بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: الكامل في التاريخ المؤلف: ابن الأثير الجزء: 12 الوفاة: 630 المجموعة: مصادر التاريخ تحقيق: الطبعة: سنة الطبع: 1386 - 1966م المطبعة: دار صادر - دار بيروت الناشر: دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر ردمك: ملاحظات: الكامل في التاريخ 12
1 الكامل في التاريخ تأليف الشيخ العلامة عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير المجلد الثاني عشر دار صادر للطباعة والنشر دار بيروت للطباعة والنشر بيروت 1386 ه _ 1966 م
3 بسم الله الرحمن الرحيم 584 ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة ذكر حصر صلاح الدين كوكب في هذه السنة في المحرم انحسر الشتاء فسار صلاح الدين من عكا فيمن تخلف عنده من العسكر إلى قلعة كوكب فحصرها ونازلها ظنا منه أن ملكها سهلا وأخذها عجلا وهو في قلة من العسكر متيسر فلما رآها عالية منيعة [أدرك أن] الوصول إليها متعذر، وكان عنده منها ومن صفد والكرك المقيم المقعد لأن البلاد الساحلية من عكا إلى جهة الجنوب كانت قد ملك جميعها ما عدا هذه الحصون وكان يختار أن لا يبقى في وسطها ما يشغل قلبه ويقسم همه ويحتاج إلى حفظه ولئلا ينال الرعايا والمجتازين منهم الضرر العظيم. فلما حصر كوكب ورآها منيعة يبطئ ملكها وأخذها رحل عنها،
5 وجعل عليها قايماز النجمي مستديما لحصاره وكان رحيله عنها في ربيع الأول وأتاه رسل الملك قلج أرسلان وقزل أرسلان وغيرهما يهنونه بالفتح والظفر وسار من كوكب إلى دمشق ففرح الناس بقدومه وكتب إلى البلاد جميعها باجتماع العساكر بها وأقام بها إلى أن سار إلى الساحل. ذكر رحيل صلاح الدين إلى بلد الفرنج لما أراد صلاح الدين المسير عن دمشق حضر عنده القاضي الفاضل مودعا له ومستشيرا وكان مريضا وودعه وسار عن دمشق منتصف ربيع الأول إلى حمص فنزل على بحيرة قدس غربي حمص وجاءته العساكر فأول من أتاه من أصحاب الأطراف عماد الدين زنكي بن مودود بن أقسنقر صاحب سنجار ونصيبين والخابور وتلاحقت العساكر من الموصل وديار الجزيرة وغيرها فاجتمعت عليه وكثرت عنده فسار حتى نزل تحت حصن الأكراد من الجانب الشرقي وكنت معه حينئذ فأقام يومين وسار جريدة وترك أثقال العسكر موضعها تحت الحصن ودخل إلى بلد الفرنج فأغار على صافيثا والعريمة ويحمور وغيرها من البلاد والولايات ووصل إلى قريب طرابلس وأبصر البلاد وعرف من أين يأتيها وأين يسلك منها، ثم عاد إلى معسكره سالما. وقد غنم العسكر من الدواب على اختلاف أنواعها ما لا حد له وأقام تحت حصن الأكراد إلى آخر ربيع الأخر.
6 ذكر فتح جبلة لما أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد أتاه قاضي جبلة وهو منصور بن نبيل يستدعيه إليها ليسلمها إليه وكان هذا القاضي عند بيمند صاحب أنطاكية وجبلة مسموع القول مقبول، الكلمة له الحرمة الوافرة والمنزلة العالية، وهو يحكم على جميع المسلمين بجبلة ونواحيها وعلى ما يتعلق بالبيمند فحملته الغيرة للدين على قصد السلطان وتكفل له بفتح جبلة ولاذقية والبلاد الشمالية فسار صلاح الدين معه رابع جمادى الأولى فنزل بانطرطوس سادسه فرأى الفرنج قد أخلوا المدينة واحتموا في برجين حصينين كل واحد منها قلعة حصينة ومعقل منيع فخرب المسلمون دورهم ومساكنهم وسور البلد ونهبوا ما وجدوه من ذخائر وكان الداوية بأحد البرجين فحصرها صلاح الدين فنزل إليه من في أحد البرجين بأمان وسلموه بأمنهم وخرب البرج وألقى حجارته في البحر وبقي الذي فيه الداوية لم يسلموه وكان معهم مقدمهم الذي أسره صلاح الدين فنزل إليه من في أحد البرجين بأمان وسلموه بأمنهم وخرب البرج وألقى حجارته في البحر وبقي الذي فيه الداوية لم يسلموه وكان معهم مقدمهم الذي أسره صلاح الدين يوم المصاف وكان قد أطلقه لما ملك البيت المقدس فهو الذي حفظ هذا الحصن فخرب صلاح الدين ولاية أنطرطوس ورحل عنها وأتى مرقية وقد أخلاها أهلها ورحلوا عنها وساروا إلى المرقب وهي من حصونهم التي لا ترام ولا تحدث أحدا نفسه بملكه لعلوه وامتناعه وهو للإسبتار والطريق تحته فيكون الحصن على يمين المجتاز إلى جبلة والبحر عن يساره والطريق مضيق لا يسلكه إلا الواحد بعد الواحد. فاتفق أن صاحب صقلية من الفرنج قد سير نجدة إلى فرنج الساحل في ستين قطعة من الشواني وكانوا بطرابلس فلما سمعوا بمسير صلاح الدين جاؤوا ووقفوا في البحر تحت المرقب في شوانيهم ليمنعوا من يجتاز
7 بالسهام، فلما رأى صلاح الدين ذلك أمر بالطارقيات والجفتيات فصفت على الطريق مما يلي البحر من أول المضيق إلى آخره وجعل وراءها الرماة فمنعوا الفرنج من الدنو إليهم فاجتاز المسلمون عن آخرهم حتى عبروا المضيق ووصلوا إلى جبلة ثامن عشر جمادى الأولى وتسلمها وقت وصوله. وكان قاضيها قد سبق إليها ودخل فلما وصل صلاح الدين رفع أعلامه على سورها وسلمها إليه وتحصن الفرنج الذين كانوا بها تحصنا واحتموا بقلعتها فما زال قاضي جبلة يخوفهم ويرغبهم حتى استنزلهم بشرط الأمان، وأن يأخذ رهائنهم يكونون عنده إلى أن يطلق الفرنج رهائنهم من المسلمين من أهل جبلة. وكان بيمند صاحبها قد أخذ رهائن القاضي ومسلمي جبلة وتركهم عنده بأنطاكية فأخذ القاضي رهائن الفرنج وجاء رؤساء أهل الجبل إلى صلاح الدين بطاعة أهله وهو من أمنع الجبال وأشقها مسلكا وفيه حصن يعرف ببكسرائيل بين جبلة ومدينة حماه فملكه المسلمون وصار الطريق في هذا الوقت عليه من بلاد الإسلام إلى العسكر وكان الناس يلقون شدة في سلوكه وقرر صلاح الدين أحوال جبلة وجعله فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر وسار عنها.
8 ذكر فتح لاذقية لما فرغ السلطان من أمر جبلة سار عنها إلى لاذقية فوصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى فترك الفرنج المدينة لعجزهم عن حفظها وصعدوا إلى حصنين لها على الجبل فامتنعوا بهما فدخل المسلمون المدينة وحصروا القلعتين اللتين فيهما الفرنج وزحفوا إليهما ونقبوا الأسوار ستين ذراعا وعلقوه وعظم القتال واشتد الأمر عند الوصول إلى السور فلما أيقن الفرنج بالعطب ودخل إليهم قاضي جبلة فخوفهم من المسلمين فطلبوا الأمان فأمنهم صلاح الدين ورفعوا الاعلام الإسلامية إلى الحصنين وكان ذلك في اليوم الثالث من النزول عليها. وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرهم زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعه فخرب المسلمون كثيرا منها ونقلوا رخامها وشعثوا كثيرا من بيعها التي قد غرم على كل واحدة منها الأموال الجليلة المقدار وسلمها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر فعمرها وحصن قلعتها حتى إذا رآها اليوم من رآها ينكرها فلا يظن أن هذه تلك وكان عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة الوافرة عليها كما فعل بقلعة حماه. ذكر حال أسطول صقلية لما نازل صلاح الدين لاذقية [جاء أسطول صقلية] الذي تقدم ذكره، فوقف بإزاء مينا لاذقية، فلما سلمها الفرنج الذين بها إلى صلاح الدين،
9 عزم أهل هذا الأسطول على أخذ من يخرج منها من أهلها غيظا وحنقا حيث سلموها سريعا فسمع بذلك أهل لاذقية فأقاموا وبذلوا الجزية وكان سبب مقامهم. ثم إن مقدم هذا الأسطول طلب من السلطان الأمان ليحضر عنده فأمنه وحضر [وقبل] الأرض بين يديه وقال ما معناه إنك سلطان رحيم كريم وقد فعلت بالفرنج ما فعلت فذلوا فاتركهم يكونون مماليك وجندك تفتح بهم البلاد والممالك وترد عليهم بلادهم وإلا جاءك من البحر ما لا طاقة لك به فيعظم عليك الأمر ويشتد الحال. فأجابه صلاح الدين بنحو من كلامه من إظهار القوة والاستهانة بكل من يجيء من البحر وأنهم إن خرجوا أذاقهم ما أذاق أصحابهم من القتل والأسر فانقلب على وجهه ورجع إلى أصحابه. ذكر فتح صهيون وعدة الحصون ثم رحل صلاح الدين عن لاذقية في السابع من جمادي الأولى وقصد قلعة صهيون وهي قلعة منيعة شاهقة في الهواء صعبة المرتقى على قرنة جبل يطيف بها واد عميق فيه ضيق في بعض المواضع بحيث أن حجر المنجنيق يصل منه إلى الحصن إلا أن الجبل متصل بها من جهة الشمال وقد عملوا لها خندقا عميقا لا يرى قعره وخمسة أسوار منيعة فنزل صلاح الدين على هذا الجبل الملتصق بها ونصبت عليه المنجنيقات ورماها وتقدم إلى ولده الظاهر صاحب حلب فنزل على المكان الضيق من الوادي ونصب عليه المنجنيقات فرمى الحصن منه.
10 وكان معه من الرجالة الحلبيين كثير وهم في الشجاعة بالمنزلة المشهورة ودام رشق السهام من قسى اليد والجرح والزنبورك والزيار فجرح أكثر من بالحصن وهم يظهرون التجلد والامتناع وزحف المسلمون إليهم ثاني جمادى الآخرة فتعلقوا بقرنة من ذلك الجبل قد أغفل الفرنج إحكامها فتسلقوا منها بين الصخور حتى التحقوا بالسور الأول فملكوا منها ثلاثة وغنموا ما فيها من أبقار ودواب وذخائر وغير ذلك واحتمى الفرنج بالقلة التي للقلعة فقاتلهم المسلمون عليها فنادوا وطلبوا الأمان فلم يجبهم صلاح الدين اليه فقرروا على أنفسهم مثل قطيعة البيت المقدس وتسلم الحصن وسلمه إلى أمير يقال له ناصر الدين منكوبرس صاحب قلعة أبي قبيس فحصنه وجعله من أحصن الحصون. ولما ملك المسلمون صهيون تفرقوا في تلك النواحي فملكوا حصن بلاطنوس وكان من به من الفرنج قد هربوا منه وتركوه خوفا ورعبا وملك أيضا حصن العيد وحصن الجماهرتين فاتسعت المملكة الإسلامية بتلك الناحية إلا أن الطريق إليها من البلاد الإسلامية على عقبة بكسرائيل شاق شديد، لأن الطريق السهلة كانت غير مسلوكة، لأن بعضها بيد الإسماعيلية وبعضها بيد الفرنج.
11 ذكر فتح حصن بكأس والشغر ثم سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى الآخرة فوصل إلى قلعة بكأس [فرأى الفرنج قد أخلوها وتحصنوا بقلعة الشغر فملك قلعة بكأس] بغير قتال وتقدم إلى قلعة الشغر وهي وبكاس على الطريق السهل المسلوك إلى لاذقية وجبلة والبلاد التي افتتحها صلاح الدين من بلاد الشام الإسلامية. فلما نازلها رآها منيعة حصينة لا ترام ولا يوصل إليها بطريق من الطرق، إلا أنه أمر بمزاحفتهم ونصب المنجنيق عليهم ففعلوا ذلك ورمى بالمنجنيق فلم يصل من أحجاره إلى القلعة شيء إلا القليل الذي لا يؤذي فبقي المسلمون عليه أياما لا يرون فيه طمعا وأهله غير مهتمين بالقتال لامتناعهم عن ضرر يتطرق إليهم وبلاء بنزل عليهم. فبينما صلاح الدين جالس وعنده أصحابه وهم في ذكر القلعة وإعمال الحيلة في الوصول إليها فقال بعضهم هذا الحصن كما قال الله تعالى (فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا) فقال صلاح الدين أو يأتي الله بنصر من عنده وفتح. فبينما هم في هذا الحديث إذ قد أشرف عليهم فرنجي ونادى بطلب الأمان لرسول يحضر عند صلاح الدين فأجيب إلى ذلك ونزل رسول وسأل انتظارهم ثلاثة أيام فإن جاءهم من يمنعهم، وإلا سلموا القلعة بما فيها
12 من ذخائر ودواب وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائنهم على الوفاء به. فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه واتفق أنه يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة وكان سبب استمالهم أنهن أرسلوا إلى البيمند صاحب أنطاكية وكان هذا الحصن له يعرفونه أنهم محصورون ويطلبون منه أن يرحل عنهم المسلمين فإن فعل وإلا سلموها وإنما فعلوا ذلك لرعب قذفه الله تعالى في قلوبهم وإلا فلو أقاموا الدهر الطويل لم يصل إليهم أحد ولا بلغ المسلمون منه غرضا فلما تسلم صلاح الدين الحصن سلمه إلى أمير يقال له قلج وأمره بعمارته ورحل عنه. ذكر فتح سرمينية لما كان صلاح الدين مشغولا بهذه القلاع والحصون سير ولده الظاهر غازي صاحب حلب فحصر سرمينية وضيق على أهله واستنزلهم على قطيعة قررها عليهم فلما أنزلهم وأخذ منهم المقاطعة هدم الحصن وعفى أثره وعالي بنيانه. وكان فيه وفي هذه الحصون من أسارى المسلمين الجم الغفير فأطلقوا وأعطوا كسوة ونفقة وكان فتحه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة. واتفق أن فتح هذه المدن والحصون جميعها من جبلة إلى سرمينية، مع
13 كثرتها كان في ست جمع مع أنها في أيدي أشجع الناس وأشدهم عداوة للمسلمين فسبحان من إذا أراد أن يسهل الصعب فعل وهي جميعها من أعمال أنطاكية ولم يبق لها سوى القصير وبغراس ودرب ساك وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في مكانه. ذكر فتح برزية لما رحل صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية وكانت قد وصفت له وهي تقابل حصن أفامية وتناصفها في أعمالها وبينهما بحيرة تجتمع من ماء العاصي وعيون تتفجر من جبل برزية وغيره وكان أهلها أضر شيء على المسلمين يقطعون الطريق ويبالغون في الأذى فلما وصل إليها نزل شرقيها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة ثم ركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعا يقاتلها منه فلم يجده إلا من جهة الغرب فنصب له هناك [خيمة] صغيرة ونزل فيها ومعه بعض العسكر جريدة لضيق المواضع. وهذه القلعة لا يمكن أن تقاتل من جهة الشمال والجنوب البتة فإنها لا يقدر أحد أن يصعد جبلها من هاتين الجهتين وأما الجانب الشرقي فيمكن الصعود منه لكن لغير مقاتل لعلوه وصعوبته وأما جهة الغرب فإن الوادي المطيف بجبلها قد ارتفع هناك ارتفاعا كثيرا حتى قارب القلعة بحيث يصل منه حجر المنجنيق والسهام فنزل له المسلمون ونصبوا عليه المنجنيقات ونصب أهل القلعة عليها منجنيقا بطلها.
14 ورأيت أنا من رأس جبل عال يشرف على القلعة لكنه لا يصل منه شئ إليها امرأة ترمي من القلعة عن المنجنيق وهي التي أبطلت منجنيق المسلمين فلما رأى صلاح الدين أن المنجنيق لا ينتفعون به عزم على الزحف ومكاثرة أهلها بجموعه فقسم عسكره ثلاثة أقسام يزحف قسم فإذا تعبوا وكلوا عادوا وزحف القسم الثاني فإذا تعبوا وضجروا عادوا وزحف القسم الثالث ثم يدور الدور مرة بعد أخرى حتى يتعب الفرنج وينصبوا فإنه لم يكن عندهم من الكثرة ما يتقسمون كذلك فإذا تعبوا وأعيوا سلموا القلعة. فلما كان الغد وهو السابع والعشرين من جمادى الآخرة تقدم أحد الأقسام وكان المقدم عليهم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي صاحب سنجار وزحفوا وخرج الفرنج من حصنهم فقاتلهم على فصيلهم ورماهم المسلمون بالسهام من وراء الجفتيات والجنويات والطارقيات ومشوا إليهم حتى قربوا إلى الجبل فلما قاربوا الفرنج عجزوا عن الدنو منهم لخشونة المرتقى وتسلط الفرنج عليهم لعلو مكانهم بالنشاب والحجارة فإنهم كانوا يلقون الحجارة الكبار فتتدحرج إلى أسفل الجبل فلا يقوم لها شيء فلما تعب هذا القسم انحدروا وصعد القسم الثاني وكانوا جلوسا ينتظرونهم وهم حلقة صلاح الدين الخاص فقاتلوا قتالا وكان الزمان حرا شديدا فاشتد الكرب على الناس وصلاح الدين في سلاحه يطوف عليهم ويحرضهم وكان تقي الدين ابن أخيه كذلك فقاتلوهم إلى قريب الظهر ثم تعبوا ورجعوا. فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقدم إليهم وبيده جماق يردهم وصاح في القسم الثالث وهم جلوس ينتظرون نوبتهم فوثبوا ملبين وساعدوا إخوانهم وزحفوا معهم فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به وكان أصحاب
15 عماد الدين قد استراحوا فقاموا أيضا معهم فحينئذ اشتد الأمر على الفرنج وبلغت القلوب الحناجر وكانوا قد اشتد تعبهم ونصبهم فظهر عجزهم عن القتال وضعفهم عن حمل السلاح لشدة الحر والقتال فخالطهم المسلمون فعاد الفرنج يدخلون الحصن فدخل المسلمون معهم وكان طائفة قليلة في الخيام شرقي الحصن فرأوا الفرنج قد أهملوا ذلك الجانب لأنهم لم يروا فيه مقاتلا وليكثروا في الجهة التي فيها صلاح الدين فصعدت تلك الطائفة من العسكر فلم يمنعهم مانع فصعدوا أيضا الحصن من الجهة الأخرى فالتقوا مع المسلمين الداخلين مع الفرنج فملكوا الحصن عنوة وقهرا، ودخل الفرنج القلة التي للحصن وأحاط بها المسلمون وأرادوا نقبها. وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة وأرجلهم في القيود والخشب المثقوب فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبروا في سطع القلة وظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا على السطح فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسر فملكها المسلمون عنوة ونهبوا ما فيها وأسروا وسبوا من فيها وأخذوا صاحبها وأهله وأمست خالية لا ديار بها وألقى المسلمون النار في بعض بيوتهم فاحترقت. ومن أعجب ما يحكى من السلامة أنني رأيت رجلا من المسلمين على هذا قد جاء من طائفة من المؤمنين شمالي القلعة إلى طائفة أخرى من المسلمين جنوبي القلعة وهو يعدو في الجبل عرضا فألقيت عليه الحجارة وجاءه حجر كبير لو ناله لبعجه فنزل عليه فناداه الناس يحذرونه فالتفت ينظر ما الخبر فسقط علو وجهه من عثرة فاسترجع الناس وجاء الحجر إليه فلما قاربه وهو منبطح على وجهه لقيه حجر آخر ثابت في الأرض فوق الرجل فضربه المنحدر فارتفع عن الأرض وجاز الرجل ثم عاد إلى الأرض من جانبه الآخر لم ينله منه أذى ولا ضرر وقام يعدو حتى لحق بأصحابه فكان
16 سقوطه سبب نجاته فتعست أم الجبان. وأما صاحب برزية فإنه أسر هو وأصحابه وامرأته وأولاده ومنهم بنت له معها زوجها فتفرقهم العسكر فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم وجمع شمل بعضهم ببعض فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها وكانت امرأة صاحب برزية أخت امرأة بيمند صاحب أنطاكية وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه وتعلمه كثيرا من الأموال التي تؤثر فأطلق هؤلاء لأجلها. ذكر فتح درب ساك لما فتح صلاح الدين حصن برزية رحل عنه من الغد فأتى جسر الحديد وهو على العاصي بالقرب من أنطاكية فأقام عليه حتى وافاه من تخلف عنه من عسكره ثم سار عنه إلى قلعة درب ساك فنزل عليها ثامن رجب وهي من معاقل الداوية الحصينة وقلاعهم التي يدخرونها لحماياتهم عند نزول الشدائد. فلما نزل عليها نصب المنجنيقات وتابع الرمي بالحجارة فهدمت من سورها شيئا يسيرا فلم يبال من فيه بذلك فأمر بالزحف عليها ومهاجمتها فبادرها العسكر بالزحف وقاتلوها وكشفوا الرجال عن سورها وتقدم النقابون فنقبوا منها برجا وعلقوه فسقط واتسع المكان الذي يريد المقاتلة [أن] يدخلوا منه، وعادوا يومهم ذلك ثم باكروا الزحف من الغد. وكان من فيه قد أرسلوا إلى صاحب أنطاكية يستنجدونه، فصبروا،
17 وأظهروا الجلد وهم ينتظرون جوابه إما بإنجادهم وإزاحة المسلمين عنهم وإما بالتخلي عنهم ليقوم عذرهم في التسليم فلما علموا عجزه عن نصرتهم وخافوا هجوم المسلمين عليها وأخذهم بالسيف وقتلهم وأسرهم ونهب أموالهم طلبوا الأمان فأمنهم على شرط [أن] لا يخرج أحد إلا بثيابه التي عليه بغير مال ولا سلاح ولا أثاث بيت ولا دابة ولا شيء مما بها ثم أخرجهم منه وسيرهم إلى أنطاكية وكان فتحه تاسع عشر رجب. ذكر فتح بغراس ثم سار عن درب ساك إلى قلعة بغراس فحصرها بعد ان اختلف أصحابه في حصرها فمنهم من أشار به ومنهم من نهى عنه وقال هو حصن حصين وقلعة منيعة وهو بالقرب من أنطاكية ولا فرق بين حصره وحصرها ويحتاج أن يكون أكثر العسكر في اليزك مقابل أنطاكية فإذا كان الأمر كذلك قل المقاتلون عليه ويتعذر الوصول إليها. فاستخار الله تعالى وسار إليها وجعل أكثر عسكره يزكا مقابل أنطاكية يغيرون على أعمالها وكانوا حذرين من الخوف من أهلها إن غفلوا لقربهم منها وصلاح الدين في بعض أصحابه على القلعة يقاتلها ونصب المنجنيقات فلم يؤثر فيها شيئا لعلوها وارتفاعها فغلب على الظنون تعذر فتحها وتأخر ملكها وشق على المسلمين قلة الماء عندهم إلا أن صلاح الدين نصب الحياض وأمر بحمل الماء إليها فخفف الأمر عليهم.
18 فبينما هو على هذه الحال إذ قد فتح باب القلعة وخرج منه إنسان يطلب الأمان فأجيب إلى ذلك فأذن له في الحضور فحضر وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه إليه بما فيه على قاعدة درب ساك فأجابهم إلى ما طلبوا فعاد الرسول ومعه الأعلام الإسلامية فرفعت على رأس القلعة ونزل من فيها وتسلم المسلمون القلعة بما فيها من ذخائر وأموال وسلاح وأمر صلاح الدين بتخريبه فخرب وكان ذلك مضرة عظيمة على المسلمين فإن ابن ليون صاحب الأرمن خرج إليه من ولايته وهو مجاوره فجدد عمارته وأتقنه وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون منه على البلاد فتأذى بهم السواد الذي لحلب وهو إلى الآن بأيديهم. ذكر الهدنة بين المسلمين وصاحب أنطاكية لما فتح صلاح الدين بغراس عزم على التوجه إلى أنطاكية وحصرها فخاف البيمند صاحبها من ذلك وأشفق منه فأرسل إلى صلاح الدين يطلب الهدنة وبذل إطلاق كل أسير عنده من المسلمين فاستشار من عنده من أصحاب الأطراف وغيرهم فأشار أكثرهم بإجابته إلى ذلك ليعود الناس ليستريحوا ويجددوا ما يحتاجون إليه فأجاب إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر أولها أول تشرين الأول وآخرها آخر أيار وسير رسوله إلى صاحب أنطاكية يستحلفه ويطلق من عنده من الأسرى. وكان صاحب أنطاكية في هذا الوقت أعظم الفرنج شأنا وأكثرهم ملكا فإنه كان الفرنج قد سلموا اليه طرابلس بعد موت القمص وجميع أعمالها مضافا إلى ما كان له لأن القمص لم يخلف ولدا فلما سلمت إليه طرابلس جعل ولده الأكبر فيها نائبا عنه.
19 وأما صلاح الدين فإنه عاد إلى حلب ثالث شعبان فدخلها وسار منها إلى دمشق وفرق العساكر الشرقية كعماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار والخابور وعسكر الموصل وغيرها ثم رحل من حلب إلى دمشق وجعل طريقه على قبر عمر بن عبد العزيز فزاره وزار الشيخ الصالح أبا زكريا المغربي وكان مقيما هناك وكان من عباد الله الصالحين وله كرامات ظاهرة. وكان مع صلاح الدين الأمير عز الدين أبو الفليتة قاسم بن المهنا العلوي الحسيني وهو أمير مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، كان قد حضر عنده وشهد معه مشاهده وفتوحه وكان صلاح الدين قد تبرك برؤيته وتيمن بصحبته وكان يكرمه كثيرا وينبسط معه ويرجع إلى قوله في أعماله كلها ودخل دمشق أول شهر رمضان فأشير عليه بتفريق العساكر فقال ان العمر قصير والأجل غير مأمون وقد بقي بيد الفرنج هذه الحصون كوكب وصفد والكرك وغيرها ولا بد من الفراغ منها فإنها في وسط بلاد الإسلام ولا يؤمن شر أهلها وإن أغفلناهم ندمنا فيما بعد والله أعلم. ذكر فتح الكرك وما يجاوره كان صلاح الدين قد جعل على الكرك عسكرا يحصره فلازموا الحصار هذه المدة الطويلة حتى فنيت أزواد الفرنج وذخائرهم وأكلوا دوابهم وصبروا حتى لم يبق للصبر مجال فراسلوا الملك العادل أخا صلاح الدين،
20 وكان جعله صلاح الدين على قلعة الكرك في جمع من العسكر يحصرها ويكون مطلعا على هذه الناحية من البلاد لما أبعد هو إلى درب ساك وبغراس فوصلته رسل الفرنج من الكرك يبذلون تسليم القلعة إليه ويطلبون الأمان فأجابهم إلى ذلك وأرسل إلى مقدم العسكر الذي يحصرها في المعنى فتسلم القلعة منهم وأمنهم. وتسلم أيضا ما يقاربه من الحصون كالشوبك وهزموا الوعيرة والسلع وفرغ القلب من تلك الناحية وألقى الإسلام هناك جرانه وأمنت قلوب من في ذلك الصقع من البلاد كالقدس وغيره فإنهم كانوا ممن بتلك الحصون وجلين ومن شرهم مشفقين. ذكر فتح قلعة صفد لما وصل صلاح الدين إلى دمشق وأشير عليه بتفريق العساكر وقال لا بد من الفرنج من صفد وكوكب وغيرها أقام بدمشق إلى منتصف رمضان وسار عن دمشق إلى قلعة صفد فحصرها وقاتلها ونصب عليها المنجنيقات وأدام الرمي إليها ليلا ونهارا بالحجارة والسهام. وكان أهلها قد قارب ذخائرهم وأزوادهم أن تفنى في المدة التي كانوا فيها محاصرين فإن عسكر صلاح الدين كان يحاصرهم كما ذكرناه فلما رأى أهله جد صلاح الدين في قتالهم خافوا أن يقيم إلى أن يفنى ما بقي معهم من أقواتهم وكانت قليلة ويأخذهم عنوة ويهلكهم أو أنهم يضعفون عن مقاومته قبل فناء ما عندهم من القوت فيأخذهم، فأرسلوا يطلبون الأمان،
21 فأمنهم وتسلمها منهم فخرجوا عنها إلى مدينة صور وكفى الله المؤمنين شرهم فإنهم كانوا وسط البلاد الإسلامية. ذكر فتح كوكب لما كان صلاح الدين يحاصر صفد اجتمع من بصور من الفرنج وقالوا إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب ولو انها معلقة بالكوكب وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سرا من رجال وسلاح وغير ذلك فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم فساروا الليل مستخفين وأقاموا النهار مكمنين. فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلا من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيدا فلقي رجلا من تلك النجدة فاستغربه بتلك الأرض فضربه ليعلمه بحاله وما الذي أقدمه إلى هناك فأقر بالحال ودله على أصحابه فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي وهو مقدم ذلك العسكر فأعلمه الخبر والفرنجي معه فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج فكبسهم فأخذهم وتتبعهم في الشعاب والكهوف فلم يفلت منهم أحد فكان معهم مقدمان من فرسان الإسبتار فحملوا إلى صلاح الدين وهو على صفد فأحضرهما ليقتلهما وكانت عادته قتل الداوية والإسبتارية لشدة عداواتهم للمسلمين وشجاعتهم فلما أمر بقتلهما قال له أحدهما ما أظن ينالنا سوء وقد نظرنا إلى طلعتك المباركة ووجهك الصبيح وكان رحمه الله كثير العفو يفعل الاعتذار والاستعطاف فيه فيعفو
22 ويصفح فلما سمع كلامهما لم يقتلهما وأمر بهما فسجنا. ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا فلم يسمعوا قوله وأصروا على الامتناع فجد في قتالهم ونصب عليهم المنجنيقات وتابع رمي الأحجار إليهم وزحف مرة بعد مرة وكانت الأمطار كثيرة لا تنقطع ليلا ولا نهارا فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدونه وطال مقامهم عليها. وفي آخر الأمر زحف إليها دفعات متناوبة في يوم واحد ووصلوا إلى باشورة القلعة ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب عن قوس اليد والجروخ فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور فنقبوا الباشورة فسقطت وتقدموا إلى السور الأعلى فلما رأى الفرنج ذلك اذعنوا بالتسليم وطلبوا الأمان، فأمنهم وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة وسيرهم إلى صور، فوصلوا إليها. واجتمع بها من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد فاشتدت شوكتهم وحميت جمرتهم وتابعوا الرسل إلى من بالأندلس وصقلية وغيرها من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون والأمداد كل قليل تأتيهم وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره حتى عض بنانه ندما وأسفا حيث لم ينفعه ذلك. واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت لا يفصل بينه غير مدينة صور وجميع أعمال أنطاكية سوى القصير ولما ملك صلاح الدين صفد سار إلى البيت المقدس فعيد فيه عيد الأضحى ثم سار منه إلى عكا فأقام بها حتى انسلخت السنة.
23 ذكر ظهور طائفة من الشيعة بمصر في هذه السنة ثار بالقاهرة جماعة من الشيعة عدتهم اثنا عشر رجلا ليلا ونادوا بشعار العلويين يال علي يال علي وسلكوا الدروب ينادون ظنا منهم أن رعية البلد يلبون دعوتهم ويخرجون معهم فيعيدون الدولة العلوية ويخرجون بعض من بالقصر محبوسا منهم ويملكون البلد فلم يلتفت أحد منهم إليهم ولا أعارهم سمعه. فلما رأوا ذلك تفرقوا خائفين فأخذوا وكتب بذلك إلى صلاح الدين فأهمه أمرهم وأزعجه فدخل عليه القاضي الفاضل فأخبره الخبر، فقال القاضي الفاضل ينبغي أن تفرح بذلك ولا تحزن ولا تهتم حيث علمت من بواطن رعيتك المحبة لك والنصح ولترك الميل إلى عدوك ولو وضعت جماعة يفعلون مثل هذه الحالة لتعلم بواطن أصحابك ورعيتك وخسرت الأموال الجلية عليهم لكان قليلا فسرى عنه. وكان هذا القاضي الفاضل صاحب دولة صلاح الدين وأكبر من بها وستأتي مناقبه عند وفاته ما تراه. ذكر انهزام عسكر الخليفة من السلطان طغرل في هذه السنة جهز الخليفة الناصر لدين الله عسكرا كثيرا وجعل المقدم عليهم وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس وسيرهم إلى مساعدة قزل ليكف الناس طغرل عن البلاد فسار العسكر ثالث صفر إلى أن قارب همذان فلم يصل قزل إليهم وأقبل طغرل إليهم فالتقوا ثامن
24 ربيع الأول بداي مرج عند همذان واقتتلوا فلم يثبت عسكر بغداد بل انهزموا وتفرقوا وثبت الوزير قائما ومعه مصحف وسيف فأتاه من عسكر طغرل من أسره وأخذ مع معه من خزانة وسلاح ودواب وغير ذلك وعاد العسكر إلى بغداد متفرقين. وكنت حينئذ بالشام في عسكر صلاح الدين يريد الغزاة فأتاه الخبر مع النجابين بمسير العسكر البغدادي فقال كأنكم وقد وصل الخبر بانهزامهم فقال له بعض الحاضرين وكيف ذلك فقال لا شك ان أصحابي وأهلي أعرف بالحرب من الوزير وأطوع في العسكر منه ومع هذا فما أرسل أحدا منهم في سرية للحرب إلا وأخاف عليه وهذا الوزير غير عارف بالحرب وقريب العهد بالولاية ولا يراه الأمراء أهلا أن يطاع وفي مقابله سلطان شجاع قد باشر الحرب بنفسه ومن معه يطيعه وكان الأمر كذلك ووصل الخبر إليه بانهزامهم فقال لأصحابه كنت أخبرتكم بكذا وكذا وقد وصل الخبر بذلك. ولما عادت عساكر بغداد منهزمة قال بعض الشعراء وهو احمد بن الواثق بالله: (اتركونا من جائحات الجريمة * طلعة طلعة تكون وخيمة) (بركات الوزير قد شملتنا * فلهذا أمورنا مستقيمة) (خرجت جندنا تريد خراسان * جميعا بأبهات عظيمه) (بخيول وعدة وعديد * وسيوف مجربات قديمه)
25 (ووزير وطاق طنب ونقش * وخيول معدة للهزيمه) (هم رأوا غرة العدو وقد * أقبل ولوا وانحل عقد العزيمة) (وأتونا ولا يخفى حنين * بوجوه سود قباح دميمه) (لو رأى صاحب الزمان ولو * عاين أفعالهم وقبح الجريمة) (قابل الكل بالنكال وناهي * ك بها سبة عليهم مقيمه) كان ينبغي أن تتقدم هذه الحادثة وإنما أخرتها لتتبع الحوادث المتقدمة بعضها بعضا لتعلق كل واحدة منها بالأخرى. ذكر عدة حوادث في هذه السنة توفي شيخنا أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن سويدة التكريتي كان عالما بالحديث وله تصانيف حسنة. وفيها توفيت سلجوقة خاتون بنت قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان زوجة الخليفة وكانت قبله زوجة نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن فلما توفي عنها تزوجها الخليفة ووجد الخليفة عليها وجدا عظيما ظهر الناس كلهم وبنى على قبرها تربة بالجانب الغربي وإلى جانب التربة رباطه المشهور بالرملة. وفيها توفي علاء الدين تنامش وحمل تابوته إلى مشهد الحسن عليه السلام. وفيها توفي خادم الخليفة وكان أكبر أمير ببغداد؛ ومات أبو الفرج بن النقور العدل ببغداد وسمع الحديث الكثير وهو من بيت الحديث رحمه الله.
26 585 ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة ذكر فتح شقيف أرنون في هذه السنة في ربيع الأول سار صلاح الدين إلى شقيف أرنون وهو من أمنع الحصون ليحصره فنزل بمرج عيون فنزل صاحب الشقيف وهو أرناط صاحب صيدا وكان هذا أرناط من أعظم الناس دهاء ومكرا فدخل اليه واجتمع به واظهر له الطاعة والمودة وقال له أنا محب لك ومعترف بإحسناك وأخاف أن يعرف المركيس ما بيني وبينك فينال أولادي وأهلي منه أذى فإنهم عنده فأشتهي أن تمهلني حتى أتوصل في تخليصهم من عنده وحينئذ أحضر أنا وهم عندك ونسلم الحصن إليك وأكون أنا وهم في خدمتك نقنع بما تعطينا من أقطاع فظن صلاح الدين صدقه فأجابه إلى ما سأل فاستقر الأمر بينهما أن يتسلم الشقيف في جمادى الآخرة. وأقام صلاح الدين بمرج عيون ينتظر الميعاد وهو مفكر لقرب انقضاء مدة الهدنة بينه وبين البيمند صاحب أنطاكية فأمر تقي الدين ابن أخيه أن يسير فيمن معه من عساكره ومن يأتي من بلاد المشرق ويكون مقابل أنطاكية لئلا يغير صاحبها على بلاد الإسلام عند انقضاء الهدنة. وكان أيضا منزعج الخاطر كثير الهم لما بلغه من اجتماع الفرنج بمدينة
27 صور، وما يتصل بهم من الأمداد في البحر وأن ملك الفرنج الذي كان قد أسره صلاح الدين وأطلقه بعد فتح القدس قد اصطلح هو والمركيس بعد اختلاف كان بينهما وأنهم قد اجتمعوا في خلق لا تحصى فإنهم قد خرجوا من مدينة صور إلى ظاهرها فكان هذا وأشباهه مما يزعجه ويخاف من ترك الشقيف وراء ظهره والتقدم إلى صور وفيها الجموع المتوافرة فتنقطع الميرة عنه إلا أنه مع هذه الأشياء مقيم على العهد مع أرناط صاحب الشقيف. وكان أرناط في مدة الهدنة يشتري الأقوات من سوق العسكر والسلاح وغير ذلك مما يحصن به شقيفه وكان صلاح الدين يحسن الظن وإذا قيل له عنه مما هو فيه من المكر وأن قصده المطاولة إلى أن يظهر الفرنج من صور وحينئذ يبدي فضيحته ويظهر مخالفته لا يقبل فيه فلما قارب انقضاء الهدنة تقدم صلاح الدين من معسكره إلى القرب من شقيف أرنون وأحضر عنده أرناط وقد بقي من الأجل ثلاثة أيام فقال له في معنى تسليم الشقيف فاعتذر بأولاده وأهله وأن المركيس لم يمكنهم من المجيء إليه وطلب التأخير مدة أخرى فحينئذ علم السلطان مكره وخداعه فأخذه وحبسه وأمره بتسليم الشقيف فطلب قسيسا ذكره ليحمل رسالة إلى من بالشقيف ليسلموه فأحضروه عنده فساره بما لم يعلموا فمضى ذلك القسيس إلى الشقيف فأظهر أهله العصيان فسير صلاح الدين أرناط إلى دمشق وسجنه وتقدم إلى الشقيف فحصره وضيق عليه وجعل عليه من يحفظه ويمنعه عن الذخيرة والرجال.
28 ذكر وقعة اليزك مع الفرنج لما كان صلاح الدين بمرج عيون وعلى الشقيف جاءته كتب من أصحابه الذين جعلهم يزكا في مقابل الفرنج على صور يخبرونه فيها أن الفرنج قد أجمعوا على عبور الجسر الذي لصور وعزموا على حصار صيدا فسار صلاح الدين جريدة في شجعان أصحابه سوى من جعله على الشقيف فوصل إليهم وقد فات الأمر. وذلك أن الفرنج قد فارقوا صور وساروا عنها لمقصدهم فلقيهم اليزك على مضيق هناك وقاتلوهم ومنعوهم وجرى لهم معهم حرب شديدة يشيب لها الوليد وأسروا من الفرنج جماعة وقتلوا جماعة وقتل من المسلمين أيضا جماعة منهم مملوك لصلاح الدين كان من أشجع الناس فحمل وحده على صف الفرنج فاختلط بهم وضربهم بسيفه يمينا وشمالا فتكاثروا عليه فقتلوه رحمه الله؛ ثم إن الفرنج عجزوا عن الوصول إلى صيدا فعادوا إلى مكانهم. ذكر وقعة ثانية للغزاة المتطوعة لما وصل صلاح الدين إلى اليزك وقد فاتته تلك الوقعة أقام عندهم في خيمة صغيره ينتظر عودة الفرنج لينتقم منهم ويأخذ بثأر من قتلوه من المسلمين فركب في بعض الأيام في عدة يسيرة على أن ينظر إلى مخيم الفرنج من الجبل ليعمل بمقتضى ما يشاهده وظن من هناك من غزاة العجم والعرب المتطوعة أنه على قصد المصاف والحرب فساروا مجدين وأوغلوا في أرض العدو مبعدين،
29 وفارقوا الحزم وخلفوا السلطان وراء ظهورهم وقاربوا الفرنج فأرسل صلاح الدين عدة من الأمراء يردونهم ويحمونهم إلى أن يخرجوا فلم يسمعوا ولم يقبلوا. وكان الفرنج قد اعتقدوا أن وراءهم كمينا فلم يقدموا عليهم فأرسلوا من ينظر حقيقة الأمر فأتاهم الخبر انهم منقطعون عن المسلمين وليس وراءهم ما يخاف فحملت الفرنج عليهم حملة رجل واحد فقاتلوهم فلم يلبثوا أن أناموهم وقتل معهم جماعة من المعروفين وشق على صلاح الدين والمسلمين ما جرى عليهم وكان ذلك بتفريطهم في حق أنفسهم رحمهم الله ورضي عنهم. وكانت هذه الوقعة تاسع جمادى الأولى فلما رأى صلاح الدين ذلك انحدر من الجبل إليهم في عسكره فحملوا على الفرنج فألقوهم إلى الجسر وقد اخذوا طريقهم فالقوا أنفسهم في الماء فغرق منهم نحو مائة دراع سوى من قتل وعزم السلطان على مصابرتهم ومحاصرتهم فتسامع الناس فقصدوه واجتمع معه خلق كثير فلما رأى الفرنج ذلك عادوا إلى مدينة صور فلما عادوا إليها عاد صلاح الدين إلى تبنين ثم إلى عكا ينظر حالها ثم عاد إلى العسكر والمخيم. ذكر وقعة ثالثة لما عاد صلاح الدين إلى العسكر أتاه الخبر أن الفرنج يخرجون من صور للاحتطاب والاحتشاش متبددين فكتب إلى من بعكا من العسكر وواعدهم يوم الاثنين ثامن جمادى الآخرة ليلاقوهم من الجانبين ورتب كمناء في موضع من تلك الأودية والشعاب واختار جماعة من شجعان عسكره،
30 وأمرهم أنهم إذا حمل عليهم الفرنج قاتلوهم شيئا من قتال ثم تطاردوا لهم وأروهم العجز عن مقاتلتهم فإذا تبعهم الفرنج استجروهم إلى أن يجوزوا مواضع الكمين ثم يعطفوا عليهم ويخرج الكمين من خلفهم فخرجوا على هذه العزيمة. فلما تراءى الجمعان والتقت الفئتان أنف فرسان المسلمين أن يظهر عنهم اسم الهزيمة وثبتوا فقاتلوهم وصبر بعضهم لبعض واشتد القتال وعظم الأمر ودامت الحرب وطال على الكمناء الانتظار فخافوا على أصحابهم فخرجوا من مكانهم نحوهم مسرعين وإليهم قاصدين فأتوهم وهم في شدة الحرب فازداد الأمر شدة على شدة وكان فيهم أربعة أمراء من ربيعة طي وكانوا يجهلون تلك الأرض فلم يسلكوا مسلك أصحابهم فسلكوا الوادي ظنا منهم أنه يخرج بهم إلى أصحابهم وتبعهم بعض مماليك صلاح الدين فلما رآهم الفرنج بالوادي علموا أنهم جاهلون فأتوهم وقاتلوهم. وأما المملوك فإنه نزل عن فرسه وجلس على صخرة واخذ قوسه بيده وحمى نفسه وجعلوا يرمونه بسهام الزنبورك وهو يرميهم فجرح منهم جماعة وجرحوه جراحات كثيرة فسقط فأتوه وهو بآخر رمق فتركوه وانصرفوا وهم يحسبونه ميتا ثم إن المسلمين جاؤوا من الغد إلى موضعهم فرأوا القتلى ورأوا المملوك حيا فحملوه في كساء وهو لا يكاد يعرف من [كثرة] الجراحات فأيسوا من حياته وأعرضوا [عنه وعرضوا] عليه الشهادة وبشروه بالشهادة فتركوه ثم عادوا إليه فرأوه وقد قويت نفسه فأقبلوا عليه بمشروب فعوفي ثم كان بعد ذلك لا يحضر مشهدا إلا كان له فيه الأثر العظيم.
31 ذكر مسير الفرنج إلى عكا ومحاصرتها لما كثر جمع الفرنج بصور على ما ذكرناه من صلاح الدين كان كلما فتح مدينة أو قلعة أعطى أهلها الأمان وسيرهم إليها بأموالهم ونسائهم وأولادهم فاجتمع بها منهم عالم كثير لا يعد ولا يحصى ومن الأموال ما لا يفنى على كثرة الإنفاق في السنين الكثيرة ثم إن الرهبان والقسس وخلقا كثيرا من مشهوريهم وفرسانهم لبسوا السواد وأظهروا الحزن على خروج البيت المقدس من أيديهم وأخذهم البطرك الذي كان بالقدس ودخل بهم بلاد الفرنج يطوفها بهم جميعا ويستنجدون أهلها ويستجيرون بهم ويحثونهم على الأخذ بثار البيت المقدس وصور والمسيح عليه السلام وجعلوا صورة رجل عربي والعربي يضربه وقد جعلوا الدماء على صورة المسيح عليه السلام وقالوا لهم هذا المسيح يضربه محمد نبي المسلمين وقد جرحه وقتله. فعظم ذلك على الفرنج فحشروا وحشدوا حتى النساء فإنهم كان معهم على عكا عدة من النساء يبارزون الأقران على ما نذكره إن شاء الله تعالى ومن لم يستطع الخروج استأجر من يخرج عوضه أو يعطيهم مالا على قدر حالهم فاجتمع لهم من الرجال والأموال ما لا يتطرق إليه الإحصاء. ولقد حدثني بعض المسلمين المقيمين بحصن الأكراد وهو من أجناد أصحابه الذين سلموه إلى الفرنج قديما وكان هذا الرجل قد ندم على ما كان منه [من] موافقة الفرنج في الغارة على بلاد الإسلام والقتال معهم والسعي
32 معهم وكان سبب اجتماعي به ما أذكره سنة تسعين وخمسمائة إن شاء الله تعالى. قال لي هذا الرجل إنه دخل مع جماعة من الفرنج من حصن الأكراد إلى البلاد البحرية التي للفرنج والروم في أربع شوان يستنجدون؛ وقال فانتهى بنا التطواف إلى رومية الكبرى فخرجنا منها وقد ملأنا الشواني نقرة. وحدثني بعض الأسرى منهم أن له والدة ليس لها ولد سواه ولا يملكون من الدنيا غير بيت باعته وجهزته بثمنه وسيرته لاستنقاذ البيت المقدس فأخذ أسيرا. وكان عند الفرنج من الباعث الديني والنفساني ما هذا حده فخرجوا على الصعب والذلول برا وبحرا من كل فج عميق، ولولا [أن] الله تعالى لطف بالمسلمين وأهلك ملك الألمان لما خرج على ما نذكره عند خروجه إلى الشام وإلا كان يقال إن الشام ومصر كانتا للمسلمين. فهذا كان سبب خروجهم فلما اجتمعوا بصور يموج بعضهم في بعض ومعهم الأموال العظيمة والبحر يمدهم بالأقوات والذخائر والعدد والرجال من بلادهم فضاقت عليهم صور باطنها وظاهرها فأرادوا قصد صيدا وكان ما ذكرناه فعادوا واتفقوا على قصد عكا ومحاصرتها ومصابرتها فساروا إليها بفارسهم وراجلهم وقضهم وقضيضهم ولزموا البحر في مسيرهم لا يفارقونه في السهل والوعر الضيق والسعة ومراكبهم تسير مقابلهم في البحر فيها سلاحهم وذخائرهم ولتكون عدة لهم إن جاءهم ما لا قبل لهم به ركبوا فيها وعادوا وكان رحيلهم ثامن رجب ونزولهم على عكا في منتصفه ولما كانوا سائرين كان يزك المسلمين يتخطفونهم ويأخذون المنفرد منهم. ولما رحلوا جاء الخب إلى صلاح الدين برحيلهم فسار حتى قاربهم ثم
33 جمع أمراءه واستشارهم هل يكون المسير محاداة الفرنج ومقاتلتهم وهم سائرون أو يكون في غير الطريق التي سلكوها فقالوا لا حاجة بنا إلى احتمال المشقة في مسايرتهم فإن الطريق وعر وضيق ولا يتهيأ لنا ما نريده منهم والرأي أننا نسير في الطريق المهيع ونجتمع عليهم عند عكا فنفرقهم ونمزقهم. فعلم ميلهم إلى الراحة المعجلة فوافقهم وكان رأيه مسايرتهم ومقاتلتهم وهم سائرون وقال إن الفرنج إذا نزلوا لصقوا بالأرض فلا يتهيأ لنا إزعاجهم ولا نيل الغرض منهم والرأي قتالهم قبل الوصول إلى عكا فخالفوه فتبعهم وساروا على طريق كفر كنا فسبقهم الفرنج وكان صلاح الدين قد جعل في مقابل الفرنج جماعة من الأمراء يسايرونهم ويناوشونهم القتال ويتخطفونهم ولم يقدم الفرنج عليهم مع قلتهم فلو أن العساكر اتبعت رأى صلاح الدين في مسايرتهم ومقاتلتهم قبل نزولهم على عكا لكان بلغ غرضه وصدهم عنها ولكن إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه. ولما وصل صلاح الدين إلى عكا رأى الفرنج قد نزلوا عليها من البحر إلى البحر من الجانب الآخر ولم يبق للمسلمين إليها طريق فنزل صلاح الدين عليهم وضرب خيمته على تل كيسان وامتدت ميمنته إلى تل الغياظية وميسرته إلى النهر الجاري ونزلت الأثقال بصفورية وسير الكتب إلى الأطراف باستدعاء العساكر فأتاه عسكر الموصل وديار بكر وسنجار وغيرها من بلاد الجزيرة وأتاه تقي الدين ابن أخيه وأتاه مظفر الدين بن زين الدين وهو صاحب حران والرها. وكانت الأمداد تأتي المسلمين في البر وتأتي الفرنج في البحر وكان بين الفريقين مدة مقامهم على عكا حروب كثيرة ما بين صغيرة وكبيرة منها اليوم المشهور ومنها ما هو دون ذلك، وأنا أذكر الأيام الكبار لئلا يطول
34 ذلك، ولأن ما عداها كان قتالا يسيرا من بعضهم مع بعض فلا حاجة إلى ذكره. ولما نزل السلطان عليهم لم يقدر على الوصول إليهم ولا إلى عكا حتى انسلخ رجب ثم قاتلهم مستهل شعبان فلم ينل منهم ما يريد وبات الناس على تعبية فلما كان الغد باكرهم القتال بحده وحديده واستدار عليهم من سائر جهاتهم من بكرة إلى الظهر وصبر الفريقان صبرا حار له من رآه. فلما كان وقت الظهر حمل عليهم تقي الدين حملة منكرة من الميمنة على من يليه منهم فأزاحهم عن مواقفهم فركب بعضهم بعضا لا يلوي أخ على أخ والتجؤوا إلى من يليهم من أصحابهم واجتمعوا بهم وأخلوا نصف البلد وملك تقي الدين مكانهم والتصق بالبلد وصار ما أخلوه بيده ودخل المسلمون البلد وخرجوا منه واتصلت الطرق وزال الحصر عمن فيه وأدخل صلاح الدين إليه من أراد من الرجال وما أراد من الذخائر والأموال والسلاح وغير ذلك ولو أن المسلمين لزموا قتالهم إلى الليل لبلغوا ما أرادوه فإن للصدمة الأولى روعة لكنهم لما نالوا منهم هذا القدر أخلدوا إلى الراحة وتركوا القتال وقالوا نباكرهم غدا ونقطع دابرهم. وكان في جملة من أدخله صلاح الدين إلى عكا من جملة الأمراء حسان الدين أبو الهيجاء السمين وهو من أكابر امراء عسكره وهو من الأكراد الخطية من بلد إربل وقتل من الفرنج هذا اليوم جماعة كبيرة.
35 ذكر وقعة أخرى ووقعة العرب ثم ان المسلمين نهضوا إلى الفرنج من الغد وهو سادس شعبان عازمين على بذل جهدهم واستنفاد وسعهم في استئصالهم فتقدموا على تعبيتهم فرأوا الفرنج حذرين محتاطين قد ندموا على ما فرطوا فيه بالأمس وهم قد حفظوا أطرافهم ونواحيهم وشرعوا في حفر خندق يمنع من الوصل إليهم فألح المسلمون عليهم في القتال فلم يتقدم الفرنج إليهم ولا فارقوا مرابضهم فلما رأى المسلمون ذلك عادوا عنهم. ثم إن جماعة من العرب بلغهم أن الفرنج تخرج من الناحية الأخرى إلى الاحتطاب وغيره من أشغالهم فكمنوا لهم في معاطف النهر ونواحيه سادس عشر شعبان فلما خرج جمع من الفرنج على عادتهم حملت عليهم العرب فقتلوهم عن آخرهم وغنموا ما كان معهم وحملوا الرؤوس إلى صلاح الدين فأحسن إليهم وأعطاهم الخلع. ذكر الوقعة الكبرى على عكا لما كان بعد هذه الوقعة المذكورة بقي المسلمون إلى العشرين من شعبان كل يوم يغادون القتال مع الفرنج ويراوحونه والفرنج لا يظهرون من معسكرهم ولا يفارقونه ثم إن الفرنج اجتمعوا للمشورة فقالوا إن عسكر مصر لم يحضروا الحال مع صلاح الدين هكذا فكيف يكون إذا حضر؟
36 والرأي اننا نلقي المسلمين غدا لعلنا نظفر بهم قبل اجتماع العساكر والأمداد إليهم. وكان كثير من عسكر صلاح الدين غائبا عنه بعضهم مقابل أنطاكية ليردوا غائلة البيمند صاحبها عن أعمال حلب وبعضهم في حمص مقابل طرابلس ليحفظ ذلك الثغر أيضا وعسكر في مقابل صور لحماية ذلك البلد وعسكر بمصر يكون بثغر دمياط والإسكندرية وغيرهما والذي بقي من عسكر مصر كانوا لم يصلوا لطول بيكارهم كما ذكرناه قبل وكان هذا مما أطمع الفرنج في الظهور إلى قتال المسلمين. وأصبح المسلمون على عادتهم منهم من يتقدم إلى القتال ومنهم من هو في خيمته ومنهم من قد توجه في حاجته في زيارة صديق وتحصيل ما يحتاج إليه هو وأصحابه ودوابه إلى غير ذلك فخرج الفرنج من معسكرهم كأنهم الجراد المنتشر يدبون على وجه الأرض قد ملؤوها طولا وعرضا وطلبوا ميمنة المسلمين وعليها تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين فلما رأى أن الفرنج نحوه قاصدين حذر هو وأصحابه فتقدموا إليه فلما قربوا منه تأخر عنهم. فلما رأى صلاح الدين الحال وهو في القلب أمد تقي الدين برجال من عنده ليتقوى بهم وكان عسكر ديار بكر وبعض الشرقيين في جناح القلب فلما رأى الفرنج قلة الرجال في القلب وأن كثيرا منهم قد ساروا نحو الميمنة مددا لهم عطفوا على القلب فحملوا حملة رجل واحد فاندفعت العساكر بين أيديهم منهزمين وثبت بعضهم فاستشهد جماعة منهم كالأمير مجلى بن مروان والظهير أخي الفقيه عيسى وكان والي البيت المقدس قد جمع بين الشجاعة والعلم والدين وكالحاجب خليل الهكاري وغيرهم من الشجعان
37 الصابرين في مواطن الحرب، ولم يبق بين أيديهم في القلب من يردهم فقصدوا التل الذي عليه خيمة صلاح الدين فقتلوا من مروا به ونهبوا وقتلوا عند خيمة صلاح الدين جماعة منهم شيخنا جمال الدين أبو علي بن رواحة الحموي وهو من أهل العلم وله شعر حسن وما ورث الشهادة من بعيد فإن جده عبد الله بن رواحة صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قتله الروم يوم مؤتة وهذا قتله الفرنج يوم عكا وقتلوا غيره وانحدروا إلى الجانب الآخر من التل فوضعوا السيف فيمن لقوه وكان من لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج لم يلقوا خيمة صلاح الدين ولو ألقوها لعلم الناس وصولهم إليها وانهزام العساكر بين أيديهم فكانوا انهزموا أجمعون. ثم إن الفرنج نظروا وراءهم فرأوا أمدادهم قد انقطعت عنهم فرجعوا خوفا أن ينقطعوا عن أصحابهم وكان سبب انقطاعهم أن الميمنة وقفت مقابلهم فاحتاج بعضهم [أن] يقف مقابلها، وحملت ميسرة المسلمين على الفرنج فاستغل المدد بقتال الواصلين إلى خيمة صلاح الدين صادفوهم وهم راجعون فقاتلوهم وثار بهم غلمان العسكر. وكان صلاح الدين لما انهزم القلب قد تبعهم يناديهم ويأمرهم بالكرة ومعاودة القتال فاجتمع معه منهم جماعة صالحة فحمل بهم على الفرنج من وراء ظهورهم وهم مشغولون بقتال الميسرة فأخذتهم سيوف الله من كل جانب فلم يفلت منهم أحد بل قتل أكثرهم وأخذ الباقون أسرى، وفي جملة من أسر مقدم الداوية الذي كان في أسره صلاح الدين وأطلقه فلما
38 ظفر به الآن قتله. وكانت عدة القتلى سوى من كان إلى جانب البحر نحو عشرة آلاف قتيل فأمر بهم فألقوا في النهر الذي يشرب الفرنج منه وكان عامة القتلى من فرسان الفرنج فإن الرجالة لم يلحقوهم وكان في جملة الأسرى ثلاث نسوة فرنجيات كن يقاتلن على الخيل فلما أسرن والقي عنهن السلاح عرفن أنهن نساء. وأما المنهزمون من المسلمين فمنهم من رجع من طبرية ومنهم من جاوز الأردن وعاد ومنهم من بلغ دمشق ولولا أن العساكر تفرقت في الهزيمة لكانوا بلغوا من الفرنج [من] الاستئصال، والإهلاك مرادهم على أن الباقين بذلوا جهدهم وجدوا في القتال وصمموا على الدخول مع الفرنج في معسكرهم لعلهم يفزعون منهم فجاءهم الصريخ بأن رحالهم وأموالهم قد نهبت وكان سبب هذا النهب أن الناس لما رأوا الهزيمة حملوا أثقالهم على الدواب فثار بهم أوباش العسكر وغلمانه فنهبوه وأتوا عليه وكان في عزم صلاح الدين أن يباكرهم القتال والزحف فرأى اشتغال الناس بما ذهب من أموالهم وهم يسعون في جمعها وتحصيلها فأمر بالنداء بإحضار ما أخذ فأحضر منه ما ملأ الأرض من المفارش والعيب المملوءة والثياب والسلاح وغير ذلك فرد الجميع على أصحابه ففاته ذلك اليوم ما أراد فسكن روع الفرنج وأصلحوا شأن الباقين منهم. ذكر رحيل صلاح الدين عن الفرنج وتمكنهم من حصر عكا لما قتل من الفرنج ذلك العدد الكثير جافت الأرض من نتن ريحهم وفسد الهواء والجو ووجدت الأمزجة فسادا وانحرف مزاج صلاح الدين،
39 وحدث له قولنج مبرح وكان يعتاده فحضر عنده الأمراء وأشاروا عليه بالانتقال من ذلك الموضع وترك مضايقة الفرنج وحسنوه له وقالوا قد ضيقنا على الفرنج ولو أرادوا الانفصال عن مكانهم لم يقدروا والرأي اننا نبعد عنهم بحيث يتمكنون من الرحيل والعود فإن رحلوا فقد كفينا شرهم وكفوا شرنا وإن أقاموا عاودنا القتال ورجعنا معهم إلى ما نحن فيه ثم إن مزاجك منحرف والألم شديد ولو وقع إرجاف لهلك الناس والرأي على كل تقدير البعد عنهم. ووافقهم الأطباء على ذلك فأجابهم إليه إلى ما يريد الله أن يفعله (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) فرحلوا إلى الخروبة رابع شهر رمضان وأمر من بعكا من المسلمين بحفظها وإغلاق أبوابها والاحتياط وأعلمهم بسبب رحيله. فلما رحل هو وعساكره أمن الفرنج وانبسطوا في تلك الأرض وعادوا وحصروا عكا وأحاطوا بها من البحر إلى البحر ومراكبهم أيضا في البحر تحصرها وشرعوا في حفر الخندق وعمل السور من التراب الذي يخرجونه من الخندق وجاؤوا بما لم يكن في الحساب وكان اليزك كل يوم يوافقهم وهم لا يقاتلون ولا يتحركون إنما هم معتمدون بحفر الخندق والسور عليهم ليتحصنوا به من صلاح الدين إن عاد إلى قتالهم فحينئذ ظهر رأي المشيرين بالرحيل.
40 وكان اليزك كل يوم يخبرون صلاح الدين بما يصنع الفرنج ويعظمون الأمر عليه وهو مشغول بالمرض لا يقدر على النهوض للحرب وأشار عليه بعضهم بأن يرسل العساكر جميعها إليها ليمنعهم من الخندق والسور ويقاتلوهم ويتخلف هو عنهم فقال إذا لم احضر معهم لا يفعلون شيئا وربما كان من الشر أضعاف ما نرجوه من الخير فتأخر الأمر إلى أن عوفي فتمكن الفرنج وعملوا ما أرادوا وأحكموا أمورهم وحصنوا نفوسهم بما وجدوا إليه السبيل وكان من بعكا يخرجون إليهم كل يوم ويقاتلونهم وينالون منهم بظاهر البلد. ذكر وصول عسكر مصر والأسطول المصري في البحر في منتصف شوال وصلت العساكر المصرية ومقدمها الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب فلما وصل قويت نفوس الناس به وبمن معه واشتدت ظهورهم واحضر معه من آلات الحصار من الدرق والطارقيات والنشاب والأقواس شيئا كثيرا ومعهم من الرجالة الجم الغفير وجمع صلاح الدين من البلاد الشامية راجلا كثيرا وهو على عزم الزحف إليهم بالفارس والراجل. ووصل بعده الأسطول المصري ومقدمه الأمير لؤلؤ وكان شهما شجاعا مقداما خبيرا بالبحر والقتال فيه ميمون النقيبة فوصل بغتة فوقع على بطسة كبيرة للفرنج فغنمها وأخذ منها أموالا كثيرة وميرة عظيمة فأدخلها إلى عكار فسكنت نفوس من بها بوصول الأسطول وقوي جنانهم.
41 ذكر عدة حوادث في هذه السنة في صفر خطب لولي العهد أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله ببغداد ونثرت الدنانير والدراهم وأرسل إلى البلاد في إقامة الخطبة ففعل ذلك. وفيها في شوال ملك الخليفة تكريت وسبب ذلك أن صاحبها وهو الأمير عيسى قتله إخوته وملكوا القلعة بعده فسير الخليفة إليهم عسكرا فحصروها وتسلموها ودخل أصحابه إلى بغداد فأعطوا أقطاعا. وفيها في صفر فتح الرباط الذي بناه الخليفة بالجانب الغربي من بغداد وحضر الخلق العظيم فكان يوما مشهودا. وفي هذه السنة في رمضان مات شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله ابن أبي عصرون الفقيه الشافعي بدمشق وكان قاضيها وأضر وولي القضاء بعده ابنه وكان الشيخ من أعيان الفقهاء الشافعية. وفيها في ذي القعدة توفي الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري بالخروبة مع صلاح الدين وهو من أعيان أمراء عسكره ومن قدماء الأسدية وكان فقيها جنديا شجاعا كريما ذا عصبية ومروءة وهو من أصحاب الشيخ الإمام أبي القاسم بن البرزي تفقه عليه بجزيرة ابن عمر ثم اتصل بأسد الدين شيركوه فصار إماما له فرأى من شجاعته ما جعل له أقطاعا وتقدم عند صلاح الدين تقدما عظيما. وفيها في صفر توفي شيخنا أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان،
42 المعروف بابن أفضل الزمان بمكة وكان رحمه الله عالما متبحرا في علوم كثيرة خلاف فقه مذهبه والأصولين والحساب والفرائض والنجوم والهيئة والمنطق وغير ذلك وختم أعماله بالزهد ولبس الخشن وأقام بمكة حرسها الله تعالى مجاورا فتوفي بها وكان من أحسن الناس صحبة وخلقا. وفيها في ذي القعدة مات أبو طالب المبارك بن المبارك الكرخي مدرس النظامية وكان من أصحاب أبي الحسن بن الخل وكان صالحا خيرا له عند الخليفة والعامة حرمة عظيمة وجاه عريض وكان حسن الخط يضرب به المثل.
43 586 ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة ذكر وقعة الفرنج واليزك وعود صلاح الدين إلى منازلة الفرنج قد ذكرنا رحيل صلاح الدين عن عكا إلى الخروبة لمرضه فلما برأ أقام بمكانه إلى أن ذهب الشتاء وفي مدة مقامه بالخروبة كان يزكه وطلائعه لا تنقطع عن الفرنج. فلما دخل صفر من سنة ست وثمانين وخمسمائة سمع الفرنج أن صلاح الدين قد سار للصيد ورأى العسكر الذي في اليزك عندهم قليلا وأن الوحل الذي في مرج عكا كثير يمنع من سلوكه من أراد أن ينجد اليزك فاغتنموا ذلك وخرجوا من خندقهم على اليزك وقت العصر فقاتلهم المسلمون وحموا أنفسهم بالنشاب وأحجم الفرنج عنهم حتى فني نشابهم فحملوا عليهم حينئذ حملة رجل واحد فاشتد القتال وعظم الأمر وعلم المسلمون أنه لا ينجيهم إلا الصبر وصدق القتال فقاتلوا قتال مستقل إلى أن جاء الليل وقتل من الفريقين جماعة كثيرة وعاد الفرنج إلى خندقهم. ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سمع خبر الوقعة فندب الناس إلى نصر إخوانهم فأتاه الخبر أن الفرنج عادوا إلى خندقهم فأقام ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب وجاءته العساكر من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماه وغيرها فتقدم من الخروبة نحو عكا فنزل بتل كيسان وقاتل الفرنج
44 كل يوم ليشغلهم عن قتال من بعكا من المسلمين فكانوا يقاتلون الطائفتين ولا يسأمون. ذكر إحراق الأبراج ووقعة الأسطول كان الفرنج في مدة مقامهم على عكا قد عملوا ثلاثة أبراج من الخشب عالية جدا طول كل برج منها خمس طبقات كل طبقة مملوءة من المقاتلة وقد جمع أخشابها من الجزائر فإن مثل هذه الأبراج العظيمة لا يصلح لها من الخشب الا القليل النادر وغشوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنع النار من إحراقها وأصلحوا الطرق لها وقدموها نحو مدينة عكا من ثلاث جهات وزحفوا بها من العشرين من ربيع الأول فأشرفت على السور وقاتل من بها من عليه فانكشفوا وشرعوا في طم خندقها فأشرف البلد على أن يملك عنوة وقهرا. فأرسل أهله إلى صلاح الدين إنسانا سبح في البحر فأعلمه ما هم فيه من الضيق وما قد أشرفوا عليه من أخذهم وقتلهم فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنج وقاتلهم من جميع جهاتهم قتالا عظيما دائما يشغلهم عن مكاثرة البلد فافترق الفرنج فرقتين فرقة تقاتل صلاح الدين وفرقة تقاتل أهل عكا إلا أن الأمر قد خف عمن بالبلد ودام القتال ثمانية أيام متتابعة آخرها الثامن والعشرون من الشهر، وسئم الفريقان القتال، وملوا منه لملازمته
45 ليلا ونهارا، والمسلمون قد تيقنوا استيلاء الفرنج على البلد لما رأوا من عجز من فيه عن دفع الأبراج فإنهم لم يتركوا حيلة إلا عملوها فلم يفد ذلك ولم يغن عنهم شيئا وتابعوا رمي النفط الطيار عليها فلم يؤثر فيها فأيقنوا بالبوار والهلاك فأتاهم الله بنصر من عنده وأذن من إحراق الأبراج. وكان سبب ذلك أن إنسانا من أهل دمشق كان مولعا بجمع آلات النفاطين وتحصيل عقاقير تقوي عمل النار فكان من يعرفه يلومه على ذلك وينكره عليه وهو يقول هذه حالة لم أباشرها بنفسي إنما أشتهي معرفتها وكان بعكا لأمر يريده الله فلما رأى الأبراج قد نصبت على عكا شرع في عمل ما يعرفه من الأدوية المقوية للنار بحيث لا يمنعها شيء من الطين والخل وغيرهما فلما فرغ منها حضر عند الأمير قراقوش وهو متولي الأمور بعكا والحاكم فيها وقال له يأمر المنجنيقي أن يرمي في المنجنيق المحاذي لبرج من هذه الأبراج ما أعطيه حتى أحرقه. وكان عند قراقوش من الغيظ والخوف على البلد ومن فيه ما يكاد يقتله فازداد غيظا بقوله وحرد عليه فقال له قد بالغ أهل هذه الصناعة في الرمكي بالنفط وغيره فلم يفلحوا فقال له من حضر لعل الله تعالى قد جعل الفرج على يد هذا ولا يضرنا أن نوافقه على قوله فأجابه إلى ذلك وأمر المنجنيقي بامتثال أمره فرمى عدة قدور نفطا وأدوية ليس فيها نار فكان الفرنج إذا رأوا القدر لا يحرق شيئا يصيحون ويرقصون ويلعبون على سطح البرج حتى علم أن الذي ألقاه قد تمكن من البرج ألقى قدرا مملوءة وجعل فيها النار فاشتعل البرج وألقى قدرا ثانية وثالثة فاضطرمت النار في نواحي البرج وأعجلت من في طبقاته الخمس عن الهرب والخلاص فاحترق هو ومن فيه وكان فيه من الزرديات والسلاح شيء كثير. وكان طمع الفرنج بما رأوا أن القدور الأولى لا تعمل يحملهم على
46 الطمأنينة وترك السعي في الخلاص حتى عجل الله لهم النار في الدنيا قبل الآخرة فلما احترق البرج الأول انتقل إلى الثاني وقد هرب من فيه لخوفهم فأحرقه وكذلك الثالث وكان يوما مشهودا لم ير الناس مثله والمسلمون ينظرون ويفرحون وقد أسفرت وجوههم بعد الكآبة فرحا بالنصر وخلاص المسلمين من القتل لأنهم ليس فيهم أحد إلا وله في البلد إما نسيب وإما صديق. وحمل ذلك الرجل إلى صلاح الدين فبذل له الأموال الجزيلة والإقطاع الكثيرة فلم يقبل منه الحبة الفرد وقال إنما عملته الله تعالى ولا أريد الجزاء إلا منه. وسيرت الكتب إلى البلاد بالبشائر وأرسل يطلب العساكر الشرقية فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي وهو صاحب سنجار وديار الجزيرة ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي سيره أبوه مقدما على عسكره وهو صاحب الموصل ثم وصل زين الدين يوسف صاحب إربل وكان كل منهم إذا وصل يتقدم إلى الفرنج بعسكره وينضم إليه غيرهم ويقاتلونهم ثم ينزلون. ووصل الأسطول من مصر فلما سمع الفرنج بقربه جهزوا إلى طريقه أسطولا ليلقاه ويقاتله فركب صلاح الدين في العساكر جميعها وقاتلهم من جهاتهم ليشتغلوا بقتاله عن قتال الأسطول ليتمكن من دخول عكا فلم يشتغلوا عن قصده بشيء فكان القتال بين الفريقين برا وبحرا وكان يوما مشهودا لم يؤرخ مثله وأخذ المسلمون من الفرنج مركبا فيه من الرجال والسلاح وأخذ الفرنج من المسلمين مثل ذلك إلا أن القتل في الفرنج كان أكثر منه في المسلمين ووصل الأسطول الإسلامي سالما.
47 ذكر وصول ملك الألمان إلى الشام وموته في هذه السنة خرج ملك الألمان من بلاده وهم نوع من الفرنج من أكثرهم عددا وأشدهم بأسا وكان قد أزعجه ملك الإسلام البيت المقدس فجمع عساكره وأزاح علتهم وسار عن بلاد وطريقه على القسطنطينية فأرسل ملك الروم بهذا إلى صلاح الدين يعرفه الخبر ويعده أنه لا يمكنه من العبور في بلاده. فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينية عجز ملكه عن منعه من العبور لكثرة جموعه لكنه منع عنهم الميرة ولم يمكن أحدا من رعيته من حمل ما يريدونه إليهم فضاقت بهم الأزواد والأقوات وساروا حتى عبروا خليج القسطنطينية وساروا على أرض بلاد الإسلام وهي مملكة الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن قتلمش بن سلجق فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمان الأرج فما زالوا يسايرونهم ويقتلون من انفرد ويسرقون ما قدروا عليه وكان الزمان شتاء والبرد يكون في تلك البلاد شديدا والثلج متراكما فأهلكهم البرد والجوع والتركمان فقل عددهم. فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم الملك قطب الدين ملك شاه بن قلج أرسلان ليمنعهم فلم يكن له بهم قوة فعاد إلى قونية وبها أبوه قد حجر ولده المذكور عليه وتفرق أولاده في بلاده وتغلب كل واحد منهم على ناحية منها فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثره فنازلوا قونية وأرسلوا إلى قلج أرسلان هدية وقالوا له ما قصدنا بلادك ولا أردناها،
48 وإنما قصدنا البيت المقدس وطلبوا منه أن يأذن لرعيته في إخراج ما يحتاجون إليه من قوت وغيره فأذن في ذلك فأتاهم ما يريدون فشبعوا وتزودوا وساروا ثم طلبوا من قطب الدين أن يأمر رعيته بالكف عنهم وأن يسلم إليهم جماعة من أمرائه رهائن وكان يخافهم فسلم إليهم نيفا وعشرين أميرا كان يكرههم فساروا بهم معهم ولو يمتنع اللصوص وغيرهم من قصدهم والتعرض إليهم فقبض ملك الألمان على من منعه من الأمراء وقيدهم فمنهم من هلك في أسره ومنهم من فدى نفسه. وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحبها لافون بن اصطفانة بن ليون فأمدهم بالأقوات والعلوفات وحكمهم في بلاده وأظهر الطاعة لهم ثم ساروا نحو أنطاكية وكان في طريقهم نهر فنزلوا عنده ودخل ملكهم إليه ليغتسل فغرق في مكان منه لا يبلغ الماء وسط الرجل وكفى الله شره. وكان معه ولد له فصار ملكا بعده وسار إلى أنطاكية فاختلف أصحابه عليه فأحب بعضهم العود إلى بلاده فتخلف عنه وبعضهم مال إلى تمليك أخ له فعاد أيضا وسار فيمن صحت نيته له فعرضهم وكانوا نيفا وأربعين ألفا ووقع فيهم الوباء والموت فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نبشوا من القبور فتبرم بهم أحبها وحسن لهم المسير إلى الفرنج على عكا فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمون وخرج أهل حلب وغيرها إليهم وأخذوا منهم خلقا كثيرا ومات أكثر من أخذ فبلغوا طرابلس وأقاموا بها أياما فكثر فيهم الموت فلم يبق منهم إلا نحو ألف رجل فركبوا في البحر إلى الفرنج الذين على عكا،
49 ولما وصلوا ورأوا ما نالهم في طريقهم وما هم فيه من الاختلاف عادوا إلى بلادهم فغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد. وكان الملك قلج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم ويعده أنه يمنعهم من العبور في بلاده فلما عبروا وخلفوها أرسل يتعذر بالعجز عنهم لأن أولاده حكموا عليه وحجروا عليه وتفرقوا عنه وخرجوا عن طاعته. وأما صلاح الدين عند وصول الخبر بعبور ملك الألمان فإنه استشار أصحابه فأشار كثير منهم عليه بالمسير إلى طريقهم ومحاربتهم قبل أن يتصلوا بمن على عكا فقال بل نقيم إلى أن يقربوا منا وحينئذ نفعل ذلك لئلا يستسلم من بعكا من عساكرنا لكنه سير من عنده من العساكر منها عسكر حلب وجبلة ولاذقية وشيزر وغير ذلك إلى أعمال حلب ليكونوا من أطراف البلاد يحفظونها من عاديتهم وكان حال المسلمين كما قال الله عز وجل: (إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا) فكفى الله شرهم ورد كيدهم في نحرهم ومن شدة خوفهم أن بعض أمراء صلاح الدين كان له ببلد الموصل قرية وكان أخي رحمه الله يتولاها فحصل دخلها من حنطة وشعير وتبن فأرسل إليه في ربيع الغلة فوصل كتابه يقول لا تبع الحبة الفرد واستكثر لنا من التبن ثم بعد ذلك وصل كتابه يقول تبيع الطعام فما بنا حاجة اليه ثم إن ذلك الأمير قدم الموصل فسألناه عن المنع من بيع الغلة ثم الإذن فيها بعد مدة يسيرة فقال لما وصلت الأخبار بوصول ملك الألمان أيقنا أننا ليس لنا بالشام مقام فكتبت بالمنع من بيع الغلة لتكون ذخيرة لنا إذا جئنا إليكم فلما أهلكهم الله تعالى وأغنى عنها كتبت ببيعها والانتفاع بثمنها.
50 ذكر وقعة للمسلمين والفرنج على عكا وفي هذه السنة في العشرين من جمادى الآخرة خرجت الفرنج فارسها وراجلها من وراء خنادقهم وتقدموا إلى المسلمين وهم كثير لا يحصى عددهم وقصدوا نحو عسكر مصر ومقدمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب وكان المصريون قد ركبوا واصطفوا للقاء الفرنج فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانحاز المصريون عنهم ودخل الفرنج خيامهم ونهبوا أموالهم فعطف المصريون عليهم فقاتلوهم من وسط خيامهم فأخرجوهم عنها وتوجهت طائفة من المصريين نحو خنادق الفرنج فقطعوا المدد عن أصحابهم الذين خرجوا وكانوا متصلين كالنمل فلما انقطعت امدادهم ألقوا بأيديهم، وأخذتهم السيوف من كل ناحية، فلم ينج منهم إلا الشريد، وقتل منهم مقتلة عظيمة يزيد عدد القتلى على عشرة آلاف قتيل. وكانت عساكر الموصل قريبة من عسكر مصر، وكان مقدمهم علاء الدين خرم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضا على الفرنج وبالغوا في قتالهم ونالوا منهم نيلا كثيرا، هذا جميعه ولم يباشر القتال أحد من الحلقة الخاص الني مع صلاح الدين ولا أحد من الميسرة، وكان بها عماد الدين زنكي صاحب سنجار وعسكر إربل وغيرهم. ولما جرى على الفرنج هذه الحادثة خمدت جمرتهم ولانت عريكتهم وأشار المسلمون على صلاح الدين بمباكرتهم القتال ومناجزتهم، وهم على هذه الحال من الهلع والجزع فاتفق انه وصله من الغد كتاب من حلب يخبر فيه بموت ملك الألمان، وما أصاب أصحابه من الموت والقتل والأسر، وما صار أمرهم إليه من القلة والذلة، واشتغل المسلمون بهذه البشرى والفرح بها عن قتال من بإزائهم، وظنوا أن الفرنج إذا بلغهم هذا الخبر ازدادوا وهنا
51 على وهنهم وخوفا على خوفهم؛ فلما كان بعد يومين أتت الفرنج أمداد في البحر مع كند من الكنود البحرية يقال له: الكند هري ابن أخي ملك إفرنسيس لأبيه وابني أخي ملك انكلتار لأمه، ووصل معه من الأموال شيء كثير يفوق الإحصاء، فوصل إلى الفرنج فجند الأجناد وبذل الأموال، فعادت نفوسهم قوية واطمأنت، وأخبرهم أن الأمداد واصلة إليهم يتلو بعضها بعضا، فتماسكوا وحفظوا مكانهم، ثم أظهروا أنهم يريدون الخروج إلى لقاء المسلمين وقتالهم، فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الخروبة في السابع والعشرين من جمادى الآخرة ليتسع المجال، وكانت المنزلة قد أنتنت بريح القتلى. ثم إن الكند هري نصب منجنيقا ودبابات وعرادات، فخرج من بعكا من المسلمين فأخذوها وقتلوا عندها كثيرا من الفرنج، ثم إن الكند هري بعد أخذ مجانيقه أراد أن ينصب منجنيقا، فلم يتمكن من ذلك لأن المسلمين بعكا كانوا يمنعون من عمل ستائر يستتر بها من يرمي من المنجنيق، فعملا تلا من تراب بالبعد من البلد. ثم إن الفرنج كانوا ينقلون التل إلى البلد بالتدريج، ويستترون به ويقربونه إلى البلد، فلما صار من البلد بحيث يصل من عنده حجر منجنيق نصبوا وراءه منجنيقين، وصار التل سترة لهما، وكانت الميرة قد قلت بعكا فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمرهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا فتأخر إنفاذها فسير إلى نائبه بمدينة بيروت في ذلك فسير بطسة عظيمة مملوءة من كل ما يريدونه وأمر من بها فلبسوا ملبس الفرنج وتشبهوا بهم ورفعوا عليها الصلبان فلما وصلوا إلى عكا لم يشك
52 الفرنج أنها لهم فلم يتعرضوا لها فلما حازت ميناء عكا ادخلها من بها ففرح بها المسلمون وانتعشوا وقويت نفوسهم وتبلغوا بما فيها إلى أن أتتهم الميرة من الإسكندرية. وخرجت ملكة من الفرنج من داخل البحر في نحو ألف مقاتل فأخذت بنواحي الإسكندرية وأخذ من معها ثم إن الفرنج وصلهم كتاب من بابا وهو كبيرهم الذي يصدرون عن أمره وقوله عندهم كقول النبيين لا يخالف والمحروم عندهم من حرمه والمقرب من قربه وهو صاحب رومية الكبرى يأمرهم بملازمة ما هم بصدده ويعلمهم أنه قد ارسل إلى جميع الفرنج يأمرهم بالمسير إلى نجدتهم برا وبحرا ويعلمهم بوصول الأمداد إليهم فازدادوا قوة وطمعا. ذكر خروج الفرنج من خنادقهم لما تتابعت الأمداد إلى الفرنج وجند لهم الكند هري جمعا كثيرا بالأموال التي وصلت معه عزموا على الخروج من خنادقهم ومناجزة المسلمين فتركوا على عكا من يحصرها ويقاتل أهلها وخرجوا حادي عشر شوال في عدد كالرمل كثرة وكالنار جمرة فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقال المسلمين إلى ميمون وهو على ثلاثة فراسخ عن عكا وكان قد عاد إليه من فرق من عساكره لما هلك ملك الألمان ولقي الفرنج على تعبية حسنة. وكان أولاده الأفضل علي والظاهر غازي والظافر [خضر] مما يلي القلب وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة ومعه عساكر مصر ومن انضم إليه وكان في الميسرة عماد الدين صاحب سنجار وتقي الدين صاحب حماه ومعز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر مع جماعة من أمرائه واتفق
53 أن صلاح الدين أخذه مغس كان يعتاده فنصب له خيمة صغيرة على تل مشرف على العسكر ونزل فيها ينظر إليهم فسار الفرنج شرقي نهر هناك حتى وصلوا إلى رأس النهر فشاهدوا عساكر الإسلام وكثرتها فارتاعوا لذلك ولقيهم الجالشية وأمطروا عليهم من السهام ما كاد يستر الشمس فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربي النهر ولزمهم الجالشية يقاتلونهم والفرنج قد تجمعوا ولزم بعضهم بعضا وكان غرض الجالشية أن تحمل الفرنج عليهم فيلقاهم المسلمون ويلتحم القتال فيكون الفصل ويستريح الناس وكان الفرنج قد ندموا على مفارقة خنادقهم فلزموا مكانهم وباتوا ليلتهم تلك. فلما كان الغد عادوا نحو عكا ليعتصموا بخندقهم والجالشية في أكتافهم يقاتلونهم تارة بالسيوف وتارة بالرماح وتارة بالسهام وكلما قتل من الفرنج قتيل أخذوه معهم لئلا يعلم المسلمون ما أصابهم فلولا ذلك الألم الذي حدث بصلاح الدين لكانت هي الفصل وإنما لله أمر هو بالغه فلما بلغ فلما بلغ الفرنج خلقا كثيرا. وفي الثالث والعشرين من شوال أيضا كمن جماعة من المسلمين وتعرض للفرنج جماعة أخرى فخرج إليهم أربعمائة فارس فقاتلهم المسلمون شيئا من قتال وتطاردوا لهم وتبعهم الفرنج حتى جازوا الكمين فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد. واشتد الغلاء على الفرنج حتى بلغت غرارة الحنطة أكثر من مائة دينار صوري فصبروا على هذا وكان المسلمون يحملون إليهم الطعام من البلدان منهم الأمير اسامة مستحفظ بيروت كان يحمل الطعام وغيره ومنهم سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب كان يحمل من صيدا أيضا
54 إليهم وكذلك من عسقلان وغيرها لولا ذلك لهلكوا جوعا خصوصا في الشتاء عند انقطاع مراكبهم عند تهيج البحر. ذكي تسيير البدل إلى عكا والتفريط فيه حتى أخذت لما هجم الشتاء وعصفت الرياح خاف الفرنج على مراكبهم التي عندهم لأنها لم تمكن من المينا فسيروها إلى بلادهم صور والجزائر فانفتح الطريق إلى عكا في البحر فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون الضجر والملالة والسآمة وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين مقدما على جندها فأمر صلاح الدين بإقامة البدل وإنفاذه إليها وإخراج من فيها وأمر أخاه الملك العادل بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر ونزل تحت جبل حيفا وجمع المراكب والشواني وكلما جاءه جماعة من العسكر سيرهم إليها وأخرج عوضهم فدخل إليها عشرون أميرا وكان بها ستون أميرا فكان الذين دخلوا قليلا بالنسبة إلى الذين خرجوا وأهمل نواب صلاح الدين تجنيد الرجال وإنفاذهم. وكان على خزانة ماله قوم من النصارى وكانوا إذا جاءهم جماعة قد جندوا تعنتوهم بأنواع شتى تارة بإقامة معرفة وتارة بغير ذلك فتفرق بهذا السبب خلق كثير وانضاف إلى ذلك تواني صلاح الدين ووثوقه بنوابه وإهمال النواب فانحسر الشتاء والأمر كذلك وعادت مراكب الفرنج إلى عكا وانقطع الطريق إلا من سابح يأتي بكتاب. وكان من جملة الأمراء الذين دخلوا إلى عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وعز الدين أرسل مقدم الأسدية بعد جاولي وغيرهم وكان دخولهم عكا أول سنة سبع وثمانين [خمسمائة]، وكان قد أشار جماعة
55 على صلاح الدين بأن يرسل إلى من بعكا النفقات الواسعة والذخائر والأقوات الكثيرة ويأمرهم بالمقام فإنهم قد جربوا وتدربوا واطمأنت نفوسهم على ما هم فيه فلم يفعل وظن فيهم الضجر والملل وأن ذلك يحملهم على الضجر والفشل فكان الأمر بالضد. ذكر وفاة زين الدين يوسف صاحب إربل ومسير أخيه مظفر الدين إليها كان زين الدين يوسف بن زين الدين علي صاحب إربل قد حضر عند صلاح الدين بعساكره فمرض ومات ثامن عشر شهر رمضان وذكر العماد الكاتب في كتابه البرق الشامي قال جئنا إلى مظفر الدين نعزيه بأخيه وظننا به الحزن وليس له أخ غيره ولا ولد يشغله عنه فإذا هو في شغل شاغل عن العزاء مهتم بالاحتياط على ما خلفه وهو جالس في خيام أخيه المتوفى وقد قبض على جماعة من أمرائه واعتقلهم [وعجل عليهم]، وما أغفلهم منهم بلداجي صاحب قلعة خفتيذ كان وأرسل إلى صلاح الدين يطلب منه إربل لينزل عن حران والرها فأقطعه إياها وأضاف إليها شهرزور وأعمالها ودربند قرابلي وبني قفجاق ولما مات زين الدين كاتب من كان بإربل مجاهد الدين قايماز لهواهم فيه وحسن سيرته كانت فيهم وطلبوه إليهم ليملكوه فلم يجسر هو ولا صاحبه عز الدين أتابك مسعود بن مودود على
56 ذلك، خوفا من صلاح الدين. وكان أعظم الأسباب في تركها أن عز الدين كان قد قبض على مجاهد الدين فتمكن زين الدين من إربل ثم إن عز الدين أخرج مجاهد الدين من القبض وولاه نيابته وقد ذكرنا ذلك أجمع. فلما ولاه النيابة عنه لم يمكنه وجعل معه إنسانا كان من بعض غلمان مجاهد الدين فكان يشاركه في الحكم ويحل عليه ما يعقده فلحق مجاهد الدين من ذلك غيظ شديد فلما طلب إلى إربل قال لمن يثق إليه لا أفعل لئلا يحكم فيها فلان ويكف يدي عنها فجاء مظفر الدين إليها وملكها وبقي غصة في حلق البيت الأتابكي لا يقدرون على إساغتها وسنذكر ما اعتمده معهم مرة بعد أخرى إن شاء الله تعالى. ذكر ملك الفرنج مدينة شلب وعودها إلى المسلمين في هذه السنة ملك ابن الرنك وهو من ملوك الفرنج غرب بلاد الأندلس مدينة شلب وهي من كبار مدن المسلمين بالأندلس واستولى عليها فوصل الخبر بذلك إلى الأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب الغرب والأندلس فتجهز في العساكر الكثيرة وسار إلى الأندلس وعبر المجاز وسير طائفة كثيرة من عسكره في البحر ونازلها وحصرها وقاتل من بها قتالا شديدا حتى ذلوا وسألوا الأمان فأمنهم وسلموا البلد وعادوا إلى بلادهم. وسير جيشا من الموحدين ومعهم جمع كثير من العرب ففتحوا
57 أربع مدن كان الفرنج قد ملكوها قبل ذلك بأربعين سنة وفتكوا في الفرنج فخافهم ملك طليطلة من الفرنج وأرسل يطلب الصلح فصالحه خمس سنين وعاد أبو يوسف إلى مراكش وامتنع من هذه الهدنة طائفة من الفرنج لم يرضوها ولا أمكنهم إظهار الخلاف فبقوا متوقفين حتى دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة فتحركوا وسنذكر خبرهم هناك إن شاء الله تعالى. ذكر الحرب بين غياث الدين وسلطان شاه بخراسان كان سلطان شاه أخو خوارزم شاه قد تعرض إلى بلاد غياث الدين ومعز الدين ملكي الغورية من خراسان فتجهز غياث الدين وخرج من فيروزكوه إلى خراسان سنة خمس وثمانين وخمسمائة فبقي يتردد بين بلاد الطالقان وبنجده ومرو وغيرها يريد حرب سلطان شاه فلم يزل كذلك إلى أن دخلت سنة ست وثمانين فجمع سلطان شاه عساكره وقصد غياث الدين فتصافا واقتتلا فانهزم سلطان شاه وأخذ غياث الدين بعض بلاده وعاد إلى غزنة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الأول تسلم الخليفة الناصر لدين الله حديثه عانة وكان سير إليها جيشا حصروها سنة خمس وثمانين [خمسمائة] فقاتلوا
58 عليها قتالا شديدا ودام الحصار وقتل من الفريقين خلق كثير فلما ضاقت عليهم الأقوات سلموها على اقطاع عينوها ووصل صاحبها وأهلها إلى بغداد وأعطوا أقطاعا ثم تفرقوا في البلاد واشتدت الحاجة بهم حتى رأيت بعضهم وأنه يتعرض بالسؤال إلى بعض خدم الناس نعوذ بالله من زوال نعمته وتحول عافيته. وفي هذه السنة توفي مسعود بن النادر الصفار ببغداد، وكان مكثرا من الحديث حسن الخط خيرا ثقة. وفيها توفي أبو حامد محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري بالموصل كان قاضيا وقبلها ولي قضاء حلب وجميع الأعمال وكان رئيسا جوادا ذا مروءة عظيمة يرجع إلى دين وأخلاق جميلة.
59 587 ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة ذكر حصر عز الدين صاحب الموصل الجزيرة في هذه السنة في ربيع الأول سار أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل إلى جزيرة ابن عمر فحصرها وكان بها صاحبها سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود وهو ابن أخي عز الدين. وكان سبب حصره أن سنجر شاه كان كثير الأذى لعمه عز الدين والشناعة عليه والمراسلة إلى صلاح الدين في حقه تارة يقول إنه يريد قصد بلادك وتارة يقول إنه يكاتب أعداءك ويحثهم على قصدك إلى غير ذلك من الأمور المؤذية وعز الدين يصبر على ما يكره لأمور تارة للرحم وتارة خوفا من تسليمها إلى صلاح الدين فلما كان في السنة الماضية سار صاحبها إلى صلاح الدين وهو على عكا في جملة من سار من أصحاب الأطراف وأقام عنده قليلا وطلب دستورا للعود إلى بلده فقال له صلاح الدين عندنا من أصحاب الأطراف جماعة منهم عماد الدين صاحب سنجار وغيرها وهو أكبر منك ومنهم ابن عمك عز الدين وهو أصغر منك وغيرهم ومتى فتحت هذا الباب اقتدى بك غيرك فلم يلتفت إلى قوله وأصر على ذلك وكان عند صلاح الدين جماعة من أهل الجزيرة يستغيثون على
60 سنجر شاه لأنه ظلمهم وأخذ أموالهم وأملاكهم فكان يخافه لهذا. ولم يزل في طلب الإذن في العود إلى البلد إلى عيد الفطر من سنة ست وثمانين [خمسمائة] فركب تلك الليلة سنجر شاه وجاء إلى خيمة صلاح الدين وأذن لأصحابه في المسير فساروا بالأثقال وبقي جريدة فلما وصل إلى خيمة صلاح الدين أرسل يطلب الإذن وكان صلاح الدين قد بات محموما وقد عرق فلم يمكن أن يأذن له فبقي كذلك مترددا على باب خيمته إلى أن أذن له فلما دخل عليه هنأه بالعيد وأكب عليه يودعه فقال له ما علمنا بصحة عزمك على الحركة فتصبر علينا حتى نرسل ما جرت به العادة فما يجوز أن تنصرف عنا بعد مقامك عندنا على هذا الوجه فلم يرجع وودعه وانصرف. وكان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين قد أقبل من بلده حماه في عسكره فكتب إليه صلاح الدين يأمره بإعادة سنجر شاه طوعا أو كرها فحكى له عن تقي الدين أنه قال ما رأيت مثل سنجر شاه لقيته بعقبة فيق فسألته عن سبب انصرافه فغالطني فقلت له سمعت بالحال ولا يليق أن تنصرف بغير تشريف السلطان وهديته فيضيع تعبك وسألته العود فلم يصغ إلى قولي فكلمني كأنني بعض [مماليكه]، فلما رأيت ذلك منه قلت له إن رجعت بالتي هي أحسسن وإلا أعدتك كارها فنزل عن دابته وأخذ ذيلي وقال قد استجرت بك وجعل يبكي فعجبت من حماقته أولا وذلته ثانيا فعاد معي. فلما عاد بقي عند صلاح الدين عشرة أيام وكتب صلاح الدين إلى عز الدين أتابك يأمره بقصد الجزيرة ومحاصرتها وأخذها وأنه يرسل
61 إلى طريق سنجر شاه ليقبض عليه إذا عاد فخاف عز الدين أن صلاح الدين قد فعل ذلك مكيدة ليشنع عليه بنكث العهد فلم يفعل شيئا من ذلك بل أرسل إليه يقول أريد خطك بذلك ومنشورا منك بالجزيرة فترددت الرسل في ذلك إلى أن انقضت سنة ست وثمانين [خمسمائة]، فاستقرت القاعدة بينهما فسار عز الدين إلى الجزيرة فحصرها أربعة أشهر وأياما آخرها شعبان ولم يملكها بل استقرت القاعدة بينه وبين سنجر شاه على يد رسول صلاح الدين فإنه كان قد أرسل بعد قصدها يقول إن صاحب سنجار وصاحب إربل وغيرهما قد شفعا في سنجر [شاه] فاستقر الصلح على أن لعز الدين نصف أعمال الجزيرة ولسنجر شاه نصفها وتكون الجزيرة بيد سنجر شاه من جملة النصف. وعاد عز الدين إلى الموصل وكان صلاح الدين بعد ذلك يقول ما قيل لي عن أحد شيء من الشر فرأيته إلا كان دون ما يقال فيه إلا سنجر شاه فإنه كان يقال لي عنه أشياء استعظمتها فلما رأيته صغر في عيني ما قيل ذكر عبور تقي الدين الفرات وملكه حران وغيرها من البلاد الجزرية ومسيره إلى خلاط وموته في هذه السنة في صفر سار تقي الدين من الشام إلى البلاد الجزرية حران والرها كان قد أقطعه إياها عمه صلاح الدين بعد أخذها من مظفر الدين مضافا إلى ما كان له بالشام وقرر معه أنه يقطع البلاد للجند ويعود وهم معه ليتقوى بهم على الفرنج فلما عبر الفرات وأصلح حال البلاد،
62 سار إلى ميافارقين وكانت له فلما بلغها تجدد له طمع في غيرها من البلاد المجاورة لها فقصد مدينة حاني من ديار بكر فحصرها وملكها وكان في سبعمائة فارس فلما سمع سيف الدين بكتمر صاحب خلاط بملكه حاني جمع عساكره وسار إليه فاجتمعت عساكره أربعة آلاف فارس فلما التقوا اقتتلوا فلم يثبت عسكر خلاط لتقي الدين بل انهزموا وتبعهم تقي الدين ودخل بلادهم. وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رشيق وزير صاحبه شاه أرمن وسجنه في قلعة هناك فلما انهزم كتب إلى مستحفظ القلعة يأمره بقتل ابن رشيق فوصل القاصد وتقي الدين قد نازل القلعة فأخذ الكتاب وملك القلعة وأطلق ابن رشيق وسار إلى خلاط فحصرها ولم يكن في كثرة من العسكر فلم يبلغ منها غرضا فعاد عنها وقصد ملازكرد وحصرها وضيق على من بها وطال مقامه عليها؛ [فلما ضاق عليهم الأمر طلبوا منه المهلة أياما ذكروها فأجابهم إليها]. ومرض تقي الدين فمات قبل انقضاء الأجل بيومين وتفرقت العساكر عنها وحمله ابنه وأصحابه ميتا إلى ميافارقين وعاد بكتمر قوي أمره وثبت ملكه بعد أن أشرف على الزوال وهذه الحادثة من الفرج بعد الشدة فإن ابن رشيق نجا من القتل وبكتمر نجا من أن يؤخذ. ذكر وصول الفرنج من الغرب في البحر إلى عكا وفي هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج الذين على عكا وكان أول من وصل منهم الملك فليب ملك إفرنسيس، وهو من أشرف
63 ملوكهم نسبا وإن كان ملكه ليس بالكثير وكان وصوله إليها ثاني عشر ربيع الأول ولم يكن في الكثرة التي ظنوها وإنما كان معه ست بطس كبار عظيمة فقويت به نفوس من على عكا منهم ولجوا في قتال المسلمين الذيم فيها. وكان صلاح الدين على شفرعم فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال عن مزاحفة البلد وأرسل إلى الأمير أسامة مستحفظ بيروت يأمره بتجهيز ما عنده من الشواني والمراكب وتشحينها بالمقاتلة وتسييرها في البحر ليمنع الفرنج من الخروج إلى عكا ففعل ذلك وسير الشواني في البحر فصادفت خمسة مراكب مملوءة رجالا من أصحاب ملك انكلتار الفرنج وكان قد سيرهم بين يديه وتأخر هو بجزيرة قبرس ليملكها فاقتتلت شواني المسلمين مع مراكب الفرنج فاستظهر المسلمون عليهم وأخذوهم وغنموا ما معهم من قوت ومتاع ومال وأسروا الرجال. وكتب أيضا صلاح الدين إلى من بالقرب من النواب له يأمرهم بمثل ذلك ففعلوا. وأما الفرنج الذين على عكل فإنهم لازموا قتال من بها ونصبوا عليها سبع منجنيقات رابع جمادى الأولى، [فلما رأى صلاح الدين ذلك تحول من شفرعم ونزل عليهم لئلا يتعب العسكر كل يوم في المجيء إليهم والعود عنهم فقرب منهم وكانوا كلما تحركوا للقتال ركب وقاتلهم من وراء خندقهم فكانوا يشتغلون بقتالهم فيخف القتال عمن بالبلد. ثم وصل ملك انكلتار ثالث عشر جمادى الأولى]. وكان قد استولى في طريقه على جزيرة قبرس وأخذها من الروم فإنه لما وصل إليها غدر بصاحبها وملكها جميعا فكان ذلك زيادة في ملكه وقوة للفرنج؛ فلما
64 فرغ منها سار عنها إلى من على عكا من الفرنج فوصل إليهم في خمس وعشرين قطعة كبارا مملوءة رجالا وأموالا فعظم به شر الفرنج واشتدت نكايتهم في المسلمين وكان رجل زمانه شجاعة ومكرا وجلدا وصبرا وبلي المسلمون منه بالداهية التي لا مثل لها. ولما وردت الأخبار بوصوله أمر صلاح الدين بتجهيز بسطة كبيرة مملوءة من الرجال والعدد والأقوات فتجهزت وسيرت من بيروت وفيها سبعمائة مقاتل فلقيها ملك إنكلتار مصادفة فقاتلها وصبر من فيها على قتالها فلما أيسوا من الخلاص ونزل مقدم من بها إلى أسفلها وهو يعقوب الحلبي مقدم الجندارية يعرف بغلام ابن شقتين فخرقها خرقا واسعا لئلا يظفر الفرنج بمن فيها وما معهم من الذخائر فغرق جميع ما فيها وكانت عكا محتاجة إلى رجال لما ذكرناه من سبب نقصهم ثم إن الفرنج عملوا دبابات وزحفوا بها فخرج المسلمون وقاتلوهم بظاهر البلد وأخذوا تلك الكباش فلما رأى الفرنج أن ذلك جميعه لا ينفعهم عملوا تلا كبيرا من التراب مستطيلا وما زالوا يقربونه إلى البلد ويقاتلون من ورائه لا ينالهم من البلد أذى حتى صار على نصف علوه فكانوا يستظلون به ويقاتلون من خلفه فلم يكن للمسلمين فيه حيلة لا بالنار ولا بغيرها فحينئذ عظمت المصيبة على من بعكا من المسلمين فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه حالهم فلم يقدر لهم على نفع.
65 ذكر ملك الفرنج عكا في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة استولى الفرنج لعنهم الله على مدينة عكا وكان أول وهن دخل على من بالبلد أن الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المعروف بالمشطوب كان فيها ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثلهم وأكبرهم فخرج إلى ملك إفرنسيس وبذل تسليم البلد بما فيه على أن يطلق المسلمين الذين فيه ويمكنهم من اللحاق بسلطانهم فلم يجبه إلى ذلك فعاد علي بن أحمد إلى البلد فوهن من فيه وضعفت نفوسهم وتخاذلوا وأهمتهم أنفسهم. ثم إن أميرين ممن كان بعكا لما رأوا ما فعلوا بالمشطوب والفرنج لم يجيبوا إلى الأمان اتخذوا الليل جملا وركبوا في شيء صغير وخرجوا سرا من أصحابهم ولحقوا بعسكر المسلمين وهم عز الدين أرسل الأسدي وابن عز الدين جاولي، ومعهم غيرهم، فلما أصبح الناس ورأوا ذلك ازدادوا وهنا إلى وهنهم وضعفا إلى ضعفهم وأيقنوا بالعطب. ثم إن الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليم البلد فأجابهم إلى ذلك والشرط بينهم أن يطلق من أسراهم بعدد من في البلد ليطلقوا هم من بعكا وأن يسلم إليهم صليب الصلبوت فلم يقنعوا بما بذل فأرسل إلى من بعكا من المسلمين يأمرهم أن يخرجوا من عكا يدا واحدة ويتركوا البلد بما فيه ووعدهم أنه يتقدم إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره ويقاتل الفرنج فيها ليلحقوا به فشرعوا في ذلك واشتغل كل منهم باستصحاب ما يملكه فما فرغوا من أشغالهم حتى أسفر الصبح فبطل ما عزموا عليه لظهوره.
66 فلما عجز الناس من حفظ البلد زحف إليهم الفرنج بحدهم وحديدهم فظهر من بالبلد على سوره يحركون أعلامهم ليراها المسلمون وكانت هي العلامة إذا اخترمهم أمر فلما رأى المسلمون ذلك ضجوا بالبكاء والعويل وحملوا على الفرنج من جميع جهاتهم طلبا منهم أن الفرنج يشتغلون عن الذين بعكا وصلاح الدين يحرضهم وهو في أولهم. وكان الفرنج قد خفوا عن خنادقهم ومالوا إلى جهة البلد فقرب المسلمون من خنادقهم حتى كادوا يدخلونها عليهم ويضعون السيف فيهم فوقع الصوت فعاد الفرنج ومنعوا المسلمين وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتلهم. فلما رأى المشطوب أن صلاح الدين لا يقدر على نفع ولا يدفع عنهم ضرا خرج إلى الفرنج وقرر معهم تسليم البلد وخروج من فيه بأموالهم وأنفسهم وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار للمسركيس صاحب صور فأجابوه إلى ذلك وحلقوا له عليه وأن يكون مدة تحصيل المال والأسرى إلى شهرين. فلما حلفوا له سلم البلد إليهم ودخلوه سلما فلما ملكوه غدروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم وحبسوهم وأظهروا أنهم يفعلون ذلك ليصل إليهم ما بذل لهم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب حتى يطلقوا من عندهم فشرع في جمع المال،
67 وكان هو الأمان له إنما يخرج ما يحصل إليه من دخل البلاد أولا بأول. فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار جمع الأمراء واستشارهم فأشاروا بأن لا يرسل شيئا حتى يعاود يستحلفهم على إطلاق أصحابه وأن يضمن الداوية ذلك لأنهم أهل دين يرون الوفاء فراسلهم صلاح الدين في ذلك فقال الداوية لا نحلف ولا نضمن لأننا نخاف غدر من عندنا وقال ملوكهم إذا سلمتم إلينا المال والأسرى والصليب فلنا الخيار فيمن عندنا فحينئذ علم صلاح الدين عزمهم على الغدر فلم يرسل إليهم شيئا وأعاد الرسالة إليهم وقال نحن نسلم إليكم هذا المال والأسرى والصليب ونعطيكم رهنا على الباقي وتطلقون أصحابنا وتضمن الداوية الرهن ويحلفون على الوفاء لهم فقالوا لا نحلف إنما نرسل المائة ألف دينار التي حصلت والأسرى والصليب ونحن نطلق من أصحابكم من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال فعلم الناس حينئذ غدرهم وإنما يطلقون غلمان العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبه له ويمسكون عندهم الأمراء وأرباب الأموال ويطلبون منهم الفداء فلم يجبهم السلطان إلى ذلك فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب ركب الفرنج وخرجوا إلى ظاهر البلد بالفارس والراجل وركب المسلمون إليهم وقصدوهم وحملوا عليهم فانكشفوا عن مواقفهم وإذا أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف واستبقوا الأمراء والمقدمين ومن كان له مال وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مال له فلما رأى صلاح الدين ذلك تصرف في المال الذي كان جمعه وسير الأسرى والصليب إلى دمشق.
68 ذكر رحيل الفرنج إلى ناحية عسقلان وتخريبها لما فرغ الفرنج لعنهم الله من إصلاح أمر عكا برزوا منها في الثامن والعشرين من رجب وساروا مستهل شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارقونه فلما سمع صلاح الدين برحيلهم نادى في عسكره بالرحيل فساروا وكان على اليزك ذلك اليوم الملك الأفضل ولد صلاح الدين ومعه سيف الدين إيازكوش وعز الدين جورديك وعدة من شجعان الأمراء فضايقوا الفرنج في مسيرهم وأرسلوا عليهم من السهام ما كان يحجب الشمس ووقعوا على سلقة الفرنج فقتلوا منها جماعة وأسروا جماعة. وأرسل الأفضل إلى والده يستمده ويعرفه الحال فأمر العساكر بالمسير إليه فاعتذروا بأنهم ما ركبوا بأهبة الحرب وإنما كانوا على عزم المسير لا غير فبطل المدد وعاد ملك الإنكلتار إلى ساقة الفرنج فحماها وجمعهم وساروا حتى أتوا حيفا فنزلوا بها ونزل المسلمون بقيمون قرية بالقرب منهم وأحضر الفرنج من عكا عوض من قتل منهم وأسر ذلك اليوم وعرض ما هلك من الخيل ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يسايرونهم ويتخظفون منهم من قدروا عليه فيقتلونه لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنه لا يظفر بأحد منهم إلا قتله بمن قتلوا ممن كان بعكا. فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون وقاتلوهم أشد قتال فنالوا منهم نيلا كثيرا ونزل الفرنج بها وبات المسلمون قريبا منهم فلما نزلوا خرج من الفرنج جماعة فأبعدوا عن جماعتهم فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا
69 في اليزك فقتلوا منهم وأسروا منهم ثم ساروا من قيسارية إلى أرسوف وكان المسلمون قد سبقوهم إليها ولم يمكنهم مسايرتهم لضيق الطريق فلما وصل الفرنج إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة ألحقوهم بالبحر ودخله بعضهم فلما رأى الفرنج ذلك اجتمعوا وحملت الخيالة على المسلمين حملة رجل واحد فولوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد وكان كثير من الخيالة والسوقة قد ألفوا القيام وقت الحرب قريبا من المعركة فلما كان ذلك اليوم كانوا على حالهم فلما انهزم المسلمون عنهم قتل منهم كثير. والتجأ المنهزمون إلى القلب وفيه صلاح الدين فلو علم الفرنج أنها هزيمة لتبعتهم واشتهرت الهزيمة وهلك المسلمون لكن كان بالقرب من المسلمين شعرة كثيرة الشجر فدخلوها وظنها الفرنج مكيدة فعادوا وزال عنهم ما كانوا فيه من الضيق وقتل من الفرنج كند كبير من طواغيتهم وقتل من المسلمين مملوك لصلاح الدين اسمه أياز الطويل وهو من الموصوفين بالشجاعة والشهامة لم يكن في زمانه مثله. فلما نزل الفرنج نزل المسلمون وأعنة خيلهم بأيديهم ثم سار الفرنج إلى يافا فنزلوها ولم يكن بها أحد من المسلمين فملكوها. ولما كان من المسلمين بأرسوف من الهزيمة ما ذكرناه سار صلاح الدين عنهم إلى الرملة واجتمع بأثقاله بها وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بتخريب عسقلان وقالوا له قد رأيت ما كان منا بالأمس وإذا جاء الفرنج إلى عسقلان ووقفنا في وجوههم نصدهم عنها فهم لا شك
70 يقاتلوننا لننزاح عنها وينزلون عليها فإذا كان ذلك عدنا إلى مثل ما كنا عليه على عكا ويعظم الأمر علينا لأن العدو قد قوي بأخذ عكا وما فيها من الأسلحة وغيرها ونحن قد ضعفنا بما خرج عن أيدينا ولم تطل المدة حتى نستجد غيرها. فلم تسمح نفسه بتخريبها وندب الناس إلى دخولها وحفظها فلم يجبه أحد إلى ذلك وقالوا إن أردت حفظها فادخل أنت معنا أو بعض أولادك الكبار وإلا فما يدخلها منا أحد لئلا يصيبنا ما أصاب أهل عكا فلما رأى الأمر كذلك سار إلى عسقلان وأمر بتخريبها تاسع عشر شعبان وألقيت حجارتها في البحر وهلك فيها من الأموال والذخائر التي للسلطان والرعية ما لا يمكن حصره وعفى أثرها حتى لا يبقى للفرنج في قصدها مطمع. ولما سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانهم ولم يسيروا إليها، وكان المركيس لعنه الله لما أخذ الفرنج عكا قد أحس من ملك إنكلتار بالغدر به فهرب من عنده إلى مدينة صور وهي له وبيده وكان رجل الفرنج رأيا وشجاعة وكل هذه الحروب هو أثارها فلما خربت عسقلان أرسل إلى ملك إنكلتار يقول له مثلك لا ينبغي أن يكون ملكا ويتقدم على الجيوش تسمع أن صلاح الدين قد خرب عسقلان وتقيم مكانك يا جاهل لما بلغك أنه قد شرع في تخريبها كنت سرت إليه مجدا فرحلته وملكتها صفوا عفوا بغير قتال ولا حصار فإنه ما خربها إلا وهو عاجز عن حفظها وحق المسيح لو أنني معك كانت عسقلان اليوم بأيدينا لم يخرب منها غير برج واحد.
71 فلما خربت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهر رمضان ومضى إلى الرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد وفي مدة مقامه لتخريب عسقلان كانت العساكر مع الملك العادل أبي بكر بن أيوب تجاه الفرنج ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريب الرملة فاعتبره وما فيه من سلاح وذخائر وقرر قواعده وأسبابه وما يحتاج إليه وعاد إلى المخيم ثامن رمضان. وفي هذه الأيام خرج ملك إنكلتار من يافا ومعه نفر من الفرنج من معسكرهم فوقع به نفر من المسلمين فقاتلوهم قتالا شديدا وكاد ملك إنكلتار يؤسر ففداه بعض أصحابه بنفسه فتخلص الملك وأسر ذلك الرجل وفيها أيضا كانت وقعة بين طائفة من المسلمين وطائفة من الفرنج انتصر [فيها] المسلمون. ذكر رحيل الفرنج إلى نطرون لما رأى صلاح الدين أن الفرنج قد لزموا يافا ولم يفارقوها وشرعوا في عمارتها رحل من منزلته إلى النطرون ثالث عشر رمضان وخيم به فراسله ملك إنكلتار يطلب المهادنة فكانت الرسل تتردد إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب أخي صلاح الدين فاستقرت القاعدة أن ملك إنكلتار يزوج أخته من العادل ويكون القدس وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحل للعادل ويكون عكا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت إنكلتار مضافا إلى مملكة كانت لها داخل البحر قد ورثتها من زوجها وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاق عليه فعرض العادل ذلك على صلاح الدين فأجاب إليه فلما ظهر الخبر اجتمع القسيسون والأساقفة والرهبان إلى أخت إنكلتار
72 وأنكروا عليها فامتنعت من الإجابة وقيل كان المانع منه غير ذلك والله أعلم. وكان العادل وملك إنكلتار يجتمعان بعد ذلك ويتجاريان حديث الصلح وطلب من العادل أن يسمعه غناء المسلمين فأحضر له مغنية تضرب بالجنك فغنت له فاستحسن ذلك ولم يتم بينهما صلح وكان ملك إنكلتار يفعل ذلك خديعة ومكرا. ثم إن الفرنج أظهروا العزم على قصد بيت المقدس فسار صلاح الدين إلى الرملة جريدة وترك الأثقال بالنطرون وقرب من الفرنج وبقي عشرين يوما ينتظرهم فلم يبرحوا فكان بين الطائفتين مدة المقام عدة وقعات في كلها ينتصر المسلمون على الفرنج وعاد صلاح الدين إلى النطرون ورحل الفرنج من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة على عزم قصد البيت المقدس فقرب بعضهم من بعض فعظم الخطب واشتد الحذر فكان كل ساعة يقع الصوت في العسكرين باللقاء فلقوا من ذلك شدة شديدة وأقبل الشتاء وحالت الأحوال والأمطار بينهما. ذكر مسير صلاح الدين إلى القدس لما رأى صلاح الدين أن الشتاء قد هجم والأمطار متوالية متتابعة والناس منها في ضنك وحرج ومن شدة البرد ولبس السلاح والسهر في تعب دائم وكان كثير من العساكر قد طال بيكارها فأذن لهم في العود إلى بلادهم للاستراحة والإراحة وسار هو إلى البيت المقدس فيمن بقي
73 معه فنزلوا جميعا داخل البلد فاستراحوا مما كانوا فيه ونزل هو بدار الأقصى مجاور بيعة قمامة وقدم إليه عسكر مصر مقدمهم الأمير أبو الهيجاء السمين فقويت نفوس المسلمين بالقدس. وسار الفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة على عزم قصد القدس فكانت بينهم وبين يزك والمسلمين وقعات أسر المسلمين في وقعة منها نيفا وخمسين فارسا من مشهوري الفرنج وشجعانهم وكان صلاح الدين لما دخل القدس أمر بعمارة سوره وتجديد ما رث منه فأحكم الموضع الذي ملك البلد منه وأتقنه وأمر بحفر خندق خارج الفصيل وسلم كل برج إلى أمير يتولى عمله فعمل ولده الأفضل من ناحية باب عمود إلى باب الرحمة وأرسل أتابك عز الدين مسعود صاحب الموصل جماعة من الجصاصين لهم في قطع الصخر اليد الطولى فعملوا له هناك برجا وبدنة وكذلك جميع الأمراء. ثم إن الحجارة قلت عند العمالين فكان صلاح الدين رحمه الله يركب وينقل الحجارة بنفسه على دابته من الأمكنة البعيدة فيقتدي به العسكر فكان يجمع عنده من العمالين في اليوم الواحد من يعملون قدر عدة أيام. ذكر عود الفرنج إلى الرملة في العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة وكان سبب عودهم أنهم كانوا ينقلون ما يريدونه من الساحل فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجون على من يجلب لهم الميرة فيقطعون الطريق ويغنمون ما معهم ثم
74 إن ملك إنكلتار قال لمن معه من الفرنج الشاميين صوروا لي مدينة القدس فإني ما رأيتها فصوروها له فرأى الوادي يحيط بها ما عدا موضعا يسيرا من جهة الشمال فسأل عن الوادي وعن عمقه فأخبر أنه عميق وعر المسالك. فقال: هذه مدينة لا يمكن حصرها مهما كان صلاح الدين حيا وكلمة المسلمين مجتمعة لأننا إن نزلنا في الجانب الذي يلي المدينة بقيت سائر الجوانب غير محصورة فيدخل إليهم منها الرجال الذخائر وما يحتاجون إليه وإن نحن افترقنا فنزل بعضنا من جانب الوادي وبعضنا من الجانب الآخر جمع صلاح الدين أصحابه وواقع إحدى الطائفتين ولم يكن للطائفة الأخرى إنجاد أصحابهم لأنهم إن فارقوا مكانهم خرج من بالبلد من المسلمين فغنموا ما فيه وإن تركوا فيه من يحفظه وساروا نحو أصحابهم فإلى أن يتخلصوا من الوادي ويلحقوا بهم قد فرغ صلاح الدين منهم هذا سوى ما يتعذر علينا من إيصال ما يحتاج إليه من العلوفات والأقوات. فلما قال لهم ذلك علموا صدقه ورأوا قلة الميرة عندهم وما يجري للجالبين لهما من المسلمين فأشاروا عليه بالعود إلى الرملة فعادوا خائبين خاسرين. ذكر قتل قزل أرسلان في شعبان من هذه السنة قتل قزل أرسلان واسمه عثمان بن إيلدكز وقد ذكرنا أنه ملك البلد بعد وفاة أخيه البهلوان ملك أران، وأذربيجان،
75 وهمذان، وأصفهان، والري وما بينهما وأطاعه صاحب فارس وخوزستان واستولى على السلطان طغرل فاعتقله في بعض القلاع ودانت له البلاد. وفي آخر أمره سار إلى أصفهان والفتن بها متصلة من لدن توفي البهلوان إلى ذلك الوقت فتعصب على الشافعية وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة وضرب النوب الخمس ثم إنه دخل ليلة قتل إلى منزله لينام وتفرق أصحابه فدخل إليه من قتله على فراشه ولم يعرف قاتله فأخذ أصحابه صاحب بابه ظنا وتخمينا وكان كريما حسن الأخلاق يحب العدل ويؤثره ويرجع إلى حلم وقلة عقوبة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة قدم معز الدين قيصر شاه بن قلج أرسلان صاحب بلاد الروم على صلاح الدين في رمضان وكان سبب قدومه أن والده عز الدين قلج أرسلان فرق مملكته على أولاده وأعطى ولده هذا ملطية وأعطى ولده قطب الدين ملك شاه سيواس فاستولى قطب الدين على أبيه وحجر عليه وأزال حكمه وألزمه أن يأخذ ملطية من أخيه وسلمها إليه فخاف معز الدين فسار إلى صلاح الدين ملتجئا إليه معتضدا به فأكرمه صلاح الدين وزوجه بابنة أخيه الملك العادل فامتنع قطب الدين من قصده وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة. وحدثني من أثق به قال رأيت صلاح الدين وقد ركب ليودع هذا معز الدين فترجل له معز الدين وترجل صلاح الدين وودعه راجلا فلما أراد الركوب عضده هذا معز الدين وركب وسوى ثيابه علاء
76 الدين خرمشاه بن عز الدين صاحب الموصل قال فعجبت من ذلك وقلت ما تبالي يا ابن أيوب أي موته تموت يركبك ملك سلجوقي وابن أتابك زنكي. وفيها توفي حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين وهو ابن أخت صلاح الدين وعلم الدين سليمان بن جندر وهو من أكابر أمراء صلاح الدين أيضا. وفي رجب توفي الصفي بن القابض وكان متولي دمشق لصلاح الدين يحكم في جميع بلاده.
77 588 ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ذكر عمارة الفرنج عسقلان في هذه السنة في المحرم رحل الفرنج نحو عسقلان وشرعوا في عمارتها وكان صلاح الدين بالقدس فسار ملك إنكلتار جريدة من عسقلان إلى يزك المسلمين فواقعهم وجرى بين الطائفتين قتال شديد انتصف بعضهم من بعض. وفي مدة مقام صلاح الدين بالقدس ما برحت سراياه تقصد الفرنج فتارة تواقع طائفة منهم وتارة تقطع الميرة عنهم ومن جملتها سرية كان مقدمها فارس الدين ميمون القصري وهو من مقدمي المماليك الصلاحية خرج على قافلة كبيرة للفرنج فأخذها وغنم ما فيها. ذكر قتل المركيس وملك الكند هري في هذه السنة في ثالث عشر ربيع الآخر قتل المركيس الفرنجي لعنه الله صاحب صور وهو أكبر شياطين الفرنج. وكان سبب قتله أن صلاح الدين راسل مقدم الإسماعيلية [بالشام]، وهو سنان أن أرسل من يقتل ملك إنكلتار وإن قتل المركيس فله عشرة
78 آلاف دينار، فلم يمكنهم قتل ملك إنكلتار ولم يره سنان مصلحة لهم لئلا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنج ويتفرغ لهم وشره في أخذ المال فعدل إلى قتل المركيس فأرسل رجلين في زي الرهبان واتصلا بصاحب صيدا وابن بارزان صاحب رملة وكانا مع المركيس بصور فأقاما معهما ستة أشهر يظهران العبادة فأنس بهما المركيس ووثق إليهما فلما كان بعد التاريخ عمل الأسقف بصور دعوة المركيس فحضرها وأكل طعامه وشرب مدامه وخرج من عنده فوثب عليه الباطنيان المذكوران فجرحاه جراحا وثيقة وهرب أحدهما ودخل كنيسة يختفي فيها فاتفق أن المركيس حمل إليها ليشد جراحه فوثب عليه ذلك الباطني فقتله وقتل الباطنيان بعده. ونسب الفرنج قتله إلى وضع من ملك إنكلتار لينفرد بملك الساحل الشامي فلما قتل ولي بعده مدينة صور كند من الفرنج من داخل البحر يقال له الكند هري وتزوج بالملكة في ليلته ودخل بها وهي حامل وليس الحمل عندهم مما يمنع النكاح. وهذا الكند هري هو ابن أخت ملك إفرنسيس من أبيه وابن أخت ملك إنكلتار من أمه وملك هذا كند هري بلاد الفرنج بالساحل بعد عود ملك إنكلتار وعاش إلى سنة أربع وتسعين وخمسمائة فسقط من سطح فمات وكان عاقلا كثير المداراة والاحتمال. ولما رحل ملك إنكلتار إلى بلاده أرسل هذا كند هري إلى صلاح الدين يستعطفه ويستميله يطلب منه خلعة وقال أنت تعلم أن لبس القباء والشربوش عندنا عيب وأنا ألبسهما منك محبة لك فأنفذ إليه خلعة سنية منها القباء والشربوش فلبسهما بعكا.
79 ذكر نهب بني عامر البصرة في هذه السنة في صفر اجتمع بنو عامر في خلق كثير وأميرهم عميرة وقصدوا البصرة وكان الأمير بها اسمه محمد بن إسماعيل ينوب عن مقطعها الأمير طغرل مملوك الخليفة الناصر لدين الله فوصلوا إليها يوم السبت سادس صفر فخرج إليهم الأمير محمد فيمن معه من الجند فوقعت الحرب بينهم بدرب الميدان بجانب الخريبة ودام القتال إلى آخر النهار فلما جاء الليل ثلم العرب في السور عدة ثلم ودخلوا البلد من الغد فقاتلهم أهل البلد فقتل بينهم قتلى كثيرة من الفريقين ونهبت العرب الخانات بالشاطئ وبعض محال البصرة وعبر أهلها إلى شاطئ الملاحين وفارق العرب البلد في يومهم وعاد أهله إليه. وكان سبب سرعة العرب في مفارقة البلد أنهم بلغهم أن خفاجة والمنتفق وعادوا إلى البصرة بكرة الاثنين وكان الأمير قد جمع من أهل البصرة والسواد جمعا كثيرا فلما عادت عامر قاتلهم أهل البصرة ومن اجتمع معهم فلم يقوموا للعرب وانهزموا ودخل العرب البصرة ونهبوها وفارق البصرة أهلها ونهبت أموالهم وجرت أمور عظيمة ونهبت القسامل وغيرها يومين وفارقها العرب وعاد أهلها إليها وقد رأيت هذه القصة بعينها في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة والله أعلم.
80 ذكر ما كان من ملك إنكلتار في تاسع جمادى الأولى من هذه السنة استولى الفرنج على حصن الداروم فخربوه ثم ساروا إلى البيت المقدس وصلاح الدين فيه فبلغوا بيت نوبة. وكان سبب طمعهم أن صلاح الدين فرق عساكره الشرقية وغيرها لأجل الشتاء ويستريحوا وليحضر البلد عوضهم وسار بعضهم مع ولده الأفضل وأخيه العادل إلى البلاد الجزرية لما نذكره إن شاء الله تعالى وبقي من حلقته الخاص بعض العساكر المصرية فظنوا أنهم ينالون غرضا فلما سمع صلاح الدين بقربهم منه فرق أبراج البلد على الأمراء وسار الفرنج من بيت نوبة إلى قلونية سلخ الشهر وهي [على] فرسخين من القدس، فصب المسلمون عليهم البلاء وتابعوا إرسال السرايا قبل الفرنج منهم بما لا قبل لهم به وعلموا أنهم إذا نازلوا القدس كان الشر إليهم أسرع والتسلط عليهم أمكن فرجعوا القهقري وركب المسلمون أكتافهم بالرماح والسهام. ولما بعد الفرنج عن يافا سير صلاح الدين سرية من عسكره إليها فقاربوها وكمنوا عندها فاجتاز بهم جماعة من فرسان الفرنج مع قافلة فخرجوا عليهم فقتلوا منهم وأسروا وغنموا وكان ذلك آخر جمادى الأولى.
81 ذكر استيلاء الفرنج على عسكر للمسلمين وقفل في تاسع جمادى الآخرة بلغ الفرنج الخبر بوصول عسكر من مصر ومعهم قفل كبير ومقدم العسكر فلك الدين سليمان أخو العادل لأمه ومعه عدة من الأمراء فأسرى الفرنج إليهم فواقعهم بنواحي الخليل فانهزم الجند ولم يقتل منهم أحد من المشهورين إنما قتل من الغلمان والأصحاب وغنم الفرنج خيامهم وآلاتهم وأما القفل فإنه أخذ بعضه وصعد من نجا جبل الخليل فلم يقدم الفرنج على اتباعهم ولو اتبعوهم نصف فرسخ لأتوا عليهم وتفرق من نجا من القفل وتقطعوا ولقوا شدة إلى أن اجتمعوا. حكى لي بعض أصحابنا وكنا قد سيرنا معه شيئا للتجارة إلى مصر وكان قد خرج في هذه القفل قال لما وقع الفرنج علينا كنا قد رفعنا أحمالنا للسير فحملوا علينا وأوقعوا بنا فضربت جمالي وصعدت الجبل ومعي عدة أجمال لغيري فلحقنا قوم من الفرنج فأخذوا الأجمال التي في صحبتي وكنت بين أيديهم بمقدار رمية سهم فلم يصلوا إلي فنجوت بما معي وسرت لا أدري أين أقصد وإذ قد لاح لي بناء كبير على جبل فسألت عنه فقيل لي هذا الكرك فوصلت إليه ثم عدت منه إلى القدس سالما وسار هذا الرجل من القدس سالما فلما بلغ بزاعة عند حلب أخذه الحرامية فنجا من العطب، وهلك عند ظنه السلامة. ذكر سير الأفضل والعادل إلى بلاد الجزيرة قد تقدم ذكر موت تقي الدين عمر ابن [أخي] صلاح الدين، واستيلاء ولده ناصر الدين محمد على بلاد الجزيرة فلما استولى عليها أرسل إلى صلاح
82 الدين يطلب تقريرها عليه، مضافا إلى ما كان لأبيه بالشام فلم ير صلاح الدين أن مثل تلك البلاد تسلم إلى صبي فما أجابه إلى ذلك فحدث نفسه بالامتناع على صلاح الدين لاشتغاله بالفرنج فطلب الأفضل علي بن صلاح الدين من أبيه أن يقطعه ما كان لتقي الدين وينزل عن دمشق فأجابه إلى ذلك وأمره بالمسير إليها فسار إلى حلب في جماعة من العسكر وكتب صلاح الدين إلى أصحاب البلاد الشرقية مثل صاحب الموصل وصاحب سنجار وصاحب الجزيرة وصاحب ديار بكر وغيرها يأمرهم بإنفاذ العساكر إلى ولده الأفضل. فلما رأى ولد تقي الدين ذلك علم أنه لا قوة له بهم فراسل الملك العادل [أبا بكر بن أيوب]، عم أبيه، يسأله إصلاح حاله مع صلاح الدين فأنهى ذلك إلى صلاح الدين وأصلح حاله وقرر قاعدته بأن يقرر له ما كان لأبيه بالشام وتؤخذ منه البلاد الجزرية، واستقرت القاعدة على ذلك. وأقطع صلاح الدين البلاد الجزرية وهي حران الرها وسميساط وميافارقين وحاني العادل وسيره إلى ابن تقي الدين ليتسلم منه البلاد ويسيره إلى صلاح الدين ويعيد الملك الأفضل أين أدركه فسار العادل فلحق الأفضل بحلب فأعاده إلى أبيه وعبر العادل الفرات وتسلم البلاد من ابن تقي الدين وجعل نوابه فيها واستصحب ابن تقي الدين معه وعاد إلى صلاح الدين بالعساكر وكان عوده في جمادى الآخرة من هذه السنة. ذكر عود الفرنج إلى عكا لما عاد الملك الأفضل فيمن معه وعاد الملك العادل وابن نقي الدين فيمن معهما من عساكرهما ولحقتهم العساكر الشرقية عسكر الموصل
83 وعسكر ديار بكر وعسكر سنجار وغير ذلك من البلاد واجتمعت العساكر بدمشق أيقن الفرنج أنهم لا طاقة لهم بها إذا فارقوا البحر فعادوا نحو عكا يظهرون العزم على قصد بيروت ومحاصرتها فأمر صلاح الدين ولده الأفضل أن يسير إليها في عسكره والعساكر الشرقية جميعها معارضا للفرنج في مسيرتهم نحوها فسار إلى مرج العيون واجتمعت العساكر معه فأقام هنالك ينتظر مسير الفرنج فلما بلغهم ذلك أقاموا بعكا ولم يفارقوها. ذكر ملك صلاح الدين يافا لما رحل الفرنج نحو عكا كان قد اجتمع عند صلاح الدين عسكر حلب وغيرها فسار إلى مدينة يافا وكانت بيد الفرنج فنازلها وقاتل من بها منهم وملكها في العشرين من رجب بالسيف عنوة ونهبها المسلمون وغنموا ما فيها وقتلوا الفرنج وأسروا كثيرا وكان بها أكثر ما أخذوه من عسكر مصر والقفل الذي كان معهم وقد ذكر ذلك. وكان جماعة من المماليك الصلاحية قد وقفوا على أبواب المدينة وكل من خرج من الجند ومعه شيء من الغنيمة أخذوه منه فإن امتنع ضربوه وأخذوا ما معه قهرا ثم زحفت العساكر إلى القلعة فقاتلوا عليها آخر النهار وكادوا يأخذونها فطلب من بالقلعة الأمان على أنفسهم وخرج البطرك الكبير الذي لهم ومعه عدة من أكابر الفرنج في ذلك وترددوا وكان قصدهم منع المسلمين عن القتال فأدركهم الليل وواعدوا المسلمين أن ينزلوا بكرة غد ويسلموا القلعة. فلما أصبح الناس طالبهم صلاح الدين بالنزول عن الحصن فامتنعوا وإذ قد وصلهم نجدة من عكا وأدركهم ملك إنكلتار فأخرج من بيافا من
84 المسلمين وأتاه المدد من عكا وبرزوا إلى ظاهر المدينة واعترض المسلمين وحده وحمل عليهم فلم يتقدم إليه أحد فوقف بين الصفين واستدعى طعاما من المسلمين ونزل أكل فأمر صلاح الدين عسكره بالحملة عليهم وبالجد في قتالهم فتقدم إليه بعض أمرائه يعرف بالجناح وهو أخو المشطوب بن علي ابن أحمد الهكاري فقال له يا صلاح الدين قل لمماليكك الذين اخذوا أمس الغنيمة وضربوا الناس بالحماقات، [أن] يتقدموا فيقاتلوا إذا كان القتال فنحن وإذا كانت الغنيمة فلهم فغضب صلاح الدين من كلامه وعاد عن الفرنج. وكان رحمه الله حليما كريما [كثير العفو عند] المقدرة ونزل في خيامه وأقام حتى اجتمعت العساكر وجاء إليه ابنه الأفضل وأخوه العادل وعساكر الشرق فدخل بهم إلى الرملة لينظر ما يكون منه ومن الفرنج فلزم الفرنج يافا ولم يبرحوا منها. ذكر الهدنة مع الفرنج وعود صلاح الدين إلى دمشق في العشرين من شعبان من هذه السنة عقدت [الهدنة] بين المسلمين والفرنج هدنة لمدة ثلاث سنين وثمانية اشهر أولها هذا التاريخ وافق أول أيلول وسبب الصلح أن ملك إنلكتار لما رأى اجتماع العساكر وانه لا يمكنه مفارقة ساحل البحر وليس بالساحل للمسلمين بلد يطمع فيه قد طالت غيبته عن بلاده،
85 راسل صلاح الدين في الصلح، وأظهر من ذلك ضد ما كان يظهره أولا فلم يجبه صلاح الدين إلى ما طلب ظنا منه أنه يفعل ذلك خديعة ومكرا وأرسل يطلب منه المصاف والحرب فأعاد الفرنجي رسله مرة بعد مرة وترك تتمة عمارة عسقلان و [تخلي] عن غزة والداروم والرملة وأرسل إلى الملك العادل في تقرير هذه القاعدة فأشار هو وجماعة الأمراء بالإجابة إلى الصلح وعرفوه ما عند العسكر من الضجر والملل وما قد هلك من أسلحتهم ودوابهم ونفد من نفقاتهم وقالوا إن هذا الفرنجي إنما طلب الصلح ليركب البحر ويعود إلى بلاده فإن تأخرت إجابته إلى ان يجيء الشتاء وينقطع الركوب في البحر نحتاج نبقى ههنا سنة أخرى وحينئذ يعظم الضرر على المسلمين. وأكثروا القول له في هذا المعنى فأجاب حينئذ إلى الصلح فحضر رسل الفرنج وعقدوا الهدنة وتحالفوا على هذه القاعدة وكان في جملة من حضر عند صلاح الدين باليان بن بارزان الذي كان صاحب الرملة ونابلس فلما حلف صلاح الدين قال له ما عمل أحد في الإسلام [مثل] ما عملت ولا هلك من الفرنج مثل ما هلك منهم هذه المدة فإننا احصينا من خرج إلينا في البحر من المقاتلة فكانوا ستمائة ألف رجل ما عاد منهم إلى بلادهم من كل عشرة واحد بعضهم قتلتهم أنت وبعضهم مات وبعضهم غرق. ولما انفصل أمر الهدنة أذن صلاح الدين للفرنج في زيارة بيت المقدس فزاروه وتفرقوا وعادت كل طائفة إلى بلادها وأقام بالساحل الشامي ملكا على الفرنج والبلاد إلي بأيديهم الكندهري وكان خير الطبع قليل الشر رفيقا بالمسلمين محبا لهم وتزوج بالملكة التي كانت تملك بلاد الفرنج قبل أن يملكها صلاح الدين كما ذكرناه. وأما صلاح الدين فإنه بعد تمام الهدنة سار إلى البيت المقدس وأمر
86 بإحكام سوره [وأدخل في السور كنيسة صهيون وكانت خارجة عنه بمقدار رميتي سهم]، وعمل المدرسة والرباط والبيمارستان وغير ذلك من مصالح المسلمين ووقف عليها الوقوف وصام رمضان بالقدس وعزم على الحج والإحرام منه فلم يمكنه ذلك فسار عنه خامس شوال نحو دمشق واستناب بالقدس أميرا اسمه جورديك وهو من المماليك النورية. ولما سار عنه جعل طريقه على الثغور الإسلامية كنابلس وطبرية وصفد وتبنين وبيروت وتعهد هذه البلاد وأمر بإحكامها فلما كان في بيروت أتاه بيمند صاحب أنطاكية وأعمالها واجتمع به وخدمه فخلع عليه صلاح الدين وعاد إلى بلده فلما عاد رحل صلاح الدين إلى دمشق فدخلها في الخامس والعشرين من شوال وكان يوم دخوله إليها يوما مشهودا وفرح الناس به فرحا عظيما لطول غيبته وذهاب العدو عن بلاد الإسلام. ذكر وفاة قلج أرسلان في هذه السنة منتصف شعبان توفي الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي بمدينة قونية وكان له من البلاد قونية وأعمالها وأقصرا وسيواس وملطية وغير ذلك من البلاد وكانت مدة ملكه نحو تسع وعشرين سنة وكان ذا سياسة حسنة وهيبة عظيمة وعدل وافر وغزوات كثيرة إلى بلاد الروم فلما كبر فرق بلاده على أولاده فاستضعفوه ولم يلتفتوا إليه وحجر عليه ولده قطب الدين.
87 وكان قلج أرسلان قد استناب في مدينة ملكه رجلا يعرف باختيار الدين حسن فلما غلب قطب الدين على الأمر قتل حسنا ثم أخذ والده وسار به إلى قيسارية ليأخذ من أخيه الذي سلمها إليه أبوه فحصرها مدة فوجد والده قلج أرسلان فرصة فهرب ودخل وحده فلما علم قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصر فملكها ولم يزل قلج أرسلان يتحول من ولد إلى ولد وكل منهم يتبرم به حتى مضى إلى ولده غياب الدين كيخسرو صاحب مدينة برغلوا فلما رآه فرح به وخدمه وجمع العساكر وسار هو معه إلى قونية فملكها وسار إلى أقصرا ومعه والده قلج أرسلان فحصرها فمرض أبوه فعاد به إلى قونية فتوفي بها ودفن هناك وبقي ولده غياث الدين في قونية مالكا لها حتى أخذها منه أخوه ركن الدين سليمان على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وقد حدثني بعض من أثق إليه من أهل العلم مما يحكيه وكان قد وصل تلك البلاد بغير هذا ونحن نذكره قال إن قلج أرسلان قسم بلاده بين أولاده في حياته فسلم دوقاط إلى ابنه ركن الدين سليمان وسلم قونية إلى ولده كيخسرو غياث الدين وسلم أنقرة وهي التي تسمى انكشورية إلى ولده محيي الدين وسلم ملطية إلى ولده معز الدين قيصر شاه وسلم أبلستين إلى ولده مغيث الدين وسلم قيسارية إلى ولده نور الدين محمود وسلم سيواس وأقصرا إلى ولده قطب الدين وسلم نكسار إلى ولد آخر وسلم أماسيا إلى ولد أخيه.
88 هذه أمهات البلاد وينضاف إلى كل بلد من هذه ما يجاورها من البلاد الصغار التي ليست مثل هذه ثم إنه ندم على ذلك وأراد أن يجمع الجميع لولده الأكبر قطب الدين وخطب له ابنة صلاح الدين يوسف صاحب مصر والشام ليقوى به فلما سمع باقي أولاده بذلك امتنعوا عليه وخرجوا عن طاعته وزال حكمه عنهم فسار يتردد بينهم على سبيل الزيارة فيقيم عند كل واحد منهم مدة وينتقل إلى الآخر ثم إنه مضى إلى ولده كيخسرو صاحب قونية على عادته فخرج إليه ولقيه وقبل الأرض بين يديه وسلم قونية إليه وتصرف عن أمره فقال لكيخسرو أريد [أن] أسير إلى ولدي الملعون محمود وهو صاحب قيسارية وتجيء أنت معي لآخذها منه فتجهز وسار معه وحصر محمودا بقيسارية فمرض قلج أرسلان وتوفي عليها فعاد كيخسرو وبقي كل واحد من الأولاد على البلد الذي بيده. وكان قطب الدين صاحب أقصرا وسيواس إذا أراد أن يسير من إحدى المدينتين إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية وبها أخوه نور الدين محمود وليست على طريقه إنما كان يقصدها ليظهر المودة لأخيه والمحبة له وفي نفسه الغدر فكان أخوه محمود يقصده ويجتمع به ففي بعض المرات نزل بظاهر البلد على عادته وحضر اخوه محمود عنده غير محتاط فقتله قطب الدين وألقى رأسه إلى أصحابه وأراد أخذ البلد فامتنع من به من أصحاب أخيه عليه ثم انهم سلموه اليه على قاعدة استمرت بينهم وكان عند محمود أمير كبير وكان يحذره من أخيه قطب الدين ويخوفه فلم يصغ إليه وكان جوادا كثير الخير والتقدم في الدولة عند نور
89 الدين فلما قتل قطب الدين أخاه قتل حسنا معه وألقاه على الطريق فجاء كلب يأكل من لحمه فثار الناس وقالوا لا سمعا ولا طاعة هذا رجل مسلم وله ههنا مدرسة وتربة وصدقات دارة وأفعال حسنة لا نتركه تأكله الكلاب فأمر به فدفن في مدرسته وبقي أولاد قلج أرسلان على حالهم. ثم إن قطب [الدين] مرض ومات فسار أخوه ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى سيواس وهي تجاوره فملكها ثم سار منها إلى قيسارية وأقصرا ثم بقي مديدة وسار إلى قونية وبها أخوه غياث الدين فحصره بها وملكها ففارقها غياث الدين إلى الشام ثم إلى بلد الروم وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى ثم سار بعد ذلك إلى ركن الدين إلى نكسار وأماسيا فملكها وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين وخمسمائة فملكها وفارقها أخوه معز الدين إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب وكان هذا معز الدين تزوج ابنة العادل فأقام عنده واجتمع لركن الدين ملك جميع الأخوة ما عدا أنقرة فإنها منيعة لا يوصل إليها فجعل عليها عسكرا يحصرها صيفا وشتاء ثلاث سنين فتسلمها سنة إحدى وستمائة ووضع على أخيه الذي كان بها من يقتله إذا فارقها فلما سار عنها قتل. وتوفي ركن الدين في تلك الأيام ولم يسمع خبر قتل أخيه بل عاجله الله تعالى لقطع رحمه.
90 وإنما أوردنا هذه الحادثة ههنا لنتبع بعضها بعضا ولأني لم أعلم تواريخ كل حادثة منها لأثبته فيه. ذكر ملك شهاب الدين أجمير وغيرها من الهند قد ذكرنا سنة ثلاث وثمانين [خمسمائة] غزوة شهاب الدين الغوري إلى بلد الهند وانهزامه وبقي إلى الآن وفي نفسه الحقد العظيم على الجند الغورية الذين انهزموا وما ألزمهم من الهوان. فلما كانت هذه السنة خرج من غزنة وقد جمع عساكره وسار فيها يطلب غزوة الهندي الذي هزمه تلك النوبة فلما وصل إلى يرشاوور تقدم إليه شيخ من الغورية كان يدل عليه فقال له قد قربنا من العدو وما يعلم أحد أين يمضي ولا من يقصد ولا نرد على الأمراء سلاما وهذا لا يجوز فعله فقال له السلطان أعلم أنني منذ هزمني هذا الكافر ما نمت مع زوجتي ولا غيرت ثياب البياض عني وأنا سائر إلى عدوي ومعتمد على الله تعالى لا على الغورية ولا على غيرهم فإن نصرني الله سبحانه ونصر دينه فمن فضله وكرمه وإن انهزمنا فلا تطلبوني فما انهزمت ولو هلكت تحت حوافر الخيل. فقال له الشيخ سوف ترى بني عمك من الغورية مما يفعلون فينبغي أن تكلمهم وترد سلامهم. ففعل ذلك، وبقي أمراء الغورية يتضرعون بين
91 يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعل. وسار إلى أن وصل إلى موضع المصاف الأول وجازه مسيرة أربعة أيام وأخذ عدة مواضع من بلاد العدو فلما سمع الهندي تجهز وجمع عساكره وسار يطلب المسلمين فلما بقي بين الطائفتين مرحلة عاد شهاب الدين وراء والكافر في أعقابه أربعة منازل فأرسل الكافر إليه يقول له أعطني يدك أنك تصاففني في باب غزنة حتى أجيء وراءك وإلا فنحن مثقلون ومثلك لا يدخل البلاد شبيه اللصوص ثم يخرج هاربا ما هذا فعل السلاطين فأعاد الجواب إنني لا أقدر على حربك. وتم على حاله عائدا إلى أن بقي بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام والكافر في أثره يتبعه حتى لحقه قريبا من مرندة فجرد شهاب الدين من عسكره سبعين ألفا وقال أريد هذه الليلة تدورون حتى تكونوا وراء عسكر العدو وعند صلاة الصبح تأتون أنتم من تلك الناحية وأنا من هذه الناحية ففعلوا ذلك وطلع الفجر. ومن عادة الهنود انهم لا يبرحون من مضاجعهم إلى أن تطلع الشمس فلما أصبحوا حمل عليهم عسكر المسلمين من كل جانب وضربت الكوسات فلم يلتفت ملك الهند إلى ذلك وقال من يقدم علي أنا هذا والقتل قد أكثر في الهنود والنصر قد ظهر للمسلمين فلما رأى ملك الهند ذلك احضر فرسا له سابقا وركبه ليهرب فقال له أعيان أصحابه إنك حلفت لنا أنك لا تخلينا وتهرب فنزل عن الفرس وركب الفيل ووقف موضعه والقتال شديد والقتل قد كثر في أصحابه فانتهى المسلمون إليه وأخذوه أسيرا،
92 وحينئذ عظم القتل والأسر في الهنود ولم ينج منهم إلا القليل. وأحضر الهندي بين يدي شهاب الدين فلم يخدمه فأخذ بعض الحجاب بلحيته وجذبه إلى الأرض حتى أصابها جبينه وأقعده بين يدي شهاب الدين فقال له شهاب الدين لو استأسرتني ما كنت تفعل بي فقال الكافر قد استعملت بلد قيدا من ذهب أقيدك به فقال شهاب الدين بل نحن ما نجعل لك من القدر ما نقيدك. وغنم المسلمون من الهنود أموالا كثيرة وأمتعة عظيمة وفي جملة ذلك أربعة عشر فيلا من جملتها الفيل الذي جرح شهاب الدين في تلك الوقعة وقال ملك الهند لشهاب الدين إن كنت طالبا بلاد فما بقي فيها من يحفظها وإن كنت طالب أموال فعندي أموال تحمل أجمالك كلها. فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحصن الذي له يعول عليه وهو أجمير فأخذه وأخذ جميع البلاد التي تقاربه وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك وعاد إلى غزنة وقتل ملك الهند. ذكر عدة حوادث في هذه السنة قبض على أمير الحاج طاشتكين ببغداد وكان نعم الأمير عادلا في الحاج رفيقا بهم محبا لهم، له أوراد كثيرة من صلوات وصيام،
93 وكان كثير الصدقة لا جلام وقفت اعماله بين يديه فخلص من السجن على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وفيها خرج السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل من الحبس بعد موت قزل أرسلان ابن إيلدكز والتقى هو وقتلغ إينانج بن البهلوان بن إيلدكز فانهزم إينانج إلى الري على ما نذكره إن شاء الله تعالى سنة تسعين وخمسمائة. وفيها في رجب توفي الأمير السيد علي بن المرتضى العلوي الحنفي مدرس جامع السلطان ببغداد. وفي شعبان منها توفي أبو علي الحسن بن هبة الله بن البوقي الفقيه الشافعي الواسطي وكان عالما بالمذهب انتفع به الناس.
94 589 ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة ذكر وفاة صلاح الدين وبعض سيرته في هذه السنة في صفر توفي صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي صاحب مصر والشام والجزيرة وغيرها بدمشق ومولده بتكريت وقد ذكرنا سبب انتقالهم منها وملكهم مصر سنة أربع وستين وخمسمائة. وكان سبب مرضه أنه خرج يلتقي الحاج فعاد ومرض من يومه مرضا حادا بقي به ثمانية أيام وتوفي رحمه الله. وكان قبل مرضه قد أحضر ولده الأفضل عليا وأخاه الملك العادل أبا بكر واستشارهما فيما يفعل وقال قد تفرغنا من الفرنج وليس لنا في هذه البلاد شاغل فأي جهة نقصد فأشار عليه أخوه العادل بقصد خلاط لأنه كان قد وعده إذا أخذها أن يسلمها إليه وأشار [عليه] ولده الأفضل بقصد بلد الروم التي بيد أولاد قلج أرسلان وقال هي أكثر بلادا وعسكرا ومالا وأسرع مأخذا وهي أيضا طريق الفرنج إذا خرجوا على البر فإذا ملكناها منعناهم من العبور فيه فقال كلا كما مقصر ناقص الهمة بل أقصد أنا بلد الروم وقال لأخيه تأخذ أنت بعض أولادي وبعض العسكر وتقصد خلاط فإذا فرغت أنا من بلد الروم جئت إليكم وندخل منها
95 أذربيجان ونتصل ببلاد العجم فما فيها من يمنع عنها. ثم أذن لأخيه العادل في المضي إلى الكرك وكان له وقال له تجهز واحضر لتسير فلما سار إلى الكرك مرض صلاح الدين وتوفي قبل عوده. وكان رحمه الله كريما حليما حسن الأخلاق متواضعا صبورا على ما يكره كثير التغافل عن ذنوب أصحابه يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه. وبلغني أنه كان جالسا وعنده جماعة فرمى بعض المماليك بعضا بسرموز فأخطأته ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته ووقعت بالقرب منه فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه ليتغافل عنها. وطلب مرة الماء فلم يحضر وعاود الطلب في مجلس واحد خمس مرات فلم يحضر فقال يا أصحابنا والله قد قتلني العطش فأحضر الماء فشربه ولم ينكر التواني في إحضاره. وكان مرة قد مرض مرضا شديدا أرجفت عليه بالموت فلما برء منه وأدخل الحمام كان الماء حارا فطلب ماء باردا فأحضره الذي يخدمه فسقط من الماء شيء على الأرض فناله منه شيء فتألم لضعفه ثم طلب البارد أيضا فأحضر فلما قاربه سقطت الطاسة على الأرض فوقع الماء جميعه عليه فكاد يهلك فلم يزد على أن قال للغلام إن كنت تريد قتلي فعرفني فاعتذر إليه فسكت عنه. وأما كرمه فإنه كان كثير البذل لا يقف في شيء يخرجه ويكفي دليلا على كرمه أنه لما مات لم يخلف في خزائنه غير دينار واحد صوري وأربعين درهما ناصرية وبلغني أنه اخرج في مدة مقامه على عكا قبالة الفرنج ثمانية عشر الف دابة من فرس وبغل سوى الجمال وأما العين والثياب والسلاح فإنه لا يدخل تحت الحصر ولما انقرضت الدولة العلوية
96 بمصر أخذ من ذخائرهم من سائر الأنواع ما يفوت الإحصاء ففرقه جميعه. وأما تواضعه فإنه كان ظاهرا لم يتكبر على أحد من أصحابه وكان يعيب الملوك المتكبرين بذلك وكان يحضر عنده الفقراء والصوفية ويعمل لهم السماع فإذا قام أحدهم لرقص أو سماع يقول له فلا يقعد حتى يفرغ الفقير. ولم يلبس شيئا مما ينكره الشرع وكان عنده علم ومعرفة وسمع الحديث واسمعه وبالجملة فكان نادرا في عسكره كثير المحاسن والأفعال الجميلة عظيم الجهاد في الكفار وفتوحه تدل على ذلك وخلف سبعة عشر ولدا ذكرا. ذكر حال أهله وأولاده بعده لما مات صلاح الدين بدمشق كان معه بها ولده الأكبر الأفضل نور الدين علي وكان قد حلف له العساكر جميعهم غير مرة في حياته فلما مات ملك دمشق والساحل والبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وهونين وتبنين وجميع الأعمال إلى الداروم. وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر فاستولى عليها واستقر ملكه بها وكان ولده الظاهر غازي بحلب فاستولى عليها وعلى جميع أعمالها مثل حارم وتل باشر وإعزاز وبرزية ودرب ساك ومنبج وغير ذلك.
97 وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمه فأطاعه وصار معه. وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه فأطاع الملك الأفضل. وكان الملك العادل بالكرك قد سار اليه كما ذكرنا فامنع فيه ولم يحضر عند أحد أولاد أخيه فأرسل إليه الملك الأفضل يستدعيه ليحضر عنده فوعده ولم يفعل فأعاد مراسلته وخوفه من الملك العزيز صاحب مصر ومن أتابك عز الدين صاحب الموصل فإنه كان قد سار عنها إلى بلاد العادل الجزرية على ما نذكره ويقول له إن حضرت جهزت العساكر وسرت إلى بلادك حفظتها وان أقمت قصدك أخي الملك العزيز لما بينكما من العداوة وإذا ملك عز الدين بلادك فليس له دون الشام مانع وقال لرسوله إن حضر معك وإلا فقل له قد أمرني إن سرت إليه بدمشق عدت معك وإن لم تفعل أسير إلى الملك العزيز أحالفه على ما يختار. فلما حضر الرسول عنده وعده بالمجيء فلما رأى أن ليس معه منه شيء غير الوعد أبلغه ما قيل له في معنى موافقة العزيز فحينئذ سار إلى دمشق وجهز الأفضل معه عسكر من عنده وأرسل إلى صاحب حمص وصاحب حماة وإلى أخيه الملك الظاهر بحلب يحثهم على إنفاذ العساكر مع العادل إلى البلد الجزرية ليمنعها من صاحب الموصل ويخوفهم إن هم لم يفعلوا. ومما قال لأخيه الظاهر قد عرفت صحبة أهل الشام لبيت أتابك فوالله لئن ملك عز الدين حران ليقومن أهل حلب عليك ولتخرجن منها وأنت لا تعقل وكذلك يفعل في أهل دمشق فاتفقت كلمتهم على تسيير العساكر معه فجهزوا عساكرهم وسيروها إلى العادل وقد عبر الفرات،
98 فعسكر عساكرهم بنواحي الرها بمرج الريحان وسنذكر ما كان منه إن شاء الله تعالى. ذكر مسير أتابك عز الدين إلى بلاد العادل وعوده بسبب مرضه لما بلغ أتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل وفاة صلاح الدين جمع أهل الرأي في أصحابه وفيهم مجاهد الدين قايماز كبير دولته والمقدم على كل من فيها وهو نائبه فيهم واستشارهم فيما يفعل فسكتوا. فقال له بعضهم وهو أخي مجد الدين أبو السعادات المبارك أنا أرى أنك تخرج مسرعا جريدة فيمن خف من أصحابك وحلقتك الخاص وتنقدم إلى الباقين باللحاق بك وتعطي من هو محتاج إلى شيء ما يتجهز به ويلحق بك إلى نصيبين وتكاتب أصحاب الأطراف مثل مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل وسنجر شاه ابن أخيك صاحب جزيرة ابن عمر وأخاك عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين تعرفهم أنك قد سرت وتطلب منهم المساعدة وتبذل لهم اليمين على ما يلتمسونه فمتى رأوك قد سرت خافوك وإن أجابك أخوك صاحب سنجار ونصيبين إلى الموافقة وإلا بدأت بنصيبين أخذتها وتركت فيها من يحفظها ثم سرت نحو الخابور وهو له أيضا فأقطعه وتركت عسكره مقابل أخيك يمنعه من الحركة، إن
99 أرادها، أو قصدت الرقة فلا تمنع نفسها وتأتي حران والرها فليس فيهما من يحفظهما لا صاحب ولا عسكر ولا ذخيرة فإن العادل أخذهما من ابن تقي الدين ولم يقم فيهما ليصلح حالهما وكان القوم يتكلمون على قوتهم فلم يظنوا هذا الحادث فإذا فرغت من ذلك الطرف عدت إلى من امتنع من طاعتك فقاتلته وليس وراءك ما تخاف عليه فإن بلدك عظيم لا يبالي بكل من وراءك. فقال مجاهد الدين المصلحة أننا نكاتب أصحاب الأطراف ونأخذ رأيهم في الحركة ونستميلهم فقال له أخي إن أشاروا بترك الحركة تقبلون منهم قال لا فإنهم لا يشيرون إلا بتركها لأنهم لا يريدون أن يقوى هذا السلطان خوفا منه وكأني بهم يغالطونكم مهما كانت البلاد الجزرية فارغة من صاحب وعسكر فإذا جاء إليها من يحفظها جاهروكم بالعداوة. ولم يمكنه أكثر من هذا خوفا من مجاهد الدين حيث رأى ميله إلى ما تكلم به فانفصلوا على أن يكاتبوا أصحاب الأطراف فكاتبوهم فكل أشار بترك الحركة إلى ان ينظر ما يكون من أولاد صلاح الدين وعمهم فتثبطوا. ثم إن مجاهد الدين كرر المراسلات إلى عماد الدين صاحي سنجار يعده ويستميله فبينما هم على ذلك إذ جاءهم كتاب الملك العادل من المناخ بالقرب من دمشق وقد سار عن دمشق إلى بلاده يذكر فيه موت أخيه وأن البلاد قد استقرت لولد الملك الأفضل والناس متفقون على طاعته وأنه هو المدبر لدولة الأفضل وقد سيره في عسكر جم كثير العدد لقصد ماردين لما بلغه أن صاحبها تعرض إلى بعض القرى التي له وذكر من هذا النحو شيئا كثيرا فظنوه حقا وأن قوله لا ريب فيه ففتروا عن
100 الحركة، وذلك الرأي فسيروا الجواسيس فأتتهم الأخبار بأنه في ظاهر حران من نحو مائتي خيمة لا غير فعادوا تحركوا فإلى أن تقررت القواعد بينهم وبين صاحب سنجار وأقبلت العساكر الشامية التي سيرها الأفضل وغيره إلى العادل فامتنع بها وسار أتابك عز الدين عن الموصل إلى نصيبين واجتمع هو وأخوه عماد الدين بها وساروا على سنجار نحو الرها وكان العادل قد عسكر قريبا منها بمرج الريحان فخافهم خوفا عظيما. فلما وصل أتابك عز الدين إلى تل موزن مرض بالإسهال فأقام عدة أيام فضعفت منه الحركة وكثر مجيء الدم منه فخاف الهلاك فترك العساكر مع لأخيه عماد الدين وعاد جريدة في مائتي فارس ومعه مجاهد الدين وأخي مجد الدين فلما وصل إلى دنيسر استولى عليه الضعف فأحضر أخي وكتب وصية ثم سار فدخل الموصل وهو مريض أول رجب. ذكر وفاة أتابك عز الدين وشئ من سيرته في هذه السنة توفي أتابك مسعود بم مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل بالموصل وقد ذكرنا عوده إليها مريضا فبقي في مرضه إلى التاسع والعشرين من شعبان فتوفي رحمه الله ودفن بالمدرسة التي أنشأها مقابل دار المملكة وكان قد بقي ما يزيد على عشرة أيام لا يتكلم إلا بالشهادتين وتلاوة القرآن وإذا تكلم بغيرها استغفر الله
101 ثم عاد إلى ما كان عليه فرزق خاتمه خير رضي الله عنه. وكان رحمه الله خير الطبع كثير الخير والإحسان لا سيما إلى شيوخ قد خدموا أباه فإنه كان يتعهدهم بالبر والإحسان والصلة والإكرام ويرجع إلى قولهم ويزور الصالحين ويقر بهم ويشفعهم. وكان حليما قليل المعاقبة كثير الحياء لم يكلم جليسا له إلا وهو مطرق وما قال في شيء يسأله لا حياء وكرم طبع. وكان قد حج وليس بمكة حرسها الله خرقة التصوف وكان يلبس تلك الخرقة كل ليلة ويخرج إلى مسجد قد بناه في داره ويصلي فيه نحو ثلث الليل وكان رفيق القلب شفيقا على الرعية. بلغني عنه أنه قال بعض الأيام إنني سهرت الليلة كثيرا وسبب ذلك أني سمعت صوت نائحة فظننت أو ولد فلان قد مات وكان قد سمع أنه مريض قال فضاق صدري وقمت من فراشي أدور في السطح فلما طال علي الأمر أرسلت خادما إلى الجاندارية فأرسل منهم واحدا يستعلم الخبر فعاد وذكر إنسانا لا أعرفه فسكن بعض ما عندي فنمت ولم يكن الرجل الذي ظن أن ابنه مات من أصحابه إنما كان من رعيته. كان ينبغي أن تتأخر وفاته وإنما قدمناها لتتبع أخبارها بعضها بعضا. ذكر قتل بكتمر صاحب خلاط في هذه السنة أول جمادى الأولى قتل سيف الدين بكتمر صاحب خلاط وكان بين قتله وموت صلاح الدين شهران فإنه أسرف في إظهار
102 الشماتة بموت صلاح الدين فلم يهمله الله تعالى ولما بلغه موت صلاح الدين فرح فرحا كثيرا وعمل تختا جلس عليه ولقب نفسه بالسلطان المعظم صلاح الدين وكان لقبه سيف الدين فغيره وسمى نفيه عبد العزيز وظهر منه اختلال وتخليط وتجهز ليقصد ميافارقين يحصرها فأدركته منيته. وكان سبب قتله أن هزار ديناري وهو أيضا من مماليك شاه أرمن من ظهير الدين كان قد قوي وكثر جمعه وتزوج ابنة بكتمر فطمع في الملك فوضع عليه من قتله فلما قتل ملك بعده هزار ديناري بلاد خلاط وأعمالها. وكان بكتمر دينا خيرا صالحا كثير الخير والصلاح والصدقة محبا لأهل الدين والصوفية كثير الإحسان إليهم قريبا منهم ومن سائر رعيته محبوبا إليهم عادلا فيهم وكان جوادا شجاعا عادلا في رعيته حسن السيرة فيهم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة شتى شهاب الدين ملك غزنة في برشاوور وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة فأدخله بلاد الهند يغنم ويسبي ويفتح من البلاد ما يمكنه فدخلها وعاد وخرج هو وعساكره سالما قد ملؤوا أيديهم من الغنائم.
103 وفيها في رمضان توفي سلطان شاه صاحب مرو وغيرها من خراسان وملك اخوه علاء الدين تكش بلاده وسنذكره سنة تسعين [خمسمائة] إن شاء الله. وفيها أمر الخليفة الناصر لدين الله بعمارة خزانة الكتب بالمدرسة النظامية ببغداد ونقل إليها من الكتب النفسية ألوفا لا يوجد مثلها. وفيها في ربيع الأول فرغ من عمارة الرباط الذي أمر بإنشائه الخليفة أيضا بالحريم الظاهري غربي بغداد على دجلة وهو من أحسن الربط ونقل اليه كتبا كثيرة من أحسن الكتب. وفيها ملك الخليفة قلعة من بلاد خوزستان وسبب ذلك أن صاحبها سوسيان بن شملة جعل فيها دزدارا فأساء السيرة مع جندها فغدر به بعضهم فقتله ونادوا بشعار الخليفة فأرسل إليها وملكها. وفيها انقض كوكبان عظيمان وسمع صوت هدة عظيمة وذلك بعد طلوع الفجر وغلب ضوءها القمر وضوء النهار. وفيها مات الأمير داود بن عيسى بن محمد بن أبي هاشم أمير مكة وما زالت مكة تكون له تارة ولأخيه مكثر تارة إلى أن مات هناك.
104 590 ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة ذكر الحرب بين شهاب الدين وملك بنارس الهندي كان شهاب الدين الغوري ملك غزنة قد جهز مملوكه قطب الدين وسيره إلى بلد الهند للغزاة فدخلها فقتل فيها وسبى وغنم وعاد فلما سمع به ملك بنارس وهو أكبر ملك في الهند ولايته من حد الصين إلى بلاد ملأوا طولا ومن البحر إلى مسيرة عشرة أيام من لهاوور عرضا وهو ملك عظيم فعندها جمع جيوشه وحشرها وسار يطلب بلاد الإسلام. ودخلت سنة تسعين [خمسمائة] فسار شهاب الدين الغوري من غزنة بعساكره نحوه فالتقى العسكران على ماجون وهو نهر كبير يقارب دجلة بالموصل وكان مع الهندي سبعمائة فيل ومن العسكر على ما قيل ألف ألف رجل ومن جملة عسكره عدة أمراء مسلمين كانوا في تلك البلاد أب عن جد من أيام السلطان محمود بن سبكتكين يلازمون شريعة الإسلام ويواظبون على الصلوات وأفعال الخير فلما التقى المسلمون والهنود اقتتلوا فصبر الكفار لكثرتهم، وصبر المسلمون لشجاعتهم فانهزم الكفار ونصر المسلمون،
105 وكثر القتل في الهنود حتى امتلأت الأرض وجافت وكانوا لا يأخذون إلا الصبيان والجواري وأما الرجال فيقتلون وأخذ منهم تسعين فيلا وباقي الفيلة قتل بعضها وانهزم بعضها وقتل ملك الهند ولم يعرفه أحد إلا أنه كانت أسنانه قد ضعفت أصولها فأمسكوها بشريط الذهب فلذلك عرفوه. فلما انهزم الهنود دخل شهاب الدين بلاد بنارس وحمل من خزائنها على ألف وأربعمائة جمل وعاد إلى غزنة ومعه الفيلة التي أخذها من جملتها فيل أبيض حدثني من رآه لما أخذت الفيلة وقدمت إلى شهاب الدين وأمرت بالخدمة فخدمت جميعها إلا الأبيض فإنه لم يخدم ولا يعجب أحد من قولنا الفيلة تخدم فإنها تفهم ما يقال لها وقد شاهدت فيلا بالموصل وفياله يحدثه فيفعل ما يقول له. ذكر قتل السلطان طغرل وملك خوارزم شاه الري ووفاة أخيه سلطان شاه قد ذكرنا سنة ثمان وثمانين [خمسمائة] خروج السلطان طغرل بن ألب أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السجلوقي من الحبس وملكه همذان وغيرها وكان قد جرى بينه وبين قتلغ إينانج من البهلوان صاحب البلاد حرب انهزم فيها قتلغ إينانج وتحصن بالري. وسار طغرل إلى همذان وأرسل قتلغ إينانج إلى خوارزم شاه علاء الدين تكش يستنجده فسار إليه في سنة ثمان وثمانين [خمسمائة]، فلما تقاربا ندم قتلغ إينانج على استدعاء خوارزم شاه وخاف على نفسه فمضى من بين يديه وتحصن في قلعة له فوصل خوارزم شاه إلى الري وملكها،
106 وحصر قلعة طبرك ففتحها في يومين وراسله طغرل واصطلحا وبقيت الري في يد خوارزم شاه فرتب فيها عسكرا يحفظها وعاد إلى خوارزم لأنه بلغه ان أخاه سلطان [شاه] قد قصد خوارزم، فجد في السير خوفا عليها فأتاه الخبر وهو في الطريق أن أهل خوارزم منعوا سلطان شاه عنها ولم يقدر على القرب منها وعاد عنها خائبا فشتى خوارزم شاه بخوارزم فلما انقضى الشتاء سار إلى مرو لقصد أخيه سنة تسع وثمانين [خمسمائة]، فترددت الرسل بينهما في الصلح. فبينما هم في تقرير الصلح وإذ قد ورد على خوارزم شاه رسول من مستحفظ قلعة سرخس لأخيه سلطان شاه يدعوه ليسلم إليه القلعة لأنه قد استوحش من صاحبه سلطان شاه فسار خوارزم شاه إليه مجدا فتسلم القلعة وصار معه. وبلغ ذلك سلطان شاه ففت ذلك في عضده وتزايد كمده فمات سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمسمائة فلما سمع خوارزم شاه بموته سار من ساعته إلى مرو فتسلمها وتسلم مملكة أخيه سلطان شاه جميعها وخزائنه وأرسل إلى ابنه علاء الدين محمد وكان يلقب حينئذ قطب الدين وهو بخوارزم فأحضره فولاه نيسابور وولى ابنه الكبير ملكشاه مرو وذلك في ذي الحجة سنة تسع وثمانين. فلما دخلت سنة تسعين وخمسمائة قصد السلطان طغرل بلد الري فأغار على من به من أصحاب خوارزم شاه، [ففر منه قتلغ إينانج بن البهلوان وأرسل إلى خوارزم شاه] يعتذر ويسأل إنجازه مرة ثانية ووافق ذلك وصول رسول الخليفة إلى خوارزم شاه يشكو من طغرل ويطلب منه قصد بلاده ومعه منشور بإقطاعه البلاد فسار من نيسابور إلى الري فتلقاه قتلغ
107 إينانج ومن معه بالطاعة وساروا معه فلما سمع السلطان طغرل بوصوله كانت عساكره متفرقة فلم يقف ليجمعها بل سار إليه فيمن معه فقيل له: إن الذي تفعله ليس برأي والمصلحة أن تجمع العساكر فلم يقبل وكان فيه شجاعة بل تمم مسيره فالتقى العسكران بالقرب من الري فحمل طغرل بنفسه في وسط عسكر خوارزم شاه فأحاطوا به وألقوه عن فرسه وقتلوه في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول وحمل رأسه إلى خوارزم شاه فسيره من يومه إلى بغداد فنصب بها بباب النوبي عدة أيام. وسار خوارزم شاه إلى همذان وملك تلك البلاد جميعها وكان الخليفة الناصر لدين الله قد سير عسكرا إلى نجدة خوارزم شاه وسير له الخلع السلطانية مع وزيره مؤيد الدين بن القصاب فنزل على فرسخ من همذان فأرسل إليه خوارزم شاه يطلبه اليه فقال مؤيد الدين ينبغي ان تحضر أنت وتلبس الخلعة من خيمتي وترددت الرسل بينهما في ذلك فقيل لخوارزم شاه إنها حيلة عليك حتى تحضر عنده ويقبض عليك فدخل خوارزم شاه إليه قصدا لأخذه فاندفع بين يديه إلى بضع الجبال فامتنع به فرجع خوارزم شاه إلى همذان ولما ملك همذان وتلك البلاد سلمها إلى قتلغ إينانج وأقطع كثيرا منها لمماليكه وجعل المقدم عليهم مياجق وعاد إلى خوارزم. ذكر مسير وزير الخليفة إلى خوزستان وملكها في هذه السنة في شعبان خلع الخليفة الناصر لدين الله على النائب في الوزارة مؤيد الدين أبي عبد الله محمد بن علي المعروف بابن القصاب خلع
108 الوزارة وحكم في الولاية وبرز في رمضان وسار إلى بلاد خوزستان [وسبب ذلك إنه كان أولا قد خدم في خوزستان] وولي الأعمال بها وصار له فيها أصحاب وأصدقاء ومعارف وعرف البلاد ومن أي وجه يمكن الدخول إليها والاستيلاء عليها فلما ولي ببغداد نيابة الوزارة أشار على الخليفة بأن يرسله في عسكر إليها ليملكها له وكان عزمه أنه إذا ملك البلاد واستقر فيها أقام مظهرا للطاعة مستقلا بالحكم فيها ليأمن على نفسه. فاتفق ان صاحبها ابن شملة توفي واختلف أولاده بعده فراسل بعضهم مؤيد الدين يستنجده لما بينهم من الصحبة القديمة فقوي الطمع في البلاد فجهزت العساكر وسيرت معه إلى خوزستان فوصلها سنة إحدى وتسعين [خمسمائة] وجرى بينه وبين أصحاب البلاد مراسلات ومحاربة عجزوا عنها وملك مدينة تستر في المحرم وملك غيرها من البلاد وملك القلاع منها قلعة الناظر وقلعة كاكرد وقلعة الأمواج وغيرها من الحصون والقلاع وأنفذ بني شملة أصحاب بلاد خوزستان إلى بغداد فوصلوا في ربيع الأول. ذكر حصر العزيز مدينة دمشق في هذه السنة وصل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين وهو صاحب مصر إلى مدينة دمشق فحصرها وبها أخوه الأكبر الملك الأفضل علي بن صلاح الدين وكنت حينئذ بدمشق فنزل بنواحي ميدان الحصى فأرسل الأفضل إلى عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب وهو صاحب الديار الجزرية يستنجده وكان الأفضل غاية الواثق به والمعتمد عليه وقد سبق ما يدل على
109 ذلك فسار الملك العادل إلى دمشق هو والملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب وناصر الدين محمد بن تقي الدين صاحب حماة وأسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص وعسكر الموصل وغيرها كل هؤلاء اجتمعوا بدمشق واتفقوا على حفظها علما منهم أن العزيز إن ملكها أخذ بلادهم. فلما رأى العزيز اجتماعهم علم أنه لا قدرة له على البلد فترددت الرسل حينئذ في الصلح فاستقرت القاعدة على أن يكون البيت المقدس وما جاوره من أعمال فلسطين للعزيز وتبقى دمشق وطبرية وأعمالها الغور للأفضل على ما كانت عليه وان يعطي الأفضل أخاه الملك الظاهر جبلة ولاذقية وأن يكون للعادل بمصر إقطاعه الأول واتفقوا على ذلك وعاد العزيز إلى مصر ورجع كل واحد من الملوك إلى بلده. ذكر عدة حوادث في هذه السنة كانت زلزلة في ربيع الأول بالجزيرة والعراق وكثير من البلاد سقطت منها الجبانة التي عند مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام. وفيها في جمادى الآخرة اجتمعت زغب وغيرها من العرب وقصدوا مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم هاشم بن قاسم أخو أمير المدينة فقاتلهم فقتل هاشم وكان أمير المدينة قد توجه إلى الشام فلهذا طمعت العرب فيه. وفيها توفي القاضي أبو الحسن احمد بن محمد بن عبد الصمد الطرسوسي الحلبي بها في شعبان وكان من عباد الله الصالحين رحمه الله تعالى.
110 591 ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ذكر ملك وزير الخليفة همذان وغيرها من بلاد العجم قد ذكرنا ملك مؤيد الدين بن القصاب بلاد خوزستان فلما ملكها سار منها إلى ميسان من اعمال خوزستان فوصل إليه قتلغ إينانج بن البهلوان صاحب البلاد وقد تقدم ذكر تغلب خوارزم شاه عليها ومعه جماعة من الأمراء فأكرمه وزير الخليفة وأحسن إليه. وكان سبب مجيئه انه جرى بينه وبين عسكر خوارزم شاه ومقدمهم مياجق مصاف عند زنجان واقتتلوا فانهزم قتلغ إينانج وعسكره وقصد عسكر الخليفة ملتجئا إلى مؤيد الدين الوزير فأعطاه الوزير الخيل والخيام وغير ذلك مما يحتاج إليه وخلع عليه وعلى من معه من الأمراء ورحلوا إلى كرماشاهان. ورحل منها إلى همذان وكان بها ولد خوارزم شاه ومياجق والعسكر الذين معهما فلما قاربهم عسكر الخليفة فارقها الخوارزميون وتوجهوا إلى الري واستولى الوزير على همذان في شوال من هذه السنة ثم رحل هو وقتلغ إينانج خلفهم فاستولوا على كل بلد جازوا به منها خرقان ومزدغان وساوة وآوة وساروا إلى الري ففارقها الخوارزميون إلى خوار الري فسير الوزير خلفهم عسكرا ففارقها الخوارزميون إلى
111 دامغان وبسطام وجرجان فعاد عسكر الخليفة إلى الري فأقاموا بها فاتفق قتلغ إينانج ومن معه من الأمراء على الخلاف على الوزير وعسكر الخليفة لأنهم رأوا البلاد قد خلت من عسكر خوارزم شاه فطمعوا فيها فدخلوا الري فحصرها وزير الخليفة ففارقها قتلغ إينانج وملكها الوزير ونهبها العسكر فأمر الوزير بالنداء بالكف عن النهب. وسار قتلغ إينانج ومن معه من الأمراء إلى مدينة آوه وبها شحنة الوزير فمنعهم من دخولها فساروا عنها ورحل الوزير في أثرهم نحو همذان فبلغه وهو في الطريق أن قتلغ إينانج قد اجتمع معه عسكر وقصد مدينة كرج وقد نزل على دربند هناك فطلبهم الوزير فلما قاربهم التقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم قتلغ إينانج ونجا بنفسه ورحل الوزير من موضع المصاف إلى همذان فنزل بظاهرها فأقام نحو ثلاثة أشهر فوصله رسول خوارزم شاه تكش وكان قد قصدهم منكرا أخذه البلاد من عسكره ويطلب إعادتها وتقرير قواعدها والصلح فلم يجب الوزير إلى ذلك فسار خوارزم شاه مجدا إلى همذان. وكان الوزير مؤيد الدين [بن] القصاب قد توفي في أوائل شعبان فوقع بينه وبين عسكر الخليفة مصاف نصف شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة فقتل بينهم كثير من العسكرين وانهزم عسكر الخليفة وغنم الخوارزميون منهم شيئا كثيرا وملك خوارزم شاه همذان ونبش الوزير من قبره وقطع رأسه وسيره إلى خوارزم وأظهروا انه قتله في المعركة ثم إن خوارزم شاه أتاه من خراسان ما أوجب ان يعود إليها فترك البلاد وعاد إلى خراسان.
112 ذكر غزو [ابن] عبد المؤمن الفرنج بالأندلس في هذه السنة في شعبان غزا أبو يوسف يعقوب بن عبد المؤمن صاحب بلاد المغرب والأندلس بلاد الفرنج بالأندلس وسبب ذلك أن ألفنش ملك الفرنج بها ومعه ملكة مدينة طليطلة كتب إلى يعقوب كتابا باسمك اللهم فاطر السماوات والأرض أما بعد أيها الأمير فإنه لا يخفى على كل ذي عقل لازب ولا ذي لب ثاقب أنك أمير الملة الحنيفية كما أنا أمير الملة النصرانية وأنك من لا يخفى عليه ما هو عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية واشتمالهم على الراحات وأنا أسومهم الخسف وأخلي الديار وأسبي الذراري وأمثل بالكهول وأقتل الشباب ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم وقد أمكنتك يد القدرة وأنتم تعتقدون أن الله فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم والآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فقد فرض عليكم قتال اثنين منا بواحد منكم ونحن الآن نقاتل عددا منكم بواحد منا ولا تقدرون دفاعا ولا تستطيعون امتناعا. ثم حكي لي عنك أنك اخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال وتمطل نفسك عاما بعد عام تقدم رجلا وتؤخر أخرى ولا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك. ثم حكي لي عنك أنك لا تجد سبيلا للحرب لعلك ما يسوغ لك التقحم
113 فيها، فها أنا أقول لك ما فيه واعتذر عنك ولك أن توفيني بالعهود والمواثيق والأيمان أن تتوجه بجملة من عندك في المراكب والشواني وأجوز إليك بحملتي وأبارزك في أعز الأماكن عندك فإن كان لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك وهدية مثلث بين يديك وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك واستحققت إمارة الملتين والتقدم على الفئتين والله يسهل الإرادة ويوفق السعادة بمنه لا رب غيره ولا خير إلا خيره. فلما وصل كتابه وقرأه يعقوب كتب في أعلاه هذه الآية: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) فأعاده إليه وجمع العساكر العظيمة من المسلمين وعبر المجاز إلى الأندلس. وقيل: كان سبب عبوره إلى الأندلس أن يعقوب لما قاتل الفرنج سنة ست وثمانين [خمسمائة] وصالحهم، بقي طائفة من الفرنج لم ترض الصلح كما ذكرناه فلما كان الآن جمعت تلك الطائفة جمعا من الفرنج وخرجوا إلى بلاد الإسلام فقتلوا وسبوا وغنموا وأسروا وعاثوا فيها عيثا شديدا فانتهى ذلك إلى يعقوب فجمع العساكر وعبر المجاز إلى الأندلس في جيش يضيق عنه الفضاء فسمعت الفرنج بذلك فجمعت قاصيهم ودانيهم وأقبلوا إليه مجدين على قتاله واثقين بالظفر لكثرتهم فالتقوا تاسع شعبان شمالي قرطبة عند قلعة رياح بمكان يعرف بمرج الحديد فاقتتلوا قتالا شديدا فكانت الدائرة أولا على المسلمين ثم عادت على الفرنج فانهزموا
114 أقبح هزيمة وانتصر المسلمون عليهم: (وجعل الله كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا والله عزيز حكيم). وكان عدد من قتل من الفرنج مائة الف وستة وأربعين ألفا, أسر ثلاثة عشر ألفا وغنم المسلمون منهم شيئا عظيما فمن الخيام مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفا ومن الخيل ستة وأربعون ألفا ومن البغال مائة الف ومن الحمير مائة ألف وكان يعقوب قد نادى في عسكره من غنم شيئا فهو له سوى السلاح وأحصى ما حمل إليه منه فكان زيادة على سبعين ألف لبس وقتل من المسلمين نحو عشرين ألفا. ولما انهزم الفرنج اتبعهم أبو يوسف فرآهم قد أخذوا قلعة رياح وساروا عنها من الرعب والخوف فملكها وجعل فيها واليا وجندا يحفظونها وعاد إلى مدينة أشبيلية. وأما ألفنش فإنه لما انهزم حلق رأسه ونكس صليبه وركب حمارا وأقسم أن لا يركب فرسا ولا بغلا حتى تنصر النصرانية فجمع جموعا عظيمة وبلغ الخبر بذلك إلى يعقوب فأرسل إلى بلاد الغرب مراكش وغيرها يستنفر الناس من غير إكراه فأتاه من المتطوعة والمرتزقين جمع عظيم فالتقوا في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة فانهزم الفرنج هزيمة قبيحة وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها وتوجه إلى مدينة طليطلة فحصرها وقاتلها قتالا شديدا وقطع أشجارها وشن الغارة على ما حولها من البلاد وفتح فيها عدة حصون فقتل رجالها وسبى حريمها وخرب دورها وهدم أسوارها فضعفت النصرانية حينئذ وعظم أمر الإسلام بالأندلس وعاد يقوب إلى أشبيلية فأقام بها.
115 فلما دخلت سنة ثلاث وتسعين [خمسمائة] سار عنها إلى بلاد الفرنج [وفعل فيها مثل فعله الأول والثاني، فضاقت الأرض على الفرنج]، وذلوا واجتمع ملوكهم وأرسلوا يطلبون الصلح فأجابهم إليه بعد ان كان عازما على الامتناع مريدا لملازمة الجهاد إلى ان يفرغ منهم فأتاه خبر علي بن إسحق الملثم الميورقي أنه فعل بإفريقية ما نذكره من الأفاعيل الشنيعة فترك عزمه وصالحهم مدة خمس سنين وعاد إلى مراكش آخر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. ذكر فعلة الملثم بإفريقية لما عبر أبو يوسف يعقوب صاحب المغرب إلى الأندلس كما ذكرناه وأقام مجاهدا ثلاث سنين انقطعت اخباره عن إفريقية فقوي طمع علي بن إسحاق الملثم الميورقي وكان بالبرية مع العرب فعاود قصد إفريقية فانبث جنوده في البلاد فخربوها وأكثروا الفساد فيها فمحيت آثار تلك البلاد وتغيرت وصارت خالية من الأنيس خاوية على عروشها. وأراد المسير إلى بجاية ومحاصرتها لاشتغال يعقوب بالجهاد وأظهر أنه إذا استولى على بجاية سار إلى المغرب فوصل الخبر إلى يعقوب بذلك فصالح الفرنج على ما ذكرناه وعاد إلى مراكش عازما على قصده واخراجه من البلاد كما فعله سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وقد ذكرناه.
116 ذكر ملك عسكر الخليفة أصفهان في هذه السنة جهز الخليفة الناصر لدين الله جيشا وسيره إلى أصفهان ومقدمهم سيف الدين طغرل مقطع بلد اللحف من العراق وكان بأصبهان عسكر لخوارزم شاه مع ولده. وكان أهل أصفهان يكرهونهم فكتب صدر الدين الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان الديوان ببغداد يبذل من نفسه تسليم البلد إلى من يصل من الديوان من العساكر وكان بعد الحاكم بأصفهان على جميع أهلها فسيرت العساكر فوصلوا إلى أصفهان ونزلوا بظاهر البلد وفارقه عسكر خوارزم شاه وعادوا إلى خراسان وتبعهم بعض عسكر الخليفة فتخطفوا منهم وأخذوا من ساقة العسكر من قدروا عليه ودخل عسكر الخليفة إلى أصفهان وملكوها. ذكر ابتداء حال كوكجه وملكه بلد الري وهمذان وغيرها لما عاد خوارزم شاه إلى خراسان كما ذكرنا اتفق المماليك الذين للبهلوان والأمراء وقدموا على أنفسهم كوكجه وهو من أعيان البهلوانية واستولوا على الري وما جاورها من البلاد وساروا إلى أصفهان لإخراج الخوارزمية منها فلما قاربوها سمعوا بعسكر الخليفة عندها فأرسل إلى مملوك الخليفة سيف الدين طغرل يعرض نفسه على خدمة الديوان، ويظهر
117 العبودية، وأنه إنما قصد أصفهان في طلب العساكر الخوارزمية وحيث رآهم فارقوا أصفهان سار في طلبهم فلم يدركهم وسار عسكر الخليفة من أصفهان إلى همذان. وأما كوكجه فإنه تبع الخوارزمية إلى طبس وهي من بلاد الإسماعيلية وعاد فقصد أصفهان وملكها وأرسل إلى بغداد يطلب أن يكون له الري وخوار الري وساوة وقم وقاجان وما ينضم إليها من حد مزدغان وتكون أصفهان وهمذان وزنجان وقزوين لديوان الخليفة فأجيب إلى ذلك وكتب له منشور بما طلب وأرسلت له الخلع فعظم شأنه وقوي أمره وكثرت عساكره وتعظم على أصحابه. ذكر حصر العزيز دمشق ثانية وانهزامه عنها وفي هذه السنة أيضا خرج الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين من مصر في عساكره إلى دمشق يريد حصرها فعاد عنها منهزما. وسبب ذلك أن من عنده من مماليك أبيه المعروفين بالصلاحية فخر الدين جركس وسرا نقر وقراجا وغيرهم كانوا منحرفين عن الأفضل علي بن صلاح الدين لأنه كان قد أخرج من عنده منهم مثل ميمون القصري وسنقر الكبير وأبيك وغيرهم فكانوا لا يزالون يخوفون العزيز من أخيه ويقولون إن الأكراد والمماليك الأسدية من عسكر مصر يريدون أخاك ونخاف ان يميلهم اليه ويخرجوك من البلاد والمصلحة ان تأخذ دمشق فخرج في العام الماضي وعاد كما ذكرناه فتجهز هذه السنة ليخرج فبلغ الخبر إلى الأفضل فسار من دمشق إلى عمه الملك العادل فاجتمع به
118 بقلعة جعبر، ودعاه إلى نصرته وسار من عنده إلى حلب إلى أخيه الملك الظاهر غازي فاستنجد به وسار الملك العادل من قلعة جعبر إلى دمشق فسبق إليها ودخلها وكان الأفضل لثقته به قد أمر نوابه بإدخاله إلى القلعة ثم عاد الأفضل من حلب إلى دمشق فأرسل مقدم الأسدية وهو سيف الدين أيازكوش وغيره منهم ومن الأكراد أبو الهيجاء السمين وغيره إلى الأفضل والعادل بالانحياز إليهما والكون معهما ويأمرهما بالاتفاق على العزيز والخروج من دمشق ليسلموه إليهما. وكان سبب الانحراف عن العزيز وميلهم إلى الأفضل أن العزيز لما ملك مصر مال إلى المماليك الناصرية وقدمهم ووثق بهم ولم يلتفت إلى هؤلاء الأمراء فأنفوا من ذلك ومالوا إلى أخيه وأرسلوا إلى الأفضل والعادل فاتفقا على ذلك واستقرت القاعدة بحضور رسل الأمراء أن الأفضل يملك الديار المصرية ويسلم دمشق إلى عمه الملك العادل وخرجا من دمشق فانحاز إليهما من ذكرنا فلم يمكن العزيز المقام بل عاد منهزما يطوي المراحل خوف الطلب ولا يصدق بالنجاة وتساقط أصحابه عنه إلى أن وصل إلى مصر. وأما العادل والأفضل فإنهما أرسلا إلى القدس وفيه نائب العزيز فسلمه إليهما وسارا فيمن معهما من الأسدية والأكراد إلى مصر فرأى العادل انضمامه العساكر إلى الأفضل واجتماعهم عليه فخاف أنه يأخذ مصر ولا يسلم اليه دمشق فأرسل حينئذ سرا إلى العزيز يأمره بالثبات وأن يجعل بمدينة بلبيس من يحفظها وتكفل بأنه يمنع الأفضل وغيره من مقاتلة من بها فجعل العزيز الناصرية ومقدمهم فخر الدين جركس بها ومعهم غيرهم ووصل العادل والأفضل إلى بلبيس فنازلوا من بها من الناصرية،
119 وأراد الأفضل مناجزتهم أو تركهم بها والرحيل إلى مصر فمنعه العادل من الأمرين وقال هذه عساكر الإسلام فإذا اقتتلوا في الحرب فمن يرد العدو الكافر وما بها حاجة إلى هذا فإن البلاد لك وبحكمك ومتى قصدت مصر والقاهرة وأخذتهما قهرا زالت هيبة البلاد وطمع فيها الأعداء وليس فيها من يمنعك عنها. وسلك معه مثال هذا فطالت الأيام وأرسل إلى العزيز سرا يأمره بإرسال القاضي الفاضل وكان مطاعا عند البيت الصلاحي لعلو منزلته كانت عند صلاح الدين فحضر عندهما وأجرى ذكر الصلح وزاد القول ونقص وانفسخت العزائم واستقر الأمر على أن يكون للأفضل القدس وجميع البلاد بفلسطين وطبرية والأردن وجميع ما بيده ويكون للعادل أقطاعه الذي كان قديما ويكون مقيما بمصر عند العزيز وإنما اختار ذلك لأن الأسدية والأكراد لا يريدون العزيز فهم يجتمعون معه فلا يقدر العزيز على منعه عما يريد فلما استقر الأمر على ذلك وتعاهدوا عاد الأفضل إلى دمشق وبقي العادل بمصر عند العزيز. ذكر عدة حوادث في ذي القعدة تاسع عشر وقع حريق عظيم ببغداد بعقد المصطنع فاحترقت المربعة التي بين يديه ودكان ابن البخيل الهراس وقيل كان ابتداؤها من دار ابن البخيل.
120 592 ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة ذكر ملك شهاب الدين بهنكر وغيرها من بلد الهند في هذه السنة سار شهاب الدين الغوري صاحب غزنة إلى بلد الهند وحصر قلعة بهنكر وهي قلعة عظيمة منيعة فحصرها فطلب أهلها منه الأمان على أن يسلموا إليه فأمنهم وتسلمها وأقام عندها عشرة أيام حتى رتب جندها وأحوالها وسار عنها إلى قلعة كوالير وبينهما مسيرة خمسة أيام وفي الطريق نهر فجازه ووصل إلى كوالير وهي قلعة منيعة حصينة على جبل لا يصل إليها حجر منجنيق ولا نشاب وهي كبيرة فأقام عليها صفرا جميعه يحاصرها فلم يبلغ منها غرضا فراسله من بها في الصلح فأجابهم إليه على أن يقر القلعة بأيديهم على مال يحملونه إليه فحملوا إليه فيلا حمله ذهب فرحل عنها إلى بلاد آي وسور فأغار عليها ونهبها وسبى وأسر ما يعجز العاد حصره ثم عاد إلى غزنة سالما. ذكر ملك العادل مدينة دمشق من الأفضل في هذه السنة في السابع والعشرين من رجب ملك الملك العادل أبو بكر بن أيوب مدينة دمشق من ابن أخيه الأفضل علي بن صلاح الدين.
121 وكان أبلغ الأسباب في ذلك وثوق الأفضل بالعادل وأنه بلغ من وثوقه أنه أدخله بلده وهو غائب عنه ولقد أرسل إليه أخوه الظاهر غازي صاحب حلب يقول له أخرج عما من بيننا فإنه لا يجيء علينا منه خير ونحن ندخل لك تحت كل ما تريد وأنا أعرف به منك وأقرب اليه فإنه عمي مثل ما هو عمك وأنا زوج ابنته ولو علمت أنه يريد لنا خيرا لكنت أنا أولى به منك. فقال له الأفضل أنت سئ الظن في كل أحد أي مصلحة لعمنا في أن يؤذينا ونحن إذا اجتمعت كلمتنا وسيرنا معه العساكر من عندنا كلنا ملك من البلاد أكثر من بلادنا ونربح سوء الذكر. وهذا كان أبلغ الأسباب ولا يعلمها كل أحد، وأما غير هذا فقد ذكرنا مسير العادل والأفضل إلى مصر وحصارهم بلبيس وصلحهم مع الملك العزيز ابن صلاح الدين ومقام العادل معه بمصر فلما أقام عنده استماله وقرر معه أنه يخرج معه إلى دمشق ويأخذها من أخيه ويسلمها اليه فسار معه من مصر إلى دمشق وحصروها واستمالوا أميرا من أمراء الأفضل يقال له العزيز بن أبي غالب الحمصي وكان الأفضل كثير الإحسان اليه والاعتماد عليه والوثوق به فسلم اليه بابا من أبواب دمشق يعرف بالباب الشرقي ليحفظه فمال إلى العزيز والعادل ووعدهما أنه يفتح لهما الباب ويدخل العسكر منه إلى البلد غفلة ففتحه اليوم السابع والعشرين من رجب وقت العصر وأدخل الملك العادل منه ومعه جماعة من أصحابه فلم يشعر الأفضل إلا وعمه معه في دمشق وركب الملك العزيز ووقف بالميدان الأخضر غربي دمشق. فلما رأى الأفضل أن البلد قد ملك خرج إلى أخيه وقت المغرب،
122 واجتمع به، ودخلا كلاهما البلد واجتمعا بالعادل وقد نزل في دار أسد الدين شيركوه وتحادثوا فاتفق العادل والعزيز على أن أوهما الأفضل أنهما يبقيان عليه البلد خوفا أنه ربما جمع من عنده من العسكر وثار بهما ومعه العامة فأخرجهم من البلد لأن العادل لم يكن في كثرة وأعاد الأفضل إلى القلعة وبات العادل في دار شيركوه وخرج العزيز إلى الخيم فبات فيها وخرج العادل من الغد إلى جوسقه فأقام به وعساكره في البلد في كل يوم يخرج الأفضل إليهما ويجتمع بهما فبقوا كذلك أياما. ثم أرسلا إليه وأقراه بمفارقة القلعة وتسلم البلد على قاعدة ان تعطى قلعة صرخد له ويسلم جميع أعمال دمشق فخرج الأفضل ونزل في جوسق بظاهر البلد غربي دمشق وتسلم العزيز القلعة ودخلها وأقام بها أياما فجلس يوما في مجلس شرابه فلما أخذت منه الخمر جرى على لسانه أنه يعيد البلد إلى الأفضل فنقل ذلك إلى العادل في وقته فحضر المجلس في ساعته والعزيز سكران فلم يزل به حتى سلم البلد إليه وخرج منه وعاد إلى مصر وسار الأفضل إلى صرخد وكان العادل يذكر أن الأفضل سعى في قتله فلهذا أخذ البلد منه وكان الأفضل ينكر ذلك ويتبرأ منه: (والله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون). ذكر عدة حوادث في هذه السنة هبت ريح شديدة بالعراق واسودت لها الدنيا ووقع رمل أحمر واستعظم الناس ذلك وكبروا واشتعلت الأضواء بالنهار.
123 وفيها قتل صدر الدين محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان قتله فلك الدين سنقر الطويل شحنة أصفهان بها وكان قدم بغداد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة واستوطنها وولي النظر في المدرسة النظامية ببغداد ولما سار مؤيد الدين بن القصاب إلى خوزستان سار في صحبته فلما ملك الوزير أصفهان أقام ابن الخجندي بها في بيته وملكه ومنصبه فجرى بينه وبين سنقر الطويل شحنة أصفهان للخليفة منافرة فقتله سنقر. وفي رمضان درس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك البغدادي الفقيه الشافعي بالمدرسة النظامية ببغداد. وفي شوال منها أثبت نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الرازي في الوزارة ببغداد وكان قد توجه إلى بغداد لما ملك ابن القصاب الري. وفيها ولي أبو طالب يحيى بن سعيد بن زيادة ديوان الإنشاء ببغداد وكان كاتبا مفلقا وله شعر جيد. وفي صفر منها توفي الفخر محمود بن علي القوفاني الفقيه الشافعي بالكوفة عائدا من الحج وكان من أعيان أصحابه محمد بن يحيى. وفي رجب منها توفي أبو الغنائم بن علي بن المعلم الشاعر الهرثي والهرث بضم الهاء والثاء المثلثة قرية من أعمال واسط عن إحدى وتسعين سنة. وفي رابع شعبان منها توفي الوزير مؤيد الدين أبو الفضل محمد بن علي بن القصاب بهمذان وقد ذكرنا من كفايته ونهضته ما فيه كفاية.
124 593 ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ذكر إرسال الأمير أبي الهيجاء إلى همذان وما فعله وصل إلى بغداد أمير كبير من أمراء مصر اسمه أبو الهيجاء ويعرف بالسمين لأنه كان كثير السمن وكان من أكابر أمراء مصر وكان في أقطاعه أخيرا البيت المقدس وغيره مما يجاوره فلما ملك العزيز والعادل مرتبة دمشق من الأفضل أخذ القدس منه ففارق الشام وعبر الفرات إلى الموصل ثم انحدر إلى بغداد لأنه طلب من ديوان الخلافة فلما وصل إليها أكرم إكراما كثيرا ثم أمر بالتجهيز والمسير إلى همذان مقاما على عساكر البغدادية فسار إليها والتقى عندها بالملك أوزبك بن البهلوان وأمير علم وابنه وابن سطمس وغيرهم وهم قد كاتبوا الخليفة بالطاعة فلما اجتمع بهم وثقوا إليه ولم يحذروه فقبض على أوزبك وابن سطمس وابن قرا بموافقة من أمير علم فلما وصل الخبر بذلك إلى بغداد أنكرت هذه الحال على أبي الهيجاء وأمر بالإفراج عن الجماعة وسيرت لهم الخلع من بغداد تطييبا لقلوبهم فلم يسكنوا بعد هذه الحادثة ولا آمنوا ففارقوا أبا الهيجاء السمين فخاف الديوان فلم يرجع إليه ولم يمكنه أيضا المقام فعاد يريد إربل لأنه من بلدها هو فتوفي قبل وصوله إليها وهو من الأكراد الحكمية من بلد إربل.
125 ذكر ملك العادل يافا من الفرنج وملك الفرنج بيروت من المسلمين وحصر الفرنج تبنين ورحيلهم عنها في هذه السنة في شوال ملك العادل أبو بكر بن أيوب مدينة يافا من الساحل الشامي وهو بيد الفرنج لعنهم الله. وسبب ذلك أن الفرنج كان قد ملكهم الكندهري على ما ذكرناه قبل وكان الصلح قد استقر بين المسلمين والفرنج أيام صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى فلما توفي وملك أولاده بعده كما ذكرناه جدد الملك العزيز الهدنة مع الكند هري [ملك الفرنج] وزاد في مدة الهدنة وبقي ذلك إلى الآن. وكان بمدينة بيروت أمير يعرف بأسامة وهو مقطعها فكان يرسل الشواني تقطع الطريق على الفرنج فاشتكى الفرنج من ذلك غير مرة إلى الملك العادل بدمشق وإلى الملك العزيز بمصر فلم يمنعا اسامة من ذلك فأرسلوا إلى ملوكهم الذين داخل البحر يشتكون إليهم ما يفعل بهم المسلمون ويقولون إن لم تنجدونا وإلا أخذ المسلمون البلاد فأمدهم الفرنج بالعساكر الكثيرة وكان أكثرهم من ملك الألمان وكان المقدم عليهم قس يعرف بالخنصلير فلما سمع العادل بذلك أرسل إلى العزيز بمصر يطلب العساكر وأرسل إلى ديار الجزيرة والموصل يطلب العساكر فجاءته الأمراء واجتمعوا على عين
126 الجالوت، فأقاموا شهر رمضان وبعض شوال ورحلوا إلى يافا وملكوا المدينة وامتنع من بها بالقلعة التي لها فخرب المسلمون المدينة وحصروا القلعة فملكوها عنوة وقهرا بالسيف في يومها وهو يوم الجمعة وأخذ كل ما بها غنيمة وأسرا وسببا، ووصل الفرنج من عكا إلى قيسارية ليمنعوا المسلمين عن يافا فوصلهم الخبر بها بملكها فعادوا. وكان سبب تأخرهم أن ملكهم الكندهري سقط من موضع عال بعكا فمات قاختلت أحوالهم فتأخروا لذلك. وعاد المسلمون إلى عين جالوت فوصلهم الخبر بأن الفرنج على عزم قصد بيروت فرحل العادل من العسكر في ذي القعدة إلى مرج العيون وعزم على تخريب بيروت فسار إليها جمع من العسكر وهدموا سور المدينة سابع ذي الحجة وشرعوا في تخريب دورها وتخريب القلعة فمنعهم أسامة من ذلك وتكفل بحفظها. ورحل الفرنج من عكا إلى صيدا وعاد عسكر المسلمين من بيروت فالتقوا هم والفرنج بنواحي صيدا وجرى بينهم مناوشة فقتل من الفريقين جماعة وحجز بينهم الليل وسار الفرنج تاسع ذي الحجة فوصلوا إلى بيروت فلما قاربوها هرب منها أسامة وجميع من معه من المسلمين فملكوها صفوا عفوا بغير حرب ولا قتال فكانت غنيمة باردة؛ فأرسل العادل إلى صيدا من خرب ما كان بقي منها فإن صلاح الدين كان قد خرب أكثرها وسافرت العساكر الإسلامية إلى صور فقطعوا أشجارها وخربوا ما لها من قرى وأبراج فلما سمع الفرنج بذلك رحلوا من بيروت إلى صور وأقاموا عليها.
127 ونزل المسلمون عند قلعة هونين وأذن للعساكر الشرقية بالعود ظنا منه أن الفرنج يقيمون ببلادهم وأراد أن يعطي العساكر المصرية دستورا بالعود فأتاه الخبر منتصف المحرم أن الفرنج يريدون أن يحصروا حصن تبنين فسير العادل إليه عسكرا يحمونه ويمنعون عنه، ورحل الفرنج من صور ونازلوا تبنين أول صفر سنة أربع وتسعين [خمسمائة] وقاتلوا من به وجدوا في القتال ونقبوه من جهاتهم فلما علم العادل بذلك أرسل إلى العزيز بمصر يطلب منه أن يحضر هو بنفسه ويقول له إن حضرت وإلا فلا يمكن حفظ هذا الثغر فسار العزيز مجدا فيمن بقي معه من العساكر. وأما من بحصن تبنين فإنهم لما رأوا الثقوب قد خربت القلعة ولم يبق إلا أن يملكوها بالسيف نزل بعض من فيها إلى الفرنج يطلب الأمان على أنفسهم وأموالهم ليسلموا القلعة وكان المرجع إلى القسيس الخنصلير من أصحاب ملك الألمان فقال لهؤلاء المسلمين بعض الفرنج الذين من ساحل الشام إن سلمتم الحصن استأسركم هذا وقتلكم فاحفظوا نفوسكم فعادوا كأنهم يراجعون من في القلعة ليسلموا فلما صعدوا إليها أصروا على الامتناع وقاتلوا قتال من يحمي نفسه فحموها إلى أن وصل الملك العزيز إلى عسقلان في ربيع الأول فلما سمع الفرنج بوصوله واجتماع المسلمين وأن الفرنج ليس لهم ملك يجمعهم وأن أمرهم إلى امرأة وهي الملكة فاتفقوا وأرسلوا إلى ملك قبرس واسمه هيمري فأحضروه وهو أخو الملك الذي أسر بحطين كما ذكرناه فزوجوه بالملكة زوجة الكندهري وكان رجلا عاقلا يحب السلامة والعافية فلما ملكهم لم يعد إلى الزحف على الحصن ولا قاتله.
128 واتفق وصول العزيز أول شهر ربيع الآخر ورحل هو والعساكر إلى جبل الخيل الذي يعرف بجبل عاملة فأقاموا أياما والأمطار متداولة فبقي إلى ثالث عشر الشهر ثم سار وقارب الفرنج وأرسل رماة النشاب فرموهم ساعة وعادوا ورتب العساكر ليزحف إلى الفرنج ويجد في قتالهم فرحلوا إلى صور خامس عشر الشهر المذكور ليلا ثم رحلوا إلى عكا فسار المسلمون فنزلوا اللجون وتراسلوا في الصلح وتطاول الأمر فعاد العزيز إلى مصر قبل انفصال الحال. وسبب رحيله أن جماعة من الأمراء وهم ميمون القصري وأسامة وسرا سنقر والجحاف وابن المشطوب وغيرهم قد عزموا على الفتك به وبفخر الدين جركس مدبر دولته والله سبحانه وتعالى أعلم بذلك فلما سمع بذلك سار إلى مصر وبقي العادل وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلح في شعبان سنة أربع وتسعين [خمسمائة]، فلما انتظم الصلح عاد العادل إلى دمشق وسار منها إلى ماردين من أرض الجزيرة فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة سيف الإسلام وملك ولده في شوال من هذه السنة توفي سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخو صلاح الدين وهو صاحب اليمن بزبيد وقد ذكرنا كيف ملك.
129 وكان شديد السيرة مضيقا على رعيته يشتري أموال التجار لنفسه ويبيعها كيف شاء. وأراد ملك مكة حرسها الله تعالى فأرسل الخليفة الناصر لدين الله إلى أخيه صلاح الدين في المعنى فمنعه من ذلك وجمع من الأموال مالا يحصى حتى أنه من كثرته كان يسبك الذهب ويجعله كالطاحون ويدخره. ولما توفي ملك بعده ابنه إسماعيل وكان أهوج كثير التخليط بحيث أنه ادعى أنه قرشي من بني أمية وخطب لنفسه بالخلافة وتلقب بالهادي فلما سمع عمه الملك العادل ذلك ساءه وأهمه وكتب إليه يلومه ويوبخه ويأمره بالعود إلى نسبه الصحيح وبترك ما ارتكبه مما يضحك الناس منه فلم يلتفت إليه ولم يرجع وانضاف إلى ذلك أنه أساء السيرة مع أجناده وأمرائه فوثبوا عليه فقتلوه وملكوا بعده أميرا من مماليك أبيه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الآخر توفي أبو بكر عبد الله بن منصور بن عمران والباقلاني المقري الواسطي بها عن ثلاث وسبعين سنة وثلاثة أشهر وأيام وهو آخر من بقي من أصحاب القلانسي. وفي جمادى الآخرة توفي قاضي القضاة أبو طالب علي بن البخاري ببغداد ودفن بتربته في مشهد باب التين. وفيها في ربيع الآخر توفي ملكشاه من خوارزم شاه تكش بنيسابور وكان أبوه قد جعله فيها وأضاف إليه عساكر جميع بلاده التي بخراسان وجعله
130 ولي عهده في الملك وخلف ولد اسمه هند وخان فلما مات جعل فيها أبوه خوارزم شاه بعده ولده الآخر قطب الدين محمدا وهو الذي ملك بعد أبيه وكان بين الأخوين عداوة مستحكمة أفضت إلى ان محمدا لما ملك بعد أبيه هرب هندوخان بن ملكشاه منه على ما نذكره. وفيها توفي شيخنا أبو القاسم يعيش بن صدقة بن علي الفراتي الضرير الفقيه الشافعي كان إماما في الفقه مدرسا صالحا كثير الصلاح سمعت عليه كثيرا لم أر مثله رحمه الله تعالى. ولقد شاهدت منه عجبا يدل على دينه وإرادته بعمله وجه الله تعالى وذلك أني كنت اسمع عليه ببغداد سنن أبي عبد الرحمن النسائي وهو كتاب كبير والوقت ضيق لأني كنت مع الحجاج قد عدنا من مكة حرسها الله فبينما نحن نسمع عليه مع أخي الأكبر مجد الدين أبي السعادات إذ قد أتاه إنسان من أعيان بغداد وقال له قد برز الأمر لنحضر كذا فقال أنا مشغول بسماع هؤلاء السادة ووقتهم يفوت والذي يراد مني لا يفوت فقال أنا لا أحسن أذكر هذا في مقابل أمر الخليفة فقال لا عليك قل قال أبو القاسم لا احضر حتى يفرغ السماع فسألناه ليمشي معه فلم يفعل ذلك وقال اقرؤا فقرأنا فلما كان الغد حضر غلام لنا وذكر ان أمير الحاج الموصلي قد رحل فعظم الأمر علينا فقال ولم يعظم عليكم العود إلى أهلكم وبلدكم فقلنا لأجل فراغ هذا الكتاب فقال إذا رحلتم أستعير دابة وأركبها فأسير معكم وأنتم تقرؤون فإذا فرغتم عدت فمضي الغلام ليتزود ونحن نقرأ فعاد وذكر أن الحجاج لم يرحلوا ففرغنا من الكتاب فانظر إلى هذا الدين المتين يرد أمر الخليفة وهو يخافه ويرجوه ويريد يسير معنا ونحن غرباء لا يخافنا ولا يرجونا.
131 594 ثم دخلت سنة أربع وتسعين وخمسمائة ذكر وفاة عماد الدين وملك ولده قطب الدين محمد في هذه السنة في المحرم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب سنجار ونصيبين الخابور والرقة وقد تقدم ذكره كيف ملكها سنة تسع وسبعين [خمسمائة]؛ وكان رحمه الله عادلا حسن السيرة في رعيته عفيفا عن أموالهم وأملاكهم متواضعا يحب أهل العلم والدين ويحترمهم ويجلس معهم ويرجع إلى أقوالهم إلا أنه كان بخيلا شديد البخل وملك بعده ابن قطب الدين محمد وتولى تدبير دولته مجاهد الدين يرنقش مملوك أبيه وكان دينا خيرا عادلا حسن السيرة كثير البر والإحسان إلى الفقراء وكان رحمه الله شديد التعصب على مذهب الحنفية كثير الذم للشافعية فمن تعصبه انه بنى مدرسة للحنفية بسنجار وشرط أن يكون النظر للحنفية من أولاده دون الشافعية وشرط أن يكون البواب والفراش على مذهب أبي حنيفة وشرط للفقهاء طبيخا يطبخ ذلك كل يوم وهذا نظر حسن رحمه الله. ذكر ملك نور الدين نصيبين في هذه السنة في جمادى الأولى سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل إلى مدينة نصيبين فملكها وأخذها من
132 ابن عمه قطب الدين محمد. وسبب ذلك أن عمه عماد الدين كان له نصيبين فتطاول نوابه بها واستولوا على عدة قرى من أعمال بين النهرين من ولاية الموصل وهي تجاور نصيبين فبلغ الخبر مجاهد الدين قايماز القائم بتدبير مملكة نور الدين بالموصل كلها والمرجوع إليه فيها فلم يعلم مخدومه بذلك لما علم من قلة صبره على احتمال مثل هذا وخاف ان يجري خلف بينهم فأرسل من عنده رسولا إلى عماد الدين في المعنى وقبح هذا الفعل الذي فعله النواب بغير أمره وقال إنني ما أعلمت نور الدين بالحال لئلا يخرج عن يدك فإنه ليس كوالده وأخاف [أن] يبدو منه ما يخرج الأمر فيه عن يدي فأعاد الجواب أنهم لم يفعلوا إلا ما أمرتهم به وهذه القرى من أعمال نصيبين. فترددت الرسل بينهما فلم يرجع عماد الدين عن أخذها فحينئذ أعلم مجاهد الدين نور الدين بالحال فأرسل نور الدين رسولا من مشايخ دولته ممن خدم جدهم الشهيد زنكي ومن بعده وحمله رسالة فيها بعض الخشونة فمضى الرسول فلحق عماد الدين قد مرض فلما سمع الرسالة لم يلتفت وقال لا أعيد ملكي فأشار الرسول من عنده حيث هو من مشايخ دولتهم بترك وتسليم ما أخذه وحذره عاقبة ذلك فأغلط عليه عماد الدين القول وعرض بذم نور الدين واحتقاره فعاد الرسول وحكى لنور الدين جلية الحال فغضب نور الدين وعزم على المسير إلى نصيبين وأخذها من عمه. فاتفق أن عمه مات وملك بعده ابنه فقوي طمعه فمنعه مجاهد الدين فلم يمتنع وتجهز وسار إليها فلما سمع قطب الدين صاحبها سار إليها من سنجار في عسكره ونزل عليها ليمتنع نور الدين عنها فوصل نور الدين وتقدم إلى البلد وكان بينهما نهر فجازه بعض أمرائه وقاتل من بإزائه،
133 فلم يثبتوا له فعبر جميع العسكر النوري وتمت الهزيمة على قطب الدين فصعد هو ونائبه مجاهد الدين يرتقش إلى القلعة نصيبين وأدركهم الليل فخرجوا منها هاربين إلى حران وراسلوا الملك العادل أبا بكر بن أيوب صاحب حران وغيرها وهو بدمشق وبذلوا له الأموال الكثيرة لينجدهم ويعيد نصيبين إليهم. وأقام نور الدين بنصيبين مالكها فتضعضع عسكره بكثرة الأمراض وعودهم إلى الموصل وموت كثير منهم ووصل العادل إلى الديار الجزرية فحينئذ فارق نور الدين نصيبين وعاد إلى الموصل في شهر رمضان فلما فارقها تسلمها قطب الدين. وممن توفي من أمراء الموصل عز الدين جورديك شمس الدين عبد الله بن إبراهيم وفخر الدين عبد الله بن عيسى المهرانيان ومجاهد الدين قايماز وظهير الدين يولق بن بلنكري وجمال الدين محاسن وغيرهم ولما عاد نور الدين إلى الموصل قصد العادل قلعة ماردين فحصرها وضيق على أهلها على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر ملك الغورية مدينة بلخ من الخطأ الكافرة في هذه السنة ملك بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود وهو ابن أخت غياث الدين [وشهاب الدين] صاحبي غزنة وغيرها وله باميان مدينة بلخ وكان صاحبها تركيا اسمه أزيه وكان يحمل الخراج كل سنة إلى الخطأ بما وراء النهر فتوفي هذه السنة فسار بهاء الدين سام إلى المدينة فملكها وتمكن منها وقطع الحمل إلى الخطأ وخطب لغياث الدين وصارت من جملة بلاد الإسلام بعد أن كانت في طاعة الكفار.
134 ذكر انهزام الخطا من الغورية وفي هذه السنة عبر الخطأ نهر جيحون إلى ناحية خراسان فعاثوا في البلاد وأفسدوا فلقيهم عسكر غياث الدين الغوري وقاتلهم فانهزم الخطا. وكان سبب ذلك أن خوارزم شاه تكش كان قد سار إلى بلد الري وهمذان وأصفهان وما بينهما من البلاد وملكها وتعرض إلى عساكر الخليفة وأظهر طلب السلطنة والخطبة ببغداد فأرسل الخليفة إلى غياث الدين ملك الغور وغزنة [يأمره] بقصد بلاد خوارزم شاه [ليعود عن قصد العراق وكان خوارزم شاه] قد عاد إلى خوارزم فراسله غياث الدين يقبح له فعله ويتهدده بقصد بلاده وأخذها فأرسل خوارزم إلى الخطا يشكو إليهم من غياث الدين ويقول إن لم تدركوه بإنفاذ العساكر وإلا أخذ غياث الدين بلاده كما أخذ مدينة بلخ وقصد بعد ذلك بلادهم ويتعذر عليهم منعه ويعجزون عنه ويضعفون عن رده عما وراء النهر فجهز ملك الخطا جيشا كثيفا وجعل مقدمهم المعروف بطاينكوا وهو كالوزير فساروا وعبروا جيحون في جمادى الآخرة وكان الزمان شتاء وكان شهاب الدين الغوري أخو غياث الدين ببلاد الهند والعساكر معه وغياث الدين به من النقرس ما يمنعه من الحركة إنما يحمل في محفة والذي يقود الجيش ويباشر الحروب أخوه شهاب الدين فلما وصل الخطا إلى جيحون سار خوارزم شاه إلى طوس عازما على قصد هراة ومحاصرتها وعبر الخطا النهر ووصلوا إلى بلاد الغور مثل كرزبان وسرقان وغيرهما وقتلوا وأسروا ونهبوا وسبوا كثيرا لا يحصى فاستغاث الناس بغياث الدين، فلم يكن عنده من
135 العساكر ما يلقاهم بها فراسل الخطا بهاء الدين سام ملك باميان يأمرونه بالإفراج عن بلخ وانه يحمل ما كان من قبله يحمله من المال فلم يجبهم إلى ذلك. وعظمت المصيبة على المسلمين بما فعله الخطا فانتدب الأمير محمد بن جربك الغوري وهو مقطع الطالقان من قبل غياث الدين وكان شجاعا وكاتب الحسين بن خرميل وكان بقلعة كرزبان واجتمع معهما الأمير حروش الغوري وساروا بعساكرهم إلى الخطا فبيتوهم وكبسوهم ليلا من عادة الخطا أنهم لا يخرجون من خيامهم ليلا ولا يفارقونها فأتاهم هؤلاء الغورية وقاتلوهم وأكثروا القتل في الخطا وانهزم من سلم منهم من القتل وأين ينهزمون والعسكر الغوري خلفهم وجيحون بين أيديهم وظن الخطا أن غياث الدين قد قصدهم في عساكره فلما أصبحوا وعرفوا من قاتلهم وعلموا أن غياث الدين بمكانه قويت قلوبهم وثبتوا [واقتتلوا] عامة نهارهم فقتل من الفريقين خلق عظيم ولحقت المتطوعة بالغوريين وأتاهم مدد من غياث الدين وهم في الحرب فثبت المسلمون وعظمت نكايتهم في الكفار. وحمل الأمير حروش على قلب الخطا وكان شيخا كبيرا فأصابه جراحة توفي منها ثم إن محمود بن جربك وابن خرميل حملا في أصحابهما وتنادوا أن لا يرمي أحد بقوس ولا يطعن برمح وأخذوا اللتوت وحملوا على الخطا فهزموهم وألحقوهم بجيحون فمن صبر قتل ومن ألقى نفسه في الماء غرق. ووصل الخبر إلى ملك الخطا فعظم عليه وأرسل إلى خوارزم شاه يقول له:
136 أنت قتلت رجالي، وأريد عن كل قتيل عشرة آلاف دينار وكان القتلى اثني عشر ألفا وأنفذ إليه من رده إلى خوارزم وألزموه بالحضور عنده فأرسل حينئذ خوارزم شاه إلى غياث الدين يعرفه حاله مع الخطا ويشكو إليه ويستعطفه غير مرة فأعاد الجواب يأمره بطاعة الخليقة وإعادة ما أخذه الخطا من بلاد الإسلام فلم ينفصل بينهما حال. ذكر ملك خوارزم شاه مدينة بخارى لما ورد رسول ملك الخطا على خوارزم شاه بما ذكرناه أعاد الجواب ان عسكرك إنما قصد انتزاع بلخ ولم يأتوا إلى نصرتي ولا اجتمعت بهم ولا أمرتهم بالعبور وإن كنت فعلت ذلك فأنا مقيم بالمال المطلوب مني ولكن حيث عجزتم أنتم عن الغورية عدتم علي بهذا القول وهذا المطلب وأما أنا فقد أصلحت الغورية ودخلت في طاعتهم ولا طاعة لكم عندي. فعاد الرسول بالجواب فجهز ملك الخطا جيشا عظيما وسيره إلى خوارزم شاه يخرج إليهم كل ليلة ويقتل منهم خلقا عظيما وأتاه من المتطوعة خلق كثير فلم يزل هذا فعله بهم حتى أتى على أكثرهم فدخل الباقون إلى بلادهم ورحل خوارزم شاه في آثارهم وقصد بخارا فنازلها وحصرها وامتنع أهلها منه وقاتلوه مع الخطا حتى أنهم أخذوا كلبا أعور وألبسوه قباء وقلنسوة وقالوا: هذا خوارزم شاه لأنه كان أعورا وطافوا به على السور ثم ألقوه في منجنيق [إلى] العسكر،
137 وقالوا: هذا سلطانكم وكان الخوارزميون يسبونهم ويقولون يا أجناد الكفر أنتم قد ارتددتم عن الإسلام فلم يزل هذا دأبهم حتى ملك خوارزم شاه البلد بعد أيام يسيرة عنوا وعفا عن أهله وأحسن إليهم وفرق فيهم مالا كثيرا وأقام بها مدة ثم عاد إلى خوارزم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ذي الحجة توفي أبو طالب يحيى بن سعيد بن زيادة كاتب الإنشاء بديوان الخليفة وكان عالما فاضلا له كتابة حسنة وكان رجلا عاقلا خيرا كثير النفع للناس وله شعر جيد. وفيها حصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب قلعة ماردين في شهر رمضان وقاتل من بها وكان صاحبها حسام الدين يولق أرسلان بن إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق كل هؤلاء ملوك ماردين وقد تقدم من اخبارهم ما يعلم به محلهم وكان صبيا والحاكم في بلده ودولته مملوك أبيه النظام يرنقش وليس لصحابه معه حكم البتة في شي من الأمور ولما حصر العادل ماردين ودام عليها سلم إليه بعض أهلها الربض بمخامرة منهم فنهب العسكر أهله نهبا قبيحا وفعلوا بهم أفعالا عظيمة لم يسمع بمثلها فلما تسلم الربض تمكن من حصر القلعة وقطع الميرة عنها وبقي عليها إلى أن رحل عنها سنة خمس وتسعين على ما نذكره إن شاء الله. وفيها توفي الشيخ أبو علي الحسن بن مسلم بن أبي الحسن القادسي
138 الزاهد المقيم ببغداد والقادسية التي ينسب إليها قرية بنهر عيسى من أعمال بغداد وكان من عباد الله الصالحين العالمين ودفن بقريته. وأبو المجد علي بن أبي الحسن علي بن الناصر بن محمد الفقيه الحنفي مدرس أصحاب أبي حنيفة ببغداد وكان من أولاد محمد بن الحنفية ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
139 595 ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة ذكر وفاة الملك العزيز وملك أخيه الأفضل ديار مصر في هذه السنة في العشرين من المحرم توفي الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب ديار مصر وكان سبب موته أنه خرج إلى الصيد فوصل إلى الفيوم متصيدا فرأى ذئبا فركض فرسه في طلبه فعثر الفرس فسقط عنه في الأرض ولحقته حمى فعاد إلى القاهرة مريضا فبقي كذلك إلى أن توفي فلما مات كان الغالب على أمره مملوك والده فخر الدين جهاركس هو الحاكم في بلده فأحضر إنسانا كان عندهم من أصحاب الملك العادل أبي بكر بن أيوب وأراه العزيز ميتا وسيره إلى العادل وهو يحاصر ماردين كما ذكرناه ويستدعيه ليملكه البلاد فسار القاصد مجدا فلما كان بالشام رأى بعض أصحاب الأفضل علي علي بن صلاح الدين فقال له قل لصاحبك إن أخاه العزيز توفي وليس في البلاد من يمنعها فليسر إليها فليس دونها مانع. وكان الأفضل محبوبا إلى الناس يريدونه فلم يلتفت الأفضل إلى هذا القول وإذ قد وصله رسل الأمراء من مصر يدعونه إليهم ليملكوه وكان السبب في ذلك أن الأمير سيف الدين يازكج مقدم الأسدية والفرقة الأسدية
140 والأمراء الأكراد يريدونه ويميلون اليه وكان المماليك الناصرية الذين هم ملك أبيه يكرهونه فاجتمع سيف الدين مقدم الأسدية وفخر الدين جهاركس مقدم الناصرية ليتفقوا على من يولونه الملك فقال فخر الدين نولي ابن الملك العزيز فقال سيف الدين إنه طفل وهذه البلاد ثغر الإسلام ولا بد من قيم بالملك يجمع العساكر ويقاتل بها والرأي أننا نجعل الملك في هذا الطفل الصغير ونجعل معه بعض أولاد صلاح الدين يدبره إلى أن يكبر فإن العساكر لا تطيع غيرهم ولا تنقاد لأمير فاتفقا على هذا فقال جهاركس فمن يتولى هذا فأشار يازكج بغير الأفضل فجرى بينه وبين جهاركس منازعة لئلا يتهم وينفر جهاركس عنه فامتنع من ولايته فلم يزل يذكر من أولاد صلاح الدين واحدا بعد آخر إلى أن ذكر آخرهم الأفضل فقال جهاركس هو بعيد عنا وكان بصرخد مقيما فيها من حين أخذت منه دمشق فقال يازكج ترسل إليه من يطلبه مجدا فأخذ جهاركس يغالطه فقال يازكج نمضي إلى القاضي الفاضل ونأخذ رأيه فاتفقا على ذلك وأرسل يازكج يعرفه ذلك ويشير بتمليك الأفضل فلما اجتمعا عنده وعرفاه صورة الحال أشار بالأفضل فأرسل يازكج في الحال القصاد وراء فسار عن صرخد لليلتين بقيتا من صفر متنكرا في تسعة عشر نفسا لأن البلاد كانت للعادل وبضبط نوابه الطرق لئلا يجوز إلى مصر ليجيء العادل ويملكها. فلما قارب الأفضل القدس وقد عدل عن الطريق المؤدي إليه لقيه فارسان قد أرسلا إليه من القدس فأخبراه أن من بالقدس قد صار في طاعته وجد في السير فوصل إلى بلبيس خامس ربيع الأول ولقيه إخوته،
141 وجماعة الأمراء المصرية، وجميع الأعيان، فاتفق أن أخاه الملك المؤيد مسعودا صنع له طعاما وصنع له فخر الدين مملوك أبيه طعاما فابتدأ بطعام أخيه ليمين حلفها أخوه أنه يبدأ به فظن جهاركس أنه فعل هذا انحرافا عنه وسوء اعتقاد فيه فتغيرت نيته وعزم على الهرب فحضر عند الأفضل وقال إن طائفة من العرب قد اقتتلوا ولئن لم نمض إليهم نصلح بينهم يؤدي ذلك إلى فساد فأذن له الأفضل في المضي إليهم ففارقه وسار مجدا حتى وصل إلى البيت المقدس ودخله وتغلب عليه ولحقه جماعة من الناصرية منهم قراجة الزره كش وسرا سنقر وأحضروا عندهم ميمونا القصرى صاحب نابلس وهو أيضا من المماليك الناصرية فقويت شوكتهم به واجتمعت كلمتهم على خلاف الأفضل وأرسلوا إلى الملك العادل وهو على ماردين يطلبونه إليهم ليدخلوا معه إلى مصر ليملكوها فلم يسر إليهم لأنه كانت أطماعه قد قويت في أخذ ماردين وقد عجز من بها عن حفظها وأنه يأخذها والذي يريدونه لا يفوته. وأما الأفضل فإنه دخل إلى القاهرة سابع ربيع الأول وسمع بهرب جهاركس فأهمه ذلك وترددت الرسل بينه وبينهم ليعودوا إليه فلم يزدادوا إلا بعدا ولحق بهم جماعة من الناصرية أيضا فاستوحش الأفضل من الباقين فقبض عليهم وهم شقيرة وأيبك فطيس والبكى الفارس وكل هؤلاء بطل مشهور ومقدم مذكور سوى من ليس مثلهم في التقدم وعلو القدر وأقام الأفضل بالقاهرة وأصلح الأمور وقرر القواعد والمرجع في جميع الأمور إلى سيف الدين يازكج.
142 ذكر حصر الأفضل مدينة دمشق وعودة عنها لما ملك الأفضل مصر واستقر بها ومعه ابن أخيه الملك العزيز اسم الملك له لصغره واجتمعت الكلمة على الأفضل بها وصل إليه رسول أخيه الملك الظاهر غازي صاحب حلب ورسل ابن عمه أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص يحثانه على الخروج إلى دمشق واغتنام الفرصة بغية العادل عنها وبذلا له المساعدة بالمال والنفس والرجال فبرز من مصر منتصف جمادى الأولى من السنة على عزم المسير إلى دمشق وأقام بظاهر القاهرة إلى ثالث رجب ورحل فيه وتعوق في مسيره ولو بادر وعجل المسير لملك دمشق لكنه تأخر فوصل إلى دمشق ثالث عشر شعبان فنزل عند جسر الخشب على فرسخ ونصف من دمشق وكان العادل قد أرسل إليه نوابه بدمشق يعرفونه قصد الأفضل لهم ففارق ماردين وخلف ولده الكامل محمدا في جميع العساكر على حصارها وسار جريدة فجد في السير فسبق الأفضل فدخل دمشق قبل الأفضل بيومين. وأما الأفضل فإنه تقدم إلى دمشق من الغدر وهو رابع عشر شعبان ودخل ذلك اليوم بعينه طائفة يسيرة من عسقلان إلى دمشق من باب السلامة وسبب دخولهم ان قوما من أجناده ممن بيوتهم مجاورة الباب اجتمعوا بالأمير مجد الدين أخي الفقيه عيسى الهكاري وتحدثوا معه في أن يقصد هو والعسكر باب السلامة ليفتحوه لهم فأراد مجد الدين أن يختص بفتح الباب وحده فلم يعلم الأفضل ولا أخذ معه أحدا من الأمراء بل سار وحده ومعه نحو خمسين فارسا من أصحابه ففتح له الباب فدخله
143 هو ومن معه فلما رآهم عامة البلد نادوا بشعار الأفضل واستسلم من به من الجند ونزلوا عن الأسوار وبلغ الخبر إلى الملك العادل فكاد يستسلم وتماسك. وأما الذين دخلوا البلد فإنهم وصلوا إلى البريد فلما رأى عسكر العادل بدمشق قلة عددهم وانقطاع مددهم وثبوا بهم وأخرجوهم منه وكان الأفضل قد نصب خيمة بالميدان الأخضر وقارب عسكره الباب الحديد وهو من أبواب القلعة فقدر الله تعالى أن أشير على الأفضل بالانتقال إلى ميدان الحصى ففعل ذلك فقويت نفوس من فيه وضعفت نفوس العسكر المصري ثم إن الأمراء الأكراد منهم تحالفوا فصاروا يدا واحدة ويغضبون لغضب أحدهم ويرضون لرضا أحدهم فظن الأفضل وباقي الأسدية أنهم فعلوا بقاعدة بينهم وبين الدمشقيين فرحلوا من موضعهم وتأخروا في العشرين من شعبان ووصل أسد الدين شيركوه صاحب حمص إلى الأفضل الخامس والعشرين من شعبان ووصل بعده الملك الظاهر صاحب حلب ثاني عشر شهر رمضان وأراد الزحف إلى دمشق فمنعهم الملك الظاهر مكرا بأخيه وحسدا له ولم يشعر أخوه الأفضل بذلك. وأما الملك العادل فإنه لما رأى كثرة العساكر وتتابع الإمداد إلى الأفضل عظم عليه فأرسل إلى المماليك الناصرية بالبيت المقدس يستدعيهم إليه فساروا سلخ شعبان فوصل خبرهم إلى الأفضل فسير أسد الدين صاحب حمص ومعه جماعة من الأمراء إلى طريقهم ليمنعوهم فسلكوا غير طريقهم فجاء أولئك ودخلوا دمشق خامس رمضان فقوي العادل بهم قوة عظيمة وأيس الأفضل ومن معه من دمشق وخرج عسكر دمشق في شوال فكبسوا العسكر المصري فوجدوهم قد حذروهم فعادوا عنهم خاسرين.
144 وأقام العسكر على دمشق ما بين قوة وضعف وانتصار وتخاذل حتى أرسل الملك العادل خلف ولده الملك الكامل محمد وكان قد رحل عن ماردين على ما نذكره إن شاء الله تعالى وهو بحران فاستدعاه إليه بعسكره فسار على طريق البر فدخل إلى دمشق ثاني عشر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة فعند ذلك رحل العسكر عن دمشق إلى ذيل جبل الكسوة سابع عشر صفر واستقر أن يقيموا بحوران حتى يخرج الشتاء فرحلوا إلى رأس الماء وهو موضع شديد البرد فتغير العزم عن المقام واتفقوا على أن يعود كل منهم إلى بلده فعاد الظاهر صاحب حلب وأسد الدين صاحب حمص إلى بلادهما وعاد الأفضل إلى مصر فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وولاية ابنه محمد في هذه [السنة]، ثامن عشر ربيع الآخر وقيل جمادى الأولى توفي أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب والأندلس بمدينة سلا وكان قد سار إليها من مراكش وكان قد بنى مدينة محاذية لسلا وسماها المهدية من أحسن البلاد وأنزهها فسار إليها يشاهدها فتوفي بها وكانت ولايته خمس عشر سنة وكان ذا جهاد للعدو ودين حسن وسيرة وكان يتظاهر بمذهب الظاهرية وأعرض عن مذهب مالك فعظم أمر الظاهرية في أيامه وكان بالمغرب منهم خلق كثير يقال لهم الجرمية منسوبون إلى ابن محمد بن حزم رئيس الظاهرية إلا أنهم مغمورون
145 بالمالكية ففي أيامه ظهروا وانتشروا ثم في آخر أيامه استقضى الشافعية على بعض البلاد ومال إليهم. ولما مات قام ابنه أبو عبد الله محمد بالملك بعده وكان أبوه قد ولاه عهد في حياته، فاستقام الملك له وأطاعه الناس، وجهز جمعا من العرب وسيرهم إلى الأندلس احتياطا من الفرنج. ذكر عصيان أهل المهدية على يعقوب وطاعتها لولده محمد كان أبو يوسف يعقوب صاحب المغرب، لما عاد من إفريقية كما ذكرناه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة استعمل أبا سعيد عثمان وأبا علي يوسف بن عمر اينتي وهما وأبوهما من أعيان الدولة فولى عثمان مدينة تونس وولى أخاه المهدية وجعل قائد الجيش بالمهدية محمد بن عبد الكريم وهو شجاع مشهور فعظمت نكايته في العرب فلم يبق منهم إلا من يخافه. فاتفق انه أتاه الخبر بأن طائفة من عوف نازلين بمكان فخرج إليهم وعدل عنهم حتى جازهم ثم اقبل عائدا يطلبهم وأتاهم الخبر بخروجه إليهم فهربوا من بين يديه فلقيهم أمامهم فهربوا وتركوا المال والعيال من غير قتال فأخذ الجميع ورجع إلى المهدية وسلم العيال إلى الوالي وأخذ من الأسلاب والغنيمة ما شاء وسلم الباقي إلى الوالي وإلى الجند. ثم إن العرب من بني عوف قصدوا أبا سعيد بن عمر اينتي فوجدوا
146 وصاروا من حزب الموحدين واستجاروا به في رد عيالهم وأموالهم فأحضر محمد بن عبد الكريم وأمره بإعادة ما أخذ لهم من النعم فقال أخذه الجند ولا أقدر على رده فأغلظ له في القول وأراد أن يبطش به فاستمهله إلى ان يرجع إلى المهدية ويسترد من الجند ما يجده عندهم وما عدم منه غرم العوض عنه من ماله فأمهله فعاد إلى المهدية وهو خائف فلما وصلها جمع أصحابه وأعلمهم ما كان من أبي سعيد وحالفهم على موافقته فحلفوا له فقبض على أبي علي يونس وتغلب على المهدية وملكها فأرسل اليه أبو سعيد في معنى اطلاق أخيه يونس فأطلقه على اثني عشر ألف دينار فلما أرسلها إليه أبو سعيد فرقها في الجند وأطلق يونس وجمع أبو سعيد العساكر وأراد قصد محاصرته فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى علي بن اسحق الملثم فحالفه واعتضد به فامتنع أبو سعيد من قصده. ومات يعقوب وولي ابنه محمد فسير عسكرا مع عمه في البحر وعسكرا آخر في البر مع ابن عمه الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن فلما وصل عسكر البحر إلى بجاية وعسكر السير إلى قسنطينة الهوى هرب الملثم ومن معه من العرب من بلاد إفريقية إلى الصحراء ووصل الأسطول إلى المهدية فشكا محمد بن عبد الكريم ما لقي من أبي سعيد وقال أنا على طاعة أمير المؤمنين محمد ولا أسلمها إلى أبي سعيد وإنما أسلمها إلى من يرسله أمير المؤمنين فأرسل محمد من يتسلمها منه وعاد إلى الطاعة.
147 ذكر رحيل عسكر الملك العادل عن ماردين في هذه السنة زال الحصار عن ماردين ورحل عسكر الملك العادل عنها مع ولده الملك الكامل وسبب ذلك أن الملك العادل لما حصر ماردين عظم ذلك على نور الدين صاحب الموصل وغيره من ملوك ديار بكر والجزيرة وخافوا إن ملكها لا يبقي عليهم إلا أن العجز عن منعه حملهم على طاعته فلما توفي العزيز صاحب مصر وملك الأفضل مصر كما ذكرناه وبينه وبين العادل اختلاف فأرسل أخذ عسكر مصر من عنده وأرسل إلى نور الدين صاحب الموصل وغيره من الملوك يدعوهم إلى موافقته فأجابوه إلى ذلك فلما رحل الملك العادل عن ماردين إلى دمشق كما ذكرناه برز نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عنها ثاني شعبان وسار إلى دنيسر فنزل عليها ووافقه ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود صاحب سنجار وابن عمه الآخر سنجر شاه بن غازي بن مودود صاحب جزيرة ابن عمر فاجتمعوا كلهم بدنيسر إلى أن عيدوا عيد الفطر ثم ساروا عنها سادس شوال ونزلوا بحرزم وتقدم العسكر إلى تحت الجبل ليرتادوا موضعا للنزول. وكان أهل ماردين قد عدمت الأقوات عندهم وكثرت الأمراض فيهم حتى أن كثيرا منهم كان لا يطيق القيام فلما رأى النظام وهو الحاكم في دولة صاحبها ذلك ارسل إلى ابن العادل في تسليم القلعة إليه إلى أجل معلوم ذكره على شرط أن يتركهم يدخل إليهم من الميرة ما يقوتهم حسب فأجابهم إلى ذلك وتحالفوا عليه ورفعوا أعلامهم إلى رأس القلعة وجعل ولد العادل
148 بباب القلعة أميرا لا يترك يدخلها من الأطعمة إلا ما يكفيهم يوما بيوم فأعطى من بالقلعة ذلك الأمير شيئا فمكنهم من إدخال الذخائر الكثيرة. فبينما هم كذلك إذ أتاهم خبر وصول نور الدين صاحب الموصل فقويت نفوسهم وعزموا على الامتناع فلما تقدم عسكره إلى ذيل جبل ماردين قدر الله تعالى أن الملك الكامل بن العادل نزل بعسكره من ربض ماردين إلى لقاء نور الدين وقتاله ولو أقاموا بالربض لم يمكن نور الدين ولا غيره الصعود إليهم ولا إزالتهم لكن نزلوا ليقضي الله أمرا كان مفعولا فلما أصحروا من الجبل اقتتلوا وكان من عجيب الاتفاق ان قطب الدين صاحب سنجار كان قد واعد العسكر العادلي أن ينهزم إذا التقوا ولم يعلم بذلك أحدا من العسكر فقدر الله تعالى أنه لما نزل العسكر العادلي واصطفت العساكر للقتال ألجأت قطب الدين الضرورة بالزحمة إلى أن وقف في سفح بجبل ماردين ليس اليه طريق للعسكر العادلي ولا يرى الحرب الواقعة بينهم وبين نور الدين ففاته ما أراده من الانهزام فلما التقى العسكران واقتتلوا حمل ذلك اليوم نور الدين بنفسه واصطلى الحرب، [فألقى] الناس أنفسهم بين يديه فانهزم العسكر العادلي وصعدوا في الجبل إلى الربض، وأسر منهم كثير فحملوا إلى بين يدي نور الدين فأحسن إليهم ووعدهم الإطلاق إذا انفصلوا ولم يظن أن الملك الكامل ومن معه يرحلون عن ماردين سريعا فجاءهم أمر لم يكن في الحساب فإن الملك الكامل لما صعد إلى الربض رأى أهل القلعة قد نزلوا إلى الذين جعلوهم بالربض من العسكر فقاتلوهم ونالوا منهم ونهبوا فألقى الله الرعب في قلوب الجميع فأعملوا رأيهم على مفارقة الربض ليلا فرحلوا ليلة الاثنين سابع شوال وتركوا كثيرا من أثقالهم ورحالهم وما أعدوه فأخذه أهل القلعة، ولو ثبت العسكر العادلي
149 مكانه لم يمكن أحدا أن يقرب منهم. ولما رحلوا نزل صاحب ماردين حسام الدين يولق بن إيلغازي إلى نور الدين ثم عاد إلى حصنه وعاد أتابك إلى دنيسر ورحل عنها إلى رأس عين على عزم قصد حران وحصرها فأتاه رسول من الملك الظاهر يطلب الخطبة والسكة وغير ذلك فتغيرت نية نور الدين وفتر عزمه عن حصرها فعزم على العود إلى الموصل فهو يقدم إلى العود رجلا ويؤخر أخرى إذ اصابه مرض فتحقق عزم العود إلى الموصل فعاد إليها وأرسل رسولا إلى الملك الأفضل والملك الظاهر يعتذر عن عوده بمرضه فوصل الرسول ثاني ذي الحجة إليهم وهم على دمشق. وكان عود نور الدين من سعادة الملك العادل فإنه كان وكل من عنده ينتظرون ما يجيء من أخباره فإن من بحران استسلموا فقدر الله تعالى أنه عاد فلما عاد جاء الملك الكامل إلى حران وكان قد سار عن ماردين إلى ميافارقين فلما رجع نور الدين سار الكامل إلى حران وسار إلى أبيه بدمشق على ما ذكرناه فازداد به قوة والأفضل ومن معه ضعفا.
150 ذكر الفتنة بفيروز وزكوه من خراسان في هذه السنة كانت فتنة عظيمة بعسكر غياث الدين ملك الغور وغزنة وهو بفيروزكوه عمت الرعية والملوك والأمراء وسببها أن الفجر محمد بن عمر بن الحسين الرازي الإمام المشهور الفقيه الشافعي كان قدم إلى غياث الدين مفارقا لبهاء الدين سام صاحب باميان وهو ابن أخت غياث الدين فأكرمه غياث الدين واحترمه وبالغ في إكرامه وبنى له مدرسة بهراة بالقرب من الجامع فقصده الفقهاء من البلاد فعظم ذلك على الكرامية وهو كثيرون بهراة وأما الغورية فكلهم كرامية وكرهوه وكان أشد الناس عليه الملك ضياء الدين وهو ابن عم غياث الدين وزوج ابنته فاتفق أن حضر الفقهاء من الكرامية والحنفية والشافعية عند غياث الدين بفيروزكوه للمناظرة وحضر فخر الدين الرازي والقاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر المعروف بابن القدوة وهو من الكرامية الهيصمية وله عندهم محل كبير لزهده وعلمه وبيته فتكلم الرازي فاعترض عليه ابن القدوة وطال الكلام فقام غياث الدين فاستطال عليه الفخر وسبه وشتمه وبالغ في أذاه وابن القدوة لا يزيد على أن يقول لا يفعل مولانا وأخذك الله استغفر الله فانفصلوا على هذا. وقام ضياء الدين في هذه الحادثة وشكر إلى غياث الدين وذم الفخر ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة فلم يصغ غياث الدين إليه فلما كان الغد وعظ ابن عمر المجد بن القدوة بالجامع فلما صعد المنبر قال بعد أن حمد الله وصلى على النبي، صلى الله عليه وسلم،: لا إله إلا الله، ربنا آمنا
151 بما أنزلت، واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأما علم أرسطاطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وعن سنة نبيه وبكى وضج الناس وبكى الكرامية واستغاثوا وأعانهم من يؤثر بعد الفخر الرازي عن السلطان وثار الناس من كل جانب وامتلأ البلد فتنة وكادوا يقتتلون ويجري ما يهلك فيه خلق كثير فبلغ ذلك السلطان فأرسل جماعة من عنده إلى الناس وسكنهم ووعدهم بإخراج الفخر من عندهم وتقدم إليه بالعود إلى هراة فعاد إليها. ذكر مسير خوارزم شاه إلى الري في هذه السنة في ربيع الأول سار خوارزم شاه علاء الدين تكش إلى الري وغيرها من بلاد الجبل لأنه بلغه أن نائبه بها مياجق قد تغير عن طاعته فسار إليه فخافه مياجق فجعل يفر من بين يديه وخوارزم شاه في طلبه يدعوه إلى الحضور عنده وهو يمتنع فاستأمن من أكثر أصحابه إلى خوارزم شاه وهرب هو فحصل بقلعة من أعمال مازندران فامتنع بها فسارت العساكر في طلبه فأخذ منها وأحضر بين يدي خوارزم شاه فأمر بحبسه بشفاعة أخيه أقجة. وسيرت الخلع من الخليفة لخوارزم شاه ولولده قطب الدين محمد،
152 وتقليد ما بيده من البلاد فلبس الخلعة واشتغل بقتال الملاحدة فافتتح قلعة على باب قزوين تسمى أرسلان كشاه وانتقل إلى حصار الموت فقتل عليها صدر الدين محمد بن الوزان رئيس الشافعية بالري وكان قد تقدم عنده تقدما عظيما قتله الملاحدة وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم فوثب الملاحدة على وزيره نظام الملك مسعود بن علي فقتلوه في جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين [خمسمائة]، فأمر تكش ولده قطب الدين بقصد الملاحدة فقصد قلعة ترشيش وهي من قلاعهم فحصرها فأذعنوا له بالطاعة وصالحوه على مائة ألف دينار ففارقها وإنما صالحهم لأنه بلغه خبر مرض أبيه وكانوا يراسلونه بالصلح فلا يفعل فلما سمع بمرض أبيه لم يرحل حتى صالحهم على المال المذكور والطاعة ورحل. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الأول توفي مجاهد الدين قايماز رحمه الله بقلعة الموصل وهو الحاكم في دولة نور الدين والمرجوع إليه فيها وكان ابتداء ولايته قلعة الموصل في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وولي إربل سنة تسع [وخمسين] وخمسمائة فلما مات زين الدين علي كوجك سنة ثلاث وستين [خمسمائة] بقي هو الحاكم فيها ومعه من يختاره من أولاد زين الدين ليس لواحد منهم معه حكم. وكان عاقلا أديبا خبيرا فاضلا يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة ويحفظ من التاريخ والأشعار والحكايات شيئا كثيرا وكان كثير
153 الصوم يصوم من كل سنة نحو أربعة أشهر وله أوراد كثيرة حسنة كل ليلة ويكثر الصدقة وكان له فراسة حسنة فيمن يستحق الصدقة ويعرف الفقير المستحق ويبرهم وبنى عدة جوامع منها الجامع الذي بظاهر الموصل بباب الجسر وبنى الربط والمدارس والخانات في الطرق وله من المعروف شيء كثير رحمه الله فلقد كان من محاسن الدنيا. وفيها فارق غياث الدين صاحب غزنة وبعض خراسان مذهب الكرامية وصار شافعي المذهب وكان سبب ذلك انه كان عنده إنسان يعرف بالفخر مبارك شاه يقول الشعر بالفارسية متفننا في كثير من العلوم فأوصل إلى غياث الدين الشيخ وجيه الدين أبا الفتح محمد بن محمود المروروذي الفقيه الشافعي فوضح له مذهب الشافعي وبين له فساد مذهب الكرامية فصار شافعيا وبنى المدارس للشافعية وبنى بغزنة مسجدا لهم أيضا وأكثر مراعاتهم فسعى الكرامية في أذى وجيه الدين فلم يقدرهم الله تعالى على ذلك. وقيل إن غياث الدين وأخاه شهاب الدين لما ملكا في خراسان قيل لهما إن الناس في جميع البلاد يزرون على الكرامية ويحتقرونهم والرأي أن تفرقا مذاهبهم فصارا شافعيين وقيل إن شهاب الدين كان حنفيا والله أعلم. وفي هذه السنة توفي أبو القاسم يحيى بن علي بن فضلان الفقيه الشافعي وكان إماما فاضلا ودرس ببغداد وكان من أعيان أصحاب محمد بن يحيى نجي النيسابوري.
154 596 ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة ذكر ملك العادل الديار المصرية قد ذكرنا سنة خمس وتسعين [خمسمائة] حصر الأفضل والظاهر ولدي صلاح الدين دمشق ورحيلهما إلى رأس الماء على عزم المقام بحوران إلى أن يخرج الشتاء فلما أقاموا برأس الماء وجد العسكر بردا شديدا لأن البرد في ذلك المكان في الصيف موجود فكيف في الشتاء فتغير العزم على المقام واتفقوا على أن يعود كل إنسان منهم إلى بلده ويعودوا إلى الاجتماع فتفرقوا تاسع ربيع الأول فعاد الظاهر وصاحب حمص إلى بلادهما وسار الأفضل إلى مصر فوصل بلبيس فأقام بها ووصلته الأخبار بأن عمه الملك العادل قد سار من دمشق قاصدا مصر ومعه المماليك الناصرية وقد حلفوه أن يكون ولد الملك العزيز هو صاحب البلاد وهو المدبر للملك إلى أن يكبر فساروا على هذا. وكان عسكره بمصر قد تفرق عن الأفضل من الخشبي فسار كل منهم إلى أقطاعه ليربعوا دوابهم فرام الأفضل جمعهم من أطراف البلاد فأعجله الأمر عن ذلك ولم يجتمع منهم إلا طائفة يسيرة ممن قرب أقطاعه ووصل العادل فأشار بعض الناس على الأفضل أن يخرب سور بلبيس ويقيم بالقاهرة وأشار غيرهم بالتقدم إلى أطراف البلاد ففعل ذلك فسار عن بلبيس ونزل موضعا يقال له السائح في طرف البلاد والتقى هو والعادل سابع ربيع الآخر فانهزم الأفضل ودخل القاهرة ليلا.
155 وفي تلك الليلة توفي القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني كاتب الإنشاء لصلاح الدين ووزيره فحضر الأفضل الصلاة عليه وسار العادل فنزل على القاهرة وحصرها فجمع الأفضل من عنده من الأمراء واستشارهم فرأى منهم تخاذلا فأرسل رسولا إلى عمه في الصلح وتسليم البلاد وأخذ العوض عنها وطلب دمشق فلم يجبه فنزل عنها إلى حران والرها فلم يجبه فنزل إلى ميافارقين وحاني وجبل جور فأجابه إلى ذلك وتحالفوا عليه وخرج الأفضل من مصر ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر. واجتمع بالعادل وسار إلى صرخد ودخل العادل إلى القاهرة يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر ولما وصل الأفضل إلى صرخد أرسل من تسلم ميافارقين وحاني وجبل جور فامتنع نجم الدين أيوب بن الملك العادل من تسليم ميافارقين وسلم ما عداها فترددت الرسل بين الأفضل والعادل في ذلك والعادل يزعم أن ابنه عصاه فأمسك عن المراسلة في ذلك لعلمه أن هذا فعل بأمر العادل. ولما ثبت قدم العادل بمصر قطع خطبة الملك المنصور ابن الملك العزيز في شوال من السنة وخطب لنفسه وحاقق الجند في اقطاعاتهم واعترضهم في أصحابهم ومن عليهم من العسكر المقرر فتغيرت لذلك نياتهم فكان ما نذكره سنة سبع وتسعين [خمسمائة] إن شاء الله. ذكر وفاة خوارزم شاه في هذه السنة في العشرين من رمضان توفي خوارزم شاه تكش بن أرسلان صاحب خوارزم وبعض خراسان والري وغيرها من البلاد
156 الجبالية، بشهرستانة بين نيسابور وخوارزم وكان قد سار من خوارزم إلى خراسان وكان به خوانيق فأشار عليه الأطباء بترك الحركة فامتنع وسار فلما بلغ شهرستانة اشتد مرضه ومات ولما اشتد مرضه أرسلوا إلى ابنه قطب الدين محمد يستدعونه ويعرفونه شدة مرض أبيه فسار إليهم وقد مات أبوه فولي الملك بعده ولقب علاء الدين لقب أبيه وكان لقبه قطب الدين وأمر فحمل أبوه ودفن بخوارزم في تربة عملها في مدرسة بناها كبيرة عظيمة وكان عادلا حسن السيرة له معرفة حسنة وعلم يعرف الفقه على مذهب أبي حنيفة ويعرف الأصول. وكان ولده علي شاه بأصفهان فأرسل إليه أخوه خوارزم شاه محمد يستدعيه فسار إليه فنهب أهل أصفهان خزانته ورحله فلما وصل إلى أخيه ولاه حرب خراسان والتقدم على جندها وسلم إليه نيسابور وكان هندوخان [بن] ملك شاه بن خوارزم شاه تكش يخاف عمه محمدا فهرب منه ونهب كثيرا من خزائن جده تكش لما مات وكان معه وسار إلى مرو. ولما سمع غياث الدين ملك غزنة وفاة خوارزم شاه أمر أن لا تضرب نوبته ثلاثة أيام وجلس للعزاء على ما بينهما من العداوة والمحاربة فعل ذلك عقلا منه ومروءة ثم ان هندوخان جمع جمعا كثيرا بخراسان فسير إليه عمه خوارزم شاه جيشا مقدمهم جقر التركي فلما سمع هندوخان بمسيرهم هرب عن خراسان وسار إلى غياث الدين يستنجده على عمه فأكرم لقاءه وإنزاله وأقطعه ووعده النصرة فأقام عنده ودخل جقر مدينة مرو وبها والدة هندوخان وأولاده فاستظهر عليهم وأعلم صاحبه فأمره بإرسالهم إلى خوارزم مكرمين فلما سمع غياث الدين ذلك أرسل إلى محمد بن جربك،
157 صاحب الطالقان، يأمره أن يرسل [إلى] جقر يتهدده ففعل وسار من الطالقان فأخذ مرو الروذ والخمس قرى وتسمى بالفارسية بنج ده وأرسل إلى جقر يأمره بإقامة الخطبة بمرو لغياث الدين أو يفارق البلد فأعاد الجواب يتهدد ابن جربك ويتوعده وكتب إليه سرا يسأله أن يأخذ له أمانا من غياث الدين ليحضر خدمته فكتب إلى غياث الدين بذلك فلما قرأ كتابه علم أن خوارزم شاه ليس له قوة فلهذا طلب جقر الانحياز إليه فقوي طمعه في البلاد وكتب إلى أخيه شهاب الدين يأمره بالخروج إلى خراسان ليتفقا على أخذ بلاد خوارزم شاه محمد. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في جمادى الآخرة وثب الملاحدة الإسماعيلية على نظام الملك مسعود بن علي وزير خوارزم شاه تكش فقتلوه وكان صالحا كثير الخير حسن السيرة شافعي المذهب بنى للشافعية بمرو جامعا مشرفا على جامع الحنفية فتعصب شيخ الإسلام [بمرو] وهو مقدم الحنابلة بها فيهم والرياسة وجمع الأوباش فأحرقه فأنفذ خوارزم شاه فأحضر شيخ الإسلام وجماعة ممن سعى في ذلك فأغرمهم مالا كثيرا. وبنى الوزير أيضا مدرسة عظيمة بخوارزم وجامعا وجعل فيها خزانة كتب وله آثار حسنة بخراسان باقية ولما مات خلف ولدا صغيرا فاستوزره خوارزم
158 شاه رعاية لحق أبيه فأشير عليه أن يستعفي فأرسل يقول إنني صبي لا أصلح لهذا المنصب الجليل فيولي السلطان فيه من يصلح له أن أكبر فإن كنت أصلح فأنا المملوك فقال خوارزم شاه لست أعفيك وأنا وزيرك فكن مراجعي في الأمور فإنه لا يقف منها شيء فاستحسن الناس هذا ثم إن الصبي لم تطل أيامه فتوفى قبل خوارزم شاه بيسير. وفي هذه السنة في ربيع الأول توفي شيخنا أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب ابن كليب الحراني المقيم ببغداد وله ست وتسعون سنة وشهران وكان عالي الإسناد في الحديث وكان ثقة صحيح السماع. وفي ربيع الآخر منها توفي القاضي عبد الرحيم البيساني الكاتب لم يكن في زمانه أحسن كتابة منه ودفن بظاهر مصر بالقرافة وكان دينا كثير الصدقة والعبادة وبه وقوف كثيرة على الصدقة وفك الأسارى وكان يكثر الحج والمجاورة مع اشتغاله بخدمة السلطان وكان السلطان صرح الدين يعظمه ويحترمه ويكرمه ويرجع إلى قوله رحمهما الله.
159 595 ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة ذكر ملك الملك الظاهر صاحب حلب منبج وغيرها من الشام وحصره هو وأخوه الأفضل مدينة دمشق وعودهما عنها قد ذكرنا قبل ملك العادل ديار مصر وقطعه خطبة الملك المنصور ولد الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب وأنه لما فعل ذلك لم يرضه الأمراء المصريون وخبث نياتهم في طاعته فراسلوا أخويه الظاهر بحلب والأفضل بصرخد وتكررت المكاتبات والمراسلات بينهم يدعونهما إلى قصد دمشق وحصرها ليخرج الملك العادل إليهم فإذا خرج إليهم [من] مصر أسلموه وصاروا معهما فيملكان البلاد. وكثر ذلك حتى فشا الخبر واتصل بالملك العادل وانضاف إلى ذلك أن النيل لم يزد بمصر الزيادة التي تركب الأرض ليزرع الناس فكثر الغلاء فضعفت قوة الجند وكان فخر الدين جهاركس قد فارق مصر إلى الشام هو وجماعة من المماليك الناصرية لحصار بانياس ليأخذها لنفسه بأمر العادل وكانت لأمير كبير تركي اسمه بشارة قد اتهمه العادل فأمر جهاركس بذلك. وكان أمير من أمراء العادل يعرف بعز الدين اسامة قد حج هذه السنة، فلما
160 عاد من الحج وقارب صرخد نزل الملك الأفضل فلقيه وأكرمه ودعاه إلى نفسه فأجابه وحلف له وعرفه الأفضل جلية الحال وكان أسامة من بطانة العادل وإنما حلف لينكشف له الأمر فلما فارق الأفضل أرسل إلى العادل وهو بمصر يعرفه الخبر جميعه فأرسل إلى ولده الذي بدمشق يأمره بحصر الأفضل بصرخد وكتب إلى إياس جركس وميمون القصرى صاحب بلبيس وغيرهما من الناصرية يأمرهم بالاجتماع مع ولده على حصر الأفضل. وسمع الأفضل الخبر فسار إلى أخيه الظاهر بحلب مستهل جمادى الأولى من السنة ووصل إلى حلب عاشر الشهر، وكان الظاهر قد أرسل أميرا كبيرا من أمرائه إلى عمه العادل فمنعه العادل من الوصول إليه وأمره بأن يكتب رسالته فلم يفعل وعاد لوقته فتحرك الظاهر لذلك وجمع عسكره وقصد منبج فملكها السادس والعشرين من رجب، وسار إلى قلعة نجم وحصرها فتسلمها سلخ رجب. وأما الملك المعظم عيسى بن العادل المقيم بدمشق فإنه سار إلى بصرى وأرسل إلى جهاركس ومن معه وهم على بانياس يحصرونها يدعوهم إليه فلم يجيبوه إلى ذلك بل غالطوه فلما طال مقامه على بصرى عاد إلى دمشق وأرسل الأمير أسامة إليهم يدعوهم إلى مساعدته فاتفق أنه جرى بينه وبين البكاء الفارس بعض المماليك الكبار الناصرية منافرة أغلظ له البكاء القول وتعدى إلى الفعل باليد وثار العسكر جميعه على أسامة فاستذم بميمون فأمنه وأعاده إلى دمشق واجتمعوا كلهم عند الملك الظافر خضر بن صلاح الدين وأنزلوه من صرخد وأرسلوا إلى الملك الظاهر والأفضل يحثونهما على الوصول إليهم والملك الظاهر يتربص ويتعوق فوصل من منبج إلى حماة في عشرين يوما،
161 وأقام على حماة يحصرها وبها صاحبها ناصر الدين بن تقي الدين إلى تاسع عشر رمضان فاصطلحا وحمل له ابن تقي الدين ثلاثين ألف دينار صورية وساروا عنها إلى حمص وسار منها إلى دمشق على طريق بعلبك فنزلوا عليها عند مسجد القدم فلما نزلوا على دمشق أتاهم المماليك الناصرية مع الملك الظافر خضر بن صلاح الدين وكانت القاعدة استقرت بين الظاهر وأخيه الأفضل أنهم إذا ملكوا دمشق تكون بيد الأفضل ويسيرون إلى مصر فإذا ملكوها تسلم الظاهر دمشق فيبقى الشام جميعه له وتبقى مصر للأفضل، وسلم الأفضل صرخد إلى زين الدين قراجة مملوك والده ليحضر في خدمته وأنزل والدته وأهله منها وسيرهم إلى حمص فأقاموا عند أسد الدين شيركوه صاحبها. وكان الملك العادل قد سار من مصر إلى الشام فنزل [على] مدينة نابلس وسير جمعا من العسكر إلى دمشق ليحفظها فوصلوا قبل وصول الظاهر والأفضل وحضر فخر الدين جهاركس وغيره من الناصرية فوصلوا قبل وصول الظاهر والأفضل وزحفوا إلى دمشق وقاتلوها رابع عشر ذي القعدة واشتد القتال عليها فالتصق الرجال بالسور فأدركهم الليل فعادوا وقد قوي الطمع في أخذها ثم زحفوا إليها مرة ثانية وثالثة فلم يبق إلا ملكها لأن العسكر صعد إلى سطح خان ابن المقدم وهو ملاصق السور فلو لم يدركهم الليل لملكوا البلد فلما أدركهم الليل وهم عازمون على الزحف بكرة وليس لهم عن البلد مانع حسد الظاهر أخاه الأفضل فأرسل إليه يقول له تكون
162 دمشق له وبيده ويسير العساكر معه إلى مصر فقال له الأفضل قد علمت أن والدتي وأهلي وهم أهلك أيضا على الأرض ليس لهم موضع يأوون إليه فاحسب أن هذا البلد لك تعيرنا إياه ليسكنها أهلي هذه المدة إلى أن يملك مصر. فلم يجبه الظاهر في ذلك ولج فلما رأى الأفضل ذلك الحال قال للناصرية وكل من جاء إليهم من الجند إن كنتم جئتم إلي فقد أذنت لكم في العود إلى العادل وإن كنت جئتم إلى أخي الظاهر فأنتم وهو أخبر وكان الناس كلهم يريدون الأفضل فقالوا ما نريد سواك والعادل أحب إلينا من أخيك فأذن لهم في العود فهرب فخر الدين جهاركس وزير الدين قراجة الذي أعطاه الأفضل صرخد فمنهم من دخل دمشق ومنهم من عاد إلى أقطاعه فلما انفسخ الأمر عليهم عادوا إلى تجديد الصلح مع العادل فترددت الرسل بينهم واستقر الصلح على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب وقرى معينة من المعرة ويكون للأفضل سميساط وسروج ورأس العين وحملين ورحلوا عن دمشق أول المحرم سنة ثمان وتسعين [وخمسمائة] فقصد الأفضل حمص فأقام بها وسار الظاهر إلى حلب ووصل العادل إلى دمشق تاسع المحرم وسار الأفضل إليه من حمص فاجتمع به بظاهر دمشق وعاد من عنده إلى حمص وسار منها ليتسلم سميساط فتسلمها وتسلم باقي ما استقر له برأس العين وسروج وغيرها.
163 ذكر ملك غياث الدين وأخيه ما كان لخوارزم شاه بخراسان قد ذكرنا مسير محمد بن خرميل من الطالقان واستيلاءه على مرو الروذ وسؤال جقر التركي نائب علاء الدين محمد خوارزم شاه بمرو أن يكون في جملة عسكر غياث الدين ولما وصل كتاب ابن خرميل إلى غياث الدين في معنى جقر علم أن هذا إنما دعاه إلى الانتماء إليهم ضعف صاحبه فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يستدعيه إلى خراسان فسار من غزنة في عساكره وجنوده وعدته وما يحتاج إليه. وكان بهراة الأمير عمر بن محمد المرغني نائبا عن غياث الدين وكان يكره خروج غياث الدين إلى خراسان فأحضره غياث الدين واستشاره فأشار بالكف عن قصدها وترك المسير إليها فأنكر عليه ذلك وأراد إبعاده عنه ثم تركه ووصل شهاب الدين في عساكره وعساكر سجستان وغيرها في جمادى الأولى من هذه السنة فلما وصلوا إلى ميمنة وهي قرية بين الطالقان وكرزبان وصل إلى شهاب الدين كتاب جقر مستحفظ مرو يطلبه ليسلمها اليه فاستأذن أخاه غياث الدين فأذن له فسار إليها فخرج أهلها مع العسكر الخوارزمي وقاتلوه فأمر أصحابه بالحملة عليهم والجد في قتالهم فحملوا عليهم فأدخلوهم البلد وزحفوا بالفيلة إلى ان قاربوا السور فطلب أهل البلد الأمان فأمنهم وكف الناس عن التعرض إليهم وخرج جقر إلى شهاب الدين فوعده الجميل.
164 ثم حضر غياث الدين إلى مرو بعد فتحها فأخذ جقر وسيره إلى هراة مكرما وسلم مرو إلى هندوخان ابن ملك شاه بن خوارزم شاه تكش وقد ذكرنا هربه من عمه خوارزم شاه محمد بن تكش إلى غياث الدين ووصاه بالإحسان إلى أهلها. ثم سار غياث الدين إلى مدينة سرخس فأخذها صلحا وسلمها إلى الأمير زنكي بن مسعود وهو من أولاد عمه وأقطعه معها نسا وأبيورد ثم سار بالعساكر إلى طوس فأراد الأمير الذي بها أن يمتنع فيها ولا يسلمها فأغلق باب البلد ثلاثة أيام فبلغ الخبر ثلاثة أمناء بدينار ركني فضج أهل البلد عليه فأرسل إلى غياث الدين يطلب الأمان فأمنه فخرج إليه فخلع عليه وسيره إلى هراة ولما ملكها أرسل إلى علي شاه بن خوارزم شاه تكش وهو نائب أخيه علاء الدين محمد بنيسابور يأمره بمفارقة البلد ويحذره إن أقام سطوة أخيه شهاب الدين وكان مع علي شاه عسكر من خوارزم شاه فاتفقوا على الامتناع من تسليم البلد وحصره وخربوا ما بظاهره من العمارة وقطعوا الأشجار وسار غياث الدين إلى نيسابور فوصل إليها أوائل رجب وتقدم عسكر أخيه شهاب الدين إلى القتال فلما رأى غياث الدين ذلك قال لولده محمود قد سبقنا عسكر غزنة بفتح مرو وهم يريدون يفتحون نيسابور فيحصلون بالاسم فاحمل إلى البلد ولا ترجع حتى تصل السور فحمل وحمل معه وجوه الغورية فلم يردهم أحد عن السور حتى اصعدوا علم غياث الدين اليه فلما رأى شهاب الدين علم أخيه على السور قال لأصحابه اقصدوا بنا هذه الناحية واصعدوا السور من ههنا وأشار إلى مكان فيه فسقط السور متهدما فضج الناس بالتكبير وذهل الخوارزميون وأهل البلد ودخل الغورية البلد وملكوه عنوة ونهبوه
165 ساعة من نهار، فبلغ الخبر إلى غياث الدين فأمر بالنداء: من نهب مالا أو آذى أحدا فدمه حلال؛ فأعاد الناس ما نهبوه عن آخره. ولقد حدثني بعض أصدقائنا من التجار وكان بنيسابور في هذه الحادثة نهب من متاعي شيء من جملته سكر فلما سمع العسكر النداء ردوا جميع ما أخذوا مني وبقي لي بساط وشئ من السكر مع جماعة فطلبته منهم فقالوا أما السكر فأكلناه فنسألك ان لا يسمع أحد وإن أردت ثمنه أعطيناك فقلت أنتم في حل منه ولم يكن البساط مع أولئك قال فمشيت إلى باب البلد مع النظارة فرأيت البساط الذي لي قد ألقي عند باب البلد لم يجسر أحد يأخذه فأخذته وقلت هذا لي فطلبوا مني من يشهد به فأحضرت من شهد لي وأخذته. ثم إن الخوارزميين تحصنوا بالجامع فأخرجهم أهل البلد فأخذهم الغورية ونهبوا مالهم وأخذ علي شاه بن خوارزم شاه وأحضر عند غياث الدين راجلا فأنكر ذلك على من أحضره وعظم الأمر فيه وحضرت دابة كانت لعلي شاه وقال لغياث الدين أهكذا يفعل بأولاد الملوك فقال لا بل هكذا وأخذ بيده وأقعده معه على السرير وطيب نفسه وسير جماعة الأمراء الخوارزمية إلى هراة تحت الاستظهار وأحضر غياث الدين ابن عمه وصهره على ابنة ضياء الدين محمد بن أبي الغوري وولاه حرب خراسان وخراجها ولقبه علاء الدين وجعل معه وجوه الغورية ورحل إلى هراة وسلم علي شاه إلى أخيه شهاب الدين وأحسن إلى أهل نيسابور وفرق فيهم مالا كثيرا. ثم رحل بعده شهاب الدين إلى ناحية قهستان فوصل إلى قرية فذكر
166 له أن أهلها إسماعيلية فأمر بقتل المقاتلة ونهب الأموال وسبى الذراري وخرب القرية فجعلها خاوية على عروشها ثم سار إلى كناباد وهي من المدن التي جميع أهلها إسماعيلية فنزل عليها وحصرها فأرسل صاحب قهستان إلى غياث الدين يشكو أخاه شهاب الدين ويقول بيننا عهد فما الذي بدا منا حتى تحاصر بلدي؟ واشتد خوف الإسماعيلية الذين بالمدينة من شهاب الدين فطلبوا الأمان ليخرجوا منه فأمنهم وأخرجهم وملك المدينة وسلمها إلى بعض الغورية فأقام بها الصلوات وشعار الإسلام ورحل شهاب الدين فنزل على حصن آخر للإسماعيلية وصل إليه رسول أخيه غياث الدين فقال الرسول معي تقدم من السلطان فلا يجري حردان فعلته فقال لا أرحل قال إذن أفعل ما أمرني قال افعل فسل سيفه وقطع اطناب سرادق شهاب الدين وقال ارحل بتقدم السلطان فرحل شهاب الدين والعسكر وهو كاره إلى بلد الهند ولم يقم بغزنة غضبا لما فعله أخوه معه. ذكر قصد نور الدين بلاد العادل والصلح بينهما في هذه السنة أيضا تجهز نور الدين أرسلان صاحب الموصل وجمع عساكره وسار إلى بلاد الملك العادل بالجزيرة حران والرها وكان سبب حركته أن الملك العادل لما ملك مصر على ما ذكرناه قبل اتفق نور الدين والملك الظاهر صاحب حلب وصاحب ماردين وغيرهما على أن يكونوا
167 يدا واحدة متفقين على منع العادل عن قصد أحدهم فلما تجدد حركة الأفضل والظاهر أرسلا إلى نور الدين ليقصد البلاد الجزرية فسار عن الموصل في شعبان من هذه السنة وسار معه ابن عمه قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي صاحب سنجار ونصيبين وصاحب ماردين ووصل إلى رأس العين وكان الزمان قيظا فكثرت الأمراض في عسكره. وكان بحران ولد للعادل يلقب بالملك الفائز ومعه عسكر يحفظ البلاد فلما وصل نور الدين إلى رأس العين جاءت رسل الفائز ومن معه أكابر الأمراء يطلبون الصلح ويرغبون فيه وكان نور الدين قد سمع بأن الصلح بدأ يتم بين الملك العادل والملك الظاهر والأفضل وانضاف إلى ذلك كثرة الأمراض في عسكره فأجاب إليه وحلف الملك الفائز ومن عنده من أكابر الأمراء على القاعدة التي استقرت وحلفوا انهم يحلفون الملك العادل له فإن امتنع كانوا معه عليه وحلف هو للملك العادل. وسارت الرسل من عنده ومن عند ولده في طلب اليمين من العادل فأجاب إلى ذلك وحلف له واستقرت القاعدة وأمنت البلاد وعاد نور الدين إلى الموصل في ذي القعدة من السنة.
168 ذكر ملك شهاب الدين نهرواله لما سار شهاب الدين من خراسان على ما ذكرناه لم يقم بغزنة وقصد بلاد الهند وأرسل مملوكه قطب الدين أيبك إلى نهرواله فوصلها سنة ثمان وتسعين [خمسمائة] فلقيه عسكر الهنود فقاتلوه قتالا شديدا فهزمهم أيبك واستباح معسكرهم ومالهم فيه من الدواب وغيرها وتقدم إلى نهرواله فملكها عنوة وهرب ملكها فجمع وحشد فكثر جمعه. وعلم شهاب الدين أنه لا يقدر على حفظها إلا بأن يقيم هو فيها ويخليها من أهلها فيتعذر عليه ذلك فإن البلد عظيم هو أعظم بلاد الهند وأكثرهم أهلا فصالح صاحبها على ما يؤديه إليه عاجلا وآجلا وأعاد عساكره عنها وسلمها إلى صاحبها. ذكر ملك ركن الدين ملطية من أخيه وأرزن الروم في هذه السنة في شهر رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان مدينة ملطية وكانت لأخيه معز الدين قيصرشاه فسار إليه وحصره أياما وملكها وسار منها إلى أرزن الروم وكانت لولد الملك ابن محمد بن صلتق وهم ببيت قد ملكوا أرزن الروم مدة طويلة فلما سار إليها وقاربها خرج صاحبها اليه ثقة به ليقرر معه الصلح على قاعدة يؤثرها ركن الدين فقبض عليه واعتقله عنده وأخذ البلد وكان هذا آخر أهل بيته الذين [ملكوا]، فتبارك الله الحي القيوم الذي لا يزول ملكه أبدا سرمدا.
169 ذكر وفاة سقمان صاحب آمد وملك أخيه محمود في هذه السنة توفي قطب الدين سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان صاحب آمد وحصن كيفا سقط من سطح جوسق كان له بظاهر حصن كيفا فمات وكان شديد الكراهة لأخيه هذا والنفور عنه قد أبعده وأنزله حصن منصور في آخر بلادهم واتخذ مملوكا اسمه إياس فزوجه أخته وأحبه حبا شديدا وجعله ولي عهده فلما توفي ملك بعده عدة أيام وتهدد وزيرا كان لقطب الدين وغيره من أمراء الدولة فأرسلوا إلى أخيه محمود سرا يستدعونه فسار مجدا فوصل إلى آمد وقد سبقه إليها إياس مملوك أخيه فلم يقدم على الامتناع فتسلم محمود البلاد جميعها وملكها وحبس المملوك فبقي مدة محبوسا ثم شفع له صاحب بلاد الروم فأطلق من الحبس وسار إلى الروم فصار أميرا من أمراء الدولة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة اشتد الغلاء بالبلاد المصرية لعدم زيادة النيل وتعذرت الأقوات حتى أكل الناس الميتة وأكل بعضهم بعضا ثم لحقهم عليه وباء وموت كثير أفنى الناس. وفي شعبان تزلزلت الأرض بالموصل وديار الجزيرة كلها والشام ومصر وغيرها فأثرت في الشام آثارا قبيحة وخربت كثيرا من الدور بدمشق وحمص وحماة وانخسفت قرية من قرى بصرى وأثرت في
170 الساحل الشامي أثرا كثيرا فاستولى الخراب على طرابلس وصور وعكا ونابلس وغيرها من القلاع ووصلت الزلزلة إلى بلد الروم وكانت بالعراق يسيرة لم تهدم دورا. وفيها ولد ببغداد طفل له رأسان وذلك ان جبهته مفروقة بمقدار ما يدخل فيها ميل. وفي هذه السنة في شهر رمضان توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي الحنبلي الواعظ ببغداد وتصانيفه مشهورة وكان كثير الوقيعة في الناس لا سيما في العلماء المخالفين لمذهبه والموافقين له وكان مولده سنة عشر وخمسمائة. وفيها أيضا توفي عيسى بن نصير النميري الشاعر وكان حسن الشعر وله أدب وفضل وكان موته ببغداد. وفيها توفي العماد أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله باللام المشددة المضمومة وهو العماد الكاتب الأصفهاني كتب لنور الدين محمود بن زنكي ولصلاح الدين يوسف بن أيوب رضي الله عنهما وكان كاتبا مفلقا قادرا على القول. وفيها جمع عبد الله بن حمزة العلوي المتغلب على جبال اليمن جموعا كثيرة فيها اثنا عشر ألف فارس ومن الرجالة ما لا يحصى كثرة وكان قد انضاف إليه من جند المعز بن إسماعيل بن سيف الإسلام طغدكين بن أيوب صاحب اليمن خوفا منه وأيقنوا بملك البلاد واقتسموها وخافهم ابن سيف الإسلام خوفا عظيما فاجتمع قواد عسكر ابن حمزة ليلا ليتفقوا على رأي يكون العمل بمقتضاه وكانوا اثني عشر قائدا فنزلت عليهم صاعقة أهلكتهم
171 جميعهم فأتى الخبر ابن سيف الإسلام في باقي الليلة بذلك فسار إليهم مجدا فأوقع بالعسكر المجتمع فلم يثبتوا له وانهزموا بين يديه ووضع السيف فيهم فقتل منهم ستة آلاف قتيل أو أكثر من ذلك وثبت ملكه واستقر بتلك الأرض. وفيها وقع في بني عنزة بأرض الشراة بين الحجاز واليمن وباء عظيم وكانوا يسكنون في عشرين قرية فوقع الوباء في ثمان عشرة قرية فلم يبق منهم أحد وكان الإنسان إذا قرب من تلك القرى يموت ساعة ما يقاربها فتحاماها الناس وبقيت إبلهم وأغنامهم لا مانع لها وأما القريتان الأخريان فلم يمت فيهما أحد ولا أحسوا بشيء مما كان فيه أولئك.
172 598 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ذكر ملك خوارزم شاه ما كان أخذه الغورية من بلاده قد ذكرنا في سنة وتسعين [خمسمائة] ملك غياث الدين وأخيه شهاب الدين ما كان لخوارزم شاه محمد بن تكش بخراسان ومرو ونيسابور وغيرها وعودهما عنها بعد إن أقطعا البلاد ومسير شهاب الدين إلى الهند؛ فلما اتصل بخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش عود العساكر الغورية عن خراسان ودخول شهاب الدين الهند أرسل إلى غياث الدين يعاتبه ويقول كنت اعتقد أن تخلف علي بعد أبي وان تنصرني على الخطا وتردهم عن بلادي فحيث لم تفعل فلا أقل من أن لا تؤذيني وتأخذ بلادي والذي أريده أن تعيد ما أخذته مني إلي وإلا انتصرت عليك بالخطا وغيرهم من الأتراك إن عجزت عن أخذ بلادي فإنني إنما شغلني عن منعكم عنها الاشتغال بعزاء والدي وتقرير أمر بلادي وإلا فما أنا بعاجز عنكم وعن أخذ بلادك خراسان وغيرها فغالطه غياث الدين في الجواب ليمهد الأيام بالمراسلات ويخرج أخوه شهاب الدين من الهند بالعساكر فإن غياث الدين كان عاجزا باستيلاء النقرس عليه. فلما وقف خوارزم شاه على رسالة غياث الدين أرسل إلى علاء الدين الغوري
173 نائب غياث الدين بخراسان يأمره بالرحيل عن نيسابور ويتهدده إن لم يفعل فكتب علاء الدين إلى غياث الدين بذلك ويعرفه ميل أهل البلد إلى الخوارزميين فأعاد غياث الدين جوابه يقوي قلبه ويعده النصرة والمنع عنه. وجمع خوارزم شاه عساكره وسار عن خوارزم نصف ذي الحجة سنة سبع وتسعين وخمسمائة فلما قارب نسا وأبيورد هرب هندوخان ابن أخي ملك شاه من مرو إلى غياث الدين بفيروزكوه وملك خوارزم شاه مدينة مرو وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين فحصره وقاتله قتالا شديدا وطال مقامه عليها وراسله غير مرة في تسليم البلد إليه وهو لا يجيب إلى ذلك انتظارا للمدد من غياث الدين فبقي نحو شهرين فلما أبطأت عليه النجدة أرسل إلى خوارزم شاه يطلب الأمان لنفسه ولمن معه من الغورية وأنه لا يتعرض إليهم بحبس ولا غيره من الأذى فأجابه إلى ذلك. وحلف لهم وخرجوا من البلد وأحسن خوارزم شاه إليهم ووصلهم بمال جليل وهدايا كثيرة وطلب من علاء أن يسعى في الصلح بينه وبين غياث الدين وأخيه فأجابه إلى ذلك وسار إلى هراة وفيها إقطاعه ولم يمض إلى غياث الدين تجنيا عليه لتأخر أمداده، ولما خرج الغورية من نيسابور أحسن خوارزم شاه إلى الحسين بن خرميل وهو من أعيان أمرائهم زيادة على غيره وبالغ في إكرامه فقيل إنه من ذلك اليوم استحلفه لنفسه وأن يكون معه بعد غياث الدين وأخيه شهاب الدين. ثم سار خوارزم شاه إلى سرخس وبها الأمير زنكي فحصره أربعين يوما وجرى بين الفريقين حروب كثيرة فضاقت الميرة على أهل البلد لا سيما الحطب فأرسل زنكي إلى خوارزم شاه يطلب منه أن يتأخر عن باب
174 البلد حتى يخرج هو وأصحابه ويترك البلد له فراسله خوارزم شاه في الاجتماع به ليحسن إليه وإلى من معه فلم يجبه إلى ذلك واحتج بقرب نسبه من غياث الدين فأبعد خوارزم شاه عن باب البلد بعساكره فخرج زنكي فأخذ منه من كان قد ضاق به الأمر وكتب إلى خوارزم شاه العود أحمد فندم حيث لم ينفعه الندم ورحل عن البلد وترك عليه جماعة من الأمراء يحصرونه. فلما أبعد خوارزم شاه سار محمد بن جربك من الطالقان وهو من أمراء الغورية وأرسل إلى زنكي أمير سرخس يعرفه أنه يريد يكبس الخوارزميين لئلا ينزعج إذا سمع الغلبة وسمع الخوارزميون الخبر ففارقوا سرخس وخرج زنكي ولقي محمد بن جربك وعسكرا في مرو الروذ وأخذ خراجها وما يجاورها فسير إليهم خوارزم شاه عسكرا مع خاله فلقيهم محمد بن جربك وقاتلهم وحمل بلت في يده على صاحب علم الخوارزمية فضربه فقتله وألقى علمهم وكسر كوساتهم فانقطع صوتها عن العسكر ولم يروا أعلامهم فانهزموا وركبهم الغورية قتلا وأسرا نحو فرسخين فكانوا ثلاثة آلاف فارس وابن جربك في تسعمائة فارس وغنم جميع معسكرهم فلما سمع خوارزم شاه ذلك عاد إلى خوارزم وأرسل إلى غياث الدين في الصلح فأجابه عن رسالته مع أمير كبير من الغورية يقال له الحسين بن محمد المرغني ومرغن من قرى الغور فقبض عليه خوارزم شاه.
175 ذكر حصر خوارزم شاه هراة وعوده عنها لما أرسل خوارزم شاه إلى غياث الدين في الصلح وأجابه عن رسالته مع الحسين المرغني مغالطا قبض خوارزم شاه على الحسين وسار إلى هراة ليحاصرها فكتب الحسين إلى أخيه عمر بن محمد المرغني أمير هراة يخبره بذلك فاستعد للحصار. وكان سبب قصد خوارزم شاه حصار هراة ان رجلين أخوين ممن كان يخدم محمدا سلطان شاه اتصلا بغياث الدين بعد وفاة سلطان شاه فأكرمهما غياث الدين وأحسن إليهما يقال لأحدهما الأمير الحاجي فكاتبا خوارزم شاه وأطمعاه في البلد وضمنا له تسليمه إليه فسار لذلك ونازل المدينة وحصرها فسلم الأمير عمر المرغني أمير البلد مفاتح الأبواب إليهما وجعلهما على القتال ثقة منه بهما وظنا منه أنهما عدوا خوارزم شاه تكش وابنه محمد بعده فاتفق أن بعض الخوارزمية أخبر الحسين المرغني عند خوارزم شاه بحال الرجلين وأنهما هما اللذان يدبران خوارزم شاه ويأمرانه بما يفعل فلم يصدقه وأتاه بخط الأمير حاجي فأخذه وأرسله إلى أخيه عمر أمير هراة فأخذهما واعنقلهما وأخذ أصحابهما. ثم إن ألب غازي وهو ابن أخت غياث الدين جاء في عسكر من الغورية فنزل على خمسة فراسخ من هراة فكان يمنع الميرة عن عسكر
176 خوارزم شاه ثم إن خوارزم شاه سير عسكرا إلى أعمال الطالقان للغارة عليها فلقيهم الحسن بن جربك فقاتلهم فظفر بهم فلم يفلت منهم أحد. وسار غياث الدين عن فيروزكوه إلى هراة في عسكره فنزل برباط رزين بالقرب من هراة ولم يقدم على خوارزم شاه لقلة عسكره لأن أكثر عساكره كانت مع أخيه بالهند وغزنة فأقام خوارزم شاه على هراة أربعين يوما وعزم على الرحيل لأنه بلغه انهزم أصحابه بالطالقان وقرب غياث الدين وكذلك أيضا قرب ألب غازي وسمع أيضا أن شهاب الدين قد خرج من الهند إلى غزنة وكان وصوله إليها في رجب من هذه السنة فخاف أن يصل بعساكره فلا يمكنه المقام على البلد فأرسل إلى أمير البلد عمر المرغني فصالحه على مال حمله إليه وارتحل عن البلد. وأما شهاب الدين فإنه لما وصل إلى غزنة بلغه الخبر بما فعله خوارزم شاه بخراسان وملكه لها فسار إلى خراسان فوصل إلى بلخ ومنها إلى باميان ثم إلى مرو عازما على حرب خوارزم شاه وكان نازلا هناك فالتقت أوائل عسكريهما واقتتلوا قتالا شديدا فقتل من الفريقين خلق كثير ثم إن خوارزم شاه ارتحل عن مكانه شبه المنهزم وقطع القناطر وقتل الأمير سنجر صاحب نيسابور لأنه اتهمه بالمخامرة عليه وتوجه شهاب الدين إلى طوس فأقام بها تلك الشتوة على عزم المصير إلى خوارزم ليحصرها فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين فقصد هراة وترك ذلك العزم.
177 ذكر عدة حوادث في هذه السنة درس مجد الدين أبو علي يحيى بن الربيع الفقيه الشافعي بالنظامية ببغداد في ربيع الأول. وفيها توفيت بنفشة جارية الخليفة المستنصر بأمر الله وكان كثير الميل إليها والمحبة لها وكانت كثيرة المعروف والإحسان والصدقة. وفيها أيضا توفي الخطيب عبد الملك بن زيد الدولعي خطيب دمشق وكان فقيها شافعيا الدولعية قرية من أعمال الموصل.
178 599 ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة ذكر حصر العادل ماردين وصلحه مع صاحبها في هذه السنة في المحرم سير الملك العادل أبو بكر بن أيوب صاحب دمشق ومصر عسكرا مع ولده الملك الأشرف موسى إلى ماردين فحصروها وشحنوا على أعمالها وانضاف إليه عسكر الموصل وسنجار وغيرهما ونزلوا بخرزم تحت ماردين ونزل عسكر من قلعة البارعية وهي لصاحب ماردين يقطعون الميرة عن العسكر العادلي فسار إليهم طائفة من العسكر العادلي فاقتتلوا فانهزم عسكر البارعية. وثار التركمان وقطعوا الطريق في تلك الناحية وأكثروا الفساد فتعذر سلوك الطريق إلا لجماعة من أرباب السلاح فسار طائفة من العسكر العادلي إلى رأس العين لإصلاح الطريق وكف عادية الفساد وأقام ولد العادل ولم يحصل له غرض فدخل الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف صاحب حلب في الصلح بينهم وأرسل إلى عمه العادل في ذلك فأجاب إليه على قاعدة أن يحمل له صاحب ماردين مائة وخمسين ألف دينار فجاء صرف الدينار أحد عشر قيراطا من أميري ويخطب له ببلاده ويضرب اسمه على السكة ويكون عسكره في خدمته أي وقت طلبه وأخذ الظاهري عشرين ألف
179 دينار من النقد المذكور وقرية القرادي من أعمال شبختان فرحل ولد العادل عن ماردين. ذكر وفاة غياث الدين ملك الغور وشئ من سيرته في هذه السنة في جمادى الأولى توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام الغوري صاحب غزنة وبعض خراسان وغيرها وأخفيت وفاته وكان أخوه شهاب الدين بطوس عازما على قصد خوارزم شاه فأتاه الخبر بوفاة أخيه فسار إلى هراة فلما وصل إليها جلس للعزاء بأخيه في رجب وأظهرت وفاته حينئذ. وخلف غياث الدين من الولد ابنا اسمه محمود لقب بعد موت أبيه غياث الدين وسنورد من أخباره كثيرا. ولما سار شهاب الدين من طوس استخلف بمرو الأمير محمد بن جربك فسار إليه جماعة من الأمراء الخوارزمية فخرج إليهم محمد ليلا وبيتهم فلم ينج منهم إلا القليل وأنفذ الأسرى والرؤوس إلى هراة فأمر شهاب الدين بالاستعداد لقصد خوارزم على طريق الرمل وجهز خوارزم شاه جيشا وسيرهم مع برفور التركي إلى قتال محمد بن جربك فسمع بهم فخرج إليهم ولقيهم على عشرة فراسخ من مرو فاقتتلوا قتالا شديدا قتل بين الفريقين خلق كثير وانهزم الغورية ودخل محمد بن جربك مرو في عشرة فرسان وجاء الخوارزميون فحصروه خمسة عشر يوما فضعف
180 عن الحفظ فأرسل في طلب الأمان فحلفوا له إن خرج إليهم على حكمهم أنهم لا يقتلونه فخرج فقتلوه وأخذوا كل ما معه. وسمع شهاب الدين الخبر فعظم عليه وترددت الرسل بينه وبين خوارزم شاه فلم يستقر الصلح وأراد العود إلى غزنة فاستعمل على هراة ابن أخيه ألب غازي وفلك الملك علاء الدين محمد بن أبي علي الغوري على مدينة فيروزكوه وجعل إليه حرب خراسان وأمر كل ما يتعلق بالمملكة وأتاه محمد ابن أخيه غياث الدين فولاه مدينة بست واسفرار وتلك الناحية وجعله بمعزل من الملك جميعه ولم يحسن الخلافة عليه بعد أبيه ولا على غيره من أهله فمن جملة فعله أن غياث الدين كانت له زوجة كانت مغنية فهويها وتزوجها فلما مات غياث الدين قبض عليها وضربها ضربا مبرحا وضرب ولدها غياث الدين وزوج أختها وأخذ أموالهم وأملاكهم وسيرهم إلى بلد الهند فكانوا في أقبح صورة وكانت قد بنت مدرسة ودفنت فيها أباها وأمها وأخاها فهدمها ونبش قبور الموتى ورمى بعظامهم منها. وأما سيرة غياث الدين وأخلاقه فإنه كان مظفرا منصورا في حروبه لم تهزم له راية قط وكان قليل المباشرة للحروب وإنما كان له دهاء ومكر وكان جوادا حسن الاعتقاد كثير الصدقات والوقوف بخراسان بنى المساجد والمدارس بخراسان لأصحاب الشافعي وبنى الخانكاهات في الطرق وأسقط
181 المكوس ولم يتعرض إلى أحد من الناس ومن مات [ولا وارث له تصدق بما يخلفه، ومن كان بلد معروف ومات] ببلده يسلم ماله إلى أهل بلده من التجار فإن لم يجد أحدا يسلمه إلى القاضي ويختم عليه إلى أن يصل من يأخذه بمقتضى الشرع. وكان إذا وصل إلى بلد عم إحسانه أهله والفقهاء وأهل الفضل يخلع عليهم ويفرض لهم الأعطيات كل سنة من خزانته ويفرق الأموال في الفقراء وكان يراعي كل من وصل إلى حضرته من العلويين والشعراء وغيرهم وكان فيه فضل غزير وأدب مع حسن خط وبلاغة وكان رحمه الله ينسخ المصاحف بخطه ويوقفها إلى المدارس التي بناها ولم يظهر منه تعصب على مذهب ويقول التعصب في المذاهب من الملك قبيح إلا أنه كان شافعي المذهب، فهو يميل إلى الشافعية من غير أن يطمعهم في غيرهم ولا أعطاهم ما ليس لهم. ذكر أخذ الظاهر قلعة نجم من أخيه الأفضل في هذه السنة أخذ الظاهر غازي قلعة نجم من أخيه الأفضل وكانت في جملة ما أخذ من العادل لما صالحه سنة سبع وتسعين [وخمسمائة] فلما كان هذه السنة أخذ العادل من الأفضل سروج وحملين ورأس العين وبقي بيده سميساط وقلعة نجم فأرسل الظاهر اليه يطلب منه قلعة نجم وضمن له أنه يشفع إلى عمه العادل في إعادة ما أخذ منه فلم يعطه فتهدده بأن يكون ألبا عليه ولم تزل الرسل تتردد حتى سلمها إليه في شعبان وطلب منه
182 أن يعوضه قرى أو مالا فلم يفعل وكان هذا من أقبح ما سمع عن ملك يزاحم أخاه في مثل قلعة نجم مع خستها وحقارتها وكثرة بلاده هو وعدمها لأخيه. وأما العادل فإنه لما أخذ سروج ورأس العين من الأفضل أرسل والدته إليه لتسأل في ردها فلم يشفعها وردها خائبة ولقد عوقب البيت الصلاحي بما فعله أبوهم مع البيت الأتابكي فإنه لما قصد حصار الموصل سنة ثمانين وخمسمائة أرسل صاحب الموصل والدته وابنه عم نور الدين إليه يسألانه أن يعود فلم يشفعهما فجرى لأولاده هذا وردت زوجته خائبة كما فعل ولما رأى الأفضل عمه وأخاه قد أخذا ما كان بيده أرسل إلى ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان صاحب ملطية وقونية وما بينهما من البلاد يبذل له الطاعة وأن يكون في خدمته ويخطب له ببلده ويضرب السكة باسمه فأجابه ركن الدين إلى ذلك وأرسل له خلعة فلبسها الأفضل وخطب له بسميساط في سنة ستمائة وصار في جملته. ذكر ملك الكرج مدينة دوين في هذه السنة استولى الكرج على مدينة دوين من أذربيجان ونهبوها واستباحوها وأكثروا في أهلها وكانت هي وجميع بلاد أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان وكان على عادته مشغولا بالشرب ليلا ونهارا لا يفيق ولا يصحو ولا ينظر في أمر مملكته ورعيته وجنده قد ألقى الجميع عن قلبه وسلك طريق من ليس له علاقة وكان أهل تلك البلاد قد أكثرت الاستغاثة اليه وإعلامه بقصد الكرج بلادهم بالغارة مرة بعد أخرى فكأنهم ينادون صخرة صماء فلما حصر الكرج، هذه السنة، مدينة
183 دوين سار منهم جماعة يستغيثون فلم يغثهم وخوفه جماعة من أمراءه عاقبة إهماله وتوانيه وإصراره ما هو فيه فلم يصغ إليهم فلما طال الأمر على أهلها ضعفوا وعجزوا وأخذهم الكرج عنوة بالسيف وفعلوا ما ذكرنا. ثم إن الكرج بعد أن استقر أمرهم بها أحسنوا إلى من بقي من أهلها فالله تعالى ينظر إلى المسلمين ويسهل لثغورهم من يحفظها ويحميها فإنها مستباحة لا سيما هذه الناحية فإنا لله وإنا إليه راجعون فقد بلغنا من فعل الكرج بأهل دوين من القتل والسبي والأمر ما تقشعر منه الجلود. ذكر عدة حوادث في هذه السنة أحضر الملك العادل محمدا ولد العزيز صاحب مصر إلى الرها وذلك انه لما قطع خطبته من مصر سنة ست وتسعين كما ذكرناه خاف شيعة أبيه أن يجتمعوا عليه ويصير له معهم فتنة فأخرجه سنة ثمان وتسعين إلى دمشق ثم نقله هذه السنة إلى الرها فأقام بها ومعه جميع إخوته وأخواته ووالدته ومن يخصه. وفيها في رجب توفي الشيخ وجيه الدين محمد بن محمود المروروذي الفقيه الشافعي وهذا الذي كان السبب في أن صار غياث الدين شافعيا. وفي ربيع الأول منها توفي أبو الفتح عبيد الله بن أبي المعمر الفقيه الشافعي المعروف بالمستملي ببغداد وله حظ حسن. وفي ربيع الآخر توفيت زمرد خاتون أم الخليفة الناصر لدين الله وأخرجت جنازتها ظاهرة وصلى الخلق الكثير عليها ودفنت في التربة التي بنتها لنفسها وكانت كثيرة المعروف.
184 600 ثم دخلت سنة ستمائة ذكر حصار خوارزم شاه هراة ثانية في هذه السنة أول رجب وصل خوارزم شاه محمد إلى مدينة هراة فحصرها وبها ألب غازي ابن أخت شهاب الدين الغوري ملك غزنة بعد مراسلات جرت بينه وبين شهاب الدين في الصلح فلم يتم وكان شهاب الدين قد سار عن غزنة إلى لهاوور عازما على غزو الهند فأقام خوارزم شاه على حصار هراة إلى سلخ شعبان. وكان القتال دائما والقتل من الفريقين كثير وممن قتل رئيس خراسان وكان كبير القدر يقيم بمشهد طوس وكان الحسين بن خرميل بكرزبان وهي أقطاعه فأرسل إلى خوارزم شاه يقول له ارسل إلي عسكرا لنسلم إليهم الفيلة وخزانة شهاب الدين فأرسل إليه ألف فارس من أعيان عسكره إلى كرزبان فخرج عليه هو والحسين بن محمد الميرغني فقتلوهم إلا القليل فبلغ الخبر إلى خوارزم شاه فسقط ما في يديه وندم على إنفاذ العسكر وأرسل إلى ألب غازي يطلب منه أن يخرج إليه من البلد ويخدمه خدمة سلطانية ليرحل عنه فلم يجبه إلى ذلك فاتفق أن ألب غازي مرض واشتد مرضه فخاف أن يشتغل بمرضه فيملك خوارزم شاه البلد فأجاب إلى ما طلب منه واستحلفه على الصلح وأهدى له هدية جليلة وخرج من البلد ليخدمه فسقط إلى الأرض ميتا ولم يشعر أحد بذلك وارتحل خوارزم شاه عن البلد وأحرق المجانيق وسار إلى سرخس فأقام بها.
185 ذكر عود شهاب الدين من الهند وحصر خوارزم وانهزامه من الخطا في هذه السنة في رمضان عاد شهاب الدين الغوري إلى خراسان من قصد الهند وسبب ذلك أنه بلغه حصر خوارزم شاه هراة وموت ألب غازي نائبه بها فعاد حنقا على خوارزم شاه فلما بلغ ميمند عدل إلى طريق أخرى قاصدا إلى خوارزم فأرسل خوارزم شاه يقول له ارجع إلي لأحاربك وإلا سرت إلى هرة ومنها إلى غزنة. وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس إلى مرو فأقام بظاهرها فأعاد إليه شهاب الدين جوابه لعلك تنهزم كما فعلت تلك الدفعة لكن خوارزم تجمعنا ففرق خوارزم شاه عساكره وأحرق ما جمعه من العلف ورحل يسابق شهاب الدين إلى خوارزم فسبقه إليها فقطع الطريق وأجرى المياه فيها فاعذر على شهاب الدين سلوكها وأقام أربعين يوما يصلحها حتى أمكنه الوصول إلى خوارزم والتقى العسكران بسوقرا ومعناه الماء الأسود فجرى بينهم قتال شديد كثرت القتلى فيه بين الفريقين وممن قتل من الغورية الحسين المرغني وغيره وأسر جماعة من الخوارزمية فأمر شهاب الدين بقتلهم فقتلوا. وأرسل خوارزم شاه إلى الأتراك الخطا يستنجدهم وهم حينئذ أصحاب ما وراء النهر فاستعدوا وساروا إلى بلاد الغورية فلما بلغ شهاب الدين ذلك عاد عن خوارزم فلقي أوائلهم في صحراء أندخوي أول صفر سنة إحدى وستمائة فقتل فيهم وأسر كثيرا فلما كان اليوم الثاني دهمه
186 من الخطا ما لا طاقة له بهم، فانهزم المسلمون هزيمة قبيحة وبقي شهاب الدين في نفر يسير وقتل بيده أربعة أفيال له لأنها أعيت وأخذ الكفار فيلين ودخل شهاب الدين أندخوي فيمن معه وحصره الكفار ثم صالحوه على أن يعطيهم فيلا آخر ففعل وخلص. ووقع الخبر في جميع بلاده بأنه قد عدم وكثرت الأراجيف بذلك ثم وصل إلى الطالقان في سبعة نفر وقد قتل أكثر عسكره ونهبت خزائنه جميعها فلم يبق منها شيء فأخرج له الحسين بن خرميل صاحب الطالقان خياما وجميع ما يحتاج إليه وسار إلى غزنة وأخذ معه الحسين بن خرميل لأنه قيل له عنه إنه شديد الخوف لانهزامه وانه قال إذا سار السلطان هربت إلى خوارزم شاه فأخذه معه وجعله أمير حاجب. ولما شرع الخبر بقتل شهاب الدين جمع تاج الدين الدز وهو مملوك اشتراه شهاب الدين أصحابه وقصد قلعة غزنة ليصعد إليها فمنعه مستحفظها فعاد إلى داره فأقام بها وأفسد الخلج وسائر المفسدين في البلاد وقطعوا الطرق وقتلوا كثيرا، فلما عاد شهاب الدين إلى غزنة بلغه ما فعله الدر فأراد قتله فشفع فيه سائر المماليك فأطلقه ثم اعتذر وسار شهاب الدين في البلاد فقتل من المفسدين من تلك الأمم نفرا كثيرا. وكان له أيضا مملوك آخر اسمه أيبك بال تر فسلم من المعركة ولحق بالهند ودخل المولتان وقتل نائب السلطان بها وملك البلد وأخذ الأموال السلطانية وأساء السيرة في الرعية وأخذ أموالهم وقال قتل السلكان وأنا السلطان وكان يحمله على ذلك ويحسنه له إنسان اسمه عمر بن يزان وكان زنديقا ففعل ما أمره وجمع المفسدين وأخذ الأموال،
187 فأخاف الطريق فبلغ خبره إلى شهاب الدين فسار إلى الهند وأرسل إليه عسكرا فأخذوه ومعه عمر بن [يزان] فقتلهما أقبح قتلة وقتل من وافقهما في جمادى الآخرة من سنة إحدى وستمائة ولما رآهم قتل قرأ: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا) الآية، وأمر شهاب الدين في جميع بلاده بالتجهز لقتال الخطا وغزوهم والأخذ بثارهم. وقيل: كان سبب انهزامه أنه لما عاد إلى الخطا من خوارزم فرق عسكره في المفازة التي في طريقه لقلة الماء وكان الخطا قد نزلوا على طرف المفازة فكلما خرج من أصحابه طائفة فتكوا فيهم بالقتل والأسر ومن سلم من عسكره انهزم نحو البلاد ولم يرجع إليه أحد يعلم الحال وجاء شهاب الدين في ساقة العسكر في عشرين ألف فارس ولم يعلم الحال فلما خرج من البرية لقيه الخطا مستريحين وهو ومن معه قد تعبوا وأعيوا وكان الخطا اضعاف أصحابه فقاتلهم عامة نهاره وحمى نفسه منهم وحصروه في أندخوي فجرى بينهم في عدة أيام ربعة عشر مصافا منها مصاف واحد كان من العصر إلى بكرة الغد ثم إنه بعد ذلك سير طائفة من عسكره ليلا سرا وأمرهم أن يرجعوا إليه بكرة كأنهم قد أتوه مددا من بلاده فلما فعلوا ذلك خافه الخطا وقال لهم صاحب سمرقند وكان مسلما وهو في طاعة الخطا وقد خاف على الإسلام والمسلمين ان هم ظفروا بشهاب الدين فقال لهم إن هذا الرجل لا نجد قط أضعف منه لما خرج من المفازة ومع ضعفه وتعبه وقلة من معه لم نظفر به والأمداد أتته وكأنكم بعساكره
188 وقد أقبلت من كل طريق وحينئذ نطلب الخلاص منه فلا نقدر عليه والرأي لنا الصلح معه فأجابوا إلى ذلك فأرسلوا إليه في الصلح. وكان صاحب سمرقند قد أرسل إليه وعرفه الحال سرا وأمره بإظهار الامتناع من الصلح أولا والإجابة اليه أخيرا فلما أتته الرسل امتنع واظهر القوة بانتظار الأمداد وطال الكلام فاصطلحوا على أن الخطا لا يعبرون النهر إلى بلاده ولا يعبر إلى بلادهم ورجعوا عنه وخلص هو وعاد إلى بلاده والباقي نحو ما تقدم. ذكر قتل طائفة من الإسماعيلية بخراسان في هذه السنة وصل رسول إلى شهاب الدين الغوري من عند مقدم الإسماعيلية بخراسان برسالة أنكرها فأمر علاء الدين محمد بن أبي علي متولي بلاد الغورية بالمسير إليهم ومحاصرة بلادهم فسار في عساكر كثيرة إلى قهستان وسمع به صاحب زوزن فقصده وسار معه وفارق خدمة خوارزم شاه ونزل علاء الدين على مدينة قاين وهي للإسماعيلية وحصرها وضيق على أهلها ووصل خبر قتل شهاب الدين على ما نذكره فصالح أهلها على ستين ألف دينار ركنية ورحل عنهم وقصد حصن كاخك فأخذوه وقتل المقاتلة وسبى الذرية ورحل إلى هراة ومنها [إلى] فيروزكوه.
189 ذكر ملك القسطنطينية من الروم في هذه السنة في شعبان ملك الفرنج مدينة القسطنطينية من الروم وأزالوا ملك الرزم عنها وكان سبب ذلك أن ملك الروم بها تزوج أخت ملك إفرنسيس وهو من أكبر ملوك الفرنج فرزق منها ولدا ذكرا ثم وثب على الملك أخ له فقبض عليه وملك البلد منه وسمل عينيه وسجنه فهرب ولده ومضى إلى خاله مستنصرا به على عمه فاتفق ذلك وقد اجتمع كثير من الفرنج ليخرجوا إلى بلاد الشام لاستنقاذ البيت المقدس فأخذوا ولد الملك معهم وجعلوا طريقهم على القسطنطينية قصدا لإصلاح الحال بينه وبين عمه ولم يكن له طمع في سوى ذلك فلما وصلوا خرج عمه في عسكر الروم محاربا لهم فوقع القتال بينهم في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وخمسمائة فانهزمت الروم ودخلوا البلد فدخله الفرنج معهم فهرب ملك الروم إلى أطراف البلاد وقيل إن ملك الروم لم يقاتل الفرنج بظاهر البلد وإنما حصروه فيها. وكان بالقسطنطينية من الروم من يريد الصبي فألقوا النار في البلد فاشتغل الناس بذلك ففتحوا بابا من أبواب المدينة فدخلها الفرنج وخرج ملكها هاربا وجعل الفرنج الملك في ذلك الصبي وليس له من الحكم شيء وأخرجوا أباه من السجن إنما الفرنج هم الحكام في البلد فثقلوا الوطأة على أهله وطلبوا منهم أموالا عجزوا عنها وأخذوا أموال البيع وما فيها من ذهب ونقرة وغير ذلك حتى ما على الصلبان وهو على صورة المسيح عليه السلام والحواريين وما على الأناجيل من ذلك أيضا فعظم ذلك على الروم وحملوا منه خطبا عظيما فعمدوا إلى ذلك الصبي الملك فقتلوه وأخرجوا الفرنج من البلد وأغلقوا الأبواب واستحضروا ذلك وكان ذلك في
190 جمادى الأولى سنة ستمائة فأقام الفرنج بظاهره محاصرين للروم وقاتلوهم ولازموا قتالهم ليلا ونهارا وكان الروم قد ضعفوا ضعفا كثيرا فأرسلوا إلى السلطان ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان صاحب قونية وغيرها من البلاد يستنجدونه فلم يجد إلى ذلك سبيلا. وكان بالمدينة كثير من الفرنج مقيمين يقاربون ثلاثين ألفا ولعظم البلد لا يظهر أمرهم فتواضعوا هم والفرنج الذين بظاهر البلد ووثبوا فيه وألقوا النار مرة ثانية فاحترق نحو ربع البلد وفتحوا الأبواب فدخلوها ووضعوا السيف ثلاثة أيام وفتكوا بالروم قتلا ونهبا فأصبح الروم كلهم ما بين قتيل أو فقير لا يملك شيئا ودخل جماعة من أعيان الروم الكنيسة العظمى التي تدعى صوفيا فجاء الفرنج إليها فخرج إليهم جماعة من القسيسين والأساقفة والرهبان بأيديهم الإنجيل والصليب يتوسلون بها إلى الفرنج ليبقوا عليهم فلم يلتفتوا إليهم وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة. وكانوا ثلاثة مملوك: دوقس البنادقة وهو صاحب المراكب البحرية وفي مراكبه ركبوا إلى القسطنطينية وهو شيخ أعمى إذا ركب تقاد فرسه والآخر يقال له المركيس وهو مقدم الإفرنسيس والآخر يقال له كند أفلند وهو أكثرهم عددا فلما استولى على القسطنطينية اقترعوا على الملك فخرجت القرعة على كند أفلند فأعادوا القرعة ثانية وثالثة فخرجت عليه فملكوه والله يؤتي ملكه من يشاء وينزعه ممن يشاء فلما خرجت القرعة عليه ملكوه عليها وعلى ما يجاورها وتكون لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل جزيرة إقريطش وجزيرة رودس وغيرهما ويكون لمركيس
191 الإفرنسيس البلاد التي هي شرقي الخليج مثل أزنيق ولاذيق فلم يحصل لأحد منهم شيء غير الذي أخذ القسطنطينية وأما الباقي فلم يسلم من به من الروم وأما البلاد التي كانت لملك القسطنطينية شرقي الخليج المجاورة لبلاد ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان ومن جملتها أزنيق ولاذيق فإنها تغلب عليها بطريق الروم اسمه لشكري وهي بيده إلى الآن. ذكر انهزام نور الدين صاحب الموصل من العساكر العادلية في هذه السنة في العشرين من شوال انهزم نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل من العساكر العادلية وسبب ذلك أن نور الدين كان بينه وبين عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار وحشة مستحكمة أولا فاتفقا وسار معه إلى ميافارقين سنة خمس وتسعين [خمسمائة]، وقد ذكرناه فلما كان الآن أرسل الملك العادل أبو بكر بن أيوب صاحب مصر ودمشق وبلاد الجزيرة إلى قطب الدين واستماله فمال إليه وخطب له فلما سمع نور الدين ذلك سار إلى مدينة نصيبين سلخ شعبان وهي لقطب الدين فحصرها وملك المدينة وبقيت القلعة فحصرها عدة أيام فبينما هو يحاصرها وقد أشرف على أن يتسلمها أتاه الخبر أن مظفر الدين دو كبري زين الدين على صاحب إربل قد قصد أعمال الموصل فنهب نينوى وأحرق غلاتها فلما بلغه ذلك من نائبه المرتب بالموصل يحفظها سار عن نصيبين إلى الموصل على عزم العبور إلى إربل ونهبه جزاء بما فعل صاحبها ببلده فوصل إلى مدينة بلد وعاد مظفر الدين إلى بلده وتحقق نور الدين أن الذي قيل له وقع فيه زيادة فسار إلى تل أعفر من بلد وهب لصاحب سنجار وحصرها وأخذها ورتب أمورها وأقام عليها سبعة عشر يوما.
192 وكان الملك الأشرف موسى بن الملك العادل بن أيوب قد سار من مدينة حران إلى رأس عين نجدة لقطب الدين صاحب سنجار ونصيبين وقد اتفق هو ومظفر الدين صاحب إربل وصاحب الحصن وآمد وصاحب جزيرة ابن عمر وغيرهم على ذلك وعلى منع نور الدين من أخذ شيء من بلاده وكلهم خائفون منه ولم يمكنهم الاجتماع وهو على نصيبين فلما فارقها نور الدين سار الأشرف إليها وأتاه أخوه نجم الدين صاحب ميافارقين وصاحب الحصن وصاحب الجزيرة وصاحب دارا وساروا عن نصيبين نحو بلد البقا قريبا من بوشرى وسار نور الدين من تل أعفر إلى كفر زمار وعزم على المطاولة ليتفرقوا فأتاه كتاب من بعض مماليكه يسمى جرديك وقد أرسله يتجسس أحبارهم فيقللهم في عينه ويطمعه فيهم ويقول إن أذنت لي لقيتهم بمفردي فسار حينئذ نور الدين إلى بوشرى فوصل إليها من الغد الظهر وقد تعبت دوابه وأصحابه ولقوا شدة من الحر فنزل بالقرب منهم أقل من ساعة. وأتاه الخبر أن عساكر الخصم قد ركبوا فركب هو وأصحابه وساروا نحوهم فلم يروا لهم أثرا فعاد إلى خيامه ونزل هو وعساكره وتفرق كثير منهم في القرى لتحصيل العلوفات وما يحتاجون إليه فجاءه من أخبره بحركة الخصم وقصده فركب نور الدين وعسكره وتقدموا إليهم وبينهم نحو فرسخين فوصلوا وقد زاد تعبهم والخصم مستريح فالتقوا واقتتلوا فلم يطل الحرب بينهم حتى انهزم عسكر نور الدين وانهزم هو أيضا وطلب الموصل فوصل إليها في أربعة أنفس وتلاحق الناس وأتى الأشرف ومن معه فنزلوا في كفر زمار ونهبوا البلاد نهبا قبيحا وأهلكوا ما لم يصلح لهم لا سيما مدينة بلد فإنهم أفحشوا في نهبها.
193 ومن أعجب ما سمعنا أن امرأة كانت تطبخ فرأت [النهب]، فألقت سوارين كانتا في يديها في النار وهربت فجاء بعض الجند ونهب ما في البيت فرأى فيه بيضا فأخذه وجعله في النار ليأكله فحرك فرأى السوارين فيها فأخذهما. وطال مقامهم والرسل تتردد في الصلح فوقف الأمر على إعادة تل أعفر ويكون الصلح على القاعدة الأولى وتوقف نور الدين في إعادة تل أعفر فلما طال الأمر سلمها إليهم واصطلحوا أوائل سنة إحدى وستمائة وتفرقت العساكر من البلاد. ذكر خروج الفرنج بالشام إلى بلاد الإسلام والصلح معهم في هذه السنة خرج كثير من الفرنج في البحر إلى الشام وسهل الأمر عليهم بذلك لملكهم قسطنطينية وأرسوا بعكا وعزموا على قصد البيت المقدس حرسه الله واستنقاذه من المسلمين فلما استراحوا بعكا ساروا فنهبوا كثيرا من بلاد الإسلام بنواحي الأردن وسبوا وفتكوا في المسلمين. وكان الملك العادل بدمشق فأرسل في جمع العساكر من بلاد الشام ومصر وسار فنزل عند الطور بالقرب من عكا لمنع الفرنج من قصد بلاد الإسلام ونزل الفرنج بمرج عكا وأغاروا على كفر كنا فأخذوا كل من بها
194 وأموالهم والأمراء يحثون العادل على قصد بلادهم ونهبها فلم يفعل فبقوا كذلك إلى أن انقضت السنة وذلك سنة إحدى وستمائة فاصطلح هو والفرنج على دمشق وأعمالها وما بيد العادل من الشام ونزل لهم عن كثير من المناصفات في الرملة وغيرها وأعطاهم ناصرة وغيرها وسار نحو الديار المصرية فقصد الفرنج مدينة حماة فلقيهم صاحبها ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فقاتلهم وكان في قلة فهزموه إلى البلد فخرج العامة إلى قتالهم فقتل الفرنج منهم جماعة وعاد الفرنج. ذكر قتل كوكجة ببلاد الجبل وولاية أيتغمش قد ذكرنا قبل تغلب كوكجة مملوك البهلوان على الري وهمذان وبلد الجبل وبقي الآن وكان قد اصطنع مملوكا آخر كان للبهلوان اسمه أيتغمش وقدمه وأحسن إليه ووثق به فجمع أيتغمش الجوع من المماليك وغيرهم ثم قصد كوكجة فتصافا واقتتل الفريقان فقتل كوكجة في الحرب واستولى أيتغمش على البلاد وأخذ معه أوزبك بن البهلوان له اسم الملك وأيتغمش هو المدبر له والقيم بأمر المملكة وكان شهما شجاعا ظالما وكان كوكجة عادلا حسن السيرة رحمه الله. ذكر وفاة ركن الدين بن فلج أرسلان وملك ابنه بعده وفي هذه السنة سادس ذي القعدة توفي ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق صاحب
195 ديار الروم ما بين ملطية وقونية وكان موته بمرض القولنج في سبعة أيام وكان قبل مرضه بخمسة أيام قد غدر بأخيه صاحب أنكورية وتسمى أيضا أنقرة وهي مدينة منيعة وكان مشاقا لركن الدين فحصره عدة سنين حتى ضعف وقلت الأقوات عنده فأذعن بالتسليم على عوض يأخذه فعوضه قلعة في أطراف بلده وحلف له عليها فنزل أخوه عن مدينة أنقرة وسلمها ومعه ولدان له فوضع ركن الدين عليه من أخذه وأخذ أولاده معه فقتله فلم يمض غير خمسة أيام حتى أصابه القولنج فمات واجتمع الناس بعده على ولده قلج أرسلان وكان صغيرا فبقي في الملك إلى بعد سنة إحدى وستمائة وأخذ منه على ما نذكره هناك. وكان ركن الدين شديدا على الأعداء قيما بأمر الملك إلا أن الناس كانوا ينسبون إلى فساد الاعتقاد كان يقال إنه يعتقد أن مذهبه مذهب الفلاسفة وكان كل من يرمى بهذا المذهب يأوي إليه ولهذه الطائفة منه إحسان كثير إلا أنه كان عاقلا فلا يحب ستر هذا المذهب لئلا ينفر الناس عنه. حكي لي عنه أنه كان عنده إنسان وكان يرمي بالزندقة ومذهب الفلاسفة وهو قريب منه فحضر يوما عنده فقيه فتناظرا فأظهر شيئا من اعتقاد الفلاسفة فقام الفقيه إليه ولطمه وشتمه بحضرة ركن الدين وركن الدين ساكت وخرج الفقيه فقال لركن الدين يجري علي مثل هذا في حضرتك ولا تنكره؟ فقال لو تكلمت لقتلنا جميعا ولا يمكن إظهار ما تريده أنت؛ فقارقه.
196 ذكر قتل الباطنية بواسط قي هذه السنة في رمضان قتل الباطنية بواسط وسبب كونهم بها [وقتلهم] أنه ورد إليها رجل يعرف بالزكم محمد بن طالب بن عصية وأصله من القاروب من قرى واسط وكان باطنيا ملحدا ونزل مجاورا لدور بني الهروي وغشيه الناس وكثر أتباعه. وكان ممن يغشاه رجل يعرف بحسن الصابوني فاتفق أنه اجتاز بالسويقة فكلمه رجل نجار في مذهبهم فرد عليه الصابوني ردا غليظا فقام إليه النجار وقتله وتسامع الناس بذلك فوثبوا وقتلوا من وجدوا ممن ينتسب إلى هذا المذهب وقصدوا دار ابن عصية وقد اجتمع إليه خلق من أصحابه وأغلقوا الباب وصعدوا إلى سطحها ومنعوا الناس عنهم فصعدوا إليهم من بعض الدور من على السطح وتحصن من بقي في الدار بإغلاق الأبواب والممارق فكسروها ونزلوا فقتلوا من وجدوا في الدار وأحرقوا وقتل ابن عصية وفتح الباب وهرب منهم فقتلوا وبلغ الخبر إلى بغداد وانحدر فخر الدين أبو البدر بن أمسينا الواسطي لإصلاح الحال وتسكين الفتنة. ذكر استيلاء محمود على مرباط وغيرها من حضرموت في هذه السنة استولى إنسان اسمه محمود بن محمد الحميري على مدينة مرباط وظفار وغيرهما من حضرموت وكان ابتداء أمره أنه له مركب يكريه
197 في البحر للتجار، ثم وزر لصاحب مرباط وفيه كرم وشجاعة وحسن سيرة فلما توفي صاحب مرباط ملك المدينة بعده وأطاعه الناس محبة له لكرمه وسيرته ودامت أيامه بها فلما كان سنة تسع عشرة وستمائة خرب مرباطا وظفارا وبنى مدينة جديدة على ساحل البحر بالقرب من مرباط وعندها عين عذبة كبيرة أجراها إلى المدينة وعمل عليها سورا وخندقا وحصنها وسماها الأحمدية وكان يحب الشعر ويكثر الجائزة عليه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة خرج أسطول من الفرنج إلى الديار المصرية فنهبوا مدينة فوة وأقاموا خمسة أيام يسبون وينهبون وعساكر مصر مقابلهم بينهم النيل ليس لهم وصول إليهم لأنهم لم تكن لهم سفن. وفيها كانت زلزلة عظيمة عمت أكثر البلاد مصر والشام والجزيرة وبلاد الروم وصقلية وقرس ووصلت إلى الموصل والعراق وغيرها وخربت من مدينة صور سورها وأثرت في كثير من الشام. وفيها في رجب اجتمع جماعة من الصوفية برباط شيخ الشيوخ ببغداد وفيهم صوفي اسمه أحمد بن إبراهيم الداري ومن أصحاب شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل رحمهم الله ومعهم مغن يغنى بقول الشعر: (أعاذلتي أقصري كفى بمشيبي عذل * شباب كأن لم يكن وشيب كأن لم يزل) (وحق ليالي الوصال وآخرها والأول * وصفرة لون المحب عند استماع العذل) (لئن عاد عيشي بكم حلا العيش لي واتصل)
198 فتحرك الجماعة عادة الصوفية في السماع وطرب الشيخ المذكور وتواجد ثم سقط مغشيا عليه فحركوه فإذا هو ميت فصلي عليه ودفن وكان رجلا صالحا. وفيها توفي أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي الفقيه الشافعي بأصفهان في صفر وكان إماما فاضلا. وفي رمضان منها توفي هراة عمدة الدين الفضل بن محمود بن صاعد الساوي وولي بعده ابنه صاعد.
199 601 ثم دخلت سنة إحدى وستمائة ذكر ملك كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم من ابن أخيه في هذه السنة في رجب ملك غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بلاد الروم التي كانت بيد أخيه ركن الدين سليمان وانتقلت بعد موته إلى ابنه قلج أرسلان بن ركن الدين. وكان سبب ملك غياث الدين لها أن ركن الدين كان قد أخذ ما كان لأخيه غياث الدين وهو مدينة قونية فهرب غياث الدين منه وقصد الشام إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب فلم يجد عنده قبولا وقصر به فسار من عنده وتقلب في البلاد إلى أن وصل إلى القسطنطينية فأحسن إليه ملك الروم وأقطعه وأكرمه فأقام عنده وتزوج بابنة بعض البطارقة الكبار. وكان لهذا البطريق قلعة من عمل القسطنطينية فلما ملك الفرنج القسطنطينية هرب غياث الدين إلى حميه وهو بقلعته فأنزله عنده وقال له اشترك في هذه القلعة وتقنع بداخلها فأقام عنده فلما مات أخوه سنة ستمائة كما ذكرناه اجتمع الأمراء على ولده وخالفهم الأتراك الأوج وهم كثير بتلك البلاد وأنف من اتباعهم وأرسل إلى غياث الدين يستدعيه إليه
200 ليملكه البلاد فسار إليه فوصل في جمادى الأولى اجتمع به وكثر جمعه وقصد مدينة قونية ليحصرها وكان ولد ركن الدين والعساكر بها فأخرجوا إليه طائفة من العسكر فلقوه فهزموه فبقي حيران لا يدري أين يتوجه فقصد بلدة صغيرة يقال لها أو كرم بالقرب من قونية. فقدر الله تعالى أن أهل مدينة أقصرا وثبوا على الوالي فأخرجوه منها ونادوا بشعار غياث الدين فلما سمع أهل قونية بما فعله أهل أقصرا قالوا نحن أولى بفعل هذا لأنه كان حسن السيرة فيهم لما كان ملكهم فنادوا باسمه أيضا وأخرجوا من عندهم واستدعوه فحضر عندهم وملك المدينة وقبض ابن أخيه ومن معه وآتاه الله الملك وجمع له البلاد جميعها في ساعة واحدة فسبحان من إذا أراد أمرا هيأ أسبابه. وكان أخوه قيصر شاه كان صاحب ملطية لما أخذها ركن الدين منه سنة سبع وتسعين [خمسمائة] خرج منها وقصد الملك العادل أبا بكر بن أيوب لأنه كان زوج ابنته مستنصرا به فأمره بالمقام بمدينة الرها فأقام بها فلما سمع بملك أخيه غياث الدين سار إليه فلم يجد عنده قبولا إنما أعطاه شيئا وأمره بمفارقة البلاد فعاد إلى الرها وأقام بها، فلما استقر ملك [غياث الدين سار إليه الأفضل صاحب] سميساط، فلقيه بمدينة قيسارية وقصده أيضا نظام الدين صاحب خرت برت وصار معه فعظم شأنه وقوي أمره.
201 ذكر حصر صاحب آمد خرت برت ورجوعه عنها كانت خرت برت لعماد الدين بن قرا أرسلان فمات وملكها بعده ابنه نظام الدين أبو بكر والتجأ إلى ركن الدين بن قلج أرسلان وبعده إلى أخيه غياث الدين ليمتنع به من ابن عمه ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان فامتنع به. وكان صاحب آمد ملتجئا إلى الملك العادل وفي طاعته وحضر مع ابنه الملك الأشرف قتال صاحب الموصل على شرط أنه يسير معه عساكره ويأخذ له خرت برت وإنما طمع فيها بموت ركن الدين فلما دخلت هذه السنة طلب ما كان استقر الأمر عليه فسار معه الملك الأشرف وعساكر ديار الجزيرة من سنجار وجزيرة ابن عمر والموصل وغيرها وكان نزولهم عليها في شعبان وفي رمضان تسلموا ربضها وكان قد اجتمع بغياث الدين بعد أن ملك البلاد الرومية وصار معه في طاعته فلما نزل صاحب آمد على خرت برت خاطب صاحبها غياث الدين يستنجده بعسكر يرحلهم عنه فجهز عسكرا كثيرا عدتهم ستة آلاف فارس وسيرهم [مع] الملك الأفضل صاحب سميساط فلما وصل العسكر إلى ملطية فارق صاحب آمد ومن معه من خرت برت ونزلوا إلى الصحراء وحصروا البحيرة المعروفة ببحيرة سهنين وبها حصنان أحدهما لصاحب آمد والآخر لصاحب خرت برت فحصره وزاحفه ففتحه ثاني ذي الحجة ووصل صاحب خرت برت مع العسكر الرومي إلى خرت برت فرحل صاحب آمد عن البحيرة وقوى الحصن الذي فتحه فيها فأزاح علته،
202 ورحل إلى خلف مرحلة ونزل وترددت الرسل والعسكر الرومي يطلب إعادة البحيرة وصاحب آمد يمتنع من ذلك فلما طال الأمر بقي الحصن بيد صاحب آمد وانفصل العسكران وعاد كل فريق إلى بلاده. ذكر الفتن ببغداد في سابع عشر شعبان جرت فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج وأهل المأمونية وسببها أن أهل باب الأزج قتلوا سبعا وأرادوا أن يطوفوا به فمنعهم أهل المأمونية فوقعت الفتنة بينهما عند البستان الكبير فجرح منهم خلق كثير وقتل جماعة وركب صاحب الباب لتسكين الفتنة فجرح فرسه فعاد. فلما كان الغد سار أهل المأمونية إلى باب الأزج فوقعت بينهم فتنة شديدة وقتال بالسيوف والنشاب واشتد الأمر فنهب الدور القريبة منهم وسعى الركن بن عبد القادر ويوسف في تسكين الناس وركب الأتراك فصاروا يبيتون تحت المنظرة فامتنع أهل الفتنة من الاجتماع فسكنوا. وفي العشرين منه جرت فتنة بين أهل قطفتا والقرية من محال الجانب الغربي بسبب قتل سبع أيضا أراد أهل قطفتا أن يجتمعوا ويطوفوا به فمنعهم أهل القرية أن يجروا به عندهم فاقتتلوا وقتل بينهم عدة قتلى فأرسل إليهم عسكر من الديوان لتلافي الأمر ومنع الناس عن الفتنة فامتنعوا وفي تاسع رمضان كانت فتنة بين أهل سوق السلطان والجعفرية منشؤها أن رجلين من المحلتين اختصما وتوعد كل واحد منهما صاحبه، فاجتمع
203 أهل المحلتين واقتتلوا في مقبرة الجعفرية فسير إليهم من الديوان من تلافي الأمر وسكنه فلما كثرت الفتن رتب أمير كبير من مماليك الخليفة ومعه جماعة كثيرة فطاف في البلد وقتل جماعة ممن فيه شبهة فسكن الناس. ذكر غارة الكرج على بلاد الإسلام في هذه السنة أغارت الكرج على بلاد الإسلام من ناحية أذربيجان فأكثروا العيث والفساد والنهب والسبي ثم أغاروا على ناحية خلاط من أرمينية فأوغلوا في البلاد حتى بلغوا ملازكرد ولم يخرج إليهم أحد من المسلمين يمنعهم فجاسوا خلال البلاد ينهبون ويأسرون وكلما [تقدموا] تأخرت عساكر المسلمين منهم ثم إنهم رجعوا فالله تعالى ينظر إلى الإسلام وأهله وييسر لهم من يحمي بلادهم ويحفظ ثغورهم ويغزو أعداءهم. وفيها أغارت الكرج على بلاد خلاط فأتوا إلى أرجيش ونواحيها فنهبوا وسبوا وخربوا البلاد وساروا إلى حصن التين من أعمال خلاط وهو مجاور أزن الروم؛ فجمع صاحب خلاط عسكره وسار إلى قلج أرسلان صاحب أرزن الروم فاستنجده على الكرج فسير عسكره جميعه معه فتوجهوا نحو الكرج فلقوهم وتصافوا واقتتلوا فانهزمت
204 الكرج وقتل زكرى الصغير وهو من أكابر مقدميهم وهو الذي كان مقدم هذا العسكر من الكرج والمقاتل بهم وغنم المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والكراع وغير ذلك وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا كذلك وعاد إلى بلاده. ذكر الحرب بين أمير مكة وأمير المدينة وفي هذه السنة أيضا كانت الحرب بين الأمير قتادة الحسيني أمير مكة وبين الأمير سالم بن قاسم الحسيني أمير المدينة ومع كل واحد منهما جمع كثير فاقتتلوا قتالا شديدا، وكانت الحرب بذي الحليفة بالقرب من المدينة وكان قتادة قد قصد المدينة ليحصرها ويأخذها فلقيه سالم بعد أن قصد الحجرة على ساكنها الصلاة والسلام فصلى عندها ودعا وسار فلقيه فانهزم قتادة وتبعه سالم إلى مكة فحصره بها فأرسل قتادة إلى من مع سالم من الأمراء فأفسدهم عليه فمالوا إليه وحالفوه فلما رأى سالم ذلك رحل عنه عائدا إلى المدينة وعاد أمر قتادة قويا. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة قطعت خطبة ولي العهد وأظهر خط قرىء بدار الوزير نصير الدين بن مهدي الرازي وإذا هو خط ولي العهد الأمير أبي نصر بن الخليفة إلى أبيه الناصر
205 لدين الله أمير المؤمنين يتضمن العجز عن القيام بولاية العهد ويطلب الإقامة وشهد عدلان أنه خطه وأن الخليفة أقاله وعمل بذلك محضر شهد فيه القضاة والعدول والفقهاء. وفي هذه السنة ولدت امرأة ببغداد ولدا له رأسان وأربع أرجل ويدان ومات في يومه. وفيها أيضا وقع الحريق في خزانة السلاح التي للخليفة فاحترق فيها منه شيء كثير وبقيت النار يومين وسار ذكر هذا الحريق في البلدان فحمل الملوك من السلاح إلى بغداد شيئا كثيرا. وفي هذه السنة وقع الثلج بمدينة هراة أسبوعا كاملا فلما سكن جاء بعده سيل من الجبل من باب سرا خرب كثيرا من البلد ورمى من حصنه قطعة عظيمة وجاء بعده برد شديد أهلك الثمار فلم يكن بها تلك السنة شيء إلا اليسير. وفيها في شعبان خرج عسكر من الغورية مقدمهم الأمير زنكي بن مسعود إلى مدينة مرو فلقيهم نائب خوارزم شاه بمدينة سرخس وهو الأمير جقر وكمن لهم كمينا فلما وصلوا إليه هزمهم وأخذ وجوه الغورية أسرى فلم يفلت منهم إلا القليل وأخذ أميرهم زنكي أسيرا فقتل برا وعلقت رؤسهم بمرو أياما. وفيها في ذي القعدة سار الأمير عماد الدين عمر بن الحسين الغوري صاحب بلخ إلى مدينة ترمذ وهي للأتراك الخطا فافتتحها عنوة وجعل بها ولده الأكبر وقتل من بها من الخطا ونقل العلويين منها إلى [بلخ] وصارت ترمذ دار إسلام وهي من أمنع الحصون وأقواها. وفيها توفي صدر الدين السجزي شيخ خانكاه السلطان بهراة.
206 وفيها في صفر توفي أبو علي الحسن بن محمد بن عبدوس الشاعر الواسطي وهو من الشعراء المجيدين واجتمعت به بالموصل وردها مادحا لصاحبها نور الدين أرسلان شاه وغيره من المقدمين وكان نعم الرجل حسن الصحبة والعشرة. وفيها اجتمع ببغداد رجلان أعميان على رجل أعمى أيضا وقتلاه بمسجد طمعا أن يأخذا منه شيئا فلم يجدا معه ما يأخذانه وأدركهما الصباح فهربا من الخوف يريدان الموصل ورؤي الرجل مقتولا ولم يعلم قاتله فاتفق أن بعض أصحاب الشحنة اجتاز من الحريم في خصومة جرت فرأى الرجلين الضريرين فقال لمن معه هذان اللذان قتلا الأعمى يقوله مزحا فقال أحدهما هذا والله قتله؛ فقال الآخر بل أنت قتلته فأخذا إلى صاحب الباب فأقرا فقتل أحدهما وصلب الآخر على باب المسجد الذي قتلا فيه الرجل.
207 602 ثم دخلت سنة اثنتين وستمائة ذكر الفتنة بهراة في هذه السنة في المحرم ثار العامة بهراة وجرت فيه فتنة عظيمة بين أهل السوقين الحدادين والصفارين قتل فيها جماعة ونهبت الأموال وخربت الديار فخرج أمير البلد ليكفهم فضربه بعض العامة بحجر ناله منه ألم شديد واجتمع الغوغاء عليه فرفع إلى القصر الفيروزي واختفى أياما إلى أن سكنت الفتنة ثم ظهر. ذكر قتال شهاب الدين الغوري بني كوكر قد ذكرنا انهزام شهاب الدين محمد بن سام الغوري صاحب غزنة من الخطا الكفار وأن الخبر ظهر ببلاده أنه عدم من المعركة لم يقف أصحابه له على خبر فلما اشتهر هذا الخبر ثار المفسدون في أطراف البلاد وكان ممن أفسد دانيال صاحب الجودي فإنه كان قد أسلم فلما بلغه الخبر ارتد عن الإسلام وتابع بني كوكر ومساكنهم في جبال بين لهاوور والمولتان حصينة منيعة وكانوا قد أطاعوا شهاب الدين وحملوا له الخراج فلما بلغهم خبر عدمه ثاروا فيمن معهم من قبائلهم وعشائرهم وأطاعوا صاحب
208 جبل الجودي وغيره من القاطنين بتلك الجبال ومنعوا الطريق من لهاوور وغيرها إلى غزنة. فلما بلغ شهاب الدين من قتل مملوكه أيبك وقد ذكرناه أرسل إلى نائبه بلهاوور والمولتان وهو محمد بن أبي علي يأمره بحمل المال لسنة ستمائة وسنة إحدى وستمائة ليتجهز به لحرب الخطا فأجاب أن أولاد كوكر قد قطعوا الطريق ولا يمكنه إرسال المال وحضر جماعة من التجار وذكروا أن قفلا كبيرا أخذه أولاد كوكر ولم ينج منه إلا القليل فأمر شهاب الدين مملوكه أيبك مقدم عساكر الهند أن يراسل بني كوكر يدعوهم إلى الطاعة ويتهددهم إن لم يجيبوا ففعل ذلك فقال ابن كوكر لأي معنى لم يرسل السلطان إلينا رسولا فقال له الرسول وما قدركم أنتم حتى يرسل إليكم وإنما مملوكه يبصركم رشدكم ويهددكم فقال ابن كوكر لو كان شهاب الدين حيا لراسلنا وقد كنا ندفع الأموال إليه فحيث عدم فقل لأيبك يترك لنا لهاوور وما والاها وفرشابور ونحن نصالحه فقال الرسول نفذ أنت جاسوسا نثق إليه يأتيك بخبر شهاب الدين من فرشابور فلم يصغ إلى قوله فرده فعاد وأخبر بما سمع ورأى فأمر شهاب الدين مملوكه قطب الدين مملوكه قطب الدين أيبك بالعود إلى بلاده وجمع العساكر وقتال بني كوكر فعاد إلى دهلي وأمر عساكره بالاستعداد فأقام شهاب الدين في فرشابور إلى نصف شعبان من سنة وستمائة ثم عاد إلى غزنة فوصلها أول رمضان وأمر بالنداء في العساكر بالتجهز لقتال الخطا وأن المسير يكون أول شوال فتجهزوا لذلك. فاتفق أن الشكايات كثرت من بني كوكر وما يتعهدونه من إخافة السبل
209 وأنهم قد أنفذوا شحنة إلى البلاد ووافقهم أكثر الهنود وخرجوا من طاعة أمير لهاوور والمولتان وغيرهما. ووصل كتاب الوالي يذكر ما قد دهمه منهم وأن عماله قد أخرجهم بنو كوكر وجبوا الخراج وأن ابن كوكر مقدمهم أرسل إليه ليترك له لهاوور والبلاد وإلا قتله ويقول له إن لم يحضر السلطان شهاب الدين بنفسه ومعه العساكر وإلا خرجت البلاد من يده. وتحدث الناس بكثرة من معهم من الجموع وما لهم من القوة فتغير عزم شهاب الدين حينئذ عن غزو الخطا، وأخرج خيامه وسار عن غزنة خامس ربيع الأول سنة اثنتين وستمائة فلما سار وأبعد انقطعت أخباره عن الناس بغزنة وفرشابور حتى أرجف الناس بانهزامه. وكان شهاب الدين لما سار عن فرشابور أتاه خبر ابن كوكر أنه نازل في عساكره ما بين جيلم وسودرة فجد السير إليه فدهمه قبل الوقت الذي كان يقدر وصوله فيه فاقتتلوا قتالا شديدا يوم الخميس لخمس بقين من ربيع الآخر من بكرة إلى العصر واشتد القتال فبينما هم في القتال وإذ قد أقبل قطب الدين أيبك في عساكره فنادوا بشعار الإسلام وحملوا حملة صادقة فانهزم الكوكرية ومن انضم إليهم وقتلوا بكل مكان وقصدوا أجمة هناك فاجتمعوا بها وأضرموا نارا فكان أحدهم يقول لصاحبه لا تترك المسلمين يقتلونك ثم يلقي نفسه في النار فيلقي صاحبه نفسه بعده فيها فعمهم الفناء قتلا وحرقا: (فبعدا للقوم الظالمين). وكان أهلهم وأموالهم معهم لم يفارقوها فغنم المسلمون منهم ما لم يسمع بمثله حتى إن المماليك كانوا يباعون كل خمسة بدينار ركني ونحوه وهرب
210 ابن كوكر بعد أن قتل إخوته وأهله. وأما ابن دانيال صاحب جبل الجودي فإنه جاء ليلا إلى قطب الدين أيبك فاستجار به فأجاره وشفع فيه إلى شهاب الدين فشفعه فيه وأخذ منه قلعة الجودى فلما فر منهم سار نحو لهاوور ليؤمن أهلها ويسكن روعهم وأمر الناس بالرجوع إلى بلادهم والتجهيز لحرب الخطا وأقام شهاب الدين بلهاوور إلى سادس عشر رجب وعاد نحو غزنة وأرسل إلى بهاء الدين سام صاحب باميان ليتجهز للمسير إلى سمرقند ويعمل جسرا ليعبر هو وعساكره عليه. ذكر الظفر بالتيراهية كان من جملة الخارجين المفسدين أيضا على شهاب الدين التيراهية فإنهم خرجوا إلى حدود سوران ومكرهان للغارة على المسلمين فأوقع بهم نائب تاج الدين الدز مملوك شهاب الدين بتلك الناحية ويعرف بالحلحي وقتل منهم خلقا كثيرا وحمل رؤوس المعروفين فعلقت ببلاد الإسلام. وكانت فتنة هؤلاء التيراهية على بلاد الإسلام عظيمة قديما وحديثا وكان إذا وقع بأيديهم أسير من المسلمين عذبوه بأنواع العذاب. وكان أهل فرشابور معهم في ضر شديد لأنهم يحيطون بتلك الولاية من جوانبها لا سيما آخر أيام سبكتكين فإن الملوك ضعفوا وقوي هؤلاء عليهم وكانوا يغيرون على أطراف البلاد وكانوا كفارا لا دين لهم يرجعون إليه ولا مذهب يعتمدون عليه إلا أنهم كانوا إذا ولد لأحدهم بنت وقف على باب داره ونادى من يتزوج هذه من يقبلها؟ فإن أجابه
211 أحد تركها وإلا قتلها ويكون للمرأة عدة أزواج فإذا كان أحدهم عندها جعل مداسه على الباب فإذا جاء غيره من أزواجها ورأى مداسه عاد. ولم يزالوا كذلك حتى أسلم طائفة منهم آخر أيام شهاب الدين الغوري فكفوا عن البلاد. وسبب إسلامهم أنهم أسروا إنسانا من فرشابور فعذبوه فلم يمت ودامت أيامه عندهم فأحضره يوما مقدمهم وسأله عن بلاد الإسلام وقال له لو حضرت أنا عند شهاب الدين ماذا كان يعطيني فقال له كان يعطيك الأموال والأقطاع ويرد إليك حكم جميع البلاد التي لكم فأرسله إلى شهاب الدين في الدخول في الإسلام فعاد ومعه رسول بالخلع والمنشور بالأقطاع فلما وصل إليه الرسول سار هو وجماعة من أهله إلى شهاب الدين فأسلموا وعادوا وكان للناس بهم راحة فلما كانت هذه الفتنة واختلفت البلاد نزل أكثرهم من الجبال فلم يكن لهذه الطائفة بهم قدرة ليمنعوهم فأفسدوا وعملوا ما ذكرناه. ذكر قتل شهاب الدين الغوري في هذه السنة أول ليلة من شعبان قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد بن سام الغوري ملك غزنة وبعض خراسان بعد عوده من لهاوور بمنزل يقال له دميك وقت صلاة العشاء. وكان سبب قتله أن نفرا من الكفار الكوكرية لزموا عسكره عازمين على قتله لما فعل بهم من القتل والأسر والسبي فلما كان هذه الليلة تفرق عنه
212 أصحابه وكان قد عاد ومعه من الأموال ما لا يحد فإنه كان عازما على قصد الخطا والاستكثار من العساكر وتفريق المال فيهم وقد أمر عساكره بالهند باللحاق به وأمر عساكره الخراسانية بالتجهز إلى أن يصل إليهم فأتاه الله من حيث لم يحتسب ولم يغن عنه ما جمع من مال وسلاح ورجال لكن كان على نية صالحة من قتال الكفار. فلما تفرق عنه أصحابه وبقي وحده في خركاه فثار أولئك النفر فقتل أحدهم بعض الحرس بباب سرادق شهاب الدين فلما قتلوه صاح فثار أصحابه من حول السرادق لينظروا ما بصاحبهم فأخلوا مواقفهم وكثر الزحام فاغتنم الكوكرية غفلتهم عن الحفظ فدخلوا على شهاب الدين وهو في الخركاه فضربوه بالسكاكين اثنتين وعشرين ضربة فقتلوه فدخل عليه أصحابه فوجدوه على مصلاه قتيلا وهو ساجد فأخذوا أولئك الكفار فقتلوهم وكان فيهم اثنان مخنونان. وقيل إنما قتله الإسماعيلية لأنهم خافوا خروجه إلى خراسان وكان له عسكر يحاصر بعض قلاعهم على ما ذكرناه. فلما قتل اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيد الملك ابن خوجا سجستان فتحالفوا على حفظ الخزانة والملك ولزوم السكينة إلى أن يظهر من يتولاه وأجلسوا شهاب الدين وخيطوا جراحه وجعلوه في المحفة وساروا به ورتب الوزير الأمور وسكن الناس بحيث لم ترق محجمة دم ولم يوجد في أحد شيء. وكانت المحفة محفوفة بالحشم والوزير والعسكر والشمسية على حاله في حياته وتقدم الوزير إلى أمير دار العسكر بإقامة السياسة وضبط
213 العسكر، وكانت الخزانة التي في صحبته ألفي حمل ومائتي حمل وشغل الغلمان الأتراك الصغار لينهبوا المال فمنعهم الوزير والأمراء الكبار من المماليك وهو صونج صهر الدز وغيره وأمروا كل من له إقطاع عند قطب الدين أيبك مملوك شهاب الدين ببلاد الهند بالعود إليه وفرقوا فيهم أموالا كثيرة فعادوا. وسار الوزير ومعه من له أقطاع وأهل بغزنة وعلموا أنه يكون من غياث الدين محمود بن غياث الدين أخي شهاب الدين الأكبر وبين بهاء الدين صاحب باميان وهو ابن أخت شهاب الدين حروب شديدة وكان ميل الوزير والأتراك وغيرهم إلى غياث الدين محمود وكان الأمراء الغورية يميلون إلى بهاء الدين سام صاحب باميان فأرسل كل طائفة إلى من يميلون إليه يعرفونه قتل شهاب الدين وجلية الأمور وجاء بعض المفسدين من أهل غزنة فقال للمماليك إن فخر الدين الرازي قتل مولاكم لأنه هو أوصل من قتله فوضع من خوارزمشاه فثاروا به ليقتلوه فهرب وقصد مؤيد الملك الوزير فأعلمه الحال فسيره سرا إلى مأمنه. ولما وصل العسكر والوزير إلى فرشابور اختلفوا فالغورية يقولون نسير إلى غزنة على طريق مكرهان وكان غرضهم أن يقربوا من باميان ليخرج صاحبها بهاء الدين سام فيملك الخزانة قال الأتراك بل نسير على طريق سوران وكان مقصودهم أن يكونوا قريبا من تاج الدين الدز مملوك شهاب الدين وهو صاحب كرمان مدينة بين غزنة ولهاوور وليست بكرمان التي تجاور بلاد فارس ليحفظ الدز الخزانة ويرسلون من كرمان إلى غياث الدين يستدعونه إلى غزنة ويملكونه. وكثر بينهم الاختلاف حتى كادوا يقتتلون فتوصل مؤيد الملك مع
214 الغورية حتى أذنوا له وللأتراك بأخذ الخزانة والمحفة التي فيها شهاب الدين والمسير على كرمان وساروا هم على طريق مكرهان ولقي الوزير ومن معه مشقة عظيمة وخرج عليهم الأمم الذين في تلك الجبال التيراهية وأوغان وغيرهم فنالوا من أطراف العسكر إلى أن وصلوا إلى كرمان فخرج إليهم تاج الدين الدز يستقبلهم فلما عاين المحفة وفيها شهاب الدين ميتا نزل وقبل الأرض على عادته في حياة شهاب الدين وكشف عنه فلما رآه ميتا مزق ثيابه وصاح وبكى فأبكى الناس وكان يوما مشهودا. ذكر ما فعله الدز كان الدز من أول مماليك شهاب الدين وأكبرهم وأقدمهم وأكبرهم محلا عنده بحيث إن أهل شهاب الدين كانوا يخدمونه ويقصدونه في أشغالهم فلما قتل صاحبه طمع أن يملك غزنة فأول ما عمل أنه سأل الوزير مؤيد الملك عن الأموال والسلاح والدواب فأخبره بما خرج من ذلك وبالباقي معه فأنكر الحال وأساء أدبه في الجواب وقال إن الغورية قد كاتبوا بهاء الدين سام صاحب باميان ليملكوه غزنة وقد كتب إلي غياث الدين محمود وهو مولاي يأمرني أنني لا أترك أحدا يقرب من غزنة وقد جعلني نائبه فيها وفي سائر الولاية المجاورة لها لأنه مشتغل بأمر خراسان وقال للوزير إنه أمرني أيضا أن أتسلم الخزانة منك فلم يقدر على الامتناع لميل الأتراك إليه فسلمها إليه وسار بالمحفة والمماليك والوزير إلى غزنة فدفن شهاب الدين في التربة بالمدرسة التي أنشأها ودفن لبنته فيها وكان وصوله إليها في الثاني والعشرين من شعبان من السنة.
215 ذكر بعض سيرة شهاب الدين كان رحمه الله شجاعا مقداما كثير الغزو إلى بلاد الهند عادلا في رعيته حسن السيرة فيهم حاكما بينهم بما يوجبه الشرع المطهر وكان القاضي بغزنة يحضر داره من كل أسبوع السبت والأحد والاثنين والثلاثاء ويحضر معه أمير حاجب وأمير دار وصاحب التربة فيحكم القاضي وأصحاب السلطان ينفذون أحكامه على الصغير والكبير والشريف والوضيع وإن طلب أحد الخصوم والحضور عنده أحضره وسمع كلامه وأمضى عليه أوله حكم الشرع فكانت الأمور جارية على أحسن نظام. حكي عنه أنه لقيه صبي علوي عمره نحو خمس سنين فدعا له وقال لي خمسة أيام ما أكلت شيئا فعاد من الركوب لوقته ومعه الصبي فنزل في داره وأطعم العلوي أطيب الطعام بحضرته ثم أعطاه مالا بعد أن أحضر أباه وسلمه إليه وفرق في سائر العلويين مالا عظيما. وحكي أن تاجرا من مراغة كان بغزنة وله على بعض مماليك شهاب الدين دين مبلغه عشرة آلاف دينار فقتل المملوك في حرب كانت له فرفع التاجر حاله فأمر بأن يقر أقطاع المملوك بيد التاجر إلى أن يستوفي دينه ففعل ذلك. وحكي عنه أنه كان يحضر العلماء بحضرته فيتكلمون من المسائل الفقهية وغيرها وكان فخر الدين الرازي يعظ في داره فحضر يوما فوعظ وقال في آخر كلامه يا سلطان لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي وأن مردنا إلى الله! فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس لكثرة بكائه. وكان رقيق القلب وكان شافعي المذهب مثل أخيه قيل وكان حنفيا والله أعلم.
216 ذكر مسير بهاء الدين سام إلى غزنة وموته لما ملك غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام باميان أقطعها ابن عمه شمس الدين محمد بن مسعود وزوجه أخته فأتاه منها ولد اسمه سام فبقي فيها إلى أن توفي وملك بعده ابنه الأكبر واسمه عباس وأمه تركية فغضب غياث الدين وأخوه شهاب الدين في ذلك وأرسلا من أحضر عباسا عندهما فأخذ الملك منه وجعلا ابن أختهما سام ملكا على باميان وتلقب بهاء الدين وعظم شأنه ومحله وجمع الأموال ليملك البلاد بعد خاله وأحبه أمراء الغورية حبا شديدا وعظموه. فلما قتل خاله شهاب الدين سار بعض الأمراء الغورية إلى بهاء الدين سام فأخبره بذلك فلما بلغه قتله كتب إلى من بغزنة من الأمراء الغورية يأمرهم بحفظ البلد ويعرفهم أنه على الطريق سائر إليهم. وكان والي قلعة غزنة ويعرف بأمير دار وقد أرسل ولده إلى بهاء الدين سام يستدعيه إلى غزنة فأعاد جوابه أنه تجهز ويصل إليه ويعده الجميل والإحسان وكتب بهاء الدين إلى علاء الدين محمد بن أبي علي ملك الغور يستدعيه إليه وإلى غياث الدين محمود بن غياث الدين وإلى ابن خرميل وإلى هراة يأمرهما بإقامة الخطبة له وحفظ ما بأيديهما من الأعمال ولم يظن أن أحدا يخالفه فأقام أهل غزنة ينتظرون وصوله أو وصول غياث الدين محمود والأتراك ويقولون لا نترك غير ابن سيدنا يعنون غياث الدين يدخل غزنة. والغورية يتظاهرون بالميل إلى بهاء الدين ومنع غيره فسار من باميان إلى
217 غزنة في عساكر ومعه ولداه علاء الدين محمود وجلال الدين فلما سار عن باميان مرحلتين وجد صداعا فنزل يستريح ينتظر خفته عنه فازداد الصداع وعظم الأمر عليه فأيقن بالموت فأحضر ولديه وعهد إلى علاء الدين وأمرهما بقصد غزنة وحفظ مشايخ الغورية وضبط الملك وبالرفق بالرعايا وبذل الأموال وأمرهما أن يصالحا غياث الدين على أن يكون له خراسان وبلاد الغور ويكون لهما غزنة وبلاد الهند. ذكر ملك علاء الدين غزنة وأخذها منه لما فرغ بهاء الدين من وصيته توفي فسار ولداه إلى غزنة فخرج أمراء الغورية وأهل البلد فلقوهما وخرج الأتراك معهم على كره منهم ودخلوا البلد وملكوه ونزل علاء الدين وجلال الدين دار السلطنة مستهل رمضان وكانوا قد وصلوا في ضر وقلة من العسكر وأراد الأتراك منعهم فنهاهم مؤيد الملك وزير شهاب الدين لقلتهم ولاشتغال غياث الدين بابن خرميل والي هراة على ما نذكره فلم يرجعوا ولما استقرا بالقلعة ونزلا بدار السلطانية راسلهما الأتراك بأن يخرجا من الدار وإلا قاتلوهما ففرقا فيهم أموالا كثيرة واستحلفاهم فحلفوا واستثوا غياث الدين محمودا وأنفذا خلعا إلى تاج الدين الدز وهو بإقطاعه مع رسول وطلباه إلى طاعتهما وواعداه بالأموال والزيادة في الأقطاع وإمارة الجيش والحكم في جميع الممالك فأتاه الرسول فلقيه وقد سار عن
218 كرمان في جيش كثير من الترك والخلج والغز وغيرهم فأبلغه الرسالة فلم يلتفت إليه وقال لهما يعود إلى باميان وفيها كفاية فإني قد أمرني مولاي غياث الدين أن أسير إلى غزنة وأمنعهما عنها فإن عادا إلى بلدهما وإلا فعلت بهما وبمن معهما ما يكرهون. ورد ما معه من الهدايا والخلع ولم يكن قصد الدز بهذا حفظ بيت صاحبه وإنما أراد أن يجعل هذا طريقا إلى ملك غزنة لنفسه. فعاد الرسول وأبلغ علاء الدين رسالة الدز فأرسل وزيره وكان قبله وزير أبيه إلى باميان وبلخ وترمذ وغيرها من بلادهم ليجمع العساكر ويعود إليه فأرسل الدز إلى الأتراك الذين بغزنة يعرفهم أن غياث الدين أمره أن يقصد غزنة ويخرج علاء الدين وأخاه منها فحضروا عند وزير علاء الدين وطلبوا منه سلاحا ففتح خزانة السلاح فهرب ابن الوزير إلى علاء الدين وقال له قد كان كذا وكذا فلم يقدر [أن] يفعل شيئا. وسمع مؤيد الملك وزير شهاب الدين فركب وأنكر على الخازن تسليم المفاتيح وأمره فاسترد ما نهبه الترك جميعه لأنه كان كطاعا فيهم. ووصل الدز إلى غزنة فأخرج إليه علاء الدين جماعة من الغورية ومن الأتراك وفيهم صونج صهر الدز فأشار عليه أصحابه أن لا يفعل وينتظر العسكر مع وزيره فلم يقبل منهم وسير العساكر فالتقوا خامس رمضان فلما لقوه خدعه الأتراك وعادوا معه على عسكر علاء الدين فقاتلوهم فهزموهم وأسروا مقدمهم وهو محمد بن علي بن حردون ودخل عسكر الدز المدينة فنهبوا بيوت الغورية والبامانية وحصر الدز القلعة فخرج جلال الدين منها
219 في عشرين فارسا وسار عن غزنة، فقالت له امرأة تستهزئ به إلى أين تمضي خذ الجتر والشمسة معك ما أقبح خروج السلاطين هكذا فقال لها إنك سترين ذلك اليوم وأفعل بكم ما تقرون به بالسلطنة لي. وكان قد قال لأخيه احفظ القلعة إلى أن آتيك بالعساكر فبقي الدز يحاصرها وأراد من مع الدز نهب البلد فنهاهم عن ذلك، وأرسل إلى علاء الدين يأمره بالخروج من القلعة وتهدده إن لم يخرج منها وترددت الرسل بينهما في ذلك فأجاب إلى مفارقتها والعود إلى بلده وأرسل من حلف له الدز أن لا يؤذيه ولا يعترض إليه ولا إلى أحد ممن يحلف له. وسار عن غزنة فلما رآه الدز وقد نزل من القلعة عدل إلى تربة شهاب الدين مولاه ونزل إليها ونهب الأتراك ما كان مع علاء الدين وألقوه عن فرسه وأخذوا ثيابه وتركوه عريانا بسراويله. فلما سمع الدز ذلك أرسل إليه بدواب وثياب ومال واعتذر إليه فأخذ ما لبسه وترك الباقي فلما وصل إلى باميان لبس ثياب سواد وركب حمارا فأخرجوا له مراكب ملوكية وملابس جميلة فلم يركب ولم يلبس وقال أريد [أن] يراني الناس وما صنع بي أهل غزنة حتى إذا عدت إليها وخربتها ونهبتها لا يلومني أحد ودخل دار الإمارة وشرع في جمع العساكر. ذكر ملك الدز غزنة قد ذكرنا استيلاء الدز على الأموال والسلاح والدواب وغير ذلك مما كان صحبة شهاب الدين وأخذه من الوزير مؤيد الملك فجمع له العساكر
220 من أنواع الناس الأتراك والخلج وغيرهم وسار إلى غزنة وجرى له مع علاء الدين ما ذكرنا. فلما خرج علاء الدين من غزنة أقام الدز بداره أربعة أيام يظهر طاعة غياث الدين إلا أنه لم يأمر الخطيب بالخطبة له ولا لغيره وإنما يخطب للخليفة ويترحم على شهاب الدين الشهيد حسب. فلما كان في اليوم الرابع أحضر مقدمي الغورية والأتراك وذم من كاتب علاء الدين وأخاه وقبض على أمير دار والي غزنة فلما كان الغد وهو سادس عشر رمضان أحضر القضاة والفقهاء والمقدمين وأحضر رسول الخليفة وهو الشيخ مجد الدين أبو علي بن الربيع الفقيه الشافعي مدرس النظامية ببغداد وكان قد ورد إلى غزنة رسولا إلى شهاب الدين فقتل شهاب الدين وهو بغزنة فأرسل إليه والى قاضي غزنة يقول له إنني أريد [أن] أنتقل إلى الدار السلطانية وأن أخاطب بالملك ولا بد من حضورك والمقصود من هذا أن تستقر أمور الناس فحضر عنده فركب الدز والناس في خدمته وعليه ثياب الحزن وجلس في الدار في غير مجلس كان يجلس فيه شهاب الدين فتغيرت لذلك نيات كثير من الأتراك لأنهم كانوا يطيعونه ظنا منهم أنه يريد الملك لغياث الدين فحيث رأوه يريد الانفراد تغيروا عن طاعته حتى إن بعضهم بكى غيظا من فعله وأقطع الإقطاعات الكثيرة وفرق الأموال الجليلة. وكان عند شهاب الدين جماعة من أولاد ملوك الغور وسمرقند وغيرهم،
221 فأنفوا من خدمة الدز وطلبوا منه أن يقصدوا خدمة غياث الدين وأخيه صاحبي باميان وأرسل غياث الدين إلى الدز يشكره ويثني عليه لإخراج أولاد بهاء الدين من غزنة وسير له الخلع وطلب منه الخطبة والسكة فلم يفعل وأعاد الجواب فغالطه وطلب منه أن يخاطبه بالملك وأن يعتقه من الرق لأن غياث الدين ابن أخي سيده لا وارث له سواه وأن يزوج ابنه بابنة الدز فلم يجبه إلى ذلك. واتفق أن جماعة من الغوريين من عسكر صاحب باميان أغاروا على أعمال كرمان وسوران وهي أقطاع الدز القديمة فغنموا وقتلوا فأرسل صهره صونج في عسكر فلقوا عسكر الباميان فظفر بهم وقتل منهم كثيرا وأنفذ رؤوسهم إلى غزنة فنصبت بها. وأجرى الدز في غزنة رسول شهاب الدين وفرق في أهلها أموالا جليلة المقدار وألزم مؤيد الملك أن يكون وزيرا له فامتنع من ذلك فألح عليه فأجابه على كره منه فدخل على مؤيد الملك صديق له يهنئه فقال بماذا تهنئني من بعد ركوب الجواد بالحمار وأنشد: (ومن ركب الثور بعد الجواد * أنكر إطلاقه والغيب) بينا الدز يأتي بابي ألف مرة حتى آذن له في الدخول أصبح على بابه! ولو حفظ النفس مع هؤلاء الأتراك لكان لي حكم آخر. ذكر حال غياث الدين بعد قتل عمه وأما غياث الدين محمود بن غياث الدين فإنه كان في أقطاعه وهو بست واسفرار وكان الملك علاء الدين بن محمد بن
222 أبي علي قد ولاه شهاب الدين بلاد الغور وغيرها من أرض الراون فلما بلغه قتله سار إلى فيروزكوه خوفا أن يسبقه إليها غياث الدين فيملك البلد ويأخذ الخزائن التي بها. وكان علاء الدين حسن السيرة من أكابر بيوت الغورية إلا أن الناس كرهوه لميلهم إلى غياث الدين وأبي الأمراء من خدمته مع وجود ولد غياث الدين سلطانهم ولأنه كان كراميا مغاليا في مذهبه وأهل فيروزكوه شافعية وألزمهم أن يجعلوا الإقامة مثنى فلما وصل إلى فيروزكوه أحضر جماعة من الأمراء منهم محمد المرغني وأخوه ومحمد بن عثمان وهم من أكابر الأمراء وحلفهم على مساعدته على قتال خوارزمشاه وبهاء الدين صاحب باميان ولم يذكر غياث الدين احتقارا له فحلفوا له ولولده من بعده. وكان غياث الدين بمدينة بست لم يتحرك في شيء انتظارا لما يكون من صاحب باميان لأنهما كانا قد تعاهدا أيام شهاب الدين أن تكون خراسان لغياث الدين وغزنة والهند لبهاء الدين وكان بهاء الدين أقوى فلهذا لم يفعل شيئا فلما بلغه خبر موت بهاء الدين جلس على التخت وخطب لنفسه بالسلطنة عاشر رمضان وحلف الأمراء الذين قصدوه وهم إسماعيل الخلجي وسونج أمير أشكار وزنكي بن خرجوم وحسين الغوري صاحب تكياباذ وغيرهم وتلقب بألقاب أبيه غياث الدنيا والدين، وكتب إلى علاء الدين محمد بن أبي علي وهو بفيروزكوه يستدعيه إليه ويستعطفه ليصده عن رأيه ويسلم مملكته إليه وكتب إلى الحسين بن خرميل وإلى هراة مثل ذلك أيضا ووعده الزيادة في الإقطاع.
223 فأما علاء الدين فأغلظ له في الجواب وكتب إلى الأمراء الذين معه يتهددهم فرحل غياث الدين إلى فيروزكوه فأرسل علاء الدين عسكرا مع ولده وفرق فيهم مالا كثيرا وخلع عليهم ليمنعوا غياث الدين فلقوه قريبا من فيروزكوه فلما تراءى الجمعان كشف إسماعيل الخلجي المغفر عن وجهه وقال الحمد لله أن الأتراك الذين لا يعرفون أباءهم لم يضيعوا حق التربية وردوا ابن ملك باميان وأنتم مشايخ الغورية الذين أنعم عليكم والد هذا السلطان ورباكم وأحسن إليكم كفرتم الإحسان وجئتم تقاتلون ولده أهذا فعل الأحرار؟ فقال محمد المرغني وهو مقدم العسكر الذين يصدرون عن رأيه لا والله ثم ترجل عن فرسه وألقى سلاحه وقصد غياث الدين وقبل الأرض بين يديه وبكى بصوت عال وفعل سائر الأمراء كذلك فانهزم أصحاب علاء الدين مع ولده. فلما بلغه الخبر خرج عن فيروزكوه هاربا نحو الغور وهو يقال أنا أمشي أجاور بمكة فأنفذ غياث الدين خلفه من رده إليه فأخذه وحبسه وملك فيروزكوه وفرح به أهل البلد وقبض غياث الدين على جماعة من أصحاب علاء الدين الكرامية وقتل بعضهم. ولما دخل غياث الدين فيروزكوه ابتدأ بالجامع فصلى فيه ثم ركب إلى دار أبيه فسكنها وأعاد رسوم أبيه واستخدم حاشيته وقدم عليه عبد الجبار بن محمد الكيراني وزير أبيه واستوزره وسلك طريق أبيه في الإحسان والعدل. ولما فرغ غياث الدين لم يكن له همة إلا ابن خرميل بهراة واجتذابه إلى طاعته فكاتبه وراسله واتخذه أبا واستدعاه إليه. وكان ابن خرميل قد بلغه موت شهاب الدين ثامن رمضان فجمع أعيان
224 الناس، منهم: قاضي هراة صاعد بن الفضل النيسابوري وعلي بن عبد الخلاق بن زياد مدرس النظامية بهراة وشيخ الإسلام رئيس هراة ونقيب العلويين ومقدمي المحال وقال لهم قد بلغني وفاة السلطان شهاب الدين وأنا في نحو خوارزمشاه وأخاف الحصار وأريد أن تحلفوا لي على المساعدة على كل من نازعني فأجابه القاضي وابن زياد بأننا نحلف على كل الناس إلا ولد غياث الدين فحقد عليهما فلما وصل كتاب غياث الدين خاف ميل الناس إليه فغالطه في الجواب. وكان ابن خرميل قد كاتب خوارزمشاه يطلب منه أن يرسل إليه عسكرا ليصير في طاعته ويمتنع به على الغورية فطلب منه خوارزمشاه إنفاذ ولده رهينة ويرسل إليه عسكرا فسير ولده إلى خوارزمشاه فكتب خوارزمشاه إلى عسكره الذين بنيسابور وغيرها من بلاد خراسان يأمرهم بالتوجه إلى هراة وأن يكونوا يتصرفون بأمر ابن خرميل ويمتثلون أمره. هذا وغياث الدين يتابع الكتب إلى ابن خرميل وهو يحتج بشيء بعد شيء انتظارا لعسكر خوارزمشاه ولا يؤيسه من طاعته ولا يخطب له ويعطيه طاعة غير مستوية. ثم إن الأمير علي بن أبي علي صاحب كالوين أطلع غياث الدين على حال ابن خرميل فعزم غياث الدين على التوجه إلى هراة فثبطه بعض الأمراء الذين معه وأشاروا عليه بانتظار آخر أمره وترك محاقته. واستشار ابن خرميل القاضي في أمر غياث الدين فقال له علي بن عبد الخلاق بن زياد مدرس النظامية بهراة وهو متولي وقوف خراسان التي بيده للغورية جميعها ينبغي أن تخطب للسلطان غياث الدين وتترك المغالطة إنني أخاف على نفسي فامض أنت وتوثق لي منه. وكان قصده أن يبعده عن نفسه، فمضى برسالته إلى غياث الدين، وأطلعه
225 على ما يريد ابن خرميل يفعله من الغدر به والميل إلى خوارزم شاه وحثه على قصد هراة وقال له أنا أسلمها إليك ساعة تصل إليها ووافقه بعض الأمراء وخالفه غيرهم وقال ينبغي أن لا تترك له حجة فترسل إليه تقليدا بولاية هراة ففعل ذلك وسيره مع ابن زياد وبعض أصحابه. ثم إن غياث الدين كاتب أميران بن قيصر صاحب الطالقان يستدعيه إليه فتوقف وأرسل إلى صاحب مرو ليسير إليه فتوقف أيضا فقال له أهل البلد إن لم تسلم البلد إلى غياث الدين وتتوجه وإلا سلمناك وقيدناك وأرسلناك إليه فاضطر إلى المجيء إلى فيروزكوه فخلع عليه غياث الدين وأقطعه إقطاعات شتى وأقطع الطالقان سونج مملوك أبيه المعروف بأمير أشكار. ذكر استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان قد ذكرنا مكاتبة الحسين بن خرميل والي هراة خوارزم شاه ومراسلته في الانتماء إليه والطاعة له وترك طاعة الغورية وخداعه لغياث الدين ومغالطته له بالخطبة له والطاعة انتظارا لوصول عسكر خوارزم شاه ووصول رسول غياث الدين وابن زياد بالخطبة فقال يوم الجمعة نخطب له. فاتفق قرب عسكر خوارزم شاه منهم فلما كان يوم الجمعة قيل له في معنى الخطبة فقال نحن في شغل أهم منها بوصول هذا العدو فطالت المجادلات بينهم في ذلك وهو مصر على الامتناع منها ووصل عسكر خوارزم شاه فلقيهم ابن خرميل وأنزلهم على باب البلد فقالوا له: قد
226 أمرنا خوارزمشاه أننا لا نخالف لك أمر فشكرهم على ذلك وكان يخرج إليهم كل يوم وأقام لهم الوظائف الكثيرة. وأتاه الخبر أن خوارزمشاه نزل على بلخ فحاصرها فلقيه صاحبها. وقاتله بظاهر البلد فلم ينزل بالقرب منها فنزل على أربعة فراسخ فندم ابن خرميل على طاعة خوارزمشاه وقال لخواصه لقد أخطأنا حيث صرنا مع هذا الرجل فإنني أراه عاجزا. وشرع في إعادة العسكر فقال للأمراء إن خوارزمشاه قد أرسل إلى غياث الدين يقول له إنني على العهد الذي بيننا وأنا أترك ما كان لأبيك بخراسان والمصلحة أن ترجعوا حتى ننظر ما يكون فعادوا وأرسل إليهم الهدايا الكثيرة. وكان غياث الدين حيث اتصل به وصول عسكر خوارزمشاه إلى هراة أخذ إقطاع ابن خرميل وأرسل إلى كرزبان وأخذ كل ما له بها من مال وأولاد ودواب وغير ذلك وأخذ أصحابه في القيود وأتاه كتب من يميل إليه من الغورية يقولون له إن رآك غياث الدين قتلك. ولما سمع أهل هراة بما فعل غياث الدين بأهل ابن خرميل وماله عزموا على قبضه والمكاتبة إلى غياث الدين بإنفاذ من يتسلم البلد وكتب القاضي صاعد قاضي هراة وابن زياد إلى غياث الدين بذلك فلما سمع ابن خرميل بما فعله غياث الدين بأهله وبما عزم عليه أهل هراة خاف أن يعالجه بالقبض فحضر عند القاضي وأحضر أعيان البلد وألا لهم القول وتقرب إليهم وأظهر طاعة غياث الدين وقال قد رددت عسكر خوارزمشاه وأريد [أن] أرسل رسولا إلى غياث الدين بطاعتي والذي أوثره منكم أن
227 تكتبوا معه كتابا بطاعتي فاستحسنوا قوله وكتبوا له بما طلب وسير رسوله إلى فيروزكوه وأمره إذا جنه الليل أن يرجع على طريق نيسابور يلحق عسكر خوارزمشاه ويجد السير فإذا لحقهم ردهم إليه. ففعل الرسول ما أمره ولحق العسكر على يومين من هراة فأمرهم بالعود فعادوا فلما كان اليوم الرابع من سير الرسول وصلوا إلى هراة والرسول بين أيديهم فلقيهم ابن خرميل وأدخلهم البلد والطبول تضرب بين أيديهم فلما دخلوا أخذ ابن زياد الفقيه فسمله وأخرج القاضي صاعدا من البلد فسار إلى غياث الدين بفيروزكوه وأخرج من عنده من الغورية وكل من يعلم أنه يريدهم وسلم أبواب البلد إلى الخوارزمية. وأما غياث الدين فإنه برز من فيروزكوه نحو هراة وأرسل عسكرا فأخذوا حشيرا كان لأهل هراة فخرج الخوارزمية فشنوا الغارة على هراة الروذ وغيره فأمر غياث الدين عسكره بالتقدم إلى هراة وجعل المقدم عليهم على بن أبي علي وأقام هو بفيروزكوه لما بلغه أن خوارزمشاه على بلخ فسار العسكر وعلى يزكه الأمير أميران بن قيصر الذي كان صاحب الطالقان فأرسل إلى ابن خرميل يعرفه أنه على اليزك ويأمره بالمجيء إليه فإنه لا يمنعه وحلف له على ذلك. فسار ابن خرميل في عسكره فكبس عسكر غياث الدين فلم يلحقوا يركبون خيولهم حتى خالطوهم فقتلوا فيهم فكف ابن خرميل أصحابه عن الغورية خوفا أن يهلكوا وغنم وأسر إسماعيل الخلجي وأقام بمكانه وأرسل عسكره فشنوا الغارة على البلاد باذغيس وغيرها.
228 وعظم الأمر على غياث الدين فعزم على المسير إلى هراة بنفسه فأتاه الخبر أن علاء الدين صاحب باميان قد عاد إلى غزنة على ما نذكره فأقام ينتظر ما يكون منهم ومن الدز. وأما بلخ فإن خوارزم شاه لما بلغه قتل شهاب الدين أخرج من كان عنده من الغوريين الذين كان أسرهم في المصاف على باب خوارزم فخلع عليهم وأحسن إليهم وأعطاهم الأموال وقال إن غياث الدين أخي ولا فرق بيني وبينه فمن أحب منكم المقام عندي فليقم ومن أحب أن يسير إليه فإني أسيره ولو أراد مني مهما أراد نزلت له عنه. وعهد إلي محمد بن علي بن بشير وهو من أكابر الأمراء الغورية فأحسن إليه وأقطعه استمالة للغورية وجعله سفيرا بينه وبين صاحب بلخ فسير أخاه علي شاه بين يديه في عسكره إلى بلخ فلما قاربها خرج إليه عماد الدين عمر بن الحسين الغوري أميرها فدفعه عن النزول عليها فنزل على أربعة فراسخ عنها فأرسل إلى أخيه خوارزم شاه يعلمه قوتهم فسار إليها في ذي القعدة من السنة فلما وصل إلى بلخ خرج صاحبها فقاتلهم فلم يقو بهم لكثرتهم فنزلوا فصار يوقع بهم ليلا فكانوا معه على أقبح سورة فأقام صاحب بلخ محاصرا وهو ينتظر المدد من أصحابه أولاد بهاء الدين صاحب باميان، وكانوا قد اشتغلوا عنه بغزنة على ما نذكره. فأقام خوارزم شاه على بلخ أربعين يوما كل يوم يركب إلى الحرب فيقتل من أصحابه كثير ولا يظفر بشيء فراسل صاحبها عماد الدين مع محمد بن علي بن بشير الغوري وبذل له بذلا كثيرا ليسلم إليه البلد فلم يجبه إلى ذلك وقال لا أسلم البلد إلا إلى أصحابه فعزم على المسير إلى هراة فلما سار أصحابه أولاد بهاء الدين صاحب باميان إلى غزنة المرة الثانية على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وأسرهم تاج الدين الدز عاد عن ذلك
229 العزم، وأرسل محمد بن علي بن بشير إلى عماد الدين نائبه يعرفه حال أصحابه وأسرهم وأنه لا يبقى عليه حجة ولا له في التأخر عنه عذر فدخل إليه ولم يزل يخدعه تارة يرغبه وتارة يرهبه حتى أجاب إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له وذكر اسمه على السكة وقال أنا أعلم أنه لا يفي له وأرسل من يستحلفه على ما أراد فتم الصلح وخرج إلى خوارزم شاه فخلع عليه وأعاد إلى بلده وكان سلخ ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة. ثم سار خوارزم شاه إلى كرزيان ليحاصرها وبها علي بن أبي علي وأرسل إلى غياث الدين يقول إن هذه كان قد أقطعها عمك لابن خرميل فتنزل عنها فامتنع وقال بيني وبينكم السيف فأرسل إليه خوارزم شاه مع محمد بن علي بن بشير فرغبه وآيسه من نجدة غياث الدين ولم يزل به حتى نزل عنها وسلمها وعاد إلى فيروزكوه فأمر غياث الدين بقتله فشفع فيه الأمراء فتركه وسلم خوارزم شاه كرزبان إلى ابن خرميل ثم أرسل إلى عماد الدين صاحب بلخ يطلبه إليه ويقول قد حضر معهم ولا غنى عن حضورك فأنت اليوم من أخص أوليائنا فحضر عنده فقبض عليه وسيره إلى خوارزم ومضى هو إلى بلخ فأخذها واستناب بها جعفرا التركي.
230 ذكر ملك خوارزم شاه ترمذ وتسلمها إلى الخطا لما أخذ خوارزمشاه مدينة بلخ سار عنها إلى مدينة ترمذ مجدا وبها ولد عماد الدين الذي كان صاحب بلخ فأرسل إليه محمد بن علي بن بشير يقول له إن أباك قد صار من أخص أصحابي وأكابر أمراء دولتي وقد سلم إلي بلخ وإنما ظهر لي منه ما أنكرته فسيرته إلى خوارزم مكرما محترما وأما أنت فتكون عندي أخا. ووعده، وأقطعه الكثير فخدعه محمد بن علي فرأى صاحبها أن خوارزم شاه قد حصره من جانب والخطا قد حصروه من جانب آخر وأصحابه قد أسرهم الدز بغزنة فضعفت نفسه وأسل من يستحلف له خوارزم شاه فحلف له وتسلم منه ترمذ وسلمها إلى الخطا فلقد اكتسب بها خوارزمشاه مسبة عظيمة وذكرا قبيحا في عاجل الأمر ثم ظهر للناس بعد ذلك أنه إنما سلمها إليهم ليتمكن بذلك من ملك خراسان ثم يعود إليهم فيأخذها وغيرها منهم لأنه لما ملك خراسان وقصد بلاد الخطا وأخذها وأفناهم ظهر على الناس أنه فعل ذلك خديعة ومكرا غفر الله له. ذكر عود أصحاب باميان إلى غزنة قد ذكرنا قبل وصول الدز التركي إلى غزنة وإخراجه علاء الدين وجلال الدين ولدي بهاء الدين سام صاحب باميان منها بعد أن ملكها وأقام هو في غزنة من عاشر رمضان سنة اثنتين وستمائة إلى خامس ذي القعدة من
231 السنة، يحسن السيرة ويعدل في الرعية وأقطع البلاد للأجناد فبعضهم قام وبعضهم سار إلى غياث الدين ولم يخطب لأحد ولا لنفسه وكان يعد الناس بأن رسولي عند مولاي غياث الدين فإذا عاد خطبت له ففرح الناس بقوله. وكان يفعل ذلك مكرا وخديعة بهم وبغياث الدين لأنه لو لم يظهر ذلك لفارقه أكثر الأتراك وسائر الرعايا وكان حينئذ يضعف عن مقاومة صاحب باميان فكان يستخدم الأتراك وغيرهم بهذا القول وأشباهه. فلما ظفر بصاحب باميان على ما نذكره أظهر ما كان يضمره فبينما هو في هذا أتاه الخبر بقرب علاء الدين وجلال الدين ولدي بهاء الدين صاحب باميان في العساكر الكثيرة وأنهم قد عزموا على نهب غزنة واستباحة الأموال والأنفس فخاف الناس خوفا شديدا وجهز الدز كثيرا من عسكره وسيرهم إلى طريقهم فلقوا أوائل العسكر فقتل من الأتراك [جماعة]، وأدركهم العسكر فلم يكن لهم قوة بهم فانهزموا وتبعهم عسكر علاء الدين يقتلون ويأسرون فوصل المنهزمون إلى غزنة فخرج عنها الدز منهزما يطلب بلده كرمان فأدركه بعض عسكر باميان نحو ثلاثة آلاف فارس فقاتلهم قتالا شديدا فردهم عنه وأحضر من كرمان مالا كثيرا وسلاحا ففرقه في العسكر. وأما علاء الدين وأخوه فإنهما تركا غزنة لم يدخلاها وسارا في أثر الدز فسمع بهم فسار عن كرمان فنهب الناس بعضهم بعضا وملك علاء الدين كرمان وأمنوا أهلها وعزموا على العود إلى غزنة ونهبها، فسمه أهلها بذلك فقصدوا القاضي سعيد بن مسعود وشكوا إليه حالهم فمشى إلى وزير علاء الدين المعروف بالصاحب وأخبره بحال الناس فطيب قلوبهم،
232 وأخبرهم غيره ممن يثقون إليه أنهم مجمعون على النهب فاستعدوا وضيقوا أبواب الدروب والشوارع وأعدوا العرادات والأحجار وجاءت التجار من العراق والموصل والشام وغيرهم وشكوا إلى أصحاب السلطان فلم يسكنهم أحد فقصدوا دار مجد الدين ابن الربيع رسول الخليفة واستغاثوا به فسكنهم ووعدهم الشفاعة فيهم وفي أهل البلد فأرسل إلى أمير كبير من الغورية يقال له سليمان بن سيسر وكان شيخا كبيرا يرجعون إلى قوله يعرفه الحال ويقول له يكتب إلى علاء الدين وأخيه يتشفع في الناس ففعل وبالغ عن الناس بعد مراجعات كثيرة. وكانوا قد وعدوا من معهم من العساكر بنهب غزنة فعوضوهم من الخزانة فسكن الناس، وعاد العسكر إلى غزنة أواخر ذي القعدة ومعهم الخزانة التي أخذها الدز من مؤيد الملك لما عاد ومعه شهاب الدين قتيلا فكانت مع ما أضيف إليها من الثياب والعين تسعمائة حمل ومن جملة ما كان فيها من الثياب الممزج المنسوج بالذهب اثني عشر ألف ثوب. وعزم علاء الدين [أن] يستوزر مؤيد الملك فسمع أخوه جلال الدين فأحضره وخلع عليه على كراهة منه للخلعة واستوزره فلما سمع علاء الدين بذلك قبض على مؤيد الملك وقيده وحبسه فتغيرت نيات الناس واختلفوا ثم إن علاء الدين وجلال الدين اقتسما الخزانة وجرى بينهما من المشاحنة ما لا يجري بين التجار فاستدل بذلك الناس على أنهما لا يستقيم لهما حال لبخلهما واختلافهما وندم الأمراء على ميلهم إليهما وتركهم غياث الدين مع ما ظهر من كرمه وإحسانه.
233 ثم إن جلال الدين وعمه عباسا سارا في بعض العسكر إلى باميان وبقي علاء الدين بغزنة فأساء وزيره عماد الملك السيرة مع الأجناد والرعية ونهب أموال الأتراك حتى أنهم باعوا أمهات أولادهم وهن يبكين ويصرخن ولا يلتفت إليهن. ذكر عود الدز إلى غزنة لما سار جلال الدين عن غزنة وأقام بها أخوه علاء الدين جمع الدز ومن معه من الأتراك عسكرا كثيرا وعادوا إلى غزنة فوصلوا إلى كلوا فملكوها وقتلوا جماعة من الغورية ووصل المنهزمون إلى كرمان فسار الدز إليهم وجعل على مقدمته مملوكا كبيرا من مماليك شهاب الدين اسمه أي دكز التتر في ألفي فارس من الخلج والأتراك والغز والغورية وغيرهم. وكان بكرمان عسكر لعلاء الدين مع أمير يقال له ابن المؤيد ومعه جماعة من الأمراء منهم أبو علي بن سليمان بن سيسر وهو وأبوه من أعيان الغورية وكانا مشتغلين باللعب واللهو والشرب لا يفتران من ذلك فقيل لهما إن عسكر الأتراك قد قربوا منكم فلم يلتفتا إلى ذلك ولا تركا ما كانا عليه فهجم عليهم أي دكز التتر ومن معه من الأتراك فلم يمهلهم يركبون خيولهم فقتلوا عن آخرهم منهم من قتل في المعركة ومنهم من قتل صبرا ولم ينج إلا من تركه الأتراك عمدا. ولما وصل الدز فرأى أمراء الغورية كلهم قتلى قال كل هؤلاء قاتلونا؟
234 فقال أي دكز التتر: لا بل قتلناهم صبرا فلامه على ذلك ووبخه وأحضر رأس ابن المؤيد بين يديه فسجد شكرا لله تعالى وأمر بالمقتولين فغسلوا ودفنوا وكان في جملة القتلى أبو علي بن سليمان ابن سيس. ووصل الخبر إلى غزنة في العشرين من ذي الحجة من هذه السنة فصلب علاء الدين الذي جاء بالخبر فتغيمت السماء وجاء مطر شديد خرب بعض غزنة وجاء بعده برد كبار مثل بيض الدجاج فضج الناس إلى علاء الدين بإنزال المصلوب فأنزله آخر النهار فانكشفت الظلمة وسكن ما كانوا فيه. وملك الدز كرمان وأحسن إلى أهلها وكانوا في ضر شديد مع أولئك. ولما صح الخبر عند علاء الدين أرسل وزيره الصاحب إلى أخيه جلال الدين في باميان يخبره بحال الدز ويستنجده وكان قد أعد العساكر ليسير إلى بلخ يرحل عنها خوارزمشاه فلما أتاه هذا الخبر ترك بلخ وسار إلى غزنة وكان أكثر عسكره من الغورية قد فارقوه وفارقوا أخاه وقصدوا غياث الدين فلما كان أواخر ذي الحجة وصل الدز إلى غزنة ونزل هو وعسكره بإزاء قلعة غزنة وحضر علاء الدين وجرى بينهم قتال شديد وأمر الدز فنودي في البلد بالأمان وتسكين الناس من أهل البلد والغورية وعسكر باميان وأقام الدز محاصرا للقلعة فوصل جلال الدين في أربعة آلاف من عسكر باميان وغيرهم فرحل الدز إلى طريقهم وكان مقامه إلى أن سار إليهم أربعين يوما فلما سار الدز سير علاء الدين من كان عنده من العسكر وأمرهم أن يأتوا الدز من خلفه ويكون أخوه من بين يديه فلا يسلم من عسكره أحد فلما خرجوا من القلعة سار سليمان بن سيسر الغوري إلى غياث الدين بفيروزكوه فلما وصل أكرمه وعظمه وجعله أمير دار فيروزكوه وكان ذلك في صفر سنة ثلاث وستمائة.
235 وأما الدز فإنه سار إلى طريق جلال الدين فالتقوا بقرية بلق فاقتتلوا قتالا صبروا فيه فانهزم جلال الدين وعسكره وأخذ جلال الدين أسيرا وأتي به إلى الدز فلما رآه ترجل وقيل يده وأمر بالاحتياط عليه وعاد إلى غزنة وجلال الدين معه ألف أسير من الباميانية، وغنم أصحابه أموالهم. ولما عاد إلى غزنة أرسل إلى علاء الدين يقول له ليسلم القلعة إليه وإلا قتل من عنده من الأسرى فلم يسلمها فقتل منهم أربعمائة أسير بإزاء القلعة فلما رأى علاء الدين ذلك أرسل مؤيد الملك يطلب الأمان فأمنه الدز فلما خرج قبل عليه ووكل به وبأخيه من يحفظهما وقبض على وزيره لسوء سيرته وكان هندوخان ملكشاه بن خوارزمشاه تكش مع علاء الدين بقلعة غزنة فلما خرج منها قبض عليه أيضا وكتب إلى غياث الدين بالفتح وأرسل إليه الأعلام وبعض الأسرى. ذكر قصد صاحب مراغة وصاحب إربل أذربيجان في هذه السنة اتفق صاحب مراغة وهو علاء الدين هو ومظفر الدين كوكبري صاحب إربل على قصد أذربيجان وأخذها من صاحبها أبي بكر بن البهلوان لاشتغاله بالشرب ليلا ونهارا وتركه النظر في أحوال المملكة وحفظ العساكر والرعايا فسار صاحب إربل إلى مراغة واجتمع هو وصاحبها علاء الدين وتقدما نحو تبريز فلما علم صاحبها أبو بكر
236 أرسل إلى إيدغمش صاحب بلاد الجبل همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد وهو مملوك أبيه البهلوان وهو في طاعة أبي بكر إلا أنه قد غلب على البلاد فلا يلتفت إلى أبي بكر فأرسل إليه أبو بكر يستنجده ويعرفه الحال وكان حينئذ ببلد الإسماعيلية فلما أتاه الخبر سار إليه في العساكر الكثيرة. فلما حضر عنده أرسل إلى صاحب إربل يقول له إننا كنا نسمع عنك أنك تحب أهل العلم والخير وتحسن إليهم فكنا نعتقد فيك الخير والدين فلما كان الآن ظهر لنا منك ضد ذلك لقصدك بلاد الإسلام وقتال المسلمين ونهب أموالهم وإثارة الفتنة فإذا كنت كذلك فمالك عقل تجيء إلينا وأنت صاحب قرية ونحن لنا من باب خراسان إلى خلاط وإلي إربل وأحسب أنك هزمت هذا أما تعلم أن له مماليك أنا أحدهم ولو أخذ من كل قرية شحنة أو من كل مدينة عشرة رجال لاجتمع له أضعاف عسكرك فالمصلحة أنك ترجع إلى بلدك وإنما أقول هذا إبقاء عليك. ثم سار نحوه عقيب هذه الرسالة فلما سمعها مظفر الدين وبلغه مسير إيدغمش عزم على العود فاجتهد به صاحب مراغة ليقيم بمكانه ويسلم عسكره إليه وقال له إنني قد كاتبني جميع أمرائه ليكونوا معي إذا قصدتهم فلم يقبل مظفر الدين من قوله وعاد إلى بلده وسلك الطريق الشاقة والمضايق الصعبة والعقاب الشاهقة خوفا من الطلب. ثم إن أبا بكر وإيدغمش قصدا مراغة وحصراها فصالحهما صاحبها على تسليم قلعة من حصونه إلى أبي بكر هي كانت سبب الاختلاف وأقطعه أبو بكر مدينتي أستوا وأرمية وعاد عنه.
237 ذكر إيقاع إيدغمش بالإسماعيلية وفي هذه السنة سار إيدغمش إلى بلاد الإسماعيلية المجاورة لقزوين فقتل منهم مقتلة كبيرة ونهب وسبي وحصر قلاعهم ففتح منها خمس قلاع وصمم العزم على حصر الموت واستئصال أهلها فاتفق ما ذكرنا من حركة صاحب مراغة وصاحب إربل واستدعاه الأمير أبو بكر ففارق بلادهم وسار إلى أبي بكر كما ذكرناه. ذكر وصول عسكر خوارزم إلى بلاد الجبل وما كان منهم وفي هذه السنة سار من عسكر خوارزم طائفة كبيرة نحو عشرة آلاف فارس بأهليهم وأولادهم فوصلوا إلى زنكان وكان إيدغمش صاحبها مشغولا مع صاحب إربل وصاحب مراغة واغتنموا خلو البلاد فلما عاد مظفر الدين إلى بلده وانفصل الحال بين إيدغمش وصاحب مراغة سار إيدغمش نحو الخوارزمية فلقيهم وقاتلهم فاشتد القتال بين الطائفتين ثم انهزم الخوارزميون وأخذهم السيف فقتل منهم وأسر خلق كثير ولم ينج منهم إلا الشريد وسبي نساؤهم وغنمت أموالهم وكانوا قد أفسدوا في البلاد بالنهب والقتل فلقوا عاقبة فعلهم. ذكر الغارة من ابن ليون على أعمال حلب وفي هذه السنة توالت الغارة من ابن ليون الأرمني صاحب الدروب على ولاية حلب فنهب وحرق وأسر وسبى فجمع الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف صاحب حلب عساكره واستنجد غيره
238 من الملوك فجمع كثيرا من الفارس والراجل وسار عن حلب نحو ابن ليون. وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده مما يلي بلد حلب فليس إليه طريق لأن جميع بلاده لا طريق إليها إلا من جبال وعرة ومضايق صعبة فلا يقدر غيره على الدخول إليها لا سيما من ناحية حلب فإن الطريق منها متعذر جدا فنزل الظاهر على خمسة فراسخ من حلب وجعل على مقدمته جماعة من عسكره مع أمير كبير من مماليك أبيه يعرف بميمون القصري ينسب إلى قصر الخلفاء العلويين بمصر لأن أباه منهم أخذه فأنفذ الظاهر ميرة وسلاحا إلى حصن له مجاور لبلاد ابن ليون اسمه دربساك وأنفذ إلى ميمون ليرسل طائفة من العسكر الذي عنده إلى طريق هذه الذخيرة ليسيروا معها إلى دربساك ففعل ذلك وسير جماعة كثيرة من عسكره وبقي في قلة فبلغ الخبر إلى ابن ليون فجد فوفاه وهو مخف من العسكر فقاتله واشتد القتال بينهم فأرسل ميمون إلى الظاهر يعرفه وكان بعيدا عنه فطالت الحرب بينهم وحمى ميمون نفسه وأثقاله على قلة من المسلمين وكثرة من الأرمن فانهزم المسلمون ونال العدو منهم فقتل وأسر وكذلك أيضا فعل المسلمون بالأرمن من كثرة القتل. وظفر الأرمن بأثقال المسلمين وساروا بها فصادفهم المسلمون الذين كانوا قد ساروا مع الذخائر إلى دربساك فلم يشعروا بالحال فلم يرعهم إلا العدو وقد خالطهم ووضع السيف فيهم فاقتتلوا أشد قتال ثم انهزم المسلمون أيضا وعاد الأرمن إلى بلادهم بما غنموا واعتصموا بجبالهم وحصونهم.
239 ذكر نهب الكرج أرمينية في هذه السنة قصدت الكرج في جموعها ولاية خلاط من أرمينية ونهبوا وقتلوا وأسروا وسبوا أهلها كثيرا وجاسوا خلال الديار آمنين ولم يخرج إليهم من خلاط من يمنعهم فبقوا متصرفين في النهب والسبي والبلاد شاغرة لا مانع لها لأن صاحبها صبي والمدبر لدولته ليست له تلك الطاعة على الجند. فلما اشتد البلاء على الناس تذامروا وحرض بعضهم بعضا واجتمعت العساكر الإسلامية التي بتلك الولاية جميعها وانضاف إليهم من المتطوعة كثير فساروا جميعهم نحو الكرج وهم خائفون فرأى بعض الصوفية الأخبار الشيخ محمد البستي وهو من الصالحين وكان قد مات فقال له الصوفي أراك ههنا فقال جئت لمساعدة المسلمين على عدوهم فاستيقظ فرحا بمحل البستي من الإسلام وأتى إلى مدبر العسكر والقيم بأمره وقص عليه رؤياه ففرح بذلك وقوي عزمه على قصد الكرج وسار بالعساكر إليهم فنزل منزلا. فوصلت الأخبار إلى الكرج فعزموا على كبس المسلمين فانتقلوا من موضعهم بالوادي إلى أعلاه فنزلوا فيه ليكبسوا المسلمين إذا أظلم الليل فأتى المسلمين الخبر فقصدوا الكرج وأمسكوا عليهم رأس الوادي وأسفله وهو واد ليس إليه غير هذين الطريقين فلما رأى الكرج ذلك
240 أيقنوا بالهلاك وسقط في أيديهم وطمع المسلمون فيهم وضايقوهم وقاتلوهم فقتلوا منهم كثيرا وأسروا مثلهم ولم يفلت من الكرج إلا القليل وكفى الله المسلمين شرهم بعد أن كانوا أشرفوا على الهلاك. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في جمادى الآخرة توفي الأمير طاشتكين مجير الدين أمير الحاج بتستر وكان قد ولاه الخليفة على جميع خوزستان وكان أميرا على الحاج سنين كثيرة وكان خيرا صالحا حسن السيرة كثير العبادة يتشيع. ولما مات ولى الخليفة على خوزستان مملوكه سنجر وهو صهر طاشتكين زوج ابنته. وفيها قتل سنجر بن مقلد بن سليمان بن مهارش أمير عبادة بالعراق وكان سبب قتله أنه سعى بأبيه مقلد إلى الخليفة الناصر لدين الله فأمر بالتوكيل على أبيه فبقي مدة ثم أطلقه الخليفة ثم إن سنجر قتل أخا له اسمه. فأوغر بهذه الأسباب صدور أهله وإخوانه فلما كان هذه السنة في شعبان نزل بأرض المعشوق وركب في بعض الأيام ومعه إخوته وغيرهم من أصحابه فلما انفرد عن أصحابه ضربه أخوه علي بن مقلد بالسيف فسقط إلى الأرض، فنزل إخوته إليه فقتلوه.
241 وفيها تجهز غياث الدين خسر وشاه صاحب مدينة الروم إلى مدينة طرابزون وحصر صاحبها لأنه كان قد خرج عن طاعته فضيق عليه فانقطعت لذلك الطرق من بلاد الروم والروس وقفجاق وغيرها برا وبحرا ولم يخرج منهم أحد إلى بلاد غياث الدين فدخل بذلك ضرر عظيم على الناس لأنهم كانوا يتجرون معهم ويدخلون بلادهم ويقصدهم التجار من الشام والعراق والموصل والجزيرة وغيرها فاجتمع منهم بمدينة سيواس خلق كثير فحيث لم ينفتح الطريق تأذوا أذى كثيرا فكان السعيد منهم من عاد إلى رأس ماله. وفيها تزوج أبو بكر بن البهلوان صاحب أذربيجان وأران بابنة ملك الكرج وسبب ذلك أن الكرج تابعت الغارات منهم على بلاده لما رأوا من عجزه وانهاكه في الشرب واللعب وما جانسهما وإعراضه عن تدبير الملك وحفظ البلاد فلما رأى هو أيضا ذلك ولم يكن عنده من الحمية والأنفة من هذه المناحس ما يترك ما هو مصر عليه وأنه لا يقدر على الذب عن البلاد [بالسيف]، عدل إلى الذب عنها بأيره فخطب ابنة ملكهم فتزوجها فكف الكرج عن النهب والإعارة والقتل فكان كما قيل أغمد سيفه وسل أيره. وفيها حمل إلى أزبك خروف وجهه صورة آدمي وبدنه بدن خروف وكان هذا من العجائب. وفيها توفي القاضي أبو محمد بن محمد المانداي الواسطي بها. وفيها في شوال توفي فخر الدين مبارك شاه بن الحسن المروروذي وكان حسن الشعر بالفارسية والعربية وله منزلة عظيمة عند غياث الدين الكبير،
242 صاحب غزنة وهراة وغيرهما وكان له دار ضيافة فيها كتب شطرنج فالعلماء يطالعون الكتب والجهال يلعبون بالشطرنج. وفيها في ذي الحجة توفي أبو الحسن علي بن علي بن سعادة الفارقي الفقيه الشافعي ببغداد وبقي مدة طويلة معيدا بالنظامية وصار مدرسا بالمدرسة التي أحدثتها أم الخليفة الناصر لدين الله وكان مع علمه صالحا طلب للنيابة في القضاء ببغداد فامتنع فألزم بذلك فوليه يسيرا ثم في بعض الأيام مشى إلى جامع ابن المطلب فنزل ولبس مئزر صوف غليظ وغير ثيابه وأمر الوكلاء وغيرهم بالانصراف وأقام به حتى سكن الطلب عنه وعاد إلى داره بغير ولاية. وفيها وقع الشيخ أبو موسى المكي المقيم بمقصورة جامع السلطان ببغداد من سطح الجامع فمات، وكان رجلا صالحا كثير العبادة. وفيها توفي العفيف أبو المكارم عرفة بن علي بن بصلا البندنيجي ببغداد وكان رجلا صالحا منقطعا إلى العبادة رحمه الله.
243 603 ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة ذكر ملك عباس باميان وعودها إلى ابن أخيه في هذه السنة ملك عباس باميان من علاء الدين وجلال الدين ولدي أخيه بهاء الدين. وسبب ذلك أن عسكر باميان لما انهزموا من الدز وعادوا إليها أخبروا أن علاء الدين وجلال الدين أسرا وأن الدز ومن معه غنموا ما في أيديهما فأخذ وزير أبيهما المعروف بالصاحب من الأموال كثيرا ومن الجواهر وغيرها من التحف وأخذ فيلا وسار إلى خوارزم شاه يستنجده على الدز ليسير معه عسكرا يستخلص به صاحبه. فلما فارق باميان ورأى عمهما عباس خلو البلد منه ومن ابني أخيه جمع أصحابه وقام في البلد فملكه وصعد إلى القلعة فملكها وأخرج أصحاب ابني أخيه جمع أصحابه وقام في البلد فملكه وصعد إلى القلعة فملكها وأخرج أصحاب ابني أخيه علاء الدين وجلال الدين منها فبلغ الخبر إلى الوزير السائر إلى خوارزم شاه فعاد إلى باميان وجمع الجموع الكثيرة وحصر عباسا في القلعة وكان مطاعا في جميع ممالك بهاء الدين وولديه من بعده وأقام محاصرا إلا أنه لم يكن معه من المال ما يقوم بما يحتاج إليه إنما كان معه ما أخذه إلى خوارزم شاه. فلما خلص جلال الدين من أسر الدز على ما نذكره وسار إلى باميان،
244 فوصل إلى أرصف وهي مدينة باميان وجاء إليه وزير أبيه الصاحب واجتمع به وسار إلى القلاع وراسلوا عباسا المنقلب عليها ولاطفوه فسلم الجميع إلى جلال الدين وقال إنما حفظتها خوفا أن يأخذها خوارزم شاه فاستحسن فعله وعاد إلى ملكه. ذكر ملك خوارزم شاه الطالقان لما سلم خوارزم شاه ترمذ إلى الخطا سار عنها إلى ميهنة وأندخوي [وكتب] إلى سونج أمير أشكار نائب غياث الدين محمود بالطالقان يستميله فعاد الرسول خائبا لم يجبه سونج إلى ما أراد منه وجمع عسكره وخرج يحارب خوارزم شاه فالتقوا بالقرب من الطالقان. فلما تقابل العسكران حمل سونج وحده مجدا حتى قارب عسكر خوارزم شاه فالقى نفسه إلى الأرض ورمى سلاحه عنه وقبل الأرض وسأل العفو فظن خوارزم شاه أنه سكران فلما علم أنه صاح ذمه وسبه وقال من يثق إلى هذا وأشباهه ولم يلتفت إليه وأخذ ما بالطالقان من مال وسلاح ودواب وأنفذه إلى غياث الدين مع رسول وحمله رسالة تتضمن التقرب إليه والملاطفة له واستناب بالطالقان بعض أصحابه وسار إلى قلاع كالوين وبيوار فخرج إليه حسام الدين علي بن أبي علي صاحب كالوين وقاتله على رؤوس الجبال فأرسل إليه خوارزم شاه يتهدده إن لم يسلم إليه،
245 فقال أما أنا فمملوك وهذه الحصون فهي أمانة بيدي ولا أسلمها إلا إلى صاحبها فاستحسن خوارزم شاه منه هذا وأثنى عليه وذم سونج ولما بلغ غياث الدين خبر سونج. وتسليمه الطالقان إلى خوارزم شاه عظم عنده وشق عليه فسلاه أصحابه وهونوا الأمر. ولما فرغ خوارزم شاه من الطالقان سار إلى هراة فنزل بظاهرها ولم يمكن ابن خرميل أحدا من الخوارزميين أن يتطرق بالأذى إلى أهلها وإنما كان يجتمع منهم الجماعة بعد الجماعة فيقطعون الطريق وهذه عادة الخوارزميين. ووصل رسول غياث الدين إلى خوارزم شاه بالهدايا ورأى الناس عجبا وذلك أن الخوارزميين لا يذكرون غياث الدين الكبير والد هذا غياث الدين ولا يذكرون أيضا شهاب الدين أخاه وهما حيان إلا بالغوري صاحب غزنة وكان وزير خوارزم شاه الآن مع عظم شأنه وقلة شأن غياث الدين هذا لا يذكره إلا بمولانا السلطان مع ضعفه وعجزه وقلة بلاده. وأما ابن خرميل فإنه سار من هراة في جمع من عسكر خوارزم شاه فنزل على اسفرار في صفر وكان صاحبها قد توجه إلى غياث الدين فحصرها وأرسل إلى من بها يقسم بالله لئن سلموها أن يؤمنهم وإن امتنعوا أقام عليهم إلى أن يأخذهم فإذا أخذهم قهرا لا يبقي على كبير ولا صغير فخافوا فسلموها في ربيع الأول فأمنهم ولم يتعرض إلى أهلها بسوء فلما أخذها أرسل إلى حرب بن محمد صاحب سجستان يدعوه إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له ببلاده فأجابه إلى ذلك وكان غياث الدين قد راسله قبل ذلك في الخطبة والدخول في طاعته فغالطه ولم يجبه إلى ما طلب.
246 ولما كان خوارزم شاه على هراة عاد إليها القاضي صاعد بن الفضل الذي كان ابن خرميل قد اخرجه من هراة في العام الماضي وسار إلى غياث الدين فعاد الآن من عنده فلما وصل قال ابن خرميل لخوارزم شاه إن هذا يميل إلى الغورية ويريد دولتهم ووقع فيه فسجنه خوارزم شاه بقلعة زوزن وولى القضاء بهراة الصفي أبا بكر بن محمد السرخسي وكان ينوب عن صاعد وابنه في القضاء بهراة. ذكر حال غياث الدين مع الدز وأيبك لما عاد الدز إلى غزنة وأسر علاء الدين وأخاه جلال الدين كما ذكرناه وكتب اليه غياث الدين يطالبه بالخطبة له فأجابه في هذه المدة أشد منه فيما تقدم وأعاد غياث الدين اليه يقول إما أن تخطب لنا وإما أن تعرفنا ما في نفسك فلما وصل الرسول بهذا أحضر خطيب غزنة وأمره [أن] يخطب لنفسه بعد الترحم على شهاب الدين فخطب لتاج الدين الدز بغزنة. فلما سمع الناس ذلك ساءهم وتغيرت نياتهم ونيات الأتراك الذين معه ولم يروه أهلا أن يخدموه وإنما كانوا يطيعونه ظنا منهم أنه ينصر دولة غياث الدين فلما خطب لنفسه أرسل إلى غياث الدين يقول له بماذا تشتط علي وتتحكم هذه الخزانة نحن جمعناها بأسيافنا وهذا الملك قد أخذته وأنت قد اجتمع عندك الذين هم أساس الفتنة وأقطعتهم الإقطاعات ووعدتني بأمور لم تف بها فإن أنت أعتقتني خطبت لك وحضرت خدمتك.
247 فلما وصل الرسول أجابه غياث الدين إلى عتق الدز بعد الامتناع الشديد والعزم على مصالحة خوارزم شاه على ما يريد وقصد غزنة ومحاربته بها فلما أجابه إلى العتق أشهد عليه به وأشهد عليه أيضا بعتق قطب الدين أيبك مملوك شهاب الدين ونائبه وببلاد الهند وأرسل إلى كل واحد منهما ألف قباء وألف قلنسوة ومناطق الذهب وسيوفا كثيرا وجترين ومائة رأس من الخيل وأرسل إلى كل واحد منهما رسولا فقبل الدز الخلع ورد الجتر وقال نحن عبيد ومماليك والجتر له أصحاب. وسار رسول أيبك إليه وكان بفرشابور قد ضبط المملكة وحفظ البلاد ومنع المفسدين من الفساد والأذى والناس معه في أمن فلما قرب الرسول منه لقيه على بعد وترجل وقبل حافر الفرس ولبس الخلعة وقال أما الجتر فلا يصلح للمماليك وأما العتق فمقبول وسوف أجازيه بعبودية الأبد. وأما خوارزم ساه فإنه أرسل إلى غياث الدين يطلب منه أن يتصاهرا ويطلب منه ابن خرميل صاحب هراة إلى طاعته ويسير معه في العساكر إلى غزنة فإذا ملكها من الدز اقتسموا المال أثلاثا ثلثا لخوارزم شاه وثلثا لغياث الدين وثلثا للعسكر فأجابه إلى ذلك ولم يبق إلا الصلح فوصل الخبر إلى خوارزم شاه بموت صاحب مازندران فسار عن هراة إلى مرو، وسمع الدز بالصلح فجزع لذلك جزعا عظيما ظهر أثره عليه وأرسل إلى غياث الدين يقول له ما حملك على هذا فقال حملني عليه عصيانك وخلافك علي فثار الدز إلى تكياباذ فأخذها وإلى بست وتلك الأعمال فملكها وقطع خطبة غياث الدين منها وأرسل إلى صاحب سجستان بأمره بإعادة الترحم
248 على شهاب الدين وقطع خطبة خوارزم شاه وأرسل إلى ابن خرميل صاحب هراة بمثل ذلك وتهددهما بقصد بلادهما فخالفه الناس. ثم إن الدز أخرج جلال الدين صاحب باميان من أسره وسير معه خمسة آلاف فارس مع أي دكز التتر مملوك شهاب الدين إلى باميان ليعيدوه إلى ملكه ويزيلوا ابن عمه عنه وزوجه ابنته وسار ومعه أي دكز فلما خلا به لامه على لبسه خلعة الدز وقال أنتم ما رضيتم [أن] تلبسون خلعة غياث الدين وهو أكبر سنا منكم وأشرف بيتا تلبس خلعة هذا المأبون يعني الدز ودعاه إلى العود معه إلى غزنة واعلمه أن الأتراك كلهم مجمعون على خلاف الدز. فلم يجبه إلى ذلك فقال أي دكز فإني لا أسير معك وعاد إلى كابل وهي أقطاعه فلما وصل أي دكز إلى كابل لقيه رسول من قطب الدين أيبك إلى الدز يقبح له فعله ويأمره بإقامة خطبة غياث الدين ويخبره انه قد خطب له في بلاده ويقول له إن لم يخطب له هو أيضا بغزنة ويعود إلى طاعته وإلا قصده وحاربه. فلما علم أي دكز ذلك قويت نفسه على محاربة الدز وصمم العزم على قصد غزنة ووصل أيضا رسول أيبك إلى غياث الدين بالهدايا والتحف ويشير بإجابة خوارزم شاه إلى ما طلب، الآن وعند الفراغ من أمر غزنة تسهل أمور خوارزم شاه وغيره وأنفذ له ذهبا عليه اسمه فكتب أي دكز إلى أيبك يعرفه عصيان الدز على غياث الدين وما فعله في البلاد وأنه على عزم مشاقة الدز وهو ينتظر أمره فأعاد أيبك جوابه يأمره بقصد غزنة فإن حصلت له القلعة أقام بها إلى أن يأتيه وإن لم تحصل له القلعة
249 وقصده الدز انحاز إليه أو إلى غياث الدين أو يعود إلى كابل. فسار إلى غزنة وكان جلال الدين قد كتب إلى الدز يخبره خبر أي دكز وما عزم عليه فكتب الدز إلى نوابه بقلعة غزنة يأمرهم بالاحتياط منه فوصلها أي دكز أول رجب من السنة وقد حذروه فلم يسلموا إليه القلعة ومنعوه عنها فأمر أصحابه بنهب البلد فنهبوا عدة مواضع منه فتوسط القاضي الحال بأن سلم إليه من الخزانة خمسين ألف دينار ركنية وأخذ له من التجار شيئا آخر وخطب أي دكز بغزنة لغياث الدين وقطع خطبة الدز ففرح الناس بذلك. وكان مؤيد الملك ينوب عن الدز بالقلعة، ووصل الخبر إلى الدز بوصول أي دكز إلى غزنة ووصول رسول أيبك إليه ففت في عضده وخطب لغياث الدين في تكياباذ وأسقط اسمه من الخطبة فخطب له ورحل إلى غزنة فلما قاربها ورحل أيدكز عنها إلى بلد الغور فأقام في تمران وكتب إلى غياث الدين يخبره بحاله وأنفذ إليه المال الذي أخذه من الخزانة ومن أموال الناس فأرسل إليه يخبره بحاله وأنفذ إليه المال الذي أخذه من الخزانة ومن أموال الناس فأرسل إليه خلعا وأعتقه وخاطبه بملك الأمراء ورد عليه المال الذي كان أخذه من الخزانة وقال له أما مال الخزانة فقد أعدناه إليك لتخرجه وأما أموال التجار وأهل البلد فقد أرسلته مع رسولي ليعاد إلى أربابه لئلا نفتتح دولتنا بالظلم وقد عوضتك عنه ضعفه. وأرسل أموال الناس إلى غزنة إلى قاضي غزنة وأمره أن يرد المال المنفذ على أربابه فأنهى القاضي الحال إلى الدز وأشار عليه بالخطبة لغياث الدين وقال أنا أسعى في الوصلة بينكما والصلح فأمره بذلك فبلغ الخبر إلى غياث الدين فأرسل إلى القاضي ينهاه عن المجيء إليه، وقال: لا
250 تسأل في عبد أبق قد بان فساده واتضح عناده فأقام هو والدز وسير غياث الدين عسكر إلى أيدكز التتر فأقاموا معه وسير الدز عسكر إلى روين كان وهي لغياث الدين وقد أقطعها لبعض الأمراء فهجموا على صاحبها فنهبوا ماله وأخذوا أولاده فنجا وحده إلى غياث الدين فاقتضى الحال أن سار غياث الدين إلى بست وتلك الولاية فاستردها وأحسن إلى أهلها وأطلق لهم خراج سنة لما نالهم من الدز من الأذى. ذكر وفاة صاحب مازندران والخلف بين أولاده في هذه السنة توفي حسام الدين أردشير صاحب مازندران وخلف ثلاثة أولاد فملك بعده شاه تكش أخو خوارزم شاه محمد وهو ينوب عن أخيه فيها فشكا إليه ما صنع به أخوه من إخراجه من البلاد وطلب منه أن ينجده عليه ويأخذ له البلاد ليكون في طاعته فكتب علي شاه إلى أخيه خوارزم شاه في ذلك فأمره بالمسير معه إلى مازندران وأخذ البلاد له وإقامة الخطبة لخوارزم شاه فيها. فساروا عن جرجان فاتفق أن حسام الدين صاحب مازندران مات في ذلك الوقت وملك البلاد بعده أخوه الأصغر واستولى على القلاع والأموال فوصل علي شاه البلاد ومعه صاحب مازندران فنهبوها وخربوها وامتنع منهم الأخ الصغير بالقلاع وأقام بقلعة كورا وهي
251 التي فيها الأموال والذخائر وحصره فيها بعد أن ملكوا أسامة البلاد مثل سارية وآمل وغيرها من البلاد والحصون وخطب لخوارزم شاه فيها جميعها فصارت في طاعته وعاد علي شاه إلى جرجان وأقام ابن ملك مازندران في البلاد مالكها جميعها سوى القلعة التي فيها أخوه الأصغر وهو يراسله ويستميله ويستعطفه وأخوه لا يرد جوابا ولا ينزل في حصنه. ذكر ملك غياث الدين كيخسرو مدينة أنطاكية في هذه السنة ثالث شعبان ملك غياث الدين كيخسرو صاحب قونية وبلد الروم مدينة أنطاكية بالأمان وهي للروم على ساحل البحر وسبب ذلك أنه كان حصرها قبل هذا التاريخ وأطال المقام عليها وهدم عدة أبراج من سورها ولم يبق إلا فتحها عنوة فأرسل من [بها من] الروم إلى الفرنج الذين بجزيرة قبرس وهي قريبة منها فاستنجدوهم فوصل إليها جماعة منهم فعند ذلك يئس غياث الدين منها ورحل عنها وترك طائفة من عسكره بالقرب منها بالجبال التي بينها وبين بلاده، وأمرهم بقطع الميرة منها. فاستمر الحال على ذلك مدة حتى ضاق بأهل البلد واشتد الأمر عليهم فطلبوا من الفرنج الخروج لدفع المسلمين عن مضايقتهم فظن الفرنج أن الروم يريدون إخراجهم من المدينة بهذا السبب فوقع الخلف بينهم فاقتتلوا فأرسل الروم إلى المسلمين وطلبوهم ليسلموا إليهم البلد فوصلوا إليهم واجتمعوا معهم على قتال الفرنج فانهزم الفرنج ودخلوا الحصن فاعتصموا له فأرسل المسلمون يطلبون غياث الدين وهو بمدينة قونية فسار إليهم مجدا في طائفة من
252 عسكره، فوصلها ثاني شعبان وتقرر الحال بينه وبين الروم وتسلم المدينة ثالثة وحصر الحصن الذي فيه الفرنج وتسلمه وقتل كل من كان به من الفرنج. ذكر عزل ولد بكتمر صاحب خلاط وملك بلبان ومسير صاحب ماردين إلى خلاط وعوده وفي هذه السنة قبض عسكر خلاط على صاحبها ولد بكتمر وملكها بلبان مملوك شاه أرمن بن سكمان وكتب أهل خلاط إلى ناصر الدين ارتق بن إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق يستدعونه إليها. وسبب ذلك أن ولد بكتمر كان صبيا جاهلا فقبض على الأمير شجاع الدين قتلغ مملوك من مماليك شاه أرمن وهو كان أتابكه ومدبر بلاده وكان حسن السيرة مع الجند والرعية فلما قتله اختلفت الكلمة عليه من الجند والعامة واشتغل هو باللهو واللعب وإدمان الشرب فكاتب جماعة من أهل خلاط وجماعة من الجند ناصر الدين صاحب ماردين يستدعونه إليهم وإنما كاتبوه دون غيره من الملوك لأن أباه قطب الدين إيلغازي كان ابن أخت شاه أرمن بن سكمان وكان شاه أرمن قد حلف له الناس في حياته لأنه لم يكن له ولد فلما تجددت بعده هذه الحادثة تذاكروا تلك الأيمان وقالوا نستدعيه ونملكه فإنه من أهل شاه أرمن فكاتبوه وطلبوه إليهم.
253 ثم ان بعض مماليك شاه أرمن اسمه بلبان وكان قد جاهر ولد بكتمر بالعداوة والعصيان سار من خلاط إلى بلاد ماز كرد وملكها واجتمع الأجناد عليه وكثر جمعه وسار إلى خلاط فملكها واتفق وصول صاحب ماردين إليها وهو يظن أن أحدا لا يمتنع عليه ويسلمون إليه المدينة فنزل قريبا من خلاط عدة أيام فأرسل إليه بلبان يقول له إن أهل خلاط قد اتهموني بالميل إليك وهم ينفرون من العرب والرأي أنك ترحل عائدا مرحلة واحدة وتقيم فإذا تسلمت البلد سلمته إليك لأنني لا يمكنني أن أملكه أنا. ففعل صاحب ماردين ذلك فلما أبعد عن خلاط أرسل إليه يقول له تعود إلى بلدك وإلا جئت إليك وأوقعت بك وبمن معك وكان في قلة من الجيش فعاد إلى ماردين. وكان الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب صاحب حران وديار الجزيرة قد أرسل إلى صاحب ماردين لما سمع أنه يريد قصد خلاط يقول له إن سرت إلى خلاط قصدت بلدك وانما خاف ان يملك خلاط فيقوى عليهم فلما سار إلى خلاط جمع الأشرف العساكر وسار إلى ولاية ماردين فأخذ دخلها وأقام بدنيسر حتى تجيء الأموال إليه فلما فرغ منه عاد إلى حران فكان مثل صاحب ماردين كما قيل خرجت النعامة تطلب قرنين عادت بلا أذنين. وأما بلبان فإنه جمع العسكر وحشد وحصر خلاط وضيق على أهلها وبها ولد بكتمر فجمع من عنده بالبلد من الأجناد والعامة وخرج إليه فالتقوا فانهزم بلبان ومن معه من بين يديه وعاد إلى الذي بيده من البلاد وهو ملان كرد وأرجيش وغيرهما من الحصون وجمع العساكر واستكثر منها وعاود حصار خلاط وضيق على أهلها فاضطرهم إلى خذلان
254 ولد بكتمر لصغره وجهله بالملك واشتغاله بلهوه ولعبه ثم قبضوا عليه في القلعة وأرسلوا إلى بلبان وحلفوه على ما أرادوا وسلموا إليه البلد وابن بكتمر واستولى على جميع أعمال خلاط وسجن ابن بكتمر في قلعة هناك واستقر ملكه فسبحان من إذا أراد أمرا هيأ أسبابه بالأمس يقصدها شمس الدين محمد بن البهلوان وصلاح الدين يوسف بن أيوب فلم يقدر أحدهما عليها والآن يظهر هذا المملوك العاجز القاصر عن الرجال والبلاد والأموال فيملكها صفوا عفوا. ثم إن نجم الدين أيوب بن العادل صاحب ميافارقين سار نحو ولاية خلاط وكان قد استولى [على] عدة حصون من أعمالها منها حصن موسى ومدينته فلما قارب خلاط أظهر له بلبان العجز عن مقابلته فطمع وأوغل في القرب فأخذ عليه بلبان الطريق وقاتله فهزمه ولم يفلت من أصحابه إلا القليل وهم جرحى وعاد إلى ميافارقين. ذكر ملك الكرج مدينة قرس وموت ملكة الكرج في هذه السنة ملك الكرج حصن قرس من أعمال خلاط وكانوا قد حصروه مدة طويلة وضيقوا على من فيه وأخذوا دخل الولاية عدة سنين وكل من نزل خلاط لا ينجدهم ولا يسعى في راحة تصل إليهم وكان الوالي بها يواصل رسله في طلب النجدة وإزاحة من عليه من الكرج فلا يجاب له دعاء فلما طال الأمر عليه ورأى أن لا ناصر له صالح الكرج على تسليم القلعة على مال كثير وأقطاع يأخذه منهم وصارت دار
255 شرك بعد أن كانت دار توحيد فإنا لله وإنا إليه راجعون ونسأل الله أن يسهل للإسلام وأهله نصرا من عنده فإن ملوك زماننا قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم وظلمهم عن سد الثغور وحفظ البلاد. ثم إن الله تعالى نظر إلى قلة ناصر الإسلام فتولاه فأمات ملكة الكرج واختلفوا فيما بينهم وكفى الله شرهم إلى آخر السنة. ذكر الحرب بين عسكر الخليفة وصاحب لرستان في هذه السنة في رمضان سار عسكر الخليفة من خوزستان مع مملوكه سنجر وهو كان المتولي لتلك الأعمال وليها بعد موت طاشتكين أمير الحاج لأنه زوج ابنة طاشتكين إلى جبال لرستان وصاحبها يعرف بأبي طاهر وهي جبال منيعة بين فارس وأصبهان وخوزستان فقاتلوا أهلها وعادوا منهزمين. وسبب ذلك أن مملوكا للخليفة الناصر لدين الله اسمه قشتمر من أكابر مماليكه كان قد فارق الخدمة لتقصير رآه من الوزير نصير الدين العلوي الرازي واجتاز بخوزستان وأخذ منها ما أمكنه ولحق بأبي طاهر صاحب لرستان فأكرمه وعظمه وزوجه ابنته ثم توفي أبو طاهر فقوي أمر قشتمر وأطاعه أهل تلك الولاية. فأمر سنجر بجمع العساكر وقصده وقتاله ففعل سنجر ما أمر به وجمع العساكر وسار إليه فأرسل قشتمر يعتذر ويسأل أن لا يقصده ويخرج إلى الخروج عن العبودية ولم يقبل عذره فجمع أهل تلك الأعمال ونزل إلى
256 العسكر فلقيهم فهزمهم وأرسل إلى صاحب فارس بن دكلا وشمس الدين إيدغمش صاحب أصبهان وهمذان والري يعرفها الحال ويقول إني لا قوة لي بعسكر الخليفة لما أضيف إليهم عساكر أخرى من بغداد وعادوا إلى حربي وحينئذ لا أقدر بهم وطلب منهما النجدة وخوفهما من عسكر الخليفة إن ملك تلك الجبال فأجاباه إلى ما طلب فقوي جنابه واستمر على حاله. ذكر عدة حوادث في هذه السنة قتل صبي صبيا آخر ببغداد وكانا يتعاشران وعمر كل واحد منهما يقارب عشرين سنة فقال أحدهما للآخر الساعة أضربك بهذه السكين يمازحه بذلك وأهوى نحوه بها فدخلت في جوفه فمات فهرب القاتل ثم أخذ وأمر به ليقتل فلما أرادوا قتله طلب دواة [ورقة] وبيضاء، وكتب فيها من قوله: (قدمت على الكريم بغير زاد * من الأعمال بالقلب السليم) (وسوء الظن أن تعتد زادا * إذا كان القدوم على كريم) وفيها حج برهان الدين صدر جهان محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن مارة البخاري رئيس الحنفية ببخارا وهو كان صاحبها على الحقيقة يؤدي الخراج إلى الخطا وينوب عنهم في البلد فلما حج لم تحمد سيرته في الطريق،
257 ولم يصنع معروفا وكان قد أكرم ببغداد عند قدومه من بخارا فلما عاد لم يلفت اليه لسوء سيرته مع الحاج وسماه الحجاج صدر جهنم. وفيها في شوال مات شيخنا أبو الحرم مكي بن ريان بن شبه النحوي المقري بالموصل وكان عارفا بالنحو واللغة والقراءات لم يكن في زمانه مثله وكان ضريرا وكان يعرف سوى هذه العلوم من الفقه والحساب وغير ذلك معرفة حسنة وكان من خيار عباد الله وصالحيهم كثير التواضع لا يزال الناس يشتغلون عليه من بكرة إلى الليل. وفيها فارق أمير الحاج مظفر الدين سنقر مملوك الخليفة المعروف بوجه السبع الحاج بموضع يقال له المرجوم ومضى في طائفة من أصحابه إلى الشام وسار الحاج ومعهم الجند فوصلوا سالمين ووصل هو إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب فأقطعه إقطاعا كثيرا بمصر وأقام عنده إلى أن عاد إلى بغداد سنة ثمان وستمائة في جمادى الأولى فإنه لما قبض الوزير أمن على نفسه وأرسل يطلب العود فأجيب إليه فلما وصل أكرمه الخليفة وأقطعه الكوفة. وفيها في جمادى الآخرة توفي أبو الفضل عبد المنعم بن عبد العزيز الإسكندراني المعروف بابن النطروني في مارستان ببغداد وكان قد مضى إلى المايورقي في رسالة بإفريقية فحصل له منه عشرة آلاف دينار مغربية ففرقها جميعها في بلده على معارفه وأصدقائه وكان فاضلا خيرا نعم الرجل رحمه الله وله شعر حسن وكان قيما بعلم الأدب وأقام بالموصل مدة واشتغل على الشيخ أبي الحرم واجتمعت به كثيرا عنده.
258 604 ثم دخلت سنة أربع وستمائة ذكر كلك خوارزم شاه وراء النهر وما كان بخراسان من الفتن وإصلاحها في هذه السنة عبر علاء الدين محمد بن خوارزم شاه نهر جيحون لقتال الخطا. وسبب ذلك أن الخطا كانوا قد طالت أيامهم ببلاد تركستان وما وراء النهر وثقلت وطأتهم على أهلها ولهم في كل مدينة نائب يجبي إليهم الأموال وهم يسكنون الخركاهات على عادتهم قبل أن يملكوا وكان مقامهم بنواحي أوزكند وبلاساغون وكاشغر وتلك النواحي فاتفق أن سلطان سمرقند وبخارا ويلقب خان خانان يعني سلطان السلاطين وهو من أولاد الخانية عريق النسب في الإسلام والملك أنف وضجر من تحكم الكفار على المسلمين فأرسل إلى خوارزم شاه يقول له إن الله عز وجل قد أوجب عليك بما أعطاك من سعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار وتخلصهم مما يجري عليهم من التحكم في الأموال والأبشار ونحن نتفق معك على محاربة الخطا ونحمل إليك ما نحمله إليهم ونذكر اسمك في الخطبة وعلى السكة فأجابه إلى ذلك وقال أخاف أنكم لا تفون لي. فسير إليه صاحب سمرقند وجوه أهل بخارا وسمرقند بعد أن حلفوا صاحبهم على الوفاء بما تضمنه وضمنوا عنه الصدق والثبات على ما
259 بذل وجعلوا عنده رهائن فشرع في إصلاح أمر خراسان وتقرير قواعدها فولى أخاه علي شاه طبرستان مضافة إلى جرجان وأمر بالحفظ والاحتياط وولى الأمير كزلك خان وهو من أقارب أمه وأعيان دولته بنيسابور وجعل معه عسكرا وولى الأمير جلدك مدينة الخام وولى الأمير أمين الدين أبا بكر مدينة زوزن وكان هذا أمين الدين حمالا ثم صار أكبر الأمراء وهو الذي ملك كرمان على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأقر الأمير الحسين على هراة وجعل معه فيها ألف فارس من الخوارزمية وصالح غياث الدين محمودا على ما بيده من بلاد الغور وكرمسير واستناب في مرو وسرخس وغيرهما من خراسان نوابا وأمرهم بحسن السياسة والحفظ والاحتياط وجمع عساكره جميعها وسار إلى خوارزم وتجهز منها وعبر جيحون واجتمع بسلطان سمرقند وسمع الخطا فحشدوا وجمعوا وجاؤوا إليه فجرى بينهم وقعات كثيرة ومغاورات فتارة له وتارة عليه. ذكر قتل ابن خرميل وحصر هراة وأسر خوارزمشاه وخلاصه ثم إن خرميل صاحب هراة رأى سوء معاملة عسكر خوارزمشاه للرعية وتعديهم إلى الأموال فقبض عليهم وحبسهم وبعث رسولا إلى خوارزمشاه يعتذر ويعرفه ما صنعوا فعظم عليه ولم يمكنه محاقته لاشتغاله.
260 بقتال الخطا فكتب اليه يتحسن فعله ويأمره بانفاذ الجند الذين قبض عليهم لحاجته إليهم وقال له إنني قد أمرت عز الدين جلدك ابن طغرل صاحب الخام أن يكون عندك لما أعلمه من عقله وحسن سيرته وأرسل إلى جلدك يأمره بالمسير إلى هراة وأسر إليه أن يحتال في القبض على حسين بن خرميل ولو أول ساعة يلقاه. فسار جلدك في ألفي فارس وكان أبوه طغرل أيام السلطان سنجر واليا بهراة فهوى إليها بالأشواق يختارها على جميع خراسان فلما قارب هراة أمر ابن خرميل الناس بالخروج بتلقيه وكان للحسين وزير يعرف بخواجه الصاحب وكان كبيرا قد حنكته التجارب فقال لابن خرميل لا تخرج إلى لقائه ودعه يدخل إليك منفردا فإنني أخاف أن يغدر بك وأن يكون خوارزمشاه أمر بذلك فقال لا يجوز أن يقدم مثل هذا الأمير ولا ألتقيه وأخاف أن يضطغن ذلك على خوارزمشاه وما أظنه يتجاسر علي. فخرج إليه الحسين بن خرميل فلما بصر كل واحد منهما بصاحبه ترجل للالتقاء وكان جلدك قد أمر أصحابه بالقبض عليه فاختلطوا بهما وحالوا بين ابن خرميل وأصحابه وقبضوا عليه فانهزم أصحابه ودخلوا المدينة وأخبروا الوزير بالحال فأمر بإغلاق الباب والطلوع إلى الأسوار واستعد للحصار ونزل جلدك على البلد وأرسل إلى الوزير يبذل له الأمان ويتهدده إن لم يسلم
261 البلد بقتل ابن خرميل فنادى الوزير بشعار غياث الدين محمود الغوري وقال لجلدك لا أسلم البلد إليك ولا إلى الغادر ابن خرميل وإنما هو لغياث الدين ولأبيه قبله. فقدموا ابن خرميل إلى السور فخاطب الوزير وأمره بالتسليم فلم يفعل فقتل ابن خرميل وهذه عاقبة الغدر فقد تقدم من أخباره عند شهاب الدين الغوري ما يدل على غدره وكفرانه الإحسان ممن أحسن إليه. فلما قتل ابن خرميل كتب جلدك إلى خوارزمشاه بجلية الحال فأنفذ خوارزمشاه إلى كزلك خان وإلى نيسابور أمين الدين أبي بكر صاحب زوزن يأمرهما بالمسير إلى هراة وحصارها وأخذها فسارا في عشرة آلاف فارس فنزلوا على هراة وراسلوا الوزير بالتسليم فلم يلتفت إليهم وقال ليس لكم من المحل ما يسلم إليكم مثل هراة لكن إذا وصل السلطان خوارزمشاه سلمتها إليه فقاتلوه وجدوا في قتاله فلم يقدروا عليه. وكان ابن خرميل قد حصن هراة وعمل لها أربعة أسوار محكمة وحفر خندقها وشحنها بالميرة فلما فرغ من كل ما أراد قال بقيت أخاف على هذه المدينة شيئا واحدا وهو ان تسكر المياه التي لها أياما كثيرة ثم ترسل دفعة واحدة فتخرق أسوارها فلما حصرها هؤلاء سمعوا قول ابن خرميل فسكروا المياه حتى اجتمعت مثيرا ثم أطلقوها على هراة فأحاطت بها ولم تصل إلى السور لأن أرض المدينة مرتفعة فامتلأ الخندق ماء وصار حولها وحل فانتقل العسكر عنهم ولم يمكنهم القتال لبعدهم عن المدينة وهذا كان قصد ابن خرميل أن يمتلئ الخندق ماء ويمنع الوحل من القرب عن المدينة فأقاموا مدة حتى نشف الماء فكان قول ابن خرميل
262 من أحسن الحيل. ونعود إلى قتال خوارزمشاه الخطا وأسره وأما خوارزمشاه فإنه دام القتال بينه وبين الخطا ففي بعض الأيام اقتتلوا واشتد القتال ودام بينهم ثم انهزم المسلمون هزيمة قبيحة وأسر كثير منهم وقتل كثير وكان من جملة الأسرى خوارزمشاه وأسر معه أمير كبير يقال له فلان بن شهاب الدين [مسعود] أسرهما رجل واحد. ووصلت العساكر الإسلامية إلى خوارزم ولم يروا السلطان معهم فأرسلت أخت كزلك خان صاحب نيسابور وهو يحاصر هراة وأعلمته الحال فلما أتاه الخبر سار عن هراة ليلا إلى نيسابور وأحسن به الأمير أمين الدين أبو بكر صاحب زوزن فأراد هو ومن عنده من الأمراء منعه مخافة أن يجري بينهم حرب يطمع بسببها أهل هراة فيهم فيخرجون إليهم فيبلغون منهم ما يريدونه فامسكوا عن معارضته. وكان خوارزمشاه قد خرب سور نيسابور لما ملكها من الغورية فشرع كزلك خان يعمره وأدخل إليها الميرة واستكثر من الجند وعزم على الاستيلاء على خراسان إن صح فقد السلطان وبلغ خبر عدم السلطان إلى أخيه علي شاه وهو بطبرستان فدعا إلى نفسه وقطع خطبة أخيه واستعد لطلب السلطنة واختلطت خراسان اختلاطا عظيما. وأما السلطان خوارزمشاه فإنه لما أسر قال له ابن شهاب الدين مسعود يجب ان تدع السلطنة في هذه الأيام وتصير خادما لعلي احتال في خلاصك فشرع يخدم ابن مسعود ويقدم له الطعام ويخلعه ثيابه وخفه ويعظمه،
263 فقال الرجل الذي أسرهما لابن مسعود أرى هذا الرجل يعظمك فمن أنت فقال أنا فلان وهذا غلامي فقال إليه وأكرمه وقال لولا أن القوم عرفوا بمكانك عندي لأطلقتك ثم تركه أياما فقال له ابن مسعود إني خاف ان يرجع المنهزمون فلا يراني أهلي معهم فيظنون أني قتلت فيعملون العزاء والمأتم وتضيق صدورهم لذلك ثم يقتسمون مالي فأهلك وأحب أن تقرر علي شيئا من المال حتى أحمله إليك فقرر عليه مالا وقال له أريد أن تأمر رجلا عاقلا يذهب بكتابي إلى أهلي ويخبرهم بعافيتي ويحضر معه من يحمل المال. ثم قال: إن أصحابكم لا يعرفون أهلنا ولكن هذا غلامي أثق به ويصدقه أهلي فأذن له الخطائي بإنفاذه فسيره وأرسل معه الخطائي فرسا وعدة من الفرسان يحمونه فساروا حتى قاربوا خوارزم وعاد الفرسان عن خوارزمشاه ووصل خوارزمشاه إلى خوارزم فاستبشر به الناس وضربت البشائر وزينوا البلد وأتته الأخبار بما صنع كزلك بنيسابور وبما صنع أخوه علي شاه بطبرستان. ذكر ما فعله خوارزمشاه بخراسان لما وصل خوارزمشاه إلى خوارزم أتته الأخبار بما فعله كزلك خان وأخوه علي شاه وغيرهم فسار إلى خراسان وتبعته العساكر فتقطعت ووصل هو إليها في اليوم السادس ومعه ستة فرسان، وبلغ كزلك خان وصوله،
264 فأخذ أمواله وعساكره وهرب نحو العراق وبلغ أخاه علي شاه فخافه وسار على طريق قهستان ملتجئا إلى غياث الدين محمود الغوري صاحب فيروزكوه فتلقاه وأكرمه وأنزله عنده. وأما خوارزم شاه فإنه دخل نيسابور وأصلح أمرها وجعل فيها نائبا وسار إلى هراة فنزل عليها مع عسكره الذين يحاصرونه وأحسن إلى أولئك الأمراء ووثق بهم لأنهم صبروا على تلك الحال ولم يتغيروا ولم يبلغوا من هراة غرضا بحسن تدبير ذلك الوزير فأرسل خوارزمشاه إلى الوزير يقول له إنك وعدت عسكري أنك تسلم المدينة إذا حضرت فسلم فقال لا أفعل لأني أعرف أنكم غدارون لا تبقون على أحد ولا أسلم البلد إلا إلى غياث الدين محمود. فغضب خوارزمشاه من ذلك وزحف إليه بعساكره فلم يكن فيه حيلة فاتفق جماعة من أهل هراة وقالوا هلك الناس من الجوع والقلة وقد تعطلت علينا معايشنا وقد مضى سنة وشهر وكان الوزير وعد تسليم البلد إلى خوارزمشاه إذا وصل إليه وقد حضر خوارزمشاه ولم يسلم ويجب أن نحتال في تسليم البلد والخلاص من هذه الشدة التي نحن فيها. فانتهى ذلك إلى الوزير فبعث إليهم جماعة من عسكره وأمره بالقبض عليهم فمضى الجند إليهم فثارت فتنة في البلد عظم خطبها فاحتاج الوزير إلى تداركها بنفسه فمضى لذلك فكتب من البلد خوارزمشاه بالخبر وزحف إلى البلد وأهله مختلطون فخربوا برجين من السور ودخلوا البلد فملكوه وقبضوا على الوزير فقتله خوارزمشاه وملك البلد، وذلك سنة خمس وستمائة وأصلح حاله وسلمه إلى خاله أمير ملك، وهو من
265 أعيان أمرائه فلم تزل بيده حتى هلك خوارزم شاه. وأما ابن شهاب الدين مسعود فإنه أقام عند الخطا مديدة فقال له الذي استأسره يوما إن خوارزمشاه قد عدم فإيش عندك من خبره؟ فقال له أما تعرفه قال لا قال هو أسيرك الذي كان عندك. فقال لم لا عرفتني حتى كنت أخدمه وأسير بين يديه إلى مملكته قال خفتكم عليه فقال الخطائي سر بنا إليه فسار إليه فأكرمهما وأحسن إليهما وبالغ في ذلك. ذكر قتل غياث الدين محمود لما سلم خوارزمشاه هراة إلى خاله أمير ملك وسار إلى خوارزم أمره أن يقصد غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد بن سام الغوري صاحب الغور وفيروزكوه وأن يقبض عليه وعلى أخيه علي شاه بن خوارزمشاه ويأخذ فيروزكوه من غياث الدين. فسار أمير ملك إلى فيروزكوه وبلغ ذلك إلى محمود فأرسل يبذل الطاعة ويطلب الأمان فأعطاه ذلك فنزل إليه محمود فقبض عليه أمير ملك وعلى علي شاه أخي خوارزمشاه فسألاه أن يحملهما إلى خوارزمشاه ليرى فيهما رأيه فأرسل إلى خوارزمشاه يعرفه الخبر فأمره بقتلهما فقتلا في
266 يوم واحد واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه وذلك سنة خمس وستمائة أيضا وهذا غياث الدين هو آخر ملوك الغورية ولقد كانت دولتهم من أحسن الدول سيرة وأعدلها وأكثرها جهادا وكان محمود هذا عادلا حليما كريما من أكرم الملوك أخلاقا رحمه الله تعالى. ذكر عود خوارزمشاه إلى الخطا لما استقر أمر خراسان لمحمد خوارزم شاه وعبر نهر جيحون جمع له الخطا جمعا عظيما وساروا إليه والمقدم عليهم شيخ دولتهم القائم مقام الملك فيهم المعروف بطاينكوه وكان عمره قد جاوز مائة سنة ولقي حروبا كثيرة وكان مظفرا حسن التدبير والعقل واجتمع خوارزمشاه وصاحب سمرقند وتصافوا هم والخطا سنة ست وستمائة فجرت حروب لم يكن مثلها شدة وصبروا فانهزم الخطا هزيمة منكرة وقتل منهم وأسر خلق لا يحصى. وكان فيمن أسر طاينكوه مقدمهم وجئ به إلى خوارزمشاه فأكرمه وأجلسه على سريره وسيره إلى خوارزم ثم قصد خوارزمشاه إلى بلد ما وراء النهر فملكها مدينة مدينة وناحية ناحية حتى بلغ أوزكند وجعل نوابه فيها وعاد إلى خوارزم ومعه سلطان سمرقند وكان من أحسن الناس صورة فكان أهل خوارزم يجتمعون حتى ينظروا إليه فزوجه
267 خوارزمشاه بابنته ورده إلى سمرقند وبعث معه شحنة يكون بسمرقند على ما كان رسم الخطا. ذكر غدر صاحب سمرقند بالخوارزميين لما عاد صاحب سمرقند إليها ومعه شحنة لخوارزم شاه وأقام معه نحو سنة فرأى [من] سوء سيرة الخوارزميين، وقبح معاملتهم ما ندم [معه] على مفارقة الخطا، فأرسل إلى ملك الخطا يدعوه إلى سمرقند ليسلمها إليه ويعود إلى طاعته وأمر بقتل كل من في سمرقند من الخوارزمية ممن سكنها قديما وحديثا وأخذ أصحاب خوارزمشاه فكان يجعل الرجل منهم قطعتين ويعلقهم في الأسواق كما يعلق القصاب اللحم وأساء غاية الإساءة ومضى إلى القلعة ليقتل زوجته ابنة خوارزمشاه فأغلقت الأبواب ووقفت بجواريها تمنعه وأرسلت إليه تقول أنا لمرأة وقتل مثلي قبيح ولم يكن مني إليك ما استوجب به هذا منك ولعل تركي احمد عاقبة فاتق الله في فتركها ووكل بها من يمنعها التصرف في نفسها. ووصل الخبر إلى خوارزمشاه فقامت قيامته وغضب غضبا شديدا وأمر بقتل كل من بخوارزم من الغرباء فمنعته أمه عن ذلك وقالت إن هذا قد أتاه الناس من أقطار الأرض ولم يرض كلهم بما كان من هذا الرجل فأمر بقتل أهل سمرقند فنهته أمه فانتهى وأمر عساكره بالتجهيز إلى ما وراء النهر وسيرهم أرسالا كلما تجهز جماعة عبروا جيحون فعبر منهم خلق كثير لا يحصى ثم عبر هو بنفسه في آخرهم ونزل على سمرقند وأنفذ إلى صاحبها بقول له قد فعلت ما لم يفعله مسلم واستحللت
268 من دماء المسلمين ما لا يفعله عاقل لا مسلم ولا كافر وقد عفا الله عما سلف فأخرج من البلاد وامض حيث شئت فقال لا اخرج وافعل ما بدا لك. فأمر عساكره بالزحف فأشار عليه بعض من معه بأن يأمر بعض الأمراء إذا فتحوا البلدان يقصدوا الدرب الذي يسكنه التجار فيمنع من نهبه والتطرق إليهم بسوء فإنهم غرباء وكلهم كارهون لهذا الفعل فأمر بعض الأمراء بذلك وزحف ونصب السلاليم على السور فلم يكن بأسرع من أن أخذوا البلد وأذن لعسكره بالنهب وقتل من يجدونه من أهل سمرقند فنهب البلد وقتل أهله ثلاثة أيام فيقال إنهم قتلوا منهم مائتي ألف إنسان وسلم ذلك الدرب الذي فيه الغرباء فلم يعدم منهم الفرد ولا الآدمي الواحد. ثم أمر بالكف عن النهب والقتل ثم زحف إلى القلعة فرأى صاحبها ما ملأ قلبه هيبة وخوفا فأرسل يطلب الأمان فقال لا أمان لك عندي فزحفوا عليها فملكوها وأسروا صاحبها وأحضروه عند خوارزمشاه فقبل الأرض فطلب العفو فلم يعف عنه وأمر بقتله فقتل صبرا وقتل معه جماعة من أقاربه ولم يترك أحدا ممن ينسب إلى الخانية ورتب فيها وفي سائر البلاد نوابه ولم يبق لأحد معه في البلاد حكم. ذكر الوقعة التي أفنت الخطا لما فعل خوارزم شاه بالخطا ما ذكرناه مضى من سلم منهم إلى ملكهم فإنه لم يحضر الحرب فاجتمعوا عنده وكان طائفة عظيمة من التتر قد خرجوا
269 من بلادهم حدود الصين قديما ونزلوا وراء بلاد تركستان وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب فلما سمعوا بما فعله خوارزمشاه بالخطا قصدوهم مع ملكهم كشلي خان فلما رأى ملك الخطا ذلك أرسل إلى خوارزمشاه يقول له أما ما كان منك من أخذ بلادنا وقتل رجالنا فعفو عنه وقد أتى من هذا العدو من لا قبل لنا به وإنهم إن انتصروا علينا وملكونا فلا دافع لهم عنك والمصلحة أن تسير إلينا بعساكرك وتنصرنا على قتالهم ونحن نحلف لك أننا إذا ظفرنا بهم لا نتعرض إلى ما أخذت من البلاد ونقنع بما في أيدينا. وأرسل إليه كشلي خان ملك التتر [يقول]: إن هؤلاء الخطا أعداؤك وأعداء آبائك وأعداؤنا فساعدنا عليهم ونحلف أننا إذا انتصرنا عليهم لا تقرب بلادك ونقنع بالمواضع التي ينزلونها فأجاب كلا منهما أنني معك ومعا ضدك على خصمك. وسار بعساكره إلى أن نزل قريبا من الموضع الذي تصافوا فيه فلم يخالطهم مخالطة يعلم بها أنه من أحدهما فكانت كل طائفة منهم تظن أنه معها وتواقع الخطا والتتر فانهزم الخطا هزيمة عظيمة فمال حينئذ خوارزمشاه وجعل يقتل ويأسر وينهب ولم يترك أحدا ينجو منهم فلم يسلم منهم إلا طائفة يسيره مع ملكهم في موضع من نواحي الترك يحيط به جبال ليس إليه طريق إلا من جهة واحدة تحصنوا فيه وانضم إلى خوارزم شاه منهم طائفة وساروا في عسكره وأنفذ خوارزمشاه إلى كشلي خان ملك التتر
270 يمن عليه بأنه حضر لمساعدته ولولاه ما تمكن من الخطا فاعترف له كشلي خان بذلك مدة ثم ارسل إليه يطلب منه المقاسمة على بلاد الخطا وقال كما انا اتفقنا على إبادتهم ينبغي أن نقسم بلادهم فقال ليس لك عندي غير السيف ولستم بأقوى من الخطا شوكة ولا أعز ملكا فإن قنعت بالمساكنة وإلا سرت إليك وفعلت بك شرا مما فعلت بهم. وتجهز وسار حتى نزل قريبا منهم وعلم خوارزمشاه أنه لا طاقة له به فكان يراوغه فإذا سار إلى موضع قصد خوارزمشاه أهله وأثقالهم فينهبها وإذا سمع أن طائفة سارت عن موطنهم سار إليها فأوقع بها فأرسل إليه كشلي خان يقول له ليس هذا فعل الملوك هذا فعل اللصوص وإلا إن كنت سلطانا كما تقول فيجب أن نلتقي فإما أن تهزمني وتملك البلاد التي بيدي وإما أن أفعل أنا بك ذلك. فكان يغالطه ولا يجيبه إلى ما طلب لكنه أمر أهل الشاش وفرغانة وأسفيجاب وكاسان وما حولها من المدن التي لم يكن في الدنيا أنزه منها ولا أحسن عمارة بالجلاء منها واللحاق ببلاد الإسلام ثم خربها جميعها خوفا من التتر أن يملكوها. ثم اتفق خروج هؤلاء التتر الآخر الذين خربوا الدنيا وملكهم جنكزخان النهرجي على كشلي خان [ملك] التتر الأول، فاشتغل بهم كشلي خان عن خوارزمشاه فخلا وجهه فعبر النهر إلى خراسان.
271 ذكر ملك نجم الدين بن الملك العادل خلاط في هذه السنة ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب مدينة خلاط. وسبب ذلك أنه كان بمدينة ميافارقين من جهة أبيه فلما كان من ملك بلبان خلاط ما ذكرناه قصد هو مدينة موش وحصرها وأخذها وأخذ غيرها مما يجاورها وكان بلبان لم تثبت قدمه حتى يمنعه فلما ملكها طمع في خلاط فسار إليها فهزمه بلبان كما ذكرناه أيضا فعاد إلى بلده وجمع وحشد وسير إليه أبوه جيشا فقصد خلاط فسار إليه بلبان فتصافا واقتتلا فانهزم بلبان وتمكن نجم الدين من البلاد وازداد منها. ودخل بلبان خلاط واعتصم بها وأرسل رسولا مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان وهو صاحب أرزن الروم يستنجده على نجم الدين فحضر بنفسه ومعه عسكره فاجتمعا وهزما نجم الدين وحصرا موش فأشرف الحصار على أن تملك فغدر ابن قلج أرسلان بصاحب خلاط وقتله طمعا في البلاد فلما قتله سار إلى خلاط فمنعه أهلها عنها فسار إلى ملازكرد فرده أهلها أيضا وامتنعوا عليه فلما لم يجد في شيء من البلاد مطمعا عاد إلى بلده. فأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين يستدعونه إليهم ليملكوه فحضر عندهم وملك خلاط وأعمالها سوى اليسير منها وكره الملوك المجاورون له ملكه لها خوفا من أبيه وكذلك أيضا خافه الكرج وكرهوه فتابعوا الغارات على أعمال
272 خلاط وبلادها ونجم الدين مقيم بخلاط لا يقدر على مفارقتها فلقي المسلمون من ذلك اذى شديدا. واعتزل جماعة من عسكر خلاط واستولوا على حصن وان وهو من أعظم الحصون وأمنعها وعضوا على نجم الدين واجتمع إليهم جمع كثير وملكوا مدينة أرجيش فأرسل نجم الدين إلى أبيه الملك العادل يعرفه الحال ويطلب منه نجدة وان يمده بعسكر فسير إليه أخاه الملك الأشرف موسى بن العادل في عسكر فاجتمعا في عسكر كثير وحصرا قلعة وان وبها الخلاطية وجدوا في قتالهم فضعف أولئك عن مقاومتهم فسلموها صلحا وخرجوا منها وتسلمها نجم الدين واستقر ملكه بخلاط وأعمالها وعاد أخوه الأشرف إلى بلده حران والرها. ذكر غارات الفرنج بالشام وفي هذه السنة كثر الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد وأكثروا الإغارة على بلد حمص وولاياتها ونازلوا مدينة حمص وكان جميعهم كثيرا فلم يكن لصاحبها أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه بهم قوة ولا يقدر على دفعهم ومنعهم فاستنجد الظاهر غازي صاحب حلب وغيره من ملوك الشام فلم ينجده أحد إلا الظاهر فإنه سير له عسكرا أقاموا عنده ومنعوا الفرنج عن ولايته. ثم إن الملك العادل خرج من مصر بالعساكر الكثيرة وقصد مدينة عكا فصالحه صاحبها الفرنجي على قاعدة استقرت من إطلاق أسرى من المسلمين وغير ذلك ثم سار إلى حمص فنزل على بحيرة قدس وجاءته عساكر الشرق وديار الجزيرة ودخل إلى بلاد طرابلس وحاصر موضعا
273 يسمى القليعات وأخذه صلحا وأطلق صاحبه وغنم ما فيه من دواب وسلاح وخربه وتقدم إلى طرابلس فنهب وأحرق وسبى وغنم وعاد إلى بحيرة قدس. وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلح فلم تستقر قاعدة ودخل الشتاء وطلبت العساكر الشرقية العود إلى بلادهم قبل البرد فنزل طائفة من العسكر بحمص عند صاحبها وعاد إلى دمشق فشتى بها وعادت عساكر ديار الجزيرة إلى أماكنها. وكان سبب خروجه من مصر بالعساكر أن أهل قبرس الفرنج اخذوا عدة قطع من أسطول مصر وأسروا من فيها فأرسل العادل إلى صاحب عكا في رد ما أخذوا ويقول نحن صلح فلم غدرتم بأصحابنا فاعتذر بأن أهل قبرس ليس لي عليهم حكم وأن مرجعهم إلى الفرنج الذين بالقسطنطينية ثم إن أهل قبرس ساروا إلى القسطنطينية بسبب غلاء كان عندهم تعذرت عليهم الأقوات وعاد حكم قبرس إلى صاحب عكا وأعاد العادل مراسلته فلم ينفصل حال فخرج بالعساكر وفعل بعكا ما ذكرناه فأجابه حينئذ صاحبها إلى ما طلب وأرسل الأسرى. ذكر الفتنة بخلاط وقتل كثير من أهلها لما تم ملك خلاط وأعمالها للملك الأوحد نجم الدين بن العادل سار عنها إلى ملازكرد ليقرر قواعدها أيضا ويفعل ما ينبغي أن يفعله فيها فلما فارق خلاط وثب أهلها على من بها من العسكر فأخرجوه من عندهم وعصوا وحصروا القلعة وبها أصحاب الأوحد ونادوا بشعار شاه أرمن وإن كان ميتا يعنون بذلك رد الملك إلى أصحابه ومماليكه.
274 فبلغ الخبر إلى الملك الأوحد فعاد إليهم وقد وافاه عسكر من الجزيرة فقوي بهم وحصر خلاط فاختلف أهلها فمال اليه بعضهم حسدا للآخرين فملكها وقتل بها خلقا كثيرا من أهلها وأسر جماعة من الأعيان فسيرهم إلى ميافارقين وكان كل يوم يرسل إليهم فيقتل منهم جماعة فلم يسلم إلا القليل وذل أهل خلاط بعد هذه الوقعة وتفرقت كلمة الفتيان وكان الحكم إليهم وكفى الناس شرهم فإنهم كانوا قد صاروا يقيمون ملكا ويقتلون آخر السلطنة عندهم لا حكم لها وإنما الحكم لهم وإليهم. ذكر ملك أبي بكر بن البهلوان مراغة في هذه السنة ملك الأمير نصرة الدين أبو بكر بن البهلوان صاحب أذربيجان مدينة مراغة. وسبب ذلك أن صاحبها علاء الدين قراسنقر مات هذه السنة وولي بعده ابن له طفل وقام بتدبير دولته وتربيته خادم كان لأبيه فعصى عليه أمير كان مع أبيه وجمع جمعا كثيرا فأرسل اليه الخادم من عنده من العسكر فقاتلهم ذلك الأمير فانهزموا واستقر ملك ولد علاء الدين إلا أنه لم تطل أيامه حتى توفي في أول سنة خمس وستمائة وانقرض أهل بيته ولم يبق منهم أحد. فلما توفي سار نصرة الدين أبو بكر من تبريز إلى مراغة فملكها واستولى على جميع مملكة آل قراسنقر ما عدا قلعة روين فإنها اعتصم بها الخادم وعنده الخزائن فامتنع بها على الأمير أبي بكر.
275 ذكر عزل نصير الدين وزير الخليفة كان هذا نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي من أهل الري من بيت كبير فقدم بغداد لما ملك مؤيد الدين بن القصاب وزير الخليفة الري ولقي من الخليفة قبولا فجعله نائب الوزارة ثم جعله وزيرا وحكم ابنه صاحب المخزن. فلما كان في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة عزل وأغلق بابه وكان سبب عزله أنه أساء السيرة مع أكابر مماليك الخليفة فمنهم أمير الحاج مظفر الدين سنقر المعروف بوجه السبع فإنه هرب من يديه إلى الشام سنة ثلاث وستمائة فارق الحاج بالمرخوم وأرسل يعتذر ويقول إن الوزير يريد أن لا يبقي في خدمة الخليفة أحدا من مماليكه ولا شك [أنه] يريد [أن] يدعي الخلافة وقال الناس في ذلك فأكثروا وقالوا الشعر فمن ذلك قول بعضهم: (ألا مبلغا عني الخليفة أحمدا * توق وقيت السوء ما أنت صانع) (وزيرك هذا بين أمرين فيهما * فعالك يا خير البرية ضائع) (فإن كان حقا من سلالة أحمد * فهذا وزيد في الخلافة طامع)
276 (وإن كان فيما يدعي غير صادق * فأضيع ما كانت لديه الصنائع) فعزله وقيل في سبب ذلك غيره ولما عزل أرسل إلى الخليفة يقول إنني قدمت إلى ههنا وليس لي دينار ولا درهم وقد حصل لي من الأموال والأعلاق النفيسة وغير ذلك ما يزيد على خمسة آلاف دينار ويسأل أن يؤخذ منه الجميع ويمكن من المقام بالمشهد أسوة ببعض العلويين. فأجابه: إننا ما أنعمنا عليك بشيء فنوينا إعادته ولو كان ملء الأرض ذهبا ونفسك في أمان الله وأماننا لم يبلغنا عنك ما تستوجب به ذلك غير ان الأعداء قد أكثروا فيك فاختر لنفسك موضعا تنتقل إليه موقرا محترما. فاختار ان يكون تحت الاستظهار من جانب الخليفة لئلا يتمكن منه العدو فتذهب نفسه ففعل به ذلك. وكان حسن السيرة قريبا إلى الناس حسن اللقاء لهم والانبساط معهم عفيفا عن أموالهم غير ظالم لهم فلما قبض عاد أمير الحاج من مصر في الخدمة العادلية وعاد أيضا قشتمر وأقيم في النيابة في الوزارة فخر الدين أبو البدر محمد بن أحمد بن أمسينا الواسطي إلا أنه لم يكن متحكما. ذكر عدة حوادث في هذه السنة ليلة الأربعاء لخمس بقين من رجب زلزلت الأرض وقت السحر وكنت حينئذ بالموصل ولم تكن بها شديدة وجاءت الأخبار من كثير من البلاد بأنها زلزلت ولم تكن بالقوية.
277 وفيها أطلق الخليفة الناصر لدين الله جميع حق البيع وما يؤخذ من أرباب الأمتعة من المكوس من سائر المبيعات وكان مبلغا كثيرا وكان سبب ذلك أن بنتا لعز الدين نجاح شرابي الخليفة توفيت فاشترى لها بقرة لتذبح ويتصدق بلحمها عنها فرفعوا في حساب مؤنة البقرة فكانت كثيرة فوقف الخليفة على ذلك وأمر بإطلاق المؤنة جميعها. وفيها في شهر رمضان أمر الخليفة ببناء دور في المحال ببغداد ليفطر فيها الفقراء وسميت دور الضيافة يطبخ فيها اللحم الضأن والخبر الجيد عمل ذلك في جانبي بغداد وجعل في كل دار من يوثق بأمانته وكان يعطي كل إنسان قدحا مملوءا من الطبيخ واللحم ومنا من الخبز فكان يفطر كل ليلة على طعامه خلق لا يحصون كثرة. وفيها زادت دجلة زيادة كثيرة ودخل الماء في خندق بغداد من ناحية باب كلواذى فخيف على البلد من الغرق فاهتم الخليفة بسد الخندق وركب فخر الدين نائب الوزارة وعز الدين الشرابي ووقفا ظاهر البلد فلم يبرحا حتى سد الخندق. وفيها توفي الشيخ حنبل بن عبد الله بن الفرج المكبر بجامع الرصافة وكان عالي الإسناد روي عن ابن الحصين مسند أحمد بن حنبل وله إسناد حسن وقدم الموصل وحدث بها وبغيرها.
278 605 ثم دخلت سنة خمس وستمائة ذكر ملك الكرج أرجيش وعودهم عنها في هذه السنة سارت الكرج في جموعها إلى ولاية خلاط وقصدوا مدينة أرجيش فحصروها وملكوها عنوة ونهبوا جميع ما بها من الأموال والأمتعة وغيرها وأسروا وسبوا أهلها وأحرقوها وخربوها بالكلية ولم يبق بها من أهلها أحد فأصبحت خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس. وكان نجم الدين أيوب صاحب أرمينية بمدينة خلاط وعنده كثير من العساكر فلم يقدم على الكرج لأسباب منها كثرتهم وخوفه من أهل خلاط لما كان أسلف إليهم من القتل والأذى وخاف ان يخرج منها فلا يمكن من العود إليها فلما لم يخرج إلى قتال الكفار عادوا إلى بلادهم سالمين لم يذعرهم ذاعر وهذا جميعه وان كان عظيما شديدا على الإسلام وأهله فإنه يسير بالنسبة إلى ما كان مما نذكره سنة أربع عشرة إلى سنة سبع عشرة وستمائة. ذكر قتل سنجر شاه وملك ابنه محمود في هذه السنة قتل سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب جزيرة ابن عمر وهو ابن عم نور الدين صاحب الموصل قتله ابنه
279 غازي ولقد سلك ابنه في قتله طريقا عجيبا يدل على مكر ودهاء. وسبب ذلك أن سنجر كان سئ السيرة مع الناس كلهم من الرعية والجند والحريم والأولاد وبلغ من قبيح فعله مع أولاده أنه سير ابنيه محمودا ومودودا إلى قلعة فرح من بلد الزوزان وأخرج ابنه هذا إلى دار بالمدينة اسكنه فيها ووكل به من يمنعه من الخروج. وكانت الدار إلى جانب بستان لبعض الرعية فكان يدخل إليه منها الحيات والعقارب وغيرهما من الحيوان المؤذي ففي بعض الأيام اصطاد حية وسيرها في منديل إلى أبيه لعله يرق له فلم يعطف عليه فأعمل الحيلة حتى نزل من الدار التي كان بها واختفى ووضع إنسانا كان يخدمه فخرج منه الجزيرة وقصد الموصل وأظهر أنه غازي بن سنجر فلما سمع نور اليد بقربه منها أرسل نفقة وثيابا وخيلا وأمره بالعود وقال إن أباك يتجنى لنا الذنوب التي لم نعلمها ويقبح ذكرنا فإذا صرت عندنا جعل ذلك ذريعة للشناعات والبشاعات ونفع معه في صدام لا ينادى وليده فسار إلى الشام. وأما غازي بن سنجر فإنه تسلف إلى دار أبيه واختفى عند بعض سراريه وعلم به أكثر من بالدار فسترت عليه بغضا لأبيه وتوقعا للخلاص منه لشدته عليهن فبقي كذلك وترك أبوه الطلب له ظنا منه أنه بالشام، [فاتفق] أن أباه، في بعض الأيام شرب الخمر بظاهر البلد مع ندمائه فكان يقترح على المغنين أن يغنوا في الفراق وما شاكل ذلك ويبكي ويظهر في قوله قرب الأجل ودنو الموت وزوال ما هو فيه فلم يزل
280 كذلك إلى آخر النهار وعاد إلى داره وسكر عند بعض خطاياه ففي الليل دخل الخلاء وكان ابنه عند تلك الحظية فدخل اليه فضربه بالسكين أربع عشرة ضربة ثم ذبحه وتركه ملقى ودخل الحمام وقعد يلعب مع الجواري فلو فتح باب الدار وأحضر الجند واستحلفهم لملك البلد لكنه أمن واطمأن ولم يشك في الملك. فاتفق أن بعض الخدم الصغار خرج إلى الباب وأعلم أستاذ دار سنجر الخبر فأحضر أعيان الدولة وعرفهم ذلك وأغلق الأبواب على غازي واستحلف الناس لمحمود بن سنجر شاه وأرسل إليه أحضره من فرح ومعه أخوه مودود فلما حلف الناس وسكنوا فتحوا باب الدار على غازي ودخلوا عليه ليأخذوه فمانعهم عن نفسه فقتلوه وألقوه على باب الدار فأكلت الكلاب بعض لحمه ثم دفن باقيه. ووصل محمود إلى البلد وملكه ولقب بمعز الدين لقب أبيه فلما استقر أخذ كثيرا من الجواري اللواتي لأبيه فغرقهن في دجلة. ولقد حدثني صديق لنا أنه رأى بدجلة في مقدار غلوة سهم سبع جواري مغرقات منهن ثلاث قد أحرقت وجوههن بالنار فلم أعلم سبب ذلك الحريق حتى حدثتني جارية اشتريتها بالموصل من جواريه أن محمودا كان يأخذ الجارية فيجعل وجهها في النار فإذا احترقت ألقاها في دلجة وباع من لم يغرقه منهن فتفرق أهل تلك الدار أيدي سبا. وكان سنجر شاه قبيح السيرة ظالما غاشما كثير المخاتلة والمواربة،
281 والنظر في دقيق الأمور وجليلها لا يمتنع من قبيح يفعله مع رعيته وغيرهم من أخذ الأموال والأملاك والقتل والإهانة وسلك معهم طريقا وعرا من قطع الألسنة والأنوف والآذان وأما اللحى فإنه حلق منها ما لا يحصى وكان جل فكره في ظلم يفعله. وبلغ من شدة ظلمه أنه كان إذا استدعى إنسانا ليحسن إليه لا يصل إلا وقد قارب الموت من شدة الخوف واستعلى في أيامه السفهاء ونفقت سوق الأشرار والساعين بالناس فخرب البلد وتفرق أهله لا جرم سلط الله عليه أقرب الخلق إليه فقتله ثم قتل ولده غازي وبعد قليل قتل ولده محمود أخاه مودودا وجرى في داره من التحريق والتغريق والتفريق ما ذكرنا بعضه ولو رمنا شرح قبح سيرته لطال والله تعالى بالمرصاد لكل ظالم. ذكر عدة حوادث في هذه السنة ثاني المحرم توفي أبو الحسن ورام بن أبي فراس الزاهد بالحلة السيفية وهو منها وكان صالحا. وفي صفر توفي الشيخ مصدق بن شبيب النحوي وهو من أهل واسط. وفي شعبان توفي القاضي محمد بن أحمد بن المنداي الواسطي بها وكان كثير الرواية للحديث وله اسناد عال وهو آخر من حدث بمسند
282 أحمد بن حنبل على ابن الحصين. وفيه توفي القوم أبو فراس نصر بن ناصر بن مكي المدائني صاحب المخزن ببغداد وكان أديبا فاضلا كامل المروءة يجب الأدب وأهله ويحب الشعر ويحسن الجوائز عليه ولما توفي ولي بعده أبو الفتوح المبارك بن الوزير عضد الدين أبي الفرج بن رئيس الرؤساء وأكرم وأعلى محله فبقي متوليا إلى سابع ذي القعدة وعزل لعجزه. وفيها كانت زلزلة عظيمة بنيسابور وخراسان وكان أشدها بنيسابور وخرج أهلها إلى الصحراء أياما حتى سكنت وعادوا إلى مساكنهم.
283 606 ثم دخلت سنة ست وستمائة ذكر ملك العادل الخابور ونصيبين وحصر سنجار وعوده عنها واتفاق نور الدين أرسلان شاه ومظفر الدين في هذه السنة ملك العادل أبو بكر بن أيوب بلد الخابور ونصيبين وحصر مدينة سنجار والجميع من اعمال الجزيرة وهي بيد قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود. وسبب ذلك أن قطب الدين المذكور كان بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة وقد تقدم ذكر ذلك فلما كان سنة خمس وستمائة حصلت مصاهرة بين نور الدين والعادل فإن ولد العادل تزوج بابنة لنور الدين وكان لنور الدين وزراء يحبون أن يشتغل عنهم فحسنوا له مراسلة العادل والاتفاق معه على أن يقتسما بالبلاد التي لقطب الدين وبالولاية التي لولد سنجر شاه ابن غازي بن مودود وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها فيكون ملك قطب الدين للعادل وتكون الجزيرة لنور الدين. فوافق هذا القول هوى نور الدين فأرسل إلى العادل في المعنى فأجابه إلى ذلك مستبشرا وجاءه ما لم يكن يرجوه لأنه علم أنه متى ملك هذه البلاد
284 أخذ الموصل وغيرها وأطمع نور الدين أيضا في أن يعطي هذه البلاد إذا ملكها لولده الذي هو زوج ابنة نور الدين ويكون مقامه في خدمته بالموصل واستقرت القاعدة على ذلك وتحالفا عليها فبادر العادل إلى المسير من دمشق إلى الفرات في عساكره وقصد الخابور فأخذه. فلما سمع نور الدين بوصوله كأنه خاف واستشعر فأحضر من يرجع إلى رأيهم وقولهم وعرفهم وصول العادل واستشارهم فيما يفعله فأما من أشار عليه فسكتوا وكان فيهم من لم يعلم هذه الحال فعظم الأمر وأشار بالاستعداد للحصار وجمع الرجال وتحصيل الذخائر وما يحتاج إليه فقال نور الدين نحن فعلنا ذلك وخبره فقال بأي رأي تجيء إلى عدو لك هو أقوى منك وأكثر جمعا وهو بعيد منك متى تحرك لقصدك تعلم به فلا يصل إلا وقد فرغت من جميع ما تريده تسعى حتى يصير قريبا منك ويزداد قوة إلى قوته. ثم إن الذي استقر بينكما أنه لما يملكه أولا بغير تعب ولا مشقة وتبقى أنت لا يمكنك أن تفارق الموصل إلى الجزيرة وتحصرها والعادل ههنا هذا إن وفى لك بما استقرت القاعدة عليه لا يجوز أن تفارق الموصل وإن عاد إلى الشام لأنه قد صار له ملك خلاط وبعض ديار بكر وديار الجزيرة جميعها والجميع بيد أولاده فمتى سرت عن الموصل أمنكم أن يحولوا بينك وبينها فما زدت على أن آذنت نفسك وابن عمك وقويت عدوك وجعلته شعارك وقد فات الأمر وليس يجوز إلا أن تقف معه على ما استقر بينكما لئلا يجعل ذلك حجة ويتبدئ بك. هذا والعادل قد ملك الخابور ونصيبين وسار إلى سنجار فحصرها،
285 وكان عزم صاحبها قطب الدين أن يسلمها إلى العادل بعوض يأخذه عنها فمنعه من ذلك أمير كان معه اسمه أحمد بن يرنقش مملوك أبيه زنكي وقام بحفظ المدينة والذب عنها وجهز نور الدين عسكرا مع ولده الملك القاهر ليسيروا إلى الملك العادل. فبينما الأمر على ذلك إذ جاءهم أمر لم يكن لهم في حساب وهو أن مظفر الدين كوكبري صاحب إربل أرسل وزيره [إلى] نور الدين يبذل من نفسه المساعدة على منع العادل عن سنجار وأن الاتفاق معه على ما يريده فوصل الرسول ليلا وأبلغه الرسالة فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة وحلف له على ذلك، وعاد الوزير من ليلته فسار مظفر الدين واجتمع هو ونور الدين ونزلا بعساكرهما بظاهر الموصل. وكان سبب ما فعله مظفر الدين أن يستشفع به إلى العادل ليتقي عليه سنجار وكان مظفر الدين يظن أنه لو شفع في نصف ملك العادل لشفعه لأثره الجميل في خدمته وقيامه في الذب عن ملكه غير مرة كما تقدم فشفع اليه فلم يشفعه العادل ظنا منه أنه بعد اتفاقه مع نور الدين لا يبالي بمظفر الدين فلما رده العادل في شفاعته راسل نور الدين في الموافقة عليه. ولما وصل إلى الموصل واجتمع بنور الدين أرسلا إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين وهو صاحب حلب وإلى كيخسرو بن قلج
286 أرسلان، صاحب بلاد الروم بالاتفاق معها فكلاهما أجاب إلى ذلك وتداعوا على الحركة وقصد بلاد العادل إن امتنع من الصلح والابقاء على صاحب سنجار وأرسلا أيضا إلى الخليفة الناصر لدين الله ليرسل رسولا إلى العادل في الصلح أيضا فقويت حينئذ نفس صاحب سنجار على الامتناع ووصلت رسل الخليفة وهو هبة الله بن المبارك بن الضحاك أستاذ الدار والأمير آق باش وهو من خواص مماليك الخليفة وكبارهم فوصلا إلى الموصل وسارا منها إلى العادل وهو يحاصر سنجار وكان من معه لا يناصحونه في القتال لا سيما أسد الدين شيركوه صاحب حمص والرحبة فإنه كان يدخل إليها الأغنام وغيرها من الأقوات ظاهرا ولا يقاتل عليها وكذلك غيره. فلما وصل رسول الخليفة إلى العادل أجاب أولا إلى الرحيل ثم امتنع عن ذلك وغالط وأطال الأمر لعله يبلغ منها غرضا فلم ينل منها ما أمله وأجاب إلى الصلح على ان له ما أخذه وتبقى سنجار لصاحبها. واستقرت القاعدة على ذلك وتحالفوا على هذا كلهم وعلى أن يكونوا يدا واحدة على الناكث منهم ورحل العادل عن سنجار إلى حران وعاد مظفر الدين إلى إربل وبقي كل واحد من الملوك في بلده وكان مظفر الدين عند مقامه بالموصل قد زوج ابنتين له بولدين لنور الدين وهما عز الدين مسعود وعماد الدين زنكي. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الأول عزل فخر الدين بن أمسينا عن نيابة الوزارة للخليفة وألزم بيته ثم نقل إلى المخزن على سبيل الاستظهار عليه، وولي
287 بعده نيابة لوزارة مكين الدين محمد بن محمد بن برز القمي كاتب الإنشاء ولقب مؤيد الدين ونقل إلى دار الوزارة مقابل باب النوبي. وفيها في شوال توفي مجد الدين يحيى بن الربيع الفقيه الشافعي مدرس النظامية ببغداد. وفيها توفي فخر الدين أبو الفضل محمد بن عمر بن خطيب الري الفقيه الشافعي صاحب التصانيف المشهورة في الفقه والأصول وغيرهما وكان إمام الدنيا في عصره وبلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وفيها في سلخ ذي الحجة توفي أخي مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد ابن عبد الكريم الكاتب مولده في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين [خمسمائة]، وكان عالما في عدة علوم منها الفقه والأصولان والنحو والحديث واللغة وله تصانيف مشهورة في التفسير والحديث والنحو والحساب وغريب الحديث وله رسائل مدونة وكان كاتبا مفلقا يضرب به المثل ذا دين متين ولزوم طريق مستقيم رحمه الله ورضي عنه فلقد كان من محاسن الزمان ولعل من يقف على ما ذكرته يتهمني في قولي ومن عرفه من أهل عصرنا يعلم أني مقصر. وفيها توفي المجد المطرزي النحوي الخوارزمي وكان إماما في النحو له فيه تصانيف حسنة. وفيها توفي المؤيد بن عبد الرحيم بن الاخوة بأصفهان وهو من أهل الحديث رحمه الله ز
288 607 ثم دخلت سنة سبع وستمائة ذكر عصيان سنجر مملوك الخليفة بخوزستان ومسير العساكر اليه كان قطب الدين سنجر مملوك الخليفة الناصر لدين الله قد ولاه الخليفة خوزستان بعد طاشتكين أمير الحاج كما ذكرناه فلما كان سنة ست وستمائة بدا منه تغير عن الطاعة فروسل في القدوم إلى بغداد فغالط ولم يحضر وكان يظهر الطاعة ويبطن التغلب على البلاد فبقي الأمر كذلك إلى ربيع الأول من هذه السنة فتقدم الخليفة إلى مؤيد الدين نائب الوزارة والى عز الدين بن نجاح الشرابي خاص الخليفة بالمسير بالعساكر إليه بخوزستان وإخراجه عنها فسارا في عساكر كثيرة فلما تحقق سنجر قصدهم إليه فارق البلاد ولحق بصاحب شيراز وهو أتابك عز الدين سعد بن دكلا ملتجئا إليه فأكرمه وقام دونه. ووصل عسكر الخليفة إلى خوزستان في ربيع الآخر بغير ممانعة فلما استقروا في البلاد راسلوا سنجر يدعونه إلى الطاعة فلم يجب إلى ذلك فساروا إلى أرجان عازمين على قصد صاحب شيراز فأدركهم الشتاء فأقاموا شهورا والرسل مترددة بينهم وبين صاحب شيراز فلم يجبهم
289 إلى تسليمه فلما دخل شوال رحلوا يريدون شيراز فحينئذ أرسل صاحبها إلى الوزير والشرابي يشفع فيه ويطلب العهد له على أن لا يؤذى فأجيب إلى ذلك وسلمه إليهم هو وماله وأهله فعادوا إلى بغداد وسنجر معهم تحت الاستظهار وولى الخليفة بلاد خوزستان مملوكه ياقوتا أمير الحاج. ووصل الوزير إلى بغداد في المحرم سنة ثمان وستمائة هو والشرابي والعساكر وخرج أهل بغداد إلى تلقيهم فدخلوها وسنجر معهم راكبا على بغل بإكاف وفي رجله سلسلتان في يد كل جندي سلسلة وبقي محبوسا إلى أن دخل صفر فجمع الخلق الكثير من الأمراء والأعيان إلى دار مؤيد الدين نائب الوزارة فأحضر سنجر وقرر بأمور نسبت إليه منكرة فأقر بها فقال مؤيد الدين للناس قد عرفتم ما تقتضيه السياسة من عقوبة هذا الرجل وقد عفا أمير المؤمنين عنه وأمر بالخلع عليه فلبسها وعاد إلى داره فعجب الناس من ذلك. وقيل إن أتابك سعد نهب مال سنجر وخزانته ودوابه وكل ما له ولأصحابه وسيرهم فلما وصل سنجر إلى الوزير والشرابي طلبوا المال فأرسل شيئا يسيرا والله أعلم.
290 ذكر وفاة نور الدين أرسلان شاه وشئ من سيرته في هذه السنة أواخر رجب توفي نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل وكان مرضه قد طال ومزاجه قد فسد وكانت مدة ملكه سبع عشرة سنة وأحد عشر شهرا وكان شهما شجاعا ذا سياسة للرعايا شديدا على أصحابه فكانوا يخافونه خوفا شديدا وكان ذلك مانعا من تعدي بعضهم على بعض وكان له همة عالية أعاد ناموس البيت الأتابكي وجاهه وحرمته بعد ان كانت قد ذهبت وخافه الملوك وكان سريع الحركة في طلب الملك إلا أنه لم يكن له صبر فلهذا لم يتسع ملكه ولو لم يكن له من الفضيلة إلا أنه لما رحل الكامل بن العادل عن ماردين كما ذكرناه سنة خمس وتسعين وخمسمائة عف عنها وأبقاها على صاحبها ولو قصدها وحصرها لم يكن فيها قوة الامتناع لأن من كان بها كانوا قد هلكوا أو ضجروا ولم يبق لهم رمق فأبقاها على صاحبها ولما ملك استغاث إليه انسان من التجار فسأل عن حاله فقيل إنه قد أدخل قماشه إلى البلد ليبيعه فلم يتم له البيع ويريد إخراجه وقد منع من ذلك فقال من منعه فقيل ضامن البز يريد منه ما جرت به العادة من المكس. وكان القيم بتدبير مملكته مجاهد الدين قايماز وهو إلى جانبه فسأله عن العادة كيف هي؟ [فقال]: إن اشترط صاحبه إخراج متاعه مكن من اخراجه وان لم يشترط ذلك لم يخرج حتى يؤخذ ما جرت العادة
291 بأخذه. فقال: والله ان هذه العادة مدبرة انسان لا يبيع متاعه لأي شيء يؤخذ منه ماله فقال مجاهد الدين لا شك في فساد هذه العادة فقال إذا قلت أنا وأنت انها عادة فاسدة فما المانع من تركها وتقدم بإخراج مال الرجل وأن لا يؤخذ إلا ممن باع. وسمعت أخي مجد الدين أبا السعادات رحمه الله وكان من أكثر الناس اختصاصا به يقول ما قلت له يوما في فعل خير فامتنع منه بل بادر إليه بفرح واستبشار واستدعى في بعض الأيام أخي المذكور فركب إلى داره فلما كان بباب الدار لقيته امرأة وبيدها رقعة وهي تشكو وتطلب عرضها على نور الدين فأخذها فلما دخل إليه جاراه في مهم له فقال قبل كل شيء تقف على هذه الرقعة وتقضي شغل صاحبتها فقال لا حاجة إلى الوقوف عليها عرفنا إيش فيها. فقال: والله لا أعلم. إلا أنني رأيت امرأة بباب الدار وهي متظلمة شاكية. فقال: نعم عرفت حالها؛ ثم انزعج فظهر منه الغيظ والغضب وعنده رجلان هما القيمان بأمور دولته، فقال لأخي أبصر إلى أي شيء قد دفعت مع هذين هذه المرأة كان لها ابن وقد مات في الموصل وهو غريب وخلف قماشا ومملوكين فاحتاط نواب بيت المال على القماش واحضروا المملوكين الينا فبقيا عندنا ننتظر من يستحق التركة ليأخذها فحضرت هذه المرأة ومعها كتاب حكمي بأن المال الذي مع ولدها لها فتقدمنا بتسليم ما لها إليها وقلت لهذين اشتريا المملوكين منها وأنصفاها في الثمن فعادا وقالا لم يتم بيننا بيع لأنها طلبت ثمنا كثيرا فأمرتهما بإعادة المملوكين إليها من مدة شهرين وأكثر وإلى الآن ما عدت سمعت لها حديثا،
292 وظننت انها اخذت مالها، ولا شك أنهما لم يسلما المملوكين إليها وقد استغاثت إليهما فلم ينصفاها فجاءت إليك وكل من رأى هذه المرأة تشكو وتستغيث يظن أني أنا منعتها من مالها فيذمني وينسبني إلى الظلم وليس لي علم وكل هذا فعل هذين اشتهى ان تتسلم أنت المملوكين وتسلمهما إليها فأخذت المرأة ما لها وعادت شاكرة داعية وله من هذا الجنس كثير لا نطول بذكره. ذكر ولاية ابنة الملك القاهر لما حضر نور الدين الموت أمر ان يرتب في الملك بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود وأحلف له الجند وأعيان الناس وكان قد عهد اليه قبل موته بمدة فجدد العهد له عند وفاته وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي قلعة عقر الحميدية وقلعة شوش وولايتها وسيره إلى العقر وأمر أن يتولى تدبير مملكتها ويقوم بحفظها والنظر في مصالحها فتاه الأمير بدر الدين لؤلؤ لما رأى من عقله وسداده وحسن سياسته وتدبيره وكمال خلال السياسة فيه وكان عمر القاهر حينئذ [عشر سنين]. ولما اشتد مرضه وأيس من نفسه أمره الأطباء بالانحدار إلى الحالة المعروفة بعين القيارة وهي بالقرب من الموصل فانحدر إليها فلم يجد بها راحة وازداد ضعفا فأخذه بدر الدين وأصعده في الشبارة إلى الموصل فتوفي في الطريق ليلا ومعه الملاحون والأطباء بينه وبينهم ستر.
293 وكان مع بدر الدين عند نور الدين مملوكان فلما توفي نور الدين قال لهما لا يسمع أحد بموته؛ وقال للأطباء والملاحين لا يتكلم أحد فقد نام السلطان فسكتوا ووصلوا إلى الموصل في الليل فأمر الأطباء والملاحين بمفارقة الشبارة لئلا يروه ميتا وأبعدوا فحمله هو والمملوكان وأدخله الدار وتركه في الموضع الذي كان فيه ومعه المملوكان ونزل على بابه من يثق إليه لا يمكن أحدا من الدخول والخروج وقعد مع الناس يمضي أمورا كان يحتاج إلى اتمامها. فلما فرغ من جميع ما يريده أظهر موته وقت العصر ودفن ليلا بالمدرسة التي أنشأها مقابل داره وضبط البلد تلك الليلة ضبطا جيدا بحيث أن الناس في البلد لم يزالوا مترددين لم يعدم من أحد مقدار الحبة الفرد واستقر الملك لولده وقام بدر الدين بتدبير الدولة والنظر في مصالحها. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في شهر ربيع الآخر درس القاضي أبو زكريا بن القاسم بن المفرج قاضي تكريت بالمدرسة النظامية ببغداد استدعى من تكريت إليها. وفيها نقصت دجلة بالعراق نقصا كثيرا حتى كان يجري الماء ببغداد في نحو خمسة اذرع وأمر الخليفة ان يكري دجلة فجمع الخلق الكثير،
294 وكانوا كلما حفروا شيئا عاد الرمل وغطاه وكان الناس يخوضون دجلة فوق بغداد وهذا لم يعهد مثله. وحج بالناس هذه السنة علاء الدين محمد ولد الأمير مجاهد الدين ياقوت أمير الحاج وكان قد ولاه الخليفة خوزستان وجعله هو أمير الحاج وجعل معه من يدبر الحاج لأنه كان صبيا. وفيها في العشرين من ربيع الآخر توفي ضياء الدين احمد عبد الوهاب بن علي بن عبد الله الأمير البغدادي ببغداد وهو سبط صدر الدين إسماعيل شيخ الشيوخ وعمره سبع وثمانون سنة وشهور، وكان صوفيا فقيها محدثا سمعنا معه الكثير رحمه الله وكان من عباد الله الصالحين كثير العبادة والصلاح. وفيها توفي شيخنا أبو حفص عمر بن محمد بن المعمر بن طبرزد البغدادي وكان عالي الإسناد.
295 608 ثم دخلت سنة ثمان وستمائة ذكر استيلاء منكلي على بلاد الجبل وأصفهان وغيرها وهرب إيدغمش في هذه السنة في شعبان قدم إيدغمش صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد إلى بغداد هاربا من منكلي. وسبب ذلك أن إيدغمش كان قد تمكن في البلاد وعظم شأنه وانتشر صيته وكثر عسكره حتى إنه حصر صاحبه أبا بكر بن البهلوان صاحب هذه البلاد أذربيجان وأران كما ذكرناه. فلما كان الآن خرج عليه مملوك اسمه منكلي ونازعه في البلاد وكثر اتباعه وأطاعه المماليك البهلوانية فاستولى عليها وهرب منه شمس الدين إيدغمش إلى بغداد فلما وصل إليها أمر الخليفة بالاحتفال به في اللقاء فخرج الناس كافة وكان يوم وصوله مشهودا ثم قدمت زوجته في رمضان في محمل فأكرمت وأنزلت عند زوجها وأقام ببغداد إلى سنة عشر وستمائة فسار عنها فكان من أمره ما نذكره.
296 ذكر نهب الحاج بمنى وفي هذه السنة نهب الحاج بمنى وسبب ذلك أن باطنيا وثب على بعض أهل الأمير قتادة صاحب مكة فقتله بمنى ظنا منه أنه قتادة فلما سمع قتادة ذلك جمع الأشراف والعرب والعبيد وأهل مكة وقصدوا الحاج ونزلوا عليهم من الجبل ورموهم بالحجارة والنبل وغير ذلك وكان أمير الحاج ولد الأمير ياقوت المقدم ذكره وهو صبي لا يعرف كيف يفعل فخاف وتحير وتمكن أمير مكة من نهب الحاج فنهبوا منهم من كان في الأطراف وأقاموا على حالهم إلى الليل. فاضطرب الحاج وباتوا بأسوأ حال من شدة الخوف من القتل والنهب فقال بعض الناس لأمير الحاج لينتقل بالحجاج إلى منزلة حجاج الشام فأمر بالرحيل فرفعوا أثقالهم على الجمال واشتغل الناس بذلك فطمع العدو فيهم وتمكن من النهب والتحق من سلم بحجاج الشام فاجتمعوا بهم ثم رحلوا إلى الزاهر ومنعوا من دخول مكة ثم اذن لهم في ذلك فدخلوها وتمموا حجتهم وعادوا. ثم ارسل قتادة ولده وجماعة من أصحابه إلى بغداد فدخلوها ومعهم السيوف مسلولة والأكفان فقبلوا العتبة واعتذروا مما جرى على الحجاج.
297 ذكر عدة حوادث في هذه السنة اظهر الإسماعيلية ومقدمهم جلال الدين بن فلان بن حسن بن الصباح الانتقال عن فعل المحرمات واستحلالها وأمر بإقامة الصلوات وشرائع الإسلام ببلادهم من خراسان والشام ولأرسل مقدمهم رسلا إلى الخليفة وغيره من ملوك الإسلام يخبرهم بذلك وأرسل والدته إلى الحج فأكرمت ببغداد إكراما عظيما وكذلك بطريق مكة. وفيها سلخ جمادى الآخرة توفي أبو حامد محمد بن يونس بن ميعة الفقيه الشافعي بمدينة الموصل وكان إماما فاضلا إليه انتهت رياسة الشافعية لم يكن في زمانه مثله وكان حسن الاخلاق كثير التجاوز عن الفقهاء والإحسان إليهم رحمه الله. وفيها في شهر ربيع الأول توفي القاضي أبو الفضائل علي بن يوسف بن احمد بن الآمدي الواسطي قاضيها وكان نعم الرجل. وفيها في شعبان توفي المعين أبو الفتوح عبد الواحد بن احمد بن علي الأمين شيخ الشيوخ ببغداد وكان موته بجزيرة كأس مضى إليها رسولا من الخليفة وكان من أصدقائنا وبيننا وبينه مودة متأكدة وصحبة كثيرة وكان من عباد الله الصالحين رحمه الله ورضي عنه وله كتابة حسنة وشعر جيد وكان عالما بالفقه وغيره ولما توفي رتب أخوه زين الدين عبد الرزاق بن أبي احمد وكان ناظرا على المارستان العضدي فتركه واقتصر على الرباط. وفيها في ذي الحجة توفي محمد بن يوسف بن محمد بن عبيد الله النيسابوري
298 الكاتب الحسن الخط وكان يؤدي طريقة ابن البواب وكان فقيها حاسبا متكلما. وفيها توفي عمر بن مسعود أبي العز أبو القاسم البزار البغدادي بها وكان من الصالحين يجتمع إليه الفقراء كثيرا ويحسن إليهم. وتوفي أيضا أبو سعيد الحسن بن محمد بن الحسن بن حمدون الثعلبي العدوي وهو ولد مصنف التذكرة وكان عالما.
299 609 ثم دخلت سنة تسع وستمائة ذكر قدوم ابن منكلي بغداد في هذه السنة في المحرم قدم محمد بن منكلي المستولي على بلاد الجبل إلى بغداد وسبب ذلك ان أباه منكلي لما استولى على بلاد الجبل وهرب إيدغمش صاحبها منها إلى بغداد خاف ان يساعده الخليفة ويرسل معه العساكر فيعظم الأمر عليه لأنه لم يكن قد تمكن في البلاد فأرسل ولده محمدا ومعه جماعة من العسكر فخرج الناس ببغداد على طبقاتهم يلتقونه وأنزل وأكرم وبقي ببغداد إلى أن قتل إيدغمش فخلع عليه وعلى من معه وأكرموا وسيرهم إلى أبيه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة قبض الملك العادل أبو بكر بن أيوب صاحب مصر والشام على علي أمير اسمه أسامة كان اه أقطاع كثيرة من جملتها حصن كوكب من اعمال الأردن بالشام وأخذ منه حصن كوكب وخربه وعفى أثره ومن بعده بنى حصنا بالقرب منه على جبل يسمى الطور وهو معروف هناك وشحنه بالرجال والذخائر والسلاح. وفيها توفي الفقيه محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني فقيه الحرم الشريف بمكة.
300 610 ثم دخلت سنة عشر وستمائة ذكر قتل إيدغمش في هذه السنة في المحرم قتل إيدغمش الذي كان صاحب همذان وقد ذكرنا سنة ثمان انه قدم إلى بغداد وأقام بها فأنعم عليه الخليفة وشرفه بالخلع وأعطاه الكوسات وما يحتاج إليه وسيره إلى همذان فسار في جمادى الآخرة عن بغداد قاصدا إلى همذان فوصل إلى بلاد ابن ترجم واجتمعا وأقام ينتظر وصول عساكر بغداد اليه ليسير معه على قاعدة استقرت بينهم. وكان الخليفة قد عزل سليمان بن ترجم عن الامارة على عشيرته من التركمان الإيوانية وولى أخاه الأصغر فأرسل سليمان إلى منكلي يعرفه بحال إيدغمش ومضى هو على وجهه فأخذوه فقتلوه وحملوا رأسه إلى منكلي وتفرق من معه من أصحابه في البلاد لا يلوي أخ على أخيه ووصل الخبر بقتله إلى بغداد فعظم على الخليفة ذلك وأرسل إلى منكلي ينكر عليه ما فعل فأجاب جوابا شديدا وتمكن من البلاد وقوي أمره وكثرت جموعه وعساكره وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله.
301 ذكر عدة حوادث حج بالناس في هذه السنة أبو فراس بن جعفر بن فراس الحلي نيابة عن أمير الحاج أبي ياقوت ومنع ابن ياقوت عن الحج لما جرى للحاج في ولايته. وفيها في المحرم توفي الحكيم المهذب علي بن احمد بن مقبل الطبيب المشهور كان اعلم أهل زمانه بالطب روى الحديث وكان مقيما بالموصل وبها مات وكان كثير الصدقة حسن الأخلاق وله تصنيف حسن في الطب. وفيها توفي إسماعيل بن علي البغدادي الفقيه الحنبلي صاحب ابن المني. وفيها توفي أيضا احمد بن مسعود التركستاني الفقيه الحنفي ببغداد وهو مدرس مشهد أبي حنيفة. وفيها في جمادى الأولى توفي معز الدين أبو المعاني سعد بن علي المعروف بابن حديد الذي كان وزير الخليفة الناصر لدين الله وكان قد ألزم بيته ولما توفي حمل تابوته إلى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام بالكوفة وكان حسن السيرة في وزارته كثير الخير والنفع للناس.
302 ثم دخلت سنة إحدى عشر وستمائة ذكر ملك خوارزمشاه علاء الدين كرمان ومكران والسند هذه الحادثة لا أعلم الحقيقة أي سنة كانت إنما هي إما هذه السنة أو قبلها بقليل أو بعدها بقليل لأن الذي خبر بها كان من أجناد الموصل وسافر إلى تلك البلاد واقام بها عدة سنين وسار مع الأمير أبي بكر الذي فتح كرمان ثم عاد فأخبرني بها على شك من وقتها وقد حضرها فقال خوارزمشاه محمد بن تكش كان من جملة أمراء أبيه أمير اسمه أبو بكر ولقبه تاج الدين. وكان في ابتداء امره جمالا يكري الجمال في الاسفار ثم جاءته السعادة فاتصل بخوارزم شاه وصار سيروان جماله فرأى منه جلدا وأمانة فقدمه إلى أن صار من أعيان امراء عسكره فولاه مدينة زوزن وكان عاقلا ذا رأي وحزم وشجاعة فتقدم عند خوارزمشاه تقدما كثيرا فوثق به أكثر من جميع امراء دولته فقال أبو بكر لخوارزم شاه إن بلاد كرمان مجاورة لبلدي فلو أضاف السلطان إلي عسكرا لملكتها في اسرع وقت فسير معه عسكرا كثيرا فمضى إلى كرمان وصاحبها اسمه حرب بن محمد بن أبي الفضل الذي كان صاحب سجستان أيام السلطان سنجر فقاتله فلم يكن له به قوة وضعف فملك أبو بكر بلاده في اسرع وقت وسار منها إلى نواحي مكران فملكها كلها إلى السند من حدود كابل وسار إلى هرمز مدينة على ساحل بحر مكران فأطاعه صاحبها واسمه ملتك وخطب بها لخوارزم شاه وحمل
303 عنها مالا وخطب له بقلهات وبعض عمان لأن أصحابها كانوا يطيعون صاحب هرمز. وسبب طاعتهم له مع بعد الشقة والبحر يقطع بينهم أنهم يتقربون إليه بالطاعة ليأمن أصحاب المراكب التي تسير إليهم عنده فإن هرمز مرسى عظيم ومجمع للتجار من أقاصي الهند والصين واليمن وغيرها من البلاد وكان بين صاحب هرمز وبين صاحب كيش حروب وغارات وكل منهما ينهى أصحاب المراكب ان ترسي ببلد خصمه وهم كذلك إلى الآن وكان خوارزمشاه يصيف بنواحي سمرقند لأجل التتر أصحاب كشلي خان لئلا يقصد بلاده وكان سريع السير إذا قصد جهة سبق خبره إليها. ذكر عدة حوادث في هذه السنة قتل مؤيد الملك الشحري وكان قد وزر لشهاب الدين الغوري ولتاج الدين الدز بعده وكان حسن السيرة جميل الاعتقاد محسنا إلى العلماء وأهل الخبر يزورهم ويبرهم ويحضر الجمعة ماشيا وحده. وكان سبب قتله أن بعض عسكر الدز كرهوه وكان كل سنة يتقدم إلى البلاد الحارة بين يدي الدز أول الشتاء فسار هذه كعادته فجاء أربعون نفرا أتراكا قالوا له السلطان يقول لك تحضر جريدة في عشر نفر لمهم تجدد فسار معهم جريدة في عشر مماليك فلما وصلوا إلى نهوند،
304 بالقرب من ماء السند قتلوه وهربوا ثم إنهم ظفر بهم خوارزمشاه محمد فقتلهم. وفيها في رجب توفي الركن أبو منصور عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلي البغدادي بغداد وكان قد ولي عدة ولايات وكان يتهم بمذهب الفلاسفة حتى انه رأى أبوه يوما عليه قميصا بخاريا فقال ما هذا القميص فقال بخاري فقال أبوه هذا عجب ما زلنا نسمع مسلم والبخاري وأما كافر والبخاري ما سمعنا. وأخذت كتبه قبل موته بعدة سنين وأظهرت في ملأ من الناس ورؤي فيها من تبخير النجوم ومخاطبة زحل بالإلهية وغير ذلك من الكفريات ثم أحرقت بباب العامة وحبس ثم أفرج عنه بشفاعة أبيه واستعمل بعد ذلك. وفيها أيضا توفي أبو العباس احمد بن هبة الله بن العلاء والمعروف بابن الزاهد ببغداد وكان عالما بالنحو واللغة. وفي شعبان منها توفي أبو المظفر محمد بن علي بن البل اللوري الواعظ ودفن برباط على نهر عيسى ومولده سنة عشر وخمسمائة. وفي شوال منها توفي عبد العزيز بن محمود بن الأخضر وكان من فضلاء المحدثين وله سبع وثمانون سنة.
305 612 ثم دخلت سنة اثنتي عشر وستمائة ذكر قتل منكلي وولاية أغلمش ما كان بيده من الممالك في هذه السنة في جمادى الأولى انهزم منكلي صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهم من البلاد ومضى هاربا فقتل. وسبب ذلك أنه كان قد ملك البلاد كما ذكرناه وقتل إيدغمش فأرسل إليه من الديوان الخلفي رسول ينكر ذلك عليه وكان أوحش الأمير أوزبك بن البهلوان صاحب آذربيجان وهو صاحبه ومخدومه فأرسل الخليفة اليه يحرضه على منكلي ويعده النصرة وأرسل أيضا إلى جلال الدين الإسماعيلي صاحب قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم الموت وغيرها يأمره بمساعدة أوزبك على قتال منكلي واستقرت القاعدة بينهم على أن يكون للخليفة بعض البلاد ولأوزبك بعضها ويعطي جلال الدين بعضها فلما استقرت القواعد على ذلك جهز الخليفة عسكرا كثيرا وجعل مقدمهم مملوكه مظفر الدين سنقر المقلب بوجه السبع وأرسل إلى مظفر الدين كوكبري بن زين الدين على كوجك وهو إذ ذاك صاحب إربل وشهرزور وأعمالها يأمره أن يحضر بعساكره ويكون مقدم العساكر جميعها وإليه المرجع في الحرب فحضر وحضر معه عسكر الموصل وديار الجزيرة وعسكر حلب فاجتمعت عساكر كثيرة وساروا إلى همذان فاجتمعت العساكر كلها فانزاح
306 منكلي من بين أيديهم وتعلق بالجبال وتبعوه فنزلوا بسفح جبل هو في أعلاء بالقرب من مدينة كرج وضاقت الميرة والأقوات على العسكر الخليفي جميعه ومن معهم فلو أقام منكلي بموضعه لم يمكنهم المقام عليه أكثر من عشرة أيام لكنه طمع فنزل ببعض عسكره من الجبل مقابل الأمير أوزبك فحملوا عليه فلم يثبت أوزبك ومضى منهزما فعاد أصحاب منكلي وصعدا الجبل وعاد أوزبك إلى خيامه فطمع منكلي حينئذ ونزل من الغد في جميع عسكره واصطدمت العساكر للحرب واقتتلوا أشد قتال يكون فانهزم منكلي وصعد الجبل فلو أقام بمكانه لم يقدر أحد على الصعود إليه وكان قصاراهم العود عنه لكنه اتخذ الليل جملا وفارق موضعه ومضى منهزما فاتبعه نفر يسير من عسكره وفارقه الباقون وتفرقوا أيدي سبا. واستولى عسكر الخليفة وأوزبك على البلاد فاعطى جلال الدين ملك الإسماعيلية من البلاد ما كان استقر له وأخذ الباقي أوزبك فسلمها إلى أغلمش مملوك أخيه وكان قد توجه إلى خوارزمشاه علاء الدين محمد وبقي عنده ثم عاد عنه وشهد الحرب وأبلى فيها فولاه أوزبك البلاد وعاد كل طائفة من العسكر إلى بلادهم. وأما منكلي فإنه مضى منهزما إلى مدينة ساوة وبها شحنة هو صديق له فأرسل إليه يستأذنه في الدخول إلى البلد فأذن له ودخل اليه وخرج فلقيه وقبل الأرض بين يديه وادخله البلد وأنزله في داره ثم أخذ سلاحه وأراد أن يقيده ويرسله إلى أغلمش فسأله ان يقتله هو ولا يرسله فقتله وأرسل رأسه إلى أوزبك وأرسله أوزبك إلى بغداد وكان يوم دخولها يوما مشهودا إلا أنه لم تتم المسيرة للخليفة بذلك فإنه وصل ومات ولده في تلك الحال فأعيد ودفن.
307 ذكر وفاة ابن الخليفة في هذه السنة في العشرين من ذي القعدة توفي ولد الخليفة وهو الأصغر وكان يلقب الملك المعظم واسمه أبو الحسن علي وكان أحب ولدي الخليفة إليه وقد رشحه لولاية العهد بعده وعزل ولده الأكبر عن ولاية العهد واطرحه لأجل هذا الولد. وكان، رحمه الله، كريما، كثير الصدقة والمعروف، حسن السيرة محبوبا إلى الخاص والعام وكان سبب موته أنه اصابه إسهال فتوفي وحزن عليه الخليفة حزنا لم يسمع بمثله حتى انه ارسل إلى أصحاب الأطراف ينهاهم عن انفاذ رسول اليه يعزيه بولده ولم يقرأ كتابا ولا سمع رسالة وانقطع وخلا بهمومه وأحزانه ورؤي عليه من الحزن والجزع ما لم يسمع بمثله. ولما توفي اخرج نهارا ومشى جميع الناس بين يدي تابوته إلى تربة جدته عند قبر معروف الكرخي فدفن عندها ولما أدخل التابوت أغلقت الأبواب وسمع الصراخ العظيم من داخل التربة فقيل إن ذلك صوت الخليفة. وأما العامة ببغداد فإنهم وجدوا عليه وجدا شديدا ودامت المناحات عليه في أقطار بغداد ليلا ونهارا ولم يبق ببغداد محلة إلا فيها النوح ولم تبق امرأة إلا وأظهرت الحزن وما سمع ببغداد مثل ذلك في قديم الزمان وحديثه. وكان موته وقت وصول رأس منكلي إلى بغداد فإن الموكب أمر بالخروج إلى لقاء الرأس فخرج الناس كافة فلما دخلوا بالرأس درب
308 حبيب وقع الصوت بموت ابن الخليفة فأعيد الرأس وهذا دأب الدنيا لا يصفو أبدا فرحها من ترح وقد تخلص مصائبها من شائبة الفرح. ذكر ملك خوارزمشاه غزنة وأعمالها في هذه السنة في شعبان ملك خوارزمشاه محمد بن تكش مدينة غزنة وأعمالها. وسبب ذلك أن خوارزمشاه لما استولى على عامة خراسان وملك باميان وغيرها ارسل إلى تاج الدين صاحب غزنة وقد تقدمت اخباره حتى ملكها يطلب منه ان يخطب له ويضرب السكة باسمه ويرسل إليه فيلا واحدا ليصالحه وبيده غزنة ولا يعارضه فيها فأحضر الأمراء وأعيان دولته واستشارهم. وكان فيهم أكبر أمير اسمع قتلغ تكين وهو من مماليك شهاب الدين الغوري أيضا وإليه الحكم في دولة الدز وهو النائب عنه بغزنة فقال الرأي أن يخطب له وتعطيه ما طلب وتستريح من الحرب والقتال وليس لنا بهذا السلطان قوة. فقال الجماعة مثل قوله، فأجاب إلى ما طلب منه وخطب لخوارزم شاه وضرب السكة باسمه وأرسل إليه رسولا وأعاد رسوله اليه ومضى إلى الصيد. فأرسل قتلغ تكين من غزنة إلى خوارزمشاه يطلبه ليسلم إليه غزنة،
309 فسار مجدا، وسبق خبره فسلم إليه قتلغ تكين غزنة وقلعتها فلما دخل إليها قتل من بها من عسكر الغورية لا سيما الأتراك فوصل الخبر إلى الدز بذلك فقال ما فعل قتلغ تكين وكيف ملك القلعة مع وجوده فيها فقيل هو الذي احضره وسلم إليه فمضى هاربا هو ومن معه إلى لهاوور وأقام خوارزمشاه بغزنة فلما تمكن منها احضر قتلغ تكين فقال له كيف حالك مع الدز وكان عالما به وإنما أراد أن تكون له الحجة عليه فقال كلانا مماليك شهاب الدين ولم يكن الدز يقيم بغزنة إلا أربعة اشهر الصيف وانا الحاكم فيها والمرجع إلي في كل الأمور. فقال له خوارزمشاه إذا كنت لا ترعى لرفيقك ومن أحسن إليك صحبته وإحسانه فكيف يكون حالي أنا معك وما الذي تصنع مع ولدي إذا تركته عندك؟ فقبض عليه وأخذ منه أموالا جمة حملها ثلاثون دابة من أصناف الأموال والأمتعة وأحضر أربعمائة مملوك فلما أخذ ماله قتله وترك ولده جلال الدين بغزنة مع جماعة من عسكره وأمرائه وقيل إن ملك خوارزمشاه غزنة كان سنة ثلاث عشرة وستمائة.
310 ذكر استيلاء الدز على لهاوور وقتله لما هرب الدز من غزنة إلى لهاوور لقيه صاحبها ماصر الدين قباجة وهو من مماليك شهاب الدين الغوري أيضا وله من البلاد لهاوور وملتان وأوجه وديبل وغير ذلك إلى ساحل البحر ومعه نحو خمسة عشر الف فارس وكان قد بقي مع الدز نحو الف وخمسمائة فارس فوقع بينهما مصاف واقتتلوا فانهزمت ميمنة الدز وميسرته وأخذت الفيلة التي معه ولم يبق له غير فيلين معه في القلب. فقال الفيال: إذا أخاطر بسعادتك وأمر أحد الفيلين ان يحمل على العلم الذي لقباجة يأخذه وأمر الفيل الآخر الذي له أيضا ان يأخذ الجتر الذي له فأخذه أيضا والفيلة المعلمة تفهم ما يقال لها هذا رأيناه فحمل الفيلان وحمل معهما الدز فيمن بقي عنده من العسكر وكشف رأسه وقال بالعجمية ما معناه إما ملك وإما هلك واختلط الناس بعضهم ببعض وفعل الغيلان ما أمرهما الفيال من أخذ العلم والجتر فانهزم قباجة وعسكره وملك الدز مدينة لهاوور. ثم سار إلى بلاد الهند ليملك مدينة دهلة وغيرها مما بيد المسلمين وكان صاحب دهلة أمير اسمه الترمش ولقبه شمس الدين وهو من مماليك قطب الدين أيبك مملوك شهاب الدين أيضا وكان قد ملك الهند بعد سيده،
311 فلما سمع به الترمش سار اليه في عساكره كلها فلقيه عند مدينة سمانا فاقتتلوا فانهزم الدز وعسكره واخذ وقتل. وكان الدز محمود السيرة في ولايته كثير العدل والاحسان الر الرعية لا سيما التجار والغرباء ومن محاسن اعماله انه كان له أولاد ولهم معلم يعلمهم فضرب المعلم أحدهم فمات فأحضره الدز وقال له يا مسكين ما حملك على هذا فقال والله ما أردت إلا تأديبه فاتفق ان مات. فقال: صدقت وأعطاه نفقة وقال له تغيب فان أمه لا تقدر على الصبر فربما أهلكتك لا أقدر أمنع عنك فلما سمعت أم الصبي بموته طلبت الأستاذ لتقتله فلم تجده فسلم وكان هذا من أحسن ما يحكى عن أحد من الناس. ذكر عدة حوادث في هذه السنة توفي الوجيه المبارك بن أبي الأزهر سعيد بن الدهان الواسطي النحوي الضرير كان نحريرا فاضلا قرأ على الكمال بن الأنباري وعلى غيره وكان حنبليا فصار حنفيا ثم صار شافعيا فقال فيه أبو البركات بن زيد التكريتي: (ألا مبلغا عني الوجيه رسالة * وإن كان لا تجدي لديه الرسائل) (تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل * وفارقته إذ غورتك المآكل) (وما اخترت رأي الشافعي تدينا * ولكنما تهوى الذي هو حاصل) (وعما قليل أنت لا شك صائر * إلى مالك فافطن لما أنا قائل)
312 613 ثم دخلت سنة ثلاث عشر وستمائة ذكر وفاة الملك الظاهر صاحب حلب في هذه السنة في جمادى الآخر توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب وهو صاحب مدينة حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشام وكان مرضه إسهالا وكان شديد السيرة ضابطا لأموره كلها كثير الجمع للأموال من غير جهاتها المعتادة عظيم العقوبة على الذنب لا يرى الصفح وله مقصد يقصده كثير من أهل البيوتات من أطراف البلاد والشعراء وأهل الدين وغيرهم فيكرمهم ويجري عليهم الجاري الحسن ولما اشتدت علته عهد بالملك بعده لولد له صغير اسمه محمد ولقبه الملك العزيز غياث الدين عمره ثلاث سنين وعدل عن ولد كبير لأن الصغير كانت أمه ابنة عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب مصر ودمشق وغيرهما من البلاد فعهد بالملك له ليبقي عمه البلاد عليه ولا ينازعه فيها. ومن أعجب ما يحكى ان الملك الظاهر قبل مرضه أرسل رسولا إلى عمه العادل بمصر يطلب منه ان يخلف لولده الصغير فقال العادل سبحان الله أي حاجة إلى هذه اليمين الملك الظاهر مثل بعض أولادي فقال الرسول:
313 وقد طلب هذا واختاره ولا بد من اجابته اليه فقال العادل كم من كبش في المرعى وخروف عند القصاب؛ وحلف. فاتفق في تلك الأيام أن توفي الملك الظاهر والرسول في الطريق ولما عهد الظاهر إلى ولده بالملك جعل أتابكه ومربيه خادما روميا اسمه طغريل ولقبه شهاب الدين وهو من خيار عباد الله كثير الصدقة والمعروف. ولما توفي الظاهر أحسن هذا شهاب الدين السيرة في الناس وعدل فيهم وأزال كثيرا من السنن الجارية وأعاد أملاكا كانت قد اخذت من أربابها وقام بتربية الطفل أحسن قيام وحفظ بلاده واستقامت الأمور بحسن سيرته وعدله وملك ما كان يتعذر على الظاهر ملكه فمن ذلك تل باشر كان الملك الظاهر لا يقدر [أن] يتعرض إليه فلما توفي ملكها كيكاوش ملك الروم كما نذكره إن شاء الله تعالى انتقلت إلى شهاب الدين وما أقبح بالملوك وأبناء الملوك ان يكون الرجل الغريب المنفرد أحسن سيرة واعف من أموال الرعية وأقرب إلى الخير منهم ولا اعلم اليوم في ولاة أمور المسلمين أحسن سيرة منه فالله يبقيه ويدفع عنه فلقد بلغني عنه كل حسن وجميل. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في المحرم وقع بالبصرة برد كثير وهو مع كثرته عظيم القدر قيل كان أصغره مثل النارنجة الكبيرة وقيل في أكبره ما يستحي
314 الانسان [أن] يذكره فكسر كثيرا من رؤوس النخيل. وفي المحرم أيضا سير الخليفة الناصر لدين الله ولدي ابنه المعظم علي إلى تستر وهما المؤيد والموفق وسار معهما مؤيد الدين النائب عن الوزارة وعز الدين الشرابي فأقاما بها يسيرا ثم عاد الموفق مع الوزير والشرابي إلى بغداد أواخر ربيع الآخر. وفيها في صفر هبت ببغداد ريح سوداء شديدة كثيرة الغبار والقيام وألقت رملا كثيرا وقلعت كثيرا من الشجر فخاف الناس وتضرعوا ودامت من العشاء الآخرة إلى ثلث الليل وانكشفت. وفيها توفي التاج زيد بن الحسن بن زيد الكندي أبو اليمن البغدادي المولد والمنشأ انتقل بالشام فأقام بدمشق وكان إماما في النحو واللغة وله الاسناد العالي في الحديث وكان ذا فنون كثيرة من أنواع العلوم رحمه الله.
315 614 ثم دخلت سنة أربع عشر وستمائة ذكر ملك خوارزم شاه بلد الجبل في هذه السنة سار خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش إلى بلاد الجبل فملكها. وكان سبب حركته في هذا الوقت أشياء أحدها انه كان قد استولى على ما وراء النهر وظفر بالخطا وعظم أمره وعلا شأنه وأطاعه القريب والبعيد ومنها أنه كان يهوى أن يخطب له ببغداد ويلقب بالسلطان وكان الأمر بالصد لأنه كان لا يجد من ديوان الخلافة قبولا وكان سبيله إذا ورد إلى بغداد [أن] يقدم غيره عليه ولعل في عسكره مائة مثل الذي يقدم سبيله عليه فكان إذا سمع ذلك يغضبه ومنها ان أغلمش لما ملك بلاد الجبل خطب له فيها جميعها كما ذكرناه فلما قتله الباطنية غضب له وخرج لئلا تخرج البلاد عن طاعته فسار مجدا في عساكر تطبق الأرض فوصل إلى الري فملكها. وكان أتابك سعد بن دكلا صاحب بلاد فارس لما بلغه مقتل أغلمش جمع عساكره وسار نحو بلاد الجبل طمعا في تملكها لخلوها عن حام وممانع فوصل إلى أصفهان فاطاعه أهلها وسار منها يريد الري ولم يعلم بقدوم خوارزم شاه فلقيه مقدمة خوارزم شاه فظنها عساكر تلك الديار قد اجتمعت
316 لقتاله ومنعه عن البلاد فقاتلهم وجد في محاربتهم حتى كاد يهزمهم. فبينما هو كذلك وإذ هو قد ظهر له جتر خوارزم شاه فسأل عنه فأخبر به فاستسلم وانهزمت عساكره وأخذ أسيرا وحمل إلى بين يدي خوارزم شاه فأكرمه ووعده الإحسان والجميل وأمنه على نفسه واستحلفه على طاعته واستقرت القاعدة بينهما على ان يسلم بعض البلاد إليه ويبقي بعضها وأطلقه وسير معه جيشا إلى بلاد فارس ليسلم إليهم ما استقرت القاعدة عليه فلما قدم على ولده الأكبر رآه قد تغلب على بلاد فارس فامتنع من التسليم إلى أبيه. ثم إنه ملك البلاد، كما نذكره وخطب فيها لخوارزم شاه وسار خوارزم شاه إلى ساوة فملكها وأقطعها العماد الملك عارض جيشه وهو من أهلها ثم سار إلى قزوين وزنجان وأبهر فملكها كلها بغير ممانع ولا مدافع ثم سار إلى همذان فملكها واقطع البلاد لأصحابه وملك أصفهان وكذلك قم وقاشان واستوعب ملك جميع البلاد واستقرت القاعدة بينه وبين أوزبك بن البهلوان صاحب آذربيجان وأران بان يخطب له أوزبك في بلاده ويدخل في طاعته. ثم انه عزم على المسير إلى بغداد فقدم بين يديه أميرا كبيرا في خمسة عشر الف فارس واقطعه حلوان فسار حتى وصل إليها ثم أتبعه بأمير آخر فلما سار عن همذان يومين أو ثلاثة سقط عليهم من الثلج ما لم يسمع بمثله فهلكت دوابهم ومات كثير منهم وطمع فيمن بقي بنو ترجم الأتراك وبنو هكار الأكراد فتخطفوهم فلم يرجع منهم إلى خوارزم
317 شاه إلا اليسير، فتطير خوارزم شاه من ذلك الطريق وعزم على العود إلى خراسان خوفا من التتر لأنه ظن أنه يقضي حاجته ويفرغ من إرادته في المدة اليسيرة فخاب ظنه ورأى البيكار بين يديه طويلا فعزم على العود فولى همذان أميرا من أقاربه من جهة والدته يقال له طائيسي وجعل في البلاد جميعها ابنه ركن الدين وجعل معه متوليا لأمر دولته عماد الملك الساوي وكان عظيم القدر عنده وكان يحرص على قصد العراق. وعاد خوارزم شاه إلى خراسان فوصل إلى مرو في المحرم سنة خمس عشرة وستمائة وسار من وجهه إلى ما وراء النهر ولما قدم إلى نيسابور جلس يوم الجمعة عند المنبر وأمر الخطيب بترك الخطبة للخليفة الناصر لدين الله وقال إنه قد مات وكان ذلك في ذي القعدة سنة أربع عشر وستمائة ولما قدم مرو قطع الخطبة بها وكذلك ببلخ وبخارى وسرخس وبقي خوارزم وسمرقند وهراة لم تقطع الخطبة فيها إلا عن قصد لتركها لأن البلاد كانت لا تعارض من أشباه هذا ان أحبوا خطبوا وإن أرادوا قطعوا فبقيت كذلك إلى أن كان منه ما كان. وهذه من جملة سعادات هذا البيت الشريف العباسي لم يقصده أحد بأذى إلا لقيه فعله وخبث نيته لا جرم لم يمهل هذا خوارزم شاه حتى جرى له ما نذكره مما لم يسمع بمثله في الدنيا قديما ولا حديثا.
318 ذكر ما جرى لأتابك سعد مع أولاده لما قتل أغلمش صاحب بلاد الجبل همذان وأصفهان وما بينهما من البلاد جمع أتابك سعد بن دكلا صاحب فارس عساكره وسار عن بلاده أصفهان فملكها وأطاعه أهلها فطمع تلك البلاد جميعها فسار عن أصفهان إلى الري فلما وصل إليها لقي عساكر خوارزمشاه قد وصلت كما ذكرناه فعزم على محاربة مقدمة العسكر فقاتلها حتى كاد يهزمها فظهرت عساكر خوارزم شاه ورأى الجتر فسقط في يده والقى نفسه وضعفت قوته وقوة عسكره فولوا الأدبار وأخذ أتابك سعد أسيرا وأحضر بين يدي خوارزم شاه فأكرمه وطيب نفسه ووعده الإحسان واستصحبه معه إلى ان وصل إلى أصفهان فسيره منها إلى بلاده وهي تجاورها وسير معه عسكرا مع أمير كبير ليتسلم منه ما كان استقر بينهما فإنهما اتفقا على ان يكون لخوارزم شاه بعض البلاد ولأتابك سعد بعضها وتكون الخطبة لخوارزم شاه في البلاد جميعها. وكان أتابك سعد قد استخلف ابنا له على البلاد فلما سمع الابن بأسر أبيه خطب لنفسه بالمملكة وقطع خطبة أبيه فلما وصل أبوه ومعه عسكر خوارزمشاه امتنع الابن من تسليم البلاد إلى أبيه وجمع العساكر وخرج يقاتله فلما تراءى الجمعان انحازت عساكر فارس إلى صاحبهم أتابك سعد وتركوا ابنه في خاصته فحمل على أبيه فلما رآه أبوه ظن أنه لم يعرفه فقال له: أنا
319 فلان! فقال: إياك أردت فحينئذ امتنع منه وولى الابن منهزما. ووصل أتابك سعد إلى البلاد فدخلها مالكا لها وأخذ ابنه أسيرا فسجنه إلى الآن إلا أنني سمعت الآن وهو سنة عشرين وستمائة أنه قد خفف حبسه ووسع عليه. ولما عاد خوارزم شاه إلى خراسان غدر سعد بالأمير الذي عنده فقتله ورفع عن طاعة خوارزم شاه واشتغل خوارزم شاه بالحادثة العظمى التي شغلته عن هذا وغيره لكن الله انتقم له بابنه غياث الدين كما ذكرناه سنة عشرين وستمائة لأن سعدا كفر إحسان خوارزم شاه وكفر الإحسان عظيم العقوبة. ذكر ظهور الفرنج إلى الشام ومسيرهم إلى ديار مصر وملكهم مدينة دمياط وعودها إلى المسلمين كان من أول هذه الحادثة إلى آخرها اربع سنين غير شهر وإنما ذكرناها ههنا لأن ظهورهم كان فيها وسقناها سياقة متتابعة ليتلو بعضها بعضا فنقول في هذه السنة وصلت أمداد الفرنج في البحر من رومية الكبرى وغيرها من بلاد الفرنج في الغرب والشمال إلا أن المتولي لها كان صاحب رومية لأنه ينزل عند الفرنج بمنزلة عظيمة لا يرون مخالفة أمره ولا العدول عن حكمه فيما سرهم وساءهم فجهز العساكر من عنده مع جماعة من مقدمي الفرنج وأمر غيره من ملوك الفرنج أن يسير بنفسه أو يرسل جيشا ففعلوا ما
320 أمرهم فاجتمعوا بعكا من ساحل الشام. وكان الملك العادل أبو بكر ابن أيوب بمصر فسار منها إلى الشام فوصل إلى الرملة ومنها إلى لد وبرز الفرنج من عكا ليقصدوه فسار العادل نحوهم فوصل إلى نابلس عازما على أن يسبقهم إلى أطراف البلاد مما يلي عكا ليحميها منهم فساروا هم فسبقوه فنزل على بيسان من الأردن فتقدم الفرنج إليه في شعبان عازمين على محاربته لعلمهم أنه في قلة من العسكر لأن العساكر كانت متفرقة في البلاد. فلما رأى العادل قربهم منه لم ير أن يلقاهم في الطائفة التي معه خوفا من هزيمة تكون عليه وكان حازما كثير الحذر ففارق بيسان نحو دمشق ليقيم بالقرب منها ويرسل إلى البلاد ويجمع العساكر فوصل إلى مرج الصفر فنزل فيه. وكان أهل بيسان وتلك الأعمال لما رأوا الملك العادل عندهم اطمأنوا فلم يفارقوا بلادهم ظنا منهم أن الفرنج لا يقدمون عليه فلما أقدموا على غفلة من الناس فلم يقدر على النجاة إلا القليل فأخذ الفرنج كل ما في بيسان من ذخائر قد جمعت وكانت كثيرة وغنموا شيئا كثيرا ونهبوا البلاد من بيسان إلى بانياس وبثوا السرايا في القرى فوصلت إلى خسفين ونوى وأطراف السواد ونازلوا بانياس وأقاموا عليها ثلاثة أيام ثم عادوا عنها إلى مرج عكا ومعهم من الغنائم والسبي والأسرى ما لا يحصى كثرة سوى ما قتلوا وأحرقوا وأهلكوا فأقاموا أياما استراحوا [خلالها]. ثم جاؤوا إلى صور وقصدوا بلد الشقيف ونزلوا بينهم وبين بانياس
321 مقدار فرسخين، فنهبوا البلاد: صيدا والشقيف وعادوا إلى عكا وكان هذا من نصف رمضان إلى العيد والذي سلم من تلك البلاد كان مخفا حتى قدر على النجاة. ولقد بلغني أن العادل لما سار إلى مرج الصفر رأى في طريقه رجلا يحمل شيئا وهو يمشي تارة وتارة يقعد ليستريح فعدل العادل إليه وحده فقال له يا شيخ لا تعجل وارفق بنفسك فعرفه الرجل فقال يا سلطان المسلمين أنت لا تعجل فإنا إذا رأيناك قد سرت إلى بلادك وتركتنا مع الأعداء كيف لا نعجل! وبالجملة الذي فعله العادل هو الحزم والمصلحة لئلا يخاطر باللقاء على حال تفرق من العساكر ولما نزل العادل على مرج الصفر سير ولده الملك المعظم عيسى وهو صاحب دمشق في قطعة صالحة من الجيش إلى نابلس ليمنع الفرنج عن البيت المقدس. ذكر حصر الفرنج قلعة الطور وتخريبها لما نزل الفرنج بمرج عكا تجهزوا وأخذوا معهم آلة الحصار من مجانيق وغيرها وقصدوا قلعة الطور وهي قلعة منيعة على رأس جبل بالقرب من عكا كان العادل قد بناها عن قريب فتقدموا إليها وحصروها وزحفوا إليها وصعدوا في جبلها حتى وصلوا إلى سورها وكادوا يملكونه. فاتفق ان بعض المسلمين ممن فيها قتل بعض ملوكهم فعادوا عن القلعة فتركوها وقصدوا عكا وكان مدة مقامهم على الطور سبعة عشر يوما.
322 ولما فارقوا الطور أقاموا قريبا ثم ساروا في البحر إلى ديار مصر على ما نذكره إن شاء الله تعالى فتوجه الملك المعظم إلى قلعة الطور فخربها إلى ان الحقها بالأرض لأنها بالقرب من عكا ويتعذر حفظها. ذكر حصر الفرنج دمياط إلى أن ملكوها لما عاد الفرنج من حصار الطور أقاموا بعكا إلى أن دخلت سنة خمس عشرة وستمائة فساروا في البحر إلى دمياط فوصلوا في صفر فأرسلوا إلى بر الجيزة بينهم وبين دمياط النيل فإن بعض النيل يصب في البحر المالح عند دمياط، [وقد بني في النيل برج كبير منيع وجعلوا فيه سلاسل من حديد غلاظ ومدوها في النيل إلى سور دمياط] لتمنع المراكب الواصلة من البحر المالح ان تصعد في النيل إلى ديار مصر ولولا هذا البرج وهذه السلاسل لكانت مراكب العدو لا يقدر أحد على منعها عن أقاصي ديار مصر وأدانيها. فلما نزل الفرنج على بر الجيزة وبينهم وبين دمياط النيل بنوا عليهم سورا وجعلوا خندقا يمنعهم ممن يريدهم وشرعوا في قتال من بدمياط وعملوا آلات ومرمات وأبراجا يزحفون بها في المراكب إلى هذا البرج ليقاتلوه ويملكوه. وكان البرج مشحونا بالرجال وقد نزل الملك الكامل ابن الملك العادل،
323 وهو صاحب دمياط وجميع ديار مصر بمنزلة تعرف بالعادلية بالقرب من دمياط والعساكر متصلة من عنده إلى دمياط ليمنع العدو من العبور إلى أرضها. وأدام الفرنج قتال البرج وتابعوه فلم يظفروا منه بشيء وكسرت مرماتهم وآلاتهم ومع هذا فهم ملازمون لقتاله فبقوا كذلك أربعة اشهر ولم يقدروا على أخذه ثم بعد ذلك ملكوا البرج فلما ملكوه قطعوا السلاسل لتدخل مراكبهم من البحر المالح في النيل ويتحكموا في البر فنصب الملك عوض السلاسل جسرا عظيما امتنعوا به من سلوك النيل ثم انهم قاتلوا عليه أيضا قتالا شديدا كثيرا متتابعا حتى قطعوه فلما قطع اخذ الملك الكامل عدة مراكب كبار وملأها وخرقها في النيل فمنعت المراكب من سلوكه. فلما رأى الفرنج ذلك قصدوا خليجا هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري عليه قديما فحفروا ذلك الخليج وعمقوه فوق المراكب التي جعلت في النيل واجروا الماء فيه إلى البحر المالح واصعدوا مراكبهم فيه إلى موضع يقال له بورة على ارض الجيزة أيضا مقابل المنزلة التي فيها الملك الكامل ليقاتلوه من هناك فإنهم لم يكن لهم إليه طريق يقاتلوه في الماء وزحفوا اليه غير مرة فلم يظفروا بطائل. ولم يتغير على أهل دمياط شيء لأن الميرة والأمداد متصلة بهم والنيل يحجز بينهم وبين الفرنج فهم ممتنعون لا يصل إليهم اذى وأبوابها مفتحة وليس عليها من الحصر ضيق ولا ضرر. فاتفق، لما يريد الله عز وجل أن الملك العادل توفي في جمادى الآخرة من سنة خمس عشر وستمائة على ما نذكره إن شاء الله فضعفت نفوس الناس لأنه السلطان حقيقة وأولاده وإن كانوا ملوكا إلا أنهم بحكمه والأمر إليه وهو ملكهم البلاد فاتفق موته والحال هكذا من مقاتلة العدو.
324 وكان من جملة الأمراء بمصر أمير يقال له عماد الدين احمد بن علي ويعرف بابن المشطوب وهو من الأكراد الهكارية وهو أكبر أمير بمصر وله لفيف كثير وجميع الأمراء ينقادون اليه ويطيعونه لا سيما الأكراد فاتفق هذا الأمير مع غيره من الأمراء وأرادوا ان يخلعوا الملك الكامل من الملك ويملكوا أخاه الملك الفائز بن العادل ليصير الحكم إليهم عليه وعلى البلاد فبلغ الخبر إلى الكامل ففارق المنزلة ليلا جريدة وسار إلى قرية يقال لها شمعون طناح فنزل عندها وأصبح العسكر وقد فقدوا سلطانهم فركب كل انسان منهم هواه ولم يقف الأخ على أخيه ولم يقدروا على أخذ شيء من خيامهم وذخائرهم وأموالهم وأسلحتهم الا اليسير الذي يخف حمله وتركوا الباقي بحاله من ميرة وسلاح ودواب وخيام وغير ذلك ولحقوا بالكامل. وأما الفرنج فإنهم أصبحوا من الغد فلم يروا من المسلمين أحدا على شاطئ النيل كجاري عادتهم فبقوا لا يدرون ما الخبر وإذا قد أتاهم من أخبرهم الخبر على حقيقته فعبروا حينئذ النيل إلى بر دمياط آمنين بغير منازع ولا مانع وكان عبورهم في العشرين من ذي القعدة سنة خمس عشرة وستمائة فغنموا ما في عسكر المسلمين فكان عظيما يعجز العادين. وكان الملك الكامل قد فارق الديار المصرية لأنه لم يثق بأحد من عسكره وكان الفرنج ملكوا الجميع بغير تعب ولا مشقة فاتفق من لطف الله تعالى بالمسلمين ان الملك المعظم عيسى بن الملك العادل وصل إلى أخيه الكامل بعد هذه الحركة بيومين والناس في أمر مريج فقوي به قلبه واشتد ظهره وثبت جنانه وأقام بمنزلته وأخرجوا ابن المشطوب إلى الشام فاتصل بالملك الأشرف وصار من جنده.
325 فلما عبر الفرنج إلى ارض دمياط اجتمعت العرب على اختلاف قبائلها ونهبوا البلاد المجاورة لدمياط وقطعوا الطريق وأفسدوا وبالغوا في الإفساد فكانوا أشد على المسلمين من الفرنج، وكان أضر شيء على أهل دمياط أنها لم يكن بها من العسكر أحد لأن السلطان ومن معه من العساكر كانوا عندها يمنعون العدو عنها فأتتهم هذه الحركة بغتة فلم يدخلها أحد من العسكر وكان ذلك من فعل ابن المشطوب لا جرم لم يمهله الله وأخذه اخذة رابية على ما نذكره إن شاء الله. وأحاط الفرنج بدمياط وقاتلوها برا وبحرا وعملوا عليهم خندقا يمنعهم ممن يريدهم من المسلمين وهذه كانت عادتهم وأداموا القتال واشتد الأمر على أهلها وتعذرت عليهم الأقوات وغيرها وسئموا القتال وملازمته لأن الفرنج كانوا يتناوبون القتال عليهم لكثرتهم وليس بدمياط من الكثرة ما يجعلون القتال بينهم مناوبة ومع هذا فصبروا صبرا لم يسمع بمثله وكثر القتل فيهم والجراح والموت والأمراض ودام الحصار عليهم إلى السابع والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة فعجز من بقي من أهلها عن الحفظ لقلتهم وتعذر القوت عندهم فسلموا البلد إلى الفرنج في هذا التاريخ بالأمان فخرج منهم قوة وأقام آخرون لعجزهم عن الحركة فتفرقوا أيدي سبا. ذكر ملك المسلمين دمياط من الفرنج لما ملك الفرنج دمياط أقاموا بها وبثوا سراياهم في كل ما جاورهم من البلاد ينهبون ويقتلون فجلى أهله عنها وشرعوا في عمارتها وتحصينها وبالغوا في ذلك حتى انها بقيت لا ترام.
326 وأما الملك الكامل فإنه أقام بالقرب منهم في أطراف بلاده يحميها منهم. ولما سمع الفرنج في بلادهم بفتح دمياط على أصحابهم اقبلوا يهرعون من كل فج عميق وأصبحت دار هجرتهم وعاد الملك المعظم صاحب دمشق إلى الشام فخرب البيت المقدس في ذي القعدة من السنة وإنما فعل ذلك لأن الناس كافة خافوا الفرنج وأشرف الإسلام وكافة أهله وبلاده على خطة خسف في شرق الأرض وغربها وأقبل التتر من المشرق حتى وصلوا إلى نواحي العراق وأذربيجان وأران وغيرها على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ واقبل الفرنج من المغرب فملكوا مثل دمياط في الديار المصرية مع عدم الحصون المانعة بها من الأعداء وأشرف على سائر البلاد بمصر والشام وصاروا يتوقعون البلاء صباحا ومساء. وأراد أهل مصر الجلاء عن بلادهم خوفا من العدو ولات حين مناص والعدو قد أحاط بهم من كل جانب ولو مكنهم الكامل من ذلك لتركوا البلاد خاوية على عروشها وإنما منعوا منه فثبتوا. وتابع الملك الكامل كتبه إلى أخويه المعظم صاحب دمشق والملك الأشرف موسى بن العادل صاحب ديار الجزيرة وأرمينية وغيرهما يستنجدهما ويحثهما على الحضور بأنفسهما فإن لم يمكن فيرسلان العساكر إليه فسار صاحب دمشق إلى الأشرف بنفسه فرآه مشغولا عن إنجادهم بما دهمه من اختلاف الكلمة عليه وزوال الطاعة عن كثير ممن كان يطيعه ونحن نذكر ذلك سنة خمس عشرة وستمائة إن شاء الله عند وفاة الملك القاهر صاحب الموصل فليطلب من هناك فعذره وعاد عنه وبقي الأمر كذلك مع الفرنج.
327 فأمر الملك الأشرف فزال الخلف من بلاده ورجع الملوك الخارجون عن طاعته إليه واستقامت له الأمور إلى سنة ثمان عشرة وستمائة والملك الكامل مقابل الفرنج. فلما دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة علو بزوال المانع للأشرف عن إنجاده فأرسل إلى دمشق فيمن معه من العساكر والعود إلى بلاده خوفا من اختلاف يحدث فلم يقبل قولهم، وقال قد خرجت للجهاد ولا بد من إتمام ذلك العزم فسار إلى مصر. وكان الفرنج قد ساروا عن دمياط الفارس والراجل وقصدوا الملك الكامل ونزلوا مقابله بينهما خليج من النيل يسمى بحر أشموم وهم يرمون بالمنجنيق والجرخ إلى عسكر المسلمين وقد تيقنوا هم وكل الناس أنهم يملكون الديار المصرية. وأما الأشرف فإنه سار حتى وصل مصر فلما سمع أخوه الكامل بقربه منهم توجه اليه فلقيه واستبشر هو وكافة المسلمين باجتماعهما لعل الله يحدث بذلك نصرا وظفرا. وأما الملك المعظم صاحب دمشق فإنه سار أيضا إلى ديار مصر وقصد دمياط ظنا منه أن أخويه وعسكريهما قد نازلوها وقيل بل أخبر في الطريق أن الفرنج قد توجهوا إلى دمياط فسابقهم إليها ليلقاهم من بين أيديهم وأخواه من خلفهم والله أعلم.
328 ولما اجتمع الأشرف بالكامل استقر الأمر بينهما على التقدم إلى خليج من النيل يعرف ببحر المحلة فتقدموا إليه فقاتلوا الفرنج وازدادوا قربا وتقدمت شواني المسلمين من النيل وقاتلوا شواني الفرنج فأخذوا منها ثلاث قطع بمن فيها من الرجال وما فيها من الأموال والسلاح ففرح المسلمون بذلك واستبشروا وتفاءلوا وقويت نفوسهم واستطالوا على عدوهم. هذا يجري والرسل مترددة بينهم في تقرير قاعدة الصلح وبذل المسلمون لهم تسليم البيت المقدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين ما عدا الكرك ليسلموا دمياط فلم يرضوا وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضا عن تخريب القدس ليعمروه بها فلم يتم بينهم أمر وقالوا لا بد من الكرك. فبينما الأمر في هذا وهم يمنعون فاضطر المسلمون إلى قتالهم وكان الفرنج لاعتدادهم في نفوسهم لم يستصحبوا معهم ما يقوتهم عدة أيام ظنا منهم أن العساكر الإسلامية لا تقوم لهم وان القرى والسواد جميعه يبقى بأيديهم يأخذون منه ما أرادوا من الميرة لأمر يريده الله تعالى بهم فعبر طائفة من المسلمين إلى الأرض التي عليها الفرنج ففجروا النيل فركب الماء أكثر تلك الأرض ولم يبق للفرنج جهة يسلكون منها غير جهة واحدة فيها ضيق فنصب الكامل حينئذ الجسور على النيل عند أشموم وعبرت العساكر عليها فملك الطريق الذي يسلكه الفرنج ان أرادوا العود إلى دمياط فلم يبق لهم خلاص. واتفق في تلك الحال انه وصل إليهم مركب كبير للفرنج من أعظم المراكب يسمى مرمة وحوله عدة حراقات تحميه والجميع مملوءة من الميرة والسلاح،
329 وما يحتاجون اليه فوقع عليها شواني المسلمين وقاتلوهم فظفروا بالمرمة وبما معها من الحراقات وأخذوها فلما رأى الفرنج ذلك سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا الصواب بمفارقة دمياط في أرض يجهلونها. هذا وعساكر المسلمين محيطة بهم يرمونهم بالنشاب ويحملون على أطرافهم فلما اشتد الأمر على الفرنج أحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأثقالهم وأرادوا الزحف إلى المسلمين ومقاتلتهم لعلهم يقدرون على العود إلى دمياط فرأوا ما أملوه بعيدا وحيل بينهم وبين ما يشتهون لكثرة الوحل والمياه حولهم والوجه الذي يقدرون على سلوكه قد ملكه المسلمون. فلما تيقنوا أنهم قد أحيط بهم من سائر جهاتهم وأن ميرتهم قد تعذر عليهم وصولها وان المنايا قد كشرت لهم عن أنيابها ذلت نفوسهم وتنكست صلبانهم وضل عنهم شيطانهم فراسلوا الملك الكامل والأشرف يطلبون الأمان ليسلموا دمياط بغير عوض فبينما المراسلات مترددة إذ اقبل جيش كبير لهم رهج شديد وجلبة عظيمة من جهة دمياط فظنه المسلمون نجدة أتت للفرنج فاستشعروا وإذ هو الملك المعظم صاحب دمشق قد وصل إليهم وكان قد جعل طريقه على دمياط لما ذكرناه فاستدت ظهور المسلمين وازداد الفرنج خذلانا ووهنا وتمموا الصلح على تسليم دمياط واستقرت القاعدة والأيمان سابع رجب من سنة ثمان عشر وستمائة وانتقل ملوك الفرنج وكنودهم وقمامصتهم إلى الملك الكامل والأشرف رهائن على تسليم دمياط ملك عكا ونائب بابا صاحب رومية وكند ريش وغيرهم وعدتهم عشرون ملكا وراسلوا قسوسهم ورهبانهم إلى دمياط في تسليمها فلم يمتنع من بها وسلموها إلى المسلمين تاسع رجب المذكور وكان يوما مشهودا.
330 ومن العجب ان المسلمين لما تسلموها وصلت للفرنج نجدة في البحر فلو سبقوا المسلمين إليها لامتنعوا من تسليمها ولكن سبقهم المسلمون ليقضي الله امرا كان مفعولا ولم يبق بها من أهلها الا آحاد وتفرقوا أيدي سبا بعضهم سار عنها باختياره وبعضهم مات وبعضهم أخذه الفرنج. ولما دخلها المسلمون رأوها حصينة قد حصنها الفرنج تحصينا عظيما بحيث بقيت لا ترام ولا يوصل إليها وأعاد الله سبحانه وتعالى الحق إلى نصابه ورده إلى أربابه وأعطى المسلمين ظفرا لم يكن في حسابهم فإنهم كانت غاية أمانيهم ان يسلموا البلاد التي اخذت منهم بالشام ليعيدوا دمياط فرزقهم الله إعادة دمياط وبقيت البلاد بأيديهم على حالها فالله المحمود المشكور على ما أنعم به على الاسلام والمسلمين من كف عادية هذا العدو وكفاهم شر التتر على ما نذكره ان شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في المحرم كانت ببغداد فتنة بين أخل المأمونية وبين أهل باب الأزج بسبب قتل سبع وزاد الشر بينهم واقتتلوا فجرح بينهم كثير فحضر نائب الباب وكفهم عن ذلك فلم يقبلوا ذلك واسمعوه يكره فأرسل من الديوان أمير من مماليك الخليفة فرد أهل كل محلة إلى محلتهم وسكنت الفتنة. وفيها كثر الفار ببلدة دجيل من اعمال بغداد فكان الانسان لا يقدر
331 [أن] يجلس إلا معه عصا يرد الفار عنه وكان يرى الكثير منه ظاهرا يتبع بعضه بعضا. وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة لم يشاهد في قديم الزمان مثلها وأشرفت بغداد على الغرق فركب الوزير وكافة الأمراء والأعيان وجمعوا الخلق العظيم من العامة وغيرهم لعمل القورج حول البلد وقلق الناس لذلك وانزعجوا وعاينوا الهلاك واعدوا السفن لينجوا فيها وظهر الخليفة للناس وحثهم على العمل وكان مما قال لهم لو كان يفدى ما أرى بمال أو غيره لفعلت ولو دفع بحرب لفعلت ولكن أمر الله لا يرد. ونبع الماء من البلاليع والآبار من الجانب الشرقي وغرق كثير منه وغرق مشهد أبي حنيفة وبعض الرصافة وجامع المهدي وقربة الملكية والكشك وانقطعت الصلاة بجامع السلطان وأما الجانب الغربي فتهدم أكثر القرية ونهر عيسر والشطيات وخربت البساتين ومشهد باب التين ومقبرة احمد بن حنبل والحريم الظاهري وبعض باب البصرة والدور التي على نهر عيسى وأكثر محلة قطفتا. وفيها توفي احمد بن أبي الفضائل عبد المنعم بن أبي البركات محمد بن طاهر بن سعيد بن فضل الله بن سعيد بن أبي الخير الميهني الصوفي أبو الفضل شيخ رباط الخليفة ببغداد وكان صالحا من بيت التصوف والصلاح.
332 615 ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة ذكر وفاة الملك القاهر وولاية ابنة نور الدين وما كان من الفتن بسبب موته إلى ان استقرت الأمور في هذه السنة توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه من مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل ليلة الاثنين لثلاث بقين من شهر ربيع الأول وكانت ولايته سبع سنين وتسعة اشهر. وكان موته أن أخذته حمى ثم فارقته الغد وبقي يومين موعوكا ثم عاودته الحمى مع قيء كثير وكرب شديد وقلق متتابع ثم برد بدنه وعرق وبقي كذلك إلى وسط الليل ثم توفي. وكان كريما حليما قليل الطمع في أموال الرعية كافا عن أذى يوصله إليهم مقبلا على لذاته كأنما ينهبها ويبادر بها الموت وكان عنده رقة شديدة ويكثر ذكر الموت. حكى لي بعض من كان يلازمه قال كنا ليلة قبل وفاته بنصف شهر عنده فقال لي قد وجدت ضجرا من القعود فقم بنا نتمشى إلى الباب العمادي، قال: فقمنا نخرج من داره نحو الباب العمادي فوصل التربة التي عملها لنفسه عند داره فوقف عندها مفكرا لا يتكلم ثم قال لي:
333 والله ما نحن في شيء أليس مصيرنا إلى ههنا وندفن تحت الأرض وأطال الحديث في هذا ونحوه ثم عاد إلى الدار. فقلت له ألا نمشي إلى الباب العمادي؟ فقال ما بقي عندي نشاط إلى هذا ولا إلى غيره ودخل داره وتوفي بعد أيام. وأصيب أهل بلاده بموته وعظم عليهم فقده وكان محبوبا إليهم قريبا من قلوبهم ففي كل دار لأجله رنة وعويل ولما حضرته الوفاة أوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين أرسلان شاه وعمره نحو عشر سنين وجعل الوصي عليه والمدبر لدولته بدر الدين لؤلؤ وهو الذي كان يتولى دولة القاهر ودولة أبيه نور الدين قبله وقد تقدم من اخباره ما يعرف به محله وسيرد منها أيضا ما يزيد الناظر بصيرة فيه. فلما قضى نحبه قام بدر الدين بأمر نور الدين اجلسه في مملكة أبيه وأرسل إلى الخليفة يطلب له [منهم] التقليد والتشريف وأرسل إلى الملوك وأصحاب الأطراف المجاورين لهم يطلب تجديد العهد لنور الدين على القاعدة التي كانت بينهم وبين أبيه فلم يصبح إلا وقد فرغ من كل ما يحتاج إليه وجلس للعزاء وحلف الجند والرعايا وضبط المملكة من التزلزل والتغير مع صغر السلطان وكثرة الطامعين في الملك فإنه كان معه في البلد أعمام أبيه وكان معه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بولايته وهي قلعة عقر الحميدية يحدث نفسه بالملك لا يشك في أن الملك يصير اليه بعد أخيه فرفع بدر الدين ذلك الخرق ورتق ذلك الفتق وتابع الاحسان والخلع على كافة الناس وغير ثياب الحداد عنهم فلم يخض بذلك شريفا دون مشروف ولا كبيرا دون صغير وأحسن السيرة وجلس لكشف ظلامات الناس وانصاف بعضهم من بعض. ويعد أيام وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية ولبدر الدين بالنظر
334 في أمر دولته والتشريفات لهمل أيضا وأتتهم رسل الملوك بالتعزية وبذل ما طلب منهم من العهود واستقرت القواعد لها. ذكر ملك عماد الدين زنكي قلاع الهكارية والزوزان قد ذكرنا عند وفاة نور الدين سنة سبع وستمائة انه أعطى ولده الأصغر زنكي قلعتي العقر وشوش وهما بالقرب من الموصل فكان تارة يكون بالموصل وتارة بولايته متجنيا لكثرة تلونه وكان بقلعة العمادية مستحفظ من مماليك جده عز الدين مسعود بن مودود قيل إنه جرى له مع زنكي مراسلات في معنى تسليم العمادية اليه فنمي الخبر بذلك إلى بدر الدين فبادره بالعزل مع أمير كبير وجماعة من الجند لم يمكنه الامتناع وسلم القلعة إلى نائب بدر الدين كذلك وجعل بدر الدين في غير العمادية من القلاع نوابا له. وكان نور الدين بن القاهر لا يزال مريضا من جروح كانت به وغيرها من الأمراض وكان يبقى المدة الطويلة لا يركب ولا يظهر للناس فأرسل زنكي إلى من بالعمادية من الجند يقول إن ابن أخي توفي ويريد بدر الدين يملك البلاد وأنا أحق بملك آبائي وأجدادي فلم يزل حتى استدعاه الجند منها وسلموا اليه ثامن عشر رمضان سنة خمس عشرة وستمائة وقبضوا على النائب البدري وعلى من معه.
335 فوصل الخبر إلى بدر الدين ليلا فجد في الأمر ونادى في العسكر لوقته بالرحيل فساروا مجدين إلى العمادية وحصروها وكان الزمان شتاء والبرد شديد والثلج هناك كثير فلم يتمكنوا من القتال من بها لكنهم أقاموا يحصرونها وقام مظفر الدين كوكبري بن زين الدين صاحب إربل في نصر عماد الدين وتجرد لمساعدته فراسله بدر الدين يذكره الايمان والعهود التي من جملتها انه لا يتعرض إلى شيء من اعمال الموصل ومنها قلاع الهكارية والزوزان بأسمائها ومتى تعرض إليها أحد من الناس من كان منعه بنفسه وعساكره وأعان نور الدين وبدر الدين على منعه ويطالبه بالوفاء بها. ثم نزل عند هذا ورضي منه بالسكوت لا لهم ولا عليهم فلم يفعل وأظهر معاضدة عماد الدين زنكي فحينئذ لم تكن مكاثرة زنكي بالرجال والعساكر لقرب هذا الخصم وأعمالها الا ان العسكر البدري محاصر العمادية وبها زنكي. ثم إن بعض الأمراء من عسكر الموصل ممن لا علم له بالحرب وكان شجاعا وهو جديد الإمارة أراد ان يظهر شجاعته ليزداد بها تقدما وأشار على من هناك من العسكر بالتقدم إلى العمادية ومباشرتها بالقتال وكانوا قد تأخروا عنها شيئا يسيرا لشدة البرد والثلج فلم يوافقوه وقبحوا رأيه فتركهم ورحل متقدما إليهم ليلا فاضطروا إلى اتباعه خوفا عليه من اذى يصيبه ومن معه فساروا اليه على غير تعبية لضيق المسلك ولأنه أعجلهم عن ذلك وحكم الثلج عليهم أيضا. فسمع زنكي ومن معه فنزلوا ولقوا أوائل الناس وأهل مكة اخبر بشعابها فلم يثبتوا لهم وانهزموا وعادوا إلى منزلتهم ولم يقف العسكر
336 عليهم، فاضطروا إلى العود، فلما عادوا راسل زنكي باقي قلاع الهكارية والزوزان واستدعاهم إلى طاعته فأجابوه وسلموا إليه فجعل فيها الولاة وتسلمها وحكم فيها. ذكر اتفاق بدر الدين مع الملك الأشرف لما رأى بدر الدين خروج القلاع عن يده واتفاق مظفر الدين وعماد الدين عليه لم ينفع معهم اللين ولا الشدة وأنهما لا يزالان يسعيان في أخذ بلاده ويتعرضان إلى أطرافها بالنهب والأذى أرسل إلى الملك الأشرف موسى بن الملك العادل وهو صاحب ديار الجزيرة كلها الا القليل وصاحب خلاط وبلادها يطلب منه الموافقة والمعاضدة وانتمى اليه وصار في طاعته منخرطا في سلك موافقته فأجابه الأشرف بالقبول والفرح به والاستبشار وبذل له المساعدة والمعاضدة والمحاربة دونه واستعادة ما أخذ من القلاع التي كانت له. وكان الملك الأشرف حينئذ بحلب نازلا بظاهرها لما ذكرناه من تعرض كيكاوس ملك بلاد الروم التي بيد المسلمين قونية وغيرها إلى اعمالها وملكوا بعض قلاعها فأرسل إلى مظفر الدين يقبح هذه الحالة ويقول له إن هذه القاعدة تقررت بين جميعنا بحضور رسلك واننا نكون على الناكث إلى ان يرجع إلى الحق ولا بد من إعادة ما اخذ من بلد الموصل لندوم على اليمين التي استقرت بيننا فإن امتنعت وأصررت على معاضدة زنكي ونصرته فأنا أجيء بنفسي وعساكري واقصد بلادك وغيرها واسترد ما أخذتموه وأعيده إلى أصحابه والمصلحة انك توافق وتعود إلى الحق لنجعل شغلنا جمع العساكر وقصد الديار المصرية واجلاء الفرنج
337 عنها قبل ان يعظم خطبهم ويستطير شرهم. فلم تحصل بالإجابة منه إلى شيء من ذلك وكان ناصر الدين محمود صاحب الحصن وآمد قد امتنع عن موافقة الأشرف وقصد بعض بلاده ونهبها وكذلك صاحب ماردين واتفقا مع مظفر الدين فلما رأى الأشرف ذلك جهز عسكرا وسيره إلى نصيبين نجدة لبدر الدين إن احتاج إليهم. ذكر انهزام عماد الدين زنكي من العسكر البدري لما عاد العسكر البدري من حصار العمادية وبها زنكي كما ذكرناه قويت نفسه وفارقها وعاد إلى قلعة العقر التي له ليتسلط على اعمال الموصل بالصحراء فإن بلد الجبل كان قد فرغ منه وأمده مظفر الدين بطائفة كثيرة من العسكر. فلما اتصل الخبر ببدر الدين سير طائفة من عسكره إلى أطراف بلد الموصل يحمونها فأقاموا على أربعة فراسخ من الموصل ثم إنهم اتفقوا بينهم على المسير إلى زنكي وهو عند العقر في عسكره ومحاربته ففعلوا ذلك ولم يأخذوا أمر بدر الدين بل أعلموه بمسيرهم جريدة ليس معهم إلا سلاحهم ودواب يقاتلون عليها فساروا ليلتهم وصبحوا زنكي بكرة الأحد لأربع بقين من المحرم من سنة ست عشرة وستمائة فالتقوا واقتتلوا تحت العقر وعظم الخطب فأنزل الله نصره على العسكر البدري فانهزم عماد الدين وعسكره وسار إلى إربل منهزما وعاد العسكر البدري إلى منزلته التي كان بها وحضرت الرسل من الخليفة الناصر لدين الله ومن الملك الأشرف في تجديد الصلح فاصطلحوا وتحالفوا بحضرة الرسل.
338 ذكر وفاة نور الدين صاحب الموصل وملك أخيه ولما تقرر الصلح توفي نور الدين أرسلان شاه بن الملك القاهر صاحب الموصل وكان لا يزال مريضا بعدة أمراض فرتب بدر الدين في الملك بعده أخاه ناصر الدين وله من العمر نحو ثلاث سنين ولم يكن للقاهر ولد غيره وحلف له الجند وركبه فطابت نفوس الناس لأن نور الدين كان لا يقدر على الركوب لمرضه فلما ركبوا هذا علموا ان لهم سلطانا من البيت الأتابكي فاستقروا واطمأنوا وسكن كثير من الشغب بسببه. ذكر انهزام بدر الدين من مظفر الدين لما توفي نور الدين وملك اخوه ناصر الدين تجدد لمظفر الدين ولعماد الدين طمع لصغر سن ناصر الدين فجمعا الرجال وتجهزا للحركة فظهر ذلك وقصد بعض أصحابهم طرف ولاية الموصل بالنهب والفساد. وكان بدر الدين قد سير ولده الأكبر في جمع صالح من العسكر إلى الملك الأشرف بحلب نجدة له بسبب اجتماع الفرنج بمصر وهو يريد ان يدخل بلاد الفرنج التي بساحل الشام ينهبها ويخربها ليعود بعض من بدمياط إلى بلادهم فيخف الأمر على الملك الكامل صاحب مصر فلما رأى بدر الدين تحرك مظفر الدين وعماد الدين وأن بعض عسكره بالشام أرسل إلى عسكر الملك الأشرف الذي بنصيبين يستدعيهم ليعتضد بهم وكان المقدم عليهم مملوك الأشرف اسمه أيبك فسار إلى الموصل رابع رجب سنة ست عشرة. فلما رآهم بدر الدين استقلهم لأنهم كانوا أقل من العسكر الذي له
339 بالشام أو مثلهم فألح ايبك على عبور دجلة وقصد بلاد إربل فمنعه بدر الدين من ذلك وأمره بالاستراحة فنزل بظاهر الموصل أياما وأصر على عبور دجلة فعبرها بدر الدين موافقة له ونزلوا على فرسخين من الموصل شرقي دجلة فلما سمع مظفر الدين ذلك جمع عسكره وسار إليهم ومعه زنكي فعبر الزاب وسبق خبره فسمع به بدر الدين فعبأ أصحابه وجعل ايبك في الجالشية ومعه شجعان أصحابه وأكثر معه منهم بحيث انه لم يبق معه إلا اليسير وجعل في مسيرته أميرا كبيرا وطلب الانتقال عنها إلى الميمنة فنقله. فلما كان وقت العشاء الآخرة أعاد ذلك الأمير الطلب بالانتقال من الميمنة إلى الميسرة والخصم بالقرب منهم فمنعه بدر الدين وقال متى انتقلت أنت ومن معك في هذا الليل ربما ظنه الناس هزيمة فلا يقف أحد فأقام بمكانه وهو في جمع كبير من العسكر فلما انتصف الليل سار أيبك فأمره بدر الدين بالمقام إلى الصبح لقرب العدو منهم فلم يقبل لجهله بالحرب فاضطر الناس لاتباعه فتقطعوا في الليل والظلمة والتقوا هم والخصم في العشرين من رجب على ثلاثة فراسخ من الموصل فأما عز الدين فإنه تيامن والتحق بالميمنة وحمل في اطلابه هو والميمنة على ميسرة مظفر الدين فهزمها وبها زنكي. وكان الأمير الذي انتقل إلى الميمنة قد ابعد عنها فلم يقاتل فلما رأى ايبك قد هزم الميسرة تبعه وتقدم إليه مظفر الدين فيمن معه في القلب لم يتفرقوا فلم يمكنه الوقوف فعاد إلى الموصل وعبر دجلة إلى القلعة ونزل منها إلى البلد فلما رآه الناس فرحوا به وساروا معه وقصد باب الجسر والعدو بإزائه بينهما دجلة فنزل مظفر الدين فيمن سلم معه من عسكره
340 وراءتل حصن نينوى فأقام ثلاثة أيام. فلما رأى اجتماع العسكر البدري بالموصل وأنهم لم يفقد منهم إلا اليسير وبلغه الخبر ان بدر الدين يريد العبور إليه ليلا بالفارس والراجل على الجسور وفي السفن ويكبسه فرحل ليلا من غير أن يضرب كأسا أو بقوا وعادوا نحو أربل فلما عبروا الزاب نزلوا ثم جاءت الرسل وسعوا في الصلح فاصطلحوا على أن كل من بيده شيء هو له وتقررت العهود والأيمان على ذلك. ذكر ملك عماد الدين قلعة كواشى وملك بدر الدين تل يعفر وملك الملك الأشرف سنجار كواشى هذه من أحصن قلاع الموصل وأعلاها وأمنعها وكان الجند الذين بها لما رأوا ما فعل أهل العمادي وغيرها من التسليم إلى زنكي وانهم قد تحكموا في القلاع لا يقدر أحد على الحكم عليهم أحبوا ان يكونوا كذلك فأخرجوا نواب بدر الدين عنهم وامتنعوا بها وكانت رهائنهم بالموصل وهم يظهرون طاعة بدر الدين ويبطنون المخالفة فترددت الرسل في عودهم إلى الطاعة فلم يفعلوا وراسلوا زنكي في المجيء إليهم وتسلم القلعة وأقام عندهم فروسل مظفر الدين يذكر بالايمان القريبة العهد ويطلب منه إعادة كواشى فلم تقع الإجابة إلى ذلك حينئذ بدر الدين إلى الملك الأشرف وهو بحلب يستنجده فسار وعبر الفرات إلى حران واختلفت عليه الأمور من عدة جهات منعته من سرعة السير.
341 وسبب هذا كان الاختلاف ان مظفر الدين كان يراسل الملوك أصحاب الأطراف ليستميلهم ويحسن لهم الخروج على الأشرف ويخوفهم منه إذا خلى وجهه فأجابه إلى ذلك عز الدين كيكاوس كيخسرو بن قلج أرسلان صاحب بلاد الروم، [وصاحب آمد]، وحصن كيفا وصاحب ماردين واتفقوا كلهم على طاعة كيكاوس وخطبوا له في بلادهم ونحن نذكر ما كان بينه وبين الأشرف عند منبج لما قصد بلاد حلب فهو موغر الصدر عليه فاتفق ان كيكاوس مات في ذلك الوقت وكفي الأشرف وبدر الدين شره ولا جدالا ما أقعص عنك الرجال وكان مظفر الدين قد راسل جماعة من الأمراء الذين مع الأشرف واستمالهم فأجابوه منهم احمد ابن علي بن المشطوب الذي ذكرنا أنه فعل على دمياط ما فعل وهو أكبر أمير معه ووافقه غيره منهم عز الدين محمد بن بدر الحميدي وغيرهما وفارقوا الأشرف ونزلوا بدنيسر تحت ماردين ليجتمعوا مع صاحب آمد ويمنعوا الأشراف من العبور إلى الموصل لمساعدة بدر الدين. فلما اجتمعوا هناك عاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف وفارقهم واستقر الصلح بينهما وسلم اليه الأشرف مدينة حاني وجبل جوز وضمن له أخذ دارا وتسليمها اليه فلما فارقهم صاحب آمد انحل امرهم فاضطر بعض أولئك الأمراء إلى العود إلى طاعة الأشرف وبقي ابن المشطوب وحده فسار إلى نصيبين ليسير إلى إربل فخرج إليه شحنة نصيبين فيمن عنده من الجند فاقتتلوا فانهزم ابن المشطوب وتفرق من معه من الجمع ومضى منهزما فاجتاز بطرف بلد سنجار فسير إليه صاحبها فروخ شاه بن زنكي بن مودود بن زنكي عسكرا فهزموه وأخذوه أسيرا وحملوه إلى سنجار وكان صاحبها موافقا للأشرف وبدر الدين.
342 فلما صار عنده ابن المشطوب حسن له مخالفة الأشرف فأجابه إلى ذلك وأطلقه فاجتمع معه من يريد الفساد فقصدوا البقعاء من أعمال الموصل ونهبوا فيها عدة قرى وعادوا إلى سنجار ثم ساروا وهم معهم إلى تل يعفر وهي لصاحب سنجار ليقصدوا بلد الموصل وينهبوا في تلك الناحية فلما سمع بدر الدين بذلك سير اليه عسكرا فقاتلوهم فمضى منهزما وصعد إلى تل يعفر واحتمى بها منهم ونازلوه وحصره فيها فسار بدر الدين من الموصل اليه يوم الثلاثاء لتسع بقين من ربيع الأول سنة سبع عشرة وستمائة وجد في حصره وزحف إليها مرة بعد أخرى فملكها سابع عشر ربيع الآخرة من هذه السنة وأخذ ابن المشطوب معه إلى الموصل فسجنه بها ثم اخذه منه الأشرف فسجنه بحران إلى ان توفي في ربيع الآخر سنة تسع عشرة وستمائة ولقاه الله عقوبة ما صنع بالمسلمين بدمياط. وأما الملك الأشرف فإنه لما اطاعه صاحب الحصن وآمد وتفرق الأمراء كما ذكرناه رحل من حران إلى دنيسر فنزل عليها واستولى على بلد ماردين وشحن عليه وأقطعه ومنع الميرة عن ماردين وحضر معه صاحب آمد وترددت الرسل بينه وبين صاحب ماردين في الصلح فاصطلحوا على ان يأخذ الأشرف رأس العين وكان هو قد اقطعها لصاحب ماردين ويأخذ منه أيضا ثلاثين ألف دينار ويأخذ منه صاحب آمد الموزر من بلد [شبختان]. فلما تم الصلح سار الأشرف من دنيسر إلى نصيبين يريد الموصل فبينما هو في الطريق لقيه رسل صاحب سنجار يبذل تسليمها إليه ويطلب العوض عنها مدينة الرقة.
343 وكان السبب في ذلك أخذ تل يعفر منه فانخلع قلبه وانضاف إلى ذلك أن ثقاته ونصحاءه خانوه وزادوه رعبا وخوفا لأنهم تهددوه فتغدوا به قبل ان يتعشى بهم ولأنه قطع رحمه وقتل أخاه الذي ملك سنجار بعد أبيه قتله كما نذكره إن شاء الله وملكها فلقاه الله سوء فعله ولم يمتعه بها فلما تيقن رحيل الأشرف تحير في الأمر فأرسل في التسليم اليه فأجابه الأشرف إلى العوض وسلم اليه الرقة وتسلم سنجار مستهل جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة وفارقها صاحبها واخوته بأهليهم وأموالهم وكان هذا آخر ملوك البيت الأتابكي بسنجار فسبحان الحي الذي ليس لملكه آخر وكان مدة ملكهم لها أربعا وتسعين سنة وهذا دأب الدنيا بأبنائها فتعسا لها من دار ما أغدرها بأهلها! ذكر وصول الأشرف إلى الموصل والصلح مع مظفر الدين لما ملك الملك الأشرف سنجار سار يريد الموصل ليجتاز منها فقدم بين يديه عساكره فكان يصل كل يوم منهم جمع كثير ثم وصل هو في آخرهم يوم الثلاثاء تاسع عشر جمادى الأولى من السنة المذكورة وكان يوم وصوله مشهودا وأتاه رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح وبذل تسليم القلاع المأخوذة جميعها إلى بدر الدين ما عدا قلعة العمادية فإنها تبقى بيد زنكي وأن المصلحة قبول هذا لتزول الفتن ويقع الاشتغال بجهاد الفرنج. وطال الحديث في ذلك نحو شهرين ثم رحل الأشرف يريد مظفر الدين
344 صاحب إربل فوصل إلى قرية السلامية بالقرب من نهر الزاب وكان مظفر الدين نازلا عليه من جانب إربل فأعاد الرسل. وكان العسكر قد طال بيكاره والناس قد ضجروا وناصر الدين صاحب آمد يميل بهواه إلى مظفر الدين فأشار بالإجابة إلى ما بذل وأعانه عليه غيره فوقعت الإجابة اليه واصطلحوا على ذلك وجعل لتسليمها أجل، وحمل زنكي إلى الملك الأشرف يكون عنده رهينة إلى حين تسليم القلاع. وسلمت قلعة العقر وقلعة شوش أيضا وهما لزنكي إلى نواب الأشرف رهنا على تسليم ما استقر من القلاع فإذا سلمت أطلق زنكي وأعيد عليه قلعة العقر شوش وحلفوا على هذا وسلم الأشرف إلى زنكي القلعتين وعاد إلى سنجار وكان رحيله عن الموصل ثاني شهر رمضان من سنة سبع عشرة وستمائة فأرسلوا إلى القلاع لتسلم إلى نواب بدر الدين فلم يسلم إليه غير قلعة جل صورا من أعمال الهكارية وأما باقي القلاع فإن جندها أظهروا الامتناع من ذلك ومضى الأجل ولم يسلم الأجل صورا. ولزم عماد الدين زنكي لشهاب الدين غازي بن الملك العادل وخدمه وتقرب إليه فاستعطف له أخاه الملك الأشرف فمال إليه وأطلقه وأزال نوابه من قلعة العقر وشوش وسلمها إليه. وبلغ بدر الدين عن الملك الأشرف ميل إلى قلعة تل يعفر وأنها كانت لسنجار من قديم الزمان وحديثه وطال الحديث في ذلك فسلمها إليه بدر الدين.
345 ذكر عود قلاع الهكارية والزوزان إلى بدر الدين لما ملك زنكي قلاع الهكارية والزوزان لم يفعل مع أهلها ما ظنوه من الاحسان والإنعام بل فعل ضده وضيق عليهم وكان يبلغهم افعال بدر الدين مع جنده ورعاياه وإحسانه إليهم وبذله الأموال لهم وكانوا يريدون العود اليه ويمنعهم الخوف منه لما أسلفوه من ذلك فلما كان الآن أعلنوا بما فعل معهم فأرسلوا إلى بدر الدين في المحرم سنة ثمان عشرة وستمائة في التسليم إليه وطلبوا منه اليمين والعفو عنهم وذكروا شيئا من اقطاع تكون لهم فأجابهم إلى ذلك وأرسل إلى الملك الأشرف يستأذنه في ذلك فلم يأذن له. وعاد زنكي من عند الأشرف فجمع جموعا وحصر قلعة العمادية فلم يبلغ منهم غرضا وأعادوا مراسلة بدر الدين التسليم اليه فكتب إلى الملك الأشرف في المعنى وبذل له قلعة جديدة ونصيبين وولاية بين النهرين ليأذن له في أخذها فأذن له فأرسل إليها النواب وتسلموها وأحسن إلى أهلها ورحل زنكي عنها ووفى له بدر الدين بما بذله له. فلما سمع جنديا في القلاع بما فعلوا وما وصلهم من الاحسان والزيادة ورغبوا كلهم في التسليم فسير إليهم النواب واتفقت كلمة أهلها على طاعته والانقياد إليه والعجب ان العساكر اجتمعت من الشام والجزيرة وديار بكر وخلاط وغيرها في استعادة هذه القلاع فلم يقدروا على
346 ذلك فلما تفرقوا حضر أهلها وسألوا ان تؤخذ منهم فعادت صفوا عفوا بغير منة ولقد أحسن من قال: (لا سهل إلا ما جعلت سهلا * وإن تشأ تجعل بحزن وحلا) فتبارك الله الفعال لما يريد لا مانع لما اعطى ولا معطي لما منع وهو على كل شيء قدير. ذكر قصد كيكاوس ولاية حلب وطاعة صاحبها للأشرف وانهزام كيكاوس في هذه السنة سار عز الدين كيكاوس بن كيسخرو ملك الروم إلى ولاية حلب قصدا للتغلب عليها ومعه الأفضل بن صلاح الدين يوسف. وسبب ذلك انه كان بحلب رجلان فيهما شر كثير وسعاية بالناس فكانا ينقلان إلى صاحبها الملك الظاهر بن صلاح الدين عن رعيته فأوغروا صدره فلقي الناس منهما شدة فلما توفي الظاهر وولي الأمر شهاب الدين طغرل أبعدهما ممن يفعل فعلهما وسد هذا الباب على فاعله ولم يطرق إليه أحدا من أهله فلما رأى الرجلان كساد سوقهما لزما بيوتهما وثار بهما الناس وآذوهما وتهددوهما لما كانا أسلفاه من الشر فخافا ففارقا حلب وقصدا كيكاوس فأطمعاه فيها وقررا في نفسه انه متى قصدها لا يثبت بين يديه وانه يملكها ويهون عليه ملك ما بعدها.
347 فلما عزم على ذلك أشار عليه ذوو الرأي من أصحابه وقالوا له لا يتم لك هذا الا بأن يكون معك أحد من بيت أيوب ليسهل على أهل البلاد وجندها الانقياد إليه وهذا الأفضل بن صلاح الدين هو في طاعتك والمصلحة أنك تستصحبه معك وتقرر بينكما قاعدة فيما تفتحانه من البلاد فمتى كان معك أطاعك الناس وسهل عليك ما تريد. فأحضر الأفضل من سميساط إليه وأكرمه وحمل اليه شيئا كثيرا من الخيل والخيام والسلاح وغير ذلك واستقرت القواعد بينهما ان يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للأفضل وهو في طاعة كيكاوس والخطبة له ذلك أجمع ثم يقصدون ديار الجزيرة فما يفتحونه مما بيد الملك الأشرف مثل حران والرها من البلاد الجزرية تكون لكيكاوس وجرت الأيمان على ذلك وجمعوا العساكر وساروا فملكوا قلعة رعيان فتسلمها الأفضل فمال الناس حينئذ إليهما. ثم سارا إلى قلعة تل باشر وفيها صاحبها ابن بدر الدين دلدرم الياروقي فحصروه وضيقوا عليه وملكوها منه فأخذها كيكاوس لنفسه ولم يسلمها إلى الأفضل فاستشعر الأفضل من ذلك وقال هذا أول الغدر وخاف انه ان ملك حلب يفعل به هكذا فلا يحصل إلا أن يكون قد قلع بيته لغيره ففترت نيته واعرض عما كان يفعله وكذلك أيضا أهل البلاد فكانوا يظنون أن الأفضل يملكها فيسهل عليهم الأمر فلما رأوا ضد ذلك وقفوا. وأما شهاب الدين أتابك ولد الظاهر صاحب حلب فإنه ملازم قلعة حلب لا ينزل منها ولا يفارقها البتة وهذه كانت عادته مذ مات الظاهر خوفا من ثائر يثور به فلما حدث هذا الأمر خاف ان يحصروه وربما سلم
348 أهل البلد والجند والمدينة إلى الأفضل لميلهم اليه فأرسل إلى الملك الأشرف ابن الملك العادل صاحب الديار الجزرية وخلاط وغيرها يستدعيه لتكون طاعتهم له ويخطبون له ويجعل السكة باسمه ويأخذ من أعمال حلب ما اختار ولأن ولد الظاهر هو ابن أخته فأجاب إلى ذلك وسار إليهم في عساكره التي عنده وأرسل إلى الباقين يطلبهم إليه وسره ذلك للمصلحة العامة لجميعهم وأحضر اليه العرب من طيء وغيرهم ونزل بظاهر حلب. ولما اخذ كيكاوس تل باشر كان الأفضل يشير بمعالجة حلب قبل اجتماع العساكر بها وقبل أن يحتاطوا أو يتجهزوا فعاد عن ذلك وصار يقول الرأي اننا نقصد منبج وغيرها لئلا يبقى لهم وراء ظهورنا شيء قصدا للتمادي ومرور الزمان في لا شيء فتوجهوا من تل باشر إلى جهة منبج وتقدم الأشرف نحوهم وسارت العرب في مقدمته وكان طائفة من عسكر كيكاوس نحو الف فارس قد سبقت مقدمته له فالتقوا هم والعرب ومن معهم من العسكر الأشرفي فاقتتلوا فانهزم عسكر كيكاوس وعادوا إليه منهزمين وأكثر العرب الأسر منهم والنهب لجودة خيلهم ودير خيل الروم. فلما وصل إليه أصحابه منهزمين لم يثبت بل ولى على أعقابه يطوي المراحل إلى بلاده خائفا يترقب فلما وصل إلى أطرافها أقام. وإنما فعل هذا لأنه صبي غر لا معرفة له بالحرب وإلا فالعساكر ما برحت تقع مقدماتها بعضها على بعض فسار حينئذ الأشرف فملك رعيان وحصر تل باشر وبها جمع من عسكر كيكاوس فقاتلوه حتى غلبوا فأخذت القلعة منهم وأطلقهم الأشرف فلما وصلوا إلى كيكاوس جعلهم في دار وأحرقها عليهم فهلكوا فعظم ذلك على الناس
349 كافة واستقبحوه واستضعفوه لا جرم لم يمهله الله تعالى لعدم الرحمة في قلبه ومات عقيب هذه الحادثة. وسلم الأشرف تل باشر وغيرها من بلد حلب إلى شهاب الدين أتابك صاحب حلب وكان عازما على اتباع كيكاوس ويدخل بلاده فأتاه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل فاقتضت المصلحة العود إلى حلب لأن الفرنج بديار مصر ومثل ذلك السلطان العظيم إذا توفي ربما جرى خلل في البلاد لا تعرف العاقبة فيه فعاد إليها وكفي كل منهما أذى صاحبه. ذكر وفاة الملك العادل وملك أولاده بعده توفي الملك العادل أبو بكر بن أيوب سابع جمادي الآخرة من سنة خمس عشر وستمائة وقد ذكرنا ابتداء دولتهم عند ملك عمه أسد الدين شيركوه ديار مصر سنة أربع وستين وخمسمائة ولما ملك أخوه صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر بعد عمه وسار إلى الشام استخلفه بمصر ثقة به واعتمادا عليه وعلما بما هو عليه من توفر العقل وحسن السيرة. فلما توفي أخوه صلاح الدين ملك دمشق كما ذكرناه وبقي مالكا للبلاد إلى الآن فلما ظهر الفرنج كما ذكرناه سنة أربع عشر وستمائة قصد هو مرج الصفر فلما سار الفرنج إلى ديار مصر انتقل هو
350 إلى عالقين فأقام به ومرض وتوفي وحمل إلى دمشق فدفن بالتربة التي له بها. وكان عاقلا ذا رأي سديد ومكر شديد وخديعة صبورا حليما ذا أتاه يسمع ما يكره ويغض عليه حتى كأنه لم يسمعه كثير الحرج وقت الحاجة لا يقف في شيء وإذا لم تكن حاجة فلا. وكان عمره خمسا وسبعين سنة وشهورا لأن مولده كان في المحرم من سنة أربعين وخمسمائة وملك دمشق في شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة [من الأفضل ابن أخيه وملك مصر في ربيع الآخر من سنة ست وتسعين] منه أيضا. ومن أعجب ما رأيت من منافاة الطوالع انه لم يملك الأفضل مملكة قط إلا وأخذها منه عمه العادل فأول ذلك أن صلاح الدين اعطى ابنه الأفضل حران والرها وميافارقين سنة ست وثمانين بعد فرده من حلب وأخذ هذه البلاد منه. ثم ملك الأفضل بعد وفاة أبيه مدينة دمشق فأخذها منه ثم ملك مصر بعد وفاة أخيه الملك العزيز فأخذها أيضا منه ثم ملك صرخد فأخذها منه وأعجب من هذا أنني رأيت بالبيت المقدس سارية من الرخام ملقاه في بيعة صهيون ليس يوجد مثلها فقال القس الذي بالبيعة هذه كان قد أخذها الملك الأفضل لينقلها إلى دمشق ثم ان العادل أخذها بعد ذلك من الأفضل طلبها منه فأخذها وهذا غاية وهو من أعجب ما يحكي. وكان العادل قد قسم البلاد في حياته بين أولاده فجعل بمصر الملك الكامل
351 محمدا وبدمشق والقدس وطبرية والأردن والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لها ابنه المعظم عيسى وجعل بعض ديار الجزيرة وميافارقين وخلاط وأعمالها لابنه الملك الأشرف موسى وأعطى الرها لولده شهاب الدين غازي وأعطى قلعة جعفر لولده الحافظ أرسلان شاه فلما توفي ثبت كل منهم في المملكة التي أعطاه إياها أبوه واتفقوا اتفاقا حسنا لم يجر بينهم من الاختلاف ما جرى العادة ان يجري بين أولاد الملوك بعد آبائهم بل كانوا كالنفس الواحدة كل منهم يثق إلى الاخر بحيث يحضر عنده منفردا من عسكره ولا يخافه فلا جرم زاد ملكهم ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم. ولعمري أنهم نعم الملوك فيهم الحلم والجهاد والذب عن الاسلام وفي نوبة دمياط كفاية؛ وأما الملك الأشرف فليس للمال عنده محل بل يمطره مطرا كثيرا لعفته عن أموال الرعية دائم الإحسان لا يسمع سعاية ساع. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ذي القعدة رحل الملك الكامل بن العادل عن أرض دمياط لأنه بلغه أن جماعة من الأمراء قد اجتمعوا على تمليك أخيه الفائز عوضه فخافهم ففارق منزلته فانتقل الفرنج إليها وحصروا حينئذ دمياط
352 برا وبحرا، وتمكنوا من ذلك وقد تقدم مستقصى سنة اربع عشرة وستمائة. وفيها في المحرم توفي شرف الدين محمد بن علوان بن مهاجر الفقيه الشافعي وكان مدرسا في عدة مدارس بالموصل وكان صالحا كثير الخير والدين سليم القلب رحمه الله. وفيها توفي عز الدين نجاح الشرابي خاص الخليفة وأقرب الناس اليه وكان الحاكم في دولته كثير العدل والإحسان والمعروف والعصبية للناس وأما عقله وتدبيره فإليه كانت النهاية وبه يضرب المثل. وفيها توفي علي بن نصر بن هارون أبو الحسن الحلي النحوي الملقب بالحجة قرأ على الخشاب وغيره.
353 616 ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة ذكر وفاة كيكاوس وملك كيقباذ أخيه في هذه السنة توفي الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان صاحب قونية وأقصرا وملطية وما بينهما من بلاد الروم وكان قد جمع عساكره وحشد وسار إلى ملطية على قصد بلاد الملك الأشرف لقاعدة استقرت بينه وبين ناصر الدين صاحب آمد ومظفر الدين صاحب إربل وكانوا قد خطبوا له وضربوا اسمه على السكة في بلادهم واتفقوا على الملك الأشرف وبدر الدين بالموصل. فسار كيكاوس إلى ملطية ليمنع الملك الأشرف عن المسير إلى الموصل نجدة لصاحبها بدر الدين لعل مظفر الدين يبلغ من الموصل غرضا وكان قد علق به السل فلما اشتد مرضه عاد عنها فتوفي وملك بعده أخوه كيقباذ وكان محبوسا قد حبسه أخوه كيكاوس لما أخذ البلاد وأشار عليه بعض أصحابه بقتله فلم يفعل فلما توفي لم يخلف ولدا يصلح للملك لصغرهم فأخرج الجند كيقباذ وملكوه ومن (بغي عليه لينصرنه الله). وقيل بل أرسل كيكاوس لما اشتد مرضه فأحضره عنده من السجن،
354 ووصى له بالملك وحلف الناس له فلما ملك خالفه عمه صاحب أرزن الروم وخاف أيضا من الروم المجاورين لبلاده فأرسل إلى الملك الأشرف وصالحه وتعاهدا على المصافاة والتعاضد وتصاهرا وكفى الأشرف شر تلك الجهة وتفرغ باله لإصلاح ما بين يديه ولقد صدق القائل وجدك طعان بغير سنان. وهذا ثمرة حسن النية فإنه حسن النية لرعيته وأصحابه كافا عن أذى يتطرق إليهم منه غير قاصد إلى البلاد المجاورة لبلاده بأذى وملك مع ضعف أصحابها وقوته لا جرم تأتيه البلاد صفوا عفوا. ذكر موت صاحب سنجار وملك ابنه ثم قتل ابنه وملك أخيه وفي هذه السنة ثامن صفر توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود بن زنكي صاحب سنجار وكان كريما حسن السيرة في رعيته حسن المعاملة مع التجار كثير الإحسان إليهم وأما أصحابه فكانوا معه في أرغد عيش يعمهم بإحسانه ولا يخافون أذاه وكان عاجزا عن حفظ بلده مسلما الأمور إلى نوابه. ولما توفي ملك بعده ابنه عماد الدين شاهنشاه وركب الناس معه وبقي مالكا لسنجار عدة شهور وسار إلى تل أعفر وهي له فدخل عليه أخوه عمر بن محمد بن زنكي ومعه جماعة فقتلوه وملك أخوه عمر بعده فبقي كذلك إلى أن سلم سنجار إلى الملك الأشرف على ما نذكره إن شاء الله تعالى،
355 ولم يمتع بملكه الذي قطع رحمه وأرق الدم الحرام لأجله. ولما سلم سنجار أخذ عوضها الرقة ثم أخذت منه عن قريب وتوفي بعد أخذها منه بقليل وعدم روحه وشبابه وهذه عاقبة قطيعة الرحم فإن صلتها تزيد في العمر وقطيعتها تهدم العمر. ذكر إجلاء بني معروف عن البطائح وقتلهم في هذه السنة في ذي القعدة أمر الخليفة الناصر لدين الله الشريف معدا متولي بلاد واسط أن يسير إلى قتال بني معروف فتجهز وجمع معه من الرحالة من تكريت وهيت والحديثة والأنبار والحلة والكوفة وواسط والبصرة وغيرها خلقا كثيرا وسار إليهم ومقدمهم حينئذ معلى بن معروف وهم قوم من ربيعه. وكانت بيوتهم غربي الفرات تحت سوراء وما يتصل بذلك من البطائح وكثر فسادهم وأذاهم لما يقاربهم من القرى وقطعوا الطريق وأفسدوا في النواحي المقاربة لبطيحة الغراف فشكا أهل تلك البلاد الديوان منهم فأمر معدا أن يسير إليهم في الجموع فسار إليهم فاستعد بنو معروف لقتاله فاقتتلوا بموضع يعرف بالمقبر وهو تل كبير بالبطيحة بقرب الغراف وكثر القتل بينهم ثم انهزم بنو معروف وكثر القتل فيهم
356 والأسر والغرق وأخذت أموالهم وحملت رؤوس كثيرة من القتلى إلى بغداد في ذي الحجة من السنة. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في المحرم انهزم عماد الدين زنكي من عسكر بدر الدين. وفيها في العشرين من رجب انهزم بدر الدين من مظفر الدين صاحب إربل وعاد مظفر الدين إلى بلده وقد تقدم ذلك مستوفى في سنة خمس عشرة وستمائة. وفيها في السابع والعشرين من شعبان ملك الفرنج مدينة دمياط وقد ذكر سنة أربع عشرة مشروحا. وفيها توفي افتخار الدين عبد المطلب بن الفضل الهاشمي العباسي الفقيه الحنفي رئيس الحنفية بحلب روى الحديث عن عمر البسطامي نزيل بلخ وعن أبي سعد السمعاني وغيرهما. وفيها توفي أبو البقاء عبد الله بن الحسن بن عبد الله العكبري الضرير النحوي. وفيها توفي أبو الحسن علي بن أبي محمد القاسم بن علي بن الحسن بن عبد الله الدمشقي الحافظ بن الحافظ المعروف بابن عساكر وكان قد قصد خراسان وسمع بها الحديث فأكثر وعاد إلى بغداد فوقع على القفل حرامية فجرح وبقي ببغداد وتوفي في جمادى الأولى رحمه الله.
357 617 ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة ذكر خروج التتر إلى بلاد الإسلام لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فأنا أقدم إليه [رجلا] وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك فياليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا فنقول هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها عمت الخلائق وخصت المسلمين فلو قال قائل إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب البيت المقدس وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر
358 من بني إسرائيل ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج. وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا اليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لهذه الحادثة التي استطار شررها وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح فإن قوما خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا وتخريبا وقتلا ونهبا ثم يتجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق ثم بلاد أذربيجان وأرانية ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها ولم ينج إلا الشريد النادر في أقل من سنة هذا ما لم يسمع بمثله. ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه ولم يسلم غير القلعة التي بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان واللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة فأوسعوهم قتلا ونهبا وتخريبا ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم من أكثر الترك عددا فقتلوا
359 كل من وقف لهم فهرب الباقون إلى الغياض ورؤوس الجبال وفارقوا بلادهم واستولى هؤلاء التتر عليها فعلوا هذا في أسرع زمان لم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غير. ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان ففعلوا فيها مثل فعل هؤلاء وأشد. هذا ما لم يطرق الأسماع مثله فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة إنما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحدا إنما رضي من الناس بالطاعة وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه وأكثره عمارة وأهلا وأعدل أهل الأرض أخلاقا وسيرة في نحو سنة ولم يبت أحد من البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم إليه. ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم فإنهم معهم الأغنام والبقر والخيل وغير ذلك من الدواب يأكلون لحومها لا غير وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات لا تعرف الشعير فهم إذا نزلوا منزلا لا يحتاجون إلى شيء من خارج. وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها ولا يحرمون شيئا فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها ولا يعرفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال فإذا جاء الولد لا يعرف أباه. ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم منها هؤلاء التتر قبحهم الله أقبلوا من المشرق ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها وستراها مشروحة متصلة إن شاء الله تعالى. ومنها خروج الفرنج لعنهم الله من المغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر
360 وملكهم ثغر دمياط منها وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم وقد ذكرناه سنة أربع عشرة وستمائة. ومنها أن الذي سلم من هاتين الطائفتين فالسيف بينهم مسلول والفتنة قائمة على ساق وقد ذكرناه أيضا فإنا لله وإنا إليه راجعون نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصرا من عنده فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم: (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) فإن هؤلاء التتر إنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع. وسبب عدمه أن خوارزمشاه محمدا كان قد استولى على البلاد وقتل ملوكها وأفناهم وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها فلما انهزم منهم لم يبق في البلاد من يمنعهم ولا من يحميها: (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) وهذا حين نذكر ابتداء خروجهم إلى البلاد. ذكر خروج التتر إلى تركستان وما وراء النهر وما فعلوه في هذه السنة ظهر التتر إلى بلاد الإسلام وهم نوع كثير من الترك ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين وبينها وبين بلاد الإسلام ما يزيد على ستة أشهر. وكان السبب في ظهورهم أن ملكهم ويسمى بجنكزخان المعروف بتموجين كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان وسير جماعة من التجار والأتراك ومعهم شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما،
361 إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارا ليشتروا له ثيابا للكسوة فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترار وهي آخر ولاية خوارزمشاه وكان له نائب هناك فلما وردت عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزمشاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال فبعث إليه خوارزمشاه يأمر بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليه فقتلهم وسير ما معهم وكان شيئا كثيرا فلما وصل إلى خوارزمشاه فرقه على تجار بخارا وسمرقند وأخذ ثمنه منهم. وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سد الطرق عن بلاد تركستان وما بعدها من البلاد وأن طائفة من التتر أيضا كانوا قد خرجوا قديما والبلاد للخطا فلما ملك خوارزمشاه البلاد بما وراء النهر من الخطا وقتلهم واستولى هؤلاء التتر على تركستان كاشغار وبلاساغون وغيرها وصاروا يحاربون عساكر خوارزمشاه فلذلك منع الميرة عنهم من الكسوات وغيرها وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر: (فكان ما كان مما لست أذكره * فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر) فلما قتل نائب خوارزمشاه أصحاب جنكزخان أرسل جواسيس إلى جنكزخان لينظر ما هو وكم مقدار ما معه من الترك وما يريد أن يعمل فمضى الجواسيس وسلكوا المفازة والجبال التي على طريقهم حتى وصلوا إليه فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم وأنهم يخرجون عن الإحصاء وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم فندم خوارزمشاه على قتل أصحابهم وأخذ أموالهم وحصل عنده فكر زائد فأحضر الشهاب الخيوفي وهو فقيه
362 فاضل كبير المحل عنده لا يخالف ما يشير به فحضر عنده فقال له قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه فأخذ رأيك في الذي نفعله وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية الترك في كثرة لا تحصى. فقال له عساكرك كثيرة ونكاتب الأطراف ونجمع العساكر ويكون النفير عاما فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالمال والنفس ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الاسلام فتكون هناك فإذا جاء العدو وقد سار مسافة بعيدة لقيناه ونحن مستريحون وهو وعساكره قد مسهم النصب والتعب. فجمع خوارزمشاه أمراءه ومن عنده من أرباب المشورة فاستشارهم فلم يوافقوه على رأيه بل قالوا نتركهم يعبرون سيحون الينا ويسلكون هذه الجبال والمضايق فإنهم جاهلون بطرقهم ونحن عارفون بها فنقوى حينئذ عليهم ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد. فبينما الأتراك كذلك إذ ورد رسول من هذا اللعين جنكزخان معه جماعة يتهدد خوارزمشاه ويقول تقتلون أصحابي وتأخذون أموالهم استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به. وكان جنكزخان قد سار إلى تركستان فملك كاشغار وبلاساغون وجميع البلاد وأزال عنها التتر الأولى فلم يظهر لهم خبر ولا بقي لهم أثر بل بادوا كما أصاب الخطا وأرسل الرسالة المذكورة إلى خوارزمشاه فلما سمعها خوارزمشاه أمر بقتل رسوله فقتل وأمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه وأعادهم إلى صاحبهم جنكزخان يخبرونه بما فعل
363 بالرسول ويقولون له إن خوارزمشاه يقول لك أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا حتى أنتقم وأفعل بك كما فعلت بأصحابك. وتجهز خوارزمشاه وسار بعد الرسول مبادرا ليسبق خبره ويكبسهم فأدمن السير فمضى وقطع مسيرة أربعة أشهر فوصل إلى بيوتهم فلم ير فيها إلا النساء والصبيان والأطفال فأوقع بهم وغنم الجميع وسبى النساء والذرية. وكان سبب غيبة الكفار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان فقاتلوه وهزموه وغنموا أمواله وعادوا فلقيهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزمشاه بمخلفيهم فجدوا السير فأدركوه قبل أن يخرج عن بيوتهم وتصافوا للحرب واقتتلوا قتالا لم يسمع بمثله فبقوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها فقتل من الطائفتين ما لا يعد ولم ينهزم أحد منهم. أما المسلمون فإنهم صبروا حمية للدين وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للمسلمين باقية وأنهم يؤخذون لبعدهم عن بلادهم. وأما الكفار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم واشتد بهم الأمر حتى إن أحدهم كان ينزل عن فرسه ويقاتل قرنه راجلا ويتضاربون بالسكاكين وجرى الدم على الأرض حتى صارت الخيل تزلق من كثرته واستنفد الطائفتان وسعهم في الصبر والقتال هذا القتال جميعه مع ابن جنكيز خان ولم يحضر أبوه الوقعة ولم يشعر بها فأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفا وأما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم. فلما كان الليلة الرابعة افترقوا فنزل بعضهم مقابل بعض فلما أظلم
364 الليل أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا وكذلك فعل المسلمون أيضا كل منهم سئم القتال فأما الكفار فعادوا إلى ملكهم جنكزخان وأما المسلمون فرجعوا إلى بخاري فاستعد للحصار لعلمه بعجزه لأن طائفة من عسكره لم يقدر خوارزمشاه على أن يظفر بهم فكيف إذا جاؤوا جميعهم مع ملكهم فأمر أهل بخارى وسمرقند بالاستعداد للحصار وجمع الذخائر للامتناع وجعل في بخاري عشرين ألف فارس من العسكر يحملونها وفي سمرقند خمسين ألفا وقال لهم احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر واستنجد بالمسلمين وأعود إليكم. فلما فرغ من ذلك رحل عائدا إلى خراسان فعبر جيحون ونزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك. وأما الكفار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون ما وراء النهر فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر من وصول خوارزمشاه وحصروها وقاتلوها ثلاثة أيام قتالا شديدا متتابعا فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة ففارقوا البلد عائدين إلى خراسان فلما أصبح أهل البلد وليس عندهم من العسكر أحد ضعفت نفوسهم فأرسلوا القاضي وهو بدر الدين قاضيخان ليطلب الأمان للناس فأعطوهم الأمان. وكان قد بقي من العسكر طائفة لم يمكنهم الهرب مع أصحابهم فاعتصموا بالقلعة فلما أجابهم جنكزخان إلى الأمان فتحت أبواب المدينة يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة وستمائة فدخل الكفار بخارى ولم يتعرضوا إلى أحد بل قالوا لهم كل ما هو للسلطان عندكم
365 من ذخيرة وغيره أخرجوه إلينا وساعدونا على قتال من بالقلعة وأظهروا عندهم العدل وحسن السيرة ودخل جنكزخان بنفسه وأحاط بالقلعة ونادى في البلد بأن لا يتخلف أحد ومن تخلف قتل فحضروا جميعهم فأمرهم بطم الخندق فطموه بالأخشاب والتراب وغير ذلك حتى إن الكفار كانوا يأخذون المنابر وربعات القرآن فيقلونها في الخندق فإنا لله وإنا إليه راجعون وبحق سمى الله نفسه صبورا حليما وإلا خسف بهم الأرض عند فعل مثل هذا. ثم تابعوا الزحف إلى القلعة وبها نحو أربعمائة فارس من المسلمين فبذلوا جهدهم ومنعوا القلعة اثني عشر يوما يقاتلون جمع الكفار وأهل البلد فقتل بعضهم ولم يزالوا كذلك حتى زحفوا إليهم ووصل النقابون إلى سور القلعة فنقبوه واشتد حينئذ القتال ومن بها من المسلمين يرمون بكل ما يجدون من حجارة ونار وسهام فغضب اللعين ورد أصحابه ذلك اليوم وباكرهم من الغد فجدوا في القتال وقد تعب من بالقلعة ونصبوا وجاءهم مالا قبل لهم به فقهرهم الكفار ودخلوا القلعة وقاتلهم المسلمون الذين فيها حتى قتلوا عن آخرهم فلما فرغ من القلعة أمر أن يكتب له رؤوس البلد ورؤساؤهم ففعلوا ذلك فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم فحضروا فقال أريد منكم النقرة التي باعكم خوارزمشاه فإنها لي ومن أصحابي أخذت وهي عندكم. فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يديه ثم أمرهم بالخروج من البلد فخرجوا من البلد مجردين من أموالهم ليس مع أحد منهم غير ثيابه التي عليه ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه وأحاط بالمسلمين فأمر أصحابه أن يقتسموهم، فاقتسموهم. وكان يوما عظيما من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان وتفرقوا
366 أيدي سبا، وتمزقوا كل ممزق واقتسموا النساء أيضا وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس وارتكبوا من النساء العظيم والناس ينظرون ويبكون ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئا مما نزل بهم فمنعهم من لم يرض بذلك واختار الموت على ذلك فقاتل حتى قتلا. وممن فعل ذلك واختار أن يقتل ولا يرى ما نزل بالمسلمين الفقيه الإمام ركن الدين إمام زاده وولده فإنهما لما رأيا ما يفعل بالحرم قاتلا حتى قتلا وكذلك فعل القاضي صدر الدين خان ومن استسلم أخذ أسيرا وألقوا النار في البلد والمدارس والمساجد وعذبوا الناس بأنواع العذاب من طلب المال ثم رحلوا نحو سمرقند وقد تحققوا عجز خوارزمشاه عنهم وهم بمكانه بين ترمذ وبلخ واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى فساروا بهم مشاة على أقبح صورة فكل من أعيا وعجز عن المشي قتل فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم حتى تقدموا شيئا فشيئا ليكون أرعب لقلوب المسلمين فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه. فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال ومع كل عشرة من الأسارى علم فظن أهل البلد أن الجميع عساكر مقاتلة وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة فخرج إليهم شجعان أهله وأهل الجلد والقوة رجالة ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد فلم يزل التتر يتأخرون وأهل البلد يتبعوهم ويطمعون فيهم وكان الكفار قد كمنوا لهم كمينا فلما جاوزوا الكمين خرجوا عليهم وحالوا بينهم وبين البلد ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولا فبقوا في الوسط وأخذهم السيف من كل جانب فلم يسلم منهم
367 أحد قتلوا عن آخرهم شهداء رضي الله عنهم وكانوا سبعين ألفا على ما قيل. فلما رأى الباقون من الجند والعامة ذلك ضعفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك فقال الجند وكانوا أتراكا نحن من جنس هؤلاء ولا ويقتلوننا فطلبوا الأمان فأجابوهم إلى ذلك ففتحوا أبواب البلد ولم يقدر العامة على منعهم وخرجوا إلى الكفار بأهليهم وأموالهم فقال لهم الكفار ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم ففعلوا ذلك فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف فيهم وقتلوهم عن آخرهم وأخذوا أموالهم ودوابهم ونساءهم. فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم ومن تأخر قتلوه فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان ففعلوا مع أهل بخارى من النهب والقتل والسبي والفساد ودخلوا البلد فنهبوا ما فيه وأحرقوا الجامع وتركوا باقي البلد على حاله وافتضوا الأبكار وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال وقتلوا من لم يصلح للسبي وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة. وكان خوارزمشاه بمنزلته كلما اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند فيرجعون ولا يقدمون على الوصول إليها نعوذ بالله من الخذلان سير مرة عشرة آلاف فارس فعادوا وسير عشرين ألفا فعادوا أيضا.
368 ذكر مسير التتر إلى خوارزمشاه وانهزامه وموته لما ملك الكفار سمرقند عمد جنكزخان لعنه الله وسير عشرين ألف فارس وقال لهم اطلبوا خوارزمشاه أين كان ولو تعلق بالسماء حتى تدركوه وتأخذوه. وهذه الطائفة تسميها التتر المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان ليقع جنكزخان بالمسير ساروا وقصدوا موضعا يسمى فنجاب ومعناه خمس مياه فوصلوا إليه فلم يجدوا هناك سفينة فعملوا من الخشب مثل الأحواض الكبار وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماء ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم وألقوا الخيل في الماء وأمسكوا أذنابها وتلك الحياض التي من الخشب مشدودة إليهم فكان الفرس يجذب الرجل والرجل يجذب الحوض المملوء من السلاح وغيره فعبروا كلهم دفعة واحدة فلم يشعر خوارزمشاه إلا وقد صاروا معه على أرض واحدة. وكان المسلمون قد ملئوا منهم رعبا وخوفا وقد اختلفوا فيما بينهم أنهم كانوا يتماسكون بسبب ان نهر جيحون بينهم فلما عبروه إليهم لم يقدروا على الثبات ولا على المسير مجتمعين بل تفرقوا أيدي سبا، وطلب
369 كل طائفة منهم جهة ورحل خوارزمشاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته وقصدوا نيسابور فلما دخلها اجتمع عليه بعض العسكر فلم يستقر حتى وصل أولئك التتر إليها. وكانوا لم يتعرضوا في مسيرهم لشيء لا بنهب ولا قتل بل يجدون السير في طلبه لا يمهلون حتى يجمع لهم فلما سمع بقربهم منه رحل إلى مازندران وهي له أيضا فرحل التتر المغربون في أثره ولم يعرجوا على نيسابور بل تبعوه فكان رحل عن منزلة نزلوها فوصل إلى مرسى من بحر طبرستان تعرف باب سكون وله هناك قلعة في البحر فلما نزل هو وأصحابه في السفن وصلت التتر فلما رأوا خوارزمشاه وقد دخل البحر وقفوا على ساحل البحر فلما أيسوا من لحاق خوارزمشاه رجعوا فهم الذين قصدوا الري وما بعدها على ما نذكره إن شاء الله. هكذا لي بعض الفقهاء ممن كان ببخارى وأسروه معهم إلى سمرقند ثم نجا منهم ووصل إلينا وذكر غيره من التجار أن خوارزم شاه سار من مازندران حتى وصل إلى الري ثم منها إلى همذان والتتر أثره ففارق همذان في نفر يسير جريدة ليستر نفسه ويكتم خبره وعاد إلى مازندران وركب في البحر إلى هذه القلعة. وكان هذا هو الصحيح فإن الفقيه كان حينئذ مأسورا وهؤلاء التجار أخبروا أنهم كانوا بهمذان ووصل خوارزمشاه ثم وصل بعده من أخبره بوصول التتر ففارق همذان وكذلك أيضا هؤلاء التجار فارقوها ووصل التتر إليها بعدهم ببعض نهار فهم يخبرون عن مشاهدة ولما وصل خوارزمشاه إلى هذه القلعة المذكورة توفي فيها.
370 ذكر صفة خوارزمشاه وشئ من سيرته هو علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش وكان مدة ملكه أحدى وعشرين سنة وشهورا تقريبا واتسع ملكه وعظم محله وأطاعه العالم بأسره ولم يملك بعد السلجوقية أحد مثل ملكه فإنه ملك من حد العراق إلى تركستان وملك بلاد غزنة وبعض الهند وملك سجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس وفعل بالخطا الأفاعيل العظيمة وملك بلادهم. وكان فاضلا عالما بالفقه والأصول وغيرهما وكان مكرما للعلماء محبا لهم محسنا إليهم يكثر مجالستهم ومناظراتهم بين يديه وكان صبورا على التعب وإدمان السير غير متنعم ولا مقبل على اللذات إنما همه في الملك وتدبيره وحفظه وحفظ رعاياه وكان معظما لأهل الدين مقبلا عليهم متبركا بهم. حكى لي بعض خدم حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد عاد من خراسان قال وصلت إلى خوارزم فنزلت ودخلت الحمام ثم قصدت باب السلطان علاء الدين فحين حضرت لقيني إنسان فقال ما حاجتك؟ فقلت له أنا من خدم حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، فأمرني بالجلوس وانصرف عني [قليلا]، ثم عاد إلي واخذني إلى دار السلطان فتسلمني منه حاجب من حجاب السلطان وقال لي قد أعلمت السلطان
371 خبرك فأمر بإحضارك عنده فدخلت اليه وهو جالس في صدر إيوان كبير فحين توسطت صحن الدار قام قائما ومشى إلي بين يدي فأسرعت السير فلقيته في وسط الإيوان فأردت ان اقبل يده فمنعني واعتنقني وجلس وأجلسني إلى جانبه وقال لي أنت تخدم حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلت نعم فأخذ يدي وأمرها على وجهه وسألني عن حالنا وعيشنا وصفة المدينة ومقدارها وأطال الحديث معي فلما خرجت من عنده قال لولا أننا على عزم السفر هذه الساعة لما ودعتك إنما نريد [أن] نعبر جيحون إلى الخطا وهذا طريق مبارك حيث رأينا من خدم حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم ودعني وأرسل إلي جملة كثيرة من النفقة ومضى وكان منه ومن الخطا ما ذكرناه وبالجملة فاجتمع فيه ما تفرق في غيره من ملوك العالم رحمه الله ولو أردنا ذكر مناقبه لطال [ذلك]. ذكر استيلاء التتر المغربة على مازندران لما أيس التتر المغربة من إدراك خوارزمشاه عادوا فقصدوا بلاد مازندران فملكوها في أسرع وقت مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها وامتناع قلاعها فإنها لم تزل ممتنعة قديم الزمان وحديثه حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة جميعها من العراق إلى أقاصي خراسان بقيت اعمال مازندران يؤخذ منهم الخراج ولا يقدرون على دخول البلاد إلى أن ملكت
372 أيام سليمان بن عبد الملك سنة تسعين وهؤلاء الملاعين ملكوها صفوا عفوا لأمر يريده الله تعالى. ولما ملكوا بلد مازندران قتلوا وسبوا ونهبوا وأحرقوا البلاد ولما فرغوا من مازندران سلكوا نحو الري فرأوا في الطريق والدة خوارزمشاه ونساءه وأموالهم وذخائرهم التي لن يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة وكان سبب ذلك أن والدة خوارزمشاه لما سمعت بما جرى على ولدها خافت ففارقت خوارزم وقصدت نحو الري لتصل إلى أصفهان وهمذان وبلد الجبل تمتنع فيها فصادفوها في الطريق وما معها قبل وصولها إلى الري فكان فيه ما ملأ عيونهم وقلوبهم وما لم يشاهد الناس مثله من كل غريب من المتاع ونفيس من الجواهر وغير ذلك وسيروا الجميع إلى جنكزخان بسمرقند. ذكر وصول التتر إلى الري وهمذان في سنة سبع عشرة وستمائة وصل التتر لعنهم الله إلى الري في طلب خوارزمشاه محمد لأنهم بلغهم أنه مضى منهزما منهم نحو الري فجدوا السير في أثره وقد انضاف إليهم كثير من عساكر المسلمين والكفار وكذلك أيضا من المفسدين من يريد النهب والشر فوصلوا إلى الري على حين غفلة من أهلها فلم يشعروا إلا وقد وصلوا إليها وملكوها ونهبوها وسبوا الحريم واسترقوا الأطفال وفعلوا الأفعال التي لم يسمع بمثلها ولم يقيموا ومضوا مسرعين في طلب خوارزمشاه فنهبوا في طريقهم كل مدينة وقرية مروا عليها وفعلوا في الجميع اضعاف ما فعلوا في الري وأحرقوا وخربوا ووضعوا السيف في الرجال والنساء والأطفال فلم يبقوا على شيء.
373 وتموا على حالهم إلى همذان وكان خوارزمشاه قد وصل إليها في نفر من أصحابه ففارقها وكان آخر العهد به فلا يدرى ما كان منه فيما حكاه بعضهم عنه وقيل غير ذلك وقد ذكرناه. فلما قاربوا همذان خرج رئيسها ومعه الحمل من الأموال والثياب والدواب وغير ذلك يطلب الأمان لأهل البلد فأمنوهم ثم فارقوها وساروا إلى زنجان ففعلوا أضعاف ذلك ثم وصلوا إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بمدينتهم فقاتلوهم وجدوا في قتالهم ودخلوها عنوة بالسيف فاقتتلوا هم وأهل البلد في باطنه حتى صاروا يقتتلون بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لا يحصى ثم فارقوا قزوين فعد القتلى من أهل قزوين فزادوا على أربعين الف قتيل. ذكر وصول التتر إلى أذربيجان لما هجم الشتاء على التتر في همذان وبلد الجبل رأوا بردا شديدا وثلجا متراكما فساروا إل أذربيجان ففعلوا في طريقهم بالقرى والمدن الصغار من القتل والنهب مثل ما تقدم منهم وخربوا وأحرقوا ووصلوا إلى تبريز وبها صاحب أذربيجان أوزبك بن البهلوان فلم يخرج إليهم ولا حدث نفسه بقتالهم لاشغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلا ونهارا لا يفيق وإنما أرسل إليهم وصالحهم على مال وثياب ودواب وحمل الجميع إليهم فساروا من عنده يريدون ساحل البحر لأنه يكون قليل البرد ليشتوا عليه والمراعي به كثيرة لأجل جوابهم فوصلوا إلى موقان وتطرفوا
374 في طريقهم إلى بلاد الكرج فجاء إليهم من الكرج جمع كثير من العسكر نحو عشرة آلاف مقاتل فقاتلوهم فانهزمت الكرج وقتل أكثرهم. وأرسل الكرج إلى أوزبك صاحب أذربيجان يطلبون منه الصلح والاتفاق معهم على دفع التتر فاصطلحوا ليجتمعوا إذا انحسر الشتاء وكذلك ارسلوا إلى الملك الأشرف بن الملك العادل صاحب خلاط وديار الجزيرة يطلبون منه الموافقة عليهم وظنوا جميعهم ان التتر يصبرون في الشتاء إلى الربيع فلم يفعلوا كذلك بل تحركوا وساروا نحو بلاد الكرج، وانضاف إليهم مملوك تركي من مماليك أوزبك اسمه أقوش وجمع أهل تلك الجبال والصحراء من التركمان والأكراد وغيرهم فاجتمع معهم خلق كثير وراسل التتر في الانضمام إليهم فأجابوه إلى ذلك ومالوا اليه للجنسية فاجتمعوا وساروا في مقدمة التتر إلى الكرج فملكوا حصنا من حصونهم وخربوه ونهبوا البلاد وخربوها وقتلوا أهلها ونهبوا أموالهم حتى وصلوا إلى قريب تفليس. فاجتمعت الكرج وخرجت بحدها وحديدها إليهم فلقيهم أقوش أولا فيمن اجتمع إليه فاقتتلوا قتالا شديدا صبروا فيه كلهم فقتل من أصحاب أقوش خلق كثير وأدركهم التتر وقد تعب الكرج من القتال فقتل منهم أيضا كثير فلم يثبتوا للتتر وانهزموا أقبح هزيمة وركبهم السيف من كل جانب فقتل منهم ما لا يحصى كثرة وكانت الوقعة في ذي القعدة من هذه السنة ونهبوا من البلاد ما كان سلم منهم. ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه طائفة تخرج من حدود الصين لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية من هذه الناحية ويجاوزون العراق من ناحية همذان وتالله لا أشك ان من يجيء بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها،
375 ويستبعدها والحق بيده فمتى استبعد ذلك فلينظر أنا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها يسر الله للمسلمين والاسلام من يحفظهم ويحوطهم فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه ولم ينل المسلمين اذى وشدة مذ جاء النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن. هذا العدو الكافر التتر قد وطؤوا بلاد ما وراء النهر وملكوها وخربوها وناهيك به [سعة] بلاد وتعدت طائفة منهم النهر إلى خراسان فملكوها وفعلوا مثل ذلك ثم إلى الري وبلد الجبل وأذربيجان وقد اتصلوا بالكرج فغلبوهم على بلادهم. والعدو الآخر الفرنج قد ظهر من بلادهم في أقصى بلاد الروم بين الغرب والشمال ووصلوا إلى مصر فملكوا مثل دمياط وأقاموا فيها ولم يقدر المسلمون على إزعاجهم عنها ولا إخراجهم منها وباقي ديار مصر على خطر فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومن أعظم الأمور على المسلمين ان سلطانهم خوارزمشاه محمدا قد عدم لا يعرف حقيقة خبره فتارة يقال مات عن همذان وأخفي موته وتارة دخل أطراف بلاد فارس ومات هناك وأخفى موته لئلا يقصدها التتر في اثره وتارة يقال عاد إلى طبرستان وركب البحر فتوفي في جزيرة هناك وبالجملة فقد عدم ثم صح موته ببحر طبرستان وهذا عظيم مثل خراسان وعراق العجم أصبح سائبا لا مانع له ولا سلطان يدفع عنه والعدو يجوس البلاد يأخذ ما أراد ويترك ما أراد على انهم لم يبقوا على مدينة
376 إلا خربوها وكل ما مروا عليه نهبوه وما لا يصلح لهم احرقوه فكانوا يجمعون الإبريسم تلالا ويلقون فيه النار وكذلك غيره من الأمتعة. ذكر ملك التتر مراغة في صفر سنة ثمان عشر وستمائة ملك التتر مدينة مراغة من أذربيجان. وسبب ذلك اننا ذكرنا سنة سبع عشرة وستمائة ما فعله التتر بالكرج وانقضت تلك السنة وهم في بلاد الكرج فلما دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة ساروا من ناحية الكرج لأنهم رأوا أن بين أيديهم شوكة قوية ومضايق تحتاج إلى قتال وصراع فعدلوا عنهم وهذه كانت عادتهم إذا قصدوا مدينة ورأوا عندها امتناعا عدلوا عنها فوصلوا إلى تبريز وصانعهم صاحبها بمال وثياب ودواب فساروا عنه إلى مدينة مراغة فحصروها وليس بها صاحب يمنعها لأن صاحبها كانت امرأة. وهي مقيمة بقلعة رويندز وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم، لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة فلما حصروها قاتلهم أهلها فنصبوا عليها المجانيق وزحفوا إليها وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون فإن عادوا قتلوا فكانوا يقتلون كرها وهم المساكين كما قيل كالأشقر إن تقدم ينحر وإن تأخر يعقر وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين فيكون القتل في المسلمين الأسارى وهم بنجوة منه. فأقاموا عليها عدة أيام ثم ملكوا المدينة عنوة وقهرا رابع صفر ووضعوا السيف في أهلها فقتل منهم ما يخرج عن الحد والاحصاء ونهبوا كل ما
377 يصلح لهم وما لا يصلح لهم وأحرقوه واختفى بعض الناس منهم فكانوا يأخذون الأسارى ويقولون لهم نادوا في الدروب ان التتر قد رحلوا فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل. وبلغني أن امرأة من التتر دخلت دارا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلا فوضعت السلاح وإذا هي امرأة فقتلها رجل اخذته أسيرا؛ وسمعت من بعض أهلها ان رجلا من التتر دخل فيه مائة رجل فما زال يقتلهم واحدا واحدا حتى أفناهم ولم يمد أحد يده اليه بسوء ووضعت الذلة على الناس فلا يدفعون عن نفوسهم قليلا ولا كثيرا نعوذ بالله من الخذلان. ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل ووصل الخبر إلينا بذلك بالموصل فخفنا حتى إن بعض الناس هم بالجلاء خوفا من السيف وجاءت كتب مظفر الدين صاحب إربل إلى بدر الدين صاحب الموصل يطلب منه نجدة من العساكر فسير جمعا صالحا من عسكره وأراد ان يمضي إلى طرف بلاده من جهة التتر ويحفظ المضايق لئلا يجوزها أحد فإنها جميعها جبال وعرة ومضايق لا يقدر [أن] يجوزها إلا الفارس بعد الفارس ويمنعهم من الجواز إليه. ووصلت كتب الخليفة ورسله إلى الموصل والى مظفر الدين يأمر الجميع بالاجتماع مع عساكره بمدينة دقوقا ليمنعوا التتر فإنهم ربما عدلوا عن جبال إربل لصعوبتها إلى هذه الناحية ويطرقون العراق فسار مظفر الدين من إربل في صفر وسار إليهم جمع من عسكر الموصل وتبعهم من المتطوعة كثير. وأرسل الخليفة أيضا إلى الملك الأشرف يأمره بالحضور بنفسه في عسكره ليجتمع الجميع على قصد التتر وقتالهم فاتفق ان الملك المعظم بن الملك العادل وصل من دمشق إلى أخيه الأشرف وهو بحران يستنجده على الفرنج الذين
378 بمصر وطلب منه ان يحضر بنفسه ليسيروا كلهم إلى مصر ليستنقذوا دمياط من الفرنج فاعتذر إلى الخليفة بأخيه وقوة الفرنج وإن لم يتداركها خرجت هي وغيرها وشرع يتجهز للسير إلى الشام ليدخل مصر وكان ما ذكرناه من استنقاذ دمياط. فلما اجتمع مظفر الدين والعساكر بدقوقا سير الخليفة إليهم مملوكه قشتمر وهو أكبر أمير بالعراق ومعه غيره من الأمراء في نحو ثمانمائة فارس فاجتمعوا هناك ليتصل بهم باقي عسكر الخليفة وكان المقدم على الجميع مظفر الدين فلما رأى قلة العسكر لم يقدر على قصد التتر. وحكى مظفر الدين قال لما أرسل إلي الخليفة في معنى التتر قلت له إن العدو قوي وليس لي من العسكر ما ألقاه به فإن اجتمع معي عشرة آلاف فارس استنقذت ما أخذ من البلاد فأمرني بالمسير وواعدني بوصول العسكر فلما سرت لم يحضر عندي غير عدد لم يبلغوا ثمانمائة طواشي فأقمت وما رأيت المخاطرة بنفسي وبالمسلمين. ولما سمع التتر باجتماع العساكر لهم رجعوا القهقرى ظنا منهم ان العسكر يتبعهم فلما لم يروا أحدا يطلبهم أقاموا وأقام العسكر الاسلامي عند دقوقا فلما لم يروا ان العدو يقصدهم ولا المدد يأتيهم تفرقوا وعادوا إلى بلادهم.
379 ذكر ملك التتر همذان وقتل أهلها لما تفرق العسكر الإسلامي عاد التتر إلى همذان فنزلوا بالقرب منها وكان لهم بها شحنة يحكم فيها فأرسلوا إليه يأمرونه ليطلب من أهلها مالا وثيابا وكانوا قد استنفدوا أموالهم في طول المدة وكان رئيس همذان شريفا علويا وهو من بيت رياسة قديمة لهذه المدينة وهو الذي يسعى في أمور أهل البلد مع التتر ويوصل إليهم ما يجمعه من الأموال فلما طلبوا الآن منهم المال لم يجد أهل همذان ما يحملونه إليهم فحضروا عند الرئيس ومعه انسان فقيه قد قام في اجتماع الكلمة على الكفار قياما مرضيا فقالوا لهما هؤلاء الكفار قد أفنوا أموالنا ولم يبق لنا ما نعطيهم وقد هلكنا من أخذهم أموالنا وما يفعله النائب عنهم بنا من الهوان. وكانوا قد جعلوا بهمذان شحنة لهم يحكم في أهلها بما يختاره فقال الشريف إذا كنا نعجز عنهم فكيف الحيلة؟ فليس لنا إلا مصانعتهم بالأموال فقالوا له أنت أشد علينا من الكفار وغلظوا له في القول، فقال أنا واحد منكم فاصنعوا ما شئتم فأشار الفقيه بإخراج شحنة التتر من البلد والامتناع فيه ومقاتلة التتر فوثب العامة على الشحنة فقتلوه وامتنعوا في البلد فتقدم التتر إليهم وحصروهم، وكانت الأقوات متعذرة في تلك البلاد جميعها لخرابها وقتل أهلها وجلاء من سلم منهم فلا يقدر أحد على الطعام إلا قليلا وأما التتر فلا يبالون لعدم الأقوات لأنهم لا يأكلون إلا اللحم ولا تأكل دوابهم إلا نبات الأرض حتى إنها تحفر بحوافرها الأرض عن عروق النبات فتأكلها. فلما حصروا همذان قاتلهم أهلها والرئيس والفقيه في أوائلهم، فقتل من
380 التتر خلق كثير وجرح الفقيه عدة جراحات وافترقوا ثم خرجوا من الغد فاقتتلوا أشد من القتال الأول وقتل أيضا من التتر أكثر من اليوم الأول وجرح الفقيه أيضا عدة جراحات وهو صابر وأرادوا أيضا الخروج في اليوم الثالث فلم يطق الفقيه الركوب وطلب الناس الرئيس العلوي فلم يجدوه وكان قد هرب في سرب صنعه إلى ظاهر البلد هو وأهله إلى قلعة هناك جبل عال فامتنع فيها. فلما فقده الناس بقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون إلا أنهم اجتمعت كلمتهم على القتال إلى ان يموتوا فأقاموا في البلد ولم يخرجوا منه. وكان التتر قد عزموا على الرحيل لكثرة من قتل منهم فلما لم يروا أحدا خرج إليهم من البلد طمعوا واستدلوا على ضعف أهله فقصدوهم وقاتلوهم في رجب من سنة ثمان عشرة وستمائة ودخلوا المدينة بالسيف وقاتلهم الناس في الدروب فبطل السلاح للزحمة واقتتلوا بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لا يحصيه إلا الله تعالى وقوي التتر على المسلمين فأفنوهم قتلا ولم يسلم الا من كان عمل له نفقا يختفي فيه وبقي القتل في المسلمين عدة أيام ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوه ورحلوا عنها إلى مدينة أردويل. وقيل كان السبب في ملكها أن أهل البلد شكوا إلى الرئيس الشريف ما يفعل بهم الكفار أشار عليهم بمكاتبة الخليفة لينفذ إليهم عسكرا مع أمير يجمع كلمتهم فاتفقوا على ذلك فكتب إلى الخليفة ينهي إليه ما هم عليه من الخوف والذل وما يركبهم به العدو من الصغار والخزي ويطلب نجدة ولو ألف فارس من أمير يقاتلون معه ويجتمعون عليه فلما سار القصاد بالكتب أرسل بعض من علم بالحال إلى التتر يعلمهم ذلك فأرسلوا إلى الطريق فأخذوهم واخذوا الكتب منهم وأرسلوا إلى الرئيس ينكرون عليه الحال فجحد،
381 فأرسلوا اليه كتبه والجماعة فسقط في أيديهم وتقدم إليهم التتر حينئذ وقاتلوهم وجرى في القتال كما ذكرنا. ذكر مسير التتر إلى آذربيجان وملكهم أردويل وغيرهم لما فرغ التتر من همذان ساروا إلى آذربيجان فوصلوا إلى أردويل فملكوها وقتلوا فيها وأكثروا وخربوا أكثرها وساروا منها إلى تبريز وكان قد قام بأمرها شمس الدين الطغرائي وجمع كلمة أهلها وقد فارقها صاحبها أوزبك بن البهلوان وكان أميرا مختلفا لا يزال منهمكا في الخمر ليلا ونهارا يبقى الشهر والشهرين لا يظهر وإذا سمع هيعة طار مجفلا لها وله جميع أذربيجان وأران وهو أعجز خلق الله عن البلاد من عدو يريدها ويقصدها. فلما سمع بمسير التتر من همذان فارق هو تبريز وقصد نقجوان وسير أهله ونساءه إلى خوى ليبعد عنهم فقام هذا الطغرائي بأمر البلد وجمع الكلمة وقوى نفوس الناس على الامتناع وحذرهم عاقبة التخاذل والتواني وحصن البلد بجهده وطاقته فلما قاربه التتر وسمعوا بما أهل البلد عليه من اجتماع الكلمة على قتالهم وانهم قد حصنوا المدينة وأصلحوا أسوارها وخندقها ارسلوا يطلبون منهم مالا وثيابا فاستقر الأمر بينهم على قدر معلوم من ذلك فسيروه إليهم فأخذوه ورحلوا إلى مدينة سراو فنهبوها، وقتلوا كل من فيها. ورحلوا منها إلى بيلقان، من بلاد أران، فنهبوا كل ما مروا به من البلاد
382 والقرى وخربوا وقتلوا من ظفروا به من أهلها فلما وصلوا إلى بيلقان حصروها فاستدعى أهلها منهم رسولا يقرون معه الصلح فأرسلوا إليهم رسولا من أكابرهم ومقدمهم فقتله أهل البلد فزحف التتر إليهم وقاتلوهم ثم إنهم ملكوا البلد عنوة في شهر رمضان سنة ثمان عشرة [وستمائة] ووضعوا السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة حتى إنهم يشقون بطون الحبالى ويقتلون الأجنة وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها وكان الانسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة فيقتلهم واحدا بعد واحد حتى يفرغ من الجميع لا يمد أحد منهم اليه يدا. فلما فرغوا منها استقصوا ما حولها من النهب والتخريب وساروا إلى مدينة كنجة وهي أم بلاد أران فعلموا بكثرة أهلها وشجاعتهم لكثرة ذريتهم بقتال الكرج وحصانتها فلم يقدموا عليها فأرسلوا إلى أهلها يطلبون منهم المال والثياب فحملوا إليهم ما طلبوا فساروا عنهم. ذكر وصول التتر إلى بلاد الكرج لما فرغ التتر من بلاد المسلمين بأذربيجان وأران بعضه بالملك وبعضه بالصلح وساروا إلى بلاد الكرج من هذه الأعمال أيضا وكان الكرج قد أعدوا لهم واستعدوا وسيروا جيشا كثيرا إلى طرف بلادهم ليمنعوا التتر عنها فوصل إليهم التتر فالتقوا فلم يثبت الكرج بل ولوا منهزمين فأخذهم السيف فلم يسلم منهم الا الشريد. ولقد بلغني أنهم قتل منهم نحو ثلاثين ألفا ونهبوا ما وصلوا اليه من
383 بلادهم وخربوها وفعلوا بها ما هو عادتهم فلما وصل المنهزمون إلى تفليس وبها ملكهم جمع جموعا أخرى وسيرهم إلى التتر أيضا ليمنعوهم من توسط بلادهم فرأوا التتر وقد دخلوا البلاد لم يمنعهم جبل ولا مضيق ولا غير ذلك فلما رأوا فعلهم عادوا إلى تفليس فأخلوا البلاد ففعل التتر فيها ما أرادوا من النهب والقتل والتخريب ورأوا بلادا كثيرة المضايق والدربندات فلم يتجاسروا على الوغول فيها فعادوا عنها. وداخل الكرج منهم خوف عظيم حتى سمعت عن بعض أكابر الكرج وكان قدم رسولا انه قال من حدثكم ان التتر انهزموا وأسروا فلا تصدقوه وإذا حدثتم انهم قتلوا فصدقوا فإن القوم لا يفرون أبدا ولقد أخذنا أسيرا منهم فألقى نفسه من الدابة وضرب رأسه بالحجر إلى ان مات ولم يسلم نفسه للأسرة. ذكر وصولهم إلى دربند شروان وما فعلوه لما عاد التتر من بلد الكرج قصدوا دربند شروان فحصروا مدينة شماخي وقاتلوا أهلها فصبروا على الحصر ثم ان التتر صعدوا سورها بالسلاليم وقيل بل جمعوا كثيرا من الجمال والبقر والغنم وغير ذلك ومن قتلى الناس منهم وممن قتل من غيرهم والقوا بعضه فوق بعض فصار مثل الغل وصعدوا عليه فأشرفوا على المدينة وقاتلوا أهلها فصبروا واشتد القتال ثلاثة أيام فأشرفوا على أن يؤخذوا فقالوا السيف لا بد منه فالصبر أولى بنا نموت كراما.
384 فصبروا تلك الليلة فأنتنت تلك الجيف وانهضمت فلم يبق للتتر على السور استعلاء ولا تسلط على الحرب فعاودوا الزحف وملازمة القتال فضجر أهلها ومسهم التعب والكلال والاعياء فضعفوا فملك التتر البلد وقتلوا فيه فأكثروا، ونهبوا الأموال فاحتازوها. فلما فرغوا منه أرادوا عبور الدربند فلم يقدروا على ذلك فأرسلوا رسولا إلى شروان [شاه] ملك دربند شروان يقولون له ليرسل إليهم رسولا يسعى بينهم في الصلح فأرسل عشرة رجال من أعيان أصحابه فأخذوا أحدهم فقتلوه ثم قالوا للباقين إن أنتم عرفتمونا طريقا نعبر فيه فلكم الأمان وإن لم تفعلوا قتلناكم كما قتلنا هذا فقالوا لهم ان هذا الدربند ليس فيه طريق البتة ولكن فيه موضع هو أسهل ما فيه من الطرق فساروا معهم إلى ذلك الطريق فعبروا فيه وخلفوه وراء ظهورهم. ذكر ما فعلوه باللان وقفجاق لما عبر التتر دربند شروان ساروا في تلك الأعمال وفيها أمم كثيرة منهم اللان واللكز وطوائف من الترك فنهبوه وقتلوا من اللكز كثيرا وهم مسلمون وكفار وأوقعوا بمن عداهم من أهل تلك البلاد ووصلوا إلى اللان وهم أمم كثيرة وقد بلغهم خبرهم فجدوا وجمعوا عندهم جمعا من قفجاق فقاتلوهم فلم تظفر احدى الطائفتين بالأخرى فأرسل التتر إلى قفجاق يقولون نحن وأنتم جنس واحد وهؤلاء اللان ليسوا منكم حتى تنصروهم ولا دينكم مثل دينهم ونحن نعاهدكم
385 اننا لا نعترض إليكم ونحمل إليكم من الأموال والثياب ما شئتم وتتركون بيننا وبينهم. فاستقر الأمر بينهم على مال حملوه وثياب وغير ذلك فحملوا إليهم ما استقر وفارقهم قفجاق فأوقع التتر باللان فقتلوا منهم وأكثروا ونهبوا وسبوا وساروا إلى قفجاق وهم آمنون متفرقون لما استقر بينهم من الصلح فلم يسمعوا بهم إلا وقد طرقوهم ودخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول وأخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم. وسمع من كان بعيد الدار من قفجاق الخبر ففروا من غير قتال وأبعدوا وبعضهم اعتصم بالغياض وبعضهم بالجبال وبعضهم لحق ببلاد الروس وأقام التتر في بلاد قفجاق وهي أرض كثيرة المراعي في الشتاء والصيف وفيها أماكن باردة في الصيف كثيرة المرعى وأماكن حارة في الشتاء كثيرة المرعى وهي غياض على ساحل البحر ووصلوا إلى مدينة سوادق وهي مدينة قفجاق التي منها مادتهم فإنها على بحر الخزر والمراكب تصل إليها وفيها الثياب فتشتري منهم وتبيع عليهم الجواري والمماليك والبرطاسي والقندر والسنجاب وغير ذلك مما هو في بلادهم وبحر خزرية هذا بحر متصل بخليج القسطنطينية. ولما وصل التتر إلى سوادق ملكوها وتفرق أهلها منها فبعضهم صعد الجبال بأهله وماله وبعضهم ركب البحر وسار إلى بلاد الروم التي بيد المسلمين من أولاد قلج أرسلان.
386 ذكر ما فعله التتر قفجاق والروس لما استولى التتر على ارض قفجاق كما ذكرنا سار طائفة كثيرة منهم إلى بلاد الروس وهي بلاد كثيرة طويلة عريضة تجاورهم وأهلها يدينون بالنصرانية فلما وصلوا إليهم اجتمعوا كلهم واتفقت كلمتهم على قتال التتر ان قصدوهم وأقام التتر بأرض قفجاق مدة ثم انهم ساروا سنة عشرين وستمائة إلى بلاد الروس فسمع الروس وقفجاق خبرهم وكانوا مستعدين لقتالهم فساروا إلى طريق التتر ليلقوهم قبل ان يصلوا إلى بلادهم ليمنعوهم عنها فبلغ مسيرهم التتر فعادوا على أعقابهم راجعين فطمع الروس وقفجاق فيهم وظنوا انهم عادوا خوفا منهم وعجزا عن قتالهم فجدوا في اتباعهم ولم يزل التتر راجعين وأولئك يقفون أثرهم اثني عشر يوما. ثم ان التتر عطفوا على الروس وقفجاق فلم يشعروا بهم الا وقد لقوهم على غرة منهم لأنهم كانوا قد أمنوا التتر واستشعروا القدرة عليهم فلم يجتمعوا للقتال الا وقد بلغ التتر منهم مبلغا عظيما فصبر الطائفتان صبرا لم يسمع بمثله. ودام القتال بينهم عدة أيام ثم إن التتر ظفروا واستظهروا فانهزم قفجاق والروس هزيمة عظيمة بعد ان أثخن فيهم التتر وكثر القتل في المنهزمين فلم يسلم منهم الا القليل ونهب جميع ما معهم ومن سلم وصل إلى البلاد على أقبح صورة لبعد الطريق والهزيمة وتبعهم كثير يقتلون وينهبون
387 ويخرجون البلاد حتى خلا أكثرها فاجتمع كثير من أعيان تجار الروس وأغنيائهم وحملوا ما يعز عليهم وساروا يقطعون البحر إلى بلاد الإسلام في عدة مراكب. فلما قاربوا المرسى الذي يريدونه انكسر مركب من مراكبهم فغرق الا ان الناس نجوا وكانت العادة جارية ان السلطان له المركب الذي ينكسر فأخذ من ذلك شيئا كثيرا وسلم باقي المراكب وأخبره من بها بهذه الحال. ذكر عود التتر من بلاد الروس وقفجاق إلى ملكهم لما فعل التتر بالروس ما ذكرناه ونهبوا بلادهم عادوا عنها وقصدوا بلغار أواخر سنة عشرين وستمائة فلما سمع أهل بلغار بقربهم منهم كمنوا لهم في عدة مواضع وخرجوا إليهم فلقوهم واستجروهم إلى ان جاوزوا موضع الكمناء فخرجوا عليهم من وراء ظهورهم فبقوا في الوسط وأخذهم السيف من كل ناحية فقتل أكثرهم ولم ينج منهم الا القليل. قيل كانوا نحو أربعة آلاف رجل فساروا إلى سقين عائدين إلى ملكهم جنكزخان وخلت ارض قفجاق منهم فعاد من سلم منهم إلى بلادهم،
388 وكان الطريق منقطعا مذ دخلها التتر فلم يصل منهم شيء من البرطاسي والسنجاب والقندر وغيرها مما يجعل من تلك البلاد فلما فارقوها عادوا إلى بلادهم واتصلت الطريق وحملت الأمتعة كما كانت. هذا اخبار التتر المغربة قد ذكرناها سياقة واحدة لئلا تنقطع. ذكر ما فعله التتر بما وراء النهر بعد بخارى وسمرقند قد ذكرنا ما فعله التتر المغربة التي سيرها ملكهم جنكزخان لعنه الله إلى خوارزمشاه وأما جنكزخان فإنه بعد ان سير هذه الطائفة إلى خوارزم شاه وبعد انهزام خوارزمشاه من خراسان قسم أصحابه عدة أقسام فسير قسما منها إلى بلاد فرغانة ليملكوها وسير قسما آخر منها إلى ترمذ وسير قسما منها إلى كلانة وهي قلعة حصينة على جانب جيحون من أحصن القلاع وامنع الحصون فسارت كل طائفة إلى الجهة التي أمرت بقصدها ونازلتها واستولت عليها وفعلت من القتل والأسر والسبي والنهب والتخريب وأنواع الفساد مثل ما فعل أصحابهم. فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بسمرقند فجهز جيشا عظيما مع أحد أولاده وسيره إلى خوارزم وسير جيشا آخر فعبروا جيحون إلى خراسان.
389 ذكر ملك التتر خراسان لما سار الجيش المنفذ إلى خراسان عبروا جيحون وقصدوا مدينة بلخ فطلب أهلها الأمان فأمنوهم فسلم البلد سنة سبع عشرة وستمائة ولم يتعرضوا اليه بنهب ولا قتل بل جعلوا فيه شحنة وساروا وقصدوا الزوزان وميمند وأندخوي وقاريات فملكوا الجميع وجعلوا فيه ولاة ولم يتعرضوا إلى أهلها بسوء ولا اذى سوى أنهم كانوا يأخذون الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم حتى وصلوا إلى الطالقان وهي ولاية تشتمل على عدة بلاد وفيها قلعة حصينة يقال لها منصوركوه لا ترام علوا وارتفاعا وبها رجال يقاتلون شجعان فحصروها مدة ستة اشهر يقاتلون أهلها ليلا ونهارا ولا يظفرون منها بشيء. فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه بعجزهم عن ملك هذه القلعة لكثرة من فيها من المقاتلة ولامتناعها بحصانتها فسار بنفسه وبمن عنده من جموعه إليهم وحصرها ومعه خلق كثير من المسلمين اسرى فأمرهم بمباشرة القتال وإلا قتلهم فقاتلوا معه وأقام عليها أربعة أشهر أخرى فقتل من التتر عليها خلق كثير فلما رأى ملكهم ذلك أمر أن يجمع له من الحطب والأخشاب ما أمكن جمعه ففعلوا ذلك وصاروا يعملون صفا من خشب وفوقه صفا من تراب فلم يزالوا كذلك حتى صار تلا عاليا
390 يوازي القلعة فاجتمع من بها وفتحوا بابها وخرجوا منها وحملوا حملة رجل واحد فسلم الخيالة منهم ونجوا وسلكوا تلك الجبال والشعاب. واما الرجالة فقتلوا ودخل التتر القلعة وسبوا النساء والأطفال ونهبوا الأموال والأمتعة. ثم إن جنكزخان جمع أهل البلاد التي أعطاهم الأمان ببلخ وغيرها وسيرهم مع بعض أولاده إلى مدينة مرو فدخلوا إليها وقد اجتمع بها من الأعراب والأتراك وغيرهم ممن نجا من المسلمين ما يزيد على مائتي ألف رجل وهم معسكرون بظاهر مرو وهم عازمون على لقاء التتر ويحدثون نفوسهم بالغلبة لهم والاستيلاء عليهم فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا فصبر المسلمون وأما التتر فلا يعرفون الهزيمة حتى ان بعضهم أسر فقال وهو عند المسلمين إن قيل إن التتر يقتلون فصدقوا وإن قيل إنهم ينهزمون فلا تصدقوا. فلما رأى المسلمون صبر التتر واقدامهم ولوا منهزمين فقتل التتر منهم وأسروا الكثير ولم يسلم إلا القليل ونهبت أموالهم وسلاحهم ودوابهم، وأرسل التتر إلى ما حولهم من البلاد يجمعون الرجال لحصار مرو فلما اجتمع لهم ما أرادوا تقدموا إلى مرو وحصروها وجدوا في حصرها ولازموا القتال.
391 وكان أهل البلد قد ضعفوا بانهزام ذلك العسكر وكثرة القتل والأسر فيهم فلما كان اليوم الخامس من نزولهم ارسل التتر إلى الأمير الذي بها متقدما على من فيها يقولون له لا تهلك نفسك وأهل البلد واخرج الينا فنحن نجعلك أمير هذه البلدة ونرحل عنك فأرسل يطلب الأمان لنفسه ولأهل البلد فأمنهم فخرج إليهم فخلع عليه ابن جنكزخان واحترامه وقال له أريد ان تعرض على أصحابك حتى تنظر من يصلح لخدمتنا استخدمناه وأعطيناه إقطاعا ويكون معنا. فلما حضروا عنده وتمكن منهم قبض عليهم وعلى أميرهم وكتفوهم فلما فرغ منهم قال لهم اكتبوا إلى تجار البلد ورؤسائه وأرباب الأموال في جريدة واكتبوا إلى أرباب الصناعات والحرف في نسخة أخرى واعرضوا ذلك علينا ففعلوا ما امرهم فلما وقف على النسخ أمر ان يخرج أهل البلد منه بأهلهم فخرجوا كلهم ولم يبق فيه أحد فجلس على كرسي من ذهب وأمر ان يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم فأحضروا وضربت رقابهم صبرا والناس ينظرون إليهم ويبكون. وأما العامة فإنهم قسموا الرجال والنساء والأطفال فكان يوما مشهودا من كثرة الصراخ والبكاء والعويل وأخذوا أرباب الأموال فضربوهم وعذبوهم بأنواع العقوبات في طلب الأموال فربما مات أحدهم من شدة الضرب ولم يكن بقي له [ما] يفتدي به نفسه ثم انهم أحرقوا البلد وأحرقوا تربة السلطان سنجر ونبشوا القبر طلبا للمال فبقوا كذلك ثلاثة أيام فلما كان اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة وقال هؤلاء عصوا
392 علينا فقتلوهم أجمعين وأمر باحصاء القتلى فكانوا نحو سبعمائة الف قتيل فإنا لله وإنا اليه راجعون مما جرى على المسلمين ذلك اليوم. ثم ساروا إلى نيسابور فحصروها خمسة أيام وبها جمع صالح من العسكر الإسلامي فلم يكن لهم بالتتر قوة فملكوا المدينة وأخرجوا أهلها إلى الصحراء فقتلوهم وسبوا حريمهم وعاقبوا من اتهموه بمال كما فعلوا بمرو وأقاموا خمسة عشر يوما يخربون ويفتشون المنازل عن الأموال. وكانوا لما قتلوا أهل مرو قيل لهم ان قتلاهم سلم منهم كثير ونجوا إلى بلاد الإسلام فأمروا بأهل نيسابور ان تقطع رؤوسهم لئلا يسلم من القتل أحد فلما فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس ففعلوا بها كذلك أيضا وخربوها وخربوا المشهد الذي فيه الامام علي بن موسى الرضا ع والرشيد حتى جعلوا الجميع خرابا. ثم ساروا إلى هراة، وهي من أحصن البلاد فحصروها عشرة أيام فملكوها وأمنوا أهلها وقتلوا منهم البعض وجعلوا عند من سلم منهم شحنة وساروا إلى غزنة فلقيهم جلال الدين ابن خوارزم شاه فقاتلهم وهزمهم على ما نذكره إن شاء الله فوثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه فلما عاد المنهزمون إليهم دخلوا البلد قهرا وعنوة وقتلوا كل من فيه ونهبوا الأموال وسبوا الحريم ونهبوا السواد وخربوا المدينة جميعها وأحرقوها وعادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بالطالقان يرسل السرايا إلى جميع بلاد خراسان،
393 ففعلوا بها كذلك ولم يسلم من شرهم وفسادهم شيء من البلاد وكان جميع ما فعلوه بخراسان سنة سبع عشرة [وستمائة]. ذكر ملكهم خوارزم وتخريبها واما الطائفة من الجيش التي سيرها جنكزخان إلى خوارزم فإنها كانت أكثر السرايا جميعها لعظم البلد فساروا حتى وصلوا إلى خوارزم وفيها عسكر كبير وأهل البلد معروفون بالشجاعة والكثرة فقاتلوهم أشد قتال سمع به الناس ودام الحصر لهم خمسة اشهر فقتل من الفريقين خلق كثير إلا أن القتلى من التتر كانوا أكثر لأن المسلمين كان يحميهم السور. فأرسل التتر إلى ملكهم جنكزخان يطلبون المدد فأمدهم بخلق كثير فلما وصلوا إلى البلد زحفوا زحفا متتابعا فملكوا طرفا منه فاجتمع أهل البلد وقاتلوهم في طرف الموضع الذي ملكوا فلم يقدروا على إخراجهم ولم يزالوا يقاتلونهم والتتر يملكون منهم محلة بعد محلة وكلما ملكوا محلة قاتلهم المسلمون في المحلة التي تليهم فكان الرجال والنساء والصبيان يقاتلون فلم يزالوا كذلك حتى ملكوا البلد جميعه وقتلوا كل من فيه ونهبوا كل ما فيه ثم إنهم فتحوا السكر الذي يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله الماء فغرق البلد جميعه وتهدمت الابنية وبقي موضعه ماء ولم يسلم من أهله أحد البتة فإن غيره من البلاد قد كان يسلم بعض أهله منهم من يختفي ومنهم من يهرب ومنهم من يخرج ثم يسلم ومنهم من يلقي نفسه بين القتلى
394 فينجو؛ وأما [أهل] خوارزم فمن اختفى من التتر غرفة الماء أو قتله الهدم فأصبحت خرابا يبابا: (كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر) وهذا لم يسمع بمثله في قديم الزمان وحديثه نعوذ بالله من الخور بعد الكور ومن الخذلان بعد النصر فلقد عمت هذه المصيبة الإسلام وأهله فكم من قتيل من أهل خراسان وغيرها، لأن القاصدين من التجار وغيرهم كانوا كثيرا مضى الجميع تحت السيف. ولما فرغوا من خراسان وخوارزم عادوا إلى ملكهم بالطالقان. ذكر ملك التتر غزنة وبلاد الغور لما فرغ التتر من خرسان وعادوا إلى ملكهم جيشا كثيفا وسيره إلى غزنة وبها جلال الدين بن خوارزمشاه مالكا لها وقد اجتمع إليه من سلم من عسكر أبيه قيل كانوا ستين ألفا فلما وصلوا إلى اعمال غزنة خرج إليهم المسلمون مع ابن خوارزمشاه إلى موضع يقال له بلق فالتقوا هناك واقتتلوا قتالا شديدا وبقوا كذلك ثلاثة أيام ثم أنزل الله نصره إلى المسلمين فانهزم التتر وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا ومن سلم منهم عاد إلى ملكهم بالطالقان فلما سمع أهل هراة بذلك ثاروا بالوالي
395 الذي عندهم للتتر فقتلوه فسير إليهم جنكزخان عسكرا فملكوا البلد وخربوه كما ذكرناه. فلما انهزم التتر أرسل جلال الدين رسولا إلى جنكزخان يقول له في أي موضع تريد [أن] يكون الحرب حتى نأتي اليه فجهز جنكزخان عسكرا كثيرا أكثر من الأول مع بعض أولاده وسيره اليه فوصل إلى كابل فتوجه العسكر الإسلامي إليهم وتصافوا هناك وجرى بينهم قتال عظيم فانهزم الكفار ثانيا فقتل كثير منهم وغنم المسلمون ما معهم وكان عظيما وكان معهم من أسارى المسلمين خلق كثير فاستنقذوهم وخلصوهم. ثم ان المسلمين جرى بينهم فتنة لأجل الغنيمة وسبب ذلك ان أميرا منهم يقال له سيف الدين بغراق أصله من الأتراك الخلج كان شجاعا مقداما ذا رأي في الحرب ومكيدة واصطلى الحرب مع التتر بنفسه وقال لعسكر جلال الدين تأخروا أنتم فقد ملئتم منهم رعبا وهو الذي كسر التتر على الحقيقة. وكان من المسلمين أيضا أمير كبير يقال له ملك خان بينه وبين خوارزمشاه نسب وهو صاحب هراة فاختلف هذان الأميران في الغنيمة فاقتتلوا فقتل بينهم أخ لبغراق فقال بغراق أنا اهزم الكفار ويقتل أخي لأجل هذا السحت فغضب وفارق العسكر وسار إلى الهند فتبعه من العسكر ثلاثون ألفا كلهم يريدونه فاستعطفه جلال الدين بكل طريق وسار بنفسه إليه وذكره الجهاد وخوفه من الله تعالى وبكى بين يديه فلم يرجع وسار
396 مفارقا فانكسر لذلك المسلمون وضعفوا. فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر أن جنكزخان قد وصل في جموعه وجيوشه فلما رأى جلال الدين ضعف المسلمين لأجل من فارقهم من العسكر ولم يقدر على المقام سار نحو بلاد الهند فوصل إلى ماء السند وهو نهر كبير فلم يجد من السفن ما يعبر فيه. وكان جنكزخان يقص أثره مسرعا فلم يتمكن جلال الدين من العبور حتى ادركه جنكزخان في التتر فاضطر المسلمون حينئذ إلى القتال والصبر لتعذر العبور عليهم وكانوا في ذلك كالأشقر ان تقدم ينحر وان تأخر يعقر فتصافوا واقتتلوا أشد قتال اعترفوا كلهم ان كل ما مضى من الحروب كان لعبا بالنسبة إلى هذا القتال في الكفار أكثر والجراح أعظم فرجع الكفار عنهم فأبعدوا ونزلوا فلما رأى المسلمون انهم لا مدد لهم وقد ازدادوا ضعفا بمن قتل منهم وجرح ولم يعلموا بما أصاب الكفار من ذلك فأرسلوا يطلبون السفن فوصلت وعبر المسلمين ليقضي الله امرا كان مفعولا. فلما كان الغد عاد الكفار إلى غزنة وقد قويت نفوسهم بعبور المسلمين الماء إلى جهة الهند وبعدهم فلما وصلوا إليها ملكوها لوقتها لخلوها من العساكر والمحامي فقتلوا أهلها ونهبوا الأموال وسبوا الحريم ولم يبق أحد وخربوها وأحرقوها وفعلوا بسوادها كذلك ونهبوا وقتلوا وأحرقوا
397 فأصبحت تلك الأعمال جميعها خالية من الأنيس خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس. ذكر تسليم الأشرف خلاط إلى أخيه شهاب الدين غازي أواخر هذه السنة اقطع الملك الأشرف موسى بن العادل مدينة خلاط وجميع الأعمال أرمينية ومدينة ميافارقين من ديار بكر ومدينة حابي أخاه شهاب الدين غازي ابن العادل وأخذ منه مدينة الرها ومدينة سروج من بلاد الجزيرة وسيره إلى خلاط أول سنة ثمان عشرة وستمائة. وسبب ذلك ان الكرج لما قصد التتر بلادهم وهزموهم ونهبوها وقتلوا كثيرا من أهلها ارسلوا إلى أوزبك صاحب آذربيجان وأران يطلبون منه المهادنة والموافقة على دفع التتر وأرسلوا إلى الملك الأشرف في هذا المعنى وقالوا للجميع إن لم توافقونا على قتال هؤلاء القوم ودفعهم عن بلادنا وتحضروا بنفوسكم وعساكركم لهذا المهم وإلا صالحناهم عليكم. فوصلت رسلهم إلى الأشرف وهو يتجهز إلى الديار المصرية لأجل الفرنج وكانوا عنده أهم الوجوه لأسباب أولها ان الفرنج كانوا قد ملكوا دمياط وقد أشرفت الديار المصرية على أن تملك فلو ملكوها
398 لم يبق بالشام ولا غيره معهم ملك لأحد. وثانيها أن الفرنج أشد شكيمة وطالبو ملك فإذا ملكوا قرية لا يفارقونها إلا بعد ان يعجزوا عن حفظها يوما واحد. وثالثها أن الفرنج قد طمعوا في كرسي مملكة البيت العادلي وهي مصر والتتر لم يصلوا إليها ولم يجاوزوا شيئا من بلادهم وليسوا أيضا ممن يريد المنازعة في الملك وما غرضهم إلا النهب والقتل وتخريب البلاد والانتقال من بلد إلى آخر. فلما أتاه رسل الكرج بما ذكرناه أجابهم يتعذر بالمسير إلى مصر لدفع الفرنج ويقول لهم إنني قد أقطعت ولاية خلاط لأخي وسيرته إليها ليكون بالقرب منكم وتركت عنده العساكر فمتى احتجتم إلى نصرته حضر لدفع التتر وسار هو إلى مصر كما ذكرناه. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في ربيع الآخر ملك بدر الدين قلعة تل اعفر. وفيها في جمادى الأولى ملك الأشرف مدينة سنجار. وفيها أيضا وصل الموصل وأقام بظاهرها ثم سار يريد إربل لقصد صاحبها فترددت الرسل بينهم في الصلح فاصطلحوا في شعبان وقد تقدم هذا جميعه مفصلا سنة خمس عشرة وستمائة. وفيها وصل التتر الري فملكوها وقتلوا كل من فيها ونهبوها،
399 وساروا عنها، فوصلوا إلى همذان فلقيهم رئيسها بالطاعة والحمل فأبقوا على أهلها وساروا إلى أذربيجان فخربوا وحرقوا البلاد وقتلوا وسبوا وعملوا ما لم يسمع بمثله وقد تقدم أيضا مفصلا. وفيها توفي نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الذي كان وزير الخليفة وصلي عليه بجامع القصر وحضره أرباب الدولة ودفن بالمشهد. وفيها توفي صدر الدين أبو الحسن محمد بن عمر بن حموية الجويني شيخ الشيوخ بمصر والشام وكان موته بالموصل وردها رسولا وكان فقيها فاضلا وصوفيا صالحا من بيت كبير من خراسان رحمه الله كان نعم الرجل. وفيها عاد جمع بني معروف إلى مواضعهم من البطيحة وكانوا قد ساروا إلى الأجنا والقطيف فلم يمكنهم المقام لكثرة أعدائهم فقصدوا شحنة البصرة وطلبوا منه ان يكاتب الديوان ببغداد بالرضا عنهم فكتب معهم بذلك وسيرهم مع أصحابه إلى بغداد فلما قاربوا واسط لقيهم قاصد من الديوان بقتلهم فقتلوا.
400 618 ثم دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة ذكر وفاة قتادة أمير مكة وملك ابنه الحسن وقتل أمير الحاج في هذه السنة في جمادى الآخرة توفي قتادة بن إدريس العلوي ثم الحسيني أمير مكة حرسها الله وكان عمره نحو سبعين سنة وكانت ولايته قد اتسعت من حدود اليمن إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، وله قلعة ينبع بنواحي المدينة وكثر عسكره واستكثر من المماليك وخافه العرب في تلك البلاد خوفا عظيما. وكان أول ملكه لما ملك مكة حرسها الله حسن السيرة وأزال عنها العبيد المفسدين وحمى البلاد وأحسن إلى الحجاج وأكرمهم وبقي كذلك مدة ثم إنه بعد ذلك أساء السيرة وجدد المكوس بمكة وفعل أفعالا شنيعة ونهب الحاج في بعض السنين كما ذكرناه. ولما مات ملك بعده ابنه الحسن وكان له ابن آخر اسمه راجح مقيم في العرب بظاهر مكة يفسد وينازع أخاه في مسلكه فلما سار حاج العراق كان الأمير عليهم مملوكا من مماليك الخليفة الناصر لدين الله اسمه أقباش وكان حسن السيرة مع الحاج في الطريق كثير الحماية فقصده راجح بن قتادة وبذل له وللخليفة مالا ليساعده على ملك مكة فأجابه إلى ذلك،
401 ووصلوا إلى مكة ونزلوا بالزاهر وتقدم إلى مكة مقاتلا لصاحبها حسن. وكان حسن قد جمع جموعا كثيرة من العرب وغيرها فخرج إليه من مكة وقاتله وتقدم أمير الحاج من بين يدي عسكره منفردا وصعد الجبل إدلالا بنفسه وانه لا يقدم أحد عليه فأحاط به أصحاب حسن وقتلوه وغلقوا رأسه فانهزم عسكر أمير المؤمنين وأحاط حسن بالحاج لينهبوهم فأرسل إليهم حسن عمامته أمانا للحجاج فعاد أصحابه ولم ينهبوا منهم شيئا وسكن الناس وإذن لهم حسن في دخول مكة وفعل ما يريدونه من الحج والبيع وغير ذلك وأقاموا بمكة عشرة أيام وعادوا فوصلوا إلى العراق سالمين وعظم الأمر على الخليفة فوصلت رسل حسن يعتذرون ويطلبون العفو عنه فأجيب إلى ذلك. وقيل في موت قتادة أن ابنه حسن خنقه فملت وسبب ذلك أن قتادة جمع جموعا كثيرة وسار عن مكة يريد المدينة فنزل بوادي الفرع وهو مريض وسير أخاه على الجيش ومعه ابنه الحسن بن قتادة فلما ابعدوا بلغ الحسن أن عمه قال لبعض الجند إن أخي مريض وهو ميت لا محالة وطلب منهم ان يحلفوا له ليكون هو الأمير بعد أخيه قتادة فحضر الحسن عند عمه واجتمع إليه كثير من الأجناد والمماليك الذين لأبيه فقال الحسن لعمه قد فعلت كذا وكذا فقال لم افعل فأمر حسن الحاضرين بقتله فلم يفعلوا وقالوا أنت أمير وهذا أمير ولا نمد أيدينا إلى أحد كما قال له غلامان لقتادة نحن عبيدك فمرنا بما شئت فأمرهما أن يجعلا عمامة
402 عمه في عنقه، ففعلا، ثم قتله. فسمع قتادة الخبر فبلغ منه الغيظ كل مبلغ وحلف ليقتلن ابنه وكان على ما ذكرناه من المرض فكتب بعض أصحابه إلى الحسن يعرفه الحال ويقول له ابدأ به قبل ان يقتلك فعاد الحسن إلى مكة فلما وصلها قصد دار أبيه في نفر يسير فوجد على باب الدار جمعا كثيرا فأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ففارقوا الدار وعادوا إلى مساكنهم ودخل الحسن إلى أبيه فلما رآه أبوه شتمه وبالغ في ذمه وتهديده فوثب اليه الحسن فخنقه لوقته وخرج إلى الحرم الشريف، واحضر الأشراف وقال ان أبي قد اشتد مرضه وقد أمركم ان تحلفوا لي ان أكون انا أميركم فحلفوا له ثم إنه أظهر تابوتا ودفنه ليظن الناس انه مات وكان قد دفنه سرا فلما استقرت الامارة بمكة له ارسل إلى أخيه الذي بقلعة الينبع على لسان أبيه يستدعيه وكتم موت أبيه عنه فلما حضر أخوه قتله أيضا واستقر أمره وثبت قدمه وفعل بأمير الحاج ما تقدم ذكره فارتكب عظيما قتل أباه وعمه وأخاه في أيام يسيرة لا جرم لم يمهله الله سبحانه وتعالى نزع ملكه وجعله طريدا شريدا خائفا يترقب. وقيل إن قتادة كان يقول شعرا فمن ذلك انه طلب ليحضر عند أمير الحاج كما جرت عادة أمراء مكة فامتنع فعوتب من بغداد فأجاب بأبيات شعر منها: (ولي كف ضرغام أدل ببطشها * وأشري بها بين الورى وأبيع) (تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها * وفي سطحها للمجد بين ربيع)
403 (أأجعلها تحت الرحا ثم أبتغي * خلاصا لها إني إذا لرقيع) (وما أنا إلا المسك في كل بلدة * يضوع وأما عندكم فيضيع) ذكرة عدة حوادث في هذه السنة استعاد المسلمون مدينة دمياط بالديار المصرية من الفرنج وقد تقدم ذكرها مشروحا مفصلا. وفيها في صفر ملك التتر مراغة وخربوها وأحرقوها وقتلوا أكثر أهلها ونهبوا أموالهم وسبوا حريمهم. وسار التتر منها إلى همذان وحصروها فقاتلهم أهلها وظفر بهم التتر وقتلوا منهم ما لا يحصى ونهبوا البلد. وساروا إلى أذربيجان فأعادوا النهب ونهبوا ما بقي من البلاد ولم ينهبوه أولا. ووصلوا إلى بيلقان من بلاد أران فحصروها وملكوها وقتلوا أهلها حتى كادوا حتى كادوا يفنونهم وقتل منهم كثير ونهبت أموالهم وأكثر بلادهم وقصدوا دربند شروان فحصروا مدينة شماخي وملكوها وقتلوا كثيرا من أهلها. وساروا إلى بلد اللان واللكز ومن عندهم من الأمم فأوقعوا
404 ورحلوا عن قفجاق، وأجلوهم عنهم واستولوا عليها وساحوا في تلك الأرض حتى وصلوا إلى بلاد الروس وقد تقدم ذكر جميعه مستقصى وإنما أوردناه ههنا جملة ليعلم الذي كان في هذه السنة من حوادثهم. وفيها توفي صديقنا أمين الدين ياقوت الكاتب الموصلي ولم يكن في زمانه من يكتب ما يقاربه ولا من يؤدي طريقة ابن البواب مثله وكان ذا فضائل جمة من علم الأدب وغيره وكان كثير الخير نعم الرجل مشهورا في الدنيا والناس متفقون على الثناء الجميل عليه والمدح له ولهم فيه أقوال كثيرة نظما ونثرا فمن ذلك ما قاله نجيب الدين الحسين بن علي الواسطي من قصيدة يمدحه بها: (جامع شارد العلوم ولولاه * لكانت الفضائل ثكلى) (ذو يراع تخاف سطوته الأسد وتعنو له الكتائب دلا *) (وإذا افتر ثغره عن سواد * في بياض فالبيض والسمر خجلى) (أنت بدر والكاتب بن هلال * كأبيه لا فخر فيمن تولى) ومنها. (إن يكن أولا فإنك بالتف * ضيل أولى لقد سبقت وصلى) وهي طويلة والكاتب بن هلال هو ابن البواب الذي هو أشهر من أن يعرف. وفيها توفي جلال الدين الحسن وهو من أولاد الحسن بن الصباح الذي تقدم ذكره صاحب الموت وكردكوه وهو مقدم الإسماعيلية وقد ذكرنا أنه كان قد اظهر شريعة الإسلام من الأذان والصلاة وولي بعده ابنه علاء الدين محمد.
405 619 ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة ذكر خروج طائفة من قفجاق إلى أذربيجان وما فعلوه بالكرج وما كان منهم لما استولى التتر على أرض قفجاق تفرق قفجاق فطائفة قصدت بلاد الروس وطائفة تفرقت في جبالهم واجتمع طائفة كثيرة منهم وساروا إلى دربند شروان وأرسلوا إلى صاحبه واسمه رشيد وقالوا له إن التتر قد ملكوا بلادنا ونهبوا أموالنا وقد قصدناك لنقيم في بلادك ونحن مماليك لك ونفتح البلاد لك و [تكون] أنت سلطاننا فمنعهم من ذلك وخافهم فأعادوا الرسالة إليه إننا نحن نرهن عندك أولادنا ونساءنا على الطاعة والخدمة لك والانقياد لحكمك فلم يجبهم إلى ما طلبوا فسألوه ان يمكنهم ليتزودوا من بلده تدخل عشرة عشرة فإذا اشتروا ما يحتاجون إليه فارقوا بلاده فأجابهم إلى ذلك فصاروا يدخلون متفرقين ويشترون ما يريدون ويخرجون. ثم إن بعض كبرائهم والمقدمين منهم جاء إلى رشيد وقال إنني كنت في خدمة السلطان خوارزمشاه وأنا مسلم والدين يحملني على نصحك اعلم ان قفجاق أعداؤك ويريدون الغدر بك فلا تمكنهم من المقام ببلادك،
406 فاعطني عسكرا حتى أقاتلهم وأخرجهم من البلاد ففعل ذلك وسلم اليه طائفة من عسكره وأعطاهم ما يحتاجون من سلاح وغيره فساروا معه فأوقعوا بطائفة من قفجاق فقتل منهم جماعة ونهب منهم فلم يتحرك قفجاق لقتال بل قالوا نحن مماليك الملك شروان شاه رشيد ولولا ذلك لقاتلنا عسكره فلما عاد ذلك المقدم القفجاقي ومعه عسكر رشيد سالمين فرح بهم. ثم ان قفجاق فارقوا موضعهم فساروا ثلاثة أيام فقال ذلك القفجاقي لرشيد أريد عسكرا اتبعهم فأمر له من العسكر بما أراد فسار يقفو أثر القفجاقي فأوقع بأواخرهم وغنم منهم. وقصده جمع كثير من قفجاق من الرجال والنساء يبكون وقد جزوا شعورهم ومعهم تابوت وهم محيطون به يبكون حوله وقالوا له إن صديقك فلانا قد مات وقد أوصى ان نحمله إليك فتدفنه [في] أي موضع شئت ونكون نحن عندك فحمله معه والذين يبكون عليه أيضا وعاد إلى شروان شاه رشيد وأعلمه أن الميت صديق له وقد حمله معه وقد طلب أهله ان يكونوا عنده في خدمته فأمر أن يدخلوا البلد وأنزلهم فيه. فكان أولئك الجماعة يسيرون مع ذلك المقدم ويركبون بركوبه ويصعدون معه إلى القلعة التي لرشيد ويقعدون عنده ويشربون معهم ونساؤهم فأحب رشيد امرأة ذلك الرجل الذي قيل له انه ميت ولم يكن مات وإنما فعلوا هكذا مكيدة حتى دخلوا البلد والذي أظهروا موته معهم في المجلس ولا يعرفه رشيد هو من أكبر مقدمي قفجاق فبقوا كذلك عدة أيام فكل يوم يجيء جماعة من قفجاق متفرقين فاجتمع بالقلعة منهم جماعة وأرادوا قبض رشيد وملك بلاده ففطن لذلك عن القلعة من باب السر وهرب ومضى إلى شروان وملك قفجاق القلعة وقالوا لأهل
407 البلد: نحن خير لكم من رشيد وأعادوا باقي أصحابهم إليهم وأخذوا السلاح الذي في البلد جميعه واستولوا على الأموال التي كانت لرشيد في القلعة ورحلوا عن القلعة وقصدوا قبلة وهي للكرج فنزلوا عليها وحصروها. فلما سمع رشيد بمفارقتهم القلعة رجع إليها وملكها وقتل من بها من قفجاق ولم يشعر القفجاق الذي عند قبلة بذلك فأرسلوا طائفة منهم إلى القلعة فقتلهم رشيد أيضا فبلغ الخبر إلى القفجاق فعادوا إلى دربند فلم يكن لهم في القلعة طمع. وكان صاحب قبلة لما كانوا يحصرونه قد أرسل [إليهم، وقال لهم أنا أرسل] إلى ملك الكرج حتى يرسل إليكم الخلع والأموال ونجتمع نحن وأنتم ونملك البلاد فكفوا عن نهب ولايته أياما ثم انهم مدوا أيديهم بالنهب والفساد ونهبوا بلاد قبلة جميعها وساروا إلى قريب كنجة من بلاد أران وهي للمسلمين فنزلوا هناك فأرسل إليهم الأمير بكنجة وهو مملوك لأوزبك صاحب أذربيجان اسمه كوشخرة عسكرا فمنعهم من الوصول إلى بلاده وسير رسولا إليهم يقول لهم غدرتم بصاحب شروان واخذتم قلعته وغدرتم بصاحب قبلة ونهبتم بلاده فما يثق بكم أحد فأجابوا أننا ما جئنا الا قصدا لخدمة سلطانكم فمنعنا شروان شاه عنكم فلهذا قصدنا بلاده وأخذنا قلعته ثم تركناها من غير خوف وأما صاحب قبلة فهو عدو لكم ولو أردنا أن نكون عند الكرج لما كنا جعلنا طريقنا على دربند شروان فإنه أصعب واشق وأبعد وكنا جئنا إلى بلادهم
408 على عادتنا ونحن نوجه الرهائن إليكم. فلما سمع هذا سار إليهم فسمع به قفجاق فركب أميران منهم هما مقدماهم في نفر يسير وجاؤوا اليه ولقوه وخدموه وقالوا له قد اتيناك جريدة في قلة من العدد لتعلم أننا ما قصدنا إلا الوفاء والخدمة لسلطانكم فأمرهم كوشخرة بالرحيل والنزول عند كنجة وتزوج ابنة أحدهم وأرسل إلى صاحبه أوزبك يعرفه حالهم فأمر لهم بالخلع والنزول بجبل كيلكون ففعلوا ذلك. وخافهم الكرج فجمعوا لهم ليكبسوهم فوصل الخبر بذلك إلى كوشخرة أمير كنجة فأخبر قفجاق وأمرهم بالعود والنزول عند كنجة فعادوا ونزلوا عندها وسار أمير من امراء قفجاق في جمع منهم إلى الكرج فكبسهم وقتل كثيرا منهم وهزمهم وغنم ما معهم وأكثر القتل فيهم والأسر منهم وتمت الهزيمة عليهم ورجع قفجاق إلى جبل كيلكون فنزلوا فيه كما كانوا. فلما نزلوا أراد الأمير الآخر من أمراء قفجاق أن يؤثر في الكرج مثل ما فعل صاحبه فسمع كوشخرة فأرسل إليه ينهاه عن الحركة إلى أن يكشف له خبر الكرج فلم يقف فسار إلى بلادهم في طائفته ونهب وخرب وأخذ الغنائم فسار الكرج من طريق يعرفونها وسبقوه فلما وصل إليهم قاتلوه وحملوا عليه وعلى من معه على غرة وغفلة فوضعوا السيف فيهم وأكثروا القتل فيهم واستنقذوا الغنائم منه فعاد هو ومن معه على أقبح حالة وقصدوا برذعة.
409 وأرسلوا إلى كوشخرة يطلبون ان يحضر عندهم هو بنفسه ليقصدوا الكرج فيأخذوا بثأرهم منهم فلم يفعل وأخافهم وقال أنتم خالفتموني وعملتم برأيكم فلا أنجدكم بفارس واحد فأرسلوا يطلبون الرهائن الذين لهم فلم يعطهم فاجتمعوا واخذوا كثيرا من المسلمين عوضا من الرهائن فثار بهم المسلمون من أهل البلاد وقاتلوهم فقتلوا منهم جماعة كثيرة فخافوا وساروا نحو شروان وجازوا إلى بلد اللكز فطمع الناس فيهم المسلمون والكرج واللكز وغيرهم فأفنوهم قتلا ونهبا وأسرا وسبيا بحيث ان المملوك منهم كان يباع في دربند شروان بالثمن البخس. ذكر نهب الكرج بيلقان في هذه السنة في شهر رمضان سار الكرج من بلادهم إلى بلاد أران وقصدوا مدينة بيلقان وكان التتر قد خربوها ونهبوها كما ذكرناه قبل فلما سار التتر إلى بلاد قفجاق عاد من سلم من أهلها إليها وعمروا ما أمكنهم عمارته من سورها. فبينما هم كذلك إذا اتاهم الكرج [ودخلوا البلد وملكوه وكان المسلمون في تلك البلاد ألفوا من الكرج] انهم إذا ظفروا ببلد صانعوه بشيء من المال فيعودون عنهم فكانوا أحسن الأعداء مقدرة فلما كان هذه الدفعة ظن المسلمون انهم يفعلون مثل ما تقدم فلم يبالغوا في الامتناع منهم،
410 ولا هربوا من بين أيديهم فلما ملك الكرج المدينة وضعوا السيف في أهلها وفعلوا من القتل والنهب ما فعل بهم التتر. هذا جميعه يجري وصاحب بلاد أذربيجان أوزبك بن البهلوان بمدينة تبريز ولا يتحرك في صلاح ولا يتجه لخير بل قد قنع بالأكل وادمان الشرب والفساد فقبحه الله ويسر للمسلمين من يقوم بنصرهم وحفظ بلادهم بمحمد وآله. ذكر ملك بدر الدين قلعة شوش في هذه السنة ملك بدر الدين صاحب الموصل قلعة شوش من اعمال الحميدية وبينها وبين الموصل اثنا عشر فرسخا. وسبب ذلك انها كانت هي وقلعة العقر متجاورتين لعماد الدين زنكي بن أرسلان شاه وكان بينهما من الخلف ما تقدم ذكره. فلما كان هذه السنة سار زنكي إلى آذربيجان ليخدم صاحبها أوزبك بن البهلوان فاتصل به وصار معه واقطعه إقطاعات وأقام عنده فسار بدر الدين إلى قلعة شوش فحاصرها وضيق عليها وهي على رأس جبل عال فطال مقامه عليها لحصانتها فعاد إلى الموصل وترك عسكره محاصرا
411 لها فلما طال الأمر على من بها ولم يروا من يرحله عنهم ولا من ينجدهم سلموها على قاعدة استقرت بينهم من اقطاع وخلع وغير ذلك فتسلمها نوابه في التاريخ ورتبوا أمورها وعادوا إلى الموصل. ذكر عدة حوادث في هذه السنة في العشرين من شعبان ظهر كوكب في السماء في الشرق كبير له ذؤابة طويلة غليظة وكان طلوعه وقت السحر فبقي كذلك عشرة أيام ثم انه ظهر أول الليل في الغرب مما يلي الشمال فكان كل ليلة يتقدم إلى جهة الجنوب نحو عشرة أذرع في رأي العين فلم يزل يقرب من الجنوب حتى صار غربا محضا ثم صار غربا مائلا إلى الجنوب بعد ان كان غربا مما يلي الشمال فبقي كذلك إلى آخر شهر رمضان من السنة ثم غاب. وفيها توفي ناصر الدين محمود بن محمد قزا أرسلان صاحب حصن كيفا وآمد وكان ظالما قبيح السيرة في رعيته قيل إنه كان يتظاهر بمذهب الفلاسفة في أن الأجساد لا تحشر كذبوا لعنهم الله ولما مات ملك ابنه الملك المسعود.
412 620 ثم دخلت سنة عشرين وستمائة ذكر ملك صاحب اليمن مكة، حرسها الله تعالى في هذه السنة سار الملك المسعود أتسز بن الملك الكامل محمد صاحب مصر إلى مكة وصاحبها حينئذ حسن بن قتادة بن إدريس العلوي الحسيني قد ملكها بعد أبيه كما ذكرنا. وكان حسن قد أساء إلى الأشراف والمماليك الذين كانوا لأبيه وقد تفرقوا عنه ولم يبق عنده غير أخواله من غيره فوصل صاحب اليمن إلى مكة ونهبها عسكره إلى العصر. فحدثني بعض المجاورين المتأهلين أنهم نهبوها حتى أخذوا الثياب عن الناس وأفقروهم وأمر صاحب اليمن أن ينبش قبر قتادة ويحرق فنبشوه فظهر التابوت الذي دفنه ابنه الحسن والناس ينظرون اليه فلم يروا فيه شيئا فعلموا حينئذ ان الحسن دفن أباه سرا وانه لم يجعل في التابوت شيئا وذاق الحسن عاقبة قطيعة الرحم وعجل الله مقابلته وأزال عنه ما قتل أباه وأخاه وعمه لأجله خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
413 ذكر حرب بين المسلمين والكرج بأرمينية في هذه السنة في شعبان سار صاحب قلعة سرماري [وهي] من أعمال [أرمينية إلى] خلاط لأنه كان في طاعة صاحب خلاط وهو حينئذ شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب فحضر عنده واستخلف ببلده أميرا من أمرائه فجمع هذا الأمير جمعا وسار إلى بلاد الكرج فنهب منها عدة قرى وعاد. فسمعت الكرج بذلك فجمع صاحب دوين واسمه شلوة وهو من أكابر امراء الكرج عسكره [وسار] إلى سرماري فحصرها أياما ونهب بلدها وسوادها ورجع. فسمع صاحب سرماري الخبر فعاد إلى سرماري فوصل إليها في اليوم الذي رحل الكرج عنها فأخذ عسكره وتبعهم فأوقع بساقنهم فقتل منهم وغنم واستنقذ ما أخذوا من غنائم بلاده. ثم إن صاحب دوين جمع عسكره وسار إلى سرماري ليحصرها فوصل الخبر إلى صاحبها بذلك فحصنها وجمع الذخائر وما يحتاج إليه فأتاه من اخبره ان الكرج نزلوا بواد بين دوين وسرماري وهو واد ضيق فسار بجميع عسكره جريدة وجد السير ليكبس الكرج فوصل إلى الوادي الذي هم فيه وقت السحر ففرق عسكره فرقتين فرقة من أعلى الوادي وفرقة من أسفله وحملوا عليهم وهم غافلون ووضعوا السيف فيهم،
414 فقتلوا وأسروا فكان في جملة الأسرى شلوة أمير دوين في جماعة كثيرة من مقدميهم ومن سلم من الكرج عاد إلى بلدهم على حال سيئة. ثم إن ملك الكرج ارسل إلى الملك الأشرف موسى بن العادل صاحب ديار الجزيرة وهو الذي أعطى خلاط وأعمالها الأمير شهاب الدين يقول له كنا نظن أننا على صلح والآن فقد عمل صاحب سرماري هذا العمل فإن كنا على الصلح فنريد إطلاق أصحابنا من الأسر وإن كان الصلح قد انفسخ بيننا فتعرفنا حتى ندبر أمرنا. فأرسل الأشرف إلى صاحب سرماري يأمره بإطلاق الأسرى وتجديد الصلح مع الكرج ففعل ذلك واستقرت قاعدة الصلاح وأطلق الأسرى. ذكر الحرب بين غياث الدين وبين خاله في هذه السنة في جمادي الآخرة انهزم إيغان طائيسي وهو خال غياث الدين بن خوارزمشاه محمد بن تكش وهذا غياث الدين هو صاحب بلاد الجبل والري وأصبهان وغير ذلك وله أيضا بلاد كرمان. وكان سبب ذلك ان خاله إيغان طائيسي كان معه وفي خدمته وهو أكبر أمير معه لا يصدر غياث الدين الا عن رأيه والحكم إليه في جميع المملكة فلما عظم شأنه حدث نفسه بالاستيلاء على الملك وحسن له ذلك غيره وأطعمه فيه، قيل إن الخليفة الناصر لدين الله اقطعه البلاد سرا وأمره بذلك،
415 فقويت نفسه على الخلاف فاستفسد جماعة من العسكر واستمالهم. فلما تم له أمره أظهر الخلاف على غياث الدين وخرج عن طاعته أوزبك وصار في البلاد يفسد ويقطع الطريق وينهب ما أمكنه من القرى وغيرها وانضاف إليه جمع كثير من أهل العنف والفساد ومعه مملوك آخر اسمه أيبك الشامي كانا متفقين على العصيان فقوي بهما وساروا جميعهم إلى غياث الدين ليقاتلوه ويملكوا بلاده ويخرجوه منها فجمع غياث الدين عسكره والتقوا بنواحي....... واقتتلوا فانهزم خال غياث الدين ومن معه وقتل من عسكره وأسر كثير وعاد المنهزمون إلى أذربيجان على أقبح حال وأقام غياث الدين في بلاده وثبت قدمه. حادثة غريبة لم يوجد مثلها كان أهل مملكة الكرج لم يبق منهم غير امرأة وقد انتهى الملك إليها فوليته وقامت بالأمر فيهم وحكمت فطلبوا لها رجلا يتزوجها ويقوم بالملك نيابة عنها ويكون من أهل بيت مملكة فلم يكن فيها من يصلح لهذا الأمر. وكان صاحب أرزن الروم هذا الوقت هو مغيث الدين طغرل شاه بن
416 قلج أرسلان بن مسعود قلج أرسلان، وبيته مشهور من أكابر ملوك الاسلام وهم من الملوك السلجوقية وله ولد كبير فأرسل إلى الكرج يطلب الملكة لولده ليتزوجها فامتنعوا من إجابته وقالوا لا نفعل هذا لأننا لا يمكننا ان يملك أمرنا مسلم فقال لهم إن ابني يتنصر ويتزوجها فأجابوه إلى ذلك فأمر ابنه فتنصر ودان بالنصرانية وتزوج الملكة وانتقل فيها وأقام عند الكرج حاكما في بلادهم واستمر على النصرانية نعوذ بالله من الخذلان ونسأله ان يجعل خير اعمالنا آخرها وخير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاه. ثم كانت هذه الملكة الكرجية تهوى مملوكا لها فكان زوجها يسمع عنها القبائح ولا يمكنه الكلام لعجزه ثم إنه يوما دخل عليها فرآها نائمة مع مملوكها في فراش فأنكر ذلك وواجهها بالمنع منه فقالت إن رضيت بهذا وإلا فأنت أخبر فقال إنني لا ارضى بهذه فنقلته إلى بلد آخر ووكلت به من يمنعه من الحركة وحجرت عليه وأرسلت إلى بلد اللان وأحضرت رجلين كانا قد وصفا بحسن الصورة فتزوجت أحدهما فبقي معها يسيرا ثم إنها فارقته وأحضرت انسانا آخر من كنجة وهو مسلم فطلبت منه ان يتنصر ليتزوجها فلم يفعل فأرادت ان تتزوجه وهو مسلم فقام عليها جماعة الأمراء ومعهم إيواني وهو مقدم العساكر الكرجية فقالوا لها قد افتضحنا بين الملوك بما تفعلين ثم تريدين ان يتزوجك مسلم وهذا لا نمكن منه ابدا والأمر بينهم متردد والرجل الكنجي عندهم لم يجبهم إلى الدخول في النصرانية وهي تهواه.
417 ذكر حوادث عدة في هذه السنة كان الجراد في أكثر البلاد وأهلك كثيرا من الغلات والخضر بالعراق والجزيرة وديار بكر وكثير من الشام وغيرها. وفيها في رمضان توفي عبد الرحمن بن هبة الله بن عساكر الفقيه الشافعي الدمشقي بها وكان غزير العلم عالما بالمذهب كثير الصلاح والزهد والخير رحمه الله. وفيها تجمع العرب في خلق كثير على حجاج الشام وأرادوا قطع الطريق عليهم وأخذهم وكان الأمير على الحجاج شرف يعقوب من محمد وهو من أهل الموصل أقام بالشام وتقدم فيه فمنعهم بالرغبة والرهبة ثم صانعهم بمال وثياب وغير ذلك فأعطى الجميع من ماله ولم يأخذ من الحجاج الدرهم الفرد وفعل فعلا جميلا وكان عنده كثير من العلوم ويرجع إلى دين متين.
418 621 ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة ذكر عود طائفة من التتر إلى الري وهمذان وغيرهما أول هذه السنة وصل طائفة من التتر من عند ملكهم جنكزخان وهؤلاء غير الطائفة الغربية التي ذكرنا اخبارها قبل وصول هؤلاء الري وكان من سلم من أهلها قد عادوا إليها وعمروها [فلم يشعروا] بالتتر الا وقد وصلوا إليهم فلم يمتنعوا عنهم فوضعوا في أهلها السيف وقتلوهم كيف شاؤوا ونهبوا البلد وخربوه وساروا إلى ساوة ففعلوا بها كذلك ثم إلى قم وقاشان وكانتا قد سلمتا من التتر أولا فإنهم لم يقربوهما وألحقوهما بغيرهما من البلاد الخراب. ثم ساروا في البلاد يخربون ويقتلون وينهبون ثم قصدوا همذان وكان قد اجتمع بها كثير ممن سلم من أهلها فأبادوهم قتلا وأسرا ونهبا وخربوا البلد. وكانوا لما وصلوا إلى الري رأوا بها عسكرا كثيرا من الخوارزمية فكبسوهم وقتلوا منهم وانهزم الباقون إلى آذربيجان فنزلوا بأطرافها فلم يشعروا إلا والتتر أيضا قد كبسوهم ووضعوا السيف فيهم فولوا منهزمين، فوصل
419 طائفة منهم إلى تبريز، وأرسلوا إلى صاحبها أوزبك بن البهلوان يقولون إن كنت موافقنا فسلم إلينا من عندك من الخوارزمية وإلا فعرفنا أنك غير موافق لنا ولا في طاعتنا فعمد إلى من عنده من الخوارزمية فقتل بعضهم وأسر بعضهم وحمل الأسرى والرؤوس إلى التتر وانفذ معها من الأموال والثياب والدواب شيئا كثيرا فعادوا عن بلاده نحو خرسان فعلوا هذا وليسوا في كثرة كانوا نحو ثلاثة آلاف فارس وكان الخوارزمية الذين انهزموا منهم نحو ستة آلاف فارس وعسكر أوزبك أكثر من الجميع ومع هذا فلم يحدث نفسه ولا الخوارزمية بالامتناع منهم. نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين من يقوم بنصرتهم فقد دفعوا إلى امر عظيم من قتل النفوس ونهب الأموال واسترقاق الأولاد وسبي الحريم وقتلهن وتخريب البلاد. ذكر ملك غياث الدين بلاد فارس قد ذكرنا ان غياث الدين بن خوارزمشاه محمد كان بالري وله معها أصفهان وهمدان وما بينهما من البلاد وله أيضا بلاد كرمان فلما هلك أبوه كما ذكرناه وصل التتر إلى بلاده وامتنع بأصفهان وحصره التتر فيها فلم يقدروا عليها فلما فارق التتر بلاده وساروا إلى بلاد قفجاق عاد وملك البلاد وعمر ما أمكنه منها وأقام بها إلى أواخر سنة عشرين وستمائة وجرى له ما ذكرناه. ففي آخر سنة عشرين سار إلى بلاد فارس فلم يشعر صاحبها وهو
420 أتابك سعد بن دكلا إلا وقد وصل غياث الدين إلى أطراف بلاده فلم يتمكن من الامتناع فقصد قلعة إصطخر فاحتمى بها وسار غياث الدين إلى مدينة شيراز وهي كرسي مملكة فارس وأكبرها وأعظمها فملكها بغير تعب أول سنة احدى وعشرين وستمائة وبقي غياث الدين بها واستولى على أكثر البلاد ولم يبق بيد سعد الدين إلا الحصون المنيعة. فلما طال الأمر على سعد الدين صالح غياث الدين على أن يكون لسعد الدين من البلاد قسم اتفقوا عليه ولغياث الدين الباقي وأقام غياث الدين بشيراز وازداد إقامة وعزما على ذلك لما سمع أن التتر قد عادوا إلى الري والبلاد التي له وخربوها. ذكر عصيان شهاب الدين غازي على أخيه الملك الأشرف وأخذ خلاط منه كان الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب قد اقطع أخاه شهاب الدين غازي مدينة خلاط وجميع أعمال أرمينية وأضاف إليها ميافارقين وحاني وجبل جور ولم يقنع بذلك حتى جعله ولي عهده في البلاد التي له جميعها وحلف له جميع النواب والعساكر في البلاد. فلما سلم إليه أرمينية سار إليها كما ذكرناه وأقام بها إلى آخر سنة عشرين وستمائة فأظهر مغاضبة أخيه الملك الأشرف والتجني عليه والعصيان والخروج عن طاعته فراسله الأشرف يستميله ويعاتبه على ما فعل فلم يرعو ولا ترك ما هو عليه بل أصر على ذلك واتفق هو واخوه المعظم عيسى صاحب دمشق ومظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل،
421 على الخلاف للأشرف والاجتماع على محاربته وأظهروا ذلك. وعلم الأشرف فأرسل إلى أخيه الكامل بمصر يعرفه ذلك وكانا متفقين وطلب منه نجدة فجهز العساكر وأرسل إلى أخيه صاحب دمشق يقول له إن تحركت من بلدك سرت إليه وأخذته وكان قد سار نحو ديار الجزيرة للميعاد الذي بينهم فلما وصلت إليه رسالة أخيه وسمع بتجهيز العساكر عاد إلى دمشق. واما صاحب إربل فإنه جمع العساكر وسار إلى الموصل فكان منه ما نذكره إن شاء الله. وأما الأشرف فإنه لما اتفق عصيان أخيه جمع العساكر من الشام والجزيرة والموصل وسار إلى خلاط فلما قرب منها خافه اخوه غازي ولم يكن له قوة على ان يلقاه محاربا ففرق عسكره في البلاد ليحصنها وانتظر ان يسير صاحب أربل إلى ما يجاوره من الموصل وسنجار وان يسير أخوه صاحب دمشق إلى بلاد الأشرف عند الفرات الرقة وحران وغيرهما فيضطر الأشرف حينئذ إلى العود عن خلاط. فسار الأشرف إليه وقصد خلاط وكان أهلها يريدونه ويختارون دولته لحسن سيرته كانت فيهم وسوء سيرة غازي فلما حصرها سلمها أهلها إليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة وبقي غازي في القلعة ممتنعا فلما جنه الليل نزل إلى أخيه معتذرا ومتنصلا فعاتبه الأشرف وأبقى عليه ولم يعاقبه على فعله لكن اخذ البلاد منه وأبقى عليه ميافارقين.
422 ذكر حصار صاحب إربل الموصل قد ذكرنا اتفاق مظفر الدين كوكبري بن زين الدين على صاحب إربل وشهاب الدين غازي صاحب خلاط والمعظم عيسى صاحب دمشق على قصد بلاد الملك الأشرف فأما صاحب دمشق فإنه سار عنها مراحل يسيرة وعاد إليها لأن أخاه صاحب مصر أرسل إليه يتهدده ان سار عن دمشق أنه يقصدها ويحصرها فعاد. وأما غازي فإنه استحصر في خلاط وأخذت منه كما ذكرناه. وأما صاحب أربل فإنه جمع عسكره وسار إلى بلد الموصل وحصرها ونازلها يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة ظنا منه ان الملك الأشرف إذا سمع بنزوله عليها رحل عن خلاط ويخرج غازي في طلبه فتتخبط أحواله وتقوى نفس صاحب دمشق على المجيء إليهم فلما نازل الموصل كان صاحبها بدر الدين لؤلؤ قد أحكم أمورها من استخدام الجند على الأسوار وإظهار آلة الحصار وإخراج الذخائر. وإنما قوي طمع صاحب إربل على حصر الموصل لأن أكثر عسكرها كان قد سار إلى الملك الأشرف إلى خلاط وقد قل العساكر فيها وكان الغلاء شديدا في البلاد جميعها والسعر في الموصل كل ثلاث مكاكي بدينار فلهذا السبب أقدم على حصرها فلما نزل عليها أقام عشرة أيام ثم رحل عنها يم الجمعة لسبع بقين من جمادى الآخرة. وكان سبب رحيله انه رأى امتناع البلد عليه وكثرة من فيه وعندهم من الذخائر ما يكفيهم الزمان الكثير ووصل إليه خير الملك الأشرف انه ملك خلاط فانفسخ عليه كل ما كان يؤمله من صاحبها ومن دمشق، وبقي
423 وحده متلبسا بالأمر فلما وصلت الاخبار اليه بذلك سقط في يده ورأى انه قد أخطأ الصواب فرحل عائدا إلى بلده وأقام على [الزاب]؛ ومدة مقامه على الموصل لم يقاتلها إنما كان في بعض الأوقات يجيء بعض الترك الذين له يقاتلون البلد فيخرج إليهم بعض الفرسان وبعض الرجالة فيجري بينهم قتال ليس بالكثير ثم يتفرقون وترجع كل طائفة إلى صاحبها. ذكر عدة حوادث في هذه السنة أول آب جاء ببغداد مطر برعد وبرق وجرت المياه بباب البصرة والحربية وكذلك بالمحول بحيث أن الناس كانوا يخوضون في الماء والوحل بالمحول. وفيها سار صاحب المخزن إلى بعقوبا في ذي القعدة فعسف أهلها فنقل إليه عن انسان منها انه يسبه فأحضره وأمر بمعاقبته وقال له تسبني فقال له أنتم تسبون أبا بكر وعمر لأجل اخذهما فدك وهي عشر نخلات لفاطمة عليها السلام وأنتم تأخذون مني ألف نخلة ولا أتكلم؟ فعفا عنه. وفيها وقعت فتنة بواسط بين السنية والشيعة على جاري عادتهم. وفيها قلت الأمطار في البلاد، فلم يجبى منها شيء إلى شباط ثم إنها كانت تجيء في الأوقات المتفرقة مجيئا قريبا لا يحصل منه الري للزرع فجاءت الغلات قليلة ثم خرج عليها الجراد ولم يكن في الأرض من النبات ما يشتغل به عنها فأكلها إلا القليل وكان كثيرا خارجا عن الحد فغلت الأسعار في العراق والموصل وسائر ديار الجزيرة وديار بكر وغيرها وقلت الأقوات إلا ان أكثر الغلاء كان بالموصل وديار الجزيرة.
424 622 ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة ذكر حصر الكرج مدينة كنجة في هذه السنة سارت الكرج في جموعها إلى مدينة كنجة من بلاد أران قصدا لحصرها وامتدوا لها بما أمكنهم من القوة لأن أهل كنجة كثير عددهم قوية شوكتهم وعندهم شجاعة كبيرة من طول ممارستهم للحرب مع الكرج فلما وصلوا إليها وقاربوا قاتلوا أهلها عدة أيام من وراء السور ولم يظهر من أهلها أحد ثم في بعض الأيام خرج أخل كنجة ومن عندهم من العسكر من البلد وقاتلوا الكرج بظاهر البلد أشد قتال وأعظمه فلما رأى الكرج ذلك علموا انهم لا طاقة لهم بالبلد فرحلوا بعد ان أثخن أهل كنجة فيهم: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا). ذكر وصول جلال الدين بن خوارزمشاه إلى خوزستان والعراق في أول هذه السنة وصل جلال الدين بن خوارزمشاه محمد بن تكش إلى بلاد خوزستان والعراق وكان مجيئه من بلاد الهند لأنه كان وصل إليها
425 لما قصد التتر غزنة وقد ذكرنا ذلك فلما تعذر عليه المقام ببلاد الهند سار عنها على كرمان ووصل إلى أصفهان وهي بيد أخيه غياث الدين وقد تقدمت اخباره فملكها وسار عنها إلى بلاد فارس وكان اخوه قد استولى على بعضها، كما ذكرناه، فأعاد ما كان اخوه اخذه منها إلى أتابك سعد صاحبها وصالحه وسار من عنده إلى خوزستان فحصر مدينة تستر في المحرم وبها الأمير مظفر الدين المعروف بوجه السبع مملوك الخليفة الناصر لدين الله حافظا لها وأميرا عليها فحصره جلال الدين وضيق عليه فحفظها وجه السبع وبالغ في الحفظ والاحتياط وتفرق الخوارزمية ينهبون حتى وصلوا إلى بادرايا وباكسايا وغيرهما وانحدر بعضهم إلى ناحية البصرة فنهبوا هنالك فسار إليهم شحنة البصرة وهو الأمير ملتكين فأوقع بهم وقتل منهم جماعة فدام الحصار نحو شهرين ثم رحل عنها بغتة. وكانت عساكر الخليفة مع مملوكه جمال الدين قشتمر بالقرب منه فلما رحل جلال الدين لم يقدر العسكر على منعه فسار إلى ان وصل إلى يعقوبا وهي قرية مشهورة بطريق خراسان بينها وبين بغداد نحو سبعة فراسخ فلما وصل الخبر إلى بغداد تجهزوا للحصار وأصلحوا السلاح من الجروخ والقسي والنشاب والنفط وغير ذلك وعاد عسكر الخليفة إلى بغداد. واما عسكر جلال الدين فنهب البلاد وأهلها وكان قد وصل هو وعسكره إلى خوزستان في ضر شديد وجهد جهيد وقلة من الدواب والذي معهم فهو من الضعف إلى حد لا ينتفع به فغنموا من البلاد جميعها، واستغنوا،
426 وأكثروا من اخذ الخيل والبغال فإنهم كانوا في غاية الحاجة إليها. وسار من يعقوبا إلى دقوقا فحصرها فصعد أهلها إلى السور وقاتلوه وسبوه وأكثروا من التكبير فعظم ذلك عنده وشق عليه وجد في قتالهم ففتحها عنوة وقهرا ونهبتها عساكره وقتلوا كثيرا من أهلها فهرب من سلم منهم من القتل وتفرقوا في البلاد. ولما كان الخوارزميون على دقوقا سارت سرية منهم إلى البت والراذان فهرب أهلها إلى تكريت فتبعهم الخوارزميون فجرى بينهم وبين عسكر تكريت وقعة شديدة فعادوا إلى العسكر. ولقد رأيت بعض أعيان أهل دقوقا وهم بنو يعلى وهم أغنياء فنهبوا وسلم أحدهم ومعه ولدان له وشئ يسير من المال فسير ما سلم معه إلى الشام مع الولدين ليتجر بما ينتفعون به وينفقونه على نفوسهم فمات أحد الولدين بدمشق واحتاط الحاكم على ما معهم فلقد رأيت أباهم على حالة شديدة لا يعلمها الا الله يقول اخذت الأملاك وقتل بعض الأهل وفارقنا من سلم منهم والوطن بهذا القدر الحقير أردنا [أن] نكف به وجوهنا من السؤال ونصون أنفسنا فقد ذهب الولد والمال. ثم سار إلى دمشق ليأخذ ما سلم مع ابنه الآخر فأخذه وعاد إلى الموصل فلم يبق غير شهر حتى توفي؛ ان الشقي بكل حبل يخنق. وأما جلال الدين فإنه لما فعل بأهل دقوقا ما فعل خافه أهل البوازيج وهي لصاحب الموصل فأرسلوا اليه يطلبون منه ارسال شحنة إليهم يحميهم وبذلوا له شيئا من المال فأجابهم إلى ذلك وسير إليهم من يحميهم قيل كان بعض أولاد جنكزخان، ملك التتر أسره جلال الدين في بعض حروبه
427 مع التتر فأكرمه فحماهم وأقام بمكانه إلى أواخر ربيع الآخر والرسل مترددة بينه وبين مظفر الدين صاحب إربل فاصطلحوا فسار جلال الدين إلى آذربيجان وفي مدة مقام جلال الدين بخوزستان والعراق ثارت العرب في البلاد يقطعون الطريق وينهبون القرى ويخيفون السبيل فنال الخلق منهم أذى شديد وأخذوا في طريق العراق قفلين عظيمين كانا سائرين إلى الموصل فلم يسلم منهم شيء البتة ز ذكر وفاة الملك الأفضل وغيره من الملوك في هذه السنة في صفر توفي الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب فجأة بقلعة سميساط وكان عمره نحو سبع وخمسين سنة وقد ذكرنا سنة تسع وثمانين وخمسمائة عند وفاة والده رحمه الله ملكه مدينة دمشق والبيت المقدس وغيرهما من الشام وذكرنا سنة اثنتين وتسعين اخذ الجميع منه وانتقل إلى سميساط وأقام بها ولم يزل بها إلى الان فتوفي بها. وكان، رحمه الله، من محاسن الزمان لم يكن في الملوك مثله كان خيرا عادلا فاضلا حليما كريما قل أن عاقب على ذنب ولم يمنع طالبا وكان يكتب خطا حسنا وكتابة جيدة وبالجملة فاجتمع فيه من الفضائل
428 والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك لا جرم حرم الملك والدنيا وعاداه الدهر ومات بموته كل خلق جميل وفعل حميد فرحمه الله ورضي عنه. ورأيت من كتابته أشياء حسنة فمما بقي على خاطري منها أنه كتب إلى أصحابه لما أخذت دمشق منه كتابا من فصوله وأما أصحابنا بدمشق فلا علم لي بأحد منهم وسبب ذلك أني: (أي صديق سألت عنه ففي الذل * وتحت الخمول في الوطن) (وأي ضد سألت حالته * سمعت مالا تحبه أذني) فتركت السؤال عنهم وهذا غاية الجودة في الاعتذار عن ترك السؤال والصاحب. ولما مات اختلف أولاده وعمهم قطب الدين موسى ولم يقو أحد منهم على الباقين ليستبد بالأمر. ومات في هذه السنة صاحب أرزن الروم وهو مغيث الدين طغرل بن قلج أرسلان وهو الذي سير ولده إلى الكرج وتنصر وتزوج ملكة الكرج ولما مات ملك بعده ابنه. ومات فيها ملك أرزنكان. وتوفي فيها عز الدين الخضر بن إبراهيم بن أبي بكر بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان صاحب خرت برت وملك بعده ابنه نور الدين أرتق شاه، وكان المدبر لدولته ودولة والده معين الدين عبد الرحمن البغدادي الأصل الموصلي المنشإ.
429 ذكر خلع شروان شاه وظفر المسلمين بالكرج في هذه السنة ثار على شروان شاه ولده فنزعه من الملك وأخرجه من البلاد وملك بعده. وسبب ذلك أن شروان شاه كان سئ السيرة كثير الفساد والظلم يتعرض إلى أموال الرعايا وأملاكهم وقيل أيضا إنه كان يتعرض إلى النساء والولدان فاشتدت وطأته على الناس فاتفق بعض العسكر مع ولده وأخرجوا أباه من البلاد وملك الابن وأحسن السيرة فأحبه العساكر والرعية وأرسل الولد إلى أبيه يقول له إني أردت أن أتركك في بعض القلاع وأجري لك الجرايات الكثيرة ولكل من تحب أن يكون عندك والذي حملني على ما فعلت معك سوء سيرتك وظلمك لأهل البلاد وكراهيتهم لك ولدولتك. فلما رأى الأب ذلك سار إلى الكرج واستنصر بهم وقرر معهم أن يرسلوا معه عسكرا يعيدونه إلى ملكه ويعطيهم نصف البلاد فسيروا معه عسكرا كثيرا فسار حتى قارب مدينة شروان فجمع ولده العسكر وأعلمهم الحال وقال إن الكرج متى حصرونا ربما ظفروا بنا وحينئذ لا يبقي أبي على أحد منا ويأخذ الكرج نصف البلاد وربما أخذوا الجميع وهذا أمر عظيم إننا نسير إليهم جريدة ونلقاهم فإن ظفرنا بهم فالحمد لله وإن ظفروا بنا فالحصر بين أيدينا فأجابوه إلى ذلك. فخرج في عسكره وهم قليل نحو الف فارس ولقوا الكرج وهم في ثلاثة آلاف مقاتل فالتقوا واقتتلوا وصبر أهل شروان فانهزم الكرج فقتل كثير منهم وأسر كثير ومن سلم عاد بأسوأ حال وشروان شاه
430 المخلوع معهم فقال له مقدمو الكرج إننا لم نلق بسببك خيرا ولا نؤاخذك بما كان منك فلا تقم ببلادنا ففارقهم وبقي مترددا لا يأوي إلى أحد واستقر ولده في الملك وأحسن إلى الجند والرعية وأعاد إلى الناس أملاكهم ومصادراتهم فاغتبطوا بولايته. ذكر ظفر المسلمين بالكرج أيضا وفي هذه السنة أيضا سار جمع من الكرج من تفليس يقصدون أذربيجان والبلاد التي بيد أوزبك فنزلوا وراء مضيق في الجبال لا يسلك إلا للفارس معه الفرس فنزلوا آمنين من المسلمين استضعافا لهم واغترار بحصانة موضعهم وأنه لا طريق إليهم. وركب طائفة من العساكر الإسلامية وقصدوا الكرج فوصل إلى ذلك المضيق فجازوه مخاطرين فلم يشعر الكرج إلا وقد غشيهم المسلمون ووضعوا فيهم السيف فقتلوهم كيف شاؤوا وولى الباقون منهزمين لا يلوي والد على ولده ولا أخ على أخيه وأسر منهم جمع كثير صالح فعظم الأمر عليهم وعزموا على الأخذ بثارهم والجد في قصد أذربيجان واستئصال المسلمين منه وأخذوا يتجهزون على قدر عزمهم. فبينما هم في ذلك إذ وصل إليهم الخبر بوصول جلال الدين بن خوارزمشاه إلى مراغة على ما نذكره إن شاء الله فتركوا ذلك وأرسلوا إلى أوزبك صاحب أذربيجان يدعونه إلى الموافقة على رد جلال الدين وخوفوه منه إن لم نتفق نحن وأنت وإلا أخذك ثم أخذنا فعاجلهم جلال الدين قبل اتفاقهم واجتماعهم فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
431 ذكر ملك جلال الدين أذربيجان في هذه السنة استولى جلال الدين على أذربيجان وسبب ذلك انه لما سار من دقوقا كما ذكرناه قصد مراغة فملكها وأقام بها وشرع في عمارة البلد فاستحسنه فلما وصل إليها أتاه الخبر أن الأمير إيغان طائيسي وهو خال أخيه غياث الدين قد قصد همذان قبل وصول جلال الدين بيومين. وكان إيغان طائيسي هذا قد جمع عسكرا يتجاوز خمسين الف فارس ونهب كثيرا من أذربيجان وسار إلى البحر من بلد أران فشتى هنالك لقلة البرد ولما عاد إلى همذان نهب أذربيجان أيضا مرة ثانية. وكان سبب مسيره إلى همذان أن الخليفة الناصر لدين الله راسله وأمره بقصد همذان وأقطعه إياها وغيرها فسار ليستولي عليها كما أمر فلما سمع جلال الدين بذلك سار جريدة إليه فوصل إلى إيغان طائيسي ليلا وكان إذا نزل جعل حول عسكره جميع ما غنموا من أذربيجان وأران من خيل وبغال وحمير وبقر وغنم فلما وصل جلال الدين أحاط بالجميع فلما أصبح عسكر إيغان طائيسي ورأى العسكر والجتر الذي يكون على رأس السلطان علموا أنه جلال الدين فسقط في أيديهم لأنهم كانوا يظنونه عند دقوقا فأرسل إيغان طائيسي زوجته وهي أخت جلال الدين تطلب له الأمان فأمنه وأحضره عنده وانضاف عسكره إلى جلال الدين وبقي إيغان طائيسي وحده إلى ان أضاف إليه جلال الدين عسكرا وعاد إلى مراغة وأعجبه المقام بها. وكان أوزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان وأران قد سار من تبريز
432 إلى كنجة خوفا من جلال الدين وأرسل جلال الدين إلى من في تبريز من وال وأمير ورئيس يطلب منهم أن يتردد عسكره إليهم يمتارون فأجابوه إلى ذلك وأطاعوه فتردد العسكر إليها وباعوا واشتروا الأقوات والكسوات وغيرها ومدوا أيديهم إلى أموال الناس فكان أحدهم يأخذ الشيء ويعطي الثمن ما يريد فشكا بعض أهل تبريز إلى جلال الدين منهم فأرسل إليهم شحنة يكون عندهم وأمر أن يقيم بتبريز ويكف أيدي الجند عن أهلها ومن تعدى على أحد منهم صلبه. فأقام الشحنة ومنع الجند من التعدي على أحد من الناس وكانت زوجة أوزبك وهي ابنة السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه مقيمة بتبريز وهي كانت الحاكمة في بلاد زوجها وهو مشغول بلذاته من أكل وشرب ولعب. ثم إن أهل تبريز شكوا من الشحنة وقالوا انه يكلفنا أكثر من طاقتنا فأمر جلال الدين أنه لا يعطي إلا ما يقيم به لا غير ففعلوا ذلك وسار جلال الدين إلى تبريز وحصرها خمسة أيام وقاتل أهلها قتالا شديدا وزحف إليها فوصل العسكر إلى السور فأذعن أهلها بالطاعة وأرسلوا يطلبون الأمان منه لأنه كان يذمهم ويقول قتلوا أصحابنا المسلمين وأرسلوا رؤوسهم إلى التتر الكفار وقد تقدمت الحادثة سنة إحدى وعشرين وستمائة فخافوا منه لذلك فلما طلبوا الأمان ذكر لهم فعلهم بأصحاب أبيه وقتلهم فاعتذروا بأنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، وإنما فعله صاحبهم ولم يكن لهم من القدرة ما يمنعونه فعذرهم وأمنهم وطلبوا منه أن يؤمن زوجة أوزبك ولا يعارضها في الذي لها بأذربيجان ومدينة خوى وغيرها من ملك ومال وغيره فأجابهم إلى ذلك. وملك البلد سابع عشر رجب من هذه السنة وسير زوجة أوزبك إلى
433 خوى ومعها طائفة من العسكر من رجل كبير القدر عظيم المنزلة وأمرهم بخدمتها فإذا وصلت إلى خوى من العسكر من رجل كبير القدر عظيم المنزلة وأمرهم بخدمتها فإذا وصلت إلى خوى عادوا عنها. ولما رحل جلال الدين إلى تبريز امر ان لا يمنعوا عنه أحدا من أهلها فأتاه الناس مسلمين عليه فلم يحجبوا عنه وأحسن إليهم وبث فيهم العدل ووعدهم الإحسان والزيادة منه وقال لهم قد رأيتهم ما فعلت بمراغة من الإحسان والعمارة بعد أن كانت خرابا وسترون كيف أصنع معكم من العدل فيكم وعمارة بلادكم. وأقام إلى يوم الجمعة فحضر الجامع فلما خطب الخطيب ودعا للخليفة قام قائما ولم يزل كذلك حتى فرغ من الدعاء وجلس. ودخل إلى كشك كان أوزبك قد عمره وأخرج عليه من الأموال كثيرا، فهو في غاية الحسن، مشرف على البساتين، فلما طاف فيه خرج منه وقال وهذا مسكن الكسالى لا يصلح لنا وأقام أياما استولى فيها على غيرها من البلاد وسير الجيوش إلى بلاد الكرج. ذكر انهزام الكرج من جلال الدين قد ذكرنا فيما تقدم من السنين ما كان يفعلونه في بلاد الإسلام خلاط وأعمالها وأذربيجان وأران وأرزن الروم ودربند شروان وهذه ولايات تجاور بلادهم وما كانوا يسفكون من دماء المسلمين وينهبون من أموالهم ويملكون من بلادهم والمسلمون معهم في هذه البلاد تحت الذل والخزي كل يوم قد أغاروا وفتكوا فيهم وقاطعوهم على ما شاؤوا
434 من الأموال فكنا كلما سمعنا بشيء من ذلك سألنا الله تعالى نحن والمسلمون في أن ييسر للإسلام والمسلمين من يحميهم وينصرهم ويأخذ بثارهم فإن أوزبك صاحب أذربيجان منعكف على شهوة بطنه وفرجه لا يفيق من سكره وإن هو أفاق فهو مشغول بالقمار بالبيض. وهذا ما لم يسمع أن أحدا من الملوك فعله لا يهتدي لمصلحة ولا يغضب لنفسه بحيث ان بلاده مأخوذة وعساكره طماعة ورعيته قد قهرها وقد كان كل من أراد أن يجمع جمعا ويتغلب على بعض البلاد فعل كما ذكرناه من حال بغدي وأبيك الشامي وإيغان طائيسي فنظر الله تعالى إلى أهل هذه البلاد المساكين بعين الرحمة فرحمهم ويسر لهم جلال الدين هذا ففعل بالكرج ما تراه وانتقم للإسلام والمسلمين منهم فنقول: في هذه السنة كان المصاف بين جلال الدين شاه [وبين الكرج في شهر شعبان فإن جلال الدين] من حين قصد إلى هذه النواحي لا يزال يقول إنني أريد [أن] أقصد بلاد الكرج وأقاتلهم وأملك بلادهم فلما ملك أذربيجان أرسل إليهم يؤذنهم فأجابوه بأننا قد قصدنا التتر الذين فعلوا بأبيك وهو أعظم منك ملكا وأكثر عسكرا وأقوى نفسا ما تعلمه وأخذوا بلادكم فلم نبال بهم وكان قصاراهم السلامة منا. وشرعوا يجمعون العساكر فجمعوا ما يزيد على سبعين ألف مقاتل فسار إليهم فملك مدينة دوين وهي للكرج كانوا قد أخذوها من المسلمين كما ذكرناه وسار منها إليهم فلقوه وقاتلوه أشد قتال وأعظمه وصبر كل منهم لصاحبه فانهزم الكرج وأمر ان يقتلوا بكل طريق ولا يبقوا على أحد منهم فالذي تحققنا انه قتل منهم عشرون ألفا وقيل أكثر من ذلك فقيل الكرج جميعهم قتلوا وافترقوا وأسر كثير من أعيانهم من جملتهم شلوة فتمت الهزيمة عليهم ومضى إيواني منهزما وهو المقدم
435 على الكرج جميعهم ومرجعهم إليه ومعولهم عليه وليس لهم ملك إنما الملك امرأة ولقد صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. فلما انهزم إيواني أدركه الطلب فصعد قلعة لهم على طريقهم فاحتمى فيها وجعل جلال الدين عليها من يحصرها ويمنعه من النزول وفرق عساكره في بلاد الكرج ينهبون ويقتلون ويسبون ويخربون البلاد فلولا ما أتاه من تبريز مما أوجب عوده لملك البلاد بغير تعب ولا مشقة لأن أهلها كانوا قد هلكوا فهم بين قتيل وأسير وطريد. ذكر عود جلال الدين إلى تبريز وملكه مدينة كنجة ونكاحه زوجة أوزبك لما فرغ جلال الدين من هزيمة الكرج ودخل البلاد وبث العساكر فيها أمرهم بالمقام بها مع أخيه غياث الدين وعاد إلى تبريز. وسبب عوده انه كان قد خلف وزيره شرف الدين في تبريز ليحفظ البلد وينظر في مصالح الرعية فبلغه عن رئيس تبريز وشمس الدين الطغرائي وهو المقدم على كل من في البلد وعن غيرهما من المقدمين انهم قد اجتمعوا وتحالفوا على الامتناع على جلال الدين وإعادة البلد إلى أوزبك وقالوا إن جلال الدين قد قصد بلاد الكرج فلا يقدر على المقام ويجتمع أوزبك والكرج ويقصدونه فينحل نظام امره وتتم عليه الهزيمة.
436 فبنوا أمرهم على ان جلال الدين يسير الهوينا إلى بلاد الكرج ويتريث في الطريق احتياطا منهم فلما اتفقوا على ذلك أتى الخبر إلى الوزير فأرسل إلى جلال الدين يعرفه الحال فأتاه الخبر وقد قارب بلاد الكرج فلم يظهر من ذلك شيئا وسار نحو الكرج مجدا فلقيهم وهزمهم فلما فرغ منهم قال لأمراء عسكره إنني قد بلغني من الخبر كذا وكذا فتقيمون أنتم في البلاد على ما أنتم عليه من قتل من ظفرتم به وتخريب ما أمكنكم من بلادهم فإنني خفت ان أعرفكم قبل هزيمة الكرج لئلا يلحقكم وهن وخوف. فأقاموا على حالهم وعاد هو إلى تبريز وقبض على الرئيس والطغرائي وغيرهما فأما الرئيس فأمر أن يطاف به على أهل البلد وكل من له عليه مظلمة فليأخذها منه وكان ظالما ففرح الناس بذلك ثم قتله وأما الباقون فحبسوا فلما فرغ منهم واستقام له أمر البلد تزوج زوجة أوزبك ابنة السلطان طغرل وإنما صح له نكاحها لأنه ثبت عن أوزبك انه حلف بطلاقها انه لا يقتل مملوكا له اسمه...... ثم قتله فلما وقع الطلاق بهذا اليمين نكحها جلال الدين وأقام بتبريز مدة وسير منها جيشا إلى مدينة كنجة فملكوها وفارقها أوزبك إلى قلعة كنجة فتحصن فيها. فبلغني ان عساكر جلال الدين تعرضوا إلى اعمال هذه القلعة بالنهب والأخذ فأرسل أوزبك إلى جلال الدين يشكو ويقول كنت لا ارضى بهذه الحال لبغض أصحابي فأنا أسأل ان نكف الأيدي المتطرقة إلى هذه الأعمال عنها فأرسل جلال الدين إليها من يحميها من التعرض لها من أصحابه وغيرهم.
437 ذكر وفاة الخليفة الناصر لدين الله في هذه السنة آخر ليلة من شهر رمضان توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس احمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي العباس محمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله أبي العباس احمد بن اسحق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس احمد بن الموفق أبي احمد محمد بن جعفر المتوكل على الله، ولم يكن الموفق خليفة وإنما كان ولي عهد أخيه المعتمد على الله فمات قبل المعتمد فصار ولده المعتضد بالله ولي عهد المعتمد على الله. وكان المتوكل على الله بن المعتصم بالله أبي اسحق بن هارون الرشيد محمد المهدي بن أبي جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله أبي جعفر بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم: (نسب كأن عليه من شمس الضحى * نورا ومن فلق الصباح عمودا) فكان في آبائه أربعة عشر خليفة وهم كل من له لقب والباقون غير خلفاء وكان فيهم من ولي العهد محمد بن القائم والموفق بن المتوكل وأما باقي الخلفاء من بني العباس فلم يكونوا من آبائه فكان السفاح أبو العباس عبد الله أخا المنصور ولي قبله وكان موسى أخا الرشيد ولي قبله وكان محمد الأمين وعبد الله المأمون ابنا الرشيد أخوي المعتصم وليا قبله وكان محمد المنتصر بن المتوكل ولي بعده. ثم ولي بعد المنتصر بالله المستعين بالله أبو العباس احمد بن محمد بن المعتصم،
438 وولي بعد المستعين المعتز بالله محمد وقيل طلحة وهو ابن المتوكل وولي بعد المعتز المهتدي بالله محمد بن الواثق ثم ولي بعده المعتمد على الله احمد بن المتوكل فالمنتصر والمعتز والمعتمد أخوه الموفق والمهتدي ابن عمه والموفق من أجداد الناصر لدين الله. ثم ولي المعتضد بعد المعتمد وولي بعد المعتضد ابنه أبو محمد علي المكتفي بالله وهو أخو المقتدر بالله وولي بعد المقتدر اخوه القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد وولي بعد القاهر الراضي بالله أبو العباس محمد بن المقتدر. ثم ولي بعده المقتفي لله أبو اسحق إبراهيم بن المقتدر ثم ولي بعده المكتفي بالله أبو القاسم عبد الله [بن] المكتفي بالله علي بن المعتضد ثم ولي بعده المطيع لله أبو بكر عبد الكريم فالقاهر أخو المقتدر والراضي والمقتفي والمطيع بنوه والمستكفي ابن أخيه المكتفي. [ثم ولي] بعد الطائع القادر بالله و [هو] من أجداد الناصر لدين الله ثم ولي بعد المستظهر بالله؛ [ثم ولي بعده ابنه المسترشد بالله أبو منصور وولي بعد المسترشد بالله] ابنه الراشد أبو جعفر فالمسترشد أخو المقتفي والراشد ابن أخيه فجميع من ولي الخلافة ممن ليس في سياق نسب الناصر تسعة عشر خليفة. وكانت أم الناصر أو ولد تركية اسمها زمرد وكانت خلافته ستا وأربعين سنة وعشرة اشهر وثمانية وعشرين يوما وكان عمره نحو سبعين سنة تقريبا فلم يل الخلافة أطول مدة منه إلا ما قيل عن المستنصر بالله العلوي صاحب مصر فإنه ولي ستين سنة ولا اعتبار به فإنه ولي له سبع سنين فلا تصح ولايته.
439 وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلا عن الحركة بالكلية وقد ذهبت احدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصارا ضعيفا وفي آخر الأمر أصلبه دوسنطاريا عشرين يوما ومات. ووزر له عدة وزراء وقد تقدم ذكرهم، ولم يطلق في طول مرضه شيئا كان أحدثه من الرسوم الجائرة وكان قبيح السيرة في رعيته ظالما فخرب في أيامه العراق وتفرق أهله في البلاد وأخذ املاكهم وأموالهم وكان يفعل الشيء وضده فمن ذلك انه عمل دور الضيافة ببغداد ليفطر الناس عليها في رمضان فبقيت مدة ثم قطع ذلك ثم عمل دور الضيافة للحجاج فبقيت مدة ثم بطلها وأطلق بعض المكوس التي جددها ببغداد خاصة ثم أعادها وجعل جل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة فبطل الفتوة في البلاد جميعها إلا من يلبس منه سراويل يدعى اليه ولبس كثير من الملوك منه سراويلات الفتوة. وكذلك أيضا منع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره ومنع الرمي بالبندق الا من ينتمي اليه فأجابه الناس بالعراق وغيره إلى ذلك إلا انسانا واحدا يقال له ابن السفت من بغداد فإنه هرب من العراق ولحق بالشام فأرسل إليه يرغبه في المال الجزيل ليرمي عنه وينسب في الرمي اليه فلم يفعل فبلغني ان بعض أصدقائه أنكر عليه الامتناع من اخذ المال فقال يكفيني فخرا انه ليس في الدنيا أحد إلا رمى للخليفة إلا انا. فكان غرام الخليفة بهذه الأشياء من أعجب الأمور وكان سبب ما ينسبه العجم اليه صحيحا من انه هو الذي أطمع التتر في البلاد وراسلهم في ذلك فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم.
440 ذكر خلافة الظاهر بأمر الله قد ذكرنا سنة خمس وثمانين وخمسمائة الخطبة للأمير أبي نصر محمد بن الخليفة الناصر لدين الله بولاية العهد في العراق وغيره من البلاد ثم بعد ذلك خلعه الخليفة من ولاية العهد وأرسل إلى البلاد في قطع الخطبة له وإنما فعل ذلك لأنه كان يميل إلى ولده الصغير علي فاتفق ان الولد الصغير توفي سنة اثنتي عشر وستمائة ولم يكن للخليفة ولد غير ولي العهد فاضطر إلى اعادته إلا انه تحت الاحتياط والحجر لا يتصرف في شيء. فلما توفي أبوه ولي الخلافة واحضر الناس لأخذ البيعة وتلقب بالظاهر بأمر الله وعنى أن أباه وجميع أصحابه أرادوا صرف الأمر عنه فظهر وولي الخلافة بأمر الله لا يسعى من أحد. ولما ولي الخلافة أظهر من العدل والاحسان ما أعاد به سنة العمرين فلو قيل إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقا فإنه أعاد من الأموال المغصوبة في أيام أبيه وقبله وشيئا كثيرا وأطلق المكوس في البلاد جميعها وأمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق وأن يسقط جميع ما جدده أبوه وكان كثيرا لا يحصى فمن ذلك أن قرية يعقوبا كان يحصل منها قديما نحو عشرة آلاف دينار فلما تولى الناصر لدين الله كان يؤخذ منها كل سنة ثمانون الف دينار فحضر أهلها واستغاثوا وذكروا أن املاكهم أخذت حتى صار يحصل منها هذا المبلغ فأمر أن يؤخذ الخراج الأول وهو عشرة آلاف دينار فقيل له ان هذا المبلغ يصل إلى المخزن فمن أين يكون العوض فأقام لهم العوض من جهات أخرى فإذا كان المطلق من جهة واحدة سبعين ألف دينار فما الظن بباقي البلاد ومن أفعاله الجميلة أنه أمر بأخذ الخراج الأول من باقي البلاد؟
441 جميعها فحضر كثير من أهل العراق وذكروا ان الاملاك التي كان يؤخذ منها الخراج قديما قد يبس أكثر أشجارها وخرجت ومتى طولبوا بالخراج الأول لا يفي دخل الباقي بالخراج فأمر أن لا يؤخذ الخراج إلا من كل شجرة سليمة وأما الذهب فلا يؤخذ منه شيء وهذا عظيم جدا. ومن ذلك أيضا ان المخزن كان له صنجة الذهب تزيد على صنجة البلد نصف قيراط يقبضون بها المال ويعطون بالصنجة التي للبلد يتعامل بها الناس فسمع بذلك فخرج خطه إلى الوزير وأوله: (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك انهم مبعوثون ليوم عظيم) وقد بلغنا أن الأمر كذا وكذا فتعاد صنجة المخزن إلى الصنجة التي يتعامل بها المسلمون واليهود والنصارى. فكتب بعض النواب اليه يقول إن هذا مبلغ كثير وقد حسبناه فكان في السنة الماضية خمسة وثلاثين ألف دينار فأعاد الجواب ينكر على القائل ويقول لو انه ثلاثمائة الف وخمسون الف دينار يطلق. وكذلك أيضا فعل في إطلاق زيادة الصنجة التي للديوان وهي في كل دينار حبة وتقدم إلى القاضي أن كل من عرض عليه كتابا صحيحا بملك يعيده إليه من غير إذن وأقام رجلا صالحا في ولاية الحشري وبيت المال وكان الرجل حنبليا فقال إنني من مذهبي أن أورث ذوي الأرحام فإن أذن أمير المؤمنين أن أفعل ذلك وليت وإلا فلا فقال له أعط كل ذي حق حقه واتق الله ولا تتق سواه.
442 ومنها ان العادة كانت ببغداد أن الحارس بكل درب يبكر ويكتب مطالعة إلى الخليفة بما تجدد في دربه من اجتماع بعض الأصدقاء ببعض على نزهة أو سماع أو غير ذلك ويكتب ما سوى ذلك من صغير وكبير فكان الناس من هذا في حجر عظيم فلما ولي هذا الخليفة جزاه الله خيرا أتته المطالعات على العادة فأمر بقطعها وقال أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتها فلا يكتب أحد الينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا فقيل له إن العامة تفسد بذلك ويعظم شرها فقال نحن ندعو الله في أن يصلحهم. ومنها انه لما ولي الخلافة وصل صاحب الديوان من واسط وكان قد سار إليها أيام الناصر لتحصيل الأموال فأصعد ومعه من المال ما يزيد على مائة الف دينار وكتب مطالعة تتضمن ذكر ما معه ويستخرج الأمر في حمله فأعاد الجواب بأن يعاد إلى أربابه فلا حاجة لنا إليه فأعيد عليهم. ومنها أنه أخرج كل من كان في السجون وأم بإعادة ما أخذ منهم وأرسل إلى القاضي عشرة آلاف دينار ليعطيها عن كل من هو محبوس في حبس الشرع وليس له مال. ومن حسن نيته للناس أن الأسعار في الموصل وديار الجزيرة كانت غالية فرخصت الأسعار وأطلق حمل الأطعمة إليها وأن يبيع كل من أراد البيع للغلة فحصل منها الكثير الذي لا يحصى فقيل له ان السعر قد غلا شيئا والمصلحة منع حمله فقال أولئك مسلمون وهؤلاء مسلمون وكما يجب علينا النظر في أمر هؤلاء كذلك يجب علينا النظر لأولئك. وأمر أن يباع من الأهراء التي له طعام أرخص مما يبيع غيره ففعلوا ذلك فرخصت الأسعار عندهم أيضا أكثر مما كانت أولا وكان السعر في الموصل لما ولي كل مكوك بدينار وثلثي قيراط فصار كل أربعة مكاكيك بدينار في أيام قليلة وكذلك باقي الأشياء من التمر والدبس،
443 والأرز والسمسم وغيرها فالله تعالى يؤيده وينصره ويبقيه فإنه غريب في هذا الزمان الفاسد. ولقد سمعت عنه كلمة أعجبتني جدا وهي أنه قيل له في الذي يخرجه ويطلقه من الأموال التي لا تسمح نفس ببعضها فقال لهم أنا فتحت الدكان بعد العصر فاتركوني أفعل الخير فكم أعيش وتصديق ليلة عيد الفطر من هذه السنة وفرق في العلماء وأهل الدين مائة ألف دينار. ذكر ملك بدر الدين قلعتي العمادية وهروز في هذه السنة ملك بدر الدين قلعة العمادية من أعمال الموصل، وقد تقدم ذكر عصيان أهلها عليه سنة خمس عشرة وستمائة وتسليمها إلى عماد الدين زنكي ثم عودهم إلى طاعة بدر الدين وخلافهم على عماد الدين فلما عادوا إلى بدر الدين أحسن إليهم وأعطاهم الاقطاع الكثير وملكهم القرى ووصلهم بالأموال الجزيلة والخلع السنية فبقوا كذلك مدة يسيرة. ثم شرعوا يراسلون عماد الدين زنكي ومظفر الدين صاحب أربل وشهاب الدين غازي بن العادل لما كان بخلاط ويعدون كلا منهم بالانحياز اليه والطاعة له وأظهروا من المخالفة لبدر الدين ما كانوا يبطنونه فكانوا يمكنون أن يقيم عندهم من أصحاب بدر الدين إلا من يريدونه ويمنعون من كرهوه فطال الأمر وهو يحتمل فعلهم ويداريهم وهم لا يزدادون إلا طمعا وخروجا عن الطاعة. وكانوا جماعة فاختلفوا فقوي بعضهم وهم أولاد خواجة إبراهيم وأخوه ومن معهم على الباقين فأخرجوهم عن القلعة وغلبوا عليها وأصروا
444 على ما كانوا عليه من النفاق. فلما كان هذه السنة سار بدر الدين إليهم في عساكره فأتاهم بغتة فحصرهم وضيق عليهم وقطع الميرة عنهم وأقام بنفسه عليهم وجعل قطعة من الجيش على قلعة هروز يحصرونها وهي من أمنع الحصون وأحصنها لا يوجد مثلها وكان أهلها أيضا قد سلكوا طريق أهل العمادية من عصيان وطاعة ومخادعة فأتاهم العسكر وحصروهم وهم في قلة من الذخيرة فحصروها أياما ففني ما في القلعة فأضطر أهلها إلى التسليم فسلموها ونزلوا منها. وعاد العسكر إلى العمادية فأقاموا عليها مع بدر الدين فبقي بدر الدين بعد أخذ هروز يسيرا وعاد إلى الموصل وترك العسكر بحالة مقيما عليهم مع نائبه أمين الدين لؤلؤ فبقي الحصار إلى أول ذي القعدة فأرسلوا يذعنون بالطاعة ويطلبون العوض عنها ليسلموها فاستقرت القواعد على العوض من قلعة يحتمون فيها وأقطاع ومال وغير ذلك فأجابهم بدر الدين. إلى ما طلبوا وحضر نوابهم ليحلفوا بدر الدين فبينما هو يريد أن يحلف لهم وقد احضر من يشهد اليمين إذ قد وصل طائر من العمادية وعلى جناحه وقعة من أمين الدين لؤلؤ يخبرانه قد ملك العمادية قهرا وعنوة وأسر بني خواجة الذين كانوا تغلبوا عليه فامتنع بدر الدين من اليمين. وأما سبب غلبة أمين الدين عليها فإنه كان قد ولاه بدر الدين عليها لما عاد أهلها إلى طاعته فبقي فيها مدة فأحسن إليهم وأحسن السيرة فيهم واستمال جماعة منهم ليتقوى بهم على الحزب الذين عصوا أولا فنمي الخبر البهم فأساؤوا مجاورته واستقالوا من ولايته عليهم ففارقهم إلى الموصل. وكان أولئك الذين استمالهم يكاتبونه ويراسلونه فلما حصرهم كانوا
445 أيضا يكاتبونه في النشاب يخبرونه بكل ما يفعله أولاد خواجة من انفاذ رسول وغير ذلك وبما عندهم من الذخائر إلا انهم لم يكونوا في الكثرة إلى انهم يقهرون أولئك. فلما كان الآن واستقرت القواعد من التسليم لم يذكر أولاد خواجة أحدا من جند القلعة في نسخة اليمين بمال ولا غيره من امام واقطاع فسخطوا هذه الحال وقالوا لهم قد حلفتم لأنفسكم بالحصون والقرى والمال ونحن قد خربت بيوتنا لأجلكم فلم تذكرونا فأهانوهم ولم يلتفتوا إليهم فحضر عند أمين الدين رجلان منهم ليلا وطلبوا منه أن يرسل إليهم جمعا يصعدونهم إلى القلعة ويثبتون بأولئك ويأخذونهم فامتنع وقال أخاف أن لا يتم هذا الأمر ويفسد علينا كل ما فعلناه فقالوا نحن نقبض عليهم غدا بكرة وتكون أنت والعسكر على ظهر فإذا سمعتم النداء باسم بدر الدين وشعاره تصعدون إلينا فأجابهم إلى ذلك. وركب بكرة هو والعسكر على العادة، وأما أولئك فإنهم اجتمعوا وقبضوا على أولاد خواجة ومن معهم ونادوا بشعار بدر الدين فبينما العسكر قيام إذا الصوت من القلعة باسم بدر الدين فصعدوا إليها وملكوها وتسلم امين الدين أولاد خواجة فحبسهم وكتب الرقعة على جناح الطائر بالحال وملكوا القلعة صفوا عفوا بغير عوض وكان يريد [أن] يغرم مالا جليلا وأقطاعا كثيرة وحصنا منيعا فتوفر الجميع عليه وأخذ منهم كل ما احتقبوه وادخروه وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له.
446 ذكر عدة حوادث في هذه السنة ليلة الأحد والعشرين من صفر زلزلت الأرض بالموصل وديار الجزيرة والعراق وغيرها زلزلة متوسطة. وفيها اشتد الغلاء بالموصل وديار الجزيرة جميعها فأكل الناس الميتة والكلاب والسنانير فقل الكلاب والسنانير بعد أن كانوا كثيرا ولقد دخلت يوما إلى داري فرأيت الجواري يقطعن اللحم ليطبخوه فرأيت سنانير استكثرتها فعددتها فكانت اثني عشر سنورا ورأيت اللحم في هذه الغلاء في الدار وليس عنده من يحفظه من السنانير لعدمها وليس بين المرتين كثير وغلا مع الطعام كل شيء فبيع الرطل الشيرج بقيراطين بعد ان كان بنصف قيراط قبل الغلاء وأما قبل ذلك فكان كل ستين رطلا بدينار. ومن العجب ان السلق والجزر والسلجم بيع كل خمسة أرطال بدرهم وبيع البنفسج كل ستة أرطال بدرهم وبيع في بعض الأوقات كل سبعة أرطال بدرهم وهذا ما لم يسمع بمثله ولقد رأينا ما لم نر ولا سمعنا بمثله فإن الدينار ما زالت قديما وحديثا إذا غلت الأسعار متى جاء المطر رخصت إلا هذه السنة فإن الأمطار ما زالت متتابعة من أول الشتاء إلى آخر الربيع وكلما جاء المطر غلت الأسعار وهذا ما لم يسمع بمثله فبلغت الحنطة مكوك وثلث بدينار وقيراط يكون وزنه خمسة وأربعين رطلا دقيقا بالبغدادي وكان الملح مكوك بدرهم فصار المكوك بعشرة دراهم وكان الأرز مكوك باثني عشر درهما فصار المكوك بخمسين
447 درهما وكان التمر كل أربعة أرطال وخمسة أرطال بقيراط فصار كل رطلين بقيراط. ومن عجيب ما يحكى أن السكر النادر الأسمر كان كل رطل بدرهم وكان السكر الأبلوج المصري النقي كل رطل بدرهمين فصار السكر الأسمر كل رطل بثلاثة دراهم ونصف والسكر الأبلوج كل رطل بثلاثة دراهم وربع وسببه أن الأمراض لما كثرت واشتد الوباء قال النساء هذه الأمراض باردة والسكر الأسمر حار فينفع منها والأبلج بارد يقويها وتبعهن الأطباء استمالة لقلوبهن ولجهلهم فغلا الأسمر بهذا السبب وهذا من الجهل المفرط. وما زالت الأشياء هكذا إلى أول الصيف واشتد الوباء وكثر الموت والمرض في الناس فكان يحمل على النعش الواحد عدة من الموتى فممن مات فيه شيخنا عبد المحسن بن عبد الله الخطيب الطوسي خطيب الموصل وكان من صالحي المسلمين وعمره ثلاث وثمانون سنة وشهور. وفيها انخسف القمر ليلة الثلاثاء خامس عشر صفر. وفيها هرب أمير حاج العراق وهو حسام الدين أبو فراس الحلي الكردي الورامي وهو ابن أخي الشيخ ورام كان عمه من صالحي المسلمين وخيارهم من أهل الحلة السيفية فارق الحاج بين مكة والمدينة وسار إلى مصر. حكى لي بعض أصدقائه انه إنما حمله على الهرب كثرة الخرج في الطريق وقلة المعونة من الخليفة ولما فارق الحاج خافوا خوفا شديدا من العرب فأمن الله خوفهم ولم يرفعهم ذاعر في جميع الطريق ووصلوا آمنين إلا أن
448 كثيرا من الجمال هلك أصابها غدة عظيمة لم يسلم إلا القليل. وفيها في آب جاء مطر شديد ورعد وبرق ودام حتى جرت الأودية وامتلأت الطرق بالوحل ثم جاء الخبر من العراق والشام والجزيرة وديار بكر انه كان عندهم مثله ولم يصل إلينا أحد الا واخبر ان المطر كان عندهم في ذلك التاريخ. وفيها كان في الشتاء ثلج كثير ونزلت بالعراق فسمعت انه نزل في جميع العراق حتى في البصرة أما إلى واسط فلا شك فيه وأما البصرة فإن الخبر لم يكثر عندنا بنزوله فيها. وفيها خرجت قلعة الزعفران من أعمال الموصل وهي حصن مشهور يعرف قديما بدير الزعفران وهو على جبل عال قريب من فرشابور. وفيها أيضا خربت القلعة الجديدة من بلد الهكارية من اعمال الموصل أيضا وأضيف عملها وقراها إلى العمادية. وفيها في ذي الحجة سار جلال الدين بن خوارزم شاه من تبريز إلى بلد الكرج قاصدا لأخذ بلادهم واستئصالهم وخربت السنة ولم يبلغنا انه فعل بهم شيئا ونحن نذكر ما فعله بهم سنة ثلاث وعشرين وستمائة إن شاء الله. وفيها ثالث شباط سقط ببغداد ثلج وبرد الماء بردا شديدا وقوي البرد حتى مات به جماعة من الفقراء. وفيها في ربيع الأول زادت دجلة زيادة عظيمة واشتغل الناس بإصلاح سكر القورج وخافوا فبلغت الزيادة قريبا من الزيادة الأولى ثم نقص الماء واستبشر الناس.
449 623 ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة ذكر ملك جلال الدين تفليس في هذه السنة ثامن ربيع الأول فتح جلال الدين بن خوارزمشاه مدينة تفليس من الكرج وسبب ذلك انا قد ذكرنا سنة اثنتين وعشرين وستمائة الحرب بينه وبينهم وانهزامهم منه وعوده إلى تبريز بسبب الخلف الواقع فيها فلما استقر الأمر في أذربيجان عاد إلى بلد الكرج في ذي الحجة من السنة وخرجت سنة اثنتين وعشرين وستمائة ودخلت هذه السنة فقصد بلادهم وقد عادوا وحشدوا وجمعوا من الأمم المجاورة لهم اللان واللكز وقفجاق وغيرهم فاجتمعوا في جمع كثير لا يحصى فطمعوا بذلك ومنتهم أنفسهم الأباطيل ووعدهم الشيطان الظفر، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فلقيهم وجعل لهم الكمين في عدة مواضع والتقوا واقتتلوا فولى الكرج منهزمين لا يلوي الأخ على أخيه ولا الوالد على ولده وكل منهم قد أهمته نفسه وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب فلم ينج منهم الا اليسير الشاذ الذي لا يعبأ به وأمر جلال الدين عسكره أن لا يبقوا على أحد وان يقتلوا من وجدوا فتبعوا المنهزمين يقتلونهم وأشار عليه أصحابه بقصد تفليس دار ملكهم فقال لا حاجة لنا إلى ان نقتل رجالنا تحت الأسوار إنما إذا أفنيت الكرج اخذت البلاد صفوا عفوا. ولم تزل العساكر تتبعهم وتستقصي في طلبهم إلى ان كادوا يفنونهم فحينئذ قصد تفليس ونزل بالقرب منها وسار في بعض الأيام في طائفة من
450 العسكر، وقصدها لينظر إليها، ويبصر مواضع النزول عليها وكيف يقاتلها فلما قاربها كمن أكثر العسكر الذي معه في عدة مواضع ثم تقدم إليها في نحو ثلاثة آلاف فارس فلما رآه من بها من الكرج طمعوا فيه لقلة من معه ولم يعلموا ما معهم، فظهروا اليه فقاتلوه، فتأخر عنهم، فقوي طمعهم، فظنوه منهزما فتبعوه، فلما توسطوا العساكر خرجوا عليهم، ووضعوا السيف فيهم، فقتل أكثرهم وانهزم الباقون إلى المدينة، فدخلوها وتبعهم المسلمون، فلما وصلوا إليها نادى المسلمون من أهلها بشعار الاسلام، وباسم جلال الدين، فألقى الكرج بأيديهم واستسلموا لأنهم كانوا قد قتل رجالهم في الوقعات المذكورة فقل عددهم، وملئت قلوبهم خوفا ورعبا، فملك المسلمون البلد عنوة وقهرا بغير أمان، وقتل كل من فيه من الكرج، ولم يبق على كبير ولا صغير إلا من أذعن بالإسلام، وأقر بكلمتي الشهادة، فإنهم أبقى عليهم، وأمرهم فتختنوا وتركهم. ونهب المسلمون الأموال، وسبوا النساء واسترقوا الأولاد، ووصل إلى المسلمين الذين بها بعض الأذى من قتل ونهب وغيره. وهذه تفليس من أحصن البلاد وأمنعها، وهي س جانبي نهر الكرج، وهو نهر كبير، ولقد جل هذا الفتح وعظم موقعه في بلاد الاسلام، وعند المسلمين، فإن الكرج كانوا قد استطالوا عليهم، وفعلوا بهم ما أرادوا، فكانوا يقصدون أي بلاد أذربيجان أرادوا، فلا يمنعهم عنها مانع، ولا يدفعهم عنها دافع، وهكذا أرزن الروم، حتى إن صاحبها لبس خلعة ملك الكرج، ورفع على رأسه علما منه في أعلاه صليب، وتنصر ولده رغبة في نكاح ملكة الكرج، وخوفا منهم ليدفع الشر عنه، وقد تقدمت القصة، وهكذا دربند شروان.
451 وعظم أمرهم إلى حد ان ركن الدين بن قلج أرسلان، صاحب قونية، وأقصرا، وملطية، وسائر بلاد الروم التي للمسلمين جمع عساكره وحشد معها غيرها فاستكثر، وقصد أرزن الروم، وهي لأخيه طغرل شاه بن قلج أرسلان، فأتاه الكرج وهزموه، وفعلوا به وبعسكره كل عظيم، وكان أهل دربند شروان معهم في الضنك والشدة. وأما أرمينية فإن الكرج دخلوا مدينة أرجيش، وملكوا قرش وغيرها، وحصروا خلاط، فلولا أن الله سبحانه من على المسلمين بأسر إيواني مقدم عساكر الكرج لملكوها، فاضطر أهلها إلى ان بنوا لهم بيعة في القلعة، يضرب فيها الناقوس، فرحلوا عنهم، وقد تقدم تفصيل هذه الحملة. ولم يزل هذا الثغر من أعظم الثغور ضررا، على المجاورين من الفرس قبل الإسلام، وعلى المسلمين بعدهم من أول الإسلام إلى الآن ولم يقدم أحد عليهم هذا الإقدام، ولا فعل بهم هذه الأفاعيل، فإن الكرج ملكوا تفليس سنة خمس عشرة وخمسمائة، والسلطان حينئذ محمود بن محمد ابن ملكشاه السلجوقي، وهو من أعظم السلاطين منزلة، وأوسعهم مملكة، وأكثرهم عساكر فلم يقدر على منعهم عنها هذا مع سعة بلاده فإنه كان له الري وأعمالها وبلد الجبل وأصفهان وفارس وخوزستان والعراق وأذربيجان وأران وأرمينية وديار بكر والجزيرة والموصل والشام وغير ذلك وعمه السلطان سنجر له خراسان وما وراء النهر فكان أكثر بلاد الإسلام بأيديهم ومع هذا فإنه جمع عساكره سنة تسع عشرة وخمسمائة وسار إليهم بعد ان ملكوها فلم يقدر عليهم. ثم ملك بعده اخوه السلطان مسعود فكذلك وملك الدكز بلد الجبل والري وأذربيجان وأران وإطاعة صاحب خلاط وصاحب فارس
452 وصاحب خوزستان وجمع وحشد لهم وكان قصاراه ان يتخلص منهم ثم ابنه البهلوان بعده وكانت البلاد في أيام أولئك كثيرة الأموال والرجال فلم يحدثوا أنفسهم بالظفر بهؤلاء حتى جاء هذا السلطان والبلاد خراب قد أضعفها الكرج أولا ثم استأصلتها التتر لعنهم الله على ما ذكرنا ففعل بهم هذه الأفاعيل فسبحان من إذا أمرا قال له كن فيكون. ذكر مسير مظفر الدين صاحب إربل إلى الموصل وعوده عنها في هذه السنة في جمادي الآخرة سار مظفر الدين بن زين الدين صاحب إربل إلى اعمال الموصل قاصدا إليها وكان السبب في ذلك انه استقرت القاعدة بينه وبين جلال الدين بن خوارزمشاه وبين الملك المعظم صاحب دمشق وبين صاحب آمد وبين ناصر الدين صاحب ماردين ليقصدوا البلاد التي بيد الأشرف ويتغلبوا عليها ويكون لكل منهم نصيب ذكره واستقرت القواعد بينهم على ذلك فبادر مظفر الدين إلى الموصل. واما جلال الدين فإنه سار من تفليس يريد خلاط فأتاه الخبر بذلك ترك خلاط ولم يقصدها إلا أن عسكره نهب بعض بلدها وخربوا كثيرا منه وسار مجدا إلى كرمان فانفسخ جميع ما كانوا عزموا عليه إلا أن مظفر الدين سار من إربل ونزل على جانب الزاب ولم يمكنه العبور إلى بلد الموصل.
453 وكان بدر الدين قد أرسل من الموصل إلى الأشرف وهو بالرقة يستنجده ويطلب منه أن يحضر بنفسه الموصل ليدفعوا مظفر الدين فسار منها إلى حران ومن حران إلى دنيسر فخرب بلد ماردين وأهلكه تخريبا ونهبا. وأما المعظم صاحب دمشق فإنه قصد بلد حمص وحماة وأرسلت إلى مظفر الدين ليرجع عن بلد الموصل فرحل الأشرف عن ماردين وعاد كل منهم إلى بلده وخرجت أعمال الموصل وأعمال ماردين بهذه الحركة فإنها كانت قد أجحف بها تتابع الغلاء وطول مدته وجلاء أكثر أهلها فأتتها هذه الحادثة فازدادت خراب. ذكر عصيان كرمان على جلال الدين ومسيره إليها في هذه السنة في جمادى الآخرة وصل إلى جلال الدين ان نائبه بكرمان وهو أمير كبير اسمه بلاق حاجب قد عصى عليه وطمع في البلدان يتملكها ويستبد بها لبعد جلال الدين عنها واشتغاله بما ذكرناه من الكرج وغيرهم وانه ارسل إلى التتر يعرفهم قوة جلال الدين وملكه كثيرا من البلاد وان اخذ الباقي عظمت مملكته وكثرت عساكره وسار إليكم وأخذ ما بأيديكم من البلاد. فلما سمع جلال الدين ذلك وكان قد سار يريد خلاط فتركها وسار إلى كرمان [يطوي المراحل أرسل بين يديه رسولا إلى صاحب كرمان]،
454 ومعه الخلع ليطمئن ويأتيه وهو غير محتاط ولا مستعد للامتناع منه فلما وصل الرسول علم ان ذلك مكيدة عليه لما يعرفه من عادته فأخذ ما يعز عليه وصعد إلى قلعة منيعة فتحصن بها وجعل من يثق اليه من أصحابه في الحصون يمتنعون بها وأرسل إلى جلال الدين يقول إنني أنا العبد والمملوك ولما سمعت بمسيرك إلى هذه البلاد أخليتها لك لأنها بلادك ولو علمت انك تبقى علي لحضرت بابك ولكني أخاف وهذا جميعه والرسول يحلف له ان جلال الدين بتفليس وهو لا يلتفت إلى قوله فعاد الرسول فعلم جلال الدين انه لا يمكنه أخذ ما بيده من الحصون لأنه يحتاج [أن] يحصرها مدة طويلة فوقف بالقرب من أصفهان وارسل اليه الخلع وأقره على ولايته فبينما الرسل تتردد إذ وصل رسول من وزير جلال الدين اليه من تفليس يعرفه ان عسكر الملك الأشرف الذي بخلاط قد هزموا بعض عسكره وأوقعوا بهم ويحثه على العود إلى تفليس فعاد إليها مسرعا. ذكر الحرب بين عسكر الأشرف وعسكر جلال الدين لما سار جلال الدين إلى كرمان ترك بمدينة تفليس عسكرا مع وزيره شرف الملك فقلت عليهم الميرة فساروا إلى اعمال أرزن الروم فوصلوا إليها ونهبوها وسبوا النساء وأخذوا من الغنائم شيئا كثيرا لا يحصى وعادوا فكان طريقهم على أطراف ولاية خلاط فسمع النائب من الأشرف
455 بخلاط وهو الحاجب حسام الدين على الموصل فجمع العسكر وسار إليهم فأوقع بهم واستنقذ ما معهم من الغنائم وغنم كثيرا مما معهم وعاد هو وعساكره سالمين. فلما فعل ذلك خاف وزير جلال الدين منهم فأرسل إلى صاحبه بكرمان يعرفه الحال ويحثه على الوصول اليه ويخوفه عاقبة التواني والاهمال فرجع فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة الخليفة الظاهر بأمر الله في هذه السنة في الرابع عشر من رجب توفي الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس احمد بن المستضيء بأمر الله وقد تقدم نسبه عند وفاة أبيه رضي الله عنهما فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر يوما وكان نعم الخليفة جمع الخشوع مع الخضوع لربه والعدل والإحسان إلى رعيته وقد تقدم عند ذكر ولايته الخلافة من افعاله ما فيه كفاية ولم يزل كل يوم يزداد من الخير والإحسان إلى الرعية فرضي الله عنه وأرضاه وأحسن متقلبه ومثواه فلقد جدد من العدل ما كان دارسا وأذكر من الاحسان ما كان منسيا. وكان قبل وفاته اخرج توقيعا إلى الوزير بخطه على أرباب الدولة وقال الرسول: أمير المؤمنين يقول ليس غرضنا ان يقال برز مرسوم أو نفذ مثال ثم لا يبين له أثر بل أنتم إلى امام فعال أحوج منكم إلى امام قوال؛ فقرأوه فإذا أوله بعد البسملة: اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالا ولا إغضاؤنا إغفالا ولكن لنبلوكم
456 أيكم أحسن عملا وقد عفونا لكم ما سلف من إخراب البلاد وتشريد الرعايا وتقبيح الشريعة وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة وتسمية والاحتياج استيفاء واستدراكا لأغراض انتهزتم فرصها مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب أسد مهين تتفقون بألفاظ مختلفة على معنى وأنت أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم وتمزجون باطلكم بحقه فيطيعكم وأنتم له عاصون ويوافقكم وأنتم له مخالفون والآن قد بدل الله سبحانه بخوفكم امنا وبفقركم غنى وبباطلكم حقا ورزقكم سلطانا يقيل العثرة ولا يؤاخذ إلا من أصر ولا ينتقم الا ممن استمر يأمركم بالعدل وهو يريده منكم وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم يخاف الله تعالى فيخوفكم مكره ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته فإن سلكتم مسالك نواب خلفاء الله في ارضه وأمنائه على خلقه وإلا هلكتم والسلام. ولما توفي وجدوا في بيت في داره ألوف رقاع كلها مختومة لم يفتحها فقيل له ليفتحها، فقال لا حاجة لنا فيها كلها سعايات. ولم أزل، علم الله سبحانه، مذ ولي الخلافة أخاف عليه قصر المدة لخبث الزمان وفساد أهله وأقول لكثير من أصدقائنا وما أخوفني ان تقصر مدة خلافته لان زماننا وأهله لا يستحقون خلافته فكان كذلك.
457 ذكر خلافة ابنه المستنصر بالله لما توفي الظاهر بأمر الله بويع بالخلافة ابنه الأكبر أبو جعفر المنصور ولقب المستنصر بالله وسلك في الخير والإحسان إلى الناس سيرة أبيه رضي الله عنه وأمر فنودي ببغداد بإفاضة العدل وان من كان له حاجة أو مظلمة يطالع بها تقضى حاجته وتكشف مظلمته. فلما كان أول جمعة أتت على خلافته أراد ان يصلي الجمعة في المقصورة التي كان يصلي فيها الخلفاء فقيل له ان المطبق الذي يسلك فيه إليها خراب لا يمكن سلوكه فركب فرسا وسار إلى الجامع جامع القصر ظاهرا يراه الناس بقميص أبيض وعمامة بيضاء بسكاكين حرير ولم يترك أحدا يمشي معه من أصحابه بالصلاة إلى الموضع الذي كان يصلي فيه وسار هو ومعه خادمان وركابدار لا غير فصلى وعاد وكذلك الجمعة الثانية حتى اصلح له المطبق. وكان السعر قد تحرك بعد وفاة الظاهر بأمر الله رضي الله عنه فبلغت الكارة ثمانية عشر قيراطا فأمر أن تباع الغلات التي له كل كارة بثلاثة عشر قيراطا فرخصت الأسعار واستقامت الأمور. ذكر الحرب بين كيقباذ وصاحب آمد في هذه السنة في شعبان سار علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو [ابن] قلج أرسلان، ملك بلاد الروم، إلى بلاد الملك المسعود، صاحب آمد،
458 وملك عدة من حصونه. وسبب ذلك ما ذكرناه من اتفاق صاحب آمد مع جلال الدين خوارزمشاه والملك المعظم صاحب دمشق وغيرهما على خلاف الأشرف فلما رأى الأشرف ذلك أرسل إلى كيقباذ ملك الروم وكانا متفقين يطلب منه أن يقصد بلد صاحب آمد ويحاربه وكان الأشرف حينئذ على ماردين فسار ملك الروم إلى ملطية وهي له فنزل عندها وسير العساكر إلى ولاية صاحب آمد، [ففتحوا حصن منصور وحصن سمكاراد وغيرها فلما رأى صاحب آمد] ذلك راسل الأشرف وعاد إلى موافقته فأرسل الأشرف إلى كيقباذ يعرفه ذلك ويقول له ليعيد إلى صاحب آمد ما أخذ منه فلم يفعل وقال لم أكن نائبا للأشرف يأمرني وينهاني. فاتفق ان الأشرف سار إلى دمشق ليصلح أخاه الملك المعظم وأمر العساكر التي له بديار الجزيرة بمساعدة صاحب آمد ان أصر ملك الروم على قصده فسارت عساكر الأشرف إلى صاحب آمد وقد جمع عسكره ومن بلاده ممن يصلح للحرب وسار إلى عسكر ملك الروم وهم يحاصرون قلعة الكختا فالتقوا هناك في شوال فانهزم صاحب آمد ومن معه من العسكر هزيمة عظيمة وجرح كثير وأسر وملك عسكر كيقباذ قلعة الكختا بعد الهزيمة وهي من أمنع الحصون والمعاقل فلما ملكوه عادوا إلى صاحبهم. ذكر حصر جلال الدين مدينتي آني وقرس في هذه السنة في رمضان عاد جلال الدين من كرمان كما ذكرناه إلى تفليس وسار منها إلى مدينة آني وهي للكرج وبها إيوائي مقدم
459 عساكر الكرج فيمن بقي معه من أعيان الكرج، [فحصره وسير طائفة من العسكر إلى مدينة قرس وهي للكرج] أيضا، وكلاهما من أحصن البلاد وأمنعها فنازلهما وحضرهما وقاتل من بهما ونصب عليهما المجانيق وجد في القتال عليهما وحفظهما الكرج وبالغوا في الحفظ والاحتياط لخوفهم منه ان يفعل بهم ما فهل بأشياعهم من قبل بمدينة تفليس وأقام عليهما إلى ان مضى بعض شوال ثم ترك العسكر عليهما يحصرونهما وعاد إلى تفليس. وسار من تفليس مجدا إلى بلاد أبخاز وبقايا الكرج فأوقع بمن فيها فنهب وقتل وسبى وخرب البلاد وأحرقها وغنم عساكره ما فيها وعاد منها إلى تفليس. ذكر حصر جلال الدين خلاط قد ذكرنا ان جلال الدين عاد من مدينة آني إلى تفليس ودخل بلاد ابخاز وكان رحيله مكيدة لأنه بلغه ان النائب عن الملك الأشرف وهو الحاجب حسام الدين على مدينة خلاط قد احتاط واهتم بالأمر وحفظ البلاد لقربه منه فعاد إلى تفليس ليطمئن أهل خلاط وتركوا الاحتياط والاستظهار ثم يقصدهم بغتة فكانت غيبته ببلاد ابخاز عشرة أيام وعاد وسار مجدا على عادته فلم يكن عنده من يراسل نواب الأشرف بالأخبار لفجأهم على غفلة منهم وإنما كان عنده بعض ثقاته يعرفهم أخباره،
460 وكتب إليهم يحذرهم فوصل الخبر إليهم قبل وصوله بيومين. ووصل جلال الدين فنازل مدينة ملازكرد يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة ثم رحل عنها فنازل مدينة خلاط يوم الاثنين خامس عشر فلم ينزل حتى زحف إليها وقاتل أهلها قتالا شديدا فوصل عسكره سور البلد وقتل بينهم قتلى كثيرة ثم زحف إليها مرة ثانية وقاتل أهل البلد قتالا عظيما فعظمت نكاية العسكر في أهل خلاط ووصلوا إلى سور البلد ودخلوا الربض الذي له ومدوا أيديهم في النهب وسبي الحريم. فلما رأى أهل خلاط ذلك تذامروا، وحرض بعضهم بعضا، فعادوا إلى العسكر فقاتلوهم وأخرجوهم من البلد وقتل بينهم خلق كثير وأسر العسكر الخوارزمي من أمراء خلاط جماعة وقتل منهم كثير وترجل الحاجب علي ووقف في نحر العدو وأبلى بلاء عظيما. ثم إن جلال الدين استراح عدة أيام وعاود الزحف مثل أول يوم فقاتلوه حتى ابعدوا عسكره عن البلد وكان أهل خلاط مجدين في القتال حريصين على المنع عن أنفسهم لما رأوا من سوء سيرة الخوارزميين ونهبهم البلاد وما فيهم من الفساد فهم يقاتلون قتال من يمنع عن نفسه وحريمه وماله ثم أقام عليها إلى أن اشتد البرد ونزل شيء من الثلج فرحل عنها يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة من السنة وكان سبب رحيله مع خوف الثلج ما بلغه عن التركمان الإيوانية من الفساد ببلاده.
461 ذكر ايقاع جلال الدين بالتركمان الإيوانية كان التركمان الإيوانية قد تغلبوا على مدينة أشتر وأرمية من نواحي آذربيجان وأخذوا الخراج من أهل خوي ليكفوا عنهم واغتروا باشتغال جلال الدين بالكرج وبعدهم بخلاط وازداد طمعهم وانبسطوا بأذربيجان ينهبون ويقطعون الطريق والأخبار تأتي إلى خوارزمشاه جلال الدين وهو يتغافل عنهم لاشتغاله بما هو أهم عنده وبلغ من طمعهم انهم قطعوا الطريق بالقرب من تبريز واخذوا من تجار أهلها شيئا كثيرا ومن جملة ذلك أنهم اشتروا غنما من أرزن الروم وقصدوا بها تبريز فلقيهم الإيوانية قبل وصولهم إلى تبريز فأخذوا جميع ما معهم ومن جملته عشرون الف رأس غنم. فلما اشتد ذلك على الناس وعظم الشر أرسلت زوجة جلال الدين ابنة السلطان طغرل ونوابه في البلاد إليه يستغيثون ويعرفونه أن البلاد قد خربها الإيوانية ولئن لم يلحقها وإلا هلكت بالمرة. فاتفق هذا إلى خوف الثلج فرحل عن خلاط وجد السير إلى الإيوانية وهم آمنون مطمئنون لعلمهم ان خوارزمشاه على خلاط وظنوا انه لا يفارقها فلولا هذا الاعتقاد لصعدوا إلى جبال لهم منيعة شاهقة لا يرتقى إليها إلا بمشقة وعناء فإنهم كانوا إذا خافوا صعدوا إليها وامتنعوا بها فلم يرعهم إلا والعساكر الجلالية قد أحاطت بهم واخذهم السيف من كل جانب فأكثروا القتل فيهم والنهب والسبي واسترقوا الحريم والأولاد واخذوا من عندهم ما لا يدخل تحت الحصر فرأوا كثيرا من الأمتعة التي
462 أخذوها من التجار بحالها في الشذوات لم تحل هذا سوى ما كانوا قد حلوه وفصلوا فلما فرغ عاد إلى تبريز. ذكر الصلح بين المعظم والأشرف نبتدئ بذكر سبب الاختلاف فنقول لما توفي الملك العادل أبو بكر بن أيوب اتفق أولاده الملوك بعده اتفاقا حسنا وهم الملك الكامل محمد صاحب مصر والملك المعظم عيسى صاحب دمشق والبيت المقدس وما يجاورها من البلاد والملك الأشرف موسى وهو صاحب ديار الجزيرة وخلاط واجتمعت كلمتهم على دفع الفرنج عن الديار المصرية. ولما رحل الكامل عن دمياط لما كان الفرنج يحصرونها صادقة أخوه المعظم من الغد وقويت نفسه وثبت قدمه ولولا ذلك لكان الأمر عظيما وقد ذكرنا ذلك مفصلا ثم إنه عاد من مصر وسار إلى أخيه ببلاد الجزيرة مرتين يستنجده على الفرنج ويحثه على مساعدة أخيه الكامل ولم يزل به حتى أخذه وسار إلى مصر وأزالوا الفرنج عن الديار المصرية كما ذكرناه قبل فكان اتفاقهم سببا لحفظ بلاد الإسلام وسر الناس أجمعون بذلك. فلما فارق الفرنج مصر وعاد كل من الملوك أولاد العادل إلى بلده بقوا كذلك يسيرا ثم سار الأشرف إلى أخيه الكامل بمصر فاجتاز بأخيه المعظم بدمشق فلم يستصحبه معه وأطال المقام بمصر فلا شك أن المعظم سار إلى مدينة حماة وحصرها فأرسل إليه أخواه من مصر ورحلاه عنها كارها فازداد نفورا وقيل إنه نقل إليه عنهما أنهما اتفقا عليه والله أعلم بذلك.
463 ثم انضاف إلى ذلك أن الخليفة الناصر لدين الله رضي الله عنه كان قد استوحش من الكامل لما فعله ولده صاحب اليمن بمكة من الاستهانة بأمير الحاج العراقي فأعرض عنه وعن أخيه الأشرف لاتفاقهما وقاطعهما وراسل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين على صاحب إربل لعلمه بانحرافه عن الأشرف واستماله واتفقا على مراسلة المعظم وتعظيم الأمر عليه فمال إليهما وانحرف عن أخوته. ثم اتفق ظهور جلال الدين وكثرة ملكه فاشتد الأمر على الأشرف بمجاورة جلال الدين خوارزمشاه ولاية خلاط ولان المعظم بدمشق يمنع عنه عساكر مصر ان تصل إليه وكذلك عساكر حلب وغيرها من الشام فرأى الأشرف ان يسير إلى أخيه المعظم بدمشق فسار إليه من شوال واستماله وأصلحه فلما سمع الكامل بذلك عظم عليه وظن أن اتفاقهما عليه ثم إنهما راسلاه وأعلماه بنزول جلال الدين على خلاط وعظما الأمر عليه وأعلماه أن هذه الحال تقتضي الاتفاق لعمارة البيت العادلي وانتضت السنة والأشرف بدمشق والناس على موضعهم ينتظرون خروج الشتاء ما يكون من الخوازميين وسنذكر ما يكون سنة أربع وعشرين وستمائة إن شاء الله تعالى. ذكر الفتنة بين الفرنج والأرمن في هذه السنة جمع البرنس الفرنجي صاحب أنطاكية جموعا كثيرة وقصد الأرمن الذين في الدروب من بلاد ابن ليون فكان بينهم حرب شديدة وسبب ذلك ان ابن ليون الأرمني صاحب الدروب توفي قبل ولم يخلف ولدا ذكرا إنما خلف بنتا فملكها الأرمن عليهم ثم علموا ان الملك لا يقوم بامرأة فزوجوها من ولد البرنس فتزوجها وانتقل إلى
464 بلدهم واستقر في الملك نحو سنة ثم ندموا على ذلك وخافوا ان يستولي الفرنج على بلادهم فثاروا بابن البرنس فقبضوا عليه وسجنوه فأرسل أبوه يطلب أن يطلق ويعاد في الملك فلم يفعلوا فأرسل [إلى] بابا ملك الفرنج برومية الكبرى يستأذنه في قصد بلادهم وهذا ملك رومية أمره عند الفرنج لا يخالف فمنعه عنهم، وقال إنهم أهل ملتنا ولا يجوز قصد بلادهم فخالفه وأرسل إلى علاء الدين كيقباذ ملك قونية وملطية وما بينهما من بلاد المسلمين وصالحه ووافقه على قصد بلاد ابن ليون والاتفاق على قصدها فاتفقا على ذلك وجمع البرنس عساكره ليسير إلى بلاد الأرمن فخالف عليه الداوية والاسبتارية وهما جمرة الفرنج فقالوا إن ملك رومية نهانا عن ذلك إلا انه اطاعه غيرهم فدخل أطراف بلاد الأرمن وهي مضايق وجبال وعرة، فلم يتمكن من فعل ما يريد. وأما كيقباذ فإنه قصد بلاد الأرمن من جهته وهي أسهل مدخلا من جهة الشام فدخلها سنة اثنتين وعشرين وستمائة فنهبها وأحرقها وحصر عدة حصون ففتح أربعة حصون وادركه الشتاء فعاد عنها. فلما سمع بابا ملك الفرنج برومية أرسل إلى الفرنج بالشام يعلمهم أنه قد حرم البرنس فكان الداوية والاسبتارية وكثير من الفرنج لا يحضرون معه ولا يسمعون قوله وكان أهل بلاده وهي أنطاكية وطرابلس إذا جاءهم عيد يخرج من عندهم فإذا فرغوا من عيدهم دخل البلد. ثم إنه ارسل إلى ملك رومية يشكو من الأرمن وانهم لم يطلقوا ولده فأرسل إلى الأرمن يأمرهم بإطلاق ابنه واعادته إلى الملك فإن فعلوا والا فقد أذن له في قصد بلادهم فلما بلغتهم الرسالة لم يطلقوا ولده فجمع البرنس وقصد بلاد الأرمن فأرسل الأرمن إلى الأتابك شهاب الدين بحلب يستنجدونه، ويخوفونه
465 من البرنس ان استولى على بلادهم لأنها تجاور اعمال حلب فأمدهم بجند وسلاح. فلما سمع البرنس ذلك صمم العزم على قصد بلادهم فسار إليهم وحاربهم فلم يحصل على غرض فعاد عنهم. حدثني بهذا رجل من عقلاء النصارى ممن دخل تلم البلاد وعرف حالها وسألت غيره فعرف البعض وأنكر البعض. ذكر عدة حوادث في هذه السنة انخسف القمر مرتين أولاهما ليلة رابع عشر صفر، وفيها كانت أعجوبة بالقرب من الموصل حامة تعرف بعين القيارة شديدة الحرارة تسميها الناس عين ميمون ويخرج مع الماء قليل من القار فكان الناس يسبحون فيها دائما في الربيع والخريف لأنها تنفع من الأمراض الباردة كالفالج وغيره نفعا عظيما فكان من يسبح فيها يجد الكرب الشديد من حرارة الماء ففي هذه السنة برد الماء فيها حتى كان السابح فيها يجد البرد فتركوها وانتقلوا إلى غيرها. وفيها كثرت الذئاب والخنازير والحيات فقتل كثير فلقد بلغني ان ذئبا دخل الموصل فقتل فيها، وحدثني صديق لنا له بستان بظاهر الموصل أنه قتل فيه في سنة اثنتين وعشرين وستمائة جميع الصيف حيتين وقتل هذه السنة إلى أول حزيران سبع حيات لكثرتها.
466 وفيها انقطع المطر بالموصل وأكثر البلاد الجزرية من خامس شباط إلى ثاني عشر نيسان ولم يجر شيء يعتد به لكنه سقط اليسير منه في بعض القرى فجاءت الغلات قليلة ثم خرج الجراد الكثير فازدادت الناس اذى وكانت الأسعار قد صلحت شيئا فعادت لكثرة الجراد غلت ونزل أيضا في كثير من القرى برد كبير أهلك زروع أهلها وأفسدها واختلفت أقاويل الناس في أكبره كان وزن بردة مائتي درهم وقيل رطل وقيل غير ذلك إلا انه أهلك كثيرا من الحيوان وانقضت هذه السنة والغلاء باق واشتد بالموصل. وفيها اصطاد صديق لنا أرنبا فرآه وله أنثيان وذكر وفرج أنثى فلما شقوا بطنها رأوا فيها حريفين سمعت هذا منه ومن جماعة كانوا معه وقالوا ما زلنا نسمع ان الأرنب يكون سنة ذكرا وسنة أنثى ولا نصدق بذلك فلما رأينا هذا علمنا أنه قد حمل وهو أنثى وانقضت السنة فصار ذكرا فإن كان كذلك فيكون في الأرانب كالخنثى من بني آدم يكون لأحدهم فرج الرجل وفرج الأنثى. فإني كنت بالجزيرة ولنا جار له بنت اسمها صفية فبقيت كذلك نحو خمس عشرة سنة إذ قد كلع لها ذكر رجل ونبتت لحيتها فكان لها فرج امرأة وذكر رجل. وفيها ذبح إنسان عندنا رأس غنم فوجد لحمه مرا شديد المرارة حتى رأسه وأكارعه ومعلاقه وجميع اجزائه وهذا ما لم يسمع بمثله. وفيها في يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذي القعدة ضحوة النهار زلزلت الأرض بالموصل وكثير من البلاد العربية والعجمية وكان أكثرها
467 بشهرزور، فإنها خرب أكثرها لا سيما القلعة فإنها أجحفت بها وخرب من تلك الناحية ست قلاع وبقيت الزلزلة تتردد فيها نيفا وثلاثين يوما ثم كشفها الله عنهم وأما القرى بتلك الناحية فخرب أكثرها. وفيها في رجب توفي القاضي حجة الدين أبو منصور المظفر بن عبد القاهر بن الحسن بن علي بن القاسم الشهرزوري قاضي الموصل بها وكان قد أضر قبل وفاته بنحو سنتين وكان عالما بالقضاء عفيفا نزها ذا رياسة كبيرة وله صلات دارة للمقيم والوارد رحمه الله فلقد كان من محاسن الدنيا ولم يخلف غير بنت توفيت بعده بثلاثة اشهر.
468 624 ثم دخلت سنة اربع وعشرين وستمائة ذكر دخول الكرج مدينة تفليس وإحراقها في هذه السنة في ربيع الأول وصل الكرج مدينة تفليس ولم يكن بها من العسكر الاسلامي من يقوم بحمايتها وسبب ذلك ان جلال الدين لما عاد من خلاط كما ذكرنا قبل وأوقع بالإيوانية فرق عساكره إلى المواضع الحارة الكثيرة المرعى ليشتوا بها وكان عسكره قد أساؤوا السيرة في رعية تفليس وهم مسلمون وعسفوهم فكاتبوا الكرج يستدعونهم إليهم ليملكوهم البلد فاغتنم الكرج ذلك لميل أهل البلد إليهم وخلوه من العسكر فاجتمعوا وكانوا بمدينتي قرس وآني وغيرهما من الحصون وساروا إلى تفليس وكانت خالية كما ذكرناه ولأن جلال الدين استضعف الكرج لكثرة من قتل منهم ولم يظن فيهم حركة فملكوا البلد ووضعوا السيف فيمن بقي من أهله وعلموا انهم لا يقدرون على حفظ البلد من جلال الدين فأحرقوها جميعها. وأما جلال الدين فإنه لما بلغه الخبر سار فيمن عنده من العساكر ليدركهم فلم ير منهم أحدا كانوا قد فارقوا تفليس لما أحرقوها.
469 ذكر نهب جلال الدين بلد الإسماعيلية في هذه السنة قتل الإسماعيلية أميرا كبيرا من أمراء جلال الديم وكان قد أقطعه جلال الدين مدينة كنجة وأعمالها وكان نعم الأمير كثير الخير حسن السيرة ينكر على جلال الدين ما يفعله من النهب وغيره من الشر فلما قتل ذلك الأمير عظم قتله على جلال الدين واشتد عليه فسار في عساكره إلى بلاد الإسماعيلية من حدود الموت إلى كردكوه بخراسان فحارب الجميع وقتل أهلها ونهب الأموال وسبى الحريم واسترق الأولاد وقتل الرجال وعمل بهم الأعمال العظيمة وانتقم منهم وكانوا قد عظم شرهم وزداد ضررهم وطمعوا مذ خرج التتر إلى بلاد الإسلام إلى الان فكف عاديتهم وقمعهم ولقاهم الله ما عملوا بالمسلمين. ذكر الحرب بين جلال الدين والتتر لما فرغ جلال الدين من الإسماعيلية بلغه الخبر ان طائفة من التتر عظيمة قد بلغوا إلى دامغان بالقرب من الري عازمين على بلاد الإسلام فسار إليهم وحاربهم واشتد القتال بينهم فانهزموا منه فأوسعهم قتلا وتبع المنهزمين عدة أيام يقتل ويأسر فبينما هو كذلك قد أقام بنواحي الري خوفا من جمع آخر للتتر إذ أتاه الخبر بأن كثيرا منهم واصلون إليه فأقام ينتظرهم وسنذكر خبرهم سنة خمس وعشرين وستمائة.
470 ذكر دخول العساكر الأشرفية إلى آذربيجان وملك بعضها في هذه السنة في شعبان سار الحاجب علي حسام الدين وهو النائب عن الملك الأشرف بخلاط والمقدم على عساكرها إلى بلاد أذربيجان فيمن عنده من العساكر وسبب ذلك ان سيرة جلال الدين كانت جائرة وعساكره طامعة في الرعايا وكانت زوجته ابنة السلطان طغرل السلجوقي وهي التي كانت زوجة أوزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان فتزوجها جلال الدين كما ذكرناه قبل وكانت مع أوزبك تحكم في البلاد جميعها ليس له ولا لغيره معها حكم فلما تزوجها جلال الدين أهملها ولم يلتفت إليها فخافته مع حرمته من الحكم والأمر والنهي فأرسلت هي وأهل خوى إلى حسام الدين الحاجب يستدعونه ليسلموا البلاد له فسار ودخل البلاد بلاد أذربيجان فملك مدينة خوى وما يجاورها من الحصون التي بيد امرأة جلال الدين وملك مرند وكاتبه أهل مدينة نخجوان فمضى إليهم فسلموها اليه وقويت شوكتهم بتلك البلاد ولو داموا لملكوها جميعها إنما عادوا إلى خلاط واستصحبوا معهم زوجة جلال الدين ابنة السلطان طغرل إلى خلاط وسنذكر باقي خبرهم سنة خمس وعشرين إن شاء الله تعالى. ذكر وفاة المعظم صاحب وملك ولده في هذه السنة توفي الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق يوم الجمعة سلخ ذي القعدة وكان مرضه دوسنطاريا وكان ملكه لمدينة دمشق من حين
471 وفاة والده الملك العادل عشر سنين وخمسة اشهر وثلاثة وعشرين يوما. وكان عالما بعدة علوم فاضلا فيها منا الفقه على مذهب أبي حنيفة فإنه كان قد اشتغل به كثيرا وصار من المتميزين فيه ومنها علم النحو فإنه اشتغل به أيضا اشتغالا زائدا وصار فيه فاضلا وكذلك اللغة وغيرها وكان قد أمر أن يجمع له كتاب في اللغة جامع كبير فيه كتاب الصحاح للجوهري ويضاف اليه ما فات الصحاح من التهذيب للأزهري والجمهرة لابن دويد وغيرهما وكذلك أيضا امر بأن يرتب مسند احمد بن حنبل على الأبواب ويرد كل حديث إلى الباب الذي يقتضيه معناه مثاله ان يجمع أحاديث الطهاة وكذلك يفعل في الصلاة وغيرها من الرقائق والتفسير والغزوات فيكون كتابا جامعا. وكان قد سمع المسند من بعض أصحاب ابن الحصين ونفق العلم في سوقه وقصده العلماء من الآفاق فأكرمهم وأجرى عليهم الجرايات الوافرة وقربهم [وكان] يجالسهم ويستفيد منهم ويفيدهم وكان يرجع إلى علم وصبر على سماع ما يكره لم يسمع أحد ممن يصحبه منه كلمة تسوءه. وكان حسن الاعتقاد يقول كثيرا إن اعتقادي في الأصول ما سطره أبو جعفر الطحاوي ووصى عند موته بأن يكفن في البياض ولا يجعل في أكفانه ثوب فيه ذهب وأن يدفن في لحد ولا يبنى عليه بناء بل يكون قبره في الصحراء تحت السماء ويقول في مرضه لي عند الله تعالى في أمر دمياط ما أرجو ان يرحمني به. ولما توفي ولي بعده ابنه داود ويلقب الملك الناصر وكان عمره قد قارب عشرين سنة.
472 ذكر عدة حوادث في هذه السنة دام الغلاء في ديار الجزيرة ودامت الأسعار تزيد قليلا وتنقص قليلا وانقطع المطر جميع شباط وعشرة أيام من أذار فازداد الغلاء فبلغت الحنطة كل مكوكين بالموصلي بديار وقيراطين بالموصل والشعير كل ثلاثة مكاكيك بالموصلي بدينار وقيراطين أيضا، وكل شيء بهذه النسبة في الغلاء. وفيها في الربيع قل لحم الغنم بالموصل وغلا سعره حتى بيع كل رطل لحم بالبغدادي بحبتين بالصنجة وربما زاد في بعض الأيام على هذا الثمن وحكى لي من يتولى بيع الغنم بالموصل انهم باعوا خروفا واحدا لا غير وفي بعضها خمسة رؤوس وفي بعضها ستة وأقل وأكثر وهذا ما لم يسمع بمثله ولا رأيناه في جميع أعمارنا ولا حكي لنا مثله لأن الربيع مظنة رخص اللحم لأن التركمان والأكراد والكيلكان ينتقلون من الأمكنة التي شتوا بها إلى الزوزان فيبيعون الغنم رخيصا. وكان اللحم كل سنة في هذا الفصل يكون سعره كل ستة أرطال وسبعة بقيراط صار هذه السنة الرطل بحبتين. وفيها عاشر آذار وهو العشرين من ربيع الأول سقط الثلج مرتين وهذا غريب مجدا لم يسمع بمثله فأهلك الأزهار التي خرجت كزهر اللوز والمشمش والإجاص والسفرجل وغيرها ووصلت الأخبار من العراق جميعه مثل ذلك فهلكت به أزهار الثمار أيضا وهذا أعجب من حال ديار الجزيرة والشام فإنه أشد حرا من جميعها. وفيها ظفر جمع من التركمان كانوا بأطراف اعمال حلب بفارس مشهور من الفرنج الداوية بأنطاكية فقتلوه فعلم الداوية بذلك فساروا
473 وكبسوا التركمان فقتلوا منهم وأسروا وغنموا من أموالهم فبلغ إلى أتابك شهاب الدين المتولي لأمور حلب فراسل الفرنج وتهددهم بقصد بلادهم واتفق ان عسكر حلب قتلوا فارسين كبيرين من الداوية أيضا فأذعنوا بالصلح وردوا إلى التركمان كثيرا من أموالهم وحريمهم وأسرهم. وفيها في رجب اجتمع طائفة كثيرة من ديار بكر وأرادوا الإغارة على جزير ابن عمر وكان صاحب الجزيرة قد قتل فلما قصدوا بلد الجزيرة اجتمع أهل قرية كبيرة من بلد الجزيرة اسمها سلكون ولقوهم من ضحوة النهار إلى العصر وطال القتال بينهم ثم حمل أهل القرية على الأكراد فهزموهم وقتلوا فيهم ونهبوا ما معهم وعادوا سالمين.
474 625 ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة ذكر الخلف بين جلال الدين وأخيه فب هذه السنة خاف غياث الدين بن خوارزمشاه وهو أخو جلال الدين من أبيه أخاه وخافه معه جماعة من الأمراء واستشعروا منه وأراد الخلاص منه فلم يتمكنوا من ذلك إلى أن خرجت التتر واشتغل بهم جلال الدين فهرب غياث الدين ومن معه وقصدوا خوزستان وهي من بلاد الخليفة فلم يمكنهم النائب بها من الدخول إلى البلد خوفا ان تكون هذه مكيدة فبقي هناك فلما طال عليه الأمر فارق خوزستان وقصد بلاد الإسماعيلية فوصل إليهم واحتمى بهم واستجار بهم وكان جلال الدين قد فرغ من أمر التتر وعاد تبريز فأتاه الخبر وهو بالميدان يلعب بالكرة أن أخاه قد قصد أصفهان فألقى الجو كان من يده وسار مجدا فسمع أن أخاه قصد الإسماعيلية ملتجئا إليهم ولم يقصد أصفهان فعاد إلى بلاد الإسماعيلية لينهب بلادهم إن لم يسلموا إليه أخاه وأرسل بطلبه من مقدم الإسماعيلية فأعاد الجواب يقول إن أخاك قد قصدنا وهو سلطان ابن سلطان ولا يجوز لنا ان نسلمه لكن نحن نتركه عندنا ولا نمكنه ان يقصد شيئا من بلادك ونسألك ان تشفعنا فيه والضمان
475 علينا بما قلنا ومتى كان منه ما تكره في بلادك فبلادنا حينئذ بين يديك تفعل فيها ما تختار فأجابهم إلى ذلك واستحلفهم على الوفاء بذلك وعاد منهم وقصد خلاط على ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر الحرب بين جلال الدين والتتر في هذه السنة عاود التتر الخروج إلى الري وجرى بينهم وبين جلال الدين حروب كثيرة اختلف الناس علينا في عددها كان أكثرها عليه وفي الأخير كان الظفر له. وكانت في أول حرب بينهم عجائب غريبة وكان هؤلاء التتر قد سخط ملكهم جنكزخان على مقدمهم وأبعده عنه وأخرجه من بلاده فقصد خراسان فرآها خرابا فقصد الري ليتغلب على تلك النواحي والبلاد فلقيه بها جلال الدين فاقتتلوا أشد قتال ثم انهزم جلال الدين وعاود ثم انهزم وقصد أصفهان واقام بينهما وبين الري وجمع عساكره ومن طاعته فكان فيمن أتاه صاحب بلاد فارس وهو ابن أتابك سعد ملك بعد وفاة أبيه كما ذكرناه وعاد جلال الدين إلى التتر فلقيهم. فبينما هم مصطفون كل طائفة مقابل الأخرى انفرد غياث الدين أخو جلال الدين فيمن وافقه من الأمراء على مفارقة جلال الدين واعتزلوا وقصدوا الجهة ساروا إليها فلما رآهم التتر قد فارقوا العسكر ظنوهم يريدون ان يأتوهم من وراء ظهورهم ويقاتلوهم من جهتين فانهزم التتر لهذا الظن وتبعهم صاحب بلاد فارس. وأما جلال الدين فإنه لما رأى مفارقة أخيه إياه ومن معه من الأمراء ظن
476 ان التتر قد رجعوا خديعة ليستدرجوه فعاد منهزما ولم يجسر [أن] يدخل أصفهان لئلا يحصره فمضى إلى سميرم. واما صاحب فارس فلما أبعد في اثر التتر ولم ير جلال الدين ولا عسكره معه خاف التتر فعاد عنهم. وأما التتر فلما لم يروا في آثارهم أحدا يطلبهم وقفوا ثم عادوا إلى أصفهان فلم يجدوا في طريقهم من يمنعهم فوصلوا إلى أصفهان فحصروها وأهلها يظنون ان جلال الدين قد عدم فبينما هم كذلك والتتر يحصرونهم إذ وصل قاصد من جلال الدين إليهم يعرفهم سلامته ويقول إني أدور حتى يجتمع إلي من سلم من العسكر وأقصدكم ونتفق انا وأنتم على ازعاج التتر وترحيلهم عنكم. فأرسلوا اليه يستدعونه إليهم ويعدونه النصرة والخروج معه إلى عدوه وفيهم شجاعة عظيمة فسار إليهم واجتمع بهم وخرج أهل أصفهان معه فقاتلوا التتر فانهزم التتر أقبح هزيمة وتبعهم جلال الدين إلى الري يقتل ويأسر فلما ابعدوا عن الري أقام بها وأرسل اليه ابن جنكزخان يقول إن هؤلاء ليسوا من أصحابنا انما نحن أبعدناهم عنا فلما امن جانب جنكزخان امن وعاد إلى آذربيجان. ذكر خروج الفرنج إلى الشام وعمارة صيدا وفي هذه السنة خرج كثير من الفرنج من بلادهم التي هي في الغرب من صقلية وما وراءها من البلاد إلى بلادهم التي بالشام عكا وصور وغيرهما من ساحل الشام فكثر جميعهم وكان قد خرج قبل هؤلاء جمع آخر
477 أيضا الا انهم لم تمكنهم الحركة والشرع في أمر الحرب لأجل ان ملكهم الذي هو المقدم عليهم هو ملك الألمان ولقبه أنبرور قيل معناه ملك الأمراء ولأن المعظم كان حيا وكان شهما شجاعا مقدما فلما توفي المعظم كما ذكرناه وولي بعده ابنه وملك دمشق طمع الفرنج وظهورا من عكا وصور وبيروت إلى مدينة صيدا وكانت مناصفة بينهم وبين المسلمين وسورها خراب فعمروها واستولوا عليها. وإنما تم لهم ذلك بسبب تخريب الحصون القريبة منها تبنين وهونين وغيرهما وقد تقدم ذكر ذلك قبل مستقصى فعظمت شوكة الفرنج وقوي طمعهم واستولى في طريقه على جزيرة قبرس وملكها وسار منها إلى عكا فارتاع المسلمون لذلك والله تعالى يخذله وينصر المسلمين بمحمد وآله ثم إن ملكهم أنبرور وصل إلى الشام. ذكر ملك كيقباذ أرزنكان وفي هذه السنة ملك علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان وهو صاحب قونية واقصروا وملطية وغيرها من بلاد الروم أرزنكان وسبب ملكه إياها ان صاحبها وبهرام شاه وكان قد طال ملكه لها وجاوز ستين سنة توفي ولم يزل في طاعة قلج أرسلان وأولاده بعده فلما توفي ملك بعده ولده علاء الدين داود شاه فأرسل اليه كيقباذ يطلب منه عسكرا ليسير معه إلى مدينة أرزن الروم ليحصرها ويكون هو مع العسكر ففعل ذلك وسار في عسكره اليه فلما وصل قبض عليه واخذ مدينة أرزنكان
478 منه وله حصن من امنع الحصون اسمه كماخ وفيه مستحفظ لداود شاه فأرسل اليه ملك الروم يحصره فلم يقدر العسكر على القرب منه لعلوه وارتفاعه وامتناعه فتهدد داود شاه ان لم يسلم كماخ فأرسل إلى نائبه في التسليم فسلم القلعة إلى كيقباذ. وأراد كيقباذ المسير إلى أرزن الروم ليأخذها وبها صاحبها ابن عمه طغرل شاه بن قلج أرسلان فلما سمع صاحبها بذلك أرسل إلى الأمير حسام الدين علي النائب عن الملك الأشرف بخلاط يستنجده واظهر طاعة الأشرف فسار حسام الدين فيمن عنده من العساكر وكان قد جمعها من الشام وديار الجزيرة خوفا من ملك الروم خافوا انه إذا ملك أرزن الروم يتعدى أو يقصد خلاط فسار الحاجب حسام الدين إلى أرزن الروم ومنع عنها. ولما سمع كيقباذ بوصول العساكر إليها لم يقدر على قصدها فسار من أرزنبكان إلى بلاده وكان قد أتاه الخبر ان الروم الكفار المجاورين لبلاده قد ملكوا منه حصنا يسمى صنوب وهو من أحصن القلاع مطل على البحر بحر الخزر فلما وصل إلى بلاده سير العسكر اليه وحصره برا وبحرا فاستعاده من الروم وسار إلى أنطاكية ليشتي بها على عادته. ذكر خروج الملك الكامل في هذه السنة في شوال سار الملك الكامل محمد بن الملك العادل صاحب مصر إلى الشام فوصل إلى البيت المقدس حرسه الله تعالى وجعله دار السلام أبدا ثم سار عنه وولى بمدينة نابلس وشحن على تلك البلاد
479 جميعها وكانت من اعمال دمشق وهو إلى الملك المعظم فخاف ان يقصده ويأخذ دمشق منه فأرسل إلى عمه الملك الأشرف يستنجده ويطلبه ليحضر عنده بدمشق فسار اليه جريدة فدخل دمشق. فلما سمع الكامل بذلك لم يتقدم إليه لأن البلد منيع وقد صار به من يمنعه ويحميه وأرسل اليه الملك الأشرف يستعطفه ويعرفه انه ما جاء إلى دمشق إلا طاعة له وموافقة لأغراضه والاتفاق معه على منع الفرنج عن البلاد فأعاد الكامل الجواب يقول إني ما جئت إلى هذه البلاد الا بسبب الفرنج فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه وقد عمروا صيدا وبعض قيسارية ولم يمنعوا وأنت تعلم ان عمنا السلطان صلاح الدين فتح البيت المقدس فصار لنا بذلك الذكر الجميل على تقضي الأعصار وممر الأيام فإن أخذه الفرنج حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما يناقض ذلك الذكر الجميل الذي ادخره عمنا وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى؟ ثم انهم ما يقنعون حينئذ بما اخذوه ويتعدون إلى غيره وحيث قد حضرت أنت فأنا أعود إلى مصر واحفظ أنت البلاد ولست بالذي يقال عني اني قاتلت أخي أو حصرته حاشا لله تعالى. وتأخر عن نابلس نحو الديار المصرية ونزل تل العجول فخاف الأشرف والناس قاطبة بالشام وعلموا أنه إن عاد استولى الفرنج على البيت المقدس وغيره مما يجاوره لا مانع دونه فترددت الرسل وسار الأشرف بنفسه إلى الكامل أخيه فحضر عنده وكان وصوله ليلة عيد الأضحية ومنعه من العود إلى مصر فأقاما بمكانهما.
480 ذكر نهب جلال الدين بلاد أرمينية في هذه السنة وصل جلال الدين خوارزمشاه إلى بلاد خلاط وتعدى خلاط إلى صحراء موش وجبل حور ونهب الجميع وسبى الحريم واسترق الأولاد وقتل الرجال وخرب القرى وعاد إلى بلاده. ولما وصل الخبر إلى البلاد الجزرية حران وسروج وغيرهما انه قد جاز خلاط إلى جور وانه قد قرب منهم خاف أهل البلاد ان يجيء إليهم لأن الزمان كان شتاء وظنوا انه يقصد الجزيرة ليشتي بها لأن البرد بها ليس بالشديد وعزموا على الانتقال من بلادهم إلى الشام ووصل بعض أهل سروج إلى منبج من ارض الشام فأتاهم الخبر انه قد نهب البلاد وعاد فأقاموا وكان سبب عوده ان الثلج سقط ببلاد خلاط كثيرا لم يعهد مثله فأسرع العود. ذكر عدة حوادث في هذه السنة رخصت الأسعار بديار الجزيرة جميعها وجاءت الغلات لهم من الحنطة والشعير جيدا الا ان الرخص لم يبلغ الأول الذي كان قبل الغلاء انما صارت الحنطة كل خمس مكاكيك بدينار والشعير كل سبعة عشر مكوكا بالموصلي بدينار.
481 626 ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة دكر تسليم البيت المقدس إلى الفرنج في هذه السنة أول ربيع الآخر تسلم الفرنج لعنهم الله البيت المقدس صلحا اعاده الله إلى الاسلام سريعا. وسبب ذلك ما ذكرناه سنة خمس وعشرين وستمائة من خروج الأنبرور وملك الفرنج من بلاد داخل البحر إلى ساحل الشام وكانت عساكره قد سبقته ونزلوا بالساحل وأفسدوا من يجاورهم من بلاد المسلمين ومضى إليهم وهم بمدينة صور طائفة من المسلمين يسكنون الجبال المجاورة لمدينة صور وأطاعوهم وصاروا معهم وقوي طمع الفرنج بموت الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق. ولما وصل الأنبرور إلى الساحل نزل بمدينة عكا وكان الملك الكامل صاحب مصر قد خرج من الديار المصرية يريد الشام بعد وفاة أخيه المعظم وهو نازل بتل العجول يريد ان يملك دمشق من صلاح الدين داود بن المعظم وهو صاحبها يومئذ وكان داود لما سمع بقصد عمه الملك الكامل له قد أرسل إلى عمه الملك الأشرف صاحب البلاد الجزرية يستنجده ويطلب منه المساعدة على دفع عمه عنه فسار إلى دمشق فترددت الرسل بينه وبين أخيه الملك الكامل في الصلح فاصطلحا واتفقا وسار الملك الأشرف إلى الملك الكامل واجتمع به.
482 فلما اجتمعا ترددت الرسل بينهما وبين الأنبرور ملك الفرنج دفعات كثيرة فاستقرت القاعدة على ان يسلموا اليه البيت المقدس ومعه مواضع يسيرة من بلاده ويكون باقي البلاد مثل الخليل ونابلس والغور وطبرية وغير ذلك بيد المسلمين ولا يسلم إلى الفرنج إلا البيت المقدس والمواضع التي استقرت معه. وكان سور البيت المقدس خرابا [قد] خربه الملك المعظم وقد ذكرنا ذلك وتسلم الفرنج البيت المقدس واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه يسر الله فتحه وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه، آمين. ذكر ملك الملك الأشرف مدينة دمشق وفي هذه السنة يوم الاثنين ثاني شعبان ملك الملك الأشرف بن الملك العادل مدينة دمشق من ابن أخيه صلاح الدين داود بن المعظم. وسبب ذلك ما ذكرناه ان صاحب دمشق لما خاف من عمه الملك الكامل أرسل إلى عمه الأشرف يستنجده ويستعين به على دفع الكامل فسار اليه من البلاد الجزرية ودخل دمشق وفرح به صاحبها وأهل البلد وكانوا قد احتاطوا وهم يتجهزون للحصار فأمر بإزالة ذلك وترك ما عزموا عليه من الاحتياط وحلف لصاحبها على المساعدة والحفظ له ولبلاده عليه وراسل الملك الكامل واصطلحا وظن صاحب دمشق انه معهما في الصلح. وسار الأشرف إلى أخيه الكامل واجتمعا في ذي الحجة من سنة خمس
483 وعشرين، يوم العيد وسار صاحب دمشق إلى بيسان وأقام بها وعاد الملك الأشرف من عند أخيه واجتمع هو وصاحب دمشق ولم يكن الأشرف في كثرة من العسكر فبينما هما جالسان في خيمة لهما وإذ قد دخل عز الدين أيبك مملوك المعظم الذي كان صاحب دمشق وهو أكبر أمير مع ولده فقال لصاحبه داود قم اخرج وإلا قبضت الساعة فأخرجه ولم يمكن الأشرف منعه لأن أيبك كان قد أركب العسكر الذي له جميعه وكانوا أكثر من الذين مع الأشرف فخرج داود وسار هو وعسكره إلى دمشق. وكان سبب ذلك أن أيبك قيل له ان الأشرف يريد القبض على صاحبه واخذ دمشق منه ففعل ذلك فلما عادوا وصلت العساكر من الكامل إلى الأشرف وسار فنازل دمشق وحصرها وأقام محاصرا لها إلى ان وصل اليه الملك الكامل فحينئذ اشتد الحصار وعظم الخطب على أهل البلد وبلغت القلوب الحناجر. وكان من أشد الأمور على صاحبها ان المال عنده قليل لأن أمواله بالكرك ولوثوقه بعمه الأشرف لم يحضر منها شيئا فاحتاج إلى ان باع حلي نسائه وملبوسهم وضاقت الأمور عليه فخرج إلى عمه الكامل وبذل له تسليم دمشق على ان يبقي عليه الكرك وقلعة الشوبك والغور ونابلس وتلك الأعمال وان يبقى على ايبك صرخد وأعمالها. وتسليم الكامل دمشق وجعل نائبه بالقلعة إلى ان سلم اليه اخوه الأشرف حران والرها والرقة وسروج ورأس العين من الجزيرة فلما تسلم ذلك سلم قلعة دمشق إلى أخيه الأشرف فدخلها وأقام بها وسار الكامل إلى الديار الجزرية فأقام بها إلى ان استدعى أخاه الأشرف بسبب حصر جلال الدين
484 ابن خوارزمشاه مدينة خلاط فلما حضر عنده بالرقة عاد الكامل إلى ديار مصر وأما الأشرف فكان منه ما نذكره إن شاء الله تعالى. ذكر القبض على الحاجب علي وقتله وفي هذه السنة ارسل الملك الأشرف مملوكه عز الدين أيبك وهو أمير كبير في دولته إلى مدينة خلاط وأمره بالقبض على الحاجب حسام الدين علي بن حماد وهو المتولي لبلاد خلاط والحاكم فيها من قبل الأشرف ولم تعلم شيئا يوجب القبض عليه لأنه كان مشفقا عليه ناصحا له حافظا لبلاده حسن السيرة مع الرعية ولقد وقف هذه المدة الطويلة في وجه خوارزمشاه جلال الدين وحفظ خلاط حفظا يعجز غيره عنه وكان مهتما بحفظ بلاده وذابا عنها وقد تقدم من ذكر قصده بلاد جلال الدين والاستيلاء على بعضها ما يدل على همة عالية وشجاعة تامة وصار لصاحبه به منزلة عظيمة فإن الناس يقولون بعض غلمان الملك الأشرف يقاوم خوارزمشاه. وكان، رحمه الله، كثير الخير والاحسان لا يمكن أحدا من ظلم وعمل كثيرا من اعمال البر من الخانات في الطرق والمساجد في البلاد وبنى بخلاط بيمارستانا وجامعا وعمل كثيرا من الطرق وأصلحها كان يشق سلوكها. فلما وصل ايبك إلى خلاط قبض عليه ثم قتله غيلة لأنه كان عدوه ولما قتل ظهر اثر كفايته فإن جلال الدين حصر خلاط بعد قبضه وملكها على ما نذكره إن شاء الله ولم يمهل الله ايبك بل انتقم منه سريعا فإن جلال
485 الدين أخذ أيبك أسيرا لما ملك خلاط مع غيره من الأمراء فلما اصطلح الأشرف وجلال الدين اطلق الجميع وذكر ان ايبك قتل. وكان سبب قتله أن مملوكا للحاجب علي كان قد هرب إلى جلال الدين فلما أسر ايبك طلبه ذلك المملوك من جلال الدين ليقتله بصاحبه الحاجب علي فسلمه اليه فقتله وبلغني أن الملك الأشرف رأى في المنام كأن الحاجب عليا قد دخل إلى مجلس فيه أيبك فأخذ منديلا وجعله في رقبة أيبك وأخذه وخرج فأصبح الملك الأشرف وقال قد مات أيبك فإني رأيت في المنام كذا وكذا. ذكر ملك الكامل مدينة حماة وفي هذه السنة أواخر شهر رمضان ملك الملك الكامل مدينة حماة وسبب ذلك ان الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر وهو صاحب حماة توفي على ما نذكره ولما حضرته الوفاة حلف الجند وأكابر البلد لولده الأكبر ويلقب بالملك المظفر وكان قد سيره أبوه إلى الملك الكامل صاحب مصر لأنه كان قد تزوج بابنته وكان لمحمد ولد آخر اسمه قلج أرسلان ولقبه صلاح الدين وهو بدمشق فحضر إلى مدينة حماة فسلمت إليه واستولى على المدينة وعلى قلعتها فأرسل الملك الكامل يأمره ان يسلم البلد إلى أخيه الأكبر فإن أباه أوصى له به فلم يفعل وترددت الرسل في ذلك إلى الملك المعظم صاحب دمشق فلم تقع الإجابة. فلما توفي المعظم وخرج الكامل إلى الشام وملك دمشق سير جيشا
486 إلى حماة فحصرها ثالث شهر رمضان وكان المقدم على هذا الجيش أسد الدين شيركوه صاحب حمص وأمير كبير من عسكره يقال له فخر الدين عثمان ومعهما ولد محمد تقي الدين الذي كان عند الكامل فبقي الحصار على البلد عدة أيام. وكان الملك الكامل قد سار عن دمشق ونزل على سلمية يريد العبور إلى البلاد الجزرية حران وغيرها فلما نازلها قصده صاحب حماة صلاح الدين ونزل اليه من قلعته ولم يكن لذلك سبب إلا أمر الله تعالى، فإن صلاح الدين قال لأصحابه أريد النزول إلى الملك الكامل فقالوا له ليس بالشام أحصن من قلعتك وقد جمعت من الذخائر ما لا حد له فلأي شيء تنزل اليه ليس هذا برأي فأصبر على النزول وأصروا على منعه فقال في آخر الأمر اتركوني انزل وإلا ألقيت نفسي من القلعة فحينئذ سكتوا عنه فنزل في نفر يسير ووصل إلى الكامل فاعتقله إلى ان سلم مدينة حماة وقلعتها إلى أخيه الأكبر الملك المظفر وبقي بيده قلعة بارين حسب فإنها كانت له، وكان هو كالباحث عن حتفه بظلفه. ذكر حصر جلال الدين خلاط وملكها وفي هذه السنة أوائل شوال حصر جلال الدين خوارزمشاه مدينة خلاط وهي للملك الأشرف وبها عسكره فامتنعوا بها وأعانهم أهل البلد خوفا من جلال الدين لسوء سيرته وأسرفوا في الشتم والسفه فأخذه اللجاج معهم وأقام عليهم جميع الشتاء محاصرا وفرق كثيرا من عساكره في القرى والبلاد القريبة من شدة البرد وكثرة الثلج فإن خلاط من أشد البلاد بردا وأكثرها ثلجا. وأبان جلال الدين عن عزم قوي وصبر تحار العقول منه ونصب
487 عليها عدة منجنيقات ولم يزل يرميها بالحجارة حتى خرب بعض سورها فأعاد أهل البلد عمارته ولم يزل مصابرهم وملازمهم إلى أواخر جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين [وستمائة]، فزحف إليها زحفا متتابعا وملكها عنوة وقهرا يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الأولى سلمها اليه بعض الأمراء غدرا. فلما ملك البلد صعد من فيه من الأمراء إلى القلعة التي لها وامتنعوا بها وهو منزلهم ووضع السيف في أهل [البلد]، وقتل من وجد به منهم وكانوا قد قلوا فإن بعضهم فارقوه خوفا وبعضهم خرج منه من شدة الجوع وبعضهم مات من القبلة وعدم القوت فإن الناس في خلاط اكلوا الغنم ثم البقر ثم الجواميس ثم الخيل ثم الحمير ثم البغال والكلاب والسنانير وسمعنا أنهم كانوا يصطادون الفار ويأكلونه وصبروا صبرا لم يلحقهم فيه أحد. ولم يملك من بلاد خلاط وغيرها وما سواها من البلاد لم يكونوا ملكوه وخربوا خلاط وأكثروا القتل فيها ومن سلم هرب في البلاد وسبوا الحريم واسترقوا الأولاد وباعوا الجميع فتمزقوا كل ممزق وتفرقوا في البلاد ونهبوا الأموال وجرى على أهلها ما لم يسمع بمثله لا جرم لم يمهله الله تعالى وجرى عليه من الهزيمة بين المسلمين والتتر ما نذكره ان شاء الله تعالى. ذكر عدة حوادث في أواخر هذه السنة قصد الفرنج حصن بارين بالشام ونهبوا بلاده واعماله وأسروا وسبوا ومن جملة من ظفروا به طائفة من التركمان كانوا نازلين في ولاية بارين فأخذوا الجميع ولم يسلم منهم إلا النادر الشاذ والله أعلم.
488 627 ثم دخلت سنة سبع وعشرين وستمائة ذكر انهزام جلال الدين من كيقباذ والأشرف في هذه السنة يوم السبت الثامن والعشرين من رمضان انهزم جلال الدين خوارزمشاه من علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان صاحب بلاد الروم قونية واقصروا وسيواس وملطية وغيرها ومن الملك الأشرف، صاحب دمشق وديار الجزيرة وخلاط. وسبب ذلك ان جلال الدين كان قد اطاعه صاحب أرزن الروم وهو ابن عم علاء الدين ملك الروم وبينه وبين علاء الدين عداوة مستحكمة وحضر صاحب أرزن الروم عند جلال الدين على خلاط واعانه على حصرها فخافهما علاء الدين فأرسل إلى الملك الكامل وهو حينئذ بحران يطلب منه ان يحضر أخاه الأشرف من دمشق فإنه كان مقيما بها بعد ان ملكها، وتابع علاء الدين الرسل بذلك خوفا من جلال الدين فأحضر الملك الكامل أخاه الأشرف من دمشق فحضر عنده ورسل علاء الدين اليهما متتابعة يحث الأشرف على المجيء اليه والاجتماع به حتى قيل إنه في يوم واحد وصل إلى الكامل والأشرف من علاء الدين خمسة رسل ويطلب من الجميع وصول الأشرف إليه ولو وحده فجمع عساكر الجزيرة والشام وسار إلى علاء الدين فاجتمعا بسيواس وسارا نحو خلاط فسمع جلال
489 الدين بهما فسار اليهما مجدا في السير فوصل اليهما بمكان يعرف بباسي حمار وهو من اعمال أرزنجان فالتقوا هناك. وكان مع علاء الدين خلق كثير قيل كانوا عشرين الف فارس وكان مع الأشرف نحو خمسة آلاف إلا انهم من العساكر الجيدة الشجعان لهم السلاح الكثير والدواب الفارهة من العربيات وكل منهم قد جرب الحرب وكان المقدم عليهم أمير من أمراء عساكر حلب يقال له عز الدين عمر بن علي وهو من الأكراد الهكارية ومن الشجاعة في الدرجة العليا وله الأوصاف الجميلة والأخلاق الكريمة. فلما التقوا بهت جلال الدين لما رأى من كثرة العساكر لا سيما لما رأى عسكر الشام فإنه شاهد من تجملهم وسلاحهم ودوابهم ما ملأ صدره رعبا فأنشب عز الدين بن علي القتال ومعه عسكر حلب فلم يقم لهم جلال الدين ولا صبر ومضى منهزما هو وعسكره لا يلوي الأخ علي أخيه وتفرقت أصحابه وتمزقوا كل ممزق وعاد إلى خلاط فاستصحبوا معهم من فيها من أصحابهم وعادوا إلى آذربيجان فنزلوا عند مدينة خوى ولم يكونوا قد استولوا على شيء من اعمال خلاط سوى خلاط ووصل الملك الأشرف إلى خلاط فرآها خاوية على عروشها خالية من الأهل والسكان قد جرى عليهم ما ذكرناه قبل. ذكر ملك علاء الدين أرزن الروم قد ذكرنا ان صاحب أرزن الروم كان مع جلال الدين على خلاط ولم يزل معه وشهد معه المصاف المذكور فلما انهزم جلال الدين أخذ صاحب
490 أرزن الروم أسيرا فأحضر عند علاء الدين كيقباذ ابن عمه فأخذه وقصد أرزن الروم فسلمها صاحبها اليه هي وما يتبعها من القلاع والخزائن وغيرها فكان كما قيل خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين وهكذا هذا المسكين جاء إلى جلال الدين يطلب الزيادة فوعده بشيء من بلاد علاء الدين فأخذ ماله وما بيديه من البلاد وبقي أسيرا فسبحان من لا يزول ملكه. ذكر الصلح بين الأشرف وعلاء الدين وبين جلال الدين لما عاد الأشرف إلى خلاط ومضى جلال الدين منهزما إلى خوى ترددت الرسل بينهما فاصطلحوا كل منهم على ما بيده واستقرت القواعد على ذلك وتحالفوا فلما استقر الصلح وجرت الأيمان عاد الأشرف إلى سنجار وسار منها إلى دمشق فأقام جلال الدين ببلاده من آذربيجان إلى ان خرج عليه التتر على ما نذكره ان شاء الله تعالى. ذكر ملك شهاب الدين غازي مدينة أرزن كان حسام الدين صاحب مدينة أرزن من ديار بكر لم يزل مصاحبا للملك الأشرف مناصحا له مشاهدا جميع حروبه وحوادثه وينفق أمواله في طاعته ويبذل نفسه وعساكره في مساعدته فهو يعادي أعداءه ويوالي أولياءه. ومن جملة موافقته انه كان في خلاط لما حصرها جلال الدين فأسره
491 جلال الدين وأراد ان يأخذ منه مدينة أرزن فقيل له ان هذا من بيت قديم عريق في الملك وانه ورث هذه أرزن من اسلافه وكان لهم سواها من البلاد فخرج الجميع من أيديهم فعطف عليه ورق له وأبقى عليه مدينته وأخذ عليه العهود والمواثيق انه لا يقاتله. فلما جاء الملك الأشرف وعلاء الدين محاربين لجلال الدين سار شهاب الدين غازي بن الملك العادل وهو أخو الأشرف وله مدينة ميافارقين ومدينة حاني وهو بمدينة أرزن فحصره بها ثم ملكها صلحا وعوضه عنها بمدينة حاني من ديار بكر. وحسام الدين هذا نعم الرجل حسن السيرة كريم جواد لا يخلو بابه من جماعة يريدون اليه يستمنحونه وسيرته جميلة في ولايته ورعيته وهو من بيت قديم يقال له بيت طغان أرسلان كان لهم من أرزن بدليس ووسطان وغيرهما ويقال لهم بيت الأحدب وهذه البلاد معهم من أيام ملكشاه بن ألب أرسلان السجلوقي فأخذ بكتمر صاحب خلاط منهم بدليس اخذها من عم حسام الدين هذا لأنه كان موافقا لصلاح الدين يوسف بن أيوب فقصده بكتمر لذلك وبقيت أرزن بيد هذا إلى الان فأخذت منه ولكل أول آخر فسبحان من لا أول له ولا آخر لبقائه.
492 ذكر ملك سونج قشيالوا قلعة رويندز وفي هذه السنة ظهر أمير من أمراء التركمان اسمه وسونج ولقبه شمس الدين واسم قبيلته قشيالوا وقوي امره وقطع الطريق وكثر جمعه وكان بين إربل وهمذان وهو ومن معه يقطعون الطريق ويفسدون في الأرض ثم انه تعدى إلى قلعة منيعة اسمها سارو وهي لمظفر الدين وقتل عندها أميرا كبيرا من امراء مظفر الدين يعرف بعز الدين الحميدي فجمع مظفر الدين وأراد استعادتها منه فلم يمكنه لحصانتها ولكثرة الجموع مع هذا الرجل فاصطلحت على ترك القلعة بيده. وكان عسكر لجلال الدين خوارزمشاه يحصرون قلعة رويندز وهي من قلاع أذربيجان من أحصن القلاع وأمنعها لا يوجد مثلها وقد طال الحصار على من بها فأذعنوا بالتسليم فأرسل جلال الدين بعض خواص أصحابه وثقاته ليتسلمها وأرسل معه الخلع والمال لمن بها فلما صعد ذلك القاصد إلى القلعة وتسلمها اعطى بعض من بالقلعة ولم يعط البعض واستذلهم وطمع فيهم حيث استولى على الحصن فلما رأى من لم يأخذ شيئا من الخلع والمال ما فعل بهم ارسلوا إلى سونج يطلبونه ليسلموا اليه القلعة فسار إليهم في أصحابه فسلموها اليه فسبحان من إذا أراد أمرا سهله. قلعة رويندز هذه لم تزل تتقاصر عنها قدرة أكابر الملوك وعظمائهم من قديم الزمان وحديثه وتضرب الأمثال بحصانتها لما أراد الله سبحانه وتعالى ان يملكها هذا الرجل الضعيف سهل له الأمور فملكها بغير قتال ولا تعب وزال عنها أصحاب مثل جلال الدين الذي كل ملوك الأرض نهابه وتخافه وكان أصحاب جلال الدين كما قيل رب ساع لقاعد.
493 فلما ملكها سونج طمع في غيرها لا سيما مع اشتغال جلال الدين بما اصابه من الهزيمة ومجئ التتر فنزل من القلعة إلى مراغة وهي قريب منها فحصرها فأتاه سهم غرب فقتله فلما قتل ملك [قلعة] رويندز أخوه ثم إن هذا الأخ الثاني نزل من القلعة وقصد أعمال تبريز ونهبها وعاد إلى القلعة ليجعل فيها من ذلك النهب والغنيمة ذخيرة خوفا من التتر وكانوا قد خرجوا فصادفه طائفة من التتر فقتلوه وأخذوا ما معه من النهب ولما قتل ملك القلعة ابن أخت له وكان هذا جميعه في مدة سنتين فأف لدينا لا تزال تتبع فرحة بترحة وكل حسنة بسيئة.
494 628 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة ذكر خروج التتر إلى آذربيجان وما كان منهم في أول هذه السنة وصل التتر من بلاد ما وراء النهر إلى آذربيجان وقد ذكرنا قبل كيف ملكوا ما وراء النهر وما صنعوه بخراسان وغيرها من البلاد من النهب والتهريب والقتل واستقر ملكهم بما وراء النهر وعادت بلاد ما وراء النهر انعمرت وعمروا مدينة تقارب مدينة خوارزم عظيمة وبقيت مدن خراسان خرابا لا يجسر أحد من المسلمين [أن] يسكنها. وأما التتر فكانوا تغير كل قليل طائفة منهم ينهبون ما يرونه بها فالبلاد خاوية على عروشها فلم يزالوا كذلك إلى ان ظهر منهم طائفة سنة خمس وعشرين [وستمائة] فكان بينهم وبين جلال الدين ما ذكرناه وبقوا كذلك فلما كان الآن وانهزم جلال الدين من علاء الدين كيقباذ ومن الأشرف كما ذكرناه سنة سبع وعشرين [وستمائة] أرسل مقدم الإسماعيلية الملاحدة إلى التتر يعرفهم ضعف جلال الدين بالهزيمة الكائنة عليه ويحثهم على قصده عقيب الضعف ويضمن لهم الظفر به للوهن الذي صاروا إليه. وكان جلال الدين سئ السيرة قبيح التدبير لملكه لم يترك أحدا من الملوك المجاورين له الا عاداه ونازعه الملك وأساء مجاورته فمن ذلك انه أول ما ظهر في أصفهان وجمع العساكر قصد خوزستان فحصر مدينة ششتر وهي للخليفة فحصرها وسار إلى دقوقا فنهبها وقتل فيها فأكثر وهي خليفة أيضا،
495 ثم ملك آذربيجان وهي لأوزبك فملكها وقصد الكرج وهزمهم وعاداهم ثم عادى الملك الأشرف صاحب خلاط ثم عادى علاء الدين صاحب بلاد الروم وعادى الإسماعيلية ونهب بلادهم وقتل فيهم فأكثر وقرر عليهم وظيفة من المال كل سنة وكذلك غيرهم فكل من الملوك تخلى عنه ولم يأخذ بيده. فلما وصلت كتب مقدم الإسماعيلية إلى التتر يستدعيهم إلى قصد جلال الدين بادر طائفة منهم فدخلوا بلاده واستولوا على الري وهمذان وما بينهما من البلاد ثم قصدوا آذربيجان فخربوا ونهبوا وقتلوا من ظفروا به من أهلها وجلال الدين لا يقدم على أن يلقاهم ولا يقدر على منعهم على البلاد قد ملئ رعبا وخوفا وانضاف إلى ذلك ان عسكره اختلفوا عليه وخرج وزيره عن طاعته في طائفة كثيرة من العسكر. وكان السبب ان غريبا اظهر من قلة عقل جلال الدين ما لم يسمع بمثله وذلك أنه كان له خادم خصي وكان جلال الدين يهواه واسمه قلج فاتفق ان الخادم مات فأظهر من الهلع والجزع عليه ما لم يسمع بمثله ولا لمجنون ليلى وأمر الجند والأمراء ان يمشوا في جنازته رجالة وكان موته بموضع بينه وبين تبريز عدة فراسخ فمشى الناس رجالة ومشى بعض الطريق راجلا فألزمه أمراؤه ووزيره بالركوب فلما وصل إلى تبريز ارسل إلى أهل البلد فأمرهم بالخروج عن البلد لتلقي تابوت الخادم ففعلوا فأنكر عليهم حيث لم يبعدوا ولم يظهروا من الحزن والبكاء أكثر مما فعلوا وأراد معاقبتهم على ذلك فشفع فيهم أمراؤه فتركهم. ثم لم يدفن ذلك الخصي وإنما كان يستصحبه معه اين ساروا وهم يلطم ويبكي فامتنع من الأكل والشراب وكان إذا قدم له قدم له طعام يقول احملوا من هذا إلى قلج ولا يتجاسر أحد يقول انه مات فإنه قيل له مرة
496 إنه مات فقيل القائل له ذلك إنما كانوا يحملون اليه الطعام ويعودون يقولون إنه يقبل الأرض ويقول إنني اصلح مما كنت فلحق أمراءه من الغيظ والأنفة من هذه الحالة ما حملهم على مفارقة طاعته والانحياز عنه مع وزيره فبقي حيران لا يدري ما يصنع لا سيما لما خرج التتر فحينئذ دفن الغلام الخصي وراسل الوزير واستماله وخدعه إلى ان حضر عنده فلما وصل اليه بقي أياما وقتله جلال الدين وهذه نادرة غريبة لم يسمع بمثلها. ذكر ملك التتر مراغة وفي هذه السنة حر التتر مراغة من آذربيجان فامتنع أهلها ثم أذعن أهلها بالتسليم على أمان طلبوه فبذلوا لهم الأمان وتسلموا البلد وقتلوا فيه إلا انهم لم يكثروا القتل وجعلوا في البلد شحنة وعظم حينئذ شأن التتر واشتد خوف الناس منهم بأذربيجان فالله تعالى ينصر الإسلام والمسلمين نصرا من عنده فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد ولا في الدين بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه وظلم رعيته وهذا أخوف عندي من العدو وقال الله تعالى: (اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة). ذكر وصول جلال الدين إلى آمد وانهزامه عندها وما كان منه لما رأى جلال الدين ما يفعله التتر في بلاد أذربيجان وانهم مقيمون بها يقتلون وينهبون ويخربون السواد ويجبون الأموال وهم
497 عازمون على قصده ورأى ما هو عليه من الوهن والضعف فارق آذربيجان إلى بلاد خلاط وأرسل إلى النائب بها عن الملك الأشرف يقول له ما جئنا للحرب ولا للأذى انما خوف هذا العدو حملنا على قصد بلادكم. وكان عازما على ان يقصد ديار بكر والجزيرة ويقصد باب الخليفة يستنجده وجميع الملوك على التتر ويطلب منهم المساعدة على دفعهم ويحذرهم عاقبة اهمالهم فوصل إلى خلاط فبلغه ان التتر يطلبونه وهم مجدون في أثره فسار إلى آمد وجعل اليزك في عدة مواضع خوفا من البيات فجاءت طائفة من التتر يقصدون أثره فوصلوا اليه على غير الطريق الذي فيه اليزك فأوقعوا به ليلا وهو بظاهر مدينة آمد فمضى منهزما على وجهه وتفرق من معه من العسكر في كل وجه فقصد طائفة من عسكره حران فأوقع بهم الأمير صواب مقدم الملك الكامل بحران ومعه العسكر فأخذوا ما معهم من مال وسلاح ودواب وقصد طائفة منهم نصيبين والموصل وسنجار وإربل وغير ذلك من البلاد فتخطفهم الملوك والرعايا وطمع فيهم كل أحد حتى الفلاح والكردي والبدوي وغيرهم وانتقم منهم وجازاهم على سوء صنيعهم وقبيح فعلهم في خلاط وغيرها وبما سعوا في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين فازداد جلال الدين ضعفا إلى ضعفه ووهنا إلى وهنه وبمن تفرق من عسكره وبما جرى عليهم. فلما فعل التتر بهم ذلك ومضى منهزما منهم دخلوا ديار بكر في طلبه لأنهم لم يعلموا اين قصد ولا أي طريق سلك فسبحان من بدل امنهم خوفا وعزهم ذلا وكثرتهم قلة فتبارك الله رب العالمين الفعال لما يشاء.
498 ذكر دخول التتر ديار بكر والجزيرة وما فعلوه في البلاد من الفساد لما انهزم جلال الدين من التتر على آمد نهب التتر سواد آمد وأرزن وميافارقين وقصدوا مدينة أسعرد فقاتلهم أهلها فبذل لهم التتر الأمان فوثقوا منهم واستسلموا فلما تمكن التتر منهم بذلوا فيهم السيف وقتلوهم حتى كادوا يأتون عليهم فلم يسلم منهم إلا من اختفى وقليل ما هم. حكى لي بعض التجار وكان قد وصل آمد انهم حزروا القتلى ما يزيد على خمسة عشر الف قتيل وكان مع هذا التاجر جارية من أسعرد فذكرت ان سيدها خرج ليقاتل وكان له أم فمنعته ولم يكن لها ولد سواه فلم يصغ إلى قولها فمشت معه فقتلا جميعا وورثها ابن الأخ للام فباعها من هذا التاجر وذكرت من كثرة القتلى أمرا عظيما وان مدة الحصار كانت خمسة أيام. ثم ساروا منها إلى مدينة طنزة ففعلوا فيها كذلك وساروا من طنزة إلى واد بالقرب من طنزة يقال له وادي القريشية فيه طائفة من الأكراد يقال لهم القريشية وفيه مياه جارية وبساتين كثيرة والطريق اليه ضيق فقاتلهم القريشية فمنعوهم عنه وامتنعوا عليهم وقتل منهم كثير فعاد التتر ولم يبلغوا منهم غرضا وساروا في البلاد لا مانع يمنعهم ولا أحد يقف بين أيديهم فوصلوا إلى ماردين فنهبوا ما وجدوا من بلدها واحتمى صاحب ماردين وأهل دنيسر بقلعة ماردين وغيرهم ممن جاور القلعة احتمى بها أيضا. ثم وصلوا إلي نصيبين الجزيرة فأقاموا عليها بعض نهار ونهبوا سوادها
499 وقتلوا من ظفروا به وغلقت أبوابها فعادوا عنها ومضوا إلى بلد سنجار ووصلوا إلى الجبال من اعمال سنجار فنهبوها ودخلوا إلى الخابور فوصلوا إلى عرابان فنهبوا وقتلوا وعادوا. ومضى طائفة منهم على طريق الموصل فوصلوا إلى قرية تسمى المؤنسة وهي على مرحلة من نصيبين بينها وبين الموصل فنهبوها واحتمى أهلها وغيرهم بخان فيها فقتلوا كل من فيه. وحكي لي عن رجل منهم انه قال أخفيت منهم ببيت فيه تبن فلم يظفروا بي وكنت أراهم من نافذة في البيت فكانوا إذا أرادوا قتل انسان فيقول لا بالله فيقتلونه فلما فرغوا من القرية ونهبوا ما فيها وسبوا الحريم رأيتهم وهم يلعبون على الخيل ويضحكون ويغنون بلغتهم بقول لا بالله. ومضى طائفة منهم إلى نصيبين الروم وهي على الفرات وهي من اعمال آمد فنهبوها وقتلوا فيها ثم عادوا إلى آمد ثم إلى بلد بدليس فتحصن أهلها بالقلعة والجبال فقتلوا فيها يسيرا وأحرقوا المدينة. وحكى انسان من أهلها قال لو كان عندنا خمسمائة فارس لم يسلم من التتر أحد لأن الطريق ضيق بين الجبال والقليل يقدر على منع الكثير. ثم ساروا من بدليس إلى خلاط فحصروا مدينة من أعمال خلاط يقال لها بكري وهي من أحصن البلاد فملكوها عنوة وقتلوا كل من بها وقصدوا مدينة أرجيش من اعمال خلاط وهي مدينة كبيرة عظيمة ففعلوا كذلك وكان هذا في ذي الحجة. ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقاه الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس منهم حتى قيل ان الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس فلا يزال يقتلهم
500 واحدا بعد واحد لا يتجاسر أحد [أن] يمد يده إلى ذلك الفارس. ولقد بلغني ان انسانا منهم اخذ رجلا ولم يكن مع التتري ما يقتله به فقال له ضع رأسك على الأرض ولا تبرح فوضع رأسه على الأرض ومضى التتري احضر سيفا فقتله به. وحكى لي رجل قال كنت انا ومعي سبعة عشر رجلا في طريق فجاءنا فارس من التتر وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضا فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم فقلت لهم هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب فقالوا نخاف فقلت هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا فوالله ما جسر أحد يفعل ذلك فأخذت سكينا وقتلته وهربنا فنجونا وأمثال هذا كثير. ذكر وصول طائفة من التتر إلى إربل ودقوقا في هذه السنة في ذي الحجة وصل طائفة من التتر من آذربيجان إلى اعمال إربل فقتلوا من على طريقهم من التركمان الإيوانية والأكراد الجوزقان وغيرهم إلى ان دخلوا بلد إربل فنهبوا القرى وقتلوا من ظفروا به أهل تلك الأعمال وعملوا الأعمال الشنيعة التي لم يسمع بمثلها من غيرهم. وبرز مظفر الدين صاحب إربل في عساكره واستمد عساكر الموصل فساروا اليه فلما بلغه عود التتر إلى آذربيجان أقام في بلاده [ولم يتبعهم]، فوصلوا إلى بلد الكرخيني وبلد دقوقا وغير ذلك وعادوا سالمين لم
501 يذعرهم أحد ولا وقف في وجوههم فارس. وهذه مصائب وحوادث لم ير الناس من قديم الزمان وحديثه ما يقاربها فالله سبحانه وتعالى يلطف بالمسلمين ويرحمهم ويرد هذا العدو عنهم وخرجت هذه السنة ولم نتحقق لجلال الدين خبرا ولا نعلم هل قتل أو اختفى بم يظهر نفسه خوفا من التتر أو فارق البلاد إلى غيرها والله أعلم. ذكر طاعة أهل أذربيجان للتتر في أول هذه السنة أطاع أهل بلاد آذربيجان جميعها للتتر وحملوا إليهم الأموال والثياب الخطائي والخويي والعتابي وغير ذلك وسبب طاعتهم أن جلال الدين لما انهزم على آمد من التتر وتفرقت عساكره وتمزقوا كل ممزق وتحفظهم الناس وفعل التتر بديار بكر والجزيرة وإربل وخلاط ما فعلوا ولم يمنعهم أحد ولا وقف في وجوههم فارس وملوك الإسلام منحجرون في الأثقاب وانضاف إلى هذا انقطاع اخبار جلال الدين فإنه لم يظهر له خبر ولا علموا له حالا سقط في أيديهم وأذعنوا للتتر بالطاعة وحملوا إليهم ما طلبوا منهم من الأموال والثياب. من ذلك مدينة تبريز التي هي أصل بلاد آذربيجان ومرجع الجميع إليها والى من بها فإن ملك التتر نزل في عساكره بالقرب منها وأرسل إلى أهلها يدعوهم إلى طاعته ويتهددهم ان امتنعوا عليه فأرسلوا اليه المال الكثير والتحف من أنواع الثياب الإبريسم وغيرها وكل شيء حتى الخمر وبذلوا له الطاعة فأعاد الجواب يشكرهم ويطلب منهم ان يحضر مقدموهم عنده فقصده قاضي البلد ورئيسه وجماعة من أعيان أهله وتخلف عنهم
502 شمس الدين الطغرائي وهو الذي يرجع الجميع اليه الا انه يظهر شيئا من ذلك. فلما حضروا عنده سألهم عن امتناع الطغرائي فقالوا إنه رجل منقطع ما له بالملوك تعلق ونحن الأصل فسكت ثم طلب ان يحضروا عنده من صناع الثياب الخطائي وغيرها ليستعمل لملكهم الأعظم فإن هذا هو من اتباع ذلك الملك فاحضروا الصناع فاستعملهم في الذي أرادوا ووزن أهل تبريز الثمن وطلب منهم خركاة لملكهم أيضا فعلموا له خركاة لم يعمل مثلها وعملوا غشاءها من الأطلس الجيد المزركش وعملوا من داخلها السمور والقندر فجاءت عليهم بجملة كثيرة وقرر عليهم من المال كل سنة شيئا كثيرا ومن الثياب كذلك وترددت رسلهم إلى ديوان الخلافة وإلى جماعة من الملوك يطلبون منهم انهم لا ينصرون خوارزم شاه. ولقد وقفت على كتاب وصل من تاجر من أهل الري كان قد انتقل إلى الموصل وأقام بها هو ورفقاء له ثم سافر إلى الري في العام الماضي قبل خروج التتر فلما وصل التتر إلى الري وأطاعهم أهلها وساروا إلى آذربيجان سار هو معهم إلى تبريز فكتب إلى أصحابه بالموصل يقول إن الكافر لعنه الله ما نقدر [أن] نصفه، ولا كثرة جموعه حتى لا تنقطع قلوب المسلمين فإن الأمر عظيم ولا تظنوا ان هذه الطائفة التي وصلت إلى نصيبين والخابور والطائفة الأخرى التي وصلت إلى إربل ودقوقا كان قصدهم النهب إنما أرادوا ان يعلموا هل في البلاد من يردهم أم لا فلما عادوا أخبروا ملكهم بخلو البلاد من مانع ومدافع وان البلاد خالية من ملك وعساكر فقوي طمعهم وهم في الربيع يقصدونكم وما يبقى عندكم مقام الا ان كان في بلد الغرب فان عزمهم على قصد البلاد جميعها فانظروا لأنفسكم.
503 هذا مضمون الكتاب فانا لله وإنا اليه راجعون ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وأما جلال الدين فإلى آخر سنة ثمان وعشرين [وستمائة] لم يظهر له خبر وكذلك إلى سلخ صفر سنة تسع لم نقف له على حال والله المستعان. ذكر عدة حوادث في هذه السنة قلت الأمطار بديار الجزيرة والشام لا سيما حلب وأعمالها فإنها كانت قليلة بالمرة وغلت الأسعار بالبلاد وكان أشدها غلاء حلب الا انه لم يكن بالشديد مثل ما تقدم في السنين الماضية فأخرج أتابك شهاب الدين وهو والي الأمر بحلب والمرجع إلى امره ونهيه وهو المدبر لدولة سلطانها الملك العزيز بن الملك الظاهر والمربي له من المال والغلات كثيرا وتصدق صدقات دارة وساس البلاد سياسة حسنة بحيث لم يظهر للغلاء اثر فجزاه الله خيرا. وفيها بنى أسد الدين شيركوه صاحب حمص والرحبة قلعة عند سلمية وسماها سميمس وكان الملك الكامل لما خرج من مصر إلى الشام قد خدمه أسد الدين ونصح له وله اثر عظيم في طاعته والمقاتلة بين يديه فأقطعه مدينة سلمية فبنى هذه القلعة بالقرب من سلمية وهي على تل عال. وفيها قصد الفرنج الذين بالشام مدينة جبلة وهي بين جملة المدن المضافة إلى حلب ودخلوا إليها وأخذوا منها غنيمة وأسرى فسير أتابك شهاب الدين إليهم العساكر مع أمير كان اقطعها فقاتل الفرنج وقتل منهم كثيرا واسترد الأسرى والغنيمة.
504 وفيها توفي القاضي ابن غنائم بن العديم الحلبي الشيخ الصالح وكان من المجتهدين في العبادة والرياضة والعاملين بعلمهم فلو قال قائل انه لم يكن في زمانه اعبد منه لكان صادقا فرضي الله عنه وأرضاه فإنه من جملة شيوخنا سمعنا عليه الحديث وانتفعنا برؤيته وكلامه. وفيها أيضا في الثاني عشر من ربيع الأول توفي صديقنا أبو القاسم عبد المجيد بن العجمي الحلبي وهو وأهل بيته مقدمو السنة بحلب وكان رجلا ذا مروءة غزيرة وخلق حسن وحلم وافر ورياسة كثيرة يحب اطعام الطعام وأحب الناس اليه من يأكل طعامه ويقبل بره وكان يلقى أضيافه بوجه منبسط ولا يقعد عن ايصال راحة وقضاء حاجة فرحمه الله رحمة واسعة. تم المجلد الثاني عشر