وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان (جزء 6) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان (جزء 6) - نسخه متنی

احمد بن محمد ابن خلکان؛ محقق: احسان عباس

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان
المؤلف: ابن خلكان
الجزء: 6
الوفاة: 681
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق: إحسان عباس
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: لبنان - دار الثقافة
الناشر: دار الثقافة
ردمك:
ملاحظات:
6

1
حرف الواو

5
768
واصل بن عطاء
أبو حذيفة واصل بن عطاء المعتزلي المعروف بالغزال مولى بني ضبة وقيل مولى بني مخزوم كان أحد الأئمة البلغاء المتكلمين في علوم الكلام وغيره وكان يلثغ بالراء فيجعلها غينا قال أبو العباس المبرد في حقه في كتاب الكامل كان واصل بن عطاء أحد الأعاجيب وذلك أنه ألثغ قبيح اللثغة في الراء فكان يخلص كلامه من الراء ولا يفطن لذلك لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه ففي ذلك يقول الشاعر من المعتزلة وهو أبو الطروق الضبي يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة ترددها في الكلام حتى كأنها ليست فيه
(عليم بإبدال الحروف وقامع
* لكل خطيب يغلب الحق باطله)
وقال آخر

7
(ويجعل البر قمحا في تصرفه
* وخالف الراء حتى احتال للشعر)
(ولم يطق مطرا والقول يعجله
* فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر)
ومما يحكى عنه وقد ذكر بشار بن برد فقال أما لهذا الأعمى المكتني بأبي معاذ من يقتله أما والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه ثم لا يكون إلا سدوسيا أو عقيليا فقال هذا الأعمى ولم يقل بشار ولا ابن برد ولا الضرير وقال من أخلاق الغالية ولم يقل المغيرية ولا المنصورية وقال لبعثت ولم يقل لأرسلت وقال على مضجعه ولم يقل على مرقده ولا على فراشه وقال يبعج ولم يقل يبقر وذكر بني عقيل لأن بشارا كان يتوالى إليهم وذكر بني سدوس لأنه كان نازلا فيهم
وذكر السمعاني في كتاب الأنساب في ترجمة المعتزلي أن واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري رضي الله عنه فلما ظهر الاختلاف وقالت الخوارج بتكفير مرتكبي الكبائر وقالت الجماعة بأنهم مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر فخرج واصل بن عطاء عن الفريقين وقال إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر منزلة بين منزلتين فطرده الحسن عن مجلسه فاعتزل عنه وجلس إليه عمرو بن عبيد فقيل لهما ولأتباعهما معتزلون وقد أحلت في ترجمة عمرو بن عبيد على هذا الموضع في تبيين الاعتزال ولأي معنى سموا بهذا الاسم وقد ذكرت في ترجمة قتادة بن دعامة السدوسي أنه الذي سماهم بذلك وكان واصل بن عطاء المذكور يضرب به المثل في إسقاطه حرف الراء من كلامه واستعمل الشعراء ذلك في شعرهم كثيرا فمنه قول أبي محمد الخازن من جملة قصيدة طنانة طويلة يمدح بها الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد المقدم ذكره وهو

8
(نعم تجنب لا يوم العطاء كما
* تجنب ابن عطاء لفظة الراء)
وقال آخر في محبوب له ألثغ
(أعد لثغة لو أن واصل حاضر
* ليسمعها ما أسقط الراء واصل)
وقال آخر
(أجعلت وصلي الراء لم تنطق به
* وقطعتني حتى كأنك واصل)
لله دره ما أحسن قوله
(وقطعتني حتى كأنك واصل
*)
وقال آخر
(فلا تجعلني مثل همزة واصل
* فيلحقني حذف ولا راء واصل)
وقال أبو عمر يوسف بن هارون الكندي الأندلسي القرطبي الرمادي الشاعر المشهور إلا أنه لم يتعرض إلى ذكر واصل وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعمائة
(لا الراء تطمع في الوصال ولا أنا
* الهجر يجمعنا فنحن سواء)
(فإذا خلوت كتبتها في راحتي
* وقعدت منتحبا أنا والراء)
وهذا الباب متسع فلا حاجة إلى الإطالة فيه ويكفي منه هذا الأنموذج
وقد عمل الشعراء في اللثغة التي هي إبدال الثاء من السين شعرا كثيرا فمن ذلك ما يعزى لأبي نواس ولم أجدها في ديوانه والله أعلم إلا أن تكون في رواية علي بن حمزة الأصبهاني فإنها أكثر الروايات ولم أكشف هذه الأبيات منها وهي أبيات حلوة ظريفة
(وشادن ساءلت عن اسمه
* فقال لي إثمي مرداث)
(بيات يعاطني سخامية
* وقال لي قد هجع الناث)
(أما ترى حثن أكاليلنا
* زينها النثرين والآث)

9
(فعدت من لثغته ألثغا
* فقلت أين الطاث والكاث)
ولو شرعت في ذكر ما قيل على هذا النمط لطال الشرح
ولم أجد في لثغة الراء إلا قليلا فمن ذلك قول بعضهم
(أما وبياض الثغر ممن أحبه
* ونقطة خال الخد في عطفة الصدغ)
(لقد فتنتني لثغة موصلية
* رمتني في تيار بحر هوى اللثغ)
(ومستعجم الألفاظ عقرب صدغه
* مسلطة دون الأنام على لدغي)
(يكاد أصم الصم عند حديثه
* إلى اللثغة الغناء من لفظه يصغي)
(يقول وقد قبلت واضح ثغره
* وكان الذي أهوى ونلت الذي أبغي)
(وقد نفضت كأس الحميا وأظهرت
* على خده من لونها أحسن الصبغ)
(تغفق فغشف الخمغ من كغم غيقتي
* يزيدك عند الشغب سكغا على سكغ)
ولقد أجاد هذا الشاعر وجمع في البيت الأخير راءات كثيرة وأبدلها بالغين وللخبز أرزي الشاعر المقدم ذكره في غلام يلثغ بالراء أيضا لكنه لم يستعمل اللثغة إلا في آخر البيت الأخير من الأربعة أبيات
(وشاذن بالكرخ ذي لثغة
* وإنما شرطي في اللثغ)
(ما أشبه الزنبور في خصره
* حتى حكى العقرب في الصدغ)
(في فمه درياق لدغ إذا
* أحرق قلبي شدة اللدغ)
(إن قلت في ضمي له أين هو
* تفديك روحي قال لا أدغي)
وقد تسلسل الكلام وخرجنا عن المقصود من أخبار واصل بن عطاء
وكان طويل العنق جدا بحيث كان يعاب به وفيه يقول بشار بن برد الشاعر المشهور المقدم ذكره

10
(ماذا منيت بغزال له عنق
* كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا)
(عنق الزرافة ما بالي وبالكم
* تكفرون رجالا كفروا رجلا)
وكانت بينهما منافسات وأحقاد وقد تقدم كلام واصل في حق بشار
وقال المبرد في كتاب الكامل لم يكن واصل بن عطاء غزالا ولكنه كان يلقب بذلك لأنه كان يلازم الغزالين ليعرف المتعففات من النساء فيجعل صدقته لهن ثم قال وكان طويل العنق ويروى عن عمرو بن عبيد أنه نظر إليه من قبل أن يكلمه فقال لا يصلح هذا ما دامت عليه هذه العنق
وله من التصانيف كتاب أصناف المرجئة وكتاب في التوبة وكتاب المنزلة بين المنزلتين وكتاب خطبته التي أخرج منها الراء وكتاب معاني القرآن وكتاب الخطب في التوحيد والعدل وكتاب ما جرى بينه وبين عمرو ابن عبيد وكتاب السبيل إلى معرفة الحق وكتاب في الدعوة وكتاب طبقات أهل العلم والجهل وغير ذلك
وأخباره كثيرة وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وتوفي سنة إحدى وثمانين ومائة رحمه الله تعالى

11
769 وثيمة ابن الفرات
أبو يزيد وثيمة بن موسى بن الفرات الوشاء الفارسي الفسوي كان قد خرج من بلده إلى البصرة ثم سافر إلى مصر وارتحل منها إلى الأندلس تاجرا وكان يتجر في الوشي
وصنف كتابا في أخبار الردة وذكر فيه القبائل التي ارتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والسرايا التي سيرها إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وصورة مقاتلتهم وما جرى بينهم وبين المسلمين في ذلك ومن عاد منهم إلى الإسلام وقتال مانعي الزكاة وما جرى لخالد بن الوليد المخزومي رضي الله عنه مع مالك بن نويرة اليربوعي أخي متمم بن نويرة الشاعر المشهور صاحب المراثي المشهورة في أخيه مالك وصورة قتله وما قاله متمم من الشعر في ذلك وما قاله غيره وهو كتاب جيد يشتمل على فوائد كثيرة وقد تقدم في ترجمة أبي عبد الله محمد الواقدي أنه صنف في الردة كتابا أيضا أجاد فيه ولم أعرف لوثيمة المذكور من التصانيف سوى هذا الكتاب
وهو رجل مشهور ذكره أبو الوليد ابن الفرضي صاحب تاريخ الأندلس في كتابه وذكره الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس وأبو سعيد ابن يونس في تاريخ مصر وأبو سعد السمعاني في كتاب الأنساب في ترجمة الوشاء فقال كان يتجر في الوشي وهو نوع من الثياب المعمولة

12
من الإبريسم فعرف به جماعة منهم وثيمة المذكور
ثم إن وثيمة عاد من الأندلس إلى مصر ومات بها يوم الاثنين لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين ومائتين رحمه الله تعالى
(293) وقال أبو سعيد ابن يونس المصري في تاريخه كان لوثيمة ولد يقال له أبو رفاعة عمارة بن وثيمة حدث عن أبي صالح كاتب الليث بن سعد وعن أبيه وثيمة وغيرهما وصنف تاريخا على السنين وحدث به ومولده بمصر وتوفي ليلة الخميس لست بقين من جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين ومائتين ووثيمة بفتح الواو وكسر الثاء المثلثة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الميم وبعدها هاء ساكنة والوثيمة في الأصل الجماعة من الحشيش والطعام والوثيمة الصخرة وبها سمي الرجل والله أعلم بالصواب والوثيمة أيضا الحجر الذي يقدح النار
تقول العرب في أيمانها والذي أخرج العذق من الجريمة والنار من الوثيمة العذق بفتح العين المهملة النخلة والجريمة النواة
وأما الفارسي والفسوي فقد تقدم الكلام عليهما في ترجمة الشيخ أبي علي الفارسي النحوي وأرسلان البساسيري فأغنى عن الإعادة
وإذ ذكرنا متمم بن نويرة وأخاه مالكا فلا بد من ذكر طرف من أخبارهما فإنها مستملحة
(294) كان مالك بن نويرة المذكور رجلا سريا نبيلا يردف الملوك وللردافة موضعان أحدهما أن يردفه الملك على دابته في صيد أو غيره من مواضع الأنس والموضع الثاني أنبل وهو أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم فينظر بين الناس بعده
وهو الذي يضرب به المثل فيقال مرعى ولا كالسعدان وماء ولا كصداء وفتى ولا كمالك وكان فارسا شاعرا مطاعا في قومه وكان فيه خيلاء وتقدم وكان ذا لمة كبيرة وكان يقال له الجفول وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم فيمن قدم

13
من العرب فأسلم فولاه النبي صلى الله عليه وسلم صدقة قومه
ولما ارتدت العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بمنع الزكاة كان مالك المذكور من جملتهم ولما خرج خالد بن الوليد رضي الله عنه لقتالهم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه نزل على مالك وهو مقدم قومه بني يربوع وقد أخذ زكاتهم وتصرف فيها فكلمه خالد في معناها فقال مالك إني آتي بالصلاة دون الزكاة فقال له
خالد أما علمت أن الصلاة والزكاة معا لا تقبل واحدة دون أخرى فقال مالك قد كان صاحبك يقول ذلك قال خالد وما تراه لك صاحبا والله لقد هممت أن أضرب عنقك ثم تجاولا في الكلام طويلا فقال له خالد إني قاتلك قال أو بذلك أمرك صاحبك قال وهذه بعد تلك والله لأقتلنك
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه حاضرين فكلما خالدا في أمره فكره كلامهما فقال مالك يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا فقد بعثت إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا فقال خالد لا أقالني الله إن أقلتك وتقدم إلى ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه فالتفت مالك إلى زوجته أم متمم وقال لخالد هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال فقال له خالد بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام فقال مالك أنا على الإسلام فقال خالد يا ضرار اضرب عنقه فضرب عنقه وجعل رأسه أثفية لقدر وكان من أكثر الناس شعرا كما تقدم ذكره فكانت القدر على رأسه حتى نضج الطعام وما خلصت النار إلى شواه من كثرة شعره
قال ابن الكلبي في جمهرة النسب قتل مالك يوم البطاح وجاء أخوه متمم فكان يرثيه
وقبض خالد امرأته فقيل إنه اشتراها من الفيء وتزوج بها وقيل إنها اعتدت بثلاث حيض ثم خطبها إلى نفسه فأجابته فقال لابن عمر وأبي قتادة رضي الله عنهما يحضران النكاح فأبيا وقال له ابن عمر رضي الله عنه

14
تكتب إلى أبي بكر رضي الله عنه وتذكر له أمرها فأبى وتزوجها فقال في ذلك أبو زهير السعدي
(ألا قل لحي أوطئوا بالسنابك
* تطاول هذا الليل من بعد مالك)
(قضى خالد بغيا عليه لعرسه
* وكان له فيها هوى قبل ذلك)
(فأمضى هواه خالد غير عاطف
* عنان الهوى عنها ولا متمالك)
(وأصبح ذا أهل وأصبح مالك
* إلى غير شيء هالكا في الهوالك)
(فمن لليتامى والأرامل بعده
* ومن للرجال المعدمين الصعالك)
(أصيبت تميم غثها وسمينها
* بفارسها المرجو تحت الحوارك)
ولما بلغ الخبر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قال عمر لأبي بكر رضي الله عنه إن خالدا قد زنى فارجمه قال ما كنت لأرجمه فإنه تأول فأخطأ قال فإنه قتل مسلما فاقتله به قال ما كنت لأقتله به إنه تأول فأخطأ قال فاعزله قال ما كنت لأشيم سيفا سله الله عليهم أبدا هكذا سرد هذه الواقعة وثيمة المذكور والواقدي في كتابيهما والعهدة عليهما
(295) وكان أخوه متمم بن نويرة وكنيته أبو نهشل الشاعر المشهور كثير الانقطاع في بيته قليل التصرف في أمر نفسه اكتفاء بأخيه مالك وكان أعور دميما فلما بلغه مقتل أخيه حضر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى الصبح خلف أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلما فرغ من صلاته واستند في محرابه قام متمم فوقف بحذائه واتكأ على سية قوسه ثم أنشد
(نعم القتيل إذا الرياح تناوحت
* خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور)
(أدعوته بالله ثم غدرته
* لو هو دعاك بذمة لم يغدر)
وأومأ إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال والله ما دعوته ولا غدرته

15
(ولنعم حشو الدرع كان وحاسرا
* ولنعم مأوى الطارق المتنور)
(لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه
* حلو شمائله عفيف المئزر)
ثم بكى وانحط على سية قوسه فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لوددت أنك رثيت زيدا أخي بمثل ما رثيت به مالكا أخاك فقال يا أبا حفص والله لو علمت أن أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيته فقال عمر رضي الله عنه ما عزاني أحد عن أخي بمثل تعزيته
وكان زيد بن الخطاب رضي الله عنه قتل شهيدا يوم اليمامة وكان عمر رضي الله عنه يقول إني لأهش للصبا لأنها تأتيني من ناحية أخي زيد ويروى عن عمر رضي الله
عنه أنه قال لو كنت أقول الشعر كما تقول لرثيت أخي كما رثيت أخاك
ويروى أن متمما رثى زيدا فلم يجد فقال له عمر رضي الله عنه لم ترث زيدا كما رثيت مالكا فقال إنه والله ليحركني لمالك ما لا يحركني لزيد
وقال له عمر رضي الله عنه يوما إنك لجزل فأين كان أخوك منك فقال كان والله أخي في الليلة ذات الأزيز والصراد يركب الجمل الثفال ويجنب الفرس الجرور وفي يده الرمح الثقيل وعليه الشملة الفلوت وهو بين المزادتين حتى يصبح وهو متبسم
والأزيز بفتح الهمزة وزاءين الأولى منهما مكسورة وبينهما ياء مثناة من تحتها صوت الرعد
والصراد بضم الصاد المهملة وتشديد الراء وفتحها وبعد الألف دال مهملة غيم رقيق لا ماء فيه
والثفال بفتح الثاء المثلثة والفاء وهو الجمل البطيء في سيره لا يكاد يمشي من ثقله
والجرور بفتح الجيم على وزن فعول الفرس الذي يمنع القياد
والشملة الفلوت التي لا تكاد تثبت على لابسها

16
والمزادة الراوية وهي معروفة
وقال له عمر رضي الله عنه يوما خبرنا عن أخيك قال يا أمير المؤمنين لقد أسرت مرة في حي من أحياء العرب فأخبر أخي فأقبل فلما طلع على الحاضر ما كان أحد قاعدا إلا قام على رجليه وما بقيت امرأة إلا وتطلعت من خلال البيوت فما نزل عن جملة حتى لقوه بي برمتي فحلني هو فقال عمر رضي الله عنه إن هذا لهو الشرف
والرمة بضم الراء المهملة الحبل البالي ومنه قولهم دفع إليه الشيء برمته أصله أن رجلا دفع إلى رجل بعيرا بحبل في عنقه فقيل ذلك لكل من دفع شيئا بجملته
وقال متمم أيضا لعمر رضي الله عنه أغار حي من أحياء العرب على حي أخي مالك وهو غائب فجاءه الصريخ فخرج في آثارهم على جمل يسوقه مرة ويركبه أخرى حتى أدركهم على مسيرة ثلاث وهم آمنون فما هو إلا أن رأوه فأرسلوا ما في أيديهم من الأسرى والنعم وهربوا فأدركهم أخي فاستسلموا جميعا حتى كتفهم وصدر بهم إلى بلاده مكتوفين فقال عمر رضي الله عنه قد كنا نعلم سخاءه وشجاعته ولم نعلم كل ما تذكره
وله فيه المراثي النادرة فمن ذلك أبياته الكافية وهي في كتاب الحماسة في باب المراثي
(لقد لامني عند القبور على البكا
* رفيقي لتذراف الدموع السوافك)
(فقال أتبكي كل قبر رأيته
* لقبر ثوى بين اللوى والدكادك)
(فقلت له إن الشجا يبعث الشجا
* فدعني فهذا كله قبر مالك)
وله فيه قصيدته العينية وهي طويلة بديعة ومن جملتها قوله

17
(وكنا كندماني جذيمة حقبة
* من الدهر حتى قيل لن يتصدعا)
(وعشنا بخير في الحياة وقبلنا
* أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا)
(فلما تفرقنا كأني ومالكا
* لطول اجتماع لم نبت ليلة معا)
(296) وقد يتشوف الواقف على هذا الكتاب إلى الوقوف على شيء من أخبار جذيمة المذكور ونديميه وهو بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الميم وبعدها هاء ساكنة وكنيته أبو مالك جذيمة بن مالك بن فهم بن دوس بن الأزد الأزدي صاحب الحيرة وما والاها وهو الأبرش والوضاح وإنما قيل له ذلك لأنه كان أبرص فكانت العرب تهابه أن تنسبه إلى البرص فعرفته بأحد هذين الوصفين وهو من ملوك الطوائف وكان بعد عيسى عليه السلام بثلاثين سنة وكان من تيهه لا ينادم إلا الفرقدين
وكان له ابن أخت يقال له عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث ابن مالك اللخمي ويقال له عمم لأنه أول من اعتم ابن نمارة بن لخم وبقية النسب معروف واسم الأخت المذكورة رقاش وكان جذيمة شديد المحبة له فاستهوته الجن وأقام زمانا يتطلبه فلم يجده فأقبل رجلان من بني القين يقال لأحدهما مالك والآخر عقيل ابنا فارح بن مالك بن كعب بن القين واسمه النعمان بن جسر بن شيع الله بن أسد بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وسمي القين بعبد كان له فحضنه فاشتهر به فصادفا عمرا في البرية وهو أشعث الرأس طويل الأظفار سئ الحال فعرفاه وحملاه إلى خاله جذيمة بعد أن لما شعثه وأصلحا حاله فقال لهما جذيمة من فرط سروره به احتكما علي فقالا منادمتك ما بقيت وبقينا فقال ذلك لكما فهما نديماه اللذان يضرب بهما المثل ويقال إنهما نادماه أربعين سنة لم يعيدا عليه حديثا حدثاه به وإياهما عنى أبو
خراش الهذلي بقوله في مرثية أخيه عروة
(تقول أراه بعد عروة لاهيا
* وذلك رزء لو علمت جليل)

18
(فلا تحسبي أني تناسيت عهده
* ولكن صبري يا أميم جميل)
(ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا
* نديما صفاء مالك وعقيل)
هذه خلاصة حديثهم وإن كان فيه طول وإنما قصدت الإيجاز
وذكر أبو علي القالي في كتابه الذي جعله ذيلا على أماليه أن متمما المذكور قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان به معجبا فقال يا متمم ما يمنعك من الزواج لعل الله تعالى أن ينشر منك ولدا فإنكم أهل بيت قد درجتم فتزوج امرأة من أهل المدينة فلم تحظ عنده ولم يحظ عندها فطلقها ثم قال
(أقول لهند حين لم أرض عقلها
* أهذا دلال العشق أم أنت فارك)
(أم الصرم تهوين فكل مفارق
* علي يسير بعد ما بان مالك)
فقال له عمر رضي الله عنه ما تنفك تذكر مالكا على كل حال فلم يمض على هذا الأمر إلا قليل حتى طعن عمر رضي الله عنه ومتمم بالمدينة فرثى عمر رضي الله عنه
وبالجملة فإنه لم ينقل عن أحد من العرب ولا غيرهم أنه بكى على ميته ما بكى متمم على أخيه مالك
حكى الواقدي في كتاب الردة أن عمر رضي الله عنه قال لمتمم ما بلغ من حزنك على أخيك فقال له لقد مكثت سنة لا أنام بليل حتى أصبح ولا رأيت نارا رفعت بليل إلا ظننت نفسي ستخرج أذكر بها نار أخي كان يأمر بالنار فتوقد حتى يصبح مخافة أن يبيت ضيفه قريبا منه فمتى يرى النار يأوي إلى الرحل ولهو بالضيف يأتي مجتهدا أسر من القوم يقدم عليهم القادم لهم من السفر البعيد فقال عمر رضي الله عنه أكرم به
وحكى الواقدي أيضا أنه قال له ما لقيت على أخيك من الحزن والبكاء قال كانت عيني هذه قد ذهبت وأشار إليها فبكيت بالصحيحة وأكثرت

19
البكاء حتى أسعدتها العين الذاهبة وجرت بالدموع فقال عمر رضي الله عنه إن هذا لحزن شديد ما يحزن هكذا أحد على هالكه
وقد ضربت الشعراء الأمثال بمالك وأخيه متمم في أشعارهم فمن ذلك قول ابن حيوس الشاعر المقدم ذكره من جملة قصيدة
(وفجعة بين مثل صرعة مالك
* ويقبح بي أن لا أكون متمما)
ومنه قول أبي بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة في قصيدته التي يرثي بها المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية لما قبض عليه يوسف بن تاشفين حسبما شرحناه في ترجمة المعتمد وهو قوله
(حكيت وقد فارقت ملكك مالكا
* ومن ولهي أحكي عليك متمما)
ومن ذلك أيضا قول بعضهم وأظنه ابن منير المذكور في حرف الهمزة وهو أيضا من جملة أبيات ثم حققت قائله وهو نجم الدين أبو الفتح يوسف ابن الحسين بن محمد عرف بابن المجاور الدمشقي
(أيا مالكي في القلب منك نويرة
* وإنسان عيني في هواك متمم)
ومنه قول أبي الغنائم ابن المعلم الشاعر المقدم ذكره من جملة أبيات يصف فيها منزلا ويدعو له بالسقيا فقال
(سقاه الحيا قبلي وجئت متمما
* فلو مالك فيه دعيت متمما)
ومنه قول القاضي السعيد ابن سيناء الملك
(بكيت بكلتا مقلتي كأنني
* أتمم ما قد فات عين متمم)
وهذا باب يطول شرحه وقد جاوزنا الحد بالخروج عما نحن بصدده
ومتمم بضم الميم وفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها ميمان الأولى منهما مشددة مكسورة
وصدا في قولهم ماء ولا كصدا فيه ثلاث لغات صدا بضم الصاد

20
المهملة وتشديد الدال المهملة وألف مقصورة وصداء مثل الأول لكن الصاد مفتوحة والألف ممدودة فمن ضم قصر ومن فتح مد واللغة الثالثة صدءاء بتخفيف الدال وهمزتين متواليتين والصاد مفتوحة وهي بئر معروفة مشهورة ماؤها عذب نمير والله أعلم
770 البحتري
أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى بن عبيد بن شملال بن جابر بن سلمة بن مسهر بن الحارث بن خيثم بن أبي حارثة بن جدي بن تدول بن بحتر بن عتود بن عنين بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن جلهمة وهو طيء بن أدد ابن زيد بن كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الطائي البحتري الشاعر المشهور ولد بمنبج وقيل بزردفنة وهي قرية من قراها ونشأ وتخرج بها ثم خرج إلى العراق ومدح جماعة من الخلفاء أولهم المتوكل على الله وخلقا كثيرا من الأكابر والرؤساء وأقام ببغداد دهرا طويلا ثم عاد إلى الشام وله أشعار كثيرة ذكر فيها حلب وضواحيها وكان يتغزل بها وقد روى عنه أشياء من شعره أبو العباس المبرد ومحمد بن خلف بن المرزبان والقاضي أبو عبد الله المحاملي ومحمد بن أحمد الحكيمي وأبو بكر الصولي وغيرهم

21
قال صالح بن الأصبغ التنوخي المنبجي رأيت البحتري ها هنا عندنا قبل أن يخرج إلى العراق يجتاز بنا في الجامع من هذا الباب وأومأ إلى جنبي المسجد يمدح أصحاب البصل والباذنجان وينشد الشعر في ذهابه ومجيئه ثم كان منه ما كان وعلوة التي شبب بها في كثير من أشعاره هي بنت زريقة الحلبية وزريقة أمها
وحكى أبو بكر الصولي في كتابه الذي وضعه في أخبار أبي تمام الطائي أن البحتري كان يقول أول أمري في الشعر ونباهتي فيه أني صرت إلى أبي تمام وهو بحمص فعرضت عليه شعري وكان يجلس فلا يبقى شاعر إلا قصده وعرض عليه شعره فلما سمع شعري أقبل علي وترك سائر الناس فلما تفرقوا قال لي أنت أشعر من أنشدني فكيف حالك فشكوت خلة فكتب إلى أهل معرة النعمان وشهد لي بالحذق وشفع لي إليهم وقال لي امتدحهم فصرت إليهم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي أربعة آلاف درهم فكانت أول مال أصبته
وقال أبو عبادة المذكور أول ما رأيت أبا تمام وما كنت رأيته قبلها أني دخلت إلى أبي سعيد محمد بن يوسف فامتدحته بقصيدتي التي أولها
(أأفاق صب من هوى فأفيقا
* أم خان عهدا أم أطاع شفيقا)
فأنشدته إياها فلما أتممتها سر بها وقال لي أحسن الله إليك يا فتى فقال له رجل في المجلس هذا أعزك الله شعري علقه هذا الفتى فسبقني به إليك فتغير أبو سعيد وقال لي يا فتى قد كان في نسبك وقرابتك ما يكفيك أن تمت به إلينا ولا تحمل نفسك على هذا فقلت هذا شعري أعزك

22
الله فقال الرجل سبحان الله يا فتى لا تقل هذا ثم ابتدأ فأنشد من القصيدة أبياتا فقال لي أبو سعيد نحن نبلغك ما تريد ولا تحمل نفسك على هذا فخرجت متحيرا لا أدري ما أقول ونويت أن أسأل عن الرجل من هو فما أبعدت حتى ردني أبو سعيد ثم قال لي جنيت عليك فاحتمل أتدري من هذا فقلت لا قال هذا ابن عمك حبيب بن أوس الطائي أبو تمام فقم إليه فقمت إليه فعانقته ثم أقبل علي يقرظني ويصف شعري وقال إنما مزحت معك فلزمته بعد ذلك وكثر عجبي من سرعة حفظه
وروى الصولي أيضا في كتابه المذكور أن أبا تمام راسل أم البحتري في التزوج بها فأجابته وقالت له اجمع الناس للإملاك فقال الله أجل من أن يذكر بيننا ولكن نتصافح ونتسافح
وقيل للبحتري أيما أشعر أنت أم أبو تمام فقال جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه
وكان يقال لشعر البحتري سلاسل الذهب وهو في الطبقة العليا
ويقال إنه قيل لأبي العلاء المعري أي الثلاثة أشعر أبو تمام أم البحتري أم المتنبي فقال حكيمان والشاعر البحتري
ولعمري ما أنصفه ابن الرومي في قوله
(والفتى البحتري يسرق ما قال
* ابن أوس في المدح والتشبيب)
(كل بيت له يجود معناه
* فمعناه لابن أوس حبيب)
وقال البحتري أنشدت أبا تمام شيئا من شعري فأنشدني بيت أوس ابن حجر
(إذا مقرم منا ذرا حد نابه
* تخمط فينا ناب آخر مقرم)

23
وقال نعيت إلي نفسي فقلت أعيذك بالله من هذا فقال إن عمري ليس يطول وقد نشأ لطيء مثلك أما علمت أن خالد بن صفوان المنقري رأى شبيب بن شيبة وهو من رهطه وهو يتكلم فقال يا بني نعى نفسي إلي إحسانك في كلامك لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب إلا مات من قبله قال فمات أبو تمام بعد سنة من هذا
وقال البحتري أنشدت أبا تمام شعرا لي في بعض بني حميد وصلت به إلى مال له خطر فقال لي أحسنت أنت أمير الشعر بعدي فكان قوله هذا أحب إلي من جميع ما حويته
وقال ميمون بن هارون رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري المؤرخ وحاله متماسكة فسألته فقال كنت من جلساء المستعين فقصده الشعراء فقال لست أقبل إلا ممن قال مثل قول البحتري في المتوكل
(ولو أن مشتاقا تكلف فوق ما
* في وسعه لمشى إليك المنبر)
فرجعت إلى داري وأتيته وقلت قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري فقال هاته فأنشدته
(ولو أن برد المصطفى إذ لبسته
* يظن لظن البرد أنك صاحبه)
(وقال وقد أعطيته ولبسته
* نعم هذه أعطافه ومناكبه)
فقال ارجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به فرجعت فبعث إلي سبعة آلاف دينار وقال ادخر هذه للحوادث من بعدي ولك علي الجراية والكفاية ما دمت حيا
وللمتنبي في هذا المعنى
(لو تعقل الشجر التي قابلتها
* مدت محيية إليك الأغصنا)

24
وسبقهما أبو تمام بقوله
(لو سعت بقعة لإعظام نعمى
* لسعى نحوها المكان الجديب)
والبيت الذي للبحتري من جملة قصيدة طويلة أحسن فيها كل الإحسان يمدح بها أبا الفضل جعفرا المتوكل على الله ويذكر خروجه لصلاة عيد الفطر وأولها
(أخفي هوى لك في الضلوع وأظهر
* وألام من كمد عليك وأعذر)
والأبيات التي يرتبط بها البيت المقدم ذكره هي
(بالبر صمت وأنت أفضل صائم
* وبسنة الله الرضية تفطر)
(فانعم بيوم الفطر عينا إنه
* يوم أغر من الزمان مشهر)
(أظهرت عز الملك فيه بجحفل
* لجب يحاط الدين فيه وينصر)
(خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت
* عددا يسير بها العديد الأكثر)
(فالخيل تصهل والفوارس تدعي
* والبيض تلمع والأسنة تزهر)
(والأرض خاشعة تميد بثقلها
* والجو معتكر الجوانب أغبر)
(والشمس طالعة توقد في الضحى
* طورا ويطفيها العجاج الأكدر)
(حتى طلعت بضوء وجهك فانجلى
* ذاك الدجى وانجاب ذاك العثير)
(فافتن فيك الناظرون فإصبع
* يومى إليك بها وعين تنظر)
(يجدون رؤيتك التي فازوا بها
* من أنعم الله التي لا تكفر)
(ذكروا بطلعتك النبي فهللوا
* لما طلعت من الصفوف وكبروا)
(حتى انتهيت إلى المصلى لابسا
* نور الهدى يبدو عليك ويظهر)
(ومشيت مشية خاشع متواضع
* لله لا يزهى ولا يتكبر)
(فلو ان مشتاقا تكلف غير ما
* في وسعه لمشى إليك المنبر)

25
(أيدت من فصل الخطاب بحكمة
* تنبي عن الحق المبين وتخبر)
(ووقفت في برد النبي مذكرا
* بالله تنذر تارة وتبشر)
هذا القدر هو المقصود مما نحن فيه وهذا الشعر هو السحر الحلال على الحقيقة والسهل الممتنع فلله دره ما أسلس قياده وأعذب ألفاظه وأحسن سبكه وألطف مقاصده وليس فيه من الحشو شيء بل جميعه نخب
وديوانه موجود وشعره سائر فلا حاجة إلى الإكثار منه هاهنا لكن نذكر من وقائعه ما يستظرف فمن ذلك أنه كان له غلام اسمه نسيم فباعه فاشتراه أبو الفضل الحسن بن وهب الكاتب وقد سبق ذكر أخيه سليمان في حرف السين ثم إن البحتري ندم على بيعه وتتبعته نفسه فكان يعمل فيه الشعر ويذكر أنه خدع وأن بيعه لم يكن من مراده فمن ذلك قوله
(أنسيم هل للدهر وعد صادق
* فيما يؤمله المحب الوامق)
(ما لي فقدتك في المنام ولم تزل
* عون المشوق إذا جفاه الشائق)
(أمنعت أنت من الزيارة رقبة
* منهم فهل منع الخيال الطارق)
(اليوم جاز بي الهوى مقداره
* في أهله وعلمت أني عاشق)
(فليهنئ الحسن بن وهب أنه
* يلقى أحبته ونحن نفارق)
وله فيه أشعار كثيرة
ومن أخباره أنه كان بحلب شخص يقال له طاهر بن محمد الهاشمي مات أبوه وخلف له مقدار مائة ألف دينار فأنفقها على الشعراء والزوار في سبيل الله فقصده البحتري من العراق فلما وصل إلى حلب قيل له إنه قد قعد في بيته لديون ركبته فاغتم البحتري لذلك غما شديدا وبعث المدحة إليه مع بعض مواليه فلما وصلته ووقف عليها بكى ودعا بغلام له وقال له بع داري فقال له أتبيع دارك وتبقى على رؤوس الناس فقال لا بد من بيعها فباعها

26
بثلاثمائة دينار فأخذ صرة وربط فيها مائة دينار وأنفذها إلى البحتري وكتب إليه معها رقعة فيها هذه الأبيات
(لو يكون الحباء حسب الذي أنت
* لدينا به محل وأهل)
(لحبيت اللجين والدر واليا
* قوت حثوا وكان ذاك يقل)
(والأديب الأريب يسمح بالعذر
* إذا قصر الصديق المقل)
فلما وصلت الرقعة إلى البحتري رد الدنانير وكتب إليه
(بأبي أنت والله للبر أهل
* والمساعي بعد وسعيك قبل)
(والنوال القليل يكثر إن شاء
* مرجيك والكثير يقل)
(غير أني رددت برك إذ كان
* ربا منك والربا لا يحل)
(وإذا ما جزيت شعرا بشعر
* قضي الحق والدنانير فضل)
فلما عادت الدنانير إليه حل الصرة وضم إليها خمسين دينارا أخرى وحلف أنه لا يردها عليه وسيرها فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول
(شكرتك إن الشكر للعبد نعمة
* ومن يشكر المعروف فالله زائده)
(لكل زمان واحد يقتدى به
* وهذا زمان أنت لا شك واحده)
وكان البحتري كثيرا ما ينشد لشاعر أنسي اسمه ويعجبه قوله
(حمام الأراك ألا فأخبرينا
* لمن تندبين ومن تعولينا)
(فقد شقت بالنوح منا القلوب
* وأبكيت بالندب منا العيونا)
(تعالي نقم مأتما للهموم
* ونعول إخواننا الظاعنينا)
(ونسعدكن وتسعدننا
* فإن الحزين يواسي الحزينا)
ثم إني وجدت هذه الأبيات لنبهان الفقعسي من العرب
وكان البحتري قد اجتاز بالموصل وقيل برأس عين ومرض بها مرضا

27
شديدا وكان الطبيب يختلف إليه ويداويه فوصف له يوما مزورة ولم يكن عنده من يخدمه سوى غلامه فقال للغلام اصنع هذه المزورة وكان بعض رؤساء البلد عنده حاضرا وقد جاء يعوده فقال ذاك الرئيس هذا الغلام ما يحسن طبخها وعندي طباخ من صفته وصفته وبالغ في حسن صنعته فترك الغلام عملها اعتمادا على ذلك الرئيس وقعد البحتري ينتظرها واشتغل الرئيس عنها ونسي أمرها فلما أبطأت عنه وفات وقت وصولها إليه كتب إلى الرئيس
(وجدت وعدك زورا في مزورة
* حلفت مجتهدا إحكام طاهيها)
(فلا شفى الله من يرجو الشفاء بها
* ولا علت كف ملق كفه فيها)
(فاحبس رسولك عني أن يجيء بها
* فقد حبست رسولي عن تقاضيها)
وأخباره ومحاسنه كثيرة فلا حاجة إلى الإطالة
ولم يزل شعره غير مرتب حتى جمعه أبو بكر الصولي ورتبه على الحروف وجمعه أيضا علي بن حمزة الأصبهاني ولم يرتبه على الحروف بل على الأنواع كما صنع بشعر أبي تمام
وللبحتري أيضا كتاب حماسة على مثال حماسة أبي تمام وله كتاب معاني الشعر وكانت ولادته سنة ست وقيل خمس ومائتين وتوفي سنة أربع وثمانين وقيل خمس وثمانين وقيل ثلاث وثمانين ومائتين والأول أصح والله أعلم وقال ابن الجوزي في كتاب أعمار الأعيان توفي البحتري وهو ابن ثمانين سنة والله أعلم بالصواب وكان موته بمنبج وقيل بحلب والأول أصح وقال الخطيب في تاريخ بغداد إنه كان يكنى أبا الحسن وأبا عبادة فأشير عليه في أيام المتوكل أن يقتصر على أبي عبادة فإنها أشهر ففعل

28
وأهل الأدب كثيرا ما يسألون عن قول أبي العلاء المعري
(وقال الوليد النبع ليس بمثمر
* وأخطأ سرب الوحش من ثمر النبع)
فيقولون من هو الوليد المذكور وأين قال النبع ليس بمثمر ولقد سألني عنه جماعة كثيرة والمراد بالوليد هو البحتري المذكور وله قصيدة طويلة يقول فيها
(وعيرتني سجال العدم جاهلة
* والنبع عريان ما في فرعه ثمر)
وهذا البيت هو المشار إليه في بيت المعري وإنما ذكرت هذا لأنه فائدة تستفاد
وعبيد الله وأخوه أبو عبادة ابنا يحيى بن الوليد البحتري اللذان مدحهما المتنبي في قصائده هما حفيدا البحتري الشاعر المذكور وكانا رئيسين في زمانهما
والبحتري بضم الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة وضم التاء المثناة من فوقها وبعدها راء هذه النسبة إلى بحتر وهو أحد أجداده كما تقدم ذكره في عمود نسبه
وزردفنة بفتح الزاي وسكون الراء وفتح الدال المهملة وسكون الفاء وفتح النون وبعدها هاء ساكنة وهي قرية من قرى منبج بالقرب منها
ومنبج بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء الموحدة وبعدها جيم وهي بلدة بالشام بين حلب والفرات بناها كسرى لما غلب على الشام وسماها منبه فعربت فقيل منبج ولكونها وطن البحتري كان يذكرها في شعره كثيرا فمن ذلك قوله في آخر قصيدة طويلة يخاطب بها الممدوح وهو أبو جعفر محمد ابن حميد بن عبد الحميد الطوسي

29
(لا أنسين زمنا لديك مهذبا
* وظلال عيش كان عندك سجسج)
(في نعمة أوطنتها وأقمت في
* أفيائها فكأنني في منبج)
وكان البحتري مقيما بالعراق في خدمة المتوكل والفتح بن خاقان وله الحرمة التامة فلما قتلا كما هو مشهور في أمرهما رجع إلى منبج وكان يحتاج للترداد إلى الوالي بسبب مصالح أملاكه ويخاطبه بالأمير لحاجته إليه ولا تطاوعه نفسه إلى ذلك فقال قصيدة منها
(مضى جعفر والفتح بين مرمل
* وبين صبيغ بالدماء مضرج)
(أأطلب أنصارا على الدهر بعدما
* ثوى منهما في الترب أوسي وخزرجي)
(أولئك ساداتي الذين بفضلهم
* حلبت أفاويق الربيع المثجج)
(مضوا أمما قصدا وخلفت بعدهم
* أخاطب بالتأمير والي منبج)
وذكر المسعودي في مروج الذهب أن هارون الرشيد اجتاز ببلاد منبج ومعه عبد الملك بن صالح وكان أفصح ولد العباس في عصره فنظر إلى قصر مشيد وبستان معتمر بالأشجار كثير الثمار فقال لمن هذا فقال هو لك ولي بك يا أمير المؤمنين قال وكيف بناء هذا القصر قال دون منازل أهلي وفوق منازل الناس
قال فكيف مدينتك قال عذبة الماء باردة الهواء صلبة الموطأ قليلة الأدواء قال فكيف ليلها قال سحر كله انتهى كلام المسعودي
(297) وعبد الملك المذكور هو أبو عبد الرحمن عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكانت منبج إقطاعا له وكان مقيما بها
وتوفي سنة تسع وتسعين ومائة بالرقة رحمه الله تعالى وله بلاغة وفصاحة أضربت عن ذكرها خوف الإطالة
وذكر ياقوت الحموي في كتابه المشترك باب السقيا خمسة مواضع

30
ثم قال في آخر هذا الباب والخامس قرية على باب منبج ذات بساتين وهي وقف على ولد البحتري الشاعر وقد ذكرها أبو فراس ابن حمدان في شعره
771 الوليد بن طريف الشاري
الوليد بن طريف بن الصلت بن طارق بن سيحان بن عمرو بن فدوكس ابن عمرو بن مالك الشيباني هكذا ذكره أبو سعد السعماني في كتاب الأنساب في موضعين أحدهما في ترجمة الأراقم والآخر في ترجمة السيحاني بكسر السين المهملة الشاري أحد الشجعان الطغاة الأبطال كان رأس الخوارج وكان مقيما بنصيبين والخابور وتلك النواحي
وخرج في خلافة هارون الرشيد وبغى وحشد جموعا كثيرة فأرسل إليه هارون الرشيد جيشا كثيفا مقدمه أبو خالد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني وسيأتي ذكره في حرف الياء إن شاء الله تعالى فجعل يخاتله ويماكره وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد فأغروا به الرشيد وقالوا إنه يراعيه لأجل الرحم وإلا فشوكة الوليد يسيرة وهو يواعده وينتظر ما يكون من أمره فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب وقال لو وجهت أحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به ولكنك مداهن متعصب

31
وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد ليبعثن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين فلقي الوليد فظهر عليه فقتله وذلك في سنة تسع وسبعين ومائة عشية أول خميس في شهر رمضان وهي واقعة مشهورة تضمنتها التواريخ
وكان للوليد المذكور أخت تسمى الفارعة وقيل فاطمة تجيد الشعر وتسلك سبيل الخنساء في مراثيها لأخيها صخر فرثت الفارعة أخاها الوليد بقصيدة أجادت فيها وهي قليلة الوجود ولم أجد في مجاميع كتب الأدب إلا بعضها حتى إن أبا علي القالي لم يذكر منها في أماليه سوى أربعة أبيات فاتفق أني ظفرت بها كاملة فأثبتها لغرابتها مع حسنها وهي هذه
(بتل نهاكى رسم قبر كأنه
* على جبل فوق الجبال منيف)
(تضمن مجدا عد مليا وسؤددا
* وهمة مقدام ورأي حصيف)
(فيا شجر الخابور مالك مورقا
* كأنك لم تحزن على ابن طريف)
(فتى لا يحب الزاد إلا من التقى
* ولا المال إلا من قنا وسيوف)
(ولا الذخر إلا كل جرداء صلدم
* معاودة للكر بين صفوف)
(كأنك لم تشهد هناك ولم تقم
* مقاما على الأعداء غير خفيف)
(ولم تستلم يوما لورد كريهة
* من السرد في خضراء ذات رفيف)
(ولم تسع يوم الحرب والحرب لاقح
* وسمر القنا ينكزنها بأنوف)
(حليف الندى ما عاش يرضى به الندى
* فإن مات لا يرضى الندى بحليف)
(فقدناك فقدان الشباب وليتنا
* فديناك من فتياننا بألوف)

32
(وما زال حتى أزهق الموت نفسه
* شجى لعدو أو لجا لضعيف)
(ألا يا لقومي للحمام وللبلى
* وللأرض همت بعده برجوف)
(ألا يا لقومي للنوائب والردى
* ودهر ملح بالكرام عنيف)
(وللبدر من بين الكواكب إذ هوى
* وللشمس لما أزمعت بكسوف)
(ولليث كل الليث إذ يحملونه
* إلى حفرة ملحودة وسقيف)
(إلا قاتل الله الحشى حيث أضمرت
* فتى كان للمعروف غير عيوف)
(فإن يك أرداه يزيد بن مزيد
* فرب زحوف لفها بزحوف)
(عليه سلام الله وقفا فإنني
* أرى الموت وقاعا بكل شريف)
ولها فيه مرات كثيرة فمن ذلك قولها فيه أيضا
(ذكرت الوليد وأيامه
* إذ الأرض من شخصه بلقع)
(فأقبلت أطلبه في السماء
* كما يبتغي أنفه الأجدع)
(أضاعك قومك فليطلبوا
* إفادة مثل الذي ضيعوا)
(لو أن السيوف التي حدها
* يصيبك تعلم ما تصنع)
(نبت عنك إذ جعلت هيبة
* وخوفا لصولك لا تقطع)
وكان الوليد يوم المصاف ينشد
(أنا الوليد بن طريف الشاري
* قسورة لا يصطلى بناري)
(جوركم أخرجني من داري
*)
ويقال إنه لما انكسر جيش الوليد وانهزم تبعه يزيد بنفسه حتى لحقه على مسافة بعيدة فقتله وأخذ رأسه ولما قتله وعلمت بذلك أخته المذكورة لبست عدة حربها وحملت على جيش يزيد فقال يزيد دعوها ثم خرج فضرب

33
بالرمح فرسها وقال اغربي غرب الله عينك فقد فضحت العشيرة فاستحيت وانصرفت
وطريف بفتح الطاء المهملة وكسر الراء وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها فاء
وتل نهاكى أظنه في بلد نصيبين وهو موضع الواقعة المذكورة
والخابور نهر معروف أوله من رأس عين وآخره عند قرقيسيا يصب في الفرات وعلى هذا النهر مدن صغار تشبه الكبار في عمارة بلادها وأسواقها وكثرة خيراتها وهو مشهور فلا حاجة إلى ضبطه
والشاري بفتح الشين المعجمة وبعد الألف راء وهو واحد الشراة وهم الخوارج وإنما سموا بذلك لقولهم إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله أي بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة
(297) والخنساء اسمها تماضر بضم التاء المثناة من فوقها وفتح الميم وبعد الألف ضاد مكسورة معجمة وبعدها راء وهي ابنة عمرو بن الشريد السلمي
والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع الأرنبة ولذلك قيل لها الخنساء لأنها كانت على هذه الصفة وأخبارها مع أخيها مشهورة في مراثيها وغيرها وقد سبق طرف من أخبار أخيها صخر في ترجمة أبي أحمد العسكري في حرف الحاء وقد اختلف في موضع قبره فقيل إنه مدفون عند عسيب وهو جبل مشهور ببلاد الروم وإن القبر الذي هناك ينسب إلى امرئ القيس بن حجر الكندي الشاعر المشهور ليس لامرىء القيس وإنما هو لصخر المذكور وقيل إن كل واحد من امرئ القيس وصخر مدفون هناك وقال الحافظ أبو بكر الحازمي المقدم ذكره في كتاب ما اتفق لفظه وافترق مسماه إن عسيبا جبل حجازي ودفن عنده صخر أخو الخنساء فعلى هذا يكون عسيب اسما لجبلين أحدهما بالروم وهو الأشهر والآخر بالحجاز وكان من لوازم ياقوت الحموي أن يذكره في كتابه الذي وضعه في البلاد المشتركة الأسماء ولم أجده ذكره فيه والله أعلم

34
772 وهب بن منبه
أبو عبد الله وهب بن منبه اليماني صاحب الأخبار والقصص وكانت له معرفة بأخبار الأوائل وقيام الدنيا وأحوال الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وسير الملوك وذكر عنه ابن قتيبة في كتاب المعارف أنه كان يقول قرأت من كتب الله تعالى اثنين وسبعين كتابا
ورأيت له تصنيفا ترجمه بذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم في مجلد واحد وهو من الكتب المفيدة
وكان له إخوة منهم همام بن منبه كان أكبر من وهب وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو معدود من جملة الأبناء
ومعنى قولهم فلان من الأبناء أن أبا مرة سيف بن ذي يزن الحميري صاحب اليمن لما استولت الحبشة على ملكه توجه إلى كسرى أنوشروان ملك الفرس يستنجده عليهم وقصته في ذلك مشهورة وخبره طويل وخلاصة الأمر أنه سير معه سبعة آلاف وخمسمائة فارس من الفرس جعل مقدمهم وهرز هكذا قاله ابن قتيبة
وقال محمد بن إسحاق لم يسير معه

35
سوى ثمانمائة فارس فغرق منهم في البحر مائتان وسلم ستمائة
قال أبو القاسم السهيلي والقول الأول أشبه بالصواب إذ يبعد مقاومة الحبشة بستمائة فارس
فلما وصل الجيش إلى اليمن جرت الواقعة بينهم وبين الحبشة فاستظهرت الفرس عليهم وأخرجوهم من البلاد وملك سيف ابن ذي يزن ووهرز وأقاموا أربع سنين وكان سيف بن ذي يزن قد اتخذ من أولئك الحبشة خدما فخلوا به يوما وهو في متصيد له فزرقوه بحرابهم فقتلوه وهربوا في رؤوس الجبال وطلبهم أصحابه فقتلوهم جميعا وانتشر الأمر باليمن ولم يملكوا عليهم أحدا غير أن أهل كل ناحية ملكوا عليهم رجلا من حمير فكانوا كملوك الطوائف حتى أتى الله بالإسلام
ويقال إنها بقيت في أيدي الفرس ونواب كسرى فيها وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وباليمن من قواد أبرويز عاملان أحدهما فيروز الديلمي والآخر داذويه وأسلما وهما اللذان دخلا على الأسود العنسي مع قيس بن المكشوح لما ادعى الأسود النبوة باليمن وقتلوه والقصة في ذلك مشهورة فلا حاجة إلى ذكرها
والمقصود من هذا كله أن جيش الفرس لما استوطن اليمن تأهلوا ورزقوا الأولاد فصار أولادهم وأولاد أولادهم يدعون الأبناء لأنهم من أبناء أولئك الفرس
وكان طاوس العالم المقدم ذكره منهم أيضا وقد أومأت إلى ذلك في ترجمته ولم أشرحه كما فعلت هاهنا
وأخبار وهب شهيرة فلا حاجة إلى ذكر شيء منها ويكفي في هذا الموضع ذكر هذه الفائدة
وتوفي وهب المذكور في المحرم سنة عشر وقيل أربع عشرة وقيل ست عشرة ومائة بصنعاء اليمن وعمره تسعون سنة رضي الله عنه وقد تقدم الكلام على صنعاء في ترجمة عبد الرزاق الصنعاني
وفي هذه الترجمة أسماء أعجمية لو قيدتها لطال الشرح وهي مشهورة فتركها لذلك

36
773 أبو البختري
أبو البختري وهب بن وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي المدني حدث عن عبيد الله بن عمر العمري وهشام بن عروة بن الزبير وجعفر ابن محمد الصادق وغيرهم وروى عنه رجاء بن سهل الصاغاني وأبو القاسم ابن سعيد بن المسيب وغيرهما
وكان متروك الحديث مشهورا بوضعه انتقل من المدينة إلى بغداد في خلافة هارون الرشيد فولاه القضاء بعسكر المهدي في شرقي بغداد وقد تقدم الكلام على هذا الموضع في ترجمة الواقدي في حرف الميم ثم عزله وولاه القضاء بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بكار بن عبد الله الزبيري وجعل إليه ولاية حربها مع القضاء ثم عزله فقدم بغداد وأقام بها إلى أن توفي
وذكر الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة القاضي أبي يوسف يعقوب ابن إبراهيم الحنفي أنه كان قاضي القضاة في بغداد فلما مات ولى الرشيد مكانه أبا البختري وهب بن وهب القرشي
وكان فقيها أخباريا ناسبا جوادا سريا سخيا يحب المديح ويثيب عليه العطاء الجزيل وكان إذا أعطى قليلا أو كثيرا أتبعه عذرا إلى صاحبه وكان يتهلل عند طلب الحاجة إليه حتى لو رآه من لا يعرفه لقال هذا الذي قضيت حاجته وكان جعفر الصادق بن محمد الباقر المقدم ذكره قد تزوج بأمه بالمدينة وله

37
عنه روايات وأسانيد واسم أمه عبدة بنت علي بن يزيد بن بركة بن عبد يزيد ابن هاشم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت عقيل بن أبي طالب
وقد ذكره الخطيب في تاريخ بغداد وبالغ في تقريظه والثناء عليه وقال دخل عليه شاعر فأنشده
(إذا افتر وهب خلته برق عارض
* تبعق في الأرضين أسعده السكب)
(وما ضر وهبا ذم من خالف الملا
* كما لا يضر البدر ينبحه الكلب)
(لكل أناس من أبيهم ذخيرة
* وذخر بني فهر عقيد الندى وهب)
قال فاستهل أبو البختري ضاحكا وسر سرورا شديدا ثم دعا عونا له فأسر إليه شيئا فأتاه بصرة فيها خمسمائة دينار فدفعها إليه
وحكى أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني في ترجمة أبي دلف العجلي قال أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال كنا عند أبي العباس المبرد يوما وعنده فتى من ولد أبي البختري وهب بن وهب القاضي أمرد حسن الوجه وفتى من ولد أبي دلف العجلي شبيه به في الجمال فقال المبرد لابن أبي البختري أعرف لجدك قصة طريفة من
الكرم حسنة لم يسبق إليها فقال وما هي قال دعي رجل من أهل الأدب إلى بعض المواضع فسقوه نبيذا غير الذي كانوا يشربون منه فقال فيهم
(نبيذان في مجلس واحد
* لإيثار مثر على مقتر)
(فلو كان فعلك ذا في الطعام
* لزمت قياسك في المسكر)
(ولو كنت تطلب شأو الكرام
* صنعت صنيع أبي البختري)
(تتبع إخوانه في البلاد
* فأغنى المقل عن المكثر)

38
فبلغت الأبيات أبا البختري فبعث إليه بثلثماثة دينار قال ابن عمار فقلت له قد فعل جد هذا الفتى في مثل هذا المعنى ما هو أحسن من هذا قال وما فعل قلت بلغه أن رجلا افتقر بعد ثروة فقالت له امرأته افترض في الجند فقال
(إليك عني فقد كلفتني شططا
* حمل السلاح وقول الدار عين قف)
(أمن رجال المنايا خلتني رجلا
* أمسي وأصبح مشتاقا إلى التلف)
(تمشي المنايا إلى غيري فأكرهها
* فكيف أمشي إليها بارز الكتف)
(حسبت أن نزال القرن من خلقي
* أو أن قلبي في جنبي أبي دلف)
فأحضره أبو دلف ثم قال كم أملت امرأتك أن يكون رزقك قال مائة دينار قال وكم أملت أن تعيش قال عشرين سنة قال فذلك على ما أملت امرأتك في مالنا دون مال السلطان وأمر بإعطائه إياه قال فرأيت وجه ابن أبي دلف يتهلل وانكسر ابن أبي البختري انكسارا شديدا انتهى كلام صاحب الأغاني في هذا الفصل وقد سبق في ترجمة أبي دلف القاسم ابن عيسى العجلي ذكر هذه الأبيات وقائلها وصورة الحال وبينها وبين هذه الرواية اختلاف يسير
(298) وأما الأبيات الأولى التي في أبي البختري فهي لأبي عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن عطية العطوي الشاعر المشهور ونسبته بالعطوي إلى جده عطية المذكور وهو من البصرة من موالي بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وكان معتزليا وله ديوان شعر
وروى الخطيب أيضا في تاريخه أن أبا البختري قال لأن أكون في قوم أعلم مني أحب إلي من أكون في قوم أنا أعلم منهم لأني إن كنت أعلمهم لم أستفد وإن كنت مع من هم أعلم مني استفدت
وروى أيضا في تاريخه أن هارون الرشيد لما قدم المدينة أعظم أن يرقى منبر

39
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قباء ومنطقة فقال أبو البختري حدثني جعفر بن محمد يعني جعفر الصادق عن أبيه قال نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء ومنطقة مخنجرا بخنجر فقال المعافى التميمي
(ويل وغول لأبي البختري
* إذا توافى الناس للمحشر)
(من قوله الزور وإعلانه
* بالكذب في الناس على جعفر)
(والله ما جالسه ساعة
* للفقه في بدو ولا محضر)
(ولا رآه الناس في دهره
* يمر بين القبر والمنبر)
(يا قاتل الله ابن وهب لقد
* أعلن بالزور وبالمنكر)
(يزعم أن المصطفى أحمدا
* أتاه جبريل التقي البري)
(عليه خف وقبا أسود
* مخنجرا في الحقو بالخنجر)
وحكى جعفر الطيالسي أن يحيى بن معين وقف على حلقته وهو يحدث بهذا الحديث عن جعفر الصادق فقال له كذبت يا عدو الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأخذني الشرط فقلت لهم هذا يزعم أن رسول رب العالمين جبريل نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قباء قال فقالوا لي هذا والله قاض كذاب وأفرجوا عني
وقال ابن قتيبة في كتاب المعارف وكان أبو البختري ضعيفا في الحديث وقال الخطيب في تاريخه قال إبراهيم الحربي قيل لأحمد بن حنبل تعلم أحدا روى لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح فقال ما روى هذا إلا ذاك الكذاب أبو البختري
وله من التصانيف كتاب الروايات كتاب طسم وجديس
كتاب

40
صفة النبي صلى الله عليه وسلم
كتاب فضائل الأنصار
كتاب الفضائل الكبير ويحتوي على جميع الفضائل
كتاب نسب ولد إسماعيل عليه السلام ويحتوي على قطعة من الأحاديث والقصص
وأخباره ومحاسنه كثيرة وتوفي سنة مائتين للهجرة ببغداد في خلافة المأمون رحمه الله تعالى
وقد ذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف في موضعين عقد له أولا ترجمة وتكلم على حاله ثم ذكره في ثلاثة أسماء في نسق أبو البحتري وهب بن وهب بن وهب وعد معه في ملوك الفرس بهرام بن بهرام بن بهرام وفي الطالبيين حسن بن حسن ابن حسن وفي غسان الحرث الأصغر بن الحرث الأعرج بن الحرث الأكبر هؤلاء الذين ذكرهم ابن قتيبة وقد جاء في المتأخرين أبو حامد الغزالي وهو محمد بن محمد بن محمد وقد سبق ذكره في المحمدين
وأبو البختري بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها راء وهو مأخوذ من البخترة التي هي الخيلاء وهو يتصحف على كثير من الناس بالبحتري وهو الشاعر المقدم ذكره
وزمعة بفتح الزاي والميم والعين المهملة وبعدها هاء ساكنة وهي في الأصل اسم للهنة الزائدة من وراء الظلف وبها سمي الرجل
وقد تقدم الكلام على الأسدي والمدني
قلت وبعد الفراغ من هذه الترجمة ظفرت بنكتة ينبغي إلحاقها بها وهي أن أبا البختري المذكور قال كنت أدخل على هارون الرشيد وابنه القاسم الملقب بالمؤتمن بين يديه فكنت أدمن النظر إليه عند دخولي وخروجي فقال له بعض ندمائه ما أرى أبا البختري إلا يحب رؤوس الحملان ففطن له الرشيد فلما دخلت عليه قال أراك تدمن النظر إلى أبي القاسم تريد أن تجعل انقطاعك إليه قلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن ترميني بما ليس في وأما إدماني

41
النظر إليه فلأن جعفرا الصادق رضي الله تعالى عنه روى بإسناده عن آبائه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث يزدن في قوة النظر النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن نقلتها من خط القاضي كمال الدين ابن العديم من مسودة تاريخه والله تعالى أعلم بالصواب

42
حرف الهاء

43
774 ابن الشجري
الشريف أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الحسني المعروف بابن الشجري البغدادي كان إماما في النحو واللغة وأشعار العرب وأيامها وأحوالها كامل الفضائل متضلعا من الآداب صنف فيها عدة تصانيف فمن ذلك كتاب الأمالي وهو أكبر تواليفه وأكثرها إفادة أملاه في أربعة وثمانين مجلسا وهو يشتمل على فوائد جمة من فنون الأدب وختمه بمجلس قصره على أبيات من شعر أبي الطيب المتنبي تكلم عليها وذكر ما قاله الشراح فيها وزاد من عنده ما سنح له وهو من الكتب الممتعة ولما فرغ من إملائه حضر إليه أبو محمد عبد الله المعروف بابن الخشاب المقدم ذكره والتمس منه سماعه عليه فلم يجبه إلى ذلك فعاداه ورد عليه في مواضع من الكتاب ونسبه فيها إلى الخطأ فوقف أبو السعادات المذكور على ذلك الرد فرد عليه في رده وبين وجوه غلطه وجمعه كتابا سماه الانتصار وهو على صغر حجمه مفيد جدا وسمعه عليه الناس وجمع أيضا كتابا سماه الحماسة ضاهى به حماسة أبي تمام الطائي وهو كتاب غريب مليح أحسن فيه وله في النحو عدة تصانيف وله ما اتفق لفظه واختلف معناه وشرح اللمع لابن جني وشرح التصريف الملوكي

45
وكان حسن الكلام حلو الألفاظ فصيحا جيد البيان والتفهيم وقرأ الحديث بنفسه على جماعة من الشيوخ المتأخرين مثل أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار ابن أحمد بن القاسم الصيرفي وأبي علي محمد بن سعيد بن نبهان الكاتب وغيرهما
وذكره الحافظ أبو سعد ابن السمعاني في كتاب الذيل وقال اجتمعنا في دار الوزير أبي القاسم علي بن طراد الزينبي وقت قراءاتي عليه الحديث وعلقت عنه شيئا من الشعر
في المدرسة ثم مضيت إليه وقرأت عليه جزءا من أمالي أبي العباس ثعلب النحوي
وحكى أبو البركات عبد الرحمن بن الأنباري النحوي المقدم ذكره في كتابه الذي سماه مناقب الأدباء أن العلامة أبا القاسم محمود الزمخشري المقدم ذكره لما قدم بغداد قاصدا الحج في بعض أسفاره مضى إلى زيارة شيخنا أبي السعادات ابن الشجري ومضينا معه إليه فلما اجتمع به أنشده قول المتنبي
(واستكبر الأخبار قبل لقائه
* فلما التقينا صغر الخبر الخبر)
ثم أنشده بعد ذلك
(كانت مساءلة الركبان تخبرنا
* عن جعفر بن فلاح أحسن الخبر)
(ثم التقينا فلا والله ما سمعت
* أذني بأحسن مما قد رأى بصري)
وهذا البيتان قد تقدم ذكرهما في ترجمة جعفر بن فلاح وهما منسوبان

46
إلى أبي القاسم محمد بن هانئ الأندلسي وقد تقدم ذكره أيضا وينسبان إلى غيره أيضا والله أعلم
قال ابن الأنباري فقال العلامة الزمخشري روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم عليه زيد الخيل قال له يا زيد ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون ما وصف لي غيرك
قال ابن الأنباري فخرجنا من عنده ونحن نعجب كيف يستشهد الشريف بالشعر والزمخشري بالحديث وهو رجل عجمي
وهذا الكلام وإن لم يكن عين كلام ابن الأنباري فهو في معناه لأني لم أنقله من الكتاب بل وقفت عليه منذ زمان وعلق معناه بخاطري وإنما ذكرت هذا لأن الناظر فيه قد يقف على كتاب ابن الأنباري فيجد بين الكلامين اختلافا فيظن أني تسامحت في النقل
وكان أبو السعادات المذكور نقيب الطالبيين بالكرخ نيابة عن والده الطاهر وله شعر حسن فمن ذلك قصيدة يمدح بها الوزير نظام الدين أبا نصر المظفر بن علي ابن محمد بن جهير وأولها
(هذي السديرة والغدير الطافح
* فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح)
(يا سدرة الوادي الذي إن ضله الساري
* هداه نشره المتفاوح)
(هل عائد قبل الممات لمغرم
* عيش تقضى في ظلالك صالح)
(ما أنصف الرشأ الضنين بنظرة
* لما دعا مصغي الصبابة طامح)
(شط المزار به وبوئ منزلا
* بصميم قلبك فهو دان نازح)
(غصن يعطفه النسيم وفوقه
* قمر يحف به ظلام جانح)
(وإذا العيون تساهمته لحاظها
* لم يرو منه الناظر المتراوح)
(ولقد مررنا بالعقيق فشاقنا
* فيه مراتع للمها ومسارح)

47
(ظلنا به نبكي فكم من مضمر
* وجدا أذاع هواه دمع سافح)
(مرت الشؤون رسومها فكأنما
* تلك العراص المقفرات نواضح)
(يا صاحبي تأملا حييتما
* وسقى دياركما الملث الرائح)
(أدمى بدت لعيوننا أم ربرب
* أم خرد أكفالهن رواجح)
(أم هذه مقل الصوار رنت لنا
* خلل البراقع أم قنا وصفائح)
(لم يبق جارحة وقد واجهننا
* إلا وهن لها بهن جوارح)
(كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى
* ومن الشقاوة أن يراض القارح)
(لو بله من ماء ضارج شربة
* ما أثرت للوجد فيه لواقح)
ومن هاهنا يخرج إلى المديح فأضربت عنه خوف الإطالة ولم يكن المقصود إلا إثبات شيء من نظمه ليستدل به على طريقه فيه
ومن شعره أيضا
(هل الوجد خاف والدموع شهود
* وهل مكذب قول الوشاة جحود)
(وحتى متى تفني شؤونك بالبكا
* وقد حد حدا للبكاء لبيد)
(وإني وإن جفت قناتي كبرة
* لذو مرة في النائبات جليد)
وفيه إشارة إلى أبيات لبيد بن ربيعة العامري
(تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما
* وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر)
(فقوما فنوحا بالذي تعلمانه
* ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر)
(وقولا هو المرء الذي لا صديقه
* أضاع ولا خان العهود ولا غدر)

48
(إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
* ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر)
وإلى هذا أشار أبو تمام الطائي بقوله
(ظعنوا فكان بكاي حولا بعدهم
* ثم ارعويت وذاك حكم لبيد)
وقال الشريف أبو السعادات المذكور أنشدني أبو إسماعيل الحسين الطغرائي قلت قد تقدم ذكره لنفسه
(إذا لم تكن ملكا مطاعا
* فكن عبدا لمالكه مطيعا)
(وإن لم تملك الدنيا جميعا
* كما تهواه فاتركها جميعا)
(هما سببان من ملك ونسك
* ينيلان الفتى الشرف الرفيعا)
(فمن يقنع من الدنيا بشيء
* سوى هذين عاش بها وضيعا)
وكان بين أبي السعادات المذكور وبين أبي محمد الحسن بن أحمد بن محمد ابن جكينا البغدادي الحريمي الشاعر المشهور وهو المذكور في ترجمة أبي محمد القاسم بن علي الحريري صاحب المقامات تنافس جرت العادة بمثله بين أهل الفضائل فلما وقف على شعره عمل فيه قوله
(يا سيدي والذي يعيذك من
* نظم قريض يصدا به الفكر)
(مالك من جدك النبي سوى
* أنك ما ينبغي لك الشعر)
وشعره وماجراياته كثيرة والاختصار أولى

49
وكانت ولادته في شهر رمضان سنة خمسين وأربعمائة
وتوفي يوم الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ودفن من الغد في داره بالكرخ من بغداد رحمه الله تعالى
والشجري بفتح الشين المعجمة والجيم وبعدها راء هذه النسبة إلى شجرة وهي قرية من أعمال المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وشجرة أيضا اسم رجل وقد سمت به العرب ومن بعدها وقد انتسب إليه خلق كثير من العلماء وغيرهم ولا أدري إلى من ينتسب الشريف المذكور منهما هل نسبته إلى القرية أم إلى أحد أجداده كان اسمه شجرة والله أعلم
وقد تقدم الكلام على الكرخ في ترجمة معروف الكرخي رضي الله عنه فأغنى عن إعادته
775 البديع الاسطرلابي
أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن يوسف وقيل أحمد المنعوت بالبديع الأسطرلابي الشاعر المشهور أحد الأدباء الفضلاء كان وحيد زمانه في عمل الآلات الفلكية متقنا لهذه الصناعة وحصل له من جهة عملها مال جزيل في خلافة الإمام المسترشد ولما مات لم يخلفه في شغله مثله
وقد ذكره أبو المعالي الحظيري في كتابه الذي سماه زينة الدهر وذكره العماد الأصبهاني في كتاب

50
الخريدة وكل منهما أثنى عليه وأورد عدة مقاطيع من شعره فمن ذلك قوله
(أهدي لمجلسه الكريم وإنما
* أهدي له ما حزت من نعمائه)
(كالبحر يمطره السحاب وما له
* فضل عليه لأنه من مائه)
وهذان البيتان من أسير شعره وقد قيل إنهما لغيره
وله أيضا
(أذاقني حمرة المنايا
* لما اكتسى خضرة العذار)
(وقد تبدى السواد فيه
* وكارتي بعد في العيار)
هكذا وجدت هذين البيتين في زينة الدهر تأليف أبي المعالي الحظيري منسوبين إلى البديع المذكور ورأيت في موضع آخر أنهما لأبي محمد ابن جكينا المذكور في ترجمة الشريف أبي السعادات ابن الشجري والله أعلم
وهذه العبارة من اصطلاح البغاددة فإنهم يقولون كارتي في العيار بمعنى أنه ناشب معه لم يتخلص منه والكارة عندهم في الدقيق بمثابة الجملة في ديار مصر
ومن شعره
(قال قوم عشقته أمرد الخد
* وقد قيل إنه نكريش)
(قلت فرخ الطاوس أحسن ما كان
* إذا ما علا عليه الريش)
قوله نكريش لفظة عجمية والأصل فيها نيك ريش معناها لحية جيدة وهو على ما تقرر من اصطلاح العجم أنهم يقدمون ويؤخرون في ألفاظهم المركبة فنيك جيد وريش
لحية
وكان كثير الخلاعة يستعمل المجون في أشعاره حتى يفضي به إلى الفحش في اللفظ فلهذا اقتصرت له على هذه النبذة مع كثرة شعره وكان قد جمعه

51
ودونه واختار ديوان ابن حجاج ورتبه على مائة وأحد وأربعين بابا وجعل كل باب في فن من فنون شعره وقفاه وسماه درة التاج من شعر ابن حجاج وكان ظريفا في جميع حركاته وتوفي سنة أربع وثلاثين وخمسمائة بعلة الفالج ودفن بمقبرة الوردية بالجانب الشرقي من بغداد رحمه الله تعالى
والأسطرلابي بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وضم الطاء المهملة وبعدها راء ثم لام ألف ثم باء موحدة هذه النسبة إلى الأسطرلاب وهو الآلة المعروفة قال كوشيار بن لبان بن باشهري الجيلي صاحب كتاب الزيج في رسالته التي وضعها في علم الأسطرلاب إن الأسطرلاب كلمة يونانية معناها ميزان الشمس وسمعت بعض المشايخ يقول إن لأب اسم الشمس بلسان اليونان فكأنه قال أسطر الشمس إشارة إلى الخطوط التي فيه وقيل إن أول من وضعه بطليموس صاحب المجسطي وكان سبب وضعه له أنه كان معه كرة فلكية وهو راكب فسقطت منه فداستها دابته فخسفتها فبقيت على هيئة الأسطرلاب وكان أرباب علم الرياضة يعتقدون أن هذه الصورة لا ترسم إلا في جسم كري على هيئة الأفلاك فلما رآه بطليموس على تلك الصورة علم أنه يرتسم في السطح ويكون نصف دائرة ويحصل منه ما يحصل من الكرة فوضع الأسطرلاب ولم يسبق إليه وما اهتدى أحد من المتقدمين إلى أن هذا القدر يتأتى في الخط
ولم يزل الأمر مستمرا على استعمال الكرة والأسطرلاب إلى أن استنبط الشيخ شرف الدين الطوسي المذكور في ترجمة الشيخ كمال الدين ابن يونس رحمهما الله تعالى وهو شيخه في فن الرياضة أن يضع المقصود من الكرة والأسطرلاب في خط فوضعه وسماه العصا وعمل له رسالة بديعة
وكان قد أخطأ في بعض هذا الوضع فأصلحه الشيخ كمال الدين المذكور

52
وهذبه والطوسي أول من أظهر هذا في الوجود ولم يكن أحد من القدماء يعرفه
فصارت الهيئة توجد في الكرة التي هي جسم لأنها تشتمل على الطول والعرض والعمق وتوجد في السطح الذي هو مركب من الطول والعرض بغير عمق وتوجد في الخط الذي هو عبارة عن الطول فقط بغير عرض ولا عمق ولم يبق سوى النقطة ولا يتصور أن يعمل فيها شيء لأنها ليست جسما ولا سطحا ولا خطا بل هي طرف الخط كما أن الخط طرف السطح والسطح طرف الجسم والنقطة لا تتجزأ فلا يتصور أن يرتسم فيها شيء وهذا وإن كان خروجا عما نحن بصدده لكنه أيضا فائدة والاطلاع عليه أولى من إهماله وسياق الكلام جره والله تعالى أعلم
776 ابن القطان البغدادي
أبو القاسم هبة الله بن الفضل بن القطان عبد العزيز بن محمد بن الحسين بن علي ابن أحمد بن الفضل بن يعقوب بن يوسف بن سالم المعروف بابن القطان الشاعر المشهور البغدادي قد سبق شيء من شعره وطرف من خبره في ترجمة حيص بيص في حرف السين وفي ترجمة ابن السوادى في أواخر حرف العين
وكان أبو القاسم المذكور قد سمع الحديث من جماعة من المشايخ وسمع

53
عليه وكان غاية في الخلاعة والمجون كثير المزاح والمداعبات مغرى بالولوع بالمتعجرفين والهجاء لهم وله في ذلك نوادر ووقائع وحكايات ظريفة وله ديوان شعر
وقد ذكره أبو سعد السمعاني في كتاب الذيل فقال شاعر مجود مليح الشعر رقيق الطبع إلا أن الغالب عليه الهجاء وهو ممن يتقى لسانه ثلاب ثم قال كتبت عنه حديثين لا غير وعلقت عنه مقطعات من شعره
(299) وذكر الحافظ السلفي أباه أبا عبد الله الفضل بن عبد العزيز وقال إن بعض أولاد المحدثين سأله عن مولده فقال سنة ثماني عشرة وأربعمائة ليلة الجمعة رابع عشر رجب
وقال أبو غالب شجاع بن فارس الذهلي مات يوم الأربعاء ودفن من الغد لست بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وأربعمائة بمقبرة معروف الكرخي رضي الله عنه
وذكر العماد الكاتب الأصبهاني في كتاب الخريدة أبا القاسم المذكور فقال وكان مجمعا على ظرفه ولطفه وله ديوان شعر أكثره جيد وعبث فيه بجماعة من الأعيان وثلبهم ولم يسلم منه أحد لا الخليفة ولا غيره وأخبرني بعض المشايخ أنه رآه وقال كنت يومئذ صبيا فلم آخذ عنه شيئا لكنني رأيته قاعدا على طرف دكان عطار ببغداد والناس يقولون هذا ابن الفضل الهجاء
وسمع الحديث من جماعة منهم أبوه وأبو طاهر محمد بن الحسن الباقلاني وأبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون الأمين وأبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة بن محمد بن عثمان الكرخي وغيرهم
وله مع حيص بيص ماجرايات فمن ذلك أن الحيص بيص خرج ليلة من دار الوزير شرف الدين أبي الحسن علي بن طراد الزينبي فنبح عليه جرو كلب

54
وكان متقلدا سيفا فوكزه بعقب السيف فمات فبلغ ذلك ابن الفضل المذكور فنظم أبياتا وضمنها بيتين لبعض العرب قتل أخوه ابنا له فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف من يده وأنشدهما والبيتان المذكوران يوجدان في الباب الأول من كتاب الحماسة ثم إن ابن الفضل المذكور عمل الأبيات في ورقة وعلقها في عنق كلبة لها أجر ورتب معها من طردها وأولادها إلى باب دار الوزير كالمستغيثة فأخذت الورقة من عنقها وعرضت على الوزير فإذا فيها
(يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى
* بفعلة أكسبته الخزي في البلد)
(هو الجبان الذي أبدى تشاجعه
* على جري ضعيف البطش والجلد)
(وليس في يده مال يديه به
* ولم يكن ببواء عنه في القود)
(فأنشدت جعدة من بعدما احتسبت
* دم الأبيلق عند الواحد الصمد)
(أقول للنفس تأساء وتعزية
* إحدى يدي أصابتني ولم ترد)
(كلاهما خلف من فقد صاحبه
* هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي)
والبيت الثالث مأخوذ من قول بعضهم
(قوم إذا ما جنى جانيهم أمنوا
* من لؤم أحسابهم أن يقتلوا قودا)
وهو من جملة أبيات في الكراس الذي أوله لقي بشار وينظر في الحماسة وهذا التضمين في غاية الحسن ولم أسمع مثله مع كثرة ما يستعمل الشعراء

55
التضمين في أشعارهم إلا ما أنشدني الشيخ مهذب الدين أبو طالب محمد المعروف بابن الخيمي المذكور في ترجمة الشيخ تاج الدين الكندي في حرف الزاي لنفسه وأخبرني أنه كان بدمشق وقدم رسم السلطان بحلق لحية شخص له وجاهة بين الناس فحلق نصفها وحصلت فيه شفاعة فعفا عنه في الباقي فعمل فيه ولم يصرح باسمه بل رمزه وستره وهو
(زرت ابن آدم لما قيل قد حلقوا
* جميع لحيته من بعد ما ضربا)
(فلم أر النصف محلوقا فعدت له
* مهنئا بالذي منها له وهبا)
(فقام ينشدني والدمع يخنقه
* بيتين ما نظما مينا ولا كذبا)
(إذا أتتك لحلق الذقن طائفة
* فاخلع ثيابك منها ممعنا هربا)
(وإن أتوك وقالوا إنها نصف
* فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا)
والبيتان الأخيران منها في كتاب الحماسة أيضا في باب مذمة النساء لكن الأول منهما فيه تغيير فإن بيت الحماسة
(لا تنكحن عجوزا إن أتيت بها
* واخلع ثيابك منها ممعنا هربا)
وحضر ليلة الحيص بيص وابن الفضل المذكور على السماط عند الوزير في شهر رمضان فأخذ ابن الفضل قطاة مشوية وقدمها إلى الحيص بيص فقال الحيص بيص للوزير يا مولانا هذا الرجل يؤذيني فقال الوزير كيف ذلك قال لأنه يشير إلى قول الشاعر
(تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا
* ولو سلكت سبل المكارم ضلت)
وكان الحيص تميميا كما تقدم في ترجمته وهذا البيت للطرماح بن حكيم الشاعر وهو من جملة أبيات وبعد هذا البيت

56
(أرى الليل يجلوه النهار ولا أرى
* خلال المخازي عن تميم تجلت)
(ولو أن برغوثا على ظهر قملة
* يكر على صفي تميم لولت)
ودخل ابن الفضل المذكور يوما على الوزير المذكور الزينبي وعنده الحيص فقال قد عملت بيتين ولا يمكن أن يعمل لهما ثالث لأنني قد استوفيت المعنى فيهما فقال له الوزير هاتهما فأنشده
(زار الخيال نحيلا مثل مرسله
* فما شفاني منه الضم والقبل)
(ما زارني قط إلا كي يوافقني
* على الرقاد فينفيه ويرتحل)
فالتفت الوزير إلى الحيص وقال له ما تقول في دعواه فقال إن أعادهما سمع الوزير لهما ثالثا فقال له الوزير أعدهما فأعادهما فوقف الحيص بيص لحظة ثم أنشد
(وما درى أن نومي حيلة نصبت
* لطيفه حين أعيا اليقظة الحيل)
فاستحسن الوزير ذلك منه
وسمعت لبعض المعاصرين ولم أتحقق أنها له حتى أعينه وقد أخذ هذا المعنى ونظمه وأحسن فيه وهو
(ياضرة القمرين من لمتيم
* أرديته وأحلت ذاك على القضا)
(وحياة حبك لم ينم عن سلوة
* بل كان ذلك للخيال تعرضا)
(لا تأسفي إن زار طيفك في الكرى
* ما كان إلا مثل شخصك معرضا)
ثم وجدت هذه الأبيات لأبي العلاء بن أبي الندى المعروف
ولما هجا قاضي القضاة جلال الدين الزينبي بالقصيدة الكافية المقدم ذكرها

57
في ترجمة ابن السوادي ولولا طولها لذكرتها سير إليه أحد الغلمان فأحضره وصفعه وحبسه فلما طال حبسه كتب إلى مجد الدين ابن الصاحب أستاذ الدار الخليفتية
(إليك أظل مجد الدين أشكو
* بلاء حل لست له مطيقا)
(وقوما بلغوا عني محالا
* إلى قاضي القضاة الندب سيقا)
(فأحضرني بباب الحكم خصم
* غليظ جرني كما وزيقا)
(وأخفق نعله بالصفع رأسي
* إلى أن أوجس القلب الخفوقا)
(على الخصم الأداء وقد صفعنا
* إلى أن ما تهدينا الطريقا)
(فيا مولاي هب ذا الإفك حقا
* أيحبس بعد ما استوفى الحقوقا)
ولما خرج من الحبس أنشد
(عند الذي طرف بي أنه
* قد غض من قدري وآذاني)
(فالحبس ما غير لي خاطرا
* والصفع ما لين آذاني)
وقد سبق في ترجمة الحيص أبياته الميمية في هجوه وجواب الحيص عنها
ولما ولي الزينبي المذكور الوزارة دخل عليه ابن الفضل المذكور والمجلس محتفل بأعيان الرؤساء وقد اجتمعوا للهناء فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح والسرور ورقص فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره قبح الله هذا الشيخ فإنه يشير برقصه إلى ما تقول العامة في أمثالها ارقص للقرد في زمانه
وقد نظم هذا المعنى في أبيات وكتبها إلى بعض الرؤساء وهي
(يا كمال الدين الذي
* هو شخص مشخص)
(والرئيس الذي به
* ذنب دهري يمحص)
(خذ حديثي فإنه
* نبأ سوف يرخص)

58
(كلما قلت قد تبغدد
* قومي تحمصصوا)
(ليس إلا ستر يشال
* وباب مجصص)
(وغواش على الرؤوس
* عليها المقرنص)
(والرواشين والمناظر
* والخيل ترقص)
(وأنا القرد كل يوم
* لكلب أبصبص)
(كل من صفق الزمان
* له قمت أرقص)
(محن لا يفيد ذا النون
* منها التبرصص)
(فمتى أسمع النداء
* وقد جا مخلص)
ومثل هذا قول بعضهم
(إذا رأيت امرءا وضيعا
* قد رفع الدهر من مكانه)
(فكن له سامعا مطيعا
* معظما من عظيم شانه)
(فقد سمعنا بأن كسرى
* قد قال يوما لترجمانه)
(إذا زمان السباع ولى
* فارقص للقرد في زمانه)
وحكي أنه دخل مرة على بعض أهل بغداد وقد تولى ولاية كبيرة لم يكن من أهلها فسلم عليه ودعا له وهنأه بالولاية وأظهر الفرح والسرور ثم خرج فقال بعض الحاضرين هذا يشير إلى قول الناس في أمثالهم ارقص للقرد في زمانه
وله القصيدة الرائية المشهورة التي جمع فيها خلقا من الأكابر ونبز كل واحد منهم بشيء وفيها يقول

59
(تكريت تعجزنا ونحن بجهلنا
* نمضي لنأخذ ترمذا من سنجر)
ومنها البيت السائر وهو
(نسب إلى العباس ليس شبيهه
* في الضعف غير الباقلاء الأخضر)
وأنشدني له بعض أصحابنا المتأدبين قوله
(سعى إحسانه بيني
* وبين الدهر بالصلح)
(أياد ملأت بيتي
* على بيت من المدح)
ودخل يوما على الوزير ابن هبيرة وعنده نقيب الأشراف وكان ينسب إلى البخل وكان في شهر رمضان والحر شديد فقال له الوزير أين كنت فقال في مطبخ سيدي النقيب فقال له ويحك أيش عملت في شهر رمضان في المطبخ فقال وحياة مولانا كسرت الحر فتبسم الوزير وضحك الحاضرون وخجل النقيب
وهذا الكلام على اصطلاح أهل تلك البلاد فإنهم يقولون كسرت الحر في الموضع الفلاني إذا اختار موضعا باردا يقيل فيه
وقصد دار بعض الأكابر في بعض الأيام فلم يؤذن له في الدخول فعز عليه فأخرجوا من الدار طعاما وأطعموه كلاب الصيد وهو يبصره فقال مولانا يعمل بقول الناس لعن الله شجرة لا تظل أهلها
وقعد يوما مع زوجته يأكل طعاما فقال لها اكشفي رأسك ففعلت وقرأ * (قل هو الله أحد) * الإخلاص 1 فقالت له ما الخبر فقال إن المرأة إذا كشفت رأسها لم تحضر الملائكة عليهم السلام وإذا قرئ * (قل هو الله أحد) * هربت الشياطين وأنا أكره الزحمة على المائدة
وأخباره كثيرة وكانت ولادته سنة سبع وسبعين وأربعمائة وقال السمعاني سألته عن مولده فقال ولدت ضاحي نهار يوم الجمعة السابع من ذي الحجة سنة ثمان وسبعين
وتوفي يوم السبت الثامن والعشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين

60
وخمسمائة ببغداد ودفن بمقبرة معروف الكرخي رحمه الله تعالى وقال السمعاني توفي يوم عيد الفطر والله أعلم
ولولا إيثار الاختصار لذكرت من أحواله ومضحكاته شيئا كثيرا فإنه كان آية في هذا الباب
وقوله في الأبيات الدالية (ولم يكن ببواء عنه في القود
*) فالبواء بفتح الباء الموحدة وبعدها الواو والهمزة ممدودة ومعناها السواء يقال دم فلان بواء لدم فلان إذا كان مكافئا له
وجعدة المذكورة في هذه الأبيات أيضا بفتح الجيم والدال المهملة وبينهما عين مهملة ساكنة وفي الأخير هاء ساكنة وهو اسم من أسماء الكلبة هكذا سمعته ولم أره في شيء من كتب اللغة بل الذي قاله أرباب اللغة إن أبا جعدة كنية الذئب وجعدة اسم النعجة كني الذئب بها لمحبته إياها والله أعلم
والمتوثي بفتح الميم وتشديد التاء المثناة من فوقها وسكون الواو وبعدها ثاء مثلثة هذه النسبة إلى متوث وهي بلدة بين قرقوب وكورة الأهواز
777 ابن سناء الملك
القاضي السعيد أبو القاسم هبة الله بن القاضي الرشيد أبي الفضل جعفر بن المعتمد سناء الملك أبي عبد الله محمد بن هبة الله بن محمد السعدي الشاعر المشهور المصري صاحب الديوان الشعر البديع والنظم الرائق أحد الفضلاء الرؤساء النبلاء وكان كثير التخصص والتنعم وافر السعادة محظوظا من الدنيا أخذ الحديث عن الحافظ أبي الطاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي الأصبهاني رحمه الله تعالى

61
واختصر كتاب الحيوان للجاحظ وسمى المختصر روح الحيوان وهي تسمية لطيفة وله كتاب مصايد الشوارد وله ديوان جميعه موشحات سماه دار الطراز وجمع شيئا من الرسائل الدائرة بينه وبين القاضي الفاضل وفيه كل معنى مليح
واتفق في عصره بمصر جماعة من الشعراء المجيدين وكان لهم مجالس يجري بينهم فيها مفاكهات ومحاورات يروق سماعها
ودخل في ذلك الوقت إلى مصر شرف الدين ابن عنين المقدم ذكره في المحمدين فاحتفلوا به وعملوا له دعوات وكانوا يجتمعون على أرغد عيش وكانوا يقولون هذا شاعر الشام وجرت لهم محافل سطرت عنهم ولولا خشية التطويل لذكرت بعضها
ومن محاسن شعره بيتان من جملة قصيدة يمدح بها القاضي الفاضل رحمه الله تعالى وهما
(ولو أبصر النظام جوهر ثغرها
* لما شك فيه أنه الجوهر الفرد)
(ومن قال إن الخيزرانة قدها
* فقولوا له إياك أن يسمع القد)
ومن شعره أيضا
(لا الغصن يحكيك ولا الجؤذر
* حسنك مما كثروا أكثر)
(يا باسما أبدى لنا ثغره
* عقدا ولكن كله جوهر)
(قال لي اللاحي أما تسمع
* فقلت يا لاحي أما تبصر)
وله يتغزل بجارية عمياء

62
(شمس بغير الشعر لم تحتجب
* وفي سوى العينين لم تكسف)
(مغمدة المرهف لكنها
* تجرح بالجفن بلا مرهف)
(رأيت منها الخلد في جؤذر
* ومقلتي يعقوب في يوسف)
وله في غلام ضرب ثم حبس
(بنفسي من لم يضربوه لريبة
* ولكن ليبدو الورد في سائر الغصن)
(ولم يودعوه السجن إلا مخافة
* من العين أن تعدو على ذلك الحسن)
(وقالوا له شاركت في الحسن يوسفا
* فشاركه أيضا في الدخول إلى السجن)
وله في غلام جميل الصورة حفر حومة التلاق فأصابه حجر فانكسرت أسنانه فقال
(نثر الدهر عقد ثغر حبيبي
* فدموعي عليه تحكي انتثاره)
(كل سن كالأقحوانة كانت
* فغدت بالدماء كالجلناره)
(كان في حومة التلاق وما كان
* بعيدا في جملة النظارة)
(فأتته الأحجار شوقا وزارته
* فلا مرحبا بتلك الزيارة)
(كيف ينسى الفؤاد ثغر حبيب
* حسدتني عليه تلك الحجارة)
وله من جملة أبيات
(وما كان تركي حبه عن ملالة
* ولكن لأمر يوجب القول بالترك)
(أراد شريكا في الذي كان بيننا
* وإيمان قلبي قد نهاني عن الشرك)

63
وله أيضا
(يا عاطل الجيد إلا من محاسنه
* عطلت فيك الحشا إلا من الحزن)
(في سلك جسمي در الدمع منتظم
* فهل لجيدك في عقد بلا ثمن)
(لا تخش منى فإني كالنسيم ضني
* وما النسيم بمخشي على الغصن)
وهذا البيت مأخوذ من قول ابن قلاقس وقد تقدم ذكره في ترجمته وهو
(أعندما همت به روضة
* أعل جسمي لأكون النسيم)
ومن نثره في وصف النيل في سنة كان ناقصا ولم يوف الزيادة التي جرت بها العادة يقال إنه كتبه من جملة رسالة إلى القاضي الفاضل وهو وأما أمر الماء فإنه نضبت مشارعه وتقطعت أصابعه وتيمم العمود لصلاة الاستسقاء وهم المقياس من الضعف بالاستلقاء وهذا من أحسن ما يوصف به نقصان النيل
وكان بمصر شاعر يقال له أبو المكارم هبة الله بن وزير بن مقلد الكاتب فبلغ القاضي السعيد المذكور عنه أنه هجاه فأحضره إليه وأدبه وشتمه وكتب إليه نشو الملك أبو الحسن علي بن مفرج المعري الأصل المصري الدار والوفاة المعروف بابن المنجم الشاعر المعروف
(قل للسعيد أدام الله نعمته
* صديقنا ابن وزير كيف تظلمه)
(صفعته إذ غدا يهجوك منتقما
* فكيف من بعد هذا ظلت تشتمه)
(هجو بهجو وهذا الصفع فيه ربا
* والشرع ما يقتضيه بل يحرمه)

64
(فإن تقل ما لهجو عنده ألم
* فالصفع والله أيضا ليس يؤلمه)
ولما مدح السعيد المذكور شمس الدولة توران شاه أخا السلطان صلاح الدين المقدم ذكره في حرف التاء بقصيدته التي أولها
(تقنعت لكن بالحبيب المعمم
* وفارقت لكن كل عيش مذمم)
تعصب عليه جماعة من شعراء مصر وعابوا هذا الاستفتاح وهجنوه فكتب إليه ابن الذروي الشاعر المذكور في ترجمة سيف الدولة المبارك بن منقذ
(قل للسعيد مقال من هو معجب
* منه بكل بديعة ما أعجبا)
(لقصيدك الفضل المبين وإنما
* شعراؤنا جهلوا به المستغربا)
(عابوا التقنع بالحبيب ولو رأى
* الطائي ما قد حكته لتعصبا)
ونوادر القاضي السعيد كثيرة
وتوفي في العشر الأول من شهر رمضان سنة ثمان وستمائة بالقاهرة وذكر صاحبنا الكمال ابن الشعار في عقود الجمان أنه توفي يوم الأربعاء رابع الشهر المذكور رحمه الله تعالى
وذكره العماد الكاتب في كتاب الخريدة فقال كنت عند القاضي الفاضل في خيمته بمرج الدلهمية ثامن عشر ذي القعدة سنة سبعين يعني وخمسمائة فأطلعني على قصيدة له كتبها إليه من مصر وذكر أن سنه لم يبلغ إلى عشرين سنة فأعجبت بنظمه ثم ذكر القصيدة العينية التي أولها
(فراق قضى للهم والقلب بالجمع
* وهجر تولى صلح عيني مع الدمع)
وعلى هذا التقدير يكون مولده في حدود سنة خمسين وخمسمائة وقيل

65
إنه ولد سنة ثمان وأربعين والله أعلم
ثم قال العماد بعد الفراغ من ذكر هذه القصيدة ثم وصل يعني القاضي السعيد المذكور إلى الشام في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وخمسمائة في الخدمة الفاضلية
فوجدته في الذكاء آية قد أحرز في صناعة النظم والنثر غاية تلقى عرابة العربية له باليمين راية وقد ألحفه الإقبال الفاضلي في الفضل قبولا وجعل طين خاطره على الفطنة مجبولا وأنا أرجو أن ترقى في الصناعة رتبته وتغزر عند تمادي أيامه في العلم نغبته وتصفو من الصبا منقبته وتروى بماء الدربة رويته وتستكثر فوائده وتؤثر قلائده
(300) وتوفي والده جعفر في منتصف شهر رمضان سنة ثمانين وخمسمائة
ثم رأيت بخط بعض أصحابنا ممن له عناية بهذا الفن أنه توفي يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين ومولده منتصف شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة والله أعلم
(301) وأما أبو المكارم هبة الله بن وزير بن مقلد الشاعر المصري المذكور في هذه الترجمة فإن عماد الدين الأصبهاني ذكره في كتاب الخريدة وقال عدت إلى مصر في سنة ست وتسعين وخمسمائة فسألت عنه فأخبرت بوفاته رحمه الله تعالى

66
778 هبة الله البوصيري
أبو القاسم وأبو الكرم هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت بن هاشم بن غالب بن ثابت الأنصاري الخزرجي المنستيري الأصل المصري المولد والدار المعروف بالبوصيري كان أديبا كاتبا له سماعات عالية وروايات تفرد بها وألحق الأصاغر بالأكابر في علو الإسناد ولم يكن في آخر عصره في درجته مثله وسمع بقراءة الحافظ أبي الطاهر السلفي وإبراهيم بن حاتم الأسدي على أبي صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المديني إمام الجامع العتيق بمصر رحمهم الله تعالى أجمعين والبوصيري المذكور آخر من روى في الدنيا كلها عن أبي صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المديني المذكور وأبي الحسين علي بن الحسين ابن عمر الفراء الموصلي وأبي عبد الله محمد بن بركات هلال السعيدي النحوي سماعا وروى أيضا عن أبي الفتح سلطان بن إبراهيم بن المسلم المقدسي وهو آخر من روى عنه سماعا في الأرض كلها وسمع عليه الناس وأكثروا ورحلوا إليه من البلاد
وكان جده مسعود قدم من المنستير إلى بوصير فأقام بها إلى أن عرف فضله في دولة المصريين فطلب إلى مصر وكتب في ديوان الإنشاء وولد له علي والد أبي القاسم المذكور بمصر واستقروا بها وشهروا
وكان أبو القاسم يسمى سيد الأهل أيضا لكن هبة الله أشهر وكانت ولادته سنة ست وخمسمائة بمصر وقيل بل ولد يوم الخميس خامس ذي القعدة سنة خمسمائة
وتوفي في الليلة الثانية من صفر سنة ثمان وتسعين وخمسمائة

67
ودفن بسفح المقطم رحمه الله تعالى وقال ياقوت الحموي في كتاب البلدان المشتركة الأسماء إنه مات في شوال رحمه الله تعالى
والخزرجي بفتح الخاء المعجمة وسكون الزاي وفتح الراء وبعدها جيم هذه النسبة إلى الخزرج وهو أخو الأوس بفتح الهمزة وسكون الواو وبعدها سين مهملة وهما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء وتمام النسب معروف وهما ابنا قيلة بفتح القاف وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح اللام وبعدها هاء ساكنة ومن ذريتهما أنصار النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة
والمنستير بضم الميم وفتح النون وسكون السين المهملة وكسر التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء وهي بليدة بإفريقية بناها هرثمة بن أعين الهاشمي في سنة ثمانين ومائة
وكان هارون الرشيد قد ولاه إفريقية وقدم إليها يوم الخميس لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعين ومائة وقد تقدمت الحوالة على هذا الموضع في ترجمة الأمير تميم بن المعز بن باديس
وبوصير بضم الباء الموحدة وسكون الواو وكسر الصاد المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء وتعرف ببوصير قوريدس ويقال كوريدس وهي بليدة بأعمال البهنسا من صعيد مصر وقد تقدم الكلام في ترجمة عبد الحميد الكاتب على بوصير الفيوم وبالجيزة أيضا بليدة يقال لها بوصير السدر وبكورة السمنودية أيضا بليدة يقال لها بوصير فهذا الاسم يشترك فيه أربعة بلاد والكل بالديار المصرية
والمنستير معبد بين المهدية وسوسة يأوي إليه الصالحون المنقطعون للعبادة

68
وفيه قصور شبيهة بالخانقاهات وعلى تلك القصور سور واحد ذكره ياقوت في كتابه والله أعلم
779 أمين الدولة ابن التلميذ
أبو الحسن هبة الله بن أبي الغنائم صاعد بن هبة الله بن إبراهيم بن علي المعروف بابن التلميذ النصراني الطبيب الملقب أمين الدولة البغدادي ذكره العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة فقال سلطان الحكماء وبالغ في الثناء عليه وقال هو مقصد العالم في علم الطب بقراط عصره وجالينوس زمانه ختم به هذا العلم ولم يكن في الماضين من بلغ مداه في الطب عمر طويلا وعاش نبيلا جليلا ورأيته وهو شيخ بهي المنظر حسن الرواء عذب المجتلى والمجتنى لطيف الروح ظريف الشخص بعيد الهم عالي الهمة ذكي الخاطر مصيب الفكر حازم الرأي شيخ النصارى وقسيسهم ورأسهم ورئيسهم وله في النظم كلمات رائقة وحلاوة جنية وغزارة بهية ومن شعره في الميزان لغزا
(ما واحد مختلف الأسماء
* يعدل في الأرض وفي السماء)
(يحكم بالقسط بلا رياء
* أعمى يري الإرشاد كل راء)
(أخرس لا من علة وداء
* يغنى عن التصريح بالإيماء)
(يجيب إن ناداه ذو امتراء
* بالرفع والخفض عن النداء)
(يفصح إن علق في الهواء
*)

69
فقوله مختلف الأسماء يعني ميزان الشمس وهو الأسطرلاب وسائر آلات الرصد وهو معنى قوله يحكم في الأرض وفي السماء وميزان الكلام النحو وميزان الشعر العروض وميزان المعاني المنطق وهذه الميزان والمكيال والذراع وغير ذلك ثم ذكربعد ذلك جملة من مقاطيع شعره نأتي بذكر بعضها إن شاء الله تعالى
وذكر في ترجمة الحكيم معتمد الملك أبي الفرج يحيى بن التلميذ النصراني الطبيب ما مثاله وكان أبو الحسن ابن صاعد حين توفي معتمد الملك أبو الفرج قام مقامه وهو ابن بنته فنسب إليه وعرف به
وذكر في كتاب أنموذج الأعيان من شعراء الزمان فيمن أدرك بالسماع أو بالعيان أن ابن التلميذ المذكور كان متفننا في العلوم ذا رأي رصين وعقل متين وطالت خدمته للخلفاء والملوك وكانت منادمته أحسن من التبر المسبوك والدر في السلوك اجتمعت به مرارا في آخر عمره وكنت أعجب في أمره كيف حرم الإسلام مع كمال فهمه وغزارة عقله وعلمه والله يهدي من يشاء بفضله ويضل من يريد بحكمه
وكان إذا ترسل استطال وسطا وإذا نظم وقع بين أرباب النظم وسطا وأورد شيئا من شعره أيضا
وذكره أبو المعالي الحظيري المقدم ذكره في حرف السين في كتابه زينة الدهر وأورد له مقاطيع فمن ذلك قوله
(يا من رماني عن قوس فرقته
* بسهم هجر على تلافيه)
(ارض لمن غاب عنك غيبته
* فذاك ذنب عقابه فيه)
وذكر العماد في الخريدة البيت الثاني منسوبا إلى أبي محمد ابن جكينا البغدادي وضم إليه بعده
(لو لم ينله من العقاب سوى
* بعدك عنه لكان يكفيه)

70
وذكر له الحظيري أيضا
(عاتبت إذ لم يزر خيالك والنوم
* بشوقي إليك مسلوب)
(فزارني منعما وعاتبني
* كما يقال المنام مقلوب)
ومما ذكر له العماد في الخريدة قال وأنشدني أبو المعالي هبة الله بن الحسن بن محمد بن المطلب قال أنشدني أبو الحسن ابن التلميذ لنفسه
(كانت بلهنية الشبيبة سكرة
* فصحوت واستأنفت سيرة مجمل)
(وقعدت أرتقب الفناء كراكب
* عرف المحل فبات دون المنزل)
والثاني منهما ذكره ابن المنجم في كتاب البارع لمسلم بن الوليد الأنصاري
وذكر أن أبا محمد ابن جكينا المذكور مرض فقصده ليعالجه فعالجه فلما عوفي أعطاه دراهم فعمل فيه
(لما تيممته وبي مرض
* إلى التداوي والبرء محتاج)
(آسى وواسى فعدت أشكره
* فعل امرئ للهموم فراج)
(فقلت إذ برني وأبرأني
* هذا طبيب عليه زرباج)
وعمل فيه أيضا في المعنى
(جاد واستنقذ المريض وقد كاد
* ضني أن يلف ساقا بساق)
(والذي يدفع المنون عن النفس
* جدير بقسمة الأرزاق)
وقصد مرة أن يعبر إليه دجلة ليداويه فكتب إليه

71
(إن امرأ القيس الذي
* هام بذات المحمل)
(كان شفاه عبرة
* وعبرة تصلح لي)
وكان ابن جكينا المذكور قد عمي في آخر عمره وجرت بينهما منافرة في أمر واشتهى مصالحته فكتب إليه
(وإذا شئت أن تصالح بشار
* بن برد فاطرح عليه أباه)
فسير إليه ما طلب واسترضاه وكانت له معه وقائع كثيرة وإنما كتب إليه هذا البيت لأن بشار بن برد كان أعمى كما تقدم ذكره في ترجمته فلما عمي شبه نفسه به وكان مطلوبه بردا
ومعنى قوله فاطرح عليه أباه لأن عادة أهل بغداد إذا أراد الإنسان أن يصالح من خاصمه والخصم ممتنع يقال له اطرح عليه فلانا بمعنى ادخل عليه به ليشفع له وقد حصلت له التورية في هذا البيت
ومن الشعر المنسوب إليه وهو مشهور قوله ثم وجدتهما للناصح ابن الدهان النحوي الموصلي
(تعس القياس فللغرام قضية
* ليست على نهج الحجى تنقاد)
(منها بقاء الشوق وهو بزعمهم
* عرض وتفنى دونه الأجساد)
وقوله أيضا وذكر العماد في الخريدة أن هذين البيتين لأبي علي المهندس المصري وهما
(تقسم قلبي في محبة معشر
* بكل فتى منهم هواي منوط)
(كأن فؤادي مركز وهم له
* محيط وأهوائي إليه خطوط)
وقوله أيضا
(جوده كالطبيب فينا يداوي
* سوء أحوالنا بحسن الصنيع)

72
(فهو كالموميا إذا انكسر العظم
* ومثل الترياق للملسوع)
ثم وجدت هذين البيتين في ديوان ابن حجاج الشاعر
وقوله في ولده سعيد
(حبي سعيدا جوهر ثابت
* وحبه لي عرض زائل)
(به جهاتي الست مشغولة
* وهو إلى غيري بها مائل)
وكان أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر المقدم ذكره قد نقه من المرض وهو يعالجه فكتب إليه يشكو جوعه وقد نهاه عن استعمال الغذاء إلا بأمره والذي كتبه
(أنا جوعان فأنقذني
* من هذي المجاعة)
(فرجي في الكسرة الخبز
* ولو كانت قطاعه)
(لا تقل لي ساعة تصبر
* مالي صبر ساعة)
(فخواي اليوم لا يقبل
* في الخبز شفاعه)
فوقف ابن التلميذ على هذه الأبيات وكتب إليه جوابها
(هكذا أضياف مثلي
* يتشاكون المجاعة)
(غير أني لست أعطيك
* مضرا بشفاعة)
(فتعلل بسويق
* فهو خير من قطاعه)
(بحياتي قل كما نرسمه
* سمعا وطاعة)
فلما وصلت الأبيات إلى ابن أفلح كتب
(إن مرسومك عندي
* قد توخيت استماعه)

73
(غير أني لم أقل من
* نيتي سمعا وطاعة)
(ودفعت الجوع والله
* فلم أسطع دفاعه)
(فاكفني كلفته الآن
* وأربحني صداعه)
فكتب إليه ابن التلميذ
(أنا في الشعر ضعيف الطبع
* منزور البضاعة)
(ولك الخاطر قد أوتي
* طبعا وصناعه)
(ومتى لم تكف شر الجوع
* لم أكف صداعه)
(فعلى اسم الله قدم
* أخذه من بعد ساعة)
(302) وكان بين ابن التلميذ المذكور وبين أوحد الزمان أبي البركات هبة الله ابن علي بن ملكان الحكيم المشهور صاحب كتاب المعتبر في الحكمة تنافر وتنافس كما
جرت العادة بمثله بين أهل كل فضيلة وصنعة ولهما في ذلك أمور ومجالس مشهورة وكان يهوديا ثم أسلم في آخر عمره وأصابه الجذام فعالج نفسه بتسليط الأفاعي على جسده بعد أن جوعها فبالغت في نهشه فبرئ من الجذام وعمي وقصته في ذلك مشهورة فعمل فيه ابن التلميذ المذكور
(لنا صديق يهودي حماقته
* إذا تكلم تبدو فيه من فيه)
(يتيه والكلب أعلى منه منزلة
* كأنه بعد لم يخرج من التيه)

74
وكان ابن التلميذ كثير التواضع وأوحد الزمان متكبرا فعمل فيهما البديع الأسطرلابي المقدم ذكره
(أبو الحسن الطبيب ومقتفيه
* أبو البركات في طرفي نقيض)
(فهذا بالتواضع في الثريا
* وهذا بالتكبر في الحضيض)
ولابن التلميذ في الطب تصانيف مليحة فمن ذلك كتاب أقراباذين وهو نافع في بابه وبه عمل أطباء هذا الزمان وله كناش وحواش على كليات ابن سينا وغير ذلك (303) وكان شيخه في الطب أبا الحسن هبة الله بن سعيد صاحب التصانيف المشهورة منها كتاب التلخيص والمغني في الطب وهو جزء واحد وكتاب الإقناع وهو أربعة أجزاء وقد انتقدوا عليه هذه التسمية وقالوا كان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس لأن المغني هو الذي يغني عن غيره فكان الكتاب الأكبر أولى بهذا الاسم والإقناع هو الذي تقع القناعة به فالمختصر أولى بهذا الاسم
وله كل شيء مليح من تصنيف في طب أو أدب
وكان حسن السمت كثير الوقار حتى قيل إنه لم يسمع منه بدار الخلافة مدة ترداده إليها شيء من المجون سوى مرة واحدة بحضرة المقتفي الخليفة وذلك أنه كان له راتب بدار القوارير ببغداد فقطع ولم يعلم به الخليفة فاتفق أنه كان عنده يوما فلما عزم على القيام لم يقدر عليه إلا بكلفة ومشقة من الكبر فقال له المقتفي كبرت يا حكيم فقال نعم يا مولانا وتكسرت قواريري وهذا في اصطلاح أهل بغداد أن الإنسان إذا كبر يقال تكسرت قواريره فلما قال الحكيم هذه اللفظة قال الخليفة هذا الحكيم لم أسمع منه

75
هزلا منذ خدمنا فاكشفوا قضيته فكشفوها فوجدوا راتبه بدار القوارير قد انقطع فطالعوا الخليفة بذلك فتقدم بردها عليه وكان الذي قد قطعه الوزير عون الدين بن هبيرة وزاده إقطاعا آخر وأخباره كثيرة
وتوفي في صفر سنة ستين وخمسمائة ببغداد وقد ناهز المائة من عمره وقال ابن الأزرق الفارقي في تاريخه مات ابن التلميذ في عيد النصارى
وكان قد جمع من سائر العلوم ما لم يجتمع في غيره ولم يبق ببغداد من الجانبين من لم يحضر البيعة وشهد جنازته
وليس في هذه الترجمة ما يحتاج إلى التقييد سوى ملكان جد أوحد الزمان وهو بفتح الميم والكاف وبينهما لام ساكنة وبعد الألف نون
وقد تقدم في ترجمة ابن الجواليقي ما دار بينهما بحضرة الإمام المقتفي
قلت وبعد فراغي من ترجمة أمين الدولة ابن التلميذ المذكور وقفت على كتاب جمعه شيخنا موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف بن يوسف البغدادي وجعله سيرة لنفسه وجميعه بخطه وذكر في أوائله ابن التلميذ ووصفه بالعلم في صناعة الطب وإصابته ثم قال ومنها أنه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات وكان الزمان شتاء فأمر بتجريدها وصب عليها الماء المبرد صبا متتابعا كثيرا ثم أمر بنقلها إلى مجلس دفئ قد

76
بخر بالعود والند ودفئت بأصناف الفراء ساعة فعطست وتحركت وقعدت وخرجت ماشية مع أهلها إلى منزلها
ومنها أنه أتي مرة بمريض يعرق دما في زمن الصيف فسأل تلاميذه قدر خمسين نفسا فلم يعرفوا المرض فأمره بأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي ففعل ذلك ثلاثة أيام فبرئ وسأله أصحابه عن العلة فقال إن دمه قد رق ومسامه قد انفتحت وهذا الغذاء من شأنه تغليظ الدم وتكثيف المسام
ومن مروءته أن ظهر داره كان يلي المدرسة النظامية فإذا مرض فقيه نقله إليه وقام في مرضه عليه فإذا أبل وهب له دينارين وصرفه
(304) وذكر شيخنا موفق الدين قبل هذا أن ولد أمين الدولة المذكور كان شيخه وانتفع به وكان شيخا قد ناهز ثمانين سنة ولديه تجربة فاضلة وغوص على أسرار الطبيعة يرى الأمراض كأنها من وراء زجاج لا يعتريه فيها ولا في مداواتها شك وكان أكثر ما يصف المفردات أو ما يقل تركيبه ولم أر من يستحق اسم الطب غيره وكان يقول ينبغي للعاقل أن يختار من اللباس مالا تحسده عليه العامة ولا تحتقره فيه الخاصة وكذا كان لباسه الأبيض الرفيع
ثم قال وخنق في دهليز داره الثلث الأول من الليل وكان قد أسلم قبل موته وفي نفسي عليه حسرات رحمه الله تعالى نقلته ملخصا

77
780 هارون ابن المنجم
أبو عبد الله هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم البغدادي الأديب الفاضل وقد تقدم ذكر ولده علي في حرف العين وكان هارون المذكور حافظا راوية للأشعار حسن المنادمة لطيف المجالسة
صنف كتاب البارع في أخبار الشعراء المولدين وجمع فيه مائة وواحدا وستين شاعرا وافتتحه بذكر بشار بن برد العقيلي وختمه بمحمد بن عبد الملك ابن صالح واختار فيه من شعر كل واحد عيونه وقال في أوله إني لما عملت كتابي في أخبار الشعراء المولدين ذكرت ما اخترته من أشعارهم وتحريت في ذلك الاختيار أقصى ما بلغته معرفتي وانتهى إليه علمي والعلماء تقول دل على عاقل اختياره وقالوا اختيار الرجل من وفور عقله وقال بعضهم شعر الرجل قطعة من كلامه وظنه قطعة من عقله واختياره قطعة من علمه
وطول الكلام في هذا وذكر أن هذا الكتاب مختصر من كتاب ألفه قبل هذا في هذا الفن وأنه كان طويلا فحذف منه أشياء واقتصر على هذا القدر وبالجملة فإنه من الكتب النفيسة فإنه يغني عن دواوين الجماعة الذين ذكرهم فإنه مخض أشعارهم وأثبت منها زبدتها وترك زبدها وهذا الكتاب هو الذي ذكرته في ترجمة العماد الكاتب الأصبهاني وقلت إن كتاب الخريدة وكتاب الحظيري والباخرزي والثعالبي فروع عليه وهو الأصل الذي نسجوا على منواله
وله كتاب النساء وما جاء فيهن من الخبر ومحاسن ما قيل فيهن من الشعر

78
والكلام الحسن ولم أظفر له بشيء من الشعر حتى أورده
وذكر هو في كتابه البارع المذكور أباه أبا الحسن علي بن يحيى بن أبي منصور وسرد له مقاطيع وقد ذكرته في ترجمة مفردة في حرف العين فلينظر هناك ثم أردفه بذكر أخيه يحيى بن علي بن يحيى وعد له جملة مقاطيع أوردها ولا حاجة بنا إلى ذكرها في هذا الموضع بل نذكرها في ترجمته إن شاء الله تعالى
وتوفي أبو عبد الله المذكور سنة ثمان وثمانين ومائتين وهو حدث السن رحمه الله تعالى وسيأتي ذكر أخيه يحيى بن علي في حرف الياء إن شاء الله تعالى
وكان أبو منصور جد أبيه منجم أبي جعفر المنصور أمير المؤمنين وكان مجوسيا
(305) وكان ابنه يحيى متصلا بذي الرياستين الفضل بن سهل المقدم ذكره وكان الفضل يعمل برأيه في أحكام النجوم فلما حدثت الكائنة على الفضل حسبما ذكرناها في ترجمته صار يحيى المذكور منجم المأمون ونديمه فاجتباه واختص به ورغبه في الإسلام فأسلم على يده فصار بذلك مولاه
وهم أهل بيت منهم جماعة من الفضلاء والأدباء والشعراء وجالسوا الخلفاء ونادموهم وقد عقد لهم الثعالبي في كتاب اليتيمة بابا مستقلا وذكر فيه جماعة منهم رحمهم الله تعالى
وتوفي يحيى المذكور بحلب عند خروج المأمون إلى طرسوس ودفن بها في مقابر قريش فقبره هناك مكتوب عليه اسمه

79
781 هشام بن عروة
أبو المنذر هشام بن عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي قد تقدم ذكر أبيه في حرف العين وكان هشام أحد تابعي المدينة المشهورين المكثرين في الحديث المعدودين من أكابر العلماء وجلة التابعين وهو معدود في الطبقة الرابعة من أهل المدينة رضي الله عنهم
وسمع عمه عبد الله بن الزبير وابن عمر رضي الله عنهما ورأى جابر ابن عبد الله الأنصاري وأنس بن مالك وسهل بن سعد وقيل إنه رأى ابن عمر ولم يسمع منه وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري وسفيان الثوري ومالك ابن أنس وأيوب السختياني وابن جريج وعبيد الله بن عبد الله بن عمر والليث ابن سعد وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان ووكيع وغيرهم
وقدم الكوفة أيام أبي جعفر المنصور فسمع منه الكوفيون
وكانت ولادته سنة إحدى وستين للهجرة وقال أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن محمد الذهلي ولد عمر بن عبد العزيز وهشام بن عروة والزهري وقتادة والأعمش ليالي قتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين للهجرة
وقدم بغداد على المنصور وتوفي بها سنة ست وأربعين ومائة وقيل سنة خمس وأربعين وقيل سنة سبع رضي الله عنه وصلى عليه المنصور ودفن بمقبرة الخيزران بالجانب الشرقي وقيل

80
بل قبره بالجانب الغربي خارج السوق نحو باب قطربل وراء الخندق على مقابر باب حرب وهو ظاهر هناك معروف وعليه لوح منقوش أنه قبر هشام بن عروة ومن قال إنه بالجانب الشرقي قال إن القبر الذي بالجانب الغربي هو قبر هشام بن عروة المروزي صاحب عبد الله بن المبارك
والله أعلم
وله عقب بالمدينة وبالبصرة
وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن المنصور قال له يوما يا أبا المنذر تذكر يوم دخلت عليك أنا وإخوتي الخلائف وأنت تشرب سويقا بقصبة يراع فلما خرجنا من عندك قال لنا أبونا اعرفوا لهذا الشيخ حقه فإنه لا يزال في قومكم بقية ما بقي فقال لا أذكر ذلك يا أمير المؤمنين
فلما خرج هشام قيل له يذكرك أمير المؤمنين ما تمت به إليه فتقول لا أذكره فقال لم أكن أذكر ذلك ولم يعودني الله في الصدق إلا خيرا
وروي عنه أنه دخل على المنصور فقال يا أمير المؤمنين اقض عني ديني قال وكم دينك قال مائة ألف قال وأنت في فقهك وفضلك تأخذ دينا مائة ألف ليس عندك قضاؤها فقال يا أمير المؤمنين شب فتيان من فتياننا فأحببت أن أبوئهم وخشيت أن ينتشر علي من أمرهم ما أكره فبوأتهم واتخذت لهم منازل وأولمت عنهم ثقة بالله وبأمير المؤمنين قال فردد عليه مائة ألف استعظاما لها ثم قال قد أمرنا لك بعشرة آلاف فقال يا أمير المؤمنين أعطني ما أعطيت وأنت طيب النفس فإني سمعت أبي يحدث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال من أعطى عطية وهو بها طيب النفس بورك للمعطي وللمعطى قال فإني طيب النفس بها وأهوى إلى يد المنصور

81
يريد أن يقبلها فمنعه وقال يا ابن عروة إنا نكرمك عنها ونكرمها عن غيرك
وأخباره كثيرة رضي الله عنه
782 هشام ابن الكلبي
أبو المنذر هشام بن أبي النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو الكلبي النسابة الكوفي قد تقدم ذكر أبيه في المحمدين وما جرى له مع الفرزدق الشاعر وحدث هشام عن أبيه وروى عنه ابنه العباس وخليفة بن خياط ومحمد بن سعد كاتب الواقدي ومحمد بن أبي السري البغدادي وأبو الأشعث أحمد بن المقدام وغيرهم
وكان من أعلم الناس بعلم الأنساب وله كتاب الجمهرة في النسب وهو من محاسن الكتب في هذا الفن وكان من الحفاظ المشاهير
ذكر الخطيب في تاريخ بغداد عنه أنه دخل بغداد وحدث بها وأنه قال حفظت ما لم يحفظه أحد ونسيت ما لم ينسه أحد كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن فدخلت بيتا وحلفت أن لا أخرج منه حتى أحفظ القرآن فحفظته في ثلاثة أيام ونظرت يوما في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما دون القبضة فأخذت ما فوق القبضة
وله من التصانيف شيء كثير فمن ذلك كتاب حلف عبد المطلب وخزاعة وكتاب حلف الفضول وكتاب حلف تميم وكلب وكتاب

82
المنافرات وكتاب بيوتات قريش وكتاب فضائل قيس عيلان وكتاب الموءودات وكتاب بيوتات ربيعة وكتاب الكنى وكتاب شرف قصي وولده في الجاهلية والإسلام وكتاب ألقاب قريش وكتاب ألقاب اليمن وكتاب المثالب وكتاب النوافل وكتاب ادعاء زياد معاوية وكتاب أخبار زياد بن أبيه وكتاب صنائع قريش وكتاب المشاجرات وكتاب المعاتبات وكتاب ملوك الطوائف وكتاب ملوك كندة وكتاب افتراق ولد نزار وكتاب تفريق الأزد وكتاب طسم وجديس وتصانيفه تزيد على مائة وخمسين تصنيفا وأحسنها وأنفعها كتابه المعروف بالجمهرة في معرفة الأنساب ولم يصنف في بابه مثله وكتابه الذي سماه المنزل في النسب أيضا وهو أكبر من الجمهرة وكتاب الموجز في النسب وكتاب الفريد صنفه للمأمون في الأنساب وكتابه الملوكي صنفه لجعفر بن يحيى البرمكي في النسب أيضا
وكان واسع الرواية لأيام الناس وأخبارهم فمن روايته أنه قال اجتمعت بنو أمية عند معاوية بن أبي سفيان فعاتبوه في تفضيل عمرو بن العاص وادعاء زياد بن أبيه فتكلم معاوية ثم حرك عمرا على الكلام فقال في بعض كلامه أنا الذي أقول في يوم صفين
(إذا تخازرت وما بي من خزر
* ثم كسرت العين من غير عور)
(ألفيتني ألوى بعيد المستمر
* أحمل ما حملت من خير وشر)
(كالحية الصماء في أصل الشجر
*)

83
أما والله ما أنا بالواني ولا الفاني وإني أنا الحية الصماء التي لا يسلم سليمها ولا ينام كليمها وإني أنا المرء إن همزت كسرت وإن كويت أنضجت فمن شاء فليشاور ومن شاء فليؤامر مع أنهم والله لو عاينوا من يوم الهرير ما عاينت أو لو ولوا ما وليت لضاق عليهم المخرج ولتفاقم بهم المنهج إذ شد علينا أبو الحسن وعن يمينه وشماله المباشرون من أهل البصائر وكرام العشائر فهناك والله شخصت الأبصار وارتفع الشرار وتقلصت الخصي إلى مواضع الكلى وقارعت الأمهات عن ثكلها وذهلت عن حملها واحمرت الحدق واغبر الأفق وألجم العرق وسال العلق وثار القتام وصبر الكرام وخام اللئام وذهب الكلام وأزبدت الأشداق وكثر العناق وقامت الحرب على ساق وحضر الفراق وتضاربت الرجال بأغماد سيوفها بعد فناء من نبلها وتقصف من رماحها فلا يسمع يومئذ إلا التغمغم من الرجال والتحمحم من الخيل ووقع السيوف على الهام كأنه دق غاسل بخشبته على منصبه ندأب ذلك يوما حتى ظعن الليل بغسقه وأقبل الصبح بفلقه ثم لم يبق من القتال إلا الهرير والزئير لعلمتم أني أحسن بلاء وأعظم غناء وأصبر على اللأواء منكم وإني وإياكم كما قال الشاعر
(وأغضي على أشياء لو شئت قلتها
* ولو قلتها لم أبق للصلح موضعا)
(وإن كان عودي من نضار فإنني
* لأكرمه من أن أخاطر خروعا)
والمأثور عنه كثير
وتوفي سنة أربع ومائتين وقيل سنة ست والأول أصح والله أعلم بالصواب رحمه الله تعالى

84
783 هشام صاحب الكسائي
أبو عبد الله هشام بن معاوية الضرير النحوي الكوفي صاحب أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي أخذ عنه كثيرا من النحو وله فيه مقالة تعزى إليه وله فيه تصانيف عديدة فمن ذلك كتاب الحدود وهو صغير وكتاب المختصر وكتاب القياس وغير ذلك
وكان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب قد كلم المأمون يوما فلحن في بعض كلامه فنظر إليه المأمون ففطن لما أراد فخرج من عنده وجاء إلى هشام المذكور فتعلم عليه النحو
قال أبو مالك الكندي توفي هشام بن معاوية الضرير النحوي سنة تسع ومائتين رحمه الله تعالى

85
784 الفرزدق
أبو فراس همام وقال ابن قتيبة في طبقات الشعراء هميم بالتصغير ابن غالب وكنيته أبو الأخطل ابن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم واسمه بحر بن مالك واسمه عوف سمي بذلك لجوده ابن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر التميمي المعروف بالفرزدق الشاعر المشهور صاحب جرير
(306) كان أبوه غالب من جلة قومه وسرواتهم وأمه ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس
ولأبيه مناقب مشهورة ومحامد مأثورة فمن ذلك أنه أصاب أهل الكوفة مجاعة وهو بها فخرج أكثر الناس إلى البوادي فكان هو رئيس قومه وكان سحيم بن وثيل الرياحي رئيس قومه واجتمعوا بمكان يقال له صوأر في أطراف السماوة من بلاد كلب على مسيرة يوم من الكوفة وهو بفتح الصاد المهملة وسكون الواو وفتح الهمزة وبعدها راء فعقر غالب لأهله ناقة وصنع منها طعاما وأهدى إلى قوم من بني تميم لهم جلالة جفانا من ثريد ووجه إلى سحيم جفنة فكفأها وضرب الذي أتاه بها وقال أنا مفتقر إلى طعام غالب إذا نحر هو ناقة نحرت أنا أخرى فوقعت المنافرة بينهما وعقر سحيم لأهله ناقة فلما كان من الغد عقر لهم غالب ناقتين فعقر سحيم لأهله ناقتين

86
فلما كان اليوم الثالث عقر غالب ثلاثا فعقر سحيم ثلاثا فلما كان اليوم الرابع عقر غالب مائة ناقة فلم يكن عند سحيم هذا القدر فلم يعقر شيئا وأسرها في نفسه
فلما انقضت المجاعة ودخل الناس الكوفة قال بنو رياح لسحيم جررت علينا عار الدهر هلا نحرت مثل ما نحر وكنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين فاعتذر بأن إبله كانت غائبة وعقر ثلاثمائة ناقة وقال للناس شأنكم والأكل وكان ذلك في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فاستفتي في حل الأكل منها فقضى بحرمتها وقال هذه ذبحت لغير مأكلة ولم يكن المقصود منها إلا المفاخرة والمباهاة فألقيت لحومها على كناسة الكوفة فأكلتها الكلاب والعقبان والرخم وهي قصة مشهورة وعمل فيها الشعراء أشعارا كثيرة
فمن ذلك قول جرير يهجو الفرزدق وهو بيت تستشهد به النحاة في كتبهم وهو من جملة قصيدة
(تعدون عقر النيب أفضل مجدكم
* بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا)
ومن ذلك قول المحل أخي بني قطن بن نهشل
(وقد سرني أن لا تعد مجاشع
* من المجد إلا عقر ناب بصوأر)
وكان غالب المذكور أعور
(307) وسحيم المذكور هو ابن وثيل بن عمرو بن جوين بن وهيب بن حميري الشاعر الذي يقول
(أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
* متى أضع العمامة تعرفوني)

87
وهذا البيت من جملة أبيات وله ديوان شعر صغير
والوثيل الرشاء الضعيف وقيل الليف
وكان الفرزدق كثير التعظيم لقبر أبيه فما جاءه أحد واستجار به إلا نهض معه وساعده على بلوغ غرضه
فمن ذلك ما حكاه المبرد في كتاب الكامل أن الحجاج بن يوسف الثقفي لما ولى تميم بن زيد القيني بلاد السند دخل البصرة فجعل يخرج من أهلها من شاء فجاءت عجوز إلى الفرزدق فقالت إني استجرت بقبر أبيك وأتت منه بحصيات فقال ما شأنك قالت إن تميم ابن زيد خرج بابن لي معه ولا قرة لعيني ولا كاسب علي غيره فقال لها وما اسم ابنك فقالت خنيس فكتب إلى تميم مع بعض من شخص
(تميم بن زيد لا تكونن حاجتي
* بظهر فلا يعيا علي جوابها)
(وهب لي خنيسا واحتسب فيه منة
* لعبرة أم ما يسوغ شرابها)
(أتتني فعاذت يا تميم بغالب
* وبالحفرة السافي عليها ترابها)
(وقد علم الأقوام أنك ماجد
* وليث إذا ما الحرب شب شهابها)
فلما ورد الكتاب على تميم تشكك في الاسم فلم يعرف أخنيس أم حبيش
ثم قال انظروا من له مثل هذا الاسم في عسكرنا فأصيب ستة ما بين خنيس وحبيش فوجه بهم إليه
وحضر يوما الفرزدق ونصيب الشاعر المشهور عند سليمان بن عبد الملك الأموي وهو يومئذ خليفة فقال سليمان للفرزدق أنشدني شيئا وإنما أراد سليمان أن ينشده مدحا له فأنشده في مدح أبيه
(وركب كأن الريح تطلب عندهم
* لها ترة من جذبها بالعصائب)
(سروا يخبطون الريح وهي تلفهم
* إلى شعب الأكوار ذات الحقائب)
(إذا آنسوا نارا يقولون إنها
* وقد خصرت أيديهم نار غالب)

88
فأعرض سليمان عنه كالمغضب فقال نصيب يا أمير المؤمنين ألا أنشدك في رويها ما لعله لا يتضع عنها قال هات فأنشده
(أقول لركب صادرين لقيتهم
* قفا ذات أوشال ومولاك قارب)
(قفوا خبروني عن سليمان إنني
* لمعروفه من أهل ودان طالب)
(فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله
* ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب)
فقال سليمان للفرزدق كيف تراه فقال هو أشعر أهل جلدته ثم قام وهو يقول
(وخير الشعر أشرفه رجالا
* وشر الشعر ما قال العبيد)
(308) وكان نصيب عبدا أسود لرجل من أهل وادي القرى فكاتب على نفسه ومدح عبد العزيز بن مروان فاشترى ولاءه وكنيته أبو الحجناء وقيل أبو محجن
وللفرزدق في مفاخر أبيه أشياء كثيرة
(309) وأما جده صعصعة بن ناجية فإنه كان عظيم القدر في الجاهلية واشترى ثلاثين موءودة منهن بنت لقيس بن عاصم المنقري وفي ذلك يقول الفرزدق يفتخر به
(وجدي الذي منع الوائدات
* وأحيا الوئيد فلم يوأد)
وهو أول من أسلم من أجداد الفرزدق وقد ذكره في كتاب الاستيعاب في جملة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
وقد اختلف العلماء أهل المعرفة بالشعر في الفرزدق وجرير والمفاضلة بينهما والأكثرون على أن جريرا أشعر منه وكان بينهما من المهاجاة والمعاداة ما هو

89
مشهور وقد جمع لهما كتاب يسمى النقائض وهو من الكتب المشهورة
وكان جرير قد هجاه بقصيدته الرائية التي من جملتها
(وكنت إذا حللت بدار قوم
* ظعنت بخزية وتركت عارا)
فاتفق بعد ذلك أن الفرزدق نزل بامرأة من أهل المدينة وجرى له معها قضية يطول شرحها
وخلاصة الأمر أنه راودها عن نفسها بعد أن كانت قد أضافته وأحسنت إليه فامتنعت عليه فبلغ الخبرعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يومئذ والي المدينة فأمر بإخراجه من المدينة فلما أخرج وأركبوه ناقته ليسفروه قال قاتل الله ابن المراغة يعني جريرا كأنه شاهد هذا الحال حيث قال وكنت إذا حللت بدار قوم... وأنشد البيت المذكور
وشهد الفرزدق عند بعض القضاة شهادة فقال له قد أجزنا شهادتك ثم قال لأصحاب القضية زيدونا في الشهود فقيل للفرزدق حين انفصل عن مجلس القاضي إنه لم يجز شهادتك فقال وما يمنعه من ذلك وقد قذفت ألف محصنة
ومن شعره المشهور قوله وهو مقيم بالمدينة
(هما دلتاني من ثمانين قامة
* كما انقض باز أقتم الريش كاسره)
(فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا
* أحي فيرجى أم قتيل نحاذره)
(فقلت ارفعا الأسباب لا يشعروا بنا
* وأقبلت في أعجاز ليل أبادره)
(أحاذر بوابين قد وكلا بنا
* وأسود من ساج تصر مسامره)
فلما بلغت جريرا الأبيات عمل من جملة قصيدة طويلة
(لقد ولدت أم الفرزدق فاجرا
* فجاءت بوزواز قصير القوادم)

90
(يوصل حبليه إذا جن ليله
* ليرقى إلى جاراته بالسلالم)
(تدليت تزني من ثمانين قامة
* وقصرت عن باع العلا والمكارم)
(هو الرجس يا أهل المدينة فاحذروا
* مداخل رجس بالخبيثات عالم)
(لقد كان إخراج الفرزدق عنكم
* طهورا لما بين المصلى وواقم)
فلما وقف الفرزدق على هذه القصيدة جاوبه بقصيدة طويلة يقول في جملتها
(وإن حراما أن أسب مقاعسا
* بآبائي الشم الكرام الخضارم)
(ولكن نصفا لو سببت وسبني
* بنو عبد شمس من مناف وهاشم)
(أولئك أمثالي فجئني بمثلهم
* وأعبد أن أهجو كليبا بدارم)
ولما سمع أهل المدينة أبيات الفرزدق المذكورة أولا اجتمعوا وجاءوا إلى مروان بن الحكم الأموي وكان يومئذ والي المدينة من قبل معاوية بن أبي سفيان الأموي فقالوا له ما يصلح أن يقال مثل هذا الشعر بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجب على نفسه الحد فقال مروان لست أحده أنا ولكن أكتب إلى من يحده ثم أمره بالخروج من المدينة وأجله ثلاثة أيام وفي ذلك يقول الفرزدق
(توعدني وأجلني ثلاثا
* كما وعدت لمهلكها ثمود)
ثم كتب مروان إلى عامله يأمره فيه أن يحده ويسجنه وأوهمه أنه قد كتب له بجائزة ثم ندم مروان على ما فعل فوجه عنه سفيرا وقال إني قلت شعرا فاسمعه ثم أنشده
(قل للفرزدق والسفاهة كاسمها
* إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس)

91
(ودع المدينة إنها مرهوبة
* واقصد لمكة أو لبيت المقدس)
(وإذا اجتنيت من الأمور عظيمة
* فخذن لنفسك بالزماع الأكيس)
قوله فاجلس أي اقصد الجلساء وهي نجد وسميت بذلك لارتفاعها لأن الجلوس في اللغة هو الارتفاع ولما وقف الفرزدق على الأبيات فطن لما أراد مروان فرمى الصحيفة وقال
(يا مرو إن مطيي محبوسة
* ترجو الحباء وربها لم ييأس)
(وحبوتني بصحيفة مختومة
* يخشى على بها حباء النقرس)
(ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن
* نكدا كمثل صحيفة المتلمس)
وإذ ذكرنا صحيفة المتلمس فقد يتشوف الواقف على هذا الكتاب أن يعلم قصتها
(310) ومن خبرها أن المتلمس واسمه جرير بن عبد المسيح بن عبد الله ابن زيد بن دوفن بن حرب بن وهب بن جلى بن أحمس بن ضبيعة الأضجم ابن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وإنما لقب بالمتلمس لقوله من جملة قصيدة
(فهذا أوان العرض حي ذبابه
* زنابيره والأزرق المتلمس)
وهو بضم الميم وفتح التاء المثناة من فوقها واللام وكسر الميم الثانية وتشديدها وبعدها سين مهملة كان قد هجا عمرو بن هند اللخمي ملك الحيرة وهجاه أيضا طرفة بن العبد البكري الشاعر المشهور وهو ابن أخت المتلمس المذكور فاتصل

92
هجوهما بعمرو بن هند المذكور فلم يظهر لهما شيئا من التغير ثم مدحاه بعد ذلك فكتب لكل واحد منهما كتابا إلى عامله بالحيرة وأمره بقتلهما إذا وصلا إليه وأوهمهما أنه قد كتب لهما بصلة فلما وصلا إلى الحيرة قال المتلمس لطرفة كل واحد منا قد هجا الملك ولو أراد أن يعطينا لأعطانا ولم يكتب لنا إلى الحيرة فهلم ندفع كتبنا إلى من يقرؤها فإن كان فيها خير دخلنا الحيرة وإن كان فيها شر فررنا قبل أن يعلم بمكاننا فقال طرفة بن العبد ما كنت لأفتح كتاب الملك فقال المتلمس والله لأفتحن كتابي ولأعلمن ما فيه ولا أكون كمن يحمل حتفه بيده فنظر المتلمس فإذا غلام قد خرج من الحيرة فقال له أتقرأ يا غلام فقال نعم فقال هلم فاقرأ هذا الكتاب
فلما نظر إليه الغلام قال ثكلت المتلمس أمه فقال لطرفة افتح كتابك فما فيه إلا مثل ما في كتابي فقال إن كان اجترأ عليك فلم يكن ليجترئ علي ويوغر صدور قومي بقتلي
فألقى المتلمس صحيفته في نهر الحيرة وفر إلى الشام ودخل طرفة الحيرة فقتل وقصته في ذلك مشهورة فصار يضرب المثل بصحيفة المتلمس لكل من قرأ صحيفة فيها قتله وإلى هذا أشار الحريري في المقامة العاشرة بقوله ففضضتها فعل المتلمس من مثل صحيفة المتلمس
وللأبله الشاعر المقدم ذكره في المحمدين قصيدة يقول فيها
(يقرا المتيم من صحيفة خده
* في الهجر مثل صحيفة المتلمس)
رجعنا إلى تتمة خبر الفرزدق ثم خرج هاربا حتى أتى سعيد بن العاص الأموي وعنده الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم فأخبرهم الخبر فأمر له كل واحد منهم

93
بمائة دينار وراحلة وتوجه إلى البصرة
وقيل لمروان أخطأت فيما فعلت فإنك عرضت عرضك لشاعر مضر فوجه وراءه رسولا ومعه مائة دينار وراحلة خوفا من هجائه
ومن أخبار الفرزدق أنه حكى أنه نزل في بعض أسفاره في بادية وأوقد نارا فرآها ذئب فأتاه فأطعمه من زاده وأنشد
(وأطلس عسال وما كان صاحبا
* دعوت بناري موهنا فأتاني)
(فلما أتى قلت ادن دونك إنني
* وإياك في زادي لمشتركان)
(فبت أقد الزاد بيني وبينه
* على ضوء نار مرة ودخان)
(وقلت له لما تكشر ضاحكا
* وقائم سيفي في يدي بمكان)
(تعش فإن عاهدتني لا تخونني
* نكن مثل من يا ذئب يصطحبان)
(وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما
* أخيين كانا أرضعا بلبان)
(ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى
* رماك بسهم أو شباة سنان)
وكان قد أنشد سليمان بن عبد الملك الأموي قصيدة ميمية فلما انتهى منها إلى قوله
(ثلاث واثنتان فهن خمس
* وسادسة تميل إلى شمام)
(فبتن بجانبي مصرعات
* وبت أفض أغلاق الختام)
(كأن مفالق الرمان فيه
* وجمر غضا قعدن عليه حام)
فقال له سليمان قد أقررت عندي بالزنا وأنا إمام ولا بد من إقامة الحد عليك فقال الفرزدق ومن أين أوجبت علي يا أمير المؤمنين فقال بقول الله تعالى * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * النور 2

94
فقال الفرزدق إن كتاب الله يدرؤه عني بقوله تعالى * (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) * الشعراء 224 فأنا قلت ما لم أفعل فتبسم سليمان وقال أولى لك
وتنسب إليه مكرمة يرجى له بها الجنة وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه فطاف وجهد أن يصل إلى الحجر ليستلمه فلم يقدر عليه لكثرة الزحام فنصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان أهل الشام فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وقد تقدم ذكره وكان من أحسن الناس وجها وأطيبهم أرجا فطاف بالبيت فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم فقال رجل من أهل الشام من هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة فقال هشام لا أعرفه مخافة أن يرغب فيه أهل الشام وكان الفرزدق حاضرا فقال أنا أعرفه فقال الشامي من هذا يا أبا فراس فقال
(هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
* والبيت يعرفه والحل والحرم)
(هذا ابن خير عباد الله كلهم
* هذا التقي النقي الطاهر العلم)
(إذا رأته قريش قال قائلها
* إلى مكارم هذا ينتهي الكرم)
(ينمى إلى ذروة العز التي قصرت
* عن نيلها عرب الإسلام والعجم)
(يكاد يمسكه عرفان راحته
* ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم)
(في كفه خيزران ريحه عبق
* من كف أروع في عرنينه شمم)
(يغضي حياء ويغضى من مهابته
* فما يكلم إلا حين يبتسم)

95
(ينشق نور الهدى عن نور غرته
* كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم)
(مشتقة من رسول الله نبعته
* طابت عناصره والخيم والشيم)
(هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله
* بجده أنبياء الله قد ختموا)
(الله شرفه قدما وعظمه
* جرى بذاك له في لوحه القلم)
(فليس قولك من هذا بضائره
* العرب تعرف من أنكرت والعجم)
(كلتا يديه غياث عم نفعهما
* تستوكفان ولا يعروهما عدم)
(سهل الخليقة لا تخشى بوادره
* يزينه اثنان حسن الخلق والشيم)
(حمال أثقال أقوام إذا فدحوا
* حلو الشمائل تحلو عنده نعم)
(ما قال لا قط إلا في تشهده
* لولا التشهد كانت لاءه نعم)
(لا يخلف الوعد مأمون نقيبته
* رحب الفناء أريب حين يعتزم)
(عم البرية بالإحسان فانقشعت
* عنها الغياية والإملاق والعدم)
(من معشر حبهم دين وبغضهم
* كفر وقربهم منجى ومعتصم)
(إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم
* أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم)
(لا يستطيع جواد بعد غايتهم
* ولا يدانيهم قوم وإن كرموا)
(هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت
* والأسد أسد الشرى والبأس محتدم)
(لا ينقص العسر بسطا من أكفهم
* سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا)
(مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
* في كل بدء ومختوم به الكلم)
(يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم
* خيم كريم وأيد بالندى هضم)
(أي الخلائق ليست في رقابهم
* لأولية هذا أو له نعم)
(من يعرف الله يعرف أولية ذا
* والدين من بيت هذا ناله الأمم)

96
فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق وأنفذ له زين العابدين اثني عشر ألف درهم فردها وقال مدحته لله تعالى لا للعطاء فقال إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده فقبلها
وقال محمد بن حبيب المقدم ذكره صعد الوليد بن عبد الملك المنبر فسمع صوت ناقوس فقال ما هذا قيل البيعة فأمر بهدمها وتولى بعض ذلك بيده فتتابع الناس يهدمون فكتب إليه الأخرم ملك الروم إن هذه البيعة قد أقرها من كان قبلك فإن يكونوا أصابوا فقد أخطأت وإن تكن أصبت فقد أخطأوا فقال من يجيبه فقال الفرزدق تكتب إليه * (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) * الأنبياء 78
وأخبار الفرزدق كثيرة والاختصار أولى
وتوفي بالبصرة سنة عشر ومائة قبل جرير بأربعين يوما وقيل بثمانين يوما وقال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب شذور العقود إنهما توفيا سنة إحدى عشرة ومائة
وقال السكري إن الفرزدق لقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتوفي سنة عشر وقيل اثنتي عشرة وقيل أربع عشرة ومائة
وقال ابن قتيبة في طبقات الشعراء إن الفرزدق أصابته الدبيلة فقدم به البصرة وأتى الطبيب فسقاه قارا أبيض فجعل يقول أتعجلون لي القار وأنا في الدنيا ومات وقد قارب المائة والله أعلم
وقد سبق في ترجمة جرير ما قاله جرير لما بلغه وفاة الفرزدق فأغنى عن الإعادة رحمهما الله تعالى
وذكر المبرد في كتاب الكامل قال التقى الحسن البصري والفرزدق

97
في جنازة فقال الفرزدق للحسن أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس قال الحسن كلا لست بخيرهم ولست بشرهم ولكن ما أعددت لهذا اليوم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مذ ستون سنة
فيزعم بعض التميمية أن الفرزدق رؤي في المنام فقيل له ما صنع بك ربك فقال غفر لي فقيل بأي شيء فقال بالكلمة التي نازعتها الحسن
وهمام بفتح الهاء وتشديد الميم الأولى
وناجية بالنون والجيم المكسورة وبعدها ياء مثناة من تحتها
وعقال بكسر العين المهملة وفتح القاف
ومحمد بن سفيان هو أحد الثلاثة الذين سموا بمحمد في الجاهلية وذكرهم ابن قتيبة في كتاب المعارف
وقال السهيلي في كتاب الروض الأنف لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وبقرب زمانه وأنه يبعث في الحجاز أن يكون ولدا لهم ذكرهم ابن فورك في كتاب الفصول وهم محمد بن سفيان بن مجاشع جد جد الفرزدق الشاعر والآخر محمد بن أحيحة بن الجلاح وهو أخو عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمه والآخر محمد بن حمران من ربيعة وكان آباء هؤلاء قد وفدوا على بعض الملوك وكان عنده علم الكتاب الأول فأخبرهم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وباسمه وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملا فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر أن يسميه محمدا ففعلوا ذلك
وأما مجاشع فهو بضم الميم وفتح الجيم وبعد الألف شين معجمة مكسورة ثم عين مهملة

98
ودارم بفتح الدال المهملة وبعد الألف راء مكسورة وبعدها ميم
وبقية النسب معروف
والفرزدق بفتح الفاء والراء وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وبعدها قاف وهو لقب عليه
واختلف كلام ابن قتيبة في تلقيبه به فقال في أدب الكاتب الفرزدق قطع العجين واحدتها فرزدقة وإنما لقب به لأنه كان جهم الوجه وقال في كتاب طبقات الشعراء إنما لقب بالفرزدق لغلظه وقصره شبه بالفتيتة التي تشربها النساء وهي الفرزدقة
والقول الأول أصح لأنه كان أصابه جدري في وجهه ثم برأ منه فبقي وجهه جهما متغضنا ويروى أن رجلا قال له يا أبا فراس كأن وجهك أحراح مجموعة فقال له تأمل هل ترى فيها حر أمك
والأحراح بحاءين مهملتين جمع حرح وهو الفرج فحذفت في المفرد حاؤه الثانية فبقي حرا ومتى جمع عادت الحاء الثانية فقالوا أحراح لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها
وكانت زوجة الفرزدق ابنة عمه وهي النوار بفتح النون ابنة أعين ابن ضبيعة بن عقال المجاشعي وجدها ضبيعة هو الذي عقر الجمل الذي كانت عليه عائشة أم المؤمنين يوم وقعة الجمل رضي الله عنها وكان قد خطبها يعني النوار رجل من قريش فبعثت إلى الفرزدق تسأله أن يكون وليها إذ كان ابن عمها فقال إن بالشام من هو أقرب مني إليك وما أنا آمن أن يقدم قادم منهم فينكر ذلك علي فأشهدي أنك قد جعلت أمرك إلي ففعلت فخرج الشهود وقال لهم قد أشهدتكم أنها جعلت أمرها لي وأنا أشهدكم أني قد تزوجتها على مائة ناقة حمراء سود الحدق فغضبت من ذلك واستعدت عليه وخرجت إلى عبد الله بن الزبير وأمر الحجاز والعراق يومئذ إليه وخرج الفرزدق أيضا فأما النوار فنزلت على خولة بنت منظور بن زبان

99
الفزاري امرأة عبد الله بن الزبير فرققتها وسألتها الشفاعة لها
وأما الفرزدق فنزل على حمزة بن عبد الله بن الزبير وهو ابن خولة المذكورة ومدحه فوعده الشفاعة فتكلمت خولة في النوار وتكلم حمزة في الفرزدق فأنجحت خولة وأمر عبد الله بن الزبير أن لا يقربها حتى يصيرا إلى البصرة فيحتكما إلى عامله عليها فخرجا وقال الفرزدق في ذلك
(أما بنوه فلم تنجح شفاعتهم
* وشفعت بنت منظور بن زبانا)
(ليس الشفيع الذي يأتيك متزرا
* مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا)
ثم إن الفرزدق اتفق معها وبقي زمانا لا يولد له ولد ثم ولد له بعد ذلك عدة أولاد وهم لبطة وسبطة وحبطة وركضة وزمعة وكلهم من النوار وليس لواحد من ولده عقب إلا من النساء
وقال ابن خالويه ومن أولاد الفرزدق كلطة وجلطة والله أعلم
ثم إن الفرزدق طلق النوار لأمر يطول شرحه فندم على ذلك
وله فيها أشعار فمنها قوله
(ندمت ندامة الكسعي لما
* غدت مني مطلقة نوار)
(وكانت جنتي فخرجت منها
* كآدم حين أخرجه الضرار)
وله في ذلك أخبار ونوادر يطول شرحها وليس هذا موضع استيفائه ومات للفرزدق ابن صغير فصلى عليه ثم التفت إلى الناس فقال
(وما نحن إلا مثلهم غير أننا
* أقمنا قليلا بعدهم وترحلوا)
فمات بعد ذلك بأيام قلائل

100
785 هلال ابن المحسن الصابىء
أبو الحسن هلال بن المحسن بن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال بن إبراهيم ابن زهرون بن حيون الصابىء الحراني الكاتب هو حفيد أبي إسحاق الصابىء صاحب الرسائل المشهورة وقد سبق ذكر جده في حرف الهمزة سمع هلال المذكور أبا علي الفارسي النحوي المقدم ذكره وعلي بن عيسى الرماني المقدم ذكره أيضا وأبا بكر أحمد بن محمد بن الجراح الخراز وغيرهم
وذكره الخطيب في تاريخ بغداد وقال كتبنا عنه وكان صدوقا وكان أبوه المحسن صابئيا على دين جده إبراهيم فأسلم هلال المذكور في آخر عمره وسمع من العلماء في حال كفره لأنه كان يطلب الأدب
ورأيت له تصنيفا جمع فيه حكايات مستملحة وأخبارا نادرة وسماه كتاب الأماثل والأعيان ومنتدى العواطف والإحسان وهو مجلد واحد ولا أعلم هل صنف سواه أم لا
(311) وكان ولده غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال المذكور ذا فضائل جمة وتآليف نافعة منها التاريخ الكبير المشهور ومنها الكتاب الذي سماه الهفوات النادرة من المغفلين الملحوظين والسقطات الباردة من المغفلين المحظوظين جمع فيه كثيرا من الحكايات التي تتعلق بهذا الباب فمما نقلته منه أن عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه وهو عم السفاح

101
وأبي جعفر المنصور أنفذ إلى ابن أخيه السفاح في أول ولايتهم مشيخة من أهل الشام يطرفه بعقولهم واعتقادهم وأنهم حلفوا أنهم ما علموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة يرثونه غير بني أمية حتى وليتم أنتم
ونقلت منه أيضا حكاية وإن كانت سخيفة لكنها ظريفة ولا بد في المجاميع من الإحماض ومزج الهزل بالجد والحكاية المذكورة هي أن أبا سعيد ماهك ابن بندار المجوسي الرازي كان من كبار كتاب الديلم المشهور تجلفهم الشائعة فيه أخبارهم وكان يكتب لعلي بن سامان أحد قواد الديلم فأراد الوزير أبو محمد المهلبي أن ينفذ ماهك في بعض الخدم فقال له وقد أراد الخروج من عنده يا أبا سعيد لا تبرح من الدار حتى أوقفك على شيء أريده معك فقال السمع والطاعة لأمر سيدنا الوزير ونهض من بين يديه فقال الوزير هذا رجل مجنون وربما طال بي الشغل وضاق صدره فانصرف فتقدموا إلى البواب أن لا يدعه يخرج من الباب فجلس ماهك طويلا وأراد دخول الخلاء فقام يطلب ذلك فرأى الأخلية مقفلة وكان قد تقدم الوزير بذلك وقال كانت دار أبي جعفر الصيمري منتنة الرائحة لأجل خلاء كان بها لعامة الناس
فوجد ماهك الخلاء الخاص غير مقفل وعليه ستر مسبل فرفع الستر ليدخل فجاء الفراش فمنعه ودفعه فقال يا هذا أليس هذا خلاء فقال بلى فقال أريد أن أعمل فيه حاجتي فلم تمنعني قال هذا خلاء خاص لا يدخله غير الوزير قال فبقية الأخلية مقفلة فكيف أعمل وقد جئت أخرج فمنعني البواب فأخرى في ثيابي فقال الفراش استأذن في دخول الخلاء ليتقدم لك بذلك ويفتح لك أحد الأخلية فتقضي حاجتك فاشتد به الأمر فكتب إلى الوزير رقعة وقال فيها قد احتاج عبد سيدنا الوزير ماهك إلى بعض ما يحتاج إليه الناس

102
ولا يحسن ذكره والفراش يقول لا تدخل والبواب يقول لا تخرج وقد تحير العبد في البين والأمر في الشدة فإن رأى سيدنا الوزير أن يفسح لعبده بأن يعمل ما يحتاج إليه في خلائه فعل إن شاء الله تعالى والسلام
ودفع الرقعة إلى بعض الحجاب فأوصلها إلى الوزير فلم يعلم ما أراد بالرقعة فاستعلم ما الصورة فعرف بها فضحك واستلقى على ظهره ووقع على ظهر الرقعة يخرى أبو سعيد أعزه الله بحيث يختار إن شاء الله تعالى
فجاءه الحاجب بها فأخذه ودفعه إلى الفراش وقال هذا ما طلبت وهو توقيع سيدنا الوزير فقال الفراش التوقيعات يقرؤها أبو العلاء ابن أبرونا كاتب ديوان الدار وأنا لا
أحسن أن أكتب ولا أقرأ فصاح ماهك في الدار هات من يقرأ في الدار صك الخرا فضحك فراش آخر وأخذ بيده وحمله إلى بعض الحجر حتى قضى حاجته
ونقلت من هذا الكتاب أيضا أن أرطأة بن سهية دخل على عبد الملك ابن مروان وكان قد أدرك الجاهلية والإسلام فرآه عبد الملك شيخا كبيرا فاستنشده ما قاله في طول عمره فأنشده
(رأيت المرء تأكله الليالي
* كأكل الأرض ساقطة الحديد)
(وما تبغي المنية حين تأتي
* على نفس ابن آدم من مزيد)
(واعلم أنها ستكر حتى
* توفي نذرها بأبي الوليد)
فارتاع عبد الملك وظن أنه عناه لأنه كان يكنى أبا الوليد وعلم أرطأة بسهوه وزلته فقال يا أمير المؤمنين إني أكنى بأبي الوليد وصدقه الحاضرون فسري عن عبد الملك قليلا

103
ونقلت منه أيضا أن أبا العلاء صاعد بن مخلد كاتب الموفق قرأ على الموفق كتابا فلم يفهم معناه وقرأه الموفق ففهمه فقال فيه عيسى بن القاشي
(أرى الدهر يمنع من جانبه
* ويهدي الحظوظ إلى عائبه)
(وكم طالب سببا مجلبا
* فأعيا عناه على طالبه)
(ومن عجب الدهر أن الأمير
* أصبح أكتب من كاتبه)
والموفق المذكور هو ابن أحمد طلحة بن المتوكل وهو والد المعتضد الخليفة العباسي
ونقلت منه أيضا أن أعرابيا شهد الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال الأعرابي فصاح به صائح من خلفه يا خليفة رسول الله ثم قال يا أمير المؤمنين فقال رجل من خلفي دعاه باسم ميت مات والله أمير المؤمنين فالتفت إليه فإذا هو رجل من بني لهب بكسر اللام وهم من بني النضر ابن الأزد وهم أزجر قوم وقد أشار كثير عزة إلى ذلك في قوله
(سألت أخا لهب ليزجر زجره
* وقد صار زجر العالمين إلى لهب)
قال الأعرابي فلما وقفنا لرمي الجمار إذا حصاة قد صكت صلعة عمر رضي الله عنه فأدمته فقال قائل أشعر والله أمير المؤمنين والله لا يقف هذا الموقف بعدها فالتفت إليه فإذا هو اللهبي بعينه فقتل عمر رضي الله عنه قبل الحول

104
وهذه الحكاية في كتاب الكامل أيضا
وقوله دعاه باسم ميت إنما قال ذلك لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يقال له خليفة رسول الله فلما توفي وتولى عمر رضي الله عنه قيل له خليفة خليفة رسول الله فقال للصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين هذا أمر يطول شرحه فإن كل من يتولى يقال له خليفة من كان قبله حتى يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أنتم المؤمنون وأنا أميركم فقيل له يا أمير المؤمنين فهو أول من دعي بهذا الاسم وكان لفظ الخليفة مختصا بأبي بكر الصديق رضي الله عنه فلهذا قال دعاه باسم ميت
وذكر عمر بن شبة المقدم ذكره في أخبار البصرة عن الشعبي أن أول من دعا لعمر رضي الله عنه على المنبر أبو موسى الأشعري بالبصرة وهو أول من كتب لعبد الله أمير المؤمنين فقال عمر إني لعبد الله وإني لعمر وإني لأمير المؤمنين
وقال عوانة أول من سماه أمير المؤمنين عدي بن حاتم الطائي وأول من سلم عليه بها المغيرة بن شعبة
وقال غيره جلس عمر يوما فقال والله ما ندري كيف نقول أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا خليفة أبي بكر فأنا خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن جاء بعدي يقال له خليفة خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل اسم قالوا الأمير قال كلكم أمير قال المغيرة نحن المؤمنون وأنت أميرنا فأنت أمير المؤمنين قال فأنا أمير المؤمنين والله أعلم وقد خرجنا عن المقصود
وكانت ولادة هلال المذكور في شوال سنة تسع وخمسين وثلاثمائة
وتوفي ليلة الخميس سابع عشر شهر رمضان سنة ثمان وأربعين وأربعمائة رحمه الله تعالى

105
786 الهيثم بن عدي
أبو عبد الرحمن الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن بن زيد بن أسيد بن جابر ابن عدي بن خالد بن خيثم بن أبي حارثة بن جدي بن تدول بن بحتر بن عتود بن عنين بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن جلهمة وهو طيء الطائي الثعلي البحتري الكوفي كان راوية أخباريا نقل من كلام العرب وعلومها وأشعارها ولغاتها الكثير وكان أبوه نازلا بواسط وكان خيرا
وكان الهيثم يتعرض لمعرفة أصول الناس ونقل أخبارهم فأورد معايبهم وأظهرها وكانت مستورة فكره لذلك ونقل عنه أنه ذكر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بشيء فحبس لذلك عدة سنين ويقال إنه نقل عنه زورا ولبسوا عليه ما لم يقله وكان قد صاهر قوما فلم يرضوه فأذاعوا ذلك عنه وحرفوا الكلام
وكان يرى رأي الخوارج
وله من الكتب المصنفة كتاب المثالب وكتاب المعمرين وكتاب بيوتات العرب وكتاب بيوتات قريش وكتاب هبوط آدم عليه السلام وافتراق العرب ونزولها منازلها وكتاب نزول العرب بخراسان والسواد وكتاب نسب طي وكتاب مديح أهل الشام وكتاب تاريخ العجم وبني أمية وكتاب من تزوج من الموالي في العرب وكتاب الوفود وكتاب

106
خطط الكوفة وكتاب ولاة الكوفة وكتاب تاريخ الأشراف الكبير وكتاب تاريخ الأشراف الصغير وكتاب طبقات الفقهاء والمحدثين وكتاب كنى الأشراف وكتاب خواتيم الخلفاء وكتاب قضاة الكوفة والبصرة وكتاب المواسم وكتاب الخوارج وكتاب النوادر وكتاب التاريخ على السنين وكتاب أخبار الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ووفاته وكتاب أخبار الفرس وكتاب عمال الشرط لأمراء العراق وغير ذلك من التصانيف
واختص بمجالسة المنصور والمهدي والهادي والرشيد وروى عنهم
قال الهيثم قال لي المهدي ويحك يا هيثم إن الناس يخبرون عن الأعراب شحا ولؤما وكرما وسماحا وقد اختلفوا في ذلك فما عندك فقلت على الخبير سقطت خرجت من عند أهلي أريد ديار فرائد لي ومعي ناقة أركبها إذ ندت فذهبت فجعلت أتبعها حتى أمسيت فأدركتها ونظرت فإذا خيمة أعرابي فأتيتها فقالت ربة الخباء من أنت فقلت ضيف فقالت وما يصنع الضيف عندنا إن الصحراء لواسعة ثم قامت إلى بر فطحنته ثم عجنته وخبزته وقعدت فأكلت ولم ألبث أن أقبل زوجها ومعه لبن فسلم ثم قال من الرجل فقلت ضيف فقال مرحبا حياك الله فدخل الخباء وملأ قعبا من لبن ثم أتاني به وقال اشرب فشربت شرابا هنيئا فقال ما أراك أكلت شيئا وما أراها أطعمتك فقلت لا والله فدخل إليها مغضبا وقال ويلك أكلت وتركت ضيفك فقالت وما أصنع به أطعمه طعامي وجاراها في الكلام حتى شجها ثم أخذ شفرة وخرج إلى ناقتي فنحرها فقلت ما صنعت عافاك الله فقال لا والله ما يبيت ضيفي جائعا ثم جمع حطبا وأجج نارا وأقبل يكبب ويطعمني ويأكل ويلقي إليها ويقول كلي لا أطعمك الله حتى إذا أصبح تركني ومضى فقعدت مغموما فلما تعالى النهار أقبل ومعه بعير ما يسأم الناظر أن ينظر إليه فقال هذا مكان ناقتك ثم زودني من ذلك اللحم

107
ومما حضره وخرجت من عنده فضمني الليل إلى خباء فسلمت فردت صاحبة الخباء السلام وقالت من الرجل فقلت ضيف فقالت مرحبا بك حياك الله وعافاك فنزلت ثم عمدت إلى بر فطحنته وعجنته ثم خبزته خبزة روتها بالزبد واللبن ثم وضعته بين يدي فقالت كل واعذر فلم ألبث أن أقبل أعرابي كريه الوجه فسلم فرددت عليه السلام فقال من الرجل قلت ضيف قال وما يصنع الضيف عندنا ثم دخل إلى أهله فقال أين طعامي فقالت أطعمته الضيف فقال أتطعمين الضيف طعامي فتجاريا الكلام فرفع عصاه وضرب بها رأسها فشجها فجعلت أضحك فخرج إلي فقال ما يضحكك قلت خير فقال والله لتخبرني فأخبرته بقضية المرأة والرجل اللذين نزلت عندهما قبله فأقبل علي وقال إن هذه التي عندي هي أخت ذلك الرجل وتلك التي عنده أختي
فبت ليلتي متعجبا وانصرفت
ويقرب من هذه الحكاية ما روي أن رجلا من الأولين كان يأكل وبين يديه دجاجة مشوية فجاءه سائل فرده خائبا وكان الرجل مترفا فوقع بينه وبين امرأته فرقة وذهب ماله وتزوجت امرأته فبينما الزوج الثاني يأكل وبين يديه دجاجة مشوية جاءه سائل فقال لامرأته ناوليه الدجاجة فناولته ونظرت إليه فإذا هو زوجها الأول فأخبرته بالقصة فقال الزوج الثاني أنا والله ذلك المسكين الأول الذي خيبني فحول الله نعمته وأهله إلي لقلة شكره
وحكى الهيثم أيضا قال صار سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي الذي كان يسمى بالصمصامة إلى موسى الهادي بن المهدي وكان عمرو قد وهبه لسعيد ابن العاص الأموي فتوارثه ولده إلى أن مات المهدي واشتراه موسى الهادي منهم بمال جليل وكان من أوسع بني العباس كفا وأكثرهم عطاء فجرد الصمصامة وجعلها بين يديه وأذن للشعراء فدخلوا عليه ودعا بمكتل فيه بدرة وقال قولوا في هذا السيف فبدر ابن يامين البصري وأنشد

108
(حاز صمصامة الزبيدي من بين
* جميع الأنام موسى الأمين)
(سيف عمرو وكان فيما سمعنا
* خير ما أغمدت عليه الجفون)
(أخضر اللون بين حديه برد
* من ذباح تبين فيه المنون)
(أوقدت فوقه الصواعق نارا
* ثم شابت فيه الزعاف القيون)
(فإذا ما سللته بهر الشمس
* ضياء فلم تكد تستبين)
(ما يبالي من انتضاه لضرب
* أشمال سطت به أم يمين)
(يستطير الأبصار كالقبس المشعل
* ما تستقر فيه العيون)
(وكأن الفرند والجوهر الجاري
* في صفحتيه ماء معين)
(نعم مخراق ذي الحفيظة في الهيجاء
* يعصى به ونعم القرين)
فقال الهادي أصبت والله ما في نفسي واستخفه السرور فأمر له بالمكتل والسيف فلما خرج من عنده قال للشعراء إنما حرمتم من أجلي فشأنكم والمكتل ففي السيف غنائي فاشتري منه السيف بمال جزيل وقال المسعودي في كتاب مروج الذهب اشتراه الهادي منه بخمسين ألفا ولم يذكر من هذه الأبيات إلا بعضها
والذباح بضم الذال المعجمة وفتح الباء الموحدة وبعد الألف حاء مهملة وهو نبت قتال لسميته وقد جاء كثيرا في الشعر
ويعصى بفتح الصاد يقال عصي بكسر الصاد يعصى إذا ضرب بالسيف وهو خلاف عصى يعصى إذا ارتكب الذنب
وحكى المسعودي في مروج الذهب في ولاية هشام بن عبد الملك أن الهيثم بن عدي المذكور روى عن عمر بن هانىء الطائي قال خرجت مع عبد الله ابن علي وهو عم السفاح والمنصور فانتهينا إلى قبر هشام بن عبد الملك فاستخرجناه صحيحا ما فقد منه إلا خرمة أنفه فضربه عبد الله ثمانين سوطا

109
ثم أحرقه واستخرجنا سليمان بن عبد الملك من أرض دابق فلم نجد منه شيئا إلا صلبه وأضلاعه ورأسه فأحرقناه وفعلنا ذلك بغيرهما من بني أمية وكانت قبورهم بقنسرين
ثم انتهينا إلى دمشق فأخرجنا الوليد بن عبد الملك فما وجدنا في قبره لا قليلا ولا كثيرا واحتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا شؤون رأسه ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية فما وجدنا منه إلا عظما واحدا ووجدنا مع لحده خطا أسود كأنما خط بالرماد بالطول في لحده ثم تتبعنا قبورهم في جميع البلدان فأحرقنا ما وجدنا فيها منهم
(312) وكان سبب فعل عبد الله ببني أمية هذا الفعل أن زيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وقد سبق ذكره في ترجمة الوزير محمد بن بقية خرج على هشام بن عبد الملك وسمت نفسه إلى طلب الخلافة وتبعه خلق من الأشراف والقراء فحاربه يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقين وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى فانهزم أصحاب زيد وبقي في جماعة يسيرة فقاتلهم أشد قتال وهو يقول متمثلا
(ذل الحياة وعز الممات
* وكلا أراه طعاما وبيلا)
(فإن كان لا بد من واحد
* فسيري إلى الموت سيرا جميلا)
وحال المساء بين الفريقين فانصرف زيد مثخنا بالجراح وقد أصابه سهم في جبهته فطلبوا من ينزع النصل فأتي بحجام من بعض القرى فاستكتموه أمره فاستخرج النصل فمات من ساعته فدفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش وأجروا الماء على ذلك وحضر الحجام مواراته فعرف الموضع فلما أصبح مضى إلى يوسف منتصحا له فدله على موضع قبره فاستخرجه يوسف وبعث رأسه إلى هشام فكتب إليه هشام أن اصلبه عريانا

110
فصلبه يوسف كذلك ففي ذلك يقول بعض شعراء بني أمية يخاطب آل أبي طالب وشيعتهم من جملة أبيات
(صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة
* ولم أر مهديا على الجذع يصلب)
وبنى تحت خشبته عمودا ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وتذريته في الرياح وكان ذلك في سنة إحدى وعشرين وقيل اثنتين وعشرين ومائة
وذكر أبو بكر ابن عياش وجماعة من الأخباريين أن زيدا أقام مصلوبا خمس سنين عريانا فلم ير أحد له عورة سترا من الله سبحانه وتعالى له وقال بعضهم إن العنكبوت نسج على عورته وذلك بالكناسة بالكوفة فلما كان في أيام الوليد ابن يزيد وظهر ولده يحيى بن زيد بخراسان وهي واقعة مشهورة كتب الوليد إلى عامله بالكوفة أن أحرق زيدا بخشبته ففعل ذلك وأذرى رماده في الرياح على شاطىء الفرات والله تعالى أعلم أي ذلك كان
فهذا الذي حمل عبد الله بن علي على ما فعله ببني أمية انتصارا لبني عمه وانتقاما لهم بنظير ما فعل بهم
وقال الهيثم أيضا استعملت على صدقات بني فزارة فجاءني رجل منهم فقال أريك عجبا فقلت بلى فانطلق إلى جبل شاهق فإذا فيه صدع فقال لي ادخل فقلت إنما يدخل الدليل قال فدخل فاتبعته ودخل معنا أناس فكان ربما ضاق الجبل واتسع فإذا نحن بضوء فدنونا منه وإذا خرق ذاهب في الأرض وإذا عكاكيز في الجبل فجذبناها فإذا هي
سهام عاد وإذا كتاب منقور في الجبل مقدار إصبعين أو أكثر وإذا هو كتاب بالعربية وهو
(ألا هل إلى أبيات سفح بذي اللوى
* لوى الرمل فاصدقن النفوس معاد)
(بلاد لنا كانت وكنا نحبها
* إذ الناس ناس والبلاد بلاد)
وروي أن أبا نواس الحسن بن هانىء الحكمي الشاعر المقدم ذكره حضر

111
مجلس الهيثم بن عدي في حداثته والهيثم لا يعرفه فلم يستدنه ولا قرب مجلسه فقام مغضبا فسأل الهيثم عنه فخبر باسمه فقال إنا لله هذه والله بلية لم أجنها على نفسي قوموا بنا إليه لنعتذر فصاروا إليه ودق الباب عليه وتسمى له فقال ادخل فدخل فإذا هو قاعد يصفي نبيذا له وقد أصلح بيته بما يصلح به مثله فقال المعذرة إلى الله تعالى وإليك والله ما عرفتك وما الذنب إلا لك حيث لم تعرفنا نفسك فنقضي حقك ونبلغ الواجب من برك فأظهر له قبول العذر فقال الهيثم أستعهدك من قول يسبق منك في فقال ما قد مضى فلا حيلة فيه ولك الأمان فيما استأنف فقال وما الذي مضى جعلت فداك قال بيت مر وأنا فيما ترى يعني من الغضب قال فتنشدنيه فدافعه فألح عليه فأنشده
(يا هيثم بن عدي لست للعرب
* ولست من طيىء إلا على شغب)
(إذا نسبت عديا في بني ثعل
* فقدم الدال قبل العين في النسب)
فقام من عنده ثم بلغه بعد ذلك بقية الأبيات وهي
(للهيثم بن عدي في تلونه
* في كل يوم له رجل على خشب)
(فما يزال أخا حل ومرتحل
* إلى الموالي وأحيانا إلى العرب)
(له لسان يزجيه بجوهره
* كأنه لم يزل يغدى على قتب)
(كأنني بك فوق الجسر منتصبا
* على جواد قريب منك في الحسب)
(حتى نراك وقد درعته قمصا
* من الصديد مكان الليف والكرب)
(لله أنت فما قربى تهم بها
* إلا اجتلبت لها الأنساب من كثب)
فعاد الهيثم إلى أبي نواس وقال له يا سبحان الله أليس قد أمنتني وجعلت لي عهدا أن لا تهجوني فقال إنهم يقولون ما لا يفعلون

112
وأخبار الهيثم كثيرة وقد أطلنا الشرح
وكانت ولادته قبل سنة ثلاثين ومائة
وتوفي غرة المحرم سنة ست وقيل سبع ومائتين وقال ابن قتيبة في كتاب المعارف سنة تسع ومائتين والله تعالى أعلم بالصواب رحمه الله تعالى
وله عقب ببغداد
وقال السمعاني في كتاب الأنساب في ترجمة البحتري إنه توفي سنة تسع ومائتين بفم الصلح وله ثلاث وتسعون سنة وزاد غيره أن وفاته كانت عند الحسن بن سهل وقد تقدم في ترجمة بوران أن زواجها بالمأمون كان في هذا التاريخ بهذا الموضع والظاهر أنه كان في جملة من حضر فتوفي هناك
وقد تقدم الكلام على الطائي والبحتري
والثعلي بضم الثاء المثلثة وفتح العين المهملة وبعدها لام هذه النسبة إلى ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء وقد تقدم تتمة هذه النسبة في ترجمة البحتري في حرف الواو فلتنظر هناك وتنسب إلى ثعل المذكور عدة بطون منها بحتر وسلامان وغيرهما
(313) ومن هذه القبيلة عمرو بن المسبح الثعلي الذي قدم على سول الله صلى الله عليه وسلم في وفود العرب فأسلم بالمدينة وهو ابن مائة وخمسين سنة وكان أرمى العرب وفيه يقول امرؤ القيس حندج بن حجر الكندي الشاعر المشهور
(رب رام من بني ثعل
* مخرج كفيه من ستره)

113
وهذا من جملة ما استشهد به ابن قتيبة في كتاب طبقات الشعراء على قرب زمن امرئ القيس من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه كان قبله بمقدار أربعين سنة
هذا خلاصة ما قاله والله أعلم

114
حرف الياء

115
787 ياروق التركماني
ياروق بن أرسلان التركماني كان مقدما جليل القدر في قومه وإليه تنسب الطائفة الياروقية من التركمان وكان عظيم الخلقة هائل المنظر سكن بظاهر حلب في جهتها القبلية وبنى على شاطىء قويق فوق تل مرتفع هو وأهله وأتباعه أبنية كثيرة مرتفعة وعمائر متسعة وتعرف الآن بالياروقية وهي شبه القرية وسكنها هو ومن معه وهي إلى اليوم معمورة مسكونة آهله يتردد إليها أهل حلب في أيام الربيع ويتنزهون هناك في الخضرة وعلى قويق وهو موضع كثير الانشراح والأنس
وتوفي ياروق المذكور في المحرم سنة أربع وستين وخمسمائة رحمه الله تعالى هكذا ذكره بهاء الدين المعروف بابن شداد في سيرة السلطان صلاح الدين رحمهما الله تعالى
وياروق بفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف راء مضمومة ثم واو ساكنة وفي الآخر قاف
وقويق بضم القاف وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها قاف وهو نهر صغير بظاهر حلب يجري في الشتاء والربيع وينقطع في الصيف وقد ذكرته الشعراء في أشعارهم كثيرا خصوصا أبا عبادة البحتري فإنه كرر

117
ذكره في عدة قصائد فمن ذلك قوله في جملة قصيدة
(يا برق أسفر عن قويق فطرتى
* حلب فأعلى القصر من بطياس)
(عن منبت الورد المعصفر صبغه
* في كل ناحية ومجرى الآس)
(أرض إذا استوحشت ثم أتيتها
* حشدت علي فأكثرت إيناسي)
وبطياس بفتح الباء الموحدة وسكون الطاء المهملة وفتح الياء المثناة من تحتها وبعد الألف سين مهملة وهي قرية كانت بظاهر حلب ودثرت ولم يبق لها اليوم أثر
وكان صالح بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم قد بنى بها قصرا وسكنه هو وبنوه وهو بين النيرب والصالحية وهما قريتان في شرقي حلب وكان القصر على الرابية المشرفة على النيرب ولم يبق منه في هذا الزمان سوى آثار دارسة هكذا وجدته مضبوطا بخط بعض الفضلاء من أهل حلب والله أعلم

118
788 ياقوت الموصلي
أبو الدر ياقوت بن عبد الله الموصلي الكاتب الملقب أمين الدين المعروف بالملكي نسبة إلى السلطان أبي الفتح ملكشاه بن سلجوق بن محمد بن ملكشاه الأكبر نزل الموصل وأخذ النحو عن أبي محمد سعيد بن المبارك المعروف بابن الدهان النحوي وقرأ عليه من تصانيفه جملة وكان ملازمه وقرأ عليه ديوان المتنبي والمقامات الحريرية وغير ذلك
وكتب الكثير وانتشر خطه في الآفاق وكان في نهاية الحسن ولم يكن في آخر زمانه من يقاربه في حسن الخط ولا يؤدي طريقة ابن البواب في النسخ مثله مع فضل غزير ونباهة تامة وكان مغرى بنقل الصحاح للجوهري فكتب منها نسخا كثيرة كل نسخة في مجلد واحد رأيت منها عدة نسخ وكل نسخة تباع بمائة دينار وكتب عليه خلق كثير وانتفعوا به وكانت له سمعة كبيرة

119
في زمانه وقصده الناس من البلاد وسير إليه من بغداد النجيب أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي بكر الواسطي قصيدة مدحه بها ولم يكن رآه بل على السماع به وهي قصيدة جيدة في بابها ووصف حسن خطه فأبلغ وهي
(أين غزلان عالج والمصلى
* من ظباء سكن نهر المعلى)
(أبتلك الكثبان أغصان بان
* وبدور من أفقها تتجلى)
(أم لتلك الغزلان حسن وجوه
* لو تراءت للحزن أصبح سهلا)
(أين حوذانها من النرجس الغض
* إذا ناجز النسيم استقلا)
(أين ذاك العرار من صبغة الورد
* إذا جاده الغمام وطلا)
(أبجرعائها كواكب نارنج
* دنا في غصونه فتدلى)
(أنقيب لماء دجلة كفؤ
* كذب القاسطون حاشا وكلا)
(الدار السلام في الأرض شبه
* معجز أن ترى لبغداد مثلا)
(كل يوم تبدي وجوها خلاف الأمس
* حسنا كأنما هي حبلى)
(وصبايا يصبو الحليم إليهن
* إذا ما خطرن شكلا ودلا)
(يعتصبن العصائب الناصريات
* فيحللن منك عقدا وحلا)
(ليس يرقبن فيك إلا ولا يعرفن
* شيئا غير الصحاح وإلا)
(مربع للقلوب فيه ربيع
* متوال إذا الربيع تولى)
(بلدة تستفاد فيها المعالي
* والمعاني علما وجدا وهزلا)
(لم يفتها من الكمال سوى ياقوت
* لو أنها به تتحلى)

120
(من لها أن يضوع نشر أمين الدين
* فيها وحسبها ذاك فضلا)
(لو رجت أن يزورها لانبرى الصامت
* فيها يقول أهلا وسهلا)
(ولئن وافت الرواة برياه
* إليها فإن رؤياه أحلى)
(بحر جود له الأكارم تتلو
* وجواد عنه المكارم تتلى)
(جامع شارد العلوم ولولاه
* لكانت أم الفضائل ثكلى)
(ذو يراع تخاف صولته الأسد
* وتعنو له الكتائب ذلا)
(وإذا افتر ثغره عن سواد
* في بياض فالبيض والسمر خجلى)
(يقظ في حراسة الملك لا يعمل
* سهما ولا يجرد نصلا)
(إنما يبعث البلاغة أرسالا
* إذا كانت الصحائف رسلا)
(فيعيد الجبار ممتلئا خوفا
* لما قد أمل فيها وأملى)
(وتراه طورا يجيل يديه
* بقداح العلوم فصلا ففصلا)
(مثل وشي الرياض أو كنظيم الدر
* يزهى خطا ولفظا ونقلا)
(فاتئد يا مريد مثل أمين الدين
* مهلا أتعبت نفسك مهلا)
(سيدي يا أخا السماح وظثر المجد
* وابن العلى ورب المعلى)
(أنت بدر والكاتب ابن هلال
* كأبيه لا خير فيمن تولى)
(إن يكن أولا فإنك بالتفضيل
* أولى لقد سبقت وصلى)
(يا أمين الدين الذي جمع الله
* به للسماح والفضل شملا)
(أنا من قاده الثناء إلى حبك
* حتى يظل لا يتسلى)
(وإذا أسجل الثناء بقاض
* صار فيه أخو الشهادة عدلا)
(فارض بكرا ما راض قط أبوها
* فكره بابنة ليخطب بعلا)

121
(لا جزاء يريد عنها ولا أجرا
* ولكن رآك للمدح أهلا)
(ودعاه إليك داعي وداد
* جاء يبغي من حسن رأيك وصلا)
(وإذا ما تعذر القرب فالقلب
* كفيل به ورأيك أعلى)
(فابق واسلم ما جرد الأفق جيشا
* من ظلام وجرد الصبح نصلا)
وتوفي أمين الدين المذكور بالموصل سنة ثماني عشرة وستمائة وقد أسن وتغير خطه من الكبر رحمه الله تعالى
789 ياقوت الرومي أبو الدر
أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي الملقب مهذب الدين الشاعر المشهور مولى أبي منصور الجيلي التاجر اشتغل بالعلم وأكثر من الأدب واستعمل قريحته في النظم فأجاد فيه ولما تميز ومهر سمى نفسه عبد الرحمن وكان مقيما بالمدرسة النظامية ببغداد وعده ابن الدبيثي في كتاب الذيل في جملة من اسمه عبد الرحمن وذكر أنه نشأ ببغداد وحفظ القرآن العزيز وقرأ شيئا من الأدب وكتب خطا حسنا وقال الشعر وأكثر النظم منه في الغزل والتصابي وذكر المحبة وراق شعره وتحفظه الناس وأورد له مقطوعا من الشعر وذكر أنه أنشده إياه وهو

122
(خليلي لا والله ما جن غاسق
* وأظلم إلا حن أو جن عاشق)
وبقيته في المجموع الصغير وأشعاره سائرة يتغنى بها وهي رقيقة لطيفة فمن ذلك قوله
(إن غاض دمعك والأحباب قد بانوا
* فكل ما تدعي زور وبهتان)
(وكيف تأنس أو تنسى خيالهم
* وقد خلا منهم ربع وأوطان)
(لا أوحش الله من قوم نأوا فنأى
* عن النواظر أقمار وأغصان)
(ساروا فسار فؤادي إثر ظعنهم
* وبان جيش اصطباري ساعة بانوا)
(لا افتر ثغر الثرى من بعد بعدهم
* ولا ترنح أيك لا ولا بان)
(أجرى دموعي وأذكى النار في كبدي
* غداة بينهم هم وأحزان)
(طوفان نوح ثوى في مقلتي وفي
* طي الحشا لخليل الله نيران)
(لو كابد الصخر ما كابدت من كمد
* فيكم لجاد له أحد ولبنان)
(وذاب يذبل من وجدي ورض على
* رضوى ولان لما ألقاه ثهلان)
(يا من تملك رقي حسن بهجته
* سلطان حسنك مالي منه إحسان)
(كن كيف شئت فمالي عنك من بدل
* أنت الزلال لقلبي وهو ظمآن)
ومن شعره أيضا
(ألا مبلغ وجدي بها وغرامي
* ومهد إلى دار السلام سلامي)
(نسيم الصبا بلغ تحية مشئم
* إلى معرق لم يرع عهد ذمامي)
(وصف بعض أشواقي إليه لعله
* يرق لذلي في الهوى وهيامي)
(أيا رحبة الزوراء لي فيك شادن
* نفى بعده من مقلتي منامي)
(بديع جمال بان صبري لبينه
* وعرضني إعراضه لحمامي)

123
(يصد إذا ما صد عن عيني الكرى
* ويمزج دمعي هجره بمدامي)
(حياتي وموتي في يديه وجنتي
* وناري وريي في الهوى وأوامي)
(ففي بعده عني وفاتي وقربه
* حياتي وإسعادي ونيل مرامي)
(ومن وجنتيه نار وجدي وخصره
* نحولي ومن سقم الجفون سقامي)
(فكن عاذري يا عاذلي فدلاله
* دليل على وجدي به وغرامي)
ورأيت كثيرا من الفقهاء بالشام وبلاد الشرق يحفظون له قصيدة أولها
(جسدي لبعدك يا مثير بلابلي
* دنف بحبك ما أبل بلى بلي)
(يا من إذا ما لام فيه لوائمي
* أوضحت عذري بالعذار السائل)
(أأجيز قتلي في الوجيز لقاتلي
* أم حل في التهذيب أم في الشامل)
(أم في المهذب أن يعذب عاشق
* ذو مقلة عبرى ودمع هاطل)
(أم طرفك الفتاك قد أفتاك في
* تلف النفوس بسحر طرف بابلي)
وهي أكثر من هذا لكن هذا القدر هو الذي أستحضره في هذا الوقت منها
وأنشدني له بعض الأدباء بمدينة حلب أبياتا منها قوله
(ألست من الولدان أحلى شمائلا
* فكيف سكنت القلب وهو جهنم)
ثم قال وقد انتقدوا عليه في بغداد في هذا البيت فأفكرت فيه ثم قلت له لعل الانتقاد من جهة أنه ما يلزم من كونه أحلى شمائل من الولدان أنه لا يكون في جهنم فإنه قد يكون أحلى شمائل منهم وليس الممتنع إلا أن يكون الولدان في جهنم فقال نعم هذا هو الذي أخذ عليه
وأخبرني بعض الأفاضل بمدينة إربل في سنة خمس وعشرين وستمائة قال كنت ببغداد في سنة عشرين وستمائة بالمدرسة النظامية فقعدت يوما

124
على بابها إلى جانب أبي الدر المذكور ونحن نتذاكر الأدب إذ جاء شيخ ضعيف القوى والحال يتوكأ على عصا فجلس قريبا منا فقال لي أبو الدر أتعرف هذا فقلت لا فقال هذا مملوك الحيص بيص الذي يقول فيه
(تشربش أو تقمص أو تقبى
* فلن تزداد عندي قط حبا)
(تملك بعض حبك كل قلبي
* فإن ترد الزيادة هات قلبا)
قال فجعلت أنظر إليه وأفكر فيما كان عليه وما آل حاله إليه ولقد طلبت أنا هذين البيتين في ديوان الحيص بيص فلم أجدهما فيه والله أعلم
ولأبي الدر المذكور ديوان شعر سمعت أنه صغير ولم أقف عليه بل على مقاطيع كثيرة منه وشعره متداول بالعراق وبلاد الشرق والشام ويكفي منه هذا القدر وقد تقدم في حرف الخاء في ترجمة الشيخ الخضر بن عقيل الإربلي له ثلاثة أبيات دالية ثم إني ملكت من ديوانه نسختين في سنة سبع وستين وستمائة بدمشق المحروسة وهو صغير الحجم يدخل في عشر كراريس
ورأيت في بعض التواريخ المتأخرة أن أبا الدر المذكور وجد ميتا بمنزله ببغداد في الثاني عشر من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وستمائة وقال الناس إنه كان قد توفي قبل ذلك بأيام رحمه الله تعالى
وقال ابن النجار في تاريخ بغداد وجد أبو الدر في داره ميتا يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى من السنة وكان قد أخرج من النظامية فسكن في دار بدرب دينار الصغير ولم يعلم متى مات وأظنه ناطح الستين والله أعلم

125
والرومي بضم الراء وسكون الواو وبعدها ميم هذه النسبة إلى بلاد الروم وهو إقليم مشهور متسع كثير البلاد
وها هنا نكتة غريبة يحتاج إليها ويكثر السؤال عنها وهي أن أهل الروم يقال لهم بنو الأصفر واستعملته الشعراء في أشعارهم فمن ذلك قول عدي بن زيد العبادي من جملة قصيدته المشهورة
(وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم
* لم يبق منهم مذكور)
ولقد تتبعت ذلك كثيرا فلم أجد ما يشفي الغليل حتى ظفرت بكتاب قديم اسمه اللفيف ولم يكتب عليه اسم مؤلفه فنقلت منه ما صورته عن العباس عن أبيه قال انخرم ملك الروم في الزمان الأول فبقيت منه امرأة فتنافسوا في الملك حتى وقع بينهم شر فاصطلحوا على أن يملكوا أول من يشرف عليهم فجلسوا مجلسا لذلك وأقبل رجل من اليمن معه عبد له حبشي يريد الروم فأبق العبد منه فأشرف عليهم فقالوا انظروا في أي شيء وقعتم فزوجوه تلك المرأة فولدت غلاما فسموه الأصفر فخاصمهم المولى فقال الغلام صدق أنا عبده فأرضوه فأعطوه حتى رضي فبسبب ذلك قيل للروم بنو الأصفر لصفرة لون الولد لكونه مولدا بين الحبشي والمرأة البيضاء والله أعلم

126
790 ياقوت الحموي
أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الجنس والمولد الحموي المولى البغدادي الدار الملقب شهاب الدين أسر من بلاده صغيرا وابتاعه ببغداد رجل تاجر يعرف بعسكر ابن أبي نصر إبراهيم الحموي وجعله في الكتاب لينتفع به في ضبط تجائره وكان مولاه عسكر لا يحسن الخط ولا يعلم شيئا سوى التجارة وكان ساكنا ببغداد وتزوج بها وأولد عدة أولاد ولما كبر ياقوت المذكور قرأ شيئا من النحو واللغة وشغله مولاه بالأسفار في متاجره فكان يتردد إلى كيش وعمان وتلك النواحي ويعود إلى الشام
ثم جرت بينه وبين مولاه نبوة أوجبت عتقه فأبعده عنه وذلك في سنة ست وتسعين وخمسمائة فاشتغل بالنسخ بالأجرة وحصلت له بالمطالعة فوائد
ثم إن مولاه بعد مديدة ألوى عليه وأعطاه شيئا وسفره إلى كيش ولما عاد كان مولاه قد مات فحصل شيئا مما كان في يده وأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به وبقيت بيده بقية جعلها رأس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتبا
وكان متعصبا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان قد طالع

127
شيئا من كتب الخوارج فاشتبك في ذهنه منه طرف قوي وتوجه إلى دمشق في سنة ثلاث عشرة وستمائة وقعد في بعض أسواقها وناظر بعض من يتعصب لعلي رضي الله عنه وجرى بينهما كلام أدى إلى ذكره عليا رضي الله عنه بما لا يسوغ فثار الناس عليه ثورة كادوا يقتلونه فسلم منهم وخرج من دمشق منهزما بعد أن بلغت القضية إلى والي البلد فطلبه فلم يقدر عليه ووصل إلى حلب خائفا يترقب وخرج عنها في العشر الأول أو الثاني من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وستمائة وتوصل إلى الموصل
ثم انتقل إلى إربل وسلك منها إلى خراسان وتحامى دخول بغداد لأن المناظر له بدمشق كان بغداديا وخشي أن ينقل قوله فيقتل
فلما انتهى إلى خراسان أقام بها يتجر في بلادها واستوطن مدينة مرو مدة وخرج عنها إلى نسا ومضى إلى خوارزم وصادفه وهو بخوارزم خروج التتر وذلك في سنة ست عشرة وستمائة فانهزم بنفسه كبعثه يوم الحشر من رمسه وقاسى في طريقه من المضايقة والتعب ما كان يكل عن شرحه إذا ذكره ووصل إلى الموصل وقد تقطعت به الأسباب وأعوزه دنيء المآكل وخشن الثياب وأقام بالموصل مدة مديدة ثم انتقل إلى سنجار وارتحل منها إلى حلب وأقام بظاهرها في الخان إلى أن مات في التاريخ الآتي ذكره إن شاء الله تعالى
ونقلت من تاريخ إربل الذي عني بجمعه أبو البركات ابن المستوفي المقدم ذكره أن ياقوتا المذكور قدم إربل في رجب سنة سبع عشرة وستمائة وكان مقيما بخوارزم وفارقها للواقعة التي جرت فيها بين التتر والسلطان محمد بن تكش خوارزم شاه
وكان قد تتبع التواريخ وصنف كتابا سماه إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء يدخل في أربعة جلود كبار ذكر في أوله قال وجمعت في هذا

128
الكتاب ما وقع إلي من أخبار النحويين واللغويين والنسابين والقراء المشهورين والأخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين والكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة وأرباب الخطوط المنسوبة المعينة وكل من صنف في الأدب تصنيفا أو جمع فيه تأليفا مع إيثار الاختصار والإعجاز في نهاية الإيجاز ولم آل جهدا في إثبات الوفيات وتبيين المواليد والأوقات وذكر تصانيفهم ومستحسن أخبارهم والإخبار بأنسابهم وشئ من أشعارهم في تردادي إلى البلاد ومخالطتي للعباد وحذفت الأسانيد إلا ما قل رجاله وقرب مناله مع الاستطاعة لإثباتها سماعا وإجازة إلا أنني قصدت صغر الحجم وكبر النفع وأثبت مواضع نقلي ومواطن أخذي من كتب العلماء المعول في هذا الشأن عليهم والمرجوع في صحة النقل إليهم
ثم ذكر أنه جمع كتابا في أخبار الشعراء المتأخرين والقدماء
ومن تصانيفه أيضا كتاب معجم البلدان وكتاب معجم الشعراء وكتاب معجم الأدباء وكتاب المشترك وضعا المختلف صقعا وهو من الكتب النافعة وكتاب المبدأ والمآل في التاريخ وكتاب الدول ومجموع كلام أبي علي الفارسي وعنوان كتاب الأغاني والمقتضب في النسب يذكر فيه أنساب العرب وكتاب أخبار المتنبي
وكانت له همة عالية في تحصيل المعارف
وذكر القاضي الأكرم جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم ابن عبد الواحد الشيباني القفطي وزير صاحب حلب كان رحمه الله تعالى في كتابه الذي سماه إنباه الرواة على أنباه النحاة أن ياقوتا المذكور كتب إليه رسالة من الموصل عند وصوله إليها هاربا من التتر يصف فيها حاله وما جرى له معهم وهي بعد البسملة والحمدلة
كان المملوك ياقوت بن عبد الله الحموي قد كتب هذه الرسالة من الموصل في سنة سبع عشرة وستمائة حين

129
وصوله من خوارزم طريد التتر أبادهم الله تعالى إلى حضرة مالك رقه الوزير جمال الدين القاضي الأكرم أبي الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد الشيباني ثم التيمي تيم بني شيبان بن ثعلبة بن عكابة أسبغ الله عليه ظله وأعلى في درج السيادة محله وهو يومئذ وزير صاحب حلب والعواصم شرحا لأحوال خراسان وأحواله وإيماء إلى بدء أمره بعد ما فارقه ومآله وأحجم عن عرضها على رأيه الشريف إعظاما وتهيبا وفرارا من قصورها عن طوله وتجنبا إلى أن وقف عليها جماعة من منتحلي النظم والنثر فوجدهم مسارعين إلى كتبها متهافتين على نقلها وما يشك أن محاسن مالك الرق حلتها وفي أعلى درج الإحسان أحلتها فشجعه ذلك على عرضها على مولاه وللآراء علوها في تصفحها والصفح عن زللها فليس كل من لمس درهما صيرفيا ولا كل من اقتنى درا جوهريا
وها هي ذه
بسم الله الرحمن الرحيم أدام الله على العلم وأهليه والإسلام وبنيه ما سوغهم وحباهم ومنحهم وأعطاهم من سبوغ ظل المولى الوزير أعز الله أنصاره وضاعف مجده واقتداره ونصر ألويته وأعلامه وأجرى بإجراء الأرزاق في الآفاق أقلامه وأطال بقاه ورفع إلى عليين علاه في نعمة لا يبلى جديدها ولا يحصى عددها ولا عديدها ولا ينتهي إلى غاية مديدها ولا يفل حدها ولا حديدها ولا يقل وادها ولا وديدها وأدام دولته للدنيا والدين يلم شعثه ويهزم كرثه ويرفع مناره ويحسن بحسن أثره آثاره ويفتق نوره وأزهاره وينير نواره ويضاعف أنواره وأسبغ ظله للعلوم وأهليها والآداب ومنتحليها والفضائل وحامليها يشيد بمشيد فضله بنيانها ويرصع بناصع مجده تيجانها ويروض بيانع علائه زمانها ويعظم بعلو همته الشريفة بين البرية شأنها ويمكن في أعلى درج الاستحقاق إمكانها ومكانها

130
ويرفع بنفاذ الأمر قدره للدول الإسلامية والقواعد الدينية يسوس قواعدها ويعز مساعدها ويهين معاندها ويعضد بحسن الإيالة معاضدها وينهج بجميل المقاصد مقاصدها حتى تعود بحسن تدبيره غرة في جبهة الزمان وسنة يقتدي بها من طبع على العدل والإحسان يكون له أجرها ما دام الملوان وكر الجديدان وما أشرقت من الشرق شمس وارتاحت إلى مناجاة حضرته الباهرة نفس
وبعد فالمملوك ينهي إلى المقر العالي المولوي والمحل الأكرم العلي أدام الله سعادته مشرقة النور مبلغة السول واضحة الغرر بادية الحجول ما هو مكتف بالأريحية المولوية عن تبيانه مستغن بما منحتها من صفاء الآراء عن إمضاء قلمه لإيضاحه وبيانه قد أحسبه ما وصف به عليه الصلاة والسلام المؤمنين وإن من أمتي لمكلمين وهو شرح ما يعتقده من الولاء ويفتخر به من التعبد للحضرة الشريفة والاعتزاء قد كفته تلك الألمعية عن إظهار المشتبه بالملق مما تجنه الطوية لأن دلائل غلو المملوك في دين ولائه في الآفاق واضحة وطبعة سكة إخلاص الوداد باسمه الكريم على صفحات الدهر لائحة وإيمانه بشرائع الفضل الذي طبق الآفاق حتى أصبح بها بناء المكارم متين وتلاوته لأحاديث المجد القريبة الأسانيد بالمشاهدة لديه مبين ودعاء أهل الآفاق إلى المغالاة في الإيمان بإمامة فضله الذي تلقاه باليمين وتصديقه بملة سؤدده الذي تفرد بالتوخي لنظم شارده وضم متبدده بعرق الجبين حتى لقد أصبح للفضل كعبة لم يفترض حجها على من استطاع إليها السبيل ويقتصر بقصدها على ذوي القدرة دون المعتر وابن السبيل فإن لكل منهم حظا يستمده ونصيبا يستعد به ويعتده فللعظماء الشرف الضخم من معينه وللعلماء اقتناء الفضائل من قطينه وللفقراء توقيع الأمان من نوائب الدهر وغض جفونه

131
وفرضوا من مناسكه للجبهة الشريفة السلام والتبجيل وللكف البسيطة الاستلام والتقبيل وقد شهد الله تعالى للمملوك أنه في سفره وحضره وسره وعلنه وخبره ومخبره شعاره تعطير مجالس الفضلاء ومحافل العلماء بفوائد حضرته والفضائل المستفادة من فضلته افتخارا بذلك بين الأنام وتطريزا لما يأتي به في أثناء الكلام
(إذا أنا شرفت الورى بقصائدي
* على طمع شرفت شعري بذكره)
* (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) * الحجرات 17 لا حرمنا الله معاشر أوليائه مواد فضائله المتتالية ولا أخلانا كافة عبيده من أياديه المتوالية اللهم رب الأرض المدحية والسماوات العلية والبحار المسجرة والرياح المسخرة اسمع ندائي واستجب دعائي وبلغنا في معاليه ما نؤمله ونرتجيه بمحمد النبي وصحبه وذويه
وقد كان المملوك لما فارق الجناب الشريف وانفصل عن مقر العز اللباب والفضل المنيف أراد استعتاب الدهر الكالح واستدرار خلف الزمن الغشوم الجامح اغترارا بأن في الحركة بركة والاغتراب داعية الاكتساب والمقام على الإقتار ذل وأسقام وحلس البيت في المحافل سكيت
(وقفت وقوف الشك ثم استمر بي
* يقيني بأن الموت خير من الفقر)
(فودعت من أهلي وبالقلب ما به
* وسرت عن الأوطان في طلب اليسر)
(وباكية للبين قلت لها اصبري
* فللموت خير من حياة على عسر)

132
(سأكسب مالا أو أموت ببلدة
* يقل بها فيض الدموع على قبري)
فامتطى غارب الأمل إلى الغربة وركب مركب التطواف مع كل صحبة قاطعا الأغوار والأنجاد حتى بلغ السد أو كاد فلم يصحب له دهره الحرون ولا رق له زمانه المفتون
(إن الليالي والأيام لو سئلت
* عن عيب أنفسها لم تكتم الخبرا)
فكأنه في جفن الدهر قذى أو في حلقه شجا يدافعه نيل الأمنية حتى أسلمه إلى ربقة المنية
(لا يستقر بأرض أو يسير إلى
* أخرى بشخص قريب عزمه نائي)
(يوما بحزوى ويوما بالعقيق ويوما
* بالعذيب ويوما بالخليصاء)
(وتارة ينتحي نجدا وآونة
* شعب الحزون وحينا قصر تيماء)
وهيهات مع حرفة الأدب بلوغ وطر أو إدراك أرب ومع عبوس الحظ ابتسام الدهر الفظ
ولم أزل مع الزمان في تفنيد وعتاب حتى رضيت من الغنيمة بالإياب والمملوك مع ذلك يدافع الأيام ويزجيها ويعلل المعيشة ويرجيها متقنعا بالقناعة والعفاف مشتملا بالنزاهة والكفاف غير راض بذلك السمل ولكن مكره أخاك لا بطل متسليا بإخوان قد ارتضى خلائقهم وأمن بوائقهم عاشرهم بالألطاف ورضي منهم بالكفاف لا خيرهم يرتجى ولا شرهم يتقى
(إن كان لا بد من أهل ومن وطن
* فحيث آمن من ألقى ويأمنني)
قد زم نفسه أن يستعمل طرفا طماحا وأن يركب طرفا جماحا وأن

133
يلحف بيض طمع جناحا وأن يستقدح زندا واريا أو شحاحا
(وأدبني الزمان فلا أبالي
* هجرت فلا أزار ولا أزور)
(ولست بقائل ما عشت يوما
* أسار الجند أم رحل الأمير)
وكان المقام بمرو الشاهجان المفسر عندهم بنفس السلطان فوجد بها من كتب العلوم والآداب وصحائف أولى الأفهام والألباب ما شغله عن الأهل والوطن وأذهله عن كل خل صفي وسكن فظفر منها بضالته المنشودة وبغية نفسه المفقودة فأقبل عليها إقبال النهم الحريص وقابلها بمقام لا مزمع عنها ولا محيص فجعل يرتع في حدائقها ويستمتع بحسن خلقها وخلائقها ويسرح طرفه في طرفها ويتلذذ بمبسوطها ونتفها واعتقد المقام بذاك الجناب إلى أن يجاور التراب
(إذا ما الدهر بيتني بجيش
* طليعته اغتمام واغتراب)
(شننت عليه من جهتي كمينا
* أميراه الذبالة والكتاب)
(وبت أنص من شيم الليالي
* عجائب من حقائقها ارتياب)
(بها أجلو همومي مستريحا
* كما جلى همومهم الشراب)
إلى أن حدث بخراسان ما حدث من الخراب والويل المبير والتباب وكانت لعمر الله بلادا مونقة الأرجاء رائقة الأنحاء ذات رياض أريضة وأهوية صحيحة مريضة قد تغنت أطيارها فتمايلت طربا أشجارها وبكت أنهارها فتضاحكت أزهارها وطاب روح نسيمها فصح مزاج إقليمها ولعهدي بتلك الرياض الأنيقة والأشجار المتهدلة الوريقة وقد ساقت إليها أرواح الجنائب زقاق خمر السحائب فسقت مروجها مدام الطل فنشأ على أزهارها حباب كاللؤلؤ المنحل فلما رويت من تلك الصهباء أشجاره رنحها من النسيم خماره فتدانت ولا تداني المحبين وتعانقت ولا عناق

134
العاشقين يلوح من خلالها شقائق قد شابه اشتقاق الهوى بالعليل فشابه شفتى غادتين دنتا للتقبيل وربما اشتبه على النحرير بائتلاف الخمر وقد انتابه رشاش القطر ويريه بهارا يبهر ناضره فيرتاح إليه ناظره كأنه صنوج من العسجد أو دنانير من الإبريز تنقد ويتخلل ذلك أقحوان تخاله ثغر المعشوق إذا عض خد عاشق فلله درها من نزهة رامق ولون وامق وجملة أمرها أنها كانت أنموذج الجنة بلا مين فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ العين قد اشتملت عليها المكارم وارجحنت في أرجائها الخيرات الفائضة للعالم فكم فيها من حبر راقت حبره ومن إمام توجت حياة الإسلام سيره آثار علومهم على صفحات الدهر مكتوبة وفضائلهم في محاسن الدنيا والدين محسوبة وإلى كل قطر مجلوبة فما من متين علم وقويم رأي إلا ومن شرقهم مطلعه ولا من مغربة فضل إلا وعندهم مغربه وإليهم منزعه وما نشأ من كرم أخلاق بلا اختلاق إلا وجدته فيهم ولا إعراق في طيب أعراق إلا اجتليته من معانيهم أطفالهم رجال وشبابهم أبطال ومشايخهم أبدال شواهد مناقبهم باهرة ودلائل مجدهم ظاهرة ومن العجب العجاب أن سلطانهم المالك هان عليه ترك تلك الممالك وقال لنفسه الهوى لك وإلا فأنت في الهوالك وأجفل إجفال الرال وطفق إذا رأى غير شيء ظنه رجلا بل رجال * (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين) * الدخان 26 لكنه عز و جل لم يورثها قوما آخرين تنزيها لأولئك الأبرار عن مقام المجرمين بل ابتلاهم فوجدهم شاكرين وبلاهم فألفاهم صابرين فألحقهم بالشهداء الأبرار ورفعهم إلى درجات

135
المصطفين الأخيار * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * البقرة 216 فجاس خلال تلك الديار أهل الكفر والإلحاد وتحكم في تلك الأبشار أولو الزيغ والعناد فأصبحت تلك القصور كالممحو من السطور وأمست تلك الأوطان مأوى الأصداء والغربان تتجاوب في نواحيها البوم وتتناوح في أراجيها الريح السموم ويستوحش فيها الأنيس ويرثي لمصابها إبليس
(كأن لم يكن فيها أوانس كالدمى
* وأقيال ملك في بسالتهم أسد)
(فمن حاتم في جوده وابن مامة
* ومن أحنف إن عد حلم ومن سعد)
(تداعى بهم صرف الزمان فأصبحوا
* لنا عبرة تدمي الحشا ولمن بعد)
فإنا لله وإنا إليه راجعون من حادثة تقصم الظهر وتهدم العمر وتفت في العضد وتوهي الجلد وتضاعف الكمد وتشيب الوليد وتنخب لب الجليد وتسود القلب وتذهل اللب فحينئذ تقهقر المملوك على عقبه ناكسا ومن الأوبة إلى حيث تستقر فيه النفس بالآمن آيسا بقلب واجب ودمع ساكب ولب عازب وحلم غائب وتوصل وما كاد حتى استقر بالموصل بعد مقاساة أخطار وابتلاء واصطبار وتمحيص الأوزار وإشراف غير مرة على البوار والتبار لأنه مر بين سيوف مسلولة وعساكر مفلولة ونظام عقود محلولة ودماء مسكوبة مطلولة وكان شعاره كلما علا قتبا أو قطع سبسبا * (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) * الكهف 62 فالحمد لله الذي أقدرنا على الحمد وأولانا نعما تفوت الحصر والعد
وجملة الأمر أنه لولا فسحة في الأجل لعز أن يقال سلم البائس أو وصل ولصفق عليه أهل الوداد صفقة المغبون وألحق بألف ألف ألف ألف ألف هالك بأيدي الكفار

136
أو يزيدون وخلف خلفه جل ذخيرته ومستمد معيشته
(تنكر لي دهري ولم يدر أنني
* أعز وأحداث الزمان تهون)
(وبات يريني الخطب كيف اعتداؤه
* وبت أريه الصبر كيف يكون)
وبعد فليس للملوك ما يسلي به خاطره ويعزي به قلبه وناظره إلا التعلل بإزاحة العلل إذا هو بالحضرة الشريفة مثل
(فاسلم ودم وتمل العيش في دعة
* ففي بقائك ما يسلي عن السلف)
(فأنت للمجد روح والورى جسد
* وأنت در فلا تأسى على الصدف)
والمملوك الآن بالموصل مقيم يعالج لما حزبه من هذا الأمر المقعد المقيم يزجي وقته ويمارس حرفته وبخته يكاد يقول له باللسان القويم * (تالله إنك لفي ضلالك القديم) * يوسف 95 يذيب نفسه في تحصيل أغراض هي لعمر الله أعراض من صحف يكتبها وأوراق يستصحبها نصبه فيها طويل واستمتاعه بها قليل ثم الرحيل وقد عزم بعد قضاء نهمته وبلوغ بعض وطر قرونته أن يستمد التوفيق ويركب سنن الطريق عساه أن يبلغ أمنتيه من المثول بالحضرة وإتحاف بصره من خلالها ولو بنظرة ويلقى عصا الترحال بفنائها الفسيح ويقيم تحت ظل كنفها إلى أن يصادفه الأجل المريح وينظم نفسه في سلك مماليكها بحضرتها كما ينتمي إليها في غيبتها إن مدت السعادة بضبعه وسمح له الدهر بعد الخفض برفعه فقد ضعفت قواه عن درك الآمال وعجز عن معاركة الزمان والنزال إذ ضمت البسيطة إخوانه وحجب الجديدان أقرانه ونزل المشيب بعذاره
وضعفت منة أوطاره وانقض باز الشيب على غراب شبابه فقنصه وأكب نهار الحلم على ليل الجهل فوقصه وتبدلت محاسنه عند أحبابه مساوي وخصصه واستعاض

137
من حلة الشباب القشيب خلق الكبر والمشيب
(وشباب بان مني وانقضى
* قبل أن أقضي منه أربي)
(ما أرجي بعده إلا الفنا
* ضيق الشيب علي مطلبي)
ولقد ندب المملوك أيام الشباب بهذه الأبيات وما أقل غناء الباكي على من عد في الرفات
(تنكر لي مذ شبت دهري وأصبحت
* معارفه عندي من النكرات)
(إذا ذكرتها النفس حنت صبابة
* وجادت شؤون العين بالعبرات)
(إلى أن أتى دهر يحسن ما مضى
* ويوسعني تذكاره حسرات)
(فكيف ولما يبق من كأس مشربي
* سوى جرع في قعره كدرات)
(وكل إناء صفوه في ابتدائه
* وفي القعر مزجا حمأة وقذاة)
والمملوك يتيقن أنه لا ينفق هذا الهذر الذي مضى إلا النظر إليه بعين الرضا ولرأي المولى الوزير الصاحب كهف الورى في المشارق والمغارب فيما يلاحظه منه بعادة مجده مزيد مناقب ومراتب والسلام
ولقد طالت هذه الترجمة بسبب طول الرسالة ولم يمكن قطعها
وقال صاحبنا الكمال ابن الشعار الموصلي في كتاب عقود الجمان أنشدني أبو عبد الله محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي صاحب تاريخ بغداد قال أنشدني ياقوت المذكور لنفسه في غلام تركي قد رمدت عينه وعليها وقاية سوداء
(ومولد للترك تحسب وجهه
* بدرا يضيء سناه بالإشراق)
(أرخى على عينيه فضل وقاية
* ليرد فتنتها عن العشاق)

138
(تلله لو أن السوابغ دونها
* نفذت فهل لوقاية من واق)
وكانت ولادة ياقوت المذكور في سنة أربع أو خمس وسبعين وخمسمائة ببلاد الروم هكذا قاله
وتوفي يوم الأحد العشرين من شهر رمضان سنة ست وعشرين وستمائة في الخان بظاهر مدينة حلب حسبما قدمنا ذكره في أول الترجمة رحمه الله تعالى
وكان قد وقف كتبه على مسجد الزيدي الذي بدرب دينار ببغداد وسلمها إلى الشيخ عز الدين أبي الحسن علي بن الأثير صاحب التاريخ الكبير فحملها إلى هناك
ولما تميز ياقوت المذكور واشتهر سمى نفسه يعقوب
وقدمت حلب للاشتغال بها في مستهل ذي القعدة سنة وفاته وذلك عقيب موته والناس يثنون عليه ويذكرون فضله وأدبه ولم يقدر لي الاجتماع به
791 الحافظ ابن معين
أبو زكريا يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام بن عبد الرحمن المري البغدادي الحافظ المشهور كان إماما عالما حافظا متقنا قيل إنه من قرية نحو الأنبار تسمى نقياي
وكان أبوه كاتبا لعبد الله بن مالك وقيل إنه كان على خراج الري فمات فخلف لابنه يحيى المذكور ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم فأنفق جميع المال على الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه
وسئل يحيى المذكور كم كتبت من الحديث فقال كتبت بيدي

139
هذه ستمائة ألف حديث وقال راوي هذا الخبر وهو أحمد بن عقبة وإني أظن أن المحدثين قد كتبوا له بأيديهم ستمائة ألف وستمائة ألف
وخلف من الكتب مائة قمطر وثلاثين قمطرا وأربعة حباب شرابية مملوءة كتبا وهو صاحب الجرح والتعديل
وروى عنه الحديث كبار الأئمة منهم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري وأبو داود السجستاني وغيرهم من الحفاظ وكان بينه وبين الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه من الصحبة والألفة والاشتراك في الاشتغال بعلوم الحديث ما هو مشهور ولا حاجة إلى الإطالة فيه وروى عنه هو وأبو خيثمة وكانا من أقرانه
وقال علي بن المديني انتهى العلم بالبصرة إلى يحيى بن أبي كثير وقتادة وعلم الكوفة إلى أبي إسحاق والأعمش وانتهى علم الحجاز إلى ابن شهاب وعمرو بن دينار وصار علم هؤلاء الستة بالبصرة إلى سعيد بن أبي عروبة وشعبة ومعمر وحماد بن سلمة وأبي عوانة ومن أهل الكوفة إلى سفيان الثوري وسفيان بن عيينة ومن أهل الحجاز إلى مالك بن أنس ومن أهل الشام إلى الأوزاعي وانتهى علم هؤلاء إلى محمد بن إسحاق وهشيم ويحيى بن سعيد وابن أبي زائدة ووكيع وابن المبارك وهو أوسع هؤلاء علما وابن مهدي ويحيى بن آدم وصار علم هؤلاء جميعا إلى يحيى بن معين
وقال أحمد بن حنبل كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس هو بحديث
وكان يقول صاحبنا رجل خلقه الله لهذا الشأن يظهر كذب الكذابين يعني يحيى بن معين
وقال ابن الرومي ما سمعت أحدا قط يقول الحق في المشايخ غير يحيى ابن معين وغيره كان يتحامل بالقول

140
وقال يحيى ما رأيت على رجل قط خطأ إلا سترته عليه وأحببت أن أبين أمره وما استقبلت رجلا في وجهه بأمر يكرهه ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه فإن قبل ذلك وإلا تركته
وكان يقول كتبنا عن الكذابين وسجرنا به التنور وأخرجنا به خبزا نضيجا وكان ينشد
(المال يذهب حله وحرامه
* طرا وتبقى في غد آثامه)
(ليس التقي بمتق لإلهه
* حتى يطيب شرابه وطعامه)
(ويطيب ما يحوي وتكسب كفه
* ويكون في حسن الحديث كلامه)
(نطق النبي لنا به عن ربه
* فعلى النبي صلاته وسلامه)
وقد ذكره الدارقطني فيمن روى عن الإمام الشافعي رضي الله عنه وقد سبق في ترجمة الشافعي خبره معه وما جرى بينه وبين الإمام أحمد بن حنبل في ذلك وسمع أيضا من عبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة
وكان يحج فيذهب إلى مكة على المدينة ويرجع إلى المدينة فلما كان آخر حجة حجها خرج على المدينة ورجع على المدينة فأقام بها ثلاثة أيام ثم خرج حتى نزل المنزل مع رفقائه فباتوا فرأى في النوم هاتفا يهتف به يا أبا زكريا أترغب عن جواري فلما أصبح قال لرفقائه امضوا فإني راجع إلى المدينة فمضوا ورجع فأقام بها ثلاثا ثم مات فحمل على أعواد النبي صلى الله عليه وسلم
وكانت وفاته لسبع ليال بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين هكذا قاله الخطيب في تاريخ بغداد وهو غلط قطعا لما تقدم ذكره وهو أنه خرج إلى مكة للحج ثم رجع إلى المدينة ومات بها ومن يكون قد حج كيف يتصور أن يموت بذي القعدة من تلك السنة فلو ذكر أنه توفي في ذي الحجة لأمكن
وكان يحتمل أن يكون هذا غلطا من الناسخ لكني وجدته في

141
نسختين على هذه الصورة فيبعد أن يكون من الناسخ والله أعلم
ثم ذكر بعد ذلك أن الصحيح أنه مات قبل أن يحج وعلى هذا يستقيم ما قاله من تاريخ الوفاة
ثم نظرت في كتاب الإرشاد في معرفة علماء الحديث تأليف أبي يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن الخليل الخليلي الحافظ أن يحيى ابن معين المذكور توفي لسبع ليال بقين من ذي الحجة من السنة المذكورة فعلى هذا يكون قد حج وذكر الخطيب أيضا أن مولده كان آخر سنة ثمان وخمسين ومائة ثم قال بعد ذكر وفاته إنه بلغ سبعا وسبعين سنة إلا عشرة أيام وهذا أيضا لا يصح من جهة الحساب فتأمله
ورأيت في بعض التواريخ أنه عاش خمسا وسبعين سنة والله أعلم بالصواب وصلى عليه والي المدينة ثم صلي عليه مرارا ودفن بالبقيع وكان بين يدي جنازته رجل ينادي هذا الذي كان ينفي الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورثاه بعض المحدثين فقال
(ذهب العليم بعيب كل محدث
* وبكل مختلف من الإسناد)
(وبكل وهم في الحديث ومشكل
* يعيا به علماء كل بلاد) رضي الله عنه
ومعين بفتح الميم وكسر العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون
وبسطام بكسر الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف ميم والباقي معروف فلا حاجة إلى ضبطه
ورأيت في بعض التواريخ أنه يحيى بن معين بن غياث بن زياد بن عون بن بسطام مولى الجنيد بن عبد الرحمن الغطفاني المري أمير خراسان من قبل هشام ابن عبد الملك الأموي والأول أشهر وأصح أعني النسب
والمري بضم الميم وتشديد الراء هذه النسبة إلى مرة غطفان وهو مرة

142
ابن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان وهي قبيلة كبيرة مشهورة وفي العرب عدة قبائل تنسب إليها يقال لكل واحدة منها مرة
وأما نقياي فقال ابن السمعاني في كتاب الأنساب إنها بفتح النون وكسر القاف أو فتحها وبعدها ياء مفتوحة تحتها نقطتان وبعد الألف ياء ثانية وهي من قرى الأنبار منها يحيى بن معين النقيايي قال الخطيب ويقال إن فرعون كان من أهل هذه القرية والله أعلم
792 يحيى بن يحيى الليثي
أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس وقيل وسلاسن ابن شمال بن منغايا الليثي أصله من البربر من قبيلة يقال لها مصمودة تولى بني ليث فنسب إليهم وجده كثير يكنى أبا عيسى وهو الداخل إلى الأندلس وسكن قرطبة وسمع بها من زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشبطون القرطبي موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه وسمع من يحيى ابن مضر القيسي الأندلسي
ثم رحل إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة فسمع من مالك بن أنس الموطأ غير أبواب في كتاب الاعتكاف شك في

143
سماعه فيها فأثبت روايته فيها عن زياد وسمع بمكة من سفيان بن عيينة وبمصر من الليث بن سعد وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم وتفقه بالمدنيين والمصريين من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه بمالك وملازمته له وكان مالك يسميه عاقل الأندلس وسبب ذلك فيما يروى أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه فقال قائل قد حضر الفيل فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه ولم يخرج يحيى فقال له مالك ما لك لا تخرج فتراه لأنه لا يكون بالأندلس فقال إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك ولم أجىء لأنظر إلى الفيل فأعجب به مالك وسماه عاقل أهل الأندلس
ثم إن يحيى عاد إلى الأندلس وانتهت إليه الرياسة بها وبه انتشر مذهب مالك في تلك البلاد وتفقه به جماعة لا يحصون عددا وروى عنه خلق كثير وأشهر روايات الموطأ وأحسنها رواية يحيى المذكور
وكان مع إمامته ودينه معظما عند الأمراء مكينا عفيفا عن الولايات متنزها جلت رتبته عن القضاء فكان أعلى قدرا من القضاة عند ولاة الأمر هناك لزهده في القضاء وامتناعه منه
قال أبو محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم الأندلسي المقدم ذكره مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان مذهب أبي حنيفة فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف يعقوب صاحب أبي حنيفة وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى كانت القضاة من قبله فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى المشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إليه وإلى مذهبه ومذهب مالك ابن أنس عندنا في بلاد الأندلس فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة فكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه والناس سراع إلى

144
الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم وداعيا إلى قبول رأيه لديهم
وحكى أحمد بن أبي الفياض في كتابه قال كتب الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأموي المعروف بالربضي صاحب الأندلس إلى الفقهاء يستدعيهم إليه فأتوا إلى القصر وكان عبد الرحمن المذكور قد نظر في شهر رمضان إلى جارية له كان يحبها حبا شديدا فعبث بها ولم يملك نفسه أن وقع عليها ثم ندم ندما شديدا فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته فقال يحيى بن يحيى يكفر ذلك بصوم شهرين متتابعين فلما بدر يحيى بهذه الفتيا سكت بقية الفقهاء حتى خرجوا من عنده فقال بعضهم لبعض وقالوا ليحيى ما لك لم تفته بمذهب مالك فعنده أنه مخير بين العتق والطعام والصيام فقال لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود
ولما انفصل يحيى عن مالك ليعود إلى بلاده ووصل إلى مصر رأى عبد الرحمن بن القاسم يدون سماعه عن مالك فنشط للرجوع إلى مالك ليسمع منه المسائل التي كان ابن القاسم دونها عنه فرحل رحلة ثانية فألفى مالكا عليلا فأقام عنده إلى أن مات وحضر جنازته فعاد إلى ابن القاسم وسمع منه سماعه من مالك ذكر ذلك أبو الوليد ابن الفرضي في تاريخه وذكر أيضا فيه ما مثاله وانصرف يحيى بن يحيى إلى الأندلس فكان إمام وقته وواحد بلاده وكان رجلا عاقلا
قال محمد بن عمر بن لبابة فقيه الأندلس عيسى بن دينار وعالمها عبد الملك بن حبيب وعاقلها يحيى بن يحيى

145
وكان يحيى ممن اتهم ببعض الأمر في الهيج فخرج إلى طليطلة ثم استأمن فكتب له الأمير الحكم أمانا وانصرف إلى قرطبة
وكان أحمد بن خالد يقول لم يعط أحد من أهل العلم بالأندلس منذ دخلها الإسلام من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر ما أعطيه يحيى بن يحيى
وقال ابن بشكوال في تاريخه كان يحيى بن يحيى مجاب الدعوة وكان قد أخذ في نفسه وهيئته ومقعده هيئة مالك
وحكي عنه أنه قال أخذت ركاب الليث بن سعد فأراد غلامه أن يمنعني فقال دعه ثم قال لي الليث خدمك أهل العلم فلم تزل بي الأيام حتى رأيت ذلك
ثم قال وتوفي يحيى بن يحيى في رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين وقبره بمقبرة ابن عياش يستسقى به وهذه المقبرة بظاهر قرطبة
وزاد أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس أن وفاته كانت لثمان بقين من الشهر المذكور وقال أبو الوليد ابن الفرضي في تاريخه إنه توفي سنة ثلاث وثلاثين وقيل سنة أربع وثلاثين في رجب والله أعلم بالصواب
وأما وسلاس فهو بكسر الواو وسينين مهملتين الأولى منهما ساكنة وبينهما لام ألف ويزاد فيه نون فيقال وسلاسن ومعناه بالبربرية يسمعهم
وشمال بفتح الشين المعجمة وتشديد الميم وبعد الألف لام
ومنغايا بفتح الميم وسكون النون وفتح الغين المعجمة وبعد الألف ياء معجمة باثنتين من تحتها وبعدها ألف مقصورة ومعناه عندهم قاتل هذا والله أعلم
وقد تقدم الكلام على الليثي والبربري ومصمودة والله أعلم

146
793 يحيى بن أكثم
أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن بن سمعان بن مشنج التميمي الأسيدي المروزي من ولد أكثم بن صيفي التميمي حكيم العرب كان عالما بالفقه بصيرا بالأحكام ذكره الدارقطني في أصحاب الشافعي رضي الله عنه
وقال الخطيب في تاريخ بغداد كان يحيى بن أكثم سليما من البدعة ينتحل مذهب أهل السنة سمع عبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وغيرهما وقد مر ذكره في ترجمة سفيان وما دار بينهما وروى عنه أبو عيسى الترمذي وغيره
وقال طلحة بن محمد بن جعفر في حقه يحيى بن أكثم أحد أعلام الدنيا ومن قد اشتهر أمره وعرف خبره ولم يستتر عن الكبير والصغير من الناس فضله وعلمه ورياسته وسياسته لأمره وأمر أهل زمانه من الخلفاء والملوك واسع العلم بالفقه كثير الأدب حسن العارضة قائم بكل معضلة وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعا
وكان المأمون ممن برع في العلوم فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه

147
حتى قلده القضاة وتدبير أهل مملكته فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئا إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم ولا نعلم أحدا غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي داود
وسئل رجل من البلغاء عن يحيى بن أكثم وابن أبي داود أيهما أنبل فقال كان أحمد يجد مع جاريته وابنته ويحيى يهزل مع خصمه وعدوه
وكان يحيى سليما من البدعة ينتحل مذهب أهل السنة بخلاف أحمد بن أبي داود وقد تقدم في ترجمته طرف من اعتقاده وتعصبه للمعتزلة وكان يحيى يقول القرآن كلام الله فمن قال إنه مخلوق يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه
وذكر الفقيه أبو الفضل عبد العزيز بن علي بن عبد الرحمن الأشنهي الملقب زين الدين في كتاب الفرائض في آخر المسائل الملقبات وهي الرابعة عشرة المعروفة بالمأمونية وهي أبوان وابنتان لم تقسم التركة حتى ماتت إحدى البنتين وخلفت من في المسألة سميت مأمونية لأن المأمون أراد أن يولي رجلا على القضاء فوصف له يحيى بن أكثم فاستحضره فلما حضر دخل عليه وكان دميم الخلق فاستحقره المأمون لذلك فعلم ذلك يحيى فقال يا أمير المؤمنين سلني إن كان القصد علمي لا خلقي فسأله عن هذه المسألة فقال يا أمير المؤمنين الميت الأول رجل أم امرأة فعرف المأمون أنه قد عرف المسألة فقلده القضاء
وهذه المسألة إن كان الميت الأول رجلا تصح المسألتان من أربعة وخمسين وإن كانت امرأة لم يرث الجد في المسألة الثانية شيئا لأنه أبو أم فتصح المسألتان من ثمانية عشر سهما

148
وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة ونحوها فاستصغره أهل البصرة فقالوا كم سن القاضي فعلم أنه قد استصغر فقال أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيا على مكة يوم الفتح وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيا على أهل اليمن وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضيا على أهل البصرة فجعل جوابه احتجاجا
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولى عتاب بن أسيد مكة بعد فتحها وله إحدى وعشرون سنة وقيل ثلاث وعشرون وكان إسلامه يوم فتح مكة وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أصحبك وأكون معك فقال أو ما ترضى أن أستعملك على آل الله تعالى فلم يزل عليهم حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال وبقي يحيى سنة لا يقبل بها شاهدا فتقدم إليه أحد الأمناء فقال أيها القاضي قد وقفت الأمور وتريثت الأحوال فقال وما السبب قال في ترك القاضي قبول الشهود فأجاز في ذلك اليوم منها سبعين شاهدا
وقال غير الخطيب كانت ولاية القاضي يحيى بن أكثم القضاء بالبصرة سنة اثنتين ومائتين
وقد سبق في ترجمة حماد بن أبي حنيفة أن يحيى المذكور ولي البصرة بعد إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة وذكر عمر بن شبة في كتاب أخبار البصرة أن يحيى عزل عن
قضاء البصرة في سنة عشرين ومائتين وتولى إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة
وحدث محمد بن منصور قال كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء بكرا غدا إليه فإن رأيتما للقول وجها فقولا وإلا فاسكتا

149
إلى أن أدخل قال فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه وأنا أنهى عنهما ومن أنت يا جعل حتى تنهى عما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه فأومأ أبو العيناء إلى محمد بن منصور وقال رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن فأمسكنا فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا فقال المأمون ليحيى مالي أراك متغيرا فقال هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام قال وما حدث فيه قال النداء بتحليل الزنا قال الزنا قال نعم المتعة زنا قال ومن أين قلت هذا قال من كتاب الله عز وجل وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى * (قد أفلح المؤمنون) * إلى قوله * (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * المؤمنون 1 7 يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين قال لا قال فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها قال لا قال فقد صار متجاوز هذين من العادين وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان أمر بها فالتفت إلينا المأمون فقال أمحفوظ هذا من حديث الزهري فقلنا نعم يا أمير المؤمنين رواه جماعة منهم مالك رضي الله عنه فقال أستغفر الله نادوا بتحريم المتعة فنادوا بها
قال أبو إسحاق إسماعيل ابن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم الأزدي القاضي الفقيه المالكي

150
البصري وقد ذكر يحيى بن أكثم فعظم أمره وقال كان له يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله وذكر هذا اليوم
وكانت كتب يحيى في الفقه أجل كتب فتركها الناس لطولها وله كتب في الأصول وله كتاب أورده على العراقيين سماه كتاب التنبيه وبينه وبين داود بن علي مناظرات كثيرة
ولقيه رجل وهو يومئذ على القضاء فقال أصلح الله القاضي كم آكل قال فوق الجوع ودون الشبع فقال فكم أضحك قال حتى يسفر وجهك ولا يعلو صوتك قال فكم أبكي قال لا تمل من البكاء من خشية الله تعالى قال فكم أخفي عملي قال ما استطعت قال فكم أظهر منه قال مقدار ما يقتدي بك البر الخير ويؤمن عليك قول الناس قال الرجل سبحان الله قول قاطن وعمل ظاعن
وكان يحيى من أدهى الناس وأخبرهم بالأمور رأيت في بعض المجاميع أن أحمد بن أبي خالد الأحول وزير المأمون وقف بين يدي المأمون وخرج يحيى بن أكثم من بعض المستراحات فوقف فقال له المأمون اصعد فصعد وجلس على طرف السرير معه فقال أحمد يا أمير المؤمنين إن القاضي يحيى صديقي وممن أثق به في جميع أموري وقد تغير عما عهدته منه فقال المأمون يا يحيى إن فساد أمر الملوك بفساد خاصتهم وما يعدلكما عندي أحد فما هذه الوحشة بينكما فقال له يحيى يا أمير المؤمنين والله أنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف ولكنه لما رأى منزلتي منك هذه المنزلة خشي أن أتغير له يوما فأقدح فيه عندك فأحب أن يقول لك هذا ليأمن مني وإنه والله لو بلغ نهاية مساءتي ما ذكرته بسوء عندك أبدا فقال المأمون أكذلك هو يا أحمد قال نعم يا أمير المؤمنين قال أستعين بالله عليكما فما رأيت أتم دهاء ولا أعظم فطنة منكما

151
ولم يكن فيه ما يعاب به سوى ما كان يتهم به من الهنات المنسوبة إليه الشائعة عنه والله أعلم بحاله فيها وذكر الخطيب في تاريخه أنه ذكر لأحمد بن حنبل رضي الله عنه ما يرميه الناس به فقال سبحان الله سبحان الله من يقول هذا وأنكر ذلك إنكارا شديدا
وذكر عنه أيضا أنه كان يحسد حسدا شديدا وكان مفننا فكان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو وإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام ليقطعه ويخجله فدخل إليه رجل من أهل خراسان ذكي حافظ فناظره فرآه مفننا فقال له نظرت في الحديث قال نعم قال ما تحفظ من الأصول قال أحفظ عن شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أن عليا رضي الله عنه رجم لوطيا فأمسك ولم يكلمه
ثم قال الخطيب أيضا ودخل على يحيى بن أكثم ابنا مسعدة وكانا على نهاية الجمال فلما رآهما يمشيان في الصحن أنشأ يقول
(يا زائرينا من الخيام
* حياكما الله بالسلام)
(لم تأتياني وبي نهوض
* إلى حلال ولا حرام)
(يحزنني أن وقفتما بي
* وليس عندي سوى الكلام)
ثم أجلسهما بين يديه وجعل يمازحهما حتى انصرفا
ويقال إنه عزل عن الحكم بسبب هذه الأبيات
ورأيت في بعض المجاميع أن يحيى بن أكثم مازح الحسن بن وهب المذكور في ترجمة أخيه سليمان بن وهب وهو يومئذ صبي فلاعبه ثم جمشه فغضب الحسن فأنشد
يحيى
(أيا قمرا جمشته فتغضبا
* وأصبح لي من تيهه متجنبا)

152
(إذا كنت للتجميش والعض كارها
* فكن أبدا يا سيدي متنقبا)
(ولا تظهر الأصداغ للناس فتنة
* وتجعل منها فوق خديك عقربا)
(فتقتل مسكينا وتفتن ناسكا
* وتترك قاضي المسلمين معذبا)
وقال أحمد بن يونس الضبي كان زيدان الكاتب يكتب بين يدي يحيى ابن أكثم القاضي وكان غلاما جميلا متناهي الجمال فقرص القاضي خده فخجل الغلام واستحيا وطرح القلم من يده فقال له يحيى خذ القلم واكتب ما أملي عليك ثم أملى الأبيات المذكورة والله أعلم
وقال إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار سمعت أبا العيناء في مجلس أبي العباس المبرد يقول كنت في مجلس أبي عاصم النبيل وكان أبو بكر ابن يحيى بن أكثم حاضرا فنازع غلاما فارتفع الصوت فقال أبو عاصم مهيم فقالوا هذا أبو بكر ين يحيى بن أكثم ينازع غلاما فقال إن يسرق فقد سرق أب له من قبل هكذا ذكره الخطيب في تاريخه
وذكر الخطيب أيضا في تاريخه أن المأمون قال ليحيى المذكور من الذي يقول
(قاض يرى الحد في الزناء ولا
* يرى على من يلوط من باس)
قال أو ما يعرف أمير المؤمنين من القائل قال لا قال يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول
(لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأمة
* وال من آل عباس)
قال فأفحم المأمون خجلا وقال ينبغي أن ينفي أحمد بن أبي نعيم إلى السند وهذان البيتان من جملة أبيات أولها

153
(أنطقني الدهر بعد إخراس
* لنائبات أطلن وسواسي)
(يا بؤس للدهر لا يزال كما
* يرفع ناسا يحط من ناس)
(لا أفلحت أمة وحق لها
* بطول نكس وطول إتعاس)
(ترضى بيحيى يكون سائسها
* وليس يحيى لها بسواس)
(قاض يرى الحد في الزناء ولا
* يرى على من يلوط من باس)
(يحكم للأمرد الغرير على
* مثل جرير ومثل عباس)
(فالحمد لله كيف قد ذهب العدل
* وقل الوفاء في الناس)
(أميرنا يرتشي وحاكمنا
* يلوط والرأس شر ما راس)
(لو صلح الدين فاستقام لقد
* قام على الناس كل مقياس)
(لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأمة
* وال من آل عباس)
وظني أنها أكثر من هذا ولكن الخطيب لم يذكر إلا هذا القدر
ونقلت من أمالي أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري المقدم ذكره أن القاضي يحيى بن أكثم قال لرجل يأنس به ويمازحه ما تسمع الناس يقولون في قال ما أسمع إلا خيرا قال ما أسألك لتزكيني قال أسمعهم يرمون القاضي بالأبنة قال فضحك وقال اللهم غفرا المشهور عنا غير هذا
وحكى أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني ليحيى المذكور وقائع في هذا الباب وأن المأمون لما تواتر النقل عن يحيى بهذا أراد امتحانه فأخلى له مجلسا واستدعاه وأوصى مملوكا خزريا يقف عندهما وحده فإذا خرج المأمون يقف المملوك ولا ينصرف وكان المملوك في غاية الحسن فلما اجتمعا بالمجلس وتحادثا قام المأمون كأنه يقضي حاجة فوقف المملوك فتجسس المأمون عليهما

154
وكان قد قرر معه أن يعبث بيحيى علما منه أن يحيى لا يتجاسر عليه خوفا من المأمون فلما عبث به المملوك سمعه المأمون وهو يقول لولا أنتم لكنا مؤمنين فدخل المأمون وهو ينشد
(وكنا نرجي أن نرى العدل ظاهرا
* فأعقبنا بعد الرجاء قنوط)
(متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها
* وقاضي قضاة المسلمين يلوط)
وهذان البيتان لأبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب وراشد له فيه مقاطيع كثيرة
وذكر المسعودي في مروج الذهب في ترجمة المأمون جملة من أخبار يحيى في هذا الباب أضربنا عن ذكرها
ومما يناسب حكاية المأمون مع يحيى بسؤاله عن البيت لمن هو وإجابة يحيى ببيت آخر من القصيدة ما يروى أن معاوية بن أبي سفيان الأموي لما مرض مرض موته واشتدت علته وحصل اليأس منه دخل عليه بعض أولاد علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يعوده ولا أستحضر الآن من هو فوجده قد استند جالسا يتجلد له لئلا يشتفي به فضعف عن القعود فاضطجع وأنشد
(وتجلدي للشامتين أريهم
* أني لريب الدهر لا أتضعضع)
فقام العلوي من عنده وهو ينشد
(وإذا المنية أنشبت أظفارها
* ألفيت كل تميمة لا تنفع)
فعجب الحاضرون من جوابه
وهذان البيتان من جملة قصيدة طويلة لأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي يرثي بها بنيه وكان قد هلك له خمس بنين في عام واحد أصابهم الطاعون

155
وكانوا هاجروا معه إلى مصر وهلك أبو ذؤيب المذكور في طريق مصر وقيل في طريق إفريقية مع عبد الله بن الزبير
ثم وجدت في كتاب فلك المعاني لابن الهبارية في الباب التاسع من الكتاب المذكور أن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما دخل على معاوية في علته فقال أسندوني ثم تمثل ببيت أبي ذؤيب وأنشد البيت المذكور فسلم الحسين ثم أنشد البيت الثاني والله أعلم
وذكرها أبو بكر ابن داود الظاهري في كتاب الزهرة منسوبة إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما والله أعلم
قلت ولم يذكر ابن الهبارية ولا الظاهري أنه كان في علة الموت ولا يمكن ذلك لأن الحسن توفي قبل معاوية والحسين لم يحضر وفاة معاوية لأنه كان بالحجاز ومعاوية توفي بدمشق
ثم وجدت في أول كتاب التعازي تأليف أبي العباس المبرد هذه القصة
جرت للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان والظاهر أن ابن الهبارية منه نقلها
ومثل ذلك أيضا ما يحكى أن عقيل بن أبي طالب هاجر أخاه عليا رضي الله عنه والتحق بمعاوية فبالغ معاوية في بره وزاد في إكرامه إرغاما لعلي رضي الله عنه فلما قتل علي واستقل معاوية بالأمر ثقل عليه أمر عقيل فكان يسمعه ما يكره لينصرف عنه فبينما هو يوما في مجلس حفل بأهل الشام إذ قال معاوية أتعرفون أبا لهب الذي نزل في حقه قوله تعالى * (تبت يدا أبي لهب) * المسد 1 من هو فقال أهل الشام لا فقال معاوية هو عم هذا وأشار إلى عقيل فقال عقيل في الحال أتعرفون امرأته التي قال الله في حقها * (وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد) * المسد 4 من هي فقالوا لا

156
قال هي عمة هذا وأشار إلى معاوية وكانت عمته أم جميل بنت حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف زوجة أبي لهب بن عبد العزى وهي المشار إليها في هذه
السورة فكان ذلك من الأجوبة المسكتة
ويقرب من هذا أيضا أن بعض الملوك حاصر بعض البلاد وكان معه عساكر عظيمة بكثرة الرجال والخيل والعدد فكتب الملك المحاصر إلى صاحب البلد كتابا يشير إليه بأنه يسلم البلد إليه ولا يقاتله وذكر ما جاء به من الرجال والأموال والآلات ومن جملة الكتاب قوله تعالى * (حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) * النمل 18 فلما وصل الكتاب إلى صاحب البلد وتأمله وقرأه على خواصه قال من يجاوب عن هذا فقال بعض الكتاب تكتب إليه * (فتبسم ضاحكا من قولها) * النمل 19 فاستحسن الحاضرون جوابه
ومثل هذا أيضا ما حكاه ابن رشيق القيرواني في كتاب الأنموذج وهو أن عبد الله بن إبراهيم بن المثنى الطوسي المعروف بابن المؤدب المهدوي الأصل القيرواني البلد الشاعر المشهور كان مغرى بالسياحة وطلب الكيمياء والأحجار وكان محروما مقترا عليه متلافا إذا أفاد شيئا فخرج مرة يريد جزيرة صقلية فأسره الروم في البحر وأقام مدة طويلة إلى أن هادن ثقة الدولة يوسف بن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين القضاعي صاحب صقلية الروم وبعث إليه بالأسرى فكان عبد الله المذكور فيمن بعث فامتدح عبد الله المذكور ثقة

157
الدولة بقصيدة شكره فيها على صنعه ورجا صلته فلم يصله بشيء أرضاه وكانت فيه رغبة فتكلم وطلب طلبا شديدا وهو مستخف عند بعض من يعرف من أهل صناعته وطالت المدة فخرج سكران يشتري نقلا فما شعر إلا وقد أخذ وحمله صاحب الشرطة حتى أدخله على ثقة الدولة فقال له ما الذي بلغني يا بائس قال المحال أيد الله سيدنا الأمير قال ومن هو الذي يقول في شعره
(فالحر ممتحن بأولاد الزنا
*)
قال هو الذي يقول
(وعداوة الشعراء بئس المقتنى
*)
فتنمر ساعة ثم أمر له بمائة رباعي وأخرجه من المدينة كراهية أن تقوم عليه نفسه فيعاقبه بعد أن عفا عنه فخرج منها
وهذا المستشهد به عجزا بيتين من شعر المتنبي في قصيدته النونية التي يمدح بها بدر بن عمار وأولها
(الحب ما منع الكلام الألسنا
* وألذ شكوى عاشق ما أعلنا)
وهي من مشاهير قصائده وأول العجز الأول
(وأنه المشير عليك في بضلة
* فالحر ممتحن بأولاد الزنا)
وأول العجز الثاني
(ومكايد السفهاء واقعة بهم
* وعداوة الشعراء بئس المقتنى)

158
وإذ قد ذكرنا ثقة الدولة المذكور فنذكر قصيدة أبي محمد عبد الله بن محمد التنوخي المعروف بابن قاضي ميلة التي مدحه بها في عيد النحر وهي قصيدة بديعة لا توجد بكمالها في أيدي الناس ولقد ظفرت بها في ظهر كتاب ولم يكن عندي منها سوى البعض ولا سمعت أحدا يروي منها إلا ذلك القدر فأحببت إثباتها لحسنها وغرابتها وهي هذه
(يذيل الهوى دمعي وقلبي المعنف
* وتجني جفوني الوجد وهو المكلف)
(وإني ليدعوني إلى ما شنفته
* وفارقت مغناه الأغن المشنف)
(وأحور ساجي الطرف أما وشاحه
* فصفر وأما وقفه فموقف)
(يطيب أجاج الماء من نحو أرضه
* يحيي ويندى ريحه وهو حرجف)
(وأيأسني من وصله أن دونه
* متالف تسري الريح فيها فتتلف)
(وغيران يجفو النوم كي لا يرى لنا
* إذا نام شملا في الكرى يتألف)
(يظل على ما كان من قرب دارنا
* وغفلته عما مضى يتأسف)
(وجون بمزن الرعد يستن ودقه
* يرى برقه كالحية الصل تطرف)
(كأني إذا ما لاح والرعد معول
* وجفن السحاب الجون بالماء يذرف)
(سليم وصوت الرعد راق وودقه
* كنفث الرقى من سوء ما أتكلف)
(ذكرت به ريا وما كنت ناسيا
* فأذكر لكن لوعة تتضعف)
(ولما التقينا محرمين وسيرنا
* بلبيك ربا والركائب تعسف)
(نظرت إليها والمطي كأنما
* غواربها منها معاطس رعف)
(فقالت أما منكن من يعرف الفتى
* فقد رابني من طول ما يتشوف)
(أراه إذا سرنا يسير حذاءنا
* ونوقف أخفاف المطي فيوقف)

159
(فقلت لتربيها ابلغاها بأنني
* بها مستهام قالتا نتلطف)
(وقولا لها يا أم عمرو أليس ذا
* منى والمنى في خيفه ليس يخلف)
(تفاءلت في أن تبذلي طارف الوفا
* بأن عن لي منك البنان المطرف)
(وفي عرفات ما يخبر أنني
* بعارفة من عطف قلبك أسعف)
(وأما دماء الهدي فهي هدى لنا
* يدوم ورأي في الهوى يتألف)
(وتقبيل ركن البيت إقبال دولة
* لنا وزمان بالمودة يعطف)
(فأوصلتا ما قلته فتبسمت
* وقالت أحاديث العيافة زخرف)
(بعيشي ألم أخبركما أنه فتى
* على لفظه برد الكلام المفوف)
(فلا تأمنا ما اسطعتما كيد نطقه
* وقولا ستدري أينا اليوم أعيف)
(إذا كنت ترجو في منى الفوز بالمنى
* ففي الخيف من إعراضنا تتخوف)
(وقد أنذر الإحرام أن وصالنا
* حرام وأنا عن مزارك نصدف)
(وهذا وقذفي بالحصى لك مخبر
* بأن النوى بي عن ديارك تقذف)
(وحاذر نفارى ليلة النفر إنه
* سريع فقل من بالعيافة أعرف)
(فلم أر مثلينا خليلي مودة
* لكل لسان ذو غرارين مرهف)
(أما إنه لولا أغن مهفهف
* وأشنف براق وأحور أوطف)
(لراجع مشتاق ونام مسهد
* وأيقن مرتاب وأقصر مدنف)
(وعاذلة في بذل ما ملكت يدي
* لراج رجاني دون صحبي تعنف)
(تقول إذا أفنيت مالك كله
* وأحوجت من يعطيكه قلت يوسف)
(أغر قضاعي يكاد نواله
* لكثرة ما يدعو إلى الشكر يجحف)
(إذا نحن أخلفنا مخايل ديمة
* وجدنا حيا معروفه ليس يخلف)
(سعى وسعى الأملاك في طلب العلا
* ففاز وأكدوا إذ أخف وأقطفوا)

160
(ويقظان شاب البطش باللين والتقى
* بكفيه ما يرجى وما يتخوف)
(حسام على من ناصب الدين مصلت
* وستر على من راقب الله مغدف)
(يسايره جيشان رأي وفيلق
* ويصحبه سيفان عزم ومرهف)
(مطل على من شاءه فكأنما
* على حكمه صرف الردى يتصرف)
(يرى رأيه ما لا ترى عين غيره
* ويفري به ما ليس يفري المثقف)
(رعى الله من ترعى حمى الدين عينه
* ويحمي حمى الإسلام والليل أغضف)
(ومن وعده في مسرح الحمد مطلق
* وإيعاده في ذمة الحلم موقف)
(ومن يضرب الأعداء هبرا فينثني
* صناديدهم والبيض بالهام تقذف)
(رماهم بمجر ضعضع الأرض رزه
* كأن الروابي منه بالنبل تدلف)
(كأن الردينيات في رونق الضحى
* أراقم في طام من الآل تزحف)
(يعود الدجى من بيضه وهو أبيض
* ويبدو الضحى من نقعه وهو أكلف)
(ويحجب نور الشمس بالنقع عنهم
* ففعل الظبا في هامهم لا يكيف)
(لهم كل عام منك جاءوك فيلق
* يسائل عنهم بالعوالي فيلحف)
(إذا ما طووا كشحا على قرح عامهم
* وبلوا من الآلام أنشأت تقرف)
(فكم من أغم الوجه غاو تركته
* وهاديه من عثنون لحييه أكثف)
(هوى المقضب الماضي بمهواه فانثنى
* صريعا تراه حبترا وهو أسقف)
(لعمري لقد عاديت في الله طالبا
* رضاه وقد أبليت ما الله يعرف)
(أطالبتهم في الأهل حتى تركتهم
* فرادى وفي الأديان حتى تحنفوا)
(فيا ثقة الملك الذي الملك سهمه
* يراش لأكباد الأعادي ويرصف)
(هنيئا لك العيد الذي منك حسنه
* يروق ومن أوصافك الغر يوصف)
(بدا معلم الأرجاء يزهى كأنما
* على عطفه وشي العراق المشفف)
(أتى بعد حول زائرا عن تشوق
* وقد كان ذا طرف للقياك يطرف)

161
(فطوقته عزا وشنفته به
* فلاح لنا وهو المحلى المشنف)
(وقابله بالسعد نجلك جعفر
* فيا لك من عيد بملكين تتحف)
(فلا زلت تستجدى فتولي وترتجى
* فتكفي وتستدعى لخطب فتكشف)
نجزت القصيدة
(314) وكان لثقة الدولة المذكور ولد يدعى تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة وكان أديبا شاعرا وله الأبيات السائرة في غلامين على أحدهما ثوب ديباج أحمر وعلى الآخر ثوب ديباج أسود وهي
(أرى بدرين قد طلعا
* على غصنين في نسق)
(وفي ثوبين قد صبغا
* صباغ الخد والحدق)
(فهذا الشمس في شفق
* وهذا البدر في غسق)
وكان عمله لهذه الأبيات في سنة سبع وعشرين وخمسمائة
ولما توجه المأمون إلى مصر وذلك في سنة سبع عشرة ومائتين دخلها لعشر خلون من المحرم وخرج منها سلخ صفر من السنة كان معه القاضي يحيى بن أكثم فولاه قضاء مصر وحكم بها ثلاثة أيام ثم خرج مع المأمون وعده ابن زولاق في جملة قضاة مصر لذلك
وروي عن يحيى بن أكثم أنه قال اختصم إلي في الرصافة الجد الخامس يطلب ميراث ابن ابن ابن ابنه
وكان عبد الصمد بن أبي مروة بن المعذل بن غيلان بن المحارب بن البحتري

162
العبدي البصري الشاعر المشهور يلازم الترداد إلى القاضي يحيى المذكور ويغشى مجلسه وكان بعض الأحيان لا يقدر على الوصول إليه إلا بعد مشقة ومذلة يقاسيها فانقطع عنه فلامته زوجته في ذلك مرارا فأنشدها
(تكلفني إذلال نفسي لعزها
* وهان عليها أن أهان لتكرما)
(تقول سل المعروف يحيى بن أكثم
* فقلت سليه رب يحيى بن أكثما)
ولم تزل الأحوال تختلف عليه وتتقلب به إلى أيام المتوكل على الله فلما عزل القاضي محمد بن القاضي أحمد بن أبي داود عن القضاء فوض الولاية إلى القاضي يحيى وخلع عليه خمس خلع ثم عزله في سنة أربعين ومائتين وأخذ أمواله وولى في رتبته جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي ابن عبد الله بن العباس الهاشمي
فجاء كاتبه إلى القاضي يحيى فقال له سلم الديوان فأبى فقال شاهدان عدلان على أمير المؤمنين أنه أمرني بذلك فأخذ منه الديوان قهرا وغضب عليه المتوكل فأمر بقبض أملاكه وألزم منزله ثم حج وحمل أخته معه وعزم على أن يجاور فلما اتصل به رجوع المتوكل له بدا له في المجاورة ورجع يريد العراق فلما وصل إلى الربذة توفي بها يوم الجمعة منتصف ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين ومائتين وقيل غرة سنة ثلاث وأربعين ودفن هناك رحمه الله تعالى وعمره ثلاث وثمانون سنة
وأكثم بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الثاء المثلثة وبعدها ميم وهو العظيم البطن والشبعان أيضا يقال بالثاء المثلثة والتاء المثناة من فوقها ومعناهما واحد ذكره في كتاب المحكم
وحكى أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن سعيد قال كان يحيى بن أكثم القاضي صديقا لي وكان يودني وأوده فمات يحيى فكنت أشتهي أن أراه في المنام فأقول ما فعل الله بك فرأيته ليلة في المنام فقلت ما فعل الله بك

163
قال غفر لي إلا أنه وبخني ثم قال لي يا يحيى خلطت علي في الدنيا فقلت يا رب اتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك قلت إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة بالنار فقال قد عفوت عنك يا يحيى وصدق نبيي إلا أنك خلطت علي في دار الدنيا هكذا ذكره أبو القاسم القشيري في الرسالة
وقطن بفتح القاف والطاء المهملة وبعدها نون
وسمعان بفتح السين المهملة
ومشنج كشفت عنه كثيرا من الكتب وأرباب هذه الصناعة فلم أقف منه على حقيقة ثم وجدت في نسخة من تاريخ بغداد للخطيب وهي صحيحة مسموعة وقد قيد هذا الاسم بضم الميم وفتح الشين المعجمة وفتح النون المشددة وفي آخره جيم هذا أقصى ما قدرت عليه والله أعلم بالصواب
ثم وجدته في المختلف والمؤتلف لعبد الغني بن سعيد كما قيل هاهنا
الأسيدي بضم الهمزة وفتح السين المهملة وكسر الياء المثناة من تحتها وتشديدها وبعدها دال مهملة هذه النسبة إلى أسيد وهو بطن من تميم يقال له أسيد بن عمرو بن تميم
وقد تقدم الكلام على التميمي والمروزي
والربذة بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة وبعدها هاء ساكنة وهي قرية من قرى المدينة على طريق الحاج ينزلونها عند عبورهم عليها وهي التي نفى عثمان بن عفان أبا ذر الغفاري رضي الله عنهما إليها وأقام بها حتى

164
مات وقبره ظاهر هناك يزار
وميلة بكسر الميم وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح اللام وبعدها هاء ساكنة وهي بليدة من أعمال إفريقية
(315) وتوفي جعفر بن عبد الواحد القاضي المذكور ويكنى أبا عبد الله سنة ثمان وخمسين ومائتين وقيل سنة ثمان وستين وقيل سنة تسع وستين بطرسوس رحمه الله تعالى
794 يحيى بن معاذ الواعظ
أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي الواعظ أحد رجال الطريقة ذكره أبو القاسم القشيري في الرسالة وعده من جملة المشايخ وقال في حقه نسيج وحده في وقته له لسان في الرجاء خصوصا وكلام في المعرفة خرج إلى بلخ وأقام بها مدة ورجع إلى نيسابور ومات بها
ومن كلامه كيف يكون زاهدا من لا ورع له تورع عما ليس لك ثم ازهد فيما لك
وكان يقول الجوع للمريدين رياضة وللتائبين تجربة وللزهاد سياسة وللعارفين مكرمة والوحدة جليس الصديقين والفوت أشد من الموت لأن الفوت انقطاع عن الحق والموت انقطاع عن الخلق
والزهد ثلاثة أشياء القلة والخلوة والجوع
ومن خان الله في السر هتك ستره في العلانية

165
وسمع إسحاق بن سليمان الرازي ومكي بن إبراهيم البلخي وعلي بن محمد الطنافسي وروى عنه الغرباء من أهل الري وهمذان وخراسان أحاديث مسندة قليلة
وذكره الخطيب في تاريخ بغداد فقال قدم بغداد واجتمع إليه بها مشايخ الصوفية والنساك ونصبوا له منصة وأقعدوه عليها وقعدوا بين يديه يتحاورون فتكلم الجنيد فقال له يحيى اسكت يا خروف ما لك والكلام إذا تكلم الناس
وكان له إشارات وعبارات حسنة فمن كلامه الكلام الحسن حسن وأحسن من الكلام معناه وأحسن من معناه استعماله وأحسن من استعماله ثوابه وأحسن من ثوابه رضا من يعمل له
ومن كلامه حقيقة المحبة أن لا تزيد بالبر ولا تنقص بالجفاء
وكان يقول من لم يكن ظاهره مع العوام فضة ومع المريدين ذهبا ومع العارفين المقربين درا وياقوتا فليس من حكماء الله المريدين
وكان يقول أحسن شيء كلام صحيح من لسان فصيح في وجه صبيح كلام دقيق يستخرج من بحر عميق على لسان رجل رفيق
وكان يقول إلهي كيف أنساك وليس لي رب سواك إلهي لا أقول لا أعود لأني أعرف من نفسي نقض العهود ولكني أقول لا أعود لا أعود لعلي أموت قبل أن أعود
ومن دعائه اللهم إن كان ذنبي قد أخافني فإن حسن ظني بك قد أجارني اللهم سترت علي في الدنيا ذنوبا أنا إلى سترها في القيامة أحوج وقد أحسنت بي إذ لم تظهرها لعصابة من المسلمين فلا تفضحني في ذلك اليوم على رؤوس العالمين يا أرحم الراحمين

166
ودخل على علوي ببلخ زائرا له ومسلما عليه فقال له العلوي أيد الله الأستاذ ما تقول فينا أهل البيت قال ما أقول في طين عجن بماء الوحي وغرس بماء الرسالة فهل يفوح منهما إلا مسك الهدى وعنبر التقى فحشا العلوي فاه بالدر ثم زاره من الغد فقال يحيى بن معاذ إن زرتنا فبفضلك وإن زرناك فلفضلك فلك الفضل زائرا ومزورا
ومن كلامه ما بعد طريق إلى صديق ولا استوحش في طريق من سلك فيه إلى حبيب
ومن كلامه مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة
وقال ما صحت إرادة أحد قط فمات حتى حن إلى الموت واشتهاه اشتهاء الجائع إلى الطعام لارتداف الآفات واستيحاشه من الأهل والإخوان ووقوعه فيما يتحير فيه صريح عقله
وقال من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يتصل إلى الجليل من العطاء
وقال ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال إن لم تنفعه فلا تضره وإن لم تسره فلا تغمه وإن لم تمدحه فلا تذمه
وقال عمل كالسراب وقلب من التقوى خراب وذنوب بعدد الرمل والتراب ثم تطمع في الكواعب الأتراب هيهات أنت سكران بغير شراب ما أكملك لو بادرت أملك ما أجلك لو بادرت أجلك ما أقواك لو خالفت هواك
وله في هذا الباب كل كلام مليح
وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائتين بنيسابور رحمه الله تعالى وقال

167
محمد بن عبد الله قرأت على اللوح في قبر يحيى بن معاذ الرازي مات حكيم الزمان يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى وبيض وجهه وألحقه بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لست عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين ومائتين
795 يحيى بن منده
أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب ابن الإمام أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده بن الوليد بن منده بن بطه بن استندار بن جهار بخت ابن فيرزان واسم منده إبراهيم ومنده لقب وقيل إن اسم الفيرزان استندار والله أعلم العبدي كان من الحفاظ المشهورين وأحد أصحاب الحديث المبرزين وقد سبق ذكر جده أبي عبد الله محمد في حرف الميم
وهو أبو زكريا بن أبي عمرو بن أبي عبد الله بن أبي محمد بن أبي يعقوب من أهل أصبهان وهو محدث ابن محدث ابن محدث ابن محدث ابن محدث
وكان جليل القدر وافر الفضل واسع الرواية ثقة حافظا فاضلا مكثرا صدوقا

168
كثير التصانيف حسن السيرة بعيد التكلف أوحد بيته في عصره
خرج التخاريج لنفسه ولجماعة من الشيوخ الأصبهانيين
وسمع أبا بكر محمد بن عبد الله بن زيد الضبي وأبا طاهر محمد بن أحمد ابن محمد بن عبد الرحيم الكاتب وأبا منصور محمد بن عبد الله بن فضلويه الأصبهاني وأباه أبا عمرو وعميه أبا الحسن عبيد الله وأبا القاسم عبد الرحمن وأبا العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن النعمان القضاعي وأبا عبد الله محمد ابن علي بن محمد الجصاص وأبا بكر محمد بن علي بن الحسين الجوزداني وأبا طاهر أحمد بن محمود الثقفي ورحل إلى نيسابور وسمع بها أبا بكر أحمد بن منصور بن خلف المقرئ وأبا بكر أحمد بن الحسين البيهقي وبهمذان أبا بكر محمد بن عبد الرحمن بن محمد النهاوندي وبالبصرة أبا القاسم إبراهيم بن محمد بن أحمد الشاهد وعبد الله بن الحسين السعداني وجماعة كثيرة سواهم وصنف تاريخ أصبهان وغيره من الجموع
ودخل بغداد حاجا وحدث بها وأملى بجامع المنصور وكتب عنه الشيوخ منهم أبو الفضل محمد بن ناصر وعبد القادر بن أبي صالح الجيلي وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن الخشاب النحوي في خلق كثير لشهرته وبيته وروى عنه أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي الحافظ وأبو الحسن علي بن أبي تراب الزيكوني الخياط البغدادي وأبو طاهر يحيى بن عبد الغفار بن الصباغ وأبو الفضل محمد بن هبة الله بن العلاء الحافظ وجماعة كثيرة
وذكره الحافظ ابن السمعاني في كتاب الذيل وقال كتب لي الإجازة بجميع مسموعاته ثم قال سألت عنه أبا القاسم إسماعيل بن محمد الحافظ فأثنى عليه ووصفه بالحفظ والمعرفة والدراية ثم قال سمعت أبا بكر محمد

169
ابن أبي نصر بن محمد اللفتواني الحافظ يقول بيت ابن منده بدىء بيحيى وختم بيحيى يريد في معرفة الحديث والعلم والفضل
وذكره الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي المقدم ذكره في مساق تاريخ نيسابور فقال أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب ابن منده رجل فاضل من بيت العلم والحديث المشهور في الدنيا سافر وأدرك المشايخ وسمع منهم وصنف على الصحيحين وكان يروي بإسناده المتصل إلى بعض العلماء أنه قال كثرة الضحك أمارة الحمق والعجلة من ضعف العقل وضعف العقل من قلة الرأي وقلة الرأي من سوء الأدب وسوء الأدب يورث المهانة والمجون طرف من الجنون والحسد داء لا دواء له والنمائم تورث الضعائن
وكان يروي بالإسناد المتصل إلى الأصمعي أنه قال دخلت في البادية إلى مسجد فقام الإمام يصلي فقرأ * (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) * نوح 1 وأرتج عليه فجعل يرددها ويقول * (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) * فقال أعرابي من ورائه وهو قائم يصلي يا هذا إن لم يذهب نوح فأرسل غيره
وكان يحيى المذكور كثيرا ما ينشد لبعضهم
(عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى
* وللمشتري دنياه بالدين أعجب)
(وأعجب من هذين من باع دينه
* بدنيا سواه فهو من ذين أخيب)
وكانت ولادته في غداة يوم الثلاثاء تاسع عشر شوال سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وتوفي يوم عيد النحر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة بأصبهان ومولده بها أيضا رحمه الله تعالى ولم يخلف في بيت ابن منده بعده مثله
وقال ابن نقطة في كتابه إكمال الإكمال توفي يوم السبت ثاني عشر ذي الحجة من سنة إحدى عشرة وخمسمائة وذكر أن مولد أبيه عبد الوهاب

170
سنة ست وثمانين وثلاثمائة وتوفي في جمادى الآخرة من سنة خمس وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى
وقد سبق الكلام على ضبط أسماء أجداده في ترجمة جده أبي عبد الله محمد رحمه الله تعالى
796 ابن سعدون القرطبي
أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد الأزدي القرطبي الملقب سابق الدين أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث والنحو واللغة وغير ذلك
خرج من الأندلس في عنفوان شبابه وقدم ديار مصر فسمع بالإسكندرية أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي وبمصر أبا صادق مرشد بن يحيى ابن القاسم المدني المصري وأبا طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني المعروف بالسلفي وغيرهم
ودخل بغداد سنة سبع عشرة وخمسمائة وقرأ بها القرآن الكريم على الشيخ أبي محمد عبد الله بن علي المقرئ المعروف بابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط وسمع عليه كتبا كثيرة منها كتاب سيبويه وقرأ الحديث على أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزار المعروف بقاضي المارستان وأبي القاسم ابن الحصين وأبي العز ابن كادش وغيرهم
وكان دينا ورعا عليه وقار وهيبة وسكينة وكان ثقة صدوقا ثبتا نبيلا

171
قليل الكلام كثير الخير مفيدا أقام بدمشق مدة واستوطن الموصل ورحل عنها إلى أصبهان ثم عاد إلى الموصل وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر وذكره الحافظ ابن السمعاني
في كتاب الذيل وقال إنه اجتمع به بدمشق وسمع منه مشيخة أبي عبد الله الرازي وانتخب عليه أجزاء وسأله عن مولده فقال ولدت في سنة ست وثمانين وأربعمائة بمدينة قرطبة من ديار الأندلس ورأيت في بعض الكتب أن مولده سنة سبع وثمانين والأول أصح
وكان شيخنا القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم المعروف بابن شداد قاضي حلب رحمه الله تعالى يفتخر برؤيته وقراءته عليه وسيأتي ذلك في ترجمته إن شاء الله تعالى وقال كنا نقرأ عليه بالموصل ونأخذ عنه
وكنا نرى رجلا يأتي إليه كل يوم فيسلم عليه وهو قائم ثم يمد يده إلى الشيخ بشيء ملفوف فيأخذه الشيخ من يده ولا نعلم ما هو ويتركه ذلك الرجل ويذهب ثم تقفينا ذلك فعلمنا أنها دجاجة مسموطة كانت برسم الشيخ في كل يوم يبتاعها له ذلك الرجل ويسمطها ويحضرها وإذا دخل الشيخ إلى منزله تولى طبخها بيده
وذكر في كتابه الذي سماه دلائل الأحكام أنه لازم القراءة عليه إحدى عشرة سنة آخرها سنة سبع وستين وخمسمائة
وكان الشيخ أبو بكر القرطبي المذكور كثيرا ما ينشد مسندا إلى أبي الخير الكاتب الواسطي رواهما بالإسناد المتصل إليه أنهما له
(جرى قلم القضاء بما يكون
* فسيان التحرك والسكون)
(جنون منك أن تسعى لرزق
* ويرزق في غشاوته الجنين)
وقال أنشدنا أبو الوفاء عبد الباقي بن وهب بن حسان قال أنشدنا أبو عبد الله محمد بن منيع بمصر لنفسه
(لي حيلة فيمن ينم
* وليس في الكذاب حيله)

172
(من كان يخلق ما يقول
* فحيلتي فيه قليله)
وتوفي الشيخ أبو بكر المذكور بالموصل في يوم عيد الفطر من سنة سبع وستين وخمسمائة رحمه الله تعالى
797 يحيى بن يعمر النحوي
أبو سليمان وقيل أبو سعيد يحيى بن يعمر العدواني الوشقي النحوي البصري كان تابعيا لقي عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ولقي غيرهما وروى عنه قتادة بن دعامة السدوسي وإسحاق بن سويد العدوي
وهو أحد قراء البصرة وعنه أخذ عبد الله بن أبي إسحاق القراءة وانتقل إلى خراسان وتولى القضاء بمرو وكان عالما بالقرآن الكريم والنحو ولغات العرب وأخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي المقدم ذكره يقال إن أبا الأسود لما وضع باب الفاعل والمفعول به زاد فيه رجل من بني ليث أبوابا ثم نظر فإذا في كلام العرب ما لا يدخل فيه فأقصر عنه فيمكن أن يكون هو يحيى بن يعمر المذكور إذ كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم
وكان شيعيا من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل أهل البيت من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم

173
حكى عاصم بن أبي النجود المقرئ المقدم ذكره أن الحجاج بن يوسف الثقفي بلغه أن يحيى بن يعمر يقول إن الحسن والحسين رضي الله عنهما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحيى يومئذ بخراسان فكتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم والي خراسان وقد تقدم ذكره أيضا أن ابعث إلي بيحيى بن يعمر فبعث به إليه فقام بين يديه فقال أنت الذي تزعم أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لألقين الأكثر منك شعرا أو لتخرجن من ذلك قال فهو أماني إن خرجت قال نعم قال فإن الله جل ثناؤه يقول * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى) * الآية الأنعام 85 قال وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلوات الله عليه وسلامه فقال له الحجاج ما أراك إلا قد خرجت والله لقد قرأتها وما علمت بها قط وهذا من الاستنباطات البديعة الغريبة العجيبة فلله دره ما أحسن ما استخرج وأدق ما استنبط قال عاصم ثم إن الحجاج قال له أين ولدت فقال بالبصرة قال أين نشأت قال بخراسان قال فهذه العربية أنى هي لك قال رزق قال خبرني عني هل ألحن فسكت فقال أقسمت عليك فقال أما إذ سألتني أيها الأمير فإنك ترفع ما يوضع وتضع ما يرفع فقال ذلك والله اللحن السيء قال ثم كتب إلى قتيبة إذا جاءك كتابي هذا فاجعل يحيى بن يعمر على قضائك والسلام
وروى ابن سلام عن يونس بن حبيب قال قال الحجاج ليحيى بن يعمر أتسمعني ألحن قال في حرف واحد قال في أي قال في القرآن قال ذلك أشنع ثم قال له ما هو قال تقول * (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم) * إلى قوله * (أحب إليكم) * التوبة 24 فتقرؤها بالرفع

174
قال ابن سلام كأنه لما طال الكلام نسي ما ابتدأ به فقال الحجاج لا جرم لا تسمع لي لحنا قال يونس فألحقه بخراسان وعليها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة والله أعلم أي ذلك كان
قال ابن الجوزي في كتاب شذور العقود في سنة أربع وثمانين للهجرة نفى الحجاج يحيى بن يعمر لأنه قال له هل ألحن فقال تلحن لحنا خفيا فقال أجلتك ثلاثا فإن وجدتك بعد بأرض العراق قتلتك فخرج
وحكى أبو عمرو نصر بن علي عن نوح بن قيس قال حدثنا عثمان بن محصن قال خطب أمير بالبصرة فقال اتقوا الله فإنه من يتق الله فلا هورات عليه فلم يدروا ما قال الأمير فسألوا يحيى بن يعمر فقال الهورات الضياع يقول من اتقى الله فليس عليه ضياع قال القزاز في كتاب الجامع الهورات المهالك واحدها هورة قال الراوي فحدثت بهذا الحديث الأصمعي فقال هذا شيء لم أسمع به قط حتى كان الساعة منك ثم قال إن كلام العرب لواسع لم أسمع بذا قط
وحكى الأصمعي قال حدثنا أبي قال كتب يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وهو بخراسان إلى الحجاج بن يوسف كتابا يقول فيه إنا لقينا العدو فاضطررناهم إلى عرعرة الجبل ونحن بالحضيض فقال الحجاج ما لابن المهلب ولهذا الكلام فقيل له إن ابن يعمر عنده فقال فذاك إذا
وكان يحيى بن يعمر يعمل الشعر وهو القائل
(أبى الأقوام إلا بغض قومي
* قديما أبغض الناس السمينا)
وقال خالد الحذاء كان لابن سيرين مصحف منقوط نقطه يحيى بن يعمر وكان ينطق بالعربية المحضة واللغة الفصحى طبيعة فيه غير متكلف وأخباره ونوادره كثيرة وتوفي سنة تسع وعشرين ومائة رحمه الله تعالى
ويعمر بفتح الياء المثناة من تحتها والميم وبينهما عين مهملة وفي الأخير

175
راء وقيل بضم الميم والأول أصح وأشهر ويعمر بفتح الميم مضارع قولهم عمر الرجل بفتح العين وكسر الميم إذا عاش زمنا طويلا وإنما سمي بذلك تفاؤلا بطول العمر كما سمي يحيى بذلك أيضا
والعدواني بفتح العين المهملة والواو وبينهما دال مهملة ساكنة وبعد الألف نون هذه النسبة إلى عدوان واسمه الحارث بن عمرو بن قيس عيلان وإنما قيل له عدوان لأنه عدا على أخيه فهم فقتله
والوشقي بفتح الواو وسكون الشين المعجمة وبعدها قاف هذه النسبة إلى وشقة بن عوف بن بكر بن يشكر بن عدوان المذكور
798 أبو زكريا الفراء
أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي المعروف بالفراء الديلمي الكوفي مولى بني أسد وقيل مولى بني منقر كان أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب حكي عن أبي العباس ثعلب أنه قال لولا الفراء لما كانت عربية لأنه خلصها وضبطها ولولا الفراء لسقطت العربية لأنها كانت تتنازع ويدعيها كل من أراد ويتكلم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب
وأخذ النحو عن أبي الحسن الكسائي وهو والأحمر المقدم ذكره من

176
أشهر أصحابه وأخصهم به
ولما عزم الفراء على الاتصال بالمأمون كان يتردد إلى الباب فبينما هو ذات يوم على الباب إذ جاء أبو بشر ثمامة بن الأشرس النميري المعتزلي وكان خصيصا بالمأمون قال ثمامة فرأيت أبهة أديب فجلست إليه ففاتشته عن اللغة فوجدته بحرا وفاتشته عن النحو فشاهدته نسيج وحده وعن الفقه فوجدته رجلا فقيها عارفا باختلاف القوم وبالنجوم ماهرا وبالطب خبيرا وبأيام العرب وأشعارها حاذقا فقلت له من تكون وما أظنك إلا الفراء فقال أنا هو فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين المأمون فأمر بإحضاره لوقته وكان سبب اتصاله به
وقال قطرب دخل الفراء على الرشيد فتكلم بكلام لحن فيه مرات فقال جعفر بن يحيى البرمكي إنه قد لحن يا أمير المؤمنين فقال الرشيد للفراء أتلحن فقال الفراء يا أمير المؤمنين إن طباع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن فإذا تحفظت لم ألحن وإذا رجعت إلى الطبع لحنت فاستحسن الرشيد قوله
وقال الخطيب في تاريخ بغداد إن الفراء لما اتصل بالمأمون أمره أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العربية وأمر أن يفرد في حجرة من حجر الدار ووكل به جواري وخدما يقمن بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوف نفسه إلى شيء حتى إنهم كانوا يؤذونه بأوقات الصلوات وصير له الوراقين وألزمه الأمناء والمنفقين فكان يملي والوراقون يكتبون حتى صنف الحدود في سنتين وأمر المأمون بكتبه في الخزائن فبعد أن

177
فرغ من ذلك خرج إلى الناس وابتدأ بكتاب المعاني قال الراوي وأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب المعاني فلم نضبطهم فعددنا القضاة فكانوا ثمانين قاضيا فلم يزل يمليه حتى أتمه
ولما فرغ من كتاب المعاني خزنه الوراقون عن الناس ليكسبوا به وقالوا لا نخرجه إلا لمن أراد أن ننسخه له على خمس أوراق بدرهم فشكا الناس إلى الفراء فدعا الوراقين فقال لهم في ذلك فقالوا إنما صحبناك لننتفع بك وكل ما صنفته فليس بالناس إليه من الحاجة ما بهم إلى هذا الكتاب فدعنا نعيش به فقال قاربوهم تنتفعوا وتنفعوا فأبوا عليه فقال سأريكم وقال للناس إني ممل كتاب معان أتم شرحا وأبسط قولا من الذي أمليت فجلس يملي فأملى الحمد في مائة ورقة فجاء الوراقون إليه وقالوا نحن نبلغ الناس ما يحبون فنسخوا كل عشرة أوراق بدرهم
وكان سبب إملائه كتاب المعاني أن أحد أصحابه وهو عمر بن بكير كان يصحب الحسن بن سهل المقدم ذكره فكتب إلى الفراء إن الأمير الحسن لا يزال يسألني عن أشياء من القرآن لا يحضرني عنها جواب فإن رأيت أن تجمع لي أصولا وتجعل ذلك كتابا يرجع إليه فعلت فلما قرأ الكتاب قال لأصحابه اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابا في
القرآن وجعل لهم يوما فلما حضروا خرج إليهم وكان في المسجد رجل يؤذن فيه وكان من القراء فقال له اقرأ فقرأ فاتحة الكتاب ففسرها حتى مر في القرآن كله على ذلك يقرأ الرجل والفراء يفسره
وكتابه هذا نحو ألف ورقة وهو كتاب لم يعمل مثله ولا يمكن أحدا أن يزيد عليه
وكان المأمون قد وكل الفراء يلقن ابنيه النحو فلما كان يوما أراد الفراء

178
أن ينهض إلى بعض حوائجه فابتدرا إلى نعل الفراء يقدمانه له فتنازعا أيهما يقدمه فاصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فردا فقدماها وكان المأمون له على كل شيء صاحب خبر فرفع ذلك الخبر إليه فوجه إلى الفراء فاستدعاه فلما دخل عليه قال من أعز الناس قال ما أعرف أعز من أمير المؤمنين قال بلى من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى رضي كل واحد أن يقدم له فردا قال يا أمير المؤمنين لقد أردت منعهما عن ذلك ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها أو أكسر نفوسهما عن شريعة حرصا عليها وقد روي عن ابن عباس أنه أمسك للحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين ركابيهما حين خرجا من عنده فقال له بعض من حضر أتمسك لهذين الحدثين ركابيهما وأنت أسن منهما فقال له اسكت يا جاهل لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل فقال له المأمون لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوما وعتبا وألزمتك ذنبا وما وضع ما فعلاه من شرفهما بل رفع من قدرهما وبين عن جوهرهما ولقد ظهرت لي مخيلة الفراسة بفعلهما فليس يكبر الرجل وإن كان كبيرا عن ثلاث عن تواضعه لسلطانه ووالده ومعلمه العلم وقد عوضتهما بما فعلاه عشرين ألف دينار ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك لهما
وقال الخطيب أيضا كان محمد بن الحسن الفقيه ابن خالة الفراء وكان الفراء يوما جالسا عنده فقال الفراء قل رجل أنعم النظر في باب من العلم فأراد غيره إلا سهل عليه فقال له محمد يا أبا زكريا قد أنعمت النظر في العربية فنسألك عن باب من الفقه فقال هات على بركة الله تعالى قال ما تقول في رجل صلى فسها فسجد سجدتين للسهو فسها فيهما ففكر الفراء ساعة ثم قال لا شيء عليه فقال له محمد ولم قال لأن التصغير عندنا لا تصغير له وإنما السجدتان تمام الصلاة فليس للتمام تمام فقال محمد ما ظننت آدميا يلد مثلك

179
وقد سبقت هذه الحكاية في ترجمة الكسائي ونبهت عليها ثم بما ذكرته هاهنا
وكان الفراء لا يميل إلى الاعتزال وحكى سلمة بن عاصم عن الفراء قال كنت أنا وبشر المريسي المقدم ذكره في بيت واحد عشرين سنة ما تعلم مني شيئا ولا تعلمت منه شيئا وقال الجاحظ دخلت بغداد حين قدمها المأمون في سنة أربع ومائتين وكان الفراء يحبني وأشتهي أن يتعلم شيئا من علم الكلام فلم يكن له فيه طبع
وقال أبو العباس ثعلب كان الفراء يجلس للناس في مسجده إلى جانب منزله وكان يتفلسف في تصانيفه حتى يسلك في ألفاظه كلام الفلاسفة
وقال سلمة بن عاصم إني لأعجب من الفراء كيف كان يعظم الكسائي وهو أعلم بالنحو منه
وقال الفراء أموت وفي نفسي شيء من حتى لأنها تخفض وترفع وتنصب
ولم ينقل من شعره غير هذه الأبيات وقد رواها أبو حنيفة الدينوري عن أبي بكر الطوال وهي
(يا أميرا على جريب من الأرض
* له تسعة من الحجاب)
(جالسا في الخراب يحجب فيه
* ما سمعنا بحاجب في خراب)
(لن تراني لك العيون بباب
* ليس مثلي يطيق رد الحجاب)
ثم وجدت هذه الأبيات لابن موسى المكفوف والله أعلم بالصواب ومولد الفراء بالكوفة وانتقل إلى بغداد وجعل أكثر مقامه بها وكان شديد طلب المعاش لا يستريح في بيته وكان يجمع طول السنة فإذا كان في

180
آخرها خرج إلى الكوفة فأقام بها أربعين يوما في أهله يفرق عليهم ما جمعه ويبرهم
وله من التصانيف الكتابان المقدم ذكرهما وهما الحدود والمعاني وكتابان في المشكل أحدهما أكبر من الآخر وكتاب البهي وهو صغير الحجم ووقفت عليه بعد أن كتبت هذه الترجمة ورأيت فيه أكثر الألفاظ التي استعملها أبو العباس ثعلب في كتاب الفصيح وهو في حجم الفصيح غير أنه غيره ورتبه على صورة أخرى وعلى الحقيقة ليس لثعلب في الفصيح سوى الترتيب وزيادة يسيرة وفي كتاب البهي أيضا ألفاظ ليست في الفصيح قليلة وليس في الكتابين اختلاف إلا في شيء قليل لا غير
وله كتاب اللغات وكتاب المصادر في القرآن وكتاب الجمع والتثنية في القرآن وكتاب الوقف والابتداء وكتاب المفاخر وكتاب آلة الكاتب وكتاب النوادر وكتاب الواو وغير ذلك من الكتب
وقال سلمة بن عاصم أملى الفراء كتبه كلها حفظا لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين كتاب ملازم وكتاب يافع ويفعة قال أبو بكر الأنباري ومقدار الكتابين خمسون ورقة ومقدار كتب الفراء ثلاثة آلاف ورقة
وقد مدحه محمد بن الجهم بقصيدة على روي الواو الموصولة بالهاء المكسورة أضربت عن ذكرها خوف الإطالة
وتوفي الفراء سنة سبع ومائتين في طريق مكة وعمره ثلاث وستون سنة رحمه الله تعالى
والفراء بفتح الفاء وتشديد الراء وبعدها ألف ممدودة وإنما قيل له فراء ولم يكن يعمل الفراء ولا يبيعها لأنه كان يفري الكلام ذكر ذلك الحافظ السمعاني في كتاب الأنساب وعزاه إلى كتاب الألقاب

181
وذكر أبو عبيد الله المرزباني في كتابه أن زيادا والد الفراء كان أقطع لأنه حضر وقعة الحسين بن علي رضي الله عنهما فقطعت يده في تلك الحرب وهذا عندي فيه نظر لأن الفراء عاش ثلاثا وستين سنة فتكون ولادته سنة أربع وأربعين ومائة وحرب الحسين كانت سنة إحدى وستين للهجرة فبين حرب الحسين وولادة الفراء أربع وثمانون سنة فكم قد عاش أبوه فإن كان الأقطع جده فيمكن والله أعلم
ومنظور بفتح الميم وسكون النون وضم الظاء المعجمة وسكون الواو وبعدها راء
وقد تقدم الكلام على الديلمي وبني أسد
وأما بنو منقر فهو بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف وبعدها راء وهو منقر بن عبيد بن مقاعس واسمه الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد ابن زيد مناة بن تميم بن مر وهي قبيلة كبيرة ينسب إليها خلق كثير من الصحابة رضوان الله عليهم وغيرهم ومنها خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة وصفوان وشيبة ابنا عبد الله بن عمرو بن الأهتم المنقري وهما أعني خالدا وشبيبا المشهوران بالفصاحة والبلاغة والخطابة ولخالد مجالس مشهورة مع أمير المؤمنين السفاح ولشبيب مع المنصور والمهدي وغيرهما وقد تقدم ذكر خالد وشبيب في ترجمة البحتري في حرف الواو

182
799 أبو محمد اليزيدي
أبو محمد يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي المعروف باليزيدي المقرئ النحوي اللغوي صاحب أبي عمرو بن العلاء المقرئ البصري وهو الذي خلفه في القيام بالقراءة بعده سكن بغداد وحدث بها عن أبي عمرو بن العلاء وابن جريج وغيرهما
وروى عنه محمد ابنه وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق بن إبراهيم الموصلي وجماعة من أولاده وحفدته وأبو عمرو الدوري وأبو حمدون الطيب بن إسماعيل وأبو شعيب السوسي وعامر بن عمر الموصلي وأبو خلاد سليمان بن خلاد وغيرهم وخالف أبا عمرو في حروف يسيرة من القراءة اختارها لنفسه
وكان يؤدب أولاد يزيد بن منصور بن عبد الله بن يزيد الحميري خال المهدي وإليه كان ينتسب ثم اتصل بهارون الرشيد فجعل ولده المأمون في حجره فكان يؤدبه
وكان ثقة وهو أحد القراء الفصحاء العالمين بلغات العرب والنحو وكان صدوقا وله التصانيف الحسنة والنظم الجيد وشعره مدون وصنف كتاب نوادر في اللغة على مثال كتاب نوادر الأصمعي الذي صنفه لجعفر البرمكي وفي مثل عدد ورقه وأخذ علم العربية وأخبار الناس عن أبي عمرو

183
والخليل بن أحمد ومن كان معاصرهما
وحكي عن أبي حمدون الطيب بن إسماعيل قال شهدت ابن أبي العتاهية وقد كتب عن أبي محمد اليزيدي قريبا من ألف جلد عن أبي عمرو بن العلاء خاصة ويكون ذلك عشرة آلاف ورقة لأن تقدير الجلد عشر ورقات وأخذ عن الخليل من اللغة أمرا عظيما وكتب عنه العروض في ابتداء وضعه له إلا أن اعتماده على أبي عمرو لسعة علم أبي عمرو باللغة
وكان أبو محمد المذكور يعلم الصبيان بحذاء دار أبي عمرو بن العلاء وكان أبو عمرو يدنيه ويميل إليه لذكائه وكان أبو محمد المذكور صحيح الرواية وله من التصانيف كتاب النوادر المقدم ذكره وكتاب المقصور والممدود ومختصر في النحو وكتاب النقط والشكل
وقال ابن المنادي أكثرت من السؤال عن أبي محمد اليزيدي ومحله من الصدق ومنزلته من الثقة لعدة من شيوخنا بعضهم أهل عربية وبعضهم أهل قرآن وحديث فقالوا هو ثقة صدوق لا يدفع عن سماع ولا يرغب عنه في شيء غير ما يتوهم عليه من الميل إلى المعتزلة وقد روى عنه الغريب أبو عبيد القاسم بن سلام وكفى به وما ذاك إلا عن معرفة منه به وكان يجلس في أيام الرشيد مع الكسائي في مجلس واحد ويقرئان الناس وكان الكسائي يؤدب الأمين وهو يؤدب المأمون فأما الأمين فإن أباه أمر الكسائي أن يأخذ عليه بحرف حمزة وأما المأمون فإن أباه أمر أبا محمد أن يأخذ عليه بحرف أبي عمرو
وقال الأثرم دخل اليزيدي يوما على الخليل بن أحمد وهو جالس على وسادة فأوسع له وأجلسه معه فقال له اليزيدي أحسبني ضيقت عليك فقال الخليل ما ضاق موضع على اثنين متحابين والدنيا لا تسع متباغضين

184
وسأل المأمون اليزيدي عن شيء فقال لا وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين فقال لله درك ما وضعت الواو قط في موضع أحسن من موضعها في لفظك هذا ووصله وحمله
وقال اليزيدي دخلت على المأمون يوما والدنيا غضة وعنده نعم تغنيه وكانت من أجمل أهل دهرها فأنشدت
(وزعمت أني ظالم فهجرتني
* ورميت في قلبي بسهم نافذ)
(فنعم هجرتك فاغفري وتجاوزي
* هذا مقام المستجير العائذ)
(هذا مقام فتى أضر به الهوى
* قرح الجفون بحسن وجهك لائذ)
(ولقد أخذتم من فؤادي أنسه
* لا شل ربي كف ذاك الآخذ)
فاستعادها المأمون الصوت ثلاث مرات ثم قال يا يزيدي أيكون شيء أحسن مما نحن فيه قلت نعم يا أمير المؤمنين قال وما هو قلت الشكر لمن خولك هذا الإنعام العظيم الجليل فقال أحسنت وصدقت ووصلني وأمر بمائة ألف درهم يتصدق بها فكأني أنظر إلى البدر وقد أخرجت والمال يفرق
وشكا اليزيدي إلى المأمون حاجة أصابته ودينا لحقه فقال ما عندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه بلغت به ما تريد فقال يا أمير المؤمنين إن الأمر قد ضاق علي وإن غرمائي قد أرهقوني فاحتل لي فأفكر المأمون واستقر الأمر على أن يحضر اليزيدي إلى الباب إذا جلس المأمون في مجلس الأنس وعنده ندماؤه ويكتب رقعة يطلب فيها الدخول أو إخراج بعض الندماء إليه فلما جلس المأمون حضر اليزيدي إلى الباب ودفع للخادم رقعة مختومة فأدخلها إلى

185
المأمون ففضها فإذا فيها مكتوب
(يا خير إخوان وأصحاب
* هذا الطفيلي على الباب)
(فصيروني واحدا منكم
* أو أخرجوا لي بعض أصحابي)
فقرأها المأمون على من حضر وقال ما ينبغي أن يدخل مثل هذا الطفيلي على مثل هذا الحال فأرسل إليه المأمون يقول له دخولك في مثل هذا الوقت متعذر فاختر لنفسك من أحببت أن تنادمه فلما وقف على الرسالة قال ما أرى لنفسي اختيارا سوى عبد الله بن طاهر فقال له المأمون قد وقع الاختيار عليك فصر إليه فقال يا أمير المؤمنين فأكون شريك الطفيلي فقال ما يمكنني رد أبي محمد عن أمره فإن أحببت أن تخرج إليه وإلا فافتد نفسك منه فقال على عشرة آلاف درهم فقال لا أحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك فلم يزل يزيده عشرة آلاف على عشرة آلاف والمأمون يقول لا أرضى له بذلك حتى بلغ مائة ألف درهم فقال له المأمون فعجلها له فكتب له بها إلى وكيله ووجه رسولا وأرسل إليه المأمون وهو يقول قبض هذا المبلغ في مثل هذه الحال أصلح لك من منادمته على مثل حاله فقبل ذلك منه وكان ظريفا في جميع أحواله
وحكى أبو أحمد ابن جعفر البلخي في كتابه أن اليزيدي المذكور سأل الكسائي عن قول الشاعر
(ما رأينا خربا نقر
* عنه البيض صقر)
(لا يكون العير مهرا
* لا يكون المهر مهر)
الخرب بفتح الخاء المعجمة والراء وفي آخرها الباء الموحدة الذكر من

186
الحبارى والعير بفتح العين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها راء وهو الذكر من حمر الوحش فقال الكسائي يجب أن يكون مهر منصوبا على أنه خبر كان ففي البيت على هذا التقدير إقواء فقال اليزيدي الشعرصواب لأن الكلام قد تم عند قوله لا يكون الثانية وهي مؤكدة للأولى ثم استأنف الكلام فقال المهر مهر وضرب بقلنسوته الأرض وقال أنا أبو محمد فقال له يحيى بن خالد البرمكي أتكتني بحضرة أمير المؤمنين والله إن خطأ الكسائي مع حسن أدبه لأحسن من صوابك مع سوء أدبك فقال اليزيدي إن حلاوة الظفر أذهبت عني التحفظ
قلت أنا قول الكسائي في البيت إقواء ليس بجيد فإن اصطلاح أرباب علم القوافي أن الإقواء يختص باختلاف الإعراب في حرف الروي بالرفع والجر لا غير بأن يكون أحد البيتين مرفوعا والآخر مجرورا فأما إذا كان الاختلاف بالنصب مع الرفع والجر فإن ذلك يسمى إصرافا لا إقواء وإلى هذا أشار أبو العلاء المعري في قوله من جملة قصيدة طويلة يرثي بها الشريف الطاهر والد الرضي والمرتضى المقدم ذكرهما وهو في صفة نعيب الغراب
(بنيت على الإيطاء سالمة من الإقواء
* والإكفاء والإصراف)
وهذا البيت متعلق بما قبله ولا يظهر معناه إلا بذكر ما تقدم ولا حاجة بنا إلى ذكره هاهنا بل ذكرنا موضع الاستشهاد لا غير
وقد قيل إن الإصراف من جملة أنواع الإقواء فعلى هذا يستقيم ما قاله الكسائي
وهذا الفصل وإن كان دخيلا لكنه ما خلا من فائدة
وغالب شعر اليزيدي جيد وقد ذكره هارون بن المنجم المقدم ذكره

187
في كتاب البارع وأورد له عدة مقاطيع فمن ذلك قوله يهجو الأصمعي الباهلي المقدم ذكره
(أبن لي دعي بني أصمع
* متى كنت في الأسرة الفاضلة)
(ومن أنت هل أنت إلا امرؤ
* إذا صح أصلك من باهله)
ثم قال ابن المنجم وهذا البيت من نادر أبيات المحدثين في الهجاء
قلت أنا وهذا مأخوذ من قول حماد عجرد في بشار بن برد يهجوه
(نسبت إلى برد وأنت لغيره
* وهب أن بردا ناك أمك من برد)
وله في الهجاء أيضا
(استبق ود أبي المقاتل
* حين تدنو من طعامه)
(سيان كسر رغيفه
* أو كسر عظم من عظامه)
(ويصوم كرها ضيفه
* لم ينو أجرا في صيامه)
وقد سبق في ترجمة أبي العباس المبرد مقطوع من شعره في شيبة بن الوليد
وكان له أخبار ونوادر فمن ذلك ما رواه أنه أخذ رجل ادعى النبوة فأتي به إلى المهدي فقال له أنت نبي فقال نعم فقال وإلى من بعثت فقال وهل تركتموني أذهب إلى أحد ساعة بعثت وضعتموني في الحبس فضحك المهدي واستتابه
وكان لليزيدي خمسة بنين وكلهم علماء أدباء شعراء رواة لأخبار الناس وهم أبو عبد الله محمد وإبراهيم وأبو القاسم إسماعيل وأبو عبد الرحمن عبد الله وأبو يعقوب إسحاق وكلهم ألف في اللغة والعربية
(316) وكان محمد أسنهم وأشعرهم وهو القائل فيما رواه دعبل بن علي الخزاعي المقدم ذكره من جملة أبيات
(أتظعن والذي تهوى مقيم
* لعمرك إن ذا خطر عظيم)

188
(إذا ما كنت للحدثان عونا
* علي مع الزمان فمن ألوم)
(شقيت به فما أنا عنه سال
* ولا هو إذ شقيت به رحيم)
وهو القائل
(يا بعيد الدار موصولا
* بقلبي ولساني)
(ربما باعدك الدهر
* فأدنتك الأماني)
وله أشعار كثيرة جيدة وكان يؤدب المأمون مع أبيه وثقل سمعه في آخر عمره فانقطع فاستحضره المأمون فقال لم أرك منذ أيام فقال وجدت في سمعي ثقلا وأنا أكره أن أتعبك استفهاما إذا سمعت عن غير فهم فقال أنت الآن أطيب ما تكون فما شئت أن نسمعك أسمعناك وما احتشمناك فيه أسررناه عنك فأنت غائب شاهد وكان قد خرج مع المأمون إلى خراسان وأقام بخدمته في مدينة مرو ثم بقي إلى أيام المعتصم وخرج معه إلى مصر فتوفي بها رحمه الله تعالى
وأما والده أبو محمد المذكور فإنه توفي سنة اثنتين ومائتين رحمه الله تعالى بخراسان والظاهر أنه كان بمرو فإنه كان قد خرج في صحبة المأمون من بغداد وكانت إقامة المأمون بمرو ثم وجدت في طبقات القراء لأبي عمرو الداني أنه توفي في التاريخ المذكور بمرو ثم قال بعد ذلك وقال ابن المنادي وقيل أنه بلغ من السن دون المائة بأعوام يسيرة ومات بالبصرة ودفن بها والأول أصح والله أعلم
وقد تقدم في حرف الميم ذكر حفيده أبي عبد الله محمد بن العباس بن أبي محمد اليزيدي المذكور وشرح طرف من أخباره وفضله وتاريخ وفاته
والعدوي بفتح العين والدال المهملتين والواو هذه النسبة إلى عدي بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وهي قبيلة كبيرة مشهورة ولم
يكن أبو محمد المذكور منهم وإنما كان من

189
مواليهم كان جده المغيرة مولى لامرأة من بني عدي فنسب إليهم
وقد سبق في أول هذه الترجمة ذكر سبب نسبته إلى يزيد ومن هو يزيد فأغنى عن الإعادة
وفي ذريته جماعة كثيرة أفاضل مشاهير أصحاب تصانيف
وأشعاره رائقة مشهورة ولولا خوف الإطالة لذكرت شيئا منها
(317) واليزيديون يفتخرون بالكتاب الذي وضعه إبراهيم بن أبي محمد المذكور في اللغة وسماه كتاب ما اتفق لفظه وافترق معناه جمع فيه كل الألفاظ المشتركة في الاسم المختلفة في المسمى ورأيته في أربع مجلدات وهو من الكتب النفيسة يدل على غزارة علم مؤلفه وسعة اطلاعه وله غير ذلك تواليف حسنة نافعة وكذلك بقية اليزيديين صنفوا كتبا مشهورة مشكورة
(318) وكان يزيد الحميري خال المهدي مقدما في دولة بني العباس ولي للمنصور البصرة واليمن ومات في سنة خمس وستين ومائة بالبصرة وفيه قال بشار بن برد الشاعر المقدم ذكره
(أبا خالد قد كنت سباح غمرة
* صغيرا فلما شبت خيمت بالشاطي)
(وكنت جوادا سابقا ثم لم تزل
* تأخر حتى جئت تخطو مع الخاطي)
(فأنت بما تزداد من طول رفعة
* وتنقص من مجد كذاك بإفراط)
(كسنور عبد الله بيع بدرهم
* صغيرا فلما شب بيع بقيراط)
قلت لقد كشفت عن سنور عبد الله المظان وسألت أهل المعرفة بهذا الشأن فما عرفت الخبر عن ذلك ولا عثرت له على أثر والله أعلم ثم ظفرت بقول الفرزدق وهو
(رأيت الناس يزدادون يوما
* ويوما في الجميل وأنت تنقص)

190
(كمثل الهر في صغر يغالى
* به حتى إذا ما شب يرخص)
ومن هاهنا أخذ بشار قوله وليس المراد هرا بعينه بل كل هر تكون قيمته في صغره وينقص منها في كبره والله أعلم
800 الخطيب التبريزي اللغوي
أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام الشيباني التبريزي المعروف بالخطيب أحد أئمة اللغة كانت له معرفة تامة بالأدب من النحو واللغة وغيرهما قرأ على الشيخ أبي العلاء المعري وأبي القاسم عبيد الله بن علي الرقي وأبي محمد الدهان اللغوي وغيرهم من أهل الأدب
وسمع الحديث بمدينة صور من الفقيه أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي ومن أبي القاسم عبد الكريم ابن محمد بن عبد الله بن يوسف الدلال السياري البغدادي وأبي القاسم عبيد الله بن علي وغيرهم
وروى عنه الخطيب الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت صاحب تاريخ بغداد والحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر وأبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي وأبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأندلسي وغيرهم من الأعيان وتخرج عليه خلق كثير وتتلمذوا له
وذكره الحافظ أبو سعد السمعاني في كتاب الذيل وكتاب الأنساب

191
وعدد فضائله ثم قال سمعت أبا منصور محمد بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون المقرئ يقول أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي ما كان بمرضي الطريقة وذكر عنه أشياء ثم قال وذاكرت أنا مع أبي الفضل محمد بن ناصر الحافظ بما ذكره ابن خيرون فسكت وكأنه ما أنكر ما قال ثم قال ولكن كان ثقة في اللغة وما كان ينقله
وصنف في الأدب كتبا مفيدة منها شرح الحماسة وكتاب شرح ديوان المتنبي وكتاب شرح سقط الزند وهو ديوان أبي العلاء المعري وشرح المعلقات السبع وشرح المفضليات وله تهذيب غريب الحديث وتهذيب إصلاح المنطق وله في النحو مقدمة حسنة والمقصود منها أسرار الصنعة وهي عزيزة الوجود وله كتاب الكافي في علم العروض والقوافي وكتاب في إعراب القرآن سماه الملخص رأيته في أربع مجلدات وشروحه لكتاب الحماسة ثلاثة أكبر وأوسط وأصغر وله غير ذلك من التواليف وقد سبق في ترجمة الخطيب أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ ذكره وما دار بينهما عند قراءته عليه بدمشق فلينظر هناك ودرس الأدب بالمدرسة النظامية ببغداد
وكان سبب توجهه إلى أبي العلاء المعري أنه حصلت له نسخة من كتاب التهذيب في اللغة تأليف أبي منصور الأزهري في عدة مجلدات لطاف وأراد تحقيق ما فيها
وأخذها عن رجل عالم باللغة فدل على المعري فجعل الكتاب في مخلاة وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة ولم يكن له ما يستأجر به مركوبا فنفذ العرق من ظهره إليها فأثر فيها البلل وهي ببعض الوقوف ببغداد وإذا رآها من لا يعرف صورة الحال فيها ظن أنها غريقة وليس بها سوى عرق الخطيب المذكور هكذا وجدت هذه الحكاية مسطورة في كتاب

192
أخبار النحاة الذي ألفه القاضي الأكرم ابن القفطي الوزير بمدينة حلب كان رحمه الله تعالى والله أعلم بصحة ذلك
وكان الخطيب المذكور قد دخل مصر في عنفوان شبابه فقرأ عليه بها الشيخ أبو الحسن طاهر بن بابشاذ النحوي المقدم ذكره شيئا من اللغة ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات وكان يروي عن أبي الحسن محمد بن المظفر ابن نحرير البغدادي جملة من شعره فمن ذلك قوله على ما حكاه السمعاني في كتاب الذيل في ترجمة الخطيب وهي من أشهر أشعاره
(خليلي ما أحلى صبوحي بدجلة
* وأطيب منه بالصراة غبوقي)
(شربت على الماءين من ماء كرمة
* فكانا كدر ذائب وعقيق)
(على قمري أفق وأرض تقابلا
* فمن شائق حلو الهوى ومشوق)
(فما زلت أسقيه وأشرب ريقه
* وما زال يسقيني ويشرب ريقي)
(وقلت لبدر التم تعرف ذا الفتى
* فقال نعم هذا أخي وشقيقي)
وهذه الأبيات من أملح الشعر وأطرفه والبيت الأخير منها يستمد من معنى قول أبي بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة الأندلسي في مدح المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية المقدم ذكره من جملة قصيدة طويلة
(سألت أخاه البحر عنه فقال لي
* شقيقي إلا أنه الساكن العذب)
ما كفاه أنه جعله شقيق البحر حتى رجحه عليه فقال الساكن العذب والبحر مضطرب ملح وهذا من خالص المدح وأبدعه وأول هذه القصيدة

193
(بكت عند توديعي فما علم الركب
* أذاك سقيط الطل أم لؤلؤ رطب)
(وتابعها سرب وإني لمخطىء
* نجوم الدياجي لا يقال لها سرب)
وهي قصيدة طويلة ولولا خوف الإطالة والخروج عما نحن بصدده لذكرتها كلها ولكن يكفي منها هذا الأنموذج
وكان الخطيب أيضا يروي عن ابن نحرير المذكور من شعره قوله
(يا نساء الحي من مضر
* إن سلمى ضرة القمر)
(إن سلمى لا فجعت بها
* أسلمت طرفي إلى السهر)
(فهي إن صدت وإن وصلت
* مهجتي منها على خطر)
(وبياض الشعر أسكنها
* من سواد القلب والبصر)
وللخطيب المذكور شعر فمن ذلك قوله
(فمن يسأم من الأسفار يوما
* فإني قد سئمت من المقام)
(أقمنا بالعراق على رجال
* لئام ينتمون إلى لئام)
وقال الخطيب المذكور كتب إلي العميد الفياض
(قل ليحيى بن علي
* والأقاويل فنون)
(غير أني لست من يكذب
* فيها ويخون)
(أنت عين الفضل إن مد
* إلى الفضل عيون)
(أنت من عز به الفضل
* وقد كاد يهون)
(فقت من كان وأتعبت
* لعمري من يكون)
(قد مضى فيك قران
* ومضت فيه قرون)
(وإذا قيس بك الكل
* فصحو ودجون)

194
(وإذا فتش عنهم
* فالأحاديث شجون)
(قد سمعنا ورأينا
* فسهول وحزون)
(ووزنا بك من كان
* فقيل وقيون)
(أين شيبان وأزد
* كل ما زال ظنون)
(إنك الأصل ومن دونك
* في العلم غصون)
(إنك البحر وأعيان
* ذوي الفضل عيون)
(ليس كالسيف وإن حلي
* في الحكم الجفون)
(ليس كالفذ المعلى
* ليس كالبيت الحجون)
(ليس كالجد وإن آنس
* هزل ومجون)
(ليس في الحسن سواء
* أبدا بيض وجون)
(ليس كالأبكار في اللطف
* وإن راقتك عون)
(قلت للحساد كونوا
* كيف شئتم أن تكونوا)
(سبق الزائد بالفضل
* فعزوا أو فهونوا)
(دمت ما خالف في الحد
* حراك وسكون)
(وتلقاك المنى ما
* قر بالطير الوكون)
(إن ودي لك عما
* يصم الود مصون)
(ليس لي فيه ظهور
* تتنافى أو بطون)
(بل لقلبي فيك صب
* بالمصافاة يكون)
(غلق الرهن وقد تغلق
* في الحب رهون)
(ومن الناس أمين
* في هواه وخؤون)

195
وقال ابن الجواليقي قال لنا شيخنا الخطيب أبو زكريا فكتبت أنا إلى العميد الفياض المذكور هذه الأبيات
(قل للعميد أخي العلا الفياض
* أنا قطرة من بحرك الفياض)
(شرفتني ورفعت ذكرى بالذي
* ألبستنيه من الثنا الفضفاض)
(ألبستني حلل القريض تفضلا
* فرفلت منها في علا ورياض)
(إني أتيتك بالحصى عن لؤلؤ
* أبرزته من خاطر مرتاض)
(وبخاطري عن مثل ذاك توقف
* ما إن يكاد يجود بالأبعاض)
(أيعارض البحر الغطامط جدول
* أم درة تنقاس بالرضراض)
(يا فارس النظم المرصع جوهرا
* والنثر يكشف غمة الأمراض)
(يرمي به الغرض البعيد وقد غدا
* فكري يقصر عن مدى الأغراض)
(لا تلزمني من ثنائك موجبا
* حقا فلست لحقه بالقاضي)
(فلقد عجزت عن القريض وربما
* أعرضت عنه أيما إعراض)
(أنعم علي ببسط عذري إنني
* أقررت عند نداك بالإنفاض)
وكانت ولادته سنة إحدى وعشرين وأربعمائة وتوفي فجأة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسمائة ببغداد ودفن في مقبرة باب أبرز رحمه الله تعالى
وبسطام بكسر الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف ميم
وقد تقدم الكلام على الشيباني والتبريزي فأغنى عن الإعادة

196
801 الزواوي
أبو الحسين يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي الملقب زين الدين النحوي الحنفي كان أحد أئمة عصره في النحو واللغة وسكن دمشق زمانا طويلا واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به وصنف تصانيف مفيدة منها الألفية في النحو ومنها الفصول في النحو أيضا ثم إن الملك الكامل أرغبه في الانتقال إلى مصر فسافر إليها وتصدر بالجامع العتيق بمصر لإقراء الأدب وقرر له على ذلك جار
ولم يزل إلى أن توفي سلخ ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وستمائة بالقاهرة ودفن من الغد على شفير الخندق بقرب تربة الإمام الشافعي رضي الله عنه وقبره هناك ظاهر ومولده سنة أربع وستين وخمسمائة رحمه الله تعالى
والزواوي بفتح الزاي وبين الواوين ألف هذه النسبة إلى زواوة وهي قبيلة كبيرة بظاهر بجاية من أعمال إفريقية ذات بطون وأفخاذ والله أعلم

197
802 يحيى بن المنجم النديم
أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى بن أبي منصور المعروف بالمنجم واسمه أبان حسيس ين وريد بن كاد بن مهابنداد حسيس بن فروخ داد بن أساد ابن مهر حسيس بن يزدجرد كان في أول أمره نديم الموفق أبي أحمد طلحة ابن المتوكل على الله والموفق المذكور هو والد المعتضد بالله ولم يل الموفق الخلافة بل كان نائبا عن أخيه المعتمد على الله ولم يزل في محاربة القرامطة وأمره في ذلك مشهور وقصته طويلة وليس هذا موضع ذكرها
ثم إن يحيى المذكور نادم الخلفاء بعد الموفق واختص بمنادمة المكتفي بالله ابن المعتضد وعلت رتبته عنده وتقدم على خواصه وجلسائه وكان متكلما معتزلي الاعتقاد وله في ذلك كتب كثيرة وكان له مجلس يحضره جماعة من المتكلمين بحضرة المكتفي وصنف كتبا كثيرة فمن ذلك كتاب الباهر في أخبار شعراء مخضرمي الدولتين ابتدأ فيه ببشار بن برد وآخر من أثبت فيه مروان بن أبي حفصة ولم يتمه وتممه ولده أبو الحسن أحمد بن يحيى وعزم على أن يضيف إلى كتاب أبيه سائر الشعراء المحدثين فذكر منهم أبا دلامة ووالبة بن الحباب ويحيى بن زياد ومطيع بن إياس وأبا علي البصير
(318) وكان أبو الحسن أحمد المذكور متكلما فقيها على مذهب أبي جعفر

198
الطبري وله كتب صنفها منها كتاب أخبار أهله ونسبهم في الفهرس وكتاب الإجماع في الفقه على مذهب أبي جعفر الطبري وكتاب المدخل إلى مذهب الطبري ونصرة مذهبه وكتاب الأوقات وغير ذلك
وليحيى المذكور مع المعتضد وقائع ونوادر فمن ذلك ما حكاه أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي في كتاب مروج الذهب عن يحيى المذكور أنه قال كنت يوما بين يدي المعتضد وهو مغضب فأقبل بدر مولاه وكان شديد الغرام به فلما رآه من بعيد ضحك وقال يا يحيى من الذي يقول من الشعراء
(في وجهه شافع يمحو إساءته
* من القلوب وجيه حيثما شفعا)
فقلت يقوله الحكم بن عمرو الشاري فقال لله دره أنشدني هذا الشعر فأنشدته
(ويلي على من أطار النوم فامتنعا
* وزاد قلبي على أوجاعه وجعا)
(كأنما الشمس من أعطافه لمعت
* حسنا أو البدر من أزراره طلعا)
(مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت
* منه الذنوب ومعذور بما صنعا)
(في وجهه شافع يمحو إساءته
* من القلوب وجيه حيثما شفعا)
وذكر أبو الفتح كشاجم الشاعر المشهور في كتابه الذي سماه المصايد والمطارد في الفصل الذي ذكر فيه صيد الأسد بالنشاب ما مثاله حدث أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم النديم نديم المكتفي بالله قال وجد علي أمير المؤمنين المكتفي بالله منصرفه من الرقة لركوبي الماء منها إلى المرحلة الأولى قبل أن يركبه هو وذلك أن أبا العباس أحمد بن عبد الصمد حملني على ذلك

199
وسألني أن أكون معه في سفينة ففعلت ولم أظن أن المكتفي ينكر ذلك ولا يحتمل تأخيري عنه وإخلالي به فلما صرنا إلى الدالية أمر بأن أرد منها إلى قرقيسيا وأقيم بها حتى أصيد سبعا وأحدره إليه فردني ورد معي عدة من المغنين كانوا قد ركبوا الماء فكتبت إليه بأبيات فلم تعطفه فرجعت إلى الرحبة وأقمت عند أبي محمد عبد الله بن الحسين بن سعد القطربلي في قصف وشرب وصبوح وغبوق وهو على غاية السرور بمقامي عنده وكان معنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن محمد بن عبد الملك الزيات فكتبت من الرحبة كتابا إلى الوزير أبي الحسين القاسم بن عبيد الله وأنفذت فيه شعرا أسأله أن يقرأه على المكتفي وهو
(نفس الدهر أن نسر وأن يسعدنا
* بالأحبة الاجتماع)
(فرماني وإخوة لي بسهم
* نفر النفس فهي منه شعاع)
(فرددنا إلى وراء ومر الناس
* قدما فاشتدت الأوجاع)
(لو سمعنا بمثل ما نالنا أفزعنا
* منه في سوانا السماع)
(كلفونا صيد السباع وإنا
* لبخير إن لم تصدنا السباع)
(إن عصينا فواجب أي قوم
* كلفوا فوق طوقهم فأطاعوا)
(كل شيء يجوز تكليفه الإنسان
* إلا ما كان لا يستطاع)
(لم تزل تمزح الملوك ولكن
* مع ذاك المزاح جود وساع)
(وتوانى الوزير عنا فضعنا
* في سبيل الإله حق مضاع)
(قد مددنا الأيدي إليه وأضحت
* عائذات بفضله الأطماع)
(شافع لا يخاف ردا إذا ما
* رد عما تريده الشفاع)
(عبثات الملوك ينبعها الأنس
* وأثمارها عطايا تباع)

200
(أولنا يا ولي دولته خيرا
* لديه فالخير النفاع)
وأنفذ الكتاب مع محمد بن سليمان الخرائطي في الخرائط فلم يضعه القاسم من يده حتى دخل على المكتفي فقرأه عليه وأنشده الأبيات فاستحسنها وقال يكتب الساعة بتخلية سبيله وحمله إلينا فلم يكن أسرع من أن وافاني الرسول فوافيت وأنشدت المكتفي ببغداد
(عاد ليلي القصير في كرخ بغداد
* بقرقيسيا علي طويلا)
(أجميلا أن تتركوني وتمضون
* رهينا بها غريبا ذليلا)
(مفردا بالعقاب مشترك الذنب
* فصبرا حسبي بربي وكيلا)
(إن قضى الله لي رجوعا إلى بغداد
* لا هالكا بغمي قتيلا)
(وأراني الخليفة المكتفي بالله
* وابن الخلائف المأمولا)
(كالذي قد عهدت لا معرضا عني
* ولا واجدا ولا مستحيلا)
(كل شيء أسامة هين عندي
* إذا الرأي منه كان جميلا)
فاستحسنها ورق لشكواي بها حتى تبينت ذلك في وجهه وكلامه
وأخبار يحيى ومحاسنه كثيرة
وكانت ولادته سنة إحدى وأربعين ومائتين وتوفي ليلة الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة رحمه الله تعالى
وقد تقدم ذكر والده علي وأخيه هارون وابن أخيه علي ولم أرفع في نسبهم إلا في هذه الترجمة لأني لم أظفر بالنسب على هذه الصورة إلا لما وصلت إلى هذا الموضع فنقلته كما وجدته من كتاب الفهرست لأبي الفرج محمد بن إسحاق النديم ولم أضبط شيئا من أسماء أجداده لأني لم أتحقق فيها شيئا فنقلتها كما وجدتها

201
803 أبو بكر ابن بقي الشاعر
أبو بكر يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن بقي الأندلسي القرطبي الشاعر المشهور صاحب الموشحات البديعة قال الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي في كتاب مطمح الأنفس في حق أبي بكر المذكور إنه كان نبيل النثر والنظام كثير الارتباط في سلكه والانتظام أحرز خصالا وطرز محاسنه بكرا وآصالا وجرى في ميدان الإحسان إلى أبعد أمد وبنى من المعارف على أثبت عمد إلا أن الأيام حرمته وقطعت حبل رعايته وصرمته ولم تتم له وطرا ولم تسجم عليه من الحظوة مطرا ولا نولته من الحرمة نصيبا ولا أنزلته مرعى خصيبا فصار راكب صهوات وقاطع فلوات لا يستقر يوما ولا يستحسن قوما مع توهم لا يظفره بأمان وتقلب ذهن كواهي الجمان إلا أن يحيى بن علي بن القاسم نزعه عن ذلك الطيش وأقطعه جانبا من العيش وأرقاه إلى سمائه وسقاه صوب نعمائه وفيأه ظلاله وبوأه أثر النعمة يجوس خلاله فصرف فيه أقواله وشرف بقوافيه نواله وأفرده منها بأنفس در وقلد لبته منها بقصائد غر
وذكر الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي المذكور في حقه أيضا في كتاب

202
قلائد العقيان هو رافع راية القريض وصاحب آية التصريح فيه والتعريض أقام شرائعه وأظهر روائعه وصار عصيه طائعه إذا نظم أزرى بنظم العقود وأتى بأحسن من رقم البرود ضفا عليه حرمانه وما صفا له زمانه انتهى كلام الفتح
وقد أثبت لأبي بكر المذكور هذا المقطوع من الشعر ولم أر الفتح ذكره في واحد من كتابيه المذكورين مع أنه من أحسن شعره وأشهره وهو
(بأبي غزال غازلته مقلتي
* بين العذيب وبين شطي بارق)
(وسألت منه زيارة تشفي الجوى
* فأجابني منها بوعد صادق)
(بتنا ونحن من الدجى في خيمة
* ومن النجوم الزهر تحت سرادق)
(عاطيته والليل يسحب ذيله
* صهباء كالمسك الفتيق لناشق)
(وضممته ضم الكمي لسيفه
* وذؤابتاه حمائل في عاتقي)
(حتى إذا مالت به سنة الكرى
* زحزحته عني وكان معانقي)
(أبعدته عن أضلع تشتاقه
* كي لا ينام على وساد خافق)
(لما رأيت الليل آخر عمره
* قد شاب في لمم له ومفارق)
(ودعت من أهوى وقلت تأسفا
* أعزز علي بأن أراك مفارقي)
وقد ذكر بعض هذه الأبيات الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه الذي سماه المطرب من أشعار أهل المغرب
ومن شعره قصيدة يمدح بها يحيى بن علي بن القاسم المذكور في هذه الترجمة وهي طويلة ومن مديحها قوله
(نوران ليسا يحجبان عن الورى
* كرم الطباع ولا جمال المنظر)
(وكلاهما جمعا ليحيى فليدع
* كتمان نور علائه المتشهر)

203
(في كل أفق من جميل ثنائه
* عرف يزيد على دخان المجمر)
(رد في شمائله ورد في جوده
* بين الحديقة والغمام الممطر)
(ندب عليه من الوقار سكينة
* فيها حفيظة كل ليث مخدر)
(مثل الحسام إذا انطوى في غمده
* ألقى المهابة في نفوس الحضر)
(أربى على الغيث الملث لأنه
* أعطى كما أعطى ولم يستعبر)
(أزرى على البحر الخضم لأنه
* في كل كف منه خمسة أبحر)
(أقبلت مرتادا لجودك إنه
* صوب الغمامة بل زلال الكوثر)
(ورأيت وجه النجح عندك أبيضا
* فركبت نحوك كل لج أخضر)
(يجري إليك بنا سفين أتلع
* مثل البعير مخزم في المنخر)
(وبنات أعوج قد برمن بصحبتي
* مما قطعن من اليباب المقفر)
وأورد له صاحب قلائد العقيان مقطوعا وهو
(يا أقتل الناس ألحاظا وأطيبهم
* ريقا متى كان فيك الصاب والعسل)
(في صحن خدك وهو الشمس طالعة
* ورد يزيدك فيه الراح والخجل)
(إيمان حبك في قلبي يجدده
* من خدك الكتب أو من لحظك الرسل)
(إن كنت تجهل أني عبد مملكة
* مرني بما شئت آتيه وأمتثل)
(لو اطلعت على قلبي وجدت به
* من فعل عينيك جرحا ليس يندمل)
وذكره العماد الكاتب في الخريدة وأورد له عدة مقاطيع ثم أعاد ذكره في آخر الكتاب وأورد له
(ومشمولة في الكأس تحسب أنها
* سماء عقيق رصعت بالكواكب)

204
(بنت كعبة اللذات في حرم الصبا
* فحج إليها اللهو من كل جانب)
ومحاسنه في الشعر كثيرة
وتوفي سنة أربعين وخمسمائة رحمه الله تعالى
وبقي بفتح الباء الموحدة وكسر القاف وتشديد الياء
804 الخطيب الحصكفي
أبو الفضل يحيى بن سلامة بن الحسين بن محمد الملقب معين الدين المعروف بالخطيب الحصكفي صاحب الديوان الشعر والخطب والرسائل ولد بطنزة ونشأ بحصن كيفا وقدم بغداد فاشتغل بالأدب على الخطيب أبي زكريا التبريزي المقدم ذكره وأتقنه حتى مهر فيه وقرأ الفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأجاد فيه ثم رحل عن بغداد راجعا إلى بلاده ونزل ميافارقين واستوطنها وتولى بها الخطابة وكان إليه أمر الفتوى بها واشتغل عليه الناس وانتفعوا بصحبته
وذكره العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة فقال في حقه كان علامة الزمان في علمه ومعري العصر في نثره ونظمه له الترصيع البديع والتجنيس النفيس والتطبيق والتحقيق واللفظ الجزل الرقيق والمعنى السهل

205
العميق والتقسيم المستقيم والفضل السائر المقيم
ثم قال العماد بعد كثرة الثناء عليه وتعداد محاسنه وكنت أحب لقاءه وأحدث نفسي عند وصولي إلى الموصل به وأنا شغف بالاستفادة كلف بمجالسة الفضلاء للاستزادة فعاق دون لقائه بعد الشقة وضعفي عن تحمل المشقة ثم ذكر له عدة مقاطيع فمن ذلك قوله
(وخليع بت أعذله
* ويرى عذلي من العبث)
(قلت إن الخمر مخبثة
* قال حاشاها من الخبث)
(قلت فالأرفاث تتبعها
* قال طيب العيش في الرفث)
(قلت منها القيء قال أجل
* شرفت عن مخرج الحدث)
(وسأجفوها فقلت متى
* قال عند الكون في الجدث)
قلت أنا ولقد أخذ الخطيب المذكور قوله
(شرفت عن مخرج الحدث
*)
من قول بعضهم ولا أعرفه لكنها أبيات سائرة وهي
(ولائم لامني في الخمر قلت له
* إني سأشربها حيا وفي جدثي)
(فأسقني قهوة حمراء صافية
* صرفا حراما فإني غير مكترث)
(فإن يكن حللوها بالطبيخ ففي
* حشاي نار تبقيها على الثلث)
(قالوا فلم تتقاياها فقلت لهم
* إني أنزهها عن مخرج الحدث)
ثم قال العماد الأصبهاني وأنشدني له بعض الفضلاء ببغداد خمسة أبيات كالخمسة السيارات مستحسنات مطبوعات مصنوعات وهي
(أشكو إلى الله من نارين واحدة
* في وجنتيه وأخرى منه في كبدي)

206
(ومن سقامين سقم قد أحل دمي
* من الجفون وسقم حل في جسدي)
(ومن نمومين دمعي حين أذكره
* يذيع سرى وواش منه بالرصد)
(ومن ضعيفين صبري حين أذكره
* ووده ويراه الناس طوع يدي)
(مهفهف رق حتى قلت من عجب
* أخصره خنصري أم جلده جلدي)
ومن مليح شعره أبيات في هجو مغن وهي
(ومسمع غناؤه
* يبدل بالفقر الغنى)
(شهدته في عصبة
* رضيتهم لي قرنا)
(أبصرته فلم تخب
* فراستي لما دنا)
(وقلت من ذا وجهه
* كيف يكون محسنا)
(ورمت أن أروح للظن
* به ممتحنا)
(فقلت من بينهم
* هات أخي غن لنا)
(ويوم سلع لم يكن
* يومي بسلع هينا)
(فانشال منه حاجب
* وحاجب منه انحنى)
(وامتلأ المجلس من
* فيه نسيما منتنا)
(أوقع إذ وقع في الأنفس
* أسباب العنا)
(وقال لما قال من
* يسمع في ظل الفنا)
(وما اكتفى باللحن والتخليط
* حتى لحنا)
(هذا وكم تكشخن الوغد
* وكم تقرنننا)
(يوهم زمرا أنه
* قطعه ودندنا)

207
(وصاح صوتا نافرا
* يخرج عن حد البنا)
(وما درى محضره
* ماذا على القوم جنى)
(فذا يسد أنفه
* وذا يسد الأذنا)
(ومنهم جماعة
* تستر عنه الأعينا)
(فاغتظت حتى كدت من
* غيظ أبث الشجنا)
(وقلت يا قوم اسمعوا
* إما المغني أو أنا)
(أقسمت لا أجلس أو
* يخرج هذا من هنا)
(جروا برجل الكلب إن
* السقم هذا والضنا)
(قالوا لقد رحمتنا
* وذدت عنا المحنا)
(فحزت في إخراجه
* راحة نفسي والثنا)
(وحين ولى شخصه
* قرأت فيهم معلنا)
(الحمد لله الذي
* أذهب عنا الحزنا)
ولم أسمع مع كثرة ما قيل في هذا الباب مثل هذا المقطوع في هذا المعنى
وللخطيب المذكور أيضا في هذا المعنى
(ومسمع قوله بالكره مسموع
* محجب عن بيوت الناس ممنوع)
(غنى فبرق عينيه وحرك لحييه
* فقلنا الفتى لا شك مصروع)
(وقطع الشعر حتى ود أكثرنا
* أن اللسان الذي في فيه مقطوع)
(لم يأت دعوة أقوام بأمرهم
* ولا مضى قط إلا وهو مصفوع)
وقد سبق له في ترجمة الشيخ الشاطبي في حرف القاف مقطوع لغز في نعش وهو معنى مليح وأكثر شعره على هذا الأسلوب في اللطافة وجودة المقاصد

208
وكان يتشيع
وهو في شعره ظاهر
وكان بمدينة آمد شابان بينهما مودة أكيدة ومعاشرة كثيرة فركب أحدهما ظاهر البلد وطرد فرسه فتقنطر فمات وقعد الآخر يستعمل الشراب فشرق فمات في ذلك النهار
فعمل فيهما بعض الأدباء
(تقاسما العيش صفوا والردى كدرا
* وما عهدنا المنايا قط تقتسم)
(وحافظا الود حتى في حمامهما
* وقلما في المنايا تحفظ الذمم)
فلما وقف الخطيب المذكور على البيتين قال هذا الشاعر قصر إذ لم يذكر سبب موتهما وقد قلت فيهما
(بنفسي أخيان من آمد
* أصيبا بيوم مشوم عبوس)
(دهى ذا كميت من الصافنات
* وهذا كميت من الخندريس)
قلت ولو قال
(دهى ذا كميت من الصافنات
* وهذا كميت من الصافيات)
لكان أحسن لأجل المجانسة وكان يجعل البيت الأول
(بنفسي أخيان من آمد
* أصيبا بيوم شديد الأذاة)
أو ما يناسب هذا ثم وجدت البيتين الأولين في كتاب الجنان تأليف القاضي الرشيد ابن الزبير المقدم ذكره في حرف الهمزة وقد نسبهما إلى الفقيه أبي علي الحسن بن أحمد المعلم المعري لكن هكذا وجدت الحكاية بخط

209
بعض المتأدبين والله أعلم
وللخطيب المذكور الخطب المليحة والرسائل المنتقاة
ولم يزل على رياسته وجلالته وإفادته إلى أن توفي سنة إحدى وقيل ثلاث وخمسين وخمسمائة
وكانت ولادته في حدود سنة ستين وأربعمائة رحمه الله تعالى
والحصكفي بفتح الحاء وسكون الصاد المهملة وفتح الكاف وفي آخرها فاء هذه النسبة إلى حصن كيفا وهي قلعة حصينة شاهقة بين جزيرة ابني عمر وميافارقين وكان القياس أن ينسبوا إليه الحصني وقد نسبوا إليه أيضا كذلك لكن إذا نسبوا إلى اسمين أضيف أحدهما إلى الآخر ركبوا من مجموع الاسمين اسما واحدا ونسبوا إليه كما فعلوا هاهنا وكذلك نسبوا إلى رأس عين رسعني وإلى عبد الله وعبد شمس وعبد الدار عبدلي وعبشمي وعبدري وكذلك كل ما هو نظيره
وأما طنزة بفتح الطاء المهملة وسكون النون وفتح الزاي في آخرها هاء ساكنة فهي بليدة صغيرة بديار بكر فوق الجزيرة العمرية خرج منها جماعة من المحدثين وغيرهم ونسبوا إليها
(319) قال عماد الدين الأصبهاني الكاتب في كتاب الخريدة منها إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الطنزي وهو القائل
(وإني لمشتاق إلى أرض طنزة
* وإن خانني بعد التفرق إخواني)
(سقى الله أرضا لو ظفرت بتربها
* كحلت به من شدة الشوق أجفاني)
ثم قال عماد الدين المذكور بعد هذا كان الشاعر حيا في شهر رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة

210
805 يحيى بن تميم الصنهاجي
أبو طاهر يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الحميري الصنهاجي صاحب إفريقية وما والاها قد تقدم ذكر والده ورفعت نسبه هناك وتقدم ذكر جماعة من أجداده في هذا الكتاب
وكانت ولاية الأمير يحيى المذكور بالمهدية خلافة عن أبيه تميم يوم الجمعة لأربع بقين من شهر ذي الحجة سنة سبع وتسعين وأربعمائة والطالع الدرجة السابعة من الجدي ثم استقل بالأمر يوم وفاة والده وقد سبق ذلك في ترجمته
وكان عمر الأمير يحيى يوم الاستقلال ثلاثا وأربعين سنة وستة أشهر وعشرين يوما وركب على العادة وأهل دولته محتفون به ورجع إلى قصره فغير لباس جميع أهل
الدولة من الخواص والجند بخلع سنية وكانوا قد غيروا لباسهم لموت أبيه ووهب للأجناد والعبيد أموالا كثيرة ووعدهم مواعد سارة
ورأيت في كتاب الجمع والبيان في أخبار القيروان الذي ألفه ولد أخيه عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن شداد بن تميم بن المعز بن باديس أن الأمير تميما قبل وفاته بمدة يسيرة دعا ولده يحيى المذكور وكان في دار الإمارة مع خاصته وجلسائه فمضى يحيى ومن معه إليه فوجدوا تميما في بيت المال فأمرهم بالجلوس ثم قال لأحدهم قم فادخل ذلك البيت وخذ منه الكتاب الذي صفته كذا في مكان كذا فقام وأتى به فإذا هو كتاب ملحمة فقال له

211
عد من أوله كذا وكذا ورقة واقرأ الصفحة التي تنتهي إليها فقرأها وإذا فيها الملك المغدور وهو الطويل القامة الذي على وركه الأيمن خال وفي جنبه الأيسر شامة فقال الأمير تميم أطبق الكتاب واردده إلى موضعه ففعل ثم قال تميم أما العلامتان فقد رأيتهما وبقيت علي الثالثة قم أنت يا شريف وأنت يا فلان حتى تحققا عندي خبر العلامة الثالثة فقاموا وقام يحيى معهم إلى موضع مستور عن تميم فكشف لهم عن جسمه فرأوا شامة على جنبه الأيسر هلالية الشكل فأتوا تميما فعرفوه فقال لم أعطه أنا شيئا الله تعالى الذي أعطاه ثم قال إني أخبركم بحديث عجيب وذلك أنه عرض علي النخاس والدته فاستحسنتها ومالت نفسي إليها فاشتريتها وسلمتها إلى خدام القصر وأمرت النخاس أن يرجع إلى قبض الثمن ثم دبرت في مال طيب حلال أخرج ثمنها منه فبينما أنا مفكر في ذلك إذ سمعت السائل يصيح ويرفع صوته في الإذن على مطالعتي فأخرجت رأسي من الطاق وقلت له ما شأنك فقال كنت الساعة أحفر في قصر المهدي إذ وجدت صندوقا عليه قفل فتركته على حاله وجئت مطالعا بأمره فأنفذت معه من أثق به فإذا فيه أثواب مذهبات الأعلام قد أفناها الدهر فأمرت بسبك أعلامها فلم تزد ولم تنقص عن ثمن الجارية فتعجب الحاضرون من ذلك ودعوا له ثم أمر لهم بدنانير وكساء وانصرفوا
قال عبد العزيز المذكور وقد أدركت هذا الكتاب المشار إليه عند السلطان الحسن رحمه الله تعالى يعني الحسن بن علي بن يحيى المذكور وحكى عن الكتاب أمورا وقضايا ذكر أنها ستكون وكانت كما ذكر
رجعنا إلى حديث يحيى
ولما جلس في الملك قام بالأمر وعدل في الرعية وفتح قلاعا لم يتمكن أبوه من فتحها قال عبد العزيز المذكور في تاريخه وفي أيامه يعني يحيى

212
وصل إلى المهدية من طرابلس المهدي محمد بن تومرت المقدم ذكره قادما من الحج فنزل بمسجد قبلي مسجد السبت فاجتمع إليه جماعة من أهل المهدية وقرأوا عليه كتبا في علم أصول الدين وشرع في تغيير المنكر فرفع أمره إلى يحيى فأحضره وجماعة من الفقهاء فرأى ما هو عليه من الخشوع والتقشف والعلم فسأله الدعاء فقال له أصلحك الله لرعيتك ونفع بها ذريتك وأقام مدة يسيرة بالمهدية ثم انتقل إلى المنستير فأقام بها مدة ثم انتقل إلى بجاية وقد تقدم في ترجمة والده الأمير تميم أن محمد بن تومرت المذكور اجتاز بتلك البلاد في أيامه والله تعالى أعلم أي ذلك كان
ثم قال عبد العزيز وفي سنة سبع وخمسمائة أتى إلى المهدية قوم غرباء فقصدوا يحيى بمطالعة زعموا فيها أنهم من أهل الصناعة الكبيرة من الواصلين إلى نهايتها فأذن لهم بالدخول عليه فلما مثلوا بين يديه طالبهم بأن يظهروا له من الصناعة ما يقف عليه فقالوا نحن نزيل من القصدير التدخين والصرير حتى يرجع لا فرق بينه وبين الفضة لمولانا من السروج والقصب والبنود والأواني قناطير من الفضة يجعل عوضا منها ما يريده ويستعمل جميع ذلك في مهماته وسألوه أن يكون ذلك في خلوة فأجابهم وأحضرهم للعمل ولم يكن عند الأمير يحيى سوى الشريف أبي الحسن علي والقائد إبراهيم قائد الأعنة وكانوا هم ثلاثة وكانت بينهم أمارة فأمكنتهم الفرصة فقال أحدهم دارت البوتقة فتواثبوا وقصد كل واحد منهم واحدا بسكاكينهم فأما الذي قصد الأمير يحيى فقال أنا سراج وكان يحيى جالسا على مصطبة فضربه فجاءت على أم رأسه فقطعت طاقات في العمامة ولم تؤثر في رأسه واسترخت يده بالسكين على صدره فخدشته وضربه يحيى برجله فألقاه على ظهره فسمع الخدم الجلبة ففتحوا باب القصر من عندهم فدخل يحيى وأغلق الباب دونهم وأما الشريف فلم يزل به الذي قصده حتى قتله وأما القائد إبراهيم فإنه شهر سيفه ولم يزل يقاتل الثلاثة وكسر الجند الباب الذي كان بينهم ودخلوا فقتلوهم وكان زيهم زي أهل الأندلس فقتل في البلد جماعة ممن

213
يلبس ذلك الزي وخرج الأمير يحيى في الحال ومشى في البلد وسكن الفتنة
وكان يحيى عادلا في دولته ضابطا لأمور رعيته عارفا بخرجه ودخله مدبرا في جميع ذلك على ما يوجبه النظر العقلي ويقتضيه الرأي الحكمي ونعته في الملاحم الملك المغدور وتحقق له هذا النعت بهذه الواقعة التي ذكرناها
وكان كثير المطالعة لكتب الأخبار والسير عارفا بها رحيما للضعفاء شفيقا على الفقراء يطعمهم في الشدائد فيرفق بهم ويقرب أهل العلم والفضل من نفسه وساس العرب في بلاده فهابوه وانكفت أطماعهم وكان له نظر حسن في صناعة النجوم والأحكام وكان حسن الوجه على حاجبه شامة أشهل العينين مائلا في قده إلى الطول دقيق الساقين وكان عنده جماعة من الشعراء قصدوه ومدحوه وخلدوا مديحه في دواوينهم ومن جملة شعرائه أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الشاعر المقدم ذكره أقام تحت كنفه بعد أن جاب الأرض وتقاذفت به البلدان وله صنف الرسالة المشهورة التي وصف فيها مصر وعجائبها وشعراءها وغير ذلك وله فيه مدائح كثيرة أجاد فيها وأحسن وله أيضا مدائح في ولده أبي الحسن علي وولد ولده الحسن بن علي ومن جملة قوله من مديحه قصيدة
(وارغب بنفسك إلا عن ندى ووغى
* فالمجد أجمع بين البأس والجود)
(كدأب يحيى الذي أحيت مواهبه
* ميت الرجاء بإنجاز المواعيد)
(معطي الصوارم والهيف النواعم والجرد
* الصلادم والبزل الجلاعيد)
(أشم أشوس مضروب سرادقه
* على أشم بفرع النجم معقود)
(إذا بدا بسرير الملك محتبيا
* رأيت يوسف في محراب داوود)
(من أسرة تخذوا الماذي لبسهم
* واستوطنوا صهوات الضمر القود)
(محسدون على أن لا نظير لهم
* وهل رأيت عظيما غير محسود)

214
(وإن تكن جمعتكم أسرة كرمت
* فليس في كل عود نفحة العود)
(أقول للراكب المزجي مطيته
* يطوي بها الأرض من بيد إلى بيد)
(لا تترك الماء عدا في مشارعه
* وتطلب الري من صم الجلاميد)
(هذي موارد يحيى غير ناضبة
* وذا الطريق إليها غير مسدود)
(حكم سيوفك فيما أنت طالبه
* فللسيوف قضاء غير مردود)
وله فيه غير ذلك
ولما كان يوم الأربعاء وهو عيد النحر سنة تسع وخمسمائة توفي يحيى فجأة وذلك أن منجمه قال يوما له إن في تسيير مولدك في هذا النهار عليك عكسا فلا تركب فامتنع من الركوب وخرج أولاده ورجال دولته إلى المصلى فلما انقضت الصلاة حضر رجال الدولة على ما جرت به العادة للسلام وقرأ القراء القرآن وأنشد الشعراء وانصرفوا إلى الإيوان فأكل الناس وقام يحيى إلى مجلس الطعام فلما وصل إلى باب المجلس أشار إلى جارية من حظاياه فاتكأ عليها فما خطا من باب البيت سوى ثلاث خطوات حتى وقع ميتا
وكان ولده علي نائبه على سفاقس وهي بلدة من أعمال إفريقية وللشعراء فيها شعر فمن ذلك قول بعضهم وهو علي بن حبيب يصف بحرها في مده وجزره
(سقيا لأرض سفاقس
* ذات المصانع والمصلى)
(بلد يكاد يقول حين
* وروده أهلا وسهلا)
(وكأن ماء البئر حين
* تراه ينضب ثم يملا)
(صب يريد زيارة
* فإذا رأى الرقباء ولى)
فأحضر وعقدت له الولاية ودفن يحيى في القصر على ما جرت به العادة ثم نقل بعد سنة إلى قصر السيدة بالمنستير وهي بلدة بأفريقية أيضا وخلف ثلاثين ولدا ذكورا

215
(320) وأما علي المذكور القائم مقام أبيه يحيى فإن مولده بمدينة المهدية صبيحة يوم الأحد لخمس عشرة ليلة خلت من صفر سنة تسع وتسعين وأربعمائة وكان أبوه قد ولاه سفاقس فلما مات أبوه اجتمع أعيان دولته على كتاب كتبوه عن أبيه إليه يأمره بالوصول إليه مسرعا فوصله الكتاب ليلا فخرج لوقته ومعه طائفة من أمراء العرب وجد في السير فوصل الظهر من يوم الخميس الثاني من يوم العيد ودخل القصر ولم يقدم شيئا على تجهيز أبيه والصلاة عليه ودفنه وفي صبيحة يوم الجمعة ثالث عشر
ذي الحجة جلس للناس فدخلوا عليه وسلموا بالإمارة ثم ركب في جيوشه وجموعه ثم عاد إلى قصره
وفي أيامه توجه أخوه أبو الفتوح ابن يحيى إلى الديار المصرية ومع زوجته بلارة بنت القاسم وولده العباس صغير على الثدي فوصل إلى الإسكندرية فأنزل وأكرم بأمر الآمر صاحب مصر يومئذ فأقام بها مدة يسيرة وتوفي فتزوجت بعده زوجته بلارة بالعادل بن السلار واسمه علي المقدم ذكره في هذا الكتاب في حرف العين وشب العباس وقدمه الحافظ صاحب مصر وولي الوزارة بعد العادل المذكور
وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه في حوادث سنة اثنتين وخمسمائة حديث الثلاثة الذين جاءوا إلى يحيى في معنى الكيمياء فقال كان مجيئهم في هذه السنة وأنهم لما وثبوا على يحيى وجرى ما ذكرته قبل هذا صادف ذلك مجيء أبي الفتوح المذكور وأصحابه إلى القصر وعليهم السلاح فمنعوا من الدخول وثبت عند يحيى أن ذلك كان باتفاق بينهم فأخرج أبو الفتوح وزوجته وهي ابنة عمه إلى قصر زياد ووكل بهما إلى أن مات يحيى وملك ابنه علي فسيرهما في البحر إلى الديار المصرية فوصلا إلى الإسكندرية
انتهى كلامه
ولم تزل أمور علي بن يحيى جارية على السداد إلى أن توفي يوم الثلاثاء لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وخمسمائة ودفن في القصر

216
بعد أن فوض الأمر من بعده إلى ولده أبي يحيى الحسن بن علي بن يحيى
(321) ومولد الحسن المذكور بمدينة سوسة في رجب سنة اثنتين وخمسمائة فكان عمره يوم ولايته اثنتي عشرة سنة وتسعة أشهر ولما كان ثاني يوم وفاة أبيه خرج للناس فسلموا عليه وهنئوه بما صار إليه ثم ركب والجيوش محتفة به
وجرت في أيامه وقائع وأمور يطول شرحها فمن ذلك أن رجار الفرنجي صاحب صقلية أخذ طرابلس الغرب عنوة بالسيف في يوم الثلاثاء سادس المحرم سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقتل أهلها وسبى الحريم والأطفال وأخذ الأموال ثم شرع في عمارتها وتحصينها بالرجال والعدد ثم أخذ المهدية يوم الاثنين ثاني عشر صفر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وذلك أن الحسن بن علي لما علم عجزه عن مقاومته خرج من المهدية هاربا وقد استصحب ما خف عليه حمله من النفائس وخرج أهل البلد أيضا هاربين إلا من أقعده العجز عن الهرب فدخل إليه الفرنج وملكوه وصادفوا فيه من الأموال والذخائر ما لا يعد ولا يحصى
وكان عدة من ملك من أهل بيتهم وأولهم زيري المقدم ذكره في حرف الزاي إلى هذا الحسن بن علي تسعة ملوك ومدة ولايتهم مائتا سنة وثمان سنين وانقرضت دولة بني باديس
ثم إن الحسن بن علي توجه نحو المعلقة وهي قلعة حصينة بإفريقية تجاور تونس وكان صاحبها أبا محفوظ محرز بن زياد أحد أمراء العرب فأقام عنده قليلا ثم ظهر له منه الضجر والسآمة فعزم على قصد الديار المصرية ليكون عند الحافظ العبيدي صاحبها يومئذ فنمي خبره إلى نائب رجار بالمهدية فجعل عليه العيون وعمل عشرين شينيا ليمسكه في البحر فبلغ الحسن ذلك فرجع عن هذا الرأي ثم قصد أن يتوجه إلى جهة عبد المؤمن بن علي بمراكش وأنفذ ثلاثة من أولاده إلى صاحب بجاية وهي آخر أعمال إفريقية ليستأذنه في الوصول إليه وبعد ذلك يتوجه إلى عبد المؤمن فأضمر له الغدر وخاف من اجتماعه

217
بعبد المؤمن أن يتفقا على ما فيه ضرره فكتب إليه كتابا على يد أولاده يقول له لا حاجة لك في الرواح إلى عبد المؤمن ونحن نفعل معك ونصنع وأجزل له من المواعيد الحسنة فتوجه إليه فلما قرب من بجاية لم يخرج للقائه وعدل به إلى الجزائر وهي بلدة فوق بجاية من جهة الغرب وأنزلوه بها في مكان لا يليق بمثله ورتبوا له من الإقامة ما لا يصلح لبعض أتباعه ومنعوه من التصرف وكان وصوله إلى الجزائر في المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة
ثم إن عبد المؤمن فتح بجاية في سنة سبع وأربعين وهرب صاحبها إلى القسطنطينية
(322) ثم إن رجار صاحب صقلية هلك في العشر الأخير من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة
(323) ولما هلك رجار ملك بعده ابنه غنيم بن رجار وعليه قدم أبو الفتوح نصر الله بن قلاقس الشاعر المقدم ذكره ومدحه وأجازه وذلك في سنة ثلاث وستين وخمسمائة
(324) ولما هلك غنيم ملكت ابنته وهي أم الأنبرور ملك ألمانية في زماننا ثم هلكت أم الأنبرور وخلفته صغيرا فملك واستمر ملكه وكان عاقلا فاضلا وبينه وبين الملك الكامل صاحب مصر مراسلات وغيرها

218
ثم إن عبد المؤمن وصل إلى المهدية وملكها بعد جهد جهيد وكان دخوله إليها بكرة يوم عاشوراء سنة خمس وخمسين وخمسمائة فولى بها نائبا وكان الحسن بن علي قد وصل صحبته فرتبه مع النائب لتدبير أمورها لكونه عارفا بأحوالها وأقطعه بها ضيعتين وأعطاه دورا سكنها هو وأولاده وأتباعه
ولم أقف على تاريخ وفاة الحسن بن علي المذكور
(325) ثم قتل محرز بن زياد المذكور في وقعة سطيف يوم الخميس في العشر الأوسط من ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة
وهذا الحسن بن علي هو الذي صنف له أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت كتاب الحديقة
806 يحيى بن خالد البرمكي
أبو الفضل يحيى بن خالد بن برمك وزير هارون الرشيد وقد تقدم ذكر ولديه جعفر والفضل كل واحد منهما في بابه وكان جدهم برمك من مجوس بلخ وكان يخدم النوبهار وهو معبد كان للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران واشتهر برمك المذكور وبنوه بسدانته وكان برمك عظيم المقدار عندهم ولم أعلم هل أسلم أم لا
(326) وساد ابنه خالد وتقدم في الدولة العباسية وتولى الوزارة لأبي

219
العباس السفاح بعد أبي سلمة حفص الخلال المقدم ذكره وقد ذكرته في ترجمة جعفر وذكرت هناك تاريخ وفاته وقال أبو الحسن المسعودي في كتاب مروج الذهب لم يبلغ خالد بن برمك أحد من ولده في جوده ورأيه وبأسه وعلمه وجميع خلاله لا يحيى في رأيه ووفور عقله ولا الفضل ابن يحيى في جوده ونزاهته ولا جعفر بن يحيى في كتابته وفصاحة لسانه ولا محمد بن يحيى في سروه وبعد همته ولا موسى بن يحيى في شجاعته وبأسه
ولما بعث أبو مسلم الخراساني قحطبة بن شبيب الطائي لمحاربة يزيد بن عمر ابن هبيرة الفزاري عامل مروان بن محمد على العراقيين وكان خالد بن برمك في جملة من كان معه فنزلوا في طريقهم بقرية فبينما هم على سطح بعض دورها يتغدون إذ نظروا إلى الصحراء وقد أقبل منها أقاطيع الوحش من الظباء وغيرها حتى كادت تخالط العسكر فقال خالد لقحطبة أيها الأمير ناد في الناس ومرهم أن يسرجوا ويلجموا قبل أن تهجم عليهم الخيل فقام قحطبة مذعورا فلم ير شيئا يروعه فقال يا خالد ما هذا الرأي فقال قد نهد إليك العدو أما ترى أقاطيع الوحش قد أقبلت إن وراءها لجمعا كثيفا فما ركبوا حتى رأوا الغبار ولولا خالد لهلكوا

220
وأما يحيى فإنه كان من النبل والعقل وجميع الخلال على أكمل حال وكان المهدي بن أبي جعفر المنصور قد ضم إليه ولده هارون الرشيد وجعله في حجره فلما استخلف هارون عرف له حقه وقال له يا أبت أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك ويمنك وحسن تدبيرك وقد قلدتك الأمر ودفع له خاتمه وفي ذلك يقول الموصلي وأظنه إبراهيم النديم أو ابنه إسحاق
(ألم تر أن الشمس كانت سقيمة
* فلما ولي هارون أشرق نورها)
(بيمن أمين الله هارون ذي الندى
* فهارون واليها ويحيى وزيرها)
وكان يعظمه وإذا ذكره قال أبي وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه إلى أن نكب البرامكة فغضب عليه وخلده في الحبس إلى أن مات فيه وقتل ابنه جعفرا حسبما تقدم شرحه في ترجمته
وكان من العقلاء الكرماء البلغاء ومن كلامه ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها الهدية والكتاب والرسول
وكان يقول لولده اكتبوا أحسن ما تسمعون واحفظوا أحسن ما تكتبون وتحدثوا بأحسن ما تحفظون
وكان يقول الدنيا دول والمال عارية ولنا بمن قبلنا أسوة وبمن بعدنا عبرة
وقال الفضل بن مروان المقدم ذكره سمعت يحيى بن خالد يقول من لم أحسن إليه فأنا مخير فيه ومن أحسنت إليه فأنا مرتهن به
وقال القاضي يحيى بن أكثم سمعت المأمون يقول لم يكن كيحيى بن خالد وكولده أحد في الكفاية والبلاغة والجود والشجاعة ولقد صدق القائل حيث يقول
(أولاد يحيى أربع
* كأربع الطبائع)
(فهم إذا اختبرتهم
* طبائع الصنائع)
قال القاضي فقلت له يا أمير المؤمنين أما الكفاية والبلاغة والسماحة

221
فنعرفها فيهم ففي من الشجاعة فقال في موسى بن يحيى وقد رأيت أن أوليه ثغر السند
وقال إسحاق بن إبراهيم النديم الموصلي المقدم ذكره حدثني أبي قال أتيت يحيى بن خالد بن برمك فشكوت إليه ضيقة فقال ويحك ما أصنع بك ليس عندنا في هذا الوقت شيء ولكن هاهنا أمر أدلك عليه فكن فيه رجلا قد جاءني خليفة صاحب مصر يسألني أن أستهدي صاحبه شيئا وقد أبيت ذلك عليه فألح علي وقد بلغني أنك قد أعطيت بجاريتك فلانة ثلاثة آلاف دينار فهو ذا أستهديه إياها وأخبره أنها قد أعجبتني فإياك أن تنقصها من ثلاثين ألف دينار وانظر كيف تكون قال فوالله ما شعرت إلا بالرجل وافاني فساومني بالجارية فقلت له لا أنقصها من ثلاثين ألف دينار فلم يزل يساومني حتى بذل لي عشرين ألف دينار فلما سمعتها ضعف قلبي عن ردها فبعتها وقبضت العشرين ألفا ثم صرت إلى يحيى بن خالد فقال لي كيف صنعت في بيعك الجارية فأخبرته وقلت والله ما ملكت نفسي أن أجبت إلى العشرين ألفا حين سمعتها فقال إنك لخسيس فخذ جاريتك بارك الله لك فيها وهذا خليفة صاحب فارس قد جاءني في مثل هذا فإذا ساومك بها فلا تنقصها من خمسين ألف دينار فإنه لا بد أن يشتريها منك بذلك فجاءني الرجل فاستمت عليه خمسين ألف دينار فلم يزل يساومني حتى أعطاني ثلاثين ألف دينار فضعف قلبي عن ردها ولم أصدق بها فأوجبتها ثم صرت إلى يحيى بن خالد فقال لي بكم بعت الجارية فأخبرته فقال ويحك ألم تؤدبك الأولى عن الثانية قال فقلت والله ضعفت عن رد شيء لم أطمع فيه قال فقال هذه جاريتك فخذها إليك قال فقلت جارية أفدت بها خمسين ألف دينار ثم أملكها أشهدك أنها حرة وأني قد تزوجتها
هكذا رأيت هذه الحكاية ثم نظرت في كتاب أخبار الوزراء تأليف الجهشياري فقال إن يحيى قال لإبراهيم الموصلي لا تقبل أقل من مائة ألف دينار وأنه باعها بخمسين ألف دينار وقال له في المرة الثانية

222
لا تقبل أقل من خمسين ألف دينار فباعها بثلاثين ألف دينار
وقال الأصمعي دخلت على يحيى يوما فقال يا أصمعي هل لك زوجة فقلت لا فقال فجارية فقلت لكم منة فأمر بإخراج جارية غاية في الحسن والجمال والظرف فقال لها قد وهبتك لهذا وقال يا أصمعي خذها فشكرته ودعوت له فلما رأت الجارية ذلك بكت وقالت يا سيدي تدفعني إلى هذا فما ترى من سماجته وقبحه فقال لي هل لك أن أعوضك عنها ألفي دينار قلت ما أكره ذلك ودخلت الجارية إلى داره فقال لي أنكرت على هذه الجارية أمرا فأردت أن أعاقبها بك ثم رحمتها فقلت له هلا أعلمتني حتى كنت لحقت بالباب على صورتي الأصلية من غير أن أسرح لحيتي وأصلح عمتي وأتطيب وأتجمل فضحك وأمر لي بألف دينار أخرى
وحكى إسحاق النديم أيضا قال كانت صلات يحيى بن خالد إذا ركب لمن تعرض له مائتي درهم فركب ذات يوم فتعرض له أديب شاعر وأنشده
(يا سمي الحصور يحيى أتيحت
* لك من فضل ربنا جنتان)
(كل من مر في الطريق عليكم
* فله من نوالكم مائتان)
(مائتا درهم لمثلي قليل
* هي منكم للقابس العجلان)
قال له يحيى صدقت وأمر بحمله إلى داره فلما رجع من دار الخلافة سأله عن حاله فذكر أنه تزوج وقد أخذ بواحدة من ثلاث إما أن يؤدي المهر وهو أربعة آلاف وإما أن يطلق وإما أن يقيم جاريا للمرأة يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها فأمر له يحيى بأربعة آلاف للمهر وبأربعة آلاف لثمن منزل وبأربعة آلاف لما يحتاج إليه المنزل وبأربعة آلاف للبنية وبأربعة آلاف يستظهر بها فأخذ عشرين ألفا وانصرف

223
وقال محمد بن مناذر الشاعر حج هارون الرشيد ومعه ابناه الأمين محمد والمأمون عبد الله وحج معه يحيى بن خالد وابناه الفضل وجعفر فلما صاروا بالمدينة جلس الرشيد ومعه يحيى بن خالد فأعطى الناس عطاءهم ثم جلس الأمين ومعه الفضل فأعطاهم العطاء ثم جلس المأمون ومعه جعفر بن يحيى فأعطاهم عطاياهم وكان أهل المدينة يسمون ذاك العام عام الأعطية الثلاثة ولم يروا مثل ذلك قط فقلت في ذلك
(أتانا بنو الأملاك من آل برمك
* فيا طيب أخبار ويا حسن منظر)
(لهم رحلة في كل عام إلى العدى
* وأخرى إلى البيت العتيق المطهر)
(إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت
* بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر)
(فتظلم بغداد وتجلو لنا الدجى
* بمكة ما حجوا ثلاثة أقمر)
(فما خلقت إلا لجود أكفهم
* وأقدامهم إلا لأعواد منبر)
(إذا راض يحيى الأمر ذلت صعابه
* فناهيك من راع له ومدبر)
(ترى الناس إجلالا له وكأنهم
* غرانيق ماء تحت باز مصرصر)
وذكر الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي أنه قال كنت حناطا بالمدينة في يدي مائة ألف درهم للناس أضارب بها فتلفت الدراهم فشخصت إلى العراق فقصدت يحيى بن خالد فجلست في دهليزه وأنست بالخدم والحجاب وسألتهم أن يوصلوني إليه فقالوا إذا قدم الطعام إليه لم يحجب عنه أحد ونحن ندخلك عليه ذلك الوقت فلما حضر طعامه أدخلوني فأجلسوني معه على المائدة فسألني من أنت وما قصتك فأخبرته فلما رفع الطعام وغسلنا أيدينا دنوت منه لأقبل رأسه فاشمأز من ذلك فلما صرت إلى الموضع الذي يركب منه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار فقال الوزير يقرأ عليك السلام ويقول لك استعن بهذا على أمرك

224
وعد إلينا في اليوم الثاني فأخذته وانصرفت وعدت في اليوم الثاني فجلست معه على المائدة فأنشأ يسألني كما سألني في اليوم الأول فلما رفع الطعام دنوت منه لأقبل رأسه فاشمأز مني فلما صرت إلى الموضع الذي يركب منه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار فقال لي الوزير يقرأ عليك السلام ويقول لك استعن بهذا على أمرك وعد إلينا في غد فأخذته وانصرفت وعدت في اليوم الثالث كما أمر فأعطيت مثل الذي أعطيت في اليوم الأول والثاني فلما كان في اليوم الرابع أعطيت الكيس كما أعطيت قبل ذلك
وتركني بعد ذلك أقبل رأسه وقال إنما منعتك ذلك لأنه لم يكن وصل إليك من معروفي ما يوجب هذا فالآن قد لحقك بعض النفع مني يا غلام أعطه الدار الفلانية يا غلام افرش له الفرش الفلاني يا غلام أعطه مائتي ألف درهم يقضي دينه بمائة ألف ويصلح شأنه بمائة ألف ثم قال لي الزمني وكن في داري فقلت أعز الله الوزير لو أذنت لي بالشخوص إلى المدينة لأقضي الناس أموالهم ثم أعود إلى حضرتك كان ذلك أرفق بي قال قد فعلت وأمر بتجهيزي فشخصت إلى المدينة فقضيت ديني ثم رجعت إليه فلم أزل في ناحيته
ودخل عليه يوما أبو قابوس الحميري فأنشده
(رأيت يحيى أتم الله نعمته
* عليه يأتي الذي لم يأته أحد)
(ينسى الذي كان من معروفه أبدا
* إلى الرجال ولا ينسى الذي يعد)
فقضى حوائجه ووصله بجملة من المال
قلت قد حل هذا البيت الثاني شرف الدولة مسلم بن قريش وقد قال له رجل لا تنس أيها الأمير حاجتي فقال إذا قضيتها أنسيتها

225
ولمسلم بن الوليد الأنصاري في يحيى بن خالد
(أجدك هل تدرين إن رب ليلة
* كأن دجاها من قرونك ينشر)
(صبرت لها حتى تجلت بغرة
* كغرة يحيى حين يذكر جعفر)
وكان يحيى يقول إذا أقبلت الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى وقال ذكر النعمة من المنعم تكدير ونسيان المنعم عليه كفر وتقصير وقال النية الحسنة مع العذر الصادق يقومان مقام النجح وقال إذا أدبر الأمر كان العطب في الحيلة
وقال الحسن بن سهل المقدم ذكره من غيرته الولاية لإخوانه علمنا أن الولاية أكبر منه أخذنا ذلك عن صاحب ديوان المكارم أبي علي يحيى بن خالد بن برمك
ولما عزم جعفر على بناء قصره شاور أباه يحيى بن خالد فيه فقال هو قميصك إن شئت فوسعه وإن شئت فضيقه وأتاه وهو يبني داره فإذا الصناع يبيضون حيطانها فقال إنك تعطي الذهب بالفضة فقال جعفر ليس كل أوان يكون ظهور الذهب أصلح ولكن هل ترى عيبا قال نعم مخالطتها لدور السفل والسوقة
وكان ليحيى كاتب يختص بخدمته ويقرب من حضرته فعزم على ختان ولده فاحتفل له الناس على طبقاتهم وهاداه أعيان الدولة ووجوه الكتاب والرؤساء على اختلاف منازلهم وكان له صديق قد اختلت أحواله وضاقت يده عما يريده لذلك مما دخل فيه غيره فعمد إلى كيسين كبيرين نظيفين فجعل في أحدهما ملحا وفي الآخر أشنانا مكفرا وكتب معهما رقعة نسختها لو تمت الإرادة لأسعفت بالعادة ولو ساعدت المكنة على بلوغ الهمة لاتبعت السابقين إلى برك وتقدمت المجتهدين في كرامتك لكن قعدت القدرة عن البغية وقصرت الجدة عن مباراة أهل النعمة وخفت أن تطوى صحائف البر

226
وليس لي فيها ذكر فأنفذت المبتدأ بيمنه وبركته والمختتم بطيبه ونظافته صابرا على ألم التقصير ومتجرعا غصص الاقتصار على اليسير فأما ما لم أجد إليه السبيل في قضاء حقك فالقائم فيه بعذري قول الله عز و جل * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) * التوبة 91 والسلام
فلما حضر يحيى بن خالد الوليمة عرض عليه كاتبه الهدايا جميعها حتى الكيسين والرقعة فاستظرفها وأمر أن يملأ الكيسان مالا ويردا عليه فكان ذلك أربعة آلاف دينار
وقال رجل ليحيى والله لأنت أحلم من الأحنف بن قيس فقال له لا تقرب إلي من أعطاني فوق حقي
ونادى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أحد غلمانه فلم يجبه فقال سمعت يحيى بن خالد يقول يدل على حلم الرجل سوء أدب غلمانه
وكان يحيى يساير الرشيد يوما فوقف له رجل فقال يا أمير المؤمنين عطبت دابتي فقال الرشيد يعطى خمسمائة درهم فغمزه يحيى فلما نزلوا قال له الرشيد يا أبت أومأت إلي بشيء ولم أعرفه فقال مثلك لا يجري هذا القدر على لسانه إنما يذكر مثلك خمسة آلاف ألف عشرة آلاف ألف فقال إذا سئلت مثل هذا كيف أقول فقال تقول يشترى له دابة
وبالجملة فإن أخبارهم كثيرة ولا يحتمل هذا المختصر الإطالة أكثر من هذا
ولما قتل هارون الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي كما ذكرناه في حرف الجيم من هذا الكتاب نكب البرامكة وحبس يحيى وابنه الفضل كما ذكرناه في حرف الفاء من هذا الكتاب وكان حبسهما في الرافقة وهي الرقة القديمة تجاور الرقة الجديدة وهي البلد المشهور الآن على شاطىء الفرات ويقال لهما الرقتان تغليبا لأحد الاسمين على الآخر كما قيل العمران والقمران وغير ذلك

227
وحكى الجهشياري في كتاب أخبار الوزراء أن يحيى بن خالد اشتهى في وقت من الأوقات في محبسه وهو مضيق عليه سكباجة فلم يطلق له اتخاذها إلا بمشقة فلما فرغ منها سقطت القدر من يد المتخذ لها فانكسرت فأنشد يحيى أبياتا يخاطب بها الدنيا ومضمونها اليأس وقطع الأطماع
ولم يزل يحيى في حبس الرافقة إلى أن مات في الثالث من المحرم سنة تسعين ومائة فجأة من غير علة وهو ابن سبعين سنة وقيل أربع وسبعين وصلى عليه ابنه الفضل ودفن في شاطىء الفرات في ربض هرثمة ووجد في جيبه رقعة فيها مكتوب بخطه قد تقدم الخصم والمدعي عليه في الأثر والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى بينة
فحملت الرقعة إلى الرشيد فلم يزل يبكي يومه كله وبقي أياما يتبين الأسى في وجهه رحمهما الله تعالى
وكان يحيى يجري على سفيان الثوري رضي الله عنه في كل شهر ألف درهم وكان سفيان يقول في سجوده اللهم إن يحيى كفاني أمر دنياي فاكفه أمر آخرته فلما مات يحيى رآه بعض إخوانه في النوم فقال له ما صنع الله بك قال غفر لي بدعاء سفيان وقيل إن صاحب هذه القضية هو سفيان ابن عيينة لا سفيان الثوري والله تعالى أعلم
قال الجهشياري ندم الرشيد على ما كان منه في أمر البرامكة وتحسر على ما فرط منه في أمرهم وخاطب جماعة من إخوانه بأنه لو وثق منهم بصفاء النية منهم لأعادهم إلى حالهم
وكان الرشيد كثيرا ما يقول حملونا على نصحائنا وكفاتنا وأوهمونا أنهم يقومون مقامهم فلما صرنا إلى ما أرادوا لم يغنوا عنا وأنشد

228
(أقلوا علينا لا أبا لأبيكم
* من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا)
قلت هذا البيت للحطيئة الشاعر وبعده
(أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
* وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا)
قلت وذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار ما مثاله إنه وجد تحت فراش يحيى بن خالد البرمكي رقعة فيها مكتوب
(وحق الله إن الظلم لوم
* وإن الظلم مرتعه وخيم)
(إلى ديان يوم الدين نمضي
* وعند الله تجتمع الخصوم)

229
807 الوزير ابن هبيرة
أبو المظفر الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة بن محمد بن هبيرة بن سعد بن الحسين بن أحمد بن الحسن بن جهم بن عمرو بن هبيرة بن علوان بن الحوفزان وهو الحارث بن شريك بن عمرو بن قيس بن شرحبيل بن مرة بن همام ابن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط ابن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الشيباني الملقب عون الدين هكذا ساق نسبه جماعة منهم ابن الدبيثي في تاريخه وابن القادسي في كتاب الوزراء وغيرهما وإنما أخرج له هذا النسب بعد سنين من وزارته وذكره الشعراء في مدائحهم
وهو من قرية من بلاد العراق تعرف بقرية بني أوقر بالقاف من أعمال دجيل وهي دور عرمانيا بالعين المهملة والياء المثناة من تحت وتعرف الآن بدور الوزير نسبة إليه وكان والده من أجنادها

230
ودخل بغداد في صباه واشتغل بالعلم وجالس الفقهاء والأدباء وكان على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وسمع الحديث وحصل من كل فن طرفا وقرأ الكتاب العزيز وختمه بالقراءات والروايات وقرأ النحو واطلع على أيام العرب وأحوال الناس ولازم الكتابة وحفظ ألفاظ البلغاء وتعلم صناعة الإنشاء وكانت قراءته الأدب على أبي منصور ابن الجواليقي وتفقه على أبي الحسين محمد بن محمد الفراء وصحب الشيخ أبا عبد الله محمد ابن يحيى بن علي بن مسلم بن موسى بن عمران الزبيدي الواعظ وسمع الحديث النبوي من أبي عثمان إسماعيل بن محمد بن قيلة الأصبهاني ومن أبي القاسم هبة الله بن محمد بن الحسين الكاتب ومن بعدهما وحدث عن الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين وعن غيره وسمع منه خلق كثير منهم الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي
وأول ولايته الإشراف بالأقرحة الغربية ثم نقل إلى الإشراف على الإقامات المخزنية ثم قلد الإشراف بالمخزن ولم يطل في ذلك مكثه حتى قلد في سنة اثنتين وأربعين كتابة ديوان الزمام ثم ترقى إلى الوزارة وكان سبب توليته الوزارة ما حكاه الذي جمع سيرته أنه قال من جملة ما رفع قدر الوزير ونقله إلى الوزارة ما جرى من مسعود البلالي شحنة بغداد نيابة عن السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي وكان مسعود أحد الخدم الخصيان الحبشيين الكبار من أمراء دولته من سوء أدبه في الحضرة وخروجه عن معتاد الواجب وانتشار مفسدي أصحابه وكان وزير الخليفة إذ ذاك قوام الدين أبو القاسم علي بن صدقة ابن علي بن صدقة قد كتب عن الخليفة إلى السلطان مسعود عدة كتب يعتمد الإنكار على مسعود البلالي على ما صدر منه فلم يرجع بجواب فلما قلد عون الدين ابن هبيرة كتابة ديوان الزمام خاطب الخليفة في مكاتبة السلطان مسعود بالقضية فوقع إليه قد كان الوزير كتب في ذلك عدة كتب فلم يجيبوه فراجع عون الدين في ذلك سؤاله إلى أن أجيب فكتب من إنشائه رسالة وهي طويلة فأضربت عن ذكرها وحاصل الأمر فيها أنه دعا له وأذكره ما كان أسلافه

231
يعاملون الخلفاء به من حسن الطاعة والتأدب معهم والذب عنهم ممن يفتات عليهم وشكا من مسعود البلالي وأنه كاتب في ذلك عدة دفعات وما جاءه جواب وأطال القول في
ذلك وكان هذا في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة في شهر ربيع الآخر فما مضى على هذا إلا قليل حتى عاد الجواب بالاعتذار والذم لمسعود البلالي والإنكار لما اعتمده فاستبشر المقتفي بإشارة عون الدين وعظم سروره بذلك وحسن موقع عون الدين من قلبه ولم يزل عنده مكينا حتى استوزره
قال مصنف السيرة وكان أيضا من جملة أسباب وزارته أنه في سنة ثلاث وأربعين وصل إلى بغداد الأمير ابن ألقش المسعودي صاحب اللحف وهو صقع بالعراق ويلدكز السلطاني وقصداها في جموع كثيرة وصدر منهم فتن عظيمة تضمنتها التواريخ فشرع الوزير قوام الدين بن صدقة في تدبير الحال فأخفق مسعاه فحينئذ استأذن عون الدين الخليفة في أمرهم فأذن له في ذلك فخاطب هؤلاء الخارجين على الخليفة وأحسن التدبير في ذلك حتى كف شرهم ثم قوي عليهم حتى نهبت العامة أموالهم وجرت المقادير بهذه الأحوال لرفع ابن هبيرة ووضع الوزير ابن صدقة فإنه عند انقضاء هذا المهم استدعى الخليفة المقتفي عون الدين بمطالعة على يد أميرين من أمراء الدولة فتبين بقراءته لها التباشير في أسرته فركب إلى دار الخليفة في جماعته وتسامع الناس بوزارته ولما وصل إلى باب الحجرة استدعي فدخل وقد جلس له المقتفي بميمنة التاج فقبل الأرض وسلم وتحدثا ساعة بما لم يحط به غيرهما علما ثم خرج وقد جهزوا له التشريف على عادة الوزراء فلبسه ثم استدعي ثانيا فقبل الأرض ودعا بدعاء أعجب الخليفة ثم أنشده
(سأشكر عمرا ما تراخت منيتي
* أيادي لم تمنن وإن هي جلت)
(رأى خلتي من حيث يخفى مكانها
* فكانت بمرأى منه حتى تجلت)
قلت وهذان البيتان لإبراهيم بن العباس الصولي المقدم ذكره وهي

232
ثلاثة أبيات والثاني منهما بعد الأول
(فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
* ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت)
ولما أنشد عون الدين هذين البيتين غير نصف البيت الثاني منهما فإن الشاعر قال
(فكانت قذى عينيه حتى تجلت
*)
فما رأى أنه يخاطب الخليفة بهذه العبارة فغيره تأدبا
ثم إن عون الدين خرج فقدم له حصان أدهم سائل الغرة محجل وعليه من الحلى ما جرت به عادتهم مع الوزراء والشرح في ذلك يطول فاختصرته وخرج بين يديه أرباب المناصب وأعيان الدولة وأمراء الحضرة وجميع خدام الخلافة وسائر حجاب الديوان والطبول تضرب أمامه والمسند وراءه محمول على عادتهم في ذلك حتى دخل الديوان ونزل على طرف الديوان وجلس في الدست وقام لقراءة عهده الشيخ سديد الدولة أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم ابن الأنباري ولولا خوف الإطالة لذكرت العهد فإنه بديع في بابه لكن قصدي الاقتصار فأعرضت عن ذكره وهو مشهور في أيدي الناس فلما فرغ من قراءته قرأ القراء وأنشد الشعراء وتولى الوزارة يوم الأربعاء ثالث عشر ربيع الآخر من سنة أربع وأربعين وخمسمائة وكان لقبه جلال الدين فلما ولي الوزارة لقبوه عون الدين
وكان عالما فاضلا ذا رأي صائب وسريرة صالحة وظهر منه في أيام ولايته ما شهد له بكفايته وحصن مناصحته فشكر له ذلك ولحظه بعين الرعاية وتوفرت له أسباب السعادة وكان مكرما لأهل العلم يحضر مجلسه الفضلاء على اختلاف فنونهم ويقرأ عنده الحديث عليه وعلى الشيوخ بحضوره ويجري من البحث والفوائد ما يكثر ذكره
وصنف كتبا فمن ذلك كتاب الإفصاح عن شرح معاني الصحاح وهو يشتمل على تسعة عشر كتابا شرح الجمع بين الصحيحين وكشف عما فيه من الحكم النبوية وكتاب المقتصد بكسر الصاد المهملة وشرحه أبو

233
محمد ابن الخشاب النحوي المشهور في أربع مجلدات شرحا مستوفى واختصر كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت وله كتاب العبادات في الفقه على مذهب الإمام أحمد وأرجوزة في المقصور والممدود وأرجوزة في علم الخط وغير ذلك
وذكر شيخنا عز الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري في تاريخه الصغير الأتابكي في فصل حصار الملك محمد وزين الدين بغداد وذلك في ذي القعدة من سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة أن المقتفي لأمر الله جد في حفظ بغداد وقام وزيره عون الدين بن هبيرة في هذا الأمر المقام الذي يعجز عنه غيره قال وأمر المقتفي فنودي ببغداد من جرح وقت القتال فله خمسة دنانير فكان كل من جرح يوصل ذلك إليه فحضر بعض العامة عند الوزير مجروحا فقال الوزير هذا جرح صغير لا تستحق عليه شيئا فعاد إلى القتال فضرب في جوفه فخرجت أمعاؤه فعاد إلى الوزير فقال يا مولانا الوزير يرضيك هذا فضحك منه وأمر له بصلة وأحضر له من يعالجه انتهى كلام ابن الأثير
قلت وهذا محمد هو ابن محمود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي وزين الدين هو أبو الحسن علي بن بكتكين المعروف بكجك والد مظفر الدين صاحب إربل
وقال غير ابن الأثير إن الملك اسمه محمد شاه وإن هذه القضية كانت في سنة اثنتين وخمسين والله أعلم ذكر ذلك ابن الجوزي في كتاب شذور العقود وهو أخبر لأنها بلده
وهو بها وقد ذكرت محمد شاه في ترجمة أبيه
وتوفي الإمام المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر ليلة الأحد ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة وبويع ولده المستنجد بالله أبو

234
المظفر يوسف فدخل عليه وبايعه وأقره على وزارته وأكرمه وكان خائفا منه أن يعزله فلم يعزله ولم يتعرض له ولم يزل مستمرا في وزارته إلى حين وفاته
ومدحه جماعة من أماثل شعراء عصره منهم أبو الفوارس سعد بن محمد المعروف بابن صيفي الملقب حيص بيص المقدم ذكره وله فيه مدائح منتخبة فمن ذلك قوله
(يهز حديث الجود ساكن عطفه
* كما هز شرب الحي صهباء قرقف)
(ويرسو إذا طاشت حبا القوم واغتدت
* صعاب الذرا من زعزع الخطب ترجف)
(صروم الدنايا هاجر كل سبة
* ولكنه بالمجد صب مكلف)
(يضيق بأدنى العار ذرعا وصدره
* بأهوال ما يدني من الحمد نفنف)
(إذا قيل عون الدين يحيى تألق الغمام
* وماس السمهري المثقف)
وكانت عوائدهم في بغداد في شهر رمضان أن الأعيان يحضرون سماط الخليفة عند الوزير وهم يسمون السماط الطبق وكان حيص بيص في جملة من يحضر الطبق وكانت نفسه أبية وهمته عربية وإذا أحضروا الطبق تخطاه وقعد فوقه من أرباب المراتب جماعة ليس فيهم فضل فيجد في نفسه لذلك مشقة عظيمة فكتب إلى الوزير عون الدين يستعفيه من الحضور
(يا باذل المال في عدم وفي سعة
* ومطعم الزاد في صبح وفي غسق)
(وحاشر الناس أغنتهم فواضله
* إلى مزيد من النعماء مندفق)
(في كل بيت خوان من مكارمه
* يميرهم وهو يدعوهم إلى الطبق)
(فاض النوال فلولا خوف منعمة
* من بأس عدلك نادى الناس بالغرق)
(وكل أرض بها صوب وساكبة
* حتى الوغى من نجيع الخيل والعرق)

235
(صن منكبي عن زحام إن غضبت له
* تمكن الطعن من عرضي ومن خلقي)
(وإن رضيت به فالذل منقصة
* فكم تكلفته حملا فلم أطق)
(أنا المريض بأحداث وسورتها
* وليس غير إبائي حافظ رمقي)
(وهبه لي كعطاياك التي كثرت
* فالجود بالعز فوق الجود بالورق)
(إن اصفرار مجن الشمس من حزن
* على علاها لمرماها إلى الأفق)
(وإن توهم قوم أنه حمق
* فربما اشتبه التوقير بالحمق)
وأهدي إلى الوزير عون الدين دواة بلور مرصعة بمرجان وفي مجلسه جماعة منهم حيص بيص فقال الوزير يحسن أن يقال في هذه الدواة شيء من الشعر فقال بعض الحاضرين وكان ضريرا ولم أقف على اسمه
(ألين لداود الحديد كرامة
* يقدره في السرد كيف يريد)
(ولان لك البلور وهي حجارة
* ومعطفه صعب المرام شديد)
فقال حيص بيص إنما وصفت صانع الدواة ولم تصفها فقال الوزير من عير غير فقال الحيص بيص
(صيغت دواتك من يوميك فاشتبها
* على الأنام ببلور ومرجان)
(فيوم سلمك مبيض بفيض ندى
* ويوم حربك قان بالدم القاني)
ثم وجدت البيتين الأولين في كتاب الجنان تأليف القاضي الرشيد أحمد ابن الزبير الغساني المذكور في أوائل هذا الكتاب ونسبهما إلى القاضي الرشيد أحمد بن قاسم الصقلي قاضي مصر وذكر أنه دخل على الأفضل شاهان شاه أمير الجيوش بمصر وقد تقدم ذكره أيضا فرأى بين يديه دواة من

236
عاج محلاة بمرجان فقال بديها
(ألين لداود الحديد كرامة
* يقدره في السرد كيف يريد)
(ولان لك المرجان وهو حجارة
* على أنه صعب المرام شديد)
ومدحه أبو عبد الله محمد بن بختيار المعروف بالأبله الشاعر المقدم ذكره بقصائد عديدة منها وهي أحسنها فلهذا ذكرتها
(ولع النسيم وبانة الجرعا
* وصفاك إلا الحلي والودعا)
(يا دمية ضاقت خلاخلها
* عنها وضقت بحبها ذرعا)
(قد كنت ذا دمع وذا جلد
* فبقيت لا جلدا ولا دمعا)
(صيرت جسمي للضنى سكنا
* وسكنت بعد تبالة الجزعا)
(يا من رأى أدماء سانحة
* قلبي لها لا المنحنى مرعى)
(لاثت بمثل الغصن مئزرها
* وجلت بعود أراكة طلعا)
(وإذا تراجعك الكلام فلا
* تعدد لأيام الصبا رجعي)
(ولقد سعت بالكأس تصبحني
* سكرى اللواحظ وعثة المسعى)
(في مستنير الزهر ما صنعت
* أبراده عدن ولا صنعا)
(باكرت مفترعا ثراه وما
* ركب الحمام لبانة فرعا)
(سلت عليه البارقات ظبا
* لبس الغدير لخوفها درعا)
(يا عاذلي إن شئت تسمعني
* عذلا فشق لصخرة سمعا)
(طبعا جبلت على الغرام كما
* جبل الوزير على الندى طبعا)

237
وخرج بعد هذا إلى المديح فأضربت عنه ولولا خوف الإطالة لذكرته
ومدحه أبو الفتح محمد بن عبد الله سبط ابن التعاويذي المقدم ذكره بقصيدة واحدة وهي
(سقاها الحيا من أربع وطلول
* حكت دنفي من بعدهم ونحولي)
(ضمنت لها أجفان عين قريحة
* من الدمع مدرار الشؤون همول)
(لئن حال رسم الدار عما عهدته
* فعهد الهوى في القلب غير محيل)
(خليلي قد هاج الغرام وشاقني
* سنا بارق بالأجرعين كليل)
(ووكل طرفي بالسهاد تنظري
* قضاء ملي بالديون مطول)
(إذا قلت قد أنحلت جسمي صبابة
* تقول وهل حب بغير نحول)
(وإن قلت دمعي بالأسى فيك شاهدي
* تقول شهود الدمع غير عدول)
(فلا تعذلاني إن بكيت صبابة
* على ناقض عهد الوفاء ملول)
(فأبرح ما يمنى به الصب في الهوى
* ملال حبيب أو ملام عذول)
(ودون الكثيب الفرد بيض عقائل
* لعبن بألباب لنا وعقول)
(غداة التقت ألحاظها وقلوبنا
* فلم تجل إلا عن دم وقتيل)
(ألا حبذا وادي الأراك وقد وشت
* برياك ريحا شمأل وقبول)
(وفي أبرديه كلما اعتلت الصبا
* شفاء فؤاد بالغرام عليل)
(دعوت سلوا فيك غير مساعدي
* وحاولت صبرا عنك غير جميل)
(تعرفت أسباب الهوى وحملته
* على كاهل للنائبات حمول)
(فلم أحظ في حب الغواني بطائل
* سوى رعي ليل بالغرام طويل)
ومنها
(إلى كم تمنيني الليالي بماجد
* رزين وقار الحلم غير عجول)

238
(أهز اختيالا في هواه معاطفي
* وأسحب تيها في ثراه ذيولي)
(لقد طال عهدي بالنوال وإنني
* لصب إلى تقبيل كف منيل)
(وإن ندى يحيى الوزير لكافل
* بها لي وعون الدين خير كفيل)
وكان عون الدين كثيرا ما ينشد
(ما ناصحتك خبايا الود من أحد
* ما لم ينلك بمكروه من العذل)
(مودتي لك تأبى أن تسامحني
* بأن أراك على شيء من الزلل)
وذكر الشيخ شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزغلي بن عبد الله سبط الشيخ جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي في تاريخه الذي سماه مرآة الزمان ورأيته بدمشق في أربعين مجلدا وجميعه بخطه وكان أبوه قزغلي مملوك عون الدين ابن هبيرة المذكور وزوجه بنت الشيخ جمال الدين أبي الفرج المذكور فأولدها شمس الدين فولاؤه له أنه سمع مشايخه ببغداد يحكون أن عون الدين قال كان سبب ولايتي المخزن أنني ضاق ما بيدي حتى فقدت القوت أياما فأشار علي بعض أهلي أن أمضي إلى قبر معروف الكرخي رضي الله عنه فأسأل الله تعالى عنده فإن الدعاء عنده مستجاب قال فأتيت قبر معروف فصليت عنده ودعوت ثم خرجت لأقصد البلد يعني بغداد فاجتزت بقطفتا قلت وهي محلة من محال بغداد قال فرأيت مسجدا مهجورا فدخلت لأصلي فيه ركعتين وإذا بمريض ملقى على بارية فقعدت عند رأسه وقلت ما تشتهي فقال سفرجلة قال فخرجت إلى بقال هناك فرهنت عنده مئزري على سفرجلتين وتفاحة وأتيته بذلك فأكل من السفرجلة ثم قال أغلق باب المسجد فأغلقته فتنحى عن البارية وقال احفر هاهنا فحفرت وإذا بكوز فقال خذ هذا فأنت أحق به فقلت أما لك وارث فقال لا وإنما كان لي أخ وعهدي به بعيد وبلغني أنه مات ونحن من الرصافة

239
قال وبينا هو يحدثني إذ قضى نحبه فغسلته وكفنته ودفنته ثم أخذت الكوز وفيه مقدار خمسمائة دينار وأتيت إلى دجلة لأعبرها وإذا بملاح في سفينة عتيقة وعليه ثياب رثة فقال معي معي فنزلت معه وإذا به من أكثر الناس شبها بذلك الرجل فقلت من أين أنت فقال من الرصافة ولي بنات وأنا صعلوك قلت فما لك أحد قال لا كان لي أخ ولي عنه زمان ما أدري ما فعل الله به قال فقلت ابسط حجرك فبسطه فصببت المال فيه فبهت فحدثته الحديث فسألني أن آخذ نصفه فقلت لا والله ولا حبة ثم صعدت إلى دار الخليفة وكتبت رقعة فخرج عليها إشراف المخزن ثم تدرجت إلى الوزارة
وقال جدي الشيخ أبو الفرج في كتاب المنتظم وكان الوزير يسأل الله تعالى الشهادة ويتعرض لأسبابها وكان صحيحا يوم السبت ثاني عشر جمادى الأولى من سنة ستين وخمسمائة فنام ليلة الأحد في عافية فلما كان في وقت السحر قاء فأحضر طبيبا كان يخدمه فسقاه شيئا فيقال إنه سمه فمات وسقي الطبيب بعده بنحو ستة أشهر سما فكان يقول سقيت كما سقيت ومات الطبيب
وقال في المنتظم أيضا وكنت ليلة مات الوزير نائما على سطح مع أصحابي فرأيت في المنام كأني في دار الوزير وهو جالس فدخل رجل بيده حربة قصيرة فضربه بها بين أنثييه فخرج الدم كالفوارة فضرب الحائط فالتفت فإذا بخاتم من ذهب ملقى فأخذته وقلت لمن أعطيه أنتظر خادما يخرج فأعطيه إياه وانتبهت وحدثت أصحابي بالرؤيا فلم أستتم الحديث حتى جاء رجل فقال مات الوزير فقال بعض الحاضرين هذا محال أنا فارقته أمس العصر وهو في كل عافية وجاء آخر وصح الحديث وقال لي ولده لا بد أن تغسله فأخذت في غسله ورفعت يده لأغسل مغابنه قلت

240
المغابن مطاوي البدن مثل الإبط وغيره واحدها مغبن بفتح الميم وكسر الباء الموحدة وسكون الغين المعجمة قال فسقط الخاتم من يده فحين رأيت الخاتم تعجبت من المنام قال ورأيت في وقت غسله آثارا في وجهه وجسده تدل على أنه مسموم فلما خرجت جنازته غلقت أسواق بغداد ولم يتخلف عن جنازته أحد وصلي عليه في جامع القصر وحمل إلى باب البصرة فدفن في مدرسته التي أنشأها وقد دثرت الآن ورثاه جماعة من الشعراء انتهى كلام أبي الفرج ابن الجوزي
وقال مؤلف سيرة الوزير المذكور إن سبب موته كان بلغما ثار بمزاجه وقد خرج مع المستنجد للصيد فسقي مسهلا فقصر عن استفراغه فدخل إلى بغداد يوم الجمعة سادس جمادى الأولى راكبا متحاملا إلى المقصورة لصلاة الجمعة فصلى بها وعاد إلى داره فلما كان وقت صلاة الصبح عاوده البلغم فوقع مغشيا عليه فصرخ الجواري فأفاق فسكتهن وبلغ الخبر ولده عز الدين أبا عبد الله محمدا وكان ينوب عنه في الوزارة فبادر إليه فلما دخل عليه قال له قد بث أستاذ الدار عضد الدين أبو الفرج محمد بن
عبد الله بن هبة الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء المعروف بابن المسلمة جماعة ليستعلم ما هذا الصياح فتبسم الوزير على ما هو عليه من تلك الحال وأنشد
(وكم شامت بي عند موتي جهالة
* بظلم يسل السيف بعد وفاتي)
(ولو علم المسكين ما ذا يناله
* من الضر بعدي مات قبل مماتي)
ثم تناول مشروبا فاستفرغ به ثم استدعى بماء فتوضأ للصلاة وصلى قاعدا فسجد فأبطأ عن القعود من السجود فحركوه فإذا هو ميت فطولع به الإمام المستنجد فأمر بدفنه

241
وخلف ولدين أحدهما عز الدين المذكور والآخر شرف الدين أبو الوليد مظفر
وأما مولده فقد ذكر أبو عبد الله محمد بن القادسي في تاريخ الوزراء أنه ولد في سنة سبع وتسعين وأربعمائة على ما ذكره من لفظه رحمه الله تعالى
قال بعضهم رأيته في المنام بعد موته فسألته عن حاله فقال
(قد سئلنا عن حالنا فأجبنا
* بعد ما حال حالنا وحجبنا)
(فوجدنا مضاعفا ما كسبنا
* ووجدنا ممحصا ما اكتسبنا)
ولما بلغ خبر موته عضد الدين ابن المظفر أستاذ الدار المذكور كان بحضرته سبط ابن التعاويذي المذكور قبل هذا وهو من موالي بني المظفر فإن أباه كان مملوكا لبعض بني المظفر واسمه نشتكين فسماه ابنه عبد الله فأراد سبط ابن التعاويذي أن يتقرب إلى عضد الدين لعلمه ما بينه وبين الوزير فأنشد مرتجلا
(قال لي والوزير قد مات قوم
* قم لنبكي أبا المظفر يحيى)
(قلت أهون عندي بذلك رزأ
* ومصابا وابن المظفر يحيا)
وقال آخر ولا أذكر اسمه الآن لكنه من الشعراء المشاهير
(أيا رب مثل الماجد ابن هبيرة
* يموت ويحيا مثل يحيى بن جعفر)
(يموت بيحيى كل فضل وسؤدد
* ويحيا بيحيى كل جهل ومنكر)
والمقصود أن محاسنه كانت كثيرة وقد أطلت هذه الترجمة حتى استوفيت مقاصدها
ورأيت في كتاب النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس تأليف أبي الخطاب ابن دحية غلطة أحببت التنبيه عليها في هذا الكتاب كي لا يقف عليها

242
أحد فيظنه مصيبا فيما ذكره وهو أنه قال في خلافة المقتفي لأمر الله ما مثاله وسعد بوزيره أبي المظفر عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة من ولد الأمير الكبير أبي حفص عمر بن هبيرة وقد ذكر المؤرخون فضائل جده التي حازها عون الدين من بعده ثم ذكر مكرمة جرت لعمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين في دولة بني أمية وظن ابن دحية المذكور أن الوزير المذكور من ذرية ذلك المتقدم وعجبت منه من ذلك فإن الوزير شيباني النسب كما شرحناه في أول الترجمة وذاك فزاري النسب كما يأتي في ترجمة ولده يزيد بن عمر ابن هبيرة إن شاء الله تعالى وأين شيبان من فزارة ولا شك أنه ما أوقعه في هذا الأمر إلا ما رآه في نسب الوزير فقد جاء فيه عمر بن هبيرة فتوهم أن هذا هو ذاك وليس الأمر كما توهمه ومثل ابن دحية لا يعذر فقد كان حافظا ومطلعا على أمور الناس وهذا الأمر واضح لكن الخطأ موكل بالإنسان
(327) قلت وأكثر من جرى ذكره في هذه الترجمة قد تقدم ذكره في هذا التاريخ وأفردت لكل واحد منهم بترجمة مستقلة سوى الشيخ الزبيدي فإنه كان كبير القدر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وما انتفع الوزير إلا بصحبته وما ذكرته في هذا التاريخ فينبغي التنبيه عليه إذ مثله لا يهمل وكان دخوله بغداد في سنة تسع وخمسمائة وتوفي في شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة رحمه الله تعالى
وقال أبو عبد الله ابن النجار في تاريخ بغداد كان مولده بزبيد في ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من المحرم سنة ستين وأربعمائة وتوفي ليلة الاثنين مستهل شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة ودفن بمقبرة جامع المنصور ببغداد رحمه الله تعالى
وقول الآخر
(أيا رب مثل الماجد ابن هبيرة
* يموت ويحيا مثل يحيى بن جعفر)
328) فالمراد به أبو الفضل يحيى بن أبي القاسم عبد الله بن محمد بن المعمر ابن جعفر الملقب زعيم الدين تولى النظر بالمخزن في جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة إلى سنة سبع وستين ففيها ناب في الوزارة بعد عزل

243
أبي الفرج ابن المظفر ولم يزل على ذلك إلى أن توفي وكان مشكورا محمود الطريقة محبا لأهل العلم وكانت ولادته ليلة الجمعة بعد العشاء الأخير التاسع والعشرين من صفر سنة إحدى عشرة وخمسمائة وتوفي ليلة العشرين من شهر ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة ببغداد ودفن من الغد في الحربية بتربة له رحمه الله تعالى
808 ابن زبادة
أبو طالب يحيى بن أبي الفرج سعيد بن أبي القاسم هبة الله بن علي بن فرغلي ابن زبادة الشيباني الكاتب المنشيء الواسطي الأصل البغدادي المولد والدار والوفاة الملقب قوام الدين وقيل عميد الدين كان من الأعيان الأماثل والصدور الأفاضل انتهت إليه المعرفة بأمور الكتابة والإنشاء والحساب مع مشاركته في الفقه وعلم الكلام والأصول وغير ذلك وله النظم الجيد
جالس أبا منصور ابن الجواليقي وقرأ عليه وعلى من بعده وسمع الحديث من جماعة وخدم الديوان من صباه إلى أن توفي عدة خدمات وكان مليح العبارة في الإنشاء جيد الفكرة حلو الترصيع لطيف الإشارة وكان الغالب عليه في رسائله العناية بالمعاني أكثر من طلب التسجيع وله رسائل بليغة وشعر رائق وفضله أشهر من أن يذكر

244
وتولى النظر بديوان البصرة وواسط والحلة ولم يزل على ذلك إلى أن طلب من واسط والحلة ولم يزل على ذلك إلى المحرم سنة خمس وسبعين وخمسمائة ورتب حاجبا بباب النوبي وقلد النظر في المظالم ثم عزل عن ذلك في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعين ثم أعيد إليه في جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين فلما قتل أستاذ الدار وهو مجد الدين أبو الفضل هبة الله بن علي بن هبة الله بن محمد بن الحسن المعروف بابن الصاحب وكان قتله يوم السبت تاسع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ترتب ابن زبادة المذكور مكانه ثم عزل في سنة خمس وثمانين وعاد إلى واسط فأقام بها إلى أن استدعي في شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين وقلد ديوان الإنشاء في يوم الاثنين الثاني والعشرين من شهر رمضان ثم رد إليه النظر في ديوان المقاطعات فكان على ذلك إلى حين وفاته
وكان حسن السيرة محمود الطريقة متدينا حدث بشيء يسير وكتب الناس عنه كثيرا من نظمه ونثره فمن ذلك قوله
(باضطراب الزمان ترتفع الأنذال فيه حتى يعم البلاء
*)
(وكذا الماء ساكنا فإذا حرك ثارت من قعره الأقذاء
*)
وله أيضا
(إني لأعظم ما تلقونني جلدا
* إذا توسطت هول الحادث النكد)
(كذلك الشمس لا تزداد قوتها
* إلا إذا حصلت في زبرة الأسد)
وكتب إلى الإمام المستنجد يهنيه بالعيد
(يا ماجدا جل قدرا أن نهنيه
* لنا الهناء بظل منك ممدود)

245
(الدهر أنت ويوم العيد منك وما
* في العرف أنا نهني الدهر بالعيد)
وله أيضا
(إن كنت تسعى للسعادة فاستقم
* تنل المراد ولو سموت إلى السما)
(ألف الكتابة وهو بعض حروفها
* لما استقام على الجميع تقدما)
وله أيضا
(لا تغبطن وزيرا للملوك وإن
* أناله الدهر منهم فوق همته)
(واعلم بأن له يوما تمور به الأرض
* الوقور كما مارت لهيبته)
(هارون وهو أخو موسى الشقيق له
* لولا الوزارة لم يأخذ بلحيته)
وله كل معنى مليح وله ديوان رسائل وقفت عليه في بلادنا ولم يحضرني شيء منه كي أثبته هاهنا
وقال أبو عبد الله محمد بن سعيد الدبيثي في تاريخه أنشدنا أبو طالب يحيى ابن سعيد بن هبة الله يعني ابن زبادة المذكور من حفظه قال أنشدني أبو بكر أحمد بن محمد الأرجاني لما قدم بغداد علينا في سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة لنفسه قلت وهو ناصح الدين أبو بكر أحمد الأرجاني المقدم ذكره قوله
(ومقسومة العينين من دهش النوى
* وقد راعها بالعيس رجع حداء)
(تجيب بإحدى مقلتيها تحيتي
* وأخرى تراعي أعين الرقباء)
(رأت حولها الواشين طافوا فغيضت
* لهم دمعها واستعصمت بحياء)
(فلما بكت عيني غداة وداعهم
* وقد روعتني فرقة القرناء)
(بدت في محياها خيالات أدمعي
* فغاروا وظنوا أن بكت لبكائي)

246
وكتب إليه أبو الغنائم محمد بن علي المعروف بابن المعلم الهرثي الشاعر المقدم ذكره وقد عزل عن نظر واسط
(ولأنت إن لم يبلل الغيث الثرى
* تروي الورى بسماحك الهتان)
(لم يعزلوك عن البلاد لحالة
* تدعو إلى النقصان والشنآن)
(بل مذ رأوا آثار جودك زاخرا
* حفظوا بلادهم من الطوفان)
قلت وحكى لي الوجيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي طالب المعروف باب سويد التاجر التكريتي قال كان الشيخ محيي الدين أبو المظفر يوسف بن الحافظ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي الواعظ المشهور قد توجه رسولا من بغداد إلى الملك العادل بن الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب سلطان مصر في ذلك الوقت وكان أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محبوسا في قلعة الكرك يومئذ وقد شرحت ذلك في ترجمة الكامل في هذا التاريخ قال الوجيه فلما عاد محيي الدين راجعا إلى بغداد وقدم دمشق كنت بها فدخلت عليه أنا والشيخ أصيل الدين أبو الفضل عباس بن عثمان ابن نبهان الإربلي وكان رئيس التجار في عصره وجلسنا نتحدث معه فقال قد حلفت الملك الناصر داود صاحب الكرك أن لا يخرج الملك الصالح من الحبس إلا بأمر أخيه الملك العادل قال فقال له الأصيل يا مولانا هذا بأمر الديوان العزيز فقال محيي الدين وهل هذا يحتاج إلى إذن هذا اقتضته المصلحة ولكن أنت تاريخ يا أصيل فقال يعني مولانا أني قد كبرت وما أدري ما أقول وأنا أحكي لمولانا حكاية في هذا المعنى أعرفها من غرائب الحكايات قال هات فقال كان ابن رئيس الرؤساء ناظر واسط يحمل في كل شهر حمل واسط وهو ثلاثون ألف دينار لا يمكن أن يتأخر يوما واحدا عن العادة فتعذر في بعض الأشهر كمال الحمل فضاق صدره لذلك وذكره

247
لنوابه فقالوا له يا مولانا هذا ابن زبادة عليه من الحقوق أضعاف ذلك ومتى حاسبته قام بما يتم الحمل وزيادة فاستدعاه وقال له لم لا تؤدي كما يؤدي الناس فقال أنا معي خط الإمام المستنجد بالمسامحة قال هل معك خط مولانا الإمام الناصر قال لا قال قم واحمل ما يجب عليك قال ما ألتفت إلى أحد ولا أحمل شيئا
ونهض من المجلس فقال النواب لابن رئيس الرؤساء أنت صاحب الوسادتين وناظر النظار وما على يدك يد ومن هو هذا حتى يقابلك بمثل هذا القول ولو كبست داره وأخذت ما فيها ما قال لك أحد شيئا وحملوه عليه حتى ركب بنفسه وأجناده وكان ابن زبادة يسكن قبالة واسط وقدموا إلى ابن رئيس الرؤساء السفن حتى يعبر إليه وإذا بزبزب قد قدم من بغداد فقال ما قدم هذا إلا في مهم ننظر ما هو ثم نعود إلى ما نحن بسببه فلما دنا من الزبزب فإذا فيه خدم من خدام الخليفة فصاحوا به الأرض الأرض فقبل الأرض وناولوه مطالعة وفيها قد بعثنا خلعة ودواة لابن زبادة فتحمل الخلعة على رأسك والدواة على صدرك وتمشي راجلا إليه وتلبسه الخلعة وتجهزه إلينا وزيرا فحمل الخلعة على رأسه والدواة على صدره ومشى إليه راجلا فلما رآه ابن زبادة أنشده ابن رئيس الرؤساء
(إذا المرء حي فهو يرجي ويتقي
* وما يعلم الإنسان ما في المغيب)
وأخذ يعتذر إليه فقال له ابن زبادة لا تثريب عليكم اليوم وركب في الزبزب إلى بغداد وما علموا أن أحدا أرسلت إليه الوزارة غيره فلما وصل إلى بغداد كان أول ما نظر فيه أن عزل ابن رئيس الرؤساء عن نظر واسط قال هذا ما يصلح لهذا المنصب ثم قال الأصيل ولا يأمن مولانا أن يخرج الملك الصالح ويملك ويعود إليه رسولا ويقع وجهك في وجهه وتستحي منه فأنشده محيي الدين قوله
(وحتى يؤوب القارظان كلاهما
* وينشر في الموتى كليب لوائل)
فما كان إلا مديدة حتى خرج الملك الصالح من حبس الكرك وملك مصر وكان ما كان
قلت وكنت بمصر ومحيي الدين بها رسول إلى الملك

248
العادل وقبض العادل وجاء الصالح فخرج محيي الدين التقاه وشاهدت ذلك
هكذا ذكر لي الوجيه هذه الحكاية وفيها غلط إما من الوجيه أو من الأصيل فإن ابن زبادة ما ولي الوزارة ولا تولى إلا ما ذكرته في أوائل ترجمته فإن كان هذا صحيحا فيكون ذلك لما طلب للإنشاء كما شرحته والله أعلم بالصواب
قال ابن الدبيثي المذكور سألت أبا طالب ابن زبادة عن مولده فقال ولدت يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة وتوفي ليلة الجمعة السابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمسمائة وصلي عليه بجامع القصر ودفن بالجانب الغربي بمشهد الإمام موسى بن جعفر رضي الله عنهما يعني ببغداد وزبادة بفتح الزاي هو القطعة من الزباد الذي يتطيب النسوان به والله أعلم
809 يحيى بن نزار المنبجي
أبو الفضل يحيى بن نزار بن سعيد المنبجي ذكره الحافظ أبو سعد عبد الكريم بن السمعاني في كتاب الذيل على تاريخ الخطيب المختص ببغداد فقال له شعر مطبوع غير متكلف وكتب لي أبياتا من شعره وسمعت منه وسألته عن مولده فقال ولدت في المحرم من سنة ست وثمانين وأربعمائة بمنبج
وأورد له مقاطيع أنشده إياها فمن ذلك قوله

249
(وأغيد غض زاد خط عذاره
* لعاشقه في همه والبلابل)
(تموج بحار الحسن في وجناته
* فتقذف منها عنبرا في السواحل)
(وتجري بخديه الشبيبة ماءها
* فتنبت ريحانا جنوب الجداول)
قلت وقد خطر لي على هذا مأخذ وهو أنه جعل في البيت الثاني بحار الحسن تموج في وجناته فكيف يقول في البيت الثالث وتجري بخديه الشبيبة ماءها وما مقدار ماء الشبيبة بالنسبة إلى بحار الحسن وما كفى هذا حتى جعلها جداول والجداول الأنهار وأين الأنهار من البحار ثم إنه في البيت الثاني قد شبه العذار بالعنبر فكيف يجعله في البيت الثالث ريحانا وأين العنبر من الريحان وإن كان كل واحد من العنبر والريحان قد جرت عادة الشعراء أن يشبهوا به العذار ولكن في مقطوع واحد من الشعر ما لهم عادة يجمعون بينهما
وكنت قد سمعت في زمن الاشتغال بالأدب بيتين استحسنتهما ولم أعرف قائلهما وهما
(يا عاذلي في حب ذي عارض
* ما البلد المخصب كالماحل)
(يموج بحر الحسن في خده
* فيقذف العنبر في الساحل)
فلما كان في أوائل سنة اثنتين وسبعين وستمائة وقفت بالقاهرة المحروسة على مجلد من كتاب السيل والذيل تأليف عماد الدين الكاتب الأصبهاني وقد جعله ذيلا على كتابه خريدة القصر فرأيت فيه ترجمة يحيى بن نزار المنبجي المذكور وقد ذكر له مقدار عشرة أبيات يمدح بها السلطان نور الدين محمود ابن زنكي رحمه الله تعالى وفي جملة الأبيات البيت الثاني من هذين البيتين فعلمت أن الذي نظم ذلك المعنى في البيت الثاني من الثلاثة هو الذي نظم هذين البيتين في هذه الأبيات التي ذكرها في كتاب السيل
ثم بعد ذلك بقليل جاءني صاحبنا جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن أحمد المعروف بالحافظ اليغموري

250
فتذاكرنا وجرى ذكر البيتين وقال إنهما لعماد الدين أبي المناقب حسام ابن عزى بن يونس المحلي نزيل دمشق وذكر أنه سمعهما منه وادعاهما لنفسه فقلت له البيت الذي فيه المعنى ليس له بل هو ليحيى بن نزار المنبجي ويكون العماد المحلي قد نظم البيت الأول وجعله توطئة للثاني واستعمله على وجه التضمين كما جرت العادة في مثله لكنه
كان ينبغي أن ينبه على أنه تضمين كي لا يعتقد من يقف عليهما أنهما له فإن البيت الأول ليس في جملة أبيات يحيى المنبجي التي مدح بها نور الدين رحمه الله تعالى
ثم من بعد ذلك خطرت لي مؤاخذة على العماد المحلي فإنه قال في بيته الذي جعله توطئة للثاني
(ما البلد المخصب كالماحل
*)
والخصب والمحل إنما يكون بسبب النبات وعدمه والبيت الثاني الذي هو التضمين شبه العذار بالعنبر وأين النبات من العنبر فالتوطئة بين البيتين ليست بملائمة وهذه المؤاخذة مثل المؤاخذة المتقدمة على الأبيات الثلاثة
وكنت وقفت على بيتين للعماد المحلي المذكور أيضا أنشدنيهما عنه جماعة وهما
(قيل لي من هويت قد عبث الشعر
* بخديه قلت ما ذاك عاره)
(جمرة الخد أحرقت عنبر الخال
* فمن ذلك الدخان عذاره)
وسنح لي عليهما مؤاخذة مثل المؤاخذة المذكورة وهي أنه لما قيل له إن الشعر عبث بخديه ما أنكر ذلك بل قال ما ذاك عاره فقد وافق على أنه شعر غاية ما في الباب أنه قال هذا الشعر ما هو عاره فكيف يقول بعد هذا جمرة الخد أحرقت عنبر الخال إلى آخره فجعل العذار دخان العنبر وأين دخان العنبر من الشعر بل كان ينبغي أن يقول لهم هذا ما هو شعر بل هو دخان العنبر حتى يتم له المعنى
وقد نظم صاحبنا ورفيقنا في الاشتغال بحلب عون الدين أبو الربيع سليمان ابن بهاء الدين عبد المجيد ابن العجمي الحلبي بيتين ألم فيهما بهذا المعنى وهما

251
(لهيب الخد حين بدا لعيني
* هوى قلبي عليه كالفراش)
(فأحرقه فصار عليه خالا
* وها أثر الدخان على الحواشي)
وقد أحسن في هذا المعنى وخلص من تلك المؤاخذة لكن وقع في مؤاخذة أخرى وهي أنه جعل العذار دخان احتراق قلبه والعماد جعله دخان عنبر الخال وبين الدخانين بون كبير فهذا طيب الرائحة وذاك كريه الرائحة
وقد سبق في ترجمة عبد الله بن صارة الشنتريني بيتان أبدع فيهما وهما
(ومهفهف رقت حواشي حسنه
* فقلوبنا وجدا عليه رقاق)
(لم يكس سالفه العذار وإنما
* نفضت عليه صباغها الأحداق)
والأصل في هذا الباب كله قول أبي إسحاق إبراهيم الصابي الكاتب في غلامه الأسود واسمه يمن وقد سبق ذكر الأبيات في ترجمته من هذا الكتاب والمقصود منها هاهنا قوله في أولها
(لك وجه كأن يمناي خطته
* بلفظ تمله آمالي)
(فيه معنى من البدور ولكن
* نفضت صبغها عليه الليالي)
وبيتا عون الدين فيهما إلمام بقول أبي الحسين أحمد بن منبر الطرابلسي المقدم ذكره
(لا تخالوا الخال يعلو خده
* قطرة من دم جفني نطفت)
(ذاك من نار فؤادي جذوة
* فيه ساخت وانطفت ثم طفت)
قلت وقد خرجنا عن المقصود وانتشر الكلام لكن ما خلا من فائدة

252
وقال أبو سعد السمعاني أيضا أنشدني يحيى بن نزار المنبجي لنفسه
(لو صد عني دلالا أو معاتبة
* لكنت أرجو تلافيه وأعتذر)
(لكن ملالا فلا أرجو تعطفه
* جبر الزجاج عسير حين ينكسر)
وله غير هذا نظم مليح ومعان لطيفة
وقال أبو الفرج صدقة بن الحسين بن الحداد في تاريخه المرتب على السنين ما مثاله سنة أربع وخمسين وخمسمائة في ليلة الجمعة سادس ذي الحجة مات يحيى بن نزار المنبجي ببغداد ودفن بالوردية قيل إنه وجد في أذنه ثقلا فاستدعى إنسانا من الطرقية فامتص أذنه فخرج شيء من مخه فكان سبب موته رحمه الله تعالى
وقال السمعاني هو أخو أبي الغنائم التاجر المعروف وذكر أبا الغنائم ووصفه وأثنى عليه في ترجمة مستقلة في كتاب الذيل أيضا رحمه الله تعالى
(329) وأما العماد المحلي فإنه كان أديبا لطيفا على ما يحكى عنه من النوادر وله نظم مليح في المقطعات دون القصائد وكان يحفظ المقامات وشرحها وتوفي ليلة الأربعاء عاشر شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وستمائة بدمشق ودفن بمقابر الصوفية وعرف بابن الجمال وولد في سنة ستين وخمسمائة تقديرا بقوص ونشأ بالمحلة فنسب إليها
ثم وجدت في مسوداتي بخطي بيتا منسوبا إلى الوجيه أبي الحسن علي بن يحيى بن الحسين بن أحمد المعروف بابن الذروي الأديب الشاعر وهو
(عذاره دخان ند خاله
* وريقه من ماء ورد خده)
ثم وجدت منسوبا إلى ابن سناء الملك المقدم ذكره والصحيح أنها لأسعد

253
ابن مماتي المقدم ذكره أيضا
(سمراء قد أزرت بكل أسمر
* بلونها ولينها وقدها)
(أنفاسها دخان ند خالها
* وريقها من ماء ورد خدها)
(لو كتب البدر إلى خدمتها
* ملطفا ترجمه بعبدها)
ورأيت للمهذب أبي نصر محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخضر الحلبي المعروف بابن البرهان الحاسب المنجم الطبري
(ومهفهف راقت نضارة وجهه
* فالعين تنظر منه أحسن منظر)
(أصلى بنار الخد عنبر خاله
* فبدا العذار دخان ذاك العنبر)
فعلمت أن العماد المحلى إنما أخذ ذلك المعنى من أحد هؤلاء والله سبحانه وتعالى أعلم
810 تاج الدين ابن الجراح
أبو الحسين يحيى بن أبي علي منصور بن الجراح بن الحسين بن محمد بن داود بن الجراح المصري وهذه الزيادة في نسبه وجدتها بخط بعض الأدباء ولا أتحققها والأول أصح الكاتب المنعوت تاج الدين كتب في ديوان

254
الإنشاء بالديار المصرية مدة طويلة وكتب الكثير وكان خطه في غاية الجودة وكان فاضلا أديبا متقنا له فطرة حسنة وشعر فائق ورسائل أنيقة سمع الحديث بثغر الإسكندرية المحروسة على الحافظ أبي طاهر السلفي وأبي الثناء حماد بن هبة الله الحراني وحدث وسمع الناس عليه
وله لغز في الدملج الذي تلبسه النساء وهو بديع في بابه فأحببت ذكره وهو نثر ما شيء قلبه حجر ووجه قمر إن نبذته صبر واعتزل البشر وإن أجعته رضي بالنوى وانطوى على الخوى وإن أشبعته قبل قدمك وصحب خدمك وإن غلفته ضاع وإن أدخلته السوق أبى أن يباع وإن أظهرته جمل المتاع وأحسن الإمتاع وإن شددت ثانيه وحذفت منه القافية كدر الحياة وأوجب التخفيف في الصلاة وأحدث في وقت العصر الضجر ووقت الفجر الخدر وجمع بين حسن العقبى وقبح الأثر هذا وإن فصلته دعا لك وأبقى ما إن ركبته هالك وربما بلغك آمالك وكثر مالك وأحسن بعون المساكين مالك والسلام
قلت وهذا اللغز قد يقف عليه من لا يعرف طريق حله فيعسر عليه تفسيره فيحتاج إلى الإيضاح فأقول
أما قول ما شيء قلبه حجر فمراده قلب حروف دملج فإنا إذا قلبنا هذه الحروف يخرج منها جلمد وهو الحجر وقوله ووجهه قمر يريد أنه مستدير كالقمر وقوله إن نبذته
صبر واعتزل البشر فالبشر جمع بشرة فالإنسان إذا ألقى الدملج عنه صبر واعتزل بشرته إذ ليس فيه أهلية المنع فهو يصبر ويعتزل المكان الذي كان فيه
وقوله وإن أجعته رضي بالنوى فالنوى لفظ مشترك يقع على البعد وعلى نوى التمر وعادتهم في بلاد العراق أن يطحنوا نوى التمر والرطب والبسر ويعلفوا به البقر وقصد هاهنا هذه التورية فإن الدملج إذ أخرج من العضد أو من الساق فقد جاع لأنه يكون فارغ الجوف ويرضى بالنوى الذي هو البعد عن عضو صاحبه ويقولون فلان يرضى بالنوى إذا كان فقيرا لا يجد ما يتبلغ به فهو يجتزىء بمص النوى وهذا يفعله أهل

255
الحجاز والبلاد المجدبة كثيرا لقلة الأقوات عندهم فقد استعمل صاحب هذا اللغز لفظة النوى في هذين المعنيين وهذه هي التورية وقوله وانطوى على الخوى فالخوى هو الخلو وإذا كان فارغ الجوف فهو خاو وقوله وإن أشبعته قبل قدمك مراده بالإشباع هنا لبس الدملج فإن صاحبه إذا لبسه فقد ملأ جوفه ويكون فوق القدم فكأنه يقبله
وقوله وصحب خدمك فيه تورية أيضا فإن الخدم جمع خادم وهذا الجمع قليل الاستعمال لهذا الواحد فإنه لا يقال فاعل وجمعه فعل إلا في ألفاظ مسموعة مثل خادم وخدم وغائب وغيب وحارس وحرس وجامد وجمد وغير ذلك فهو موقوف على السماع وخدم جمع خدمة أيضا وهو سير يشد في رسغ البعير تشد إليه سريحة النعل وبه سمي الخلخال خدمة لأنه ربما كان من سيور يركب فيه الذهب والفضة ويجمع على خدام أيضا
وقوله وإن غلفته ضاع هذا فيه تورية أيضا فإن التغليف أن يجعل للشيء غلافا والتغليف استعمال الطيب أيضا
وقوله ضاع فيه تورية أيضا فإنه يقال ضاع الشيء من الضياع وضاع الطيب إذا عبقت رائحته
وقوله وإن أدخلته السوق أبى أن يباع فالسوق جمع ساق وفيه التورية أيضا لأن السوق موضع البيع والشراء والسوق كما ذكرناه
وقوله أبى أن يباع لأن العادة أنه لا يباع إلا إذا أخرج من العضو الذي هو فيه ولا يباع قبل إخراجه فكأنه قبل الإخراج أبى البيع وقوله وإن أظهرته جمل المتاع وأحسن الإمتاع فهذا ظاهر لا حاجة له إلى تفسير
وقوله وإن شددت ثانيه وهو الميم وحذفت منه القافية وهي الجيم فيبقى الدمل وهو يكدر الحياة بألمه ويوجب التخفيف في الصلاة للألم أيضا
وقوله وأحدث في وقت العصر الضجر فالعصر فيه التورية أيضا لأنه اسم للصلاة وهو مصدر لفعل عصر وكذلك الفجر لأنه اسم للصبح وهو مصدر لفعل فجر فالإنسان في وقت عصر الدمل يحصل له الضجر والقلق وإذا فجره وخلص منه حصل له الخدر والراحة
وقوله وجمع بين حسن العقبى وقبح الأثر فقصد المقابلة بين الحسن والقبح ولا شك أن عقبى انفجار الدمل حسنة وإن كان الأثر الذي يبقى في المكان قبيحا وقوله

256
وإن فصلته دعا لك معناه أنك إذا فصلت أحد النصفين من لفظ الدملج من النصف الآخر فالنصف الأول منه دم وهو دعاء للإنسان بالدوام
وقوله وأبقى ما إن ركبته هالك فالباقي منه لج واللج هو لج البحر وإن كان النصف من الدملج مخففا ولج البحر مشددا لكنهم يغتفرون مثل هذا في الألغاز والتصاحيف والأحاجي ولا يبالون به ولا شك أن ركوب البحر أمر هائل فلهذا قال هالك وربما بلغك آمالك لأنه يوصل الإنسان إلى الموضع الذي يقصده
وقوله وكثر مالك معناه إذا ركبه الإنسان للتجارة وقوله وأحسن بعون المساكين مآلك فعون المساكين هو السفينة كما قال الله تعالى * (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) * الكهف 79 فهي عون لهم على حاجتهم وسد خلتهم ومآل الشيء عاقبة أمره والله تعالى أعلم
قلت وفي اللغز ثماني لغات لغز بضم اللام وسكون الغين ولغز بضمهما ولغز بضم اللام وفتح الغين ولغز بفتح اللام وسكون الغين ولغز بفتحهما وألغوزة بضم الهمزة وسكون اللام وضم الغين ولغيزي بضم اللام وتشديد الغين مع القصر ولغيزاء مثل الأول إلا أن الغين مخففة ومفتوحة والألف ممدودة والله أعلم
وقد طال الكلام لكن الحاجة دعت إليه كي لا يبقى فيه التباس على سامعه
ورأيت في مجموع بخط بعض الفضلاء بيتين منسوبين إليه وهما هذان
(أمد كفي إلى البيضاء أقلعها
* من لحيتي فتفديها بسوداء)
(هذي يدي وهي مني لا تطاوعني
* على مرادي فما ظني بأعدائي)
وكانت ولادة المذكور في ليلة السبت خامس عشر شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة
وتوفي في خامس شعبان سنة ست عشرة وستمائة بدمياط والعدو المخذول محاصرها رحمه الله تعالى
وجراح بفتح الجيم وتشديد الراء وبعد الألف حاء مهملة
ثم إن العدو ملك دمياط يوم الثلاثاء السابع والعشرين من الشهر المذكور والله أعلم

257
ونقلت من خط الشيخ مهذب الدين أبي طالب محمد بن علي اللغوي المعروف بابن الخيمي الحلي نزيل مصر أن العدو نزل قبالة دمياط يوم الثلاثاء ثاني عشر ربيع الأول سنة خمس عشرة وستمائة ونزل البر الشرقي يوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة من السنة وأخذ الثغر يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شعبان سنة ست عشرة وستمائة واستعيدت منهم يوم الأربعاء تاسع عشر رجب سنة ثمان عشرة وستمائة ومدة نزولهم عليها إلى أن انفصلوا عنها ثلاث سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوما ومن الاتفاق العجيب نزولهم عليها يوم الثلاثاء وإحاطتهم بها يوم الثلاثاء وملكهم لها يوم الثلاثاء وقد جاء في الخبر أن الله تعالى خلق المكروه يوم الثلاثاء
ولفظة دمياط سريانية وأصلها بالذال المعجمة ويقولونه ذمط وتفسيره القدرة الربانية وكأنه إشارة إلى مجمع البحرين العذب والملح والله تعالى أعلم
811 جمال الدين ابن مطروح
أبو الحسن يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن الحسين بن علي بن حمزة بن إبراهيم بن الحسين بن مطروح الملقب جمال الدين من أهل صعيد مصر ونشأ هناك وأقام بقوص مدة وتنقلت به الأحوال في الخدم والولايات ثم اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح أبي الفتح أيوب الملقب نجم الدين ابن السلطان

258
الملك الكامل ابن السلطان الملك العادل بن أيوب وكان إذ ذاك نائبا عن أبيه الملك الكامل بالديار المصرية ولما اتسعت مملكة الكامل بالبلاد المصرية بل بالبلاد الشرقية فصار له آمد وحصن كيفا وحران والرها والرقة ورأس عين وسروج وما انضم إلى ذلك سير إليها ولده الملك الصالح المذكور نائبا عنه وذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة فكان ابن مطروح المذكور في خدمته
ولم يزل يتنقل في تلك البلاد إلى أن وصل الملك الصالح إلى مصر مالكا لها وكان دخوله القاهرة يوم الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وستمائة ثم وصل ابن مطروح بعد ذلك إلى الديار المصرية في أوائل سنة تسع وثلاثين وستمائة فرتبه السلطان ناظرا في الخزانة ولم يزل يقرب منه ويحظى عنده إلى أن ملك الملك الصالح دمشق في الدفعة الثانية وكان ذلك في جمادى الأولى من سنة ثلاث وأربعين وستمائة
ثم إن السلطان بعد ذلك رتب لدمشق نوابا فكان ابن مطروح في صورة وزير لها ومضى إليها وحسنت حالته وارتفعت منزلته
ثم إن الملك الصالح توجه إلى دمشق فوصلها في شعبان سنة ست وأربعين وجهز عسكرا إلى حمص لاستنقاذها من يدي نواب الملك الناصر أبي المظفر يوسف الملقب صلاح الدين ابن الملك العزيز ابن الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب فإنه كان قد انتزعها من صاحبها الملك الأشرف مظفر الدين أبي الفتح موسى ابن الملك المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه عنوة وكان منتميا إلى الملك الصالح فخرج من مصر لاسترداد حمص له فعزل ابن مطروح عن ولايته بدمشق وسيره مع العسكر المتوجه إلى حمص وأقام الملك الصالح بدمشق إلى أن ينكشف له ما يكون من أمر حمص فبلغه أن الفرنج قد اجتمعوا بجزيرة قبرص على عزم قصد الديار المصرية فسير إلى عسكره المحاصرين بحمص وأمرهم أن يتركوا ذلك المقصد ويعودوا لحفظ الديار المصرية فعاد بالعسكر وابن مطروح في الخدمة والملك

259
الصالح متغير عليه متنكر له لأمور نقمها عليه وطرق الفرنج البلاد في أوائل سنة سبع وأربعين وملكوا دمياط يوم الأحد الثاني والعشرين من صفر من السنة وخيم الملك الصالح بعسكره على المنصورة وابن مطروح مواظب على الخدمة مع الإعراض عنه ولما مات الملك الصالح ليلة النصف من شعبان سنة سبع وأربعين بالمنصورة وصل ابن مطروح إلى مصر وأقام بها في داره إلى أن مات
هذه جملة حاله على الإجمال
وكانت أدواته جميلة وخلاله حميدة جمع بين الفضل والمروءة والأخلاق الرضية وكان بيني وبينه مودة أكيدة ومكاتبات في الغيبة ومجالس في الحضرة تجري فيها مذاكرات أدبية لطيفة وله ديوان شعر أنشدني أكثره فمن ذلك قوله في أول قصيدة طويلة
(هي رامة فخذوا يمين الوادي
* وذروا السيوف تقر في الإغماد)
(وحذار من لحظات أعين عينها
* فلكم صرعن بها من الآساد)
(من كان منكم واثقا بفؤاده
* فهناك ما أنا واثق بفؤادي)
(يا صاحبي ولي بجرعاء الحمى
* قلب أسير ما له من فادي)
(سلبته مني يوم بانوا مقلة
* مكحولة أجفانها بسواد)
(وبحي من أنا في هواه ميت
* عين على العشاق بالمرصاد)
(وأغن مسكي اللمى معسوله
* لولا الرقيب بلغت منه مرادي)
(كيف السبيل إلى وصال محجب
* ما بين بيض ظبا وسمر صعاد)
(في بيت شعر نازل من شعره
* فالحسن منه عاكف في بادي)
(حرسوا مهفهف قده بمثقف
* فتشابه المياس بالمياد)
(قالت لنا ألف العذار بخده
* في ميم مبسمه شفاء الصادي)
وهي طويلة اقتصرت منها على هذا القدر للاختصار

260
ومن ذلك قوله
(علقته من آل يعرب لحظه
* أمضى وأفتك من سيوف عريبه)
(أسكنته في المنحنى من أضلعي
* شوقا لبارق ثغره وعذيبه)
(يا عائبي ذاك الفتور بطرفه
* خلوه لي أنا قد رضيت بعيبه)
(لدن وما مر النسيم بعطفه
* أرج وما نفح العبير بجيبه)
وكان في بعض أسفاره قد نزل في طريقه بمسجد وهو مريض فقال
(يا رب إن عجز الطبيب فداوني
* بلطيف صنعك واشفني يا شافي)
(أنا من ضيوفك قد حسبت وإن من
* شيم الكرام البر بالأضياف)
ووجدت بعد موته رقعة فيها مكتوب هذان البيتان
وأخبرني أنه جرى بينه وبين أبي الفضل جعفر بن شمس الخلافة الشاعر المقدم ذكره منازعة في بيت هو من جملة قصيدته التي أولها
(من لي بغصن باللحاظ ممنطق
* حلو الشمائل واللمى والمنطق)
(مثري الروادف مملق من خصره
* أسمعت في الدنيا بمثر مملق)
والبيت الذي قد وقع فيه النزاع قوله
(وأقول يا أخت الغزال ملاحة
* فتقول لا عاش الغزال ولا بقي)
فزعم ابن شمس الخلافة أن هذا البيت له من جملة قصيدة هي في ديوانه وعمل كل واحد منهما محضرا شهد فيه جماعة بأن البيت له وحلف لي ابن مطروح أن البيت له وكان محترزا في أقواله ولم تعرف منه الدعوى بما ليس له والله المطلع على السرائر
وأنشدني له بعض أصحابنا قال أنشدني لنفسه

261
(يا من لبست عليه أثواب الضنى
* صفرا موشعة بحمر الأدمع)
(أدرك بقية مهجة لو لم تذب
* أسفا عليك نفيتها عن أضلعي)
وكان في مدة انقطاعه في داره وضيق صدره بسبب عطلته وكثرة كلفه قد حدث في عينيه ألم انتهى به إلى مقاربة العمى وكنت أجتمع به في كل وقت فتأخرت عنه مديدة لعذر أوجب ذلك وكنت في ذلك الوقت أنوب في الحكم بالقاهرة المحروسة عن قاضي القضاة بدر الدين أبي المحاسن يوسف بن الحسن ابن علي الحاكم بالديار المصرية المعروف بقاضي سنجار فكتب إلي ابن مطروح يقول
(يا من إذا استوحش طرفي له
* لم يخل قلبي منه من أنس)
(والطرف والقلب على ما هما
* عليه مأوى البدر والشمس)
وله من جملة قصيدة طويلة
(ملك الملاح ترى العيون
* عليه دائرة يطق)
(ومخيم بين الضلوع
* وفي الفؤاد له سبق)
والبيت الأول مأخوذ من قول المتنبي
(وخصر تثبت الأبصار فيه
* كأن عليه من حدق نطاقا)
واليطق بفتح الياء المثناة من تحتها والطاء المهملة وبعدها قاف وهو عبارة عن جماعة من الجند يبيتون كل ليلة حول خيمة الملك محيطين به يحرسونه إذا كان مسافرا وهو لفظ تركي
والسبق بفتح السين المهملة والباء الموحدة وبعدها قاف وهي خيمة الملك إذا كان مسافرا فإنه تقدم له خيمة إلى المنزلة التي يتوجه إليها حتى إذا جاءها كانت مجهزة له ينزل فيها ولا يتوقف على انتظار وصول الخيمة التي

262
كان بها في تلك المنزلة التي رحل منها
وله بيتان ضمنهما بيت المتنبي وأحسن فيهما وهما
(إذا ما سقاني ريقه وهو باسم
* تذكرت ما بين العذيب وبارق)
(ويذكرني من قده ومدامعي
* مجر عوالينا ومجرى السوابق)
وهذا المعنى للمتنبي في أول قصيدة بديعة طويلة وهي
(تذكرت ما بين العذيب وبارق
* مجر عوالينا ومجرى السوابق)
وكانت بينه وبين بهاء الدين زهير المقدم ذكره في حرف الزاي صحبة قديمة من زمن الصبا وإقامتهما ببلاد الصعيد حتى كانا كالأخوين وليس بينهما فرق في أمور الدنيا ثم اتصلا بخدمة الملك الصالح وهما على تلك المودة وبينهما مكاتبات بالأشعار فيما يجري لهما فأخبرني بهاء الدين زهير أن جمال الدين ابن مطروح كتب إليه بعض الأيام يطلب منه درج ورق وكان قد ضاق به الوقت وأظنهما كانا ببلاد الشرق معا
(أفلست يا سيدي من الورق
* فجد بدرج كعرضك اليقق)
(وإن أتى بالمداد مقترنا
* فمرحبا بالخدود والحدق)
قال بهاء الدين زهير وقد فتح الراء من الورق وكسرها تنبيها على حاله فكتبت إليه
(مولاي سيرت ما رسمت به
* وهو يسير المداد والورق)
(وعز عندي تسيير ذاك وقد
* شبهته بالخدود والحدق)

263
وقد سبق في ترجمة بهاء الدين ذكر بيتين كتبهما ابن مطروح إلى بهاء الدين وذكرت السبب في نظم ذينك البيتين على ما حكاه لي بهاء الدين ثم بعد ذلك وصل إلى الديار المصرية من الموصل بعض الأدباء وجرى حديث ما ذكره لي بهاء الدين زهير وأنه أنشدني بيت ابن الحلاوي وهو قوله
(تجيزها وتجيز المادحين بها
* فقل لنا أزهير أنت أم هرم)
فقال ذلك الأديب هذه القصيدة أنشدنيها ناظمها ابن الحلاوي ونحن بالموصل وأروي عنه هذا البيت على خلاف هذه الرواية فإنه أنشدني
(تجيدها ثم تجدو من أتاك بها
* فقل لنا أزهير أنت أم هرم)
فما أدري هل ابن الحلاوي أنشدها أولا كما رواه بهاء الدين زهير ثم غير البيت كما رواه هذا الأديب أم حصل الغلط لأحدهما والله تعالى أعلم مع أن كل واحد من الطريقين حسن
وقصة زهير بن أبي سلمى المزني الشاعر الجاهلي المشهور معلومة فلا حاجة إلى شرحها والخروج عما نحن بصدده فإنه كان يمدح هرم بن سنان المري أحد أمراء العرب في الجاهلية وكان هرم كثير العطاء له حتى آلى على نفسه أنه لا يسلم عليه زهير إلا أعطاه غرة من ماله فرسا أو بعيرا أو عبدا أو أمة فأجحف ذلك بهرم فجعل زهير يمر بالجماعة فيهم هرم فيقول عموا صباحا خلا هرما وخيركم تركت

264
ونعود إلى ما كنا فيه من حديث ابن مطروح
بلغني أنه كتب قبل ارتفاع درجته رقعة تتضمن شفاعة في قضاء شغل بعض أصحابه أرسلها إلى بعض الرؤساء فكتب ذلك الرئيس في جوابه هذا الأمر فيه علي مشقة فكتب جوابه ثانيا لولا المشقة فلما وقف عليها ذلك الرئيس قضى شغله وفهم ما قصده وهو قول المتنبي
(لولا المشقة ساد الناس كلهم
* الجود يفقر والإقدام قتال)
وهذا من لطيف الإشارات
وأنشدني الأديب الفاضل جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم ابن يحيى بن محمد بن علي المعروف بالجزار المصري قصيدة بديعة مدح بها جمال الدين ابن مطروح المذكور وهي بديعة طويلة فاقتصرت منها على ذكر غزلها وهو هذا
(هو ذا الربع ولي نفس مشوقه
* فاحبس الركب عسى أقضي حقوقه)
(فقبيح بي في شرع الهوى
* بعد ذاك البر أن أرضى عقوقه)
(لست أنسى فيه ليلات مضت
* مع من أهوى وساعات أنيقه)
(ولئن أضحى مجازا بعدهم
* فغرامي فيه ما زال حقيقة)
(يا صديقي والكريم الحر في
* مثل هذا الوقت لا ينسى صديقه)
(ضع يدا منك على قلبي عسى
* أن تهدي بين جنبي خفوقه)
(فاض دمعي مذ رأى ربع الهوى
* ولكم فاض وقد شام بروقه)
(نفد اللؤلؤ من أدمعه
* فغدا ينثر في الترب عقيقه)
(قف معي واستوقف الركب فإن
* لم يقف فاتركه يمضي وطريقه)

265
(فهي أرض قلما يلحقها
* آمل والركب لم أعدم لحوقه)
(طالما استجليت في أرجائها
* من يتيه البدر إذ يدعى شقيقه)
(يفضح الورد احمرارا خده
* وتود الخمر لو تشبه ريقه)
(فبه الحسن خليق لم يزل
* والمعالي بابن مطروح خليقه)
وكانت ولادته يوم الاثنين ثامن رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة بأسيوط وتوفي ليلة الأربعاء مستهل شعبان سنة تسع وأربعين وستمائة بمصر ودفن بسفح الجبل المقطم وحضرت الصلاة عليه ودفنه وأوصى أن يكتب عند رأسه دوبيت نظمه في مرضه وهو
(أصبحت بقعر حفرة مرتهنا
* لا أملك من دنياي إلا كفنا)
(يا من وسعت عباده رحمته
* من بعض عبادك المسيئين أنا)
ومما ذكر أنه وجد في رقعة مكتوبة تحت رأسه بعد موته
(أتجزع م الموت هذا الجزع
* ورحمة ربك فيها الطمع)
(ولو بذنوب الورى جئته
* فرحمته كل شيء تسع)
رحمه الله تعالى
(330) وتوفي قاضي القضاة بدر الدين يوسف المذكور يوم السبت رابع عشر رجب سنة ثلاث وستين وستمائة بالقاهرة ودفن في تربته المجاورة لمدرسته بالقرافة الصغرى
وأخبرني مرارا عديدة أنه ولد في شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسمائة في جبال إربل وهو زرزاري النسب رحمه الله تعالى
وأسيوط بضم الهمزة وسكون السين المهملة وضم الياء المثناة من تحتها وبعدها واو ساكنة ثم طاء مهملة وهي بليدة بالصعيد الأعلى من ديار مصر ومنهم من يسقط الهمزة ويضم السين فيقول سيوط والله تعالى أعلم

266
812 ابن جزلة صاحب المنهاج
أبو علي يحيى بن عيسى بن جزلة الطبيب صاحب كتاب المنهاج الذي رتبه على الحروف وجمع فيه أسماء الحشائش والعقاقير والأدوية وغير ذلك شيئا كثيرا كان نصرانيا ثم أسلم وصنف رسالة في الرد على النصارى وبيان عوار مذاهبهم ومدح فيها الإسلام وأقام الحجة على أنه الدين الحق وذكر فيها ما قرأه في التوراة والإنجيل من ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي مبعوث وأن اليهود والنصارى أخفوا ذلك ولم يظهروه ثم ذكر فيها معايب اليهود والنصارى
وهي رسالة حسنة أجاد فيها وقرئت عليه في ذي الحجة سنة خمس وثمانين وأربعمائة
وكان سبب إسلامه أنه كان يقرأ على أبي علي ابن الوليد المعتزلي ويلازمه فلم يزل يدعوه إلى الإسلام ويذكر له الدلائل الواضحة حتى هداه الله تعالى وحسن إسلامه وهو تلميذ أبي الحسن سعيد ابن هبة الله بن الحسن وبه انتفع في الطب وكان له نظر في علم الأدب وكتب الخط الجيد
وصنف للإمام المقتدي بأمر الله كثيرا من الكتب فمن ذلك كتاب تقويم الأبدان وكتاب منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان وكتاب الإشارة قي تلخيص العبارة ورسالة في مدح الطب وموافقته للشرع والرد على من طعن عليه ورسالة كتبها إلى إليا القس لما أسلم وغير ذلك من التصانيف
وهو من المشاهير في علم الطب وعمله وذكره أبو المظفر يوسف سبط أبي الفرج ابن الجوزي في تاريخه الذي سماه مرآة الزمان فقال إنه لما أسلم استخلفه أبو الحسن القاضي ببغداد في كتب السجلات وكان يطبب

267
أهل محلته ومعارفه بغير أجرة ويحمل إليهم الأشربة والأدوية بغير عوض ويتفقد الفقراء ويحسن إليهم
ووقف كتبه قبل وفاته وجعلها في مشهد أبي حنيفة رضي الله عنه ذكر هذا كله في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وعادته أن يذكر الإنسان ويشرح أحواله في سنة وفاته فإن كتابه مرتب على السنين
وذكر صاحب كتاب البستان الجامع لتواريخ الزمان أن ابن جزلة مات سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وزاد أبو الحسن الهمذاني في أواخر شعبان نقله عنه ابن النجار في تاريخ بغداد وذكر غيره أن إسلامه كان في سنة ست وستين وأربعمائة زاد ابن النجار في تاريخه يوم الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخرة رحمه الله تعالى
وجزلة بفتح الجيم وسكون الزاي وفتح اللام وبعدها هاء ساكنة والله تعالى أعلم
813 السهروردي المقتول
أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك الملقب شهاب الدين السهروردي الحكيم المقتول بحلب وقيل اسمه أحمد وقيل كنيته اسمه وهو أبو الفتوح وذكر أبو العباس أحمد بن أبي أصيبعة الخزرجي الحكيم في كتاب طبقات الأطباء أن اسم السهروردي المذكور عمر ولم يذكر اسم أبيه والصحيح الذي ذكرته أولا فلهذا بنيت الترجمة عليه فإني وجدته بخط جماعة من أهل المعرفة بهذا الفن وأخبرني به جماعة أخرى لا أشك في معرفتهم

268
فقوي عندي ذلك فترجمت عليه والله أعلم
كان المذكور من علماء عصره قرأ الحكمة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجيلي بمدينة المراغة من أعمال أذربيجان إلى أن برع فيهما وهذا مجد الدين الجيلي هو شيخ فخر الدين الرازي وعليه تخرج وبصحبته انتفع وكان إماما في فنونه
وقال في طبقات الأطباء كان السهروردي المذكور أوحد أهل زمانه في العلوم الحكمية جامعا للفنون الفلسفية بارعا في الأصول الفقهية مفرط الذكاء فصيح العبارة وكان علمه أكثر من عقله ثم ذكر أنه قتل في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة والصحيح ما سنذكره في أواخر هذه الترجمة إن شاء الله تعالى وعمره نحو ست وثلاثين سنة ثم قال ويقال إنه كان يعرف علم السيمياء
وحكى بعض فقهاء العجم أنه كان في صحبته وقد خرجوا من دمشق قال فلما وصلنا إلى القابون القرية التي على باب دمشق في طريق من يتوجه إلى حلب لقينا قطيع غنم مع تركماني فقلنا للشيخ يا مولانا نريد من هذه الغنم رأسا نأكله فقال معي عشرة دراهم خذوها واشتروا بها رأس غنم وكان هناك تركماني فاشترينا منه رأسا بها ومشينا قليلا فلحقنا رفيق له وقال ردوا هذا الرأس خذوا أصغر منه فإن هذا ما عرف يبيعكم يساوي هذا الرأس أكثر من ذلك وتقاولنا نحن وإياه فلما عرف الشيخ ذلك قال لنا خذوا الرأس وامشوا وأنا أقف معه وأرضيه فتقدمنا نحن وبقي الشيخ يتحدث معه ويطيب قلبه فلما أبعدنا قليلا تركه وتبعنا وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به وهو لا يلتفت إليه فلما لم يكلمه لحقه بغيظ وجذب يده اليسرى وقال أين تروح وتخليني وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه وبقيت في يد التركماني ودمها يجري فبهت التركماني وتحير في أمره فرمى اليد وخاف فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمنى ولحقنا وبقي التركماني راجعا وهو يتلفت

269
إليه حتى غاب عنه ولما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديلا لا غير
قلت ويحكى عنه مثل هذا أشياء كثيرة والله أعلم بصحتها
وله تصانيف فمن ذلك كتاب التنقيحات في أصول الفقه وكتاب التلويحات وكتاب الهياكل وكتاب حكمة الإشراق وله الرسالة المعروفة بالغربة الغريبة على مثال رسالة الطير لأبي علي ابن سينا ورسالة حي بن يقظان لابن سينا أيضا وفيها بلاغة تامة أشار فيها إلى حديث النفس وما يتعلق بها على اصطلاح الحكماء
ومن كلامه الفكر في صورة قدسية يتلطف بها طالب الأريحية ونواحي القدس دار لا يطؤها القوم الجاهلون وحرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السماوات فوحد الله وأنت بتعظيمه ملآن واذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان ولو كان في الوجود شمسان لانطمست الأركان فأبى النظام أن يكون غير ما كان
(فخفيت حتى قلت لست بظاهر
* وظهرت من سعتي على الأكوان)
آخر
(لو علمنا أننا ما نلتقي
* لقضينا من سليمى وطرا)
اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف
وتنسب إليه أشعار فمن ذلك ما قاله في النفس على مثال أبيات ابن سينا العينية وهي مذكورة في ترجمته في حرف الحاء واسمه الحسين فقال هذا الحكيم
(خلعت هياكلها بجرعاء الحمى
* وصبت لمغناها القديم تشوقا)

270
(وتلفتت نحو الديار فشاقها
* ربع عفت أطلاله فتمزقا)
(وقفت تسائله فرد جوابها
* رجع الصدى أن لا سبيل إلى اللقا)
(فكأنما برق تألق بالحمى
* ثم انطوى فكأنه ما أبرقا)
ومن شعره المشهور
(أبدا تحن إليكم الأرواح
* ووصالكم ريحانها والراح)
(وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
* وإلى لذيذ لقائكم ترتاح)
(وارحمة للعاشقين تكلفوا
* ستر المحبة والهوى فضاح)
(بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
* وكذا دماء البائحين تباح)
(وإذا هم كتموا تحدث عنهم
* عند الوشاة المدمع السفاح)
(وبدت شواهد للسقام عليهم
* فيها لمشكل أمرهم إيضاح)
(خفض الجناح لكم وليس عليكم
* للصب في خفض الجناح جناح)
(فإلى لقاكم نفسه مرتاحة
* وإلى رضاكم طرفه طماح)
(عودوا بنور الوصل من غسق الجفا
* فالهجر ليل والوصال صباح)
(صافاهم فصفوا له فقلوبهم
* في نورها المشكاة والمصباح)
(وتمتعوا فالوقت طاب بقربكم
* راق الشراب ورقت الأقداح)
(يا صاح ليس على المحب ملامة
* إن لاح في أفق الوصال صباح)
(لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى
* كتمانهم فنما الغرام وباحوا)
(سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها
* لما دروا أن السماح رباح)

271
(ودعاهم داعي الحقائق دعوة
* فغدوا بها مستأنسين وراحوا)
(ركبوا على سنن الوفا فدموعهم
* بحر وشدة شوقهم ملاح)
(والله ما طلبوا الوقوف ببابه
* حتى دعوا وأتاهم المفتاح)
(لا يطربون بغير ذكر حبيبهم
* أبدا فكل زمانهم أفراح)
(حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم
* فتهتكوا لما رأوه وصاحوا)
(أفناهم عنهم وقد كشفت لهم
* حجب البقا فتلاشت الأرواح)
(فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
* إن التشبه بالكرام فلاح)
(قم يا نديم إلى المدام فهاتها
* في كاسها قد دارت الأقداح)
(من كرم إكرام بدن ديانة
* لا خمرة قد داسها الفلاح)
وله في النظم والنثر أشياء لطيفة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها
وكان شافعي المذهب ويلقب بالمؤيد بالملكوت وكان يتهم بانحلال العقيدة والتعطيل ويعتقد مذهب الحكماء المتقدمين واشتهر ذلك عنه فلما وصل إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله بسبب اعتقاده وما ظهر لهم من سوء مذهبه وكان أشد الجماعة عليه الشيخين زين الدين ومجد الدين ابني جهبل
وقال الشيخ سيف الدين الآمدي المقدم ذكره في حرف العين اجتمعت بالسهروردي في حلب فقال لي لا بد أن أملك الأرض فقلت من أين لك هذا قال رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر فقلت لعل هذا يكون اشتهار العلم وما يناسب هذا فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه ورأيته كثير العلم قليل العقل ويقال إنه لما تحقق القتل كان كثير ما ينشد
(أرى قدمي أراق دمي
* وهان دمي فها ندمي)
والأول مأخوذ من قول أبي الفتح علي بن محمد البستي المقدم ذكره
(إلى حتفي مشى قدمي
* أرى قدمي أراق دمي)

272
(فلم أنفك من ندم
* وليس بنافعي ندمي)
وكان ذلك في دولة الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين رحمه الله فحبسه ثم خنقه بإشارة والده السلطان صلاح الدين وكان ذلك في خامس رجب سنة سبع وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب وعمره ثمان وثلاثون سنة
وذكره القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد قاضي حلب في أوائل سيرة صلاح الدين وقد ذكر حسن عقيدته فقال كان كثير التعظيم لشعائر الدين وأطال الكلام في ذلك ثم قال ولقد أمر ولده صاحب حلب بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي قيل عنه إنه معاند للشرائع وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمر بقتله فقتله وصلبه أياما
ونقل سبط ابن الجوزي في تاريخه عن ابن شداد المذكور أنه قال لما كان يوم الجمعة بعد الصلاة سلخ ذي الحجة سنة سبع وثمانين وخمسمائة أخرج الشهاب السهروردي ميتا من الحبس بحلب فتفرق عنه أصحابه
قلت وأقمت بحلب سنين للاشتغال بالعلم الشريف ورأيت أهلها مختلفين في أمره وكل واحد يتكلم على قدر هواه فمنهم من ينسبه إلى الزندقة والإلحاد ومنهم من يعتقد فيه الصلاح وأنه من أهل الكرامات ويقولون ظهر لهم بعد قتله ما يشهد له بذلك وأكثر الناس على أنه كان ملحدا لا يعتقد شيئا نسأل الله تعالى العفو العافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة وأن يتوفانا على مذهب أهل الحق والرشاد وهذا الذي ذكرته في تاريخ قتله هو الصحيح وهو خلاف ما نقلته في أول هذه الترجمة وقد قيل إن ذلك كان في سنة ثمان وثمانين وليس بشيء أيضا
وحبش بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وبالشين المعجمة
وأميرك بفتح الهمزة وبعدها ميم مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها ساكنة

273
وبعدها راء مفتوحة ثم كاف وهو اسم أعجمي معناه أمير تصغير أمير وهم يلحقون الكاف في آخر الاسم للتصغير
وقد تقدم الكلام على سهرورد في ترجمة الشيخ أبي النجيب عبد القاهر السهروردي فليطلب منه إن شاء الله تعالى
814 يزيد بن القعقاع القارئ
أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي عتاقة ويعرف أبو جعفر المذكور بالمدني أخذ القراءة عرضا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وعن مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعن أبي هريرة رضي الله عنه وسمع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومروان بن الحكم ويقال قرأ على زيد بن ثابت رضي الله عنه وروى القراءة عنه عرضا نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم وسليمان ابن مسلم بن جماز وعيسى بن وردان الحذاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وله قراءة
قال أبو عبد الرحمن النسائي يزيد بن القعقاع ثقة وكان يقرئ الناس بالمدينة قبل وقعة الحرة
وقال محمد بن القاسم المالكي أبو جعفر يزيد بن القعقاع مولى أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال ويقال إنه جندب بن فيروز مولى عبد الله بن عياش المخزومي وكان من أفضل الناس وقال سليمان بن مسلم أخبرني أبو جعفر يزيد بن القعقاع أنه كان يقرئ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الحرة وكانت الحرة على

274
رأس ثلاث وستين سنة من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأخبرني أنه كان يمسك المصحف على مولاه عبد الله بن عياش وكان من أقرأ الناس وكنت أرى كل يوم ما يقرأ وأخذت عنه قراءته وأخبرني أنه أتي به إلى أم سلمة رضي الله عنها وهو صغير فمسحت على رأسه ودعت له بالبركة قال سليمان المذكور وسألته متى أقرأت القرآن فقال أقرأت أو قرأت فقلت لا بل أقرأت فقال هيهات قبل الحرة في زمان يزيد بن معاوية وكانت الحرة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وخمسين سنة
وقال نافع بن أبي نعيم لما غسل أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ بعد وفاته نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف فما شك أحد ممن حضره أنه نور القرآن
وقال سليمان بن مسلم أخبرني أبو جعفر يزيد بن القعقاع حين كان نافع يمر به فيقول أترى هذا كان يأتيني وهو غلام له ذؤابة فيقرأ علي ثم كفرني وهو يضحك قال سليمان وقالت أم ولد أبي جعفر إن ذلك البياض الذي كان بين نحره وفؤاده صار غرة بين عينيه وقال سليمان رأيت أبا جعفر بعد موته في المنام وهو على الكعبة فقلت له أبا جعفر قال نعم اقرىء إخواني عني السلام وأخبرهم أن الله تعالى جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين واقرىء أبا حازم السلام وقل له يقول لك أبو جعفر الكيس الكيس فإن الله عز و جل وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات
وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى كان أبو جعفر القارئ رجلا صالحا بفتي الناس بالمدينة
وقال خليفة بن خياط مات أبو جعفر يزيد بن القعقاع سنة اثنتين وثلاثين ومائة بالمدينة وقال غيره مات سنة ثمان وعشرين ومائة وقال أبو علي الأهوازي في أول كتاب الإقناع في القراءات قال ابن جماز ولم يزل أبو جعفر إمام الناس في القراءة إلى أن توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائة بالمدينة

275
وقيل إنه توفي في سنة ثلاثين ومائة والله أعلم
قلت وقد تكرر ذكر الحرة في هذه الترجمة في مواضع وقد يتشوف إلى الوقوف على معرفة ذلك من لا علم له به
والحرة في الأصل اسم لكل أرض ذات حجارة سود فمتى كانت بهذه الصفة قيل لها حرة والحرار كثيرة والمراد بهذه الحرة حرة وأقم بالقاف المكسورة وهي بالقرب من المدينة في جهتها الشرقية كان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في مدة ولايته قد سير إلى المدينة جيشا مقدمه مسلم بن عقبة المري فنهبها وخرج أهلها إلى هذه الحرة فكانت الوقعة بها وجرى فيها ما يطول شرحه وهو مسطور في التواريخ حتى قيل إنه بعد وقعة الحرة ولدت أكثر من ألف بكر من أهل المدينة ممن ليس لهن أزواج بسبب ما جرى فيها من الفجور
ثم إن مسلم بن عقبة المري لما قتل أهل المدينة وتوجه إلى مكة نزل به الموت بموضع يقال له ثنية هرشى فدعا حصين بن نمير السكوني وقال له يا برذعة الحمار إن أمير المؤمنين عهد إلي إن نزل بي الموت أن أوليك وأكره خلافه عند الموت
ثم إنه أوصى إليه بأمور يعتمدها ثم قال لئن دخلت النار بعد قتلي أهل الحرة إني إذا لشقي
وأما وأقم فإنه اسم أطم من آطام المدينة
والأطم بضم الهمزة والطاء المهملة شبيه بالقصر وكان مبنيا عند هذه الحرة فأضيفت الحرة إليه فقيل حرة وأقم والله أعلم

276
815 يزيد بن رومان
أبو روح يزيد بن رومان القارئ مولى آل الزبير بن العوام المدني أخذ القراءة عرضا عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وسمع ابن عباس وعروة بن الزبير رضي الله عنهم وروى القراءة عنه عرضا نافع ابن أبي نعيم
قال يحيى بن معين يزيد بن رومان ثقة
وقال وهب بن جرير حدثنا أبي قال رأيت محمد بن سيرين ويزيد بن رومان يعقدان الآي في الصلاة
وقال يزيد بن رومان كنت أصلي إلى جنب نافع بن جبير بن مطعم فيغمزني فأفتح عليه ونحن نصلي
وروى يزيد أنه كان الناس يقومون في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاث وعشرين ركعة في شهر رمضان
وتوفي يزيد في سنة ثلاثين ومائة رحمه الله تعالى
ورومان بضم الراء وسكون الواو وبعدها ميم ثم ألف ونون

277
816 يزيد بن المهلب
أبو خالد يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي قد تقدم ذكر أبيه في حرف الميم ورفعت نسبه وتكلمت عليه فأغنى عن الإعادة هاهنا ذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف وجماعة من المؤرخين أنه لما مات أبوه في التاريخ المذكور في ترجمته كان قد استخلف ولده يزيد مكانه ويزيد ابن ثلاثين سنة يومئذ فعزله عبد الملك بن مروان برأي
الحجاج بن يوسف الثقفي وولى مكانه في خراسان قتيبة بن مسلم الباهلي قلت وقد تقدم ذكره في حرف القاف وصار يزيد في يد الحجاج قلت وكان الحجاج زوج أخته هند بنت المهلب وكان الحجاج يكره يزيد لما يرى فيه من النجابة فيخشى منه لا يترتب مكانه فكان يقصده بالمكروه في كل وقت كي لا يثب عليه وكان الحجاج في كل وقت يسأل المنجمين ومن يعاني هذه الصناعة عمن يكون مكانه فيقولون رجل اسمه يزيد فلا يرى من هو أهل لذلك سوى يزيد المذكور والحجاج يومئذ أمير العراقين وكذا وقع فإنه لما مات الحجاج ولي يزيد مكانه هذا قول المؤرخين
نعود إلى تتمة ما ذكره في المعارف قال فعذبه الحجاج وهرب يزيد من حبسه إلى الشام يريد سليمان بن عبد الملك فأتاه فشفع له إلى أخيه

278
الوليد بن عبد الملك فأمنه وكف عنه ثم ولاه سليمان خراسان حين أفضت إليه الخلافة فافتتح جرجان ودهستان وأقبل يريد العراق فتلقاه موت سليمان ابن عبد الملك فصار إلى البصرة فأخذه عدي بن أرطأة فأوثقه وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فحبسه عمر فهرب من حبسه وأتى البصرة ومات عمر فخالف يزيد وخلع يزيد بن عبد الملك فوجه إليه أخاه مسلمة فقتله
وقال الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في تاريخه الكبير يزيد بن المهلب ولي إمرة البصرة لسليمان بن عبد الملك ثم نزعه عمر بن عبد العزيز وولى عدي بن أرطأة وقدم به على عمر مسخوطا عليه حكى عن أنس بن مالك وعمر بن عبد العزيز وأبيه المهلب وروى عنه ابنه عبد الرحمن وأبو عيينة ابن المهلب وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم
وقال الأصمعي إن الحجاج قبض على يزيد وأخذه بسوء العذاب فسأله أن يخفف عنه العذاب على أن يعطيه كل يوم مائة ألف درهم فإن أداها وإلا عذبه إلى الليل قال فجمع يوما مائة ألف درهم ليشتري بها عذابه في يومه فدخل عليه الأخطل الشاعر فقال
(أبا خالد بادت خراسان بعدكم
* وصاح ذوو الحاجات أين يزيد)
(فلا مطر المروان بعدك مطرة
* ولا اخضر بالمروين بعدك عود)
(فما لسرير الملك بعدك بهجة
* ولا لجواد بعد جودك جود)
قوله في البيت الثاني فلا مطر المروان ولا اخضر بالمروين هما تثنية مرو إحداهما مرو الشاهجان وهي العظمى والأخرى مرو الروذ وهي الصغرى وكلتاهما مدينتان مشهورتان بخراسان وقد تكرر ذكرهما في هذا الكتاب قال فأعطاه مائة الألف فبلغ ذلك الحجاج فدعا به وقال يا مروزي أكل هذا الكرم وأنت بهذه الحالة قد وهبت لك عذاب اليوم وما بعده

279
قلت هكذا ذكر ابن عساكر والمشهور أن صاحب هذه الواقعة والأبيات هو الفرزدق ثم إني رأيت هذه الأبيات في ديوان زياد الأعجم والله أعلم بالصواب
وذكر الحافظ أيضا أن يزيد لما هرب من الحجاج قاصدا سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ بالرملة فاجتاز في طريقه بالشام على أبيات عرب فقال لغلامه استقنا هؤلاء لبنا فأتاه بلبن فشربه فقال أعطهم ألف درهم فقال الغلام إن هؤلاء لا يعرفونك قال لكني أعرف نفسي أعطهم ألف درهم فأعطاهم
وقال الحافظ أيضا حج يزيد بن المهلب فطلب حلاقا فجاء فحلق رأسه فأمر له بألف درهم فتحير ودهش وقال هذا الألف أمضي إلى أمي فلانة أشتريها فقال أعطوه ألفا آخر فقال امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك فقال أعطوه ألفين آخرين
وقال المدائني وكان سعيد بن عمرو بن العاص مؤاخيا ليزيد بن المهلب فلما حبس عمر بن عبد العزيز يزيد منع الناس من الدخول إليه فأتاه سعيد فقال يا أمير المؤمنين لي على يزيد خمسون ألف درهم وقد حلت بيني وبينه فإن رأيت أن تأذن لي فأقتضيه فأذن له فدخل عليه فسر به يزيد وقال كيف دخلت إلي فأخبره سعيد فقال والله لا تخرج إلا وهي معك فامتنع سعيد فحلف يزيد ليقبضنها فوجه إلى منزله حتى حمل إلى سعيد خمسون ألف درهم
وزاد ابن عساكر فقال وفي ذلك قال بعضهم
(فلم أر محبوسا من الناس ماجدا
* حبا زائرا في السجن غير يزيد)
(سعيد بن عمرو إذ أتاه أجازه
* بخمسين ألفا عجلت لسعيد)
وذكر أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني في كتاب الجليس والأنيس عن عبد الله الكوفي قال أغرم سليمان بن عبد الملك عمر بن هبيرة عن غزاة

280
في البحر ألف ألف درهم فمشى إلى يزيد بن المهلب وقد ولي العراق عثمان بن حيان المري والقعقاع بن خالد العبسي والهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي وغيرهم من قيس فلما انتهوا إلى باب سرادق يزيد أذن لهم الحاجب في دخولهم وأعلمهم أنه يغسل رأسه فلما فرغ خرج في مستقة فألقى نفسه على فراشه ثم قال ما ألف بينكم فقال عثمان هذا ابن هبيرة شيخنا وسيدنا كان الوليد حمل معه مالا حيث وجه إلى البحر فأعطاه جنده فخرج عليه من غرمه ألف ألف درهم فقلنا يزيد سيد أهل اليمن ووزير
لسليمان وصاحب العراق ومن قد يحمل أمثالها عمن ليس بأمثالنا ووالله لو وسعتها أموال قيس لاحتملناها
ثم تكلم القعقاع فقال يا ابن المهلب هذا خير ساقه الله إليك وليس أحد أولى به منك فافعل به كبعض فعلاتك الأولى فلن يصدك عن قضاء هذا الحق ضيق ولا تبخل وقد أتيناك مع ابن هبيرة فيما حمل فهب لنا أموالنا واستر في العرب عورتنا ثم تكلم الهذيل بن زفر فقال يا ابن المهلب إني لو وجدت من الممشى إليك بدا لما مشيت إليك لأن أموالك بالعراق وإنما أتيتنا خائفا ثم أقمت فينا ضيفا ثم تخرج من عندنا محروسا وأيم الله لئن تركناك بالشام لنأتينك بالعراق وما هاهنا أقرب في الحظوة وأوجب للذمام ثم تكلم ابن خيثمة فقال إني لأقول لك يا ابن المهلب ما قال هؤلاء أخبرني إن أنت عجزت عن احتمال ما على ابن هبيرة فعلى من المعول لا والله ما عند قيس له مكيال ولا في أموالهم متسع ولا عند الخليفة له فرج ثم تكلم ابن هبيرة فقال أما أنا فقد قضيت حاجتي رددت أم أنجحت لأنه ليس لي أمامك متقدم ولا خلفك متأخر وهذه حاجة كانت في نفسي فقضيتها
فضحك يزيد بن المهلب وقال إن التعذر أخو البخل ولا اعتذار فاحتكموا فقال القعقاع نصف المال فقال يزيد قد فعلت يا غلام غذاءك قال فجيء بالطعام

281
فأبقينا أكثر مما أفرغنا فلما فرغنا أمر بتطييبنا وأجاد الكسوة لنا قال ثم خرجنا حتى إذا مررنا قال ابن هبيرة فأخبروني عما بقي من يحمله بعد ابن المهلب لقد صغر الله أقداركم وأخطاركم والله ما يدري يزيد ما بين النصف والتمام وما هما عنده إلا سواء ارجعوا إليه فكلموه في الباقي قال وقد كان يزيد ظن بهم أن سيرجعون إليه في التمام فقال للحاجب إذا عادوا فأدخلهم فلما عادوا أدخلهم فقال لهم يزيد إن ندمتم أقلناكم وان استقللتم زدناكم فقال له ابن هبيرة يا ابن المهلب إن البعير إذا أوقر أثقلته أذناه وأنا بما بقي مثقل فقال قد حملتها عنك ثم ركب إلى سليمان فقال يا أمير المؤمنين إنك إنما رشحتني لتبلغ بي وإني لا أضيق عن شيء اتسع له مالك وما في أيدينا فواضلك يصطنع بها الناس وتبنى بها المكارم ولولا مكانك قلقنا بالصغير ثم قال له أنه أتاني ابن هبيرة بوجوه أصحابه فقال له سليمان أمسك إياك في مال الله عنده خب ضب جموع منوع جزوع هلوع هيه فصنعت ماذا قال حملتها عنه قال احملها إذن إلى بيت مال المسلمين قال والله ما حملتها خدعة وأنا حاملها بالغداة ثم حملها فلما أخبر سليمان بذلك دعا يزيد فلما رآه ضحك وقال ذكت بك ناري ووريت بك زنادي غرمها علي وحمدها لك قد وفت لي يميني فأرجع المال إليك ففعل
وقال يزيد يوما والله للحياة أحب من الموت ولثناء حسن أحب إلي من الحياة ولو أني أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن يكون لي أذن أسمع غدا ما يقال في إذا أنا مت كريما وقد سبق ذكر هذا الكلام في ترجمة أبيه المهلب وأنه من كلامه لا من كلام ابنه يزيد والله أعلم
وقال أبو الحسن المدائني باع وكيل ليزيد بن المهلب بطيخا جاءه من مغل بعض أملاكه بأربعين ألف درهم فبلغ ذلك يزيد فقال له تركتنا بقالين

282
أما كان في عجائز الأزد من تقسمه فيهن
ومدحه عمر بن لجأ بشعر يقول فيه
(آل المهلب قوم إن نسبتهم
* كانوا الأكارم آباء وأجدادا)
(كم حاسد لهم يعيا بفضلهم
* وما دنا من مساعيهم ولا كادا)
(إن العرانين تلقاها محسدة
* ولا ترى للئام الناس حسادا)
(لو قيل للمجد حد عنهم وخلهم
* بما احتكمت من الدنيا لما حادا)
(إن المكارم أرواح يكون لها
* آل المهلب دون الناس أجسادا)
وقال الأصمعي قدم على يزيد بن المهلب قوم من قضاعة فقال رجل منهم
(والله ما ندري إذا ما فاتنا
* طلب لديك من الذي نتطلب)
(ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد
* أحدا سواك إلى المكارم ينسب)
(فاصبر لعادتك التي عودتنا
* أو لا فأرشدنا إلى من نذهب)
فأمر له بألف دينار فلما كان في العام المقبل وفد عليه فأنشده
(ما لي أرى أبوابهم مهجورة
* وكأن بابك مجمع الأسواق)
(حابوك أم هابوك أم شاموا الندى
* بيدك فانتجعوا من الآفاق)
(إني رأيتك للمكارم عاشقا
* والمكرمات قليلة العشاق)
فأمر له بعشرة آلاف درهم
وأجمع علماء التاريخ على أنه لم يكن في دولة بني أمية أكرم من بني المهلب كما لم يكن في دولة بني العباس أكرم من البرامكة والله أعلم وكان لهم في الشجاعة أيضا مواقف مشهورة
وحكى ابن الجوزي في كتاب الأذكياء أن يزيد بن المهلب وقعت

283
عليه حية فلم يدفعها عن نفسه فقال له أبوه ضيعت العقل من حيث حفظت الشجاعة
ولما خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي على الحجاج وقصته مشهورة أتى تستر فاجتمع إليه جماعة فذكروا يوما آل المهلب ووقعوا فيهم فقال عبد الرحمن لحريش بن هلال القريعي وكان في القوم ما لك يا أبا قدامة لا تتكلم فقال والله ما أعلم أحدا أصون لنفسه في الرخاء ولا أبذل لها في الشدة منهم
وقدم عبد الرحمن بن سليم الكلبي على المهلب فرأى بنيه قد ركبوا عن آخرهم فقال أنس الله الإسلام بتلاحقكم أما والله لئن لم تكونوا أسباط نبوة إنكم لأسباط ملحمة
ومات ابن لحبيب بن المهلب بن أبي صفرة فقدم أخاه يزيد ليصلي عليه فقيل له أتقدمه وأنت أسن منه والميت ابنك فقال إن أخي قد شرفه الناس وشاع فيهم له الصيت ورمته العرب بأبصارها فكرهت أن أضع منه ما رفعه الله تعالى
ونظر مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى يزيد بن المهلب وهو يمشي وعليه حلة يسحبها فقال له ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله فقال يزيد أما تعرفني فقال بلى أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت بين ذلك حامل عذرة قلت وقد نظم هذا المعنى أبو محمد عبد الله بن محمد البسامي الخوارزمي فقال
(عجبت من معجب بصورته
* وكان من قبل نطفة مذره)
(وفي غد بعد حسن صورته
* يصير في الأرض جيفة قذره)
(وهو على عجبه ونخوته
* ما بين ثوبيه يحمل العذره)
(331) وذكر الحافظ المعروف بابن عساكر في تاريخه الكبير في ترجمة أبي خداش مخلد بن يزيد بن المهلب أن مخلدا أحد الأسخياء الممدوحين وفد على

284
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يكلمه في أمر أبيه يزيد وقد حبسه عمر وكان أبوه قد ولاه جرجان فاجتاز في طريقه بالكوفة فأتاه حمزة بن بيض الحنفي الشاعر المشهور في جماعة من أهل الكوفة فقام بيد يديه وأنشده
(أتيناك في حاجة فاقضها
* وقل مرحبا يجب المرحب)
(ولا لا تكلنا إلى معشر
* متى يعدوا عدة يكذبوا)
(فإنك في الفرع من أسرة
* لهم خضع الشرق والمغرب)
(وفي أدب فيهم ما نشأت
* فنعم لعمرك ما أدبوا)
(بلغت لعشر مضت من سنيك
* ما بلغ السيد الأشيب)
(فهمك فيها جسام الأمور
* وهم لداتك أن يلعبوا)
(وجدت فقلت ألا سائل
* فيسأل أو راغب يرغب)
(فمنك العطية للسائلين
* وممن ببابك أن يطلبوا)
فقال له هات حاجتك فقضاها وقيل أمر له بمائة ألف درهم
وقدم على مخلد رجل كان قد زاره قبل ذلك فأجازه وقضى حقه فلما عاد إليه قال له مخلد ألم تكن أتيتنا فأجزناك قال بلى قال فماذا ردك قال قول الكميت فيك
(سألناه الجزيل فما تلكأ
* وأعطى فوق منيتنا وزادا)
(فأعطى ثم أعطى ثم عدنا
* فأعطى ثم عدت له فعادا)
(مرارا ما أعود إليه إلا
* تبسم ضاحكا وثنى الوسادا)
فأضعف له ما كان أعطاه
وقال قبيصة بن عمر المهلبي كان يزيد بن المهلب قد فتح جرجان وطبرستان وأخذ صول وهو رئيس من رؤسائهم قلت كان صاحب جرجان

285
وهو جد إبراهيم بن العباس الصولي وأبي بكر محمد بن يحيى الصولي الأديبين الشاعرين المشهورين قال فأصاب يزيد أموالا كثيرة وعروضا كثيرة فكتب إلى سليمان بن عبد الملك إني قد فتحت طبرستان وجرجان ولم يفتحهما أحد من الأكاسرة ولا أحد ممن كان بعدهم غيري وإني باعث إليك بقطران عليها الأموال والهدايا يكون أولها عندك وآخرها عندي
فلما مات سليمان وأفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعده أخذه عمر بهذه العدة لسليمان فحبسه فقدم ابنه مخلد على عمر قال قبيصة المهلبي وهب مخلد من لدن خروجه من مرو الشاهجان إلى أن ورد دمشق ألف ألف درهم فلما أراد مخلد الدخول على عمر لبس ثيابا مستنكرة وقلنسوة لاطية فقال له عمر لقد شمرت فقال له إذا شمرتم شمرنا وإذا أسبلتم أسبلنا ثم قال له ما بالك قد وسع الناس عفوك حبست هذا الشيخ فإن تكن عليه بينة عادلة فاحكم عليه وإلا فيمينه أو فصالحه على ضياعه فقال يزيد أما اليمين فلا تتحدث العرب أن يزيد بن المهلب صبر عليها ولكن ضياعي فيها وفاء لما يطلب
ومات مخلد وهو ابن سبع وعشرين سنة فقال عمر لو أراد الله بهذا الشيخ خيرا لأبقى له هذا الفتى
ويقال إن مخلد بن يزيد أصابه الطاعون فمات وصلى عليه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ثم قال اليوم مات فتى العرب وأنشد متمثلا
(على مثل عمرو تذهب النفس حسرة
* وتضحي وجوه القوم مغبرة سودا)
ورثاه حمزة بن بيض الحنفي المقدم ذكره بأبيات منها
(وعطلت الأسرة منك إلا
* سريرك يوم تحجب بالثياب)
(وآخر عهدنا بك يوم يحثى
* عليك بدابق سهل التراب)
وقال الفرزدق يرثيه
(وما حملت أيديهم من جنازة
* ولا ألبست أثوابها مثل مخلد)

286
(أبوك الذي تستهزم الخيل باسمه
* وإن كان فيها قيد شهر مطرد)
(وقد علموا إذ شد حقويه أنه
* هو الليث ليث الغاب لا بالمعرد)
قلت وهذا يدل على أن مخلد بن يزيد مات في حدود سنة مائة للهجرة لأن عمر بن عبد العزيز ولي الخلافة في صفر سنة تسع وتسعين وتوفي في رجب سنة إحدى ومائة وقد مات عنده وصلى عليه ويدل على أن موت مخلد كان بدابق ما تقدم من مرثية حمزة بن بيض ودابق قرية من أعمال حلب من جانبها الشمالي وإليها ينسب المرج الذي يقال له مرج دابق وبه كانت وفاة سليمان بن عبد الملك وقبره هناك مشهور
ونعود إلى ذكر يزيد
قال أبو جعفر الطبري في تاريخه الكبير إن المغيرة بن المهلب كان نائبا عن أبيه بمرو وعمله كله ومات في رجب سنة اثنتين وثمانين كما ذكرناه في ترجمة المهلب فأتى الخبر يزيد وعلم أهل المعسكر ولم يعلموا المهلب وأحب يزيد أن يعلمه من النساء فصرخن فقال المهلب ما هذا فقيل مات المغيرة فاسترجع وجزع حتى ظهر جزعه عليه فلامه بعض خاصته فدعا يزيد فوجه إلى مرو وجعل يوصيه بما يعمل ودموعه تنحدر على لحيته وكتب الحجاج إلى المهلب يعزيه عن المغيرة وكان سيدا
(332) قلت وكان للمغيرة ابن اسمه بشر ذكره أبو تمام الطائي في كتاب الحماسة في الباب الأول وأورد من شعره قوله في يزيد
(جفاني يزيد والمغيرة قد جفا
* وأمسى يزيد لي قد أزور جانبه)

287
(وكلهم قد نال شبعا لبطنه
* وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه)
(فيا عم مهلا واتخذني لنوبة
* تنوب فإن الدهر جم نوائبه)
(أنا السيف إلا أن للسيف نبوة
* ومثلي لا تنبو عليك مضاربه)
(على أي باب أبتغي الإذن بعد ما
* حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه)
رجعنا إلى تتمة كلام الطبري
وكان المهلب يوم مات المغيرة مقيما بكش وراء النهر لحرب أهلها فسار يزيد في ستين فارسا فلقيهم خمسمائة من الترك في المفازة وحاصل الأمر أنه جرى بينهم قتال شديد ورمي يزيد في ساقه
ثم إن المهلب صالح أهل كش على فدية وانصرف عنهم متوجها إلى مرو فلما وصل إلى زاغول قرية من أعمال مرو الروذ أصابته الشوصة فدعا ولده حبيبا ومن حضر من ولده ودعا بسهام فحزمت وقال أفترونكم كاسريها مجتمعة فقالوا لا قال أفترونكم كاسريها مفترقة قالوا نعم قال هكذا الجماعة ثم أوصاهم وصية طويلة لا حاجة إلى ذكرها ثم قال في آخرها وقد استخلفت يزيد وجعلت حبيبا على الجند حتى يقدم بهم على يزيد فلا تخالفوا يزيد فقال له ولده المفضل لو لم تقدمه لقدمناه ومات المهلب حسبما شرحناه في ترجمته وأوصى إلى حبيب فصلى عليه حبيب ثم سار إلى مرو فكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة المهلب واستخلافه إياه فأقره الحجاج ثم إنه عزله في سنة خمس وثمانين واستعمل أخاه المفضل
وكان سبب ذلك أن الحجاج وفد على عبد الملك فمر في منصرفه بدير فنزله فقيل له إن بهذا الدير شيخا من أهل الكتب عالما فدعا به وقال يا شيخ هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن فقال نعم نجد ما مضى

288
من أمركم وما أنتم فيه وما هو كائن قال أفمسمى أم موصوفا قال كل ذلك موصوف بغير اسم واسم بغير صفة قال فما تجدون صفة أمير المؤمنين قال نجده في زماننا الذي نحن فيه أنه ملك أقرع من يقم لسبيله يصرع قال ثم من قال رجل يقال له الوليد قال ثم ماذا قال رجل اسمه اسم نبي يفتح به على الناس قلت وهو سليمان بن عبد الملك قال أفتعلم ما ألي قال نعم قال فمن يليه بعدي قال رجل يقال له يزيد قال في حياتي أم بعد موتي قال لا أدري قال أفتعرف صفته قال يغدر غدرة لا أعرف غير هذا
قال فوقع في نفسه أنه يزيد بن المهلب وارتحل فسار سبعا وهو وجل من قول الشيخ وقدم فكتب إلى عبد الملك يستعفيه من العراق فكتب إليه قد علمت الذي تغزو وأنك تريد أن تعلم رأيي فيك
ثم إن الحجاج أجمع على عزل يزيد فلم يجد لذلك سببا حتى قدم الخيار بن سبرة وكان من فرسان المهلب وكان مع يزيد فقال له الحجاج أخبرني عن يزيد فقال حسن الطاعة لين السيرة قال كذبت اصدقني عنه فقال الله أجل وأعظم قد أسرج ولم يلجم قال صدقت واستعمل الخيار على عمان بعد ذلك
ثم كتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب وخلاصة الأمر أنه كرر القول مع عبد الملك في ذلك إلى أن كتب إليه عبد الملك قد أكثرت في يزيد وآل المهلب فسم لي رجلا يصلح لخراسان فسمى له مجاعة بن سعد السعدي فكتب إليه عبد الملك إن رأيك الذي دعاك إلى استفساد آل المهلب هو الذي دعاك إلى مجاعة بن سعد السعدي فانظر لي رجلا حازما ماضيا لأمرك فسمى قتيبة بن مسلم الباهلي فكتب إليه وله فبلغ يزيد أن الحجاج عزله فقال لأهل بيته من ترون الحجاج يولي خراسان قالوا رجلا من ثقيف قال

289
كلا والله ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده فإذا قدمت عليه ولى غيره وأخلق بقتيبة بن مسلم
قال فلما أذن عبد الملك للحجاج في عزل يزيد كره أن يكتب بعزله فكتب إليه أن استخلف أخاك المفضل وأقبل فاستشار يزيد حصين بن المنذر فقال له أقم واعتل فإن أمير المؤمنين حسن الرأي فيك وإنما أتيت من الحجاج فإن أقمت ولم تعجل رجوت أن يكتب إليه أن يقر يزيد فقال إنا أهل بيت بورك لنا في الطاعة وأنا أكره المعصية
والخلاف وأخذ في الجهاز فأبطأ ذلك على الحجاج فكتب إلى أخيه المفضل إني قد وليتك خراسان فجعل المفضل يستحث يزيد فقال له يزيد إن الحجاج لا يقرك بعدي وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتنع عليه قال بل حسدتني قال يزيد أنا لا أحسدك ولكن ستعلم
وخرج يزيد في شهر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين فعزل الحجاج المفضل وولى قتيبة بن مسلم الباهلي وقيل فيروز بن حصين
وقال حصين بن منذر ليزيد المذكور
(أمرتك أمرا حازما فعصيتني
* فأصبحت مسلوب الإمارة نادما)
(فما أنا بالباكي عليك صبابة
* وما أنا بالداعي لترجع سالما)
فلما قدم قتيبة خراسان قال لحصين كيف قلت ليزيد قال قلت
(أمرتك أمرا حازما فعصيتني
* فنفسك ول اللوم إن كنت لائما)
(فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته
* فإنك تلقى أمره متفاقما)
قال فماذا أمرته به فعصاك قال أمرته أن لا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير
وفي تولية قتيبة وعزل يزيد قال عبد الله بن همام السلولي
(أقتيب قد قلنا غداة أتيتنا
* بدل لعمرك من يزيد أعور)
(إن المهلب لم يكن كأبيكم
* هيهات شأنكم أدق وأحقر)

290
(شتان من بالصنج أدرك والذي
* بالسيف شمر والحروب تسعر)
(حولان باهلة الألى في ملكهم
* مات الندى فيهم وعاش المنكر)
قوله بدل أعور هذا مثل يضرب للمذموم يتولى بعد الرجل المحمود يقال بدل أعور وخلف أعور وقوله من بالصنج أدرك يقال إن قتيبة كان يضرب بالصنج في بدء أمره وقوله حولان باهلة جمع أحول وكان قتيبة أحول وهذا الجمع مثل قولهم أسود وسودان وأحمر وحمران وغير ذلك
وقد قيل إن هذه الأبيات ليست لعبد الله بن همام وإنها لنهار بن توسعة اليشكري والله أعلم
ثم ذكر الطبري في سنة تسعين أن الحجاج خرج إلى الأكراد الذين غلبوا على عامة أرض فارس فخرج بيزيد معه وأخويه المفضل وعبد الملك وجعل عليهم في العسكر كهيئة الخندق وجعلهم في فسطاط قريبا منه وجعل عليهم حرسا من أهل الشام وأغرمهم ستة آلاف ألف وأخذ يعذبهم وكان يزيد يصبر صبرا حسنا وكان الحجاج يغيظه ذلك فقيل له إنه رمي بنشابة فثبت أصلها في ساقه فهو لا يمسها شيء إلا صاح فإن حركت أدنى شيء سمعت صوته فأمر أن يعذب به ويرهق ساقه فلما فعل به ذلك صاح وأخته هند عند الحجاج فلما سمعت صياح يزيد صاحت وناحت فطلقها
ثم إنه كف عنهم وأقبل يستأديهم فأخذوا يؤدون وهم يعملون في المخلص من مكانهم فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة يأمرونه أن يضمر لهم الخيل ويري الناس أنه إنما يريد بيعها ويعرضها على البيع ويغلي بها كي لا تشترى فتكون لنا عدة إن نحن قدرنا أن ننجو من هاهنا ففعل ذلك مروان بن المهلب وحبيب بالبصرة يعذب أيضا فأمر يزيد بالحرس فصنع لهم طعام كثير فأكلوا وأمر لهم بشراب فسقوا وكانوا متشاغلين به ولبس

291
يزيد ثياب طباخه ووضع على لحيته لحية بيضاء وخرج فرآه بعض الحرس فقال كأن هذه مشية يزيد فجاء حتى استعرض وجهه ليلا فرأى بياض اللحية فانصرف عنه وقال هذا شيخ
وخرج المفضل على أثره ولم يفطن له فجاؤوا إلى سفينة وقد هيؤوها في البطائح وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخا فلما انتهوا إلى السفينة أبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم فقال يزيد للمفضل اركب فإنه لاحق فقال المفضل وكان عبد الملك أخاه لأمه لا والله لا أبرح حتى يجيء عبد الملك ولو رجعت إلى السجن فأقام يزيد حتى جاءهم عبد الملك وركبوا في السفينة وساروا ليلتهم حتى أصبحوا
ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم فرفع ذلك إلى الحجاج ففزع لذلك الحجاج وذهب وهمه أنهم ذهبوا قبل خراسان وبعث البريد إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم ويأمره
أن يستعد لهم وبعث إلى أمراء الثغور والكور أن يرصدوهم ويستعدوا وبعث إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بهم وأنه لا يراهم أرادوا إلا خراسان
ولم يزل الحجاج يظن بيزيد ما صنع كان يقول إني لأظنه يحدث نفسه بمثل الذي صنع ابن الأشعث قلت ابن الأشعث هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي وكان قد خرج على عبد الملك بن مروان وقصته مشهورة مذكورة في التواريخ قال الطبري ولما دنا يزيد من البطائح استقبلته الخيل وقد هيئت لهم فخرجوا عليهم ومعهم دليل فأخذ بهم على السماوة وأتي الحجاج بعد يومين فقيل له إنما أخذ الرجل طريق الشام وهذه الخيل حسرى في الطريق وقد أتى من رآهم متوجهين في البر فبعث إلى الوليد يعلمه بذلك ومضى يزيد حتى قدم فلسطين فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي وكان كريما على سليمان بن عبد الملك وجاء وهيب حتى دخل على سليمان فقال إن يزيد وإخوته عندي وقد أتوا هرابا من الحجاج متعوذين بك فقال أتني بهم فهم آمنون لا يوصل

292
إليهم أبدا وانا حي فجاء بهم حتى دخلوا عليه فكانوا في مكان أمن
وكتب الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك إن آل المهلب خانوا مال الله وهربوا مني ولحقوا بسليمان فلما بلغ الوليد مكانه عند سليمان أخيه هون عليه بعض ما كان في نفسه وطار غضبا للمال الذي ذهبوا به وكتب سليمان إلى أخيه الوليد إن يزيد بن المهلب عندي وقد آمنته وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف كان الحجاج أغرمهم ستة آلاف ألف فأدى ثلاثة آلاف ألف وبقيت ثلاثة آلاف ألف فهي علي فكتب إليه لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي فكتب إليه لئن أنا بعثت به لأجيئن معه فأنشدك الله أن لا تفضحني ولا أن تخفرني فكتب إليه الوليد والله لئن جئتني به لا أؤمنه فقال يزيد ابعثني إليه فوالله ما أحب أن أوقع بينك وبينه عداوة وحربا ولا أن يتشاءم بي لكما الناس ابعث إليه بي وأرسل معي ابنك واكتب إليه بألطف ما قدرت عليه فأرسل ابنه أيوب معه وكان الوليد أمره أن يبعث به إليه في وثاق فبعثه إليه وقال لابنه إذا أردت أن تدخل عليه فادخل أنت ويزيد في سلسلة على الوليد ففعل ذلك حتى انتهيا إلى الوليد فدخلا عليه فلما رأى الوليد ابن أخيه مع يزيد في سلسلة قال والله لقد بلغنا من سليمان
ثم إن الغلام دفع كتاب أبيه إلى عمه وقال يا أمير المؤمنين نفسي فداؤك لا تخفر ذمة أبي وأنت أحق من منعها ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك وقرأ الكتاب لعبد الله الوليد أمير المؤمنين من سليمان بن عبد الملك أما بعد يا أمير المؤمنين فوالله إني لأظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته وأجرته فأنك لا تذل جاري ولا تخفر جواري بل إني لم أجر إلا سامعا مطيعا حسن البلاء والأثر في الإسلام هو وأبوه وأهل بيته وبعد فقد بعثت به إليك فإن كنت إنما تغزو قطيعتي والإخفار لذمتي والإبلاغ في مساءتي فقد قدرت إن أنت فعلت ذلك وأنا أعيذك بالله من اجترار قطيعتي وانتهاك حرمتي وترك يدي وصلتي فوالله يا أمير المؤمنين ما تدري ما بقائي وبقاؤك ولا متى يفرق

293
الموت بيني وبينك فإن استطاع أمير المؤمنين أدام الله سروره أن لا يأتي علينا أجل الوفاة إلا وهو لي واصل ولحقي مؤد وعن مساءتي نازع فليفعل والله يا أمير المؤمنين ما أصبحت لشيء من أمور الدنيا بعد تقوى الله تعالى فيها بأسر مني برضاك وسرورك ولرضاك مما ألتمس به رضوان الله فإن كنت يا أمير المؤمنين تريد يوما من الدهر مسرتي وصلتي وكرامتي وإعظام حقي فتجاوز لي عن يزيد وكل ما طلبته به فهو علي فلما قرأ كتابه قال لقد شققنا على سليمان ثم دعا ابن أخيه فأدناه منه ثم تكلم يزيد فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال يا أمير المؤمنين إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء فمن ينس ذلك فلسنا ناسيه ومن يكفر فلسنا كافريه وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب ما إن المنة فيه عظيمة فقال له اجلس فجلس فآمنه وكف عنه ورجع إلى سليمان وسعى إخوته في المال الذي عليه وكتب إلى الحجاج إني لم أصل إلى يزيد وأهل بيته مع سليمان فاكفف عنهم واله عن الكتاب إلي فيهم فلما رأى ذلك الحجاج كف عنهم
وكان أبو عيينة عند الحجاج عليه ألف ألف درهم فتركها له وكف عن حبيب بن المهلب واقام يزيد عند سليمان تسعة أشهر في أرغد عيش وأنعم بال لا تأتي سليمان هدية إلا أرسل نصفها إليه
وقال بعض جلساء يزيد له لم لا تتخذ لك دارا فقال وما أصنع بها ولي دار حاصلة مجهزة على الدوام فقال له وأين هي قال إن كنت متوليا فدار الإمارة وإن كنت معزولا فالسجن
ومن كلام يزيد ما يسرني أن أكفى أمور دنياي كلها ولي الدنيا بحذافيرها فقيل له ولم ذاك فقال لأني أكره عادة العجز
ثم إن الحجاج مات في شوال سنة خمس وتسعين للهجرة وقيل كانت وفاته لخمس ليال بقين من شهر رمضان من السنة وعمره ثلاث وخمسون سنة

294
وقيل أربع وخمسون
ولما حضرته الوفاة استخلف يزيد بن أبي كبشة على الحرب والصلاة بالمصرين البصرة والكوفة وولى خراجهما يزيد بن أبي مسلم فأقرهما الوليد وكذلك فعل بكل من استخلف الحجاج وقيل بل الوليد هو الذي ولاهما وكانت ولاية الحجاج بالعراقين عشرين سنة
ثم توفي الوليد بن عبد الملك يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين للهجرة بدير مران قلت وهو بسفح جبل قاسيون ظاهر دمشق ودفن في مقابر باب الصغير ظاهر دمشق وبويع سليمان بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه أخوه الوليد
وفي هذه السنة أعني سنة ست وتسعين عزل سليمان بن عبد الملك يزيد ابن أبي مسلم عن العراق وأمر عليه يزيد بن المهلب وقال خليفة بن خياط جمع ليزيد المصران يعني الكوفة والبصرة سنة سبع وتسعين والله أعلم
وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج وأمره أن يعذب آل أبي عقيل قلت هم رهط الحجاج قال ويبسط عليهم العذاب فأخذ صالح آل أبي عقيل فكان يعذبهم وكان يلي
عذابهم عبد الملك بن المهلب
وكان الوليد قد عزم على خلع أخيه سليمان عن ولاية العهد ويجعل ولي عهده ولده عبد العزيز بن الوليد وتابعه على ذلك الحجاج وقتيبة بن المسلم الباهلي والي خراسان الذي تولى بعد يزيد بن المهلب كما سبق ذكره قبل هذا فلما ولي سليمان الخلافة خافه قتيبة بن مسلم وتوهم أن يعزله ويولي خراسان يزيد ابن المهلب فكتب إلى سليمان كتابا يهنئه بالخلافة ويعزيه عن الوليد ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه على مثل ما كان لهما عليه من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه فتوجه ومكانه وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم ويذم المهلب وآل المهلب ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه وكتب كتابا ثالثا فيه

295
خلعه وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة وقال له ادفع إليه هذا الكتاب فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب وإن قرأ الأول فاحتبسه ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين قال فقدم رسول قتيبة بن مسلم على سليمان وعنده يزيد بن المهلب فدفع إليه الكتاب فقرأه ثم ألقاه إلى يزيد فدفع إليه الكتاب الآخر فقرأه ثم رماه إلى يزيد فأعطاه الكتاب الثالث فقرأه فتمعر لونه ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه بيده
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى كان في الكتاب الأول وقيعة في يزيد بن المهلب وذكر غدره وكفره وقلة شكره وفي الكتاب الثاني ثناء على يزيد وفي الكتاب الثالث لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمنني لأخلعنك خلع النعل ولأملأنها عليك خيلا ورجلا
ثم إن سليمان أمر برسول قتيبة أن ينزل بدار الضيافة فلما أمسى دعا به سليمان وأعطاه صرة فيها دنانير وقال هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر وهذا رسول معك بعهده
فخرج الباهلي ومعه رسول سليمان فلما كان بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة فرجع رسول سليمان ودفع العهد إلى رسول قتيبة فوصل به إليه فاستشار إخوته فقالوا لا يثق بك سليمان بعد هذا
ثم إن قتيبة قتل كما ذكرته في ترجمته في حرف القاف مع الاختصار لأن الشرح في ذلك يطول
ثم إن يزيد بن المهلب نظر في نفسه لما تولى العراق فقال إن العراق قد أخربها الحجاج وأنا اليوم رحا أهل العراق ومتى قدمتها وأخذت الناس

296
بالخراج وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج أدخل على الناس الحرب وأعيد عليهم تلك الشجون التي قد عافاهم الله منها ومتى لم آت سليمان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني
فأتى يزيد سليمان فقال أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه وهو صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم
فقال قد قبلنا رأيك فأقبل يزيد إلى العراق وكان صالح قدم العراق قبل قدوم يزيد ونزل واسطا ولما قدم يزيد خرج الناس يتلقونه فلم يخرج صالح حتى قرب يزيد من المدينة ثم خرج إليه وبين يديه أربعمائة من أهل الشام فلقي يزيد وسايره فلما دخل المدينة قال له صالح قد فرغت لك هذه الدار فنزل يزيد ومضى صالح حتى أتى منزله وضيق صالح على يزيد فلم يملكه شيئا واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها فأخذها صالح فقال له يزيد اكتب ثمنها علي واشترى متاعا كثيرا وصك صكاكا إلى صالح لباعتها منه فلم ينفذه فرجعوا إلى يزيد فغضب وقال هذا عملي بنفسي فلم يلبث أن جاء صالح فأوسع له يزيد فجلس وقال ليزيد ما هذه الصكاك إن الخراج لا يقوم لها ولقد أنفذت لك منذ أيام صكاكا بمائة ألف وعجلت لك أرزاقك وسألت مالا فأعطيتك فهذا لا يقوم له شيء ولا يرضي أمير المؤمنين وتؤخذ به فقال له يزيد يا أبا الوليد أجز هذه الصكاك هذه المرة وضاحكه فقال إني أجيزه فلا تكثرن علي قال لا
ولما ولى سليمان يزيد العراق لم يوله خراسان فقال سليمان لعبد الملك ابن المهلب كيف أنت يا عبد الملك إن وليتك خراسان قال يجدني أمير المؤمنين حيث يحب ثم أعرض سليمان عن ذلك وكتب عبد الملك إلى رجال من خاصته بخراسان إن أمير المؤمنين عرض علي ولاية خراسان فبلغ الخبر إلى أخيه يزيد وقد ضجر بالعراق وقد ضيق عليه صالح بن عبد الرحمن فليس يصل معه إلى شيء فدعا يزيد عبد الله بن الأهتم فقال إني أريدك لأمر قد أهمني وقد أحببت أن تكفينيه قال مرني بما أحببت قال أنا فيما

297
ترى من الضيق وقد أضجرني ذلك وخراسان شاغرة وقد بلغني أن أمير المؤمنين ذكرها لعبد الملك بن المهلب فهل من حيلة قال نعم سرحني إلى أمير المؤمنين فإني أرجو أن آتيك بعهده عليها قال فاكتم ما أخبرتك به وكتب إلى سليمان كتابين أحدهما يذكر له فيه أمر العراق وأثنى فيه على ابن الأهتم وذكر له علمه بها ووجه ابن الأهتم وحمله على البريد وأعطاه ثلاثين ألفا وسار سبعا فقدم بكتاب يزيد على سليمان فدخل عليه وهو يتغدى فجلس ناحية فأتي بدجاجتين فأكلهما ثم قال له سليمان لك مجلس بعد هذا تعود إليه ثم دعا به بعد ثالثة فقال له سليمان إن يزيد بن المهلب كتب إلي يذكر علمك بالعراق وبخراسان ويثني عليه فكيف علمك بها قال أنا أعلم الناس بها بها ولدت وبها نشأت قال ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك يشاوره في أمرها فأشر علي برجل أوليه خراسان قال أمير المؤمنين أعلم بمن يريد يولي فإن ذكر منهم أحدا أخبرته برأيي فيه هل يصلح أم لا فسمى سليمان رجلا من قريش فقال ليس من رجال خراسان فسمى عبد الملك ابن المهلب فقال لا حتى عدد رجالا فكان في آخر من ذكر وكيع ابن أبي سود فقال يا أمير المؤمنين وكيع رجل شجاع صارم مقدام وليس بصاحبها ومع هذا إنه لم يقد ثلاثمائة قط فرأى لأحد عليه طاعة قال صدقت ويحك فمن لها قال رجل أعلمه لم تسمه قال فمن هو قال لا أبوح باسمه إلا أن يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك وأن يجيرني منه إن علم قال نعم سمه لي قال يزيد بن المهلب قال ذلك بالعراق والمقام بها أحب إليه من المقام بخراسان قال قد علمت يا أمير المؤمنين ولكن تكرهه فيستخلف على العراق رجلا ويسير قال أصبت الرأي فكتب عهد يزيد ابن
المهلب على خراسان وكتب إليه إن ابن الأهتم كما ذكرت من عقله ودينه وفضله ورأيه ودفع الكتاب وعهد يزيد إليه فسار سبعا فقدم على يزيد فقال له ما وراءك فأعطاه الكتاب فقال ويحك أعندك خبر فأعطاه العهد فأمر يزيد بالجهاز للمسير من ساعته ودعا ابنه مخلدا فقدمه إلى خراسان فسار من يومه
ثم سار يزيد إلى خراسان فأقام بها ثلاثة أشهر أو أربعة ثم غزا جرجان

298
وطبرستان ودهستان وفتحها وذلك في سنة ثمان وتسعين
وقتل من أصحاب يزيد على حصار بعض قلاع جرجان خمسة آلاف رجل فحلف يزيد يمينا مغلظة أنه ليقتلنهم حتى تطحن الرحى بدمائهم فأكثر من قتلهم وكانت الدماء لا تجري حتى صب عليها الماء فجرت فطحنت وأكل مما طحنت بدمائهم
ثم مات سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر سنة تسع وتسعين للهجرة وقيل لعشر ليال مضين من صفر والله أعلم بالصواب بدابق قرية من شمالي حلب
وعهد إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فعزل عمر في هذه السنة يزيد بن المهلب عن العراق وجعل مكانه عدي بن أرطأة الفزاري فأخذ يزيد وأوثقه وبعث به إلى عمر بن عبد العزيز وقد كان عمر يبغض يزيد وأهل بيته ويقول هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم وكان يزيد يبغض عمر ويقول إني لأظنه مرائيا
ولما وصل يزيد سأله عمر عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان فقال كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بشيء مما سمعت ولا بأمر أكرهه فقال عمر ما أجد في أمرك إلا حبسك فاتق الله وأد ما قبلك فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها فرده إلى محبسه
وذكر البلاذري في كتاب فتوح البلدان في الفصل المتضمن حديث جرجان وطبرستان أن يزيد بن المهلب لما فرغ من أمر جرجان سار إلى خراسان فتلقته الهدايا ثم ولى ابنه مخلدا خراسان وانصرف إلى سليمان فكتب إليه إن معه خمسة وعشرين ألف ألف درهم فوقع الكتاب في يد عمر بن عبد العزيز فأخذ يزيد به وحبسه والله أعلم
وبعث عمر إلى الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان ثم قدم

299
مخلد بن يزيد على عمر وجرى بينهما ما سبق ذكره فلما خرج مخلد بن يزيد قال عمر هذا عندي خير من أبيه فلم يلبث مخلد إلا قليلا حتى مات
ولما أبي يزيد أن يؤدي المال إلى عمر ألبسه جبة صوف وحمله على جمل ثم قال سيروا به إلى دهلك قلت وهي جزيرة في بحر عيذاب بالقرب من سواكن كان الخلفاء يحبسون بها من نقموا عليه قال فلما أخرج يزيد مروا به على الناس فجعل يزيد يقول مالي عشيرة يذهب بي إلى دهلك إنما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب سبحان الله أما لي عشيرة فدخل على عمر سلامة ابن نعيم الخولاني وقال يا أمير المؤمنين أردد يزيد إلى محبسه فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه فإني رأيت قومه قد غضبوا له فرده إلى محبسه ولم يزل في محبسه حتى بلغه مرض عمر
وقيل إن عدي بن أرطأة سلمه إلى وكيع بن حسان بن أبي سود التميمي مغلولا مقيدا في سفينة ليوصله إلى عين التمر حتى يحمل إلى عمر فعرض لوكيع ناس من الأزد لينتزعوه منه فوثب وكيع وانتضى سيفه وقطع قلس السفينة وأخذ سيف يزيد بن المهلب وحلف بطلاق امرأته ليضربن عنقه إن لم يتفرقوا عنه فناداهم يزيد وأعلمهم بيمين وكيع فتفرقوا ومضى به حتى سلمه إلى الجند الذين بعين التمر وحمله الجند إلى عمر فحبسه
ولما كان يزيد في حبس عمر دخل عليه الفرزدق فرآه مقيدا فأنشده
(أصبح في قيدك السماحة والجود
* وحمل الديات والحسب)
(لا بطر إن ترادفت نعم
* وصابر في البلاء محتسب)
فقال له يزيد ويحك ماذا صنعت أسأت إلي قال ولم ذاك قال تمدحني وأنا على هذه الحالة فقال له الفرزدق رأيتك رخيصا فأحببت أن أسلف فيك بضاعتي فرمى يزيد إليه بخاتمه وقال شراؤه ألف دينار وهو ربحك إلى أن يأتيك رأس المال
واستمر في حبسه إلى أن مرض عمر في سنة إحدى ومائة فخاف

300
يزيد بن المهلب من يزيد بن عبد الملك بن مروان أن يلي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز وكان يزيد بن المهلب لما ولي العراق قد عذب آل أبي عقيل وهم رهط الحجاج كما سبق ذكره وكانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل عند يزيد بن عبد الملك وهي أم الوليد بن يزيد فاسق بني أمية وهي بنت أخي الحجاج وكان يزيد بن عبد الملك قد عاهدها لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب ليقطعن منه طابقا فكان يخشى ذلك فأخذ يعمل في المهرب فبعث إلى مواليه فأعدوا له إبلا وكان مرض عمر في دير سمعان فلما اشتد مرض عمر نزل يزيد من محبسه وخرج حتى أتى المكان الذي فيه إبله وقد واعدهم إليه فاحتمل وخرج فلما جاز كتب إلى عمر إني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك فقال عمر اللهم إن كان يريد بهذه الأمة شرا فاكفهم شره واردد كيده في نحره
ومضى يزيد بن المهلب وزعم الواقدي أن يزيد بن المهلب إنما هرب من سجن عمر بعد موت عمر قلت وجدت في مسودة تاريخ القاضي كمال الدين ابن العديم الحلبي أن عمر حبس يزيد بن المهلب وابنه معاوية بحلب وهربا منها والله أعلم
(333) ثم توفي عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة وقيل الأربعاء لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة رحمه الله تعالى بدير سمعان وقيل إنه مات لعشر بقين من رجب من السنة وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر وقيل إنه مات بخناصرة
وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يقال له أشج بني أمية وذلك أن دابة من

301
دواب أبيه كانت شجته
قال نافع مولى ابن عمر كنت أسمع ابن عمر كثيرا يقول ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا قال سالم الأفطس إن عمر بن عبد العزيز رمحته دابة وهو غلام بدمشق فأتى أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فضمته إليها وجعلت تمسح الدم عن وجهه ودخل أبوه عليها على تلك الحال فأقبلت عليه تعذله وتلومه وتقول ضيعت ابني ولم تضم إليه خادما ولا حاضنا يحفظه من مثل هذا فقال لها اسكتي يا أم عاصم فطوبى لك إن كان أشج بني أمية
وقال حماد بن زيد إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بعجوز تبيع لبنا معها في سوق اللبن فقال لها يا عجوز لا تغشي المسلمين وزوار بيت الله تعالى ولا تشوبي اللبن بالماء فقالت نعم يا أمير المؤمنين ثم مر بها بعد ذلك فقال لها يا عجوز ألم أتقدم إليك أن لا تشوبي اللبن بالماء فقالت والله ما فعلت فقالت ابنة لها من داخل الخباء أغشا وكذبا جمعت على نفسك فسمعها عمر رضي الله عنه فهم بمعاقبة العجوز فتركها لكلام ابنتها ثم التفت إلى بنيه فقال أيكم يتزوج هذه فلعل الله عز و جل يخرج منها نسمة طيبة مثلها فقال عاصم بن عمر أنا أتزوجها فزوجها إياه فولدت له أم عاصم فتزوج أم عاصم عبد العزيز بن مروان فولدت له عمر بن عبد العزيز
ثم تزوج بعدها حفصة وفيها قيل ليست حفصة من نساء أم عاصم
وذكر الشيخ شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزغلي بن عبد الله سبط الشيخ جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي في كتاب جوهرة الزمان في تذكرة السلطان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال بينما أبي يعس بالمدينة إذ سمع امرأة وهي تقول لابنتها يا بنية قومي فشوبي اللبن بالماء فقالت يا أماه أما سمعت منادي أمير المؤمنين أنه نادى أن لا يشاب اللبن بالماء فقالت وأين أنت من مناديه الساعة فقالت إذا لم يرني مناديه ألم يرني رب مناديه وفي رواية أخرى قالت والله ما كنت لأطيعه في الملا وأعصيه في الخلا قال فبكى عمر رضي الله عنه
فلما أصبح دعا بالمرأة وبابنتها وسأل هل لها زوج فقالت ليس لها زوج فقال يا عبد الله تزوج هذه فلو كانت

302
بي حاجة إلى النساء لتزوجتها فقلت أنا في غنى عنها فقال يا عاصم تزوجها فتزوجها فجاءت بابنة فحملت بعمر بن عبد العزيز
ولما مات عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ولي مكانه يزيد بن عبد الملك بن مروان
ثم إن يزيد بن المهلب لحق بالبصرة فغلب عليها وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك وهو عدي بن أرطأة الفزاري فحبسه وخلع يزيد بن عبد الملك ورام الخلافة لنفسه فجاءته إحدى حظاياه وقبلت الأرض بين يديه وقالت السلام عليك يا أمير المؤمنين فأنشدها
(رويدك حتى تنظري عم تنجلي
* عماية هذا العارض المتألق)
قلت وهذا البيت من جملة أبيات لبشر بن قطية الأسدي
قلت ولا حاجة إلى تفصيل الحال فيه فإن شرحه يطول وهذه خلاصته ثم إن يزيد بن عبد الملك جهز لقتاله أخاه مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه العباس ابن الوليد بن عبد الملك ومعهما الجيش وخرج يزيد بن المهلب للقائهم واستخلف على البصرة ولده معاوية بن يزيد وعنده الرجال والأموال والأسرى وقدم بين يديه أخاه عبد الملك بن المهلب وسار حتى نزل العقر قلت هي عقر بابل وهي عند الكوفة بالقرب من كربلاء الموضع الذي قتل فيه الحسين رضي الله عنه والعقر بفتح العين المهملة وسكون القاف وبعدها راء وهو في الأصل اسم القصر والمواضع المسماة بالعقر أربعة أحدها هذا ولا حاجة إلى ذكر الباقي وقد ذكرها ياقوت الحموي في كتابه الذي سماه المشترك وضعا
قال الطبري ثم أقبل مسلمة بن عبد الملك حتى نزل على يزيد بن المهلب فاصطفوا ثم اقتتل القوم فشد أهل البصرة على أهل الشام فكشفوهم ثم إن أهل الشام كروا عليهم فكشفوهم وكان على مقدمة جيش يزيد أخوه

303
عبد الملك فلما انكشف جاء إلى أخيه يزيد وكان الناس يبايعون يزيد بن المهلب وكانت مبايعته على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن لا تطأ الجنود بلادهم ولا بيضتهم ولا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجاج وكان مروان بن المهلب بالبصرة يحرض الناس على حرب أهل الشام ويسرح الناس إلى أخيه يزيد
وكان الحسن البصري رضي الله عنه يثبط الناس عن يزيد بن المهلب فقال يوما في مجلسه يا عجبا لفاسق من الفاسقين ومارق من المارقين غبر برهة من دهره يهتك لله في هؤلاء القوم كل حرمة ويركب له فيهم كل معصية ويأكل ما أكلوا ويقتل من قتلوا حتى إذا منعوه لماظة كان يتلمظها قال أنا لله غضبان فاغضبوا ونصب قصبا عليها خرق وتبعه رجراجة رعاع هباء ما لهم أفئدة وقال أدعوكم إلى سنة عمر بن عبد العزيز ألا وإن من سنة عمر أن توضع رجلاه في قيد ثم يوضع حيث وضعه عمر فقال له رجل أتعذر أهل الشام يا أبا سعيد يعني بني أمية فقال أنا أعذرهم لا عذرهم الله والله لقد حدث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم إني حرمت المدينة بما حرمت به بلدك مكة فدخلها أهل الشام ثلاثا لا يغلق لها باب إلا أحرق بما فيه حتى إن الأقباط والأنباط ليدخلون على نساء قريش فينتزعون خمرهن من رؤوسهن وخلاخلهن من أرجلهن سيوفهم على عواتقهم وكتاب الله تعالى تحت أرجلهم أنا أقتل نفسي لفاسقين تنازعا هذا الأمر والله لوددت أن الأرض أخذتهما خسفا
جميعا
فبلغ ذلك يزيد بن المهلب فأتى الحسن هو وبعض بني عمه إلى حلقته في المسجد متنكرين فسلما عليه ثم خلوا به فاشرأب الناس ينظرون إليهم فلاحاه يزيد فدخل في ملاحاتهما ابن عم يزيد فقال له الحسن وما أنت وذاك يا ابن اللخناء فاخترط سيفه ليضربه به فقال يزيد ما تصنع قال أقتله فقال له يزيد اغمد سيفك فوالله لو فعلت لانقلب من معنا علينا
قلت ويزيد بن المهلب المذكور هو الذي عناه ابن دريد في مقصورته

304
المعروفة بالدريدية بقوله
(وقد سما قبلي يزيد طالبا
* شأو العلا فما وهى ولا ونى)
وكل من شرح الدريدية تكلم على هذا البيت وشرح قصته
وكانت إقامة يزيد بن المهلب منذ اجتمع هو ومسلمة بن عبد الملك ثمانية أيام حتى إذا كان يوم الجمعة لأربع عشرة مضت من صفر سنة اثنتين ومائة أمر مسلمة أن تحرق السفن فأحرقت والتقى الجمعان وشبت الحرب فلما رأى الناس الدخان وقيل لهم أحرق الجسر انهزموا فقيل ليزيد قد انهزم الناس فقال مم انهزموا فقيل له أحرق الجسر فلم يلبث أحد فقال قبحهم الله بق دخن عليه فطار
وكان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار وجاءه من أخبره أن أخاه حبيبا قد قتل فقال لا خير في العيش بعد حبيب قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة فوالله ما ازددت لها إلا بغضا امضوا قدما قال أصحابه فعلمنا أن الرجل قد استقتل
وأخذ من يكره القتال ينكص وأخذوا يتسالون وبقيت معه جماعة حسنة وهو يزدلف فكلما مر بخيل كشفها أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه وعن سنن أصحابه فجاء أبو رؤبة المرجىء وقال ذهب الناس فهل لك أن تنصرف إلى واسط فإنها حصن تنزلها ويأتيك مدد أهل البصرة ويأتيك أهل عمان والبحرين في السفن وتضرب خندقا فقال له قبح الله رأيك ألي تقول ذا الموت أيسر علي من ذلك فقال له فإني أتخوف عليك أما ترى ما حولك من جبال الحديد فقال له فأنا أباليها أجبال حديد كانت أو جبال نار اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالا معنا
وأقبل على مسلمة لا يريد غيره حتى إذا دنا منه دعا مسلمة بفرسه ليركبه فعطفت عليه خيول أهل الشام وعلى أصحابه فقتل يزيد بن المهلب وقتل معه أخوه محمد وجماعة من أصحابه وقال القحل بفتح القاف وسكون الحاء

305
المهملة وآخره لام ابن عياش الكلبي لما نظر إلى يزيد يا أهل الشام هذا والله يزيد لأقتلنه أو ليقتلني إن دونه ناسا فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه فقال له ناس من أصحابه نحن نحمل معك فحملوا بأجمعهم فاضطربوا ساعة وسطع الغبار وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا وعن القحل بن عياش بآخر رمق فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد وجاء برأس يزيد مولى لبني مرة فقيل له أنت قتلته فقال لا
وفي أثناء الوقعة نظر الحواري بن زياد إلى برذون عائر فقال الله أكبر هذا برذون الفاسق ابن المهلب قد قتله الله إن شاء الله فطلبوه فأتي مسلمة برأسه فلم يعرف الرأس فقال حسان النبطي مهما ظننتم فلا تظنوا أن الرجل هرب ولقد قتل فقال مسلمة وما علامة ذلك فقال إني سمعته أيام ابن الأشعث يقول قبح الله ابن الأشعث هبوه غلب على أمره أكان يغلب على الموت ألا مات كريما
(334) قلت ذكر الأمير أبو نصر ابن ماكولا في باب الفحل والقحل والعجل ما مثاله وأما القحل فمثل الفحل إلا أن أوله قاف فهو القحل بن عياش بن حسان بن عثمير بن شراحيل بن عزيز قتل يزيد بن المهلب وقتله يزيد ضرب كل واحد منهما صاحبه فقتله
فلما أتي به إلى مسلمة لم يعرف ولم ينكر فقيل له مر برأسه فليغسل ثم ليعمم ففعل به ذلك فعرفه فبعث به إلى أخيه يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط
وقال خليفة بن خياط ولد يزيد بن المهلب سنة ثلاث وخمسين وتوفي مقتولا يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة اثنتين ومائة والله أعلم بالصواب
ولما جاءت هزيمة يزيد واسط أخرج معاوية بن يزيد بن المهلب اثنين وثلاثين أسيرا كانوا في يديه فضربوا أعناقهم منهم عدي بن أرطأة ثم خرج

306
وقد قال له القوم ويحك إنا لا نراك تقتلنا إلا أن أباك قد قتل ثم أقبل حتى أتى البصرة معه المال والخزائن وجاء المفضل بن المهلب واجتمع جميع أهل المهلب بالبصرة وقد كانوا يتخوفون الذي كان فأعدوا السفن البحرية وتجهزوا بكل الجهاز
وأراد معاوية بن يزيد أن يتأمر على آل المهلب فاجتمعوا وأمروا عليهم المفضل بن المهلب وقالوا المفضل أكبرنا سنا وإنما أنت غلام حدث السن كبعض فتيان أهلك فلم يزل المفضل عليهم حتى خرجوا إلى كرمان وبكرمان فلول كثيرة فاجتمعوا إلى المفضل وبعث مسلمة بن عبد الملك في طلب آل المهلب وطلب الفلول فأدركوهم في عقبة بفارس فاشتد قتالهم فقتل المفضل وجماعة من خواصه ثم قتل آل المهلب من عند آخرهم إلا أبا عيينة وعثمان بن المفضل فإنهما نجوا ولحقا بخاقان ورتبيل وبعث مسلمة برؤوسهم إلى أخيه يزيد وهو على حلب فلما نصبوا خرج لينظر إليهم فقال لأصحابه هذا رأس عبد الملك هذا رأس المفضل والله لكأنه جالس معي يحدثني
وقال غير الطبري لما حمل رأس يزيد بن المهلب إلى يزيد بن عبد الملك نال منه بعض جلسائه فقال له مه إن يزيد طلب جسيما وركب عظيما ومات كريما
ولما فرغ مسلمة من حرب آل المهلب جمع له أخوه يزيد ولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة
ولما قتل يزيد بن المهلب رثاه شاعره ثابت قطنة بمراث كثيرة حسنة منها قوله
(كل القبائل بايعوك على الذي
* تدعو إليه وتابعوك وساروا)
(حتى إذا اشتجر القنا وتركتهم
* رهن الأسنة أسلموك وطاروا)

307
(إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن
* عارا عليك ورب قتل عار)
(335) قلت وهذا ثابت قطنة من شعراء خراسان وفرسانهم وذهبت عينه فكان يحشوها قطنة فسمي ثابت قطنة وقد كان يزيد بن المهلب استعمله على بعض كور خراسان فلما علا المنبر أرتج عليه فلم ينطق حتى نزل فدخل عليه الناس فقال
(فإن لا أقم فيكم خطيبا فإنني
* بسيفي إذا جد الوغى لخطيب)
فقالوا لو كنت قلت هذا على المنبر لكنت أخطب الناس ذكره ابن قتيبة في كتاب طبقات الشعراء
وقال ابن الكلبي في جمهرة النسب هو ثابت بن كعب بن جابر بن كعب بن كزمان بن طرفة بن وهب بن مازن بن يم بن الأسد بن الحارث بن العتيك بن الأسد بن عمران بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء وفيه يقول صاحب الفيل الحنفي وكانا يتهاجيان
(أبا العلاء لقد لاقيت معضلة
* يوم العروبة من كرب وتخنيق)
(تلوي اللسان إذا رمت الكلام به
* كما هوى زلق من شاهق النيق)
(لما رمتك عيون الناس ضاحية
* أنشأت تجرض لما قمت بالريق)
وقال غير الطبري إن الذي قتل يزيد بن المهلب هو الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي
وقال الكلبي نشأت والناس يقولون ضحى بنو أمية بالدين يوم كربلاء وبالكرم يوم العقر وقال محمد بن واسع لما جاء نعي يزيد أشتهي باكية عمانية تندب لي قتلى آل المهلب وقال عباد بن عباد مكثنا نيفا وعشرين سنة بعد قتلى آل المهلب لا تولد فينا جارية ولا يموت منا غلام
وقال خليفة بن خياط سنة اثنتين ومائة فيها قتل يزيد بن المهلب يوم

308
الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر وهو ابن تسع وأربعين سنة رحمه الله تعالى فلقد كان من النجباء الكرماء العظماء الفرسان
وروي أن مسلمة بن عبد الملك دخل على أخيه يزيد بن عبد الملك حين خلعه يزيد بن المهلب فرآه في ثوب مصبوغ فقال له أتلبس مثل هذا وأنت ممن قيل فيه
(قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
* دون النساء ولو باتت بأطهار)
فقال مسلمة ذاك ونحن نحارب أكفاءنا من قريش فأما إن نعق ناعق فلا ولا كرامة
قلت وهذا البيت للأخطل التغلبي النصراني الشاعر المشهور
817 يزيد بن أبي مسلم الثقفي مولاهم
أبو العلاء يزيد بن أبي مسلم دينار الثقفي مولاهم كان مولى الحجاج ابن يوسف الثقفي وكاتبه وكان فيه كفاية ونهضة قدمه الحجاج بسببهما وقد تقدم في ترجمة يزيد بن المهلب أن الحجاج لما حضرته الوفاة استخلفه على الخراج بالعراق فلما مات الحجاج أقره الوليد بن عبد الملك على حاله ولم يغير عليه شيئا
وقيل إن الوليد هو الذي ولاه بعد موت الحجاج وقال الوليد يوما مثلي ومثل الحجاج وابن أبي مسلم كرجل ضاع منه درهم فوجد دينارا
ولما مات الوليد وتولى أخوه سليمان عزل يزيد بن أبي مسلم وبعث مكانه

309
يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي المذكور قبله وأحضر إليه يزيد بن أبي مسلم في جامعة وكان رجلا قصيرا دميما قبيح الوجه عظيم البطن تحتقره العين فلما نظر إليه سليمان قال أنت يزيد بن أبي مسلم قال نعم أصلح الله أمير المؤمنين قال لعن الله من أشركك في أمانته وحكمك في دينه قال لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنك رأيتني والأمور مدبرة عني ولو رأيتني والأمور مقبلة علي لاستعظمت ما استصغرت ولاستجللت ما احتقرت فقال سليمان قاتله الله فما أسد عقله وأعضب لسانه ثم قال سليمان يا يزيد
أترى صاحبك الحجاج يهوي بعد في نار جهنم أم قد استقر في قعرها فقال يزيد لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين فإن الحجاج عادى عدوكم ووالى وليكم وبذل مهجته لكم فهو يوم القيامة عن يمين عبد الملك وعن يسار الوليد فاجعله حيث أحببت
وفي رواية أخرى إنه يحشر غدا بين أبيك وأخيك فضعهما حيث شئت قال سليمان قاتله الله فما أوفاه لصاحبه إذا اصطنعت الرجال فلتصطنع مثل هذا فقال رجل من جلساء سليمان يا أمير المؤمنين اقتل يزيد ولا تستبقه فقال يزيد من هذا فقالوا فلان بن فلان قال يزيد والله لقد بلغني أن أمه ما كان شعرها يوازي أذنيها فما تمالك سليمان أن ضحك وأمر بتخليته
ثم كشف عنه سليمان فلم يجد عليه خيانة دينارا ولا درهما فهم باستكتابه فقال له عمر بن عبد العزيز أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تحيي ذكر الحجاج باستكتابك كاتبه فقال يا أبا حفص إني كشفت عنه فلم أجد عليه خيانة فقال عمر أنا أوجدك من هو أعف عن الدينار والدرهم منه فقال سليمان من هذا فقال إبليس ما مس دينارا ولا درهما بيده وقد أهلك هذا الخلق
فتركه سليمان
وحدث جويرية بن أسماء أن عمر بن عبد العزيز بلغه أن يزيد بن أبي مسلم في جيش من جيوش المسلمين فكتب إلى عامل الجيش أن يرده وقال إني

310
لأكره أن أستنصر بجيش هو فيهم
ونقل الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة يزيد المذكور عن يعقوب أنه قال في سنة إحدى ومائة أمر يزيد بن أبي مسلم على إفريقية ونزع إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم فسار أحسن سيرة وفي سنة اثنتين ومائة قتل يزيد
وقال الطبري في تاريخه الكبير وكان سبب ذلك أنه كان فيما ذكر عزم أن يسير فيهم بسيرة الحجاج بن يوسف في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة فأسلم بالعراق ممن ردهم إلى قرارهم ورساتيقهم ووضع الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخذ منهم وهم على كفرهم فلما عزم على ذلك توامروا فأجمع رأيهم على قتله فقتلوه وولوا على أنفسهم الوالي الذي كان قبل يزيد بن أبي مسلم وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك إنا لم نخلع أيدينا عن الطاعة ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضى به الله والمسلمون فقتلناه وأعدنا عاملك فكتب إليهم يزيد بن عبد الملك إنني لم أرض ما صنع يزيد بن أبي مسلم وأقر محمد بن يزيد على إفريقية وكان ذلك في سنة اثنتين ومائة
قال الوضاح بن خيثمة أمرني عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بإخراج قوم من السجن وفيهم يزيد بن أبي مسلم فأخرجتهم وتركته فحقد علي وإني بإفريقية إذ قيل قدم يزيد واليا فهربت منه وعلم بمكاني وأمر بطلبي فظفر بي وحملت إليه فلما رآني قال طالما سألت الله تعالى أن يمكنني منك فقلت وأنا والله لطالما سألت الله أن يعيذني منك فقال ما أعاذك الله والله لأقتلنك والله لأقتلنك ولو سابقني فيك ملك الموت لسبقته
ثم دعا بالسيف والنطع فأتي بهما وأمر بالوضاح فأقيم على النطع وكتف وقام وراءه رجل بالسيف وأقيمت الصلاة فخرج يزيد إليها فلما سجد أخذته السيوف
ودخل إلى الوضاح من قطع كتافه وأطلقه وأعيد إلى الولاية محمد بن يزيد مولى الأنصار والله أعلم

311
قلت كان الوضاح حاجب عمر بن عبد العزيز فلما مرض أمر الوضاح بإخراج المحابيس فأخرجهم سوى يزيد المذكور فلما مات عمر هرب الوضاح إلى إفريقية خوفا من يزيد وجرى ما جرى وكان مرض عمر بخناصرة
هكذا قاله الطبري محمد بن يزيد وابن عساكر قال إسماعيل بن عبيد الله والله أعلم بالصواب وقوله وأحضر إليه يزيد بن أبي مسلم في جامعة فالجامعة الغل لأنها تجمع اليدين إلى العنق وقوله وكان رجلا قصيرا دميما الدميم بالدال المهملة القبيح المنظر ومنه قول عمر رضي الله عنه لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن وأما الذميم بالذال المعجمة فإنه المذموم وكذا قول ابن الرومي الشاعر المشهور
(كضرائر الحسناء قلن لوجهها
* حسدا وبغيا إنه لدميم)
بالدال المهملة أيضا وإنما قيدته بالضبط لأنه يتصحف على الناس كثيرا
وخناصرة بضم الخاء المعجمة ثم نون وبعد الألف صاد مهملة مكسورة ثم راء بعدها هاء وهي بلدة قديمة من أعمال الأحص من ولاية حلب من جهتها القبلية بشرق بالقرب من قنسرين كان عمر بن عبد العزيز أميرا بها من جهة عبد الملك بن مروان ثم من جهة سليمان بن عبد الملك وهي التي عناها المتنبي بقوله
(أحب حمصا إلى خناصرة
* وكل نفس تحب محياها)
وذكرها عدي بن الرقاع العاملي الشاعر المشهور في قصيدته الدالية المشهورة فقال
(وإذا الربيع تتابعت أنواؤه
* فسقى خناصرة الأحص وجادها)

312
818 يزيد بن عمر بن هبيرة
أبو خالد يزيد بن أبي المثنى عمر بن هبيرة بن معية بن سكين بن خديج ابن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة ونسب فزارة معروف فلا حاجة إلى الإطالة بذكره
قال ابن دريد معية تصغير معي وهو الواحد من أمعاء البطن وقد ردوا على ابن دريد هذا القول فقالوا بل صوابه أنه تصغير معاوية
وسكين بضم السين المهملة وفتح الكاف وخديج بفتح الخاء المعجمة وبغيض بفتح الباء الموحدة والباقي معلوم لا حاجة إلى ضبطه
ذكر الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه الكبير أن أصله من الشام وأنه ولي قنسرين للوليد بن يزيد بن عبد الملك وكان مع مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية يوم غلب على دمشق وجمع له ولاية العراق
مولده سنة سبع وثمانين
وذكره ابن عياش في تسمية من ولي العراق وجمع له المصران وهما البصرة والكوفة
وكذلك ذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف في تسمية من ولي العراقين وعد الولاة الذين جمع لهم العراقان فكان أولهم زياد بن أبيه الذي استلحقه معاوية بن أبي سفيان وآخرهم يزيد بن عمر بن هبيرة صاحب هذه الترجمة ثم قال ولم يجمع العراقان لأحد بعد هؤلاء وذكره أيضا قبل هذا في ترجمة أبيه عمر فقال وكان أبو جعفر المنصور حصر يزيد بواسط شهورا ثم آمنه وافتتح البلد صلحا وركب إليه يزيد في أهل بيته وكان أبو جعفر يقول لا يعز ملك هذا فيه ثم قتله

313
وقال خليفة بن خياط وفي سنة ثمان وعشرين ومائة وجه مروان بن محمد يزيد بن عمر بن هبيرة واليا على العراق وذلك قبل قتل الضحاك يعني ابن قيس الشيباني الخارجي فسار حتى نزل هيت
وكان سخيا جسيما طويلا خطيبا أكولا شجاعا وكان فيه حسد وذكره أبو جعفر الطبري في تاريخه في سنة ثمان وعشرين ومائة فقال وفي هذه السنة وجه مروان بن محمد يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب من بها من الخوارج ثم ذكر في سنة اثنتين وثلاثين ومائة خروج قحطبة بن شبيب أحد دعاة بني العباس لما أظهروا أمرهم بخراسان وتلك النواحي وكان أبو مسلم الخراساني المقدم ذكره في حرف العين أعظم الأعوان وأصل تلك القضية حتى انتظمت أمورها كما هو مشهور وقد سبق في ترجمة أبي مسلم طرف من هذا الحديث ولا حاجة إلى التطويل فيه
وكان خروج قحطبة بأرض العراق وقصد محاربة يزيد بن عمر بن هبيرة وجرت وقائع يطول شرحها وحاصل الأمر أن قحطبة خاض الفرات عند الفلوجة القرية المشهورة بالعراق ليقاتل ابن هبيرة وكان في قبالته فغرق قحطبة في عشية الأربعاء عند غروب الشمس لثمان خلون من المحرم من هذه السنة وقام ولده الحسن بن قحطبة مقامه في تقدمة الجيش وهي واقعة مشهورة طويلة وليس هذا موضع ذكرها
وكان معن بن زائدة الشيباني المقدم ذكره من أتباع يزيد بن هبيرة المذكور ومن أكبر أعوانه في الحروب وغيرها فيقال إنه في تلك الليلة ضرب قحطبة ابن شبيب بالسيف على رأسه وقيل على عاتقه فوقع في الماء فأخرجوه حيا فقال إن مت فادفنوني في الماء لئلا يقف أحد على خبري وقيل في غرقه غير ذلك والله أعلم

314
عدنا إلى حديث ابن هبيرة
وكان من خبره أن جيوش خراسان التي كان مقدمها قحطبة ثم ولده الحسن من بعد استظهرت عليه فهزمت عسكره ولحق ابن هبيرة بمدينة واسط فتحصن فيها ثم وصل أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الملقب بالسفاح وأخوه أبو جعفر عبد الله بن محمد الملقب بالمنصور من الحميمة بضم الحاء المهملة القرية التي كانت مسكن بني العباس في أطراف الشام من أرض البلقاء إلى الكوفة وبها جماعة من أشياعهم ونوابهم ومن قام معهم بإقامة دولتهم وإزالة دولة بني أمية التي أميرها إذ ذاك مروان ابن محمد بن مروان بن الحكم الأموي المعروف بالجعدي والمنبوز بالحمار آخر ملوكهم فلما وصلوا إلى الكوفة بويع أبو العباس السفاح بها يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة وقيل إن المبايعة كانت في شهر ربيع الأول والأول أصح
وظهر أمر بني العباس وقويت شوكتهم وأدبرت دولة بني مروان فعند ذلك وجه السفاح أخاه أبا جعفر المنصور إلى واسط لحرب يزيد بن عمر بن هبيرة فجاء المنصور إلى المعسكر الذي مقدمه الحسن بن قحطبة وهو مقابل يزيد بن هبيرة بواسط فنزل فيه
قال أبو جعفر الطبري في تاريخه الكبير وجرت السفراء بين أبي جعفر المنصور وبين ابن هبيرة حتى جعل له أمانا وكتب به كتابا فمكث يشاور فيه العلماء أربعين ليلة حتى رضيه ابن هبيرة ثم أخذه إلى أبي جعفر فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس السفاح فأمر بإمضائه له وكان رأى أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه
وكان أبو العباس السفاح لا يقطع أمرا دون أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة وكان لأبي مسلم عين على السفاح يكتب إليه بأخباره كلها

315
فكتب أبو مسلم إلى السفاح إن الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد لا والله لا صلح طريق فيه ابن هبيرة
ولما تم الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة من البخارية فأراد أن يدخل الحجرة على دابته فقام إليه الحاجب فقال مرحبا أبا خالد انزل راشدا وقد أطاف بالحجرة عشرة آلاف من أهل خراسان فنزل ودعا له بوسادة ليجلس عليها ثم دعا له بالقواد فدخلوا ثم قال له الحاجب ادخل أبا خالد فقال أنا ومن معي فقال إنما استأذنت لك وحدك فقام فدخل ووضعت له وسادة وحادثه ساعة ثم قام وأتبعه أبو جعفر بصره حتى غاب عنه ثم مكث يقيم عنه يوما ويأتيه يوما في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل فقال يزيد بن حاتم لأبي جعفر أيها الأمير إن ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر وما نقص من سلطانه شيء فقال أبو جعفر للحاجب قل لابن هبيرة يدع الجماعة ويأتينا في حاشيته فقال له الحاجب ذلك فتغير وجهه وجاء في حاشيته نحوا من ثلاثين فقال له الحاجب كأنك تأتي متأهبا فقال إن أمرتم أن نمشي إليكم مشينا فقال ما أردنا بك استخفافا ولا أمر الأمير بما أمر به إلا نظرا لك فكان بعد ذلك يأتي في ثلاثة
وقال محمد بن كثير كلم ابن هبيرة يوما أبا جعفر فقال يا هياه أو يا أيها المرء ثم رجع فقال أيها الأمير إن عهدي بكلام الناس بمثل ما خاطبتك به حديث فسبقني لساني بما لم أرده
وألح أبو العباس السفاح على أبي جعفر يأمره بقتله وهو يراجعه فكتب إليه والله لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك ثم يقتله فأزمع على قتله فبعث أبو جعفر من ختم بيوت المال ثم بعث إلى وجوه من مع ابن هبيرة فحضروا وخرج الحاجب من عند أبي جعفر وطلب ابن الحوثرة ومحمد بن نباتة وهما من الأعيان فقاما فدخلا وقد أجلس أبو جعفر ثلاثة من خواصه في مائة من جماعته في حجرة فنزعت

316
سيوفهما وكتفا ثم أدخلوا بعدهما اثنين ففعل بهما كذلك وبعدهم جماعة أخرى فعل بهم كذلك فقال موسى بن عقيل أعطيتمونا عهد الله ثم خستم به إنا لنرجو أن يدرككم الله وجعل ابن نباتة يضرط في لحية نفسه فقال له ابن الحوثرة إن هذا لا يغني عنك شيئا فقال كأني كنت أنظر إلى هذا فقتلوا وأخذت خواتيمهم
وانطلق حازم والهيثم بن شعبة والأغلب ابن سالم في نحو من مائة فأرسلوا إلى ابن هبيرة إنا نريد هذا المال فقال ابن هبيرة لحاجبه انطلق فدلهم عليه فأقاموا عند كل بيت نفرا ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدار ومع ابن هبيرة ابنه داود وكاتبه عمرو بن أيوب وحاجبه وعدة من مواليه وبني له صغير في حجره فجعل ينكر نظرهم فقال أقسم بالله إن في وجوه القوم لشرا فأقبلوا نحوه فقام حاجبه في وجوههم فقال وراءكم فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه وقاتل ابنه داود فقتل وقتل مواليه ونحى الصبي من حجره وقال دونكم هذا الصبي وخر ساجدا فقتل وهو ساجد ومضوا برؤوسهم إلى أبي جعفر فنادى بالأمان للناس
وقال أبو عطاء السندي واسمه مرزوق وقيل أفلح مولى بني أسد يرثي ابن هبيرة
(ألا إن عينا لم تجد يوم واسط
* عليك بجاري دمعها لجمود)
(عشية قام النائحات وشققت
* جيوب بأيدي مأتم وخدود)
(فإن تمس مهجور الفناء فربما
* أقام به بعد الوفود وفود)
(وإنك لم تبعد على متعهد
* بلى كل من تحت التراب بعيد)
قلت وهذه المرثية ذكرها أبو تمام الطائي في كتاب الحماسة في باب المراثي
قلت إلى هنا انتهى ما نقلته من تاريخ الطبري مقتضبا فإنني جمعته من

317
عدة مواضع حتى انتظم على هذه الصورة
وأما غير الطبري فإنه قال لما قدم أبو جعفر على الحسن بن قحطبة تحول له الحسن من سرادقه فأنزله فيه وأقاموا يقتتلون أياما وثبت معن بن زائدة مع ابن هبيرة وطال الحصار عليهم وكان أبو جعفر المنصور يقول ابن هبيرة يخندق على نفسه مثل النساء وبلغ ابن هبيرة ذلك فأرسل إليه أنت القائل كذا ابرز إلي لترى فأرسل إليه المنصور ما أجد لك ولي مثلا إلا كأسد لقي خنزيرا فقال له الخنزير بارزني فقال الأسد ما أنت لي بكفؤ فإن بارزتك فنالني منك سوء كان عارا وإن قتلتك قتلت خنزيرا فلم أحصل على حمد ولا في قتلك فخر فقال له الخنزير لئن لم تبارزني لأعرفن السباع أنك جبنت عني فقال الأسد احتمال عار كذبك أيسر من تلطيخ براثني بدمك
ثم إن المنصور كاتب القواد وفهم ابن هبيرة فطلب الصلح فأجابه المنصور وكتبوا كتاب الصلح والأمان وبعثه المنصور إلى أخيه السفاح فأمضاه وكتب فيه فإن غدر ابن هبيرة أو نكث فلا عهد له ولا أمان وكان من رأي المنصور الوفاء له
وقال أبو الحسن المدائني لما كتب المنصور بينه وبين ابن هبيرة كتاب الصلح خرج إلى المنصور وبينه وبينه ستر فقال ابن هبيرة أيها الأمير إن دولتكم بكر فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرارتها تصل محبتكم إلى قلوبهم ويعذب ذكركم على ألسنتهم وما زلنا منتظرين لدعوتكم قال فرفع المنصور الستر بينه وبينه وقال في نفسه عجبا لمن يأمرني بقتل مثل هذا
وصار ابن هبيرة يخرج إلى المنصور في آخر أمره في ثلاثة من أصحابه يتغدى ويتعشى عنده وكان يثني له وساده
فيقال إنه كان يكاتب عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويدعو إليهم وإلى خلع السفاح وجاءه كتاب أبي مسلم يحثه على قتل ابن هبيرة فكتب السفاح إلى المنصور يأمره بقتله فقال لا أفعل وله في عنقي بيعة وأيمان فلا أضيعها بقول أبي مسلم فكتب السفاح ما أقتله بقول أبي مسلم بل بنكثه وغدره ودسيسه إلى آل أبي طالب وقد أبيح لنا

318
دمه فلم يجبه المنصور وقال هذا فساد الملك فكتب إليه السفاح لست مني ولست منك إن لم تقتله فقال المنصور للحسن بن قحطبة اقتله أنت فامتنع فقال خازم بن خزيمة أنا أقتله فدخل عليه في جماعة من قواد خراسان وهو في القصر وعنده ابنه داود وكاتبه ومواليه وعليه قميص مصري وملاءة موردة وعنده الحجام وهو يريد أن يحجمه فلما رآهم سجد فقتلوه وقتلوا ابنه وكاتبه ومن كان معه وحملوا رأسه إلى المنصور
وكان معن بن زائدة غائبا عند السفاح فسلم
وبعث المنصور برأسه إلى السفاح وكان ذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة
قال الهيثم بن عدي لما قتل ابن هبيرة قال بعض الخراسانيين لبعض أصحاب ابن هبيرة ما كان أكبر رأس صاحبكم فقال له الرجل أمانكم له كان أكبر
وذكر الخطيب أبو زكريا التبريزي في كتاب شرح الحماسة في باب المراثي عند ذكره أبيات أبي عطاء السندي الدالية المقدم ذكرها التي رثى بها يزيد المذكور فقال وكان المنصور قد حلف له وأكد الأيمان فلما قتله وحمل رأسه إليه قال المنصور للحرسي أترى طينة رأسه ما أعظمها فقال الحرسي طينة أيمانه أعظم من طينة رأسه
وهدم المنصور قصر واسط
وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه الكبير كان ابن هبيرة إذا أصبح أتي بعس قلت العس بضم العين المهملة وبعدها سين مهملة مشددة هو القدح الكبير قال وفيه لبن قد حلب على عسل وأحيانا سكر فيشربه فإذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تحل الصلاة فيصلي ثم يدخل فيحركه اللبن فيدعو بالغداء فيأكل دجاجتين وناهضين ونصف جدي وألوانا من اللحم والناهض بالنون وبعد الهاء المكسورة ضاد معجمة وهو الفرخ من الحمام قال ثم يخرج فينظر في أمور الناس إلى نصف النهار

319
ثم يدخل فيدعو جماعة من خواصه وأعيان الناس ويدعو بالغداء فيتغدى ويضع منديلا على صدره ويعظم اللقم ويتابع فإذا فرغ من الغداء تفرق من كان عنده ودخل إلى نسائه حتى يخرج إلى صلاة الظهر ثم ينظر بعد الظهر في أمور الناس فإذا صلى العصر وضع له سرير ووضعت الكراسي للناس فإذا أخذ الناس مجالسهم أتوهم بعساس اللبن والعسل وألوان الأشربة قلت والعساس بكسر العين جمع عس وقد تقدم الكلام عليه ثم توضع السفرة والطعام للعامة ويوضع له ولأصحابه خوان مرتفع فيأكل معه الوجوه إلى المغرب ثم يتفرقون للصلاة ثم تأتيه سماره فيحضرون مجلسا يجلسون فيه حتى يدعوهم فيسامروه حتى يذهب عامة الليل
وكان يسأل في كل ليلة عشر حوائج فإذا أصبحوا قضيت وكان رزقه ستمائة ألف درهم فكان يقسم كل شهر في أصحابه من قومه ومن الفقهاء والوجوه وأهل البيوتات فقال عبد الله بن شبرمة الضبي القاضي الفقيه الكوفي وكان من سماره
(إذا نحن أعتمنا ومال بنا الكرى
* أتانا بإحدى الراحتين عياض)
وعياض بوابه وإحدى الراحتين الدخول أو الانصراف ولم يكن له منديل فكان إذا دعا بالمنديل قام الناس
وقال شيخ من قريش أذن يزيد بن عمر بن هبيرة في يوم صائف شديد الحر للناس فدخل عليه وعليه قميص خلق مرقوع الجيب فجعلوا ينظرون إليه ويعجبون منه ففطن لهم فتمثل بقول إبراهيم بن هرمة
(قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه
* خلق وجيب قميصه مرقوع)
وحكي أن شريك بن عبد الله النميري سايره يوما فبدرت دابة شريك فقال له يزيد غض من لجامها فقال شريك إنها مكتوبة أصلح الله الأمير فقال

320
له يزيد ذهبت حيث أردت قول يزيد غض من لجامها يشير إلى قول جرير
(فغض الطرف إنك من نمير
* فلا كعبا بلغت ولا كلابا)
فعرض له شريك بقول ابن دارة
(لا تأمنن فزاريا خلوت به
* على قلوصك واكتبها بأسيار)
وكان بنو فزارة في العرب يرمون بإتيان الإبل
وأخباره ومحاسنه كثيرة مشهورة
وقال خليفة بن خياط قتل ابن هبيرة بواسط يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة رحمه الله تعالى
وقال أبو جعفر الطبري في تاريخه توفي الحسن بن قحطبة في سنة إحدى وثمانين ومائة
819 يزيد بن حاتم المهلبي
أبو خالد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي
قد سبق ذكر بقية نسبه في ترجمة جده المهلب بن أبي صفرة وقد ذكرت أخاه روح ابن حاتم في حرف الراء وعم أبيه يزيد بن المهلب ومن ولده الوزير أبو

321
محمد الحسن بن محمد المهلبي المقدم ذكره وهم أهل بيت كبير اجتمع فيه خلق كثير من الأعيان الأمجاد النجباء
ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن الخليفة أبا جعفر المنصور عزل حميد ابن قحطبة عن ولاية مصر فولاها نوفل بن الفرات ثم عزله وولى يزيد بن حاتم وذلك في سنة ثلاث وأربعين ومائة ثم إن المنصور عزله عن مصر في سنة اثنتين وخمسين ومائة وجعل مكانه محمد بن سعيد وقال أبو سعيد ابن يونس في تاريخه ولي يزيد بن
حاتم مصر في سنة أربع وأربعين ومائة وزاد غيره في منتصف ذي القعدة
ثم إن المنصور خرج إلى الشام وزيارة بيت المقدس في سنة أربع وخمسين ومن هناك سير يزيد بن حاتم إلى إفريقية لحرب الخوارج الذين قتلوا عامله عمر ابن حفص وجهز معه خمسين ألف مقاتل واستقر يزيد المذكور واليا بإفريقية من يومئذ وكان وصوله إليها واستظهاره على الخوارج في سنة خمس وخمسين ودخل مدينة القيروان في هذا التاريخ
وكان جوادا سريا مقصودا ممدحا قصده جماعة من الشعراء فأحسن جوائزهم
وكان أبو أسامة ربيعة بن ثابت الأسدي الرقي وقيل إنه من موالي سليم قد قصد يزيد بن أسيد بضم الهمزة وفتح السين المهملة ابن زافر ابن أسماء بن أسيد بن قنفذ بن جابر بن قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس ابن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وهو يومئذ وال على أرمينية وكان قد وليها زمانا طويلا لأبي جعفر المنصور ثم من بعده لولده المهدي وكان يزيد المذكور من أشراف قيس وشجعانهم ومن ذوي الآراء الصائبة ومدحه ربيعة المذكور بشعر أجاد فيه فقصر في حقه ومدح يزيد بن حاتم المذكور فبالغ في الإحسان إليه فقال ربيعة قصيدة يفضل فيها يزيد بن حاتم على يزيد بن أسيد وكان

322
في لسان يزيد بن أسيد تمتمة فعرض بذكرها في هذه الأبيات فقال
(حلفت يمينا غير ذي مثنوية
* يمين امرئ آل بها غير آثم)
(لشتان ما بين اليزيدين في الندى
* يزيد سليم والأغر ابن حاتم)
(يزيد سليم سالم المال والفتى
* أمحو الأزد للأموال غير مسالم)
(فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله
* وهم الفتى القيسي جمع الدراهم)
(فلا يحسب التمتام أني هجوته
* ولكنني فضلت أهل المكارم)
(فيا أيها الساعي الذي ليس مدركا
* بسماته سعي البحور الخضارم)
(سميت ولم تدرك نوال ابن حاتم
* لفك أسير واحتمال العظائم)
(كفاك بناء المكرمات ابن حاتم
* ونمت وما الأزدي عنها بنائم)
(فيا ابن أسيد لا تسام ابن حاتم
* فتفرغ إن ساميته سن نادم)
(هو البحر إن كلفت نفسك خوضه
* تهافكت في أذيه المتلاطم)
(تمنيت مجدا في سليم سفاهة
* أماني خال أو أماني حالم)
(ألا إنما آل المهلب غرة
* وفي الحرب قادات لكم بالخزائم)
(هم الأنف في الخرطوم والناس بعدهم
* مناسم والخرطوم فوق المناسم)
(قضيت لكم آل المهلب بالعلا
* وتفضيلكم حق على كل حالم)
(لكم شيم ليست لخلق سواكم
* سماح وصدق البأس عند الملاحم)
(مهينون للأموال فيما ينوبكم
* منا عيش دفاعون عن كل جارم)
قال دعبل بن علي الخزاعي المقدم ذكره قلت لمروان بن أبي حفصة الشاعر وقد تقدم ذكره أيضا يا أبا السمط من أشعركم جماعة المحدثين قال أسيرنا بيتا قلت ومن هو قال الذي يقول
(لشتان ما بين اليزيدين في الندى
* يزيد سليم والأغر ابن حاتم)

323
وكنت قد ذكرت بعض هذه الأبيات في ترجمة أخيه روح بن حاتم ثم إني ظفرت بها أكمل من تلك فأحببت أن أفرد له ترجمة وأذكر ما جرى له لأن مثله لا يصلح لأن يكون ضميمة في ترجمة أخيه
وكان ربيعة بن ثابت الرقي قد قصده قبل هذه المرة فلم ير منه من الإحسان ما كان يرجوه فنظم أبياتا من جملتها
(أراني ولا كفران لله راجعا
* بخفي حنين من نوال ابن حاتم)
ولما عقد أبو جعفر المنصور ليزيد المهلبي المذكور على بلاد إفريقية وليزيد السلمي المذكور على ديار مصر خرجا معا فكان يزيد المهلبي يقوم بكفاية الجيشين فقال ربيعة الرقي المذكور
(يزيد الخير إن يزيد قومي
* سميك لا يجود كما تجود)
(تقود كتيبة ويقود أخرى
* فترزق من تقود ومن يقود)
قلت وهذا يدل على أن ربيعة المذكور مولى بني سليم لقوله يزيد قومي والله أعلم
وقدم أشعب المشهور بالطمع على يزيد وهو بمصر فجلس في مجلسه ودعا بغلامه فساره فقام أشعب فقبل يده فقال له يزيد لم فعلت هذا فقال إني رأيتك تسار غلامك فظننت أنك قد أمرت لي بشيء فضحك منه وقال ما فعلت هذا ولكنني أفعل ووصله وأحسن إليه
وقال الطرطوشي في كتاب سراج الملوك قال سحنون ين سعيد كان يزيد بن حاتم حكيما يقول والله ما هبت شيئا قط هيبتي لرجل ظلمته وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله تعالى فيقول حسبك الله الله بيني وبينك
وذكر أبو سعد السمعاني في كتاب الأنساب أن المشهر التميمي الشاعر وفد على يزيد بن حاتم بإفريقية فأنشده

324
(إليك قصرنا النصف من صلواتنا
* مسيرة شهر ثم شهر نواصله)
(فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا
* لديك ولكن أهنأ البر عاجله)
فأمر يزيد بوضع العطاء في جنده وكان معه خمسون ألف مرتزق فقال من أحب أن يسرني فليضع لزائري هذا من عطائه درهمين فاجتمع له مائة ألف درهم وضم يزيد إلى ذلك مائة ألف درهم أخرى ودفعها إليه
قلت ثم وجدت البيتين المذكورين لمروان بن أبي حفصة والله أعلم
وقد ذكره الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في تاريخ دمشق فقال بعد ذكر أحواله وولاياته إن يزيد بن حاتم قال لجلسائه استنقوا لي ثلاثة أبيات فقال صفوان بن صفوان من بني الحارث بن الخزرج أفيك فقال فيمن شئتم فكأنها كانت في كمه
(لم أدر ما الجود إلا ما سمعت به
* حتى لقيت يزيدا عصمة الناس)
(لقيت أجود من يمشي على قدم
* مفضلا برداء الجود والباس)
(لو نيل بالجود مجد كنت صاحبه
* وكنت أولى به)
ثم كففت فقال أتمم من آل عباس فقلت لا يصلح فقال لا يسمعن هذا منك أحد
وقال يموت بن المزرع قال لي الأصمعي يوما وقد جئته مسلما إلى أن ذكر الشعراء المحسنين المداحين من المولدين فقال لي يا أبا عثمان ابن المولى من المحسنين المداحين ولقد أسهرني في ليلتي هذه حسن مديحه يزيد بن حاتم حيث يقول
(وإذا تباع كريمة أو تشترى
* فسواك بائعها وأنت المشتري)
(وإذا تخيل من سحابك لامع
* سبقت مخيلته يد المستمطر)

325
(وإذا صنعت صنيعة أتممتها
* بيدين ليس نداهما بمكدر)
(وإذا الفوارس عددت أبطالها
* عدوك في أبطالهم بالخنصر)
ولما قدم عليه ابن المولى المذكور أنشده وهو أمير مصر
(يا واحد العرب الذي
* أضحى وليس له نظير)
(لو كان مثلك آخر
* ما كان في الدنيا فقير)
فدعا يزيد بخازنه وقال كم في بيت مالي قال فيه من العين والورق ما مبلغه عشرون ألف دينار فقال ادفعها إليه ثم قال يا أخي المعذرة إلى الله تعالى وإليك والله لو أن في ملكي غيرها لما أدخرتها عنك وهذا ابن المولى هو أبو عبد الله محمد بن مسلم وعرف بابن المولى
وروى الأصمعي أيضا أن يزيد لما كان بإفريقية جاءه البشير يخبره أنه ولد له مولود بالبصرة فقال قد سميته المغيرة وكان عنده المشهر التميمي فقال بارك الله لك أيها الأمير فيه وبارك له في بنيه كما بارك لجده في أبيه
ولم يزل يزيد واليا بإفريقية إلى أن توفي بها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة سبعين ومائة بالقيروان ودفن بباب سلم واستخلف على إفريقية ولده داود بن يزيد فعزله هارون الرشيد في سنة اثنتين وسبعين ومائة وولاها عمه روح بن حاتم المقدم ذكره

326
820 يزيد بن مزيد الشيباني
أبو خالد وأبو الزبير يزيد بن مزيد بن زائدة وهو ابن أخي معن ابن زائدة الشيباني المقدم ذكره وقد استوفيت ذكر نسبه هناك فلا حاجة إلى إعادته هاهنا
كان يزيد المذكور من الأمراء المشهورين والشجعان المعروفين كان واليا بأرمينية فعزله عنها هارون الرشيد سنة اثنتين وسبعين ومائة ثم ولاه إياها وضم إليها أذربيجان في سنة ثلاث وثمانين
وقد سبق طرف من خبره في ترجمة الوليد بن طريف الشيباني الخارجي فإنه الذي تولى محاربته وقتله ذكر أرباب التاريخ أن الوليد بن طريف الشيباني لما خرج على هارون الرشيد ببلاد الجزيرة وهي فيما بين الفرات وشط الموصل وذلك في سنة ثمان وسبعين ومائة وكثر جمعه من الشراة حتى انتشروا في تلك البلاد ونهض إليهم عامل ديار ربيعة فقتلوه وصاروا إلى ديار مضر فحصروا عبد الملك بن صالح بن علي العباسي بالرقة فاستشار هارون الرشيد يحيى بن خالد البرمكي فيمن يوجهه لحرب الوليد بن طريف فقال له يحيى بن خالد البرمكي وجه موسى بن حازم التميمي فإن فرعون كان اسمه الوليد فغرقه موسى عليه السلام فوجهه إليه الرشيد في جيش كثيف فلاقاه الوليد في أصحابه فهزمه الوليد وقتله فلما بلغ الرشيد ذلك وجه إليه معمر بن عيسى العبدي فكانت بينهما عدة وقائع بناحية دارا من ديار ربيعة فلما اتصل ذلك وكثرت جموع الوليد وظهر هذا الظهور العظيم قال الرشيد ليس لها إلا الأعرابي يزيد بن مزيد الشيباني فقال بكر بن النطاح الشاعر

327
(لا تبعثن إلى ربيعة غيرها
* إن الحديد بغيره لا يفلح)
فوجه الرشيد إليه يزيد المذكور في عسكر ضخم وأمره بمناجزته فقصده يزيد وجعل الوليد يراوغه ويزيد يتبعه وكان الوليد ذا مكر ودهاء
ثم كانت بينهما حرب صعبة وبلغ الرشيد مماطلة يزيد بن مزيد له فوجه إليه خيلا بعد خيل ثم بعث إليه من يعنفه فسار يزيد في طلبه ثم نزل يصلي الصبح فلم يستتم صلاته حتى طلع الوليد عليه في عسكره واصطفت الخيلان وتزاحف الناس فلما شبت الحرب ناداه يزيد يا وليد ما حاجتك إلى التستر بالرجال ابرز إلي قال نعم والله فبرز الوليد وبرز إليه يزيد ووقف العسكران فلم يتحرك منهما أحد فتطاردا ساعة وكل واحد منهما لا يقدر على صاحبه حتى مضت ساعات من النهار فأمكنت يزيد فيه الفرصة فضرب رجله فسقط وصاح بخيله فسقطوا عليه واحتزوا رأسه
ذكر أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن القراب الهروي في تاريخه أن الوليد بن طريف قتله يزيد بن مزيد بالحديثة من أرض الجزيرة قلت وهذه الجزيرة هي الجزيرة الفراتية والحديثة بالقرب من عانة وتعرف بحديثة النورة وهي على فراسخ من الأنبار وهي غير حديثة الموصل
ووجه يزيد برأس الوليد إلى الرشيد وبكتاب الفتح مع ابنه أسد بن يزيد وفي ذلك يقول أبو الوليد مسلم بن الوليد الأنصاري الشاعر المشهور وكان منقطعا إلى يزيد ومختصا به
(سل الخليفة سيفا من بني مطر
* يمضي فيخترق الأجسام والهاما)
(لولا يزيد ومقدار له سبب
* عاش الوليد مع العامين أعواما)
(أكرم به وبآباء له سلفوا
* أبقوا من المجد أياما وأياما)

328
ولما انصرف يزيد إلى باب الرشيد قدمه ورفع مرتبته وقال له يا يزيد ما أكثر أمراء المؤمنين في قومك قال نعم إلا أن منابرهم الجذوع يعني الجذوع التي يصلبون عليها إذا قتلوا
وكان قتل الوليد في سنة تسع وسبعين ومائة كما سبق ذكره في ترجمته ورثته أخته بتلك الأبيات الفائية المذكورة هناك وقالت أخته الفارعة فيه أيضا
(يا بني وائل لقد فجعتكم
* من يزيد سيوفه بالوليد)
(لو سيوف سوى سيوف يزيد
* قاتلته لاقت خلاف السعود)
(وائل بعضها يقتل بعضا
* لا يفل الحديد غير الحديد)
وقد روي أن هارون الرشيد لما جهز يزيد بن مزيد إلى حرب الوليد بن طريف أعطاه ذا الفقار سيف النبي صلى الله عليه وسلم وقال له خذه يا يزيد فإنك ستنصر به فأخذه ومضى وكان من هزيمة الوليد وقتله ما قد شرحناه وفي ذلك يقول مسلم بن الوليد الأنصاري من جملة قصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد المذكور
(أذكرت سيف رسول الله سنته
* وبأس أول من صلى ومن صاما)
يعني بأس علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ كان هو الضارب به
وقد ذكر هشام بن الكلبي في كتاب جمهرة النسب شيئا يتعلق بذي الفقار وهي فائدة يحسن ذكرها هاهنا فإنه قال في نسب قريش منبه ونبيه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم القرشي كانا سيدي بني سهم في الجاهلية قتلا يوم بدر كافرين وكانا من المطعمين والعاص ابن نبيه قتل مع أبيه وكان له ذو الفقار قتله علي بن أبي طالب رضي الله

329
عنه يوم بدر وأخذه منه وقال غير ابن الكلبي إن ذا الفقار أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه
والفقار بفتح الفاء جمع فقارة الظهر يقال في جمعها فقار وفقارات ويقال ذو الفقار بكسر الفاء أيضا والفقار جمع فقرة بكسر الفاء وسكون القاف ولم يأت مثله في الجموع إلا قولهم إبرة وإبار
رجعنا إلى حديث ذي الفقار
وكان سبب وصوله إلى هارون الرشيد فيما ذكره أبو جعفر الطبري بإسناد متصل إلى عمر بن المتوكل عن أمه وكانت أمه تخدم فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قالت كان ذو الفقار مع محمد بن عبد الله ابن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم قتل في محاربته لجيش أبي جعفر المنصور العباسي والواقعة مشهورة فلما أحس محمد بالموت دفع ذا الفقار إلى رجل من التجار كان معه وكان له عليه أربعمائة دينار وقال له خذ هذا السيف فإنك لا تلقى أحدا من آل أبي طالب إلا أخذه منك وأعطاك حقك فكان السيف عند ذلك التاجر حتى ولي جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه اليمن والمدينة فأخبر عنه فدعا بالرجل فأخذ منه السيف وأعطاه أربعمائة دينار فلم يزل عنده حتى قام المهدي ابن المنصور واتصل خبره به فأخذه ثم صار إلى موسى الهادي ثم إلى أخيه هارون الرشيد
وقال الأصمعي رأيت الرشيد بطوس متقلدا سيفا فقال يا أصمعي ألا أريك ذا الفقار قلت بلى جعلني الله فداك فقال استل سيفي هذا فاستللته فرأيت فيه ثماني عشرة فقارة

330
قلت خرجنا عن المقصود فلنرجع إلى تتمة حديث يزيد بن مزيد
ذكر الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي في تاريخ بغداد أن يزيد المذكور دخل على الرشيد فقال له الرشيد يا يزيد من الذي يقول فيك
(لا يعبق الطيب كفيه ومفرقه
* ولا يمسح عينيه من الكحل)
(قد عود الطير عادات وثقن بها
* فهن يتبعنه في كل مرتحل)
فقال لا أدري يا أمير المؤمنين قال أفيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله فانصرف خجلا فقال لحاجبه من الباب من الشعراء فقال مسلم بن الوليد الأنصاري قال ومنذ كم هو مقيم بالباب قال منذ زمان طويل منعته من الوصول إليك لما عرفته من إضاقتك قال أدخله فأدخله فأنشده هذه القصيدة حتى ختمها فقال للوكيل بع ضيعتي الفلانية وأعطه نصف ثمنها واحتبس نصفا لنفقتنا فباعها بمائة ألف درهم فأعطى مسلما خمسين ألفا ورفع الخبر إلى الرشيد فاستحضر يزيد وسأله عن الخبر فأعلمه الحديث فقال قد أمرت لك بمائتي ألف درهم لتسترجع الضيعة بمائة ألف درهم وتزيد الشاعر خمسين ألفا وتحبس خمسين ألفا لنفسك
قال أبو بكر ابن الأنباري قال أبي سرق مسلم بن الوليد هذا المعنى من قول النابغة الذبياني حيث يقول
(إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم
* عصائب طير تهتدي بعصائب)
(يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم
* من الضاريات بالدماء الدوارب)
(جوانح قد أيقن أن قبيله
* إذا ما التقى الجمعان أول غالب)
(لهن عليهم عادة قد عرفنها
* إذا عرض الخطي فوق الكواثب)

331
الكواثب بالثاء المثلثة وبعدها الباء الموحدة جمع كاثبة وهي ما يقرب من منسج الفرس أمام قربوس السرج
قلت وأول قصيدة مسلم بن الوليد الأنصاري
(أجررت حبل خليع في الصبا غزل
* وقصرت همم العذال عن عذلي)
ومن مديحها
(حاط الخلافة سيف من بني مطر
* أقام قائمه من كان ذا ميل)
(كم صائل في ذرا علياء مملكة
* لولا يزيد بني شيبان لم يصل)
(ناب الإمام الذي يفتر عنه إذا
* ما افترت الحرب عن أنيابها العصل)
(يفتر عند افترار الحرب مبتسما
* إذا تغير وجه الفارس البطل)
(ينال بالرفق ما يعيا الرجال به
* كالموت مستعجلا يأتي على مهل)
(لا يرحل الناس إلا عند حجرته
* كالبيت يضحي إليه ملتقى السبل)
(يكسو السيوف نفوس الناكثين به
* ويجعل الهام تيجان القنا الذبل)
(يغدو فتغدو المنايا في أسنته
* شوارعا تتحدى الناس بالأجل)
(إذا طغت فئة عن عب طاعته
* عبا لها الموت بين البيض والأسل)
(تراه في الأمن في درع مضاعفة
* لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل)
وذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني في ترجمة مسلم بن الوليد الأنصاري قال يزيد بن مزيد أرسل إلي الرشيد يوما في وقت لا يرسل فيه إلى مثلي فأتيته لابسا سلاحي مستعدا لأمر إن أراده فلما رآني ضحك إلي وقال من الذي يقول فيك

332
(تراه في الأمن في درع مضاعفة
* لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل)
(لله من هاشم في أرضه جبل
* وأنت وابنك ركنا ذلك الجبل)
فقلت لا أعرفه يا أمير المؤمنين فقال سوأة لك من سيد قوم يمدح بمثل هذا الشعر ولا يعرف قائله وقد بلغ أمير المؤمنين فرواه ووصل قائله هو مسلم بن الوليد فانصرفت ودعوت به ووصلته ووليته
قلت وهذان البيتان من جملة القصيدة التي ذكرت منها الأبيات التي قبلها
وقد روي أن عمه معن بن زائدة كان يقدمه على أولاده فعاتبته امرأته في ذلك وقالت له كم تقدم يزيد ابن أخيك وتؤخر بنيك ولو قدمتهم لتقدموا ولو رفعتهم لارتفعوا فقال لها إن يزيد قريب مني وله علي حق الولد إذ كنت عمه وبعد فإن بني ألوط بقلبي وأدنى من نفسي ولكني لا أجد عندهم من الغناء ما عنده ولو كان ما يضطلع به يزيد في بعيد لصار قريبا أو عدو لصار حبيبا وسأريك في هذه الليلة ما تبسطين به عذري يا غلام اذهب فادع جساسا وزائدة وعبد الله وفلانا وفلانا حتى أتى على جميع أولاده فلم يلبثوا أن جاءوا في الغلائل المطيبة والنعال السندية وذلك بعد هدأة من الليل فسلموا وجلسوا ثم قال معن يا غلام ادع يزيد فلم يلبث أن دخل عجلا وعليه سلاحه فوضع رمحه بباب المجلس ثم دخل فقال له معن ما هذه الهيئة يا أبا الزبير فقال جاءني رسول الأمير فسبق وهمي إلى أنه يريدني لمهم فلبست سلاحي وقلت إن كان الأمر كذلك مضيت ولم أعرج وإن كان على غير ذلك فنزع هذه الآلة عني من أيسر شيء فقال معن انصرفوا في حفظ الله فلما خرجوا قالت زوجته قد تبين لي عذرك فأنشد متمثلا
(نفس عصام سودت عصاما
* وعلمته الكر والأقداما)
(وصيرته ملكا هماما
*)
وإلى هذه الحالة أشار مسلم بن الوليد بقوله
تراه في الأمن في درع مضاعفة...............

333
وقد روي أن مسلم بن الوليد لما انتهى في إنشاء هذه القصيدة إلى هذا البيت قال له يزيد بن مزيد الممدوح هلا قلت كما قال أعشى بكر بن وائل في مديح قيس بن معدي كرب
(وإذا تجيء كتيبة ملموسة
* شهباء تجتنب الكماة نزالها
*)
(كنت المقدم غير لابس جنة
* بالسيف تضرب معلما أبطالها)
فقال مسلم قولي أحسن من قوله لأنه وصفه بالخرق وأنا وصفتك بالحزم
الخرق بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وبعدها قاف وهو الاسم من عدم معرفة العمل
قلت وقيس الذي مدحه الأعشى هو والد الأشعث بن قيس الكندي أحد الصحابة رضوان الله عليهم
قلت وقد تقدم الكلام على قوله
(قد عود الطير عادات وثقن بها
*)
وأنه أخذ هذا المعنى من أبيات النابغة البائية التي تقدم ذكرها وقد وافقه في أخذ هذا المعنى جماعة منهم أبو نواس قال عمر الوراق سمعت أبا نواس ينشد قصيدته الرائية
التي أولها
(أيها المنتاب من عفره
* لست من ليلي ولا سمره)
(لا أذود الطير عن شجر
* قد بلوت المر من ثمره)
فحسدته عليها فلما بلغ إلى قوله
(وإذا مج القنا علقا
* وتراءى الموت في صوره)
(راح في ثنيي مفاضته
* أسد يدمى شبا ظفره)

334
(تتأي الطير غدوته
* ثقة بالشبع من جزره)
قلت له ما تركت للنابغة شيئا حيث يقول
(إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم
* عصائب طير تهتدي بعصائب)
فقال اسكت فلئن أحسن الاختراع لما أسأت الاتباع
وأخذ هذا المعنى أبو تمام حبيب بن أوس الطائي فقال
(وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى
* بعقبان طير في الدماء نواهل)
(أقامت على الرايات حتى كأنها
* من الجيش إلا أنها لم تقاتل)
وقال المتنبي أيضا
(يطمع الطير فيهم طول أكلهم
* حتى تكاد على أحيائهم تقع)
وللمتنبي أيضا في صفة جيش وقد ألم بهذا المعنى
(وذي لجب لا ذو الجناح أمامه
* بناج ولا الوحش المثار بسالم)
(تمر عليه الشمس وهي ضعيفة
* تطالعه من بين ريش القشاعم)
(إذا ضوءها لاقى من الطير فرجة
* تدور فوق البيض مثل الدراهم)
ولما كان يزيد واليا على اليمين قصده أبو الشمقمق مروان بن محمد مولى مروان بن محمد الجعدي آخر ملوك بني أمية الشاعر المشهور الكوفي وكنيته أبو محمد وكان مشهورا بأبي الشمقمق وهو في حال رثة وكان راجلا فمدحه وشرح حاله بقوله
(رحل المطي إليك طلاب الندى
* ورحلت نحوك ناقة نعليه)

335
(إذا لم تكن لي يا يزيد مطية
* فجعلتها لي في السفار مطيه)
(تخدي أمام اليعملات وتغتلي
* في السير تترك خلفها المهريه)
(من كل طاوية الصوى مزورة
* قطعا لكل تنوفة دويه)
ومنها
(تنتاب أكرم وائل في بيتها
* حسبا وقبة مجدها مبنيه)
(أعني يزيدا سيف آل محمد
* فراج كل شديدة مخشيه)
(يوماه يوم للمواهب والجدا
* خضل ويوم دم وخطف منيه)
(ولقد أتيتك واثقا بك عالما
* أن لست تسمع مدحة بنسيه)
فقال صدقت يا شمقمقي ولست أقبل مدحه بنسيئة أعطوه ألف دينار
ومدحه أبو الفضل منصور بن سلمة النمري الشاعر المشهور بقصيدة طويلة بائية أحسن فيها كل الإحسان منها قوله
(لو لم يكن لبني شيبان من حسب
* سوى يزيد لفاتوا الناس بالحسب)
(ما أعرف الناس أن الجود مدفعة
* للذم لكنه يأتي على النشب)
وذكر أبو العباس المبرد في كتاب الكامل أن يزيد بن مزيد المذكور نظر إلى رجل ذي لحية عظيمة وقد تلففت على صدره وإذا هو خاضب فقال له إنك من لحيتك في مؤنة فقال أجل ولذلك أقول
(لها درهم للدهن في كل ليلة
* وآخر للحناء يبتدران)
(ولولا نوال من يزيد بن مزيد
* لصوت في حافاتها الجلمان)
قلت الجلمان بفتح الجيم واللام تثنية جلم وهو المقص

336
وقال له هارون الرشيد يوما يا يزيد إني قد أعددتك لأمر كبير فقال يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قد أعد لك مني قلبا معقودا بنصيحتك ويدا مبسوطة لطاعتك وسيفا مشحوذا على عدوك فإذا شئت فقل
وذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر أن هذه المقالة دارت بين هارون الرشيد ومعن بن زائدة عم يزيد المذكور ثم قال بعد هذا وقيل إن هذا الكلام من كلام يزيد بن مزيد
قلت أنا وهذا لا يمكن أن يكون بين الرشيد ومعن أصلا لأن معنا قتل في خلافة أبي جعفر المنصور حسبما تقدم ذكره في ترجمته على الاختلاف في السنة وهو بعد الخمسين ومائة فكيف يمكن أن يقول له الرشيد ذلك والرشيد ولي الخلافة في سنة سبعين ومائة
وذكر ابن أبي عون في كتاب الأجوبة المسكتة أن الرشيد قال ليزيد المذكور في لعب الصوالجة كن مع عيسى بن جعفر فأبى يزيد فغضب الرشيد وقال تأنف أن تكون معه فقال قد حلفت لأمير المؤمنين أن لا أكون عليه في جد ولا هزل
ورأيت في بعض المجاميع حكاية عن بعضهم أنه قال كنت مع يزيد بن مزيد فإذا صائح في الليل يا يزيد بن مزيد فقال يزيد علي بهذا الصائح فلما جيء به قال له ما حملك على أن ناديت بهذا الاسم فقال نفقت دابتي ونفذت نفقتي وسمعت قول الشاعر فتيمنت به فقال وما قال الشاعر فأنشد
(إذا قيل من للمجد والجود والندى
* فناد بصوت يا يزيد بن مزيد)
فلما سمع يزيد مقالته هش له وقال له أتعرف يزيد بن مزيد قال لا والله قال أنا هو وأمر له بفرس أبلق كان معجبا به وبمائة دينار

337
وقد أطلنا القول في هذه الترجمة لكن الكلام شجون يتعلق بعضه ببعض ومحاسن يزيد كثيرة وتوفي في سنة خمس وثمانين ومائة ورثاه أبو محمد عبد الله ابن أيوب التيمي الشاعر المشهور وقيل بل هذه المرثية لأبي الوليد مسلم بن الوليد الأنصاري الشاعر المذكور والصحيح أنها للتيمي المذكور وهي
(أحقا أنه أودى يزيد
* تبين أيها الناعي المشيد)
(أتدري من نعيت وكيف فاهت
* به شفتاك كان بها الصعيد)
(أحامي المجد والإسلام أودى
* فما للأرض ويحك لا تميد)
(تأمل هل ترى الإسلام مالت
* دعائمه وهل شاب الوليد)
(وهل شيمت سيوف بني نزار
* وهل وضعت عن الخيل اللبود)
(وهل تسقي البلاد ثقال مزن
* بدرتها وهل يخضر عود)
(أما هدت لمصرعه نزار
* بلى وتقوض المجد المشيد)
(وحل ضريحه إذ حل فيه
* طريف المجد والحسب التليد)
(أما والله ما تنفك عيني
* عليك بدمعها أبدا تجود)
(وإن تجمد دموع لئيم قوم
* فليس لدمع ذي حسب جمود)
(أبعد يزيد تختزن البواكي
* دموعا أو يصان لها خدود)
(لتبكك قبة الإسلام لما
* وهت أطنابها ووهى العمود)
(ويبكي شاعر لم يبق دهر
* له نشبا وقد كسد القصيد)
(فإن يهلك يزيد فكل حي
* فريس للمنية أو طريد)
(لقد عزى ربيعة أن يوما
* عليها مثل يومك لا يعود)
قلت وهذا البيت الأخير قد استعمله الشعراء كثيرا فمن ذلك قول مطيع ابن إياس يرثي يحيى بن زياد الحارثي من جملة أبيات
(فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به
* ما بعد يحيى في الرزء من ألم)

338
وقول أبي نواس يرثي الأمين
(وكنت عليه أحذر الموت وحده
* فلم يبق لي شيء عليه أحاذر)
وقول إبراهيم بن العباس الصولي يرثي ابنه
(أنت السواد لمقلة
* تبكي عليك وناظر)
(من شاء بعدك فليمت
* فعليك كنت أحاذر)
وذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني في ترجمة مسلم بن الوليد بإسناد متصل إلى أحمد بن أبي سعد قال أهديت إلى يزيد بن مزيد جارية وهو يأكل فلما رفع يده من الطعام وطئها فلم ينزل عنها إلا ميتا وهو ببردعة فدفن في مقابر بردعة وكان مسلم بن الوليد معه في جملة أصحابه فقال يرثيه
(قبر ببردعة استمر ضريحه
* خطرا تقاصر دونه الأخطار)
(أبقى الزمان على ربيعة بعده
* حزنا لعمر الله ليس بعار)
(سلكت بك العرب السبيل إلى العلا
* حتى إذا سبق الردى بك حاروا)
(نفضت بك الأحلاس آمال الغنى
* واسترجعت زوارها الأمصار)
(فاذهب كما ذهبت غوادي مزنة
* أثنى عليها السهل والأوعار)
قد قيل إن هذا البيت الأخير أبلغ شيء قيل في المراثي وهذه الأبيات في كتاب الحماسة في باب المراثي
وبردعة بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وبعدها دال مهملة ثم عين مهملة وهي مدينة من أقصى بلاد أذربيجان
قلت هكذا رأيته في التواريخ

339
وأهل تلك البلاد يقولون بردعة من إقليم إران والله أعلم ويقال برذعة أيضا بالذال المعجمة وكذلك بردعة الدابة يقال بالدال والذال
وقد قيل إن مسلم بن الوليد إنما رثى بهذه الأبيات يزيد بن أحمد السلمي وقيل بل رثى بها مالك بن علي الخزاعي وإن أول الأبيات
(قبر بحلوان استسر ضريحه
*)
لأن الذي قيلت فيه مات بحلوان بضم الحاء المهملة وهي آخر مدينة بأرض السواد من أعمال العراق والله أعلم بالصواب في ذلك كله
وذكر أبو عبيد الله المرزباني في كتاب معجم الشعراء أن أبا البلهاء عمير بن عامر مولى يزيد بن مزيد الشيباني هو القائل
(نعم الفتى فجعت به إخوانه
* يوم البقيع حوادث الأيام)
(سهل الفناء إذا حللت ببابه
* طلق اليدين مؤدب الخدام)
(وإذا رأيت صديقه وشقيقه
* لم تدر أيهما ذوو الأرحام)
وذكر أبو تمام الطائي هذه الأبيات في كتاب الحماسة في باب المراثي لمحمد بن بشير الخارجي وقيل ابن يسير بالسين المهملة وهو فعيل من اليسر وبشير من البشارة وهو من خارجة عدوان قبيلة وليس من الخوارج والله أعلم بالصواب في ذلك كله
ورثاه منصور النمري وهي في كتاب الحماسة بقوله
(أبا خالد ما كان أدهى مصيبة
* أصابت معدا يوم أصبحت ثاويا)
(لعمري لئن سر الأعادي فأظهروا
* شماتا لقد مروا بربعك خاليا)
(فإن يك أفنته الليالي وأوشكت
* فإن له ذكرا سيفني اللياليا)

340
وكان ليزيد ولدان نجيبان جليلان سيدان
(336) أحدهما خالد بن يزيد وهو ممدوح أبي تمام الطائي وله فيه أحسن المدائح وقد تضمنها ديوانه فلا حاجة إلى ذكر شيء منها لشهرة ديوانه
(337) والآخر محمد بن يزيد كان موصوفا بالكرم وأنه لا يرد طالبا فإن لم يحضره مال لم يقل لا بل يعد ثم يعجل العدة ومدحه أحمد بن أبي فنن صالح بن سعيد بقوله ثم وجدت هذه الأبيات لأبي الشيص الخزاعي في كتاب البارع
(عشق المكارم فهو مشتغل بها
* والمكرمات قليلة العشاق)
(وأقام سوقا للثناء ولم تكن
* سوق الثناء تعد في الأسواق)
(بث الصنائع في البلاد فأصبحت
* تجبى إليه محامد الآفاق)
وكان خالد بن يزيد قد تولى الموصل من جهة المأمون فوصل إليها وفي صحبته أبو الشمقمق الشاعر الذي ذكرته في هذه الترجمة فلما دخل خالد إلى الموصل نشب اللواء الذي لخالد في سقف باب المدينة فاندق فتطير خالد من ذلك فأنشده أبو الشمقمق ارتجالا
(لما كان مندق اللواء لريبة
* تخشى ولا سوء يكون معجلا)
(لكن هذا الرمح أضعف متنه
* صغر الولاية فاستقل الموصلا)
فبلغ الخليفة ما جرى فكتب إلى خالد بن يزيد قد زدنا في ولايتك ديار ربيعة كلها لكون رمحك استقل الموصل ففرح بذلك وأجزل جائزة أبي الشمقمق
ولما انتقض أمر أرمينية في أيام الواثق جهز إليها خالد بن يزيد المذكور في

341
جيش عظيم فاعتل في الطريق ومات في سنة ثلاثين ومائتين ودفن بمدينة دبيل أرمينية رحمهم الله أجمعين
821 يزيد ابن مفرغ الحميري
أبو عثمان يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ بن ذي العشيزة بن الحارث ابن دلال بن عوف بن عمرو بن يزيد بن مرة بن مرثد بن مسروق بن زيد ابن يحصب الحميري وبقية النسب من يحصب معروفة فلا حاجة إلى ذكرها هكذا ساق هذا النسب ابن الكلبي في كتاب جمهرة النسب غير أنه لم يذكر كنية يزيد بل ذكرها صاحب الأغاني وأكثر العلماء يقولون هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ ويسقطون زيادا
(338) وقال صاحب الأغاني إنما لقب جده مفرغا لأنه راهن على سقاء من لبن يشربه كله فشربه حتى فرغه فسمي مفرغا
وذكر في ترجمة حفيده السيد الحميري في كتاب الأغاني أيضا أن ابن عائشة قال مفرغ هو ربيعة ومفرغ لقبه ومن قال ربيعة بن مفرغ فقد أخطأ والله أعلم
وقال الفضل ابن عبد الرحمن النوفلي كان مفرغ المذكور حدادا باليمن فعمل لامرأة قفلا وشرط عليها عند فراغه منه أن تجيئه بلبن كرش ففعلت فشرب منه ووضعه فقالت له رد علي الكرش فقال ما عندي شيء أفرغه فيه قالت لا بد منه ففرغه في جوفه فقالت إنك لمفرغ فعرف به وهو

342
من حمير فيما يزعم أهله
وذكر ابن الكلبي وأبو عبيدة أن مفرغا كان شعابا بتبالة
قلت تبالة بفتح التاء المثناة من فوقها وبعدها باء موحدة ثم ألف ولام وفي آخرها هاء وهي بليدة على طريق اليمن للخارج من مكة وهذا المكان كثير الخصب له ذكر في الأخبار والأمثال والأشعار وهي أول ولاية وليها الحجاج بن يوسف الثقفي ولم يكن رآها قبل ذلك فخرج إليها فلما قرب منها سأل عنها فقيل له إنها وراء تلك الأكمة فقال لا خير في ولاية تسترها أكمة ورجع عنها محتقرا لها وتركها فضربت العرب بها المثل وقالت للشيء الحقير أهون من تبالة على الحجاج
قال الراوي فادعى يزيد أنه من حمير وهو حليف آل خالد بن أسيد بن أبي العيص الأموي وقيل إنه كان عبدا للضحاك بن عبد عوف الهلالي فأنعم عليه
وكان يزيد شاعرا غزلا محسنا
(339) والسيد الحميري الشاعر المشهور من ولده وهو إسماعيل بن محمد بن بكار بن يزيد المذكور كذا ذكره ابن ماكولا في كتاب الإكمال ولقبه السيد وكنيته أبو هاشم وهو من كبار الشيعة وله في ذلك أخبار وأشعار مشهورة
ومن محاسن شعر يزيد المذكور قوله من جملة قصيدة يمدح بها مروان بن الحكم الأموي وكان قد أحسن مروان إليه
(وأقمتم سوق الثناء ولم تكن
* سوق الثناء تقام في الأسواق)
(فكأنما جعل الإله إليكم
* قبض النفوس وقسمة الأرزاق)
والبيت الأول من هذين البيتين تقدم ذكره في ترجمة يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني منسوبا إلى أحمد بن أبي فنن يمدح به خالد بن يزيد بن مزيد المذكور من جملة أبيات والله أعلم بالصواب في ذلك
ولما ولي سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه خراسان عرض على

343
يزيد بن مفرغ أن يصحبه فأبى ذلك وصحب عباد بن زياد بن أبيه فقال له سعيد أما إذ أبيت أن تصحبني وآثرت صحبة عباد فاحفظ ما أوصيك به إن عبادا رجل لئيم فإياك والدالة عليه وإن دعاك إليها من نفسه فإنها خدعة منه لك عن نفسك وأقلل زيارته فإنه ملول ولا تفاخره وإن فاخرك فإنه لا يحتمل لك ما كنت أحتمله
ثم دعا سعيد بمال فدفعه له وقال له استعن به على سفرك فإن صح لك مكانك من عباد وإلا فمكانك عندي ممهد فائتني
ثم سار سعيد إلى خراسان وخرج ابن مفرغ مع عباد فلما بلغ عبيد الله بن زياد أمير العراقين صحبة يزيد أخاه عبادا شق عليه فلما سار عباد شيعه أخوه عبيد الله وشيعه الناس وجعلوا يودعونه فلما أراد عبيد الله أن يودع أخاه دعا ابن مفرغ فقال له إنك سألت عبادا أن يصحبك فأجابك وقد شق علي فقال له ولم أصلحك الله قال لأن الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من بعض لأنه يظن فيجعل الظن يقينا ولا يعذر في موضع العذر وإن عبادا يقدم على أرض حرب فيشتغل بحروبه وخراجه عنك فلا تعذره أنت وتكسونا شرا وعارا فقال له لست كما ظن الأمير وإن لمعروفه عندي لشكرا كثيرا وإن عندي إن أغفل أمري عذرا ممهدا فقال لا ولكن تضمن لي إن أبطأ عنك ما تحبه أن لا تعجل عليه حتى تكتب إلي قال نعم قال امض إذا على الطائر الميمون
قال فقدم عباد خراسان وقيل سجستان فاشتغل بحروبه وخراجه فاستبطأه ابن مفرغ ولم يكتب لأخيه عبيد الله بن زياد يشكوه كما ضمن له ولكنه بسط لسانه فذمه وهجاه
وكان عباد كبير اللحية كأنها جوالق فسار ابن مفرغ مع عباد فدخلت الريح فيها فنفشتها فضحك ابن مفرغ وقال لرجل من لخم كان إلى جنبه
(ألا ليت اللحى كانت حشيشا
* فنعلفها خيول المسلمينا)
فسعى به اللخمي إلى عباد فغضب من ذلك غضبا شديدا وقال لا تجمل بي عقوبته في هذه الساعة مع صحبته لي وما أؤخرها إلا لأشفي نفسي

344
منه فإنه كان يقوم فيشتم أبي في عدة مواضع
وبلغ الخبر ابن مفرغ فقال إني لأجد ريح الموت من عباد ثم دخل عليه فقال أيها الأمير إني قد كنت مع سعيد بن عثمان وقد بلغك رأيه في وجميل أثره علي وقد اخترتك عليه فلم أحظ منك بطائل وأريد أن تأذن لي بالرجوع فلا حاجة لي في صحبتك فقال له أما اختيارك إياي فقد اخترتك كما اخترتني واستصحبتك حين سألتني وقد أعجلتني عن بلوغ حجتي فيك وطلبت الإذن لترجع إلى قومك فتفضحني فيهم وأنت على الإذن قادر بعد أن أقضي حقك
وبلغ عبادا أنه يسبه ويذكره وينال من عرضه فدس إلى قوم كان لهم عليه دين أن يقدموه إليه ففعلوا فحبسه وأضر به ثم بعث إليه بعني الأراكة وبردا وكانت الأراكة قينة لابن مفرغ وبرد غلامه رباهما وكان شديد الضن بهما فبعث إليه ابن مفرغ مع الرسول أيبيع المرء نفسه وولده فأخذهما عباد منه وقيل إنه باعهما عليه فاشتراهما رجل من أهل خراسان
فلما دخلا منزله قال له برد وكان داهية أديبا أتدري ما اشتريت قال نعم اشتريتك وهذه الجارية قال لا والله ما اشتريت إلا العار والدمار والفضيحة أبدا ما حييت فجزع الرجل وقال له كيف ذاك ويلك قال نحن ليزيد ابن مفرغ ووالله ما أصاره إلى هذه الحال إلا لسانه وشره أفتراه يهجو عبادا وهو أمير خراسان وأخوه عبيد الله أمير العراقين وعمه الخليفة معاوية بن أبي سفيان في أن استبطأه ويمسك عنك وقد ابتعتني وابتعت هذه الجارية وهي نفسه التي بين جنبيه ووالله ما أرى أحدا أدخل بيته أشأم على نفسه وأهله مما أدخلته منزلك فقال أشهدك أنك وإياها له فإن شئتما أن تمضيا إليه فامضيا وعلى أني أخاف على نفسي إن بلغ ذلك ابن زياد وإن شئتما أن تكونا له عندي فافعلا قال فاكتب إليه بذلك فكتب الرجل إلى ابن مفرغ إلى الحبس بما فعله فكتب إليه يشكر فعله وسأله أن يكونا عنده حتى يفرج الله عنه
وقال عباد لحاجبه ما أرى هذا يعني ابن مفرغ يبالي بالمقام في الحبس

345
فبع فرسه وسلاحه وأثاثه واقسم ثمنها بين غرمائه ففعل ذلك وبقيت عليه بقية حبسه بها فقال ابن مفرغ في بيعهما
(شريت بردا ولو ملكت صفقته
* لما تطلبت في بيع له رشدا)
(لولا الدعي ولولا ما تعرض لي
* من الحوادث ما فارقته أبدا)
(يا برد ما مسنا دهر أضر بنا
* من قبل هذا ولا بعنا له ولدا)
معنى شريت بعت وهو من الأضداد يقع على الشراء والبيع
والأبيات أكثر من هذا فتركت الباقي
وعلم ابن مفرغ أنه إن أقام على ذم عباد وهجائه وهو في حبسه زاد نفسه شرا فكان يقول للناس إذا سألوه عن حبسه ما سببه رجل أدبه أميره ليقوم من أوده ويكف من غربه وهذا لعمري خير من جر الأمير ذيله على مداهنة صاحبه
فلما بلغ ذلك عبادا رق له وأخرجه من السجن فهرب حتى أتى البصرة ثم خرج منها إلى الشام وجعل يتنقل في مدنها هاربا ويهجو زيادا وولده فمن ذلك قوله في ترك سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه واتباعه عباد بن زياد وذكر بيع برد عليه
(أصرمت حبلك من أمامه
* من بعد أيام برامه)
(فالريح تبكي شجوها
* والبرق يضحك في الغمامة)
(لهفي على الأمر الذي
* كانت عواقبه ندامه)
(تركي سعيدا ذا الندى
* والبيت ترفعه الدعامة)
(ليثا إذا شهد الوغى
* ترك الهوى ومضى أمامه)
(فتحت سمرقند له
* وبنى بعرصتها خيامه)
(وتبعت عبد بني علاج
* تلك أشراط القيامة)
(جاءت به حبشية
* سكاء تحسبها نعامه)
(من نسوة سود الوجوه
* ترى عليهن الدمامه)
(وشريت بردا ليتني
* من بعد برد كنت هامه)

346
(هامة إذ تدعو صدى
* بين المشقر واليمامة)
(فالهول يركبه الفتى
* حذر المخازي والسآمه)
(والعبد يقرع بالعصا
* والحر تكفيه الملامه)
قلت قوله وتبعت عبد بني علاج بنو علاج بطن من ثقيف وسيأتي ذكره عند ذكر الحارث بن كلدة في هذه الترجمة إن شاء الله تعالى قاله أبو بكر ابن دريد في كتاب الاشتقاق وأنشد عليه
(آل أبي بكرة استفيقوا
* هل تعدك الشمس بالسراج)
(إن ولاء النبي أعلى
* من دعوة في بني علاج)
وهذا القول له سبب يذكر عند ذكر أبي بكرة نفيع بن الحارث في هذه الترجمة إن شاء الله تعالى
وقوله في البيت الآخر سكاء تحسبها نعامة يقال أذن سكاء إذا كانت صغيرة والسكاء أيضا التي لا أذن لها والعرب تقول كل سكاء تبيض وكل شرفاء تلد والشرفاء التي لها أذن طويلة والسكاء بفتح السين المهملة وتشديد الكاف والشرفاء بفتح الشين المعجمة وسكون الراء وبعدها فاء والضابط عندهم فيه أن كل حيوان له أذن ظاهرة فإنه يلد
وكل حيوان ليست له أذن ظاهرة فإنه يبيض
قال الراوي ثم إن ابن مفرغ لج في هجاء بني زياد حتى تغنى أهل البصرة في أشعاره فطلبه عبيد الله طلبا شديدا حتى كاد يؤخذ فلحق بالشام واختلف الرواة فيمن رده إلى ابن زياد فقال بعضهم رده معاوية بن أبي سفيان وقال بعضهم بل رده يزيد بن معاوية والصحيح أنه يزيد لأن عبادا إنما ولي سجستان في أيام يزيد

347
قلت ثم ذكر صاحب الأغاني عقيب هذا الفصل أن سعيد بن عثمان ابن عفان رضي الله عنه دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال له علام جعلت ولدك يزيد ولي عهدك دوني فوالله لأبي خير من أبيه وأمي خير من أمه وأنا خير منه وقد وليناك فما عزلناك وبنا نلت ما نلت فقال له معاوية أما قولك إن أباك خير من أبيه فقد صدقت لعمر الله إن عثمان لخير مني وأما قولك إن أمك خير من أمه فحسب المرأة أن تكون في بيت قومها وأن يرضاها بعلها وينجب ولدها وأما قولك إنك خير من يزيد فوالله يا بني ما يسرني أن لي بيزيد ملء الغوطة مثلك وأما قولك إنكم وليتموني فما عزلتموني فما وليتموني وإنما ولاني من هو خير منكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقررتموني وما كنت بئس الوالي لكم لقد قمت بثاركم وقتلت قتلة أبيكم وجعلت الأمر فيكم وأغنيت فقيركم ورفعت الوضيع منكم فكلمه يزيد في أمره فولاه خراسان
رجعنا إلى حديث ابن مفرغ
قال الراوي ولم يزل يتنقل في قرى الشام ويهجو بني زياد وأشعاره تنقل إلى البصرة
فكتب عبيد الله بن زياد أمير العراق إلى معاوية وقيل إلى يزيد وهو الأصح يقول إن ابن مفرغ هجا زيادا وبني زياد بما هتكه في قبره وفضح بنيه طول الدهر وتعدى إلى أبي سفيان فقذفه بالزنا وسب ولده وهرب من سجستان وطلبته حتى لفظته الأرض وهرب من الشام يتمضغ لحومنا ويهتك أعراضنا وقد بعثت إليك بما قد هجانا به لتنتصف لنا منه
ثم بعث بجميع ما قاله ابن مفرغ فيهم فأمر يزيد بطلبه فجعل يتنقل في البلاد حتى لفظته الشام فأتى البصرة ونزل على الأحنف بن قيس قلت وهو الذي يضرب به المثل في الحلم وقد سبق ذكره واسمه الضحاك قال فاستجار

348
به فقال له الأحنف إني لا أجير على ابن سمية فأغرك وإنما يجير الرجل على عشيرته وأما على سلطانه فلا
ثم إنه مشى على غيره فلم يجره أحد فأجاره المنذر بن الجارود العبدي وكانت ابنته تحت عبيد الله بن زياد وكان المنذر من أكرم الناس عليه فاغتر بذلك وأدل بموضعه منه وطلبه عبيد الله وقد بلغه وروده البصرة فقيل له أجاره المنذر بن الجارود فبعث عبيد الله إلى المنذر فأتاه فلما دخل عليه بعث عبيد الله بالشرط فكسبوا داره وأتوه بابن مفرغ فلم يشعر ابن الجارود إلا بابن مفرغ قد أقيم على رأسه فقام ابن الجارود إلى عبيد الله فكلمه فيه فقال أذكرك الله أيها الأمير أن تخفر جواري فإني قد أجرته فقال عبيد الله يا منذر الله ليمدحن أباك ويمدحنك وقد هجاني وهجا أبي ثم تجيره علي لاها الله لا يكون ذلك أبدا ولا أغفرها له فغضب المنذر فقال له لعلك تدلي بكريمتك عندي إن شئت والله لأبيتها بتطليق البتة فخرج المنذر من عنده
وأقبل عبيد الله على ابن مفرغ فقال له بئس ما صحبت به عبادا فقال بل بئس ما صحبني عباد اخترته على سعيد بن عثمان وأنفقت على صحبته جميع ما أملكه وظننت أنه لا يخلو من عقل زياد وحلم معاوية وسماحة قريش فعدل عن ظني كله ثم عاملني بكل قبيح وتناولني بكل مكروه من حبس وغرم وشتم وضرب فكنت كمن شام برقا خلبا في سحاب جهام فأراق ماءه طمعا فيه فمات عطشا وما هربت من أخيك إلا لما خفت أن يجري في ما يندم عليه وقد صرت الآن في يديك فشأنك فاصنع بي ما شئت
فأمر بحبسه وكتب إلى يزيد بن معاوية يسأله أن يأذن له في قتله فكتب إليه يزيد إياك وقتله ولكن تناوله بما ينكله ويشد سلطانك ولا يبلغ نفسه فإن له عشيرة هي جندي وبطانتي ولا ترضى بقتله مني ولا تقنع إلا بالقود منك فاحذر ذلك واعلم أنه الجد منهم ومني وأنك مرتهن بنفسه ولك في دون تلفها مندوحة تشفي من الغيظ
فورد الكتاب على عبيد الله فأمر بابن مفرغ فسقي نبيذا حلوا قد خلط معه الشبرم وقيل التربذ فأسهل بطنه فطيف به وهو على

349
تلك الحال وقرن بهرة وخنزيرة فجعل يسلخ والصبيان يتبعونه ويصيحون وألح عليه ما يخرج منه حتى أضعته فسقط فقيل لعبيد الله لا نأمن أن يموت فأمر به أن يغسل ففعلوا فلما اغتسل قال
(يغسل الماء ما فعلت وقولي
* راسخ منك في العظام البوالي)
فرده عبيد الله إلى الحبس وقيل لعبيد الله كيف اخترت له هذه العقوبة فقال لأنه سلخ علينا فأحببت أن تسلخ الخنزيرة عليه
وكان فيما قاله ابن مفرغ في عباد بن زياد من جملة أبيات عديدة
(إذا أودى معاوية بن حرب
* فبشر شعب قفيك بانصداع)
(فأشهد أن أمك لم تباشر
* أبا سفيان واضعة القناع)
(ولكن كان أمرا فيه لبس
* على وجل شديد وارتياع)
وقال أيضا
(ألا أبلغ معاوية بن صخر
* مغلغلة عن الرجل اليماني)
(أتغضب أن يقال أبوك عف
* وترضى أن يقال أبوك زاني)
(فأشهد أن رحمك من زياد
* كرحم الفيل من ولد الأتان)
(وأشهد أنها ولدت زيادا
* وصخر من سمية غير دان)
قلت قوله فأشهد أن رحمك من زياد البيت الثالث أخذه من قول أبي الوليد وقيل أبي عبد الرحمن حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه في بيت من جملة أبيات وهي قوله
(لعمرك إن إلك من قريش
* كإل السقب من رأل النعام)
الإل بكسر الهمزة وتشديد اللام وهو الرحم والسقب بفتح السين

350
المهملة وسكون القاف وبعدها باء موحدة وهو الذكر من ولد الناقة والرأل بفتح الراء وبعدها همزة وفي آخره لام وهو ولد النعام
(340) وهذه الأبيات قالها حسان في أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن هاشم وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان أخاه من الرضاعة أرضعتهما حليمة ابنة أبي ذؤيب السعدية وكان من أكثر الناس شبها برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له فيه هجاء وكان حسان يجاوب عنه فمن ذلك هذه الأبيات الميمية المقدم ذكره ومنها قوله
(ألا أبلغ أبا سفيان عني
* مغلغلة فقد برح الخفاء)
(هجوت محمدا فأجبت عنه
* وعند الله في ذاك الجزاء)
(أتهجوه ولست له بكفء
* فشركما لخيركما الفداء)
(فإن أبي ووالده وعرضي
* لعرض محمد منكم وقاء)
وقوله فشركما لخيركما الفداء فيه كلام لأهل العلم لأجل شر وخير لأنهما من أداة التفضيل وتقتضي المشاركة
وإنما أجابه حسان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك
قلت والجماعة الذين كانوا يشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهله خمسة أبو سفيان المذكور والحسن بن علي بن أبي طالب وجعفر بن أبي طالب وقثم بن العباس بن عبد المطلب والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم ابن المطلب بن عبد مناف وهو جد الإمام الشافعي رضي الله عنهم أجمعين
ثم إن أبا سفيان أسلم عام الفتح وكان ذلك في السنة الثامنة من الهجرة وحسن إسلامه وخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وحنين
ولما انهزم المسلمون يوم حنين كان أبو سفيان أحد السبعة الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع إليهم المسلمون وكانت النصرة لهم وكسبوا من الغنائم ستة آلاف رأس من الرقيق
ثم من النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فأطلقهم والشرح في ذلك يطول وليس هذا موضعه
وكان أبو سفيان

351
المذكور يومئذ ممسكا لجام بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفارقها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إني لأرجو أن يكون فيه خلف من حمزة بن عبد المطلب وشهد له بالجنة فقال أبو سفيان بن الحارث من شباب أهل الجنة أو سيد فتيان أهل الجنة والله أعلم
وأكثر العلماء يقولون اسمه كنيته ليس له اسم سواها وقيل إن اسمه المغيرة وقيل المغيرة أخوه وهو أبو سفيان لا غير
ويقال إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه لما تقدم من هجائه
رجعنا إلى حديث ابن مفرغ
وهو من شعراء الحماسة وهو القائل
(ألا طرقتنا آخر الليل زينب
* عليك سلام هل لما فات مطلب)
قيل أراد بالليل الشباب
(وقالت تجنبنا ولا تقربننا
* فكيف وأنتم حاجتي أتجنب)
(يقولون هل بعد الثلاثين ملعب
* فقلت وهل قبل الثلاثين ملعب)
(لقد جل خطب الشيب إن كان كلما
* بدت شيبة يعرى من اللهو مركب) وذكر المظفري الأندلسي في تاريخه الكبير في جملة هذه الأبيات
(فلو أن لحمي إذ وهى لعبت به
* كرام ملوك أو أسود وأذؤب)
(لهون من وجدي وسلى مصيبتي
* ولكنما أودى بلحمي أكلب)

352
(341) ولما بلغ الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وفاة معاوية ابن أبي سفيان وبيعة ولده يزيد بن معاوية عزم على قصد الكوفة بمكاتبة جماعة من أهلها كما هو مشهور في هذه الواقعة التي قتل فيها الحسين رضي الله عنه فكان في تلك المدة يتمثل كثيرا بقول يزيد بن مفرغ المذكور من جملة أبيات
(لا ذعرت السوام في غلس الصبح
* مغيرا ولا دعيت يزيدا)
(يوم أعطي على المخافة ضيما
* والمنايا يرصدنني أن أحيدا)
فعلم من سمع ذلك منه أنه سينازع يزيد بن معاوية في الأمر
فخرج الحسين إلى الكوفة وأميرها يومئذ عبيد الله بن زياد فلما قرب منها سير إليه جيشا مقدمه عمر بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقتل الحسين رضي الله عنه بالطف وجرى ما جرى
وروي أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى الحسين رضي الله عنه إني لأظن في رأسك نزوة ولا بد لك من إظهارها وددت لو أدركتها فأغتفرها لك
وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال لو كنت من قتلة الحسين وغفر الله لي وأدخلني الجنة لما دخلتها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال عبيد الله بن زياد لحارثة بن بدر الغداني ما تقول في وفي الحسين يوم القيامة قال يشفع له أبوه وجده صلى الله عليه وسلم ويشفع لك أبوك وجدك فاعرف من هاهنا ما تريد
نقلت من كتاب تاريخ شمس الدين أبي المظفر يوسف بن قزغلي المعروف بسبط الحافظ جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي الواعظ الذي سماه مرآة الزمان ورأيته بخطه في أربعين مجلدا بدمشق وقد رتبه على السنين فقال في السنة التاسعة والخمسين للهجرة بعد أن قص حديث يزيد بن مفرغ مع بني

353
زياد فقال في آخر الحديث ومات يزيد بن مفرغ في سنة تسع وستين يعني للهجرة والله أعلم
وقال أبو اليقظان في كتاب النسب مات عباد بن زياد في سنة مائة للهجرة بجرود
قلت وجرود بفتح الجيم وضم الراء وسكون الواو وبعدها دال مهملة وهي قرية من أعمال دمشق من جهة حمص ويكون في أرضها من حمير الوحش شيء كثير يجاوز الحصر ولما وصل بعض عسكر الديار المصرية إلى الشام في أثناء سنة ستين وستمائة وتوجهوا بعسكر الشام إلى أنطاكية وكنت يومئذ بدمشق أقاموا عليها قليلا ثم عادوا فدخلوا دمشق في سلخ شعبان من السنة وأخبرني بعضهم بقضية غريبة يصلح أن تذكر هاهنا لغرابتها وهي أنهم نزلوا على جرود المذكورة واصطادوا من الحمر الوحشية شيئا كثيرا على ما قالوا فذبح واحد من الجماعة حمارا وطبخ لحمه الطبخ المعتاد فلم ينضج ولا قارب النضج فزاد في الحطب والإيقاد فلم يؤثر فيه شيئا ومكث يوما كاملا يفعل ذلك وهو لا يفيد فقام شخص من الجند وأخذ الرأس يقلبه فوجد على أذنه وسما فقرأه فإذا هو بهرام جور فلما وصلوا إلى دمشق أحضروا تلك الأذن عندي فوجدت الوسم ظاهرا وقد رق شعر الأذن إلى أن بقي كالهباء وبقي موضع الوسم أسود وهو بالقلم الكوفي
(342) وهذا بهرام جور من ملوك الفرس وكان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل وكان من عاداته أنه إذا كثر عليه ما يصطاده وسمه وأطلقه والله أعلم
كم كان عمر الحمار لما وسمه والله يعلم لو تركوه ولم يذبحوه كم كان يعيش
وعلى الجملة فإن حمار الوحش من الحيوانات المعمرة وهذا الحمار لعله عاش ثمانمائة سنة أو أكثر
وهذه جرود في أرضها جبل المدخن المشهور وقد ذكره أبو نواس في قصيدته التي ذكر فيها المنازل لما قصد الخصيب بمصر فقال

354
(ووافين إشراقا كنائس تدمر
* وهن إل رعن المدخن صور)
والمدخن بضم الميم وبالدال المهملة وفتح الخاء المعجمة المشددة وبعدها نون وسمي المدخن لأنه لا يزال عليه مثل الدخان من الضباب
ثم بعد هذا وجدت في كتاب مفاتيح العلوم تأليف محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الخوارزمي أن بهرام جور بن بهرام بن سابور الجنود بن سابور ذي الأكتاف سمي بهرام جور لأنه كان مولعا بصيد العير وهو الحمار الوحشي والأهلي أيضا انتهى كلامه ثم إني حسبت مدة ملكهم بعد هذا فكانت إلى سنة الهجرة النبوية مقدار مائتين وست عشرة سنة فقد عاش هذا الحمار منذ وسمه بهرام جور إلى أن ذبح في سنة ستين وستمائة مقدار ثمانمائة سنة وأكثر والله أعلم
قلت وقد تكرر في هذه الترجمة حديث زياد وبنيه وسمية وأبي سفيان ومعاوية وهذه الأشعار التي قالها يزيد بن مفرغ فيهم ومن لا يعرف هذه الأسباب قد يتشوف إلى الاطلاع عليها فنورد منها شيئا مختصرا فأقول
(343) إن أبا الجبر الملك الذي ذكره أبو بكر ابن دريد في المقصورة المشهورة في البيت الذي يقوله فيها وهو
(وخامرت نفس أبي الجبر الجوى
* حتى حواه الحتف فيمن قد حوى)
كان أحد ملوك اليمن واسمه كنيته وقيل هو أبو الجبر يزيد بن شرحبيل الكندي وقيل أبو الجبر بن عمرو وتغلب عليه قومه فخرج إلى بلاد فارس يستجيش كسرى عليهم فبعث معه جيشا من الأساورة فلما صاروا إلى كاظمة ونظروا إلى وحشة بلاد العرب وقلة خيرها قالوا إلى أين نمضي مع هذا

355
فعمدوا إلى سم فدفعوه إلى طباخه ووعدوه بالإحسان إليه أن ألقى ذلك السم في طعام الملك ففعل ذلك فما استقر الطعام في جوفه حتى اشتد وجعه فلما علم الأساورة ذلك دخلوا عليه فقالوا له إنك قد بلغت إلى هذه الحالة فاكتب لنا إلى الملك كسرى أنك قد أذنت لنا في الرجوع فكتب لهم بذلك
ثم إن أبا الجبر خف ما به فخرج إلى الطائف البليدة التي بالقرب من مكة وكان بها الحارث بن كلدة طبيب العرب الثقفي فعالجه فأبرأه فأعطاه سمية بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء المثناة من تحتها وفي آخره هاء وعبيدا بضم العين المهملة تصغير عبد وكان كسرى قد أعطاهما أبا الجبر في جملة ما أعطاه ثم ارتحل أبو الجبر يريد اليمن فانتقضت عليه العلة فمات في الطريق
(344) ثم إن الحارث بن كلدة الثقفي زوج عبيدا المذكور سمية المذكورة فولدت سمية زيادا على فراش عبيد وكان يقال له زياد بن عبيد وزياد بن سمية وزياد ابن أبيه وزياد ابن أمه وذلك قبل أن يستلحقه معاوية كما سيأتي إن شاء الله تعالى وولدت سمية أيضا أبا بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة المذكور ويقال نفيع بن مسروح وهو الصحابي المشهور بكنيته رضي الله عنه وولدت أيضا شبل بن معبد ونافع بن الحارث وهؤلاء الإخوة الأربعة هم الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا وسيأتي خبر ذلك بعد الفراغ من حديث زياد إن شاء الله تعالى وكان أبو سفيان صخر بن حرب الأموي والد معاوية بن أبي سفيان يتهم في الجاهلية بالترداد إلى سمية المذكورة فولدت سمية زيادا في تلك المدة لكنها ولدته على فراش زوجها عبيد
ثم إن زيادا كبر وظهرت منه النجابة والبلاغة وهو أحد الخطباء المشهورين في العرب بالفصاحة والدهاء والعقل الكثير حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد استعمل أبا موسى الأشعري رضي الله عنه على البصرة فاستكتب زياد ابن أبيه
ثم إن زيادا قدم على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى فأعجب به عمر رضي الله عنه فأمر له بألف درهم ثم تذكرها بعدما مضى فقال لقد ضاع ألف أخذها زياد فلما

356
قدم عليه بعد ذلك قال له ما فعل ألفك يا زياد قال اشتريت بها عبيدا فأعتقته يعني أباه قال ما ضاع ألفك يا زياد هل أنت حامل كتابي إلى أبي موسى في عزلك عن كتابته قال نعم يا أمير المؤمنين إن لم يكن ذلك عن سخطة قال ليس عن سخطة قال فلم تأمره بذلك قال كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك
واستكتب أبو موسى بعد زياد أبا الحصين ابن أبي الحر العنبري فكتب إلى عمر رضي الله عنه كتابا فلحن في حرف منه فكتب إليه أن قنع كاتبك سوطا
وكان عمر رضي الله عنه إذا وفد إليه من البصرة رجل أحب أن يكون زيادا ليشفيه من الخبر
وكان عمر رضي الله عنه قد بعثه في إصلاح فساد وقع باليمن فرجع من وجهه وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها فقال عمرو ابن العاص أما والله لو كان هذا الغلام من قريش لساق العرب بعصاه فقال أبو سفيان والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن هو يا أبا سفيان قال أنا قال مهلا أبا سفيان فقال أبو سفيان
(أما والله لولا خوف شخص
* يراني يا علي من الأعادي)
(لأظهر سره صخر بن حرب
* ولم يكن المقالة عن زياد)
(وقد طالت مجاملتي ثقيفا
* وتركي فيهم ثمر الفؤاد)
فلما صار الأمر إلى علي رضي الله عنه وجه زيادا إلى فارس فضبط البلاد وحمى وجبى وأصلح الفساد فكاتبه معاوية يروم إفساده على علي رضي الله عنه فلم يفعل ووجه بكتابه إلى علي وفيه شعر تركته فكتب إليه علي إنما وليتك ما وليتك وأنت أهل لذلك عندي ولن تدرك ما تريده مما أنت فيه إلا بالصبر واليقين وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر رضي الله عنه لا تستحق بها نسبا ولا ميراثا وإن معاوية يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه فاحذره ثم احذره والسلام
فلما قرأ زياد الكتاب قال شهد لي أبو الحسن

357
ورب الكعبة فذلك الذي جرأ زيادا ومعاوية على ما صنعا
فلما قتل علي رضي الله عنه وتولى ولده الحسن رضي الله عنه ثم فوض الأمر إلى معاوية كما هو مشهور أراد معاوية استمالة زياد إليه وقصد تأليف قلبه ليكون معه كما كان مع علي رضي الله عنه فتعلق بذلك القول الذي صدر من أبيه بحضرة علي وعمرو بن العاص فاستلحق زيادا في سنة أربع وأربعين للهجرة فصار يقال له زياد بن أبي سفيان
فلما بلغ أخاه أبا بكرة أن معاوية استلحقه وأنه رضي ذلك حلف يمينا أن لا يكلمه أبدا وقال هذا زنى أمه وانتفى من أبيه والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط ويله ما يصنع بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم أيريد أن يراها فإن حجبته فضحته وإن رآها فيا لها مصيبة يهتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة عظيمة
وحج زياد في زمن معاوية ودخل المدينة فأراد الدخول على أم حبيبة لأنها أخته على زعمه وزعم معاوية ثم ذكر قول أخيه أبي بكرة فانصرف عن ذلك
وقيل إن أم حبيبة حجبته ولم تأذن له في الدخول عليها وقيل أنه حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة وقال جزى الله أبا بكرة خيرا فما يدع النصيحة على حال
وقدم زياد على معاوية وهو نائب عنه

358
وحمل معه هدايا جليلة من جملتها عقد نفيس فأعجب به معاوية فقال زياد يا أمير المؤمنين دوخت لك العراق وجبيت لك برها وبحرها وحملت إليك لبها وسرها وكان يزيد بن معاوية جالسا فقال له أما إنك إذ فعلت ذلك فإنا نقلناك من ثقيف إلى قريش ومن عبيد إلى أبي سفيان ومن القلم إلى المنابر فقال له معاوية حسبك وريت بك زنادي
وقال أبو الحسن المدائني أخبرنا أبو الزبير الكاتب عن ابن إسحاق قال اشترى زياد أباه عبيدا فقدم زياد على عمر رضي الله عنه فقال له ما صنعت بأول شيء أخذت من عطائك قال اشتريت به أبي قال فأعجب ذلك عمر رضي الله عنه وهذا ينافي استلحاق معاوية إياه والله أعلم
ولما ادعى معاوية زيادا دخل عليه بنو أمية وفيهم عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان بن الحكم الأموي فقال يا معاوية لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلة وذلة فأقبل معاوية على أخيه مروان بن الحكم وقال أخرج عنا هذا الخليع فقال مروان والله إنه لخليع ما يطاق قال معاوية والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق ألم يبلغني شعره في وفي زياد ثم قال لمروان أسمعنيه فقال
(ألا أبلغ معاوية بن صخر
* لقد ضاقت بما تأتي اليدان)
(أتغضب أن يقال أبوك عف
* وترضى أن يقال أبوك زان)
وقد تقدم ذكر بقية هذه الأبيات منسوبة إلى يزيد بن مفرغ وفيها خلاف هل هي ليزيد بن مفرغ أم لعبد الرحمن بن الحكم فمن رواها لابن مفرغ روى البيت الأول على تلك الصورة ومن رواها لعبد الرحمن رواها على هذه الصورة
ولما استلحق معاوية زيادا وقربه وأحسن إليه وولاه صار من أكبر الأعوان على بني علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى قيل إنه لما كان أمير العراقين طلب رجلا من أصحاب الحسن بن علي رضي الله عنهما يعرف بابن سرح وكان في الأمان الذي كتب لأصحاب الحسن رضي الله عنه لما نزل

359
عن الخلافة لمعاوية فكتب الحسن إلى زياد من الحسن إلى زياد أما بعد فقد علمت ما كنا أخذنا لأصحابنا من الأمان وقد ذكر لي ابن سرح أنك عرضت له فأحب أن لا تعرض له إلا بخير والسلام
فلما أتاه الكتاب وقد بدأ فيه بنفسه ولم ينسبه إلى أبي سفيان غضب وكتب إليه من زياد ابن أبي سفيان إلى الحسن أما بعد فإنه أتاني كتابك في فاسق تؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك وأيم الله لأطلبنه ولو كان بين جلدك ولحمك وإن أحب الناس إلي لحما أن آكله للحم أنت منه
فلما قرأه الحسن رضي الله عنه بعث به إلى معاوية فلما قرأه غضب وكتب إلى زياد من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد أما بعد فإن الحسن بن علي بعث إلي كتابك إليه جواب كتابه كان إليك في ابن سرح فأكثرت التعجب منه وقد علمت أن لك رأيين رأي من أبي سفيان ورأي من سمية فأما رأيك من أبي سفيان فحلم وحزم وأما رأيك من
سمية فكما يكون رأي مثلها ومن ذلك كتابك إلى الحسن تسميه وتعرض له بالفسق ولعمري لأنت أولى بذلك منه فإن كان الحسن بدأ بنفسه ارتفاعا عنك فإن ذلك لن يضعك وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك فإذا أتاك كتابي فخل ما بيدك لابن سرح ولا تعرض له فيه فقد كتبت إلى الحسن يخيره إن شاء أقام عنده وإن شاء رجع إلى بلده وإنه ليس لك عليه سبيل بيد ولا لسان
وأما كتابك إلى الحسن باسمه ولا تنسبه إلى أبيه فإن الحسن ويحك ممن لا يرمى به الرجوان أفاستصغرت أباه وهو علي ابن أبي طالب أم إلى أمه وكلته وهي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك أفخر له إن كنت عقلت والسلام
قوله لا يرمى به الرجوان بفتح الراء الجيم وهو لفظ مثنى ومعناه المهالك
قلت وقد رويت هذا الحكاية على صورة أخرى وهي كان سعيد

360
ابن سرح مولى كريز بن حبيب بن عبد شمس من شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما قدم زياد ابن أبيه الكوفة واليا عليها أخافه وطلبه فأتى المدينة فنزل على الحسين بن علي رضي الله عنه فقال له الحسين ما السبب الذي أشخصك وأزعجك فذكر له قضيته وصنيع زياد به فكتب إليه الحسين أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم فهدمت داره وأخذت ماله وعياله فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره واردد عليه ماله وعياله فإني قد أجرته فشفعني فيه فكتب إليه زياد من زياد بن أبي سفيان إلى الحسين بن فاطمة أما بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه باسمك قبل اسمي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقة وكتابك إلي في فاسق لا يؤويه إلا فاسق مثله وشر من ذلك توليه أباك وقد آويته إقامة منك على سوء الرأي ورضى بذلك وأيم الله لا تسبقني إليه ولو كان بين جلدك ولحمك فإن أحب لحم إلي أن آكله للحم أنت منه فأسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك وإن قتلته لم أقتله إلا بحبه أباك
فلما قرأ الحسين رضي الله عنه الكتاب كتب إلى معاوية يذكر له حال ابن سرح وكتابه إلى زياد فيه وإجابة زياد إياه ولف كتابه في كتابه وبعث به إليه وكتب الحسين إلى زياد من الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زياد بن سمية عبد بني ثقيف الولد للفراش وللعاهر الحجر
فلما قرأ معاوية كتاب الحسين رضي الله عنه ضاقت به الشام وكتب إلى زياد أما بعد فإن الحسين بن علي بعث إلي بكتابك جواب كتابه إليك في ابن سرح فأكثرت التعجب منه وعلمت أن لك رأيين أحدهما من أبي سفيان وآخر من سمية فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم وأما الذي من سمية فكما يكون رأي مثلها ومن ذلك كتابك إلى الحسين تشتم أباه وتعرض له بالفسق ولعمري لأنت أولى بالفسق من الحسين ولأبوك إذ كنت تنسب إلى عبيد أولى بالفسق من أبيه وإن كان الحسين بدأ بنفسه ارتفاعا عنك فإن ذلك لم يضعك وأما تشفيعه فيما شفع إليك فيه فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك فإذا قدم عليك كتابي هذا فخل ما في يدك لسعيد بن سرح وابن له

361
داره ولا تعذر له واردد عليه ماله فقد كتبت إلى الحسين أن يخبر صاحبه بذلك فإن شاء أقام عنده وإن شاء رجع إلى بلده فليس لك عليه سلطان بيد ولا لسان وأما كتابك إلى الحسين باسمه واسم أمه لا تنسبه إلى أبيه فإن الحسين ويلك ممن لا يرمى به الرجوان أإلى أمه وكلته لا أم لك فهي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلك أفخر له إن كنت تعقل والسلام
وقال عبيد الله بن زياد ما هجيت بشيء أشد على من قول ابن مفرغ
(فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر
* هل نلت مكرمة إلا بتأمير)
(عاشت سمية ما عاشت وما علمت
* أن ابنها من قريش في الجماهير)
وقال قتادة قال زياد لبنيه وقد احتضر ليت أباكم كان راعيا في أدناها وأقصاها ولم يقع بالذي وقع به
قلت فبهذا الطريق كان ينظم ابن مفرغ هذه الأشعار في زياد وبنيه ويقول إنهم أدعياء حتى قال في زياد وأبي بكرة ونافع أولاد سمية
(إن زيادا ونافعا وأبا
* بكرة عندي من أعجب العجب)
(هم رجال ثلاثة خلقوا
* في رحم أنثى وكلهم لأب)
(ذا قرشي كما يقول وذا
* مولى وهذا بزعمه عربي)
(345) وهذه الأبيات تحتاج إلى زيادة إيضاح فأقول قال أهل العلم بالأخبار إن الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة ابن عوف بن قسي وهو ثقيف هكذا ساق هذا النسب ابن الكلبي في كتاب الجمهرة وهو طبيب العرب المشهور ومات في أول الإسلام وليس يصح إسلامه وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن أبي وقاص

362
أن يأتي الحارث يستوصفه في مرض نزل به فدل ذلك على أنه جائز أن يشاور أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله
وكان ولده الحارث بن الحارث من المؤلفة قلوبهم وهو معدود في جملة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ويقال إن الحارث بن كلدة كان رجلا عقيما لا يولد له وإنه مات في خلافة عمر رضي الله عنه
(346) ولما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف قال أيما عبد تدلى إلي فهو حر فنزل أبو بكرة رضي الله عنه من الحصن في بكرة قلت وهي بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وبعدها راء ثم هاء وهي التي تكون على البئر وفيها الحبل يستقى به والناس يسمونها بكرة بفتح الكاف وهو غلط إلا أن صاحب كتاب مختصر العين حكاها بالفتح أيضا وهي لغة ضعيفة لم يحكها غيره قال فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكرة لذلك وكان يقول أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأراد أخوه نافع أن يدلي نفسه في البكرة أيضا فقال له الحارث بن كلدة أنت ابني فأقم فأقام ونسب إلى الحارث وكان أبو بكرة قبل أن يحسن إسلامه ينسب إلى الحارث أيضا
فلما حسن إسلامه ترك الانتساب إليه
ولما هلك الحارث بن كلدة لم يقبض أبو بكرة من ميراثه شيئا تورعا هذا عند من يقول إن الحارث أسلم وإلا فهو محروم من الميراث لاختلاف الدين
فلهذا قال ابن مفرغ الأبيات الثلاثة البائية لأن زيادا ادعى أنه قرشي باستلحاق معاوية له وأبو بكرة اعترف بولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ونافع كان يقول إنه ابن الحارث بن كلدة الثقفي وأمهم واحدة وهي سمية المذكورة
وهذا سبب نظم البيتين في آل أبي بكرة كما تقدم ذكره وعلاج جد الحارث بن كلدة كما ذكرته

363
هذه قصة زياد وأولاده ذكرتها مختصرة
قلت إلا أن قول ابن مفرغ في البيت الثاني وكلهم لأب ليس بجيد فإن زيادا ما نسبه أحد إلى الحارث ابن كلدة بل هو ولد عبيد لأنه ولد على فراشه
وأما أبو بكرة ونافع فقد نسبا إلى الحارث فكيف يقول وكلهم لأب فتأمله
وذكر ابن النديم في كتابه الذي سماه الفهرست أن أول من ألف كتابا في المثالب زياد ابن أبيه فإنه لما طعن عليه وعلى نسبه عمل ذلك لولده وقال لهم استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم
وأما حديث المغيرة بن شعبة الثقفي والشهادة عليه فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد رتب المغيرة أميرا على البصرة وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار وكان أبو بكرة المذكور يلقاه فيقول أين يذهب الأمير فيقول في حاجة فيقول إن الأمير يزار ولا يزور
قالوا وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن وهب الجشمي
وقال ابن الكلبي في كتاب جمهرة النسب هي أم جميل بنت الأفقم بن محجن بن أبي عمرو بن شعيثة ابن الهزم وعدادهم في الأنصار
وزاد غير ابن الكلبي فقال الهزم بن رؤيبة ابن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن والله أعلم
قال الراوي فبينما أبو بكرة في غرفة مع إخوته وهم نافع وزياد المذكوران وشبل بن معبد والجميع أولاد سمية المذكورة فهم إخوة لأم وكانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة فضربت الريح باب غرفة أم جميل ففتحته ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع فقال أبو بكرة هذه بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال له إنه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا قال وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر

364
ومضى أبو بكرة فقال لا والله لا تصلي بنا وقد فعلت ما فعلت فقال الناس دعوه فليصل فإنه الأمير واكتبوا بذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتبوا إليه فأمرهم أن يقدموا عليه جميعا المغيرة والشهود فلما قدموا عليه جلس عمر رضي الله عنه فدعا بالشهود والمغيرة فتقدم أبو بكرة فقال له رأيته بين فخذيها قال نعم والله لكأني أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها فقال له المغيرة لقد ألطفت في النظر فقال أبو بكرة لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به فقال عمر رضي الله عنه لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة فقال نعم أشهد على ذلك فقال فاذهب عنك مغيرة ذهب ربعك ثم دعا نافعا فقال له علام تشهد قال على مثل شهادة أبي بكرة قال لا حتى تشهد أنه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة قال نعم حتى بلغ قذذه قلت القذذ بالقاف المضمومة وبعدها ذالان معجمتان وهي ريش السهم قال الراوي فقال له عمر رضي الله عنه اذهب مغيرة ذهب نصفك ثم دعا الثالث فقال له على ما تشهد فقال على مثل شهادة صاحبي فقال له عمر رضي الله عنه اذهب عنك مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك
ثم كتب إلى زياد وكان غائبا فقدم فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار فلما رآه مقبلا قال إني أرى رجلا لا يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين
ثم إن عمر رضي الله عنه رفع رأسه إليه فقال ما عندك يا سلح الحبارى فقيل إن المغيرة قام إلى زياد فقال لا مخبأ لعطر بعد عروس قلت وهذا مثل العرب لا حاجة إلى الكلام عليه فقد طالت هذه الترجمة كثيرا قال الراوي فقال له المغيرة يا زياد اذكر الله تعالى واذكر موقف يوم القيامة فإن الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي إلا أن تتجاوز إلى ما لم تر مما رأيت فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تر فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها قال فدمعت عينا زياد واحمر وجهه وقال يا أمير

365
المؤمنين أما إن أحق ما حق القوم فليس عندي ولكن رأيت مجلسا وسمعت نفسا حثيثا وانتهازا ورأيته مستبطنها فقال عمر رضي الله عنه رأيته يدخل كالميل في المكحلة
فقال لا وقيل قال زياد رأيته رافعا رجليها فرأيت خصييه تتردد إلى بين فخذيها ورأيت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا فقال عمر رضي الله عنه رأيت يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة فقال لا فقال عمر رضي الله عنه الله أكبر قم إليهم فاضربهم فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين وأعجبه قول زياد ودرأ الحد عن المغيرة
فقال أبو بكرة بعد أن ضرب أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا فهم عمر رضي الله عنه أن يضربه حدا ثانيا فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن ضربته فارجم صاحبك فتركه
واستتاب عمر أبا بكرة فقال إنما تستتيبني لتقبل شهادتي فقال أجل فقال لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا
فلما ضربوا الحد قال المغيرة الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم فقال عمر رضي الله عنه بل أخزى الله مكانا رأوك فيه
وذكر عمر بن شبة في كتاب أخبار البصرة أن أبا بكرة لما جلد أمرت أمه بشاة فذبحت وجعلت جلدها على ظهره فكان يقال ما ذاك إلا من ضرب شديد
وحكى عبد الرحمن بن أبي بكرة أن أباه حلف لا يكلم زيادا ما عاش فلما مات أبو بكرة كان قد أوصى أن لا يصلي عليه زياد وأن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما وبلغ ذلك زيادا فخرج إلى الكوفة
وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره
ثم إن أم جميل وافقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالموسم والمغيرة هناك فقال له عمر أتعرف هذه المرأة يا مغيرة قال نعم هذه أم كلثوم بنت علي فقال له عمر أتتجاهل علي والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء
قلت ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أول باب عدد الشهود في كتاب المهذب وشهد على المغيرة ثلاثة أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد

366
وقال زياد رأيت استا تنبو ونفسا يعلو ورجلين كأنهما أذنا حمار ولا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر الثلاثة ولم يحد المغيرة
قلت وقد تكلم الفقهاء على قول علي رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه إن ضربته فارجم صاحبك فقال أبو نصر ابن الصباغ المقدم ذكره وهو صاحب كتاب الشامل في المذهب يريد أن هذا القول إن كان شهادة أخرى فقد تم العدد وإن كان هو الأول فقد جلدته عليه والله أعلم
وذكر عمر بن شبة في أخبار البصرة أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعني البحرين فقال ومن يشهد لك بذلك قال المغيرة بن شعبة فأبى أن يجيز شهادته
قلت وقد طالت هذه الترجمة وسببه أنها اشتملت على عدة وقائع فدعت الحاجة إلى الكلام على كل واحدة منها فانتشر القول لأجل ذلك وما خلا عن فوائد
822 يزيد بن الطثرية الشاعر المشهور
أبو المكشوح يزيد بن سلمة بن سمرة بن سلمة الخير بن قشير بن كعب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة المعروف بابن الطثرية الشاعر المشهور هكذا ساق نسبه أبو عمرو الشيباني وإنما قيل لجده سلمة الخير لأنه كان لقشير ولد آخر يقال له سلمة الشر قال وقد قيل إنه يزيد بن المنتشر بن

367
سلمة
وذكر ابن الكلبي أنه يزيد بن الصمة أحد بني سلمة الخير بن قشير
وذكر البصريون أنه من ولد الأعور بن قشير
ذكر أبو الحسن علي بن عبد الله الطوسي في أول ديوان يزيد بن الطثرية المذكور وكان الطوسي قد اعتنى به وجمعه فقال كان ابن الطثرية شاعرا مطبوعا عاقلا فصيحا كامل الأدب وافر المروءة لا يعاب ولا يطعن عليه وكان سخيا شجاعا له أصل ومحل في قومه من قشير وكان من شعراء بني أمية مقدما عندهم
وقال غير الطوسي كان يزيد بن الطثرية يسمى مودقا سمي بذلك لحسن وجهه وحسن شعره وحلاوة حديثه فكانوا يقولون إنه إذا جلس بين النساء ودقهن يقال استودقت المرأة وودقت إذا مالت إلى الفحل لأجل الجماع والأصل في هذه اللفظة أن تكون لذوات الحافر ثم نقلت إلى بني آدم وهي بالدال المهملة والقاف والمودق هو الذي يجعل النساء يملن عليه وكان يزيد كثيرا ما يجلس عند النساء ويتحدث معهن ويقال إنه كان عنينا لا يأتي النساء
وليس له عقب وهو من أعيان الشعراء ذكره أبو تمام الطائي في كتاب الحماسة في عدة مواضع فمن ذلك قوله في باب النسيب
(عقيلية أما ملاث إزارها
* فدعص وأما خصرها فبتيل)
(تقيظ أكناف الحمى ويظلها
* بنعمان من وادي الأراك مقيل)
(أليس قليلا نظرة إن نظرتها
* إليك وكل ليس منك قليل)
(فيا خلة النفس التي ليس دونها
* لنا من أخلاء الصفاء خليل)
(ويا من كتمنا حبه لم يطع به
* عدو ولم يؤمن عليه دخيل)
(أما من مقام أشتكي غربة النوى
* وخوف العدا فيه إليك سبيل)
(فديتك أعدائي كثير وشقتي
* بعيد وأشياعي لديك قليل)
(فلا تحملي ذنبي وأنت ضعيفة
* فحمل دمي يوم الحساب ثقيل)

368
(وكنت إذا ما جئت جئت بعلة
* فأفنيت علاتي فكيف أقول)
(فما كل يوم لي بأرضك حاجة
* ولا كل يوم لي إليك رسول)
وكان أبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني قد جمع شعر يزيد ابن الطثرية أيضا في ديوان وأورد له قوله
(ألا بأبي من قد برى الجسم حبه
* ومن هو موموق إلى حبيب)
(ومن هو لا يزداد إلا تشوقا
* وليس يرى إلا عليه رقيب)
(وإني وإن أحموا علي كلامها
* وحالت أعاد دوننا وحروب)
(لمثن على ليلى ثناء يزينها
* قواف بأفواه الرجال تطيب)
(أليلى احذري نقض القوى لا يزل لنا
* على النأي والهجران منك نصيب)
(وكوني على الواشين لداء شغبة
* كما أنا للواشي ألد شغوب)
(فإن خفت ألا تحكمي مرة الهوى
* فردي فؤادي والمزار قريب)
وأورد له أيضا
(بنفسي من لو مر برد بنانه
* على كبدي كانت شفاء أنامله)
(ومن هابني في كل شيء وهبته
* فلا هو يعطيني ولا أنا سائله)
وأما أبو الحسن الطوسي فإنه أورد له
(وإني لأستحيي من الله أن أرى
* رديفا لوصل أو علي رديف)
(وأن أرد الماء الموطأ حنيه
* وأتبع وصلا منك وهو ضعيف)
قلت ورأيت في موضع آخر بعد البيت الأول

369
(وإني للماء المخالطه القذى
* وإن كثرت وراده لعيوف)
وأورد له الطوسي أيضا
(ألا رب راج حاجة لا ينالها
* وآخر قد تقضى له وهو جالس)
(يجول لها هذا وتقضى لغيره
* وتأتي الذي تقضى له وهو آيس)
وأورد له أيضا من جملة أبيات
(برغمي أطيل الصد عنها إذا نأت
* أحاذر أسماعا عليها وأعينا)
(أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
* فصادف قلبا خاليا فتمكنا)
وأورد له أيضا أبياتا منها قوله
(وقولا إذا عدت ذنوبا كثيرة
* علينا تجناها ذري ما تغيبا)
(هبيني امرأ إما بريئا ظمته
* وإما مسيئا تاب بعد وأعتبا)
(فلما أبت لا تقبل العذر وارتمى
* بها كذب الواشين شأوا مغربا)
(تعزيت عنها بالسلو ولم أكن
* لمن ضن عني بالمودة أقربا)
(وكنت كذي داء تبغى لدائه
* طبيبا فلما لم يجده تطببا)
وأورد له أبو عبد الله المرزباني في كتاب معجم الشعراء وهي في الحماسة أيضا وقد رويت أيضا لعبد الله بن الدمينة الخثعمي والله أعلم
(بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له
* ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب)
(ولم يعتذر عذر البرىء ولم تزل
* به رعدة حتى يقال مريب)
وأورد له المرزباني في المعجم أيضا
(حننت إلى ريا ونفسك باعدت
* مزارك من ريا وشعباكما معا)

370
(فما حسن أن تأتي الأمر طائعا
* وتجزع أن داعى الصبابة أسمعا)
(قفا ودعا نجدا ومن حل بالحمى
* وقل لنجد عندنا أن يودعا)
(ولما رأيت البشر أعرض دوننا
* وجالت بنات الشوق يحنن نزعا)
(بكت عيني اليمنى فلما زجرتها
* عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا)
(تلفت نحو الحي حتى وجدتني
* وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا)
(وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
* على كبدي من خشية أن تقطعا)
(وليست عشيات الحمى برواجع
* عليك ولكن خل عينيك تدمعا)
قلت وهي أبيات في غاية الرقة واللطافة وذكرها أبو تمام الطائي في كتاب الحماسة في أول باب النسيب وقال إنها للصمة بن عبد الله القشيري والله أعلم بالصواب في ذلك
وقال أبو عمر يوسف بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب في أخبار الصحابة رضي الله عنهم وقد تقدم ذكره في كتاب بهجة المجالس ما مثاله للصمة بن عبد الله القشيري
(أما وجلال الله لو تذكرينني
* كذكريك ما كفكفت للعين مدمعا)
(فقالت بلى والله ذكرا لو أنه
* يصب على الصخر الأصم تصدعا)
ثم قال بعد ذلك وأكثرهم ينسبون إليه في هذا الشعر
(حننت إلى ريا ونفسك باعدت
* مزارك من ريا وشعباكما معا)
وذكر الأبيات بكمالها كما ذكرها في الحماسة وبعد الفراغ منها قال ومنهم من ينسبها إلى قيس بن ذريح وإلى المجنون أيضا والأكثر أنها للصمة والله أعلم

371
قلت فقد وقع الاختلاف في أن هذه الأبيات العينية هل هي ليزيد بن الطثرية أم للصمة بن عبد الله القشيري أم لقيس بن ذريح أم للمجنون والله أعلم
قلت وذكره المرزباني أيضا في كتاب المونق فقال أنشدني أبو الخنبش لابن الطثرية
(وحنت قلوصي بعد هذا صبابة
* فيا روعة ما راع قلبي حنينها)
(فقلت لها صبرا فكل قرينة
* مفارقها لا بد يوما قرينها)
وأورد له أيضا
(كيف العزاء وأنت أومق من مشى
* والنفس معولة ودارك نائيه)
(بيديك قتلي إن أردت منيتي
* وشفاء نفسي إن أردت شفائيه)
(ولقد عرفت فما أويت لمدنف
* ما النفس عنك وإن نأيت بساليه)
وأورد له أيضا
(إذا نحن جئنا لم تجمل بزينة
* حذار الأعادي وهي باد جمالها)
(ولا نبتديها بالسلام ولم نقل
* لهم من توقي شرهم كيف حالها)
وأورد له أشياء كثيرة غير هذا فنقتصر على هذا القدر
وقال أبو بكر أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في كتاب أنساب الأشراف بعد ما ذكر مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي الحكمي ووقائع جرت في سنة ست وعشرين ومائة فكان في أثناء ذلك وقعة قتل فيها المندلث ابن إدريس الحنفي وقتل معه يزيد بن الطثرية المذكور على قرية يقال لها الفلج بفتح الفاء واللام وفي آخره الجيم وأظنها من قرى اليمامة
ثم وجدت في كتاب أبي بكر الحازمي الذي صنفه في أسماء المواضع أن فلج بفتح الفاء واللام وآخره جيم قرية عظيمة لبني جعدة بها منبر يقال لها فلج الأفلاج

372
من ناحية اليمامة وقال غيره فلج بينها وبين هجر التي هي قصبة البحرين ستة أيام وبينها وبين مكة تسعة أيام والله أعلم
وذكر أبو إسحاق الزجاج في كتاب معاني القرآن الكريم في سورة الفرقان أن الرس قرية باليمامة يقال لها فلج فتكون هي هذه القرية على ما قال وأما الذي جاء في قول الشاعر
(وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
* هم القوم كل القوم يا أم خالد)
فإنه بفتح الفاء وسكون اللام وهو واد بين البصرة وحمى ضرية وضرية قرية على القرب من مكة شرفها الله تعالى
وأما فلجة الذي جاء في شعر بعض العرب
(ألا حبذا أعلام فلجة بالضحى
* وخيم روابي جلهتيها المنصب)
(يقولون ملح ماء قلجة آجن
* أجل هو مملوح إلى القلب طيب)
فهذا الاسم يقع على موضعين أحدهما منزل بين مكة والبصرة والثاني موضع بالعقيق وكانت به الواقعة في السنة التي قتل فيها الوليد بن يزيد الأموي المذكور
رجعنا إلى ما كنا فيه
وكان قتل الوليد في جمادى الآخرة يوم الخميس لليلتين بقيتا منها من سنة ست وعشرين ومائة بالبخراء بفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وبعد الراؤ ألف ممدودة
وذكر أبو الحسن الطوسي المذكور في هذه الواقعة أن الراية كانت مع يزيد بن الطثرية فلما قتل المندلث وهرب أصحابه ثبت يزيد بن الطثرية بالراية وكانت عليه جبة خز فتشبثت في عشرة قلت

373
وهي بضم العين المهملة وفتح الشين وبعدها راء مفتوحة ثم هاء وهي شجرة لها صمغ من شجر العضاه قال فعثر فضربه بنو حنيفة حتى قتلوه
قلت وذكر هذه الواقعة بعد قتل الوليد في التاريخ المذكور فيكون قتل يزيد ابن الطثرية بين تاريخ قتل الوليد بن يزيد وبين آخر سنة ست وعشرين ومائة والله أعلم
وذكر أبو الفرج الأصبهاني في أول الديوان الذي جمعه من شعر يزيد بن الطثرية أن بني حنيفة قتلته في خلافة بني العباس والأول أصح
ولما قتل ابن الطثرية رثاه القحيف بن حمير بن سليم الندى بن عبد الله العقيلي بقوله
(ألا تبكي سراة بني قشير
* على صنديدها وعلى فتاها)
(أبا المكشوح بعدك من يحامي
* ومن يزجي المطي على وجاها)
ورثى القحيف أيضا الوليد بن يزيد
ورثاه أخوه ثور بن سلمة بقوله
(أرى الأثل من بطن العقيق مجاوري
* مقيما وقد غالت يزيد غوائله)
وهي من الشعر المختار
وذكر أبو تمام الطائي في الحماسة أن هذه الأبيات لأخته زينب بنت الطثرية وقيل إنها لأمه والله أعلم
وذكر الطوسي المذكور أن هذه الواقعة كانت بالعقيق وقال ياقوت الحموي في كتاب المشترك وضعا إن العقيق عشرة مواضع قال الأصمعي الأعقة الأودية التي تشقها السيول ثم عد المواضع فقال الثالث عقيق عارض بأرض اليمامة وهو واد واسع مما يلي العرمة تندفق فيه شعاب العارض وفيه عيون وقرى ثم قال والعقيق من قرى اليمامة لبني عقيل وهو عقيق نمرة في طريق اليمن من اليمامة

374
قلت فيحتمل أن يكون المراد بقوله بطن العقيق في هذا البيت العقيق الأول ويحتمل العقيق الثاني والله أعلم
وإنما كني ابن الطثرية بأبي المكشوح لأنه كان على كشحه كي نار والكشح بفتح الكاف وسكون الشين المعجمة وبعدها الحاء المهملة وهي الخاصرة
والطثرية بفتح الطاء المهملة وسكون الثاء المثلثة وبعدها راء ثم ياء النسب وهاء التأنيث وهي أمه ينسب يزيد المذكور إليها وهي من بني طثر بن عنز بن وائل والطثر الخصب وكثرة اللبن يقال إن أمه ولدت في عام هذا وصفه وقيل بل ولدته في عام هذا شأنه ويقال إن أمه كانت مولعة بإخراج زبد اللبن فسميت الطثرية وطثرة اللبن زبدته والله أعلم
قلت وهذا الكلام في النفس منه شيء فإنهم قالوا إن أمه من بني طثر ابن عنز بن وائل فعلى هذا تكون أمه منسوبة إلى هذه القبيلة فلا معنى حينئذ لقولهم إن أمه ولدت في عام هذا وصفه أو ولد هو في عام هذا شأنه أو أو كانت أمه تخرج الزبد من اللبن فتأمله إلا أن يكون عندهم فيه خلاف هل هو منسوب إلى القبيلة أم إلى هذا المعنى الثاني
والله أعلم بالصواب في ذلك
ويروى لزينب بنت الطثرية أخت يزيد المذكور شيء كثير من الشعر فمن ذلك قولها في المديح
(أشم إذا ما جئت للعرف طالبا
* حباك بما تحنو عليه أنامله)
(ولو لم يكن في كفه غير روحه
* لجاد بها فليتق الله سائله)
وينسب هذان البيتان إلى زياد الأعجم أيضا والبيت الثاني منهما يوجد في ديوان أبي تمام الطائي أيضا في قصيدته التي أولها
(أجل أيها الربع الذي خف آهله
* لقد أدركت فيك النوى ما تحاوله)
والله أعلم بالصواب

375
823 الماجشون
أبو يوسف يعقوب بن أبي سلمة دينار وقيل ميمون الملقب بالماجشون القرشي التيمي من موالي آل المنكدر من أهل المدينة سمع ابن عمر رضي الله عنهما وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن المنكدر وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج روى عنه ابناه يوسف وعبد العزيز وابن أخيه عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة
وقال يعقوب بن شيبة الماجشون يعقوب بن أبي سلمة مولى آل الهدير
وكان يعقوب مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في ولاية عمر المدينة يحدثه ويأنس به فلما استخلف عمر رضي الله عنه قدم عليه الماجشون فقال له عمر إنا تركناك حيث تركنا لبس الخز فانصرف عنه
وذكره محمد بن سعد في كتاب الطبقات
وقال يعقوب بن شيبة قال مصعب وكان الماجشون يعين ربيعة الرأي على أبي الزناد لأن أبا الزناد كان معاديا لربيعة الرأي فكان أبو الزناد يقول مثلي ومثل الماجشون مثل ذئب كان يلح على أهل قرية فيأكل صبيانهم فاجتمعوا له وخرجوا في طلبه فهرب منهم فانقطعوا عنه إلا صاحب فخار فإنه ألح في طلبه فوقف له الذئب فقال هؤلاء أعذرهم فأنت ما لي ولك ما كسرت لك فخارة قط والماجشون ما كسرت له كبرا ولا بربطا قط
وقال ابن الماجشون عرج بروح الماجشون فوضعناه على سرير الغسل

376
وقلنا للناس نروح به فدخل غاسل إليه يغسله فرأى عرقا يتحرك في أسفل قدمه فأقبل علينا وقال أرى عرقا يتحرك ولا أرى أن أعجل عليه فاعتللنا على الناس بالأمر الذي رأيناه وفي الغد جاء الناس وغدا الغاسل عليه فرأى العرق على حاله فاعتذرنا إلى الناس فمكث ثلاثا على حاله ثم إنه استوى جالسا فقال آتوني بسويق فأتي به فشربه فقلنا له خبرنا ما رأيت قال نعم عرج بروحي فصعد بي الملك حتى أتى سماء الدنيا فاستفتح ففتح له ثم هكذا في السماوات حتى انتهى بي إلى السماء السابعة فقيل له من معك قال الماجشون فقيل له لم يأن له بعد بقي من عمره كذا كذا سنة وكذا كذا شهرا وكذا كذا يوما وكذا كذا ساعة ثم هبط فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن يساره وعمر بن عبد العزيز بين يديه فقلت للملك الذي معي من هذا قال هذا عمر بن عبد العزيز قلت إنه لقريب المقعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنه عمل بالحق في زمن الجور وإنهما عملا بالحق في زمن الحق ذكر هذا يعقوب بن شيبة في ترجمة الماجشون
وذكر أبو الحسن محمد بن أحمد بن القواس الوراق أن يعقوب الماجشون مات سنة أربع وستين ومائة رحمه الله تعالى هذا كله نقلته من تاريخ الحافظ أبي القاسم المعروف بابن عساكر الذي جعله تاريخا لدمشق
وذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف في ترجمة محمد بن المنكدر أن الماجشون من مواليه واسمه يعقوب وكان فقيها ثم قال بعد ذلك وكان للماجشون أخ يقال له عبد الله بن أبي سلمة
(347) وابنه عبد العزيز بن عبد الله يكنى أبا عبد الله توفي ببغداد وصلى عليه المهدي ودفنه في مقابر قريش وذلك في سنة أربع وستين ومائة قلت وقد تقدم في هذا الكتاب ترجمة ولده عبد الملك بن عبد العزيز بن

377
عبد الله وذكرت ما قاله العلماء في معنى الماجشون فأغنى عن الإعادة هاهنا والله أعلم
قوله ما كسرت له كبرا ولا بربطا الكبر بفتح الكاف والباء الموحدة وبعدها راء وهو طبل ذو وجه واحد والبربط بفتح الباءين الموحدتين بينهما راء ساكنة وفي آخره طاء مهملة وهو نوع من العود الذي للغناء وأصله بر وهو الصدر بالفارسي وبط الطائر المعروف فلما كان هذا الملهى يشبه صدر البط سمي به واسمه بالعربي العود
والمزهر أيضا بكسر الميم وسكون الزاي وفتح الهاء وبعدها راء وبالعجمي البربط كما ذكرناه
824 القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة
القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خنيس بن سعد بن حبتة الأنصاري وسعد بن حبتة أحد الصحابة رضي الله عنهم وهو مشهور في الأنصار بأمه وهي
حبته بنت مالك من بني عمرو بن عوف
وأما أبو سعد ابن حبتة فهو عوف بن بحير بن معاوية بن سلمى بن بجيلة حليف بني عمرو بن عوف الأنصاري هكذا ساق نسب سعد بن حبتة في الاستيعاب وأما الخطيب أبو بكر البغدادي فإنه قال في تاريخه هو سعد بن بجير بن معاوية بن قحافة بن بليل بن سدوس بن عبد مناف بن أبي

378
أسامة بن سحمة بن سعد بن عبد الله بن قداد بن ثعلبة بن معاوية بن زيد بن الغوث بن بجيلة
كان القاضي أبو يوسف المذكور من أهل الكوفة وهو صاحب أبي حنيفة رضي الله عنه كان فقيها عالما حافظا سمع أبا إسحاق الشيباني وسليمان التيمي ويحيى بن سعيد الأنصاري والأعمش وهشام بن عروة وعطاء بن السائب ومحمد بن إسحاق بن يسار وتلك الطبقة
وجالس محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ثم جالس أبا حنيفة النعمان بن ثابت وكان الغالب عليه مذهب أبي حنيفة وخالفه في مواضع كثيرة
روى عنه محمد بن الحسن الشيباني الحنفي وبشر بن الوليد الكندي وعلي بن الجعد وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين في آخرين
وكان قد سكن بغداد وتولى القضاء بها لثلاثة من الخلفاء المهدي وابنه الهادي ثم هارون الرشيد وكان الرشيد يكرمه ويجله وكان عنده حظيا مكينا وهو أول من دعي بقاضي القضاة ويقال إنه أول من غير لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها في هذا الزمان وكان ملبوس الناس قبل ذلك شيئا واحدا لا يتميز أحد عن أحد بلباسه
ولم يختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي ابن المديني في ثقته في النقل
وذكر أبو عمر ابن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب في كتابه الذي سماه كتاب الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء أن أبا يوسف المذكور كان حافظا وأنه كان يحضر المحدث ويحفظ خمسين ستين حديثا ثم يقوم فيمليها على الناس وكان كثير الحديث
وقال محمد بن جرير الطبري وتحامى حديثه قوم من أهل الحديث من أجل غلبة الرأي عليه وتفريعه الفروع والأحكام مع صحبة السلطان وتقلده القضاء
وحكى أبو بكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد أن أبا يوسف قال

379
كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال فجاء أبي يوما وأنا عند أبي حنيفة فانصرفت معه فقال يا بني لا تمد رجلك مع أبي حنيفة فإن أبا حنيفة خبزه مشوي وأنت تحتاج إلى المعاش فقصرت عن كثير من الطلب وآثرت طاعة أبي فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني فجعلت أتعاهد مجلسه فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه قال لي ما شغلك عنا قلت الشغل بالمعاش وطاعة والدي فجلست فلما انصرف الناس دفع إلي صرة وقال استمتع بها فنظرت فإذا فيها مائة درهم فقال لي الزم الحلقة وإذا فرغت هذه فأعلمني فلزمت الحلقة فلما مضت مدة يسيرة دفع إلي مائة أخرى ثم كان يتعاهدني وما أعلمته بخلة قط ولا أخبرته بنفاد شيء وكأنه كان يخبر ينفادها حتى استغنيت وتمولت
ثم قال الخطيب وحكي أن والد أبي يوسف مات وخلف أبا يوسف طفلا صغيرا وأن أمه هي التي أنكرت عليه حضور حلقة أبي حنيفة ثم روى الخطيب أيضا بإسناد متصل إلى علي بن الجعد قال أخبرني أبو يوسف القاضي قال توفي أبي وخلفني صغيرا في حجر أمي فأسلمتني إلى قصار أخدمه فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس أستمع فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي فتذهب بي إلى القصار وكان أبو حنيفة يعنى بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة ما لهذا الصبي فساد غيرك هذا صبي يتيم لا شيء له وإنما أطعمه من مغزلي وآمل أن يكسب دانقا يعود به على نفسه فقال لها أبو حنيفة مري يا رعناء ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق فانصرفت عنه وقالت له أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك
ثم لزمته فنفعني الله تعالى بالعلم ورفعني حتى تقلدت القضاء وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون فالوذجة فقال لي يا يعقوب كل منها فليس في كل يوم يعمل لنا مثلها فقلت وما هذه يا أمير المؤمنين فقال هذه فالوذجة بدهن الفستق

380
فضحكت فقال لي مم ضحكك فقلت خيرا أبقى الله أمير المؤمنين قال لتخبرني وألح علي فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها فعجب من ذلك وقال لعمري إن العلم لينفع دنيا ودينا وترحم على أبي حنيفة وقال كان ينظر بعين عقله مالا يراه بعين رأسه
وحكى علي بن المحسن التنوخي عن أبيه عن جده قال كان سبب اتصال أبي يوسف بالرشيد أنه كان قدم بغداد بعد موت أبي حنيفة رحمه الله تعالى فحنث بعض القواد في يمين فطلب فقيها يستفتيه فجيء بأبي يوسف فأفتاه أنه لم يحنث فوهب له دنانير وأخذ له دارا بالقرب منه
ودخل القائد يوما على الرشيد فوجده مغموما فسأله عن سبب غمه فقال شيء من أمر الدين قد حزنني فاطلب فقيها كي أستفتيه فجاءه بأبي يوسف
قال أبو يوسف فلما دخلت إلى ممر بين الدور رأيت فتى حسنا عليه أثر الملك وهو في حجرة محبوس فأومأ إلي بأصبعه مستغيثا فلم أفهم منه إرادته وأدخلت إلى الرشيد فلما مثلت بين يديه سلمت ووقفت فقال لي ما اسمك فقلت يعقوب أصلح الله أمير المؤمنين قال ما تقول في إمام شاهد رجلا يزني هل يحده قلت لا فحين
قلتها سجد الرشيد فوقع لي أنه قد رأى بعض أهله على ذلك وأن الذي أشار إلي بالاستغاثة هو الزاني
ثم قال الرشيد من أين قلت هذا قلت لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ادرأوا الحدود بالشبهات وهذه شبهة يسقط الحد معها قال وأي شبهة مع المعاينة قلت ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى والحدود لا تكون بالعلم وليس لأحد أخذ حقه بعلمه فسجد مرة أخرى وأمر لي بمال جزيل وأن ألزم الدار فما خرجت حتى جاءتني هدية الفتى وهدية أمه وجماعته وصار ذلك أصلا للنعمة ولزمت الدار فكان هذا الخادم يستفتيني وهذا يشاورني ولم يزل حالي يقوى عند الرشيد حتى قلدني القضاء
قلت وهذا يخالف ما نقلته قبل هذا من أنه ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء والله أعلم بالصواب

381
وقال طلحة بن محمد بن جعفر أبو يوسف مشهور الأمر ظاهر الفضل وهو صاحب أبي حنيفة وأفقه أهل عصره ولم يتقدمه أحد في زمانه وكان النهاية في العلم والحكم والرياسة والقدر وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة وأملى المسائل ونشرها وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض
وقال عمار بن أبي مالك ما كان في أصحاب أبي حنيفة مثل أبي يوسف لولا أبو يوسف ما ذكر أبو حنيفة ولا محمد بن أبي ليلى ولكنه هو نشر قولهما وبث علمهما
وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة مرض أبو يوسف في زمن أبي حنيفة مرضا خيف عليه منه فعاده أبو حنيفة ونحن معه فلما خرج من عنده وضع يده على عتبة بابه وقال إن يمت هذا الفتى فإنه أعلم من عليها وأومأ إلى الأرض
وقال أبو يوسف سألني الأعمش عن مسألة فأجبته فيها فقال لي من أين لك هذا فقلت من حديثك الذي حدثتناه أنت ثم ذكرت له الحديث فقال لي يا يعقوب إني لأحفظ هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك وما عرفت تأويله حتى الآن
وقال هلال بن يحيى كان أبو يوسف يحفظ التفسير والمغازي وأيام العرب وكان أقل علومه الفقه ولم يكن في أصحاب أبي حنيفة مثل أبي يوسف
وذكر أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني في كتاب الجليس والأنيس عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال مضى أبو يوسف القاضي ليسمع المغازي من محمد بن إسحاق أو من غيره وأخل بمجلس أبي حنيفة أياما فلما أتاه قال له أبو حنيفة يا أبا يوسف من كان صاحب راية جالوت فقال له أبو يوسف إنك إمام وإن لم تمسك عن هذا سألتك والله على رؤوس الملإ أيما

382
كان أول وقعة بدر أو أحد فإنك لا تدري أيهما كان قبل الآخر فأمسك عنه
وذكر في الكتاب المذكور أيضا عن علي بن الجعد أن القاضي أبا يوسف كتب يوما كتابا وعن يمينه إنسان يلاحظ ما يكتبه ففطن له أبو يوسف فلما فرغ من الكتابة التفت إليه وقال له هل وقفت على شيء من خطأ فقال لا والله ولا حرف واحد فقال له أبو يوسف جزيت خيرا حيث كفيتنا مؤونة قراءته ثم أنشد
(كأنه من سوء تأديبه
* أسلم في كتاب سوء الأدب)
وقال حماد بن أبي حنيفة رأيت أبا حنيفة يوما وعن يمينه أبو يوسف وعن يساره زفر وهما يتجادلان في مسألة فلا يقول أبو يوسف قولا إلا أفسده زفر ولا يقول زفر قولا إلا أفسده أبو يوسف إلى وقت الظهر فلما أذن المؤذن رفع أبو حنيفة يده فضرب بها فخذ زفر وقال لا تطمع في رياسة ببلدة فيها أبو يوسف وقضى لأبي يوسف على زفر ولم يكن بعد أبي يوسف في أصحاب أبي حنيفة مثل زفر
وقال طاهر بن أحمد الزبيدي كان يجلس إلى أبي يوسف رجل فيطيل الصمت فقال له أبو يوسف ألا تتكلم فقال بلى متى يفطر الصائم فقال إذا غابت الشمس فقال فإن لم تغب إلى نصف الليل فضحك أبو يوسف وقال أصبت في صمتك وأخطأت أنا في استدعاء نطقك ثم تمثل
(عجبت لإزراء الغبي بنفسه
* وصمت الذي قد كان بالقول أعلما)
(وفي الصمت ستر للغبي وإنما
* صحيفة لب المرء أن يتكلما)
ومن كلام أبي يوسف صحبة من لا يخشى العار عار يوم القيامة
وكان يقول رؤوس النعم ثلاثة فأولها نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها

383
والثانية نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها والثالثة نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها
وقال علي بن الجعد سمعت أبا يوسف يقول العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك وأنت إذا أعطيته كلك من إعطائه البعض كنت على غرر
وكان أبو يوسف راكبا وغلامه يعدو وراءه فقال له رجل أتستحل أن تعدي غلامك وراءك لم لا تركبه فقال له أيجوز عندك أن أسلم غلامي مكاريا قال نعم قال أبو يوسف فيعدو معي كما كان يعدو لو كان مكاريا
وقال يحيى بن عبد الصمد خوصم أمير المؤمنين الهادي إلى القاضي أبي يوسف في بستانه وكان الحكم في الظاهر للهادي وفي الباطن خلاف ذلك فقال الهادي للقاضي أبي يوسف ما صنعت في الأمر الذي نتنازع إليك فيه فقال خصم أمير المؤمنين يسألني أن أحلف أمير المؤمنين أن شهوده شهدوا على حق فقال له الهادي وترى ذلك قال فقد كان ابن أبي ليلى يراه فقال أردد البستان عليه وإنما احتال عليه أبو يوسف لعلمه أن الهادي لا يحلف
وقال بشر بن الوليد الكندي قال لي القاضي أبو يوسف بينا أنا البارحة قد أويت إلى فراشي فإذا داق يدق الباب دقا شديدا فأخذت علي إزاري وخرجت فإذا هرثمة بن أعين فسلمت عليه فقال أجب أمير المؤمنين فقلت يا أبا حاتم لي بك حرمة وهذا وقت كما ترى ولست آمن أن يكون أمير المؤمنين قد دعاني لأمر من الأمور فإن أمكنك أن تدفع بذلك إلى غد فلعله أن يحدث له رأي فقال ما لي إلى ذلك سبيل قلت كيف كان السبب

384
قال خرج إلي مسرور الخادم فأمرني أن آتي بك أمير المؤمنين فقلت تأذن لي أن أصب علي ماء وأتحنط فإن كان أمر من الأمور كنت قد أحكمت شأني وإن رزق الله العافية فلن يضرني فأذن لي فدخلت فلبست ثيابا جددا وتطيبت بما أمكن من الطيب ثم خرجنا فمضينا حتى أتينا دار أمير المؤمنين هارون الرشيد فإذا مسرور واقف فقال له
هرثمة قد جئت به فقلت لمسرور يا أبا هاشم خدمتي وحرمتي وميلي وهذا وقت ضيق فتدري لم طلبني أمير المؤمنين قال لا فقلت فمن عنده قال عيسى بن جعفر قلت ومن قال ما عندهما ثالث ثم قال لي مر فإذا صرت في الصحن فإنه في الرواق وهو ذاك جالس فحرك رجلك بالأرض فإنه سيسألك فقل أنا
قال أبو يوسف فجئت ففعلت ذلك فقال من هذا فقلت يعقوب فقال ادخل فدخلت فإذا هو جالس وعن يمينه عيسى بن جعفر فسلمت فرد السلام علي وقال أظننا روعناك فقلت إي والله وكذلك من خلفي فقال اجلس فجلست حتى سكن روعي ثم التفت إلي وقال يا يعقوب تدري لم دعوتك قلت لا قال دعوتك لأشهدك على هذا ان عنده جارية سألته أن يهبها لي فامتنع وسألته أن يبيعها فأبى والله لئن لم يفعل لأقتلنه قال أبو يوسف فالتفت إلى عيسى فقلت له وما بلغ الله بجارية تمنعها أمير المؤمنين وتنزل نفسك هذه المنزلة قال فقال لي عجلت علي في القول قبل أن تعرف ما عندي قلت وما في هذا من الجواب قال إن علي يمينا بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أن لا أبيع هذه الجارية ولا أهبها فالتفت إلي الرشيد فقال هل له في ذلك من مخرج قلت نعم قال وما هو قلت يهب لك نصفها ويبيعك نصفها فيكون لم يهب ولم يبع فقال عيسى ويجوز ذلك قلت نعم قال فأشهدك أني قد وهبت له نصفها وبعته نصفها الباقي بمائة ألف دينار فقال له الرشيد قبلت الهبة واشتريت نصفها بمائة ألف دينار ثم طلب منه الجارية فأتى بالجارية وبالمال فقال خذها يا أمير المؤمنين بارك الله لك فيها فقال الرشيد يا يعقوب

385
بقيت واحدة فقلت وما هي فقال هي مملوكة ولا بد أن تستبرأ ووالله لئن لم أبت معها ليلتي هذه إني أظن أن نفسي ستخرج فقلت يا أمير المؤمنين تعتقها وتتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ قال فإني قد أعتقتها فمن يزوجنيها فقلت أنا فدعا بمسرور وحسين فخطبت وحمدت الله تعالى ثم زوجته إياها على عشرين ألف دينار ودعا بالمال فدفعه إليها ثم قال لي يا يعقوب انصرف ورفع رأسه إلى مسرور فقال يا مسرور فقال لبيك فقال احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم وعشرين تختا ثيابا فحمل ذلك معي
قال بشر بن الوليد فالتفت إلي أبو يوسف وقال هل رأيت بأسا فيما فعلت فقلت لا فقال خذ حقك منها قلت وما حقي فقال العشر قال بشر فشكرته ودعوت له وذهبت لأقوم فإذا بعجوز قد دخلت فقالت يا أبا يوسف إن بنتك تقرئك السلام وتقول لك والله ما وصل إلي في ليلتي هذه من أمير المؤمنين إلا المهر الذي قد عرفته وقد حملت إليك النصف منه وخلفت الباقي لما أحتاج إليه فقال رديه فوالله لا قبلتها أخرجتها من الرق وزوجتها أمير المؤمنين وترضى لي بهذا قال بشر فلم نزل نطلب إليه أنا وعمومتي حتى قبلها وأمر لي منها بألف دينار
وقال أبو عبد الله اليوسفي إن أم جعفر زبيدة ابنة جعفر زوجة الرشيد كتبت إلى أبي يوسف ما ترى في كذا وأحب الأشياء إلي أن يكون الحق فيه كذا فأفتاها بما أحبت فبعثت إليه بحق فضة فيه حقاق فضة مطبقات في كل واحد لون من الطيب وفي جام دراهم وسطها جام فيه دنانير فقال له جليس له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهديت له هدية فجلساؤه شركاؤه فيها فقال أبو يوسف ذاك حين كانت الهدايا اللبن والتمر
وقال يحيى بن معين كنت عند أبي يوسف القاضي وعنده جماعة من أصحاب الحديث وغيرهم فوافته هدية أم جعفر احتوت على تخوت دبيقي ومصمت وشرب وطيب وتماثيل ند وغير ذلك فذاكرني رجل بحديث

386
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتته هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه فيها فسمعه أبو يوسف فقال أبي تعرض ذاك إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم والهدايا يومئذ الأقط والتمر والزبيب ولم تكن الهدايا ما ترون يا غلام أشل إلى الخزاين
ونقلت من كتاب اسمه اللفيف ولم يذكر فيه من هو مصنفه قال كان عبد الرحمن بن مسهر أخو علي بن مسهر قاضيا على المبارك قلت وهي بضم الميم وبعدها باء موحدة وبعد الألف راء مفتوحة وبعدها كاف وهي بليدة بين بغداد وواسط على شاطىء دجلة قال فبلغ القاضي خروج الرشيد إلى البصرة ومعه أبو يوسف القاضي في الحراقة فقال عبد الرحمن القاضي لأهل المبارك أثنوا علي عند أمير المؤمنين وعند القاضي أبي يوسف فأبوا عليه ذلك فلبس ثيابه وقلنسوة طويلة وطيلسانا أسود وجاء إلى الشريعة فلما أقبلت الحراقة رفع صوته وقال يا أمير المؤمنين نعم القاضي قاضينا قاضي صدق ثم مضى إلى شريعة أخرى فقال مثل مقالته الأولى فالتفت هارون إلى أبي يوسف وقال يا يعقوب هذا شر قاض في الأرض قاض في موضع لا يثني عليه إلا رجل واحد فقال له أبو يوسف وأعجب من هذا يا أمير المؤمنين هو القاضي يثني على نفسه قال فضحك هارون وقال هذا أظرف الناس هذا لا يعزل أبدا وكان الرشيد إذا ذكره يقول هذا لا يعزل أبدا
وقيل لأبي يوسف أتولي مثل هذا القضاء فقال إنه أقام ببابي مدة وشكا إلي الحاجة فوليته
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب صاحب كتاب الفصيح أخبرني بعض أصحابنا قال قال الرشيد لأبي يوسف بلغني أنك تقول إن هؤلاء الذين يشهدون عندك وتقبل أقوالهم متصنعة فقال نعم يا أمير المؤمنين قال وكيف ذاك قال لأن من صح ستره وخلصت أمانته لم يعرفنا ولم نعرفه ومن ظهر أمره وانكشف خبره لم يأتنا ولم نقبله وبقيت هذه الطبقة وهم هؤلاء المتصنعة الذين أظهروا الستر وأبطنوا غيره فتبسم الرشيد وقال صدقت
وقال محمد بن سماعة سمعت أبا يوسف في اليوم الذي مات فيه يقول

387
اللهم إنك تعلم أني لم أجر في حكم حكمت فيه بين اثنين من عبادك تعمدا ولقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وكل ما أشكل علي جعلت أبا حنيفة بيني وبينك وكان عندي والله ممن يعرف أمرك ولا يخرج عن الحق وهو يعلمه
قلت وهذا الكلام مأخوذ من قول أبي محمد عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد رؤي يمسح على خفيه فقيل له تمسح قال نعم قد مسح عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن جعل عمر بينه وبين الله فقد استوثق ذكر هذا ابن قتيبة في كتاب المعارف في ترجمة علي رضي الله عنه
وأخبار أبي يوسف كثيرة وأكثر الناس من العلماء على تفضيله وتعظيمه
وقد نقل الخطيب البغدادي في تاريخه الكبير ألفاظا عن عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح ويزيد بن هارون ومحمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسن الدارقطني وغيرهم ينبو السمع عنها فتركت ذكرها والله أعلم بحاله
وكانت ولادة القاضي أبي يوسف سنة ثلاث عشرة ومائة
وتوفي يوم الخميس أول وقت الظهر لخمس خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين ومائة ببغداد
وقيل إنه توفي سنة اثنتين وسبعين ومائة والأول أصح
وولي القضاء سنة ست وستين ومائة ومات وهو على القضاء رحمه الله تعالى
(348) وأما ولده يوسف فإنه كان قد نظر في الرأي وفقه وسمع الحديث من يونس بن أبي إسحاق السبيعي والسري بن يحيى وغيرهما
وولي القضاء بالجانب الغربي من بغداد في حياة أبيه وصلى بالناس الجمعة في مدينة المنصور بأمر هارون الرشيد ولم يزل على القضاء إلى أن مات في رجب سنة اثنتين وتسعين ومائة ببغداد
وذكر الخطيب البغدادي أن أبا يوسف القاضي لما مات ولى الرشيد مكانه

388
أبا البختري وهب بن وهب القرشي قلت وقد تقدم ذكره في حرف الواو
وكان أبو يعقوب الخريمي الشاعر المشهور صديقا لأبي يوسف ولابنه يوسف فلما توفي أبو يوسف سمع الخريمي رجلا يقول اليوم مات الفقه فأنشد الخريمي
(يا ناعي الفقه إلى أهله
* أن مات يعقوب ولا يدري)
(لم يمت الفقه ولكنه
* حول من صدر إلى صدر)
(ألقاه يعقوب إلى يوسف
* فزال من طيب إلى طهر)
(فهو مقيم فإذا ما ثوى
* حل وحل الفقه في قبر)
رحمهما الله تعالى
وخنيس بضم الخاء المعجمة تصغير أخنس وهو الذي تأخر أنفه عن وجهه مع ارتفاع قليل في الأرنبة فالرجل أخنس والمرأة خنساء وهذا التصغير يسمى تصغير ترخيم وحقيقته أن تحذف منه الحروف الزوائد ويصغر الباقي كما قالوا أزهر وزهير وأسود وسويد وأحمد وحميد وغير ذلك
وحبتة بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوقها ثم هاء ساكنة وكشفت عن معنى هذا الاسم في عدة مواضع من كتب اللغة وغيرها فلم أجده
وبحير بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة وقيل هو بضم الباء وبالجيم المفتوحة والأول أصح والباقي معروف لا حاجة إلى ضبطه
(349) وسعد بن حبتة من جملة من استصغر يوم أحد هو والبراء بن عازب وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم فردهم النبي صلى الله عليه وسلم ورآه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يقاتل قتالا شديدا مع حداثة

389
سنه فدعاه وقال له من أنت فقال سعد بن حبتة فقال أسعد الله جدك ومسح على رأسه رضي الله عنه
وخنيس هو صاحب جهارسوج خنيس بالكوفة وهو لفظ عجمي تفسيره بالعربي أربع طرق لأن هذا المكان رحبة مربعة تفترق إلى أربع جهات والله تعالى أعلم
825 يعقوب الحضرمي
أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي بالولاء البصري المقرئ المشهور وهو أحد القراء العشرة وهو المقرئ الثامن وله في القراءات رواية مشهورة منقولة عنه وهو من أهل بيت العلم بالقراءات والعربية وكلام العرب والرواية الكثيرة للحروف والفقه وكان من أقرإ القراء وأخذ عنه عامة حروف القرآن مسندا وغير مسند من قراة الحرميين والعراقيين وأهل الشام وغيرهم وأخذ هو القراءة عرضا عن سلام بن سليمان الطويل ومهدي بن ميمون وأبي الأشهب العطاردي وغيرهم
وروى عن حمزة حروفا وسمع الحروف من أبي الحسن الكسائي وسمع من جده زيد بن عبد الله وشعبة
وأما إسناده في القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قرأ على سلام المذكور وقرأ سلام على عاصم بن أبي النجود وقرأ عاصم على أبي عبد الرحمن السلمي وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقرأ علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروى القراءة عن

390
يعقوب المذكور عرضا جماعة منهم روح بن عبد المؤمن ومحمد بن المتوكل وأبو حاتم السجستاني وغيرهم وسمع منه الزعفراني واقتدى به في اختياره عامة البصريين
بعد أبي عمرو بن العلاء فهم أو أكثرهم على مذهبه وكان طاهر بن عبد المنعم بن غلبون إمام الجامع بالبصرة لا يقرأ إلا بقراءة يعقوب
وقال أبو الحسين ابن المنادي قرأ يعقوب على أبي عمرو وغلط في ذلك وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه عن يعقوب الحضرمي فقال صدوق وسئل أبو حاتم الرازي عنه فقال صدوق
وقال أبو حاتم السجستاني كان يعقوب الحضرمي أعلم من أدركنا ورأينا بالحروف والاختلاف في القرآن الكريم وتعليله ومذاهبه ومذاهب النحو في القرآن الكريم
وله كتاب سماه الجامع جمع فيه عامة اختلاف وجوه القراءات ونسب كل حرف إلى من قرأ به
وبالجملة فإنه كان إمام أهل البصرة في عصره في القراءات وكان يأخذ أصحابه بعدد آي القرآن العزيز فإذا أخطأ أحدهم في العدد أقامه
وتوفي يعقوب المذكور في ذي الحجة وقيل في جمادى الأولى سنة خمس ومائتين وهو الأصح
وعاش هو وأبوه إسحاق وجده زيد كل واحد منهم ثمانيا وثمانين سنة رحمهم الله أجمعين
(350) وأما جد أبيه عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي فإنه كان من الأئمة الأعلام المشار إليه في علومهم
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي ثم ميمون الأقرن ثم عنبسة الفيل ثم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي
وقد جاء في رواية أخرى أن عنبسة قبل ميمون والله أعلم بالصواب
وكان في زمان عبد الله بن أبي إسحاق عيسى بن عمر الثقفي وأبو عمرو بن العلاء ومات عبد الله قبلهما

391
وذكر أبو عبيد الله المرزباني في كتاب المقتبس في أخبار النحويين أن المبرد قال أجمعت العلماء باللغة أن أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي وأنه لقن ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم أخذ النحو عن أبي الأسود عنبسة بن معدان المهري وأخذه عنه ميمون الأقرن وأخذه عنه عبد الله الحضرمي وأخذه عنه عيسى بن عمر وأخذه عنه الخليل بن أحمد وأخذه عنه سيبويه وأخذه عنه الأخفش
وكان بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قد جمع بين عبد الله وأبي عمرو بن العلاء وبلال يومئذ متولي البصرة قال أبو عمرو فغلبني ابن أبي إسحاق بالهمز فنظرت فيه بعد ذلك وبالغت فيه
وكان عبد الله كثيرا ما يأخذ على الفرزدق الغلط في شعره فقال الفرزدق والله لأهجونه ببيت يسير بين أهل الأدب ويتمثلون به فعمل
(فلو كان عبد الله مولى هجوته
* ولكن عبد الله مولى مواليا)
وإنما قال الفرزدق ذلك لأن عبد الله مولى الحضرميين وهم حلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف والحليف عند العرب مولى ولهم على ذلك شواهد ولولا خوف الإطالة لذكرت طرفا من ذلك لكن ليس هذا موضع ذكره

392
826 أبو عوانة الحافظ
أبو عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد النيسابوري ثم الإسفرايني الحافظ صاحب المسند الصحيح المخرج على كتاب مسلم بن الحجاج كان أبو عوانة أحد الحفاظ الجوالين والمحدثين المكثرين طاف الشام ومصر والبصرة والكوفة وواسط والحجاز والجزيرة واليمن وأصبهان والري وفارس
قال الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر في تاريخ دمشق سمع أبو عوانة بدمشق يزيد بن محمد بن عبد الصمد وإسماعيل بن محمد بن قيراط وشعيب بن شعيب بن إسحاق وغيرهم وبمصر يونس بن عبد الأعلى وابن أخي ابن وهب والمزني والربيع ومحمدا وسعدا ابني عبد الحكم وبالعراق سعدان بن نصر والحسن الزعفراني وعمر بن شبة وغيرهم وبخراسان محمد ابن يحيى الذهلي ومسلم بن الحجاج ومحمد بن رجاء السندي وغيرهم وبالجزيرة علي بن حرب وغيره
روى عنه أبو بكر الإسماعيلي وأحمد بن علي الرازي وأبو علي الحسين بن علي وأبو أحمد ابن علي وسليمان الطبراني ومحمد بن يعقوب ابن إسماعيل الحفاظ وأبو الوليد الفقيه وابنه أبو مصعب محمد بن أبي عوانة
وحج خمس مرات
وقال كنت بالمصيصة فكتب إلي أخي محمد بن إسحاق فكان في كتابه
(فإن نحن التقينا قبل موت
* شفينا النفس من مضض العتاب)
(وإن سبقت بنا أيدي المنايا
* فكم من عاتب تحت التراب)
وقال أبو عبد الله الحاكم أبو عوانة من علماء الحديث وأثباتهم ومن

393
الرحالة في أقطار الأرض لطلب الحديث
توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة
وقال حمزة بن يوسف السهمي روى بجرجان سنة اثنتين وتسعين ومائتين
قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر حدثني الشيخ الصالح الأصيل أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمر ابن الصفار الإسفرايني قال قبر أبي عوانة بإسفرايين مزار العالم ومتبرك الخلق وبجنب قبره قبر الراوية عنه أبي نعيم عبد الملك ابن الحسن الأزهري الإسفرايني في مشهد واحد داخل المدينة على يسار الداخل من باب نيسابور من إسفرايين وقريب من مشهده مشهد الإمام الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني على يمين الداخل من باب نيسابور وبجنب قبره قبر الأستاذ أبي منصور البغدادي الإمام الفقيه المتكلم صاحبه الصاحب بالجنب حيا وميتا المتظاهرين لنصرة الدين بالحجج والبراهين
سمعت جدي الإمام عمر ابن الصفار رحمه الله تعالى ونظر إلى القبور حول قبر الإمام الأستاذ أبي إسحاق وأشار إلى المشهد وخارج المشهد وقال قد قيل هاهنا من الأئمة والفقهاء على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه أربعون إماما كل واحد منهم لو تصرف في المذهب وأفتى برأيه واجتهاده يعني على مذهب الشافعي لكان حقيقا بذلك والعوام يتقربون إلى مشهد الأستاذ أبي إسحاق أكثر مما يتقربون إلى أبي عوانة وهم لا يعرفون قدر هذا الإمام الكبير المحدث أبي عوانة لبعد العهد بوفاته وقرب العهد بوفاة الأستاذ أبي إسحاق وأبو عوانة هو الذي أظهر لهم مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه بإسفرايين بعد ما رجع عن مصر وأخذ العلم عن أبي إبراهيم المزني رحمه الله تعالى وكان جدي إذا وصل إلى مشهد الأستاذ رأيته لا يدخله احتراما بل كان يقبل عتبة المشهد وهي مرتفعة بدرجات ويقف ساعة على هيئة التعظيم والتوقير ثم يعبر عنه كالمودع لعظيم عظيم الهيبة وإذا وصل إلى مشهد أبي عوانة كان أشد تعظيما له وإجلالا وتوقيرا ويقف أكثر من ذلك رحمهم الله تعالى أجمعين
وعوانة بفتح العين المهملة وبعد الألف نون
وقد تقدم الكلام على النيسابوري والإسفرايني فلا حاجة إلى الإعادة

394
827 ابن السكيت
أبو يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت صاحب كتاب إصلاح المنطق وغيره ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق فقال حكى عن أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني ومحمد بن مهنا ومحمد بن صبح ابن السماك الواعظ حكى عنه أحمد بن فرح المقرئ ومحمد بن عجلان الأخباري وأبو عكرمة الضبي وأبو سعيد السكري وميمون بن هارون الكاتب وغيرهم
وكان يؤدب أولاد المتوكل
وقال قال محمد ابن السماك من عرف الناس داراهم ومن جهلهم ماراهم ورأس المداراة ترك المماراة
وروى ابن السكيت أيضا عن الأصمعي وأبي عبيدة والفراء وجماعة غيرهم
وكتبه جيدة صحيحة منها إصلاح المنطق وكتاب الألفاظ وكتاب في معاني الشعر وكتاب القلب والإبدال ولم يكن له نفاذ في علم النحو وكان يميل في رأيه واعتقاده إلى مذهب من يرى تقديم علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال أحمد بن عبيد شاورني ابن السكيت في منادمة المتوكل فنهيته فحمل قولي على الحسد وأجاب إلى ما دعي إليه من المنادمة فبينا هو مع المتوكل يوما جاء المعتز والمؤيد فقال المتوكل يا يعقوب أيما أحب إليك

395
ابناي هذان أم الحسن والحسين فغض ابن السكيت من ابنيه وذكر من الحسن والحسين رضي الله عنهما ما هما أهله فأمر الأتراك فداسوا بطنه فحمل إلى داره فمات بعد غد ذلك اليوم وكان ذلك في سنة أربع وأربعين ومائتين
وقال عبد الله بن عبد العزيز وكان نهى يعقوب عن اتصاله بالمتوكل
(نهيتك يا يعقوب عن قرب شادن
* إذا ماسطا أربى على كل ضيغم)
(فذق واحس ما استحسيته لا أقول إذ
* عثرت لعا بل لليدين وللفم)
وحكي أن الفراء سأل السكيت عن نسبه فقال خوزي أصلحك الله من دورق قلت بفتح الدال المهملة وبعد الواو الساكنة راء ثم قاف وهي بليدة من أعمال خوزستان قال من كور الأهواز قلت والأهواز من خوزستان أيضا قال فبقي الفراء أربعين يوما في بيته لا يظهر لأحد من أصحابه فسئل عن ذلك فقال سبحان الله أستحي أن أرى السكيت لأنني سألته عن نسبه فصدقني وفيه بعض القبح
قال أبو الحسن الطوسي كنا في مجلس أبي الحسن علي اللحياني وكان عازما على أن يملي نوادره ضعف ما أملى فقال يوما تقول العرب مثقل استعان بذقنه فقام إليه ابن السكيت وهو حدث فقال يا أبا الحسن إنما هو مثقل استعان بدفيه يريدون الجمل إذا نهض بحمله استعان بجنبيه فقطع الإملاء
فلما كان المجلس الثاني أملى فقال تقول العرب وهو جاري مكاشري فقام له ابن السكيت فقال أعزك الله وما معنى مكاشري إنما هو هو مكاسري كسر بيتي إلى كسر بيته قال فقطع اللحياني الإملاء فما أملى بعد ذلك شيئا
وقال أبو العباس المبرد ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب ابن السكيت في المنطق
وقال أحمد بن محمد بن أبي شداد شكوت إلى ابن السكيت ضائقة فقال هل قلت شيئا قلت لا قال فأقول أنا ثم أنشدني

396
(نفسي تروم أمورا لست مدركها
* ما دمت أحذر ما يأتي به القدر)
(ليس ارتحالك في كسب الغنى سفرا
* لكن مقامك في ضر هو السفر)
وقال ابن السكيت كتب رجل إلى صديق له قد عرضت لي قبلك حاجة فإن نجحت فالفاني منها حظي والباقي حظك وإن تعذرت فالخير مظنون بك والعذر مقدم لك والسلام
ونقل من خطه ما مثاله عرض سلمان بن ربيعة الباهلي الخيل فمر عمرو بن معدي كرب الزبيدي على فرس له فقال سلمان هذا الفرس هجين فقال عمرو بل هو عتيق فقال سلمان هو هجين فقال عمرو هو عتيق فأمر سلمان فعطش ثم دعا بطست فيه ماء ودعا بخيل عتاق فشربت وجاء فرس عمرو فثنى يده وشرب وهذا صنيع الهجين فقال له سلمان أترى فقال عمرو أجل الهجين يعرف الهجين فبلغ ذلك عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فكتب إلى عمرو قد بلغني ما قلت لأميرك وبلغني أن لك سيفا تسميه الصمصامة وعندي سيف أسميه مصمما وأيم الله لئن وضعته على هامتك لا أقلع حتى أبلغ به رهابتك فإن سرك أن تعلم أحق ما أقول فعد والسلام
الرهابة على وزن السحابة عظم في الصدر مشرف على البطن مثل اللسان والله أعلم
وقال أبو عثمان المازني اجتمعت بابن السكيت عند محمد بن عبد الملك الزيات الوزير فقال محمد بن عبد الملك سل أبا يوسف عن مسألة فكرهت ذلك وجعلت أتبأطا وأدافع مخافة أن أوحشه لأنه كان لي صديقا فألح علي محمد بن عبد الملك وقال لم لا تسأله فاجتهدت في اختيار مسألة سهلة لأقارب يعقوب فقلت له ما وزن نكتل من الفعل من قول الله تعالى * (فأرسل) *

397
معنا أخانا نكتل) يوسف 63 فقال لي نفعل قلت ينبغي أن يكون ماضيه كتل فقال لا ليس هذا وزنه إنما هو نفتعل فقلت له نفتعل كم حرف هو قال خمسة أحرف قلت فنكتل كم حرفا هو قال أربعة أحرف فقلت أيكون أربعة أحرف بوزن خمسة أحرف فانقطع وخجل وسكت فقال محمد بن عبد الملك فإنما تأخذ كل شهر ألفي درهم على أنك لا تحسن وزن نكتل قال فلما خرجنا قال لي يعقوب يا أبا عثمان هل تدري ما صنعت فقلت له والله لقد قاربتك جهدي وما لي في هذا ذنب
قلت وذكر أبو الحسن ابن سيده هذه الحكاية في أول خطبة كتابه المحكم في اللغة لكنه قال إن ذلك كان بين يدي المتوكل والله أعلم
وقال غير ابن عساكر كان يعقوب بن السكيت يؤدب مع أبيه بمدينة السلام في درب القنطرة صبيان العامة حتى احتاج إلى الكسب فجعل يتعلم النحو
وحكى عن أبيه أنه كان قد حج فطاف بالبيت وسعى وسأل الله تعالى أن يعلم ابنه النحو فتعلم النحو واللغة وجعل يختلف إلى قوم من أهل القنطرة فأجروا له كل دفعة عشرة دراهم وأكثر حتى اختلف إلى بشر وهارون ابني هارون أخوين كانا يكتبان لمحمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي فما زال يختلف إليهما وإلى أولادهما دهرا فاحتاج ابن طاهر إلى رجل يعلم أولاده وجعل ولده في حجر إبراهيم بن إسحاق المصعبي فرتب يعقوب وجعل له رزقا خمسمائة درهم ثم جعلها ألف درهم
وقال أبو العباس ثعلب كان ابن السكيت يتصرف في أنواع العلوم وكان أبوه رجلا صالحا وكان من أصحاب أبي الحسن الكسائي حسن المعرفة بالعربية
وكان سبب قعود يعقوب للناس وقصدهم إياه أنه عمل شعر أبي النجم العجلي وجرده فقلت ادفعه لي لأنسخه فقال يا أبا العباس حلفت بالطلاق

398
أنه لا يخرج من يدي ولكنه بين يديك فانسخه واحضر يوم الخميس فلما وصلت إليه عرف بي فحضر بحضوري قوم ثم انتشر ذلك فحضر الناس
وقال ثعلب أيضا أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز بالله فلما جلس عنده قال له بأي شيء يحب الأمير أن نبدأ يريد من العلوم فقال المعتز بالانصراف قال يعقوب فأقوم قال المعتز فأنا أخف نهوضا منك وقام فاستعجل فعثر بسراويله فسقط والتفت إلى يعقوب خجلا وقد احمر وجهه فأنشد يعقوب
(يصاب الفتى من عثرة بلسانه
* وليس يصاب المرء من عثرة الرجل)
(فعثرته في القول تذهب رأسه
* وعثرته بالرجل تبرأ في مهل)
فلما كان من الغد دخل يعقوب على المتوكل فأخبره بما جرى فأمر له بخمسين ألف درهم وقال قد بلغني البيتان
وكان يعقوب يقول أنا أعلم من أبي بالنحو وأبي أعلم مني بالشعر واللغة
وقال الحسين بن عبد المجيب الموصلي سمعت ابن السكيت يقول في مجلس أبي بكر بن أبي شيبة
(ومن الناس من يحبك حبا
* ظاهر الحب ليس بالتقصير)
(فإذا ما سألته عشر فلس
* ألحق الحب باللطيف الخبير)
وكان لابن السكيت شعر وهو مما تثق النفس به فمن ذلك قوله
(إذا اشتملت على اليأس القلوب
* وضاق لما به الصدر الرحيب)
(وأوطنت المكاره واستقرت
* وأرست في أماكنها الخطوب)
(ولم تر لانكشاف الضر وجها
* ولا أغنى بحيلته الأريب)

399
(أتاك على قنوط منك غوث
* يمن به اللطيف المستجيب)
(وكل الحادثات إذا تناهت
* فموصول بها فرج قريب)
وكان العلماء يقولون إصلاح المنطق كتاب بلا خطبة وأدب الكاتب تأليف ابن قتيبة خطبة بلا كتاب لأنه طول الخطبة وأودعها فوائد
وقال بعض العلماء ما عبر على جسر بغداد كتاب في اللغة مثل إصلاح المنطق ولا شك أنه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة ولا نعرف في حجمه مثله في بابه وقد عني به جماعة فاختصره الوزير أبو القاسم الحسين بن علي المعروف بابن المغربي المقدم ذكره وهذبه الخطيب أبو زكريا التبريزي وتكلم على الأبيات المودعة فيه ابن السيرافي وهو كتاب مفيد
ولابن السكيت من التصانيف أيضا كتاب الزبرج وكتاب الألفاظ وكتاب الأمثال وكتاب المقصور والممدود وكتاب المذكر والمؤنث وكتاب الأجناس وهو كبير وكتاب الفرق وكتاب السرج واللجام وكتاب فعل وأفعل وكتاب الحشرات وكتاب الأصوات وكتاب الأضداد وكتاب الشجر والنبات وكتاب الوحوش وكتاب الإبل وكتاب النوادر وكتاب معاني الشعر الكبير وكتاب معاني الشعر الصغير وكتاب سرقات الشعراء وما اتفقوا عليه وغير ذلك من الكتب ومع شهرته لا حاجة إلى الإطالة في ذكر فضله
وقد روي في قتله غير ما ذكرته أولا فقيل إن المتوكل كان كثير التحامل على علي بن أبي طالب وأبيه الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين وقد تقدم في ترجمة أبي الحسن علي بن محمد المعروف بابن بسام أبيات تدل على هذا أيضا وكان ابن السكيت من المغالين في محبتهم والتوالي لهم فلما قال له المتوكل تلك المقالة قال ابن السكيت والله إن قنبر خادم علي رضي الله عنه خير

400
منك ومن ابنيك فقال المتوكل سلوا لسانه من قفاه ففعلوا ذلك به فمات وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعين ومائتين وقيل سنة ست وأربعين وقيل سنة ثلاث وأربعين والله أعلم بالصواب
وبلغ عمره ثمانيا وخمسين سنة ولما مات سير المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال هذه دية والدك رحمه الله تعالى
وقال أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بابن النحاس النحوي كان أول كلام المتوكل مع ابن السكيت مزاحا ثم صار جدا وقيل إن المتوكل أمره أن يشتم رجلا من قريش وأن ينال منه فلم يفعل فأمر القرشي أن ينال منه فأجابه ابن السكيت فقال له المتوكل أمرتك فلم تفعل فلما شتمك فعلت وأمر به فضرب وحمل من عنده وقيذا صريعا والله أعلم أي ذلك كان
وقد تقدم في ترجمة عبد الله بن المبارك مثل هذه القضية لما سئل عن معاوية وعمر بن عبد العزيز وأيهما أفضل
والسكيت بكسر السين المهملة والكاف المشددة وبعدها ياء مثناة من تحتها ثم تاء مثناة من فوقها وعرف بذلك لأنه كان كثير السكوت طويل الصمت
وكل ما كان على وزن فعيل أو فعليل فإنه مكسور الأول
وقوله خوزي بضم الخاء المعجمة وبعد الواو زاي هذه النسبة إلى خوزستان وهو إقليم بين البصرة وبلاد فارس

401
828 يعقوب الصفار
أبو يوسف يعقوب بن الليث الصفار الخارجي قد أكثر أهل التاريخ من ذكر هذا الرجل وذكر أخيه عمرو وما ملكا من البلاد وقتلا من العباد وما جرى للخلفاء معهما من الوقائع وقد اخترت من ذلك ما أودعته في هذه الأوراق فأقول
قال أبو عبد الله بن محمد الأزهر الأخباري حدثني علي بن محمد وكان عالما بأمور يعقوب بن الليث الصفار ومحاربته وأول أمره أنه وأخاه عمرا كانا صفارين في حداثتهما وكانا يظهران الزهد وأن رجلا من أهل سجستان كان مشهورا بالتطوع في قتال الخوارج يقال له صالح بن النضر الكناني المطوعي من أهل بست فصحباه وحظيا به فقتلت الخوارج الذين يقال لهم الشراة أخا يعقوب المذكور وأقام صالح المذكور يعقوب المذكور مقام الخليفة ثم هلك صالح فتولى مكانه درهم بن الحسين من المطوعة أيضا فصار يعقوب مع درهم كما كان مع صالح
ثم إن صاحب خراسان احتال لدرهم حتى ظفر به فحمل إلى بغداد فحبس بها ثم أطلق وخدم السلطان ثم لزم بيته يظهر النسك والحج والاقتصاد حتى غلظ أمر يعقوب
وذكر شيخنا عز الدين أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير في

402
تاريخه في سنة سبع وثلاثين ومائتين ابتداء أمر يعقوب المذكور فقال في هذه السنة تغلب إنسان من أهل بست اسمه صالح بن النضر الكناني على سجستان ومعه يعقوب بن الليث فعاد طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين أمير خراسان واستنقذها منه ثم ظهر بها إنسان اسمه درهم بن الحسين من المطوعة فغلب عليها وكان غير ضابط لأمور عسكره وكان يعقوب بن الليث قائد عسكره فلما رأى أصحاب درهم ضعفه وعجزه اجتمعوا على يعقوب بن الليث وملكوه أمرهم لما رأوا من تدبيره وحسن سيايته وقيامه بأمرهم فلما تبين ذلك له لم ينازعه في الأمر وسلمه إليه واعتزل عنه فاستبد يعقوب بالأمر وضبط البلاد وقويت شوكته وقصدته العساكر من كل ناحية فصار من أمره ما سنذكره
رجعنا إلى تمام ما ذكره علي بن محمد بن أحمد
قال فلما دخل درهم بن الحسين بغداد تولى يعقوب أمر المطوعة وحارب الخوارج الشراة فرزق الظفر بهم حتى أفناهم وأخرب ضياعهم وأطاعه أصحابه بمكره ودهائه طاعة لم يطيعوها أحدا كان قبله
ثم اشتدت شوكته وزادت صولته فغلب على سجستان وهراة وبوشنج وما والاها
وكان الترك بتخوم سجستان وملكهم رتبيل ويسمى هذا القبيل من الترك الدراري فحرضه أهل سجستان على قتالهم وأعلموه أنهم أضر من الشراة الخوارج وأوجب محاربة فغزا الترك فقتل رتبيل ملكهم وقتل ثلاثة من ملوكهم بعد رتبيل ويسمى كل ملك لهم رتبيل وانصرف يعقوب إلى سجستان وقد حمل رؤوسهم مع رؤوس ألوف منهم فرهبته الملوك الذين حوله منهم ملك المولتان وملك

403
الرخج وملك الطبسين وملك زابلستان وملك السند ومكران وغيرهم وأذعنوا له
وكان قصده هراة وبوشنج في سنة ثلاث وخمسين ومائتين وأمير خراسان يومئذ محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي وعامله عليها محمد بن أوس الأنباري فخرج لمحاربته في تعبئة وبأس شديد وزي جميل فحاربه وأحسن مقاومته حتى احتال له يعقوب فحال بينه وبين دخول المدينة وهي بوشنج وانحاز ابن أوس منهزما فقيل أنه لم يقاتله أحد أحسن مواقفته كما أحسنها ابن أوس ودخل يعقوب بوشنج وهراة وصارت المدينتان في يده وظفر بجماعة من الطاهرية وهم المنسوبون إلى طاهر بن الحسين الخزاعي فحملهم إلى سجستان حتى وجه المعتز بالله الخليفة إليه المعروف بابن بلعم وهو رجل من الشيعة برسالة وكتاب فأطلقهم
قال ابن الأزهر الأخباري المذكور حدثني محمد بن عبد الله بن مروان قال حدثني ابن بلعم المذكور قال صرت إليه بكتاب أمير المؤمنين المعتز بالله إلى زرنج قلت وهي بفتح الزاي والراء وسكون النون وبعدها جيم وهي كرسي بلاد سجستان قال ابن بلعم فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت ولم أسلم عليه وجلست بين يديه من غير أمره ودفعت الكتاب إليه فلما أخذه قلت له قبل كتاب أمير المؤمنين فلم يقبله وفضه فتراجعت القهقرى إلى باب مجلسه الذي كان فيه ثم قلت السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله فأعجبه ذلك وأحسن مثواي ووصلني وأطلق الطاهرية
وقال ابن بلعم المذكور أيضا دخلت على يعقوب الصفار يوما فقال لي ينبغي أن يجيئنا رجل من ناحية فارس مستأمن ومعه ثلاثة أنفس أو أربعة بل هو تمام الخمسة قال فأنكرت هذا منه وأمسك فما علمت إلا وحاجبه قد دخل فسلم وقال أيها الأمير بالباب رجل مستأمن ومعه أربعة أنفس

404
فقال أدخله فدخل وسلم وقال أيها الأمير معي أربعة أنفس فأذن لهم فدخلوا عليه فالتفت إلى الحاجب وقلت قد أخذتم في المخاريق فحلف لي أيمانا مغلظة أنهم جاؤوا بغتة ما علم بهم أحد من الناس وسألت يعقوب بعد ذلك وقلت له أيها الأمير لقد رأيت منك عجبا في أمر المستأمنة فكيف علمت بهم فقال أخبرك أني فكرت في أمر فارس ورأيت غرابا واقفا بإزاء طريقها واختلجت إحدى أصابع رجلي ثم تبع بعضها بعضا فعلمت أنه عضو غير شريف وأنه سيأتينا من ذلك الصقع قوم مستأمنة أو رسل ليسوا بأجلة فكانوا هؤلاء
وقال علي بن الحكم سألت يعقوب بن الليث الصفار عن الضربة التي على وجهه وهي منكرة على قصبة أنفه ووجنته فذكر أن ذلك أصابه في بعض وقائع الشراة وأنه طعن رجلا منهم فرجع عليه فضربه هذه الضربة فسقط نصف وجهه حتى رد وخيط قال فمكثت عشرين يوما في فمي أنبوبة قصب وفمي مفتوح لئلا يتقرح رأسي وكان يصب في حلقي الشيء بعد الشيء من الغذاء
قال حاجبه وقد كان مع هذه الضربة يخرج ويعبي أصحابه للحرب ويقاتل
وأرسل يعقوب إلى المعتز بالله هدية سنية من جملتها مسجد فضة مخلع يصلي فيه خمسة عشر إنسانا وسأل أن يعطى بلاد فارس ويقرر عليه خمسة عشر ألف ألف درهم على أن يتولى إخراج علي بن الحسين بن قريش وكان على فارس ثم شخص يعقوب من سجستان في أثر كتابه إلى المعتز يريد كرمان ثم نزل بم قلت وهي بالباء الموحدة المفتوحة وبعدها ميم مخففة وهي الحد الفاصل بين سجستان وكرمان قال وكان بكرمان العباس بن الحسين بن قريش أخو علي بن الحسين المذكور ومعه أحمد بن الليث الكردي فخرجا عن كرمان يريدان شيراز وقدم يعقوب أخاه علي بن الليث إلى السيرجان قلت وهي بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحتها ثم راء وجيم وبعد الألف نون وهي مدينة كرمان قال وضم إليه جماعة

405
فأقام هو على بم فرد أحمد بن الليث الكردي إليه من الطريق في جمع كثير من الأكراد وغيرهم فصاروا إلى درابجرد قلت وهي بفتح الدال المهملة ثم راء وألف وبعدها باء موحدة ثم جيم مكسورة ثم راء وبعدها دال مهملة وهذا الاسم يقع بالاشتراك على ثلاثة مواضع الأول كورة عظيمة مشهورة بفارس قصبتها درابجرد والثاني قرية
بفارس أيضا من أعمال إصطخر فيها معدن الزئبق فيحتمل أن يكون مصيرهم إلى الأولى أو إلى الثانية وأما الثالثة فهو موضع بنيسابور ولا يحتمل مصيرهم إليه لأنه بخراسان فلا تعلق له بفارس
قال الراوي فظفر أحمد بن الليث بجماعة من أصحاب يعقوب يطلبون العلف فقتل بعضهم وهرب منهم جماعة ووجه أحمد بن الليث برؤوس من قتل من أصحاب يعقوب إلى فارس فنصب علي بن الحسين رؤوسهم فبلغ الخبر يعقوب فدخل كرمان فندب علي بن الحسين لمحاربته طوق بن المغلس في خمسة آلاف من الأكراد سوى من تقدم مع أحمد بن الليث الكردي وسار طوق حتى نزل على مدينة إياس من عمل كرمان فورد عليه كتاب يعقوب يعلمه أنه أخطأ إذ دخل عملا ليس إليه فرد عليه طوق أنت بعمل الصفر أعلم منك بعمل الحروب فعظم ذلك على يعقوب وكان في عسكر طوق ثلاثمائة رجل من الأبناء فوافى يعقوب مدينة إياس فأوقع بطوق وقتل أصحابه وهزم من بقي منهم وصبر الأبناء الثلثمائة حتى أشجوا يعقوب فأعطاهم الأمان فلم يقبلوا حتى قتلوا عن آخرهم وقتل يعقوب في هذه الوقعة ألفي رجل وأسر ألفا وأسر طوق بن المغلس وقيده بقيد خفيف ووسع عليه في مطعمه وغيره واستخرج منه الأموال ورحل يعقوب عن إياس ودخل عمل فارس فخندق علي بن الحسين على نفسه بشيراز وذلك

406
في يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين ومائتين
وكتب علي بن الحسين إلى يعقوب يعلمه أن طوق بن المغلس فعل ما فعل من غير أمره وأنه لم يأمره بمحاربته وقال له إن كنت تطلب كرمان فقد خلفتها وراءك وإن كنت تطلب فارس فكتاب من أمير المؤمنين بتسليم العمل لأنصرف
فرد عليه يعقوب إن كتابا من السلطان معه لا يتهيأ أن يوصله حتى يدخل البلد وإنه إن أخلى له البلد فقد ودع وأزاح علته وإلا فالسيف بيننا والموعد مرج سنكان وهو مرج واسع بينه وبين شيراز ثلاثة فراسخ وكتب صاحب البريد ووجوه البلد إلى يعقوب يعلمونه أنه ما ينبغي له مع ما وهب له الله تعالى من التطوع والديانة وقتل الخوارج ونفيهم عن بلاد خراسان وسجستان التسرع إلى سفك الدماء لأن علي بن الحسين لن يسلم البلد إلا بكتاب الخليفة واعتد أهل شيراز للحصار وقد كانت المنهزمة من أصحاب طوق أسروا ثلاثة أنفس من أصحاب يعقوب فحبسهم علي بن الحسين
وقد كان طوق وقت خروجه إلى يعقوب اشترى دارا بشيراز بسبعين ألف درهم وقدر للنفقة عليها مالا فكتب طوق إلى ابنه لا تقطع البناء عن الدار فإن الأمير يعقوب قد أكرمني وأحسن إلي وسأل في إطلاق الثلاثة المأسورين من أصحاب يعقوب وكان يعقوب سأله ذلك ليطلقه إذا وافوا إليه فقال علي بن الحسين اكتبوا إلى يعقوب ليصلب طوق بن المغلس وإن أقل عبد من عبيده أكبر عنده منه وسأل يعقوب طوق بن المغلس عن أمور علي بن الحسين فضعف أمره عنده فتقرب طوق إلى يعقوب بمال عنده بشيراز وأنه يكتب إلى أهله في حمله إليه ليقوى به على حربه فأمره يعقوب أن يفعل ذلك فكتب إلى ابنه فوقع الكتاب في يد علي بن الحسين فأخذ المال وغيره من دار طوق وحمله إلى داره وزحف يعقوب واحتشد علي بن الحسين
قال أحمد بن الحكم قال لي يعقوب أخبرني عن علي بن الحسين أمسلم

407
هو قلت نعم قال أفرأيت مسلما يوجه بالأكراد الكفار إلى بلاد المسلمين فيقتلونهم ويحملون نساءهم ويأخذون أموالهم ألم تعلم أن أحمد ابن الليث الكردي قتل بكرمان سبعمائة إنسان على دم واحد وافتض الأكراد مائتي بكر من أهل البيوتات وحملوا معهم نحو ألفي امرأة إلى بلادهم أفرأيت مسلما يرضى بهذا قال قلت فعل أحمد هذا من غير أمره
ثم قال له يعقوب في بعض مناظراته قل لعلي بن الحسين إن معي قوما أحرارا جئت بهم وليس يتأتى لي ردهم إلا بما يحبون فوجه إلي بما يرضيهم ووجه لي في نفسي ما يشبه مثلي من البر فإذا فعلت فأنا أخوك وعونك على من حاربك وأدفع لك كرمان تأكلها وأنصرف إلى عملي
وارتحل يعقوب فنزل قرية يقال لها خوزاستان ووافى أحمد بن الحكم إلى علي بن الحسين يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الأولى من السنة وعلى يده كتاب يعقوب
قال ابن الحكم فلم يفهم علي بن الحسين شيئا مما جئت به من الدهش وحاصل الكتاب بعد الدعاء له فهمت كتابك وذكرك ورودي هذا البلد العظيم خطره بغير إذن أمير المؤمنين فإني لست ممن تطمع نفسه في محاولة ظلم ولا ممن يمكنه ذلك وقد أسقطت عنك مؤونة الاهتمام في هذا الباب فإن البلد لأمير المؤمنين ونحن عبيده نتصرف بأمره في أرضه وسلطانه وفي طاعة الله وطاعته وقد استمعت من رسولك ورجعت إليه في جواب ما عملته وأدائه ما يورده عليك مما رجوت لنا ولك فيه صلاحا فإن استعملته ففيه السلامة إن شاء الله تعالى وإن أبيت فإن قدر الله تعالى نافذ لا محيص عنه ونحن نعتصم بالله من الهلكة ونعوذ به من دواعي البغي ومصارع الخذلان ونرغب إليه في السلامة دينا ودنيا بلطفه مد الله في عمرك وكتب يوم الاثنين لليلة خلت من جمادى الأولى سنة خمس وخمسين ومائتين

408
ثم تزاحف الفريقان وقد اجتمع في عسكر علي بن الحسين خمسة عشر ألف إنسان ووجه أحمد بن الليث الطلائع وذلك في غداة الأربعاء لأربع خلون من الشهر المذكور
ولما كان يوم الخميس وافت طلائع يعقوب ثم التقى الجيشان فحملوا حملة وفي الثانية أزالوا أصحاب علي بن الحسين عن مواضعهم وصدقت المجالدة فانهزموا ومروا على وجهوهم لا يلوي أحد على أحد وعلي بن الحسين يتبع أصحابه ويصيح فيهم أن ارجعوا وقفوا يناشدهم الله تعالى فلم يلتفتوا إليه وبقي في عدة من أصحابه فوافت المنهزمة أبواب شيراز مع العصر يوم الخميس المذكور وكانت الوقعة بعد الظهر فضاقت عليهم الأبواب فمروا على وجوههم في نواحي شيراز وبلغت هزيمتهم الأهواز وكانت القتلى معهم منهم مقدار خمسة آلاف
وأصابت علي بن الحسين ثلاث ضربات واعتورته أسياف أصحاب يعقوب وسقط عن دابته فأرادوا قتله فأعلمهم أنه علي بن الحسين فأخذوا عمامته ووضعوها في وسطه وقادوه إلى يعقوب وطلب الذي أسره الثواب من يعقوب فأمر له بعشرة آلاف درهم فأبى أن يأخذها فقال إنما جئتني بكلب أسرته مالك عندي غيرها فانصرف الرجل
وقنع يعقوب عليا عشرة أسواط بيده وأخذ حاجبه بلحيته فنتف أكثرها وأمر يعقوب أن يقيد بقيد فيه عشرون رطلا وصيره مع طوق بن المغلس في الخيمة وكان قد أنفذ إلى ابن المغلس وقيده أيضا وصار يعقوب من فوره إلى شيراز وتفرق أصحاب علي بن الحسين في النواحي
ثم دخل يعقوب إلى شيراز والطبول تضرب بين يديه وظن أهل شيراز يؤذيهم ويستحل دماءهم وأموالهم بحربهم
فلم ينطق أحد لأنه كان وعد أصحابه إن هو ظفر أن يطلقهم وينهب شيراز وبلغ القوم ذلك فلزموا بيوتهم ورجع يعقوب من ليلته إلى عسكره بعد أن طاف شيراز فلما أصبح نادى بالأمان ليخرجوا إلى الأسواق فخرج الناس ونادى في كتاب

409
علي بن الحسين أن برئت الذمة ممن آواهم وحضرت الجمعة فأمر الخطيب فدعا للإمام المعتز بالله ولم يدع لنفسه فقيل له في ذلك فقال الأمير لم يقدم بعد وقال إنما مقامي عندكم عشرة أيام ثم أرجع إلى عمل سجستان وبعث أخاه إلى منزل علي بن الحسين فأحضر الفرش والأثاث وفتش على الأموال فلم يقف عليها فأحضر عليا فتهدده وتوعده فذكر أنه يدلهم على المال فحمل إلى منزله فاستخرج أربعمائة بدرة وقيل إنه أخذ منه ألف بدرة وعوض يعقوب أصحابه من نهب شيراز كل رجل ثلاثمائة درهم
ثم عذب يعقوب عليا بأنواع العذاب وعصر أنثييه وشد الجوزتين على صدغيه فقال علي قد أخذت ما أخذت أخذت مني فرشي وقيمته أربعون ألف دينار وألح عليه بالعذاب وأعلمه أنه لا يقنعه منه دون ثلاثين ألف ألف دينار وخلط ووسوس من شدة العذاب وقيده بأربعين رطلا فدلهم على موضع في داره فاستخرجوا منه أربعة آلاف ألف درهم وجوهرا كثيرا ثم ألح عليه بالعذاب وسلمه إلى الحسن بن درهم فضربه وعذبه وشتمه وعذب طوق بن المغلس أيضا وحسبهما في بيت واحد
وارتحل يعقوب من شيراز يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الأولى من السنة إلى بلاده وحمل علي بن الحسين وطوق بن المغلس معه فلما أتى كرمان ألبسهما المصبغ من الثياب وقنعهما بمقانع ونادى عليهما وحسبهما ومضى إلى سجستان
وخلع الخليفة المعتز بالله لثلاث خلون من رجب من هذه السنة وتولى الخلافة الإمام المهتدي بالله في ذلك اليوم وخلع المهتدي بالله مع صلاة الظهر من يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين وبويع المعتمد على الله
ولم يكن ليعقوب الصفار في خلافة المهتدي كبير أمر بل كان

410
يغزو ويحارب من يليه من الملوك بسجستان وأعمالها ويتطرف كور خراسان وما قرب من قوهستان ونواحي هراة وبوشنج وما اتصل بسجستان
ثم عاد يعقوب إلى بلاد فارس وجبى غلاتها ورجع بثلاثين ألف ألف درهم وصار إلى سجستان وأقام محمد بن واصل بفارس يتولى الحرب والخراج ويكاتب الخليفة ويحمل بعض ما يجبى من الأموال فكان مقدار ما يحمل في السنة خمسة آلاف ألف درهم من الخراج ببلاد فارس وكان مقيما بها غلبة عليها ولو أمكن الخليفة صرفه عنها ببعض أوليائه لما أقره
ثم ورد الخبر في جمادى الآخرة من سنة ثمان وخمسين ومائتين بدخول يعقوب مدينة بلخ ثم خرج منها ودخل نيسابور في ذي القعدة من سنة تسع وخمسين ومائتين واحتاط على محمد بن طاهر الخزاعي أمير خراسان وجميع الطاهرية ثم خرج عنها في المحرم من سنة ستين ومائتين ومعه محمد بن طاهر مقيدا ونيف وستون من أهله
وتوجه نحو جرجان للقاء الحسن بن زيد العلوي أمير طبرستان وجرجان ولما بلغ الحسن بن زيد أن يعقوب يقصده أخذ من أموال الخراج ثلاثة عشر ألف ألف درهم بقايا وسلفا وتخلص من جرجان إلى طبرستان ودخل يعقوب جرجان ووجه من أصحابه من أخذ سارية طبرستان وكان بجرجان يعلق على دوابه كل يوم ألف قفيز شعيرا ثم خرج يعقوب إلى طبرستان وخرج إليه الحسن بن زيد في خلق كثير وأعلم يعقوب أصحابه أنه يقتل من انهزم منهم وتقدم بنفسه للحرب فتبعه خمسمائة من عبيده فحمل على الحسن وأصحابه حملة واحدة فكانت الهزيمة على القوم وكان الحسن بن زيد قد أعد في كل قرية في طريقه لانهزامه برذونا وبغلا لأنه كان رجلا ثقيلا كثير اللحم وتلاحق أصحاب يعقوب به فتبع الحسن بن زيد في خمسة آلاف خيل جريدة وأخذ يعقوب مما كان مع الحسن بن زيد ثلاثمائة وقر مالا أكثرها عين وظفر بجماعة من آل أبي طالب فأساء إليهم وأسرهم وكانت الوقعة يوم الاثنين لأربع بقين من رجب سنة ستين ومائتين

411
ثم تقدم يعقوب فدخل آمل قلت وهي بالهمزة الممدودة والميم المضمومة وبعدها لام وهي كرسي بلاد طبرستان قال وهرب الحسن بن زيد إلى مدينة يقال لها سالوس فلم يجد من أهلها ما كان يعرفه منهم فتنحى عنهم ثم خرج يعقوب من آمل فطلب الحسن بن زيد فرحل مرحلة واحدة وبلغه الخبر أن الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر قد دخل مرو الروذ ومعه صاحب خوارزم في ألفي تركي فانزعج يعقوب لذلك وقصر من الإيغال في طلب الحسن بن زيد فرجع وكتب إلى أمير الري في ذي الحجة من سنة ستين يأمره أن يخرج من الري ويعلمه أن أمير المؤمنين قد ولاه إياه فبلغ ذلك الخليفة فأنكره وعاقب غلمانه الذين كانوا ببغداد بالحبس وأخذ الأموال
ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائتين ويعقوب ببلاد طبرستان فخرج في المحرم يريد جرجان فلحقه الحسن بن زيد من ناحية البحر فيمن اجتمع إليه من الديلم وأهل الجبال وطبرستان فشعث من يعقوب وقتل من لحق من أصحابه فانهزم يعقوب إلى جرجان فجاءت بها زلزلة عظيمة قتلت من أصحابه ألفي إنسان ورجعت طبرستان إلى الحسن بن زيد وهي آمل وسارية وما يتصل بهما وأقام يعقوب بجرجان يعسف أهلها بالخراج ويأخذ أموال الناس ودامت الزلزلة ثلاثة أيام وأتى جماعة من أهل جرجان إلى بغداد فسئلوا عن يعقوب الصفار فذكروه بالجبروت والعسف فعزم الخليفة على النهوض إليه واستعد لذلك ولما رجع الصفار إلى جوار الري ورجع الحاج عن الموسم كتب الخليفة المعتمد على الله إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بن الحسين وهو يومئذ متولي العراق بأن يجمع الحاج من أهل خراسان وطبرستان وجرجان والري ويقرأ عليهم كتابا منه إليه فجمع الحاج القادمين من أقاصي البلاد وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين بالوقوع في الصفار وعمل ثلاثين نسخة ودفع إلى أهل كل كورة نسخة لتذيع الأخبار بهذه النسخ في الآفاق
ونمي الخبر إلى يعقوب الصفار بما كان من حبس غلمانه وما كان من جمع الحاج في دار عبيد الله وما دفع

412
إليه من النسخ وانكشف له رأي الخليفة في قصده فرجع إلى نيسابور وإنما رجع لأنه لم يجد عدة تصلح للقاء الخليفة ولما دخل إلى نيسابور أساء إلى أهلها بأخذ الأموال ورجع يريد جهة سجستان في جمادى الأولى من سنة إحدى وستين ومائتين
ولما رجع إلى سجستان خرجت كتب الخليفة إلى أصحاب الممالك بخراسان وذوي الجاه والعدد بتولية كل رجل ناحية فوردت الكتب وأصحاب الصفار متفرقون في كور خراسان
ثم إن الصفار وصل إلى عسكر مكرم من أعمال خوزستان وكاتب الخليفة وسأله ولاية خراسان وبلاد فارس وما كان مضموما إلى آل طاهر بن الحسين الخزاعي من الكور وشرطتي بغداد وسر من رأى وأن يعقد له على طبرستان وجرجان والري وأذربيجان وقزوين وأن يعقد له على كرمان وسجستان والسند وأن يحضر من قرئت عليهم الكتب التي نسخت في دار عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ويقرأ عليهم خلاف ما قرىء عليهم أولا من ذكره ليبطل ذلك الكتاب بهذا الكتاب ففعل ذلك الموفق بالله أبو أحمد طلحة بن المتوكل على الله وهو أخو الخليفة المعتمد على الله والد المعتضد بالله الخليفة القائم بعد عمه المعتمد على الله وكان الموفق مستوليا على الأمور كلها وليس للمعتمد معه سوى اسم الخلافة لا غير وأجابه إلى ما طلب وجمع الناس وقرأ عليهم ما أحبه الصفار وأجيب إلى الولاية التي طلبها واضطربت الموالي بسر من رأى من إجابة الخليفة إلى ما طلبه الصفار وتحركوا
ثم إن الصفار لم يلتفت إلى ما أجيب إليه من ذلك ودخل السوس وهي أيضا مدينة من أعمال خوزستان بالقرب من عسكر مكرم ولما دخلها عزم على محاربة الخليفة المعتمد وتأهب له الخليفة لينحدر إليه في دجلة ثم تقدم الصفار وتقدم إليه عسكر الخليفة وقد كانت الموالي ارتابت واتهمت الأمير الموفق وتوهمت أن إقبال الصفار بسبب ما أنفذ إليه من الكتب وإلا فأي عجيب أعجب من خارج قصد من زرنج كرسي سجستان وهي الحد الفاصل بين السند والترك وخراسان والوصول إلى بلاد العراق لمحاربة الخليفة وهو في جيوشه وعدده وتقادم مملكته في شرق الأرض وغربها والصفار منفرد

413
بجيشه ليس معه من يعضده ولا يشاركه في هذا الأمر ولما بلغ الخليفة ذلك دعا ببرد النبي صلى الله عليه وسلم وقضيبه وأخذ القوس ليكون أول من رمى ولعن الصفار فطابت أنفس الموالي
ولما كان صبيحة الأحد لتسع خلون من رجب وردت عساكر الصفار في التعبية إلى موضع يقال له اصطربند وهي قرية بين السيب ودير العاقول من النهروان الأوسط وجمع أصحابه ليحمل بهم وتقدم بنفسه كما كان يفعل قبل ذلك وأقبل وعليه دراعة ديباج سوداء ولما تواقف الصفان خرج من الموالي خشتج القائد فقام بين الصفين وقال لأصحاب الصفار يا أهل خراسان وسجستان ما عرفناكم إلا بطاعة السلطان وتلاوة القرآن وحج البيت وطلب الإنكار وإن دينكم لا يتم إلا باتباع الإمام وما نشك أن هذا الملعون قدموه عليكم وقال لكم إن السلطان قد كتب إليه بالحضور وهذا السلطان قد خرج لمحاربته فمن آثر منكم الحق وتمسك بدينه وشرائع الإسلام فلينفرد عنه إذ كان شاقا للعصا محاربا للسلطان فلم يجيبوه عن كلامه وكان هذا خشتج شجاعا مقداما
ولما تخلص محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين أمير خراسان من أسر الصفار وقد تقدم ذكر أسره وحمله مقيدا قال له خشتج يا آل طاهر اشتريتمونا بأموالكم وأهديتمونا إلى ولد العباس فاستخلفونا وملكونا الضياع والأموال حتى قدنا الجيوش وحاربنا عن بيضة الإسلام فلم نخرج من الدنيا حتى حاربنا الصفار عنك يا والي خراسان مع مولانا أمير المؤمنين وخلصناك بعد الأسر والقيد الثقيل من مدينة إلى مدينة على بغل إكاف ورددناك من العراق إلى خراسان فالحمد لله على ما تفضل به مولانا من خلاصك وأولانا هذا الفعل الجميل فيك

414
رجعنا إلى تتمة خبر الصفار
قال الراوي وحزر عسكر الصفار فكانت مساحة معسكره ميلا في ميل وكانت دوابهم في غاية الفراهة وقيل إن جمعهم كان يزيد على عشرة آلاف إنسان ووضع الخليفة العطاء في الجند وقطع ما في الطريق من الشجر والدغل واستعدوا للحرب وجدوا فيها وشمروا وقيل ما هو إلا أن تنصروا أو تنهزموا فلا ترجع دولتكم إليكم ووقف الخليفة المعتمد بنفسه وإلى جانب ركابه محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني وقد تقدم ذكر جده يزيد بن مزيد ووقف معه جماعة اكتنفوا الخليفة من أهل البأس والنجدة وتقدم بين يديه الرماة بالنشاب وكشف الموفق أخو الخليفة رأسه وقال أنا الغلام الهاشمي وحمل على أصحاب الصفار وقتل بين الطائفتين خلق كثير فلما رأى الصفار تلك الحال ولى راجعا تاركا أمواله وخزائنه وذخائره ومر على وجهه فلم تتبعه العساكر وما أفلت من أصحابه رجل إلا بسهم أصابه وأدركهم الليل فتساقطوا في الأنهار لازدحامهم وثقل الجراح بهم قال أبو الساج داود ابن دوست الذي تنسب إليه الأجناد الساجية ببغداد للصفار لما انهزم ما رأيت معك شيئا من تدبير الحروب وكيف كنت تغلب الناس فإنك جعلت ثقلك وأموالك وأسراك أمامك وقصدت بلدا على قلة المعرفة منك به وبمغايصه وأنهاره بغير دليل وقاتلت يوم الأحد والريح عليك وسرت من السوس إلى واسط في أربعين يوما وأحوال العساكر مختلة فلما توافت عددهم وجاءتهم أموالهم واستحكم أمرهم عليك أقبلت من واسط إلى دير العاقول في يومين وتأخرت عند إمكان الفرصة وأقبلت تعدو في موضع التثبت فقال الصفار لم أعلم أني أحارب ولم أشك في الظفر وتوهمت أن الرسل ترد علي فبدروا الأمر فأتيت بما قدرت عليه
قلت هذا آخر ما نقلته من كلام ابن الأزهر مع الاختصار

415
ونقلت من تاريخ أبي الحسين عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر الذي جعله ذيلا على تاريخ أبيه في أخبار ببغداد وقد أطال القول فيه فاختصرته وحذفت ما تكرر منه فقال كان وثوب يعقوب بن الليث على درهم وغلبته على سجستان يوم السبت لخمس خلون من المحرم سنة سبع وأربعين ومائتين وكانت ولاية درهم بن نضر كذا ثلاث سنين
بعد إخراجه صالح بن النضر وهو رجل من بني كنانة من سجستان في ذي الحجة سنة سبع وثلاثين ومائتين ولم يزل يعقوب الصفار مقيما بسجستان يحارب الشراة والأتراك ويظهر أنه متطوعي حتى كانت سنة ثلاث وخمسين ومائتين فخرج إلى هراة ثم قصد بوشنج وحاصرها وأخذها عنوة وكان ذلك في خلافة المعتز ومات المعتز ويعقوب على حاله ولم يزل على ذلك إلى أيام المعتمد على الله ثم دخل بلخ وخرج منها ثم وصل إلى رامهرمز وهو يظهر الطاعة للخليفة المعتمد وذلك في المحرم من سنة اثنتين وستين ومائتين ثم أرسل رسله إلى المعتمد فدخلوا بغداد لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة من السنة المذكورة ثم صار إلى واسط وأقام بها نائبا عنه ثم صار إلى دير العاقول يوم السبت لثمان خلون من رجب ثم صار إلى اصطربند فنزل بها ولما اتصل خبره بالمعتمد وأنه يقصد بغداد جمع أصحابه من الأطراف وخرج من سر من رأى قاصدا لمحاربته ودخل بغداد يوم الأحد لخمس بقين من ذي الحجة من السنة
قال أبو الفرج كاتب القاضي أبي عمر لما نهض الخليفة لمحاربة الصفار لم تزل كتبه تسير إليه من الطريق يؤمر بالانصراف ويحذر سوء عاقبة فعله وأن أمير المؤمنين قد نهض إليه في العدد والعدد وكتب الصفار واردة بأني قد علمت نهوض أمير المؤمنين ليشرفني وينبه على موقعي منه ثم عبى الخليفة جيشه للقتال على القرية المذكورة وأرسلوا الماء على طريق الصفار فكان سبب هزيمته فإنهم أخذوا عليه الطريق وهو لا يدري واصطف الفريقان ولم

416
يزل القوم يحمل بعضهم على بعض حتى انهزم الصفار فغنم الناس من أثقاله غنيمة عظيمة وتوهموا أن ذلك حيلة منه ومكر ولولا ذلك لاتبعوه ولقد حدثني من حضر ذلك أن رشق الجند الموالي كان في ذلك الوقت عشرين ألف سهم وانصرف الخليفة مسرورا بما فتح الله عليه
وكان ممن تخلص من أسره ذلك اليوم أبو عبد الله محمد بن طاهر أمير خراسان وجاء إلى الخليفة وهو في قيده ففك الخليفة عنه القيد وخلع عليه خلعة سلطانية
وذكر المعتمد ذلك النهار أنه رأى تلك الليلة في المنام كأن إنسانا كتب على صدره * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) * الفتح 1 وقص الرؤيا على خواصه وقال لهم قد وثقت بنصر الله تعالى
وقبل الوقعة وردت كتب الصفار إلى الخليفة وفيها خضوع وتضرع ويخبر بأنه لم يجئ إلا لخدمة أمير المؤمنين والتشرف بالمثول بين يديه والنظر إليه وأن يموت تحت ركابه فقال المعتمد نحن في مخاريق الصفار بعد أعلموه أنه ما له عندي إلا السيف
وأمر الخليفة بالكتاب إلى أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وهو عم محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر يخبره بالفتح وخلاص ابن أخيه محمد بن طاهر فكتب إليه وهو يومئذ يتولى الشرطة ببغداد نيابة عن ابن أخيه المذكور فإنه كان يتولى خراسان وشرطتي بغداد وسر من رأى وفي الكتاب فصول طويلة وحاصله أنه عدد ذنوب الصفار وما قابله به الخليفة من الإحسان والإنعام وأنه قلده خراسان والبلاد التي تقدم ذكرها قبل هذا وأنه رفع مرتبته وأمر بتكنيته في كتبه وأقطعه الضياع السنية ولم يبق شيء مما يقدر فيه استصلاحه إلا فعله فما زاده ذلك إلا البغي والطغيان والتمس أشياء إن رد عنها قصد أبواب أمير المؤمنين لإثارة الفتنة وابتغاء الغلبة فلم ير أمير المؤمنين إجابته إلى ما التمسه وتابع الكتب بالرجوع إلى أعماله الجليلة التي ولاه إياها وحذره التعرض لزوال النعم التي أنعم الله عليه بها فقد خالفه وعصاه وخرج عن طاعته وعرفه أنه إن أقام على المصير إلى الباب فقد عصاه وخرج عن طاعته ثم وجه إليه في ذلك مرة بعد أخرى مع جماعة

417
من القضاة والفقهاء والقواد وقدر بتوجههم إليه أنه يرجع إلى ما هو ألزم به وأوجب عليه فأقام على سبيل واحد في البغي والعناد والعصيان ولم يثنه الإرشاد ولم يزل استحواذ الشيطان عليه يقوده إلى الحين ويصده عن سبيل النجاة إلى مهاوي الهلكة فلما تبين أمير المؤمنين ذلك منه رأي أن يقضي عليه في أمر مثله فنهض متوكلا على الله تعالى معتمدا على كفايته لدفع الملعون عما يحاوله وهو يغذ السير إلى المصرع الذي سبق به قضاء الله تعالى فيه حتى توسط الطريق بين مدينة السلام وواسط وأظهر أعلاما على بعضها الصلبان واستنجد أهل الشرك على أهل الإيمان وبارز الله بسريرته ليسلمه بجريرته وفارق شرائع الإسلام وأحكامه نقضا للعهود ونكثا وخفرا للذمة وإعلانا للمشاقة فقدم أمير المؤمنين أخاه الموفق بالله أحمد ولي عهد المسلمين ومعه جماعة من موالي أمير المؤمنين الذين أخلصوا لله طاعتهم وثبت في المحاماة عن دولته بصائرهم وأتبعهم أمير المؤمنين الرغبة إلى الله تعالى في تأييدهم ونصرهم على عدوهم ولعنه أمير المؤمنين في الأوقات والمواقف التي علم الله صدق نيته فيها وألحقه وبالها ووقف أمير المؤمنين يتأمل ما يكون من أخيه ومواليه وأوليائه ويواصل الإمداد والجيوش إليهم وكان الموفق بالله في قلب العسكر وظهر الملعون عدو الله في أشياع ضلالته قد ادرع العصيان وتسربل البغي واعتمد على وفور حشده وكثرة أتباعه فلما تراءى الجمعان شهر عدو الله وأشياع ضلالته السلاح وأسرعوا إلى موالي أمير المؤمنين وأوليائه وشرعت في الملعون وضلاله سيوف الحق باترة ورماحه طاعنة وسهامه نافذة حتى أثخن الملعون بالجراح ورأى أتباع ضلالته ما حل به فبادروا بالويل والثبور وأكب عليهم موالي أمير المؤمنين وأوليائه يقتلون فيهم ويأسرون منهم وعجل الله إلى النار من جماعته من لا يحصى عدده ولم يزل الأمر كذلك حتى انتزع أبو عبد الله محمد بن طاهر مولى أمير المؤمنين سالما من أيديهم وحسروا عن مستقرهم فولى الباقون منهزمين مفلولين لا يلوون على شيء وأسلم الله تعالى الملعون وهم وما كانوا حووه وملكوه في سالف الأيام التي أملى الله تعالى لهم فيها أقطار الأرض من الأموال والأمتعة والأثاث والإبل

418
والدواب والبغال والحمير فأفاءه الله على الموالي وسائر الأولياء وملكهم إياه وصاروا به إلى رحالهم
وعلى الجملة فإن هذا الكاتب أطال القول في ذلك فاختصرته ثم كتب في آخره وكتبه عبيد الله بن يحيى يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة اثنتين وستين ومائتين
ثم قال هذا المؤرخ بعد هذا ومضى الصفار منهزما إلى واسط يتخطف أصحابه أهل القرى وتؤخذ أسلحتهم واسلابهم ولم تتبعه الموالي مخافة رجعته ولاشتغالهم بالكسب والنهب فأمسكوا عنه ورجع الخليفة إلى معسكره ثم رجع الصفار إلى السوس وجبى الأموال ثم قصد تستر وحاصرها وأخذها ورتب فيها نائبا وكثر جمعه ثم رحل إلى
فارس في شوال وكان الخليفة قد رجع إلى المدائن وأقام بها يومين ثم رحل إلى بغداد ومنها إلى سر من رأى ودخلها يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان
ثم ذكر المؤرخ بعد هذا وورد الخبر على الخليفة بوفاة يعقوب بن الليث الصفار يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شوال والذي أصيب في بيوت أمواله من العين أربعة آلاف ألف دينار ومن الورق خمسون ألف ألف درهم ووافى أحمد بن أبي الأصبغ يوم الخميس لسبع بقين من شوال وقد كان الخليفة أنفذه ليصلح أمر يعقوب فانصرف من عند يعقوب فلما قرب من واسط اتصل به وفاة يعقوب وقد كان قلد خراسان وفارس وكرمان والري وقم وأصبهان وصيرت إليه الشرطتان ببغداد وسر من رأى على أن يوليها من أحب وعلى أن يوجه ثلثي ما يجبى من خراج البلاد التي يتولاها من جميع الأعمال
وتولى أخوه عمرو بن الليث مكانه باجتماع عسكر يعقوب عليه ووردت كتب عمرو إلى الموفق أخي الخليفة المعتمد على الله بالسمع والطاعة وأن يتولى ما كان أخوه يتولاه فأجيب إلى سؤاله وولاه في ذي القعدة من السنة

419
قلت سياقة هذا التاريخ يدل على أن يعقوب الصفار توفي في بقية سنة اثنتين وستين ومائتين لأنه حكى الوقعة في هذه السنة وأن يعقوب انهزم
ثم قال عقيب هذا وورد الخبر بوفاة يعقوب في شوال ولم يذكر السنة فيدل على موته في تلك السنة
والذي أعرفه من عدة تواريخ خلاف هذا فإن أبا الحسين السلامي ذكر في كتاب تاريخ أخبار ولاة خراسان في أول الفصل المختص بعمرو بن الليث الصفار فقال كان سبب وفاة يعقوب بن الليث أنه أصابه القولنج فأشير عليه بالعلاج فامتنع منه واختار الموت عليه فمات بجنديسابور من خوزستان يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شوال من سنة خمس وستين ومائتين
قال أبو الوفاء الفارسي رأيت على قبر يعقوب بن الليث صحيفة وقد كتبوا عليها
(ملكت خراسانا وأكناف فارس
* وما كنت من ملك العراق بآيس)
(سلام على الدنيا وطيب نسيمها
* إذا لم يكن يعقوب فيها بجالس)
ورأيت بخطي في جملة مسوداتي أن يعقوب بن الليث الصفار توفي سنة خمس وستين ومائتين بالأهواز وحمل تابوته إلى جنديسابور فدفن بها وكتب على قبره هذا قبر يعقوب المسكين وكتب يعده
(أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
* ولم تخف سوء ما يأتي به القدر)
(وسالمتك الليالي فاغتررت بها
* وعند صفو الليالي يحدث الكدر)
ورأيت بخطي أيضا في موضع آخر أنه توفي بجنديسابور ودفن بميدانه والله أعلم وهو قاصد العراق في التاريخ المذكور
وكانت وفاته بعلة القولنج وأخبره طبيبه أن لا دواء له إلا الحقنة فامتنع منها واختار الموت عليها وكانت مدة علته بالقولنج والفواق ستة عشر يوما
ومدة تغلبه على سجستان وتلك النواحي أربع عشرة سنة وشهورا

420
وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه في سنة خمس وستين ومائتين أنه مات فيها يعقوب بن الليث في تاسع عشر شوال من السنة وذكر حديث القولنج وامتناعه من الحقنة وأنه مات بجنديسابور من كور الأهواز قلت وهي من أعمال خوزستان بين العراق وبلاد فارس وقال شيخنا أيضا وكان الخليفة المعتمد قد أنفذ إليه رسولا يترضاه ويستميله ويقلده أعمال فارس فوصل الرسول إليه ويعقوب مريض فجلس له وجعل عنده سيفا ورغيفا من خبز الخشكار ومعه بصل
وأحضر الرسول فأدى الرسالة وقال له قل للخليفة إني عليل فإن مت فقد استرحت منك واسترحت مني وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف حتى آخذ بثأري أو تكسرني وتفقرني فأعود إلى هذا الخبز والبصل وعاد الرسول فلم يلبث يعقوب أن مات
وقال بن حوقل في كتاب المسالك والممالك إن جنديسابور مدينة حصينة واسعة الخير وبها نخل وزروع كثيرة ومياه وقطنها يعقوب بن الليث الصفار لخصبها واتصالها بالمير الكثيرة
وكان الحسن بن زيد العلوي يسمى يعقوب السندان لثباته وكان قل أن يرى متبسما وكان عاقلا حازما وكان يقول كل من عاشرته أربعين يوما ولا تعرف أخلاقه لا تعرفها في أربعين سنة
(351) ولما تولى عمرو أحسن في التدبير والسياسة غاية الإحسان حتى يقال ما أدرك في حسن السياسة للجنود والهداية إلى قوانين المملكة منذ زمن طويل مثل عمرو بن الليث
وذكر السلامي في كتاب أخبار خراسان شيئا كثيرا من كفايته ونهضته وقيامه بقواعد الولاية فتركته طليا للاختصار
وذكر أنه كان ينفق في الجند في كل ثلاثة أشهر مرة ويحضر بنفسه على ذلك وأن عارض الجيش يقعد والأموال بين يديه والجند بأسرهم حاضرون وينادي المنادي أولا
باسم عمرو بن الليث فتقدم دابته إلى العارض بجميع آلة الفارس فيفتقدها ويأمر بوزن ثلاثمائة درهم باسم عمرو فتحمل إليه في صرة فيأخذ الصرة فيقبلها ويقول الحمد لله الذي وفقني لطاعة أمير المؤمنين حتى استوجبت منه الرزق ثم يضعها في خفه فتكون لمن ينزع خفه ثم يدعى بعد ذلك

421
بأصحاب الرسوم على مراتبهم فيستعرضون بآلاتهم التامة وبدوابهم الفره ويطالبون بجميع ما يحتاج إليه الفارس والراجل من صغير آلة وكبيرها فمن أخل بإحضار شيء منها حرموه رزقه فاعترض يوما فارسا كانت دابته في غاية الهزال فقال له عمرو يا هذا تأخذ مالنا تنفقه على امرأتك فتسمنها وتهزل دابتك التي عليها تحارب وبها تجد الأرزاق امض فليس لك عندي شيء فقال له الجندي جعلت لك الفداء لو اعترضت امرأتي لاستسمنت دابتي فضحك عمرو وأمر بإعطائه وقال استبدل بدابتك
قلت ذكر القاضي كمال الدين المعروف بابن العديم الحلبي رحمه الله تعالى في تاريخ حلب حكاية يليق أن أذكرها هاهنا لأنها مثل هذه الحكاية وهي
كان كسرى أنوشروان بن قباذ قد ولى رجلا من الكتاب نبيها معروفا بالعقل والكفاية يقال له بابك بن النهروان ديوان الجند فقال لكسرى أيها الملك إنك قد قلدتني أمرا من صلاحه أن تحتمل لي بعض الغلظة في الأمور وهي عرض الجنود في كل أربعة أشهر وآخذ كل طبقة بكمال آلتها ومحاسبة المؤدبين على ما يأخذون على تأديب الرجال بالفروسية والرمي والنظر في مبالغتهم في ذلك وتقصيرهم فإن ذلك ذريعة إلى إجراء السياسة مجاريها فقال كسرى ما المجاب بما سأل بأحظى من المجيب لاشتراكهما في فضله وانفراد المجيب بعد بالراحة حقق مقالتك فأمر فبنيت له في موضع العرض مصطبة وبسط له عليها الفرش الفاخرة ثم جلس ونادى مناديه لا يبقين أحد من المقاتلة إلا حضر للعرض فاجتمعوا ولم ير كسرى فأمرهم فانصرفوا وفعل ذلك في اليوم الثاني ولم ير كسرى فيهم فأمرهم فانصرفوا فنادى في اليوم الثالث أيها الناس لا يتخلفن من المقاتلة أحد ولا من أكرم بالتاج والسرير فإنه عرض لا رخصة فيه ولا محاباة وبلغ كسرى ذلك فتسلح بسلاحه ثم ركب فاعترض على بابك وكان الذي يؤخذ به الفارس تجفافا ودرعا وجوشنا وبيضة ومغفرا وساعدين وساقين ورمحا وترسا وجزرا تلزمه منطقة وطبرزينا وعمودا وجعبة فيها قوسان بوتريهما وثلاثين نشابة ووترين

422
ملفوفين يعلقهما الفارس في مغفره ظهريا فاعترض كسرى على بابك بسلاح تام خلا الوترين اللذين يستظهر بهما فلم يجز بابك على اسمه فذكر كسرى الوترين فعلقهما في مغفره واعترض على بابك فأجاز على اسمه وقال لسيد الكماة أربعة آلاف درهم ودرهم وكان أكثر ماله من الرزق أربعة آلاف درهم ففضل كسرى بدرهم واحد
فلما قام بابك من مجلسه دخل على كسرى فقال أيها الملك لا تلمني على ما كان من إغلاظي فما أردت به إلا الدربة للمعدلة والإنصاف وحسم مادة المحاباة
قال كسرى ما أغلظ علينا أحد فيما يريد به إقامة أودنا وصلاح ملكنا إلا احتملنا له غلظته كاحتمال الرجل شرب الدواء الكريه لما يرجوه من منفعته
رجعنا إلى تتمة أخبار عمرو بن الليث الصفار
قال السلامي أيضا كان رافع بن هرثمة تبعا لأبي ثور وكان أبو ثور أحد قواد محمد بن طاهر الخزاعي فلما وافى يعقوب الصفار نيسابور كان أبو ثور من جملة من مايل يعقوب على محمد بن طاهر فلما انصرف يعقوب إلى سجستان صحبه أبو ثور ومعه رافع بن هرثمة وكان رجلا طويل اللحية كريه الوجه قليل الطلاقة فدخل يوما إلى يعقوب فلما خرج من عنده قال يعقوب إني لا أميل إلى هذا الرجل فليلحق بحيث شاء فباع رافع جميع آلاته ثم انصرف إلى منزله بيامين وهي من قرى كنج رستاق وأقام هناك إلى أن استقدمه أحمد بن عبد الله الخجستاني وخجستان من جبل هراة من قرى بادغيس وكان الخجستاني من أتباع يعقوب الصفار ثم خلع طاعته وتغلب على نيسابور وبسطام في سنة إحدى وستين ومائتين وكان يظهر الميل إلى الطاهرية مستميلا بذلك قلوب أهل نيسابور إليه حتى إنه كان يكتب في كتبه أحمد بن عبد الله الطاهري

423
ثم كتب الخجستاني إلى رافع بن هرثمة وهو في بلده يستقدمه فقدم عليه فجعله صاحب جيشه
وللخجستاني حروب ومواقف مشهورة وليس الغرض ذكر شيء منها هاهنا
ثم إن غلامين من غلمانه اتفقا عليه وقتلاه وقد سكر ونام وذلك في ليلة الأربعاء لست بقين من شوال سنة ثمان وستين ومائتين
وكان رافع بن هرثمة غائبا فقدم بعد ذلك على جيش الخجستاني فقدموه عليهم وبايعوه بمدينة هراة وقيل بنيسابور
ثم عزل الموفق بالله عمرو بن الليث الصفار عن ولاية خراسان وجعلها لأبي عبد الله محمد بن طاهر الخزاعي في سنة إحدى وسبعين ومائتين وهو مقيم ببغداد فاستخلف محمد بن طاهر عليها رافع بن هرثمة ما خلا أعمال ما وراء النهر فإن الموفق بالله أقر عليها نصر بن أحمد بن أسد الساماني خليفة لمحمد بن طاهر
ثم وردت كتب الموفق على رافع بقصد جرجان وطبرستان وكانتا للحسن ابن زيد العلوي وتوفي سنة سبعين ومائتين واستولى عليهما أخوه محمد ابن زيد فجاءه رافع في سنة أربع وسبعين ففارقها محمد بن زيد إلى استراباذ فحاصره بها رافع مدة سنتين ثم فارقها ليلا في نفر يسير إلى بلاد الديلم
واستولى رافع على طبرستان في سنة سبع وسبعين ومائتين
ثم توفي الخليفة المعتمد على الله في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين وتولى الخلافة بعده المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق المذكور وولى المعتضد أبا إبراهيم إسماعيل بن أحمد الساماني ما وراء النهر بعد وفاة أخيه نصر بن أحمد المذكور قلت وكانت وفاة نصر لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين بسمرقند قال وعزل رافع بن هرثمة عن خراسان وولاها عمرو بن الليث وبقي رافع بالري ثم إنه هادن الملوك المجاورين له ليستعين بهم على عمرو بن الليث فلما تم له ذلك خرج إلى نيسابور فواقعه عمرو بن الليث في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثمانين وهزمه عمرو وتبعه إلى

424
أبيورد وقصد رافع أن يخرج منها إلى هراة أو مرو فعلم عمرو أن مقصده سرخس فقصدها عمرو ليأخذ عليه الطريق فعلم رافع ذلك فخرج من أبيورد ومعه دليل فأخذ به على جبال طوس حتى أورده باب نيسابور فدخلها فعاد عمرو إليها وحاصره بها فانهزم رافع وأصحابه ووصل إلى نواحي خوارزم على الجمازات وحمل ما كان معه من آلة ومال في شرذمة قليلة وذلك يوم السبت لخمس بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائتين فوجه إليه أمير خوارزم نائبا يقوم بخدمته وما يحتاج إليه إلى أن
يصل خوارزم فوجده النائب في خف من أصحابه فقتله لسبع خلون من شوال يوم الجمعة سنة ثلاث وثمانين وحز رأسه وحمله إلى عمرو بن الليث وهو بنيسابور فأنفذ عمرو رأسه إلى المعتضد بالله ولم يكن رافع ابن هرثمة وإنما هرثمة زوج أمه فانتسب رافع إليه لأنه أشهر ورافع ابن تومرد
وقال ابن جرير الطبري في تاريخه في سنة ثلاث وثمانين وفي يوم الجمعة لثمان بقين من ذي القعدة قرئت الكتب على المنابر بقتل رافع بن هرثمة وقدم رسول عمرو بن الليث برأس رافع إلى بغداد يوم الخميس لأربع خلون من المحرم سنة أربع وثمانين ومائتين على المعتضد فأمر بنصبه في الجانب الشرقي إلى الظهر ثم تحويله إلى الجانب الغربي بقية النهار إلى الليل ثم ردوه إلى دار السلطان قال السلامي وصفت خراسان إلى شط جيحون لعمرو بن الليث
قلت وقد مدح البحتري الشاعر المشهور رافع بن هرثمة وكناه أبا يوسف في مديحه وأرسلها إليه فأرسل له عشرين ألف درهم وهو بالعراق
قال السلامي ولما وجه عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة إلى المعتضد سأل أن يولوه عمل ما وراء النهر مثل ما كان برسم عبد الله بن طاهر فوعدوه بذلك ثم أرسل إليه المعتضد هدايا فوصلته وهو في نيسابور فأبى أن يقبلها دون الوفاء بما وعدوه من تولية أعمال ما وراء النهر فكتب الرسول إلى المكتفي بالله بن المعتضد وكان بالري وعنده جماعة من خواص أبيه بما سأله عمرو فأنفذوا إليه العهد بها فحمل إليه العهد والهدايا التي سيرها له المعتضد بالله

425
وامتنع من أخذها وكان في الهدايا سبع دسوت خلع فوضعت بين يديه وأفاض عليه الرسول الخلع واحدة بعد أخرى وكلما لبس خلعة صلى ركعتين ثم وضع العهد قدامه فقال ما هذا قال الذي سألته فقال عمرو ما أصنع به فإن إسماعيل ابن أحمد لا يسلم إلي ذلك إلا بمائة ألف سيف فقال أنت سألته فشمر الآن لتتولى العمل في ناحيته فأخذ العهد وقبله ووضعه بين يديه ثم أنفذ عمرو إلى الرسول ومن معه سبعمائة ألف درهم وصرفهم ثم جهز عمرو جيشا إلى إسماعيل بن أحمد فعبر إسماعيل إليهم نهر جيحون وقاتلهم فقتل بعضهم وهزم الباقين وعمرو بن الليث الصفار في نيسابور وكانت الوقعة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شوال سنة ست وثمانين ومائتين وعاد إسماعيل إلى بخارا وهي من أعمال ما وراء النهر
قال السلامي انتدب عمرو بن الليث لمحاربة إسماعيل محمد بن بشر فلما عبر إسماعيل جيحون دخل موسى السجزي على محمد بن بشر وهو يحلق رأسه فقال له هل استأذنت إسماعيل في حلق رأسك يعني أن رأسه لإسماعيل لأنه انتصب لمحاربته فقال له محمد اغرب عني لعنك الله ثم تحاربوا من الغد فانكشف أصحاب بشر وقبضوا عليه وحز رأسه في جملة سائر الرؤوس وحملوها إلى إسماعيل وأدخلوا جماعة من أصحابه ليميزوا الرؤوس عن رأس ابن بشر فأعلم بعضهم إسماعيل بما قال موسى السجزي لابن بشر فتعجب مما جرى الفأل به
وذكر الطبري في تاريخه في سنة سبع وثمانين ومائتين ما مثاله وفي يوم الأربعاء لخمس بقين من جمادى الأولى ورد كتاب فيما ذكر على السلطان أنه كانت بين إسماعيل بن أحمد وبين عمرو بن الليث وقعة فأسر عمرا واستباح عسكره
وكان من خبر عمرو وإسماعيل أن عمرا سأل السلطان أن يوليه ما وراء النهر فولاه ذلك ووجه إليه وهو مقيم بنيسابور بالخلع واللواء على ما وراء النهر لمحاربة إسماعيل بن أحمد فكتب إليه إسماعيل إنك قد وليت

426
دنيا عريضة وأنا في يدي ما وراء النهر وأنا في ثغر فاقنع بما في يدك واتركني مقيما بهذا الثغر فأبى إجابته إلى ذلك وذكر له من أمر نهر بلخ وشدة عبوره فقال عمرو لو أشاء أن أسكره ببدر الأموال وأعبره لفعلت
فلما يئس إسماعيل من انصرافه عنه جمع من معه من التناء والدهاقين وعبر النهر إلى الجانب الغربي وجاء عمرو بن الليث فنزل بلخ وأخذ إسماعيل عليه النواحي فصار كالمحاصر وندم على ما فعل وطلب المحاجزة فيما ذكر فأبى إسماعيل عليه ذلك ولم يكن بينهم قتال كثير حتى هزم عمرو فولى هاربا ومر بأجمة في طريقه قيل له إنها أقرب فقال لعامة من معه امضوا في الطريق الواضح ومضى في نفر يسير فدخل الأجمة ووحلت به دابته فوقعت ولم يكن له في نفسه حيلة ومضى من معه ولم يلووا عليه وجاء أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرا فلما بلغ المعتضد ما جرى مدح إسماعيل وذم عمرا وقال يقلد أبو إبراهيم إسماعيل كل ما في يد عمرو ويوجه إليه بالخلع
ثم ذكر الطبري أيضا في سنة ثمان وثمانين ما مثاله وفي أول جمادى الأولى يوم الخميس أدخل عمرو بن الليث بغداد وذكر لي أن إسماعيل بن أحمد خيره بين المقام عنده أسيرا وبين توجيهه إلى أمير المؤمنين فاختار توجيهه إلى أمير المؤمنين فوجهه
وقال السلامي في أخبار خراسان ثم خرج عمرو إلى بلخ فلاقاه بها إسماعيل فهزمه وقبض عليه وذلك يوم الثلاثاء النصف من ربيع الأول سنة سبع وثمانين ومائتين وأنفذه مقيدا إلى سمرقند قلت وهي من بلاد ما وراء النهر أيضا وهذا النهر هو جيحون قال وضم إليه أخاه أبا يوسف ليخدمه إلى أن ورد عليه من عند المعتضد عبد الله بن الفتح بعهد خراسان واللواء والتاج والخلع في سنة ثمان وثمانين وقدم معه إنسان ليتولى حمل عمرو بن

427
الليث إلى بغداد فسلمه إسماعيل إليه فحمله
وقال ابن أبي طاهر المذكور قبل هذا في تاريخه إن عمرو بن الليث الصفار انهزم وقتل خلق كثير من أصحابه
وكانت الوقعة على باب بلخ يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة سبع وثمانين ومائتين وقبل ذلك هرب ابن أبي ربيعة كاتب عمرو بن الليث إلى إسماعيل بن أحمد ومعه قائد من قواده في خلق كثير فأصبح عمرو في يوم الوقعة وقد عرف الخبر ثم كثر هرب أصحابه إلى إسماعيل فضعف قلب عمرو وهرب واشتغل إسماعيل بالعسكر وبعث في طلب عمرو جيشا فوجده واقفا على فرس فقبضوا عليه وسيره إسماعيل إلى المعتضد وأخبره بما جرى وأنه سيره إلى سمرقند حتى يرد عليه أمر أمير المؤمنين فاشتد سرور الخليفة بذلك وقلد الخليفة إسماعيل ما كان مقلده عمرو مضافا إلى عمله
وتوجه عبد الله بن الفتح إلى إسماعيل في طلب عمرو فلما وصل إلى إسماعيل وجه إليه فأحضر عمرا فقيده وأرسله وإلى جانبه رجل من أصحاب إسماعيل بيده سيف مشهور وقيل لعمرو إن تحرك في أمرك أحد رمينا رأسك إليهم فلم يتحرك أحد ووصلوا إلى النهروان يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وحل قيد عمرو فلما كان يوم الخميس مستهل جمادى الأولى ركب الجند للقائه وعمرو في القبة قد أرخى جلالها عليه فلما بلغ باب السلامة أنزل عمرو من القبة وألبس دراعة ديباج وبرنس السخط وحمل على جمل له سنامان يقال له إذا كان ضخما على هذه الصورة الفالج في غاية الارتفاع وكان عمرو قد أهداه فيما أهدى للخليفة وقد ألبس الجمل الديباج وحلي بذوائب وأرسان مفضضة وأدخل بغداد فاشتقها في الشارع الأعظم إلى دار الخليفة بقصر الحسني وعمرو رافع يديه يدعو ويتضرع دهاء منه فرقت له العامة وأمسكت عن الدعاء عليه ثم أدخل على الخليفة وقد جلس له واحتفل به فوقف بين يديه ساعة وبينهما قدر خمسين ذراعا وقال له هذا ببغيك يا عمرو ثم أخرج من

428
بين يديه إلى حجرة قد أعدت له وكان أخوه يعقوب الصفار قد تزوج امرأة من العرب من بلد سجستان فلما توفي يعقوب تزوجها أخوه عمرو ثم توفيت ولم تخلف ولدا وكان لها ألف وسبعمائة جارية
قال بعضهم كنت عند أبي علي الحسين بن محمد بن الفهم المحدث فدخل رجل من أصحاب الحديث فقال له يا أبا علي رأيت عمرو بن الصفار أمس على جمل فالج من الجمال التي كان أهداها عمرو منذ ثلاث سنين للخليفة فأنشد أبو علي
(وحسبك بالصفار نبلا وعزة
* يروح ويغدو في الجيوش أميرا)
(حباهم بأجمال ولم يدر أنه
* على جمل منها يقاد أسيرا)
وعمل في ذلك علي بن محمد بن نصر بن بسام الشاعر المقدم ذكره
(أيها المغتر بالدنيا
* أما أبصرت عمرا)
(أركب الفالج بعد الملك
* والعزة قسرا)
(وعليه برنس للسخط
* إذلالا وقهرا)
(رافعا كفيه يدعو
* الله إسرارا وجهرا)
(أن ينجيه من القتل
* وأن يعمل صفرا)
قال الطبري وتوفي المعتضد بالله ليلة الاثنين لثمان بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين
وتولى الخلافة ولده المكتفي بالله أبو محمد علي وكان غائبا في الرقة عند موت أبيه فقدم بغداد وأمر يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الآخرة من السنة المذكورة بهدم المطامير التي كان أبوه احتفرها لأهل الجرائم
ومات عمرو بن الليث الصفار في غد هذا اليوم ودفن بالقرب من القصر الحسني وقد كان المعتضد عند موته لما امتنع من الكلام أمر بقتل عمرو بالإيماء والإشارة ووضع يده على رقبته وعلى عينه أي اذبحوا الأعور

429
وكان عمرو أعور فلم يفعل صافي الحرمي ذلك وهو الذي أمره المعتضد بقتله وإنما امتنع من قتله لعلمه بحال المعتضد وقرب وفاته وكره قتل عمرو
ولما دخل المكتفي بغداد سأل فيما قيل القاسم بن عبيد الله عن عمرو أحي هو فقال نعم فسر بحياته وقال أريد أن أحسن إليه
وكان عمرو يهدي إلى المكتفي ويبره برا كثيرا أيام مقامه بالري في حياة أبيه المعتضد فذكر أن القاسم كره سؤاله عنه ودس إليه من قتله
وكانت مدة مملكته اثنتين وعشرين سنة تقريبا
قلت وإنما قيل ليعقوب الصفار لأنه كان يعمل الصفر وهو النحاس وهو بضم الصاد المهملة وسكون الفاء وبعدها راء
وكان أخوه عمرو يكري الحمير
حكى شيخ من الصفارين قال كان يعقوب وهو غلام في دكانه يتعلم عمل الصفر ولم أزل أتأمل بين عينيه وهو صغير ما آل أمره إليه قيل له وكيف ذلك قال ما تأملته قط من حيث لا يعلم بتأملي إياه إلا وجدته مطرقا إطراق ذي همة وفكر وروية فكان من أمره ما كان
وقال علي بن المرزبان الأصفهاني الكاتب سألت بعض أصحاب بني الصفار عن عمرو بن الليث أخي يعقوب بن الليث الصفار وصناعته وعمر يومئذ محبوس بمدينة
السلام فسكت عني فلما توفي عمرو قال لي كنت سألتني عن عمرو وصناعته ولم يكن من الحزم إخبارك وهو يرجى ويخشى فاعلم الآن أنه لم يزل مكاريا إلى أن عظم شأن أخيه يعقوب وتمكن من خراسان فلحق به وترك إكراء الحمير
قلت ذكر جماعة من أرباب التواريخ في كتبهم أن أبا أحمد عبيد الله ابن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي المقدم ذكره في هذا الكتاب كان يقول عجائب الدنيا ثلاث جيش العباس بن عمرو الغنوي يؤسر العباس وحده وينجو من القتل ثم يطلق ويقتل جميع جيشه وكانوا عشرة آلاف
وجيش عمرو بن الليث يؤسر عمرو وحده ويموت في السجن ويسلم جميع جيشه وكانوا

430
خمسين ألفا وأنا أترك في بيتي بطالا ويتولى ابني أبو العباس الجسرين ببغداد
(352) قلت وكان من حديث العباس بن عمرو الغنوي أن القرامطة لما اشتد أمرهم وانتشروا في البلاد وبالغوا في الفتك أرسل إليهم المعتضد بالله في سنة سبع وثمانين ومائتين جيشا مقدمه العباس المذكور فأسره أبو سعيد القرمطي رئيس القرامطة في الوقعة وأسر جميع من معه من الجيش
وفي اليوم الثاني من الوقعة أحضر أبو سعيد القرمطي الأسرى فقتلهم بأسرهم وأحرقهم وأطلق العباس فجاء إلى المعتضد وحده وكان ذلك في آخر شعبان من السنة وكانت الوقعة بين البصرة والبحرين
وهي قصة طويلة مشهورة وهذا خلاصتها إذ ليس هذا موضع التطويل في شرحها وسيأتي ذكرها مع الاستقصاء في التاريخ الكبير إن شاء الله تعالى
قلت والبيتان المذكوران قبل هذا وأنهما مكتوبان على قبر يعقوب الصفار وآخر البيت الأول منهما
(وما كنت من ملك العراق بآيس
*)
هذا نصف بيت من جملة أبيات ترنم بها معاوية بن أبي سفيان الأموي لما تغلب على الشام وجاءه جرير بن عبد الله البجلي برسالة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان علي إذ ذاك مقيما بالكوفة فلما أدى جرير الرسالة إلى معاوية وانفض المجلس أمر معاوية بنزول جرير في مكان قريب منه وجعل يترنم بهذه الأبيات تلك الليلة ليسمع جرير فيعيد ذلك على علي رضي الله عنه والأبيات المشار إليها هي
(تطاول ليلي واعتراني وساوسي
* لآت أتى بالترهات البسابس)
(أتاني جرير والحوادث جمة
* بتلك التي فيها اجتداع المعاطس)
(أكايده والسيف بيني وبينه
* ولست لأثواب الدني بلابس)
(إن الشام أعطت طاعة يمنية
* تواصفها أشياخها في المجالس)

431
(فإن يفعلوا أصدم عليا بجبهة
* تفت عليه كل رطب ويآبس)
(وإني لأرجو خير ما نال نائل
* وما أنا من ملك العراق بآيس)
قلت الترهات بضم التاء المثناة من فوقها وتشديد الراء وبعد الهاء والألف تاء ثانية
والبسابس بفتح الباء الموحدة وبعدها سين مهملة وبعد الألف باء ثانية مكسورة ثم سين ثانية وهي الباطل
وأصل الترهات الطرق الصغار غير الجادة تتشعب عنها الواحدة ترهة فارسي معرب ثم استعير في الباطل فقيل الترهات البسابس والجبهة الخيل والجبهة الجماعة من الناس أيضا فكأنه قال أصدره بالخيل والرجال والباقي معروف لا حاجة إلى تفسيره
(353) ورأيت بخط بعض أهل هذا الفن أن عمرو بن الليث لما أسر ملك بعده بلاد فارس حفيده طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث المذكور لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر سنة ثمان وثمانين ومائتين ثم قبض عليه غلام جده سبك السبكري في سنة ست وتسعين ومائتين ومعه أخوه يعقوب بن محمد وبعث بهما إلى مدينة السلام
(354) ثم ولي بعده الليث بن علي بن الليث وهو ابن أخي يعقوب وعمرو بن الليث المذكورين كان تغلب على بلاد سجستان في سنة ست وتسعين ومائتين وجرى بين سبك السبكري وطاهر بن محمد المذكور ما جرى واستقرت البلاد بيد السبكري فاستخلف الليث المذكور على سجستان أخاه المعدل بن الليث وسار إلى بلاد فارس فهرب السبكري منه يطلب من الخليفة النجدة فجرد المقتدر بالله الجيوش في شهر رمضان سنة ست وتسعين وقدم عليها مؤنسا المظفر وبدرا الكبير والحسين بن حمدان والتقوا مع الليث بن علي فانهزم جيشه وأسر هو وأخوه محمد وابنه إسماعيل وعاد مؤنس إلى بغداد ومعه الأسرى في المحرم سنة سبع وتسعين وشهر الليث بن علي على الفيل
وولي المعدل ابن علي بن الليث على سجستان فسار إليه أحمد بن إسماعيل الساماني في خلق كثير من الفارس والراجل فأخذ منه البلاد
ثم ملك سبك السبكري الصفار مدة ثم حمل معه محمد بن علي بن الليث إلى بغداد وانقضى أمر الصفارية والله أعلم

432
/ 1