتلوهم عن آخرهم وكانوا يطلبون من الرجال المال فإذا أعطاهم أحد قتلوه وقتلوا كثيرا من أئمة العلماء والصالحين منهم محمد بن يحيى الفقيه الشافعي الذي لم يكن في زمانه مثله كان رحلة الناس من أقصى الغرب والشرق إليه ورثاه جماعة من العلماء منهم أبو الحسن علي بن أبي القاسم البيهقي فقال: (يا سافكا دم عالم متبحر * قد طار في أقصى الممالك صيته) (بالله قل لي يا ظلوم ولا تخف * من كان محيي الدين كيف تميته) منهم الزاهد عبد الرحمن بن عبد الصمد الأكاف وأحمد بن الحسين
181 الكاتب سبط القشيري وأبو البركات الفراوي والإمام علي الصباغ المتكلم وأحمد بن محمد بن حامد وعبد الوهاب الملقاباذي والقاضي صاعد بن عبد الملك بن صاعد والحسن بن عبد الحميد الرازي وخلق كثير من الأئمة والزهاد والصالحين وأحرقوا ما بها من خزائن الكتب ولم يسلم إلا بعضها. وحصروا شارستان وهي منيعة فأحاطوا بها وقاتلهم أهلها من فوق سورها وقصدوا جوين وبذلوا نفوسهم لله تعالى وحموا بيضتهم والباقي أتى النهب والقتل عليه ثم قصدوا اسفراين فنهبوها وخربوها وقتلوا في أهلها فأكثروا. وممن قتل عبد الرشيد الأشعثي وكان من أعيان دولة السلطان فتركها وأقبل على الاشتغال بالعلم وطلب الآخرة وأبو الحسن الفندروجي وكان من ذوي الفضائل لا سيما في علم الأدب. لما فرغ الغز من جوين وأسفرايين عادوا إلى نيسابور فنهبوا ما بقي فيها بعد النهب الأول وكان قد لحق بشهرستان كثير من أهلها فحصرهم الغز واستولوا عليها ونهبوا ما كان فيها لأهلها ولأهل نيسابور وهتكوا الحرم والأطفال وفعلوا ما لم يفعله الكفار مع المسلمين وكان العيارون أيضا ينهبون نيسابور أشد من نهب الغز ويفعلون أقبح من فعلهم. ثم إن السلطان سليمان شاه ضعف وكان قبيح السيرة سئ التدبير وأن وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك توفي في شوال سنة ثمان وأربعين [خمسمائة] فضعف أمره واستوزر سليمان شاه بعده ابنه نظام الملك أبا
182 علي الحسن بن ظاهر وانحل أمر دولته بالكلية ففارق خراسان في صفر سنة تسع وأربعين [خمسمائة] وعاد إلى جرجان، فاجتمع الأمراء وراسلوا الخان محمود بن محمد بن بغراخان وهو ابن أخت السلطان سنجر وخطبوا له على منابر خراسان واستدعوه إليهم فملكوه أمورهم وانقادوا له في شوال سنة تسع وأربعين وخمسمائة وساروا معه إلى الغز وهم يحاصرون هراة وجرت بينهم حروب كان الظفر في أكثرها للغز ورحلوا في جمادى الأولى من سنة خمسين وخمسمائة وسار معهم من على هراة إلى مرو وعاودوا المصادرة لأهلها. وسار الخان محمود بن محمد إلى نيسابور وقد غلب عليها المؤيد على ما نذكره وراسل الغز في الصلح فاصطلحوا في رجب من سنة خمسين وخمسمائة هدنة على دخل وسيرد باقي أخبارهم سنة اثنتين وخمسين. ذكر ملك المؤيد نيسابور وغيرها كان للسلطان سنجر مملوك اسمه أي أبه ولقبه المؤيد فلما كانت هذه الفتنة تقدم وعلا شأنه وأطاعه كثير من الأمراء فاستولى على نيسابور وطوس ونسا وأبيورد وشهرستان والدامغان وأزاح الغز عن الجميع وقتل منهم خلقا كثيرا وأحسن السيرة وعدل في الرعية واستمال الناس ووفر الخراج على أهله وبالغ في مراعاة أرباب البيوت فاستقرت البلاد له ودانت له الرعية لحسن سيرته وعظم شأنه وكثرت جموعه فراسله خاقان محمود بن محمد في تسليم البلاد والحضور عنده فامتنع وترددت
183 الرسل بينهم حتى استقر على المؤيد مال يحمله إلى الملك محمود فكف عنه محمود وأقام المؤيد بالبلاد هو والسلطان محمود. ذكر ملك إينانج الري كان إينانج أحد مماليك السلطان سنجر فلما كان من فتنة الغز ما ذكرناه هرب من خراسان ووصل إلى الري فاستولى عليها وأقام بها وأرسل السلطان محمد شاه بن محمود صاحب همذان وأصفهان وغيرهما يخدمه وهاداه وأرضاه وأظهر له الطاعة وبقي بها إلى أن مات السلطان محمد فاستولى على عدة بلاد تجاور الري فملكها فعظم أمره وعلا شأنه وصارت عساكره عشرة آلاف فارس. فلما ملك سليمان شاه همذان على ما نذكره حضر عنده وأطاعه لأنسه به كان أيام مقام سليمان شاه بخراسان فتقوى أمره بذلك. ذكر قتل ابن السلار وزير الظافر ووزارة عباس في هذه السنة في المحرم قتل العادل بن السلار وزير الظافر بالله قتله ربيبه عباس ابن أبي الفتوح بن يحيى الصنهاجي أشار إليه بذلك الأمير أسامة بن منقذ ووافق عليه الخليفة الظافر بالله فأمر ولده نصرا فدخل على العادل وهو عند جدته أم عباس فقتله وولي الوزارة بعده ربيبه عباس.
184 وكان عباس قد قدم من المغرب كما ذكرناه إلى مصر وتعلم الخياطة وكان خياطا حسنا فلما تزوج ابن السلار بأمه أحبه وأحسن تربيته فجازاه بأن قتله وولي بعده. وكانت الوزارة في مصر لمن غلب والخلفاء وراء الحجاب والوزارة كالمتملكين وقل أن وليها أحد بعد الأفضل إلا بحرب وقتل وما شاكل ذلك فلذلك ذكرناه في تراجم مفردة، والله أعلم. ذكر الحرب بين العرب وعساكر عبد المؤمن في هذه السنة في صفر كانت الحرب بين عسكر عبد المؤمن والعرب عند مدينة سطيف. وسبب ذلك أن العرب وهم بنو هلال والأبتح وعدي ورياح وزعب وغيرهم من العرب لما ملك عبد المؤمن بلاد بني حماد اجتمعوا من أرض طرابلس إلى أقصى المغرب وقالوا إن جاورنا عبد المؤمن أجلانا من المغرب وليس الرأي إلا إلقاء الجد معه وإخراجه من البلاد قبل أن يتمكن. وتحالفوا على التعاون والتظافر وأن لا يخون بعضهم بعضا وعزموا على لقائه بالرجال والأهل والمال ليقاتلوه قتال الحريم. واتصل الخبر بالملك رجار الفرنجي صاحب صقلية فأرسل إلى أمراء العرب وهم محرز بن زياد وجبارة بن كامل وحسن بن ثعلب وعيسى
185 ابن حسن وغيرهم يحثهم على لقاء عبد المؤمن ويعرض عليهم أن يرسل إليهم خمسة آلاف فارس من الفرنج يقاتلون معهم على شرط أن يرسلوا إليه الرهائن فشكروه وقالوا ما بنا حاجة إلى نجدته ولا نستعين بغير المسلمين. وساروا في عدد لا يحصى وكان عبد المؤمن قد رحل من بجاية إلى بلاد المغرب فلما بلغه خبرهم جهز من الموحدين ما يزيد على ثلاثين ألف فارس واستعمل عليهم عبد الله بن عمر الهنتاتي وسعد الله بن يحيى وكان العرب أضعافهم فاستجرهم الموحدون وتبعهم العرب إلى أن وصلوا إلى أرض سطيف بين جبال فحمل عليهم عسكر عبد المؤمن والعرب على غير أهبة التقى الجمعان. وترك العرب جميع ما لهم من أهل ومال وأثاث ونعم فأخذ الموحدون جميع ذلك وعاد الجيش إلى عبد المؤمن بجميعه فقسم جميع الأموال على عسكره وترك النساء والأولاد تحت الاحتياط ووكل بهم من الخدم الخصيان من يخدمهم ويقوم بحوائجهم وأمر بصيانتهم فلما وصلوا معه إلى مراكش أنزلهم في المساكن الفسيحة وأجرى لهم النفقات الواسعة وأمر عبد المؤمن ابنه محمدا أن يكاتب أمراء العرب ويعلمهم أن نساءهم وأولادهم تحت الحفظ والصيانة وأنه قد بذل لهم الأمان والكرامة. فلما وصل كتاب محمد إلى العرب سارعوا إلى المسير إلى مراكش فلما وصلوا إليها أعطاهم عبد المؤمن نساءهم وأولادهم وأحسن إليهم وأعطاهم أموالا جزيلة فاسترق قلوبهم بذلك وأقاموا عنده وكان بهم حفيا واستعان بهم على ولاية ابنه محمد للعهد على ما نذكره سنة إحدى وخمسين [خمسمائة].
186 ذكر ملك الفرنج مدينة بونة وموت رجار وملك ابنه غليالم في هذه السنة سار أسطول رجار ملك الفرنج بصقلية إلى مدينة بونة وكان المقدم عليهم فتاه فيلب المهدوي فحصرها واستعان بالعرب عليها فأخذها في رجب وسبى أهلها وملك ما فيها غير أنه أغضى عن جماعة من العلماء والصالحين حتى خرجوا بأهليهم وأموالهم إلى القرى فأقام بها عشرة أيام وعاد إلى المهدية وبعض الأسرى معه وعاد إلى صقلية فقبض رجار عليه لما اعتمد من الرفق بالمسلمين في بونة. وكان فيلب يقال إنه وجميع فتيانه مسلمون يكتمون ذلك وشهدوا عليه أنه لا يصوم مع الملك وأنه مسلم فجمع رجار الأساقفة والقسوس والرهبان فحكموا بأن يحرق فأحرق في رمضان وهذا أول وهن دخل على المسلمين بصقلية ولم يمهل الله رجار بعده إلا يسيرا حتى [مات] في العشر الأول من ذي الحجة من السنة وكان مرضه الخوانيق وكان عمره قريب ثمانين سنة وكان ملكه نحو عشرين سنة، ولما مات ملك بعده ابنه غليالم وكان فاسد التدبير سئ التصوير فاستوزر مايو البرصاني فأساء التدبير فاختلفت عليه حصون من جزيرة صقلية وبلاد قلورية وتعدى الأمر إلى أفريقية على ما نذكره.
187 ذكر وفاة بهرام شاخ صاحب غزنة في هذه السنة في رجب توفي السلطان بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود ابن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بها وكانت ولاية بهرام شاه ستا وثلاثين سنة وكان عادلا حسن السيرة جميل الطريقة محبا للعلماء مكرما لهم باذلا لهم الأموال الكثيرة جامعا للكتب تقرأ بين يديه ويفهم مضمونها ولما مات ملك ولده خسروشاه. ذكر ملك الفرنج مدينة عسقلان في هذه السنة ملك الفرنج بالشام مدينة عسقلان وكانت من جملة مملكة الظافر بالله العلوي المصري وكان الفرنج كل سنة يقصدونها ويحصرونها فلا يجدون إلى ملكها سبيلا وكان الوزراء بمصر لهم الحكم في البلاد والخلفاء معهم اسم لا معنى تحته وكان الوزراء كل سنة يرسلون إليها من الذخائر والأسلحة والأموال والرجال من يقوم بحفظها فلما كان في هذه السنة قتل ابن السلار على ما ذكرناه واختلفت الأهواء في مصر وولي عباس الوزارة وإلى أن استقرت قاعدة اغتنم الفرنج اشتغالهم عن عسقلان فاجتمعا وحصروها فصبر أهلها وقاتلوهم قتالا شديدا حتى أنهم بعض الأيام قاتلوا خارج السور وردوا الفرنج إلى خيامهم مقهورين وتبعهم أهل البلد إليها فأيس حينئذ من ملكه. فبينا هم على عزم الرحيل إذ قد أتاهم الخبر أن البلد قد وقع بين
188 أهله خلاف وقتل منهم قتلى فصبروا وكان سبب هذا الاختلاف أنهم لما عادوا عن قتال الفرنج قاهرين منصورين ادعى كل طائفة منهم أن النصرة من جهتهم كانت وأنهم هم الذين ردوا الفرنج خاسرين فعظم الخصام بينهم إلى أن قتل من إحدى الطائفتين قتيل واشتد الخطب وعظم حينئذ وتفاقم الشر ووقعت الحرب بينهم فقتل بينهم قتلى فطمع الفرنج وزحفوا إليه وقاتلوا عليه فلم يجدوا من يمنعهم فملكوه. ذكر حصر عسكر الخليفة تكريت وعودهم عنها في هذه السنة سير الخليفة المقتفي لأمر الله عسكرا إلى تكريت ليحصروها وأرسل معهم مقدما عليهم ابن الوزير عون الدين بن هبيرة وترشك وهو من خواص الخليفة وغيرهما فجرى بين ابن الوزير ترشك فعرف ذلك فأرسل إلى مسعود بلال صاحب تكريت فصالحه وقبض على ابن الوزير ومن معه من المقدمين وسلمهم إلى مسعود بلال، [فانهزم العسكر وغرق منه كثير وسار مسعود بلال] وترشك من تكريت إلى طريق خراسان فنهبا وأفسدا فسار المقتفي عن بغداد لدفعهما فهربا من بين يديه فقصد تكريت فحصرها أياما وجرى له مع أهلها حروب من وراء السور فقتل من العسكر جماعة بالنشاب فعاد الخليفة عنها ولم يملكها.
189 ذكر عدة حوادث في هذه السنة وصلت مراكب من صقلية فيها جمع من الفرنج فنهبوا مدينة تنيس بالديار المصرية. وفيها كان بين الكرج بأرمينية وبين صليق صاحب أرزن الروم مصاف وحرب شديد وانهزم صليق وأسره الكرج ثم أطلقوه. وفيها توفي أبو العباس أحمد بن أبي غالب الوراق المعروف بابن الطلاية الزاهد البغدادي بها وكان من الصالحين وله حديث ورواية. وتوفي عبد الملك بن عبد الله بن أبي سهل أبو الفتح بن أبي القاسم الكروخي الهروي راوي جامع الترمذي ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتوفي ببغداد في ذي الحجة.
190 549 ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة ذكر قتل الظافر وولاية ابنه الفائز في هذه السنة في المحرم قتل الظافر بالله أبو المنصور إسماعيل بن الحافظ لدين الله عبد المجيد العلوي صاحب مصر. وكان سبب [قتله] أن وزيره عباسا كان له ولد اسمه نصر فأحبه الظافر وجعله من ندمائه الذين لا يقدر على فراقهم ساعة واحدة فاتفق أن قدم من الشام مؤيد الدولة الأمير أسامة بن منقذ الكناني في وزارة ابن السلار واتصل بعباس فحسن له قتل العادل بن السلار زوج أمه فقتله وولاه الظافر الوزارة فاستبد بالأمر وتم له ذلك. وعلم الأمراء والأجناد أن ذلك من فعل ابن منقذ فعزموا على قتله فخلا بعباس وقال له كيف تصبر على ما أسمع من قبيح القول قال وما ذلك قال الناس يزعمون أن الظافر يفعل بابنك نصر وكان نصر خصيصا بالظافر وكان ملازما له ليله ونهاره وكان من أجمل الناس صورة وكان الظافر يتهم به فانزعج لذلك وعظم عليه، وقال كيف الحيلة قال تقتله فيذهب عنا العار؛ فذكر الحال لولده نصر فاتفقا على قتله. وقيل إن الظافر أقطع نصر بن عباس قرية قليوب، وهي من أعظم قرى
191 مصر، فدخل إليه مؤيد الدولة بن منقذ وهو عند أبيه عباس قال له نصر قد أقطعني مولانا قرية قليوب فقال له مؤيد الدولة ما هي في مهرك بكثير؛ فعظم عليه وعلى أبيه وأنف من هذه الحال وشرع في قتل الظافر فأمر ابنه فحضر نصر عند الظافر وقال له أشتهي أن تجيء إلى داري لدعوة صنعتها ولا تكثر من الجمع فمشى معه في نفر يسير من الخدم ليلا فلما دخل الدار قتله ومن معه وأفلت خادم صغير اختبأ فلم يروه ودفن القتلى في داره. وأخبر أباه عباسا الخبر فبكر إلى القصر وطلب من الخدم الخصيصين بخدمة الظافر أن يطلبوا له إذنا في الدخول عليه لأمر يريد أن يأخذ رأيه فيه فقالوا إنه ليس في القصر فقال لا بد منه وكان غرضه أن ينفي التهمة عنه بقتله وأن يقتل كل من بالقصر ممن يخاف أن ينازعه فيمن يقيمه في الخلافة فلما ألح عليهم عجزوا عن إحضاره. فبينما هم يطلبونه حائرين دهشين لا يدرون ما الخبر إذ وصل إليهم الخادم الصغير الذي شاهد قتله وقد هرب من دار عباس عند غفلتهم عنه وأخبرهم بقتل الظافر فخرجوا إلى عباس وقالوا له سل ولدك عنه فإنه يعرف أين هو لأنهما خرجا جميعا فلما سمع ذلك منهم قال أريد أن اعترض القصر لئلا يكون قد اغتاله أحد من أهله فاستعرض القصر فقتل أخوين للظافر وهما يوسف وجبريل وأجلس الفائز بنصر الله أبا القاسم عيسى بن الظافر بأمر الله إسماعيل ثاني يوم قتل أبوه وله من العمر خمس سنين فحمله عباس على كتفه وأجلسه على سرير الملك وبايع له الناس وأخذ عباس من القصر من الأموال والجواهر والأعلاق النفيسة ما أراد ولم يترك فيه إلا ما لا خير فيه.
192 ذكر وزارة الملك الصالح بن رزيك كان السبب في وزارة الملك الصالح بن رزيك أن عباسا لما قتل الظافر وأقام الفائز ظن أن الأمر يتم له على ما يريده فكان الحال خلاف ما اعتقده فإن الكلمة اختلفت عليه وثار به الجند والسودان وصار إذا أمر بالأمر لا يلتفت إليه ولا يسمع قوله فأرسل من بالقصر من النساء والخدم إلى الصالح طلائع بن رزيك يستغيثون به وأرسلوا شعورهم على الكتب وكان في منية بني خصيب واليا عليها وليست من الأعمال الجليلة وإنما كانت أقرب الأعمال إليهم وكان فيه شهامة فجمع ليقصد عباسا وسار إليه فلما سمع عباس ذلك خرج من مصر نحو الشام بما معه من الأموال التي لا تحصى كثرة والتحف والأشياء التي لا توجد إلا هناك مما كان أخذه من القصر فلما سار وقع به الفرنج فقتلوه وأخذوا جميع ما معه فتقووا به. وسار الملك الصالح فدخل القاهرة بأعلام سود وثياب سود حزنا على الظافر والشعور التي أرسلت إليه من القصر على رؤوس الرماح وكان هذا من الفأل العجيب فإن الأعلام السواد العباسية دخلتها وأزالت الأعلام العلوية بعد خمس عشرة سنة. ولما دخل الصالح القاهرة خلع عليه خلع الوزارة واستقر في الأمر وأحضر الخادم الذي شاهد قتل الظافر فأراه موضع دفنه فأخرجه ونقله إلى مقابرهم بالقصر. ولما قتل الفرنج عباسا أسروا ابنه فأرسل الملك الصالح إلى الفرنج وبذل لهم مالا وأخذه منهم فسار من الشام مع أصحاب الصالح فلم يكلم أحدا كلمة واحدة إلى أن أرى القاهرة فأنشد:
193 (بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر) وأدخل القصر فكان آخر العهد به فإنه قتل وصلب على باب زويلة واستقصى الصالح البيوت الكبار والأعيان بالديار المصرية فأهلك أهلها وأبعدهم عن ديارهم وأخذ أموالهم فمنهم من هلك ومنهم تفرق في البلاد والحجاز واليمن وغيرها فعل ذلك خوفا منهم أن يثوروا عليه وينازعوه في الوزارة وكان ابن منقذ قد هرب مع عباس فلما قتل هرب إلى الشام. ذكر حصر تكريت ووقعة بكمزا في هذه السنة أرسل الخليفة المقتفي لأمر الله رسولا إلى والي تكريت بسبب من عندهم من المأمورين وهم ابن الوزير وغيره فقبضوا على الرسول فسير الخليفة عسكرا إليهم فخرج أهل تكريت فقاتلوا العسكر ومنعوه من الدخول إلى البلد فسار الخليفة بنفسه مستهل صفر فنزل على البلد فهرب أهله فدخل العسكر فشعثوا ونهبوا بعضه ونصب على القلعة ثلاثة عشرة منجنيقا فسقط من أسوارها برج وبقي الحصر كذلك إلى الخامس والعشرين من ربيع الأول. وأمر الخليفة بالقتال والزحف فاشتد القتال وكثر القتلى ولم يبلغ منها غرضا فرحل عائدا إلى بغداد فدخلها آخر الشهر ثم أمر الوزير عون
194 الدين بن هبيرة بالعودة إلى محاصرتها والاستعداد والاستكثار من الآلات للحصار فسار إليها سابع ربيع الآخر ونازلها وضيق عليها فول الخبر بأن مسعود بلال وصل إلى شهرابان ومعه البقش كون خروترشك وعسكر كثير ونهبوا البلاد فعاد الوزير إلى بغداد. وكان سبب وصول هذا العسكر أنهم حثوا الملك محمد ابن السلطان محمود على قصد العراق فلم يتهيأ له ذلك فسير هذا العسكر وانضاف إليهم خلق كثير من التركمان فخرج الخليفة إليهم فأرسل بلال مسعود إلى تكريت وأخرج منها الملك أرسلان ابن السلطان طغرل بن محمد وكان محبوسا بتكريت وقال إن هذا سلطان نقاتل بين يديه بإزاء الخليفة. والتقى العسكران عند بكمزا وبالقرب من يعقوبا ودام بينهم المناوشة والمحاربة ثمانية عشر يوما ثم إنهم التقوا آخر رجب فاقتتلوا فانهزمت ميمنة عسكر الخليفة وبعض القلب حتى بلغت الهزيمة بغداد ونهبت خزائنه وقتل خازنه فحمل الخليفة بنفسه هو وولي عهده وصاح يا آل هاشم كذب الشيطان وقرأ: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا) وحمل باقي العسكر معه فانهزم مسعود والبقش وجميع من معهم وتمت الهزيمة وظفر الخليفة بهم وغنم عسكره جميع مال التركمان من دواب وغنم وغير ذلك فبيع كل كبش بدانق وكانوا قد حضروا بنسائهم وأولادهم وخركاهاتهم وجميع مالهم فأخذ جميعه ونودي من أخذ من أولاد التركمان ونسائهم شيئا فليرده فردوه فأخذ البقش كون خر الملك أرسلان وانهزم إلى بلد اللحف وقلعة الماهكي.
195 وفي هذه الحرب غدر بنو عوف من عسكر الخليفة ولحقوا بالعجم ومضى هندي الكردي أيضا معهم وكان الملك محمد قد أرسل عسكرا مع خاص بك بن آقسنقر نجدة لكون خر فلما وصلوا إلى الراذان بلغهم خبر الهزيمة فعاد ورجع الخليفة إلى بغداد فدخلها أوائل شعبان فوصل الخبر أن مسعود بلال وترشك قصدا مدينة واسط فنهبوا وخربوا فسير الخليفة الوزير ابن هبيرة في عسكر خاص عشر شعبان فانهزم العجم فلحقهم عسكر الخليفة ونهب منهم شيئا كثيرا وعاد إلى بغداد فلقب الوزير سلطان العراق ملك الجيوش. وسير الخليفة عسكرا إلى بلد اللحف فأخذه وصار في جملته وأما الملك ألب أرسلان بن طغرل فإن البقش أخذه معه إلى بلده فأرسل إليه الملك محمد يقول له ليحضر عنده وأرسلان معه، فمات البقش كون خر في رمضان في هذه السنة وبقي أرسلان مع ابن البقش وحسن الجاندار فحملاه إلى الجبل فخاف السلطان محمد أن يصل أرسلان إلى زوج أمه أبي بكر فيجعله ذريعة إلى قهر البلاد فلم ينفعه حذره واتصل أرسلان بأبي بكر زوج أمه فصار معه وهو أخو البهلوان بن إيلدكز لأمه وطغرل الذي قتله خوارزم شاه ولد أرسلان هذا وكان طغرل آخر السلجوقية.
196 ذكر ملك نور الدين محمود مدينة دمشق في هذه السنة في صفر ملك نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر مدينة دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين أنز بن محمد بن بوري بن طغدكين أتابك. وكان سبب حرصه على ملكها أن الفرنج لما ملكوا في العام الماضي مدينة عسقلان لم يكن لنور الدين طريق إلى إزعاجهم عنها لاعتراض دمشق بينه وبين عسقلان فلما ملك الفرنج عسقلان طمعوا في دمشق حتى أنهم استعرضوا كل من بها من مملوك وجارية من النصارى فمن أراد المقام بها تركوه ومن أراد العود إلى وطنه أخذوه قهرا شاء صاحبه أم أبى. وكان لهم على أهلها كل سنة قطيعة يأخذونها منهم فكان رسلهم يدخلون البلد ويأخذونها منهم فلما رأى نور الدين ذلك خاف أن يملكها الفرنج فلا يبقى حينئذ للمسلمين بالشام مقام فأعمل الحيلة في أخذها حيث علم أنها لا تملك قوة لأن صاحبها متى رأى غلبة ممن يقصده راسل الفرنج واستعان بهم لئلا يملكها من يقوى بها على قتالهم فراسل مجير الدين صاحبها واستماله وواصله بالهدايا وأظهر له المودة حتى وثق إليه فكان نور الدين يقول له في بعض الأوقات إن فلانا قد كاتبني في تسليم دمشق يعني بعض أمراء مجير الدين فكان يبعد الذي قيل عنه ويأخذ أقطاعه فلما لم يبق عنده من الأمراء أحدا قدم أميرا يقال له عطاء بن حفاظ السلمي الخادم وكان شهما شجاعا وفوض إليه أمر دولته فكان نور الدين لا يتمكن معه
197 من أخذ دمشق فقبض عليه مجير الدين وقتله فسار نور الدين حينئذ إلى دمشق وكان قد كاتب من بها من الأحداث واستمالهم فوعدوه بالتسليم إليه فلما حضر نور الدين البلد أرسل مجير الدين إلى الفرنج يبذل لهم الأموال وتسليم قلعة بعلبك إليهم لينجدوه ويرحلوا نور الدين عنه فشرعوا في جمع فارسهم وراجلهم ليرحلوا نور الدين عن البلد فإلى أن اجتمع لهم ما يريدون تسلم نور الدين البلد فعادوا بخفي حنين. أما كيفية تسليم دمشق فإنه لما حصرها ثار الأحداث الذين راسلهم فسلموا إليه البلد من الباب الشرقي وملكه وحصر مجير الدين في القلعة وراسله في تسليمها وبذل له أقطاعا من جملته مدينة حمص فسلمها إليه وسار إلى حمص وأعطاه عوضا عنها بالس فلم يرضها وسار منها إلى العراق وأقام ببغداد وابتنى بها دارا بالقرب من النظامية وتوفي بها. ذكر قصد الإسماعيلية في هذه السنة في ربيع الآخر اجتمع جمع كثير من الإسماعيلية من قهستان بلغت عدتهم سبعة آلاف رجل ما بين فارس وراجل وساروا يريدون خراسان لاشتغال عساكرهم بالغز وقصدوا أعمال خواف وما يجاورها فلقيهم الأمير فرخشاه بن محمود الكاساني في جماعة من حشمه وأصحابه فعلم أن لا طاقة له بهم وسار عنهم وأرسل إلى الأمير
198 محمد بن أنز وهو من أكابر امراء خراسان وأشجعهم يعرفه الحال وطلب منه المسير إليهم بعسكره ومن قدر عليه من الأمراء ليجتمعوا عليهم ويقاتلوهم. فسار محمد بن أنز في جماعة من الأمراء وكثير من العسكر واجتمعوا هم وفرخشاه ودافعوا الإسماعيلية وقاتلوهم وطال الحرب بينهم ثم نصر الله المسلمين وانهزم الإسماعيلية وكثر القتل فيهم وأخذهم السيف من كل مكان وهلك أعيانهم وساداتهم بعضهم قتل وبعضهم أسر ولم يسلم منهم إلا القليل الشريد وخلت قلاعهم وحصونهم من حام ومانع فلولا اشتغال العساكر بالغز لكانوا ملكوها بغير تعب ولا مشقة وأراحوا المسلمين منهم ولكن لله أمر وهو بالغه. ذكر ملك نور الدين تل باشر في هذه السنة أو التي بعدها ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة تل باشر وهي شمالي حلب من أمنع القلاع. وسبب ملكها أن الفرنج لما رأوا ملك نور الدين دمشق خافوه وعلموا أنه يقوى عليهم ولا يقدرون على الانتصاف منه لما كانوا يرون منه قبل ملكها فراسله من بهذه القلعة من الفرنج وبذلوا له تسليمها فسير إليهم الأمير حسان المنبجي وهو من أكابر أمرائه وكان إقطاعه ذلك الوقت مدينة منبج وهي تقارب تل باشر وأمره أن يسير إليها وتسلمها منهم وحصنها ورفع إليها من الذخائر ما يكفيها سنين كثيرة.
199 ذكر عدة حوادث في هذه السنة مات أستاذ دار أبو الفتوح عبد الله بن هبة الله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء وكان له صدقات ومعروف كثير ومجالسه للفقراء ولما مات ولي الخلافة ابنه الأكبر عضد الدين أبو الفرج محمد بن عبد الله ما كان إلى أبيه. وتوفي عبد الرحمن بن عبد الصمد بن أحمد بن علي أبو القاسم الأكاف النيسابوري كان زاهدا عابدا فقيها مناظرا وكان السلطان سنجر يزوره ويتبرك بدعائه وكان ربما حجبه فلا يمكنه من الدخول إليه. وفيها توفي ثقة الدولة أبو الحسن علي بن محمد الدويني وكان يخدم أبا نصر محمد بن الفرج الأبري وزوجة ابنته شهدة الكاتبة فقربه المقتفي لأمر الله ووكله فبنى مدرسة بباب الأزج.
200 550 ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائة في هذه السنة سار الخليفة المقتفي لأمر الله إلى دقوقا فحصرها وقاتل من بها ثم رحل عنها لأنه بلغه أن عسكر الموصل قد تجهزوا للمسير لمنعه عنها فرحل ولم يبلغ غرضا. وفيها استولى شملة التركماني على خوزستان وصاحبه حينئذ ملكشاه محمود ابن محمد فسير الخليفة إليه عسكرا فلقيهم شملة وأطلقهم وأرسل يعتذر فقبل عذره وسار إلى خوزستان فملكها وأزاح عنها ملكشاه بن السلطان محمود. وفيها سار الغزالي نيسابور فملكوها بالسيف ودخلوها وقتلوا محمد بن يحيى الفقيه الشافعي ونحوا من ثلاثين ألفا وكان السلطان سنجر له اسم السلطنة وهو معتقل لا يلتفت إليه حتى أنه أراد كثيرا من الأيام ان يركب فلم يكن له من يحمل سلاحه فشده على وسطه وركب وكان إذا قدم إليه طعام يدخر منه ما يأكله وقتا آخر خوفا من انقطاعه عنه لتقصيرهم في واجبه ولأنهم ليس هذا مما يعرفونه. وفيها وثب قسوس الأرمن بمدينة آني فأخذوها من الأمير شداد
201 وسلموها إلى أخيه فضلون. وفيها في ذي الحجة قتل الأتراك القارغلية طمغاج خان بن محمد ما وراء النهر وألقوه في الصحراء ونسبوه إلى أشياء قبيحة وكان مدة ملكه مستضعفا غير مهيب. وفيها توفي أبو الفضل محمد بن ناصر بن علي البغدادي الحافظ الأديب وكان مشهورا بالفضل وكان شافعيا وصار حنبليا مغاليا ومولده سنة سبع وستين وأربعمائة في شعبان وكان موته أيضا في شعبان. وفيها كان بالعراق وما جاوره من البلاد زلزلة كبيرة في ذي الحجة. وفيها توفي يحيى الغساني النحوي الموصلي وكان فضلا خيرا وتاج الدين أبو طاهر يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري قاضي جزيرة ابن عمر.
202 551 ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ذكر عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج بصقلية وما كان منهم قد ذكرنا سنة ثمان وأربعين وخمسمائة موت رجار ملك صقلية وملك ولده غليالم وأنه كان فاسد التدبير فخرج عن حكمه عدة من حصون صقلية. فلما كان هذه السنة قوي طمع الناس فيه فخرج من طاعته جزيرة جربة وجزيرة قرقنة وأظهروا الخلاف عليه وخالف عليه أهل إفريقية فأول من أظهر الخلاف عليه عمر بن أبي الحسين الفريابي بمدينة سفاقس وكان رجار قد استعمل عليها لما فتحها أباه أبا الحسين وكان من العلماء الصالحين فأظهر العجز والضعف وقال استعمل ولدي، فاستعمله وأخذ أباه رهينة إلى صقلية. فلما أراد المسير إليها قال لولده عمر إنني كبير السن وقد قارب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في الخلاف على العدو فافعل ولا تراقبهم ولا تنظر في أنني أقتل واحسب أني قدمت، فلما وجد هذه الفرصة دعا أهل المدينة إلى الخلاف وقال يطلع جماعة منكم إلى السور وجماعة يقصدون مساكن الفرنج والنصارى جميعهم ويقتلونهم كلهم. فقالوا له: إن سيدنا
203 الشيخ والدك نخاف عليه قال هو أمرني بهذا وإذا قتل بالشيخ ألوف من الأعداء فما مات؛ فلم تطلع الشمس حتى قتلوا الفرنج عن آخرهم وكان ذلك أول سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ثم اتبعه يحيى بن مطروح بطرابلس وبعدهما محمد بن رشيد بقابس وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها وخرج جميع إفريقية عن حكم الفرنج ما عدا المهدية وسوسة. وأرسل عمر بن [أبي] الحسين إلى زويلة وهي مدينة بينها وبين المهدية نحو ميدان يحرضهم على الوثوب على من معهم فيها من النصارى فعلوا ذلك وقدم عرب البلاد إلى زويلة فأعانوا أهلها على من بالمهدية من الفرنج وقطعوا الميرة عن المهدية. فلما اتصل الخبر بغليالم ملك صقلية أحضر أبا الحسين وعرفه ما عمل ابنه فأمره أن يكتب إليه ينهاه عن ذلك ويأمره بالعود إلى طاعته ويخوفه عاقبة فعله فقال من قدم على هذا يرجع بكتاب فأرسل ملك صقلية إليه رسولا يتهدده ويأمره بترك ما ارتكبه فلم يمكنه عمر من دخول البلد يومه ذلك فلما كان الغد خرج أهل البلد جميعهم ومعهم جنازة والرسول يشاهدهم فدفنوها وعادوا وأرسل عمر إلى الرسول يقول له هذا أبي قد دفنته وقد جلست للعزاء به فاصنعوا به ما أردتم. فعاد الرسول يقول له هذا أبي قد دفنته وقد جلست للعزاء به فاصنعوا به ما أردتم. فعاد الرسول إلى غليالم فأخبره بما صنع عمر بن أبي الحسين فأخذ أباه وصلبه فلم يزل يذكر الله تعالى حتى مات.
204 وأما أهل زويلة فإنهم كثر جمعهم بالعرب وأهل سفاقس وغيرهم فحصروا المهدية وضيقوا عليها وكانت الأقوات بالمهدية قليلة فسير إليهم صاحب صقلية عشرين شينيا فيها الرجال والطعام والسلاح فدخلوا البلد وأرسلوا إلى العرب وبذلوا لهم مالا لينهزموا وخرجوا من الغد فاقتتلوا هم وأهل زويلة فانهزمت العرب وبقي أهل زويلة وأهل سفاقس وركبوا في البحر فنجوا وبقي أهل زويلة فحمل عليهم الفرنج فانهزموا إلى زويلة فوجدوا أبوابها مغلقة فقاتلوا تحت السور وصبروا حتى قتل أكثرهم ولم ينج إلا القليل فتفرقوا ومضى بعضهم إلى عبد المؤمن. فلما قتلوا هرب من سلم من الحرم والصبيان والشيوخ في البر ولم يعرجوا على شيء من أموالهم ودخل الفرنج زويلة فقتلوا من وجدوا فيها من النساء والأطفال ونهبوا الأموال واستقر الفرنج بالمهدية إلى أن أخذها منهم عبد المؤمن على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر القبض على سليمان شاه وحبسه بالموصل في هذه السنة قبض زين الدين على كوجك نائب قطب الدين مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل على الملك سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملكشاه وكان سليمان شاه عند عمه السلطان سنجر قديما وقد جعله ولي عهده وخطب له على منابر خراسان فلما جرى لسنجر مع الغز ما ذكرناه وتقدم على عسكر خراسان وضعفوا عن الغز، مضى إلى
205 خوارزم شاه فزوجه ابنة أخيه أقسيس ثم بلغه عنه ما كرهه فأبعده فجاء إلى أصفهان فمنعه شحنتها من الدخول فمضى إلى قاشان فسير إليه محمد بن شاه ابن أخيه محمود بن محمد عسكرا أبعدوه عنها فسار إلى خوزستان فمنعه ملكشاه عنها فقصد اللحف ونزل البندنيجين وأرسل رسولا إلى الخليفة المقتفي يعلمه بوصوله وترددت الرسل بينهما إلى أن استقر الأمر على أن يرسل زوجته تكون رهينة فأرسلها إلى بغداد ومعها كثير من الجواري والأتباع وقال قد أرسلت هؤلاء رهائن فإن أذن أمير المؤمنين في دخول بغداد فعلت وإلا رجعت. فأكرم الخليفة زوجته ومن معها وأذن له في القدوم إليه فقدم ومعه عسكر خفيف يبلغون ثلاثمائة رجل فخرج ولد الوزير ابن هبيرة لتلقيه ومعه قاضي القضاة والنقيبان ولم يترجل له ابن الوزير ودخل بغداد وعلى رأسه الشمسة وخلع عليه الخليفة وأقام ببغداد إلى أن دخل المحرم من سنة إحدى وخمسين وخمسمائة فأحضر فيه سليمان شاه إلى دار الخليفة وأحضر قاضي القضاة والشهود وأعيان العباسيين وحلف للخليفة على النصح والموافقة ولزوم الطاعة وأنه لا يتعرض إلى العراق بحال. فلما حلف خطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه غياث الدنيا والدين وباقي ألقابه وخلع عليه خلع السلطنة وسير معه من [عسكر] بغداد ثلاثة آلاف فارس وجعل الأمير قويدان صاحب الحلة أمير حاجب معه وسار نحو بلاد الجبل في ربيع الأول وسار الخليفة إلى حلوان وأرسل إلى ملكشاه ابن السلطان محمود أخي السلطان محمد صاحب همذان وغيرها يدعوه إلى موافقته فقدم في ألفي فارس فحلف كل منها لصاحبه وجعل ملكشاه ولي عهد
206 سليمان شاه وقواهما الخليفة بالمال والأسلحة وغيرها فساروا واجتمعوا هم وإيلدكز فصاروا في جمع كبير. فلما سمع السلطان محمد خبرهم أرسل إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل ونائبا زين الدين يطلب منهما المساعدة ويبذل لهما البذول الكثيرة إن ظفر فأجاباه إلى ذلك ووافقا فقويت نفسه وسار إلى لقاء سليمان شاه ومن اجتمع معه من عساكره ووقعت الحرب بينهم في جمادى الأولى واشتد القتال بين الفريقين وانهزم سليمان شاه ومن معه وتشتت العسكر ووصل من عسكر الخليفة وكانوا ثلاثة آلاف رجل نحو من خمسين رجلا ولم يقتل منهم أحد، وإنما أخذت خيولهم وأموالهم وتشتتوا وجاؤوا متفرقين. وفارق سليمان شاه إيلدكز وسار نحو بغداد على شهرزور فخرج إليه زين الدين علي في جماعة من عسكر الموصل وكان بشهرزور الأمير بزان مقطعا لها من جهة زين الدين وسارا فوقفا على طريق سليمان شاه فأخذاه أسيرا وحمله زين الدين إلى قلعة الموصل وحبسه بها مكرما ومحترما إلى أن كان من أمره ما نذكره سنة خمس وخمسين [خمسمائة] إن شاء الله؛ فلما قبض سليمان شاه أرسل زين الدين إلى السلطان محمود يعرفه ذلك ووعده المعاضدة على كل ما يريده منه.
207 ذكر حصر نور الدين قلعة حارم في هذه السنة سار نور الدين محمود بن زنكي إلى قلعة حارم وهي للفرنج ثم لبيمند صاحب أنطاكية وهي تقارب أنطاكية من شرقيها وحصرها وضيق على أهلها وهي قلعة منيعة في نحور المسلمين فاجتمعت الفرنج من قرب منها ومن بعد وساروا نحوه ليرحلوا عنها. وكان بالحصن شيطان من شياطينهم يعرفون عقله ويرجعون إلى رأيه فأرسل إليهم يقول إننا نقدر على حفظ القلعة وليس بنا ضعف فلا تخاطروا أنتم باللقاء فإنه إن هزمكم أخذها وغيرها والرأي مطاولته فأرسلوا إليه وصالحوه على أن يعطوه نصف أعمال حارم فاصطلحوا على ذلك ورحل عنهم فقال بعض الشعراء: (ألبست دين محمد يا نوره * عزا له فوق السها آساد) (ما زلت تشمله بمياد القنا * حتى تثقف عوده المياد) (لم يبق مذ أرهفت عزمك دونه * عدد يراع به ولا استعداد) (إن المنابر لو تطيق تكلما * حمدتك عن خطبائها الأعواد) (ملق بأطراف القريحة كلكلا * طرفاه ضرب صادق وجلاد) (حاموا فلما عاينوا خوض الردى * حاموا فرائس كيدهم أو كادوا) (ورأى البرنس وقد تبرنس ذلة * حزما لحارم والمصاد مصاد)
208 (من منكر أن ينسف الليل الربا * وأبوه ذاك العارض المداد) (أو أن يعيد الشمس كاسفة السنا * نار لها ذاك الشهاب زناد) (لا ينفع الآباء ما سمكوا من * العلياء حتى يرفع الأولاد) وهي طويلة. ذكر وفاة خوارزم شاه أتسز وغيره من الملوك في هذه السنة تاسع جمادى الآخرة توفي خوارزم شاه أتسز بن محمد بن أنوشتكين وكان قد أصابه فالج فتعالج منه فلم يبرأ فاستعمل أدوية شديدة الحرارة بغير أمر الأطباء فاشتد مرضه وضعفت قوته فتوفي وكان يقول عند الموت: (ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه). وكانت ولادته في رجب سنة تسعين وأربعمائة. ولما توفي ملك بعده ابنه أرسلان فقتل نفرا من أعمامه وسمل أخا له فمات بعد ثلاثة أيام وقيل بل قتل نفسه. وأرسل إلى السلطان سنجر وكان قد هرب من أسر الغز على ما نذكره ببذل الطاعة والانقياد فكتب له منشورا بولاية خوارزم وسير الخلع له في رمضان فبقي في ولايته ساكنا آمنا. وكان أتسز حسن السيرة كافا عن أموال رعيته منصفا لهم محبوبا لهم مؤثرا للاحسان والخير إليهم وكان الرعية معه بين أمن غامر وعدل شامل. وفي سابع عشر الشهر المذكور توفي أبو الفوارس بن محمد بن أرسلان
209 شاه ملك كرمان وملك بعده ابنه سلجوقشاه. وفيها توفي الملك مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان قتلمش صاحب قونية وما يجاورها من بلاد الروم وملك بعده ابنه قلج أرسلان. ذكر هرب السلطان سنجر من الغز في هذه السنة في رمضان هرب السلطان سنجر بن ملكشاه من أسر الغز وجماعة من الأمراء الذين معه وسار إلى قلعة ترمذ واستظهر بها على الغز وكان خوارزم شاه أتسز بن محمد بن أنوشتكين والخاقان محمود بن محمد يقصدان الغز فيقاتلانهم فيمن معهما فكانت الحرب بينهم سجالا وغلب كل واحد من الغز والخراسانيين على ناحية من خراسان فهو يأكل دخلها لا رأس لهم يجمعهم. وسار السلطان سنجر من ترمذ إلى جيحون يريد العبور إلى خراسان فاتفق أن مقدم الأتراك القارغلية واسمه علي بك توفي وكان أشد شيء على السلطان سنجر وعلى غيره وكذلك غيره كثير الشر والفساد وإثارة الفتن فلما توفي أقبلت القارغلية على السلطان سنجر وكذلك غيرهم من سائر الأمم من أقاصي البلاد وأدانيها وعاد إلى دار ملكه بمرو في رمضان فكانت مدة أسره مع الغز من سادس جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين إلى رمضان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
210 ذكر البيعة لمحمد بن عبد المؤمن بولاية عهد أبيه في هذه السنة أمر عبد المؤمن بالبيعة لولده محمد بولاية عهده وكان الشرط والقاعدة بين عبد المؤمن وبين عمه أن يلي الأمر بعد عبد المؤمن فلما تمكن عبد المؤمن من الملك وكثر أولاده أحب أن ينقل الملك إليهم فأحضر أمراء العرب من هلال وزغب وعدي وغيرهم إليه ووصلهم وأحسن إليهم ووضع عليهم من يقول لهم ليطلبوا من عبد المؤمن ويقولوا له نريد أن تجعل لنا ولي عهد من ولدك يرجع الناس إليه بعدك ففعلوا ذلك فلم يجبهم إكراما لعمر لعلو منزلته في الموحدين وقال لهم إن الأمر لأبي حفص عمر فلما علم عمر ذلك خاف على نفسه فحضر عند عبد المؤمن وأجاب على خلع نفسه فحينئذ بويع لمحمد بولاية العهد وكتب إلى جميع بلاده بذلك وخطب له فيها جميعها فأخرج عبد المؤمن في ذلك اليوم من الأموال شيئا كثيرا. ذكر استعمال عبد المؤمن أولاده على البلاد في هذه السنة استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد فاستعمل ولده أبا محمد عبد الله على بجاية وأعمالها واستعمل ابنه أبا الحسن عليا على فاس وأعمالها وولى ابنه أبا سعيد سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة وكذلك غيرهم. ولقد سلك في استعمالهم طريقا عجيبا وذلك انه كان قد استعمل على البلاد شيوخ الموحدين المشهورين من أصحاب المهدي محمد بن تومرت،
211 وكان يتعذر عليه أن يعزلهم فأخذ أولادهم وتركهم عنده يشتغلون في العلوم فلما مهروا فيها وصاروا يقتدى بهم قال لآبائهم إني أريد أن تكون عندي استعين بكم على ما أنا بصدده ويكون أولادكم في الأعمال لأنهم علماء فقهاء فأجابوا إلى ذلك وهم فرحون مسرورون فولى أولادهم ثم وضع عليهم بعضهم ممن يعتمد عليه فقال إني أرى أمرا عظيما قد فعلتموه فارقتم فيه الحزم والأدب فقالوا وما هو فقال أولادكم في الأعمال وأولاد أمير المؤمنين ليس لهم منها شيء مع ما فيهم من العلم وحسن السياسة وإني أخاف أن ينظر في هذا فتسقط منزلتكم عنده فعلموا صدق القائل فحضروا عند عبد المؤمن وقالوا نحب أن تستعمل على البلاد السادة أولادك فقال لا أفعل فلم يزالوا حتى فعل ذلك لهم بسؤالهم. ذكر حصر السلطان محمد بغداد في هذه السنة في ذي الحجة حصر السلطان محمد بغداد، وسبب ذلك أن السلطان محمد بن محمود كان قد أرسل إلى الخليفة يطلب أن يخطب له ببغداد والعراق فامتنع الخليفة من إجابته إلى ذلك فسار من همذان في عساكر كثيرة نحو العراق ووعده أتابك قطب الدين صاحب الموصل ونائبه زين الدين علي بإرسال العساكر إليه نجدة له على حصر بغداد فقدم العراق في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين [خمسمائة]، واضطرب الناس ببغداد وأرسل الخليفة يجمع العساكر فأقبل خطلبرس في عسكر واسط وعصى
212 رغش، صاحب البصرة، وأخذ واسط، ورحل مهلهل إلى الحلة فأخذها واهتم الخليفة وعون الدين ين هبيرة بأمر الحصار وجمع جميع السفن وقطع الجسر وجعل الجميع تحت التاج ونودي منتصف المحرم سنة اثنتين وخمسين أن لا يقيم أحد بالجانب الغربي فأجفل الناس وأهل السواد ونقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة وخرب الخليفة ونهب أصحابه ما وجدوا وخرب أصحاب محمد شاه نهر القلائين والتوثة وشارع ابن رزق الله وباب الميدان وقطفتا. وأما أهل الكرخ وأهل باب البصرة فإنهم خرجوا إلى عسكر محمد وكسبوا معهم أموالا كثيرة. وعبر السلطان محمد فوق حراقة إلى الجانب الغربي ونهبت أونا واتصل به زين الدين هناك وساروا فنول محمد شاه عند الرملة وفرق الخليفة السلاح على الجند والعامة ونصب المنجنيقات والعرادات. فلما كان في العشرين من المحرم ركب عسكر محمد شاه وزين الدين علي ووقفوا عند الرقة ورموا بالنشاب إلى ناحية التاج فعبر إليهم عامة بغداد فقاتلوهم ورموهم بالنفط وغيره ثم جرى بينهم عدة حروب. وفي ثالث صفر عادوا القتال واشتدت الحرب وعبر كثيير من أهل بغداد سباحة وفي السفن فقتلوا وكان يوما مشهودا. ولم تزل الحرب بينهم كل وقت وعمل الجسر على دجلة وعبر عليه أكثر العسكر إلى الجانب الشرقي وصار القتال في الجانبين وبقي زين الدين
213 في الجانب الغربي، وأمر الخليفة فنودي كل من جرح فله خمسة دنانير فكان كلما جرح إنسان يحضر عند الوزير فيعطيه خمسة دنانير فاتفق أن بعض العامة جرح جرحا ليس بكبير فحضر إلى الوزير يطلب الدنانير فقال له الوزير ليس هذا الجرح بشيء فعاود القتال فضرب فانشقت جوفه وخرج شيء من شحمها فحمل إلى الوزير فلما رآه قال يا مولانا الوزير أيرضيك هذا فضحك منه وأضعف له ورتب له من يعالج جراحته إلى أن برئ. وتعذرت الأقوات في العسكر إلا أن اللحم والفواكه والخضر كثيرة وكانت الغلات ببغداد كثيرة لأن الوزير كان يفرقها في الجند عوض الدنانير يبيعونها فلم تزل الأسعار عندهم رخيصة إلا أن اللحم والفاكهة والخضر قليل عندهم. واشتد الحصار على أهل بغداد لانقطاع المواد عنهم وعدم المعيشة لأهلها وكان زين الدين وعسكر الموصل غير مجدين في القتال لأجل الخليفة والمسلمين وقيل لأن نور الدين محمود ابن زنكي وهو أخو قطب الدين صاحب الموصل الأكبر أرسل إلى زين الدين يلومه على قتال الخليفة ففتر وأقصر. ولم تزل الحرب في أكثر الأيام وعمل السلطان محمد شاه أربعمائة سلم ليصعد الرجال فيها إلى السور وزحفوا وقاتلوا ففتح أهل بغداد أبواب البلد وقالوا أي حاجة بكم إلى السلالم هذه الأبواب مفتحة فأدخلوا منها فلم يقدروا على أن يقربوها. فبينما الأمر على ذلك إذ وصل الخبر إلى السلطان محمد أن أخاه ملكشاه وإيلدكز صاحب بلاد أران ومعه الملك أرسلان ابن الملك طغرل بن محمد وهو ابن امرأة إيلدكز قد دخلوا همذان واستولوا عليها وأخذوا أهل الأمراء الذين مع محمد شاه وأموالهم،
214 فلما سمع محمد شاه ذلك جد في القتال لعله يبلغ مناه فلم يقدر على شيء ورحل عتها نحو همذان في الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. وعاد زين الدين إلى الموصل وتفرق ذلك الجمع على عزم العود إذ فرغ محمد شاه من إصلاح بلاده فلم يعودوا يجتمعون وفي كثرة حروبهم لم يقتل بينهم إلا نفر يسير وإنما الجراح كان كثيرة، ولما ساروا نهبوا يعقوبا وغيرها من طريق خراسان. ولما رحل العسكر عن بغداد أصاب أهلها أمراض شديدة حادة وموت كثير للشدة التي مرت بهم؛ وأما ملكشاه وإيلدكز ومن معهما فإنهم ساروا من همذان إلى الري فخرج إليهم إينانج شحنتها وقاتلهم فهزموه فأرسل الملك محمد الأمير سقمس بن قيماز الحرامي في عسكر نجدة لإينانج فسار سقمس وكان إيلدكز وملكشاه ومن معهما قد عادوا من الري يريدون محاصرة الخليفة فلقيهم سقمس وقاتلهم فهزموه ونهبوا عسكره وأثقالهم فاحتاج الملك محمد إلى الإسراع فسار فلما بلغ حلوان بلغه أن إيلدكز بالدينور وأتاه رسول من نائبه اينانج أنه دخل همذان وأعاد الخطبة له فيها فقويت نفسه وهرب شملة صاحب خوزستان إلى بلاده وتفرق أكثر جمع إيلدكز وملكشاه وبقيا في خمسة آلاف فارس فعادا إلى بلادهما شبه الهارب. ولما دخل محمد شاه همذان أراد التجهيز لقصد بلاد إيلدكز فابتدأ به مرض السل وبقي به إلى أن مات.
215 ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الأول أطلق أبو الوليد البدر الوزير بن هبيرة من حبس تكريت ولما قدم بغداد خرج أخوه والموكب يتلقونه وكان يوما مشهودا وكان مقامه في الحبس يزيد على ثلاث سنين. وفيها احترقت بغداد في ربيع الآخرة وكثر الحريق بها واحترق درب فراشا ودرب الدواب ودرب اللبان وخرابة بن حربة والظفرية والخاتونية ودار الخلافة وباب الأزج وسوق السلطان وغير ذلك. وفي في شوال قصد الإسماعيلية طبس بخراسان فأوقعوا بها وقعة عظيمة وأسروا جماعة من أعيان دولة السلطان ونهبوا أولادهم ودوابهم وقتلوا فيهم. وفيها في ذي القعدة توفي شيخ الإسلام أبو المعالي الحسن بن عبيد الله بن أحمد بن محمد المعروف بابن الرزاز بنيسابور وهو من أعيان الأفاضل. وفي هذه السنة توفي مريد الدين بن بيسان رئيس آمد والحاكم فيها على صاحبها وولي ما كان إليه بعده ابنه كمال الدين أبو القاسم. وتوفي أبو الحسن علي بن الحسين الغزنوي الواعظ المشهور ببغداد وكان قدم إليها سنة ست عشرة وخمسمائة وكان له قبول عظيم عند السلاطين والعامة والخلفاء إلا أن المقتفي أعرض عنه بعد موت السلطان مسعود لإقبال
216 السلطان عليه وكان موته في المحرم. وتوفي أبو الحسن بن الخل الفقيه الشافعي شيخ الشافعية ببغداد وكان يؤم بالخليفة في الصلاة. وتوفي ابن الآمدي الشاعر وهو من أهل النيل من أعيان الشعراء في طبقة الغزي والأرجاني وكان عمره قد زاد على تسعين سنة. وفيها قتل مظفر بن حماد بن أبي الخير صاحب البطيحة قتله نفيس بن فضل ابن أبي الخير في الحمام وولي بعده. وفيها توفي الوأواء الحلبي الشاعر المشهور. وفيها في رمضان توفي الحكيم أبو جعفر بن محمد البخاري بأسفرايين وكان عالما بعلوم الحكماء الأوائل.
217 552 ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة ذكر الزلازل بالشام في هذه السنة في رجب كان بالشام زلازل قوية خربت كثيرا من البلاد وهلك فيها ما لا يحصى كثرة فخرب منها بالمرة حماه وشيزر وكفر طاب والمعرة وأفامية وحمص وحصن الأكراد وعرقة واللاذقية وطرابلس وأنطاكية. وأما ما لم يكثر فيه الخراب ولكن خرب أكثره في جميع الشام وتهدمت أسوار البلاد والقلاع فقام نور الدين محمود في ذلك المقام المرضي وخاف على بلاد الإسلام من الفرنج حيث خربت الأسوار فجمع عساكره وأقام بأطراف البلاد فلم يزل كذلك حتى فرغ من أسوار البلاد. وأما كثرة القتلى فيكفي أن معلما كان بالمدينة وهي مدينة حماه ذكر عنه أنه فارق المكتب لمهم عرض له فجاءت الزلزلة فخربت البلد وسقط المكتب على الصبيان جميعهم قال المعلم فلم يأت أحد يسأل عن صبي كان له.
218 ذكر ملك نور الدين حصن شيزر نبتدئ بذكر هذا الحصن ولمن كان قبل أن يملكه نور الدين محمود زنكي فنقول هذا الحصن قريب من حماه بينهما نصف نهار وهو على جبل عال منيع لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة وكان لآل منقذ الكنانيين يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس إلى أن انتهى الأمر إلى أبي المرهف نصر بن علي بن نصر بن منقذ بعد أبيه أبي الحسن علي وكان بيده إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وكان شجاعا كريما فلما حضره الموت استخلف أخاه أبا سلامة مرشد بن علي فقال والله لا وليته ولأخرجن من الدنيا كما دخلتها. وكان عالما بالقرآن وهو والد مؤيد الدولة أسامة بن منقذ فولاها أخاه الأصغر سلطان بن علي واصطحبا أجمل صحبة مدة من الزمان فأولد مرشد عدة أولاد ذكور وكبروا وسادوا منهم عز الدولة أبو الحسن علي ومؤيد الدولة أسامة وغيرهما ولم يولد لأخيه سلطان ولد ذكر إلى أن كبر فجاءه أولاد ذكور فحسد أخاه على ذلك وخاف أولاد أخيه على أولاده وسعى بينهم المفسدون فغيروا كلا منهما على أخيه فكتب سلطان إلى أخيه مرشد أبيات شعر يعاتبه على أشياء بلغته عنه فأجابه بشعر في معناه رأيت إثبات ما تمس الحاجة إليه منه وهي هذه الأبيات: (ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا * وفي الصد والهجران إلا تناهيا) (شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها * فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا) (وطاوعت الواشين في وطالما * عصيت عذولا في هواها وواشيا)
219 (ومال بها تيه الجمال إلى القلى * وهيهات أن أمسى لها الدهر قاليا) (ولا ناسيا ما أودعت من عهودها * وإن هي أبدت جفوة وتناسيا) (ولما أتاني من قريضك جوهر * جمعت المعالي فيه لي والمعانيا) (وكنت هجرت الشعر حينا لأنه * تولى برغمي حين ولى شبابيا) (وأين من السنين لفظ مفرق * إذا رمت أدنى القول منه عصانيا) (وقلت أخي يرعى بني وأسرتي * ويحفظ عهدي فيهم وذماميا) (ويجزيهم ما لم أكلفه فعله * لنفسي فقد أعددته من تراثيا) (فمالك لما أن حنى الدهر صعدتي * وثلم مني صارما كان ماضيا) (تنكرت حتى صار برك قسوة * وقربك مني جفوة وتناسيا) (وأصبحت صفر الكف مما رجوته * أرى اليأس قد عفى سبيل رجائيا) (على أنني ما حلت عما عهدته * ولا غيرت هذي السنون وداديا) (فلا غرو عند الحادثات فإنني * أراك يميني والأنام شماليا) (تحل بها عذراء لو قرنت بها * نجوم السماء لم تعد دراريا) (تحلت بدر من صفاتك زانها * كما زان منظوم اللآلي الغوانيا) (وعش بانيا للمجد ما كان واهيا * مشيدا من الإحسان ما كان هاويا) وكان الأمر بينهما فيه تماسك فلما توفي مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة قلب أخوه لأولاده ظهر المجن وبادأهم بما يسوءهم وأخرجهم من شيزر فتفرقوا وقصد أكثرهم نور الدين وشكوا إليه ما لقوا من عمهم، فغاظه ذلك ولم يمكنه قصده والأخذ بثأرهم وإعادتهم إلى وطنهم لاشتغاله بجهاد الفرنج.
220 ولخوفه أن يسلم شيزر إلى الفرنج ثم توفي سلطان وولي بعده أولاده فبلغ نور الدين عنهم مراسلة الفرنج فاشتد حنقه عليهم وانتظر فرصة تمكنه فلما خربت القلعة هذه السنة بما ذكرناه من الزلزلة لم ينج من بني منقذ الذين بها أحد. وسبب هلاكهم أجمعين أن صاحبها منهم كان قد ختن ولدا له وعمل دعوة للناس وأحضر جميع بني منقذ عنده في داره وكان له فرس يحبه ولا يكاد يفارقه وإذا كان في مجلس أقيم الفرس على بابه وكان المهر في ذلك اليوم على باب الدار فجاءت الزلزلة فقام الناس ليخرجوا من الدار رمح الفرس رجلا كان أولهم فقتله وامتنع الناس من الخروج فسقطت الدار عليهم كلهم وخربت القلعة وسقط سورها وكل بناء فيها ولم ينج منها إلا الشريد فبادر إليها بعض أمرائه وكان بالقرب منها فصعد إليها وتسلمها نور الدين منه فملكها وعمر أسوارها ودورها وأعادها جديدة. ذكر وفاة الدبيسي صاحب جزيرة ابن عمر واستيلاء قطب الدين مودود على الجزيرة كانت الجزيرة لأتابك زنكي فلما قتل سنة إحدى وأربعين [خمسمائة] أقطعها ابنه سيف الدين غازي للأمير أبي بكر الدبيسي وكان من أكابر أمراء والده فبقيت بيده إلى الآن وتمكن منها وصار بحيث تعذر على قطب الدين أخذها منه فمات في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين ولم يخلف ولدا فاستولى عليها مملوك له اسمه غلبك وأطاعه جندها فحصرهم مودود ثلاثة أشهر ثم تسلمها من غلبك في صفر من سنة ثلاث وخمسين وأعطاه عوضها إقطاعا كثيرا.
221 ذكر وفاة السلطان سنجر في هذه السنة في ربيع الأول توفي السلطان سنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان أبو الحرث أصابه قولنج ثم بعده إسهال فمات منه ومولده بسنجار من ديار الجزيرة في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة وسكن خراسان واستوطن مدينة مرو ودخل بغداد مع أخيه السلطان محمد واجتمع معه بالخليفة المستظهر بالله فعهد إلى محمد بالسلطنة وجعل سنجر ولي عهده. فلما مات محمد خوطب لسنجر بالسلطان واستقام أمره وأطاعه السلاطين وخطب له على أكثر منابر الإسلام بالسلطنة نحو أربعين سنة وكان قبلها يخاطب بالملك عشرين سنة ولم يزل أمره عاليا وجده متراقيا إلى أن أسره الغز على ما ذكرناه ثم إنه خلص بعد مدة وجمع إليه أطرافه وكاد يعود إليه ملكه فأدركه أجله وكان مهيبا كريما رفيقا بالرعية، وكانت البلاد في زمانه آمنة. ولما مات دفن في قبة بناها لنفسه سماها دار الآخرة ولما وصل خبر موته إلى بغداد قطعت خطبته ولم يجلس له في الديوان للعزاء. ولما حضر السلطان سنجر الموت استخلف على خراسان الملك محمود بن محمد بن بغراخان وهو ابن أخت السلطان سنجر فأقام بها خائفا من الغز فقصد جرجان يستظهر بها وعاد الغز إلى مرو وخراسان واجتمع طائفة
222 من عساكر خراسان على أي أبه المؤيد فاستولى على طرف من خراسان وبقيت خراسان على هذا الاختلال إلى سنة أربع وخمسين [خمسمائة]. وراسل الغز الملك محمودا على ما نذكره سنة ثلاث وخمسين وسألوه أن يحضر عندهم ليملكوه عليهم فلم يثق إليهم وخافهم على نفسه فأرسل ابنه إليهم فأطاعوه مديدة ثم لحق بهم الملك محمود على ما نذكره سنة ثلاث وخمسين [خمسمائة]. ذكر ملك المسلمين مدينة المرية وانقراض دولة الملثمين بالأندلس في هذه السنة انقرضت دولة الملثمين بالأندلس وملك أصحاب عبد المؤمن مدينة المرية من الفرنج. وسبب ذلك أن عبد المؤمن لما استعمل ابنه أبا سعيد على الجزيرة الخضراء ومالقة عبر أبو سعيد البحر إلى مالقة واتخذها دارا وكاتبه ميمون بن بدر اللمتوني صاحي غرناطة أن يوحد ويسلم إليه غرناطة فقبل أبو سعيد ذلك منه وتسلم غرناطة فسار ميمون إلى مالقة بأهله وولده فتلقاه أبو سعيد وأكرمه ووجهه إلى مراكش فأقبل عليه عبد المؤمن وانقرضت دولة الملثمين ولم يبق لهم إلا جزيرة ميورقة مع حمو بن غانية. فلما ملك أبو سعيد غرناطة جمع الجيوش وسار إلى مدينة المرية وهي بأيدي الفرنج أخذوها من المسلمين سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فلما نازلها وافاه الأسطول من سبتة وفيه خلق كثير من المسلمين فحصروا
223 المرية برا وبحرا وجاء الفرنج إلى حصنها فحصرهم فيها ونزل عسكره على الجبل المشرف عليها وبنى أبو سعيد سورا على الجبل المذكور إلى البحر وعمل عليه خندقا فصارت المدينة والحصن الذي فيه الفرنج محصورا بهذا السور والخندق ولا يمكن من ينجدهما من أن يصل إليهما فجمع الأذفونش ملك الفرنج بالأندلس المعروف بالسليطين في اثني عشر ألف فارس من الفرنج ومعه محمد بن سعيد بن مردنيش في ستة آلاف فارس من المسلمين وراموا الوصول إلى المدينة ودفع المسلمين عنها فلم يطيقوا ذلك فرجع السليطين وابن مردنيش خائبين فمات السليطين في عوده قبل أن يصل إلى طليطلة. وتمادى الحصار على المرية ثلاثة أشهر فضاقت الميرة وقلت الأقوات على الفرنج فطلبوا الأمان ليسلموا الحصن فأجابهم أبو سعيد إليه وأمنهم وتسلم الحصن ورحل الفرنج في البحر عائدين إلى بلادهم فكان ملكهم المرية مدة عشر سنين. ذكر غزو صاحب طبرستان الإسماعيلية في هذه السنة جمع شاه مازندران رستم بن علي بن شهريار عسكره وسار ولم يعلم أحدا جهة مقصده وسلك المضايق وجد السير إلى بلد الموت وهي للإسماعيلية فأغار عليها وأحرق القرى والسواد وقتل فأكثر وغنم أموالهم وسبى نساءهم واسترق أبناءهم فباعهم في السوق وعاد سالما غانما وانخذل الإسماعيلية ودخل عليهم من الوهن ما لم يصابوا بمثله وخرب من بلادهم ما لا يعمر في السنين الكثيرة.
224 ذكر أخذ حجاج خراسان في هذه السنة في ربيع الأول سار حجاج خراسان فلما رحلوا عن بسطام أغار عليهم جمع من الجند الخراسانية قد قصدوا طبرستان فأخذوا من أمتعتهم وقتلوا نفرا منهم وسلم الباقون وساروا من موضعهم. فبينما هم سائرون إذ طلع عليهم الإسماعيلية فقاتلهم الحجاج قتالا عظيما وصبروا صبرا عظيما فقتل أميرهم فانخذلوا وألقوا بأيديهم واستسلموا وطلبوا الأمان وألقوا أسلحتهم مستأمنين فأخذهم الإسماعيلية وقتلوهم ولم يبقوا منهم إلا شرذمة يسيرة وقتل فيهم من الأئمة العلماء والزهاد والصلحاء جمع كثير وكانت مصيبة عظيمة عمت بلاد الإسلام وخصت خراسان ولم يبق بلد إلا وفيه المأتم. فلما كان الغد طاف شيخ في القتلى والجرحى ينادي يا مسلمون يا حجاج ذهب الملاحدة وأنا رجل مسلم فمن أراد الماء سقيته فمن كلمه قتله وأجهز عليه فهلكوا أجمعين إلا من سلم وولى هاربا وقليل ما هم. ذكر الحرب بين المؤيد والأمير إيثاق قد ذكرنا تقدم الأمير أي أبه مملوك السلطان سنجر وتقدمه على عساكر خراسان فحسده جماعة من الأمراء منهم الأمير إيثاق وهو
225 من الأمراء السنجرية، وانحرف عنه وكان تارة يقصد خوارزمشاه وتارة مازندران، وتارة يظهر الموافقة للمؤيد ويبطن المخالفة. فلما كان الآن فارق مازندران ومعه عشرة آلاف فارس قد اجتمع معه كل من يريد الغارة على البلاد وكل منحرف عن المؤيد وقصد خراسان وأقام بنواحي نسا وأبيورد لا يظهر المخالفة للمؤيد بل يراسله بالموافقة والمعاضدة له ويبطن ضدها. وانتقل المؤيد من المكاتبة إلى المكافحة وسار إليه جريدة فأغار عليه وأوقع به فتفرق عنه جموعه ونجا بحشاشة نفسه وغنم المؤيد وعسكره كل ما لإيثاق ومضى منهزما إلى مازندران وكان ملكها رستم بينه وبين أخ له اسمه علي تنازع على الملك وقد قوي رستم فلما وصل إيثاق إلى مازندران قتل عليا وحمل رأسه إلى أخيه رستم فعظم ذلك على رستم واشتد واستشاط غضبا وقال آكل لحمي ولا أطعمه غيري. ولم يزل إيثاق يتردد في خراسان بالنهب والغارة لا سيما مدينة اسفراين فإنه أكثر من قصدها حتى خربت فراسله السلطان محمود بن محمد والمؤيد يدعوانه إلى الموافقة فسار إليه فلي العساكر فلما قارباه أتاهما كثير من عسكره فمضى من بين أيديهما إلى طبرستان في صفر سنة ثلاث وخمسين [خمسمائة] فتبعاه في عساكرهما فأرسل شاه مازندران يطلب الصلح فأجابه واصطلحوا وحمل شاه مازندران أموالا جليلة وهدايا نفيسة وسير إيثاق ابنه رهينة فعاد عنه.
226 ذكر الحرب بين المؤيد وسنقر العزيزي كان سنقر العزيزي من أمراء السلطان سنجر وممن يناوي أيضا المؤيد أي أبه فلما اشتغل المؤيد بحري إيثاق سار سنقر من عسكر السلطان محمود بن محمد إلى هراة ودخلها وبها جماعة من الأتراك وتحصن بها فأشير عليه بأن يعتضد بالملك الحسين ملك الغورية فلم يفعل واستبد بنفسه منفردا لأنه رأى اختلاف الأمراء على السلطان محمود بن محمد فطمع وحدث نفسه بالقوة فقصده المؤيد إلى هراة فلما وصل إليها قاتل من بها شيئا من قتال ثم إن الأتراك مالوا إلى المؤيد وأطاعوه وانقطع خبر سنقر العزيزي من ذلك الوقت ولم يعلم ما كان منه فقيل إنه سقط عن فرسه فمات وقيل بل اغتاله الأتراك فقتلوه. وتقدم السلطان محمود إلى ولاية هراة في عساكره وجنوده والتحق جماعة من عسكر سنقر بالأمير إيثاق وأغاروا على طوس وقراها فبطلت الزروع والحرث واستولى الخراب على البلاد وعمت الفتن أطراف خراسان وأصابهم العين فإنهم كانوا أيام السلطان سنجر في أرغد عيش وأمنه وهذا دأب الدنيا لا يصفو نعيمها وخيرها من كدر وشوائب وآفات وقلما يخلص شرها من خير فنسأل الله أن يحسن لنا العون والعقبى بمحمد وآله. ذكر ملك نور الدين بعلبك في هذه السنة ملك نور الدين محمود بعلبك وقلعتها وكانت بيد إنسان يقال له ضحاك البقاعي منسوب إلى بقاع بعلبك وكان قد ولاه إياها
227 صاحب دمشق فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك بها فلم يمكن نور الدين محاصرته لقربه من الفرنج فتلطف الحال معه إلى الآن فملكها واستولى عليها. ذكر عدة حوادث في هذه السنة قلع الخليفة المقتفي لأمر الله باب الكعبة وعمل عوضه بابا مصفحا بالنقرة المذهبة وعمل لنفسه من الباب الأول تابوتا يدفن فيه إذا مات. وفيها توفي محمد بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت أبو بكر الخجندي رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان وسمع الحديث بها من أبي علي الحداد وكان صدرا مقدما عند السلاطين وكان ذا حشمة عظيمة وجاه عريض. ووقعت لموته فتنة عظيمة بأصفهان وقتل فيها خلق كثير. وفيها كان بخراسان غلاء شديد أكلت فيه سائر الدواب حتى الناس وكان بنيسابور طباخ فذبح إنسانا علويا وطبخه وباعه في الطبيخ ثم ظهر عليه أنه فعل ذلك فقتل وأسفر الغلاء وصلحت أحوال الناس. وفيها توفي القاضي أبو العباس أحمد بن بختيار بن علي المانداي الواسطي قاضيها وكان فقيها عالما. وفيها في ربيع الآخر توفي القاضي برهان الدين أبو القاسم منصور بن أبي سعد محمد بن أبي نصر أحمد الصاعدي قاضي نيسابور وكان من أئمة الفقهاء الحنفية.
228 553 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ذكر الحرب بين سنقر وأرغش في هذه السنة كان حرب شديدة بين سنقر الهمذاني وأرغش المسترشدي وسببها أن سنقر الهمذاني كان قد نهب سواد بغداد بطريق خراسان وكثر جمعه فخرج الخليفة المقتفي لأمر الله في جمادى الأولى بنفسه يطلبه فلما وصل إلى بلد اللحف قال له الأمير خطلبرس أنا أكفيك هذا المهم وكان بينه وبين سنقر مودة فركب إليه وتلاقيا وجرى بينهما عتاب طويل لأجل خروجه عن طاعة الخليفة فأجاب سنقر إلى الطاعة وعاد خطلبرس وأصلح حاله فأقطعه بلد اللحف والأمير أرغش المسترشدي. فلما توجها إلى اللحف، جرى بينهما منازعة، فأراد سنقر قبض أرغش، فرآه محترزا فتحاربا واقتتلا قتالا شديدا وغدر بأرغش أصحابه فعاد منهزما إلى بغداد وانفرد سنقر ببلد اللحف وخطب فيه للملك محمد فسير من بغداد عسكرا لقتاله مقدمهم خطلبرس فجرت بينهما حرب شديدة انهزم في آخرها سنقر وقتلت رجاله ونهبت أمواله التي [في] العسكر وسار هو إلى قلعة الماهكي وأخذ ما كان له فيها واستخلف فيها بعض غلمانه وسار هو إلى همذان فلم يلتفت إليه الملك محمد شاه فعاد إلى قلعة الماهكي وأقام بها.
229 ذكر الحرب بين شملة وقايماز السلطاني في هذه السنة أيضا كان قتال بين شملة صاحب خوزستان ومعه ابن مكلية وبين قايماز السلطاني في ناحية بادرايا فجمعا عسكرهما وسارا إليه فأتاه الخبر بذلك وهو يشرب فلم يحفل بذلك وركب إليهم في نحو ثلاثمائة فارس وكان معجبا بنفسه فحمل عليهم واختلط بهم فأحدقوا به وقاتل أشد قتال فانهزم أصحابه وأخذ هو أسيرا فتسلمه إنسان تركماني كان له عليه دم لأنه قتل ابنا للتركماني فقتله بابنه وأرسل رأسه إلى محمد شاه. وأرسل الخليفة عسكرا ليقاتل شملة ومن معه فانزاحوا من بين أيديهم ولحقوا بالملك ملكشاه بخوزستان فهلك كثير منهم بالبرد. ذكر معاودة الغز الفتنة بخراسان كان الأتراك الغزية قد أقاموا ببلخ واستوطنوها وتركوا النهب والقتل ببلاد خراسان واتفقت الكلمة بها على طاعة السلطان خاقان محمود بن محمد أرسلان وكان المتولي لأمور دولته المؤيد أي أبه وعن رأيه يصدر محمود. فلما كان هذه السنة في شعبان سار الغز من بلخ إلى مرو وكان السلطان محمود بسرخس في العساكر فسار المؤيد في طائفة من العسكر
230 إليهم فأوقع بطائفة منهم وظفر بهم ولم يزل يتبعهم إلى أن دخلوا إلى مرو أوائل رمضان وغنم من أموالهم وقتل كثيرا وعاد إلى سرخس فاتفقا هو والسلطان محمود على قصد الغز وقتالهم فجمعا العساكر وحشدا وسارا إلى الغز فالتقوا سادس شوال من هذه السنة، وجرت بينهم حرب طال مداها، فبقوا يقتتلون [من] يوم الاثنين سابع شوال إلى نصف الليل من ليلة الأربعاء الحادي عشر من الشهر تواقعوا عدة وقعات متتابعة ولم يكن بينهما راحة ولا نزول إلا لما لا بد منه انهزم الغز فيها ثلاث دفعات وعادوا إلى الحرب. فلما أسفر الصبح يوم الأربعاء انكشفت الحرب عن هزيمة عساكر خراسان وتفرقهم في البلاد وظفر الغز بهم وقتلوا فأكثروا فيهم وأما الجرحى والأسرى فأكثر من ذلك. وعاد المؤيد ومن سلم معه إلى طوس فاستولى الغز على مرو وأحسنوا السيرة وأكرموا العلماء والأئمة مثل تاج الدين أبي سعد السمعاني وشيخ الإسلام علي البلخي وغيرهما وأغاروا على سرخس وخربت القرى وجلى أهلها وقتل من أهل سرخس نحو عشرة آلاف قتيل ونهبوا طوس أيضا وقتلوا أهلها إلا القليل وعادوا إلى مرو. وأما السلطان محمود بن محمد الخان والعساكر التي معه فلم يقدروا على المقام بخراسان من الغز فساروا إلى جرجان ينتظرون ما يكون من الغز؛ فلما دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة أرسل الغز إلى السلطان يسألونه أن يحضر عندهم ليملكوه أمرهم فلم يثق بهم وخافهم على نفسه فأرسلوا
231 يطلبون منه ابنه جلال الدين عمر ليملكوه أمرهم ويصدروا عن أمره ونهيه في قليل الأمور وكثيرها وترددت الرسل واحتاط السلطان محمود لولده بالعهد والمواثيق وتقرير القواعد ثم سيره من جرجان إلى خراسان فلما سمع الأمراء الغزية بقدومه ساروا من مرو إلى طريقه فالتقوه بنيسابور وأكرموه وعظموه ودخل نيسابور واتصلت به العساكر الغزية واجتمعوا عنده في الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وخمسمائة. ثم إن السلطان محمودا سار من جرجان إلى خراسان في الجيوش التي معه من الأمراء السنجرية وتخلف عنه المؤيد أي أبه فوصل إلى حدود نسا وأبيورد وأقطع نسا لأمير اسمه عمر بن حمزة النسوي فقام في حفظها المقام المرضي ومنع عنها أيدي المفسدين وأقام السلطان محمود بظاهر نسا حتى انسلخ جمادى الآخرة من السنة. ولما كان الغز بنيسابور هذه السنة أرسلوا إلى طوس يدعونهم إلى الطاعة والموافقة فامتنع أهل رايكان من اجابتهم إلى ذلك واغتروا بسور بلدهم وبما عندهم من الشجاعة والقوة والعدة الوافرة والذخائر الكثيرة فقصدها طائفة من الغز وحصروهم وملكوا البلد وقتلوا فيه ونهبوا وأكثروا ثم عادوا إلى نيسابور وساروا مع جلال الدين محمد ابن السلطان محمود الخان إلى بيهق وحصروا سابزوار سابع عشر جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وخمسمائة فامتنع أهلها عليهم وقام بأمرهم النقيب عماد الدين علي بن محمد بن يحيى العلوي الحسيني نقيب العلويين واجتمعوا معه ورجعوا إلى أمره ونهيه ووقفوا عند إشارته فامتنعوا على الغز وحفظوا
232 البلد منهم وصبروا على القتال. فلما رأى الغز امتناعهم عليهم وقوتهم أرسلوا إليهم يطلبون الصلح فاصطلحوا ولم يقتل من أهل سابزوار في تلك الحروب غير رجل واحد ورحل الملك جلال الدين والغز عن سابزوار في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وخمسمائة وساروا إلى نسا وأبيورد. ذكر أسر المؤيد وخلاصه قد ذكرنا أن المؤيد أي أبه تخلف عن السلطان ركن [الدين] محمود بن محمد بجرجان فلما كان الآن سار من جرجان إلى خراسان فنزل بقرية من قرى خبوشان اسمها زانك وبها حصن فسمع الغز بوصوله إلى زانك فساروا إليه وحصروه فيه فخرج منه هاربا فرآه واحد من الغز فأخذه فوعده بمال جزيل إن أطلقه فقال الغزي وأين المال فقال هو مودع في بعض هذه الجبال. فسار هو والغزي فوصلا إلى جدار قرية فيها بساتين وعيون فقال للفارس المال ههنا وصعد الجدار ونزل من ظهره ومضى هاربا فرأى الغز قد ملؤوا الأرض فدخل قرية فعرفه طحان فيها فأعلم زعيم القرية به وطلب منه مركبا فأتاه بما أراد وأعانه على الوصول إلى نيسابور فوصل إليها واجتمعت العساكر وقوي أمره وعاد إلى حاله وأحسن إلى الطحان وبالغ في الإحسان إليه.
233 ذكر اجتماع السلطان محمود مع الغز وعودهم إلى نيسابور لما عاد الغز ومعهم محمد بن محمود الخان إلى نسا وأبيورد كما ذكرناه خرج والده السلطان محمود الخان وكان هناك فيمن معه من العساكر الخراسانية فاجتمع بهم واتفقت الكلمة على طاعته وأراد عمارة البلاد وحفظها فلم يقدر على ذلك فلما اجتمعوا ساروا إلى نيسابور وبها المؤيد أي أبه في شعبان فلما سمع بقربهم منه رحل عنها إلى خواف في سادس عشرة ووصلوا إليها في الحادي والعشرين منه ونزلوا فيه وخافهم الناس خوفا عظيما فلم يفعلوا بهم شيئا وساروا عنها في السادس والعشرين منه إلى سرخس ومرو وكان بها الفقيه المؤيد بن الحسين الموفقي رئيس الشافعية وله بيت قديم وهو من أجناد الإمام أبي سهل الصعلوكي وله مصاهرة إلى بيت أبي المعالي الجويني وهو المقدم في البلد والمشار إليه وله من الأتباع ما لا يحصى. فاتفق أن بعض أصحابه قتل إنسانا من الشافعية اسمه أبو الفتوح الفستقاني خطأ وهذا أبو الفتوح له تعلق بنقيب العلويين بنيسابور وهو ذخر الدين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني وكان هذا النقيب هو الحاكم هذه المدة بنيسابور فغضب من ذلك وأرسل إلى الفقيه المؤيد يطلب منه القاتل ليقتص منه ويتهدده إن لم يفعل فامتنع المؤيد من تسليمه وقال لا مدخل لك من أصحابنا إنما حكمك على الطائفة العلويين فجمع النقيب أصحابه ومن يتبعه وقصد الشافعية فاجتمعوا له وقاتلوه فقتل منهم جماعة ثم إن النقيب أحرق سور العطارين وأحرقوا سكة معاد أيضا وسكة باغ
234 طاهر ودار إمام الحرمين أبي المعالي الجويني وكان الفقيه المؤيد الشافعي بها للصهر الذي بينهم. وعظمت المصيبة على كافة الناس وجمع بعد ذلك المؤيد الفقيه جموعا من طوس وأسفرايين وجوين وغيرهم وقتلوا واحدا من اتباع النقيب زيد يعرف بابن الحاجي الأشناني فأهم العلوية ومن معهم فاقتتلوا ثامن عشر شوال من سنة أربع وخمسين [خمسمائة] وقامت الحرب على ساق وأحرقت المدارس والأسواق والمساجد وكثر القتل في الشافعية فالتجأ المؤيد الشافعي في شرذمة إلى قلعة فرخك وقصر باع الشافعية عن القتال ثم انتقل المؤيد إلى قرية من قرى طوس وبطلت دروس الشافعية بنيسابور وخرب البلد وكثر القتل فيه. ذكر حصر صاحب ختلان ترمذ وعوده وموته في هذه السنة في رجب سار الملك أبو شجاع فرخشاه وهو يزعم أنه من أولاده بهرام جور وقد تقدم ذكره أيام كسرى أبرويز إلى ترمذ وحصرها. وكان سبب ذلك انه كان في طاعة السلطان سنجر فلما خرج عليه الغز طلبه ليحضر معه حربه لهم فجمع عسكره وأظهر أنه واصل فيمن عنده من العساكر إليه وأقام ينتظر ما يكون منه فإن ظفر حضر، وقال له:
235 سبقتني بالحرب وإن كان الظفر للغز قال لهم إنما تأخرت محبة وإرادة أن تملكوا فلما انهزم سنجر وكان ما ذكرناه بقي إلى الآن فسار إلى ترمذ ليحصرها فجمع صابحها فيروزشاه أحمد بن أبي بكر بن قماج عسكره ولقيه ليمنعه فاقتتلوا فانهزم فيروزشاه ومضى منهزما لا يلوي على شيء فأصابه في الطريق قولنج فمات منه. ذكر عود المؤيد إلى نيسابور وتخريب ما بقي منها في هذه السنة عاد المؤيد أي أبه إلى نيسابور في عساكره ومعه الإمام المؤيد الموفقي الشافعي الذي تقدم ذكر الفتنة بينه وبين ذخر الدين نقيب العلويين وخروجه من نيسابور فلما خرج منها صار مع المؤيد وحضر مع المؤيد وحضر معه حصار نيسابور وتحصن النقيب العلوي بشارستان واشتد الخطب وطال الحرب وسفكت الدماء وهتكت الأستار وخربوا ما بقي من نيسابور من الدور وغيرها وبالغ الشافعية ومن معهم من الانتقام فخربوا المدرسة الصندلية لأصحاب أبي حنيفة وخربوا غيرها وحصروا قهندز وهذه الفتنة استأصلت نيسابور ثم رحل المؤيد أي أبه عنها إلي بيهق في شوال من سنة أربع وخمسين وخمسمائة كان ينبغي أن تكون هذه الحوادث الغزية الواقعة في سنة أربع وخمسين مذكورة في سنتها وإنما قدمناها ههنا ليتلو بعضها بعضا فيكون أحسن لسياقتها.
236 ذكر ملك ملكشاه خوزستان في هذه السنة ملك ملكشاه ابن السلطان محمود بلد خوزستان وأخذه من شملة التركماني وسبب ذلك أن الملك محمد ابن السلطان محمود لما عاد من حصار بغداد كما ذكرناه مرض وبقي مريضا بهمذان ومضى أخوه ملكشاه إلى قم وقاشان وما والاها فنهبها جميعها وصادر أهلها وجمع أموالا كثيرة فراسله أخوه محمد شاه يأمره بالكف عن ذلك ليجعله ولي عهده في الملك فلم يفعل ومضى إلى أصفهان فلما قاربها أرسل رسولا إلى ابن الخجندي وأعيان البلد في تسليم البلد إليه فامتنعوا من ذلك وقالوا لأخيك في رقابنا يمين ولا نغدر به فحينئذ شرع ملكشاه في الفساد والمصادرة لأهل القرى. فلما سمع محمد شاه الخبر سار عن همذان وعلى مقدمته كردبازوه الخادم فتفرقت جموع ملكشاه عند قرمسين فلحق به قويدان وكان قد فارق المقتفي لأمر الله واتفق مع سنقر الهمذاني فلحق كلاهما به وحسنا له قصد بغداد فسار عن بلد خوزستان إلى واسط ونزل بالجانب الشرقي وهم على غاية الضر من الجوع فنهبوا القرى نهبا فاحشا ففتح بثق بتلك الناحية فغرق منهم كثير ونجا ملكشاه ومن سلم معه وساروا
237 إلى خوزستان فمنعه شملة من العبور فراسله ليمكنه من العبور إلى أخيه الملك محمد شاه فلم يجبه إلى ذلك وكاتب حينئذ الأكراد الكر الذين هناك واستدعاهم إليه ففرحوا به ونزل إليه من تلك الجبال خلق كثير فأطاعوه فرحل ونزل على كرخايا وطلب من شملة الحرب فألان له شملة القول وقال أنا أخطب لك فلقيه ملكشاه ومعه سنقر الهمذاني وقويدان وغيرهما من الأمراء فاقتتلوا فانهزم شملة وقتل كثير من أصحابه وصعد إلى قلعته دندرزين وملك ملكشاه البلاد وجبى الأموال الكثيرة وأظهر العدل وتوجه إلى أرض فارس ذكر الحرب بين التركماني والإسماعيلية بخراسان كان بنواحي قهستان طائفة من التركمان فنزل إليهم جمع من الإسماعيلية من قلاعهم وهم ألف وسبعمائة فأوقعوا بالتركمان فلم يجدوا الرجال وكانوا قد فارقوا بيوتهم فنهبوا الأموال وأخذوا النساء والأطفال وأحرقوا ما لم يقدروا على حمله. وعاد التركمان فرأوا ما فعل بهم فتبعوا أثر الإسماعيلية فأدركوهم وهم يقتسمون الغنيمة فكبروا وحملوا عليهم ووضعوا فيهم السيف فقتلوهم كيف شاؤوا حتى أفنوهم قتلا وأسرا ولم ينج إلا تسعة رجال.
238 ذكر عدة حوادث في هذه السنة كثر فساد التركمان أصحاب ترجم الإيوائي بالجبل فسير إليهم من بغداد عسكر مقدمهم منكبرس المسترشدي فلما قاربهم اجتمع التركمان فالتقوا واقتتلوا هم ومنكبرس فانهزم التركمان أقبح هزيمة وقتل بعضهم وأسر بعض وحملت الرؤوس والأسارى إلى بغداد. وفيها حج الناس فلما وصلوا إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، وصل لهم الخبر أن العرب قد اجتمعت لتأخذهم فتركوا الطريق وسلكوا طريق خيبر فوجدوا مشقة شديدة ونجوا من العرب. وفيها توفي الشيخ نصر بن منصور بن الحسين العطار أبو القاسم الحراني ومولده بحران سنة أربع وثمانين وأربعمائة وأقام ببغداد وكثر ماله وصدقاته أيضا وكان يقرأ القرآن وهو والد ظهير الدين الذي حكم في دولة المستضئ بأمر الله على ما نذكره إن شاء الله. وفيها توفي أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي ببغداد وهو سجزي الأصل هروي المنشأ وكان قدم إلى بغداد سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة يريد الحج فسمع الناس بها عليه صحيح البخاري وكان عالي الإسناد فتأخر لذلك عن الحج فلما كان هذه السنة عزم على الحج فمات. وفيها توفي يحيى بن سلامة بن الحسن بن محمد الفضل الحصكفي الأديب بميافارقين وله شعر حسن ورسائل جيدة مشهورة وكان يتشيع ومولده بطنزة فمن شعره:
239 (وخليع بت أعذله * ويرى عذلي من العبث) (قلت إن الخمر مخبثة * قال حاشاها من الخبث) (قلت فالأرفاث تتبعها * قال طيب العيش في الرفث) (قلت منها القي قال أجل * شرفت عن مخرج الحدث) (وسأسلوها فقلت متى * قال عند الكون في الحدث)
240 554 ثم دخلت سنة اربع وخمسين وخمسمائة ذكر ملك عبد المؤمن مدينة المهدية من الفرنج وملكه جميع أفريقية قد ذكرنا سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ملك الفرنج مدينة المهدية من صاحبها الحسن بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي وذكرنا أيضا سنة إحدى وخمسين ما فعله الفرنج بالمسلمين في زويلة المجاورة للمهدية من القتل والنهب فلما قتلهم الفرنج ونهبوا أموالهم هرب منهم جماعة وقصدوا عبد المؤمن صاحب المغرب وهو بمراكش يستجيرونه فلما وصلوا إليه ودخلوا عليه أكرمهم وأخبروه بما جرى على المسلمين وأنه ليس في ملوك الإسلام من يقصد سواه ولا يكشف هذا الكرب غيره فدمعت عيناه وأطرق ثم رفع رأسه وقال أبشروا لأنصرنكم ولو بعد حين. وأمر بإنزالهم وأطلق لهم ألفي دينار ثم أمر بعمل الروايا والقرب وما يحتاج إليه العساكر في السفر وكتب إلى جميع نوابه في الغرب وكان قد ملك إلى قريب تونس يأمرهم بحفظ جميع ما يتحصل من الغلات وأن يترك في سنبله ويخزن في مواضعه وأن يحفروا الآبار في الطرق ففعلوا جميع ما أمرهم به وجمعوا الغلات ثلاث سنين ونقلوها إلى المنازل وطينوا عليها فصارت كأنها تلال. فلما كان في صفر من هذه السنة سار عن مراكش وكان أكثر أسفاره
241 في صفر، فسار يطلب أفريقية واجتمع من العساكر مائة ألف مقاتل ومن الأتباع والسوقة أمثالهم وبلغ من حفظه لعساكره أنهم كانوا يمشون بين الزروع فلا تتأذى بهم سنبلة وإذا نزلوا صلوا جميعهم مع إمام واحد بتكبيرة واحدة لا يتخلف منهم أحد كائنا من كان. وقدم بين يديه الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي وكان صاحب المهدية وأفريقية وقد ذكرنا سبب مصيره عند عبد المؤمن فلم يزل يسير إلى أن وصل إلى مدينة تونس في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من السنة وبها صاحبها أحمد بن خراسان وأقبل أسطوله في البحر في سبعين شينيا وطريدة وشلندى فلما نازلها أرسل إلى أهلها يدعوهم إلى طاعته فامتنعوا فقاتلهم من الغد أشد قتال فلم يبق إلا أخذها ودخول الأسطول إليها فجاءت ريح عاصف منعت الموحدين من دخول البلد فرجعوا ليباكروا القتال ويملكوه. فلما جن الليل نزل سبعة عشر رجلا من أعيان أهلها إلى عبد المؤمن يسألونه الأمان لأهل بلدهم فأجابهم إلى الأمان لهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لمبادرتهم إلى الطاعة وأما من عداهم من أهل البلد فيؤمنهم في أنفسهم وأهاليهم ويقاسمهم على أموالهم وأملاكهم نصفين وأن يخرج صاحب البلد هو وأهله فاستقر ذلك وتسلم البلد وأرسل إليه من يمنع العسكر من الدخول وأرسل أمناءه ليقاسموا الناس على أموالهم وأقام عليها ثلاثة أيام وعرض الإسلام على من بها من اليهود والنصارى فمن أسلم سلم ومن امتنع قتل وأقام أهل تونس بها بأجرة تؤخذ عن نصف مساكنهم.
242 وسار عبد المؤمن منها إلى المهدية والأسطول يحاذيه في البحر فوصل إليها ثامن عشر رجب وكان حينئذ بالمهدية أولاد ملوك الفرنج وأبطال الفرسان وقد أخلوا زويلة وبينها وبين المهدية غاية سهم فدخل عبد المؤمن من زويلة وامتلأت بالعساكر والسوقة فصارت مدينة معمورة في ساعة ومن لم يكن له موضع من العسكر نزل بظاهرها وانضاف إليه من صنهاجة والعرب وأهل البلاد ما يخرج عن الاحصاء وأقبلوا يقاتلون المهدية مدة أيام فلا يؤثر فيها لحصانتها وقوة سورها وضيق موضع القتال عليها لأن البحر دائر بأكثرها فكأنها كف في البحر وزندها متصل بالبر. وكانت الفرنج تخرج شجعانهم إلى أطراف العسكر فتنال منه ويعودون سريعا فأمر عبد المؤمن أن يبنى سور من غرب المدينة يمنعهم من الخروج وأحاط الأسطول بها في البحر وركب عبد المؤمن في شيني ومعه الحسن بن علي الذي كان صاحبها وطاف بها في البحر فهاله ما رأى من حصانتها وعلم أنها لا تفتح بقتال برا ولا بحرا وليس لها إلا المطاولة وقال للحسن كيف نزلت عن مثل هذا الحصن فقال لقلة من يوثق به وعدم القوت وحكم القدر فقال صدقت وعاد من البحر وأمر بجمع الغلات والأقوات وترك القتال فلم يمض غير قليل حتى صار في العسكر كالجبلين من الحنطة والشعير فكان من يصل إلى العسكر من بعيد يقولون متى حدثت هذه الجبال فيقال لهم هي حنطة وشعير فيتعجبون من ذلك. وتمادى الحصار وفي مدته أطاع سفاقس عبد المؤمن ومدينة طرابلس وجبال نفوسة وقصور أفريقية وما والاها وفتح مدينة قابس بالسيف وسير ابنه أبا محمد عبد الله في جيش ففتح بلادا ثم إن أهل مدينة
243 قفصة لما رأوا تمكن عبد المؤمن أجمعوا على المبادرة إلى طاعته وتسليم المدينة إليه فتوجه صاحبها يحيى بن تميم بن المعز ومعه جماعة من أعيانها وقصدوا عبد المؤمن فلما أعلمه حاجبه بهم قال له عبد المؤمن قد اشتبه عليك ليس هؤلاء أهل قفصة فقال له لم يشتبه علي قال له عبد المؤمن كيف يكون ذلك والمهدي يقول إن أصحابنا يقطعون أشجارها ويهدمون أسوارها ومع هذا فتقبل منهم وتكف عنهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا فأرسل إليهم طائفة من أصحابه ومدحه شاعر منهم بقصيدة أولها: (ما هز عطفيه بين البيض والأسل * مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي) فوصله بألف دينار، ولما كان في الثاني والعشرين من شعبان من السنة جاء أسطول صاحب صقلية في مائة وخمسين شينيا غير الطرائد وكان قد وفد من جزيرة يابسة من بلاد الأندلس وقد سبى أهلها وأسرهم وحملهم معه فأرسل إليهم ملك الفرنج يأمرهم بالمجيء إلى المهدية فقدموا في التاريخ فلما قاربوا المهدية حطوا شرعهم ليدخلوا المبنى فخرج إليهم أسطول عبد المؤمن وركب العسكر جميعه ووقفوا على جانب البحر فاستعظم الفرنج ما رأوه من كثرة العساكر ودخل الرعب قلوبهم وبقي عبد المؤمن يمرغ وجهه على الأرض ويبكي ويدعو للمسلمين بالنصر، واقتتلوا في البحر فانهزمت شواني الفرنج وأعادوا القلوع وتبعهم المسلمون فأخذوا منهم سبع شواني ولو كان معهم شواني لأخذوا أكثرهم وكان أمرا مجيبا وفتحا قريبا. وعاد أسطول المسلمين مظفرا منصورا وفرق فيهم عبد المؤمن الأموال ويئس أهل المهدية حينئذ من النجدة وصبروا على الحصار ستة أشهر إلى
244 آخر شهر ذي الحجة من السنة فنزل حينئذ من فرسان الفرنج إلى عبد المؤمن عشرة وسألوا الأمان لمن فيها من الفرنج على أنفسهم وأموالهم ليخرجوا منها ويعودوا إلى بلادهم وكان قوتهم قد فني حتى أكلوا الخيل فعرض عليهم الإسلام ودعاهم إليه فلم يجيبوا ولم يزالوا يترددون إليه أياما بالكلام اللين فأجابهم إلى ذلك وأمنهم وأعطاهم سفنا فركبوا فيها وساروا وكان الزمان شتاء فغرق أكثرهم ولم يصل منهم إلى صقلية إلا النفر اليسير. وكان صاحب صقلية قد قال إن قتل عبد المؤمن أصحابنا بالمهدية قتلنا المسلمين الذين هم بجزيرة صقلية وأخذنا حرمهم وأموالهم فأهلك الله الفرنج غرقا وكان مدة ملكهم المهدية اثنتي عشر سنة. ودخل عبد المؤمن المهدية بكرة عاشوراء من المحرم سنة خمس وخمسين وخمسمائة وسماها عبد المؤمن سنة الأخماس وأقام بالمهدية عشرين يوما فرتب أحوالها وأصلح ما انثلم من سورها ونقل إليها الذخائر من الأقوات والرجال والعدد واستعمل عليها بعض أصحابه وجعل معه الحسن بن علي الذي كان صاحبها وأمره أن يقتدي برأيه في أفعاله وأقطع الحسن بها أقطاعا وأعطاه دورا نفيسة يسكنها وكذلك فعل بأولاده ورحل من المهدية أول صفر من السنة إلى بلاد الغرب. ذكر إيقاع عبد المؤمن بالعرب لما فرغ عبد المؤمن من أمر المهدية وأراد العود إلى الغرب جمع أمراء العرب من بني رياح الذين كانوا بأفريقية وقال لهم قد وجبت علينا نصرة
245 الإسلام. فإن المشركين قد استفحل أمرهم بالأندلس واستولوا على كثير من البلاد التي كانت بأيدي المسلمين وما يقاتلهم أحد مثلكم فبكم فتحت البلاد أول الإسلام وبكم يدفع عنها العدو الآن ونريد منكم عشرة آلاف فارس من أهل النجدة والشجاعة يجاهدون في سبيل الله فأجابوا بالسمع والطاعة فحلفهم على ذلك بالله تعالى وبالمصحف فحلفوا ومشوا معه إلى مضيق جبل زغوان. وكان منهم إنسان يقال له يوسف بن مالك وهو من أمرائهم ورؤوس القبائل فيهم فجاء إلى عبد المؤمن بالليل وقال له سرا إن العرب قد كرهت المسير إلى الأندلس وقالوا ما غرضه إلا إخراجنا من بلادنا وأنهم لا يفون بما حلفوا عليه فقال يأخذ الله عز وجل الغادر فلما كان الليلة الثانية هربوا إلى عشائرهم ودخلوا البر ولم يبق منهم إلا يوسف بن مالك فسماه عبد المؤمن يوسف الصادق. ولم يحدث عبد المؤمن في أمرهم شيئا وسار مغربا يحث السير حتى قرب من القسطنطينية فنزل في موضع مخصب يقال له وادي النساء والفصل ربيع والكلأ مستحسن فأقام به وضبط الطرق فلا يسير من العسكر أحد البتة وذام كذلك عشرين يوما فبقي الناس في جميع البلاد لا يعرفون لهذا العسكر خبرا مع كثرته وعظمه ويقولون ما أزعجه إلا خبر وصله من الأندلس فحث لأجله في السير فعادت العرب الذين جفلوا منه من البرية إلا البلاد لما أمنوا جانبه وسكنوا البلاد التي ألفوها واستقروا في البلاد. فلما علم عبد المؤمن برجوعهم جهز إليهم ولديه أبا محمد وأبا عبد الله في ثلاثين ألف مقاتل من أعيان الموحدين وشجعانهم فجدوا السير وقطعوا المفاوز فما شعر العرب إلا والجيش قد أقبل بغتة من ورائهم من جهة
246 الصحراء ليمنعوهم الدخول إليها إن راموا ذلك. وكانوا قد نزلوا جنوبا من القيروان عند جبل يقال له جبل القرن وهم زهاء ثمانين ألف بيت والمشاهير من مقدميهم أبو محفوظ محرز بن زياد ومسعود بن زمام البلاط وجبارة بن كامل وغيرهم فلما أطلت عساكر عبد المؤمن عليهم اضطربوا واختلفت كلمتهم ففر مسعود وجبارة بن كامل ومن معهما من عشائرهما وثبت محرز بن زياد وأمرهم بالثبات والقتال فلم يلتفتوا إليه فثبت هو ومن معه من جمهور العرب فناجزهم الموحدون القتال في العشر الأوسط من ربيع الآخر من السنة وثبت الجمعان واشتد العراك فاتفق أن محرز بن زياد قتل ورفع رأسه على رمح فانهزمت جموع العرب عند ذلك وأسلموا البيوت والحريم والأولاد والأموال وحمل جميع ذلك إلى عبد المؤمن وهو بذلك المنزل فأمر بحفظ النساء العربيات الصرائح وحملهن معه تحت الحفظ والبر والصيانة إلى بلاد الغرب وفعل معهن مثل ما فعل في حريم الأبثج. ثم أقبلت إليه وفود رياح مهاجرين في طلب حريمهم كما فعل الأبثج فأجمل الصنيع لهم ورد الحريم إليهم فلم يبق منهم أحد إلا صار عنده وتحت حكمه وهو يخفض لهم الجناح ويبذل فيهم الإحسان ثم إنه جهزهم إلى ثغور الأندلس على الشرط الأول وجمعت عظام العرب المقتولين في هذه المعركة عند جبل قرن فبقيت دهرا طويلا كالتل العظيم يلوح للناظرين من مكان بعيد وبقيت أفريقية مع نواب عبد المؤمن آمنة ساكنة لم يبق فيها من أمراء العرب خارج عن طاعته إلا مسعود البلاط بن زمام وطائفته في أطراف البلاد.
247 ذكر غرق بغداد في هذه السنة ثامن ربيع الآخر كثرت الزيادة في دجلة وخرق القورج فوق بغداد وأقبل المد إلى البلد فامتلأت الصحارى وخندق البلد وأفسد الماء السور ففتح فيه فتحة يوم السبت تاسع عشر الشهر فوقع بعض السور عليها فسدها ثم فتح الماء فتحة أخرى وأهملوها ظنا أنها تنفس عن السور لئلا يقع فغلب الماء وتعذر سده فغرق قراح طغر والأجمة والمختارة والمقتدية ودرب القبار وخرابة ابن جردة والريان وقراح القاضي وبعض القطيعة وبعض باب الأزج وبعض المأمونية وقراح أبي الشحم وبعض قراح ابن رزين وبعض الظفرية. ودب الماء تحت الأرض إلى أماكن فوقعت وأخذ الناس يعبرون إلى الجانب الغربي فبلغت المعبرة عدة دنانير ولم يكن يقدر عليها ثم نقص الماء وتهدم السور وبقي الماء الذي داخل السور يدب في المحال التي لم يركبها الماء فكثر الخراب وبقيت المحال لا تعرف وإنما هي تلول فأخذ الناس حدود دورهم بالتخمين. وأما الجانب الغربي فغرقت فيه مقبرة أحمد بن حنبل وغيرها من المقابر وانخسفت القبور المبنية وخرج الموتى على رأس الماء وكذلك المشهد والحربية وكان أمرا عظيما.
248 ذكر عود سنقر الهمذاني إلى اللحف وانهزامه في هذه السنة عاد سنقر الهمذاني إلى أقطاعه وهو قلعة الماهكي وبلد اللحف وكان الخليفة قد أقطعه للأمير قايماز العميدي ومعه أربعمائة فارس فأرسل إليه سنقر يقول له ارحل عن بلدي فامتنع فسار إليه وجرى بينهما قتال شديد انهزم فيه العميدي ورجع إلى بغداد بأسوأ حال. فبرز الخليفة وسار في عسكره إلى سنقر فوصل إلى النعمانية وسير العساكر مع ترشك ورجع إلى بغداد ومضى ترشك نحو سنقر الهمذاني فتوغل سنقر في الجبال هاربا ونهب ترشك ما وجد له ولعسكره من مال وسلاح وغير ذلك وأمر وزيره بقتل من رأى من أصحابه ونزل على الماهكي وحصرها أياما ثم عاد إلى البندنيجين وأرسل إلى بغداد بالبشارة. وأما سنقر فإنه لحق بملكشاه فاستنجده فسير معه خمسمائة فارس فعاد ونزل على قلعة هناك وأفسد أصحابه في البلاد وأرسل ترشك [إلى] بغداد يطلب نجدة فجاءته فأراد سنقر أن يكبس ترشك فعرف ذلك فاحترز فعدل سنقر إلى المخادعة فأرسل رسولا إلى ترشك يطلب منه أن يصلح حاله مع الخليفة فاحتبس ترشك الرسول عنده وركب فيمن خف من أصحابه فكبس سنقر ليلا فانهزم هو وأصحابه وكثر القتل فيهم وغنم ترشك أموالهم ودوابهم وكل ما لهم ونجا سنقر جريحا.
249 ذكر الفتنة بين عامة استراباذ في هذه السنة وقع في استراباذ فتنة عظيمة بين العلويين ومن يتبعهم من الشيعة وبين الشافعية ومن معهم وكان سببها أن الإمام محمد الهروي وصل إلى استراباذ فعقد مجلس الوعظ وكان قاضيها أبو نصر سعد بن محمد بن إسماعيل النعيم شافعي المذهب أيضا فثار العلويون ومن يتبعهم من الشيعة بالشافعية ومن يتبعهم باستراباذ ووقعت بين الطائفتين فتنة عظيمة انتصر فيها العلويون فقتل من الشافعية جماعة وهرب القاضي ونهبت داره ودور من معه وجرى عليهم من الأمور الشنيعة ما لا حد عليه. فسمع شاه مازندران الخبر فاستعظمه وأنكر على العلويين فعلهم وبالغ في الإنكار مع أنه شديد التشيع وقطع عنهم جرايات كانت لهم ووضع الجبايات والمصادرات على العامة فتفرق كثير منهم وعاد القاضي إلى منصبه وسكنت الفتنة. ذكر وفاة الملك محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه في هذه السنة توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد وهو الذي حاصر بغداد طالبا السلطنة وعاد عنها فأصابه سل وطال به فمات بباب همذان وكان مولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
250 فلما حضره الموت أمر العساكر فركبت وأحضر أمواله وجواهره وحظاياه ومماليكه فنظر إلى الجميع من طيارة تشرف على ما تحتها فلما رآه بكى وقال هذه العساكر والأموال والمماليك والسراري ما أرى يدفعون عني مقدار ذرة ولا يزيدون في أجلي لحظة وأمر بالجميع فرفع بعد أن فرق منه شيئا كثيرا. وكان عظيما كريما عاقلا كثير التأني في أموره وكان له ولد صغير فسلمه إلى آقسنقر الأحمديلي وقال له أنا أعلم أن الناس لا تطيع مثل هذا الطفل وهو وديعة عندك فارحل به إلى بلادك فرحل إلى مراغة فلما مات اختلفت الأمراء فطائفة طلبوا ملكشاه أخاه وطائفة طلبوا سليمان شاه وهم الأكثر وطائفة طلبوا أرسلان الذي مع إيلدكز فأما ملكشاه فإنه سار من خوزستان ومعه دكلا صاحب فارس وشملة التركماني يدعوهما فوصل إلى أصفهان فسلمها إليه ابن الخجندي وجمع له مالا أنفقه عليه وأرسل إلى العساكر بهمذان يدعوهم إلى طاعته فلم يجيبوه لعدم الاتفاق بينهم ولأن أكثرهم كان يريد سليمان شاه. ذكر أخذ حران من نور الدين وعودها غليه في هذه السنة مرض نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب مرضا شديدا أرجف بموته وكان بقلعة حلب ومعه أخوه الأصغر أميران فجمع الناس وحصر القلعة وكان شيركوه وهو أكبر أمرائه بحمص فبلغه خبر موته فسار إلى دمشق ليتغلب عليها وبها أخوه نجم الدين أيوب،
251 فأنكر عليه أيوب ذلك وقال أهلكتنا والمصلحة أن تعود إلى حلب فإن كان نور الدين حيا خدمته في هذا الوقت وإن كان قد مات أنا في دمشق نفعل ما نريد من ملكها فعاد إلى حلب مجدا وصعد القلعة وأجلس نور الدين في شباك يراه الناس وكلمهم فلما رأوه حيا تفرقوا عن أخيه أميران فسار إلى حران فملكها. فلما عوفي نور الدين قصد حران ليخلصها فهرب أخوه منه وترك أولاده بحران في القلعة فملكها نور الدين وسلمها إلى زين الدين علي نائب أخيه قطب الدين صاحب الموصل ثم سار نور الدين بعد أخذ حران إلى الرقة وبها أولاد أميرك الجاندار وهو من أعيان الأمراء وقد توفي وبقي أولاده فنازلها فشفع جماعة من الأمراء فيهم فغضب من ذلك وقال هلا شفعتم في أولاد أخي لما أخذت منهم حران وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلى! فلم يشفعهم وأخذها منهم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة مرض الخليفة المقتفي لأمر الله واشتد مرضه وعوفي فضربت البشائر ببغداد وفرقت الصدقات من الخليفة ومن أرباب الدولة وغلق البلد أسبوعا. وفيها عاد ترشك إلى بغداد ولم يشعر به أحد إلا وقد ألقى نفسه تحت التاج ومعه سيف وكفن وكان قد عصي على الخليفة والتحق بالعجم فعاد الآن فرضي عنه وأذن له في دخول دار الخلافة وأعطي مالا.
252 وفيها في جمادى الأولى أرسل محمد بن أنز صاحب قهستان عسكر إلى بلد الإسماعيلية من الجبال فقتلوا كثيرا من العسكر وأسروا الأمير الذي كان مقدما عليهم اسمه قيبة وهو صهر ابن أنز فبقي عندهم أسيرا عدة شهور حتى زوج ابنته من رئيس الإسماعيلية علي بن الحسن وخلص من الأسر. وفيها توفي شرف الدين علي بن أبي القاسم منصور بن أبي سعد الساعدي قاضي نيسابور في شهر رمضان وكان موته بالري ودفن في مقبرة محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة الله عنهما وكان القاضي حنفيا أيضا.
253 555 ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة ذكر مسير سليمان شاه إلى همذان في هذه السنة سار سليمان شاه من الموصل إلى همذان ليتولى السلطنة وقد تقدم سبب قبضه وأخذه إلى الموصل. وسبب مسيره إليها أن الملك محمد ابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه لما مات أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى أتابك قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يطلبون منه إرسال الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه إليهم ليولوه السلطنة فاستقرت القاعدة بينهم أن يكون سليمان شاه سلطانا وقطب الدين أتابكه وجمال الدين وزير قطب الدين وزيرا لسليمان شاه وتحالفوا على هذا وجهز سليمان شاه بالأموال الكثيرة والبرك والدواب والآلات وغير ذلك مما يصلح للسلاطين وسار ومعه زين الدين علي وعسكر الموصل إلى همذان. فلما قاربوا بلاد الجبل أقبلت العساكر إليهم أرسالا كل يوم يلقاه طائفة وأمير فاجتمع مع سليمان شاه عسكر فخافهم زين الدين على نفسه
254 لأنه رأى من تسلطهم على السلطان واطراحهم للأدب معه ما أوجب الخوف معه فعاد إلى الموصل فحين عاد عنه لم ينتظم أمره ولم يتم له ما أراده وقبض العسكر عليه بباب همذان في شوال سنة ست وخمسين [خمسمائة] وخطبوا لأرسلان شاه ابن الملك طغرل وهو الذي زوج إيلدكز بأمه وسيذكر مشروحا إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة الفائز وولاية العاضد العلويين في هذه السنة توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر صاحب مصر وكانت خلافته ست سنين ونحو شهرين وكان له لما ولي خمس سنين كما ذكرناه ولما مات دخل الصالح بن رزيك القصر واستدعى خادما كبيرا وقال له من ههنا يصلح للخلافة فقال ههنا جماعة وذكر أسماءهم وذكر له منهم إنسانا كبير السن فأمر بإحضاره فقال له بعض أصحابه سرا لا يكون عباس أحزم منك حيث اختار الصغير وترك الكبار واستبد بالأمر فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه وأمر حينئذ بإحضار العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ ولم يكن أبوه خليفة وكان العاضد ذلك الوقت مراهقا قارب البلوغ فبايع له بالخلافة وزوجه الصالح ابنته ونقل معها من الجهاز ما لا يسمع بمثله وعاشت بعد موت العاضد وخروج الأمر من العلويين إلى الأتراك وتزوجت.
255 ذكر وفاة الخليفة المقتفي لأمر الله وشئ من سيرته وفي هذه السنة ثاني ربيع الأول توفي أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله رضي الله عنه بعلة التراقي وكان مولده ثاني عشر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وأربعمائة وأمه أم ولد تدعى ياعي وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة عشر يوما ووافق أباه المستظهر بالله في علة التراقي وماتا جميعا في ربيع الأول. وكان حليما كريما عادلا حسن السيرة من الرجال ذوي الرأي والعقل الكثير وهو أول من استبد بالعراق منفردا عن سلطان يكون معه من أول أيام الديلم إلى الآن وأول خليفة تمكن من الخلافة وحكم على عسكره وأصحابه من حين تحكم المماليك على الخلفاء من عهد المستنصر إلى الآن إلا أن يكون المعتضد وكان شجاعا مقداما مباشرا للحروب بنفسه وكان يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار في جميع البلاد حتى كان لا يفوته منها شيء. ذكر خلافة المستنجد بالله وفي هذه السنة بويع المستنجد بالله أمير المؤمنين واسمه يوسف وأمه أم ولد تدعى طاوس بعد موت والده وكان للمقتفي حظية وهي أم
256 ولده أبي علي فلما اشتد مرض المقتفي وأيست منه أرسلت إلى جماعة من الأمراء وبذلت لهم الإقطاعات الكثيرة والأموال الجزيلة ليساعدوها على أن يكون ولدها الأمير أبو علي خليفة فقالوا كيف الحيلة مع ولي العهد فقالت إذا دخل على والده قبضت عليه وكان يدخل إلى أبيه كل يوم فقالوا لا بد لنا من أحد من أرباب الدولة فوقع اختيارهم على أبي المعالي ابن الكيا الهراسي فدعوه إلى ذلك فأجابهم على أن يكون وزيرا فبذلوا له ما طلب. فلما استقرت القاعدة بينهم وعلمت أم أبي علي أحضرت عدة من الجواري وأعطتهن السكاكين وأمرتهن بقتل ولي العهد المستنجد بالله وكان له خصي صغير يرسله كل وقت يتعرف أخبار والده فرأى الجواري بأيديهن السكاكين ورأى بيد أبي علي وأمه سيفين فعاد إلى المستنجد وأخبره وأرسلته هي إلى المستنجد تقول له إن والده قد حضره الموت ليحضر ويشاهده فاستدعى أستاذ دار عضد الدولة وأخذه معه وجماعة من الفراشين ودخل الدار وقد لبس الدرع وأخذ بيده السيف فلما دخل ثار الجواري فضرب واحدة منهن فجرحها وكذلك أخرى وصاح ودخل أستاذ الدار ومعه الفراشون فهرب الجواري وأخذ أخاه أبا علي وأمه فسجنهما وأخذ الجواري فقتل منهن وغرق منهن ودفع الله عنه. فلما توفي المقتفي لأمر الله جلس للبيعة فبايعه أهله وأقاربه وأولهم عمه أبو طالب ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفي وكان أكبر من المستنجد ثم بايعه الوزير بن هبيرة وقاضي القضاة وأرباب الدولة والعلماء وخطب له يوم الجمعة ونثرت الدنانير والدراهم.
257 حكى عنه الوزير عون الدين بن هبيرة أنه قال رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المنام منذ خمس عشرة سنة وقال لي يبقى أبوك في الخلافة خمس عشرة سنة فكان كما قال، صلى الله عليه وسلم. قال ثم رأيته قبل موت أبي المقتفي بأربعة اشهر فدخل بي في باب كبير ثم ارتقى إلى رأس جبل وصلى بي ركعتين ثم ألبسني قميصا ثم قال لي قل اللهم اهدني فيمن هديت وذكر دعاء القنوت. ولما ولي الخلافة أقر ابن هبيرة على وزارته وأصحاب الولايات على ولاياتهم وأزال المكوس والضرائب وقبض على القاضي ابن المرخم وكان بئس الحاكم وأخذ منه مالا كثيرا وأخذت كتبه فأحرق منها في الرحبة ما كان في علوم الفلاسفة فكان منها كتاب الشفاء لابن سينا وكتاب إخوان الصفا وما يشاكلهما، وقدم عضد الدين ابن رئيس الرؤساء وكان أستاذ الدار ومكنه وتقدم إلى الوزير أن يقوم له وعزل قاضي القضاة أبا الحسن علي بن أحمد الدامغاني ورتب مكانه أبا جعفر عبد الواحد الثقفي وخلع عليه. ذكر الحرب بين عسكر خوارزمشاه والأتراك البرزية في هذه السنة، في ربيع الأول ثار طائفة من عسكر خوارزمشاه إلى أجنة وهجموا على يغمرخان بن أودك ومن معه من الأتراك البرزية فأوقعوا بهم وأكثروا القتل فانهزم يغمرخان وقصد السلطان محمود بن محمد الخان [والأتراك الغزية الذين معه وتوسل إليهم بالقرابة وظن
258 يغمرخان] أن اختيار الدين إيثاق هو الذي هيج الخوارزمية عليه فطلب من الغز إنجاده. ذكر أحوال المؤيد بخراسان هذه السنة قد ذكرنا سنة ثلاث وخمسين [خمسمائة] عود المؤيد أي أبه إلى نيسابور وتمكنه منها وأن ذلك كان سنة أربع وخمسين وخمسمائة ورأى المؤيد تحكمه في نيسابور وتمكنه في دولته وكثرة جنده وعسكره، أحسن السيرة في الرعية لا سيما أهل نيسابور فإنه جبرهم وبالغ في الإحسان إليهم وشرع في إصلاح أعمالها وإصلاح ولايتها فسير طائفة من عسكره إلى ناحية أسقيل وكان بها جمع قد تمردوا وأكثروا العيث والفساد في البلاد وطال تماديهم في طغيانهم فأرسل إليهم المؤيد يدعوهم إلى ترك الشر والفساد ومعاودة الطاعة والصلاح فلم يقبلوا ولم يرجعوا عما هم عليه فسير إليهم سرية كثيرة فقاتلوهم وأذاقوهم عاقبة ما صنعوا فأكثروا القتل فيهم وخربوا حصنهم. وسار المؤيد من نيسابور إلى بيهق فوصلها رابع عشر ربيع الآخر من السنة وقصد منها حصن خسروجرد وهو حصن منيع بناه كيخسرو الملك قبل فراغه من قتل أفراسياب وفيه رجال شجعان فامتنعوا على المؤيد فحصرهم ونصب عليهم المجانيق وجد في القتال فصبر أهل الحصن حتى نفد صبرهم ثم ملك المؤيد القلعة وأخرج كل من فيها [ورتب فيها] من يحفظها، وعاد منها إلى نيسابور في الخامس والعشرين
259 من جمادى الأولى من السنة. ثم سار إلى هراة فلم يبلغ منها غرضا فعاد إلى نيسابور وقصد مدينة كندر وهي من أعمال طريثيث وقد تغلب عليها رجل اسمه أحمد كان خربندة واجتمع معه جماعة من الزنود وقطاع الطريق والمفسدين فخربوا كثيرا من البلاد وقتلوا كثيرا من الخلق وغنموا من الأموال ما لا يحصى. وعظمت المصيبة بهم على خراسان وزاد البلاد فقصدهم المؤيد فتحصنوا بالحصن الذي لهم فقوتلوا أشد قتال ونصب عليهم العرادات والمنجنيقات فأذعن هذا الخربندة أحمد إلى طاعة المؤيد والانخراط في سلك أصحابه وأشياعه فقبله أحسن قبول وأحسن إليه وأنعم عليه ثم إنه عصي على المؤيد وتحصن بحصنه فأخذه المؤيد منه قهرا وعنوة وقيده واحتاط عليه ثم قتله وأراح المسلمين منه ومن شره وفساده. وقصد المؤيد في شهر رمضان ناحية بيهق عازما على قتالهم لخروجهم عن طاعته فلما قاربها أتاه زاهد من أهلها ودعاه إلى العفو عنهم والحلم عن ذنوبهم ووعظه وذكره فأجاب إلى ذلك ورحل عنهم فأرسل السلطان محمود بن محمد الخان وهو مع الغزالي المؤيد بتقرير نيسابور وطوس وأعمالها عليه ورد الحكم فيها إليه فعاد إلى نيسابور رابع ذي القعدة من السنة ففرح الناس بما تقرر بينه وبين الملك محمود وبين الغز من إبقاء نيسابور عليه ليزول الخلف والفتن عن الناس.
260 ذكر الحرب بين شاه مازندران ويغمرخان لما قصد يغمرخان الغز وتوسل إليهم لينصروه على إيثاق لظنه أنه هو الذي حسن للخوارزمية قصده فأجابوه إلى ذلك وساروا معه على طريق نسا وأبيورد ووصلوا إلى الأمير إيثاق فلم يجد لنفسه بهم قوة فاستنجد شاه مازندران فجاءه ومعه الأكراد والديلم والأتراك والتركمان الذين يسكنون نواحي أبسكون جمع كثير فاقتتلوا ودامت الحرب بينهم وانهزم الأتراك الغزية والبرزية من شاه مازندران خمس مرات ويعودون وكان على ميمنة شاه مازندران الأمير إيثاق فحملت الأتراك الغزية عليه لما أيسوا من الظفر بقلب شاه مازندران فانهزم إيثاق وتبعه باقي العسكر ووصل شاه مازندران إلى سارية وقتل من عسكره أكثرهم. وحكي أن بعض التجار كفن ودفن من هؤلاء القتلى سبعة آلاف رجل وأما إيثاق فإنه قصد في هربه خوارزم وأقام بها وسار الغز من المعركة إلى دهستان وكان الحرب قريبا منها فنقبوا سورها وأوقعوا بأهلها ونهبوهم أوائل سنة ست وخمسين وخمسمائة بعد أن خربوا جرجان وفرقوا أهلها في البلاد وعادوا إلى خراسان.
261 ذكر وفاة خسروشاه صاحب غزنة وملك ابنه بعده في هذه السنة في رجب توفي السلطان خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وكان عادلا حسن السيرة في رعيته محبا للخير وأهله مقربا للعلماء محسنا إليهم راجعا إلى قولهم وكان ملكه تسع سنين. [وملك بعده ابنه ملكشاه] فلما ملك نزل علاء الدين الحسين ملك الغور إلى غزنة فحصرها وكان الشتاء شديدا والثلج كثيرا فلم يمكنه المقام عليها فعاد إلى بلاده في صفر سنة ست وخمسين [خمسمائة]. ذكر الحرب بين إيثاق وبغراتكين في هذه السنة منتصف شعبان كان بين الأمير إيثاق والأمير بغراتكين برغش الجركاني حرب وكان إيثاق قد سار إلى بغراتكين في آخر أعمال جوين فنهب وأخذ أمواله وكل ماله وكان ذا نعمة عظيمة وأموال جسيمة فانهزم بغراتكين عنها وخلاها فافتتحها إيثاق واستغنى بها وقويت نفسه وكثرت جموعه وقصده الناس. وأما بغراتكين فإنه أرسل إلى المؤيد صاحب نيسابور وسار في جملته ومعدودا من أصحابه فتلقاه المؤيد بالقبول.
262 ذكر وفاة ملكشاه بن محمود في هذه السنة توفي ملكشاه ابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بأصفهان مسموما وكان سبب ذلك أنه لما كثر جمعه بأصفهان أرسل إلى بغداد وطلب أن يقطعوا خطبة عمه سليمان شاه ويخطبوا له ويعيدوا القواعد بالعراق إلى ما كانت أولا وإلا قصدهم فوضع الوزير عون الدين بن هبيرة خصيا كان خصيصا به يقال له أغلبك الكوهراييني فمضى إلى بلاد العجم واشترى جارية من قاضي همذان بألف دينار وباعها من ملكشاه وكان قد وضعها على سمه ووعدها أمورا عظيما على ذلك وسمته في لحم مشوي فأصبح ميتا وجاء الطبيب إلى دكلا وشملة فعرفهما أنه مسموم فعرفوا أن ذلك من فعل الجارية فأخذت وضربت وأقرت وهرب أغلبك ووصل إلى بغداد ووفي له الوزير بجميع ما استقر الحال عليه. ولما مات أخرج أهل أصفهان أصحابه من عندهم وخطبوا لسليمان شاه واستقر ملكه بتلك البلاد وعاد شملة إلى خوزستان فأخذ ما كان ملكشاه تغلب عليه منها. ذكر عدة حوادث في هذه السنة حج أسد الدين شيركوه بن شاذي مقدم جيوش نور الدين محمود ابن زنكي صاحب الشام وشيركوه هذا هو الذي ملك الديار المصرية
263 وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى. وفيها أرسل زين الدين علي نائب قطب الدين صاحب الموصل رسولا إلى المستنجد يعتذر مما جناه من مساعدة محمد شاه في حصار بغداد ويطلب أن يؤذن له في الحج فأرسل إليه يوسف الدمشقي مدرس النظامية وسليمان بن قتلمش يطيبان قلبه عن الخليفة ويعرفانه الإذن في الحج فحج ودخل إلى الخليفة فأكرمه وخلع عليه. وفيها توفي قايماز الأرجواني أمير الحاج سقط عن الفرس وهو يلعب بالأكرة فسال مخه من منخريه وأذنيه فمات. وفيها في ربيع الآخر توفي محمد بن يحيى بن علي بن مسلم أبو عبد الله الزبيدي من أهل زبيد مدينة باليمن مشهورة وقدم بغداد سنة تسع وأربعين وخمسمائة وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان نحويا واعظا وصحبه الوزير بن هبيرة مرة وكان موته ببغداد.
264 556 ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة ذكر الفتنة ببغداد في هذه السنة في ربيع الأول خرج الوزير ابن هبيرة من داره إلى الديوان والغلمان يطرقون له وأرادوا يردون باب المدرسة الكمالية بدار الخليفة فمنعهم الفقهاء وضربوهم بالآجر فشهر أصحاب الوزير السيوف وأرادوا ضربهم فمنعهم الوزير ومضى إلى الديوان فكتب الفقهاء مطالعة يشكون أصحاب الوزير فأمر الخليفة بضرب الفقهاء وتأديبهم ونفيهم من الدار فمضى أستاذ الدار وعاقبهم هناك واختفى مدرسهم الشيخ أبو طالب ثم إن الوزير أعطى كل فقير دينارا واستحل منهم وأعادهم إلى المدينة وظهر مدرسهم. ذكر قتل ترشك في هذه الأيام قصد جمع من التركمان إلى البندنيجين فأمر الخليفة بتجهيز عسكر إليهم وأن يكون مقدمهم ترشك وكان في أقطاعه بلد اللحف فأرسل إليه الخليفة يستدعيه فامتنع من المجيء إلى بغداد وقال يحضر العسكر فأنا أقاتل بهم وكان عازما على الغدر فجهز العسكر وساروا إليه وفيهم جماعة من الأمراء فلما اجتمعوا بترشك قتلوه، وأرسلوا
265 رأسه إلى بغداد وكان قتل مملوكا للخليفة فدعا أولياء المقتول وقيل لهم إن أمير المؤمنين قد اقتص لأبيكم ممن قتله. ذكر قتل سليمان شاه والخطبة لأرسلان في هذه السنة في ربيع الآخر قتل السلطان سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه وسبب ذلك أنه كان فيه تهور وخرق وبلغ به شرب الخمر حتى أنه شربها في رمضان نهارا وكان يجمع المساخر ولا يلتفت إلى الأمراء فأهمل العسكر أمره وصاروا لا يحضرون بابه وكان قد رد جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم وهو من مشايخ الخدم السلجوقية يرجع إلى دين وعقل وحسن وتدبير فكان الأمراء يشكون إليه وهو يسكنهم. فاتفق أنه شرب يوما بظاهر همذان في الكشك فحضر عنده كردبازو حتى أن بعضهم كشف له سوأته فخرج مغضبا فلما صحا سليمان أرسل إليه يعتذر فقبل عذره إلا أنه تجنب الحضور عنده فكتب سليمان إلى إينانج صاحب الري يطلب منه أن ينجده على كردبازو فوصل الرسول وإينانج مريض فأعاد الجواب يقول إذا أفقت من مرضي حضرت إليك بعسكري فبلغ الخبر كردبازو فازداد استيحاشا فأرسل إليه سليمان
266 يوما يطلبه فقال إذا جاء إينانج حضرت وأحضر الأمراء واستحلفهم على طاعته وكانوا كارهين لسليمان فحلفوا له فأول ما عمل أن قتل المساخرة الذين لسليمان وقال إنما أفعل ذلك لملكك ثم اصطلحا، وعمل كردبازو دعوة عظيمة حضرها السلطان والأمراء فلما صار السلطان سليمان شاه في داره قبض عليه كردبازو وعلى وزيره ابن القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي وعلى أصحابه في شوال سنة خمس وخمسين وخمسمائة فقتل وزيره وخواصه وحبس سليمان شاه في قلعة ثم أرسل إليه من خنقه وقيل بل حبسه في دار مجد الدين العلوي رئيس همذان وفيها قتل وقيل بل سقي سما فمات والله أعلم. وأرسل إلى إيلدكز صاحب أرانية وأكثر بلاد أذربيجان يستدعيه إليه ليخطب للملك أرسلان شاه الذي معه وبلغ الخبر إلى اينانج صاحب الري فسار ينهب البلاد إلى أن وصل إلى همذان فتحصن كردبازو فطلب منه إينانج أن يعطيه مصافا فقال أنا لا أحاربك حتى يصل الأتابك الأعظم إيلدكز. [وسار إيلدكز] في عساكره جميعها يزيد على عشرين ألف فارس، ومعه أرسلان شاه بن طغرل بن محمد ابن ملكشاه فوصل إلى همذان فلقيهم كردبازو وأنزله دار المملكة وخطب لأرسلان شاه بالسلطنة بتلك البلاد وكان إيلدكز أتابكه والبهلوان حاجبه وهو أخوه لأمه وكان إيلدكز هذا هو أحد مماليك السلطان مسعود وأمرائه في أول أمره فلما ملك أقطعه أران وبعض أذربيجان واتفق الحروب والاختلاف فلم يحضر عند أحد من
267 السلاطين السلجوقية وعظم شأنه وقوي أمره وتزوج بأم الملك أرسلان شاه فولدت له أولادا منهم البهلوان محمد وقزل أرسلان عثمان. وقد ذكرنا سبب انتقال أرسلان شاه إليه وبقي عنده إلى الآن فلما خطب له بهمذان أرسل إيلدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه أيضا وأن تعاد القواعد إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود فأهين رسوله وأعيد إليه على أقبح حالة وأما اينانج صاحب الري فإن إيلدكز راسله ولاطفه فاصطلحا وتحالفا على الاتفاق، وتزوج البهلوان بن إيلدكز بابنة اينانج ونقلت إليه بهمذان. ذكر الحرب بين بن آقسنقر وعسكر إيلدكز لما استقر الصلح بين إيلدكز وإينانج أرسل إلى ابن آقسنقر الأحمد يلي صاحب مراغة يدعوه إلى الحضور في خدمة السلطان أرسلان شاه فامتنع من ذلك وقال إن كففتم عني وإلا فعندي سلطان وكان عنده ولد محمد شاه بن محمود كما ذكرناه وكان الوزير ابن هبيرة قد كاتبه يطمعه في الخطبة لولد محمود شاه فجهز إيلدكز عسكرا مع ولده البهلوان فبلغ الخبر إلى ابن آقسنقر فأرسل إلى شاه أرمن صاحب خلاط وحالفه وصارا يدا واحدة فسير إليه أرمن عسكرا كثيرا؛ واعتذر عن تأخره بنفسه لأنه في ثغر لا يمكنه مفارقته فقوي بهم ابن آقسنقر وكثر جمعه وسار نحو البهلوان فالتقيا على نهر أسبيرود فاشتد القتال بينهم،
268 فانهزم البهلوان أقبح هزيمة ووصل هو وعسكره إلى همذان على أقبح صورة واستأمن أكثر أصحابه إلى ابن آقسنقر وعاد إلى بلده منصورا. ذكر الحرب بين إيلدكز وإينانج لما مات ملكشاه ابن السلطان محمود كما ذكرناه أخذ طائفة من أصحابه ابنه محمودا وانصرفوا به نحو بلاد فارس فخرج عليهم صاحبها زنكي بن دكلا السلغري فأخذه منهم وتركه في قلعة إصطخر فلما ملك إيلدكز والسلطان أرسلان شاه الذي معه البلاد وأرسل إيلدكز إلى بغداد يطلب الخطبة للسلطان كما ذكرناه شرع الوزير عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزير الخليفة في إثارة أصحاب الأطراف عليه وراسل الأحمديلي وكان كما ذكرناه وكاتب زنكي بن دكلا صاحب بلاد فارس يبذل له أن يخطب للملك الذي عنده وهو ابن ملكشاه وعلق الخطبة له بظفره بإيلدكز فخطب ابن دكلا للملك الذي عنده وأنزله من القلعة وضرب الطبل على بابه خمس نوب وجمع عساكره وكاتب اينانج صاحب الري يطلب منه الموافقة. وسمع إيلدكز الخبر فحشد وجمع وكثر عسكره وجموعه فكانت أربعين ألفا وسار إلى أصفهان يريد بلاد فارس وأرسل إلى زنكي ابن دكلا يطلب منه الموافقة [على] وأن يعود يخطب لأرسلان شاه فلم يفعل وقال إن الخليفة قد أقطعني بلاده وأنا سائر إليه فرحل إيلدكز وبلغه أن جشيرا
269 لأرسلان بوقا وهو أمير من أمراء زنكي وفي إقطاعه أرجان بالقرب منه فأنفذ سرية للغارة عليه فاتفق أن أرسلان بوقا عزم على تغيير الخيل التي معه فأضعفها وأخذ عوضها من ذلك الجشير فسار في عسكره إلى الجشير فصادف العسكر الذي سيره إيلدكز لأخذ دوابه فقاتلهم وأخذهم وقتلهم وأرسل الرؤوس إلى صاحبه فكتب بذلك إلى بغداد وطلب المدد فوعد بذلك. وكان الوزير عون الدين بن هبيرة أيضا قد كاتب الأمراء الذين مع إيلدكز يوبخهم على طاعته ويضعف رأيهم ويحرضهم على مساعدة زنكي بن دكلا وإينانج؛ وكان اينانج قد برز زمن الري في عشرة آلاف فارس فأرسل إلي ابن آقسنقر الأحمديلي خمسة آلاف فارس وهرب ابن البازدار صاحب قزوين وابن طغيرك وغيرهما فلحقوا بإينانج وهو في صحراء ساوة. وأما إيلدكز فإنه استشار نصحاءه فأشاروا بقصد اينانج لأنه أهم فرحل إليه ونهب زنكي إليهم فلقيهم وقاتلهم فانهزم عسكر إيلدكز إليه فتجلد إيلدكز وأرسل يطلب عساكر أذربيجان فجاءته مع ولده قزل أرسلان. وسير زنكي بن دكلا عسكرا كثيرا إلى اينانج واعتذر عن الحضور بنفسه عنده لخوفه على بلاده من شملة صاحب خوزستان فسار إيلدكز إلى اينانج وتدانى العسكران فالتقوا تاسع شعبان وجرى بينهم حرب عظيمة أجلت عن هزيمة اينانج فانهزم أقبح هزيمة وقتلت رجاله ونهبت أمواله،
270 ودخل الري وتحصن في قلعة طبرك وحصر إيلدكز الري تم الصلح واقترح اينانج اقتراحات فأجابه إيلدكز إليها وأعطاه جرباذقان وغيرها وعاد إيلدكز إلى همذان وكان ينبغي أن تتأخر هذه الحادثة والتي قبلها وإنما قدمت لتتبع أخواتها. ذكر وفاة ملك الغور وملك ابنه محمد في هذه السنة في ربيع الآخر توفي الملك علاء الدين الحسين بن الحسين الغوري ملك الغور بعد انصرافه عن غزنة وكان عادلا من أحسن الملوك سيرة في رعيته، ولما مات ملك بعده ابنه سيف الدين محمد وأطاعه الناس وأحبوه وكان قد صار في بلادهم جماعة من دعاة الإسماعيلية وكثر أتباعهم فأخرجهم من تلك الديار جميعها، ولم يبق فيها منهم أحد وراسل الملوك وهاداهم واستمال المؤيد أي أبه صاحب نيسابور وطلب موافقته. ذكر الفتنة بنيسابور وتخريبها كان أهل العبث والفساد بنيسابور قد طمعوا في نهب الأموال وتخريب البيوت وفعل ما أرادوا فإذا نهبوا لم ينتهوا فلما كان الآن تقدم المؤيد أي أبه بقبض أعيان نيسابور منهم نقيب العلويين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني وغيره وحبسهم في ربيع الآخر سنة ست وخمسين [خمسمائة]، وقال: أنتم الذين أطمعتم الزنود والمفسدين حتى فعلوا هذه
271 الفعال ولو أردتم منعهم لامتنعوا. وقتل من أهل الفساد جماعة فخربت نيسابور بالكلية ومن جملة ما خرب مسجد عقيل وكان مجمعا لأهل العلم وفيه خزائن الكتب الموقوفة وكان من أعظم منافع نيسابور وخرب أيضا من مدارس الحنفية ثمان مدارس ومن مدارس الشافعية سبع عشرة مدرسة وأحرق خمس خزائن للكتب ونهب سبع خزائن كتب وبيعت بأبخس الأثمان هذا ما أمكن احصاؤه سوى ما لم يذكر. ذكر خلع السلطان محمود ونهب طوس وغيرها من خراسان في هذه السنة في جمادى الآخرة قصد السلطان محمود بن محمد الخان وهو ابن أخت السلطان سنجر وقد ذكرنا انه ملك خراسان بعده ففي هذه السنة حصر المؤيد صاحب نيسابور بشاذياخ وكان الغز مع السلطان محمود فدامت الحرب إلى آخر شعبان سنة ست وخمسين وخمسمائة. ثم إن محمودا اظهر انه يريد دخول الحمام فدخل إلى شهرستان آخر شعبان كالهارب من الغز وأقاموا على نيسابور إلى آخر شوال ثم عادوا راجعين فعاثوا في القرى ونهبوها ونهبوا طوس نهبا فاحشا واحضروا المشهد الذي لعلي بن موسى وقتلوا كثيرا ممن فيه ونهبوهم ولم يعرضوا للقبة التي فيها القبر.
272 فلما دخل السلطان محمود إلى نيسابور أمهله المؤيد إلى أن دخل رمضان من سنة سبع وخمسين وخمسمائة وأخذه وكحله وأعماه وأخذ ما كان معه من الأموال والجواهر والأعلاق النفيسة وكان يخفيها خوفا عليها من الغز لما كان معهم وقطع المؤيد خطبته من نيسابور وغيرها مما هو في تصرفه وخطب لنفسه بعد الخليفة المستنجد بالله وأخذ ابنه جلال الدين محمدا الذي كان قد ملكه الغز أمرهم قبل أبيه وقد ذكرنا ذلك وسمله أيضا وسجنهما ومعهما جواريهما وحشمهما وبقيا فيها فلم تطل أيامها ومات السلطان محمود ثم مات ابنه بعده من شدة وجده لموت أبيه والله أعلم. ذكر عمارة شاذياخ نيسابور كانت شاذياخ قد بناها عبد الله بن طاهر بن الحسين لما كان أميرا على خراسان للمأمون وسبب عمارتها أنه رأى امرأة جميلة تقود فرسا تريد سقيه فسألها عن زوجها فأخبرته به فأحضره وقال له خدمة الخيل بالرجال أشبه فلم تقعد أنت في دارك وترسل امرأتك مع فرسك فبكى الرجل وقال له ظلمك يحملنا على ذلك فقال وكيف قال لأنك تنزل الجند معنا في دورنا فإن خرجت أنا وزوجتي بقي البيت فارغا فيأخذ الجندي ما لنا فيه وإن سقيت أنا الفرس فلا آمن على زوجتي من الجندي فرأيت أن أقيم في البيت وتخدم زوجتي الفرس. فعظم الأمر عليه وخرج من البلد لوقته ونزل في الخيام وأمر الجند فخرجوا من دور الناس وبنى شاذياخ دارا له ولجنده وسكنها وهم معه، ثم إنها دثرت بعد ذلك.
273 فلما كان أيام السلطان ألب أرسلان ذكرت له هذه القصة فأمر بتجديدها ثم إنها تشعثت بعد ذلك فلما كان الآن وخرجت نيسابور ولم يمكن حفظها والغز تطرق البلاد وتنهبها أمر المؤيد حينئذ بعمل سورها وسد ثلمه وسكناه ففعل ذلك وسكنها هو والناس معه وخربت حينئذ نيسابور كل خراب ولم يبق بها أنيس. ذكر قتل الصالح بم رزيك ووزارة ابنه رزيك في هذه السنة في شهر رمضان قتل الملك الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك الأرمني وزير العاضد العلوي صاحب مصر وكان سبب قتله أنه تحكم في الدولة التحكم العظيم واستبد بالأمر والنهي وجباية الأموال إليه لصغر العاضد ولأنه هو الذي ولاه ووتر الناس فإنه أخرج كثيرا من أيمانهم وفرقهم في البلاد ليأمن وثوبهم عليه ثم إنه زوج ابنته من العاضد فعاداه أيضا الحرم من القصر فأرسلت عمة العاضد الأموال إلى أمراء المصريين ودعتهم إلى قتله. وكان أشدهم عليه في ذلك إنسان يقال له ابن الداعي فوقفوا له في دهليز القصر فلما دخل ضربوه بالسكاكين على دهش [منه] فجرحوه جراحات مهلكة إلا أنه حمل إلى داره وفيه حياة فأرسل إلى العاضد يعاتبه على الرضا بقتله مع أثره في خلافته فأقسم العاضد أنه لا يعلم بذلك ولم يرض به فقال إن كنت بريئا فسلم عمتك إلي حتى انتقم منها فأمر بأخذها فأرسل إليها فأخذها قهرا وأحضرت عنده فقتلها ووصى بالوزارة لابنه
274 رزيك ولقب العادل فانتقل الأمر إليه بعد وفاة أبيه وللصالح أشعار حسنة بليغة تدل على فضل غزير فمنها في الافتخار: (أبى الله إلا أن يدوم لنا الدهر * ويخدمنا في ملكنا العز والنصر) (علمنا بأن المال تفنى ألوفه * ويبقى لنا من بعده الأجر والذكر) (خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا * سحاب لديه البرق والرعد والقطر) (قرانا إذا رحنا إلى الحرب مرة * قرانا ومن أضيافنا الذئب والنسر) (كما أننا في السلم نبذل جودنا * ويرتع في أنعامنا العبد والحر) وهو طويلة. وكان الصالح كريما فيه أدب له شعر جيد وكان لأهل العلم عنده إنفاق ويرسل إليهم العطاء الكثير بلغه أن الشيخ أبا محمد بن الدهان النحوي البغدادي المقيم بالموصل قد شرح بيتا من شعره وهو هذا: (تجنب سمعي ما تقول العواذل * وأصبح لي شغل من الغزو شاغل) فجهز إليه هدية سنية ليرسلها إليه فقتل قبل إرسالها وبلغه أيضا أن إنسانا من أعيان الموصل قد أثنى عليه بمكة فأرسل إليه كتابا يشكره ومعه هدية. وكان الصالح إماميا لم يكن على مذهب العلويين المصريين ولما ولي العاضد الخلافة وركب سمع الصالح ضجة عظيمة فقال ما الخبر فقيل إنهم يفرحون بالخليفة فقال كأني بهؤلاء الجهلة وهم يقولون ما مات الأول حتى استخلف هذا وما علموا أنني كنت من ساعة أستعرضهم استعراض الغنم.
275 قال عمارة: دخلت إلى صالح قبل قتله بثلاثة أيام فناولني قرطاسا فيه بيتان من شعره وهما: (نحن في غفلة ونوم وللموت * عيون يقظانة لا تنام) (قد رحلنا إلى الحمام سنينا * ليت شعري متى يكون الحمام) فكان آخر عهدي به. وقال عمارة أيضا ومن عجيب الاتفاق أنني أنشدت ابنه قصيدة أقول فيها: (أبوك الذي تسطو الليالي بحده * وأنت يمين إن سطا وشمال) (لرتبته العظمى وإن طال عمره * إليك مصير واجب ومنال) (تخالصك اللحظ المصون ودونها * حجاب شريف لا انقضا وحجال) فانتقل الأمر إليه بعد ثلاثة أيام. ذكر الحرب بين العرب وعسكر بغداد في هذه السنة في شهر رمضان اجتمعت خفاجة إلى الحلة والكوفة وطالبوا برسومهم من الطعام والتمر وغير ذلك فمنعهم أمير الحاج أرغش وهو مقطع الكوفة ووافقه على منعه الأمير قيصر شحنة الحلة وهما من مماليك الخليفة فأفسدت خفاجة ونهبوا سواد الكوفة والحلة فأسرى إليهم الأمير قيصر شحنة الحلة في مائتين وخمسين فارسا وخرج إليه أرغش
276 في عسكر وسلاح، فانتزح خفاجة من بين أيديهم وتبعه العسكر إلى رحبة الشام فأرسل خفاجة يعتذرون ويقولون قد قنعنا بلبن الإبل وخبز الشعير وأنت تمنعونا رسومنا وطلبوا الصلح فلم يجبهم أرغش وقيصر. وكان قد اجتمع مع خفاجة كثير من العرب فتصافوا واقتتلوا وأرسلت العرب طائفة إلى خيام العسكر ورحالهم فحالوا بينهم وبينها وحمل العرب حملة منكرة فانهزم العسكر وقتل كثير منهم وقتل الأمير قيصر وأسرت جماعة أخرى وجرح أمير الحاج جراحة شديدة ودخل الرجبة فحماه شحنتها وأخذ له الأمان وسيره إلى بغداد ومن نجا مات عطشا في البرية. وكان إماء العرب يخرجن بالماء يسقين الجرحى فإذا طلبه منهن أحد من العسكر أجهزن عليه وكثر النوح والبكاء ببغداد على القتلى وتجهز الوزير عون الدين بن هبيرة والعساكر معه فخرج في طلب خفاجة فدخلوا البرية وخرجوا إلى البصرة ولما دخلوا البر عاد الوزير إلى بغداد وأرسل بنو خفاجة يعتذروا ويقولون بغي علينا وفارقنا البلاد فتبعوني واضطررنا إلى القتال وسألوا العفو عنهم فأجيبوا إلى ذلك. ذكر حصر المؤيد شارستان في هذه السنة حصر المؤيد أي أبه مدينة شارستان قريب نيسابور وقاتله أهلها ونصب المجانيق والعرادات فصبر أهلها خوفا على أنفسهم من المؤيد وكان مع المؤيد جلال الدين الموفقي الفقيه الشافعي فبينما هو راكب
277 إذ وصل إليه حجر منجنيق فقتله خامس جمادى الآخرة من السنة وتعدى الحجر منه إلى شيخ من شيوخ بيهق فقتله فعظمت المصيبة بقتل جلال الدين على أهل العلم خصوصا أهل السنة والجماعة وكان في عنفوان شبابه رحمه الله لما قتل. ودام الحصار إلى شعبان سنة سبع وخمسين وخمسمائة فنزل خواجكي صاحبها بعدما كثر القتل ودام الحصر وكان لهذه القلعة ثلاثة رؤساء هم أرباب النهي والأمر وهم الذين حفظوها وقاتلوا عنها أحدهم خواجكي هذا والثاني داعي بن محمد ابن أخي حرب العلوي والثالث الحسين بن أبي طالب العلوي الفارسي فنزلوا كلهم أيضا إلى المؤيد أي أبه فيمن معهم من أشياعهم وأتباعهم فأما خواجكي فإنه أثبت عليه أنه قتل زوجته ظلما وعدوانا وأخذ مالها فقتل بها وملك المؤيد شارستان وصفت له فنهبها عسكره إلا أنهم لم يقتلوا امرأة ولا سبوها. ذكر ملك الكرج مدينة آني في هذه السنة في شعبان اجتمعت الكرج مع ملكهم وساروا إلى مدينة آني من بلاد آران وملكوها وقتلوا فيها خلقا كثيرا فانتدب لهم شاه أرمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط وجمع العساكر واجتمع معه من المتطوعة خلق كثير وسار إليهم فلقوه وقاتلوه فانهزم المسلمون وقتل أكثرهم وأسر كثير منهم وعاد شاه أرمن مهزوما ولم يرجع معه غير أربعمائة فارس من عسكره.
278 ذكر ولاية عيسى مكة حرسها الله تعالى كان أمير مكة هذه السنة قاسم بن فليتة بن قاسم بن أبي هاشم العلوي الحسيني فلما سمع بقرب الحجاج من مكة صادر المجاورين وأعيان أهل مكة وأخذ كثيرا من أموالهم وهرب من مكة خوفا من أمير الحاج أرغش. وكان قد حج هذه السنة زين الدين علي بن بكتكين صاحب جيش الموصل ومعه طائفة صالحة من العسكر فلما وصل أمير الحاج إلى مكة رتب مكان قاسم بن فليتة عمه عيسى بن قاسم بن هاشم فبقي كذلك إلى شهر رمضان ثم إن قاسم بن فليتة جمع جمعا كثيرا من العرب أطمعهم في مال له بمكة فاتبعوه فسار بهم إليها فلما سمع عمه عيسى فارقها ودخلها قاسم فأقام بها أميرا أياما ولم يكن له مال يوصله إلى العرب ثم إنه قتل قائدا كان معه حسن السيرة فتغيرت نيات أصحابه عليه وكاتبوا عمه عيسى فقدم عليهم فهرب وصعد جبل أبي قبيس فسقط عن فرسه فأخذه أصحاب عيسى وقتلوه فعظم عليه قتله فأخذه وغسله ودفنه بالمعلى عند أبيه فليتة واستقر الأمر بعده لعيسى والله أعلم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة سار عبد المؤمن بن علي إلى جبل طارق وهو على ساحل الخليج بما يلي الأندلس فعبر المجاز إليه وبنى عليه مدينة حصينة وأقام بها عليه عدة شهور وعاد إلى مراكش.
279 وفيها في المحرم ورد نيسابور جمع كثير من تركمان بلاد فارس ومعهم أغنام كثيرة للتجارة فباعوها وأخذوا الثمن ونزلوا على مرحلتين من طابس كنكلي وباتوا هناك فنزل إليهم الإسماعيلية وكبسوهم ليلا ووضعوا السيف فيهم فقتلوا وأكثروا ولم ينج منهم إلا الشريد وغنم الإسماعيلية جميع ما معهم من مال وعروض وعادوا إلى قلاعهم. وفيها كثرت الأمطار في أكثر البلاد ولا سيما خراسان فإن الأمطار توالت فيها من العشرين من المحرم إلى منتصف صفر لم تنقطع ولا رأى الناس فيها شمسا. وفيها كان بين الكرج وبين الملك صلتق بن علي صاحب أرزن الروم قتال وحرب انهزم فيه صلتق وعسكره وأسر هو وكانت أخته شاه بأنوار قد تزوجها شاه أرمن بن سكمان بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط فأرسلت إلى ملك الكرج هدية جليلة المقدار وطلبت منه أن يفاديها بأخيها فأطلقه فعاد إلى ملكه. وفيها قصد صاحب صيدا من الفرنج نور الدين محمود صاحب الشام ملتجئا إليه فأمنه وسير معه عسكرا يمنعه من الفرنج أيضا فظفر عليهم في الطريق كمين للفرنج فقتلوا من المسلمين جماعة وانهزم الباقون. وفيها ملك قرا أرسلان صاحب حصن كيفا قلعة شاتان وكانت لطائفة من الأكراد يقال لهم الجونية فلما ملكها خربها وأضاف ولايتها إلى حصن طالب. وفيها توفي الكمال حمزة بن علي بن طلحة صاحب المخزن كان جليل
280 القدر أيام المسترشد بالله وولي المقتفى وبنى مدرسة لأصحاب الشافعي بالقرب من داره ثم حج وعاد وقد لبس الفوط وزي الصوفية وترك الأعمال فقال بعض الشعراء فيه: (يا عضد الإسلام يا من سمت * إلى العلا همته الفاخره) (كانت لك الدنيا فلم ترضها * ملكا فأخلدت إلى الآخرة) وبقي منقطعا في بيته عشرين سنة، ولم يزل محترما يغشاه الناس كافة.
281 557 ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة ذكر فتح المؤيد طوس وغيرها في هذه السنة في السابع والعشرين من صفر نازل المؤيد أي أبه أبا بكر جاندار بقلعة وسكرة خوي من طوس وكان قد تحصن بها وهي حصينة منيعة لا ترام فقاتله وأعانه أهل طوس على أبي بكر لسوء سيرته كانت فيهم وظلمه فلما رأى أبو بكر ملازمة المؤيد ومواصلة القتال عليه خضع وذل ونزل من القلعة بالأمان في العشرين من ربيع الأول من السنة فلما نزل منها حبسه المؤيد وأمر بتقييده. ثم سار منها إلى كرستان وصاحبها أبو بكر فاخر فنزل من قلعته وهي من أمنع الحصون على رأس جبل عال وصار في طاعة المؤيد ودان له ووافقه وسير جيشا في جمادى الآخرة منها إلى اسفراين فتحصن رئيسها عبد الرحمن بن محمد ابن علي الحاج بالقلعة وكان أبوه كريم خراسان على الإطلاق ولكن كان عبد الرحمن هذا بئس الخلف فلما تحصن أحاط به العسكر المؤيدي واستنزلوه من الحصن وحملوه مقيدا إلى شاذياخ وحبس بها وقيل في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وملك المؤيد أيضا قهندز نيسابور واستدارت مملكة المؤيد حول نيسابور وعادت إلى ما كان عليه قبل إلا أن أهلها انتقلوا إلى شاذياخ
282 وخربت المدينة العتيقة. وسير المؤيد جيشا إلى خواف وبها عسكر مع بعض الأمراء اسمه أرغش فكمن أرغش جمعا في تلك المضايق والجبال وتقدم إلى عسكر المؤيد فقاتلهم وطلع الكمين فانهزم عسكر المؤيد وقتل منهم جمع وعاد الباقون إلى المؤيد بنيسابور. وسير جيشا إلى بوشنج هراة وهي في طاعة الملك محمد بن الحسين الغوري فحصروها واشتد الحصار عليها وقام القتال والزحف فسير الملك محمد الغوري جيشا إليها ليمنع عنها فلما قاربوا هراة فارقها العسكر الذي يحصرها وعادوا عنها وصفت تلك الولاية للغورية. ذكر أخذ ابن مردنيش غرناطة من عبد المؤمن وعودها إليه في هذه السنة أرسل أهل غرناطة من بلاد الأندلس وهي لعبد المؤمن إلى الأمير إبراهيم بن همشك صهر ابن مردنيش فاستدعوه إليهم ليسلموا إليه البلد وكان قد وحد وصار من أصحاب عبد المؤمن وفي طاعته وممن يحرضه على قصد ابن مردنيش فلما وصل إليه رسل أهل غرناطة سار معهم إليها فدخلها وبها جمع من أصحاب عبد المؤمن فامتنعوا بحصنها فبلغ الخبر أبا سعيد عثمان بن عبد المؤمن وهو بمدينة مالقة فجمع الجيش الذي كان عنده وتوجه إلى غرناطة لنصرة من فيها من أصحابهم فعلم بذلك إبراهيم بن همشك فاستنجد ابن مردنيش ملك البلاد بشرق الأندلس فأرسل إليه ألفي فارس من أنجاد أصحابه ومن الفرنج الذين جندهم معه
283 فاجتمعوا بنواحي غرناطة فالتقوا هم ومن بغرناطة من عسكر عبد المؤمن قبل وصول أبي سعيد إليهم فاشتد القتال بينهم فانهزم عسكر عبد المؤمن وقدم أبو سعيد واقتتلوا أيضا فانهزم كثير من أصحابه وثبت معه طائفة من الأعيان والفرسان المشهورين والرجالة الأجلاد حتى قتلوا عن آخرهم وانهزم حينئذ أبو سعيد ولحق بمالقة. وسمع عبد المؤمن الخبر وكان قد سار إلى مدينة سلا فسير في الحال ابنه أبا يعقوب يوسف في عشرين ألف مقاتل فيهم جماعة من شيوخ الموحدين فجدوا المسير فبلغ ذلك ابن مردنيش فسار بنفسه وجيشه إلى غرناطة ليعين ابن همشك فاجتمع منهم بغرناطة جمع كثير فنزل ابن مردنيش في الشريعة بظاهرها ونزل العسكر الذي أمر به ابن همشك أولا وهم ألفا فارس بظاهر القلعة الحمراء ونزل ابن همشك بباطن القلعة الحمراء فيمن معه ووصل عسكر عبد المؤمن إلى جبل قريب من غرناطة فأقاموا في سفحه أياما ثم سيروا سرية أربعة آلاف فارس فبيتوا العسكر الذي بظاهر القلعة الحمراء وقاتلوهم من جهاتهم فما لحقوا يركبون فقتلوهم عن آخرهم وأقبل عسكر عبد المؤمن بجملته فنزلوا بضواحي غرناطة فعلم ابن مردنيش وابن همشك أنهم لا طاقة لهم بهم ففروا في الليلة الثانية ولحقوا بلادهم واستولى الموحدون على غرناطة في باقي السنة المذكورة وعاد عبد المؤمن من مدينة سلا إلى مراكش.
284 ذكر حصر نور الدين حارم في هذه السنة جمع نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الشام العساكر بحلب وسار إلى قلعة حارم وهي للفرنج غربي حلب فحصرها وجد في قتالها فامتنعت عليه بحصانتها وكثرة من بها من فرسان الفرنج ورجالهم وشجعانهم فلما علم الفرنج ذلك جمعوا فارسهم وراجلهم من سائر البلاد وحشدوا واستعدوا وساروا نحوه ليرحلوا عنها فلما قاربوه طلب منهم المصاف فلم يجيبوه إليه وراسلوه وتلطفوا الحال معه فلما رأى انه لا يمكنه أخذ الحصن ولا يجيبونه إلى المصاف عاد إلى بلاده. وممن كان معه في هذه الغزوة مؤيد الدولة أسامة بن مرشد ابن منقذ الكناني وكان من الشجاعة في الغاية فلما عاد إلى حلب دخل إلى مسجد شيزر وكان قد دخله في العام الماضي سائرا إلى الحج فلما دخل الآن كتب على حائطه: (لك الحمد يا مولاي كم لك منة * علي وفضل لا يحيط به شكري) (نزلت بهذا المسجد العام قافلا * من الغزو موفور النصيب من الأجر) (ومنه رحلت العيس في عامي الذي * مضى نحو بيت الله والركن والحجر) (فأديت مفروضي وأسقطت ثقل ما * تحملت من وزر الشبيبة عن ظهري)
285 ذكر ملك الخليفة قلعة الماهكي في هذه السنة في رجب ملك الخليفة المستنجد بالله قلعة الماهكي وسبب ذلك أن سنقر الهمذاني صاحبها سلمها إلى أحد مماليكه ومضى إلى همذان فضعف هذا المملوك عن مقاومة ما حولها من التركمان والأكراد فأشير عليه ببيعها من الخليفة فراسل في ذلك فاستقرت [على] خمسة عشر ألف دينار وسلاح وغير ذلك من الأمتعة وعدة من القرى فسلمها وتسلم ما استقر له وأقام ببغداد وهذه القلعة لم تزل من أيام المقتدر بالله بأيدي التركمان والأكراد إلى الآن. ذكر الحرب بين المسلمين والكرج في هذه السنة في شعبان اجتمعت الكرج في خلق كثير يبلغون ثلاثين ألف مقاتل ودخلوا بلاد الإسلام وقصدوا مدينة دوين أذربيجان فملكوها ونهبوها وقتلوا من أهلها وسوادها نحو عشرة آلاف قتيل وأخذوا النساء سبايا وأسروا كثيرا وأعروا النساء وقادوهن حفاة عراة وأحرقوا الجامع والمساجد فلما وصلوا إلى بلادهم أنكر نساء الكرج ما فعلوا بنساء المسلمين وقلن لهم قد أحوجتم المسلمين إلى أن يفعلوا بنا مثل ما فعلتم بنسائهم وكسونهن.
286 ولما بلغ الخبر إلى شمس الدين إيلدكز صاحب أذربيجان والجبل وأصفهان جمع عساكره وحشدها وانضاف إليه شاه أرمن بن سكمان القطبي صاحب خلاط وابن آقسنقر صاحب مراغة وغيرها فاجتمعوا في عسكر كثير يزيدون على خمسين ألف مقاتل وساروا إلى بلاد الكرج في صفر سنة ثمان وخمسين [خمسمائة] ونهبوها وسبوا النساء والصبيان، وأسروا الرجال ولقيهم الكرج واقتتلوا أشد قتال صبر فيه الفريقان ودامت الحرب بينهم أكثر من شهر وكان الظفر للمسلمين فانهزم الكرج وقتل منهم كثير وأسر كذلك. وكان سبب الهزيمة أن بعض الكرج حضر عند إيلدكز فأسلم على يديه وقال له تعطيني عسكرا حتى أسير بهم في طريق أعرفها وأجيء إلى الكرج من ورائهم وهم لا يشعرون فاستوثق منه وسير معه عسكرا وواعده يوما يصل فيه إلى الكرج فلما كان ذلك اليوم قاتل المسلمون الكرج فبينما هم في القتال وصل ذلك الكرجي الذي أسلم ومعه العسكر وكبروا وحملوا على الكرج من ورائهم فانهزموا وكثر القتل فيهم والأسر وغنم المسلمون من أموالهم ما لا يدخل تحت الإحصاء لكثرته فإنهم كانوا متيقنين الظفر لكثرتهم فخيب الله ظنهم وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثة أيام بلياليها وعاد المسلمون منصورين قاهرين. ذكر عدة حوادث في هذه السنة وصل الحجاج إلى منى ولم يتم الحج لأكثر الناس لصدهم عن دخول مكة والطواف والسعي فمن دخل يوم النحر مكة طاف وسعى وكمل ومن تأخر عن ذلك منع دخول مكة لفتنة جرت بين أمير الحاج
287 وأمير مكة وكان سببها أن جماعة من عبيد مكة أفسدوا في الحاج بمنى فنفر عليهم بعض أصحاب أمير الحاج فقتلوا منهم جماعة ورجع من سلم إلى مكة وجمعوا جمعا وأغاروا على جمال الحاج وأخذوا منها قريبا من ألف جمل فنادى أمير الحاج في جنده فركبوا بسلاحهم ووقع القتال بينهم فقتل جماعة ونهب جماعة من الحاج وأهل مكة فرجع أمير الحاج ولم يدخل مكة ولم يقم بالزاهر غير يوم واحد وعاد كثير من الناس رجالة لقتل الجمال ولقوا شدة. وممن حج هذه السنة جدتنا أم أبينا ففاتها الطواف والسعي فاستفتى لها الشيخ الإمام أبو القاسم بن البرزي فقال تدوم على ما بقي عليها من إحرامها وإن أحبت تفدي وتحل من إحرامها إلى قابل وتعود إلى مكة فتطوف وتسعى فتكمل الحجة الأولى ثم تحرم إحراما ثانيا وتعود إلى عرفات فتقف وترمي الجمار وتطوف وتسعى فتصير لها حجة ثانية فبقيت على إحرامها إلى قابل وحجت وفعلت كما قال فتم حجها الأول والثاني. وفيها نزل بخراسان برد كثير عظيم المقدار أواخر نيسان وكان أكثره بجوين ونيسابور وما والاهما فأهلك الغلات ثم جاء بعده مطر كثير دام عشرة أيام. وفيها في جمادى الآخرة وقع الحريق ببغداد احترق سوق الطيوريين والدور التي تليه مقابلة إلى سوق الصفرة الجديد والخان الذي في الرحبة ودكاكين البزوريين وغيرها. وفيها توفي الكيا الصباحي صاحب الموت مقدم الإسماعيلية،
288 وقام ابنه مقامه فأظهر التوبة وأعاد هو ومن معه الصلوات وصيام شهر رمضان وأرسلوا إلى قزوين يطلبون من يصلي بهم ويعلمهم حدود الإسلام فأرسلوا إليهم. وفيها في رمضان درس شرف الدين يوسف الدمشقي في المدرسة النظامية ببغداد وكان مدرسا بمدرسة أبي حنيفة وكان موته في ذي القعدة. وفيها توفي صدقة ابن وزير الواعظ. وفيها في المحرم توفي الشيخ عدي بن مسافر الزاهد المقيم ببلد الهكارية من أعمال الموصل وهو من الشام من بلد بعلبك فانتقل إلى الموصل وتبعه أهل السواد والجبال بتلك النواحي وأطاعوه وحسنوا الظن فيه وهو مشهور جدا.
289 558 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ذكر وزارة شاور للعاضد بمصر ثم وزارة الضرغام بعده في هذه السنة في صفر وزر شاور للعاضد لدين الله العلوي [صاحب مصر وكان ابتداء أمره ووزارته أنه كان يخدم الصالح] بن زريك ولزمه فأقبل عليه الصالح وولاه الصعيد وهو أكبر الأعمال بعد الوزارة فلما ولي الصعيد ظهرت منه كفاية عظيمة وتقدم زائد واستمال الرعية والمقدمين من العرب وغيرهم فعسر أمره على الصالح ولم يمكنه عزله فاستدام استعماله لئلا يخرج عن طاعته فلما جرح الصالح كان من جملة وصيته لولده العادل أنه لا يغير على شاور فإنني أنا أقوى منك وقد ندمت على استعماله ولم يمكني عزله فلا تغيروا ما به فيكون لكم منه ما تكرهون. فلما توفي الصالح من جراحته وولي ابنه العادل الوزارة حسن له أهله عزل شاور واستعمل بعضهم مكانه وخوفوه منه إن أقره على عمله فأرسل إليه بالعزل فجمع جموعا كثيرة وسار إلى القاهرة بهم فهرب منه العادل بن الصالح بن رزيك فأخذ وقتل فكانت مدة وزارته ووزارة أبيه قبله تسع سنين وشهرا وأياما وصار شاور وزيرا وتلقب بأمير الجيوش وأخذ أموال بني زيك وودائعهم وذخائرهم وأخذ منه أيضا طي والكامل
290 ابنا شاور شيئا كثيرا وتفرق كثير منها وجحد وظهرت عليهم عند انتقال الدولة عن شاور والمصريين إلى الأتراك. ثم إن الضرغام جمع جموعا كثيرة ونازع شاور في الوزارة في شهر رمضان وظهر أمره وانهزم شاور منه إلى الشام على ما نذكره سنة تسع وخمسين وخمسمائة وصار ضرغام وزيرا. كان هذه السنة ثلاثة وزراء العادل بن رزيك وشاور وضرغام فلما تمكن ضرغام من الوزارة قتل كثيرا من الأمراء المصريين لتخلو له البلاد من منازع فضعفت الدولة بهذا السبب حتى خرجت البلاد عن أيديهم. ذكر وفاة عبد المؤمن وولاية ابنه يوسف في هذه السنة في العشرين من جمادى الآخرة توفي عبد المؤمن بن علي صاحب بلاد المغرب وأفريقية والأندلس وكان قد سار من مراكش إلى سلا فمرض بها ومات. ولما حضره الموت جمع شيوخ الموحدين من أصحابه وقال لهم قد جربت ابني محمدا فلم أره يصلح لهذا الأمر وإنما يصلح له ابن يوسف وهو أولى بها فقدموه ووصاهم به وبايعوه ودعي بأمير المؤمنين وكتموا موت عبد المؤمن وحمل من سلا في محفة بصورة مريض إلى أن وصل إلى مراكش. وكان ابنه أبو حفص في تلك المدة حاجبا لأبيه فبقي مع أخيه على مثل حاله مع أبيه يخرج فيقول للناس أمير المؤمنين أمر بكذا ويوسف [لم]
291 يقعد مقعد أبيه إلى أن كملت المبايعة له في جميع البلاد واستقرت قواعد الأمور ثم أظهر موت أبيه عبد المؤمن فكانت ولايته ثلاثة وثلاثين سنة وشهورا وكان عاقلا حازما سديد الرأي حسن السياسة للأمور كثير البذل للأموال إلا أنه كان كثير السفك لدماء المسلمين على الذنب الصغير. وكان يعظم أمر الدين ويقويه ويلزم الناس في سائر بلاده بالصلاة ومن رآه وقت الصلاة غير مصل قتل، وجمع الناس بالغرب على مذهب مالك في الفروع وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري في الأصول، وكان الغالب على مجلسه أهل العلم والدين المرجع إليهم والكلام معهم ولهم. ذكر ملك المؤيد أعمال قومس والخطبة للسلطان أرسلان بخراسان في هذه السنة سار المؤيد أي أبه صاحب نيسابور إلى بلاد قومس فملك بسطام ودامغان واستناب بقومس مملوكه تنكز فأقام تنكز بمدينة بسطام فجرى بين تنكز وبين شاه مازندران اختلاف أدى إلى الحرب فجمع كل منهما عسكره والتقوا أوائل ذي الحجة في هذه السنة واقتتلوا فانهزم عسكر مازندران وأخذت أسلابهم وقتل منهم طائفة كبيرة. ولما ملك المؤيد بلاد قومس أرسل إليه السلطان أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه خلعا نفيسة وألوية معقودة وهدية جليلة وأمره أن
292 يهتم باستيعاب بلاد خراسان ويتولى ذلك أجمع وأن يخطب له فلبس المؤيد الخلع فخطب له في البلاد التي هي بيده. وكان السبب في هذا أتابك شمس الدين إيلدكز فإنه كان هو الذي يحكم في مملكة أرسلان وليس لأرسلان غير الاسم وكان بين إيلدكز وبين المؤيد مودة ذكرناها عند قتل المؤيد فلما أطاع المؤيد السلطان أرسلان خطب له ببلاد وهي قومس ونيسابور وطوس وأعمال نيسابور جميعها ومن نسا إلى طبس كنكلي وكان يخطب لنفسه بعد أرسلان وكانت الخطبة في جرجان ودهستان لخوارزم شاه بن أرسلان بن أتسز وبعده للأمير إيثاق وكانت الخطبة في مرو وبلخ وهراة وسرخس وهذه البلاد بيد الغز إلى هراة فإنها بيد الأمير ايتكين وهو مسالم للغز فكانوا يخطبون للسلطان سنجر فيقولون اللهم اغفر للسلطان السعيد المبارك سنجر وبعده للأمير الذي هو الحاكم في تلك البلاد. ذكر قتل الغز ملك الغور في هذه السنة في رجب قتل سيف الدين محمد بن الحسين الغوري ملك الغور قتله الغز. وسبب ذلك أنه جمع عساكره وحشد فأكثر وسار من جبال الغور يريد الغز وهو ببلخ واجتمعوا وتقدموا اليه فاتفق أن ملك الغور خرج من معسكره في جماعة من خاصته جريدة فسمع به أمراء الغز فساروا يطلبونه مجدين قبل أن يعود إلى معسكره فأوقعوا به فقاتلهم أشد قتال
293 رآه الناس فقتل ومعه نفر ممن كان معه وأسر طائفة وهربت طائفة فلحقوا بمعسكرهم وعادوا إلى بلادهم منهزمين لا يقف الأب على أبيه ولا الأخ على أخيه وتركوا كل ما معهم بحاله ونجوا بنفوسهم. فكان عمر ملك الغور لما قتل نحو عشرين سنة وكان عادلا حسن السيرة فمن عدله وخوفه عاقبة الظلم أنه حاصر أهل هراة فلما ملكها أراد عسكره منها وقال هذا خير من أن تنبهوا أموال المسلمين وتسخطوا الله تعالى فإن الملك يبقي على الكفر ولا يبقي على الظلم ولما قتل عاد الغز إلى بلخ ومرو وقد غنموا شيئا كثيرا من العسكر الغوري لأن أهله تركوه ونجوا. ذكر انهزام نور الدين محمود من الفرنج في هذه السنة انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج تحت حصن الأكراد وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة تحت حصن الأكراد محاصرا له وعازما على قصد طرابلس ومحاصرتها فبينما الناس يوما في خيامهم وسط النهار لم يرعهم إلا ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد وذلك أن الفرنج اجتمعوا واتفق رأيهم على كبسة المسلمين نهارا فإنهم يكونون آمنين فركبوا من وقتهم ولم يتوقفوا حتى يجمعوا عساكرهم وساروا مجدين فلم يشعر بذلك المسلمين إلا وقد قربوا منهم فأرادوا منعهم فلم يطيقوا ذلك فأرسلوا إلى نور الدين يعرفونه الحال فرهقهم
294 الفرنج بالحملة فلم يثبت المسلمون وعادوا يطلبون معسكر المسلمين والفرنج في ظهورهم فوصلوا معا إلى العسكر النوري فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخذ السلاح إلا وقد خالطوهم فأكثروا القتل والأسر. وكان أشدهم على المسلمين الدوقس الرومي فإنه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمع كثير من الروم فقاتلوا محتسبين في زعمهم فلم يبقوا على أحد وقصدوا خيمة نور الدين وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه ولسرعته ركب الفرس والشبحة في رجله فنزل إنسان كردي قطعها فنجا نور الدين وقتل الكردي فأحسن نور الدين إلى مخلفيه ووقف عليهم الوقوف. ونزل نور الدين على بحيرة قدس بالقرب من حمص وبينه وبين المعركة أربع فراسخ وتلاحق به من سلم من العسكر وقال له بعضهم ليس من الرأي أن تقيم ههنا فإن الفرنج ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا فتؤخذ ونحن على هذا الحال فوبخه وأسكته وقال إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام ثم أرسل إلى حلب ودمشق وأحضر الأموال والثياب والخيام والسلاح والخيل فأعطى الناس عوض ما أخذ منهم جميعه بقولهم فعاد العسكر كأن لم تصبه هزيمة وكل من قتل أعطى أقطاعه لأولاده. وأما الفرنج فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد الهزيمة لأنها أقرب البلاد إليهم فلما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها.
295 ولما رأى أصحاب نور الدين كثرة خرجه قال له بعضهم إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء فلو استعنت في هذا الوقت لكان أصلح فغضب من ذلك وقال والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطي وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطي وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟ ثم إن الفرنج راسلوا نور الدين يطلبون منه الصلح فلم يجبهم وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم. ذكر إجلاء بني أسد من العراق في هذه السنة أمر الخليفة المستنجد بالله بإهلاك بني أسد أهل الحلة المزيدية لما ظهر من فسادهم ولما كان في نفس الخليفة منهم من مساعدتهم السلطان محمدا لما حصر بغداد فأمر يزدن بن قماج بقتالهم وإجلائهم من البلاد وكانوا منبسطين في البطائح فلا يقدر عليهم فتوجه يزدن إليهم وجمع عساكر كثيرة من فارس وراجل وأرسل إلى ابن معروف مقدم المتفق وهو بأرض البصرة فجاء في خلق كثير وحصرهم وسكر عنهم الماء وصابرهم مدة فأرسل الخليفة يعتب على يزدن ويعجزه وينسبه إلى موافقته في التشيع وكان يزدن يتشيع فجد هو وابن معروف في قتالهم والتضييق عليهم وسد مسالكهم في الماء فاستسلموا حينئذ فقتل منهم أربعة
296 آلاف قتيل، ونودي فيمن بقي من وجد بعد هذا في الحلة المزيدية فقد حل دمه فتفرقوا في البلاد ولم يبق منهم بالعراق من يعرف وسلمت بطائحهم إلى ابن معروف وبلادهم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة وقع في بغداد حريق في باب درب فراشا إلى مشرعة الصباغين من الجانبين. وفيها في رجب توفي سديد الدولة أبو عبد الله بن عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم المعروف بابن الأنباري كاتب الإنشا بديوان الخلافة وكان فاضلا أديبا ذا تقدم كثير عند الخلفاء والسلاطين وخدم من سنة ثلاثين وخمسمائة إلى الآن في ديوان الخلافة وعاش حتى قارب تسعين سنة وهو من الشعراء المشهورين إلا أنه كثير الهجو ومن شعره: (يا من هجرت ولا تبالي * هل ترجع دولة الوصال) (هل أطمع يا عذاب قلبي * أن ينعم في هواك بالي) (الطرف كما عهدت باك * والجسم كما ترين بال) (ما ضرك أن تعلليني * في الوصل بموعد المحال) (أهواك وأنت حظ غيري * يا قاتلتي فما احتيالي) وهي أكثر من هذا.
297 559 ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة ذكر مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى ديار مصر وعودهم عنها في هذه السنة في جمادى الأولى سير نور الدين محمود بن زنكي عسكرا كثيرا إلى مصر وجعل عليهم الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي وهو مقدم عسكره وأكبر أمراء دولته وأشجعهم وسنذكر سنة أربع وستين [خمسمائة] سبب اتصاله بنور الدين وعلو شأنه عنده إن شاء الله تعالى. وكان سبب إرسال هذا الجيش أن شاور وزير العاضد لدين الله العلوي صاحب مصر نازعه في الوزارة ضرغام وغلب عليها فهرب شاور منه إلى الشام ملتجئا إلى نور الدين ومستجيرا به فأكرم مثواه وأحسن إليه وأنعم عليه وكان وصوله في ربيع الأول من السنة وطلبه منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر ويكون شيركوه مقيما بعساكره في مصر ويتصرف هو بأمر نور الدين يقدم إلى هذا الغرض رجلا ويؤخر أخرى فتارة يحمله رعاية قصد شاور بابه وكلب الزيادة في الملك والتقوى على الفرنج وتارة يمنعه خطر الطريق وأن الفرنج فيه وتخوف أن شاور إن استقرت قاعدته رقما لا يفي. ثم قوي عزمه على إرسال الجيوش فتقدم بتجهيزها وإزاحة عللها
298 وكان هوى أسد الدين في ذلك وعنده من الشجاعة وقوة النفس ما لا يبالي بمخافة فتجهز وساروا جميعا وشاور في صحبتهم في جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين [خمسمائة] وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم له ممن نازعه فيه. وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره ليمنع الفرنج من التعرض لأسد الدين ومن معه فكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين ووصل أسد الدين والعساكر معه إلى مدينة بلبيس فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيم فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزوما. ووصل أسد الدين فنزل على القاهرة أواخر جمادى الآخرة فخرج ضرغام من القاهرة سلخ الشهر فقتل عند مشهد السيدة نفيسة وبقي يومين ثم حمل ودفن في القرافة وقتل أخوه فارس المسلمين وخلع على شاور مستهل رجب وأعيد إلى الوزارة وتمكن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة فغدر به شاور وعاد عما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية ولأسد الدين أيضا وأرسل إليه يأمره بالعود إلى الشام فأعاد الجواب بالامتناع وطلب ما كان قد استقر بينهم فلم يجبه شاور إليه فلما رأى ذلك أرسل إلى نوابه فتسلموا مدينة بلبيس وحكم على البلاد الشرقية فأرسل شاور إلى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين إن ملك مصر. وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن تم ملكه لها فلما أرسل شاور يطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته وطمعوا في تلك الديار المصرية وكان قد بذل لهم مالا على المسير إليه وتجهزوا وساروا فلما بلغ نور الدين ذلك
299 سار بعساكره إلى أطراف بلادهم ليمتنعوا عن المسير فلم يمنعهم ذلك لعلمهم أن الخطر في مقامهم إذا ملك أسد الدين مصر أشد فتركوا في بلادهم من يحفظها وسار ملك القدس في الباقين إلى مصر. وكان قد وصل إلى الساحل جمع كثير من الفرنج في البحر لزيارة البيت المقدس فاستعان بهم الفرنج الساحلية فأعانوهم فسار بعضهم فسار بعضهم معهم وأقام بعضهم في البلاد لحفظها فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين وقصد مدينة بلبيس فأقام بها هو وعسكره وجعلها له ظهرا يتحصن به فاجتمعت العساكر المصرية والفرنج ونازلوا أسد الدين شيركوه بمدينة بلبيس وحصروه بها ثلاثة أسهر وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جدا وليس لها خندق ولا فصل يحميها وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضا ولا نالوا منه شيئا. فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج على حارم وملك نور الدين حارم ومسيره إلى بانياس على ما نذكره إن شاء الله تعلى فحينئذ سقط في أيديهم وأرادوا العودة إلى بلادهم ليحفظوها فراسلوا أسد الدين في الصلح والعودة إلى الشام ومفارقة مصر وتسليم ما بيده منها إلى المصريين فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم ما فعله نور الدين بالشام بالفرنج ولأن الأقوات والذخائر قلت عليه وخرج من بلبيس في ذي الحجة. فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس قال أخرج أصحابه بين يديه وبقي في آخرهم وبيده لت من حديد يحمي ساقتهم والمسلمون والفرنج ينظرون إليه قال فأتاه فرنجي من الغرباء الذين خرجوا من البحر فقال له أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج وقد أحاطوا بك وبأصحابك ولا يبقى لكم بقية فقال شيركوه يا ليتهم فعلوه حتى كنت ترى ما أفعله كنت والله أضع السيف فلا يقتل منا رجل حتى يقتل منهم
300 رجالا وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين وقد ضعفوا وفني شجعانهم فنملك بلادهم ونهلك من بقي والله لو أطاعني هؤلاء لخرجت إليكم من أول يوم ولكنهم امتنعوا. فصلب على وجهه وقال كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك والآن فقد عذرناهم ثم رجع عنه. وسار شيركوه إلى الشام فوصل سالما وكان الفرنج قد وضعوا له على مضيق في الطريق رصدا ليأخذوه أو ينالوا منه ظفرا فعلم بهم فعاد عن ذلك الطريق ففيه يقول عمارة: (أخذتم عن الإفرنج كل ثنية * وقلت لأيدي الخيل مري على مري) (لئن نصبوا في البر جسرا فإنكم * عبرتم ببحر من حديد على الجسر) ولفظه مري في آخر البيت الأول اسم ملك الفرنج. ذكر هزيمة الفرنج وفتح حارم في هذه السنة في شهر رمضان فتح نور الدين محمود بن زنكي قلعة حارم من الفرنج وسبب ذلك أن نور الدين لما عاد منهزما من البقيعة تحت حصن الأكراد كما ذكرناه قبل فرق الأموال والسلام وغير ذلك من الآلات على ما تقدم فعاد العسكر كأنهم لم يصابوا وأخذ في الاستعداد للجهاد والأخذ بثأره. واتفق مسير بعض الفرنج مع ملكهم إلى مصر كما ذكرناه فأراد أن
301 يقصد بلادهم ليعودوا عن مصر فأرسل إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وديار الجزيرة وإلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وإلى نجم الدين ألبي صاحب ماردين وغيرهم من أصحاب الأطراف يستنجدهم فأما قطب الدين فإنه جمع عسكره وسار مجدا وفي مقدمته زين الدين علي أمير جيشه وأما فخر الدين صاحب الحصن فبلغني عنه أنه قال له ندماؤه وخواصه على أي شيء عزمت فقال على القعود فإن نور الدين قد تحشف من كثرة الصوم والصلاة وهو يلقي نفسه في المهالك فكلهم وافقه على هذا الرأي فلما كان الغد أمر بالتجهيز للغزاة فقال له أولئك ما عدا مما بدا فارقناك أمس على حالة فنراك اليوم على ضدها فقال إن نور الدين قد سلك معي طريقا إن لم أنجده خرج أهل بلادي عن طاعتي وأخرجوا البلاد عن يدي فإنه قد كاتب زهادها وعبادها والمتقطعين عن الدنيا يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر ويستمد منهم الدعاء ويطلب أن يحثوا المسلمين على الغزاة فقد قعد كل واحد من أولئك ومعه أصحابه وأتباعه وهم يقرؤون كتب نور الدين ويبكون ويلعنونني ويدعون علي فلا بد من المسير إليه ثم تجهز وسار بنفسه. وأما نجم الدين فإنه سير عسكرا، فلما اجتمعت العساكر سار نحو حارم فحصرها ونصب عليها المجانيق وتابع الزحف إليها فاجتمع من بقي بالساحل من الفرنج فجاءوا في حدهم وحديدهم وملوكهم وفرسانهم وقسيسيهم ورهبانهم وأقبلوا إليه من كل حدب ينسلون وكان المقدم عليهم البرنس بيمند صاحب أنطاكية وقمص صاحب طرابلس وأعمالها وابن جوسلين وهو من مشاهير الفرنج والدوك وهو مقدم كبير من الروم وجمعوا الفارس والراجل فلما قاربوه رحل عن حارم إلى أرتاح طمعا أن يتبعوه فيتمكن منهم ببعدهم عن بلادهم إذا لقوه فساروا فنزلوا على
302 غمر ثم علموا عجزهم عن لقائه فعادوا إلى حارم فلما عادوا تبعهم نور الدين في أبطال المسلمين على تعبية الحرب. فلما تقاربوا اصطفوا للقتال فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين وفيها عسكر حلب وصاحب الحصن فانهزم المسلمون فيها وتبعهم الفرنج، فقيل كانت تلك الهزيمة من الميمنة على اتفاق ورأي دبروه وهو أن يتبعهم الفرنج فيبعدوا عن راجلهم فيميل عليهم من بقي من المسلمين بالسيوف فإذا عاد فرسانهم لم يلقوا راجلا يلجؤون إليه ولا وزيرا يعتمدون عليه ويعود المنهزمون في آثارهم فيأخذهم المسلمون من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم فكان الأمر على ما دبروه فإن الفرنج لما تبعوا المنهزمين عطف عليهم زين الدين علي في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلا وأسرا وعاد خيالتهم ولم يمنعوا في الطلب خوفا على راجلهم فعاد المنهزمون في آثارهم فلما وصل الفرنج رأوا رجالهم قتلى وأسرى فسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد هلكوا وبقوا في الوسط قد أحدق بهم المسلمون من كل جانب فاشتدت الحرب وقامت على ساق وكثر القتل فغي الفرنج وتمت عليهم الهزيمة فعدل حينئذ المسلمون عن القتل إلى الأسر فأسروا ما لا يحد وفي جملة الأسرى صاحب أنطاكية والقمص صاحب طرابلس وكان شيطان الفرنج وأشدهم شكيمة على المسلمين والدوك مقدم الروم وابن جوسلين وكان عدة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل. وأشار المسلمون على نور الدين بالمسير إلى أنطاكية وتملكها لخلوها من حام يحميها ومقاتل يدب عنها فلم يفعل وقال أما المدينة فأمرها سهل وأما المدينة القلعة فمنيعة وربما سلموها إلى ملك الروم لأن صاحبها ابن أخيه
303 ومجاورة بيمند أحب إلي من مجاورة صاحب قسطنطينية وبث السرايا في تلك الأعمال فنهبوها وأسروا أهلها وقتلوهم ثم إنه فادى برنس بيمند صاحب أنطاكية واشترى من المسلمين خلقا كثيرا فأطلقهم. ذكر ملك نور الدين قلعة بانياس من الفرنج أيضا في ذي الحجة من هذه السنة فتح نور الدين محمود قلعة بانياس وهي بالقرب من دمشق وكانت بيد الفرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ولما فتح حارم أذن لعسكر الموصل وديار بكر بالعود إلى بلادهم وأظهر أنه يريد طبرية فجعل من بقي من الفرنج همتهم حفظها وتقويتها فسار محمود إلى بانياس لعلمه بقلة من فيها من الحماة المانعين عنها نازلها وضيق عليها وقاتلها وكان في جملة عسكره أخوه نصرة الدين أمير أميران فأصابه سهم فأذهب إحدى عينيه فلما رآه نور الدين قال له لو كشف لك عن الأجر الذي أعد لك لتمنيت ذهاب الأخرى وجد في حصارها فسمع الفرنج فجمعوا فلم تتكامل عدتهم حتى فتحها على أن الفرنج كانوا قد ضعفوا بقتل رجالهم بحارم وأسرهم فملك القلعة وملأها ذخائر وعدة ورجالا وشاطر الفرنج في أعمال طبرية وقرروا له على الأعمال التي لم يشاطرهم علها مالا في كل سنة. ووصل خبر ملك حارم وحصن بانياس إلى الفرنج بمصر فصالحوا شيركوه وعادوا ليدركوا بانياس فلم يصلوا إلا وقد ملكها ولما عاد منها إلى دمشق كان بيده خاتم بفص ياقوت من أحسن الجوهر وكان يسمى الجبل
304 لكبره وحسنه فسقط من يده في شعراء بانياس وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان فلما أبعد عن المكان الذي ضاع فيه علم به فأعاد أصحابه في طلبه ودلهم على المكان الذي كان آخرهم عهده به فيه وقال أظنه هناك سقط فعادوا إليه فوجوده فقال بعض الشعراء الشاميين أظنه ابن منير يمدحه ويهنئه بهذه الغزاة ويذكر الجبل الياقوت: (إن يمتر الشكاك فيك بأنك المهدي * مطفي جمرة الدجال) (فلعودة الجبل الذي أضللته * بالأمس بين غياطل وجبال) (لم يعطها إلا سليمان وقد * نبت الربا بموشك الأعجال) (فلو البحار السبعة استهوينه * وأمرتهن قذفنه في الحال) ولما فح الحصن كان معه ولد معين الدين أنز الذي سلم بانياس إلى الفرنج فقال له للمسلمين بعد الفتح فرحة واحدة ولك فرحتان فقال كيف ذاك قال لأن اليوم برد الله جلد والدك من نار جهنم. ذكر أخذ الأتراك غزنة من ملكشاه وعوده إليها في هذه السنة قصد بلاد غزنة الأتراك المعروفون بغز ونهبوها وخربوها وقصدوا غزنة وبها ملكشاه بن خسروشاه المحمودي فعلم أنه لا طاقة له بهم ففارقها وسارا إلى مدينة لهاوور وملك الغز مدينة
305 غزنة وكان القيم بأمرهم أميرا اسمه زنكي وعاد ملكها ملكشاه ودخلها في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة وتمكن في دار ملكه. ذكر وفاة جمال الدين الوزير وشئ من سيرته في هذه السنة توفي جمال الدين أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني وزير قطب الدين صاحب الموصل في شعبان مقبوضا وكان قد قبض عليه سنة ثمان وخمسين فبقي في الحبس نحو سنة. حكى لي إنسان صوفي يقال له أبو القاسم كان مختصا بخدمته في الحبس قال لم يزل مشغولا في محبسه بأمر آخرته وكان يقول كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر فلما اتفق أن مرض قال لي في بعض الأيام يا أبا القاسم إذا جاء طائر أبيض إلى الدار فعرفني قال فقلت نفسي قد اختلط عقله فلما كان الغد أكثر السؤال عنه وإذا طائر أبيض لم أر مثله قد سقط فقلت جاء الطائر فاستبشر ثم قال جاء الحق وأقبل على الشهادة وذكر الله تعالى إلى أن توفي فلما توفي طار ذلك الطائر فعلمت أنه رأى شيئا في معناه. ودفن بالموصل عند فتح الكرامي رحمة الله عليهما نحو سنة ثم نقل إلى المدينة فدفن بالقرب من حرم النبي، صلى الله عليه وسلم، في رباط
306 بناه لنفسه وقال لأبي القاسم بيني وبين أسد الدين شيركوه عهد من مات منا قبل صاحبه حمله إلى المدينة فدفنه بها في التربة التي عملها فإذا أنا مت فامض إليه وذكره فلما توفي سار أبو القاسم إلى شيركوه في المعنى فقال له شيركوه كم تريد فقال أريد أجرة جمل يحمله وجمل يحملني وزادي فانتهره وقال مثل جمال الدين يحمل هكذا إلى مكة وأعطاه مالا صالحا ليحمل معه جماعة يحجون عن جمال الدين وجماعة يقرؤون عليه بين يدي تابوته إذا حمل وإذا نزل عن الجمل وإذا وصل إلى مدينة يدخل أولئك القراء ينادون للصلاة عليه فيصلى عليه في كل بلدة يجتاز بها وأعطاه أيضا مالا للصدقة عنه فصلى عليه في تكريت وبغداد والحلة وفيد ومكة والمدينة وكان يجمع له في كل بلد من الخلق ما لا يحصى ولما أرادوا الصلاة عليه بالحلة صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد بأعلى صوته: (سري نعشه فوق الرقاب وطالما * سرى جوده فوق الركاب ونائله) (يمر على الوادي فتثني ماله * عليه وبالنادي فتثني أرامله) فلم تر باكيا أكثر من ذلك اليوم فطافوا به حول الكعبة وصلوا عليه بالحرم الشريف وبين قبره وقبر النبي، صلى الله عليه وسلم، خمسة عشر ذراعا. وأما سيرته فكان رحمه الله أسخى الناس وأكثرهم بذلا للمال رحيما بالخلق متعطفا عليهم عادلا فيهم فمن أعماله الحسنة أنه جدد بناء
307 مسجد الخيف بمنى، وغرم عليه أموالا كثيرة جسيمة وبنى الحجر بجانب الكعبة وزخرف الكعبة وذهبها وعملها بالرخام ولما أراد ذلك أرسل إلى المقتفي لأمر الله هدية جليلة وطلب منه ذلك وأرسل الأمير عيسى أمير مكة هدية كبيرة وخلعا سنية منها عمامة شراها ثلاثمائة دينار حتى مكنه من ذلك. وعمر أيضا المسجد الذي على جبل عرفات والدرج التي يصعد فيها إليه وكان الناس يلقون شدة في صعودهم وعمل بعرفات أيضا مصانع للماء وأجرى الماء إليها من نعمان في طرق معمولة تحت الأرض فخرج عليها مال كثير وكان يجري الماء في المصانع كل ستة أيام عرفات وبنى سورا على مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلى قيد وبنى لها أيضا فصيلا. وكان يخرج على باب داره كل يوم للصعاليك والفقراء مائة دينار أميري هذا سوى الإدارات والتعهدات للأئمة والصالحين وأرباب البيوت ومن أبنيته العجيبة التي لم ير الناس مثلها الجسر الذي بناه على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكاس فقبض قبل أن يفرغ وبنى عندها أيضا جسرا كذلك على النهر المعروف بالأرباد وبنى الربط وقصده الناس من أقطار الأرض ويكفيه أن ابن الخجندي رئيس أصحاب الشافعي بأصفهان قصده وابن الكافي قاضي همذان فأخرج
308 عليهما مالا عظيما وكانت صدقاته وصلاته من أقاصي خراسان إلى حدود اليمن. وكان يشتري الأسرى كل سنة بعشرة آلاف دينار هذا من الشام حسب سوى ما يشترى من الكرج. حمى لي والدي عنه قال كثيرا ما كنت أرى جمال الدين إذا قدم إليه الطعام يأخذ منه ومن الحلوى ويتركه في خبز بين يديه فكنت أنا ومن يراه نظن أنه يحمله إلى أم ولده علي فاتفق أنه في بعض السنين جاء إلى الجزيرة مع قطب الدين وكنت أتولى ديوانها وحمل جاريته أم ولده إلى داري لتدخل الحمام فبقيت في الدار أياما فبينما أنا عنده في الخيام وقد أكل الطعام فعل كما كان يفعل ثم تفرق الناس فقمت فقال أقعد فقعدت فلما خلا المكان قال لي قد آثرتك اليوم على نفسي فإنني في الخيام ما يمكنني أن أفعل ما كنت أفعله خذ هذا الخبز واحمله أنت في كمك في هذا المنديل واترك الحماقة من رأسك وعد إلى بيتك فإذا رأيت في طريقك فقيرا يقع في نفسك أنه مستحق فاقعد أنت بنفسك وأطعمه هذا الطعام. قال ففعلت ذلك وكان معي جمع كثير ففرقتهم في الطريق لئلا يروني أفعل ذلك وبقيت في غلماني فرأيت في موضع إنسانا أعمى وعنده أولاده وزوجته وهم من الفقر في حال شديد فنزلت عن دابتي إليهم وأخرجت الطعام وأطعمتهم إياه وقلت للرجل تجيء غدا بكرة إلى دار فلان أعني داري ولم أعرفه نفسي فإنني آخذ لك من صدقة جمال الدين شيئا ثم ركبت إليه العصر فلما رآني قال ما الذي فعلت في الذي قلت لك فأخذت أذكر له شيئا يتعلق بدولتهم فقال ليس عن هذا أسألك وإنما أسألك عن الطعام الذي سلمته إليك فذكرت له الحال ففرح ثم قال بقي أنك لو قلت للرجل يجيء إليك هو وأهله فتكسوهم وتعطيهم
309 دنانير وتجري لهم كل شهر دنانير قال فقلت له قد قلت للرجل حتى يجيء إلي فازداد فرحا وفعلت بالرجل ما قال ولم يزل يصل إليه رسمه حتى قبض وله من هذا كثير فمن ذلك أنه تصدق بثيابه من على بدنه في بعض السنين التي تعذرت الأقوات فيها. ذكر اجلاء القارغلية من وراء النهر كان خان خانان الصيني ملك الخطا قد فوض ولاية سمرقند وبخارا إلى الخان جغري خان بن حسن تكين واستعمله عليهما وهو من بيت الملك قديم الأبوة فبقي فيها مدبرا لأمرها فلما كان الآن أرسل إليه ملك الخطا بإجلاء الأتراك القارغلية من أعمال بخارا وسمرقند إلى كاشغر وأن يتركوا حمل السلاح ويشتغلوا بالزراعة وغيرها من الأعمال فتقدم جغري خان إليهم بذلك فامتنعوا فألزمهم وألح عليهم بالانتقال فاجتمعوا وصارت كلمتهم واحدة فكثروا وساروا إلى بخارا فأرسل الفقيه محمد بن عمر بن برهان الدين عبد العزيز بن مازة رئيس بخارا إلى جغري خان يعلمه ابن مازة يقول لهم إن الكفار ذلك ويحثه على الوصول إليهم بعساكره قبل أن يعظم سره وينهبوا البلاد. وأرسل إليهم بالأمس لما طرقوا هذه البلاد امتنعوا عن النهب والقتل وأنتم مسلمون غزاة يقبح بكم مد الأيدي إلى الأموال والدماء وأنا أبذل لكم من الأموال ما ترضون به لتكفوا عن النهب والغارة فترددت الرسل بينهم في تقرير القاعدة وابن مازة يطاول بهم ويمادي الأيام إلى أن وصل جغري خان فلم يشعر الأتراك القارغلية
310 إلا وقد دهمهم جغري خان في جيوشه وجموعه بغتة ووضع السيف فيهم فانهزموا وتفرقوا وكثر القتال فيهم والنهب واختفى طائفة منهم في الغياض والآجام ثم ظفر بهم أصحاب جغري خان فقطعوا دابرهم ودفعوا عن بخارا ونواحيها ضررهم وخلت الأرض منهم. ذكر استيلاء سنقر على الطالقان وغرشستان في هذه السنة استولى الأمير صلاح الدين سنقر وهو من مماليك السنجرية على بلاد الطالقان وأغار على حدود غرشستان وتابع الغارات عليها حتى ملكها فصار الولايتان له وبحكمه وله فيها حصون منيعة وقلاع حصينة وصالح الأمراء الغزية وحمل لهم الإتاوة كل سنة. ذكر قتل صاحب هراة كان صاحب هراة ايتكين بينه وبين الغز مهادنة فلما توفي ملك الغور محمد طمع في بلادهم فغزاهم غير مرة ونهب وأغار فلما كان في شهر رمضان من هذه السنة جمع ايتكين جموعه وسار إلى بلاد الغور وساروا إلى باميان وإلى ولاية بست والرخج فقاتله صاحبها طغرل تكين
311 يرنقش العلكي من قبل الغورية فطهروا إلى باميان، واستولى [على] بست والرخج، فسلمها إلى بعض أولاد ملوك الغور، وأما إيتكين فإنه توغل في بلاد الغور، فأتاه أهلها وقاتلوه وصده وصدقوه القتال فانهزم عسكره وقتل هو في المعركة. ذكر ملك شاه مازندران قومس وبسطام قد ذكرنا استيلاء المؤيد صاحب نيسابور على قومس وبسطام وكل البلاد وأنه استناب بها مملوكه تنكر فلما كان هذه السنة جهز شاه مازندران جيشا واستعمل عليهم أميرا له يعرف بسابق الدين القزويني فسار إلى دامغان فملكها فجمع إلى تنكز من عنده من العساكر وسار إليه إلى دامغان فخرج إليه القزويني فوصل إلى تنكز على غرة منه فلم يشعر هو وعسكره إلا وقد كسبهم القزويني ووضع السيف فيهم فتفرقوا وولوا منهزمين واستولى عسكر شاه مازندران على تلك البلاد وعاد تنكز إلى المؤيد صاحب نيسابور واشتغل بالغارة على بسطام وبلاد قومس. ذكر عصيان غمارة بالمغرب لما تحقق الناس موت عبد المؤمن سنة تسع وخمسين [خمسمائة]، ثارت قبائل غمارة مع مفتاح بن عمرو وكان مقدما كبير وتبعوه
312 بأجمعهم وامتنعوا في جبالهم وهي معاقل مانعة وهم أمم جمة فتجهز إليهم أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ومعه أخواه عمرو وعثمان في جيش كبير من الموحدين والعرب وتقدموا إليهم فاقتتلوا سنة إحدى وستين وخمسمائة فانهزمت عمارة وقتل منهم كثير وفيمن قتل مفتاح بن عمرو مقدمهم وجماعة من أعيانهم ومقدمهم وملكوا بلادهم عنوة وكان هناك قبائل كثيرة يريدون الفتنة فانتظروا ما يكون من غمارة فلما قتلوا ذلت تلك القبائل وانقادوا للطاعة ولم بيق متحرك لفتنة ومعصية فسكنت الدهماء في جميع المغرب. ذكر عدة حوادث في هذه السنة أغار الأمير محمد بن أنز على بلد الإسماعيلية بخراسان وأهلها غافلون فقتل منهم وغنم وأسر وأكثر وملأ أصحابه أيديهم من ذلك. وفيها توفي أبو الفضل نصر بن خلف ملك سجستان وعمره أكثر من مائة سنة ومدة ملكه ثمانون سنة وملك بعده ابنه شمس الدين أبو الفتح أحمد بن نصر وكان أبو الفضل ملكا عادلا عفيفا عن رعيته وله آثار حسنة في نصرة السلطان ينجر في غير موقف. وفيها خرج ملك الروم من القسطنطينية في عساكر لا تحصى وقصد بلاد الإسلام التي بيد قلج أرسلان وابن دانشمند فاجتمع التركمان في
313 تلك البلاد في جمع كثير فكانوا يغيرون على أطراف عسكره ليلا فإذا أصبح لا يرى أحدا. وكثر القتل في الروم حتى بلغت عدة القتلى عشرات ألوف فعاد إلى القسطنطينية ولما عاد ملك المسلمون منه عدة حصون. وفيها توفي الإمام عمر الخوارزمي خطيب بلخ ومفتيها بها والقاضي أبو بكر المحمودي صاحب التصانيف والأشعار وله مقامات بالفارسية عل نمط مقامات الحريري بالعربية.
314 560 ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة ذكر وفاة شاه مازندران وملك ابنه بعده في هذه السنة ثامن ربيع الأول توفي شاه مازندران رستم بن علي بن شهريار بن قارن ولما توفي كتم ابنه علاء الدين الحسن موته أياما حتى استولى على سائر الحصون والبلاد ثم أظهره فلما ظهر خبر وفاته أظهر إيثاق صاحب جرجان ودهستان المنازعة لولده في الملك ولم يرع حق أبيه عليه فإنه لم يزل يذب عنه ويحميه إذا التجأ إليه ولكن الملك عقيم ولم يحصل من منازعته على شيء غير سوء السمعة وقبح الأحدوثة. ذكر حصر عسكر المؤيد نسا ورحيلهم عنها كان المؤيد قد سير جيشا إلى مدينة نسا فحصروها إلى جمادى الأولى في هذه السنة فسير خوارزمشاه بن أرسلان بن أتسز جيشا إلى نسا فلما قاربوها رحل عنها عسكر المؤيد وعادوا إلى نيسابور أواخر جمادى الأولى. وسار عسكر المؤيد إلى عسكر خوارزم، لأنهم توجهوا إلى نيسابور،
315 فتقدم العسكر المؤيدي ليردوهم عنها فلما سمع العسكر الخوارزمي بهم عاد عنهم وصار صاحب نسا في طاعة خوارزمشاه والخطبة له فيها. وسار عسكر خوارزم إلى دهستان فالتجأ صاحبها الأمير إيثاق إلى المؤيد صاحب نيسابور بعد تمكن الوحشة بينهما فقبله المؤيد بأحسن قبول وسير إليه جيشا كثيفا فأقاموا عنده حتى دفع الضرر عن نفسه وبلده من جهة طبرستان. وأما دهستان فإن عسكر خوارزم غلبوا عليها وصار لهم فيها شحنة. ذكر استيلاء المؤيد على هراة قد ذكرنا قتل صاحب هراة سنة تسع وخمسين [خمسمائة]، فلما قتل تجهز الأمراء الغزية وساروا إلى هراة وحصروها وقد تولى أمرها إنسان يلقب أثير الدين وكان له ميل إلى الغز وهو يحاربهم ظاهرا ويراسلهم باطنا فهلك لهذا السبب خلق كثير من أهل هراة فاجتمع إليها أهلها فقتلوه وقام مقامه أبو الفتوح بن علي بن فضل الله الطغرائي فأرسل أهلها إلى المؤيد أي أبه صاحب نيسابور بالطاعة والانقياد إليه فسير إليهم مملوكه سيف الدين تنكز في جيش وسير جيشا آخر أغاروا على سرخس ومرو فأخذوا دواب الغز وعادوا سالمين فلما سمع الغز بذلك رحلوا عن هراة إلى مرو.
316 ذكر الحرب بين قلج أرسلان وبين ابن الدانشمند في هذه السنة كانت الفتنة بين الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية وما يجاورها من بلد الروم وبين ياغي أرسلان بن دانشمند صاحب ملطية وما يجاورها من بلد الروم وجرى بينهما حرب شديدة. وسببها أن قلج أرسلان تزوج ابنة الملك صلتق بن علي بن أبي القاسم فسيرت الزوجة إلى قلج أرسلان مع جهاز كثير لا يعلم قده وأغار ياغي صاحب ملطية عليه وأخذ العوس وما معها وأراد أن يزوجها بابن أخيه ذي النون بن محمد بن دانشمند فأمرها بالردة عن الإسلام فزوجها من ابن أخيه فجمع قلج أرسلان عسكره وسار إلى ابن دانشمند فالتقيا واقتتلا فانهزم قلج أرسلان والتجأ إلى ملك الروم واستنصره فأرسلا إليه جيشا كثيرا فمات ياغي أرسلان بن دانشمند في تلك الأيام وملك قلج أرسلان بعض بلاده واصطلح هو والملك إبراهيم بن محمد بن دانشمند لأنه ملك البلاد بعد عمه ياغي أرسلان واستولى ذو النون بن محمد بن دانشمند على مدينة قيسارية وملك شاهان شاه بن مسعود أخو قلج أرسلان على مدينة أنكورية واستقرت القواعد بينهم واتفقوا.
317 ذكر الفتنة بين نور الدين وقلج أرسلان في هذه السنة كانت وحشة متأكدة بين نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام وبين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان صاحب الروم أدت إلى الحرب والتضاغن فلما بلغ خبرها إلى مصر كتب الصالح بن رزيك وزير صاحب مصر إلى قلج أرسلان ينهاه عن ذلك ويأمره بموافقته وكتب فيه شعرا: (نقول ولكن أين من يتفهم * ويعلم وجه الرأي والرأي مبهم) (وما كل من قاس الأمور وساسها * يوفق للأمر الذي هو أحزم) (وما أحد في الملك يبقى مخلدا * وما أحد مما قضى الله يسلم) (أمن بعد ما ذاق العدا طعم حربكم * [بفيهم وكانت] وهي صاب وعلقم) (رجعتم إلى حكم التنافس بينكم * وفيكم من الشحناء نار تضرم) (أما عندكم من يتقي الله وحده * أما في رعاياكم من الناس مسلم) (تعالوا لعل الله ينصر دينه * إذا ما نصرنا الدين نحن وأنتم) (وتنهض نحو الكافرين بعزمة * بأمثالها تحوى البلاد وتقسم) وهي أطول من هذا. هكذا ذكر بعض العلماء هذه الحادثة وأن الصالح أرسل بهذا الشعر فإن كان الشعر للصالح فينبغي أن بكون الحادثة قبل هذا التاريخ ويحتمل أن يكون هذا التنافس كان أيام الصالح فكتب الأبيات ثم امتد إلى الآن.
318 ذكر عدة حوادث في هذه السنة في صفر وقع بأصفهان فتنة عظيمة بين صدر الدين عبد اللطيف ابن الخجندي وغيره من أصحاب المذاهب بسبب التعصب للمذاهب فدام القتال بين الطائفتين ثمانية أيام متتابعة قتل فيها خلق كثير واحترق وهدم كثير من الدور والأسواق ثم افترقوا على أقبح صورة. وفيها بنى الإسماعيلية قلعة بالقرب من قزوين فقيل لشمس الدين إيلدكز عنها فلم يكن له إنكار لهذه الحال خوفا من شرهم وغائلتهم فتقدموا بعد ذلك إلى قزوين فحصروها وقاتلهم أهلها أشد قتال رآه الناس. وحكى لي بعض أصدقائنا بل مشايخنا من الأئمة الفضلاء قال كنت بقزوين أشتغل بالعلم وكان بها إنسان يقود جمعا كبيرا وكان موصوفا بالشجاعة وله عصابة حمراء إذا قاتل عصب بها رأسه قال فكنت أحبه وأشتهي الجلوس معه قال فبينما أنا عنده يوما وإذا هو يقول كأني بالملاحدة وقد قصدوا البلد غدا فخرجنا إليهم وقاتلناهم فكنت أول الناس وأنا متعصب بهذه العصابة فقاتلناهم فلم يقتل غيري ثم ترجع الملاحدة ويرجع أهلها البلد. قال: فوالله لما كان الغد إذ قد وقع الصوت بوصول الملاحدة فخرج الناس قال فذكرت قول الرجل فخرجت والله وليس لي همة إلا [أن] أنظر هل يصح ما قال أم لا قال فلم يكن إلا قليل حتى عاد الناس وهو محمول على أيديهم قتيلا بعصابته الحمراء وذكروا أنه لم يقتل بينهم غيره فبقيت متعجبا من قوله كيف صح ولم يتغير منه شيء ومن أين له هذا اليقين؟
319 ولما حكي لي هذه الحكاية لم أسأله عن تاريخها وإنما كان في هذه المدة في تلك البلاد فلهذا أثبتها هذه السنة على الظن والتخمين. وفيها قبض المؤيد أي أبه صاحب نيسابور على وزيره ضياء الملك محمد بن أبي طالب سعد بن أبي القاسم محمود الرازي وحبسه واستوزر بعده نصير الدين أبا بكر محمد بن أبي نصر محمد المستوفي وهو من أعيان الدولة السنجرية. وفي هذه السنة وردت الأخبار أن الناس حجوا سنة تسع وخمسين ولقوا شدة وانقطع منهم خلق كثير في فيدوا الثعلبية وواقصة وغيرها وهلك كثير ولم يمض الحجاج إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، لهذه الأسباب ولشدة الغلاء فيها وعم ما يقتات ووقع الوباء في البادية وهلك منهم عالم لا يحصون وهلكت مواشيهم وكانت الأسعار بمكة غالية. وفيها في صفر قبض المستنجد بالله على الأمير توبة بن العقيلي وكان قد قرب منه قربا عظيما بحيث يخلو معه وأحبه المستنجد محبة كثيرة فحسده الوزير ابن هبيرة فوضع كتبا من العجم مع قوم وأمرهم أن يتعوضوا فيؤخذوا ففعلوا ذلك وأخذوا وأحضروا عند الخليفة فأظهروا الكتب بعد الامتناع الشديد فلما وقف الخليفة عليها خرج إلى نهر الملك يتصيد وكانت حلل توبة على الفرات فحضر عنده فأمر بالقبض عليه فقبض وأدخل بغداد ليلا وحبس فكان آخر العهد به فلم يمنح الوزير بعده بالحياة بل مات بعد ثلاثة أشهر وكان توبة من أ: مل العرب مروءة وعقلا وسخاء وإجازة واجتمع فيه من خلال الكمال ما تفرق في الناس.
320 وفيها في ربيع الأول توفي الشهاب محمود بن عبد العزيز الحامدي الهروي وزير السلطان أرسلان ووزير أتابك شمس الدين إيلدكز. وفيها توفي عون الدين الوزير ابن هبيرة واسمه يحيى بن محمد بن المظفر وزير الخليفة وكان موته في جمادى الأولى ومولده سنة تسعين وأربعمائة ودفن بالمدرسة التي بناها للحنابلة بباب البصرة وكان حنبلي المذهب دينا خيرا عالما يسمع حديث النبي، صلى الله عليه وسلم، وله فيه التصانيف الحسنة وكان ذا رأي سديد ونافق على المقتفي نفاقا عظيما حتى أن المقتفي كان يقول لم يوزر لبني العباس مثله ولما مات قبض على أولاده وأهله. وتوفي بهذه السنة محمد بن سعيد البغدادي بالموصل وله شعر حسن فمن قوله: (أفدي الذي وكلني حبه * بطول إعلال وإمراض) (ولست أدري بعد ذا كله * أساخط مولاي أم راضي) وفيها توفي الشيخ الإمام أبو القاسم عمر بن عكرمة بن البرزي الشافعي تفقه على الفقيه الكيا الهراسي وكان واحد عصره في الفقه تأتيه الفتاوى من العراق وخراسان وسائر البلاد وهو من جزيرة ابن عمر.
321 561 ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة ذكر فتح المنيطرة من الفرنج في هذه السنة فتح نور الدين محمود بن زنكي حصن المنيطرة من الشام وكان بيد الفرنج ولم يحشد له ولا جمع عساكره وإنما سار إليه جريدة على غرة منهم وعلم أنه إن جمع العساكر حذروا فسار إليه جريدة وانتهز الفرصة وحصره وجد في قتاله فأخذه عنوة وقهرا وقتل من بها وسبى وغنم غنيمة كثيرة فإن الدين به كانوا آمنين فأخذتهم خيل الله بغتة وهم لا يشعرون ولم يجتمع الفرنج لدفعه إلا وقد ملكه ولو علموا أنه جريدة في قلة من العساكر لأسرعوا إليه وإنما ظنوه أنه في جمع كثير فلما ملكه تفرقوا وأيسوا من رده. ذكر قتل خطلبرس مقطع واسط في هذه السنة قتل خطلبرس مقطع واسط قتله ابن أخي شملة صاحب خوزستان. وسبب ذلك أن ابن سنكا وهو ابن أخي شملة كان قد صاهر منكبرس مقطع البصرة فاتفق أن المستنجد بالله قتل منكبرس سنة
322 تسع وخمسين وخمسمائة، فلما قتل قصد ابن سنكا بالبصرة ونهب قراها فأرسل من بغداد إلى كمشتكين صاحب البصرة بمحاربة ابن سنكا فقال أنا عامل لست بصاحب جيش يعني أنه ضامن لا يقدر على إقامة عسكر فطمع ابن سنكا واصعد إلى واسط ونهب سوادها فجمع خطلبرس مقطعها جمعا وخرج إلى قتاله. وكاتب ابن سنكا الأمراء الذين مع خطلبرس فاستمالهم ثم قاتلهم فانهزم عسكره فقتله وأخذ ابن سنكا علم خطلبرس فنصبه فلما رآه أصحابه ظنوه باقيا فجعلوا يعودون إليه وكل من رجع أخذه ابن سنكا فقتله أو أسره. ذكر عدة حوادث في هذه السنة خرج الكرج في جمع كثير وأغاروا على بلدان حتى بلغوا كنجة فقتلوا وأسروا وسبوا كثيرا ونهبوا ما لا يحصى. وفيها توفي الحسن بن العباس بن رستم أبو عبد الله الأصفهاني الرستمي الشيخ الصالح وهو مشهور يروى عن أحمد بن خلف وغيره. وفيها في ربيع الآخر توفي الشيخ عبد القادر ابن أبي صالح أبو محمد الجيلي المقيم ببغداد ومولده سنة سبعين وأربعمائة وكان من الصلاح على حال وهو حنبلي المذهب ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد.
323 562 ثم دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة ذكر عود أسد الدين شيركوه قد ذكرنا سنة تسع وخمسين وخمسمائة مسير أسد الدين شيركوه إلى مصر وما كان منه وقفوله إلى الشام فلما وصل إلى الشام أقام على حاله في خدمة نور الدين إلى الآن. وكان بعد عوده منها لا يزال يتحدث بها ويقصدها وكان عنده من الحرص على ذلك كثير فلما كان هذه السنة تجهز وسار في ربيع الآخر في جيش قوي وسير معه نور الدين جماعة من الأمراء فبلغت عدتهم ألفي فارس وكان كارها لذلك ولكن لما رأى جد أسد الدين في المسير لم يمكنه إلا يسير معه جمعا خوفا من حادث يتجدد عليهم فيضعف الإسلام فلما اجتمع معه عسكره سار إلى مصر على البر وترك بلاد الفرنج على يمينه فوصل الديار المصرية فقصد اطفيح وعبر النيل عندها إلى الجانب الغربي ونزل بالجيزة مقابل مصر وتصرف في البلاد الغربية وحكم عليها وأقام نيفا وخمسين يوما. وكان شاور لما بلغه مجيء أسد الدين إليهم قد أرسل إلى الفرنج يستنجدهم فأتوه على الصعب والذلول طمعا في ملكها وخوفا أن يملكها أسد الدين فلا يبقى لهم في بلادهم مقام معه ومع نور الدين فالرجاء يقودهم والخوف يسوقهم فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي وكان أسد الدين
324 وعساكره قد ساروا إلى الصعيد فبلغ مكانا يعرف بالبابين وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءه فأدركوه بها في الخامس والعشرين من جمادي الآخرة وكان أرسل إلى المصريين والفرنج جواسيس فعادوا إليه وأخبروه بكثرة عددهم وعددهم وجدهم في طلبه فعزم على قتالهم إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن القتال في هذا المقام الخطر الذي عطبهم فيه أقرب من سلامتهم لقلة عددهم وبعدهم عن أوطانهم وبلادهم وخطر الطريق فاستشارهم فكلهم أشاروا عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام وقالوا له إن نحن انهزمنا وهو الذي يغلب على الظن فإلى أين نلتجئ وبمن نحتمي وكل من في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدو لنا؟ فقام أمير من مماليك نور الدين يقال له شرف الدين برغش صاحب شقيف وكان شجاعا وقال من يخاف القتال والأسر فلا يخدم الملوك بل يكون في بيته مع امرأته والله لئن عدنا إلى نور الدين من غير غلبة ولا بلاء نعذر فيه ليأخذن مالنا من أقطاع وجامكية وليعودن علينا بجميع ما أخذناه منذ خدمناه إلى يومنا هذا ويقولون تأخذون أموال المسلمين وتفرون عن عدوهم وتسلمون مثل مصر إلى الكفار والحق بيده. فقال أسد الدين هذا الرأي وبه أعمل وقال ابن أخيه صلاح الدين مثله وكثر الموافقون لهم واجتمعت الكلمة على القتال فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبية وجعل الأثقال في القلب يتكثر بها ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد وجعل صلاح الدين في القلب وقال له ولمن معه إن المصريين والفرنج يجعلون حملتهم على القلب ظنا منهم أني فيه فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال، ولا تهلكوا نفوسكم واندفعوا قدامهم بين أيديهم فإذا عادوا عنكم فارجعوا في أعقابهم.
325 واختار هو من شجعان عسكره جمعا يثق بهم ويعرف صبرهم في الحرب ووقف بهم في الميمنة فلما تقاتل الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره وحملوا على القلب فقاتلهم من به قتالا يسيرا وانهزموا بين أيديهم غير متفرقين ومعهم الفرنج فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلف من الذين حملوا من المسلمين والفرنج الفارس والراجل فهزمهم ووضع السيف فيهم فأثخن وأكثر القتل والأسر فلما عاد الفرنج من أثر المسلمين رأوا عسكرهم مهزوما والأرض منهم قفرا فانهزموا أيضا وكان هذا من أعجب ما يؤرخ أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر والفرنج الساحل. ذكر ملك أسد الدين الإسكندرية وعوده إلى الشام لما انهزم المصريون والفرنج من أسد الدين بالبابين سار إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في القرى على طريقه من الأموال ووصل إلى الإسكندرية فتسلمها بمساعدة من أهلها سلموها إليه فاستناب بها صلاح الدين ابن أخيه وعاد إلى الصعيد فملكه وجبى أمواله وأقام به حتى صام رمضان. وأما المصريين والفرنج فإنهم عادوا واجتمعوا على القاهرة وأصلحوا حال عساكرهم وجمعوا وساروا إلى الإسكندرية فحضروا صلاح الدين بها واشتد الحصار وقل الطعام على من بها فصبر أهلها على ذلك وسار أسد الدين من الصعيد إليهم وكان شاور قد أفسد بعض من معه من التركمان فوصل رسل الفرنج والمصريين يطلبون الصلح وبذلوا له خمسين ألف دينار سوى ما أخذه من البلاد فأجاب إلى ذلك وشرط [على] الفرنج أن لا يقيموا بالبلاد ولا يتملكوا منها قرية واحدة فأجابوا إلى ذلك واصطلحوا وعادوا إلى الشام وتسلم المصريون الإسكندرية في نصف شوال ووصل شيركوه
326 إلى دمشق ثامن عشر ذي القعدة. وأما الفرنج فإنهم استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين من إنقاذ عسكر إليهم ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار هذا كله استقر مع شاور فإن العاضد لم يكن له معه حكم [لأنه] قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها وعاد الفرنج إلى بلادهم بالساحل الشامي وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم وكان الكامل شجاع بن شاور قد أرسل إلى نور الدين مع بعض الأمراء ينهى محبته وولاءه ويسأله الدخول في طاعته وضمن على نفسه أنه يفعل هذا وبذل ما لا يحمله كل سنة فأجابه إلى ذلك وحمل إليه مالا جزيلا فبقى الأمر على ذلك إلى أن قصد الفرنج مصر سنة أربع وستين وخمسمائة فكان ما نذكره هناك إن شاء الله تعالى. ذكر ملك نور الدين صافيثا وعريمة في هذه السنة جمع نور الدين العساكر فسار إليه أخوه قطب الدين من الموصل وغيره فاجتمعوا على حمص فدخل نور الدين بالعساكر بلاد الفرنج فاجتازوا على حصن الأكراد فأغاروا ونهبوا وقصدوا عرقة فنازلوها وحصروها وحصروا حلبة وأخذوها وخربوها وسارت عساكر المسلمين في بلادهم يمينا وشمالا تغير وتخرب البلاد وفتحوا العريمة وصافيثا وعادوا إلى حمص فصاموا بها رمضان.
327 ثم ساروا إلى بانياس وقصدوا حصن هونين هو للفرنج أيضا من أمنع حصونهم ومعاقلهم فانهزم الفرنج عنه وأحرقوه فوصل نور الدين من الغد فهدم سوره جميعه وأراد الدخول إلى بيروت فتجدد في العسكر خلف أوجب التفرق فعاد قطب الدين إلى الموصل وأعطاه نور الدين مدينة الرقة على الفرات وكانت له فأخذها في طريقه وعاد إلى الموصل. ذكر قصد ابن سنكا البصرة في هذه السنة عاودا ابن سنكا فقصد البصرة ونهب بلدها وخربه من الجهة الشرقية وسار إلى مطارا فخرج إليه كمشتكين صاحب البصرة وواقعه فاجتمع بشرف الدين أبي جعفر بن البلدي الناظر فيها ومعها مقطعهما ارغش واتصلت الأخبار بأن ابن سنكا واصل إلى واسط فخاف الناس منه خوفا شديدا فلم يصل إليها. ذكر قصد شملة العراق في هذه السنة وصل شملة صاحب خوزستان إلى قلعة الماهكي من أعمال بغداد وأرسل إلى الخليفة المستنجد بالله يطلب شيئا من البلاد ويشتط في الطلب فسير الخليفة أكثر عساكره إليه ليمنعوه وأرسل إليه يوسف الدمشقي يلومه ويحذره عاقبة فعله فاعتذر بأن إيلدكز والسلطان أرسلان نشأة أقطعا الملك الذي عنده وهو ولد ملكشاه البصرة وواسط وعرض التوقيع
328 بذلك وقال أنا أقنع بثلث ذلك فعاد الدمشقي بذلك فأمر الخليفة بلعنه وأنه من الخوارج وجمعت العساكر وسيرت إلى أرغش المستر شدي وكان بالنعمانية هو وشرف الدين أبو جعفر بن البلدي ناظر واسط مقابل شملة. ثم إن شملة أرسل قلج ابن أخيه في طائفة من العساكر لقتال طائفة من الأكراد فركب في بعض العسكر الذي عنده وسار إلى قلج فحاربه فأسر قلج وبعض أصحابه وسيرهم إلى بغداد وبلغ شملة وطلب الصلح فلم تقع الإجابة إليه ثم إن أرغش سقط عن فرسه بعد الوقعة فمات وبقي شملة مقيما مقابل عسكر الخليفة فلما علم أنه لا قدرة له عليهم وحل عاد إلى بلاده وكانت مدة سفره أربعة أشهر. ذكر عدة حوادث في هذه السنة عصى غازي بن حسان المنبجي على نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام وكان نور الدين قد أقطعه مدينة منبج فامتنع عليه فيها فسير إليه عسكرا فحصروه وأخذوه منه وأقطعها نور الدين أخاه قطب الدين ينال بن حسان وكان عادلا خيرا محسنا إلى الرعية جميل السيرة فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وفيها توفي فخر الدين أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا وأكثر ديار بكر ولما اشتد مرضه أرسل إلى نور الدين محمود صاحب الشام يقول له بيننا صحبة في جهاد الكفار أريد أن ترعى بها ولدي ثم توفي وملك بعده ولده محمد، فقام نور الدين الشامي
329 بنصرته والذب عنه بحيث إن أخاه قطب الدين مودودا صاحب الموصل أراد قصد بلاده فأرسل إليه أخوه نور الدين يمنعه ويقول له إن قصدته أو تعرضت إلى بلاده منعتك قهرا فامتنع من قصده. وفيها توفي أبو المعالي محمد بن الحسين بن حمدون الكاتب ببغداد وكان على ديوان الزمام فقبض عليه فمات محبوسا. وفيها توفي قماج المسترشدي، ولد الأمير يزدن، وهو من أكابر الأمراء ببغداد.
330 563 ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة ذكر فراق زين الدين الموصل وتحكم قطب الدين في البلاد في هذه السنة فارق زين الدين علي بن بكتكين النائب عن قطب الدين مودود ابن زنكي صاحب الموصل خدمة صاحبه بالموصل وسار إلى إربل وكان هو الحاكم في الدولة وأكثر البلاد بيده منها إربل وفيه بيته وأولاده وخزائنه ومنها شهرزور وجميع القلاع التي معها وجميع بلد الهكارية وقلاعه منه العمادية وغيرها وبلد الحميدية وتكريت وسنجار وحران وقلعة الموصل هو بها وكان قد أصابه طرش وعمى أيضا فلما عزم على مفارقة الموصل إلى بيته بإربل سلم جميع ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود وبقي معه إربل حسب. وكان شجاعا عاقلا حسن السيرة سليم القلب ميمون النقيبة لم ينهزم من حرب قط وكان كريما كثير العطاء للجند وغيرهم مدحه الحيص بيص بقصيدة فلما أراد أن ينشد قال أنا لا أعرف ما يقول ولكني أعلم أنه يريد شيئا فأمر له بخمسمائة دينار وفرس وخلعة مجموع ذلك ألف دينار ولم يزل بإربل إلى أن مات بها بهذه السنة. ولما فراق زين الدين قلعة الموصل سلمها قطب الدين إلى فخر الدين عبد
331 المسيح وحكمه في البلاد فعمر القلعة وكانت خرابا لأن زين الدين كان قليل الالتفات إلى العمارة وسار عبد المسيح سيرة سديدة وسياسة عظيمة وهو خصي أبيض من مماليك زنكي أتابك عماد الدين. ذكر الحرب بين البهلوان وصاحب مراغة في هذه السنة أرسل آقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة إلى بغداد يسأل أن يخطب للملك الذي هو عنده وهو ولد السلطان محمد شاه ويبذل أنه لا يطأ أرض العراق ولا يطلب شيئا غير ذلك وبذل ما لا يحمله إذا أجيب إلى ما التمسه فأجيب بتطييب قلبه. وبلغ الخبر إيلدكز صاحب البلاد فساءه ذلك وجهز عسكرا كثيفا وجعل المقدم عليهم ابنه البهلوان وسيرهم إلى آقسنقر فوقعت بينهم حرب أجلت عن هزيمة آقسنقر وتحصنه بمراغة ونازله البهلوان وحصره وضيق عليه ثم ترددت الرسل بينهم فاصطلحوا وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان. ذكر عدة حوادث في هذه السنة استوزر الخليفة المستنجد بالله شرف الدين أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن البلدي وكان ناظرا بواسط أبان في ولايتها عن كفاية عظيمة فأحضره الخليفة واستوزره وكان عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء قد تحكم تحكما عظيما فتقدم الخليفة إلى ابن البلدي بكف يده وأيدي أهله وأصحابه ففعل ذلك ووكل بتاج الدين أخي أستاذ الدار وطالبه بحساب نهر الملك لأنه يتولاه من أيام المقتفي وكذلك فعل
332 بغيره فحصل بذلك أموالا جمة وخافه أستاذ الدار على نفسه فحمل مالا كثيرا. وفي هذه السنة توفي عبد الكريم بن محمد بن منصورا أبو سعيد بن أبي المظفر السمعاني المروزي الفقيه الشافعي وكان مكثرا من سماع الحديث سافر في طلبه وسمع منه ما لم يسمعه غيره ورحل إلى ما وراء النهر وخراسان دفعات ودخل إلى بلد الجبل وأصفهان والعراق والموصل والجزيرة والشام وغير ذلك من البلاد وله التصانيف المشهورة منها ذيل تاريخ بغداد وتاريخ مدينة مرو وكتاب النسب وغير ذلك أحسن فيها ما شاء وقد جمع مشيخته فزادت عدتهم على أربعة آلاف شيخ وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي فقطعه. فمن جملة قوله فيه إنه كان يأخذ الشيخ ببغداد ويعبر به إلى فوق نهر عيسى فيقول حدثني فلان بما وراء النهر وهذا بارد جدا فإن الرجل سافر إلى ما وراء النهر حقا وسمع في عامة بلاده من عامة شيوخه فأي حاجة به إلى هذا التدليس البارد وإنما ذنبه عند ابن الجوزي أنه شافعي وله أسوة بغيره فإن ابن الجوزي لم يبق على أحد إلا مكسري الحنابلة. وفيها توفي قاضي القضاء أبو البركات جعفر بن عبد الواحد الثقفي في جمادي الآخرة. وفيها توفي يوسف الدمشقي مدرس النظامية بخوزستان وكان قد سار رسولا إلى شملة. وفيها توفي الشيخ أبو النجيب الشهرزوري الصوفي الفقيه وكان من الصالحين المشهورين ودفن ببغداد.
333 564 ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة ذكر ملك نور الدين قلعة جعبر في هذه السنة ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة جعبر أخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علي بن مالك العقلي وكانت بيده ويد آبائه من قبله من أيام السلطان ملكشاه وقد تقدم ذكر ذلك وهي من أمنع القلاع وأحصنها مطلة على الفرات من الجانب الشرقي. وأما سبب ملكها فإن صاحبها نزل منها يتصيد فأخذه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة ثلاث وستين فاعتقله وأحسن اليه ورغبه في الأقطاع والمال ليسلم إليه القلعة فلم يفعل فعدل إلى الشدة والعنف وتهدده فلم يفعل فسير إليها نور الدين عسكرا مقدمه الأمير فخر الدين مسعود بن علي الزعفراني فحصرها مدة فلم يظفر منها بشيء فأمدهم بعسكر آخر وجعل على الجميع الأمير مجد الدين أبا بكر المعروف بابن الداية وهو رضيع نور الدين وأكبر أمرائه فحصرها أيضا فلم ير له فيها مطمعا فسلك مع صاحبها طريق اللين وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العوض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقبل قوله وسلمها، فأخذ عوضا
334 عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين بلد حلب وباب بزاعة وعشرين ألف دينار معجلة وهذا إقطاع عظيم جدا إلا أنه لا حصن فيه. وهذا آخر أمر بني مالك بالقلعة ولكل أمر أمد ولكل ولاية نهاية بلغني أنه قيل لصاحبها أيما أحب إليك وأحسن مقاما سروج والشام أم القلعة فقال هذه أكثر مالا وأما العز ففارقناه بالقلعة. ذكر ملك أسد الدين مصر وقتل شاور في هذه السنة في ربيع الأول سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر فملكها ومعه العساكر النورية. وسبب ذلك ما ذكرناه من تمكن الفرنج من البلاد المصرية وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم وحكموا على المسلمين حكما جائرا وركبوهم بالأذى العظيم فلما رأوا ذلك وأن البلاد ليس فيها من يردهم أرسلوا إلى ملك الفرنج بالشام وهو مري ولم يكن للفرنج مذ ظهر بالشام مثله شجاعة ومكرا ودهاء يستدعونه ليملكها وأعلموه خلوها من موانع وهونوا عليه فلم يجبهم فاجتمع إليه فرسان الفرنج وذو الرأي منهم وأشاروا عليه بقصدها وتملكها فقال لهم الرأي عندي أننا لا نقصدها ولا طعمة لنا فيها وأموالها تساق الينا نتقوى بها على نور الدين وإن نحن قصدناها لنملكها
335 فإن صاحبها وعساكره وعامة بلاده وفلاحيها لا يسلمونها إلينا ويقاتلوننا دونها ويحملهم الخوف منا على تسليمها إلى نور الدين ولئن صار له فيها مثل أسد الدين فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من أرض الشام فلم يقبلوا قوله وقالوا له إنها لا مانع فيها ولا حتمي وإلى أن يتجهز عسكر نور الدين ويسير إليها نكون نحن قد ملكناها وفرغنا من أمرها وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة. فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص فلما سمع نور الدين شرع أيضا يجمع عساكره وأمرهم بالقدوم عليه وجد الفرنج في السير إلى مصر فقدموها ونازلوا مدينة بلبيس وملكوها قهرا مستهل صفر ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسبوا. وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور بن الخياط وابن فرجلة فقوي جنان الفرنج وساروا من بلبيس إلى مصر فنزلوا على القاهرة عاشر صفر وحصروها فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس فحملهم الخوف منهم على الامتناع فحفظوا البلد وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس ملكوا مصر والقاهرة ولكن الله تعالى حسن لهم ذلك أي ما فعلوا ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة وأن ينهب البلد فانتقلوا وبقوا على الطرق ونهبت المدينة وافتقر أهلها وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم خوفا أن يملكها الفرنج فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوما. وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به ويعرفه ضعف المسلمين
336 عن دفع الفرنج وأرسل في الكتب شعور النساء وقال هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج فشرع في تسيير الجيوش. أما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال فضاق به الأمر وضعف عن ردهم فأخلد إلى إعمال الحيلة فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودة ومحبة له قديما وأن هواه معه لخوفه من نور الدين والعاضد وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه ويشير بالصلح وأخذ مال لئلا يتسلم البلاد نور الدين فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية يعجل البعض ويمهل البعض فاستقرت القاعدة على ذلك. ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليه وربما سلمت إلى نور الدين فأجابوا كارهين وقالوا نأخذ المال فنتقوى به ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين (ومكروا ومكر الله خير الماكرين) فجعل لهم شاور مائة ألف دينار وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال فرحلوا قريبا وجعل شاور يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر فلم يتحصل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار وسببه أن أهل مصر كانوا قد احترقت دورهم وما فيها وما سلم نهب وهم لا يقدرون على الأقوات فضلا عن الأقساط. وأما أهل القاهرة فالأغلب على أهلها الجند وغلمانهم فلهذا تعذرت عليهم الأموال وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه وبذلوا له ثلث بلاد مصر وأن يكون أسد الدين مقيما عندهم في عسكر وإقطاعهم
337 من البلاد المصرية أيضا خارجا عن الثلث الذي لهم. وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل إلى أسد الدين يستدعيه إليه فخرج القاصد في طلبه فلقيه على باب حلب وقد قدمها من حمص وكانت أقطاعه، وكان سبب وصوله أن كتب المصريين وصلته أيضا في المعنى فسار أيضا إلى نور الدين واجتمع به وعجب نور الدين من حضوره في الحال وسره ذلك وتفاءل به وأمر بالتجهيز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك وحكمه في العسكر والخزائن واختار من العسكر ألفي فارس وأخذ المال وجمع ستة آلاف فارس وسار هو ونور الدين إلى باب دمشق فوصلها سلخ صفر ورحل إلى رأس الماء وأعطى نور الدين كل فارس ممن مع أسد الدين عشرين دينارا معونة غير محسوبة من جامكيته وأضاف إلى أسد الدين جماعة أخرى من الأمراء منهم مملوكه عز الدين جورديك وغرس الدين قلج وشرف الدين برغش وعين الدولة الياروقي وقطب الدين ينال بن حسان المنبجي وصلاح الدين يوسف بن أيوب أخي شيركوه على كره منه. (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) أحب نور الدين مسير صلاح الدين وفيه ذهاب بيته وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه وسيرد ذلك عند موت شيركوه إن شاء الله تعالى. وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجدا منتصف ربيع الأول فلما قارب مصر رحل الفرنج إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا وسمع نور الدين بعودهم فسره ذلك وأمر بضرب البشائر في البلاد
338 وبث رسله في الآفاق مبشرين بذلك فإنه كان فتحا جديدا لمصر وحفظا لبلاد الشام وغيرها. فأما أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة ودخل إليها واجتمع بالعاضد لدين الله وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالخلعة العاضدية وفرح به أهل مصر وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة والإقامات الوافرة ولم يمكن شاور المنع عن ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه وهوى العاضد معهم فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه وشرع يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين من المال وإقطاع الجند وإفراد ثلث البلاد لنور الدين وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه ويعده ويمنيه (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا). ثم أنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه ويقبض عليهم يستخدم من معهم من الجند فيمنع بهم البلاد من الفرنج فنهاه ابنه الكامل وقال له والله لئن عزمت على هذا الأمر لأعرفن شيركوه فقال له أبوه والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعا فقال صدقت ولأن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج فإنه ليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه وحينئذ لو مشي العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارسا واحدا ويملكون البلاد فترك ما كان عزم عليه. ولما رأى العسكر النوري مطل شاور خافوا شره فاتفق صلاح الدين
339 يوسف بن أيوب وعز الدين جورديك وغيرهم على قتل شاور فنهاهم أسد الدين فسكنوا وهم على ذلك العزم من قتله فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته فلم يجده في الخيام كان قد مضى يزور قبر الشافعي رضي الله تعالى عنه فلقيه صلاح الدين ويوسف وجورديك في جمع من العسكر وخدموه وأعلموه بأن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعي فقال نمضي إليه فساروا جميعا فسايره صلاح الدين وجورديك وألقوه إلى الأرض عن فرسه فهرب أصحابه عنه فأخذ أسيرا فلم يمكنهم قتله بغير أمر أسد الدين فتوكلوا بحفظه وسيروا أعلموا أسد الدين فحضر ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه وسمع الخليفة العاضد صاحب مصر الخبر فأرسل إلى أسد الدين يطلب منه رأس شاور. وتابع الرسل بذلك فقتل وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخرة. ودخل أسد الدين القاهرة فرأى من اجتماع الخلق ما خافهم على نفسه فقال لهم أمير المؤمنين يعني العاضد يأمركم بنهب دار شاور فتفرق الناس عنه إليها فنهبوها وقصد هو قصر العاضد فخلع عليه خلع الوزارة ولقب الملك المنصور أمير الجيوش وسار بالخلع إلى دار الوزارة وهي التي كان فيها شاور فلم ير فيها ما يقعد عليه واستقر في الأمر وغلب عليه ولم يبق له مانع ولا منازع واستعمل على الأعمال من يثق إليه من أصحابه وأقطع البلاد لعساكره. وأما الكامل بن شاور فإنه لما قتل أبوه دخل القصر هو وإخوته معتصمين به فكان آخر العهد بهم فكان شيركوه يتأسف عليه كيف عدم لأنه بلغه
340 ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه وكان يقول وددت أنه بقي لأحسن إليه جزاء الصنيعة. ذكر وفاة أسد الدين شيركوه لما ثبت قدم أسد الدين وظن أنه لم يبق له منازع أتاه أجله (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة) فتوفى يوم السبت الثاني من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام. وأما ابتداء أمره وسبب اتصاله بنور الدين فإنه كان هو وأخوه نجم الدين أيوب ابنا شاذي من بلد دوين من أذربيجان وأصلهما من الأكراد الروادية وهذا القبيل هم أشرف الأكراد فقدما العراق وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد فرأى من نجم الدين عقلا وافرا وحسن سيرة وكان أكبر من شيركوه فجعله مستحفظا لقلعة تكريت وهي له فسار إليها ومعه أخوه شيركوه فلما انهزم أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر بالعراق من قراجا الساقي على ما ذكرناه سنة ست وعشرين وخمسمائة وصل منهزما إلى تكريت فخدمه نجم الدين وأقام له السفن فعبر دجلة هناك وتبعه أصحابه فأحسن أيوب صحبتهم وسيرهم. ثم إن شيركوه قتل إنسانا بتكريت لملاحاة جرت بينهما فأخرجهما بهروز من القلعة فسار إلى الشهيد زنكي فأحسن إليهما وعرف لهما خدمتهما وأقطعهما أقطاعا حسنا فلما ملك قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظا
341 بها فلما قتل الشهيد حصر عسكر دمشق بعلبك وهو بها فضاق عليه الأمر وكان سيف الدين غازي بن زنكي مشغولا عنه بإصلاح البلاد فاضطر إلى تسليمها إليهم فسلمها على أقطاع ذكره فأجيب إلى ذلك وصار من أكبر الأمراء بدمشق. واتصل أخوه أسد الدين شيركوه بنور الدين محمود بعد قتل زنكي وكان يخدمه في أيام والده فقربه وقدمه ورأى منه شجاعة يعجز غيره عنها فزاده حتى صار له حمص والرحبة وغيرهما وجعله مقدم عسكره فلما أراد نور الدين ملك دمشق أمره فراسل أخاه أيوب وهو بها وطلب منه المساعدة على فتحها فأجاب إلى ذلك على ما يراد منه على أقطاع ذكره له ولأخيه وقرى يتملكانها فأعطاهما ما طلبا وفتح دمشق على ما ذكرناه ووفى لهما وصارا أعظم أمراء دولته فلما أراد أن يرسل العساكر إلى مصر لم ير لهذا الأمر العظيم والمقام الخطر غيره فأرسله ففعل ما ذكرناه. ذكر ملك صلاح الدين مصر لما توفي أسد الدين شيركوه كان معه صلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب ابن شاذي قد سار معه على كره منه للسير. حكى لي عنه بعض أصدقائنا ممن كان قريبا إليه خصيصا به لما وردت كتب العاضد على الدين يستغيث به من الفرنج ويطلب إرسال العساكر أحضرني وأعلمني الحال وقال تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص
342 مع رسولي إليه ليحضر وتحثه أنت على الإسراع فما يحتمل الأمر التأخير ففعلت وخرجنا من حلب فما كنا على ميل من حلب حتى لقيناه قادما في هذا المعنى فأمره نور الدين بالمسير فلما قال له نور الدين ذلك التفت عمي إلي فقال لي تجهز يا يوسف فقلت والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها فلقد قاسيت بالإسكندرية وغيرها ما لا أنساه أبدا فقال لنور الدين لا بد من مسيره معي فتأمر به فأمرني نور الدين وأنا أستقيل وانقضى المجلس. وتجهز أسد الدين ولم يبق غير المسير قال لي نور الدين لا بد من مسيرك مع عمك فشكوت إليه الضائقة وعدم البرك فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أساق إلى الموت فسرت معه وملكها ثم توفي فملكني الله تعالى ما لا كنت أطمع في بعضه. وأما كيفية ولايته فإن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر وولاية الوزارة العاضدية بعده منهم عين الدولة الياروقي وقطب الدين ينال وسيف الدين المشطوب الهكاري وشهاب الدين محمد الحامي وهو خال صلاح الدين وكل واحد من هؤلاء يخطبها وقد جمع أصحابه ليغالب عليها فأرسل العاضد إلى صلاح الدين أحضره عنده وخلع عليه وولاه الوزارة بعد عمه وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا له ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سنا من يوسف والرأي أن يولى فإنه لا يخرج من تحت حكمنا ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا فيصير عندنا من الجنود من نمنع بهم البلاد ثم نأخذ يوسف أو نخرجه.
343 فلما خلع عليه لقب الملك الناصر ولم يعطه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم ولا خدموه وكان الفقيه عيسى الهكاري معه فسعى مع المشطوب حتى أماله إليه وقال له إن هذا الأمر لا يصل إليك مع عين الدولة والحارمي وغيرهما ثم قصد الحامي وقال هذا صلاح الدين هو ابن أختك وعزه وملكه لك وقد استقام له الأمر فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه ولا يصل إليك فمال إليه أيضا ثم فعل مثل هذا بالباقين وكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي فإنه قال أنا لا أخدم يوسف وعاد إلى نور الدين بالشام ومعه غيره من الأمراء وثبت قدم صلاح الدين ومع هذا فهو نائب عن نور الدين. وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسلار ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيما عن أن يكتب اسمه وكان لا يفرده بكتاب بل يكتب الأمير الأسفهسلار صلاح [الدين] وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا. واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل الأموال فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر العاضد ثم أرسل صلاح الدين بطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته وأهله فأرسلهم إليه وشرط عليهم طاعته والقيام بأمره ومساعدته وكلهم فعل ذلك وأخذ إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه وزادهم فازدادوا له حبا وطاعة. قد اعتبرت التواريخ فرأيت كثيرا من التواريخ الإسلامية التي يمكن ضبطها ورأيت كثيرا ممن يبتدى الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه منهم أول الإسلام معاوية بن أبي سفيان أول من ملك من أهل بيته فتنقل الملك من أعقابه بني مروان من بني عمه ثم من بعده السفاح أول من ملك من بني العباس انتقل الملك من أعقابه إلى أخيه
344 إسماعيل بن احمد وأعقابه ثم يعقوب الصفار وهو أول من ملك من أهل بيته فانتقل الملك إلى أخيه عمرو وأعقابه ثم عماد الدولة بن بويه أول من ملك من أهله انتقل الملك عنه إلى أخويه ركن الدولة وعز الدولة ثم خلص في عقاب ركن الدولة ومعز الدولة ثم خلص في أعقاب ركن الدولة ثم الدولة السلجوقية أول من ملك منهم طغرلبك انتقل الملك إلى أولاد أخيه داود ثم هذا شيركوه كما ذكرناه انتقل الملك إلى أعقاب أخيه أيوب ثم إن صلاح الدين لما أنشأ الدولة وعظمها وصار كأنه أول لها نقل الملك إلى أعقاب أخيه العادل ولم يبق بيد أعقابه غير حلب. وهذه أعظم الدول الإسلامية ولولا خوف التطويل لذكرنا أكثر من هذا والذي أظنه السبب في ذلك أن الذي يكون أول دولة يكثر ويأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلقة به فلهذا يحرمه الله أعقابه ومن يفعل ذلك من أجلهم عقوبة له. ذكر وقعه السودان بمصر في هذه السنة في أوائل ذي القعدة قتل مؤتمن الخلافة وهو خصي كان بقصر العاضد إليه الحكم فيه والتقدم على جميع من يحويه فاتفق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى البلاد والتقوي بهم على صلاح الدين ومن معه وسيروا الكتب مع إنسان يثقون به، وأقاموا
345 ينتظرون جوابه، وسار ذلك إلى القاصد إلى البئر البيضاء فلقيه إنسان تركماني فرأى معه نعلين جديدين فأخذهما منه وقال في نفسه لو كان مما يلبسه هذا الرجل لكانا خلقين فإنه رث الهيئة وارتاب به وبهما فأتى به صلاح الدين ففتقهما فرأى الكتاب فيهما فقرأه وسكت عليه. وكان مقصود مؤتمن الخلافة أن يتحرك الفرنج إلى الديار المصرية فإذا وصلوا إليها خرج صلاح الدين في العساكر إلى قتالهم فيثور مؤتمن الخلافة بمن معه من المصريين على مخلفيهم فيقتلونهم ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاح الدين فيأتونه من وراء ظهره والفرنج من بين يديه فلا يبقى لهم باقية فلما قرأ الكتاب سأل عن كاتبه فقيل رجل يهودي فأحضر فأمر بضربه وتقريره فابتدأ وأسلم وأخبره الخبر وأخفى صلاح الدين الحال. وأستشعر مؤتمن الخلافة استشعر فلازم القصر ولم يخرج منه خوفا وإذا خرج لم يبعد من [صلاح الدين] لا يظهر له شيئا من الطلب لئلا ينكر ذلك فلما طال الأمر خرج من القصر إلى قرية له تعرف بالحرقانية للتنزه فلما علم به صلاح الدين أرسل إليه جماعة فأخذوه وقتلوه وأتوا برأسه وعزل جميع الخدم الذين يتولون أمر قصر الخلافة واستعمل على الجميع بهاء الدين قراقوش وهو خصي أبيض وكان لا يجري في القصر صغير ولا كبير إلا بأمره فغضب السودان لقتل مؤتمن الخلافة للجنسية ولأنه كان يتعصب لهم فحشدوا وجمعوا فزادت عدتهم على خمسين ألفا،
346 وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية فاجتمع العسكر أيضا وقاتلوهم بين القصرين. وكثر القتل في الفريقين فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة فأحرقها على أموالهم وأولادهم فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين فركبهم السيف وأخذت عليهم أفواه السكك فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل فأجيبوا إلى ذلك فأخرجوا من مصر إلا الجيزة فعبر إليهم شمس الدولة أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر فأبادهم بالسيف ولم يبق منهم إلا القليل الشريد وكفى الله تعالى شرهم والله أعلم. ذكر ملك شملة فارس واخراجه عنها في هذه السنة ملك شملة صاحب خوزستان بلاد فارس وأخرج عنها، وسبب ذلك أن زنكي بن دكلا صاحبها أساء السيرة مع عسكره فأرسلوا إلى شملة بخوزستان وحسنوا له قصد فارس فجمع عساكره وتجهز وسار إليها فخرج إليه زنكي بن دكلا ووقعت بينهم حرب خامر فيها أصحاب زنكي عليه فانهزم في شرذمة من عسكره ونجا بنفسه وقصد الأكراد الشوانكار والتجأ إليهم فأجاره صاحبها وأحسن ضيافته. ونزل شملة ببلاد فارس فملكها فأساء السيرة إلى أهلها ونهب ابن أخيه ابن سنكا البلاد فتغيرت بواطن أهلها عليه واجتمع إلى زنكي بعض العسكر الذين خامروا عليه لما رأوا من سوء سيرة شملة فيهم، فكثر جمعة مع الأكراد
347 الشوانكار ونزل بهم إلى البلاد وكاتب عسكره ووعدهم الإحسان فأقبلوا إليه وقصد شملة وواقعة فانهزم شملة واستعاد زنكي بلاده ورجع إلى ملكه وعاد شملة إلى بلاد خوزستان. ذكر ملك إيلدكز الري في هذه السنة ملك إيلدكز مدينة الري والبلاد التي كانت بيد اينانج. وسبب ذلك أن إيلدكز كان قد استقر الأمر بينه وبين إينانج على مال يؤديه إلى إيلدكز فمنعه سنتين فأرسل إيلدكز يطلب المال فاعتذر بكثرة غلمانه وحاشيته فتجهز إيلدكز وقصد الري فالتقاه اينانج وحاربه حربا عظيما فانهزم اينانج ومضى منهزما فتحصن بقلعة طبرك فحصره إيلدكز فيها وراسل سرا جماعة من مماليكه فأطمعهم في الإقطاعات والأموال والإحسان العظيم ليقتلوا اينانج فقتلوه وكانوا جماعة كثيرة وسلموا البلد إلى إيلدكز فرتب فيه عمر بن علي ياغ وعاد إلى همذان ولم يف للغلمان الذين قتلوا اينانج وسلموا البلد إليه بما وعدهم وقال مثل هؤلاء ينبغي أن لا يستخدموا وأبعدهم عنه فتفرقوا في البلاد فسار بعضهم وهو الذي تولى قتله إلى خوارزمشاه فصلبه خوارزمشاه نكالا بما فعل بصاحبه.
348 ذكر عدة حوادث في هذه السنة رؤي في دار الخليفة رجل غريب في الطريق التي يركب فيه وفي يده سكين صغيرة وفي يده الأخرى سكين كبيرة فأخذوه وقرروه فقال أنا من حلب فحبس وعوقب البواب ولم يعلم من أين دخل. وفيها قبض ابن البلدي وزير الخليفة على الحسين بن محمد المعروف بابن السني وعلى أخيه الأصغر وكانا ابني عمه عضد الدين أستاذ الدار وكان الأصغر عامل البيمارستان فقطعت يده ورجله قيل كان عنده صنج يقبض بها ويحمل إلى الديوان بالصنج الصحيحة وقيل غير ذلك وحمل إلى البيمارستان فمات به وكان شاعرا فمن شعره وهو محبوس هذه الأبيات: (سلام على أهلي وصحبي وجلاسي * ومن في فؤادي ذكرهم راسب رأسي) (أعالج فيكم كل هم ولا أرى * لداء همومي غير رؤيتكم آسي) (لقد أبدت الأيام لي كل شدة * تشيب لها الأكباد فضلا عن الرأس) (فيا ابنة عبد الله صبر على الذي * لقيت فهذا الحكم من مالك الناس) (فلو أبصرت عيناك ذلي بكيت لي * بدمع سوي بالمدامع رجاس) (أقول لقلبي والهموم تنوشه * وقد حدثته النفس بالضر واليأس) (فلو هم طيف من خيالي يزوركم * لمانعه دون المغالق حراسي) (وما حذري إلا على النفس لا على * سواها لأني حلف فقر وإفلاس) وفيها توفي المعمر بن عبد الواحد بن رجار أبو أحمد الأصفهاني الحافظ يروي عن أصحاب أبي نعيم وكان موته بالبادية ذاهبا إلى الحج في ذي القعدة.
349 وفي رجب منها توفي الشيخ أبو محمد الفارقي المتكلم على الناس وكان أحد الزهاد له كرامات كثيرة وكان يتكلم على الخاطر وكلامه مجموع مشهور. وفيها مات جعيفر الرقاص من ندماء دار الخلافة. وفي شوال منها توفي القاضي أبو الحسن علي بن يحيى القرشي الدمشقي. وفي ذي الحجة توفي نجم الدين بن محمد بن علي بن القاسم الشهرزوري قاضي الموصل وولي ابنه حجة الدين عبد القاهر القضاء.
350 565 ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة ذكر حصر الفرنج دمياط في هذه السنة في صفر نزل الفرنج على مدينة دمياط من الديار المصرية وحصروها وكان الفرنج بالشام لما ملك أسد الدين شيركوه مصر قد خافوه وأيقنوا بالهلاك وكاتبوا الفرنج الذين بصقلية والأندلس وغيرها يستمدونهم ويعرفونهم ما تجدد من ملك الأتراك مصر وأنهم خائفون على البيت المقدس منهم فأرسلوا جماعة من القسوس والرهبان يحرضونهم على الحركة فأمدوهم بالأموال والرجال والسلاح واستعدوا للنزول على دمياط ظنا منهم أنهم يملكونها ويتخذونها ظهر يملكون به الديار المصرية (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا) فإلى أن دخلوا كان أسد الدين قد مات وملك صلاح الدين فاجتمعوا عليها وحصروها وضيقوا على من بها. فأرسل إليها صلاح الدين العساكر في النيل وحشر فيها كل من عنده وأمدهم بالأموال والسلاح والذخائر وأرسل إلى نور الدين يشكو ما هم فيه من المخافة ويقول إني إن تأخرت عن دمياط ملكها الفرنج وإن سرت
351 إليها خلفني المصريون في أهلها بالشر وخرجوا عن طاعتي وساروا في أثري والفرنج أمامي فلا يبقى لنا باقية. فسير نور الدين العساكر إليه أرسالا يتلو بعضها بعضا ثم سار هو بنفسه إلى بلاد الفرنج الشامية فنهبها وأغار عليها واستباحها فوصلت الغارات إلى ما لم تكن تبلغه قبل لخلو البلاد من مانع. فلما رأى الفرنج تتابع العساكر إلى مصر ودخول نور الدين إلى بلادهم ونهبها وتخريبها رجعوا خائبين لم يظفروا بشيء ووجدوا بلادهم خرابا وأهلها بين قتيل وأسير فكانوا موضع المثل خرجت النعامة تطلب قرنين رجعت بلا أذنين. وكانت مدة مقامهم على دمياط خمسين يوما أخرج فيها صلاح الدين أموالا لا تحصى. حكي أنه قال ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إلي مرة لمقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها. ذكر حصر نور الدين الكرك في هذه السنة في جمادى الآخرة سار نور الدين إلى بلد الفرنج فحصر الكرك وهو من أمنع المعاقل على طرف البر. وكان سبب ذلك أن صلاح الدين أرسل إلى نور الدين يطلب أن يرسل إليه والده نجم الدين أيوب فجهزه نور الدين وسيره وسير معه عسكرا واجتمع معه من التجار خلق كثير وانضاف إليهم من كان له مع صلاح الدين أنس وصحبة فخاف نور الدين عليهم من الفرنج فسار في عساكره إلى الكرك فحصره وضيق عليه ونصب عليه المنجنيقات فأتاه الخبر أن
352 الفرنج قد جمعوا له وساروا إليه وقد جعلوا في مقدمتهم إليه ابن هنفري وقريب من الرقيق وهما فارسا الفرنج في وقتهما فرحل نور الدين نحو هذين المقدمين ليلقاهما ومن معهما قبل أن يلتحق بهما باقي الفرنج فلما قاربهما رجعا القهقرى واجتمعا بباقي الفرنج. وسلك نور الدين وسط بلادهم ينهب ويحرق ما على طريقه من القرى إلى أن وصل إلى بلاد الإسلام فنزل على عشترا وأقام ينظر حركة الفرنج ليلقاهم فلم يبرحوا من مكانهم فأقام هو حتى أتاهم خبر الزلزلة الحادثة فرحل. أما نجم الدين أيوب فإنه وصل إلى مصر سالما هو ومن معه وخرج العاضد الخليفة التقاه إكراما له. ذكر غزوة لسرية نورية كان شهاب الدين الياس بن ايلغازي بن أرتق صاحب قلعة البيرة قد سار في عسكره وهو في مائتي فارس إلى نور الدين وهو بعشترا فلما وصل إلى قرية اللبوة وهي من عمل بعلبك ركب متصيدا فصادف ثلاثمائة فارس من الفرنج قد ساروا للإغارة على بلاد الإسلام سابع عشر شوال فوقع بعضهم على بعض واقتتلوا واشتد القتال وصبر الفريقان لا سيما المسلمون فإن ألف فارس لا يصبرون لحملة ثلاثمائة فارس إفرنجية وكثر القتلى بين الطائفتين فانهزم الفرنج وعمهم القتل والأسر فلم يفلت منهم إلا من لا يعتد به.
353 وسار شهاب الدين برؤوس القتلى وبالأسرى إلى نور الدين فركب نور الدين والعسكر فلقوهم فرأى نور الدين في الرؤوس رأس مقدم الإسبتار صاحب حصن الأكراد وكان من الشجاعة بمحل كبير وكان شجا في حلوق المسلمين. ذكر الزلزلة وما فعلته بالشام في هذه السنة أيضا ثاني عشر شوال كانت زلازل عظيمة متتابعة هائلة لم ير الناس مثلها وعمت أكثر البلاد من الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد وأشدها كان بالشام فخرجت كثيرا من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبعرين وحلب وغيرها وتهدمت أسوارها وقلاعها وسقطت الدور على أهلها وهلك منهم ما يخرج عن الحد. فلما أتاه الخبر سار إلى بعلبك ليعمر ما انهدم من سورها وقلعتها فلما وصلها أتاه خبر باقي البلاد وخراب أسوارها وقلاعها وخلوها من أهلها فجعل ببعلبك من يعمرها ويحفظها وسار إلى حمص ففعل مثل ذلك ثم إلى حماه ثم إلى بعرين وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج ثم أتى مدينة حلب فرأى فيها من آثار الزلزلة ما ليس بغيرها من البلاد فإنها كانت قد أتت عليها وبلغ الرعب ممن نجا كل مبلغ وكانوا لا يقدرون يأوون مساكنهم خوفا من الزلزلة فأقام بظاهرها وباشر عمارتها بنفسه فلم يزل كذلك حتى أحكم أسوار البلاد وجوامعها.
354 وأما بلاد الفرنج فإن الزلازل أيضا عملت بها كذلك فاشتغلوا بعمارة بلادهم خوفا من نور الدين عليها فاشتغل كل منهم بعمارة بلاده خوفا من الآخر. ذكر وفاة قطب الدين مودود بن زنكي وملك ابنه سيف الدين غازي في هذه السنة في ذي الحجة مات قطب الدين مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل بالموصل وكان مرضه حمى حادة ولما اشتد مرضه وصى بالملك بعده لابنه الأكبر عماد الدين زنكي وعدل عنه إلى ابنه الآخر سيف الدين غازي وإنما صرف الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود لأن القيم بأمور دولته والمقدم فيها كان خادما له يقال له فخر الدين عبد المسيح وكان يكره عماد الدين لأنه كان طوع عمه نور الدين لكثرة مقامه عنده ولأنه زوج ابنته وكان نور الدين يبغض عبد المسيح فاتفق فخر الدين وخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي وهي والدة سيف الدين على صرف الملك عن عماد الدين إلى سيف الدين فدخل عماد الدين إلى عمه نور الدين مستنصرا به ليعينه على أخذ الملك لنفسه. وتوفي قطب الدين وعمره نحو أربعين سنة وكان ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفا وكان فخر الدين هو المدبر للأمور والحاكم في الدولة وكان قطب الدين من أحسن الملوك سيرة وأعفهم عن أموال رعيته،
355 محسنا إليهم كثير الإنعام عليهم محبوبا إلى كبيرهم وصغيرهم عطوفا على شريفهم ووضيعهم كريم الأخلاق حسن الصحبة لهم فكأن القائل أراده بقوله: (خلق كماء المزن مذاقة * والروضة الغناء طيب نسيم) (كالسيف لكن فيه حلم واسع * عمن جنى والسيف غير حليم) (كالغيث إلا أن وابل جوده * أبدا وجود الغيث غير مقيم) (كالدهر إلا أنه ذو رحمة * والدهر قاسي القلب غير رحيم) وكان سريع الانفعال للخير بطيئا عن الشر جم المناقب قليل المعايب رحمه الله ورضي عنه وعن جميع المسلمين بمنه وكرمه أنه جواد كريم. ذكر حالة ينبغي للملوك أن يحترزوا من مثلها حدثني والدي رحمه الله، قال: كنت أتولى جزيرة ابن عمر لقطب الدين كما علمتم فلما كان قبل موته بيسير أتانا كتاب من الديوان بالموصل يأمرون بمساحة جميع بساتين العقيمة وهذه العقيمة هي قرية تحاذي الجزيرة منها دجلة ولها بساتين كثيرة بعضها يمسح فيؤخذ منه على كل جريب شيء كعلوم وبعضها عليه خراج وبعضها مطلق عن الجميع. قال: وكان لي فيها ملك كثير فكنت أقول إن المصلحة أن لا يغير على الناس شيء وما أقول هذا لأجل ملكي فإنني أنا أمسح ملكي وإنما
356 أريد أن يدوم الدعاء من الناس للدولة فجاءني كتاب النائب يقول لا بد من المساحة قال فأظهرت الأمر وكان بها قوم صالحون لي بهم أنس وبيننا مودة فجاءني الناس كلهم وأولئك معهم يطلبون المراجعة فأعلمتهم أني راجعت وما أجبت إلى ذلك فجاءني منهم رجلان أعرف صلاحهما وطلبا مني المعاودة ومخاطبة ثانية ففعلت فأصروا على المماسحة فعرفتهما الحال. قال: فما مضى إلا عدة أيام وإذ قد جاءني الرجلان فلما رأيتهما ظننت أنهما جاءا يطلبان المعاودة فعجبت منهما وأخذت أعتذر إليهما فقالا ما جئنا إليك في هذا وإنما جئنا نعرفك أن حاجتنا قضيت قال فظننت أنهما قد أرسلا إلى الموصل إلى من يشفع لهما فقلت من الذي خاطب في هذا بالموصل فقالا إن حاجتنا قد قضيت من السماء ولكافة أهل العقيمة. قال: فظننت أن هذا مما قد حدثا به نفوسهما ثم قاما عني فلم يمض غير عشرة أيام وإذا قد جاءنا كتاب من الموصل يأمرون بإطلاق المساجين والمحبوسين والمكوس ويأمرون بالصدقة ويقال إن السلطان يعني قطب الدين مريض يعني على حالة شديدة ثم بعد يومين أو ثلاثة جاءنا الكتاب بوفاته فعجبت من قولهما واعتقدته كرامة لهما فصار والدي بعد ذلك يكثر إكرامهما واحترامهما ويزورهما.
357 ذكر الحرب بين عساكر ابن عبد المؤمن وابن مردنيش كان محمد بن سعيد بن مردنيش ملك شرق الأندلس قد اتفق هو والفرنج وامتنع على عبد المؤمن وابنه بعده فاستفحل أمره لا سيما بعد وفاة عبد المؤمن فلما كان هذه السنة جهز إليه يوسف بن عبد المؤمن فجاسوا بلاده وخربوها وأخذوا مدينتين من بلاده وأخافوا عساكره وجنوده وأقاموا ببلاده مدة ينتقلون فيها ويجبون أموالها. ذكر وفاة صاحب كرمان والخلف بين أولاده في هذه السنة توفي الملك طغرل بن قاورت صاحب كرمان واختلف أولاده بهرام شاه وأرسلان شاه وهو الأكبر وجرى بينهما قتال انهزم فيه بهرام شاه إلى خراسان فدخل على المؤيد صاحب نيسابور واستنجده فأنجده بعساكر سار بها إلى كرمان فجرى بين الأخوين حرب ظفر فيها بهرام شاه وهرب أرسلان شاه فقصد أصفهان مستجيرا بإيلدكز فأنفذ معه عسكرا واستنفذوا البلاد من بهرام شاه وسلموها إلى أخيه أرسلان شاه فعاد بهرام شاه إلى نيسابور مستجيرا بالمؤيد صاحبها فأقام عنده فاتفق أن أخاه أرسلان شاه مات فسار إلى كرمان فملكها وأقام بها بغير منازع.
358 ذكر عدة حوادث في هذه السنة كثرت الأذية من عبد الملك بن عطاء وتطرق إلى بلاد حلوان ونهب وأفسد وأخذ من الحجاج فأنفذ إليه من بغداد عسكر فنازلوه في قلاعه وضايقوا ونهبوا أمواله وأموال أهله حتى أذعن بالطاعة ولا يعاود أذى الحجاج ولا غيرهم فعاد العسكر عنه. وفيها توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية وهو رضيع نور الدين وكان أعظم الأمراء منزلة عنده وله في أقطاعه حلب وحارم وقلعة جعبر فلما توفي رد نور الدين ما كان له إلى أخيه شمس الدين علي بن الداية. وفيها في شعبان توفي أحمد بن صالح بن شافع أبو الفضل الجيلي وهو من مشهوري المحدثين الجبلي بالجيم والياء تحتها نقطتان.
359 566 ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة ذكر وفاة المستنجد بالله في هذه السنة تاسع ربيع الآخر توفي المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله وقد تقدم باقي النسب في غير موضع وأمه أم ولد اسمها طاوس وقيل نرجس رومية ومولده مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة وكان أسمر تام القامة طويل اللحية. وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء وقطب الدين قايماز المقتفوي وهو حينئذ أكبر أمير ببغداد فلما اشتد مرض الخليفة اتفقا ووضعا الطبيب على أن يصف له ما يؤذيه فوصف له دخول الحمام فامتنع لضعفه ثم إنه دخل وأغلق عليه بابه فمات. وهكذا سمعت من غير واحد ممن يعلم الحال وقيل إن الخليفة كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمره بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين وصلبهما فاجتمع ابن صفية بأستاذ الدار وأعطاه خط الخليفة فقال له تعود وتقول إنني أوصلت الخط إلى الوزير ففعل ذلك وحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن أخاه تنامش وعرض الخط عليهم فاتفقوا على قتل الخليفة فدخل إليه يزدن وقايماز الحميدي فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث
360 وألقياه وأغلقا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات رحمه الله. وكان وزيره أبا جعفر بن البلدي وبينه وبين أستاذ الدار وبين قطب الدين عداوة مستحكمة لأن المستنجد بالله كان يأمره بأشياء تتعلق بهما فيفعلها فكانا يظنان أنه هو الذي يسعى بهما فلما مرض المستنجد وأرجف بموته ركب الوزير ومعه الأمراء والأجناد وغيرهما بالعدد فلم يتحقق عنده خبر موته فأرسل إليه عضد الدين يقول إن أمير المؤمنين قد خف ما به من المرض وأقبلت العافية فخاف الوزير أن يدخل دار الخلافة بالجند فربما أنكر عليه ذلك فعاد إلى داره وتفرق الناس عنه وكان عضد الدين وقطب الدين قد استعد للهرب لما ركب الوزير خوفا منه إن دخل الدار أن يأخذهما فلما عاد أغلق أستاذ الدار أبواب الدار وأظهروا وفاة المستنجد وأحضر هو وقطب الدين ابنه أبا محمد الحسن وبايعاه بالخلافة ولقباه المستضيء بأمر الله وشرطا عليه شروطا أن يكون عضد الدين وزيرا وابنه كمال الدين أستاذ الدار وقطب الدين أمير العسكر فأجابهم إلى ذلك. ولم يتول الخلافة من اسمه الحسن إلا الحسن ابن علي بن أبي طالب والمستضيء بأمر الله واتفقا في الكنية والكرم فبايعه أهل بيته البيعة الخاصة يوم توفي أبوه وبايعه الناس من الغد في التاج بيعة عامة وأظهر من العدل أضعاف ما عمل أبوه وفرق أموالا جليلة المقدار. وعلم الوزير ابن البلدي فسقط في يده وقرع سنة ندما على ما فرط في عوده حيث لا ينفعه وأتاه من يستدعيه للجلوس للعزاء والبيعة للمستضيء فمضى إلى دار الخلافة فلما دخلها صرف إلى موضع وقتل وقطع قطعا،
361 وألقي في دجلة رحمه الله وأخذا جميع ما في داره فرأيا فيها خطوط المستنجد بالله يأمره فيها بالقبض عليهما وخط الوزير قد راجعه في ذلك وصرفه عنه فلما وقفا عليها عرفا براءته مما كانا يظنا فيه فندما حيث فرطا في قتله. وكان المستنجد بالله من أحسن الخلفاء سيرة مع الرعية عادلا فيهم كثير الرفق بهم وأطلق كثيرا من المكوس ولم يترك بالعراق منها شيئا وكان شديدا على أهل العيث والفساد والسعاية بالناس. بلغني أنه قبض على إنسان كان يسعى بالناس فأطال حبسه فشفع فيه بعض أصحابه المختصين بخدمته وبذل عنه عشرة آلاف دينار فقال أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لي إنسانا آخر مثله لأكف شره عن الناس ولم يطلقه ورد كثيرا من الأموال على أصحابها أيضا وقبض على القاضي ابن المرخم وأخذ منه مالا كثيرا فأعاده على أصحابه أيضا وكان ابن المرخم ظالما جائرا في أحكامه. ذكر ملك نور الدين الموصل وإقرار سيف الدين عليها لما بلغ نور الدين محمودا وفاة أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وملك ولده سيف الدين غازي الموصل والبلاد التي كانت لأبيه بعد وفاته وقام فخر الدين عبد المسيح بالأمر معه وتحكمه عليه وكان يبغض فخر الدين لما يبلغه عنه من خشونة سياسته،
362 فقال: أنا أولى بتدبير أولاد أخي وملكهم وسار عند انقضاء العزاء جريدة في قلة من العسكر وعبر الفرات عند قلعة جعبر مستهل المحرم من هذه السنة وقصد الرقة فحصرها وأخذها. ثم سار إلى الخابور فملكه جميعه وملك نصيبين وأقام بها فجمع العساكر فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود صاحب حصن كيفا وكثر جمعه وكان قد ترك أكثر عساكره بالشام لحفظ ثغوره فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها ونصب المنجنيقات وملكها وسلمها إلى عماد الدين ابن أخيه قطب الدين. وكان قد جاءته كتب الأمراء الذين بالموصل سرا يبذلون له الطاعة ويحثونه على الوصول إليهم فسار إلى الموصل فأتى مدينة بلد وعبر دجلة عندها مخاضة إلى الجانب الشرقي وسار فنزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل ومن العجب أن يوم نزوله سقط من سور الموصل بدنة كبيرة. وكان سيف الدين غازي قد سير عز الدين مسعود بن قطب الدين إلى أتابك شمس الدين إيلدكز صاحب همذان وبلد الجبل وأذربيجان وأصفهان والري وتلك الأعمال يستنجده على عمه نور الدين فأرسل إيلدكز رسولا إلى نور الدين ينهاه عن التعرض إلى الموصل وقول له إن هذه البلاد للسلطان فلا تقصدها فلم يلتفت إليه وقال للرسول قل لصاحبك أنا أصلح لأولاد أخي منك فلم تدخل نفسك بيننا وعند الفراغ من إصلاح بلادهم يكون الحديث معك على باب همذان فإنك قد ملكت هذه المملكة العظيمة وأهملت الثغور حتى غلب الكرج عليها وقد بليت أنا ولي مثل
363 ربع بلادك بالفرنج وهم أشجع العالم فأخذت معظم بلادهم وأسرت ملوكهم ولا يحل لي السكوت عنك فإنه يجب علينا القيام بحفظ ما أهملت وإزالة الظلم عن المسلمين. فأقام نور الدين على الموصل فعزم من بها من الأمراء على مجاهرة فخر الدين عبد المسيح وتسليم البلد إلى نور الدين فعلم ذلك فأرسل إلى نور الدين في تسليم البلد إليه على أن يقره بيد سيف الدين ويطلب لنفسه الأمان ولما له فأجابه إلى ذلك وشرط أن فخر الدين يأخذه معه إلى الشام ويعطيه عنده إقطاعا يرضيه فتسلم البلد ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة ودخل القلعة من باب السر لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه حلف أن لا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها ولما ملكها أطلق ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالم وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور وهكذا كان جميع بلاده من الشام ومصر. ووصله، وهو على الموصل يحاصرها خلعة من الخليفة المستضيء بأمر الله فلبسها ولما ملك الموصل خلعها على سيف الدين ابن أخيه وأمره وهو بالموصل بعمارة الجامع النوري وركب هو بنفسه إلى موضعه فرآه وصعد منارة مسجد أبي حاضر فأشرف منها على موضع الجامع فأمر أن يضاف إلى الأرض التي شاهدها ما يجاورها من الدور والحوانيت وأن لا يؤخذ منها شيء بغير اختيار أصحابه وولي الشيخ محمد لملا عمارته وكان من الصالحين الأخيار فاشترى الأملاك من أصحابها بأوفر الأثمان وعمره فخرج عليه أموال كثيرة وفرغ من عمارته سنة ثمان وستين وخمسمائة. وأما نور الدين فإنه عاد إلى الشام واستناب في قلعة الموصل خصيا كان له اسمه
364 كمشتكين ولقبه سعد الدين وأمر سيف الدين أن لا ينفرد عنه بقليل من الأمور ولا بكثير وحكمه [في البلاد] وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين فلما فعل ذلك قال كمال الدين بن الشهرزوري هذا طريق إلى أذى يحصل ببيت أتابك لأن عماد الدين كبير لا يرى طاعة سيف الدين [وسيف الدين] هو الملك لا يرى الإغضاء لعماد الدين فيحصل الخلف ويطمع الأعداء فكان كذلك على ما نذكره سنة سبعين وخمسمائة وكان مقام نور الدين بالموصل أربعة وعشرين يوما واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح وغير اسمه فسماه عبد الله وأقطعه إقطاعا كبيرا. ذكر غزو صلاح الدين بلاد الفرنج وفتح أيلة وفي هذه السنة سار صلاح الدين أيضا عن مصر إلى بلاد الفرنج فأغار على أعمال عسقلان والرمة وهجم على ربض غزة فنهبه وأتاه ملك الفرنج في قلة من العسكر مسرعين لرده عن البلاد فقاتلهم وهزمهم وأفلت ملك الفرنج بعد أن أشرف أن يؤخذ أسيرا وعاد إلى مصر وعمل مراكب مفصلة وحملها قطعا على الجمال في البر وقصد أيلة فجمع قطع المراكب وألقاها في البحر وحصر أيلة برا وبحرا وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر واستباح أهلها وما فيها وعاد إلى مصر.
365 ذكر ما اعتمده صلاح الدين بمصر هذه السنة كان بمصر دار للشحنة تسمى دار المعونة يحبس فيها من يريد جبسه فهدمها صلاح الدين وبناها مدرسة للشافعية وأزال ما كان فيها من الظلم وبنى دار العدل مدرسة للشافعية أيضا وعزل قضاة المصريين وكانوا شيعة وأقام قاضيا شافعيا في مصر فاستناب القضاة الشافعية في جميع البلاد في العشرين من جمادى الآخرة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة اشترى تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين منازل العز بمصر وبناها مدرسة للشافعية. وفيها أغار شمس الدولة تورانشاه أخو صلاح الدين على الأعراب الذين بالصعيد وكانوا قد أفسدوا في البلاد ومدوا أيديهم فكفوا عما كانوا يفعلونه. وفيها مات القاضي ابن الخلال من أعيان الكتاب المصريين وفضلائهم وكان صاحب ديوان الإنشاء بها. وفيها وقع حريق ببغداد في درب المطبخ وفي خرابة ابن جردة.
366 وفيها توفي الأمير نصر بن المستظهر بالله عم المستنجد بالله وحموه وهو آخر من مات من أولاد المستظهر بالله وكان موته في ذي القعدة ودفن في الترب بالرصافة. وفيها جعل ظهير الدين أبو بكر نصر بن العطار صاحب المخزن ببغداد ولقب ظهير الدين. وفيها حج بالناس الأمير طاشتكين المستنجدي وكان نعم الأمير رحمه الله.
367 567 ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر وانقراض الدولة العلوية في هذه السنة في ثاني جمعة من المحرم قطعت خطبة العضد لدين الله أبي محمد الإمام عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور بن العزيز بالله أبي منصور بن نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبي الظاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله وهو أول العلويين من هذا البيت الذين خطب لهم بالخلافة وخوطبوا بأمرة المؤمنين. وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما ثبت قدمه بمصر وأزال المخالفين له وضعف أمر الخليفة بها العاضد وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش وهو خصي كان من أعيان الأمراء الأسدية كلهم يرجعون إليه فكتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة المستضيئية فامتنع صلاح الدين واعتذر بالخوف من قيام أهل الديار المصرية عليهم لميلهم إلى العلويين. وكان صلاح الدين يكره قطع الخطبة لهم ويريد بقاءهم خوفا من نور الدين فإنه كان يخافه أن يدخل إلى الديار المصرية يأخذها منه فكان يريد [أن] يكون العاضد معه حتى إن قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه،
368 فلما اعتذر إلى نور الدين بذلك لم يقبل عذره وألح عليه بقطع خطبته وألزمه إلزاما لا فسحة له في مخالفته وكان على الحقيقة نائب نور الدين واتفق أن العاضد مرض هذا الوقت مرضا شديدا فلما عزم صلاح الدين على قطع خطبته استشار أمراءه فمنهم من أشار به ولم يفكر في المصريين ومنهم من خافه إلا أنه ما يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين. وكان قد دخل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم رأيته أنا بالموصل فلما رأى ما هم فيه من الإحجام وأن أحدا لا يتجاسر [أن] يخطب للعباسي قال أنا ابتدئ بالخطبة له فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيء ففعلوا ذلك فلم ينتطح فيها عنزان وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر ففعلوا وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله وأصحابه بقطع الخطبة، وقالوا إن عوفي فهو يعلم وإن توفي فلا ينبغي أن نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم بقطع الخطبة. ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه فحفظه بهاء الدين قراقوش الذي كان قد رتبه قبل موت العاضد فحمل الجميع إلى صلاح الدين وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء وفيه من الأعلاق النفيسة الأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا عن مثله ومن الجواهر التي لم توجد عند غيرهم فمنه الحبل الياقوت وزنه سبعة عشر درهما أو سبعة عشر مثقالا أنا لا أشك فإنني رأيته ووزنته واللؤلؤ الذي لم يوجد مثله ومنه النصاب الزمرد الذي طوله أربع أصابع في عرض عقد كبير ووجد فيه طبل كان بالقرب من موضع العاضد وقد احتاطوا بالحفظ،
369 فلما رأوه ظنوه عمل لأجل اللعب فيه فسخروا من العاضد فأخذ إنسان فضرب به فضرط فتضاحكوا منه ثم آخر كذلك وكان كل من ضرب به ضرط فألقاه أحدهم فكسره فإذا الطبل لأجل قولنج فندموا على كسره لما قيل لهم ذلك. وكان فيه من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يعد فباع جميع ما فيه ونقل أهل العاضد إلى موضع من القصر ووكل بهم من يحفظهم وأخرج جميع من فيه من أمة وعبد فباع البعض وأعتق البعض ووهب البعض وخلا القصر من سكانه كأن لم يغن بالأمس فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه ولا تغيره الدهور ولا يقرب النقص حماه. ولما اشتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه فظن ذلك خديعة فلم يمض إليه فلما توفي علم صدقة فندم على تخلفه عنه وكان يصفه كثيرا بالكرم ولين الجانب وغلبة الخير على طبعه وانقياده وكان في نسبه تسع خطب لهم بالخلافة وهم الحافظ والمستنصر والظاهر والحاكم والعزيز والمعز والمنصور والقائم والمهدي ومنهم من لم يخطب له بالخلافة أبوه يوسف بن الحافظ وجد أبيه وهو الأمير أبو القاسم محمد بن المستنصر وبقي من خطب له بالخلافة وليس من آبائه المستعلي والآمر والظافر والفائز وجميع من خطب له منهم بالخلافة أربعة عشر خليفة منهم بإفريقية المهدي والقائم والمنصور والمعز إلى أن سار إلى مصر ومنهم بمصر المعز المذكور وهو أول من خرج إليها من أفريقية والعزيز والحاكم والظاهر والمستنصر والمستعلي والآمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد وجميع مدة ملكهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة من سنة تسع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد مائتان واثنتان وسبعون سنة
370 وشهر تقريبا. وهذا دأب الدنيا لم تعط إلا واستردت ولم تحل إلا وتمررت ولم تصف إلا وتكدرت بل صفوها لا يخلو من الكدر وكدرها قد يخلو من الصفو نسأل الله تعالى أن يقبل قلوبنا إليه ويرينا الدنيا حقيقة ويزهدنا فيها ويرغبنا في الآخرة إنه سميع الدعاء قريب من الإجابة. ولما وصلت البشارة إلى بغداد بذلك ضربت البشائر بها عدة أيام وزينت بغداد وظهر من الفرح والجذل ما لا حد عليه وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل وهو من خواص الخدم المقتفوية والمقدمين في الدولة لنور الدين وصلاح الدين فسار صندل إلى نور الدين وألبسه الخلعة وسير الخلعة التي لصلاح الدين وللخطباء بالديار المصرية والأعلام السود ثم إن هذا صندلا صار أستاذ دار الخليفة المستضيء بأمر الله ببغداد وكان يدري الفقه على مذهب الشافعي وسمع الحديث ورواه ويعرف أشياء حسنة وفيه دين وله معروف كثير وهو من محاسن بغداد. ذكر الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين باطنا في هذه السنة جرت أمور أوجبت أن تأثر نور الدين من صلاح الدين ولم يظهر ذلك وكان سببه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر من هذه السنة إلى بلاد الفرنج غازيا ونازل حصن الشوبك وبينه وبين الكرك يوم وحصره وضيق على من به من الفرنج، وأدام القتال،
371 وطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام فأجابهم إلى ذلك. فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصدا بلاد الفرنج أيضا ليدخل إليه من جهة أخرى فقيل لصلاح الدين إن دخل نور الدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال أنت من جانب ونور الدين من جانب ملكها ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نور الدين وإن جاء نور الدين إليك وأنت ههنا فلا بد لك من الاجتماع به وحينئذ يكون هو المتحكم فيك بما شاء إن شاء تركك أولا فقد لا يقدر على الامتناع عليه والمصلحة الرجوع إلى مصر. فرحل عن الشوبك عائدا إلى مصر ولم يأخذه من الفرنج وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال البلاد المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعته العلويين وإنهم عازمون على الوثوب بها فإنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلف بها فيخرجوهم وتعود ممتنعة وأطال الاعتذار فلم يقبلها نور الدين منه وتغير عليه وعزم على قصد مصر وإخراجه عنها. وظهر ذلك فسمع صلاح الدين الخبر فجمع أهله وفيهم أبوه نجم الدين أيوب وخاله شهاب الدين الحارمي ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه واستشارهم فلم يجبه أحد بكلمة واحدة فقام تقي الدين عمر بن أخي صلاح الدين فقال إذا جاءنا قاتلناه ومنعناه عن البلاد ووافقه غيره من أهلهم فشتمهم نجم الدين أيوب وأنكر ذلك واستعظمه وشتم تقي الدين وأقعده وقال لصلاح الدين أنا أبوك وهذا خالك شهاب الدين ونحن أكثر محبة لك من جميع من ترى والله لو رأيت أنا وهذا خالك نور الدين لم نمكث إلا أن نقتل بين يديه ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسروا على
372 الثبات على سروجهم وهذه البلاد له ونحن مماليكه ونوابه فيها فإن أراد سمعنا وأطعنا والرأي أن تكتب كتابا مع نجاب تقول فيه بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد فأي حاجة إلى هذا يرسل المولى نجابا يضع في رقبتي منديلا ويأخذني إليك وما ههنا من يمتنع عليك. وقام الأمراء وغيرهم وتفرقوا على هذا فلما خلى به أيوب قال له بأي عقل فعلت هذا أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه إليه وحينئذ لا نقوى عليه وأما الآن إذا بلغه ما جرى وطاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا والأقدار تعمل عملها ووالله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل. ففعل صلاح الدين ما أشار به فترك نور الدين قصده واشتغل بغيره فكان الأمر كما ظنه أيوب فتوفي نور الدين ولم يقصده وملك صلاح الدين البلاد وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها. ذكر غزوة إلى الفرنج بالشام وفي هذه السنة خرج مركبان من مصر إلى الشام فأرسيا بمدينة لاذقية فأخذهما الفرنج وهما مملوءتان من الأمتعة والتجارة وكان بينهم وبين نور الدين هدنة فنكثوا وغدروا فأرسل نور الدين إليهم في المعنى وإعادة ما أخذوه من أموال التجار فغالطوه واحتجوا بأمور منها أن المركبين كانا قد انكسرا ودخلهما الماء. وكان الشرط أن كل مركب ينكسر ويدخله الماء يأخذونه فلم يقبل
373 مغالطتهم، وجمع العساكر، وبث السرايا في بلادهم بعضها نحو أنطاكية وبعضها نحو طرابلس وحصر هو حصن عرقة وخرب ربضة وأرسل طائفة من العسكر إلى حصن صافيثا وعريمة فأخذهما عنوة ونهب وخرب وغنم المسلمون غنائم كثيرة وعادوا إليه وهو بعرقة فسار في العساكر جميعها إلى أن قارب طرابلس ينهب ويخرب ويحرق ويقتل. وأما الذين ساروا إلى أنطاكية ففعلوا في ولايتها مثل ما فعل في ولاية طرابلس فراجعه الفرنج وبذلوا جميع ما أخذوه من المركبين وتجديد الهدنة معهم فأجابهم إلى ذلك وأعادوا ما أخذوا وهم صاغرون وقد خربت بلادهم وغنمت أموالهم. ذكر وفاة ابن مردنيش وملك يوسف بن عبد المؤمن بلاده في هذه السنة توفي الأمير محمد بن سعد بن مردنيش صاحب البلاد بشرق الأندلس وهي مرسية وبلنسية وغيرهما ووصى أولاده أن يقصدوا بعد موته الأمير أبا يعقوب وكان قد اجتاز إلى الأندلس في مائة ألف مقاتل قبل موت ابن مردنيش فحين رآهم يوسف فرح بهم وسره قدومهم عليه وتسلم بلادهم وتزوج أختهم وأكرمهم وعظم أمرهم ووصلهم بالأموال الجزيلة وأقاموا معه.
374 ذكر عبور الخطا جيحون والحرب بينهم وبين خوارزمشاه في هذه السنة عبر الخطا نهر جيحون يريدون خوارزم فسمع صاحبها خوارزم شاه أرسلان بن أتسز فجمع عساكره وسار إلى أمرية ليقاتلهم ويصدهم فمرض وأقام بها وسير بعض جيشه مع أمير كبير إليهم فلقيهم فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم الخوارزميون وأسر مقدمهم ورجع به الخطا إلى ما وراء النهر وعاد خوارزمشاه إلى خوارزم مريضا. ذكر عدة حوادث في هذه السنة اتخذ نور الدين بالشأن الحمام الهوادي وهي التي يقال لها المناسيب وهي تطير من البلاد البعيدة إلى أوكارها وجعلها في جميع بلاده وسبب ذلك أنه لما اتسعت بلاده وطالت مملكته وعرضت أكنافها وتباعدت أوائلها عن أواخرها ثم إنها جاورت بلاد الفرنج وكانوا ربما نازلوا حصنا من ثغوره فإلى أن يصل الخبر ويصل إليهم [يكونون] قد بلغوا غرضهم منه أمر بالحمام ليصل الخبر اليه في يومه، وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها وإقامتها فحصل منها الراحة العظيمة والنفع الكبير للمسلمين. وفيها عزل الخليفة المستضيء بأمر الله وزيره عضد الدين أبا الفرج ابن رئيس الرؤساء لأن قطب الدين قايماز ألزمه بعزله فلم يمكنه مخالفته. وفيها مات أبو محمد عبد الله بن أحمد الخشاب اللغوي وكان قيما
375 بالعربية وسمع الحديث الكثير إلى أن مات. وفيها مات البوري الفقيه الشافعي تفقه على محمد بن يحيى وقدم بغداد ووعظ وكان يذم الحنابلة وكثرت أتباعه فأصابه إسهال فمات هو وجماعة من أصحابه فقيل إن الحنابلة أعدوا له حلوا فأكل منها فمات وكل من أكل منها. وفيها مات القرطبي أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمتم الأزدي الأندلسي وكان إماما في القراءة والنحو وغيره من العلوم زاهدا عابدا انتفع به الناس في كثير من البلاد ولا سيما أهل الموصل وفيها كانت وفاته.
376 568 ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة ذكر وفاة خوارزم شاه أرسلان وملك ولده سلطان شاه وبعده ولده الآخر تكش وقتل المؤيد وملك ابنه في هذه السنة توفي خوارزم شاه أرسلان بن أتسز بن محمد بن أنوشتكين قد عاد من قتال الخطا مريضا فتوفي وملك بعده سلطانشاه محمود ودبرت والدته المملكة والعساكر. وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيما في الجند قد أقطعه أبوه إياه فلما بلغه موت أبيه وتولية أخيه الصغير أنف من ذلك وقصد ملك الخطأ واستمده على أخيه وأطعمه في الأموال وذخائر خوارزم فسير معه جيشا كثيفا مقدمهم قرما فساروا حتى قاربوا خوارزم فخرج سلطانشاه وأمه إلى المؤيد وأهدى له هدية جليلة المقدار ووعده أموال خوارزم وذخائرها فاغتر بقوله وجمع جيوشه وسار معه حتى بلغ سوبرنى بليدة على عشرين فرسخا من خوارزم وكان تكش قد عسكر بالقرب منها فتقدم إليهم فلما تراءى الجمعان انهزم عسكر المؤيد وكسر المؤيد وأخذ أسيرا وجئ به إلى خوارزمشاه تكش فأمر بقتله فقتل بين يديه صبرا.
377 وهرب سلطانشاه وأخذ إلى دهستان فقصده خوارزمشاه تكش فافتح المدينة عنوة فهرب سلطانشاه وأخذت أمه فقتلها تكش وعاد إلى خوارزم. ولما عاد المنهزمون إلى نيسابور ملكوا طغان شاه أبا بكر بن المؤيد واتصل به سلطانشاه ثم سار من هناك إلى غياث الدين ملك الغورية فأكرمه وعظمه وأحسن ضيافته. وأما علاء الدين تكش فإنه لما ثبت قدمه بخوارزم اتصلت به رسل الخطا بالاقتراحات والتحكم كعادتهم فأخذته حمية الملك والدين وقتل أحد أقارب الملك وكان قد ورد إليه ومعه جماعة أرسله ملكهم في مطالبة خوارزمشاه بالمال فأمر خوارزمشاه أعيان خوارزم اتصلت به رسل الخطا بالاقتراحات والتحكم كعادتهم فأخذته حمية الملك والدين وقتل أحد أقارب الملك وكان قد ورد إليه ومعه جماعة أرسله ملكهم في مطالبة خوارزمشاه بالمال فأمر خوارزمشاه أعيان خوارزم فقتل كل واحد منهم رجلا من الخطا فلم يسلم منهم أحد ونبذوا إلى ملك الخطا عهده. وبلغ ذلك سلطانشاه فسار إلى ملك الخطا واغتنم الفرصة بهذه الحال واستنجده على أخيه علاء الدين تكش وزعم له أن أهل خوارزم معه يريدونه ويختارون ملكه عليهم ولو رأوه لسلموا البلد إليه فسير معه جيشا كثيرا من الخطا مع قرما أيضا فوصلوا إلى خوارزم فحصروها فأمر خوارزمشاه علاء الدين بإجراء ماء جيحون عليها فكادوا يغرقون فرحلوا ولم يبغلوا منها غرضا ولحقهم الندم حيث لم ينفعهم ولاموا سلطان شاه وعنفوه فقال لقوما لو أرسلت معي جيشا إلى مرو لاستخلصتها من يد دينار الغزي وكان قد استولى عليها من حين كانت فتنة الغز إلى الآن فسير معه جيشا فنزل على سرخس على غرة من أهلها وهجم على الغز فقتل مقتلة عظيمة فلم يتركوا بها أحدا منهم وألقى دينار ملكهم نفسه في خندق القلعة فأخرج
378 منه ودخل القلعة وتحصن بها. وسار سلطانشاه إلى مرو فملكها وعاد الخطا إلى ما وراء النهر وجعل سلطانشاه دأبه قتال الغز والقتل فيهم والنهب منهم فلما عجز دينار عن مقاومته أرسل إلى نيسابور إلى طغان شاه بن المؤيد يقول له ليرسل إليه من يسلم إليه قلعة سرخس فأرسل إليه جيشا مع أمير اسمه قراقوش فسلم إليه دينار القلعة ولحق بطغان شاه فقصد سلطان شاه سرخس وحصر قلعتها، وبلغ ذلك طغان شاه فجمع جيوشه وقصد سرخس فلما التقى هو وسلطان شاه فر طغان شاه إلى نيسابور وذلك سنة ست وسبعين وخمسمائة فأخلى قراقوش قلعة سرخس ولحق بصاحبه وملكها سلطان شاه ثم أخذ طوس والزام وضيق الأمر على طغان شاه بعلو همته وقلة قراره وحرصه على طلب الملك. وكان طغان شاه يحب الدعة ومعاقرة الخمر فلم يزل الحال كذلك إلى أن مات طغان شاه سنة اثنين وثمانين وخمسمائة في المحرم وملك ابنه سنجر شاه فغلب عليه مملوك جده المؤيد اسمه منكلي تكين فتفرق الأمراء أنفة من تحكمه واتصل أكثرهم بسلطان شاه وسار الملك دينار إلى كرمان ومعه الغز فملكها. وأما منكلي تكين فإنه أساء السيرة في الرعية وأخذ أموالهم وقتل بعض الأمراء فسمع خوارزمشاه بذلك فسار إليه فحصره بنيسابور في ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة فحصرها شهرين فلم يظفر بها وعاد إلى خوارزم ثم رجع سنة ثلاث وثمانين إلى نيسابور فحصرها وطلبوا منه الأمان فأمنهم فسلموا البلد إليه فقتل منكلي تكين وأخذ
379 سنجر شاه وأكرمه، وأنزله بخوارزم وأحسن إليه فأرسل إلى نيسابور يستميل أهلها ليعود إليهم فسمع به خوارزمشاه فأخذ سنجر شاه فسمله وكان قد تزوج بأمه وزوجه بابنته فماتت فزوجه بأخته وبقي عنده إلى أن مات سنة خمس وتسعين وخمسمائة. ذكر هذا أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي في كتاب مسارب التجارب. وقد ذكر غيره من العلماء بالتواريخ هذه الحوادث مخالفة لهذا في بعض الأمور مع تقديم وتأخير ونحن نوردها فقال إن تكش خوارزمشاه بن أرسلان أخرج أخاه سلطان شاه من خوارزم وكان قد ملكها بعد موت أبيه فجاء إلى مرو فملكها وأزاح الغز عنها فخرجوا أياما ثم عادوا عليه فأخرجوه منها وانتهبوا خزانته وقتلوا أكثر رجاله فعبر إلى الخطا فاستنجدهم وضمن لهم مالا وجاء بجيش عظيم فأخرج الغز عن مرو وسرخس ونسا وأبيورد وملكها ورد الخطا. فلما أبعدوا كاتب غياث الدين الغوري يطلب منه أن ينزل عن هراة وبوشنج وباذغيس وما والاها ويتوعده إن هو لم ينزل عن ذلك فأجابه غياث الدين يطلب منه إقامة الخطبة له بمرو وسرخس وما ملكه من بلاد خراسان فلما سمع الرسالة سار عن مرو وشن الغارات على باذغيس وبيوار وما والاها وحصر بوشنج ونهب الرساتيق وصادر الرعايا فلما سمع غياث الدين ذلك لم يرض لنفسه أن يسير هو بل سير ملك سجستان وكاتب ابن أخته بهاء الدين سام صاحب باميان باللحاق به لأن أخاه شهاب الدين كان بالهند والزمان شتاء فجاء بهاء الدين ابن أخت غياث الدين وملك سجستان ومن معهما من العساكر ووافق ذلك وصول سلطان شاه إلى هراة فلما علم بوصولهم عاد إلى مرو من غير أن يقاتلها وأحرق كل ما مر به من البلاد ونهب وأقام بمرو إلى الربيع وأعاد مراسلة غياث الدين
380 في المعنى فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يعرفه الحال فنادى في عساكره الرحيل لساعته، وعاد إلى خرسان واجتمع هو وأخوه غياث الدين وملك سجستان وغيرهم من العساكر وقصدوا سلطان شاه فلما علم ذلك جمع عساكره واجتمع عليه من الغز والمفسدين وقطاع الطريق ومر عنده طمع خلق كثير فنزل غياث الدين ومن معه في الطالقان ونزل سلطان شاه بمرو الروذ وتقدم عسكر الغورية إليه وتواعدوا للمصاف. وبقوا كذلك شهرين والرسل تتردد بين غياث الدين وبين سلطان شاه وشهاب الدين يطلب من أخيه غياث الدين إلى سلطان بوشنج وباذغيس وقلاع بيوار وكره ذلك شهاب الدين وبهاء الدين صاحب باميان إلا أنهما لم يخالفان غياث الدين وفي آخر الأمر حضر رسول سلطان شاه عند غياث الدين وحضر الأمراء ليكتب العهد فقال الرسول إن سلطان شاه يطلب أن يحضر شهاب الدين وبهاء الدين هذا الأمر فأرسل غياث الدين إليهما فأعادا الجواب إننا مماليكك ومهما تفعله لا يمكننا مخالفتك. فبينما الناس مجتمعون في تحرير الأمر وإذ قد أقبل مجد الدين العلوي الهروي إليه وكان خصيصا بغياث الدين بحيث يفعل في ملكه ما يختار فلا يخالف فجاء العلوي ويده في يد ألب غازي ابن أخت غياث الدين وقد كتبوا الكتاب وقد أحضر غياث الدين أخاه شهاب الدين وبهاء الدين سام ملك الباميان فجاء العلوي كأنه يسار غياث الدين ووقف في وسط الحلقة وقال للرسول يا فلان تقول لسلطان شاه قد تم لك الصلح من جانب السلطان الأعظم ومن شهاب الدين وبهاء الدين ويقول لك العلوي خصمك أنا ومولانا ألب غازي بيننا وبينك السيف ثم صرخ صرخة ومزق ثيابه وحثى التراب على رأسه وأقبل على غياث الدين وقال له هذا واحد طرده أخوه وأخرجه
381 فريدا وحيدا لم نترك له ما ملكناه بأسيافنا من الغز والأتراك السنجرية فإذا سمع هذا عنا يجيء أخوه يطلب منازعته والهند وجميع ما بيدك فحرك غياث الدين رأسه ولم يفه بكلمة فقال ملك سجستان للعلوي أترك الأمر ينصلح. فلما لم يتكلم غياث الدين يمنع العلوي قال شهاب الدين لجاووشيته نادوا في العسكر بالتجهز للحرب والتقدم إلى مرو الروذ وقام وأنشد العلوي بيتا من الشعر عجميا معناه إن الموت تحت السيوف أسهل من الرضا بالدنية فرجع الرسول إلى سلطان شاه وأعلمه الحال فرتب عساكره للمصاف والتقى الفريقان واقتتلوا فصبروا للحرب فانهزم سلطان شاه وعسكره وأخذ أكثر أصحابه أسارى فأطلقهم غياث الدين، ودخل سلطان شاه مرو في عشرين فارسا، ولحق به من أصحابه نحو ألف وخمسمائة فارس. ولما سمع خوارزمشاه تكش بما جرى لأخيه سار من خوارزم في ألفي فارس وأرسل إلى جيحون ثلاثة آلاف فارس يقطعون الطريق على أخيه إن أراد الخطا وجد في السير ليقبض على أخيه قبل أن يقوى فأتت الأخبار سلطان شاه بذلك فلم يقدر على عبور جيحون إلى الخطا فسار إلى غياث الدين وكتب إليه يعلمه قصده إليه فكتب إلى هراة وغيرها من بلاده بإكرامه واحترامه وحمل الإقامات إليه ففعل به ذلك وقدم على غياث الدين والتقاه وأكرمه وأنزله معه في داره وأنزل أصحاب سلطان شاه كل إنسان منهم عند من هو في طبقته فأنزل الوزير عند وزيره والعارض عند عارضه وكذلك غيره وأقام عنده حتى انسلخ الشتاء فأرسل علاء الدين بن خوارزمشاه إلى غياث الدين يذكره ما صنعه أخوه سلطان شاه من تخريب بلاده وجمع العساكر عليه ويشير بالقبض عليه ورده إليه فأنزل الرسول وإذا قد أتى كتاب نائبه
382 بهراة يخبره أن كتاب خوارزمشاه جاءه يتهدده فأجابه أنه لا يظهر لخوارزم شاه أنه أعلمه بالحال وأحضر الرسول وقال له يقول بعلاء الدين أما قولك إن السلطان شاه أخرب البلاد وأراد ملكها فلعمري أنه ملك وابن ملك وله همة عالية وإذا أراد الملك فمثله أراده وتعطيه نصيبه مما خلف أبوه ومن الأملاك التي خلف والأموال وأحلف لكما يمينا على المودة والمصافاة وتخطب لي بخوارزم وتزوج أخي شهاب الدين بأختك. فلما سمع خوارزمشاه الرسالة امتعض لذلك وكتب إلى غياث الدين كتابا يتهدده بقصد بلاده فجهز غياث الدين العساكر مع اين أخت ألب غازي وصاحب سجستان وسيرهما مع سلطان شاه إلى خوارزم وكتب إلى المؤيد صاحب نيسابور يستنجده وكان قد صار بينهم مصاهرة زوج المؤيد ابنه طعان شاه بابنة غياث الدين فجمع المؤيد عساكره وأقام بظاهر نيسابور على طريق خوارزم. وكان خوارزمشاه قد سار عن خوارزم إلى لقاء عسكر الغورية الذين مع أخيه سلطان شاه وقد نزلوا بطرف الرمل فبينما هو من مسيره أتاه خبر المؤيد أنه قد جمع عساكره وأنه على قصد خوارزم إذا فارقها فوقع في قلبه وعاد إلى خوارزم فأخذ أمواله وذخائره وعبر جيحون إلى الخطا وأخلى خوارزم فوقع بها خبط عظيم فحضر جماعة من أعيانها عند ألب غازي وسألوه إرسال أمير معهم يضبط البلد فخاف أن تكون مكيدة فلم يفعل.
383 فبينما هم على ذلك توفي سلطان شاه سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمسمائة فكتب ألب غازي إلى غياث الدين يعلمه الخبر فكتب إليه يأمره بالعود إليه فرجع ومعه أصحاب سلطان شاه فأمر غياث الدين بأن يستخدموا وأقطع الأجناد الإقطاعات الجيدة وكلهم قابل إحسانه بكفران وسنذكر باقي أخبارهم. ولما سمع خوارزمشاه تكش بوفاة أخيه عاد إلى خوارزم وأرسل إلى سرخس ومرو شحناء فجهز إليهم أمير هراة عمر المرغني جيشا فأخرجوهم وقال حتى نستأذن السلطان غياث الدين وأرسل خوارزمشاه رسولا إلى غياث الدين يطلب الصلح والمصاهرة وسير مع رسوله جماعة من فقهاء خراسان والعلويين ومعهم وجيه الدين محمود بن محمود وهو الذي جعل غياث الدين شافعيا وكان له عنده منزلة كبيرة فوعظوه وخوفوه الله تعالى وأعلموه أن خوارزمشاه يراسلهم يتهددهم بأنه يجيء بالأتراك والخطا ويستبيح حريمهم وأموالهم وقالوا له إما أن تحضر أنت بنفسك وتجعل مرو دار ملكك حتى ينقطع طمع الكافرين ويأمن أهلها وإما أن تصالح خوارزمشاه فأجاب إلى الصلح وترك معارضة البلاد. فلما سمع من بخراسان من الغز بذلك طمعوا في البلاد فعاودوا النهب والإحراق والتخريب فسمع خوارزمشاه فجمع عساكره وحضر بخراسان ودخل مرو وسرخس ونسا وأبيورد وغيرها وأصلح البلاد وتطرق إلى طوس وهي للمؤيد صاحب نيسابور فجمع المؤيد جيوشه وسار إليه فلما سمع خوارزمشاه بمسيره إليه عاد إلى خوارزم فلما وصل إلى الرمل أقام بطرفه فلما سمع المؤيد بعودة خوارزمشاه طمع فيه وتبعه فلما سمع
384 خوارزم شاه بذلك أرسل إلى المناهل التي في البرية فألقى فيها الجيف والتراب بحيث لا يمكن الانتفاع بها. فلما توسط المؤيد البرية طلب الماء فلم يجده خوارزمشاه إليه وهو على تلك الحال ومعه الماء على الجمال فأحاط به فأما عسكره فاستسلموا بأسرهم وجئ بالمؤيد أسيرا إلى خوارزمشاه فأمر بضرب عنقه فقال له يا مخنث هذا فعال الناس فلم يلتفت إليه وقتله وحمل رأسه إلى خوارزم. فلما قتل ملك نيسابور ملك ما كان له ابنه طغان شاه فلما كان من قابل جمع خوارزمشاه عساكره وسار إلى نيسابور فحاصرها وقاتلها فتبعه طغان شاه وأخذه وزوجه أخته وحمله معه إلى خوارزم وملك نيسابور وما كان لطغان شاه وقوي أمره. هذا الذي ذكره في هذه الرواية مخالف لما تقدم ولو أمكن الجمع بين الروايتين لفعلت فإن أحدهما قد قام ما أخره الآخر فلها أوردنا جميع ما قالاه ولبعد البلاد عنا لم نعلم أي القولين أصح لنذكره ونترك الآخر وإنما أوردتها في موضع واحد لأن أيام سلطان شاه لم تطل له ولأعقابه حتى تتفرق على السنين فلهذا أوردتها متتابعة. ذكر غارة الفرنج على بلد حوران وغارة المسلمين على بلد الفرنج في هذه السنة في ربيع الأول اجتمعت الفرنج وساروا إلى بلد حوران من أعمال دمشق للغارة عليه وبلغ الخبر إلى نور الدين وكان قد برز ونزل هو
385 وعسكره بالكسوة. فسار إليهم مجدا وقدم بجموعه عليهم فلما علموا بقربه منهم دخلوا إلى السواد وهو من أعمال دمشق أيضا ولحقهم المسلمون فتخطفوا من ساقتهم ونالوا منهم وسار نور الدين فنزل غي عشترا وسير منها سرية إلى أعمال طبرية فشنوا الغارات عليها فنهبوا وسبوا وأحرقوا وخربوا فسمع الفرنج ذلك فرحلوا إليهم ليمنعوا عن بلدهم فلما وصلوا كان قد فرغ المسلمون من نهبهم وغنيمتهم وعادوا وعبروا النهر. وأدركهم الفرنج فوقف مقابلهم شجعان المسلمين وحماتهم فقاتلوهم فاشتد القتال وصبر الفريقان الفرنج يرومون أن يلحقوا الغنيمة فيردوها والمسلمون يريدون أن يمنعوهم عنها لينجو بها من قد سار معها فلما طال القتال بينهم وأبعدت الغنيمة وسلمت مع المسلمين عاد الفرنج ولم يقدروا [أن] يستردوا منها شيئا. ذكر مسير شمس الدولة إلى بلد النوبة في هذه السنة في جمادى الأولى سار شمس الدولة تورانشاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصر إلى بلد النوبة فوصل إلى أول بلادهم ليتغلب عليه ويملكه. وكان سبب ذلك أن صلاح الدين وأهله كانوا يعلمون أن نور الدين كان على عزم الدخول إلى مصر فاستقر الرأي بينهم أنهم يتملكون إما بلاد النوبة أو بلاد اليمن حتى إذا وصل إليهم نور الدين لقوه وصدوه
386 عن البلاد فإن قووا على منعه أقاموا بمصر وإن عجزوا عن منعه ركبوا البحر ولحقوا بالبلاد التي قد افتتحوها فجهز شمس الدولة وسار إلى أسوان ومنها إلى بلد النوبة فنازل قلعة اسمها أبريم فحصرها وقاتله أهلها فلم يكن لهم بقتال العسكر الإسلامي قوة لأنهم ليس لهم جنة تقيهم السهام وغيرها من آلة الحرب فسلموها فملكها وأقام بها ولم ير للبلاد دخلا يرغب فيه وتحتمل المشقة لأجله وقوتهم الذرة فلما رأى عدم الحاصل وقشف العيش مع مباشرة الحروب ومعاناة التعب والمشقة تركها وعاد إلى مصر بما غنم وكان عامة غنيمتهم العبيد والجواري. ذكر ظفر مليح بن ليون بالروم في هذه السنة في جمادى الأولى هزم مليح بن ليون الأرمني صاحب بلاد الدروب المجاورة لحلب عسكر الروم من القسطنطينية. وسبب ذلك أن نور الدين كان قد استخدم مليحا المذكور وأقطعه سنيا وكان ملازما الخدمة لنور الدين ومشاهدا لحروبه مع الفرنج ومباشرا لها وكان هذا من جيد الأي وصائبه فإن نور الدين لما قيل له في معنى استخدامه وإعطائه الأقطاع في بلاد الشام قال أستعين به على قتال أهل ملته وأريح طائفة من عسكري تكون بإزائه لتمنعه من الغارة على البلاد المجاورة له. وكان مليح أيضا يتقوى بنور الدين على من يجاوره من الأرمن والروم،
387 وكانت مدينة أذنة والمصيصة وطرسوس بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فأخذها مليح منهم لأنها تجاور بلاده فسير إليه ملك الروم جيشا كثيفا وجعل عليهم بعض أعيان البطارقة من أقاربه فلقيهم مليح ومعه طائفة من عسكر نور الدين فقاتلهم وصدقهم القتال وصابرهم فانهزمت الروم وكثر فيهم القتل والأسر وقويت شوكة مليح وانقطع أمل الروم من تلك البلاد. وأرسل مليح إلى نور الدين كثيرا من غنائمهم ومن الأسرى ثلاثين رجلا من مشهوريهم وأعيانهم فسير نور الدين بعض ذلك إلى الخليفة المستضيء بأمر الله وكتب يعتد بهذا الفتح لأن بعض جنده فعلوه. ذكر وفاة إيلدكز في هذه السنة توفي أتابك شمس الدين إيلدكز بهمذان وملك بعده ابنه محمد البهلوان ولم يختلف عليه أحد وكان إيلدكز هذا مملوكا للكمال السميرمي وزير السلطان محمود فلما قتل الكمال كما ذكرناه سارا إيلدكز إلى السلطان محمود فلما ولي السلطان مسعود السلطنة ولاه أرانية فمضى إليها ولم يعد يحضر عند السلطان مسعود ولا غيره ثم ملك أكثر أذربيجان وبلاد الجبل وهمذان وغيرها وأصفهان والري وما والاهما من البلاد وخطب السلطنة لابن امرأته أرسلان شاه بن طغرل وكان عسكره خمسين
388 ألف فارس سوى الأتباع واتسع ملكه من باب تفليس إلى مكران ولم يكن للسلطان أرسلان معه حكم إنما كان له جراية تصل إليه. وبلغ من تحكمه عليه أنه شرب ليلة فوهب ما في خزانته وكان كثيرا فلما سمع إيلدكز بذلك استعاده جميعا وقال له متى أخرجت المال في غير وجهة أخذته أيضا من غير وجهة وظلمت الرعية. وكان إيلدكز عاقلا حسن السيرة يجلس بنفسه للرعية ويسمع شكاويهم وينصف بعضهم من بعض. ذكر وصول الترك إلى إفريقية وملكهم طرابلس وغيرها في هذه السنة سار طائفة من الترك من ديار مصر مع قراقوش مملوك تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى جبال نفوسة واجتمع به مسعود بن زمام المعروف بمسعود البلاط وهو من أعيان الأمراء هناك وكان خارجا عن طاعة عبد المؤمن فاتفقا وكثر جميعهما ونزلا على طرابلس الغرب فحاصراها وضيقا على أهلها ثم فتحت فاستولى عليها قراقوش وأسكن أهله قصرها وملك كثيرا من بلاد إفريقية ما خلا المهدية وسفاقس وقفصة وتونس وما والاها من القرى والمواضع. وصار مع قراقوش عسكر كثير فحكم على تلك البلاد بمساعدة العرب بما جبلت عليه من التخريب والنهب والإفساد بقطع الأشجار والثمار وغير ذلك فجمع بها أموالا عظيمة وجعلها بمدينة قابس وقويت نفسه وحديثه بالاستيلاء على جميع إفريقية لبعد أبي يعقوب بن عبد المؤمن صاحبها عنها وكان ما سنذكره إن شاء الله.
389 ذكر غزو ابن عبد المؤمن الفرنج بالأندلس في هذه السنة جمع أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن عساكره وسار من إشبيلية إلى الغزو فقصد بلاد الفرنج ونزل على مدينة رندة وهي بالقرب من طليطلة شرقا منها وحصرها واجتمعت الفرنج على ابن الفنش ملك طليطلة في جمع كثير فلم يقدموا على لقاء المسلمين. فاتفق أن الغلاء اشتد على المسلمين وعدمت الأقوات عندهم وهو في جمع كثير فاضطروا إلى مفارقة بلاد الفرنج فعادوا إلى إشبيلية وأقام يعقوب بها سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وهو على ذلك يجهز العساكر ويسيرها إلى بلاد الفرنج في كل وقت فكان له فيها عدة وقائع وغزوات ظهر فيها للعرب من الشجاعة ما لا يوصف وصار الفارس من العرب يبرز بين الصفين ويطلب مبارزة الفارس المشهور من الفرنج فلا يبرز إليه أحد ثم عاد أبو يعقوب إلى مراكش. ذكر نهب نهاوند في هذه السنة نهب عسكر شملة نهاوند وسبب ذلك أن شملة كان أيام إيلدكز لا يزال يطلب منه نهاوند لكونها مجاورة بلاده ويبذل فيها الأموال فلا يجيبه إلى ذلك فلما مات إيلدكز وملك بعده ولده محمد البهلوان وسار إلى أذربيجان لإصلاحها نفذ شملة ابن أخيه ابن سنكا لأخذ نهاوند
390 وبلغ أهل البلد الخبر فتحصنوا وحصرهم وقاتلهم وقاتلوه وأفحشوا في سبه فلما علم أنه لا طاقة له بهم رجع إلى تستر وهي قريبة منها وأرسل أهل نهاوند إلى البهلوان يطلبون منه نجدة فتأخرت عنهم فلما اطمأنوا خرج ابن سنكا من تستر في خمسمائة فارس وسار يوما وليلة فقطع أربعين فرسخا حتى وصل إلى نهاوند وضرب البوق وأظهر أنه من أصحاب البهلوان لأنه جاءهم من ناحيته ففتح أهل البلد له الأبواب فدخله فلما توسط قبض على القاضي والرؤساء وصلبوهم ونهب البلد وقطع أنف الوالي وأطلقه وتوجه نحو ماسبذان قاصدا للعراق. ذكر قصد نور الدين بلاد قلج أرسلان في هذه السنة سار نور الدين محمود بن زنكي إلى مملكة عز الدين قلج أرسلان ابن مسعود بن قلج أرسلان وهي ملطية وسيواس وأقصرا وغيرها ملازما على حربه وأخذ بلاده منه. وكان سبب ذلك أن ذا النون بن دانشمند صاحب ملطية وسيواس قصده قلج أرسلان وأخذ بلاده وأخرجه عنها طريدا فريدا فصار إلى نور الدين مستجيرا به وملتجئا إليه فأكرم نزله وأحسن إليه وحمل له ما يليق أن يحمل إلى الملوك ووعده النصرة والسعي في رد ملكه إليه. ثم إنه أرسل إلى قلج أرسلان يتشفع في إعادة ملكه فلم يجبه إلى ذلك فسار نور الدين إليه فابتدأ بكيسون وبهنسى ومرعش ومرزبان فملكها وما بينها وكان ملكه لمرعش أوائل ذي القعدة والباقي بعدها فلما ملكها سير طائفة من عسكره إلى سيواس فملكوها.
391 وكان قلج أرسلان لما سار نور الدين إلى بلاده قد سار من طرقها التي تلي الشام إلى وسطها وراسل نور الدين يستعطفه ويسأله الصلح فتوقف نور الدين عن قصده رجاء أن ينصلح الأمر بغير حرب فأتاه عن الفرنج ما أزعجه فأجابه إلى الصلح وشرط عليه أن ينجده بعساكر إلى الغزاة وقال له أنت مجاور الروم ولا تغزوهم وبيدك قطعة كبيرة من بلاد الإسلام ولا بد من الغزاة معي فأجابه إلى ذلك وتبقى سيواس على حالها بيد نواب نور الدين وهي لذي النون فبقي العسكر في خدمة ذي النون إلى أن مات نور الدين فلما مات رحل عسكره عنها وعاد قلج أرسلان وملكها وهي بيد أولاده إلى الآن سنة نيف وعشرين وستمائة. ولما كان نور الدين في هذه السفرة جاءه رسول كمال الدين أبي الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري من بغداد ومعه منشور من الخليفة بالموصل والجزيرة وبإربل وخلاط والشام وبلاد قلج أرسلان وديار مصر. ذكر رحيل صلاح الدين من مصر إلى الكرك وعوده عنها في هذه السنة في شوال رحل صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر بعساكرها جميعها إلى بلاد الفرنج يريد حصر الكرك والاجتماع مع نور الدين عليه والاتفاق على قصد بلاد الفرنج من جهتين كل واحد منهما في جهة بعسكره. وسبب ذلك أن نور الدين لما أنكر على صلاح الدين عوده من بلاد الفرنج
392 في العام الماضي، وأراد نور الدين قصد مصر وأخذها منه أرسل يعتذر ويعد من نفسه بالحركة على ما يقرره نور الدين فاستقرت القاعدة بينهما أن صلاح الدين يخرج من مصر ويسير نور الدين من دمشق فأيهما سبق صاحبه يقيم إلى أن يصل الآخر إليه وتواعدا على يوم معلوم يكون وصولهما فيه فسار صلاح الدين عن مصر لأن طريقه أبعد وأشق ووصل إلى الكرك وحصره. وأما نور الدين فإنه لما وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مصر فرق الأموال وحصل الأزواد وما يحتاج إليه وسار إلى الكرك فوصل إلى الرقيم وبينه وبين الكرك مرحلتان فلما سمع صلاح الدين بقربه خافه هو وجميع أهله واتفق رأيهم على العود إلى مصر وترك الاجتماع بنور الدين لأنهم علموا أنه إن اجتمعا كان عزله على نور الدين سهلا. فلما عاد أرسل الفقيه عيسى إلى نور الدين يعتذر عن رحيله بأنه قد استخلف أباه نجم الدين أيوب على ديار مصر وأنه مريض شديد المرض ويخاف أن يحدث حادث الموت فتخرج البلاد عن أيديهم وأرسل معه [من] التحف والهدايا ما يجل عن الوصف فجاء الرسول إلى نور الدين وأعلمه ذلك فعظم عليه وعلم المراد من العود إلا أنه لم يظهر للرسول تأثرا بل قال له حفظ مصر أهم عندنا من غيرها. وسار صلاح الدين إلى مصر فوجد أباه قد قضى نحبه ولحق بربه وكلمة تقول لقائلها دعني وكان سبب موت نجم الدين أنه ركب يوما فرسا بمصر فتفر به الفرس نفرة كبيرة شديدة فسقط عنه فحمل إلى قصره وقيذا وبقي أياما ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة وكان خيرا عاقلا،
393 حسن السيرة كريما جوادا كثير الإحسان إلى الفقراء والصوفية والمجالسة لهم وقد تقدم من ذكره وابتداء أمره وأمر أخيه شيركوه ما لا حاجة إلى إعادته. ذكر عدة حوادث في هذه السنة زادت دجلة زيادة كثيرة أشرفت [بها] بغداد على الغرق في شعبان وسدوا أبواب الدروب ووصل الماء إلى قبة أحمد بن حنبل ووصل إلى النظامية ورباط شيخ الشيوخ، واشتغل الناس بالعمل في القورج ثم القورج ثم نقص وكفى الناس شره. وفيها وقعت النار ببغداد من درب بهروز إلى باب جامع القصر ومن الجانب الآخر من حجر النحاس إلى دار أم الخليفة. وفيها أغار بنو حزن من خفاجة على سواد العراق وسبب ذلك أن الحماية كانت لهم لسواد العراق فلما تمكن يزدن من البلاد وتسلم الحلة أخذها منهم وجعلها لبني كعب من خفاجة وأغار بنو حزن على السواد فسار يزدن في عسكر ومعه الغضبان الخفاجي وهو من بني كعب لقتال بني حزن فبينما هم سائرون ليلا رمى بعض الجند الغضبان بسهم فقتله لفساده وكان في السواد فلما قتل عاد العسكر إلى بغداد وأعيدت خفارة السواد إلى بني حزن. وفيها خرج ترجم الإيوائي في جمع من التركمان في حياة إيلدكز وتطرق أعمال همذان ونهب الدينور واستباح الحريم.
394 وسمع إيلدكز الخبر وهو بنقجوان فسار مجدا فيمن خف من عسكره فقصده فهرب ترجم إلى أن قارب بغداد وتبعه إيلدكز فظن الخليفة أنها حيلة ليصل إلى بغداد فجأة فشرع في جمع العساكر وعمل السور فأرسل إلى إيلدكز الخلع والألقاب الكبيرة فاعتذر أنه لم يقصد إلا كف الأمير يزدن وهو من أكابر أمراء بغداد وكان يتشيع فوقع بسببه فتنة بين السنية والشيعة بواسط لأن الشيعة جلسوا له للعزاء وأظهر السنية الشماتة به فآل الأمر إلى القتال فقتل بينهم جماعة. ولما مات أقطع أخوه تنامش ما كان لأخيه وهي مدينة واسط ولقب علاء الدين. وفيها أرسل نور الدين محمود بن زنكي رسولا إلى الخليفة وكان الرسول القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري قاضي بلاده جميعها مع الوقوف والديوان وحمله رسالة مضمونها الخدمة للديوان وما هو عليه من جهاد الكفار وفتح بلادهم ويطلب تقليدا بما بيده من البلاد مصر والشام والجزيرة والموصل وبما في طاعته كديار بكر وما يجاور ذلك كخلاط وبلاد قلج أرسلان وأن يعطى من الأقطاع بسواد العراق ما كان لأبيه زنكي وهو صريفين ودرب هارون والتمس أرضا على شاطئ دجلة يبنيها مدرسة للشافعية ويوقف عليها صريفين ودرب هارون فأكرم كمال الدين إكراما لم يكرمه رسول قبله وأجيب إلى ما التمسه فمات نور الدين قبل الشروع في بناء المدرسة رحمه الله.
395 569 ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة ذكر ملك شمس الدولة زبيد وعدن وغيرهما من بلاد اليمن قد ذكرنا قبل أن صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر وأهله كانوا يخافون من نور الدين محمود أن يدخل إلى مصر فيأخذها منهم فشرعوا في تحصيل مملكة يقصدونها ويتملكونها تكون عدة لهم إن أخرجهم نور الدين من مصر ساروا إليها وأقاموا بها فسيروا شمس الدولة تورانشاه بن أيوب وهو أخو صلاح الدين الأكبر إلى بلد النوبة فكان ما ذكرناه. فلما عاد إلى مصر استأذنوا نور الدين في أن يسير إلى اليمن لقصد عبد النبي صاحب زبيد [وأخذ بلده] لأجل قطع الخطبة العباسية فأذن في ذلك. وكان بمصر شاعر اسمه عمارة من أهل اليمن فكان يحسن لشمس الدولة قصد اليمن ويصف البلاد له ويعظم ذلك في عينه فزاده قوله رغبة فيها فشرع يتجهز ويعد الأزواد والروايا والسلاح وغيره من الآلات وجند الأجناد فجمع وحشد وسار عن مصر مستهل رجب فوصل إلى مكة أعزها الله تعالى ومنها إلى زبيد وفيها صاحبها المتغلب عليها المعروف بعبد النبي فلما قرب منها رآه أهلها فاستقل من معه فقال لهم عبد النبي كأنكم بهؤلاء وقد حمي عليهم الحر فهلكوا إلا أكلة رام فخرج
396 إليهم بعسكره، فقاتلهم شمس الدولة ومن معه فلم يثبت أهل زبيد وانهزموا ووصل المصريون إلى سور زبيد فلم يجدوا عليه من يمنعهم فنصبوا السلالم وصعدوا السور فملكوا البلد عنوة ونهبوه وأكثروا النهب وأخذوا عبد النبي أسيرا وزوجته المدعوة بالحرة وكانت امرأة صالحة كثيرة الدقة لا سيما إذا حجت فإن فقراء الحاج كانوا يجدون عندها صدقة دارة وخيرا كثيرا ومعروفا عظيما، [وسلم شمس الدولة عبد النبي] إلى بعض أمرائه، يقال له سيف الدولة مبارك بن كامل من بني منقذ أصحاب شيزر وأمره أن يستخرج منه الأموال فأعطاه منها شيئا كثيرا، ثم إنه دلهم على قبر كان قد صنعه لوالده وبنى عليه بنية عظيمة وله هناك دفائن كثيرة فأعلمهم بها فاستخرجت الأموال من هناك وكانت جليلة المقدار، وأما الحرة فإنها أيضا كانت تدلهم على ودائع لها فأخذ منها مالا كثيرا. ولما ملكوا زبيد واستقر الأمر لهم بها ودانت أهلها وأقيمت فيها الخطبة العباسية أصلحوا حالها وساروا إلى عدن وهي على البحر ولها مرسى عظيم وهي فرضة الهند والزنج والحبشة وعمان وكرمان وكيش وفارس وغير ذلك وهي من جهة البر من أمنع البلاد وأحصنها وصاحبها إنسان اسمه ياسر فلو أقام بها ولم يخرج عنها لعادوا خائبين وإنما حمله جهله وانقضاء مدته على الخروج إليهم ومباشرة قتالهم فسار إليهم وقاتلهم فانهزم ياسر ومن معه وسبقهم بعض عسكر شمس الدولة فدخلوا البلد قبل أهله فملكوه وأخذوا صاحبها ياسرا أسيرا وأرادوا نهب البلد فمنعهم شمس الدولة وقال ما جئنا لنخرب البلاد وإنما جئنا لنملكها
397 ونعمرها وننتفع بدخلها فلم ينهب أحد منها شيئا فبقيت على حالها وثبت ملكه واستقر أمره. ولما مضى إلى عدن كان معه عبد النبي صاحب زبيد مأسورا فلما دخل إلى عدن قال سبحان الله كنت قد علمت أني أدخل إلى عدن في موكب كبير فأنا أنتظر ذلك وأسر به ولم أكن أعلم أنني أدخلها على هذا الحال. ولما فرغ شمس الدولة من أمر عدن عاد إلى زبيد وحصر ما في الجبل من الحصون فملك قلعة تعز وهي من أحصن القلاع وبها تكون خزائن صاحب زبيد وملك أيضا قلعة التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون واستناب بعدن عز الدين عثمان بن الزنجيلي وبزبيد سيف الدولة مبارك بن منقذ وجعل في كل قلعة نائبا من أصحابه وألقى ملكهم باليمن جرانه ودام وأحسن شمس الدولة إلى أهل البلاد واستصفى طاعتهم بالعدل والإحسان وعادت زبيد إلى أحسن أحوالها من العمارة والأمن. ذكر قتل جماعة من المصريين أرادوا الوثوب بصلاح الدين في هذه السنة ثاني رمضان صلب صلاح الدين يوسف بن أيوب جماعة ممن أراد الوثوب به بمصر من أصحاب الخلفاء العلويين. وسبب ذلك أن جماعة من الشيعة منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر وعبد الصمد الكاتب والقاضي العويرس وداعي الدعاة وغيرهم
398 من جند المصريين ورجالتهم السودان وحاشية القصر وافقهم جماعة من امراء صلاح الدين وجنده واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقيلة ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد وأعادوا الدولة العلوية وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه فلا يبقى له مقام مقابل للفرنج وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به وأخذوه أخذا باليد لعدم الناصر له وقال لهم عمارة وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفا أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده. وأرسلوا إلى الفرنج وصقلية والساحل في ذلك وتقررت القاعدة بينهم ولم يبق إلا رحيل الفرنج، وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين أدخلوا معهم زين الدين علي ابن نجا الواعظ والقاضي المعروف بابن نجية ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقضاة إلا أن بني رزيك قالوا يكون الوزير منا وبني شاور والقاضي قالوا يكون الوزير منا فلما علم ابن نجا الحال حضر عنده صلاح الدين وأعلمه حقيقة الأمر فأمره بملازمتهم ومخالطتهم ومواطأتهم على ما يريدون يفعلونه وتعريفه ما يتجدد أولا بأول ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه. ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل بهدية ورسالة وهو في الظاهر إليه والباطن إلى أولئك الجماعة وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق إليه من النصارى وداخله فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته فقبض حينئذ على
399 المقدمين في هذه الحادثة منهم عمارة وعبد الصمد الكاتب والعويرس وغيرهم وصلبهم. وقيل في كشف أمرهم أن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته فلقيه يوما فلم يلتفت إليه فقال القاضي الفاضل ما هذا إلا لسبب وخاف أن يكون قد صار له باطن مع صلاح الدين فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال وقال أريد تكشف لي الأمر فسعى في كشفه فلم ير له من جانب صلاح الدين شيئا فعدل إلى الجانب الأخر فكشف الحال وحضر عند القاضي الفاضل وأعلمه فقال تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع فذكر له الحال فقام وأخذ الجماعة وقررهم فأقروا فأمر بصلبهم. وكان عمارة بينه وبين الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها فلما أراد صلبه قام القاضي الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه وظن عمارة أنه يحرض على هلاكه فقال صلاح الدين يا مولانا لا تسمع منه في حقي فغضب الفاضل وخرج وقال صلاح الدين لعمارة إنه كان يشفع فيك فندم ثم أخرج عمارة ليصلب فطلب أن يمر به على مجلس الفاضل فاجتازوا به عليه فأغلق بابه ولم يجتمع به فقال عمارة: (عبد الرحيم قد احتجب * إن الخلاص هو العجب) ثم صلب هو والجماعة ونودي في أجناد المصريين بالرحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصي الصعيد واحتيط على من بالقصر من سلالة العاضد وغيره من أهله.
400 وأما الذين نافقوا على صلاح الدين من جنده فلم يعرض لهم ولا أعلمهم أنه علم بحالهم وأما الفرنج فإن فرنج صقلية قصدوا الإسكندرية على ما نذكره إن شاء الله تعالى لأنهم لم يتصل بهم ظهور الخبر عند صلاح الدين وأما فرنج الساحل الشامي فإنهم لم يتحركوا لعلمهم بحقيقة الحال وكان عمارة شاعرا مفلقا فمن شعره: (لو أن قلبي يوم كاظمة معي * لملكته وكظمت فيض الأدمع) (قلب كفاك من الصبابة أنه * لبى نداء الظاعنين وما دعي) (ما القلب أول غادر فألومه * هي شيمة الأيام مذ خلقت معي) (ومن الظنون الفاسدات توهمي * بعد اليقين بقاءه في أضلعي) وله أيضا: (لي في هوى الرشا العذري إعذار * لم يبق لي مذ أقر الدمع إنكار) (لي في القدود وفي لثم الخدود وفي * ضم النهود لبانات وأوطار) (هذا اختياري فوافق إن رضيت به * أو لا فدعني وما أهوى واختار) وله ديوان شعر مشهور في غاية الحسن والرقة والملاحة.
401 ذكر وفاة نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله في هذه السنة توفي نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر يوم الأربعاء حادي عشر شوال بعلة الخوانيق ودفن بقلعة دمشق ونقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق عند سوق الخواصين. ومن عجيب الاتفاق أنه ركب ثاني شوال وإلى جانبه بعض الأمراء الأخيار فقال له الأمير سبحان من يعلم هل نجتمع هنا في العام المقبل أم لا فقال نور الدين لا تقل هكذا بل سبحان من يعلم هل نجتمع بعد شهر أم لا فمات نور الدين رحمه الله بعد أحد عشر يوما ومات الأمير قبل الحول فأخذ كل منهما بما قاله. وكان قد شرع يتجهز للدخول إلى مصر لأخذها من صلاح الدين يوسف بن أيوب فإنه رأى منه فتورا في غزو الفرنج من ناحيته وكان يعلم أنه إنما يمنع صلاح الدين من الغز والخوف منه ومن الاجتماع به فإنه يؤثر كون الفرنج في الطريق ليمتنع بهم على نور الدين فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر يطلب العساكر للغزاة وكان عزمه أن يتركها مع ابن أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل والشام ويسير هو بعساكره إلى مصر فبينما هو يتجهز لذلك أتاه أمر الله الذي لا مرد له. حكى لي طبيب كان يخدم نور الدين وهو من حذاق الأطباء قال استدعاني نور الدين في مرضه الذي توفي فيه مع غيري من الأطباء فدخلنا إليه وهو في بيت صغير بقلعة دمشق وقد تمكنت الخوانيق منه وقارب الهلاك فلا يكاد يسمع صوته وكان يخلو فيه للتعبد فابتدأ به المرض فلم ينتقل عنه فلما دخلنا ورأينا ما به قلت له:
402 كان ينبغي أن لا تؤخر إحضارنا إلى أن يشتد بك المرض الآن وينبغي أن تعجل الانتقال من هذا الموضع إلى مكان فسيح مضيء فله أثر في هذا المرض وشرعنا في علاجه وأشرنا بالقصد فقال ابن ستين لا يقتصد وامتنع منه فعالجناه بغيره فلم ينجع فيه الدواء وعظم الداء ومات رحمه الله ورضي عنه. وكان أسمر طويل القامة ليس له لحية إلا في حنكه وكان واسع الجبهة حسن الصورة حلو العينين وكان قد اتسع ملكه جدا وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما دخلها شمس الدولة بن أيوب وملكها وكان مولده سنة إحدى عشرة وخمسمائة وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته ولا أكثر تحريا منه للعدل. وقد أتينا على كثير من ذلك في كتاب الباهر من أخبار دولتهم ولنذكر ههنا نبذة لعل يقف عليها من له حكم فيقتدي به فمن ذلك زهده وعبادته وعلمه فإنه كان لا يأكل ولا يلبس [ولا يتصرف] إلا في الذي يخصه [إلا] من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له يحصل له منها في السنة نحو العشرين دينار فلما استقلتها قال ليس لي إلا هذا وجميع ما يبدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلك. وكان يصلي كثيرا بالليل وله أوراد حسنة وكان كما قيل: (جمع الشجاعة والخشوع لربه * ما أحسن المحراب في المحراب)
403 وكان عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة ليس عنده فيه تعصب وسمع الحديث وأسمعه طلبا للأجر. وأما عدله فإنه لم يترك في بلاده على سعتها مكسا ولا عشرا بل أطلقها جميعا في مصر والشام والجزيرة والموصل وكان يعظم الشريعة ويقف عند أحكامها وأحضره إنسان إلى مجلس الحكم فمضى معه إليه وأرسل إلى القاضي كمال الدين بن الشهرزوري يقول قد جئت محاكما فاسلك معي ما تسلك مع الخصوم وظهر الحق له فوهبه الخصم الذي أحضره وقال أردت أن أترك له ما يدعيه إنما خفت أن يكون الباعث لي على ذلك الكبر والأنفة من الحضور إلى مجلس الشريعة فحضرت ثم وهبته ما يدعيه. وبنى دار العدل في بلاده وكان يجلس هو والقاضي فيها ينصف المظلوم ولو أنه يهودي من الظالم ولو أنه ولده أو أكبر أمير عنده. وأما شجاعته فإليها النهاية وكان في الحرب يأخذ قوسين وتر كشين ليقاتل بها فقال له القطب النشاوي الفقيه بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف فقال نور الدين ومن محمود حتى يقال له هذا من قبلي من حفظ البلاد والإسلام ذلك الله الذي لا إله إلا هو. وأما ما فعله من المصالح فإنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها فمنها دمشق وحمص وحماة وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها وبنى المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية وبنى الجامع النوري بالموصل وبنى البيمارستانات والخانات في الطرق وبنى الخانكاهات في جميع البلاد وأوقف على الجميع الوقوف الكثيرة سمعت أن حاصل وقفه كل شهر تسعة آلاف دينار صوري. وكان
404 يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويقوم إليهم ويجلسهم معه وينبسط معهم ولا يرد لهم قولا ويكاتبهم بخط يده وكان وقورا مهيبا مع تواضعه وبالجملة فحسناته كثيرة ومناقبه عزيزة لا يحتملها هذا الكتاب. ذكر ملك ولده الملك الصالح لما توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالملك بعده وكان عمره إحدى عشر سنة وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق وأقام بها وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له بها وضرب السكة باسمه وتولى تربيته الأمير شمس [الدين] محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم وصار مدبر دولته فقال له كمال الدين صاحب مصر هو من أصحاب نور الدين والمصلحة أن نشاوره في الذي نفعله ولا نخرجه من بيننا فيخرج عن طاعتنا ويجعل ذلك حجة علينا وهو أقوى منا لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر فلم يوافق هذا القول أغراضهم وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجهم فلم يمض غير قليل حتى وردت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح يعزيه ويهنئه بالملك وأرسل دنانير مصرية عليها اسمه ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه. فلما سار سيف الدين غازي صاحب الموصل وملك البلاد الجزرية على ما نذكره، فأرسل صلاح الدين أيضا إلى الملك الصالح يعتبه حيث لم يعلمه قصد سيف الدين بلاده وأخذها ليحضر في خدمته ويكشف سيف الدين وكتب إلى كمال الدين والأمراء يقول لو أن نور الدين يعلم أن فيكم من
405 يقوم مقامي أو يثق إليه مثل ثقته إلي لسلم إليه مصر التي هي أعظم ممالكه وولاياته ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمته غيري وأراكم قد تفردتم بمولاي وابن مولاي دوني وسوف أصل إلى خدمته وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها وأجازي كلا منكم على سوء صنيعه في ترك الذب عن بلاده. وتمسك ابن المقدم وجماعة الأمراء بالملك الصالح ولم يرسلوه إلى حلب خوفا أن يغلب عليهم شمس الدين علي بن الداية فإنه كان أكبر الأمراء النورية وإنما منعه من الاتصال به والقيام بخدمته مرض لحقه وكان هو وإخوته بحلب وأمرها إليهم وعساكرها معهم في حياة نور الدين وبعده ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب لتمتنع به البلاد الجزرية من سيف الدين ابن عمه قطب الدين فلم يمكنه الأمراء الذين معه من الانتقال إلى حلب لما ذكرناه. ذكر ملك سيف الدين البلاد الجزرية كان نور الدين قبل أن يمرض قد أرسل إلى البلاد الشرقية الموصل وديار الجزيرة وغيرها يستدعي العساكر منها لحجة الغزاة والمراد غيرها وقد تقدم ذكره فسار سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في عساكره وعلى مقدمته الخادم سعد الدين كمشتكين الذي كان قد جعله نور الدين بقلعة الموصل مع سيف الدين فلما كانوا ببعض الطريق وصلت الأخبار بوفاة نور الدين فأما سعد الدين فإنه كان في المقدمة فهرب جريدة.
406 وأما سيف الدين فأخذ كل ما كان له من برك وغيره وعاد إلى نصيبين فملكها وأرسل الشحن إلى الخابور فاستولوا عليه وأقطعه وسار هو إلى حران فحصرها عدة أيام وبها مملوك لنور الدين يقال له قايماز الحراني فامتنع بها وأطاع بعد ذلك على أن تكون حران له ونزل إلى خدمة سيف الدين فقبض عليه وأخذ حران منه وسار إلى الرها فحصرها وملكها وكان بها خادم أسود لنور الدين فسلمها وطلب عوضها قلعة الزعفران من أعمال جزيرة ابن عمر فأعطيها ثم أخذت منه ثم صار إلى أن يستعطي ما يقوم به وبقوته. وسير سيف الدين إلى الرقة فملكها وكذلك سروج واستكمل جميع بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر فإنها كانت منيعة وسوى رأس عين فإنها كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خال سيف الدين فلم يتعرض إليها. وكان شمس الدين علي بن الداية وهو أكبر الأمراء النورية بحلب مع عساكرها فلم يقدر على العبور إلى سيف الدين ليمنعه من أخذ البلاد لفالج كان به فأرسل إلى دمشق يطلب الملك الصالح فلم يرسل إليه لما ذكرناه ولما ملك سيف الدين الجزيرة قال له فخر الدين عبد المسيح وكان قد وصل إليه من سيواس بعد موت نور الدين وهو الذي أقر له الملك بعد أبيه فظن أن سيف الدين يرعى له ذلك فلم يجن ثمرة ما غرس وكان عنده كبعض الأمراء قال له الرأي أن تعبر إلى الشام فليس به مانع فقال له أكبر أمرائه وهو أمير يقال له عز الدين محمود المعروف بزلفندار قد ملكت أكثر ما كان لأبيك والمصلحة أن تعود فرجع لإلى قوله وعاد إلى الموصل ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
407 ذكر حصر الفرنج بانياس وعودهم عنها لما مات نور الدين محمود صاحب الشام اجتمعن الفرنج وساروا إلى قلعة بانياس من أعمال دمشق فحصروها فجمع شمس الدين محمد بن عبد الملك ابن المقدم العسكر عنده بدمشق فخرج عنها فراسلهم ولاطفهم ثم أغلظ لهم في القول وقال لهم إن أنتم صالحتمونا وعدتم عن بانياس فنحن على ما كنا عليه وإلا فنرسل إلى سيف الدين صاحب الموصل ونعلمه ونصالحه ونستنجده ونرسل إلى صلاح الدين بمصر فنستنجده ونقصد بلادكم من جهاتها كلها ولا تقومون لنا وأنتم تعلمون أن صلاح الدين كان يخاف أن يجتمع بنور الدين والآن فقد زال ذلك الخوف وإذا طلبناه إلى بلادكم فلا يمتنع فعلموا صدقه فصالحوه على شيء من المال أخذوه وأسرى أطلقوا لهم كانوا عند المسلمين وتقررت الهدنة. فلما سمع صلاح الدين بذلك أنكره واستعظمه وكتب إلى الملك الصالح والأمراء الذين معه يقبح لهم ما فعلوه ويبذل من نفسه قصد بلاد الفرنج ومقارعتهم وإزعاجهم عن قصد شيء من بلاد الملك الصالح وكان قصده أن يصير له طريق إلى بلاد الشام ليتملك البلاد والأمراء الشاميون إنما صالحوا الفرنج خوفا منه ومن سيف الدين غازي صاحب الموصل فإنه كان قد أخذ البلاد الجزرية وخافوا منه أن يعبر إلى الشام فرأوا صلح الفرنج أصلح من أن يجيء هذا من الغرب وهذا من الشرق وهم مشغولون عن ردهم.
408 ذكر عدة حوادث في هذه السنة في المحرم وقع الحريق ليلا ببغداد فاحترق أكثر الظفرية ومواضع غيرها ودام الحريق إلى بكرة وطفئت النار. وفيها في شعبان بنى ابن سنكا وهو ابن أخي شملة صاحب خوزستان قلعة بالقرب من الماهكي ليتقوى بها على الاستيلاء على تلك الأعمال فسير إليه الخليفة العساكر من بغداد لمنعه فالتقوا فحمل بنفسه على الميمنة فهزمها واقتتل الناس قتالا عظيما وأسر ابن أخي شملة وحمل رأسه إلى بغداد فعبق بباب النوبي وهدمت القلعة. وفيها في رمضان وكان الزمان ربيعا توالت الأمطار في ديار بكر والجزيرة والموصل فدامت أربعين يوما ما رأينا الشمس فيها غير مرتين كل مرة مقدار لحظة وخربت المساكن وغيرها وكثر الهدم ومات تحته كثير من الناس وزادت دجلة زيادة عظيمة وكان أكثرها ببغداد فإنها زادت على كل زيادة تقدمت منذ بنيت بغداد بذراع وكسر وخاف الناس الغرق وفارقوا البلد وأقاموا على شاطئ دجلة خوفا من انفتاح القورج وغيره وكانوا كلما انفتح موضع بادروا بسده ونبع الماء في البلاليع وخرب كثيرا من الدور ودخل الماء إلى البيمارستان العضدي ودخلت السفن من الشبابيك التي له فإنها كانت قد تقلعت فمن الله تعالى على الناس بنقص الماء بعد أن أشرفوا على الغرق. وفيها في جمادي الأولى كانت الفتنة ببغداد بين قطب الدين قايماز والخليفة وسببها أن الخليفة أمر بإعادة عضد الدين ابن رئيس الرؤساء إلى
409 الوزارة، فمنع منه قطب الدين وأغلق باب النوبي وباب العامة وبقيت دار الخليفة كالمحاصرة فأجاب الخليفة إلى ترك وزارته فقال قطب الدين لا أقنع إلا بإخراج عضد الدين من بغداد فأمر بالخروج منها فالتجأ إلى صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل فأخذه إلى رباطه وأجاره ونقله إلى دار الوزير بقطفتا فأقام بها ثم عاد إلى بيته في جمادى الآخرة. وفيها سقط الأمير أبو العباس أحمد بن الخليفة وهو الذي صار خليفة من قبة عالية إلى أرض التاج ومعه غلام له اسمه نجاح فألقى نفسه بعده وسلم ابن الخليفة ونجا فقيل لنجاح لم ألقيت نفسك فقال ما كنت أريد البقاء بعد مولاي فرعى له الأمير أبو العباس ذلك فلما صار خليفة جعله شرابيا وصارت الدولة جميعها بحكمه ولقيه الملك الرحيم عز الدين وبالغ في الإحسان إليه والتقديم له وخدمه جميع الأمراء بالعراق والوزراء وغيرهم. وفيها في رمضان وقد ببغداد برد كبار ما رأى الناس مثله فهدم الدور وقتل جماعة من الناس وكثيرا من المواشي فوزنت بردة منها فكانت سبعة أرطال وكان عامته كالنارنج يكسر الأغصان هكذا ذكره أبو الفرج بن الجوزي في تاريخه والعهدة عليه. وفيها كانت وقعة عظيمة بين المؤيد صاحب نيسابور وبين شاه مازندران قتل فيها كثير من الطائفتين فانهزم شاه مازندران ودخل المؤيد بلد الديلم وخربها وفتك بأهلها وعاد عنها. وفيها وقعت كبيرة بين أهل باب البصرة وأهل باب الكرخ وسببه
410 أن الماء لما زاد سكر أهل باب الكرخ سكرا رد الماء عنهم فغرق مسجد فيه شجرة فانقلعت فصاح أهل الكرخ انقلعت الشجرة لعن الله العشرة فقامت الفتنة فتقدم الخليفة إلى علاء الدين تنامش فمال على أهل باب البصرة لأنه كان شيعيا وأراد دخول المحلة فمنعه أهلها وأغلقوا الأبواب ووقفوا على السور وأراد إحراق الأبواب فبلغ ذلك الخليفة فأنكره أشد إنكار وأمر بإعادة تنامش فعاد ودامت الفتنة أسبوعا ثم انفصل الحال من غير توسط سلطان. وفيها عبر ملك الروم خليج القسطنطينية وقصد بلاد قلج أرسلان فجرى بينهما حرب استظهر فيها المسلمون فلما رأى ملك الروم عجزه عاد إلى بلده وقد قتل من عسكره وأسر جماعة كثيرة. وفيها في جمادى الأولى مات أحمد بن علي بن المعمر بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله العلوي الحسيني نقيب العلويين ببغداد وكان يلقب الظاهر وسمع الحديث الكثير ورواه وكان حسنة أهل بغداد. وفيها توفي الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد بن محمد العطار الهمداني سافر الكثير في طلب الحديث وقراءة القرآن واللغة وكان من أعيان المحدثين وكان له قبول عظيم ببلد عند العامة والخاصة. وفيها توفي أبو محمد سعيد بن المبارك المعروف بابن الدهان النحوي البغدادي بالموصل، وكان إماما في النحو، له التصانيف المشهورة منها الغرة وغيرها.
411 570 ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة ذكر وصول أسطول صقلية إلى مدينة الإسكندرية وانهزامهم منها في هذه السنة ظفر أهل الإسكندرية وعسكر مصر بأسطول الفرنج من صقلية وكان سبب ذلك ما ذكرناه من [إرسال] أهل مصر إلى ملك الفرنج بساحل الشام وإلى صاحب صقلية ليقصدوا ديار مصر ليثوروا بصلاح الدين ويخرجوه من مصر فجهز صاحب صقلية أسطولا كثيرا عدته مائتي شيني تحمل الرجالة وستا وثلاثين طريدة تحمل الخيل وست مراكب كبارا تحمل آلة الحرب وأربعين مركبا تحمل الأزواد وفيها من الراجل خمسون ألفا ومن الفرسان ألف وخمسمائة منها خمسمائة تركبلي. وكان المقدم عليهم ابن عم صاحب صقلية وسيره إلى الإسكندرية من ديار مصر فوصلوا إليها في السادس والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وستين على حين غفلة من أهلها وطمأنينة فخرج أهل الإسكندرية بسلاحهم وعدتهم ليمنعوهم من النزول وأبعدوا عن البلد فمنعهم الوالي عليهم من ذلك وأمرهم بملازمة السور ونزل الفرنج إلى البر مما يلي البحر والمنارة وتقدموا إلى المدينة ونصبوا عليها الدبابات والمنجنيقات وقاتلوا أشد قتال،
412 وصبر لهم أهل البلد ولم يكن عندهم من العسكر إلا القليل ورأى الفرنج من شجاعة أهل الإسكندرية وحسن سلاحهم ما راعهم. وسيرت الكتب بالحال إلى صلاح الدين يستدعونه لدفع العدو عنهم ودام القتال أول يوم إلى آخر النهار ثم عاود الفرنج القتال اليوم الثاني وجدوا ولازموا الزحف حتى وصلت الدبابات إلى قريب السور ووصل ذلك اليوم من العساكر الإسلامية كل من كان في أقطاعه وهو قريب من الإسكندرية فقويت بهم نفوس أهلها وأحسنوا القتال والصبر، فلما كان اليوم الثالث فتح المسلمون باب البلد وخرجوا منه على الفرنج من كل جانب وهم غارون وكثر الصياح من كل الجهات فارتاع الفرنج واشتد القتال فوصل المسلمون إلى الدبابات فأحرقوها وصبروا للقتال فأنزل الله نصره عليهم وظهرت أماراته ولم يزل القتال إلى آخر النهار. ودخل أهل البلد إليه وهم فرحون مستبشرون بما رأوا من تباشير الظفر وقوتهم وفشل الفرنج وفتور حربهم وكثرة القتل والجراح في رجالتهم. وأما صلاح الدين فإنه لما وصله الخبر سار بعساكره وسير مملوكا له ومعه ثلاثة جنائب ليجد السير عليها إلى الإسكندرية يبشر بوصوله وسير طائفة من العسكر إلى دمياط خوفا عليها واحتياطا لها فسار ذلك المملوك فوصل الإسكندرية من يومه وقت العصر والناس قد رجعوا من القتال فنادى في البلد بمجيء صلاح الدين والعساكر مسرعين فلما سمع الناس ذلك عاودوا [إلى القتال، وقد] زال ما بهم من تعب وألم الجراح وكل منهم يظن أن صلاح الدين معه فهو يقاتل قتال من يريد أن يشاهد قتاله.
413 وسمع الفرنج بقرب صلاح الدين في عساكره فسقط في أيديهم وزادوا تعبا وفتورا فهاجم المسلمون عند اختلاط الظلام ووصلوا إلى خيامهم فغنموها بما فيها من الأسلحة الكثيرة والتحملات العظيمة وكثر القتل في رجالة الفرنج فهرب كثير منهم إلى البحر وقربوا شوانيهم إلى الساحل ليركبوا فيها فسلم بعضهم وركب وغرق بعضهم، وغاص بعض المسلمين في الماء وخرق بعض شواني الفرنج فغرقت فخاف الباقون من ذلك فولوا هاربين واحتمى ثلاثمائة من فرسان الفرنج على رأس تل فقاتلهم المسلمون إلى بكرة ودام القتال إلى أن أضحى النهار فغلبهم أهل البلد وقهروهم فصاروا بين قتيل وأسير وكفى الله المسلمين شرهم وحاق بالكافرين مكرهم. ذكر خلاف الكنز بصعيد مصر وفي أول هذه السنة خالف الكنز بصعيد مصر واجتمع إليه من رعية البلاد والسودان والعرب وغيرهم خلق كثير وكان هناك أمير من الصلاحية في أقطاعه وهو أخو الأمير أبي الهيجاء السمين فقتله الكنز فعظم قتله على أخيه وهو من أكبر الأمراء وأشجعهم فسار إلى قتال الكنز وسير معه صلاح الدين جماعة من الأمراء وكثيرا من العسكر ووصلوا إلى مدينة طود فاحتمت عليهم فقاتلوا من بها وظفروا بهم وقتلوا منهم كثيرا وذلوا بعد العز وقهروا واستكانوا. ثم سار العسكر بعد فراغهم من طود إلى الكنز وهو في طغيانه يعمه فقاتلوه فقتل هو ومن معه من الأعراب وغيرهم وأمنت بعده البلاد واطمأن أهلها.
414 ذكر ملك صلاح الدين دمشق في هذه السنة سلخ ربيع الأول ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب مدينة دمشق، وسبب ذلك أن نور الدين لما مات وملك ابنه الملك الصالح بعده كان بدمشق وكان سعد الدين كمشتكين قد هرب من سيف الدين غازي إلى حلب كما ذكرناه فأقام بها عند شمس الدين علي بن الداية فلما استولى سيف الدين على البلاد الجزرية خاف ابن الداية أن يغير إلى حلب فيملكها فأرسل يعد الدين إلى دمشق ليحضر الملك الصالح ومعه العساكر إلى حلب فلما قارب دمشق سير إليه شمس الدين محمد بن المقدم عسكرا فنهبوه وعاد منهزما إلى حلب فأخلف عليه ابن الداية عوض ما أخذ منه، ثم إن الأمراء الذين بدمشق نظروا في المصلحة فعلموا أن مسيره إلى حلب أصلح الدولة من مقامه بدمشق فأرسلوا إلى ابن الداية يطلبون إرسال سعد الدين ليأخذ الملك الصالح فجهزه وسيره وعلى نفسها براقش تجني فسار إلى دمشق في المحرم من هذه السنة وأخذ الملك الصالح وعاد إلى حلب، فلما وصلوا إليها قبض سعد الدين على شمس الدين بن الداية وإخوته وعلى رئيس بن الخشاب رئيس حلب ومقدم الأحداث بها ولولا مرض شمس الدين بن الداية لم يتمكن من ذلك. واستبد سعد الدين بتربية الملك الصالح فخاف ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق وقالوا إن استقر أمر حلب أخذ الملك الصالح وسار به إلينا وفعل مثل ما فعل بحلب؛ وكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل ليعبر الفرات إليهم ليسلموا إليه دمشق فلم يفعل وخاف أن تكون مكيدة
415 عليه ليعبر الفرات ويسير إلى دمشق فيمنع عنها ويقصده ابن عمه وعسكر حلب من وراء ظهره فيهلك أشار عليه بهذا زلفندار عز الدين والجبان يقدر البعيد من الشر قريبا يرى الجبن حزما كما قال: (يرى الجبناء أن الجبن حزم * وتلك طبيعة الرجل الجبان) فلما أشار عليه بهذا الرأي زلفندار قبله وامتنع من قصد دمشق وراسل سعد الدين والملك الصالح وصالحهما على مأخذه من البلاد فلما امتنع عن العبور إلى دمشق عظم حزمهم وقالوا حيث صالحهم سيف الدين لم يبق لهم مانع عن المسير إلينا فكاتبوا حينئذ صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر واستدعوه ليملكوه عليهم وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم ومن أشبه أباه فما ظلم وقد ذكرنا مخامرة أبيه في تسليم سنجار سنة أربع وأربعين وخمسمائة. فلما وصلت الرسل إلى صلاح الدين بذلك لم يلبث وسار جريدة في سبعمائة فارس والفرنج في طريقه فلم يبال بهم فلما وطئ أرض الشام قصد بصرى وكان [بها] حينئذ صاحبها وهو من جملة من كاتبه فخرج ولقيه فلما رأى قلة من معه خاف على نفسه واجتمع بالقاضي الفاضل وقال ما أرى معكم عسكرا وهذا بلد عظيم لا يقصد بمثل هذا العسكر ولو منعكم من به ساعة من النهار أخذكم أهل السواد، قال كان معكم مال سهل الأمر فقالوا هنا مال كثير يكون خمسين ألف دينار فضرب صاحب بصرى على رأسه وقال هلكتم وأهلكتمونا وجميع ما كان معهم عشرة آلاف دينار. ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج كل من بها من العسكر إليه فلقوه وخدموه ودخل البلد ونزل في دار والده المعروفة بدار العقيقي وكانت
416 القلعة بيد خادم اسمه ريحان، فأحضر صلاح الدين كمال الدين بن الشهرزوري وهو قاضي البلد والحاكم في جميع أموره من الديوان والوقف وغير ذلك وأرسله إلى ريحان ليسلم القلعة إليه، وقال أنا مملوك الملك الصالح وما جئت إلا لأنصره وأخدمه وأعيد البلاد التي أخذت منه إليه وكان يخطب له في بلاده كلها فصعد كمال الدين إلى ريحان ولم يزل معه حتى سلم القلعة فصعد صلاح الدين إليها وأخذ ما فيها من الأموال وأخرجها واتسع بها وثبت قدمه وقويت نفسه وهو مع هذا يظهر طاعة الملك الصالح ويخاطبه بالمملوك والخطبة والسكة باسمه. ذكر ملك صلاح الدين مدينتي حمص وحماة لما استقر ملك صلاح الدين لدمشق وقرر أمرها استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغدكين بن أيوب وسار إلى مدينة حمص مستهل جمادى الأولى وكانت حمص وحماة وقلعة بعرين وسلمية وتل خالد والرها من بلد الجزيرة في أقطاع الأمير فخر الدين مسعود الزعفراني فلما مات نور الدين لم يمكنه المقام بها لسوء سيرته في أهلها ولم يكن له في قلاع هذه البلاد حكم إنما فيها ولاة لنور الدين وكان بقلعة حمص وال يحفظها فلما نزل صلاح الدين على حمص حادي عشر الشهر المذكور راسل من فيها بالتسليم فامتنعوا فقاتلهم من الغد فملك البلد وأمن أهله وامتنعت عليه القلعة وبقيت ممتنعة إلى أن عاد من حلب على ما نذكره إن شاء الله وترك بمدينة حمص من يحفظها ويمنع من بالقلعة من التصرف وأن تصعد إليهم ميرة. وسار إلى مدينة حماة وهو في جميع أحواله لا يظهر إلا طاعة الملك
417 الصالح بن نور الدين وأنه إنما خرج لحفظ بلاده عليه من الفرنج واستعادة ما أخذ سيف الدين غازي صاحب الموصل من البلاد الجزرية فلما وصل إلى حماة ملك المدينة مستهل جمادى الآخرة وكان بقلعتها الأمير عز الدين جورديك وهو من المماليك النورية فامتنع من التسليم إلى صلاح الدين فأرسل إليه صلاح الدين يعرفه ما هو عليه من طاعة الملك الصالح وإنما يريد حفظ بلاده عليه فاستحلفه جورديك على ذلك وسيره إلى حلب في اجتماع الكلمة على طاعة الملك الصالح وفي إطلاق شمس الدين علي وحسن وعثمان أولاد الداية من السجن فسار جورديك إلى حلب واستخلف بقلعة حماة أخاه ليحفظها فلما وصل جورديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه فلما علم أخوه بذلك سلم القلعة إلى صلاح الدين فملكها. ذكر حصر صلاح الدين حلب وعوده عنها وملكه قلعة حمص وبعلبك لما ملك صلاح الدين حماة سار إلى حلب فحصرها ثالث جمادى الآخرة فقاتله أهلها وركب الملك الصالح وهو صبي وعمره اثنتا عشرة سنة وجمع أهل حلب وقال لهم قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم وأنا يتيمكم، وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والذي إليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله تعالى ولا الخلق، وقال من هذا كثيرا وبكى فأبكى الناس فبذلوا له الأموال والأنفس واتفقوا على القتال دونه والمنع عن بلده وجدوا في القتال وفيهم شجاعة قد ألفوا الحرب واعتادوها
418 حيث كان الفرنج بالقرب منهم فكانوا يخرجون ويقاتلون صلاح الدين عند جبل حوشن فلا يقدر على القرب من البلد. وأرسل سعد الدين إلى سنان مقدم الإسماعيلية وبذل له أموالا كثيرة ليقتلوا صلاح الدين فأرسلوا جماعة منهم إلى عسكره فلما وصلوا رآهم أمير اسمه خمارتكين صاحب قلعة أبي قبيس فعرفهم لأنه جارهم في البلاد كثير الاجتماع بهم والقتال لهم فلما رآهم قال لهم ما الذي أقدمكم وفي أي شيء جئتم فجرحوه جراحات مثخنة وحمل أحدهم على صلاح الدين ليقتله فقتل دونه وقاتل الباقون من الإسماعيلية فقتلوا جماعة ثم قتلوا. وبقي صلاح الدين محاصرا لحلب إلى سلخ جمادى الآخرة ورحل عنها مستهل رجب، وسبب رحيله أن القمص الصنجيلي صاحب طرابلس كان قد أسره نور الدين علي حارم سنة تسع وخمسين وخمسمائة وبقي في الحبس إلى هذه السنة فأطلقه سعد الدين بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير فلما وصل إلى بلده اجتمع الفرنج عليه يهنئونه بالسلامة وكان عظيما فيهم من أعيان شياطينهم فاتفق أن مري ملك الفرنج لعنه الله مات أول هذه السنة وكان أعظم ملوكهم شجاعة وأجودهم رأيا ومكرا ومكيدة فلما توفي خلف ابنا مجذوبا عاجزا عن تدبير الملك فملكه الفرنج صورة لا معنى تحتها وتولى القمص ريمند تدبير الملك الحل والعقد عن أمره يصدرون فأرسل إليه من حلب يطلبون منه أن يقصد بعض البلاد التي بيد صلاح الدين ليرحل عنهم فسار إلى حمص ونازلها سابع رجب فلما تجهز لقصدها سمع صلاح الدين الخبر فرحل عن حلب فوصل إلى حماة ثامن رجب بعد نزول الفرنج على حمص بيوم ثم رحل إلى الرستن فلما سمع الفرنج بقربه رحلوا عن حمص ووصل صلاح الدين إليها فحصر
419 القلعة إلى أن ملكها في الحادي والعشرين من شعبان من السنة فصار أكثر الشام بيده. ولما ملك حمص سار منها إلى بعلبك وبها خادم اسمه يمن وهو وال عليها من أيام نور الدين فحصها صلاح الدين فأرسل يمن يطلب الأمان له ولمن عنده فأمنهم صلاح الدين وتسلم القلعة رابع عشر رمضان من السنة المذكورة. ذكر حصر سيف الدين أخاه عماد الدين بسنجار لما ملك صلاح الدين دمشق وحمص وحماة كتب الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين إلى ابن عمه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود يستنجده على صلاح الدين ويطلب أن يعبر إليه ليقصدا صلاح الدين ويأخذا البلاد منه فجمع سيف الدين عساكره وكاتب أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار يأمره أن ينزل إليه بعساكره ليجتمعوا على المسير إلى الشام فامتنع من ذلك. وكان صلاح الدين قد كاتب عماد الدين وأطمعه في الملك لأنه هو الكبير فحمله الطمع على الامتناع على أخيه فلما رأى سيف الدين امتناعه جهز أخاه عز الدين مسعودا في عسكر كثير هو معظم عسكره وسيره إلى الشام وجعل المقدم على العسكر أكبر أمير معه يقال له عز الدين محمود ويلقب أيضا زلفندار وجعله المدبر للأمر، وسار سيف الدين إلى سنجار فحصرها في شهر رمضان وقاتلها وجد في القتال وامتنع عماد الدين بها وجد في حفظها والذب عنها فدام الحصار عليها فبينما هو يحاصرها أتاه الخبر بانهزام عسكره
420 الذي مع أخيه عز الدين مسعود من صلاح الدين فراسل حينئذ أخاه عماد الدين وصالحه على ما بيده ورحل إلى الموصل وثبت قدم صلاح الدين بعد هذه الهزيمة وخافه الناس وترددت الرسل بينه وبين سيف الدين غازي في الصلح فلم يستقر حال. ذكر انهزام سيف الدين من صلاح الدين وحصره مدينة حلب في هذه السنة سار عسكر سيف الدين مع أخيه عز الدين زلفندار إلى حلب واجتمع معهما عساكر حلب وساروا كلهم إلى صلاح الدين ليحاربوه، فأرسل صلاح الدين إلى سيف الدين يبذل تسليم حمص وحماة وأن يقر بيده مدينة دمشق وهو فيها نائب الملك الصالح فلم يجب إلى ذلك وقال لا بد من تسليم جميع ما أخذ من الشام والعود إلى مصر. وكان صلاح الدين يجمع عساكره ويتجهز للحرب فلما امتنع سيف الدين من إجابته إلى ما بذل سار في عساكره إلى عز الدين مسعود وزلفندار فالتقوا تاسع عشر رمضان بالقرب من مدينة حماة بموضع يقال له قرون حماة وكان زلفندار جاهلا بالحروب والقتال غير عالم بتدبيرها مع جبن فيه إلا أنه قد رزق سعادة وقبولا من سيف الدين فلما التقى الجمعان لم يثبت العسكر السيفي وانهزموا لا يلوي أخ على أخيه وثبت عز الدين أخو سيف الدين بعد انهزام أصحابه فلما رأى صلاح الدين ثباته قال إما أن هذا أشجع الناس أو أنه لا يعرف الحرب وأمر أصحابه بالحملة عليه. فحملوا
421 فأزالوه عن موقفه وتمت الهزيمة عليهم. وتبعهم صلاح الدين وعسكره حتى جازوا معسكرهم وغنموا منهم غنائم كثيرة وآلة وسلاحا عظيما ودواب فارهة وعادوا بعد طول البيكار مستريحين وعاد المنهزمون إلى حلب وتبعهم صلاح الدين فنازلهم بها محاصرا لها ومقاتلا وقطع حينئذ خطبة الملك الصالح بن نور الدين وأزال اسمه عن السكة في بلاده ودام محاصرا لهم فلما طال الأمر عليهم راسلوه في الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام ولهم ما بأيديهم منها فأجابهم إلى ذلك وانتظم الصلح ورحل عن حلب في العشر الأول من شوال ووصل إلى حماة ووصلت إليه بها خلع الخليفة مع رسوله. ذكر ملك صلاح الدين قلعة بعرين في هذه السنة في العشر الآخر من شوال ملك صلاح الدين قلعة بعرين من الشام وكان [صاحبها] فخر الدين مسعود بن الزعفراني وهو من أكابر الأمراء النورية فلما رأى قوة صلاح الدين نزل منها واتصل بصلاح الدين وظن أن صلاح الدين يكرمه ويشاركه في ملكه ولا ينفرد عنه بأمر مثل ما كان مع نور الدين فلم ير من ذلك شيئا ففارقه ولم يكن بقي له من أقطاعه التي كانت له في الأيام النورية غير بعرين ونائبه بها فلما صالح صلاح الدين الملك الصالح بحلب عاد إلى حماة وسار منها إلى بعرين وهي قريبة منها فحصرها ونصب عليها المنجنيقات وأدام قتالها فسلمها وإليها بالأمان
422 فلما ملكها عاد إلى حماة فأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي وأقطع حمص ناصر الدين ابن عمه شيركوه وسار منها إلى دمشق فدخلها أواخر شوال من السنة. ذكر ملك البهلوان مدينة تبريز في هذه السنة ملك البهلوان بن إيلدكز مدينة تبريز وهي من جملة بلاد آقسنقر الأحمديلي، وسبب ذلك أن البهلوان سار إلى مراغة وحصرها وكان ابن آقسنقر الأحمديلي قد مات ووصى بالملك لابنه فلك الدين فقصده البهلوان ونزل على قلعة رويين دز وحصرها فامتنعت عليه فتركها وحصر مراغة وسير أخاه قزل أرسلان في جيش إلى مدينة تبريز فحصرها أيضا. وكان البهلوان يقاتل أهل مراغة فظفرا بطائفة من عسكره فخلع عليهم صدر الدين قاضي مراغة وأطلقهم فحسن ذلك عند البهلوان وشرع القاضي في الصلح على أن يسلموا تبريز إلى البهلوان فأجيب إلى ذلك واستقرت القاعدة عليه وحلف كل واحد منهما لصاحبه وتسلم البهلوان تبريز وأعطاها أخاه قزل أرسلان ورحل عن مراغة. ذكر وفاة شملة في هذه السنة مات شملة التركماني صاحب خوزستان وكان قد كثرت ولايته وعظم شأنه وبنى عدة حصون وبقي كذلك على عشرين سنة.
423 وكان سبب موته أنه قصد بعض التركمان فعلموا بذلك فاستعانوا بشمس الدين البهلوان بن إيلدكز صاحب عراق العجم فسير إليهم جيشا فاقتتلوا فأصاب شملة سهم ثم أخذ أسيرا وولده وابن أخيه وتوفي بعد يومين وهو من التركمان الأقشرية، ولما مات ملك ابنه بعده. ذكر هرب قطب الدين قايماز من بغداد في هذه السنة، في شوال سير علاء الدين تنامش وهو من أكابر الأمراء ببغداد وكان قطب الدين قايماز زوج أخته عسكرا إلى العراق فنهبوا أهله وبالغوا في أذاهم فجاء منهم جماعة إلى بغداد واستغاثوا فلم يغاثوا لضعف الخليفة مع قايماز وتنامش وتحكمها عليه فقصدوا جامع القصر واستغاثوا فيه ومنعوا الخطيب وفاتت الصلاة أكثر الناس فأنكر الخليفة ما جرى فلم يلتفت قطب الدين وتنامش إلى ما فعل واحتقروه فلا جرم لم يمهلهم الله تعالى لاحتقارهم الدعاء وازدرائهم أهله. فلما كان خامس ذي القعدة قصد قطب الدين قايماز أذى ظهير الدين بن العطار وكان صاحب المخزن وهو خاص الخليفة وله به عناية تامة فلم يراع الخليفة في صاحبه فأرسل إليه يستدعيه ليحضر عنده فهرب فأحرق قطب الدين داره وحالف الأمراء على المساعدة والمظاهرة له وجمعهم وقصد دار الخليفة لعلمه أن ابن العطار فيها، فلما علم الخليفة ذلك ورأى الغلبة صعد إلى سطح داره وظهر للعامة وأمر خادما فصاح واستغاث وقال للعامة مال قطب الدين
424 لكم ودمه لي فقصد الخلق كلهم دار قطب الدين للنهب فلم يمكنه المقام لضيق الشوارع وغلبة العامة فهرب من داره من باب فتحه في ظهرها لكثرة الخلق على بابها وخرج من بغداد ونهبت داره وأخذ منها من الأموال ما لا يعد ولا يحصى فرئي فيها من التنعم ما ليس لأحد مثله فمن جملة ذلك أن بيت الطهارة الذي كان له فيه سلسلة ذهب من السقف إلى محاذي وجه القاعدة على الخلا وفي أسفلها كرة كبيرة ذهب مخرمة محشوة بالمسك والعنبر ليسمها إذا قعد فتشبث إنسان وقطعها ودخل بعض الصعاليك فأخذ عدة أكياس مملوءة دنانير. وكان الأقوياء قد وقفوا على الباب يأخذون ما يخرج به الناس فلما أخذ ذلك الصعلوك الأكياس قصد المطبخ فأخذ منه قدرا مملوءة طبيخا وألقى الأكياس فيها وحملها على رأسه والناس يضحكون منه فيقول أنا أريد شيئا أطعمه عيالي اليوم فنجا بما معه فاستغنى بعد ذلك فظهر المال ولم يبق من نعمة قطب الدين في ساعة واحدة قليل ولا كثير. ولما خرج من البلد تبعه تنامش وجماعة من الأمراء فنهبت دورهم أيضا وأخذت أموالهم وأحرق أكثرها وسار قطب الدين إلى الحلة ومعه الأمراء فسير الخليفة إليه صدر الدين عبد الرحيم شيخ الشيوخ فلم يزل به يخدعه حتى سار عن الحلة إلى الموصل على البر فلحقه ومن معه عطش عظيم فهلك أكثرهم من شدة الحر والعطش ومات قطب الدين قبل وصوله إلى الموصل فحمل ودفن بظاهر باب العمادي وقبره مشهور هناك. وهذا عاقبة عصيان الخليفة وكفران الإحسان والظلم وسوء التدبير فإنه ظلم أهل العراق وكفر إحسان الخليفة الذي كان قد غمره ولو أقام بالحلة وجمع العساكر وعاود بغداد لاستولى على الأمور كلها كما كان فإن عامة بغداد كانوا يريدونه وكان قويا بالإحسان على البلاد فأطاعوه. ولما مات في ذي الحجة وصل علاء الدين تنامش إلى الموصل فأقام
425 مديدة، ثم أمره الخليفة بالقدوم إلى بغداد فعاد إليها وبقي بها إلى أن مات بغير إقطاع وكان هذا آخر أمرهم. ولما أقام قطب الدين بالحلة امتنع الحاج من السفر فتأخروا إلى أن رحل عنها فدخلوا من الكوفة في ثمانية عشر يوما وهذا ما لم يسمع بمثله وفات كثيرا منهم الحج. ولما هرب قطب الدين خلع الخليفة على عضد الدين الوزير وأعيد [إلى] الوزارة. قال بعض الشعراء في قطب الدين وتنامش هذه الأبيات: (إن كنت معتبرا بملك زائل * وحوادث عنقية الإدلاج) (فدع العجائب والتواريخ الأولى * وانظر إلى قيماز وابن قماج) (عطف الزمان عليهما فسقاهما * من كأسه صرفا بغير مزاج) (فتبدلوا بعد القصور وظلها * ونعيمها بمهامه وفجاج) (فليحذر الباقون من أمثالها * نكبات دهر خائن مزعاج) وكان قطب الدين كريما طلق الوجه محبا للعدل والإحسان كثير البذل للمال والذي كان جرى منه وإنما كان يحمله عليه تنامش ولم يكن بإرادته. ذكر عدة حوادث في هذه السنة مات زعيم الدين صاحب المخزن واسمه يحيى بن عبد الله بن محمد بن المعمر بن جعفر أبو الفضل وحج بالناس عدة سنين وإليه الحكم في الطريق وناب عن الوزارة وتنقل في هذه الأعمال أكثر من عشرين سنة وكان يحفظ القرآن.
426 571 ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ذكر انهزام سيف الدين من صلاح الدين في هذه السنة عاشر شوال كان المصاف بين سيف الدين غازي بن مودود وبين صلاح الدين يوسف بن أيوب بتل السلطان على مرحلة من حلب على طريق حماه وانهزم سيف الدين. وسبب ذلك أنه لما انهزم أخوه عز الدين مسعود من صلاح الدين في العام الماضي وصالح سيف الدين أخاه عماد الدين صاحب سنجار عاد [إلى] الموصل وجمع عساكره وفرق فيهم الأموال واستنجد صاحب حصن كيفا وصاحب ماردين وغيرهما فاجتمعت معه عساكر كثيرة بلغت عدتهم ستة آلاف فارس فسار إلى نصيبين في ربيع الأول من هذه السنة وأقام بها فأطال المقام حتى انقضى الشتاء وهو مقيم فضجر العسكر ونفدت نفقاتهم وصار العود إلى بيوتهم مع الهزيمة أحب إليهم من الظفر لما يتوقعونه إن ظفروا من طول المقام بالشام بعد هذه المدة. ثم سار إلى حلب فنزل إليه سعد الدين كمشتكين الخادم مدبر دولة الملك الصالح ومعه عساكر حلب وكان صلاح الدين في قلة من العساكر لأنه كان صالح الفرنج في المحرم من هذه السنة على ما نذكره إن شاء الله،
427 وقد سير عساكره إلى مصر فأرسل يستدعيها فلو عالجوه لبلغوا غرضهم منه لكنهم تريثوا وتأخروا عنه فجاءته عساكره فسار من دمشق إلى ناحية حلب ليلقى سيف الدين فالتقى العسكران بتل السلطان وكان سيف الدين قد سبقه، فلما وصل صلاح [الدين] كان وصوله العصر وقد تعب هو وأصحابه وعطشوا فألقوا نفوسهم إلى الأرض ليس فيهم حركة فأشار على سيف الدين جماعة بقتالهم وهو على هذا الحال فقال زلفندار ما بنا هذه الحاجة إلى قتال هذا الخارجي في هذه الساعة غدا بكرة نأخذهم كلهم فترك القتال إلى الغد. فلما أصبحوا اصطفوا للقتال فجعل زلفندار وهو المدبر للعسكر السيفي أعلامهم في وهدة من الأرض لا يراها إلا من هو بالقرب منها فلما لم يرها الناس ظنوا أن السلطان قد انهزم فلم يثبتوا وانهزم ولم يلو أخ على أخيه ولم يقتل بين الفريقين مع كثرتهم غير رجل واحد ووصل سيف الدين إلى حلب وترك بها أخاه عز الدين مسعودا في جمع من العسكر ولم يقم هو وعبر الفرات وسار إلى الموصل وهو لا يصدق أنه ينجو. وظن أن صلاح الدين يعبر الفرات ويقصده بالموصل فاستشار وزيره جلال الدين ومجاهد الدين قايماز في مفارقة الموصل والاعتصام بقلعة عقرا الحميدية فقال له مجاهد الدين أرأيت إن ملكت الموصل عليك أتقدر أن تمتنع ببعض أبراج الفصيل فقال لا فقال برج في الفصيل خير من العقر وما زال الملوك ينهزمون ويعاودون الحرب واتفق هو والوزير على شد أزره وتقوية قلبه فثبت ثم أعرض عن زلفندار وعزله واستعمل مكانه على إمارة الجيوش مجاهد الدين قايماز على ما نذكر إن شاء الله.
428 وقد ذكر العماد الكاتب في كتاب البرق الشامي في تاريخ الدولة الصلاحية أن سيف الدين كان عسكره في هذه الوقعة عشرين ألف فارس ولم يكن كذلك وإنما كان على التحقيق يزيدون على ستة آلاف فارس أقل من خمسمائة فإنني وقفت على جريدة العرض وترتيب العسكر المصاف ميمنة وميسرة وقلبا وجاليشية وغير ذلك وكان المتولى لذلك والكاتب له أخي مجد الدين أبا السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم رحمه الله إنما قصد العماد أن يعظم أمر صاحبه بأنه هزم بستة آلاف عشرين ألفا والحق أحق أن يتبع ثم يا ليت شعري كم هي الموصل وأعمالها إلى الفرات حتى يكون لها وفيها عشرون ألف فارس؟ ذكر ما ملكه صلاح الدين بعد الكسرة من بلاد الصالح بن نور الدين لما انهزم سيف الدين وعسكره ووصلوا إلى حلب عاد سيف الدين إلى الموصل كما ذكرناه، وترك بحلب أخاه عز الدين مسعودا في طائفة من العسكر نجدة للملك الصالح وأما صلاح الدين فإنه لما استولى على أثقال العسكر الموصلي هو وعسكره وغنموها واتسعوا بها وفروا سار إلى بزاعة فحصرها وقاتله من بالقلعة ثم تسلمها وجعل فيها من يحفظها وسار إلى مدينة منبج فحصرها آخر شوال وبها صاحب قطب الدين ينال بن حسان المنبجي وكان شديد العداوة لصلاح الدين والتحريض عليه والأطماع فيه والطعن فيه فصلاح الدين حنق عليه متهدد له فأما المدينة فملكها ولم تمتنع عليه وبقي القلعة وبها صاحبها قد جمع إليها الرجال والسلاح والذخائر
429 فحصره صلاح الدين وضيق عليه وزحف إلى القلعة فوصل النقابون إلى السور فنقبوها وملكوها عنوة وغنم العسكر الصلاحي كل ما فيها وأخذ صاحبها أسيرا فأخذ صلاح الدين كل ماله وأصبح فقيرا لا يملك نقيرا ثم أطلقه صلاح الدين فسار إلى الموصل فأقطعه سيف الدين غازي مدينة الرقة. ولما فرغ صلاح [الدين] من منبج سار إلى القلعة إعزاز فنازلها ثالث ذي القعدة من السنة وهي من أحصن القلاع وأمنعها فنازلها وحصرها وأحاط بها وضيق على من فيها ونصب عليها المنجنيقات وقتل عليها كثير من العسكر، فبينما صلاح الدين يوما في خيمة لبعض أمرائه يقال له جاولي وهو مقدم الطائفة الأسدية إذ وثبت عليه باطني فضر به بسكين في رأسه فجرحه فلولا أن المغفر الزرد تحت القلنسوة لقتله فأمسك صلاح الدين يد الباطني بيده إلا أنه لا يقدر على منعه من الضرب بالكلية إنما يضرب ضربا ضعيفا فبقي الباطني يضربه في رقبته بالسكين وكان عليه كزاغند فكانت الضربات تقع في زيق الكزاغند فتقطعه والزرد تمنعها من الوصول إلى رقبته لبعد أجله فجاء أمير من أمرائه اسمه يازكش فأمسك السكين بكفه فجرحه الباطني ولم يطلقها من يده إلى أن قتل الباطني وجاء آخر من الإسماعيلية فقتل أيضا وثالث فقتل وركب صلاح الدين إلى خيمته كالمذعور لا يصدق بنجاته ثم اعتبر جنده فمن أنكره أبعده ومن عرفه أقره على خدمته ولازم حصار إعزاز ثمانية وثلاثين يوما كل يوم أشد قتالا مما قبله وكثرت النقوب فيها فأذعن من بها وسلموا القلعة إليه فتسلمها حادي عشر ذي الحجة.
430 ذكر حصر صلاح الدين مدينة حلب وصالح عليها لما ملك صلاح الدين قلعة إعزاز رحل إلى حلب فنازلها منتصف ذي الحجة وحصرها وبها الملك الصالح ومن معه من العساكر وقد قام العامة في حفظ البلد القيام المرضي بحيث إنهم منعوا صلاح الدين من القرب من البلد لأنه كان إذا تقدم للقتال خسر هو وأصحابه وكثر الجراح فيهم والقتل وكانوا يخرجون ويقاتلونه ظاهر البلد فترك القتال وأخلد للمطاولة. وانقضت سنة إحدى وسبعين ودخلت سنة اثنتين وسبعين وهو محاصر لها ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح في العشرين من المحرم فوقعت الإجابة إليه من الجانبين لأن أهل حلب خافوا من طول الحصار فإنهم ربما ضجروا وضعفوا وصلاح الدين رأى أنه لا يقدر على الدنو من البلد ولا على قتال من به فأجاب أيضا وتقررت القاعدة في الصلح للجميع للملك الصالح ولسيف الدين صاحب الموصل ولصاحب الحصن ولصاحب ماردين وتحالفوا واستقرت القاعدة أن يكونوا كلهم عونا على الناكث الغادر. فلما انفصل الأمر رحل عن حلب بعد أن أعاد قلعة إعزاز إلى الملك الصالح فإنه أخرج [إلى] صلاح الدين أختا له صغير طفله فأكرمها صلاح الدين وحمل لها شيئا كثيرا وقال لها ما تريدين قالت أريد قلعة إعزاز وكانوا قد علموها ذلك، فسلمها إليهم ورحل إلى بلد الإسماعيلية.
431 ذكر الفتنة بمكة وعزل أميرها وإقامة غيره في هذه السنة في ذي الحجة كان بمكة حرب شديدة بين أمير الحاج طاشتكين وبين الأمير مكثر بن عيسى أمير مكة وكان الخليفة قد أمر أمير الحاج بعزل مكثر وإقامة أخيه داود مقامه. وسبب ذلك أنه كان قد بنى قلعة على جبل أبي قبيس فلما سار الحاج عن عرفات لم يبيتوا بالمزدلفة وإنما اجتازوا بها فلم يرموا الجمار إنما بعضهم رمى بعضها وهو سائر ونزلوا الأبطح فخرج إليهم ناس من أهل مكة فحاربوهم وقتل من الفريقين جماعة وصاح الناس الغزاة إلى مكة فهجموا عليها، فهرب أمير مكة مكثر فصعد إلى القلعة التي بناها على جبل أبي قبيس فحصروه بها. ففارقها وسار عن مكة وولي أخوه داود الإمارة ونهب كثيرا من الحاج وأخذوا من أموال التجارة المقيمين بها شيئا كثيرا وأحرقوا دورا كثيرة. ومن أعجب ما جرى فيها ان إنسانا زراقا ضرب دارا بقارورة نفط فأحرقها وكانت لأيتام فأحرقت ما فيها، ثم أخذ قارورة أخرى ليضرب بها مكانا آخر فأتاه حجر فأصاب القارورة فكسرها، فاحترق هو بها فبقي ثلاثة أيام يعذب بالحريق ثم مات.
432 ذكر عدة حوادث في هذه السنة في شهر رمضان انكسفت الشمس جميعها وأظلمت الأرض حتى بقي الوقت كأنه ليل مظلم وظهرت الكواكب وكان ذلك ضحوة النهار يوم الجمعة التاسع والعشرين منه وكنت حينئذ صبيا بظاهر جزيرة ابن عمر مع شيخ لنا من العلماء أقرأ عليه الحساب فلما رأيت ذلك خفت خوفا شديدا وتمسكت به فقوى قلبي وكان عالما بالنجوم أيضا وقال لي الآن ترى هذا جميعه انصرف فانصرف سريعا. وفيها ولى الخليفة المستضيء بأمر الله حجبة الباب أبا طالب نصر بن علي الناقد وكان يلقب في صغره قنبرا فصاروا يصيحون به ذلك إذا ركب فأمر الخليفة أن يركب معه جماعة من الأتراك ويمنعون الناس من ذلك فامتنعوا فلما كان قبل العيد خلع عليه ليركب في الموكب فاشترى جماعة من أهل بغداد من القنابر شيئا كثيرا وعزموا على إرسالها في الموكب إذ رأوا ابن الناقد فأنهى ذلك إلى الخليفة وقيل له يصير الموكب ضحكة فعزله وولى ابن المعوج. وفيها في ذي الحجة يوم العيد وقعت فتنة ببغداد بين العامة وبين الأتراك بسبب أخذ جمال النحر فقتل بينهم جماعة ونهب شيء كثير من الأموال ففرق الخليفة أموالا جليلة فيمن نهب ماله. وفيها زلزلت بلاد العجم من جهة العراق إلى ما وراء الري وهلك فيها خلق كثير وتهدمت دور كثيرة وأكثر ذلك كان بالري وقزوين.
433 وفيها في ربيع الأخر استوزر سيف الدين غازي صاحب الموصل جلال الدين أبا الحسن بن جمال الدين محمد بن علي وكان جمال الدين وزير البيت الأتابكي وقد تقدمت أخباره وهو المشهور بالجود والإفضال ولما ولى جلال الدين الوزارة ظهرت منه كفاية عظيمة ومعرفة تامة بقوانين الوزارة وله مكاتبات وعهود حسنة مدونة مشهورة وكان جوادا فاضلا خيرا وكان عمره لما ولى الوزارة خمسا وعشرين سنة. وفيها في ذي الحجة استناب سيف الدين أيضا عنه بقلعة الموصل مجاهد الدين قايماز وفوض إليه الأمور وكان قبل ذلك [فوض] إليه الأمر بمدينة إربل وأعمالها وكان رحمه الله من صالحي الأمراء وأرباب المعروف بنى كثيرا من الجوامع والخانات في الطرق والقناطر على الأنهار والربط وغير ذلك من أبواب البر وكان دائم الصدقة كثير الإحسان عادل السيرة رحمه الله. وفيها قبض الخليفة على سنجر المقتفوي أستاذ الدار ورتب مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي بن هبة الله بن الصاحب. وفيها في رمضان قدم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب الذي ملك اليمن إلى دمشق ولما سمع أن أخاه صلاح الدين ملكها حن إلى الوطن والأتراب ففارق اليمن وسار إلى الشام وأرسل من الطريق إلى أخيه صلاح الدين يعلمه بوصوله وكتب في الكتاب شعرا من قول ابن المنجم المصري: (وإلى صلاح الدين أشكوا أنني * من بعده مضني الجوامح مولع) (جزعا لبعد الدار منه ولم أكن * لولا هواه لبعد دار أجزع) (فلأركبن إليه متن عزائمي * ويخب بي ركب الغرام ويوسع)
434 (ولأقطعن من النهار هواجرا * قلب النهار بحرها يتقطع) (ولأسرين الليل لا يسري به * طيف الخيال ولا البروق اللمع) (وأقدمن إليه قلبي مخبرا * أني بجسمي من قريب أتبع) (حتى أشاهد منه أسعد طلعة * من أفقها صبح السعادة يطلع) وفي هذه السنة في المحرم برز صلاح الدين من دمشق وقد عظم شأنه بما ملكه من بلاد الشام وبكسره عسكر الموصل فخافه الفرنج وغيرهم وعزم على دخول بلدهم ونهبه والإغارة عليه فأرسلوا إليه يطلبون الهدنة معه فأجابهم إليها وصالحهم فأمر العساكر المصرية بالعودة إلى مصر والاستراحة إلى أن يعاود طلبهم وشرط عليهم أنه متى أرسل يستدعيهم لا يتأخرون فساروا إليها وأقاموا بها إلى أن استدعاهم للحرب مع سيف الدين على ما نذكره. وفيها مات أبو الحسن علي بن عساكر البطائحي المقري وكان قد سمع الحديث الكثير ورواه وكان نحويا جيدا. وفي ذي الحجة منها توفي أبو سعد محمد بن سعيد بن محمد بن الرزاز سمع الحديث ورواه وله شعر جيد فمن ذلك أنه كتب إليه بعض أصدقائه مكاتبة وضمنها شعرا فأجابه: (يا من أياديه تغني من يعددها * وليس يحصي مداها من لها يصف) (عجزت عن شكر ما أوليت من كرم * وصرت عبدا ولي في ذلك الشرف) (أهديت منظوم شعر كله درر * فكل ناظم عقد عنده يقف) (إذا أتيت ببيت منه كان لنا * قصرا ودر المعاني فوقه شرف) (وإن أتيت أنا بيتا يناقضه * أتيت لكن ببيت سقفه يكف) (ما كنت منه ولا من أهله أبدا * وإنما حين أدنو منه أقتطف) وقيل كانت وفاته سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وهو الصحيح.
435 572 ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ذكر نهب صلاح الدين بلد الإسماعيلية لما رحل صلاح الدين حلب على ما ذكرناه قبل قصد بلاد الإسماعيلية في المحرم ليقاتلهم بما فعلوه من الوثوب عليه وإرادة قتله فنهب بلدهم وخربه وأحرقه وحصر قلعة مصيات وهي أعظم حصونهم وأحصن قلاعهم فنصب عليها المنجنيقات وضيق على من بها ولم يزل كذلك فأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى شهاب الدين الحارمي صاحب حماة وهو خال صلاح الدين يسأله أن يدخل بينهم ويصلح الحال ويشفع فيهم ويقول له إن لم تفعل قتلناك وجميع أهل صلاح الدين فشفع فيهم وسأل الصفح عنهم فأجابه إلى ذلك وصالحهم ورحل عنهم. وكان عسكره قد ملوا من طول البيكار وقد امتلأت أيديهم من غنائم عسكر الموصل ونهب بلد الإسماعيلية فطلبوا العود إلى بلادهم للاستراحة فأذن لهم وسار هو إلى مصر مع عسكرها لأنه كان قد طال عهده عنها ولم يمكنه المضي إليها فيما تقدم خوفا على بلاد الشام فلما انهزم سيف الدين وحصر هو حلب وملك بلادها واصطلحوا أمن على البلاد فسار إلى مصر وأمر ببناء سور على مصر والقاهرة
436 والقلعة التي على جبل المقطم دوره تسعة وعشرين ألف ذراع وثلاثمائة ذراع بالذراع الهاشمي ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين. ذكر ظفر للمسلمين بالفرنج وللفرنج بالمسلمين كان شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم صاحب بعلبك فأتاه خبر أن جمعا من الفرنج قد قصدوا البقاع من أعمال بعلبك وأغاروا عليها فسار إليهم وكمن لهم في الشعراء والغياض وأوقع بهم وقتل فيهم وأكثر وأسر نحو مائتي رجل منهم وسيرهم إلى صلاح الدين وكان شمس الدولة تورانشاه أخو صلاح الدين وهو الذي ملك اليمن وقد وصل إلى دمشق كما ذكرناه وهو فيها فسمع أن طائفة من الفرنج قد خرجوا من بلادهم إلى أعمال دمشق فسار إليهم ولقيهم [عند عين الجر في تلك المروج فلم يثبت لهم وانهزم عنهم فظفروا] بجمع من أصحابه فأسروهم منهم سيف الدين وأبو بكر بن السلار وهو من أعيان الجند الدمشقيين واجترأ الفرنج بعدها وانبسطوا في تلك الولاية وجبروا الكسر الذي ناله منهم ابن المقدم. ذكر عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين وعوده إلى طاعته في هذه السنة عصي شهاب الدين محمد بن يزان صاحب شهرزور على سيف الدين غازي وكان في طاعته وتحت حكمه.
437 وكان سبب ذلك أن مجاهد الدين قايماز كان متوليا مدينة إربل وكان بينه وبين ابن يزان عداوة محكمة فلما استناب سيف الدين مجاهد الدين بالموصل خاف ابن يزان أن يناله منه أذى فأظهر الامتناع من النزول إلى الخدمة فأرسل إليه جلال الدين وزير سيف الدين كتابا يأمره بمعاودة الطاعة ويحذره عاقبة المخالفة وهو من أحسن الكتب وأبلغها في هذا المعنى ولولا خوف التطويل لذكرته فيطلب من مكاتباته فلما وصل إليه الكتاب والرسول بادر إلى حضور الخدمة بالموصل وزال الخلف. ذكر فرج بعد شدة يتعلق بالتاريخ بالقرب من جزيرة ابن عمر حصن منيع من أمنع المعاقل اسمه فنك وهو على رأس جبل عال وهو للأكراد البشنوية له بأيديهم نحو ثلاثمائة سنة وكان صاحبه هذه السنة أميرا منهم اسمه إبراهيم وله أخ اسمه عيسى قد أخرج منه وهو لا يزال يسعى في أخذه من أخيه إبراهيم فأطاعه بعض بطانة إبراهيم وفتح باب السر ليلا وأصعد منه إلى رأس القلعة نيفا وعشرين رجلا فقبضوا على إبراهيم ومن عنده ولم يكن عنده إلا نفر من خواصه وهذه قلة على صخرة كبيرة مرتفعة عن سائر القلعة ارتفاعا كثيرا وبها يسكن الأمير وأهله وخواصه وباقي الجند في القلعة تحت القلة فلما قبضوا إبراهيم جعلوه في خزانة وضربه بعضهم بسيف في يده على عاتقه فلم يصنع شيئا فلما جعل في الخزانة وكل به رجلين وصعد الباقون إلى سطح القلعة ولا يشكون أن القلعة لهم لا مانع عنها.
438 ووصل من الغد بكرة الأمير عيسى ليتسلم القلعة وبينهما دجلة وكانت امرأة الأمير إبراهيم في خزانة أخرى وفيها شباك حديد ثقيل يشرف إلى القلعة فجذبته بيدها فانقلع وجند زوجها في القلعة لا يقدرون على شيء فلما قلعت الشباك أرادت أن تدلي حبلا ترفع به الرجال إليها فلم يكن عندها غير ثياب خام فوصلت بعضها ببعض ودلتها إلى القلعة وشدت طرفيها عندها في عود فأصعدت إليها عشرة رجال ولم يكن يراهم الذين على السطح. ورأى الأمير عيسى وهو على جانب دجلة الرجال يصعدون فصاح هو ومن معه إلى أولئك الذين على السطح ليحذروا وكان كلما صاحوا صاح أهل القلعة لتختلف الأصوات فلا يفهم الذين على السطح فينزلون ويمنعون من ذلك فلما اجتمع عندها عشرة رجال أرسلت مع خادم عندها إلى زوجها قدح شراب وأمرته أن يقرب منه كأنه يسقيه الشراب ويعرفه الحال ففعل ذلك وجلس بين يديه ليسقيه وعرفه الحال فقال ازدادوا من الرجال فأصعدت عشرين رجلا وخرجوا من عندها فمد إبراهيم يده إلى الرجلين الموكلين به فأخذ شعورهما وأمر الخادم بقتلهما وكان عنده فقتلهما بسلاحهما فخرج واجتمع بأصحابه وأرادوا فتح القلعة ليصعد إليه أصحابه من القلة فلم يجد المفاتيح وكانت مع أولئك الرجال الذين على السطح فاضطروا إلى الصعود إلى سطح القلعة ليأخذوا أصحاب عيسى فعملوا الحال فجاؤوا ووقفوا على رأس الممرق فلم يقدر أحد [أن] يصعد فأخذ بعض أصحاب إبراهيم ترسا وجعله على رأسه وحصل في الدرجة وصعد وقاتل القوم على رأس الممرق حتى صعد أصحابه فقتلوا الجماعة وبقي منهم رجل القى نفسه من السطح فنزل إلى أسفل الجبل فتقطع.
439 فلما رأى عيسى ما حل بأصحابه عاد خائبا مما أمله واستقر الأمير إبراهيم في قلعته على حاله. ذكر نهب البندنيجين في هذه السنة وصل الملك الذي بخوزستان عند شملة وهو ابن ملكشاه بن محمود إلى البندنيجين فخربها ونهبها وفتك في الناس وسبى حريمهم وفعل كل قبيح. ووصل الخبر إلى بغداد فخرج الوزير عضد الدين وعرض العسكر ووصل العسكر الحلة وواسط مع طاشتكين أمير الحاج وغرغلي وساروا نحو العدو فلما سمع بوصولهم فارق مكانه وعاد وكان معه من التركمان جمع كثير فنهبهم عسكر بغداد ورجعوا من غير أمر بالعود فأنكر عليهم ذلك وأمروا بالعود إلى مواقفهم فعادوا لأوائل شهر رمضان وقد رجع الملك فنهب من البندنيجين ما كان سلم في الأول ووقعت بينهم وبين الملك وقعة. ثم افترقوا. فمضى الملك وفارق ولاية العراق وعاد عسكر بغداد. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في جمادى الأولى أقيمت الصلاة في الجامع الذي بناه فخر الدولة ابن المطلب بقصر المأمون غربي بغداد. أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على قبر الشافعي، رضي الله عنه،
440 بمصر وعمل بالقاهرة بيمارستان ووقف عليهما الوقوف العظيمة الكبيرة. وفيها رأيت بالموصل خروفين ببطن واحد ورأسين ورقبتين وظهرين وثماني قوائم كأنهما خروفان ببطن واحد وجه أحدهما إلى وجه الآخر وهذا من العجائب. وفيها انقض كوكب أضاءت له الأرض إضاءة كثيرة وسمع له صوت عظيم وبقي أثره في السماء مقدار ساعة وذهب. وفيها توفي تاج الدين أبو علي الحسن بن عبد الله المظفر بن رئيس الرؤساء أخو الوزير عضد الدين وزير الخليفة. وفيها في المحرم توفي القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري قاضي دمشق وجميع الشام وإليه الوقوف بها والديوان وكان جوادا فاضلا رئيسا ذا عقل ومعرفة في تدبير الدول رحمه الله ورضي عنه.
441 573 ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة ذكر انهزام صلاح الدين بالرملة في هذه السنة في جمادى الأولى سار صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر إلى ساحل الشام لقصد غزاة بلاد الفرنج وجمع معه عساكره وجنوده فلم يزالوا يجدون السير حتى وصلوا إلى عسقلان في الرابع والعشرين منه فنهبوا وأسروا وقتلوا وأحرقوا وتفرقوا في تلك الأعمال مغيرين فلما رأوا أن الفرنج لم يظهر لهم عسكرا ولا اجتمع لهم من يحمي البلاد من المسلمين طمعوا وانبسطوا وساحوا في الأرض آمنين مطمئنين، ووصل صلاح الدين إلى الرملة عازما على أن يقصد بعض حصونهم ليحصره فوصل إلى نهر فازدحم الناس للعبور فلم يرعهم إلا والفرنج قد أشرفت عليهم بأطلابها وأبطالها وكان مع صلاح الدين بعض العسكر لأن أكثرهم تفرقوا في طلب الغنيمة فلما رآهم وقف لهم فيمن معه وتقدم بين يديه محمد ابن أخي صلاح الدين فباشر القتال بنفسه بين يدي عمه فقتل من أصحابه جماعة وكذلك من الفرنج وكان لتقي الدين ولد اسمه أحمد وهو من أحسن الشباب أول ما تكاملت لحيته فأمره أبوه بالحملة عليهم فحمل عليهم وقاتلهم وعاد سالما قد أثر فيهم أثرا كثيرا فأمره بالعودة إليهم ثانية فحمل عليهم فقتل شهيدا ومضى حميدا رحمه الله ورضي عنه.
442 وكان أشد الناس قتالا ذلك اليوم الفقيه عيسى رحمه الله وتمت الهزيمة على المسلمين وحمل بعض الفرنج على صلاح الدين فقاربه حتى كاد يصل إليه فقتل الفرنجي بين يديه وتكاثر الفرنج عليه فمضى منهزما يسير قليلا ويقف ليلحقه العسكر إلى أن دخل الليل فسلك البرية إلى أن مضى في نفر يسير إلى مصر ولقوا في طريقهم مشقة شديدة وقل عليهم القوات والماء وهلك كثير من دواب العسكر جوعا وعطشا وسرعة سير. وأما العسكر الذي كانوا دخلوا بلاد الفرنج في الغارة فإن أكثرهم ذهب ما بين قتيل وأسير وكان من جملة من أسر الفقيه عيسى الهكاري وهو من أعيان الأسدية وكان جمع العلم والدين والشجاعة وأسر أيضا أخوه الظهير وكانا قد سارا منهزمين فضلا الطريق فأخذا ومعها جماعة من أصحابهما وبقوا سنين في الأسر فافتدى صلاح الدين الفقيه عيسى بستين الف دينار وجماعة كثيرة من الأسرى ووصل صلاح الدين إلى القاهرة نصف جمادى الآخرة ورأيت كتابا كتبه صلاح الدين بخط يده إلى أخيه شمس الدولة تورانشاه وهو بدمشق يذكر الوقعة وفي أوله: (ذكرتك والخطي يخطر بيننا * وقد نهلت منا المثقفة السمر) ويقول فيه لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة وما أنجانا الله سبحانه منه إلا لأمر يريد سبحانه: (وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر)
443 ذكر حصر الفرنج مدينة حماة في هذه السنة في جمادى الأولى حصر الفرنج أيضا مدينة حماة وسبب ذلك أنه وصل من البحر إلى الساحل الشامي كند كبير من الفرنج من أكبر طواغيتهم فرأى صلاح الدين بمصر وقد عاد منهزما فاغتنم خلو البلاد لأن شمس الدولة بن أيوب كان بدمشق ينوب عن صلاح الدين وليس عنده كثير من العسكر وكان أيضا كثير الانهماك في اللذات مائلا إلى الراحات فجمع ذلك الكند الفرنجي من بالشام من الفرنج وفرق فيهم الأموال وسار إلى مدينة حماة فحصرها وبها صاحبها شهاب الدين محمود الحارمي خال صلاح الدين وهو مريض شديد المرض وكان طائفة من العسكر الصلاحي بالقرب منها فدخلوا إليها وأغاثوا من بها. وقاتل الفرنج على البلد قتالا شديدا وهجموا بعض الأيام على طرف منه وكادوا يملكون البلد قهرا وقسرا فاجتمع أهل البلد مع العسكر إلى تلك الناحية واشتد القتال وعظم الخطب على الفريقين واستقتل المسلمون وحاموا عن الأنفس والأهل والمال فأخرجوا الفرنج من البلد إلى ظاهرة ودام القتال ظاهر البلد ليلا ونهارا وقويت نفوس المسلمين حين أخرجوهم من البلد وطمعوا فيهم وأكثروا فيهم القتل فرحل الفرنج حينئذ خائبين وكفى الله المسلمين شرهم فساروا إلى حارم فحصروها وكان مقامهم على حماة أربعة أيام ولما رحل الفرنج عن حماة مات صاحبها شهاب الدين الحارمي وكان له ابن من أحسن الناس شبابا مات قبله بثلاثة أيام.
444 ذكر قتل كمشتكين وحصر الفرنج حارم في هذه السنة قبض الملك الصالح بن نور الدين على سعد الدين كمشتكين وكان المتولي لأمر دولته والحاكم فيها وسبب قبضه أنه كان بحلب إنسان من أعيان أهلها يقال له أبو صالح بن العجمي وكان مقدما عند نور الدين محمود فلما مات نور الدين تقدم أيضا في دولة ولده الملك الصالح وصار بمنزلة الوزير الكبير المتمكن لكثرة أتباعه بحلب وصار كل من كان يحسد كمشتكين انضم إلى صالح وقووا جنانه وكثروا سواده وكان عنده إقدام وجراءة فصار واحد الدولة بحلب ومن يصدر الجماعة عن رأيه وأمره. فبينما هو في بعض الأيام في الجامع وثب به الباطنية فقتلوه ومضى شهيدا وتمكن بعده سعد الدين وقوى حاله فلما قتل أحال الجماعة قتله على سعد الدين وقالوا هو وضع الباطنية عليه حتى قتلوه وذكروا ذلك للملك الصالح ونسبوه إلى العجز وأنه ليس له حكم وأن سعد الدين قد تحكم عليه واحتقره واستصغره وقتل وزيره ولم يزالوا به حتى قبض عليه. وكانت قلعة حارم لسعد الدين قد أقطعه إياها الملك الصالح فامتنع من بها بعد قبضه وتحصنوا فيها فسير سعد الدين إليها تحت الاستظهار ليأمر أصحابه بتسليمها إلى الملك الصالح فأمرهم بذلك فامتنعوا فعذب كمشتكين وأصحابه يرونه ولا يرحمونه فمات في العذاب وأصر أصحابه على الامتناع والعصيان. فلما رأى الفرنج ذلك ساروا إلى حارم من حماة في جمادى الأولى على ما نذكره ظنا منهم أنهم لا ناصر لهم وان الملك الصالح صبي قليل العسكر،
445 وصلاح الدين بمصر، فاغتنموا هذه الفرصة ونازلوها وأطالوا المقام عليها مدة أربعة أشهر ونصبوا عليها المنجنيقات والسلالم فلم يزالوا كذلك إلى أن بذل لهم الملك الصالح مالا وقال لهم أن صلاح الدين واصل إلى الشام وربما يسلم القلعة من بها إليه فأجابوه حينئذ إلى الرحيل عنها فلما رحلوا عنها سير إليها الملك الصالح جيشا فحصروها وقد بلغ الجهد منهم بحصار الفرنج وصاروا كأنهم طلائع وكان قد قتل من أهلها وجرح كثير فسلموا القلعة إلى الملك الصالح فاستناب بها مملوكا كان لأبيه اسمه سرخك. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في المحرم خطب للسلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل بن محمد ابن ملكشاه المقيم عند إيلدكز بهمذان وكان أبوه أرسلان قد توفي. وفيها سابع شوال هبت ببغداد ريح عظيمة فزلزلت الأرض واشتد الأمر على الناس حتى ظنوا أن القيامة قد قامت فبقي ذلك ساعة ثم انجلت وقد وقع كثير من الدور ومات فيها جماعة كثيرة. وفيها رابع ذي القعدة قتل عضد الدين أبو الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله ابن المظفر ابن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة وزير الخليفة وكان قد عزم على الحج فعبر دجلة ليسير وعبر معه أرباب المناصب وهو في موكب عظيم وتقدم إلى أصحابه أن لا يمنعوا عنه أحدا فلما وصل إلى باب قطفتا لقيه كهل فقال أنا مظلوم وتقدم ليسمع الوزير كلامه فضربه بسكين في خاصرته فصاح الوزير قتلني ووقع من الدابة وسقطت
446 عمامته فغطى رأسه بكمه وضرب الباطني بسيف وعاد إلى الوزير فضربه وأقبل حاجب الباب ابن المعوج لينصر الوزير فضربه الباطني بسكين وقيل بل ضربه رفيق كان للباطني ثم قتل الباطني ورفيقه وكان لهما رفيق ثالث فصاح وبيده سكين فقتل ولم يعمل شيئا وأحرقوا ثلاثتهم وحمل الوزير إلى دار له هناك وحمل حاجب الباب مجروحا إلى بيته فمات هو والوزير وحمل الوزير فدفن عند أبيه بمقبرة الرباط عند جامع المنصور. وكان الوزير قد رأى في المنام أنه معانق عثمان بن [عفان]، وحكى عنه والده أنه اغتسل قبل خروجه وقال هذا غسل الإسلام وأنا مقتول بلا شك وكان مولده في جمادى الأولى سنة أربع عشرة وخمسمائة وكان أبوه أستاذ دار المقتفي لأمر الله فلما مات ولى هو مكانه كذلك إلى أن مات المقتفي فأقره المستنجد على ذلك ورفع قدره فلما ولى المستضيء استوزره وكان حافظا للقرآن سمع الحديث وله معروف كثير وكانت داره مجمعا للعلماء وختمت أعماله بالشهادة وهو على قصد الحج. وفيها كانت فتنة ببغداد وسببها أنه حضر قوم من مسلمي المدائن إلى بغداد فشكوا من يهودها وقالوا لنا مسجد نؤذن فيه ونصلي وهو مجاور الكنيسة فقال لنا اليهود قد آذيتمونا بكثرة الأذان فقال المؤذن ما نبالي بذلك فاختصموا وكانت فتنة استظهر فيها اليهود فجاء المسلمون يشكون منهم فأمر ابن العطار وهو صاحب المخزن بحبسهم ثم أخرجوا فقصدوا جامع القصر واستغاثوا قبل صلاة الجمعة فخفف الخطيب الخطبة والصلاة فعادوا يستغيثون فأتاهم جماعة من الجند ومنعوهم فلما رأى العامة ما فعل بهم غضبوا نصرة للإسلام فاستغاثوا وقالوا أشياء قبيحة وقلعوا طوابيق الجامع ورجموا الجند فهربوا ثم قصد العامة دكاكين
447 المخلطين، لأن أكثرهم يهود فنهبوها وأراد حاجب الباب منعهم فرجموه فهرب منهم وانقلب البلد وخربوا الكنيسة التي عند دار البساسيري وأحرقوا التوراة وأمر الخليفة أن تنقض الكنيسة التي بالمدائن وتجعل مسجدا وتصب بالرحبة أخشاب ليصلب عليها قوم من المفسدين فظنها العامة نصبت تخويفا لهم لأجل ما فعلوا فعلقوا عليها في الليل جرذانا ميتة وأخرج جماعة من الحبس لصوص فصلبوا عليها. وفيها في شعبان قبض سيف الدين غازي صاحب الموصل على وزيره جلال الدين علي بن جمال الدين لغير جرم ولا عجز ولا لتقصير بل لعجز سيف الدين فإن جلال الدين كان بينه وبين مجاهد الدين قايماز مشاحنة فقال مجاهد الدين لسيف الدين لا بد من قبض الوزير فقبض عليه كارها لذلك ثم شفع فيه ابن رئيس آمد لصهر بينهما فأخرج وسار إلى آمد فمرض بها وعاد إلى دنيسر فمات سنة خمس وسبعين [خمسمائة] وعمره سبع وعشرين سنة وحمل إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، فدفن عند والده في الرباط الذي بناه بها. وكان رحمه الله من محاسن الدنيا جمع كرما وعلما ودينا وعفة وحسن سيرة واستحلفه سيف الدين أنه لا يمضي إلى صلاح الدين لأنه خاف أن يمضي إليه للمودة التي كانت بين جمال الدين وبين نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه فبلغني أن صلاح الدين طلبه فلم يقصده لليمين. وفيها اجتمع الفرنج طائفة منهم وقصدوا اعمال حمص فنهبوها وغنموا،
448 وأسروا وسبوا فسار ناصر الدين محمد بن شيركوه صاحب حمص وسبقهم ووقف على طريقهم وكمن لهم فلما وصلوا إليه خرج إليه هو والكمين ووضعوا السيف فيهم فقتل أكثرهم وأسر جماعة من مقدميهم ومن سلم منهم لم يفلت إلا وهو مثخن بالجراح واسترد منهم جميع ما غنموا فرده على أصحابه. وفيها في ربيع الآخر توفي صدقة بن الحسين الحداد الذي ذيل تاريخ الزغواني ببغداد. وفيها في جمادى الأولى توفي محمد بن احمد بن عبد الجبار الفقيه الحنفي المعروف بالمشطب ببغداد.
449 574 ثم دخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة ذكر قصد الفرنج مدينة حماة أيضا في هذه السنة في ربيع الأول سار جمع كثير من الفرنج بالشام إلى مدينة حماة وكثر جمعهم من الفرسان والرجالة طمعا في النهب والغارة فشنوا الغارة ونهبوا وخربوا القرى وأحرقوا وأسروا وقتلوا فلما سمع العسكر المقيم بحماة ساروا إليهم وهو قليل متوكلين على الله تعالى فالتقوا واقتتلوا وصدق المسلمون القتال فنصرهم الله تعالى وانهزم الفرنج وكثر القتل والأسر فيهم واستردوا ما غنموه من السواد. وكان صلاح الدين قد عاد من مصر إلى الشام في شوال من السنة المتقدمة وهو نازل بظاهر حمص فحملت الرؤوس والأسرى والأسلاب إليه فأمر بقتل الأسرى فقتلوا. ذكر عصيان ابن المقدم على صلاح الدين وحصر بعلبك وأخذ البلد منه في هذه السنة عصى شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم على صلاح الدين ببعلبك وكانت له قد سلمها إليه صلاح الدين لما فتحها جزاء له حيث
450 سلم إليه ابن المقدم دمشق على ما سبق ذكره فلم تزل بيده إلى الآن فطلب شمس الدولة محمد بن أيوب أخو صلاح الدين منه بعلبك وألح عليه في طلبها لأن تربيته ومنشأة كان بها وكان يحبها ويختارها على غيرها من البلاد وكان الأكبر فلم يمكن صلاح الدين مخالفته فأمر شمس الدين بتسليمها إلى أخيه ليعوضه عنها فلم يجب إلى ذلك وذكره العهود التي له وما اعتمده معه من تسليم البلاد إليه فلم يصغ إليه وألح في أخذها وسار ابن المقدم إليها واعتصم بها فوجه إليه صلاح الدين عسكرا وحصره بها مدة ثم رحل عنها من غير أن يأخذها وترك عليه عسكرا يحصره فلما طال عليه الحصار أرسل إلى صلاح الدين يطلب العوض عنها ليسلمها إليه فعوضه عنها وسلمها فأقطعها صلاح الدين أخاه شمس الدولة. ذكر الغلاء والوباء العام في هذه السنة انقطعت الأمطار بالكلية في سائر البلاد الشامية والجزيرة والعراقية والديار البكرية والموصل وبلاد الجبل وخلاط وغير ذلك واشتد الغلاء وكان عاما في سائر البلاد فبيعت الغرارة الحنطة بدمشق وهي أربعة عشر مكوكا بالموصلي بعشرين دينارا صورية عتق وكان الشعير بالموصل كل ثلاث مكاكي بدينار أميري وفي سائر البلاد ما
451 يناسب ذلك واستسقى الناس في أقطار الأرض فلم يسقوا وتعذرت الأقوات وأكلت الناس الميتة وما ناسبها ودام كذلك إلى آخر سنة خمس وسبعين [خمسمائة]؛ ثم تبعه بعد ذلك وباء شديد عام أيضا كثر فيه الموت وكان مرض الناس شيئا واحدا وهو السرسام وكان الناس لا يلحقون يدفنون الموتى، إلا أن بعض البلاد كان أشد من البعض. ثم إن الله تعالى رحم العباد والبلاد والدواب وأرسل الأمطار وأرخص الأسعار. ومن عجيب ما رأيت أنني قصدت رجلا من العلماء الصالحين الجزيرة لأسمع عليه شيئا من حديث النبي، عليه السلام، في شهر رمضان سنة خمس وسبعين [خمسمائة]، والناس في أشد ما كانوا غلاء وقنوطا من الأمطار وقد توسط الربيع ولم تجيء قطرة واحدة من المطر فبينما أنا جالس ومعي جماعة تنتظر الشيخ وإذ قد أقبل إنسان تركماني قد أثر عليه الجوع وكأنه قد أخرج من قبر فبكى وشكى الجوع فأرسلت من يشتري له خبزا فتغيمت السماء وجاءت نقط من المطر متفرقة فضج الناس واستغاثوا ثم جاء الخبز فأكل التركماني بعضه وأخذ الباقي ومشى واشتد المطر ودام المطر من تلك الساعة. ذكر غارات الفرنج على بلاد المسلمين في هذه السنة في ذي القعدة اجتمع الفرنج وساروا إلى بلد دمشق مع ملكهم فأغاروا على أعمالها فنهبوها وأسروا وقتلوا وسبوا فأرسل
452 صلاح الدين فرخشاه ولد أخيه في جمع من العسكر إليهم وأمر أنه إذا قاربهم يرسل إليه يخبره على جناح طائر ليسير إليه وتقدم إليه أن يأمر أهل البلاد بالانتزاح من بين يدي الفرنج فسار فرخشاه في عسكره يطلبهم فلم يشعر إلا والفرنج قد خالطوه فاضطر إلى القتال فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس وألقى فرخشاه نفسه عليهم وغشى الحرب ولم يكلها إلى سواه، فانهزم الفرنج ونصر المسلمون عليهم وقتل من مقدميهم جماعة ومنهم هنفري وما أدراك ما هنفري كان يضرب به المثل في الشجاعة والرأي في الحرب وكان بلاء صبه الله على المسلمين فأراح الله من شره وقتل غيره من أضرابه ولم يبلغ عسكر فرخشاه ألف فارس. وفيها أيضا أغار البرنس صاحب أنطاكية واللاذقية على جشير المسلمين بشيزر وأخذه وأغار صاحب طرابلس على جمع كثير من التركمان فأجحف بأموالهم وكان صلاح الدين على بانياس على ما نذكره إن شاء الله فسير ولد أخيه تقي الدين عمر إلى حماة وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه إلى حمص وأمرهما بحفظ البلاد وحياطة أطرافها من العدو دمرهم الله تعالى. ذكر عدة حوادث ليلة النصف من ربيع الآخر انكسف القمر نحو ثلث الليل الأخير وغاب منكسفا. وفيها أيضا في التاسع والعشرين انكسفت الشمس وقت العصر فغربت منكسفة.
453 وفي هذه السنة في شعبان توفي الحيص بيص الشاعر واسمه سعد بن محمد بن سعد أبو الفوارس وكان قد سمع الحديث ومدح الخلفاء والسلاطين والأكابر وشعره مشهور فمنه قوله: (كلما أوسعت حلمي جاهلا * أوسع الفحش له فحش المقال) (وإذا شاردة فهت بها * سبقت مر النعامي والشمال) (لا تلمني في شقائي بالعلا * رغد العيش لربات الحجال) (سيف عز زانه رونقه * فهو بالطبع غني عن صقال) وفي المحرم ماتت شهدة بنت أحمد بن عمر بن الإبري وسمعت الحديث من السراج وطراد وغيرهما وعمرت هي قاربت مائة سنة وسمع عليها خلق كثير الحديث لعلو إسنادها.
454 575 ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة ذكر تخريب الحصن الذي بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان كان الفرنج قد بنوا حصنا منيعا يقارب بانياس عند بيت يعقوب عليه السلام بمكان يعرف بمخاضة الأحزان فلما سمع صلاح الدين بذلك سار من دمشق إلى بانياس وأقام بها وبث الغارات على بلاد الفرنج ثم سار إلى الحصن وحصره ليخبره ثم يعود إليه عند اجتماع العساكر فلما نازل الحصن قاتل من به من الفرنج ثم عاد عنه فلما دخلت سنة خمس وسبعين لم يفارق بانياس بل أقام بها وخيله تغير على بلاد العدو. وأرسل جماعة من عسكره مع جالي الميرة فلم تشعر إلا والفرنج مع ملكهم قد خرجوا عليهم فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه الخبر [فسار] في العساكر مجدا [حتى] وافاهم وهم في القتال فقاتل الفرنج قتالا شديدا وحملوا على المسلمين عدة حملات كادوا يزيلونهم عن مواقفهم ثم أنزل الله نصره على المسلمين وهزم المشركين وقتلت منهم مقتلة كثيرة ونجا ملكهم فريدا وأسر منهم كثير منهم ابن بيرزان صاحب الرملة ونابلس وهو أعظم الفرنج محلا بعد الملك وأسروا أيضا أخاه صاحب جبيل وصاحب طبرية ومقدم الداوية ومقدم الاسباتارية وصاحب جينين وغيرهم
455 من مشاهير فرسانهم وطواغيتهم، فأما ابن بيرزان فإنه فدى نفسه بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية وإطلاق ألف أسير من المسلمين وكان أكثر العمل في هذا اليوم لعز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين وحكى عنه قال ذكرت في تلك الحال بيتي المتنبي وهما: (فإن تكن الدولات قسما فإنها * لمن يرد الموت الزؤام تؤول) (ومن هون الدنيا على النفس ساعة * وللبيض في هام الكماة صليل) فهان الموت في عيني فألقيت نفسي إليه وكان ذلك سبب الظفر ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس من موضع المعركة وتجهز للدخول إلى ذلك الحصن ومحاصرته فسار اليه في ربيع الأول وأحاط به وقوى طمعه بالهزيمة المذكورة في فتحه وبث العساكر في بلد الفرنج للإغارة ففعلوا ذلك وجمعوا من الأخشاب والزرجون شيئا كثيرا ليجعله متارس للمجانيق فقال له جاولي الأسدي وهو مقدم الأسدية ومن أكابر الأمر الرأي أننا نجربهم بالزحف أول مرة ونذوق قتال من به وننظر الحال معهم فإن استضعفناهم وإلا فنصب المناجيق ما يفوت. فقبل رأيه وأمر فنودي بالزحف إليه والجد في قتاله فزحفوا واشتد القتال وعظم الأمر فصعد إنسان من العامة بقميص خلق في باشورة الحصن وقاتل على السور لما علاه وتبعه غيره من أضرابه ولحق بهم الجند فملكوا الباشورة فصعد الفرنج حينئذ منها لإلى أسوار الحصن ليحموا نفوسهم وحصنهم إلى أن يأتيهم المدد.
456 وكان الفرنج قد جمعوا بطبرية فألح المسلمون في قتال الحصن خوفا من وصول الفرنج إليهم وإزاحتهم عنه وأدركهم الليل فأمر صلاح الدين بالمبيت بالباشورة النيران فيه وانتظروا سقوط السور فلم يسقط لعرضه فإنه كان تسعة أذرع بالنجاري يكون الذراع ذراعا ونصفا فانتظروه يومين فلم يسقط فأمر صلاح الدين بإطفاء النار التي في النقب فحمل الماء وألقى عليها فطفئت وعاد النقابون فنقبوا وخرقوا السور وألقوا فيه النار فسقط يوم الخميس لست بقين من ربيع الأول ودخل المسلمون الحصن عنوة وأسروا كل من فيه وأطلقوا من كان به من أسارى المسلمين وقتل صلاح الدين كثيرا من أسرى الفرنج وأدخل الباقين إلى دمشق فسجنوا وأقام صلاح الدين بمكانه حتى هدم الحصن وعفى أثره وألحقه بالأرض وكان قد بذل للفرنج ستين ألف دينار مصرية ليهدموه بغير قتل فلم يفعلوا ظنا منهم أنه إذا بقي بناؤه تمكنوا به من كثير من بلاد الإسلام وأما الفرنج فاجتمعوا بطبرية ليحموا الحصن فلما أتاهم الخبر بأخذه فت في أعضادهم فتفرقوا إلى بلادهم وأكثر الشعراء فيه فمن ذلك قول صديقنا النشو بن نفاذة رحمه الله: (هلاك الفرنج أتى عاجلا * وقد آن تكسير صلبانها) (ولو لم يكن قد دنا حتفها * لما عمرت بيت أحزانها) وقول علي بن محمد الساعاتي الدمشقي:
457 (أتسكن أوطان النبيين عصبة * تمين لدى أيمانها وهي تحلف) (نصحتكم والنصح للدين واجب * ذروا بيت يعقوب جاء يوسف) ذكر الحرب بين عسكر صلاح الدين وعسكر قلج أرسلان في هذه السنة كان الحرب بين عسكر صلاح الدين يوسف بن أيوب ومقدمهم ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب وبين عسكر الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان صاحب بلاد قونية وأقصرا وسببها أن نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر رحمه الله كان قد أخذ قديما من قلج أرسلان حصن رعبان وكان بيد شمس الدين بن المقدم إلى الآن فطمع فيه قلج أرسلان بسبب أن الملك الصالح بحلب بينه وبين صلاح الدين فأرسل اليه من يحضره فاجتمع عليه جمع كثير يقال كانوا عشرين ألف فأرسل إليهم صلاح الدين تقي الدين في ألف فارس فواقعهم وقاتلهم وهزمهم وأصلح حال تلك الولاية وعاد إلى صلاح الدين ولم يحضر معه تخريب حصن الأحزان فكان يفتخر ويقول هزمت بألف مقاتل عشرين ألفا.
458 ذكر وفاة المستضيء بأمر الله وخلافة الناصر لدين الله في هذه السنة في ثاني ذي القعدة توفي الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد رضي الله عنه وأمه أم ولد أرمنية تدعى غضة وكانت خلافته نحو تسع سنين وسبعة أشهر وكان مولده سنة ست وثلاثين وخمسمائة وكان عادلا حسن السيرة في الرعية كثير البذل للأموال غير مبالغ في أخذ ما جرت العادة بأخذه وكان الناس معه في أمن عام وإحسان شامل وطمأنينة وسكون لم يروا مثله وكان حليما قليل المعاقبة على الذنوب محبا للعفو والصفح عن المذنبين فعاش حميدا ومات سعيدا رضي الله عنه فلقد كانت أيامه كما قيل: (كأن أيامه من حسن سيرته * مواسم الحج والأعياد والجمع) ووزراؤه عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء إلى أن قتل في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة. ولما قتل حكم في الدولة ظهير الدين أبو بكر منصور ابن نصر المعروف بابن العطار وكان جبيرا حسن السيرة كثير العطاء وتمكن تمكنا كثيرا فلما مات المستضيء قام ظهير الدين بن العطار في أخذ البيعة لولده الناصر لدين الله أمير المؤمنين فلما تمت البيعة صار الحاكم في الدولة أستاذ الدار مجد الدين أبا الفضل بن الصاحب. وفي سابع ذي القعدة قبض على ابن العطار ظهير الدين ووكل عليه في داره ثم نقل إلى التاج وقيد ووكل به وطلب ودائعه وأمواله وفي ليلة الأربعاء ثامن عشر ذي القعدة أخرج ميتا على رأس حمال سرا فغمز به بعض الناس فصار به العامة فألقوه عن رأس الحمال وكشفوا
459 سوءته، وشدوا في ذكره حبلا وسحبوه في البلد وكانوا وضعوا بيده مغرفة يعني أنها قلم وقد غمسوها في العذرة ويقولون وقع لنا يا مولانا إلى غير هذا من الأفعال الشنيعة ثم خلص من أيديهم ودفن. هذا فعلهم به مع حسن سيرته فيهم وكفه عن أموالهم وأعراضهم وسيرت الرسل إلى الآفاق لأخذ البيعة فسير صدر الدين شيخ الشيوخ إلى البهلوان صاحب همذان وأصفهان والري وغيرها فامتنع من البيعة فراجعه صدر الدين وأغلظ له في القول حتى إنه قال لعسكره في حضرته [ليس] لهذا عليكم طاعة ما لم يبالغ أمير المؤمنين بل يجب عليكم أن تخلعوه من الامارة وتقاتلوه فاضطر إلى البيعة والخطبة وأرسل رضي الدين القزويني مدرس النظامية إلى الموصل لأخذ البيعة فبايع صاحبها وخطب للخليفة الناصر لدين الله أمير المؤمنين. ذكر عدة حوادث في هذه السنة هبت ريح سوداء مظلمة بالديار الجزرية والعراق وغيرها وعمت أكثر البلاد من الظهر إلى أن مضى من الليل ربعه وبقيت الدنيا مظلمة لا يكاد الإنسان يبصر صاحبه وكنت حينئذ بالموصل فصلينا العصر والمغرب والعشاء الآخرة على الظن والتخمين وأقبل الناس على التضرع والتوبة والاستغفار وظنوا أن القيامة قد قامت فلما مضى مقدار ثلث الليل زال ذلك الظلام والعتمة التي غطت السماء فنظرنا فرأينا النجوم فعلمنا مقدار ما مضى من الليل لأن الظلام لم يزد بدخول الليل وكان كل
460 من يصل من جهة من الجهات يخبر بمثل ذلك. وفيها في ذي القعدة نزل شمس الدولة أخو صلاح الدين عن بعلبك وطلب عوضا عنها الإسكندرية فأجابه صلاح الدين إلى ذلك وأقطع بعلبك لعز الدين فرخشاه ابن أخيه فسار إليها وجمع أصحابه وأغار على بلاد الفرنج حتى وصل إلى قلعة صفد وهي مطلة على طبرية فسبى وأسر وغنم وخرج وفعل في الفرنج أفاعيل عظيمة. وأما شمس الدولة فإنه سار إلى مصر وأقام بالإسكندرية وإذا أراد الله أن يقبض رجلا بأرض جعل له إليها حاجة فإنه أقام بها إلى أن مات بها. وفيها قارب الجامع الذي بناه مجاهد الدين قايماز بظاهر الموصل من جهة باب الجسر الفراغ وأقيمت فيه الصلوات الخمس والجمعة وهو من أحسن الجوامع. وفيها توفي أحمد بن عبد الرحمن الصوفي شيخ رباط الزوزني وسمع الحديث وكان يصوم الدهر؛ وعبد الحق بن عبد الخالق بن يوسف سمع الحديث ورواه وهو من بيت الحديث والقاضي عمر بن علي بن الخضر أبو الحسن الدمشقي سمع الحديث ورواه وولي قضاء الحريم وعلي بن أحمد اليزيدي سمع الحديث الكثير وله وقف كتب كثيرة ببغداد وكان زاهدا خيرا صالحا ومحمد بن علي بن حمزة بن الأقساسي نقيب العلويين بالكوفة وكان ينشد كثيرا: (رب قوم في خلائقهم * غرر قد صيروا غررا) (ستر المال القبيح لهم * سترى إن زال ما سترا) ومحمد بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن سديد الدولة الأنباري كاتب الإنشاء بعد أبيه وأبو الفتوح نصر بن عبد الرحمن الدامغاني الفقيه كان مناظرا حسن المناظرة كثير العبادة ودفن عند قبر أبي حنيفة.
461 576 ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة ذكر وفاة سيف الدين صاحب الموصل وولاية أخيه عز الدين بعده في هذه السنة ثالث صفر توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الموصل وديار الجزيرة وكان مرضه السل وطال به ثم أدركه في آخره برسام ومات. ومن عجيب ما يحكى أن الناس خرجوا سنة خمس وسبعين يستسقون لانقطاع الغيث وشدة الغلاء وخرج سيف الدين في موكبه فثار به الناس وقصدوه بالاستغاثة وطلبوا منه أن يأمر بالمنع من بيع الخمر فأجابهم إلى ذلك فدخلوا البلد وقصدوا مساكن الخمارين وخربوا أبوابها ودخلوها ونهبوها وأراقوا ما بها من خمور وكسروا الظروف وعملوا ما لا يحل فاستغاث أصحاب الدور إلى نواب السلطان وخصوا بالشكوى رجلا من الصالحين يقال له أبو الفرج الدقاق ولم يكن في الذي فعله العامة من النهب وما لا يجوز فعله إنما هو أراق الخمور ونهى العامة عن الذي يفعلونه فلم يسمعوا منه فلما شكى الخمارون منه أحضر بالقلعة وضرب على رأسه فسقطت عمامته فلما أطلق لينزل من القلعة نزل مكشوف الرأس فأرادوا تغطيته بعمامته فلم يفعل وقال والله لا غطيت رأسي حتى ينتقم الله لي ممن ظلمني فلم يمض غير أيام حتى توفي الدزدار
462 الذي تولى أذاه ثم بعقبه مرض سيف الدين واستمر إلى أن مات وعمره حينئذ نحو ثلاثين سنة وكانت ولايته عشر سنين وثلاثة أشهر وكان حسن الصورة مليح الشباب تام القامة أبيض اللون وكان عاقلا وقورا قليل الالتفات إذا ركب وإذا جلس عفيفا لم يذكر عنه ما ينافي العفة. وكان غيورا شديد الغيرة لا يدخل دوره غير الخدم الصغار فإذا كبر أحدهم منعه وكان لا يحب سفك الدماء ولا أخذ الأموات على شح فيه وجبن ولما اشتد مرضه أراد أن يعهد بالملك لابنه معز الدين سنجر شاه وكان عمره حينئذ اثنتي عشر سنة فخاف على الدولة من ذلك لأن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان قد تمكن بالشام وقوى أمره وامتنع اخوه عز الدين مسعود بن مودود من الإذعان لذلك والإجابة إليه فأشار الأمراء الأكابر ومجاهد الدين قايماز بأن يجعل الملك بعده في عز الدين أخيه لما هو عليه من كبر السن والشجاعة والعقل وقوة النفس وأن يعطي ابنيه بعض البلاد ويكون مرجعهما إلى عز الدين عمهما والمتولي لأمرهما مجاهد الدين قايماز ففعل ذلك وجعل الملك في أخيه وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجر شاه وقلعة عقر الحميدية لولده الصغير ناصر الدين كسك. فلما توفي سيف الدين ملك بعده الموصل والبلاد أخوه عز الدين وكان المدبر للدولة مجاهد الدين وهو الحاكم في الجميع واستقرت الأمور ولم يختلف اثنان.
463 ذكر مسير صلاح الدين لحرب قلج أرسلان في هذه السنة سار صلاح الدين يوسف بن أيوب من الشام إلى بلاد قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان وهي ملطية وسيواس وما بينهما وقونية ليحاربه. وسبب ذلك أن نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود صاحب حصن كيفا وغيره من ديار بكر كان قد تزوج ابنة قلج أرسلان المذكور وبقيت عنده مدة ثم إنه أحب مغنية فتزوجها ومال إليها وحكمت في بلاده وخزائنه وأعرض عن ابنة قلج أرسلان وتركها نسيا منسيا فبلغ أباها الخبر فعزم على نور الدين وأخذ بلاده فأرسل نور الدين إلى صلاح الدين يستجير به ويسأله كف يد قلج أرسلان عنه فأرسل صلاح الدين إلى قلج أرسلان في المعنى فأعاد الجواب إنني كنت قد سلمت إلى نور الدين عدة حصون تجاور بلاده لما تزوج ابنتي فحيث آل الأمر معه إلى ما يعلمه فأنا أريد أن يعيد إلي ما أخذه مني. وترددت الرسل بينهما فلم يستقر حال فيهما فهادن صلاح الدين الفرنج وسار في عساكره وكان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بها فتركها ذات اليسار وسار على تل باشر إلى رعبا فأتاه بها نور الدين محمد وأقام عنده، فلما سمع قلج أرسلان بقربه منه أرسل إليه أكبر أمير عنده ويقول له إن هذا الرجل فعل مع ابنتي كذا ولا بد من قصد بلاده وتعريفه محل نفسه فلما وصل الرسول واجتمع
464 بصلاح الدين وأدى الرسالة امتعض صلاح الدين لذلك واغتاظ وقال للرسول قل لصاحبك والله الذي لا إله إلا هو لئن لم يرجع لأسيرن إلى ملطية وبيني وبينها يومان ولا أنزل عن فرسي إلا في البلد ثم أقصد جميع بلاده وآخذها منه. فرأى الرسول أمرا شديدا فقام من عنده وكان قد رأى العسكر وما هو عليه من القوة والتجمل وكثرة السلاح والدواب وغير ذلك ليس عنده ما يقاربه فعلم أنه إن قصدهم أخذ بلادهم فأرسل إليه من الغد يطلب أن يجتمع به فأحضره فقال له أريد أن أقول شيئا من عندي ليس رسالة عن صاحبي وأحب أن تنصفني فقال له: قل! قال: يا مولانا ما هو قبيح بمثلك وأنت أعظم السلاطين وأكبرهم شأنا أن تسمع الناس عنك إنك صالحت الفرنج وتركت الغزو ومصالح المملكة وأعرضت عن كل ما فيه صلاح لك ولرعيتك وللمسلمين عامة وجمعت العساكر من أطراف البلاد البعيدة والقريبة وسرت وخسرت أنت وعساكرك الأموال العظيمة لأجل قحبة مغنية ما يكون عذرك عند الله تعالى ثم عند الخليفة وملوك الإسلام وكافة العالم وأحسب أن أحدا ما يواجهك بهذا أما يعلمون أن الأمر هكذا ثم أحسب أن قلج أرسلان مات وهذه ابنته قد أرسلتني إليك تستجير بك وتسألك أن تنصفها من زوجها فإن فعلت فهو الظن بك أن لا تردها. فقال: والله الحق بيدك وإن الأمر لكما تقول ولكن هذا الرجل دخل علي واستجار بي ويقبح بي تركه لكنك أنت اجتمع به وأصلح الحال بينكم على ما تحبون وأنا أعينكم عليه وأقبح فعله ووعد من نفسه بكل جميل فاجتمع الرسول بصاحب الحصن وتردد القول بينهم فاستقر
465 أن صاحب الحصن يخرج المغنية عنه بعد سنة وإن كان لا يفعل ينزل صلاح الدين عن نصرته ويكون هو وقلج أرسلان عليه واصطلحوا على ذلك وعاد صلاح الدين عنه إلى الشام وعاد نور الدين إلى بلاده فلما انقضت المدة أخرج نور الدين المغنية عنه فتوجهت إلى بغداد وأقامت بها إلى أن ماتت. ذكر قصد صلاح الدين بلد ابن ليون الأرمني وفيها قصد صلاح الدين بلد ابن ليون الأرمني بعد فراغه من أمر قلج أرسلان وسبب ذلك أن ابن ليون الأرمني كان قد استمال قوما من التركمان وبذل لهم الأموال فأمرهم أن يرعوا مواشيهم في بلاده وهي بلاد حصينة كلها حصون منيعة والدخول إليها صعب لأنها مضايق وجبال وعرة ثم غدر بهم وسبى حريمهم وأخذ أموالهم وأسر رجالهم بعد أن قتل منهم من حان أجله. ونزل صلاح الدين على النهر الأسود وبث الغارات على بلاده فخاف ابن ليون على حصن له على رأس جبل أن يؤخذ فخربه وأحرقه فسمع صلاح الدين بذلك فأسرع السير إليه فأدركه قبل أن ينقل ما فيه من ذخائر وأقوات فغنمها وانتفع المسلمون بما غنموه فأرسل ابن ليون يبذل إطلاق من عنده من الأسرى والسبي وإعادة أموالهم على أن يعودوا عن بلاده فأجابه
466 صلاح الدين إلى ذلك واستقر الحال وأطلق الأسرى وأعيدت أموالهم وعاد صلاح الدين عنه في جمادى الآخرة. ذكر ملك يوسف بن عبد المؤمن مدينة قفصة بعد خلاف صاحبها عليه في هذه السنة سار أبو يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن إلى أفريقية وملك قفصة. وكان سبب ذلك أن صاحبها علي بن المعز بن المعتز لما رأى دخول الترك إلى أفريقية واستيلاءهم على بعضها وانقياد العرب إليهم طمع أيضا في الاستبداد والانفراد عن يوسف وكان في طاعته فأظهر ما في نفسه وخالفه وأظهر العصيان ووافقه أهل قفصة فقتلوا كل من كان عندهم من الموحدين أصحاب أبي يعقوب وكان ذلك في شوال سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة فأرسل والي بجاية إلى يوسف بن عبد المؤمن يخبره باضطراب أمور البلاد واجتماع كثير من العرب إلى قراقوش التركي الذي دخل إلى إفريقية وقد تقدم ذكر ذلك وما جرى في قفصة من قتل الموحدين ومساعدة أهل قفصة صاحبهم على ذلك فشرع في سد الثغور التي يخافها بعد مسيرة فلما فرغ من جميع ذلك تجهز العسكر وسار إلى أفريقية سنة خمس وسبعين ونزل على مدينة قفصة وحصرها ثلاثة أشهر وهي بلدة حصينة وأهلها أنجاد وقطع شجرها. فلما اشتد الأمر على صاحبها وأهلها خرج منها مستخفيا لم يعرف به
467 أحد من أهل قفصة ولا من عسكره وسار إلى خيمة يوسف وعرف حاجبه أنه قد حضر إلى أمير المؤمنين يوسف فدخل الحاجب وأعلم يوسف بوصول صاحب قفصة إلى باب خيمته فعجب منه كيف أقدم على الحضور عنده بغير عهد وأمر بإدخاله عليه فدخل وقبل يده وقال قد حضرت أطلب عفو أمير المؤمنين عني وعن أهل بلدي وأن يفعل ما هو أهله واعتذر فرق له يوسف فعفا عنه وعن أهل البلد وتسلم المدينة أول سنة ست وسبعين وسير علي بن المعز صاحبها إلى بلاد المغرب فكان فيها مكرما عزيزا وأقطعه ولاية كبيرة ورتب يوسف لقفصة طائفة من أصحابه الموحدين وحضر مسعود بن زمام أمير العرب عند يوسف أيضا فعفا عنه وسيره إلى مراكش وسار يوسف إلى المهدية فأتاه بها رسول ملك الفرنج صاحب صقلية يلتمس منه الصلح فهادنه عشر سنين وكانت بلاد أفريقية مجدبة فتعذر على العسكر القوت وعلف الدواب فسار إلى المغرب مسرعا والله أعلم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة توفي شمس الدولة تورانشاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر بالإسكندرية وكان قد أخذها من أخيه إقطاعا فأقام بها فتوفى وكان له أكثر بلاد اليمن ونوابه هناك يحملون إليه الأموال من زبيد وعدن وما بينهما من البلاد والمعاقل وكان أجود الناس وأسخاهم كفا
468 يخرج كل ما يحمل إليه من أموال اليمن ودخل الإسكندرية وحكمه في بلاد أخيه صلاح الدين وأمواله نافذ ومع هذا فلما مات كان عليه نحو مائتي ألف دينار مصرية دين فوفاها أخوه صلاح الدين عنه لما دخل إلى مصر فإنه لما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر في شعبان من السنة واستخلف بالشام عز الدين فرخشاه ابن أخيه شاهنشاه وكان عاقلا حازما شجاعا. وفيها توفي أبو طاهر احمد بن محمد بن سلفة الأصفهاني بالإسكندرية وكان حافظ الحديث وعالما به سافر في طلب الكثير. وتوفي أيضا في المحرم علي بن عبد الرحيم المعروف بابن العصار اللغوي ببغداد وسمع الحديث وكان من أصحاب ابن الجواليقي.
469 577 ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة ذكر غزاة إلى بلاد الكرك من الشام في هذه السنة سار فرخشاه نائب صلاح الدين بدمشق إلى أعمال كرك ونهبها. وسبب ذلك أن البرنس أرناط صاحب الكرك كان من شياطين الفرنج ومردتهم وأشدهم عداوة للمسلمين فتجهز وجمع عسكره ومن أمكنه الجمع وعزم على المسير في البر إلى تيماء ومنها إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، للاستيلاء على تلك النواحي الشريفة فسمع عز الدين فرخشاه ذلك فجمع العساكر الدمشقية وسار إلى بلده ونهبه وخربه وعاد إلى طرف بلادهم وأقام بها لمنع البرنس من المسلمين فامتنع من مقصده فلما طال مقام كل واحد منهما في مقابلة الآخر علم البرنس أن المسلمين لا يعودون حتى تفرق جمعه وانقطع طمعه من الحركة فعاد فرخشاه إلى دمشق وكفى الله المؤمنين من الكفار.
470 ذكر تلبيس ينبغي أن يحتاط من مثله كان سيف الدولة مبارك بن كامل بن منفذ الكناني ينوب عن شمس الدولة أخي صلاح الدين باليمن وتحكم في الأموال والبلاد بعد أن فرقها شمس الدولة كما ذكرنا وكان هواه بالشام لأنه وطنه فأرسل إلى شمس الدولة يطلب الإذن في المجيء إليه فأذن له في المجيء فاستناب بزبيد أخاه حطان بن كامل بن منقذ الكناني وعاد إلى شمس الدولة وكان معه بمصر فمات شمس الدولة وبقي مع صلاح الدين فقيل عنه إنه أخذ أموال اليمن وادخرها وسعى به أعداؤه فلم يعارضه صلاح الدين. فلما كان هذه السنة وصلاح الدين بمصر اصطنع سيف الدولة طعاما وعمل دعوة كبيرة ودعا إليها أعيان الدولة الصلاحية بقرية تسمى العدوية وأرسل أصحابه يتجهزون من البلد ويشترون ما يحتاجون إليه من الأطعمة وغيرها فقيل لصلاح الدين إن ابن منقذ يريد الهرب وأصحابه يتزودون له ومتى دخل اليمن أخرجه عن طاعتك فأرسل صلاح الدين فأخذه والناس عنده وحبسه فلما سمع صلاح الدين جلية الحال علم أن الحيلة تمت لأعدائه في قبضه فخفف ما كان عنده وسهل أمره وصانعه على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما لحقها من الحمل لإخوة صلاح الدين وأصحابه وأطلقه وأعاده إلى منزلته وكان أديبا شاعرا.
471 ذكر إرسال صلاح الدين العساكر إلى اليمن في هذه السنة سير صلاح الدين جماعة من أمرائه منهم صارم الدين قتلغ أبه والي مصر إلى اليمن للاختلاف الواقع بها بين نواب أخيه شمس الدولة وهم عز الدين عثمان بن الزنجيلي والي عدن وحطان بن منقذ [والي] زبيد وغيرهما، فإنه لما بلغهم وفاة صاحبهم اختلفوا وجرت بين عز الدين عثمان وبين حطان حرب وكل واحد منهما يروم أن يغلب الآخر على ما بيده واشتد الأمر فخاف صلاح الدين أن يطمع أهل البلاد فأرسل هؤلاء الأمراء إليها واستولى قتلغ أبه على زبيد وأزال حطان عنها. ثم مات قتلغ أبه فعاد حطان إلى إمارة زبيد وأطاعه الناس لجوده وشجاعته. [ذكر وفاة الملك الصالح وملك ابن عمه عز الدين مسعود مدينة حلب في هذه السنة في رجب توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب بها وعمره نحو تسع عشرة سنة ولما اشتد مرضه وصف له الأطباء شرب الخمر للتداوي فقال لا افعل حتى استفتى الفقهاء فاستفتى فأفتاه فقيه من مدرسي الحنفية بجواز ذلك فقال له أرأيت إن قدر الله تعالى
472 بقرب الأجل أ يؤخره شرب الخمر؟ فقال [له] الفقيه لا فقال والله لا لقيت الله سبحانه وقد استعملت ما حرمه علي ولم يشربها. فلما أيس من نفسه أحضر الأمراء وسائر الأجناد ووصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي واستحلفهم على ذلك فقال له بعضهم إن عماد [الدين] ابن عمك أيضا وهو زوج أختك وكان والدك يحبه ويؤثره وهو تولى تربيته وليس له غير سنجار فلو أعطيته البلد لكان أصلح وعز الدين له [من البلاد] من الفرات إلى همذان ولا حاجة به إلى بلدك فقال له إن هذا لم يغب عني ولكن قد علمتم أن صلاح الدين قد تغلب على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي، ومتى سلمت حلب إلى عماد الدين يعجز عن حفظها وإن ملكها صلاح الدين لم يبق لأهلنا معه مقام وإن سلمتها إلى عز الدين أمكنه حفظها بكثرة عساكره وبلاده. فاستحسنوا قوله وعجبوا من جودة فطنته مع شدة مرضه وصغر سنه ثم مات وكان حليما كريما عفيف اليد والفرج واللسان ملازما للدين لا يعرف له شيء مما يتعاطاه الملوك والشباب من شرب خمر أو غيره حسن السيرة في رعيته عادلا فيهم. ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات وأرسل احضر الأمراء عنده من حلب فحضروا وساروا جميعا إلى حلب ودخلها في العشرين من شعبان،
473 وكان صلاح الدين حينئذ بمصر ولولا ذلك لزاحمهم عليها وقاتلهم فلما اجتاز في طريقه إليها من الفرات كان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين بمدينة منبج فسار عنها هاربا إلى حماة وثار أهل حماة ونادوا بشعار عز الدين فأشار عسكر حلب على عز الدين بقصد دمشق وأطمعوه فيها وفي غيرها من بلاد الشام وأعلموه محبة أهلها له ولأهل بيته فلم يفعل وقال بيننا يمين فلا نغدر به وأقام بحلب عدة شهور ثم سار عنها إلى الرقة]. ذكر تسليم حلب إلى عماد الدين وأخذ سنجار عوضا عنها لما دخل عز الدين إلى الرقة جاءته رسل أخيه عماد الدين صاحب سنجار يطلب أن يسلم إليه حلب ويأخذ عوضا عنها مدينة سنجار فلم يجبه إلى ذلك ولج عماد الدين في ذلك وقال إن سلمتم إلي حلب وإلا سلمت أنا سنجار إلى صلاح الدين فأشار حينئذ جماعة من الأمراء بتسليمها إليه وكان أشدهم في ذلك مجاهد الدين قايماز فلم يمكن عز الدين مخالفته لتمكنه من الدولة وكثرة عساكره وبلاده وإنما حمل مجاهد الدين على ذلك خوفه من عز الدين لأنه عظم في نفسه وكثر معه العسكر. وكان الأمراء الحلبيون لا يلتفتون إلى مجاهد الدين ويسلكون معه من الأدب ما يفعله عسكر الموصل فاستقر الأمر على تسليم حلب إلى عماد الدين
474 وأخذ سنجار عوضا عنها فسار عماد الدين فتسلمها وسلم سنجار إلى أخيه وعاد إلى الموصل. وكان صلاح الدين بمصر قد بلغه خبر ملك عز الدين حلب فعظم الأمر عليه وخاف أن يسير منها إلى دمشق وغيرها ويملك الجميع وأيس من حلب فلما بلغه ملك عماد الدين لها برز من مصر من يومه وسار إلى الشام وكان من الوهن على دولة عز الدين ما نذكره إن شاء الله. ذكر حصر صاحب ماردين قلعة البيرة ومصير صاحبها مع صلاح الدين كانت قلعة البيرة وهي مطلة على الفرات من أرض الجزيرة لشهاب الدين الأرتقي وهو ابن عم قطب الدين ايلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن ايلغازي بن أرتق صاحب ماردين وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام فمات شهاب الدين وملك القلعة بعده ولده وصار في طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل. فلما كان هذه السنة أرسل صاحب ماردين إلى عز الدين يطلب منه أن يأذن له في حصر البيرة, اخذها فأذن له في ذلك فسار في عسكره إلى قلعة سميساط وهي له ونزل بها وسير العسكر إلى البيرة فحصرها فلم
475 يظفر منها بطائل إلا أنهم لازموا الحصار فأرسل صاحبها إلى صلاح الدين وقد خرج من ديار مصر على ما نذكره يطلب منه أن ينجده ويرحل العسكر المارداني عنه ويكون هو في خدمته كما كان أبوه في خدمة نور الدين فأجابه إلى ذلك وأرسل رسولا إلى صاحب ماردين يشفع فيه ويطلب أن يرحل عسكره عنه فلم يقبل شفاعته. واشتغل صلاح الدين بما نذكره من الفرنج فلما رأى صاحب ماردين طول مقام عسكره على البيرة ولم يبلغوا منها غرضا أمرهم بالرحيل عنها وعاد إلى ماردين فسار صاحبها إلى صلاح الدين وكان معه حتى عبر معه الفرات على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادث في هذه السنة كثرت المنكرات ببغداد فأقام حاجب الباب جماعة لإراقة الخمور وأخذ المفسدات فبينما امرأة منهن في موضع علمت بمجيء أصحاب حاجب الباب فاضطجعت وأظهرت أنها مريضة وارتفع أنينها فرأوها على تلك الحال فتركوها وانصرفوا فاجتهدت بعدهم أن تقوم فلم تقدر وحملت تصيح الكرب الكرب إلى أن ماتت وهذا من أعجب ما يحكى. وفيها في عاشر ذي الحجة توفي الأمير همام الدين تتر صاحب قلعة
476 تكريت بالمزدلفة كان قد استخلف الأمير عيسى بن أخي مودود وحج فتوفى ودفن بالمعلى مقبرة مكة. وفيها في شعبان توفي عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد أبو البركات النحوي المعروف بابن الأنباري ببغداد وله تصانيف حسنة في النحو وكان فقيها صالحا. وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن مهران الفقيه الشافعي بجزيرة ابن عمر وكان فاضلا كثير الورع.
477 578 ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ذكر مسير صلاح الدين إلى الشام وإغارته على الفرنج في هذه السنة خامس المحرم سار صلاح الدين عن مصر إلى الشام ومن عجيب ما يحكى من التطير أنه لما برز من القاهرة أقام بخيمته حتى تجتمع العساكر والناس عنده وأعيان دولته والعلماء وأرباب الآداب فمن بين مودع له وسائر معه وكل منهم يقول شيئا في الوداع والفراق وما هم بصدده من السفر وفي الحاضرين معلم لبعض أولاده فأخرج رأسه من بين الحاضرين وأنشد: (تمتع من شميم عرار نجد * فما بعد العشية من عرار) فانقبض صلاح الدين بعد انبساطه وتطير وتنكد المجلس على الحاضرين فلم يعد إليها إلى أن مات مع طول المدة. ثم سار عن مصر وتبعه من التجار وأهل البلاد ومن كان قصد مصر من الشام بسبب الغلاء بالشام وغيره عالم كثير فلما سار جعل طريقه على أيلة فسمع أن الفرنج قد جمعوا له ليحاربوه ويصدوه عن المسير فلما قارب بلادهم سير الضعفاء والأثقال مع أخيه تاج الملوك بوري إلى دمشق وبقي هو في العساكر المقاتلة لا غير فشن الغارات بأطراف بلادهم وأكثر ذلك
478 ببلد الكرك والشوبك فلم يخرج إليه منهم أحد ولا أقدم على الدنو منه ثم سار فأتى دمشق فوصلها حادي عشر صفر من السنة. ذكر ملك المسلمين شقيفا من الفرنج في هذه السنة أيضا في صفر فتح المسلمون بالشام شقيفا من الفرنج يعرف بحبس جلدك وهو من أعمال طبرية مطل على السواد. وسبب فتحه أن الفرنج لما بلغهم مسير صلاح الدين من مصر إلى الشام جمعوا له وحشدوا الفارس والراجل واجتمعوا بالكرك بالقرب من الطريق لعلهم ينتهزون فرصة أو يظفرون بنصرة وربما عاقوا المسلمين عن المسير بأن يقفوا على بعض المضايق فلما فعلوا ذلك خلت بلادهم من ناحية الشام فسمع فرخشاه الخبر فجمع من عنده من عساكر الشام ثم قصد بلاد الفرنج وأغار عليها ونهب دبورية وما يجاورها من القرى وأسر الرجال وقتل وأكثر وسبى النساء وغنم الأموال وفتح منهم الشقيف وكان على المسلمين منه أذى شديد ففرح المسلمون بفتحه فرحا عظيما وأرسل إلى صلاح الدين بالبشارة فلقيه في الطريق ففت ذلك في عضد الفرنج وانكسرت شوكتهم.
479 ذكر إرسال سيف الإسلام إلى اليمن وتغلبه عليه في هذه السنة سير صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغدكين إلى بلاد اليمن وأمره بتملكها وقطع الفتن بها وفوض إليه أمرها وكان بها حطان بن منقذ كما ذكرناه قبل وكتب عز الدين عثمان الزنجيلي متولي عدن إلى صلاح الدين يعرفه باختلال البلاد ويشير بإرسال بعض أهله إليها لأن حطان كان قوي عليه فخافه عثمان فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام وسيره إلى بلاد اليمن فوصل إلى زبيد فخافه حطان بن منقذ واستشعر منه وتحصن في بعض القلاع فلم يزل به سيف الإسلام يؤمنه ويهدي إليه ويتلطفه حتى نزل إليه فأحسن صحبته وعمل معه ما لم يكن يتوقعه من الإحسان فلم يثق حطان به وطلب منه دستورا ليقصد الشام فامتنع من إجابته إظهارا للرغبة في كونه عنده فلم يزل حطان يراجعه حتى أذن له فأخرج أثقاله وأمواله ودوابه وأهله وأصحابه وكل ما له وسير الجميع بين يديه. فلما كان الغد دخل إلى سيف الإسلام ليودعه فقبض عليه واسترجع جميع ماله فأخذه عن آخره لم يسلم منه قليل ولا كثير ثم سجنه في بعض القلاع وكان آخر العهد به فقيل إنه قتله وكان في جملة ما أخذ منه من الأموال الذهب العين في سبعين غلافا زردية مملوءة ذهبا عينا. وأما عز الدين عثمان الزنجيلي فإنه لما سمع ما جرى على حطان خاف فسار نحو الشام خائفا يترقب وسير معظم أمواله في البحر فصادفهم مراكب
480 فيها أصحاب سيف الإسلام فأخذوا كل ما لعز الدين ولم يبق له إلا ما صحبه في الطريق وصفت زبيد وعدن وما معهما من البلاد لسيف الإسلام. ذكر إغارة صلاح الدين على الغور وغيره من بلاد الفرنج لما وصل صلاح الدين إلى دمشق كما ذكرناه أقام أياما يريح ويستريح وهو وجنده ثم سار إلى بلاد الفرنج في ربيع الأول فقصد طبرية فنزل بالقرب منها وخيم في الأقحوانة من الأردن وجاءت الفرنج بجموعها فنزلت بطبرية فسير صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه بيسان فدخلها قهرا وغنم ما فيها وقتل وسبى وجحف الغور غارة شعواء فعم أهله قتلا وأسرا وجاءت العرب فأغارت على جينين واللجون وتلك الولاية حتى قاربوا مرج عكا. وسار الفرنج من طبرية فنزلوا تحت جبل كوكب فتقدم صلاح الدين إليهم وأرسل العساكر عليهم يرمونهم بالنشاب فلم يبرحوا ولم يتحركوا لقتال فأمر ابني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه فحملا على الفرنج فيمن معهما فقاتلوا قتالا شديدا ثم أن الفرنج انحازوا على حاميتهم فنزلوا غفر بلا فلما رأى صلاح الدين ما قد أثخن فيهم وفي بلادهم عاد عنهم إلى دمشق.
481 ذكر حصر بيروت ثم إنه سار عن دمشق إلى بيروت فنهب بلدها وكان قد أمر الأسطول المصري بالمجيء في البحر إليها فساروا ونازلوها وأغاروا عليها وعلى بلدها وسار صلاح الدين فوافاهم ونهب ما لم يصل الأسطول إليه وحصرها عدة أيام وكان عازما على ملازمتها إلى أن يفتحها فأتاه الخبر وهو عليها أن البحر قد ألقى بسطة للفرنج فيها جمع عظيم منهم إلى دمياط كانوا قد خرجوا لزيارة البيت المقدس فأسروا من بها بعد أن غرق منهم كثير فكان عدة الأسرى ألفا وستمائة وستة وسبعين فضربت بذلك البشائر. ذكر عبور صلاح الدين الفرات وملكه ديار الجزيرة في هذه السنة عبر صلاح الدين الفرات إلى الديار الجزرية وملكها وسبب ذلك أن مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين وهو مقطع حران كان قد أقطعه إياها عز الدين أتابك المدينة والقلعة تقوية واعتمادا أرسل إلى صلاح الدين وهو يحاصر بيروت يعلمه أنه معه محب لدولته ووعده النصرة له إذا عبر الفرات ويطمعه في البلاد ويحثه على
482 الوصول فسار صلاح الدين عن بيروت وأرسل مظفر الدين تترى إليه يحثه على المجيء فجد صلاح الدين في السير مظهرا أنه يريد حصر حلب تسترا للحال. فلما قارب الفرات سار إليه مظفر الدين فعبر الفرات واجتمع به فقصد البيرة وهي قلعة منيعة على الفرات من الجانب الجزري وكان صاحبها قد سار مع صلاح الدين وفي طاعته وقد ذكرنا سبب ذلك قبل فعبر هو وعسكره الفرات على الجسر الذي عند البيرة. وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما وصول صلاح الدين إلى الشام قد جمعا العسكر وسارا إلى نصيبين ليكونا على أهبة واجتماع لئلا يتعرض صلاح الدين إلى حلب ثم تقدما إلى دار فنزلا عندها فجاءهما أمر لم يكن في الحساب فلما بلغهما عبور صلاح الدين الفرات عادا إلى الموصل وأرسلا إلى الرها عسكرا يحميها ويمنعها فلما سمع صلاح الدين ذلك قوي طمعه في البلاد ولما عبر صلاح الدين الفرات كاتب الملوك أصحاب الأطراف ووعدهم وبذل لهم البذول على نصرته فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحثن إلى ما طلب منه لقاعدة استقرت بينهما لما كان نور الدين عنده بالشام فإنه استقر الحال أن صلاح الدين يحصر آمد ويملكها ويسلمها إليه. وسار صلاح الدين إلى مدينة الرها فحصرها في جمادى الأولى وقاتلها أشد قتال فحدثني بعض من كان بها من الجند أنه عد في غلاف رمح أربعة عشر خرقا وقد خرقته السهام. ووالى الزحف عليها وكان بها حينئذ مقطعها وهو الأمير فخر الدين
483 مسعود بن الزعفراني، فحيث رأى شدة القتال أذعن إلى التسليم وطلب الأمان وسلم البلد وصار في خدمة صلاح الدين فلما ملك المدينة زحف إلى القلعة فسلمها اليه الدزدار الذي بها على مال أخذه فلما ملكها سلمها إلى مظفر الدين مع حران ثم سار عنها على حران إلى الرقة فلما وصل إليها كان بها مقطعها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي فسار عنها إلى عز الدين أتابك وملكها صلاح الدين وسار إلى الخابور قرقيسيا وماكسين وعرابان فملك جميع ذلك. فلما استولى على الخابور جميعه سار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها وبقيت القلعة فحصرها عدة أيام فملكها أيضا وأقام بها ليصلح شأنها ثم أقطعها أميرا كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين وسار عنها ومعه نور الدين صاحب الحصن. وأتاه الخبر أن الفرنج قصدوا دمشق ونهبوا القرى ووصلوا إلى داريا وأرادوا تخريب جامعها فأرسل النائب بدمشق إليهم جماعة من النصارى يقول لهم إن خربتم الجامع جددنا عمارته وخربنا كل بيعة لكم في بلادنا ولا نمكن أحدا من عمارتها فتركوه ولما وصل الخبر إلى صلاح الدين بذلك أشار عليه من يتعصب لعز الدين بالعود فقال يخربون قرى ونملك عوضها بلادا ونعود ونعمرها ونقوى على قصد بلادهم ولم يرجع فكان كما قال. ذكر حصر صلاح الدين الموصل لما ملك صلاح الدين نسيبين جمع أمراء وأرباب المشورة عنده، واستشارهم بأي البلاد يبدأ وأيها يقصد بالموصل أم بسنجار أم بجزيرة ابن
484 عمر فاختلفت آراؤهم فقال له مظفر الدين كوكبري بن زين الدين لا ينبغي أن يبدأ بغير الموصل فإنها في أيدينا لا مانع لها فإن عز الدين ومجاهد الدين متى سمعا بمسيرنا إليها تركاها وسارا عنها إلى بعض القلاع الجبلية. ووافقه ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه وكان قد بذل لصلاح الدين مالا كثيرا ليقطعه الموصل إذا ملكها وقد أجابه صلاح الدين إلى ذلك فأشار بها الرأي لهواه فسار صلاح الدين إلى الموصل وكان عز الدين صاحبها ومجاهد الدين نائبه قد جمعا بالموصل العساكر الكثيرة ما بين فارس وراجل وأظهرا من السلاح وآلات الحصار ما حارت له الأبصار وبذلا الأموال الكثيرة وأخرج مجاهد الدين من ماله كثيرا واصطلى الأمور بنفسه فأحسن تدبيرها وشحنوا ما بقي بأيديهم من البلاد كالجزيرة وسنجار والموصل وإربل وغيرها من البلاد بالرجال والسلاح والأموال. وسار صلاح الدين حتى قارب الموصل وترك عسكره وانفرد هو ومظفر الدين ابن عمه ناصر الدين بن شيركوه ومعهم نفر من أعيان دولته وقربوا من البلد فلما قربوا ورآه وحققه رأى ما هاله وملأ صدره وصدر أصحابه فإنه رأى بلدا عظيما كبيرا ورأى السور والفصيل قد ملئا من الرجال وليس فيها شرافة إلا وعليها رجل يقاتل سوى من عليه من عامة البلد المتفرجين فلما رأى ذلك علم أنه لا يقدر على أخذه وأنه يعود خائبا فقال لناصر الدين ابن عمه إذا رجعنا إلى المعسكر فاحمل ما بذلت من المال فنحن معك على القول. فقال قد رجعت عما بذلت من المال فإن هذا البلد لا يرام فقال له ولمظفر الدين غررتماني وأطمعتماني في غير مطمع ولو قصدت غيره قبله لكان أسهل أخذا بالاسم والهيبة التي حصلت لنا ومتى نازلناه وعدنا منه ينكسر ناموسنا ويفل حدنا وشوكتنا.
485 ثم رجع إلى معسكره وصبح البلد وكان نزوله عليه في رجب فنازله وضايقه ونزل محاذي باب كندة وأنزل صاحب الحصن بباب الجسر وأنزل أخاه تاج الملوك عند باب العمادي وأنشب القتال فلم يظفر وخرج إليه يوما بعض العامة فنالوا منه ولم يمكن عز الدين ومجاهد الدين أحدا من العسكر [أن] يخرجوا لقتال بل ألزموا الأسوار ثم إن تقي الدين أشار على عمه صلاح الدين بنصب منجنيق فقال مثل هذا البلد لا ينصب عليه منجنيق ومتى نصبناه أخذوه ولو خربنا برجا وبدنه من يقدر على الدخول للبلد وفيه هذا الخلق الكثير فألح تقي الدين وقال نجربهم به فنصب منجنيقا فنصب عليه من البلد تسعة منجنيقات وخرج جماعة من العامة فأخذوه وجرى عنده قتال كثير فأخذ بعض العامة لالكة من رجليه فيها المسامير الكثيرة ورمى بها أميرا يقال له جاولي الأسدي وكبيرهم فأصاب صدره فوجد لذلك ألما شديدا وأخذ اللالكة وعاد عن القتال إلى صلاح الدين وقال قد قاتلنا أهل الموصل بحماقات ما رأينا بعد مثلها وألقى اللالكة وحلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنفة حيث ضرب بهذه. ثم إن صلاح الدين رحل من قرب البلد ونزل متأخرا خوفا من البيات فإنه لقربه كان لا يأمن ذلك وكان سببه أيضا أن مجاهد الدين في بعض الليالي جماعة من باب السر الذي للقلعة ومعهم المشاعل فكان أحدهم يخرج من الباب وينزل إلى دجلة مما يلي عين الكبريت ويطفئ المشعل فرأى العسكر الناس يخرجون فلم يشكوا في الكبسة فحملهم ذلك على الرحيل والتأخر ليتعذر البيات على أهل الموصل. وكان صدر الدين شيخ الشيوخ رحمه الله قد وصل إليه قبل نزوله على الموصل ومعه بشير الخادم وهو من خواص الخليفة الناصر لدين الله في الصلح فأقاما معه على الموصل وترددت الرسل إلى عز الدين ومجاهد الدين في الصلح فطلب عز الدين إعادة البلاد التي أخذت منهم فأجاب صلاح الدين إلى ذلك بشرط أن تسلم إليه حلب فامتنع عز الدين ومجاهد
486 الدين ثم نزل عن ذلك وأجاب إلى تسليم البلاد بشرط أن يتركوا أنجاد صاحب حلب عليه فلم يجيبوا إلى ذلك أيضا وقال عز الدين هو أخي وله العهود والمواثيق ولا يسعني أن أنكثها ووصلت أيضا رسل قزل أرسلان صاحب أذربيجان ورسل شاه أرمن صاحب خلاط في المعنى فلم ينتظم أمر ولا تم صلح فلما رأى صلاح الدين أنه لا ينال من الموصل غرضا ولا يحصل على غير العناء والتعب وأن من بسنجار من العساكر الموصلية يقطعون طريق من يقصدونه من عساكره وأصحابه سار من الموصل إليها. ذكر ملكه مدينة سنجار لما سار صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار سير مجاهد الدين إليها عسكرا قوة لها ونجدة فسمع بهم صلاح الدين فمنعهم من الوصول إليها وأوقع بهم وأخذ سلاحهم ودوابهم وسار إليها ونازلها وكان بها شرف الدين أمير أميران هندوا أخو عز الدين صاحب الموصل في عسكر معه فحصر البلد وضايقه وألح في قتاله فكاتبه بعض أمراء الأكراد الذين به من الزرزارية وخامر معه وأشار بقصده من الناحية التي هو بها ليسلم إليه البلد فطرقه صلاح الدين ليلا فسلم إليه ناحيته فملك الباشورة لا غير فلما سمع شرف الدين الخبر استكان وخضع وطلب الأمان فأمن ولو قاتل على تلك الناحية أخرج العسكر الصلاحي عنها ولو امتنع بالقلعة لحفظها ومنعها ولكنه عجز فلما طلب الأمان أجابه صلاح الدين إليه،
487 فأمنه وملك البلد. وسار شرف الدين ومن معه إلى الموصل واستقر جميع ما ملكه صلاح الدين بملك سنجار فإنه كان قصد أن يسترده المواصلة إذا فارقه لأنه لم يكن فيه حصن غير الرها لا غير فلما ملك سنجار صارت على الجميع كالسور واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أنز وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة ومعنى. ذكر عود صلاح الدين إلى حران لما ملك صلاح الدين سنجار وقرر قواعدها سار إلى نصيبين فلقيه أهلها شاكين من أبي الهيجاء السمين باكين من ظلمه متأسفين على دولة عز الدين وعدله فيهم فلما سمع ذلك انكر على أبي الهيجاء ظلمه وعزله عنهم وأخذه معه وسار إلى حران وفرق عساكره ليستريحوا وبقي جريدة في خواصه وثقات أصحابه وكان وصوله إليها أوائل ذي القعدة من السنة. ذكر اجتماع عز الدين وشاه أرمن في هذه السنة في ذي الحجة اجتمع أتابك عز الدين صاحب الموصل وشاه أرمن صاحب خلاط على قتال صلاح الدين. وسبب ذلك أن رسل عز الدين ترددت إلى شاه أرمن يستنجده ويستنصره
488 على صلاح الدين فأرسل شاه أرمن إلى صلاح الدين عدة رسل في الشفاعة اليه بالكف عن الموصل وما يتعلق بعز الدين فلم يجبه إلى ذلك وغالطه فأرسل إليه أخيرا مملوكه سيف الدين بكتمر الذي ملك خلاط بعد شاه أرمن فأتاه وهو يحاصر سنجار يطلب اليه ان يتركها ويرحل عنها وقال له إن رحل عنها وإلا فتهدده بقصده ومحاربته فأبلغه بكتمر الشفاعة فسوفه في الجواب رجاء أن يفتحها فلما رأى بكتمر ذلك أبلغه الرسالة بالتهديد وفارقه غضبان ولم يقبل منه خلعة ولا صلة وأخبر صاحبه الخبر وخوفه عاقبة الإهمال والتواني عن صلاح الدين فسار شاه أرمن من خلاط وكان مخيما بظهرها وسار إلى ماردين وصاحبها حينئذ قطب الدين ابن نجم الدين ألبي وهو ابن أخت شاه أرمن وابن خال عز الدين وحموه لأن عز الدين قد زوج ابنة قطب الدين وحضر مع شاه أرمن دولة شاه صاحب بدليس وأرزن وسار أتابك عز الدين من الموصل في عسكره جريدة من الأثقال. وكان صلاح الدين قد ملك سنجار وسار عنها إلى حران وفرق عساكره فلما سمع باجتماعهم سير إلى تقي الدين ابن أخيه وهو بحماة يستدعيه فوصل إليه مسرعا وأشار عليه بالرحيل وحذره منه آخرون وكان هوى صلاح الدين في الرحيل فرحل إلى رأس عين فلما سمعوا برحيله تفرقوا فعاد شاه أرمن إلى خلاط واعتذر بأنني أجمع العساكر وأعود ورجع عز الدين إلى الموصل وأقام قطب الدين بماردين وسار صلاح الدين فنزل بحرزم تحت ماردين عدة أيام.
489 ذكر الظفر بالفرنج في بحر عيذاب في هذه السنة عمل البرنس صاحب الكرك أسطولا وفرغ منه بالكرك ولم يبق إلا جمع قطعه بعضها إلى بعض وحملها إلى بحر أيلة وجمعها في أسرع وقت. وفرغ منها وشحنها بالمقاتلة وسيرها فساروا في البحر وافترقوا فرقتين فرقة قامت على حصن أيلة يحصرونه ويمنعون أهله من ردود الماء فنال أهله شدة شديدة وضيق عليهم وأما الفرقة الثانية فإنهم ساروا نحو عيذاب وأفسدوا في السواحل ونهبوا وأخذوا ما وجدوا من المراكب الإسلامية ومن فيها من التجار وبغتوا الناس في بلادهم على حين غفلة منهم فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجيا لا تاجرا ولا محاربا. وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب ينوب عن أخيه صلاح الدين فعمر أسطولا وسيره وفيه جمع كثير من المسلمين ومقدمهم حسام الدين لؤلؤ الحاجب وهو متولي الأسطول بديار مصر وكان مظفرا فيه شجاعا كريما فسار لؤلؤ مجدا في كلبهم فابتدأ بالذين على أيلة فانقض عليهم انقضاض العقاب على صيده فقتل بعضهم وأسر الباقي وسار من وقته بعد الظهر بقص أثر الذين قصدوا عيذاب فلم يرهم وكانوا أغاروا على ما وجدوه بها وقتلوا من لقوه عندها وساروا إلى غير ذلك المرسى ليفعلوا كما فعلوا فيه وكانوا عازمين على الدخول إلى الحجاز مكة والمدينة حرسهما الله تعالى وأخذ الحاج ومنعهم عن البيت الحرام والدخول بعد ذلك إلى اليمن. فلما وصل لؤلؤ إلى عيذاب ولم يرهم سار يقفو أثرهم فبلغ رابغ
490 وساحل الجوزاء وغيرهما فأدركهم بساحل الجوزاء فأوقع بهم هناك فلما رأوا العطب وشاهدوا الهلاك خرجوا إلى البر واعتصموا ببعض تلك الشعاب فنزل لؤلؤ من مراكبه إليهم وقاتلهم أشد قتال وأخذ خيلا من الأعراب الذين هناك فركبها وقاتلهم فرسانه ورجاله فظفر بهم وقتل أكثرهم وأخذ الباقين أسرى وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها عقوبة لمن رام إخافة حرم الله تعالى وحرم رسوله وعاد بالباقين إلى مصر فقتلوا جميعهم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في جمادى الأولى توفي عز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين وكان ينوب عنه بدمشق وهو ثقته من أهله وكان اعتماده عليه أكثر من جميع أهله وأمرائه وكان شجاعا كريما فاضلا عالما بالأدب وغيره وله شعر جيد من بين أشعار الملوك. وكان ابتداء مرضه أنه خرج من دمشق إلى غزو الفرنج فمرض وعاد مريضا فمات ووصل خبر موته إلى صلاح الدين وقد عبر الفرات إلى الديار الجزرية فأعاد شمس الدين محمد بن المقدم إلى دمشق ليكون مقدما على عسكرها. وفيها مات فخر الدولة أبو المظفر بن الحسن بن هبة الله بن المطلب.
491 كان أبوه وزير الخليفة وأخوه أستاذ الدار فتصوف هو من زمن الصبا وبنى مدرسة ورباطا ببغداد عند عقد المصطنع وبنى جامعا بالجانب الغربي منها. وفيها توفي الأمير أبو منصور هاشم ولد المستضيء بأمر الله ودفن عند أبيه. وفيها توفي أبو العباس أحمد بن علي بن الرفاعي من سواد واسط وكان صالحا ذا قبول عظيم عند الناس وله من التلامذة ما لا يحصى.
492 579 ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة ذكر ملك صلاح الدين آمد وتسليمها إلى صاحب الحصن قد ذكرنا نزول صلاح الدين بحرزم تحت ماردين فلم ير لطمعه وجها وسار عنها إلى آمد على طريق البارعية وكان نور الدين محمد بن قرا أرسلان يطالبه في كل وقت بقصدها وأخذها وتسليمها إليه على ما استقرت القاعدة بينهما فوصل إلى آمد سابع عشر ذي الحجة من سنة ثمان وسبعين ونازلها وأقام يحاصرها. وكان المتولي لأمرها والحاكم فيها بهاء الدين بن نيسان وكان صاحبها وليس له من الأمر شيء مع ابن نيسان فلما نازلها صلاح الدين أساء ابن نيسان التدبير ولم يعط الناس من الذخائر شيئا ولا فرق فيهم دينارا واحدا ولا قوتا وقال لأهل البلد قاتلوا عن نفوسكم. فقال له بعض أصحابه ليس العدو بكافر حتى يقاتلوا عن نفوسهم فلم يفعل شيئا وقاتلهم صلاح الدين ونصب المنجنيقات وزحف إليها وهي الغاية في الحصانة والمنعة بها وبسورها يضرب المثل وابن نيسان على حاله من الشح بالمال وتصرفه وتصرف من ولت سعادته وأدبرت دولته فلما رأى الناس ذلك منه تهاونوا بالقتال وجنحوا إلى السلامة. وكانت أيام ابن نيسان قد طالت وثقلت على أهل البلد لسوء سيرته وصنيعه وتضييقه عليهم في مكاسبهم فالناس كارهون لها محبون لانقراضها.
493 وأمر صلاح الدين أن يكتب على السهام إلى أهل البلد يعدهم الخير والإحسان إن أطاعوه ويتهددهم إن قاتلوه فزادهم ذلك تقاعدا وتخاذلا وأحبوا ملكه وتركوا القتال فوصل النقابون إلى السور فنقبوه وعلقوه فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك طمعوا في ابن نيسان واشتطوا في المطالب. فحين صارت الحال لذلك أخرج ابن نيسان نساءه إلى القاضي الفاضل وزير صلاح الدين يسأله أن يأخذ له الأمان ولأهله وماله وأن يؤخره ثلاثة أيام حتى ينقل ما له بالبلاد من الأموال والذخائر فسعى له الفاضل في ذلك فأجابه صلاح الدين إليه فسلم البلد في العشر الأول من المحرم هذه السنة وأخرج خيمة إلى ظاهر البلد ورام نقل ماله فتعذر ذلك عليه لزوال حكمه عن أصحابه واطراحهم أمره ونهيه فأرسل إلى صلاح الدين يعرفه الحال ويسأله مساعدته على ذلك فأمر له بالدواب والرجال فنقل البعض وسرق البعض وانقضت الأيام الثلاث قبل الفراغ فمنع من الباقي. وكانت أبراج المدينة مملوءة من أنواع الذخائر فتركها بحالها ولو أخرج البعض منها لحفظ البلد وسائر نعمه وأمواله لكن إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه فلما تسلمها صلاح الدين سلمها لصاحب الحصن نور الدين فقيل له قبل تسليمها إن هذه المدينة فيها من الذخائر ما يزيد على ألف ألف دينار فلو أخذت ذلك وأعطيته جندك وسلمت البلد إليه فارغا لكان راضيا فإنه لا يطمع في غيره فامتنع من ذلك وقال ما كنت لأعطيه الأصل وأبخل بالفرع فلما تسلم نور الدين البلد اصطنع دعوة عظيمة ودعا إليها صلاح الدين وأمراءه ولم يكن دخل البلد وقدم له ولأصحابه من التحف والهدايا أشياء كثيرة.
494 ذكر ملك صلاح الدين تل خالد وعين تاب من أعمال الشام لما فرغ صلاح الدين من أمر آمد سار إلى الشام وقصد تل خالد وهو أعمال حلب فحصرها ورماها بالمنجنيق فنزل أهلها وطلبوا الأمان فأمنهم وتسلمها في المحرم أيضا ثم سار منها إلى عينتاب فحصرها وبها ناصر الدين محمد وهو أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكي وصاحبه وكان قد سلمها إليه نور الدين فبقيت معه إلى الآن فلما نازله صلاح الدين أرسل اليه يطلب أن يقر الحصن بيده وينزل إلى خدمته ويكون تحت حكمه وطاعته فأجابه صلاح الدين إلى ذلك وحلف له عليه فنزل إليه وصار في خدمته وكان أيضا في المحرم من هذه السنة. ذكر وقعتين مع الفرنج في البحر والشام في هذه السنة في العاشر من المحرم سار أسطول المسلمين من مصر في البحر فلقوا بطسة فيها نحو ثلاثمائة من الفرنج بالسلاح التام ومعهم الأموال والسلام إلى فرنج الساحل فقاتلوهم وصبر الفريقان وكان الظفر للمسلمين وأخذوا الفرنج أسرى فقتلوا بعضهم وأبقوا بعضهم أسرى وغنموا ما معهم وعادوا إلى مصر سالمين. وفيها أيضا سارت عصابة كبيرة من الفرنج من نواحي الداروم إلى نواحي مصر ليغيروا وينهبوا فسمع بهم المسلمون فخرجوا إليهم على طريق
495 صدر وأيلة فانتزح الفرنج من بين أيديهم فنزلوا بماء يقال له العسيلة وسبقوا المسلمين إليه فأتاهم المسلمون وهم عطاش قد أشرفوا على الهلاك فرأوا الفرنج قد ملكوا الماء فأنشأ الله سبحانه وتعالى بلطفه سحابة عظيمة فمطروا منها حتى رووا وكان الزمان قيظا والحر شديد في بر مهلك فلما رأوا ذلك قويت نفوسهم ووثقوا بنصر الله لهم وقاتلوا الفرنج فنصرهم الله عليهم فقتلوهم ولم يسلم منهم إلا الشريد الفريد وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودواب وعادوا منصورين قاهرين بفضل الله تعالى. ذكر ملك صلاح الدين حلب وفي هذه السنة سار صلاح الدين من عينتاب إلى حلب فنزل عليها في المحرم أيضا في الميدان الأخضر وأقام به عدة أيام ثم انتقل إلى جبل جوشن فنزل بأعلاه وأظهر أنه يريد [أن] يبني مساكن له ولأصحابه وعساكره وأقام عليها أياما والقتال بين العسكرين كل يوم. وكان صاحب حلب عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي ومعه العسكر النوري وهم مجدون في القتال فلما رأى كثرة الخرج كأنه شح بالمال فحضر يوما عنده بعض أجناده وطلبوا منه شيئا فاعتذر بقلة المال عنده فقال له بعضهم من يريد [أن] يحفظ مثل حلب يخرج الأموال ولو باع حلى نسائه فمال حينئذ إلى تسليم حلب وأخذ العوض منها وأرسل مع
496 الأمير طمان الياروقي وكان يميل إلى صلاح الدين أنه يسلم حلب ويأخذ عوضها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج وجرت اليمين على ذلك وباعها بأوكس الأثمان اعطى حصنا مثل حلب وأخذ عوضها قرى ومزارع فنزل عنها ثامن عشر صفر وتسلمها صلاح الدين فعجب الناس كلهم من ذلك وقبحوا ما أتى حتى إن بعض عامة حلب أحضر إجانة وماء وناداه أنت لا يصلح لك الملك وإنما يصلح لك ان تغسل الثياب وأسمعوه المكروه. واستقر ملك صلاح الدين بملكها وكان مزلزلا فثبت قدمه بتسليمها وكان على شفا جرف هار وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له. وسار عماد الدين إلى البلاد التي أعطيها فتسلمها وأخذ صلاح الدين حلب واستقر بينهما أن عماد الدين يحضر في خدمة صلاح الدين بنفسه وعسكره إذ استدعاه لا يحتج بحجة ومن الاتفاقات العجيبة أن محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق مدح صلاح الدين بقصيدة منها: (وفتحكم حلبا بالسيف في صفر * مبشر بفتوح القدس في رجب) فوافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ومما كتبه القاضي الفاضل في المعنى عن صلاح الدين فأعطيناه عن حلب كذا وكذا وهو صرف على الحقيقة أعطيناه الدراهم ونزلنا عن القرى وأحرزنا العواصم.
497 وكتب أيضا أعطيناه ما لم يخرج عن اليد يعني أنه متى شاء أخذه لعدم حصانته. وكان في جملة من قتل على حلب تاج الملوك بوري أخو صلاح الدين الأصغر وكان فارسا شجاعا كريما حليما جامعا لخصال الخير ومحاسن الأخلاق طعن في ركبته فانفكت فمات منها بعد ان استقر الصلح بين عماد الدين وصلاح الدين على تسليم حلب قبل أن يدخلها صلاح الدين فلما استقر منه الصلح حضر صلاح الدين عند أخيه يعوده وقال له هذه حلب قد أخذناها وهي لك. فقال ذلك لو كان وأنا حي ووالله لقد أخذتها غالية حيث تفقد مثلي فبكى صلاح الدين وأبكى. ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين وقد عمل له دعوة احتفل فيها فبينما هم في سرور إذ جاء إنسان فأسر إلى صلاح الدين بموت أخيه فلم يظهر هلعا ولا جزعا وأمر بتجهيزه سرا ولم يعلم عماد الدين ومن معه في الدعوة واحتمل الحزن وحده لئلا يتنكر ما هم فيه وكان هذا من الصبر الجميل. ذكر فتح صلاح الدين حارم لما ملك صلاح الدين حلب كان بقلعة حارم وهي من اعمال حلب بعض المماليك النورية واسمه سرخك وولاه عليها الملك الصالح عماد الدين فامتنع من تسليمها إلى صلاح الدين فراسله صلاح الدين في التسليم وقال له اطلب من الإقطاع ما أردت ووعده الإحسان فاشتط في الطلب،
498 وترددت الرسل بينهما فراسل الفرنج ليحتمي بهم فسمع من معه من الأجناد أنه يراسل الفرنج فخافوا أن يسلمها إليهم فوثبوا عليه وقبضوه وحبسوه وراسلوا صلاح الدين يطلبون منه الأمان والإنعام فأجابهم إلى ما طلبوا وسلموا إليه الحصن فرتب به دزدارا بعض خواصه. وأما باقي قلاع حلب فإن صلاح الدين أقر عين تاب بيد صاحبها كما تقدم وأقطع تل خالد لأمير يقال له داروم الياروقي وهو صاحب تل باشر. وأما قلعة إعزاز فإن عماد الدين إسماعيل كان قد خربها فأقطعها صلاح الدين لأمير يقال له سليمان بن جندر فعمرها وأقام صلاح الدين بحلب إلى أن فرغ من تقرير قواعدها وأحوالها وديوانها، وأقطع أعمالها وأرسل منها فجمع العساكر من جميع بلاده. ذكر القبض على مجاهد الدين وما حصل من الضرر بذلك في هذه السنة في جمادى الأولى قبض عز الدين مسعود صاحب الموصل على نائبه مجاهد الدين قايماز وكان اليه الحكم في جميع البلاد واتبع في ذلك هوى من أراد المصلحة لنفسه ولم ينظر في مضرة صاحبه. وكان الذي أشار بذلك عز الدين محمود زلفندار وشرف الدين أحمد بن أبي الخير الذي كان أبوه صاحب الغراف وهما من أكابر الأمراء،
499 فلما أراد القبض عليه لم يقدم على ذلك لقوة مجاهد الدين فأظهر أنه مريض وانقطع عن الركوب عدة أيام فدخل إليه مجاهد الدين وحده وكان خصيا لا يمتنع من الدخول على النساء فلما دخل عليه قبض عليه وركب لوقته إلى القلعة فاحتوى على الأموال التي لمجاهد الدين وخزائنه وولى زلفندار قلعة الموصل بعد مجاهد الدين وجعل ابن صاحب الغراف أمير حاجب وحكمهما في دولته. وكان تحت حكم مجاهد الدين حينئذ إربل وأعمالها ومعه فيها زين الدين علي وهو صبي صغير ليس له من الحكم شيء والحكم والعسكر إلى مجاهد الدين وتحت حكمه أيضا جزيرة ابن عمر وهي لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود وهو أيضا صبي والحكم والنواب والعسكر لمجاهد الدين وبيده أيضا شهرزور وأعمالها ونوابه فيها ودقوقا ونائبه فيها وقلعة عقر الحميدية ونائبه فيها ولم يبق لعز الدين مسعود بعد أن أخذ صلاح الدين [البلاد] الجزرية سوى الموصل وقلعتها بيد مجاهد الدين وهو على الحقيقة الملك واسمه عز الدين فلما قبض عليه امتنع صاحب إربل من طاعة عز الدين واستبد وكذلك أيضا صاحب جزيرة ابن عمر وأرسل الخليفة إلى دقوقا فحضرها وأخذها ولم يحصل لعز الدين مسعود غير شهرزور والعقر وصارت إربل والجزيرة أضر شيء على صاحب الموصل وأرسل صاحبها إلى صلاح الدين بالطاعة له والكون في خدمته. وكان الخليفة الناصر لدين الله قد أرسل صدر الدين شيخ الشيوخ ومعه بشير الخادم الخاص إلى صلاح الدين في الصلح مع عز الدين صاحب الموصل وسير عز الدين معه القاضي محيي الدين أبا حامد بن الشهرزوري في المعنى فأجاب صلاح الدين إلى ذلك وقال ليس لكم مع الجزيرة وإربل حديث؛
500 فامتنع محيي الدين عن ذلك وقال هما لنا فلم يجب صلاح الدين إلى الصلح إلا بأن تكون إربل والجزيرة معه فلم يتم أمره وقوي طمع صلاح الدين في الموصل بقبض مجاهد الدين فلما رأى صاحب الموصل الضرر بقبض مجاهد الدين قبض على شرف الدين أحمد بن صاحب الغراف وزلفندار عقوبة لهما ثم أخرج مجاهد الدين على ما نذكره إن شاء الله. ذكر غزو بيسان لما فرغ صلاح الدين من أمر حلب جعل فيها ولده الملك الظاهر غازي وهو صبي وجعل معه الأمير سيف الدين يازكج وكان أكبر الأمراء الأسدية وسار إلى دمشق وتجهز للغزو ومعه عساكر الشام والجزيرة وديار بكر وسار إلى بلد الفرنج فعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من السنة فرأى أهل تلك النواحي قد فارقوها خوفا فقصد بيسان فأحرقها وخربها وأغار على ما هناك فاجتمع الفرنج وجاؤوا إلى قبالته فحين رأوا كثرة عساكره لم يقدموا عليه فأقام عليهم وقد استندوا إلى جبل هناك وخندقوا عليهم فأحاط بهم وعساكر الإسلام ترميم بالسهام وتناوشهم القتال فلم يخرجوا وأقاموا كذلك خمسة أيام وعاد المسلمون عنهم سابع عشر الشهر لعل الفرنج يطمعون ويخرجون فيستدرجونهم ليبلغوا منهم غرضا فلما رأى الفرنج ذلك لم يطمعوا أنفسهم في غير السلامة. وأغار المسلمون على تلك الأعمال يمينا وشمالا ووصلوا فيها إلى ما لم يكونوا يطمعون في الوصول اليه والإقدام عليه فلما كثرت الغنائم معهم
501 رأوا العود إلى بلادهم بما غنموا مع الظفر أولى فعادوا إلى بلادهم على عزم الغزو. ذكر غزو الكرك وملك العادل حلب لما عاد صلاح الدين والمسلمون من غزوة بيسان تجهزوا لغزو الكرك فسار اليه في العساكر وكتب إلى أخيه العادل أبي بكر بن أيوب وهو نائبه بمصر يأمره بالخروج بجميع العساكر إلى الكرك وكان العادل قد أرسل إلى صلاح الدين يطلب منه مدينة حلب وقلعتها فأجابه إلى ذلك وأمره أن يخرج معه بأهله وماله فوصل صلاح الدين إلى الكرك في رجب ووفاه أخوه العادل في العسكر المصري وكثر جمعه وتمكن من حصره [وصعد] معه المسلمون إلى ربضه وملكه وحصر الحصن من الربض وتحكم عليه في القتال ونصب عليه سبع منجنيقات لا تزال ترمي بالحجارة ليلا ونهارا. وكان صلاح الدين يظن ان الفرنج لا يمكنونه من حصر الكرك وانهم يبذلون جهدهم في رده عنه فلم يستصحب معه من آلات الحصار ما يكفي لمثل ذلك الحصن العظيم والمعقل المنيع فرحل عنه منتصب شعبان وسير تقي الدين ابن أخيه إلى مصر نائبا عنه ليتولى ما كان اخوه العادل يتولاه واستصحب أخاه العادل معه إلى دمشق وأعطاه مدينة حلب وقلعتها وأعمالها ومدينة منبج وما يتعلق بها وسيره إليها في شهر رمضان من السنة وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق.
502 ذكر عدة حوادث في هذه السنة فتح الرباط الذي بنته أم الخليفة بالمأمونية. وفيها في ذي الحجة توفي مكرم بن بختيار أبو الخير الزاهد ببغداد روى الحديث وكان كثير البكاء. وفي جمادى الآخرة توفي محمد بن بختيار بن عبد الله أبو عبد المولد الشاعر ويعرف بالأبله فمن جملة شعره: (أراق دمعي لا بل أراق دمي * ظلما بظلم من ريقه الشم) (ذو قامة كالقضيب ناضرة * وناظر من سقامه سقمي) (حصلت من وعده على أصدق * الوعد ومن وصله على التهم)
503 580 ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة ذكر إطلاق مجاهد الدين من الحبس وانهزام العجم في هذه السنة في المحرم أطلق أتابك عز الدين صاحب الموصل مجاهد الدين قايماز من الحبس بشفاعة شمس الدين البهلوان صاحب همذان وبلاد الجبل وسيره إلى البهلوان وأخيه قزل يستنجدهما على صلاح الدين فسار إلى قزل أولا وهو صاحب أذربيجان فلم يمكنه من المضي إلى البهلوان وقال مهما تختاره أنا أفعله وجهز معه عسكرا كثيرا نحو ثلاثة آلاف فارس وساروا نحو إربل ليحصروها فلما قاربوها أفسدوا في البلاد وخربوها ونهبوا وسبوا وأخذوا النساء قهرا ولم يقدر مجاهد الدين على منعهم فسار إليهم زين الدين يوسف صاحب إربل في عسكره فلقيهم وهم متفرقون في القرى ينهبون ويحرقون فانتهز الفرصة فيهم بتفرقهم وألقى بنفسه وعسكره على أول من لقيه منهم فهزمهم وتمت الهزيمة على الجميع وغنم الأربليون أموالهم ودوابهم وسلاحهم وعاد العجم إلى بلادهم منهزمين وعاد صاحب إربل إلى بلده مظفرا غانما وعاد مجاهد الدين إلى الموصل فكان يحكي أنني ما زلت انتظر العقوبة من الله تعالى على سوء أفعال العجم فإنني رأيت منهم ما لا كنت أظنه يفعله مسلم بمسلم وكنت أنهاهم فلا يسمعون حتى كان من الهزيمة ما كان.
504 ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن وولاية ابنه يعقوب في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى بلاد الأندلس وجاز البحر إليها في جمع عظيم من عساكر المغرب فإنه جمع وحشد الفارس والراجل فلما عبر الخليج قصد غربي البلاد فحصر مدينة شنترين وهي للفرنج شهرا فأصابه بها مرض فمات منه في ربيع الأول وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية من الأندلس. وكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهرا ومات عن غير وصية بالملك لأحد من أولاده فاتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فملكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو فقام في ذلك أحسن قيام وأقام راية الجهاد وأحسن السيرة في الناس وكان دينا مقيما للحدود في الخاص والعام فاستقامت له الدولة وانقادت إليه بأسرها مع سعة أقطارها ورتب ثغور الأندلس وشحنها بالرجال ورتب المقاتلة في سائر بلادها وأصلح أحوالها وعاد إلى مراكش. وكان أبوه يوسف حسن السيرة وكان طريقه ألين من طريق أبيه مع الناس يحب العلماء ويقربهم ويشاورهم وهم أهل خدمته وخاصته وأحبه الناس ومالوا إليه وأطاعه من البلاد ما امتنع على أبيه وسلك في جباية الأموال ما كان أبوه يأخذه ولم يتعده إلى غيره واستقامت له البلاد بحسن فعله مع أهلها ولم يزل كذلك إلى أن توفي رحمه الله تعالى.
505 ذكر غزو صلاح الدين الكرك في هذه السنة في ربيع الآخر سار صلاح الدين من دمشق يريد الغزو وجمع عساكره فأتته من كل ناحية وممن أتاه نور الدين محمد بن فرا أرسلان صاحب الحصن وكتب إلى مصر ليحضر عسكرها عنده على الكرك فنازل الكرك وحصره وضيق على من به وأمر بنصب المنجنيقات على ربضه واشتد القتال فملك المسلمون الربض وبقي الحصن وهو والربض على سطح جبل واحد إلا ان بينهما خندقا عظيما عمقه نحو ستين ذراعا فأمر صلاح الدين بإلقاء الأحجار والتراب فيه ليطمه فلم يقدر أحد على الدنو منه لكثرة الرمي عليهم بالسهام من الجرخ والقوس والأحجار من المنجنيقات فأمر أن يبنى بالأخشاب واللبن ما يمكن الرجال يمشون تحت السقائف ويلقون في الخندق ما يطمه ومنجنيقات المسلمين مع ذلك ترمي الحصن ليلا ونهارا. وأرسل من فيه من الفرنج إلى ملكهم وفرسانهم يستمدونهم ويعرفونهم عجزهم وضعفهم عن حفظ الحصن فاجتمعت الفرنج عن آخرها وساروا إلى نجدتهم عجلين فلما بلغ الخبر بمسيرهم إلى صلاح الدين رحل عن الكرك إلى طريقهم ليلقاهم ويصاففهم ويعود بعد أن يهزمهم إلى الكرك فقرب منهم وخيم ونزل ولم يمكنه الدنو منهم لخشونة الأرض وصعوبة المسلك إليهم وضيقه فأقام أياما ينتظر خروجهم من ذلك المكان ليتمكن منهم فلم يبرحوا منه خوفا على نفوسهم فلما رأى ذلك رحل عنهم عدة فراسخ وجعل بإزائهم من يعلمه بمسيرهم فساروا ليلا إلى الكرك فلما علم صلاح الدين ذلك علم أنه لا يتمكن حينئذ ولا يبلغ غرضه فسار إلى مدينة نابلس ونهب كل ما على طريقه من البلاد فلما وصل إلى نابلس
506 أحرقها وخربها وقتل فيها وأسر وسبى فأكثر وسار عنها إلى سبسطية وبها مشهد زكريا عليه السلام وبها كنيسة وبها جماعة أسرى من المسلمين فاستنقذهم ورحل إلى جينين فنهبها وخربها وعاد إلى دمشق ونهب ما على طريقه وخربه وبث السرايا في طريقه يمينا وشمالا يغنمون ويخربون ووصل إلى دمشق. ذكر ملك الملثمين بجاية وعودها إلى أولاد عبد المؤمن في هذه السنة في شعبان خرج علي بن اسحق المعروف بابن غانية وهو من أعيان الملثمين الذين كانوا في المغرب وهو حينئذ صاحب جزيرة ميورقة إلى بجاية فملكها وسبب ذلك أنه لما سمع بوفاة يوسف بن عبد المؤمن عمر أسطوله فكان عشرين قطعة وسار في جموعه فأرسى في ساحل بجاية وخرجت خيله ورجاله من الشواني فكانوا نحو مائتي فارس من الملثمين وأربعة آلاف راجل فدخل مدينة بجاية بغير قتال لأنه اتفق أن واليها سار عنها قبل ذلك بأيام إلى مراكش ولم يترك فيها جيشا ولا ممانعا لعدم عدو يحفظها منه فجاء الملثم ولم يكن في حسابهم أنه يحدث نفسه بذلك فأرسى بها ووافقه جماعة من بقايا دولة بني حماد وصاروا معه فكثر جمعه بهم وقويت نفسه فسمع خبره والي بجاية فعاد من طريقه ومعه من الموحدين ثلاثمائة فارس فجمع من العرب والقبائل الذين في تلك الجهات نحو ألف فارس فسمع بهم وبقربهم منه فخرج إليهم وقد صار معه قدر ألف فارس وتوافقوا ساعة فانضاف جميع الجموع التي كانت مع والي بجاية إلى الملثم فانهزم حينئذ والي بجاية ومن معه من الموحدين وساروا إلى مراكش وعاد الملثم فجمع جيشه وخرج إلى أعمال بجاية فأطاعه جميعها إلا قسطنطينية الهوى فحصرها إلى أن جاء
507 جيش من الموحدين من مراكش في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة إلى بجاية من البر والبحر وكان بها يحيى وعبد الله أخو علي بن إسحاق الملثم فخرجا منها هاربين ولحقا بأخيهما فرحل عن القسطنطينية وسار إلى إفريقية وكان سبب إرسال الجيش من مراكش أن والي بجاية وصل إلى يعقوب بن يوسف صاحب المغرب وعرفه ما جرى ببجاية واستيلاء الملثمين عليها وخوفه عاقبة التواني فجهز العساكر في البر عشرين ألف فارس وجهز الأسطول في البحر في خلق كثير واستعادوها. ذكر وفاة صاحب ماردين وملك ولده في هذه السنة مات قطب الدين إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين وملك بعده ابنه حسام الدين بولق أرسلان وهو طفل وقام بتربيته وتدبير مملكته نظام الدين البقش مملوك أبيه وكان شاه أرمن صاحب خلاط خال قطب الدين فحكم في دولته وهو رتب البقش مع ولده وكان البقش دينا خيرا عادلا حسن السيرة سليما فأحسن تربية الولد وتزوج أمه فلما كبر الولد لم يمكنه النظام من مملكته لخبط وهوج كان فيه وكان لنظام الدين هذا مملوك اسمه لؤلؤ قد تحكم في دولته وحكم فيها فكان يحمل النظام على ما يفعله مع الولد ولم يزل الأمر كذلك إلى أن مات الولد وله أخ أصغر منه لقبه طب الدين فربته النظام في الملك وليس له منه إلا الاسم والحكم إلى النظام ولؤلؤ فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة فمرض النظام
508 البقش فأتاه قطب الدين يعوده فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ وضربه قطر الدين بسكين معه فقتله ثم دخل إلى النظام وبيده السكين فقتله أيضا وخرج وحده ومعه غلام له وألقى الرأسين إلى الأجناد وكانوا كلهم قد أنشأهم النظام ولؤلؤ فأذعنوا له بالطاعة فلما تمكن أخرج من أراد وترك من أراد واستولى على قلعة ماردين وأعمالها وقلعة البارعية وصور وهو إلى الآن حاكم فيها حازم في أفعاله. ذكر عدة حوادث وفي هذه السنة توفي صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحمن بن شيخ الشيوخ إسماعيل بن شيخ الشيوخ أبي سعيد احمد في شعبان وكان قد سار في ديوان الخلافة رسولا إلى صلاح الدين معه شهاب الدين بشير الخادم في معنى الصلح بينه وبين عز الدين صاحب الموصل فوصل دمشق وصلاح الدين يحصر الكرك فأقام إلى أن عاد فلم يستقر في الصلح أمر ومرضا وطلبا العودة إلى العراق فأشار عليهما صلاح الدين بالمقام إلى أن يصطلحا فلم يفعلا وسارا في الحر فمات بشير بالسحنة. ومات صدر الدين بالرحبة ودفن بمشهد البوق وكان واحد زمانه قد جمع بين رياسة الدين والدنيا وكان ملجأ لكل خائف صالحا كريما حليما وله مناقب كثيرة ولم يستعمل قي مرضه هذا دواء توكلا على الله تعالى. وفيها توفي عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي الفقيه الشافعي، رئيس أصفهان، وكان موته بباب همذان وقد عاد من الحج وله شعر فمنه: (بالحمى دار ساقها مدمعي * يا سقى الله الحمى من مربع)
509 (ليت شعري والأماني ضلة * هل إلى وادي الغضى من مرجع) (أذنت علوة للواشي بنا * ما على علوة لو لم تسمع) (أو تحرت رشدا فيما وشى * أو عفت عني فما قلبي معي) رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.
510 581 ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة ذكر حصر صلاح الدين الموصل ورحيله عنها لوفاة شاه أرمن في هذه السنة حصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الموصل مرة ثانية وكان مسيره من دمشق في ذي القعدة من السنة الماضية فوصل إلى حلب وأقام بها إلى أن خرجت السنة وسار منها فعبر إلى أرض الجزيرة فلما وصل حران قبض على مظفر الدين كوكبري بن زين الدين الذي كان سبب ملكه الديار الجزرية. وسبب قبضه عليه أن مظفر الدين كان يراسل صلاح الدين كل وقت ويشير عليه بقصد الموصل ويحسن له ذلك ويقوي طمعه حتى انه بذل له إذا سار إليها خمسين ألف دينار فلما وصل صلاح الدين إلى حران لم يف له بما بذل من المال وأنكر ذلك فقبض عليه ووكل به ثم أطلقه وأعاد إليه مدينتي حران والرها وكان قد أخذها منه وإنما أطلقه لأنه خاف انحراف الناس عنه بالبلاد الجزرية لأنهم كلهم علموا بما اعتمده مظفر الدين معه من تمليك البلاد فأطلقه. وسار صلاح الدين عن حران في ربيع الأول فحضر عنده عساكر الحصن ودارا ومعز الدين سنجر شاه صاحب الجزيرة وهو ابن أخي عز الدين صاحب الموصل وكان قد فارق طاعة عمه بعد قبض مجاهد الدين وسار مع صلاح الدين إلى الموصل فلما وصل إلى مدينة بلد سير أتابك
511 عز الدين والدته إلى صلاح الدين ومعها ابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي وغيرهما من النساء وجماعة من أعيان الدولة يطلبون منه المصالحة وبذلوا له الموافقة والأنجاد بالعساكر ليعود عنهم وإنما أرسلهن لأنه وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك لا سيما ومعهم ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين فلما وصلن إليه أنزلهن وأحضر أصحابه واستشارهم فيما يفعله ويقوله فأشار أكثرهم بإجابتهن إلى ما طلبن منه؛ وقال له الفقيه عيسى وعلي بن أحمد المشطوب وهما من بلد الهكارية من أعمال الموصل مثل الموصل لا يترك لامرأة فإن عز الدين ما أرسلهن إلا وقد عجز عن حفظ البلد. ووافق ذلك هواه فأعادهن خائبات واعتذر بأعذار غير مقبولة ولم يكن إرسالهم عن ضعف ووهن إنما أرسلهن طلبا لدفع الشر بالتي هي أحسن فلما عدن رحل صلاح الدين إلى الموصل وهو كالمتيقن أنه يملك البلد وكان الأمر بخلاف ذلك فلما قارب البلد نزل على فرسخين منه وامتد عسكره في تلك الصحراء بنواحي الحلة المراقية وكان يجري بين العسكر مناوشات بظاهر الباب العمادي وكنت إذ ذاك بالموصل وبذل العامة نفوسهم غيظا وحنقا لرده النساء فرأى صلاح الدين ما لم يكن يحسبه فندم على رده النساء ندامة الكسعي حيث فاته الذكر وملك البلد وعاد على الذين أشاروا بردهن باللوم والتوبيخ. وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره ممن ليس له هوى في الموصل يقبحون فعله وينكرونه وأتاه وهو على الموصل زين الدين يوسف ابن زين الدين صاحب إربل فأنزله ومعه أخوه مظفر كوكبري وغيرهما من الأمراء بالجانب الشرقي من الموصل وسير من المنزلة علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجزيرة من بلد الهكارية فحصرها واجتمع
512 عليه من الأكراد والهكارية كثير وبقي هناك إلى أن رحل صلاح الدين عن الموصل. وكان عامة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر ويعودون ولما كان صلاح الدين يحاصر الموصل بلغ أتابك عز الدين صاحبها أن نائبه بالقلعة يكاتبه فمنعه من الصعود إلى القلعة وعاد يقتدي برأي مجاهد الدين وكان قد أخرجه كما ذكرناه ويصدر عن رأيه وضبط الأمور وأصلح ما كان فسد من الأحوال حتى آل الأمر إلى الصلح على ما نذكره إن شاء الله. وحضر عند صلاح الدين إنسان بغدادي أقام بالموصل ثم خرج إلى صلاح الدين فأشار عليه بقطع دجلة عن الموصل إلى ناحية نينوى وقال إن دجلة إذا نقلت عن الموصل عطش أهلها فملكناها بغير قتال فظن صلاح الدين ان قوله صدق فعزم على ذلك حتى علم أنه لا يمكن قطعه بالكلية فإن المدة تطول والتعب يكثر ولا فائدة وراءه وقبحه عنده أصحابه فأعرض عنه. وأقام بمكانه من أول ربيع الآخرة إلى أن قارب آخره ثم رحل عنها إلى ميافارقين. وكان سبب ذلك أن شاه أرمن صاحب خلاط توفي بها تاسع ربيع الآخر فوصل الخبر بوفاته في العشرين منه فعزم على الرحيل إليها وتملكها حيث إن شاء أرمن لم يخلف ولدا ولا أحدا من أهل بيته يملك بلاده بعده وإنما قد استولى عليها مملوك اسمه بكتمر ولقبه سيف
513 الدين، فاستشار صلاح الدين أمراءه ووزراءه فاختلفوا فأما من هواه بالموصل فيشير بالمقام وملازمة الحصار لها وأما من يكره أذى البيت الأتابكي فإنه أشار بالرحيل وقال إن ولاية خلاط أكبر وأعظم وهي سائبة لا حافظ لها وهذه لها سلطان يحفظها ويذب عنها وإذا ملكنا تلك سهل أمر هذه وغيرها فتردد في أمره فاتفق أنه جاءه كتب جماعة من أعيان خلاط من أهلها وأمرائها يستدعونه ليسلموا اليه البلد فسار عن الموصل وكانت مكاتبة من كآبة خديعة ومكرا فإن شمس الدين البهلوان بن إيلدكز صاحب أذربيجان وهمذان وتلك المملكة قد قصدهم ليأخذ البلاد منهم وكان قبل ذلك قد زوج شاه أرمن على كبر بنتا له ليجعل ذلك طريقا إلى ملك خلاط وأعمالها فلما بلغهم مسيره إليهم كاتبوا صلاح الدين يستدعونه إليهم ليسلموا البلد اليه ليدفعوا به البهلوان ويدفعوه بالبهلوان وتبقى البلد بأيديهم فسار صلاح الدين وسير في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد ابن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما فساروا إلى خلاط ونزلوا بطوانة بالقرب من خلاط وسار صلاح الدين إلى ميافارقين وأما البهلوان فإنه سار إلى خلاط ونزل قريبا منها وترددت رسل أهل خلاط بينهم وبينه وبين صلاح الدين ثم انهم اصلحوا أمرهم مع البهلوان وصاروا من حزبه وخطبوا له. ذكر وفاة نور الدين صاحب الحصن في هذه السنة توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود صاحب الحصن وآمد لما كان صلاح الدين على الموصل، وخلف ابنين، فملك
514 الأكبر منهما واسمه سقمان ولقبه قطب الدين وتولى تدبير الأمور وزيره القوام بن سماقا الأسعردي. وكان عماد الدين بن قرا أرسلان قد سيره أخوه نور الدين في عساكره إلى صلاح الدين وهو يحاصر الموصل وهو معه فلما بلغه خبر وفاة أخيه سار ليملك البلاد بعده لصغر أولاده فتعذر عليه ذلك فسار إلى خرت برت فملكها وهي بيد أولاده إلى سنة عشرين وستمائة ولما حضر صلاح الدين ميافارقين حضر عنده ولد نور الدين فأقره على ملك أبيه ومن جملته آمد وكانوا خافوا أن يأخذها منهم فلم يفعل وردهم إلى بلادهم وشرط عليهم أن يراجعوه فيما يفعلونه ويصدون عن أمره ونهيه ورتب معه أميرا لقبه صلاح الدين من أصحاب أبيه. ذكر ملك صلاح الدين ميافارقين لما سار صلاح الدين إلى خلاط جعل طريقه على ميافارقين مطمع ملكها حيث كان صاحبه قطب الدين صاحب ماردين قد توفي كما ذكرنا وملك بعده ابنه وهو طفل وكان حكمها إلى شاه أرمن وعسكره فيها فلما توفي طمع في أخذها فلما نازلها رآها مشحونة بالرجال وبها زوجة قطب الدين المتوفى ومعها بنات لها منه وهي أخت نور الدين محمد صاحب الحصن فأقام صلاح الدين عليها يحصرها من أول جمادى الأولى. وكان المقدم على أجنادها أمير اسمه يرنقش، ولقبه أسد الدين، وكان
515 شجاعا شهما، يحفظ البلد، فأحسن إليه واشتد القتال عليه ونصب المنجنيقات والعرادات فلم يصل صلاح الدين إلى ما يريد منها فلما رأى ذلك عدل من القوة والحرب إلى إعمال الحيلة فراسل امرأة قطب الدين المقيمة بالبلد يقول لها إن أسد الدين يرنقش قد مال إلينا في تسليم البلد ونحن نرعى حق أخيك نور الدين فيك بعد وفاته ونريد [أن] يكون لك في هذا الأمر نصيب وأنا أزوج بناتك لأولادي وتكون ميافارقين وغيرها لك وبحكمك ووضع من أرسل إلى الأسد يعرفه أن الخاتون قد مالت للمقاربة والانقياد إلى السلطان وأن من بخلاط قد كاتبوه ليسلموا إليه فخذ لنفسك. واتفق أن رسولا وصله من خلاط يبذلون له الطاعة وقالوا له من الاستدعاء إليهم ما كانوا يقولونه فأمر صلاح الدين الرسول فدخل إلى ميافارقين وقال للأسد أنت عمن تقاتل وأنا قد جئت في تسليم خلاط إلى صلاح الدين فسقط في يده وضعف قوته وأرسل يقترح أقطاعا ومالا فأجيب إلى ذلك وسلم البلد جمادى الأولى وعقد النكاح لبعض أولاده على بعض بنات خاتون وأقر بيدها قلعة الهتاخ لتكون فيها هي وبناتها. ذكر عود صلاح الدين إلى بلد الموصل والصلح بينه وبين أتابك عز الدين لما فرغ صلاح الدين من أمر ميافارقين وأحكم قواعدها وقرر إقطاعاتها وولاياتها أجمع على العود إلى الموصل فسار نحوها وجعل طريقه
516 على نصيبين، فوصل إلى كفر زمار والزمان شتاء فنزلها في عساكره وعزم على المقام بها وإقطاع جميع بلاد الموصل وأخذ غلاتها ودخلها وإضعاف الموصل بذلك إذ علم أنه لا يمكنه التغلب عليها وكان نزوله في شعبان وأقام بها شعبان ورمضان وترددت الرسل بينه وبين عز الدين صاحب الموصل وصار مجاهد الدين يراسل ويتقرب وكان قوله مقبولا عند سائر الملوك لما علموا من صحته. فبينما الرسل تتردد في الصلح إذ مرض صلاح الدين وسار مع كفر زمار وعاد إلى حران فلحقه الرسل بالإجابة إلى ما طلب فتقرر الصلح وحلف على ذلك وكانت القاعدة ان يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية القرابلي وجميع ما وراء الزاب من أعمال وأن يخطب له على منابر بلاده ويضرب اسمه على السكة فلما حلف أرسل رسله فحلف عز الدين له وتسلم البلاد التي استقرت القاعدة على تسليمها. ووصل صلاح الدين إلى حران فأقام بها مريضا وأمنت الدنيا وسكنت الدهماء وانحسمت مادة الفتن وكان ذلك بتوصل مجاهد الدين قايماز رحمه الله. وأما صلاح الدين فإنه طال مرضه بحران وكان عنده من أهله أخوه الملك العادل وله حينئذ حلب وولده الملك العزيز عثمان واشتد مرضه حتى أيسوا من عافيته فحلف الناس لأولاده وجعل لكم منهم شيئا من البلاد معلوما وجعل أخاه العادل وصيا على الجميع ثم إنه عوفي وعاد إلى دمشق في المحرم سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. ولما كان مريضا بحران كان عنده ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه،
517 وله من الأقطاع حمص والرحبة فسار من عنده إلى حمص فاجتاز بحلب واحضر جماعة من الدمشقيين وواعدهم على تسليم البلد إليه إذا مات صلاح الدين وأقام بحمص ينتظر موته ليسير إلى دمشق فيملكها فعوفي وبلغه الخبر على جهته فلم يمض غير قليل حتى مات ابن شيركوه ليلة عيد الأضحى فإنه شرب الخمر وأكثر منه فأصبح ميتا فذكروا والعهدة عليهم أن صلاح الدين وضع إنسانا يقال له الناصح بن العميد وهو من دمشق فحضر عنده ونادمه وسقاه سما فلما أصبحوا من الغد لم يروا الناصح فسألوا عنه فقيل إنه سار من ليلته إلى صلاح الدين فكان هذا مما قوى الظن فلما توفي أعطى أقطاعه لولده شيركوه وعمره اثنتا عشرة سنة وخلف ناصر الدين من الأموال والخيل والآلات شيئا كثيرا فحضر صلاح الدين في حمص واستعرض تركته وأخذ أكثرها ولم يترك إلا ما لا خير فيه. وبلغني أن شيركوه بن ناصر الدين حضر عند صلاح الدين بعد موت أبيه بسنة فقال له إلى أين بلغت من القرآن فقال إلى قوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) فعجب صلاح الدين والحاضرون من ذكائه.
518 ذكر الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل في هذه السنة ابتدأت الفتنة بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان وقتل فيها من الخلق ما لا يحصى ودامت عدة سنين وتقطعت الطرق ونهبت الأموال وأريقت الدماء. وكان سببها أن امرأة من التركمان تزوجت بإنسان تركماني واجتازوا في طريقهم بقلعة من الزوزان الأكراد فجاد أهلها وطلبوا من التركمان وليمة العرس فامتنعوا من ذلك وجرى بينهم كلام صاروا منه إلى القتال فنزل صاحب تلك القلعة فأخذ الزوج فقتله فهاجت الفتنة وقام التركمان على ساق وقتلوا جمعا كثيرا من الأكراد وثار الأكراد فقتلوا من التركمان أيضا كذلك وتفاقم الشر ودام. ثم إن مجاهد الديار قايماز رحمه الله جمع عنده جمعا من رؤساء الأكراد والتركمان وأصلح بينهم وأعطاهم الخلع والثياب وغيرها وأخرج عليهم مالا جما فانقطعت الفتنة وكفى الله شرها وعادوا إلى ما كانوا عليه من الطمأنينة والأمان. ذكر ملك الملثمين والعرب إفريقية وعودها إلى الموحدين قد ذكرنا سنة ثمانين ملك علي بن اسحق الملثم بجاية ولإرسال يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن العساكر واستعادتها، فسار علي إلى
519 إفريقية. فلما وصل إليها اجتمع سليم ورياح ومن هناك من العرب وانضاف إليهم الترك الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع شرف الدين قراقوش وقد تقدم ذكر وصوله إليها ودخل أيضا من أتراك مصر مملوك لتقي الدين ابن أخي صلاح الدين اسمه بوزابة فكثر جمعهم وقويت شوكتهم فلما اجتمعوا بلغت عدتهم مبلغا كثيرا وكلهم كاره لدولة الموحدين واتبعوا جميعهم علي ابن أسحق الملثم لأنه من بيت المملكة والرياسة القديمة وانقادوا إليه ولقبوه بأمير المسلمين وقصدوا بلاد إفريقية فملكوها جميعها شرقا وغربا إلا مدينتين تونس والمهدية فإن الموحدين أقاموا بها وحفظوها على خوف وضيق وشدة وانضاف إلى المفسد الملثم كل مفسد في تلك الأرض ومن يريد الفتنة والنهب والفساد والشر فخربوا البلاد والحصون والقرى وهتكوا الحرم وقطعوا الأشجار. وكان الوالي على إفريقية حينئذ عبد الواد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يعلمه الحال، وقصد الملثم جزيرة باشرا وهي بقرب تونس تشتمل على قرى كثيرة فنازلها وأحاط بها فطلب أهلها منه الأمان فأمنهم فلما دخلها العسكر نهبوا جميع ما فيها من الأموال والدواب والغلات وسلبوا الناس حتى ثيابهم وامتدت الأيدي إلى النساء والصبيان وتركوهم هلكى فقصدوا مدينة تونس فأما الأقوياء فكانوا يخدمون ويعملون ما يقوم بقوتهم وأما الضعفاء فكانوا يستعطون ويسألون الناس ودخل عليهم فصل الشتاء،
520 فأهلكهم البرد ووقع فيهم الوباء فأحصي الموتى منهم فكانوا اثني عشر ألفا هذا من وضع واحد فما الظن بالباقي؟ ولما استولى الملثم على إفريقية قطع خطبة أولاد عبد المؤمن وخطب للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي وأرسل إليه يطلب الخلع والأعلام السود وقصد في سنة اثنتين وثمانين [خمسمائة] مدينة قفصة فحصرها فأخرج أهلها الموحدين من عساكر ولد عبد المؤمن وسلموها إلى الملثم فرتب فيها جندا من الملثمين والأتراك وحصنها بالرجال مع حصانتها في البناء. وأما يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فإنه لما وصله الخبر اختار من عساكره عشرين ألف فارس من الموحدين وقصد قلة العسكر لقلة القوت في البلاد ولما جرى فيها من التخريب والأذى وسار في صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فوصل إلى مدينة تونس وأرسل ستة آلاف فارس مع ابن أخيه فساروا إلى علي بن اسحق الملثم ليقاتلوه وكان بقفصة فوافوه وكان مع الموحدين جماعة من الترك فخامروا عليهم فانهزم الموحدون وقتل جماعة من مقدميهم وكان ذلك في ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين. فلما بلغ يعقوب الخبر أقام بمدينة تونس إلى نصف رجب من السنة ثم خرج فيمن معه من العساكر يطلب الملثم والأتراك فوصل إليهم فالتقوا بالقرب من مدينة قابس واقتتلوا فانهزم الملثم ومن معه فأكثر الموحدون القتل حتى كادوا يفنونهم فلم ينج منهم إلا القليل فقصدوا البر ورجع يعقوب من يومه إلى قابس ففتحها وأخذ منها أهل قراقوش وأولاده وحملهم إلى مراكش وتوجه إلى مدينة الترك الذين فيها يطلبون الأمان لأنفسهم ولأهل
521 البلد، فأجابهم إلى ذلك وخرج الأتراك منها سالمين وسير الأتراك إلى الثغور لما رأى من شجاعتهم ونكايتهم في العدو وتسلم يعقوب البلد وقتل من فيه من الملثمين وهدم أسواره وترك المدينة مثل قرية وظهر ما أنذر به المهدي بن تومرت فإنه قال إنها تخرب أسوارها وتقطع أشجارها وقد تقدم ذكر ذلك فلما فرغ يعقوب من أمر قفصة واستقامت إفريقية عاد إلى مراكش وكان وصوله إليها سنة أربع وثمانين وخمسمائة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة فارق الرضى أبو الخير إسماعيل القزويني الفقيه الشافعي بغداد وكان مدرس النظامية بها وعاد إلى قزوين ودرس فيها بعده الشيخ أبو طالب المبارك صاحب ابن الخل وكان من العلماء الصالحين. وفيها كان بين أهل الكرخ ببغداد وبين أهل باب البصرة فتنة عظيمة جرح فيها كثير منهم وقتل ثم أصلح النقيب الظاهر بينهم. وفيها توفي الفقيه مهذب الدين عبد الله بن أسعد الموصلي وكان عالما بمذهب الشافعي وله نظم ونثر أجاد فيه وكان من محاسن الدنيا وكانت وفاته بحمص.
522 582 ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ذكر نقل العادل من حلب والملك العزيز إلى مصر وإخراج الأفضل من مصر إلى دمشق وإقطاعه إياها في هذه السنة أخرج صلاح الدين ولده الأفضل علي من مصر إلى دمشق وأقطعها له وأخذ حلب من أخيه العادل وسيره مع ولده العزيز عثمان إلى مصر وجعله نائبا عنه واستدعى تقي الدين منها. وسبب ذلك أنه كان قد استناب تقي الدين بمصر كما ذكرناه وجعل معه ولده الأكبر الأفضل علي فأرسل تقي الدين يشكو من الأفضل ويذكر أنه قد عجز عن جباية الخراج معه لأنه كان حليما كريما إذا أراد تقي الدين معاقبة أحد منعه فأحضر ولده الأفضل وقال لتقي الدين لا تحتج في الخراج وغيره بحجة وتغير عليه بذلك وظن أنه يريد إخراج ولده الأفضل ينفرد بمصر حتى يملكها إذا مات صلاح الدين فلما قوي هذا الخاطر عنده أحضر أخاه العادل من حلب سيره إلى مصر ومعه ولده العزيز عثمان واستدعى تقي الدين إلى الشام فامتنع من الحضور وجمع الأجناد والعساكر ليسير إلى مملوكه قراقوش وكان قد استولى على جبال نفوسه
523 وبرقة وغيرها وقد كتب إليه برغبة في تلك [البلاد]، فتجهز للمسير إليه، واستصحب معه أنجاد العسكر وأكثر منهم. فلما سمع ذلك صلاح الدين ساءه وعلم أنه إن أرسل إليه يمنعه لم يجبه فأرسل إليه يقول له أريد أن تحضر عندي لأودعك وأوصيك بما تفعله فلما حضر عنده منعه وزاد في أقطاعه فصار إقطاعه حماة ومنبج والمعرة وكفر طاب وميافارقين وجبل جور بجميع أعمالها وكان تقي الدين قد سير في مقدمته مملوكه بوزابة فاتصل بقراقوش وكان منهم ما ذكرناه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وقد بلغني من خبير بأحوال صلاح الدين أنه إنما حمله على أخذ حلب من العادل وإعادة تقي الدين إلى الشام أن صلاح الدين لما مرض بحران على ما ذكرناه أرجف بمصر أنه قد مات فجرى من تقي الدين حركات من يريد [أن] يستبد بالملك فلما عوفي صلاح الدين بلغه ذلك فأرسل الفقيه عيسى الهكاري وكان كبير القدر عنده مطاعا في الجند إلى مصر وأمره بإخراج تقي الدين والمقام بمصر فسار مجدا فلم يشعر تقي الدين إلا وقد دخل الفقيه عيسى إلى داره بالقاهرة وأرسل إليه يأمره الخروج منها فطلب أن يمهل إلى أن يتجهز فلم يفعل وقال تقيم خارج [المدينة] وتتجهز فخرج وأظهر أنه يريد الدخول إلى الغرب فقال له اذهب حيث شئت فلما سمع صلاح الدين الخبر أرسل إليه يطلبه فسار إلى الشام فأحسن إليه ولم يظهر له شيئا مما كان لأنه كان حليما كريما صبورا رحمه الله. وأما أخذ حلب من العادل فإن السبب فيه أنه كان من جملة جندها أمير كبير اسمه سليمان بن جندر بينه وبين صلاح الدين صحبة قديمة قبل الملك وكان صلاح الدين يعتمد عليه وكان عاقلا ذا مكر ودهاء فاتفق أن الملك العادل لما كان بحلب لم يفعل معه ما كان يظنه وقدم غيره عليه،
524 فتأثر بذلك. فلما مرض صلاح الدين وعوفي سار إلى الشام فسايره يوما سليمان بن جندر فجرى حديث مرضه فقال له سليمان بأي رأي كنت تظن أنك تمضي إلى الصيد فلا يخالفونك بالله ما تستحي يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة قال وكيف ذلك وهو يضحك قال إذا أراد الطائر ان يعمل عشا لفراخه أولادك على الأرض هذه حلب بيد أخيك وحماة بيد تقي الدين وحمص بيد ابن شيركوه وابنك العزيز مع تقي الدين بمصر يخرجه أي وقت أراد وهذا ابنك الآخر مع أخيك في خيمة يفعل به ما أراد فقال له صدقت واكتم هذا الأمر ثم أخذ حلب من أخيه وأخرج تقي الدين من مصر ثم أعطى أخاه العادل حران والرها وميافارقين ليخرجه من الشام ومصر لتبقى لأولاده فلم ينفعه ما فعل لما أراد الله تعالى نقل الملك عن أولاده على ما نذكره. ذكر وفاة البهلوان وملك أخيه قزل في هذه السنة في أولها توفي البهلوان محمد بن إيلدكز صاحب بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد وكان عادلا حسن السيرة عاقلا حليما ذا سياسة حسنة للملك وكانت تلك البلاد في أيامه آمنة والرعايا مطمئنة فلما مات جرى بأصفهان بين الشافعية والحنفية من الحروب والقتل والإحراق والنهب ما يجل عن الوصف وكان قاضي البلد رأس الحنفية وابن الخجندي رأس الشافعية وكان بمدينة الري
525 أيضا فتنة عظيمة بين السنية والشيعة وتفرق أهلها وقتل منهم وخربت المدينة وغيرها من البلاد. ولما مات البهلوان ملك أخوه أرسلان واسمه عثمان وكان السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه مع البهلوان والخطبة له في البلاد بالسلطنة وليس له من الأمر شيء وإنما البلاد والأمراء والأموال بحكم البهلوان فلما مات البهلوان خرج طغرل عن حكم قزل ولحق به جماعة من الأمراء والجند فاستولى على بعض البلاد وجرت بينه وبين قزل حروب نذكرها إن شاء الله تعالى. [ذكر اختلاف الفرنج بالشام وانحياز القمص صاحب طرابلس إلى صلاح الدين] كان القمص صاحب طرابلس واسمه ريمند بن ريمند الصنجيلي قد تزوج بالقومصة صاحبة طبرية وانتقل إليها وأقام عندها بطبرية ومات ملك الفرنج بالشام وكان مجذوما وأوصى بالملك إلى ابن أخت له وكان صغيرا فكفله القمص وقام بسياسة الملك وتدبيره لأنه لم يكن للفرنج ذلك الوقت أكبر منه شأنا ولا أشجع ولا أجود رأيا منه فطمع في الملك بسبب هذا الصغير فاتفق أن الصغير توفي فانتقل الملك إلى أمه فبطل ما كان القمص يحدث نفسه [به].
526 ثم إن هذه الملكة هويت رجلا من الفرنج الذين قدموا الشام اسمه كي فتزوجته ونقلت الملك اليه وجعل التاج على رأسه وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والإسبتارية والدواية والبارونية وأعلمتهم انها قد ردت الملك إليه وأشهدتهم عليها بذلك فأطاعوه ودانوا له فعظم ذلك على القمص وسقط في يديه وطولب بحساب ما جبي من الأموال مدة ولاية الصبي فادعى أنه أنفقه عليه وزاده ذلك نفورا وجاهر بالمشاقة والمباينة وراسل صلاح الدين وانتمى إليه واعتضد به وطلب منه المساعدة على بلوغ غرضه من الفرنج ففرح صلاح الدين والمسلمون بذلك ووعده النصرة والسعي له في كل ما يريد وضمن له أنه يجعله ملكا مستقلا للفرنج قاطبة وكان عنده جماعة من فرسان القمص فأطلقهم فحل ذلك عنده أعظم محل وأظهر طاعة صلاح الدين ووافقه على ما فعل جماعة من الفرنج فاختلفت كلمتهم وتفرق شملهم وكان ذلك من أعظم الأسباب الموجبة لفتح بلادهم واستنقاذ البيت المقدس منهم على ما نذكره إن شاء الله. وسير صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية فشنت الغارات على بلاد الفرنج وخرجت سالمة غانمة فوهن الفرنج بذلك وضعفوا وتجرأ المسلمون عليهم وطمعوا فيهم. ذكر غدر البرنس أرناط كان البرنس أرناط صاحب الكرك من أعظم الفرنج وأخبثهم وأشدهم عداوة للمسلمين وأعظمهم ضررا عليهم فلما رأى صلاح الدين ذلك منه قصده بالحصر مرة بعد مرة وبالغارة على بلاده كرة بعد أخرى،
527 فذل، وخضع وطلب الصلح من صلاح الدين فأجابه إلى ذلك وهادنه وتحالفا وترددت القوافل من الشام إلى مصر ومن مصر إلى الشام. فلما كان هذه السنة اجتاز به قافلة عظيمة غزيرة الأموال كثيرة الرجال ومعها جماعة صالحة من الجند فغدر اللعين بهم وأخذهم عن آخرهم وغنم أموالهم ودوابهم وسلاحهم وأودع السجون من أسر منهم فأرسل إليه صلاح الدين يلومه ويقبح فعله وغدره ويتوعده إن لم تطلق الأسرى والأموال فلم يجب إلى ذلك وأصر على الامتناع فندر صلاح الدين نذرا أن يقتله إن ظفر [به]، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادث كان المنجمون قديما وحديثا قد حكموا أن هذه السنة التاسع والعشرين من جمادى الآخرة تجتمع الكواكب الخمسة في برج الميزان ويحدث باقترانها رياح شديدة فلم يكن لذلك صحة ولم يهب من الرياح شيء البتة حتى إن الغلال الحنطة والشعير تأخر نجازها لعدم الهواء الذي يذري به الفلاحون فأكذب الله أحدوثة المنجمين وأخزاهم. وفيها توفي عبد الله بن بري بن عبد الجبار بن بري النحوي المصري وكان إماما في النحو رحمه الله تعالى.
528 583 ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة اتفق أول هذه السنة يوم السبت وهو يوم النوروز السلطاني ورابع عشر آذار سنة ألف وأربعمائة وثمان وتسعين إسكندرية وكان القمر والشمس في الحمل واتفق أول سنة العرب وأول سنة الفرس التي جددوها أخيرا وأول سنة الروم والشمس والقمر في أول البروج وهذا يبعد وقوع مثله. ذكر حصر صلاح الدين الكرك في هذه السنة كتب صلاح الدين إلى جميع البلاد يستنفر الناس للجهاد وكتب إلى الموصل وديار الجزيرة وإربل وغيرها من بلاد الشرق وإلى مصر وسائر بلاد الشام يدعوهم إلى الجهاد ويحثهم عليه ويأمرهم بالتجهز له بغاية الامكان ثم خرج من دمشق أواخر المحرم في عسكرها وحلقتها الخاص فسار إلى رأس الماء وتلاحقت به العساكر الشامية فلما اجتمعوا جعل عليهم ولده الملك الأفضل علي ليجتمع اليه من يرد إليه منها وسار هو إلى بصرى جريدة. وكان سبب مسيره وقصد إليها أنه أتته الأخبار أن البرنس أرناط،
529 صاحب الكرك يريد أن يقصد الحجاج ليأخذهم من طريقهم وأظهر أنه إذا فرغ من أخذ الحجاج يرجع إلى طريق العسكر المصري يصدهم عن الوصول إلى صلاح الدين، فسار إلى بصرى ليمنع البرنس أرناط من طلب الحجاج ويلزم بلده خوفا عليه. وكان من الحجاج جماعة من أقاربه منهم محمد بن لاجين وهو ابن أخت صلاح الدين وغيره فلما سمع أرناط بقرب صلاح الدين من بلده لم يفارقه وانقطع عما طمع فيه فوصل الحجاج سالمين فلما وصلوا وفر سره من جهتهم سار إلى الكرك وبث سراياه من هناك على ولاية الكرك والشوبك وغيرها فنهبوا وخربوا وأحرقوا والبرنس محصور لا يقدر على المنع عن بلده وسائر الفرنج قد لزموا طرق بلادهم خوفا من العسكر الذي مع ولده الأفضل فتمكن من الحصر والنهب والحريق والتخريب هذا فعل صلاح الدين. ذكر الغارة على بلد عكا أرسل صلاح الدين إلى ولده الأفضل يأمره أن يرسل قطعة صالحة من الجيش إلى بلد عكا ينهبونه ويخربونه فسير مظفر الدين كوكبري بن زين الدين صاحب حران والرها وأضاف اليه قايماز النجمي ودلدرم الياقوتي وهما من أكابر الأمراء وغيرهما فساروا ليلا وصبحوا
530 صفورية أواخر صفر، فخرج إليهم الفرنج في جمع من الداوية والإسبتارية وغيرهما فالتقوا هناك وجرت بينهم حرب تشيب لها المفارق السود. ثم أنزل الله تعالى نصره على المسلمين فانهزم الفرنج وقتل منهم جماعة وأسر الباقون وفيمن قتل مقدم الإسبتارية وكان من فرسان الفرنج المشهورين وله النكايات العظيمة في المسلمين ونهب المسلمون ما جاورهم من البلاد وغنموا وسبوا وعادوا سالمين وكان عودهم على طبرية وبها القمص فلم ينكر ذلك فكان فتحا كثيرا فإن الداوية والإسبتارية هم جمرة الفرنج وسيرت البشائر إلى البلاد بذلك. ذكر عود صلاح الدين إلى عسكره ودخوله إلى الفرنج لما أتت صلاح الدين البشارة بهزيمة الإسبتارية والداوية وقتل من قتل منهم وأسر من أسر منهم عاد عن الكرك إلى العسكر الذي مع ولده الملك الأفضل وقد تلاحقت سائر الأمراء والعساكر واجتمع بهم وساروا جميعا وعرض العسكر فبلغت عدتهم اثني عشر الف فارس ممن له الأقطاع والجامكية سوى المتطوعة فعلى عسكره قلبا وجناحين وميمنة وميسرة وجاليشية وساقة وعرف كل منهم موضعه وموقفه وأمره بملازمته وسار على تعبية فنزل بالأقحوانة بقرب طبرية وكان القمص قد انتمى إلى صلاح الدين كما ذكرناه وكتبه متصلة إليه يعده النصرة ويمنيه المعاضدة، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا. فلما رأى الفرنج العساكر الإسلامية وتصميم العزم على قصد بلادهم،
531 أرسلوا إلى القمص البطرك والقسوس والرهبان وكثيرا من الفرسان فأنكروا عليه انتماءه إلى صلاح الدين وقالوا له لا شك أسلمت وإلا لم تصبر على فعل المسلمين أمس بالفرنج يقتلون الداوية والاسبتارية ويأسرونهم ويجتازون بهم عليك وأنت لا تنكر ذلك ولا تمتنع عنه ووافقهم على ذلك من عنده من عسكر طبرية وطرابلس وتهدده البطرك أنه يحرمه ويفسخ عليه نكاح زوجته إلى غير ذلك من التهديد فلما رأى القمص شدة الأمر عليه خاف واعتذر وتنصل وتاب فقبلوا عذره وغفروا زلته وطلبوا منه الموافقة على المسلمين والمؤازرة على حفظ بلادهم فأجابهم إلى المصالحة والانضمام إليهم والاجتماع بهم وسار معهم إلى ملك الفرنج واجتمعت كلمتهم بعد فرقتهم ولم تغن عنهم من الله شيئا وجمعوا فارسهم وراجلهم ثم ساروا من عكا إلى صفورية وهم يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى قد ملئت قلوبهم رعبا. ذكر فتح صلاح الدين طبرية لما اجتمع الفرنج وساروا إلى صفورية جمع صلاح الدين أمراءه واستشارهم فأشار أكثرهم عليه بترك اللقاء وان يضعف الفرنج بشن الغارات وإخراب الولايات مرة بعد مرة فقال له بعض أمرائه الرأي عندي أننا نجوس بلادهم وننهب ونخرب ونحرق ونسبي فإن وقف أحد من عسكر الفرنج بين أيدينا لقيناه فإن الناس بالمشرق يلعنوننا ويقولون ترك قتال الكفار وأقبل يريد قتال المسلمين والرأي أن نفعل فعلا نعذر فيه ونكف الألسنة عنا فقال صلاح الدين الرأي عندي أن نلقى بجمع
532 المسلمين جمع الكفار فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا ولا ينبغي أن نفرق هذا الجمع إلا بعد الجد بالجهاد. ثم رحل من الأقحوانة اليوم الخامس من نزوله بها وهو يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر فسار حتى خلف طبرية وراء ظهره وصعد جبلها وتقدم حتى قارب الفرنج فلم ير منهم أحدا ولا فارقوا خيامهم فنزل وأمر العسكر بالنزول فلما جنه الليل جعل في مقابل الفرنج من يمنعهم من القتال ونزل جريدة إلى طبرية وقاتلها ونقب بعض أبراجها وأخذ المدينة عنوة في ليلة ولجأ من بها إلى القلعة التي لها فامتنعوا بها وفيها صاحبتها ومعها أولادها فنهب المدينة وأحرقها. فلما سمع الفرنج بنزول صلاح الدين إلى طبرية وملكه المدينة وأخذ ما فيها وإحراقها وإحراق ما تخلف مما لا يحمل اجتمعوا للمشورة فأشار بعضهم بالتقدم إلى المسلمين وقتالهم ومنعهم عن طبرية فقال القمص إن طبرية لي ولزوجتي وقد فعل صلاح الدين بالمدينة ما فعل وبقي القلعة وفيها زوجتي وقد رضيت أن يأخذ القلعة وزوجتي ومالنا بها ويعود فوالله لقد رأيت عساكر الإسلام قديما وحديثا ما رأيت مثل هذا العسكر الذي مع صلاح الدين كثرة وقوة وإذا أخذا طبرية لا يمكنه المقام بها فمتى فارقنا وعاد عنها أخذناها وإن أقام بها لا يقدر على المقام بها إلا بجميع عساكره ولا يقدرون على الصبر طول الزمان عن أوطانهم وأهليهم فيضطر إلى تركها ونفتك من أسر منا. فقال له برنس أرناط صاحب الكرك قد أطلت في التخويف من المسلمين ولا شك أنك تريدهم وتميل إليهم وإلا ما كنت تقول هذا وأما قولك أنهم كثيرون فإن النار لا يضرها كثرة الحطب. فقال أنا واحد منكم إن تقدمتم تقدمت وإن تأخرتم تأخرت،
533 وسترون ما يكون. فقوي عزمهم على التقدم إلى المسلمين وقتالهم فرحلوا من معسكرهم الذي لزموه وقربوا من عساكر الإسلام. فلما سمع صلاح الدين بذلك عاد عن طبرية إلى عسكره وكان قريبا منه وإنما كان قصده بمحاصرة طبرية أن يفارق الفرنج مكانهم ليتمكن من قتالهم وكان المسلمون قد نزلوا على الماء والزمان قيظ شديد الحر فوجد الفرنج العطش ولم يتمكنوا من الوصول إلى ذلك الماء من المسلمين وكانوا قد أفنوا ما هناك من ماء الصهاريج ولم يتمكنوا من الرجوع خوفا من المسلمين فبقوا على حالهم إلى الغد وهو يوم السبت وقد أخذ العطش منهم. وأما المسلمون فإنهم طمعوا فيهم وكانوا من قبل يخافونهم فباتوا يحرض بعضهم بعضا وقد وجدوا ريح النصر والظفر وكلما رأوا حال الفرنج خلاف عادتهم مما ركبهم من الخذلان زاد طمعهم وجرأتهم فأكثروا التكبير والتهليل طول ليلتهم ورتب السلطان تلك الليلة الجاليشية وفرق فيهم النشاب. ذكر انهزام الفرنج بحطين أصبح صلاح الدين والمسلمون يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر فركبوا وتقدموا إلى الفرنج فركب الفرنج ودنا بعضهم من بعض إلا أن الفرنج قد اشتد بهم العطش وانخذلوا فاقتتلوا واشتد القتال وصبر الفريقان ورمى جاليشية المسلمين من النشاب ما كان كالجراد المنتشر،
534 فقتلوا من خيول الفرنج كثيرا هذا القتال بينهم والفرنج قد جمعوا نفوسهم براجلهم وهو يقاتلون سائرين نحو طبرية لعلهم يردون الماء. فلما علم صلاح الدين مقصدهم صدهم عن مرادهم ووقف بالعسكر في وجوههم وطاف بنفسه على المسلمين يحرضهم ويأمرهم بما يصلحهم وينهاهم عما يضرهم والناس يأتمرون لقوله ويقفون عند نهبه فحمل مملوك من مماليكه الصبيان حملة منكرة على صف الفرنج فقاتل قتالا عجب منه الناس ثم تكاثر الفرنج عليه فقتلوه فحين قتل حمل المسلمون حملة منكرة فضعضعوا الكفار وقتلوا منهم كثيرا فلما رأى القمص شدة الأمر علم أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين فاتفق هو وجماعة وحملوا على من يليهم وكان المقدم من المسلمين في تلك الناحية تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين فلما رأى حملة الفرنج حملة مكروب علم أنه لا سبب إلا الوقوف في وجوههم فأمر أصحابه ان يفتحوا لهم طريقا يخرجون منه، ففعلوا فخرج القمص وأصحابه ثم التأم الصف. وكان بعض المتطوعة قد القى في تلك الأرض نارا وكان الحشيش كثيرا فاحترق وكانت الريح فحملت حر النار والدخان إليهم فاجتمع عليهم العطش وحر الزمان وحر النار والدخان وحر القتال فلما انهزم القمص سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون ثم علموا أنهم لا ينجيهم من الموت إلا الإقدام عليه فحملوا حملات متداركة كادوا يزيلون [بها] المسلمين، على كثرتهم، عن مواقفهم لولا لطف الله بهم إلا ان الفرنج لا يحملون حملة فيرجعون إلا وقد قتل منهم فوهنوا لذلك وهنا عظيما فأحاط بهم المسلمون إحاطة الدائرة بقطرها فارتفع من بقي من الفرنج إلى تل بناحية حطين وأرادوا
535 أن ينصبوا خيامهم ويحموا نفوسهم به فاشتد القتال عليهم من سائر الجهات ومنعوهم عما أرادوا ولم يتمكنوا من نصب خيمة غير خيمة ملكهم لا غير وأخذ المسلمون صليبهم الأعظم الذي يسمونه صليب الصلبوت ويذكرون أن فيه قطعة من الخشبة التي صلب عليها المسيح عليه السلام بزعمهم فكان أخذه عندهم من أعظم المصائب عليهم وأيقنوا بعده بالقتل والهلاك هذا والقتل والأسر يعملان في فرسانهم ورجالتهم فبقي الملك على التل في مقدار مائة وخمسين فارسا من الفرسان المشهورين والشجعان المذكورين. فحكى لي عن الملك الأفضل ولد صلاح الدين قال كنت إلى جانب أبي في ذلك المصاف وهو أول مصاف شاهدته فلما صار ملك الفرنج على التل في تلك الجماعة حملوا حملة منكرة على من بإزائهم من المسلمين حتى ألحقوهم بوالدي. قال: فنظرت إليه وقد علته كآبة واربد لونه وأمسك بلحيته وتقدم وهو يصيح كذب الشيطان قال فعاد المسلمون على الفرنج فرجعوا فصعدوا إلى التل فلما رأيت الفرنج قد عادوا والمسلمون يتبعونهم صحت من فرحي هزمناهم فعاد الفرنج فحملوا حملة ثانية مثل الأولى ألحقوا المسلمين بوالدي وفعل مثل ما فعل أولا وعطف المسلمون عليهم فألحقوهم بالتل فصحت أنا أيضا هزمناهم فالتفت والدي إلي وقال اسكت ما نهزمهم حتى تسقط تلك الخيمة قال فهو يقول لي وإذا الخيمة قد سقطت فنزل السلطان وسجد شكرا لله تعالى فبكى من فرحه. وكان سبب سقوطها أن الفرنج لما حملوا تلك الحملات ازدادوا عطشا وقد كانوا يرجون الخلاص في بعض تلك الحملات مما هم فيه فلم يجدوا
536 إلى الخلاص طريقا فنزلوا عن دوابهم وجلسوا على الأرض فصعد المسلمون إليهم فألقوا خيمة الملك وأسروهم عن بكرة أبيهم وفيهم الملك وأخوه والبرنس أرناط صاحب الكرك ولم يكن في الفرنج أشد منه عداوة للمسلمين وأسروا أيضا صاحب جبيل وابن هنفري ومقدم الداوية وكان من أعظم الفرنج شأنا وأسروا أيضا جماعة من الداوية وجماعة من الإسبتارية وكثر القتل والأسر فيهم فكان من يرى القتلى لا يظن انهم أسروا واحدا ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا أحدا وما أصيب الفرنج منذ خرجوا إلى الساحل وهو سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن بمثل هذه الوقعة. فلما فرغ المسلمون منهم نزل صلاح الدين في خيمته وأحضر ملك الفرنج عنده وبرنس صاحب الكرك وأجلس إلى جانبه وقد أهلكه العطش فسقاه ماء مثلوجا فشرب وأعطى فضله برنس صاحب الكرك فشرب صلاح الدين إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فينال أماني ثم كلم البرنس وقرعه بذنوبه وعدد عليه عوراته وقام إليه بنفسه فضرب رقبته وقال كنت نذرت دفعتين أن أقتله إن ظفرت به إحداهما لما أراد المسير إلى مكة والمدينة والثانية لما أخذ القفل غرا فلما قتله وسحب وأخرج ارتعدت فرائص الملك فسكن جأشه وأمنه. وأما القمص صاحب طرابلس فإنه لما نجا من المعركة كما ذكرناه،
537 وصل إلى صور ثم قصد طرابلس ولم يلبث إلا أياما قلائل حتى مات غيظا وحنقا مما جرى على الفرنج خاصة وعلى دين النصرانية عامة. ذكر عود صلاح الدين إلى طبرية وملك قلعتها مع المدينة لما فرغ صلاح الدين من هزيمة الفرنج أقام بموضعه باقي يومه وأصبح يوم الأحد عاد إلى طبرية ونازلها فأرسلت صاحبتها تطلب الأمان لها ولأولادها وأصحابها ومالها فأجابها إلى ذلك فخرجت بالجميع فوفي لها فسارت آمنة ثم أمر بالملك وجماعة من أعيان الأسرى فأرسلوا إلى دمشق وأمر بمن أسر من الداوية والاسبتارية أن يجمعوا ليقتلهم. ثم علم أن من عنده أسير لا يسمح به لما يرجو من فدائه فبذل في كل أسير من هذين الصنفين خمسين دينارا مصرية فأحضر عنده في الحال مائتا أسير فأمر بهم فضربت أعناقهم وإنما خص هؤلاء بالقتل لأنهم أشد شوكة من جميع الفرنج فأراح الناس من شرهم وكتب إلى نائبه بدمشق ليقتل من دخل البلد منهم سواء كان له أو لغيره ففعل ذلك ولقد اجتزت بموضع الوقعة بعدها بنحو سنة فرأيت الأرض ملأى من عظامهم تبين على البعد منها المجتمع بعضه على بعض ومنها المفترق هذا سوى ما جحفته السيول وأخذته السباع في تلك الأكام والوهاد.
538 ذكر فتح مدينة عكا لما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها يوم الثلاثاء ووصل إلى عكا يوم الأربعاء وقد صعد أهلها على سورها يظهرون الامتناع والحفظ فعجب هو والناس من ذلك لأنهم علموا أن عساكرهم من فارس وراجل بين قتيل وأسير وأنهم لم يسلم منهم إلا القليل إلا انه نزل يومه وركب يوم الخميس وقد صمم على الزحف إلى البلد وقتاله فبينما هو ينظر من أين يزحف ويقاتل إذ خرج كثير من أهلها يضرعون ويطلبون الأمان فأجابهم إلى ذلك وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وخيرهم بين الإقامة والظعن فاختاروا الرحيل خوفا من المسلمين وساروا عنها متفرقين وحملوا ما أمكنهم حمله من أموالهم وتركوا الباقي على حاله. ودخل المسلمون إليها يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى وصلوا بها الجمعة في جامع كان للمسلمين قديما ثم جعله الفرنج بيعة ثم جعله صلاح الدين جامعا، وهذه الجمعة أول جمعة أقيمت بالساحل الشامي بعد أن ملكه الفرنج وسلم البلد إلى ولده الأفضل وأعطى جميع ما كان فيه للداوية من أقطاع وضياع وغير ذلك للفقيه عيسى وغنم المسلمون ما بقي مما لم يطق الفرنج حمله وكان من كثرته يعجز الإحصاء عنه فرأوا فيها من الذهب والجوهر والسقلاط، والبندقي والشكر والسلاح وغير ذلك من أنواع الأمتعة كثيرا فإنها كانت مقصدا للتجار الفرنج والروم وغيرهم من أقصى البلاد وأدناها وكان كثير منها قد خزنه التجار وسافروا عنه لكساده فلم يكن له من ينقله ففرق صلاح الدين وابنه الأفضل ذلك جميعه
539 على أصحابهما، وأكثر ذلك فعله الأفضل لأنه كان مقيما بالبلد وكان شيمته في الكرم معروفة واقام صلاح الدين بعكا عدة أيام لإصلاح حالها وتقرير قواعدها. ذكر فتح مجد ليابة لما هزم صلاح الدين الفرنج أرسل إلى أخيه العادل بمصر يبشره بذلك ويأمره بالمسير إلى بلاد الفرنج من جهة مصر بمن بقي عنده من العسكر ومحاصرة ما يليه منها فسارع إلى ذلك وسار عن مصر فنازل حصن مجد ليابة وحصره وغنم ما فيه ورد كتابه بذلك إلى صلاح الدين وكانت بشارة كبيرة. ذكر فتح عدة حصون في مدة مقام صلاح الدين بعكا تفرق عسكره إلى الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف والفولة وغيرها من البلاد المجاورة لعكا فملكوها ونهبوها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها وقدموا من ذلك بما سد الفضاء وسير تقي الدين فنزل على تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور وسير حسام الدين عمر بن لاجين في عسكر إلى نابلس فأتى سبسطية وبها قبر زكريا فأخذه من أيدي النصارى وسلمه إلى المسلمين ووصل إلى نابلس فدخلها وحصر قلعتها واستنزل من فيها بالأمان وتسلم القلعة وأقام أهل البلد به وأقرهم على أملاكهم وأموالهم.
540 ذكر فتح يافا لما خرج العادل من مصر وفتح مجد ليابة كما ذكرنا سار إلى مدينة يافا وهي على الساحل فحصرها وملكها عنوة ونهبها وأسر الرجال وسبى الحريم وجرى على أهلها ما لم يجر على أحد من أهل تلك البلاد. وكان عندي جارية من أهلها وانا بحلب ومعها طفل عمره نحو سنة فسقط من يدها فانسلخ وجهه فبكت عليه كثيرا فسكنتها وأعلمتها انه ليس بولدها ما يوجب البكاء فقال ماله أبكي إنما أبكي لما جرى علينا كان لي ستة إخوة كلهم هلكوا جميعهم وزوج وأختان لا اعلم ما كان منهم. هذا من امرأة واحدة والباقي بالنسبة ورأيت بحلب امرأة فرنجية قد جاءت مع سيدها إلى باب فطرقه سيدها فخرج صاحب البيت فكلمهم ثم اخرج امرأة فرنجية فحين رأتها الأخرى صاحتا واعتنقتا وهما يصرخان ويبكيان وسقطتا إلى الأرض ثم قعدتا تتحدثان وإذا هما أختان وكان لهما عدة من الأهل ليس لهما علم بأحد منهم. ذكر فتح تبنين وصيدا وجبيل وبيروت فأما تبنين فقد ذكرنا انفاذ صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه إلى تبنين فلما وصلها نازلها وأقام عليها فرأى حصرها لا يتم إلا بوصول عمه
541 صلاح الدين إليه، فأرسل اليه يعلمه الحال ويحثه على الوصول إليه فرحل ثامن جمادى الأولى ونزل عليه حادي عشرة فحصرها وضايقها وقاتلها بالزحف وهي من القلاع المنيعة على جبل فلما ضاق عليهم الأمر واشتد الحصر أطلقوا من عندهم من أسرى المسلمين وهم يزيدون على مائة رجل فلما دخلوا العسكر أحضرهم صلاح الدين وكساهم وأعطاهم نفقة وسيرهم إلى أهليهم. وبقي الفرنج كذلك خمسة أيام ثم أرسلوا يطلبون الأمان فأمنهم على أنفسهم فسلموها إليه ووفى لهم وسيرهم إلى مأمنهم. وأما صيدا فإن صلاح الدين لما فرغ من تبنين رحل عنها إلى صيدا فاجتاز في طريقه بصرفند فأخذها صفوا عفوا بغير قتال وسار عنها إلى صيدا وهي من مدن الساحل المعروفة فلما سمع صاحبها بمسيره نحوه سار عنها وتركها فارغة من مانع ومدافع فلما وصلها صلاح الدين تسلمها ساعة وصوله وكان ملكها لتسع بقين من جمادى الأولى. وأما بيروت فهي من أحصن مدن الساحل وأنزهها وأطيبها فلما فتح صلاح الدين صيدا سار عنها من يومه نحو بيروت ووصل إليها من الغد فرأى أهلها قد صعدوا على سورها وأظهروا القوة والجلد والعدد وقاتلوا على سورها قتالا شديدا واغتروا بحصانة البلد وظنوا أنهم قادرون على حفظه وزحف المسلمون إليهم مرة بعد مرة فبينما الفرنج يقاتلون إذ سمعوا من البلد جلبة عظيمة وغلبة زائدة فأتاهم من أخبرهم أن البلد قد دخله المسلمون من الناحية الأخرى قهرا وغلبة فأرسلوا ينظرون ما الخبر وإذا ليس له صحة فأرادوا تسكين من به فلم يمكنهم ذلك لكثرة ما اجتمع فيه من السواد فلما خافوا على أنفسهم من
542 الاختلاف الواقع أرسلوا يطلبون الأمان فأمنهم على نفوسهم وأموالهم وتسلمها في التاسع والعشرين من جمادى الأولى من السنة فكان مدة حصرها ثمانية أيام. وأما جبيل فإن صاحبها كان من جملة الأسرى الذين سيروا إلى دمشق مع ملكهم فتحدث مع نائب صلاح الدين بدمشق في تسليم جديد على شرط إطلاقه فعرف صلاح الدين بذلك فأحضره مقيدا عنده تحت الاستظهار والاحتياط وكان العسكر حينئذ على بيروت فسلم حصنه وأطلق اسرى المسلمين الذين به وأطلقه صلاح الدين كما شرط له وكان هذا صاحب جبيل من أعيان الفرنج وأصحاب الرأي والمكر والشر به يضرب المثل بينهم وكان للمسلمين منه عدو أزرق وكان إطلاقه من الأسباب الموهنة للمسلمين على ما يأتي بيانه. ذكر خروج المركيش إلى صور لما انهزم القمص صاحب طرابلس من حطين إلى مدينة صور فأقام بها وهي أعظم بلاد الشام حصانة وأشد امتناعا على من رامها فلما رأى السلطان قد ملك تبنين وصيدا وبيروت خاف أن يقصد صلاح الدين صور وهي فارغة ممن يقاتل فيها ويحميها ويمنعها فلا يقوى على حفظها وتركها وسار إلى مدينة طرابلس فبقيت صور شاغرة لا مانع لها ولا عاصم من المسلمين فلو بدأ بها صلاح الدين قبل تبنين وغيرها لأخذها بغير مشقة لكنه استعظمها لحصانتها فأراد أن يفرغ باله مما يجاورها من نواحيها ليسهل أخذها فكان ذلك سبب حفظها وكان أمر الله قدرا مقدورا واتفق أن إنسانا من الفرنج الذين داخل البحر يقال
543 له المركيش، لعنه الله، خرج في البحر بمال كثير للزيارة والتجارة ولم يشعر بما كان من الفرنج فأرسى بعكا وقد رابه ما رأى من ترك عوائد الفرنج عند وصول المراكب من الفرح وضرب الأجراس وغير ذلك وما رأى أيضا من زي أهل البلد فوقف ولم يدر ما الخبر وكانت الريح قد ركدت فأرسل الملك الأفضل إليه بعض أصحابه في سفينة يبصر من هو ومن يريد فأتاه القاصد فسأله المركيش عن الأخبار لما أنكره فأخبره بكسرة الفرنج وأخذ عكا وغيرها وأعلمه ان صور بيد الفرنج وعسقلان وغيرها وحكى الأمر له على وجهه فلم يمكنه الحركة لعدم الريح فرد الرسول يطلب الأمان ليدخل البلد بما معه من متاع ومال فأجيب إلى ذلك فردده مرار كل مرة يطلب شيئا لم يطلبه في المرة الأولى وهو يفعل ذلك انتظارا لهبوب الهواء ليسير به فبينما هو في مراجعاته أذهبت الريح فسار نحو صور وسير الملك الأفضل الشواني في طلبه فلم يدركوه فأتى صور وقد اجتمع بها من الفرنج خلق كثير لأن صلاح الدين كان كلما فتح مدينة من عكا وبيروت وغيرهما مما ذكرنا أعطى أهلها الأمان فساروا كلهم إلى صور وكثر الجمع بها إلا انهم ليس لهم رأس يجمعهم ولا مقدم يقاتل بهم وليسوا أهل حرب وهم عازمون على مراسلة صلاح الدين وتسليم البلد إليه فأتاهم المركيش وهم على ذلك العزم فردهم عنه وقوى نفوسهم وضمن لهم حفظ المدينة وبذل ما معه من الأموال وشرط عليهم أن تكون المدينة وأعمالها له دون غيره فأجابوه إلى ذلك فأخذ أيمانهم عليه وأقام عندهم ودبر أحوالهم وكان من شياطين الإنس حسن التدبير والحفظ له شجاعة عظيمة وشرع في تحصينها فجدد حفر خنادقها وعمل أسوارها وزاد في حصانتها واتفق من بها على الحفظ والقتال دونها.
544 ذكر فتح عسقلان وما يجاورها لما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وغيرهما كان أمر عسقلان والقدس أهم عنده لأسباب منها أنهما على طريق مصر يقطع بينهما وبين الشام وكان يختار أن تتصل الولايات له ليسهل خروج العسكر منها ودخولهم إليها ولما في فتح القدس من الذكر الجميل والصيت العظيم إلى غير ذلك من الأغراض فسار عن بيروت نحو عسقلان واجتمع بأخيه العادل ومن معه من عساكر مصر ونازلوها يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة وكان صلاح الدين قد أحضر ملك الفرنج ومقدم الداوية إليه من دمشق وقال لهما إن سلمتما البلاد إلي فلكما الأمان فأرسلا إلى من بعسقلان من الفرنج يأمرانهم بتسليم البلد فلم يسمعوا أمرهما وردوا عليهما أقبح رد وجبهوهما بما يسوءهما. فلما رأى السلطان ذلك جد في قتال المدينة ونصب المنجنيقات عليها مرة أخرى وتقدم النقابون إلى الصور فنالوا من باشورته شيئا هذا وملكهم يكرر المراسلات إليهم بالتسليم ويشير عليهم ويعدهم أنه إذا اطلق من الأسر أضرم البلاد على المسلمين نارا واستنجد بالفرنج من البحر وأجلب الخيل والرجل من أقاصي بلاد الفرنج وأدانيها وهم لا يجيبون إلى ما يقول ولا يسمعون ما يشير به. ولما رأوا أنهم كل يوم يزدادون ضعفا ووهنا وإذا قتل منهم الرجل لا يجدون له عوضا ولا لهم نجدة ينتظرونها راسلوا صلاح الدين في تسليم البلد على شروط اقترحوها فأجابهم صلاح الدين إليها وكانوا قتلوا في الحصار أميرا كبيرا من المهرانية فخافوا عند مفارقة البلد أن عشيرته يقتلون منهم
545 بثأره، فاحتاطوا فيما اشترطوا لأنفسهم، فأجيبوا إلى ذلك جميعه وسلموا المدينة سلخ جمادى الآخرة من السنة وكانت مدة الحصار أربعة عشر يوما وسيرهم صلاح الدين ونساءهم وأموالهم وأولادهم إلى بيت المقدس ووفي لهم بالأمان. ذكر فتح البلاد والحصون المجاورة لعسقلان لما فتح صلاح الدين عسقلان أقام بظاهرها وبث السرايا في أطراف البلاد المجاورة لها ففتحوا الرملة والداروم وغزة ومشهد إبراهيم الخليل عليه السلام ويبنى وبيت لحم وبيت جبريل والنظرون وكل ما كان للداوية. ذكر فتح البيت المقدس لما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها من البلاد على ما تقدم وكان قد أرسل إلى مصر أخرج الأسطول الذي بها في جمع من المقاتلة ومقدمهم حسام الدين لؤلؤ الحاجب وهو معروف بالشجاعة والشهامة ويمن النقيبة فأقاموا في البحر يقطعون الطريق على الفرنج كلما رأوا لهم مركبا غنموه وشانيا أخذوه فحين وصل الأسطول وخلا سره من تلك الناحية سار عن عسقلان إلى البيت المقدس وكان به البطرك المعظم عندهم وهو أعظم شأنا من ملكهم وبه أيضا باليان بن بيرزان صاحب الرملة وكانت مرتبته عندهم تقارب من مرتبة الملك وبه أيضا من خلص أيضا من فرسانهم
546 من حطين وقد جمعوا وحشدوا واجتمع أهل تلك النواحي عسقلان وغيرها فاجتمع به كثير من الخلق كلهم يرى الموت أيسر عليه من أن يملك المسلمون البيت المقدس ويأخذوه منهم ويرى أن بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه من حفظه وحصنوه تلك الأيام بما وجدوا إليه سبيلا وصعدوا على سوره بحدهم وحديدهم مجتمعين على حفظه والذب عنه بجهدهم وطاقتهم مظهرين العزم على المناضلة دونه بحسب استطاعتهم ونصبوا المنجنيقات ليمنعوا من يريد الدنو منه والنزول عليه. ولما قرب صلاح الدين منه تقدم أمير في جماعة عن أصحابه غير محتاط ولا حذر فلقيه جمع من الفرنج قد خرجوا من القدس ليكونوا يزكا فقاتلوه وقاتلهم فقتلوه وقتلوا جماعة ممن معه فأهم المسلمين قتله وفجعوا بفقده وساروا حتى نزلوا على القدس منتصف رجب فلما نزلوا عليه رأى المسلمون على سوره من الرجال ما هالهم وسمعوا لأهله من الغلبة والضجيج من وسط المدينة ما استدلوا به على كثرة الجمع، وبقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لنظر من أين يقاتله لأنه في غاية الحصانة والامتناع فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال نحو باب عمود أو كنيسة صهيون فانتقل إلى هذه الناحية في العشرين من رجب ونزلها ونصب تلك الليلة المنجنيقات فأصبح من الغد وقد فرغ من نصبها ورمى بها. ونصب الفرنج على سور البلد منجنيقات ورموا بها وقوتلوا أشد قتال رآه أحد من الناس كل واحد من الفريقين يرى ذلك دينا وحتما واجبا فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون ويزجرون ولا ينزجرون وكان خيالة الفرنج كل يوم يخرجون إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون،
547 فيقتل من الفريقين؛ وممن استشهد من المسلمين الأمير عز الدين عيسى بن مالك وهو من أكابر الأمراء وكان أبوه صاحب قلعة جعبر وكان يصطلي القتال بنفسه كل يوم فقتل إلى رحمة الله تعالى وكان محبوبا إلى الخاص والعام فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم ذلك وأخذ من قلوبهم فحملوا حملة رجل واحد فأزالوا الفرنج عن مواقفهم فأدخلوهم بلدهم ووصل المسلمون إلى الخندق فجازوه والتصقوا إلى السور فنقبوه وزحف الرماة يحمونهم المنجنيقات توالي الرمي لتكشف الفرنج عن الأسوار ليتمكن المسلمون من النقب فلما نقبوه حشوه بما جرت به العادة. فلما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين وتحكم المنجنيقات بالرمي المتدارك وتمكن النقابين من النقب وأنهم قد أشرفوا على الهلاك اجتمع مقدموهم يتشاورون فيما يأتون ويذرون فاتفق رأيهم على طلب الأمان وتسليم البيت المقدس إلى صلاح الدين فأرسلوا جماعة من كبرائهم وأعيانهم في طلب الأمان فلما ذكروا ذلك للسلطان امتنع من إجابتهم وقال لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي وجزاء السيئة بمثلها فلما رجع الرسل خائبين محرومين أرسل باليان بن بيرزان وطلب الأمان لنفسه ليحضر عند صلاح الدين في هذا الأمر وتحريره فأجيب إلى ذلك وحضر عنده ورغب في الأمان وسأل فيه فلم يجبه إلى ذلك واستعطفه فلم يعطف عليه واسترحمه فلم يرحمه. فلما أيس من ذلك قال له أيها السلطان اعلم اننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله تعالى وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ظنا منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة فإذا رأينا الموت لا بد منه فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ونحرق
548 أموالنا وأمتعتنا ولا نترككم تغنمون منها دينارا واحدا ولا درهما ولا تسبون وتأسرون رجلا ولا امرأة وإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من الموضع ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير ولا نترك لنا دابة ولا حيوانا الا قتلناه ثم خرجنا إليكم كلنا قاتلناكم قتال من يريد [أن] يحمي دمه ونفسه، وحينئذ لا يقتل الرجل حتى يقتل أمثاله ونموت أعزاء أو نظفر كراما. فاستشار صلاح الدين أصحابه فاجمعوا على اجابتهم إلى الأمان وان لا يخرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدرى عاقبة الأمر فيه عن أي شيء تنجلي ونحسب انهم أسارى بأيدينا فنبيعهم نفوسهم بما يستقر بيننا وبينهم فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج فاستقر أن يؤخذ من الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير ويزن الطفل من الذكور والبنات دينارين وتزن المرأة خمسة دنانير فمن أدى ذلك إلى أربعين يوما فقد نجا ومن انقضت الأربعون يوما عنه ولم يؤد ما عليه فقد صار مملوكا فبذل باليان بن بيرزان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار فأجيب إلى ذلك. وسلمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب وكان يوما مشهودا ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره ورتب صلاح الدين على أبواب البلد في كل باب أمينا من الأمراء ليأخذوا من أهله ما استقر عليهم فاستعملوا الخيانة ولم يؤدوا فيه أمانة واقتسم الأمناء الأموال وتفرقت أيدي سبا ولو أديت فيه الأمانة لملأ الخزائن وعم الناس فإنه كان فيه على الضبط ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل سوى من يتبعهم من النساء والولدان ولا يعجب السامع من ذلك فإن البلد كبير واجتمع اليه من تلك النواحي من عسقلان وغيرها والداروم والرملة،
549 وغزة وغيرها من القرى بحيث امتلأت الطرق والكنائس وكان الإنسان لا يقدر أن يمشي. ومن الدليل على كثرة الخلق أن أكثرهم وزن ما استقر من القطيعة وأطلق باليان بن بيرزان ثمانية عشر الف رجل وزن عنهم ثلاثين ألف دينار وبقي بعد هذا جميعه من لم يكن معه ما يعطي وأخذ أسيرا ستة عشرة الف آدمي ما بين رجل وامرأة وصبي هذا بالضبط واليقين. ثم إن جماعة من الأمراء ادعى كل واحد منهم ان جماعة من رعية إقطاعه مقيمون بالبيت المقدس فيطلقهم ويأخذ هو قطيعتهم، وكان جماعة من الأمراء يلبسون الفرنج زي الجند المسلمين ويخرجونهم ويأخذون منهم قطيعة قرروها واستوهب جماعة من صلاح الدين عددا من الفرنج فوهبهم لهم فأخذوا قطيعتهم وبالجملة فلم يصل إلى خزائنه إلا القليل. وكان بالقدس بعض نساء الملوم من الروم وقد ترهبت وأقامت به ومعها من الحشم والعبيد والجواري خلق كثير ولها من الأموال والجواهر النفيسة شيء عظيم فطلبت الأمان لنفسها ومن معها فأمنها وسيرها. وكذلك أيضا اطلق ملكة القدس التي كان زوجها الذي أسره صلاح الدين قد ملك الفرنج بسببها ونيابة عنها كان يقوم بالملك وأطلق مالها وحشمها واستأذنته في المصير إلى زوجها وكان حينئذ محبوسا بقلعة نابلس فأذن لها فأتته وأقامت عنده. وأتته أيضا امرأة للبرنس أرناط صاحب الكرك وهو الذي قتله صلاح الدين بيده يوم المصاف بحطين فشفعت في ولد لها مأسور فقال لها صلاح الدين إن سلمت الكرك أطلقته فسارت إلى الكرك فلم يسمع منها
550 الفرنج ولم يسلموه فلم يطلق ولدها ولكنه أطلق ما لها ومن تبعها. وخرج البطرك الكبير الذي للفرنج ومعه من أموال البيع منها الصخرة والأقصى وقمامة وغيرها ما لا يعلمه إلا الله تعالى وكان له من المال مثل ذلك فلم يعرض له صلاح الدين فقيل له ليأخذ ما معه يقوي به المسلمين فقال لا أعذر به ولم يأخذ منه غير عشرة دنانير وسير الجميع ومعهم من يحميهم إلى مدينة صور. وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلق جماعة منهم إلى أعلى القبة ليقلعوا الصليب فحين صعدوا صاح الناس كلهم صوتا واحدا من البلد ومن ظاهره المسلمون والفرنج أما المسلمون فكبروا فرحا وأما الفرنج فصاحوا تفجعا وترجعا فسمع الناس صيحة كادت الأرض أن تميد بهم لعظمها وشدتها. فلما ملك البلد وفارقه الكفار أمر صلاح الدين إعادة الابنية إلى حالها القديم فإن الداوية بنوا غربي الأقصى أبنية ليسكنوها وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هري ومستراح وغير ذلك وادخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم فأعيد إلى الأول وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس ففعل ذلك أجمع. ولما كان الجمعة الأخرى رابع شعبان صلى المسلمون فيه الجمعة ومعهم صلاح الدين وصلى في قبة الصخرة وكان الخطيب والإمام محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق، ثم رتب فيه صلاح الدين خطيبا وإماما برسم الصلوات الخمس وأمر أن يعمل له منبر فقيل له إن نور الدين محمودا كان قد عمل بحلب منبرا أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه وقال: هذا
551 قد علمناه لينصب بالبيت المقدس فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله فأمر بإحضاره فحمل من حلب ونصب بالقدس وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده رحمه الله. ولما فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعة تقدم بعمارة المسجد الأقصى واستنفاد الوسع في تحسينه وترصيفه وتدقيق نقوشه فأحضروا من الرخام الذي لا يوجد ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون اليه قد ادخر على طول السنين فشرعوا في عمارته ومحوا ما كان في تلك الأبنية من الصورة وكان الفرنج فرشوا الرخام فوق الصخرة وغيبوها فأمر بكشفها. وكان سبب تغطيتها بالفرش أن القسيسين باعوا كثيرا منها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة يشترونه بوزنه ذهبا رجاء بركتها وكان أحدهم إذا دخل إلى بلاده باليسير منها بنى له الكنيسة ويجعل في مذبحها فخاف بعض ملوكهم أن تفنى فأمر بها ففرش فوقها حفظا لها فلما كشفت نقل إليها صلاح الدين المصاحف الحسنة والربعات الجيدة ورتب القراء وأدر عليهم الوظائف الكثيرة فعاد الإسلام هناك غضا طريا وهذه المكرمة من فتح البيت المقدس لم يفعلها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه غير صلاح الدين رحمه الله وكفاه ذلك فخرا وشرفا. وأما الفرنج من أهله فإنهم أقاموا وشرعوا في بيع مالا يمكنهم حمله من أمتعتهم وذخائرهم وأموالهم وما لا يطيقون حمله وباعوا ذلك بأرخص الثمن فاستراه التجار من أهل العسكر واشتراه النصارى من أهل القدس الذين ليسوا من الفرنج فإنهم طلبوا من صلاح الدين ان يمكنهم من المقام في
552 مساكنهم ويأخذ منهم الجزية فأجابهم إلى ذلك، فاشتروا حينئذ من أموال الفرنج وترك الفرنج أيضا أشياء كثيرة لم يمكنهم بيعها من الأسرة والصناديق والبتيات وغير ذلك وتركوا أيضا من الرخام الذي لا يوجد مثله من الأساطين والألواح والفص وغيره شيئا كثيرا ثم ساروا. ذكر رحيل صلاح الدين إلى صور ومحاصرتها لما فتح صلاح الدين البيت المقدس أقام بظاهره إلى الخامس والعشرين من شعبان يرتب أمور البلد وأحواله وتقدم بعمل الربط والمدارس فجعل دار الاسبتار مدرسة للشافعية وهي في غاية ما يكون من الحسن فلما فرغ من أمر البلد سار إلى مدينة صور وكانت قد اجتمع فيها من الفرنج عالم كثير وقد صار المركيش صاحبها والحاكم فيها وقد ساسهم أحسن سياسة وبالغ في تحصين البلد ووصل صلاح الدين إلى عكا وأقام بها أياما فلما سمع المركيش بوصوله إليها جد في عمل سور صور وخنادقها وتعميقها ووصلها من البحر إلى البحر من الجانب الاخر فصارت المدينة كالجزيرة في وسط الماء لا يمكن الوصول إليها ولا الدنو منها. ثم رحل صلاح الدين من عكا فوصل إلى صور تاسع شهر رمضان فنزل على نهر قريب [من] البلد بحيث يراه، حتى اجتمع الناس وتلاحقوا وسار في الثاني والعشرين من رمضان فنزل على تل يقارب سور البلد بحيث يرى القتال وقسم القتال على العسكر كل جمع منهم له وقت معلوم يقاتلون منه،
553 بحيث أن يتصل القتال على أهل البلد على ان الموضع الذي يقاتلون منه قريب المسافة يكفيه الجماعة اليسيرة من أهل البلد لحفظه وعليه الخنادق التي قد وصلت من البحر إلى البحر فلا يكاد الطير يطير عليها فإن المدينة كالكف في البحر والساعد متصل بالبر والبحر والبحر من جانبي الساعد والقتال إنما هو في الساعد فزحف المسلمون مرة بالمنجنيقات والعرادات والجروخ والدبابات، وكان أهل صلاح الدين يتناوبون القتال مثل ولده الأفضل وولده الظاهر غازي وأخيه العادل بن أيوب وابن أخيه تقي الدين وكذلك سائر الأمراء. وكان للفرنج شواني وحراقات يركبون فيها في البحر ويقفون من جانبي الموضع الذي يقاتل المسلمون منه أهل البلد فيرمون المسلمين من جانبهم بالخروج ويقاتلونهم وكان ذلك يعظم عليهم لأن أهل البلد يقاتلونهم من بين أيديهم وأصحاب الشواني يقاتلونهم من جانبيهم فكانت سهامهم تنفذ من أحد الجانبي إلى الجانب الاخر لضيق الموضع فكثرت الجراحات في المسلمين والقتل ولم يتمكنوا من الدنو إلى البلد فأرسل صلاح الدين إلى الشواني التي جاءته من مصر وهي عشر قطع وكانت بعكا فأحضرها برجالها ومقاتلتها وعدتها وكانت في البحر تمنع شواني أهل صور من الخروج إلى قتال المسلمين فتمكن المسلمون حينئذ من القرب من البلد ومن قتاله فقاتلوه برا وبحرا وضايقوا حتى كادوا يظفرون فجاءت الأقدار لما لم يكن في الحساب وذلك ان خمس قطع من شواني المسلمين باتت في بعض تلك الليالي مقابل مينا صور ليمنعوا من الخروج منه والدخول اليه فباتوا ليلتهم يحرسون وكان مقدمهم عبد السلام المغربي الموصوف بالحذف في صناعته وشجاعته فلما كان وقت السحر أمنوا فناموا فما شعروا إلا بشواني الفرنج قد نازلتهم
554 وضايقتهم فأوقعت بهم فقتلوا من أرادوا قتله وأخذوا الباقين بمراكبهم وأدخلوهم مينا صور والمسلمون في البر ينظرون إليهم ورمى جماعة من المسلمين أنفسهم من الشواني في البحر فمنهم من سبح فنجا ومنهم من غرق. وتقدم السلطان إلى الشواني الباقية بالمسير إلى بيروت لعدم انتفاعه بها لقلتها فسارت فتبعها شواني الفرنج فحين رأى من في شواني المسلمين الفرنج مجدين في طلبهم ألقوا نفوسهم في شوانيهم إلى البر فنجوا وتركوها فأخذها صلاح الدين ونقضها وعاد إلى مقاتله صور في البر وكان ذلك قليل الجدوى لضيق المجال. وفي بعض الأيام خرج الفرنج فقاتلوا المسلمين من وراء خنادقهم فاشتد القتال بين الفريقين ودام إلى آخر النهار وكان خروجهم قبل العصر وأسر منهم فارس كبير مشهور بعد أن كثر القتال عليه من الفريقين لما سقط فلما أسر قتل وبقوا ذلك عدة أيام. ذكر الرحيل عن صور إلى عكا وتفريق العساكر لما رأى صلاح الدين أن امر صور يطول رحل عنها وهذه كانت عادته متى ثبت البلد بين يديه ضجر منه ومن حصاره فرحل عنه وكان هذه السنة لم يطل مقامه على مدينة بل فتح الجميع في الأيام القريبة كما ذكرناه بغير تعب ولا مشقة فلما رأى هو وأصحابه شدة أمر صور ملوها وطلبوا الانتقال عنها ولم يكن لأحد ذنب في أمرها غير صلاح الدين فإنه هو جهز جنود الفرنج وأمدها بالرجال والأموال من أهل عكا وعسقلان والقدس وغير ذلك كما سبق ذكره كان يعطيهم الأمان ويرسلهم إلى صور،
555 فصار فيها فرسان الفرنج بالساحل بأموالهم وأموال التجار وغيرهم فحفظوا المدينة وراسلوا الفرنج داخل البحر يستمدونهم فأجابوهم بالتلبية لدعوتهم ووعدوهم بالنصرة وأمروهم بحفظ صور لتكون دار هجرتهم يحتمون بها ويلجؤون إليها فزادهم ذلك حرصا على حفظها والذب عنها. وسنذكر إن شاء الله ما صار إليه الأمر بعد ذلك ليعلم أن الملك لا ينبغي أن يترك الحزم وان ساعدته الأقدار فلأن يعجز حازما خير له من أن يظفر مفرطا مضيعا للحزم وأعذر له عند الناس. ولما أراد الرحيل استشار أمراءه فاختلفوا فجماعة يقولون الرأي أن يرحل فقد جرح الرجال وقتلوا وملوا وفنيت النفقات وهذا الشتاء قد حضر والشوط بطين فنريح ونستريح في هذا البرد فإذا جاء الربيع اجتمعنا وعاودناها وغيرها وكان هذا قول الأغنياء منهم وكأنهم خافوا ان السلطان يقترض منهم ما ينفقه في العسكر إذا أقام لخلو الخزائن وبيوت الأموال من الدرهم والدينار فإنه كان يخرج كل ما حمل إليه منها وقالت الطائفة الأخرى الرأي ان نصابر البلد ونضايقه فهو الذي يعتمدون عليه من حصونهم ومتى أخذناه منهم انقطع طمع من داخل البحر من هذا الجانب وأخذنا باقي البلاد صفوا عفوا. فبقي صلاح الدين مترددا بين الرحيل والإقامة فلما رأى من يرى الرحيل اقامته أخل بما رد إليه من المحاربة والرمي بالمنجنيق واعتذروا بجراح رجالهم وانهم قد أرسلوا بعضهم ليحضروا نفقاتهم والعلوفات لدوابهم والأقوات لهم إلى ذلك من الأعذار فصاروا مقيمين بغير قتال فاضطر إلى الرحيل فرحل عنها آخر شوال وكان أول كانون الأول إلى عكا
556 فأذن العساكر جميعها بالعود إلى أوطانهم والاستراحة في الشتاء والعود في الربيع فعادت عساكر الشرق والموصل وغيرها وعساكر الشام وعساكر مصر وبقي حلقته الخاص مقيما بعكا فنزل بقلعتها ورد أمر البلد إلى عز الدين جورديك وهو من أكابر المماليك النورية جمع الديانة والشجاعة وحسن السيرة. ذكر فتح هونين لما فتح صلاح الدين تبنين امتنع من بهونين من تسليمها وهي من أحصن القلاع وامنع فلم ير التعريج عليها ولا الاشتغال بمحاصرتها بل سير إليها جماعة من العسكر والأمراء فحصروها ومنعوا من حمل الميرة إليها واشتغل بما تقدم ذكره من فتح عسقلان والبيت المقدس وغير ذلك فلما كان يحاصر مدينة سور أرسل من فيها يطلبون الأمان فأمنهم فسلموا ونزلوا منها فوفى لهم بأمانهم. ذكر حصر صفد وكوكب والكرك لما سار صلاح الدين إلى عسقلان جعل على قلعة كوكب وهي مطلة على الأردن من يحصرها ويحفظ الطريق للمجتازين لئلا ينزل من به من الفرنج يقطعونه وسير طائفة أخرى من العسكر أيضا إلى قلعة صفد فحصروها،
557 وهي مطلة على مدينة طبرية. وكان حصن كوكب للإسبتار وحصن صفد للداوية وهما قريبان من حطين موضع المصاف فلجأ اليهما جمع ممن سلم من الداوية والإسبتار فحموهما فلما حصرهما المسلمون استراح الناس من شر من فيها واتصلت الطرق حتى كان يسير فيها المنفرد فلا يخاف. وكان مقدم الجماعة الذين يحصرون قلعة كوكب أميرا يقال له سيف الدين وهو أخو جاولي الأسدي وكان شهما شجاعا يرجع إلى دين وعبادة فأقام عليه إلى آخر شوال وكان أصحابه يحرسون نوبا مرتبة فلما كان آخر ليلة من شوال غفل الذين كانت نوبتهم في الحراسة وكان قد صلى ورده من الليل إلى السحر وكانت ليلة كثيرة الرعد والبرق والريح والمطر فلم يشعر المسلمون وهم نازلون الا والفرنج قد خالطوهم بالسيوف ووضعوا السلاح فيهم فقتلوهم أجمعين وأخذوا ما كان عندهم من طعام وسلاح وغيره وعادوا إلى قلعتهم فقووا بذلك قوة عظيمة أمكنهم ان يحفظوا قلعتهم إلى ان اخذت أواخر سنة اربع وثمانين [خمسمائة]، على ما سنذكره إن شاء الله. وأتى الخبر إلى صلاح الدين بذلك عند رحيله عن صور فعظم ذلك عليه مضافا إلى ما ناله من أخذ شوانيه ومن فيها ورحيله عن صور ثم رتب على حصن كوكب الأمير قايماز النجمي في جماعة أخرى من الأجناد فحصروها.
558 ذكر الفتنة بعرفات وقتل ابن المقدم في هذه السنة يوم عرفة قتل شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم بعرفات وهو أكبر الأمراء الصلاحية وقد تقدم من ذكره ما فيه كفاية. وسبب قتله أنه لما فتح المسلمون البيت المقدس طلب إذنا من صلاح الدين ليحج ويحرم من القدس ويجمع في سنته بين الجهاد والحج وزيارة الخليل عليه السلام ومن بالشام من مشاهد الأنبياء وبين زيارة رسول فأذن له وكان قد اجتمع تلك السنة من الحجاج بالشام الخلق العظيم من البلاد والعراق والموصل وديار الجزيرة وخلاط وبلاد الروم ومصر وغيرها ليجمعوا بين زيارة بين المقدس ومكة فجعل ابن المقدم أميرا عليهم فساروا حتى وصلوا إلى عرفات سالمين ووقفوا في تلك المشاعر وأدوا الواجب والسنة. فلما كان عشية عرفة تجهز هو وأصحابه ليسيروا من عرفات فأمر بضرب كوساته التي هي امارة الرحيل فضربها أصحابه فأرسل اليه أمير الحاج العراقي وهو مجير الدين طاشتكين ينهاه عن الإفاضة من عرفات قبله ويأمر بكف أصحابه عن ضرب كوساته فأرسل اليه يقول إني ليس لي معه تعلق أنت أمير الحاج العراقي وأنا أمير الحاج الشامي وكل منا يفعل ما يراه ويختاره وسار ولم يقف ولم يسمع قوله فلما رأى طاشتكين إصراره على مخالفته ركب في أصحابه وأجناده وتبعه من غوغاء الحاج العراقي وبطاطيهم وطماعتهم العالم الكثير والجم الغفير وقصدوا
559 حاج الشام مهولين عليهم فلما قربوا منهم خرج الأمر من الضبط وعجزوا عن تلافيه وسبيت جماعة من نسائهم إلا أنهن رددن عليهم وجرح ابن المقدم عدة جروح وكان يكف أصحابه عن القتال ولو أذن لهم لانتصف منهم وزاد ولكنه راقب الله تعالى وحرمة المكان واليوم فلما أثخن بالجراحات أخذه طاشتكين إلى خيمته وأنزله عنده ليمرضه ويستدرك الفارط في حقه وساروا تلك الليلة من عرفات فلما كان الغد مات بمنى ودفن بمقبرة المعلى ورزق الشهادة بعد الجهاد وشهود فتح البيت المقدس رحمه الله تعالى. ذكر قوة السلطان طغرل على قزل في هذه السنة قوي أمر السلطان طغرل وكثر جمعه وملك كثيرا من البلاد فأرسل قزل إلى الخليفة يستنجده ويخوفه من طغرل ويبذل من نفسه الطاعة والتصرف على ما يختارونه وأرسل طغرل رسولا إلى بغداد يقول أريد أن يتقدم الديوان بعمارة [دار] السلطنة لأسكنها إذا وصلت فأكرم رسول قزل ووعده بالنجدة ورد رسول السلطان طغرل بغير جواب وأمر الخليفة بنقض دار السلطنة فهدمت إلى الأرض وعفي أثرها.
560 ذكر ملك شرستي من الهند وانهزام المسلمين بعدها في آخر هذه السنة سار شهاب الدين الغوري ملك غزنة إلى بلاد الهند وقصد بلاد أجمير وتعرف بولاية السوالك واسم ملكهم كولة وكان شجاعا شهما فلما دخل المسلمون بلاده ملكوا مدينة تبرندة وهي حصن منيع عامر وملكوا شرستي وملكوا كوة رام. فلما سمع ملكهم جمع العساكر فأكثر وسار إلى المسلمين فالتقوا وقامت الحرب على ساق وكان مع الهند أربعة عشر فيلا فلما اشتدت الحرب انهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم فقال لشهاب الدين بعض خواصه قد انكسرت الميمنة والميسرة فانج بنفسك لا يهلك المسلمون فأخذ شهاب الدين الرمح وحمل على الهنود فوصل إلى الفيلة فطعن فيلا منها في كتفه وجرح الفيل لا يندمل فلما وصل شهاب الدين إلى الفيلة زرقه بعض الهنود بحربة فوقعت الحربة في ساعده فنفذت الحربة من الجانب الآخر فوقع حينئذ إلى الأرض فقاتل فيه أصحابه فركبوه فرسه وعادوا به منهزمين فلم يتبعهم الهنود فلما أبعدوا عن موضع الوقعة بمقدار فرسخ أغمي على شهاب الدين من كثرة خروج الدم فحمله الرجال على أكتافهم في محفة اليد أربعة وعشرين فرسخا فلما وصل إلى الهاوور أخذ الأمراء الغورية وهم الذين انهزموا ولم يثبتوا وعلق على كل واحد منهم
561 عليق شعير، وقال أنتم دواب ما أنتم أمراء وسار إلى غزنة وأمر بعضهم فمشى إليها ماشيا فلما وصل إلى غزنة أقام بها ليستريح الناس ونذكر ما فعله بملك الهند الذي هزمه سنة ثمان وثمانين [خمسمائة] إن شاء الله تعالى. ذكرة عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الأول قتل مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب وهو أستاذ دار الخليفة أمر الخليفة بقتله وكان متحكما في الدولة ليس للخليفة معه حكم وكان هو القيم بالبيعة له وظهر له أموال عظيمة أخذ جميعها وكان حسن السيرة عفيفا عن الأموال وكان الذي سعى به إنسان من أصحابه وصنائعه يقال له عبيد الله بن يونس فسعى به إلى الخليفة وقبح آثاره فقبض عليه وقتله. وفيها في ربيع الآخر وقع حريق في الحظائر ببغداد احترقت أحطاب كثيرة وسببه أن فقيها بالمدرسة النظامية كان يطبخ طعاما يأكله فغفل عن النار والطبيخ فعلقت النار واتصلت فاحترقت جميعها واحترق درب السلسلة وغيره مما يجاوره. وفيها في شوال استوزر الخليفة الناصر لدين الله أبا المظفر عبيد الله بن يونس ولقبه جلال الدين ومشى أرباب الدولة في ركابه حتى قاضي القضاة وكان ابن يونس من شهوده وكان يمشي ويقول لعن الله طول العمر. وفيها في المحرم توفي عبد المغيث بن زهير الحري ببغداد وكان من أعيان الحنابلة قد سمع الحديث الكثير وصنف كتابا في فضائل يزيد
562 ابن معاوية أتى فيه بالعجائب وقد رد عليه أبو الفرج بن الجوزي وكان بينهما عداوة. وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني، وولي القضاء للمقتفي بعد موت الزينبي، ثم للمستنجد بالله، ثم عزل، ثم أعيد إلى المستضيء بأمر الله. وفيها توفي علي بن خطاب بن ظفر الشيخ الصالح من جزيرة ابن عمر وكان من الأولياء أرباب الكرامات وصحبته أنا مدة فلم أر مثله حسن خلق وسمت وكرم عبادة رحمه الله. وفيها ولدت امرأة من سواد بغداد بنتا لها أسنان. وفيها توفي نصر بن فتيان بن مطر أبو الفتح بن المنى الفقيه الحنبلي لم يكن لهم مثله رحمه الله. تم المجلد الحادي عشر