وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان (جزء 3) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان (جزء 3) - نسخه متنی

احمد بن محمد ابن خلکان؛ محقق: احسان عباس

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان
المؤلف: ابن خلكان
الجزء: 3
الوفاة: 681
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق: إحسان عباس
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: لبنان - دار الثقافة
الناشر: دار الثقافة
ردمك:
ملاحظات:
3

1
حرف العين

7
315 عاصم المقرئ
أبو بكر عاصم بن أبي النجود بهدلة مولى بني جذيمة بن مالك بن نصر ابن قعين بن أسد كان أحد القراء السبعة والمشار إليه في القراءات أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش وأخذ عنه أبو بكر ابن عياش وأبو عمر البزار واختلفوا اختلافا شديدا في حروف كثيرة
وتوفي عاصم في سنة سبع وعشرين ومائة رحمه الله تعالى بالكوفة والنجود بفتح النون وضم الجيم وسكون الواو وبعدها دال مهملة وهي الحمارة الوحشية التي لا تحمل وقيل هي المشرفة
وبهدلة بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء وفتح الدال المهملة واللام وبعدها هاء ساكنة ويقال إنه اسم أمة

9
316 أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري
أبو بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري كان أبوه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه من اليمن في الأشعريين فأسلموا وأبو بردة كان قاضيا على الكوفة وليها بعد القاضي شريح هكذا ذكره محمد ابن سعد في كتاب الطبقات وله مكارم ومآثر مشهورة وكان أبو موسى تزوج في عمله على البصرة طنية بنت دمون وكان أبوها رجلا من أهل الطائف فولدت له أبا بردة فاسترضع له في بني فقيم في آل الغرق وسماه أبو موسى عامرا فلما شب كساه أبو شيخ ابن الغرق بردتين وغدا له به أبيه فكناه أبا بردة فذهب اسمه.
75 وكان ولده بلال قاضيا على البصرة وهم الذين يقال في حقهم ثلاثة قضاة في نسق فإن أبا موسى رضي الله عنه قضى لعمر رضي الله عنه بالبصرة ثم قضى بالكوفة في زمن عثمان رضي الله عنه. وبلال المذكور هو ممدوح ذي الرمة وله فيه غر المدائح وفيه يقول مخاطبا لناقته
(إذا ابن أبي موسى بلال بلغته
* فقام بفأس بين وصليك جازر)

10
وفيه يقول أيضا
(سمعت الناس ينتجعون غيثا
* فقلت لصيدح انتجعي بلالا)
وصيدح اسم ناقته وهو بفتح الصاد المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الدال المهملة وبعدها حاء مهملة
وكان بلال أحد نواب خالد بن عبد الله القسري المقدم ذكره في حرف الخاء فلما عزل وولي موضعه يوسف بن عمر الثقفي على العراقين حاسب خالدا ونوابه وعذبهم فمات خالد من عذابه ومات بلال من عذابه أيضا
ورأيت في بعض المجاميع أن أبا بردة جلس يوما يفتخر بأبيه ويذكر فضائله وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في مجلس عام وفيه الفرزدق الشاعر فلما أطال القول في ذلك أراد الفرزدق أن يغض منه فقال لو لم تكن لأبي موسى منقبة إلا أنه حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفاه فامتعض أبو بردة من ذلك ثم قال صدقت لكنه ما حجم أحدا قبله ولا بعده فقال الفرزدق كان أبو موسى والله أفضل من أن يجرب الحجامة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت أبو بردة على غيظ
وحكى غرس النعمة بن الصابىء في بعض تصانيفه أن أبا صفوان خالد ابن صفوان التميمي المشهور بالبلاغة كان يدخل على بلال بن أبي بردة المذكور فيحدثه فيلحن في كلامه فلما كثر ذلك على بلال قال له يا خالد تحدثني أحاديث الخلفاء وتلحن لحن السقاءات يعني النساء اللواتي يسقين الماء للناس فصار خالد بعد ذلك يأتي المسجد ويتعلم الإعراب وكف بصره فكان إذا مر به موكب بلال يقول من هذا فيقال الأمير فيقول خالد سحابة صيف عن قليل تقشع فقيل ذلك لبلال فقال لا تقشع والله حتى يصيبك منها

11
شؤبوب وأمر به فضرب مائتي سوط
76 وكان خالد كثير الهفوات لا يتأمل ما يقول ولا يفكر فيه وهو من ذرية عمرو بن الأهتم التميمي الصحابي رضي الله عنه فإنه خالد بن صفوان ابن عبد الله بن عمرو بن الأهتم بن سمي بن سنان بن خالد بن منقر التميمي المنقري واسم الأهتم سنان وإنما قيل له الأهتم لأن قيس بن عاصم المنقري ضربه بقوس فهتم ثناياه وقيل بل هتمت يوم الكلاب والله أعلم
وشبيب بن شيبة ابن عم خالد المذكور
وكانت وفاة أبي بردة المذكور في سنة ثلاث ومائة بالكوفة وقيل سنة أربع وقيل سنة ست أو سبع ومائة وقال ابن سعد مات أبو بردة والشعبي في سنة ثلاث ومائة في جمعة واحدة رحمهما الله تعالى
وسيأتي الكلام على الأشعري في ترجمة أبي الحسن إن شاء الله تعالى
317 الشعبي
أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار وذو كبار قيل من أقيال اليمن الشعبي وهو من حمير وعداده في همدان وهو كوفي تابعي جليل القدر وافر العلم روي أن
ابن عمر رضي الله عنه مر به يوما وهو يحدث

12
بالمغازي فقال شهدت القوم وإنه أعلم بها مني وقال الزهري العلماء أربعة ابن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة والحسن البصري بالبصرة ومكحول بالشام ويقال إنه أدرك خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحكى الشعبي قال أنفذني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم فلما وصلت إليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده فحبسني أياما كثيرة حتى استحثثت خروجي فلما أردت الانصراف قال لي من أهل بيت المملكة أنت فقلت لا ولكني رجل من العرب في الجملة فهمس بشيء فدفعت إلي رقعة وقال لي إذا أديت الرسائل إلى صاحبك فأوصل إليه هذه الرقعة قال فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك وأنسيت الرقعة فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج تذكرتها فرجعت فأوصلتها إليه فلما قرأها قال لي أقال لك شيئا قبل أن يدفعها إليك قلت نعم قال لي من أهل بيت المملكة أنت قلت لا ولكني من العرب في الجملة ثم خرجت من عنده فلما بلغت الباب رددت فلما مثلت بين يديه قال لي أتدري ما في الرقعة قلت لا قال اقرأها فقرأتها فإذا فيها عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره فقلت له والله لو علمت ما حملتها وإنما قال هذا لأنه لم يرك قال أفتدري لم كتبها قلت لا قال حسدني عليك وأراد أن يغريني بقتلك قال فتأدى ذلك إلى ملك الروم فقال: ما أردت إلا ما قال.
ولما حمل الشعبي إلى عبد الملك ونادمه قال له يا شعبي لا تساعدني على قبح ولا ترد علي الخطأ في مجلسي ولا تكلفني جواب التشميت ولا جواب السؤال والتعزية ودع عنك كيف أصبح الأمير وكيف أمسى واجعل بدل التعريض لي صواب الاستماع مني واعلم أن صواب الاستماع أولى من صواب القول وإذا سمعتني أتحدث فلا يفتك منه شيء وارعني فهمك وسمعك ولا تجهد نفسك في تطرية سواي ولا تستدع بذلك الزيادة من كلامي فإن

13
أسوأ الناس حالا من شكر الملوك بالباطل وأسوأ حالا منه من استخف بحقهم واعلم يا شعبي أن أقل من هذا يذهب بمالف الإحسان ويسقط حق الحرمة وان الصمت في موضعه وعند إصابته فرصة.
وكان أعرابي يجالس الشعبي ويطيل الصمت فقال له الشعبي يوما ألا تتكلم فقال أسكت فأسلم وأسمع فأعلم إن حظ المرء في أذنه له وفي لسانه لغيره.
وقال رجل للشعبي كلاما أقذع فيه فقال له ان كنت صادقا غفر الله لي وإن كنت كاذبا غفر الله لك.
وسئل الشعبي عن الرجل يعسر عن الأضحية ولا يجد ما يشتري فقال لأن اتركها وأنا موسر أحب إلي من أن اتكلفها وأنا معسر.
وقال الشعبي كانت درة عمر رضي الله عنه أهيب من سيف الحجاج وقال أيضا من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها.
وأحضر الشعبي بين يدي الحجاج وكان قد خرج مع ابن الأشعث فسلم على الحجاج بالإمرة ثم قال أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك لغير ما يعلم الله وقيل إنه
الحق وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقا قد والله خرجنا عليك وجهدنا كل الجهد فما كنا بالفجرة الأقوياء ولا البررة الأتقياء وقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إلينا أيدينا وان عفوت عنا فبحلمك وبعد فالحجة لك علينا فقال الحجاج أنت والله أحب إلي ممن يدخل علي يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول ما فعلت وما شهدت قد أمنت عندنا يا شعبي فانصرف.
وقال له الحجاج يا شعبي ما كان عبد الرحمن يزجر حين رآني نزلت دير قرة ونزل هو دير الجماجم محاربا وكان أبدا يقول هذا الكلام على سبيل الفأل والزجر.

14
وكلم الشعبي عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين في قوم حبسهم ليطلقهم فأبى فقال له أيها الأمير إن حبستهم بالباطل فالحق يخرجهم وإن حبستهم بالحق فالعفو يسعهم فأطلقهم.
وكان ضئيلا نحيفا فقيل له يوما ما لنا نراك ضئيلا فقال زوحمت في الرحم وكان قد ولد هو وأخ آخر في بطن وأقام في البطن سنتين ذكره في كتاب المعارف ويقال إن الحجاج بن يوسف الثقفي قال له يوما كم عطاءك في السنة فقال ألفين فقال ويحك كم عطاؤك فقال ألفان قال كيف لحنت أولا قال لحن الأمير فلحنت فلما أعرب أعربت وما أمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا فاستحسن ذلك منه وأجازه.
وكان مزاحا يحكى أن رجلا دخل عليه ومعه امرأة في البيت فقال أيكما الشعبي فقال هذه.
وكانت ولادته لست سنين خلت من خلافة عثمان رضي الله عنه وقيل سنة عشرين للهجرة وقيل إحدى وثلاثين وروي عنه أنه قال ولدت سنة جلولاء وهي سنة تسع عشرة وقال قتادة ولد الشعبي لأربع سنين بقين من خلافة عمر رضي الله عنه وقال خليفة بن خياط ولد الشعبي والحسن البصري في سنة إحدى وعشرين وقال الأصمعي في سنة سبع عشرة بالكوفة وتوفي بالكوفة سنة أربع وقيل ثلاث وقيل ست وقيل سبع وقيل خمس ومائة وكانت وفاته فجأة وكانت أمه من سبي جلولاء رضي الله عنه.
وشراحيل بفتح الشين المعجمة والراء وبعد الألف حاء مهملة مكسورة ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها وبعدها لام.
والشعبي بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة وبعدها باء موحدة هذه النسبة إلى شعب وهو بطن من همدان وقال الجوهري هذه النسبة إلى جبل باليمن نزله حسان بن عمرو الحميري هو وولده ودفن به وهو ذو شعبين فمن كان بالكوفة منهم قيل لهم شعبيون ومن كان منهم بمصر

15
والمغرب قيل لهم الأشعوب ومن كان منهم بالشام قيل لهم شعبانيون ومن كان باليمن قيل لهم آل ذي شعبين.
وجلولاء بفتح الجيم وضم اللام ومد آخره قرية بناحية فارس كانت بها الوقعة المشهورة زمن الصحابة رضي الله عنهم.
وكان كثيرا يتمثل بقول مسكين الدارمي
(ليست الأحلام في حال الرضى
* إنما الأحلام في وقت الغضب)
318 أم المؤمنين عائشة
أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن والدها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة شرفها الله تعالى قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل وقيل إنه
تزوجها قبل سودة زوجه إياها أبوها فأصدقها مثلما أصدق سودة وكان لها يوم تزوجها ست سنين وما تزوج بكرا سواها وقبض صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثماني عشرة سنة وماتت في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين ولها سبع وستون سنة ودفنت بالبقيع ولما ماتت بكى عليها ابن عمر رضي الله عنه فبلغ ذلك معاوية فقال له أتبكي على امرأة فقال إنما يبكي على أم المؤمنين بنوها وأما من ليس لها بابن فلا.
وقال المبرد قالت عائشة رضي الله عنها لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم

16
أن يخيرنساءه قال لي أتختارين الله ورسوله والدار الآخرة أو الحياة الدنيا وزينتها قلت الله ورسوله أحب إلي والدار الآخرة ثم قلت له أخبرت أحدا قبلي قال لا قلت لا تخبرهن فقال صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني نذيرا ولم يبعثني معنتا ولا متعنتا.
وبلغ عائشة رضي الله عنها أن أناسا يسبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقالت إن الله قطع عنهما العمل فأحب أن لا يقطع عنهما الأجر.
وقيل لعائشة رضي الله عنها متى يكون الرجل مسيئا فقالت إذا ظن أنه محسن.
قال مسلم بن دارة ما زلت أستجفي عائشة رضي الله عنها في قولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمنة الله لا بمنتك حتى سألت أبا زرعة الرازي فقال وآت الحمد أهله.
وقالت عائشة رضي الله عنها للخنساء كم تبكين على صخر وإنما هو جمرة في النار قالت ذاك أشد لجزعي عليه.
وسئلت عائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح قالت نعم كان عندي عجوز فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ادع الله أن يجعلني من أهل الجنة قال إن الجنة لا يدخلها العجائز وسمع النداء فخرج وهي تبكي فقال ما لها قالوا إنك حدثتها أن الجنة لا يدخلها العجائز قال أن الله سبحانه وتعالى يحولهن أبكارا عربا أترابا.
وكان عند عائشة رضي الله عنها طبق عنب فجاء سائل فدفعت إليه واحدة منه فضحك نساء كن فقالت إن فيما ترون مثاقيل ألذ كثيرة.
وقيل وقعت بين حيين من قريش منازعة فخرجت عائشة على بغلة تصلح بينهما فلقيها ابن أبي عتيق فقال إلى اين جعلت فداك فقالت أصلح بين هذين الحيين فقال والله ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل بعد فكيف إذا قيل يوم البغل فضحكت وانصرفت.
ومثل هذه النادرة أرسل القاضي شرف الدين بن عين الدولة الشرف ابن

17
منهال موقعه إلى الحسام بن منقذ بسبب شهادة شهدها على ابن الجمل أن يتثبت منها ويتحققها قبل أدائها ثم قال في أثناء ذلك قل له نوبة الجمل ما كانت قليل.
وكانت عائشة رضي الله عنها خرجت من المدينة حاجة وعثمان محصور ثم صدرت عن الحج فلما كانت بسرف وهو موضع قبر ميمونة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيها الخبر بقتل عثمان وبيعة علي فانصرفت راجعة إلى مكة ولحق بها طلحة والزبير ومروان بن الحكم فلما تتاموا بمكة تشاوروا فيما يريدون من الطلب بدم عثمان وهموا بالشام لمكان معاوية فصرفهم عبد الله ابن عامر عن ذلك إلى البصرة فتوجهوا إليها فأخذوا عثمان بن حنيف عامل علي بها فهموا بقتله فناشدهم الله وذكرهم صحبته لرسوا الله صلى الله عليه وسلم فأشير بضربه أسواطا فضربوه ونتفوا لحيته ورأسه حتى حاجبيه وأشفار عينيه ثم حبسوه وقتلوا خمسين رجلا كانوا معه على بيت المال وغير ذلك من أعماله فلما بلغ عليا مسيرهم خرج مبادرا إليهم واستنفر أهل الكوفة ثم سار بهم إلى البصرة وهم بضعة عشر ألفا فخرج إليه طلحة والزبير وعائشة وأهل البصرة فاقتتلوا قتالا شديدا قال عبد الله بن الزبير أمسيت يوم الجمل وفي سبع وثلاثون جراحة من طعنة وضربة وما رأيت مثل يوم الجمل قط لا يهزم منا أحد ولا منهم وما أخذ خطام الجمل أحد إلا قتل فأخذت بالخطام فقالت عائشة من قلت ابن الزبير قالت واثكل أسماء ومر بي الأشتر فعرفته فعانقته وناديت اقتلوني ومالكا فجاء ناس منا ومنهم فقاتلوا حتى تحاجزنا وضاع مني الخطام فسمعت عليا ينادي اعقروا الجمل فإنه إن عقر تفرقوا فضربه رجل فسقط فما سمعت قط أشد عجيجا منه ثم أمر علي رضي الله عنه بحمل الهودج من بين القتلى وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير فوضعاه إلى جنب البعير فأقبل محمد بن أبي بكر ومعه عمار حتى احتملاه وأدخل محمد بن أبي بكر يده فقال يا أخية قولي بنار الدنيا فقالت بنار الدنيا.

18
وقيل إن طلحة أصابه سهم فشك ركبته بصفحة الفرس وسال دمه فضعف فقال يا غلام ابغني مكانا فمات قبل أن يصل إلى الموضع الذي أمر أن يحمل إليه ورجع الزبير فقتل بوادي السباع قتله عمرو بن جرموز وعاد بسيفه إلى علي فلما رآه قال إنه لسيف طالما جلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بشر قاتل ابن صفية بالنار وأحيط بعائشة رضي الله عنها ودخل علي البصرة بمن معه فبايعه أهلها وأطلق عثمان بن حنيف وجهز عائشة رضي الله عنها وأمر أخاها محمدا بالخروج معها وخرج في تشييعها أميالا وسرح بنيه معها يوما وقيل إن أهل المدينة علموا بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس وفيه كان القتال وذلك أن نسرا مر بماء حول المدينة معه شيء معلق فتأمله الناس فوقع فإذا كف فيها خاتم نقشه عبد الرحمن بن عتاب ثم كان من بين مكة والمدينة ممن قرب من
البصرة أو بعد قد علموا بالوقعة مما تنقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام ويقال ان عدة المقتولين من أصحاب الجمل ثمانية آلاف وقيل سبعة عشر ألفا وذكر أنه قطع على خطام الجمل سبعون يدا كلهم من بني ضبة كلما قطعت يد رجل تقدم آخر وقتل من أصحاب علي رضي الله عنه نحو ألف.

19
319 العباس بن الأحنف
أبو الفضل العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة بن جرادن بن كلدة ابن خريم بن شهاب بن سالم بن حية بن كليب بن عبد الله بن عدي بن حنيفة بن لجيم الحنفي اليمامي الشاعر المشهور كان رقيق الحاشية لطيف الطباع جميع شعره في الغزل لا يوجد في ديوان مديح ومن رقيق شعره قوله من جملة قصيدة
(يا أيها الرجل المعذب نفسه
* أقصر فإن شفاءك الإقصار)
(نزف البكاء دموع عينك فاستعر
* عينا يعينك دمعها المدرار)
(من ذا يعيرك عينه تبكي بها
* أرأيت عينا للبكاء تعار)
ذكر أبو علي القالي في كتاب الأمالي قال قال بشار بن برد ما زال غلام من بني حنيفة يدخل نفسه فينا ويخرجها منا حتى قال هذه الأبيات.
ومن شعره أيضا من جملة أبيات وينسبان إلى بشار بن برد أيضا والله أعلم
(أبكي الذين أذاقوني مودتهم
* حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا)

20
واستنهضوني فلما قمت منتصبا
* بثقل ما حملوني منهم قعدوا)
ويحكى أن الرشيد كان يهوى جاريته ماردة هوى شديدا فتغاضبا مرة ودام بينهما الغضب فامر جعفر البرمكي العباس بن الأحنف أن يعمل في ذلك شيئا فعمل
(راجع أحبتك الذين هجرتهم
* إذ المتيم قلما يتجنب)
(إن التجانب إن تطاول منكما
* دب السلو له ففر المطلب)
وأمر إبراهيم الموصلي فغنى بهما فلما سمعه الرشيد بادر إلى ماردة فترضاها فسألت عن السبب في ذلك فقيل لها فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم وأمرت الرشيد أن يكافئهما فأمر لها بأربعين ألف درهم.
وله أيضا
(تعب يطول مع الرجاء لذي الهوى
* خير له من راحة في الياس)
(لولا محبتكم لما عاتبتكم
* ولكنتم عندي كبعض الناس)
وله أيضا
(وحدثتني يا سعد عنها فزدتني
* جنونا فزدني من حديثك يا سعد)
(هواها هوى لم يعرف القلب غيره
* فليس له قبل وليس له بعد)
وله أيضا
(إذا أنت لم تعطفك إلا شفاعة
* فلا خير في ود يكون بشافع)
(فأقسم ما تركي عتابك عن قلى
* ولكن لعلمي أنه غير نافع)
(وإني إذا لم ألزم الصبر طائعا
* فلا بد منه مكرها غير طائع)

21
قيل وقيل إنه
أنشد الرشيد يوما قوله
(طاف الهوى في عباد الله كلهم
* حتى إذا مر بي من بينهم وقفا)
قال له الرشيد ما الذي رأى فيك حتى وقف عليك قال سألني عن جود أمير المؤمنين فأخبرته فاستحسن الرشيد جوابه ووصله.
قيل إن الرشيد عمل في الليل بيتا ورام أن يشفعه بآخر فامتنع القول عليه فقال علي بالعباس فلما طرق عليه ذعر وفزع أهله فلما وقف بين يدي الرشيد قال له وجهت إليك بسبب بيت قلته ورمت أن أشفعه بمثله فامتنع القول علي فقال يا أمير المؤمنين دعني حتى ترجع إلي نفسي فإني تركت عيالي على حال من القلق عظيمة ونالني من الخوف ما يتجاوز الحد والوصف فانتظر هنيهة ثم أنشده
(جنان قد رأيناها
* ولم نر مثلها بشرا)
فقال العباس بن الأحنف
(يزيدك وجهها حسنا
* إذا ما زدته نظرا)
فقال زدني فقال
(إذا ما الليل سال عليك
* بالإظلام واعتكرا)
(ودج فلم تر قمرا
* فأبرزها تر قمرا)
فقال له الرشيد قد ذعرناك وأفزعنا عيالك وأقل الواجب أن نعطيك ديتك وأمر له بعشرة آلاف درهم.
وله أعني الرشيد
(إن تشق عيني بها فقد سعدت
* عينا رسولي وفزت بالخبر)

22
(وكلما جاءني الرسول لها
* رددت عمدا في عينه نظري)
(خذ مقلتي يا رسول عارية
* فانظر بها واحتكم على بصري)
وأخذ المأمون هذا المعنى بعينه فقال
(بعثتك مرتادا ففزت بنظرة
* وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا) (فناجيت من أهوى وكنت مباعدا
* فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى)
(أرى أثرا منها بعينك بينا
* لقد أخذت عيناك من عينها حسنا)
وللعباس أيضا
(أغيب عنك بود لا يغيره
* نأي المحل ولا صرف من الزمن)
(فإن أعش فلعل الدهر يجمعنا
* وإن أمت فبطول الهم والحزن)
(قد حسن الحب في عيني ما صنعت
* حتى أرى حسنا ما ليس بالحسن)
(تعتل بالشغل عنا لا تكلمنا
* الشغل للقلب ليس الشغل للبدن)
قال الزبير بن بكار لا أعلم شيئا من أمور الدنيا خيرها وشرها إلا وهو يصلح أن يتمثل فيه بنصف هذا البيت الأخير.
وله أيضا
(قد كنت أبكي وأنت راضية
* حذار هذا الصدود والغضب)
(إن تم ذا الهجر يا ظلوم ولا
* تم فما لي في العيش من أرب)
وله أيضا
(أحرم منكم بما أقول وقد
* نال به العاشقون من عشقوا)
(صرت كأني ذبالة نصبت
* تضيء للناس وهي تحترق)

23
قال الرياشي لو لم يقل من الشعر إلا هذين البيتين لكفياه.
وقال أبو بكر الصولي كنت عند القاسم بن إسماعيل فقال انشدني عمك إبراهيم بن العباس لخاله العباس بن الأحنف
(قد سحب الناس أذيال الظنون بنا
* وفرق الناس فينا قولهم فرقا)
(فكاذب قد رمى بالظن غيركم
* وصادق ليس يدري أنه صدقا)
قال عبد الله بن المعتز لو قيل لي ما أحسن شيء تعرفه لقلت بيتا العباس بن الأحنف وأنشد هذين البيتين
وله أيضا
(اليوم آخر أيام السرور به
* واليوم أول يوم فيه أكتئب)
(ما كنت أحسب أن الحزن ينزل بي
* بعد السرور فقد جاءت به العقب)
وله أيضا
(خيالك حين أرقد نصب عيني
* إلى وقت انتباهي لا يزول)
(وليس يزورني صلة ولكن
* حديث النفس عنك به الوصول)
وله أيضا
(يا ذا الذي أنكرني طرفه
* إن ذاب جسمي وعلاني الشحوب)
(ما مسني ضر ولكنني
* جفوت نفسي إذ جفاني الحبيب)
وله يضا
أرى الطريق قريبا حين أسلكه
* إلى الحبيب بعيدا حين أنصرف)

24
وشعره كله جيد وهو خال إبراهيم بن العباس الصولي وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمته في حرف الهمزة
وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومائة ببغداد
وحكى عمر بن شبة قال مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم سنة ثمان وثمانين ومائة ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف وهشيمة الخمارة فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم فخرج فصفوا بين يديه فقال من هذا الأول فقالوا إبراهيم الموصلي فقال أخروه وقدموا العباس بن الأحنف فقدم فصلى عليه فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال يا سيدي كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة على من حضر فأنشد
(وسعى بها ناس فقالوا إنها
* لهي التي تشقى بها وتكابد)
(فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم
* إني ليعجبني المحب الجاحد)
ثم قال أتحفظهما فقلت نعم وأنشدته فقال لي المأمون أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدمة فقلت بلى والله يا سيدي
قلت وهذه الحكاية تخالف ما يأتي في ترجمة الكسائي لأنه مات بالري على الخلاف في تاريخ وفاته وقيل إن العباس توفي سنة اثنتين وتسعين ومائة وقال أبو بكر الصولي حدثني عون بن محمد قال حدثني أبي قال رأيت العباس بن الأحنف ببغداد بعد موت الرشيد وكان منزله بباب الشام وكان لي صديقا ومات وسنة أقل من ستين سنة قالل الصولي وهذا يدل على أنه مات بعد سنة اثنتين وتسعين لأن الرشيد مات ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة بمدينة طوس
وكانت وفاة الأحنف والد العباس المذكور سنة خمسين ومائة ودفن بالبصرة رحمه الله تعالى

25
وحكى المسعودي في كتاب مروج الذهب عن جماعة من أهل البصرة قالوا خرجنا نريد الحج فلما كنا ببعض الطريق إذا غلام واقف على المحجة وهو ينادي أيها الناس هل فيكم أحد من أهل البصرة قال فعدلنا إليه وقلنا له ما تريد قال إن مولاي لما به يريد أن يوصيكم فملنا معه فإذا بشخص ملقى على بعد من الطريق تحت شجرة لا يحير جوابا فجلسنا حوله فأحس بنا فرفع طرفه وهو لا يكاد يرفعه ضعفا وأنشأ يقول
(يا غريب الدار عن وطنه
* مفردا يبكي على شجنه)
(كلما جد البكاء به
* دبت الأسقام في بدنه)
ثم أغمي عليه طويلا ونحن جلوس حوله إذ أقبل طائر فوقع على أعلى الشجرة وجعل يغرد ففتح عينيه وجعل يسمع تغريد الطائر ثم أنشأ الفتى يقول
(ولقد زاد الفؤاد شجى
* طائر يبكي على فننه)
(شفه ما شفني فبكى
* كلنا يبكي على سكنه)
قال ثم تنفس تنفسا فاضت نفسه منه فلم نبرح من عنده حتى غسلناه وكفناه وتولينا الصلاة عليه فلما فرغنا من دفنه سألنا الغلام عنه فقال هذا العباس بن الأحنف رحمه الله تعالى والله أعلم أي ذلك كان
والحنفي بفتح الحاء المهملة والنون وبعدها فاء هذه النسبة إلى بني حنيفة ابن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وهي قبيلة كبيرة مشهورة واسم حنيفة أثال بضم الهمزة وبعدها ثاء مثلثة وبعد الألف لام وإنما قيل له حنيفة لأنه جرى بينه وبين الأحزن بن عوف العبدي مفاوضة في قصة يطول شرحها فضرب حنيفة الأحزن المذكور بالسيف فجذمه فسمي جذيمة وضرب

26
الأحزن حنيفة على رجله فحنفها فسمي حنيفة وحنيفة أخو عجل
واليمامي بفتح الياء المثناة من تحتها والميم وبعد الألف ميم ثانية هذه النسبة إلى اليمامة وهي بلدة بالحجاز في البادية أكثر أهلها بنو حنيفة وبها تنبأ مسيلمة الكذاب وقتل وقصته مشهورة
320 الرياشي
أبو الفضل العباس بن الفرج الرياشي النحوي اللغوي البصري كان عالما راوية ثقة عارفا بأيام العرب كثير الاطلاع روى عن الأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى وغيرهما وروى عنه إبراهيم الحربي وابن أبي الدنيا وغيرهما
ومما رواه عن الأصمعي قال مر بنا أعرابي ينشد ابنا له فقلنا له صفه لنا فقال كأنه دنينير فقلنا له لم نره قال فلم يلبث أن جاء بصغير أسيد كأنه جعل قد حمله على عنقه
فقلنا لو سألتنا عن هذا لأرشدناك فإنه ما زال اليوم بين أيدينا ثم أنشد الأصمعي
(نعم ضجيع الفتى إذا برد
* الليل سحيرا وقرقف الصرد)
(زينها الله في الفؤاد كما
* زين في عين والد ولد)
قتل الرياشي المذكور بالبصرة أيام العلوي البصري صاحب الزنج في شوال

27
سنة سبع وخمسين ومائتين رحمه الله تعالى
وسئل في عقب ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومائتين كم يعد سنه فقال أظن سبعا وسبعين وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه الكبير أنه قتل في سنة خمس وستين ومائتين قتله الزنج بالبصرة وهو غلط إذ لا خلاف بين أهل العلم بالتاريخ أن الزنج دخلوا البصرة وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة سبع وخمسين فأقاموا على القتل والإحراق ليلة السبت ويوم السبت ثم عادوا إليها يوم الاثنين فدخلوها وقد تفرق الجند وهربوا فنادوا بالأمان فلما ظهر الناس قتلوهم فلم يسلم منهم إلا النادر واحترق الجامع ومن فيه وقتل العباس المذكور في أحد هذه الأيام فإنه كان في الجامع لما قتل
والرياشي بكسر الراء وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف شين معجمة هذه النسبة إلى رياش وهو اسم لجد رجل من جذام كان والد المنسوب إليه عبدا له فنسب إليه وبقي عليه
321 ابن عمر
أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما القرشي العدوي أسلم مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم وهاجر مع أبيه إلى المدينة وعرض على

28
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فرده لصغر سنه فعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه وكان من أهل الورع والعلم وكان كثير الاتباع لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد التحري والاحتياط والتوقي في فتواه وكل ما تأخذ به نفسه وكان لا يتخلف عن السرايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان بعد موته مولعا بالحج قبل الفتنة وفي الفتنة إلى أن مات
ويقولون إنه كان أعلم الصحابة بمناسك الحج وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين حفصة بنت عمر إن أخاك عبد الله رجل صالح لو كان يقوم من الليل فما ترك ابن عمر بعدها قيام الليل
وقال جابر بن عبد الله ما منا أحد إلا مالت به الدنيا ومال بها ما خلا عمر وابنه عبد الله
وقال ميمون بن مهران ما رأيت أورع من ابن عمر ولا أعلم من ابن عباس وقال سعيد بن المسيب لو شهدت لأحد أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد الله بن عمر
وحكى الأصمعي قال حدثنا أبو عبد الرحمن وهو أبو الزناد عن أبيه قال اجتمع في الحجر مصعب وعروة وعبد الله بنو الزبير وعبد الله بن عمر فقالوا نتمنى فقال مصعب بن الزبير أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وقال عبد الله بن عمر أما أنا فأتمنى المغفرة قال فنالوا ما تمنوا ولعل ابن عمر قد غفر له
وحكى سفيان الثوري عن طارق بن عبد العزيز عن الشعبي قال لقد رأيت عجبا كنا بفناء الكعبة انا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان فقال القوم بعدما فرغوا من صلاتهم

29
ليقم رجل رجل منكم فليأخذ الركن اليماني وليسأل الله حاجته فإنه يعطى من ساعته قم يا عبد الله بن الزبير فإنك أول مولود ولد في الهجرة فقام وأخذ بالركن اليماني ثم قال اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم أسألك بحرمة عرشك وحرمة وجهك وحرمة نبيك صلى الله عليه وسلم أن لا تميتني حتى توليني الحجاز ويسلم علي بالخلافة وجاء حتى جلس فقال قم يا مصعب فقام حتى أخذ بالركن اليماني فقال اللهم إنك رب كل شي وإليك يصير كل شيء أسألك بقدرتك على كل شيء أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق وتزوجني سكينة بنت الحسين وجاء حتى جلس فقال قم يا عبد الملك فقام وأخذ بالركن اليماني وقال اللهم رب السماوات السبع ورب والأرض ذات القفر أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك وأسألك بحرمة وجهك وأسألك بحقك على جميع خلقك وبحق الطائفين حول بيتك أن لا تميتني من الدنيا حتى توليني شرق الأرض وغربها ولا ينازعني أحد إلا أتيت برأسه ثم جاء حتى جلس فقال قم يا عبد الله بن عمر فقام حتى أخذ بالركن اليماني ثم قال اللهم إنك رحمن رحيم أسألك برحمتك التي سبقت غضبك وأسألك بقدرتك على جميع خلقك أن لا تميتني من الدنيا حتى توجب لي الجنة قال الشعبي فما ذهبت عيناي من الدنيا حتى رأيت لكل رجل ما سأل وبشر عبد الله بن عمر بالجنة ورؤيت له
وحكى حمزة بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر قال خطرت لي هذه الآية * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * فذكرت ما أعطاني الله عز وجل فما وجدت شيئا أحب إلي من جاريتي رمينة فقلت هي حرة لوجه الله فلولا أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها فأنكحا نافعا فهي أم ولده
وكان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه إلى ربه عز وجل
قال نافع كان رقيقه قد عرفوا ذلك منه فربما شمر أحدهم فيلزم المسجد فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه فيقول له أصحابه يا أبا عبد الرحمن والله ما بهم إلا
أن يخدعوك فيقول ما خدعنا أحد بالله

30
إلا انخدعنا له
قال نافع ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو ما زاد وكان يحيي الليل صلاة فإذا جاء السحر استغفر إلى الصباح
وتوفي بمكة سنة ثلاث وسبعين وهو ابن أربع وثمانين سنة وكان قد أوصى أن يدفن في الليل فلم يقدر على ذلك من أجل الحجاج ودفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين
وكان الحجاج قد أمر رجلا سم زجه وزحمه في الطريق ووضع الزج على ظهر قدمه وذلك أن الحجاج خطب يوما وأخر الصلاة فقال ابن عمر إن الشمس لا تنتظرك فقال له الحجاج لقد هممت أن اضرب الذي فيه عيناك قال إن تفعل فإنك سفيه مسلط وقيل إنه أخفى قوله ذلك على الحجاج ولم يسمعه وإنما كان يتقدمه في المواقف بعرفة وغيرها إلى المواضع التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وقف فيها وكان ذلك يعز على الحجاج فأمر الحجاج رجلا معه حربة يقال إنها كانت مسمومة فلما دفع الناس من عرفة لصق به ذلك الرجل فأمر الحربة على قدمه وهي في غرز راحلته فمرض منها أياما فدخل عليه الحجاج يعوده فقال من سمك يا أبا عبد الرحمن فقال وما تصنع به قال قتلني الله إن لم أقتله قال ما أراك فاعلا أنت أمرت من نخسني بالحرية فقال لا تفعل يا أبا عبد الرحمن وخرج عنه وروي أنه قال للحجاج إذ قال له من سمك قال أنت أمرت بإدخال السلاح في الحرم فلبث أياما ثم مات رضي الله عنه ونفع به وصلى عليه الحجاج

31
322 عبد الله بن المبارك
أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي مولى بني حنظلة كان قد جمع بين العلم والزهد تفقه على سفيان الثوري ومالك بن أنس رضي الله عنهما وروى عنه الموطأ وكان كثير الانقطاع محبا للخلوة شديد التورع وكذلك كان أبوه
ويحكى عن أبيه أنه كان يعمل في بستان لمولاه وأقام فيه زمانا ثم إن مولاه جاءه يوما وقال له أريد رمانا حلوا فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رمانا فكسره فوجده حامضا فحرد عليه وقال أطلب الحلو فتحضر لي الحامض هات حلوا فمضى وقطع من شجرة أخرى فلما كسره وجده أيضا حامضا فاشتد حرده عليه وفعل كذلك دفعة ثالثة فقال له بعد ذلك أنت ما تعرف الحلو من الحامض فقال لا فقال كيف ذلك فقال لأنني ما أكلت منه شيئا حتى أعرفه فقال ولم لم تأكل قال لأنك ما أذنت لي فكشف عن ذلك فوجد قوله حقا فعظم في عينه وزوجه ابنته ويقال إن عبد الله رزقه من تلك الابنة فنمت عليه بركة أبيه ورأيت في بعض التواريخ هذه القضية منسوبة إلى إبراهيم بن أدهم العبد الصالح

32
رضي الله عنه وكذا ذكرها الطرطوشي في أول سراج الملوك لابن أدهم
ونقل أبو علي الغساني الجياني أن عبد الله بن المبارك المذكور سئل أيهما أفضل معاوية بن أبي سفيان أم عمر بن عبد العزيز فقال والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمع الله لمن حمده فقال معاوية ربنا ولك الحمد فما بعد هذا
ووقفت في كتاب النصوص على مراتب أهل الخصوص عن أشعث بن شعبة المصيصي قال قدم هارون الرشيد الرقة فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة فأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج الخشب فلما رأت الناس قالت ما هذا قالوا عالم أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك فقالت هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان
وكان لعبد الله شعر فمن ذلك قوله
(قد يفتح المرء حانوتا لمتجره
* وقد فتحت لك الحانوت بالدين)
(بين الأساطين حانوت بلا غلق
* تبتاع بالدين أموال المساكين)
(صيرت دينك شاهينا تصيد به
* وليس يفلح أصحاب الشواهين)
وكان إذا خرج إلى مكة حرسها الله تعالى يقول
(بعض الحياة وخوف الله أخرجني
* وبيع نفسي لما ليست له ثمنا)

33
(اني وزنت الذي يبقى ليعدله
* ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا)
ومن كلامه تعلمنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا
وكان عبد الله قد غزا فلما انصرف من الغزو وصل إلى هيت فتوفي بها في رمضان سنة إحدى وقيل اثنتين وثمانين ومائة ومولده بمرو سنة ثماني عشرة ومائة رضي الله
عنه
وهيت بكسر الهاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها تاء مثناة من فوقها مدينة على الفرات فوق الأنبار من أعمال العراق لكنها في بر الشام والأنبار في بر بغداد والفرات يفصل بينهما ودجلة تفصل بين الأنبار وبغداد وقبره ظاهر يزار بها وقد جمعت أخباره في جزأين
323 عبد الله بن عبد الحكم
أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع الفقيه المالكي المصري كان أعلم أصحاب مالك بمختلف قوله وأفضت إليه رياسة الطائفة المالكية بعد أشهب وروى عن مالك الموطأ سماعا وكان من ذوي الأموال والرباع له جاه عظيم وقدر كبير وكان يزكي الشهود ويجرحهم ومع هذا لم

34
يشهد ولا أحد من ولده لدعوة سبقت فيه ذكر ذلك القضاعي في كتاب خطط مصر ويقال إنه دفع للإمام الشافعي رضي الله عنه عند قدومه إلى مصر ألف دينار من ماله وأخذ له من ابن عسامة التاجر ألف دينار ومن رجلين آخرين ألف دينار وهو والد أبي عبد الله محمد صاحب الإمام الشافعي وسيأتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى
وروى بشر بن بكر قال رأيت مالك بن أنس في النوم بعدما مات بأيام فقال إن ببلدكم رجلا يقال له ابن عبد الحكم فخذوا عنه فإنه ثقة
وكان لأبي محمد المذكور ولد آخر يسمى عبد الرحمن من أهل الحديث والتواريخ صنف كتاب فتوح وغيره
وكانت ولادة أبي محمد المذكور في سنة خمسين ومائة وقيل سنة خمس وخمسين ومائة وتوفي في شهر رمضان سنة أربع عشرة ومائتين بمصر وقبره إلى جانب قبر الإمام الشافعي رضي الله عنهما مما يلي القبلة وهو الأوسط من القبور الثلاثة
77 وتوفي ولده عبد الرحمن المذكور في سنة سبع وخمسين ومائتين وقبره إلى جانب قبر أبيه من جهة القبلة
وأعين بفتح الهمزة وسكون العين المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها نون
وعسامة بضم العين المهملة وفتح السين المهملة وبعد الألف ميم ثم هاء

35
324 ابن وهب الفقيه المالكي
أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي بالولاء الفقيه المالكي المصري مولى ريحانة مولاة أبي عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهري كان أحد أئمة عصره وصحب الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عشرين سنة وصنف الموطأ الكبير والموطأ الصغير وقال مالك في حقه عبد الله بن وهب إمام وقال أبو جعفر ابن الجزار رحل ابن وهب إلى مالك في سنة ثمان وأربعين ومائة ولم يزل في صحبته إلى أن توفي مالك وسمع من مالك قبل عبد الرحمن بن القاسم ببضع عشرة سنة وكان مالك يكتب إليه إذا كتب في المسائل إلى عبد الله بن وهب المفتي ولم يكن يفعل هذا مع غيره وأدرك من أصحاب ابن شهاب الزهري أكثر من عشرين رجلا وذكر ابن وهب وابن القاسم عند مالك فقال ابن وهب عالم وابن القاسم فقيه
قال القضاعي في كتاب خطط مصر قبر عبد الله بن وهب مختلف فيه وفي مجر بني مسكين قبر صغير مخلق يعرف بقبر عبد الله وهو قبر قديم يشبه أن يكون قبره
وكان مولده في ذي القعدة سنة خمس وقيل أربع وعشرين ومائة بمصر وتوفي يها يوم الأحد لخمس بقين من شعبان سنة سبع وتسعين ومائة رضي الله عنه

36
وله مصنفات في الفقه معروفة وكان محدثا وقال يونس بن عبد الأعلى صاحب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كتب الخليفة إلى عبد الله بن وهب في قضاء مصر فجنن نفسه ولزم بيته فاطلع عليه رشدين بن سعد وهو يتوضأ في صحن داره فقال له ألا تخرج إلى الناس فتقضي بينهم بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فرفع إليه رأسه وقال إلى هاهنا انتهى عقلك أما علمت أن العلماء يحشرون مع الأنبياء وأن القضاة يحشرون مع السلاطين وكان عالما صالحا خائفا لله تعالى
وسبب موته أنه قرىء عليه كتاب الأهوال من جامعه فأخذه شيء كالغشي فحمل إلى داره فلم يزل كذلك إلى أن قضى نحبه
قال ابن يونس المصري في تاريخه هو مولى يزيد بن رمانة مولى أبي عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهري والذي ذكرته أولا قاله ابن عبد البر والله أعلم وقال عبد الله بن وهب المصري كان حيوة بن شريح يأخذ عطاءه في كل سنة ستين دينارا قال وكان إذا أخذه لم يطلع إلى منزله حتى يتصدق به قال ثم يجيء إلى منزله فيجدها تحت فراشه قال وكان له ابن عم فلما بلغه ذلك أخذ عطاءه فتصدق به ثم جاء يطلبه تحت فراشه فلم يجد شيئا قال فشكا إلى حيوة فقال له حيوة أنا أعطيت ربي بيقين وأنت أعطيت ربك تجربة

37
325 عبد الله بن لهيعة
أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي الغافقي المصري كان مكثرا من الحديث والأخبار والرواية قال محمد بن سعد في حقه إنه كان ضعيفا ومن سمع منه في أول أمره أقرب حالا ممن سمع منه في آخره وكان يقرأ عليه ما ليس من حديثه فيسكت فقيل له في ذلك فقال ما ذنبي إنما يجيئونني بكتاب يقرأونه علي ويقومون ولو سألوني لأخبرتهم أنه ليس من حديثي.
وكان أبو جعفر المنصور قد ولاه القضاء بمصر في مستهل سنة خمس وخمسين ومائة وهو أول قاض ولي بمصر من قبل الخليفة وصرف عن القضاء في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة وهو أول قاض حضر لنظر الهلال في شهر رمضان واستمر القضاة عليه إلى الآن
ذكر ابن الفراء في تاريخه في سنة اثنتين وخمسين ومائة فقال وفيها توفي أبو خزيمة إبراهيم بن يزيد القاضي الحميري وولي مكانه عبد الله بن لهيعة الحضرمي وكان
سبب ولايته أن ابن حديج كان بالعراق قال فدخلت على أبي جعفر المنصور فقال لي يا ابن حديج لقد توفي ببلدك رجل أصيب به العامة قلت يا أمير المؤمنين ذاك إذا أبو خزيمة قال نعم فمن ترى أن نولي القضاء بعده

38
قلت أبا معدان عامر بن مرة اليحصبي يا أمير المؤمنين قال ذاك رجل أصم لا يصلح للقاضي أن يكون أصم قال فقلت فابن لهيعة يا أمير المؤمنين قال فابن لهيعة على ضعف فيه فأمر بتوليته وأجرى عليه في كل شهر ثلاثين دينارا وهو أول قضاة مصر أجري عليه ذلك وأول قاض بها استقضاه خليفة وإنما كان ولاة البلد هم الذين يولون القضاة
وتوفي بمصر يوم الأحد منتصف شهر ربيع الأول سنة أربع وسبعين وقيل سنة سبعين ومائة وعمره إحدى وثمانون سنة رحمه الله تعال
قال أبو موسى العنزي في تاريخه وكان الليث بن سعد أكبر من ابن لهيعة بسنة أو بسنتين
وذكره ابن يونس في تاريخه فقال عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان ابن ربيعة الحضرمي ثم الأعدولي من أنفسهم قاضي مصر يكنى أبا عبد الرحمن وروى عنه عمرو بن الحارث والليث بن سعد وعثمان بن الحكم الجذامي وابن المبارك وذكر تاريخ وفاته ثم قال وكان مولده سنة سبع وتسعين ثم روى بإسناد متصل إليه أنه قال كنت إذا أتيت يزيد بن أبي حبيب يقول لي كأني بك وقد قعدت على الوسادة يعني وسادة القضاء فما مات ابن لهيعة حتى ولي القضاء
ولهيعة بفتح اللام وكسر الهاء وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح العين المهملة وبعدها هاء ساكنة
والحضرمي بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد الموحدة وفتح الراء وبعدها ميم هذه النسبة إلى حضرموت وهي من بلاد اليمن في أقصاها

39
326 القعنبي
أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي المعروف بالقعنبي كان من أهل المدينة وأخذ العلم والحديث عن الإمام مالك رضي الله عنه وهو من جلة أصحابه وفضلائهم وثقاتهم وخيارهم وهو أحد رواة الموطأ عنه فإن الموطأ رواه عن مالك رضي الله عنه جماعة وبين الروايات اختلاف وأكملها رواية يحيى بن يحيى كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى
وكان يسمى الراهب لعبادته وفضله وقال عبد الله بن أحمد بن الهيثم سمعت جدي يقول كنا إذا أتينا عبد الله بن مسلمة القعنبي خرج إلينا كأنه مشرف على جهنم ونعوذ بالله منها وكان القعنبي يسكن البصرة وهو من الثقات في روايته وتوفي يوم الجمعة لست خلون من المحرم سنة إحدى وعشرين ومائتين بالبصرة رحمه الله تعالى وذكر أبو القاسم ابن بشكوال في تسمية من روى الموطأ عن مالك أنه توفي بمكة والله أعلم
والقعنبي بفتح القاف وسكون العين المهملة وفتح النون وبعدها باء موحدة هذه النسبة إلى جده المذكور أعلاه رحمه الله تعالى

40
327 ابن كثير المقرئ
أبو سعيد عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة توفي سنة عشرين ومائة بمكة رحمه الله تعالى ولم أقف على شيء من حاله لأذكره ثم وجدت صاحب كتاب الإقناع في القراءات ذكره فقال ابن كثير المكي الداري والدار بطن من لخم منهم تميم الداري رضي الله عنه وقيل إنما نسب إلى دارين لأنه كان عطارا وهو موضع الطيب وهذا هو الصحيح قالوا وهو مولى عمرو بن علقمة الكناني وهو من أبناء فارس الذين بعثهم كسرى بالسفن إلى اليمن حين طرد الحبشة عنها وكان يخضب بالحناء وكان قاضي الجماعة بمكة وهو من الطبقة الثانية من التابعين وكان شيخا كبيرا أبيض الرأس واللحية طويلا جسيما أسمر أشهل العينين يغير شيبته بالحناء أو بالصفرة وكان حسن السكينة ولد بمكة سنة خمس وأربعين ومات بها سنة عشرين ومائة
ثم قال هذا المصنف ما ذكر من وفاته هو كالإجماع بين القراء ولا يصح عندي لأن عبد الله بن إدريس الأودي قرأ عليه ومولد ابن إدريس سنة خمس عشرة ومائة فكيف تصح قراءته عليه لولا أن ابن كثير تجاوز سنة عشرين وإنما الذي مات فيها عبد الله بن كثير القرشي وهو غير القارئ وأصل الغلط في هذا من أبي بكر ابن مجاهد والله علم

41
78 وراوياه قنبل وهو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن سعيد ابن جرجة المكي المخزومي توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين وله ست وتسعون سنة
79 وراويه الآخر البزي وهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة بشار الفارسي كنيته أبو الحسن توفي سنة سبعين ومائتين وله ثمانون سنة رحمهم الله أجمعين
328 ابن قتيبة
أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري وقيل المروزي النحوي اللغوي صاحب كتاب المعارف وأدب الكاتب كان فاضلا ثقة سكن بغداد وحدث بها عن إسحاق بن راهويه وأبي إسحاق إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن زياد بن أبييه الزيادي وأبي حاتم السجستاني وتلك الطبقة وروى عنه ابنه أحمد وابن درستويه الفارسي وتصانيفه كلها مفيدة منها ما تقدم ذكره ومنها غريب القرآن الكريم وغريب الحديث وعيون الأخبار ومشكل القرآن ومشكل الحديث وطبقات الشعراء والأشربة وإصلاح الغلط وكتاب التقفيه وكتاب الخيل وكتاب إعراب القراءات

42
وكتاب الأنواء وكتاب المسائل والجوابات وكتاب الميسر والقداح وغير ذلك وأقرأ كتبه ببغداد إلى حين وفاته وقيل إن أباه مروزي وأما هو فمولده ببغداد وقيل بالكوفة وأقام بالدينور مدة قاضيا فنسب إليها
وكانت ولادته سنة ثلاث عشرة ومائتين وتوفي في ذي القعدة سنة سبعين وقيل سنة إحدى وسبعين وقيل أول ليلة في رجب وقيل منتصف رجب سنة ست وسبعين ومائتين والأخير أصح الأقوال وكانت وفاته فجأة صاح صيحة سمعت من بعد ثم أغمي عليه ومات وقيل أكل هريسة فأصابه حرارة ثم صاح صيحة شديدة ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر ثم اضطرب ساعة ثم هدأ فما زال يتشهد إلى وقت السحر ثم مات رحمه الله تعالى
80 وكان ولده أبو جعفر أحمد بن عبد الله المذكور فقيها وروى عن أبيه كتبه المصنفة كلها وتولى القضاء بمصر وقدمها في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وتوفي بها في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وهو على القضاء ومولده ببغداد
والناس يقولون إن أكثر أهل العلم يقولون إن أدب الكاتب خطبة بلا كتاب وإصلاح المنطق كتاب بلا خطبة وهذا فيه نوع تعصب عليه فإن أدب الكاتب قد حوى من كل شيء وهو مفنن وما أظن حملهم على هذا القول إلا أن الخطبة طويلة والإصلاح بغير خطبة وقيل إنه صنف هذا الكتاب لأبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيرالمعتمد على الله بن المتوكل على الله الخليفة العباسي وقد شرح هذا الكتاب أبو محمد بن السيد البطليوسي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى شرحا مستوفى ونبه على مواضع الغلط منه وفيه دلالة على كثرة اطلاع الرجل وسماه الاقتضاب في شرح أدب الكتاب
وقتيبة بضم القاف وفتح التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من

43
تحتها وبعادها باء موحدة ثم هاء ساكنة وهي تصغير قتبة بكسر القاف وهي واحدة الأقتاب والأقتاب الأمعاء وبها سمي الرجل والنسبة إليه قتبي
والدينوري بكسر الدال المهملة وقال السمعاني بفتحها وليس بصحيح وبسكون الياء المثناة من تحتها وفتح النون والواو وبعدها راء هذه النسبة إلى دينور وهي بلدة من بلاد الجبل عند قرميسين خرج منها خلق كثير.
329 ابن درستويه
أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه بن المرزبان الفارسي الفسوي النحوي كان عالما فاضلا أخذ فن الأدب عن ابن قتيبة المقدم ذكره وعن المبرد وغيرهما ببغداد وأخذ عنه جماعة من الأفاضل كالدارقطني وغيره وكانت ولادته في سنة ثمان وخمسين ومائتين وتوفي يوم الاثنين لتسع بقين من صفر وقيل لست بقين منه سنة سبع وأربعين وثلاثمائة ببغداد رحمه الله تعالى وكان أبوه من كبار المحدثين وأعيانهم
ودرستويه بضم الدال المهملة والراء وسكون السين المهملة وضم التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة هكذا قاله السمعاني وقال غيره هو بفتح الدال والراء والواو وهذا القائل هو ابن ماكولا في كتاب الاكمال
والفارسي والفسوي قد تقدم الكلام عليهما في ترجمة البساسيري في حرف الهمزة
وتصانيفه في غاية الجودة والإتقان منها تفسير كتاب الجرمي

44
والإرشاد في النحو وكتاب الهجاء وشرح الفصيح والرد على المفضل الضبي في الرد على الخليل وكتاب الهداية وكتاب المقصور والممدود وكتاب غريب الحديث وكتاب معاني الشعر وكتاب الحي والميت وكتاب التوسط بين الأخفش وثعلب في تفسير القرآن وكتاب خبر قس بن ساعدة وكتاب الأعداد وكتاب أخبار النحويين وكتاب الرد على الفراء في المعاني وله عدة كتب شرع فيها ولم يكملها
330 الكعبي
أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي العالم المشهور كان رأس طائفة من المعتزلة يقال لهم الكعبية وهو صاحب مقالات ومن مقالته أن الله سبحانه وتعالى ليست له إرادة وأن جميع أفعلاه واقعة منه بغير إرادة ولا مشيئة منه لها وكان من كبار التكلمين وله اختيارات في علم الكلام وتوفي مستهل شعبان سنة سبع عشرة وثلاثمائة رحمه الله تعالى
والكعبي بفتح الكاف وسكون العين المهملة وبعدها باء موحدة هذه النسبة إلى بني كعب.
والبلخي بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وبعدها خاء معجمة هذه النسبة إلى بلخ إحدى مدن خراسان

45
331 القفال المروزي
أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله الفقيه الشافعي المعروف بالقفال المروزي كان وحيد زمانه فقها وحفظا وورعا وزهدا وله في مذهب الإمام الشافعي من الآثار ما ليس لغيره من أبناء عصره وتخاريجه كلها جيدة وإلزاماته لازمة واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به منهم الشيخ أبو علي السنجي والقاضي حسين بن محمد وقد تقدم ذكرهما والشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وغيرهم وكل واحد من هؤلاء صار إماما يشار إليه ولهم التصانيف النافعة ونشروا علمه في البلاد وأخذه عنهم أئمة كبار أيضا
وكان ابتداء اشتغاله بالعلم على كبر السن بعدما أفنى شبيبته في عمل الأقفال ولذلك قيل له القفال وكان ماهرا في عملها ويقال إنه لما شرع في التفقه كان عمره ثلاثين سنة وشرح فروع أبي بكر محمد بن الحداد المصري فأجاد في شرحها وشرحها أيضا أبو علي السنجي المذكور والقاضي أبو الطيب الطبري وهو كتاب مشكل مع صغر حجمه وفيه مسائل عويصة وغريبة والمبرز من الفقهاء الذي يقدر على حلها وفهم معانيها وسيأتي ذكر مصنفها في حرف الميم إن شاء الله تعالى
وكانت وفاة القفال المذكور في بعض شهور سنة سبع عشرة وأربعمائة وهو ابن تسعين سنة ودفن بسجستان وقبره بها معروف يزار رحمه الله تعالى

46
332 الشيخ أبو محمد الجويني
أبو محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد حيويه الجويني الفقيه الشافعي والد إمام الحرمين وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى كان إماما في التفسير والفقه والأصول والعربية والأدب قرأ الأدب أولا على أبيه أبي يعقوب يوسف بجوين ثم قدم نيسابور واشتغل بالفقه على أبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي المقدم ذكره في حرف السين ثم انتقل إلى أبي بكر القفال المروزي المذكور قبله واشتغل عليه بمرو ولازمه واستفاد منه وانتفع به وأتقن عليه المذهب والخلاف وقرأ عليه طريقته وأحكمها فلما تخرج عليه عاد إلى نيسابور سنة سبع وأربعمائة وتصدر للتدريس والفتوى فتخرج عليه خلق كثير منهم ولده إمام الحرمين
وكان مهيبا لا يجري بين يديه إلا الجد وصنف التفسير الكبير المشتمل على أنواع العلوم وصنف في الفقه التبصرة والتذكرة ومختصر المختصر والفرق والجمع والسلسلة وموقف الإمام والمأموم وغير ذلك من التعاليق وسمع الحديث الكثير
وتوفي في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين كذا قال السمعاني في كتاب الذيل وقال في الأنساب في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة بنيسابور والله أعلم وقال غيره وهو في سن الكهولة رحمه الله تعالى وقال الشيخ أبو صالح المؤذن مرض الشيخ أبو محمد الجويني سبعة عشر يوما وأوصاني أن أتولى غسله وتجهيزه فلما توفي غسلته فلما لففته في الكفن رأيت يده اليمنى إلى الأبط زهراء منيرة من غير سوء وهي تتلألأ تلألؤ القمر فتحيرت وقلت في

47
نفسي هذه بركات فتاويه
وحيويه بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة من تحتها وضمها وسكون الواو وفتح الياء الثانية وبعادها هاء
والجويني بضم الجيم وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون هذه النسبة إلى جوين وهي ناحية كبيرة من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كثيرة مجتمعة
333 أبو زيد الدبوسي
أبو زيد عبد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي الفقيه الحنفي كان من كبار أصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ممن يضرب به المثل وهو أول من وضع علم الخلاف وأبرزه إلى الوجود وله كتاب الأسرار والتقويم للأدلة وغيره من التصانيف والتعاليق وروي أنه ناظر بعض الفقهاء فكان كلما ألزمه أبو زيد إلزاما تبسم أو ضحك فأنشد أبو زيد
(ما لي إذا ألزمته حجة
* قابلني بالضحك والقهقهه)
(إن كان ضحك المرء من فقهه
* فالدب في الصحراء ما أفقهه)
وكانت وفاته بمدينة بخارى سنة ثلاثين وأربعمائة رحمه الله تعالى
والدبوسي بفتح الدال المهملة وضم الباء الموحدة وبعدها واو ساكنة وسين مهملة هذه النسبة إلى دبوسة وهي بليدة بين بخارى وسمرقند نسب إليها جماعة من العلماء

48
334 المرتضى ابن الشهرزوري
أبو محمد عبد الله بن القاسم بن المظفر بن علي بن القاسم الشهرزوري المنعوت بالمرتضى والد القاضي كمال الدين وسيأتي ذكر ولده ووالده إن شاء الله تعالى كان أبو محمد المذكور مشهورا بالفضل والدين وكان مليح الوعظ مع الرشاقة والتجنيس وأقام ببغداد مدة يشتغل بالحديث والفقه ثم رجع إلى الموصل وتولى بها القضاء وروى الحديث وله شعر رائق فمن ذلك قصيدته التي على طريقة الصوفية ولقد أحسن فيها وهي
(لمعت نارهم وقد عسعس الليل
* ومل الحادي وحار الدليل)
(فتأملتها وفكري من البين
* عليل ولحظ عيني كليل)
(وفؤادي ذاك الفؤاد المعنى
* وغرامي ذاك الغرام الدخيل)
(ثم قابلتها وقلت لصحبي
* هذه النار نار ليلى فميلوا)
(فرموا نحوها لحاظا صحيحات
* فعادت خواسئا وهي حول)
(ثم مالوا إلى الملام وقالوا
* خلب ما رأيت أم تخييل)
(فتجنبتهم وملت إليها
* والهوى مركبي وشوقي الزميل)
(ومعي صاحب أتى يقتفي الآثار
* والحب شرطه التطفيل)
(وهي تعلو ونحن ندنو إلى أن
* حجزت دونها طلول محول)
(فدنونا من الطلول فحالت
* زفرات من دونها وغليل)
(قلت من بالديار قالوا جريح
* وأسير مكبل وقتيل)

49
(ما الذي جئت تبتغي قلت ضيف
* جاء يبغي القرى فأين النزول)
(فأشارت بالرحب دونك فاعقرها
* فما عندنا لضيف رحيل)
(من أتانا ألقى عصا السير عنه
* قلت من لي بها وأين السبيل)
(فحططنا إلى منازل قوم
* صرعتهم قبل المذاق الشمول)
(درس الوجد منهم كل رسم
* فهو رسم والقوم فيه حلول)
(منهم من عفا ولم يبق للشكوى
* ولا للدموع فيه مقيل)
(ليس إلاا الأنفاس تخبر عنه
* وهو عنها مبرأ معزول)
(ومن القوم من يشير إلى وجد
* تبقى عليه منه القليل)
(ولكل رأيت منهم مقاما
* شرحه في الكتاب مما يطول)
(قلت أهل الهوى سلام عليكم
* لي فؤاد عنكم بكم مشغول)
(وجفون قد أقرحتها من الدمع
* حثيثا إلى لقاكم سيول)
(لم يزل حافز من الشوق يحدوني
* إليكم والحادثات تحول)
(واعتذاري ذنب فهل عند من
* يعلم عذري في ترك عذري قبول)
(جئت كي أصطلي فهل لي إلى ناركم
* هذه الغداة سبيل)
(فأجابت شواهد الحال عنهم
* كل حد من دونها مفلول)
(لا تروقنك الرياض الأنيقات
* فمن دونها ربى ودحول)
(كم أتاها قوم على غرة منها
* وراموا أمرا فعز الوصول)
(وقفوا شاخصين حتى إذا ما
* لاح للوصول غرة وحجول)
(وبدت راية الوفا بيد الوجد
* ونادى أهل الحقائق جولوا)
(أين من كان يدعينا فهذا اليوم
* فيه صبغ الدعاوى يحول)
(حملوا حملة الفحول ولا يصرع
* يوم اللقاء إلا الفحول)
(بذلوا أنفسا سخت حين شحت
* بوصال واستصغر المبذول)
(ثم غابوا من بعد ما اقتحموها
* بين أمواجها وجاءت سيول)
(قذفتهم إلى الرسوم فكل
* دمه في طولها مطلول)

50
(نارنا هذه تضيء لمن يسري
* بليل لكنها لا تنيل)
(منتهى الحظ ما تزود منها اللحظ
* والمدركون ذاك قليل)
(جاءها من عرفت يبغي اقتباسا
* وله البسط والمنى والسول)
(فتعالت عن المنال وعزت
* عن دنو إليه وهو رسول)
(فوقفنا كما عهدت حيارى
* كل عزم من دونها مخذول)
(ندفع الوقت بالرجاء وناهيك
* بقلب غذاؤه التعليل)
(كلما ذاق كأس يأس مرير
* جاء كأس من الرجا معسول)
(فإذا سولت له النفس أمرا
* حيد عنه وقيل صبر جميل)
(هذه حالنا وما وصل العلم
* إليه وكل حال تحول)
وإنما أثبت هذه القصيدة بكاملها لأنها قليلة الوجود وهي مطلوبة وحكي عن بعض المشايخ أنه رأى في النوم قائلا يقول ما قيل في الطريق مثل القصيدة الموصلية يعني هذه
وأنشد له مجد العرب العامري دوبيت
(يا قلب إلام لا يفيد النصح
* دع مزحك كم جنى عليك المزح)
(ما جارحة فيك عداها جرح
* ما تشعر بالخمار حتى تصحو)
وأورد له العماد الكاتب في الخريدة قوله
(فعاودت قلبي أسأل الصبر وقفة
* عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري)
(وغابت شموس الوصل عني وأظلمت
* مسالكه حتى تحيرت في أمري)
(فما كان إلا الخطف حتى رأيتها
* محكمة والقلب في ربقة الأسر)
وله من أبيات

51
(وبانوا فكم دمع من الأسر أطلقوا
* نجيعا وكم قلب أعادوا إلى الأسر)
(فلا تنكروا خلعي عذاري تأسفا
* عليهم فقد أوضحت عندكم عذري)
ومن شعره أيضا
(بقلبي منهم علق
* ودمعي فيهم علق)
(وعندي منهم حرق
* لها الأحشاء تحترق)
(ونحن ببابهم فرق
* أذاب قلوبنا الفرق)
(وما تركوا سوى رمق
* فليتهم له رمقوا)
(فلا وصل ولا هجر
* ولا نوم ولا أرق)
(ولا يأس ولا طمع
* ولا صبر ولا قلق)
(فليتهم وقد قطعوا
* ولم يبقوا علي بقوا)
(أأفنى في محبتهم
* وطيب محبتي عبق)
(كمثل الشمع يمتع من
* ينادمه ويمحق)
وله أيضا
(يا ليل ما جئتكم زائرا
* إلا وجدت الأرض تطوى لي)
(ولا ثنيت العزم عن بابكم
* إلا تعثرت بأذيالي)
وغالب شعره على هذا الأسلوب
وكانت ولادته في شعبان سنة خمس وستين وأربعمائة وتوفي في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وخمسمائة بالموصل ودفن في التربة المعروفة بهم رحمه الله تعالى

52
وذكر عماد الدين الكاتب الإصبهاني في كتاب الخريدة في ترجمة المرتضى المذكور قال السمعاني إنه سمع أن القاضي أبا محمد يعني المرتضى المذكور توفي بعد سنة عشرين وخمسمائة والله أعلم
335 شرف الدين ابن أبي عصرون
أبو سعد عبد الله بن أبي السري محمد بن هبة الله بن مطهر بن علي بن أبي عصرون ابن أبي السري التميمي الحديثي ثم الموصلي الفقيه الشافعي الملقب شرف الدين كان من أعيان الفقهاء وفضلاء عصره وممن سار ذكره وانتشر أمره قرأ في صباه القرآن الكريم بالعشر على أبي الغنائم السلمي السروجي والبارع أبي عبد الله ابن الدباس وأبي بكر المزرفي وغيرهم وتفقه أولا على القاضي المرتضى أبي محمد عبد الله بن القاسم الشهرزوري المذكور قبله وعلى أبي عبد الله الحسين بن خميس الموصلي ثم على أسعد الميهني ببغداد واخذ الأصول عن أبي الفتح ابن برهان الأصولي وقرأ الخلاف وتوجه إلى مدينة واسط وقرأ على قاضيها الشيخ أبي علي الفارقي المذكور في حرف الحاء واخذ عنه فوائد المهذب ودرس بالموصل في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة وأقام بسنجار مدة ثم انتقل إلى حلب في سنة خمس وأربعين ثم قدم دمشق لما ملكها الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي في صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة ودرس بالزاوية الغربية من جامع دمشق وتولى أوقاف

53
المساجد ثم رجع إلى حلب وأقام بها وصنف كتبا كثيرة في المذهب منها صفوة المذهب من نهاية المطلب في سبع مجلدات وكتاب الانتصار في أربع مجلدات وكتاب المرشد في مجلدين وكتاب الذريعة في معرفة الشريعة وصنف التيسير في الخلاف أربعة أجزاء وكتابا سماه ما أخذ النظر ومختصرا في الفرائض وكتابا سماه الإرشاد المغرب في نصرة المذهب ولم يكمله وذهب فيما نهب له بحلب واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به وتعين بالشام وتقدم عند نور الدين صاحب الشام وبنى له المدارس بحلب وحماة وحمص وبعلبك وغيرها وتولى القضاء بسنجار ونصيبين وحران وغيرها من ديار بكر ثم عاد إلى دمشق في سنة سبعين وخمسمائة وتولى القضاء بها في سنة ثلاث وسبعين عقيب انفصال القاضي ضياء الدين أبي الفضائل القاسم ابن تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري حسبما شرحته في ترجمة القاضي كمال الدين أبي الفضل محمد الشهرزوري
ثم عمي في آخر عمره قبل موته بعشر سنين وابنه محيي الدين محمد ينوب عنه وهو باق على القضاء وصنف جزءا لطيفا في جواز قضاء الأعمى وهو على خلاف مذهب الشافعي. ورأيت في كتاب الزوائد تأليف أبي الحسين العمراني صاحب كتاب البيان وجها أنه يجوز وهو غريب لم أره في غير هذا الكتاب ووقع لي كتاب جميعه بخط السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى قد كتبه من دمشق إلى القاضي الفاضل وهو بمصر وفيه فصول من جملتها حديث الشيخ شرف الدين المذكور وما حصل له من العمى وأنه يقول إن قضاء الأعمى جائز وإن الفقهاء قالوا إنه غير جائز فتجتمع بالشيخ أبي الطاهر ابن عوف الإسكندراني وتسأله عما ورد من الأحاديث في قضاء الأعمى هل يجوز أم لا
وبالجملة فلا شك في فضله وقد ذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخ دمشق وذكره العماد الكاتب في كتاب الخريدة وأثنى عليه

54
وقال ختمت به الفتاوى وذكر له شيئا من الشعر وأنشدني بعض المشايخ قال سمعته كثيرا ما ينشد ولا أعلم هل هو له أم لا وذكرهما العماد الكاتب في الخريدة
(أؤمل أن أحيا وفي كل ساعة
* تمر بي الموتى تهز نعوشها)
(وهل انا إلا مثلهم غير أن لي
* بقايا ليال في الزمان أعيشها)
وأورد له أيضا في الخريدة
(أؤمل وصلا من حبيب وإنني
* على ثقة عما قليل أفارقه)
(تجارى بنا خيل الحمام كأنما
* يسابقني نحو الردى وأسابقه)
(فيا ليتنا متنا معا ثم لم يذق
* مرارة فقدي لا ولا أنا ذائقه)
وأورد له أيضا
(يا سائلي كيف حالي بعد فرقته
* حاشاك مما بقلبي من تنائيكا
(قد أقسم الدمع لا يجفو الجفون أسى
* والنوم لا زارها حتى ألاقيكا)
وأورد له أيضا
(وما الدهر إلا ما مضى وهو فائت
* وما سوف يأتي وهو غير محصل)
(وعيشك فيما أنت فيه فإنه
* زمان الفتى من مجمل ومفصل)
وكانت ولادته يوم الاثنين الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة بالموصل وتوفي ليلة الثلاثاء الحادية عشرة من شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة بمدينة دمشق ودفن في مدرسته التي أنشأها داخل البلد وهي معروفة به وزرت قبره مرارا رحمه الله تعالى
ولما توفي القاضي ورد من القاضي الفاضل تعزية فيه جوابا عن كتاب ورد عليه بذلك والتعزية وصل كتاب الذات الكريمة جمع الله شملها وسر بها أهلها ويسر إلى الخيرات سبلها وجعل في ابتغاء رضوانه قولها وفعلها وفيه

55
زيادة هي نقص الإسلام وثلم في البرية يتجاوز رتبة الانثلام إلى الانهدام وذلك ما قضاه الله وقدره من وفاة الإمام شرف الدين بن أبي عصرون رحمه الله تعالى وما حصل بموته من نقص الأرض من أطرافها ومن مساءة أهل الملة ومسرة أهل خلافها فلقد كان علما للعلم منصوبا وبقية من بقايا السلف الصالح محسوبا
والعلم بالشام زرعه وكل من انتفع فعليه كان وإليه ينسب نفعه رضي الله عنه وأرضاه ونضح بماء الرحمة مثواه وما مات من أبقى تلك التصانيف التي هي المعنى المغني بل ما مات من ولده المحيي فإنه والله لآثاره ولعلمه المحيي والحضرة تنوب عني في تعزيته والقيام بحق تسليته وقد ساءتني الغيبة عن مشهده وتغبير القدم وراء سريره والتوسل إلى الله في ساعة مقدمه ولقد علم الله اغتمامي لفقد حضرته واستيحاشي لخلو الدنيا من بركته واهتمامي بما عدمت من النصيب الموفور كان من أدعيته وما مات بحمد الله حتى أحرز غيبته بأولاد كرام بررة وأنشأ طلبة للعلم نقلة وللمدارس عمرة وحتى بنى لله المدارس والمساجد وأحيا نهاره وليله بين راكع وساجد فهو حي لمجده وإنما نحن الموتى بفقده وتعذر علي أن ينتقل بقايا الخير وأعقاب السلف وأن يفارق من ليس لنا منه لولا خلفه خلف
والحديثي بفتح الحاء المهملة وكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ثاء مثلثة هذه النسبة إلى حديثة الموصل وهي بليدة على دجلة بالجانب الشرق قرب الزاب الأعلى وهي غير الحديثة التي يقال لها حديثة النورة وهي قلعة حصينة على فراسخ من الأنبار في وسط الفرات والماء

56
محيط بها وحديثة الموصل هي آخر حد أرض السواد في الطول وقول الفقهاء في كتبهم أرض السواد ما بين حديثة الموصل إلى عبادان طولا ومن القادسية إلى حلوان عرضا يريدون به هذه الحديثة لا حديثة الفرات
336 ابن أسعد الموصلي أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي بن عيسى بن علي المعروف بابن الدهان الموصلي ويعرف بالحمصي أيضا الفقيه الشافعي المنعوت بالمهذب كان فقيها فاضلا أديبا شاعرا لطيف الشعر مليح السبك حسن المقاصد غلب عليه الشعر واشتهر به وله ديوان صغير وكله جيد وهو من أهل الموصل ولما ضاقت به الحال عزم على قصد الصالح بن رزيك وزير مصر المذكورفي حرف الطاء وعجزت قدرته عن استصحاب زوجته فكتب إلى الشريف ضياء الدين أبي عبد الله زيد بن محمد بن محمد بن عبيد الله الحسيني نقيب العلويين بالموصل هذه الأبيات
(وذات شجو أسال البين عبرتها
* باتت تؤمل بالتفنيد إمساكي) (لجت فلما رأتني لا أصيخ لها
* بكت فأقرح قلبي جفنها الباكي)
(قالت وقد رأت الأجمال محدجة
* والبين قد جمع المشكو والشاكي)
(من لي إذا غبت في ذا المحل قلت لها
* الله وابن عبيد الله مولاك)
(لا تجزعي بانحباس الغيث عنك فقد
* سألت نوء الثريا جود مغناك)
فتكفل الشريف المذكور لزوجته بجميع ما تحتاج إليه مدة غيبته عنها ثم توجه إلى مصر ومدح الصالح بن رزيك بالقصيدة الكافية وقد ذكرت بعضها هناك ثم تقلبت به الأحوال وتولى التدريس بمدينة حمص وأقام بها فلهذا ينسب إليها
قال العماد الكاتب في الخريدة ما زلت وانا العراق إلى لقائه بالأشواق فإني كنت أقف على قصائده المستحسنة ومقاصده الحسنة وقد سارت كافيته بين فضلاء الزمان كافة فشهدت بكفايته وسجلت بأن أهل العصر لم يبلغوا إلى غايته ثم قال بعد الثناء عليه فيه تمتمة تسفر عن فصاحة تامة وعقدة لسان تبين عن فقه في القول ثم قال بعد ذلك ولما
وصل السلطان صلاح الدين رحمه الله إلى حمص وخيم بظاهرها خرج إلينا أبو الفرج المذكور فقدمته إلى السلطان وقلت له هذا إلي يقول في قصيدته الكافية التي في ابن رزيك
(أأمدح الترك أبغي الفضل عندهم
* والشعر ما زال عند الترك متروكا)
قال فأعطاه السلطان وقال حتى لا يقول إنه متروك ثم امتدح السلطان بقصيدته العينية التي يقول فيها
(قل للبخيلة بالسلام تورعا
* كيف استبحت دمي ولم تتورعي)

57
(لجت فلما رأتني لا أصيخ لها
* بكت فأقرح قلبي جفنها الباكي)
(قالت وقد رأت الأجمال محدجة
* والبين قد جمع المشكو والشاكي)
(من لي إذا غبت في ذا المحل قلت لها
* الله وابن عبيد الله مولاك)
(لا تجزعي بانحباس الغيث عنك فقد
* سألت نوء الثريا جود مغناك)
فتكفل الشريف المذكور لزوجته بجميع ما تحتاج إليه مدة غيبته عنها ثم توجه إلى مصر ومدح الصالح بن رزيك بالقصيدة الكافية وقد ذكرت بعضها هناك ثم تقلبت به الأحوال وتولى التدريس بمدينة حمص وأقام بها فلهذا ينسب إليها
قال العماد الكاتب في الخريدة ما زلت وانا بالعراق إلى لقائه بالأشواق فإني كنت أقف على قصائده المستحسنة ومقاصده الحسنة وقد سارت كافيته بين فضلاء الزمان كافة فشهدت بكفايته وسجلت بأن أهل العصر لم يبلغوا إلى غايته ثم قال بعد الثناء عليه فيه تمتمة تسفر عن فصاحة تامة وعقدة لسان تبين عن فقه في القول ثم قال بعد ذلك ولما وصل السلطان صلاح الدين رحمه الله إلى حمص وخيم بظاهرها خرج إلينا أبو الفرج المذكور فقدمته إلى السلطان وقلت له هذا الذي يقول في قصيدته الكافية التي في ابن رزيك
(أأمدح الترك أبغي الفضل عندهم
* والشعر ما زال عند الترك متروكا)
قال فأعطاه السلطان وقال حتى لا يقول إنه متروك ثم امتدح السلطان بقصيدته العينية التي يقول فيها
(قل للبخيلة بالسلام تورعا
* كيف استبحت دمي ولم تتورعي)

58
(وزعمت أن تصلي بعام قابل
* هيهات أن أبقى إلى أن ترجعي)
(أبديعة الحسن التي في وجهها
* دون الوجوه علامة للمبدع)
(ما كان ضرك لو غمزت بحاجب
* يوم التفرق أو أشرت بإصبع)
(وتيقني أني بحبك مغرم
* ثم اصنعي ما شئت بي أن تصنعي)
وقال العماد أيضا أنشدني هذين البيتين وزعم أنه ابتكر معناهما ولم يسبق إليه وهما
(تردي الكتائب كتبه فإذا انبرت
* لم تدر أنفذ أسطرا أم عسكرا)
(لم يحسن الإتراب فوق سطورها
* إلا لأن الجيش يعقد عثيرا)
وهذان البيتان من جملة قصيدة ولقد أبدع فيهما وفي معنى تشبيه القلم بالجيش قول بعضهم
(قوم إذا أخذوا الأقلام عن غضب
* ثم استمدوا بها ماء المنيات)
(نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا
* ما لم ينالوا بحد المشرفيات)
قلت ومعنى البيت الأول ينظر إلى قول أبي تمام الطائي في مدح محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم
(هززت أمير المؤمنين محمدا
* فكان ردينيا وأبيض منصلا)
(فما إن تبالي إذ تجهز رأيه
* إلى ناكث أن لا تجهز جحفلا)
ثم إني وجدت معنى البيت الثاني للأستاذ أبي إسماعيل الحسين بن علي المنشىء الطغرائي المقدم ذكره وهو من جملة قصيدة يمدح بها نظام الملك
(إذا ما دجا ليل العجاجة لم يزل
* بأيديهم جمر إلى الهند منسوب)

59
(عليها سطور الضرب يعجمها القنا
* صحائف يغشاها من النقع تثريب)
ومن شعره السائر
(يضحي يجانبني مجانبة العدا
* ويبيت وهو إلى الصباح نديم)
(ويمر بي يخشى الرقيب فلفظه
* شتم وغنج لحاظه تسليم)
وله في غلام لسبته نحلة في شفته
(بأبي من لسبته نحلة
* آلمت أكرم شيء وأجل)
(أثرت لسبتها في شفة
* ما براها الله إلا للقبل)
(حسبت أن بفيه بيتها
* إذ رأت ريقته مثل العسل)
ولولا خوف الإطالة لذكرت له أشياء بديعة
وتوفي بمدينة حمص في شعبان سنة إحدى وقيل اثنتين وثمانين وخمسمائة والثاني ذكره في السيل والذيل والأول أصح رحمه الله تعالى وقد قارب ستين سنة
81 وتوفي الشريف ابن عبيد الله المذكور بالموصل سنة ثلاث وستين وخمسمائة رحمه الله تعالى وكان رئيسا بالموصل سنة ثلاث وستين وخمسمائة رحمه الله تعالى وكان رئيسا جوادا كثير الإحسان جم الإفضال وله شعر فمنه قوله
(قالوا سلا صدقوا عن
* السلوان ليس عن الحبيب)
(قالوا فلم ترك الزيارة
* قلت من خوف الرقيب)
(قالوا وكيف تعيش مع
* هذا فقلت من العجيب)

60
وذكره عماد الدين في كتاب الخريدة وبالغ في الثناء عليه ثم قال وسمعت ببغداد أبياتا يغنى بها فنسبها بعض الشاميين إلى الشريف ضياء الدين المذكور منها
(يا بانة الوادي التي سفكت دمي
* بلحاظها بل يا فتاة الأجرع)
(لي أن أبث إليك ما ألقاه من
* ألم الهوى وعليك أن لا تسمعي)
(كيف السبيل إلى تناول حاجة
* قصرت يدي عنها كزند الأقطع)
337 ابن شاس
أبو محمد عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار بن عشاير بن عبد الله بن محمد بن شاس الجذامي السعدي الفقيه المالكي المنعوت بالجلال كان فقيها فاضلا في مذهبه عارفا بقواعده رأيت بمصر جمعا كبيرا من أصحابه يذكرون فضائله وصنف في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه كتابا نفيسا أبدع فيه وسماه الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة وضعه على ترتيب الوجيز تصنيف حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى وفيه دلالة على غزارة فضله والطائفة المالكية بمصر عاكفة عليه لحسنه وكثرة فوائده وكان مدرسا بمصر بالمدرسة المجاورة للجامع وتوجه إلى ثغر دمياط لما أخذه العدو المخذول بنية الجهاد فتوفي هناك في جمادى الآخرة أو في رجب سنة ست عشرة وستمائة رحمه الله تعالى

61
وشاس بالشين المعجمة والسين المهملة بينهما ألف
والجذامي والسعدي قد تقدم الكلام عليهما
338 عبد الله بن العباس بن عبد المطلب
أبو العباس عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وله ثلاث عشرة سنة وكان صلى الله عليه وسلم دعا له فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل
وحرق علي رضي الله عنه قوما من الزنادقة فأنكر عليه ابن عباس فقال ويح ابن أم الفضل إنه لغواص على الهنات وكان عطاء إذا حدث عنه قال حدثني البحر وكان ميمون بن مهران إذا ذكر عنده عبد الله بن عمر وعبد الله ابن العباس قال كان ابن عباس أفقه
وأخذ الفقه عن ابن عباس جماعة منهم عطاء بن أبي رباح وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود وأبو الشعثاء جابر بن زيد وابن أبي مليكة وعكرمة وميمون بن مهران وعمرو بن دينار وغيرهم
ذكر أنه اجتمع من بني هاشم جماعة عند معاوية يوما فأقبل عليهم فقال يا بني هاشم والله إن خيري لممنوح وإن بابي لكم لمفتوح فلا يقطع خيري عنكم علة ولا يوصد بابي دونكم مسألة وإني نظرت في أمري وأمركم فرأيت أمرا مختلفا إنكم ترون أنكم أحق بما في يدي مني وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقوقكم

62
قلتم أعطانا دون حقنا وقصر بنا عن قدرنا فصرت كالمسلوب والمسلوب لا حمد له هذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم قال فأقبل ابن عباس فقال أما والله ما منحتنا شيئا حتى سألناه ولا فتحت لنا بابا حتى قرعناه ولئن قطعت عنا خيرك فالله أوسع خيرا منك ولئن أغلقت دوننا بابك لنكفن أنفسنا عنك وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما لرجل واحد من المسلمين ولنا في كتاب الله حقان حق في الغنيمة وحق في الفيء فالغنيمة ما غلبنا عليه والفيء ما احتسبناه ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائر يحمله خف ولا حافر كفاك أم أزيدك قال كفاني فإنك لا تهر ولا تنبح
وحكى المدائني قال قام عمرو بن العاص في موسم من مواسم العرب فأطرى معاوية بن أبي سفيان وبني أمية وذكر مشاهده بصفين واجتمعت قريش فأقبل عبد الله بن عباس على عمرو فقال يا عمرو إنك بعت دينك من معاوية وأعطيته ما بيدك ومناك ما بيد غيره فكان الذي أخذ منك أكثر مما أعطاك والذي أخذت منه دون الذي أعطيته وكل راض بما أخذ وأعطي فلما صارت مصر في يدك كدرها عليك بالعزل والتنغيص حتى لو كانت نفسك بيدك ألقيتها وذكرت مشاهدك بصفين فوالله ما ثقلت علينا وطأتك ولقد كشفت فيها عورتك وإن كنت لطويل اللسان قصير السنان آخر الخيل إذا أقبلت وأولها إذا أدبرت لك يدان يد لا تبسطها إلى خير وأخرى لا تقبضها عن شر ووجهان وجه موحش ووجه مؤيس ولعمري ان من باع دينة بدنيا غيره لحري ان يطول ندمه لك لسان وفيك خطل ولك رأي وفيك نكد ولك قدر وفيك حسد فأصغر عيب فيك أكبر عيب في
وقال ابن عباس رضي الله عنه ما رأيت رجلا لي عنده معروف إلا أضاء ما بيني وبينه وقال رضي الله عنه أربعة لا أقدر على مكافأتهم رجل بدأني بالسلام ورجل وسع لي في المجلس ورجل اغبرت قدماه في المشي في حاجتي فأما الرابع فما يكافئه عني إلا الله عز وجل قيل ومن هو قال رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر فيمن يقصده ثم رآني أهلا لحاجته فأنزلها بي

63
وقال له رجل زوجني من فلانه وكانت يتيمة في حجره فقال لا أرضاها لك لأنها تسرف فقال الرجل قد رضيت فقال ابن عباس الآن لا أرضاك لها
ومات ابن عباس بالطائف في فتنة ابن الزبير وبلغ سبعين سنة قال أبو صالح صاحب التفسير ما رأينا بني أم قط أبعد قبورا من بني العباس لأم الفضل مات الفضل بالشام ومات عبد الله بالطائف ومات عبيد الله بالمدينة ومات قثم بسمرقند وقتل معبد بإفريقية
قال الواقدي مات ابن عباس سنة ثمان وسبعين بالطائف وهو ابن اثنتين وسبعين سنة وقد كف بصره فصلى عليه ابن الحنفية وكبر أربعا وضرب على قبره فسطاطا رحمه
الله تعالى
339 أبو بكر الصديق
أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة واسمه عثمان بن عامر من ولد تيم ابن مرة تيم قريش يلتقي هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرة بن كعب وهما في القعدد إليه سواء بين كل واحد منهما وبينه ستة آباء كان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ولقبه عتيق لقب به لجمال وجهه رضي الله عنه وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أنت عتيق من النار وسمي صديقا لتصديقه خبر المسرى وأمه سلمى وتكنى أم الخير بنت صخر وهي بنت عم أبيه

64
كان طويلا آدم خفيف العارضين يخضب بالحناء والكتم بويع له يوم الاثنين الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي بالسل ليلة الثلاثاء وقيل يوم الجمعة لتسع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وسنه ثلاث وستون سنة وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وتسعة أيام وغسلته زوجته أسماء ابنة عميس وصلى عليه عمر رضي الله عنهما وحمل على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سرير عائشة رضي الله عنها وكان من خشبتي ساج منسوجا بالليف وبيع في ميراث عائشة رضي الله عنها بأربعة آلاف درهم فاشتراه مولى لمعاوية وجعله للمسلمين ويقال إنه بالمدينة ودفن في حجرة عائشة ورأسه بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان يأخذ من بيت المال في كل يوم ثلاثة دراهم وكان قال لعائشة انظري يا بنية ما زاد في مال أبي بكر منذ وليت هذا الأمر فرديه على المسلمين فنظرت فإذا بكر وقطيفة لا تساوي خمسة دراهم ومجشة فلما جاء بذلك الرسول إلى عمر قال رحم الله أبا بكر لقد كلف من بعده تعبا
وروي أن أبا بكر خرج بعد البيعة ومعه ميزان ورزمة ثياب تحت يده وخرج إلى السوق فقيل له ما هذا فقال أكتسب لنفسي وعيالي فأجمعوا رأيهم وفرضوا له في كل يوم درهما وثلثي درهم من بيت مال المسلمين
وأبو بكر رضي الله عنه أول من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدلالة على نبوته وسبب ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه كان باليمن في تجارة ونبىء النبي صلى الله عليه وسلم وهو غائب أبو بكر رضي الله عنه في طريقه على دير فيه راهب باليمن هو ورفقته فسألهم الراهب هل فيكم خطيب قالوا نعم وأشاروا إلى أبي بكر رضي الله عنه فدعاه إليه وحده فقال له الراهب من أين أنت فقال من مكة فقال هل ظهر بها أحد يدعي النبوة فقال لا فقال الراهب عندي صورة أريكها فإن عرفت أحدا يشبهها فعرفني فعرض عليه الصورة فقال هذه صورة رجل يعرف بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال الراهب هذا هو النبي المدعو به وهو خاتم الأنبياء يظفر بأعدائه ويعلو دينه الأديان فقال أبو بكر رضي الله عنه

65
ما عرفنا هذا منه ولا ادعاه ولا عرف بالعلم ولا يحسن الكتابة ولا خالط اليهود والنصارى فقال الراهب هذا هو النبي نفسه وقيل إن الراهب قال لأبي بكر وأنت الخليفة من بعده على أهل دينه فرجع أبو بكر من عند الراهب ولم يشعر أحدا من رفقته بما قال له الراهب فلما قدم مكة قالت له أمه سلمى أم الخير ما بلغك ما حدث من صديقك محمد زعم أنه نبي نبأه الله وأرسله إلى قومه وكافة الخلق فقال لها وأين هو قالت بجبل حراء فأسرع أبو بكر رضي الله عنه نحو الجبل فرآه في غار فسلم عليه وقال بلغني أنك ادعيت النبوة والرسالة فقال له لست بمدع وقد فعل الله ذلك بي قال له فما الدليل على صدقك قال هل خرجت علي كذبا قال لا والله غير أن هذا أمر لا يقبل بغير دليل فقال النبي صلى الله عليه وسلم دليله ما قاله لك الراهب قال أبو بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله أنا أول متابع لك على هذا الأمر
وهو أول من أم في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وأول من دعي بخليفة وأول من رقي منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الشعبي لما ولي أبو بكر الخلافة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إني وليتكم ولست بخيركم ولكن نزل القرآن فأدبنا فتأدبنا وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمنا فتعلمنا وان أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وان أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه وان أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق إنما انا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وان زغت فسددوني أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين
ولما تم الأمر لأبي بكر رضي الله عنه ارتدت العرب إلا قليلا منهم وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة الأسود بن كعب العنسي ومسيلمة الكذاب واسمه ثمامة بن حبيب وطليحة الأسدي فأما الأسود فإنه غلب على صنعاء ونجران إلى عمل الطائف واستطار الحريق فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بقتله فقتله فيروز الديلمي في منزله وجاء

66
رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بقتله من السماء فأخبر به أصحابه ثم وصل المخبر بقتله إلى المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أول فتح فتح على أبي بكر رضي الله عنه كذا ذكره الطبري في تاريخه وقال أبو بشر الدولابي إنه قتل في خلافة أبي بكر وأما مسيلمة وطليحة فإن أمرهما استغلظ واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد وغطفان وارتدت قبائل العرب إلا قيسا وثقيفا ومنعوا الزكاة فأشار الناس على أبي بكر رضي الله عنه بأخذ العرب بالصلاة ومسامحتهم في الزكاة فقال والله لو منعوني عقالا أو عناقا مما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على ذلك ثم خرج إلى عبس وذبيان فقاتلهم فانهزموا وعادوا إلى المدينة ثم سير الجيوش لقتال أهل الردة وعقد أحد عشر لواء على أحد عشر جندا وسير خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى طليحة ومن تابعه من غطفان فهزمهم وانهزم طليحة حتى لحق بالشام وقتل من أصحابه جمع كبير ثم أسلم طليحة بعد ذلك لما بلغه عن أسد وغطفان ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر رضي الله عنه ثم أتى عمر رضي الله عنه فبايعه ورجع إلى ديار قومه وسار خالد لقتال بني حنيفة ومسيلمة وكانت امرأة تعرف بسجاح ابنة الحارث قد تنبأت في بني تغلب وسارت إلى مسيلمة الكذاب فتزوجت به وأقامت عنده ثلاثا ثم انصرفت إلى قومها ثم هزم الله بني حنيفة وقتل مسيلمة الكذاب قتله وحشي قاتل حمزة
ولما فرغ خالد رضي الله عنه من أمر اليمامة كتب إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأمره بالمسير إلى العراق فسار وصالح أهل الحيرة على جزية حملها إلى المدينة
وكانت أول جزية حملت إليها وقال أبو بكر رضي الله عنه لخالد حين بعثه إلى أهل الردة احرص على الموت توهب لك الحياة ففتح الأنبار وعين التمر وأنفذ السبي إلى المدينة وسار إلى دومة الجندل فقتل وسبى ثم وجه أبو بكر رضي الله عنه الجيوش إلى الشام وأمر خالدا بالمسير إليها وفتحت بصرى في خلافته وهي أول مدينة فتحت بالشام

67
وحج بالناس سنة اثنتي عشرة وهي السنة الثانية من خلافته وولي الأولى عمر رضي الله عنه
ومات أبو قحافة والد أبي بكر بعد موت أبي بكر رضي الله عنه بسنة وقيل تسعة أشهر وذلك في سنة أربع عشرة وسنه سبع وتسعون سنة وكان إسلامه يوم فتح مكة وكان يوم مات أبو بكر رضي الله عنه بمكة ولم يل الخلافة من أبوه حي غير أبي بكر رضي الله عنه
وهو أول من جمع القرآن الكريم بين اللوحين وذلك أن المسلمين لما أصيبوا باليمامة خاف أبو بكر رضي الله عنه أن يفنى قراء القرآن وإنما كان في صدور الرجال فجمعه وجعله بين اللوحين وسماه مصحفا ولم يزل عنده إلى أن مات وبقي عند عمر رضي الله عنه إلى أن مات وبقي عند حفصة ابنته
ولما احتضر أبو بكر رضي الله عنه استخلف على المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووصاه فكان من وصيته ان قال هذا ما وصى به أبو بكر ابن أبي قحافة عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فإن بر وعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وان غير وبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب * (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) *
ووصل الخبر بموت أبي بكر رضي الله عنه إلى الشام وخالد بن الوليد على دمشق يحاصرها وفي اليوم الثاني من ورود الخبر فتحت دمشق وكان خالد رضي الله عنه أخفى خبر موته إلى أن فتح دمشق
واختلفوا في سبب مرضه الذي مات فيه فقيل سمته يهودية وقيل اغتسل في يوم بارد فحم ومرض خمسة عشر يوما وكان عمر رضي الله عنه يصلي بالناس حين ثقل
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة يركب وأبو بكر رضي الله عنه رديفه وهو أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه يعرف الطريق لاختلافه إلى الشام فكان يمر

68
بالقوم فيقولون من هذا بين يديك يا أبا بكر فيقول هاد يهديني وهذا الحديث يدل على أنه أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورأى أبو بكر رضي الله عنه رجلا بيده ثوب فقال أهو للبيع قال لا أصلحك الله فقال هلا قلت لا وأصلحك الله لئلا يشتبه الدعاء لي بالدعاء علي وقال لرجل قال له لأشتمنك شتما يدخل معك قبرك قال معك يدخل والله لا معي ومدح قوم أبا بكر رضي الله عنه فقال الله أعلم بي مني بنفسي وأنا أعلم بنفسي منكم فاستغفروا الله مما لا تعلمون وأسأله أن لا يؤاخذكم بما تقولون وأن يجعلني خيرا مما تظنون
وحكي أن أبا بكر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فأخفاها فقال يا رسول الله هذه صدقتي ولله عندي معاد وجاء عمر رضي الله عنه بصدقته فأظهرها وقال يا رسول الله هذه صدقتي ولي عند الله المعاد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا عمر وترت قوسك بغير وتر ما بين صدقتيكما كما بين كلمتيكما)
أولاده لصلبه وأعقابهم عبد الله بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر وأمهما قتيلة من بني عامر بن لؤي وعبد الرحمن وعائشة وأمهما أم رومان بنت الحارث ابن الحويرث من بني فراس بن غنم بن كنانة ومحمد بن أبي بكر أمه أسماء بنت عميس وأم كلثوم أمها بنت زيد بن خارجة رجل من الأنصار
82 فأما عبد الله بن أبي بكر فإنه شهد الطائف مع النبي صلى الله عليه وسلم فجرح وبقي إلى خلافة أبيه ومات وترك سبعة دنانير فاستكثرها أبوه رضي الله عنه وولد عبد الله بن إسماعيل وهلك ولا عقب له
83 وأما أسماء فهي ذات النطاقين وتزوجها الزبير بمكة فولدت له عدة أولاد ثم طلقها فكانت مع عبد الله ابنها حتى قتل وبقيت مائة سنة حتى عميت وماتت بمكة رضي الله عنها
وأما عائشة رضي الله عنها فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم ذكرها في هذا الحرف
84 واما عبد الرحمن بن أبي بكر فشهد يوم بدر مع المشركين ثم أسلم

69
وحسن إسلامه ومات فجأة سنة ثلاث وخمسين بجبل بقرب مكة فأدخلته عائشة الحرم ودفنته وأعتقت عنه وكان شهد الجمل معها ويكنى أبا عبد الله
85 وأما أم كلثوم فتزوجها طلحة بن عبيد الله فولدت له محمدا وكان عاملا على مكة وولدت له زكريا وعائشة ثم قتل عنها فتزوجها عبد الرحمن ابن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي الآتي ذكره ولطلحة عقب كثير وهم ينزلون بالقرب من المدينة وكانت بنت محمد بن طلحة عند سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس
86 وأما محمد بن عبد الرحمن فولد عبد الله بن محمد وله عقب يقال لهم آل أبي عتيق من بين ولد أبي بكر وذلك أن عدة من ولد أبي بكر تفاضلوا فقال أحدهم أنا ابن الصديق وقال الآخر أنا ابن ثاني اثنين وقال آخر أنا ابن صاحب الغار وقال محمد بن عبد الرحمن أنا ابن عتيق فنسب إلى ذلك هو وولده إلى اليوم
وأما محمد بن أبي بكر فسيأتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى
87 مواليه بلال بن أبي رباح وأمه حمامة وكان من مولدي السراة فيما بين اليمن والطائف وكان لرجل من بني جمح فاشتراه أبو بكر رضي الله عنه بخمس أواقي وأعتقه وكان من المعذبين في الله عز وجل وشهد بلال بدرا والمشاهدكلها وهو أول من أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه فاستأذنه إلى الشام فأذن له فلم يزل مقيما بها ولم يؤذن بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأحد منهم فلما قدم عمر رضي الله عنه إلى الشام لقيه فأمره
بالأذان فأذن فبكى عمر والمسلمون معه وكان بلال يكنى أبا عبد الله وكان شديد الأدمة نحيفا طوالا خفيف العارضين به شمط كبير وكان لا يغير شيبه مات بدمشق سنة عشرين وهو ابن بضع وستين سنة رحمه الله تعالى
كتابه عثمان بن عفان رضي الله عنه وزيد بن ثابت

70
قاضيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل وقيل إنه
أقام سنة لم يختصم إليه أحد
حاجبه شديد مولاه
وكان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده
340 عبد الله بن الزبير
أبو خبيب عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي وأمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم ذات النطاقين وقد تقدم ذكرها مع أبيها وهو أول مولود ولد بالمدينة من المسلمين بعد الهجرة بويع له بمكة سنة أربع وستين بعد أن أقام الناس بغير خليفة جماديين وأياما من رجب وبايعه أهل العراق وولى أخاه مصعبا البصرة وولى عبد الله بن مطيع الكوفة فوثب المختار بن أبي عبيد على الكوفة فأخذها ووجه شميطا إلى البصرة فقتله مصعب وسار مصعب إلى المختار فقتله في سنة سبع وستين
وبنى ابن الزبير الكعبة وادخل فيها الحجر وجعل لها بابين مع الأرض يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر وخلق داخل الكعبة وخارجها فكان أول من خلقها وكساها القباطي
وولى أخاه عبيدة بن الزبير المدينة وأخرج مروان بن الحكم وبنيه منها فصار إلى الشام ولم يزل يقيم للناس الحج من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين

71
وسبعين فلما ولي عبد الملك منع أهل الشام من الحج من أجل ابن الزبير كان يأخذ الناس بالبيعة له إذا حجوا فضج الناس لما منعوا الحج فبنى عبد الملك في بيت المقدس الصخرة فكان الناس يحضرونها يوم عرفة ويقفون عندها ويقال إن ذلك سبب التعريف من مسجد بيت المقدس ومساجد الأمصار وذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن أن أول من سن التعريف في مساجد الأمصار عبد الله بن عباس وذكر أبو عمر الكندي ان عبد العزيز بن مروان أول من سن التعريف بمصر في الجامع بعد العصر
ثم بعد ذلك بعث عبد الملك الحجاج إلى عبد الله بن الزبير وسبب ذلك أن عبد الملك لما قتل مصعبا وابنه عيسى وأراد الرجوع إلى الشام قام إليه الحجاج فقال يا أمير المؤمنين إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته فابعثني إليه وولني عليه فبعثه في جيش من أهل الشام كثيف فنزل الطائف وكان يبعث البعوث فيقاتلون ابن الزبير ففي ذلك كله ترجع خيل الحجاز بالظفر ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم عليه وحصاره وأخبره أن شوكته قد كلت فأذن له في ذلك فلما دخل ذو القعدة رحل الحجاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون وحصر ابن الزبير وأمد عبد الملك الحجاج لهلال ذي الحجة ولم يطف بالبيت ولم يصل إليه وكان يلبس السلاح ولا يمس النساء ولا الطيب إلى أن قتل ابن الزبير ولم يحج ابن الزبير ولا أصحابه في هذه السنة لأنهم لم يقفوا بعرفة وحج الحجاج في هذه السنة ثم حصر ابن الزبير ثمانية أشهر فتفرق عامة من كان معه وخرجوا إلى الحجاج في الأمان حتى بلغ عدة المستأمنة عشرة آلاف وكان في جملتهم ابنا عبد الله بن الزبير أخذا أمانا لنفسيهما
فلما رأى عبد الله بن الزبير ما رأى من ولده وأصحابه دخل على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فقال يا أمه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع إلا صبر ساعة

72
والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك فقالت والله يا بني أنت أعلم بنفسك ان كنت تعلم أنك على حق فامض له فقد قتل عليه أصحابك وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك وان قلت إني على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال هذا رأيي ولكن أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة فانظري يا أماه إني مقتول من يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عمل بفاحشة ولم يجر في حكم ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكن تعزية لأمي لتسلو عني فقالت أمه إني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسنا اخرج حتى انظر إلى ما يصير إليه أمرك ثم قالت اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل وذلك التحنث والظمأ في الهواجر بالمدينة ومكة وبره بأبيه وبي اللهم قد اسلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين ثم دنا فتناول يدها فقبلها فقالت هذا وداع فلا تبعد وكان عليه درع فلما عانقها وجدت مس الدرع فقالت ما هذا صنيع من يريد ما تريد قال ما لبستها إلا لأشد منك قالت فإنها لا تشد مني فنزعها ثم أدرج كميه وأدخل أسفل قميصه وجبة خز كانت عليه من أسفل المنطقة وخرج وقد كبر الناس فحمل عليهم فلم يبق بين يديه أحد وانهزم الناس ووقف بالأبطح لا يدنو منه أحد وكان الحجاج وطارق ابن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة والناس لكل طائفة منهم باب فمرة يحمل عبد الله في هذه ومرة في هذه وكأنه أسد في أجمة فلما كان يوم الثلاثاء أذن المؤذن فتقدم فصلى بالناس فلما فرغ من الصلاة أمر أهله وحضهم على القتال ثم قال لهم في جملة كلامه ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول احملوا على بركة الله وعونه ثم حمل حتى بلغ بهم الحجون فرمي بآجرة فأرعش لها ودمي وجهه فلما وجد سخونة الدم على وجهه ولحيته قال
(فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
* ولكن على أقدامنا تقطر الدما)
وصاحت مولاة لآل الزبير ومجنونة وا أمير المؤمنيناه وكانت رأته حيث

73
هوى وكان قتله يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقيل جمادى الآخرة وكان سنة اثنتين وسبعين سنة رضي الله عنه وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وجاء هو وطارق حتى وقفا عليه فقال طارق ما ولدت النساء اذكر من هذا فقال الحجاج اتمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين قال نعم هو اعذر لنا ولولا هذا ما كان لنا عذر بالمحاصرة وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر ينتصف منا بل يفضل علينا في كل ما التقينا فبلع كلامهما عبد الملك فصوب رأي طارق
وحكى الشعبي قال حضرت عبد الله بن الزبير وهو يخطب بمكة فقال في آخر خطبته أما والله لو كانت الرجال تصرف لصرفتكم تصريف الذهب بالفضة أما والله لوددت أن لي بكل رجلين منكم رجلا من أهل الشام بل بكل خمسة بل بكل عشرة فما بكم يدرك الثأر ولا بكم يمنع الجار فقام إليه رجل من أهل البصرة فقال ما نجد لنا ولك مثلا إلا قول الأعشى
(علقتها عرضا وعلقت رجلا
* غيري وعلق أخرى غيرها الرجل) علقناك وعلقت أهل الشام وعلق أهل الشام بني مروان فما عسانا أن نصنع قال الشعبي فما سمعت بجواب أحضر منه ولا أحسن
ثم دخل الحجاج مكة فبايع من بها من قريش وبعث برأس ابن الزبير وجماعة إلى المدينة فنصبوا بها ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان فبعث عبد الملك برأس ابن الزبير إلى عبد الله بن خازم الأسلمي وهو بخراسان وال من جهة ابن الزبير وكتب إليه عبد الملك يدعوه إلى طاعته ويقول له بايعني حتى اجعل لك خراسان طعمة سبع سنين فقال ابن خازم لرسوله لولا أن الرسل لا تقتل لأمرت بضرب عنقك ولكن كل كتاب صاحبك فأكله ثم أخذ الرأس فغسله وطيبه وكفنه ودفنه وقيل إنه بعث به إلى آل الزبير إلى المدينة فدفنوه مع جثته ثم قال
(أعيش زبيري الحياة فإن أمت
* فإني موص هامتي بالتزبر)
ثم إن عبد الملك بن مروان ولى الحجاج مكة واليمن واليمامة فنقض الحجاج

74
بنيان الكعبة الذي بناه ابن الزبير لأنه كان تخلخل من حجارة المنجنيق فأعاده إلى بناء قريش الأول ولما توفي بشر بن مروان كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف وهو بالمدينة بوفاته فأقبل في اثني عشر راكبا على النجائب حتى دخل الكوفة فجأة فبدأ بالمسجد فدخله ثم صعد المنبر وستأتي تتمة الكلام
وقيل إن عبد الله بن الزبير قال لأمه أسماء إني لا آمن إن قتلت أن يمثل بي وأصلب قالت يا بني إن الشاة إذا ذبحت لم تألم وماتت أمه بعده بخمسة أيام ولها مائة سنة رضي الله عنها وكان سلطانه بالحجاز والعراق تسع سنين واثنين وعشرين يوما رضي الله عنه

75
341 عبد الله بن المعتز
أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور بن محمد بن علي عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب وغيرهما كان أديبا بليغا شاعرا مطبوعا مقتدرا على الشعر قريب المأخذ سهل اللفظ جيد القريحة حسن الإبداع للمعاني مخالطا للعلماء والأدباء معدودا من جملتهم إلى أن جرت له الكائنة في خلافة المقتدر واتفق معه جماعة من رؤساء الأجناد ووجوه الكتاب فخلعوا المقتدر يوم السبت لعشر بقين وقيل لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين وبايعوا عبد الله المذكور ولقبوه المرتضي بالله وقيل المنصف بالله وقيل الغالب بالله وقيل الراضي بالله وأقام يوما وليلة ثم إن أصحاب المقتدر تحزبوا وتراجعوا وحاربوا أعوان ابن المعتز وشتتوهم وأعادوا المقتدرإلى دسته واستحفى ابن المعتز في دار أبي عبد الله الحسين عبد الله بن الحسين المعروف بابن الجصاص التاجر الجوهري فأخذه المقتدر وسلمه إلى مؤنس الخادم الخازن فقتله وسلمه إلى أهله ملفوفا في كسء وقيل إنه مات حتف أنفه وليس بصحيح بل خنقه مؤنس وذلك يوم الخميس ثاني شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين ودفن في خرابة بإزاء داره رحمه الله تعالى
ومولده لسبع بقين من شعبان سنة سبع وأربعين وقال سنان بن ثابت في سنة ست وأربعين ومائتين والقضية مشهورة وفيها طول وهذا خلاصتها
88 ثم قبض المقتدر عب ابن الجصاص المذكور وأخذمنه مقدار ألفي ألف دينار وسلم له بعد ذلك مقدار سبعمائة ألف دينار وكان فيه غفلة وبله وتوفي يوم الأحد لثلاث ليلة خلت من شوار سنة خمس عشرة وثلاثمائة
ولابن المعتز من التصانيف كتاب الزهر والرياض وكتاب البديع وكتاب مكاتبات الإخوان بالشعر وكتاب الجوارح والصيد وكتاب السرقات وكتاب أشعار الملوك وكتاب الآداب وكتاب حلى الأخبار وكتاب طبقات الشعراء وكتاب الجامع في الغناء وكتاب فيه أرجوزة في ذم الصبوح
ومن كلامه البلاغة البلوغ إلى المعنى ولم يطل سفر الكلام وكان يقول لي ما أحسن شعر تعرفه لقلت قول العباس بن الأحنف
(قد سحب الناس أذيال الظنون بنا
* وفرق الناس فينا قولهم فرقا)
(فكاذب قد رمى بالظن غيركم
* وصادق ليس يدري أنه صدق) ورثاه علي بن محمد بن بسام الشاعر الآتي ذكره بقوله
(لله رك من ميت بمضيعة
* ناهيك في العلم والآداب والحسب)
(ما فيه لو ولا لولا فتنقصه
* وإنما أدركته حرفة الأدب)

76
الله الحسين بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن الجصاص التاجر الجوهري فأخذه المقتدر وسلمه إلى مؤنس الخادم الخازن فقتله وسلمه إلى أهله ملفوفا في كساء وقيل إنه مات حتف أنفه وليس بصحيح بل خنقه مؤنس وذلك يوم الخميس ثاني شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين ودفن في خرابة بإزاء داره رحمه الله تعالى
ومولده لسبع بقين من شعبان سنة سبع وأربعين وقال سنان بن ثابت في سنة ست وأربعين ومائتين والقضية مشهورة وفيها طول وهذا خلاصتها
88 ثم قبض المقتدر على ابن الجصاص المذكور وأخذ منه مقدار ألفي ألف دينار وسلم له بعد ذلك مقدار سبعمائة ألف دينار وكان فيه غفلة وبله وتوفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس عشرة وثلاثمائة
ولابن المعتز من التصانيف كتاب الزهر والرياض وكتاب البديع وكتاب مكاتبات الإخوان بالشعر وكتاب الجوارح والصيد وكتاب السرقات وكتاب أشعار الملوك وكتاب الآداب وكتاب حلى الأخبار وكتاب طبقات الشعراء وكتاب الجامع في الغناء وكتاب فيه أرجوزة في ذم الصبوح
ومن كلامه البلاغة البلوغ إلى المعنى ولم يطل سفر الكلام وكان يقول لو قيل لي ما أحسن شعر تعرفه لقلت قول العباس بن الأحنف
(قد سحب الناس أذيال الظنون بنا
* وفرق الناس فينا قولهم فرقا)
(فكاذب قد رمى بالظن غيركم
* وصادق ليس يدري أنه صدقا)
ورثاه علي بن محمد بن بسام الشاعر الآتي ذكره بقوله
(لله درك من ميت بمضيعة
* ناهيك في العلم والآداب والحسب)
(ما فيه لو ولا لولا فتنقصه
* وإنما أدركته حرفة الأدب)

77
ولعبد الله المذكور أشعار رائقة وتشبيهات بديعة فمن ذلك قوله
(سقى المطيرة ذات الظل والشجر
* ودير عبدون هطال من المطر)
(فطالما نبهتني للصبوح بها
* في غرة الفجر والعصفور لم يطر)
(أصوات رهبان دير في صلاتهم
* سود المدارع نعارين في السحر)
(مزنرين على الأوساط قد جعلوا
* على الرؤوس أكاليلا من الشعر)
(كم فيهم من مليح الوجه مكتحل
* بالسحر يطبق جفنيه على حور)
(لاحظته بالهوى حتى استقاد له
* طوعا وأسلفني الميعاد بالنظر)
(وجاءني في قميص الليل مستترا
* يستعجل الخطو من خوف ومن حذر)
(فقمت أفرش خدي في الطريق له
* ذلا وأسحب أذيالي على الأثر)
(ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا
* مثل القلامة قد قدت من الظفر)
(وكان ما كان مما لست أذكره
* فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر)
ومن ظريف شعره قوله ولم أجدها في ديوانه ولكن الرواة أطبقوا على أنها له والله أعلم
(ومقرطق يسعى إلى الندماء
* بعقيقة في درة بيضاء)
(والبدر في أفق السماء كدرهم
* ملقى على ياقوتة زرقاء)
(كم ليلة قد سرني بمبيته
* عندي بلا خوف من الرقباء)
(ومهفهف عقد الشراب لسانه
* فحديثه بالرمز والإيماء)
(حركته بيدي وقلت له انتبه
* يا فرحة الخلطاء والندماء)
(فأجابني والسكر يخفض صوته
* بتلجلج كتلجلج الفأفاء)
(إني لأفهم ما تقول وإنما
* غلبت علي سلافة الصهباء)
(دعني أفيق من الخمار إلى غد
* واحكم بما تختار يا مولائي)

78
وله في الخمرة المطبوخة وهو معنى بديع وفيه دلالة على أنه كان حنفي المذهب
(خليلي قد طاب الشراب المورد
* وقد عدت بعد النسك والعود أحمد)
(فهاتا عقارا في قميص زجاجة
* كياقوتة في درة تتوقد)
يصوغ عليها الماء شباك فضة
* له حلق بيض تحل وتعقد)
(وقتني من نار الجحيم بنفسها
* وذلك من إحسانها ليس يجحد)
وكان ابن المعتز شديد السمرة مسنون الوجه يخضب بالسواد
ورأيت في بعض المجاميع أن عبد الله بن المعتز المذكور كان يقول أربعة من الشعراء سارت أسماؤهم بخلاف أفعالهم فأبو العتاهية سار شعره بالزهد وكان على الإلحاد وأبو نواس سار شعره باللواط وكان أزنى من قرد وأبو حكيمة الكاتب سار شعره بالعنة وكان أهب من تيس ومحمد بن حازم سار شعره بالقناعة وكان أحرص من كلب
(وقد رويت لابن حازم خبرا يخالف حكاية ابن المعتز ويوافق شعره وذلك أنه كان جار سعيد بن حميد الكاتب الطوسي فهجاه لأمر كان بينهما فبلغ سعيدا هجوه فأغضى عنه مع القدرة ثم إن محمدا ساءت حاله فتحول عن جواره فبلغ ابن حميد ذلك فبعث إليه عشرة آلاف درهم وتخوت ثياب وفرسا بآلته ومملوكا وجارية وكتب إليه ذو الأدب يحمله ظرفه على نعت الشيء بغير هيئته وتبعثه قدرته على وصفه بخلاف حليته ولم يكن ما شاع من هجائك في جاريا إلا هذا المجرى وقد بلغني من سوء حالك وشدة خلتك ما لا غضاضة به عليك مع كبر همتك وعظم نفسك ونحن شركاء فيما ملكنا ومتساوون فيما تحت أيدينا وقد بعثت إليك بما جعلته وإن قل استفتاحا لما

79
بعده وإن جل فرد ابن حازم جميعه ولم يقبل منه شيئا وكتب إليه
(وفعلت بي فعل المهلب إذ
* غمر الفرزدق بالندى الدثر)
(فبعثت بالأموال ترغبني
* كلا ورب الشفع والوتر)
(لا ألبس النعماء من رجل
* ألبسته عارا على الدهر)
وهذا دليل على قناعته وحسن صبره واحتماله الإضاقة
89 وهذا سعيد بن حميد يكنى أبا عثمان وكان كاتبا شاعرا مترسلا عذب الألفاظ مقدما في صناعته جيد السرقة حتى قال بعض الفضلاء لو قيل لكلام سعيد وشعره ارجع إلى أهلك لما بقي معه منه شيء وكان يدعي أنه من أولاد ملوك الفرس وله من الكتب كتاب انتصاف العجم من العرب ويعرف بالتسوية وله ديوان رسائل وديوان شعر صغير
والمطيرة بفتح الميم وكسر الطاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعد الراء المفتوحة هاء وهي قرية من نواحي سر من رأى
وعبدون الذي يضاف الدير إليه فيقال دير عبدون هو ابن مخلد وهو أخو الوزير صاعد بن مخلد وإنما أضيف إليه لأنه كان كثير التردد إليه والمقام فيه والعناية بعمارته وهو إلى جنب المطيرة ودير عبدون أيضا قرب جزيرة ابن عمر بينهما دجلة وقد خرب الآن وكان منزها لأهلها
وقوله ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا مأخوذ من قول عمرو بن قميئة في صفة الهلال
(كأن ابن مزنتها جانحا
* فسيط لدى الأفق من خنصر)
والفسيط قلامة الظفر

80
342 ابن طباطبا
أبو محمد عبد الله بن أحمد بن علي بن الحسن بن إبراهيم بن طباطبا ابن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الحجازي الأصل المصري الدار والوفاة كان طاهرا كريما فاضلا صاحب رباع وضياع ونعمة ظاهرة وعبيد وحاشية كثير التنعم كان بدهليزه رجل يكسر اللوز كل يوم من أول النهار إلى آخره برسم الحلوى التي ينفذها لأهل مصر الأستاذ من كافور الإخشيدي إلى من دونه ويطلق للرجل المذكور دينارين في كل شهر أجرة عمله فمن الناس من كان يرسل له الحلوى كل يوم ومنهم كل جمعة ومنهم كل شهر وكان يرسل إلى كافور في كل يوم جامين حلوى ورغيفا في منديل مختوم فحسده بعض الأعيان وقال لكافور الحلوى حسن فما لهذا الرغيف فإنه لا يحسن أن يقابلك به فأرسل إليه كافور وقال يجريني الشريف في الحلوى على العادة ويعفيني من الرغيف فركب الشريف إليه وعلم أنهم قد حسدوه على ذلك وقصدوا إبطاله فلما اجتمع به قال له أيدك الله إنا ما ننفذ الرغيف تطاولا ولا تعاظما وإنما هي صبية حسنية تعجنه بيدها وتخبزه فنرسله على سبيل التبرك فإذا كرهته قطعناه فقال كافور لا والله لا تقطعه ولا يكون قوتي سواه فعاد إلى ما كان عليه من إرسال الحلوى والرغيف
ولما مات كافور وملك المعز أبو تميم معد بن المنصور العبيدي الديار المصرية على يد القائد جوهر المقدم ذكره في حرف الجيم وجاء المعز بعد ذلك من

81
إفريقية وكان يطعن في نسبه فلما قرب من البلد وخرج الناس للقائه اجتمع به جماعة من الأشراف فقال له من بينهم ابن طباطبا المذكور إلى من ينتسب مولانا فقال له المعز سنعقد مجلسا ونجمعكم ونسرد عليكم نسبنا فلما استقر المعز بالقصر جمع الناس في مجلس عام وجلس لهم وقال هل بقي من رؤسائكم أحد فقالوا لم يبق معتبر فسل عند ذلك نصف سيفه وقال هذا نسبي ونثر عليهم ذهبا كثيرا وقال هذا حسبي فقالوا جميعا سمعنا وأطعنا
وكان الشريف المذكور حسن المعاملة في معامليه حسن الإفضال عليهم ملاطفا لهم يركب إليهم وإلى سائر أصدقائه ويقضي حقوقهم ويطيل الجلوس عندهم وأغنى جماعة وكان حسن المذهب
وكانت ولادته سنة ست وثمانين ومائتين وتوفي في الرابع من رجب سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة بمصر وصلي عليه في مصلى العيد وحضر جنازته من الخلق ما لا يحصي عددهم إلا الله تعالى ودفن بقرافة مصر وقبره معروف ومشهور بإجابة الدعاء روي أن رجلا حج وفاتته زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فضاق صدره لذلك فرآه في نومه صلى الله عليه وسلم فقال له إذا فاتتك الزيارة فزر قبر عبد الله بن أحمد بن طباطبا وكان صاحب الرؤيا من أهل مصر
وحكى بعض من له عليه إحسان أنه وقف على قبره وأنشد
(وخلفت الهموم على أناس
* وقد كانوا بعيشك في كفاف)
فرآه في نومه فقال قد سمعت ما قلت وحيل بيني وبين الجواب والمكافأة ولكن صر إلى مسجد وصل ركعتين وادع يستجب لك رحمه الله تعالى
وقد تقدم في حرف الهمزة الكلام على طباطبا
وهذه الحكاية التي جرت له مع المعز عند قدومه مصر ذكرها في كتاب الدول المنقطعة لكنها تناقض تاريخ الوفاة فإن المعز دخل مصر في شهر رمضان سنة اثنتين
وستين وثلاثمائة كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى وابن

82
طباطبا المذكور توفي في سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة كما هو مذكور هاهنا فكيف يتصور الجمع بينهما وأفادني تاريخ وفاته شيخنا الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري وراجعته في هذا التناقض فقال أما الوفاة في هذا التاريخ فهي محققة ولعل صاحب الواقعة مع المعز كان ولده والله أعلم أي ذلك كان
ثم رأيت تاريخ وفاته كما هو هاهنا في تاريخ الأمير المختار المعروف بالمسبحي وقال وكانت علته قد طالت من توثه عرضت له في حنكه فتعالج بضروب العلاجات فلم ينجع فيها شيء وكانت علة غريبة لم يعهد مثلها
ثم رأيت في تاريخ ابن زولاق أن الشريف الذي التقى بالمعز هو أبو جعفر مسلم بن عبيد الله الحسيني والشريف أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد الحسيني الرسي ولعل أحدهما صاحب هذه الواقعة والله أعلم
343 عبد الله بن طاهر
أبو العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن ماهان الخزاعي وقد تقدم ذكر أبيه في حرف الطاء وقد كان عبد الله المذكور سيدا نبيلا عالي الهمة شهما وكان المأمون كثير الاعتماد عليه حسن الالتفات إليه لذاته ورعاية لحق والده وما أسلفه من الطاعة في خدمته وكان واليا على الدينور فلما خرج بابك الخرمي على خراسان وأوقع الخوارج بأهل قرية

83
الحمراء من أعمال نيسابور وأكثروا فيها الفساد واتصل الخبر بالمأمون بعث إلى عبد الله وهو بالدينور يأمره بالخروج إلى خراسان فخرج إليها في النصف من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة ومائتين وحارب الخوارج وقدم نيسابور في رجب سنة خمس عشرة ومائتين وكان المطر قد انقطع عنها تلك السنة فلما دخلها مطرت مطرا كثيرا فقام إليه رجل بزاز من حانوته وأنشده
(قد قحط الناس في زمانهم
* حتى إذا جئت جئت بالدرر)
(غيثان في ساعة لنا قدما
* فمرحبا بالأمير والمطر)
هكذا قال السلامي في أخبار خراسان وذكر الطبري في تاريخه أن طلحة ابن طاهر المذكور في ترجمة أبيه لما مات في سنة ثلاث عشرة وعبد الله يوم ذاك بالدينور أرسل المأمون إليه القاضي يحيى بن أكثم يعزيه عن أخيه طلحة ويهنئه بولاية خراسان وذكر بعد هذا في ولاية طلحة شيئا آخر فقال إن المأمون لما مات طاهر وكان ولده عبد الله بالرقة على محاربة نصر بن شبث ولاه عمل أبيه كله وجمع له مع ذلك الشام فوجه عبد الله أخاه طلحة إلى خراسان والله أعلم
وذكر الطبري أيضا في سنة ثلاث عشرة أن المأمون ولى أخاه المعتصم الشام ومصر وابنه العباس بن المأمون الجزيرة والثغور والعواصم وأعطى كل واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر خمسمائة ألف دينار وقيل إنه لم يفرق في يوم من المال مثل ذلك
وكان أبو تمام الطائي قد قصد عبد الله من العراق فلما انتهى إلى قومس وطالت به الشقة وعظمت عليه المشقة قال
(يقول في قومس صحبي وقد أخذت
* منا السرى وخطى المهرية القود)
(أمطلع الشمس تنوي أن تؤم بنا
* فقلت كلا ولكن مطلع الجود)
قلت وقد أخذ أبو تمام هذين البيتين من أبي الوليد مسلم بن الوليد

84
الأنصاري المعروف بصريع الغواني الشاعر المشهور حيث يقول
(يقول صحبي وقد جدوا على عجل
* والخيل تسنن بالركبان في اللجم)
(أمغرب الشمس تنوي أن تؤم بنا
* فقلت كلا ولكن مطلع الكرم) فإنه أغار على اللفظ والمعنى
رجعنا إلى ما كنا فيه
ولما وصل أبو تمام إليه أنشده قصيدته البديعة البائية التي يقول فيها
(وركب كأطراف الأسنة عرسوا
* على مثلها والليل تسطو غياهبه)
(لأمر عليهم أن تتم صدوره
* وليس عليهم أن تتم عواقبه)
وهي من القصائد الطنانة وفيها يقول
(فقد بث عبد الله خوف انتقامه
* على الليل حتى ما تدب عقاربه)
وفي هذه السفرة ألف أبو تمام كتاب الحماسة فإنه لما وصل إلى همذان وكان في زمن الشتاء والبرد بتلك النواحي شديد خارج عن حد الوصف قطع عليه كثرة الثلوج طريق مقصده فأقام بهمذان ينتظر زوال الثلج وكان نزوله عند بعض رؤسائها وفي دار ذلك الرئيس خزانة كتب فيها دواوين العرب وغيرها فتفرغ لها أبو تمام وطالعها واختار منها كتاب الحماسة
وكان عبد الله المذكور أديبا ظريفا جيد الغناء نسب إليه صاحب الأغاني أصواتا كثيرة أحسن فيها ونقلها أهل الصنعة عنه وله شعر مليح ورسائل ظريفة فمن شعره قوله وجدتها منسوبة إليه
(نحن قوم تليننا الحدق النجل
* على أننا نلين الحديدا)

85
(طوع أيدي الظباء تقتادنا العين
* ونقتاد بالطعان الأسودا)
(نملك الصيد ثم تملكنا البيض
* المصونات أعينا وخدودا)
(تتقي سخطنا الأسود ونخشى
* سخط الخشف حين يبدي الصدودا)
(فترانا يوم الكريهة أحرارا
* وفي السلم للغواني عبيدا)
وقيل إنها لأصرم بن حميد ممدوح أبي تمام والله أعلم
ومن مشهور شعر عبد الله قوله
(اغتفر زلتي لتحرز فضل الشكر
* مني ولا يفوتك أجري)
(لا تكلني إلى التوسل بالعذر
* لعلي أن لا أقوم بعذري)
وكان عبد الله أحد الأجواد الأسخياء حكى محمد بن داود بن الجراح عن محلم بن أبي محلم الشيباني عن أبيه قال عادلت عبد الله بن طاهر إلى خراسان فدخلنا الري وقت السحر فإذا قمرية تغرد على فنن شجرة فقال عبد الله بن طاهر أحسن والله أبو كبير الهذلي حيث يقول
(ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر
* وغصنك مياد ففيم تنوح)
ثم قال ما أحسن هذا فقلت وقد عملت على البديهة في معارضتة ثم قلت
(أفي كل يوم غربة ونزوح
* أما للنوى من أوبة فتروح)
(لقد طلح البين المشت ركائبي
* فهل أرين البين وهو طليح)
(وأرقني بالري نوح حمامة
* فنحت وذو الشجو القديم ينوح)
(على أنها ناحت فلم تذر دمعة
* ونحت وأسراب الدموع سفوح)
(وناحت وفرخاها بحيث تراهما
* ومن دون أفراخي مهامه فيح)
(عسى جود عبد الله أن يعكس النوى
* فتضحي عصا الأسفار وهي طريح)

86
قال فأذن من ساعتي بالرجوع ووصلني بعشرة آلاف درهم وردني إلى منزلي
ولما رجع عبد الله إلى الشام ارتفع فوق سطح قصره فنظر إلى دخان يرتفع من جواره فقال ما هذا الدخان فقيل إن الجيران يخبزون فقال إن من اللؤم أن نقيم بمكان فنكلف جيرانه بالخبز فاقصدوا الدور واكسروا التنانير واحضروا ما بها من رجل وامرأة فأجرى على كل إنسان خبزه ولحمه وما يحتاج إليه فسميت أيامه أيام الكفاية
وكتب إليه وكيله أن دابة بعض الأضياف به نقب فوقع يجلب عليه وعلى مثله من بعد بلا استشارة ولا استئذان
ومن كلامه سمن الكيس ونبل الذكر لا يجتمعان في موضع واحد
ورفعت إليه قص مضمونها أن جماعة خرجوا إلى ظاهر البلد للتفرج ومعهم صبي فكتب على رأسها ما السبيل على فتية خرجوا لمتنزههم يقضون أوطارهم على قدر أخطارهم ولعل الغلام ابن أحدهم أو قرابة بعضهم
وكان عبد الله قد تولى الشام مدة والديار المصرية مدة وفيه يقول بعض الشعراء وهو بمصر
(يقول أناس إن مصرا بعيدة
* وما بعدت مصر وفيها ابن طاهر)
(وأبعد من مصر رجال تراهم
* بحضرتنا معروفهم غير حاضر)
(عن الخير موتى ما تبالي أزرتهم
* على طمع أم زرت أهل المقابر)
وتنسب هذه الأبيات إلى عوف بن محلم الشيباني والله أعلم
وكان دخوله إليها سنة إحدى عشرة ومائتين وخرج منها في أواخر هذه السنة فدخل بغداد في ذي القعدة منها واستمر نوابه بمصر وعزل عنها في سنة سن ثلاث عشرة ومائتين ووليها أبو إسحاق ابن الرشيد وهو الملقب بالمعتصم وذكر الفرغاني في تاريخه أن عبد الله بن طاهر وليها بعد عبيد الله بن السري

87
ابن الحكم وخرج عبيد الله عنها في صفر سنة إحدى عشرة ومائتين وخرج عبد الله بن طاهر عنها إلى العراق لخمس بقين من رجب سنة اثنتي عشرة ومائتين وقد استخلف بها إلى أن وليها المعتصم وذكر الوزير أبو القاسم ابن المغربي في كتاب أدب الخواص أن البطيخ العبدلاوي الموجود بالديار المصرية منسوب إلى عبد الله المذكور وهذا النوع من البطيخ لم أره في شيء من البلاد سوى مصر ولعله نسب إليه لأنه كان يستطيبه أو أنه أول من زرعه هناك
90 وعبد الله وقومه خزاعيون بالولاء فإن جدهم رزيقا كان مولى أبي محمد طلحة بن عبيد الله بن خلف المعروف بطلحة الطلحات الخزاعي وكان طلحة المذكور واليا على سجستان من قبل مسلم بن زياد بن أبيه والي خراسان وكنيته أبو حرب فمات بها في فتنة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وفيه يقول الشاعر وهو عبيد الله بن قيس الرقيات
(رحم الله أعظما دفنوها
* بسجستان طلحة الطلحات)
وإنما قيل له طلحة الطلحات لأن أمه طلحة بنت أبي طلحة هكذا قاله أبو الحسين علي بن أحمد السلامي في تاريخ ولاة خراسان
وقومس المذكور في شعر أبي تمام بضم القاف وسكون الواو وفتح الميم وقيل بكسرها وبعدها سين مهملة وهو إقليم من عراق العجم حده من جهة خراسان بسطام ومن جهة العراق سمنان هاتان المدينتان داخلتان في أعمال قومس وكرسي قومس الدامغان
وكانت وفاة عبد الله المذكور في شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين ومائتين بمرو وقيل سنة ثلاثين وهو الأصح وقال الطبري مات بنيسابور يوم الاثنين لأحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من سنة ثلاثين

88
ومائتين بعد موت أشناس التركي بسبعة أيام وعاش مثل أبيه طاهر ثمانيا وأربعين سنة رحمه الله تعالى وسيأتي ذكر ولده عبيد الله إن شاء الله تعالى
344 أبو العميثل
أبو العميثل عبد الله بن خليد مولى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم ويقال أصله من الري وكان يفخم الكلام ويغربه وكان كاتب عبد الله بن طاهر المذكور قبله وشاعره ومنقطعا إليه وكاتب أبيه طاهر من قبله وكان مكثرا من نقل اللغة عارفا بها شاعرا مجيدا فمن شعره في عبد الله المذكور قوله
(يا من يحاول أن تكون صفاته
* كصفات عبد الله أنصت واسمع)
(فلأنصحنك في المشورة والذي
* حج الحجيج إليه فاسمع أو دع)
(أصدق وعف وبر واصبر واحتمل
* واصفح وكاف ودار واحلم وأشجع)
(والطف ولن وتأن وارفق واتئد
* واحزم وجد وحام واحمل وادفع)
(فلقد محضتك إن قبلت نصيحتي
* وهديت للنهج الأسد المهيع)
ولقد أحسن في هذا المقطوع كل الإحسان وله غيره أشعار حسان ويقال إنه وصل يوما إلى باب عبد الله بن طاهر فرام الدخول إليه فحجب فقال

89
(سأترك هذا الباب ما دام إذنه
* على ما أرى حتى يخف قليلا)
(إذا لم أجد يوما إلى الإذن سلما
* وجدت إلى ترك اللقاء سبيلا) فبلغ ذلك عبد الله فأنكره وأمر بدخوله
وكان يقول النعمان اسم من أسماء الدم ولذلك قيل شقائق النعمان نسبت إلى الدم لحمرتها قال وقولهم إنها منسوبة إلى النعمان بن المنذر ليس بشيء وحدثت الأصمعي بهذا فنقله عني هذا كله كلام أبي العميثل والذي ذكره أرباب اللغة بخلافه فإن ابن قتيبة ذكر في كتاب المعارف أن النعمان بن المنذر وهو آخر ملوك الحيرة من اللخميين خرج إلى ظهر الكوفة وقد اعتم نبته من بين أصفر وأحمر وأخضر وإذا فيه من هذه الشقائق شيء كثير فقال ما أحسنها احموها فحموها فسمي شقائق النعمان بذلك وقال الجوهري في الصحاح إنها منسوبة إلى النعمان المذكور وكذا غيره والله أعلم
ويحكى أن أبا تمام الطائي لما أنشد عبد الله بن طاهر قصيدته البائية المذكورة في ترجمته كان أبو العميثل حاضرا فقال له يا أبا تمام لم لا تقول ما يفهم فقال يا أبا العميثل لم لا تفهم ما يقال
وقبل يوما كف عبد الله بن طاهر فاستخشن مس شاربيه فقال أبو العميثل في الحال شوك القنفذ لا يؤلم كف الأسد فأعجبه كلامه وأمر له بجائزة سنية
وصنف كتبا منها كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه وكتاب التشابه وكتاب الأبيات السائرة وكتاب معاني الشعر وغير ذلك
وكانت وفاة أبي العميثل سنة أربعين ومائتين رحمه الله تعالى

90
والعميثل بفتح العين المهملة والميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الثاء المثلثة وبعدها لام وهو اسم لعدة أشياء من جملتها الأسد والظاهر أنه هو المقصود هاهنا
345 الناشي الأكبر
أبو العباس عبد الله بن محمد الناشي الأنباري المعروف بابن شرشير الشاعر كان من الشعراء المجيدين وهو في طبقة ابن الرومي والبحتري وأنظارهما وهو الناشي الأكبر وسيأتي ذكر الناشي الأصغر إن شاء الله تعالى وكان نحويا عروضيا متكلما أصله من الأنبار وأقام ببغداد مدة طويلة ثم خرج إلى مصر وأقام بها إلى آخر عمره وكان متبحرا في عدة علوم من جملتها علم المنطق وكان بقوة علم الكلام قد نقض علل النحاة وأدخل على قواعد العروض شبها ومثلها بغير أمثلة الخليل وكل ذلك بحذقه وقوة فطنته
وله قصيدة في فنون من العلم على روي واحد تبلغ أربعة آلاف بيت وله عدة تصانيف جميلة وله أشعار كثيرة في جوارح الصيد وآلاته والصيود وما يتعلق بها كأنه كان صاحب صيد وقد استشهد كشاجم بشعره في كتاب المصايد والمطارد في مواضع منها قصائد ومنها طرديات على أسلوب أبي نواس ومنها مقاطيع وقد أجاد في الكل فمن ذلك قوله طردية في وصف باز

91
(لما تفرى الليل عن أثباجه
* وارتاح ضوء الصبح لانبلاجه)
(غدوت أبغي الصيد في منهاجه
* بأقمر أبدع في نتاجه)
(ألبسه الخالق من ديباجه
* وشيا يحار الطرف في اندراجه)
(في نسق منه وفي انعراجه
* وزان فوديه إلى حجاجه)
(بزينة كفته نظم تاجه
* منسره ينبئ عن خلاجه)
(وظفره يخبر عن علاجه
* لو استضاء المرء في إدلاجه)
(بعينه كفته من سراجه) ومن شعره في جارية مغنية بديعة الجمال:
(فديتك لو أنهم أنصفوك
* لردوا النواظر عن ناظريك)
(تردين أعيننا عن سواك
* وهل تنظر العين إلا إليك)
(وهم جعلوك رقيبا علينا
* فمن ذا يكون رقيبا عليك)
(ألم يقرأوا ويحهم ما يرون
* من وحي حسنك في وجنتيك)
وشعره كثير ونقتصر منه على هذا القدر
وكانت وفاته بمصر سنة ثلاث وتسعين ومائتين رحمه الله تعالى
والناشي بفتح النون وبعد الألف شين معجمة وبعدها ياء وهو لقب عليه
وشرشير بكسر الشين الأولى والثانية المعجمتين وبينهما راء ساكنة ثم ياء مثناة من تحتها وبعدها راء وهو في الأصل اسم طائر يصل إلى الديار المصرية في البحر في زمن الشتاء وهو أكبر من الحمام بقليل وأظنه من طير الماء وهو كثير الوجود بساحل دمياط وأظنه يأتي من صحراء الترك وباسمه سمي الرجل والله أعلم
والأنباري بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الباء الموحدة وبعد الألف راء هذه النسبة إلى الأنبار وهي مدينة قديمة على الفرات في جهة بغداد يفصل

92
بينهما دجلة وهي في الجانب الغربي وبغداد في الجانب الشرقي وبينها وبين بغداد عشرة فراسخ خرج منها جماعة من العلماء وهو جمع واحده نبر بكسر النون وسكون الباء والأنبار أهراء الطعام وإنما قيل لهذه البليدة الأنبار لأن الملوك الأكاسرة كانوا يخزنون بها الطعام فسميت بذلك
346 ابن صارة الشنتريني
أبو محمد عبد الله بن محمد بن صارة البكري الأندلسي الشنتريني الشاعر المشهور كان شاعرا ماهرا ناظما ناثرا إلا أنه كان قليل الحظ إلا من الحرمان لم يسعه مكان ولا اشتمل عليه سلطان ذكره صاحب قلائد العقيان وأثنى عليه ابن بسام في الذخيرة وقال إنه تتبع المحقرات وبعد جهد ارتقى إلى كتابة بعض الولاة فلما كان من خلع الملوك ما كان أوى إلى إشبيلية أوحش حالا من الليل وأكثر انفرادا من سهيل وتبلغ بالوراقة وله منها جانب وبها بصر ثاقب فانتحلها على كساد سوقها وخلو طريقها وفيها يقول
(أما الوراقة فهي أيكة حرفة
* أوراقها وثمارها الحرمان)
(شبهت صاحبها بصاحب إبرة
* تكسو العراة وجسمها عريان)

93
وله
(ومعذر رقت حواشي حسنه
* فقلوبنا وجدا عليه رقاق)
(لم يكس عارضه السواد وإنما
* نفضت عليه سوادها الأحداق)
وله في غلام أزرق العين
(ومهفهف أبصرت في أطواقه
* قمرا بآفاق المحاسن يشرق)
(تقضي على المهجات منه صعدة
* متألق فيها سنان أزرق)
وهذا كقول السلامي
(أعانق من قده صعدة
* ترى اللحظ منها مكان السنان)
(ومن هاهنا أخذ ابن النبيه المصري قوله
(أسمر كالرمح له مقلة
* لو لم تكن كحلاء كانت سنان)
وأورد له صاحب كتاب الحديقة
(أسنى ليالي الدهر عندي ليلة
* لم أخل فيها الكأس من إعمال)
(فرقت فيها بين جفني والكرى
* وجمعت بين القرط والخلخال)
وقال غيره هذان البيتان لصالح الهزيل الإشبيلي والله أعلم
وله في الزهد
(يا من يصيخ إلى داعي السفاه وقد
* نادى به الناعيان الشيب والكبر)
(إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ثوى
* في رأسك الواعيان السمع والبصر)
(ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل
* لم يهده الهاديان العين والأثر)

94
(لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الأعلى
* ولا النيران الشمس والقمر)
(ليرحلن عن الدنيا وإن كرها
* فراقها الثاويان البدو والحضر)
وله
(وصاحب لي كداء البطن صحبته
* يودني كوداد الذئب للراعي)
(يثني علي جزاه الله صالحة
* ثناء هند على روح بن زنباع)
قوله ثناء هند على روح بن زنباع هذه هند هي بنت النعمان ابن بشير الأنصاري رضي الله عنه وكان روح بن زنباع الجذامي صاحب عبد الملك بن مروان قد تزوجها وكانت تكرهه وفيه تقول
(وهل هند إلا مهرة عربية
* سليلة أفراس تحللها بغل)
(فإن نتجت مهرا كريما فبالحري
* وإن يك إقراف فما أنجب الفحل)
ويروى فمن قبل الفحل وهو إقواء ويروى هذان البيتان لأختها حميدة بنت النعمان والإقراف أن تكون الأم عربية والأب ليس كذلك والهجنة خلاف ذلك بأن يكون الأب عربيا والأم خلاف ذلك
وله ديوان شعر أكثره جيد وكانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة بمدينة المرية من جزيرة الأندلس وقد تقدم ذكرها
ويقال في اسم جده صارة وسارة بالصاد والسين المهملتين
والشنتريني بفتح الشين المعجمة وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوقها وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون وهذه النسبة إلى شنترين، وهي بلدة في غرب جزيرة الأندلس أيضا رحمه الله تعالى

95
347 البطليوسي
أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي النحوي كان عالما بالآداب واللغات متبحرا فيهما مقدما في معرفتهما وإتقانهما سكن مدينة بلنسية وكان الناس يجتمعون إليه ويقرأون عليه ويقتبسون منه وكان حسن التعليم جيد التفهيم ثقة ضابطا ألف كتبا نافعة ممتعة منها كتاب المثلث في مجلدين أتى فيه بالعجائب ودل على اطلاع عظيم فإن مثلث قطرب في كراسة واحدة واستعمل فيها الضرورة وما لا يجوز وغلط في بعضه وله كتاب الاقتضاب في شرح أدب الكتاب وقد ذكرته في ترجمة عبد الله بن قتيبة وشرح سقط الزند لأبي العلاء المعري شرحا استوفى فيه المقاصد وهو أجود من شرح أبي العلاء صاحب الديوان الذي سماه ضوء السقط وله كتاب في الحروف الخمسة وهي السين والصاد والضاد والطاء والذال جمع فيه كل غريب وله كتاب الحلل في شرح أبيات الجمل والخلل في أغاليط الجمل أيضا وكتاب التنبيه على الأسباب الموجبة لاختلاف الأمة وكتاب شرح الموطأ وسمعت أن له شرح ديوان المتنبي ولم أقف عليه وقيل إنه لم يخرج من المغرب وبالجملة فكل شيء يتكلم فيه فهو في غاية الجودة وله نظم حسن فمن ذلك قوله
(أخو العلم حي خالد بعد موته
* وأوصاله تحت التراب رميم)

96
(وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى
* يظن من الأحياء وهو عديم)
وله في طول الليل
(ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة
* كما شبت أم في الجو روض بهار)
(كأن الليالي السبع في الجو جمعت
* ولا فصل فيما بينهما لنهار)
وله من أول قصيد يمدح بها المستعين بن هود
(هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا
* بأقمار أطواق مطالعها بان)
(لئن غادروني باللوى إن مهجتي
* مسايرة أظعانهم حيثما كانوا)
(سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم
* ينازعها مزن من الدمع هتان)
(أأحبابنا هل ذلك العهد راجع
* وهل لي عنكم آخر الدهر سلوان)
(ولي مقلة عبرى وبين جوانحي
* فؤاد إلى لقياكم الدهر حنان)
(تنكرت الدنيا لنا بعد بعدكم
* وحلت بنا من معضل الخطب ألوان)
ومن مديحها
(رحلنا سوام الحمد عنها لغيرها
* فلا ماؤها صدا ولا النبت سعدان)
(إلى ملك حاباه بالحسن يوسف
* وشاد له البيت الرفيع سليمان)
(من النفر الشم الذين أكفهم
* غيوث ولكن الخواطر نيران)

97
وهي طويلة ونقتصر منها على هذا القدر
ومولده في سنة أربع وأربعين وأربعمائة بمدينة بطليوس وتوفي في منتصف رجب سنة إحدى وعشرين وخمسمائة بمدينة بلنسية رحمه اله تعالى
والسيد بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة وهو من جملة أسماء الذئب سمي الرجل به
والبطليوسي بفتح الباء الموحدة والطاء المهملة وسكون اللام وفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الواو وبعدها سين مهملة وبلنسية بفتح الباء الموحدة واللام وسكون النون وكسر السين المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة هاتان المدينتان بجزيرة الأندلس خرج منهما جماعة من العلماء
348 ابن ناقيا
أبو القاسم عبد الله وقيل عبد الباقي بن محمد بن الحسين بن داود بن ناقيا الأديب الشاعر اللغوي المترسل هو من أهل الحريم الطاهري وهي محلة ببغداد وكان فاضلا بارعا وله مصنفات حسنة مفيدة منها مجموع سماه ملح الممالحة ومنها كتاب الجمان في تشبيهات القرآن وله مقامات أدبية مشهورة واختصر الأغاني في مجلد واحد وشرح كتاب الفصيح وله ديوان

98
شعر كبير وديوان رسائل وذكره العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة وأثنى عليه وذكر طرفا من أحواله وأورد له هذين البيتين في بعض الرؤساء وقد افتصد فكتبهما إليه
(جعل الله ذو المواهب عقباك
* من الفصد صحة وسلامه)
(قل ليمناك كيف شئت استهلي
* لا عدمت الندى فأنت غمامه)
ولقد أجاد فيهما ومن شعره أيضا
(أخلاي ما صاحبت في العيش لذة
* ولا زال عن قلبي حنين التذكر)
(ولا طاب لي طعم الرقاد ولا اجتنبت
* لحاظي مذ فارقتكم حسن منظر)
(ولا عبثت كفي بكأس مدامة يطوف بها ساق ولا جس مزهر)
وكان ينسب إلى التعطيل ومذهب الأوائل وصنف في ذلك مقالة وكان كثير المجون وحكى الذي تولى غسله بعد موته أنه وجد يده اليسرى مضمومة فاجتهد حتى فتحها فوجد فيها كتابة بعضها على بعض فتمهل حتى قرأها فإذا فيها مكتوب
(نزلت بجار لا يخيب ضيفه
* أرجي نجاتي من عذاب جهنم)
(وإني على خوف من الله واثق
* بإنعامه فالله أكرم منعم)
ومولده في منتصف ذي القعدة سنة عشر وأربعمائة وتوفي ليلة الأحد رابع المحرم سنة خمس وثمانين وأربعمائة ودفن بباب الشام ببغداد رحمه الله تعالى
وناقيا بفتح النون وبعد الألف قاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها مفتوحة وبعدها ألف
وقد تقدمت له أبيات مرثية في ترجمة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي

99
349 الشيخ أبو البقاء
أبو البقاء عبد الله بن أبي عبد الله الحسين بن أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري الأصل البغدادي المولد والدار الفقيه الحنبلي الحاسب الفرضي النحوي الضرير الملقب محب الدين أخذ النحو عن أبي محمد ابن الخشاب المذكور بعده وعن غيره من مشايخ عصره ببغداد وسمع الحديث من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد المعروف بابن البطي ومن أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي وغيرهما ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه وكان الغالب عليه علم النحو وصنف فيه مصنفات مفيدة وشرح كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي وديوان المتنبي وله كتاب إعراب القرآن الكريم في مجلدين وكتاب إعراب الحديث لطيف وكتاب شرح اللمع لابن جني وكتاب اللباب في علل النحو وكتاب إعراب شعر الحماسة وشرح المفصل للزمخشري شرحا مستوفى وشرح الخطب النباتية والمقامات الحريرية وصنف في النحو والحساب واشتغل عليه

100
خلق كثير وانتفعوا به واشتهر اسمه في البلاد وهو حي وبعد صيته
وكانت ولادته سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وتوفي ليلة الأحد ثامن شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمائة ببغداد ودفن بباب حرب رحمه الله تعالى
والعكبري بضم العين المهملة وسكون الكاف وفتح الباء الموحدة وبعدها راء هذه النسبة إلى عكبرا وهي بليدة على دجلة فوق بغداد بعشرة فراسخ خرج منها جماعة من
العلماء وغيرهم
وحكى الشيخ أبو البقاء المذكور في كتاب شرح المقامات عند ذكر العنقاء أن أهل الرس كان بأرضهم جبل يقال له رمخ صاعد في السماء قدر ميل وكان به طيور كثيرة وكانت العنقاء طائرة عظيمة الخلق طويلة العنق لها وجه إنسان وفيها من كل حيوان شبه من أحسن الطير وكانت تأتي في السنة مرة هذا الجبل فتلتقط طيره فجاعت في بعض السنين وأعوزها الطير فانقضت على صبي فذهبت به فسميت عنقاء مغربا لإبعادها بما تذهب به ثم ذهبت بجارية أخرى فشكا أهل الرس إلى نبيهم حنظلة بن صفوان فدعا عليها فأصابتها صاعقة فاحترقت والله أعلم
قلت هذا حنظلة بن صفوان نبي أهل الرس كان في زمن الفترة بين عيسى والنبي عليهما الصلاة والسلام ثم رأيت في تاريخ أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغاني نزيل مصر أن العزيز نزار بن المعز صاحب مصر اجتمع عنده من غرائب الحيوان ما لم يوجد عند غيره فمن ذلك العنقاء وهو طائر جاءه من صعيد مصر في طول البلشوم وأعظم جسما منه له غبب ولحية وعلى

101
رأسه وقاية وفيه عدة ألوان ومشابه من طيور كثيرة والله أعلم
ثم وجدت في أواخر كتاب ربيع الأبرار تأليف العلامة أبي القاسم الزمخشري في باب الطير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى خلق في زمن موسى عليه السلام طائرة اسمها العنقاء لها أربعة أجنحة من كل جانب ووجهها كوجه الإنسان وأعطاها من كل شيء حسن قسطا وخلق لها ذكرا مثلها وأوحى إليه أني خلقت طائرين عجيبين وجعلت رزقهما في الوحوش التي حول بيت المقدس وآنستك بهما وجعلتهما زيادة فيما فضلت به بني إسرائيل فتناسلا وكثر نسلهما فلما توفي موسى عليه السلام انتقلت فوقعت بنجد والحجاز فلم تزل تأكل الوحش وتختطف الصبيان إلى أن نبىء خالد بن سنان العبسي بين عيسى ومحمد عليهما السلام فشكوها إليه فدعا الله فقطع نسلها وانقرضت والله أعلم
350 ابن الخشاب
أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد المعروف بابن الخشاب البغدادي العالم المشهور في الأدب والنحو والتفسير والحديث والنسب والفرائض والحساب وحفظ الكتاب العزيز بالقراءات الكثيرة وكان متضلعا من العلوم وله فيها اليد الطولى وكان خطه في نهاية الحسن ذكره العماد الأصبهاني في الخريدة وعدد فضائله ومحاسنه ثم قال وكان قليل الشعر ومن شعره في الشمعة

102
(صفراء من غير سقام بها
* كيف وكانت أمها الشافية)
(عارية باطنها مكتس
* فاعجب بها عارية كاسيه)
وذكر له لغزا في كتاب وهو
(وذي أوجه لكنه غير بائح
* بسر وذو الوجهين للسر مظهر)
(تناجيك بالأسرار أسرار وجهه
* فتسمعها بالعين ما دمت تنظر)
وهذا المعنى مأخوذ من قول المتنبي في ابن العميد
(فدعاك حسدك الرئيس وأمسكوا
* ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا)
(خلفت صفاتك في العيون كلامه
* كالخط يملأ مسمعي من أبصرا)
وشرح كتاب الجمل لعبد القاهر الجرجاني وسماه المرتجل في شرح الجمل وترك أبوابا من وسد الكتاب ما تكلم عليها وشرح اللمع لابن جني ولم يكملها وكانت فيه بذاذة وقلة اكتراث بالمأكل والملبس
وذكر العماد أنه كانت بينهما صحبة ومكاتبات وقال لما مات كنت بالشام فرأيته ليلة في المنام فقلت له ما فعل الله بك قال خيرا فقلت فهل يرحم الله الأدباء فقال نعم قلت وإن كانوا مقصرين فقال يجري عتاب كثير ثم يكون النعيم
ومولده سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة قلت هكذا وجدت تاريخ ولادته وعندي في ذلك شيء لأني وقع لي جزء فيه تعاليق وفوائد علقها بخطه وكتب على ظهره ما صورته مختصرا سألت أبا الفضل محمد بن ناصر عن مولد شيخنا أبي الكرم المبارك بن فاخر المعروف بابن الدباس النحوي فقال سنة ثلاثين وأربعمائة وأظنه خمن لأنه توفي سنة خمس وخمسمائة وسنه فيما أرى أعلى من ذلك فسألت أبا المحاسن ابن أبي نصر بن الدباس

103
الناسخ عن مولد عمه أبي الكرم المذكور فقال قال لي قبل وفاته بسنة أنا في سنتي هذه بين فمي سبعين وإنني لأخشى من ذلك يعني لي سبع وسبعون وهذا يقتضي أن يكون مولده سنة ست وعشرين
فمضمون هذه الحكاية أن وفاة ابن الدباس محققة في سنة خمس وخمسمائة وهو أحد مشايخ ابن الخشاب المذكور وممن أكثر الرواية عنه ويبعد أن يكون قد حصل له هذا التحصيل واستفاد منه وسنه حينئذ لم يبلغ الحلم فإنه على ما ذكرناه من تاريخ وفاة المذكور ومولد ابن الخشاب المذكور يكون تقدير عمره عند وفاة شيخه أبي الكرم ثلاث عشرة سنة وفي مثل هذا السن يبعد اشتغاله وجمعه ولا شك أن خط ابن الخشاب يعتمد عليه فعلى هذا التقدير يكون مولده قبل هذا التاريخ الذي ذكرناه ويحتمل أن يكون التاريخ صحيحا وتكون روايته عن شيخه المذكور بمجرد الرواية دون الاشتغال والاستفادة ومثل ذلك يكون كثيرا والله أعلم وكانت وفاته عشية الجمعة ثالث شهر رمضان سنة سبع وستين وخمسمائة ببغداد رحمه الله تعالى بباب الأزج بدار أبي القاسم ابن الفراء ودفن بمقبرة أحمد بباب حرب وصلي عليه بجامع السلطان يوم السبت

104
351 ابن الفرضي
أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي الأندلسي القرطبي الحافظ المعروف بابن الفرضي كان فقيها عالما في فنون من العلم الحديث وعلم الرجال والأدب البارع وغير ذلك وله من التصانيف تاريخ علماء الأندلس وهو الذي ذيل عليه ابن بشكوال بكتابه الذي سماه الصلة وله كتاب حسن في المؤتلف والمختلف وفي مشتبه النسبة وكتاب في أخبار شعراء الأندلس وغير ذلك
ورحل من الأندلس إلى المشرق في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فحج وأخذ عن العلماء وسمع منهم وكتب من أماليهم
ومن شعره
(أسير الخطايا عند بابك واقف
* على وجل مما به أنت عارف)
(يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيبها
* ويرجوك فيها فهو راج وخائف)
(ومن ذا الذي يرجو سواك ويتقي
* وما لك في فصل القضاء مخالف)
(فيا سيدي لا تخزني في صحيفتي
* إذا نشرت يوم الحساب الصحائف)
(وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما
* يصد ذوو القربى ويجفو الموالف)
(لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي
* أرجي لإسرافي فإني لتالف)
ومن شعره أيضا

105
(إن الذي أصبحت طوع يمينه
* إن لم يكن قمرا فليس دونه)
(ذلي له في الحب من سلطانه
* وسقام جسمي من سقام جفونه)
وله شعر كثير ومولده في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وتولى القضاء بمدينة بلنسية وقتلته البربر يوم فتح قرطبة وهو يوم الاثنين لست خلون من شوال سنة ثلاث وأربعمائة رحمه الله تعالى وبقي في داره ثلاثة أيام ودفن متغيرا من غير غسل ولا كفن ولا صلاة روي عنه أنه قال تعلقت بأستار الكعبة وسألت الله تعالى الشهادة ثم انحرفت وفكرت في هول القتل فندمت وهممت أن أرجع فأستقيل الله سبحانه ذلك فاستحييت وأخبر من رآه بين القتلى ودنا منه فسمعه يقول بصوت ضعيف لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون دم والريح ريح المسك كأنه يعيد على نفسه الحديث الوارد في ذلك قال ثم قضى على أثر ذلك وهذا الحديث أخرجه مسلم في حديثه
352 الرشاطي
أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي المعروف بالرشاطي الأندلسي المريي كانت له عناية كثيرة بالحديث والرجال

106
والرواة والتواريخ وله كتاب حسن سماه كتاب اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار أخذه الناس عنه وأحسن فيه وجمع وما أقصر وهو على أسلوب كتاب أبي سعد ابن السمعاني الحافظ الذي سماه بالأنساب وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
ومولد الرشاطي صبيحة يوم السبت لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة ست وستين وأربعمائة بقرية من أعمال مرسية يقال لها أوريوالة بفتح الهمزة وسكون الواو وكسر الراء وضم الياء المثناة من تحتها وفتح الواو وبعد الألف لام مفتوحة بعدها هاء وتوفي شهيدا بالمرية عند تغلب العدو عليها صبيحة يوم الجمعة العشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة رحمه الله تعالى
والرشاطي بضم الراء وفتح الشين المعجمة وبعد الألف طاء مهملة مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها هذه النسبة ليست إلى قبيلة ولا إلى بلد بل ذكر في كتابه المذكور أن أحد أجداده كانت في جسمه شامة كبيرة وكانت له خادم عجمية تحضنه في صغره فإذا لاعبته قالت له رشطاله وكثر ذلك منها فقيل له الرشاطي

107
353 ابن بري
أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري المقدسي الأصل المصري الإمام المشهور في علم النحو واللغة والرواية والدراية كان علامة عصره وحافظ وقته ونادرة دهره أخذ علم العربية عن أبي بكر محمد ابن عبد الملك الشنتريني النحوي وأبي طالب عبد الجبار بن محمد بن علي المعافري القرطبي وغيرهما وسمع الحديث على أبي صادق المديني وأبي عبد الله الرازي وغيرهما واطلع على أكثر كلام العرب وله على كتاب الصحاح للجوهري حواش فائقة أتى فيها بالغرائب واستدرك عليه فيها مواضع كثيرة وهي دالة على سعة علمه وغزارة مادته وعظم اطلاعه وصحبه خلق كثير اشتغلوا عليه وانتفعوا به ومن جملة من أخذ عنه أبو موسى الجزولي صاحب المقدمة في النحو وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وذكره في مقدمته ونقل عنه في آخرها وكان عارفا بكتاب سيبويه وعلله وكان إليه التصفح في ديوان الإنشاء لا يصدر كتاب عن الدولة إلى ملك من ملوك النواحي إلا بعد أن يتصفحه ويصلح ما لعله فيه من خلل خفي وهذه كانت وظيفة ابن بابشاذ وقد ذكرت ذلك في ترجمته في حرف الطاء

108
ولقيت بمصر جماعة من أصحابه وأخذت عنهم رواية وإجازة ويحكى أنه كانت فيه غفلة ولا يتكلف في كلامه ولا يتقيد بالإعراب بل يسترسل في حديثه كيفما اتفق حتى قال يوما لبعض تلامذته ممن يشتغل عليه بالنحو اشتر لي قليل هندبا بعروقو فقال له التلميذ هندبا بعروقه فعز عليه كلامه وقال له لا تأخذه إلى بعروقو وإن لم يكن بعروقو فما أريده وكانت له ألفاظ من هذا الجنس لا يكترث بما يقوله ولا يتوقف على إعرابها
ورأيت له حواشي على درة الغواص في أوهام الخواص للحريري وله جزء لطيف في أغاليط الفقهاء وله الرد على أبي محمد ابن الخشاب المذكور في هذا الحرف في الكتاب الذي بين فيه غلط ابن الحريري في المقامات وانتصر لابن الحريري وما أقصر فيما عمله
وكانت ولادته بمصر في الخامس من رجب سنة تسع وتسعين وأربعمائة وتوفي بمصر ليلة السبت السابعة والعشرين من شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة رحمه الله تعالى
وبري بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء المكسورة وبعدها ياء وهو اسم علم يشبه النسبة
354 العاضد
أبو محمد عبد الله الملقب العاضد بن يوسف بن الحافظ بن محمد بن المستنصر ابن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي آخر

109
ملوك مصر من العبيديين وقد تقدم ذكر جماعة من أهل بيته وسيأتي ذكر الباقين ولي المملكة بعد وفاة ابن عمه الفائز في التاريخ المذكور في ترجمته وكان أبوه يوسف أحد الأخوين اللذين قتلهما عباس بعد الظافر وقد سبق ذلك في ترجمة الظافر في حرف الهمزة واستقر الأمر للعاضد المذكور اسما وللصالح بن رزيك المذكور في حرف الطاء جسما
وكان العاضد شديد التشيع متغاليا في سب الصحابة رضوان الله عليهم وإذا رأى سنيا استحل دمه وسار وزيره الصالح بن رزيك في أيامه سيرة مذمومة فإنه احتكر الغلات فارتفع سعرها وقتل أمراء الدولة خشية منهم وأضعف أحوال الدولة المصرية فقتل مقاتلتها وأفنى ذوي الآراء والحزم منها وكان كثير التطلع إلى ما في أيدي الناس من الأموال وصادر أقواما ليس بينه وبينهم تعلق
وفي أيام العاضد ورد أبو عبد الله الحسين بن نزار بن المستنصر من المغرب ومعه عساكر وحشود فلما قارب بلاد مصر غدر به أصحابه وقبضوه وحملوه إلى العاضد فقتله صبرا وذلك في سنة سبع وخمسين وخمسمائة في شهر رمضان وقيل إن ذلك كان في أيام الحافظ عبد المجيد هكذا قاله صاحب كتاب الدول المنقطعة والله أعلم ثم أعاد ذلك في أيام العاضد كما ذكرته أولا والله أعلم بالصواب وكان قد تلقب بالمنتصر بالله وقد تقدم في ترجمة شاور وأسد الدين شيركوه في حرف الشين ما يغني عن الإطالة في سبب انقراض دولته واستيلاء الغز عليها وسيأتي في أخبار السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى في حرف الياء طرف من ذلك أيضا
وسمعت من جماعة من المصريين يقولون إن هؤلاء القوم في أوائل دولتهم قالوا لبعض العلماء تكتب لنا ورقة تذكر فيها ألقابا تصلح للخلفاء حتى إذا تولى واحد لقبوه ببعض تلك الألقاب فكتب لهم ألقابا كثيرة وآخر ما كتب في الورقة العاضد فاتفق أن آخر من ولي منهم تلقب بالعاضد وهذا

110
من عجيب الاتفاق وأيضا فإن العاضد في اللغة القاطع يقال عضدت الشيء فأنا عاضد له إذا قطعته فكأنه عاضد لدولتهم وكذا كان لأنه قطعها
وأخبرني أحد علماء المصريين أيضا أن العاضد المذكور في أواخر دولته رأى في منامه وهو بمدينة مصر وقد خرجت إليه عقرب من مسجد هو معروف بها فلدغته فلما استيقظ ارتاع لذلك فطلب بعض معبري الرؤيا وقص عليه المنام فقال له ينالك مكروه من شخص هو مقيم في هذا المسجد فطلب والي مصر وقال له تكشف عمن هو مقيم في المسجد الفلاني وكان العاضد يعرف ذلك المسجد فإذا رأيت به أحدا تحضره عندي فمضى الوالي إلى المسجد فرأى فيه رجلا صوفيا فأخذه ودخل به على العاضد
فلما رآه سأله من أين هو ومتى قدم البلاد وفي أي شيء قدم وهو يجاوبه عن كل سؤال فلما ظهر له منه ضعف الحال والصدق والعجز عن إيصال المكروه إليه أعطاه شيئا وقال له يا شيخ ادع لنا وأطلق سبيله فنهض من عنده وعاد إلى مسجده فلما استولى السلطان صلاح الدين وعزم على القبض على العاضد واستفتى الفقهاء في قتله أفتوه بجواز ذلك لما كان عليه العاضد وأشياعه من انحلال العقيدة وفساد الاعتقاد وكثرة الوقوع في الصحابة والاستهتار بذلك وكان أكثرهم مبالغة في الفتيا الصوفي المقيم في المسجد وهو الشيخ نجم الدين الخبوشاني الآتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى فإنه عدد مساوىء هؤلاء القوم وسلب عنهم الإيمان وأطال الكلام في ذلك فصحت بذلك رؤيا العاضد
وكانت ولادة العاضد يوم الثلاثاء لعشر بقين من المحرم سنة ست وأربعين وخمسمائة وتوفي ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة سبع

111
وستين وخمسمائة وقيل إن العاضد حصل له غيظ من شمس الدولة توران شاه ابن أيوب أخي صلاح الدين فسم نفسه فمات والله أعلم رحمه الله تعالى وقيل إنه مات يو م عاشوراء
355 ابن الرداد المؤذن
أبو الرداد عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن الرداد المؤذن البصري صاحب المقياس بمصر كان رجلا صالحا وتولى مقياس النيل الجديد بجزيرة مصر وجمع إليه جميع النظر في أمره وما يتعلق به في سنة ست وأربعين ومائتين واستمرت الولاية في ولده إلى الآن وتوفي في سنة تسع وسبعين ومائتين وقيل سنة ست وستين ومائتين والله أعلم
والرداد بفتح الراء وبالدالين المهملتين وتشديد الأولى منهما وبينهما ألف
ذكره القضاعي في خطط مصر وذكر قضية الجارية التي كانت تلقى في النيل وذلك في فصل المقياس
وهذا المقياس وضعه أحمد بن محمد الحاسب القرصاني بأمر المتوكل على الله وكان أسامة بن زيد التنوخي في سنة ست وسبعين للهجرة قد أمر ببناء المقياس في الجزيرة قديما وحكي عنه وقيل إنه
قال لما أردت أن أكتب على

112
مواضع من المقياس ناظرت يزيد بن عبد الله وسليمان بن وهب والحسن الخادم فيما ينبغي أن يكتب عليه وأعلمتهم أن أحسن ما يكتب عليه آيات من القرآن واسم أمير المؤمنين المتوكل على الله واسم الأمير المنتصر إذ كان العمل له فاختلفوا في ذلك وبادر سليمان بن وهب فكتب من غير أن يعلم ويستطلع الرأي في ذلك فورد كتاب أمير المؤمنين أن يكتب عليه آيات من القرآن وما يشبه أمر المقياس واسم أمير المؤمنين فاستخرجت من القرآن آيات لا يمكن أن يكتب على المقياس أحسن ولا أشبه بأمر المقياس منها وجعلت جميع ما كتبت في الرخام الذي تقدم في البناية في المواضع التي قدرت الكتابة فيها بخط مقوم غليظ على قدر الإصبع ثابت في بدن الرخام مصبغ الحفر باللازورد المشمع يقرأ من بعد فجعلت أول ما كتبت أربع آيات متساوية المقادير في سطور أربعة في تربيع بناء المقياس على وزن سبع عشرة ذراعا من العمود
فكتبت في الجانب الشرقي وهو المقابل لمدخل المقياس بسم الله الرحمن الرحيم * (ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) * وفي الجانب الشمالي * (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج) * وعلى الجانب الغربي * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير) * وعلى الجانب الجنوبي * (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد) * فصارت هذه الآيات سطورا على وجه الماء إذا بلغ سبع عشرة ذراعا لأن هذا وسط الزيادة ثم جعلت في الذراع الثامن عشر في جميع التربيع نطاقا مثل النطاق الذي جعلته علامة للذراع السادس عشر وكتبت بإزاء الذارع الثامن عشر سطرا واحدا يحيط بجميع التربيع بسم الله الرحمن الرحيم * (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) *

113
) بسم الله الرحمن الرحيم مقياس يمن وسعادة ونعمة وسلامة أمر ببنائه عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وأدام عزه وتأييده على يدي أحمد بن محمد الحاسب سنة سبع وأربعين ومائتين وجعلت ما فوق ذلك من الحيطان التي بأعلى البناء منقوشا كله محفورا مصبوغا باللازورد المشمع وعمدت إلى ما جاوز من العمود تسع عشرة ذراعا والرأس المنصوب عليه والعارضة اللبخ الممسكة له فنقشت ذلك كله بالذهب واللازورد وكتبت على العارضة آية الكرسي إلى آخرها وكبت على حائط الزقاق المقابل للنيل فوق باب مدخل المقياس حيث يقرؤه السابلة سطرا إلى الرخام من أوله إلى آخره وهو بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين أمر عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ببناء المقياس الهاشمي لتعرف به زيادة النيل ونقصانه وأطال الله بقاء أمير المؤمنين وأدام له العز والتمكين والظفر على الأعداء وتتابع الإحسان والنعماء وزاده في الخير رغبة وبالرعية رأفة وكتبه أحمد ابن محمد الحاسب في رجب سنة سبع وأربعين ومائتين
وكتبت سطرين في رخام عن جنبتي الباب أحدهما بسم الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا والآخر بسم الله بلغ الماء في السنة التي بني فيها هذا المقياس المتوكلي المبارك سبع عشرة ذراعا وثمانية عشر إصبعا
واتخذت مثال سبع من رخام ركبته في وجه حائط فويقة القناة المطل على النيل على المقدار الذي إذا بلغ الماء ست عشرة ذراعا دخل الماء في فيه وكتبت فوق ذلك في
أعلى الحائط * (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) * كتبه أحمد بن محمد الحاسب في جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين ومائتين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليما

114
والذراع في المقياس ثمانية وعشرون إصبعا إلى أن ينتهي إلى اثنتي عشرة ذراعا وبعد ذلك يصير اعتباره أربعة وعشرين إصبعا
356 عبيد الله بن عبد الله
أبو عبد الله عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بن عاقل بن حبيب بن شمخ بن مخزوم بن صبح بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الهذلي أحد الفقهاء السبعة بالمدينة وقد تقدم ذكر أربعة منهم وهذا عبيد الله ابن أخي عبد الله بن مسعود الصحابي رضي الله عنه وهو من أعلام التابعين لقي خلقا كثيرا من الصحابة رضوان الله عليهم وسمع من ابن عباس وأبي هريرة وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم أجمعين وروى عنه أبو الزناد والزهري وغيرهما وقال الزهري أدركت أربعة بحور فذكر فيهم عبيد الله المذكور وقال سمعت من العلم شيئا كثيرا فظننت أني قد اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا كأني ليس في يدي شيء وقال عمر بن عبد العزيز لأن يكون لي مجلس من عبيد الله أحب إلي من الدنيا وقال والله إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال فقالوا يا أمير المؤمنين تقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك فقال أين يذهب بكم والله إني لأعود برأيه

115
وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف إن في المحادثة تلقيحا للعقل وترويحا للقلب وتسريحا للهم وتنقيحا للأدب
وكان عالما ناسكا وكانت وفاته سنة اثنتين ومائة وقيل سنة تسع وتسعين وقيل ثمان وتسعين للهجرة بالمدينة رضي الله عنه
وله شعر فمن ذلك ما أورده له في كتاب الحماسة وهو قوله
(شققت القلب ثم ذررت فيه
* هواك فليم فالتأم الفطور)
(تغلغل حب عثمة في فؤادي
* فباديه مع الخافي يسير)
(تغلغل حيث لم يبلغ شراب
* ولا حزن ولم يبلغ سرور)
ولما قال هذا الشعر قيل له أتقول مثل هذا فقال في اللدود راحة المفؤود وهو القائل لا بد للمصدور من أن ينفث
والهذلي بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وبعدها لام هذه النسبة إلى هذيل بن مدركة كما تقدم في نسبه وهي قبيلة كبيرة وأكثر أهل وادي نخلة المجاور لمكة حرسها الله تعالى من هذه القبيلة
وتوفي والده عبد الله سنة ست وثمانين للهجرة رضي الله عنه وكانت الرياسة في الجاهلية إلى جده صبح بن كاهل

116
357 المهدي عبيد الله
أبو محمد عبيد الله الملقب بالمهدي وجدت في نسبه اختلافا كثيرا قال صاحب تاريخ القيروان هو عبيد الله بن الحسن بن علي بن محمد بن علي ابن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال غيره هو عبيد لله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر المذكور وقيل هو علي بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقيل هو عبيد الله بن التقي بن الوفي بن الرضي وهؤلاء الثلاثة يقال لهم المستورون في ذات الله والرضي المذكور ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر المذكور واسم التقي الحسين واسم الوفي أحمد واسم الرضي عبد الله وإنما استتروا خوفا على أنفسهم لأنهم كانوا مطلوبين من جهة الخلفاء من بني العباس لأنهم علموا أن فيهم من يروم الخلافة أسوة غيرهم من العلويين وقضاياهم ووقائعهم في ذلك مشهورة وإنما تسمى المهدي عبيد الله استتارا هذا عند من يصحح نسبه ففيه اختلاف كثير وأهل العلم

117
بالأنساب من المحققين ينكرون دعواه في النسب وقد تقدم في ترجمة الشريف عبد الله بن طباطبا ما جرى بينه وبين المعز عند وصوله إلى مصر وما كان من جواب المعز له وفيه أيضا دلالة على ذلك فإنه لو عرف نسبه لذكره وما احتاج إلى ذلك المجلس الذي ذكرناه هناك
ويقولون أيضا إن اسمه سعيد ولقبه عبيد الله وزوج أمه الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح وسمي قداحا لأنه كان كحالا يقدح العين إذا نزل فيها الماء وقيل إن المهدي لما وصل إلى سجلماسة ونما خبره إلى اليسع مالكها وهو آخر ملوك بني مدرار وقيل له إن هذا هو الذي يدعو إلى بيعته أبو عبد الله الشيعي بإفريقية وقد تقدم الكلام على ذلك في ترجمة أبي عبد الله في حرف الحاء أخذه اليسع واعتقله فلما سمع أبو عبد الله الشيعي باعتقاله حشد جمعا كثيرا من كتامة وغيرها وقصد سجلماسة لاستنقاذه فلما بلغ اليسع خبر وصولهم قتل المهدي في السجن فلما دنت العساكر من البلد هرب اليسع فدخل أبو عبد الله إلى السجن فوجد المهدي مقتولا وعنده رجل من أصحابه كان يخدمه فخاف أبو عبد الله أن ينتقض عليه ما دبره من الأمر إن عرفت العساكر بقتل المهدي فأخرج الرجل وقال هذا هو المهدي وبالجملة فأخباره مشهورة فلا حاجة إلى الإطالة فيها
وهو أول من قام بهذا الأمر من بيتهم وادعى الخلافة بالمغرب وكان داعيه أبا عبد الله الشيعي المذكور في حرف الحاء ولما استتب له الأمر قتله وقتل أخاه كما ذكرناه في
ترجمته وبنى المهدية بإفريقية وفرغ من بنائها في شوال سنة ثمان وثلاثمائة وكان شروعه فيها في ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثمائة وبنى سورتونس وأحكم عمارتها وجدد فيها مواضع فنسبت المهدية إليه
وملك بعده ولده القائم ثم المنصور ولد القائم وقد تقدم ذكره ثم

118
المعز بن المنصور وهو الذي سير القائد جوهرا وملك الديار المصرية وبنى القاهرة واستمرت دولتهم حتى انقرضت على يد السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى وقد تقدم ذكر جماعة من حفدته وسيأتي ذكر باقيهم إن شاء الله تعالى ولأجل نسبتهم إليه يقال لهم العبيديون هكذا ينسب إلى عبيد الله
وكانت ولادته في سنة تسع وخمسين وقيل سنة ستين ومائتين وقيل ست وستين ومائتين بمدينة سلمية وقيل بالكوفة ودعي له بالخلافة على منابر رقادة والقيروان يوم الجمعة لتسع بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين بعد رجوعه من سجلماسة وقد جرى له بها ما جرى وكان ظهوره بسجلماسة يوم الأحد لسبع خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائتين وخرجت بلاد المغرب عن ولاية بني العباس وتوفي ليلة الثلاثاء منتصف شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة بالمهدية رحمه الله تعالى
وسلمية بفتح السين المهملة واللام وكسر الميم وتشديد الياء المثناة من تحتها وتخفيفها أيضا مع سكون الميم وهي بليدة بالشام من أعمال حمص
ورقادة بفتح الراء وتشديد القاف وبعد الألف دال مهملة ثم هاء ساكنة بلدة بإفريقية وقد تقدم ذكرها في ترجمة أبي عبد الله الحسين بن أحمد المعروف بالشيعي وكان قد بناها إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب جد زيادة الله بن الأغلب المذكور في ترجمة الشيعي أيضا وكان شروعه أيضا في بنائها في سنة ثلاث وستين ومائتين وفرغ منها في سنة أربع وستين ومائتين وانتقل إليها لما فرغت
والقيروان وسجلماسة قد تقدم الكلام عليهما في مواضعهما

119
358 عبيد الله بن عبد الله بن طاهر
أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق ابن ماهان الخزاعي تقدم ذكر أبيه وجده وما كانا عليه من التقدم وعلو المنزلة عند المأمون وتوليتهما خراسان وغيرها وكان عبيد الله المذكور أميرا ولي الشرطة ببغداد خلافة عن أخيه محمد بن عبد الله ثم استقل بها بعد موت أخيه وكان سيدا وإليه انتهت رياسة أهله وهو آخر من مات منهم رئيسا وله من الكتب المصنفة كتاب الإشارة في أخبار الشعراء وكتاب رسالة في السياسة الملوكية وكتاب مراسلاته لعبد الله بن المعتز وكتاب البراعة والفصاحة وغير ذلك وحدث عن الزبير بن بكار وغيره وكان مترسلا شاعرا لطيفا حسن المقاصد جيد السبك رقيق الحاشية
ومن شعره ثم وجدتها لأبي الطريف شاعر المعتمد الخليفة العباسي وزعم الصولي أن البحتري أنشده هذه الأبيات لنفسه والله أعلم وهي
(أتهجرون فتى أغري بكم تيها
* لحق دعوة صب أن تجيبوها)
(أهدي إليكم على نأي تحيته
* حيوا بأحسن منها أو فردوها)
(زموا المطايا غداة البين واحتملوا
* وخلفوني على الأطلال أبكيها)
(شيعتهم فاسترابوا بي فقلت لهم
* إني بعثت مع الأجمال أحدوها)

120
(قالوا فما نفس يعلو كذا صعدا
* وما لعينك لا ترقا مآقيها)
(قلت التنفس من إدمان سيركم
* ودمع عيني جار من قذى فيها)
(حتى إذا انجذبوا والليل معتكر
* رفعت في جنحه صوتي أناديها)
(يا من به أنا هيمان ومختبل
* هل لي إلى الوصل من عقبى أرجيها)
ومن شعره ما ذكره ابن رشيق في كتاب العمدة في باب الاستطراد فقال ومن الاستطراد نوع يسمى الإدماج ونحو ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر لعبيد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد
(أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا
* وأسعفنا في من نحب ونكرم)
(فقلت له نعماك فينا أتمها
* ودع أمرنا إن المهم المقدم)
ومن شعره
(واحربا من فراق قوم
* هم المصابيح والحصون)
(والأسد والمزن والرواسي
* والأمن والخفض والسكون)
(لم تتنكر لنا الليالي
* حتى توفتهم المنون)
(فكل نار لنا قلوب
* وكل ماء لنا عيون)
وله
(إن الأمير هو الذي
* يضحي أميرا يوم عزله)
(إن زال سلطان الولاية
* لم يزل سلطان فضله)

121
وله
(اقض الحوائج ما استطعت
* وكن لهم أخيك فارج)
(فلخير أيام الفتى
* يوم قضى فيه الحوائج)
وله ديوان شعر ونقتصر من نظمه على هذا القدر
وكان عبيد الله قد مرض فعاده الوزير فلما انصرف عنه كتب إليه ما أعرف أحدا جزى العلة خيرا غيري فإني جزيتها الخير وشكرت نعمتها علي إذ كانت إلى رؤيتك مؤدية فأنا كالأعرابي الذي جزى يوم البين خيرا فقال
(جزى الله يوم البين خيرا فإنه
* أرانا على علاته أم ثابت)
(أرانا ربيبات الخدور ولم نكن
* نراهن إلا بانتعات النواعت)
قلت ومثل هذا ما كتبه البحتري إلى أبي غانم وقد مرض فعاده الوزير وهو قوله
(يا أبا غانم غنمت ولا زالت
* عهاد الوسمي تسقي بلادك)
(ليت أنا مثل اعتلالك نعتل
* على أن يعودنا من عادك)
(أبهجت زورة الوزير أوداك
* جميعا وأرغمت حسادك)
وكانت ولادته سنة ثلاث وعشرين ومائتين وكانت وفاته ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاثمائة ببغداد ودفن بمقابر قريش رحمه الله تعالى
91 وتوفي الأمير أبو القاسم عبيد الله بن سليمان سنة ثمان وثمانين ومائتين

122
وعمره اثنتان وستون سنة وكانت وزارته عشر سنين وخمسين يوما
92 ولما مات أخوه سليمان بن عبد الله بن طاهر في سنة خمس وستين ومائتين وقف أخوه عبيد الله المذكور على قبره متكئا على قوسه ونظرإلى قبور أهله وأنشد
(النفس ترقى بحزن في تراقيها
* ودمعة العين تجري من مآقيها)
(لبقعة ما رأت عيني كقلتها
* ولا ككثرة أحباب ثووا فيها)
359 أبو الحكم المغربي
أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله بن محمد الباهلي الحكيم الأديب المعروف بالمغربي أصله من أهل المرية بالأندلس وتقدم ذكرها ومولده ببلاد اليمن ذكر أبو شجاع محمد بن علي بن الدهان الفرضي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى في تاريخ جمعه أن أبا الحكم المذكور قدم بغداد وأقام بها مدة يعلم الصبيان وأنه كان ذا معرفة بالأدب والطب والهندسة انتهى كلام أبي شجاع وذكر مولده ووفاته وقال غيره كان كامل الفضيلة جمع بين الأدب والحكمة وله ديوان شعر جيد والخلاعة والمجون غالبة عليه
وذكر العماد الأصبهاني في الخريدة أن أبا الحكم المذكور كان طبيب

123
البيمارستان الذي كان يحمله أربعون جملا المستصحب في معسكر السلطان محمود السلجوقي حيث خيم وكان السديد أبو الوفاء يحيى بن سعيد بن يحيى بن المظفر المعروف بابن المرخم الذي صار أقضى القضاة ببغداد في أيام الإمام المقتفي فاصدا وطبيبا في هذا البيمارستان ثم إن العماد أثنى على أبي الحكم المذكور وذكر فضله وما كان عليه وذكر أن له كتابا سماه نهج الوضاعة لأولي الخلاعة ثم إن أبا الحكم المذكور انتقل إلى الشام وسكن دمشق وله فيها أخبار وماجرايات ظريفة تدل على خفة روحه
رأيت في ديوانه أن أبا الحسين أحمد بن منير الطرابلسي المقدم ذكره في حرف الهمزة كان عند الأمراء بني منقذ بقلعة شيزر وكانوا مقبلين عليه وكان بدمشق شاعر يقال له أبو الوحش سبع بن خلف بن محمد بن هبة الله الفقعسي وكانوا يصغرون كنيته فيقولون وحيش وكانت فيه دعابة وبينه وبين أبي الحكم مودة وألفة متحدة فعزم أبو الوحش أن يتوجه إلى شيزر يمدح بني منقذ ويسترفدهم فالتمس من أبي الحكم المذكور كتابا إلى ابن منير بالوصية عليه فكتب أبو الحكم
(أبا الحسين استمع مقال فتى
* عوجل فيما يقول فارتجلا)
(هذا أبو الوحش جاء ممتدح القوم
* فنوه به إذا وصلا)
(واتل عليهم بحسن شرحك ما
* أتلوه من حديثه جملا)
(وخبر القوم أنه رجل
* ما أبصر الناس مثله رجلا)
(تنوب عن وصفه شمائله
* لا يبتغي عاقل به بدلا)

124
(وهو على خفة به أبدا
* معترف أنه من الثقلا)
(يمت بالثلب والرقاعة والسخف
* وأما بما سواه فلا)
(إن أنت فاتحته لتخبر ما
* يصدر عنه فتحت منه خلا)
(فسمه إن حل خطة الخسف والهون
* ورحب به إذا رحلا)
(وسقه السم إن ظفرت به
* وامزج له من لسانك العسلا)
وله أشياء مستملحة منها مقصورة هزلية ضاهى بها مقصورة ابن دريد من جملتها
(وكل ملموم فلا بد له
* من فرقة لو لزقوه بالغرا)
وله مرثية في عماد الدين زنكي بن آق سنقر الأتابك المقدم ذكره شاب فيها الجد بالهزل والغالب على شعره الانطباع
وكانت ولادته في سنة ست وثمانين وأربعمائة باليمن على ما حكاه ابن الدبيثي في ذيله وتوفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة سنة تسع وأربعين وخمسمائة وقال ابن الدبيثي توفي لساعتين خلتا من ليلة الأربعاء سادس ذي القعدة بدمشق وهو الأصح ودفن بباب الفراديس رحمه الله تعالى
93 والقاضي ابن المرخم المذكور هو الذي يقول فيه أبو القاسم هبة الله ابن الفضل الشاعر المعروف بابن القطان الآتي ذكره إن شاء الله تعالى
(يا ابن المرخم صرت فينا قاضيا
* خرف الزمان تراه أم جن الفلك)
(إن كنت تحكم بالنجوم فربما
* أما بشرع محمد من أين لك)

125
360 عبد الرحمن بن أبي ليلى
أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار وقيل داود بن بلال بن أحيحة ابن الجلاح الأنصاري وفي اسم أبيه خلاف غير هذا كان من أكابر تابعي الكوفة سمع علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وأبا أيوب الأنصاري وغيرهم رضي الله عنهم ويروى أنه سمع من عمر رضي الله عنه والحفاظ لا يثبتون سماعه من عمر وأبوه أبو ليلى له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وشهد وقعة الجمل وكانت راية علي بن أبي طالب رضي الله عنه معه وسمع من عبد الرحمن الشعبي ومجاهد وعبد الملك بن عمير وخلق سواهم رضي الله عنهم ولد لست سنين بقين من خلافة عمر وقتل بدجيل وقيل غرق في نهر البصرة وقيل فقد بدير الجماجم سنة ثلاث وثمانين في وقعة ابن الأشعث وقيل سنة إحدى وقيل سنة اثنتين وثمانين للهجرة رضي الله عنه
وأحيحة بضم الهمزة وفتح الحاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الحاء الثانية وبعدها هاء ساكنة
والجلاح بضم الجيم وبعد اللام ألف حاء مهملة
وسيأتي ذكر ولده محمد إن شاء الله تعالى

126
361 الأوزاعي
أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي إمام أهل الشام لم يكن بالشام أعلم منه قيل إنه أجاب في سبعين ألف مسألة وكان يسكن بيروت روي أن سفيان الثوري بلغه مقدم الأوزاعي فخرج حتى لقيه بذي طوى فحل سفيان رأس بعيره عن القطار ووضعه على رقبته فكان إذا مر بجماعة قال الطريق للشيخ سمع من الزهري وعطاء وروى عنه الثوري وأخذ عنه عبد الله بن المبارك وجماعة كبيرة
وكانت ولادته ببعلبك سنة ثمان وثمانين للهجرة وقيل سنة ثلاث وتسعين ومنشؤه بالبقاع ثم نقلته أمه إلى بيروت وكان فوق الربعة خفيف اللحية به سمرة وكان يخضب بالحناء وتوفي سنة سبع وخمسين ومائة يوم الأحد لليلتين بقيتا من صفر وقيل في شهر ربيع الأول بمدينة بيروت رحمه الله تعالى ورثاه بعضهم بقوله
(جاد الحيا بالشام كل عشية
* قبرا تضمن لحده الأوزاعي)
(قبر تضمن فيه طود شريعة
* سقيا له من عالم نفاع)
(عرضت له الدنيا فأعرض مقلعا
* عنها بزهد أيما إقلاع)
وقبره في قرية على باب بيروت يقال لها حنتوس وأهلها مسلمون وهو مدفون في قبلة المسجد وأهل القرية لا يعرفونه بل يقولون هاهنا رجل صالح ينزل عليه النور ولا يعرفه إلا الخواص من الناس

127
ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق أن الوزاعي دخل الحمام ببيروت وكان لصاحب الحمام شغل فأغلق الحمام عليه وذهب ثم جاء ففتح الباب فوجده ميتا قد وضع يده اليمنى تحت خده وهو مستقبل القبلة وقيل إن امرأته فعلت ذلك ولم تكن عامدة لذلك فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبة
ويحمد بضم الياء المثناة من تحتها وسكون الحاء المهملة وكسر الميم وبعدها دال مهملة
والأوزاعي بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الزاي وبعد الألف عين مهملة هذه النسبة إلى الأوزاع وهي بطن من ذي الكلاع من اليمن وقيل بط ن من همدان واسمه مرثد بن زيد وقيل الأوزاع قرية بدمشق على طريق باب الفراديس ولم يكن أبو عمرو منهم وإنما نزل فيهم فنسب إليهم وهو من سبي اليمن
وبيروت بفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وضم الراء وسكون الواو وفي آخرها تاء مثناة وهي بليدة بساحل الشام أخذها الفرنج من المسلمين يوم الجمعة
عاشر ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة
وحنتوس بفتح الحاء المهملة وسكون النون وضم التاء المثناة من فوقها وسكون الواو ثم سين مهملة

128
362 ابن القاسم المالكي
أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بالولاء الفقيه المالكي جمع بين الزهد والعلم وتفقه بالإمام مالك رضي الله عنه ونظرائه وصحب مالكا عشرين سنة وانتفع به أصحاب مالك بعد موت مالك وهو صاحب المدونة في مذهبهم وهي من أجل كتبهم وعنه اخذها سحنون
وكانت ولادته في سنة اثنتين وقيل ثلاث وثلاثين ومائة وقيل ثمان وعشرين وتوفي سنة إحدى وتسعين ومائة ليلة الجمعة لسبع ليال مضين من صفر بمصر ودفن خارج باب القرافة الصغرى قبالة قبر أشهب الفقيه المالكي وزرت قبريهما وهما بالقرب من السور رحمهما الله تعالى
وجنادة بضم الجيم وفتح النون وبعد الألف دال مهملة مفتوحة ثم هاء ساكنة
والعتقي بضم العين وفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها قاف هذه النسبة إلى العتقاء وليسوا من قبيلة واحدة بل هم من قبائل شتى منهم من حجر حمير ومن سعد العشيرة ومن كنانة مضر وغيرهم وعامتهم بمصر
وعبد الرحمن المذكور مولى زبيد بن الحارث العتقي وكان زبيد من حجر حمير وقال أبو عبد الله القضاعي وكانت القبائل التي نزلت الظاهر العتقاء

129
وهم جماع من القبائل كانوا يقطعون على من أراد النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم فأتى بهم أسرى فأعتقهم فقيل لهم العتقاء
ولما فتح عمرو بن العاص مصر وكان ذلك يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين للهجرة كان العتقاء معه معدودين في أهل الراية وإنما قيل لهم أهل الراية لأن العرب كانوا يجعلون لكل بطن منهم راية يعرفون بها ولم يكن لكل بطن من بطون أهل الراية من العدد ما يجعلون لكل بطن راية فقال عمرو بن العاص أنا أجعل راية لا أنسبها إلى أحد فتكون دعوتكم عليها ففعلوا فكان هذا الاسم كالنسب الجامع وعليها كان ديوانهم ولما فتحوا الإسكندرية ورجع عمرو إلى الفسطاط اختط الناس بها خططهم ثم جاء العتقاء بعدهم فلم يجدوا موضعا يختطون فيه عند أهل الراية فشكوا ذلك إلى عمرو فقال لهم معاوية بن حديج وكان يتولى أمر الخطط أرى لكم أن تظهروا على هذه القبائل فتتخذونه منزلا وتسمونه الظاهر ففعلوا ذلك فقيل لهم أهل الظاهر لذلك ذكر هذا كله أبو عمرو محمد بن يوسف بن يعقوب التجيبي في كتاب خطط مصر وهي فائدة غريبة يحتاج إليها فأحببت ذكرها

130
363 أبو سليمان الداراني أبو سليمان عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي الداراني الزاهد المشهور أحد رجال الطريقة كان من جلة السادات وأرباب الجد في المجاهدات ومن كلامه من أحسن في نهاره كفي في ليله ومن أحسن في ليله كفي في نهاره ومن صدق في ترك شهوة ذهب الله سبحانه وتعالى بها من قلبه والله تعالى أكرم من أن يعذب قلبا بشهوة تركت له ومن كلامه أفضل الأعمال خلاف هوى النفس وقال نمت ليلة عن وردي فإذا بحوراء تقول لي تنام وأنا أربى لك في الخدور منذ خمسمائة عام وله كل معنى مليح وكانت وفاته سنة خمس ومائتين وقيل سنة خمس عشرة ومائتين رضي الله عنه
والعنسي بفتح العين المهملة وسكون النون وبعدها سين مهملة هذه النسبة إلى بني عنس بن مالك بن أدد حي من مذحج ينسب أبو سليمان المذكور إليها
والداراني بفتح الدال المهملة وبعد الألف راء مفتوحة وبعد الألف الثانية نون هذه النسبة إلى داريا وهي قرية بغوطة دمشق والنسبة إليها على هذه الصورة من شواذ النسب والياء في داريا مشددة

131
364 الفوراني
أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني المروزي الفقيه الشافعي كان مقدم الفقهاء الشافعية بمرو وهو أصولي فروعي أخذ الفقه عن أبي بكر القفال الشاشي وصنف في الأصول والمذهب والخلاف والجدل والملل والنحل وانتهت إليه رياسة الطائفة الشافعية وطبق الأرض بالتلامذة وله في المذهب الوجوه الجيدة وصنف في المذهب كتاب الإبانة وهو كتاب مفيد وسمعت بعض فضلاء المذهب يقول إن إمام الحرمين كان يحضر حلقته وهو شاب يومئذ وكان أبو القاسم لا ينصفه ولا يصغي إلى قوله لكونه شابا فبقي في نفسه منه شيء فمتى قال في نهاية المطلب وقال بعض المصنفين كذا وغلط في ذلك وشرع في الوقوع فيه فمراده أبو القاسم الفوراني
وكانت وفاته في شهر رمضان سنة إحدى وستين وأربعمائة بمدينة مرو وهو ابن ثلاث وسبعين سنة رحمه الله تعالى وذكره الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي في سياق تاريخ نيسابور وأثنى عليه
والفوراني بضم الفاء وسكون الواو وفتح الراء وبعد الألف نون هذه النسبة إلى جده فوران المذكور هكذا ذكره السمعاني

132
365 أبو سعد المتولي
أبو سعد عبد الرحمن بن محمد واسمه مأمون بن علي وقيل إبراهيم المعروف بالمتولي الفقيه الشافعي النيسابوري كان جامعا بين العلم والدين وحسن السيرة وتحقيق المناظرة له يد قوية في الأصول والفقه والخلاف تولى التدريس بالمدرسة النظامية بمدينة بغداد بعد وفاة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى ثم عزل عنها في بقية سنة ست وسبعين وأربعمائة وأعيد أبو نصر ابن الصباغ صاحب الشامل ثم عزل ابن الصباغ في سنة سبع وسبعين وأعيد أبو سعد المذكور واستمر عليها إلى حين وفاته
وذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن إبراهيم الهمذاني في كتابه الذي ذيله على طبقات الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في ذكر الفقهاء ما مثاله حدثني أحمد بن سلامة
المحتسب قال لما جلس للتدريس أبو سعد عبد الرحمن واسمه مأمون بن علي المتولي بعد شيخنا يعني أبا إسحاق الشيرازي أنكر عليه الفقهاء استناده موضعه وأرادوا منه أن يستعمل الأدب في الجلوس دونه ففطن وقال لهم اعلموا أنني لم أفرح في عمري إلا بشيئين أحدهما أني جئت من وراء النهر ودخلت سرخس وعلي أثواب أخلاق لا تشبه ثياب أهل العلم فحضرت مجلس أبي الحارث ابن أبي الفضل السرخسي وجلست في أخريات أصحابه فتكلموا في مسألة فقلت واعترضت فلما انتهيت في نوبتي أمرني أبو الحارث بالتقدم فتقدمت ولما عادت نوبتي استدناني وقربني حتى جلست إلى جنبه وقام بي وألحقني بأصحابه فاستولى علي الفرح والشيء الثاني حين

133
أهلت للاستناد في موضع شيخنا أبي إسحاق رحمه الله تعالى فذلك أعظم النعم وأوفى القسم
وتخرج على أبي سعد جماعة من الأئمة وأخذ الفقه بمرو عن أبي القسام عبد الرحمن الفوراني المذكور قبله وبمرو الروذ عن القاضي حسين بن محمد وببخارى عن أبي سهل أحمد بن علي الأبيوردي وسمع الحديث وصنف في الفقه كتاب تتمة الإبانة تمم به الإبانة تصنيف شيخه الفوراني لكنه لم يكمله وعاجلته المنية قبل إكماله وكان قد انتهى فيه إلى كتاب الحدود وأتمه من بعده جماعة منهم أبو الفتوح أسعد العجلي المذكور في حرف الهمزة وغيره ولم يأتوا فيه بالمقصود ولا سلكوا طريقه فإنه جمع في كتابه الغرائب من المسائل والوجوه الغريبة التي لا تكاد توجد في كتاب غيره وله في الفرائض مختصر صغير وهو مفيد جدا وله في الخلاف طريقة جامعة لأنواع المآخذ وله في أصول الدين أيضا تصنيف صغير وكل تصانيفه نافعة
وكانت ولادته سنة ست وعشرين وأربعمائة وقيل سنة سبع وعشرين بنيسابور وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر شوال سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ببغداد ودفن بمقبرة باب ابرز رحمه الله تعالى
والمتولي بضم الميم وفتح التاء المثناة من فوقها والواو وتشديد اللام المكسورة ولم أعلم لأي معنى عرف بذلك ولم يذكر السمعاني هذه النسبة

134
366 فخر الدين ابن عساكر
أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي الملقب فخر الدين المعروف بابن عساكر الفقيه الشافعي كان إمام وقته في علمه ودينه تفقه على الشيخ قطب الدين أبي المعالي مسعود النيسابوري الآتي ذكره في حرف الميم إن شاء الله تعالى وصحبه زمانا وانتفع بصحبته وتزوج ابنته ثم استقل بنفسه ودرس بالقدس زمانا وبدمشق واشتغل عليه خلق كثير وتخرجوا عليه وصاروا أئمة وفضلاء وكان مسددا في الفتاوى وهو ابن أخي الحافظ أبي القاسم علي ابن عسكر صاحب تاريخ دمشق الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وخرج من بيتهم جماعة من العلماء والرؤساء
وكانت ولادته سنة خمسين وخمسمائة ظنا وكتب بخطه أن مولده سنة خمسين وخمسمائة وتوفي في العاشر من رجب يوم الأربعاء سنة عشرين وستمائة بدمشق رحمه الله تعالى وزرت قبره مرارا بمقابر الصوفية ظاهر دمشق

135
367 أبو القاسم الزجاجي
أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي البغدادي دارا ونشأة النهاوندي أصلا ومولدا كان إماما في علم النحو وصنف فيه كتاب الجمل الكبرى وهو كتاب نافع لولا طوله بكثرة الأمثلة أخذ النحو عن محمد بن العباس اليزيدي وأبي بكر ابن دريد وأبي بكر ابن الأنباري وصحب أبا إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج وقد تقدم ذكره فنسب إليه وعرف به وسكن دمشق وانتفع الناس به وتخرجوا عليه وتوفي في رجب سنة سبع وثلاثين وقيل تسع وثلاثين وثلاثمائة وقيل في شهر رمضان سنة أربعين والأول أصح بدمشق وقيل بطبرية رحمه الله تعالى وكان قد خرج من دمشق مع ابن الحارث عامل الضياع الإخشيدية فمات بطبرية
وكتابه الجمل من الكتب المباركة لم يشتغل به أحد إلا وانتفع به ويقال إنه صنفه بمكة حرسها الله تعالى وكان إذا فرغ من باب طاف أسبوعا ودعا الله تعالى أن يغفر له وأن ينفع به قارئه
والزجاجي بفتح الزاي وتشديد الجيم وبعدالألف جيم ثانية وقد تقدم القول في سبب هذه النسبة

136
368 ابن يونس صاحب تاريخ مصر
أبو سعيد عبد الرحمن بن أبي الحسن أحمد بن أبي موسى يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة بن حفص بن حيان الصدفي المحدث المؤرخ المصري كان خبيرا بأحوال الناس ومطلعا على تواريخهم عارفا بما يقوله جمع لمصر تاريخين أحدهما وهو الأكبر يختص بالمصريين والآخر وهو صغيريشتمل على ذكر الغرباء الواردين على مصر وما أقصر فيهما وقد ذيلهما أبو القاسم يحيى ن علي الحضرمي وبنى عليهما
وهذا أبو سعيد المذكور هو حفيد يونس بن عبد الأعلى صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه والناقل لأقواله الجديدة وسيأتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى وقال أبو الحسن علي بن عبد الرحمن المذكور كانت ولادة أبي في سنة إحدى وثمانين ومائتين
وكانت وفاته يوم الأحد ودفن يوم الاثنين لست وعشرين ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وثلاثمائة رحمه الله تعالى وصلى عليه أبو القاسم ابن حجاج ورثاه أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد الله بن سليمان الخولاني الخشاب المصري النحوي العروضي بقوله
(بثثت علمك تشريقا وتغريبا
* وعدت بعد لذيد العيش مندوبا)
(أبا سعيد وما نألوك أن نشرت
* عنك الدواوين تصديقا وتصويبا)

137
(ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه
* حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا)
(أرخت موتك في ذكري وفي صحفي
* لمن يؤرخني إذ كنت محسوبا)
(نشرت عن مصر من سكانها علما
* مبجلا بجمال القوم منصوبا)
(كشفت عن فخرهم للناس ما سجعت
* ورق الحمام على الأغصان تطريبا)
(أعربت عن عرب نقبت عن نجب
* سارت مناقبهم في الناس تنقيبا)
(أنشرت ميتهم حيا بنسبته
* حتى كأن لم يمت إذ كان منسوبا)
(إن المكارم للإحسان موجبة
* وفيك قد ركبت يا عبد تركيبا)
(حجبت عنا وما الدنيا بمظهرة
* شخصا وإن جل إلا عاد محجوبا)
(كذلك الموت لا يبقي على أحد
* مدى الليالي من الأحباب محبوبا) وسيأتي ذكر ولده أبي الحسن علي بن المنجم صاحب الزيج إن شاء الله تعالى
والصدفي بفتح الصاد والدال المهملتين وبعدهما فاء هذه النسبة إلى الصدف بن سهل وهي قبيلة كبيرة من حمير نزلت مصر والصدف بكسر الدال وإنما تفتح في النسب كما قالوا في النسب إلى نمرة نمري وهي قاعدة مطردة وفيه لغة أخرى أنه الصدف بفتح الدال.
94 وتوفي أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل صاحب الأبيات المذكورة في صفر سنة ست وستين وثلاثمائة رحمه الله تعالى

138
369 ابن الأنباري النحوي
أبو البركات عبد الرحمن بن أبي الوفاء محمد بن عبيد الله بن محمد بن عبيد الله ابن أبي سعيد محمد بن الحسن بن سليمان الأنباري الملقب كمال الدين النحوي كان من الأئمة المشار إليهم في علم النحو وسكن بغداد من صباه إلى أن مات وتفقه على مذهب الشافعي رضي الله عنه بالمدرسة النظامية وتصدر لإقراء النحو بها وقرأ اللغة على أبي منصور ابن الجواليقي وصحب الشريف أبا السعادات هبة الله بن الشجري الآتي ذكره في حرف الهاء إن شاء الله تعالى وأخذ عنه وانتفع بصحبته وتبحر في علم الأدب واشتغل عليه خلق كثير وصاروا علماء ولقيت جماعة منهم وصنف في النحو كتاب أسرار العربية وهو سهل المأخذ كثير الفائدة وله كتاب الميزان في النحو أيضا وله كتاب في طبقات الأدباء جمع فيه المتقدمين والمتأخرين مع صغر حجمه وكتبه كلها نافعة وكان نفسه مباركا ما قرأ عليه أحد إلا وتميز وانقطع في آخر عمره في بيته مشتغلا بالعلم والعبادة وترك الدنيا ومجالسة أهلها ولم يزل على سيرة حميدة
وكانت ولادته في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة وتوفي ليلة الجمعة تاسع شعبان سنة سبع وسبعين وخمسمائة ببغداد ودفن بباب أبرز بتربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى

139
والأنباري بفتح الهمزة وسكون النون وبعدها باء موحدة وبعد الألف راء هذه النسبة إلى الأنبار بلدة قديمة على الفرات بينها وبين بغداد عشرة فراسخ وسميت الأنبار لأن كسرى كان يتخذ فيها أنابير الطعام والأنابير جمع الأنبار جمع نبر بكسر النون وبعدها راء مثل نقس وأنقاس والنبر الهري الذي تجعل فيه الغلة والنقس بكسر النون وسكون القاف وبعده سين مهملة وهو المداد
370 أبو الفرج ابن الجوزي
أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادى بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبقية النسب معروف القرشي التيمي البكري البغدادي الفقيه الحنبلي الواعظ الملقب جمال الدين الحافظ كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ صنف في فنون عديدة منها زاد المسير في علم التفسير أربعة أجزاء أتى فيه بأشياء غريبة وله في الحديث تصانيف كثيرة وله المنتظم في التاريخ وهو كبير وله الموضوعات

140
في أربعة أجزاء ذكر فيها كل حديث موضوع وله تلقيح فهوم الأثر على وضع كتاب المعارف لابن قتيبة وبالجملة فكتبه أكثر من أن تعد وكتب بخطه شيئا كثيرا والناس يغالون في ذلك حتى يقولوا إنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل ويقال إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصل منها شيء كثير وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ففعل ذلك فكفت وفضل منها وله أشعار لطيفة أنشدني له بعض الفضلاء يخاطب أهل بغداد
(عذيري من فتية بالعراق
* قلوبهم بالجفا قلب)
(يرون العجيب كلام الغريب
* وقول القريب فلا يعجب)
(ميازيبهم إن تندت بخير
* إلى غير جيرانهم تقلب)
(وعذرهم عند توبيخهم
* مغنية الحي ما تطرب)
وله أشعار كثيرة وكانت له في مجالس الوعظ أجوبة نادرة فمن أحسن ما يحكى عنه أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما فرضي الكل بما يجيب به الشيخ أبو الفرج فأقاما شخصا سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه فقال أفضلهما من كانت ابنته تحته ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك فقالت السنة هو أبو بكر لأن ابنته عائشة رضي الله عنها تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت الشيعة هو علي لأن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

141
تحته وهذا من لطائف الأجوبة ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر كان في غاية الحسن فضلا عن البديهة وله محاسن كثيرة يطول شرحها
وكانت ولادته بطريق التقريب سنة ثمان وقيل عشر وخمسمائة وتوفي ليلة الجمعة ثاني عشر شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة ببغداد ودفن بباب حرب وتوفي والده في سنة أربع عشرة وخمسمائة رحمهما الله تعالى
وحمادى بضم الحاء المهملة وتشديد الميم وبعد الألف دال مهملة مفتوحة وياء مفتوحة
والجوزي بفتح الجيم وسكون الواو وبعدها زاي هذه النسبة إلى فرضة الجوز وهو موضع مشهور
ورأيت بخطي في مسوداتي أن جده كان من مشرعة الجوز إحدى محال بغداد بالجانب الغربي والله أعلم
وقال ابن النجار في تاريخ بغداد كان أبو الفرج ابن الجوزي يقول لا أتحقق مولدي غير أن والدي مات سنة أربع عشرة وقالت الوالدة كان لك من العمر نحو ثلاث سنين وكان والده يعمل الصفر بنهر القلايين والله أعلم
95 وكان ولده محيي الدين أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن محتسب بغداد وتولى تدريس المدرسة المستنصرية لطائفة الحنابلة وكان يتردد في الرسائل إلى الملوك وصار أستاذ دار الخلافة ومولده ليلة السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة ببغداد وتوفي في وقعة التتر قتيلا سنة ثلاث وخمسين وستمائة
96 وكان سبطه شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزغلي الواعظ المشهور حنفي المذهب وله صيت وسمعة في مجالس وعظه وقبول عند الملوك وغيرهم وصنف تاريخا كبيرا رأيته بخطه في أربعين مجلدا سماه مرآة الزمان وتوفي ليلة الثلاثاء حادي عشرين ذي الحجة سنة أربع وخمسين وستمائة بدمشق بمنزله بجبل قاسيون ودفن هناك ومولده سنة إحدى وثمانين وخمسمائة ببغداد رحمه الله تعالى وكان هو يقول أخبرتني أمي أن مولدي سنة اثنتين وثمانين

142
371 السهيلي
أبو القاسم وأبو زيد عبد الرحمن بن الخطيب أبي محمد عبد الله ابن الخطيب أبي عمر أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح وهو الداخل إلى الأندلس قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية هكذا أملى علي نسبة الخثعمي السهيلي الإمام المشهور صاحب كتاب الروض الأنف في شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وله كتاب التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام وله كتاب نتائج الفكر ومسألة رؤية الله تعالى في المنام ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومسألة السر في عور الدجال ومسائل كثيرة مفيدة وقال ابن دحية أنشدني وقال إنه ما سأل الله تعالى بها حاجة إلا أعطاه إياها وكذلك من استعمل إنشادها وهي
(يا من يرى ما في الضمير ويسمع
* أنت المعد لكل ما يتوقع)
(يا من يرجى للشدائد كلها
* يا من إليه المشتكى والمفزع)
(يا من خزائن رزقه في قول كن
* امنن فإن الخير عندك أجمع)
(ما لي سوى فقري إليك وسيلة
* فبالإفتقار إليك فقري أدفع)
(مالي سوى قرعي لبابك حيلة
* فلئن رددت فأي باب أقرع)
(ومن الذي أدعو وأهتف باسمه
* إن كان فضلك عن فقيرك يمنع)
(حاشا لمجدك أن يقنط عاصيا
* الفضل أجزل والمواهب أوسع)

143
وأشعاره كثيرة وتصانيفه ممتعة وكان ببلده يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف حتى نمي خبره إلى صاحب مراكش فطلبه إليها وأحسن إليه وأقبل بوجه الإقبال عليه وأقام بها نحو ثلاثة أعوام
ومولده سنة ثمان وخمسمائة بمدينة مالقة وتوفي بحضرة مراكش يوم الخميس ودفن وقت الظهر وهو السادس والعشرون من شعبان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة رحمه الله تعالى وكان مكفوفا
والخثعمي بفتح الخاء الموحدة وسكون الثاء المثلثة وفتح العين المهملة وبعدها ميم هذه النسبة إلى خثعم بن انمار وهي قبيلة كبيرة وفيه اختلاف
والسهيلي بضم السين المهملة وفتح الهاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها لام هذه النسبة إلى سهيل وهي قرية بالقرب من مالقة سميت باسم الكوكب لأنه لا يرى في جميع بلاد الأندلس إلا من جبل مطل عليها
ومالقة بفتح الميم وبعد الألف لام مفتوحة ثم قاف مفتوحة وبعدها هاء وهي مدينة كبيرة بالأندلس وقال السمعاني بكسر اللام وهو غلط

144
372 أبو مسلم الخراساني
أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم وقيل عثمان الخراساني القائم بالدعوة العباسية وقيل هو إبراهيم بن عثمان بن يسار بن شذوس بن جودرن من ولد بزرجمهر بن البختكان الفارسي قال له إبراهيم الإمام ابن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب غير اسمك فما يتم لنا الأمر حتى تغير اسمك فسمى نفسه عبد الرحمن والله أعلم
كان أبوه من رستاق فريذين من قرية تسمى سنجرد وكانت هذه القرية له مع عدة قرى وقيل إنه من قرية يقال لها ماخوان على ثلاث فراسخ من مرو وكان بعض الأحياء يجلب إلى الكوفة مواشي ثم إنه قاطع على رستاق فريذين فلحقه فيه عجز وأنفذ عامل البلد إليه من يشخصه إلى الديوان وكان له عند أذين بنداذ ابن وستجان جارية اسمها وشيكة جلبها من الكوفة فأخذ الجارية معه وهي حامل وتنحى عن مؤدى خراجه آخذا إلى أذربيجان فاجتاز على رستاق فاتق بعيسى بن معقل بن عمير أخي إدريس بن معقل جد أبي دلف العجلي فأقام عنده أياما فرأى في منامه

145
كأنه جلس للبول فخرج من إحليله نار وارتفعت في السماء وسدت الآقاق وأضاءت الأرض ووقعت بناحية المشرق فقص رؤياه على عيسى ابن معقل فقال له ما أشك أن في بطنها غلام ثم فارقه ومضى إلى أذربيجان ومات بها
ووضعت الجارية أبا مسلم ونشأ عند عيسى فلما ترعرع اختلف مع ولده إلى المكتب فخرج أديبا لبيبا يشار إليه في صغره ثم إنه اجتمع على عيسى بن معقل وأخيه إدريس جد أبي دلف العجلي بقايا من الخراج تقاعدا من أجلها عن حضور مؤدى الخراج بأصبهان فأنهى عامل أصبهان خبرهما إلى خالد بن عبد الله القسري والي العراقين فأنفذ خالد من الكوفة من حملهما إليه بعد قبضه عليهما فتركهما خالد في السجن فصادفا فيه عاصم بن يونس العجلي محبوسا بسبب من أسباب الفساد وقد كان عيسى بن معقل قبل أن يقبض عليه أنفذأبا مسلم إلى قرية من رستاق فاتق لاحتمال غلتها فلما اتصل به خبر عيسى بن معقل باع ما كان احتمله من الغلة وأخذ ما كان اجتمع عنده من ثمنها ولحق بعيسى بن معقل فأنزله عيسى بداره في بني عجل وكان يختلف إلى السجن ويتعهد عيسى وإدريس ابني معقل
وكان قد قدم الكوفة جماعة من نقباء الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الآتي ذكره إن شاء الله تعالى مع عدة من الشيعة الخراسانية فدخلوا على العجليين السجن مسلمين فصادفوا أبا مسلم عندهم فأعجبهم عقله ومعرفته وكلامه وأدبه ومال هو إليهم ثم عرف أمرهم وأنهم دعاة واتفق مع ذلك هرب عيسى وإدريس من السجن فعدل أبو مسلم من دور بني عجل إلى هؤلاء النقباء ثم خرج معهم إلى مكة حرسها الله تعالى فأورد النقباء على إبراهيم بن محمد الإمام المذكور في ترجمة أبيه محمد بن علي وقد تولى الإمامة بعد وفاة أبيه عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم وأهدوا إليه أبا مسلم فأعجب به وبمنطقه وعقله وأدبه وقال لهم هذا عضلة من العضل وأقام أبو مسلم عند الإمام إبراهيم يخدمه حضرا وسفرا

146
ثم إن النقباء عادوا إلى إبراهيم الإمام وسألوه رجلا يقوم بأمر خراسان فقال إني قد جربت هذا الأصبهاني وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حجر الأرض ثم دعا أبا مسلم وقلده الأمر وأرسله إلى خراسان وكان من أمره ما كان وكان إبراهيم الإمام قد أرسل إلى أهل خراسان سليمان بن كثير الحراني يدعوهم إلى أهل البيت فلما بعث أبا مسلم أمر من هناك بالسمع والطاعة له وأمره أن لا يخالف سليمان بن كثير فكان أبو مسلم يختلف ما بين إبراهيم وسليمان
وقال المأمون وقد ذكر أبو مسلم عنده أجل ملوك الأرض ثلاثة وهم الذين قاموا بثقل الدول الإسكندر وأردشير وأبو مسلم الخراساني
وكان أبو مسلم يدعو الناس إلى رجل من بني هاشم وأقام على ذلك سنين وفعل في خراسان وتلك البلاد ما هو مشهور ولا حاجة إلى الإطالة بذكره
وكان مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية يحتال على الوقوف على حقيقة الأمر وأن أبا مسلم إلى من يدعو منهم فلم يزل على ذلك حتى ظهر له أن الدعاء لإبراهيم الإمام وكان مقيما عند اخوته وأهله بالحميمة الآتي ذكرها في ترجمة جده علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما فأرسل إليه وقبض عليه وأحضره إلى حران فأوصى إبراهيم بالأمر من بعده لأخيه عبد الله السفاح ولما وصل إبراهيم إلى حران حبسه مروان بها ثم غمه بجراب طرح فيه نورة وجعل فيه رأسه وسد عليه إلى أن مات وذلك في صفر سنة اثنتين وثلاثين ومائة وقيل إنه قتله غير هذه القتلة لكن هذا هو الأكثر وكان عمره إحدى وخمسين سنة وكان دفنه هناك داخل حران
ثم صار أبو مسلم يدعو الناس إلى أبي العباس عبد الله بن محمد الملقب السفاح وكان بنو أمية يمنعون بني هاشم من نكاح الحارثية للخبر المروي في ذلك أن هذا الأمر يتم لابن الحارثية فلما قام عمر بن عبد العزيز بالأمر أتاه محمد بن علي

147
وقال إني أردت أن أتزوج ابنة خالي من بني الحارث بن كعب أفتأذن لي قال تزوج من شئت فتزوج ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان ابن الركال بن قطن بن زياد بن الحارث بن كعب فأولدها السفاح المذكور فتولى الخلافة
ووصف المدائني أبا مسلم فقال كان قصيرا أسمر جميلا حلوا نقي البشرة أحور العين عريض الجبهة حسن اللحية وافرها طويل الشعرة طويل الظهر قصير الساق والفخذ خافض الصوت فصيحا بالعربية والفارسية حلو المنطق راوية للشعر عالما بالأمور لم ير ضاحكا ولا مازحا إلا في وقته ولا يكاد يقطب في شيء من أحواله تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يرى مكتئبا وإذا غضب لم يستفزه الغضب ولا يأتي النساء في السنة إلا مرة واحدة ويقول الجماع جنون ويكفي الإنسان أن يجن في السنة مرة وكان من أشد الناس غيرة لا يدخل قصره غيره وكان في القصر كوى يطرح لنسائه منها ما يحتجن إليه قالوا وليلة زفت إليه امرأته أمر بالبرذون الذي ركبته فذبح وأحرق سرجه لئلا يركبه ذكر بعدها وقال له ابن شبرمة أصلح الله الأمير من أشجع الناس قال كل قوم في إقبال دولتهم وكان أقل الناس طمعا وأكثرهم طعاما ولما حج نادى في الناس برئت الذمة ممن أوقد نارا فكفى العسكر ومن معه أمر طعامهم وشرابهم في ذهابهم وإيابهم ومنصرفهم وهربت الأعراب فلم يبق في المناهل منهم أحد لما كانوا يسمعونه من سفكه الدماء قتل في دولته ستمائة ألف صبرا فقيل لعبد الله بن المبارك أبو مسلم خير أو الحجاج قال لا أقول إن أبا مسلم كان خيرا من أحد ولكن الحجاج كان شرا منه

148
وقيل له بم بلغت ما بلغت فقال ما أخرت أمر يومي إلى غد قط
وذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار في باب الأسنان وذكر الصبا والشباب أن أبا مسلم نهض للدعوة وهو ابن ثماني عشرة سنة وقتل وهو ابن ثلاث وثلاين سنة وقال الزمخشري أيضا في كتابه المذكور أنه كان عظيم القدر يعني أبا مسلم وإنه قدم مرة فتلقاه ابن أبي ليلى القاضي المشهور فقبل يده فقيل له في ذلك فقال قد لقي أبو عبيدة ابن الجراح عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقبل يده فقيل له أتشبه أبا مسلم بعمر فقال أتشبهونني بأبي عبيدة
وكان له أخوة من جملتهم يسار جد علي بن حمزة بن عمارة بن حمزة بن يسار الأصبهاني
وكانت ولادته في سنة مائة للهجرة والخليفة يومئذ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في رستاق فاتق بقرية لها ناوانه ويدعي أهل مدينة جي الأصبهانية أن مولده بها ولما ظهر بخراسان كان أول ظهوره بمرو يوم الجمعة لتسع بقين وقال الخطيب لخمس بقين من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة والوالي بخراسان يومئذ نصر بن سيار الليثي من جهة مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية فكتب نصر إلى مروان
(أرى جذعا إن يثن لم يقو ريض
* عليه فبادر قبل أن يثني الجذع)
وكان مروان مشغولا عنه بغيره من الخوارج بالجزيرة الفراتية وغيرها منهم الضحاك بن قيس الحروري وغيره فلم يجبه عن كتابه وأبو مسلم يوم ذاك في خمسين رجلا فكتب إليه ثانية قول أبي مريم عبد الله بن إسماعيل البجلي الكوفي وهو من جملة أبيات كثيرة وكان أبو مريم منقطعا إلى نصر بن سيار وكان له مكتب بخراسان

149
(أرى خلل الرماد وميض نار
* ويوشك أن يكون لها ضرام)
(فإن النار بالزندين تورى
* وإن الحرب أولها كلام)
(لئن لم يطفها عقلاء قوم
* يكون وقودها جثث وهام)
(أقول من التعجب ليت شعري
* أأيقاظ أمية أم نيام)
(فإن كانوا لحينهم نياما
* فقل قوموا فقد حان القيام)
وهذا مثل ما يحكى عن بعض علوية الكوفة أنه قال لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أبي جعفر المنصور وأخوه إبراهيم بن عبد الله
(أرى نارا تشب على يفاع
* لها فيكل ناحية شعاع)
(وقد رقدت بنو العباس عنها
* وباتت وهي آمنة رتاع)
(كما رقدت أمية ثم هبت
* تدافع حين لا يغني الدفاع)
رجعنا إلى الأول
فانتظر ابن سيار ما يكون من مروان فجاءه جوابه وهو يقول إنا حين وليناك خراسان والشاهد يرى ما لا يرى الغائب فاحسم الثؤلول قبلك فقال نصر حين أتاه الجواب قد أعلمكم أن لا نصر عنده ثم كتب ثانيا فأبطأ عنه الجواب واشتدت شوكة أبي مسلم فهرب نصر من خراسان وقصد العراق فمات في الطريق بناحية ساوة وقيل إنه مرض بالري وحمل إلى ساوة وهي بالقرب من همذان فمات بها في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين ومائة وكانت ولايته بخراسان عشر سنين
وفي يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من المحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائة وثب أبو مسلم على علي بن جديع بن علي الكرماني بنيسابور فقتله بعد أن قيده وحبسه

150
وقعد في الدست وسلم عليه بالإمرة وصلى وخطب ودعا للسفاح أبي العباس عبد الله بن محمد أول خلفاء بني العباس وصفت له خراسان وانقطعت عنها ولاية بني أمية ثم سير العساكر لقتال مروان بن محمد وظهر السفاح بالكوفة وبويع بالخلافة ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر وقيل الأول سنة اثنتين وثلاثين ومائة وقيل غير هذا التاريخ
وتجهزت العساكر الخراسانية وغيرها من جهة السفاح لقصد مروان بن محمد ومقدمها عبد الله بن علي عم السفاح فتقدم مروان إلى الزاب النهر الذي بين الموصل وإربل وكانت الوقعة على كشاف بضم الكاف وهي قرية هناك وانكسر عسكر مروان وهرب إلى الشام فتبعه عبد الله بجيوشه فهرب إلى مصر فأقام عبد الله بدمشق وأرسل جيشا وراء مروان مع الأصفر وقيل مصفر وعامر بن إسماعيل الجرجاني
فلما وصل إلى بوصير القرية التي عند الفيوم قتل بها ليلة الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة رحمه الله تعالى وقيل في ذي القعدة من السنة قتله عامر المذكور واحتزوا رأسه وبعثوه إلى السفاح فبعثه السفاح إلى أبي مسلم وأمره يطيف به في بلاد خراسان
وقيل لمروان ما الذي أصارك إلى هذا قال قلة مبالاتي بكتب نصر ابن سيار لما استنصرني وهو بخراسان
فاستقل السفاح بالخلافة وخلا له الوقت من منازع
وقال أبو عثمان التيمي قاضي مروان بن محمد رأيت في منامي كأن عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية ناشرة شعرها وهي واقفة على مرقى بين مراقي منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تنشد بيتين من قصيدة الأحوص التي أولها
(يا بيت عاتكة الذي أتعزل
*)

151
(أين الشباب وعيشنا اللذ الذي
* كنا به زمنا نسر ونجذل)
(ذهبت بشاشته وأصبح ذكره
* حزنا يعل به الفؤاد وينهل) قال أبو عثمان التيمي فلم يكن بين ذلك وبين الحادثة على بني أمية إلا أقل من شهر
ووجد بخط محمد بن أسعد قال كان الخراز يقول من أعجب أحاديث مروان بن محمد ما رواه المدائني قال لما حاصر مروان تدمر فظفر بها وهدم دورها افضى إلى جرن طويل فلم يشك مروان والحاضرون أن تحته كنزا فنبشوه فإذا امرأة مسجاة عظيمة الخلق على قفاها فوق سرير من حجارة عليها سبعون حلة منسوجة بالذهب جرباناتها لها غدائر من رأسها إلى رجليها فذرع قدمها فكانت عظيمة الساق وكان طولها سبعة أذرع وإذا عند رأسها صفيحة من نحاس مكتوب عليها بالحميرية فطلب من قرأه فإذا فيه أنا تدمر بنت حسان بن أذينة بن السميدع بن هرم العماليقي من دخل علي بيتي هذا فأزعجني منه حتى يراني أدخل الله عليه المهانة والذل والصغار فلما قرىء المكتوب على مروان عظم عليه وندم على ما كان منه وتطير بذلك وجعل يسترجع ثم أمر بطبق الجرن وأن يرد إلى موضعه وما كان بين ذلك وبين الظفر به وزوال الملك واستباحة حريمه إلا قليل
وكان السفاح كثير التعظيم لأبي مسلم لما صنعه ودبره وكان أبو مسلم عند ذلك ينشد في كل وقت
(أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت
* عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا)
(ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم
* والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا)
(حتى ضربتهم بالسيف فانتهبوا
* من نومة لم ينمها قبلهم أحد)
(ومن رعى غنما في أرض مسبعة
* ونام عنها تولى رعيها الأسد)

152
ولما مات السفاح في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة بعلة الجدري وكانت وفاته بالأنبار وتولى الخلافة أخوه أبو جعفر المنصور يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة وهو بمكة صدرت من أبي مسلم أسباب وقضايا غيرت قلب المنصور عليه فعزم على قتله وبقي حائرا بين الاستبداد برأيه وفي أمره أو الاستشارة فقال يوما لسلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي ما ترى في أمر أبي مسلم قال * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * فقال حسبك يا ابن قتيبة لقد أودعتها أذنا واعية
وكان أبو مسلم قد حج فلما عاد نزل الحيرة التي عند الكوفة وكان بها نصراني عمره مائتا سنة يخبر عن الكوائن فأحضره وسمع كلامه وكان في جملته أنه يقتل وقال له إن صرت إلى خراسان سلمت فعزم على الرجوع إليها
فلم يزل المنصور يخدعه بالرسائل حتى أحضره إليه وكان أبو مسلم ينظر في كتب الملاحم ويجد خبره فيها وأنه مميت دولة ومحيي دولة وانه يقتل ببلاد الروم وكان المنصور يومئذ برومية المدائن التي بناها كسرى ولم يخطر بقلب أبي مسلم أنها موضع قتله بل راح وهمه إلى بلاد الروم فلما دخل على المنصور رحب به ثم أمره بالانصراف إلى مخيمه وانتظر المنصور فيه الفرص والغوائل ثم إن أبا مسلم ركب إليه مرارا فأظهر له التجني ثم جاءه يوما فقيل له إنه يتوضأ للصلاة فقعد تحت الرواق ورتب المنصور له جماعة يقفون وراء السرير الذي خلف أبي مسلم فإذا عاتبه لا يظهرون فإذا ضرب يدا على يد ظهروا وضربوا عنقه ثم جلس المنصور ودخل عليه أبو مسلم فسلم فرد عليه وأذن له في الجلوس وحادثه ثم عاتبه وقال فعلت وفعلت فقال أبو مسلم ما يقال هذا لي بعد سعيي واجتهادي وما كان مني فقال له يا ابن الخبيثة إنما فعلت ذلك بجدنا وحظنا ولو كان مكانك أمة سوداء لعملت عملك

153
ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك قبلي ألست الكاتب تخطب عمتي آسية وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن العباس لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعبا فأخذ أبو مسلم بيده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه فقال له المنصور وهو آخر كلامه قتلني الله إن لم أقتلك ثم صفق بإحدى يديه على الأخرى فخرج إليه القوم وخطبوه بسيوفهم والمنصور يصيح اضربوا قطع الله أيديكم وكان أبو مسلم قد قال عند أول ضربة استبقني يا أمير المؤمنين لعدوك قال لا أبقاني الله أبدا إذا وأي عدو أعدى منك
وكان قتله يوم الخميس لخمس بقين من شعبان وقيل لليلتين وقيل يوم الأربعاء لسبع ليال خلون منه سنة سبع وثلاثين ومائة وقيل سنة ست وثلاثين وقيل سنة أربعين وهذا القول ضعيف وكان قتله برومية المدائن وهي بلدة بالقرب من بغداد على دجلة بالجانب الغربي معدودة من مدائن كسرى ولما قتله أدرجه في بساط فدخل عليه جعفر بن حنظلة فقال له المنصور ما تقول في أمر أبي مسلم فقال يا أمير المؤمنين إن كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل ثم اقتل فقال المنصور وفقك الله ها هو في البساط فلما نظر إليه قتيلا قال يا أمير المؤمنين عد هذا اليوم أول خلافتك فأنشد المنصور
(فألقت عصاها واستقرت بها النوى
* كما قر عينا بالإياب المسافر)
ثم أقبل المنصور على من حضره وأبو مسلم طريح بين يديه وأنشد
(زعمت أن الدين لا يقتضى
* فاستوف بالكيل أبا مجرم)
(اشرب بكأس كنت تسقي بها
* أمر في الحلق من العلقم)

154
وكان المنصور بعد قتله أبا مسلم كثيرا ما ينشد جلساءه قول بعضهم
(طوى كشحه عن أهل كل مشورة
* وبات يناجي عزمه ثم صمما)
(وأقدم لما لم يجد ثم مذهبا
* ومن لم يجد بدا من الأمر أقدما) قلت ومن هاهنا أخذ البحتري قوله في قصيدته التي مدح بها الفتح بن خاقان صاحب المتوكل على الله وقد لقي أسدا في طريقه فلم يقدم عليه الأسد فقتله الفتح وهي من غرر قصائده والمقصود منها قوله
(فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا
* وأقدم لما لم يجد منك مهربا) والله أعلم
وقد اختلف الناس في نسب أبي مسلم فقيل إنه من العرب وقيل من العجم وقيل من الأكراد وفي ذلك يقول أبو دلامة المقدم ذكره
(أبا مجرم ما غير الله نعمة
* على عبده حتى يغيرها العبد)
(أفي دولة المنصور حاولت غدرة
* ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد)
(أبا مجرم خوفتني القتل فانتحى
* عليك بما خوفتني الأسد الورد)
ورومية بضم الراء وسكون الواو وكسر الميم وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها هاء ساكنة بناها الإسكندر ذو القرنين لما أقام بالمدائن وكان قد طاف الأرض شرقا وغربا كما أخبر عنه الباري تعالى في القرآن الكريم ولم يختر منها منزلا سوى المدائن فنزلها وبنى رومية المذكورة إذ ذاك والله أعلم

155
373 الخطيب ابن نباتة
الخطيب أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة الحذاقي الفارقي صاحب الخطب المشهورة كان إماما في علوم الأدب ورزق السعادة في خطبه التي وقع الإجماع على أنه ما عمل مثلها وفيها دلالة على غزارة علمه وجودة قريحته وهو من أهل ميافارقين وكان خطيب حلب وبها اجتمع بأبي الطيب المتنبي في خدمة سيف الدولة بن حمدان وقالوا إنه سمع عليه بعض ديوانه وكان سيف الدولة كثير الغزوات فلهذا أكثر الخطيب من خطب الجهاد ليحض الناس عليه ويحثهم على نصرة سيف الدولة وكان رجلا صالحا
وذكر الشيخ تاج الدين الكندي بإسناده المتصل إلى الخطيب ابن نباتة أنه قال لما عملت خطبة المنام وخطبت بها يوم الجمعة رأيت ليلة السبت في منامي كأني بظاهر ميافارقين عند الجبانة فقلت ما هذا الجمع فقال لي قائل هذا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فقصدت إليه لأسلم عليه فلما دنوت منه التفت فرآني فقال مرحبا يا خطيب الخطباء كيف تقول وأومأ إلى القبور قلت لا يخبرون بما إليه آلوا ولو قدروا على المقال لقالوا قد شربوا من الموت كأسا مرة ولم يفقدوا من أعمالهم ذرة وآلى عليهم الدهر

156
ألية برة أن لا يجعل لهم إلى دار الدنيا كرة كأنهم لم يكونوا للعيون قرة ولم يعدوا في الأحياء مرة أسكتهم والله الذي أنطقهم وأبادهم الذي خلقهم وسيجدهم كما أخلقهم ويجمعهم كما فرقهم يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وأومأت عند قولي تكونون شهداء على الناس إلى الصحابة وبقولي شهيدا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) * فقال لي أحسنت ادن فدنوت منه صلى الله عليه وسلم فأخذ وجهي وقبله ثم تفل في في وقال وفقك الله قال فانتبهت من النوم وبي من السرور ما يجل عن الوصف فأخبرت أهلي بما رأيت
قال الكندي بروايته وبقي الخطيب بعد هذا المنام ثلاثة أيام لا يطعم طعاما ولا يشتهيه ويوجد في فيه رائحة المسك ولم يعش إلا مدة يسيرة ولما استيقظ الخطيب من منامه كان على وجهه أثر نور وبهجة لم تكن قبل ذلك وقص رؤياه على الناس وقال سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا وعاش بعد ذلك ثمانية عشر يوما لا يستطعم فيها طعاما ولا شرابا من أجل تلك التفلة وبركتها وهذه الخطبة التي فيها هذه الكلمات تعرف بالمنامية لهذه الواقعة
وهذا الخطيب لم أر أحدا من المؤرخين ذكر تاريخه في المولد والوفاة سوى ابن الأزرق الفارقي في تاريخه فإنه قال ولد في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وتوفي في سنة أربع وسبعين وثلاثمائة بميافارقين ودفن بها رحمه الله تعالى ورأيت في بعض المجاميع قال الوزير أبو القاسم ابن المغربي رأيت الخطيب ابن نباتة في المنام بعد موته فقلت له ما فعل الله بك فقال دفع لي ورقة فيها سطران بالأحمر وهما
(قد كان أمن لك من قبل ذا
* واليوم أضحى لك أمنان)

157
(والصفح لا يحسن عن محسن
* وإنما يحسن عن جاني)
قال فانتبهت من النوم وأنا أكررهما
ونباتة بضم النون وفتح الباء الموحدة وبعد الألف تاء مثناة من فوقها مفتوحة ثم هاء ساكنة
والحذاقي بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة وبعد الألف قاف هذه النسبة إلى حذاقة بطن من قضاعة وقال ابن قتيبة في كتاب أخبار الشعراء وحذاق قبيلة من إياد والله أعلم
374 القاضي الفاضل
أبو علي عبد الرحيم ابن القاضي الأشرف بهاء الدين أبي المجد علي ابن القاضي السعيد أبي محمد الحسن بن الحسن بن أحمد بن الفرج بن أحمد اللخمي العسقلاني المولد المصري الدار المعروف بالقاضي الفاضل الملقب مجير الدين وزر للسلطان الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى وتمكن منه غاية التمكن وبرز في صناعة الإنشاء وفاق المتقدمين وله فيه الغرائب مع الإكثار أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات

158
والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد وهو مجيد في أكثرها
قال العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة في حقه رب القلم والبيان واللسن واللسان والقريحة الوقادة والبصيرة النقادة والبديهة المعجزة والبديعة المطرزة والفضل الذي ما سمع في الأوائل بمن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره أو جرى في مضماره فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع ورسخت بها الصنائع يخترع الأفكار ويفترع الأبكار ويطلع الأنوار ويبدع الأزهار وهو ضابط الملك بآرائه رابط السلك بآلائه إن شاء أنشأ في يوم واحد بل في ساعة واحدة ما لو دون لكان لأهل الصناعة خير بضاعة أين قس عند فصاحته وابن قيس في مقام حصافته ومن حاتم وعمرو في سماحته وحماسته وأطال القول في تقريظه
ونذكر له رسالة لطيفة كتبها على يد خطيب عيذاب إلى صلاح الدين يتشفع له في توليته خطابة الكرك وهي أدام الله السلطان الملك الناصر وتبته وتقبل عمله بقبول صالح وأنبته وأخذ عدوه قائلا أو بيته وأرغم أنفه بسيفه وكبته خدمة المملوك هذه واردة على يد خطيب عيذاب ولما نبا به المنزل عنها وقل عليه المرفق فيها وسمع بهذه الفتوحات التي طبق الأرض ذكرها ووجب على أهلها شكرها هاجر من هجير عيذاب وملحها ساريا في ليلة أمل كلها نهار فلا يسأل عن صبحها وقد رغب في خطابة الكرك وهو خطيب وتوسل بالمملوك في هذا الملتمس وهو قريب ونزع من مصر إلى الشام ومن عيذاب إلى الكرك وهذا عجيب والفقر سائق عنيف والمذكور عائل ضعيف ولطف الله بالخلق بوجود مولانا لطيف والسلام
وله من جملة رسالة في صفة قلعة شاهقة ولقد أبدع فيها ويقال إنها قلعة كوكب وهذه القلعة عقاب في عقاب ونجم في سحاب وهامة لها الغمامة عمامة وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة
وملحه ونوادره كثيرة وقوله كان الهلال لها قلامة أخذه من قول

159
عبد الله بن المعتز من جملة أبياته المتقدم ذكرها في ترجمته وهو قوله
(ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا
* مثل القلامة قد قدت من الظفر)
وابن المعتز أخذه من قول عمرو بن قميئة وهو
(كأن ابن مزنتها جانحا
* فسيط لدى الأفق من خنصر)
والفسيط بفتح الفاء وكسر السين المهملة قلامة الظفر
ومن كلامه في أثناء رسالة وقد كبر والمملوك قد وهت ركبتاه وضعف أطيباه وكتبت لام ألف عند قيامه رجلاه ولم يبق من نظره إلا شفافة ومن حديثه إلا خرافة
وله في النظم أيضا أشياء حسنة منها ما أنشده عند وصوله إلى الفرات في خدمة السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى ويتشوق نيل مصر
(بالله قل للنيل عني إنني
* لم أشف من ماء الفرات غليلا)
(وسل الفؤاد فإنه لي شاهد
* إن كان جفني بالدموع بخيلا)
(يا قلب كم خلفت ثم بثينة
* وأعيذ صبرك أن يكون جميلا)
ومن المنسوب إلى القاضي الفاضل قوله
(عتب أقلب فيه طرف ترقبي
* فعسى يكون وراءه الإعتاب)
ومن شعره أيضا
(بتنا على حال يسر الهوى
* وربما لا يمكن الشرح)
(بوابنا الليل وقلنا له
* إن غبت عنا دخل الصبح)

160
ولقدنظمت هذا المعنى في دوبيت وهو
(ما أطيب ليلة مضت بالسفح
* والوصف لها يقصر عنه شرحي)
(إذ قلت لها بوابنا أنت متى
* ما غبت نخاف من دخول الصبح)
وكان كثيرا ما ينشد لابن مكنسة وهو أبو طاهر إسماعيل بن محمد بن الحسين القرشي الإسكندري
(وإذا السعادة أحرستك عيونها
* نم فالمخاوف كلهن أمان)
(واصطد بها العنقاء فهي حبائل
* واقتد بها الجوزاء فهي عنان)
وكان الملك العزيز بن صلاح الدين يميل إلى القاضي الفاضل في حياة أبيه فاتفق أن العزيز هوي قينة شغلته عن مصالحه وبلغ ذلك والده فأمره بتركها ومنعها من صحبته فشق ذلك عليه وضاق صدره ولم يجسر أن يجتمع بها فلما طال ذلك بينهما سيرت له مع بعض الخدم كرة عنبر فكسرها فوجد في وسطها زر ذهب فأفكر فيه ولم يعرف معناه واتفق حضور القاضي فعرفه الصورة فعمل القاضي الفاضل في ذلك بيتين وأرسلهما إليه وهما
(أهدت لك العنبر في وسطه
* زر من التبر دقيق اللحام)
(فالزر في العنبر معناهما
* زر هكذا مستترا في الظلام)
فعلم الملك العزيز أنها أرادت زيارته في الليل
وشعره أيضا كثير
وكانت ولادته يوم الاثنين في خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة بمدينة عسقلان وتولى أبو القضاء بمدينة بيسان فلهذا نسبوا إليها

161
وفي ترجمة الموفق يوسف بن الخلال في حرف الياء صورة مبدأ أمره وقدومه الديار المصرية واشتغاله عليه بصناعة الإنشاء فلا حاجة إلى ذكرها هاهنا
ثم إنه تعلق بالخدم في ثغر الإسكندرية وأقام به مدة وقال الفقيه عمارة اليمني في كتاب النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية في ترجمة العادل ابن صالح بن رزيك ومن محاسن أيامه وما يؤرخ عنها بل هي الحسنة التي لا توازى بل هي اليد البيضاء التي لا تجازى خروج أمره إلى والي الإسكندرية بتسيير القاضي الفاضل إلى الباب واستخدامه بحضرته وبين يديه في ديوان الجيش فإنه غرس منه للدولة بل للملة شجرة مباركة متزايدة النماء أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها
وقد تقدم ذكر ما آل إليه أمره من وزارة السلطان صلاح الدين وترقي منزلته عنده وبعد وفاة صلاح الدين استمر على ما كان عليه عند ولده الملك العزيز في المكانة والرفعة ونفاذ الأمر ولما توفي العزيز وقام ولده الملك المنصور بالملك بتدبير عمه الملك الأفضل نور الدين كان أيضا على حاله ولم يزل كذلك إلى أن وصل الملك العادل وأخذ الديار المصرية وعند دخوله القاهرة توفي القاضي الفاضل وذلك في ليلة الأربعاء سابع شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة بالقاهرة فجأة ودفن في تربته من الغد بسفح المقطم في القرافة الصغرى وزرت قبره مرارا وقرأت تاريخ وفاته على الرخام المحوط حول القبركما هو هاهنا رحمه الله تعالى وكان من محاسن الدهر وهيهات أن يخلف الزمان مثله
وبنى بالقاهرة مدرسة بدرب ملوخية ورأيت بخطه أنه استفتح التدريس بها يوم السبت مستهل المحرم من سنة ثمانين وخمسمائة وأما لقبه فإن أهله يقولون

162
إنه كان يلقب محيي الدين ورأيت مكاتبة الشيخ شرف الدين عبد الله بن أبي عصرون المقدم ذكره إليه وهو يخاطبه بمجير الدين والله أعلم بالصواب
97 وكان ولده القاضي الأشرف بهاء الدين أبو العباس أحمد ابن القاضي الفاضل كبير المنزلة عند الملوك وكان مثابرا على سماع الحديث وتحصيل الكتب ومولده في المحرم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة بالقاهرة وتوفي بها في ليلة الاثنين سابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة ودفن بسفح المقطم إلى جانب قبر أبيه وكان الملك الكامل ابن الملك العادل ابن أيوب قد سيره من مصر في رسالة إلى بغداد فأنشد الوزير من نظمه
(يا أيها المولى الوزير ومن له
* منن حللن من الزمان وثاقي)
(من شاكر عني نداك فإنني
* من عظم ما أوليت ضاق نطاقي)
(منن تخف على يديك وإنما
* ثقلت مؤونتها على الأعناق)
375 ابن جريج
أبو خالد وأبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج القرشي بالولاء المكي مولى أمية بن خالد بن أسيد ويقال إن جريجا كان عبدا لأم حبيب بنت جبير زوجة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية فنسب ولاؤه إليه

163
وكان عبد الملك أحد العلماء المشهورين ويقال إنه أول من صنف الكتب في الإسلام وكان يقول كنت مع معن بن زائدة باليمن فحضر وقت الحج فلم تحضرني نية فخطر ببالي قول عمر بن أبي ربيعة
(بالله قولي له من غير معتبة
* ماذا أردت بطول المكث في اليمن)
(إن كنت حاولت دنيا أو نعمت بها
* فما أخذت بترك الحج من ثمن)
قال فدخلت على معن فأخبرته أني قد عزمت على الحج فقال لي ما يدعوك إليه ولم تكن تذكره فقلت له ذكرت بيتين لعمر بن أبي ربيعة وأنشدته إياهما فجهزني وانطلقت
وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة وقدم بغداد على أبي جعفر المنصور وتوفي سنة تسع وأربعين ومائة وقيل سنة خمسين وقيل إحدى وخمسين ومائة رحمه الله تعالى
وجريج بضم الجيم وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها جيم ثانية
376 عبد الملك بن عمير
أبو عمر ويقال أبو عمرو عبد الملك بن عمير بن سويد بن حارثة بن املاص ابن شنيف بن عبد شمس بن سعد بن الوسيع بن الحارث بن يثيع بن أزدة بن حجر بن جزيلة بن لخم اللخمي الكوفي القبطي الفرسي كان قاضيا على

164
الكوفة بعد الشعبي وهو من مشاهير التابعين وثقاتهم ومن كبار أهل الكوفة رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروى عن جابر بن عبد الله ومن أخباره أنه قال كنت عند عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة حين جيء برأس مصعب بن الزبير فوضع بين يديه فرآني قد ارتعت فقال لي ما لك فقلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين كنت بهذا القصر بهذا الموضع مع عبيد الله ابن زياد فرأيت رأس الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بين يديه في هذا المكان ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه ثم كنت فيه مع مصعب بن الزبير هذا فرأيت رأس المختار فيه بين يديه ثم هذا رأس مصعب بن الزبير بين يديك قال فقام عبد الملك من موضعه وأمر بهدم ذلك الطاق الذي كنا فيه
ومرض عبد الملك بن عمير مرة فاعتذر إليه رجل من تخلفه عن عيادته فقال له ما كنت لألوم عل ترك عيادتي رجلا لو مرض لما عدته وكانت وفاته سنة ست وثلاثين ومائة في ذي الحجة وهو ابن مائة سنة وثلاث سنين
والقبطي بكسر القاف وسكون الباء الموحدة وكسر الطاء المهملة هذه النسبة إلى القبطي وهو فرس سابق كان له فنسب إليه
والفرسي بالفاء والراء المفتوحتين والسين المهملة نسبة إلى هذا الفرس أيضا وأكثر الناس يصحفونه بالقرشي رحمه الله تعالى

165
377 ابن الماجشون
أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون واسمه ميمون وقيل دينار القرشي التيمي المنكدري مولاهم المدني الأعمى الفقيه المالكي تفقه على الإمام مالك رضي الله عنه وعلى والده عبد العزيز وغيرهما وقيل إنه عمي في آخر عمره وكان مولعا بسماع الغناء قال أحمد بن حنبل قدم علينا ومعه من يغنيه وحدث وكان من الفصحاء روي أنه كان إذا ذاكره الإمام الشافعي رضي الله عنه لم يعرف الناس كثيرا مما يقولان لأن الشافعي تأدب بهذيل في البادية وعبد الملك تأدب في خؤولته من كلب بالبادية وقال يحيى بن أحمد بن المعذل كلما تذكرت أن التراب يأكل لسان عبد الملك صغرت الدنيا في عيني وسئل أحمد بن المعذل فقيل له أين لسانك من لسان أستاذك عبد الملك فقال كان لسان عبد الملك إذا تعايا أحيى من لساني إذا تحايا
ومات عبد الملك المذكور سنة ثلاث عشرة ومائتين وقال أبو عمر ابن عبد البر توفي سنة اثنتي عشرة وقيل سنة أربع عشرة ومائتين رحمه الله تعالى
والماجشون بفتح الميم وبعد الألف جيم مكسورة ثم شين معجمة مضمومة وبعد الواو نون وهو المورد ويقال الأبيض الأحمر وهو لقب أبي

166
يوسف يعقوب بن أبي سلمة المذكور وهو عم والد عبد الملك المذكور لقبته بذلك سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم وجرى هذا اللقب على أهل بيته من بنيه وبني أخيه وقيل إن أصلهم من أصبهان فكان إذا سلم بعضهم على بعض قال شوني شوني فسمي الماجشون حكاه الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الجرجاني وقال أبو داود كان عبد الملك الماجشون لا يعقل الحديث قال ابن البرقي دعاني رجل أن أمضي إليه فجئناه فإذا هو لا يدري الحديث أيش هو وذكره محمد بن سعد في الطبقات الكبرى وقال كان له فقه ورواية
والمنكدري منسوب إلى المنكدر بن عبد الله بن هدير القرشي التيمي والد محمد وأبي بكر وعمر بني المنكدر وقد استوفى ابن قتيبة حديثهم في كتاب المعارف في ترجمة
محمد بن المنكدر
378 إمام الحرمين
أبو المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي يعقوب يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيوية الجويني الفقيه الشافعي الملقب ضياء الدين المعروف بإمام الحرمين أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق المجمع على إمامته المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأصول

167
والفروع والأدب وغير ذلك وقد تقدم ذكر والده في العبادلة ورزق من التوسع في العبارة ما لم يعهد من غيره وكان يذكر دروسا يقع كل واحد منها في عدة أوراق ولا يتلعثم في كلمة منها وتفقه في صباه على والده أبي محمد وكان يعجب بطبعه وتحصيله وجودة قريحته وما يظهر عليه من مخايل الإقبال فأتى على جميع مصنفات والده وتصرف فيها حتى زاد عليه في التحقيق والتدقيق ولما توفي والده قعد مكانه للتدريس وإذا فرغ منه مضى إلى الأستاذ أبي القاسم الإسكافي الإسفرايني بمدرسة البيهقي حتى حصل عليه علم الأصول ثم سافر إلى بغداد ولقي بها جماعة من العلماء ثم خرج إلى الحجاز وجاور بمكة أربع سنين وبالمدينة يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب فلهذا قيل له إمام الحرمين ثم عاد إلى نيسابور في أوائل ولاية السلطان ألب أرسلان السلجوقي والوزير يومئذ نظام الملك فبنى له المدرسة النظامية بمدينة نيسابور وتولى الخطابة بها وكان يجلس للوعظ والمناظرة وظهرت تصانيفه وحضر دروسه الأكابر من الأئمة وانتهت إليه رياسة الأصحاب وفوض إليه أمور الأوقاف وبقي على ذلك قريبا من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع مسلم له المحراب والمنبر والخطابة والتدريس ومجلس التذكير يوم الجمعة
وصنف في كل فن منها كتاب نهاية المطلب في دراية المذهب الذي ما صنف في الإسلام مثله قال أبو جعفر الحافظ سمعت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يقول لإمام الحرمين يا مفيد أهل المشرق والمغرب أنت اليوم إمام الأئمة وسمع الحديث من جماعة كبيرة من علمائه وله إجازة من الحافظ أبي نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء ومن تصانيفه الشامل في أصول الدين والبرهان في أصول الفقه وتلخيص التقريب والإرشاد

168
والعقيدة النظامية ومدارك العقول لم يتمه وكتاب تلخيص نهاية المطلب لم يتمه وغياث الأمم في الإمامة ومغيث الخلق في اختيار الأحق وغنية المسترشدين في الخلاف وغير ذلك من الكتب وكان إذا شرع في علوم الصوفية وشرح الأحوال أبكى الحاضرين ولم يزل على طريقة حميدة مرضية من أول عمره إلى آخره
أخبرني بعض المشايخ أنه وقف على جلية أمره في بعض الكتب وأن والده الشيخ أبا محمد رحمه الله تعالى كان في أمل أمره ينسخ بالأجرة فاجتمع له من كسب يده شيء اشترى به جارية موصوفة بالخير والصلاح ولم يزل يطعمها من كسب يده أيضا إلى أن حملت بامام الحرمين وهو مستمر على تربيتها بكسب الحل فلما وضعته أوصاها أن لا تمكن أحدا من إرضاعه فاتفق أنه دخل عليها يوما وهي متألمة والصغير يبكي وقد أخذته امرأة من جيرانهم وشاغلته بثديها فرضع منه قليلا فلما رآه شق عليه وأخذه إليه ونكس رأسه ومسح على بطنه وأدخل إصبعه في فيه ولم يزل يفعل به ذلك حتى قاء جميع ما شربه وهو يقول يسهل علي أن يموت ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير أمه ويحكى عن إمام الحرمين أنه كان تلحقه بعض الأحيان فترة في مجلس المناظرة فيقول هذا من بقايا تلك الرضعة
ومولده في ثامن عشر المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة ولما مرض حمل إلى قرية من أعمال نيسابور يقال لها بشتنقان موصوفة باعتدال الهواء وخفة الماء فمات بها ليلة الأربعاء وقت العشاء الآخرة الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ونقل إلى نيسابور تلك الليلة ودفن من الغد في داره ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين فدفن بجنب

169
أبيه رحمهما الله تعالى وصلى عليه ولده أبو القاسم فأغلقت الأسواق يوم موته وكسر منبره في الجامع وقعد الناس لعزائه وأكثروا فيه المراثي
ومما رثي به
(قلوب العالمين على المقالي
* وأيام الورى شبه الليالي)
(أيثمر غصن أهل العلم يوما
* وقد مات الإمام أبو المعالي)
وكانت تلامذته يومئذ قريبا من أربعمائة واحد فكسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا على ذلك عاما كاملا
379 الأصمعي
أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مظهر ابن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن عبد بن غنم بن قتيبة بن معن ابن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان المعروف بالأصمعي الباهلي وإنما قيل له الباهلي وليس في نسبه اسم باهلة لأن باهلة اسم امرأة مالك بن أعصر وقيل إن باهلة ابن أعصر
كان الأصمعي المذكور صاحب لغة ونحو وإماما في الأخبار والنوادر والملح والغرائب سمع شعبة بن الحجاج والحمادين ومسعر بن كدام وغيرهم وروى عنه عبد الرحمن ابن أخيه عبد الله وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو حاتم

170
السجستاني وأبو الفضل الرياشي وغيرهم وهو من أهل البصرة وقدم بغداد في أيام هارون الرشيد
قيل لأبي نواس قد أحضر أبو عبيدة والأصمعي إلى الرشيد فقال أما أبو عبيدة فإنهم إن أمكنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين وأما الأصمعي فبلبل يطربهم بنغماته
وقال عمر بن شبة سمعت الأصمعي يقول أحفظ ستة عشرة ألف أرجوزة وقال إسحاق الموصلي لم أر الأصمعي يدعي شيئا من العلم فيكون أحد أعلم به منه
وحكى محمد بن هبيرة قال قال الأصمعي للكسائي وهما عند الرشيد ما معنى قول الراعي
(قتلوا ابن عفان الخليفة محرما
* ودعا فلم أر مثله مخذولا)
قال الكسائي كان محرما بالحج قال الأصمعي ما أراد عدي بن زيد بقوله
(قتلوا كسرى بليل محرما
* فتولى لم يمتع بكفن) هل كان محرما بالحج وأي إحرام لكسرى فقال الرشيد للكسائي إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي قال الأصمعي قوله محرما في حرمة الإسلام ومن ثم قتل مسلما محرما أي لم يحل في نفسه شيئا يوجب القتل وقوله محرما في كسرى يعنى حرمة العهد الذي كان في عنق أصحابه وقال

171
الربيع بن سليمان سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول ما عبر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي وقال أبو أحمد العسكري لقد حرص المأمون على الأصمعي وهو بالبصرة أن يصير إليه فلم يفعل واحتج بضعفه وكبره فكان المأمون يجمع المشكل في المسائل ويسيرها إليه ليجيب عنها
وقال الأصمعي حضرت أنا وأبو عبيدة معمر بن المثنى عند الفضل بن الربيع فقال لي كم كتابك في الخيل فقلت جلد واحد فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال خمسون مجلدة فقال له قم إلى هذا الفرس وأمسك عضوا عضوا منه وسمه فقال لست بيطارا وإنما هذا شيء أخذته عن العرب فقال لي قم يا أصمعي وافعل ذلك فقمت وأمسكت ناصيته وشرعت أذكر عضوا عضوا وأضع يدي عليه وأنشد ما قالت العرب فيه إلى أن فرغت منه فقال خذه فأخذته وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة ركبته إليه وقد روي من طريق أخرى أن ذلك كان عند هارون الرشيد وأن الأصمعي لما فرغ من كلامه في أعضاء الفرس قال الرشيد لأبي عبيدة ما تقول فيما قال قال أصاب في بعض وأخطأ في بعض فالذي أصاب فيه مني تعلمه والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به
وكان شديد الاحتراز في تفسير الكتاب والسنة فإذا سئل عن شيء منهما يقول العرب تقول معنى هذا كذا ولا أعلم المراد منه في الكتاب والسنة أي شيء هو
وأخباره ونوادره كثيرة حدث محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال دخلت على الرشيد هارون ومجلسه حافل فقال يا أصمعي ما أغفلك عنها وأجفاك لحضرتنا قلت والله يا أمير المؤمنين

172
ما لاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك قال فأمرني بالجلوس فجلست وسكت عني فلما تفرق الناس إلا أقلهم نهضت للقيام فأشار إلي أن اجلس فجلست حتى خلا المجلس ولم يبق غيري ومن بين يديه من الغلمان فقال يا أبا سعيد ما معنى قولك ما لاقتني بلاد بعدك قلت ما أمسكتني يا أمير المؤمنين وأنشدت قول الشاعر
(كفاك كف ما تليق درهما
* جودا وأخرى تعط بالسيف دما) أي ما تمسك درهما فقال أحسنت وهكذا فكن وقرنا في الملا وعلمنا في الخلا فإنه يقبح بالسلطان أن لا يكون عالما إما أن أسكت فيعلم الناس أني لا أفهم إذ لم أجب وإما ان أجيب بغير الجواب فيعلم من حولي أني لم أفهم ما قلت قال الأصمعي فعلمني أكثر مما علمته
وحكى المبرد أيضا قال مازح الرشيد أم جعفر فقال لها كيف أصبحت يا أم نهر فاغتمت لذلك ولم تفهم معناه فأنفذت إلى الأصمعي تسأله عن ذلك فقال الجعفر النهر الصغير وإنما ذهب إلى هذا فطابت نفسها
وقال أبو بكر النحوي لما قدم الحسن بن سهل العراق قال أحب أن أجمع قوما من أهل الأدب فأحضر أبا عبيدة والأصمعي ونصر بن علي الجهضمي وحضرت معهم فابتدأ الحسن فنظر في رقاع بين يديه للناس في حاجاتهم فوقع عليها فكانت خمسين رقعة ثم أمر فدفعت إلى الخازن ثم أقبل علينا فقال قد فعلنا خيرا ونظرنا في بعض ما نرجونفعه من أمور الناس والرعية فنأخذ الآن فيما نحتاج إليه فأفضنا في ذكر الحفاظ فذكرنا الزهري وقتادة ومررنا فالتفت أبو عبيدة فقال ما الغرض أيها الأمير في ذكر من مضى وبالحضرة هاهنا من يقول ما قرأ كتابا قط فاحتاج إلى أن يعود فيه ولا دخل قلبه شيء فخرج عنه فالتفت الأصمعي وقال إنما يريدني بهذا القول أيها الأمير والأمر في ذلك على ما حكى وأنا أقرب

173
إليك قد نظر الأمير فيما نظر فيه من الرقاع وأنا أعيد ما فيها وما وقع به الأمير على رقعة رقعة قال فأمر وأحضرت الرقاع فقال الأصمعي سأل صاحب الرقعة الأولى كذا واسمه كذا فوقع له بكذا والرقعة الثانية والثالثة حتى مر في نيف وأربعين رقعة فالتفت إليه نصر بن علي فقال أيها الرجل أبق على نفسك من العين فكف الأصمعي
وحكي عن عباس بن الفرج قال ركب الأصمعي حمارا دميما فقيل له بعد براذين الخلفاء تركب هذا فقال متمثلا
(ولما أبت إلا انصراما لودها
* وتكديرها الشرب الذي كان صافيا)
(شربنا برنق من هواها مكدر
* وليس يعاف الرنق من كان صاديا) هذا وأملك ديني أحب إلي من ذاك مع فقده
وقال الأصمعي ذكرت يوما للرشيد نهم سليمان بن عبد الملك وقلت إنه كان يجلس ويحضر بين يديه الخراف المشوية وهي كما أخرجت من تنانيرها فيريد أخذ كلاها فتمنعه الحرارة فيجعل يده على طرف جبته ويدخلها في جوف الخروف فيأخذ كلاه فقال لي قاتلك الله ما أعلمك بأخبارهم اعلم أنه عرضت علي ذخائر بني أمية فنظرت
إلى ثياب مذهبة ثمينة وأكمامها ودكة بالدهن فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني بالحديث ثم قال علي بثياب سليمان فأتي بها فنظر إلى تلك الآثار فيها ظاهرة فكساني منها حلة وكان الأصمعي ربما خرج فيها أحيانا فيقول هذه جبة سليمان التي كسانيها الرشيد
وحكي عنه قال رأيت بعض الأعراب يفلي ثيابه فيقتل البراغيث ويدع القمل فقلت يا أعرابي ولم تصنع هذا فقال أقتل الفرسان ثم أعطف على الرجالة
وكان جده علي بن أصمع سرق بسفوان فأتوا به علي بن أبي طالب

174
رضي الله عنه فقال جيئوني بمن يشهد أنه أخرجها من الرحل قال فشهد عليه بذلك عنده فأمر به فقطع من أشاجعه فقيل له يا أمير المؤمنين ألا قطعته من زنده فقال يا سبحان الله كيف يتوكأ كيف يصلي كيف يأكل فلما قدم الحجاج بن يوسف البصرة أتاه علي بن أصمع فقال أيها الأمير إن أبوي عقاني فسمياني عليا فسمني أنت فقال ما أحسن ما توسلت به قد وليتك سمك البارجاه وأجريت لك في كل يوم دانقين فلوسا ووالله لئن تعديتهما لأقطعن ما أبقاه علي من يدك
وكانت ولادة الأصمعي سنة اثنتين وقيل ثلاث وعشرين ومائة وتوفي في صفر سنة ست عشرة وقيل أربع عشرة وقيل خمس عشرة وقيل سبع عشرة ومائتين بالبصرة وقيل بمرو رحمه الله تعالى
وقال الخطيب أبو بكر بلغني أن الأصمعي عاش ثمانيا وثمانين سنة ومولد أبيه قريب سنة ثلاث وثمانين للهجرة ولم أقف على تاريخ وفاته رحمه الله تعالى
وقريب بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها باء موحدة وهو لقب له قال المرزباني وأبو سعيد السيرافي اسمه عاصم وكنيته أبو بكر وغلب عليه لقبه والأصمعي نسبة إلى جده أصمع
ومظهر بضم الميم وفتح الظاء المعجمة وتشديد الهاء وكسرها وبعدها راء
وأعيا بفتح الهمزة وسكون العين المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها
وباهلة قد تقدم الكلام عليها في أول الترجمة وهي بالباء الموحدة وكسر الهاء وفتح اللام
وسفوان بفتح السين المهملة والفاء والواو وبعد الألف نون وهو اسم موضع عند البصرة ومن قصد البحرين من البصرة يخرج إلى سفوان ثم إلى كاظمة ومنها يتوجه إلى هجر وهي مدينة البحرين
والبارجاه موضع بالبصرة

175
قال أبو العيناء كنا في جنازة الأصمعي فجذبني أبو قلابة حبيش بن عبد الرحمن الجرمي وقيل حبيش بن منقذ قاله المرزباني في المعجم الشاعر فأنشدني لنفسه
(لعن الله أعظما حملوها
* نحو دار البلى على خشبات)
(أعظما تبغض النبي وأهل البيت
* والطيبين والطيبات)
قال وجذبني أبو العالية الشامي وأنشدني واسم أبي العالية الحسن بن مالك
(لا در در بنات الأرض إذ فجعت
* بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا)
(عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى
* في الناس منه ولا من علمه خلفا)
قال فعجبت من اختلافهما فيه
وللأصمعي من التصانيف كتاب خلق الإنسان وكتاب الأجناس وكتاب الأنواء وكتاب الهمز وكتاب المقصور والممدود وكتاب الفرق وكتاب الصفات وكتاب الأبواب وكتاب الميسر والقداح وكتاب خلق الفرس وكتاب الخيل وكتاب الإبل وكتاب الشاء وكتاب الأخبية وكتاب الوحوش وكتاب فعل وأفعل وكتاب الأمثال وكتاب الأضداد وكتاب الألفاظ وكتاب السلاح وكتاب اللغات وكتاب مياه العرب وكتاب النوادر وكتاب أصول الكلام وكتاب القلب والإبدال وكتاب جزيرة العرب وكتاب الاشتقاق وكتاب معاني الشعر وكتاب المصادر وكتاب الأراجيز وكتاب النخلة وكتاب النبات وكتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه وكتاب غريب الحديث وكتاب نوادر الاعراب وغير ذلك

176
380 ابن هشام صاحب السيرة
أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري قال أبو القاسم السهيلي عنه في كتاب الروض الأنف شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه مشهور بحمل العلم متقدم في علم النسب والنحو وهو من مصر وأصله من البصرة وله كتاب في أنساب حمير وملوكها وكتاب في شرح ما وقع في أشعار السير من الغريب فيما ذكر لي وتوفي بمصر في سنة ثلاث عشرة ومائتين رحمه الله تعالى
قلت وهذا ابن هشام هو الذي جمع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغازي والسير لابن إسحاق وهذبها ولخصها وشرحها السهيلي المذكور وهي الموجودة بأيدي الناس المعروفة بسيرة ابن هشام
وقال أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس صاحب تاريخ مصر المقدم ذكره في تاريخه الذي جعله للغرباء القادمين على مصر إن عبد الملك المذكور توفي لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة ثماني عشرة ومائتين بمصر والله أعلم بالصواب وقال إنه ذهلي
والحميري قد تقدم الكلام عليه والمعافري بفتح الميم والعين المهملة وبعد الألف فاء مكسورة ثم راء هذه النسبة إلى المعافر بن يعفر قبيل كبير ينسب إليه بشر كثير عامتهم بمصر

177
381 الثعالبي
أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري قال ابن بسام صاحب الذخيرة في حقه كان في وقته راعي تلعات العلم وجامع أشتات النثر والنظم رأس المؤلفين في زمانه وإمام المصنفين بحكم قرانه سار ذكره سير المثل وضربت إليه آباط الإبل وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب وتواليفه أشهر مواضع وأبهر مطالع وأكثر راو لها وجامع من أن يستوفيها حد أو وصف أو يوفيها حقوقها نظم أو رصف وذكر له طرفا من النثر وأورد شيئا من نظمه فمن ذلك ما كتبه إلى الأمير أبي الفضل الميكالي
(لك في المفاخر معجزات جمة
* أيدا لغيرك في الورى لم تجمع)
(بحران بحر في البلاغة شانه
* شعر الوليد وحسن لفظ الأصمعي)
(وترسل الصابي يزين علوه
* خط ابن مقلة ذو المحل الأرفع)
(كالنور أوكالسحر أو كالبدر أو
* كالوشي في برد عليه موشع)
(شكرا فكم من فقرة لك كالغنى
* وافى الكريم بعيد فقر مدقع)
(وإذا تفتق نور شعرك ناضرا
* فالحسن بين مرصع ومصرع)
(أرجلت فرسان الكلام ورضت أفراس
* البديع وأنت أمجد مبدع)

178
(ونقشت في فص الزمان بدائعا
* تزري بآثار الربيع الممرع)
ومنها في وصف فرس أهداه إليه ممدوحه
(يا واهب الطرف الجواد كأنما
* قد أنعلوه بالرياح الأربع)
(لا شيء أسرع منه إلا خاطري
* في وصف نائلك اللطيف الموقع)
(ولو أنني أنصفت في إكرامه
* لجلال مهديه الكريم الألمعي)
(أقضمته حب الفؤاد محبة
* وجعلت مربطه سواد المدمع)
(وخلعت ثم قطعت غير مضيع
* برد الشباب لجله والبرقع)
ومن شعره
(لما بعثت فلم توجب مطالعتي
* وأمنعت نار شوقي في تلهبها)
(ولم أجد حيلة تبقي على رمقي
* قبلت عيني رسولي إذ رآك بها)
وكتب إلى أبي نصر بن سهل ابن المرزبان يحاجيه
(حاجيت شمس العلم في ذا العصر
* نديم مولانا الأمير نصر)
(ما حاجة لأهل كل مصر
* في كل ما دار وكل قطر)
(ليست ترى إلا بعيد العصر
*)
فكتب إليه جوابه
(يا بحر آداب بغير جزر
* وحظه في العلم غير نزر)
(حزرت ما قلت وكان حزري
* أن الذي عنيت دهن البزر)
(يعصره ذو قوة وازر
*)

179
وله من التواليف يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وهو أكبر كتبه وأحسنها وأجمعها وفيها يقول أبو الفتوح نصر الله بن قلاقس الإسكندري الشاعر المشهور وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
(أبيات أشعار اليتيمة
* أبكار أفكار قديمه)
(ماتوا وعاشت بعدهم
* فلذاك سميت اليتيمه)
وله أيضا كتاب فقه اللغة وسحر البلاغة وسر البراعة ومن غاب عنه المطرب ومؤنس الوحيد وشئ كثير جمع فيها أشعار الناس ورسائلهم وأخبارهم وأحوالهم وفيها دلالة على كثرة اطلاعه وله أشعار كثيرة وكانت ولادته سنة خمسين وثلاثمائة وتوفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة رحمه الله تعالى
والثعالبي بفتح الثاء المثلثة والعين المهملة وبعد الألف لام مكسورة وبعدها باء موحدة هذه النسبة إلى خياطة جلود الثعالب وعملها قيل له ذلك لأنه كان فراء
382 سحنون
أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن حبيب بن حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة التنوخي الملقب سحنون الفقيه المالكي قرأ على ابن القاسم وابن

180
وهب وأشهب ثم انتهت الرياسة في العلم بالمغرب إليه وكان يقول قبح الله الفقر أدركنا مالكا وقرأنا على ابن القاسم كان أصله من الشام من مدينة حمص قدم به أبوه مع جند أهل حمص وولي القضاء بالقيروان وعلى قوله المعول بالمغرب وصنف كتاب المدونة في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه وأخذها عن ابن القاسم وكان أول من شرع في تصنيف المدونة أسد بن الفرات الفقيه المالكي بعد رجوعه من العراق وأصلها أسئلة سأل عنها ابن القاسم فأجابه عنها وجاء بها أسد إلى القيروان وكتبها عنه سحنون وكانت تسمى الأسدية ثم رحل بها سحنون إلى ابن القاسم في سنة ثمان وثمانين ومائة فعرضها عليه وأصلح فيها مسائل ورجع بها إلى القيروان في سنة إحدى وتسعين ومائة وهي في التأليف على ما جمعه أسد ابن الفرات أولا غير مرتبة المسائل ولا مرسمة التراجم فرتب سحنون أكثرها وبوبه على ترتيب التصانيف واحتج لبعض مسائلها بالآثار من روايته من موطأ ابن وهب وغيره وبقيت منها بقية لم يتمم فيها سحنون هذا العمل المذكور ذكر هذا كله القاضي عياض وغيره
وذكر لي بعض الفقهاء المالكية أن الشيخ جمال الدين أبا عمرو المعروف بابن الحاجب الفقيه المالكي النحوي الآتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى واسمه عثمان قال إن أسد بن الفرات الفقيه المالكي جاء من الغرب إلى مصر وقرأ على ابن القاسم وأخذ عنه المدونة وكانت مسودة وعاد بها إلى بلاده فحضر إليه سحنون وطلبها منه لينقلها فبخل عليه بها فرحل سحنون إلى ابن القاسم وأخذ عنه المدونة وقد حررها ابن القاسم فدخل بها إلى الغرب وعلى يده كتاب ابن القاسم إلى أسد بن الفرات يقول فيه تقابل نسختك بنسخة سحنون فالذي تتفق عليه النسختان يثبت والذي يقع فيه الاختلاف فالرجوع إلى نسخة سحنون وتمحى نسخة ابن الفرات فهذه هي الصحيحة فلما وقف ابن الفرات على كتاب ابن القاسم عزم على العمل به فقال له أصحابه إن عملت هذا صار كتاب سحنون هو الأصل وبطل كتابك وتكون أنت قد أخذته عن سحنون فلم يعمل بكتاب ابن القاسم فلما بلغ

181
ابن القاسم الخبر قال اللهم لا تنفع أحدا بابن الفرات ولا بكتابه فهجره الناس لذلك وهو الآن مهجور وعلى كتاب سحنون يعتمد أهل القيروان
وحصل له من الأصحاب والتلامذة ما لم يحصل لأحد من أصحاب مالك مثله وعنه انتشر علم مالك بالمغرب وكانت ولادته أول ليلة من شهر رمضان سنة ستين ومائة وتوفي في يوم الثلاثاء لتسع خلون من رجب سنة أربعين ومائتين رحمه الله تعالى
وسحنون بفتح السين المهملة وضمها وسكون الحاء المهملة وضم النون وبعد الواو نون ثانية وفي فتح السين وضمها كلام من جهة العربية يطول شرحه وليس هذا موضعه وقد صنف فيه أبو محمد ابن السيد البطليوسي جزءا وقفت عليه وقد استوفى الكلام فيه كما ينبغي وهو مجيد في كل ما يصنعه وقد تقدمت ترجمته ولقب سحنون باسم طائر حديد بالمغرب يسمونه سحنونا لحدة ذهنه وذكائه ذكر ذلك أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم القيرواني في كتاب طبقات من كان بإفريقية من العلماء والله أعلم
98 وأما أسد بن الفرات فإنه أرسله زيادة الله بن الأغلب في جيش إلى جزيرة صقلية ونزلوا على مدينة سرقوسة ولم يزالوا محاصرين لها إلى أن مات ابن الفرات في رجب سنة ثلاث عشرة ومائتين ودفن بمدينة بلرم من الجزيرة أيضا والله أعلم

182
383 أبو هاشم الجبائي
أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي محمد الجبائي بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه المتكلم المشهور العالم ابن العالم كان هو وأبوه من كبار المعتزلة ولهما مقالات على مذهب الاعتزال وكتب الكلام مشحونة بمذاهبهما واعتقادهما وكان له ولد يسمى أبا علي وكان عاميا لا يعرف شيئا فدخل يوما على الصاحب بن عباد فظنه عالما فأكرمه ورفع مرتبته ثم سأله عن مسألة فقال لا أعرف نصف العلم فقال له الصاحب صدقت يا ولدي إلا أن أباك تقدم بالنصف الآخر
وكانت ولادة أبي هاشم المذكور سنة سبع وأربعين ومائتين وتوفي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ببغداد ودفن في مقابر البستان من الجانب الشرقي وفي ذلك اليوم توفي أبو بكر محمد ابن دريد اللغوي المشهور وسيأتي ذكر والده إن شاء الله تعالى رضي الله عنهم أجمعين
وحمران بضم الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الراء وبعد الألف نون
وأبان بفتح الهمزة والباء الموحدة وبعد الألف نون
والجبائي بضم الجيم وتشديد الباء الموحدة هذه النسبة إلى قرية من قرى البصرة خرج منها جماعة من العلماء هكذا قاله السمعاني في كتاب الأنساب

183
وقال ياقوت الحموي في كتابه المشترك إنها كورة وبلدة ذات قرى وعمارات من نواحي خوزستان والله أعلم
384 ديك الجن
أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن زيد بن تميم الكلبي الملقب ديك الجن الشاعر المشهور وذكر ابن الجراح في كتاب الورقة أنه مولى لطيء والله أعلم أصله من أهل سلمية ومولده بمدينة حمص وتميم أول من أسلم من أجداده على يد حبيب بن مسلمة الفهري أخذ محاربا وكان يفخر على العرب ويقول ما لهم فضل علينا أسلمنا كما أسلموا وهو من شعراء الدولة العباسية ولم يفارق الشام ولا رحل إلى العراق ولا إلى غيره منتجعا بشعر ولا متصديا لأحد وكان يتشيع تشيعا حسنا وله مراث في الحسين رضي الله عنه وكان ماجنا خليعا عاكفا على القصف واللهو متلافا لما ورثه وشعره في غاية الجودة
حدث عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي قال كنت جالسا عند ديك الجن فدخل عليه حدث فأنشده شعرا عمله فأخرج ديك الجن من تحت مصلاه درجا كبيرا فيه كثير من شعره فسلمه إليه وقال يا فتى تكسب بهذا واستعن به على قولك فلما خرج سألته عنه فقال هذا فتى من أهل جاسم

184
يذكر أنه من طيء يكنى أبا تمام واسمه حبيب بن أوس وفيه أدب وذكاء وله قريحة وطبع قال وعمر الملقب ديك الجن إلى أن مات أبو تمام ورثاه
ومولد ديك الجن سنة إحدى وستين ومائة وعاش بضعا وسبعين سنة وتوفي في أيام المتوكل سنة خمس أو ست وثلاثين ومائتين
ولما اجتاز أبو نواس بحمص قاصدا مصر لامتداح الخصيب بن عبد الحميد سمع ديك الجن بوصوله فاستخفى منه خوفا أن يظهر لأبي نواس أنه قاصر بالنسبة إليه فقصده أبو نواس في داره وهو بها فطرق الباب واستأذن عليه فقالت الجارية ليس هو هاهنا فعرف مقصده فقال لها قولي له اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك
(موردة من كف ظبي كأنما
* تناولها من خده فأدارها)
فلما سمع ديك الجن ذلك خرج إليه واجتمع به وأضافه وهذا البيت من جملة أبيات وهي
(بها غير معذول فداو خمارها
* وصل بحبالات الغبوق ابتكارها)
(ونل من عظيم الوزر كل عظيمة
* إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها)
(وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغر
* ولا تسق إلا خمرها وعقارها)
(فقام يكاد الكأس يحرق كفه
* من الشمس أو من وجنتيه استعارها)
(ظللنا بأيدينا نتعتع روحها
* فتأخذ من أقدامنا الراح ثارها)
(موردة من كف ظبي كأنما
* تناولها من خده فأدارها)

185
وذكر الجهشياري في كتاب أخبار الوزراء أن حبيب بن عبد الله بن رغبان المذكور في هذا النسب كان كاتبا في أيام الخليفة المنصور وكان يتقلد الاعطاء وكان موجودا في سنة ثلاث وأربعين ومائة وأن ديك الجن الشاعر من ولده وإليه ينسب مسجد ابن رغبان بمدينة السلام وأنه مولى حبيب ابن مسلمة الفهري
99 قلت وحبيب بن مسلمة كان من خواص معاوية وله معه في وقعة صفين آثار شكرها له ولما استقر الأمر لمعاوية سير حبيبا في بعض مهامه فلقيه الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو خارج فقال له يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله فقال له حبيب أما إلى أبيك فلا فقال له الحسن بلى والله ولقد طاوعت معاوية على دنياه وسارعت في هواه فلئن قام بك في دنياك فقد قعد بك في دينك فليتك إذ أسأت الفعل أحسنت القول فتكون كما قال الله تعالى * (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) * ولكنك كما قال الله تعالى * (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) * وكنية حبيب هذا أبو عبد الرحمن ولاه معاوية أرمينية فمات بها سنة اثنتين وأربعين للهجرة ولم يبلغ خمسين سنة
وكانت لديك الجن جارية يهواها اسمها دنيا فاتهمها بغلامه وصيف فقتلها ثم ندم على ذلك فأكثر من التغزل فيها فمن ذلك قوله
(يا طلعة طلع الحمام عليها
* وجنى لها ثمر الردى بيديها)
(رويت من دمها الثرى ولطالما
* روى الهوى شفتي من شفتيها)
(مكنت سيفي من مجال خناقها
* ومدامعي تجري على خديها)
(فوحق نعليها وما وطئ الحصى
* شيء أعز علي من نعليها)
(ما كان قتليها لأني لم أكن
* أبكي إذا سقط الغبار عليها)

186
(لكن بخلت على سواي بحبها
* وأنفت من نظر الغلام إليها)
وله فيها
(جاءت تزور فراشي بعدما قبرت
* فظلت ألثم نحرا زانه الجيد)
(وقلت قرة عيني قد بعثت لنا
* فكيف ذا وطريق القبر مسدود)
(قالت هناك عظامي فيه مودعة
* تعيث فيها بنات الأرض والدود)
(وهذه الروح قد جاءتك زائرة
* هذي زيارة من في القبر ملحود)
وله فيها وقيل إن هذه الأبيات لها في ولدها منه واسمه رغبان
(بأبي نبذتك بالعراء المقفر
* وسترت وجهك بالتراب الأعفر)
(بأبي بذلتك بعد صون للبلى
* ورجعت عنك صبرت أو لم أصبر)
(لو كنت أقدر أن أرى أثر البلى
* لتركت وجهك ضاحيا لم يقبر)
ويروى أن المتهم بالجارية غلام كان يهواه فقتله أيضا وصنع فيه أبياتا وهي
(أشفقت أن يرد الزمان بغدره
* أو أبتلى بعد الوصال بهجره)
(فقتلته وله علي كرامة
* ملء الحشا وله الفؤاد بأسره)
(قمر أنا استخرجته من دجنه
* لبليتي ورفعته من خدره)
(عهدي به ميتا كأحسن نائم
* والحزن ينحر مقلتي في نحره)

187
(لو كان يدري الميت ماذا بعده
* بالحي منه بكى له في قبره)
(غصص تكاد تفيظ منها نفسه
* ويكاد يخرج قلبه من صدره)
فصنعت أخت الغلام
(يا ويح ديك الجن يا تبا له
* مما تضمن صدره من غدره)
(قتل الذي يهوى وعمر بعده
* يا رب لا تمدد له في عمره)
وقد ذكر أبو بكر الخرائطي في كتاب اعتلال القلوب حديثه وشعره وله كل معنى حسن رحمه الله تعالى
ورغبان بفتح الراء وسكون الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون
وقد تقدم الكلام على سلمية في ترجمة المهدي عبيد الله وحمص مدينة مشهورة
385 أبو القاسم الداركي
أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز الداركي الفقيه الشافعي كان أبوه محدث أصبهان في وقته وكان أبو القاسم من كبار فقهاء

188
الشافعيين نزل نيسابور سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة ودرس الفقه بها سنين ثم انتقل إلى بغداد وسكنها إلى حين وفاته وأخذ الفقه عن أبي إسحاق المروزي وعليه تفقه الشيخ أبو حامد الإسفرايني بعد موت أبي الحسن ابن المرزبان وأخذ عنه عامة شيوخ بغداد وغيرهم من أهل الآفاق وكان يدرس ببغداد في مسجد دعلج بن أحمد بدرب أبي خلف من قطيعة الربيع وله حلقة في الجامع للفتوى والنظر وانتهى التدريس إليه ببغداد وانتفع به خلق كثير وله في المذهب وجوه جيدة دالة على متانة علمه وكان يتهم بالاعتزال وكان الشيخ أبو حامد الإسفرايني يقول ما رأيت أحدا أفقه من الداركي وأخذ الحديث عن جده لأمه الحسن بن محمد الداركي وكان إذا جاءته مسألة تفكر طويلا ثم يفتي فيها وربما أفتى على خلاف مذهب الإمامين الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما فيقال له في ذلك فيقول ويحكم حدث فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا والأخذ بالحديث أولى من الأخذ بقول الإمامين
وتوفي ببغداد يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وسبعين وثلاثمائة عن نيف وسبعين سنة رحمه الله تعالى وقيل إنه توفي في ذي القعدة والأول أصح وكان ثقة أمينا
والداركي بفتح الدال المهملة وبعد الألف راء مفتوحة وبعدها كاف قال السمعاني هذه النسبة إلى دارك وظني أنها من قرى أصبهان وقال هو عبد العزيز بن الحسن بن أحمد الداركي والله أعلم بالصواب

189
386 ابن نباتة الشاعر
أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمد بن أحمد بن نباتة بن حميد بن نباتة بن الحجاج ابن مطر بن خالد بن عمرو بن رزاح بن رياح بن سعد بن ثجير بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر التميمي السعدي وبقية النسب معروف كان شاعرا مجيدا جمع بين حسن السبك وجودة المعنى طاف البلاد ومدح الملوك والوزراء
والرؤساء وله في سيف الدولة بن حمدان غر القصائد ونخب المدائح وكان قد أعطاه فرسا أدهم أغر محجلا فكتب إليه
(يا أيها الملك الذي أخلاقه
* من خلقه ورواؤه من رائه)
(قد جاءنا الطرف الذي أهديته
* هاديه يعقد أرضه بسمائه)
(أولاية وليتنا فبعثته
* رمحا سبيب العرف عقد لوائه)
(نحتل منه على أغر محجل
* ماء الدياجي قطرة من مائه)
(فكأنما لطم الصباح جبينه
* فاقتص منه فخاض في أحشائه)
(متمهلا والبرق من أسمائه
* متبرقعا والحسن من أكفائه)
(ما كانت النيران يكمن حرها
* لو كان للنيران بعض ذكائه)
(لا تعلق الألحاظ في أعطافه
* إلا إذا كفكفت من غلوائه)
(لا يكمل الطرف المحاسن كلها
* حتى يكون الطرف من أسرائه)
وهذا المعنى الذي وقع له في صفة الغرة والتحجيل في غاية الإبداع وما أظنه سبق إليه

190
وله في سيف الدولة أيضا قصيدة لامية طويلة ومن جملة أبياتها قوله
(قد جدت لي باللها حتى ضجرت بها
* وكدت من ضجري أثني على البخل)
(إن كنت ترغب في اخذ النوال لنا
* فاخلق لنا رغبة أو لا فلا تنل)
(لم يبق جودك لي شيئا أؤمله
* تركتني أصحب الدنيا بلا أمل)
وهذا المعنى فيه إلمام بقول البحتري أعني البيت الأول
(إني هجرتك إذ هجرتك وحشة
* لا العود يذهبها ولا الإبداء)
(أخجلتني بندى يديك فسودت
* ما بيننا تلك اليد البيضاء)
(وقطعتني بالجود حتى إنني
* متخوف أن لا يكون لقاء)
(صلة غدت في الناس وهي قطيعة
* عجب وبر راح وهو جفاء)
وفي معناه أيضا قول دعبل بن علي الخزاعي المقدم ذكره يمدح المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي أمير مصر
(زمني بمطلب سقيت زمانا
* ما كنت إلا روضة وجنانا)
(كل الندى إلا نداك تكلف
* لم أرض بعدك كائنا من كانا)
(أصلحتني بالبر بل أفسدتني
* وتركتني أتسخط الإحسانا)
وهو معنى مطروق تداولته الشعراء وأكثرت استعماله فمنهم من يستوفيه ومنهم من يقصر فيه وكتب به علي بن جبلة المعروف بالعكوك الآتي ذكره إن شاء الله تعالى إلى أبي دلف العجلي في أبيات رائية ولولا خوف الإطالة لذكرتها وما ألطف قول أبي العلاء المعري فيه
(لو اختصرتم من الإحسان زرتكم
* والعذب يهجر للإفراط في الخصر)

191
رجعنا إلى ذكر أبي نصر المذكور
ومعظم شعره جيد وله ديوان كبير وكان قد وصل إلى مدينة الري وامتدح أبا الفضل محمد بن العميد وجرى بينهما مفاوضة يأتي شرحها في ترجمته إن شاء الله تعالى
وكانت ولادته في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وتوفي يوم الأحد بعد طلوع الشمس ثالث شوال سنة خمس وأربعمائة ببغداد ودفن قبل الظهر في مقبرة الخيزران من الجانب الشرقي رحمه الله تعالى
ونباتة بضم النون كما تقدم في جد الخطيب ابن نباتة
وثجير بضم الثاء المثلثة وفتح الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء
وبقية الأسماء معروفة
قال أبو غالب محمد بن أحمد بن سهل دخلت على أبي الحسن محمد بن علي ابن نصر البغدادي صاحب الرسائل وصاحب كتاب المفاوضة قلت وهو أخو القاضي عبد الوهاب المالكي وسيأتي ذكرهما في ترجمة عبد الوهاب إن شاء الله تعالى قال وكان في مرض موته بواسط فقعدت عنده قليلا ثم قمت لأنه كان به قيام فأنشدني بيت أبي نصر عبد العزيز وهو (متع لحاظك من خل تودعه
* فما إخالك بعد اليوم بالوادي)
ثم قال لي أبو الحسن المذكور عدت أبا نصر ابن نباتة في اليوم الذي توفي فيه فأنشدني هذا البيت وودعته وانصرفت فأخبرت في طريقي أنه توفي قال الشيخ أبو غالب وفي تلك الليلة توفي أبو الحسن المذكور وقد ذكرت تاريخ ذلك في ترجمة عبد الوهاب المالكي

192
وقال أبو علي محمد بن وشاح بن عبد الله سمعت أبا نصر ابن نباتة يقول كنت يوما قائلا في دهليزي فدق علي الباب فقلت من فقال رجل من أهل المشرق فقلت ما حاجتك فقال أنت القائل
(ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
* تنوعت الأسباب والداء واحد)
فقلت نعم فقال أرويه عنك فقلت نعم فمضى فلما كان آخر النهار دق علي الباب فقلت من فقال رجل من أهل تاهرت من الغرب فقلت ما حاجتك فقال أنت القائل
(ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
* تنوعت الأسباب والداء واحد) فقلت نعم فقال أرويه عنك فقلت نعم وعجبت كيف وصل إلى الشرق والغرب
387 ابن مغلس الأندلسي
أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن مغلس القيسي الأندلسي كان من أهل العلم باللغة والعربية مشارا إليه فيهما رحل من الأندلس وسكن مصر واستوطنها وقرأ الأدب على أبي العلاء صاعد بن الحسن الربعي صاحب كتاب الفصوص وقد سبق ذكره في حرف الصاد وعلى أبي يعقوب

193
يوسف بن يعقوب النجيرمي بمصر ودخل بغداد واستفاد وأفاد وله شعر حسن فمن ذلك قوله
(مريض الجفون بلا علة
* ولكن قلبي به ممرض)
(أعان السهاد على مقلتي
* بفيض الدموع فما تغمض)
(وما زار شوقا ولكن أتى
* يعرض لي أنه معرض)
وله أشعار كثيرة وكانت بينه وبين أبي الطاهر إسماعيل بن خلف صاحب كتاب العنوان معارضات في قصائد هي موجودة في ديوانيهما ولولا خوف الإطالة لأتيت بشيء
منها
وتوفي يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وأربعمائة بمصر وصلى عليه الشيخ أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي صاحب التفسير في مصلى الصدفي ودفن عند بني إسحاق رحمهم الله أجمعين
ومغلس بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد اللام وكسرها وبعدها سين مهملة

194
388 عبد الصمد بن علي الهاشمي
أبو محمد عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي ذكر الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب شذور العقود أنه كانت فيه عجائب منها أنه ولد في سنة أربع ومائة وولد أخوه محمد بن علي والد السفاح والمنصور في سنة ستين للهجرة فبينهما في المولد أربع وأربعون سنة وتوفي محمد في سنة ست وعشرين ومائة وتوفي عبد الصمد المذكور في سنة خمس وثمانين ومائة فكان بينهما في الوفاة تسع وخمسون سنة ومنها أنه حج يزيد بن معاوية في سنة خمسين للهجرة وحج عبد الصمد بالناس سنة خمسين ومائة وهما في النسب إلى عبد مناف سواء لأن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف فبين يزيد وعبد مناف خمسة أجداد وبين عبد الصمد وعبد مناف خمسة لأن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ومنها أنه أدرك السفاح والمنصور وهما ابنا أخيه ثم أدرك المهدي ابن المنصور وهو عم أبيه ثم أدرك الهادي وهو عم جده ثم أدرك الرشيد وفي أيامه مات وقال يوما للرشيد يا أمير المؤمنين هذا مجلس فيه أمير المؤمنين وعم أمير المؤمنين وعم عم أمير المؤمنين وعم عم عمه وذلك أن سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد والعباس عمر سليمان وعبد الصمد عم العباس ومنها أنه مات بأسنانه التي ولد بها ولم يثغر وكانت قطعة واحدة من أسفل

195
وذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن عبد الصمد المذكور ولد في رجب سنة ست ومائة، ومات في جمادى الآخرة سنة خمس وسبعين ومائة وقال غيره كانت وفاته ببغداد وقال غيره ولد في سنة تسع وقيل في سنة خمس بالحميمة من أرض البلقاء والله أعلم
وأمه كبيرة التي يقول فيها عبيد الله بن قيس الرقيات الشاعر المشهور قصيدته التي أولها
(عاد له من كبيرة الطرب
*)
وعمي في آخر عمره
يقال ثغر الصبي يثغر فهو مثغور إذا سقطت أسنانه وإذا نبتت قيل قد اثغر واتغر بالثاء والتاء مع التشديد فيهما وسيأتي ذكر والده وأخيه إن شاء الله تعالى
389 ابن بابك
أبو القاسم عبد الصمد بن منصور بن الحسن بن بابك الشاعر المشهور أحد الشعراء المجيدين المكثرين رأيت ديوانه في ثلاث مجلدات وله أسلوب رائق في نظم الشعر وجاب البلاد ولقي الرؤساء ومدحهم وأجزلوا جائزته ولما قدم على الصاحب بن عباد قال له أنت بابك الشاعر فقال أنا ابن

196
بابك فاستحسن قوله وأجازه وأجزل صلته
ومن شعره قوله
(وأغيد معسول الشمائل زارني
* على فرق والنجم حيران طالع)
(فلما جلا صبغ الدجى قلت حاجب
* من الصبح أو قرن من الشمس لامع)
(إلى أن دنا والسحر رائد طرفه
* كما ريع ظبي بالصريمة راتع)
(فنازعته الصهباء والليل دامس
* رقيق حواشي البرد والنسر واقع)
(عقار عليها من دم الصب نفضة
* ومن عبرات المستهام فواقع)
(تدير إذا شجت عيونا كأنها
* عيون العذارى شق عنها البراقع)
(معودة غصب العقول كأنما
* لها عند ألباب الرجال ودائع)
(فبتنا وظل الوصل دان وسرنا
* مصون ومكتوم الصبابة ذائع)
(إلى أن سلا عن ورده فارط القطا
* ولاذت بأطراف الغصون السواجع)
(فولى أسير السكر يكبو لسانه
* فتنطق عنه بالوداع الأصابع)
وله
(يا صاحبي امزجا كأس المدام لنا
* كيما يضيء لنا من نورها الغسق)
(خمرا إذا ما نديمي هم يشربها
* أخشى عليه من اللألاء يحترق)
(لو رام يحلف أن الشمس ما غربت
* في فيه كذبه في وجهه الشفق)
وله من قصيد بيت في غاية الرقة وهو
(ومر بي النسيم فرق حتى
* كأني قد شكوت إليه ما بي)

197
وكانت وفاته في سنة عشر وأربعمائة ببغداد رحمه الله تعالى
وبابك بفتح الباءين الموحدتين بينهما ألف وفي الأخير كاف
390 أبو المحاسن الروياني
أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد الروياني الفقيه الشافعي من رؤوس الأفاضل في أيامه مذهبا وأصولا وخلافا سمع أبا الحسين عبد الغافر ابن محمد الفارسي بميافارقين ومن أبي عبد الله محمد بن بيان بن محمد الكازروني وتفقه عليه على مذهب الشافعي وروى عنه زاهر بن طاهر الشحامي وغيره
وكان له الجاه العظيم والحرمة الوافرة في تلك الديار وكان الوزير نظام الملك كثير التعظيم له لكمال فضله رحل إلى بخارى وأقام بها مدة ودخل غزنة ونيسابور ولقي الفضلاء وحضر مجلس ناصر المروزي وعلق عنه وسمع الحديث وبنى بآمل طبرستان مدرسة ثم انتقل إلى الري ودرس بها وقدم أصبهان وأملى بجامعها وصنف الكتب المفيدة منها بحر المذهب وهو من أطول كتب الشافعيين وكتاب مناصيص الإمام الشافعي وكتاب الكافي وكتاب حلية المؤمن وصنف في الأصول والخلاف ونقل عنه أنه كان يقول لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من خاطري
وذكره القاضي أبو محمد عبد الله بن يوسف الحافظ في طبقات أئمة الشافعية

198
فقال أبو المحاسن الروياني باقرة العصر إمام في الفقه وذكره الحافظ أبو زكرياء يحيى بن منده وروى الحديث عن خلق كثير في بلاد متفرقة وكانت ولادته في ذي الحجة سنة خمس عشرة وأربعمائة وقال الحافظ أبو طاهر السلفي بلغنا أن أبا المحاسن الروياني أملى بمدينة آمل وقتل بعد فراغه من الإملاء بسبب التعصب في الدين في المحرم سنة اثنتين وخمسمائة
وذكر معمر بن عبد الواحد بن فاخر في الوفيات التي خرجها للحافظ أبي سعد ابن السمعاني أن أبا المحاسن المذكور قتل بآمل في جامعها يوم الجمعة الحادي عشر من المحرم من السنة المذكورة قتله الملاحدة والله أعلم رحمه الله تعالى
والروياني بضم الراء وسكون الواو وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف نون هذه النسبة إلى رويان وهي مدينة بنواحي طبرستان خرج منها جماعة من العلماء وآمل مدينة هناك وقد سبق ذكرها
391 الببغاء
أبو الفرج عبد الواحد بن نصر بن محمد المخزومي الشاعر المعروف بالببغاء ذكره الثعالبي في يتيمة الدهر وقال هو من أهل نصيبين وبالغ في

199
الثناء عليه وذكر جملة من رسائله ونظمه وما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابي وأشياء يطول شرحها
واتفق أن أبا الفرج قدم مرة بغداد وأبو إسحاق معتقل مدة طويلة ولم يصبر عنه وزاره في مجلسه ثم انصرف ولم يعاوده فكتب إليه أبو إسحاق
(أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تزل
* يزيدك صرف الدهر حظا إذا نقص)
(مضى زمن تستام وصلي غاليا
* فأرخصته والبيع غال ومرتخص)
(وأنستني في مجلسي بزيارة
* شفت كبدا من صاحب لك قد خلص)
(ولكنها كانت كحسوة طائر
* فواقا كما يستفرص السارق الفرص)
(وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي
* وأوجست خوفا من تذكرك القفص)
(كذا الكرز اللماح ينجو بنفسه
* إذا عاين الأشراك تنصب للقنص)
(فحوشيت يا قس الطيور بلاغة
* إذا أنشد المنظوم أو درس القصص)
(من المنسر الأشغى ومن حدة المدى
* ومن بندق الرامي ومن قصة المقص)
(فهذي دواهي الطير وقيت شرها
* إذ الدهر من أحداثه جرع الغصص)
فأجابه أبو الفرج في الحال مع رسوله
(أيا ماجدا مذ يمم المجد ما نكص
* وبدر تمام مذ تكامل ما نقص)
(ستخلص من هذا السرار وأيما
* هلال توارى بالسرار فما خلص)
(برأفة تاج الملة الملك الذي
* لسؤدده في خطة المشتري حصص)
(تقنصت بالألطاف شكري ولم أكن
* علمت بأن الحر بالبر يقتنص)
(وصادفت أدنى فرصة فانتهزتها
* بلقياك إذ بالحزم تنتهز الفرص)
(أتتني القوافي الزاهرات تجمل البدائع
* من مستحسن الجد والرخص)
(فقابلت زهر الروض منها ولم أرد
* وأحرزت در البحر منها ولم أغص)

200
(فإن كنت بالببغاء قدما ملقبا
* فكم لقب بالجور لا العدل مخترص)
(وبعد فما أخشى تقنص جارح
* وقلبك لي وكر ورأيك لي قفص) فانتهى الابتداء والجواب إلى عضد الدولة فأعجب بهما واستظرفهما وكان ذلك أحد أسباب إطلاق أبي إسحاق من اعتقاله ثم اتصلت بينهما المودة والكتابة
وحكى القاضي أبو علي التنوخي قال دخل أبو الفرج عبد الواحد الببغاء على الوزير أبي نصر سابور بن أردشير وقد نثرت عليه دنانير وجواهر فأنشد بديها
(نثروا الجواهر واللجين وليس لي
* شيء عليه سوى المدائح أنثر)
(بقصائد كالدر إن هي أنشدت
* وثنا إذا ما فاح فهو العنبر)
ومن شعره
(يا سادتي هذه روحي تودعكم
* إذ كان لا الصبر يسليها ولا الجزع)
(قد كنت أطمع في روح الحياة لها
* فالآن إذ بنتم لم يبق لي طمع)
(لا عذب الله روحي بالبقاء فما
* أظنها بعدكم بالعيش تنتفع)
(وله
(خيالك منك أعرف بالغرام
* وأرأف بالمحب المستهام)
(ولو يسطيع حين حظرت نومي
* علي لزار في غير المنام)
وله أيضا
(ومهفهف لما اكتست وجناته
* خلع الملاحة طرزت بعذاره)
(لما انتصرت على أليم جفائه
* بالقلب كان القلب من أنصاره)

201
(كملت محاسن وجهه فكأنما اقتبس
* الهلال النور من أنواره)
(وإذا ألح القلب في هجرانه
* قال الهوى لا بد منه فداره)
وله في التشبيه وقد أبدع فيه
(وكأنما نقشت حوافر خيله
* للناظرين أهلة في الجلمد)
(وكأن طرف الشمس مطروف وقد
* جعل الغبار له مكان الإثمد)
وله في سعيد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان
(لا غيث نعماه في الورى خلب البرق
* ولا ورد جوده وشل)
(جاد إلى أن لم يبق نائله
* مالا ولم يبق للورى أمل)
وقد سبق نظير هذا المعنى في شعر أبي نصر ابن نباتة السعدي وأكثر شعر أبي الفرج المذكور جيد ومقاصده فيه جميلة وكان قد خدم سيف الدولة ابن حمدان مدة وبعد وفاته تنقل في البلاد
وتوفي يوم السبت سلخ شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وقال الخطيب في تاريخه توفي في ليلة السبت لثلاث بقين من شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة والله أعلم رحمه الله تعالى وقال الثعالبي وسمعت الأمير أبا الفضل الميكالي يقول عند صدوره من الحج ودخوله بغداد في سنة تسعين وثلاثمائة رأيت بها أبا الفرج الببغاء شيخا عالي السن متطاول الأمد قد أخذت الأيام من جسمه وقوته ولم تأخذ من ظرفه وأدبه
والببغاء بفتح الباء الأولى وتشديد الباء الثانية وفتح الغين المعجمة وبعدها ألف وهو لقب وإنما لقب به لحسن فصاحته وقيل للثغة كانت في لسانه ووجد بخط أبي الفتح ابن
جني النحوي الففغاء بفاءين والله أعلم بالصواب

202
392 أبو منصور البغدادي
الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن محمد البغدادي الفقيه الشافعي الأصولي الأديب كان ماهرا في فنون عديدة خصوصا علم الحساب فإنه كان متقنا له وله فيه تواليف نافعة منها كتاب التكملة وكان عارفا بالفرائض والنحو وله أشعار وذكره الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في سياق تاريخ نيسابور وقال ورد مع أبيه نيسابور وكان ذا مال وثروة وأنفقه على أهل العلم والحديث ولم يكتسب بعلمه مالا وصنف في العلوم وأربى على أقرانه في الفنون ودرس في سبعة عشر فنا وكان قد تفقه على أبي إسحاق الإسفرايني وجلس بعده للإملاء في مكانه بمسجد عقيل فأملى سنين واختلف إليه الأئمة فقرأوا عليه مثل ناصر المروزي وزين الإسلام القشيري وغيرهما
وتوفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة بمدينة إسفراين ودفن إلى جانب شيخه الأستاذ أبي إسحاق رحمهما الله تعالى

203
393 أبو النجيب السهروردي
أبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله بن محمد بن عمويه واسمه عبد الله بن سعد بن الحسين بن القاسم بن علقمة بن النضر بن معاذ بن عبد الرحمن بن القاسم ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه الملقب ضياء الدين السهروردي وقال محب الدين بن النجار في تاريخ بغداد نقلت نسب الشيخ أبي النجيب من خطه وهو عبد القاهر بن عبد الله بن محمد بن عمويه واسمه عبد الله بن سعد بن الحسين بن القاسم بن النضر بن سعد بن النضر بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وإذا كان بخطه هكذا فهو أصح
كان شيخ وقته بالعراق وولد بسهرورد سنة تسعين وأربعمائة تقريبا وقدم بغداد وتفقه بالمدرسة النظامية على أسعد الميهني المقدم ذكره وغيره ثم سلك طريق الصوفية وحبب إليه الانقطاع والعزلة فانقطع عن الناس مدة مديدة وأقبل على الاشتغال بالعمل لله تعالى وبذل الجهد في ذلك ثم رجع ودعا جماعة إلى الله تعالى وكان يعظ ويذكر فرجع بسببه خلق كثير إلى الله تعالى وبنى رباطا على الشط من الجانب الغربي ببغداد وسكنه جماعة من أصحابه الصالحين ثم ندب إلى التدريس بالمدرسة النظامية فأجاب ودرس بها مدة وظهرت بركته على تلامذته وكانت ولايته في السابع والعشرين من المحرم سنة خمس وأربعين وخمسمائة وصرف عنها في رجب سنة سبع وأربعين وروى عنه الحافظ أبو سعد السمعاني وذكره في كتابه
وقدم الموصل مجتازا إلى الشام لزيارة البيت المقدس في سنة سبع وخمسين وخمسمائة وعقد بها مجلس الوعظ بالجامع العتيق ثم توجه إلى الشام فوصل إلى

204
دمشق ولم تتفق له الزيارة لانفساخ الهدنة بين المسلمين والفرنج خذلهم الله تعالى فأكرم الملك العادل نور الدين محمود صاحب الشام مورده وأقام بدمشق مدة يسيرة وعقد بها مجلس الوعظ وعاد إلى بغداد وتوفي بها يوم الجمعة وقت العصر سابع عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وخمسمائة ودفن بكرة الغد في رباطه وكان مولده تقديرا سنة تسعين وأربعمائة كذا ذكره ابن أخيه شهاب الدين في مشيخته
وهو عم شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي وسيأتي اسمه رحمهما الله تعالى
وعمويه بفتح العين المهملة وتشديد الميم المضمومة وسكون الواو وفتح الياء المثناة من تحتها
وسهرورد بضم السين المهملة وسكون الهاء وفتح الراء والواو وسكون الراء الثانية وفي آخرها دال مهملة وهي بليدة عند زنجان من عراق العجم
394 أبو القاسم القشيري
أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيري الفقيه الشافعي كان علامة في الفقه والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر والكتابة وعلم التصوف جمع بين الشريعة والحقيقة أصله من ناحية أستوا من العرب الذين قدموا خراسان توفي أبوه وهو صغير وقرأ الأدب

205
في صباه وكانت له قرية مثقلة الخراج بنواحي أستوا فرأى من الرأي أن يحضر إلى نيسابور يتعلم طرفا من الحساب ليتولى الاستيفاء ويحمي قريته من الخراج فحضر نيسابور على هذا العزم فاتفق حضوره مجلس الشيخ أبي علي الحسن بن علي النيسابوري المعروف بالدقاق وكان إمام وقته فلما سمع كلامه أعجبه ووقع في قلبه فرجع عن ذلك العزم وسلك طريق الإرادة فقبله الدقاق وأقبل عليه وتفرس فيه النجابة فجذبه بهمته وأشار عليه بالاشتغال بالعلم فخرج إلى درس أبي بكر محمد بن أبي بكر الطوسي وشرع في الفقه حتى فرغ من تعليقه ثم اختلف إلى الأستاذ أبي بكر ابن فورك فقرأ عليه حتى أتقن علم الأصول ثم تردد إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني وقعد يسمع درسه أياما فقال الأستاذ هذا العلم لا يحصل بالسماع ولا بد من الضبط بالكتابة فأعاد عليه جميع ما سمعه منه تلك الأيام فعجب منه وعرف محله فأكرمه وقال له ما تحتاج إلى درس بل يكفيك أن تطالع مصنفاتي فقعد وجمع بين طريقته وطريقة ابن فورك ثم نظر في كتب القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني وهو مع ذلك يحضر مجلس أبي علي الدقاق وزوجه ابنته مع كثرة أقاربها
وبعد وفاة أبي علي سلك مسلك المجاهدة والتجريد وأخذ في التصنيف فصنف التفسير الكبير قبل سنة عشر وأربعمائة وسماه التيسير في علم التفسير وهو من أجود التفاسير وصنف الرسالة في رجال الطريقة وخرج إلى الحج في رفقة فيها الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين وأحمد بن الحسين البيهقي وجماعة من المشاهير فسمع معهم الحديث ببغداد والحجاز
وكان له في الفروسية واستعمال السلاح يد بيضاء وأما مجالس الوعظ والتذكير فهو إمامها وعقد لنفسه مجلس الإملاء في الحديث سنة سبع وثلاثين وأربعمائة وذكره أبو الحسن علي الباخرزي في كتاب دمية القصر وبالغ في الثناء عليه وقال في حقه لو قرع الصخر بصوت تحذيره لذاب ولو ربط إبليس في مجلسه لتاب
وذكره الخطيب في تاريخه وقال قدم علينا يعني إلى بغداد في سنة

206
ثمان وأربعين وأربعمائة وحدث ببغداد وكتبنا عنه وكان ثقة وكان يقص وكان حسن الوعظ مليح الإشارة وكان يعرف الأصول على مذهب الأشعري والفروع على مذهب الشافعي وذكره عبد الغافر الفارسي في تاريخه وقال أبو عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي أنشدنا عبد الكريم بن هوزان القشيري لنفسه
(سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم
* وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك)
(أقمنا زمانا والعيون قريرة
* وأصبحت يوما والجفون سوافك)
وقال أبو الفتح محمد بن محمد بن علي الواعظ الفراوي وكان أبو القاسم القشيري كثيرا ما ينشد لبعضهم وهو ذو القرنين ابن حمدان المقدم ذكره في حرف الذال
(لو كنت ساعة بيننا ما بيننا
* وشهدت كيف تكرر التوديعا)
(أيقنت أن من الدموع محدثا
* وعلمت أن من الحديث دموعا)
ولد في شهر ربيع الأول سنة ست وسبعين وثلاثمائة وتوفي صبيحة يوم الأحد قبل طلوع الشمس سادس عشر ربيع الآخر سنة خمس وستين وأربعمائة بمدينة نيسابور ودفن بالمدرسة تحت شيخه أبي علي الدقاق رحمه الله تعالى ورأيت في كتابه المسمى ب الرسالة بيتين أعجباني فأحببت ذكرهما
(ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة
* فإني من ليلى لها غير ذائق)
(وأكثر شيء نلته من وصالها
* أماني لم تصدق كخطفه بارق)
100 وكان ولده أبو نصر عبد الرحيم إماما كبيرا أشبه أباه في علومه

207
ومجالسه ثم واظب دروس إمام الحرمين أبي المعالي حتى حصل طريقته في المذهب والخلاف ثم خرج للحج فوصل إلى بغداد وعقد بها مجلس وعظ وحصل له قبول عظيم وحضر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مجلسه وأطبق علماء بغداد على أنهم لم يروا مثله وكان يعظ في المدرسة النظامية ورباط شيخ الشيوخ وجرى له مع الحنابلة خصام بسبب الاعتقاد لأنه تعصب للأشاعرة وانتهى الأمر إلى فتنة قتل فيها جماعة من الفريقين وركب أحد أولاد نظام الملك حتى سكنها وبلغ الخبر نظام الملك وهو بأصبهان فسير إليه واستدعاه فلما حضر عنده زاد في إكرامه ثم جهزه إلى نيسابور فلما وصلها لازم الدرس والوعظ إلى أن قارب انتهاء أمره فأصابه ضعف في أعضائه وأقام كذلك مقدار شهر ثم توفي ضحوة نهار الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وخمسمائة بنيسابور ودفن بالمشهد المعروف بهم رحمه الله تعالى
وكان يحفظ من الشعر والحكايات شيئا كثيرا ورأيت له في بعض المجاميع هذه الأبيات وذكرها السمعاني في الذيل أيضا
(القلب نحوك نازع
* والدهر فيك منازع)
(جرت القضية بالنوى
* ما للقضية وازع)
(الله يعلم أنني
* لفراق وجهك جازع)
وتوفي شيخه أبو علي الدقاق المذكور في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة
والقشيري بضم القاف وفتح الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء هذه النسبة إلى قشير بن كعب وهي قبيلة كبيرة
وأستوا بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم التاء المثناة من فوقها أو فتحها وبعدها واو ثم ألف وهي ناحية بنيسابور كثيرة القرى خرج منها جماعة من العلماء

208
395 ابن السمعاني
تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن أبي بكر محمد بن أبي المظفر المنصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر بن أحمد بن عبد الجبار بن الفضل ابن الربيع بن مسلم بن عبد الله بن عبد المجيب التميمي السمعاني المروزي الفقيه الشافعي الحافظ الملقب قوام الدين ذكره الشيخ عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير الجزري في أول مختصره فقال كان أبو سعد واسطة عقد البيت السمعاني وعينهم الباصرة ويدهم الناصرة وإليه انتهت رياستهم وبه كملت سيادتهم رحل في طلب العلم والحديث إلى شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها وسافر إلى ما وراء النهر وسائر بلاد خراسان عدة دفعات وإلى قومس والري وأصبهان وهمذان وبلاد الجبال والعراق والحجاز
والموصل والجزيرة والشام وغيرها من البلاد التي يطول ذكرها ويتعذر حصرها ولقي العلماء وأخذ عنهم وجالسهم وروى عنهم واقتدى بأفعالهم الجميلة وآثارهم الحميدة وكان عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ وذكر في بعض أماليه فقال ودعني عبد الله بن محمد بن غالب أبو محمد الجيلي الفقيه نزيل الأنبار وبكى وأنشدني
(ولما برزنا لتوديعهم
* بكوا لؤلؤا وبكينا عقيقا)
(أداروا علينا كؤوس الفراق
* وهيهات من سكرها أن نفيقا)
(تولوا فأتبعتهم أدمعي
* فصاحوا الغريق فصحت الحريقا)

209
ومما قيل في المعنى
(تنفست الغداة غداة ولوا
* وعيرهم معارضة الطريق)
(فصاحوا بالحريق فظلت أبكي
* فصاحوا بالحريق وبالغريق)
وصنف التصانيف الحسنة الغزيرة الفائدة فمن ذلك تذييل تاريخ بغداد الذي صنعه الحافظ أبو بكر الخطيب وهو نحو خمسة عشر مجلدا ومن ذلك تاريخ مرو يزيد على عشرين مجلدا وكذلك الأنساب نحو ثماني مجلدات وهو الذي اختصره عز الدين المذكور واستدرك عليه وهو في ثلاث مجلدات والمختصر هو الموجود بأيدي الناس والأصل قليل الوجود
ذكر أبو سعد السمعاني المذكور في ترجمة والده أن أباه حج سنة سبع وتسعين وأربعمائة ثم عاد إلى بغداد وسمع بها الحديث من جماعة من المشايخ وكان يعظ الناس في المدرسة النظامية ويقرأ عليه الحديث ويحصل الكتب وأقام كذلك مدة ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها من جماعة كبيرة ثم رجع إلى خراسان وأقام بمرو إلى سنة تسع وخمسمائة وخرج إلى نيسابور
قال أبو سعد وحملني وأخي إليها وسمعنا الحديث من أبي بكر عبد الغفار بن محمد الشيروي وغيره من المشايخ وعاد إلى مرو وأدركته المنية وهو شاب ابن ثلاث وأربعين سنة
وكانت ولادة أبي سعد المذكور بمرو يوم الاثنين الحادي والعشرين من شعبان سنة ست وخمسمائة وتوفي بمرو في ليلة غرة شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة رحمه الله تعالى
101 وكان أبوه محمد إماما فاضلا مناظرا محدثا فقيها شافعيا حافظا وله الإملاء الذي لم يسبق إلى مثله تكلم على المتون والأسانيد وأبان

210
مشكلاتها وله عدة تصانيف وكان له شعر غسله قبل موته وكانت ولادته في جمادى الأولى سنة ست وستين وأربعمائة وتوفي وقت فراغ الناس من صلاة الجمعة ثاني صفر سنة عشر وخمسمائة ودفن يوم السبت عند والده أبي المظفر بسفحوان إحدى مقابر مرو رحمه الله تعالى
102 وكان جده المنصور إمام عصره بلا مدافعة أقر له بذلك الموافق والمخالف وكان حنفي المذهب متعينا عند أئمتهم فحج في سنة اثنتين وستين وأربعمائة وظهر له بالحجاز ما اقتضى انتقاله إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه فلما عاد إلى مرو لقي بسبب انتقاله محنا وتعصبا شديدا فصبر على ذلك وصار إمام الشافعية بعد ذلك يدرس ويفتي وصنف في مذهب الشافعي رضي الله عنه وفي غيره من العلوم تصانيف كثيرة منها منهاج أهل السنة والانتصار والرد على القدرية وغيرها وصنف في الأصول القواطع وفي الخلاف البرهان يشتمل على قريب من ألف مسألة خلافية والأوسط والاصطلام رد فيه على أبي زيد الدبوسي وأجاب عن الأسرار التي جمعها وله تفسير القرآن العزيز وهو كتاب نفيس وجمع في الحديث ألف حديث عن مائة شيخ وتكلم عليها فأحسن وله وعظ مشهور بالجودة وكانت ولادته في سنة ست وعشرين وأربعمائة في ذي الحجة وتوفي في شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة بمرو رحمه الله تعالى
وفي بيتهم جماعة كثيرة علماء رؤساء
والسمعاني بفتح السين المهملة وسكون الميم وفتح العين المهملة وبعد الألف نون هذه النسبة إلى سمعان وهو بطن من تميم وسمعت بعض العلماء يقول يجوز بكسر السين أيضا

211
103 وكان لأبي سعد عبد الكريم ولد يقال له أبو المظفر عبد الرحيم بكر به والده في سماع الحديث وطاف به في بلاد خراسان وما وراء النهر وأسمعه الحديث وحصل له النسخ وجمع له معجما لمشايخه في ثمانية عشر جزءا وعوالي في مجلدين ضخمين وشغله بالفقه والأدب والحديث حتى حصل من كل واحد طرفا صالحا وحدث بالكثير ورحل إليه الطلاب وكان محترما ببلاده ومولده في ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وخمسمائة بنيسابور وتوفي بمرو ما بين سنة أربع عشرة وستمائة رحمه الله تعالى
396 ابن حمديس الشاعر الصقلي
أبو محمد عبد الجبار بن أبي بكر ابن محمد بن حمديس الأزدي الصقلي الشاعر المشهور قال ابن بسام في حقه هو شاعر ماهر يقرطس أغراض المعاني البديعة ويعبر عنها بالألفاظ النفيسة الرفيعة ويتصرف في التشبيه المصيب ويغوص في بحر الكلم على در المعنى الغريب فمن معانيه البديعة قوله في صفة نهر

212
(ومطرد الأجزاء تصقل متنه
* صبا أعلنت للعين ما في ضميره)
(جريح بأطراف الحصى كلما جرى
* عليها شكا أوجاعه بخريره)
(كأن حبابا ريع تحت حبابه
* فأقبل يلقي نفسه في غديره)
(كأن الدجى خط المجرة بيننا
* وقد كللت حافاته ببدوره)
(شربنا على حافاته دور سكره
* وأقتل سكرا منه عينا مديره)
وله من قصيد
(بت منها مستعيدا قبلا
* كن لي منها على الدهر اقتراح)
(وأروي غلل الشوق بما
* لم يكن في قدرة الماء القراح)
قوله وأروي غلل الشوق مأخوذ من قول البحتري
(وبي ظمأ لا يملك الماء دفعه
* إلى نهلة من ريقها البارد العذب)
وقوله جريح بأطراف الحصى مأخوذ من قول المتنبي
(وذكي رائحة الرياض كأنها
* تلقي الثناء على الحيا فيفوح)
(جهد المقل فكيف بابن كريمة
* توليه خيرا واللسان فصيح)
وله من قصيدة أولها
(قم هاتها من كف ذات الوشاح
* فقد نعى الليل بشير الصباح)
(باكر إلى اللذات واركب لها
* سوابق اللهو ذوات المراح)
(من قبل أن ترشف شمس الضحى
* ريق الغوادي من ثغور الأقاح)

213
ومن معانيه النادرة قوله
(زادت على كحل الجفون تكحلا
* ويسم نصل السهم وهو قتول)
(وله من جملة قصيد يتشوق صقلية
(ذكرت صقلية والأسى
* يجدد للنفس تذكارها)
(فإن كنت أخرجت من جنة
* فإني أحدث أخبارها)
(ولولا ملوحة ماء البكاء
* حسبت دموعي أنهارها)
وكان قد دخل إلى الأندلس سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ومدح المعتمد ابن عباد فأحسن إليه وأجزل عطاياه ولما قبض المعتمد وحبس بأغمات كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى سمع ابن حمديس المذكور له أبياتا عملها المعتمد في الاعتقال فأجابه عنها بقوله
(أتيأس من يوم يناقض أمسه
* وشهب الدراري في البروج تدور)
(ولما رحلتم بالندى في أكفكم
* وقلقل رضوى منكم وثبير)
(رفعت لساني بالقيامة قد دنت
* فهذي الجبال الراسيات تسير)
وقد ألم في البيت الأخير بقول عبد الله بن المعتز في مرثيته للوزير أبي القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب
(قد استوى الناس ومات الكمال
* وقال صرف الدهر أين الرجال)
(هذا أبو القاسم في نعشه
* قوموا انظروا كيف تزول الجبال)

214
وله ديوان شعر أكثره جيد
وتوفي في شهر رمضان سنة سبع وعشرين وخمسمائة بجزيرة ميورقة ودفن إلى جنب قبر ابن اللبانة الشاعر المشور وكان قد عمي وقيل ببجاية وأبياته الميمية التي في الشيب والعصا تدل على أنه بلغ الثمانين رحمه الله تعالى
وحمديس بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها سين مهملة
والصقلي بفتح الصاد المهملة والقاف وبعدها لام مشددة هذه النسبة إلى جزيرة صقلية وهي في بحر المغرب بالقرب من إفريقية انتزعها الفرنج من المسلمين في سنة أربع وستين وأربعمائة
397 أبو طالب المعافري
أبو طالب عبد الجبار بن محمد بن علي بن محمد المعافري المغربي كان إماما في اللغة وفنون الأدب جاب البلاد وانتهى إلى بغداد وقرأ بها واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به ودخل الديار المصرية في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وقرأ عليه بها الشيخ العلامة أبو محمد عبد الله بن بري المقدم ذكره وكتب بخطه كثيرا وهو حسن الخط على طريق المغاربة وأكثر ما كتب في الأدب ورأيت منه شيئا كثيرا وقد أتقن ضبطه غاية الإتقان ورأيت

215
بخطه على ظهر كتاب المذيل في اللغة بيتين وهما
(أقسم بالله على كل من
* أبصر خطي حيثما أبصره)
(أن يدعو الرحمن لي مخلصا
* بالعفو والتوبة والمغفرة)
وكتاب المسلسل للشيخ أبي الطاهر محمد بن يوسف بن عبد الله التميمي وهو يروي الكتاب عن مؤلفه وقد ذكرت ذلك في ترجمة أبي الطاهر المذكور في حرف الميم في ترجمة المحمدين
وتوفي في سنة ست وستين وخمسمائة وهو عائد إلى المغرب من الديار المصرية رحمه الله تعالى
والمعافري بفتح الميم والعين المهملة وبعد الألف فاء مكسورة ثم راء هذه النسبة إلى المعافر بن يعفر وهي قبيل كبير عامتهم بمصر
398 عبد الرزاق الصنعاني
أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني مولى حمير قال أبو سعد ابن السمعاني قيل ما رحل الناس إلى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما رحلوا إليه يروي عن معمر بن راشد الأزدي مولاهم البصري والأوزاعي وابن جريج وغيرهم وروى عنه أئمة الإسلام في ذلك العصر منهم

216
سفيان بن عيينة وهو من شيوخه وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم
وكانت ولادته في سنة ست وعشرين ومائة وتوفي في شوال سنة إحدى عشرة ومائتين باليمن رحمه الله تعالى
والصنعاني بفتح الصاد المهلمة وسكون النون وفتح العين المهلمة وبعد الألف نون هذه النسبة إلى مدينة صنعاء وهي من أشهر مدن اليمن وزادوا النون في النسبة إليها وهي نسبة شاذة كما قالوا في بهراء بهراني
وقال أبو محمد عبد الله بن الحارث الصنعاني سمعت عبد الرزاق يقول من يصحب الزمان ير الهوان قال وسمعته ينشد
(فذاك زمان لعبنا به
* وهذا زمان بنا يلعب)
399 ابن الصباغ صاحب الشامل
أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر المعروف بابن الصباغ الفقيه الشافعي كان فقيه العراقين في وقته وكان يضاهي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي وتقدم عليه في معرفة المذهب وكانت الرحلة إليه من البلاد وكان تقيا حجة صالحا ومن مصنفاته كتاب الشامل في الفقه وهو من أجود كتب أصحابنا وأصحها نقلا وأثبتها أدلة وله كتاب تذكرة العالم والطريق السالم والعدة في أصول الفقه وتولى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد أول ما فتحت ثم عزل بالشيخ أبي إسحاق وكانت

217
ولايته لها عشرين يوما ولما توفي أبو إسحاق أعيد لها أبو نصر المذكور
وذكر أبو الحسن محمد بن هلال بن الصابىء في تاريخه أن المدرسة النظامية بدىء بعمارتها في ذي الحجة من سنة سبع وخمسين وأربعمائة وفتحت يوم السبت عاشر ذي القعدة من سنة تسع وخمسين وكان نظام الملك أمر أن يكون المدرس بها أبا إسحاق الشيرازي وقرروا معه الحضور في هذا اليوم للتدريس فاجتمع الناس ولم يحضر وطلب فلم يوجد فنفذ إلى أبي نصر ابن الصباغ فأحضر ورتب بها مدرسا وظهر الشيخ أبو إسحاق في مسجده ولحق أصحابه من ذلك ما بان عليهم وفتروا عن حضور درسه وراسلوه إن لم يدرس بها مضوا إلى ابن الصباغ وتركوه فأجاب إلى ذلك وعزل ابن الصباغ وجلس أبو إسحاق يوم السبت مستهل ذي الحجة فكان مدة تدريس ابن الصباغ عشرين يوما
وقال ابن النجار في تاريخ بغداد ولما مات أبو إسحاق تولى أبو سعد المتولي ثم صرف في سنة ست وسبعين وأعيد ابن الصباغ ثم صرف في سنة سبع وسبعين وأعيد أبو سعد إلى أن مات وقد ذكرت ذلك في ترجمته وقد سبق في ترجمة الشيخ أبي إسحاق في حرف الهمزة طرف من هذه القضية
وكانت ولادته سنة أربعمائة ببغداد وكف بصره في آخر عمره وتوفي في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وأربعمائة ببغداد وقيل بل توفي يوم الخميس منتصف شعبان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى

218
400 القاضي عبد الوهاب المالكي
القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون ابن مالك بن طوق التغلبي البغدادي الفقيه المالكي وهو من ذرية مالك بن طوق التغلبي صاحب الرحبة كان فقيها أديبا شاعرا صنف في مذهبه كتاب التلقين وهو مع صغر حجمه من خيار الكتب وأكثرها فائدة وله كتاب المعونة وشرح الرسالة وغير ذلك عدة تصانيف
ذكره الخطيب في تاريخ بغداد فقال سمع أبا عبد الله ابن العسكري وعمر بن محمد بن سبنك وأبا حفص ابن شاهين وحدث بشيء يسير كتبت عنه وكان ثقة ولم يلق من المالكيين أحدا أفقه منه وكان حسن النظر جيد العبارة وتولى القضاء ببادرايا وباكسايا وخرج في آخر عمره إلى مصر فمات بها
وذكره ابن بسام في كتاب الذخيرة فقال كان بقية الناس ولسان أصحاب القياس وقد وجدت له شعرا معانيه أجلى من الصبح وألفاظه أحلى من الظفر بالنجح ونبت به بغداد كعادة البلاد بذوي فضلها وعلى حكم الأيام في محسني أهلها فخلع أهلها وودع ماءها وظلها وحدثت أنه شيعه يوم فصل عنها من أبكارها وأصحاب محابرها جملة موفورة وطوائف

219
كثيرة وأنه قال لهم لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية ما عدلت ببلدكم بلوغ أمنية وفي ذلك يقول
(سلام على بغداد في كل موطن
* وحق لها مني سلام مضاعف)
(فوالله ما فارقتها عن قلى لها
* وإني بشطي جانبيها لعارف)
(ولكنها ضاقت علي بأسرها
* ولم تكن الأرزاق فيها تساعف)
(وكانت كخل كنت أهوى دنوه
* وأخلاقه تنأى به وتخالف)
واجتاز في طريقه بمعرة النعمان وكان قاصدا مصر وبالمعرة يومئذ أبو العلاء المعري فأضافه وفي ذلك يقول من جملة أبيات
(والمالكي ابن نصر زار في سفر
* بلادنا فحمدنا النأي والسفرا)
(إذا تفقه أحيا مالكا جدلا
* وينشر الملك الضليل إن شعرا)
ثم توجه إلى مصر فحمل لواءها وملأ أرضها وسماءها واستتبع سادتها وكبراءها وتناهت إليه الغرائب وانثالت في يديه الرغائب فمات لأول ما وصلها من أكلة اشتهاها فأكلها وزعموا أنه قال وهو يتقلب ونفسه يتصعد ويتصوب لا إله إلا الله إذا عشنا متنا
وله شعار رائقة طريفة فمن ذلك قوله
(ونائمة قبلتها فتنبهت
* فقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد)
(فقلت لها إني فديتك غاصب
* وما حكموا في غاصب بسوى الرد)
(خذيها وكفي عن أثيم ظلامه
* وإن أنت لم ترضي فألفا على العد)
(فقالت قصاص يشهد العقل أنه
* على كبد الجاني ألذ من الشهد)
(فباتت يميني وهي هميان خصرها
* وباتت يساري وهي واسطة العقد)

220
(فقالت ألم أخبر بأنك زاهد
* فقلت بلى وما زلت أزهد في الزهد)
ومن شعره أيضا
(بغداد دار لأهل المال طيبة
* وللمفاليس دار الضنك والضيق)
(ظللت حيران أمشي في أزقتها
* كأنني مصحف في بيت زنديق)
وله
(أهيم بذكر الشرق والغرب دائما
* وما لي لا شرق البلاد ولا غرب)
(ولكن أوطانا نأت وأحبة
* فعدت متى أذكر عهودهم أصب)
(ولم أنس من ودعت بالشط سحرة
* وقد غرد الحادون واشتغل الركب)
(أليفان هذا سائر نحو غربة
* وهذا مقيم سار من صدره القرب)
وله أيضا
(قطعت الأرض في شهري ربيع
* إلى مصر وعدت إلى العراق)
(فقال لي الحبيب وقد رآني
* مشوقا للمضمرة العتاق)
(ركبت على البراق فقلت كلا
* ولكني ركبت على اشتياقي)
وكان على خاطري أبيات لا أعرف لمن هي ثم وجدتها في عدة مواضع للقاضي عبد الوهاب المذكور وهي
(متى يصل العطاش إلى ارتواء
* إذا استقت البحار من الركايا)
(ومن يثني الأصاغر عن مراد
* وقد جلس الأكابر في الزوايا)
(وإن ترفع الوضعاء يوما
* على الرفعاء من إحدى الرزايا)
(إذا استوت الأسافل والأعالي
* فقد طابت منادمة المنايا)

221
وذكر صاحب الذخيرة أنه ولي القضاء بمدينة اسعرد وقال غيره كان قاضيا في بادرايا وباكسايا وهما بليدتان من أعمال العراق وسئل عن مولده فقال يوم الخميس السابع من شوال سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ببغداد وتوفي ليلة الاثنين الرابعة عشرة من صفر سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة بمصر وقيل إنه توفي في شعبان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى ودفن في القرافة الصغرى وزرت قبره فيما بين قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه وباب القرافة بالقرب من ابن القاسم وأشهب رحمهما الله تعالى
وكان أبوه من أعيان الشهود المعدلين ببغداد
104 وكان أخوه أبو الحسن محمد بن علي بن نصر أديبا فاضلا صنف كتاب المفاوضة للملك العزيز جلال الدولة أبي منصور ابن أبي طاهر بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه جمع فيه ما شاهده وهو من الكتب الممتعة في ثلاثين كراسة وله رسائل ومولده ببغداد في إحدى الجماديين سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وتوفي يوم الأحد لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وأربعمائة بواسط وكان قد صعد إليها من البصرة فمات بها
105 وتوفي أبوهما أبو الحسن علي يوم السبت ثاني شهر رمضان المعظم سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة رحمهم الله تعالى

222
401 الحافظ عبد الغني
أبو محمد عبد الغني بن سعيد بن علي بن سعيد بن بشر بن مروان بن عبد العزيز الأزدي الحافظ المصري كان حافظ مصر في عصره وله تواليف نافعة منها مشتبه النسبة وكتاب المؤتلف والمختلف وغير ذلك وانتفع به خلق كثير وكانت بينه وبين أبي أسامة جنادة اللغوي وأبي علي المقرئ الأنطاكي مودة أكيدة واجتماع في دار الكتب ومذكرات فلما قتلهما الحاكم صاحب مصر استتر بسبب ذلك الحافظ عبد الغني خوفا أن يلحق بهما لاتهامه بمعاشرتهما وأقام مستخفيا مدة حتى حصل له الأمن فظهر وقد تقدم في ترجمة أبي أسامة خبر ذلك
وكانت ولادة الحافظ عبد الغني لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وتوفي ليلة الثلاثاء ودفن يوم الثلاثاء سابع صفر سنة تسع وأربعمائة بمصر ودفن بحضرة مصلى العيد رحمه الله تعالى
وذكر أبو القاسم يحيى بن علي الحضرمي المعروف بابن الطحان في تاريخه الذي جعله ذيلا لتاريخ ابن يونس المصري أن عبد الغني بن سعيد المذكور مولده في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة والله أعلم

223
106 وتوفي والده سعيد المذكور سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وعمره ثلاث وأربعون سنة رحمه الله تعالى وقال ولده الحافظ عبد الغني لم أسمع من والدي شيئا
وقال أبو الحسن علي بن بقا كاتب الحافظ عبد الغني بن سعيد سمعت الحافظ عبد الغني بن سعيد يقول رجلان جليلان لزمهما لقبان قبيحان معاوية ابن عبد الكريم الضال وإنما ضل في طريق مكة وعبد الله بن محمد الضعيف وإنما كان ضعيفا في جسمه لا في حديثه
وقال أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ الصوري قيل للدارقطني هل رأيت في الحديث أحدا يرجى علمه فقال نعم شابا بمصر كأنه شعلة نار يقال له عبد الغني فلما خرج الدارقطني من مصر جاءه المودعون وتحزنوا على مفارقته وبكوا فقال لقد تركت عندكم خلفا يعني عبد الغني
وقال أيضا أعني الصوري لما صنف عبد الغني المؤتلف والمختلف عرضه على الدارقطني فقال له اقرأه فقال كيف أقرأه لك ومعظمه أخذته عنك فقال نعم أخذته عني متفرقا والآن قد جمعته

214
402 الحافظ عبد الغافر الفارسي
أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر ابن أحمد بن محمد بن سعيد الفارسي الحافظ كان إماما في الحديث والعربية وقرأ القرآن الكريم ولقن الاعتقاد بالفارسية وهو ابن خمس سنين وتفقه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني صاحب نهاية المطلب في المذهب والخلاف ولازمه مدة أربع سنين وهو سبط الإمام أبي القاسم عبد الكريم القشيري المقدم ذكره وسمع عليه الحديث الكثير وعلى جدته فاطمة بنت أبي علي الدقاق وخاليه أبي سعد وأبي سعيد ولدي أبي القاسم
القشيري ووالده أبي عبد الله إسماعيل بن عبد الغافر ووالدته أمة الرحيم ابنة أبي القاسم القشيري وجماعة كبيرة سواهم ثم خرج من نيسابور إلى خوارزم ولقي بها الأفاضل وعقد له المجلس ثم خرج إلى غزنة ومنها إلى الهند وروى الأحاديث وقرئ عليه لطائف الإشارات بتلك النواحي ثم رجع إلى نيسابور وولي الخطابة بها وأملى بها في مسجد عقيل أعصار يوم الاثنين سنين ثم صنف كتبا عديدة منها المفهم لشرح غريب صحيح مسلم والسياق لتاريخ نيسابور وفرغ منه في أواخر ذي القعدة سنة ثماني عشرة وخمسمائة وكتاب مجمع الغرائب في غريب الحديث وغير ذلك من الكتب المفيدة
وكانت ولادته في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وتوفي في سنة تسع وعشرين وخمسمائة بنيسابور رحمه الله تعالى

225
403 أبو الوقت
أبو الوقت عبد الأول بن أبي عبد الله عيسى بن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق السجزي كان مكثرا من الحديث عالي الاسناد طالت مدته وألحق الأصاغر بالأكابر
سمعت صحيح البخاري بمدينة إربل في بعض شهور سنة إحدى وعشرين وستمائة على الشيخ الصالح أبي جعفر محمد بن هبة الله بن المكرم بن عبد الله الصوفي البغدادي بحق سماعه في المدرسة النظامية ببغداد من الشيخ أبي الوقت المذكور في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة بحق سماعه من أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد بن مظفر الداودي في ذي القعدة سنة خمس وستين وأربعمائة بحق سماعه من أبي محمد عبد الله بن أحمد بن حموية السرخسي في صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة بحق سماعه من أبي عبد الله محمد بن يوسف ابن مطر الفربري سنة ست عشرة وثلاثمائة بحق سماعه من مؤلفه الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري مرتين إحداهما سنة ثمان وأربعين ومائتين والثانية سنة اثنتين وخمسين ومائتين رحمهم الله أجمعين
وكان الشيخ أبو الوقت صالحا يغلب عليه الخير وانتقل أبوه إلى مدينة هراة وسكنها فولد له بها أبو الوقت في ذي القعدة سنة ثمان وخمسين

226
وأربعمائة وتوفي في ليلة الأحد سادس ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة رحمه الله تعالى وكان قد وصل إلى بغداد يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شوال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة ونزل في رباط فيروز وبه مات وصلي عليه فيه ثم صلوا عليه الصلاة العامة بالجامع وكان الإمام في الصلاة الشيخ عبد القادر الجيلي وكان الجمع متوفرا ودفن بالشونيزية في الدكة المدفون بها رويم الزاهد وكان سماعه الحديث بعد الستين والأربعمائة وهو آخر من روى في الدنيا عن الداودي رحمه الله تعالى
وتوفي والده سنة بضع عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى
وقد تقدم الكلام على السجزي وهي من شواذ النسب
107 وكانت ولادة شيخنا أبي جعفر محمد بن هبة الله بن المكرم الصوفي المذكور في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وقيل سنة ست وقيل سنة سبع وثلاثين وتوفي ليلة الخميس من المحرم سنة إحدى وعشرين وستمائة ببغداد ودفن من الغد بالشونيزيه رحمهم الله أجمعين
404 ابن كليب الحراني
أبو الفرج عبد المنعم بن أبي الفتح عبد الوهاب بن سعد بن صدقة بن الخضر ابن كليب الملقب شمس الدين الحراني الأصل البغدادي المولد والدار الحنبلي المذهب كان تاجرا وله في الحديث السماعات العالية وانتهت الرحلة إليه من أقطار الأرض وألحق الصغار بالكبار لا يشاركه في شيوخه ومسموعاته أحد

227
وكانت ولادته في صفر سنة خمس وخمسمائة وتوفي ليلة الاثنين السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وخمسمائة ببغداد ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه بباب حرب عند أبيه وأهله وكان صحيح الذهن والحواس إلى أن مات وتسرى مائة وثمانيا وأربعين جارية رحمه الله تعالى
405 عبد الحميد الكاتب
عبد الحميد بن يحيى بن سعد مولى بني عامر بن لؤي بن غالب الكاتب البليغ المشهور وبه يضرب المثل في البلاغة حتى قيل فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماما وهو من أهل الشام وكان أولا معلم صبية يتنقل في البلدان وعنه أخذ المترسلون ولطريقته لزموا ولآثاره اقتفوا وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل ومجموع رسائله مقدار ألف ورقة وهو أول من أطال الرسائل واستعمل التحميدات في فصول الكتب فاستعمل الناس ذلك بعده وكان كاتب مروان ابن محمد بن مروان بن الحكم الأموي آخر ملوك بني أمية المعروف بالجعدي فقال له يوما وقد أهدى له بعض العمال عبدا أسود فاستقله اكتب إلى هذا العامل كتابا مختصرا وذمه على ما فعل فكتب إليه لو وجدت لونا شرا من السواد وعددا أقل من الواحد لأهديته والسلام
ومن كلامه أيضا القلم شجرة ثمرتها الألفاظ والفكر بحر لؤلؤه الحكمة

228
وقال إبراهيم بن العباس الصولي وقد ذكر عبد الحميد المذكور عنده كان والله الكلام معانا له ما تمنيت كلام أحد من الكتاب قط أن يكون لي مثل كلامه وفي رسالة له والناس أخياف مختلفون وأطوار متباينون منهم علق مضنة لا يباع وغل مظنة لا يبتاع وكتب على يد شخص كتابا بالوصاة عليه إلى بعض الرؤساء فقال حق موصل كتابي إليك عليك كحقه علي إذ رآك موضعا لأمله ورآني أهلا لحاجته وقد أنجزت حاجته فصدق أمله ومن كلامه خير الكلام ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا وكان كثيرا ما ينشد
(إذا جرح الكتاب كانت دويهم
* قسيا وأقلام الدوي لها نبلا)
وله رسائل بليغة
وكان حاضرا مع مروان في جميع وقائعه عند آخر أمره وقد سبق في أخبار أبي مسلم الخراساني طرف من ذلك ويحكى أن مروان قال له حين أيقن بزوال ملكه قد
احتجت أن تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابتك يحوجهم إلى حسن الظن بك فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا لم تعجز عن حفظ حرمي بعد وفاتي فقال له عبد الحميد إن الذي أشرت به علي أنفع الأمرين لك وأقبحهما بي وما عندي إلا الصبر حتى يفتح الله تعالى أو أقتل معك وأنشد
(أسر وفاء ثم أظهر غدرة
* فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهر)
ذكر ذلك أبو الحسن المسعودي في كتاب مروج الذهب
ثم إن عبد الحميد قتل مع مروان وكان قتل مروان يوم الاثنين ثالث عشر ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة بقرية يقال لها بوصير من أعمال الفيوم بالديار المصرية رحمهما الله تعالى

229
ورأيت بخطي في مسوداتي أنه لما قتل مروان بن محمد الأموي استخفى عبد الحميد بالجزيرة فغمز عليه فأخذ ودفعه أبو العباس وأظنه السفاح إلى عبد الجبار بن عبد الرحمن صاحب شرطته فكان يحمي له طستا بالنار ويضعه على رأسه حتى مات وكان من أهل الأنبار وسكن الرقة وشيخه في الكتابة سالم مولى هشام بن عبد الملك
وروى محمد بن العباس اليزيدي بإسناد ذكره قال أتي أبو جعفر المنصور أخو السفاح وهو ثاني خلفاء بني العباس بعد قتل مروان بن محمد الجعدي بعبد الحميد الكاتب والبعلبكي المؤذن وسلام الحادي فهم المنصور بقتلهم جميعا لكونهم من أصحاب مروان فقال سلام استبقني يا أمير المؤمنين فإني أحسن الناس حداء فقال وما بلغ من حدائك فقال تعمد إلى إبل فتظمئها ثلاثا ثم توردها الماء فإذا وردت رفعت صوتي بالحداء فترفع رؤوسها وتدع الشرب ثم لا تشرب حتى أسكت قال فأمر المنصور بإبل فأظمئت ثلاثة أيام ثم أوردت الماء فلما بدأت بالشرب رفع سلام صوته بالحداء فامتنعت من الشرب ثم لم تشرب حتى سكت فاستبقى سلاما وأجازه وأجرى عليه رزقه وقال له البعلبكي المؤذن استبقني يا أمير المؤمنين قال وما عندك قال أنا مؤذن قال وما بلغ من أذانك قال تأمر جارية تقدم إليك طستا وتأخذ بيدها إبريقا وتصب عليك وأبتدىء الأذان فتدهش ويذهب عقلها إذا سمعت أذاني حتى تلقي الإبريق من يدها وهي لا تعلم فأمر جارية فأعدت إبريقا فيه ماء وقدمت إليه طستا وجعلت تصب عليه ورفع البعلبكي صوته بالأذان فبقيت الجارية شاخصة وألقت الإبريق من يدها فاستبقاه وأجازه وأجرى عليه الرزق وصير أمر الجامع إليه وقال له عبد الحميد الكاتب استبقني يا أمير المؤمنين قال وما عندك قال أنا أبلغ أهل زماني في الكتابة فقال له المنصور أنت الذي فعلت بنا الأفاعيل وعملت بنا الدواهي فأمر به فقطعت يداه ورجلاه ثم ضربت عنقه والله

230
أعلم أي ذلك كان
وكان ولده إسماعيل كاتبا ماهرا نبيلا معدودا في جملة الكتاب المشاهير
وكان يعقوب بن داود وزير المهدي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى كاتبا بين يدي عبد الحميد المذكور وممن تخرج عليه وتعلم منه
وساير عبد الحميد يوما مروان بن محمد على دابة قد طالت مدتها في ملكه فقال له مروان قد طالت صحبة هذه الدابة لك فقال يا أمير المؤمنين إن من بركة الدابة طول صحبتها وقلة علفها فقال له فكيف سيرها فقال همها أمامها وسوطها عنانها وما ضربت قط إلا ظلما
وقال أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري في كتب أخبار الوزراء وجدت بخط أبي علي أحمد بن إسماعيل حدثني العباس بن جعفر الأصبهاني قال طلب عبد الحميد بن يحيى الكاتب وكان صديقا لابن المقفع ففاجأهما الطلب وهما في بيت فقال الذين دخلوا عليهما أيكما عبد الحميد فقال كل واحد منهما أنا خوفا من أن ينال صاحبه مكروه وخاف عبد الحميد أن يسرعوا إلى ابن المقفع فقال ترفقوا بنا فإن كلا منا له علامات فوكلوا بنا بعضكم ويمضي البعض الآخر ويذكر تلك العلامات لمن وجهكم ففعلوا وأخذ عبد الحميد
وبوصير بضم الباء الموحدة وسكون الواو وكسر الصاد المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء ويقال إن مروان لما وصل إليها منهزما والعساكر في طلبه قال ما اسم هذه القرية فقيل له بوصير فقال إلى الله المصير فقتل بها وهي واقعة مشهورة
وقال إبراهيم بن جبلة رآني عبد الحميد الكاتب أخط خطا رديئا فقال لي

231
أتحب أن تجود خطك فقلت نعم فقال أطل جلفة قلمك وأسمنها وحرف قطتك وأيمنها ففعلت فجاد خطي
406 عبد المحسن الصوري
أبو محمد عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب بن غلبون الصوري الشاعر المشهور أحد المحسنين الفضلاء المجيدين الأدباء شعره بديع الألفاظ حسن المعاني رائق الكلام مليح النظام من محاسن أهل الشام له ديوان شعر أحسن فيه كل الإحسان فمن محاسنه قوله
(أترى بثأر أم بدين
* علقت محاسنها بعيني)
(في لحظها وقوامها
* ما في المهند والرديني)
(وبوجهها ماء الشباب
* خليط نار الوجنتين)
(بكرت علي وقالت اختر
* خصلة من خصلتين)
(إما الصدود أو الفراق
* فليس عندي غير ذين)
(فأجبتها ومدامعي
* تنهل مثل المأزمين)
(لا تفعلي إن حان صدك
* أو فراقك حان حيني)
(فكأنما قلت انهضي
* فمضت مسارعة لبيني)

232
(ثم استقلت أين حلت
* عيسها رميت بأين)
(ونوائب أظهرن أيامي
* إلي بصورتين)
(سودنها وأطلنها
* فرأيت يوما ليلتين)
ومنها
(هل بعد ذلك من يعرفني
* النضار من اللجين)
(فلقد جهلتهما لبعد
* العهد بينهما وبيني)
(متكسبا بالشعر يا
* بئس الصناعة في اليدين)
(كانت كذلك قبل أن
* يأتي علي بن الحسين)
(فاليوم حال الشعر ثالثة
* لحال الشعريين)
(أغنى وأعفى مدحه العافين
* عن كذب ومين)
وهذه القصيدة عملها عبد المحسن في علي بن الحسين والد الوزير أبي القاسم ابن المغربي وهي قصيدة طويلة جيدة ولها حكاية ظريفة وهي أنه كان بمدينة عسقلان رئيس يقال له ذو المنقبتين فجاءه بعض الشعراء وامتدحه بهذه القصيدة وجاء في مديحها
(ولك المناقب كلها
* فلم اقتصرت على اثنتين)
فأصغى الرئيس إلى إنشاده واستحسنها وأجزل جائزته فلما خرج من عنده قال له بعض الحاضرين هذه القصيدة لعبد المحسن فقال أعلم هذا وأحفظ القصيدة ثم أنشدها فقال له ذلك الرجل فكيف حتى عملت معه هذا العمل من الإقبال عليه والجائزة السنية فقال لم أفعل ذلك إلا لأجل البيت الذي ضمنها وهو قوله
(ولك المناقب كلها
*)
فإن هذا البيت ليس لعبد المحسن وأنا ذو المنقبتين فأعلم قطعا أن هذا البيت ما عمل إلا في وهو في نهاية الحسن

233
ومن شعره أيضا وذكر الثعالبي في كتابه الذي جعله ذيلا على يتيمة الدهر هذه الأبيات لأبي الفرج ابن أبي حصين علي بن عبد الملك الرقي أصلا وكان أبوه قاضي حلب والله أعلم ولكنها في ديوان عبد المحسن والثعالبي قد نسب أشياء إلى غير أربابها وغلط فيها ولعل هذا من جملة الغلط أيضا وذكر في ديوانه أنه عملها في أخيه عبد الصمد وهي
(وأخ مسه نزولي بقرح
* مثلما مسني من الجوع قرح)
(بت ضيفا له كما حكم الدهر
* وفي حكمه على الحر قبح)
(فابتدأني يقول وهو من السكرة
* بالهم طافح ليس يصحو)
(لم تغربت قلت قال رسول الله
* والقول منه نصح ونجح)
(سافروا تغنموا فقال وقد قال
* تمام الحديث صوموا تصحوا)
وذكر له صاحب اليتيمة هذين البيتين
(عندي حدائق شكر غرس جودكم
* قد مسها عطش فليسق من غرسا)
(تداركوها وفي أغصانها رمق
* فلن يعود اخضرار العود إن يبسا)
واجتاز يوما بقبر صديق له فأنشد
(عجبا لي وقد مررت على قبرك
* كيف اهتديت قصد الطريق)
(أتراني نسيت عهدك يوما
* صدقوا ما لميت من صديق)
ولما ماتت أمه ودفنها وجد عليها وجدا كثيرا فأنشد
(رهينة أحجار ببيداء دكدك
* تولت فحلت عروة المتمسك)
(وقد كنت أبكي إن تشكت وإنما
* أنا اليوم أبكي أنها ليس تشتكي)
وهذا المعنى مأخوذ من قول المتنبي
(وشكيتي فقد السقام لأنه
* قد كان لما كان لي أعضاء)
وقد استعمل أبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن سنان الخفاجي الحلبي

234
هذا المعنى في بيت من جملة قصيدة طويلة فقال
(بكى الناس أطلال الديار وليتني
* وجدت ديارا للدموع السواكب)
ومحاسنه كثيرة والاقتصار أولى
وتوفي يوم الأحد تاسع شوال سنة تسع عشرة وأربعمائة وعمره ثمانون سنة أو أكثر رحمه الله تعالى وغلبون بفتح الغين المعجمة وسكون اللام وضم الباء الموحدة وبعد الواو نون والصوري قد تقدم الكلام عليه
407 الحافظ عبد المجيد العبيدي
أبو الميمون عبد المجيد الملقب الحافظ ابن أبي القاسم محمد بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله وقد تقدم ذكر المهدي وجماعة من حفدته بويع الحافظ بالقاهرة يوم مقتل ابن عمه الآمر بولاية العهد وتدبير المملكة حتى يظهر الحمل المخلف عن الآمر حسبما يأتي شرحه في آخر هذه الترجمة إن شاء الله تعالى فغلب عليه أبو علي أحمد بن الأفضل شاهان شاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي وقد تقدم ذكر أبيه في حرف الشين في صبيحة يوم مبايعته وكان الآمر لما قتل الأفضل اعتقل جميع أولاده وفيهم أبو علي المذكور فأخرجه الجند من الاعتقال لما قتل الآمر

235
وبايعوه فسار إلى القصر وقبض على الحافظ المذكور واستقل بالأمر وقام به أحسن قيام ورد على المصادرين أموالهم وأظهر مذهب الإمامية وتمسك بالأئمة الاثني عشر ورفض الحافظ وأهل بيته ودعا على المنابر للقائم في آخر الزمان المعروف بالإمام المنتظر على زعمهم وكتب اسمه على السكة ونهى أن يؤذن حي على خير العمل وأقام كذلك إلى أن وثب عليه رجل من الخاصة بالبستان الكبير بظاهر القاهرة في النصف من المحرم سنة ست وعشرين وخمسمائة فقتله وكان ذلك بتدبير الحافظ فبادر الأجناد بإخراج الحافظ وبايعوه ولقبوه الحافظ ودعي له على المنابر
وكان مولده بعسقلان في المحرم من سنة سبع وستين وأربعمائة وقيل سنة ست وستين وكان قد بويع بالعهد يوم قتل الآمر وسيأتي تاريخه في ترجمته في حرف الميم إن شاء الله تعالى ثم بويع بالاستقلال يوم قتل أحمد بن الأفضل في التاريخ المذكور وتوفي آخر ليلة الأحد لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة أربع وقيل ثلاث وأربعين وخمسمائة رحمه الله تعالى وقيل إنه ولد في الثالث عشر وقيل الخامس عشر من شهر رمضان سنة ثمان وستن وأربعمائة
وكان سبب ولادته بعسقلان أن أباه خرج إليها من مصر في أيام الشدة والغلاء المفرط الذي حصل بمصر في زمان جده المستنصر حسبما هو مشروح في ترجمته في حرف الميم فأقام بها ينتظر أيام الرخاء وزوال الشدة فولد له الحافظ المذكور هناك هكذا قاله شيخنا عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير والله أعلم
ولم يتول الأمر من ليس أبوه صاحب الأمر من بيتهم سواه وسوى العاضد عبد الله وقد تقدم ذكره في العبادلة وكان سبب توليته أن الآمر لم يخلف ولدا وخلف امرأة حاملا فماج أهل مصر وقالوا هذا البيت لا يموت إمام

236
منهم حتى يخلف ولدا ذكرا وينص عليه بالإمامة وكان الآمر قد نص على الحمل فوضعت له المرأة بنتا فكان ما شرحناه من حديث الحافظ المذكور وأحمد بن الأفضل أمير الجيوش ولهذا السبب بويع الحافظ بولاية العهد ولم يبايع بالإمامة مستقلا لأنهم كانوا ينتظرون ما يكون من الحمل
وهذا الحافظ كان كثير المرض بعلة القولنج فعمل له شيرماه الديلمي وقيل موسى النصراني طبل القولنج الذي كان في خزائنهم لما ملك السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى الديار المصرية وكسره السلطان المذكور وقصته مشهورة وأخبرني حفيد شيرماه المذكور أن جده ركب هذا الطبل من المعادن السبعة والكواكب السبعة في إشرافها كل واحد منها في وقته وكان من خاصته أن الإنسان إذا ضربه خرج الريح من مخرجه ولهذه الخاصية كان ينفع من القولنج
408 عبد المؤمن صاحب المغرب
أبو محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي الذي قام بأمره محمد بن تومرت المعروف بالمهدي كان والده وسطا في قومه وكان صانعا في عمل الطين يعمل منه الآنية فيبيعها وكان عاقلا من الرجال وقورا ويحكى أن عبد المؤمن في صباه كان نائما تجاه أبيه وأبوه مشتغل بعمله في الطين فسمع أبوه دويا

237
من السماء فرفع رأسه فرأى سحابة سوداء من النحل قد هوت مطبقة على الدار فنزلت كلها مجتمعة على عبد المؤمن وهو نائم فغطته ولم يظهر من تحتها ولا استيقظ لها فرأته أمه على تلك الحال فصاحت خوفا على ولدها فسكتها أبوه فقالت أخاف عليه فقال لا بأس عليه بل إني متعجب مما يدل عليه ذلك ثم إنه غسل يديه من الطين ولبس ثيابه ووقف ينتظر ما يكون من امر النحل فطار عنه بأجمعه فاستيقظ الصبي وما به من ألم فتفقدت أمه جسده فلم تر به أثرا ولم يشك إليها ألما وكان بالقرب منهم رجل معروف بالزجر فمضى أبوه إليه فأخبره ما رآه من النحل مع ولده فقال الزاجر يوشك أن يكون له شأن يجتمع على طاعته أهل المغرب فكان من أمره ما اشتهر
ورأيت في بعض تواريخ المغرب أن ابن تومرت كان قد ظفر بكتاب يقال له الجفر وفيه ما يكون على يده وقصة عبد المؤمن وحليته واسمه وأن ابن تومرت أقام مدة يتطلبه حتى وجده وصحبه وهو إذ ذاك غلام وكان يكرمه ويقدمه على أصحابه وأفضى إليه بسره وانتهى به إلى مراكش وصاحبها يومئذ أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين وجرى له معه فصول يطول شرحها وأخرجه منها فتوجه إلى الجبال وحشد واستمال المصامدة وبالجملة فإنه لم يملك شيئا من البلاد بل عبد المؤمن ملك بعد وفاته بالجيوش التي جهزها ابن تومرت والترتيب الذي رتبه وكان أبدا يتفرس فيه النجابة وينشد إذا أبصره
(تكاملت فيك أوصاف خصصت بها
* فكلنا بك مسرور ومغتبط)
(السن ضاحكة والكف مانحة
* والنفس واسعة والوجه منبسط)
وهذان البيتان وجدتهما منسوبين إلى أبي الشيص الخزاعي الشاعر المشهور

238
وكان يقول لأصحابه صاحبكم هذا غلاب الدول ولم يصح عنه أنه استخلفه بل راعى أصحابه في تقديمه إشارته فتم له الأمر وكمل
وأول ما أخذ من البلاد وهران ثم تلمسان ثم فاس ثم سلا ثم سبتة وانتقل بعد ذلك إلى مراكش وحاصرها أحد عشر شهرا ثم ملكها وكان أخذه لها في أوائل سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة واستوسق له الأمر وامتد ملكه إلى المغرب الأقصى والأدنى وبلاد إفريقية وكثير من بلاد الأندلس وتسمى أمير المؤمنين وقصدته الشعراء وامتدحته
بأحسن المدائح وذكر العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن أبي العباس التيفاشي لما أنشده
(ما هز عطفيه بين البيض والأسل
* مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي)
أشار عليه بأن يقتصر على هذا البيت وأمر له بألف دينار
ولما تمهدت له القواعد وانتهت أيامه خرج من مراكش إلى مدينة سلا فأصابه بها مرض شديد وتوفي منه في العشر الأخير من جمادى الآخرة السابع والعشرين منه سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وقيل إنه حمل إلى تين مل المذكورة في ترجمة المهدي محمد بن تومرت ودفن هناك والله أعلم وكانت مدة ولايته ثلاثا وثلاثين سنة وأشهرا وكان عند موته شيخا نقي البياض
ونقلت من تاريخ فيه سيرته وحليته فقال مؤلفه رأيته شيخا معتدل القامة عظيم الهامة أشهل العينين كث اللحية شثن الكفين طويل القعدة واضح بياض الأسنان بخده الأيمن خال رحمه الله تعالى
وقيل إن ولادته كانت سنة خمسمائة وقيل سنة تسعين وأربعمائة والله أعلم
وعهد إلى ولده أبي عبد الله محمد فاضطرب أمره وأجمعوا على خلعه في شعبان من سنة ولايته وبويع أخوه يوسف على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى

239
والكومي بضم الكاف وسكون الواو وبعدها ميم هذه النسبة إلى كومية وهي قبيلة صغيرة نازلة بساحل البحر من أعمال تلمسان ومولده في قرية هناك يقال لها تاجرة
وأما كتاب الجفر فقد ذكره ابن قتيبة في أوائل كتاب اختلاف الحديث فقال بعد كلام طويل وأعجب من هذا التفسير تفسير الروافض للقرآن الكريم وما يدعونه من علم باطنه بما وقع إليهم من الجفر الذي ذكره سعد بن هارون العجلي وكان رأس الزيدية فقال
(ألم تر أن الرافضين تفرقوا
* فكلهم في جفر قال منكرا)
(فطائفة قالوا إمام ومنهم
* طوائف سمته النبي المطهرا)
(ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم
* برئت إلى الرحمن ممن تجفرا)
والأبيات أكثر من هذا فاقتصرت منها على هذا لأنه المقصود بذكر الجفر ثم قال ابن قتيبة بعد الفراغ من الأبيات وهو جلد جفر ادعوا أنه كتب لهم فيه الإمام كل ما يحتاجون إليه وكل ما يكون إلى يوم القيامة قلت وقولهم الإمام يريدون به جعفرا الصادق رضي الله عنه وقد تقدم ذكره وإلى هذا الجفر أشار أبو العلاء المعري بقوله من جملة أبيات
(لقد عجبوا لأهل البيت لما
* أتاهم علمهم في مسك جفر)
(ومرآة المنجم وهي صغرى
* أرته كل عامرة وقفر)
وقوله في مسك جفر المسك بفتح الميم وسكون السين المهملة الجلد والجفر بفتح الجيم وسكون الفاء وبعدها راء من أولاد المعز ما بلغ أربعة

240
أشهر وجفر جنباه وفصل عن أمه والأنثى جفرة وكانت عادتهم ذلك الزمان أنهم يكتبون في الجلود والعظام والخزف وما شاكل ذلك
409 أبو القاسم الأنماطي
أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار الأحول الأنماطي الفقيه الشافعي كان من كبار الفقهاء الشافعية أخذ الفقه عن المزني والربيع بن سليمان المرادي وأخذ عنه أبو العباس ابن سريج وغيره وكان هو السبب في نشاط الناس ببغداد في كتب الشافعي وتحفظها وقال عن المزني أنا أنظر في كتاب الرسالة عن الشافعي رضي الله عنه منذ خمسين سنة ما أعلم أني نظرت فيه مرة إلا وأنا أستفيد منه شيئا كثيرا لم أكن عرفته وتوفي في شوال سنة ثمان وثمانين ومائتين ببغداد رحمه الله تعالى
وقال أبو حفص عمر بن علي المطوعي في كتاب المذهب في ذكر أئمة المذهب اسم أبي القاسم عبيد الله بن أحمد بن بشار الأنماطي رحمه الله تعالى
والأنماطي بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الميم وبعد الألف طاء مهملة هذه النسبة إلى الأنماط وبيعها وهي البسط التي تفرش وغير ذلك من آلة الفرش من الأنطاع والوسائد وأهل مصر يسمون هذه الآلات الأنماط وبائعها الأنماطي والله أعلم

241
410 ضياء الدين شارح المهذب
أبو عمرو عثمان بن عيسى بن درباس بن فير بن جهم بن عبدوس الهذباني الماراني الملقب ضياء الدين كان من أعلم الفقهاء في وقته بمذهب الإمام الشافعي وهو أخو القاضي صدر الدين أبي القاسم عبد الملك الحاكم بالديار المصرية كان وناب عنه في الحكم بالقاهرة واشتغل في صباه بإربل على الشيخ أبي العباس الخضر بن عقيل
المقدم ذكره في حرف الخاء ثم انتقل إلى دمشق وقرأ على الشيخ أبي سعد عبد الله بن أبي عصرون المقدم ذكره وتمهر في المذهب وأصول الفقه وأتقنهما وشرح المهذب شرحا شافيا لم يسبق إلى مثله في قريب من عشرين مجلدا ولم يكمله بل بقي من كتاب الشهادات إلى آخره وسماه الاستقصاء لمذاهب الفقهاء وشرح اللمع في أصول الفقه للشيخ أبي إسحاق الشيرازي شرحا مستوفى في مجلدين وصنف غير ذلك وقبل أن مات القاضي صدر الدين رحمه الله تعالى وكان موته في الليلة الخامسة من رجب ليلة الأربعاء سنة خمس وستمائة عزل ضياء الدين المذكور عن النيابة فوقف عليه الأمير جمال الدين خشترين الهكاري مدرسة أنشأها بالقصر بالقاهرة وفوض تدريسها إليه ولم يزل بها إلى أن توفي في ثاني عشر ذي القعدة سنة اثنتين وستمائة بالقاهرة ودفن بالقرافة الصغرى وقد قارب تسعين سنة رحمه الله تعالى
ثم توفي صدر الدين في التاريخ المذكور ودفن في تربته بالقرافة الصغرى وكان يتردد في مولده هل هو في أواخر سنة ست عشرة أو أوائل سنة سبع عشرة وخمسمائة وفوض إليه السلطان صلاح الدين القضاء بالديار المصرية بعد

242
أن كان قاضي الغربية من أعمال الديار المصرية في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وقيل سنة خمس وستين وخمسمائة رحمه الله تعالى
وفير بكسر الفاء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء
وجهم بفتح الجيم وسكون الهاء وبعدها ميم
وعبدوس بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وضم الدال المهملة وسكون الواو وبعدها سين مهملة
والماراني بفتح الميم وبعد الألف راء مفتوحة وبعد الألف الثانية نون هذه النسبة إلى بني ماران بالمروج تحت الموصل
411 تقي الدين ابن الصلاح
أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الكردي الشهرزوري المعروف بابن الصلاح الشرخاني الملقب تقي الدين الفقيه الشافعي كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة وكانت له مشاركة في فنون عديدة وكانت فتاويه مسددة وهو أحد أشياخي الذي انتفعت بهم قرأ الفقه أولا عل والده الصلاح وكان من جلة مشايخ الأكراد المشار إليهم ثم نقله والده إلى الموصل واشتغل بها مدة وبلغني أنه كرر على جميع كتاب المهذب ولم يطر شاربه ثم إنه تولى الإعادة عند الشيخ العلامة عماد الدين أبي حامد

243
ابن يونس بالموصل أيضا وأقام قليلا ثم سافر إلى خراسان فأقام بها زمانا وحصل علم الحديث هناك ثم رجع إلى الشام وتولى التدريس بالمدرسة الناصرية بالقدس المنسوبة إلى الملك الناصر صلاح الدسن يوسف بن أيوب رحمه الله تعالى وأقام بها مدة واشتغل الناس عليه وانتفعوا به ثم انتقل إلى دمشق وتولى تدريس المردسة الرواحية التي أنشأها الزكي أبو القاسم هبة الله بن عبد الواحد ابن رواحة الحموي وهو الذي أنشأ المدرسة الرواحية بحلب أيضا ولما بنى الملك الأشرف ابن الملك العادل بن أيوب رحمه الله تعالى دار الحديث بدمشق فوض تدريسها إليه واشتغل الناس عليه بالحديث ثم تولى تدريس مدرسة ست الشام زمرد خاتون بنت أيوب وهي شقيقة شمس الدولة توران شاه بن أيوب المقدم ذكره التي هي داخل البلد قبلي البيمارستان النوري وهي التي بنت المدرسة الأخرى ظاهر دمشق وبها قبرها وقبر أخيها المذكور وزوجها ناصر الدين بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص فكان يقوم بوظائف الجهات الثلاث من غير إخلال بشيء منها إلا لعذر ضروري لا بد منه وكان من العلم والدين على قدم حسن وقدمت عليه في أوائل شوال سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وأقمت عنده بدمشق ملازم الاشتغال مدة سنة
وصنف في علوم الحديث كتابا نافعا وكذلك في مناسك الحج فيه أشياء حسن يحتاج الناس إليها وهو مبسوط وله إشكالات على كتاب الوسيط في الفقه وجمع بعض أصحابه فتاويه في مجلد ولم يزل أمره جاريا على ساداد وصلاح حال واجتهاد في الاشتغال والنفع إلى أن توفي يوم الأربعاء وقت الصبح وصلي عليه بعد الظهر وهو الخامس والعشرون ن شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة بدمشق ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر رحمه الله تعالى ومولده سنة سبع وسبعين وخمسمائة بشرخان
108 وتوفي والده الصلاح ليلة الخميس السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ثماني عشرة وستمائة بحلب ودفن خارج باب الأربعين في الموضع المعروف بالجبل بتربة الشيخ علي بن محمد الفارسي وكان مولده في سنة تسع وثلاثين
وخمسمائة تقديرا لأنه كان لا يتحققه وتولى بحلب تدريس المدرسة الأسدية المنسوبة إلى أسد الدين سيركوه بن شاذي المقدم ذكره وكان قد دخل بغداد واشتغل بها واشتغل أيضا على شرف الدين بن أبي عصرون المقدم ذكره
والنصري بفتح النون وسكون الصاد المهملة وبعدها راء هذه النسبة إلى جده أبي نصر المذكور
وشرخان بفتح الشين المثلثة والراء والخاء المعجمة وبعد الألف نون قرية من أعمال إربل قريبة من شهرزور
109 وتوفي الزكي ابن رواحة المذكور يوم الثلاثاء سابع رجب سنة اثنتين وعشرين وستمائة بدمشق ودفن في مقابر الصوفية وذكر الشهاب عبد الرحمن المعروف بأبي شامة في تاريخه لامرتب على لاسنين أنه مات سنة ثلاث وعشرين
110 وتوفيت ست الشام بنت أيوب المذكورة في سنة ست عشرة وستمائة يوم الجمعة سادس عشر ذي القعدة رحمها الله تعالى
وروي عن تقي الدين المعروف بابن الصلاح رحمه الله تعالى أنه قال أخبرني الشيخ الصالح علي بن الرواس قدس الله روحه قال ألهمت في النوم هذه الكلمات ادفع المسألة ما وجدت التجمل يمكنك فإن لكل يوم رزقا جديدا والإلحاح في الطلب يذهب البهاء وما أحسن الصنيع إلى الملهوف وربما كانت الغير نوعا من أدب الله تعالى والحظوظ مراتب فلا تعجل على ثمرة قبل ان تدرك فإنك ستنالها في أوانها ولا تعجل في جوائجك فتضيق بها ذرعا ويغشاك القنوط والله أعلم

244
وخمسمائة تقديرا لأنه كان لا يتحققه وتولى بحلب تدريس المدرسة الأسدية المنسوبة إلى أسد الدين شيركوه بن شاذي المقدم ذكره وكان قد دخل بغداد واشتغل بها واشتغل أيضا على شرف الدين بن أبي عصرون المقدم ذكره
والنصري بفتح النون وسكون الصاد المهملة وبعدها راء هذه النسبة إلى جده أبي نصر المذكور
وشرخان بفتح الشين المثلثة والراء والخاء المعجمة وبعد الألف نون قرية من أعمال إربل قريبة من شهرزور
109 وتوفي الزكي ابن رواحة المذكور يوم الثلاثاء سابع رجب سنة اثنتين وعشرين وستمائة بدمشق ودفن في مقابر الصوفية وذكر الشهاب عبد الرحمن المعروف بأبي شامة في تاريخه المرتب على السنين أنه مات سنة ثلاث وعشرين
110 وتوفيت ست الشام بنت أيوب المذكورة في سنة ست عشرة وستمائة يوم الجمعة سادس عشر ذي القعدة رحمها الله تعالى
وروي عن تقي الدين المعروف بابن الصلاح رحمه الله تعالى أنه قال أخبرني الشيخ الصالح علي بن الرواس قدس الله روحه قال ألهمت في النوم هذه الكلمات ادفع المسألة ما وجدت التجمل يمكنك فإن لكل يوم رزقا جديدا والإلحاح في الطلب يذهب البهاء وما أحسن الصنيع إلى الملهوف وربما كانت الغير نوعا من أدب الله تعالى والحظوظ مراتب فلا تعجل على ثمرة قبل ان تدرك فإنك ستنالها في أوانها ولا تعجل في حوائجك فتضيق بها ذرعا ويغشاك القنوط والله أعلم

245
412 ابن جني
أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي المشهور كان إماما في علم العربية قرأ الأدب على الشيخ أبي علي الفارسي المقدم ذكره في حرف الحاء وفارقه وقعد للإقراء بالموصل فاجتاز بها شيخه أبو علي فرآه في حلقته والناس حوله يشتغلون عليه فقال له زببت وأنت حصرم فترك حلقته وتبعه ولازمه حتى تمهر
وكان أبوه جني ملوكا روميا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي وإلى هذا أشار بقوله في جملة أبيات
(فإن أصبح بلا نسب
* فعلمي في الورى نسبي)
(على أني أؤول إلى
* قروم سادة نجب)
(قياصرة إذا نطقوا
* أرم الدهر ذو الخطب)
(أولاك دعا النبي لهم
* كفى شرفا دعاء نبي)
أرم بمعنى سكت
وله أشعار حسنة ويقال إنه كان أعور وفي ذلك يقول وقيل إن هذه الأبيات لأبي منصور الديلمي
(صدودك عني ولا ذنب لي
* يدل على نية فاسده)
(فقد وحياتك مما بكيت
* خشيت على عيني الواحدة)
(ولولا مخافة أن لا أراك
* لما كان في تركها فائده)

246
ورأيت له قصيدة بائية يرثي بها المتنبي ولولا طولها لأتيت بها
111 وأما أبو منصور الديلمي فالمشهور عنه غير هذه التسمية وأنه أبو الحسن علي بن منصور وكان أبوه من جند سيف الدولة بن حمدان وكان شاعرا مجيدا خليعا وكان بفرد عين وله في ذلك أشياء مليحة فمن ذلك قوله
(يا ذا الذي ليس له شاهد
* في الحب معروف ولا شاهده)
(شواهدي عيناي إني بها
* بكيت حتى ذهبت واحده)
(وأعجب الأشياء أن التي
* قد بقيت في صحبتي زاهده)
وله في غلام جميل الصورة بفرد عين وقد أبدع فيه
(له عين أصابت كل عين
* وعين قد أصابتها العيون)
ولابن جني من التصانيف المفيدة في النحو كتاب الخصائص وسر الصناعة والمنصف في شرح تصريف أبي عثمان المازني والتلقين في النحو والتعاقب والكافي في شرح القوافي للأخفش والمذكر والمؤنث والمقصور والممدود والتمام في شرح شعر الهذليين والمنهج في اشتقاق أسماء شعراء الحماسة ومختصر في العروض ومختصر في القوافي والمسائل الخاطريات والتذكرة الأصبهانية ومختار تذكرة أبي علي الفارسي وتهذيبها والمقتضب في المعتل العين واللمع والتنبيه والمهذب والتبصرة وغير ذلك ويقال إن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أخذ منه أسماء كتبه فإن له المهذب والتنبيه في الفقه واللمع والتبصرة في أصول الفقه وشرح ابن جني ديوان المتنبي وسماه الفسر

247
وكان قد قرأ الديوان على صاحبه ورأيت في شرحه قال سأل شخص أبا الطيب المتنبي عن قوله
(باد هواك صبرت أم لم تصبرا
*)
فقال كيف أثبت الألف في تصبرا مع وجود لم الجازمة وكان من حقه أن يقول لم تصبر فقال المتنبي لو كان أبو الفتح هاهنا لأجابك يعنيني وهذه الألف هي بدل من نون التأكيد الخفيفة كان في الأصل لم تصبرن ونون التأكيد الخفيفة إذا وقف الإنسان عليها أبدل منها ألفا قال الأعشى
(ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
*)
وكان الأصل فاعبدن فلما وقف أتى بالألف بدلا
وكانت ولادة ابن جني قبل الثلاثين والثلثمائة بالموصل وتوفي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة رحمه الله تعالى ببغداد
وجني بكسر الجيم وتشديد النون وبعدها ياء
413 أبو عمرو ابن الحاجب
أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر ابن يونس الدوني ثم المصري الفقيه المالكي المعروف بابن الحاجب الملقب جمال الدين كان والده حاجبا للأمير عز الدين موسك الصلاحي وكان كرديا واشتغل ولده أبو عمرو المذكور بالقاهرة في صغره بالقرآن الكريم ثم بالفقه على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه ثم

248
بالعربية والقراءات وبرع في علومه وأتقنها غاية الإتقان ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها في زاوية المالكية وأكب الخلق على الاشتغال عليه والتزم لهم الدروس وتبحر في الفنون وكان الأغلب عليه علم العربية وصنف مختصرا في مذهبه ومقدمة وجيزة في النحو وأخرى مثلها في التصريف وشرح المقدمتين وله
(أي غد مع يد دد ذي حروف
* طاوعت في الروي وهي عيون)
(ودواة والحوت والنون نونات
* عصتهم وأمرها مستبين)
وهو جواب عن البيتين المشهورين وهما
(ربما عالج القوافي رجال
* في القوافي فتلتوي وتلين)
(طاوعتهم عين وعين وعين
* وعصتهم نون ونون ونون)
فيعني يقوله عين وعين وعين نحو غد ويد ودد فإن وزن كل منها فع إذ أصل غد غدو ويد يدي ودد ددن وبقوله نون ونون ونون الدواة والحوت والنون الذي هو الحرف وله أيضا في أسماء قداح الميسر ثلاثة أبيات وهي
(هي فذ وتوأم ورقيب
* ثم حلس ونافس ثم مسبل)
(والمعلى والوغد ثم سفيح
* ومنيح وذي الثلاثة تهمل)
(ولكل مما عداها نصيب
* مثله أن تعد أول أول)

249
وصنف في أصول الفقه وكل تصانيفه في نهاية الحسن والإفادة وخالف النحاة في مواضع وأورد عليهم إشكالات وإلزامات تبعد الإجابة عنها وكان من أحسن خلق الله ذهنا
ثم عاد إلى القاهرة وأقام بها والناس ملازمون للاشتغال عليه وجاءني مرارا بسبب أداء شهادات وسألته عن مواضع في العربية مشكلة فأجاب أبلغ إجابة بسكون كثير وتثبت تام ومن جملة ما سألته عن مسألة اعتراض الشرط على الشرط في قولهم إن أكلت إن شربت فأنت طالق لم تعين تقديم الشرب على الأكل بسبب وقوع الطلاق حتى لو أكلت ثم شربت لا تطلق وسألته عن بيت أبي الطيب المتنبي وهو قوله
(لقد تصبرت حتى لات مصطبر
* فالآن أقحم حتى لات مقتحم) ما السبب الموجب لخفض مصطبر ومقتحم ولات ليست من أدوات الجر فأطال الكلام فيهما وأحسن الجواب عنهما ولولا التطويل لذكرت ما قاله ثم انتقل إلى الإسكندرية للإقامة بها فلم تطل مدته هناك وتوفي بها ضاحي نهار الخميس السادس والعشرين من شوال سنة ست وأربعين وستمائة ودفن خارج باب البحر بتربة الشيخ الصالح ابن أبي شامة وكان مولده في آخر سنة سبعين وخمسمائة بأسنا رحمه الله تعالى
وأسنا بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح النون وبعدها ألف وهي بليدة صغيرة من الأعمال القوصية بالصعيد الأعلى من مصر

250
414 الملك العزيز ابن صلاح الدين
الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كان نائبا عن أبيه في الديار المصرية لما كان أبوه بالشام وتوفي أبوه بدمشق فاستقل بملكتها باتفاق من الأمراء كما هو مشهور فلا حاجة إلى شرحه وكان ملكا مباركا كثير الخير واسع الكرم محسنا إلى الناس معتقدا في أرباب الخير والصلاح وسمع بالإسكندرية الحديث من الحافظ السلفي والفقيه أبي الطاهر ابن عوف الزهري وسمع بمصر من العلامة أبي محمد ابن بري النحوي وغيرهم ويقال إن والده كان يؤثره على بقية أولاده ولما ولد له الملك المنصور ناصر الدين محمد كان والده بالشام والقاضي الفاضل بالقاهرة فكتب إليه يهنئه المملوك يقبل الأرض بين يدي مولانا الملك الناصر دام رشده وإرشاده وزاد سعده وإسعاده وكثرت أولياؤه وعبيده وأعداده واشتد بأعضاده فيهم اعتضاده وانمى الله عدده حتى يقال هذا آدم الملوك وهذه أولاده وينهى أن الله تعالى وله الحمد رزق الملك العزيز عز نصره ولدا مباركا عليا ذكرا سريا برا زكيا تقيا نقيا من ذرية كريمة بعضها من بعض وبيت شريف كادت ملوكه تكون ملائكة في السماء وممالكيه ملوكا في الأرض
وكانت ولادة الملك العزيز بالقاهرة في ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة وكان قد توجه إلى الفيوم فطرد فرسه وراء صيد فتقطر به فأصابته الحمى من ذلك وحمل إلى القاهرة فتوفي بها في الساعة السابعة من ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وتسعين وخمسمائة رحمه الله تعالى

251
نقلت من خط القاضي الفاضل فصلا يتعلق بالملك العزيز بن صلاح الدين رحمه الله تعالى ما مثاله لما كان يوم السبت تاسع عشر المحرم سنة خمس وتسعين وخمسمائة اشتد المرض بالملك العزيز وخيف عليه وأدركه في ليلته فواق وأخذ نبضه في الضعف وأصبح الطبيب على إياس منه ثم لما كان وقت الظهر وقعت البشرى أنه أفاق وحضر ذهنه وكلم من حوله وحضر إليه الأمراء والخواص ثم قال بعد ذلك إلى أن كان وقت العتمة من ليلة الأحد فبدت قوته تخور والفواق يشتد وبغته الأمر وعظمت الحمى وصغر النبض وكثر عليه الغشي وكانت وفاته في الساعة السابعة من ليلة الأحد ولما كان في آخر الليل خرج فخر الدين جهاركس وأسد الدين سراسنقر وجماعة من المماليلك واستدعوا الأمراء فأحضرت وأعلمت بوفاته وقال المذكورون إنا قد اجتمعت كلمتنا على أن يكون ولد العزيز الأكبر وتقدير عمره عشر سنين واسمه محمد ولقبه ناصر الدين المنتصب في السلطنة والقائم بالأمر وأن يكون أتابكه بهاء الدين قراقوش وقالوا قد كان السلطان استناب هذا الولد واستخلف على تربيته قراقوش ونريد أن يجتمع الأمراء ويخرج الخدام يبلغونهم رسالة عن السلطان وأنه حي ومعنى الرسالة أن هذا ولدي سلطانكم من بعدي فاحلفوا له واحفظوني فيه فقلت لهم فإن طالبكم الأمراء بسماع هذه المشافهة من السلطان ما الذي تقولون لهم فرجعوا إلى أن يخاطبوا الأمراء إذا حضروا بأن السلطان وصى بهذه الوصية وأنه قد قضى ويدخلون عليهم من جانب الموافاة لجد هذا الصبي وأبيه فقلت لهم لا تنتظروا اجتماع الأمراء فإنهم إن حضروا جملة فلا تأمنوا أن يمتنعوا جملة بل كل من حضر من الأمراء تقولون له قد اتفقنا فكن معنا وقد حلفنا فاحلف كما حلفنا وقدموا المصحف وأسرعوا في تلقينه فجرى الأمر على هذا فلما تكامل الحلف أو أكثره أحضروا الولد فبكى الناس لما رأوه وصاحوا وقاموا إليه ووقفوا بين يديه جميع ذلك قبل أن يسفر صباح الأحد ثم صليت فريضة الفجر وشرعوا في تجهيز الملك العزيز إلى قبره وغسل في مكان موته واجتمع الناس فيما بين الظهر والعصر للصلاة عليه وكثر الزحام وقامت الواعية فلم يخلص

252
من دفنه إلى قريب المغرب وخوطب ولده بالملك الناصر بلقب جده في هذا اليوم
ولما مات كتب القاضي الفاضل إلى عمه الملك العادل رسالة يعزيه من جملتها فنقول في توديع النعمة بالملك العزيز لا حول ولا قوة إلا بالله قول الصابرين ونقول في استقبالها بالملك العادل الحمد لله رب العالمين قول الشاكرين وقد كان من أمر هذه الحادثة ما قطع كل قلب وجلب كل كرب ومثل وقوع هذه الواقعة لكل أحد ولا سيما لأمثال المملوك ومواعظ الموت بليغة وأبلغها ما كان في شباب الملوك فرحم الله ذلك الوجه ونضره ثم السبيل إلى الجنة يسره
(وإذا محاسن أوجه بليت
* فعفا الثرى عن وجهه الحسن)
والمملوك في حال تسطير هذه الخدمة جامع بين مرضي قلب وجسد ووجع أطراف وغليل كبد فقد فجع المملوك بهذا المولى والعهد بوالده غير بعيد والأ سى في كل يوم جديد وما كان ليندمل ذلك القرح حتى أعقبه هذا الجرح فالله تعالى لا يعدم المسلمين بسلطانهم الملك العادل السلوة كما لم يعدمهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم الأسوة ودفن
بالقرافة الصغرى في قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه وقبره معروف هناك

253
415 عدي الهكاري
الشيخ عدي بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان كذا أملى نسبه بعض ذوي قرابته الهكاري مسكنا العبد الصالح المشهور الذي تنسب إليه الطائفة العدوية سار ذكره في الآفاق وتبعه خلق كثير وجاوز حسن اعتقادهم فيه الحد حتى جعلوه قبلتهم التي يصلون إليها وذخيرتهم في الآخرة التي يعولون عليها وكان قد صحب جماعة كثيرة من أعيان المشايخ والصلحاء المشاهير مثل عقيل المنبجي وحماد الدباس وأبي النجيب عبد القاهر السهروردي وعبد القادر الجيلي وأبي الوفاء الحلواني ثم انقطع إلى جبل الهكارية من أعمال الموصل وبنى له هناك زاوية ومال إليه أهل تلك النواحي كلها ميلا لم يسمع لأرباب الزوايا مثله
وكان مولده في قرية يقال لها بيت فار من أعمال بعلبك والبيت الذي ولد فيه يزار إلى الآن وتوفي الشيخ سنة سبع وقيل خمس وخمسين وخمسمائة في بلده بالهكارية ودفن بزاويته رحمه الله تعالى وقبره عندهم من المزارات المعدودة والمشاهد المقصودة وحفدته إلى الآن بموضعه يقيمون شعاره ويقتفون آثاره والناس معهم على ما كانوا عليه زمن الشيخ من جميل الاعتقاد وتعظيم الحرمة
وذكره أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل وعده من جملة الواردين على إربل وكان مظفر الدين صاحب إربل رحمه الله تعالى يقول رأيت

254
الشيخ عدي بن مسافر وأنا صغير بالموصل وهو شيخ ربعة أسمر اللون وكان يحكي عنه صلاحا كثيرا وعاش الشيخ عدي تسعين سنة رحمه الله تعالى
416 عروة بن الزبير
أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي بن كلاب القرشي الأسدي وبقية النسب معروف هو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة وقد تقدم ذكر خمسة منهم كل واحد في بابه وأبوه الزبير ابن العوام أحد الصحابة العشرة المشهود لهم بالجنة وهو ابن صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأم عروة المذكور أسماء بنت أبي برك الصديق رضي الله عنه وهي ذات النطاقين وإحدى عجائز الجنة وعروة شقيق أخيه عبد الله ابن الزبير بخلاف أخيهما مصعب فإنه لم يكن من أمهما وقد وردت عنه الرواية في حروف القرآن وسمع خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وروى عنه ابن شهاب الزهري وغيره وكان عالما صالحا وأصابته الأكلة في رجله وهو بالشام عند الوليد بن عبد الملك فقطعت رجله في مجلس الوليد والوليد مشغول عنه بمن يحدثه فلم يتحرك ولم يشعر الوليد انها قطعت حتى كويت فوجد رائحة الكي هكذا قال ابن قتيبة في كتاب المعارف ولم يترك ورده تلك الليلة ويقال إنه مات ولده محمد في تلك السفرة فلما عاد إلى

255
المدينة قال * (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) * وعاش بعد قطع رجله ثماني سين
وذكر أبو العباس المبرد في كتاب التعازي ما مثاله وقال إسحاق بن أيوب وعامر بن حفص وسلمة بن محارب قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك ومعه ولده محمد بن عروة فدخل محمد دار الدواب فضربته دابة فخر ميتا ووقعت في رجل عروة الأكلة ولم يدع ورده تلك الليلة فقال له الوليد اقطعها فقال لا فسرت إلى ساقه فقال له الوليد اقطعها وإلا أفسدت عليك جسدك فقطعها بالمنشار وهو شيخ كبير ولم يمسكه أحد وقال * (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) * وقدم تلك السنة قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير فسأله الوليد عن عينيه فقال يا أمير المؤمنين بت ليلة في بطن واد ولا أعلم عبسيا يزيد ماله على مالي فطرقنا سيل فذهب بما كان لي من أهل وولد ومال غير بعير وصبي مولود وكان البعير صعبا فند فوضعت الصبي واتبعت البعير فلم أجاوز إلا قليلا حتى سمعت صيحة ابني ورأسه في فم الذئب وهو يأكله فلحقت البعير لأحبسه فنفحني برجله على وجهي فحطمه وذهب بعيني فأصبحت لا مال لي ولا أهل ولا ولد ولا بصر فقال الوليد انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاء
وكان أحسن من عزاه إبراهيم بن محمد بن طلحة فقال له والله ما بك حاجة إلى المشي ولا أرب في السعي وقد تقدمك عضو من أعضائك وابن من أبنائك إلى الجنة والكل تبع للبعض إن شاء الله تعالى وقد أبقى الله لنا منك ما كنا إليه فقراء وعنه غير أغنياء من علمك ورأيك نفعك الله وإيانا به والله ولي ثوابك والضمين بحسابك
وحكى سعيد بن أسد قال حدثنا ضمرة عن ابن شوذب قال كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب ثلم حائطه فيدخل الناس فيأكلون ويحتملون وكان إذا دخله ردد هذه الآية فيه * (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله) * حتى يخرج منه وكان يقرأ

256
ربع القرآن كل يوم نظرا في المصحف ويقوم به الليل فما تركه إلا ليلة قطعت رجله ثم عاد من الليلة المقبلة
وقال ابن قتيبة وغيره لما دعي الجزار ليقطعها قال له نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألما فقال لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافية قالوا فنسقيك المرقد قال ما أحب أن أسلب عضوا من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فأحتسبه قال ودخل عليه قوم أنكرهم فقال ما هؤلاء قالوا يمسكونك فإن الألم ربما عزب معه الصبر قال أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي فقطعت كعبه بالسكين حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار فقطعت وهو يهلل ويكبر ثم إنه أغلي له الزيت في مغارف الحديد فحسم به فغشي عليه فأفاق وهو يمسح العرق عن وجهه ولما رأى القدم بأيديهم دعا بها فقبلها في يده ثم قال أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام أو قال معصية ولما دخل ابنه إصطبل الوليد بن عبد الملك وقتلته الدابة كما تقدم لم يسمع في ذلك منه شيء حتى قدم المدينة فقال اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد وأيم الله لئن أخذت لقد أبقيت ولئن ابتليت لطالما عافيت
ولما قتل أخوه عبد الله قدم عروة على عبد الملك بن مروان فقال له يوما أريد أن تعطيني سيف أخي عبد الله فقال له هو بين السيوف ولا أميزه من بينها فقال عروة إذا حضرت السيوف ميزته أنا فأمر عبد الملك بإحضارها فلما حضرت أخذ منها سيفا مفلل الحد فقال هذا سيف أخي فقال عبد الملك كنت تعرفه قبل الآن فقال لا فقال كيف
عرفته قال بقول النابغة الذبياني
(ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
* بهن فلول من قراع الكتائب)
وعروة هذا هو الذي احتفر بئر عروة التي بالمدينة وهي منسوبة إليه وليس بالمدينة بئر أعذب من مائها

257
وكانت ولادته سنة اثنتين وعشرين وقيل ست وعشرين للهجرة وتوفي في قرية له بقرب المدينة يقال لها فرع بضم الفاء وسكون الراء وهي من ناحية الربذة بينها وبين المدينة أربع ليال وهي ذات نخيل ومياه سنة ثلاث وتسعين وقيل أربع وتسعين ودفن هناك قاله ابن سعد وهي سنة الفقهاء رضي الله عنهم وسيأتي ذكر ولده هشام إن شاء الله تعالى
وذكر العتبي أن المسجد الحرام جمع بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير وأخويه مصعب وعروة المذكور أيام تألفهم بعهد معاوية بن أبي سفيان فقال بعضهم هلم فلنتمنه فقال عبد الله بن الزبير منيتي أن أملك الحرمين وأنال الخلافة وقال مصعب منيتي أن أملك العراقين وأجمع بين عقيلتي قريش سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة وقال عبد الملك بن مروان منيتي أن أملك الأرض كلها وأخلف معاوية فقال عروة لست في شيء مما أنتم فيه منيتي الزهد في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة وأن أكون ممن يروى عنه هذا العلم قال فصرف الدهر من صرفه إلى أن بلغ كل واحد منهم إلى أمله وكان عبد الملك لذلك يقول من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة بن الزبير
417 ركن الدين الطاوسي
أبو الفضل العراقي بن محمد العراقي القزويني الملقب ركن الدين المعروف بالطاوسي كان إماما فاضلا مناظرا محجابا قيما بعلم الخلاف ماهرا فيه

258
اشتغل به على الشيخ رضي الدين النيسابوري الحنفي صاحب الطريقة في الخلاف وبرز فيه وصنف ثلاث تعاليق في الخلاف مختصرة وثانية وثالثة مبسوطة واجتمع عليه الطلبة بمدينة همذان وقصوده من البلاد البعيدة والقريبة للاستفادة عليه وعلقوا تعاليقه وبنى له الحاجب جمال الدين بهمذان مدرسة تعرف بالحاجبية وطريقته الوسطى أحسن من طريقتيه الأخريين لأن فقهها كثير وفوائدها جمة وأكثر اشتغال الناس في هذا الزمان بها واشتهر صيته في البلاد وحملت طريقته إليها وتوفي بهمذان في رابع عشر جمادى الآخرة سنة ستمائة رحمه الله تعالى
ولم أعلم نسبة الطاوسي إلى أي شيء ولا ذكرها السمعاني والله أعلم وسمعت جماعة من الفقهاء من أهل بلاده يقولون إن في قزوين خلقا كثيرا ينتسبون هذه النسبة ويزعمون أنهم من نسل طاوس بن كيسان التابعي المذكور قبل هذا فلعله منهم والله أعلم
418 شيذلة
أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك بن منصور الجيلي المعروف بشيذلة الفقيه الشافعي الواعظ كان فقيها فاضلا واعظا ماهرا فصيح اللسان حلو العبارة

259
كثير المحفوظات صنف في الفقه وأصول الدين والوعظ وجمع كثيرا من أشعار العرب وتولى القضاء بمدينة بغداد بباب الأزج وكانت في أخلاقه حدة وسمع الحديث الكثير من جماعة كثيرة وكان يتظاهر بمذهب الأشعري ومن كلامه إنما قيل لموسى عليه السلام * (لن تراني) * لأنه لما قيل له * (انظر إلى الجبل) * نظر إليه فقيل له يا طالب النظر إلينا لم تنظر إلى سوانا
(يا مدعي بمقاله
* صدق المحبة والإخاء)
(لو كنت تصدق في المقال
* لما نظرت إلى سوائي)
(فسلكت سبل محبتي
* واخترت غيري في الصفاء)
(هيهات أن يحوي الفؤاد
* محبتين على استواء)
وقال أنشدني والدي عند خروجه من بغداد للحج
(مددت إلى التوديع كفا ضعيفة
* وأخرى على الرمضاء فوق فؤادي)
(فلا كان هذا العهد آخر عهدنا
* ولا كان ذا التوديع آخر زادي)
وتوفي يوم الجمعة سابع عشر صفر سنة أربع وتسعين وأربعمائة ببغداد ودفن بباب أبرز محاذيا للشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمهما الله تعالى
وعزيزي بفتح العين المهملة وزايين بينهما ياء مثناة من تحتها وهي ساكنة وبعد الزاي الثانية ياء ثانية
وشيذلة بفتح الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الذال المعجمة واللام وبعدها هاء ساكنة وهو لقب عليه ولا أعرف معناه مع كثرة كشفي عنه

260
419 عطاء بن أبي رباح
أبو محمد عطاء بن أبي رباح أسلم وقيل سالم بن صفوان مولى بني فهر أو جمح المكي وقيل إنه مولى أبي ميسرة الفهري من مولدي الجند كان من أجلاء الفقهاء وتابعي مكة وزهادها سمع جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وخلقا كثيرا من الصحابة رضوان الله عليهم وروى عنه عمرو بن دينار والزهري وقتادة ومالك بن دينار والأعمش والأوزاعي وخلق كثير رحمهم الله تعالى وإليه وإلى مجاهد انتهت فتوى مكة في زمانهما قال قتادة أعلم الناس بالمناسك عطاء وقال إبراهيم بن عمر ابن كيسان أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحج صائحا يصيح لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح وإياه عنى الشاعر بقوله
(سل المفتي المكي هل في تزاور
* وضمة مشتاق الفؤاد جناح)
(فقال معاذ الله أن يذهب التقى
* تلاصق أكباد بهن جراح)
فلما بلغه البيتان قال والله ما قلت شيئا من هذا
وحكي عن وكيع قال قال لي أبو حنيفة النعمان بن ثابت أخطأت في خمسة أبواب من المناسك بمكة فعلمنيها حجام وذلك أني أردت أن أحلق

261
رأسي فقال لي أعربي أنت قلت نعم وكنت قد قلت له بكم تحلق رأسي فقال النسك لا يشارط فيه اجلس فجلست منحرفا عن القبلة فأومأ لي باستقبال القبلة وأردت أن أحلق رأسي من الجانب الأيسر فقال أدر شقك الأيمن من رأسك فأدرته وجعل يحلق رأسي وأنا ساكت فقال لي كبر فجعلت أكبر حتى قمت لأذهب فقال أين تريد قلت رحلي فقال صل ركعتين ثم امض فقلت ما ينبغي أن يكون هذا من مثل هذا الحجام إلا ومعه علم فقلت من أين لك ما رأيتك أمرتني به فقال رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا
وحكي عن خليفة بن سلام عن يونس قال سمعت الحسن البصري ذات يوم في مجلسه يقول اعتبروا من المنافق بثلاث إن حدث كذب وإن اؤتمن خان وإن وعد أخلف فبلغ ذلك عطاء فقال قد كانت هذه الخلال الثلاث في ولد يعقوب حدثوه فكذبوه وائتمنهم فخانوه ووعدوه فأخلفوه فأعقبهم الله النبوة فبلغ الحسن فقال * (وفوق كل ذي علم عليم) *
ونقل أصحابنا عن مذهبه أنه كان يرى إباحة وطء الجواري بإذن أربابهم وحكى أبو الفتوح العجلي المقدم ذكره في حرف الهمزة في كتاب شرح مشكلات الوسيط والوجيز في الباب الثالث من كتاب الرهن ما مثاله وحكي عن عطاء أنه كان يبعث بجواريه إلى ضيفانه والذي أعتقد أنا أن هذا بعيد فإنه ولو رأى الحل لكن المروءة والغيرة تأبى ذلك فكيف يظن هذا بمثل ذلك السيد الإمام ولم أذكره إلا لغرابته
وكان أسود أعور أفطس أشل أعرج ثم عمي مفلفل الشعر قال سليمان ابن رفيع دخلت المسجد الحرام والناس مجتمعون على رجل فاطلعت فإذا عطاء ابن أبي رباح جالس كأنه غراب أسود
توفي سنة خمس عشرة ومائة وقيل أربع عشرة ومائة وعمره ثمان وثمانون

262
سنة رضي الله عنه وقال ابن أبي ليلى حج عطاء سبعين حجة وعاش مائة سنة والله أعلم
ورباح بفتح الراء والباء الموحدة
وأسلم بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح اللام
وفهر بكسر الفاء وسكون الهاء وبعدها راء
وجمح بضم الجيم وفتح الميم وبعدها حاء مهملة
والباقي معلوم
والجند بفتح الجيم والنون وبعدها دال مهملة وهي بلدة مشهورة باليمن خرج منها جماعة من العلماء رحمهم الله تعالى
420 المقنع الخراساني
المقنع الخراساني اسمه عطاء ولا أعرف اسم أبيه وقيل اسمه حكيم والأول أشهر وكان في مبدأ أمره قصارا من أهل مرو وكان يعرف شيئا من السحر والنيرجات فادعى الربوبية من طريق المناسخة وقال لأشياعه والذين اتبعوه إن الله سبحانه وتعالى تحول إلى صورة آدم ولذلك قال للملائكة اسجدوا له فسجدوا إلا إبليس فاستحق بذلك السخط ثم تحول من آدم إلى صورة نوح عليه السلام ثم إلى صورة واحد فواحد من الأنبياء عليهم السلام والحكماء حتى حصل في صورة أبي مسلم الخراساني المقدم

263
ذكره ثم زعم أنه انتقل إليه منه فقبل قوم دعواه وعبدوه وقاتلوا دونه مع ما عاينوا من عظيم ادعائه وقبح صورته لأنه كان مشوه الخلق أعور ألكن قصيرا وكان لا يسفر عن وجهه بل اتخذ وجها من ذهب فتقنع به فلذلك قيل له المقنع وإنما غلب على عقولهم بالتمويهات التي أظهرها لهم بالسحر والنيرجات وكان في جملة ما أظهر لهم صورة قمر يطلع ويراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب فعظم اعتقادهم فيه وقد ذكر أبو العلاء المعري هذا القمر في قوله
(أفق إنما البدر المقنع رأسه
* ضلال وغي مثل بدر المقنع)
وهذا البيت من جملة قصيدة طويلة وإليه أشار أبو القاسم هبة الله بن سناء الملك الشاعر الآتي ذكره في جملة قصيدة طويلة بقوله
(إليك فما بدر المقنع طالعا
* بأسحر من ألحاظ بدر المعمم)
ولما اشتهر أمر المقنع وانتشر ذكره ثار عليه الناس وقصدوه في قلعته التي كان اعتصم بها وحصروه فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهن سما فمتن منه ثم تناول شربة من ذلك السم فمات ودخل المسلمون قلعته فقتلوا من فيها من أشياعه وأتباعه وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة لعنه الله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان
قلت ولم أر أحدا ذكر هذه القلعة وأين هي حتى أذكرها ثم رأيت في كتاب الشهاب ياقوت الحموي الآتي ذكره إن شاء الله تعالى الذي وضعه في معرفة المواضع المشتركة فقال في باب سنام بفتح السين إنها أربعة مواضع والموضع الرابع منها سنام قلعة عمرها المقنع الخارجي بما وراء النهر

264
والله أعلم والظاهر أنها هذه القلعة ثم وجدت في أخبار خراسان أنها هي وأنها من رستاق كش والله أعلم
421 عكرمة
أبو عبد الله عكرمة بن عبد الله مولى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أصله من البربر من أهل المغرب كان لحصين بن الحر العنبري فوهبه لابن عباس رضي الله عنهما حين ولي البصرة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه واجتهد ابن عباس في تعليمه القرآن والسنن وسماه بأسماء العرب
حدث عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري والحسن بن علي وعائشة رضي الله عنهم وهو أحد فقهاء مكة وتابعيها وكان ينتقل من بلد إلى بلد روي أن ابن عباس قال له انطلق فأفت الناس وقيل لسعيد بن جبير هل تعلم أحدا أعلم منك قال عكرمة وقد تكلم الناس فيه لأنه كان يرى رأي الخوارج
وروى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وروى عنه الزهري وعمرو ابن دينار والشعبي وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم ومات مولاه ابن عباس وعكرمة على الرق ولم يعتقه فباعه ولده علي بن عبد الله بن عباس من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار فأتى عكرمة وملاه عليا فقال له ما خير لك بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار فاستقاله فأقاله وأعتقه وقال عبد الله بن الحارث دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة موثق على باب

265
كنيف فقلت أتفعلون هذا بمولاكم فقال إن هذا يكذب على أبي
وتوفي عكرمة في سنة سبع ومائة وقيل سنة ست وقيل أربع وقيل سنة خمس وقيل سنة خمس عشرة والله أعلم وعمره ثمانون وقيل أربع وثمانون سنة وروى محمد بن سعد عن الواقدي عن خالد بن القاسم البياضي قال مات عكرمة وكثير عزة الشاعر في يوم واحد سنة خمس ومائة فرأيتهما جميعا صلي عليهما في موضع الجنائز بعد الظهر فقال الناس مات أفقه الناس وأشعر الناس رحمهما الله تعالى وكان موتهما بالمدينة وقيل إن عكرمة مات بالقيروان والأول أصح
وكان عكرمة كثير التطواف والجولان في البلاد دخل خراسان وأصبهان ومصر وغيرها من البلاد
وعكرمة بكسر العين المهملة وسكون الكاف وكسر الراء وفتح الميم وبعدها هاء ساكنة وهو في الأصل اسم الحمامة الأنثى فسمي به الإنسان
وعمارة بن حمزة مولى المنصور الموصوف بالتيه من أولاده وقال الخطيب البغدادي هو ابن ابنة عكرمة المذكور والله أعلم
422 زين العابدين
أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين المعروف بزين العابدين ويقال له علي الأصغر وليس للحسين رضي الله عنه

266
عقب إلا من ولد زين العابدين هذا وهو أحد الأئمة الاثني عشر ومن سادات التابعين قال الزهري ما رأيت قرشيا أفضل منه وأمه سلافة بنت يزدجرد آخر ملوك فارس وهي عمة أم يزيد بن الوليد الأموي المعروف بالناقص وكان قتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان لما تتبع دولة الفرس وقتل فيروز بن يزدجرد المذكور بعث بابنتيه إلى الحجاج بن يوسف الثقفي المقدم ذكره وكان يومئذ أمير العراق وخراسان وقتيبة نائبه بخراسان فأمسك الحجاج إحدى البنتين لنفسه وأرسل الأخرى إلى الوليد بن عبد الملك فأولدها يزيد الناقص واسمها شاه فريذ وسمي بالناقص لأنه نقص أعطية الجند وكان يقال لزين العابدين ابن الخيرتين لقوله صلى الله عليه وسلم (لله تعالى من عباده خيرتان فخيرته من العرب قريش ومن العجم فارس)
وذكر أبو القاسم الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار أن الصحابة رضي الله عنهم لما أتوا المدينة بسبي فارس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد فباعوا السبايا وأمر عمر ببيع بنات يزدجرد أيضا فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهم من بنات السوقة فقال كيف الطريق إلى العمل معهن قال يقومن ومهما بلغ ثمنهن قام به من يختارهن فقومن وأخذهن علي رضي الله عنه فدفع واحدة لعبد الله بن عمر وأخرى لولده الحسين وأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق وكان ربيبه رضي الله عنهم أجمعين فأولد عبد الله أمته ولدا سالما وأولد الحسين زين العابدين وأولد محمد ولده القاسم فهؤلاء الثلاثة بنو خالة وأمهاتهم بنات يزدجرد
وحكى المبرد في كتاب الكامل ما مثاله يروى عن رجل من قريش لم يسم لنا قال كنت أجالس سعيد بن المسيب فقال لي يوما من أخوالك

267
فقلت له أمي فتاة فكأني نقصت من عينه فأمهلت حتى دخل سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فلما خرج من عنده قلت يا عم من هذا فقال سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك هذا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب قلت فمن أمه قال فتاة قال ثم أتاه القاسم ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فجلس عنده ثم نهض قلت يا عم من هذا فقال أتجهل من أهلك مثله ما أعجب هذا هذا القاسم ابن محمد بن أبي بكر الصديق قلت فمن أمه قال فتاة قال فأمهلت شيئا حتى جاءه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فسلم عليه ثم نهض فقلت يا عم من هذا قال هذا الذي لا يسع مسلما أن يجهله هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقلت من أمه قال فتاة فقلت يا عم رأيتني نقصت في عينك لما علمت أن أمي فتاة أفما لي في هؤلاء أسوة قال فجللت في عينه جدا
وكان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم علي بن الحسن والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة فقها وورعا فرغب الناس في السراري
وكان زين العابدين كثير البر بأمه حتى قيل له إنك أبر الناس بأمك ولسنا نراك تأكل معها في صحفة فقال أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قدعققتها وهذا ضد قصة أ بي المخش مع ابنه فإنه قال كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفا كأنها طلعة في ذراع كأنه جمارة فما تقع عينها على لقمة نفيسة إلا خصتني بها فزوجتها فصار يجلس معي على المائدة ابن لي فيبرز كفا كأنها كرنافة في ذراع كأنه كربة

268
فوالله ما تسبق عيني إلى لقمة طيبة إلا سبقت يده إليها
وحكى ابن قتيبة في كتاب المعارف أن أم زين العابدين سندية يقال لها سلافة ويقال غزالة والله أعلم بالصواب وأنه زوجها بعد أبيه بزبيد مولى أبيه وأعتق جارية له وتزوجها فكتب إليه عبد الملك بن مروان يعيره ذلك فكتب إليه زين العابدين لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقد أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب وتزوجها وأعتق زيد بن حارثة وزوجه بنت عمته زينب بنت جحش
وفضائل زين العابدين ومناقبه أكثر من أن تحصر وكانت ولادته يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثمان وثلاثين للهجرة وتوفي سنة أربع وتسعين وقيل تسع وتسعين وقيل اثنتين وتسعين للهجرة بالمدينة ودفن في البقيع في قبر عمه الحسن ابن علي رضي الله تعالى عنه في القبة التي فيها قبر العباس رضي الله عنه
423 علي الرضا
أبو الحسن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين المذكور قبله وهو أحد الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية وكان المأمون قد زوجه ابنته أم حبيب في سنة اثنتين ومائتين وجعله ولي عهده وضرب اسمه على الدينار والدرهم وكان السبب في ذلك أنه استحضر أولاد العباس الرجال منهم والنساء وهو بمدينة مرو من بلاد خراسان وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفا ما بين الكبار والصغار واستدعى عليا المذكور فأنزله

269
أحسن منزلة وجمع خواص الأولياء وأخبرهم أنه نظر في أولاد العباس وأولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فلم يجد في وقته أحدا أفضل ولا أحق بالأمر من علي الرضا فبايعه وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام ونمي الخبر إلى من بالعراق من أولاد العباس فعلموا أن في ذلك خروج الأمر عنهم فخلعوا المأمون وبايعوا إبراهيم بن المهدي المقدم ذكره وهو عم المأمون وذلك يوم الخميس لخمس خلون من المحرم سنة اثنتين وقيل سنة ثلاث ومائتين والشرح في ذلك يطول والقصة مشهورة وقد اختصرته في ترجمة إبراهيم بن المهدي
وكانت ولادة علي الرضا يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثلاث وخمسين ومائة بالمدينة وقيل بل ولد سابع شوال وقيل ثامنه وقيل سادسه سنة إحدى وخمسين ومائة وتوفي في آخر يوم من صفر سنة اثنتين ومائتين وقيل بل توفي خامس ذي الحجة وقيل ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين بمدينة طوس وصلى عليه المأمون ودفنه ملاصق قبر أبيه الرشيد وكان سبب موته أنه أكل عنبا فأكثر منه وقيل بل كان مسموما فاعتل منه ومات رحمه الله تعالى
وفيه يقول أبو نواس
(قيل لي أنت أحسن الناس طرا
* في فنون من الكلام النبيه)
(لك من جيد القريض مديح
* يثمر الدر في يدي مجتنيه)
(فعلام تركت مدح ابن موسى
* والخصال التي تجمعن فيه)
(قلت لا أستطيع مدح إمام
* كان جبريل خادما لأبيه)
وكان سبب قوله هذه الأبيات أن بعض أصحابه قال له ما رأيت أوقح منك ما تركت خمرا ولا طردا ولا معنى إلا قلت فيه شيئا وهذا علي بن موسى الرضا في عصرك لم تقل فيه شيئا فقال والله ما تركت ذلك إلا

270
إعظاما له وليس قدر مثلي أن يقول في مثله ثم أنشد بعد ساعة هذه الأبيات
وفيه يقول أيضا وله ذكر في شذورالعقود في سنة إحدى أو اثنتين ومائتين
(مطهرون نقيات جيوبهم
* تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا)
(من لم يكن علويا حين تنسبه
* فما له في قديم الدهر مفتخر)
(الله لما برا خلقا فأتقنه
* صفاكم واصطفاكم أيها البشر)
(فأنتم الملأ الأعلى وعندكم
* علم الكتاب وما جاءت به السور)
وقال المأمون يوما لعلي بن موسى الرضا المذكور ما يقول بنو أبيك في جدنا العباس بن عبد المطلب فقال ما يقولون في رجل فرض الله طاعة بنيه على خلقه وفرض طاعته على بنيه فأمر له بألف ألف درهم
وكان قد خرج أخوه زيد بن موسى بالبصرة على المأمون وفتك بأهلها فأرسل إليه المأمون أخاه عليا المذكور يرده عن ذلك فجاءه وقال له ويلك يا زيد فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت وتزعم أنك ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لأشد الناس عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم يا زيد ينبغي لمن أخذ برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي به فبلغ كلامه المأمون فبكى وقال هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
قلت وآخر هذا الكلام مأخوذ من كلام علي زين العابدين المقدم ذكره فقد قيل إنه كان إذا سافر كتم نفسه فقيل له في ذلك فقال أنا اكره أن آخذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أعطى به

271
424 أبو الحسن العسكري
أبو الحسن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا المقدم ذكره وهو حفيد الذي قبله فلا حاجة إلى رفع نسبه ويعرف بالعسكري وهو أحد الأئمة الاثني عشر عند الإمامية كان قد سعي به إلى المتوكل وقيل إن في منزله سلاحا وكتبا وغيرها من شيعته وأوهموه أنه يطلب الأمر لنفسه فوجه إليه بعدة من الأتراك ليلا فهجموا عليه في منزله على غفلة فوجدوه وحده في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر وعلى رأسه ملحفة من صوف وهو مستقبل القبلة يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ليس بينه وبين الأرض بساط إلا الرمل والحصى فأخذ على الصورة التي وجد عليها وحمل إلى المتوكل في جوف الليل فمثل بين يديه والمتوكل يستعمل الشراب وفي يده كأس فلما رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه ولم يكن في منزله شيء مما قيل عنه ولا حالة يتعلق عليه بها فناوله المتوكل الكأس الذي كان بيده فقال يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني منه فأعفاه وقال أنشدني شعرا أستحسنه فقال إني لقليل الرواية للشعر قال لا بد أن تنشدني فأنشده
(باتوا على قلل الأجبال تحرسهم
* غلب الرجال فما أغنتهم القلل)
(واستنزلوا بعد عز من معاقلهم
* فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا)
(ناداهم صارخ من بعد ما قبروا
* أين الأسرة والتيجان والحلل)

272
(أين الوجوه التي كانت منعمة
* من دونها تضرب الأستار والكلل)
(فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم
* تلك الوجوه عليها الدود يقتتل)
(قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا
* فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا)
قال فأشفق من حضر على علي وظن أن بادرة تبدر إليه فبكى المتوكل بكاء كثيرا حتى بلت دموعه لحيته وبكى من حضره ثم أمر برفع الشراب ثم قال يا أبا الحسن أعليك دين قال نعم أربعة آلاف دينار فأمر بدفعها إليه ورده إلى منزله مكرما
وكانت ولادته يوم الأحد ثالث عشر رجب وقيل يوم عرفة سنة أربع عشرة وقيل ثلاث عشرة ومائتين ولما كثرت السعاية في حقه عند المتوكل أحضره من المدينة وكان مولده بها وأقره بسر من رأى وهي تدعى بالعسكر لأن المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره فقيل لها العسكر ولهذا قيل لأبي الحسن المذكور العسكري لأنه منسوب إليها فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر وتوفي بها يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة وقيل لأربع بقين منها وقيل في رابعها وقيل في ثالث رجب سنة أربع وخمسين
ومائتين ودفن في داره رحمه الله تعالى

273
425 علي بن عبد الله بن العباس
أبو محمد علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي وهو جد السفاح والمنصور الخليفتين كا سيدا شريفا بليغا وهو أصغر ولد أبيه وكان أجمل قرشي على وجه الأرض وأوسمه وأكثره صلاة وكان يدعى السجاد لذلك وكان له خمسمائة أصل زيتون يصلي في كل يوم إلى كل أصل ركعتين وكان يدعى ذا الثفنات هكذا قاله المبرد في الكامل وقال أبو الفرج ابن الجوزي الحافظ ذو الثفنات هو علي بن الحسين يعني زين العابدين وإنما قيل له ذلك لأنه كان يصلي في كل يوم ألف ركعة فصار في ركبتيه مثل ثفن البعير ذكر ذلك في كتاب الألقاب
وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد عبد الله بن العباس رضي الله عنه في وقت صلاة الظهر فقال لأصحابه ما بال أبي العباس لم يحضر الظهر فقالوا ولد له مولود فلما صلى علي رضي الله عنه قال امضوا بنا إليه فأتاه فهناه فقال شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ما سميته فقال أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه فأمر به فأخرج إليه فأخذه فحنكه ودعا له ثم رده إليه وقال خذ إليك أبا الأملاك قد سميته عليا وكنيته أبا الحسن فلما قام معاوية خليفة قال لابن عباس ليس لكم اسمه وكنيته وقد كنيته أبا محمد فجرت عليه هكذا قاله المبرد في الكامل

274
وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب حلية الأولياء إنه لما قدم على عبد الملك بن مروان قال له غير اسمك وكنيتك فلا صبر لي على اسمك وكنيتك قال أما الاسم فلا وأما الكنية فأكتني بأبي محمد فغير كنيته انتهى كلام أبي نعيم
قلت أنا وإنما قال له عبد الملك هذه المقالة لبغضه في علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكره أن يسمع اسمه وكنيته
وذكر الطبري في تاريخه أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأكرمه وأجلسه على سريره وسأله عن كنيته فأخبره فقال لا يجتمع في عسكري هذا الاسم وهذه الكنية لأحد وسأله هل له من ولد وكان قد ولد له يومئذ محمد بن علي فأخبره بذلك فكناه أبا محمد
وقال الواقدي ولد أبو محمد المذكور في الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه والله أعلم بالصواب
وقال المبرد أيضا وضرب علي بالسياط مرتين كلتاهما ضربه الوليد بن عبد الملك إحدهما في تزوجه لبابة ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وكانت عند عبد الملك فعض تفاحة ثم رمى بها إليها وكان أبخر فدعت بسكين فقال ما تصنعين بها فقالت أميط عنها الأذى فطلقها فتزوجها علي بن عبد الله المذكور فضربه الوليد وقال إنما تتزوج بأمهات الخلفاء لتضع منهم لأن مروان بن الحكم إنما تزوج بأم خالد بن يزيد بن معاوية ليضع منه فقال علي بن عبد الله إنما أرادت الخروج من هذا البلد وانا ابن عمها فتزوجتها لأكون لها محرما

275
وأما ضربه إياه في المرة الثانية فقد حدث أبو عبد الله محمد بن شجاع في إسناد متصل يقول في آخره رأيت علي بن عبد الله يوما مضروبا بالسوط يدار به على بعير ووجهه مما يلي ذنب البعير وصائح يصيح عليه هذا علي ابن عبد الله الكذاب فأتيته وقلت ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكذب قال بلغهم عني أني أقول إن هذا الأمر سيكون في ولدي ووالله ليكونن فيهم حتى تملكهم عبيدهم الصغار العيون العراض الوجوه الذين كأن وجوههم المجان المطرقة
قلت ذكرابن الكلبي في كتاب النسب أن الذي تولى ضرب علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم هو كلثوم بن عياض بن وحوح بن قشير بن الأعور بن قشير كان والي الشرطة للوليد بن مروان ثم إنه تولى إفريقية لهشام بن عبد الملك وقتل بها وقال غير ابن الكلبي كان قتله في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ومائة
وروى أن علي بن عبد الله دخل على سليمان بن عبد الملك وهو غلط بل الصحيح أنه هشام بن عبد الملك معه ابنا ابنه الخليفتان وهما السفاح والمنصور ابنا محمد بن علي المذكور فأوسع له على سريره وبره وسأله عن حاجته فقال ثلاثون ألف درهم علي دين فأمر بقضائها ثم قال له وتستوصي بابني هذين خيرا ففعل فشكره وقال وصلتك رحم فلما ولى علي قال هشام لأصحابه إن هذا الشيخ قد اختل وأسن وخلط فصار يقول إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده فسمعه علي فقال والله ليكونن ذلك وليملكن هذان
وكان علي المذكور عظيم المحل عند أهل الحجاز حتى قال هشام بن سليمان

276
المخزومي إن علي بن عبد الله كان إذا قدم مكة حاجا أو معتمرا عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام وهجرت مواضع حلقها ولزمت مجلسه إعظاما وإجلالا وتبجيلا له فإن قعد قعدوا وإن نهض نهضوا وإن مشى مشوا جميعا حوله ولا يزالون كذلك حتى يخرج من الحرم
وكان آدم جسيما له لحية طويلة وكان عظيم القدم جدا لا يوجد له نعل ولا خف يستعمله وكان مفرطا في الطول إذا طاف كأنما الناس حوله مشاة وهو راكب من طوله وكان مع هذا الطول يكون إلى منكب أبيه عبد الله وكان عبد الله إلى منكب أبيه العباس وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب ونظرت عجوز إلى علي وهو يطوف وقد فرع الناس فرع بالعين المهملة أي علا عليهم فقالت من هذا الذي فرع الناس فقيل علي ابن عبد الله بن العباس فقالت لا إله إلا الله إن الناس ليرذلون عهدي بالعباس يطوف بهذا البيت كأنه فسطاط أبيض ذكر هذا كله المبرد في الكامل وذكر أيضا أن العباس كان عظيم الصوت وجاءتهم مرة غارة وقت الصباح فصاح بأعلى صوته واصباحاه فلم تسمعه حامل في الحي إلا وضعت
وذكر أبو بكر الحازمي في كتاب ما اتفق لفظه وافترق مسماه في أول حرف الغين في باب عانة وغابة قال كان العباس بن عبد المطلب يقف على سلع وهو جبل عند المدينة فينادي غلمانه وهم بالغابة فيسمعهم وذلك من آخر الليل وبين الغابة وسلع ثمانية أميال
وكانت وفاة علي بن عبد الله سنة سبع عشرة ومائة بالشراة بالحميمة وهو ابن ثمانين سنة وقال الواقدي ولد في الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان
قتل علي رضي الله عنه في ليلة الجمعة سابع عشر شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة وقيل غير ذلك وتوفي علي بن عبد الله سنة ثماني عشرة ومائة وقال غير الواقدي إن وفاته كانت في ذي القعدة وقال خليفة

277
ابن خياط مات في سنة أربع عشرة وقال في موضع آخر سنة ثماني عشرة وقال غيره سنة تسع عشرة والله أعلم
وكان يخضب بالسواد وابنه محمد والد السفاح والمنصور يخضب بالحمرة فيظن من لا يعرفهما أن محمدا علي وأن عليا محمد رضي الله عنهما
والشراة بفتح الشين المعجمة والراء وبعد الألف هاء مثناة صقع بالشام في طريق المدينة من دمشق بالقرب من الشوبك وهو من إقليم البلقاء وفي بعض نواحيه القرية المعروفة بالحميمة بضم الحاء المهملة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الميم الثانية وبعدها هاء ساكنة وهذه القرية كانت لعلي المذكور وأولاده في أيام بني أمية وفيها ولد السفاح والمنصور وبها تربيا ومنها انتقلا إلى الكوفة وبويع السفاح بالخلافة فيها كما هو مشهور وسيأتي ذكر ولده محمد إن شاء الله تعالى
وذكر الطبري في تاريخه أن الوليد بن عبد الملك بن مروان أخرج علي ابن عبد الله بن العباس من دمشق وأنزله الحميمة في سنة خمس وتسعين للهجرة ولم يزل ولده بها إلى أن زالت دولة بني أمية وولد له بها نيف وعشرون ولدا ذكرا
426 القاضي أبو الحسن الجرجاني
القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني الفقيه الشافعي كان فقيها أديبا شاعرا ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب طبقات الفقهاء وقال له ديوان شعر وهو القائل
(يقولون لي فيك انقباض وإنما
* رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما)

278
وهي أبيات طويلة ومشهورة فلا حاجة إلى ذكرها وذكر الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر فقال هو فرد الزمان ونادرة الفلك وإنسان حدقة العلم وقبة تاج الأدب وفارس عسكر الشعر يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري وقد كان في صباه خلف الخضر في قطع الأرض وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرها واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلوم علما وفي الكمال عالما وأورد له مقاطيع كثيرة من الشعر فمن ذلك قوله
(قد برح الحب بمشتاقك
* فأوله أحسن أخلاقك)
(لا تجفه وارع له حقه
* فإنه آخر عشاقك)
وأنشدني صاحبنا الحسام عيسى بن سنجر بن بهرام المعروف بالحاجري الآتي ذكره لنفسه دوبيت في هذا المعنى وهو
(ياعارضه فديت بالأحداق
* لم يبق على العهود غيري باقي)
(ناشدتك إلا ما عسى ترفق بي
* في الحب فإني آخرالعشاق)
وله من أبيات
(وقالوا توصل بالخضوع إلى الغنى
* وما علموا أن الخضوع هو الفقر)
(وبيني وبين المال شيئان حرما
* علي الغنى نفسي الأبية والدهر)
(إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه
* مواقف خير من وقوفي بها العسر)
وله أيضا
(وقالوا اضطرب في الأرض فالرزق واسع
* فقلت ولكن موضع الرزق ضيق)
(إذا لم يكن في الأرض حر يعينني
* ولم يك لي كسب فمن أين أرزق)

279
وله أيضا في الصاحب بن عباد
(ولا ذنب للأفكار أنت تركتها
* إذا احتشدت لم تنتفع باحتشادها)
(سبقت لأفراد المعاني وألفت
* خواطرك الألفاظ بعد شرادها)
(فإن نحن حاولنا اختراع بديعة
* حصلنا عل مسروقها ومعادها)
وله فيه يهنيه بالعافية من جملة أبيات
(أفي كل يوم للمكارم روعة
* لها في قلوب المكرمات وجيب)
(تقسمت العلياء جسمك كله
* فمن أين للأسقام فيه نصيب)
(إذا ألمت نفس الوزير تألمت
* لها أنفس تحيا بها وقلوب)
(ووالله لا لاحظت وجها أحبه
* حياتي وفي وجه الوزير شحوب)
(وليس شحوبا ما أراه بوجهه
* ولكنه في المكرمات ندوب)
(فلا تجزعن تلك السماء تغيمت
* وعما قليل تبتدي فتصوب)
وله
(ما تطعمت لذة العيش حتى
* صرت للبيت والكتاب جليسا)
(ليس شيء أعز عندي من العلم
* فما أبتغي سواه أنيسا)
(إنما الذل في مخالطة الناس
* فدعهم وعش عزيزا رئيسا)
وله
(ما لي ومالك يا فراق
* أبدأ رحيل وانطلاق)
(يا نفس موتي بعدهم
* فكذا يكون الاشتياق)
وشعره كثير وطريقه فيه سهل وله كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه

280
أبان فيه عن فضل غزير واطلاع كثير ومادة متوفرة
وذكر الحاكم أبو عبد الله ابن البيع في تاريخ النيسابوريين أنه توفي في سلخ صفر سنة ست وستين وثلاثمائة بنيسابور وعمره ست وسبعون سنة رحمه الله تعالى وقال غيره إنه كان حسن السيرة في قضائه صدوقا ورد به أخوه محمد نيسابور في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وهو صغير غير بالغ وسمعا من سائر الشيوخ ومات بالري وهو قاضي القضاة في سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وحمل تابوته إلى جرجان ودفن بها ونقل الحاكم أثبت وأصح
وجرجان بضم الجيم وسكون الراء وفتح الجيم الثانية وبعد الألف نون وهي مدينة عظيمة من ناحية خراسان
427 ابن المرزبان
أبو الحسن علي بن أحمد بن المرزبان البغدادي الفقيه الشافعي كان فقيها ورعا من جلة العلماء أخذ الفقه عن أبي الحسين ابن القطان وعنه أخذ الشيخ أبو حامد الإسفرايني
أول قدومه بغداد وحكي عنه أنه قال ما أعلم أن لأحد علي مظلمة وقد كان فقيها يعلم أن الغيبة من المظالم وكان مدرسا ببغداد وله وجه في مذهب الشافعي وتوفي في رجب سنة ست وستين وثلاثمائة رحمه الله تعالى
والمرزبان بفتح الميم وسكون الراء وضم الزاي وفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون وهو لفظ فارسي معناه صاحب الحد ومرز هو الحد وبان صاحب وهو في الأصل اسم لمن كان دون الملك

281
428 الماوردي
أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري المعروف بالماوردي الفقيه الشافعي كان من وجوه الفقهاء الشافعية ومن كبارهم أخذ الفقه عن أبي القاسم الصيمري بالبصرة ثم عن الشيخ أبي حامد الإسفرايني ببغداد وكان حافظا للمذهب وله فيه كتاب الحاوي الذي لم يطالعه أحد إلا وشهد له بالتبحر والمعرفة التامة بالمذهب وفوض إليه القضاء ببلدان كثيرة واستوطن بغداد في درب الزعفراني وروى عنه الخطيب أبو بكر صاحب تاريخ بغداد وقال كان ثقة
وله من التصانيف غير الحاوي تفسير القرآن الكريم والنكت والعيون وأدب الدين والدنيا والأحكام السلطانية وقانون الوزارة وسياسة الملك والإقناع في المذهب وهو مختصر وغير ذلك وصنف في أصول الفقه والأدب وانتفع الناس به
وقيل إنه لم يظهر شيئا من تصانيفه في حياته وإنما جمع كلها في موضع فلما دنت وفاته قال لشخص يثق إليه الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما لم أظهرها لأني لم أجد نية خالصة لله تعالى لم يشبها كدر فإن عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها وعصرتها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها فاعمد إلى الكتب وألقها في دجلة

282
ليلا وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك فاعلم أنها قبلت وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة قال ذلك الشخص فلما قارب الموت وضعت يدي في يده فبسطها ولم يقبض على يدي فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده
وذكر الخطيب في أول تاريخ بغداد عن الماوردي المذكور قال كتب أخي إلي من البصرة وأنا ببغداد
(طيب الهواء ببغداد يشوقني
* قدما إليها وإن عاقت مقادير)
(فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت
* طيب الهواءين ممدود ومقصور)
وقال أبو العز أحمد بن عبيد الله بن كادش أنشدني أبو الحسن الماوردي قال أنشدنا أبو الخير الكاتب الواسطي بالبصرة لنفسه
(جرى قلم القضاء بما يكون
* فسيان التحرك والسكون)
(جنون منك أن تسعى لرزق
* ويرزق في غشاوته الجنين)
ويقال إن أبا الحسن الماوردي لما خرج من بغداد راجعا إلى البصرة كان ينشد أبيات العباس بن الأحنف المقدم ذكره وهي
(أقمنا كارهين لها فلما
* ألفناها خرجنا مكرهينا)
(وما حب البلاد بنا ولكن
* أمر العيش فرقة من هوينا)
(خرجت أقر ما كانت لعيني
* وخلفت الفؤاد به رهينا)
وإنما قال ذلك لأنه من أهل البصرة وما كان يؤثر مفارقتها فدخل بغداد كارها لها ثم طابت له بعد ذلك ونسي البصرة فشق عليه فراقها وقد قيل إن هذه الأبيات لأبي محمد المزني الساكن بما وراء النهر كذا قال السمعاني والله أعلم

283
وتوفي يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة ودفن من الغد في مقبرة باب حرب ببغداد وعمره ست وثمانون سنة رحمه الله تعالى
والماوردي نسبة إلى بيع الماورد هكذا قاله الحافظ ابن السمعاني
429 أبو الحسن الأشعري
أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله ابن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري صاحب رسوله الله صلى الله عليه وسلم هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب السنة وإليه تنسب الطائفة الأشعرية وشهرته تغني عن الإطالة في تعريفه والقاضي أبو بكر الباقلاني ناصر
مذهبه ومؤيد اعتقاده وكان أبو الحسن يجلس أيام الجمع في حلقة أبي إسحاق المروزي الفقيه الشافعي في جامع المنصور ببغداد ومولده سنة سبعين وقيل ستين ومائتين بالبصرة وتوفي سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة وقيل سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وقيل سنة ثلاثين فجأة حكاه ابن الهمذاني في ذيل تاريخ الطبري ببغداد ودفن بين الكرخ وباب البصرة رحمه الله تعالى
قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتاب تبيين كذب المفتري فيما

284
نسب للشيخ أبي الحسن الأشعري بعد أن حكى في تاريخ وفاته أقوالا وقال بعض البصريين مات سنة ثلاث وثلاثين وهذا القول أراه صحيحا والأصح أنه مات سنة أربع وعشرين وكذلك ذكره أبو بكر ابن فورك انتهى
وقد تقدم ذكر جده أبي بردة في أول حرف العين
والأشعري بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح العين المهملة وبعدها راء هذه النسبة إلى أشعر واسمه نبت بن أدد بن زيد بن يشجب وإنما قيل له أشعر لأن أمه ولدته والشعر على بدنه هكذا قاله السعاني والله أعلم
وقد صنف الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في مناقبه مجلدا
وكان أبو الحسن الأشعري أولا معتزليا ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ورقي كرسيا ونادى بأعلى صوته من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن وأن الله لا تراه الأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم
وكان فيه دعابة ومزاح كثير وله من الكتب كتاب اللمع وكتاب الموجز وكتاب إيضاح البرهان وكتاب التبيين عن أصول الدين وكتاب الشرح والتفصيل في الرد على أهل الإفك والتضليل وهو صاحب الكتب في الرد على الملاحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة

285
ودفن في مشرعة الروايا في تربة إلى جانبها مسجد وبالقرب منها حمام وهو عن يسار المار من السوق إلى دجلة وكان يأكل من غلة ضيعة وقفها جده بلال بن أبي بردة ابن أبي موسى على عقبه وكانت نفقته في كل يوم سبعة عشر درهما هكذا قاله الخطيب وقال أبو بكر الصيرفي كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الأشعري فجحرهم في أقماع السمسم وقال أبو محمد علي ابن حزم الأندلسي إن أبا الحسن له من التصانيف خمسة وخمسون تصنيفا
430 الكيا الهراسي
أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري الملقب عماد الدين المعروف بالكيا الهراسي الفقيه الشافعي كان من أهل طبرستان وخرج إلى نيسابور وتفقه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني مدة إلى أن برع وكان حسن الوجه جهوري الصوت فصيح العبارة حلو الكلام ثم خرج من نيسابور إلى بيهق ودرس بها مدة ثم خرج إلى العراق وتولى تدريس المدرسة النظامية ببغداد إلى أن توفي
وذكره الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي المقدم ذكره في سياق تاريخ نيسابور فقال كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين في

286
الدرس وكان ثاني أبي حامد الغزالي بل آصل وأصلح وأطيب في الصوت والنظر ثم اتصل بخدمة مجد الملك بركياروق بن ملك شاه السلجوقي المذكور في حرف الباء وحظي عنده بالمال والجاه وارتفع شأنه وتولى القضاء بتلك الدولة وكان محدثا يستعمل الأحاديث في مناظراته ومجالسه ومن كلامه إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح
وحدث الحافظ أبو طاهرالسلفي قال استفتيت شيخنا أبا الحسن المعروف بالكيا الهراسي ببغداد في سنة خمس وتسعين وأربعمائة لكلام جرى بيني وبين الفقهاء بالمدرسة النظامية وصورة الاستفتاء ما يقول الإمام وفقه الله تعالى في رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء هل تدخل كتبة الحديث تحت هذه الوصية أم لا فكتب الشيخ تحت السؤال نعم كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من حفظ على أمتي أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما)
وسئل الكيا أيضا عن يزيد بن معاوية فقال إنه لم يكن من الصحابة لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأما قول السلف ففيه لأحمد قولان تلويح وتصريح ولمالك قولان تلويح وتصريح ولأبي حنيفة قولان تلويح وتصريح ولنا قول واحد التصريح دون التلويح وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد والمتصيد بالفهود ومدمن الخمر وشعره في الخمر معلوم ومنه قوله
(أقول لصحب ضمت الكأس شملهم
* وداعي صبابات الهوى يترنم)
(خذوا بنصيب من نعيم ولذة
* فكل وإن طال المدى يتصرم)
(ولا تتركوا يوم السرور إلى غد
* فرب غد يأتي بما ليس يعلم)

287
وكتب فصلا طويلا ثم قلب الورقة وكتب لو مددت ببياض لمددت العنان في مخازي هذا الرجل وكتب فلان بن فلان
وقد أفتى الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في مثل هذه المسألة بخلاف ذلك فإنه سئل عمن صرح بلعن يزيد هل يحكم بفسقه أم هل يكون ذلك مرخصا فيه وهل كان مريدا قتل الحسين رضي الله عنه أم كان قصده الدفع وهل يسوغ الترحم عليه أم السكوت عنه أفضل ينعم بإزالة الاشتباه مثابا فأجاب لا يجوز لعن المسلم أصلا ومن لعن مسلما فهو الملعون وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم ليس بلعان وكيف يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم وقد ورد النهي عن ذلك وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي صلى الله عليه وسلم ويزيد صح إسلامه وما صح قتله الحسين رضي الله عنه ولا أمره ولا رضاه بذلك ومهما لم يصح ذلك منه لا يجوز أن يظن ذلك به فإن إساءة الظن بالمسلم أيضا حرام وقد قال تعالى * (اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) * وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء) ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين رضي الله عنه أو رضي به فينبغي أن يعلم به غاية حماقة فإن من قتل من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله ومن الذي رضي به ومن الذي كرهه لم يقدر على ذلك وإن كان قد قتل في جواره وزمانه وهو يشاهده فكيف لو كان في بلد بعيد وزمن قديم قد انقضى فكيف يعلم ذلك فيما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد وقد تطرق التعصب في الواقعة فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب فهذا أمر لا تعرف حقيقته أصلا وإذا لم يعرف وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به ومع هذا فلو ثبت على مسلم أنه قتل مسلما فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافر والقتل ليس بكفر بل هو معصية وإذا مات القاتل فربما مات بعد التوبة والكافر

288
لو تاب من كفره لم تجز لعنته فكيف من تاب عن قتل وبم يعرف أن قاتل الحسين رضي الله عنه مات قبل التوبة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده فإذن لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين ومن لعنه كان فاسقا عاصيا لله تعالى ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصيا بالإجماع بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له يوم القيامة لم لم تلعن إبليس ويقال للاعن لم لعنت ومن أين عرفت أنه مطرود ملعون والملعون هو المبعد من الله عز وجل وذلك غيب لا يعرف إلا فيمن مات كافرا فإن ذلك علم بالشرع وأما الترحم عليه فهو جائز بل هو مستحب بل هو داخل في قولنا في كل صلاة اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات فإنه كان مؤمنا والله أعلم كتبه الغزالي
وكانت ولادة الكيا في ذي القعدة سنة خمسين وأربعمائة وتوفي يوم الخميس وقت العصر مستهل المحرم سنة أربع وخمسمائة ببغداد ودفن في تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى وحضر دفنه الشيخ أبو طالب الزينبي وقاضي القضاة أبو الحسن ابن الدامغاني وكانا مقدمي الطائفة الحنفية وكان بينه وبينهما في حال الحياة منافسة فوقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال ابن الدامغاني متمثلا
(وما تغني النوادب والبواكي
* وقد أصبحت مثل حديث أمس)
وأنشد الزينبي متمثلا أيضا
(عقم النساء فما يلدن شبيهه
* إن النساء بمثله عقم)
ولم أعلم لأي معنى قيل له الكيا وفي اللغة العجمية الكيا هوالكبير القدر المقدم بين الناس وهو بكسر الكاف وفتح الياء المثناة من تحتها وبعدها ألف
وكان في خدمته بالمدرسة النظامية أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان الغزي الشاعر المشهور المقدم ذكره في حرف الهمزة فرثاه ارتجالا بهذه الأبيات على ما حكاه الحافظ ابن عساكر في تاريخه الكبير وهي

289
(هي الحوادث لا تبقي ولا تذر
* ما للبرية من محتومها وزر)
(لو كان ينجي علو من بوائقها
* لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر)
(قل للجبان الذي أمسى على حذر
* من الحمام متى رد الردى الحذر)
(بكى على شمسه الإسلام إذ أفلت
* بأدمع قل في تشبيهها المطر)
(حبر عهدناه طلق الوجه مبتسما
* والبشر أحسن ما يلقى بن البشر)
(لئن طوته المنايا تحت أخمصها
* فعلمه الجم في الآفاق منتشر)
(سقى ثراك عماد الدين كل ضحى
* صوب الغمام ملث الودق منهمر)
(عند الورى من أسى أيقنته خبر
* فهل أتاك من استيحاشهم خبر)
(أحيا ابن إدريس درس كنت تورده
* تحار في نظمه الأذهان والفكر)
(من فاز منه بتعليق فقد علقت
* يمينه بشهاب ليس ينكدر)
(كأنما مشكلات الفقه يوضحها
* جباه دهم لها من لفظه غرر)
(ولو عرفت له مثلا دعوت له
* وقلت دهري إلى شرواه مفتقر)
431 الحافظ المقدسي
أبو الحسن علي بن الأنجب أبي المكارم المفضل بن أبي الحسن علي بن أبي الغيث مفرج بن حاتم بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن الحسن اللخمي المقدسي الأصل الإسكندراني المولد والدار المالكي المذهب كان فقيها فاضلا في مذهب الإمام

290
مالك رضي الله عنه ومن أكابر الحفاظ المشاهير في الحديث وعلومه صحب الحافظ أبا الطاهر السلفي الأصبهاني نزيل الإسكندرية رحمه الله تعالى وانتفع به وصحبه شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري ولازم صحبته وبه انتفع وعليه تخرج وذكر عنه فضلا غزيرا وصلاحا كثيرا وأنشدني له مقاطيع عديدة فمما أنشدني قال أنشدني الحافظ أبو الحسن المقدسي المذكور لنفسه
(تجاوزت ستين من مولدي
* فأسعد أيامي المشترك)
(يسائلني زائري حالتي
* وما حال من حل في المعترك)
وأنشدني أيضا قال أنشدني الحافظ لنفسه
(أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل
* وأصحابه والتابعين تمسكي)
(عساك إذا بالغت في نشر دينه
* بما طاب من نشر له أن تمسكي)
(وخافي غدا يوم الحساب جهنما
* إذا لفحت نيرانها أن تمسك)
وأنشدني أيضا قال أنشدني لنفسه
(ثلاث باءات بلينا بها
* البق والبرغوث والبرغش)
(ثلاثة أوحش ما في الورى
* ولست أدري أيها أوحش)
وأنشدني أيضا قال أنشدني لنفسه
(ولمياء تحيي من تحيي بريقها
* كأن مزاج الراح بالمسك في فيها)
(وما ذقت فاها غير أني رويته
* عن الثقة المسواك وهو موافيها)
وهذا معنى مستعمل قد سار في كثير من أشعار المتقدمين والمتأخرين فمن

291
ذلك قول بشار بن برد من جملة أبيات
(يا أطيب الناس ريقا غير مختبر
* إلا شهادة أطراف المساويك)
وقول الأبيوردي من جملة أبيات
(وأخبرني أترابها أن ريقها
* على ما حكى عود الأراك لذيذ)
ونقتصر على هذا القدر
وكان الحافظ المذكور ينوب في الحكم بثغر الإسكندرية المحروس ودرس به بالمدرسة المعروفة به هناك ثم انتقل إلى مدينة القاهرة المحروسة ودرس بها بالمدرسة الصاحبية وهي مدرسة الوزير صفي الدين أبي محمد عبد الله بن علي المعروف بابن شكر واستمر بها إلى حين وفاته
وكانت ولادته ليلة السبت الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بالثغر المحروس وتوفي يوم الجمعة مستهل شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة بالقاهرة رحمه الله تعالى
112 وتوفي والده القاضي الأنجب أبو المكارم المفضل في رجب سنة أربع وثمانين وخمسمائة وكان مولده في سنة ثلاث وخمسمائة رحمهما الله تعالى
والمقدسي بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال المهملة وفي آخرها سين مهملة هذه النسبة إلى بيت المقدس
واللخمي تقدم الكلام عليه

292
432 السيف الآمدي
أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي الفقيه الأصولي الملقب سيف الدين الآمدي كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب وانحدر إلى بغداد وقرأ بها على ابن المني أبي الفتح نصر بن فتيان الحنبلي وبقي على ذلك مدة ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وصحب الشيخ أبا القاسم ابن فضلان واشتغل عليه في الخلاف وتميز فيه وحفظ طريقة الشريف وزوائد طريقة أسعد الميهني المقدم ذكره ثم انتقل إلى الشام واشتغل بفنون المعقول وحفظ منه الكثير وتمهر فيه وحصل منه شيئا كثيرا ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذ العلوم ثم انتقل إلى الديار المصرية وتولى الإعادة بالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه التي بالقرافة الصغرى وتصدر بالجامع الظافري بالقاهرة مدة واشتهر بها فضله واشتغل عليه الناس وانتفعوا به ثم حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصبوا عليه ونسبوه إلى فساد العقيدة وانحلال الطوية والتعطيل ومذهب الفلاسفة والحكماء وكتبوا محضرا يتضمن ذلك ووضعوا فيه خطوطهم بما يستباح به الدم وبلغني عن رجل منهم فيه عقل ومعرفة أنه لما رأى تحاملهم عليه وإفراط التعصب كتب في المحضر وقد حمل إليه ليكتب فيه مثل ما كتبوا فكتب

293
(حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
* فالقوم أعداء له وخصوم)
والله أعلم وكتب فلان بن فلان ولما رأى سيف الدين تألبهم عليه وما اعتمدوه في حقه ترك البلاد وخرج منها مستخفيا وتوصل إلى الشام واستوطن مدينة حماة
وصنف في أصول الفقه والدين والمنطق والحكمة والخلاف وكل تصانيفه مفيدة فمن ذلك كتاب أبكار الأفكار في علم الكلام واختصره في كتاب سماه منائح القرائح ورموز الكنوز وله دقائق الحقائق ولباب الألباب ومنتهى السول في علم الأصول وله طريقة في الخلاف ومختصر في الخلاف أيضا وشرح جدل الشريف وله مقدار عشرين تصنيفا
وانتقل إلى دمشق ودرس بالمدرسة العزيزية وأقام بها زمانا ثم عزل عنها لسبب اتهم فيه وأقام بطالا في بيته وتوفي على تلك الحال في رابع صفر يوم الثلاثاء سنة إحدى وثلاثين وستمائة ودفن بسفح جبل قاسيون وكانت ولادته في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة رحمه الله تعالى
والآمدي بالهمزة الممدودة والميم المكسورة وبعدها دال مهملة هذه النسبة إلى آمد وهي مدينة كبيرة في ديار بكر مجاورة لبلاد الروم
113 وكان أبو الفتح نصر بن فتيان بن المني المذكور فقيها محدثا انتفع به جماعة كبيرة ومولده سنة إحدى وخمسمائة وتوفي خامس شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة رحمه الله تعالى

294
433 الكسائي
أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي بالولاء الكوفي المعروف بالكسائي أحد القراء السبعة كان إماما في النحو واللغة والقراءات ولم تكن له في الشعر يد حتى قيل ليس في علماء العربية أجهل من الكسائي بالشعر وكان يؤدب الأمين بن هارون الرشيد ويعلمه الأدب ولم يكن له زوجة ولا جارية فكتب إلى الرشيد يشكو العزبة في هذه الأبيات
(قل للخليفة ما تقول لمن
* أمسى إليك بحرمة يدلي)
(ما زلت مذ صار الأمين معي
* عبدي يدي ومطيتي رجلي)
(وعلى فراشي من ينبهني
* من نومتي وقيامه قبلي)
(أسعى برجل منه ثالثة
* موفورة مني بلا رجل)
(وإذا ركبت أكون مرتدفا
* قدام سرجي راكب مثلي)
(فامنن علي بما يسكنه
* عني وأهد الغمد للنصل)
فأمر له لارشيد بعشرة آلاف درهم وجارية حسناء بجميع آلاتها وخادم وبرذون بجميع آلته

295
واجتمع يوما بمحمد بن الحسن الفقيه الحنفي في مجلس الرشيد فقال الكسائي من تبحر في علم تهدى إلى جميع العلوم فقال له محمد ما تقول فيمن سها في سجود السهو هل يسجد مرة أخرى قال الكسائي لا قال لماذا قال لأن النحاة تقول التصغير لا يصغر هكذا وجدت هذه الحكاية في عدة مواضع وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن هذه القضية جرت بين محمد ابن الحسن المذكور والفراء الآتي ذكره إن شاء الله تعال وهما ابنا خالة والله أعلم بالصواب
رجعنا إلى بقية الحكاية
فقال محمد فما تقول في تعليق الطلاق بالملك قال لا يصح قال لم قال لأن السيل لا يسبق المطر
وله مع سيبويه وأبي محمد اليزيدي مجالس ومناظرات سيأتي ذكر بعضها في تراجم أربابها إن شاء الله تعالى
روى الكسائي عن أبي بكر ابن عياش وحمزة الزيات وابن عيينة وغيرهم وروى عنه الفراء وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهما وتوفي سنة تسع وثمانين ومائة بالري وكان قد خرج إليها صحبة هارون الرشيد قال السمعاني وفي ذلك اليوم توفي محمد بن الحسن المذكور بالري أيضا كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى وكذا قال ابن الجوزي في شذور العقود توفي برنبويه قرية من قرى الري ورنبويه مذكورة في ترجمة محمد بن الحسن وقال السمعاني أيضا وقيل إن الكسائي مات بطوس سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين ومائة والله أعلم ويقال إن الرشيد كان يقول دفنت الفقه والعربية بالري
والكسائي بكسر الكاف وفتح السين المهملة وبعدها ألف ممدودة وإنما قيل له الكسائي لأنه دخل الكوفة وجاء إلى حمزة بن حبيب الزيات وهو ملتف

296
بكساء فقال حمزة من يقرأ فقيل له صاحب الكساء فبقي عليه وقيل بل أحرم في كساء فنسب إليه رحمه الله تعالى
434 الدارقطني
أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي الدارقطني الحافظ المشهور كان عالما حافظا فقيها على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه أخذ الفقه عن أبي سعيد الإصطخري الفقيه الشافعي وقيل بل أخذه عن صاحب لأبي سعيد وأخذ القراءة عرضا وسماعا عن محمد بن الحسن النقاش وعلي بن سعيد القزاز ومحمد بن الحصين الطبري ومن في طبقتهم وسمع من أبي بكر ابن مجاهد وهو صغير وانفرد بالإمامة في علم الحديث في دهره ولم ينازعه في ذلك أحد من نظرائه وتصدر في آخر أيامه للإقراء ببغداد وكان عارفا باختلاف الفقهاء ويحفظ كثيرا من دواوين العرب منها ديوان السيد الحميري فنسب إلى التشيع لذلك وروى عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء وجماعة كثيرة وقبل القاضي ابن معروف شهادته في سنة ست وسبعين وثلاثمائة فندم على ذلك وقال كان يقبل قولي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بانفرادي فصار لا يقبل قولي على نقلي إلا مع آخر
وصنف كتاب السنن والمختلف والمؤتلف وغيرهما وخرج من بغداد

297
إلى مصر قاصدا أبا الفضل جعفر بن الفضل المعروف بابن حنزابة وزير كافور الإخشيدي المذكور في حرف الجيم فإنه بلغه أن أبا الفضل عازم على تأليف مسند فمضى إليه ليساعده عليه وأقام عنده مدة وبالغ أبو الفضل في إكرامه وأنفق عليه نفقة واسعة وأعطاه شيئا كثيرا وحصل له بسببه مال جزيل ولم يزل عنده حتى فرغ المسند وكان يجتمع هو والحافظ عبد الغني ابن سعيد المقدم ذكره على تخريج المسند وكتابته إلى أن نجز
وقال الحافظ عبد الغني المذكور أحسن الناس كلاما على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة علي بن المديني في وقته وموسى بن هارون في وقته والدارقطني في وقته
وسأل الدارقطني يوما أحد أصحابه هل رأى الشيخ مثل نفسه فامتنع من جوابه وقال قال الله تعالى * (فلا تزكوا أنفسكم) * فألح عليه فقال إن كان في فن واحد فقد رأيت من هو أفضل مني وإن كان من اجتمع فيه ما اجتمع في فلا وكان مفننا في علوم كثيرة وإماما في علوم القرآن
وكانت ولادة الحافظ المذكور في ذي القعدة سنة ست وثلاثمائة وتوفي يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة وقيل ذي الحجة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ببغداد وصلى عليه الشيخ أبو حامد الإسفرايني الفقيه المشهور المقدم ذكره ودفن قريبا من معروف الكرخي في مقبرة باب الدير رحمه الله تعالى
والدارقطني بفتح الدال المهملة وبعد الألف راء مفتوحة ثم قاف مضمومة

298
وبعدها طاء مهملة ساكنة ثم نون هذه النسبة إلى دار القطن وكانت محلة كبيرة ببغداد
435 الرماني
أبو الحسن علي بن عيسى بن علي بن عبد الله الرماني النحوي المتكلم أحد الأئمة المشاهير جمع بين علم الكلام والعربية وله تفسير القرآن الكريم أخذ الأدب عن أبي بكر ابن دريد وأبي بكر ابن السراج وروى عنه أبو القاسم التنوخي وأبو محمد الجوهري وغيرهما وكانت ولادته ببغداد سنة ست وتسعين ومائتين وتوفي ليلة الأحد حادي عشر جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وقيل اثنتين وثمانين وثلاثمائة رحمه الله تعالى وأصله من سر من رأى
والرماني بضم الراء وتشديد الميم وبعد الألف نون هذه النسبة يجوز أن تكون إلى الرمان وبيعه ويمكن أن تكون إلى قصر الرمان وهو قصر بواسط معروف وقد نسب إلى هذا وهذا خلق كثير ولم يذكر السمعاني أن نسبة أبي الحسن المذكور إلى أيهما والله أعلم

299
436 الحوفي صاحب التفسير
أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سعيد بن يوسف الحوفي النحوي كان عالما بالعربية وتفسير القرآن الكريم وله تفسير جيد واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به ورأيت خطه على كثير من كتب الأدب قد قرئت عليه وكتب لأربابها بالقراءة كما جرت عادة المشايخ وتوفي بكرة يوم السبت مستهل ذي الحجة سنة ثلاثين وأربعمائة رحمه الله تعالى
والحوفي بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وفي آخرها فاء هذه النسبة إلى حوف قال السمعاني ظني أنها قرية بمصر حتى قرأت في تاريخ البخاري أنها من عمان منها أبو الحسن المذكور ثم قال وكان عنده من تصانيف النحاس أبي جعفر المصري قطعة كثيرة
قلت قوله قرية بمصر ليس كذلك بل الناحية المعروفة بالشرقية التي قصبتها مدينة بلبيس جميع ريفها يسمونه الحوف ولا أعلم ثم قرية يقال لها حوف والله أعلم وأبو الحسن من حوف مصر
وبعد أن فرغت من ترجمة أبي الحسن الحوفي على هذه الصورة ظفرت بترجمته مفصلة وذلك أنه من قرية يقال لها شبرا اللنجة من أعمال الشرقية

300
المذكورة وأنه دخل مصر وقرأ على أبي بكر الأدفوي ولقي جماعة من علماء المغرب وأخذ عنهم وتصدر لإفادة العربية وصنف في النحو مصنفا كبيرا وصنف في إعراب القرآن كتابا في عشر مجلدات وله تصانيف كثيرة يشتغل بها الناس
437 الأخفش الأصغر
أبو الحسن علي بن سليمان بن الفضل المعروف بالأخفش الأصغر النحوي كان عالما روى عن المبرد وثعلب وغيرهما وروى عنه المرزباني وأبو الفرج المعافى الجريري وغيرهما وكان ثقة وهو غير الأخفش الأكبر والأخفش الأوسط
114 فإن الأخفش الأكبر هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد من أهل هجر من مواليهم وكان نحويا لغويا وله ألفاظ لغوية انفرد بنقلها عن العرب وأخذ عنه سيبويه وأبو عبيدة ومن في طبقتهما ولم أظفر له بوفاة حتى أفرد له ترجمة
والأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة وقد تقدم ذكره في حرف السين وهو صاحب سيبويه
وكان بين الأخفش المذكور وبين ابن الرومي الشاعر منافسة فكان الأخفش يباكر داره ويقول عند بابه كلاما يتطير به وكان ابن الرومي كثير التطير

301
فإذ سمع كلامه لم يخرج ذلك اليوم من بيته فكثر ذلك منه فهجاه ابن الرومي بأهاج كثيرة وهي مثبتة في ديوانه وكان الأخفش يحفظها ويوردها في جملة ما يوردها استحسانا لها وافتخارا بأنه نوه بذكره إذ هجاه فلما علم ابن الرومي بذلك أقصر عنه
وقال المرزباني لم يكن الأخفش بالمتسع في الرواية للأشعار والعلم بالنحو وما علمته صنف شيئا البتة ولا قال شعرا وكان إذا سئل عن مسألة في النحو ضجر وانتهر من يسأله
وكانت وفاة أبي الحسن المذكور في ذي القعدة وقيل شعبان سنة خمس عشرة وقيل ست عشرة وثلاثمائة فجأة ببغداد ودفن بمقبرة قنطرة بردان ودخل مصر سنة سبع وثمانين ومائتين وخرج منها إلى حلب سنة ست وثلاثمائة رحمه الله تعالى
والأخفش بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة وفتح الفاء وبعدها شين معجمة وهو الصغير العين من سوء بصرها
وبردان بفتح الباء الموحدة والراء والدال المهملة وبعد الألف نون وهي قرية من قرى بغداد خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم
وقال أبو الحسن ثابت بن سنان كان الأخفش المذكور يواصل المقام عند أبي علي ابن مقلة وأبو علي يراعيه ويبره فشكا إليه في بعض الأيام ما هو فيه من شدة الفاقة وزيادة الإضافة وسأله أن يكلم الوزير أبا الحسن علي بن عيسى في أمره ويسأله إقرار رزق له في جملة من يرتزق من أمثاله فخاطبه أبو علي في ذلك وعرفه اختلال حاله وتعذر القوت عليه في أكثر أيامه وسأله أن يجري عليه رزقا أسوة بأمثاله فانتهره الوزير انتهارا شديدا وكان ذلك في مجلس حافل فشق ذلك على أبي علي وقام من مجلسه وصار إلى منزله لائما نفسه على سؤاله ووقف الأخفش على الصورة فاغتم لها وانتهت

302
به الحال إلى أكل السلجم النيء فقيل إنه قبض على فؤاده فمات فجأة في التاريخ المذكور
وكان أبو الحسن الأخفش كثيرا ما ينشد وعلي على الناس وكأنه كان يعرض بأبي علي ابن مقلة الوزير
(هون عليك فإني غير جائيكا
* وإنني غير ماض في نواحيكا)
(والله لو كانت الدنيا بزينتها
* واد بكفك لم أحلل بواديكا)
(ولو ملكت رقاب الناس كلهم
* شرقا وغربا لما جئنا نهنيكا)
438 الواحدي
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متويه الواحدي المتوي صاحب التفاسير المشهورة كان أستاذ عصره في النحو والتفسير ورزق السعادة في تصانيفه وأجمع الناس على حسنها وذكرها المدرسون في دروسهم منها البسيط في تفسير القرآن الكريم وكذلك الوسيط وكذلك الوجيز ومنه أخذ أبو حامد الغزالي أسماء كتبه الثلاثة وله كتاب أسباب النزول والتحبير في شرح أسماء الله تعالى الحسنى وشرح ديوان أبي الطيب المتنبي شرحا مستوفى وليس في شروحه مع كثرتها مثله وذكر فيه أشياء غريبة منها أنه في شرح هذا البيت وهو

303
(وإذا المكارم والصوارم والقنا
* وبنات أعوج كل شيء يجمع)
تكلم على البيت ثم قال في أعوج إنه فحل كريم كان لبني هلال بن عامر وإنه قيل لصاحبه ما رأيت من شدة عدوه فقال ضللت في بادية وانا راكبه فرأيت سرب قطا يقصد الماء فتبعته وانا أغض من لجامه حتى توافينا الماء دفعة واحدة وهذا أغرب شيء يكون فإن القطا شديد الطيران وإذا قصد الماء اشتد طيرانه أكثر من غير قصد الماء ثم ما كفى حتى قال كنت أغض من لجامه ولولا ذلك لكان يسبق القطا وهذه مبالغة عظيمة وإنما قيل له أعوج لأنه كان صغيرا وقد جاءتهم غارة فهربوا منها وطرحوه في خرج وحملوه لعدم قدرته على متابعتهم لصغره فاعوج ظهره من ذلك فقيل له أعوج وهذا البيت من جملة القصيدة التي رثى بها فاتكا المجنون
وكان الواحدي المذكور تلميذ الثعلبي صاحب التفسير المقدم ذكره في حرف الهمزة وعنه أخذ علم التفسير وأربى عليه وتوفي عن مرض طويل في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة بمدينة نيسابور رحمه الله تعالى
ومتويه بفتح الميم وتشديد التاء المثناة من فوقها وضمها وسكون الواو وبعدها ياء مفتوحة مثناة من تحتها ثم هاء ساكنة ونسبة المتوي إلى هذا الجد
والواحدي بفتح الواو وبعد الألف حاء مهملة مكسورة وبعدها دال مهملة لم أعرف هذه النسبة إلى أي شيء هي ولا ذكرها السمعاني ثم وجدت هذه النسبة إلى الواحد بن الدين بن مهرة ذكره أبو أحمد العسكري

304
439 ابن ماكولا
الأمير سعد الملك أبو نصر علي بن هبة الله بن علي بن جعفر بن علكان بن محمد ابن دلف بن أبي دلف القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمير العجلي المعروف بابن ماكولا وبقية نسبه مستوفاة في ترجمة جده أبي دلف القاسم بن عيسى في حرف القاف وأصله من جرباذقان من نواحي أصبهان ووزر أبوه أبو القاسم هبة الله للإمام القائم بأمر الله وتولى عمه أبو عبد الله الحسين ابن علي قضاء بغداد
سمع الحديث الكثير وصنف المصنفات النافعة وأخذ عن مشايخ العراق وخراسان والشام وغير ذلك وكان أحد الفضلاء المشهورين تتبع الألفاظ المشتبهة في الأسماء الأعلام وجمع منها شيئا كثيرا وكان الخطيب أبو بكر صاحب تاريخ بغداد قد أخذ كتاب الحافظ أبي الحسن الدارقطني المسمى المختلف والمؤتلف وكتاب الحافظ عبد الغني بن سعيد الذي سماه مشتبه النسبة وجمع بينهما وزاد عليهما وجعله كتابا مستقلا سماه المؤتنف تكملة المختلف وجاء الأمير أبو نصر المذكور وزاد على هذا المؤتنف وضم إليه الأسماء التي وقعت له وجعله أيضا كتابا مستقلا سماه الإكمال وهو في غاية الإفادة في رفع الالتباس والضبط والتقييد وعليه اعتماد المحدثين وأرباب هذا الشأن فإنه لم يوضع مثله ولقد أحسن فيه غاية الإحسان ثم جاء ابن نقطة الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وذيله وما أقصر فيه أيضا وما يحتاج الأمير

305
المذكور مع هذا الكتاب إلى فضيلة أخرى وفيه دلالة على كثرة اطلاعه وضبطه وإتقانه
ومن الشعر المنسوب إليه
(قوض خيامك عن أرض تهان بها
* وجانب الذل إن الذل يجتنب)
(وارحل إذا كان في الأوطان منقصة
* فالمندل الرطب في أوطانه حطب)
وكانت ولادته في عكبرا في خامس شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمائة وقتله غلمانه بجرجان في سنة نيف وسبعين وأربعمائة وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب المنتظم أنه قتل في سنة خمس وسبعين وأربعمائة وقيل في سنة سبع وثمانين وقال غيره في سنة تسع وسبعين بخوزستان وقيل بالأهواز وقال الحميدي خرج إلى خراسان
ومعه غلمان له أتراك فقتلوه بجرجان وأخذوا ماله وهربوا وطاح دمه هدرا رحمه الله تعالى
ومدحه الشاعر المعروف بصردر الآتي ذكره إن شاء الله تعالى ومدحه في ديوانه موجود
ومأكولا بفتح الميم وبعد الألف كاف مضمومة وبعدها واو ساكنة ثم لام ألف ولا أعرف معناه ولا أدري سبب تسميته بالأمير هل كان أميرا بنفسه أم لأنه من أولاد أبي دلف العجلي وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
وعكبرا قد تقدم القول عليها في ترجمة الشيخ أبي البقاء

306
440 أبو الفرج الأصبهاني
أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان ابن عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي الكاتب الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني وجده مروان بن محمد المذكور آخر خلفاء بني أمية وهو أصبهاني الأصل بغدادي المنشأ كان من أعيان أدبائها وأفراد مصنفيها وروى عن عالم كثير من العلماء يطول تعدادهم وكان عالما بأيام الناس والأنساب والسير
قال التنوخي ومن المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصبهاني كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أر قط من يحفظه مثله ويحفظ دون ذلك من علوم أخر منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي ومن آلة المنادمة شيئا كثيرا مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان الظرفاء الشعراء
وله المصنفات المستملحة منها كتاب الأغاني الذي وقع الاتفاق على أنه لم يعمل في بابه مثله يقال إنه جمعه في خمسين سنة وحمله إلى سيف الدولة ابن حمدان فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه وحكي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملا من كتب الأدب ليطالعها فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه استغناء

307
به عنها ومنها كتاب القيان وكتاب الإماء الشواعر وكتاب الديارات وكتاب دعوة التجار وكتاب مجرد الأغاني وكتاب أخبار جحظة البرمكي ومقاتل الطالبيين وكتاب الحانات وآداب الغرباء
وحصل له ببلاد الأندلس كتب صنفها لبني أمية ملاوك الأندلس يوم ذاك وسيرها إليهم سرا وجاءه الإنعام منهم سرا فمن ذلك كتاب نسب بني عبد شمس وكتاب أيام العرب ألف وسبعمائة يوم وكتاب التعديل والانتصاف في مآثر العرب ومثالبها وكتاب جمهرة النسب وكتاب نسب بني شيبان وكتاب نسب المهالبة وكتاب نسب بني تغلب ونسب بني كلاب وكتاب الغلمان المغنين ذلك
وكان منقطعا إلى الوزير المهلبي وله فيه مدائح فمن ذلك قوله فيه
(ولما انتجعنا لائذين بظله
* أعان وما عنى ومن وما منا)
(وردنا عليه مقترين فراشنا
* وردنا نداه مجدبين فأخصبنا)
وله فيه من قصيدة تهنئة بمولود جاءه من سرية رومية
(أسعد بمولود أتاك مباركا
* كالبدر أشرق جنح ليل مقمر)
(سعد لوقت سعادة جاءت به
* أم حصان من بنات الأصفر)
(متبجح في ذروتي شرف الورى
* بين المهلب منتماه وقيصر)
(شمس الضحى قرنت إلى بدر الدجى
* حتى إذا اجتمعنا أتت بالمشتري)
وكتب إلى بعض الرؤساء وكان مريضا
(أبا محمد المحمود يا حسن الإحسان
* والجود يا بحر الندى الطامي)
(حاشاك من عود عواد إاليك ومن
* دواء داء ومن إلمام آلام)
وشعره كثير ومحاسنه شهيرة وكانت ولادته سنة أربع وثمانين ومائتين

308
وفي هذه السنة مات البحتري الشاعر وتوفي يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة سنة ست وخمسين وثلاثمائة ببغداد وقيل سنة سبع وخمسين والأول أصح وكان قد خلط قبل أن يموت رحمه الله تعالى وهذه سنة ست وخمسين مات فيها عالمان كبيران وثلاثة ملوك كبار فالعالمان أبو الفرج المذكور وأبو علي القالي وقد ذكرناه في حرف الهمزة والملوك الثلاثة سيف الدولة بن حمدان ومعز الدولة بن بويه وكافور الإخشيدي وهو مذكور في ترجمة كل واحد
441 الحافظ ابن عساكر
الحافظ أبو القاسم علي بن أبي محمد الحسن بن هبة الله أبي الحسن بن عبد الله بن الحسين المعروف بابن عساكر الدمشقي الملقب ثقة الدين كان محدث الشام في وقته ومن أعيان الفقهاء الشافعية غلب عليه الحديث فاشتهر به وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره ورحل وطوف وجاب البلاد ولقي المشايخ وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني في الرحلة وكان حافظا دينا جمع بين معرفة المتون والأسانيد
سمع ببغداد في سنة عشرين وخمسمائة من أصحاب البرمكي والتنوخي والجوهري ثم رجع إلى دمشق ثم رحل إلى خراسان ودخل نيسابور وهراة وأصبهان والجبال وصنف التصانيف المفيدة وخرج التخاريج وكان حسن

309
الكلام على الأحاديث محظوظا في الجمع والتأليف صنف التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلدة أتى فيه بالعجائب وهو على نسق تاريخ بغداد قال لي شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري حافظ مصر أدام الله به النفع وقد جرى ذكر هذا التاريخ وأخرج لي منه مجلدا وطال الحديث في أمره واستعظامه ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه وشرع في الجمع من ذلك الوقت وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه ولقد قال الحق ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول ومتى يتسع للإنسان الوقت حتى يضع مثله وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره وما صح له هذا إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها وله غيره تواليف حسنة وأجزاء ممتعة وله شعر لا بأس به فمن ذلك قوله على ما قيل
(ألا إن الحديث أجل علم
* وأشرفه الأحاديث العوالي)
(وأنفع كل نوع منه عندي
* وأحسنه الفرائد في الأمالي)
(وإنك لن ترى للعلم شيئا
* يحققه كأفواه الرجال)
(فكن يا صاح ذا حرص عليه
* وخذه عن الرجال بلا ملال)
(ولا تأخذه من صحف فترمى
* من التصحيف بالداء العضال)
ومن المنسوب إليه أيضا
(أيا نفس ويحك جاء المشيب
* فماذا التصابي وماذا الغزل)
(تولى شبابي كأن لم يكن
* وجاء مشيبي كأن لم يزل)
(كأني بنفسي على غرة
* وخطب المنون بها قد نزل)
(فيا ليت شعري ممن أكون
* وما قدر الله لي بالأزل)

310
وقد التزم فيها ما لا يلزم وهو الزاي قبل اللام والبيت الثاني هو بيت علي بن جبلة المعروف بالعكوك وهو قوله
(شباب كأن لم يكن
* وشيب كأن لم يزل)
وليس بينهما إلا تغيير يسير كما تراه وهذا البيت من جملة أبيات وسيأتي ذكر قائله بعد هذا إن شاء الله تعالى
وكانت ولادة الحافظ المذكور في أول المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة وتوفي ليلة الاثنين الحادي عشر من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة بدمشق ودفن عند والده
وأهله بمقابر باب الصغير رحمهم الله تعالى وصلى عليه الشيخ قطب الدين النيسابوري الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وحضر الصلاة عليه السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى
115 وتوفي ولده أبو محمد القاسم الملقب بهاء الدين ابن الحافظ في التاسع من صفر سنة ستمائة بدمشق ودفن من يومه خارج باب النصر ومولده بها ليلة النصف من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وخمسمائة رحمه الله تعالى وكان أيضا حافظا
116 وتوفي أخوه الفقيه المحدث الفاضل صائن الدين هبة الدين بن الحسن بن هبة الله يوم الأحد الثالث والعشرين من شعبان سنة ثلاث وستين وخمسمائة بدمشق ودفن من الغد بمقبرة باب الصغير ومولده على ما ذكر أخوه الحافظ المذكور في العشر الأول من رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وقدم بغداد في سنة عشرين وخمسمائة وقرأ على أسعد الميهني المقدم ذكره وابن برهان وعاد إلى دمشق ودرس بالمقصورة الغربية في جامع دمشق وأفتى وحدث رحمه الله تعالى

311
442 السمسماني
أبو الحسن علي بن عبيد الله بن عبد الغفار السمسماني اللغوي كان قيما بعلم اللغة مشهورا وكتب الأدب التي عليها خطه مرغوب فيها ولا أعرف شيئا من أحواله سوى أنه سمع أبا بكر ابن شاذان وأبا الفضل ابن المأمون وذكره الخطيب في تاريخه وقال كتبت عنه
وكان صدوقا وكتب الكثير وخطه في غاية الإتقان والصحة وتصدر ببغداد للرواية وإقراء الأدب وأكثر كتبه بخطه وحصلت بعده عند ابن دينار الواسطي الأديب وأدركها الغرق ففسد أكثرها وتوفي يوم الأربعاء رابع المحرم سنة خمس عشرة وأربعمائة رحمه الله تعالى
ولا أعرف نسبته إلى ماذا هي وهي بكسر السينين المهملتين وسكون الميم الأولى وفتح الثانية وبالنون ثم وجدت في درة الغواص للحريري ما مثاله ويقولون في النسبة إلى الفاكهة والباقلاء والسمسم فاكهاني وباقلاني وسمسماني فيخطئون فيه وبين وجه الخطأ ثم قال بعد ذلك ووجه الكلام أن يقال في المنسوب إلى السمسم سمسمي وتمم الكلام إلى آخره فلما وقفت على هذا علمت أن نسبة أبي الحسن المذكور إلى السمسم وأنه استعمل على اصطلاح الناس والله أعلم

312
443 الشريف المرتضى
الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الطاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان نقيب الطالبيين وكان إماما في علم الكلام والأدب والشعر وهو أخو الشريف الرضي وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وله تصانيف على مذهب الشيعة ومقالة في أصول الدين وله ديوان شعر كبير وإذا وصف الطيف أجاد فيه وقد استعمله في كثير من المواضع وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي وقد قيل إنه ليس من كلام علي وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه والله أعلم وله الكتاب الذي سماه الغرر والدرر وهي مجالس أملاها تشتمل على فنون من معاني الأدب تكلم فيها على النحو واللغة وغير ذلك وهو كتاب ممتع يدل على فضل كثير وتوسع في الاطلاع على العلوم
وذكره ابن بسام الأندلسي في أواخر كتاب الذخيرة فقال كان هذا الشريف إمام أئمة العراق بين الاختلاف والاتفاق إليه فزع علماؤها وعنه

313
أخذ عظماؤها صاحب مدارسها وجماع شاردها وآنسها ممن سارت أخباره وعرفت له أشعاره وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره إلى تواليفه في الدين وتصانيفه في أحكام المسلمين مما يشهد أنه فرع تلك الأصول ومن أهل ذلك البيت الجليل وأورد له عدة مقاطيع فمن ذلك قوله
(ضن عني بالنزر إذ أنا يقظان
* وأعطى كثيره في المنام)
(والتقينا كما اشتهينا ولا عيب
* سوى أن ذاك في الأحلام)
(وإذا كانت الملاقاة ليلا
* فالليالي خير من الأيام)
قلت وهذا من قول أبي تمام الطائي
(استزارته فكرتي في المنام
* فأتاني في خفية واكتتام)
(يا لها زورة تلذذت الأرواح
* فيها سرا من الأجسام)
(مجلس لم يكن لنا فيه عيب
* غير أنا في دعوة الأحلام)
ومن شعره أيضا
(يا خليلي من ذؤابة قيس
* في التصابي رياضة الأخلاق)
(عللاني بذكرهم تطرباني
* واسقياني دمعي بكأس دهاق)
(وخذا النوم من جفوني فإني
* قد خلعت الكرى على العشاق)
فلما وصلت هذه الأبيات إلى البصروي الشاعر قال المرتضى قد خلع ما لا يملك على من لا يقبل
ومن شعره أيضا
(ولما تفرقنا كما شاءت النوى
* تبين ود خالص وتودد)

314
(كأني وقد سار الخليط عشية
* أخو جنة مما أقوم وأقعد)
ومعنى البيت الأول مأخوذ من قول المتنبي في مديح عضد الدولة بن بويه من جملة قصيدته الكافية التي ودعه بها لما عاد من خدمته من شيراز إلى العراق وقتل في الطريق كما هو مشروح في ترجمة المتنبي وهو
(وفي الأحباب مختص بوجد
* وآخر يدعي معه اشتراكا)
(إذا اشتبهت دموع في خدود
* تبين من بكى ممن تباكى)
ونقلت من كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان الذي صنفه القاضي الرشيد أبو الحسين أحمد المعروف بابن الزبير الغساني المقدم ذكره ما نسبه إلى الشريف المرتضى المذكور وهو
(بيني وبين عواذلي
* في الحب أطراف الرماح)
(أنا خارجي في الهوى
* لا حكم إلا للملاح)
ونسب إليه أيضا
(مولاي يا بدر كل داجية
* خذ بيدي قد وقعت في اللجج)
(حسنك ما تنقضي عجائبه
* كالبحر حدث عنه بلا حرج)
(بحق من خط عارضيك ومن
* سلط سلطانها على المهج)
(مد يديك الكريمتين معي
* ثم ادع لي من هواك بالفرج)
وذكر له أيضا
(قل لمن خده من اللحظ دام
* رق لي من جوانح فيك تدمي)

315
(يا سقيم الجفون من غير سقم
* لا تلمني إن مت منهن سقما)
(أنا خاطرت في هواك بقلب
* ركب البحر فيك إما وإما)
وحكى الخطيب أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي اللغوي أن أبا الحسن علي ابن أحمد بن علي بن سلك الفالي الأديب كانت نسخة بكتاب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة فدعته الحاجة إلى بيعها فباعها واشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم المذكور بستين دينارا وتصفحها فوجد بها أبياتا بخط بائعها أبي الحسن الفالي وهي
(أنست بها عشرين حولا وبعتها
* لقد طال وجدي بعدها وحنيني)
(وما كان ظني أنني سأبيعها
* ولو خلدتني في السجون ديوني)
(ولكن لضعف وافتقار وصبية
* صغار عليهم تستهل شؤوني)
(فقلت ولم أملك سوابق عبرة
* مقالة مكوي الفؤاد حزين)
(وقد تخرج الحاجات يا أم مالك
* كرائم من رب بهن ضنين)
وهذا الفالي منسوب إلى فالة بالفاء وهي بلدة بخوزستان قريبة من إيذج أقام بالبصرة مدة طويلة وسمع بها من أبي عمرو ابن عبد الواحد الهاشمي وأبي الحسن ابن النجاد وشيوخ ذلك الوقت وقدم بغداد واستوطنها وحدث بها
وأما جده سلك فهو بفتح السين المهملة وتشديد اللام وفتحها وبعدها كاف هكذا وجدته مقيدا ورأيت في موضع آخر بكسر السين وسكون اللام والله أعلم بالصواب
وملح الشريف المرتضى وفضائله كثيرة وكانت ولادته في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وتوفي يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وأربعمائة ببغداد ودفن في داره عشية ذلك النهار رحمه الله تعالى
117 وكانت وفاة أبي الحسن الفالي المذكور في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين

316
وأربعمائة ليلة الجمعة ثامن الشهر المذكور ودفن في مقبرة جامع المنصور وكان أديبا شاعرا روى عنه الخطيب أبو بكر صاحب تاريخ بغداد وأبو الحسين ابن الطيوري وغيرهما رحمهم الله أجمعين
444 الخلعي
أبو الحسين علي بن الحسن بن الحسين بن محمد القاضي المعروف بالخلعي الموصلي الأصل المصري الشافعي صاحب الخلعيات المنسوبة إليه سمع أبا الحسن الحوفي وأبا محمد ابن النحاس وأبا الفتح العداس وأبا سعد الماليني وأبا القاسم الأهوازي وغيرهم
قال القاضي عياض اليحصبي سألت أبا علي الصدفي عنه وكان قد لقيه لما رحل إلى البلاد الشرقية فقال فقيه له تواليف ولي القضاء وقضى يوما واحدا واستعفى وانزوى بالقرافة الصغرى وكان مسند مصر بعد الحبال وذكره القاضي أبو بكر ابن العربي فقال شيخ معتزل في القرافة له علو في الرواية وعنده فوائد وقد حدث عنه الحميدي وكنى عنه بالقرافي وقال غيره ولي الخلعي قضاء فامية وخرج له أبو نصر أحمد بن الحسن الشيرازي أجزاء من مسوعاته آخر من رواها عنه أبو رفاعة ونقلت منها عن

317
الأصمعي قال كان نقش خاتم أبي عمرو ابن العلاء
(وإن أمرءا دنياه أكبر همه
* لمستمسك منها بحبل غرور) فسألته عن ذلك فقال كنت في ضيعتي نصف النهار أدور فيها فسمعت قائلا يقول هذا البيت ونظرت فلم أر أحدا فكتبته على خاتمي
قال أبو العباس ثعلب هذا البيت لهانىء بن توبة بن سحيم بن مرة المعروف بالشويعر الحنفي
وقال الحافظ أبو طاهر السلفي كان أبو الحسن الخلعي إذا سمع عليه الحديث يختم مجالسه بهذا الدعاء اللهم ما مننت به فتممه وما أنعمت به فلا تسلبه وما سترته فلا تهتكه وما علمته فاغفره وكانت ولادة الخلعي في المحرم سنة خمس وأربعمائة بمصر وتوفي بها في ثامن عشر ذي الحجة يوم السبت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وقيل في السادس والعشرين من الشهر المذكور
وتوفي أبوه في شوال سنة ثمان وأربعين وأربعمائة رحمهما الله تعالى
والخلعي بكسر الخاء المعجمة وفتح اللام وبعدها عين مهملة هذه النسبة إلى الخلع ونسب إليها أبو الحسن المذكور لأنه كان يبيع بمصر الخلع لأملاك مصر فاشتهر بذلك وعرف به
واما القرافة بفتح القاف والراء المخففة وبعد الألف فاء فهما قرافتان الكبرى منهما ظاهر مصر والصغرى ظاهر القاهرة وبها قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه
وبنو قرافة فخذ من المعافر بن يعفر نزلوا هذين المكانين فنسبا إليهم
وفامية بالفاء وبعد الألف ميم مكسورة وبعدها ياء مثناة من تحتها ثم هاء وقد يزاد فيها الألف فيقال أفامية وهي قلعة ورستاق من أعمال حلب الآن

318
445 الشابشتي
أبو الحسين علي بن محمد الشابشتي الكاتب كان أديبا فاضلا تعلق بخدمة العزيز بن المعز العبيدي صاحب مصر فولاه أمر خزانة كتبه وجعهله دفترخوان يقرأ له الكتب ويجالسه وينادمه وكان حلو المحاورة لطيف المعاشرة وله مصنفات حسنة منها كتاب الديارات ذكر فيه كل دير بالعراق والموصل والشام والجزيرة والديار المصرية وجميع الأشعار المقولة في كل دير وما جرى فيه وهو على أسلوب الديارات للخالديين وأبي الفرج الأصبهاني مع أن هذه الديارات قد جمع فيها تواليف كثيرة وله كتاب اليسر بعد العسر وكتاب مراتب الفقهاء وكتاب التوقيف والتخويف وله مكاتبات ومراسلات مضمنة شعرا وحكما وغير ذلك من المصنفات في الأدب وغيره
وتوفي سنة تسعين وثلاثمائة وقال الأمير المختار المعروف بالمسبحي توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وزاد غيره فقال ليلة الثلاثاء منتصف صفر رحمه الله تعالى وكانت وفاته بمصر
والشابشتي بفتح الشين المعجمة وبعد الألف باء موحدة مضمومة ثم شين معجمة ساكنة وبعدها تاء مثناة من فوقها كشفت عن هذه النسبة كثيرا فلم أعرفها ثم بعد هذا بسنين كثيرة وجدت في كتاب التاجي تصنيف أبي إسحاق الصابي أن الشابشتي حاجب وشمكير بن زيار الديلمي قتل في سنة

319
ست وعشرين وثلاثمائة بالقرب من أصبهان
قلت وهذا اسم ديلمي يشبه النسبة وليس بنسبة ويحتمل أن يكون صاحب هذه الترجمة منسوبا إليه بأن يكون أحد أجداده من أصحابه فنسب إليه وبقي النسب على أولاده كذلك وهذا وشمكير هو والد الأمير قابوس الآتي ذكره إن شاء الله تعالى
446 القابسي
أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري القروي المعروف بابن القابسي كان إماما في علم الحديث ومتونه وأسانيده وجميع ما يتعلق به وكان للناس فيه اعتقاد كثير وصنف في الحديث كتاب الملخص جمع فيه ما اتصل إسناده من حديث مالك بن أنس رضي الله عنه في كتاب الموطأ رواية أبي عبد الله عبد الرحمن بن القاسم المصري وهو على صغر حجمه جيد في بابه
وكانت ولادة أبي الحسن المذكور في يوم الاثنين لست مضين من رجب سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ورحل إلى الشرق يوم السبت لعشر مضين من شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وحج سنة ثلاث وخمسين وسمع كتاب البخاري بمكة من أبي زيد ورجع إلى القيروان فوصلها غداة الأربعاء أول شعبان أو ثانيه سنة سبع وخمسين كذا قاله أبو عبد الله مالك بن وهيب وذكر الحافظ السلفي في معجم السفر أن شخصا قال في مجلس القابسي وهو

320
بالقيروان ما قصر المتنبي في معنى قوله
(يراد من القلب نسيانكم
* وتأبى الطباع على الناقل)
فقال له يا مسكين أين أنت عن قوله تعالى * (لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * وتوفي ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة ودفن يوم الأربعاء وقت العصر بالقيروان وبات عند قبره من الناس خلق عظيم وضربت الأخبية وأقبل الشعراء بالمراثي رحمه الله تعالى ولما طعن في السن كان كثيرا ما ينشد قول زهير بن أبي سلمى المزني
(سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
* ثمانين حولا لا أبا لك يسأم)
وقال أبو بكر الصقلي قال لي أبو الحسن القابسي كذب علي وعليك وسموني بالقابسي وما أنا بالقابسي وإنما السبب في ذلك أن عمي كان يشد عمامته شدة قابسية فقيل لعمي قابسي واشتهرنا بذلك وإلا فأنا قروي وأنت فلما دخل أبوك مسافرا إلى صقلية نسب إليها فقيل الصقلي
ومما سمع القاضي يقول أول جلوسه للمناظرة بأثر صوت أبي محمد
(لعمر أبيك ما نسب المعلى
* إلى كرم وفي الدنيا كريم)
(ولكن البلاد إذا اقشعرت
* وصوح نبتها رعي الهشيم)
ثم بكى حتى أبكى القوم وقال أنا الهشيم أنا الهشيم والله لو أن في الأرض خضراء ما رعيت أنا وأبو محمد هذا هو أبو محمد عبد الله بن أبي هاشم التجيبي شيخه الذي روى عنه وهو قروي وقال أبو عمرو الداني كان شيخنا أبو الحسن يعني القابسي يقرأ الملخص بكسر الخاء يجعله فاعلا يريد

321
أنه يلخص المتصل من حديث مالك رحمه الله تعالى وتقدير الترجمة ما اتصل من حديث مالك للمستحفظين
والقابسي بفتح القاف وبعد الألف باء موحدة مكسورة ثم سين مهملة هذه النسبة إلى قابس وهي مدينة بإفريقية بالقرب من المهدية ولما فتحها الأمير تميم بن المعز بن باديس
المقدم ذكره قال ابن محمد خطيب سوسة قصيدة طائلة أولها
(ضحك الزمان وكان يدعى عابسا
* لما فتحت بحد عزمك قابسا)
(أنكحتها عذراء ما أصدقتها
* إلا قنا وبواترا وفوارسا)
(الله يعلم ما جنيت ثمارها
* إلا وكان أبوك قبلك غارسا)
(من كان بالسمر العوالي خاطبا
* أضحت له بيض الحصون عرائسا)
447 ابن القطاع
أبو القاسم علي بن جعفر بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد بن محمد ابن زيادة الله بن محمد بن الأغلب السعدي بن إبراهيم بن الأغلب بن سالم بن عقال ابن خفاجة بن عبد الله بن عباد بن محرث بن سعد بن حرام بن سعد بن مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان المعروف بابن القطاع السعدي الصقلي المولد

322
المصري الدار والوفاة اللغوي هكذا وجدت هذا النسب بخطي في مسوداتي وما أعلم من أين نقلته والمنقول من خطه أنه علي بن جعفر بن علي بن محمد ابن عبد الله بن الحسين الشنتريني السعدي أحد بني سعد بن زيد مناة ابن تميم والله أعلم
كان أحد أئمة الأدب خصوصا اللغة وله تصانيف نافعة منها كتاب الأفعال أحسن فيه كل الإحسان وهو أجود من الأفعال لابن القوطية وإن كان ذلك قد سبقه إليه وله كتاب أبنية الأسماء جمع فيه فأوعب وفيه دلالة سعلى كثرة اطلاعه وله عروض حسن جيد وكتاب الدرة الخطيرة في المختار من شعراء الجزيرة وكتاب لمح الملح جمع فيه خلقا من شعراء الأندلس
وكانت ولادته في العاشر من صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة بصقلية وقرأ الأدب على فضلائها كابن البر اللغوي وأمثاله وأجاد في النحو غاية الإجادة ورحل عن صقلية لما أشرف على تملكها الفرنج ووصل إلى مصر في حدود سنة خمسمائة وبالغ أهل مصر في إكرامه وكان ينسب إلى التساهل في الرواية ونظم الشعر في سنة ست وأربعين ومن شعره في ألثغ
(وشادن في لسانه عقد
* حلت عقودي وأوهنت جلدي)
(عابوه جهلا بها فقلت لهم
* أما سمعتم بالنفث بالعقد)
وله من جملة قصيدة
(فلا تنفدن العمر في طلب الصبا
* ولا تشقين يوما بسعدى ولا نعم)

323
(ولا تندبن أطلال مية باللوى
* ولا تسفحن ماء الشؤون على رسم)
(فإن قصارى المرء إدراك حاجة
* وتبقى مذمات الأحاديث والإثم)
ومن شعره في غلام اسمه حمزة
(يا من رمى النار في فؤادي
* وأنبط العين بالبكاء)
(اسمك تصحيفه بقلبي
* وفي ثناياك برء دائي)
(أردد سلامي فإن نفسي
* لم يبق منها سوى الذماء)
(وارفق بصب أتى ذليلا
* قد مزج اليأس بالرجاء)
(أنهكه في الهوى التجني
* فصار في رقة الهواء)
وله شعر كثير
وكانت ولادته في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة هكذا ذكره في كتابه الدرة الخطيرة في شعراء الجزيرة عند ذكر ترجمة نفسه رحمه الله تعالى في أواخر الكتاب المذكور ورأيته بخطه وتوفي بمصر في صفر سنة خمس عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى
وقد تقدم الكلام على السعدي والصقلي

324
448 ابن حزم الظاهري
أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان ابن سفيان بن يزيد مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموي وجده يزيد أول من أسلم من أجداده وأصله من فارس وجده خلف أول من دخل الأندلس من آبائه ومولده بقرطبة من بلاد الأندلس يوم الأربعاء قبل طلوع الشمس سلخ شهر رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة في الجانب الشرقي منها
وكان حافظا عالما بعلوم الحديث وفقهه مستنبطا للأحكام من الكتاب والسنة بعد أن كان شافعي المذهب فانتقل إلى مذهب أهل الظاهر وكان متفننا في علوم جمة عاملا بعلمه زاهدا في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الممالك متواضعا ذا فضائل جمة وتواليف كثيرة وجمع من الكتب في علوم الحديث والمصنفات والمسندات شيئا كثيرا وسمع سماعا جما وألف في فقه الحديث كتابا سماه الإيصال إلى فهم كتاب الخصال الجامعة لحمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين في مسائل الفقه والحجة لكل طائفة عليها وهو كتاب كبير وله كتاب الإحكام لأصول الأحكام في غاية التقصي وإيراد

325
الحجج وكتاب الفصل في الملل في الأهواء والنحل وكتاب في الإجماع ومسائله على أبواب الفقه وكتاب في مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض وكتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل وهذا معنى لم يسبق إليه وكتاب التقريب بحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية فإنه سلك في بيانه وإزالة سوء الظن عنه وتكذيب الممخرقين به طريقة لم يسلكها أحد قبله وكان شيخه في المنطق محمد بن الحسن المذحجي القرطبي المعروف بابن الكتاني وكان أديبا شاعرا طبيبا له في الطب رسائل وكتب في الأدب ومات بعد الأربعمائة ذكر ذلك ابن ماكولا في كتاب الإكمال في باب الكتامي والكتاني نقلا عن الحافظ أبي عبد الله الحميدي وله كتاب صغير سماه نقط العروس جمع كل غريبة نادرة وهو مفيد جدا
وقال ابن بشكوال في حقه كان أبو محمد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار أخبر ولده أبو رافع الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تأليفه نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة
وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح الحميدي ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتدين وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه ثم قال أنشدني لنفسه
(لئن أصبحت مرتحلا بجسمي
* فروحي عندكم أبدا مقيم)
(ولكن للعيان لطيف معنى
* له سأل المعاينة الكليم)
وله في المعنى

326
(يقول أخي شجاك رحيل جسم
* وروحك ما له عنا رحيل)
(فقلت له المعاين مطمئن
* لذا طلب المعاينة الخليل)
وروى له الحافظ الحميدي أيضا
(أقمنا ساعة ثم ارتحلنا
* وما يغني المشوق وقوف ساعة)
(كأن الشمل لم يك ذا اجتماع
* إذا ما شتت البين اجتماعه)
وقال الحميدي أيضا أنشدني أبو محمد علي بن أحمد بن حزم يعني المذكور لعبد الملك بن جهور
(إن كانت الأبدان بائنة
* فنفوس أهل الظرف تأتلف)
) يا رب مفترقين قد جمعت
* قلبيهما الأقلام والصحف)
ومن شعره أيضا
(وذي عذل فيمن سباني حسنه
* يطيل ملامي في الهوى ويقول)
(أفي حسن وجه لاح لم تر غيره
* ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل)
(فقلت له أسرفت في اللوم ظالما
* وعندي رد لو أردت طويل)
(ألم تر أني ظاهري وأنني
* على ما بدا حتى يقوم دليل)
وكانت بينه وبين أبي الوليد سليمان الباجي المذكور في حرف السين مناظرات وماجرايات يطول شرحها وكان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه فنفرت عنه القلوب واستهدف لفقهاء وقته فتمالأوا على بغضه وردوا قوله وأجمعهوا على تضليله وشنعوا عليه وحذروا سلاطينهم من

327
فتنته ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه فأقصته الملوك وشردته عن بلاده حتى انتهى إلى بادية لبلة فتوفي بها آخر نهار الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة وقيل إنه توفي في منت ليشم وهي قرية ابن حزم المذكور رحمه الله تعالى
وفيه قال أبو العباس ابن العريف المقدم ذكره كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف شقيقين وإنما قال ذلك لكثرة وقوعه في الأئمة
(118 وكانت وفاة والده أبي عمر أحمد في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة وكان وزير الدولة العامرية وهو من أهل العلم والأدب والخير والبلاغة وقال ولده أبو محمد المذكور أنشدني والدي الوزير في بعض وصاياه لي رحمه الله تعالى
(إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن
* على حالة إلا رضيت بدونها)
وذكر الحميدي في كتاب جذوة المقتبس أن الوزير المذكور كان جالسا بين يدي مخدومه المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه العامة فرفعت إليه رقعة استعطاف لأم رجل مسجون كان المنصور اعتقله حنقا عليه لجرم استعظمه منه فلما قرأها اشتد غضبه وقال ذكرتني والله به وأخذ القلم وأراد أن يكتب يصلب فكتب يطلق ورمى الورقة إلى وزيره المذكور وأخذ الوزير القلم وتناول الورقة وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرطة فقال له المنصور ما هذا الذي تكتب قال بإطلاق فلان فحرد وقال من أمر بهذا فناوله التوقيع فلما رآه قال وهمت والله ليصلبن ثم خط على التوقيع وأراد أن يكتب يصلب فكتب يطلق فأخذ الوزير الورقة وأراد أن يكتب إلى الوالي بالإطلاق فنظر إليه المنصور وغضب

328
أشد من الأول وقال من أمر بهذا فناوله التوقيع فرأى خطه فخط عليه وأراد أن يكتب يصلب فكتب يطلق وأخذ الوزير التوقيع وشرع في الكتابة إلى الوالي فرآه المنصور فأنكر أكثر من المرتين الأوليين فأراه خطه بالإطلاق فلما رآه عجب من ذلك وقال نعم يطلق على رغمي فمن أراد الله سبحانه إطلاقه لا أقدر أناعلى منعه
119 وكان لأبي محمد المذكور ولد نبيه سري فاضل يقال له أبو رافع الفضل ابن أبي محمد علي وكان في خدمة المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية وغيرها من بلاد الأندلس وكان المعتمد قد غضب على عمه أبي طالب عبد الجبار بن محمد بن إسماعيل بن عباد وهم بقتله لأمر رابه منه فاستحضر وزراءه وقال لهم من يعرف منكم في الخلفاء أو ملوك الطوائف من قتل عمه عندما هم بالقيام عليه فتقدم أبو رافع المذكور وقال ما نعرف أيدك الله إلا من عفا عن عمه بعد قيامه عليه وهو إبراهيم بن المهدي عم المأمون من بني العباس فقبله المعتمد بين عينيه وشكره ثم أحضر عمه وبسطه وأحسن إليه وقتل أبو رافع المذكور في وقعة الزلاقة مع مخدومه المعتمد في يوم الجمعة منتصف رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة وقد استوفيت خبر هذه الواقعة في ترجمة يوسف تاشفين فلينظر هناك وقد سبق ذكر إبراهيم بن المهدي في هذا الكتاب والله أعلم
ولبلة بفتح اللامين وبينهما باء موحدة ساكنة وفي الأخير هاء ساكنة بلدة بالأندلس
ومنت ليشم بفتح الميم وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوقها وكسر

329
اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الشين المعجمة وفي آخرها ميم وهي قرية من أعمال لبلة كانت ملك ابن حزم المذكور وكان يتردد إليها
449 ابن سيده
الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده المرسي كان إماما في اللغة والعربية حافظا لهما وقد جمع في ذلك جموعا من ذلك كتاب المحكم في اللغة وهو كتاب كبير جامع مشتمل على أنواع اللغة وله كتاب المخصص في اللغة أيضا وهو كبير وكتاب الأنيق في شرح الحماسة في ست مجلدات وغير ذلك من المصنفات النافعة
وكان ضريرا وأبوه ضريرا وكان أبوه أيضا قيما بعلم اللغة وعليه اشتغل ولده في أول أمره ثم على أبي العلاء صاعد البغدادي المقدم ذكره وقرأ أيضا على أبي عمر الطلمنكي قال الطلمنكي دخلت مرسية فتشبث بي أهلها يسمعون علي غريب المصنف فقلت لهم انظروا لي من يقرأ لكم وأمسك أنا كتابي فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده فقرأه علي من أوله إلى آخره فتعجبت من حفظه وكان له في الشعر حظ وتصرف
وتوفي بحضرة دانية عشية يوم الأحد لآربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وعمره ستون سنة أونحوها رأيت على ظهر مجلد من المحكم بخط بعض فضلاء الأندلس أن ابن سيده المذكور كان يوم الجمعة قبل يوم الأحد المذكور صحيحا سويا إلى وقت صلاة المغرب فدخل المتوضأ فأخرج منه وقد سقط لسانه وانقطع كلامه فبقي على تلك الحال إلى العصر من

330
يوم الأحد ثم توفي رحمه الله تعالى وقيل سنة ثمان وأربعين وأربعمائة والأول أصح وأشهر
وسيده بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الدال المهملة وبعدها هاء ساكنة
والمرسي بضم الميم وسكون الراء وبعدها سين مهملة هذه النسبة إلى مرسية وهي مدينة في شرق الأندلس
والطلمنكي بفتح الطاء المهملة واللام والميم وسكون النون وبعدها كاف هذه النسبة إلى طلمنكة وهي مدينة في غرب الأندلس
ودانية بفتح الدال المهملة وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها مفتوحة وبعدها هاء ساكنة وهي مدينة في شرق الأندلس أيضا
450 أبو الحسن الحصري
أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري المقرئ الضرير الحصري القيرواني الشاعر المشهور
قال ابن بسام صاحب الذخيرة في حقه كان بحر براعة ورأس صناعة وزعيم جماعة طرأ على جزيرة الأندلس منتصف المائة الخامسة من الهجرة بعد خراب وطنه من القيروان والأدب يومئذ بأفقنا نافق السوق

331
معمور الطريق فتهادته ملوك طوائفها تهادي الرياض بالنسيم وتنافسوا فيه تنافس الديار في الأنس المقيم على أنه كان فيما بلغني ضيق العطن مشهور اللسن يتلفت إلى الهجاء تلفت الظمآن إلى الماء ولكنه طوي على غره واحتمل بين زمانته وبعد قطره ولما خلع ملوك الطوائف بأفقنا اشتملت عليه مدينة طنجة وقد ضاق ذرعه وتراجه طبعه
قلت وهذا أبو الحسن ابن خالة أبي إسحاق الحصري صاحب زهر الآداب وذكره ابن بشكوال في كتاب الصلة والحميدي أيضا وقال كان عالما بالقراءات وطرقها وأقرأ الناس القرآن الكريم بسبتة وغيرها وله قصيدة نظمها في قراءة نافع عدد أبياتها مائتين وتسعة وله ديوان شعر فمن قصائده السائرة القصيدة التي أولها
(يا ليل الصب متى غده
* أقيام الساعة موعده)
(رقد السمار فأرقه
* أسف للبين يردده)
وهي مشهورة فلا حاجة إلى إيرادها وقد وازنها صاحبنا الفقيه نجم الدين موسى بن محمد بن موسى بن أحمد بن عيسى الكناني أبو الفضائل المعروف بالقمراوي رحمه الله تعالى والقمرواي بفتح القاف وسكون الميم وبعد الراء ألف ثم واو هذه النسبة إلى قمراء وهي ضيعة بالشام من أعمال صرخد والأبيات
(قد مل مريضك عوده
* ورثى لأسيرك حسده)

332
(لم يبق جفاك سوى نفس
* زفرات الشوق تصعده)
(هاروت يعنعن فن السحر
* إلى عينيك ويسنده)
(وإذا أغمدت اللحظ فتكت
* فكيف وأنت تجرده)
ومنها
(كم سهل خدك وجه رضا
* والحاجب منك يعقده)
(ما أشرك فيك القلب فلم
* في نار الهجر تخلده)
ومن شعر الحصري أيضا)
(أقول له وقد حيا بكأس
* لها من مسك ريقته ختام)
(أمن خديك تعصر قال كلا
* متى عصرت من الورد المدام)
ولما كان مقيما بمدينة طنجة أرسل غلامه إلى المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية واسمها في بلادهم حمص فأبطأ عنه وبلغه أن المعتمد ما احتفل به فعمل
(نبه الركب الهجوعا
* ولم الدهر الفجوعا)
(حمص الجنة قالت
* لغلامي لا رجوعا)
(رحم الله غلامي
* مات في الجنة جوعا)
وقد التزم في هذه الأبيات لزوم ما لا يلزم
وحكى تاج العلا أبو زيد المعروف بالنسابة قال حدثني أبو أصبغ نباتة ابن الأصبغ بن زيد بن محمد الحارثي الأندلسي عن جده زيد بن محمد قال بعث المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية إلى أبي العرب الزبيري خمسمائة دينار وأمره أن يتجهز بها ويتوجه إليه وكان بجزيرة صقلية وهو من أهلها وهو أبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي الزبيري الصقلي الشاعر وبعث مثلها إلى أبي الحسن الحصري وهو بالقيروان فكتب إليه أبو العرب
(لا تعجبن لرأسي كيف شاب أسى
* واعجب لأسود عيني كيف لم يشب)
(البحر للروم لا تجري السفين به
* إلا على غرر والبر للعرب)

333
وكتب إليه الحصري
(أمرتني بركوب البحر أقطعه
* غيري لك الخير فاخصصه بذا الراء)
(ما أنت نوح فتنجيني سفينته
* ولا المسيح أنا أمشي على الماء)
ثم دخل الأندلس بعد ذلك وامتدح المعتمد وغيره وتوفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة بطنجة رحمه الله تعالى
120 ومولد القمراوي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة تقديرا وتوفي راجعا من اليمن في أواخر صفر سنة إحدى وخمسين وستمائة على ساحل بحر عيذاب بموضع يقال له رأس دواير بين عيذاب وسواكن ودفن في بر عيذاب قبالة موضع موته
والحصري قد تقدم الكلام عليه في حرف الهمزة
وطنجة بفتح الطاء وسكون النون وفتح الجيم وهي بلدة بالمغرب بينها وبين سبتة مرحلتان من تلك الناحية
121 وأما أبو العرب الزبيري فإنه ولد بصقلية سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وخرج منها لما تغلب الروم عليها سنة أربع وستين وأربعمائة قاصدا للمعتمد بن عباد قال ابن الصيرفي وبلغني أنه في سنة سبع وخمسمائة حي بالأندلس

334
451 ابن خروف
أبو الحسن علي بن محمد بن علي الحضرمي المعروف بابن خروف النحوي الأندلسي الإشبيلي كان فاضلا في علم العربية وله فيها مصنفات شهدت بفضله وسعة علمه شرح كتاب سيبويه شرحا جيدا وشرح أيضا كتاب الجمل لأبي القاسم الزجاجي وما أقصر فيه وكان قد تخرج على ابن طاهر النحوي الأندلسي المعروف بالخدب وتوفي سنة عشر وستمائة وقيل إنه توفي سنة تسع وستمائة بإشبيلية رحمه الله تعالى
وخروف بفتح الخاء المعجمة وهو غير ابن خروف الشاعر وسيأتي ذكر ذلك أيضا إن شاء الله تعالى في رسالته التي كتبها إلى بهاء الدين بن شداد رحمه الله تعالى
والحضرمي بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وفتح الراء وبعدها ميم هذه النسبة إلى حضرموت وقد تقدم الكلام عليها

335
452 الربعي النحوي
أبو الحسن علي بن عيسى بن الفرج بن صالح الربعي النحوي البغدادي المنزل الشيرازي الأصل كان إماما في النحو متقنا له شرح كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي فأجاد فيه اشتغل ببغداد على السيرافي ثم خرج إلى شيراز فقرأ على أبي علي الفارسي عشرين سنة ثم رجع إلى بغداد وقال أبو علي قولوا لعلي البغدادي لو سرت من الشرق إلى الغرب لم تجد أنحى منك وقال أبو علي أيضا لما انفصل عنه ما بقي له شيء يحتاج يسأل عنه وله عدة تواليف في النحو منها شرح مختصر الجرمي وانتفع بالاشتغال عليه خلق كثير وذكره ابن الأنباري في كتاب طبقات الأدباء
وكانت ولادته سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وتوفي ليلة السبت لعشر بقين من المحرم سنة عشرين وأربعمائة ببغداد رحمه الله تعالى
والربعي بفتح الراء والباء الموحدة وبعدها عين مهملة هذه النسبة إلى ربيعة ولا أعلم أهو ربيعة بن نزار أم غيره فقد جاءت هذه النسبة إلى جماعة اسم كل واحد مهم ربيعة والله أعلم

336
453 الفصيحي
أبو الحسن علي بن أبي زيد محمد بن علي النحوي المعروف بالفصيحي الإستراباذي أخذ النحو عن عبد القاهر الجرجاني صاحب الجمل الصغرى وتبحر فيه حتى صار أعرف أهل زمانه به وقدم بغداد واستوطنها ودرس النحو بالمدرسة النظامية مدة وكان يكتب خطا في غاية الصحة وكتب كثيرا من كتب الأدب وانتفع به خلق كثير ومن جملة من أخذ عنه ملك النحاة الحسن بن صافي وقد تقدم ذكره وروى عنه الحافظ أبو الطاهر السلفي الأصبهاني وقال جالسته ببغداد وسألته عن أحرف من العربية وقال أنشدني لبعض النحاة
(النحو شؤم كله فاعلموا
* يذهب بالخبز من البيت)
(خير من النحو وأصحابه
* ثريدة تعمل بالزيت)
وتوفي يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة سنة ست عشرة وخمسمائة ببغداد رحمه الله تعالى
ولم أعرف نسبته بالفصيحي إلى كتاب الفصيح لثعلب أم إلى شيء آخر
والإستراباذي بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر التاء المثناة من فوقها وفتح الراء وبعد الألف باء موحدة مفتوحة وبعد الألف الثانية ذال معجمة هذه النسبة إلى إستراباذ وهي بلدة من أعمال مازندران بين سارية وجرجان

337
454 ابن العصار
أبو الحسن علي بن أبي الحسين عبد الرحيم بن الحسن بن عبد الملك بن إبراهيم السلمي الرقي الأصل البغدادي المولد والدار الملقب مهذب الدين المعروف بابن العصار اللغوي كان من الأدباء المشاهير وحصل له منه أشياء غريبة وقرأ الأدب على الشريف أبي السعادات ابن الشجري وأبي منصور ابن الجواليقي وبرع في فنه وأقرأ الناس زمانا ورحل إلى مصر واجتمع بأبي محمد ابن بري والموفق بن الخلال كاتب الإنشاء وكان عارفا بديوان أبي الطيب المتنبي علما ورواية وقرأه عليه جمع كثير في العراق والشام ومصر وكتب بخطه الكثير من كتب الأدب وشعر العرب ويقع في خطه الغلط مع كثرة ضبطه واحترازه وقيل إنه لم يكن ذكيا ولم يكن في النحو كما هو في اللغة وكانت طريقته في الخط حسنة والناس يتنافسون في خطه ويغالون به وكان حريصا على الفوائد وطلبها وسطرها على كتبه ورأيت جماعة ممن لقيه وأخذ عنه
وكانت ولادته في سنة ثمان وخمسمائة وتوفي يوم السبت بعد صلاة الظهر ثالث المحرم سنة ست وسبعين وخمسمائة ببغداد ودفن بمقبرة الشونيزي ببغداد رحمه الله تعالى بجنب قبر أبيه يوم الأحد

338
455 شميم الحلي
أبو الحسن علي بن الحسن بن عنتر بن ثابت الملقب مهذب الدين المعروف بشميم الحلي كان أديبا فاضلا خبيرا بالنحو واللغة وأشعار العرب حسن الشعر وكان اشتغاله ببغداد على أبي محمد ابن الخشاب ومن في طبقته من أدباء ذلك الوقت ثم سافر إلى ديار بكر والشام ومدح الأكابر وأخذ جوائزهم واستوطن الموصل وله عدة تصانيف وجمع من نظمه كتابا سماه الحماسة رتبه على عشرة أبواب وضاهى به كتاب الحماسة لأيي تمام الطائي وكان جم الفضيلة إلا أنه كان بذيء اللسان كثير الوقوع في الناس مسلطا على ثلب أعراضهم لا يثبت لأحد في الفضل شيئا
ذكره أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل وقبح ذكره بأشياء نسبها إليه من قلة الدين وتركه للصلوات المكتوبة ومعارضته للقرآن الكريم واستهزائه بالناس وذكر مقاطيع من شعره وفي شعره تعسف وقال سئل لم سمي شميما فقال أقمت مدة آكل كل يوم شيئا من الطين فإذا وضعته

339
عند قضاء الحاجة شممته فلا أجد له رائحة فسميت لذلك شميما وتوفي ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وستمائة بالموصل ودفن بمقبرة
المعافى بن عمران رحمه الله تعالى
وشميم بضم الشين المعجمة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ميم وهو من الشم
456 العلم السخاوي
أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب الهمداني المصري السخاوي المقرئ النحوي الملقب علم الدين كان قد اشتغل بالقاهرة على الشيخ أبي محمد القاسم الشاطبي المقرئ المذكور في حرف القاف وأتقن عليه علم القراءات والنحو واللغة وعلى أبي الجود غياث بن فارس بن مكي المقرئ وسمع بالإسكندرية من السلفي وابن عوف وبمصر من البوصيري وابن ياسين ثم انتقل إلى مدينة دمشق وتقدم بها على علماء فنونه واشتهر وكان للناس فيه اعتقاد عظيم وشرح المفصل للزمخشري في أربع مجلدات وشرح القصيدة الشاطبية في القراءات وكان قد قرأها على ناظمها وله خطب وأشعار وكان متعينا في وقته
ورأيته بدمشق والناس يزدحمون عليه في الجامع لأجل القراءة ولا تصح

340
لواحد منهم نوبة إلا بعد زمان ورأيته مرارا يركب بهيمة وهو يصعد إلى جبل الصالحيين وحوله اثنان وثلاثة وكل واحد يقرأ ميعاده في موضع غير الآخر والكل في دفعة واحدة وهو يرد على الجميع ولم يزل مواظبا على وظيفته إلى أن توفي بدمشق ليلة الأحد ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة وقد نيف على تسعين سنة رحمه الله تعالى
ولما حضرته الوفاة أنشد لنفسه
(قالوا غدا نأتي ديار الحمى
* وينزل الركب بمغناهم)
(وكل من كان مطيعا لهم
* أصبح مسرورا بلقياهم)
(قلت فلي ذنب فما حيلتي
* بأي وجه أتلقاهم)
(قالوا أليس العفو من شأنهم
* لا سيما عمن ترجاهم)
ثم ظفرت بتاريخ مولده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة بسخا والله أعلم
والسخاوي بفتح السين المهملة والخاء المعجمة وبعدها ألف هذه النسبة إلى سخا وهي بليدة بالغربية من أعمال مصر وقياسه سخوي لكن الناس أطبقوا على النسبة الأولى

341
457 ابن البواب الكاتب
أبو الحسن علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب المشهور لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كتب مثله ولا قاربه وإن كان أبو علي ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة وله بذلك فضيلة السبق وخطه أيضا في نهاية الحسن لكن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها طلاوة وبهجة وقيل إن صاحب الخط المنسوب المشهور ليس أبا على المذكور وإنما هو أخوه أبو عبد الله الحسن وهو مذكور في ترجمة أخيه أبي علي المذكور في المحمدين فلينظر هناك ولما شاهد أبو عبيد البكري الأندلسي صاحب التصانيف خط ابن مقلة أنشد:
(خط ابن مقلة من أرعاه مقلته
* ودت جوارحه لو أصبحت مقلا)
والكل معترفون لأبي الحسن بالتفرد وعلى منواله ينسجون وليس فيهم من يلحق شأوه ولا يدعي ذلك مع أن في الخلق من يدعي ما ليس فيه ومع هذا فما رأينا ولا سمعنا أن أحدا ادعى ذلك بل الجميع أقروا له بالسابقة وعدم المشاركة ويقال له ابن الستري أيضا لأن أباه كان بوابا والبواب ملازم ستر الباب فلهذا نسب إليه
122 وكان شيخه في الكتابة ابن أسد الكاتب المشهور وهو أبو عبد الله محمد بن أسد بن علي بن سعيد القارئ الكاتب البزاز البغدادسمع أبا بكر أحمد بن

342
سليمان النجاد وعلي بن محمد بن الزبير الكوفي وجعفر الخلدي وعبد الملك بن الحسن السقطي وجماعة من هذه الطبقة وكان صدوقا مات محمد بن أسد في يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم سنة عشر وأربعمائة ودفن بالشونيزي
وتوفي ابن البواب يوم الخميس ثاني جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وقيل ثلاث عشرة وأربعمائة ببغداد ودفن جوار الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه
وأنشدني بعض العلماء بيتين ذكر أنه رثي بهما ابن البواب وهما
(استشعر الكتاب فقدك سالفا
* وقضت بصحة ذلك الأيام)
(فلذاك سودت الدوي كآبة
* أسفا عليك وشقت الأقلام)
وهذا معنى حسن جدا
وسألني بعض الفقهاء بمدينة حلب عن قول بعض المتأخرين من جملة أبيات في صفة كتاب
(كتاب كوشي الروض خطت سطوره
* يد ابن هلال عن فم ابن هلال)
فقلت له هذا يقول إن خطه في الحسن مثل خط ابن البواب وفي بلاغة ألفاظه مثل رسائل الصابىء لأنه ابن هلال أيضا كما تقدم في ترجمته ثم سألت الفقيه المذكور عن بقية الأبيات التي منها هذا البيت فأنشدنيها وهي
(ولما أتى منك الكتاب الذي حوى
* قلائد سخر للبيان حلال)
(وقفت على ربع من الفضل آهل
* وقوفي بربع للأحبة خال)
(أرقرق من دمعي وأدمن لثمه
* وأسأل أطلالا تجيب سؤالي)
(وهمت به حتى توهمت لفظه
* نجوم ليال أم سموط لآلي)

343
(كتاب كوشي الروض خطت سطوره
* يد ابن هلال عن فم ابن هلال)
ومما يتعلق بالكتابة أن أول من خط بالعربي إسماعيل عليه السلام والصحيح عند أهل العلم أنه مرامر بن مروة من أهل الأنبار وقيل إنه من بني مرة ومن الأنبار انتشرت الكتابة في الناس قال الأصمعي ذكروا أن قريشا سئلوا من أين لكم الكتابة فقالوا من الحيرة وقيل لأهل الحيرة من أين لكم الكتابة فقالوا من الأنبار
وروى ابن الكلبي والهيثم بن عدي أن الناقل لهذه الكتابة من الحيرة إلى الحجاز هو حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي وكان قدم الحيرة فعاد إلى مكة بهذه الكتابة وقالا قيل لأبي سفيان ابن حرب ممن أخذ أبوك هذه الكتابة فقال من أسلم بن سدرة وقال سألت أسلم ممن أخذت هذه الكتابة فقال من واضعها مرامر بن مرة فحدوث هذه الكتابة قبل الإسلام بقليل وكان لحمير كتابة تسمى المسند وحروفها منفصلة غير متصلة وكانوا يمنعون العامة من تعلمها فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم فجاءت ملة الإسلام وليس بجميع اليمن من يقرأ ويكتب
وجميع كتابات الأمم من سكان الشرق والغرب اثنتا عشرة كتابة وهي العربية والحميرية واليونانية والفارسية والسريانية والعبرانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية فخمس منها اضمحلت وبطل استعمالها وذهب من يعرفها وهي الحميرية واليونانية والقبطية والبربرية والأندلسية وثلاث قد بقي استعمالها في بلادها وعدم من يعرفها في بلاد الإسلام وهي الرومية والهندية والصينية وحصلت أربع هي مستعملات في بلاد الإسلام وهي العربية والفارسية والسريانية والعبرانية

344
458 شيخ الإسلام
أبو الحسن علي بن أحمد بن يوسف بن جعفر بن عرفة الهكاري الملقب شيخ الإسلام هو من ولد عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية وكان كثير الخير والعبادة وطاف البلاد واجتمع بالعلماء والمشايخ وأخذ عنهم الحديث ورجع إلى وطنه وانقطع به وأقبل الناس عليه وكان لهم فيه اعتقاد حسن ولقي الشيخ أبا العلاء المعري وسمع منه فلما انفصل عنه سأله بعض أصحابه عما رآه منه وعن عقيدته فقال هو رجل من المسلمين وسمعت أن بعض الأكابر قال له أنت شيخ الإسلام فقال بل أنا شيخ في الإسلام وخرج من أولاده وحفدته جماعة تقدموا عند الملوك وعلت مراتبهم منهم فقهاء ومنهم أمراء
وكانت ولادته سنة تسع وأربعمائة وتوفي في أول المحرم سنة ست وثمانين وأربعمائة رحمه الله تعالى
والهكاري بفتح الهاء وتشديد الكاف وبعد الألف راء هذه النسبة إلى قبيلة من الأكراد لهم معاقل وحصون وقرى من بلاد الموصل من جهتها الشرقية

345
459 الشيخ علي الهروي السائح
أبو الحسن علي بن أبي بكر بن علي الهروي الأصل الموصلي المولد السائح المشهور نزيل حلب طاف البلاد وأكثر من الزيارات وكاد يطبق الأرض بالدوران فإنه لم يترك برا ولا بحرا ولا سهلا ولا جبلا من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه ولم يصل إلى موضع إلا كتب خطه في حائطه ولقد شاهدت ذلك في البلاد التي رأيتها مع كثرتها ولما سار ذكره بذلك واشتهر به ضرب به المثل فيه ورأيت لبعض المعاصرين وهو ابن شمس الخلافة جعفر المقدم ذكره بيتين في شخص يستجدي من الناس بأوراقه وقد ذكر فيهما هذه الحالة وهما
(أوراق كديته في بيت كل فتى
* على اتفاق معان واختلاف روي)

346
(قد طبق الأرض من سهل إلى جبل
* كأنه خط ذاك السائح الهروي)
وإنما ذكرت البيتين استشهادا بهما على ما ذكرته من كثرة زياراته وكتب خطه وكان مع هذا فيه فضيلة وله معرفة بعلم السيمياء وبه تقدم عند الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب وأقام عنده وكان كثير الرعاية له وبنى له مدرسة بظاهر حلب وفي ناحية منها قبة هو مدفون بها وبتلك المدرسة بيوت كتب على باب كل بيت ما يليق به ورأيته كتب على باب الميضأة بيت المال في بيت الماء ورأيت في قبته معلقا عند رأسه غصنا وهو حلقة خلقية ليس فيه صنعة وهو أعجوبة وقيل إنه رآه في بعض سياحاته فاستصحبه وأوصى أن يكون عند رأسه ليعجب منه من يراه
وله مصنفات منها كتاب الإشارات في معرفة الزيارات وكتاب الخطب الهروية وغير ذلك
ورأيت في حائط الموضع الذي تلقى فيه الدروس من المدرسة المذكورة بيتين مكتوبين بخط حسن وكأنهما كتابة رجل فاضل نزل هناك قاصدا الديار المصرية فأحببت ذكرهما لحسنهما وهما
(رحم الله من دعا لأناس
* نزلوا هاهنا يريدون مصرا)
(نزلوا والخدود بيض فلما
* أزف البين عدن بالدمع حمرا)
وتوفي في شهر رمضان في العشر الوسط سنة إحدى عشرة وستمائة في مدرسته المذكورة ودفن في القبة رحمه الله تعالى
والهروي بفتح الهاء والراء وبعدها واو هذه النسبة إلى مدينة هراة وهي أحد كراسي مملكة خراسان فإنها مملكة عظيمة وكراسيها أربعة

347
نيسابور ومرو وبلخ وهراة والباقي مدن كبار لكنها ما تنتهي إلى هذه الأربعة وهراة بناها الإسكندر ذو القرنين عند مسيره إلى المشرق
460 عز الدين ابن الأثير الجزري
أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري الملقب عز الدين ولد بالجزيرة ونشأ بها ثم سار إلى الموصل مع والده وأخويه الآتي ذكرهما إن شاء الله تعالى وسكن الموصل وسمع بها من أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي ومن في طبقته وقدم بغداد مرارا حاجا ورسولا من صاحب الموصل وسمع بها من الشيخين أبي القاسم يعيش بن صدقة الفقيه الشافعي وأبي أحمد عبد الوهاب بن علي الصوفي وغيرهما ثم رحل إلى لاشام والقدس وسمع هناك من جماعة ثم عاد إلى الموصل ولزم بيته منقطعا إلى التوفر على النظر في العلم والتصنيف وكان بيته مجمع الفضل لأهل الموصل والواردين عليها
وكان إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به وحافظا للتواريخ المتقدمة والمتأخرة وخبيرا بأنساب العرب وأخبارهم وأيامهم ووقائعهم صنف في التاريخ كتابا كبيرا سماه الكامل ابتدأ فيه من أول الزمان إلى آخر سنة ثمان وعشرين وستمائة وهو من خيار التواريخ واختصر كتاب الأنساب لأبي سعد عبد الكريم بن السمعاني واستدرك عليه فيه مواضع ونبه على أغلاط

348
وزاد أشياء أهملها وهو كتاب مفيد جدا وأكثر ما يوجد اليوم بأيدي الناس هذا المختصر وهو في ثلاث مجلدات والأصل في ثمان وهو عزيز الوجود ولم أره سوى مرة واحدة بمدينة حلب ولم يصل إلى الديار المصرية سوى المختصر المذكور وله كتاب أخبار الصحابة رضوان الله عليهم في ست مجلدات
ولما وصلت إلى حلب في أواخر سنة ست وعشرين وستمائة كان عز الدين المذكور مقيما بها في صورة الضيف عند الطواشي شهاب الدين طغريل الخادم أتابك الملك العزيز ابن الملك الظاهر صاحب حلب وكان الطواشي كثير الإقبال عليه حسن الاعتقاد فيه مكرما له فاجتمعت به فوجدته رجلا مكملا في الفضائل وكرم الأخلاق وكثرة التواضع فلازمت الترداد إليه وكان بينه وبين الوالد رحمه الله تعالى مؤانسة أكيدة فكان بسببها يبالغ في الرعاية والإكرام ثم إنه سافر إلى دمشق في أثناء سنة سبع وعشرين ثم عاد إلى حلب في أثناء سنة ثمان وعشرين فجريت معه على عادة الترداد والملازمة وأقام قليللا ثم توجه إلى الموصل
وكانت ولادته في رابع جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة بجزيرة ابني عمر وهم من أهلها وتوفي في شعبان سنة ثلاثين وستمائة رحمه الله تعالى بالموصل
وسيأتي ذكر أخويه مجد الدين أبي السعادات المبارك وضياء الدين أبي الفتح نصر الله إن شاء الله تعالى
والجزيرة المذكورة أكثر الناس يقولون إنها جزيرة ابن عمر ولا أدري من ابن عمر وقيل إنها منسوبة إلى يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقين ثم إني ظفرت بالصواب في ذلك وهو أن رجلا من أهل برقعيد من أعمال الموصل بناها وهو عبد العزيز بن عمر فأضيفت إليه ورأيت في بعض التواريخ أنها جزيرة ابني عمر أوس وكامل ولا أدري أيضا من هما ثم رأيت في

349
تاريخ ابن المستوفي في ترجمة أبي السعادات المبارك بن محمد أخي أبي الحسن المذكور أنه من جزيرة أوس وكامل ابني عمر بن أوس التغلبي
461 العكوك
أبو الحسن علي بن جبلة بن مسلم بن عبد الرحمن المعروف بالعكوك الشاعر المشهور أحد فحول الشعراء المبرزين قال الجاحظ في حقه كان أحسن خلق الله إنشادا ما رأيت مثله بدويا ولا حضريا وكان من الموالي وولد أعمى وكان أسود أبرص ومن مشهور شعره قوله
(بأبي من زارني مكتتما
* خائفا من كل شيء جزعا)
(زائر نم عليه حسنه
* كيف يخفي الليل بدرا طلعا)
(رصد الغفلة حتى أمكنت
* ورعى السامر حتى هجعا)
(ركب الأهوال في زورته
* ثم ما سلم حتى ودعا)
ومن قوله في الحسن بن سهل
(أعطيتني يا ولي الحق مبتدئا
* عطية كافأت شعري ولم ترني)
(ما شمت برقك إلا نلت ريقه
* كأنما كنت بالجدوى تبادرني)

350
وله في أبي دلف العجلي وأبي غانم حميد بن عبد الحميد الطوسي غر المدائح فمن قصائده الفائقة في أبي دلف القصيدة التي أولها
(ذاد ورد الغي عن صدره
* فارعوى واللهو من وطره)
يقول في مدحها
(إنما الدنيا أبو دلف
* بين مغزاه ومختضره)
(فإذا ولى أبو دلف
* ولت الدنيا على أثره)
ومنها
(كل من في الأرض من عرب
* بين باديه إلى حضره)
(مستعير منك مكرمة
* يكتسيها يوم مفتخره)
وهي طويلة عددها ثمانية وخمسمون بيتا ولولا خوف الإطالة لأثبتها كلها لأجل حسنها
ولقد سئل شرف الدين بن عنين الآتي ذكره إن شاء الله تعالى وكان من أخبر الناس بنقد الشعر عن هذه القصيدة وقصيدة أبي نواس الموازنة لها التي أولها
(أيها المنتاب من عفره
* لست من ليلي ولا سمره)
وهي من نوادر الشعر أيضا فلم يفضل إحداهما على الأخرى وقال ما يصلح أن يفاضل بين هاتين إلا شخص يكون في درجة هذين الشاعرين
ورأيت لأبي العباس المبرد كلاما في وصف قصيدة أبي نواس المذكورة فإنه قال بعد ذكر القصيدة ما أحسب شاعرا جاهليا ولا إسلاميا يبلغ هذا المبلغ فضلا أن يزيد عليه جزالة وفخامة
وقال محمد بن خلف بن محمد الطائي قلت لعلي بن جبلة عارضت أبا نواس

351
بقصيدتك هذه ذاد ورد الغي عن صدره في قصيدته
ويحكى أن العكوك مدح حميد بن عبد الحميد الطوسي بعد مدحه لأبي دلف بهذه القصيدة فقال له حميد ما عسى أن تقول فينا وما أبقيت لنا بعد قولك في أبي دلف إنما الدنيا أبو دلف... وأنشد البيتين فقال أصلح الله الأمير قد قلت فيك ما هو أحسن من هذا قال وما هو فأنشد
(إنما الدنيا حميد
* وأياديه الجسام)
(فإذا ولى حميد
* فعلى الدنيا السلام)
قال فتبسم ولم يحر جوابا فأجمع من حضر المجلس من أهل المعرفة والعلم بالشعر أن هذا أحسن مما قاله في أبي دلف فأعطاه وأحسن جائزته
وحكي وقيل إنه
مدح المأمون بقصيدة أجاد فيها وتوسل بحميد الطوسي في إيصالها إليه فقال له المأمون خيره بين أن نجمع بين قوله هذا وبين قوله فيك وفي أبي دلف فإن وجدنا قوله فينا خيرا منه أجزناه عشرة آلاف وإلا ضربناه مائة سوط فخيره حميد فاختار الإعفاء
وقال ابن المعتز في طبقات الشعراء ولما بلغ المأمون خبر هذه القصيدة غضب غضبا شديدا وقال اطلبوه حيثما كان وائتوني به فطلبوه فلم يقدروا عليه لأنه كان مقيما بالجبل فلما اتصل به الخبر هرب إلى الجزيرة الفراتية وقد كانوا كتبوا إلى الآفاق أن يؤخذ حيث كان فهرب من الجزيرة حتى توسط الشامات فظفروا به فأخذوه وحملوه مقيدا إلى المأمون فلما صار بين يديه قال له يا ابن اللخناء أنت القائل في قصيدتك للقاسم بن عيسى وهو أبو دلف
(كل من في الأرض من عرب
*)
وأنشد البيتين جعلتنا ممن يستعير المكارم منه والافتخار به قال يا أمير

352
المؤمنين أنتم أهل بيت لا يقاس بكم لأن الله اختصكم لنفسه عن عباده وآتاكم الكتاب والحكم وآتاكم ملكا عظيما وإنما ذهبت في قولي إلى أقران وأشكال القاسم بن عيس من هذا الناس فقال والله ما أبقيت أحدا ولقد أدخلتنا في الكل وما أستحل دمك بكلمتك هذه ولكني أستحله بكفرك في شعرك حيث قلت في عبد ذليل مهين فأشركت بالله العظيم وجعلت معه مالكا قادرا وهو
(أنت الذي تنزل الأيام منزلها
* وتنقل الدهر من حال إلى حال)
(وما مددت مدى طرف إلى أحد
* إلا قضيت بأرزاق وآجال)
ذاك الله عز وجل يفعله أخرجوا لسانه من قفاه فأخرجوا لسانه من قفاه فمات وكان ذلك في سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد ومولده سنة ستين ومائة وقيل إنه أصابه الجدري وهو ابن سبع سنين فذهب بصره منه وهذا خلاف ما قيل في الأول
قلت هكذا ذكر ابن المعتز هذه القصة وكذلك قال أيضا أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني ورأيت في كتاب البارع في أخبار الشعراء المولدين تأليف أبي عبد الله ابن المنجم هذين البيتين مع بيت ثالث وهو
(تزور سخطا فتمسي البيض راضية
* وتستهل فتبكي أعين المال) لخلف بن مرزوق مولى علي بن ريطة والله أعلم بالصواب
ومن مديحه حميدا قوله
(تكفل ساكني الدنيا حميد
* فقد أضحوا لها فيها عيالا)
(كأن أباه آدم كان أوصى
* إليه أن يعولهم فعالا)
وقوله أيضا فيه

353
(دجلة تسقي وأبو غانم
* يطعم من تسقي من الناس)
(فالناس جسم وإمام الهدى
* رأس وأنت العين في الرأس)
ولما مات حميد في يوم عيد الفطر سنة عشر ومائتين رثاه بقصيدة من جملتها
(فأدبنا ما أدب الناس قبلنا
* ولكنه لم يبق للصبر موضع) ورثاه أبو العتاهية بقوله
(أبا غانم أما ذراك فواسع
* وقبرك معمور الجوانب محكم) (وما ينفع المقبور عمران قبره
* إذا كان فيه جسمه يتهدم)
وأخبار العكوك كثيرة ونقتصر منها على هذا القدر
والعكوك بفتح العين المهلمة والكاف وتشديد الواو وبعدها كاف ثانية وهو السمين القصير مع صلابة رحمه الله تعالى
وجبلة بفتح الجيم والباء الموحدة واللام وبعدها هاء ساكنة
وأما حميد الطوسي فإن الطبري ذكر في تاريخه تاريخ وفاته كما ذكرته هاهنا وغالب ظني أنه توفي بفم الصلح لأنه كان مع المأمون لما توجه إليها للدخول على بوران حسبما شرحته في ترجمتها في هذا التاريخ

354
462 علي بن الجهم
أبو الحسن علي بن الجهم بن بدر بن الجهم بن مسعود بن أسيد بن أذينة بن كرار بن كعب بن جابر بن مالك بن عتبة بن جابر بن الحارث بن قطن بن مدلج بن قطن بن أحزم بن ذهل بن عمرو بن مالك بن عبيدة بن الحارث بن سامة ابن لؤي بن غالب القرشي السامي الشاعر المشهور أحد الشعراء المجيدين هكذا ساق الخطيب في تاريخ بغداد نسبه في ترجمة والده الجهم وذكره أيضا في ترجمة مفردة فقال له ديوان شعر مشهور وكان جيد الشعر عالما بفنونه وله اختصاص بجعفر المتوكل وكان متدينا فاضلا انتهى كلامه
وكان مع انحرافه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإظهاره التسنن مطبوعا مقتدرا على الشعر عذب الألفاظ وكان من ناقلة خراسان إلى العراق ثم نفاه المتوكل إلى خراسان في سنة اثنتين وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين ومائتين لأنه هجا المتوكل وكتب إلى طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين أنه إذا ورد عليه صلبه يوما فوصل إلى شاذياخ نيسابور فحبسه طاهر ثم أخرجه فصلبه مجردا نهارا كاملا فقال في ذلك
(لم ينصبوا بالشاذياخ صبيحة الاثنين
* مسبوقا ولا مجهولا)

355
(نصبوا بحمد الله ملء قلوبهم
* شرفا وملء صدورهم تبجيلا)
وهي أبيات كثيرة مشهورة ثم رجع إلى العراق ثم خرج إلى الشام وبعد ذلك ورد على المستعين كتاب من صاحب البريد بحلب أن علي بن الجهم خرج من حلب متوجها إلى العراق فخرجت عليه وعلى جماعة معه خيل من بني كلب فقاتلهم قتالا شديدا ولحقه الناس وهو جريح بآخر رمق فكان مما قال
(أزيد في الليل ليل
* أم سال بالصبح سيل)
(ذكرت أهل دجيل
* وأين مني دجيل)
وكان منزله ببغداد في شارع الدجيل وكان ورود الكتاب في شعبان سنة تسع وأربعين ومائتين وتوفي في وقته ولما نزعت ثيابه بعد موته وجدت فيها رقعة وقد كتب فيها
(يا رحمتا للغريب في البلد النازح
* ماذا بنفسه صنعا)
(فارق أحبابه فما انتفعوا
* بالعيش من بعده ولا انتفعا)
وكانت بينه وبين أبي تمام مودة أكيدة وإليه كتب أبو تمام الأبيات التي يودعه فيها التي أولها
(هي فرقة من صاحب لك ماجد
* فغدا إراقة كل دمع جامد)
وديوان شعره صغير فمنه قوله وهو معنى مليح

356
(بلاء ليس يعدله بلاء
* عداوة غير ذي حسب ودين)
(يبيحك منه عرضا لم يصنه
* ويرتع منك في عرض مصون)
وهذان البيتان قالهما في مروان بن أبي حفصة لما عمل فيه
(لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعر
* وهذا علي بعده يدعي الشعرا)
(ولكن أبي قد كان جارا لأمه
* فلما ادعى الأشعار أوهمني أمرا)
وهذا المعنى مأخوذ من قول كثير عزة وقد أنشد الفرزدق شعرا له فاستحسنه فقال له يا أبا صخر هل كانت أمك ترد البصرة فقال لا ولكن كان أبي كثيرا ما يردها
وله وقد حبس أبياته المشهورة التي أولها
(قالت حبست فقلت ليس بضائري
* حبسي وأي مهند لا يغمد)
وهي أبيات جيدة في هذا المعنى لم يعمل مثلها ولولا طولها لذكرتها
وله أيضا
(يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا
* هل أنت إلا مليك جار إذ قدرا)
(لولا الهوى لتجارينا على قدر
* فإن أفق منه يوما ما فسوف ترى)
وله أشياء حسنة
والسامي بفتح السين المهملة وبعد الألف ميم هذه النسبة إلى سامة بن لؤي المذكور في نسبه ويتصحف على كثير من الناس بالشامي بالشين المعجمة وهو غلط
ودجيل بضم الدال المهملة وفتح الجيم وسكون الياء المثناة من تحتها

357
وبعدها لام تصغير دجلة تصغير ترخيم وهو نهر بأعلى بغداد فخرجه من دجلة مقابل القادسية في الجانب الغربي بين تكريت وبغداد عليه مدن وقرى وهو غير دجيل الأهواز وهو أيضا نهر عليه قرى ومدن ومخرجه من جهة أصبهان حفره أردشير بن بابك بن ساسان أول ملوك الفرس
463 ابن الرومي
أبو الحسن علي بن العباس بن جريج وقيل جورجيس المعروف بابن الرومي مولى عبيد الله بن عيسى بن جعفر بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الشاعر المشهور صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكامنها ويبرزها في أحسن صورة ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره ولا يبقي فيه بقية وكان شعره غير مرتب ورواه عنه المسيبي ثم عمله أبو بكر الصولي ورتبه على الحروف وجمعه أبو الطيب وراق ابن عبدوس من جميع النسخ فزاد على كل نسخة مما هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت وله

358
القصائد المطولة والمقاطيع البديعة وله في الهجاء كل شيء ظريف وكذلك في المديح فمن ذلك قوله
(المنعمون وما منوا على أحد
* يوم العطاء ولو منوا لما مانوا)
(كم ضن بالمال أقوام وعندهم
* وفر وأعطى العطايا وهو يدان)
وله أيضا وقال ما سبقني إلى هذا المعنى أحد
(آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم
* في الحادثات إذا دجون نجوم)
(منها معالم للهدى ومصابح
* تجلو الدجى والأخريات رجوم)
ومن معانيه البديعة قوله
(وإذا امرؤ مدح امرءا لنواله
* وأطال فيه فقد أراد هجاءه)
(لو لم يقدر فيه بعد المستقى
* عند الورود لما أطال رشاءه)
وكذلك قوله في ذم الخضاب قال أبو الحسين جعفر بن علي الحمداني ما سبقه أحد إلى هذا المعنى
(إذا دام للمرء السواد وأخلقت
* شبيبته ظن السواد خضابا)
(فكيف يظن الشيخ أن خضابه
* يظن سوادا أو يخال شبابا)
وقوله
(كم يعد القرن باللقاء وكم
* يكذب في وعده ويخلفه)
(لا يعرف القرن وجهه ويرى
* قفاه من فرسخ فيعرفه) أخذ هذا المعنى الأخير من قول الخارجي وقد قال المنصور أي أصحابنا أشد

359
إقداما في مبارزتكم فقال ما أعرف وجوهم ولكن أعرف أقفاءهم فقل لهم يقبلوا فأعرفهم
وقال رجل لابن الرومي وهو يمازحه ما أنت والشعر وقد نلت منه حظا جسيما وأنت من العجم أراك عربيا أو مدعيا في الشعر قال بل أنت دعي إذ كنت تنسب عربيا ولا تحسن من ذلك شيئا وانشده
(إياك يا ابن بويب
* أن يستشار بويب)
(قد تحسن الروم شعرا
* ما أحسنته العريب)
وكان كثير الطيرة وربما أقام المدة الطويلة لا يتصرف تطيرا لسوء ما يراه أو يسمعه حتى إن بعض إخوانه من الأمراء افتقده وعرف بحاله في الطيرة فبعث إليه خادما اسمه إقبال ليتفاءل به فلما أخذ أهبة ركوبه قال للخادم انصرف إلى مولاك
وله في بعض الرؤساء وقد سأله حاجة فقضاها له وكان لا يتوقع منه خيرا
(سألتك في أمر فجدت ببذله
* على أنني ما خلت أنك تفعل) وألزمتني بالبذل شكرا وإنه
* علي من الحرمان أدهى وأعضل)
(وما خلت أن الدهر يثني بصرفه
* إلى أن أرى في الناس مثلك يسأل)
(لئن سرني ما نلت منك فإنه
* لقد ساءني إذ أنت ممن يؤمل)
وهذه الأبيات تنسب إلى ابن وكيع التنيسي أيضا وقد سبق ذكره واسمه الحسن والله أعلم
وبالجملة فإن محاسنه كثيرة فلا حاجة إلى الإطالة وكانت ولادته يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين ببغداد

360
في الموضع المعروف بالعقيقية ودرب الختلية في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر ابن المنصور وفي بغداد يقول وقد غاب عنها في بعض أسفاره
(بلد صحبت به الشبيبة والصبا
* ولبست ثوب العيش وهو جديد)
(فإذا تمثل في الضمير رأيته
* وعليه أغصان الشباب تميد) وتوفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وقيل أربع وثمانين وقيل ست وسبعين ومائتين ببغداد ودفن في مقبرة باب البستان وكان سبب موته رحمه الله تعالى أن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش فدس عليه ابن فراس فأطعمه خشكنانجة مسمومة وهو في مجلسه فلما أكلها أحس بالسم فقام فقال له الوزير إلى أين تذهب فقال إلى الموضع الذي بعثتني إليه فقال له سلم على والدي فقال ما طريقي على النار وخرج من مجلسه وأتى منزله وأقام أياما ومات وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة للسم فزعم أنه غلط في
بعض العقاقير قال إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي المعروف بنفطويه رأيت ابن الرومي يجود بنفسه فقلت ما حالك فأنشد
(غلط الطبيب علي غلطة مورد
* عجزت موارده عن الإصدار)
(والناس يلحون الطبيب وإنما
* غلط الطبيب إصابة المقدار)
وقال أبو عثمان الناجم الشاعر دخلت على ابن الرومي أعوده فوجدته يجود بنفسه فلما قمت من عنده قال لي
(أبا عثمان أنت حميد قومك
* وجودك للعشيرة دون لومك)
(تزود من أخيك فما أراه
* يراك ولا تراه بعد يومك)
123 وكان الوزير المذكور عظيم الهيبة شديد الإقدام سفاكا للدماء وكان

361
الكبير والصغير منه على وجل لا يعرف أحد من أرباب الأموال معه نعمة وتوفي الوزير المذكور عشية الأربعاء لعشر خلون من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين ومائتين في خلافة المكتفي وعمره نيف وثلاثون سنة وفي ذلك يقول عبد الله بن الحسن بن سعد
(شربنا عشية مات الوزير
* سرورا ونشرب في ثالثه)
(فلا رحم الله تلك العظام
* ولا بارك الله في وارثه)
وكان لهذا الوزير أخ يقال له أبو محمد الحسن فمات في حياة أبيه والوزير فعمل أبو الحارث النوفلي وقيل البسامي وهو الأصح وسيأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى ثم رأيت في الذيل للسمعاني في ترجمة علي ابن مقلد بن عبد الله بن كرامة البواب أن أبا الحارث النوفلي قال كنت أبغض القاسم بن عبيد الله لمكروه نالني منه فلما مات أخوه الحسن قلت على لسان ابن بسام وأنشد هذه الأبيات وقال السمعاني قبل هذا الكلام قال أبو بكر الصولي النديم وقد رأيت أبا الحارث هذا وكان رجلا صدوقا وهي هذه
(قل لأبي القاسم المرزا
* قابلك الدهر بالعجائب)
(مات لك ابن وكان زينا
* وعاش ذو الشين والمعايب)
(حياة هذا كموت هذا
* فلست تخلو من المصايب)
وعمل آخر في المعنى أيضا ولا أعرفه ثم وجدت هذه الأبيات له أيضا
(قل لأبي القاسم المرزا
* وناد يا ذا المصيبتين)
(مات لك ابن وكان زينا
* وعاش شين وأي شين)
(حياة هذا كموت هذا
* فالطم على الرأس باليدين)

362
464 البسامي الشاعر
أبو الحسن علي بن محمد بن منصور بن نصر بن بسام الشاعر المعروف بالبسامي الشاعر المشهور كانت أمه أمامة ابنة حمدون النديم وروى عنه أبو بكر الصولي وأبو سهل بن زياد وغيرهما وكان من أعيان الشعراء ومحاسن الظرفاء لسنا مطبوعا في الهجاء لم يسلم منه أمير ولا وزير ولا صغير ولا كبير وهجا أباه وإخوته وسائر أهل بيته فمن قوله في أبيه
(هبك عمرت عمر عشرين نسرا
* أترى أنني أموت وتبقى)
(فلئن عشت بعد موتك يوما
* لأشقن جيب مالك شقا)
وله
(أقصرت عن طلب البطالة والصبا
* لما علاني للمشيب قناع)
(لله أيام الشباب ولهوه
* لو أن أيام الشباب تباع)
(فدع الصبا يا قلب واسل عن الهوى
* ما فيك بعد مشيبك استمتاع)
(وانظر إلى الدنيا بعين مودع
* فلقد دنا سفر وحان وداع)
(والحادثات موكلات بالفتى
* والناس بعد الحادثات سماع)

363
وله في الوزير ابن المرزبان وكان قد سأله برذونا فمنعه إياه
(بخلت عني بمقرف عطب
* فلن تراني ما عشت أطلبه)
(وإن تقل صنته فما خلق
* الله مصونا وأنت تركبه)
وله في أسد بن جهور الكاتب
(تعس الزمان لقد أتى بعجاب
* ومحا رسوم الظرف والآداب)
(وأتى بكتاب لو انبسطت يدي
* فيهم رددتهم إلى الكتاب)
(أو ما ترى أسد بن جهور قد غدا
* متشبها بأجلة الكتاب)
وله أيضا
(وكانت بالصراة لنا ليال
* سرقناهن من ريب الزمان)
(جعلناهن تاريخ الليالي
* وعنوان المسرة والأماني)
وكان أبوه محمد بن نصر رجلا مترفا في نهاية السرو وحسن الزي ظاهر المروءة متخصصا في هيئته ومطعمه وملبسه وتجمل داره
ويحكى أن الوزير القاسم بن عبيد الله المذكور قبله دخل على المعتضد يوما وهو يلعب بالشطرنج وينشد قول ابن بسام هذا
(حياة هذا كموت هذا
* فلست تخلو من المصائب)
وقد تقدم ذكر الأبيات الثلاثة ثم رفع المعتضد رأسه فنظر إلى الوزير فاستحيا منه فقال له يا قاسم اقطع لسان ابن بسام عنك فخرج مبادرا لقطع لسانه فبلغ ذلك المعتضد فاستدعاه وقال له لا تعرض إليه بسوء بل اقطعه بالبر والشغل فولاه البريد والجسر بجند قنسرين والعواصم من أرض الشام

364
وتوفي ابن بسام المذكور في صفر سنة اثنتين وقيل ثلاث وثلاثمائة رحمه الله تعالى عن نيف وسبعين سنة
وجده نصر بن منصور ممدوح أبي تمام
والعواصم كورة متسعة بالشام قصبتها أنطاكية وذكرها المعري بقوله
(متى سألت بغداد عني وأهلها
* فإني عن أهل العوصم سآل)
وإنما قال هذا لأن بلاده معرة النعمان من جملة العواصم
وذكر الطبري في تاريخه أن هارون الرشيد عزل الثغور كلها عن بلاد الجزيرة وقنسرين وجعلها حيزا واحدا وسميت العواصم وذلك في سنة سبعين ومائة ولما هدم المتوكل على الله قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في سنة ست وثلاثين ومائتين عمل البسامي
(تالله إن كانت أمية قد أتت
* قتل ابن بنت نبيها مظلوما)
(فلقد أتاه بنو أبيه بمثله
* هذا لعمرك قبره مهدوما)
(أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا
* في قتله فتتبعوه رميما)
وكان المتوكل كثير التحامل على علي وولديه الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين فهدم هذا المكان بأصوله ودوره وجميع ما يتعلق به وأمر أن يبذر ويسقى موضع قبره ومنع الناس من إتيانه هكذا قال أرباب التواريخ والله أعلم
ولابن بسام المذكور من التصانيف أخبار عمر بن أبي ربيعة ولم يستقص

365
أحد في بابه أبلغ منه وكتاب أخبار الأحوص وكتاب مناقضات الشعراء وكتاب ديوان رسائله وغير ذلك
465 القاضي التنوخي
أبو القاسم علي بن محمد بن أبي الفهم داود بن إبراهيم بن تميم بن جابر بن هانىء ابن زيد بن عبيد بن مالك بن مريط بن سرح بن نزار بن عمرو بن الحارث بن صبح ابن عمرو بن الحارث وهو أحد ملوك تنوخ الأقدمين ابن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة التنوخي الأنطاكي كان عالما بأصول المعتزلة والنجوم قال الثعالبي في حقه هو من أعيان أهل العلم والأدب وأفراد الكرم وحسن الشيم وكان كما قرأته في فصل للصاحب بن عباد إن أردت فإني سبحة ناسك وإن أحببت فإني تفاحة فاتك أو اقترحت فإني مدرعة راهب أو آثرت فإني تحية شارب وكان تقلد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين وحين صرف عنه ورد حضرة سيف الدولة بن حمدان زائرا ومادحا فأكرم مثواه وأحسن قراه وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد حتى أعيد إلى عمله وزيد في رزقه ورتبته وكان الوزير المهلبي وغيره من رؤساء العراق يميلون إليه ويتعصبون له ويعدونه ريحانة الندماء وتاريخ الظرفاء وكان في جملة الفقهاء والقضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة والتبسط في

366
القصف والخلاعة وهم القاضي أبو بكر ابن قريعة وابن معروف والتنوخي المذكور وغيرهم وما منهم إلا أبيض اللجية طويلها وكذلك كان المهلبي فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه وهبوا ثوب الوقار للعقار وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش ووضع في يد كل واحد منهم طاس ذهب فيه ألف مثقال مملوء شرابا قطربليا أو عكبريا فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتى تتشرب أكثره ويرش بها بعضهم بعضا ويرقصون بأجمعهم وعليهم المصبغات ومخانق المنثور والبرم فإذا أصبحوا عادوا كعادعتهم في التوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء وأورد من شعره قوله
(وراح من الشمس مخلوقة
* بدت لك في قدح من نهار)
(هواء ولكنه جامد
* وماء ولكنه غير جار)
(كأن المدير لها باليمين
* إذا مال للسقي أو باليسار)
(تدرع ثوبا من الياسمين
* له فرد كم من الجلنار)
وأورد له أيضا
(بأبي حسنك لو أشبهه
* منك صنيع)
(أنت بدر ما له في
* فلك الوصل طلوع)
وأورد له
(رضاك شباب لا يليه مشيب
* وسخطك داء ليس منه طبيب)
(كأنك من كل النفوس مركب
* فأنت إلى كل النفوس حبيب)
وذكر له شيئا كثيرا غير هذا

367
وقال المسعودي في كتاب مروج الذهب وقد عارض أبو القاسم التنوخي المذكور أبا بكر ابن دريد في مقصورته وذكر منها أبياتا ومدح فيها تنوخ وقومه من قضاعة
وقال غيره حكى أبو محمد الحسن بن عسكر الصوفي الواسطي قال كنت ببغداد في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة جالسا على دكة بباب أبرز للفرجة إذ جاء ثلاث نسوة فجلسن إلى جانبي فأنشدت متمثلا
(هواء ولكنه جامد
* وماء ولكنه غير جار)
وسكت فقالت إحداهن هل تحفظ لهذا البيت تماما فقلت ما أحفظ سواه فقالت إن أنشدك أحد تمامه وما قبله ماذا تعطيه فقلت ليس لي شيء أعطيه ولكني أقبل فاه فأنشدتني الأبيات المذكورة وزادت بعد البيت الأول
(إذا ما تأملتها وهي فيه
* تأملت نورا محيطا بنار)
(فهذا النهاية في الابيضاض
* وهذا النهاية في الاحمرار)
فحفظت الأبيات منها فقالت لي أين الوعد تعني التقبيل أرادت مداعبتي بذلك
وقال الخطيب إنه ولد بأنطاكية يوم الأحد لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثمان وسبعين ومائتين وقدم بغداد وتفقه بها على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وسمع الحديث وكان معتزليا وتوفي بالبصرة يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة رحمه الله

368
تعالى ودفن من الغد في تربة اشتريت له بشارع المربد وسيأتي ذكر ولده المحسن في حرف الميم إن شاء الله تعالى وكل واحد منهما له ديوان شعر
466 الناشئ الأصغر
أبو الحسن علي بن عبد الله بن وصيف المعروف بالناشىء الأصغر الحلاء الشاعر المشهور هو من الشعراء المحسنين وله في أهل البيت قصائد كثيرة وكان متكلما بارعا أخذ علم الكلام عن أبي سهل إسماعيل بن علي بن نوبخت المتكلم وكان من كبار الشيعة وله تصانيف كثيرة وكان جده وصيف مملوكا وأبوه عبد الله عطارا والحلاء بفتح الحاء المهملة وتشديد اللام ألف وإنما قيل له ذلك لأنه كان يعمل حلية من النحاس
قال أبو بكر الخوارزمي أنشدني أبو الحسن الناشئ بحلب لنفسه وهو مليح جدا
(إذا أنا عاتبت الملوك فإنما
* أخط بأقلامي على الماء أحرفا)
(وهبه ارعوى بعد العتاب ألم تكن
* مودته طبعا فصارت تكلفا)
ومضى إلى الكوفة في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وأملى شعره بجامعها وكان المتنبي وهو صبي يحضر مجلسه بها وكتب من إملائه لنفسه من قصيدة
(كأن سنان ذابله ضمير
* فليس عن القلوب له ذهاب)

369
وصارمه كبيعته بخم
* مقاصدها من الخق الرقاب)
فنظم المتنبي هذا وقال
(كأن الهام في الهيجا عيون
* وقد طبعت سيوفك من رقاد)
(وقد صغت الأسنة من هموم
* فما يخطرن إلا في فؤاد)
وكان قد قصد حضرة سيف الدولة بن حمدان بحلب ولما عزم على مفارقته وقد غمره بإحسانه كتب إليه يودعه
(أودع لا أني أودع طائعا
* وأعطي بكرهي الدهر ما كنت مانعا)
(وأرجع لا ألفي سوى الوجد صاحبا
* لنفسي إن ألفيت بالنفس راجعا)
(تحملت عنا بالصنائع والعلا
* فنستودع الله العلا والصنائعا)
(رعاك الذي يرعى بسيفك دينه
* ولقاك روض العيش أخضر يانعا)
(ومن شعره أيضا عزاها إليه الثعالبي ثم عزاها إلى أبي محمد ابن المنجم
(إذا لم تنل همم الأكرمين
* وسعيهم وادعا فاغترب)
(فكم دعة أتعبت أهلها
* وكم راحة نتجت من تعب)
وله أيضا
(إني ليهجرني الصديق تجنيا
* فأريه أن لهجره أسبابا)
(وأخاف إن عاتبته أغريته
* فأرى له ترك العتاب عتابا)
(وإذا بليت بجاهل متغافل
* يدعو المحال من الأمور صوابا)
(أوليته مني السكوت وربما
* كان السكوت عن الجواب جوابا)

370
وفي أشعاره مقاصد جميلة
وتوفي سنة ست وستين وثلاثمائة رحمه الله تعالى وقيل إنه توفي يوم الاثنين لخمس خلون من صفر من سنة خمس وستين ببغداد ومولده في سنة إحدى وسبعين ومائتين.
467 الزاهي الشاعر
أبو القاسم علي بن إسحاق بن خلف البغدادي المعروف بالزاهي الشاعر المشهور كان وصافا محسنا كثير الملح ذكره الخطيب في تاريخ بغداد فقال إنه حسن الشعر في التشبيهات وغيرها وأحسب شعره قليلا وأشار إلى أنه كان قطانا وكانت دكانه في قطيعة الربيع
وذكره عميد الدولة أبو سعد ابن عبد الرحيم في طبقات الشعراء فقال ولد يوم الاثنين لعشر ليال بقين من صفر سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وتوفي يوم الأربعاء لعشر بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة ببغداد ودفن في مقابر قريش وشعره في أربعة أجزاء وأكثر شعره في أهل البيت ومدح سيف الدولة والوزير المهلبي وغيرهما من رؤساء وقته وقال في جميع الفنون وذكر له
(صدودك في الهوى هتك استتاري
* وعاونه البكاء على اشتهاري)

371
(ولم أخلع عذاري فيك إلا
* لما عاينت من حسن العذار)
(وكم أبصرت من حسن ولكن
* عليك لشقوتي وقع اختياري)
وللزاهي المذكور في تشبيه البنفسج
(ولازوردية أوفت بزرقتها
* بين الرياض على زرق اليواقيت)
(كأنها فوق قامات ضعفن بها
* أوائل النار في أطراف كبريت)
وله
(ومدامة لضيائها في كأسها
* نور على فلك الأنامل بازغ)
(رقت وغاب عن الزجاجة لطفها
* فكأنما الإبريق منها فارغ)
ومن محاسن شعره قوله
(وبيض بألحاظ العيون كأنما
* هززن سيوفا واستلل خناجرا)
(تصدين لي يوما بمنعرج اللوى
* فغادرن قلبي بالتصبر غادرا)
(سفرن بدورا انتقبن أهله
* ومسن غصونا والتفتن جآذرا)
(وأطلعن في الأجياد بالدر أنجما
* جعلن لحبات القلوب ضرائرا)
وهذا تقسيم عجيب وقد استعمله جماعة من الشعراء لكنهم ما أتوا به على هذه الصورة فإنه أبدع فيه وهو مثل قول المتنبي
(بدت قمرا ومالت خوط بان
* وفاحت عنبرا ورنت غزالا)
وذكر الثعالبي لبعض شعراء عصره على هذا الأسلوب في وصف مغن
(فديتك يا أتم الناس ظرفا
* وأصلحهم لمتخذ حبيبا)

372
(فوجهك نزهة الأبصار حسنا
* وصوتك متعة الأسماع طيبا)
(وسائلة تسائل عنك قلنا
* لها في وصفك العجب العجيبا)
(رنا ظبيا وغنى عندليبا
* ولاح شقائقا ومشى قضيبا)
ولولا خوف التطويل لذكرت له نظائر
وللزاهي أيضا
(من عذيري من عذاري قمر
* عرض القلب لأسباب التلف)
(علم الشعر الذي عاجله
* أنه جار عليه فوقف)
والزاهي بفتح الزاي وكسر الهاء بعد الألف قال السمعاني هذه النسبة إلى قرية من قرى نيسابور ونسب إليها جماعة ثم قال وأما أبو الحسن علي ابن إسحاق بن خلف الشاعر البغدادي المعروف بالزاهي فلا أدري نسب إلى هذه القرية أم لا غير أنه بغدادي وكان حسن الشعر
468 علي بن المنجم
أبواحسن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم كان نديم المتوكل على الله ومن خواصه وجلسائه المتقدمين عنده ثم انتقل إلى من بعده من الخلفاء ولم

373
يزل مكينا عندهم حظيا لديهم يجلس بين يدي أسرتهم ويفضون إليه بأسرارهم ويأمنونه على أخبارهم ولم يزل عندهم في المنزلة العلية وكان قبل اتصاله بالخلفاء يلوذ بمحمد بن إسحاق بن إبراهيم المصعبي ثم اتصل بالفتح بن خاقان وعمل له خزانة كتب أكثرها حكمة واستكتب له شيئا عظيما يزيد على ما كان في خزانته أضعافا مضاعفة مما لم تشتمل عليه خزانته وكان راوية للأشعار والأخبار حاذقا في صنعة الغناء أخذ عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي وشاهده وصنف عدة كتب منها كتاب الشعراء القدماء والإسلاميين وكتاب أخبار إسحاق بن إبراهيم الموصلي وكتاب في الطبيخ وغير ذلك وكان شاعرا محسنا فمن شعره قوله في الطيف
(بأبي والله من طرقا
* كابتسام البرق إذ خفقا)
(زادني شوقا برؤيته
* وحشا قلبي به حرقا)
(من لقلب هائم كلف
* كلما سكنته خفقا)
(زراني طيف الحبيب فما
* زاد أن أغرى بي الأرقا)
وله أشعار حسان وعاش إلى أن خدم المعتمد على الله وتوفي في أواخر أيامه وذلك في سنة خمس وسبعين ومائتين بسر من رأى رحمه الله تعالى وخلف جماعة من الأولاد وكلهم نجباء علماء ندماء وسيأتي ذكر بعضهم في مواضعهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى

374
469 علي بن هارون المنجم
أبو الحسن علي بن أبي عبد الله هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم الشاعر المشهور ذو نسب عريق في ظرفاء الأدباء وندماء الخلفاء والوزراء وله مع الصاحب ابن عباد مجالس وفي تشريفه يقول الصاحب
(لبني المنجم فطنة لهبيه
* ومحاسن عجمية عربيه)
(ما زلت أمدحهم وأنشر فضلهم
* حتى عرفت بشدة العصبية)
ولأبي الحسن المذكور أشعار نادرة ومما يتغنى به من شعره قوله
(بيني وبينك في الهوى أسباب
* وإلى المحبة ترجع الأنساب)
(بيني وبين الدهر فيك عتاب
* سيطول إن لم يمحه الإعتاب)
(يا غائبا بوصاله وكتابه
* هل يرتجى من غيبتيك إياب)
(لولا التعلل بالرجا لتقطعت
* نفس عليك شعارها الأوصاب)
) لا يأس من روح الإله فربما
* يصل القطوع وتحضر الغياب)
وكتب إلى ابن الخوارزمي وقد وثئت رجله من عثرة لحقته
(كيف نال العثار من لم يزل منه
* مقيلا في كل خطب جسيم)

375
(أو ترقى الردى إلى قدم لم
* تخط إلا إلى مقام كريم)
وأشعاره ونوادره كثيرة
وله من التصانيف كتاب شهر رمضان عمله للإمام الراضي وكتاب النيروز والمهرجان وكتاب الرد على الخليل في العروض وكتاب ابتدأ فيه بنسب أهله عمله للوزير المهلبي ولم يتمه وكتاب رسالته في الفرق بين إبراهيم بن المهدي وإسحاق الموصلي في الغناء وكتاب اللفظ المحيط بنقض ما لفظ به اللقيط وهو يعارض كتاب أبي الفرج الأصبهاني الذي سماه الفرق والعيار بين الأوغاد والأحرار وهو ولد صاحب كتاب البارع في اختيار شعر المحدثين وسيأتي ذكره في حرف الهاء إن شاء الله تعالى وحفيد أبي الحسن المذكور قبله)
وكانت ولاته لتسع خلون من صفر سنة ست وقيل سنة سبع وسبعين ومائتين وتوفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت ليلة من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة رحمه الله تعالى وكان يخضب إلى أن توفي
470 أبو الفتح البستي
أبو الفتح علي بن محمد الكاتب البستي الشاعر المشهور صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأنيس البديع التأسيس فمن ألفاظه البديعة قوله من أصلح فاسده أرغم حاسده من أطاع غضبه أضاع أدبه عادات السادات

376
سادات العادات من سعادة جدك وقوفك عند حدك الرشوة رشاء الحاجات أجهل الناس من كان للإخوان مذلا وعلى السطان مدلا الفهم شعاع العقل المنية تضحك من الأمنية حد العفاف الرضا بالكفاف ما لخرق الرقيع ترقيع
ومن نادر شعره قوله
(إن هز أقلامه يوما ليعملها
* أنساك كل كمي هز عامله)
(وإن أقر على رق أنامله
* أقر بالرق كتاب الأنام له)
(وله
(وقد يلبس المرء حر الثياب
* ومن دونها حالة مضنيه)
(كمن يكتسي خده حمرة
* وعلتها ورم في الريه)
وله
(إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم
* بما تحدث من ماض ومن آت)
(فلا تعد لحديث إن طبعهم
* موكل بمعاداة المعادات)
(وله
(تحمل أخاك على ما به
* فما في استقامته مطمع)
(وأنى له خلق واحد
* وفيه طبائعه الأربع)
وللبستي حين تغير عليه السلطان وهو معنى بديع
(قل للأمير أدام ربي عزه
* وأناله من فضله مكنونه)

377
(إني جنيت ولم يزل أهل النهى
* يهبون للخدام ما يجنونه)
(ولقد جمعت من العيون فنونها
* فاجمع من العفو الكريم فنونه)
(من كان يرجو عفو من هو فوقه
* عن ذنبه فليعف عمن دونه)
(وله أيضا
(إذا أحسست في لفظي فتورا
* وحفظي والبلاغة والبيان)
(فلا ترتب بفهمي إن رقصي
* على مقدار إيقاع الزمان)
هكذا قاله في زهر الآداب والله أعلم
وشعره كثير في التجنيس وغيره
وتوفي سنة أربعمائة وقيل سنة إحدى وأربعمائة ببخارى والله أعلم رحمه الله تعالى
وقد تقدم الكلام على البستي في ترجمة الخطابي ورأيت في أول ديوانه أنه أبو الفتح علي بن محمد بن الحسن بن محمد بن عبد العزيز الكاتب الشاعر والله أعلم
471 التهامي الشاعر
أبو الحسن علي بن محمد التهامي الشاعر المشهور قال ابن بسام الأندلسي في كتاب الذخيرة في حقه كان مشتهر الإحسان ذرب اللسان مخلى بينه

378
وبين ضروب البيان يدل شعره على فوز القدح دلالة برد النسيم على الصبح ويعرب عن مكانه من العلوم إعراب الدمع عن سر الهوى المكتوم قلت وله ديوان شعر صغير أكثره نخب ومن لطيف نظمه قوله من جملة قصيدة طويلة مدح بها الوزير أبا القاسم ابن المغربي المقدم ذكره في حرف الحاء
(قلت لخلي وثغور الربا
* مبتسمات وثغور الملاح)
(أيهما أحلى ترى منظرا
* فقال لا أعلم كل أقاح)
ومثل هذا ما ينسب إلى ابن سناء الملك الآتي ذكره وهو
(فتحيرت أحسب الثغر عقدا
* لسليمي وأحسب العقد ثغرا)
(فلثمت الجميع قطعا لشكي
* وكذا فعل كل من يتحرى)
وله في المديح وقد بالغ فيه
(أعطى وأكثر فاستقل هباته
* فاستحيت الأنواء وهي هوامل)
(فاسم السحاب لديه وهو كنهور
* آل وأسماء البحور جداول)
وله مرثية في ولده وكان قد ما صغيرا وهي في غاية الحسن ولم يمنعني من الإتيان بها إلا أن الناس يقولون إنها محدودة فتركتها لكن من جملتها بيتان في الحساد ومعناهما غريب فأثبتهما
(إني لأرحم حاسدي لحر ما
* ضمت صدورهم من الأوغار)
(نظروا صنيع الله بي فعيونهم
* في جنة وقلوبهم في نار)

379
ومنها في ذم الدنيا
(طبعت على كدر وأنت تريدها
* صفوا من الأقذاء والأكدار)
(ومكلف الأيام ضد طباعها
* متطلب فيل الماء جذوة نار)
(وإذا رجوت المستحيل فإنما
* تبني الرجاء على شفير هار)
ومنها
(جاورت أعدائي وجاور ربه
* شتان بين جواره وجواري)
(وتلهب الأحشاء شيب مفرقي
* هذا الشعاع شواظ تلك النار)
ومعنى البيت الأخير مأخوذ من قول أبي نصر سعيد بن الشاه وهو
(قالت اسود عارضاك بشعر
* وبه تقبح الوجوه الحسان)
(قلت أشعلت في فؤادي نارا
* فعلى وجنتي منه دخان)
وله من جملة قصيدة طويلة
(كم قلت إياك الحجاز فإنه
* ضريت جآذره بصيد أسوده
(وأردت صيد مها الحجاز فلم يساعدك
* القضاء فصرت بعض صيوده)
ومن شعره المشهور قوله
(بين كريمين مجلس واسع
* والود حال يقرب الشاسع)
(والبيت إن ضاق عن ثمانية
* متسع بالوداد للتاسع)
وله بيت بديع من جملة قصيدة وهو
(وإذا جفاك الدهر وهو أبو الورى
* طرا فلا تعتب على أولاده)

380
وكان التهامي المذكور قد وصل إلى الديار المصرية مستخفيا ومعه كتب كثيرة من حسان بن مفرج بن دغفل البدوي وهو متوجه إلى بني قرة فظفروا به فقال أنا من بني تميم فلما انكشفت حاله عرف أنه التهامي الشاعر فاعتقل في خزانة البنود وهو سجن بالقاهرة المحروسة وذلك لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وأربعمائة ثم قتل سرا في سجنه في تاسع جمادى الأولى من السنة المذكورة رحمه الله تعالى وكان أصفر اللون هكذا نقلته من بعض تواريخ المصريين وهو مرتب على الأيام قد كتب مؤلفه كل يوم وما جرى فيه من الحوادث رأيت منه مجلدا واحدا ولا أعلم كم عدد مجلداته وبعد موته رآه بعض أصحابه في النوم فقال له ما فعل الله بك فقال غفر لي فقال بأي الأعمال فقال بقولي في مرثية ولدي الصغير
(جاورت أعدائي وجاور ربه
* شتان بين جواره وجواري)
والتهامي بكسر التاء المثناة من فوقها وفتح الهاء وبعد الألف ميم هذه النسبة إلى تهامة وهي تنطلق على مكة حرسها الله تعالى ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم تهامي لأنه منها وتنطلق أيضا على جبال تهامة وبلادها وهي خطة متسعة بين الحجاز وأطراف اليمن ولا أعلم هل نسبة هذا الشاعر إلى مكة أم إليها والله أعلم

381
472 ابن نوبخت
أبو الحسن علي بن أحمد بن نوبخت الشاعر كان شاعرا مجيدا إلا أنه كان قليل الحظ من الدنيا لم يزل رقيق الحال ضعيف المقدرة وتوفي بمصر في شعبان سنة ست عشرة وأربعمائة وهو على حاله من الضرورة وشدة الفاقة رحمه الله تعالى وكفنه ولي الدولة أبو محمد أحمد بن علي المعروف بابن خيران الكاتب الشاعر
124 وهذا ابن خيران كان متولي كتب السجلات عن الظاهربن الحاكم صاحب مصر وله ديوان شعر أيضا صغير الحجم ومن شعره البيتان المشهوران وهما
(سعى إليك بي الواشي فلم ترني
* أهلا لتكذيب ما ألقى من الخبر)
(ولو سعى بك عندي في ألذ كرى
* طيف الخيال لبعت النوم بالسهر)
قلت ويقرب من هذا المعنى قول أبي عبد الله الحسين بن ألقم اليمني الشاعر المشهور صاحب الرسالة المشهورة من جملة أبيات وهو قوله
(أنبئت أنك قد أتتك قوارض
* عنى ثنتك على الضمير الواجد)
(عملت رقى الواشين فيك وإنها
* عندي لتضرب في حديد بارد)
والأصل في هذا كله قول عبد الله بن الدمينة الخثعمي الشاعر المشهور

382
المعروف بنائحة العرب من جملة قصيدته البائية المشهورة وهو قوله
(وكوني على الواشين لداء شغبة
* كما أنا للواشي ألد شغوب)
ونوبخت بضم النون وسكون الواو وفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وبعدها تاء مثناة من فوقها
وإنما ذكرت ابن خيران في هذه الترجمة ولم أفرده بترجمة لأني لم أقف على تاريخ وفاته وقد التزمت في هذا الكتاب ذكر أرباب الوفيات ثم إني وجدت في كتاب طبقات الشعراء تأليف الوزير أبي سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم الملقب عميد الدولة ترجمة ولي الدولة ابن خيران المذكور وذكر له شعرا وقال كان شابا حسن الوجه ورد الخبر بوفاته في شهر رمضان من سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وكان وقوفي على هذا الفصل في أواخر سنة خمس وسبعين وستمائة بالقاهرة والله أعلم
473 صريع الدلاء
أبو الحسن علي بن عبد الواحد الفقيه البغدادي المعروف بصريع الدلاء قتيل الغواشي ذي الرقاعتين الشاعر المشهور ذكره الرشيد أبو الحسين أحمد بن الزبير المذكور في حرف الهمزة في كتاب الجنان فقال كان يسلك في

383
شعره مسلك أبي الرقعمق وله قصيدة في المجون ختمها ببيت لو لم يكن له في الجد سواه لبلغ به درجة الفضل وأحرز معه قصب السبق وهو قوله
(من فاته العلم وأخطاه الغنى
* فذاك والكلب على حال سوا)
وقدم مصر سنة اثنتي عشر وأربعمائة ومدح الظاهر لإعزاز دين الله انتهى كلام ابن الزبير
ورأيت في نسخة من ديوان شعره أنه أبو الحسن محمد بن عبد الواحد القصار البصري والله أعلم بالصواب وكانت وفاته في سابع رجب سنة اثنتي عشرة وأربعمائة فجأة من شرقة لحقته عند الشريف البطحائي وغالب ظني أنه توفي بمصر رحمه الله تعالى لأني نقلت تاريخ وفاته من التاريخ الذي ذكرته في ترجمة التهامي ومبناه على الحوادث الكائنة بمصر يوما فيوما ويؤيد ذلك أن ابن الزبير قد ذكر أنه قدم مصر في سنة اثنتي عشرة وهي السنة التي توفي فيها والله أعلم
وفيه قال أبو العلاء المعري
(دعيت بصارع فتداركته
* مبالغة فرد إلى فعيل)
كان طلب منه شرابا وما يليق به فسير له قليل نفقة واعتذر بهذه الأبيات

384
474 صردر الشاعر
الرئيس أبو منصور علي بن الحسن بن علي بن الفضل الكاتب المعروف بصردر الشاعر المشهور أحد نجباء شعراء عصره جمع بين جودة السبك وحسن المعنى وعلى شعره طلاوة رائقة وبهجة فائقة وله ديوان شعر وهو صغير وما ألطف قوله من جملة قصيدة
(نسائل عن ثمامات بحزوى
* وبان الرمل يعلم ما عنينا)
(فقد كشف الغطاء فما نبالي
* أصرحنا بذكرك أم كنينا)
(ولو أني أنادي يا سليمى
* لقالوا ما أردت سوى لبينى)
(ألا لله طيف منك يسقي
* بكاسات الكرى زورا ومينا)
(مطيته طوال الليل جفني
* فكيف شكا إليك وجى وأينا)
(فأمسينا كأنا ما افترقنا
* وأصبحنا كأنا ما التقينا)
وقوله في الشيب
(لم أبك أن رحل الشباب وإنما
* أبكي لأن يتقارب الميعاد)

385
(شعر الفتى أوراقه فإذا ذوى
* جفت على آثاره الأعواد)
وله في جارية سوداء وهو معنى حسن
(علقتها سواء مصقولة
* سواد قلبي صفة فيها)
(ما انكسف البدر على تمه
* ونوره إلا ليحكيها)
(لأجلها الأزمان أوقاتها
* مؤرخات بلياليها)
وإنما قيل له صردر لأن أباه كان يلقب صربعر لشحه فلما نبغ ولده المذكور وأجاد في الشعر قيل له صردر وقد هجاه بعض شعراء وقته وهو الشريف أبو جعفر مسعود المعروف بالبياضي الشاعر وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى
(لئن لقب الناس قدما أباك
* وسموه من شحه صر بعرا)
(فإنك تنثر ما صره
* عقوقا له وتسميه شعرا)
ولعمري ما أنصفه هذا الهاجي فإن شعره نادر وإنما العدو لا يبالي بما يقوله
وكانت وفاة صردر في سنة خمس وستين وأربعمائة وكان سبب موته أنه تردى في حفرة حفرت للأسد في قرية بطريق خراسان وكانت ولادته قبل الأربعمائة وسيأتي ذكره في ترجمة الوزير فخر الدولة بن جهير واسمه محمد وله هناك شعر بديع

386
475 الباخرزي
أبو الحسن علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي الشاعر المشهوركان أوحد عصره في فضله وذهنه والسابق إلى حيازة القصب في نظمه ونثره كان في شبابه مشتغلا بالفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه واختص بملازمة درس الشيخ أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين ثم شرع في فن الكتابة واختلف إلى ديوان الرسائل وارتفعت به الأحوال وانخفضت ورأى من الدهر العجائب سفرا وحضرا وغلب أدبه على فقهه فاشتهر بالأدب وعمل الشعر وسمع الحديث وصنف كتاب دمية القصر وعصرة أهل العصر وهو ذيل يتيمة الدهر التي للثعالبي وجمع فيها خلقا كثيرا
125 وقد وضع على هذا الكتاب أبو الحسن علي بن زيد البيهقي كتابا سماه وشاح الدمية وهو كالذيل له هكذا سماه السمعاني في المذيل وقال العماد في الخريدة هو شرف الدين أبو الحسن علي بن الحسن البيهقي والله أعلم وذكر أشياء من شعره فمن ذلك
(يا خالق الخلق حملت الورى
* لما طغى الماء على جاريه)
(وعبدك الآن طغى ماؤه
* في الصلب فحمله على جاريه)

387
رجعنا إلى الباخرزي
وديوان شعره مجلد كبير والغالب عليه الجودة فمن معانيه الغريبة قوله
(وإني لأشكو لسع اصداغك التي
* عقاربها في وجنتيك تحوم)
(وأبكي لدر الثغر منك ولي أب
* فكيف يديم الضحك وهو يتيم)
ومن قوله في شدة البرد
(كم مؤمن قرصته أظفار الشتا
* فغدا لسكان الجحيم حسودا)
(وترى طيور الماء في وكناتها
* تختار حر النار والسفودا) وإذا رميت بفضل كأسك في الهوى
* عادت عليك من العقيق عقودا)
(يا صاحب العودين لا تهملهما
* حرق لنا عودا وحرك عودا)
وقوله من جملة أبيات
(يا فالق الصبح من لألاء غرته
* وجاعل الليل من أصداغه سكنا)
(بصورة الوثن استبعدتني وبها
* فتنتني وقديما هجت لي شجنا)
(لا غرو أن أحرقت نار الهوى كبدي
* فالنار حق على من يعبد الوثنا)
ومن المنسوب إليه والله أعلم
(وإذا بكيت دما تقول شمت بي
* يوم النوى فصبغت دمعك أحمرا)
(من شاء أمنحه الغرام فدونه
* هذي خلائقها بتحيير الشرى)
هكذا أنشدنيهما بعض المتأدبين والعهدة عليه في ذلك
وقتل الباخرزي في مجلس الأنس بباخرز في ذي القعدة سنة سبع وستين

388
وأربعمائة وذهب دمه هدرا رحمه الله تعالى
وباخرز بفتح الباء الموحدة وبعد الألف خاء موحدة مفتوحة ثم راء ساكنة وبعدها زاي وهي ناحية من نواحي نيسابور تشتمل على قرى ومزارع خرج منها جماعة من الفضلاء وغيرهم
476 ابن أفلح الشاعر
جمال الملك أبو القاسم علي بن أفلح العبسي الشاعر المشهور شاعر ظريف حسن المديح كثير الهجاء مدح الخلفاء فمن دونهم من أرباب المراتب وجاب البلاد ولقي رؤساءها وأكابرها رأيت ديوانه في مجلد وسط وقد جمعه بنفسه وعمل له خطبة وقفاه وذكر عدد ما في كل قافية من بيت واعتنى بأمره وهذبه نقلت منه قوله يخاطب محبوبه
(يا جاهلا قدر المحبة ساءني
* ما ضاع من كلفي ومن تبريحي)
(سيان عندك مغرم بك هائم
* وخلي قلب فيك غير قريح)
(لو كنت أعلم أن طبعك هكذا
* لم أعص يوم نصحت فيك نصيحي)
(ما كان في عزمي السلو وإنما
* ألزمتنيه بكثرة التقبيح)
وله في غلام ناقص الجمال
(وما عشقي له وحشا لأني
* كرهت الحسن واخترت القبيحا)
(ولكن غرت أن أهوى مليحا
* وكل الناس يهوون المليحا)

389
ولابن المعتز في هذا المعنى أيضا أي في ناقص الجمال
(قلبي ميال إلى ذا وذا
* ليس يرى شيئا فيأباه)
(يهيم بالحسن كما ينبغي
* ويرحم القبح فيهواه)
ومن أبياته السائرة المشهورة من جملة أبيات قوله
(بيننا يوم أثيلات منى
* كان عن غير تراض بيننا)
ولبعض المتأخرين في المعنى الأول
(أنا لا أعشق من يعشقه
* كل الأنام)
(وأعاف المنهل العذب
* لبغضي في الزحام)
وله في غلام أعرج أي لابن أفلح المذكور
(بأبي من رأيته يتثنى
* فهو من لينه يحل ويعقد)
(حسدوه على الجمال فقالوا
* أعرج والمليح ما زال يحسد)
(هو غصن والحسن في الغصن الناعم
* ما كان مائلا يتأود)
وله في بعض الرؤساء وقد وصل إلى بابه فمنعه البواب من الدخول إليه
(حمدت بوابك إذ ردني
* وذمه غيري على رده)
(لأنه قلدني نعمة
* تستوجب الإغراق في حمده)
(أراحني من قبح ملقاك لي
* وكبرك الزائد في حده)
وأورد له الحظيري في زينة الدهر

390
(لا غرو من جزعي لبينهم
* يوم النوى وانا أخو الفهم)
(فالقوس من خشب تئن إذا
* ما كلفوها فرقة السهم)
وقال وقد وعده رجل بدرياق وتأخر عنه
(لا غرو أن أخلف ميعاده
* من لم يجد قط ولم يكرم)
(وإنما الأعجب منه أنا
* أن أطلب الدرياق من أرقم)
وله نوادر كثيرة
وتوفي يوم الخميس ثاني شعبان سنة خمس وقيل ست وقيل سبع وثلاثين وخمسمائة وعمره أربع وستون سنة وثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما وكانت وفاته ببغداد ودفن بالجانب الغربي بمقابر قريش رحمه الله تعالى
وأفلح بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح اللام وبعدها حاء مهملة
والعبسي بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وبعدها سين مهملة هذه النسبة إلى عبس وهو اسم لعدة قبائل ولا أعلم إلى أيها ينسب المذكور وهو يتصحف بالعنسي مثل الأول لكن بدل الباء نون وهي قبيلة أيضا
477 ابن مسهر الموصلي
أبو الحسن علي بن أبي الوفاء سعد بن أبي الحسن علي بن عبد الواحد بن عبد القاهر بن أحمد بن مسهر الموصلي الملقب مهذب الدين كان شاعرا بارعا رئيسا مقدما تنقل في أكثر ولايات الموصل ومدح الخلفاء والأمراء رأيت

391
ديوان شعره في مجلدين وذكر في ديوانه أنه ولد بمدينة آمد ومن محاسن شعره قوله في صفة فهد
(وكل أهرت بادي السخط مطرح الحياء
* جهم المحيا سئ الخلق)
(والشمس مذ لقبوها بالغزالة أعطته
* الرشا حسدا من لونها اليقق)
(ونقطته حباء كي يسالمها
* على المنايا نعاج الرمل بالحدق)
(هذا ولم يبرزا مع سلم جانبه
* يوما لناظره إلا على فرق)
ومن هذه القصيدة في صفة الخيل
(سود حوافرها بيض جحافلها
* صبغ تولد بين الصبح والغسق)
(من طول ما وطئت ظهر الدجا خببا
* وطول ما كرعت من منهل الفلق)
وهي قصيدة بديعة وأولها
(هي الموارد بين السحر والحدق
* فرد دنان المنايا مورد الأنق)
(وأطيب العيش ما تجنيه من تعب
* وأعذب الشرب ما يصفو من الرنق)
(يا دار درك إخلاف الغمام على
* مر النسيم بجاري الغيث منبثق)
(وإن عدتك عوادي المزن فانتجعي
* بأروض الأرض من أجفان ذي حرق)
وهذه الأبيات مع أنها جيدة مأخوذة من أبيات الأمير أبي عبد الله محمد بن أحمد السراج الصوري وكان معاصره وهي من جملة قصيدة

392
(شئن البراثن في فيه وفي يده
* ما في الصوارم والعسالة الذبل)
(تنافس الليل والنهار معا
* فقمصاه بجلباب من المقل)
(والشمس منذ دعوها بالغزالة لم
* تبرز لناظره إلا على وجل)
ومن شعر ابن مسهر أيضا بيتان كتبهما إلى بعض الرؤساء
(ولما اشتكيت اشتكى كل ما
* على الأرض واعتل شرق وغرب)
(لأنك قلب لجسم الزمان
* وما صح جسم إذا اعتل قلب)
وذكره العماد الكاتب في الخريدة وبالغ في الثناء عليه ثم قال أنشدني العلم الشاتاني له هذه القصيدة
(حسرت عن يومنا النوب
* واكتسى نواره العشب)
(واستقامت في مجرتها
* بالأماني السبعة الشهب)
(يا خليلي أين مصطبح
* فيه للذات مصطحب)
(وثغور الزهر ضاحكة
* ودموع القطر تنسكب)
(ولنا في كل جارحة
* من غنا أطياره طرب)
(اسقنيها بنت دسكرة
* وهي أم حين تنتسب)
(خندريس دون مدتها
* جاءت الأزمان والحقب)
(طاف يجلوها لنا رشأ
* قصرت عن لحظه القضب)
(أوقدتها نار وجنته
* فهي في كفيه تلتهب)
(ولها من ذاتها طرب
* فلهذا يرقص الحبب)
ثم قال بعد ذلك وكان قد حكى لي كمال الدين بن السهروردي قال كان ابن مسهر إذا أعجبه معنى لشاعر أو بيت عمل عليه قصيدة وادعاه لنفسه واجتمع هو والأبيوردي مرة وهو لا يعرف ابن مسهر فجرى حديث ابن

393
مسهر وأنه سرق بيت الأبيوردي فقال ابن مسهر بل الأبيوردي سرق شعري
وقال في الخريدة أيضا في حقه في أول ترجمته عاش إلى زماننا هذا ورأيته شيخا أناف على التسعين لما كنت بالموصل سن اثنتين وأربعين وخمسمائة ثم وصفه على جاري عادته ثم قال وابن مسهر مسهر المعاصرين حسدا ومميت القاصرين عن شأوه كمدا ثم قال في أثناء الترجمة ومن غريب الاتفاق ما حكاه السمعاني عن أبي الفتح عبد الرحمن بن أبي الغنائم محمد بن أحمد ابن علي بن عبد الغفار المعروف بابن الأخوة البيع الأديب الكاتب أنه رأى في منامه منشدا ينشد
(وأعجب من صبري القلوص التي سرت
* بهودجك المزموم أنى استقلت)
(أعاتب فيك اليعملات على النوى
* وأسأل عنك الريح من حيث هبت)
(وأطبق أحناء الضلوع على جوى
* جميع وصبر مستحيل مشتت)
قال أبو الفتح المذكور فلما انتبهت جعلت دأبي السؤال عن قائل هذين البيتين مدة فلم أجد مخبرا عنهما ومضى على ذلك عدة سنين ثم اتفق نزول أبي الحسن علي بن مسهر المذكور في ضيافتي فتجاذبنا في بعض الليالي ذكر المنامات فذكرت له حال المنام الذي رأيته وأنشدته البيتين المذكورين فقال أقسم بالله أنهما من شعري من جملة قصيدة وأنشدني منها
(إذا ما لسان الدمع نم على الهوى
* فليس بسر ما الضلوع أجنت)
(فوالله ما أدري عشية ودعت
* أناحت حمامات اللوى أم تغنت)
(وأعجب من صبري القلوص التي سرت
* بهودجك المزموم أنى استقلت)
(أعاتب فيك اليعملات على النوى
* وأسأل عنك الريح من حيث هبت)
(وأطبق أحناء الضلوع على جوى
* جميع وصبر مستحيل مشتت)
قال فعجبنا من هذا الاتفاق ثم تذاكرنا بقية ليلتنا بأنواع الأدب

394
ومن شعره أيضا وهو ما أورده له في الخريدة من قصيدة
(الوجد ما قد هيج الطللان
* مني وأذكرني حمام البان)
(أنا والحمائم حيث تندب شجوها
* فوق الأراكة سحرة سيان)
(فأنا المعنى بالقدود أمالها
* شرخ الشباب وهن بالأغصان)
ومنها
(فافخر فإنك من سلالة معشر
* عقدوا عمائمهم على التيجان)
(كل الأنام بنو أب لكنما
* بالفضل تعرف قيمة الإنسان)
وتوفي في أواخر صفر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة رحمه الله تعالى وقال العماد الكاتب في الخريدة سنة ست وأربعين ومسهر بضم الميم وسكون السين المهملة وكسر الهاء وبعدها راء وهو اسم علم
478 ابن الساعاتي
أبو الحسن علي بن رستم بن هردوز المعروف بابن الساعاتي الملقب بهاء الدين الشاعر المشهور شاعر مبرز في حلبة المتأخرين له ديوان شعر يدخل

395
في مجلدين أجاد فيه كل الإجادة وديوان آخر لطيف سماه مقطعات النيل نقلت منه قوله
(لله يوم في سيوط وليلة
* صرف الزمان بأختها لا يغلط)
(بتنا وعمر الليل في غلوائه
* وله بنور البدر فرع أشمط)
(والطل في سلك الغصون كلؤلؤ
* رطب يصافحه النسيم فبسقط)
(والطير يقرأ والغدير صحيفة
* والريح تكتب والغمامة تنقط)
وهذا تقسيم بديع ونقلت منه أيضا
(ولقد نزلت بروضة حزنية
* رتعت نواظرنا بها والأنفس)
(فظللت أعجب حيث يحلف صاحبي
* والمسك من نفحاتها يتنفس)
(ما الجو إلا عنبر والدوح إلا
* جوهر والروض إلا سندس)
(سفرت شقائقها فهم الأقحوان
* بلثمها فرنا إليه النرجس)
(فكأن ذا خد وذا ثغر يحاوله
* وله وذا أبدا عيون تحرس)
وله كل معنى مليح
أخبرني ولده بالقاهرة المحروسة أن أباه توفي يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم وعمره إحدى وخمسون سنة وستة أشهر واثنا عشر يوما ورأيت بخط بعض المشايخ وقد وافق في تاريخ الوفاة لكنه قال عاش ثمانيا وأربعين سنة وسبعة أشهر واثني عشر يوما وأنه ولد بدمشق رحمه الله تعالى والله أعلم بالصواب.
ورستم بضم الراء وسكون السين المهملة وضم التاء المثناة من فوقها وهردوز بفتح الهاء وسكون الراء وضم الدال وسكون الواو وبعدها زاي

396
وسيوط بضم السين المهملة والياء المثناة من تحتها وسكون الواو وبعدها طاء مهملة وهي بلدة بصعيد مصر ومنهم من يقول أسيوط بزيادة همزة مضمومة وسكون السين
479 ابن الآمدي قاضي واسط
أبو الفضائل علي بن أبي المظفر يوسف بن أحمد بن محمد بن عبيد الله بن الحسين ابن أحمد بن جعفر الآمدي الأصل الواسطي المولد والدار هو من بيت معروف بواسط بالصلاح والرواية والعدالة قدم بغداد وأقام بها مدة متفقها على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه على الشيخ أبي طالب المبارك بن المبارك صاحب ابن الخل ثم من بعده على أبي القاسم يعيش بن صدقة الفراتي وأعاد له درسه بالمدرسة الثقتية بباب الأزج وكان حسن الكلام في المناظرة وسمع الحديث من جماعة كبيرة ببلده وببغداد وتولى القضاء بواسط في أواخر صفر سنة أربع وستمائة وصار إليها في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة وأضيف إليه أيضا الاشراف بالأعمال الواسطية وكان له معرفة بالحساب وله أشعار رائقة فمن ذلك الأبيات السائرة وهي
(واها له ذكر الحمى فتأوها
* ودعا به داعي الصبا فتولها)
(هاجت بلابله البلابل فانثنت
* أشجانه تثني عن الحلم النهى)
(فشكا جوى وبكى أسى وتنبه الوجد
* القديم ولم يزل متنبها)

397
(قالوا وهى جلدا ولو علق الهوى
* بيلملم يوما تأوه أو وهى)
(لا تكرهوه على السلو فطائعا
* حمل الغرام فكيف يسلو مكرما)
(يا عتب لا عتب عليك فسامحي
* وصلي فقد بلغ السقام المنتهى)
(علمت بان الجزع ميل غصونه
* لما خطرت عليه في حلل البها)
(ومنحت غنج اللحظ غزلان النقا
* فلذاك أحسن ما يرى عين المها)
(لولا دلالك لم أبت متقسم العزمات
* مسلوب الرقاد متيها)
(لي أربع شهداء في صدق الولا
* دمع وحزن مفرط وتدلها)
(وبلابل تعتادني لو أنها
* في يذبل يوما لأصبح كالسها)
(لام العواذل في هواك وما ارعوى
* ونهاه عنك اللائمون وما انتهى)
(قالوا اشتهاك وقد رآك مليحة
* عجبا وأي مليحة لا تشتهى)
(أنا أعشق العشاق فيك ولا أرى
* مثلي ولا لك في الملاحة مشبها)
وله غيرها أشعار رقيقة
126 قلت هكذا وجدت هذه الأبيات منسوبة إليه ولا أتحقق صحتها والله أعلم ثم وجدت بخطي في مسوداتي أن توفي ابن الآمدي الشاعر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وكان في طبقة الغزي والأرجاني ولم أقف على اسمه ونسبه حتى أعلم من هو لكنه قال وكان من أهل النيل يعني البليدة التي في العراق وكان قد زاد على تسعين سنة فيحتمل أن تكون له هذه الأبيات المذكورة في هذه الترجمة ويحتمل أن تكون لهذا الثاني المجهول الاسم والنسب والله أعلم لكن يترجح الأول لأنه كان قاضي واسط فهو الفقيه وهذا الشاعر
وكانت ولادته بواسط في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وخمسين

398
وخمسمائة وتوفي ليلة الاثنين ثالث شهر ربيع الأول سنة ثمان وستمائة بواسط وصلي عليه يوم الاثنين ودفن عند أبيه وأهله بظاهر البلد رحمه الله تعالى
وقد تقدم الكلام على الآمدي وأن نسبته إلى آمد
480 عماد الدولة ابن بويه
عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه بن فناخسرو الديلمي صاحب بلاد فارس وقد تقدم تمام نسبه في ترجمة أخيه معز الدولة أحمد بن بويه في حرف الهمزة فأغنى عن الإعادة وعماد الدولة المذكور أول من ملك من بني بويه وكان أبوه صيادا وليست له معيشة إلا من صيد السمك وكانوا ثلاثة إخوة عماد الدولة أكبرهم ثم ركن الدولة الحسن وهو والد عضد الدولة وقد تقدم ذكره في حرف الحاء ثم معز الدولة والجميع ملكوا وكان عماد الدولة سبب سعادتهم وانتشار صيتهم واستولوا على البلاد وملكوا العراقين والأهواز وفارس وساسوا أمور الرعية أحسن سياسة ثم لما ملك عضد الدولة بن ركن الدولة اتسعت مملكته وزادت على ما كان لأسلافه ولولا خوف الإطالة لذكرت طرفا من سبب تملك الدولة المذكور وكيفية أمره من أول الحال
وذكر أبو محمد هارون بن العباس المأموني في تاريخه أن عماد الدولة المذكور اتفقت له أسباب عجيبة كانت سببا لثبات ملكه منها أنه لما ملك شيراز في

399
أول ملكه اجتمع أصحابه وطالبوه بالأموال ولم يكن معه ما يرضيهم به وأشرف أمره على الانحلال فاغتم لذلك فبينما هو مفكر قد استلقى على ظهره في مجلس قد خلا فيه للفكرة والتدبير إذ رأى حية قد خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس ودخلت موضعا آخر منه فخاف أن تسقط عليه فدعا الفراشين وأمرهم بإحضار سلم وأن تخرج الحية فلما صعدوا وبحثوا عن الحية وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين فعرفوه ذلك فأمرهم بفتحها ففتحت فوجد فيها عدة صناديق من المال والمصاغات قدر خمسمائة ألف دينار فحمل المال إلى بين يديه فسر به وأنفقه في رجاله وثبت أمره بعد أن كان قد أشفى على الانخرام ثم إنه قطع ثيابا وسأل عن خياط حاذق فوصف له خياط كان لصاحب البلد قبله فأمر بإحضاره وكان أطروشا فوقع له أنه قد سعي به إليه في وديعة كانت عنده لصاحبه وأنه طلبه لهذا السبب فلما خاطبه حلف أنه ليس عنده إلا اثنا عشر صندوقا لا يدري ما فيها فعجب عماد الدولة من جوابه ووجه معه من حملها فوجد فيها أموالا وثيابا بجملة عظيمة فكانت هذه الأسباب من أقوى دلائل سعادته
ثم تمكنت حاله واستقرت قواعده.
وكانت وفاته يوم الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وقيل تسع وثلاثين وثلاثمائة بشيراز ودفن في دار المملكة وأقام في المملكة ست عشرة سنة وعاش سبعا وخمسين سنة ولم يعقب رحمه الله تعالى
وأتاه في مرضه أخوه ركن الدولة واتفقا على تسليم بلاد فارس إلى عضد الدولة بن ركن الدولة فتسلمها

400
481 سيف الدولة بن حمدان
سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان وقد تقدم تتمة نسبه في ترجمة أخيه ناصر الدولة الحسن في حرف الحاء فلا حاجة إلى إعادته قال أبو منصور الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر كان بنو حمدان ملوكا أوجههم للصباحة وألسنتهم للفصاحة وأيديهم للسماحة وعقولهم للرجاحة وسيف الدولة مشهور بسيادتهم وواسطة قلادتهم وحضرته مقصد الوفود ومطلع الجود وقبلة الآمال ومحط الرحال وموسم الأدباء وحلبة الشعراء ويقال إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها وكان أديبا شاعرا محبا لجيد الشعر شديد الاهتزاز له وكان كل من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد الشمشاطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشر آلاف بيت
ومن محاسن شعر سيف الدولة في وصف قوس قزح وقد أبدع فيه كل

401
الإبداع وقيل إن هذه الأبيات لأبي الصقر القبيصي والأول ذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة
(وساق صبيح للصبوح دعوته
* فقام وفي أجفانه سنة الغمض)
(يطوف بكاسات العقار كأنجم
* فمن بين منقض علينا ومنفض)
(وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا
* على الجو دكنا والحواشي على الأرض)
(يطرزها قوس السحاب بأصفر
* على احمر في أخضر تحت مبيض)
(كأذيال خود أقبلت في غلائل
* مصبغة والبعض أقصر من بعض)
وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها للسوقة والبيت الأخير أخذ معناه أبو علي الفرج بن محمد بن الأخوة المؤدب البغدادي فقال في فرس أدهم محجل)
(لبس الصبح والدجنة بردين
* فأرخى بردا وقلص بردا)
وقيل إنها لعبد الصمد بن المعذل
وكانت له جارية من بنات ملوك الروم في غاية الجمال فحسدها بقية الحظايا لقربها منه ومحلها من قلبه وعزمن على إيقاع مكروه بها من سم أو غيره فبلغه الخبر وخاف عليها فنقلها إلى بعض الحصون احتياطا وقال
(راقبتني العيون فيك فأشفقت
* ولم أخل قط من إشفاق)
(ورأيت العدو يحسدني فيك
* مجدا يا أنفس الأعلاق)
(فتمنيت أن تكوني بعيدا
* والذي بيننا من الود باق)
(رب هجر يكون من خوف هجر
* وفراق يكون خوف فراق)

402
ورأيت هذه الأبيات بعينها في ديوان عبد المحسن الصوري والله أعلم لمن هي منهما
ومن شعره أيضا
(أقبله على جزع
* كشرب الطائر الفزع)
(رأى ماء فأطعمه
* وخاف عواقب الطمع)
(وصادف خلسة فدنا
* ولم يتلذ بالجرع)
ويحكى أن ابن عمه أبا فراس المقدم ذكره في حرف الحاء كان يوما بين يديه في نفر من ندمائه فقال لهم سيف الدولة أيكم يجيز قولي وليس له إلا سيدي يعني أبا فراس
(لك جسمي تعله
* فدمي لم تحله)
فارتجل أبو فراس وقال
(قال إن كنت مالكا
* فلي الأمر كله)
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج المدينة المعروف تغل ألفي دينار في كل سنة
ومن شعر سيف الدولة أيضا قوله
(تجنى علي الذنب والذنب ذنبه
* وعاتبني ظلما وفي شقه العتب)
(إذا كرم المولى بخدمة عبده
* تجنى له ذنبا وإن لم يكن ذنب)
(وأعرض لما صار قلبي بكفه
* فهلا جفاني حين كان لي القلب)
وأنشدني الفقير أيدمر الصوفي المسمى إبراهيم لنفسه دوبيت في معنى البيت الثالث

403
(قوم نقضوا عهودنا بالشعب
* من غير جناية ولا من ذنب)
صدوا وتعتبوا وقد همت بهم
* هلا هجروا وكان قلبي قلبي)
ويحكى أن سيف الدولة كان يوما بمجلسه والشعراء ينشدونه فتقدم أعرابي رث الهيئة وأنشد وهو بمدينة حلب
(أنت علي وهذه حلب
* قد نفد الزاد وانتهى الطلب)
(بهذه تفخر البلاد وبالأمير
* تزهى على الورى العرب) وعبدك الدهر قد أضر بنا
* إليك من جور عبدك الهرب)
فقال سيف الدولة أحسنت والله وأمر له بمائتي دينار
وقال أبو القاسم عثمان بن محمد العراقي قاضي عين زربة حضرت مجلس الأميرسيف الدولة بحلب وقد وافاه القاضي أبو نصر محمد بن محمد النيسابوري فطرح من كمه كيسا فارغا ودرجا فيه شعر استأذن في إنشاده فأذن له فأنشد قصيدة أولها
(حباؤك معتاد وأمرك نافذ
* وعبدك محتاج إلى ألف درهم)
فلما فرغ من إنشاده ضحك سيف الدولة ضحكا شديدا أمر له بألف درهم فجعلت في الكيس الفارغ الذي كان معه
وكان أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم المعروفان بالخالديين الشاعرين المشهورين وأبو بكر أكبرهما قد وصلا إلى حضرة سيف الدولة ومدحاه فأنزلهما وقام بواجب حقهما وبعث لهما مرة وصيفا ووصيفة ومع كل واحد منهما

404
بدرة وتخت ثياب من عمل مصر فقال أحدهما من قصيدة طويلة
(لم يغد شكرك في الخلائق مطلقا
* إلا ومالك في النوال حبيس)
(خولتنا شمسا وبدرا أشرقت
* بهما لدينا الظلمة الحنديس)
(رشأ أتانا وهو حسنا يوسف
* وغزالة هي بهجة بلقيس)
(هذا ولم تقنع بذاك وهذه
* حتى بعثت المال وهو نفيس)
(أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة
* وأتى على ظهر الوصيف الكيس)
(وحبوتنا مما أجادت حوكه
* مصر وزادت حسنه تنيس)
(فغدا لنا من جودك المأكول والمشروب
* والمنكوح والملبوس)
فقال له سيف الدولة أحسنت إلا في لفظة المنكوح فليست مما يخاطب الملوك بها
وأخبار سيف الدولة كثيرة مع الشعراء خصوصا مع المتنبي والسري الرفاء والنامي والببغاء والوأواء وتلك الطبقة وفي تعدادهم طول
وكانت ولادته يوم الأحد سابع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثمائة وقيل سنة إحدى وثلاثمائة وتوفي يوم الجمعة ثالث ساعة وقيل رابع ساعة لخمس بقين من صفر سنة ست وخمسين وثلاثمائة بحلب ونقل إلى ميافارقين ودفن في تربة أمه وهي داخل البلد وكان مرضه عسر البول
وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئا وعمله لبنة بقدر الكف وأوصى أن يوضع خده عليها في لحده فنفذت وصيته في ذلك
وملك حلب في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الإخشيد
127 ورأيت في تاريخ حلب أن أول من ولي حلب من بني حمدان الحسين بن سعيد وهو أخو أبي فراس ابن حمدان وأنه تسلمها في رجب سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وكان شجاعا موصوفا وفيه يقول ابن المنجم

405
(وإذا رأوه مقبلا قالوا ألا
* إن المنايا تحت راية ذاكا)
وتوفي يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة بالموصل ودفن بالمسجد الذي بناه في الدير الأعلى وكنت أظن أن دير سعيد الذي بظاهر الموصل منسوب إلى أبيه حتى رأيته في كتاب الديرة منسوبا إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان الأموي
وكان سيف الدولة قبل ذلك مالك واسط وتلك النواحي وتقلبت به الأحوال وانتقل إلى الشام وملك دمشق أيضا وكثيرا من بلاد الشام وبلاد الجزيرة وغزواته مع الروم مشهورة وللمتنبي في أكثر الوقائع قصائد رحمه الله تعالى
128 وملك بعده ولده سعد الدولة أبو المعالي شريف بن سيف الدولة وطالت مدته أيضا في المملكة ثم عرض له قولنج وأشفى منه على التلف وفي اليوم الثالث من عافيته واقع جاريته فلما فرغ منها سقط عنها وقد جف شقه الأيمن فدخل عيه طبيبه فأمر أن يسجر عنده الند والعنبر فأفاق قليلا فقال له الطبيب أرني مجسك فناوله يده اليسرى فقال أريد اليمين فقال ما تركت لي اليمين يمينا وكان قد حلف وغدر وتوفي ليلة الأحد لخمس بقين من شهر رمضان من سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وعمره أربعون سنة وستة أشهر وعشرة أيام
129 وتولى بعده ولده أبو الفضائل سعد ولم أقف على تاريخ وفاته وبموته انقرض ملك بني سيف الدولة
130 وتوفي أبو علي ابن الأخوة المذكور يوم الجمعة رابع عشر جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وخمسمائة وكان شاعرا مجيدا

406
482 الظاهر العبيدي
أبو هاشم علي الملقب لإعزاز دين الله ابن الحاكم بن العزيز بن المعز ابن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله صاحب مصر وقد تقدم ذكر جماعة من أهل بيته كانت ولايته بعد فقد أبيه بمدة لأن أباه فقد في السابع والعشرين من شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى وكان الناس يرجون ظهوره ويتتبعون آثاره إلى أن تحققوا عدمه فأقاموا ولده المذكور في يوم النحر من السنة المذكورة وكانت مملكته الديار المصرية وإفريقية وبلاد الشام فقصد صالح بن مرداس الكلابي المذكور في حرف الصاد مدينة حلب وحاصرها وفيها مرتضى الدولة بن لؤلؤ الجراحي غلام أبي الفضائل ابن شريف بن سيف الدولة الحمداني نيابة عن الظاهر
المذكور فانتزعها منه واستولى على ما يليها وتغلب حسان بن مفرج بن دغفل البدوي صاحب الرملة على أكثر بلاد الشام وتضعضعت دولة الظاهر وجرت أمور وأسباب يطول شرحها
واستوزر نجيب الدولة أبا القاسم علي بن أحمد الجرجرائي وكان أقطع اليدين من المرفقين قطعمهما الحاكم والد الظاهر في شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعمائة على باب القصر البحري بالقاهرة المحروسة وحمل إلى داره وكان يتولى بعض الدواوين فظهرت عليه خيانة قطع بسببها ثم بعد ذلك ولي ديوان

407
النفقات سنة تسع وأربعمائة ثم وزر للظاهر سنة ثماني عشرة وأربعمائة وهذا كله بعد أن تنقل في الخدم بالأرياف والصعيد ولما استوزر كان يكتب عنه العلامة القاضي أبو عبد الله القضاعي صاحب كتاب الشهاب وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وكانت علامته الحمد لله شكرا لنعمته واستعمل العفاف والأمانة الزائدة والاحتراز والتحفظ وفي ذلك يقول جاسوس الفلك
(يا أحمقا اسمع وقل
* ودع الرقاعة والتحامق)
(أأقمت نفسك في الثقات
* وهبك فيما قلت صادق)
(فمن الأمانة والتقى
* قطعت يداك من المرافق)
وهو منسوب إلى جرجرايا بفتح الجيمين بينهما راء ساكنة ثم راء مفتوحة وبين الألفين ياء مثناة من تحتها وهي قرية من أرض العراق)
وكانت ولادة الظاهر يوم الأربعاء عاشر رمضان سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بالقاهرة وتوفي آخر ليلة الأحد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة رحمه الله
وسمعت أنه توفي ببستان الدكة وكان بالمقس في الموضع المعروف بالدكة والله أعلم
131 وتوفي وزيره الجرجرائي سنة ست وثلاثين وأربعمائة رحمه الله تعالى في سابع شهر رمضان وكانت مدة وزارته للظاهر ولولده المستنصر سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وثمانية عشر يوما

408
483 علي بن منقذ
أبو الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الملقب سديد الملك صاحب قلعة شيزر كان شجاعا مقدما قوي النفس كريما وهو أول من ملك قلعة شيزر من بني منقذ لأنه كان نازلا مجاور القلعة بقرب الجسر المعروف اليوم بجسر بني منقذ وكانت القلعة بيد الروم فحدثته نفسه بأخذها فنازلها وتسلمها بالأمان في رجب سنة أربع وسبعين وأربعمائة ولم تزل في يده ويد أولاده إلى أن جاءت الزلزلة في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة فهدمتها وقتلت كل من فيها من بني منقذ وغيرهم تحت الهدم وشغرت فجاءها نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام في بقية السنة وأخذها
وذكر بهاء الدين بن شداد في كتاب سيرة صلاح الدين أنه جاءت زلزلة بحلب وأخربت كثيرا من البلاد وذلك في ثاني عشر شوال سنة خمس وستين وخمسمائة وهذه غير تلك فلا يظن الواقف عليه أن هذا غلط بل هما زلزلتان والأول ذكره ابن الجوزي في شذور العقود وغيره أيضا
وكان سديد الملك المذكور مقصودا وخرج من بيته جماعة نجباء أمراء فضلاء كرماء ومدحه جماعة من الشعراء كابن الخياط والخفاجي وغيرهما وكان له شعر جيد أيضا فمنه قوله وقد غضب على مملوك له وضربه
(أسطو عليه وقلبي لو تمكن من
* كفي غلهما غيظا إلى عنقي)

409
(وأستعير إذا عاقبته حنقا
* وأين ذل الهوى من عزة الحنق)
وكان موصوفا بقوة الفطنة وتنقل عنه حكاية عجيبة وهي أنه كان يتردد إلى حلب قبل تملكه شيزر وصاحب حلب يومئذ تاج الملوك محمود بن صالح بن مرداس فجرى أمر خاف سديد الملك المذكور على نفسه منه فخرج من حلب إلى طرابلس الشام وصاحبها يومئذ جلال الملك بن عمار فأقام عنده فتقدم محمود بن صالح إلى كاتبه أبي نصر محمد بن الحسين بن علي بن النحاس الحلبي أن يكتب إلى سديد الملك كتابا يتشوقه ويستعطفه ويستدعيه إليه ففهم الكاتب أنه يقصد له شرا وكان صديقا لسديد الملك فكتب الكتاب كما أمر إلى أن بلغ إلى إن شاء الله تعالى فشدد النون وفتحها فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عرضه على ابن عمار صاحب طرابلس ومن بمجلسه من خواصه فاستحسنوا عبارة الكتاب واستعظموا ما فيه من رغبة محمود فيه وإيثاره لقربه فقال سديد الملك إني أرى في الكتاب ما لا ترون ثم أجابه عن الكتاب بما اقتضاه الحال وكتب في جملة الكتاب أنا الخادم المقر بالانعام وكسر الهمزة من أنا وشدد النون فلما وصل الكتاب إلى محمود ووقف عليه الكاتب سر بما فيه وقال لأصدقائه قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى على سديد الملك وقد أجاب بما طيب نفسي وكان الكاتب قد قصد قول الله تعالى * (إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) * فأجاب سديد الملك بقوله تعالى * (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها) * فكانت هذه معدودة من تيقظه وفهمه هكذا ساق هذه الحكاية أسامة في مجموعه إلى الرشيد بن الزبير في ترجمة ابن
النحاس)
وكانت وفاته في سنة خمس وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى
وقد تقدم ذكر حفيده أسامة بن مرشد بن علي المذكور في حرف الهمزة وسيأتي ذكر والده في حرف الميم إن شاء الله تعالى
وذكرهم العماد الأصبهاني في الخريدة وبالغ في الثناء عليهم وذكر أيضا

410
في كتاب السيل والذيل أنه توفي تحت الهدم لما هدمت الزلزلة حصن شيزر يوم الاثنين ثالث رجب سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة والله أعلم
484 الصليحي
أبو الحسن علي بن محمد بن علي الصليحي القائم باليمن كان أبوه محمد قاضيا باليمن سني المذهب وكان أهله وجماعته يطيعونه وكان الداعي عامر بن عبد الله الزواحي يلاطفه ويركب إليه لرياسته وسؤدده وصلاحه وعلمه فلم يزل عامر المذكور حتى استمال قلب ولده علي المذكور وهو يومئذ دون البلوغ ولاحت له فيه مخايل النجابة وقيل كانت عنده حلية علي الصليحي في كتاب الصور وهو من الذخائر القديمة فأوقفه منه على تنقل حاله وشرف مآله وأطلعه على ذلك سرا من أبيه وأهله
ثم مات عامر عن قرب وأوصى له بكتبه وعلومه ورسخ في ذهن علي من كلامه ما رسخ فعكف على الدرس وكان ذكيا فلم يبلغ الحلم حتى تضلع من معارفه التي بلغ بها وبالجد السعيد غاية الأمل البعيد فكان فقيها في مذهب الدولة الإمامية مستبصرا في علم التأويل ثم إنه صار يحج بالناس دليلا على طريق السراة والطائف خمس عشرة سنة وكان الناس يقولون له بلغنا أنك ستملك اليمن بأسره ويكون لك شأن فيكره ذلك وينكره على قائله مع كونه أمرا قد شاع وكثر في أفواه الناس الخاصة والعامة ولما كان في سنة

411
تسع وعشرين وأربعمائة ثار في رأس مسار وهو أعلى ذروة في جبال اليمن وكان معه ستون رجلا قد حالفهم بمكة في موسم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة على الموت والقيام بالدعوة وما منهم إلا من هو من قومه وعشائره في منعة وعدد كثير ولم يكن برأس الجبل المذكور بناء بل كان قلة منيعة عالية فلما ملكها لم ينتصف نهار ذلك اليوم الذي ملكها في ليلته إلا وقد أحاط به عشرون ألف ضارب سيف وحصروه وشتموه وسفهوا رأيه وقالوا له إن نزلت وإلا قتلناك أنت ومن معك بالجوع فقال لهم لم أفعل هذا إلا خوفا علينا وعليكم أن يملكه غيرنا فإن تركتموني أحرسه وإلا نزلت إليكم فانصرفوا عنه ولم تمض عليه أشهر حتى بناه وحصنه وأتقنه
واستفحل أمر الصليحي شيئا فشيئا وكان يدعو للمستنصر صاحب مصر في الخفية ويخاف من نجاح صاحب تهامة ويلاطفه ويستكين لأمره وفي الباطن يعمل الحيلة في قتله ولم يزل حتى قتله بالسم مع جارية جميلة أهداها إليه وذلك في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة بالكدراء وفي سنة ثلاث وخمسين كتب الصليحي إلى المستنصر يستأذنه في إظهار الدعوة فأذن له فطوى البلاد طيا وفتح الحصون والتهائم ولم تخرج سنة خمس وخمسين إلا وقد ملك اليمن كله سهله ووعره وبره وبحره وهذا أمر لم يعهد مثله في جاهلية ولا إسلام حتى قال يوما وهو يخطب الناس في جامع الجند وفي مثل هذا اليوم نخطب على منبر عدن ولم يكن ملكها بعد فقال بعض من حضر مستهزئا سبوح قدوس فأمر بالحوطة عليه وخطب الصليحي في مثل ذلك اليوم على منبر عدن فقام ذلك الإنسان وتغالى في القول وأخذ البيعة ودخل في المذهب
ومن سنة خمس وخمسين استقر حاله في صنعاء وأخذ معه ملوك اليمن الذين أزال ملكهم وأسكنهم معه وولى في الحصون غيرهم واختط بمدينة صنعاء

412
عدة قصور وحلف أن لا يولي تهامة إلا لمن وزن مائة ألف دينار فوزنت له زوجته أسماء عن أخيها أسعد بن شهاب فولاه وقال لها يا مولاتنا أنى لك هذا فقالت * (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) * فتبسم وعلم أنه من خزانته فقبضه وقال * (هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا) *
ولما كان في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة عزم الصليحي على الحج فأخذ معه الملوك الذين كان يخاف منهم أن يثوروا عليه واستصحب زوجته أسماء ابنة شهاب واستخلف مكانه ولده الملك المكرم أحمد وهو ولدها أيضا وتوجه في ألفي فارس فيهم من آل الصليحي مائة وستون شخصا حتى إذا كان بالمهجم ونزل في ظاهرها بضيعة يقال لها أم الدهيم وبئر أم معبد وخيمت عساكره والملوك التي معه من حوله لم يشعر الناس حتى قيل قد قتل الصليحي فانذعر الناس وكشفوا عن الخبر فكان سعيد الأحول ابن نجاح المذكور الذي قتلته الجارية بالسم قد استتر في زبيد وكان أخوه جياش في دهلك فسير إليه وأعلمه أن الصليحي متوجه إلى مكة فتحضر حتى نقطع عليه الطريق ونقتله فحضر جياش إلى زبيد وخرج هو وأخوه سعيد ومعهما سبعون رجلا بلا مركوب ولا سلاح بل مع كل واحد جريدة في رأسها مسمار حديد وتركوا جادة الطريق وسلكوا طريق الساحل وكان بينهم وبين المهجم مسيرة ثلاثة أيام للمجد
وكان الصليحيي قد سمع بخروجهم فسير خمسة آلاف حربة من الحبشة الذين في ركابه لقتالهم فاختلفوا في الطريق فوصل سعيد ومن معه إلى طرف المخيم وقد أخذ منهم التعب والحفاء وقلة المادة فظن الناس أنهم من جملة عبيد العسكر ولم يشعر بهم إلا عبد الله أخو علي الصليحي فقال لأخيه يا مولانا

413
اركب فهذا والله الأحول سعيد بن نجاح وركب عبد الله فقال الصليحي لأخيه إني لا أموت إلا بالدهيم وبئر أم معبد معتقدا أنها أم معبد التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة فقال له رجل من أصحابه قاتل عن نفسك فهذه والله الدهيم وهذه بئر أم معبد فلما سمع الصليحي ذلك لحقه زمع اليأس من الحياة وبال ولم يبرح من مكانه حتى قطع رأسه بسيفه وقتل أخوه معه وسائر الصليحيين وذلك في الثاني عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة
ثم إن سعيدا أرسل إلى خمسة الآلاف التي أرسلها الصليحي لقتالهم وقال لهم إن الصليحي قد قتل وأنا رجل منكم وقد أخذت ثأر أبي فقدموا عليه وأطاعوه واستعان بهم على قتال عسكر الصليحي فاستظهر عليهم قتلا وأسرا ونهبا ثم رفع رأس الصليحي على عود المظلة وقرأ القارئ * (قل اللهم مالك الملك) * ورجع إلى زبيد وقد حاز الغنائم ملكا عقيما ودخلها في السادس عشر من ذي القعدة من السنة وملكها وملك بلاد تهامة ولم يزل على ذلك حتى قتل في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة بتدبير الحرة
وهي امرأة من الصليحيين وخبر ذلك يطول
ولما قتل الصليحي ورفع رأسه على عود المظلة كما تقدم ذكره عمل في ذلك القاضي العثماني
(بكرت مظلته عليه فلم ترح
* إلا على الملك الأجل سعيدها)
(ما كان أقبح وجهه في ظلها
* ما كان أحسن رأسه في عودها)
(سود الأراقم قابلت أسد الشرى
* وارحمتا لأسودها من سودها)

414
ولعلي الصليحي شعر جيد فمن ذلك قوله
(أنكحت بيض الهند سمر رماحهم
* فرؤوسهم عوض النثار نثار)
(وكذا العلا لا يستباح نكاحها
* إلا بحيث تطلق الأعمار)
وذكره العماد في الخريدة فقال ومن شعره وقيل لغيره على لسانه
(وألذ من قرع المثاني عنده
* في الحرب ألجم يا غلام وأسرج)
(خيل بأقصى حضرموت أشدها
* وصهيلها بين العراق ومنبج)
والصليحي بضم الصاد المهملة وفتح اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها حاء مهملة لا أعرف هذه النسبة إلى أي شيء هي والظاهر أنها إلى رجل فقد جاء في الأسماء الأعلام صليح ونسبوا إليه أيضا
وأما الأماكن المذكورة فكلها من بلاد اليمن ولم أتحقق ضبطها فكتبتها على الصورة التي وجدتها
وأكثر هذه الترجمة نقلته من أخبار اليمن للفقيه عمارة اليمني الشاعر وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى

415
485 العادل ابن السلار
أبو الحسن علي بن السلار المنعوت بالملك العادل سيف الدين ورأيت في مكان آخر أنه أبو منصور علي بن إسحاق عرف بابن السلار وزير الظافر العبيدي صاحب مصر رأيت في بعض تواريخ المصريين أنه كان كرديا زرزاريا وكان تربية القصر بالقاهرة وتقلبت به الأحوال في الولايات وبالصعيد وغيره إلى أن تولى الوزارة للظافر المذكور في رجب سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة
ثم وجدت في مكان آخر أن الظافر المذكور استوزر نجم الدين أبا الفتح سليم بن محمد بن مصال في أول ولايته وكان ابن مصال من أكابر أمراء الدولة ثم تغلب عليه العادل بن السلار وعدى ابن مصال إلى الجيزة ليلة الثلاثاء رابع عشر شعبان سنة أربع وأربعين وخمسمائة عندما سمع بوصول ابن السلار من ولاية الإسكندرية طالبا للوزارة ودخل ابن السلار القاهرة في الخامس عشر من الشهر المذكور وتولى تدبير الأمور ونعت بالعادل أمير الجيوش وحشد ابن مصال جماعة من المغاربة وغيرهم وجرد العادل العساكر للقائه فكسره بدلاص من الوجه القبلي وأخذ رأسه ودخل به إلى القاهرة على رمح يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي القعدة من السنة المذكورة واستمر العادل إلى أن قتل وهذا القول أصح من الأول والله أعلم
132 وكان ابن مصال من أهل لك بضم اللام وتشديد الكاف وهي

416
بليدة عند برقة من أعمالها وكان هو وأبوه يتعاطيان البيزرة والبيطرة وبذلك تقدما وكانت وزراة ابن مصال نحوا من خمسين يوما
وكان ابن السلار شهما مقداما مائلا إلى أرباب الفضل والصلاح عمر بالقاهرة مساجد ورأيت بظاهر مدينة بلبيس مسجدا منسوبا إليه وكان ظاهر التسنن شافعي المذهب ولما وصل الحافظ أبو طاهر السلفي رحمه الله تعالى إلى ثغر الإسكندرية المحروس وأقام به كما ذكرته في ترجمته ثم صار العادل المذكور واليا به احتفل به وزاد في إكرامه وعمر له هناك مدرسة فوض تدريسها إليه وهي معروفة به إلى الآن ولم أر بالإسكندرية مدرسة للشافعية سواها
وكان مع هذه الأوصاف ذا سيرة جائرة وسطوة قاطعة يؤاخذ الناس بالصغائر والمحقرات ومما يحكى عنه أنه قبل وزارته بزمان وهو يومئذ من آحاد الأجناد دخل يوما على الموفق أبي الكرم ابن معصوم التنيسي وكان يتولى الديوان فشكا إليه حاله من غرامة لزمته بسبب تفريطه في شيء من لوازم الولاية بالغربية فلما أطال عليه الكلام قال له أبو الكرم والله إن كلامك ما يدخل في أذني فحقد عليه ذلك فلما ترقى إلى درجة الوزارة طلبه فخاف منه واستتر مدة فنادى عليه في البلد وأهدر دم من يخفيه
فأخرجه الذي خبأه عنده فخرج في زي امرأة بإزار وخف فعرف فأخذ وحمل إلى العادل فأمر بإحضار لوح خشب ومسمار طويل وأمر به فألقي على جنبه وطرح اللوح تحت أذنه ثم ضرب المسمار في الأذن الأخرى وصار كلما صرخ يقول له دخل كلامي في أذنك بعد أم لا ولم يزل كذلك حتى نفذ المسمار من الأذن التي على اللوح ثم عطف المسمار على اللوح ويقال إنه شنقه بعد ذلك
وكان قد وصل من إفريقية إلى الديار المصرية أبو الفضل عباس بن أبي الفتوح ابن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي وهو صبي ومعه أمه واسمها بلارة فتزوجها العادل المذكور وأقامت عنده زمانا ورزق عباس ولدا سماه نصرا

417
فكان عند جدته في دار العادل والعادل يحنو عليه ويعزه ثم إن العادل جهز عباسا إلى جهة الشام بسبب الجهاد وكان معه أسامة بن منقذ المذكور في حرف الهمزة فلما وصل إلى بلبيس وهو مقدم الجيش الذي سار في صحبته تذاكرا طيب الديار المصرية وحسنها وما هي عليه وكونه يفارقها ويتوجه للقاء العدو ويقاسي البيكار فأشار عليه أسامة على ما قيل بقتل العادل ويستقل هو بالوزارة ويستريح من البيكار وتقرر بينهما أن ولده نصرا يباشر ذلك إذا رقد العادل فإنه معه في الدار ولا ينكر عليه ذلك وحاصل الأمر أن نصرا قتله على فراشه يوم الخميس سادس المحرم سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بدار الوزارة بالقاهرة المحروسة رحمه الله تعالى وتفصيل الواقعة يطول وقيل إنه قتل يوم السبت حادي عشر المحرم من السنة المذكورة
وكان والده في صحبة سقمان بن أرتق صاحب القدس فلما أخذ الأفضل أمير الجيوش القدس من سقمان كما هو مذكور في ترجمة أبيه أرتق وجد فيه طائفة من عسكر سقمان فضمهم الأفضل إليه وكان في جملتهم السلار والد العادل المذكور فأخذه الأفضل إليه وتقدم عنده وسماه ضيف الدولة وأكرم ولده هذا وجعل في صبيان الحجر ومعنى صبيان الحجر عندهم أن يكون لكل واحد منهم فرس وعدة فإذا قيل له عن شغل ما يحتاج أن يتوقف فيه وذلك على مثال الداوية والاسبتار فإذا تميز صبي من هؤلاء بعقل وشجاعة قدم للإمرة فترجح العادل بهذ الصفات وزاد عليها بالحزم والهيبة وترك المخالطة فأمره الحافظ وولاه الإسكندرية وكان

418
يعرف برأس البغل ثم تقدم
وهذا نصر بن عباس هو الذي قتل الظافر إسماعيل بن الحافظ صاحب مصر وقد ذكرته في ترجمته في أوائل هذا الكتاب
486 الملك الأفضل ابن صلاح الدين
أبو الحسن علي الملقب الملك الأفضل نور الدين ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب سمع بالإسكندرية من الإمام أبي الطاهر إسماعيل بن مكي بن عوف الزهري وبمصر من العلامة أبي محمد عبد الله بن بري النحوي وأجاز له أبو الحسين أحمد بن حمزة بن علي السلمي وأبو عبد الله محمد بن علي بن صدقة الحراني وغيرهما من الشاميين وأجاز له أبو القاسم هبة الله بن علي بن مسعود وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن حامد وغيرهما من المصريين وكان يكتب خطا حسنا واجتمعت فيه فضائل
وكان أكبر أولاد أبيه وإليه كانت ولاية عهده فلما توفي بدمشق رحمه الله تعالى كما سيأتي في ترجمته وكان الملك الأفضل في صحبته استقل بمملكة دمشق واستقل أخوه الملك العزيز عماد الدين عثمان بالديار المصرية كما سبق في ترجمته وبقي الملك الظاهر أخوهما بحلب ثم إن الملك الأفضل جرت له مع أخيه وقائع في أسباب يطول شرحها وآخر الأمر أن العزيز والملك العادل عمه

419
حاصرا دمشق وأخذاها من الأفضل وأعطياه صرخد فمضى إليها وأقام بها قليلا فمات العزيز بمصر وتولى ولده الملك المنصور محمد وكان صغيرا فطلب الملك الأفضل من صرخد ليكون أتابكه وكان طلبه ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة عقيب موت أخيه العزيز عثمان ومشى في ركاب المنصور محمد ابن العزيز
ثم إن الملك العادل قصد الديار المصرية وأخذها ودفع للأفضل عدة بلاد بالشرق فمضى إليها فلم يحصل له سوى سميساط فأقام بها ولم يزل بها إلى أن مات
وما أحسن كلام القاضي الفاضل من جملة كتاب كتبه في أثناء هذه الوقائع أما هذا البيت فإن الآباء منه اتفقوا فملكوا والأبناء اختلفوا فهلكوا وإذا غرب نجم فما في الحيلة تشريقه وإذا بدا خرق ثوب فما يليه إلا تمزيقه وهيهات أن يسد على قدر طريقه وقد قدر طروقه وإذا كان الله مع خصم على خصم فمن كان الله معه فمن يطيقه
وكان الأفضل فيه فضيلة ومعرفة وكتابة ونباهة وكان يحب العلماء ويعظم حرمتهم وله شعر فمن المنسوب إليه أنه كتبه إلى الإمام الناصر يشكو من عمه العادل وأخيه العزيز لما أخذا منه دمشق
(مولاي إن أبا بكر وصاحبه
* عثمان قد غصبا بالسيف حق علي)
(وهو الذي كان قد ولاه والده
* عليهما فاستقام الأمر حين ولي)
(فخالفاه وحلا عقد بيعته
* والأمر بينهما والنص فيه جلي)
(فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي
* من الأواخر ما لاقى من الأول)
فجاءه جواب الإمام الناصر وفي أوله

420
(وافى كتابك يا ابن يوسف معلنا
* بالود يخبر أن أصلك طاهر)
(غصبوا عليا حقه إذ لم يكن
* بعد النبي له بيثرب ناصر)
(فأبشر فإن غدا عليه حسابهم
* واصبر فناصرك الإمام الناصر)
وكانت ولادته يوم عيد الفطر وقت العصر سنة ست وقيل خمس وستين وخمسمائة بالقاهرة ووالده يومئذ وزير المصريين وتوفي في صفر سنة اثنتين وعشرين وستمائة فجأة بسميساط رحمه الله تعالى ونقل إلى حلب ودفن في تربته بظاهر حلب بالقرب من مشهد الهروي
وسميساط بضم السين المهملة وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح السين الثانية وبعد الألف طاء مهملة وهي قلعة في بر الشام على الفرات في ناحية بلاد الروم بين قلعة الروم وملطية
487 ابن الفرات
أبو الحسن علي بن محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات وزير المقتدر بالله بن المعتضد بالله وزر له ثلاث دفعات فالأولى منهن لثمان خلون من شهر ربيع الأول وقيل لسبع بقين منه سنة ست وتسعين ومائتين ولم يزل وزيره إلى أن قبض عليه لأربع خلون من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين ونكبه وهب داره وأمواله واستغل من أملاكه إلى أن عاد إلى الوزارة في المرة الثانية سبعة آلاف ألف دينار وذكروا عنه أنه كتب إلى الأعراب ان يكبسوا بغداد

421
والله أعلم ثم عاد إلى الوزارة يوم الاثنين لثمان خلون من ذي الحجة سنة أربع وثلاثمائة وخلع عليه سبع خلع وحمل إليه ثلاثمائة ألف درهم لغلمانه وخمسون بغلا لثقله وعشرون خادما وغير ذلك من العدد والآلات وزاد في ذلك اليوم في ثمن الشمع في كل من قيراط ذهب لكثرة استعماله إياه وكان ذلك النهار شديد الحر فسقي في ذلك النهار وتلك الليلة في داره أربعون ألف رطل ثلج ولم يزل على وزارته إلى أن قبض عليه يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة ست وثلاثمائة ثم عاد إلى الوزارة يوم الخميس لسبع ليال بقين من ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وكان يوم خرج من الحبس مغتاظا فصادر الناس وأطلق يد ولده المحسن فقتل حامد بن العباس الوزير الذي كان قبل أبيه وسفك الدماء ولم يزل وزيرا إلى أن قبض عليه لتسع ليال خلون من ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وقيل قبض عليه يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول
وكان يملك أموالا كثيرة تزيد على عشرة آلاف ألف دينار وكان يستغل من ضياعه في كل سنة ألفي ألف دينار ينفقها قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي مدحته بقصيدة فحصل لي في ذلك اليوم ستمائة دينار
وكان كاتبا كافيا خبيرا قال الإمام المعتضد بالله لعبيد الله بن سليمان قد دفعت إلى ملك مختل وبلاد خراب ومال قليل وأريد أعرف ارتفاع الدنيا لتجري النفقات عليه فطلب عبيد الله ذلك من جماعة من الكتاب فاستمهلوه شهرا وكان أبو الحسن ابن الفرات وأخوه أبو العباس محبوسين منكوبين فأعلما بذلك فعملاه في يومين وأنفذاه فعلم عبيد الله أن ذلك لا يخفى على المعتضد فكلمه فيهما ووصفهما فاصطنعهما
وكانت في دار أبي الحسن ابن الفرات حجرة شراب يوجه الناس على اختلاف طبقاتهم إليها غلمانها يأخذون منها الأشربة والفقاع والجلاب إلى دورهم

422
وكان يجري الرزق على خمسة آلاف من أهل العلم والدين والبيوت والفقراء أكثرهم مائة درهم في الشهر وأقلهم خمسة دراهم وما بين ذلك
قال الصولي ومن فضائله التي لم يسبق إليها أنه كان إذا رفعت إليه قصة فيها سعاية خرج من عنده غلام فنادى أين فلان بن فلان الساعي فلما عرف الناس ذلك من عادته امتنعوا من السعاية بأحد واغتباظ يوما من رجل فقال اضربوه مائة سوط ثم أرسل رسولا فقال اضربوه خمسين ثم أرسل آخر وقال لا تضربوه وأعطوه عشرين دينارا فكفاه ما مر به المسكين من الخوف
قال الصولي قام من مرضه وقد اجتمعت الكتب والرقاع عنده فنظر في ألف كتاب ووقع في ألف رقعة فقلنا له بالله لا يسمع بهذا أحد خوفا من العين عليه
قال الصولي ورأيت من أدبه أنه دعا خاتم الخلافة ليختم به كتابا فلما رآه قام على رجليه تعظيما للخلافة قال ورأيته جالسا للمظالم فتقدم إليه خصمان في دكاكين في الكرخ فقال لأحدهما رفعت إلي قصة في سنة اثنتين وثمانين ومائتين في هذه الدكاكين ثم قال سنك يقصر عن هذا فقال له ذاك كان أبي قال نعم وقعت له على قصة رفعها
وكان إذا مشى الناس بين يديه غضب وقال أنا لا أكلف هذا غلماني فكيف أكلف أحرارا لا إحسان لي عليهم
وقتل نازوك صاحب الشرطة أبا الحسن ابن الفرات المذكور وابنه المحسن يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وقال بعض المؤرخين كان مولده لتسع خلون من ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائتين وكان عمر ابنه المحسن يوم قتل ثلاثا وثلاثين سنة
قال الصاحب أبو القاسم ابن عباد المقدم ذكره أنشدني أبو الحسن ابن أبي بكر العلاف وهو المشهور بكثرة الأكل قصيدة أبيه أبي بكر في الهر وقال

423
إنا كنى بالهر عن المحسن بن أبي الحسن ابن الفرات أيام محنتهم لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه قلت وقد سبق ذكر المرثية في ترجمة أبي بكر العلاف
ومن غرائب الأخبار أن زوجة المحسن ابن الفرات أرادت أن تختن ابنها بعد قتل أبيه فرأت المحسن في منامها فذكرت له تعذر النفقة فقال لها إن لي عند فلان عشرة آلاف دينار أودعته إياها فانتبهت وأخبرت أهلها فسألوا الرجل فاعترف وحمل المال عن آخره
133 وكان أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات أخو أبي الحسن المذكور أكتب أهل زمانه وأضبطهم للعلوم والآداب وللبحتري فيه القصيدة التي أولها
(بت أبدي وجدا وأكتم وجدا
* لخيال قد بات لي منك يهدي)
وتوفي أبو العباس المذكور يوم الثلاثاء منتصف شهر رمضان سنة إحدى وتسعين ومائتين
وأما أخوه أبو الخطاب جعفر بن محمد بن الفرات فإنه عرضت عليه الوزارة فأباها
134 وتولاها ابنه أبو الفتح الفضل بن جعفر وكان كاتبا مجودا وهو المعروف بابن حنزابة وهي أمه وكانت جارية رومية قلده المقتدر الوزارة يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الآخر سنة عشرين وثلاثمائة وقيل خلع عليه في أول شهر ربيع الآخر سنة عشرين وثلاثمائة والله أعلم ولم يزل وزيره إلى أن قتل المقتدر لأربع بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة وتولى الخلافة أخوه القاهر بالله فاستتر أبو الفتح ابن حنزابة فولى القاهر أبا علي محمد بن علي بن مقلة الكاتب الآتي ذكره إن شاء الله تعالى الوزارة ثم تولى أبو الفتح الدواوين في أيام القاهر أيضا وخلع القاهر وسملت عيناه في يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة

424
وولي الخلافة الراضي بالله ابن المقتدر بالله المقدم ذكره فقلد أبا الفتح ابن حنزابة الشام فتوجه إليها ثم إن الراضي بالله ولاه الوزارة وهو يومئذ مقيم بحلب وعقد له الأمر فيها يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وكوتب بالمسيرإلى الحضرة فوصل إلى بغداد يوم الخميس لست خلون من شوال من السنة فأقام ببغداد قليلا فرأى الأمور مضطربة وقد استولى الأمير أبو بكر محمد بن رائق على الحضرة فتحدث أبو الفتح مع ابن رائق في أنه يعود إلى الشام وأطمعه في حمل الأموال إليه من مصر والشام فعاد إليها في الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين فأدركه أجله بغزة وقيل بالرملة وجاءت الكتب إلى الحضرة بموته في يوم الأحد لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وقيل ست وعشرين والأول أصح ودفن في داره بالرملة وكان مولده في ليلة السبت لسبع ليال بقين من شعبان سنة تسع وسبعين ومائتين وكانت الكتب تصدر باسمه في الشام
وأما ابنه أبو الفضل جعفر بن الفضل فقد سبق ذكره في حرف الجيم من هذا الكتاب وتاريخ وفاته ومولده رحمهم الله تعالى أجمعين
وهذا الذي ذكرته في هذه الترجمة نقلته من عدة مواضع منها كتاب أخبار الوزراء تأليف الصاحب ابن عباد وكتاب عيون السير تأليف محمد بن عبد الملك الهمداني وكتاب الوزراء تأليف أبي عبد الله محمد بن أحمد الفارسي وما منهم أحد تعرض إلى قضية عبد الله بن المعتز وترجمة ابن الفرات المذكور تترتب على قضية ابن المعتز فلا بد من ذكر شيء من أحوالها وأصح التواريخ نقلا تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري فنذكر ما قاله في حوادث سنة ست وتسعين ومائتين إن القواد والكتاب اجتمعوا على خلع الخليفة المقتدر وتناظروا فيمن يجعلونه موضعه فأجمعوه رأيهم على عبد الله بن المعتز وناظروه في ذلك فأجابهم إليه على أنه لا يكون

425
في ذلك سفك دم ولا حرب فأخبروه أن الأمر يسلم إليه عفوا وأن جميع من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا فبايعهم على ذلك وكان الرأس في ذلك محمد بن داود بن الجراح وأبا المثنى أحمد بن يعقوب القاضي وواطأ محمد بن داود جماعة من القواد على الفتك بالمقتدر والعباس بن الحسن قلت وكان وزير المقتدر يومئذ
قال الطبري وكان العباس بن الحسن على ذلك قد واطأ جماعة من القواد على خلع المقتدر والبيعة لعبد الله بن المعتز فلما رأى أمره مستوسقا له مع المقتدر على ما يحب بدا له فيما كان قد عزم عليه من ذاك فحينئذ وثب به الآخرون فقتلوه يعني الوزير المذكور وقال الطبري وكان الذي تولى قتله بدر الأعجمي والحسين بن حمدان ووصيف بن صوارتكين وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول ولما كان من غد هذا اليوم وهو يوم الأحد خلع المقتدر الكتاب والقواد وقضاة بغداد وبايعوا عبد الله بن المعتز ولقبوه الراضي بالله وكان الذي يأخذ البيعة له على القواد ويلي استحلافهم والدعاء بأسمائهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار حرب شديدة من غدوة إلى انتصاف النهار وفي هذا اليوم انفضت الجموع التي كان ابن داود جمعها لبيعة ابن المعتز عنه وذلك أن الخادم الذي يدعى مؤنسا حمل غلمانا من غلمان الدار في الشذوات قلت وهي عندهم المراكب قال فصاعد بها وهم فيها وهي في دجلة فلما جاوزوا الدار التي فيها ابن المعتز ومحمد بن داود صاحوا بهم ورشقوهم بالنشاب فتفرقوا وهرب من كان في الدار من الجند والقواد والكتاب وهرب ابن المعتز ولحق بعض الذين بايعوا ابن المعتز بالمقتدر فاعتذروا إليه بأنهم منعوا من المصير إليه واستخفى بعضهم فطلبوا وأخذوا وقتلوا وانتهبت العامة دور ابن داود وأخذ ابن المعتز فيمن أخذ انتهى كلام الطبري في ذلك

426
135 فنذكر ما قال غيره جمعته من مواضع متفرقة حاصله أن عبد الله بن المعتز رتب للوزارة في ذلك اليوم محمد بن داود المذكور وللقضاء أبا المثنى المذكور فلما انتقض أمره وأخذ ابن المعتز استتر ابن داود وكان من فضلاء أهل عصره وله عدة تصانيف منها كتاب الورقة في أخبار الشعراء وكتاب الوزراء وغير ذلك ثم ظهر المؤنس الخادم المذكور وخافه أبو الحسن علي ابن الفرات المذكور فأشار على مؤنس بقتله فقتل وأخرج وطرح في سقاية عند المأمونية فحمل إلى منزله وكان قتله في شهر ربيع الآخر من السنة ومولده في سنة ثلاث وأربعين ومائتين في الليلة التي توفي فيها إبراهيم بن العباس الصولي المقدم ذكره
ولما عاد أمر المقتدر إلى ما كان عليه وقد قتل وزيره العباس بن الحسن في التاريخ الذي ذكره الطبري استوزر أبا الحسن علي بن الفرات المذكور فأول ما ظهر من محاسنه أنه حمل إليه من دار ابن المعتز صندوقان عظيمان فقال أعلمتم ما فيهما قيل نعم جرائد بأسماء من بايعه فقال لا تفتحوهما ودعا بنار فطرح الصندوقين فيها فلما
احترقا قال لو فتحتهما وقرأت ما فيهما فسدت نيات الناسب أجمعهم علينا واستشعروا منا ومع ما فعلناه قد هدأت القلوب وسكنت النفوس
ومما يتعلق بهذه الترجمة أن القاهر بالله لما خلع وسملت عيناه كما ذكرناه آل به الأمر إلى أن خرج إلى جامع المنصور ببغداد فعرف الناس بنفسه وسألهم التصدق عليه فقام إليه ابن أبي موسى الهاشمي فأعطاه ألف درهم وفي ذلك عبرة لأولي الألباب
وقد سبق ذكر عبد الله بن المعتز في ترجمته لكن هذه الحاجة دعت إلى إعادتها هاهنا
ونقلت من كتاب الأعيان والأماثل تأليف الرئيس أبي الحسن هلال بن المحسن بن أبي إسحاق إبراهيم الصابي وحدث القاضي أبو الحسين عبيد الله بن

427
عباس أن رجلا اتصلت عطلته وانقطعت مادته فزور كتابا من أبي الحسن ابن الفرات إلى أبي زنبور المادرائي عامل مصر في معناه يتضمن الوصاة به والتأكيد في الإقبال عليه والإحسان إليه وخرج إلى مصر فلقيه به فارتاب أبو زنبور في أمره لتغير الخطاب على ما جرت به العادة وكون الدعاء ألين مما يقتضيه محله فراعاه مراعاة قريبة ووصله بصلة قليلة واحتبسه عنده على وعد وعده به وكتب إلى أبي الحسن ابن الفرات يذكر الكتاب الوارد عليه وأنفذه بعينه إليه واستثبته فيه فوقف ابن الفرات على الكتاب المزور فوجد فيه ذكر الرجل وأنه من ذوي الحرمات والحقوق الواجبة عليه وما يقال في ذلك مما قد استوفى الخطاب فيه وعرضه على كتابه وعرفهم الصورة فيه وعجب إليهم منها ومما أقدم عليه الرجل وقال لهم ما الرأي في أمر هذا الرجل عندكم فقال بعضهم تأديبه أو حبسه وقال آخر قطع إبهامه لئلا يعاود مثل هذا أو يقتدي به غيره فيما هو أكثر من هذا وقال أجملهم محضرا يكشف لأبي زنبور قصته ويرسم له طرده وحرمانه فقال ابن الفرات ما أبعدكم عن الخيرية والحرية وأنفر طباعكم منها رجل توسل بنا وتحمل المشقة إلى مصر في تأميل الصلاح بجاهنا واستمداد صنع الله عز وجل بالانتساب إلينا يكون أحسن أحواله عند أحسنكم محضرا تكذيب ظنه وتخييب سعيه والله لا كان هذا أبدا ثم إنه أخذ القلم من دواته وكتب على الكتاب المزور هذا كتابي ولست أعلم لم أنكرت أمره واعترضتك شبهة فيه وليس كل من خدمنا وأوجب حقا علينا تعرفه وهذا رجل خدمني في أيام نكبتي وما أعتقده في قضاء حقه أكثر مما كلفتك في أمره من القيام به فأحسن تفقده ووفر رفده وصرفه فيما يعود عليه نفعه ويصل إلينا فيما يحقق ظنه ويبين موقعه ورده إلى أبي زنبور من يومه فلما مضت على ذلك مدة طويلة دخل على أبي الحسن ابن الفرات رجل ذو هيئة مقبولة وبزة

428
جميلة وأقبل يدعو له ويثني عليه ويبكي يده وويقبل الأرض فقال له ابن الفرات من أنت بارك الله فيك وكانت هذه كلمته فقال صاحب الكتاب المزور إلى أبي زنبور الذي صححه كرم الوزير وتفضله فعل الله به وصنع فضحك ابن الفرات وقال كم وصل إليك منه قال وصل إلي من ماله وتقسط قسطه على عماله ومعامليه وعمل صرفني فيه عشرون ألف دينار فقال ابن الفرات الحمد لله الزمنا فإنا نعرضك إلى عمل يزداد به صلاح حالك ثم أختبره فوجده كاتبا سديدا فاستخدمه وأكسبه مالا جزيلا رحمه الله تعالى ورضي عنه
والفرات بضم الفاء وبعد الراء ألف وبعدها تاء مثناة من فوقها
ونازوك بالنون وبعد الألف زاء مضمومة وبعد الواو كاف
488 ابن يونس المنجم صاحب الزيج الحاكمي
أبو الحسن علي بن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المنجم المصري المشهور صاحب الزيج الحاكمي المعروف بزيج ابن يونس وهو زيج كبير رأيته في أربع مجلدات بسط القول والعمل فيه وما أقصر في تحريره ولم أر في الأزياج على كثرتها أطول منه وذكر أن الذي أمره بعمله وابتدأه له العزيز أبو الحاكم صاحب مصر وسيأتي ذكره في حرف النون إن شاء الله تعالى

429
كان مختصا بعلم النجوم متصرفا في سائر العلوم بارعا في الشعر وعلى إصلاحه لزيج يحيى بن منصور تعويل أهل مصر في تقويم الكواكب وعدله القاضي أبو عبد الله محمد بن النعمان في جمادى الأولى سنة ثمانين وثلاثمائة وخلف ولدا متخلفا باع كتبه وجميع تصنيفاته بالأرطال في الصابونيين وكان قد أفنى عمره في الرصد والتسيير للمواليد وعمل فيها ما لا نظير له وكان يقف للكواكب قال الأمير المختار المعروف بالمسبحي أخبرني أبو الحسن المنجم الطبراني أنه طلع معه إلى جبل المقطم وقد وقف للزهرة فنزع ثوبه وعمامته ولبس ثوبا نساويا أحمر ومقنعة حمراء تقنع بها وأخرج عودا فضرب به والبخور بين يديه فكان عجيبا من العجب
قال الأمير المختار في تايخ مصر كان ابن يونس المذكور أبله مغفلا يعتم على طرطور طويل ويجعل رداءه فوق العمامة وكان طويلا وإذا ركب ضحك منه الناس لشهرته وسوء حاله ورثاثة لباسه وكان له مع هذه الهيئة إصابة بديعة غريبة في النجامة لا يشاركه فيها غيره وكان أحد الشهود وكان متفننا في علوم كثيرة وكان يضرب بالعود على جهة التأدب وله شعر حسن فمنه قوله 9
(أحمل نشر الريح عند هبوبه
* رسالة مشتاق لوجه حبيبه)
(بنفسي من تحيا النفوس بقربه
* ومن طابت الدنيا به وبطيبه)
(لعمري لقد عطلت كأسي بعده
* وغيبتها عني لطول مغيبه)
(وجدد وجدي طائف منه في الكرى
* سرى موهنا في خفية من رقيبه)
وله شعر كثير
وقد تقدم ذكر والده في حرف العين وهو صاحب التاريخ وسيأتي ذكر

430
جده في حرف الياء إن شاء الله تعالى ويحكى أن الحاكم العبيدي صاحب مصر قال وقد جرى في مجلسه ذكر ابن يونس وتغفله دخل إلى عندي يوما ومدارسه بيده فقبل الأرض وجلس وترك المداس إلى جانبه وأنا أراه وأراها وهو بالقرب مني فلما أراد أن ينصرف قبل الأرض وقدم المداس ولبسه وانصرف وإنما ذكر هذا في معرض غفلته وقلة اكتراثه
وقال المسبحي كانت وفاته بكرة يوم الاثنين لثلاث خلون من شوال سنة تسع وتسعين وثلاثمائة فجأة رحمه الله تعالى وصلى عليه في الجامع بمصر القاضي مالك بن سعيد بن أحمد بن محمد بن سليمان بن ثواب ودفن بداره بالفرائين
489 الفقيه عمارة اليمني
الفقيه أبو محمد عمارة بن أبي الحسن علي بن ريدان بن أحمد الحكمي اليمني

431
الملقب نجم الدين الشاعر المشهور نقلت من بعض تواليفه أنه من قحطان ثم الحكم بن سعد العشيرة المذحجي وأن وطنه من تهامة باليمن مدينة يقال لها مرطان من وادي وساع وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوما وبها مولده ومرباه وأنه بلغ الحلم سنة تسع وعشرين وخمسمائة ورحل إلى زبيد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فأقام بها يشتغل بالفقه في بعض مدارسها مدة أربع سنين وأنه حج سنة تسع وأربعين وخمسمائة وسيره قاسم بن هاشم ابن فليتة صاحب مكة شرفها الله تعالى رسولا إلى الديار المصرية فدخلها في شهر ربيع الأول سنة خمسين وخسمائة وصاحبها يومئذ الفاز بن الظافر والوزير الصالح ابن رزيك المذكور في حرف الطاء وأنشدهما في تلك الدفعة قصيدته الميمية وهي
(الحمد للعيس بعد العزم والهمم
* حمدا يقوم بما أولت من النعم)
(لا أجحد الحق عندي للركاب يد
* تمنت اللجم فيها رتبة الخطم)
(قربن بعد مزار العز من نظري
* حتى رأيت إمام العصر من أمم)
(ورحن من كعبة البطحاء والحرم
* وفدا إلى كعبة المعروف والكرم)
(فهل درى البيت أني بعد فرقته
* ما سرت من حرم إلا إلى حرم)
(حيث الخلافة مضروب سرادقها
* بين النقيضين من عفو ومن نقم)
(وللإمامة أنوار مقدسة
* تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم)
(وللنبوة آيات تنص لنا
* على الخفيين من حكم ومن حكم)

432
(وللمكارم أعلام تعلمنا
* مدح الجزيلين من بأس ومن كرم)
(وللعلا ألسن تثني محامدها
* على الحميدين من فعل ومن شيم)
(وراية الشرف البذاخ ترفعها
* يد الرفيعين من مجد ومن همم)
(أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا
* فوز النجاة وأجر البر في القسم)
(لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما
* وزيره الصالح الفراج للغمم)
(اللابس الفخر لم تنسج غلائله
* إلا يد الصنعين السيف والقلم)
(وجوده أوجد الأيام ما اقترحت
* وجوده أعدم الشاكين للعدم)
(قد ملكته العوالي رق مملكة
* تعير أنف الثريا عزة الشمم)
(أرى مقاما عظيم الشأن أوهمني
* في يقظتي أنها من جملة الحلم)
(يوم من العمر لم يخطر على أملي
* ولا ترقت إليه رغبة الهمم)
(ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
* عقود مدح فما أرضى لكم كلمي)
(ترى الوزارة فيه وهي باذلة
* عند الخلافة نصحا غير متهم)
(عواطف علمتنا أن بينهما
* قرابة من جميل الرأي لا الرحم)
(خليفة ووزير مد عدلهما
* ظلا على مفرق الإسلام والأمم)
(زيادة النيل نقص عند قبضهما
* فما عسى نتعاطى منة الديم)
فاستحسنا قصيدته وأجزلا صلته وأقام إلى شوال من سنة خمسين في أرغد عيش وأعز جانب ثم فارق مصر في هذا التاريخ وتوجه إلى مكة ومنها إلى زبيد في صفر سنة إحدى وخمسين ثم حج من عامه فأعاده قاسم صاحب مكة المذكور في رسالة إلى مصر مرة ثانية فاستوطنها ولم يفارقها بعد ذلك
ورأيت في كتابه الذي جعله تاريخ اليمن أنه فارق بلاده في شعبان سنة اثنتين وخمسين وكان فقيها شافعي المذهب شديد التعصب للسنة أديبا ماهرا شاعرا مجيدا محادثا ممتعا فأحسن الصالح وبنوه وأهله إليه كل الإحسان وصحبوه مع اختلاف العقيدة لحسن صحبته وله في الصالح وولده مدائح كثيرة

433
وقد تقدم طرف من خبره في ترجمة شاور السعدي والصالح ومارثاه به وكانت بينه وبين الكامل بن شاور صحبة متأكدة قبل وزارة أبيه فلما وزر استحال عليه فكتب إليه
(إذا لم يسالمك الزمان فحارب
* وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب)
(ولا تحتقر كيدا ضعيفا فربما
* تموت الأفاعي من سمام العقارب)
(فقد هد قدما عرش بلقيس هدهد
* وخرب فأر قبل ذا سد مارب)
(إذ كان رأس المال عمرك فاحترز
* عليه من الإنفاق في غير واجب)
(فبين اختلاف الليل والصبح معرك
* يكر علينا جيشه بالعجائب)
(وما راعني غدر الشباب لأنني
* أنست بهذا الخلق من كل صاحب)
(وغدر الفتى في عهده ووفائه
* وغدر المواضي في نبو المضارب)
ومنها
(إذا كان هذا الدر معدنه فمي
* فصونوه عن تقبيل راحة واهب)
(رأيت رجالا أصبحت في مآدب
* لديكم وحالي وحدها في نوادب)
(تأخرت لما قدمتهم علاكم
* علي وتأبى الأسد سبق الثعالب)
(ترى أين كانوا في مواطني التي
* غدوت لكم فيهن أكرم نائب)
(ليالي أتلو ذكركم في مجالس
* حديث الورى فيها بغمز الحواجب)
وزالت دولة المصريين وهو في البلاد
ولما ملك السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى مدحه ومدح جماعة من أهل بيته يتضمن ديوانه جميع ذلك وكتب إلى صلاح الدين قصيدة متضمنة شرح حاله وضرورته وسماها شكاية المتظلم ونكاية المتألم وهي بديعة ورثى

434
أصحاب القصر عند زوال ملكهم بقصيدة لامية طويلة أجاد فيها وغالب شعره جيد
ثم إنه شرع في أمور وأسباب من الاتفاق مع جماعة من رؤساء البلد على التعصب للمصريين وإعادة دولتهم فأحس بهم السلطان صلاح الدين وكانوا ثمانية من الأعيان ومن جملتهم الفقيه عمارة المذكور وشنقهم في يوم السبت ثاني شهر رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة بالقاهرة رحمهم الله تعالى وكان قبضهم يوم الأحد السادس والعشرين من شعبان من السنة
وله تواليف منها كتاب أخبار اليمن وفيه فوائد ومنها النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية وغير ذلك
وقال العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة إنه صلب في جملة الجماعة الذين نسب إليهم التدبير عليه يعني السلطان صلاح الدين ومكاتبة الفرنج واستدعاؤهم إليه حتى يجلسوا ولدا للعاضد وكانوا أدخوا معهم رجلا من الأجناد ليس من أهل مصر فحضر عند صلاح الدين وأخبره بما جرى فأحضرهم فلم ينكروا الأمر ولم يروه منكرا فقطع الطريق على عمر عمارة وأعيض بخرابه عن العمارة ووقعت اتفاقات عجيبة فمن جملتها أنه نسب إليه بيت من قصيدة ذكروا أنه يقول فيها
(قد كان أول هذا الدين من رجل
* سعى إلى أن دعوه سيد الأمم)
ويجوز أن يكون البيت معمولا عليه فأفتى فقهاء مصر بقتله وحرضوا السلطان على المثلة بمثله ومنها أنه كان في النوبة التي لا تقال عثرتها ولا يحترم الأديب فيها ولو أنه في سماء النظم والنثر نثرتها ومنها أنه كان قد هجا أميرا فعد ذلك من كبائره وجرى عليه الردى في جرائره ثم قال في آخر ترجمته والعجب من عمارة أنه تأبى في ذلك المقام عن الأنتماء إلى القوم وترك وغطى القدر على بصره حتى أراد أن يتعصب لهم ويعيد دولتهم

435
فهلك وإنما قال العماد هذا لأجل الأبيات التي كتبها الصالح بن رزيك يرغبه في التشيع وهي في الورقة التي هي قربها
والمذحجي بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة وبعدها جيم هذه النسبة إلى مذحج واسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب وإنما قيل له مذحج لأنه ولد على أكمة حمراء باليمن يقال لها مذحج فسمي بها وقيل غير ذلك والله أعلم
490 عمر بن أبي ربيعة المخزومي
أبو الخطاب عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة القرشي المخزومي الشاعر المشهور لم يكن في قريش أشعر منه وهو كثير الغزل والنوادر والوقائع والمجون والخلاعة وله في ذلك حكايات مشهورة وكان يتغزل في شعره بالثريا ابنة علي بن عبد الله بن الحارث ابن أمية الأصغر بن عبد شمس بن عبد مناف الأموية وقال السهيلي في الروض الأنف هي الثريا ابنة عبد الله ولم يذكر عليا ثم قال وقتيلة ابنة

436
النضر جدتها لأنها كانت تحت الحارث بن أمية وعبد الله ولدها وهو والد الثريا وهذه قتيلة هي التي أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيب وقعة بدر الأبيات القافية وكان قد قتل أباها النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري وقيل كان أخاها ومن جملة الأبيات
(أمحمد ولأنت ضنء نجيبة
من قومها والفحل فحل معرق)
(ما كان ضرك لو مننت وربما
* من الفتى وهو المغيظ المحنق)
(فالنضر أقرب من تركت وسيلة
* وأحقهم إن كان عتق يعتق)
فقال صلى الله عليه وسلم لو سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأسره في يوم بدر فلما رجع إلى المدينة أمر علي بن أبي طالب وقيل المقداد بن الأسود بقتله فقتله صبرا بين يديه بالصفراء وهي مكان بين المدينة وبدر وهذه الأبيات من جملة أبيات مذكورة في كتاب الحماسة في باب المراثي
وكانت الثريا موصوفة بالجمال فتزوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري رضي الله عنه ونقلها إلى مصر فقال عمر المذكور في زواجها يضرب المثل في الثريا وسهيل النجمين المعروفين
(أيها المنكح الثريا سهيلا
* عمرك الله كيف يلتقيان)
(هي شامية إذا ما استقلت
* وسهيل إذا استقل يماني)
وهذه الثريا وأختها عائشة أعتقتا الغريض المغني المشهور صاحب معبد

437
واسمه عبد الملك وكنيته أبو زيد وسمي الغريض باسم الطلع ويقال فيه الغريض والاغريض وإنما سمي به لنقاء لونه وقيل إنه سمي به لطراوته
يروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبة إلى المدينة اعترض الناس فمر به رجل من أهل الشام بترس قبيح فقال له يا أخا الشام مجن ابن أبي ربيعة أحسن من مجنك يريد قول ابن أبي ربيعة
(وكان مجني دون من كنت أتقي
* ثلاث شخوص كاعبان ومعصر)
وهذا البيت من جملة قصيدة وهي من ظريف شعره فمن جملتها
(فحيت إذ فاجأتها فتلهفت
* وكادت بمكتوم التحية تجهر)
(وقالت وعضت بالبنان فضحتني
* وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر)
(أريتك إن هنا عليك ولم تخف
* رقيبا وحولي من عدوك حضر)
(فوالله ما أدري أتعجيل حاجة
* سرت بك أم قد نام من كنت تحذر)
(فقلت لها بل قادني الشوق والهوى
* إليك وما عين من الناس تنظر)
(فلما تقضى الليل إلى قليله
* وكادت توالي نجمه تتغور)
(أشارت بأن الحي قد حان منهم
* هبوب ولكن موعد لك عزور)
(فما راعني إلا مناد برحلة
* وقد لاح مفتر من الصبح أشقر)
(فلما رأت من قد تنور منهم
* وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر)
(فقلت أباديهم فإما أفوتهم
* وإما أسل السيف ثأرا فيثأر)
(فقالت أتحقيقا لما قال كاشح
* علينا وتصديقا لما كان يؤثر)
(وإن كان ما لا بد منه فغيره
* من الأمر أدنى للخفاء وأستر)
(أقص على أختي بدء حديثنا
* وما لي من أن يعلما متأخر)
(لعلهما ان يبغيا لك مخرجا
* وأن يرحبا سربا بما كنت أحصر)
(فقالت لأختيها أعينا على فتى
* أتى زائرا والأمر للأمر يقدر)
(فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا
* اقلي عليك اللوم فالخطب أيسر)

438
(يقوم فيمشي بيننا متنكرا
* فلا سرنا يفشو ولا هو يظهر)
(وكان مجني دون من كنت أتقي
* ثلاث شخوص كاعبان ومعصر)
ومن شعر عمر المذكور أيضا
(حي طيفا من الأحبة زارا
* بعدما صرع الكرى السمارا)
(طارقا في المنام تحت دجى الليل
* ضنينا بأن يزور نهارا)
(قلت ما بالنا جفينا وكنا
* قبل ذاك الأسماع والأبصارا)
(قال إنا كما عهدت ولكن
* شغل الحلي أهله أن يعارا)
وكانت ولادته في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي ليلة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين للهجرة وغزا في البحر فأحرقوا السفينة فاحترق في حدود سنة ثلاث وتسعين للهجرة وعمره مقدار سبعين سنة رحمه الله تعالى وقال الهيثم بن عدي مات سنة ثلاث وتسعين للهجرة وعمره ثمانون سنة والله أعلم
وقتل والده عبد الله في سنة ثمان وسبعين للهجرة بسجستان وكان الحسن البصري رضي الله عنه إذا جرى ذكر ولادة عمر بن أبي ربيعة في الليلة التي قتل فيها عمر رضي الله عنه يقول أي حق رفع وأي باطل وضع
وكان جده أبو ربيعة يلقب ذا الرمحين واسمه عمرو وقيل حذيفة وقيل اسمه كنيته
(وكان أبو عبد الله أخا أبي جهل ابن هشام المخزومي لأمه وأمهما أسماء بنت مخربة من بني مخزوم وقيل من بني نهشل وهما ابنا عم يجمعهما المغيرة بن عبد الله
ويقظة بفتح الياء المثناة من تحتها والقاف والظاء المعجمة

439
491 عمر بن شبة
أبو زيد عمر بن شبة واسمه زيد وشبة لقب ابن عبيدة بن زيد ويقال ابن رايطة النميري البصري كان صاحب أخبار ونوادر ورواية واطلاع كثير وصنف تاريخ البصرة روى القراءة عن جبلة بن مالك عن المفضل عن عاصم بن أبي النجود وسمع الحروف من محبوب بن الحسن وروى عن عبد الوهاب الثقفي وعمرو بن علي وروى القراءة عنه عبد الله بن سليمان وعبد الله بن عمرو الوراق وأحمد بن فرج وسمع منه أبو محمد ابن الجارود وسئل عنه أبو حاتم الرازي فقال صدوق وروى عنه الحافظ
محمد بن ماجة صاحب السنن وغيره
وقد تقدم ذكره في ترجمة العباس بن الأحنف وكانت ولادته يوم الأحد مستهل رجب سنة ثلاث وسبعين ومائة وتوفي يوم الاثنين لست بقين وقيل يوم الخميس لأربع بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وقيل ثلاث وستين ومائتين بسر من رأى رحمه الله تعالى
وشبة بفتح الشين وتشديد الباء الموحدة
والنميري بضم النون وفتح الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء هذه النسبة إلى نمير بن عامر بن صعصعة وهي قبيلة كبيرة ينسب إليها جماعة من العلماء وغيرهم

440
492 الخرقي
أبو القاسم عمر بن أبي علي الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي الفقيه الحنبلي كان من أعيان الفقهاء الحنابلة وصنف في مذهبهم كتبا كثيرة من جملتها المختصر الذي يشتغل به أكثر المبتدئين من أصحابهم وكان قد أودعها في بغداد لما عزم على السفر إلى دمشق لما ظهر بها أعني بغداد من سب السلف فاحترقت في غيبته
وتوفي بدمشق وقيل ببغداد في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة رحمه الله تعالى
وكان والده أيضا من الأعيان روى عن جماعة وروت عنه جماعة رحمهم الله أجمعين
والخرقي بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء وبعدها قاف هذه النسبة إلى بيع الخرق والثياب

441
493 عمر بن ذر
أبو ذر عمر بن ذر بن عبد الله بن زرارة بن معاوية بن منبه بن غالب بن وقش بن قسيم بن موهبة بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان ابن بكيل بن جشم بن مالك وهو الخارق بن عبد الله بن كبير بن مالك ابن جشم بن حاشد بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان هكذا ساق نسبه هشام بن الكلبي في كتاب جمهرة النسب الهمداني الكوفي الفقيه القاص كان صالحا عابدا كبير القدر روى عن عطاء ومجاهد وروى عنه وكيع وأهل العراق وكان ولده ذر كثير البر له شديد التوفر على طاعته ولما حضرته الوفاة دخل عليه أبوه عمر المذكور وهو يجود بنفسه فقال له يا بني إنه ما علينا من موتك غضاضة ولا بنا إلى أحد سوى الله من حاجة فلما قضى صلى عليه ودفنه ووقف على قبره وقال أما والله يا ذر لقد شغلنا البكاء لك عن البكاء عليك لأنا ما ندري ما قلت ولا ما قيل لك اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه مما افترضت عليه من حقي فهب لي ما قصر فيه مما افترضت عليه من حقك واجعل ثوابي عليه له وزدني من فضلك إني إليك من الراغبين
وقيل له كيف كان بر ابنك بك فقال ما مشيت قط بنهار وهو

442
معي إلا مشى خلفي ولا بليل إلا مشى أمامي ولا رقي سطحا وأنا تحته ويحكى عنه في ذلك أشياء كثيرة وكان عمر المذكور يعد من المرجئة وتوفي سنة ست وقيل خمس وخمسين ومائة رحمه الله تعالى
وذر بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء
والهمداني بفتح الهاء وسكون الميم وفتح الدال المهملة وقد تقدم الكلام عليها وإنما قيدتها كيلا تتصحف بالهمذاني
وزرارة بضم الزاي وفتح الراءين بينهما ألف وكان أبوه ذر فقيها أيضا
494 الثمانيني
أبو القاسم عمر بن ثابت الثمانيني الضرير النحوي كان قيما بعلم النحو عارفا بقوانينه شرح كتاب اللمع لابن جني شرحا تاما حسنا أجاد فيه وانتفع بالاشتغال عليه جمع كبير وكان نحويا فاضلا أخذ النحو عن أبي الفتح ابن جني وأخذ عنه الشريف أبو المعمر يحيى بن محمد بن طباطبا العلوي الحسيني وشرح كتاب اللمع في التصريف لابن جني أيضا وكان هو وأبو القاسم ابن برهان متعارضين يقرئان الناس بالكرخ ببغداد فكان

443
خواص الناس يقرأون على ابن برهان والعوام يقرأون على الثمانيني
وتوفي في ذي القعدة سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة رحمه الله تعالى
والثمانيني بفتح الثاء المثلثة والميم وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ثم نون أخرى هذه النسبة إلى ثمانين وهي قرية من نواحي جزيرة ابني عمر عند الجبل الجودي وهي أول قرية بنيت بعد الطوفان وسميت بعدد الجماعة الذين خرجوا من السفينة مع نوح عليه السلام فإنهم كانوا ثمانين وبنى كل واحد منهم بيتا فسميت القرية ثمانين وقد خرج من هذه القرية جماعة
وتوفي الشريف ابن طباطبا المذكور في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى
495 ابن البزري
أبو القاسم عمر بن محمد بن أحمد بن عكرمة المعروف بابن البزري الجزري الفقيه الشافعي إمام جزيرة ابني عمر وفقيهها ومفتيها تفقه أولا بالجزيرة على الشيخ أبي الغنائم محمد بن الفرج بن منصور بن إبراهيم بن الحسن السلمي الفارقي نزيل جزيرة ابني عمر ثم رحل إلى بغداد واشتغل على الكيا الهراسي وحجة الإسلام أبي حامد الغزالي وسمع عليه وعلى أخيه أحمد وصحب الشاشي صاحب كتاب المستظهري وأدرك جماعة من العلماء واستفاد منهم ورجع

444
إلى الجزيرة ودرس بها وقصد من البلاد للاشتغال عليه وبطريقته وصنف كتابا شرح فيه إشكالات كتاب المهذب للشيخ أبي إسحاق الشيرازي وغريب ألفاظه وأسماء رجاله سماه الأسامي والعلل من كتاب المهذب وهو مختصر
وكان من العلم والدين في محل رفيع وكان أحفظ من بقي في الدنيا على ما يقال لمذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وكان الغالب عليه المذهب وانتفع به خلق كثير وكان ينعت زين الدين جمال الإسلام ومولده في سنة إحدى وسبعين وأربعمائة وتوفي في ثاني شهر ربيع الأول وقيل الآخر سنة ستين وخمسمائة بالجزيرة رحمه الله تعالى
وما خلف مثله وله تلاميذ كثيرون
136 وتوفي شيخه أبو الغنائم الفارقي المذكور سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة رحمه الله تعالى وعليه اشتغل الفقيه عيسى بن محمد الهكاري الآتي ذكره إن شاء الله تعالى بالجزيرة
والبزري بفتح الباء الموحدة وسكون الزاي وبعدها راء هذه النسبة إلى عمل البزر أو بيعه والبزر في تلك البلاد اسم للدهن المستخرج من حب الكتان وبه يستصبحون

445
496 شهاب الدين السهروردي
أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمويه واسمه عبد الله البكري الملقب شهاب الدين السهروردي وقد تقدم تتمة نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ترجمة عمه الشيخ أبي النجيب عبد القاهر فأغنى عن إعادته كان فقيها شافعي المذهب شيخا صالحا ورعا كثير الاجتهاد في العبادة والرياضة وتخرج عليه خلق كثير من الصوفية في المجاهدة والخلوة ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله وصحب عمه أبا النجيب وعنه أخذ التصوف والوعظ والشيخ أبا محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي وغيرهما وانحدر إلى البصرة إلى الشيخ أبي محمد ابن عبد ورأى غيرهم من الشيوخ وحصل طرفا صالحا من الفقه والخلاف وقرأ الأدب وعقد مجلس الوعظ سنين وكان شيخ الشيوخ ببغداد وكان له مجلس وعظ وعلى وعظه قبول كثير وله نفس مبارك حكى لي من حضر مجلسه أنه أنشد يوما على الكرسي
(لا تسقني وحدي فما عودتني
* أني أشح بها على جلاسي)
(أنت الكريم ولا يليق تكرما
* أن يعبر الندماء دور الكاس)
فتواجد الناس لذلك وقطعت شعور كثيرة وتاب جمع كبير
وله تواليف حسنة منها كتاب عوارف المعارف وهو أشهرها وله شعر فمنه

446
(تصرمت وحشة الليالي
* وأقبلت دولة الوصال)
(وصار بالوصل لي حسودا
* من كان في هجركم رثى لي)
(وحقكم بعد إن حصلتم
* بكل ما فات لا أبالي)
(أحييتموني وكنت ميتا
* وبعتموني بغير غالي)
(تقاصرت عنكم قلوب
* فيا له موردا حلا لي)
(علي ما للورى حرام
* وحبكم في الحشا حلا لي)
(تشربت أعظمي هواكم
* فما لغير الهوى وما لي)
(فما على عادم أجاجا
* وعنده أعين الزلال)
ورأيت جماعة ممن حضروا مجلسه وقعدوا في خلوته وتسليكه كجاري عادة الصوفية فكانوا يحكون غرائب مما يطرأ عليهم فيها وما يجدونه من الأحوال الخارقة وكان قد وصل رسولا إلى إربل من جهة الديوان العزيز وعقد بها مجلس وعظ ولم تتفق لي رؤيته لصغر السن
وكان كثير الحج وربما جاور في بعض حججه وكان أرباب الطريق من مشايخ عصره يكتبون إليه من البلاد صورة فتاوى يسألونه عن شيء من أحوالهم سمعت أن بعضهم
كتب إليه يا سيدي إن تركت العمل أخلدت إلى البطالة وإن عملت داخلني العجب فأيهما أولى فكتب جوابه اعمل واستغفر الله تعالى من العجب وله من هذا شيء كثير وذكر في كتابه عوارف المعارف أبياتا لطيفة منها
(أشم منك نسيما لست أعرفه
* أظن لمياء جرت فيك أذيالا
وذكر فيه أيضا
(إن تأملتكم فكلي عيون
* أو تذكرتكم فكلي قلوب)

447
وذكر أشياء غير هذا لا حاجة إلى التطويل بذكرها
وكان قد صحب عمه الشيخ أبا النجيب المذكور زمانا وعليه تخرج ومولده بسهرورد في أواخر رجب أو أوائل شعبان والشك منه في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وتوفي في مستهل المحرم سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ببغداد رحمه الله تعالى ودفن من الغد بالوردية
497 الحافظ ابن دحية
أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد الجميل بن فرح بن خلف بن قومس بن مزلال بن ملال بن بدر بن أحمد بن دحية بن خليفة بن فروة الكلبي المعروف بذي النسبين الأندلسي البلنسي الحافظ نقلت نسبه على هذه الصورة من خطه وكان قد قيده وضبطه كما هو هاهنا
الجميل بضم الجيم وفتح الميم وتشديد الياء المثناة من تحتها وبعدها لام وهو تصغير جميل
وفرح بفتح الفاء وسكون الراء وبعدها حاء مهملة
وقومس بضم القاف وفتحها وسكون الواو وكسر الميم وبعدها سين مهملة
ومزلال بفتح الميم وسكون الزاي وبعد اللام ألف لام وملال بفتح الميم وتشديد اللام ألف وبعدها لام

448
ودحية بكسر الدال المهملة وفتحها وسكون الحاء المهملة وبعدها ياء مثناة من تحتها وهو دحية الكلبي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم والباقي معروف لا حاجة إلى ضبطه
كان يذكر أنه أمه أمة الرحمن بنت أبي عبد الله ابن أبي البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلهذا كان يكتب بخطه ذو النسبين دحية والحسين رضي الله عنهما وكان يكتب أيضا سبط أبي البسام إشارة إلى ذلك
كان أبو الخطاب المذكور من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء متقنا لعلم الحديث النبوي وما يتعلق به عارفا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها واشتغل بطلب الحديث في أكثر بلاد الأندلس الإسلامية ولقي بها علماءها ومشايخها ثم رحل منها إلى بر العدوة ودخل مراكش واجتمع بفضلائها ثم ارتحل إلى إفريقية ومنها إلى الديار المصرية ثم إلى الشام والشرق والعراق وسمع ببغداد من بعض أصحاب ابن الحصين وسمع بواسط من أبي الفتح محمد ابن أحمد بن الميداني ودخل إلى عراق العجم وخراسان وما والاها ومازندران كل ذلك في طلب الحديث والاجتماع بأئمته والأخذ عنهم وهو في تلك الحال يؤخذ عنه ويستفاد منه وسمع بأصبهان من أبي جعفر الصيدلاني وبنيسابور من منصور بن عبد المنعم الفراوي وقدم مدينة إربل في سنة أربع وستمائة وهو متوجه إلى خراسان فرأى صاحبها الملك المعظم مظفر الدين بن زين الدين رحمه الله تعالى مولعا بعمل مولد النبي صلى الله عليه وسلم عظيم الاحتفال به كما هو مذكور في ترجمته في حرف الكاف من هذا الكتاب فعمل له كتابا سماه كتاب التنوير في مولد السراج المنير وقرأه عليه بنفسه وسمعناه على الملك المعظم في ست مجالس في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين

449
وستمائة وكان الحافظ أبو الخطاب المذكور قد ختم هذا الكتاب بقصيدة طويلة أولها
(لولا الوشاة وهم
* أعداؤنا ما وهموا)
وقد ذكرت فيما تقدم في ترجمة الأسعد بن مماتي في حرف الهمزة حديث هذه القصيدة فليتأمل هناك ولما عمل هذا الكتاب دفع له الملك المعظم المذكور ألف دينار وله عدة تصانيف
وكانت ولادته في مستهل ذي القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة وتوفي في يوم الثلاثاء الرابع عشر من ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم رحمه الله تعالى أخبرني بذلك ولده وأخبرني بعض أصحابنا الموثوق بقولهم أنه سأل ولده المذكور عن مولد أبيه فقال في ذي القعدة من سنة ثمان وأربعين وأخبرني ابن أخيه قال سمعت عمي أبا الخطاب غير مرة يقول ولدت في مستهل ذي القعدة سنة ست وأربعين وخمسمائة والله أعلم
والبلنسي بفتح الباء الموحدة واللام وسكون النون وبعدها سين مهملة هذه النسبة إلى بلنسية وهي مدينة في شرق الأندلس
137 وكان أخوه أبو عمرو عثمان بن الحسن أسن من أخيه أبي الخطاب وكان حافظا للغة العرب قيما بها وعزل الملك الكامل أبا الخطاب المذكور عن دار الحديث التي كان أنشأها بالقاهرة ورتب مكانه أخاه أبا عمرو المذكور ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح
المقطم وله رسائل استعمل فيها حوشي اللغة

450
498 أبو علي الشلوبيني
أبو علي عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأزدي المعروف بالشلوبيني الأندلسي الإشبيلي النحوي تلميذ أبي بكر محمد بن خلف بن محمد بن عبد الله ابن صافي اللخمي الإشبيلي ومن قوله
(قالوا حبيبك معلول فقلت لهم
* نفسي الفداء له من كل محذور)
(يا ليت علته بي غير أن له
* أجر العليل واني غير مأجور)
كان إماما في علم النحو مستحضرا له غاية الاستحضار ولقد رأيت جماعة من أصحابه وكلهم فضلاء وكل منهم يقول ما يتقاصرالشيخ أبو علي الشلوبيني عن الشيخ أبي علي الفارسي ويغالون فيه مغالاة زائدة وقالوا فيه مع هذه الفضيلة غفلة وصورة بله في الصورة الظاهرة حتى قالوا إنه كان يوما على جانب نهر وبيده كراريس فوقع منه كراسة في الماء وبعدت عنه فلم تصل يده إليها ليأخذها فأخذ كراسة أخرى وجذبها بها فتلفت الأخرى بالماء وكان

451
له مثل هذه الأسباب الدالة على البله
وشرح المقدمة الجزولية شرحين كبيرا وصغيرا وله كتاب في النحو سماه التوطئة وكانت إقامته بإشبيلية وأخباره متواصلة إلينا وتلامذته واردة في كل وقت وبالجملة فإنه على ما يقال كان خاتمة أئمة النحو
وكانت ولادته بإشبيلية في سنة اثنتين وستين وخمسمائة وتوفي في أحد الربيعين وقيل في صفر سنة خمس وأربعين وستمائة بإشبيلية رحمه الله تعالى
والشلوبيني بفتح الشين المثلثة واللام وسكون الواو وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون هذه النسبة إلى الشلوبين وهو بلغة الأندلس الأبيض الأشقر هكذا ذكروا والله أعلم
499 ابن طبرزذ
أبو حفص عمر بن أبي بكر محمد بن معمر بن أحمد بن يحيى بن حسان المؤدب المعروف بابن طبرزذ المحدث المشهور البغدادي الملقب موفق الدين من أهل الجانب الغربي ببغداد من ساكني محلة دار القز ولهذا عرف بالدارقزي كان أخوه الأكبر أبو البقاء محمد قد أسمعه الكثير من الحديث ثم استقل بإفادة نفسه وعمر حتى حدث سنين وحفظ الأصول إلى وقت الحاجة إليها وكانت بخط أخيه أبي البقاء المذكور إلا القليل وكان سماعه من أبي القاسم

452
هبة الله بن عبد الواحد بن الحصين وأبي المواهب أحمد بن محمد بن ملوك الوراق وأبي الحسن ابن الزاغوني وأبي غالب ابن البناء وأبي القاسم هبة الله بن عبد الشروطي وأبى القاسم هبة الله بن أحمد الحريري والقاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري وأبي منصور ابن زريق وإسماعيل بن أحمد السمرقندي وعبد الوهاب الأنماطي وخلق كثير يطول ذكرهم وكان سماعه صحيحا على تخليط فيه وسافر في آخرعمره إلى الشام وحدث في طريقه بإربل والموصل وحران وحلب ودمشق وغيرها وعادإلى بغداد وحدث بها وتفرد بالرواية عن جماعة منهم الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله بن الزاغوني وابن ملوك المذكور وأبو القاسم الشروطي المذكور وأبو غالب محمد بن أحمد بن قريش وأبو البركات ابن كامل بن حبيش وأبو غالب أحمد بن الحسن بن البناء وأبو القاسم هبة الله ابن الحصين وغيرهم وجمع له ابن المديني مشيخة في جزأين وبعض ثالث فيها ثلاثة وثمانون شيخا
وكان عالي الإسناد في سماع الحديث طاف البلاد وأفاد أهلها وألحق الأصاغر بالأكابر وطبق الأرض بالسماعات والإجازات وامتدت له الحياة فخلا له العصر وكان فيه صلاح وخير ومولده في ذي الحجة سنة ست عشرة وخمسمائة وتوفي في عصر يوم الثلاثاء تاسع رجب سنة سبع وستمائة ببغداد ودفن من الغد بباب حرب رحمه الله تعالى
وطبرزذ بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وسكون الراء وفتح الزاي وبعدها ذال معجمة وهو اسم لنوع من السكر

453
500 الشرف ابن الفارض
أبو حفص وأبو القاسم عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي الحموي الأصل المصري المولد والدار والوفاة المعروف بابن الفارض المنعوت بالشرف له ديوان شعر لطيف وأسلوبه فيه رائق ظريف ينحو منحى طريقة الفقراء وله قصيدة مقدار ستمائة بيت على اصطلاحهم ومنهجم وما ألطف قوله في جملة قصيدة طويلة
(أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه
* قول المبشر بعد اليأس بالفرج)
(لك البشارة فاخلع ما عليك فقد
* ذكرت ثم على ما فيك من عوج)
وقوله من قصيدة أخرى
(لم أخل من حسد عليك فلا تضع
* سهري بتشنيع الخيال المرجف)
(واسأل نجوم الليل هل زار الكرى
* جفني وكيف يزور من لم يعرف)
ومنها
(وعلى تفنن واصفيه بحسنه
* يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف)

454
وله دوبيت ومواليا وألغاز
وسمعت أنه كان رجلا صالحا كثير الخير على قدم التجرد جاور بمكة زادها الله تعالى شرفا زمانا وكان حسن الصحبة محمود العشرة أخبرني عنه بعض أصحابه أنه ترنم يوما وهو في خلوة ببيت الحريري صاحب المقامات وهو
(من ذا الذي ما ساء قط
* ومن له الحسنى فقط)
قال فسمع قائلا ولم ير شخصه وقد أنشد
(محمد الهادي الذي
* عليه جبريل هبط)
وأنشدني له جماعة من أصحابه مواليا في غلام صنعته الجزارة وهو كيس ولم أره في ديوانه
(قلتو لجزر عشقتو كم تشرخني
* قتلتني قال ذا شغلي توبخني)
(ومل إلي وبس رجلي يربخني
* يريد ذبحي فينفخني ليسلخني)
وقدكتبته على اصطلاحهم فإنهم لا يراعون فيه الإعراب والضبط بل يجوزون فيه اللحن بل غالبه ملحون فلا يؤاخذ من يقف عليه
وكان يقول عملت في النوم بيتين وهما
(وحياة أشواقي إليك
* وحرمة الصبر الجميل)
(لا أبصرت عيني سواك
* ولا صبوت إلى خليل)
وكانت ولادته في الرابع من ذي القعدة سنة ست وسبعين وخمسائة بالقاهرة وتوفي بها يوم الثلاثاء الثاني من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ودفن من الغد بسفح المقطم رحمه الله تعالى

455
والفارض بفتح الفاء وبعد الألف راء مفتوحة وبعدها ضاد معجمة وهو الذي يكتب الفروض للنساء على الرجال
501 تقي الدين صاحب حماة
الملك المظفر تقي الدين أبو سعيد عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة وهو ابن أخي السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى وقد تقدم ذكر أبيه في حرف الشين كان شجاعا مقداما منصورا في الحروب مؤيدا في الوقائع ومواقفه مشهورة مع الفرنج وكانت له آثار في المصافات دلت عليها التواريخ وله في أبواب البر كل حسنة منها مدرسة منازل العز التي بمصر يقال إنها كانت دار سكنه فوقف عليها وقفا كثيرا وجعلها مدرسة وكانت الفيوم وبلادها إقطاعه وله بها مدرستان شافعية ومالكية وعليهما وقف جيد أيضا وبنى مدينة الرها مدرسة لما كان صاحب البلاد الشرقية وكان كثير الإحسان إلى العلماء والفقراء وأرباب الخير
وناب عن عمه صلاح الدين بالديار المصرية في بعض غيباته عنها فإن الملك العادل كان نائبا عن أخيه السلطان صلاح الدين بالديار المصرية فلما حاصر الكرك في سنة تسع وسبعين وخمسمائة في رجب طلب أخاه من مصر بالعساكر وسير إليها تقي الدين في العشر الوسط من شعبان من السنة نائبا عنه ثم استدعاه

456
إليه بالشام ورتب بالديار المصرية ولده الملك العزيز عثمان المقدم ذكره ومعه الملك العادل فشق ذلك على تقي الدين وعزم على دخوله بلاد المغرب ليفتحها فقبح أصحابه عليه ذلك فامتثل قول عمه صلاح الدين وحضر إلى خدمته وخرج السلطان التقاه بمرج الصفر واجتمعا هناك في الثالث والعشرين من شعبان سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة وفرح به وأعطاه حماة فتوجه إليها وتوجه إلى قلعة منازكرد من نواحي خلاط ليأخذها فحاصرها مدة وتوفي عليها يوم الجمعة تاسع عشر شهر رمضان سنة
سبع وثمانين وخمسمائة وقيل بل توفي ما بين خلاط وميافارقين ونقل إلى حماة ودفن بها
138 وترتب مكانه ولده الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي محمد بن عمر ومات يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة سبع عشرة وستمائة بحماة رحمهما الله تعالى
ورأيت بخطي في مسوداتي أن تقي الدين مولده سنة أربع وثلاثين وخمسمائة
قال ابن شداد في السيرة لما كان يوم الجمعة حادي عشر شوال سنة سبع وثمانين وخمسمائة ركب السلطان إلى جهة العدو وأشرف عليهم ثم عاد وأمرني بالإشارة إلى الملك العادل بأن يحضر معه علم الدين سليمان بن جندر وسابق الدين بن الداية وعز الدين بن المقدم فلما مثلت بين يديه الجماعة بخدمته أمر بإخلاء المكان من غير المذكورين وإبعاد الناس عن الخيمة وكنت من جملة الحاضرين فأخرج كتابا من قبائه وفضه ووقف عليه ففاضت دموعه وغلبه النحيب والبكاء حتى وافقناه من غير أن نعلم السبب في ذلك ثم ذكر وقيل إنه
يتضمن وفاة الملك المظفر تقي الدين رحمه الله تعالى فاستأنف الحاضرون البكاء عليه والأسف ثم ذكرته الله تعالى وعرفته ما يجب من الانقياد لقضائه وقدره فقال أستغفر الله إنا لله وإنا إليه راجعون ثم قال من المصلحة كتمان ذلك وإخفاؤه لئلا يتصل بالعدو ونحن منازلوه ثم أمر بإحضار الطعام وأطعم

457
الجماعة وانفصلوا من بين يديه وكانت وفاته في طريق خلاط عائدا إلى ميافارقين فحمل ميتا إلى ميافارقين وعملت له تربة ومدرسة مشهورة بأرض حماة وحمل إليها ودفن بها وزرته بها وكانت وفاته يوم الجمعة تاسع شهر رمضان سنة سبع وثمانين وخمسمائة وذكر قبل هذا لما كان يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر رمضان يعني من السنة وصل كتاب من الديوان العزيز ينكر قصد الملك المظفر تقي الدين إلى جهة خلاط وفيه معاتبة نائبه بسبب بكتمر ويشفع فيه وفي حسن بن قفجاق وأن يتقدم بإطلاقه وكان مظفر الدين قد قبض عليه بإربل وأن يسير القاضي الفاضل إلى الديوان لبت حال فسير الكتاب إلى القاضي الفاضل ليقف عليه ويكتب إلى الملك المظفر بما رسم فيه ثم عاد ابن شداد إلى هذا الكلام في كتاب آخر بعد هذا التاريخ وقال كان الجواب عن تقي الدين إنا لم نأمره إلى التعريض ببكتمر صاحب أخلاط وإنما عبر ليجمع العساكر للجهاد ويعود فاتفقت أسباب اقتضت ذلك وقد أمرنا بالعود عنه وعن ابن قفجاق بأن قد عرفتم حال ابن قفجاق وما يتصدى له من الفساد في الأرض وانه قد تقدم إلى مظفر الدين بإحضاره معه إلى الشام ليقطعه فيه ويكون ملازما للجهاد وعن الثالث بالاعتذار عن القاضي الفاضل بأن قوته تضعف عن الحركة إلى العراق هذا حاصل الجواب

458
502 أبو إسحاق السبيعي
أبو إسحاق عمرو بن عبد الله بن علي بن أحمد بن ذي يحمد بن السبيع السبيعي الهمداني الكوفي من أعيان التابعين رأى عليا وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وروى عنه الأعمش وشعبة والثوري وغيرهم رضي الله عنهم وكان كثير الرواية ولد لثلاث سنين بقين من خلافة عثمان رضي الله عنه وتوفي سنة تسع وعشرين وقيل سبع وعشرين وقيل ثمان وعشرين ومائة وقال يحيى بن معين والمدائني مات سنة اثنتين وثلاين ومائة والله أعلم رضي الله عنه
والسبيعي بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها عين مهملة هذه النسبة إلى سبيع وهو بطن من همدان وتقدم الكلام على همدان
وكان أبو إسحاق المذكور يقول رفعني أبي حتى رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخطب وهو أبيض الرأس واللحية

459
503 عمرو بن عبيد
أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب المتكلم الزاهد المشهور مولى بني عقيل ثم آل عرادة بن يربوع بن مالك كان جده باب من سبي كابل من جبال السند وكان أبوه يخلف أصحاب الشرط بالبصرة فكان الناس إذا رأوا عمرا مع أبيه قالوا هذا خير الناس ابن شر الناس فيقول أبوه صدقتم هذا إبراهيم وأنا آزر وقيل لأبيه عبيد إن ابنك يختلف إلى الحسن البصري ولعله أن يكون فقال وأي خير يكون من ابني وقد أصبت أمه من غلول وأنا أبوه وكان عمرو شيخ المعتزلة في وقته وسيأتي في ترجمة واصل بن عطاء سبب اعتزاله ولم سموا المعتزلة إن شاء الله تعالى وكان آدم مربوعا بين عينيه أثر السجود
وسئل الحسن البصري عنه فقال للسائل لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته وكأن الأنبياء ربته إن قام بأمر قعد به وإن قعد بأمر قام به وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له وإن نهي عن شيء كان أترك الناس له ما رأيت ظاهرا أشبه بباطن ولا باطنا أشبه بظاهر منه
ولما كان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز أميرا على العراق أرسل إلى عامله على البصرة وهو شبيب بن شيبة أن يوفد إليه وفدا فأرسل إلى جماعة يأمرهم بذلك وأرسل إلى عمرو بن عبيد فامتنع فأعاد سؤاله فقال إن أول ما يسألني عنه سيرتك فما تراني قائلا قال فكف عنه

460
قلت هذا عبد الله بن عمر هو الذي حفر نهر البصرة المعروف بنهر ابن عمر المشهور في مكانه وهو عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي الحكمي حبسه مروان بن محمد المنبوز بالحمار آخر ملوك بني أمية مع إبراهيم ابن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس المعروف بالإمام بحران وقتلهما في سنة نيف وثلاثين ومائة
ودخل عمرو يوما على أبي جعفر المنصور في خلافته وكان صاحبه وصديقه قبل الخلافة وله معه مجالس وأخبار فقربه وأجلسه ثم قال له عظني فوعظه بمواعظ منها إن هذا الأمر الذي أصبح في يدك لو بقي في يد غيرك ممن كان قبلك لم يصل إليك فأحذرك ليلة تمخض بيوم لا ليلة بعده فلما أراد النهوض قال قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم قال لا حاجة لي فيها قال والله تأخذها قال والله لا آخذها وكان المهدي ولد المنصور حاضرا فقال يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت فالتفت عمرو إلى المنصور وقال من هذا الفتى قال هذا المهدي ولدي وولي عهدي فقال أما لقد ألبسته لباسا ما هو من لباس الأبرار وسميته باسم ما استحقه ومهدت له أمرا أمتع ما يكون به أشغل ما يكون
عنه ثم التفت عمرو إلى المهدي وقال نعم يا ابن أخي إذا حلف أبوك أحنثه عمك لأن أباك أقوى على الكفارات من عمك فقال له المنصور هل من حاجة قال لا تبعث إلي حتى اتيك قال إذا لا تلقني قال هي حاجتي ومضى فأتبعه المنصور طرفه وقال
(كلكم يمشي رويد
* كلكم يطلب صيد)
(غير عمرو بن عبيد
*)
ولما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم على أبي جعفر المنصور وقدم البصرة ثم خرج منها وبلغ

461
المنصور خبره أقبل مسرعا في سنة اثنتين وأربعين ومائة وبها عمرو بن عبيد فقال له أصحابه نخرج للقائه فأبى فعاودوه وغلبوه على رأيه حتى خرج إليه فقال له يا أبا عثمان هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا قال لا قال أفأقتصر على قولك وأنصرف قال نعم فانصرف ولم يدخلها
ولعمرو المذكور رسائل وخطب وكتاب التفسير عن الحسن البصري وكتاب الرد على القدرية وكلام كثير في العدل والتوحيد وغير ذلك
ولما حضرته الوفاة قال لصاحبه نزل بي الموت ولم أتأهب له ثم قال اللهم إنك تعلم أنه لم يسنح لي أمران في أحدهما رضى لك وفي الآخر هوى لي إلا اخترت رضاك على هواي فاغفر لي
وكانت ولادته في سنة ثمانين للهجرة وتوفي سنة أربع وأربعين ومائة وقيل اثنتين وقيل ثلاث وقيل ثمان وهو راجع من مكة بموضع يقال له مران ورثاه المنصور بقوله
(صلى الإله عليك من متوسد
* قبرا مررت به على مران)
(قبرا تضمن مؤمنا متحنفا
* صدق الإله ودان بالعرفان)
(لو أن هذا الدهر أبقى صالحا
* أبقى لنا عمرا أبا عثمان)
ولم يسمع بخليفة رثى من دونه سواه رضي الله عنه
ومران بفتح الميم وتشديد الراء وبعد الألف نون موضع بين مكة والبصرة على ليلتين من مكة وبه دفن أيضا تميم بن مر الذي تنسب إليه بنو تميم القبيلة الكبيرة المشهورة
واسم جده باب بباءين موحدتين بينهما ألف وإنما قيدته لأنه يتصحف بناب

462
504 سيبويه
أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الملقب سيبويه مولى بني الحارث بن كعب وقيل آل الربيع بن زياد الحارثي كان أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو ولم يوضع فيه مثل كتابه وذكره الجاحظ يوما فقال لم يكتب الناس في النحو كتابا مثله وجميع كتب الناس عليه عيال وقال الجاحظ أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم ففكرت في شيء أهديه له فلم أجد شيئا أشرف من كتاب سيبويه فلما وصلت إليه قلت له لم أجد شيئا أهديه لك مثل هذا الكتاب وقد اشتريته من ميراث الفراء فقال والله ما أهديت لي شيئا أحب إلي منه ورأيت في بعض التواريخ أن الجاحظ لما وصل إلى ابن الزيات بكتاب سيبويه أعلمه به قبل إحضاره فقال له ابن الزيات أو ظننت أن خزانتنا خالية من هذا الكتاب فقال الجاحظ ما ظننت ذلك ولكنها بخط الفراء ومقابلة الكسائي وتهذيب عمرو بن بحر الجاحظ يعني نفسه فقال ابن الزيات هذه أجل نسخة توجد وأعزها فأحضرها إليه فسر بها ووقعت منه أجمل موقع
وأخذ سيبويه النحو عن الخليل بن أحمد المقدم ذكره وعن عيسى ابن عمر ويونس بن حبيب وغيرهم وأخذ اللغة عن أبي الخطاب المعروف بالأخفش الأكبر وغيره
وقال ابن النطاح كنت عند الخليل بن أحمد فأقبل سيبويه فقال الخليل

463
مرحبا بزائر لا يمل قال أبو عمر المخزومي وكان كثير المجالسة للخليل ما سمعت الخليل يقولها لأحد إلا لسيبويه
وكان قد ورد إلى بغداد من البصرة والكسائي يومئذ يعلم الأمين بن هارون الرشيد فجمع بينهما وتناظرا وجرى مجلس يطول شرحه وزعم الكسائي أن العرب تقول كنا أظن أن الزنبور أشد لسها من النحلة فإذا هو إياها فقال سيبويه ليس المثل كذا بل فإذا هو هي وتشاجرا طويلا واتفقا على مراجعة عربي خالص لا يشوب كلامه شيء من كلام أهل الحضر وكان الأمين شديد العناية بالكسائي لكونه معلمه فاستدعى عربيا وسأله فقال كما قال سيبويه فقال له نريد أن تقول كما قال الكسائي فقال إن لساني لا يطاوعني على ذلك فإنه ما يسبق إلا إلى الصواب فقرروا معه أن شخصا يقول قال سيبويه كذا وقال الكسائي كذا فالصواب مع من منهما فيقول العربي مع الكسائي فقال هذا يمكن ثم عقد لهما المجلس واجتمع أئمة هذا الشأن وحضر العربي وقيل له ذلك فقال الصواب مع الكسائي وهو كلام العرب فعلم سيبويه أنهم تحاملوا عليه وتعصبوا للكسائي فخرج من بغداد وقد حمل في نفسه لما جرى عليه وقصد بلاد فارس فتوفي بقرية من قرى شيراز يقال لها البيضاء في سنة ثمانين ومائة وقيل سنة سبع وسبعين وعمره نيف وأربعون سنة وقال ابن قانع بل توفي بالبصرة في سنة إحدى وستين ومائة وقيل سنة ثمان وثمانين وقال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي توفي سنة أربع وتسعين
ومائة وعمره اثنتان وثلاثون سنة وإنه توفي بمدينة ساوة وذكر الخطيب في تاريخ بغداد عن ابن دريد أنه قال مات سيبويه بشيراز وقبره بها والله أعلم وقيل إن ولادته كانت بالبيضاء المذكورة لا وفاته قال أبو سعيد الطوال رأيت على قبر سيبويه هذه الأبيات مكتوبة وهي لسليمان بن يزيد العدوي
(ذهب الأحبة بعد طول تزاور
* ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا)

464
(تركوك أوحش ما تكون بقفرة
* لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا)
(قضى القضاء وصرت صاحب حفرة
* عنك الأحبة أعرضوا وتصدعوا)
وقال معاوية بن بكر العليمي وقد ذكر عنده سيبويه رأيته وكان حديث السن وكنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل عن الخليل بن أحمد وقد سمعته يتكلم ويناظر في النحو وكانت في لسانه حبسة ونظرت في كتابه فقلمه أبلغ من لسانه
وقال أبو زيد الأنصاري كان سيبويه غلاما يأتي مجلسي وله ذؤابتان فإذا سمعته يقول حدثني من أثق بعربيته فإنما يعنيني
وكان سيبويه كثيرا ما ينشد
(إذا بل من داء به ظن أنه
* نجا وبه الداء الذي هو قاتله)
وسيبويه بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الباء الموحدة والواو وسكون الياء الثانية وبعدها هاء ساكنة ولا يقال بالتاء البتة وهو لقب فارسي معناه بالعربية رائحة التفاح هكذا يضبط أهل العربية هذا الاسم ونطائره مثل نفطويه وعمرويه وغيرهما والعجم يقولون سيبويه بضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح الياء المثناة بعدها لأنهم يكرهون أن يقع في آخر الكلمة ويه لأنها للندبة وقال إبراهيم الحربي سمي سيبويه لأن وجنتيه كانتا كأنهما تفاحتان وكان في غاية الجمال رحمه الله تعالى

465
505 أبو عمرو بن العلاء
أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين التميمي المازني البصري ورأيت بخطي في مسوداتي هو أبو عمرو بن العلاء بن عمار ابن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهم بن خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم ويقال جلهم بن حجر بن خزاعي واسمه العريان أحد القراء السبعة كان أعلم الناس بالقرآن الكريم والعربية والشعر وهو في النحو في الطبقة الرابعة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال الأصمعي قال أبو عمرو بن العلاء لقد علمت من النحو ما لم يعلمه الأعمش وما لو كتب لما استطاع أن يحمله وقال أيضا سألت أبا عمرو عن ألف مسألة فأجابني فيها بألف حجة
وكان أبو عمرو رأسا في حياة الحسن البصري مقدما في عصره وقال أبو عبيدة كان أبو عمرو أعلم الناس بالأدب والعربية والقرآن والشعر
وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف ثم إنه تقرأ أي تنسك فأخرجها كلها فلما رجع إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية قال الأصمعي جلست إلى أبي عمرو بن العلاء عشر حجج فلم أسمعه يحتج ببيت إسلامي قال وفي أبي عمرو بن العلاء يقول الفرزدق

466
(ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها
* حتى أتيت أبا عمرو بن عمار)
والصحيح أن كنيته اسمه وقيل اسمه زبان وقيل غير ذلك وليس بصحيح وهو من خزاعي بن مازن وحكي في نسبه في بعض الروايات وقيل إنه
أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهم بن خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم ويقال جلهم بن حجر بن خزاعي والله أعلم
وحكى أبو عمرو قال طلب الحجاج بن يوسف الثقفي أبي فخرج منه هاربا إلى اليمن فإنا لنسير بصحراء باليمن إذ لحقنا لاحق ينشد
(ربما تكره النفوس من الأمر
* له فرجة كحل العقال)
قال فقال أبي ما الخبر قال مات الحجاج قال أبو عمرو فأنا بقوله له فرجة أشد سرورا مني بموت الحجاج قال فقال أبي اصرف ركابنا إلى البصرة قال أبو عبيدة قلت لأبي عمرو كم سنك يومئذ قال كنت قد خنقت بضعا وعشرين سنة
يقال فرجة بالفتح بين الأمرين وبالضم بين الجبلين
وذكر في كتاب طبقات النحاة قال حدث الأصمعي عن أبي عمرو ابن العلاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين غرة عبد أو أمة لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى لقال في الجنين عبد أو أمة ولكنه عنى البياض ولا يقبل في الدية إلا غلام أبيض أو جارية بيضاء لا يقبل فيها أسود ولا سوداء وهذا غريب ولا أعلم هل يوافق مذهب أحد من الأئمة المجتهدين أم لا ولغرابته نقلته وذكر في هذا الكتاب أيضا قال الأصمعي سألت أبا عمرو بن العلاء عن قولهم أرهبته

467
ورهبته فقال ليستا بسواء فقلت رهبته فرقته وأرهبته أدخلت الفرق في قلبه قال أبو عمرو ذهب من يعرف هذا منذ ثلاثين سنة
وقال ابن مناذر سألت أبا عمرو بن العلاء حتى متى يحسن بالمرء أن يتعلم قال ما دامت الحياة تحسن به وقال أبو عمرو حدثنا قتادة السدوسي قال لما كتب المصحف عرض على عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال إن فيه لحنا ولتقيمنه العرب بألسنتها
وكان أبو عمرو إذا دخل شهر رمضان لم ينشد بيت شعر حتى ينقضي وكان له في كل يوم فلسان يشتري بأحدهما كوزا جديدا يشرب فيه يومه ثم يتركه لأهله ويشتري بالآخر ريحانا فيشمه يومه فإذا أمسى قال لجاريته جففيه ودقيه في الأشنان
وروى يونس بن حبيب النحوي قال سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول ما زدت في شعر العرب قط إلا بيتا واحدا وهو
(وأنكرتني وما كان الذي نكرت
* من الحوادث إلا الشيب والصلعا) وهذا البيت يوجد في جملة أبيات للأعشى وهي أبيات مشهورة وقال أبو عبيدة دخل أبو عمرو بن العلاء على سليمان بن علي وهو عم السفاح فسأله عن شيء فصدقه فلم يعجبه ما قاله فوجد أبو عمرو في نفسه وخرج وهو يقول
(أنفت من الذل عند الملوك
* وإن أكرموني وإن قربوا)
(إذا ما صدقتهم خفتهم
* ويرضون مني بأن يكذبوا)
وحكى علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال سمعت أبي يقول لأبي عمرو ابن العلاء خبرني عما وضعت مما سميته عربية يدخل فيه كلام العرب كله فقال لا فقلت فكيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة قال

468
أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات وأخبار أبي عمرو كثيرة
وكانت ولادته سنة سبعين وقيل ثمان وستين وقيل خمس وستين للهجرة بمكة وتوفي سنة أربع وخمسين وقيل تسع وخمسين وقيل ست وخمسين ومائة بالكوفة وكان قد خرج إلى الشام يجتدي عبد الوهاب ابن إبراهيم الإمام والي دمشق فلما عاد إلى الكوفة توفي بها وقال ابن قتيبة مات في طريق الشام ونسبوه في ذلك إلى الغلط فقد ذكر بعض الرواة أنه رأى قبر أبي عمرو بالكوفة مكتوبا عليه هذا قبر أبي عمرو بن العلاء
ولما حضرته الوفاة كان يغشى عليه ويفيق فأفاق من غشية له فإذا ابنه بشر يبكي فقال ما يبكيك وقد أتت علي أربع وثمانون سنة رحمه الله تعالى
ورثاه عبد الله بن المقفع بقوله
(رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله
* فلله ريب الحادثات بمن فجع)
(فإن تك قد فارقتنا وتركتنا
* ذوي خلة ما في انسداد لها طمع)
(فقد جرنفعا فقدنا لك أننا
* أمنا على كل الرزايا من الجزع)
وقد قيل إنما رثي بها يحيى بن زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي الكوفي الشاعر المشهور وهو ابن خال السفاح أول خلفاء بني العباس رضي الله عنه وقيل بل رثي بها عبد الكريم بن أبي العوجاء والأول أشهر والله أعلم وقيل إن هذه الأبيات لمحمد بن عبد الله بن المقفع والله أعلم وأقول إن هذه المرثية إن كانت في أبي عمرو المذكور فما يمكن أن تكون لعبد الله لأنه مات قبل موت أبي عمرو وإن كانت لمحمد فيمكن ذلك ولكنها مشهورة في أبي عمرو المذكور
وإنما أتيت بأبي عمرو في هذا الحرف وهذه كنيته لا اسم للعذر الذي تقدم في حرف الباء في ترجمة أبي بكر بن عبد الرحمن فلينظر هناك
139 وأما عبد الوهاب المذكور فهو ابن إبراهيم المعروف بالإمام المذكور

469
في ترجمة أبيه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه وكان عبد الوهاب يتولى الشام من جهة عمه المنصور وكان المنصور يخافه فلما حضرت المنصور الوفاة وهو بباب مكة عند بئر ميمون كما هو مشهور قال لحاجبه الربيع ابن يونس المقدم ذكره ما أخاف إلا صاحب الشام عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام ثم رفع يديه إلى السماء وقال اللهم اكفني عبد الوهاب قال الربيع فلما مات المنصور ودليته في القبر وعرضت عليه الحجارة سمعت هاتفا يهتف من القبر مات عبد الوهاب وأجيبت الدعوة قال الربيع فهالني ذلك الصوت وجئ بالخبر من بعد سادسة أو سابعة بوفاة عبد الوهاب هكذا ذكره ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون التي أولها
(الدهر يفجع بعد العين بالأثر
*)
بعد قوله فيها
(وروعت كل مأمون ومؤتمن
* وأسلمت كل منصور ومنتصر)
والله أعلم
506 الجاحظ
أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي المعروف بالجاحظ

470
البصري العالم المشهور صاحب التصانيف في كل فن له مقالة في أصول الدين وإليه تنتسب الفرقة المعروفة بالجاحظية من المعتزلة وكان تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي المعروف بالنظام المتكلم المشهور وهو خال يموت بن المزرع الآتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى ومن أحسن تصانيفه وأمتعها كتاب الحيوان فلقد جمع كل غريبة وكذلك كتاب البيان والتبين وهي كثيرة جدا وكان مع فضائله مشوه الخلق وإنما قيل له الجاحظ لأن عينيه كانتا جاحظتين والجحوظ النتو وكان يقال له أيضا الحدقي لذلك
ومن جملة أخباره أنه قال ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده فلما رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني فخرجت من عنده فلقيت محمد بن إبراهيم وهو يرد الانصراف إلى مدينة السلام فعرض علي الخروج معه والانحدار في حراقته وكنا بسر من رأى فركبنا في الحراقة فلما انتهينا إلى فم نهر القاطول نصب ستارة وأمر بالغناء فاندفعت عوادة فغنت
(كل يوم قطيعة وعتاب
* ينقضي دهرا ونحن غضاب)
(ليت شعري أنا خصصت بهذا
* دون ذا الخلق أم كذا الأحباب)
وسكتت فأمر الطنبورية فغنت
(وارحمتا للعاشقينا
* ما إن أرى لهم معينا)
(كم يهجرون ويصرمون
* ويقطعون فيصبرونا)

471
قال فقالت لها العوادة فيضعون ماذا قالت هكذا يصنعون وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها وبرزت كأنها فلقة قمر فألقت نفسها في الماء وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وبيده مذبة فأتى الموضع ونظر إليها وهي تمر بين الماء وأنشد
(أنت التي غرقتني
* بعد القضا لو تعلمينا) وألقى نفسه في أثرها فأدار الملاح الحراقة فإذا بهما معتنقان ثم غاصا فلم يريا فاستعظم محمد ذلك وهاله أمره ثم قال يا عمرو لتحدثني حديثا يسليني عن فعل هذين وإلا الحقتك بهما قال فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك وقد قعد للمظالم يوما وعرضت عليه القصص فمرت به قصة فيها إن رأى أمير المؤمنين أن يخرج إلي جاريته فلانة حتى تغنيني ثلاثة أصوات فعل فاغتاظ يزيد من ذلك وأمر من يخرج إليه ويأتيه برأسه ثم أتبع الرسول برسول آخر يأمره أن يدخل إليه الرجل فأدخله فلما وقف بين يديه قال له ما الذي حملك على ما صنعت قال الثقة بحلمك والاتكال على عفوك فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج ثم أمر فأخرجت الجارية ومعها عودها فقال لها الفتى غني
(أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
* وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي)
فغنته فقال له يزيد قل فقال غني
(تألق البرق نجديا فقلت له
* يا أيها البرق إني عنك مشغول)
فغنته فقال له يزيد قل قال تأمر لي برطل شراب فأمر له فما استتم شربه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد فرمى نفسه على دماغه فمات فقال يزيد إنا لله وإنا إليه راجعون أتراه الأحمق الجاهل ظن أني أخرج إليه جاريتي وأردها إلى ملكي يا غلمان خذوا بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل وإلا فبيعوها وتصدقوا بثمنها عنه فانطلقوا بها إلى أهله فلما توسطت الدار نظرت إلى حفيرة في وسط دار يزيد قد أعدت للمطر

472
فجذبت نفسها من أيديهم وأنشدت
(من مات عشقا فليمت هكذا
* لا خير في عشق بلا موت)
وألقت نفسها في الحفيرة على دماغها فماتت فسري عن محمد وأجزل صلتي
وقال أبو القاسم السيرافي حضرنا مجلس الأستاذ أبي الفضل ابن العميد الوزير الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فجرى ذكر الجاحظ فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به وسكت الوزير عنه فلما خرج الرجل قلت له سكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك في الرد على أمثاله فقال لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله ولو وافقته وبينت له لنظر في كتبه وصار بذلك إنسانا يا أبا القاسم فكتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا ولم أستصلحه لذلك
وكان الجاحظ في أواخر عمره قد أصابه الفالج فكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته والنصف الأيسر لو قرض بالمقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده وكان يقول في مرضه اصطلحت على جسدي الأضداد إن أكلت باردا أخذ برجلي وإن أكلت حارا أخذ برأسي وكان يقول أنا من جانبي الأيسر مفلوج فلو قرض بالمقاريض ما علمت به ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مر به الذباب لألمت وبي حصاة لا ينسرح لي البول معها وأشد ما علي ست وتسعون سنة وكان ينشد
(أترجو أن تكون وأنت شيخ
* كما قد كنت أيام الشباب)
(لقد كذبتك نفسك ليس ثوب
* دريس كالجديد من الثياب)
وحكى بعض البرامكة قال كنت تقلدت السند فأقمت بها ما شاء الله ثم اتصل بي أني صرفت عنها وكنت كسبت بها ثلاثين ألف دينار فخشيت أن يفجأني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه فصغته عشرة آلاف إهليلجة في كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل ولم يمكث الصارف أن أتى فركبت

473
البحر وانحدرت إلى البصرة فخبرت أن الجاحظ بها وأنه عليل الفالج فأحببت أن أراه قبل وفاته فسرت إليه فأفضيت إلى باب دار لطيف فقرعته فخرجت إلي خادم صفراء فقالت من أنت قلت رجل غريب وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ فبلغته الخادم ما قلته فسمعته يقول قولي له وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل فقلت للجارية لا بد من الوصول إليه فلما بلغته قال هذا رجل قد اجتاز بالبصرة وسمع بعلتي فقال أراه قبل موته لأقول قد رأيت الجاحظ ثم أذن لي فدخلت فسلمت عليه ورد ردا جميلا وقال من تكون أعزك الله فانتسبت له فقال رحم الله أسلافك وآبائك السمحاء الأجواد فلقد كانت أيامهم رياض الأزمنة ولقد انجبر بهم خلق كثير فسقيا لهم ورعيا فدعوت له وقلت أنا أسألك أن تنشدني شيئا من الشعر فأنشدني
(لئن قدمت قبلي رجال فطالما
* مشيت على رسلي فكنت المقدما)
(ولكن هذا الدهر تأتى صروفه
* فتبرم منقوضا وتنقض مبرما)
ثم نهضت فلما قاربت الدهليز قال يا فتى أرأيت مفلوجا ينفعه الإهليلج قلت لا قال فإن الإهليلج الذي معك ينفعني فابعث لي منه فقلت نعم وخرجت متعجبا من وقوعه على خبري مع كتماني له وبعثت له مائة إهليلجة
وقال أبو الحسن البرمكي أنشدني الجاحظ
(وكان لنا أصدقاء مضوا
* تفانوا جميعا فما خلدوا)
(تساقوا جميعا كؤوس المنون
* فمات الصديق ومات العدو)
وكانت وفاة الجاحظ في المحرم سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة وقد نيف على تسعين سنة رحمه الله تعالى
وبحر بفتح الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة وبعدها راء

474
ومحبوب بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وضم الباء الموحدة وسكون الواو وبعدها باء موحدة
والجاحظ بفتح الجيم وبعد الألف حاء مهملة مكسورة وبعدها ظاء معجمة
والكناني بكسر الكاف وفتح النون وبعد الألف نون ثانية
والليثي بفتح اللام وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها ثاء مثلثة هذه النسبة إلى ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة
507 عمرو بن مسعدة
عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول الكاتب وكنيته أبو الفضل أحد وزراء المأمون ذكر الخطيب في تاريخ بغداد أنه ابن عم إبراهيم بن العباس الصولي الشاعر وقد تقدم ذكره وكان كاتبا بليغا جزل العبارة وجيزها سديد المقاصد والمعاني ولما كان الفضل بن سهل أخو الحسن بن سهل وزير المأمون لم يكن لأحد معه كلام لاستيلائه على
المأمون فلما قتل سلم عليه الوزراء بعد ذلك وهم أحمد بن أبي خالد الأحول وعمرو بن مسعدة المذكور وأبو عباد
وكان المأمون قد أمره أن يكتب لشخص كتابا إلى بعض العمال بالوصية عليه والاعتناء بأمره فكتب له كتابي إليك كتاب واثق بمن كتبت إليه معني بمن كتبت له ولن يضيع بين الثقة والعناية موصله والسلام

475
وقيل إن هذا من كلام الحسن بن وهب والأول أصح وأشهر وقال عمرو بن مسعدة المذكور كنت أوقع بين يدي جعفر بن يحيى البرمكي فرفع إليه غلمانه ورقة يستزيدونه في رواتبهم فرمى بها إلي وقال أجب عنها فكتبت قليل دائم خير من كثير منقطع فضرب بيده على ظهري وقال أي وزير في جلدك
وله كل معنى بديع وتوفي في سنة سبع عشرة ومائتين بموضع يقال له أذنة وذكر الجهشياري في كتاب الوزراء أنه توفي في شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة ومائتين والله أعلم ولما مات رفعت إلى المأمون رقعة أنه خلف ثمانين ألف ألف درهم فوقع في ظهرها هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا فبارك الله لولده فيما خلف وأحسن لهم النظر فيما ترك
وذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أنه لما مات عرض لماله ولم يعرض لمال وزير غيره رحمه الله تعالى
ومسعدة بفتح الميم وسكون السين المهملة وفتح العين والدال المهملتين وأذنة بفتح الهمزة والذال المعجمة والنون وهي بليدة بساحل الشام عند طرسوس بني حصنها سنة أربع وأربعين ومائة
وبعد انتهائي إلى هذا الموضع ظفرت له برسالة بديعة كتبها إلى بعض الرؤساء وقد تزوجت أمه فساءه ذلك فلما قرأها ذلك الرئيس تسلى بها وذهب عنه ما كان يجده فآثرت الإتيان بها لحسنها وهي الحمد لله الذي كشف عنا ستر الحيرة وهدانا لستر العورة وجدع بما شرع من الحلال أنف الغيرة ومنع من عضل الأمهات كما منع من وأد البنات استنزالا للنفوس الأبية عن الحمية حمية الجاهلية ثم عرض لجزيل الأجر من استسلم لواقع قضائه وعوض جليل الذخر من صبرعلى نازل بلائه وهناك الذي شرح للتقوى صدرك ووسع في البلوى صبرك وألهمك من التسليم لمشيئته والرضا بقضيته ما وفقك له من قضاء الواجب في أحد أبويك ومن عظم حقه عليك وجعل تعالى جده ما تجرعته من أنف وكظمته من أسف معدودا فيما يعظم به أجرك

476
ويجزل عليه ذخرك وقرن بالحاضر من امتعاضك بفعلها المنتظر من ارتماضك بدفنها فتستوفى بها المصيبة وتستكمل عنها المثوبة فوصل الله لسيدي ما استشعره من الصبر على عرسها ما يستكسبه من الصبر على نفسها وعوضه من أسرة فرشها أعواد نعشها وجعل تعالى جده ما ينعم به عليه بعدها من نعمة معرى من نقمة وما يوليه بعد قبضها من منحة مبرأ من محنة فأحكام الله تعالى جده وتقدست أسماؤه جارية على غير مراد المخلوقين لكنه تعالى يختار لعباده المؤمنين ما هو خير لهم في العاجلة وأبقى لهم في الآجلة اختار الله لك في قبضها إليه وقدومها عليه ما هو أنفع لها وأولى بها وجعل القبر كفؤا لها والسلام
وقيل إن هذه الرسالة لأبي الفضل ابن العميد الآتي ذكره إن شاء الله تعالى
ولقد أذكرتني هذه الرسالة بيتين للصاحب بن عباد في شخص زوج أمه وهما
(عذلت لتزويجه أمه
* فقال فعلت حلالا يجوز)
(فقلت صدقت حلالا فعلت
* ولكن سمحت بصدع العجوز)
وكتب عمرو إلى بعض أصحابه في حق شخص يعز عليه أما بعد فموصل كتابي إليك سالم والسلام أراد قول الشاعر
(يديرونني عن سالم وأديرهم
* وجلدة بين العين والأنف سالم)
أي يحل مني هذا المحل
وأنشد محمد بن داود بن الجراح لمحمد البيدق النصيبي في عمرو بن مسعدة وقد اشتكى
(قالوا أبو الفضل معتل فقلت لهم
* نفسي الفداء له من كل محذور)
(يا ليت علته بي ثم إن له
* أجر العليل وأني غير مأجور)
وكان بين عمرو المذكور وبين إبراهيم بن العباس الصولي المقدم

477
ذكره مودة فحصل لإبراهيم ضائقة بسبب البطالة في بعض الأوقات فبعث له عمرو مالا فكتب إليه إبراهيم
(سأشكر عمرا ما تراخت منيتي
* أيادي لم تمنن وإن هي جلت)
(فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
* ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت)
(رأى خلتي من حيث يخفى مكانها
* فكانت قذى عينيه حتى تجلت)
وقال أحمد بن يوسف الكاتب المقدم ذكره دخلت على المأمون وهو يمسك كتابا بيده وقد أطال النظر فيه زمانا وأنا ملتفت إليه فقال يا أحمد أراك مفكرا فيما تراه مني قلت نعم وقى الله أمير المؤمنين من المكاره وأعاذه من المخاوف قال فإنه لا مكروه فيه ولكنني قرأت كلاما وجدته نظير ما سمعته من الرشيد يقوله في البلاغة كان يقول البلاغة التباعد عن الإطالة والتقرب من معنى البغية والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى وما كنت أتوهم أن أحدا يقدرعلى المبالغة في هذا المعنى حتى قرأت هذا الكتاب ورمى به إلي وقال هذا كتاب من عمرو بن مسعدة إليه قال فقرأته فإذا فيه كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم واختلت لذلك أحوالهم والتاثت معه أمورهم فلما قرأته قال إن استحساني إياه بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطائهم لسبعة أشهر وانا على مجازاة الكاتب بما يستحقه من حل محله في صناعته

478
508 ابن بانة
عمرو بن محمد بن سليمان بن راشد المعروف بابن بانة مولى يوسف بن عمر الثقفي أحد المغنين المشهورين المجيدين في طبقة المتقدمين منهم ذكره أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني وقال كان أبوه صاحب ديوان ووجها من وجوه الكتاب وكان مغنيا مجيدا وشاعرا صالح الشعر وله كتاب في الأغاني وكان تياها معجبا بنفسه وهو معدود في ندماء الخلفاء ومغنيهم على ما كان به من الوضح وتوفي سنة ثمان وسبعين ومائتين بسر من رأى رحمه الله تعالى وكان خصيصا بالمتوكل على الله آنسا به أخذ الغناء عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي وغيره وله صنعة في الغناء تدل على حذقه وكان منزله بغداد ويتردد إلى سر من رأى في الأحيان
وبانة بفتح الباء الموحدة وبعد الألف نون مفتوحة ثم هاء ساكنة وهو اسم أمه وهي بانة ابنة روح كاتب سلمة الوصيف وكان ينسب إليها وقد تقدم في ترجمة طاهر بن الحسين ذكر بيتين من شعره يهجوه بهما

479
509 ابن الموصلايا
أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا الكاتب البغدادي منشىء دار الخلافة الملقب أمين الدولة كان نصرانيا وأسلم على يد الإمام المقتدي بالله وحسن إسلامه وله الرسائل الرائقة والأشعار الجيدة وكل منهما مدون وكان كثير الفضل وخدم بديوان الإنشاء للإمام القائم في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وتوفي بعد أن كف بصره في تاسع عشر جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وأربعمائة رحمه الله تعالى
140 وتوفي ابن أخته تاج الرؤساء أبو نصر هبة الله بن صاحب الخير الحسن ابن علي الكاتب وكان فاضلا له معرفة بالأدب والبلاغة والخط الحسن وكان ذا رسائل جيدة وهي مدونة أيضا ومشهورة في عشية الاثنين حادي عشر جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة ببغداد ودفن بباب أبرز وكان مرضه خمسة أيام وعمره سبعون سنة رحمه الله تعالى وكان قد أسلم مع خاله المذكور وكان إسلامهما في سنة أربع وثمانين وأربعمائة
والموصلايا بضم الميم وسكون الواو وفتح الصاد المهلمة وبعد اللام ألف ياء مثناة من تحتها وبعدها ألف وهو من أسماء النصارى

480
510 ابن السوادي
أبو الفرج العلاء بن علي بن محمد بن علي بن أحمد بن عبيد الله الواسطي المعروف بابن السوادي الواسطي الكاتب الشاعر كان شاعرا فاضلا ظريفا خليعا مطبوعا من بيت كبير في بلده مشهور بالكتابة والنباهة والتميز وله شعر حسن فمنه قوله
(أشكو إليك ومن صدودك أشتكي
* وأظن من شغفي بأنك منصفي)
(وأصد عنك مخافة من إن يرى
* منك الصدود فيشتفي من يشتفي)
وهو مأخوذ من قول بعضهم
(أخفي هواه عن العذول تجلدا
* كي لا يرى جزعي عليه فيشتفي)
وكنت قد وقفت على هذا البيت قبل وقوفي على بيتي ابن السوادي فأعجبني المعنى فنظمته في دوبيت وهو
(يا غصن نقا قوامه مياد
* أيام رضاك كلها أعياد)
(ما أكتم حزني عندما تهجرني
* إلا حذرا أن تشمت الحساد)
وقال عماد الدين الكاتب في كتاب الخريدة أنشدني لنفسه
(يمينا بما ضم المصلى وما حوت
* رحاب منى إني إليك مشوق)
وهي ثلاثة أبيات اقتصرت منها على هذا لأنه أحسنها
وكان أبو القاسم هبة الله بن الفضل المعروف بابن القطان الآتي ذكره في

481
حرف الهاء إن شاء الله تعالى قد هجا قاضي القضاة الزينبي بقصيدته الكافية التي أولها
(يا أخي الشرط أملك
* لست للثلب أترك)
وهي طويلة عدد أبياتها مائة وثمانية عشر بيتا وتناقلتها الرواة وسارت عنه فبلغ ذلك الزينبي المذكور فأحضر ابن الفضل وصفعه وحبسه مدة ثم أفرج عنه فاتفق أن حضر ابن السوادي المذكور إلى بغداد من واسط عقيب هذه الواقعة ومدح الزينبي المذكور بقصيدة فتأخرت عنه الجائزة وتردد إلى مجلسه كثيرا فما أجدى عليه فاجتمع بابن الفضل المذكور وشرح له حاله وقال أنا على عزم الانحدار إلى واسط فإذا وصلت إلى بلدي هجوت الزينبي وكان للزينبي صاحب يقال له أبو الفتح فكتب إليه ابن الفضل أبياتا من جملتها
(يا أبا الفتح الهجاء إذا
* جاش صدر فهو متسع)
(وقوافي الشعر واثبة
* ولها الشيطان متبع)
(فاحذروا كافات منحدر
* ما لكم في صفعه طمع)
فاتصلت الأبيات بالزينبي فأرسل لابن السوادي جائزة وطيب قلبه وكانت ولادة ابن السوادي بواسط سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة منتصف شهر ربيع الآخر ليلة الأربعاء وتوفي سنة ست وخمسين وخمسمائة بواسط والسوادي بفتح السين المهملة والواو وبعد الألف دال مهملة هذه النسبة إلى سواد العراق وإنما قيل له السواد لأن العرب لما رأت خضرة الأشجار قالت ما هذا السواد فبقي الاسم عليه

482
511 القاضي عياض
القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض ابن محمد بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي كان إمام وقته في الحديث وعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم وصنف التصانيف المفيدة منها الإكمال في شرح كتاب مسلم كمل به المعلم في شرح مسلم للمازري ومنها مشارق الأنوار وهو كتاب مفيد جدا في تفسير غريب الحديث المختص بالصحاح الثلاثة وهي الموطأ والبخاري ومسلم وشرح حديث أم زرع شرحا مستوفى وله كتاب سماه التنبيهات جمع فيه غرائب وفوائد وبالجملة فكل تواليفه بديعة
ذكره أبو القاسم بن بشكوال في كتاب الصلة فقال دخل الأندلس طالبا للعلم فأخذ بقرطبة عن جماعة وجمع من الحديث كثيرا وكان له عناية كبيرة به والاهتمام بجمعه وتقييده وهو من أهل التفنن في العلم والذكاء واليقظة

483
والفهم واستقضى ببلده يعني مدينة سبتة مدة طويلة حمدت سيرته فيها ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة فلم يطل أمده فيها انتهى كلامه
وللقاضي عياض شعر حسن فمنه ما رواه عنه ولده أبو عبد الله محمد قاضي دانية قال أنشدني أبي لنفسه في خامات زرع بينها شقائق النعمان هبت عليه ريح
(انظر إلى الزرع وخاماته
* تحكي وقد ماست أمام الرياح)
(كتيبة حمراء مهزومة
* شقائق النعمان فيها جراح)
الخامة القصبة الرطبة من الزرع
وأنشد أيضا لأبيه
(الله يعلم أني منذ لم أركم
* كطائر خانه ريش الجناحين)
(فلو قدرت ركبت البحر نحوكم
* لأن بعدكم عني جنى حيني)
ورأيت لابن العريف رسالة كتبها إليه فأحببت ذكرها ثم أضربت عنها لطولها
وذكره العماد في الخريدة فقال كبير الشان غزير البيان وذكر له البيتين في الزرع الذي بينه شقائق النعمان ثم قال بعد ذلك وله في لزوم ما لا يلزم
(إذا ما نشرت بساط انبساط
* فعنه فديتك فاطو المزاحا)
(فإن المزاح على ما حكاه
* أولو العلم قبلي عن العلم زاحا)
ومدحه أبو الحسن ابن هارون المالقي الفقيه المشاور بقوله
(ظلموا عياضا وهو يحلم عنهم
* والظلم بين العالمين قديم)
(جعلوا مكان الراء عينا في اسمه
* كي يكتموه فإنه معلوم)

484
(لولا ما ناحت أباطح سبتة
* والروض حول فنائها معدوم)
وذكره ابن الأبار في تسمية أصحاب أبي علي الغساني فقال من أهل سبتة وأصله من بسطة يكنى أبا الفضل أحد الأئمة الحفاظ الفقهاء المحدثين الأدباء وتواليفه وأشعاره شاهدة بذلك كتب إليه أبو علي في جماعة جلة ولقي أيضا آخرين مثلهم وشيوخه يقاربون المائة
وكان مولد القاضي عياض بمدينة سبتة في النصف من شعبان سنة ست وسبعين وأربعمائة وتوفي بمراكش يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة وقيل في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة رحمه الله تعالى ودفن بباب إيلان داخل المدينة وتولى القضاء بغرناطة سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة
وتوفي ولده المذكور سنة خمس وسبعين وخمسمائة رحمه الله تعالى
وعياض بكسر العين المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف ضاد معجمة
واليحصبي بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الحاء المهملة وضم الصاد المهملة وفتحها وكسرها وبعدها باء موحدة هذه النسبة إلى يحصب بن مالك قبيلة من حمير
وسبتة مدينة مشهورة بالمغرب وكذلك غرناطة بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفتح النون وبعد الألف طاء مهملة ثم هاء وهي بالأندلس

485
512
عيسى بن عمر الثقفي
أبو عمرو عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري قيل كان مولى خالد بن الوليد رضي الله عنه ونزل في ثقيف فنسب إليهم كان صاحب تقعير في كلامه واستعمال للغريب فيه وفي قراءاته وكانت بينه وبين أبي عمرو بن العلاء صحبة ولهما مسائل ومجالس وأخذ القراءة عرضا عن عبد الله بن أبي إسحاق وروى الحروف عن عبد الله بن كثير وابن محيصن وسمع الحسن البصري وله اختيار في القراءة على قياس العربية وروى القراءات عنه أحمد بن موسى اللؤلؤي وهارون بن موسى النحوي والأصمعي والخليل بن أحمد وسهل بن يوسف وعبيد بن عقيل وأخذ سيبويه عنه النحو وله الكتاب الذي سماه الجامع في النحو ويقال إن سيبويه أخذ هذا الكتاب وبسطه وحشى عليه من كلام الخليل وغيره ولما كمل بالبحث والتحشية نسب إليه وهو كتاب سيبويه المشهور والذي يدل على صحة هذا القول أن سيبويه لما فارق عيسى بن عمر المذكور ولازم الخليل بن أحمد سأله الخليل عن مصنفات عيسى فقال له سيبويه صنف نيفا وسبعين مصنفا في النحو وإن بعض أهل اليسار جمعها وأتت عنده عليها آفة فذهبت ولم يبق منها في الوجود سوى كتابين أحدهما اسمه الإكمال وهو بأرض فارس عند فلان والآخر الجامع وهو هذا الكتاب الذي أشتغل فيه وأسألك عن غوامضه فأطرق الخليل ساعة ثم رفع رأسه وقال رحم الله عيسى وأنشد
(ذهب النحو جميعا كله
* غير ما أحدث عيسى بن عمر)

486
(ذاك إكمال وهذا جامع
* وهما للناس شمس وقمر)
فأشار بالإكمال إلى الغائب وبالجامع إلى الحاضر وكان الخليل قد أخذ عنه أيضا
ويقال إن أبا الأسود الدؤلي لم يضع في النحو إلا باب الفاعل والمفعول فقط وإن عيسى بن عمر وضع كتابا على الأكثر وبوبه وهذبه وسمى ما شذ عن الأكثر لغات وكان
يطعن على العرب ويخطىء المشاهير منهم مثل النابغة في بعض أشعاره وغيره وروى الأصمعي قال قال عيسى بن عمر لأبي عمرو ابن العلاء أنا أفصح من معد بن عدنان فقال له أبو عمرو لقد تعديت فكيف تنشد هذا البيت
(قد كن يخبأن الوجوه تسترا
* فاليوم حين بدأن للنظار)
أو بدين للنظار فقال عيسى بدأن فقال له أبو عمرو أخطأت يقال بدا يبدو إذا ظهر وبدأ يبدأ إذا شرع في الشيء والصواب حين بدون للنظار وإنما قصد أبو عمرو تغليطه لأنه لا يقال في هذا الموضع بدأن ولا بدين بل بدون
ومن جملة تقعيره في الكلام ما حكاه الجوهري في كتاب الصحاح قال سقط عيسى بن عمر عن حمار له فاجتمع عليه الناس فقال ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني معناه ما لكم تجمعتم علي تجمعكم على مجنون انكشفوا عني
ورأيت في بعض المجاميع أنه كان به ضيق النفس فأدركه يوما وهو في السوق فوقع ودار الناس حوله يقولون مصروع مصروع فبين قارىء ومعوذ من الجان فلما أفاق من غشيته نظر إلى ازدحامهم فقال هذه المقالة فقال بعض الحاضرين إن جنيه يتكلم بالهندية

487
ويروى أن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين كان قد ضربه بالسياط وهو يقول والله إن كانت إلا أثيابا في أسيفاط قبضها عشاروك وله من هذا النوع شيء كثير وتوفي سنة تسع وأربعين ومائة رحمه الله تعالى
وقيل إن الذي ضربه كان يوسف بن عمرأمير العراقين، وسيأتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى وكان سبب ضربه إياه أنه لما تولى العراقين بعد خالد بن عبد الله القسري تتبع أصحابه وكان بعض جلسائه قد أودع عند عيسى بن عمرالمذكور وديعة فنمي الخبر إلى يوسف فكتب إلى نائبه بالبصرة يأمره أن يحمل إليه عيسى بن عمر مقيدا فدعا به ودعا حدادا وأمره بتقييده فلما قيده قال له الوالي لا بأس عليك إنما أرادك الأمير لتأديب ولده قال فما بال القيد إذا فبقيت هذه الكلمة مثلا بالبصرة فلما وصل إلى يوسف سأله عن الوديعة فأنكر فأمر بضربه فلما أخذه السوط جزع فقال هذه المقالة المقدم ذكرها
513 الجزولي
أبو موسى عيسى بن عبد العزيز بن يللبخت بن عيسى بن يوماريلي الجزولي اليزدكتني كان إماما في علم النحو كثير الاطلاع على دقائقه وغريبه وشاذه وصنف فيه المقدمة التي سماها القانون ولقد أتى فيها بالعجائب وهي في غاية

488
الإيجاز مع الاشتمال على شيء كثير من النحو ولم يسبق إلى مثلها واعتنى بها جماعة من الفضلاء فشرحوها ومنهم من وضع لها أمثلة ومع هذا كله فلا تفهم حقيقتها وأكثر النحاة ممن لم يكن قد أخذوها عن موقف يعترفون بقصور أفهامهم عن إدراك مراده منها فإنها كلها رموز وإشارات ولقد سمعت من بعض أئمة العربية المشار إليه في وقته وهو يقول أنا ما أعرف هذه المقدمة وما يلزم من كوني ما أعرفها أن لا أعرف النحو وبالجملة فإنه أبدع فيها وسمعت أن له أمالي في النحو ولكنها لم تشتهر ورأيت له مختصر الفسر لابن جني في شرح ديوان المتنبي ويقال إنه كان يدري شيئا من المنطق
ودخل إلى الديار المصرية وقرأ على الشيخ أبي محمد بن بري المقدم ذكره وقد نقل عنه شيئا في المقدمة المذكورة وذكر بعض المتأخرين في تصنيفه أنه كان قد قرأ الجمل على ابن بري وسأله عن مسائل على أبواب الكتاب فأجابه ابن بري عنها وجرى فيها بحث بين الطلبة حصلت منه فوائد علقها الجزولي مفردة فجاءت كالمقدمة فيها كلام غامض وعقود لطيفة وإشارات إلى أصول صناعة النحو غريبة فنقلها الناس عنه واستفادوها منه ثم قال هذا المصنف وبلغني أنه كان إذا سئل عنها هل هي من تصنيفك قال لا لأنه كان متورعا ولما كانت من نتائج خواطر الجماعة عند البحث ومن كلام شيخه ابن بري لم يسعه أن يقول هي من تصنيفي وإن كانت منسوبة إليه لأنه هو الذي انفرد بترتيبها
ثم رجع الجزولي إلى بلاد المغرب بعد أن حج وأقام بمدينة بجاية مدة والناس يشتغلون عليه وانتفع به خلق كثير ورأيت جماعة من أصحابه وتوفي سنة عشر وستمائة بمدينة مراكش رحمه الله تعالى هكذا سمعت

489
جماعة يذكرون تاريخ وفاته ثم وقفت على ترجمته وقد رتبها أبو عبد الله ابن الأبار القضاعي فقال في سنة ست أو سبع وستمائة مات الجزولي
ويللبخت بفتح الياء المثناة من تحتها واللام وسكون اللام الثانية وفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وبعدها تاء مثناة من فوقها وهو اسم بربري
ويوماريلي بضم الياء المثناة من تحتها وسكون الواو وفتح الميم وبعد الألف راء مكسورة ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها وبعدها لام ثم ياء وهو اسم بربري لأيضا
والجزولي بضم الجيم والزاي وسكون الواو وبعدها لام هذه النسبة إلى جزولة ويقال لها أيضا كزولة بالكاف وهي بطن من البربر
واليزدكتني بفتح الياء المثناة من تحتها وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وسكون الكاف وفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها نون هذه النسبة إلى فخذ من جزولة
ورأيت بخطي في مسوداتي أنه تولى الخطابة بجامع مراكش وأن قبيلته كزولة من الرحالة يكونون بصحراء بلاد السوس في المغرب الأقصى وكان إماما في القراءات والنحو واللغة وكان يتصدر في الجامع للاقراء وأنه شرح مقدمته في مجلد كبير أتى فيه بغرائب وفوائد وذكر بعض أصحابه أنه حضر عنده ليقرأ عليه قراءة أبي عمرو فقال بعض الحاضرين أتريد أن تقرأ على الشيخ النحو قال فقلت لا قال فسألني آخر كذلك فقلت لا فأنشد الشيخ وقال قل لهم
(لست للنحو جئتكم
* لا ولا فيه أرغب)
(خل زيدا لشأنه
* أينما شاء يذهب)

490
(أنا ما لي ولامرىء
* أبد الدهر يضرب)
وكانت وفاته بهسكورة من أعمال مراكش والله أعلم
514 الفائز العبيدي
أبو القاسم عيسى الملقب الفائز بن الظافر بن الحافظ بن محمد بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله وقد تقدم ذكر والده وجماعة من أهل بيته وكيف قتل نصر بن عباس أباه حسبما شرح هناك وهذا نصر بن عباس هو الذي قتل العادل بن السلار وقد رفعت هناك في نسبه فمن أراد معرفته فلينظره هناك
ولما كان صبيحة ليلة قتل فيها الظافر حضر عباس إلى القصر على جاري عادته في الخدمة وأظهر عدم الاطلاع على قضيته وطلب الاجتماع به ولم يكن أهل القصر قد علموا بقتله بعد فإنه خرج من عندهم في خفية كما ذكر ثم وما علم أحد بخروجه فدخل الخدم إلى موضعه ليستأذنوا لعباس فلم يجدوه فدخلوا إلى قاعة الحرم فقيل إنه لم يبت هاهنا وحاصل الأمر أنهم تطلبوه في جميع مظانه في القصر فلم يقفوا له على خبر فتحققوا عدمه فأخرج عباس المذكور أخوي الظافر وهما جبريل ويوسف وهو أبو العاضد المقدم ذكره في جملة من اسمه عبد الله وقال لهما أنتما قتلتما إمامنا وما نعرف

491
حاله إلا منكما فأصرا على الإنكار وكانا صادقين في ذلك فقتلهما في الوقت لينفي عن نفسه وابنه التهمة ثم استدعى ولده الفائز المذكور وتقدير عمره خمس سنين وقيل سنتان فحمله على كتفه ووقف في صحن الدار وأمر أن يدخل الأمراء فدخلوا فقال لهم هذا ولد مولاكم وقد قتل عماه أباه وقد قتلتهما كما ترون والواجب إخلاص الطاعة لهذا الطفل فقالوا بأجمعهم سمعنا وأطعنا وصاحوا صيحة واحدة اضطرب منها الطفل وبال على كتف عباس وسموه الفائز وسيروه إلى أمه واختل من تلك الصيحة فصار يصرع في كل وقت ويختلج وخرج عباس إلى دراه ودبر لأمور وانفرد بالتصرف ولم يبق على يده يد
وأما أهل القصر فإنهم اطلعوا على باطن الأمر وأخذوا في إعمال الحيلة في قتل عباس وابنه نصر وكاتبوا الصالح بن رزيك الأرمني المذكور في حرف الطاء وكان إذ ذاك والي منية بني خصيب بالصعيد وسألوه الانتصار لهم ولمولاه والخروج على عباس وقطعوا شعورهم وسيروها طي الكتاب وسودوا الكتاب فلما وقف الصالح عليه أطلع من حوله الأجناد عليه وتحدث معهم في المعنى فأجابوا إلى الخروج معه واستمال جمعا من العرب وساروا قاصدين القاهرة وقد لبسوا السواد فلما قاربوها خرج إليهم جميع من بها من الأمراء والأجناد والسودان وتركوا عباسا وحده فخرج عباس في ساعته من القاهرة هاربا ومعه شيء من ماله وخرج معه ولده نصر قاتل الظافر وأسامة بن منقذ المذكور في حرف الهمزة فقد قيل إنه الذي أشار عليهما بقتل الظافر وشرح ذلك يطول وقد تقدم في ترجمة العادل بن السلار ذكره أيضا وأنه الذي أشار بقتله والله العالم بالخفيات وكان معهم جماعة يسيرة من أتباعهم وقصدوا طريق الشام على أيلة وذلك في رابع عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وخمسمائة

492
وأما الصالح بن رزيك فإنه دخل القاهرة بغير قتال وما قدم شيئا على النزول بدار عباس المعروفة بدار المأمون ابن البطحائحي وهي اليوم مدرسة للطائفة الحنفية وتعرف بالسيوفية واستحضر الخادم الصغير الذي كان مع الظافر ساعة قتله وسأله عن الموضع الذي دفن فيه فعرفه به وقلع البلاطة التي كانت عليه وأخرج الظافر ومن معه من المقتولين وحملوا وقطعت لهم الشعور وانتشر البكاء والنياح في البلد ومشى الصالح والخلق قدام الجنازة إلى موضع الدفن وهو في تربة آبائه وهي معروفة في قصرهم وتكفل الصالح بالصغير ودبر أحواله
واما عباس ومن معه فإن أخت الظافر كاتبت فرنج عسقلان بسببه وشرطت لهم مالا جزيلا بسببه إذا أمسكوه فخرجوا عليه وصادفوه فتواقعوا وقتلوا عباسا وأخذو ماله وولده وانهزم بعض أصحابه إلى الشام وفيهم ابن منقذ فسلموا وسيرت الفرنج نصر بن عباس إلى القاهرة تحت الحوطة في قفص حديد فلما وصل تسلم رسولهم ما شرطوا لهم من المال فأخذوا نصرا المذكور وضربوه بالسياط ومثلوا به وصلبوه بعد ذلك على باب زويلة ثم أنزلوه يوم عاشوراء من سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ثم أحرقوه هذه خلاصة الواقعة وإن كان فيها طول
وكان دخول نصر بن عباس إلى القصر بالقاهرة في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة خمسين وخمسمائة وأخرج من القصر يوم الاثنين سادس عشر شهر ربيع الآخر من السنة وكان قد قطعت يده اليمنى وقرض جسمه بالمقاريض والله أعلم وقيل كان ذلك يوم الجمعة ثامن الشهر المذكور
ولم تطل مدة الفائز في ولايته وكانت ولادته يوم الجمعة لتسع بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة وتولى في تاريخ وفاة والده وهو مذكور في

493
ترجمته في حرف الهمزة واسمه إسماعيل وتوفي ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة رحمه الله تعالى وتولى بعده العاضد وقد سبق ذكره وهو آخرهم
515 الملك المعظم ابن العادل
الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق كان عالي الهمة حازما شجاعا مهيبا فاضلا جامعا شمل أرباب الفضائل
محبا لهم وكان حنفي المذهب متعصبا لمذهبه وله فيه مشاركة حسنة ولم يكن في بني أيوب حنفي سواه وتبعه أولاده وكان قد حج إلى بيت الله الحرام في سنة إحدى عشرة وستمائة سار من الكرك على الهجن في حادي عشر ذي القعدة في جماعة من خواصه وسلك طريق العلا وتبوك وفي هذه السنة أخذ المعظم صرخد من ابن قراجا وأعطاها مملوكه عز الدين أيبك المعروف بصاحب صرخد ولم يزل بها إلى أن أخذها منه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل في سنة أربع وأربعين وستمائة وحمله إلى القاهرة واعتقله بدار الطواشي صواب
وكان المعظم يحب الأدب كثيرا ومدحه جماعة من الشعراء المجيدين فأحسنوا في مدحه وكانت له رغبة في فن الأدب وسمعت أشعارا منسوبة إليه ولم

494
أستثبتها فلم أثبت شيئا منها وقيل إنه كان قد شرط لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة فحفظه لهذا السبب جماعة ورأيت بعضهم بدمشق والناس يقولون إن سبب حفظهم له كان هذا وقيل إنه لما توفي كان قد انتهى بعضهم إلى أواخره وبعضهم في أثنائه وهم على قدر أوقات شروعهم فيه ولم أسمع بمثل هذه المنقبة لغيره
وكانت مملكته متسعة من حدود بلد حمص إلى العريش يدخل في ذلك بلاد الساحل الإسلامية منها وبلاد الغور وفلسطين والقدس والكرك والشوبك وصرخد وغير ذلك
وكانت ولادته في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وذكر أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي في تاريخه مرآة الزمان أن المعظم ولد في سنة ست وسبعين وخمسمائة بالقاهرة وولد أخوه الأشرف موسى قبله بليلة واحدة وتوفي المعظم يوم الجمعة مستهل ذي الحجة سنة أربع وعشرين وستمائة والله أعلم بالصواب وقال غيره بل توفي يوم الجمعة ثامن ساعة من نهار سلخ ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة بدمشق ودفن بقلعتها ثم نقل إلى جبل الصالحية ودفن في مدرسة هناك بها قبور جماعة من إخوته وأهل بيته تعرف بالمعظمية وكان نقله ليلة الثلاثاء مستهل المحرم سنة سبع وعشرين وكان كثيرا ما ينشد
(ومورد الوجنات أغيد خاله
* بالحسن من فرط الملاحة عمه)
(كحل الجفون وكان في ألحاظه
* كحل فقلت سقى الحسام وسمه)
وهذا ينظر إلى قول عبد الجبار بن حمديس الصقلي المقدم ذكره
(زادت على كحل الجفون تكحلا
* ويسم نصل السيف وهو قتول)
رحمه الله تعالى فلقد كان من النجباء الأذكياء أخبرني جماعة عن شرف

495
الدين بن عنين بأمور كانت تجري بينهما تدل على حسن الإدراك وإصابة المقصد منها أنه كان ابن عنين قد مرض فكتب إليه
(انظر إلي بعين مولى لم يزل
* يولي الندى وتلاف قبل تلافي)
(أنا كالذي أحتاج ما تحتاجه
* فاغنم ثوابي والثناء الوافي)
فجاء بنفسه إليه يعوده ومعه صرة فيها ثلاثمائة دينار فقال هذه الصلة وأنا العائد وهذه لو وقعت لأكابر النحاة ومن هو في ممارسته طول عمره لاستعظم منه لا سيما مثل هذا الملك وأشياء كثيرة غير هذه يطول شرحها وكان المقصود ذكر أنموذج منها ليستدل بها على الباقي
141 وتولى موضعه ولده الملك الناصر صلاح الدين داود وتوفي في السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ست وخمسين وستمائة في قرية يقال لها البويضاء على باب دمشق ودفن عند والده وكانت ولادته يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستمائة بدمشق
142 وتوفي عز الدين أيبك صاحب صرخد المذكور في أوائل جمادى الأولى من سنة ست وأربعين وستمائة في موضع اعتقاله بالقاهرة ودفن خارج باب النصر في تربة شمس الدولة وحضرت الصلاة عليه ودفنه ثم نقل إلى تربته في مدرسته التي أنشأها ظاهر دمشق على الشرف الأعلى مطلة على الميدان الأخضر الكبير

496
516 الفقيه عيسى الهكاري
الفقيه أبو محمد عيسى بن محمد بن عيسى بن محمد بن أحمد بن يوسف بن القاسم ابن عيسى بن محمد بن القاسم بن محمد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هكذا أملى علي نسبه ولد ولد أخيه ويقال له الهكاري الملقب ضياء الدين
كان أحد الأمراء بالدولة الصلاحية كبير القدر وافر الحرمة معولا عليه في الآراء والمشورات وكان في مبدأ أمره يشتغل في الفقه بالمدرسة الزجاجية بمدينة حلب فاتصل بالأمير أسد الدين شيركوه عم السلطان صلاح الدين المقدم ذكره وصار إمامه يصلي به الفرائض الخمس ولما توجه أسد الدين إلى الديار المصرية وتولى الوزارة كما سبق شرحه كان في صحبته
ولما توفي أسد الدين اتفق الفقيه عيسى المذكور والطواشي بهاء الدين قراقوش الآتي ذكره إن شاء الله تعالى على ترتيب السلطان صلاح الدين موضعه في الوزارة ودققا الحيلة في ذلك حتى بلغا المقصود وشرح ذلك يطول فلما تولى صلاح الدين رأى له ذلك واعتمد عليه ولم يكن يخرج عن رأيه وكان كثير الإدلال عليه يخاطبه بما لا يقدر
عليه غيره من الكلام وكان واسطة خير للناس نفع بجاهه خلقا كثيرا
ولم يزل على مكانته وتوفر حرمته إلى أن توفي في يوم الثلاثاء عند طلوع الشمس التاسع من ذي القعدة سنة خمس وثمانين وخمسائة بالمخيم بمنزلة الخروبة ثم نقل إلى القدس ودفن بظاهرها رحمه الله تعالى

497
وكان يلبس زي الأجناد ويعتم بعمائم الفقهاء فيجمع بين اللباسين ورأيت أخاه الأمير مجد الدين أبا حفص عمر أيضا على هذه الصفة
والخروبة بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء وضمها وسكون الواو وفتح الباء الموحدة وبعدها هاء ساكنة موضع بالقرب من عكا
143 وكانت ولادة أخيه مجد الدين عمر في رجب سنة ستين وخمسائة وتوفي في الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة ست وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم وحضرت الصلاة عليه عليه رحمة الله
517 فخر الدين صاحب تكريت
أبو المنصور عيسى بن مودود بن علي بن عبد الملك بن شعيب الملقب فخر الدين صاحب تكريت هو من أتراك الشام وكانت فيه فضائل وله ديوان شعر حسن ورسائل مطبوعة ودوبيت رقيق فمن شعره قوله
(وما ذات طوق في فروع أراكة
* لها رنة تحت الدجى وصدوح)
(ترامت بها أيدي النوى وتمكنت
* بها فرقة من أهلها ونزوح)
(فحلت بزوراء العراق وزغبها
* بعسفان ثاو منهم وطليح)
(تحن إليهم كلما ذر شارق
* وتسجع في جنح الدجى وتنوح)
(إذا ذكرتهم هيجت ذا بلابل
* وكادت بمكتوم الغرام تبوح)
(بأبرح من وجدي لذكراكم متى
* تألق برق أو تنسم ريح)
ومن رسائله على هذا الأسلوب قوله ما شوارد أنعام بسباسب فلوات

498
لم يسمها أخمص دارج ولم يلج فيها جان من مارج منحتها أنفاس الهجير لوافح زفرات السعير فارجحنت من الأين وراهقت مداناة الحين فأتت العمق بعد ثلاث تستبق وقد أدنفها اللغوب وكادت أن تعلق بها شعوب فألفت الماء أزرق سلسالا يعثر بصفحاته النسيم وتعطفه ذوائب التسنيم غير أن لا سبيل لها إلى مقراته ولا وصول إلى موارده ونهلاته
(ترنو إليه خوازرا بعيونها
* إذ حاولت مضض الجواد عظيما)
(بأشد من ظمئي إلى لقياكم
* من حيث آنس قلبي التسليما)
فالرغبة والابتهال إلى فارض الفرض ورب السكون والنبض أن يحقق الأماني ويبدل النائي بالداني إنه سميع الدعاء
ومن دوبيتياته
(القبض لديك في الهوى والبسط
* يا من أملي عذاره المختط)
(قالوا رشأ فقلت مه لا تخطوا
* من أين لساكن الفيافي قرط)
وله في النظم والنثر شيء كثير ولطيف
ومولده بمدينة حماة وقتله إخوته سنة أربع وثمانين وخمسمائة بقلعة تكريت رحمه الله تعالى وكان له أخ اسمه الياس وهو الذي سلم تكريت إلى الإمام الناصر في شوال سنة خمس وثمانين وخمسمائة وسيأتي في ترجمة مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل أن تكريت كانت لأبيه زين الدين وكان له غلام من أهل حمص اسمه تبر ويقال طبر
أيضا بالتاء والطاء فولاه قلعة العمادية وكانت أيضا له ثم نقله إلى قلعة تكريت فلما كبر زين الدين وعزم على الانتقال إلى إربل كما شرحته في ترجمة ولده مظفر الدين سلم البلاد التي كانت له إلى قطب الدين فعصى تبر في تكريت وسير إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل يقول له أنت ما تقيم بتكريت ولا بد لك فيها من

499
نائب وأنا ذلك النائب فلم يقدر على مشاقته خوفا أن يسلمها إلى الخليفة فسكت عنه وأقره على حاله
ولما امتنع تبر من التسليم كان زين الدين يقول سود الله وجهك يا تبر كما سودت وجهي مع قطب الدين ولم يزل تبر بها إلى أن مات ولم يكن له ولد سوى بنت فتزوجها ابن أخيه وهو عيسى بن مودود صاحب هذه الترجمة وملك تكريت
ثم إنه أحب مطربة فتزوجها وأولدها ولدين شمس الدين وفخر الدين وتوصلت المطربة وزوجت ابنها الشمس بابنة حسن بن قفجاق أمير التركمان وطلبت منه خمسين فارسا تكون عندهم في تكريت لتحفظها فلما علم إخوته بذلك وكانوا اثني عشر رجلا وثبوا على أخيهم عيسى المذكور فقتلوه خنقا وملكوا تكريت ثم وقع بينهم الاختلاف فباعها المقدم منهم للإمام الناصر لدين الله والله أعلم
وتكريت بكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الكاف وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وهي بلدة كبيرة لها قلعة حصينة على دجلة فوق بغداد بنحو ثلاثين فرسخا وهي في بر الموصل وسميت تكريت بتكريت بنت وائل أخت بكر بن وائل وبنى قلعتها سابور بن أردشير بن بابك وهو ثاني ملوك الفرس

500
518 الحاجري الإربلي
أبو يحيى وأبو الفضل عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمارتكين بن طاشتكين الإربلي المعروف بالحاجري الملقب حسام الدين هو جندي ومن أولاد الأجناد وله ديوان شعر تغلب عليه الرقة وفيه معان جيدة وهو مشتمل على الشعر والدوبيت والمواليا وقد أحسن في الكل مع وقيل إنه
قل من يجيد في مجموع هذه الثلاثة بل من غلب عليه واحد منها قصر في الباقي وله أيضا كان وكان واتفقت له فيها مقاصد حسان وكان صاحبي وأنشدني كثيرا من شعره فمن ذلك قوله وهو معنى جيد
(ما زال يحلف لي بكل ألية
* ألا يزال مدى الزمان مصاحبي)
(لما جفا نزل العذار بخده
* فتعجبوا لسواد وجه الكاذب)
وأنشدني لنفسه أيضا
(لك خال من فوق عرش
* شقيق قد استوى)
(بعث الصدغ مرسلا
* يأمر الناس بالهوى)

501
وأنشدني لنفسه أيضا أبياتا منها في صفة الخال
(لم يحو ذاك الخد خالا أسودا
* إلا لنبت شقائق النعمان)
وله في الخال أيضا وهو معنى لطيف
(ومهفهف من شعره وجبينه
* أمسى الورى في ظلمة وضياء)
(لا تنكروا الخال الذي في خده
* كل الشقيق بنقطة سوداء)
ومثل هذا قول ابن وكيع التنيسي المقدم ذكره واسمه الحسن
(إن الشقيق رأى محاسن وجهه
* فأراد أن يحكيه في أحواله)
(فأفاد حمرة لونه من خده
* وأفاد لون سواده من خاله)
وله أيضا
(يقولون لما خط لام عذاره
* سلا كل قلب كان منه سليما)
(لقد كنت أهوى ورد خديه زائرا
* فكيف إذا ما الآس جاء مقيما)
وأنشدني أيضا أكثر دوبيتياته فمن ذلك قوله وقال لي ما يعجبني فيما عملته مثل هذا الدوبيت وهو آخر شيء عملته إلى الآن وهو
(حيا وسقى الحمى سحاب هامي
* ما كان ألذ عامه من عام)
(يا علوة ما ذكرت أيامكم
* إلا وتظلمت على الأيام)
وكان لي أخ يسمى ضياء الدين عيسى بينه وبين الحاجري المذكور مودة أكيدة فكتب إليه من الموصل في صدر كتاب وكان الأخ بإربل وذلك في سنة تسع عشرة وستمائة
(الله يعلم ما أبقى سوى رمق
* مني فراقك يا من قربه الأمل)

502
(فابعث كتابك واستودعه تعزية
* فربما مت شوقا قبل ما يصل)
ومع شهرة ديوانه وكثرة وجوده بأيدي الناس لا حاجة إلى الإطالة في إيراد أكثر من هذا
وكنت خرجت من إربل في أواخر شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة وهو معتقل بقلعتها لأمر يطول شرحه بعد أن كان قد حبس في قلعة خفتيد كان ثم نقل منها وله في ذلك أشعار فمن ذلك قوله أبيات أولها
(قيد أكابده وسجن ضيق
* يا رب شاب من الهموم المفرق)
ومنها
(يا برق إن جئت الديار بإربل
* وعلا عليك من التداني رونق)
(بلغ تحية نازح حسراته
* أبدا بأذيال الصبا تتعلق)
(قل يا جعلت لك الفداء أسيركم
* من كل مشتاق إليكم أشوق)
(والله ما سرت الصبا نجدية
* إلا وكدت بدمع عيني أشرق)
(كيف السيبل إلى اللقاء ودونه
* شماء شاهقة وباب مغلق)
وله وهو في السجن أيضا
(أحبابنا أي داع بالبعاد دعا
* وأي خطب دهانا منه تفريق)
(لا كان دهر رمانا بالفراق فقد
* أضحى له في صميم القلب تمزيق)
(كانت تضيق بي الدنيا بغيبتكم
* فكيف سجن ومن عاداته الضيق)
ثم بلغني بعد ذلك وقيل إنه
خرج من الاعتقال واتصل بخدمة الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل رحمه الله تعالى وتقدم عنده وغير لباسه وتزيا بزي الصوفية فلما توفي مظفر الدين في التاريخ الآتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى سافر عن إربل ثم عاد إليها وقد صارت في مملكة أمير المؤمنين

503
المستنصر بالله ونائبه بها الأمير شمس الدين أبو الفضائل باتكين فأقام مديدة وكان وراءه من يقصده فاتفق أن خرج يوما من بيته قبل الظهر فوثب عليه شخص وضربه بسكين فأخرج حشوته فكتب في تلك الحال إلى باتكين المذكور وهو يكابد الموت
(أشكوك يا ملك البسيطة حالة
* لم تبق رعبا في عضوا ساكنا)
(إن تستبح إبلي لقيطة معشر
* ممن أومل غير جأشك مازنا)
(ومن العجائب كيف يمسي خائفا
* من بات في حرم الخلافة آمنا)
ثم توفي بعد ذلك من يومه في يوم الخميس ثاني شوال اثنتين وثلاثين وستمائة ودفن بمقبرة باب الميدان رحمه الله تعالى وتقدير عمره خمسون سنة
144 وباتكين المذكور كان أرمني الجنس وهو مملوك أم الخليفة الإمام الناصر لدين الله ولما أخذ التتر إربل في الدفعة الأولى في أواخر سنة أربع وثلاثين وستمائة رجع إلى بغداد ومات بها يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شوال سنة أربعين وستمائة ودفن بالشونيزيه
والحاجري بفتح الحاء المهملة وبعد الألف جيم مكسورة وبعدها راء هذه النسبة إلى حاجر وكانت بليدة بالحجاز ولم يبق اليوم منها سوى الآثار ولم يكن الحاجري منها بل لكونه استعملها في شعره كثيرا نسب إليها وهو إربلي الأصل والمولد والمنشأ ولما غلبت عليه هذه النسبة وعرف بها واشتهرت بحيث صارت كالعلم عليه عمل في ذلك دوبيت وهو
(لو كنت كفيت من هواك البينا
* ما بات يحاكي دمع عيني عينا)

504
(لولاك لما ذكرت نجدا بفمي
* من أين أنا وحاجر من أينا)
وذكر ذلك أيضا في أبيات لطيفة أولها
(أي طرف أحيور
* للغزال الأسيمر) وآخرها
(أيهذا الأريبلي
* هام فيك الحويجري)
وفي مدينة إربل محلة يقال لها قرية جبريل بالتصغير ذكر أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل أنها منسوبة إلى جده جبريل المذكور
وخمارتكين بضم الخاء المعجمة
وطاشتكين بفتح الطاء المهملة وسكون الشين المثلثة
والباقي معروف
وخفتيدكان بضم الخاء المعجمة وسكون الفاء وكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها دال مهملة وكاف وبعد الألف نون وهي قلعة حصينة مشهورة في بلد إربل ويقال لها خفتيدكان صارم الدين وهي غير خفتيدكان أبي علي

505
519 طويس المغني
قال أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني اسمه عيسى بن عبد الله وكنيته أبو عبد المنعم وغيرها المخنثون فقالوا عبد النعيم وهو مولى بني مخزوم وطويس لقب عليه
وقال ابن قتيبة في كتاب المعارف في فصل عامر بن عبد الله الصحابي رضي الله عنه ومن موالي آل كريز طويس مولى أروى بنت كريز وهي أم عثمان بن عفان رضي الله عنه واسمه عبد الملك ويكنى أبا عبد النعيم
وقال الجوهري في كتاب الصحاح اسمه طاوس فلما تخنث جعله طويسا ويسمى بعبد النعيم
وقد وقع هذا الاختلاف في اسمه كما تراه وقيل إن الأصح أنه عيسى لتطابق جماعة من العلماء عليه
وكان طويس المذكور من المبرزين في الغناء المجيدين فيه وممن تضرب به الأمثال وإياه عنى الشاعر بقوله في مدح معبد المغني
(تغنى طويس والسريجي بعده
* وما قصبات السبق إلا لمعبد)
وقد ذكر في كتاب الأغاني ترجمته وأطال الحديث في أمره وهو الذي يضرب به المثل في الشؤم فيقال أشأم من طويس وإنما قيل له ذلك

506
لأنه ولد في اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفطم في اليوم الذي مات فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وختن في اليوم الذي قتل فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقيل بلغ الحلم في ذلك اليوم وتزوج في اليوم الذي قتل فيه عثمان بن عفان رضي الله عنه وولد له مولود في اليوم الذي قتل فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقيل بل في يوم مات الحسن بن علي رضي الله عنهما فلذلك تشاءموا به وهذا من عجائب الاتفاقات
وكان مفرطا في طوله مضطربا في خلقه أحول العين وكان يسكن المدينة ثم انتقل عنها إلى السويداء وهي على مرحلتين من المدينة في طريق الشام فلم يزل بها حتى توفي سنة اثنتين وتسعين للهجرة رحمه الله تعالى وسامحه وهو ابن اثنيتن وثمانين سنة وقيل إنه مات بالمدينة والله أعلم
وذكر ياقوت الحموي في كتابه المشترك أن قبر طويس المخنث في سقيا الجزل وما ذكر أين هي
وطويس بضم الطاء المهملة وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها سين مهملة وهي تصغير طاوس بعد حذف الزيادات هكذا قاله الجوهري في الصحاح وله ذكر في كتاب الأوائل تأليف أبي هلال العسكري

507
/ 1