مستدركات أعيان الشيعة (جزء 1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مستدركات أعيان الشيعة (جزء 1) - نسخه متنی

حسن امین

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: مستدركات أعيان الشيعة
المؤلف: حسن الأمين
الجزء: 1
الوفاة: 1368
المجموعة: مصادر التاريخ
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: 1418 - 1997 م
المطبعة:
الناشر: دار التعارف للمطبوعات - بيروت
ردمك:
ملاحظات:
مستدركات
أعيان الشيعة

1
مستدركات
أعيان الشيعة
المجلد الأول
الطبعة الثانية
حسن الأمين
دار التعارف للمطبوعات
بيروت

3
بسم الله الرحمن الرحيم
جميع الحقوق محفوظة
1418 ه‍ - 1997 م
دار التعارف للمطبوعات، المكتب، شارع سوريا - بناية درويش - المستودع، حارة حريك - شارع أبو علي رحال - تلفن 247280 ص. ب 8601 - بيروت - لبنان

4
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول حسن الأمين بن السيد محسن الأمين: كان من طريقة والدي في
كتابه (أعيان الشيعة) ان لا يترجم للأحياء، وبعد وفاته سنة 1371 توفي
الكثيرون من الأعيان الذين يجب ان يترجموا، وكنت بعد وفاته قد تتبعت أسماء
بعض من توفوا بعده وأعددت لهم تراجم نشرت في الطبعة الأخيرة وأشرت فيها
إلى انهم مما استدركتهم على الكتاب، وقد سقطت هذه الإشارة أثناء الطبع عن
بعض الأسماء كأسماء الشيخ خليل مغنية والسيد محمد باقر الصدر والسيد هبة
الدين الشهرستاني وغيرهم، ويستطيع القارئ ان يدرك ذلك من ملاحظته
تاريخ الوفاة، فجميع من يكون تاريخ وفاتهم بعد تاريخ وفاة المؤلف هم بالطبع
ممن استدركت تراجمهم على الكتاب.
ولم أستطع تتبع أسماء جميع من يستحقون الترجمة، لذلك فاتتني أسماء كثيرة
وبعد انتشار الطبعة الجديدة دونت تراجم من فاتني تدوين تراجمهم في تلك
الطبعة، ثم انني أثناء مطالعاتي وجدت معلومات تتعلق بمن كانت قد نشرت
تراجمهم من قبل وآثرت تدوينها كما وجدت ان بعض التراجم قد فاتت المؤلف،
فاجتمع من ذلك كله مقدار كبير مهم يجب ان يضاف إلى الأصل فرأيت اخراجه
في مجلد مستقل باسم (مستدركات أعيان الشيعة) وهو ما يراه القارئ في هذا
المجلد.
وإذا بقيت في الحياة بقية سأظل أتابع وأدون ما استمرت الحياة ومن الله
نسأل التوفيق والتسديد.
حسن الأمين
آتش، حيدر علي فيض ابادي
ولد سنة 1192 وتوفي في لكنو سنة 1263 شاعر هندي اشتهر بلقبه
آتش لذلك ترجمناه في حرف الألف.
شاعر جرئ، في شعره نفاسة في الخيال وقوة في الغرام، وهو ذو منهج
خاص في النسيب.
آصف الدولة
قامت في الهند ثلاث دول شيعية، هي: العادل شاهية، والقطب
شاهية، والنظام شاهية، وهذه كانت في الدكن جنوب الهند.
ثم قامت بعد ذلك دولة رابعة هي دولة (أود) في شرق الهند، ولم تكتف
هذه الدولة بتبني التشيع ونشر لوائه، بل كانت باعثا قويا على بث المعارف
والثقافة الاسلامية وأرقاء الأدب الأردوي. وكانت أول عاصمة لها مدينة فيض
آباد، وهناك كان النواب شجاع الدولة المتوفى سنة 1188 حيث التقى فيها من
سائر صنوف الناس أعلاها ومن جميع الطبقات أشرفها، وحيث ضمت إليها
من كبار الأدباء أمثال سودا ومير وغيرهما.
ثم قام مقامه ولده النواب ميرزا يحيى آصف الدولة فنقل عاصمة الدولة
من فيض آباد إلى لكنو. وكان آصف الدولة جوادا كريما شاعرا. وهو صاحب
فكرة إيصال الماء من الفرات إلى النجف الأشرف، وبذل في هذا السبيل أموالا
طائلة حتى وصل الماء إلى أقرب مكان يمكن إيصاله إليه، ولم يمكن إيصاله إلى
النجف نفسها لعلوها.
وفي عهد آصف الدولة زخرت لكنو بالعلماء والشعراء والكتاب
والمفكرين، وامتلأت بالمدارس والمكتبات لا سيما التي تضم أمهات الكتب
الشيعية، وبرز فيها أول مجتهد هندي شيعي هو السيد دلدار علي، ولمع فيها
أكابر شعراء اللغة الآردوية أمثال سوز أستاذ النواب نفسه، وكذلك مير تقي مير
وسودا من شعراء البلاط، ومصحفي ومير حسين ومير شير علي أفسوس
وغيرهم من شعراء العاصمة لكنو.
وتتابع بعده الملوك واحدا بعد الآخر سالكين السبيل نفسه حتى آخرهم
واجد علي شاه.
وقد كان آصف الدولة وواجد علي شاه من الشعراء المجيدين. وحتى اليوم
لا يزال الأدباء يسندون أصولهم إلى عهود لكنو، لأن شعراء لكنو وفي طليعتهم
ناسك ورشك هم الذين هذبوا اللغة الآردوية ونقوها من اللفظ السوقي ومن
الأغلاط والكلمات الركيكة ومن رواسب السانسكريتية وشذبوا قواعدها وسووا
منهجها، أو بالأحرى اخرجوا منها لغة مستقلة كاملة تضم فيما تضم أصح
الكلمات العربية والفارسية.
وهكذا ترسخت اللغة الأردوية في لكنو.، بالذات وأصبحت لغة الدولة ولغة
الثقافة، يعبر بها العلماء والمثقفون في أحاديثهم ومكتوباتهم، فاكتسبت دقة
الأسلوب ورشاقة اللفظ وعذوبة النسج ولطافة المغزى في الأمثال
والاستعارة، وكان رقيها رقيا نهائيا. (راجع ترجمة السيد مير علي الكبير في
الصفحة 349 من المجلد الثامن ففيها ذكر للمترجم).
إبراهيم شرارة بن محمد عبد الله
ولد سنة 1341 في بنت جبيل (جبل عامل) وتوفي سنة 1403 في بيروت

5
ودفن في بنت جبيل.
كانت دراسته الابتدائية في بنت جبيل واستفاد في اللغة العربية وقواعدها
من صحبة الشيخ علي شرارة. هاجر في مطلع شبابه إلى إفريقيا الغربية ولم تطل
إقامته فيها فعاد إلى بلده وتعاطى بعض الأعمال التجارية. ثم استقر نهائيا في
بيروت حتى وفاته.
هو من شعراء جبل عامل الذين وأكبوا نهضته فكانوا لسانه في وطنيتهم و
أدبهم. ومما وصف به بعد وفاته: إبراهيم شرارة كما تعرفه منتدبات جبل
عامل ومجالسه الأدبية ومهرجاناته واحتفالاته ومناسباته الأدبية والثقافية، من
رعيل الأدباء العامليين الذين كانوا يؤثرون ان يخاطبوا بنتاجهم الشعري والأدبي
جمهورا محليا، يعرفون نوابضه ويتواصلون معه على منابر متعددة قد يكون النشر
أقلها رواجا. وبغياب إبراهيم شرارة يغيب اسم في آخر سلسلة من الأسماء قد
تكون مع اسلافها الأوائل في قلب تاريخ مطوي للثقافة العاملية، يغدو أكثر
فأكثر مستورا، لكن على يد إبراهيم وآخرين تم نقل الأدب العاملي من سلفية
مغرقة إلى نفحة معاصرة كانت تهب من حواضر الأدب يومذاك في مصر ولبنان
والمهجر. ولعل صدى الرومانطيقية في لبنان ومصر تسلل إلى أدباء جبل عامل
الشبان آنذاك ليؤثر في كلامهم ونتاجهم وتؤثر الرقة الوافدة في اللغة العريقة
الموروثة من شيوخ تشربوا الشعر من منابعه الأولى، وسلكوه من أعرق مسالكه
وأوغلها في الزمن وأشركوا فيه مشاغل أخرى تشمل المكتبة العربية القديمة بشتى
فروعها. والأغلب ان شعر إبراهيم ينضم إلى تراث واسع لم يكتب له ان ينتظم
في التراث اللبناني بكليته، فقد كان هذا الأدب يتداول بين عائلات ثقافية
ومنتديات أبرزها المنتدى الحسيني وأماسي سمر ومجالس أدب، وكان مكتفيا
بتداوله هذا متآلفا معه. (1)
وقال كاتب آخر متحدثا عن مجموعته الوحيدة التي طبع فيها شئ من شعره و
سماها (في قرانا): اننا مع نصوص شاعر بقي في دائرة الريف العاملي حيث
عاش وعايشة معظم أوقات حياته. ان الشاعر حين يستنطق الريف يدخل معه
في خطاب رومانسي، وينتقل به من العين إلى الوجدان، من الوصف إلى
العلن (2).
وقال كاتب آخر متحدثا عن المجموعة نفسها: في المضمون تتناول قصائده
المكان القرية بفلاحيها وشجرها وحيواناتها وتبدلات الفصول مع نظم هذه
العناصر في اطار الاصرار على الحياة، كما تتناول قصائده انطباعات جمالية صادرة
عن اطار ثقافي راهن، وعن اطار ثقافي عريق، وفي الشكل تبدو قصائد
إبراهيم شرارة ناتجة عن تراث بيئته اللغوي العريق (جبل عامل) وتراث
التحديث العربي في صورته اللبنانية، شعر ما بين الحربين العالميتين.
ومن الرافدين اللغويين اتت قصائده أصيلة رقيقة في آن ونقلت أفق الشعر
إلى الراهن بعد أن كان شعر جبل عامل محافظا واستمراريا (3).
وقال كاتب آخر متحدثا عنه بعد وفاته متطرقا إلى الشعر العاملي بعامة:
ان جبل عامل هو حكاية شعرائه، تماما كما أن شعراءه أيضا هم
حكاية جبل عامل. ولذا فإننا حينما نتحدث عن الأدب العاملي كمدخل لفهم
أحد شعرائه، فإنه من غير الجائز اعتبار ذلك تطلعا منا للفصل بين الكلمة في
تلك المنطقة وأختها في اي مكان من الوطن أو العالم، ولا يجوز وصف ذلك
بالانغلاق الثقافي والسياسي، لأن ما نبتغيه هنا هو تشريح جدلية العلاقة لأرض
حوت في جوفها ايحاءات ومصادر تاريخية شعرية لشعرائها، تماما كما رمل
الخليج خبا النفط الأسود لأهله.
انها علاقة الظل بالضوء، والوجه بالمرأة، والنكهة بالثمرة.
بهذا المعنى العميق والمنفتح لطبيعة سفر العاملي في رحاب ذاته فإن الشاعر
الراحل إبراهيم شرارة " طائر غرد داخل سربه " العاملي. لكن هذا لم يجعله
بالضرورة واحدا في جوقة كنيسية تردد نفس الكلام وذات اللحن، لقد كان
طائرا عامليا بحق، ولكن كان لصوته صدى مميز ولرفيف جناحيه اختلاجات لا
تشبه اختلاجات قلبه.
ولعل مقدرة إبراهيم شرارة على انتزاع تمايزه الفني من دون ان يترتب على
ذلك خروجه من المؤسسة العاملية الشعرية القديمة لعل هذا بحد ذاته هو
واحد من أهم خصائص الشاعر ومميزاته.
فالمؤسسة الشعرية العاملية، وبشهادة النقاد والعاملين في تاريخ الأدب هي
مؤسسة قديمة جدا، وأهم ما يميزها في هذا المجال هو واقع أن سنوات عمرها
المديدة لم يصبغ نتاجها بالملل والتكرار، كما هي العادة غالبا حينما تكون المصادر
الفنية لأجيال متلاحقة هي ذاتها أو قريبة التشابه.
وكثيرا ما طرح السؤال: لما ذا لا يكرر الشعراء العامليون أنفسهم طالما أن
شروط التكرار واخطاره موجودة؟!
ان إبراهيم شرارة هنا هو واحد من الأجوبة التي توضح هذا الأمر
للمتسائلين.
فإبراهيم شرارة ظل عاملي القلب، وحسيني الدمعة والدم، ولم ير في غير
التبغ عبقا يجسد رائحة الانسان، ولم يخرج في شعره عن جذوره (4) ومع ذلك
كتب كلاما جديدا وقوافي جديدة، رغم أنها لا يمكن الا وضعها في ملف " الشعر
العاملي الحسيني "، اتسم بالصدق وتلظى حرارة الاحساس عند التعبير والنظر
إلى الأشياء. وأدب كالأدب العاملي سمته الصدق في أهم أعمدته، هو ملتزم
في جوهره حتى قبل أن تأخذ هذه الكلمة تحديدها الاصطلاحي الفني. ولذا
فإن أحد أهم الشعارات التي سارت تحتها مظاهرات الحداثة الالتزام...
الكلمة السيف، كانت أصلا في صلب الأدب العاملي الذي يغني قضيته
التاريخية.
ويتجلى هذا الأمر في الأدب العاملي إلى درجة ان البعض يأخذ على
العامليين التزامهم هذا، وينعته بالانغلاق والبقاء عند الاطلال. وكان يمكن
لنا أن نسلم جدلا بهذا الكلام لو أن شعراء جبل عامل اكتفوا بالماضي أو لو أنهم
لم يأخذوا من الماضي هوية نضالية ليعلنوا عبرها انتماءهم لقضايا الحاضر.
ان البعض، ولأسباب غير مقدسة لا يريد أن يفهم أو يقر بأهمية المصادر
الفنية العاملية، ويريد أن ينكر على الأدب العاملي مشروعية مصادره و أهميتها،



(1) عباس بيضون.
(2) محمد علي شمس الدين.
(3) محمد فرحات.
6
ولو حتى كان يجافي بذلك أحد أهم شعارات الحداثة أو أحد ابرز الحقائق
الإنسانية المسلم بها والتي تعترف بأن الأدب العالمي الراقي هو نتاج الحزن
البشري السامي. فروسيا كتبت من الأدب أجمل ما كتبته خلال تلك الفترة التي
كانت تتخلص فيها من القيصر أو تتذكر فيها فيما بعد تضحياتها في هذه
المعركة... والعرب ما كان الشعر فضيلتهم، لو أن الصحراء بطبيعتها
وتركيبتها الاجتماعية كانت اسمح معهم وأرق وأكثر لطفا. وكتاب دول أمريكا
اللاتينية يكتبون اليوم والعالم يستمع إليهم. ويمكن لنا أن نذهب ابعد من هذا
لنقول: أن حوار الشمال والجنوب المعاصر حوار الفقراء والأغنياء يظل
حوار طرشان إذا ما أخذ من زاويته السياسية، لكنه يظل حوارا فنيا من الدرجة
الأولى، وهو بحق يمثل واحدا من أهم المصادر الفنية الحقيقية لأدب هذا
العصر.
كل هذا يقودنا إلى استنتاج مركب يخص الشاعر في جانب منه ويخص
مؤسسته الشعرية العاملية التي ينتمي إليها في الجانب الآخر. فالشاعر اكتسب
تمايزه بامتلاكه للموهبة، وفيما شكل انتاجه الفني لونا جديدا هو مزيج من
الأمس واليوم في مصادره وأسلوبه وتطلعاته... والواقع ان مثل هذه الألوان
الفنية التي أنتجها الشعر العاملي في غير فترة هي التي كانت دائما تمد المؤسسة
الشعرية العاملية بدم الاستمرار.
وإذا كنا قد سلطنا الضوء على كيفية تعامل الشاعر مع مصادر الأدب
العاملي، فان الواقع يستلزم منا التنويه إلى أن الشاعر كان له إبداع آخر مع
الحداثة في الأسلوب، في الكلمة الشعرية كتابة وممارسة (1).
شعره
مرت له في هذا الكتاب قصيدتان رثائيتان: الأولى في الصفحة 112 من
المجلد الثامن والثانية في الصفحة 445 من المجلد العاشر، وقد صدرت له
مجموعة شعرية صغيرة سنة 1966 م بعنوان (في قرانا) وظلت بقية شعره
مخطوطة لم تنشر.
وكان آخر ما نظمه أبياتا وجدت تحت وسادته في المستشفى نظمها وهو على
فراش المرض قبيل وفاته:
بيتي على الرابية الحالمة * اشتاقه في اللحظة الحاسمة
وانتشي من ذكر أحجاره * كأنني في سكرة دائمة
حين رماني الداء في كوة * مظلمة كالليلة القاتمة
اشتاق أن انشر اخباره * على ضفاف الموجة العائمة
اشتاق أن توقد شمس الضحى * على جناح الشرفة النائمة
فقبلوا أذيال أذيالها ما قام في خاطركم قائمة
قال في أمير المؤمنين علي ع:
بي زهوي، فقد حضنت النهارا * واختيالا أعانق الأنوارا
أنا في يومك التمنع والفيض * عطاياي من يدي غيارى
قبضت راحتي على قطرات * من معانيك، تلهم الأفكارا
كنت خليتها لنفسي شرابا * ثم أطلقتها، فكانت بحارا
خطرة من سناك تلهم روحي... * خطرة من ضحاك تهدي الحيارى!
أي يوميك يا علي، فأدنوا... * منك زلفى، تبارك الأشعارا
يوم سميت يا علي، فكان... * الكبر معناك، والعلاء شعارا
كان يوما، ومكة في ضجيج * الشرك تفني أيامها استهتارا...
ولد الطفل في حمى الكعبة الطهر * فبشرى تفتقت في الصحاري
تزرع القفر نعمة، والرمال * البكر، عزا، والمكرمات فخارا
قدر الله أن تكون فتاها... * والمروءات تنتخي والشفارا
وعلى الكوفة الجريحة يوم * صبغ الصبح من دماك احمرارا
كان شهر الفرقان، في رمضان... * كل نفس به توقى العثارا
ليلة القدر، والملائك أرواح * تنزلن، والقلوب عذارى
لم تحرق بجمرة الدنس الغاوي * ولا ألبست هواها إزارا
في خشوع الصلاة، في هدأة المحراب * والنفس تطلق الأسرارا
لأب أفعى، واندس في المسجد * المحزون، وانهال مجرما غدارا
وحسام ابن ملجم، يلعق الجرح * ويقتات خزيه والعارا...
ضربة! والامام يهزأ بالسم... * فكانت صلاته استغفارا
ضربة! والشهيد يحتطب الخلد * وعبد العبيد يحطب نارا...
ضربة! وانطوت، لتنشر فينا... * صفحة منك تملأ الأسفارا
كان عمرا ما بين يوميك، شال * الدهر كبرا، وروع الأقدارا
كان عمرا يطيل من أمد الدنيا * ودنيا تطول الأعمارا
شرف المنتهى، كما عظم البدء * وعزا شهادة وافتخارا!...
أي يوميك، كل ما فيك مجد... * يتعالى، ورفعة لا تجارى
رائع فيهما، وتزدحم الدنيا * طوالا دهورها لا قصارا
سل بها مطلع النبوة والاسلام * وادع الصحاب والأنصارا
يوم بدر، وذو الفقار على * الروع، حتوف، يزلزل الكفارا
ووساد الرسول، ليلة كادوا... * بالرسول افتديته إيثارا...
سل بها خيبرا، وقد هزم الشر * وهللت وازدهيت انتصارا
أين ما شد من عزيمتك البكر... * فدك الحصون، والأسوارا
خيبر تلك، عند مرمى حدود * زعموها وقسموها صغارا
في فلسطين... عند مرمى ندائي * واليهودي مجرم لا يبارى
خيبر هاهنا... وقد شوهوا القدس * وداسوا حرماتها استصغارا
خيبر دارنا... ونحن بها العانون * سكنى، والضائقون جوارا
وأخي النازح الملوح شلو... * بين أنياب حاضن يتضارى
يطعم الكسرة التي حسبوها... * مهرت موطنا وشادت ديارا
وطني ليس سلعة، في يد التجار * ذلوا وراوغوا تجارا
بي عود إلى مشارف يافا... * ما تمادوا فلن اجل انتظارا
وربوع الجنوب، أرضي كفاحي * ينشر المستبد فيها الدمارا
خنجر في يد الفجور وشعب * اعزل ليس يرهب الفجارا
وغدا سوف يزأر الخنجر الحر... * بحقي... ويقتل الجزارا!..
يا عليا، يا فيصلا في يمين الله... * يا وثبة تخوض الغمارا
أنت من زرع أمتي... من عطايا * وطني... تنتخي وتحمي الذمارا
هات وحد صفوفنا... واجمع * العرب سبيلا، وأمة وديارا،
لا حدودا، لا ظلمة، لا سجونا * لا دخيلا بها ولا استعمارا



(1) ناصر شرارة.
7
يا ابن عم النبي، تقفو خطاه... * وعلى الدرب، حيث طه أنارا
قدر الله منذ أن بدأ الخلق * فتوحا، لدينه، وانتشارا
واصطفى أحمدا رسولا أمينا... * صدق الله فيه حين اختارا
رفة من جناح جبريل، لولاها * تشق السما وتنزل غارا
لقرأنا نهجا كقرآن طه... * وكآي ابن مريم للنصارى
غفر الله لي، وحبك أوحى لي * غلوي، وزين الأفكارا
يا امام الأحرار نور لنا الدرب * فأنت اصطفيتنا أحرارا
كل عام لنا، ببابك، طابت... * وقفة عنده وطبت مزارا
جئت للكون مرة، وهو يرجو * منك في الدهر لو أتيت مرارا
مرة والرجاء، يوغل في الدنيا * ولن يبلغ الرجاء القرارا
واحدا في الزمان... وهو مجئ... * واحد، ما أعيد دهرا ودارا
يا امام الثوار، تنهد جبارا * وفي الله تصرع الجبارا...
كل يوم لنا بدربك زحف... * للمعالي تمضي لها إعصارا...
يا عليا! وماج في حبك الصبح * قريضي... ولألأ الأنوارا
أعطني من لدنك زهو القوافي... * وعجيبا إن لم تسل أنهارا
أعطني من لدنك جمر المروءات... * فألظى، وقد عصرت النارا...
أجد الفئ من جناحيك يحويني * فآوي، وقد هدأت قرارا
هات منك الرحيق... نسكر صاحين * على سكبه... ونصحو سكارى
نشا الشعر في رياض معانيك * فأعطى... وأطعم الأثمارا...
خطرة من سناك تلهم روحي... * خطرة من ضحاك... تهدي الحيارى!
وقال:
عطورك! وانساب نبع الشروق ورف رفيف الجناح الطليق
فللخطو، ترنيمة كالصلاة وللدرب ضلع ينز الخفوق
صديقك نيسان ما لاح بعد فأين تخلف ركب الصديق
وسابقت فينا، ربيع الكروم وعانقت قبل الصباح البريق
فمن أين فوحت هذا العبير؟ وعن أي شمس لمحت الشروق!
تفتقت في الدرب أكمام ورد فقدست مجد الورود الفتيق
وغار الأقاح فألوى خجولا على الروض، واحمر خد الشقيق
فعند الشقائق عطر الجراح وعند الأقاحي ضلوع تتوق!
وضاقت دروب الضياء... فلاذ النهار بكوة فئ سحيق
وأنت وعطرك، لاذت به حياتي، فما فيك درب تضيق
تمنيت لو أنني قطرة بعطرك، أغفو، ولا استفيق
فان هدهدتني يد بضة واهرقني منك مس رفيق
وفيت النذور، حرقت البخور وأشعلت زيت دمي في الحريق
لأولد في فم قارورة وأفنى بمنعطفات الطريق!
وفاح العقيق بخاطر دربي وخاطر شعري الذي لا يطيق
عقيق تمثله خاطري ليكنزه، كنز مجد عريق...
ففوحي، وخلي العقيق يفوح فاني أحب اكتناز العقيق!
سكرت من العطر، في غير سكب فعطرك كالسكب خمر عتيق
ورحت أشم الرحيق المذاب بقلبي! وكيف يشم الرحيق
وأغرقت قلبي، بجدول طيب فعاش على راحتيك الغريق!
كنوزك، والثغر والمشتهى على شفتيك، وقد رشيق
وطعم الثمار، وأرجوحتان تواثبتا، في الحرير الرقيق
وجفن يخبئ أحلامه وجفن يبوح بسر عميق
وقال:
هادئ مثلما يسيل الغدير وقوي كما تموج البحور...
لم أزل أعصب الضلوع عليه كي يعيش اللظى وتحيا الصدور
خضب الوحي بالفتون جناحيه فغناه خاطري المفطور
حبنا!! وارتمى الفراش على النور ليفنى صب وينهل نور
همسة الفئ للضفاف حكتها ضفة سمحة، وفئ قرير!
كدمانا التي بذرنا... فعاشت في الحنايا وأطعمتنا البذور
نحن من زرع ما أرقنا من الدمع وما صبه الدم المحرور
شفق يزرع اللهيب على الأفق خضيب أصيله والبكور
كان مهر الهوى... وقد بسم الحب فأعطت كما رغبنا المهور
كنذوري، مشاعلي وزيوتي وهج... وابتهالة ونذور
نحن والحب، ظامئ وكؤوس سكر الحب أو صحا المخمور!
يا هوى ناشئا على شرفات الفجر أوطانه الندى والزهور
دافئا كالسماح... ريان كالأفياء نعمى غلاله وسرور
ضاق عنه المدى الفسيح... وضج العمر فيه... فالعمر فيه دهور
حل أضلاعنا، فأينع شوقا ولهيفا وباح عنه الزفير
وطعمناه من لبان أمانينا أماني رزقها موفور
وحرقنا له البخور لينمو فنما الحب وافتدانا البخور
مهده في اختلاجه النبضة الحرى وسكناه في الزمان الضمير
أي حب هذا الذي زرع الدنيا رجاء... فهو الرجاء النضير!؟
يا هوى سائحا على لألآت النجم منه طي وفيه نشور
كملت رحلة النهار وقرت كرة الشمس، فهو شمس تدور
ومضى يعمر الدجى فهو فيه لألآت وأنجم وبدور
رحلة تصنع الحياة على الأيام فهو الحياة حيث تمور
يا هوانا! وانصت الجدول الصاحي وأغفى على النشيد الخرير
وتلاقت أمواجه والنسيم المترامي... والشاطئ المعمور
وإذا الموج والنسيم كتاب عن هوانا وصفحة وسطور!
كل شئ يغار في الحب منا لو يوافيه من هوانا اليسير!
لو تفاق الخرير، لو عشق الصفصات يوما، ولو أحب الغدير
أمنيات تبوح في خاطر العمر فيحلو قليلها والكثير!
يا هوى يستحم في ضفة الحلم أباريقه المنى لا النمير
يتعرى كي ينسج الحلم ثوبا بعض ألوانه الشذى والعبير
مستراح الندى هناك... مقيل الظل... مأوى تلم فيه العطور و
مراح للشاربين ومغدى للنشاوى... وساكب وخمور
وأفاق الربيع يهزج للحب وغنت مع الربيع الطيور

8
نحن دنيا الشروق... نحن حروف النور، آمالنا ربيع غضير
غزلت ضوءنا الشموس فشدنا موئلا في الذرى رجته النسور
وأقامت حدودنا في دروب النور، فانداح في ربانا النور
حبنا منتهى الزمان فقري في مداه وللزمان ضمير!
وقال:
يا دفقة النور صباح الغد أنت وآمالي على موعد
مقامنا عند احتضار الندى بين الضحى، والليل، والفرقد
حشائش مفروشة، ههنا وههنا، فحيث شئت اقعدي
والروض، حضن دافئ، والهوى وسادة من مهجتي، فارقدي
ما أطول الليل الذي بيننا أواه، من مفرقة الأسود
لو أنني املك ركب الضحى ولو تناولت الدجى في يدي
قذفت بالليل وساعاته حتى يواري من طريق الغد
كم موعد لي منك في خاطري يضيق، كالسقم، به عودي
والموعد الحلو، على مره يحسدني في مره حسدي
أ ليس بعد الملتقى فرقة وهل يكون الملتقى مسعدي
كيف أروي العمر من لحظة يتيمة كالأبعد الأبعد!
النار في قلبي شبوب اللظى أنت لها برد فلا تبعدي
إن نبترد، فاثنان في بردها أو نحترق فاثنان في الموقد
فاقبلي فالعمر وقف على لقياك، يا أحلى من الموعد!
وقال من قصيدة بعنوان (في قرانا) ويقصد بها قرى جبل عامل:
كما جعل هذا العنوان لمجموعته الشعرية الوحيدة التي طبعت وكان منها هذه
القصيدة:
في قرانا! يورق النور
اشتهاء لقرانا!
كدسته الشمس أكواما
على صحو ذرأنا...
كعروس، غرقت بالنور
في جدول فضه
وعلى خطوتها، تشهق في
الأضلع نبضه
والفتى نيسان يحتل
على السهل، مكانا
ورجال في سفوح المجد
يبنون الزمانا
في قرانا!...
في قرانا أزهر اللوز
وفاح البيلسان
واللهيب الأبيض، المزهو
عرس في الجنان
أشعلته أنمل الخالق
زهرا يتلألأ
والندى يشربه الفجر
ويسقيه حلالا!
والفتى نيسان!
ضيفنا نيسان بالباب
ربيع من جديد
فافتحوا الأبواب للقادم
في موكب عيد
إنه يحمل أزرارا
وشمسا، وظلالا
وقوارير من العطر
ورزقا، وغلالا
والفتى الإنسان
الاله المنتضي معوله
في كل تله
دمه المعروق ينساب شذى
من كل افلة
إنه الإنسان
الاله المنكر الأصغر
أو شبه الاله
يحصد الموت ليبقى
خالدا مجد الحياة
ذاته حقل من الحب
ومن زرع المنى
فدعوا نيسان يختار
مقيلا عندنا...
فالرفيقان على العهد
أقاما مهرجانا
في قرانا!...
في قرانا! عند مرمى الصوت
من أرض المعاد
مارق يفزعه أني حر
في بلادي
بدعة العشرين، عار الجيل
لا يمحوه ماحي
فتعالوا نغسل العار
بمخضل الجراح
والفتى نيسان!
عزمة مؤمنة تحرس
في صف الجنود
ضاحكا يسخر من أسطورة
خلف الحدود
إنه يحمل إيمانك

9
بالأرض السليبه
وقوارير من الموت
لأعداء العروبة
والفتى الإنسان
الشهيد الحي يلظى
بمروءات الرجال
صابرا ينتظر الموت
فداء عن تلالي
أنه الإنسان
عربيا كفلسطين
سيبقى عربيا!...
ينكر العيش مع الذلة
أو يقضي أبيا!
فدعوا نيسان يختال
شبابا وفتوه...
وازرعوا الإنسان في الخندق
كي ينبت قوه
فالرفيقان على العهد
أقاما مهرجانا
في قرانا!...
إبراهيم العلوي بن حسين
ولد في كربلا عام 1923 م وتوفي سنة 1962 م كان أبوه شاعرا معروفا
في أندية الفرات ومجالسه. أخذ عن أبيه علوم النحو والصرف وتأثر به في
الشعر لكنه استقل بموهبته الشعرية في العشرينات من عمره ورسخها بثقافته،
عين في وزارة المعارف واختلط بالمجالس الأدبية في بغداد، له أكثر من ستة
كتب والعديد من المقالات الأدبية في الدوريات العربية (1)
الحاج ميزا إبراهيم مجتهد
ولد سنة 1173 في شيراز وتوفي في طهران. وفي سنة 1211 سافر إلى
العتبات المقدسة في العراق حيث درس علي السيد علي الطباطبائي صاحب
الرياض ثم عاد إلى شيراز وانصرف إلى البحث والتدريس والتأليف والعبادة.
له: بحر الحقائق في الفقه، وحاشية على كتاب معالم الأصول، وحاشية
على اللمعة.
أبو الحسن شمس آبادي بن محمد إبراهيم
ولد في أصفهان سنة 1326 واغتيل سنة 1396 في أطراف أصفهان.
درس المقدمات والسطوح في أصفهان. ثم سافر إلى النجف ودرس على
كبار علمائها، ثم رجع إلى أصفهان فكان من مراجعها له: شرح الصحيفة
السجادية، موعظة إبراهيم، رسالة في أصول الدين وغير ذلك.
الحاج ميرزا أبو الفضل الطهراني.
نشر له ديوان باللغة العربية بتحقيق جلال الدين الأرموي المحدث فكتب
عنه السيد أحمد اللواساني في مجلة الدراسات الأدبية ما يلي:
هذا الديوان العربي مظهر لامتداد اهتمام الأدباء الإيرانيين باللغة العربية
وآدابها حتى العصر الحاضر، فصاحبه الحاج ميرزا أبو الفضل الطهراني وهو عالم
ديني مرموق توفي سنة 1316 ه‍. وقد تمكن من العربية وراضها قبل أن يهاجر
إلى العراق سنة 1300 ه انتجاعا للعلم وتكملة للمعرفة حيث بقي عشر
سنوات يتتلمذ ويتفقه على مرجع عصره الامام السيد محمد حسن الشيرازي،
وبعد عودته إلى طهران فوض إليه الملك ناصر الدين شاه جميع شؤون المدرسة
الناصرية الحديثة البناء، وفي بعض القيود أنه هو الذي افتتح مدرسة سبهسالار
التي هي اليوم كبرى المدارس الدينية في طهران واسكن فيها الطلاب واشتغل
بالتدريس فيها. وتعد له كتب التراجم الحديثة عدة كتب ورسائل، وتجمع
كلها على ملكته الشعرية وطول باعه في العربية وحسن اطلاعه على الأدب
العربي، والغريب أنه وهو الإيراني الفارسي اللغة والمنشأ والختام لم يعرف عنه في
الفارسية إلا قصيدة واحدة.
وتكثر في الديوان القصائد الطوال التي يبدو أنها من خصائص شعر
الناظم!، كما أنه عامر بالمقطعات المتوسطة والصغيرة وخاصة الرباعيات
والموشح والتخميس.
أما القصائد الطوال فمعظمها في المدح، وهو مدح يكاد ينحصر بالنبي و
الأئمة والزهراء ثم بالسيد محمد حسن الشيرازي علامة عصره الذي تطغى
شخصيته على الديوان، فنقرأ اسمه مع مدائح الأئمة كما نقرأ اسمه مستقلا،
وقلما تفوت ذكره والإشادة به مديحة من المدائح الطوال.
أما أسلوبه فهو الأسلوب القديم من الابتداء بالغزل أو الخمرة وما شابه،
ومن تعظيم شان الممدوح وتشبيهه بالتشابيه المجسمة المبالغ فيها وجعله فوق
مستوى الناس العاديين، وأما تعابيره فسهلة واضحة على الغالب رغم استعماله
بعض الكلمات الغريبة، وله في أشعاره تعابير وإشارات إلى قصائد شعراء
آخرين أو أحاديث أو وقائع تاريخية تدل كلها على سعة اطلاعه وكثير تبحره...
وعلى سبيل المثال ننقل قوله:
أيها المنكر المكابر جهلا فضل أهل الزمان من غير لب
جئ بسيف من آل حمدان يوما كل يوما أجئك يا لمتنبي
ومن شعره كذلك:
مهلا فما هي في الكؤوس عقار بل هذه مهج القلوب تدار
يا من يصول على القلوب بمرهف من لحظة والموت منه غرار
رفقا وانى فيك ينجع لوعتي وتحنني والظلم منك شعار
أفدي لواحظك التي ان تلتفت من لمحها ظبي الصريم تغار
عجبا للثغة لفظك الغنج التي للقلب منها نشوة وخمار
يا من سبى عقلي واسلمني إلى وله الصبابة طرفه السحار
لم لا تجود بوعدة من منطق من لطف لثغته العقول تحار
السيد أحمد القزويني بن السيد حميد
ولد سنة 1927 م في مدينة طويريج التي تعرف أيضا باسم: الهندية



(1) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
10
وتوفي سنة 1992 م كتب عنه السيد جودت القزويني (1) ما يلي:
هو السيد أحمد بن السيد حميد بن السيد صالح بن السيد مهدي الحسيني
القزويني.
دخل بداية سنية الأولى (الكتاب) أو ما يسمى الدراسة عند (الملة)، وكان
ذلك في مسجد آل القزويني القريب من دراهم، ودرس على يد أحد معلمي
(الصبيان) وهو (أبو إحدبية الملا)، وبإشراف خاله السيد إبراهيم القزويني
(المتوفى سنة 1978 م) الذي كان مراقبا عاما على الأطفال في هذا (المكتب).
وكان مركز (الكتاب) منظما على هيأة صفوف تحتوي على مقاعد دراسية.
وقد تعلم مبادئ القراءة والخط قبل أن ينتظم بالمدرسة الابتدائية
وكانت في مدينة (طويريج) (2) مدرسة واحدة سميت بالمدرسة الابتدائية
الأولى. وعند افتتاح الصف الثاني في المدرسة الابتدائية الثانية توسط مدير
المدرسة لدى والده السيد حميد لينقل ولده أحمد إليها لكي يشجع نميره من
التلاميذ للانتقال إليها.
وبعد إكمال المرحلة الابتدائية اضطر لإكمال دراسته لمرحلة المتوسطة في
مدينة (الناصرية) حيث لم توجد مدرسة لمرحلة ما بعد الابتدائية في مدينته،
فصحب خاله السيد كاظم القزويني المتوفي سنة 1396 (الذي عين سنة
1942 م مديرا لثانوية الناصرية) - للدراسة هناك، وبقي عامين دراسيين انتقل
على إثرهما إلى الحلة عام 1945 م مع خاله الذي انتقل إليها مديرا لثانوية الحلة
هذه المرة. لكنه فضل عدم مواصلة دراسته الرسمية والرجوع إلى مسقط
رأسه، والإشراف على أملاك والده من الأراضي الزراعية.
وقد بدأت طموحاته تتفتح للحياة، وأخذ بفضل توجيه أبيه يكتب الشعر
وينظمه حتى قوي عوده، وصلب.
وعند إجازة الأحزاب السياسية في العراق سنة 1947 م - 1948 م انتمى
إلى حزب (الاستقلال) الذي كان يرأسه الشيخ مهدي كبة المتوفي سنة 1984،
وهو لم يزل بعد في بداية سني شبابه، وربما كان ذلك بتأثير عمه السيد علي
القزويني المتوفي في (16 حزيران سنة 1957 م)، الذي كان من مؤسسي
حزب الاستقلال، وعضو الهيئة المركزية للحزب ومسؤول منطقة الفرات
الأوسط يومذاك.
كانت مدينة (طويريج) في هذه المرحلة الزمنية مزدهرة بأعلام الأدب
أمثال السيد محمد رضا الخطيب (3) والأستاذ إبراهيم الشيخ حسون، وغيرهم.
وكان مجلس آل القزويني عامرا بهم كل يوم. وكان (براني) هذه الدار مدرسة
حقيقية لبعض الشباب المتطلع إلى الأدب والسياسة، فشب أحمد القزويني في
مثل هذه الأجواء الملتهبة شعرا وأدبا وسياسة، وتألق بين أخدانه شاعرا مجدا،
بدأ يشارك في الاحتفالات الدينية والسياسية التي يعقدها حزب الاستقلال في
المناطق الفراتية حتى عرف بلقب شاعر (الاستقلال). ولعل في ديوانه
المخطوط ما يؤرخ لكثير من أحداث هذه الفترة.
وفي سنة 1954 م عين أحمد القزويني رئيسا لبلدية الهندية. وقد اهتم في
عمله بتحسين الظروف المعيشية لدى أبناء بلدته. وفي عهده تم إنشاء الجسر
الحديدي للمدينة بدلا من الجسر الخشبي العائم وذلك عام 1955 م ليربط
جانبي البلدة، كما يرجع له الفضل في إنشاء مشروع (الألسالة) الذي غطى
المدينة، والقرى المجاورة بالماء.
وبقي في عمله حتى أواسط السبعينات الميلادية حيث نقل إلى مديرية
بلديات الحلة. وأحيل على التقاعد عام 1982 م.
أدركت أحمد القزويني أوائل السبعينات الميلادية، وتوثقت صلتي به منذ
عام 1972 حيث أصبحت شبه مؤهل لفهم طبيعة ذاته، وفنون شعره وأدبه،
وأخذت أدرك ما لهذا الشخص من مكانة متميزة بين أفراد هذه الأسرة.
وبالرغم من ملكاته الذاتية، ومواهبه الأدبية، وصلاته الاجتماعية
الواسعة إلا أن شهرته بقيت مقتصرة على وسطه، وقد اختفى شعره عن
الأنظار، ولم يواصل النشر، ولا حتى التفكير بطبع نتاجه الأدبي، أو دراساته
التي كتبها في أكثر من مجال.
وكان في تصرفاته متوازنا مع ذاته، محبا للناس، يعطي كل ذي موهبة
حقه، محدثا لا يمل حديثه، وطريقا يبدع في مواطن الطرفة حتى لو كانت
على نفسه، مع أدب واحتشام ومروءة. وأحفظ من نوادره، وفنه الاجتماعي
كثيرا من الطرف والملح سجلت بعضها في ثنايا كتاب " الروض الخميل ".
فمن شعره ما نظمه في تخليد حادثة عزاء طويريج (4) التي سقط فيها أكثر
من ثلاثين قتيلا على أحد أبواب مرقد الإمام أبي الشهداء:
ذكراك وهي مدى الزمان تخلد وأريج ذكرك عاطر يتجدد
إيه أبا الشهدا ببابك فتية نالوا الشهادة في حماك فخلدوا
سمعوا الندا يعلو ألا من ناصر عنا يذب غداة عز المنجد
فأتتك أرواح لهم تهفوا على ذاك الضريح وعند بابك تسجد
ما الموت أدرك من ببابك إنما موت الشهيد بيوم رزئك مولد!
ساهم أحمد القزويني بالكتابة الصحفية، وأخذ بنشر مقالاته ودراساته في
الصحف العراقية، كما نشر كثيرا من شعره السياسي الذي حفلت به مرحلة



(1) هو الباحث المؤرخ المحقق وأحد أعلام الأسرة القزوينية الكثيرة الأعلام علما وشعرا
ونثرا.
(2) مدينة (طويريج) - بالتصغير - أو قضاء (الهندية): من أجمل المناطق الفراتية الساحرة
الخلابة، وهي تقع بين مدينتي (كربلاء) و (الحلة)، وإلى الأولى أقرب. ويقال في وجه
تسميتها أنها كانت طريقا يمر عليه الزائرون ليستريحوا من وعثاء السفر، ومشقة
الترحال. وقد صغر لفظ (الطريق) إلى (طويريق)، ثم أبدل بلهجة القاطنين المحليين
الذين اعتادوا أن يستبدلوا بحرف (القاف) في كلامهم حرف (الجيم).
ويطلق اسم (الهندية) على المدينة لوقوعها على نهر (الهندية) الذي تبرع بإنشائه أحد أمراء
الهند سنة 1208 ه‍ / 1794 م لأرواه مدينة النجف بعد جفاف مائها.
(3) محمد رضا الموسوي الخطيب من كبار الشعراء، ولد سنة 1311 ه‍ / 1893 م في
(طويريج). وتوفي سنة 1365 ه‍ / 1946 م، له كتاب " الخبر والعيان في أحوال
الأفاضل والأعيان " يقع في مجلدين، (احتفظ بنسخة منه)، ديوان شعر غزير بالحوادث
التاريخية، والمراسلات الأدبية.
(4) أسس هذا الموكب السيد صالح القزويني (المتوفى 1304 ه‍ / 1887 م) - أواخره القرن
الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي - وقد بقي أولاده وأحفاده ملتزمين بقيادة
هذا الموكب التاريخي المتوارث ابتداء من ولده زعيم الفرات السيد هادي القزويني المتوفى
سنة 1347 ه‍ / 1939 م، ثم أولاد السيد هادي، السيد جواد القزو المتوفى سنة
1358 ه‍ / 1939 م، والسيد مهدي القزويني الصغير المتوفى سنة 1366 ه‍ / 1947 م، ثم
السيد محمد ضياء بن السيد حسن بن السيد الصالح القزويني المتوفى سنة 1375 ه‍ /
1956 م، وأخوه السيد رضا بن السيد صالح القزويني (الذي أقعده المرض وتوفي سنة
1405 ه‍ / 1985 م)، ثم السيد محمد حسين بن الهادي المتوفى سنة 1393 ه‍ / 1973 م.
وعندما لم يبق أحد من أحفاد السيد الصالح القزويني من " الروحانيين " انتقلت قيادة
الموكب إلى فرع آخر من فروع الأسرة. وكان السيد عبد العزيز القزويني المتوفى سنة
1974 م، أول روحاني قاد الموكب من فرع هذه السلسلة. وهو السيد عبد العزيز بن
السيد حسين بن السيد حسن بن السيد محمد بن السيد محمد علي بن السيد أحمد
القزويني - جد الأسرة القزوينية الحلية - المتوفى سنة 1199 ه‍ / 1785 م.
ثم من بعده السيد موسى القزويني (الذي احتفت أخباره بعد اعتقاله من قبل السلطة
العراقية عام 1981 م) ابن السيد محيي بن السيد حمادي بن السيد طاهر السيد جعفر بن
السيد علي بن السيد أحمد القزويني.
11
الخمسينات والستينات الميلادية. ولجأ إلى التأليف وقدم عددا من البحوث
منها:
1 - جناية السياسة على الأدب. وهو بحث عالج فيه (جدلية الرجال
وتغير المواقف السياسية) يقع في حدود المائة صفحة.
2 - من وحي شهر رمضان، أو (خواطر صائم). نشر منه مقالات
متتابعة.
3 - الإمام الحسن بن علي (ع) دارسة وتحليل.
4 - ديوان شعره، سماه " تراث الأديب " يقع في جزأين
5 - طويريج منذ التأسيس حتى اليوم.
6 - كتاب النوادر في الأخبار والأشعار والطرف الأدبية.
كتاب النوادر
انبثقت فكرة تأليف كتاب " النوادر " عام 1984 م كرغبة شخصية بحتة
كان المؤلف يسعى إلى تحقيقها، ولم شتات ما قرأه، أو سمعه من طرف،
ونوادر استحسنها بذوقه الفني والأدبي.
وتطورت هذه الفكرة إلى جمع هذه الأشتات بعضها إلى بعض تحت عنوان
" الطرف الأدبية "، إلا أن الكتاب لم يكن مرتبا على العناوين، وإن كان متناسقا
في جمعه، وتأليفه.
احتوى كتاب " النوادر " على مجموعة من الملتقطات الشعرية، والحكايا
المستملحة تختلف في فتراتها الزمنية، فبعضها يختص بأدب القرن التاسع عشر
الميلادي، أما القسم الثالث - وهو أهمها - فيعود إلى أدب القرن العشرين ممن
أدركهم المؤلف، أو عاصرهم، أو سمع عنهم من أدباء العصر وشعرائه
المشهورين أو المغمورين على حد سواء.
امتاز الكتاب في كل ما حواه - أن مؤلفه استطاع أن ينقل هذه الطرف،
والأخبار، والنوادر بأسلوبه الذاتي، ونكهة تعبيره الخاص، مما أضفى على
أحاديثه أسلوبا مجلسيا شيقا، لا تكلف فيه، وهو أقرب ما يكون إلى الأسلوب
المترسل الأخاذ.
كما حفل أيضا بأسماء نخبة من شعراء الأدب المنسي الذين لم يترجموا في
كتاب، ولا عرف أحد منهم في أوساط الشعر والأدب رغم ملكاتهم، وغزارة
نتاجهم الأدبي.
ولما كان الكتاب خاليا من العناوين، كانت مهمة الوصول إلى هذه
الأخبار والطرف ليست باليسيرة، فجهدت إلى وضع عناوين مستلة من جو
المناسبة لتسهل على القارئ الاهتداء إلى مطالب الكتاب، واختيار ما يتطلبه
بأقصر وقت، وقد وضعت ترقيما متسلسلا لهذه الأخبار والأشعار، والطرف
الأدبية بلغ مائتين واثنين وعشرين مطلبا.
كما علقت على بعض المواضع التي رأيت ضرورة الإشارة إليها، وميزتها
عن الهوامش التي وضعها المؤلف بنفسه، ورمزت لها بالحرف (ج).
وقد عثرت على أبيات للمؤلف يود فيها أن يرى كتابه بيد قرائه ليشاركوه المتعة في اقتناص هذه الشوارد، وكان يحس أن ظهور ا لكتاب في حياته ضرب
من ضروب الأماني حيث قال:
" قلت: وأنا أشارف على نهاية كتاب " طرف أدبية "، وأمنيتي في طبعه:
عز في عيني كتابي وانقضى مني شبابي
ليتني أعلم هل أسطيع إكمال كتابي
أي فضل لفتى يخرجه بعد غيابي
ثم أردف أبياته هذه ببيتين لما أتم تأليف الكتاب، وهما:
فمتى أراك موزعا تغزو المكاتب والبيوتا
فلقد بذلت لك الكثير لتغتدي للفكر قوتا
ويحز في نفسي أن يخرج الكتاب إلى عالم النور بعد غياب مؤلفه، وكلي
أمل أن يكون هذا الجهد مدعاة لتجديد اسم أحمد القزويني، وتخليد ذكراه!
الشيخ أحمد آل كاشف الغطاء
مرت ترجمته في موضعها ولم تذكر سنة وفاته، توفي سنة 1344.
السيد أحمد الخونساري
ولد سنة 1309 في خونسار وتوفي سنة 1405 في طهران ودفن في قم درس
دروسه الأولى في خونسار ثم في أصفهان ثم انتقل إلى النجف الأشرف فحضر
على السيد كاظم اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهاني والشيخ حسين النائيني
والشيخ ضياء العراقي، ثم جاء إلى قم فحضر على الشيخ عبد الكريم
الحائري، ثم استقر في طهران وبقي فيها حوالي الخمس والثلاثين سنة مرجعا
من كبار مراجعها.
ترك من المؤلفات: 1 جامع المدارك في الفقه 2 العقائد الحقة 3
حاشية على العروة الوثقى 4 مناسك الحج 5 رسالة عملية.
8: أبو العلاء المعري أحمد بن عبد الله
مرت ترجمته في الصفحة 16 من المجلد الثالث ونزيد عليها هنا ما يلي:
مر في ترجمته شعر له يدل على تشيعه، ونزيد هنا على ذلك الشعر هذين
البيتين:
لعمرك ما أسر بيوم فطر ولا أضحى ولا بغديرهم
وكم ابدى تشيعه غوي لأجل تنسب ببلاد قم
ومعلوم ان الشيعة يعتبرون يوم (غدير خم)، وهو اليوم الذي خطب فيه
النبي (ص) بعد عودته من حجة الوداع خطبته الشهيرة التي قال فيها: من
كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وهو اليوم الثامن
عشر من شهر ذي الحجة معلوم ان الشيعة يسمون هذا اليوم (عيد الغدير)
ويحتفلون به، وأبو العلاء يذكره هنا مقرونا بعيدي الفطر والأضحى، اي
يعتبره عيدا اعتبار الشيعة له، وليس من دلالة على تشيع أبي العلاء أوضح من
هذه الدلالة. (انتهى)
وبعد هذا نأخذ مما كتبه الدكتور حسين مروة في دراساته عن أبي العلاء لا
سيما عن ديوانه " سقط الزند " ما هذا نصه:
هل خلا أدب " سقط " الزند من الأدب القومي؟ كان أبو العلاء مفكرا
انسانيا يتأبى النزعة القومية ويرفض " التضييق " على نزعته الإنسانية بأن
" يحدها " اطار من النظر الخاص إلى نسبته العربية؟
لا بد أن يرد مثل هذا السؤال على أذهاننا، ولا بد ان نقارن أبا العلاء
بصاحبه أبي الطيب الذي نفح عروبته بقصائد ذات صيت معروف، ثم
نسأل: أ كان لتلك الصحبة الروحية الحميمة بين أبي العلاء وشعر أبي الطيب
اثر ظاهر في شئ من أدب شاعر المعرة؟
اما في " اللزوميات " فقد يكون البحث عن هذا بحثا لا يجدي ولا يثمر،
إذا كان القصد ان نعثر فيه على كلام مباشر يتحدث عن شأن خاص بالعرب،

12
من حيث علاقته بهم وعلاقتهم به، أو من حيث موقفهم السياسي أو العسكري
من أعدائهم والطامعين في بلادهم أو في موقف أعدائهم منهم.
ولكن سنجد في " اللزوميات " أفكارا وآراء كثيرة تتسم بالطابع الفكري
النظري
وهي ذات مقاصد سياسية واجتماعية متأثرة بجوهر الأوضاع السياسية
والاجتماعية التي كانت تسود المجتمع العربي الاسلامي في عهده، وكانت
الدولة العربية الإسلامية، بوجه عام، مصدر الكثير من هذه الأوضاع. انه
يتحدث هناك عن الرؤساء والأمراء إذ يراهم يعدون على الرعية، وهم
اجراؤها، ويتحدث عن مظاهر الفساد والاضطراب في مختلف مناحي الحياة
العربية يومئذ، ويتحدث عن المظالم الاجتماعية تصيب فئات المجتمع
الضعفاء، وعن سوء توزيع الحظوظ بين الناس، إلى غير ذلك من
الانعكاسات الحقيقية الصادقة عن أوضاع المجتمع والدولة في شعر
" اللزوميات " كما يعرف الجميع.
ولكن، ما إلى هذا النوع قصدت، حين وضعت السؤال بأمر الشعر
القومي في أدب أبي العلاء. بل قصدت إلى وجه آخر من هذا الأمر، حيث
يبدو الشاعر وكأن احساسا ينبع من وجدانه الشاعري فيهز ملكاته وأدواته الفنية
للتعبير عن عاطفة الاعتزاز بقومه: بتقاليدهم، بمفاخرهم، بشمائل معينة من
أخلاقهم، بوقائع معروفة من فعالهم، بمزايا مأثورة من مزاياهم وخصائص
تاريخهم... هل في شعر " سقط الزند " شئ من هذا؟
نعم، وهنا لنا فارق جديد بين " سقط الزند " و " اللزوميات "، أو بين
المعري في مرحلتيه: الأولى والثانية:
نقرأ قصيدته التي مطلعها:
هو الهجر حتى ما يلم خيال
وبعض صدود الزائرين وصال
وعجيب ان المعري يخرج من المطلع هذا، ليدخل رأسا إلى موضوع
القصيدة، دون أن يستنفد شيئا من طاقته في ما عودنا إياه من تقديم الغزل
والنسيب ووصف المسير والإبل والفيافي ومشاق الاسفار وظلمات الليالي وعصف
الرياح ومشاهد النجوم ووهج السيوف واكتظاظ الرماح، إلى نهاية السلسلة...
ينتقل من المطلع رأسا، وهو طافح العنان، إلى حديث هذا الفتى العربي الذي
" تقصر الابصار عن قسماته " وتقوم الهيبة والجلال يسترانه دون كل ستر يمنع
النظر إليه، ونحن لا نعرف من هو هذا الفتى المهيب، ولكننا نعرف انه قائد
معركة دارت في " حارم " من شمال سوريا، وأن المعركة كانت على الثغور بين
جيشه وجيش الروم الذي اعتاد أن يغزو بلاد العرب على تلك الحدود، ويهيجنا
الشاعر لأن نصغي ونرى كيف يجيش على الخيل التي يقودها الفتى العربي بحر
من الكتائب، وتخر إليها الشهب وهي نصال، وكيف يترامى إلى المعركة:
فوارس قوالون للخيل أقدمي
وليس على غير الرؤوس مجال
لهم أسف يزداد اثر الذي مضى
من الدهر سلما ليس فيه قتال
بأيديهم السمر العوالي كأنما
يشب على اطرافهن ذبال (1)
وبعد قليل نرى الشاعر، في انقض الحماسي، وقد انقض على جماعة الروم
الغزاة، حين تصورهم في غمرة الذعر وشدة المحنة عند لقاء الكتائب
اليعربية، فإذا هو يجهز عليهم بهذا الهدير:
بني الغدر، هل ألفيتم الحرب مرة وهل كف طعن عنكم ونضال
وهل أطلعت سحم الليالي عليكم وما حان من شمس النهار زوال (2)
وهل طلعت شعث النواصي عوابسا رعال ترامى خلفهن رعال (3)
لها عدد كالرمل المبر على الحصا ولكنها عند اللقاء جبال (4)
فان تسلموا من سورة الحرب مرة وتعصمكم شم الأنوف طوال (5)
ففي كل يوم غارة مشمعلة وفي كل عام غزوة ونزال (6)
خذوا الآن ما يأتيكم بعد هذه ولا تحسبوا ذا العام، فهو مثال
ونجري سراعا مع الشاعر، لكي نرى خيل الكتائب العربية، وهن:
يردن دماء الروم، وهي غريضة ويتركن ورد الماء، وهو زلال (7)
تجاوزه بالوثب كل طمرة تمازج في فيها دم ورؤال (8)
تدانت به الأقران، حتى تجاثأت كأن قتال الفيلقين جدال (9)
وقد علم الرومي انك حتفه على أن بعض الموقنين يخال
فما كبروا حتى يكونوا فريسة ولا بلغوا ان يقصدوا فينالوا
ونجول جولة ثانية في " سقط الزند "، فإذا بنا نقف دهشين أمام هذا
المستهل يفجؤنا منه هذا الصدى المتجاوب المرنان:
لقد آن أن يثني الجموح لجام وأن يملك الصعب الابي زمام
أ يوعدنا بالروم ناس، وإنما هم النبت، والبيض الرقاق موام؟
أبو العلاء هنا فارس على أهبة ان ينزل المعركة، ولكنه يبتدر العدو بالنذير
الرهيب قبل النزال، والعدو هنا هو جيش الروم كذلك أو من يواليهم
ويستعديهم من الخونة الأعراب، والمعركة دفاع عن الثغور، وذياد عن الحمى
العربي، وانتخاء لضرب الغزاة، واعتزاز بأمجاد الفروسية العربية:
كان لم يكن بين المخاض وحارم كتائب يشجين الفلا وخيام (10)
ولم يجلبوها من وراء " ملطية " تصدع أجبال بها وآكام (11)
كتائب من شرق وغرب تألبت فرادى أتاها الموت، وهي تؤام
غرائب در جمعت، ثم ضيعت وقد ضم سلك شملها ونظام
بيوم كأن الشمس فيه خريدة عليها من النقع الاحم لثام (12)
كأنهم سكرى أريق عليهم بقايا كؤوس ملؤهن مدام
فأضحوا حديثا كالمنام وما انقضى فسيان منه يقظة ومنام
والظاهر من سياق القصيدة انها موجهة إلى قائد عربي امتحنته التجارب
بمقاتلة الروم، ولكن المصادر التي بأيدينا لا تعين لنا هذا القائد، غير أن لهجة
أبي العلاء في هذه القصيدة ليست لهجة المادح كما نعرف طرق المدح في شعرنا
القديم، بل من الواضح أن أبا العلاء هنا يعبر عن انفعال وجداني بالقضية التي



(1) الذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة المشعلة.
(2) السحم: السود.
(3) رعال: جمع رعيل، وهو قطعة من الخيل.
(4) المبر: الزائد أبر: زاد.
(5) سورة الحرب: سطوتها وشدتها. ويقصد بشم الأنوف هنا: الجبال العالية.
(6) أشمعلت الغارة: انتشرت في العدو.
(7) غريضة: طريئة.
(8) فرس طمرة: وثابة. الرؤال: اللعاب.
(9) الضمير في البيت يرجع إلى الماء. تجاثأت: أي جئت على الركب.
(10) المخاض: نهر قرب المعرة.
(11) ملطية: مدينة بأطراف الروم كان قد فتحها العرب زمن الصحابة، ثم غلب عليها الروم سنة
ثلاثمائة هجرية.
(12) خريدة: امرأة حيية. النقع: الغبار الأحم: الأسود.
13
تدور عليها القصيدة، وظاهر ان القضية ليست تعني الشاعر وحده، ولا
الممدوح وحده، وإنما هي تعني قوما من الناس نحس أن الشاعر عظيم الاعتزاز
بهم، عميق الثقة بسلامة قضيتهم التي تتحدث عنها القصيدة، ونجد في ذلك
حرارة لا تكون في الشعر عادة الا أن تكون هنا مشاركة وجدانية بين الموضوع
والشاعر:
وردوا إليك الرسل، والصلح ممكن وقالوا على غير القتال سلام
فلا قول الا الضرب والطعن عندنا ولا رسل الا ذابل وحسام
فان عدت، فالمجروح توسى جراحه، وان لم تعد متنا ونحن كرام
فلسنا وان كان البقاء محببا - بأول من أخنى عليه حمام (1)
وحب الفتى طول الحياة يذله وان كان فيه نخوة وعرام
وكل يريد العيش، والعيش حتفه ويستعذب اللذات وهي سمام (2)
فلما تجلى الأمر، قالوا تمنيا: ألا ليت أنا في التراب رمام
وراموا التي كانت لهم وإليهم وقد صعبت حال وعز مرام
وإذا كانت المصادر التي نرجع إليها الآن في سيرة أبي العلاء لا تلقي ضوءا
على موضوع هذه القصيدة أو على صاحبها الذي يخاطبه فيها أبو العلاء، برغم
الجهد الذي بذلناه في استنطاق الحوادث التي عاصرها الشاعر قبل رحلته إلى
بغداد وبعد هذه الرحلة، وفي مقارنة روح القصيدة ومضامينها بتلك الحوادث
نقول: إذا كانت المصادر لا توضح لنا شيئا يطمئن إليه الباحث بهذا الشأن،
فإننا نميل إلى الحدس - الحدس وحسب - بأن أبا العلاء أنشأ هذه القصيدة
خلال البرهة التي كانت الحرب فيها سجالا بين الفاطميين والبيزنطيين في بلاد
الشام، وذلك قبل ان يرحل أبو العلاء إلى بغداد، وحين كان في المرحلة الأولى
من حياته، مرحلة الشباب.
وهذا الحدس، إذا دعمه دليل أو شاهد تاريخي مقبول، إنما يوجه هذه
القصيدة لأن يكون صاحبها الذي قيلت فيه واحدا من قادة الجيوش الفاطمية
التي حاربت البيزنطيين في بلاد الشام نحو أربع سنوات، كما مر، فإذا استطعنا
أن نطمئن إلى هذا التوجيه، وضعنا دليلا جديدا بيد الباحث الكبير مارون عبود
على صحة رأيه بأن أبا العلاء كان فاطمي المذهب.
غير أن هذه النتيجة، إذا أمكن الوصول إليها من الوجهة التاريخية
بالأقل، لا تمنع ان تظل القصيدة هذه ذات وجه عربي تتلامع فيه من أبي العلاء
ملامح الاعتزاز بعروبته والانتخاء لكرامة قومه وعزتهم.
وقد تزيد هذه الملامح تألقا حين نطوف مرة أخرى في أشعار " سقط الزند "
فإذا أبو العلاء يستوقفنا أيضا عند هذه القصيدة التي مطلعها:
إليك تناهى كل فخر وسؤدد فأبل الليالي والأنام وجدد
ولكنه يبهم علينا الأمر هنا كذلك، فلا يزيد في عنوان القصيدة عن هذه
الكلمات: " وقال أيضا مادحا "... أما من هو الممدوح هنا، فكل شئ مبهم
لا يرد جوابا عن ذلك. ولا ندري أ كان قصدا من أبي العلاء إلى هذا الابهام،
وهو جامع " سقط الزند " كما نعلم، أم كان ذلك من صنع الأيدي الكثيرة التي
تداولت نسخ الديوان، أم من صنع الناشرين بعد ذلك؟
المرجح أن ذلك من صنع أبي العلاء نفسه، بدليل ما جاء في مقدمته لسقط
الزند من اظهاره التنصل من مدائحه التي وجهها إلى الأمراء والحكام، إذ قال:
" ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طالبا للثواب، وإنما كان
ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس " الطبيعة ". ثم قال في تفسير
مدائحه: "... وما وجد لي من غلو علق في الظاهر بآدمي وكان مما يحتمله
صفات الله عز وجل سلطانه، فهو مصروف إليه، وما صلح لمخلوق سلف من
قبل، أو غير، أو لم يخلق بعد، فإنه ملحق به وما كان محضا من المين لا جهة
له، فأستقيل الله العثرة فيه ".
فإنه لظاهر من هذا النص أن أبا العلاء حين جمع " سقط الزند " وهو
معتكف في " محبسيه " كان حريصا ان يتنكر لعلاقاته السابقة برجال السياسة
أيام شبابه و قبل اعتكافه، وبتأثير هذا الحرص تعمد ان يغفل أسماء ممدوحيه في
سقط الزند ليطمس معالم العهد الذي سبق عهد عزلته. وهذا سر آخر من
أسراره التي غمضت على المؤرخين له والباحثين في شأنه. ولكن هل تنصل أبي
العلاء من مدائحه تلك في عهد عزلته يغير شيئا من الواقع نفسه، نعني الواقع
الموضوعي الذي أنشئت تلك القصائد من أجله؟ ان رغبة أبي العلاء ذات صفة
أخلاقية وفكرية مرهونة بحاله في عهد خاص، وأما ذلك الواقع فله صفة
تاريخية موضوعية لا يغيرها شئ.
ولكن مؤرخي أبي العلاء هم المقصرون، فلم ينفقوا جهدا في كشف
العلاقة بين قصائد المدح وروابطها التاريخية، في حين ان مثل هذه المهمة تدخل
في صميم التاريخ الحقيقي لرجل ذي شأن كشأن أبي العلاء... ويقينا لو أن
المؤرخين، قدماء ومحدثين، قد عنوا بهذه المسألة لانكشفت لنا غوامض جمة من
سيرة الرجل، ومن مذاهب الرأي فيه، ومن أسباب عزلته وتزهده، ومن
اتجاهاته العقلية والدينية.
وكيف كان الأمر، فإن أبا العلاء يستوقفنا الآن في " سقط الزند " عند هذه
القصيدة، فإذا نحن نعلم - كل ما نعلم - ان الممدوح بها أمير عربي محارب،
وانه من القادة الذادة عن ثغور الدولة العربية الإسلامية على حدود الروم من
شمال سورية، وذلك إذ يخاطبه أبو العلاء:
ولولاك لم تسلم " أفامية " الردى وقد أبصرت من مثلها مصرع الردي (3)
فأنقذت منها معقلا هضباته تلفع من نسج السحاب وترتدي
وحيدا بثغر المسلمين كأنه بفيه مبقى من نواجذ أدرد (4)
بأخضر مثل البحر ليس اخضراره من الماء، لكن من حديد مسرد (5)
وقبل أن نفرع من أمر هذه القصيدة، نرى من المهم أن نشير إلى بصيص
من نور يلوح لنا خلال أبياتها، ذلك إذ ترد كلمة " الشريف " في هذه القصيدة
مرتين يطلقها الشاعر على ممدوحه حين يخاطبه:
متى أنا في ركب يؤمون منزلا توحد من شخص " الشريف " بأوحد
يذكرن من نيل " الشريف " مواردا فما نلن منه غير شرب مصرد
فمن هو هذا " الشريف " المحارب للروم في عهد أبي العلاء إذ ثغور
العرب قد تساقطت حصونها إلى أيدي الروم، ولم يبق منها غير واحد يسميه
الشاعر " أفامية " وقد أنقذه هذا " الشريف " نفسه؟...
نرجع إلى التاريخ السياسي لذلك العهد، نبحث فيه عن قائد عربي شغل
نفسه في محاربة الروم أيام كان أبو العلاء يمدح الأمراء والقواد، ويعني بالثناء
على ذادة الثغور ومنقذي الحصون العربية من البيزنطيين أنفسهم. نرجع إلى
ذلك التاريخ، فلا نجد من يصح أن يتوجه إليه مثل هذا الخطاب من أبي
العلاء، ويكون مع ذلك من " الشرفاء "، غير قائد ينتسب إلى جيوش



(1) الحمام: الموت أختي عليه الموت أهلكه
(2) سمام: جمع سم.
(3) أفامية: حصن على حدود الروم.
(4) الثغر هنا: هو الحد بين بلاد العرب وبلاد الروم. النواجذ: أقصى الأسنان. الأدرد: الذي
تساقطت أسنانه. ويظهر من هذا البيت ان " أفامية " كانت الحصن الوحيد الباقي من ثغور العرب
في أيديهم يوم قال الشاعر هذه القصيدة، ولذلك شبهة بالسن الباقية في فم الأدرد.
(5) مسرد: منسوج.
14
الفاطميين، إذ ليس غير هذه الجيوش كان معنيا في ذلك الحين بقتال
البيزنطيين... فهل هذا أيضا يلقي ضوءا على رأي الأستاذ مارون عبود في
" فاطمية " أبي العلاء؟. " انتهى ما ذكره الدكتور حسين مروة ".
ونحن هنا نريد ان نجلو شكوك الدكتور مروة، ونوضح ما اعتبره غموضا
في حقيقة المقاتلين الذين تغنى ببطولاتهم أبو العلاء، ونؤكد له ان من تراءى له
انهم قواد الجيوش الفاطمية، هم بالفعل ابطال تلك المعارك التي أثارت شاعرية
أبي العلاء، وانه يستطيع ان يكون على يقين بأنهم هم لا غيرهم الذين نظمت
فيهم الأشعار العلائية.
وذلك بعرض الحقائق التاريخية التالية:
استطاع البيزنطيون بعد موت سيف الدولة الحمداني وضعف الدولة
الحمدانية في عهد خلفائه ان يستولوا على كثير من المدن في شمال بلاد الشام ولما
وصل الفاطميون إلى مصر وركزوا دولتهم فيها وثبتوا دعائمها في عهد المعز لدين
الله سنة 358 ه (969 م) كان أكبر همهم استرجاع ما استولى عليه
البيزنطيون من المدن الشامية، وحاولوا أول الأمر اجلاء البيزنطيين عن أنطاكية
ولكن القوى البيزنطية كانت أكثر كثافة من قواتهم الزاحفة إليها، فان
البيزنطيين عرفوا خطورة سقوط أنطاكية لذلك حشدوا للدفاع عنها قوى كانت
أعظم مما قدر الفاطميون ففشل الجيش الفاطمي في استردادها، واغتنم
الإمبراطور البيزنطي حنا زيمسكس هذا الفشل وتقدم بجيوشه سنة 975 م من
أنطاكية إلى حمص ومنها إلى بعلبك، وخافت دمشق مغبة مقاومته فخضعت
ودفعت له الجزية، كما سلمت له طبريا وقيسارية، وكان مصمما على الوصول
إلى القدس، وهكذا يسبق هذا الإمبراطور البيزنطي الصليبيين في التفكير
باستعادة القدس من المسلمين.
ويبدو جليا من استعراض الاحداث ان الفاطميين أدركوا نية حنا زيمسكس
وصمدوا له فتراجع عن محاولة الوصول إلى القدس وغير هدفه واتجه إلى الساحل
مغتنما فرصة حشد الجيوش الفاطمية في طريق القدس، فاستطاع الاستيلاء على
صيدا وبيروت، ثم اتجه إلى طرابلس، واسرع الفاطميون لصده والوقوف في
طريق زحفه إليها، وعضدوا جيشهم البري المدافع عنها بأسطولهم الحربي،
واستطاعوا الحاق الهزيمة بالإمبراطور البيزنطي ورده عن طرابلس وملاحقته حتى
أخلى بيروت وصيدا وكل ما استولى عليه من بلدان الساحل، وظلت الضربات
الفاطمية تلاحقه حتى ردته إلى أنطاكية ثم عاد من أنطاكية إلى عاصمته
القسطنطينية مقهورا حيث توفي فيها في أوائل سنة 976 م.
وتمر السنون والفاطميون صامدون للبيزنطيين يدفعونهم عن بلاد الشام
حتى كانت السنة 377 ه 987 م فرأى الإمبراطور باسيل الثاني عقم مقاتلة
الفاطميين، وان لا امل بالنصر عليهم فأرسل إلى الخليفة الفاطمي (العزيز)
في القاهرة وفدا يحمل هدية ويطلب انهاء الحرب، وكانت الهدية فيما يروي
المؤرخون تحتوي على ثمان وعشرين صينية من الذهب، فلم يعارض
(العزيز) في عقد الهدنة مع البيزنطيين ما داموا قد تخلوا عن أطماعهم،
فعقدت هدنة مدتها سبع سنوات بشروط كلها في مصلحة الفاطميين.
ولكن الفاطميين مع الأسف كانوا لا يواجهون البيزنطيين وحدهم بل
كانوا يواجهون الفتن التي يثيرها عليهم أبناء قومهم مستعينين عليهم
بالبيزنطيين، كهذا الذي فعله أمير حلب سنة 381 ه مما أغرى باسيل الثاني
بنقض الهدنة فزحف إلى بلاد الشام فالتقى به الفاطميون على ضفاف نهر
العاصي فهزموه وردوه من حيث جاء، والذي جرى سنة 388 حين انجد
باسيل الثاني نفسه المستنجدين به في ثورتهم على الفاطميين بقيادة (علاقة) في
صور، وانتصر الفاطميون على البيزنطيين والمستنجدين بهم في معارك برية
وبحرية والذي جرى في (افامية) (وهي التي ذكرها أبو العلاء في شعره) حين
استنجد حسان بن مفرج الطائي بالبيزنطيين على الفاطميين حيث قامت فيها
المعارك سجالا.
والواقع اننا لا نريد هنا التبسط في الحديث عن تاريخ المعارك بين
البيزنطيين والفاطميين وجهاد الفاطميين في ردهم عن بلاد الشام وعن القدس
بخاصة، فذلك له مكان آخر، ولكننا نريد ان نشير مجرد إشارة إلى تلك
المعارك التي استثارت شاعرية أبي العلاء المعري وبعثت فيه روح الاعتزاز
بالمناضلين الفاطميين وبطولاتهم في الدفاع عن الوطن العربي الاسلامي.
أحمد بن منير الطرابلسي
مرت ترجمته في المجلد الثالث الصفحة 179 ونزيد عليها هنا ما يأتي:
العلاقة بينه وبين القيسراني
لم يكن بدعا أن تنتج الحروب الصليبية في أوروبا أدبا ملحميا مستوحى مما
حفلت به تلك الحروب من أحداث وخطوب، ولم يكن عجبا أن نرى في
الآداب اللاتينية سواء في لغة الشمال أو لغة الجنوب
ملاحم لأمثال جفري اللومباردي ويوسف اكستر وجنتر باسل وكذلك مثل
أنشودة أنطاكية البروفنسالية التي ألفها غريغوري بشاده،
وقصيدة بودريه وأنشودة غرايندور دوياي، وغيرها.
ولكن كان العجيب أن لا تخلق تلك الحروب الملاحم العربية، لا في حال
تدفق الجيوش الفرنجية وانتصاراتها وما رافقها من فجائع وأهوال، وما عاناه
المسلمون فيها من هوان وانكسار. ولا في حال انحسار المد الفرنجي واجتماع
القوى الوطنية مستخلصة الوطن منه دفعة وراء دفعة حتى انتهت بتلاشيه.
وفيما عدا قليلا من القصائد والمقطوعات أعرب فيها أصحابها عن أحزانهم
أيام الهزائم وأفراحهم أيام الانتصارات، فان تلك الحروب لم تنل ما كان يجب
أن تناله من الشعر العربي، ولا أوجدت الملحمة في أدبنا، وكانت بذلك
جديرة.
على انني وأنا اقرأ وقائع عماد الدين زنكي ثم وقائع ابنه نور الدين محمود
مع الصليبيين، حين بدأ الأول مهاجمة الإفرنج، فكانت انتفاضته أول انتفاضة
في وجه المحتلين بعد نوم طويل على الضيم.
انني وأنا اقرأ ذلك وجدت شعرا عربيا يسجل تلك الوقائع ويتغنى بها معبرا
عما كانت تنضح به نفوس المسلمين من الابتهاج والحبور، وما كانت تفيض به
بيئاتهم من الاستبشار والسرور.
وإذا كان مما يقلل من قيمة أصحاب ذلك الشعر في أعيننا أنهم لم ينظموا
شعرهم ابتداء، ولا كان بنتيجة تحسس بالشعور العام، ولا تعبيرا عن حقيقة
أمورهم، بل جاء في معرض المدح والاسترزاق. فإنهم وهم يعيشون في كنف
عماد الدين ونور الدين ويحيون في سلطانيهما، كان لا بد لهم من أن يمدحوهما
استدرارا للعطاء، وسواء أ كان عماد الدين ونور الدين غازيين منتصرين، أو
متخاذلين متواكلين فإنهم سيمدحونهما حتما. إذا كان الأمر كذلك فان حسن
حظهما جعل مدحهم غير منكور ولا ممجوج، وجعلهم دون أن يقصدوا لسان
الحياة الاسلامية في تلك الفترة، فعبروا عن مشاعر الأمة ونطقوا بلسان
الأحداث فاكتسبوا بذلك خلودا لم يكن ليتأتى لهم لو أن عماد الدين ونور الدين
لم يكونا مدبري تلك الوقائع وقائدي تلك المعامع.
وأبرز شعراء تلك الفترة شاعران لقبهما معاصروهما شاعري الشام هما

15
محمد بن نصر القيسراني وأحمد بن منير الطرابلسي، ولهما في عماد الدين ونور
الدين مدائح تقليدية ككل مدائح الشعراء في الأمراء، ليست هي التي تعنينا في
حديثنا هذا، وانما الذي يعنينا هو تلك القصائد التي نظماها في الانتصارات
فكانت مظاهر للملحمة العربية جديرة بالعناية والإذاعة.
والقيسراني مولود سنة 478 ومتوفى سنة 548 ه وهو منسوب إلى مدينة
قيسارية على الساحل الفلسطيني، ولم يكن الشعر وحده الصفة الغالبة عليه،
بل يبدو أنه كان على مشاركة حسنة ببعض العلوم حتى أن ابن عساكر سمع منه
وذكره بين من ذكرهم من شيوخه. وهو ليس من موضوع كتابنا وذكرناه لعلاقته
بابن منير.
والطرابلسي مولود سنة 473 ومتوفى سنة 548 ه وهو منسوب إلى طرابلس
على الساحل اللبناني وهي المدينة التي عرفت في التاريخ الاسلامي باسم
طرابلس الشام تمييزا لها عن طرابلس الإفريقية التي عرفت باسم طرابلس
الغرب.
ونحن نرى من ذلك ان الشاعرين من منطقتين نكبتا بالاحتلال الصليبي
وسقطتا في قبضة الفاتحين، فقد عانت قيسارية كما عانت طرابلس مرارة الذل،
وهوان الفتح، ولكننا لا نرى في شعر الشاعرين ما يدل على تحسسهما بما كان
يشكو منه بلداهما، وهذا يدلنا على أن الشاعرين سيقا إلى شعر الكفاح سوقا،
ولما لم يكن لوقائع عماد الدين ثم لوقائع نور الدين صلة لا بقيسارية ولا
بطرابلس بل كانت البلدتان بعيدتين عن ميدان الصراع، لذلك لم يذكرهما
الشاعران ولا استجاشتهما همومهما، بل اقتصر الشاعران على ما باشره القائدان
من المعارك في المناطق النائية لأن فيها المادة الوافرة لموضوع المديح، وهو
الأصل في نظمهما هذا الشعر.
ولم يكن هذان الشاعران متوافقين متصافيين دائما، بل كثيرا ما تهاجيا
وتشاتما، وفي أثناء ذلك قد تقوم بينهما مطارحات طريفة.
وكان الوضع قبل نهوض عماد الدين وضعا مذلا سيطر فيه الإفرنج سيطرة
كاملة على البلاد الممتدة من ماردين إلى عريش مصر. ولم يكن ناجيا من ربقة
الاحتلال في هذا المدى الواسع إلا المدن الأربع: حلب وحماه وحمص ودمشق.
على أن هذه المدن إذا كانت قد نجت من الاحتلال فإنها لم تنج من الهوان. فقد
كان الفرنج يرسلون وفودهم إليها فارضة ما تشاء من الفروض، فضلا عما
كانت عليه بقية المدن والقرى. ولعل مما يصور وضع البلاد يومذاك ما قاله
صاحب كتاب (الروضتين): " وكان الفرنج قد اتسعت بلادهم وكثرت
أجنادهم وعظمت هيبتهم وزادت صولتهم وامتدت إلى بلاد المسلمين أيديهم
وضعف أهلها عن كف عاديهم وتتابعت غزواتهم وساموا المسلمين سوء العذاب
واستطار في البلاد شر شرهم ".
ثم يزيد في وصف الحال قائلا: وكانت سراياهم تبلغ من ديار بكر إلى
آمد ومن الجزيرة إلى نصيبين ورأس عين، أما أهل الرقة فقد كانوا معهم في ذل
وهوان، وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة والبر، ثم زاد الأمر وعظم
الشر حتى جعلوا على أهل كل بلد جاورهم خراجا وأتاوة يأخذونها منهم ليكفوا
أذيتهم عنهم ".
ولا يفوتنا أن نشير إلى ما كان عليه المسلمون من تشاحن وتقاتل وصراع مما
كان يحول دون النهوض نهوضا يرد للأمة كرامتها وحريتها.
هذا هو حال الوطن حين كان قد استطال امر عماد الدين زنكي ورسخ
سلطانه فكان أن هب لمناجزة المحتلين ومقارعتهم، ثم أخذ ينتصر عليهم
انتصارات متتابعة، إذا كانت في أول أمرها هينة النتائج فإنها كانت مفتاحا
للوثوب، كهذا الذي جرى حين ردهم عن حصن (شيزر) وحين فتح حصن
(الأثارب) وحصن (عرقة) وحصن (بارين) ثم ضرب ضربته الكبرى بفتح
مدينة (الرها).
وكانت الرها (ايدسا القديمة) محكومة من الأرمن، وبعد استيلاء الفرنج
في حملتهم الأولى التي تلت حملة بطرس الناسك، على مدينة (نيقيا) سنة
1097 م ثم مدينة دوريلايوم (اسكي شهر) من السلجوقيين انفصل بلدوين
اللوريني عن الجيش الصليبي الرئيسي وتقدم نحو الرها واستولى عليها بالاتفاق
مع حاكمها الأرمني (توروس) سنة 1098 وانشا فيها أولى الدويلات
اللاتينية. ومنها تقدم الفرنج إلى سميساط وسروج والبيرة وغيرها، فقامت لهم
امارة في حوض الفرات الأعلى من مرعش في الشمال إلى منبج في الجنوب غربي
الفرات، ثم تمضي شرقي الفرات فتشمل بهسنا والرها وسروج. وكان تمركز
بلدوين في الرها مما أعاق القائد السلجوقي (كربوقا) أمير الموصل عن الوصول
في الوقت المفيد لنجدة أنطاكية التي كان يحاصرها الجيش الصليبي الرئيسي. ثم
كان قيام هذه الامارة تهديدا متواصلا للموصل وما يتبعها مثل نصيبين وماردين
وحران، وكذلك لديار بكر وما إليها على أعالي نهر دجلة، بل كان تهديدا أيضا
لشمال العراق كله.
وإذا كانت الرها أول دولة لاتينية تقوم، فقد كانت كذلك أول دولة لاتينية
تسقط. وبين قيامها وسقوطها ست وأربعون سنة، إذ كان سقوطها بيد عماد
الدين، عام 1114 م بعد حصار دام أربعة أسابيع.
وكان لفتح الرها وقع عظيم هز النفوس بالبهجة والغبطة، ولم يكن أجدر
من الشاعرين أن يكونا صدى لما كان يعتمل في نفوس المسلمين من السرور وما
كانت تجيش به قلوبهم من الأمال العراض. لذلك رأيناهما يسجلان هذا الفتح
بشعر يمكن أن نقول أن فيه ملامح الملاحم وجوهرها، فان القيسراني يقول فيما
يقول من قصيدة طويلة:
مدينة افك منذ خمسين حجة * يفل حديد الهند عنها حداده
تفوت مدى الابصار حتى لو أنها * ترقت إليه خان طرفا سواده
وجامحة عز الملوك قيادها * إلى أن ثناها من يعز قياده
وكانت الرها حقيقة بهذا الوصف لأنها ظلت طوال ما يقرب من خمسين
سنة، منذ أن عجز كربوقا عن فتحها وهو في طريقه لانقاذ أنطاكية، فأوقفه
حصارها ثلاثة أسابيع بدون جدوى، وكانت هذه الأسابيع كافية لوصوله إلى
أنطاكية والقضاء على الجيش الصليبي المنهوك الجائع المحطم النفس، لو أنه لم
يتوقف عند الرها فيتيح بذلك للصليبيين استعادة معنوياتهم ودخول أنطاكية فلا
يصل كربوقا إلا بعد سقوطها، ثم يعجز بعد ذلك عن استردادها فيكون فتحها
فاتحة الشرور ومبدأ الهزائم. ظلت الرها طوال تلك المدة منيعة ومصدرا
للشر، ومن هنا أوحت للقيسراني بما أوحت من وصفها ثم بتصوير الشعور
الاسلامي بالانتصار عليها.
وعن ثغر هذا النصر فلتأخذ الظبا * سناها وان فات العيون اتقاده

16
وفتح حديث في السماع حديثه * شهي إلى يوم المعاد معاده
أراح قلوبا طرن من وكناتها * عليها فوافى كل صدر فؤاده
فيا ظفرا عم البلاد صلاحه * بمن كان قد عم البلاد فساده
ثم بما أحيا هذا النصر من الآمال البعيدة:
ولله عزم ماء " سيحان " ورده * وروضة " قسطنطينية " مستراده
ومطلع هذه القصيدة:
هو السيف لا يعنيك إلا جلاده * وهل طوق الأملاك إلا نجاده
وهو مطلع خارج عن الأسلوب التقليدي الذي كان يفتتح القصائد
بالغزل، وانما هو مطلع مستمد من روح الملحمة متأثر بجوهرها، وهكذا بقية
المديح في القصيدة، فقد خرج عن كونه تعدادا لفضائل ابتذل تعدادها في كل
ممدوح، بل هو وصف لكفاح قاده الممدوح و حقق الظفر فيه، وتعبير عن
آمال مكبوتة، وهذا كله يعود إلى جذور الملاحم و أصولها.
وهذا عين ما نراه عند ابن منير الذي قال من قصيدة طويلة:
والرها ان لم تكن إلا الرها * لكفت حسما لشك الممترين
هم " قسطنطين " ان يفرعها * ومضى لم يحومنها قسط طين
ولكم من ملك حاولها * فتحلى الحين وشما في الجبين
ثم ينتقل إلى الحديث عن نتائج فتحها وأثر هذا الفتح عند الفريقين:
ان حمت (مصر) فقد قام لها * واضح البرهان ان (الصين) صين
برنست رأس " برنس " (1) ذلة * بعد ما جاست حوايا " جوسلين " (2)
" وسروج " مذ وعت اسراجه * فرقت جماعها عنها عضين
تلك اقفال رماها الله من * عزمه الماضي بخير الفاتحين
سل بها " حران " كم حرى سقت * بردا من يوم ردت " ماردين "
سمطت أمس " سميساط " بها * نظم جيش مبهج للناظرين
وغدا يلقى على " القدس " لها * كلكل يدرسها درس الدرين
ويموت عماد الدين اغتيالا ويليه ابنه نور الدين ويستطيع السيطرة على رقعة
ممتدة من أعالي دجلة شمالا إلى منابع الأردن جنوبا، ويكون الشاعران له كما
كانا لأبيه، ويصطدم نور الدين بالفرنج ويفوز عليهم في معركة " أنب " ويقتل
" البرنس " صاحب أنطاكية في المعركة، وتتحقق بشارة ابن منير المتقدمة
" ويتبرنس " رأس " البرنس " لا بالذلة وحدها بل بالمنية، وهكذا نرى كم كان
ذلك الشعر صدى للوجدان العربي والضمير الاسلامي في تخيل الآمال البعيدة
والتلهف على المطامح القصية. فقد كان " البرنس " كما يقول ابن الأثير:
" عاتيا من عتاة الفرنج " وكان الخلاص منه احدى أكبر الأمنيات.
وقد رأينا كيف ان القيسراني كان يلوح في قصيدته الدالية لا بالخلاص في
الوطن فحسب بل بالنفاذ حتى إلى القسطنطينية:
ولله عزم ماء سيحان ورده وروضة قسطنطينية مستراده
كما لوح ابن منير بالنصر على البرنس ثم بالنفاذ إلى القدس:
وغدا يلقي على القدس لها * كلكل يدرسها درس الدرين
وتتالت بعد الرها المراحل المرجوة مرحلة مرحلة وستظل تتوالى ولكن
دون ان يقدر للشاعرين أن يعيشا ليريا تواليها، إذ انهما ماتا قبل نور الدين.
واستأثرت معركة أنب ومقتل البرنس بشاعرية الشاعرين وقفزت بالمطامح
من القدس والقسطنطينية إلى روما نفسها فقال لقيسراني من قصيدة طويلة
جرى فيها على ما جرى عليه في القصيدة الدالية من الافتتاح بالشعر العسكري
لا الغزلي:
مذي العزائم لا ما تدعي القضب * وذي المكارم لا ما قالت الكتب
وهذه الهمم اللاتي متى خطبت * تعثرت خلفها الأشعار والخطب
وفيها يقول:
أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة * فؤاد رومية الكبرى لها يجب
قل للطغاة وان صمت مسامعها * قولا لصم القنا في ذكره أرب
أغركم خدعة الآمال ظنكم * كم اسلم الجهل ظنا غره الكذب
أجسادهم في ثياب من دمائهم * مسلوبة، وكأن القوم ما سلبوا
انباء ملحمة لو أنها ذكرت * فيما مضى نسيت أيامها العرب
فملكوا سلب " الابرنس " قاتله * وهل له غير " أنطاكية " سلب
فانهض إلى المسجد الأقصى بذي لجب * يوليك أقصى المنى فالقدس مرتقب
ونحن نلمس في هذا الشعر شيئا فوق المدح. اننا نلمس احساسا متأججا
يثيره الذل الذي استحال عزا والهوان الذي عاد فتحا، اننا نسمع أهازيج النصر
راعدة مدوية وهتافات الظفر صارخة متوعدة تزري بالغاصبين وتدل إلى
هلعهم وتتغنى بالراجفة التي وجب لها حتى قلب (رومية الكبرى) القصية،
ويجئ ذكر روما هنا طبيعيا سائغا، لا نبو فيه ولا دلالة تبجح فارع مستكره.
ثم هذه الإشارة إلى الخطوة التالية المأمولة إلى (سلب الابرنس)، هذا السلب
الذي يسمو عن المادة ومغرياتها، ان السلب في هذا الصراع الرهيب هو أغلى ما
ملك (البرنس) وقوم البرنس: " هو أنطاكية " التي كان سقوطها فاتحة السقوط
العام وسيكون نهوضها فاتحة النهوض العام ثم الطريق إلى المسجد الأقصى
بالجيش الهادر المزمجر ذي اللجب، فالقدس ترتقب أهلها وتنتظرهم.
اننا نرى في هذا الشعر، الشعب كله ينطلق في صوت واحد وشعار
واحد: إلى الأمام، إلى أنطاكية، إلى القدس...
ينطلق بذلك لا غرورا وغباء، وجهلا، بل يقينا وعقلا وتفهما.
ويقول ابن منير من قصيدة طويلة افتتحها كزميله، لا بالغزل بل بما
يناسب حالة الكفاح التي كانت فيها البلاد:
أقوى الضلال وأقفرت عرصاته * وعلا الهدى وتبلجت قسماته
فتح تعممت السماء بفخره * وهفت على أغصانها عذباته
وسقى " البرنس " وقد تبرنس ذلة * بالروح ممقر ما جنت غدراته
تمشي القناة برأسه وهو الذي * نظمت مدار النيرين قناته
وتتابع الفتوح ويلي النصر النصر فينطلق ابن منير حاملا في قصيدة واحدة
قصص الأحداث متنقلا من مكان إلى مكان:
أعدت بعصرك هذا الأنيق * فتوح النبي واعصارها
فجددت اسلام " سلمانها " * وعمر جدك " عمارها "



(1) هو أميز أنطاكية يومذاك.
(2) هو جوسلين الثاني أمير الرها.
17
وما يوم " أنب " الا كيسك * بل طال بالبوع أشبارها
ولما هببت " ببصرى " سمكت * باهباء خيلك ابصارها
ويوم على الجون " جون السراة * عز فسعطها عارها
صدمت " عريمتها " صدمة * أذابت مع الماء أحجارها
وفي " تل باتر " باشرتهم * بزحف تسور أسوارها
وان دالكتهم " دلوك " فقد * شددت فصدقت اخبارها
واستمر نور الدين في صراعه مع الصليبيين واستمر الشاعران في تسجيل
انتصارات نور الدين مما يمكن ان يعد مجموعه ملحمة من الملاحم العربية و تاريخا
شعريا لفترة معينة من فترات الحروب الصليبية.
الشاه إسماعيل الأول الصفوي
مرت ترجمته في الصفحة 321 من المجلد الثالث ونضيف إليها هنا ما يلي:
الشيخ قطب الدين النهروالي الحنفي الذي ورد ذكره خلال ترجمة إسماعيل
الصفوي هو مؤرخ معاصر لتلك الأحداث، وبصرف النظر عما تتضمنه كتابته
من التعصب المذهبي الأعمى الذميم الذي لا يتورع معه عن الاختلاق
والكذب - بالرغم من ذلك - فإننا لا يمكن أن نتجاهل بعض ما ذكره من أخبار،
كان لا بد لنا من وضعها بين يدي القارئ. فقد ألف الشيخ المذكور كتابا سماه
(الإعلام بإعلام بيت الله الحرام) تطرق فيه إلى ذكر السلطان سليم العثماني
والشاه إسماعيل الصفوي ومنه نأخذ ما يلي، مع العلم أن المؤلف المذكور انتهى
من كتابة كتابه سنة 922 وأن وفاة السلطان سليم كانت سنة 936 ووفاة الشاه
إسماعيل كانت سنة 930 أي أن بين تاريخ انتهاء تأليف الكتاب ووفاة
السلطان سليم أربع عشرة سنة، وبين وفاة الشاه إسماعيل ثمان سنوات.
قال النهروالي عن الشاه إسماعيل:
هو شاه إسماعيل بن الشيخ حيدر بن الشيخ جنيد بن الشيخ إبراهيم بن
سلطان خواجا شيخ علي بن الشيخ صدر الدين موسى بن الشيخ صفي الدين
إسحاق الأردبيلي، وإليه ينسب أولاده فيقال لهم: الصفويون. وكان الشيخ
صفي الدين صاحب زاوية في أردبيل وله سلسلة من المشايخ، أخذ عن الشيخ
زاهد الكيلاني وينتهي بوسايط إلى الشيخ الإمام أحمد الغزالي. وتوفي الشيخ
صفي الدين في سنة 735 وهو أول من ظهر منهم بطريق المشيخة والتصوف،
وأول ما اختار سكنى أردبيل، وبعد موته جلس في مكانه ولده الشيخ صدر
الدين موسى، وكانت السلاطين تعتقد فيه وتزوره، وممن زاره والتمس بركته
تيمور لما عاد من الروم وسأله أن يطلب منه شيئا، فقال له: أطلب منك أن
تطلق كل من أخذته من الروم سركنا، فاجابه إلى سؤاله وأطلق السركن
جميعهم، فصار أهل الروم (1) يعتقدون الشيخ صدر الدين وجميع المشايخ
الأردبيليين من ذريته إلى الآن، وحج ولده سلطان خواجا علي وزار النبي ص
وتوجه إلى زيارة بيت المقدس وتوفي هناك وقبره معروف في بيت المقدس. وكان
ممن يعتقده ميرزا شاه رخ بن تيمور ويعظمه. فلما جلس الشيخ جنيد مكان
والده في الزاوية بأردبيل كثر مريدوه وأتباعه في أردبيل فتوهم منهم صاحب
آذربيجان يومئذ وهو السلطان جهاشان بن قرا يوسف التركماني من طايفة (قره
قوينلو فأخرجهم من أردبيل، فتوجه الشيخ جنيد مع بعض مريديه إلى ديار
بكر وتفرق عنه الباقون. وكان من أمراء ديار بكر يومئذ عثمان بيك بن قتلق
بيك بن علي بيك من طائفة (آق قوينلو) جد أوزن حسن بيك البابندري وهو
أول من تسلطن من طائفة آق قوينلو، وولي السلطنة منهم تسعة أنفس، ومدة
ملكهم اثنتان وأربعون سنة وأخذوا ملك فارس من طائفة قره قوينلو، وأول
سلاطينهم قره يوسف بن قره محمد التركماني ومدة سلطنتهم ثلاث وستون سنة.
وانقرض ملكهم على يد أوزون حسن بيك المذكور في شوال سنة 873 وكان
أوزون حسن بيك ملكا شجاعا مقداما مطاعا مظفرا في حروبه ميمونا في نزوله
وركوبه، إلا أنه وقع بينه وبين السلطان محمد بن السلطان مراد خان حرب
عظيم في بايبرت فانكسر أوزون حسن بيك وقتل ولده زنيل بيك وهرب هو
وسلم من القتل وعاد إلى أذربيجان وملك فارس والعراقين، فلما التجأ الشيخ
جنيد إلى طائفة آق قوينلو صاهره أوزون حسن بيك وزوجه بنته خديجة بيگم
فولدت له الشيخ حيدر، ولما استولى أوزون على البلاد وطرد عنها
ملوك قره قوينلو وأضعفهم عاد الشيخ جنيد مع ولده الشيخ حيدر إلى أردبيل
وكثر مريدوه وأتباعه وتقوى بأوزون حسن بيك لأنه صهره، فلما توفي أوزون
حسن بيك ولي موضعه ولده السلطان خليل ستة أشهر ثم ولده الثاني السلطان
يعقوب فزوج بنته حليمة بيگم من الشيخ حيدر فولدت له شاه إسماعيل في يوم
الثلاثاء الخامس و العشرين من رجب سنة 892 وكان على يده هلاك ملوك
العجم طايفة آق قوينلو وقره قوينلو وغيرهم من سلاطين العجم كما هو معروف
مشهور. وكان الشيخ جنيد جمع طايفة من مريديه وقصد قتال كرجستان ليكون
من المجاهدين في سبيل الله فتوهم منه سلطان شروان أمير خليل الله شروان شاه
فخرج إلى قتاله فانكسر الشيخ جنيد وقتل وتفرق مريدوه، ثم اجتمعوا بعد مدة
على الشيخ حيدر وحسنوا له الجهاد والغزو في حدود كرجستان وجعلوا لهم
رماحا من أعواد الشجر وركبوا في كل عود سنانا من حديد وتسلحوا بذلك
وألبسهم الشيخ حيدر تاجا أحمر من الجوخ فسماهم الناس (قزلباش)، وهو
أول من ألبس التاج الأحمر لأتباعه، واجتمع عليه خلق كثير، فأرسل شروان
شاه إلى السلطان يعقوب بن أوزون حسن يخوفه من خروج الشيخ حيدر على
هذه الصفة، فأرسل إليه أميرا من أمرائه اسمه سليمان بك بأربعة آلاف نفر من
العسكر وأمره أن يمنعهم من هذه الجمعية فإن لم يمتنعوا أذن له أن يقاتلهم،
فمضى إلى الشيخ حيدر ومنعه من هذه الجمعية فما أطاعه فاتفق مع شروان شاه
فقاتلاه ومن معه فقتل الشيخ حيدر وأسر ولد شاه إسماعيل وهو طفل وأسر معه
إخوانه وجماعته، وجاء بهم سليمان بك إلى السلطان يعقوب فأرسل بهم إلى
قاسم بك الفرناك وكان حاكم شيراز من قبل السلطان يعقوب وأمره أن يحبسهم
في قلعة إصطخر فحبسهم بها واستمروا محبوسين فيها إلى أن توفي السلطان
يعقوب في سنة 896 وتولى بعده السلطان رستم ونازعه في سلطنته إخوانه
وتفرقت المملكة واستقل في كل قطر واحد من أولاد السلطان يعقوب، فهرب
أولاد الشيخ حيدر إلى لاهيجان من بلاد كيلان وخرج من إخوان شاه إسماعيل
خواجة شاه علي بن الشيخ جنيد وجمع عسكرا من مريدي والده وقاتل بهم فقتل
في أيام السلطان رستم بن يعقوب. ثم توفي السلطان رستم وتولى مكانه مراد بن
يعقوب وألوند بيك ابن عمه. وكان شاه إسماعيل في لاهجان في بيت صائغ
يقال له نجم زرگر، وبلاد لاهيجان فيها كثير من الفرق الضالة كالرافضة
والحروفية والزيدية (2) وغيرهم فتعلم منهم شاه إسماعيل في صغره مذهب



(1) المقصود بالروم هنا: الأتراك العثمانيون.
(2) هكذا يتكلم هذا المؤرخ المتعصب.
18
الرفض، فان آباءه كان شعارهم مذهب السنة السنية وكانوا مطيعين منقادين
لسنة رسول الله ص ولم يظهر الرفض غير شاه إسماعيل. وتطلبه من أمراء ألوند
بيك جماعة وطلبوه من سلطان لاهيجان فأبى أن يسلمه لهم فأنكر وحلف لهم أنه
ما هو عندي وورى في يمينه، وكان مختفيا في بيت نجم زركر، وكان يأتيه مريدو
والده خفية ويأتونه بالنذير، ويعتقدون فيه ويطوفون بالبيت الذي هو ساكن فيه
إلى أن أراد الله بما أراد وكثرت داعية الفساد واختلفت أحوال البلاد باختلاف
السلاطين وكثرة العناد بين العباد، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، وحينئذ
كثر أتباع شاه إسماعيل فخرج هو ومن معه من لاهيجان وأظهر الخروج لأخذ ثار
والده وجده في أواخر سنة 905 وعمره يومئذ ثلاث عشرة سنة، وقصد مملكة
الشروان لقتال شروان شاه قاتل أبيه وجده، وكلما سار منزلا كثر عليه داعية
الفساد واجتمع عليه عسكر كثير إلى أن وصل إلى بلاد شروان، فخرج لمقاتلته
شروان شاه بعساكره وقاتلهم وقاتلوه فانهزم عسكر شروان وأسر شروان شاه
وأتوا به إلى شاه إسماعيل أسيرا فأمر أن يضعوه في قدر كبير ويطبخوه ويألوه
ففعلوا كما أمر وأكلوه (1) وكان ذلك أول فتوحه، ثم توجه إلى قتال ألوند بيك
فقاتله وانهزم منه واستولى على خزائنه وقسمها في عسكره وصار يقتل من ظفر به
قتلا ذريعا ولا يمسك شيئا من الخزائن بل يفرقها في الحال، ثم قاتل مراد بيك
ابن السلطان يعقوب فهزمه في الحال وأخذ خزائنه وفرقها على عسكره، ثم صار
لا يتوجه إلى بلاد إلا يفتحها ويقتل جميع من فيها وينهب أموالهم ويفرقها إلى أن
ملك تبريز وأذربيجان وبغداد وعراق العرب وعراق العجم وخراسان. (انتهى
كلام النهروالي).
وبعد هذا الكلام يسترسل في الاختلاق الباعث له عليه تعصبه المذهبي،
مما لا صلة له بموضوعنا.
والمهم في هذا القول هو ما ذكره من أن آباء الشاه إسماعيل لم يكونوا
شيعة، وأنه هو المتشيع الأول فيهم، وأن شيعة لاهيجان هم الذين لقنوه
التشيع. على أن هذا يناقض ما ذكره من أن أباه حيدر هو الذي ألبس أتباعه
التاج الأحمر فسماهم الناس (قزلباش). ومعلوم أن هذا التاج كان مقسما من
قمته إلى أطرافه اثنتي عشرة شقة تشير إلى علي وأبنائه الاثني عشر ع.
وقد ظل هذا الاسم (قزلباش) وقتا طويلا يطلق في تركيا على الشيعة، ولا
يزال حتى الآن يطلق في أفغانستان على الشيعة الإيراني الأصل. والنهروالي نفسه
يسمي الإيرانيين بهذا الاسم حين يتحدث بعد ذلك عن غزو السلطان سليمان
لإيران والعراق ثم يتحدث النهروالي عن الصدام بين الشاه إسماعيل والسلطان
سليم العثماني فيقول:
فلما وصلت أخباره (أي الشاه إسماعيل) إلى السلطان سليم خان تحركت فيه
قوة العصبية، وأقدم على نصر السنة الشريفة السنية، وعد هذا القتال من أعظم
الجهاد، وقصد أن يمحو من العالم هذه الفتنة وهذا الفساد، وينصر مذهب أهل
السنة الحنيفية على مذهب أهل البدع والإلحاد، ويأبى الله إلا ما أراده، فتهيأ
السلطان سليم بخيله ورجله وعساكره المنصورة ورحله، وسار لقتاله، وأقدم على
جلاده وجداله.
ثم يتحدث بعد ذلك عن معركة جالديران وانتصار السلطان سليم ودخوله
مدينة تبريز عاصمة الشاه إسماعيل، ثم عن رحيله عنها قائلا:
وأراد أن يقيم في تبريز للاستيلاء على إقليم العجم والتمكن من تلك البلاد
على الوجه الأتم، فما أمكنه ذلك لكثرة القحط واستيلاء الغلاء بحيث بيعت
العليقة بمايتي درهم وبيع الرغيف الخبز بمائة درهم، وسبب ذلك أن القوافل التي
كان أعدها السلطان سليم لتتبعه بالمبرة والعليق والمؤن تخلفت عنه في محل
الاحتياج إليها، وما وجدوا في تبريز شيئا من المأكولات والحبوب لأن الشاه
إسماعيل عند انكساره أمر باحراق أجران الحب والشعير وغير ذلك، فاضطر
السلطان سليم خان إلى العود من تبريز إلى بلاد الروم وتركها خاوية على عروشها.
ثم تفحص عن سبب انقطاع القوافل عنه فأخبر أن سبب ذلك سلطان مصر
قانصوه الغوري فإنه كان بينه وبين شاه إسماعيل محبة ومودة ومراسلات بحيث أن
كان السلطان قانصوه الغوري يتهم بالرفض في عقيدته بسبب ذلك. فلما ظهر
للسلطان سليم خان أن الغوري هو الذي أمر بقطع القوافل عنه صمم على قتل
السلطان الغوري أولا وبعد الاستيلاء عليه وعلى بلاده يتوجه إلى قتال شاه
إسماعيل ثانيا. (انتهى كلام النهروالي).
ومن هذا الكلام تبدو لنا حقيقتان: أولا - أن الشائع في ذلك العصر أن حرب
السلطان سليم كانت حربا مذهبية، يراد بها القضاء على الدولة الشيعية الناشئة في
مهدها قبل أن تتأصل جذورها ويتركز أمرها وينتشر سلطانها.
ثانيا إن السلطان قانصوه الغوري قد حرم السلطان سليم من قطف ثمرة
انتصاره الحاسم في جالديران، بل أحال ذلك النصر إلى هزيمة اضطر معها
السلطان سليم إلى العودة إلى بلاده خائبا من القضاء على الدولة الصفوية، مما
جعل تلك الدولة تعاود نشاطها، ويعود الشاه إسماعيل ملكا مظفرا يفتح البلاد
ويوسع ملكه وينشر سلطانه.
على أن اللافت للنظر هو قول هذا المؤرخ أن قانصوه الغوري كان يتهم من
معاصريه بالتشيع، بسبب ما كان بينه وبين الشاه إسماعيل من قبل من محبة ومودة
ومراسلات.
وبذلك نفسر حملة هذا المؤرخ على الغوري وشماتته به، حملة وشماتة لا
تصدران إلا من قلب مملوء بالحقد المذهبي الذميم. وكذلك ابتهاجه بانتصارات
السلطان سليم وإشادته به، وتغاضيه عن مجازره، ثم ترحمه عليه بعد موته.
وفي موضع آخر يصف ظهور الشاه إسماعيل وتحويله إيران إلى التشيع قائلا::
وظهر في أيامه (أي السلطان بايزيد والد السلطان سليم) الشاه إسماعيل في سنة
905 وكان له ظهور عجيب واستيلاء على ملوك العجم يعد من الأعاجيب، فتك
في البلاد وسفك دماء العباد وأظهر مذهب الرفض والإلحاد وغير اعتقاد العجم إلى
الانحلال والفساد بعد الصلاح والسواد وأخرب ممالك العجم وأزال من أهلها
حسن الاعتقاد والله يفعل في ملكه ما أراد. وتلك الفتنة باقية إلى الآن في جميع تلك
البلاد.
أفضل الدين الكاشاني المعروف ببابا أفضل المرقي
ورد ذكره في المجلد الثالث الصفحة 470 وقد تحدث عنه الدكتور
محمود محمد الخضيري بما يلي:
إني مخصص هذا المقال لفيلسوف إسلامي إيراني فذ. جمع إلى درايته
بالفلسفة وإحاطته بالكثير من فنونها، النبوغ والتفوق في الشعر. هذا
الفيلسوف الشاعر هو أفضل الدين محمد الكاشي أو الكاشاني، وقد يذكر بلقبه
فقط، وهو بابا أفضل الدين، وينسب إلى كاشان كما ينسب أيضا إلى مرق من.



(1) هذا الافتراء معطوف على ما تقدم من جمله التعصبية.
19
قرى كاشان، حيث دفن هناك، ويلقب بالإمام وبالصدر، وهو من أعلام
المائتين السادسة والسابعة.
ولست بمعترض لدرس شعره، فهذا ليس غرضي، ولا هو من
اختصاصي، ولكني أكتفي للتدليل على علو درجته، بإيراد شهادة لمستشرق
كبير هو الأستاذ هرمن إتيه Hermann Ethe إذ قرنه بالشيخ أبي سعيد بن أبي
الخير، وعمر الخيام وجعله معهما أكبر ثلاثة ألفوا الرباعيات في الشعر
الفارسي. وتوجد مجموعة من رباعياته الفارسية محفوظة في خزانة المخطوطات
الفارسية، بالمتحف البريطاني.
أما مكانه في الفلسفة الاسلامية، فهذا هو الغرض الذي نرمي إليه،
وليس هذا من الأمور الهينة، كما أنه ليس من الهين معرفة ما يشفي الغليل عن
سيرته وحياته، وأقدم ما عثرت عليه من أخباره هو ما وجدته في مخطوط صغير
الحجم كبير الفائدة، عنوانه: " مختصر في ذكر الحكماء اليونانيين والمليين "
وليس في المخطوط ذكر لاسم مؤلفه، على أني اعتقد أنه لا يمكن أن يكون
متأخرا عن المائة الثامنة، وهذا المخطوط ضمن مجموعة في خزانة الاسكوريال
بإسبانيا رقمها 635 من الخزانة العربية، ذكر أفضل الدين فيه مرتين، الأولى
باسم: أفضل الدين محمد بن المرقي القاشي، ووصفه صاحب المختصر بالزهد
والتصوف ومداومة الرياضة، ثم قال إنه مات في حدود سنة 610 هجرية،
وفي المرة الثانية في ظهر الورقة نفسها ذكره عند ترجمة فخر المحققين نصير الدين
الطوسي إذ قال عن الأخير: " نشأ بمشهد طوس واشتغل بها بالتحصيل على
خاله ".
أما أن أفضل الدين هو خال نصير الدين الطوسي، فهذا ما تشهد به أيضا
بعض الكتب المتأخرة مثل كتاب: " رياض الشعراء " لمؤلفه علي قلي
الداغستاني الملقب بالواله، فرغ من تأليفه سنة 1161 هجرية، حيث ورد أن
نصير الدين ابن أخت لأفضل الدين الكاشاني (1)، وكذلك قال صاحب الذريعة
عند كلامه عن كتاب منسوب إلى أفضل الدين: " إنه معروف ب‍ " بابا أفضل
المرقي " لأنه دفن بمرق من قرى كاشان، وإنه كان معاصرا لخواجه نصير
الدين، بل قيل إنه خال المحقق الطوسي ".
ولأفضل الدين عدا الرباعيات مؤلفات كثيرة العدد، وكان يكتب بالعربية
والفارسية، كما أنه ترجم كتبا في الفلسفة إلى اللغة الفارسية، ونذكر من أسماء
كتبه ما وقفنا عليه مع إشارة موجزة إلى موضوع كل منها:
(1) جاودان نامه: أي كتاب البقاء، وموضوعه معرفة النفس والمبدأ
والمعاد، و هو مرتب على أربعة أبواب في أحوال السلوك. وحقائق أمور
الصوفية.
(2) مدارج الكمال إلى معارج الوصال، كتبه أولا بالعربية، ثم نقله إلى
الفارسية، وهو وصية جامعة لخير الدارين، رتبه على ثمانية أبواب.
(3) أنجام نامه: مختصر، ويقال له: " آغاز وأنجام " أي في المبدأ
والمعاد.
(4) عرض نامه: في التفرقة بين الجواهر والأعراض.
(5) ساز وپيرايه شاهان: في حقوق الملوك وواجباتهم.
(6) چهار عنوان: أي العناوين الأربعة، وهو مستمد من كتاب:
" كيمياى سعادت " لأبي حامد الغزالي، اختصر فيه كتابه إحياء علوم الدين.
(7) انتخاب كيمياى سعادت: لا يبعد أن يكون هو نفس الكتاب
السابق.
(8) رسالة ينبوع الحياة. أو ترجمه سيزده فصل إدريس: وهو ترجمة
فارسية لكتاب عربي منسوب إلى هرمس المثلث بالحكمة، وعنوانه بالعربية:
كتاب زجر النفس، وهو في الأصل في أربعة عشر فصلا، ولكنه في ترجمة
أفضل الدين واقع في ثلاثة عشر فصلا.
(9) مجموعة نكات أرسطو در علم حكمت: ترجمة مقالة أرسطاطاليس،
وهو ترجمة لما جرى بين أرسطو قبيل موته وبين تلاميذه من أحاديث وقد نشر عدة
مرات، آخرها بتصحيح الخوري فيليمون الكاتب، بيروت سنة
1903، ويلاحظ في الترجمة الفارسية اطلاق اسم إدريس على هرمس
وموضوع الكتاب: بيان فضل الحكمة، وعندي أن هذا الكتاب هو ترجمة لما
يعرف في العربية بكتاب التفاحة،، وقد نشر الأستاذ مرغليوث نص الترجمة
الفارسية منذ أكثر من خمسين عاما،، وبحث عن شخصية مترجمي هذا الكتاب
إلى اللاتينية والعبرية، ولكنه لم يعن بالبحث عن شخصية صاحب الأثر
الفارسي الذي نشره. ومنذ ثلاثين سنة وبدون علم بما قدمه مرغليوث نشر
أديب شرقي النص العربي لهذا الكتاب (2).
والإسلاميون يضيفون كتاب التفاحة إلى أرسطو، وقد ينسبون إليه ما ورد
فيه من آراء، كما فعل اخوان الصفاء في رسالتهم الرابعة والأربعين (3). والحقيقة
أن هذا الكتاب ليس من تأليف أرسطو، وإنما هو من وضع فلاسفة " العرفان "
Gnose المتأثرين بالمذهب الأفلاطوني الحديث. ويذكر هرمس في كتاب التفاحة
موصوفا بأنه أول من علم الحكمة التي استفادها بالوحي من السماء، ثم نشرها
في الأرض بين مختلف الأجناس والملل.
(10) كتاب نفس وهو ترجمة فارسية لكتاب أرسطو في النفس، في ثلاث
مقالات، توجد منه نسخة بين مخطوطات ديوان الهند الفارسية. وترجمة أفضل
الدين لا بد أن تكون عن العربية. وقد عثر أخيرا على مخطوط في استنبول
للترجمة العربية الكاملة، ونرجو أن تنشر عن قريب.
(11) مطالب إلهية سبعة وهي رسالة صغيرة الحجم باللغة العربية،
نشرت في مصر مشوهة، كثيرة التحريف، أصاب التحريف فيها لقب
المؤلف، فجاء " الموقى " بدل " المرقى " وسماها الناسخ، باسم " آيات
الإبداع في الصنعة " ثم غير الناشر في هذا العنوان وزاد فيه فجعله " آيات
الصنعة في الكشف عن مطالب إلهية سبعة ".
ونحن نعتمد الآن على هذه الرسالة الصغيرة الحجم للتعرف بمذهب أفضل
الدين وأدعو من وقف على شئ آخر من آثاره أن يتفضل بالكتابة عنه، فإن هذا
الرجل يستحق المزيد من الدرس والعناية.
يتضح في هذه الرسالة، تأثير المذهب الإفلاطوني المحدث على نحو ما تمثله
بعض المتصوفين من الاسلاميين، لا سيما في المائتين السادسة والسابعة،



(1) راجع فهرست المخطوطات الفارسية في المتحف البريطاني تأليف ريو ج 2 ص 829 و ج 1 ص 371.
(2) الشيخ أمين ظاهر خير الله، في مجلة المقتطف أعداد ديسمبر سنة 1919 وكانون الثاني وشباط وآذار سنة 1920.
(3) رسائل إخوان الصفاء، طبعة القاهرة سنة 1928 ج 4 ص 100.
20
وبالرغم من صغر حجمها فإن فيها من الفوائد اللطيفة ما يكفي مادة لبحث
جليل..
وأهم ما في الرسالة، الإشارة إلى تنزيه " الهوية " عن الصفات تنزيها
مطلقا، وظاهر أنه يستعمل لفظ الهوية استعمال القدماء إياه، والشائع عند
أكثر الفلاسفة الإسلاميين هو لفظ الموجود، وإنما عدل البعض عن استعمال
هذا اللفظ الأخير كما قال أبو نصر الفارابي، لأنه بشكل المشتق، والمشتق يدل
على عرض بينما يقسم الفلاسفة هذا المعنى إلى الجوهر والعرض، وإلى ما
بالفعل، وما بالقوة. ويستعمل البعض الآخر لفظ " الإنية " وهو تعريب
للكلمة اليونانية الدالة على " الموجود ".
ويتبين من سياق عبارته في هذه الرسالة، أنه يقدس الهوية، ولذلك
نرجح أنه يعنى بها ما يعنى " العارفون " من الإسلاميين باسم " المرتبة الأحدية "
التي هي أعلى مراتب الوجود الكلية، وهي حقيقة الوجود بشرط ألا يكون معها
شئ.
والهوية عند أفضل الدين الكاشاني سامية جدا، ولا يمكن أن نتصور بينها
وبين العالم أي نوع من الاتصال، إلا إذا أخذناها موصوفة بالصفات. ومع أن
الصفات تكون ذاتية إلا أن اعتبار الهوية موصوفة بها، فيه تقليل من تنزهها وإذا
أخذت الهوية موصوفة بالعلم، تكون مبدعة للعقل، وإذا أخذت من حيث
تقتضي أوصافا، كانت فاعلة، أو خالقة لها.
ثم إن مما يستحق أن يشار إليه، هو أن أفضل الدين، يرى في هذه
الرسالة أن العقل، وهو الذي تبدعه الهوية العالمة بذاتها، ليس إلا فعل
التعقل، وليس جوهرا ولا عرضا، وإذن فهو ليس ممن يذهبون إلى اعتبار
العقل شخصا يسميه بعضهم ملكا، ويسميه الآخر ربا.
أما النفس فهي عنده جامعة بين الوحدة والكثرة، وهي البرزخ بين
الوجوب والإمكان، والفعل والانفعال. وهذا رأي أصحاب القول بالصدور
على اختلاف مذاهبهم.
ثم إنه يعرف الجسم بالتعريف الذي يختاره الإشراقيون، ولا يقبله
المشاءون أي إن الجسم عنده هو القابل لفرض الأبعاد الثلاثة، المتقاطعة على
زوايا قائمة فيه بالفعل.
هذا تفسير مختصر لما في هذه الرسالة الصغيرة من المعاني الخطيرة، وإني
واثق أن الكشف عن غيرها من مؤلفات أفضل الدين كفيل بتوضيح مذهبه في
الفلسفة والتصوف على نحو لا يختلف عن الاتجاه الذي سلكته في تقدير هذا
الفيلسوف.
وأضيف إلى ما سبق أني وقفت على رأي له في قياس الخلف أورده صدر
الدين الشيرازي حيث قال: " ذهب الشيخ أفضل الدين المرقي القاشاني قدس
سره إلى أن الخلف قياس استثنائي من متصلة مقدمها نقيض المطلوب، ويحتاج
في بيان تاليها إلى حملية مسلمة. " ثم قال صدر الدين: " وهذا الطريق هو الذي
ذكره الشارح، يعني محمود بن مسعود المشهور بقطب الدين الشيرازي وظاهر
أنه لا يذهب هذا المذهب في مثل هذه المسألة الدقيقة إلا عالم له مشاركة عظيمة
في علم المنطق.
ونستطيع بعد ما قدمناه في التعرف بأفضل الدين الكاشاني أن نتصور
تصورا واضحا شخصية أستاذ لنصير الدين الطوسي له تأثير كبير في توجيهه
الروحي والعقلي، وليس يقتصر ما بين المعلم وتلميذه على ما بينهما من صلات
الرحم فحسب، بل إنهما يشتركان في العناية بعلوم الأوائل، والميل إلى
التصوف الممزوج بمذهب " العرفان " وقد ذكر أكثر من واحد أن نصير الدين
مدح أفضل الدين برباعيات أو لعله رثاه بها، ولم نقف عليها لسوء الحظ
ولكننا نحسب أنه أشار فيها إلى ما بينهما من صلة، وقال فيها أيضا ما معناه:
نسب أقرب في شرع الهوى * بيننا من نسب أبوي
أسامة بن منقذ
مرت ترجمته في المجلد الثالث الصفحة 252 ونزيد عليها هنا ما يلي:
قال محمد مصطفى الماحي مدير أوقاف مصر من مقال له:
غير أن الدهر أبى الا أن يعاند اسامة، فقد أحس نبوة من صلاح الدين
الأيوبي لعل سببها ما انتهى إليه من أنه يرفد الشيعة ويصل فقراءهم ويظهر
التقية.
أنشأ السيد انشاء الله خان ابن السيد ما شاء الله خان النجفي:
ولد في مرشدآباد الهند سنة 1160 وتوفي بلكنو سنة 1233 اشتهر
باسم (أنشأ) وهو شاعر كبير في الهزل والهجاء وهو طويل الباع في النظم بلغات
متعددة ولهجات مختلفة: بالعربية والفارسية والهندية. وله في كل نوع أشعار
مطبوعة وليس له نظير في شعراء الهند، وهو أيضا كاتب ناشر، وهو أول أديب
أسس القواعد الأردوية وأصولها من النحو والصرف والعروض، وضبط
الكلمات والأمثال، وكتب (درياي لطافت) فكان أول كتاب دون هذا الفن،
وقد ألف بعض أجزائه محمد حسن فتيل، الشاعر الكاتب بالفارسية والتركية،
وكان صديقا لانشا وشيعيا مثله.
ولأنشا كتاب (رآني كيتكي) وهو قصة هندية تعتبر نسيج وحدها.
(أنيس)، مير ببر علي بن خليق مير مستحسن بن مير حسن:
ولد حوالي سنة 1216 في فيض آباد وتوفي في لكنو سنة 1291 من أكبر
شعراء الهند، اشتهر بلقبه (أنيس) ولم يعرف بغيره لذلك ترجمناه في حرف
الألف (1).
أسرة أنيس هي أسرة الشعراء، فاباؤه شعراء مجيدون وأبناؤه شعراء المرائي
الحسينية، مشى الشعر في بيته كابرا عن كابر، وقد نظم (أنيس) مئات
الآلاف من الأبيات الشعرية وكلها في مديح أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
ورثائهم، ويطلق على أشعاره اسم (المرثية)، والمرثية في اصطلاح ذلك
العنصر هي نظم سداسي يشتمل على اجزاء خاصة:
1 - التشبيب، وفيه يصور أنيس مظاهر الفطرة من الصبح والمساء والليل
والربيع والشتاء.
2 - المديح، وفيه يصور البطل في شخص الحسين ع وأنصاره صورة



(1) شعراء شبه القارة الهندية الباكستانية يتخذ كل واحد منهم عادة اسما غير اسمه الحقيقي فيشتهر بهذا
الاسم في شعره. ويعرف هذا الاسم في اصطلاح الأدب الأردوي بالتخلص.
21
ملموسة، من الرأس إلى الجبهة والعينين والأنف والعنق والصدر واليد وغير
ذلك.
3 - المعركة وفيها يصور الشاعر لقاء البطل لأعدائه فيضمن الصورة:
الرجز والخطاب، ثم السيف والقوس والرماية والرمح. ثم الالتحام البطولي
فالاستشهاد.
4 - الرثاء: يسمعك بكاء الأم على الابن، والأب على الولد، والشقيقة
على الشقيق، والبنت على الوالد، وكل قريب على قريبه.
وتحتوي المرثية على عدد يتراوح ما بين عشرين سداسية إلى ثلاثمائة
سداسية متسلسلة. وهذه المراثي مطبوعة في ستة مجلدات كبار، وابطالها هم
الحسين ع وأنصاره في كربلا.
وأنيس هو أول من ابتكر هذا الفن الشعري ونهج هذا النهج، وهو في
مراثيه شاعر حماسي، ففي كل مرثية حماسة وبطولة واخلاق وانسانية. ثم إنه
يري القارئ الصور المتحركة الناطقة ويمثل له رجال المعركة، فيقيم الحرب
ويبرز الأبطال، فتسمع أراجيز الأحرار وتخاطب الأقران، وترى تقدم الرجالة
وجري الفرسان. ثم ترى البطل من آل محمد يصمد للأعداء ويقتحمهم ثم
يخر شهيدا مثخنا بالجراح.
انك تسمع في شعره صهيل الجياد وصليل السيوف وقراع الأسنة ورنين
السهام، وتبصر بتر الرؤوس وتهاوي الأجساد، فشعره مناظر حية متتابعة
ومشاهد متحركة ناطقة، يريك حياة الآلام: من السفر والاغتراب وقتل الآباء
واستشهاد الأقرباء وذبح الأبناء ووحدة النساء وعويل الأمهات وصراخ
الأخوات.
يبكي (أنيس) بكاء طويلا موجعا، فيبكي معه القارئ والسامع، ويحمله
على ترداد الشعر وتكراره.
وأنيس معدود في ملاحمه بين شعراء الأردوية كالفردوسي في الفارسية
وشكسبير في الإنكليزية (راجع ترجمة " دبير " في هذا الكتاب).
الدكتور باقر كاشف الغطاء بن أحمد بن علي
ولد في النجف سنة 1920 م وتوفي سنة 1993
در في بيروت وأمريكا وحاز على شهادة الدكتوراه في الهندسة. ولما
استقر في العراق تولى عدة وظائف في شؤون الري، وكان طيلة اثني عشر
عاما مديرا عاما للري، وشارك في المفاوضات التي جرت بيت العراق وتركيا
بشأن المياه المشتركة بين الدولتين، كما شارك في عدد من المؤتمرات العالمية. له
من المؤلفات: (1) التنبؤ بالمناسب العليا في نهر الفرات. (2) التنبؤ بالمناسيب
العليا في نهر دجلة. (3) علم المياه (1).
باقر أمين الورد
ولد في الكاظمية عام 1922 وتوفي سنة 1989 م أنهى دراسته في
الكاظمية وبغداد وعين معلما في المدارس الابتدائية، وواصل دراسته وتخرج
من كلية الحقوق عام 1951 م وكان أديبا فشارك في العديد من مجالس الأدب
ببغداد، كما كان عضوا في اتحاد المؤرخين.
صدر له.
أعلام العراق الحديث، معجم علماء العرب (2).
الدكتور باقر سماكة بن الشيخ محمد
ولد سنة 1925 م في المدينة الحلة في بيت آل سماكة العلمي الأدبي الديني
وتوفي سنة 1994. وبعد أن أكمل بعض المراحل الدراسية عين أمينا لمكتبة
المعارف في الحلة. وكان بيته منتدى للعلماء والأدباء التراثيين. نظم الشعر
منذ بداية شبابه ثم أصدر جريدة (الفرات) في الحلة سنة 1940 م ولكنها لم
تدم طويلا، حصل على الدكتوراه في الأدب الأندلسي في أسبانيا عام
1958 وعين أستاذا في جامعة بغداد.
له من المؤلفات:
1 - التجديد في الأدب الأندلسي.
2 - وديوان شعر باسم (نسمات الفيحاء) (3).
الدكتور باقر عبد الغني
ولد سنة 1921 في بلدة (بلد) في العراق وتوفي سنة 1973 تخرج من
دار المعلمين سنة 1941 م ومارس التعليم ثم انتمى إلى جامعة الإسكندرية سنة
1950 وتخرج منها بشهادة (الليسانس) في الأدب العربي، ثم قصد إلى باريس
فنال الدكتوراه بأطروحته عن (جرير وشعره). وعاد إلى العراق فتولى التدريس
الجامعي.
له: دراسات في الأدب العربي، وديوان الأعمى التطيلي (4).
بدران بن سيف الدولة صدقة المزيدي:
مرت ترجمته مفصلة في المجلد الثالث الصفحة 548 ونزيد عليها هنا ما
يلي:
قال العماد الأصفهاني في الخريدة وهو يتحدث عنه: " تغرب بعد أن نكب
والده وتفرقت في البلاد مقاصده، فكان برهة بالشام يشيم بارقة السعادة من
الأيام وآونة ورد بلاد مصر فأولاده كانوا بها لهذا العهد، وعادوا بأجمعهم إلى
مدينة السلام، وظهر عليهم أثر الاعدام ".
وذكر له من الشعر قوله:
لا والذي قصد الحجيج على * بزل وما يقطعن من جدد
لا كنت بالراضي بمنقصة * يوما والا لست من أسد
لا قلقلن العيس دامية الا * خفاف من بلد إلى بلد
إما يقال سعى فاحرزها * أو أن يقال مضى ولم يعد
وقوله:
وغريرة ونحن على منى * والليل انجمه الشوابك ميل
زعم العواذل أن مللت وصالنا * والصبر منك على الجفاء دليل
فأجبتها ومدامعي منهلة * والقلب في أسر الهوى مكبول
كذب الوشاة علي فيما شنعوا * غيري يحل وغيرك المحلول
وقوله:



(1) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
(2) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
(3) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
(4) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
22
أشرب اليوم من عقار كميت * واسقنيها على غناء الكميت
ثم اسق النديم حتى تراه * وهو حي من الكميت كميت
البرسيين
جاء في الصفحة 374 من المجلد الثاني خلال الكلام عن (أبو عبد الله
الباقطاني): " الق بين الفرات والبرنسيين وقل لهم لا يزوروا مقابر قريش "،
ثم جاء في تتمة الكلام: " البرنسيين نسبة إلى برنس قرية بين الكوفة
والحلة ".
ثم وردت هذه الكلمة في موضع آخر من الكتاب بلفظ " البرسيين "
وورد في تفسيرها: " البرسيين عائلة ثانية من عائلات الشيعة ".
أما كلمة " البرنسيين " فهي تصحيف كلمة " البرسيين ". ويبدو أن كلمة
" البرسيين " محرفة عن كلمة " الاريسيين " وهم الفلاحون والاكرة والمزارعون.
قال ابن الأثير في النهاية في شرح قوله صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه إلى هرقل " فإن أبيت
فعليك اثم الاريسيين " قال ابن الاعرابي وهم الأكارون، وقال أبو عبيدة هم
الخدم والخول. والحقيقة أنهم لا يختلفان لأن الزراع كانوا قديما خولا وعبيدا
لأهل الأرض المالكين.
بزرك أبو الحسن علوي
عن عمر يناهز الثالثة والتسعين، توفي في المنفى أحد أعمدة الرواية
والثقافة الإيرانية المعاصرة بزرك أبو الحسن علوي. وخلال أكثر من نصف
قرن احتل مكانة بارزة في الحياة الثقافية لبلده، ويعد من ممثلي الأسلوب
الحديث في كتابة الرواية الإيرانية المعاصرة.
ولد عام 1904 من عائلة علم وفضل، فالأب الذي امتهن التجارة اهتم
بالأدب وكان من الشخصيات التي شاركت في حركة المشروطة ضد الاستبداد
في إيران في نهاية القرن الماضي ومطلع الحالي. واضطر الأب إلى الهجرة مع
أولاده الثلاثة ومنهم بزرك إلى باريس وبرلين، ليشكل في برلين حركة سياسية
عرفت ب‍ " اللجنة الوطنية " التي سرعان ما تحولت إلى ما يعرف ب‍ " الحركة
الجمهورية الثورية الإيرانية " بعد تعرفه على المفكر والشخصية اليسارية الإيرانية
الدكتور تقي أراني.
في أجواء الحركة الفكرية والأدبية النشطة في أوروبا وبرلين على وجه
الخصوص، ترعرع بزرك علوي وانتهل المعرفة في سنوات عمره الأولى. ففي
برلين تعرف على آثار مشاهير الأدباء الأوروبيين، وركز بشكل خاص على
الأدب والفن الألمانيين وتعمق في دراسة الألمانية ونمت لديه بواكير الاستعداد
للكتابة. وما أن أتم دراسته في برلين حتى عاد إلى إيران عام 1928 ليعمل
مدرسا في مدينة شيراز ثم انتقل للعمل في طهران.
بعد فترة وجيزة من عمله في إيران باشر بترجمة رواية " بستان الكرز "
للروائي الروسي أنطون تشيخوف ثم ألحقها برواية " أعمال السيدة وارن "
للكتاب الأرلندي الساخر جورج برناردشو. وتميزت ترجمته بالدقة واختار
السلاسة والعبارات الفارسية الجميلة، ما أثار دهشة النقاد لقدرة هذا المترجم
الشاب. وفي تلك الفترة تعرف على الروائي الإيراني المعروف صادق هدايت
وتوطدت أواصر الصداقة والعمل المشترك بينهما. وإزاء التشويهات التي
أصابت الثقافة الإيرانية في عهود الاستبداد بادر كل من صادق هدايت وبزرك
علوي والرواني ش. برتو إلى إصدار كتاب عرف ب‍ " انيران " احتوى على
ثلاث قصص طريفة، الأولى بعنوان " ظل المغول " تتطرق إلى مرحلة الانحطاط
في ظل السيطرة المغولية وكتبها صادق هدايت، والثانية بعنوان " الغول " تصف
الحملة على إيران في القرن السابع، والثالثة حول هجوم الإسكندر المقدوني
على إيران وكتبهاش. برتو.
وتفتحت قريحة بزرك علوي في رواية أخرى سميت ب‍ " ريح السموم "
وهي تعالج مظاهر الخير والجمال والتسامح التي مرت على إيران في فترة
تاريخية معينة لتتحول هذه المظاهر لاحقا إلى العنف والقبح والشر. وارتبطت
هذه الرواية بتصاعد المشاعر القومية في المجتمع الإيراني، خصوصا أن المثقفين
يلمسون الانحدار أو الانهيار الذي أصاب إيران في سنوات الظلام والجهل.
وانضم بزرك علوي في تلك الفترة إلى حلقة من المثقفين عرفت ب‍ " الربعة "
ضمت خيرة كتاب الرواية في إيران والتي تسعى إلى تركيب جديد بين التاريخ
الإيراني القديم والحديث وبين الأدب الأوروبي الصاعد. وكان عام 1930
عام تحول بالنسبة إلى بزرك علوي عندما أعاد علاقاته مع المفكر الدكتور تقي
أراني، فقد تشذبت لدى علوي بفعل هذه العلاقة تلك الأفكار القومية التي
وصلت حد التطرف والتي طغت على الشارع الإيراني في تلك الفترة. انتقد
أراني هذه النزعة ووصفها بالعنصرية، وكان يسعى إلى جمع المثقفين الإيرانيين
لمواجهة الاستبداد في إيران ليلعبوا دورهم في تطور الوعي الثقافي
والاجتماعي لسواد الناس. وأعاد أراني إصدار مجلة " دنيا " في عام 1934
والتي كان يصدرها في ألمانيا في السابق، وأصبح بزرك علوي أحد الأعضاء
الثلاثة في هيئة تحرير المجلة وأصدر في تلك الفترة روايته الشهيرة " الحقيبة ".
في عام 1937، هاجمت شرطة رضا شاه مقر المجلة واعتقلت محرريها
وأشخاصا آخرين بلغ عددهم 53 بتهمة علاقتها بالكومنترن. وفي السجن
اغتيل الدكتور تقي أراني وحكم على بزرك علوي بالسجن لمدة سبع سنوات.
في فترة السجن طرأ تطور جديد على فكر علوي ونظرته إلى الحياة فقد أخذ
ينظر إلى الحياة نظرة انتقادية وسياسية مقرونة بالهزل والنوادر. قال علوي إن
" الدكتور أراني جذبني نحو السياسة في الوقت الذي أثار هدايت في الاهتمام
بالأدب ". وقد أثرت عليه أفكار أراني الذي كان ينتقد فكرة الإطلاق في
العامل الاقتصادي بكونه عنصرا حاسما في تغيير المجتمع واعتبر أن لعلم
النفس الاجتماعي والعامل الروحي دورا مهما في التغيير. وانعكست هذه
الأفكار الجديدة في رواية علوي التي كتبها في السجن تحت عنوان " الأوراق "
السجنية " والتي كان يرسلها بشكل سري وعلى لفافات السجائر إلى الخارج
والتي لم يستطع نشرها إلا بعد سقوط رضا شاه في عام 1941. وقد ترجمت
ونشرت هذه المذكرات في الولايات المتحدة عام 1985. وينطوي مضمونها
على بيانات عاطفية حول الحياة في السجن مع مفارقاتها ونوادرها الواقعية
الطريفة والمحزنة في آن واحد، وهو وصف لا سابق له في الأدب الإيراني
المعاصر.
عام 1942 أصدر روايته المعروفة " 53 شخصا " التي تحكي وبشكل
واقعي قصة الثلاثة وخمسين شخصا الذين اعتقلوا في عام 1935. هذه القصة
فريدة في رسم صورة العاصفة في النصف الثاني من الثلاثينات في إيران.
وأعقب ذلك إصداره رواية أخرى هي " الرسائل ".
ويجمع النقاد على أن أبرز رواياته هي " عيناها " التي نشرها باللغة الفارسية
عام 1925 وسبق أن نشرها باللغة الألمانية في عام 1950، وبيعت على نطاق
واسع. هذه الرواية تصف الحب والحياة اليومية والنشاط السياسي لفنان
تشكيلي وتجذب القارئ بطراوتها وعمقها الإنساني وحلاوة لغتها.
السنوات التي امتدت منذ عام 1941 وحتى عام 1952 كانت سنوات
ثراء وعطاء وفير للراحل بزرك علوي. وليكن، سرعان ما انتكس هذه الإبداع
أثر الانقلاب العسكري ضد حكومة الدكتور مصدق في عام 1953، ما
اضطر الكاتب للجوء إلى منفاه في ألمانيا. وعكف على الدراسة والبحث في
جامعة همبولت. وأصدر لاحقا روايته " الميرزا " التي تحكي عن حياة المهاجرين

23
السياسيين في المنفى، واتبعها برواية " الأبوة " وأخيرا وفي عام 1975 أصدر
روايته المعروفة " الأرضة " التي تصف الفساد الذي ساد في العائلة الشاهنشاهية
والتي ستؤدي إلى انهيارها وهذا ما جرى في عام 1979.
وعكف في منفاه على تعريف أوروبا بالأدب الإيراني المعاصر فأصدر
باللغة الألمانية " تاريخ الأدب الإيراني المعاصر "، إلى جانب قاموس فارسي -
ألماني وترجمة قصائد هدايت إلى اللغة الألمانية.
هكذا أدى بزرك أبو الحسن علوي خلال ما يزيد على 70 عاما خدمات
كبيرة للثقافة والأدب الإيرانيين ما جعله في مصاف مشاهير الكتاب المعاصرين
في إيران (1).
تقي الشيخ راضي به الشيخ عبد الله
ولد سنة 9161 م وتوفي سنة 1993.
بدأ دراسته في الحوزة بالنجف ثم انتقل إلى القاهرة وانتمى إلى
(دار العلوم) فتخرج منها بشهادة (الليسانس) في الأدب. وعاد إلى العراق
فمارس التدريس في المدارس الثانوية.
له: سيرة يعقوب بن إسحاق الكندي وفلسفته (2).
توفيق الفكيكي ابن علي
ولد في بغداد سنة 1321 وتوفي سنة 1389.
أديب ومؤلف، تخرج من المدرسة الرشدية في بغداد ثم من دار المعلمين
فمارس التعليم، ثم دخل كلية الحقوق وتخرج منها فاشتغل بالمحاماة ثم
انتسب إلى سلك القضاء ثم استقال منه وعمل فترة في الصحافة والسياسة
فانتخب نائبا.
وكان إلى جانب دراسته السابقة يتابع على بعض الفقهاء دراسة علوم اللغة
العربية وأصول الفقه.
له من المؤلفات: 1 الراعي والرعية وهو أشهر مؤلفاته شرح
فيه عهد أمير المؤمنين ع لمالك الأشتر. طبع عدة مرات وترجم إلى
الفارسية 2 - سكينة بنت الحسين 3 - رسالة في سياسة الإمام الصادق ع
4 دراسات في الفقه المقارن 5 القومية الاسلامية أو جنسية القرآن 6
هشام بن الحكم (مخطوط) 7 أدب النخيل أو شجرة العذراء، قال في
مقدمته: (حرصت أشد الحرص على أن أجمع بين دفتي هذا الكتاب كل ما
يتعلق بالنخل).
الدكتور جابر الشكري بن عزيز
ولد سنة 1918 في الكوفة وتوفي سنة 1987 م
أتم دراسته الثانوية في النجف، وأوفد سنة 1938 إلى ألمانيا ثم إلى
سويسرا لدراسة الكيمياء ونال شهادة الدكتوراه سنة 1936 ولما عاد إلى العراق
شغل عدة مناصب علمية، وكان عضوا في المجمع العلمي العراقي، وشارك
في عدة مؤتمرات علمية عالمية.
له من المؤلفات: (1) النفط والبتروكيماوت (2) الكيمياء عند العرب
(3) تاريخ العلم (3).
(جرأت)، قلندر بخش
توفي بلكنو سنة 1225
اشتهر بلقب (جرأت) لذلك ترجمناه في حرف الجيم.
كان كفيف البصر، وهو شاعر هندي شهير له في الغزل منهج خاص،
واشتهر أيضا بالمراثي الحسينية. طبع المجلد الأول من كلياته سنة 1970 م.
جعفر الخليلي ابن الشيخ أسد
ولد في النجف عام 1322 ه‍ وتوفي في (دبي) سنة 1405 ودفن فيها.
وقد أرخ ولادته الشيخ حسين العاملي بقوله:
عوذت مولودا أتى * لشيخنا: (الشيخ أسد)
من كيد كل كائد * وحاسد
إذا حسد
يا فرحة ما جاءنا * بمثلها قبل أحد
ان قيل من؟ أرخ: (أنا * الشبل من ذاك الأسد)
ولد في بيت علم وأدب ودين وطب. تولى غير واحد من أسرته المرجعية
الشيعية. كان منهم جده الحاج ملا علي الخليلي، وعم أبيه الحاج المرزا
حسين الخليلي أما والده فهو الشيخ أسد الخليلي من رجال الفضل والأدب
والطب القديم وكان من أساتذة علم المنطق المعروفين.
ومن مشاهير الأسرة شقيقه عباس الشاعر السياسي والأديب المتمكن من
اللغتين العربية والفارسية، والمبرز في الحركات الوطنية في النجف والذي
استطاع أن ينجو من مشنقة الإنكليز في ثورة النجف المعروفة التي قامت قبل
الثورة العراقية عام 1336 ه 1918 م وقد أرخ لها المؤرخون في وقتها
بقولهم: (حصار وغلا) 1336 ه‍ فقد تخفى عباس الخليلي في الآبار
وهرب إلى إيران وحكم عليه بالاعدام غيابيا في حين أعدم زملاؤه الشهداء
الذين لم يستطيعوا الهرب مثله، وكانوا أحد عشر شهيدا وقد قال حين
فر وأخفقت الثورة النجفية من قصيدة:
رويدا رجال الإنكليز ورأفة * ان اليوم أسرفتم فان لنا غدا
وان قصرت اقدامنا عن خطاكم * مددنا إلى ما فوق هامكم يدا
ومنها يخاطب أهل العراق:
يحييكم أهل العراق على النوى * فتى في سبيل المجد أمسى مشردا
تحية عان كلما هبت الصبا ينوح كما ناح الحمام مغردا
ان اليوم أطلقت اللسان بحبكم * فبالأمس عنكم قد سللت المهندا
عواطف لا تنفك تغلي بمهجتي إلى أن أرى فوق الصعيد موسدا
وقد أصدر جريدة إقدام... بطهران وله عدة مؤلفات توفي في طهران
عام 1972 م.
ومن أفراد الأسرة الأديب الطبيب الشيخ محمد الخليلي ابن عم جعفر
الخليلي وصاحب كتاب أدباء الأطباء والأديب محمد علي إبراهيم الخليلي
وبين آل الخليلي عدد من أدباء الشباب والشعراء.
عمل المترجم في التعليم في الحلة والنجف وسوق الشيوخ والرميثة والكوفة
في فترات، واستقال من المعارف في السنة التي توفي فيها والده وكان آخر ما
عمل في المعارف ان كان مدرسا للتاريخ والجغرافيا في ثانوية النجف مدة
ثلاث سنوات تقريبا. ثم تفرع للصحافة.



(1) عادل حبة.
(2) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
(3) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
24
فأصدر جريدة الفجر الصادق في النجف عام 1930 وكانت أسبوعية
عاشت سنة واحدة وأوقفها صاحبها لازمة إدارية.
وأصدر جريدة (الراعي) بعد ذلك أسبوعية وعاشت سنة أيضا فأغلقتها
الحكومة.
وأصدر (الهاتف) أسبوعية عام 1935 في النجف وانتقل بها إلى بغداد
عام 1948 وفي عام 1954 أغلقت الهاتف مع الصحف الأخرى بموجب
مرسوم صدر في ذلك العام وقد صدرت قبل إغلاقها يومية سياسية مدة أربع
سنوات فكان مجموع عمرها عشرين سنة كاملة صدرت في النجف وبغداد
دون انقطاع. وفي سنة 1980 م ترك العراق ليقيم في عمان. وفي زيارة له
لمدينة دبي توفي فيها.
مؤلفاته المطبوعة
1 - يوميات - الجزء الأول - خواطر وأفكار، 2 - يوميات الجزء الثاني -
خواطر وأفكار، 3 - الضائع قصة مطولة، 4 - عندما كنت قاضيا -
استعراض للأحوال الشخصية، 5 - في قرى الجن - قصة على غرار مبادئ
المدينة الفاضلة، 6 - من فوق الرابية - مجموعة قصص قصيرة، 7 -
تسواهن - استعراض للغناء والرقص والموسيقي في العراق، 8 - على
هامش الثورة العراقية - هوامش على الثورة العراقية الكبرى سنة
1920.، 9 - أولاد الخليلي - مجموعة قصص قصيرة، 10 - مجمع
المتناقضات - مجموعة قصص قصيرة، 11 - اعترافات - مجموعة قصص
قصيرة على نمط الاعترافات، 12 - مقدمة في تاريخ القصة العراقة، 13 -
هؤلاء الناس - مجموعة قصص قصيرة، 14 - جغرافية البلاد العربية،
15 - آل فتلة كما عرفتهم - استعراض لحياة قبيلة آل فتلة، 16 - نفحات
من خمائل الأدب الفارسي - شعر مترجم، 17 - ما أخذ الشعر العربي من
الفارسية والشعر الفارسي من العربية، 18 - كنت معهم في السجن -
استعراض لأهم الأسباب التي تستدعي وقوع الجريمة، 19 - التمور
العراقية قديما وحديثا - من أول معرفة العراق بالتمور حتى اليوم، 20 -
القصة العراقية قديما وحديثا - تاريخ القصة العراقية القديمة وروادها
المعاصرون، 21 - هكذا عرفتهم - ستة اجزاء - تراجم عدد من
الأشخاص 22 - أ - حبوب الاستقلال - نقد للمجتمع في أسلوب قريب من
القصة، ب - خيال الظل، ج - حديث السعلي، د - السجين المطلق،
23 - موسوعة العتبات المقدسة وقد صدر منها ثلاثة عشر جزءا، أ - المدخل إلى
موسوعة العتبات المقدسة، ب - الجزء الأول من قسم مكة المكرمة، ج - الجزء
الأول من المدينة المنورة، د - والجزء الأول من القدس الشريف، ه‍ - الجزء
الثاني من القدس الشريف، والجزء الأول من قسم النجف الأشرف، ز -
الجزء الثاني من قسم النجف الأشرف، ح - الجزء الأول من قسم كربلاء ط -
الجزء الأول من قسم الكاظمين، ي - الجزء الثاني من قسم الكاظمين، ك -
الجزء الثالث من قسم الكاظمين ل - الجزء الأول من خراسان، م - الجزء الأول
من سامراء.
والموسوعة تاريخ واسع أسهم معه في تأليفه عدد من أساتذة جامعة بغداد
وبعض الفضلاء حسب اختصاص كل منهم.
24 - ملخص تاريخ العرب واليهود.
وله كتابات ومؤلفات لم تطبع وهي ما كتبه في عمان في أيامه الأخيرة وهي:
1 الوراقة والوراقون البغداديون، 2 - مما احتفظت به الذاكرة من
الخواطر وهي بمثابة مذكراته، 3 - الأمثال العربية، 4 - المدن الاسلامية
والتاريخية العربية الكبرى نشر بعض منها، 5 - الشعر العربي والغناء، 6 -
قصة مطولة تصلح ان تتحول إلى تمثيلية عنوانها رهبان بلادي، 7 - كتابات
متفرقة شرع بكتابتها ولم ينهها.
الشيخ جعفر همدر بن الشيخ حسين
ولد في النجف سنة 1908 م وتوفي فيها سنة 1982 م.
درس دراسته الأولى في النجف وتابعها حتى بلغ مرحلة عالية اتقن فيها
اللغة العربية وآدابها وألم بالفقه وأصوله، ثم اختار مهنة التدريس في وزارة
التربية والتعليم العراقية، ثم انتقل منها إلى السلك القنصلي في وزارة
الخارجية، فتنقل فيه بين القاهرة والخرطوم وحلب، وفيها أحيل إلى التقاعد
فآثر الإقامة فيها بعد أن كان تزوج منها ونشأت له فيها أسرة.
وبتوالي الأحداث المضطربة في العراق وتعذر إرسال رواتبه إليه عاد إلى
العراق وسكن النجف حتى وفاته - وكان يأمل بالعودة إلى أهل بيته الذين
تركهم في حلب، ولكن لم يقدر له ذلك.
وهو نجل العالم الزاهد الورع الشيخ حسين همدر الذي هاجر من لبنان
إلى النجف لطلب العلم وبعد أن تزود منه بما تزود طابت له الإقامة فيه،
فعاش هناك بقية حياته منظورا إليه بعين الإكبار لما عرف عنه من التقوى
والصلاح والإخلاص لله.
وآل همدر أسرة معروفة في لبنان. وأصبح لها فرع في حلب بما تركه
المترجم من البنين والبنات توطنوا وتزوجوا فيها. وكبيرهم المهندس أحمد هو
اليوم من الوجوه الحلبية البارزة علما وعملا.
كان المترجم أديبا ذواقة على شاعرية حسنة، طيب العشرة ظريفها وأكثر
ما تبدو ظرافته في شعره الذي كان ينظمه عرضا في مناسبات من حياته.
فمن ذلك ما أرسله إلى ابن خاله السيد جعفر الأمين في سفر له إلى
لبنان:
أهديك يا (جعف) السلام كأنه * ذاك النسيم العذب من لبنان
وأبثك الشوق المبرح في الحشا * يا من علا فهما على الأقران
اسمع كلامي يا أخي فإنه * روض زها بالورد والريحان
إني أتيت من الشآم مرافقا * لأخيك هاشم صفوة الشبان
سله يجبك عن الحقير ولطفه * إذ كنت أحسن صاحب متفان
مالي أراه وقد رماني عامدا * بالصد والإعراض والهجران
ونسي الأخوة بيننا لم يرعها * أكذا يجازى فاعل الإحسان
وأتيت من بعد الشآم بسرعة * في السير أقصد نزهة البلدان
يا حبذا تلك المدينة إنها * بالحسن أضحت سلوة الإنسان
فيها الأوانس والحدائق جمة * هذا ولحن الطير في الأغصان
فمكثت فيها بعض أيام وقد * فارقتها والقلب في خفقان
حتى أتيت لبلدة الشيخ الذي * قد (...) قاصي الورى والداني
شيخ تعمم في عمامة عالم * لكن حقيقته من الزعران
بينا أنا في السوق أمشي حائرا * متمايلا كتمايل النشوان
وإذا بنجل الخال أضحى راكبا * سيارة ملئت من الشبان
فركبت قداما بجنب مديرها * نبغي الخيام لجلسة الأحزان
حتى وصلنا والجموع تحشدت * ما بينها الدرزي والنصراني
شاهدت جمعا لم أشاهد مثله * أبدا بتعزية ولا بقران
حتى إذا انفض الخلائق لم أجد * حولي سوى الحصران والجدران
وبقيت وحدي جالسا متأدبا * وأخوك راح لدار أهل (الفاني)

25
حيث الغداء هناك كان مرتبا * من كل صنف جيد فتان
أما أنا فالجوع مزق معدتي * (والتتن) (1) أتلف مهجتي وضناني
هذا أخوك وفعله فأحكم به * يا صاحب الإنصاف والوجدان
الله يعلم إنني متشوق * لزيارة الأحباب والخلان
وأود أني دائما في حيهم * يا حبذا لو كان بالإمكان
أما الحقير فإنني في (حارة) * معمورة بتزاحم الضيفان
أنسي مجلات الحقوق ومرشد * ورواية وجريدة الأفغاني
كتبي أطالعها وأصبح ماشيا * مستأنسا لإدارة (العرفان)
إني لأذكر، بكل سويعة * يا من نأوا عني إلى (شقران) (2)
هذا ودموا في هناء دائم * ومسرة وتألف وأمان
وإذا أردت بأن تجارب فليكن * إرساله بتوسط (العرفان) (3)
فأجابه السيد جعفر بهذه القصيدة:
يا شيخ جعفر آل همدر الذي * اشتهر اسمه بالعالي اللبناني
بعد السلام وبعد (نفخك) ساعة * أشكو إليك لواعج الأشجان
وأقول من فرط التشوق والهوى * قد صرت أنحف من قضيب البان
نصفي إلى الزنار في (صرمايتي) * وبداخل الطربوش نصفي الثاني
لو كان عزرائيل يعلم موضعي * لزيارة الفردوس كان دعاني
ولكنت في ذا الحين أرتع في السما * متمتعا بالحور والولدان
ولو أن كل الشوق مثل تشوقي * لأتى به التحريم في القرآن
وكأنه لم يكف ما بي ربنا * حتى ابتلاني في هوى الإخوان
مع ذاك أحمده فلو لا لطفه * لخسرت أيضا (طابقي الفوقاني)
قد لا تصدق ذا وتحسب أنه * عن قلة أو عارض جسماني
فاسأل فعندي صحة لم يحوها * لا جسم إنسان ولا حيوان
وانظر إلى شغلي تجده بأنه * من عند عشي إلى حلواني
كيف اتجهت وكيف سرت فدائما * ترنو إلي لواحظ النسوان
ويقلن من هذا هو أعرب؟ * ويحطنني من أعين الشيطان
وترى جيوبي دائما ملآنة * لا يخلو منها القرش والقرشان
مهما طلبت تجده عندي حاضرا * ولو أنه من أرض هندستان
لو كنت أنت وحق ربك موضعي * لغدوت مثل دعائم الحيطان
ولكان ساوى عرض خصرك طولها * بين الحذاء ومنتهى الآذان
هل بعد هذا لا تزال مشككا * يا صاحب الإيمان والوجدان
فاحكم ويقن أن ما بي كله * متسبب من حبك الروحاني
خبر صديقك كيف أنت فإنه * نهب الأسى والوجد منذ زمان
يقضي الليالي ساهرا متحرفا * فكأنه يقلى على النيران
من أجل تحرير يكلف آنه * يا ضيعة الأصحاب والخلان
وتنام لا يلهيك عن طيب الكرى * ما يعتري النائين من أحزان
أترى يجوز بدين إبليس كذا * أم يا ترى بديانة الرحمان
فعسى تكون كما أروم وأشتهي * من صحة في الجسم (والجزدان)
وتكون في أنس تروح وتغتدي * وجميع أهل البيت في اطمئنان
وتكون تدعى بعد اسمك وحده * بأبي فلان أو أبي (فليتان)
أما أنا فلقد غدوت معلما * بقيادتي تجيش من الصبيان
الحال أحسن إنما أخشى على * عقلي من التخريب والنقصان
وأخاف من بعد التأستذ في غد * أن أغد تلميذا بمارستان
لكنني راض لأن خسارتي * في خدمة الأهلين والأوطان
فغدا سأتحفهم وأعلي شأنهم * بالراعي والزبان والطحان
الوقت ضاق وفي ذكاك كفاية * وعن الكتاب عسى يقوم لساني
ولو أنني أبديت كل خواطري * لم يكفني إذ ذاك ماعونان (4)
فأسلم ودم في غبطة وهناءة * لأخيك جعفر الأقل الجاني
ومن طرائفه قوله وهو في بغداد:
بينا أنا في السوق (5) أمشي جائعا * متحيرا ماذا يكون طعامي
فإذا بد كان عليه قطعة * مكتوبة: (هذا محل الشامي)
أقبلت أسرع نحوه في مشيتي * والغيد تمشي كالظباء أمامي
وسألت صاحبه أجاب مرحبا * شرف تجد أنواع كل طعام
إن كان عندك حمص فائت به * فهو الشفاء لعلتي وسقامي
لله در (اوتيله) وطعامه * حيث النظافة مع جميل نظام
ومن ذلك قوله وهو في (الخرطوم) وقد خرج ليلا ليشتري سكرا وشايا
فبدا للبائع من بعض ملامحه أنه إنكليزي لا عربي، وكان بين الإنكليز
والسودانيين يومذاك مشاكل، فأخذ البائع يتحداه فارتجل له هذه الأبيات:
ذهبت للسوق كيما * أشتري شايا وسكر
قلت للبائع زن لي منه * رطين فأكثر
قال أهلا سهلا * يا خواجة أنت (مستر)
قلت والقلب من الآلام * حزنا قد تفطر
لست والله بمستر * إنما اسمي جعفر
وأبي شيخ وإني * مسلم والله أكبر
وقال:
إن الرياضة فن * من الفنون الجميلة
لا شئ أحسن منه * إلى الجسوم العليله
إن رمت تبقى صحيحا * منعما في الحياة
وأن تكون سعيدا * يا صاح حنى الممات
فائت بكل خميس * لهذه (الفلوات)
والعب قليلا وحرك * بلعبك العضلات
رياضة باعتدال * تزيل كل عناء
سل المجرب عنها * وسائر الحكماء
فكم رأيت مصابا * بعلة وبداء
لما تريض أضحى * في صحة وهناء
وفيما يلي مقال نشرته مجلة (العرفان) في الجزء الثاني من المجلد الثالث
والعشرين (ص 311) لكاتب نجفي يداعب فيه بعض طلاب العلم العامليين
في النجف فيه ذكر للمترجم نأخذه هنا لتسجيل صورة من صور الحياة العلمية
العاملية في النجف التي زالت فيما زال، وأصبحت جزأ من الماضي الذاهب:
في الناحية الغربية من نواحي النجف الأشرف إذا وصلت إلى خارج
المدينة تطل على نخيلات هناك تبعد عن المدينة مقدار ميل تقريبا... تصل إلى
ذلك المكان ثم تتابع السير ما يقرب من نصف ميل فتلتقي بساقية صغيرة
تنحدر من نهر الفرات وتسقي قسما ضئيلا من تلك الأراضي بعد ما تملي عليها
نشيدا يشبه برقته وعذوبته عذوبة أناشيد هاتيك الفتيات الريفيات الصغيرات
اللواتي يقصدن تلك الساقية ويحملن جرارهن لكي يملأنها ويعدن إلى



(1) التتن هو الدخان الورق المغروم يعد لفائف.
(2) شقران يريد بها بلدة (شقرا) من القرى العاملية.
(3) هي مجلة العرفان.
(4) أي ماعونان من الورق.
(5) هو أحد أسواق بغداد.
(6) الحمص المهروس أكلة سورية لبنانية معروفة.
(7) هي صحراء واسعة مترامية الأطراف تحيط بالنجف الأشرف.
26
أكواخهن باسمات الثغور مشرقات الوجوه حيث يتلاقين بأمهاتهن ويبتسمن
هؤلاء لهن ابتسامة الرضا والحبور التي تفيض على جوانبها جميع معاني السعادة
تلك الابتسامة الساذجة البريئة - التي قلما تجدها تنطبع على ثغور الحضريات
المتصنعات كأنها لغة النفس وحديث العواطف وأنشودة القلوب الطاهرة تتألف
ألحانا ناطقة بعرفان الجميل لهاتيك الفتيات الصغيرات على خدمتهن...
في ذلك المكان - حيث الجو صاف والهواء نقي والحياة ورادعة - اعتاد
طلاب العلم في هذه المدينة المقدسة أن ينتزهوا في أيام العطلة كيومي
(الخميس والجمعة) ترويحا للنفس وإنعاشا للفكر مما يعتريه في أثناء التحصيل
من عناء البحث ومطالعة الكتب العلمية وقد ساقتني التقادير في أحد الأيام
إلى ذلك المكان فوجدت فيه فئة من إخواننا العامليين جالسة هناك تنشد الشعر
وهي تزيد على عشرة أشخاص (وكنت عرفت هذه الفئة في أيام التحصيل لا
تفتر عن المذاكرة في المسائل العلمية أينما جلست) فأكبرت هذه الروح
الاجتماعية الصافية التي وحدت أرواحها سلامة النية وصفاء الجوهر والنظر
إلى الأمور العامة مجردا من كل أنانية، وعلمت كلها بؤسا وتعاسة.
وقفت أتسمع تلك الأناشيد العذبة وإذا بالأديب الظريف الخفيف الروح
الشيخ جعفر همدر يهتف منشدا:
لم يشك موسى مثل ما موسى شكا * من قوم (فرعون) الخبيث العاتي
ما هذا يا شيخ جعفر وما معناها؟؟ فقال ألا تدري ألا تعرف أن صديقنا
الشيخ موسى شراره سرقت جبته وساعته قبل أيام قليلة من غرفته وذلك إذ
نزل صباح يوم لتناول الشاي من الدرج الداخلي واتفق أنهم فتحوا باب الدرج
الخارجي لطارق طرق ولم يدر بخلد أحد أن يصعد منه ذلك اللص الخبيث
بظرف خمس دقائق ويسرق ما ذكرته لك بدون أن يشعر به أحد قاتله الله ما
أمهره. قلت نعم سمعت وما علاقة ذلك بهذا الشعر فقال (بلى مولانا) أصبر
حتى نتم حديثنا ثم مضى قائلا وبالنظر لهذه (النكبة) فقد اقترح صديقنا
الشيخ محمد جواد مغنية أن نقيم لهذه (الفاجعة) حفلة تأبينية ونقتص للشيخ
موسى من ذلك السارق اللئيم فهل عرفت الآن علاقة الشعر بتلك القضية؟
قلت وقد أنعشتني هذه الروح حياكم الله كأنكم رأيتم هذه (الساقية)
عارية ليس على جوانبها شئ من الورود والرياحين فأبى لكم وفاؤكم إلا أن
تضعوا على حواشيها إضمامة من الورد وباقة من الريحان لتكون تذكارا خالدا
جزاء لما تدخله على قلوبكم من السرور وهكذا يأبى وفاؤكم لكم أن تمروا
بأرض يكون لها أثر طيب في نفوسكم دون أن تدعوا لها من الآثار الجميلة ما
تعجز عن أن تفيكم بعضه فقد سمعناكم قبل هذه المرة تنشدون ما يشبه هذه
الأناشيد على طريق كربلا تلك التي قرأناها في مجلة الطالب البيروتية...
فقال (بل مولانا) هكذا ينبغي للإنسان أن تفيض نفسه بالجمال حينما يمر على
الجمال وهو ما يسمونه بالفعل المنعكس علميا أما أولئك الذين تفيض نفوسهم
قذارة وخسة حينما يمرون بالجمال فلا يستحقون أن يطلق عليهم اسم
(البشر). قلت: إني مؤمن بهذه النظرية، وكأنه ارتاح لموافقتي له، فقال تؤمن
بها إذن هيا بنا لنقيم الدليل لهؤلاء الإخوان على صحتها فإنهم حرقوا نفسي
بنزاعهم. قلت: لأقف هنا فإن هذا موضوع خطير لا يسعنا الدخول به فعلا
لأنا لم نأت لهذا المكان إلا لراحة النفس لا للنزاع والجدال إذ يكفينا منهما أيام
التحصيل فإنها كلها تمضي بالمذاكرة والبحث كما أشرنا إليه، فوضع يده على
ذقنه وقال (يا حيف يا حيف هتشي) وهنا وقف الحوار وقد أحببت نقل هذه
الأبيات مع أبيات رفاقه لمجلتنا العرفان المحبوبة لما بها من الشعور الفياض
والحس المتأثر ولي الوطيد بأن تكون هذه الشعلة كوكبا وهاجا في
مستقبل الحياة وخيوطا متينة في نسيج النهضة العاملية وأليكها:
فمن أبيات الشيخ جعفر همدر:
لم يشك مثل ما موسى شكا * من قوم فرعون الخبيث العاتي
مما يزيد بليتي ومصيبتي * ويهيج الأحزان والزفرات
إني فقدت ملابسي وعباءتي * وسويعتي في أحرج الأزمات
إن الثياب مصيرها ومآلها * نحو الفناء بأقرب الأوقات
من كان مثلك لابسا ثوب العلى * أو يعتني باللبس والبذلات؟؟
يا لص ما لك قد أتيت إلى أمرء * خال غدا حتى من (البيزات)
فسرقت منه جبة وعباءة * وسويعة من أجمل الساعات
وتركت أرباب الفلوس ومن غدت * أجيابهم ملأى من (الليرات)
مهلا أخي ولا تكن متأسفا * واصبر على نوب الزمان العاتي
زمن علا فيه الوضيع وأصبحت * أحراره تخشى من الحشرات
ومن أبيات الشيخ محمد جواد مغنية وكأنه يتكلم بلسان المسروق ويرمي
بذلك إلى معنى اجتماعي أخلاقي من تفاخر كثير من الناس بالملابس والمآكل
ثم يلتفت إلى صديقه وينزهه عن أن يكون من هذه الشرذمة:
إني أقدر من ثيابي جبتي * إذ أنها سبب لحسن معيشتي
أوصيت مهدي (1) أن يوسع كمها * قصدي بذلك أن يطابق ذمتي
وأحل في صدر المحافل معجبا * نشوان يا صاح بخمر العزة
وبها أكون بذي الحياة منعما * وأعدها وقت الجدال لنصرتي
لما انتهى الخياط قلت مفاخرا * الآن طارت في العوالم شهرتي
وأخذتها والقلب يرقص في الحشا * طربا بها ووضعتها في غرفتي
وذهبت من فرط السرور لأحستي * الخمر الخلال (2) لكي تتم مسرتي
فرجعت أطلبها أفتش حائرا * تحت اللحاف وتحت طي الفرشة
حتى إذا انقطع الرجاء جلست في * داري أفكر في شؤون قضيتي
فسمعت صوت العقل ينطق معربا * مهلا فثوب الفخر ثوب العفة
إن الملابس يا صديق بأسرها * فخر النساء وسلوة للصبية
يغنيك عن قطع الثياب جميعها * علم وأخلاق وطيب سريرة
هي للنفوس الطاهرات سلامة * في هذه الدنيا ويوم البعثة
وهي اللباب وغيرها صوت الردى * يمشي بصاحبه لأعمق هوة
ومن أبيات الشيخ حسين البعلبكي:
أدهى النوائب والمصائب قصتي * سرقت ويا أسفي الجديدة جبتي
منيت نفسي أن أعيش منعما * واليوم ضاعت حسرة أمنيتي
شلت يمينك أيها اللص الذي * كدرت من دون البرية عيشتي
وغدا سألقى الله مظلوما وليس * يضيع للمظلوم أدنى ذرة
وأقول هذا سارق عاف الورى * وأتى - وما خاف الفضيحة - غرفتي
هو سارق لم يخش أي عقوبة * فأسكنه يا ربي بأعمق هوة
قد كنت فيها للرفاق مفاخرا * وقضيت أيام الشتا بمسرة
حتى أتى ذاك اللئيم فصادها * بيديه صيد الذئب أسمن نعجة
وبساعتي للوقت مقياس وقد * ظهرت محاسنها بأبدع صورة
عند المساء تدق أجمل دقة * ولدى الصباح ترن أعذب رنة
أواه من هذي البسيطة قد غدت * مملوءة بشرار أهل الخسة
ذهب العفاف من الرجال فلا يرى * فيهم ولا يدرون معنى العفة
نبذوا المكارم والفضائل جانبا * وتسربلوا بثياب كل رذيلة
الناس من أموالهم في أزمة * ومن الفضائل أصبحوا في أزمة



(1) مهدي هو الخياط الذي خاطها.
(2) يريد به الشاي.
27
ثم جاء دور الشيخ موسى فكان شاعرا اجتماعيا أكثر منه متألما لهذه
القضية البسيطة ومن هنا يمكننا أن نقول بأن رفاقه الأفاضل لم بكن تحليلهم
لنفسيته إزاء هذه القضية أصاب الواقع من جميع جهاته ولكنك عرفت أيها
القارئ الكريم أنها مداعبات فلا يخطر هذا الاعتراض وإليك أبيات
الشيخ المذكور:
يا سارقي لو كان عقلك راجح * وفهمت ما معنى الحياة الحقة
لسرقت روح المفسدين وطهرت * كفاك من رجس المنافق (بلدتي) (1)
إن الحياة لفي صلاح نفوسنا * لا في تحقق شهوة وملذة
أحسبت أن المال يرفع سافلا * فجعلت تسرق لاجتماع الثروة
لا ترفع الإنسان كثرة ماله * ما دام يعوزه دماغ الرفعة
لم يؤذني نهب الثياب وإنما * لوجود مثلك في البلاد أذيتي
هلكت بلاد في يدي أبنائها * فاس يهدهم في بناء الأمة
والناس إن عدموا الصلاح بأرضهم * منعت سماؤهم غيوث الرحمة
وإذ الفضيلة عطلت في أمة * جرفت معاليها سيول الخسة
واستبدلت بالعز ثوب مذلة * كالماء حول بالركود لجيفة
ما كنت تفسد لو تهذب في يدي * أهليك بل تختار أفضل خطة
فالذنب ذنبهم إذا ما سببت * أيديك للإنسان أي مضرة
ولدوك للأوطان عضوا نافعا * ولجهلهم بدلوك في جرثومة
آه على الأوطان من أبنائها * قد قاربوا إنزالها في الحفرة
عقوا أمومتها وما رقوا لها * مهما استغاثت فالقلوب بقسوة
إخواني الفضلاء في أخلاقكم * أجلو الهموم واستعيد مسرتي
ومن انتقى أمثالكم خلانه * لم لا تزول كروبه في سرعة
أبناء دهري تقد فحصت ذواتهم * واخترت منهم الجواهر حصتي
ما قيمة الأموال في نظري إذا * جمع الصفاء قلوبنا في وحدة
أرواحنا كأس المحبة خمرها * ونفوسنا سكرى بكل فضيلة
هذه الأبيات وما قبلها كانت نتيجة تلك الجلسة وإذا كان بعد الأدباء
قال للأستاذ الشيخ علي الشرقي يوم وقوفه على قصيدته (شمعة العرس)
" وددت أن تأخذ كل يوم فتاة وتدخل عليها فتراها ميتة لتعطينا مثل هذه
القصيدة الرائعة " فنحن أيضا نقول لهؤلاء الإخوان الأفاضل نود أن تسرق
لكم كل يوم جبة لتجودوا بمثل هذه الأبيات الجميلة.
بهاء الدين
وكان آخر ما نظمه هذه الأبيات التي أرسلها من النجف إلى ولده أحمد في
حلب:
جاز الزمان على في شيخوخة * مقرونة بالفقر والحرمان
وبعزلة في البيت لا أحد أرى * لا من بنى إنس ولا من جان
أصبحت مقطوعا بلا أهل ولا * قوم ولا خل ولا إخوان
إلا حمامات وبعض بلابل * تشدو على الأفنان والأغصان
فتثير في نفسي شؤونا جمة * وتزيد من همي ومن أحزاني
لله أشكر ما لقيت من الضنا * ومن الأذى والجور والهجران
مستمسكا بولاء أصحاب العبا * سفن النجاة ومستجار العاني
أرجو النجاة بحبهم وولائهم * يوم القيامة من لظى النيران
الدكتور جواد علوش بن أحمد
ولد في مدينة الحلة (العراق) سنة 1927 م وتوفي سنة 1976 تخرج من
جامعة القاهرة بشهادتي (الليسانس) و (الدكتوراه) في الأدب العربي. وعاد إلى
العراق فتولى التدريس الجامعي في بغداد.
له من المؤلفات: شعر صفي الدين الحلي، ومهرجان الرصافي،
وموشحات السيد محمد سعيد الحبوبي، وراجح الحلي.
كما ترك ديوانا شعريا.
وعندما أصدر كتابه عن صفي الدين الحلي بعث إلي بنسخة منه فكتبت إليه
معلقا على بعض ما ورد فيه، فلم تصل إليه رسالتي. وقد كتب لي بعد ذلك
رسالة أنشرها فيما يلي تخليدا لذكريات ذلك الزمن:
تحية عربية إسلامية خالصة أبعث بها إليك مؤرجة بأريج الزهور مفعمة
بانداء الفرات التي ملأت رئتيك يوم نعمت بأفيائه وأعجبت بأبنائه سائلا المولى
العلي القدير أن يمتعك بالصحة والسعادة والهناء.
ما كنت، يوم قدمت لك، كتابي المتواضع (صفي الدين) أفكر
في أنك ستكتب لي رسالة. لأنني لم أحس بأنني قمت بعمل يستحق كتابة
رسالة، إذ أنني قمت بواجب أدبي نحو أستاذ تربطني به روابط روحية وإن لم
أراه بعيني.. اعترافا بفضله على الأدب وبفضل أبيه العظيم على الكتب
والمؤلفين.. ولكن.. لقد أخبرني أحد الإخوان في كليتنا وهو السيد محسن
غياض بأنك أرسلت لي رسالة تستحق الإجابة، ولما كنت لم أتلق أية رسالة في
هذا الصدد فقد تملكني العجب واستولت علي الحيرة.. ثم أنه ما اكتفى
بذلك، بل جاءني تبعد أيام وأطلعني على رسالتكم إليه فقرأت الأسطر التي
تخصني والتي تشيرون فيها إلى هذا.. فقررت أن أكتب لكم رسالة أخبركم
بذلك.. وأعتذر عن تقصير وقع دون علم مني وليس لي إرادة فيه فأرجو
عذركم وعفوكم وأنا على استعداد للإجابة عما تريدون...
وختاما أرجو لكمن حياة حافلة بالتأليف وخدمة الأدب والفكر والعالم
واسلموا.
بغداد / 15 / 5 / 46 للمخلص
كلية التربية جواد أحمد علوش
جون مولى أبي ذر الغفاري
مرت ترجمته في المجلد الرابع الصفحة 297 ونزيد عليها هنا ما يأتي:
كرم محمد بن عبد الله ص الإنسانية كلها فألغى الاضطهاد العنصري
إلغاء عمليا حين اختار لأقدس مهمة زنجيا أسود اللون، وجعل منه مؤذنه
الذي ينادي المؤمنين للصلوات في أوقاتها الخمس.
هذا الأسود هو بلال الحبشي الذي كان عبد من عبيد قريش فلم تكد
تبلغه الدعوة الاسلامية حتى كان أول الملبين لها، وتعلم به قريش، ويعلم به
سيده أمية بن خلف فينصحونه بالعدول عن الطريق الذي مشى فيه فلا يقبل
النصيحة ويستمر مسلما مخلصا فيأخذون في تعذيبه العذاب الأليم، ولكنه لا
يزداد إلا إيمانا، ثم يفر بنفسه إلى المدينة مع من هاجر إليها، وهناك صار مؤذن
الرسول. ولقد كانت في صوته لكنه فلا يستطيع أن يلفظ الشين لفظا
صحيحا، بل تخرج من فمه وكأنها سين، فيقول الرسول ص إن سينه عند
الله شين...
وعلى صوت بلال الحبشي كان يهرع شيوخ المسلمين وشبانهم إلى المسجد
ملبين نداء الله يبعثه هذا الإنسان الأسود اللون. ولم يكن تكريم لعنصر بلال
أعظم من هذا التكريم الذي خصه به رسول الله، ولذلك فإنه لما مات النبي
انقطع إلى أهل البيت مخلصا لهم، وفيا لذكرى أبيهم الرسول.



(1) يريد (ببلدتي) النجف كما صرح لنا لأن الكلام عنها لوقوع السرقة بها.
28
وتدور الأيام ويلقى أهل البيت محنا وارزاء، ويبرز الأوفياء ملتفين حول
الأسرة النبوية عازمين على الموت دونها اخلاصا لمحمد ورسالته. ويقف الحسين
في كربلاء في أقل من مائة من الرجال كانوا يمثلون في تلك الساعة انبل ما في
الكون من سجايا، وهل في الكون أنبل من أن يبذل الإنسان دمه طواعية وفاء
لرجل وثباتا على مبدأ واخلاصا لعقيدة.
وتبارى الرجال في التضحية ومضوا يسقطون واحدا بعد الآخر. وكان في
الركب الحسيني رجل بسيط، لا يحسب إذا حسبت البطولات، ولا يذكر إذا
ذكرت التضحيات، لا يؤبه لرأيه ولا يعد لمهمة من مهمات الأمور.
كان يؤمر فيلبي الأمر، ويستخدم فيخدم مسرعا، كان أقصى ما يعرفه
الرفاق عنه أنه خادم أمين وتابع مخلص. وما فوق ذلك فليس مما يرد اسمه على
البال.
كان رقيقا من أولئك الأرقاء السود الذين امتلأت بهم قصور العتاة وبيوت
الطغاة، وكانت أية حشرة تلقى عناية أكثر مما يلقاه أي واحد منهم. وكان
نصيبه ان وصل إلى يد أبي ذر الغفاري صاحب محمد المخلص، وسمع أبو ذر
النبي ص يوصي بالأرقاء خيرا ويحض الناس على تحريرهم، ومن أولى من
أبي ذر بتنفيذ وصايا النبي فأعتق أبو ذر العبد جون وأرسله حرا.
وأصابت المحنة أبا ذر وطورد واضطهد ومات منفيا في الربذة، وظل جون
فقيرا معدما، فتلقاه أهل البيت بالحنان والعطف، فقد كانت فيه ذكريات من
صاحب جدهم رأوها جديرة بالوفاء فاحتضنوه وألحقوه بشؤونهم يقوم على رعاية
بيتهم والعناية بأطفالهم وقضاء حاجات رجالهم.
ومشى الحسين إلى كربلاء، وهذه حال جون، لا شان له أكثر من هذا
الشأن، ولا من يفكر بان يكون لجون دور فوق هذا الدور. وكان في حسبان
الجميع أنه سيغتنم أول فرصة للسلامة فينجو بنفسه وينشد الخدمة من جديد في
بيت جديد.
ولكن جون بقي في ركب الحسين لم يفارقه مع المفارقين، وثبت مع الرجال
المائة الذين ثبتوا حتى وصلوا إلى كربلاء، وظن الناس أن (جون) سينتظر الساعة
الحاسمة، ثم ينطلق بعدها في طريق النجاة، ولكن الأيام مضت وجون في
مكانه لم يبرحه، وجاء اليوم التاسع من المحرم وجون قائم على خدمة الحسين،
فها هو يصلح له سيفه والحسين يردد تلك الأبيات الشهيرة التي لم تستطع معها و
أخته زينب إلا أن تذرف دموعها.
أما جون فلم يذكر أحد أنه انفعل أو تأثر أو بكى، أ تراه لم يفهم ما كانت
تعنيه تلك الأبيات؟ أتراه صلب العاطفة متحجر القلب إلى حد لا يهزه صوت
الحسين ينعى نفسه؟ أ تراه في تلك الساعة في شاغل عن كل شئ إلا عن نفسه
يفكر كيف يدبر وسيلة الخلاص عصر اليوم أو صباح الغد؟
الحقيقة كانت فوق كل تصور... لم يبك جون ولم ينفعل ولم يتأثر، لأن ما
كان فيه كان فوق البكاء والانفعال والتأثر. كان جون وهو يصلح سيف
الحسين، والحسين ينشد أبياته، كان جون يستعرض في ذهنه كل ذلك الماضي
الحافل، كان يتذكر النبي محمدا ص وهو يرفع الإنسان الأسود إلى أعلى
مراتب الكرامة حين عهد إلى واحد منهم بوظيفة مؤذنه الخاص وكان يتذكر تلك
الألوف من السود التي انطلقت حرة تنفيذا لوصايا محمد. كان كل ذلك يجول
في ذهن (جون) مولى أبي ذر الغفاري.
وها هو سيف الحسين الآن في يده لآخر مرة يصلحه له ليقف به الحسين
غدا على أعلى قمة في التاريخ فيهز الدنيا كلها لتشهد كيف تكون حماية الهدى
والحق والخير، وكيف تكون البطولات التي لا تبغي إلا الاستشهاد ذودا عما
تؤمن به وتعتنقه، وكيف يرفض الأباة الحياة إذا لم تكن كما يريدون حياة الحرية
والسعادة للأمة، وحياة الكرامة والحق لهم.
غدا سيلمع هذا السيف الحديدي في كف الحسين ثم ينثلم إلى الأبد،
ولكن سيف الحق الذي جرده الحسين سيلمع إلى الأبد دون أن ينثلم، وغدا
سيعلو صوت الحسين بنداء الحرية ثم يصمت إلى الأبد، ولكن صوت الحرية
الذي انطلق من فم الحسين سيظل مدويا إلى الأبد.
كان جون يلجا إلى صمت رهيب، وظل صامتا حتى دنا الليل، وأصغى
بكل جوارحه إلى الحوار البطولي الخارق الذي جرى بين الحسين وأنصاره، وهو
يحرضهم على تركه وحده والانطلاق في سواد الليل، وهم يردون عليه واحدا
بعد واحد رافضين لأول مرة في حياتهم أوامره، ويصرون على أن يلقوا نفس
المصير الذي سيلاقيه هو.
كان جون في تلك الساعة يجلس في زاوية دون أن يأبه له أحد، وكان يود
من كل قلبه لو كان لصوت الزنوج صوت بين هذه الأصوات، ولكنه فضل
الصمت المطبق.
وفي الصباح عندما تبارى الأبطال المائة متسابقين إلى الموت، ومشى كل
منهم يستأذن الحسين ويودعه ماضيا إلى مصيره، تقدم (جون)، وهو في كل
خطوة من خطواته لا ينفك مصغيا إلى صوت زميله بلال الحبشي متعاليا فوق كل
أصوات البيض تكريما من محمد واعزازا. وربما خطر له في تلك اللحظات
منظر بلال وهو واقف على أشرف مكان وأقدس بقعة، على ظهر الكعبة حين
امره محمد ساعة فتح مكة أن يصعد فينادي بالأذان. الأسود الذي كان عبدا
ذليلا قبل رسالة محمد يصعد على الكعبة، وهو في نظر الناس أعز إنسان.
دنت ساعة الوفاء لمحمد، دنت الساعة التي يرد فيها هذا الزنجي
(جون) بعض الجميل لمحمد، وهل أعظم في الوفاء لمحمد من أن يموت ذودا
عن أبنائه ونسائه وتعاليمه، وتقدم جون من الحسين وقد انقلب بطلا مغوارا،
وقد تجمعت فيه كل فضائل بني جنسه، تقدم يستأذن الحسين في أن يكون
كغيره من رفاق الحسين.
والتفت الحسين إليه وقد أخذته الرقة له والحنان عليه، ولم يشأ أن يورطه
فيما لا شان له به، فقال له: أنت إنما تبعتنا للعافية فلا تبتل بطريقتنا.
ولكن جون البطل أجاب الحسين: أنا في الرخاء على قصاعكم وفي الشدة
أخذلكم؟! ثم أردف هذا الجواب بكلمات لم يقصد بها الحسين، بل أراد أن
يوجهها للأجيال الماضية والأجيال الحاضرة والأجيال الآتية، تلك الأجيال التي
لم تر للزنوج الكرامة التي لهم، فقال: إن ريحي لنتن، وإن حسبي للئيم،
وإن لوني لأسود، فتنفس علي بالجنة فيطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض
وجهي؟ لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود بدمائكم.

29
لقد كان جون يعلم أنه أكرم على الحسين من ألوف البيض، وإن الحسين
أكرم من أن يراه لئيم الحسب نتن الريح. لم يكن جون في الواقع يخاطب
الحسين سبط محمد مكرم الزنوج، بل كان يقف على ذروة من ذروات التاريخ
ليقول للأدعياء المفاخرين بألوانهم وأطيابهم، إليكم هذا الذي ترونه في نظركم
لئيم الحسب نتن الريح، إليكم به اليوم يطاولكم شرفا وحمية وشجاعة ووفاء
فلا تصلون إلى أخمص قدميه. منكم يزيد الأبيض اللون، المتحدر من عبد
مناف، المضمخ بالأطياب، ومنكم عبيد الله بن زياد ومنكم شمر بن ذي
الجوشن وحجار بن أبجر وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج، منكم قبل
هؤلاء وبعد هؤلاء كثيرون، و كلهم يشع بياضا ويعبق طيبا، وكلهم يجر وراءه
حلقات آباء وأجداد.
أولئك غدروا بمحمد الذي أخرجهم من الظلمات، فداسوا تعاليمه
وحشدوا الحشود على بنيه، أولئك يتهيئون الآن ليرفعوا رؤوس أبناء محمد على
رماحهم. وهذا الزنجي وفى لمحمد الذي حرره وأكرم جنسه، فتقدم ليذودكم
عن بنيه وبناته وتعاليمه، وهو يتهيأ الآن ليسفك دمه دون ذلك، فأيكم اللئيم
الحسب، النتن الريح، الأسود الوجه؟ أأنتم أم هو؟
وحقق الحسين رجاء جون فاذن له، ومشى جون مزهوا ببطولته معتزا
بوفائه يود لو أن عيني بلال الحبشي تراه في خطواته هذه، وأن زنوج الدنيا
يطلون عليه ليروا كيف مثلهم في موكب البطولات وتكلم باسمهم على منبر
التضحيات، وكيف شرفهم ساعة لا شرف إلا للنفوس العظيمة.
لقد ضارب جون الحر أولئك العبيد باعمالهم، السود بقلوبهم، وكان له
ما أراد. فامتزج دمه الأسود مع أشرف دم: مع دم الحسين سبط محمد ومع
دماء أهل بيته.
ووفى الزنوج لمحمد الذي رفع من شأنهم وأعلى أمرهم، وتحقق ما أراده
جون. فلم ينفس عليه الحسين بالجنة، ولم يبخل عليه بان يثبت بأنه كريم
الحسب طيب الريح.
الميرزا حبيب بن محمد علي گلشن المتخلص في شعره به (قاآني)
ولد في شيراز وتوفي بطهران سنة 1271 ودفن فيها.
كان من كبار الشعراء في قصر فتح علي شاه ومحمد شاه وبداية حكم
ناصر الدين شاه القاجاريين.
كان يتيما وهو في السابعة من عمره. درس المقدمات في شيراز وفي
أوائل شبابه تثم سافر إلى مشهد الرضا ليتابع دراسته.
كان بارعا في الأدبين الفارسي والعربي حكيما عالما نظيرا لملا صدرا والملا
هادي السبزواري، وفي الشرعيات كان في مرتبة عليا، لذلك لقبه فتح علي
شاه بمجتهد الشعراء، كما لقبه محمد شاه ب‍ (حسان العجم)، بارعا في
الرياضيات والكلام والمنطق.
احتوى ديوانه الشعري على سبعة عشر ألف بيت من الشعر. وله كتاب
(پريشان).
الشيخ حسن علي نجابت بن غلام حسين
ولد في شيراز وتوفي فيها سنة 1410 ودفن في حرم السيد محمد بن
موسى الكاظم (ع).
درس دراسته الأولى في شيراز ثم سافر إلى النجف الأشرف فدرس على
السيد أبو الحسن الأصفهاني والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد أبو القاسم
الخوئي.
وأخذ دروس الحكمة عن الشيخ محمد علي البروجردي والعرفان عن
السيد علي القاضي والآقا محمد جواد الأنصاري الهمذاني. وفي سنة 1328
عاد إلى إيران فأسس في شيراز حوزة علمية وبنى مدرسة كبيرة سماها باسم
ابنة الذي استشهد في جبهة عبادان.
له من المؤلفات كتاب البصائر أو القرآن وأهل البيت، وشرح الزيارة
الرجبية، والكلمة الطيبة، والبشارة وغير ذلك.
السيد حسين الخادمي ابن السيد جعفر
ولد سنة 1319 في أصفهان وتوفي سنة 1405 فيها ودفن في مشهد
الرضا.
هو سليل أسرة الصدر الشهيرة التي تفرعت في أصفهان إلى عدة فروع منها
فرع (الخادمي).
درس في أصفهان على كل من الشيخ علي اليزدي وميرزا أحمد الأصفهاني
وغيرهما. ثم انتقل إلى النجف الأشرف فحضر على السيد أبو الحسن
الأصفهاني والميرزا النائيني والشيخ ضياء الدين العراقي. ثم عاد إلى أصفهان
فكان مرجعا من مراجعها، وقد قاوم الحكم الاستبدادي في عهد الشاه محمد
رضا فسجن وضيق عليه، له من المؤلفات 1 - طريقة السعادة في الرد على
المذاهب الباطلة 2 - البراءة والاستصحاب. 3 - عدم ارث الزوجة من الأموال
غير المنقولة وغير ذلك.
ابن سينا الحسين بن عبد الله:
مرت ترجمته في الصفحة 69 من المجلد السادس. ونضيف إليها هنا
الدراسات الآتية:
قال حمود غرابة:
الاسلام والفلسفة السيناوية
تختلف الأديان عن الفلسفة الأخلاقية في الوسيلة وإن اتحدت معها في
الهدف. فالأنبياء والفلاسفة الأخلاقيون جميعا يهدفون إلى غرس بذور الفضيلة
في نفوس البشر حتى يتهيأ المجتمع الصالح الذي يسعد بفضيلته ويهنأ بحياته.
ولكن الفلسفة تعتمد في ذلك على العقل والإقناع والأديان جميعها تعتمد في ذلك
على العقيدة التي هي مزيج من الفكر والعاطفة.
هذه العقيدة لا بد لكمالها وفاعليتها من الايمان بحقائق ثلاث:
1 - اليقين بوجود إله خالق يعلم العالم ويعنى به وبيده أن يسعد الأخيار وأن
يعاقب الأشرار.
2 - الجزم بحياة أخرى أسمى من هذه الحياة. حياة تتلاءم فيها السعادة مع
الفضيلة وتتكافا فيها الآلام مع الآثام.
3 - التسليم بوجود ذلك الكائن البشري الذي يستطيع بعد اتصاله بعالم القدس
أن يترجم عن إرادة السماء. فهل تشتمل الفلسفة السيناوية على الإيمان بهذه

30
الحقائق السامية؟ وهل بذل ابن سينا من عقله ومنطقه ما يؤيد تلك
الدعامات الثلاث التي لا بد منها لصحة الأديان وقداسة النبوة وجلال
الرسالة؟.
لست الآن بصدد الحديث عن منهج ابن سينا في إثبات ذلك كما أنني لست
بصدد الكشف عن قوة براهينه أو ضعفها فقد حاولت ذلك كله في كتابي (ابن
سينا بين الدين والفلسفة) الذي أرجو أن يكون قد وصل الآن إلى أيديكم
ولكني أسجل هنا فقط ما آمن به الرجل من حقائق وما وصل إليه من نتائج
عاش ومات وهو يقوم بتأييدها والعمل على إقرارها.
1 - يعتقد ابن سينا كما يبدو ذلك واضحا في فلسفته - بوجود إله واحد له
الملك والجود ويسمو بحقيقته عن كل موجود. كله حق وكله خير. منزه عن
النقص وبعيد عن الشر. جدير بالحب والعشق والإجلال لأنه على أسمى ما
يكون الجمال والجلال. مصدر الخير ومبعث الرحمات وهو وحده الدليل على
غيره من الكائنات. إلى غير ذلك من الصفات التي يقصر دونها وصف المتكلمين
وتترك وقدة الحب والشوق في قلوب السالكين.
وكيف يمكن في رأيه إسناد وجود الأشياء إلى الأشياء نفسها على ما فيها من
نظام وغائية لا يمكن أن تكون نتيجة الاتفاق والمصادفة؟ وكيف ننكر - كما فعل
أرسطو - القول بالخالقية ونقصر العلاقة بين الله والعالم على العشق والجاذبية مع
أن تعدد العالم وتغيره ناطق وإمكانه ناطق باحتياجه إلى مبدأ وعلته؟.. وكيف
نسلم مع أرسطو الذي يقرر في " كلام عامي جدا " إن الله لا يعلم العالم
وبالضرورة لا يعنى به وخصائص الله من اللطف والتجرد تقتضي هذه المعرفة
بل وتقتضي عنايته. لأن العناية معناها العلم بالكل على حسب النظام الأكمل
علما يترتب عليه صدور الكائنات عنه على أكمل ما يرجي منها وما قدر لها. فكل
شئ قد أخذ مكانه في سجل الوجود وكل كائن قد ساهم في إبداع لحن الخلود.
وليس في هذا الوجود على رأيه شرور وكيف يمكن أن يلحق الشر صنعة الخالق
المنزه عن العيوب. فما يخيل للانسان أنه شر لا شر فيه بحسب حقيقته وإنما
يعرض له الشر من ظروفه وبيئته. فسبحان الخالق الذي شمل برحمته جميع
الكائنات وأفاض الجمال والحب على سائر الكائنات. فأي إيمان بالخالق أعمق
أو أجمل من إيمان ابن سينا به؟.
2 - وابن سينا في سبيل تحقيق أهداف الدين يخاطب الإنسان بلغة الإنسان
فيلفته في قوة إلى ما في حياة الفكر والفضيلة من سعادة وروعة منددا بحياة
الشهوة وما فيها من انحطاط وضعة ومتخذا من تجارب الإنسان نفسه دليله على
ذلك فيخاطبه بقوله: إنك إذا تأملت عويصا يهمك وعرضت عليك شهوة
وخيرت بين الطرفين استخففت بالشهوة إن كنت كريم النفس وكيف لا
تستخف بالشهوة و مكانك في سلم الوجود وسط بين عالم الظلمة وعالم النور
وحياة الشهوة تهبط بك إلى هذا الوجود الأدنى وحياة الفكر والفضيلة ترتفع بك
إلى المقام الأعلى فأي المقامين أجدر بك يا خليفة الخالق في الأرض؟ قد تظن أن
حياة الشهوة تجلب لك من اللذة مقدارا أكبر مما تجلبه حياة الفكر والفضيلة وهذا
وهم قاتل وسراب خداع فاللذة في حقيقتها هي إدراك كمال خيري للمدرك فإذا
كان الادراك أكمل والمدركات أكثر وأشمل كانت اللذة الناتجة عن ذلك بداهة
أعظم وأبهج. والجوهر العاقل أمعن في معنى الإدراك من الحواس. والمدركات
العقلية أعلى كيفا من المدركات الحسية بل وأكثر عددا. فكيف تعرض بعد ذلك
عن حياة الفكر والفضيلة مع أن هذه الحياة الفاضلة العقلية بمقتضى هذا المنطق
تحقق لك سعادة أوفر وأدوم. وليس ذلك فحسب فحياة الشهوة اشتهاء دائم.
والاشتهاء ألم لا يهدأ حتى يشبع. ووسيلة الشبع البدن والبدن يفنى بالموت وتبقى
النفس التي تعودت على هذا النوع من الشهوة فكيف تحصلها وقد انعدمت
وسيلتها من الأعضاء والآلات؟ وكيف لا تطلب الكمالات العقلية التي تستمد
وجودها من الجوهر العاقل فتسعد أبدا لبقاء مصدرها وهو النفس الخالدة. فأكثر
الناس شقاء في الآخرة - عند ابن سينا - هم الجهلة الفساق الذي نبهوا إلى
كمالاتهم من الحق والخير فأعرضوا وأشد الناس بهجة ونعيما هم العارفون
المتنزهون الذين جمعوا بين كمال العلم والعمل. فطوبى لهم يوم أن يفتح لهم
الحق صدره ويمد إليهم يده ويشملهم بالحب ويحوطهم بالرعاية ويسمح لهم
بالجوار. فأي منطق في الدعوة إلى الخير أقوى من منطق ابن سينا وأي إيمان
بالترابط بين نوع الحياة في الدنيا ونوعه في الآخرة أقوى من هذا الإيمان؟.
3 بقيت بعد ذلك الدعامة الثالثة للأديان وهي النبوة والإيمان بالمعجزة
وابن سينا في هذه المسالة بالذات استطاع أن يمنح الإسلام وغيره من الأديان ما
يجعلها مقبولة لدى العقلاء والمفكرين. فهو يتساءل في وجه المنكرين لإمكانية
الاتصال بعالم السماوات والاطلاع على المغيبات قائلا ما الذي يمنعكم من
التصديق بامكان ذلك مع أنه واقع فليس أحد من الناس إلا وقد جرب ذلك في
نفسه تجارب ألهمته التصديق فكم من مرة يرى الإنسان في نومه ما سيكون منه أو
ما سيكون له. وإذا كان لنا ونحن أناس عاديون أن ننتقش بهذه المعلومات
ونحن في حالة النوم فما الذي يمنع النفوس الصافية أن تنتقش بذلك في حال
اليقظة والنوم معا إذا كانت معرضة عن جانب الفناء إلى جانب البقاء؟. ويقول
لهؤلاء المتشككين في المعجزة: وهل كشفت الطبيعة عن جميع أسرارها؟ وإذا كان
في الكون ما يعجز الإنسان عن تفسيره أو تعليله فلماذا نتخذ من مخالفة المألوف
دليلا على عدم الوقوع والاستحالة. أليس يمسك المريض عن الطعام زمنا لو
أمسكه السليم لهلك، أوليس يستطيع الإنسان في حالة الغضب وسورة الانفعال
أن يأتي بالغريب من الأفعال وإذا كان التفاوت بين الحالين والأثرين - أعني حالة
الغضب وحالة الهدوء - واقعا ملموسا فما الذي يمنع العقل من التصديق بأن
النبي يستطيع أن يأتي من الأعمال ما يعتبر معجزة حقا في حال اشتغاله بالملأ
الأعلى وفرحه برؤية الحق أو عند إحساسه بعزة دينية أو حمية إلهية؟ ولم يكتف ابن
سينا بذلك بل أضفى على الأنبياء أسمى صفات بشرية وحدد لهم من
الخصائص ما لا يعرفه حماة العقيدة أنفسهم. فالنبي في نظره يتمتع بقوة محركة
تستطيع أن تخرق العادة وتفعل المعجزة وله إلى جانب ذلك قوة قدسية بها يدرك
الحق حدسا من غير أعمال فكر ولا روية كما يفعل الفلاسفة. وله أيضا مخيلة
قوية تصله بعالم السماء في أي وقت يشاء. فهو أرقى من الفيلسوف إدراكا
ووسيلة. ومع ذلك فهو أرقى منه مهمة ووظيفة. لأنه يدرك الحق ويعلمه.
ويعصم نفسه من الرذيلة ويجاهد في سبيل عصمة غيره. ومع ذلك فالثابت من
تاريخ الرجل أنه رغم أعبائه وفوق أعبائه كان يقوم بواجباته الدينية وأنه قبض
إلى ربه والمصحف بين يديه.
فلم يكن ابن سينا ملحدا يرمي إلى هدم الدين كما يرى ابن تيمية. ولم
يكن شيطانا يسعى لإفساد عقائد الناس كما يرى ابن الصلاح. ولم يكن إنسانا
يستحق اللعنة والمقت والكراهية كما يرى الرازي وغيره من حماة العقيدة ورجال
الشريعة رغم انتفاعه بمنطقه وفلسفته ولكنه كان إنسانا يخطئ ويصيب وهدفه

31
دائما هو الوصول إلى الحق والمعرفة وإن أخطأ بعض الأحيان في النتيجة.
فقد أنكر ابن سينا اقتران علم الله بالزمان لأنه يحتاج في رأيه إلى آلة جسمية
فلجا إلى القول بأنه يعلم الجزئيات على وجه كلي غير مقترن بالزمان لينزهه عن
ذلك. وإذا فالهدف هو تنزيه الخالق واحترام العقيدة. وابن سينا يوم أن قال
بقدم العالم لم يهدف إلى أكثر من تنزيه الله عن التغير والاستحالة التي تلحق
الأشياء الحادثة وإذا فتنزيه الخالق واحترام الدين القائل بالخلق هي البواعث
التي أملت عليه هذا الرأي ولا يوجد في العالم ما هو أنبل من هذه البواعث. أما
مشكلة البعث والأبدية فقد كان ابن سينا في ذلك الوقت ضحية لمقررات العلم
في أيامه فقد رأى العلم - وكم يخطئ - أن التغير مستحيل على عالم السماوات
وإذا فلامكان لتفسير مثل قوله تعالى {يوم تبدل الأرض غير الأرض
والسماوات} تفسيرا حقيقيا وإذا فليبق النص رمزا ولتؤول النصوص الأخرى
الواردة في ذلك فابن سينا يوم أن قال بالرمزية كان يحترم العقل والعلم ويفسح
مع ذلك مكانا للدين في نفسه.
إن مقررات العلم اليوم في صالح الأديان وإن المكتشفات الحديثة تجعل
نهاية هذا العالم ممكنة بل متوقعة وإذا فلم يكن هناك علم صحيح ليقتضي تأويل
النصوص ورمزيتها وحبذا لو شك ابن سينا في معارف زمنه الكونية فإنه كان
بذلك يسير بالإنسانية ما يزيد عن عشرة قرون إلى الإمام وربما كان قد احتل
مكانه بين بناة النهضة العلمية الحديثة. ولكن حسبه أنه قد بذل جهده وكان
نبيلا في مقصده ولذلك كله يشارك الأزهر في عيده الألفي اعترافا بفضله فيما
أصاب فيه وتقديرا لبواعثه فيما أخطاه التوفيق في تقريره والعصمة لله وحده والله
ولي السداد.
وقال الشيخ محمد رضا الشبيبي بعنوان:
جوانب متعددة من ابن سينا
كتاب المباحثات مجموعة أسئلة وأجوبة ورسائل متبادلة بين ابن سينا وبعض
أصحابه تختلف نسخها وترتيب موادها وطريقة تأليفها بحيث لا يعلم على
التحقيق من جمعها ولا من أطلق اسم المباحثات عليها وقد نظم تلميذه
الجوزجاني فهرسا معروفا لكتبه عد بينها كتاب المباحثات.
وردت في الكتاب أسماء جماعة من أصحاب الشيخ منها " بهمنيار " وهو يكثر
من توجيه الأسئلة ويعني الشيخ بالإجابة عن أسئلته وليس لنا دليل قاطع على
تعيين من عني بجمع الكتاب من بين هؤلاء وإن اشتهر أنه بهمنيار وإذا لاحظنا
كثرة التفاوت والفروق البعيدة بين نسخ المباحثات جاز لنا أن نقول: إن جماعة
من أصحابه وفي مقدمتهم بهمنيار عنوا بجمع رسائله وأجوبته المدونة في الكتاب
كل على طريقته ووسائله الخاصة ولهذه الناحية اختلفت النسخ والأصول حتى لا
نجد أحيانا شبها ما بين نسخة وأخرى والظاهر أن هذا الكتاب مؤلف من
مجموع ما وجد متفرقا في آثار بهمنيار وأستاذه من جزازات ومن أجوبة الشيخ عن
رسائله إليه وبعضها بخط الشيخ وبعضها بخط بعض تلاميذه ووراقيه وفي
المباحثات فوائد عن باقي كتب الشيخ مثل الإشارات والشفاء والإنصاف
والفلسفة المشرقية وقد رد أبو علي في بعض أجوبته هذه على بعض معاصريه ممن
كان يناقش فلسفته ولكنه تناولهم بلهجة جافة ما كنا نتوقع صدورها منه وفي
الكتاب أيضا نبذ يستفاد منها شئ لم يعرف من قبل عن أحوال الشيخ الرئيس.
مدار البحث في الأسئلة والأجوبة الواردة كلام طريف في أقسام الحكمة
والفصل بين العملية منها والنظرية في المباحثات على مسائل من الفلسفة الإلهية
والطبيعية وفي البحوث النفسية منها فوائد طريفة عن الفرق بين نفسي الإنسان
والحيوان الأعجم وبين شعوره وشعور الحيوان. ويستفاد من دراسة المباحثات
- فيما نرى - فوائد جمة أهمها الأمور الآتية:
1 - دلالة بعض نصوص الكتاب على ناحية طريفة من سيرة ابن سينا وأخلاقه.
2 - كشف عن خطر الصراع بينه وبين فلاسفة عصره.
3 - أسلوب الشيخ في ترسله.
وقال يتابع كلامه بعنوان:
معركة ابن سينا
لا نهاية لمعركة ابن سينا التي بدأت في عصره فهي مستمرة إلى الآن وما زال
المعنيون بالفلسفة فريقين في موقفهم منه فريق له وفريق عليه ولا عجب فان
عصره عصر احتدام الآراء ومصادمة الأفكار طورا بين أشياع الفلسفة وخصومها
وتارة بين أصحاب المذاهب الفلسفية أنفسهم من قدماء ومحدثين طبيعيين
وإلهيين.
في هذا العصر نبه ذكر الشيخ وشدت الرحال إليه لأخذ الفلسفة وفنون
الطب والحكمة وكثر عدد تلامذته وكان الصراع في عصره كما هو اليوم وكما هو
بعد اليوم قائما بين معاني الحياة في ناحية الروح والمادة والشك واليقين واليأس
والرجاء والحق والباطل أو دائرا على البحث في طبيعة النفس والوجود وحقائق
الموجودات وغير ذلك عن مطالب الفلسفة وقد أبلى الشيخ بلاءه في هذا الصراع
دفاعا عن نفسه وعن آرائه ومعتقداته وبذل جهده في الرد على مخالفيه وتفنيد آراء
المشنعين عليه.
وفي هذه الفترة تعددت الفرق والأحزاب المعنية بالفلسفة وتميزت منها
فرقتان الأولى أشياع الفلسفة القديمة أو الفلسفة المادية كما يقال لها أحيانا والثانية
الفرقة المشائية أشياع أرسطو وهي فرقة مشهورة معقودة اللواء في هذا العصر
لابن سينا ومركزها في أصفهان وغيرها من حواضر الدولة السامانية. أما الفرقة
الأخرى فلا يعرف لها رئيس في هذا العصر على أن أشهر مراكزها بغداد وبعدها
البصرة، والغالب أن جل المعنيين بالفلسفة من العراقيين والبغداديين لم يكونوا
من أشياع المشائين ومن هذه الناحية شجر ما شجر من الخلاف بين الفرقتين
وعنيت كل فرقة بالرد على الثانية مراسلة وكتابة كما يشهد بذلك كتاب
المباحثات.
لا ينكر نشاط البغداديين المعنيين بالفلسفة في هذا العصر في الكتابة
والتأليف ومناقشة آراء ابن سينا ولا ينكر وجود حركة عقلية قوية في عاصمة بني
العباس مستقلة عن مدرسة الشيخ الرئيس في أصفهان وخوارزم والري متجهة
غير وجهته منتحية نحو معارضته في كثير من الأحيان ولما تفاقم خبرها لدى
الشيخ وتلامذته عنوا بجلب تصانيف البغداديين إلى أصفهان على مغالاة أصحاب
هذه الكتب بالسوم ولكن أصحاب ابن سينا لم يضنوا بالمال مهما بلغ في هذا
السبيل حتى أسهم في ذلك بعض الأذكياء من أبناء الأمراء. كل ذلك بغية
الاطلاع عليها والوقوف على مدى تباين وجهات النظر ومناقشة آراء البغداديين
من هذه الناحية. هذا مع أن الشيخ كان بحاجة إلى الاستجمام في هذه الآونة

32
بعد هزيمة أصفهان التي اجتاحت كتبه على باب المدينة المذكورة.
ويعد كتاب المباحثات على إيجازه المخل أحيانا وعلى ما فيه من تعقيد بمثابة
سجل لهذه الأحداث والأبحاث. ونحن ننقل بعض ما جاء في هذا الباب منه
بشئ من التصرف وحذف ما لا حاجة به من العبارات قال بهمنيار " كان قد
اتفق من الدواعي عام طروق ركاب السلطان الماضي رحمة الله عليه هذه البلاد
ما بعثه على الاشتغال بكتاب سماه " الإنصاف اشتمل على جميع كتب
أرسطاطاليس إنما خفف على نفسه ما يحتاج أن ينقل فترك له فرجا وعلامات
وكان عدد ما تكلم فيه وجعله موضع نظر ونسب الكلام المقدم فيه إلى ظلم أو
تقصير أو تحريف فوق سبعة وعشرين ألف موضع وقبل أن ينقل ذلك إلى المبيضة
وقع عليه قطع في هزيمة ألمت بأسبابه وكتبه كلها على باب أصفهان فلما عاد إلى
الري بهر لمعاودة ذلك التصنيف ففر فان معاودة المفروع منه متثقلة فلم يترك
يحرض ويبعث وقيل له لعلك إن استدعيت ما أحدثه المحدثون بمدينة السلام
كانت الخواطر الجديدة تحرك منك نشاطا للحكم عليها بالتصويب أو بالتخطئة
وانبرى بعض أولاد الأمراء من أهل الفضل قائلا أنه يستقبح من ماله إلى مدينة
السلام لاستدعاء ما وجد للشيخين بها فامتعض وكره أن يقف موقف البخلاء
ورسم لبعض أصدقائه أن يبتاع ما تجدد من كتب الشيخين فلم يظفر إلا بكتب
الشيخ الباقي منها فلما تأملناها رأينا شيئا لا عهد لأهل التحصيل به تشويشا
واختلاطا فطال لسانه على ممرضيه وقال ألم أقل لكم أن الطبقة هذه الطبقة وأن
التصرف هذا التصرف وأن أبا الخير ابن الخمار وابن السمح على ضيق مجالسهما
برواية بعض الكتب كانا أحسن حالا من غيرهما والشأن في إعظام القوم للطلبة
ومقالاتهم في العين كأنهم يهذون ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وقد كان بلغني
أن ذلك الشيخ يعني " أبا الفرج ابن الطيب " قد خولط وقتا ما في عقله للأمراض
التي تصيب أهل الفكر ولعل هذا من تصنيفه ذلك الوقت وبقينا نعجب ممن
يقنع بهذا القدر اليسير ثم لهذا النمط المختل من البيان. ولعمري لقد أراح
هؤلاء أنفسهم. ورفضوا المنطق مطلقا. وليس هو هذا اليوم بل منذ زمان وأما
من جهة صورتها فهؤلاء خاصة أغفلوها وكلما عالجوها حادوا عن الجادة لأنهم لم
يحصلوا ملكة التصرف ولم يقاسوا فمن الجزئيات عناء التحليل وأنا أسال الشيخ
أن يعرض هذه الصورة على أهل التحصيل ليعلموا أنه لم يكن في أول الأمر إلى
ثلب الكتب فاقه تحمل ذلك الاشتطاط ولا في الأمر لها بعد ذلك اقترار عين ثم
قال: وسبيل هذه الكتب أن ترد على بائعها ويترك عليه أثمانها ".
وبعد أن أشار بهمنيار إلى موضوعات هذه الكتب من منطقية وفلسفية عاد
إلى نقدها والتنديد بها قائلا " فمن عرض عليه من أهل العراق هذه الأحرف
واشتبه عليه الحال في صدق جماعتنا فليعين على أي موضع يشاء من المعاني التي
تشتمل عليه هذه الكتب لا سيما الطبيعية والإلهية حتى يكتب بعض ما فيه من
الفساد والخروج عن النظام والهذيان.
فلذا حمي وطيس المعركة في عصر ابن سينا وبعد ذلك العصر بين أنصاره و
خصومه فكلما تصدى للرد على الشيخ أو التشنيع عليه أحد الخصوم نهض
أنصاره للدفاع عنه فهذا ابن رشد صنف في الرد على أبي حامد الغزالي لرده على
ابن سينا وغيره من الفلاسفة وإن لم يتفق ابن رشد مع الشيخ كل الاتفاق في
تحرير الفلسفة القديمة وهذا نصير الدين الطوسي أشرع قلمه للذب عن ابن سينا
رادا على الشهرستاني في كتابه " مصارعة الفلاسفة " وعلى فخر الدين الرازي في
" المحصل " و " شرح الإشارات " وانبرى للذب عنه من الفلاسفة المتأخرين " ابن
كمونة " فإنه لخص كتابا في نقض الإشارات لنجم الدين النخشواني فقال إن
أكثر هذه الاعتراضات غير واردة. هذا ولصدر الدين الشيرازي مواقفه في الرد
على الرازي فخر الدين. وإياه أراد الشيرازي بقوله في تعليقاته على إلهيات
الشفاء: " كان هذا المرء المعروف بالذكاء سريع المبادرة في الاعتراض على الشيخ
قبل الإمعان والتفتيش لعجلة طبعه وطيشه ".
خصوم الشيخ:
هناك ثلاث طبقات ناهضت فلاسفة الاسلام وشددت النكير عليهم منذ
عصر ابن سينا حتى اليوم.
1 - قوم خرجوا عن حدود الاعتدال في المناقشة إلى المهاترة والإسفاف
شعارهم الغيرة على الفضيلة ولا شان لنا بهؤلاء إذ كفانا أبو حامد الغزالي مؤونة
الدخول في المناقشة معهم فقال " إنهم لمكان جمودهم وعجزهم أشد نكاية
بالإسلام من الفلاسفة والغزالي - كما لا يخفى أغزر المعنيين بالرد على الفلاسفة
مادة أبعدهم أثرا في هذه الناحية.
من هذا القبيل ما جاء في المختصر المسمى: " إخبار العلماء بأخبار الحكماء "
للقفطي، في هذا المختصر من إسفاف وبذاءة في التحامل على الفارابي وابن سينا
لا يصدق وروده في كتاب يعنى مؤلفه بتاريخ الحكماء، ومن المفيد أن نقول في
هذا الصدد: إن هذا المختصر كتاب ملفق مبتور وأن جامعه جانب الأمانة في
النقل فهو يسطو على الكتب وعلى أقوال المؤلفين ويوردها في كتابه بدون أن يشير
إلى ذلك كما فعل بكتاب " طبقات الأمم " لصاعد الأندلسي وغيره أيضا،
والخلاصة: إذا محصنا هذا المختصر بمنظار النقد العلمي لم نجده في الكتب
الجديرة بالثقة بل نجد جامعه مجردا من مميزات العلماء.
2 - ومن المنحرفين عن ابن سينا طبقة من أرباب القلوب والأمزجة
الصوفية والشعرية الذين أضناهم السير في طلب الحقيقة ولم يزدهم النظر في
تصانيف الفلاسفة إلا بعدا عنها ومن ثم وبعد محن وتجارب صوفية قاسية أوسعوا
الكتب الفلسفية ذما فيما لهم من منظوم ومنثور نظير ما قاله علاء الدين علي بن
الحسن بن الحسن الجوادي الكاتب حسبما رواه ابن الفوطي في تاريخه المسمى
" تلخيص مجمع الآداب ":
تصفحت " الشفاء " على كمال وطالعت " النجاة " على تمام
فلم أر في " النجاة سوى هلاك * ولم أر في " الشفاء " سوى سقام
وهذا أبو سعيد ابن أبي الخير من الشيوخ العارفين يقول بعد انقطاع
الصحبة بينه وبين الشيخ الرئيس وما انقطعت تلك الصحبة إلا بعد محنة صوفية
وأزمة نفسية عنيفة:
قطعنا المودة عن معشر * بهم مرض من كتاب " الشفا "
فماتوا على ما يرى رسطليس * وعشنا على ملة المصطفى
يعد ابن أبي الخير هذا من ألصق أصحاب ابن سينا به وأكثرهم أخذا عنه
ورسائل الشيخ إليه تدل على إكبار بالغ وهو يلقبه " سلطان العارفين وخاتمة
المشايخ " ويلقبونه أيضا " قطب الأولياء " على أن أبا الخير نفسه كما يبدو من بعض
رسائله كان يرى في الشيخ مرشدا أو مرجعا في حل المشكلات إلى أن شجر بينهما
نوع من الخلاف في المنحى والطريقة فابن سينا يستوحي عقله في البحث عن

33
حقائق الأشياء وابن أبي الخير يستوحي قلبه وشعوره الفياض وهو خلاف
معروف بين أصحاب الحكمتين البحثية والذوقية.
تحفل خزائن الكتب برسائل نادرة متبادلة بين الشيخ أبي سعيد ابن أبي الخير
وابن سينا في أحوال النفس والزهد والعزلة إلى أسئلة أخرى لا تخلو من
شطحات المتصوفة وقد اشتهرت وصية أوصى بها الشيخ صاحبه المذكور وهي
التي يقول في آخرها " خير العمل ما صدر عن حسن نية وخير النيات ما ينفرج
عن جناب علم والحكمة أم الفضائل بمعرفة الله أول الأوائل إليه يصعد الكلم
الطيب والعمل الصالح يرفعه ".
من هذه الوصية نسخ عدة مخطوطة ولكنها كثيرة التفاوت والاختلاف وفي
الجزء الثاني من أجزاء رسائل ابن سينا التي نشرت أخيرا في السنة الماضية في
الآستانة نص كامل من هذه الوصية وقد أورد ابن أبي أصيبعة جزا منها في عيون
الأنباء ونشرت رسالة ابن أبي الخير وقسم من الوصية في أول الطبعة المصرية من
كتاب " النجاة " هذا إلى أصول أخرى تختلف كل الاختلاف فهي لذلك جديرة
بالمقارنة والتحقيق ويحسن أن يتناول تحقيق هذه الوصية تنافر الأساليب في بعض
فقراتها فان بعضها بأساليب المتصوفة المتأخرين أشبه من أساليب الشيخ الرئيس
فليلاحظ ذلك.
هؤلاء وأمثالهم نفر من الصوفية والشعراء زجت بهم الأقدار في خضم الحياة
فهم يتطلعون إلى ساحل الأمان من خلال كتب الفلسفة فلما خابت أمانيهم ولما
طال عليهم التسكع في مجاهل القلق والحيرة هجروا الفلسفة وكتبها وأنحو
باللائمة عليها وليس الذنب ذنب تلك الكتب في الحقيقة.
هذا ويلاحظ أن بين أرباب القلوب والأحوال من المتصوفة والشعراء طبقة
أخرى نظرت نظرة الرضا إلى أسلوب ابن سينا في قصصه الرمزية الفلسفية مثل
قصة " حي بن يقظان " و " رسالة الطير " و " سلامان وآبسال " وفي " حي بن
يقظان " يقول ابن الهبارية الشاعر العباسي المشهور المتوفى سنة 504 بكرمان:
حي بن يقظان ما حي بن يقظانا
سبحان موجد ذاك الشيخ سبحانا
شيخ من الولد القدسي منشؤ
سرى إلينا وحيانا فأحيانا
عني فريق من المتصوفة والأدباء بشرح قصة حي بن يقظان كما عني بنظمها
شعراء آخرون ومنهم ابن الهبارية على ما تشير إليه فهارس بعض المكتبات ولا
شك أن ابن الهبارية جود نظمه لحي بن يقظان كما فعل في نظم كليلة ودمنة في
ديوان سماه نتائج الفطنة وكما فعل في الصادح والباغم الذي نظمه على هذا
الأسلوب هذا مع العلم بأن منظومته المذكورة لم تصل إلى أيدي الباحثين ولا
يخفى أن ابن الهبارية نشا في العصر الثاني لعصر ابن سينا متأثرا بارائه معنيا بنظم
كتب الحكم والأمثال وصلت إلينا قصة حي بن يقظان منظومة نظما شائقا في أكثر
من أربعمائة بيت من إنشاء هبة الله بن عبد الواحد أحد شعراء القرن السادس
والنسخة التي وصلت إلينا من هذه المنظومة منقولة عن خط الشيخ عبد الرحمن
العتائقي من أعلام العراق في منتصف القرن الثامن وله عليها تعليقات لطيفة
وفي أولها يقول الناظم المذكور:
تيسرت لي من بلادي برزه * صحبت فيها سادة أعزه
فسرت يومين عن المدينة * في رفقة رفيقة أمينه
فانست عيناي في البيداء * شيخا بهي العقل و الرواء
قد مرت السنون والأعوام * عليه وهو حدث غلام
3 - الطبقة الثالثة معاصرو الشيخ المعنيون بالفلسفة القديمة ووضع الكتب
فيها وجلهم من أهل بغداد وبعضهم من المسيحيين السريان وهو يسميهم في
بعض رسائله " نصارى مدينة السلام " ولم تظهر من الشيخ عناية بما يكتبه هؤلاء
البغداديون إلا بعد محنته على باب أصفهان حيث أراد أصحابه التسرية عنه
واستئناف نشاطه في البحث فجلبوا له مؤلفات البغداديين لدرسها والنظر في
وجوه الخلاف بينهم وبينه في تحرير الفلسفة كما أشرنا إلى ذلك قريبا ومن مشايخ
هؤلاء الفلاسفة البغداديين الذين ورد ذكرهم في المراسلات الدائرة بين الشيخ
وأصحابه أبو الخير الحسن ابن سوار المعروف بابن الخمار شيخ من شيوخ هؤلاء
البغداديين في الطب والفلسفة أقام مدة في مملكة بني سامان روى عنه ابن النديم
في فهرسته فهو معاصر له ولابن الخمار على ما جاء في الفهرست وغيره كتب في
الرد على أرسطو فهو من طبقة مشايخ ابن سينا بيد أن تلامذته من المعاصرين
للشيخ عنوا بالرد على ابن سينا ودخلوا في النقاش معه ونقدوا آراءه في الطب
وفي الفلسفتين الطبيعية والإلهية إذ أن لابن الخمار تلامذة نجباء في الفلسفة ذاع
ذكرهم واشتهرت مؤلفاتهم منهم أبو الفرج ابن هندو وأبو الفرج عبد الله ابن
الطيب والأخير من المعروفين بمناقشته لابن سينا ومنافسة ابن سينا له في الطب
والمنطق ومن فلاسفة بغداد في هذه الفترة مسكويه صاحب " تهذيب الأخلاق "
وابن السمح البغدادي له تصانيف مشهورة وغيرهم ممن اشتهروا بالانحراف
عن طريقة المشائين.
غمز ابن سينا في المراسلات التي دارت بينه وبين أصحابه وفي الأقوال
المروية عنه في كتاب المباحثات أكثر هؤلاء الخصوم البغداديين المعاصرين له
وطعن في مآخذهم للفلسفة وسوء فهمهم للعلم الإلهي خاصة - على ما يقول -
بل تهكم عليهم وسخر منهم سخرية لاذعة أحيانا بيد أنه كان متحفظا في الكلام
عن ابن الخمار وابن السمح وفي ذلك ما فيه من الدلالة على منزلتهما العلمية
والمرجح أن ابن سينا لم يبدأهم بهذا الضرب من الطعن والغمز وإنما كان يدافع
عن نفسه وعن طريقته وعن مذهبه وآرائه التي نوقشت مناقشة شديدة لا تخلو من
التشنيع والتشهير في كثير من الأحيان فكلما ظهر له كتاب ظهرت على أثره كتب
تعارضه وتتحداه.
ولا تخلو كتب ابن سينا من التشهير بهذا النمط من الفلاسفة المعاصرين له
وتنقصهم والتشنيع عليهم ونسبتهم إلى التمويه والمغالطة ولنعتبر قوله في آخر
منطق الشفاء وهذا نصه: ولقد رأينا وشاهدنا في زماننا قوما كانوا يتظاهرون
بالحكمة ويقولون بها ويدعون الناس إليها ودرجتهم فيها سافلة فلما ظهر للناس
أنهم مقصرون أنكروا أن يكون للحكمة حقيقة وللفلسفة فائدة. وكثير منهم لما لم
يمكنه أن يدعي بطلان الفلسفة من الأصل قصد المشائين بالثلب. وصناعة
المنطق والبانين عليها بالعيب فأوهم أن الفلسفة أفلاطونية وأن الحكمة سقراطية
وأن الدراية ليست إلا عند القدماء من الأوائل. والفيثاغوريين من الفلاسفة،
وكثير منهم قال إن الفلسفة وإن كانت حقيقية فلا جدوى في تعلمها. وأن
النفس الإنسانية كالبهيمة باطلة ولا جدوى للحكمة في العاجلة. وأما الآجلة
فلا أجلة ومن أحب أن يعتقد أنه حكيم وسقطت قوته عن إدراك الحكمة أو

34
عاقه الكسل والدعة عنها لم يجد من اعتناق صناعة المغالط محيصا ومن هذا بحث
عن المغالطة هذا ما قاله الشيخ في آخر كتاب المنطق من الشفاء ولهذا السبب
صار البحث عن فن المغالطة جزءا من أجزاء المنطق الثانية..
وكتب ابن سينا لا تني من جهة إشادة بأرسطو وكتبه وتنويها بالمشائين
وآرائهم في المنطق والفلسفة حتى إذا ذكرهم في الشفاء وغيره قال أصحابنا
" المشاؤون " ولا تخلو كتب الشيخ من جهة أخرى عن غمز أفلاطون وسقراط
وأشياع الفلسفة القديمة أو الاشراقية وهو يميل فيها إلى تنزيه أرسطو عن النقص
والخطأ في صناعة المنطق ولذلك يقول في آخر منطق الشفاء " أنظروا معاشر
المتعلمين هلى أتى بعده أحد زاد عليه أو أظهر فيه قصورا مع طول المدة وبعد
العهد بل كان ما ذكره هو التام الكامل والميزان الصحيح والحق الصريح " ولم
يحجم بعد ذلك عن غمز أفلاطون وسقراط فقال " وأما أفلاطون الإلهي فإن
كانت بضاعته من الحكمة ما وصل إلينا من كتبه وكلامه فلقد كانت بضاعته في
العلم مزجاة " وناقش مذهبه في المثل الأفلاطونية فقال في بحثه عن المثل المذكورة
" كان المعروف بإفلاطون ومعلمه سقراط يفرطان في هذا القول " وفي قوله
المعروف بإفلاطون ما فيه من غميزة أما كتب الفرقة الأخرى فإنها حافلة كذلك
بمناقشة المشائين والرد عليهم.
ترسل الشيخ في المباحثات:
ويلاحظ أن أسلوب الشيخ في رسائله المدرجة في المباحثات أسلوب أدبي
بليغ يضاهي أساليب بلغاء المترسلين في عصره وما إليه وهم كثيرون ولهم في
النثر أساليب خاصة معروفة. وتبدو لنا الفروق بعيدة إذا قارنا بين أسلوب
الشيخ في رسائله الإخوانية في المباحثات وغيرها وأساليبه الأخرى المألوفة في
أسفاره الفلسفية الكبرى حيث يغلب عليها جفاف الأساليب العلمية البحتة.
ويبدو لنا الشيخ أيضا رقيق الحاشية جم الأدب في مخاطبة أصحابه وتشهد هذه
المراسلات شهادة قاطعة بوجود رابطة أكيدة وصلات وثيقة وإخلاص متناه بين
الجانبين. هذا وقد اضطر الشيخ خلال مناقشة معارضيه إلى استخدام بعض
العبارات الجافية التي لا تليق بأمثاله ويلاحظ أنه كان مع هذا سديد المنطق قوي
الحجة ولذلك أسباب تقدمت إليها الإشارة.
كانت للأدب دولة راقية في عصر السامانيين كما تشهد بذلك مؤلفات
الثعالبي وفي مقدمتها يتيمة الدهر وذيولها في هذا العصر حيث كثر عدد الشعراء
و المترسلين والأدباء النابهين في خوارزم والري وأصفهان ونيسابور وما وراء النهر
وكثير منهم من معاصري ابن سينا بيد أننا لم نجد للشيخ ذكرا في تلك الدواوين
والأسفار الأدبية وهو أمر يدل على أن صلة الشيخ برجال الأدب لم تكن وثيقة
وقلما اتصل به غير رجال الفكر والفلسفة. عني مؤرخو ابن سينا بشتى نواحي
حياته ويلاحظ أنهم أغفلوا من بين ذلك ناحية لها خطرها في تاريخ الناس وهي
ناحية الخلف والذرية فلم يذكر لابن سينا ولد أو نسل كأنما وجد بكتبه وأسفاره
وبنات أفكاره بديلا عن ذلك ولم يخرج ابن سينا في هذا الشأن عن كثير من
الأعاظم الذين لا يعرف لهم نسل ولا تذكر لهم ذرية ترسم خطاهم وتنسج على
منوالهم سنة الله في بعض خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا وهذه ناحية تستحق
التوسع في البحث والدراسة.
وقال الأستاذ قدري طوقان:
أثر ابن سينا في الغرب
لقد سحرت عبقرية ابن سينا المستشرقين والعلماء في الشرق والغرب على
السواء فلقبه بعضهم بأرسطو الإسلام وابقراطه، وجعله (دانتي) بين أبقراط
وجالينوس. وقال (دي بور) "... وكان ابن سينا أسبق كتاب المختصرات
الجامعة في العالم... " ويرى فيه مثلا للرجل الواسع الاطلاع والمترجم الصادق
عن روح عصره. وإلى هذا يرجع تأثيره العظيم وشأنه في التاريخ. كما كان يرى
(مونك) في ابن سينا أنه من أهل العبقرية الفذة ومن الكتاب المنتجين. أما
(اوبرفيك - Ueberweg) فيقول أن ابن سينا اشتهر في العصور الوسطى وتردد
اسمه على كل شفة ولسان " ولقد كانت قيمته قيمة مفكر ملأ عصره. وكان من
أكابر عظماء الإنسانية على الاطلاق.. ".
ولقد أجمع علماء الشرق والغرب على تقدير ابن سينا وتمجيده، واستقوا من
رشح عبقريته وفيض نتاجه فكان من الذين ساهموا مساهمة فعالة في تقدم العلوم
الطبيعية والفلسفية والنفسية.
وقد ظلت الفلسفة الأرسطية المصطبغة بمذهب الأفلاطونية الحديثة معروفة
عند الشرقيين في الصورة التي عرضها فيها ابن سينا. وكثيرا ما اعتمد (باكون
Bacon) في توضيح آراء أرسطو على ابن سينا.
وبقيت كتب ابن سينا في الفلسفة والطب تدرس في الجامعات في أوروبا إلى
القرن السابع عشر للميلاد. ويقول (دى پور) " وكان تأثير ابن سينا في الفلسفة
المسيحية في العصور الوسطى عظيم الشأن. واعتبر في المقام كأرسطو... ".
وتأثر به إسكندر الهالي الإنكليزي وتوماس اليوركي الإنكليزي أيضا. وتأثر
بابن سينا كذلك كبار فلاسفة العصور الوسطى أمثال البرت الكبير والقديس
توما الأكويني، فقد قلدوه في التاليف وتبنوا بعض نظرياته وآرائه. وقال سارطون
" إن فكر ابن سينا يمثل قمة الفلسفة في القرون الوسطى ".
ومما يدل على ميله إلى التجدد والتحرر قوله "... حسبنا ما كتب من شروح
لمذاهب القدماء. وقد آن لنا أن نضع فلسفة خاصة بنا... ".
السيد حسين القزويني الحائري ابن السيد محمد باقر
ولد سنة 1288 في كربلا وتوفي فيها سنة 1367.
وآل القزويني الذين ينتمي إليهم هم غير الأسرة القزوينية الشهيرة التي
استوطنت النجف والحلة وطويريج وغيرها من مدن الفرات الأوسط.
هاجر الجد الثاني للمترجم السيد باقر من مدينة كرمنشاه - بعد أن كان
انتقل إليها من قزوين - إلى النجف سنة 1185 لطلب العلم ثم استقر فيها،
ثم انتقل مع ولديه إبراهيم ومهدي إلى كربلا واستوطنوها.
بدأ المترجم دراسته في كربلا على أبيه وغيره ثم ذهب إلى النجف فدرس
على الشيخ محمد كاظم الخراساني والشيخ آقا ضياء الدين العراقي والسيد أحمد
القزويني والسيد أبو الحسن الأصفهاني والشيخ حسين النائيني والشيخ محمد تقي
الشيرازي.
وكان من المعاونين للأخير تدبير أمور الثورة العراقية ومن أعضاء المجلس

35
العلمي المشرف على الثورة، كما كانت داره ملتقى لزعمائها.
وبعد القضاء على الثورة اعتقل مع من اعتقلوا من قادتها وحكم عليهم
المجلس العرفي الانكليزي احكاما مختلفة بالأعدام والسجن لمدد طويلة، ثم
نقلوا جميعا إلى مدينتي الحلة وطويريج وظلوا في السجن أكثر من ستة أشهر.
وفي 22 رمضان سنة 1339 أعلن المندوب السامي البريطاني بعد عودته من
مؤتمر القاهرة العفو العام عن المشتركين في الثورة، فعاد المترجم إلى كربلا.
ترك من المؤلفات: 1 - المدينة الفاضلة في الإسلام جزءان مطبوعان 2 -
الأجوبة الحائرية على الأسئلة البغدادية 3 - كتاب في تاريخ الاسلام وغير ذلك.
الشيخ حسين معتوق
توفي سنة 1401 في مطالع الشيخوخة.
درس دراسته الأولى في جبل عامل ثم أتمها في النجف الأشرف وعاد إلى
لبنان فسكن في (الغبيري) من ضواحي بيروت وبنى فيها مسجدا كان يقيم فيه
الجمعة والجماعة ويعظ الناس ويرشدهم، وكان وكيلا لأحد مراجع النجف.
له كتاب المحاضرات الدينية وله شعر أيام كان طالبا في النجف.
منه:
(أمن العدل أنهم يوم بانوا ايقظوا جفني القريح وناموا)
روعوني وما رعوا لي ذماما * في نواهم وللمحب ذمام
تركوا مهجتي تذوب وقلبي * ملؤه لوعة بهم وغرام
لا عليهم فهم هنا بفؤادي * حيث كانوا ترحلوا أم أقاموا
وحد الحب بيننا فغدونا * روح حب تضمها أجسام
لا نبالي بما جنته الليالي * وأتت فيه بيننا الأيام
وإذا صح في النفوس وداد * فسواء ترحل ومقام
وإذا خالط الوداد رياء * فعلى الحب والوداد السلام
خسرت صفقة المحب إذا ما * لعبت في وفائه الأوهام
تارة يحكم الولاء وأخرى * تفصم الود في يديه سهام
يا احباي قد طوينا عتابا * ليس تسطيع نشره الأقلام
وكتمنا عن المسامع لوما * حذرا ان تذيعه اللوام
وحفظنا لكم حقوق إخاء * وكذا تحفظ الحقوق الكرام
ومنه:
هيهات أن يتسلى القلب بعدكم * والبعد يقدح أزناد الأسى فيه
إن مال للصبر عنكم لحظة بعثت * ذكراكم لوعة الأشواق توريه
خط الغرام لكم فيه سطور صفا * فأنتم حيث كنتم في محانيه
دروس حب قرأناها على صغر * والحب مرآته أفكار قاريه
إذا سرى نسيم من نحوكم صعدت * أنفاس أحشائنا الحرى تحييه
يحلو لنا ذكركم ما مر ذكركم * فألسن الحب لا تنفك ترويه
نظل فيكم حيارى لا يجف لنا * دمع ترقرقه الذكرى وتجريه
لولا تعللنا في قربكم زمنا * قضى علينا النوى ما بين أيديه
يا جيرة الحي هل بعد الفراق لقا * يفوز كل محب في أمانيه
نسيتم حين كان الحب يجمعنا * في جانب الحي من شرقي واديه
حيث الهزار يغنينا فيطربنا بين الأزاهير في أحلى أغانيه
وأكؤس الراح تجلى بيننا علنا * في كف أهيف يحكيها وتحكيه
ننظم الشعر في أسلاكه دررا * تجلو ظلام الأسى عنا دراريه
ما أبدع الشعر لو ألفاظه عذبت * وما أحيلاه لو رقت معانيه
يدق في القلب ناقوس السرور إذا * ما أتقنت صنعه أفكار منشيه
ما الشعر تسطير ألفاظ معقدة * ما أبعد الشعر عمن ليس يدريه
آليت ارسل أفكاري تنظمه * إلا إلى الوطن المحبوب أهديه
يا موطنا عاث فيه الجور فانبعثت * هذي الجفون بقاني الدمع تبكيه
جارت عليه الليالي في تصرفها * فأسلمته إلى أيدي أعاديه
أزهار روضاته مال الذبول بها * حزنا عليه كما جفت مجاريه
هل ينفح العدل فيه نفحة فعسى * تربو وتهتز بالبشرى مغانيه
يا أيها الوطن المحبوب نار أسى * عليك في القلب لا تنفك تذكيه
أبو نواس الحسن بن هاني
مرت ترجمته في الصفحة 331 من المجلد الخامس ونزيد عليها هنا ما يلي
مكتوبا بقلم الدكتور حسين مروة:
لا ندري: من أين اندست في تراث الأدب العربي هذه الدسيسة التي
شاءت، أو شاءها ناس، ان تذهب في تاريخنا الأدبي، فتصم كل ذي شأن
كبير من شخصيات هذا التاريخ المكتنز الخصيب بوصمة " الشعوبية "، لتضعه
في مكان يخرجه من مكانه الأصيل في تراثنا وتاريخنا معا، فإذا بنا كلما أوغلنا في
هذه الكنوز الأدبية أو الفكرية التي أورثتنا إياها عصورنا الذهبية، وجدنا
" الدسيسة " الخبيثة تنتقي جواهر متألقة من هذه الكنوز، ثم تفردها ناحية،
لتقول عنها، واحدة واحدة:
- كلا... هذه ليست جوهرة عربية... هذه دخيلة غريبة... هذه
" شعوبية "!...
من أراد هذه " الدسيسة " الخبيثة بتراثنا الأدبي والفكري؟...
هل أرادها ناس عرب مخلصون لقومهم ولتراثهم الثقافي، قصد ان يظهروه
عربيا خالصا نقيا من الشوائب، فجهلوا الوسيلة، وأساءوا إلى التراث بخدعة
من الخدع أخرجت من كنوزه تلك الجواهر الثمينة؟
أم أرادها ناس آخرون لم يكونوا مخلصين لثقافة العرب وحضارتهم،
فقصدوا إلى هذه الخدعة عن وعي وعمد، ليعطلوا جيد ثقافتنا وحضارتنا من
روائع البدع الفكرية والأدبية التي صنعها العقل العربي بأداة عربية خالصة،
هي اللغة وأسلوبها وعبقرية تعبيرها؟...
يغلب في ظني، وأكاد أقول في يقيني، ان الذي دس الدسيسة هذه، هو
إلى العدو أقرب منه إلى الصديق، وان المسألة في مصدرها التاريخي انما ترجع
إلى ناس أرادوها تحريفا لمفهوم الثقافة القومية، ليكون ذلك سبيلا إلى تحريف
تاريخنا الثقافي ذاته، وتشويهه، والانتقاص من قيمته، فإذا هم يفردون عددا
من اعلامه واحدا بعد واحد، ويفردون نتاج عبقرياتهم في معزل عن تراثنا
الأصيل، بزعم أنهم " شعوبيون "، حتى يقفوا بنا أمام هذا التراث وهو خلو
من بدائع الأدب والفكر التي أبدعها أولئك الأعلام في أزهى أيامه وأخصب
عهوده... ثم ما لبثت الدسيسة تسري متنقلة في كتب التاريخ والسير حتى
وصلت إلى أجيالنا المتأخرة وإلى جيلنا المعاصر بالذات، فإذا بنا نأخذها أخذ
المسلمات أو الحقائق الثابتة، دون مناقشة، أو محض شك!...
مثلا:
بشار بن برد... " شعوبي "!...

36
عبد الله بن المقفع... شعوبي!...
أبو نواس... " شعوبي "!...
ابن الرومي... " شعوبي "!...
بل... حتى أبو عثمان الجاحظ، وأبو الطيب المتنبي " شعوبيان "!... (1)
لما ذا؟...
كان يكفي أن يرجع النسب بأحد هؤلاء وأمثالهم إلى أصل فارسي، مثلا،
حتى يخرجوه بهذا الوصف من نطاق نسبه الفكري والثقافي والأدبي، أي نسبه
العربي الذي نماه فكرا وثقافة وأدبا ولغة وحياة يومية، هي حياة اللحم والدم،
حياة الذهن والقلب...
بل، كان يكفي ان يجهل المؤرخون حلقة واحدة من نسب كاتب أو شاعر
أو مفكر، أو أن يشكوا مجرد الشك، حتى يلحقوه بفصيلة " الشعوبية "!...
لقد كان أبو نواس " أعرق " هؤلاء الأعلام " شعوبية " في رأي مؤرخي
أدبنا العربي، وهو لا يزال هكذا في رأي الكثرة الغالبة من مثقفي جيلنا المعاصر
نفسه... فلننظر، اذن، في المستند الذي ركنوا إليه حين أطلقوا حكمهم ذاك
على أبي نواس، لنرى: هل يصح لمنطق العلم والتاريخ ان يركن إليه، حتى
نتبعهم واثقين، أو أن الأمر ليس بهذه المنزلة من البداهة التي اخذته بها الأجيال
منذ العصر العباسي الأول حتى اليوم...
فإذا استطعنا ان نصل بأمر أبي نواس إلى رأي علمي مقبول، فإن امر غيره
من الموصومين ب‍ " الشعوبية " يصبح يسيرا لا محالة:
ولننطلق الآن، في موضوعنا، من هذا السؤال:
هل صحيح أن أبا نواس كان شعوبيا... بمعنى أنه كان عدوا للعرب
يفضل عليهم الفرس، كما كان معروفا من معنى الشعوبية في العصر الذي
نشأت فيه هذه النزعة العنصرية البغيضة؟...
لكي نستطيع ان نستخلص الحقيقة في هذه الدعوى، يجب أولا، أن
نستعرض جملة الشواهد التي احتجوا بها على شعوبيته، ثم ننظر في هذه
الشواهد نظرة موضوعية، غير متأثرين بسيطرة الفكر التقليدية المتوارثة منذ
أجيال، لنرى: هل تكفي هذه الشواهد للحكم لشعوبية أبي نواس أو هي
قاصرة عن اثبات هذه الدعوى
لقد استدلوا على شعوبيته بما يلي:
أولا - ما ورد في شعره من كلام وصفوه بأنه مدح للفرس وهجاء للعرب،
مثل قوله:
ولفارس الأحرار أنفس أنفس * وفخارهم في عشرة معدوم
وإذا أعاشر عصبة عربية * بدرت إلى ذكر الفخار تميم
وبنو الأعاجم لا أحاذر منهم * شرا، فمنطق شرهم محسوم
لا يبذخون على النديم إذا انتشوا * ولهم، إذا العرب اعتدت، تسليم
وجميعهم لي، حين أقعد بينهم * بتذلل وتهيب، موسوم
وقوله:
تراث أبي ساسان كسرى ولم تكن * مواريث ما أبقت تميم ولا بكر
ثانيا - ما ورد في شعره من هجوم على الشعر العربي الذي يصف البادية
والاطلال وعلى حياة البادية نفسها وعلى أهلها كقوله:
لتلك أبكي، ولا أبكي لمنزلة * كانت تحل بها هند وأسماء
حاشا لدرة ان تبنى الخيام لها * وان تروح عليها الإبل والشاء
وقوله:
سقيا لغير العلياء فالسند * وغير اطلال مي بالجرد
وقوله:
يا واصف البيد والقفار ويا * ناعت أسرابها ومكاها
وواصف الربيع والرياض وما * أشرف من نبتها وبهاها
أحسن من ذاك نبت صافية * تنزو إذا ما تدرعت ماها
أعرض عن الربيع ان مررت به * واشرب من الخمر أنت اصفاها
وقوله:
ايا باكي الاطلال غيرها البلى * بكيت بعين لا يجف لها غرب
أ تنعت دارا قد عفت وتغيرت * فإني لما سالمت من نعتها حرب
وقوله:
دع الاطلال تسفيها الجنوب * وتبكي عهد جدتها الخطوب
وخل لراكب الوجناء أرضا * تحث بها النجيبة والنجيب



(1) مهيار الديلمي ممن اتهموا بالشعوبية. ومن المعلوم ان مهيار فارسي الأصيل، فكان من
الطبيعي ان يذكر قومه الفرس بالخير، دون ان يسئ إلى العرب، بل إنه فعل أكثر من
ذلك، حين تغنى بأصله الفارسي ودينه العربي فقال فيما قال:
وجمعت المجد من أطرافه * سؤدد الفرس ودين العرب
فكان بهذا القول عند من تنطحوا لهذه الأمور شعوبيا لأنه يذكر سؤدد قومه!!. فكأن الأمر
عند هذا الفريق من الناس هو انه لا يبرأ غير العربي من تهمة الشعوبية الا بان يتبرأ من
قومه ولو كان مسلما مفاخرا باسلامه، وانه يحق لهم وحدهم بان يتغنوا بقومهم، ولا يحق
ذلك لغيرهم من الأمم!!
على أن باذري بذرة الشعوبية الأولى، هم - مع الأسف - من العرب، وقد بذرت هذه
البذرة في ظل الحكم الأموي وفي رعايته. قال أبو عبيد البكري في شرح امالي القالي
كتاب مثالب العرب أصله لزياد ابن أبيه، فإنه لما ادعى أبا سفيان ابا، علم أن العرب
لا تقر له بذلك مع علمهم بنسبه، فعمل كتاب (المثالب) وألصق بالعرب كل عيب
وعار وباطل وأفك وبهت. ثم ثنى الهيثم بن عدي وكان دعيا فأراد ان يعر أهل الشرف
تشفيا منهم، واما كتاب المثالب والمناقب الذي بأيدي الناس اليوم فأنما هو للنضر بن شميل
الحميري وخالد بن سلمة المخزومي وكانا أنسب أهل زمانهما، أمرهما هشام بن عبد
الملك ان يبينا مثالب العرب ومناقبها، وقال لهما ولمن ضم اليهما: دعوا قريشا بما لها
وعليها، فليس لقريش ذكر في ذلك الكتاب " انتهى ".
ومثله قال أبو الفرج الأصفهاني.
على أن الأمر عند هؤلاء المتنطحين أسوأ من ذلك، فمن كان فارسي الأصل وفاخر بأهله،
فإن هذا الفخر مغفور له ولا يعد شعوبيا، إذا كان من أعداء أهل البيت المنابذين لهم!.
فابن حزم مثلا المجوسي الأصل، الفارسي النسب، إذا فاخر بذلك وقال:
سما بي ساسان ودارا وبعدهم * قريش العلى اعياصها والعنابس
فما أخرت حرب مراتب سؤددي * ولا قعدت بي عن ذرى المجد فارس
كان هذا القول مقبولا منه لا اعتراض عليه، لأنه من النواصب المعادين لأهل البيت
الشاتمين لأشياعهم، مضافا إلى ذلك ان جده الأعلى خلف بن معدان بن سفيان بن
يزيد كان مولى يزيد بن أبي سفيان، وهو في بيتيه المتقدمين يباهي بذلك، لهذا فهو لا
يؤاخذ بافتخاره بأصله الفارسي ولا ينسب إلى الشعوبية بل يثني عليه ويمجد لأن معاداة
أهل البيت والتهجم على اتباعهم تغفر كل سيئة.
اما مهيار الديلمي الذي يعتز بانتمائه إلى الاسلام مع اعتزازه بقومه، فهو يؤاخذ ويهاجم ويتهم بالشعوبية، لأنه اخلص الولاء لأهل البيت وأحب علي بن أبي طالب ومدحه
بقصائد الخالدات، وهذا ذنب تستحل معه كل التهم!.
ابن حزم الذي يعتز بساسان ودارا، ويقرن اعتزازه هذا، باعياض قريش وعنابسها
الأموين، ليس بشعوبي، ومهيار الديلمي الذي يعتز هو الآخر بكسرى، ويقرن هذا
الاعتزاز لا (بالاعياض والعنابس)، بل بالاسلام ويعتبر انتسابه إليه مجدا باذخا هو
شعوبي!.. لماذا؟ لأن الأول غض من علي بن أبي طالب وتعرض له بالسوء وفضل عليه
حتى نساء النبي، وشتم محبيه، ولأن الثاني أحب علي بن أبي طالب ومدحه!..
هكذا يكتب تاريخ العرب والاسلام!..
" حسن الأمين "
37
ولا تأخذ عن الاعراب لهوا * ولا عيشا، فعيشهم جديب
ذر الألبان يشربها أناس * رفيق العيش عندهم غريب
بأرض نبتها عشر وطلح * وأكثر صيدها ضبع وذيب
إذا راب الحليب فبل عليه * ولا تحرج، فما في ذاك حوب
فأطيب منه صافية شمول * يطوف بكاسها ساق أريب
فهذا العيش، لا خيم البوادي * وهذا العيش، لا اللبن الحليب
فأين البدو من إيوان كسرى * وأين من الميادين الزروب؟
وقوله:
عد عن رسم وعن كثب * واله عنه بأبنة العنب
وقوله:
يا أيها العاذل دع ملحاتي * والوصف للموماة والفلاة
دارسة وغير دارسات * وأنف هموم النفس باللذات
ثالثا - ما أخذه عليه أحمد أمين في كتابه " ضحى الاسلام " حين تعرض -
أي أبو نواس - إلى أبي عبيدة والأصمعي، قائلا: " أما أبو عبيدة فإنهم إن
امكنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين، وأما الأصمعي فبلبل يطربهم
بنغماته ".
فقد رأى أحمد أمين في هذا الكلام تحيزا من أبي نواس لأبي عبيدة دون
الأصمعي واستنتج من ذلك أن أبا نواس قد انتصر لأبي عبيدة لأنه فارسي،
ولأن الأصمعي عربي.
هذه خلاصة ما يمكن استخلاصه من الأدلة التي ذكروها دليلا على شعوبية
أبي نواس.
فهل تصلح هذه الأدلة لاثبات ذلك؟
- إذا واجهنا هذه الأدلة بنقد موضوعي، وجدناها قاصرة عن اثبات
الدعوى.
ولننظر الآن في كل دليل على حدة:
أولا - اما الاستدلال على شعوبيته بما يظهر من مدح للفرس وذم للعرب في
شعره فهو مردود من وجهين:
أ - لقد جاء في شعره أيضا ما يناقض ذلك تماما... أي أنه قد مدح العرب
وذم الفرس، بل لقد كانت مدائحه للعرب من الكثرة بما لا يقاس به شعره
الذي يظهر منه الذم لهم.. ومن أمثلة ذلك قوله في قصيدة من روائع شعره
يمدح بها الفضل بن الربيع:
من طلل لم أشجه وشجاني * وهاج الهوى أو هاجه لاوان
بلى، فازدهتني للصبا أريحية يمانية... ان السماح يماني
وقوله في مدح القحطانيين:
... فافخر بقحطان غير مكتئب * فحاتم الجود من مناقبها
ولا ترى فارسا كفارسها * إذا زلت الهام عن مناكبها
عمرو، وقيس، والاشتران * وزيد الخيل، أسد لدى ملاعبها
بل مل إلى الصيد من أشاوسها * والسادة الغر من مهالبها
وحمير تنطق الرجال * بما اختارت من الفضل في مراتبها
أحبب قريشا لحب أحمدها * واعرف لها الجزل من مواهبها
ان قريشا إذا هي انتسبت * كان لنا الشطر من مناسبها
وقوله في مدح الأمين العباسي:
فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا * وعبد مناف والداك وحمير؟
وقوله في قصيدة غزلية خمرية:
وقهوة مثل عين الديك صافية * من خمر عانة أو من خمرة السيب
كأن أحداقها والماء يفرغها * في ساحة الكاس أحداق اليعاسيب
يسعى بها مثل قرن الشمس ذو كفل يشفي الضجيع بذي ظلم وتشنيب
كأنه، كلما حاولت نائله * ذو نخوة قد نشا بين الأعاريب
فهو في البيت الأخير إذ يريد ان يصف نخوة الساقي وإباءه، لا يجد تشبيها
لنخوته يصورها أحسن تصوير وأبلغه، سوى نخوة العرب وابائهم وحميتهم...
وذلك يدل على مبلغ شعوره بفضل هذه النخوة العربية التي يظهر منه انه مفتون
بها، وليس بعائب لها.
ومقابل ذلك قد هجا أبو نواس قوما من علية الفرس في رأي المجتمع
يومئذ، وهم البرامكة، إذ قال في كبير زعمائهم جعفر بن يحيى:
لقد غرني من جعفر حسن بابه * ولم أدر ان اللؤم حشو اهابه
فلست وان أخطأت في مدح جعفر * بأول انسان خ‍... في ثيابه
وقد هجا غيرهم من الفرس بمثل ذلك أيضا... فهل إذن يصح الأخذ
بمدح الفرس وذم العرب في بعض شعره دليلا على شعوبيته، ما دام قد مدح
العرب وذم الفرس في بعض آخر من شعره؟...
ب - والوجه الآخر الذي نرد به هذا الدليل، هو ان أبا نواس حين كان
يمدح أو يهجو، في مثل تلك المناسبات التي رأيناها في ما تقدم، لم يكن يمدح أو
يهجو عن نزعة من نزعات التعصب لهؤلاء القوم أو أولئك ولا ضد هؤلاء أو
أولئك، وانما كان الأمر عنده محض بدوات نفسية آنية تهيجها المناسبة الطارئة،
ليعبر حينا عن ذلك الولع بالتحدي للمرائين من هذه الجماعة أو تلك، وليعبر
حينا آخر عن ثورة غضب عابرة ضد شخص بعينه لأمر له معه ليس هو بأكثر
من أمر عابر كذلك، وليعبر في أكثر الأحيان عن " مزاجه الخمري " إذا صح
القول... فقد كان هذا المزاج الملازم له يأبى أن يشغله عن خمره وندمانه ولذته
جليس لا يتقيد ب‍ " آداب الشراب " و " تقاليد المنادمة "، بل يخرج عليها
ليشغل جلساءه بشؤون الجد كالتفاخر بالنسب والعنجهيات القبلية في وقت يريد
أبو نواس فيه أن يستغرق بكل حواسه في متعة الشراب ودنيا " الصفاء "...
وأبو نواس نفسه يضع بأيدينا هذا التفسير " لمزاجه "، حين ينص في
الأبيات التالية على " حقوق " الصحب والندمان، وهي التي سميناها " آداب
الشراب " أو " تقاليد المنادمة ":
حقوق الصحب والندمان خمس * فأولها: التزين بالوقار
وثانيها: مسامحة الندامى * وكم حمت السماحة من ذمار
و ثالثها: وان كنت ابن خير * البرية محتدا، ترك الفخار
ورابعها: فللندمان حق * سوى حق القرابة والجوار
إذا حدثته فاكس الحديث * الذي حدثته ثوب اختصار
وخامسها يدل به أخوه * على كرم الطبيعة والنجار
كلام الليل ينساه نهارا له بإقالة عند العثار
فهل أصرح دلالة على كراهته للمفاخرة بالأنساب على مجلس الشراب،
من قوله: وثالثها، وان كنت ابن خير البرية محتدا، ترك الفخار.
ثم هو يؤكد تفسيرنا هذا " لمزاجه " بقوله أيضا:
في الكاس مشغلة، وفي لذاتها * فاجعل حديثك كله للكاس
صفو التعاشر في مجانبة الأذى * وعلى اللبيب تخير الجلاس
وبقوله كذلك:
لمثلي من الفتيان حلت، أخي الخمر وطابت له اللذات واسترخص السكر
إذا كان شربي لا يكدر مجلسي * ولا يعتري فيه خصام ولا هجر
من هنا رأينا أبا نواس يثني على الفرس وينفر من إحدى خصال بني تميم في
قوله:

38
ولفارس الأحرار أنفس أنفس * وفخارهم في عشرة معدوم
وإذا أعاشر عصبة عربية * بدرت إلى ذكر الفخار تميم
وبنو الأعاجم لا اخاذر منهم * شرا، فمنطق شرهم محسوم
لا يبذخون على النديم إذا انتشوا * ولهم إذا العرب اعتدت تسليم
وجميعهم لي، حين اقعد بينهم: * بتذلل وتهيب موسوم
ويمكن ان نستنتج من هذه الأبيات أنه كان لأبي نواس جلساء على الشراب
من الفرس يعرفون " مزاجه الخمري " هذا فيراعونه ولا ينغصونه بالتفاخر،
بينما كان له جلساء من العرب، كالتميميين مثلا، يهيجون عنده " عقدة
النسب " فيثيرونه... وقد عرفنا من قبل ان نسب الشاعر كان عرضة للغمز من
جانب خصومه إذ كانت نسبته للحكم بن سعد العشيرة تتردد بين الأصالة
والموالاة، وكان عصره لا يزال يعنى بالأنساب والتفاخر بها، وكانت النزعة
الشعوبية تؤلف تيارا سياسيا يقابله تيار عربي، وكان الصراع السياسي الحاد
يتخذ من هذين التيارين أحد أسلحته المكشوفة المباشرة، فليس غريبا - إذن -
أن يتخذ خصوم كل شخص ذي شأن من قضية النسب ذريعة لايذائه والكيد له
والتأليب عليه.
ثانيا - وأما الاستدلال على شعوبية أبي نواس بما كان من هجومه على الشعر
الذي يصف البادية والاطلال وعلى حياة البادية وأهلها، فهو استدلال ضعيف
أيضا، لأن الشعر الذي صدر عنه بهذا الصدد لا يحتمل التفسير بأنه صادر عن
كراهية للعرب، بل يمكن تعليله بأحد أمرين:
1 - أما بأنه يرجع إلى " مزاجه الخمري " الذي تحدثنا عنه في ما سبق..
أي أن الرجل كان إذا جلس إلى شرابه وندمانه واستغرق في لذاته، وجد في
دنياه تلك التي تنشئها له الخمرة دنيا عامرة بالضياء والصفاء فهي عنده أفضل
من تلك الدنيوات التي يبنيها الشعراء الآخرون من أشياء البادية بخشونتها
وشظفها ومشاهدها غير المؤتلفة مع أشياء الحضارة الجديدة بمتعها الحسية
ونضارتها وجدتها، فتأخذه نشوة الاعتزاز بدنياه هذه وتلذه المقارنة وتستفز خياله
طرافة المفارقة والمناقضة، ويجد في مقارنة النقيض بالنقيض ما يزيده أغرافا في
الالتذاذ بدنياه...
2 - وأما بأنه كان يريد من هذا الشعر ان يهزأ بالشعراء الذين يعيشون في
الحاضرة بلحمهم ودمهم، ثم يفتعلون انشاء عالم آخر في أشعارهم ليس بينهم
وبينه من صلة غير صلة الألفاظ والقوالب الشعرية التقليدية المتوازنة عن شعراء
سابقين كانوا يحيون حياة البادية فعلا، وكانت مشاهد البادية تدخل في تجاربهم
الحية الحارة.
على انني أرجح ان الأمر الأول من هذين الأمرين هو التفسير الأقرب لواقع
أبي نواس بالذات.
ثالثا - واما استدلال أحمد أمين على شعوبية الشاعر بما استظهره من كلامه
عن أبي عبيدة والأصمعي العربي فهو استدلال ينقضه أحمد أمين نفسه بما نقله
عن أبي نواس في مكان آخر من " ضحى الاسلام " (ج‍ 3 ص 119 120)
قائلا ما لفظه: " ولكن أبا نواس لا يعتد بهجوه، فليس في هجائه مقياس
الصدق، فقد هجا أبا عبيدة رماه باللواط الخ...
فكيف يعتد أحمد أمين، إذن، بكلام قاله أبو نواس عن أبي عبيدة
والأصمعي ويجعله دليلا على شعوبيته، في حين ان ذاك الكلام ليس ظاهرا
بالتحيز لأبي عبيدة، بينما هو - أي أحمد أمين - لا يعتد هنا بهجاء أبي نواس
بحجة أنه ليس في هجائه مقياس الصدق.
نحن مع أحمد أمين في أن هجاء أبي نواس ليس مقياس الصدق، وكذلك
مدحه... ولذلك قلنا سابقا أنه لا يصح الاستنتاج من مدحه الفرس وذمه
العرب أحيانا انه يؤثر الفرس على العرب، كما لا يصح الاستنتاج من مدحه
العرب وذمه الفرس أحيانا أخرى انه يكره الفرس ويؤثر عليهم العرب... فهو
في مدحه وهجائه انما يصدر عن بدوات سانحة وليد اللحظة التي هو فيها، ولا
يصدر عن نزعة معينة ثابتة ولا عن فكرة أو فلسفة مقررة عنده.
إضافة إلى ما تقدم يمكن الرد على استدلال أحمد أمين بطريقة ثانية، هي
ان الجاحظ نفسه، وهو ابن العربي الذي لا شك بعروبته ولا مجال لاتهامه بالشعوبية
قال في أبي عبيدة ما هو أصرح من كلام أبي نواس فيه... قال أبو عثمان
الجاحظ: " لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي
عبيدة "... فلماذا يؤخذ كلام أبي نواس انه تحيز شعوبي لأبي عبيدة، ولا يؤخذ
كلام الجاحظ كذلك بالرغم من أن المأخذ على كليهما غير منطقي.
ولقد وجد بين النقاد المحدثين من نفى عن أبي نواس نزعة الشعوبية، وان
اختلفوا في تعليل الأشعار التي استظهر منها القدماء والمحدثون المقلدون هذه
النزعة عنده.
ومن هؤلاء النقاد المحدثين العقاد والدكتور محمد النويهي، الأول في كتابه
" أبو نواس الحسن بن هانئ - " دراسة في التحليل النفساني والنقد التاريخي "،
والثاني في كتابه " نفسية أبي نواس ". وقد علل الدكتور النويهي أشعاره التي
أثارت تهمة الشعوبية بنحو من التعليل الذي أشرنا إليه سابقا، إي بتأثير
" مزاجه الخمري " وعقب على شرحه التعليل المذكور بقوله:...
" وكان هذا هو السبب الذي كرهه في منادمة العرب لا لأنه يتعصب
عليهم تعصبا شعوبيا كما اتهمه الكثيرون، فأبو نواس ما أحب أن يعادي فردا أو
جنسا، وما كان يطيق نكد المعاداة، ولكن شكا طباعهم وضراوتهم وكثرة
مخاصماتهم وتنابذهم بالألقاب وتفاخرهم بالانتساب كلما ضمهم مجلس، بقية
من عنجهيتهم البدوية - كأن تعكر عليه مجالسه الهنيئة الخ... ".
وبعد ان يورد الدكتور النويهي أمثلة من شعر الشاعر تدل على ذلك يورد
الأبيات التي ذكرناها سابقا:
- ولفارس الأحرار أنفس أنفس الخ...)
ثم يقول: "... اما المهذبون المتحضرون من العرب فلم يكن لديه - إي
أبي نواس - أدنى مانع من منادمتهم، وله قطع كثيرة في امتداح مجالسهم وحلاوة
شمائلهم وقد قال على لسان الخمر هذا البيت الأريحي الطرب:
ولا الأراذل، الا من يوقرني * من السقاة، ولكن اسقني العربا.
والترجمة المنشورة في مكانها كان المؤلف قد أصدرها في كتاب خاص باسم
(أبو نواس)، وعند صدور الكتاب سنة 1948 كتب عنه الدكتور حسين
مروة كلمة آثرنا نشرها هنا انتهى.
مسكين أبو نواس! لقد افترى عليه صانعو التاريخ أو لقد افترى عليه ناس
غير صانعي التاريخ لأمر ما فأشاعوا في الأجيال أن أبا نواس رجل دعابة وعربدة
وشهوة ليس غير وأن خصائصه جميعا تنتهي عند هذا " الثالوث " لا تتجاوزه إلى
صفة من صفات العباقرة المرموقين في عصر من أرقى عصورنا العربية الغابرة،
حتى لقد بخل عليه هؤلاء المفترون بمزيته الكبرى: الشعر، فإذا هم يلفقون عليه
ألوانا من الكلام المنظوم لو كان قدر لأبي نواس أن يسمع أمثاله لغيره لاجتوت
نفسه دنيا يقال فيها هذا اللون من الكلام الغث ثم يحسب هذا الكلام شعرا من
الشعر فكيف له لو أنصت للأجيال بعده فإذا هو يسمع هذا الكلام منسوبا إليه
مدخولا عليه مدسوسا في أعاجيب من القصص التافه الخليع يقصونها عنه افتراء
وزورا؟!

39
لقد ظلم أبو نواس - إذن - فانطبعت عنه في أذهان العامة طوال الأجيال
صورة شوهاء مزورة وتجاوزت هذه الصورة في الأجيال الأخيرة أذهان العامة إلى
أذهان فريق كبير من المثقفين وأنصاف المثقفين، وأعجب العجب في هذا أن
يكتسب هذا الانطباع المزور عن أبي نواس صفة الأمر الواقع المسلم به حتى لقد
اجترأ واضعو القصص السينمائية والمسرحيات على أن يطبعوا هذا الرجل
العبقري الخالد بطابعه الشائه الزائف المفتري فإذا بهم يخرجونه على " الشاشة " أو
على المسرح رجلا شانه التهريج والإضحاك والعربدة وإذا بجمهرة الناس مثقفين
وغير مثقفين يشهدون أبا نواس على هذا الطابع ويأخذونه مأخذ المسلمات والبداهة
ولا يثير فيهم غير بواعث المرح واللهو والمسلاة لكأنما صار ثابتا في الأذهان أن هذا
هو أبو نواس الحق لا ذلك العالم الفقيه المحدث الفيلسوف الشاعر العبقري.
وأي دليل على هذا الذي أقول أقوى من إهمال كتابنا المحدثين شأن أبي نواس
وهو أجدر أن ينال من دراساتهم التحليلية وأبحاثهم النقدية الحديثة نصيبا موفورا
لأن شخصيته الأدبية تكاد تكون أغنى شخصيات الأدب العربي العباسي من حيث
وفرة العناصر التي يأتلف منها هيكل الفن العظيم ومن حيث تعدد الجوانب التي
يتسق بها لصاحب الفن شخصيته الممتازة ولولا أبحاث عابرة نشرها الدكتور طه
حسين في " حديث الأربعاء " عن هذا الرجل المفترى عليه لكان عصرنا الحديث ما
يزال جاريا مجرى العصور السوالف في تجاهل أبي نواس الحق ولكن أيكفي
لإنصاف هذا الشاعر العظيم الذي ظلمته أجيال طوال أن يكتب عنه الدكتور طه
حسين أبحاثا عابرة هي بالمقالات الصحفية الإنشائية أشبه؟
لا: إن من حق أبي نواس أن تكثر عنه في هذا العصر المستنير الدراسات
الطوال والأبحاث التحليلية العميقة والمؤلفات الضخمة المشبعة وأنه لعجيب
مدهش حقا أن ينبري لإنصافه قبل الأدباء والشعراء والنقاد المتوفرين لهذا الفن،
عالم كبير من علماء الدين منصرف إلى التأليف في شؤون العلم، وفي قضايا الدين
وفي نواحي التاريخ الإسلامي فإذا هو يخص أبا نواس المسكين المظلوم المفترى
عليه لا ببحث مستفيض فحسب، بل بكتاب ضاف، شامل مستوعب يجلو به
شخصية أبي نواس العالم والشاعر والمثقف والمحدث ثم يجلو به تلك الشخصية
التي انطبعت في أذهان العامة والمثقفين طوال الأجيال السابقة، فإذا هي في هذا
الكتاب الجديد، شخصية جديدة، تنكشف لنا عوامل تكوينها سافرة وإذا أبو
نواس يبدو لنا من وراء هذه الشخصية صاحب دعابة وعربدة حقا ولكن لا عن
زندقة، ولا ضعف ولا استهتار، ولا شهوة بل عن طبيعة نزاعة إلى الحرية تواقة إلى
الخروج على القيود الموضوعة وهي طبيعة العبقري يتأبى على الأوضاع المألوفة أن
تغل تفكيره أو تفرع حياته في قالب جامد صلب لا يقبل التكييف والتجديد.
لا: بل إنه لأكثر من عجيب مدهش أن يكون عالم ديني كبير كالسيد محسن
الأمين المنصرف إلى كبار الشؤون الإصلاحية في الإسلام أسبق لإنصاف الشاعر
العبقري الخالد أبي نواس من ذوي الشعر والأدب والنقد من أعلام هذا العصر بل
إن ذلك مما يثير الاعجاب والإكبار بهذه السماحة وهذه الرحابة في الفكر والعقلية
وهما صفتان عرفنا علامتنا الأكبر السيد محسن الأمين يمتاز بهما لا بين رجال الدين
حسب بل بين رائدي البحث العلمي المجرد وكاتبي التاريخ الخالص.
هذا كتاب أبو نواس الذي أخرجه الامام الأمين أخيرا قد فرغت من قراءته
خلال أيام أردت أن أفرع فيها للراحة وحدها فإذا هو يستبد بي فأجد فيه راحة
النفس ومتعة الذهن وحلاوة التأليف المحكم المتسلسل يحكي قصة شاعر عرف
ألوانا مختلفات من الحياة في عصر عرف ألوانا متنوعة من الحضارات والعقليات
والأذواق.
وفي حياة أبي نواس مشاكل وعقد كثيرة لا تزال بكرا في عالم البحث
والتحقيق منها عروبة الشاعر وشعوبيته المزعومة ومنها عقيدته ودينه وزندقته ومنها
سلوكه الاجتماعي الذي لون حياته وشخصيته بتلك الألوان الشائهة المزيفة
المزورة ومنها تمرده على المألوف من أوضاع أهل الأدب وعلى المصطلح من
الأفكار الشائعة والتقاليد الأدبية المتبعة ومنها قصة التجديد الأدبي التي استطاعت
أن تلفت الأذهان من بين ركام الزيف والتزوير والافتراء التي أحاطت بشخص
الشاعر ولكن هذه القصة ظلت غامضة ذات مجاهيل كثيرة لم يتعرف إليها الرواد
والباحثون، ولم يضع أحد حتى الآن حدودا واضحة لألوان التجديد الأدبي
الذي عرف به أبو نواس الشاعر.
هذه المشاكل والعقد في شخصية الرجل استطاع كتاب " أبو نواس " أن
يقتحمها جميعا ببساطة في الروح وعمق في البحث، ودقة في الاستقصاء والتحقيق
والتدقيق وبأمانة في التاريخ لا نعرف لها مثيلا. ولقد خرجت أنا من هذا الكتاب
بحقائق جديدة. ولقد تجلت لي شخصية أبي نواس بأوضح ما كنت أطلب أن
تنجلي لي شخصية شاعر أحيطت بذاك الركام العجيب من الباطل. وقد شفع
علامتنا الأكبر بحثه النفيس هذا بمختارات نفيسة من شعر الشاعر تصلح أن تكون
أمثلة صادقة لكل نوع من أنواع الشعر التي عرف بالتجويد فيها أو بالإبداع. ولم
تفت المؤلف - حفظه الله - ملاحظات نقدية بارعة استدرك بها على الناقدين أو
المؤرخين أو مؤلفي كتب الشعر والأدب. وإنا لنتمنى على سماحته - وقد عرفنا فيه
روح الباحث المدقق الأمين - أن يضيف إلى فضله هذا فضلا آخر بأن يحقق ديوان
أبي نواس تحقيقا علميا على الطريقة العلمية الحديثة التي نعرف أنه من أعلامها
اليوم، ثم يطبعه طبعة علمية محققة، لأن ديوان هذا الشاعر كشخصيته قد افتري
عليه، ولحقه الزور والتشويه بأشنع ما يلحق الزور والتشويه أمرا من الأمور فضلا
عن تشويه المطبعة وتزويرها.
وأخيرا: هل أراني - بعد الذي قلت محتاجا إلى القول إن كتاب " أبو نواس "
يجب أن يشيع في طبقات المثقفين وأنصاف المثقفين لكي يرفع عن أبي نواس
الشاعر العظيم تلك الأوهام الباطلة، ويجلو شخصيته الحقيقية كما كانت لا كما
صورها المفترون؟
الشيخ حسن البحراني بن علي.
توفي سنة 1340 كتب ترجمته بنفسه في كتابه (أنوار البدرين) فقال إنه
توفي والده وعمره ثماني سنوات ثم قال: كان مولدي كما أخبرني به بعض أرحامي
المطلعين الثقات سنة 1274 ه‍ فكنت مع الوالدة المرحومة حتى وقعت الواقعة
العظيمة على بلادنا البحرين سنة 1284 ه‍ التي قتل فيها حاكمها (علي بن
خليفة) وغيره فتفرقت أهلها في الأقطار وتشتتوا في الديار فكنت ممن رمته مناجيق
الأقضية والأقدار وقذفته نون الآونة والاخطار في بلاد القطيف مع الوالدة المقدسة
وقد كان الأمجد الأرشد المرحوم العلامة أعلى الله مقامه في دار المقامة (1) قد سكنها
مع الأهل والأولاد وشرف تلك البلاد فصرت في حجره وتربيته فقربني وآواني
وعلمني وحباني وقدمني على أولاده فضلا عن أقراني وكان شيخي وأستاذي وجد



(1) هو الشيخ أحمد بن صالح البحراني.
40
أولادي فجزاه الله عني وعن المؤمنين خير الجزاء وحباه أفضل الحباء، وبعد سنتين
انتقلت الوالدة المرحومة إلى رضوان الله ورحمته وفسيح جنته فصرت يتيما من
الأبوين، وكان لي (رحمه الله تعالى) بمنزلتهما وأعظم وقرأت عنده (قدس الله
تربته وأعلى في عليين رتبته) في النحو والصرف والمعاني والبيان والتوحيد والفقه،
ثم سافرت إلى النجف الأشرف مهاجرا لتحصيل العلوم وحضرت متطفلا عند
جملة من فضلائها وثلة من علمائها كالعلامة الأمين الشيخ محمد حسين الكاظمي
أصلا والنجفي مدفنا وأهلا والفاضل ذي المجد والشرف الشيخ محمد طه نجف
وسيدنا المقدس التقي الزاهد النقي السيد مرتضى ابن السيد مهدي الكشميري
النجفي والعالم التقي الشيخ محمود ذهب النجفي المقدس والشيخ حسن ابن
الشيخ مطر الجزائري وغيرهم من العلماء الأتقياء (قدس الله أرواحهم وطيب
مراحهم ونور أشباحهم) وفي تاريخ هذا الكتاب لم يبق أحد منهم سوى ذكرهم
الجميل المستطاب فهم أحياء وان ضمهم التراب (الناس موتى وأهل العلم
أحياء):
فسبحان الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ذي الملك والملكوت والعزة
والكبرياء والجبروت الذي يميت ملله ولا يموت، ولم اطلب إجازة من أحد منهم
حياء وبعدا عن الاتهام بالاغراض الدنيوية الباطلة الدنية سوى ان سيدنا الجليل
التقي الزاهد الأورع النقي السيد مرتضى الكشميري ابتدأني بالإجازة وأجاز لي
رواية الكتب الأربعة وكتب جميع الأصحاب بل كتب جميع علماء الاسلام من
الخاص والعام في الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان المكرم في الروضة
الحيدرية مقابلا لوجه أمير المؤمنين وسيد المسلمين عليه آلاف الصلاة والسلام
وكان السيد المذكور مجازا من أكثر علماء العراق عربا وعجما وكان (قدس الله سره
ونور قبره) من العلماء الأوحدين والأتقياء الزاهدين والفضلاء المحققين والكملاء
المدققين.
ولي من الكتابات التي لا ينبغي ان تذكر لولا ما التزمه في تراجم الأكثر:
منظومة في الأصول الخمسة كبيرة تقرب من أربعمائة بيت سميناها (جواهر
المنظوم في معرفة المهيمن القيوم) ومنظومة ثانية سميناها (زواهر الزواجر في معرفة
الكبائر) ذكرنا فيها سبعين كبيرة تقرب من أربعمائة بيت جيدة جامعة جدا
ومنظومة في مواليد النبي والأئمة والزهراء ووفياتهم عليهم السلام سميناها
(جامعة الأبواب لمن هم لله خير باب) ومنظومة سميناها (جامعة البيان في
رجعة صاحب الزمان) تقرب من أربعمائة بيت جيدة جامعة جدا وأيضا لنا
حواش كثيرة على شرح ابن أبي الحديد للنهج المرتضوي وردا عليه ولنا كتاب
(رياض الأتقياء الورعين في شرح الأربعين وخاتمة الأربعين) اشتمل عنوانا
على اثنين وخمسين حديثا مشروحة مبسوطة في الأصول والفروع والمواعظ
والمناقب جيد جيدا ولنا (الجوهرة العزيزة في جواب المسالة الوجيزة) في
التوحيد ولنا رسالة سميناها (الحق الواضح في أحوال العبد الصالح) وهو
شيخنا العلامة الأسعد المرحوم ولنا بعض الحواشي المتفرقة على بعض الكتب
الفقهية ولنا هذا الكتاب الذي نسأل الله تعالى اكماله بالحق والصواب ولنا
كتاب سميناه ب‍ (جنات تجري من تحتها الأنهار) في المناظيم والمدائح والمراثي
وسائر الاشعار (انتهى).
هذا ما ذكره هو عن مؤلفاته. اما أحسن مؤلفاته فهو كتاب (أنوار البدرين في
تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين). وقد خدم في الكتاب تاريخ
بلاده العلمي والأدبي اجل خدمة.
أبو عبد الله الحسين بن أبي القاسم علي بن نما الحلي
الكاتب الشاعر، من أسرة حلية مشهورة، ذكره المنذري في وفيات
سنة 618 قال: وفي الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول توفي الشيخ الأديب
أبو عبد الله الحسين بن أبي القاسم علي بن نما الحلي الكاتب ببغداد ودفن من يومه
بالمشهد، وهو من أهل الحلة المزيدية وسكن بغداد وخدم الامراء وكان له ترسل
وشعر. حدث بشئ من شعره واخبر ان مولده في سنة ثلاث وثلاثين
وخمسمائة. وقال مرة أخرى: سنة تسع وعشرين. وقال مرة أخرى: سنة
اربع وثلاثين وخمسمائة " اه‍ ".
وذكره ابن الدبيثي في " الحسينيين " من تاريخه لبغداد قال: الحسين بن
علي بن نما أبو عبد الله بن أبي القاسم الكاتب، قدم بغداد واستوطنها وخدم
الامراء وكان ترسل وشعر. سمعنا منه قطعا من شعره. أنشدنا أبو عبد الله بن
الحسين بن علي بن نما ببغداد لنفسه من قصيدة له:
نفى وقدات الكرب عن روح قلبه
نسيم سرى من صوب رضوي وهضبه
فيا حبذا وانيه ضعفا إذا سرى
يلاعب غصنا من أراك بقضبه
جرى روحه في روح قلبي فزاده
اشتياقا إلى ريا الحبيب وقربه
أرى غصنا غضا ثناه نسيمه
ثنى مارني عطفا لصوب مهبه
فأفلت قلبي من حبائل وقده
وطوقه روحا أريجا بقطبه (كذا)
دعاني داعي الشويوم تحملوا
فلبيته يا ليتني لم ألبه
متى حن قلبي أن صبري فبرده
بمعترك فيه المنايا ونصبه (كذا)
تمر خطوب الافتراق تمردا
عنيفا فتبا للفراق وخطبه
فوا لهفتا إذ صار سهل فراقكم
ببعدكم وعرا كقدس وشعبه
وقال ابن الدبيثي في ترجمة عرس الدين بدر الدولة من أبي الحسن علي بن
أقسنقر الناصري الأمير: كتب الأديب كافي الدين الحسين بن علي بن نما الحلي
على لسان غرس الدولة يذكر الصنع الذي أدركه مالك رقة سنة سبع وتسعين
وخمسمائة:
ملك الملوك أزلت عني صدمة
لليتم فانحرفت مصاحبة اللقا
وبنيت لي ركني وكان مهدما
ونظمت لي شملي وكان مفرقا
لم يبلغا أبواي في أمانيا
بلغتنيها يا رفيع المرتقى
وذكره عز الدين بن جماعة قال: أنبأنا الشريف تاج الدين الغرافي عن أبي
عبد الله بن محمد (ابن النجار) البغدادي قال أنشدنا أبو عبد الله بن نما الكاتب
لنفسه:

41
أوميض برق بالابيرق أومضا
أم ثغر غانية بليل قد أضا
أسكنتم الأيام فياض الحيا
وكسوتم الأحشاء الهوب الغضا
يا جامعي الاضداد لم لم تجمعوا
سخطا ممضا للفؤاد به الرضا
زمن الوصال تقوضت أيامه
يا ليت دهر الهجر كان تقوضا
ثم قال: له شعر ورسائل دونهما والغالب عليهما ركاكة الالفاظ وقلة المعاني
وكان رافضيا. ولد في ذي الحجة سنة تسع وعشرين وخمسمائة وتوفي سنة ثمان
عشرة ببغداد.
السيد حيدر الآملي
مرت ترجمته في المجلد السادس الصفحة 271 ونزيد عليها هنا ما يلي:
ولد في آمل من بلاد مازندران، واشتغل من عنفوان شبابه إلى الثلاثين
بالعلوم الظاهرية - المنقول منها والمعقول - على كبار الأساتذة في مسقط رأسه
آمل وفي خراسان وأسترآباد وأصفهان لمدة عشرين سنة، ولما بلغ الثلاثين من
سني عمره عاد من أصفهان إلى بلده آمل فاجتمع بفخر الدولة بن الشاه
كيخسرو، فقربه فخر الدولة حتى أصبح من أقرب أصحابه وأعظم نوابه
وحجابه، ثم طلبه فخر الدولة شاه غازي واخوته جلال الدولة إسكندر وشرف
الدولة كستهم وسعد الدولة طوس الملك، فحصل له منهم من الجاه والمال
الشئ الكثير.
ولما اتجهت إليه الدنيا وحاز شرفا ظاهريا عظيما وأموالا طائلة، علم ضلال
هذا الطريق فترك المال والأهل والوطن ولبس دلقا قيمته أقل من درهم، فخرج
بقصد الحج من آمل ووصل في مسيره إلى أصفهان فاتصل هناك بالشيخ نور
الدين الأصفهاني الطهراني - نسبة إلى طهران (ويسميها العامة تيران أو تيرون)
قرية على باب أصفهان - (1) فاشتدت الصلة بينهما حتى عقدا عقد الأخوة بالرغم
من أن الصحبة بينهما كانت أقل من شهر واحد، فلبس من يد هذا الشيخ
الخرقة الصوفية وأجيز منه إجازة لبس الخرقة.
ثم توجه من أصفهان إلى ايدج، فكان هناك في صحبة شخص كامل
عارف منتظرا تهيئة الوسائل للذهاب إلى بغداد، ولكن أخفق في مهمته وعاد
إلى أصفهان فتمكن من الذهاب إلى بغداد من طريق آخر، ووفق بعد عناء لزيارة
أئمة العراق (عليهم السلام) وجاور المشاهد المشرفة سنة كاملة، ثم توجه إلى
حج بيت الله الحرام مجردا فقيرا، وبعد الحج وزيارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وزيارة
أئمة البقيع (عليهم السلام) بالمدينة المنورة عاد إلى العراق وسكن النجف
الأشرف مشتغلا بالعبادة والرياضة والخلوة، وفي النجف التقى عبد الرحمن
القدسي فقرأ عليه كتاب منازل السائرين وشرحه وكتاب فصوص الحكم وشرحه
ورسائل فلسفية أخرى، وطالع أكثر كتب التصوف من المطولات
والمختصرات، وكتب على كثير منها شروحا وحواشي، وألف في مدة أربع
وعشرين سنة أربعة وعشرين كتابا.
واتصل في الحلة بفخر المحققين ابن العلامة الحلي، فتتلمذ عليه واستفاد
منه كثيرا، وأجازه فخر المحققين بإجازات متعددة منها الإجازة التي كتبها بالحلة
في شهر رمضان المبارك سنة 761 ه‍ (2).
ويقول السيد أحمد الحسيني:
كان السيد حيدر الآملي من كبار الصوفية في القرن الثامن الهجري، سعى
كثيرا في تدوين آرائهم وما يتعلق بالتصوف الاسلامي، ولكن لم يكن من
المتطرفين الذين لم يعرفوا من التصوف إلا القشور الفارغة التي لا تمت إلى روح
الإسلام بصلة، ولم يعرفوا إلا الرقص والرهز والعربدة والبعد عن التعاليم
الدينية، بل حاول في مؤلفاته الكثيرة أن يستعرض التصوف في اطار القرآن
الكريم وما أثر عن النبي العظيم والأئمة من أهل البيت (عليه
وعليهم السلام)، ولذا نراه في كتابه فص الفصوص يندد بجماعة من الصوفية
في أقوالهم الباطلة ويبين معايبهم وخرافاتهم، كما يذم بعضهم في كتابه
الكشكول، وهذا يدل على أنه كان يتعلق بالتصوف كطريق إسلامي لتهذيب
النفس والرقي بها إلى مدارج الكمال.
ثم يقول السيد الحسيني عن كتابه (المحيط الأعظم) وهو في تفسير القرآن
أنه يوجد منه نسختان أحدهما في خزانة الروضة الحيدرية برقم (22) والثانية في
مكتبة السيد المرعشي العامة في مدينة (قم) ثم يصف الكتاب بما يلي:
طريقة المؤلف في كتابه أنه يبدأ باي من القرآن يكتبها بالحمرة، ثم التفسير
ويستعرض فيه ما يتعلق بالآيات من الجانب الأدبي ووجوه القراءة وبعض
الأحاديث التفسيرية وأقوال المفسرين، ثم التأويل فيدخل في مباحث عقلية
وصوفية عميقة.
والمؤلف في القسم التفسيري يختصر الكلام ما أمكنه مع استيعاب
وشمول، وفي القسم التأويلي يطول الكلام جدا مع تقسيم وتفريع وتشقيق.
ففي آية البسملة مثلا نجد القسم الأول لا يستوعب أكثر من صفحتين، وأما
القسم الثاني فيستوعب سبعا وأربعين صفحة في ستة أبحاث: الباء وتحقيقه،،
النقطة التي تحته، السين والميم، الله وما يتعلق به، الرحمن الرحيم،، تطبيق
حروفها بحروف العالم كلها.
ومن هنا نعرف أن الكتاب ليس فيه من التفسير - على المعنى المصطلح - إلا
الشئ القليل، بل هو كتاب حاول المؤلف أن يجمع فيه المباحث العميقة
المتعلقة بالتصوف من كل جوانبها، وقد وفق تمام التوفيق فيما أراد وقصد تحت
عنوان تأويل القرآن الكريم.
والشئ الجديد الذي يلفت النظر في عمل المؤلف أنه يختصر كثيرا من
الموضوعات والمباحث في جداول ودوائر وصور، ولكن في النسخة التي نعرفها
هنا بقي محل كثير من هذه الصور بشكل بياض لم ينقش فيه شئ.
ويستند المؤلف في معلوماته التفسيرية إلى كتاب مجمع البيان للطبرسي
والكشاف للزمخشري، وفي التأويل إلى أقوال الشيخ الكامل نجم الدين الرازي
والمولى كمال الدين، وينقل كثيرا عن شرح نهج البلاغة لابن ميثم والفتوحات
المكية لابن العربي وكتاب الخطيب للجلودي، وربما يقتبس عن بعض الكتب



(1) تعرف الآن باسم (تيران آهنگران). وهي غير قرية (بلوك تيران).
(2) إلى هنا تخليص لما كتبه المؤلف بخطه.
42
من دون إشارة إلى المصدر كما فعل مثلا في فصل تقدم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
على غيره في العلوم والمعارف، حيث اقتبس هذا الفصل من شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي من دون تسمية الكتاب.
يقول المؤلف في مقدمته بصدد بيان خطته في كتابه هذا "... أن اكتب لهم
كتابا جامعا للتأويل والتفسير بحيث يكون التأويل مطابقا لأرباب التوحيد وأهل
الحقيقة غير خارج عن قاعدة أهل البيت (عليهم السلام)، والتفسير موافقا
لأرباب النقل وأهل الشريعة غير خارج عن قاعدة أهل البيت (عليهم السلام)
بحسب الظاهر أعني يكون جامعا للشريعة والطريقة والحقيقة لقول النبي
صلى الله عليه وآله وسلم " الشريعة أقوالي والطريقة أفعالي والحقيقة أحوالي ". لأن كل كتاب يكون
جامعا لهذه المراتب الثلاثة التي هي جامعة لجميع المراتب المحمدية يكون جامعا
لجميع المراتب الإلهية والكونية حاويا لمجموع الكمالات المنسوبة إلى الأنبياء
والأولياء بأجمعهم لقوله عليه السلام " أوتيت جوامع الكلم وبعثت لأتمم المكارم
الأخلاق ".
وقد جاء تاريخ الكتاب بخط المؤلف على الورقة الأولى من الجزء الثاني
هكذا:
سلخ شوال بالمشهد المقدس الغروي سلام الله على مشرفه من سنة سبع
وسبعين وسبعمائة هجرية نبوية.
حيدري حيدر بخش
توفي سنة 1238.
كاتب هندي نجفي الأصل دهلوي المولد والموطن. هو كاتب القصص
والأساطير والتاريخ. وأشهر كتبه المعدودة من أعلى كتب الأدب كتاب
(توتاكهاني) (قصة الببغاء) وكتاب (آرايش محفل) وقصة (ليلى ومجنون)
و (گلزار دانش) و (تاريخ نادري) وطبقات الشعر والشعراء باسم (كلش
هند) و (كل مغفرت) وهو مجالس حسينية.
الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني
قال اليافعي في الجزء الرابع من كتابه (مرآة الجنان) وهو يتحدث عن
وفيات سنة ست وسبعين وستمائة:
فيها توفي الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي شيخ الملك الظاهر،
كان له حال وكشف، قيل مع سفه فيه ومردكة ومزاح. تغير عليه السلطان
الظاهر بعد شدة خضوعه له وانقياده لإرادته وعقد له مجلسا وأحضر من خافقه
ونسب إليه أمورا رافضية وأشاروا فيها بقتله، والله أعلم بصحة ذلك، فقال
للسلطان إن بيني وبينك في الموت شيئا يسيرا، فوجم لها السلطان وحبسه في سنة
إحدى وسبعين إلى أن توفي (انتهى اليافعي).
وهكذا فان نسبة التشيع كافية للافتاء بقتل من تنسب إليه، فإن لم يقتل
يسجن إلى أن يموت في السجن.
خضر الطائي بن عباس ضاحي
توفي سنة 1979
شاعر عراقي نظم الشعر في سن مبكرة. تولى التدريس في البصرة ثم في
الرمادي ثم في بغداد. له: (1) قيس لبنى (2) تحقيق ديوان العرجي (3) أهل
الكهف والرقيم (4) أبو تمام الطائي (5) ديوان شعر (1).
الخطاطون في العهد الصفوي
(906 - 1135 ه)
هذه مجموعة تراجم ينتظمها موضوع واحد رأينا أن نضمها إلى هذا
المستدرك وهي بقلم: حبيب الله فضائلي:
يعد العهد الصفوي من ألمع العهود وأرقاها وأكملها من ناحية فن الخط،
ولا سيما الثلث والتعليق والنسخ. وقد كان عامة الملوك وأنجالهم مغرمين
بهذا الفن، بما في ذلك الأمراء الصفويون (ولا سيما الشاه إسماعيل الأول،
وعباس الكبير، وثلاثة من أبناء الملوك: بهرام ميرزا (2)، وسام ميرزا، ابنا
الشاه إسماعيل، وابن بهرام ميرزا الأمير إبراهيم ميرزا). حتى إن بعضهم أتقن
كتابة الخط على أساطين هذا الفن، وأكرموا الخطاطين، وأحلوهم قصورهم،
وأولوهم اعتبارا خاصا.
فنجم عن ذلك التشجيع انتشار لأنواع الفنون، وبزوغ لعدد من نوابغ
الخط ولا سيما كتاب خط النستعليق ورسماي الثلث. ولقد كان وجود أمثال
هؤلاء الأساتذة باعثا على الافتخار بنقش أسمائهم على آثارهم لتخليد ذكرهم.
ومن جملة الخطاطين المشهورين في الثلث والرقاع والنسخ والريحاني وغيرها من
نعرضهم فيما يلي:
محمد مؤمن الكرماني:
هو ابن الخواجة شهاب الدين عبد الله مرواريد، المتخلص بالبياني.
ولقد كان محمد مؤمن أيضا أحد عدد من الخطاطين من ذوي الطراز
الأول. وكان تحت يده عدد من خطاطي القرن العاشر بجميع أقلامهم المعروفة
(أنواع الأقلام الستة والتعليق والنستعليق)، فقد كان أستاذا لم يكد يضارعه
أحد فنه.
ودلف محمد مؤمن إلى بلاط الشاه طهماسب، وغدا كاتبه الخاص. ورتب
له مرقعا يعد من نفائس هذا الفن النادر في إيران، إذ كتب بسائر الأقلام
المتنوعة وقد اتفق على أن تاريخ خط هذا المرقع يتراوح بين 934 - 947، ثم
تفرق بعد هذا التاريخ. وفيما يلي صفحات منها من ضمن مرقعات أخر (مثل
مرقع مالك الديلمي، وسيد أحمد مشهدي، وغيرهما). وتوجد في مكتبات
" طوب قابوسراي " وجامعة استانبول. وقد ترك محمد مؤمن بلاط الشاه
طهماسب في أخريات عمره، ورحل إلى الهند، وتوفي هناك سنة 948 ه‍.
نصير المنشي:
يقول سپهر: إن الخواجة نصير المنشي كان يكتب التعليق بشكل جميل
جدا. وتوفي سنة 962. وقد حفظت مكتبة خزانة الأوقاف باستانبول بثلاث
قطع من خطه من مرقع بهرام ميرزا، كتبت بقلم النسخ والرقاع والنستعليق،
ورقمها في المكتبة: " تحفة سلطنة مجلس النواب (والمقصود بكلامه هو بهرام
ميرزا الصفوي) خلد الله تعالى ملكه. كتبه الفقير نصير غفر الله ذنوبه ".



(1) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
(2) معنى كلمة " ميرزا " ابن الأمير
* كان الخواجة شهاب الدين عبد الله بن الخواجة شمس الدين محمد الكرماني من أشراف كرمان،
ووزيرا في بلاط التيموريين. اتصف بحسن السيرة ومكارم الأخلاق. عمل في أيام شبابه بخدمة
السلطان حسين بايقرا، فأجله وأحله في بلاطه، حتى بلغ مرتبة الصدارة، لكنه اعتزل بعد موت هذا
الأمير واشتغل بالعبادة ونسخ القرآن، واستمر الأمر على ذلك حتى تمكن الشاه إسماعيل الصفوي من
هراسان، فأمره بنظم تاريخ الملك. كان الخواجة عبد الله مطلعا على أكثر العلوم المتداولة والفنون
المعروفة، وكان طويل الباع في النظم والنثر. وكان يكتب مجموعة من الخطوط بشكل جذاب. وقد اعترف
تلميذة عبد الله طباه الهروي بمقامه الفني، وبأن خط التعليق كان فيه تلميذا للخواجة تاج السلماني. وقد
جاء في تاريخ الرشيدي أن خط النستعليق لم يكتب به أحد بعد السلطان محمد نور، سواء من حيث
الفصاحة أو القاعدة مثل عبد الله بياني. وقد أوكل الشاه إسماعيل أمر تعليم ابنه أبي النصر سام إليه.
43
الأمير عبد القادر الحسيني الشيرازي:
جاء في كتاب " راهنماي گنجينه قرآن " تاليف أحمد گلجين معاني: " يعد
الأمير عبد القادر الحسيني الشيرازي من أبرع خطاطي منتصف القرن العاشر
وأوائل القرن الحادي عشر الهجريين، هاجر إلى الهند وحط عصا الترحال في
كلكندة الدكن عاصمة سلاطين القطب الشاهي، وهناك شغل بنسخ القرآن،
وقد تمكن من نسخ أربع نسخ من القرآن. وقد ذكرت هذه النسخ الأربع
بخطه، وأورد صفحة منها نموذجا.
ولقد شاهدت بنفسي آثاره المعجزة، أعني القرآن في مكتبة العتبة المقدسة
الرضوية، كتبت بخط ريحاني ممتاز. كما كان هذا الخطاط البارع متمكنا كذلك
من الخطوط الأخرى.
علاء الدين محمد بن شمس الدين محمد الحافظ الشيرازي:
كان معروفا بالملا علاء بك. وهو من أساتذة تبريز المعروفين، وممن تخرج
على يديه عبد الباقي التبريزي وعلي رضا العباسي اللذين عد كل واحد منهما من
أعلام الخط المشهورين.
كان علاء بك تلميذ شمس الدين محمد التبريزي كاتب أوامر الشاه
طهماسب. ومن آثاره: كتابات عمارات تبريز، وكتب ونسخ قرآنية،
ومرقعات وقطع خطية ما زال بعضها موجودا بشكل متفرق. وجميع نماذجه
الفنية البارعة الأثرية مؤرخة بين 963 إلى 1001 ه‍، من ذلك: نسختان من
القرآن بالقلم الريحاني والرقاع والثلث، ونسخة محفوظة في مكتبة إيران
السلطانية السابقة، وقرآن بخط الثلث، والريحاني والرقاع، محفوظة في مكتبة
العتبة المقدسة الرضوية مر عرض نماذج الخطوط في فصول سابقة
والصفحة 348.
صحيفي جوهري:
من الخطاطين الأفذاذ في العهد الصفوي. ومن جملة آثاره ما كتبه في
مدخل المسجد الجامع بتاريخ 992 ه‍. وما زالت صور نقشه ماثلة. وله
طريقة بنقل " سبعة الأقاليم " من الخط والتذهيب والتجليد والوصل. توفي
سنة 1022.
عبد الباقي التبريزي:
تلميذ علاء بك، ومن الأساتذة البارزين. ومن أشهر كتاباته التي ما
زالت حتى اليوم: كتابات الإيوان الشمالي، وكتابات داخل الإيوان الكبير
لمسجد شاه السابق، والأطراف المحيطة تحت القبة، والتي كتبت بين
1035 1036 ه‍.
بعد أن أتم اكتساب العلوم والفضائل وفنون الخط ترك تبريز قاصدا
بغداد. لكن الشاه عباس الكبير استدعاه منها وأوكل إليه أمر الكتابات في
مسجد شاه السابق. وإضافة إلى هذه الكتابات وجدت له قطع خطية.
لا نعلم سنة وفاته. يذكر بعض المؤلفين أنه كان من زمرة الحكماء والعرفاء
والشعراء، ويذكرون أنه كان محبا عطوفا، وذا منحى درويشي. وقد تخلص في
شعره ب‍ " باقي ". يذكر هوارت في كتابه " الخطاطون " و " المنياتوريون
المسلمون في الشرق " ان: " عبد الباقي التبريزي الملقب بالعالم تلميذ علاء بك
كان يقيم في تكية الدراويش ببغداد... كان الشاه عباس الأول قد سمع بشهرته
في خط الثلث والنسخ والتعليق، فأرسل حسين جلبي يدعوه إلى إصفهان،
لينقش كتابات المسجد الكبير هناك، غير أنه لم يقبل العودة.
لكن الشاه عباس بعد أن فتح قندهار أمر بإحضاره إلى إصفهان طوعا أو
كرها. ففي ذلك الوقت كانت قبة المسجد الكبرى قد تمت، والصفة الثانية من
طرف القبلة، والطاق رأس الباب الكبير للمسجد، من كتاباته التي وشتها
ريشته ".
ولا بد من القول بان السائح الروحي المشهور محمد رضا الإمامي
الإصفهاني هو تلميذ عبد الباقي التبريزي، وكلاهما من الفقهاء المشهورين في
زمانهما.
علي رضا العباسي التبريزي (2):
من ألمع خطاطي العهد الصفوي، والذي لم يكن له نظير في خط الثلث.
فقد كان في خط الثلث والنسخ تلميذ الملا علاء بك، وفي النستعليق تلميذ
محمد حسين التبريزي. عاش علي رضا في بلاط الشاه عباس الكبير معززا،
ودامت حياته حتى سنة 1038 ه‍. من آثاره في خط الثلث كتابات القسم
العالي لبوابة قزوين، والتي هي اليوم إدارة الأمن والشرطة لمدينة قزوين، وقمة
باب الدخول إلى مسجد الشاه بأصفهان بتاريخ 1025، وكتابة على قمة باب
دخول مسجد الشيخ لطف الله، وكتابة حول قبة من الطرف الداخلي في
إصفهان، وقطعتان في الشرفات العباسية في الضلع الغربي والشرقي لصحن
العتبة القديمة الرضوية بتاريخ 1021، وكتابة محيطة بقبة الخواجة ربيع
بتاريخ 1024، وكتابة داخل قبة الخواجة ربيع بتاريخ 1026 والتي ما زالت
ماثلة حتى الآن، وتعد نماذج لأعظم كتابات الثلث. ولم يحفظ لنا من خطة
النسخي إلا قطعة واحدة من مجموعة شخصية لخوشنويس زاده. وقد
استخرجنا منها قطعة بالتصوير الضوئي (الفوتوكوبي)، ترى هنا، والتي كتبها
على منهج أستاذه علاء الدين وقواعده.
محمد صالح أصفهاني:
ترى في القسم الأعلى من محراب مسجد شاه في إصفهان بخط ثلث ممتاز
كتابات تدل على عراقة فنية وظرف فائق، وفي ختامها ورد اسم محمد صالح
سنة 1038. وورد الاسم صريحا وبالرقم نفسه في كتابة محراب القبة الشرقية
لمسجد شاه السابق: " كتبه محمد صالح الإصفهاني سنة 1038 ".
محمد رضا الإمامي الإصفهاني:
يعرف محمد رضا بامام الخطاطين، عاش عمرا مديدا، وكان معاصرا
للشاه عباس الأول والشاه صفي الدين والشاه عباس الثاني والشاه سليمان.
ولقد كان له في كل حقبة كتابات وآثار على كل ما كان يبنى للذكرى.
لم يكن خطه " الثلث " وحده رفيع المقام، بل كان بارعا في كتابة النسخ
والنستعليق كذلك. وكان معاصرا للخطاطين المشهورين الآخرين مثل: علي
رضا ومير عماد وعبد الباقي ومحمد صالح. وقد استطاع كاتب هذا المقال إحصاء
ما كتبه على الأبنية التاريخية المشهورة في إصفهان، فكانت تسعا وعشرين
كتابة، وكلها بخط محمد رضا الإمامي. وأقدم ما كتبه كان مؤرخا
بسنة 1038، وهو في مسجد شاه السابق، في زمان الشاه عباس الأول، وكان
أحدثه مؤرخا في سنة 1081 ه‍.
محمد محسن بن محمد رضا الإمام:
تعزى إليه كتابات كثيرة على الأبنية القديمة في إصفهان ويمتد تاريخها من
1093 1100، كما رئيت في خزانة آثار إصفهان التاريخية. لقد كان من
أبرز الخطاطين في عهد الشاه سليمان الصفوي وأوائل الشاه سلطان حسين وقد
دون اسمه بشكل صريح في بعض الكتابات: " كتبه ابن محمد رضا محسن
الإمامي " ولم تكتشف له إلا كتابات بالخط الثلث حتى الآن.



(1) رسالة العتبة المقدسة الرضوية رقم: 1
(2) راجع ترجمة مفصلة له في هذا الكتاب.
44
ولقد أورد الدكتور بياني في كتابه " نماذج الخطوط قطعة بخط النسخ مع
الرقم: " مشقه العبد الأقل محمد محسن الإصفهاني 1157 " وهي منسوبة إلى
محمد محسن الإمامي، ولعل لطول عمره سببا في هذه النسبة. وليس معلوما
أنها له لأننا لم نجد كلمة " إمامي " في الرقم. كما تنسب إليه كتابة بخط
النستعليق موجودة في شرفة إمام زادة إسماعيل، والتي هي في الحقيقة بخط ابنه
علي نقي الإمامي.
علي نقي الامامي بن محمد محسن الإمامي:
هو كجده وأبيه في الكتابات في المساجد والأبنية وآثاره موجودة في
إصفهان، يعد من خطاطي عهد الشاه سلطان حسين الصفوي، وله خطوط
كثيرة في مدرسة الحدائق الأربع وابن الإمام إسماعيل في إصفهان. كما له
كتابات موجودة بخط النستعليق.
كان علي نقي يكتب بخط النسخ والرقاع أيضا وتتراوح كتاباته التي بخطه
بين 1111 و 1119. ورد في رسالة العتبة المقدسة رقم " 1 " من المجموعة
السابقة أن محمد رضا الإمامي وابنه محمد محسن وحفيده علي نقي قاموا بكتابات
كثيرة لأبنية إيرانية في حدود قرن كامل من 1039 - 1127، ويعدون من
أعظم الخطاطين، كما ذكرت تلك المجلة في الصفحات 123 - 125 خطوط
هؤلاء الأعلام الثلاثة في إصفهان ومشهد وقم وقزوين، وأشارت إلى
اختصاصهم ومقامهم.
عبد الرحيم الجزائري،
إن أكثر خطوط المدرسة السلطانية في إصفهان (الحدائق الأربع) من
آثاره، كتبها بخط الثلث الرفيع. كما له كتابات على باب الدخول إلى المدرسة
السلطانية المشرف على شارع الحدائق الأربع، وعلى باب آخر في سوق
السلطان الطويل بجانب المدرسة مؤرخ بتاريخ 1122، وكتابة في مسجد واقع
بشارع الشيخ البهائي بتاريخ 1125، تدل هذه الكتابات على مهارة وفن في
عهد السلطان حسين الصفوي.
خطاطون مغمورون في القرن العاشر
لم تتيسر لنا معرفة حياة عدد من الخطاطين، إلا أن آثارهم الماثلة تدل على
مهارتهم وبراعتهم. من هؤلاء:
محمد بن سلطان شاه الهروي - معين المنشي - شمس الدين علي الشيرازي
وله نسخة قرآنية بخطه في مكتبة العتبة المقدسة الرضوية - شمس الدين
محمد بن أمير علي التبريزي - يوسف الغباري - أبو سعيد الإمامي - محمد بن
أحمد الخليلي التبريزي، وله نسخة قرآنية بخطه في مكتبة العتبة المقدسة
الرضوية بقلم المحقق وتوقيع ممتاز، مؤرخة بسنة 981. وسوف نفرض نموذجا
لها في فصل المحقق - محمد بن ميرك عليقي الشيرازي - عبد الله بن سلطان محمد
الهروي - فخر الدين علي الحسيني - الصيرفي، وهو غير عبد الله الصيرفي
المعروف - نظام الإصفهاني - حسن بن محمود سالم - باقر بنا، وأكثر كتاباته
واقعة داخل مسجد الشيخ لطف الله بخط ثلث عال ممتاز.
كما أن هناك عددا من الخطاطين من الذين عاشوا في القرن العاشر،
وأدركوا القرن الحادي عشر، وهم: درويش مقصود التبريزي أو حاجي
مقصود شريف التبريزي - ميرزا علي - سلطانية - حسن بيك التبريزي شاه محمد
الأشرفي.
الخطاطون المعروفون في القرنين
الحادي عشر والثاني عشر
إبراهيم آغا القمي:
محمد إبراهيم ابن محمد نصير القمي من مشاهير الخط النسخي، والذي
كان أستاذ ميرزا أحمد التبريزي. إبراهيم آغا من الخطاطين الأعلام والأساطين
المشهورين في عهد سلطنة الشاه سليمان والشاه سلطان حسين الصفوي، فهو
كان يكتب، بالإضافة إلى الخطوط الأصولية، التعليق والنستعليق والمكسر
بغاية من الجودة والبراعة، ومن أفضل ما اشتهر به خط النسخ، إذ يقال إنه
كان ينسخ في كل سنة ثلاث نسخ من القرآن ويتعيش من أجرها عيشة مرفهة.
وقد أمضى عمره كله عزبا سخيا، وقد كان حيا سنة 1117، إلا أن تاريخ
وفاته غير معلوم.
ميرزا أحمد النيريزي:
هاجر أحمد بن شمس الدين محمد النيريزي في أيام شبابه من نيريز إلى
إصفهان، واختار دار إقامته في هذه المدينة بحدود سنة 1100. وقد كان
يحظى باحترام الشاه سلطان حسين الصفوي، وبتقدير لدى أمراء عصره
وفضلائهم وأصحاب الفن. وكانوا يقبلون على آثاره بمال كثير، حتى قيل إنه
جنى من فنه في حياته ستين ألف تومان صفوي.
كان النيريزي ذا شمائل نفسية خاصة، فقد نقل أنه كان يكتفي لعيشه
بمبلغ زهيد، بينما ينفق بقية ما يجنيه. وقد قصد في أواخر عمره العتبات
العاليات، ولم يتقاعس هناك رغم كبر سنه عن الكتابة، ففي مكتبة سلطنة
إيران دعاء بخطه محفوظ في النجف الأشرف، كتبه بتاريخ 1172.
وتبعا لاختصاص النيريزي ببلاط الشاه سلطان حسين (السلطاني) فإنه
يكتب بعض الرقم والآثار، كتبها بأمر هذا الملك. وكان قد تعلم خط النسخ
في ابتداء حياته لدى إبراهيم القمي، إلا أن منهج خطوطه كان أقرب كثيرا إلى
خطوط علاء الدين النيريزي، فقد كان واضع قواعد خاصة لخط النسخ، بل
هو الذي قعد أصوله في إيران. وعد النيريزي أشهر أساتذة النسخ في إيران
وأعرقهم.
ومن آثار قلمه قاعدة باقية تعد من أندر ما قدمه أستاذ. ومن أهم آثاره:
خمس نسخ من القرآن المجيد في المكتبة السلطانية، يمتاز بعضها بارقى فن كتابة
النسخ، مما ليس له نظير، ومع هذه الشهرة الكبيرة فإننا قلما نعرف جزئيات
حياته، حتى سنة ولادته وسنة وفاته غير معلومتين بدقة، إلا أن المسلم به أنه
عمل خطاطا بين 1096 - 1152، أي كان اسمه لامعا أكثر من نصف قرن،
وأنه توفي عجوزا.
محمد الهادي الإصفهاني:
هو ابن الملا محمد صالح المازندراني، ويعد من زمرة العلماء والزهاد، ومن
ألمع خطاطي الخط النسخي، وقد كان من معاصري إبراهيم آغا القمي ومن
أتباعه في منهجه وقواعده. أمضى حياته في إصفهان وانتهت حياته في المدينة
المذكورة في أثناء فتنة الأفغان في سنة 1135.
القرنان الثاني عشر والثالث عشر
هاشم آغا الإصفهاني:
هو محمد هاشم بن محمد صالح اللؤلؤي الإصفهاني، المعروف بزرگر
(الذهبي) (والد ميرزا محمد علي محرم، وجد عبد الوهاب محرم اليزدي شاعر
السلالة القاجارية). وهو من أساطين خط النسخ المعهودين في القرنين الثاني
عشر وأوائل القرن الثالث عشر، وقد حظي في زمانه بشهرة طبقت آفاق
الأمصار الاسلامية، حتى إن الشعراء كانوا يمدحونه بحسن خطه. وقد كان في

45
الخط النسخي مضارعا لعبد المجيد درويش، وهما اللذان رسخا دعائم الخط
المكسر.
لم نعرف تاريخ وفاته، لكن المسلم به أنه كان حيا بين السنوات
1172 و 1212، وقد احتلت آثاره طيلة هذه المدة مقاما جعلته من ذوي القدرة
في فن الخط. وبناء على ما نقل من " دليل الخزانة القرآنية " أن مجلدين من
القرآن بخط محمد هاشم لؤلئي محفوظان في مكتبة العتبة المقدسة الرضوية،
نسخا في سنة 1184، و 1185 ه‍. ق.
تذكره: وإثر انقراض الدولة الصفوية سنة 1135 والحوادث المتتابعة
والحروب والفتن التي انتشرت في أطراف دولة إيران وأرجائها جعلت الناس
ينشغلون بأنفسهم، فكان ذلك سببا في انحطاط الفن، بما في ذلك فن الخط.
ومنذ بزغ فجر القرن الثالث عشر استعاد فن الخط مقامه تدريجيا، فازداد
الاهتمام بالأقلام الستة، ولا سيما الخط النسخي، وازداد عدد الخطاطين بشكل
ملحوظ، فظهرت آثار نفيسة من القرآن والأدعية والكتب والمرقعات والقطع
والكتابات تحمد عمل أصحابها.
الخليل بن أحمد الفراهيدي
مرت ترجمته في موضعها من (الأعيان)، وننشر هنا بحثا عن كتاب
(الجمل في النحو) بقلم سعادة سوداح:
* يعود الدكتور فخر الدين قباوة في الطبعة الثانية من كتاب " الجمل في
النحو " إلى تحقيق نسبة الكتاب إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، بعدما كان في
الطبعة الأولى، قبل عشر سنوات، تجنب الجزم في نسبته إلى أحد سواء
الخليل بن أحمد أم أبو بكر بن شقير. وختم مقدمة تلك الطبعة الأولى بالقول:
" ما زال توثيق النص، أي تصحيح نسبة، في حاجة إلى نظر وتحرير، وما
فتئت عدة ثغرات وعبارات تتحمل طابع الأشكال، وينقصه التصويب
والتحقيق. وها أنذا أضع ذلك بين أيدي المحققين وعلماء العربية، آملا أن
يشاركوا في تذليل العقبات، وإقالة العثرات، وتقويم ما ظهر من الخطل في
الاختبار والاجتهاد. فلعل ما لديهم من المصادر المخطوطة والمطبوعة، وما
يحيطون به من خبرة وعلم وإطلاع، يقدمان لي عونا على ما أخفقت فيه، أو
أعرضت عنه، أو نؤت به، أو تهيبته فتجاوزته، أو تحرجت منه وأشفقت أن
أحمل تبعته ".
غير أن من تناولوا مسألة توثيق كتاب " الجمل في النحو " بعد صدور
طبعته الأولى، أغفلوا التحفظ الذي أورده الدكتور قباوة حول نسبة الكتاب،
وانصب همهم على نقض نسبة الكتاب إلى الفراهيدي، وإثبات نسبته إلى ابن
شقير. وساقوا لذلك أدلة تتلخص بالآتي:
- نص ابن مسعر المعري في كتابه " تاريخ العلماء النحويين من البصريين
والكوفيين " على نسبة الكتاب إلى ابن شقير، بقوله: " له كتاب لقبه " الجمل ".
وربما نسب هذا الكتاب إلى الخليل. وهو من عمله، يقول فيه: النصب على
أربعين وجها، والرفع على كذا.
- إشارة المؤلف في خطبة الكتاب الموجود بين أيدينا على أن لهما كتابا
مختصرا في النحو، في قوله: "... فمن عرف هذه الوجوه، بعد نظره فيما
صنفناه من مختصر النحو قبل هذا، استغنى عن كثير من كتب النحو ". ومن
الثابت أن لابن شقير كتابا اسمه " المختصر في النحو ".
- اشتمال " الجمل " على مصطلحات وأقوال وأسماء وأحكام لا يصح
إسنادها إلى الخليل، لتأخرها عن وفاته، أو شهرتها الكوفية أو خلافها ما
عرف عنه في المصادر المتداولة. أما ابن شقير فقد عرف بتلفيقه بين المذهبين
البصري والكوفي:
ويعتبر المذكورة قباوة في مقدمته للطبعة الثانية هذه من الكتاب أن " هذه
الأدلة وإن كان ظاهرها الصحة والسلامة، لا تخلو من الحاجة إلى النظر
والاختبار ". وتفحص هذه الأدلة والرد عليها هو ما يكرس المحقق مقدمته
له، فيرى أن ابن مسعر هو الوحيد الذي انفرد بنسبة الكتاب إلى ابن شقير،
وقد نقل عنه بعض من جاءوا بعده إشارته هذه دون أن يثبتوا نسبة الكتاب إلى
ابن شقير. بل إن ياقوت الحموي في (معجم الأدباء)، وجلال الدين
السيوطي في (بغية الوعاة) يجعلان كتاب الجمل من ضمن مصنفات الخليل.
بل إن الصفوي يتطرق في (الوافي) إلى إشارة ابن مسعر فيشكك فيها ويثبت
نسبة الكتاب إلى الفراهيدي بقوله: " ويقال: إن الجمل الذي للخليل هو لابن
شقير ".
ويذهب الدكتور قباوة إلى أن ابن مسعر " لم يكن محققا عندما نسب
كتاب " الجمل " إلى ابن شقير، بل أزعم أبعد من هذا، فأقول: إنه نقل هذه
النسبة عن غيره، ولم يطلع هو على الكتاب بنفسه. والدليل أنه حين ادعى
تلك النسبة ذكر أن مؤلفه " يقول: النصب على أربعين وجها، والرفع على
كذا ". والنصب فيما بين أيدينا واحد وخمسون وجها أو ثمانية وأربعون،
والرفع واحد وعشرون وجها. فوهمه في عدد وجوه النصب، وكنايته لعدد
وجوه الرفع، يثبتان أنه لم يكن بين يديه نسخة من " الجمل " حين تحدث عنه،
وإنما سجل ما كان قد سمع أو قرأ من قبل. على غير تثبت أو تحقيق ".
ويرى المحقق أن ليس ثمة ما ينفي أن للخليل بن أحمد مختصرا نحويا،
رافضا في هذا السياق القول بأن الفراهيدي لم يضع مؤلفات في النحو. وهو
القول الذي أورده السيوطي في " المزهر " نقلا عن أبي بكر الزبيدي الذي قال
عن الخليل " أنه لم يؤلف في النحو صرفا، ولم يرسم فيه رسما، نزاهة بنفسه
وترفعا بقدره، إذ كان قد تقدم إلى القول عليه والتأليف فيه... "، فالسيوطي
نفسه ينص في كتابه " بغية الوعاة " على أن للخليل كتاب في النحو، وذلك في
معرض إنكاره علي الرماني محاولته المزج بين النحو والمنطق، بقوله: " ومتى
عهد الناس أن النحو يمزج بالمنطق؟ وهذه مؤلفات الخليل وسيبويه
ومعاصريهما، ومن بعدهما بدهر، لم يعهد فيها شئ من ذلك ".
أما اشتمال " الجمل " على مصطلحات وأحكام لا يصلح إسنادها إلى
الخليل، فيرى الدكتور قباوة أن أصحابه اعتمدوا " شأن جمهور معاصرينا من
الدارسين، على المقولات الشائعة في تقسيم المصطلحات تقسيما حادا بين
البصريين والكوفيين، وتوزيع الأحكام النحوية على العلماء توزيعا جازما،
حتى كأن ما نسب إلى أحدهم قد انفرد به واختص، فلا ينازعه فيه أحد ولا
يشارك ". ويناقش هذا الأمر، فيقول: " فالواقع في تاريخ العلوم أن
الاصطلاح، في مرحلتي النشوء والتأسيس، يكون رجراجا متقلبا تتداوله
الألسن، دون نضج واستقرار واختصاص بمكان أو إنسان. وبعد مرور تينك
المرحلتين تتوزع المصطلحات المختلفة، بشكل ما يناسب التوليد والاتجاه،
ويختص كل منهما بمذهب أو منحى أو علم، مع احتمال التداخل والتبادل
أيضا. ولا يكون التوضع الحاد الجازم إلا في مراحل متأخرة من تاريخ العلم
نفسه ".
إلى ذلك كان المحقق اعتمد في طبعته الأولى على ثلاث نسخ خطيئة تثبت
كلها نسبة الكتاب إلى الفراهيدي، غير أن في الورقة الأولى من إحداها ما
يلي: " كتاب وجوه النصب. ألفه خليل بن أحمد البصري. وقيل: هو تصنيف
أبي بكر عبد الله بن شقير، صاحب أبي العباس المبرد ". وحصل المحقق، بعد
صدور الطبعة الأولى من الكتاب الذي عرف بأسماء كثيرة، على نسختين

46
خريين تؤكدان نسبة الكتاب إلى الفراهيدي. وهذا ما يعتبره الدكتور قباوة
دليلا قاطعا على هوية صاحب الكتاب.
ويخلص المحقق بعد تدقيق الكتاب إلى القول) " والذي تبين لي، من خلال
مصاحبتي لهذا الكتاب ومدارسته، ومتابعة الخلاف الحاد بين نسخه
المخطوطة، واختلاف مستوياته المنهجية والمذهبية والتعبيرية والاصطلاحية
والاستدلالية. أن ما يتضمنه الآن هو مجموعة جهود من النحاة، لها أصل
قديم محكم مختصر، تداولته أقلام المطلعين من النحويين في القرنين الثالث
والرابع، بإلحاق بعض الموضوعات الرئيسية والمسائل والأحكام والأدلة
والشواهد والتعليقات، فأصبح على هذه الصورة من التداخل والاختلاف...
ولذا فإن ما اتفقت فيه جميع النسخ من النص... يمثل أقرب مضمون
للأصل الذي ضعه مؤلفه الأول. وهو الخليل بن أحمد الفراهيدي، بلا شك
أو تردد ".
ويرى الدكتور قباوة أن مصيرا مشتركا جمع بين كتابي " الجمل " و " العين "
للفراهيدي " فقد عاش كتاب " الجمل " كما عاش كتاب " العين "، يقحم فيه
تلاميذ الخليل ومن خلف من النحاة ما عن لهم، ويزودونه بالمعلومات
المتلاحقة في نسخة المختلفة المتكاثرة، حتى وصلت إلينا هذه النماذج المضطربة
المتشابكة، لا يجمع بينها إلا اسم الخليل ونصوص متفرقة في طيات الزيادات
المتواليات مع الأيام. وكذلك لبثا حقبة من الزمن مجهولين أو كالمجهولين، ثم
تناولتهما الألسن والأقلام بالطعن في النسب، والانتحال والادعاء لمن قارب
أو شابه أو أراد ".
والواقع أن ما كتبه الدكتور قباوة في مقدمتيه للطبعتين الأولى والثانية من
هذا الكتاب يعد نموذجا يحتذى في أصول التحقيق العلمي لكتب التراث،
ولا سيما الجهد الذي بذله في توثيق نسبة الكتاب، وفرز ما للخيل عما لغيره
ممن زادوا في كتاب الأصلي. ولم تمكنا هذه المراجعة السريعة إلا من استعراض
جوانب قليلة مختصرة من جهده، فلابد لمن أراد التوسع والتعلم من العودة إلى
المقدمتين في الكتاب.
الشيخ خليل مغنية
مرت ترجمته في الصفحة 349 من المجلد السادس، ونزيد عليها هنا هاتين
القصيدتين:
قال:
خمسون عاما قد مضت * هل ترجعن وليتهنه
مرت كأنفاس الصباح * تذيع من نفحاتهنه
هاتيك أزهار الربيع * تناثرت برياضهنه
كانت عليهن الرياح * شديدة فنثرتهنه
فبكى عليهن الكنار * بغنة وصلت بغنه
كل الحياة هي الشباب * فكم له بالنفس رنه
من لي يساعدني على * أيامه برجوعهنه
ذهبت وآمال الرجوع * كومضة من نورهنه
ودعتهن بأدمع * مزجت دما بجفونهنه
في عارضي طلائع * أرجفتني بطلوعهنه
بيض ولكن الكعاب * بغضبة لبياضهنه
نفرت بنيات الصبا * لما بدت لوجوههنه
وضحكن للنور المطل * وقد بكيت لضحكهنه
وخطرن والنسمات تلعب * في ضعاف خصورهنه
يمزجن من فرط * التدلل هزلهن بجدهنه
يغرين كبار العقول * بقاصرات عقولهنه
والشيب حد الملتقى * بين الوقور وبينهنه
عفواك لست بمغرم * نصب الشباك لصيدهنه
مثلي تنزه المكانة * أن يخف لمثلهنه
ذي لهوة من شاعر * أرخى لفكرته الأعنة
فأتى الخيال بباقة * قد نظمت من زهرهنه
هيا لروضات الربى * نجري الدموع لحالهنه
تلك المطامع أحرقت * زهراتها في نارهنه
أني نظرت ترى الشحوب * يلوح في أنحائهنه
صحراء تسقيها العيون * سحابة من دمعهنه
هزتك يا جبل العلى * أيدي الطغام بفعلهنه
صور كان وجوهها * للناظرين لها دجنه
أشكال خزي كالقرون * السالفات وخزيهنه
يا صبية الأكر التي * تعدو لها في سوحهنه
سدت مهازلك الطريق * وليس في سير مظنه
أيد معودة على * بذر الخنوع بمقهنه
جعلت زخارف صنعها * يوم الحساب لها مجنه
في كل ناحية أذى * من دونه وخز الأسنة
إن الحوادث جمة * والمخجلات أشدهنه
كم في الحمى قد زمجرت * هوج دهته بعصفنه
تركت بهاتيك المروج * زلازلا من وقعهنه
تلك الخمائل ما رأت * حرا يثور لحفظهنه
الكل في نظر * الحقيقة مهملون لشأنهنه
والكل قد تركوا البلاد * محاطة ببلائهنه
للناقرات على الدفوف * يجدن في نقراتهنه
للضاربين بأرجل * وجه الثرى هوسا وجنه
يا للبلاد فكم * تبث مفاسد بربوعهنه
ولكم يراح ويغتدى * في كل مهزلة لهنه
كشف الستار عن الأولى * يتسابقون لنهيهنه
جشع النفوس يثيرها * للعب في أوضاعهنه
وخمول أشباه الرجال * عن القيام بحقهنه
ترك المجال لمن يروم * وقيعة بكبانهنه
أين الهداة وهل لهم * من جولة بمجالهنه
أين الشباب وما * هنالك يقظة بشبابهنه
اليوم يومك يا رعاع * فنكلي برجالهنه
تلك الوعود فهرولي * وخذي الحي لحربهنه
ستضئ أنوار الصباح * بهية بجهاتهنه
وتزيل كل دجنة * سوداء عن أبصارهنه
وترى البلاد دليلها * يمشي بها لحياتهنه
ما رمت أقصد واحدا * بمقالتي من أهلهنه
إن البلاد وأهلها * مثل الخمول بارضهنه

47
فوضى تسود على * الشؤون جميعها بجميعنه
وقال:
سائل الناس في الجنوب علام * سودوا بالعيوب وجه الجنوب
أضرموا نارها بكل مكان * وأتى الغر يرتمي باللهيب
ثم جاءوا وهم يقولون إنا * قد ملأنا الدنا بنفح الطيوب
أيها القوم إنكم لأناس * نهض العيب فيكم للمعيب
إنما الناس كالنبات فهذا * طيب طعمه وذلك مر
وكذا الناس في الحقيقة هذا * عبد قوم وذاك في القوم حر
إن تخفيت في صفاتك يوما * سوف يبدو لثاقب الفكر سر
ليس يزري بصاحب الفضل زور * لا ولا يبلغ الكرامة غر
قد عدونا على الطريق جميعا * كلنا نبتغي بلوع الأماني
وانتهينا إلى الحمى وأخذنا * نتجارى بحلبة الميدان
ثم عدنا وفاز هذا وهذا * لم ينل غير صفقة الخسران
وأرى الكل في الربوع سواء * ذاك عيب في كفة الميزان
نحن أولى بأن نكون مثالا * فائق الوصف في بديع المعاني
نحن أولى بأن نبث أريجا * من زهور الهدى بكل مكان
نحن أولى بأن تنظم فينا * ألسن المدح رائعات البيان
نحن أولى بكل هذا فهذا * أثر الدين في بني الإنسان
إن في عالم النفوس نفوسا * كالدجى وحشة وكالنتن ريحا
لم يكن للجميل فيها محل * قد أبت أن تحل إلا القبيحا
أنهكت روحها القبائح حتى * لم تبق لها وعينيك روحا
في مطاوي اللئيم نار تلظى * ليس تبقي مهشما وصحيحا
كم ترائي ولا يفيد رياء * هتك الستر عن خفايا المرائي
ميت أنت في الحقيقة لكن * بقيت فيك صورة الأحياء
يسطع النور في الظلام ويبدو * ما تخفى بحالك الظلماء
يا مقيم البناء فوق رماد * سوف تنهار شامخات البناء
أنت في ثروة الاباء غني * قد تجملت بالصفات الرضية
وهو في ثروة النقود فقير * دنس الروح بالأمور الدنية
يا أخا اللؤم والنوايا مطايا * سوف ترميك بالمهاوي الخفية
ظهرت منك للعيان مطاو * سوف تطويك طية بعد طية
لا تسلني فكم يثير سؤال * في محاني الأريب نار الأذية
همج أقلقوا البلاد وزاحوا * كيف شاء العمى لكل دنية
يا عصي الرعاع وعرك أضحى * مصدر الفضل للأكف قوية
لا تشاء الرعاع إلا شذوذا * وانبعاثا بحالك الهمجية
هذه نهضة البيان وهذا * أثر الفن في وجوه الطروس
يا يراع البيان منك عرفنا * كامنات تغلغلت بالنفوس
إن يوما به ولدت عبوس * ليته لم يكن بيوم عبوس
قد حسبناك بالسعود محاطا * فإذا أنت بالنحوس
الشيخ خليل ياسين ابن الشيخ إبراهيم
ولد في بلدة العباسية (جبل عامل) سنة 1328 وتوفي سنة 1405. تعلم
على والده القراءة والكتابة وقرأ القرآن. ثم درس على الشيخ حسين مغنية في
بلدة طير دبا حتى بلغ كتاب اللمعة ثم سافر سنة 1353 إلى النجف فتابع
هناك دراسته على علمائها ثم عاد إلى جبل عامل سنة 1365 واقام في بلدة
العباسية إلى أن عين في القضاء الشرعي قاضيا ثم مستشارا في المحكمة العليا
له من المؤلفات المطبوعة: اثبات الصانع، حل مشكلات القرآن، محمد
في نظر علماء الغرب، الإمام علي عدالة ورسالة.
وله من غير المطبوع: المفردات الأجنبية في اللغة العربية، شرح الكفاية،
رسالة في العلم الاجمالي، شرح على طهارة العروة الوثقى وغير ذلك.
وله ديوان شعر مخطوط.
ومن غير ما نشر في ترجمته: أرسل لوالده جوابا على رسالة منه:
تقول سوى العلياء لا تتطلب * وجد وكاس الصاب دونك فاشرب
وأوصيك لا تنفك ربك مرضيا * فذاك وأيم الله أعظم مكسب
أجيبك سمعا وامتثالا وطاعة * فلست سوى العلياء بالمتطلب
ولست أرى الا رضاك وسيلة * وارضاء ربي في بلوغي ماربي
وقال يعلق على قصيدة لأحد أصدقائه المصابين بمرض السل سنة
1366:
عواطف قد ضاق الفسيح بها صدرا فنظمها في السلك شاعرها شعرا
ولحن آلام الكئيب مغرد * فنبه بالألحان عاطفة سكرى
وراح من الآلام يبعث زفرة * تلظى وأنفاسا رماها لنا حرى
وأرسلها من فيه عقدا منضدا * كما صاغها من فيض فكرته درا
شكا الشاعر السل الذي اجتاح جسمه * وطار به للشيب يستبق الدهرا
وود " بان الموت يسرع نحوه * ولكنه يأبى الدنو له حذرا "
شكا مستغيثا من زمان رمى به * إلى غمرة الأسقام فاستوقف الفكرا
ورددها شكوى تعاظم وقدها * بطي الحشا إذ راح يقذفها جمرا
ودوى بارجاء البسيطة من أسى * نداء تعالى ليت في مسمعي وقرا
فأجج نيرانا بشكواه يصطلي * بها القلب وانهلت لها أدمع حمرا
لئن كان داء " السل " سلطان قوة * غزاكم فرحتم منه في سجنه أسرى
وبزكم الآمال في ميعة الصبا * يسومكم ضعفا ويوسعكم قسرا
ويذوي من الروض البهيج نديه * وراحت عليكم منه آلامه تترى
وباتت أمانيكم لديه صريعة * وصرتم بحال لم تطيقوا لها صبرا
فهذي سلاطين النوائب جمة * تهاجمنا لا نستطيع لها قهرا
أطلت على الدنيا فمدت رواقها * وها كل من تلقاه يشكو لك الدهرا
فما الدهر والأيام إلا مصائب تعض على الأحرار في سيرها جهرا
تراها إذا ما امتد طرفك حلقت * عقابا فتلوي الجيد منقضة صقرا
على الروضة الغنا فتنهب ما بها * وقد تخذت غض الغصون لها وكرا
رويدك ما الإنسان إلا بعزمه * ينال به المجد المؤثل والفخرا
فإن هو أولاه الذميم رمى به * سحيقا وإلا كان مقعده الشعرى
وما هي إلا النفس إن أنت رضتها * تجدها على الآفاق عباقة نشرا
وإن هي طارت بالكمال إلى الذرى * فما ضرها الجسم الذي يجرع الصبرا

48
وقال في السنة نفسها من قصيدة:
حيدر صنو أحمد من براه * ربه للأنام من لألائه
من إذا هجته تلفت حذرا * منه شخص الزمان خوف لقائه
وإذا هجته ترنح شوقا * للوغى والردى بحد مضائه
نشر العلم والفضيلة طرا * في صلاح الزمان في أبنائه
سائق البغي للدمار وحامي * بيضة الدين من أكف عدائه
فارس الكون من كشبل علي * دوخ الدهر في عظيم بلائه
مفردا والعراق أقبل سيلا * من جيوش تسد ثغر فضائه
فثنى السبط منه عزم كفاح * يرجف الأرض في ربى صحرائه
وأثار الورى ضروسا فماجت * بالنجيع المراق من خصمائه
طرفه الفلك واللواء شراع * والحسام المجداف في دأمائه
صرخ السبط في الضلال فدوى * في عمود الزمان رجع ندائه
موقف حير العقول وألوى * بنفوس تطيش من دهيائه
بذل النفس والنفيس فماتت * أمة البغي واهتدى كل تائه
وسرى موكب الهدى مطمئنا * يبسم النصر في بياض سرائه
حادث أرجف البسيطة حزنا * وترامت مصائب من جرائه
غمر الناس منه فيض دماء * وأطاش العقول في كربلائه
كبر الكون من أسى وتهاوت * عنه أفلاكه إلى بطحائه
وقال وأرسلها إلى مرجع عصره السيد أبو الحسن الإصفهاني في النجف
الأشرف:
يا درة الدنيا التي أم العلى * عقدتك فوق جبينها إكليلا
ماذا أقول بمدح ذاتك انني * لا أستطيع لمدحها تفصيلا
يا واحد الدنيو من إفضاله * تركته فوق النيرين نزيلا
يا من بكل فضيلة هو احمد * للشرع أضحى حاميا وكفيلا
ولانت قطب رحى المعارف والهدى * واحق من في ذا الورى تفضيلا
وقال وهو في النجف الأشرف راثيا الشيخ حسين مغنية سنة 1359
وأرسلها إلى جبل عامل:
جبت لعاملة المنون سناما * فطوت ولكن مجدها البساما
وهوت حصون العلم لما ان هوى * عنها (الحسين) دعامة وقواما
يا واحد الدنيا طوتك ملمة * فطوت بك الآمال والأحلاما
ما ذا أقول مؤبنا أفلست من * خضع الزمان لقدره اعظاما
وعلوت آفاق العلا حتى علت * قدماك من هذا الزمان الهاما
حتى إذا مد الردى لك كفه * فرمى من الدين الحنيف دعاما
وهوى صريعا شرع طه حينما * صرف الزمان سقاك منه الجاما
واطار قلب المكرمات أسى وقد * ترك الدموع دما عليك سجاما
وانهار صرح العلم بعدك وانطفى * مصباحه فغدا النهار ظلاما
يا مخرس الفصحاء أعظم حسرة * في النفس انك لا تطيق كلاما
كنا برشدك نستضئ إلى الهدى * مذ كنت فينا سيدا وإماما
رحماك قد حل المصاب و أصبحت * قطع الأسى فوق النفوس ركاما
خطب له في قطر " عامل " صرخة * هز " العراق " دويها " والشاما "
خطب دهى النجف الشريف وراح في * أقطار يعرب يبعث الآلاما
ابكى بك الدين الحنيف وانما * ابكى الابا والحزم والاقداما
عجبا لشخصك كيف غيبه الثرى * أم كيف يلثم ثغرك البساما
أفلست من بلغ السماء بشأوه * حتى وطات من السماك الهاما
واروك لكن في القلوب وانما * واروا بك الايمان والاسلاما
وقال يرثي الحسين (عليه السلام) من قصيدة:
بأبي الألى في الغاضرية صرعوا * وقضوا حقوقا للعلى وديونا
بأبي الألى باعوا النفوس وارخصوا * من سعرها دون الحسين ثمينا
بذلوا نفوسهم لديه وانما * كل غدا في بذلها مفتونا
فغدا ابن حيدرة وحيدا لم يجد * الا الصوارم والسنان معينا
وتدفقت كالسيل آل أمية * كي تشفين من الحسين ضغونا
وعدوا عليه فغاص في أوساطهم * فردا وأوقدها هناك زبونا
واثارها حربا وأدمى منهم * قلبا ولف على اليسار يمينا
فبكفه ذات الفقار قد اغتدى * في حده الموت الزؤام كمينا
وأدار أرحية الطعان وهزها * حربا وحكم في الرقاب منونا
مستنصرا بهم فلم ير ناصرا * إلا الحسام وصحبه السبعينا
فسطا بفتيته الكماة وأوقدوا * حربا على أهل الضلال زبونا
صيد نضوا بيض الخدود فضرجوا * بدم الطلى للمرهفات جبينا
وعدت خيولهم فخيم قسطل * فغدا لهم يوم الكفاح عرينا
شرعوا العوامل وهي ظامية الحشا * فهوت على مهج العداة منونا
حتى إذا حكم القضاء ترجلوا للموت: ثم مضرجا وطعينا
حقنت دم الكفار آل أمية * ودم ابن طه لم يكن محقونا
مثل الحسين يرى شريدا خائفا * ويزيد ينعم في القصور أمينا
واتت عقيلة خدرها ابنة فاطم * تبكي أخاها لوعة وشجونا
وشكت فقطعت القلوب وللاسى * وقع يهز الراسيات حنينا
أ أخي يا أملي ومعتصمي ومن * قد كان خدري في حماه مصونا
غادرتنا وذهبت عنا نائيا * من ذا إذا بعد النوى يحمينا
ورنت إلى نحو الغري بطرفها * والزرء فت فؤادها المحزونا
ودعت أباها المرتضى واستنجدت * فيه فاعطت للصخور اللينا
يا ليت شخصك حاضر ما بيننا * لترى بناتك للسباء ولينا
فسروا بنا فوق المطايا حسرا * نطوي سهولا في الفلا وحزونا
ان نبك من ذل السبا قرعوا لنا * رأسا وان نشك العنا نهرونا
الله ما فعلته آل أمية * في الطف كل رزية ينسينا
خطب له السبع الطباق تجاوبت حزنا وأدمى للسماء عيونا
يا وقعة هدمت مشيدا للهدى * وغدت سهام فصالها ترمينا
ومضت تسير مع الزمان كأنما * أضحى صداها للزمان قرينا
ذكرى نجددها اسى ونقلها * دمعا وتبقى أعصرا وقرونا
وقال في أمير المؤمنين (عليه السلام):
يا صب حنانك لا تجر * رحماك فطرفي في سهر
يا من أخلصت له في الحب * علام هجرت ولم تزر
أقسمت بغيد ذي غنج * يصطاد بطرف منكسر
وبمعقد تاج عسجده * من فوق محيا كالقمر
اني اهواه على سقمي * واهيم به طول العمر

49
يا زهو النفس وبغيتها * ومؤمل قلبي المستعر
صل صبا كابد فيك جوى * ثم اعدل فيه ولا تجر
أيليق بمثلي ان يبقى * قلقا وبدمع منهمر
وتعود وقلبك في جذل * ريانا كالغصن النضر
فلئن أسرفت بهجرك لي * وتركت فؤادي في سعر
فبحب علي قد غنى * لي عود الأنس بلا وتر
مولى الثقلين أبو الحسنين * ودنيا الفخر لمفتخر
كشاف الكرب عن الهادي * بمواقف تذهب بالفكر
بدر، أحد تتلو الأحزاب * وخيبر ربات العبر
علم الاسلام بيمناه * في الحرب يرفرف بالظفر
من أحيا العدل وافنى الجهل * بحد مهنده الذكر
من قال سلوني ما شئتم * عن كل عصيب مستتر
في الصدر هنا علم جم * للناس فهل من مدكر
من بات وحيدا مفتديا * طه بالنفس من الخطر
بمزايا فيه قد ازدحمت * حدث من شئت من البشر
ردد بالمدح له ذكرا * وانثر ما اسطعت من الدرر
بسمو الذات علا هام العلياء * وطال على القمر
بحماك أبا حسن قد * لذت وجئتك في كف صفر
فاعطف مولاي على عبد * لجزيل نوالك مفتقر
وأغثني يا كهف اللاجي من نار ترمي بالشرر
أفلست على الحوض الساقي * من منهل كوثرك النمر
أم لست قسيم النار غدا * فتقول خذي هذا وذري
واجعل محياي بمقعد صدق * عند مليك مقتدر
واقبل ما استيسر من مدحي * لعلاك بنظم مبتكر
(دبير)، مرزا سلامت علي
ولد في دهلي سنة 1218 وتوفي في لكنو سنة 1292.
عرف بلقبه (دبير) ولم يشتهر بغيره لذلك ترجمناه في حرف الدال. هو بين
الشعراء الهنود شاعر المراثي الحسينية، وهي المظهر الفريد لشعره، بلغ فيها
أعلى المراتب، وبلغت على يده ذروتها، وكان يجيد العربية والفارسية.
يتميز شعره برصانته، وبصياغته الصياغة العالية، فهي صياغة صائغ
مبتكر تطيعه اللغة والبيان كما يريد.
وكان أنيس ودبير فرسي رهان في عصرهما، وكان الناس فيهما منقسمين
بينهما يتعصب لكل واحد منهما المتعصبون ويتحزب المتحزبون. وتدور
المناقشات وتعقد الحلقات التي ينقسم فيها الناس بينهما، كل فريق يفضل
شاعره على شاعر الفريق الآخر.
وفي هذا التزاحم والتنافس برزت مراثيهما الحسينية بروزا كبيرا، لقد عنيا
بتصوير واقعة كربلا ووصف بطولة شهدائها تصويرا ووصفا في غاية الدقة مما
اثرى الأدب بالشعر القصصي الحي. ويعبر عنهما أحد الكتاب قائلا: " يشغل
مير أنيس وميرزا دبير مقاما في طليعة شعراء المراثي في كل عصر ومصر.
ومراثيهما الحسينية شهيرة مقدرة بشتى مقاييس النقد ومعتبرة من أفضل القطع
الأدبية التي كتبت باللغة الأردوية ".
(راجع ترجمة أنيس في محلها من هذا الكتاب).
دبيس بن صدقة المزيدي.
مرت ترجمة مفصلة في المجلد السادس، له ولأسرته بني مزيد. ومما لفت
نظرنا ما قرأناه في دائرة المعارف الاسلامية في بحث (تفليس) أن محمود بن محمد
السلجوقي (1118 - 1131 م) انفذ حملة على الكرج إغاثة لمسلمي تفليس.
وقد اشترك في هذه الحملة كل من نجم الدين غازي الارتقي ودبيس بن صدقة
المزيادي (كذا) (عرف باسم دربز durbez في أخبار الكرج) وأخو السلطان
طغرل (صاحب أران ونقجوان) يصحبه اتابكه كنتفدي، ودخل هذا الجيش
ثريالث ومنجليس في الثامن عشر من أغسطس سنة 1121 ولكنه مني بالهزيمة على
يد داود ومن معه من القفجاق.
ولما كانت النسخة العربية من دائرة المعارف مترجمة عن لغة أجنبية فلم
يفرق المترجمون بين (مزيدي) و (مزيادي)، لأن الكلمتين تكتبان في الحروف
اللاتينية كتابة واحدة على أنه كان من المفروض ان يكون لدى المترجمين شئ من
الالمام بتاريخ بني مزيد وان يكونوا اطلعوا ولو قليلا من الاطلاع على تاريخ هذه
الدولة العربية العريقة. ولكن تبين من ذكرهم لكلمة (مزيادي) انهم يجهلون
كل الجهل انه كان في تاريخ العرب كلمة (مزيد)، والنسبة إليها مزيدي.
على أن المهم في هذا الموضوع هو ما ذكر في الأصل من مساهمة دبيس بن
صدقة في الحملة السلجوقية على تفليس
دعبل الخزاعي
مرت ترجمته في موضعها من (الأعيان) وقد كتب نضال الخضري عن
كتاب له اسمه (وصايا الملوك وأبناء الملوك من ولد قحطان بن هود) - حققه
نزار أباظة - كتب ما يلي:
كتاب " وصايا " قام بتحقيقه الدكتور نزار أباظة، عن مخطوطة
موجودة في مكتبة الأبروزيانا وهي النسخة الوحيدة الباقية منه وتتألف من
37 لوحة كتبها ناسخ مجهول سنة 547 أو 549 ه‍. ويشكك الدكتور
عبد الكريم الأشتر في نسبة الكتاب إلى دعبل لأن ابن النديم لم يذكره في
فهرسه، لكن المحقق يرى أن أحدا لم ينسب هذا الكتاب إلى غير دعبل ولم يرد
ذكره أبدا، وما يقوي نسبة الكتاب إلى دعبل بن علي الخزاعي أن نسبه في
قحطان، وكان يعتز كثيرا بهذا النسب، دليل ذلك قصيدته القحطانية التي ورد
فيها على مذهب الكميت النزارية وبلغت 600 بيت.
واسم الكتاب يدل على محتواه حيث جمع دعبل فيه ما نقل عن ملوك
قحطان من وصاياهم لبنيهم في شؤون الملك والحفاظ عليه. وبدأ بموعظة
هود معتبرا أنه أول نبي بعد نوح وهو أبو العرب العاربة. واتبع الكاتب منهجا
عاما في سرد روايته عن الوصايا حيث يدعمها بالآيات القرآنية عندما يتحدث
عن وصايا الأنبياء، كما ينقل أبيات شعر طويلة تتضمن الوصايا وينسبها إلى
أبناء الملوك القدماء.
وينتهي الكتاب بوصايا أواخر ملوك الغساسنة في بلاد الشام وتتضمن
وصية الحارث بن كعب. وهو يحتوي على 95 خبرا يتضمن وصايا وقصائد
شعرية وفيها بعض من القصص الخاصة بالملوك.

50
ولا نستطيع النظر إلى كتاب " وصايا الملوك " على أنه مجموعة من القيم التي
سادت في مراحل مبكرة من التاريخ، فهو يحكي قصصا غابرة ينقل عبرها لونا
تاريخيا مهما لا تجده في الكثير من كتب التاريخ، ومن ناحية أخرى فإن
القصائد الطويلة التي ضمنها الكاتب لمؤلفه جعلت منه كتابا أدبيا أساسيا.
والكتاب أيضا يسرد الأنساب ويشرح العلاقة بين سلاسل نسب اليمن ما
يعطي صورة واضحة عن الصلات بين القبائل اليمنية.
عبر " وصايا الملوك " هناك تصوير للحياة ما قبل الإسلام من جوانبها
الأخلاقية. ولكن المؤلف عندما يسرد الوصايا فإنه يضع سلما للقيم يستحسنه
أو يعتبره مطلبا للحياة التي عاصرها. وعلى رغم نسبة هذه الوصايا أو القيم
للزمن الماضي فإننا لا نستطيع فصلها عن حاضر الشاعر، خصوصا أنه عاش
حياة متقلبة واختلف مع الخلفاء العباسيين الذين عاصرهم. فالكتاب الذي
يوثق للقيم السائدة في المراحل السابقة لحياة المؤلف يحمل نظرة نحو الحاضر،
ليؤكد مكانة هذه القيم في الحياة خلال العصر العباسي الأول.
رجل من بني ليث.
حملت ميمنة أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل على ميسرة أهل البصرة
، فاقتتلوا ولاذ الناس بعائشة، أكثرهم ضبة والأزد، وكان قتالهم من
ارتفاع النهار إلى قريب من العصر، ويقال إلى أن زالت الشمس، ثم انهزموا،
فنادى رجل من الأزد: فروا، واستحر القتل بالأزد فنادوا: نحن على دين
علي بن أبي طالب، فقال رجل من بني ليث:
سائل بنا يوم لقينا الازدا * والخيل تعدو أشقرا ووردا
لما قطعنا كبدهم والزندا * سحقا لهم في رأيهم بعدا (1)
ذو فقار الدولة نجف علي
حين تولى الحكم في دهلي (الهند) أورنك عالم كير محيي الدين سنة 1069
حدث تطور خطير فقد هاجم هذا الملك بلاد الدكن وتغلب عليها بعد حروب
دامية، وتظاهر بعداء الشيعة وأخرج علماءهم إلى البحرين وإيران
والحجاز، وهاجر بعض امراء الدكن إلى دهلي وبلاد أخرى.
ومات أورنك زيب في اورنك آباد وخلفه ابنه شاه عالم بهادر شاه سنة
1119 وكان بهادر شاه على عكس أبيه شيعيا صريحا معلنا بالتشيع، فأمر بان
يخطب في المساجد يوم الجمعة بأسماء الأئمة الاثني عشر.
وبعد زوال الضغط نشط الشيعة بالكتابة والتاليف رادين على من هاجمهم
و طعن في عقائدهم.
وكانت الدولة في دهلي قد أصبحت في نهاية عهودها وبدأت الانتفاضات
عليها والاستقلال عنها في المناطق والأطراف، كما قامت المشاحنات المذهبية،
وبدأت الانقلابات في العاصمة نفسها، ففي كل يوم أمير جديد يتولى الحكم
ثم ينتزع منه.
ومن بين هذه الزعازع نهض ذو فقار الدولة نجف علي، وكان بطلا
صنديدا ذا شخصية قوية فقضى على الفتن وأصلح الفساد وأعاد النظام ووحد
البلاد ورد بعض الشيعة المشردين. وعاد إلى الشيعة اطمئنانهم لأن ذا فقار
الدولة كان شيعيا إيراني الأصل، وعاد التاليف والكتابة في الشيعة وإقامة
الشعائر الحسينية، وبقي من أثر ذلك العصر كتاب (كربل كتا) أي قصة
كربلاء وهو الكتاب الذي يمكن القول أنه أثر أبعد الأثر في تركيز اللغة
الأردوية وارساء قواعد آدابها وإيجاد نثرها الفني.
وصاحب هذا الكتاب هو (ملا فضلي)، فضل علي، وقد كان أديبا
متضلعا، ثم واعظا وخطيبا على المنابر الحسينية، وإلى جانب ذلك كان ممن
يجيدون الكتابة العربية والفارسية، وهو ممن برزوا في عصر الاطمئنان عصر ذو
فقار الدولة نجف علي.
وكتاب (كربل كتا) هو كتاب في المجالس الحسينية وفيما عرف باسم
(المقتل) رتبه على اثني عشر فصلا، وفي كل فصل مجالس، وكل مجلس
يشتمل على موضوع خاص، وهي هكذا:
المجلس الأول يشتمل على ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، المجلس الثاني على
وفاة الزهراء (عليها السلام) والثالث على استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام،
والرابع على شهادة الحسن عليه السلام والخامس على شهادة مسلم بن عقيل،
والسادس على شهادة أولاد مسلم بن عقيل، والسابع على شهادة القاسم بن
الحسن عليه السلام، والتاسع على شهادة العباس بن علي عليه السلام والعاشر على ذكر
علي الأكبر، والحادي عشر على ذكر علي الأصغر، والثاني عشر على استشهاد
الحسين عليه السلام
وعلى الكتاب طابع واضح من كتاب روضة الشهداء لملا كاشفي
الفارسي، ومنهجه منهج الكاشفي.
وملا فضلي صاحب الفضل المتقدم على سائر الكتاب، ومنهجه أقدم منهج
أدبي صناعي، ففيه السجع والمحاسن البديعية والكلمات والآيات والأحاديث
العربية، حتى أنه افتتح مجالسه بخطبة عربية، وفي خلال الكلام يورد أشعارا
من الأردوية والفارسية.
وانتشر الكتاب وصار يقرأ ويسمع في الحسينيات ومجالس العزاء واطرد
ذكره وكان تأليفه سنة 1145 (1733 م).
الشيخ راضي آل ياسين ابن الشيخ عبد الحسين
ولد في الكاظمية سنة 1314 وتوفي في لبنان سنة 1372 ونقل جثمانه إلى
النجف الأشرف فدفن في مقبرة جده.
هو سليل الأسرة العلمية الشهيرة ووارث علمها وأخلاقها وورعها.
درس على أخيه الشيخ محمد رضا والشيخ محمد كاظم الشيرازي وغيرهما،
ثم استقر في الكاظمية عالما جليلا وسيدا نبيلا، وقد كنت خلال وجودي في
العراق ألقاه في بيته في الكاظمية فيما كان يسمي (بفضوة آل ياسين) فيروعني
مجلسه بما كان يفيضه عليه من علم جم وخلق كريم وحديث ممتع، وبموته
انطوت في الكاظمية صفحة من أنقى صفحات العلم والدين والتقى.
له من المؤلفات: 1 - أوج البلاغة، جمع فيه خطب الحسن والحسين
(عليهما السلام).
2 - تاريخ الكاظمية مجلد كبير، نشر بعضه في مجلة الاصلاح البغدادية.
3 - صلح الحسن، مطبوع. وله شعر غير مجموع.



(1) الطبري.
51
أصيب في أواخر حياته بمرض عضال لم تفد فيه المعالجة في العراق، فذهب
إلى لبنان فتوفي هناك.
الحاج ميرزا رضي ذو النوري التبريزي ابن محمد حسن
ولد في تبريز سنة 1294 وتوفي في حدود سنة 1377 في قم.
درس في تبريز وفي سنة 1317 هاجر إلى النجف الأشرف فحضر على
الشرابياني والخراساني واليزدي والأصفهاني، ثم عاد إلى تبريز فمكث فيها عدة
سنين. ثم انتقل إلى مدينة قم فكان من مدرسيها وبقي فيها حتى وفاته.
له من المؤلفات: 1 - شرح وتعليقة على العروة الوثقى 2 - الكنى والألقاب
3 - القضاء والشهادة 4 - شرح نجاة العباد 5 - حاشية على الإشارات.
الشيخ راغب حرب
ولد في جبشيت (جبل عامل) واستشهد فيها سنة 1405 عن واحد
وثلاثين عاما.
تلقى دراسته الابتدائية في جبشيت ثم تابع الدراسة المتوسطة في النبطية ثم
انتقل إلى بيروت حيث كانت قد تكونت في ضاحيتها (برج حمود) مدرسة تعد
للدراسات الاسلامية فانتمى إليها وبعد سنوات هاجر إلى النجف الأشرف
لمتابعة تلك الدراسات واستمر في دراسته حتى بلغ طغيان النظام العراقي
عنفوان تسلطه واخذ بمطاردة الأحرار في كل مكان فأجبر على ترك النجف
والعودة إلى جبل عامل. وكانت مدرسة برج حمود قد نمت وتوسعت في تدريسها
فعاد إلى الانتماء إليها متابعا دراسته الأصولية والفقهية، عاملا في الوقت نفسه
على رعاية مجموعة من الشبان المؤمنين الواعين من خلال جلسات أسبوعية
معهم.
وفي سنة 1975 م اختار قرية (الشرقية) للعمل فيها، وكانت معروفة بأنها
قرية صعبة، ولم يمض سنتان على عمله في هذه القرية حتى تبدلت حالتها
واستنارت بهدى الايمان والتقى.
وفي سنة 1978 م انتقل إلى بلدته جبشيت وتولى أمور الرعاية الدينية فيها
وإقامة صلاة الجمعة. وكان حريصا على توسيع اطار نشاطه الارشادي إلى
القرى المجاورة، وقد ساعده على النجاح سمعته الطيبة وبساطته وصدقه.
وفي جبشيت عاش واحدا من الناس قريبا منهم متواضعا عفيفا،
وبالإضافة إلى نشاطه اليومي من صلاة الجماعة وتدريس الفقه والقرآن والتعليم
في مدارس المنطقة، عمل على إنشاء المؤسسات، مضافا إلى المسجد الكبير
الذي استشهد وهو قيد الانشاء.
وجاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 م، فتصدى الشيخ راغب
لهذا الاجتياح منذ أيامه الأولى، فأخذت صفوف صلاة الجمعة تتسع والصحوة
الاسلامية تنتشر والعداء لإسرائيل يشتد، فأحس الأعداء بخطر الرجل
المجاهد فحاولوا الاتصال به فرفض مقابلة الضباط الإسرائيليين، ولما نقلوه
إليهم رفض مصافحتهم.
شارك في المؤتمر الأول لأئمة الجمعة والجماعة الذي عقد في طهران، ثم
عاد إلى لبنان، وبعد عودته واستئناف نشاطه قرر الأعداء أن يضعوا حدا لهذا
النشاط بعد أن يئسوا من تهدئته، فاعتقلوه، ولكنهم فوجئوا بأن هذا الاعتقال
تحول إلى هياج عارم في جبل عامل وأصبح منعطفا في تاريخ الجهاد الاسلامي في
محاربة إسرائيل. لذلك عاد الأعداء إلى اطلاقه، فعاد هو إلى نشاطه وقد زاده
الاعتقال صلابة وتصميما، كما زاده حب الناس له وتعلقهم به اصرارا وثقة
بخطه.
وقبل حوالي شهر ونصف الشهر من تاريخ استشهاده شارك في مؤتمر جرائم
النظام العراقي الذي عقد في طهران، ثم عاد إلى (جبشيت) ملؤه الحماسة
والايمان، صامدا في وجه الجبروت والطغيان، فلم يعد الأعداء يطيقون وجوده
الذي تحول إلى صاعق فجر كل شئ من حولهم، فاغتالوه ومضى إلى جوار ربه
مضرجا بدماء الشهادة، مكفنا بكفن البطولة.
الحاج آقا رحيم أرباب
ولد سنة 1299 في أصفهان وتوفي فيها سنة 1396.
درس في أصفهان ثم في النجف على الشيخ محمد حسين النائيني وشيخ
الشريعة الأصفهاني والشيخ ضياء الدين العراقي وغيرهم. وفي سنة 1373
سافر إلى (مشهد) لزيارة الرضا عليه السلام فطلب الناس إليه هناك أن يستقر في
المشهد فأجاب طلبهم، ثم عاد إلى مدينته أصفهان فكان من كبار مراجعها حتى
وفاته.
له شرح على العروة الوثقى ورسائل في فروع الدين والعبادات والحكمة
والكلام.
الحاج زاير البرسي
ولد سنة 1860 تم في قرية برس قريبا من المدينة الحلة وتوفي سنة 1919.
من أشهر شعراء اللهجة المخكية العراقية. رحل مع والده إلى النجف
فتعلم مبادئ اللغة والشريعة ثم ترك الدراسة لوفاة والده.
كان يشارك بشعره الشعبي في مجالس الأدب والشعر لا سيما في مجالس
الإمام الحسين واشتهر بارتجال هذا الشعر وحسن إنشاده. وطبعت قصائده في
كراسات ودواوين (1)
السيد سبط الحسن الجايسي
مرت ترجمته في الصفحة 183 من المجلد السابع ونزيد عليها هنا ما يلي:
ولد سنة 1296.
من أفاضل علماء الهند ومن المراجع فيها، درس هناك على السيد محمد باقر
اللكهنوي والسيد نجم الحسن وغيرهما. ثم تولى التدريس وبرز في الخطابة.
سعد صالح
هو عصامي من الأفذاذ الذين أنجبتهم النجف، ففي أول نشأته درس كما
يدرس كل الفتيان النابهين في النجف علوم اللغة العربية، ثم انضم وهو فتى
يافع إلى صفوف الثائرين على الحكم الاستعماري الانكليزي واضطر للتخفي
ثم للفرار خارج العراق خوف بطش الإنكليز بعد انتصارهم على الثوار
العراقيين. ولما أعلن العفو العام أثر قيام الحكم الوطني عاد إلى العراق والتحق
بدار المعلمين ثم بكلية الحقوق، وبعد تخرجه منها تنقل بين المحاماة وبعض
الوظائف الإدارية إلى أن عين (متصرفا) وهو أعلى منصب إداري، فكان
حيث حل يرتفع بالوضعين الاجتماعي والعمراني إلى ما يمكن من درجات



(1) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
52
الارتفاع. ثم تخلى عن الأعمال الإدارية ودخل المعترك السياسي وانتخب نائبا
في المجلس النيابي، فكان فتحا جديدا في هذا المجلس بمعارضته وخطبه الفريدة
التي لم يعهد مثلها المجلس من قبل إذ كان سعد أديبا موهوبا وخطيبا مفوها قبل
أن يكون سياسيا ناجحا وبدأت من ذلك الوقت تتكون زعامته الشعبية. ولما
اضطرت السلطات الحاكمة في العراق إلى استرضاء الشعب لم تجد وسيلة سوى
استدعاء سعد صالح لتولي الحكم، فاشترط لذلك اطلاق الحريات وفي طليعتها
تشكيل الأحزاب السياسية بعد أن كان تشكيلها ممنوعا، وأصر على شروطه
فنزلت السلطات على تلك الشروط فأبيح تشكيل الأحزاب لأول مرة بعد المنع
الطويل، فأسس مع اخوان له حزب الأحرار، وتولى هو وزارة الداخلية التي
هي في كل الوزارات عصب الحكم. ولكن السلطات ضاقت به ذرعا بعد أن
سار في تحقيق الحكم الشعبي أشواطا بعيدة، فأخذت تضع في طريقه العراقيل
فاستقال من الحكم، وقاد المعارضة داخل المجلس وخارجه، فكانت مقالاته
في جريدة الحزب نصوصا من أروع نصوص الأدب العربي السياسي. وفجأة
تسلط عليه مرض عضال أعيا أطباء العراق، فقصد أطباء أوروبا فعجزوا عن
معالجته فعاد إلى العراق وقد أخذ يذوي يوما بعد يوم حتى انتقل إلى رحمة الله
سنة 1948 م، وهو في عنفوان نضوجه وتألق زعامته.
الدكتور سعيد نفيسي ابن علي أكبر ناظم الأطباء الكرماني
ولد سنة 1314 وتوفي سنة 1386 في طهران.
من كبار الباحثين المؤرخين الإيرانيين. ومن أسرة أخرجت جماعة من
الأطباء والسياسيين. وكان يجيد اللغة الفرنسية إجادة تامة. أتم دراسته في
إيران ثم أكمل تخصصه في أوروبا، ولما عاد إلى طهران تولى تدريس الأدب
والتاريخ في جامعة طهران. وفي سنة 1349 أصدر في طهران مجلة الشرق
بالفارسية فنشر فيها المقالات العلمية والأدبية والدراسات التاريخية ومن
مؤلفاته: 1 - آخرين يادكار نادر 2 - أحوال وأشعار رودكي طبع منه مجلدان 3
- أحوال وأشعار خواجوي كرماني 4 - أحوال وأشعار أفضل الدين كرماني 5 -
شرح حال خيام 6 - شيخ زاهد كيلاني 7 - قابس ونامه 8 - يزدكرد سوم 9 -
فرنكيس وفرهنگ فرانسة 10 - تاريخچه أدبيات إيران 11 - جستجو در أحوال
وآثار شيخ فريد الدين عطار. وغير ذلك. وقد صدرت مجموعة من كتبه في
الاتحاد السوفياتي باللغة الروسية. وإضافة إلى مؤلفاته المتقدمة فإن له كتاب
(تاريخ الأدب الروسي) باللغة الفارسية، وكان عضوا في آكاديمية العلوم في
إيران. واقتنى مكتبة يزيد ما فيها على عشرين ألف مجلد بينها أكثر من ألفي
مجلد من المخطوطات. وعند وفاته شيع جثمانه من مدرسة سپهسالار تشييعا
مهيبا ودفن في مقبرة (قبرآقا) جنوبي طهران.
سكينة بگم. المتخلصة في شعرها ب‍ (عفت)
ولد في بعلبك سنة 1911 م وتوفي سنة 1980 م في بيروت ودفن في بعلبك
تلقى الدراسة الابتدائية في بعلبك والثانوية في مدرسة الجامعة الوطنية في عالية
وأنهاها في الكلية العلمانية في بيروت. سافر إلى باريس سنة 1931 والتحق
بجامعة الصوربون فنال شهادة دكتوراه الدولة في الحقوق وشهادة الليسانس في
الآداب وشهادة الليسانس في قانون العقوبات من معهد العلوم الجزائية.
ثم عاد إلى لبنان سنة 1937 وفي العام التالي عين في القضاء اللبناني فظل
فيه متنقلا في عدة وظائف ما بين 1938 و 1946 كان آخرها وظيفة نائب عام.
وفي سنة 1946 عين وزيرا مفوضا في إيران فتعلم هناك اللغة الفارسية
وفي العام 1952 عين وزيرا للتربية والصحة والعمل والشؤون الاجتماعية، ثم
انتخب نائبا عن منطقة بعلبك - الهرمل سنة 1953 وفي سنة 1954 عين وزيرا
للزراعة والبريد والبرق والهاتف، وفي سنة 1958 عين سفيرا في المملكة
المغربية. وفي سنة 1963 عين سفيرا لدى الاتحاد السوفياتي، وفي سنة 1968
انتخب نائبا عن منطقة بعلبك - الهرمل. ثم عمل فترة في المحاماة إلى أن
أصيب بمرض القلب فأقعده ذلك عن العمل حتى توفاه الله.
كان شاعرا كاتبا خطيبا، طبعت بعض مجموعاته الشعرية في حياته، وظل
بعضها مخطوطا وهو يعد الآن للطبع. فمن المطبوع: 1 - آفاق، طبعت سنة
1949 2 - ألسنة الزمن، طبعت سنة 1951 3 - يا نافخ الثورة البيضاء،
طبعت سنة 1970 4 - العدالة
أما غير المطبوع فهو: 4 - أشواق 5 - إشراق 6 - الخليقة 7 - ألحان 8 -
ألوان 9 - لبنان 10 - اشجان.
أما في النثر فقد طبع له: (آراء ومواقف سياسية) 1969. أما غير
المطبوع فهو محاضرات ألقيت في عدة ندوات. ودراسات في الأدب والشعر
باللغتين العربية والفرنسية، ومقالات أدبية وسياسية في الجرائد والمجلات.
شعره
قال عندما استقال من القضاء لينتقل إلى السلك الدبلوماسي من قصيدة
جعل عنوانها: (العدالة):
عشقناها، وان كانت عذابا * وأي مثالة ليست غلابا
تباعد وصلها حتى تدانى * كانا قاصدون بها سرابا
مقنعة المظاهر، مبتغاة * لجوهرها، تطاول أن تحابى
لها عين مصوبة، نفاذ * إذا حدجت فرند السيف ذابا
عشقناها، فما تبعت هوانا * ولا حسبت لما نلقى حسابا
وأعطت من تشاء على هواها * ولم تانف لعمرك ان تعابا
فلا حجبت عن الأعجام بابا * ولا فتحت على الأعراب بابا
وشان النور للسارين هدي * إذا حم الدجى موجا عبابا
عشقناها ممردة خلوقا * ترى الأطماع زائلة، هبابا
فتاة حلوة عفا وضاء * طوالا بضة لدنا كعابا
محصفة محكمة جنانا * ممنعة ممتعة شبابا
مبلورة كأطياف الأماني * يسوق الخيرون لها الرغابا!
سل القاضي الوقور وما يعاني * بعصمتها فقد ذاق الصعابا
ولا عجب إذا تاهت دلالا * وأرخت فوق طلعتها الحجابا
فكنيتها العدالة، لا تبالي * عروس الحق تشترع النصابا!

53
سل القاضي الذي عانى هواها * وسدد في رعايتها الحرابا
وذوب نفسه فيها ولاقى * على وخز الشكوك أسى عجابا
وسخر عقله كدحا وصبرا * ليكشف عن مراميها النقابا
وأقطعها فؤادا عج فيه * دم أزكى، بحرمتها، وطابا
وأصلت في إطاعتها ضميرا * على حد الصراط مشى وثابا
وفرد في عبادتها حياة * فعق الأهل واعتزل الصحابا
سل القاضي الكتوم لما يلاقي * أ عذبا ما يلاقي أم عذابا؟...
وهل خلجت بصيرته لكسب * وهل شربت على جاه شرابا؟
وهل نزعت مطامحه، كراما * لأكثر من كرامته ثوابا؟
عشقناها وإن كانت شقاء * فإن الله انزلها كتابا!...
عروس الحق، لا يغررك بعدي * فلا ساما تركت ولا ارتيابا
ولا طمعا بغيرك في المعالي * ولا مستمطرا سحبا خلابا
ولكني دعيت إلى جهاد * ومثلي من إذا نودي أجابا!
بلادي، يحلم الخلد ابتهالا * لو أن له بدوحتها شعابا
على الأزل السحيق بدت ملاذا * وتبقى في هوى البقيا مثابا
إذا عزف الهوى لحن التآخي * وحرك مهجة الكون اضطرابا
وحالت قسوة الإنسان لينا * وأخفض جانبا فعلا جنابا
وبدد بارق الحسنى طماعا * تلبد في سما العقبى سحابا
عروس الحق ليس البعد هجرا * وإن طوفت في الدنيا اغترابا
سيبقى الحق إيماني، صراحا * أروض به مبادي الصلابا
فقد جهل السياسة من يراها * مراوغة وأسلوبا كذابا
وداعا أيها القصر المفدي * تزاحم أدمعي، والخلق يأبى
وفي نفسي خيالات لماض * تهيل على ربى عمري ضبابا
تذكرني أويقات عذابا * سلافة عمري الماضي ذهابا
وما الماضي سوى كأس دهاق * طفت من فوقها الذكرى حبابا!
وداعا، قصر عدل، كنت فيه * أحاول، ما استطعت، به اعتصابا
أرى الأقدار تطرحني سؤالا * وآمل أن أسوق لها جوابا!
وقال من قصيدة طويلة سنة 1975 حينما اندلعت أحداث لبنان:
لبنان، هل زعزع الايمان كفران
أم روضة الأنس قد حلت بها الجان؟
ما أبشع الشر إذ تشرى غرائزه
لا العقل عقل ولا الوجدان وجدان!
الحقد والغدر، من ذرى ترابهما
فالطيبون أولي الأبصار عميان
والدين، من شاده سورا يفرقنا
ونحن في شرعة الدينين إخوان
كنا، إذا قيل من لبنان، يطربنا
تجاوب في الذرى: الحب لبنان
واليوم لبنان - ويل للأولى خفروا -
كأنه من حياض البغض ريان!...
يا موطنا حسدته، في تطلعه
إلى تلمس وجه الله، أوطان
على ذراه ابتهال، والسهول رضى
وفي السفوح الجنى المعطاء عنوان
ما ذا يعكر صفو العيش في حرم
خدامه لسوى الديان ما دانوا؟...
تكاد تنتحر الذكرى وتغمره
ويحتويه من التاريخ نسيان
تكاد تنتحر الذكرى وقد عصفت
بنا الشرور، وغشى الحق بهتان
من يرجم المشعل الوهاج، في غضب
من الرياح، وللديجور طغيان
لبنان، إن لم تكن روحا فقد دثرت
ماذن ونواقيس وصلبان
همس الملائك لا يهمي على بشر
إن كان في الأنفس الدكناء شيطان!
تمهر الحرف لا معنى ولا شرف
واغتيل فيه الحجى، وانحاز برهان
كأنه قدح من شاء يملؤه
بما يشاء... وساقي الماء عطشان!
إذا الرصاص تعالى والقلوب قلى
فليس إلا لقول الزور سلطان!
تشعب الأمر في الغايات، واختلطت
أسبابه، ونفى التبيان تبيان
هيهات يجري حوار، والنفوس لظى
وفي الطويات أرجاس وأدران!
ما كل نطق بيان، رب سفسطة
يبين فيها خلال الجهر كتمان
لبنان مأساتك الكبرى مثلثة:
الدافعون الأذى هم أصله كانوا
والحاكمون الأولى ترجى شفاعتهم
هم الذين لهم في الشر إدمان
والشعب - ما العروة الوثقى إذا انفرطت؟ -
ألشعب من كثرة الذؤبان قطعان!
وكيف يرتدع الإجرام في بلد
والمستحق ظلام السجن سجان؟...
لبنان، يا كيد إسرائيل متزنا
ويا هناها إذا ما اختل ميزان

54
والعرب لا رائد يزجي صفوفهم
توزعتهم قيادات وأشجان
تضافروا فانتشى تشرين منتصرا
وهادنوا، فاستردت أهلها الحان
وراح سيناء يطوي الحرب منفردا
وفرق العرب سيناء وجولان!...
لبنان، مهما أضاع الحرف قبلته
يبقى به من أريج الروح ريحان
سكبت في أحرفي روحي، وأطلقها
حزينة، والرؤى غيم ودخان
وللرصاص أزيز، والأنين صدى
موت بطئ، وللأشباح إرنان...
وقال:
قولي أحبك، لا تملي * فالصمت عنوان التخلي
قد قلتها وأعدتها * لكنها لم تشف غلي!
لي في سماعك نشوة الصوفي في غمر التجلي
ولكل بوح لذة * بكر كفجر مستهل!
قولي أحبك! نغميها * في فؤادي المضمحل
فالحب في كبت العواطف * زهرة من غير طل
أنا ظامئ مهما نهلت * فاترعي الأكواب، علي...
عل الحياة بكربها * تصفو لنا حتى التملي
لي في سماعك نشوة * قولي أحبك، لا تملي!...
وقال من قصيدة طويلة بعنوان: الثورة السوداء، وقدم لها بما يلي:
عاشرت الزنوج رفيقا وصديقا وزميلا ومخدوما. وفي كتب الدراسة وفي
مطالعاتي الواسعة، كم قرأت عن تاريخ بلادهم واستعمار البيض لها
واضطهاد شعوبها تحت ستار التمدين، وفي السنوات العشرين الأخيرة، كم
أعجبت بجهاد الأفارقة من اجل استقلالهم، وبالبطولات الحربية والفكرية التي
كرست هذا الاستقلال:
عبثا فتشت، ملء الدين والدنيا وعمر الكون، عن لون سواه
عبثا بالماء، بالصابون، بالثلج المفضض
بالدعاء الواله العربيد، بالنجوى المريرة
بالتعاويذ القديرة...
لم أجد ما يجعل الأسود أبيض
هو لوني، لوني الأعمى، ولا يجلى عماه!
أنا أسود
لفني الليل بجلباب الدجى
وتفشى في إهابي وسجا
وتمرد
كل جسمي، ما عدا كفي، فحم يلمع
والسني الأسود في عيني برق يسطع
والحجى
في الأحاجي والدياجي يسكع
أنا في الهوة أهوي أبدا تحت الخطايا
واصلا آلام ناسوتي بالام البرايا
ضاربا كالقدر الخفاش أضلاع الخفايا
في ظلام الظلم، في ليل النهار الجهر، في المأساة قلبي يتنهد
راعش الخفق، عنيا، مشرئبا يتوعد
صارخا في دغش الصمت المعمى: أنا أسود!...
أسود اللون أنا، والحظ والتاريخ، عبد
من ترى قد صنع التاريخ بهتانا وزورا
من ترى قد صنف الحظ قصورا وقبورا
وهناء مستطابا وعذابا مستطيرا
وجسوما في مهاوي الطمع الجاني جسورا
من ترى قد صنع التاريخ إقطاعا عليه الحظ جند؟...
تلك أيد خنقت روح المفاهيم، الضميرا!،
قيل لي - قيل لنا، للسود - قول ماكر التزوير، وغد:
في حنايا الغرفة السوداء، حيث المبتدا
حيث لا شئ يضئ
صنعت جدي لما أسودا
يد عات... وانتضت من صدره
ضلعا سوداء صاغتها وفاقا
زوجة مشبوبة الحس هوت في خدره
تلقح الذل جناسا وطباقا
واستكان الكون... والزنج يضجون بأصفاد، رقاقا!
هكذا قيل، وقيل العكس، ما لي أتوجد؟
علتي أني كالزلة أسود:
قبلتني الشمس أجيالا وأجيالا طوالا
قلبتني فوق مشوى الاستواء
غلغلت - ألسنة زرقا - بعزمي وابائي
فحمت جلدي، عضتني بشعري فتجعد
أترعت نفسي كلالا...
أهو ليل، أهو شمس
مولدي؟... ما الفرق، والطالع نحس؟
انا منذ الدهر في سجن مؤبد
أزلي ثوبي الغيهب في المحنة سرمد
مات بي الإنسان في النسيان، في الذل المعبد

55
مات أو كاد، وأمضي
والسني يرفض رفضي
أسود الطلعة في رأد الضحى والليل... أسود!
أنا أسود...
أي معنى هذه الألوان تعني؟
أنا إنسان بخلقي وبروحي وبقدري وبوزني
لن تجدد
فتح العينين، يا أبيض، وجداني تفتح
طال نومي، طال عمر الظلم في الدهر المرنح
لست من كنعان، لا أرضى بهذا الانتساب
إن أصل الجمر من لون إهابي
نسبي أني انسان، فإن شئت... وإلا
فالدم القاني يروي الليل فجرا مستهلا
أنا من نمرود!... منذ الآن من نمرود، صياد المخاطر
هيه يا أبيض اني لك ناظر
إن أسناني بيض
وطويل حقدي المكبوت في الدهر، عريض
هيه يا أبيض، أقبل في عتادك
نشعل الدنيا بفحمي وبدري من زنادك!
الشيخ سليمان آل عبد الجبار ابن الشيخ احمد.
توفي سنة 1266 من علماء القطيف وكان له مقلدون في البحرين وعمان،
وتلمذ عليه جماعة من فضلاء القطيف. ثم انتقل من القطيف وسكن بلاد عمان.
له من المؤلفات: النجوم الزاهرة في احكام العترة الطاهرة شرح على اللمعة لم
يكمله، شرح على الباب الحادي عشر. شرح على الفصول النصيرية. شرح على
الشمسية في المنطق. شرح على تهذيب المنطق للتفتازاني. شرح على كتاب
إيساغوجي. منظومة في المنطق. وغير ذلك. وكلها مخطوطة.
(سودا) ميرزا محمد رفيع
ترجمناه في حرف السين لأن (سودا) هو اللقب الذي اشتهر به ولا يعرف
بغيره.
ولد في دهلي (الهند) سنة 1125 وتوفي بلكنو سنة 1195
من أكبر شعراء الهند وهو عديم النظير في القصيدة، وأكثر قصائده في
مدح الأئمة وقصيدته اللامية في مدح أمير المؤمنين عليه السلام واليائية في مدح
الحسين عليه السلام بلغتا أقصى حدود الشهرة. وإذا كان الشاعر (مير) سيد
المتغزلين بين شعراء الهند فإن (سودا) سيد شعراء القصيد غير المنازع، ويشبه
غزله الغزل الفارسي، وله في الرثاء الحسيني منهج خاص وأسلوب بديع.
وكلياته مطبوعة وفيها جميع أصناف الشعر.
شاكر هادي شكر
ولد في بغداد سنة 1907 وتوفي سنة 1992.
درس النحو والأدب والعلوم الدينية في الكاظمية وبغداد على علمائها
واشتغل فترة بالتجارة ثم عمل في الوظائف الحكومية. له 1: - جمع ديوان
السيد الحميري وتحقيقه 2: - تحقيق أنوار الربيع لابن معصوم المدني في سبعة
أجزاء 3: - تحقيق ديوان حيص بيص 4: - تحقيق ديوان الحاج عبد الحسين
الأرزي 5: - الحيوان في الأدب العربي (1)
شهدة بنت كمال الدين عمر بن العديم العقيلي:
قال اليافعي في الجزء الرابع من كتابه (مرآة الزمان) وهو يتحدث عن
وفيات سنة تسع وسبع مائة:
فيها ماتت بحلب المعمرة شهدة بنت الصاحب كمال الدين عمر بن
العديم العقيلي. ولدت يوم عاشوراء لها حضور وإجازة من جماعة من الشيوخ
وكانت تكتب وتحفظ أشياء وتتزهد وتتعبد وذكر الذهبي أنه ممن سمع منها.
(راجع ترجمة عمر بن العديم في الصفحة 377 من المجلد الثامن).
الدكتور صادق رضا زاده شفق
ولد في مدينة تبريز سنة 1314 وتوفي سنة 1391 في طهران ودفن فيها.
اتخذ كلمة (شفق) لقبا له بعد أن أصدر في صباه (أي في سن الرابعة
عشرة من عمره) جريدته التي أطلق عليها اسم (شفق) في مسقط رأسه تبريز
لمدة من الزمن.
التحق في تبريز بالمدرسة الابتدائية الأمريكية المسماة (برورش) وتخرج منها بعد
أن أتقن فيها اللغة الإنجليزية بالإضافة إلى مبادئ العلوم والآداب،، وفي هذه
المدرسة توثقت الصلات بينه وبين معلمه الأمريكي الشاب المدعو:: (هوارد
سكرويل) الذي أصبح مترجما له فيما بعد، وقد أنشا بمساندة معلمه هذا وبعض
الأحرار من مواطنيه جمعية في تبريز ولها فروع في سائر انحاء آذربيجان تدعو إلى
انقاذ الوطن من براثن الحكم الاستبدادي الغاشم عهدئذ في إيران وحيث أنه
كان معارضا منذ صباه للسياسة القيصرية الروسية في إيران وكان ينتقد ويهاجم
هذه السياسة بعنف وبلا هوادة فقد أخذت السلطات القيصرية تطارده لا
سيما بعد أن تغلغلت جيوشها في الأراضي الآذربايجانية عام 1330 ه‍ وكان
عمره فيها 16 سنة، مما اضطره إلى الاختفاء لمدة 14 شهرا استطاع بعدها
الهرب عبر الحدود الروسية إلى الأراضي القفقازية متنكرا بان أطلق لحيته وتزيى
بزي رجل دين ذي عمة سوداء ولم يبق في قفقازيه طويلا إذ تركها وسافر إلى
إسلامبول عاصمة الإمبراطورية العثمانية، وفيها التحق بكلية (برابرت كالج)
الأمريكية، وحصل منها على شهادة الليسانس في الفلسفة والآداب وقد مكث
في العاصمة العثمانية مدة سبع سنوات كان يقوم خلالها بمهنة التعليم في المدرسة
الإيرانية وبعض المدارس الأهلية هناك بالإضافة إلى دراسته العليا ثم عاد إلى
إيران التي لم يمكث فيها سوى مدة قصيرة حيث سافر إلى ألمانيا التي بقي فيها
ست سنوات درس خلالها الفلسفة في جامعة برلين وحصل منها على شهادة
الدكتوراه في الفلسفة والآداب كما درس بعض الوقت العلوم الإسلامية في
جامعة السوربون بباريس ثم عاد إلى مسقط رأسه تبريز ومنها وفد على طهران
وبدأ فيها حياته العملية ونشاطه العلمي والأدبي والسياسي.



(1) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
56
وفور وصوله إليها عين أستاذا للآداب في دار المعلمين المركزية ثم أستاذا
في الكلية الأمريكية بطهران وأستاذ الفلسفة والآداب في كلية الآداب وفي هذه
الأثناء نشط قلمه بانتاج بنات أفكاره في التاليف والتصنيف والترجمة ونشر
المقالات الممتعة على صفحات الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية
والفصلية.
وفي الدورة الرابعة عشرة من دورات المجلس النيابي انتخب نائبا عن
طهران مع قيامه بواجباته التعليمية في بعض كليات جامعة طهران، كما أنه
انتخب عضوا في المجمع اللغوي الإيراني (فرهنگستان) منذ بدء تأسيسه
وأصبح فيه رئيسا للجنة الجغرافية ولجنة المصطلحات العلمية، كل ذلك مضافا
إلى تمثيله لبلاده في كثير من المؤتمرات والندوات الداخلية والخارجية من سياسية
وعلمية واجتماعية وغيرها منها عضويته في الوفد الإيراني لهيئة الأمم المتحدة
وعضويته في لجنة حقوق الإنسان التابعة لتلك الهيئة من 1947 إلى 1951
وعضويته في الوفد الذي رأسه قوام السلطنة رئيس الوزراء الإيراني إلى موسكو
للبحث مع الزعماء السوفيت في قضية إخلاء محافظة آذربايجان من القوات
السوفيتية وإقصاء (بيشة ورى) وحكومته منها وانهاء موضوع امتياز النفط
الإيراني السوفيتي إلى غيرها من المؤتمرات كما انتخب لبعض الوقت أستاذا في
جامعات أمريكا كجامعتي كلمبيا ومشيغان وجامعة مكليل في كندا يدرس فيها
تاريخ التمدن الإسلامي.
وقد أعيد انتخابه عضوا في مجلس النواب في دورته الخامسة عشرة، كما
انتخب بعد تأسيس مجلس الشيوخ عضوا فيه لعدة دورات منه وكان عضوا فيه
حين وافته المنية، مضافا إلى أنه كان شاغلا لكرسيه كأستاذ ممتاز في جامعة
طهران في هذه الأثناء.
وكان دوي دوره في الدورة الرابعة عشرة في المجلس النيابي وخاصة في قضية
النفط الإيراني وتأميمه عظيما جدا في الأوساط السياسية في داخل إيران
وخارجها، حيث فاجا المجلس باقتراحه الخاص بالغاء اتفاقية النفط التي كانت
قد وقعت من قبل قوام السلطنة رئيس وزراء إيران وساد شيكف السفير
السوفيتي في طهران بعد أن ألقى خطابا ممتعا بين فيه الأخطار التي تهدد البلاد
من جراء ابرام هذه الاتفاقية التي عرضت على المجلس لإبرامها، ذلك الخطاب
الذي مهد فيه السبيل لتقديم اقتراحه الذي أقره النواب بأكثرية ساحقة ولم
يرفضه سوى نواب حزب توده الشيوعي وهكذا استنكر مجلس النواب تلك
الاتفاقية النفطية ورفضها وفي الحقيقة أن اقتراح الدكتور شفق هذا برفض تلك
الاتفاقية كان نقطة تحول عظيم في موضوع النفط الإيراني وكان الحجر الأساسي
لتأميم النفط في إيران فيما بعد، وقد خدم باقدامه الجرئ هذا، بلاده وأمته
أعظم الخدمات ومن جراء ذلك أطلقت عليه الصحف في حينه لقب (موفق
الدولة) لنجاحاته وموفقياته في مشاريعه ونظراته وخططه التي كانت ترتكز على
المنطق والعقل والاخلاص وقد وقف منذ صباه موقف المدافع عن اللغة الفارسية
والمناضل عن تراثها الأدبي والعلمي والتاريخي والمعارض بكل عنف وشدة
للمتطرفين من بني جلدته في أمر تبديل الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية
على غرار ما فعلته تركية أو تجريد اللغة الفارسية من الكلمات العربية وحتى قبل
وفاته ببضعة أشهر ألقى آخر كلمة له عن هذين الموضوعين في مجلس الشيوخ
استنكر فيها نظرية المتطرفين في ذلك.
كما أنه ألف وكتب في هذين الموضوعين الكثير من الرسائل والمقالات وألقى
الوفير من الخطب والمحاضرات عنهما، وكان يعتبر ما يذهب إليه البعض من
الأدباء في السير على لزوم هذا التبديل باسم التجديد خيانة لتراث إيران
التاريخي والعلمي والأدبي وللغة الفارسية لغة: الفردوسي، وحافظ،
والشيرازي.
كان على جانب من العلم والفضل والأدب، وما مؤلفاته الوفيرة
ومباحثه القيمة ومقالاته الكثيرة وتحقيقاته الدقيقة وخطبه الممتعة إلا دليل على ما
كان عليه من علم وفضل وأدب مما جعله في زمرة العلماء المتجددين والفضلاء
البارزين والأدباء المعروفين والمؤرخين الباحثين في بلاده وخارجها، كل ذلك
مضافا إلى إتقانه عدة لغات حية هي الإنجليزية والفرنسية والألمانية والتركية
الاسلامبولية والآذربايجانية ومعرفته بالعربية والروسية. كما كان من الكتاب
البارزين في لغته الفارسية واللغة التركية وله فيهما بعض النظم أيضا... ويعتبر
نثره في الفارسية من النثر المشار إليه بالبنان من حيث السلاسة والدقة والبلاغة.
وكان خطيبا ينحدر الكلام من فمه كالسيل المنهمر ويستمر في إلقاء خطبه
لبضع ساعات بلا تكلف وبكل حرارة وبمادة غزيرة.
مؤلفاته:
صنف في حياته كثيرا من الكتب والرسائل التي جاوزت الثلاثين مصنفا
بعضها مطبوع، وبعضها لا زال مخطوطا أو لم يخرج من المسودة كل هذا
بالإضافة إلى مقالاته وأبحاثه التي طفحت بها الصحف والمجلات وكذا
محاضراته في الإذاعة الإيرانية وغيرها.
ومن أهم مؤلفاته باللغة الفارسية هي:
1 - تاريخ أدبيات إيران (تاريخ الآداب الفارسية).
2 - سرود مهر (نشيد الحب).
3 - فرهنگ شاهنامه (لغة الشاهنامه).
4 - إيران از نظر خاورشناسان (إيران من وجهة نظر المستشرقين).
5 - تحقيق در فهم بشر (التحقيق في الفهم الإنساني).
6 - (كوروش كبير) (كوروش الكبير).
7 - نادر شاه أفشار (تاريخ نادر شاه أفشار).
8 - إسكندر مقدوني (تاريخ إسكندر المقدوني).
9 - يادكار مسافرت سويس (ذكريات عن الرحلة إلى سويسرة).
10 - مبارزة باخرافات (مكافحة الخرافات).
11 - خاطرات مجلس (ذكريات المجلس).
12 - يك روز از زندگى داريوش (يوم من حياة داريوش).
13 - پندهاى بزرگان (نصائح العظماء).
14 - درسهائى از تاريخ (دروس من التاريخ).
15 - ديوان شعره باسم (گيتى نامه) وقد أطلق عليه هذا الاسم تيمنا
باسم بنته الوحيدة الآنسة (گيتي).
16 - تاريخ مختصر إيران از أول إسلام تا انقراض زنديان.
(تاريخ إيران منذ صدر الاسلام حتى انقراض الزندية باختصار). وهو
ترجمة كتاب (بأول هون) وهو من الكتب الأوائل التي ترجمها الفقيد وطبعها

57
منذ حوالي (40) سنة. إلى غيرها من المؤلفات المشحونة بها مكتبته القيمة التي
تركها لورثته.
" ملخص عن مقال للسيد صالح الشهرستاني ".
السيد صادق الفحام
مرت ترجمته في المجلد السابع الصفحة 360 ونزيد عليها هنا ما يلي:
قيل في وصف ديوانه المخطوط: ان الاستفادة بالديوان تاريخيا لا تقل عن
الاستفادة به أدبيا فإنه وثيقة تاريخية ثمينة توقفنا على تاريخ كثير من الأحداث
العراقية في دور المماليك وقبله وتسمي كثيرا من اعلام ذلك العصر في العلم
والأدب والإدارة ممن لم نجد لهم ذكرا في غيره من الدواوين وكتب التراجم
المتأخرة.
ولما كان المترجم لم ينقطع عن التردد على الحلة فقد مدح جماعة من أشرافها
وكبرائها بقصائد مثبتة في الديوان كالسيد سلمان الكبير وآل النحوي وآل الحاج
علي شاهين. عدا عن مراسلاته مع آل فتلة ورؤساء خزاعة ذوي السلطة
والنفوذ يومئذ في الفرات الأوسط.
وللمترجم عقب في الحلة والنجف والشامية من ولده أحمد أما الباقون من
أولاده فقد درجوا.
السيد صالح الشهرستاني ابن السيد إبراهيم
ولد سنة 1325 في كربلاء وتوفي سنة 1395 في طهران ونقل جثمانه إلى
كربلا ودفن في المقبرة الخاصة بالأسرة الشهرستانية الواقعة في باب السدرة
للروضة الحسينية المقدسة
كان كاتبا باحثا مؤرخا محققا متتبعا على جانب كبير من نبل الأخلاق وطيب
الذات وحسن المعشر، وقد استعنت به في كتابة بعض التراجم عندما بدأت
باخراج (أعيان الشيعة) بعد وفاة المؤلف، فكتب عدة تراجم كانت من أحسن
ما يكتب في موضوعها يراها القارئ خلال مطالعاته للأعيان.
كانت دراسته الأولى في كربلا ثم انتقل إلى بغداد حيث التحق بجامعة آل
البيت وتخرج منها. ثم أصدر سنة 1926 م في بغداد مجلة المرشد فاستمرت
اربع سنوات، وفي أواسط سنة 1932 م ترك بغداد إلى طهران وفيها تخرج من
كلية الحقوق والعلوم السياسية. واستقر فيها حتى وفاته.
وكان في طهران يتابع كتابة بحوثه باللغتين العربية والفارسية في أمهات
الصحف وقد استعانت به السفارة العراقية في طهران ثم السفارة الأردنية فعمل
فيهما غير منصرف عن دراساته الأدبية والتاريخية والسياسية، ومما أخرجه:
1 - كتاب عن السيد جمال الدين المشتهر بالأفغاني لا يزال مخطوطا وقد نشر
بعض فصوله في مجلة العرفان وفي (أعيان الشيعة) 2 - دليل العتبات المقدسة
باللغة الفارسية 3 - تاريخ الأسرة الشهرستانية في ثلاث مجلدات باللغتين
العربية والفارسية (مخطوط) 4 - مجموعة الشهرستاني مذكرات باللغتين 5 -
(من عاصرتهم) بالعربية يتضمن تراجم من عاصرهم واتصل بهم من الرجال
6 - كلمات فارسية الأصل استعربت باللغتين العربية والفارسية، وقد نشرت
كل من مجلة (ماه نو) في طهران ومجلة (ناصر) في يزد فصولا من هذا الكتاب
بقسمه الفارسي 7 - رسالة بالعربية حقق فيها شخصية أحد أولاد الأئمة المعرف
بإمام زاده يحيى المدفون في أحد أحياء طهران (مخطوطة) 8 - رسالة كبيرة في
ترجمة السيد حسين البروجردي الطباطبائي (مخطوطة) 9 - مجموعة أدبية تضم
بين دفتيها بضعة ألوف من القصائد القصيرة والرباعيات والأبيات الشعرية
والأمثال والحكم باللغتين العربية والفارسية.
وقد كانت لديه مكتبة عامرة بالكتب العربية والفارسية وفيها بعض الكتب
الخطية النادرة وكتب الأنساب، وبعض المؤلفات باللغة الإنكليزية التي كان يلم
بها، وتنفيذا لوصيته اهدى ولده السيد عباس محتويات تلك المكتبة إلى (مكتبة
ملك) الأهلية في طهران التي تعتبر ملحقا لمكتبة الإمام الرضا في (المشهد).
السيد صدر الدين الصدر بن السيد إسماعيل
ولد في الكاظمية سنة 1299 وتوفي في مدينة قم سنة 1373 ودفن فيها في
بقعة العلماء في رواق حرم فاطمة ابنة الإمام موسى الكاظم عليه السلام.
انتقل مع أبيه إلى سامراء فتلقى تعليمه الأول فيها، ثم هاجر أبوه إلى كربلا
فدرس فيها ما يعرف في الاصطلاح العلمي بالسطوح، ثم سافر إلى النجف
الأشرف فتابع دراسته هناك وكان من أساتذته فيها الشيخ محمد كاظم
الخراساني. وفي سنة 1339 بعد وفاة والده بسنة سافر إلى إيران واستقر في
مدينة (مشهد) وفي سنة 1344 عاد إلى النجف الأشرف ولازم درس الشيخ
محمد حسين النائيني. وفي سنة 1349 عاد إلى إيران وأقام في مدينة قم حيث
كان الشيخ عبد الكريم الحائري قد أسس جامعتها الكبرى فكان المترجم من
مدرسيها البارزين، ولم يلبث أن سافر إلى مدينة (مشهد) وبقي فيها واخذ
يقيم الجماعة في (مسجد كوهر شاد) وأقبل عليه الناس. وكانت الشيخوخة
قد أدركت الشيخ عبد الكريم عميد الحوزة العلمية في قم فخشي أن ينفرط
عقدها بعد وفاته، فرأى في السيد محمد الحجة الذي كان يقيم في قم، وفي
المترجم خير من يعهد إليهم بالقيام بأمر الحوزة بعده، فأرسل يستدعيه من مشهد
فلبى دعوته، فجعل الشيخ الحائري منه ومن السيد الحجة معاونيه الفاعلين في
الاشراف على شؤون الحوزة ثم توفي الحائري فانضم إليهما السيد محمد تقي
الخونساري فتالفت منهم قيادة جماعية لحوزة قم. وكانت شهرة السيد حسين
البروجردي ومكانته العلمية موضع تقدير الجميع، فاجمع الكل على توليته الأمر
فاستدعي من بلدته بروجرد فأشرف بشخصه على شؤون الحوزة وتصريف
أمورها فنهضت على يديه نهضتها المعروفة وظل المترجم مقيما في قم حتى وفاته.
مؤلفاته
المطبوع منها: 1 - المهدي 2 - خلاصة الفصول، وهو في علم الأصول
ملخص من كتاب الفصول للشيخ محمد حسين الأصفهاني 3 - الحقوق 4 -
التاريخ الاسلامي، وهو كتاب مدرسي موجز. وله غير ذلك بعض الآثار التي
ظلت مخطوطة.
شعره
كان شاعرا وكان له ديوان شعر لا ندري إلى أي مصير انتهى. وبقي
محفوظا من شعره القصيدة التالية التي أرسلها إلى مؤلف (أعيان الشيعة) عندما
اطلع على الجزء الأول منه. وكان المؤلف قد حل عليه ضيفا عندما تشرف
بزيارة الإمام الرضا عليه السلام وقد ذكره في رحلته العراقية فقال فيما قال:
"... وكان يقيم أولا في قم حيث مدرسة الشيخ عبد الكريم، وكان وجهها
ومقدمها، ثم انتقل إلى المشهد الرضوي فكان من مقدمي علمائه "، ويقول

58
عنه في مكان آخر: " وكان مضيفنا أول الأمر العلامة السيد صدر الدين الصدر
الموسوي، ولما انتقلنا من داره إلى دار استأجرناها طيلة مكوثنا في المشهد،
جعل يأتي إلينا كل يوم غدوة وعشيا وذهب معنا إلى دور الجماعة الذين زارونا
حين أردنا رد الزيارة لهم ".
أما القصيدة فهي:
أمولاي يا من قد أقر بفضله * محبوه طرا بل وأذعن حاسده
لقد جمعت فيك الفضائل كلها * فلا فضل إلا أنت لا شك واحده
إذا ذكرت بين الورى طرق العلى * فكل طريق للعلى أنت رائده
لعمري لقد جددت ذكر معاشر * لهم طارف المجد الأثيل وتالده
وأحييت في تأليفك اليوم مجدهم * وقد بليت آثاره ومعاهده
ومثلت منهم كل عين سميدع * عيانا لنا حتى كانا نشاهده
أبوك لقد سماك من قبل " محسنا " * وفي يومنا هذا كتابك شاهده
وفي كل عصر واحد يعقد الرجا * عليه وهذا العصر إنك واحده
وأنا إلى الاصلاح في حاجة فقم * به، رجل الاصلاح أنت، وقائده
أدامك رب العرش للعلم منهلا * مصفى نميرا يرتوي منه وارده
وحصنا منيعا لا يضام نزيله * ويبلغ ما يرجو ويمأل وافده
ومن شعره الذي وصل إلينا أبيات يؤرخ بها وفاة الشيخ عبد الكريم
اليزدي الحائري:
عبد الكريم آية الله قضى * وانحل منه سلك العلوم عقده
أجدب ربع العلم بعد خصبه * وهد أركان المعالي فقده
كان لأهل العلم خير والد * وبعده أمست يتامى ولده
كوكب سعد سعد العلم به * دهرا وغاب اليوم عنه سعده
في شهر ذي القعدة غاله الردى * بسهمه يا ليت شلت يده
في حرم الأئمة الأطهار في * شهر الحرام كيف حل صيده
دعاه مولاه فقل مؤرخا * لدى الكريم حل ضيفا عبده
ومنه أبيات نظمها لتكتب على ضريح والده مؤرخا فيها وفيها:
لئن يك اخفى القبر شخصك في الثرى * فهيهات ما أخر فضائلك القبر
لقد كنت سر الله بين عباده * ومن سنن العادات أن يكتم السر
فطوبى لقبر أنت فيه مغيب * فقد غاب في أطباق تربته البدر
ولست بمستسق له القطر بعد ما * غدا بثراه ينتجع القطر
تخيرت صدر الخلد مأوى فأرخوا * من الخلد (إسماعيل) طاب (له الصدر)
تاريخ وفاته شعرا
قال السيد محمد حسن الطالقاني مؤرخا وفاته:
تبت يد الزمان من خؤون * يعبث في شمل الهدى والدين
فكم له من ضربة قاضية * تستنزف الدمع من العيون
وفعلة منكرة عادت على الاسلام * بالخسران والشجون
لهفي على الطلاب مذ نعى لهم * ناعى الردى شيخ ذوي اليقين
فقد تولى شملهم أيدي سبا * وكان قبل فاقد القرين
ومذ قضى (فرد) الزمان أرخوا * (الا مضى الدين وصدر الدين)
وفي قوله: وقد قضى فرد الخ إشارة إلى إضافة واحد إلى مجموع اعداد
التاريخ.
وهو والد السيد رضا المقيم الآن في قم، والسيد موسى الذي أقام في لبنان
وسافر في إحدى سفراته إلى ليبيا فاختفت فيها آثاره.
السيد صدر الدين شرف الدين ابن السيد عبد الحسين
ولد في صور سنة 1912 م. وتوفي فيها سنة 1970 م.
درس أولا في صور ثم ذهب إلى النجف الأشرف للدراسة فبقي هناك سنين ثم
تجنس بالجنسية العراقية وعين مدرسا في ثانويات العراق وفي سنة 1944 م.
استقال من وظيفته وأصدر في بغداد جريدة الساعة يومية سياسية فلقيت في أول
عهدها رواجا وإقبالا لأنه كان كاتبا مجودا في الطليعة من كتاب العرب الشبان،
فكان يغذي الجريدة بمقالاته التي أدخلت شيئا جديدا على الصحافة العراقية،
كما ضمت إليها بعض المحررين الأكفاء، وقد كانت تنطق بلسان كتلة سياسية
نافذة في الحكم، فساعدها كل ذلك على أن تكون من أوسع الصحف العراقية
انتشارا. ولكن تبدل بعض الظروف وتغير أوضاع من كانت لسانهم من
السياسيين جعلها تتراجع، أضف إلى ذلك ما قوبلت به من حملات طائفية غير
شريفة لم تكن تتورع حتى عن البذاءة في القول، ولكن كل ذلك كان هينا أمام
ما كان عليه طبع صاحب الجريدة من عدم الاستقرار والتطلع في كل جهة مما
أدى في النهاية إلى توقف الجريدة سنة 1946 م ثم إخراج صاحبها من العراق
فعاد إلى لبنان وأصدر سنة 1950 م في بيروت مجلة (الألواح) أسبوعية أدبية
فكانت من أفضل ما يصدر في هذا الموضوع ومن خير مجلات العالم العربي.
لكن المحيط كان أضيق من أن يعطي مجلة ذات طابع أدبي فكري بحت ما
تستحقه من الذيوع والانتشار فلم تلبث المجلة أن توقفت. فاستقر المترجم في
صور وأشرف على مدرسة أهلية أنشأها، وعاوده الحنين إلى الصحافة فأصدر سنة
1955 م. مجلة شهرية باسم (النهج) لم تكن ظروفه المادية تسمح له بأن يخرجها
كما يجب أن تخرج، فظلت مجلة متواضعة صغيرة الحجم قليلة الصفحات، لا
تتفق مع ما لصاحبها من موهبة أدبية فائقة. وأدركته محن وعلل حتى توفاه الله.
لقد كان السيد صدر الدين شرف الدين كاتبا مبدعا من أكفا كتاب العرب
في عصره مادة وديباجة وأسلوبا وكان جديرا بأن يترك في تراثنا الأدبي والفكري
الكثير من الخالدات. ولكن القلق النفسي الدائم وتفاوت النظرات بين يوم
ويوم وأشياء أخرى... وأدت مواهبه وحرمت الأجيال من أن تطالع ثمرات
ذاك القلم الخلاق، فلم يترك من الآثار سوى كتب صغيرة منها: حليف
مخزوم، وهو في سيرة عمار بن ياسر، هاشم وأمية، سحابة بورتسموت.
صدر الدين خان فائز الدهلوي
من شعراء الهند نظم الغنائيات والغزليات ورتب ديوانه سنة (1715 م).
وهو من أحفاد علي مردان من أمراء شاه جهان، وكان معاصرا لولي الدكني
الملقب بادم الشعراء. وشعر كلا الشاعرين فيما اصطلح على تسميته بلغة
(دهلوي). ويعتبر ديوانه أول ديوان بدهلوي.
(صفي)، السيد علي نقي
ولد في لكنو سنة 1279.
اشتهر بلقبه (صفي) ولم يعرف بغيره، لذلك ترجمناه في حرف الصاد.
كان (صفي) في الهند شاعر الملة، ولقبوه ب‍ " لسان القوم " لأنه كان

59
يدعو إلى الحركة والعمل والتقدم وترك القعود.
وهو شاعر خطيب مصلح في شعره، دعا إلى اصلاح ما فسد من الأمور
وتنظيم الجهود، فقامت بدعوته المؤسسات الشيعية الكبرى في لكنو مثل: كلية
الشيعة، ودار الأيتام، ومدرسة الصنائع، وقاعة القومية.
وكان هو صاحب قيادة " شيعة كانغرس " وان كانت الزعامة في أيدي
الأمراء والسياسيين، ولكن الحركة والدعوة كانت بيد الصفي وحده لحرارة
شعره واثره العميق في النفوس.
كان شاعرا كبيرا نظم في تاريخ البلاد وصور أوضاع الشيعة وحاجاتها
الراهنة، وهو شاعر أخلاقي اصلاحي.
الضحاك بن عبد الله المشرفي.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عامر عن الضحاك بن عبد الله المشرفي
قال: لما رأيت أصحاب الحسين قد أصيبوا وقد خلص إليه والى أهل بيته ولم يبق معه
غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثغمى وبشير بن عمرو الحضرمي قلت له يا ابن
رسول الله قد علمت ما كان بيني وبينك قلت لك أقاتل عنك ما رأيت مقاتلا فإذا لم أر
مقاتلا فأنا في حل من الانصراف فقلت لي نعم قال فقال صدقت وكيف لك بالنجاء
ان قدرت على ذلك فأنت في حل قال فأقبلت إلى فرس وقد كنت حيث رأيت خيل
أصحابنا تعقر أقبلت بها حتى أدخلتها فسطاطا لأصحابنا بين البيوت وأقبلت أقاتل
معهم راجلا فقتلت يومئذ بين يدي الحسين رجلين وقطعت يد آخر وقال لي الحسين
يومئذ مرار لا تشلل لا يقطع الله يدك جزاك الله خيرا عن أهل بيت نبيك فلما أذن لي
استخرجت الفرس من الفسطاط ثم استويت على متنها ثم ضربتها حتى إذا قامت
على السنابل رميت بها عرض القوم فافر جوالي وأتبعني منهم خمسة عشر رجلا حتى
انتهيت إلى شفية قرية قريبة من شاطئ الفرات فلما لحقوني عطفت عليهم فعرفني
كثير بن عبد الله الشعبي وأيوب بن مشرح الخيواني وقيس بن عبد الله الصائدي
فقالوا هذا الضحاك بن عبد الله المشرقي هذا ابن عمنا ننشدكم الله لما كففتم عنه
فقال ثلاثة نفر من بني تميم كانوا معهم بلى والله لنجيبن إخواننا وأهل دعوتنا إلى ما
أحبوا من الكف عن صاحبهم قال فلما تابع التميميون أصحابي كف الآخرون
فنجاني الله.
الشيخ ضياء الدين الخالصي ابن الشيخ محمد صادق
اسمه عبد الحسين لكنه لم يعرف به مطلقا بل اشتهر بلقبه، وإن كان
توقيعه في رسائله: عبد الحسين ضياء الدين.
ولد في الكاظمية سنة 1315 وتوفي فيها سنة 1370.
كان من أطيب الناس ذاتا وأعفهم يدا وأكرمهم خلقا وأصدقهم لهجة
وأكثرهم وفاء. سليل البيت العلمي العريق. درس في الكاظمية، ثم واصل
التتبع والبحث والمطالعة فأخرج مجموعة نفيسة من المؤلفات.
ولكن لأنه كان أبي النفس بعيدا عن التملق والتزلف، عاش فقيرا معدما
بينما كان الجهلاء المنافقون المدجلون ينعمون بأموال الشعب. ولو قدر لهذا
الرجل من يحتضنه ويقيه غائلة الجوع ويضمن له نوعا من كفاف العيش لا
أكثر، لكان منه رجل علم وفضل وتحقيق تثرى بانتاجه المكتبة الإسلامية. ومع
ذلك، ومع أنه كان له من فاقته شاغل أي شاغل، فقد أخرج الكتب الآتية:
1 - الدروس الاعتقادية 2 - تنقيح وتلخيص شروح الألفية 3 - مخازي بني
أمية 4 - تمرين الطلاب في مشاكل مسائل في النحو والصرف واللغة والاعراب 5 -
خلاصة الحاشية على تهذيب المنطق 6 - قواعد التجويد 7 - تهذيب كتب الفقه 8 -
حول تقريرات الشيخ مرتضى الأنصاري 9 - تحفة الحبيب 10 - الصحيفة
المهدوية 11 - ضياء الايمان 12 - أربعون حديثا، في أصول الدين والفقه
والأخلاق 13 - الملاحظات، حول كتاب (تنزيه القرآن عن المطاعن) لعبد
الجبار المعتزلي 14 - النقد الجميل على تفسير أنوار التنزيل للقاضي البيضاوي،
وهو ما فات الشيخ البهائي من نقده 15 - تحفة الاخوان في نقد كتاب آلاء
الرحمن في تفسير القرآن 16 - تعليقات على عدة كتب 17 - الفوائد المتفرقة،
وهو على نهج الكشكول، وجله نقد لكتب دينية وأدبية يمكن أن يرتب وينوع
إلى عدد من الكتب، وقد تم منه ستة مجلدات كبار.
وقد كان يقرأ كل كتاب يقع في يده وشذ أن لا يعلق عليه أو يصحح ما فيه
فقد كانت هوامش كتبه مملوءة بالفوائد. ولما اشتد به الضيق باع ذلك كله بثمن
بخس.
وقد كنت خلال إقامتي في العراق وزيارتي للكاظمية لا أفعل شيئا بعد زيارة
الجوادين قبل أن أسعى للقيا الشيخ ضياء الخالصي فالتقي به في إحدى حجر
الصحن أو في مكتبة النجاح فتمتلئ نفسي سعادة بمطالعة ذلك الوجه الذي يشع
إيمانا ووداعة وإيناسا وحكمة، واحرص على أن لا أتكلم بكلمة كي لا أقطع
حديثه العذب الرائق المؤنس. وقد كنت أعلم أنه ضيق الحال ولكن لم أكن
أدري أنه على تلك الدرجة من الضيق لأنه كان يحاول جهده أن لا يظهر عليه
أمام أصدقائه أنه مكروب، بل كانت الابتسامة المشعة تملأ وجهه دائما لئلا
يكدرهم.
وزرت العراق بعد انقطاع وجئت الكاظمية للزيارة ولرؤية الشيخ ضياء
الخالصي، فسالت صديقا عنه، فقال: لقد مات وأؤكد لك أنه مات جوعانا
بل لقد مات من الجوع.
هكذا كان مصير العالم الباحث الأديب المؤرخ ذي الشمم والأباء
والنزاهة، هكذا كان مصيره على مرأى ومسمع من الدولة البترولية، وإلى
جوار القصور الشامخة والعمائم المنتفخة التي تشكو هي واتباعها من التخمة.
الشيخ ضياء الدين العراقي
مرت ترجمته في الصفحة 392 من المجلد السابع ونزيد هنا عليها ما يلي:
ولد في سلطان آباد (إيران) سنة 1278 فدرس الأوليات، ثم قرأ
المقدمات على والده وغيره ثم هاجر إلى النجف الأشرف فأدرك بحث السيد
محمد الفشاركي وغيره، ثم حضر دروس الميرزا حسين الخليلي والشيخ محمد
كاظم الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهاني
وغيرهم.
واستقل بالتدريس بعد وفاة الخراساني سنة 1329 وكان لمجلس درسه
اقبال ملحوظ لا سيما في علم الأصول الذي اشتهر به، وظل متوليا التدريس
أكثر من ثلاثين سنة تخرج عليه خلالها العدد الكبير من المجتهدين.
تلاميذه
من تلاميذه: السيد محمد تقي الخونساري والسيد عبد الهادي الشيرازي
والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد محسن الحكيم والسيد علي الكاشاني اليثربي
و الشيخ عبد النبي العراقي والشيخ محمد تقي الآملي والميرزا حسن اليزدي
والشيخ محمد تقي البروجردي وغيرهم كثيرون.

60
مؤلفاته
طبع من مؤلفاته كتاب القضاء وكتاب البيع والمقالات الأصولية
و (فروع العلم الاجمالي) و (حاشية العروة الوثقى).
طاهر بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن
الحسين بن علي ابن أبي طالب (عليهم السلام)::
ذكر في الصفحة 395 من المجلد السابع وذكر في ترجمته أنه ممدوح المتنبي
في قصيدته البائية.
والصحيح أنه ليس هو ممدوح المتنبي. وهذه ترجمته:
هو من أمراء المدينة وعلمائها وأعيانها، قال عنه ابن عنبة في كتابه " عمدة
الطالب ": كان من جلالة القدر بحيث أن كلا من اخوته يعرف بأخي طاهر،
وفي ولده البيت والإمرة في المدينة، وله عقب كثير (اه‍).
وجاء في مقاتل الطالبيين: كتب إلينا أن صاحب الصلاة بالمدينة دس سما
إلى طاهر بن يحيى بن الحسن... فقتله، وكان سيدا فاضلا، وقد روى عن
أبيه وغيره وروى عنه أصحابنا (اه‍).
وأبو طاهر هذا هو يحيى بن الحسن المعروف بالعقيقي (نسبة إلى عقيق
المدينة) المتوفى سنة 287 وهو أول من صنف من الطالبيين كتابا في أنسابهم
وألف كتاب " أخبار المدينة " رواه عنه ابنه طاهر هذا.
وكتابه عن المدينة من أهم مصادر السمهودي، وقد وصلت إليه نسخ
متعددة إحداها رواية طاهر هذا، كما صرح بذلك السمهودي في عدة مواضع
من كتابه " وفاء الوفا ".
وكان طاهر المترجم ينزل خارج المدينة في العقيق، قال السمهودي في
" وفاء الوفا ": أول الجماوات جماء تضارع التي تسيل على قصر عاصم، وهو
منزل أبي القاسم طاهر بن يحيى وولده. وقال في موضع آخر فيما نقل عن أبي
علي الهجري: ووجاه ذلك في قبالة جماء تضارع منازل لعبد العزيز بن عبد
الله بن عمر بن عثمان، ثم يليها منازل لعبد الله بن بكير بن عمر بن عثمان،
وهو قصر طاهر بن يحيى وولده.
طه باقر
ولد في الحلة (العراق) سنة 1912 وتوفي سنة 1984.
باحث آثاري من مشاهير الدارسين في مجال التنقيبات والآثار في وادي
الرافدين درس النحو والعلوم الشرعية عند والده وعمه ثم انتقل إلى المدرس
الحكومية ثم سافر إلى أمريكا فتخرج في المعهد الشرقي في شيكاغو خبيرا في
الآثار عام 1938 وعين في عدة وظائف في المتحف العراقي ثم مديرا لآثار
العراق ثم عضوا للمجلس التأسيسي لجامعة بغداد ثم نائب رئيس جامعة
بغداد وشارك في كثير من التنقيبات داخل العراق مع الأثريين العالميين.
مؤلفاته:
1 - دليل المتحف العراقي.
2 - مقدمة في تاريخ الحضارات.
3 - تقارير عن التنقيبات في عقرقوف.
4 - بحث في التاريخ.
5 - كتاب من ألواح سومر.
6 - انتحار الحضارات.
7 - الصلات التاريخية بين أقطار الشرق الأدنى القديم.
8 - قبل آقليدس ب 1500 عام.
9 - أحدث الاكتشافات الأثرية.
10 - أدب العراق القديم (1).
الطفيل بن عامر بن وائلة.
كان مع أبيه مشاركا في الثورة على الحجاج سنة 82 فقتل في احداث تلك
الثورة، وكان شاعرا فمن شعره ما قاله وهو في صفوف الثوار:
ألا طرقتنا بالغريبين بعد ما * كللنا على شحط المزار جنوب
أتوك يقودون المنايا وانما * هدتها بأولانا إليك ذنوب
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له * من الله في دار القرار نصيب
ألا أبلغ الحجاج أن قد أظله * عذاب بأيدي المؤمنين مصيب
متى نهبط المصرين يبهرب محمد * وليس بمنجي ابن اللعين هروب
وقال عامر يرثي ابنه الطفيل ويشير إلى فشل الثورة:
خلى طفيل علي الهم فانشعبا * وهد ذلك ركني هدة عجبا
وابني سمية لا أنساهما ابدا * فيمن نسيت وكل كان لي نصبا
وأخطأتني المنايا لا تطالعني * حتى كبرت ولم يتركن لي نشبا
وكنت بعد طفيل كالذي نضبت * عنه المياه وغاض الماء فانقضبا
فلا بعير له في الأرض يركبه * وان سعى اثر من فاته لغبا
وسار من ارض خاقان التي غلبت * أبناء فارس في اربائها غلبا
ومن سجستان أسباب تزينها * لك المنية حينا كان مجتلبا
حتى وردت حياض الموت فانكشفت * عنك الكتائب لا تخفي لها عقبا
وغادروك صريعا رهن معركة * ترى النسور على القتلى بها عصبا
تعاهدوا ثم لم يوفوا بما عهدوا واسلموا للعدو السبي والسلبا
يا سوءة القوم إذ تسبى نساؤهم * وهم كثير يرون الخزي والحربا
(راجع ترجمة عامر بن واثلة).
طلائع بن رزيك:
نقل العماد عن خطبة ديوان المترجم: " فقد نشرت أيامه مطوي الهمم،
وأنشرت رفات الجود والكرم، ونفقت بدولته سوق الآداب بعد ما كسدت،
وهبت ريح الفضل بعد ما ركدت. إذا لها الملوك بالقيان والمعازف كان لهوه
بالعلوم والمعارف، وإن عمروا أوقاتهم بالخمر والقمر كانت أوقاته معمورة بالنهي
و الأمر. ويقول عنه الدكتور محمد كامل حسين في كتابه (من أدب مصر الفاطمية):
" ومن عجب أن يجتمع في بلاطه أكبر أعيان أهل الأدب مثل: الجليس
والموفق بن الخلال وابن قادوس والمهذب بن الزبير والرشيد بن الزبير وغيرهم
الذين وصفهم عمارة اليمني بقوله: وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في
الفضائل النفسانية والرياسة الإنسانية بأوفر نصيب، وما زلت أحذو على
طرائفهم وأعرض جذعي في سوابقهم حتى أثبتوني في جرائدهم.



(1) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
(2) الخرية ورقة 32 ب.
61
فهؤلاء الأعلام كانوا يجتمعون في مجلس الملك الصالح طلائع بن رزيك
يتناشدون الشعر ويتناظرون في بعض المسائل العلمية والأدبية ويستمعون إلى
شعره ".
ويقول المقريزي: أن له قصيدة سماها الجوهرة في الرد على القدرية، وأنه
صنف كتابا سماه " الاعتماد في الرد على أهل العناد) جمع له الفقهاء وناظرهم
عليه، وهو كتاب يبحث في إمامة علي بن أبي طالب والأحاديث النبوية التي
وردت فيه.
ظالم بن عمرو أبو الأسود الدؤلي
مرت ترجمته في الصفحة 403 من المجلد السابع ونزيد عليها هنا ما يأتي:
قال الدكتور عبد المجيد زراقط:
كان أبو الأسود الدؤلي " من وجوه التابعين وفقهائهم ومحدثيهم وهو كان
الأصل في بناء النحو وعقد أصوله ". وعنه يقول الجاحظ: " أبو الأسود
الدؤلي معدود في طبقات من الناس، وهو في كلها مقدم، مأثور عنه الفضل في
جميعها، كان معدودا في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف
والفرسان والأمراء الدهاة والنحويين والحاضري الجواب والبخل والصلع
الأشراف والبخر الأشراف ". ونرى في أبي الأسود أيضا صفات تدعو إلى
الاكبار والاجلال. يتعلق بالله عن عميق إيمان:
وإذا طلبت من الحوائج حاجة * فادع الاله وأحسن الأعمالا
فليعطينك ما تشاء بقدرة * فهو اللطيف لما أراد فعالا
إن العباد وشأنهم وأمورهم * بيد الإله يقلب الأحوالا
فدع العباد ولا تكن بطلابهم لهجا تضعضع للعباد سؤالا
هذا الترفع ينتج عن إيمان وعن اعزاز للنفس يتدبره عقل واع، فهو حين
شاخ لم يكن يقعد في البيت وإنما كان يخرج كي يبقى مهابا محترما في منزله وكي
يبقى على صلة بالحياة. وما كان يرضى الهبة، قال يوما لصديق أراده أن يهبه
فروة:
بعني نسيب ولا تثبني إنني * لا أستثيب ولا أثيب الواثبا
ولم يكن ميسور الحال باستمرار، ولعل هذا ما يفسر اتهام الناس إياه
بالبخل، والحقيقة أنه كان مقتصدا يتدبر أمره مما يدره عليه رزق كان له، إذ
يتحدث عنه صاحب الأغاني كمقتني إبل يساوم في أثمانها. والملاحظ أن أبا
الأسود لم يحترف الشعر ولم يمدح لأجل أن يعطى، كما أنه لم يهج برغم أن له من
الأجوبة اللاذعة ما يسجل، وبرغم ما يقول عن لسانه:
فإن لساني ليس أهون وقعة * وأصغر آثارا من النحت بالفاس
وإن تعرض لأحد بهجاء، فإن ما يقوله مقبول لدرجة أن المهجو يتمثل
به. قال أبو الأسود للحصين، في نهاية أبيات عرض فيها رفض الأخير
شفاعته:
يصيب وما يدري ويخطي وما يدري * وكيف يكون النوك إلا كذلكا
وكان الحصين يتمثل بهذا الشعر عندما يقضي بين الناس (5):
الحق أنه من النادر أن نلتقي بشاعر في العصر الأموي وفي العراق هذه
صفاته. ولنقرأ هذا الشعر قاله لصديق له، كان قد حكم عليه بالحق:
ولا تدعني للجور واصبر على التي * بها كنت أقضي للبعيد على أبي
إني امرؤ أخشى إلهي وأتقي معادي وقد جربت ما لم تجرب
هذا هو أبو الأسود الإنسان، رجل مؤمن تقي عالم، يتدبر أموره بعقل
وروية، ويترفع بنفسه عن كل ما يؤذيها. وكان هكذا في شعره، لم يتكسب
به، ولم يتسلط به أيضا برغم أنه كان محتاجا لدرجة أن يكسى ثوبا أو ليسدد عنه
دين وبرغم أن لسانه ما كان كليلا إنه طراز من الشعراء نادر وإن لم يعرف، في
المقام الأول، كشاعر.
ما كان أبو الأسود يمدح وما كان يهجو، وهذه مواضيع في الشعر العربي
رئيسية حتى أنها كانت تحدد منزلة الشاعر، وهذا ما لم يأبه له. ولو كان محبا
للمال، كما يقولون، لاهتم باستغلال شعره. وما كان ليفعل، وهو الإنسان
العالم الذي كان العقل رائده في مجمل تصرفاته، إضافة إلى أنه كان يسترشد
الإله وحده في سلوكه.
إذا فيم كان يقول الشعر؟ الواقع أن اطلاعا سريعا على شعر أبي الأسود
يفيد أنه كان ينظم الشعر في الأمور اليومية التي كانت تعرض له، وهذا أمر
جديد على الشعراء، وفي تأييد مذهبه.
كان يتناول، في شعره، أمور حياته، حتى الصغيرة جدا منها. أراد جاره
خداعه في شراء ناقة منه، فقال له: بئست الخلتان فيك: الحرص والخداع
وأنشد (6):
يريد وثاق ناقتي ويعيبها يخادعني عنها وثاق بن جابر
فقلت: تعلم يا وثاق بأنها عليك حمى أخرى الليالي الغوابر
بصرت بها كوماء حوساء جلدة من الموليات الهام حد الظواهر
فحاولت خدعي والظنون كواذب * وكم طامع في خدعتي غير ظافر
ولم يكن تناوله لهذه الأمور العادية عاديا، بل كان تناول الإنسان المفكر
المتبصر الذي يصل، من خلال معالجة القضية اليومية، إلى تعميم يهم الناس
جميعا. كان يعرض القضية ويستوفي تفصيلاتها ثم ينتهي بحكم عام يصح أن
يتخذ حكمة أو مثلا:
بلغه أن زيادا يوقع به، فقال فيه كثيرا. ومما قاله هذه الأبيات:
نبئت زيادا ظل يشتمني * والقول يكتب عند الله والعمل
وقد لقيت زيادا ثم قلت له * وقبل ذلك منا خبت به الرسل
حتى م تسرقني في كل مجمعة عرضي، وأنت إذا ما شئت منتفل
كل امرئ صائر يوما لشيمته في كل منزلة يبلى بها الرجل
أبو الأسود، في هذه الأبيات، إنسان مؤمن بالله، يستوحي تعاليمه في
سلوكه وفهمه للأمور، وينظر بعقل لما يجري معه، فيخلص إلى حكمة إنسانية
عامة تتحول بالقضية الصغيرة الفردية إلى قضية كبيرة عامة.



(1) الأغاني، 12 / 297.
(2) المصدر نفسه، 12 / 300.
(3) المصدر نفسه، 12 / 301.
(4) المصدر نفسه، 12 / 321 و 331.
(5) المصدر نفسه، 12 / 307 النوك: الحمق.
(6) المصدر نفسه، 12 / 315.
(7) المصدر نفسه، 12 / 312.
62
ويقول ابن طي.
- " خطب أبو الأسود امرأة من عبد القيس يقال لها أسماء، فاسر أمرها إلى
صديق، فحدث به ابن عم لها كان يخطبها - وكان لها مال عند أهلها - فمشى
ابن عمها الخاطب لها إلى أهلها الذين مالها عندهم، فأخبرهم خبر أبي
الأسود، وسألهم أن يمنعوها من نكاحه ومن مالها الذي في أيديهم ففعلوا ذلك،
فضاروها حتى تزوجت بابن عمها، فقال أبو الأسود الدؤلي (1)
لعمري لقد أفشيت يوما فخانني * إلى بعض من لم أخش سرا ممنعا
فمزقه مزق العمى وهو غافل * ونادى بما أخفيت منه فأسمعا
فقلت ولم أفحش لعلك عاثر * وقد يعثر الساعي إذا كان مسرعا
ولست بجازيك الملامة إنني * أرى العفو أدنى للرشاد وأوسعا
ولكن تعلم أنه عهد بيننا * فبن غير مذموم ولكن مودعا
حديث أضعناه كلانا فلا أرى * وأنت نجيا آخر الدهر أجمعا
وكنت إذا ضيعت سرك لم تجد * سواك له إلا أشت وأضيعا "
ويتناول القضية ذاتها مشبها إذاعة السر بالنار الموقدة عاليا مكثفا من
حكمه:
أمنت أمرأ في السر لم يك حازما * ولكنه في النصح غير مريب
أذاع به في الناس حتى كأنه * بعلياء نار أوقدت بثقوب
فما كل ذي نصح يؤتيك نصحه * وما كل مؤت نصحه بلبيب
ولكن إذا ما استجمعا عند واحد * فحق له من طاعة بنصيب "
وأحيانا يأتي تناوله للقضية مركزا في موقف، ومنذ البداية. وذلك عندما
تكون القضية عنده بالغة الشأن: حكم على صديقه، فقال له:: والله ما بارك
الله لي في صداقتك، ولا نفعني بعلمك وفقهك... فقال أبو الأسود: (2)
إذا كنت مظلوما فلا تلف راضيا * عن القوم حتى تأخذ النصف وأغضب
أرادت ابنته نهيه عن الذهاب إلى فارس فقال: (3)
إذا كنت معنيا بأمر تريده * فما للمضاء والتوكل من مثل
توكل وحمل أمرك الله إن ما * تراد به آتيك فاقنع بذي الفضل
لزم ابنه منزله قائلا: " إن كان لي رزق فسيأتيني "، فقال له أبو
الأسود:
وما طلب المعيشة بالتمني ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجئك بملئها يوما ويوما * تجئك بحماة وقليل ماء
وهذا الموقف من أبي الأسود يتناسب ونظره العقلي إلى الأمور. ولعل " وما
طلب المعيشة بالتمني... " يذكر ب " وما نيل المطالب بالتمني " لشوقي. وأبو
الأسود، في الشطر الثاني، دعا إلى الصراع ولكن على شكل صورة منتزعة من
الحياة اليومية في حين أطلق شوقي " ولكن تؤخذ الدنيا غلابا " الحكم. وأحيانا
كان يتناول القضية بطريقة سردية مشوقة ينتهي بتساؤل هو أقرب إلى التأكيد
وكأنه يريد مشاركة الآخرين في إطلاق الحكم.
خدعته (5) امرأة فتزوجها وكانت على عكس ما ادعت، فجمع أقاربها وقال
لهم:
أريت أمرأ كنت لم أبله * أتاني فقال اتخذني خليلا
فخاللته ثم أكرمته * فلم استفد من لدنه فتيلا
وألفيته حين جربته * كذوب الحديث سروقا بخيلا
فذكرته ثم عاتبته * عتابا رفيقا وقولا جميلا
فألفيته غير مستعتب * ولا ذاكر الله إلا قليلا
ألست حقيقا بتوديعه * واتباع ذلك صرما طويلا؟
بلى أنت حقيق بذلك! وحقيق أيضا بمزيد من الانتباه، لهذه
النظرات العقلية إلى شؤون الحياة، وهي، وان كانت عقلية، تنبض بالحياة
لأنها منتزعة منها. فهي حوادث معيشة تعمم وتجرد، دون أن تكتسب برودة
التجريد ودون أن تفقد حرارة الحياة، وهذا ما يميز الجديد الأصيل في الشعر
العربي عن الجديد المفتعل الذي أتى في عصور لاحقة. وهذا ما يجعلنا نقول:
إن أبا الأسود أتى بجديد مهم جدير بالدرس المفصل.
وأبو الأسود تلميذ الإمام علي في علمه وسلوكه، وهو من الذين
استوعبوا الاتجاه الاسلامي للإمام، وكان من الأوفياء له وبقي كذلك حتى آخر
حياته. وهو، في شعره، يصدر عن هذا الوفاء النابع عن إيمان بالله واقتناع بأن
المذهب الشيعي إنما يمثل الاتجاه الاسلامي الصحيح. " كان بنو قشير يؤذون أبا
الأسود لحبه عليا عليه السلام ويرمونه بالليل فإذا أصبح قال لهم: يا بني قشير، أي
جوار هذا؟ فيقولون له: لم نرمك، إنما رماك الله لسوء مذهبك وقبح دينك!
فقال في ذلك:
يقول الأرذلون بنو قشير * طوال الدهر لا تنسى عليا!
فقلت لهم وكيف يكون تركي * من الأعمال مفروضا عليا؟
أحب محمدا حبا شديدا * وعباسا وحمزة والوصيا
هوى أعطيته لما استدارت * رحى الإسلام لم يعدل سويا
أحبهم لحب الله حتى * أجئ إذا بعثت على هويا
رأيت الله خالق كل شئ * هداهم واجتبى منهم نبيا (6)
الشاعر، في هذه القطعة، يبين لنا مذهبه ويبرر اختياره. وهي نظرة
عقلية هذه التي أطل بها. يرى حبهم واجبا ومنذ استدارت رحى الاسلام،
وهو يحبهم انطلاقا من حبه لله الذي اصطفاهم واختار منهم نبيه. والشاعر لم
يكن متخذا موقفه لهذا السبب وحده وإنما لأسباب تتضح في هذه القطعة، كما
يتضح فيها موقفه إزاء استشهاد الامام الذي لم يصبه باليأس ولا بالارتماء في
أحضان الحزن وإنما بالدعوة إلى استئناف العمل بقيادة: " ابن نبينا
وأخينا... "
ألا أبلغ معاوية بن حرب * فلا قرت عيون الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمونا * بخير الناس طرا أجمعينا
وكنا قبل مقتله بخير نرى مولى رسول الله فينا



(1) المصدر نفسه، 12 / 305.
(2) المصدر نفسه، 12 / 306.
(3) المصدر نفسه، 12 / 308.
(4) المصدر نفسه، 12 / 330.
(5) المصدر نفسه، 12 / 310.
(6) المصدر نفسه، 12 / 321.
(7) الأغاني، 12 / 329 تكمل من مروج الذهب، 2 / 286.
63
يقيم الدين لا يرتاب فيه * ويقضي بالفرائض مستبينا
فلا تشمت معاوية بن حرب * فان بقية الخلفاء فينا
وأجمعنا الامارة عن تراض * إلى ابن نبينا وإلى أخينا
ينطلق الشاعر من المبدأين الأساسيين للشيعة واللذين ذكرناهما قبلا وهما:
القرابة من النبي والنهج في الحكم المبني على العدل وإقامة الحدود. في وقوفه إلى
جانب آل البيت:
سأجعل نفسي لهم جنة * فلا تكثري لي من اللائمه
أرجي بذلك حوض الرسول * والفوز بالنعمة الدائمة
لتهلك إن هلكت برة * وتخلص إن خلصت غانمه
وهو يتخذ موقفا له دلالته البالغة على التزامه الكامل لمذهبه. " قال
الحارث بن خليد (وكان في شرف من العطاء) لأبي الأسود: ما يمنعك من
طلب الديوان فان فيه غنى وخيرا؟ فقال له أبو الأسود: قد أغناني الله عنه
بالقناعة والتجمل! فقال: كلا ولكنك تتركه إقامة على محبة ابن أبي طالب
وبغض هؤلاء القوم ".
ظالم بن شراق
في رجال ابن داود: يكنى أبا الصفرة، والد المهلب، كان شيعيا، وقدم
بعد الجمل فقال لعلي (عليه السلام): أما والله لو شهدتك ما قاتلك أزدي،
فمات بالبصرة فصلى عليه أمير المؤمنين (عليه السلام).
عابس بن أبي شبيب الشاكري.
جاء عابس بن أبي شبيب الشاكري يوم كربلاء ومعه شوذب مولى شاكر فقال
يا شوذب ما في نفسك ان تصنع قال ما أصنع أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم حتى أقتل قال ذلك الظن بك إمالا فتقدم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما
احتسب غيرك من أصحابه وحتى أحتسبك أنا فإنه لو كان معي الساعة أحد أنا أولى
به مني بك لسرني أن يتقدم بين يدي حتى أحتسبه فإن هذا يوم ينبغي لنا ان نطلب
الأجر فيه بكل ما قدرنا عليه فإنه لا عمل بعد اليوم وانما هو الحساب قال فتقدم فسلم
على الحسين ثم مضى فقاتل حتى قتل قال ثم قال عابس بن أبي شبيب يا أبا عبد الله اما
والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز علي ولا أحب إلى منك ولو قدرت
على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشئ أعز علي من نفسي ودمي لفعلته السلام عليك
يا أبا عبد الله أشهد الله أني على هديك وهدى أبيك ثم مشى بالسيف مصلتا نحوهم
وبه ضربة على جبينه (قال أبو مخنف) حدثني نمير بن وعلة عن رجل من بني عبد من
همدان يقال له ربيع بن تميم شهد ذلك اليوم قال لما رأيته مقبلا عرفته وقد شاهدته في
المغازي وكان أشجع الناس فقلت أيها الناس هذا الأسد الأسود هذا ابن أبي شبيب لا
يخرجن اليه أحد منكم فأخذ ينادي ألا رجل لرجل فقال عمر بن سعد ارضخوه
بالحجارة قال فرمي بالحجارة من كل جانب فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفرة ثم شد
على الناس فوالله لرأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس ثم إنهم تعطفوا عليه من كل
جانب فقتل قال فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة هذا يقول أنا قتلته وهذا يقول
أنا قتلته فاتوا عمر بن سعد فقال لا تختصموا هذا لم يقتله سنان واحد ففرق بينهم بهذا
القول.
العباسيون وعلاقاتهم الشيعية.
هذا بحث عام يتعلق بعدد وافر من رجال (أعيان الشيعة) وردت تراجمهم
خلال مجلدات الكتاب نعدد منهم: الإمام جعفر بن محمد الصادق، والإمام موسى
بن جعفر، ومحمد، وإبراهيم ولدا عبد الله بن الحسن المثنى بن
الحسن بن علي، والحسن بن زيد الملقب بالداعي إلى الحق، وإدريس بن
عبد الله بن الحسن، وزيد بن علي، وعبد الله بن الحسن، والحسن بن
زيد بن الحسن، وعلي بن عبد الله بن العباس، وأبو سلمة الخلال، لذلك
فهو من صميم موضوعات (أعيان الشيعة) لارتباطه بالرجال الذين مرت
أسماؤهم، ولا بد لمن يدرس ترجمة واحد منهم في (الأعيان) من أن يعود
إلى هذا البحث وهو مكتوب بقلم الشيخ محمد رضا الشبيبي:
أبو العباس السفاح
بويع أول الخلفاء العباسيين أبو العباس السفاح فكانت بيعته اجماعية، أجمع
عليها أهل بيته وأنصارهم، وبهذا الاجماع امتازت بيعته على بيعة غيره ممن
جاء بعده أو خلفه في هذا المنصب، أي أن عصر السفاح امتاز بعدم ظهور
منافس له أو ثائر عليه، ومع أن أخاه وخلفه من بعده المنصور أكبر منه سنا
الا انه كان في مقدمة من بايعه.
لم يحدث في خلافة السفاح حدث على أهل بيته أو أبناء عمومته خلافا لما
وقع في خلافة المنصور، لأن السفاح كان معنيا باستئصال الأمويين في هذا
الدور، وهو دور التأسيس والبناء.
بطش العباسيون الأول بطشة جبارة ببني أمية، قتلوهم أينما وجدوا، حتى
توارى عن الأنظار كل متصل بنسب إلى بني أمية، بيد أن كثيرا من أهل
الشام حاضرهم وباديهم وكثيرا من عرب الجزيرة وديار بكر، وهم من ربيعة
و مضر وتغلب وبكر بن وائل، ظلوا ناقمين على الهاشميين أو العباسيين،
لأسباب شتى، وهم يستظلون بظل الراية العباسية، بل أجهد العباسيين
بعد ذلك استئصال شاقة كثير من الناقمين عليهم في حواضر الشام والجزيرة
وبواديها، فانطوى هؤلاء على كثير من الغل وفساد النيات.
أصبح هؤلاء الناقمون عونا لكل ثائر على العباسيين، ولو لم يكن ذلك الثائر
من بني أمية فكثرت الفتن في الشام والجزيرة وفي ديار بكر وربيعة وفي ديار
مضر وتعدد خروج الخوارج في هذه البلاد، ولا يخلو تأريخ بلد قديم غلب
أهله على أمرهم من محاولة للثورة والانتقاض على الغالب. فقد ثار الحجاز
وثار العراق وثار غيرهما من الأقطار على حكم بني أمية، فلما ذا لا تثور
الشام؟ ولما ذا لا تثور الجزيرة على حكم بني العباس وقد تعددت الفرص
السانحة لمناهضة الدولة الجديدة ومناهضة خلفائها، ولم تعدم هذه الفرص
من ينتهزها من ذوي المطامع والاغراض البعيدة، وفي البلاد المذكورة - وهي
الجزيرة والشام - بقية باقية من أنصار بني أمية ومن مواليهم الضالعين
معهم، ولنا ان نقول: ان القطر الشامي وما اليه قد استحال بسبب سخط
الساخطين وبسبب وجود عدد لا يستهان به من موالي الأمويين وأنصارهم إلى
بيئة صالحة للخروج على بني العباس وللدعوة إلى مناهضتهم وخصومتهم من
أية ناحية جاءت هذه الخصومة.
أبو جعفر المنصور
وما أن وافى السفاح أجله ليخلفه أخوه الأكبر أبو جعفر المنصور حتى كشرت
الفتن عن أنيابها، وحتى توالت القلاقل في دولته ولكنه - أي المنصور -
واجهها بما عرف عنه من صرامة وفطنة ودهاء، وقد تخلص بموجب خطة

64
رسمها من خصومه واحدا بعد الآخر. تخلص من عمه عبد الله بن علي
الثائر عليه بأبي مسلم الخراساني صاحب الدولة، ثم تخلص من أبي مسلم
كما تخلص من زعماء آخرين توسم في بقائهم خطرا على دولته، وخلع ابن
أخيه عيسى بن موسى من ولاية العهد وكان السفاح عهد اليه من بعد
المنصور وعيسى هو الذي حارب له الأخوين محمدا وإبراهيم من أبناء العالم
الامام فظفر بهما، فكوفئ بخلعه من قبل المنصور، وعهد بولاية عهده إلى
ولده المهدي ثم إلى عيسى بن موسى هذا، والأقربون أولى بالمعروف، فكان
من يبايعه يقبل يده ويد المهدي ثم يمسح على عيسى ولا يقبلها، نقل ذلك
ابن تغرى بردي وأعقبه بقوله: ان البلاء والرياء قديمان، ثم أن المهدي
خلع ابن عمه المذكور من ولاية العهد وعقدها لولده الهادي، وكانت أول
ثورة على المنصور ثورة الأمير عبد الله بن علي عم الخليفة.
عبد الله بن علي
يعد عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بين أنبه الامراء العباسيين. وأبوه
علي - وهو الذي انتشر الخلفاء العباسيون من نسله، من أوائل الهاشميين
الذين رشحوا للخلافة بعد أن نضجت فكرة النورة على الأمويين واحلال
الهاشميين محلهم في هذا الشأن، وقد أعقب أكثر من عشرين ولدا ذكرا،
من أشهرهم: عبد الله هذا، وأخواه محمد وصالح ابنا علي، وكان لكثير
من أولاده شأن في تاريخ الدولتين الأموية والعباسية، الا أن الخلافة
العباسية كانت من نصيب أولاد محمد بن علي وهو أكبر من أخيه عبد الله، ولم
يبايع بالخلافة أحد من ولد عبد الله بن علي المذكور، ثم هو الأمير الذي ندبه
السفاح لقتال مروان الجعدي فظفر به وبغيره من أمراء بني مروان في واقعة
الزاب وعلى يده انقرضت دولتهم، من ثم استخلص الشام
ومصر، وكان ساعده الأيمن في ذلك أخاه صالح بن علي الذي جهزه السفاح
على طريق السماوة فطارد مروان وفلول الجيش الأموي إلى مصر وقتله في
(أبي صير)، وهو - أعنى عبد الله بن علي - بعد ذلك عم السفاح، لذلك
كان يحدث نفسه بالخلافة، بل كان يرى أنه أحق العباسيين بعد السفاح بان
يكون خليفة. أحق من المنصور وأحق من سائر أمراء بني العباس، وكان
يظن أن ابن أخيه - أي السفاح لا يعدوه في الوصية بولاية عهده لأنه نائبه في
الجهاد وقيادة الجيوش وغزو الروم، ولكن السفاح عهد في مرض موته بولاية
العهد إلى أخيه المنصور ثم إلى ابن أخيه عيسى بن موسى وما أن علم
عبد الله بن علي ببيعة المنصور في العراق وكان - كما قلنا - يتحين الفرص
للمطالبة بحقه في الخلافة، حتى جاهر بالدعوة إلى نفسه وعدل بجيشه إلى
العراق، ولكن خانه الحظ وأخفق في الوصول إلى بغيته، وانتهت حياة بطل
الزاب بالموت في سجن ابن أخيه المنصور بعد هزيمته في واقعه " نصيبين "
على يد أبي مسلم الخراساني، وهكذا أخفق عبد الله بن علي في الوصول إلى
غايته المنشودة، ومرد اخفاقه فيما نراه إلى قصر نظره وافتقاره إلى شئ كثير من
الدربة والحنكة السياسية، وكان دون أخيه محمد بن علي ربان الدعوة
العباسية في كل شئ. كان دونه في عقله الراجح وكان دونه في حزمه وخبرته
الواسعة، وقد ارتكب في دعوته إلى نفسه أغلاطا فظيعة أمر بقتل عدد كبير
من الخراسانيين كانوا في جيشه لتوهمه بميلهم إلى أبي مسلم الذي ندب لقتاله.
وهم أيضا أن يفتك ببعض القحاطبة وهم من أشهر القواد في جيشه. وكان
جل جيشه الباقي مؤلفا من أهل الشام الذين غلبوا على أمرهم في واقعة
الزاب ولا بد لنا من القول: أن المنصور اضطرب الاضطراب كله في بدء
هذه الحركة التي قام بها عمه حتى أنه هم بالخروج إلى مناجزته بنفسه، وكان
لا يرى من بعده أهلا للقيام بحرب عبد الله الا أبا مسلم الخراساني، ولذلك
قال له: ليس لهذا الامر الا أنا أو أنت فامتثل أبو مسلم أمر المنصور في قمع
هذه الثورة، ولم تقمع الا بعد أن مضت عليها أشهر غير قليلة، وهي أول
حرب تقع في صدر الخلافة العباسية بين أهل خراسان بقيادة أبي مسلم وأهل
الشام في الجزيرة بقيادة عبد الله بن علي المذكور.
دور الطالبيين
ومن أهم الاحداث في خلافة المنصور، أن لم يكن أهمها، تلك الثورات
التي قام بها فريق من زعماء الطالبيين. وقد بدأت في خلافة المنصور، ولم
يكن لها أثر في أيام السفاح، بل لم يحدث في خلافته حدث على الطالبيين كما
لم يحدث من الطالبيين حدث عليه. وقد أقضت هذه الاحداث مضاجع
الخلفاء العباسيين الأولين، خصوصا وهم يعلمون أن النفوس في كثير من
الأقطار إلى خصومهم أميل، وأن الرأي العام فيها يجنح إلى تفصيل آل أبي
طالب على بني العباس، وكان المنصور يعرف أن لآل أبي طالب مكانة مكينة
في نفوس الجمهور لا يحلم بها أكثر العباسيين، فكان يخشى - لذلك - جانبهم
ومطالبتهم بحقوقهم التي يعضدهم كثير من الناس في المطالبة بها، ومن هنا
جاء حقد المنصور على الطالبيين وقتل من قتل منهم من ساداتهم وأشياخهم
الثائرين وعاملهم بقسوة منقطعة النظير. جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي ما
نصه: وفي سنة 45 كان خروج الأخوين محمد وإبراهيم أبني عبد الله بن
حسن بن الحسن بن علي، فظفر بهما المنصور فقتلهما وجماعة كثيرة من أهل
البيت، فانا لله وانا اليه راجعون. وكان المنصور أول من أوقع الفتنة بين
العباسيين والعلويين، وكانوا قبل ذلك شيئا واحدا. وقال أيضا:
" وممن أفتى بجواز الخروج مع محمد على المنصور مالك بن أنس، وقيل له:
ان في أعناقنا بيعة للمنصور، فقال: انما بايعتهم مكرهين، وليس على
مكره يمين.
كانت ثورات الطالبيين مصدر قلق للطبقة الأولى من خلفاء بني العباس،
وقد ألحقت بهم ما ألحقت من الأضرار البليغة بالأرواح والأموال، وقد
حاول قوم من المحدثين المعنيين بالتاريخ أن يعدوا ثورات الطالبيين المتوالية
على أبناء عمومتهم من بني العباس من جملة العوامل الفعالة في زوال الدولة
العباسية، وفي هذا الرأي ما فيه من التكلف والمبالغة، لأن أخطر تلك
الاحداث والبثوق التي انبثقت من ناحية الطالبيين انما وقعت في صدر الدولة
العباسية وفي خلافة خلفائها الأول كالمنصور والمهدي والهادي وآخرين من
القوم، وقد تمكن العباسيون الأولون من قمعها بشئ غير قليل من الغدو
والقسوة والغلظة المتناهية على بني العمومة المذكورين، على اننا نرى أن
شيوخ هذين البيتين من طالبيين وعباسيين عاشوا في صفاء تام في معظم
عصور الدولة العباسية الأخيرة، وهي العصور التي منيت فيها الدولة
المذكورة بالضعف الشديد. وفي هذه العصور أحدث منصب نقابة
الطالبيين، وهو من المناصب الجليلة، وقد تولاه كثير من أشياخ الطالبيين
ووجوه العلويين في العصور العباسية المذكورة، لذلك لا يصح القول اطلاقا
بوجود علاقة أكيدة أو صلة مباشرة بين الثورات الطالبية المشار إليها وبين

65
انحلال الدولة العباسية.
وقد خصص أبو الفرج الإصفهاني الشطر الأكبر من كتابه المسمى: " مقاتل
الطالبيين " بذكر زعماء آل أبي طالب الذين قتلوا في عصور الدولة العباسية
عصرا عصرا، وقد ابتدأ بمن قتل منهم في خلافة المنصور الذي بز جميع
العباسيين في ذلك، وقد حفلت عصورهم بهذه الاحداث إذا استثنينا عددا
قليلا من خلفائهم كالسفاح والأمين والواثق بن المعتصم والمنتصر مالوا إلى
محاسنة الطالبيين، وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب. قال أبو
الفرج الإصفهاني: " بلغ منهم ما لم يبلغ أحد من الخلفاء قبله إلى أن قتل،
فعطف عليهم ابنه المنتصر. كان يرى مخالفة أبيه المتوكل، ويظهر ذلك
العطف على أهل البيت، فلم يجر عليهم مكروه في خلافته ".
كانت غلظة المتوكل في هذا الباب من الأسباب التي استحل بها ولده المنتصر
هدر دمه كما هو معروف وكان المتوكل يكره كل عباسي قبله ظهر منه شئ من
الميل إلى آل أبي طالب، وقد روى بعض المؤرخين أن الفقهاء أشاروا على
المنتصر بقتل أبيه بعد أن حكي لهم عنه أمورا قبيحة.
ومن الخلفاء العباسيين الذين اقترن تاريخهم بشدة الوطأة على الطالبيين - كما
جاء في كتاب المقاتل - المهدي والهادي والرشيد. والمستعين والمعتز
والمهتدي وهكذا إلى خلافة المقتدر (295 320)، وحسبك أن مصارع
الطالبيين في عصور الخلافة العباسية استوعبت جل كتاب المقاتل على ضخامة
حجم الكتاب المذكور.
هذا ويحسن بالمؤرخ في هذا المكان الالمام بتاريخ هذا الخلاف أو النزاع بين
أعيان هذين البيتين الهاشميين والوقوف على علله وأسبابه، وذلك على
الصورة الآتية.
أصل الدعوة وصبغتها العامة
كانت الدعوة إلى انتزاع السلطان من بني أمية هاشمية عامة في أصلها شارك
فيها الهاشميون: الطالبيون منهم والعباسيون، وكانت الجمعيات السرية
القائمة بها في أواخر عصور الدولة الأموية تتألف من وجوه العلويين
و العباسيين، وممن حضرها السفاح والمنصور، وكانت الدعوة تبث أو تعلن
بشكل يتناول الهاشميين جميعا، أي ان الدعوة كانت تعلن بالإضافة إلى (آل
محمد أو أهل البيت). وقد بويع من بويع من وجوه الفاطميين بالخلافة
سرا، بايعه العباسيون أنفسهم ومنهم السفاح والمنصور، فكانت الدعوة
الهاشمية في أخريات عصور الدولة الأموية على جانب عظيم من التنظيم
والقوة. وقد امتاز الدعاة الهاشميون بدهائهم وخبرتهم الواسعة.
اتجه الدعاة في أول الأمر بعد سبر أحوال بني العباس والمقارنة بينهم وبين
الطالبيين إلى تفضيل الطالبيين، ولكن سادات أهل البيت من الطالبيين
كانوا على جانب كبير من الورع فلم يعبأوا بالامر، وقد رفض بعضهم
مقترحات الدعاة بشأن البيعة، وكان الأمويون على وشك الاستفادة من انقسام
الهاشميين لولا أن الدعوة نمت نموا هائلا وسرت سرى النار في الهشيم، وذلك
لملائمة البيئة إليها، وهي بيئة مشبعة بالسخط والثورة النفسية على سياسة
الأمويين، وهكذا كانت الدولة من نصيب بني العباس.
هذا على أن بعض المؤرخين، وأكثرهم من الفرنجة المستشرقين يغمزون
العلويين بالعجز عن انتهاز الفرص، وأن العباسيين فاقوهم بالحزم والمضاء
وبعد النظر في هذه الناحية.
والواقع: ان الطالبيين أكرهوا على الثورة في كثير من الأحيان لشدة طلب
العباسيين لهم، إلى أن صارت الثورة على حكم العباسيين شعارا لهم كما
كانت من قبل على حكم الأمويين. وقد انتهز بعض الطالبيين والعلويين
طغيان الموالي والأتراك في الدولة العباسية واضطراب الأمور فيها بعد ذلك
فقاموا بثورات عدة وحاولوا الاستقلال بجزء من البلاد الخاضعة للدولة
العباسية، وقد نجح بعض زعمائهم في انشاء دولة لهم بطبرستان، وهي
الدولة الزيدية العلوية عاشت أكثر من مائة سنة.
عيسى ولي عهد السفاح
عقد السفاح ولاية العهد قبيل وفاته سنة 136 لاثنين من العباسيين. أولهما
أخوه المنصور وثانيهما ولد أخيه عيسى بن موسى المشار إليه، وقد أخذت
البيعة للثاني وهو أمير على الكوفة، ويبدو لنا من التأمل في تاريخ الطبقة
الأولى من بني العباس أن صلة عيسى بن موسى بأعمامه كانت صلة وثيقة منذ
فجر شبابه. فإنه ترعرع في كنف أعمامه وهو يتيم في الحميمة. وصحبهم
بعد ذلك في حلهم وترحالهم. وشاركهم في سرائهم وضرائهم صحب
أعمامه في رحلتهم من الحميمة إلى الكوفة وفيهم السفاح والمنصور - بعد
حبس إبراهيم الامام في " حران "، وهي رحلة اهتز لها كيان الدولة
الأموية. لأن القوم خرجوا متكتمين خائفين إلى أوليائهم وأنصار دعوتهم في
الكوفة. حيث ظهر أمرهم وخطب السفاح في الكوفيين وأخذت البيعة له في
يوم مشهود.
يغامرون في طلب الحرية
وتعد هذه الحركة أو الرحلة - ومردها إلى طغيان الأمويين واضطهادهم
للهاشميين - من أشهر المغامرات الجريئة في التاريخ، إذ ما عسى أن تصنع
شرذمة عدتها أقل من عشرين في قطر تسيطر عليه جيوش جرارة للأمويين
يقودها رؤساؤهم وكبار رجالهم، فهذا مروان بن محمد يطل على العراق من
" حران "، وهذا ابن هبيرة أمير العراقين من قبله يدافع عن واسط قلب
العراق، ولكنها الحرية يعشقها أقوام، ومن عشق شيئا غامر في سبيله،
ولكنه طلب السؤدد لا مناص من المخاطرة فيه، ومن طلب الحسناء لم يغله
المهر.
غرابة المغامرة
كانت حركة القوم من الحميمة يريدون الكوفة مدعاة للاستغراب، استغرب
القيام بها فريق من مشيخة بني العباس أنفسهم، وفي مقدمتهم داود بن علي
عم السفاح، وفي هذا الباب يقول هذا الشيخ العباسي الكبير للسفاح: " يا
أبا العباس تأتي الكوفة وشيخ بني أمية مروان بن محمد بحران مطل على
العراق في أهل الشام والجزيرة، وشيخ العرب ابن هبيرة بالعراق ".
الزعيم أبو سلمة
أوقفناك - فيما مر - على رأي داود بن علي عم السفاح في رحلة ابن أخيه،
و لننظر الآن إلى رأي الزعيم الكوفي المسؤول عن القيام بالدعوة الهاشمية في
المشرق، وهذا الزعيم هو أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال أول وزير للسفاح في

66
الكوفة ويقال له " وزير آل محمد " فإنه لم يكتم خوفه ولا وجله على هؤلاء النفر
المغامرين، وقد جاهر بان رحلتهم مبتسرة أو سابقة لأوانها، وعبثا حاول أبو سلمة
ابقاءهم في البادية ولكن من يضمن لهم الأمن فيها، ومن يمنع جيوش الأمويين منهم
إذا قصدتهم في الصحراء! وأخيرا لم يسعه إلا الإذن لهم في الدخول إلى الكوفة على
كره منه فان جيش العدو منهم غير بعيد، وهذا الجيش مرابط بهيت، وكتم أبو سلمة
أمر القوم شهرين في الكوفة محتجا بالخوف، ولا خوف يعتد به في تلك الأيام.
نقل البيعة إلى العلويين
لم يكن ذلك رأيا من أبي سلمة وإنما كان يتعلل بعلل مختلفة وينتحل أعذارا شتى
قائلا للعباسيين إن امركم لم يتم بعد وإن بني أمية قادرون على الحرب، إلى معاذير
أخرى لا غنى له عن كسب الوقت فيها، وكان أبو سلمة في هذه الفترة العصيبة يسبر
غور العباسيين ويوازن بينهم وبين العلويين إذ كانت في عنقه بيعة لإبراهيم بن محمد
الإمام ولكنه في حل منها الآن لأن إبراهيم بن محمد قد مات، فهو يريد أن يخلص إلى
رأي قاطع بعقد البيعة من بعد إبراهيم كما خلص قبل ذلك إلى رأي قاطع بشأن
الدعوة فجعلها للهاشميين عامة لا للعباسيين خاصة، والظاهر أن أبا سلمة خلص
إلى ذلك الرأي فهو يريد نقل البيعة إلى العلويين وهو يبعث إلى ساداتهم المقيمين في
المدينة بكتبه يعرض عليهم ذلك، ولكن هذا الانحراف جاء متأخرا عن وقته فان
البيعة عقدت للسفاح في الكوفة باشراف أهل بيته وذويه وأنصاره، وفي مقدمتهم
عمه داود بن علي، وكان أبو سلمة آخر من بايع نزولا على حكم الأمر الواقع واعتذر
من أبي العباس.
لم تخف محاولات أبي سلمة على أبي العباس وأخيه أبي جعفر فقتل في الكوفة، ولم
يقتل إلا بعد استشارة أبي مسلم الخراساني، فأبو مسلم شريك في مقتل أبي سلمة
وزير السفاح بلا شك، وقد شارك بمقتله وكان رأيه من رأي داود بن علي - وهو من
أهل الرأي والمشورة - ويروي ابن قتيبة أن السفاح أمر بصلب أبي سلمة بعد ذلك
وهكذا قتل أول وزير لأول خليفة من العباسيين.
نجاح المغامرة
وعلى كل حال فان مغامرة العباسيين في الوصول إلى الكوفة عبر بادية الشام تمت
بنجاح ووصلت القافلة المخاطرة إليها بين مظاهر الحماس البالغ الذي غلب على
شباب بني العباس وأنصار دعوتهم، فكان عيسى بن موسى إذا ذكر خروجهم من
الحميمة يريدون الكوفة قال: " ان نفرا أربعة عشر رجلا خرجوا من ديارهم يطلبون
ما طلبنا لعظيمة همتهم كبيرة نفوسهم شديدة قلوبهم ".
مباشرة العمل
وعني أبو العباس أول ما عني به فور أخذ البيعة له وانفراده بالسلطة في الكوفة
بعد مقتل أبي سلمة بتنظيم معسكره وتوزيع رفاقه على ميادين الحرب والثورة،
وكانت واسط محاصرة يدافع عنها يزيد بن عمر بن هبيرة أمير العراقين من قبل
مروان بن محمد، ويشدد الحصار عليها الحسن بن قحطبة من أشهر قواد السفاح،
فانضم الأمير عيسى بن موسى إلى هذا القائد بأمر السفاح، وشارك في حصار
واسط، وهو أول عمل يقول به عيسى بن موسى بعد إعلان الثورة على الأمويين في
العراق، ومما هو جدير بالذكر أن ابن هبيرة سلم واسطا لابن قحطبة بعد قتال دام
سنة تقريبا، وسلم معه قواد جيشه، وقدم على المنصور بأمان منه ثم قتل هو وقواد
جيشه بعد ذلك، وهو عمل يلام عليه السفاح وقد عده محمد بن عبد الله المعروف
بالنفس الزكية وصمة في تاريخ الدولة العباسية وولى عيسى بن موسى الكوفة بعد
الفراغ من أمر واسط فحل محل داود بن علي الذي نقل إلى ولاية المدينة في السنة
الأولى من خلافة السفاح.
عيسى سند المنصور
كان عيسى وهو في عنفوان شبابه مستودع أسرار أبي العباس السفاح، وقد
ائتمنه على وثيقة سجل فيها عقد الولاية لمن بعده، وبموجب هذا الوثيقة أخذت
البيعة للمنصور، أخذها له في الحجاز حاجبه الربيع بن يونس وأخذها وكان
حاجا - في العراق عيسى بن أخيه هذا، وكتب بذلك إلى الأمصار وقام بأمر الناس،
ثم شرع في ضبط الدواوين وحفظ الخزائن والأموال حتى تسلمها المنصور، ولنا أن
نقول: أن أبا جعفر المنصور مدين - إلى حد ما - ببيعته واستقراره في دست الخلافة
خلال هذه الفترة لابن أخيه عيسى بن موسى، وكان أميرا على الكوفة من عهد
السفاح إلى أيام المنصور ولا تقل مدة امارته عليها عن ثلاث عشرة سنة، ثم صار
واليا على المدينة، وتتضارب الروايات بشأن موقف عيسى بن موسى هذا بعد موت
أبي العباس السفاح في الأنبار وقبل مجئ ولي عهده المنصور من مكة، ومرد هذا
الاضطراب في الروايات إلى سقم الأصول وكثرة الأغلاط فيها.
مات السفاح وبويع أخوه المنصور وعيسى بن موسى ابن أخيهما على ولاية
الكوفة، وقد كثرت الفتوق والأحداث في السنوات العشر الأولى من خلافة
المنصور، ومن أشهرها خروج محمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية
في الحجاز، ثم خروج أخيه إبراهيم في العراق، وقد عظمت شوكة إبراهيم هذا،
وانضم اليه وهو يطلب بثار أخيه جل أهل العراق، وأرجف المرجفون بمصير الدولة
العباسية الناشئة في العراق، وضويق المنصور وهو في معسكره بالكوفة - مضايقة
شديدة، وكان هذا المعسكر محاطا بما لا يقل عن مائة ألف من أنصار العلويين
يتربصون الدائرة بالمنصور حتى تحدث المتحدثون بخروجه من العراق إلى بلاد
فارس، وقد حفظت لنا كتب التاريخ مراسلات دارت بينه - أي بين أبي جعفر
المنصور - وبين العلوي الثائر في الحجاز، وتعد من عيون الرسائل، ومن محاسن
الكتب في معناها وهو لا يخرج عن الأدب والتاريخ والأنساب والواقع أن ثورة
محمد بن عبد الله من أخطر الثورات التي واجهها المنصور، وقد اضطرب لها جدا،
ولم يبق أحد من أهل الرأي إلا استشاره في كيفية التغلب على الثائرين.
في هذه الفتوق وما إليها ندب المنصور ابن أخيه هذا إلى قتال العلويين الثائرين
في الحجاز وفي العراق بعد ذلك، وقدر لعيسى ان يتغلب على الأخوين محمد
وإبراهيم بعد معارك طاحنة تجلى فيها اخلاص هذا الأمير لعمه وللدولة العباسية.
كم الأفواه ومناهضة المعارضة
وركن عمال بني العباس وولاتهم - وفي مقدمتهم عيسى هذا والي الكوفة،
وجعفر بن سليمان بن علي والي المدينة إلى الشدة المتناهية في مناهضة المعارضين
لأساليبهم في قمع تلك الثورات فحاول الأول أن يفتك بأبي حنيفة في الكوفة
لمجاهرته بارائه في الخلاف ثم أشخصه منها إلى بغداد، وفعل الثاني ما فعل بفريق من
فقهاء المدينة، وفي مقدمتهم مالك بن أنس، بيد أن اخلاص هذين الأميرين كان
وخيم العاقبة عليهما فعزلا وأوذيا إيذاء شديدا بعد ذلك، حرم جعفر بن سليمان من
مال طائل جاءه عن طريق الإرث وخلع الثاني من ولاية العهد، قال السيوطي وهو
يذكر المنصور " كان عيسى هو الذي حارب الأخوين فظفر بهما فكافأه بان خلعه
مكرها وعهد إلى ولده المهدي ".

67
أثارت سياسة المنصور في شدتها وصرامتها، وأثار إسراف قادته وعماله في
سفك الدماء سخط جمهرة من اعلام عصره ما في ذلك من شك حتى تعرض من
تعرض منهم إلى صنوف من الأذى والمحن، ويقول لنا السيوطي في هذا الصدد
" آذى المنصور خلقا من العلماء ممن خرج معهما - أي محمد وإبراهيم - أو أمر بالخروج
قتلا وضربا وغير ذلك، منهم أبو حنيفة وعبد الحميد بن جعفر وابن عجلان ".
أجمعت كلمة المؤرخين على أن عهد المنصور كان عهد محنة لهؤلاء العلويين
ولأنصارهم من أهل الفقه والعلم على اختلاف مذاهبهم - كما رأيت في قول
السيوطي -، ولكن هؤلاء المؤرخين وبعض المحدثين والمؤلفين اختلفوا في ماهية
الأسباب، منهم من يجعلها أسبابا سياسية ومنهم من يردها إلى غير ذلك.
معركة بين النظار
ودارت معركة حامية الوطيس بين النظار في هذا الشأن تضاربت فيها وجهات
النظر فمنهم من ينفى عنهم الخوض في السياسة وينفى الروايات والأخبار المشعرة
بصدور فتوى صريحة أفتاها هؤلاء الفقهاء بجواز الخروج على المنصور مع من خرج
عليه من العلويين والسادات أو في جواز التحلل من بيعته، لما في الخروج على
السلطان من المفاسد - وإن كان السلطان جائرا فهو الذي يحمي الثغور ويحفظ
السبل ويقيم الشعائر، والخروج عليه ينافي أصولا معروفة في العقائد على ما
يدعون، فهؤلاء يقولون: أن مالكا ما كان يخوض في السياسة ولا كان يحرض على
السلطان، وأنه لزم بيته في النزاع بين المنصور والعلويين، أي أنه كان على الحياد،
ولم يقصد بفتواه في يمين المكره وفي طلاق المكره الدعوة إلى التحلل من بيعة المنصور
وإن حملت هذه الدعوى على ذلك واحتج بها عامل المدينة على ضربه في محنته
المعروفة، أما أبو حنيفة فإنه على أصح الأقوال - أشد وأعنف من صاحبه لم يتردد في
الجهر بالخلاف، كما ستقف عليه مفصلا بعد قليل.
العامل السياسي في النزاع
لا يجوز فيما نرى إغفال العامل السياسي قط فيما نحن فيه، ولا يصح تجاهل
روح العصر الذي عاش فيه أولئك الفقهاء الأعيان من حجازيين وعراقيين، وهذا
العصر العصيب عبارة عن الفترة الواقعة بين أواخر الدولة الأموية وأوائل العباسية،
وفيها ساءت الأحوال السياسية وتتابعت الفتن واستشرى الشقاق، وهي بعد ذلك
فترة يتناقل المحدثون من أبنائها عن آبائهم أو يروون عن أجدادهم وقائع الطف،
والحرة واستباحة الحرمين، وفتنة ابن الزبير والثورات القبلية بين عرب الشمال
وعرب الجنوب وغير ذلك من الوقائع التي استبيحت فيها كثير من المحارم،
وانتهكت الحرمات، وفي هذه العصور انقلبت الخلافة الراشدة إلى ملك
عضوض، تقطعت بسببه الأرحام وسفك الدم الحرام، فلا غرو إذا رأينا كثيرا من
فقهاء هذا العصر وأئمته ناقمين على الدولة، ساخطين على الساسة والحكام،
نافرين من تقلد الأعمال العامة في تلك الأيام.
جعفر بن محمد، وأبو جعفر
تروى أخبار الإمام الصادق جعفر بن محمد مع أبي جعفر المنصور بكثرة في كتب
الحديث وفي الكتب المعنية بسيرة أهل البيت، ويلاحظ أن كتب التاريخ المشهورة
كتاريخ الطبري ومروج الذهب والكامل وتواريخ الخلفاء العباسيين خلت من
الإشارة إلى اخباره في هذه المحنة إلا نادرا مع أنه أنبه السلالة العلوية ذكرا في عصره
بالمدينة، عاصر المنصور في السنوات العشر الأولى من ملكه، وقد أجمعت كلمة
المؤرخين والمحدثين على رواية مالك وأبي حنيفة وتحملهما عنه، عاش أبو حنيفة من
بعده مدة وعاش مالك أكثر من عشرين سنة، وكلاهما تحمل عنه في المدينة فأما أبو
حنيفة فإنه كان نزيل المدينة هاجر إليها من العراق مضطهدا من قبل ابن هبيرة عامل
بني أمية على الكوفة، وأما مالك فإنه كما لا يخفى من أهل المدينة.
لم يقل لنا أحد من المؤرخين أن جعفر بن محمد حبس أو أوذي في المحنة كما ضرب
أو حبس غيره بأمر من المنصور أو من عامله على المدينة، وليس معنى هذا السكوت
من المؤرخين في الغالب أن الامام سلم من المحنة مطلقا، والحق أن موقفه كان غاية
في الدقة بين العلويين الذين يطالبون بحقهم ويحاولون درأ المظالم عنهم وبين الذين
انقادت لهم الأمور في العراق وخراسان، أي أن محنته كانت من نوع آخر فإنه عاش
عيشة مشوبة بالكدر منغصة بالوعيد والتهديد محاطة بالعيون والجواسيس في عصر
أبي العباس السفاح وعصر أخيه أبي جعفر المنصور، وقد عانى من بعض الولاة
والأمراء العباسيين في عصر السفاح ما عانى من الأذى والكيد، لأن الوشايات إليه
كانت أسرع من السيل إلى المنحدر، وستطلع على أسباب ذلك.
أمير المدينة في دولة السفاح
بالغ الأمير داود بن علي عم السفاح وواليه على المدينة في اضطهاد الطالبيين
المقيمين فيها، ومرد هذا الاضطهاد إلى شعوره بان هناك وثبة لا بد من قيام الطالبيين
بها على الدولة العباسية، فكان يلاحق أتباع العلويين وأنصارهم ويضايقهم، وفي
أيامه وبأمر منه قتل " المعلى بن خنيس " من أتباع جعفر بن محمد وصودرت أمواله،
وفي سبب قتله أقوال منها: أن المعلى المذكور امتنع من رفع قائمة بأسماء شركائه في
رأيه فقتله " السيرافي " صاحب شرطة الأمير والي المدينة في قصة تدل على تفاني المعلى
في طاعة الإمام المذكور وفي اخلاصه له ورد بعضهم قتله لقيامه بالدعوة لمحمد بن
عبد الله النفس الزكية.
كان لهذه الحادثة أسوأ الأثر في نفس جعفر بن محمد، وقد رأى في هذا الاعتداء
اعتداء على حقه وحربا معلنة عليه، يدل على ذلك عنف الاحتجاج الذي احتج به
على الأمير والتهديد الذي هدده به، فقد أجمعت روايات الباحثين في سيرته أنه مشى
إلى ديوان الأمير وهو محنق على خلاف عادته وألقى خطابا موجزا قال فيه: " قتلت
مولاي وأخذت مالي أ ما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب! "،
وقد جرى اثر الخطاب أخذ ورد - بين الإمام والأمير - لا يخلوان من العنف، ولكن
الأمير حاول التنصل وإحالة التقصير على صاحب شرطته فكانت الحجة واهية ولم
يكن للأمير مهرب من القود، فأمر بقتل " السيرافي " ولما أخذ ليقتل صرخ قائلا
" يأمرونني بقتل الناس فأقتلهم لهم ثم يأمرون بقتلي، وهي كلمة تدل على أن
القاتل كان مأمورا بإزهاق روح " المعلى بن خنيس " وأنه امتثل أمر الأمير داود
بذلك، فيا لها من كلمة تدل على منتهى الشعور بسوء المنقلب وبأنه - أعني السيرافي.
أطاع المخلوق بمعصية الخالق ويا له من إسراف في سفك الدماء واستخفاف بحرمة
الأرواح.
هذا وفي كتب أصحاب السير أقوال مضطربة في تاريخ هذه الحادثة، قيل:
أنها وقعت في خلافة المنصور - وهذا مستحيل -، والصحيح أنها وقعت في عصر
سلفه أبي العباس السفاح، فقد أجمعت كلمة المؤرخين على أن داود بن علي مات في
خلافة ابن أخيه السفاح بعد الحادثة المذكورة بقليل، ومرد هذه الأوهام في كتب
أصحاب السير والمؤرخين إلى سقم الأصول، وقد تكون من أوهام المؤلفين
المتأخرين.

68
المنهج المرسوم
عانى جعفر بن محمد كثيرا في سبيل إزالة المخاوف والأوهام التي ساورت
السلطان بشأن خطته أو منهجه المرسوم، فهو زعيم بيت ناهض دولا وناهضته
دول وأقلق حكاما وفني من فني من رجاله وشبابه في ميادين القراع، فإذا قيل: أن
جعفر بن محمد موتور وجد من يقبل ذلك، وإذا قيل: انه يهم بالانتقام والخلاف
لم يستكثر ذلك عليه فكان هدفا للسعاة والوشاة غير أنه - والحق يقال - ما كان في
هذا الدور من أدوار حياته معنيا بطلب الثأر ولا منطويا على الانتقام ولم يكن له
منهج مرسوم غير أحياء السنن ونشر المعارف والآثار.
لذلك عني بحسم مادة تلك المخاوف الأوهام التي ساورت أمراء بني العباس
وخامرتهم بشأنه، فقاطع فريقا من خصومهم المنابذين لهم سواء كانوا خصوما في
السياسة أم في غيرها، قاطع طبقة معروفة من الأعلام في الحديث والرواية لأنها
طبقة غير مرغوب فيها من قبل السلطان، ويلاحظ أن الجفاء كان شايعا جدا بين
امراء الدولة العباسية وهذه الطبقة من النساك بل كان يتبرم باتصال من يتصل به
منهم وينهاهم عن غشيان مجلسه لعلمه بان ذلك يزعج الحكام ويثير هواجسهم وهو
يريد اتقاء شرهم على كل حال، تدلنا على ذلك قصته المعروفة مع سفيان
الثوري - ولا تخفى منزلة سفيان في الحديث والرواية - فإنه دخل على جعفر بن
محمد فقال له: " أنت رجل يطلبك السلطان وأنا رجل أتقي السلطان قم فأخرج
غير مطرود ".
اتصال الوشايات
هذا ولم تنقطع السعايات والوشايات بجعفر بن محمد، وأكثرها يدور على
اتصاله بأنصاره وأوليائه في الحجاز وفي العراق وخراسان وأنهم كانوا يحملون زكاة
أموالهم اليه، وقد وضعت على لسانه كتب إلى هؤلاء الأنصار يدعون فيها إلى خلع
الخلفاء العباسيين، بيد أن المنصور لم يعبأ بكثير من هذه السعايات، وهكذا سلم
أبو عبد الله من القتل ونجا من الحبس ولم يرتكب منه ما ارتكب من بعض أعلام
المدينة والعراق في عصر المنصور.
ويميل بعضهم إلى تعليل هذه البادرة بادرة المحاسنة والرفق من قبل المنصور
وقلة اكتراثه بتلك السعايات بعلل لا يخلو بعضها من المبالغة، وقد يستندون في
ذلك إلى روايات لا يصبر أكثرها على النقد والتمحيص.
كان الخطر محدقا بجعفر بن محمد - ما في ذلك شك - ولكنه سلم على كل
حال، وكانت سلامته في الواقع وسلامة كثير من أهل بيته وأصحابه أعجوبة في
المحنة المذكورة، ولم يسلم إلا بشق النفس وبتوطينها على كثير من التحرز
والتوقي، يدل على ذلك حديثه المشهور بل كلمته الحكيمة البليغة: " عزت
السلامة حتى لقد خفي مطالبها فان تكن في شئ فيوشك أن تكون في الخمول،
فإن طلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في التخلي - وليس كالخمول -
فإن طلبت في التخلي فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت - وليس كالتخلي -
فإن طلبت في الصمت فلم توجد فيوشك أن تكون في كلام السلف الصالح،
والسعيد من وجد في نفسه خلوة يشتغل بها، وقوله: " أقلل من معرفة الناس
وأنكر من عرفت منهم وإن كان لك مائة صديق فأطرح منهم تسعة وتسعين وكن
من الواحد على حذر "، ومن أقواله في العزلة: " إذا أمكنك ألا تعرف فافعل "،
ومرد سلامته - فيما نرى - إلى منهجه السلمي البحث البعيد عن العنف في معارضة
المنصور والى أخذ نفسه بالقصد والحذر الشديد والاحتياط التام، يدل على ذلك
رده للأموال ورفضه للرسائل التي أمر المنصور بكتابتها اليه والى غيره من العلويين
على لسان أنصارهم وأوليائهم في العراق وخراسان لتكون حجة بيد المنصور
عليهم، وهو من هذه الناحية منقطع النظير بين العلويين.
كان المنصور أخبر العباسيين قاطبة بموقف جعفر بن محمد وأكثرهم إطلاعا
على منهجه السياسي، وتروى له مع المنصور أخبار غير قليلة، وفي رواية لابن
طاووس أن المنصور استدعاه سبع مرات، ولا تخلو بعض الأخبار من
التناقض فبينما نرى المنصور في منتهى العنف والشدة مع أبي عبد الله إذ نراه في غاية
اللطف والرقة، بيد أنه على كل حال كان يدافع عن سكان دار الهجرة - بلده
ومسقط رأسه - وعن كرامة أبنائها ومصالحهم العامة كلما رأى ما يدعو إلى ذلك في
ديوان المنصور وفي أندية امراء الدولة، يظهر ذلك من احتجاجه على الربيع بن
يونس حاجب المنصور لما قدم الوافدين من أهل مكة على الوافدين من أهل المدينة
زاعما أن مكة هي " العش " فاجابه جعفر بن محمد قائلا: " أجل ولكنه عش طار
خياره وبقى شراره ".
لقي المنصور جعفر بن محمد وأتصل به مرارا، بعضها في عصر بني أمية
وبعضها في عصر بني العباس، وضمتهما محافل عدة عني الهاشميون بعقدها
للمداولة في كيفية التخلص من حكم بني أمية، وفي بعض هذه المحافل كان
الإمام يجاهر بآرائه في انتقال الدولة وصيرورتها إلى بني العباس ويخالف المتطلعين
إليها من بني عمه الحسن وينهاهم عنها بمحضر من بني العباس، ومن الواضح أن
لعبد الله ولولديه محمد وإبراهيم آراءهم في الإمامة وفي الخلافة وما إلى ذلك، وهي
تختلف عن المتعالم المعروف من آراء جعفر بن محمد، ولا تخلو بعض كتب الحديث
والسير من الإشارة إلى هذا الاختلاف والى أنه بلغ حد المشادة في بعض الأحيان.
الرياسة بين الهاشميين
عني بنو هاشم في أواخر الدولة المروانية بالمداولة فيما يعانونه من عسف امراء
الدولة المذكورة وفي سام الناس من سياستهم وانحرافهم عنهم في اجتماعات عدة
عقدها الهاشميون سرا في الحجاز، وشهدها أعيان القوم علويوهم وعباسيوهم،
شهدها جعفر بن محمد وعبد الله بن الحسن وابناه محمد وإبراهيم من العلويين،
وشهدها أبو العباس السفاح وأخوه أبو جعفر المنصور وعماهما صالح وعبد الصمد
ابنا علي وغيرهم من العباسيين، وكان نصب الرئيس واختيار الإمام من أهم
الموضوعات التي دار عليها البحث في المحافل المذكورة، واختير للرياسة فيها
محمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية.
بايع الهاشميون محمد بن عبد الله إلا الإمام جعفر بن محمد فإنه اعترض على
هذه البيعة معلنا أنها سابقة لأوانها وأن الدنيا مواتية لبني العباس دون غيرهم من
الهاشميين، فلا فائدة من منازعتهم في ذلك، وكان الأمر كما قال.
تكافؤ القوى
نهى جعفر بن محمد قومه عن عقد هذه البيعة، فهو يعلم أن هؤلاء العلويين
متفرقون، وأكثرهم في الحجاز، والحجاز يومئذ من توابع العراق، وليس في
العراق - حيث استخلصه العباسيون المغامرون، وحيث بويع أبو العباس
السفاح - عدد يعتد به من العلويين المذكوريين، ثم أن هؤلاء العلويين من بني
الحسن لم يشاركوا في حرب مروان بن محمد وفي الظفر به ولم يساهموا في انتزاع
الجزيرة والشام وفلسطين ولا في انتزاع مصر والمغرب من الأمويين، هذا في
الغرب، ويقال مثل هذا عن الشرق، أي أن الدولة العباسية هي الدولة القائمة

69
الغالبة في الشرق والغرب وإن قامت باسم بني هاشم وباسم آل محمد، ومن ذلك
نعلم أن توازن القوى في هذا الكفاح المرير بين بني الحسن وبني العباس مفقود
بالمرة.
إلى هذه الناحية من نواحي الضعف الظاهر في بني الحسن كان يشير الإمام
جعفر بن محمد في نصايحه لبعض أبناء عمه والى ذلك - فيما نرى - مرد مناهضته
لرأي من يرى الخروج منهم بالسيف على دولة بني العباس، والى ذلك أيضا مرد
معارضته لبيعة محمد بن عبد الله النفس الزكية.
ليست هذه أول مرة ينصح فيها الامام أبناء عمه الحسن ويشفق عليهم من
التطلع إلى الملك ويريدهم على العدول عن تلك الأماني، فإنه لم يأل العلويين
نصحا في التجافي من شؤون الدولة في عصره والأعراض عن سفك الدماء في
سبيلها، ففي طلب العلم والأحكام وفي تحصيل الأثر وبثهما في الدنيا ما يشغلهم
عن ذلك، ثم أن دنيا بني العباس ودولتهم مقبلتان فأي جدوى في مقارعة
العباسيين.
صحيفة الدولة
كان جعفر بن محمد بحدسه الصائب ونظره الثاقب يستشف احداث
المستقبل ولذلك كان أسد الهاشميين رأيا بمعارضته لبيعة النفس الزكية.
لا يخامرنا أدنى شك بما كان لهذا المنهج الذي يدعو إليه جعفر بن محمد وبما
كان لسياسته السلمية البحتة من أثر بالغ في نفس أبي جعفر المنصور، فأعرض
عن كثير من السعايات وضرب صفحا عن الكتب المزورة عنه إلى أنصاره في
العراق وخراسان، وأية قيمة للدس والتزوير المفضوح بعد ما رآه و سمعه المنصور
بنفسه مما أقنعه بان هذا الإمام برئ الساحة مأمون الناحية بعيد عن التهم المنسوبة
إليه فلا عجب إذا كان لوفاته سنة 148 وقع أليم في نفس أبي جعفر المنصور على ما
رواه فريق من المؤرخين وقد ابنه بكلمات تدل على مبلغ إكباره له.
لم يجنح بنو الحسن إلى رأي جعفر بن محمد، وكان لفريق منهم في وعظه
ونصائحه مذهب آخر فهم يحملونه على الحسد، وهم يغلظون له القول أو
يسمعونه خشن الكلام، وهم بعد ذلك لا يشكون بان انتزاع الأمر من يد
العباسيين سهل يسير وأن الأمة تشد أزرهم في ذلك، فهذه الرسل والرسائل
تترى عليهم من الأقطار ولا شك أن رسائل كثيرة وافتهم من مختلف الأقطار بيد أن
شطرا من تلك الرسائل مصطنع بأمر أبي جعفر المنصور إذا استثنينا رسائل بعض
الزعماء في الكوفة وفي مقدمتها رسالة أبي سلمة الخلال نقيب الدعوة في المشرق
والعراق.
دعوة الكوفة وحركتها الجديدة
جد لأبي سلمة الخلال زعيم الكوفة ونقيب الدعوة الهاشمية بعد استقرار
العباسيين القادمين من الشراة إلى العراق رأى خطير في البيعة فاجابه علويي
الحجاز، ووافت الحجاز رسل الزعيم المذكور ورسائله على عجل لجس نبض
العلويين واحدا وقد رسم الخلال لذلك - أي لتحويل البيعة إلى
العلويين من العباسيين - خطة دقيقة لا يرسمها إلا الدهاة من أصحاب الدعوة
بيد أن آراء أهل المدينة تضاربت في قبول الدعوة وهو أمر لا مناص منه بعد
هذه المفاجأة الجديدة.
كانت دعوة أبي سلمة هذه محكا للعلويين المقيمين في المدينة فقد انقسموا إلى
فريقين فريق هش للدعوة واستبشر برسل أبي سلمة ورسالته ورأوا فيها فرصة
سانحة لمناهضة بني العباس وأحقاق حقهم في الخلافة وعلى رأس هذا الفريق
وجوه بني الحسن عبد الله وأبناؤه محمد وإبراهيم وموسى وعدد غير قليل من شباب
آل أبي طالب وجمهور من أهل المدينة وفريق آخر قابل هذه الدعوة الكوفية الجديدة
بأعراض تام، وأمامهم في ذلك جعفر بن محمد فإنه امتنع من فض الكتاب
المرسل إليه وأمر باحراقه على مرأى من رسول الزعيم أبي سلمة الخلال، ولما طالبه
بالجواب قال: الجواب ما رأيت، ثم شفع هذا الجواب بالإنكار على عبد الله بن
الحسن ثقته واطمئنانه إلى مصدر هذه الدعوة ونصحه إلا يندفع وراء الخيال فان
الأمر قد تم لبني العباس في العراق.
عصر بني الحسن، أو عصر الزيدية
يصح أن يحدد عصر بني الحسن المذكورين بالفترة التاريخية الواقعة بين أواخر
الدولة الأموية وأوائل العباسية، ففي هذه الفترة ظهرت دعوتهم إلى الخلافة في
الشرق والغرب وأنهم أولى الهاشميين قاطبة - فضلا عن غيرهم بالإمامة - وإنها -
أعنى الإمامة - إليهم انتقلت من بعد الإمام الحسين، وإن محمد بن عبد الله بن
الحسن المثنى هو الإمام، إذ كان أهله يسمونه المهدي ويقدرون أنه الذي جاءت به
الروايات، كما كان بعض الطالبيين يرون أنه النفس الزكية، وإنما قيل له النفس
الزكية لزهده ونسكه.
كان عبد الله بن الحسن أبو محمد المذكور - وهو وجه من وجوه الهاشميين في
ذلك العصر - يعتقد اعتقادا جازما بامامة ابنه كما كان من أنشط القائمين بالدعوة
إلى بيعته، أعانه على ذلك أنه زعيم هاشمي موهوب معسول الكلام حلو البيان
حتى كان أمراء الدولتين الأموية والعباسية يحسبون حسابا لبلاغته و أثرها في
النفوس، فهذا ابن عبد العزيز لم يشأ أن يبيت عبد الله بن الحسن ليلة واحدة في
الشام - في رحلته إليها وافدا على ابن عبد العزيز - قائلا: " الحق بأهلك فإنك لم
تبغهم شيئا أنفس منك ولا أرد عليهم من حياتك أخاف عليك طواعين الشام "،
قال الجاحظ: " كره أن يروه وأن يسمعوا كلامه لعله يبذر في قلوبهم بذرا ويغرس
في نفوسهم غرسا "، وكان أبو جعفر المنصور يصف كلام عبد الله بن الحسن
بالسحر، ويقال ما ساير عبد الله بن الحسن أحدا إلا فتله عن رأيه، ولذلك
استجاب لدعوته التي قام بها لابنه من استجاب من أهل الحجاز.
كثر أنصار بني الحسن وأتباعهم في هذا العصر من العلويين والطالبيين ومن
غيرهم وبايعتهم فرق الزيدية، وخرج غير واحد منهم بالسيف على العباسيين
شرقا وغربا، خرج محمد بن عبد الله المذكور في الحجاز وتلاه أخوه إبراهيم الثائر
على المنصور في العراق وثار أخوهما يحيى بن عبد الله في المشرق أو في بلاد الديلم
وثار أخوهم الرابع إدريس على الرشيد في المغرب الأقصى أو في مراكش وفي أقاليم
البربر المجاورة للجزيرة الأندلسية الخضراء، وكان إدريس أكثر اخوته نجاحا في
خروجه على الدولة العباسية - كما سنراه عن قريب - بيد أن عبد الله بن الحسن كان
معنيا أشد العناية بحمل أبي عبد الله جعفر بن محمد على التآزر مع بني الحسن
وقصده غير مرة من أجل الدخول معهم في البيعة لابنه إلا أنه عجز عن إقناعه ولم
يخرج من محاورته ومداورته بشئ.
كانت حجة جعفر بن محمد أبلغ ورأيه أسد وأصوب، ولهذا لجا بعض
الطالبيين وأنصارهم من الزيدية إلى الشدة مع الإمام المذكور، تولى ذلك - في
رواية مشهورة - عيسى بن زيد بن علي المعروف بمؤتم الأشبال، وكان عيسى هذا
في أوائل من استجاب لدعوة بني الحسن مع أنه ابن عم جعفر بن محمد ومن أقرب
العلويين نسبا إليه.

70
عيسى بن زيد أو الظليم النافر
تروى لعيسى بن زيد مؤتم الأشبال في عنفه وشدته وفي جرأته ومحاولاته
لإكراه ابن عمه على البيعة أخبار كثيرة وإن غمزها بعض المعنيين في معالجة هذا
الموضوع، هذا وفي الحكم على عيسى مدحا وذما وجرحا وتعديلا أقوال عدة فهو
في قول مشهور لم يحجم عن إيذاء جعفر بن محمد وتهديده وإرادته على البيعة
للنفس الزكية وعلى المساهمة في الحرب فامتنع امتناعا شديدا وامتنع معه أصحابه
وطال الأخذ والرد بين الفريقين وتغالظا الكلام، وكيف لا يمتنع الامام وهو يرى
أن محمد بن عبد الله هالك لا محالة وكيف يستجيب لدعوة القوم وهو يخبرهم بان
صاحبهم مقتول في حال مضيعة، وكانت له كلمات موجعة جابه بها عيسى في
بعض المواقف المذكورة رواها أصحاب الأخبار في حديث طويل منها قوله " يا
اكشف يا ازرق لكأني بك تطلب جحرا تدخل فيه وما أنت من المذكورين في اللقاء
وإني أظنك إذا صفق خلفك طرت مثل الهيق النافر ".
هذا ما قاله أبو عبد الله جعفر بن محمد لابن عمه عيسى وهو يعيبه ويغمزه
بالضعف وينذره بوخامة العقبى، وكان الأمر كما قال إذ أن عيسى - كما جاء في
سيرته - عاش في البقية الباقية من عمره متنكرا في الكوفة على حالة يرثى لها ومات
متواريا في بيوت أنصاره وأنصار أبيه من الزيدية، ولا بد لنا من القول في هذا
الصدد أن جعفر بن محمد فادى في سبيل اعتراضه على هذه البيعة كما فادى من قبل
بمال كثير له وأكثر منه لأصحابه صادره العلويون الثائرون، وكان له في المدينة عدد
كبير من الأصحاب.
ومما لا شك فيه أن أصحابه المذكورين محصوا في هذه المحنة الثانية كما محصوا
في محنتهم الأولى في أواخر العصر الأموي طبقا لحديث قال فيه: " لا بد للناس أن
يمحصوا أو يميزوا أو يغربلوا ".
هذا ولعيسى المذكور اخوته، ومنهم الحسين ذو الدمعة ويحيى بن زيد الثائر
في خراسان، وكان موقف الحسين ذي الدمعة لا يشبه موقف أخيه عيسى فيما يراه
أكثر المحدثين بل كان جعفر بن محمد يعنى به ويعطف عليه ولا عجب فإنه نشا في
حجره، ويلاحظ أنه ممن تضاربت في حالة أقوال القوم فعده بعضهم من
الضعفاء، وخرج له آخرون أحاديث متفرقة في بعض المسائل الفقهية.
أبناء زيد والزيدية في صفوف بني الحسن
كان في طليعة من بايع النفس الزكية اثنان من أشهر أولاد زيد بن علي وهما
عيسى مؤتم الأشبال والحسين ذو العبرة كما أنهما انضما بعد مقتل محمد إلى أخيه
إبراهيم الثائر في العراق، ولذلك قال أبو جعفر المنصور: " ما لي ولإبني زيد وما
ينقمان علينا أ لم نقتل قتلة أبيهما ونطلب بثأرهما ونشف صدورهما! "،
والأغرب من أن اثنين من أولاد الإمام جعفر بن محمد نفسه مالا إلى
الزيدية وهما عبد الله ومحمد خرج الأول مع النفس الزكية وكان متهما
بالخلاف على أبيه ودعا إلى نفسه من بعده وخالط الحشوية فيما يقال وله أتباع
يعرفون بالفطحية، وخرج الثاني على المأمون بمكة سنة 199 وأيدته الزيدية
الجارودية ولكن المأمون ظفر به في قصة مشهورة.
تناسى هؤلاء الزيدية من العلويين ما كان بينهم من خلاف في العصر الأموي
ذلك أن عددا من وجوه بني الحسن لم يخرجوا مع زيد ولم يشهدوا الحرب التي دارت
في الكوفة بينه وبين عمال الأمويين عليها بل كان هؤلاء الوجوه على صفاء - ولو في
الظاهر - مع هشام بن عبد الملك ومع الوليد من بعده، ويحكى أن عبد الله بن
الحسن خطب في المدينة منددا بحركة زيد في العراق متبرأ منها، والأرجح أنه كان
مكرها على ذلك، ومهما كان الباعث على عمله هذا فإن فيه دليلا قاطعا على حيدة
بني الحسن في الثورة المذكورة.
تناسى القوم ذلك لأن ركن الإمامة في عقيدة الزيدية هو الجهاد والخروج أمرا
بالمعروف ونهيا عن المنكر مضافا إلى شرائط أخرى، وقد خرج محمد بن عبد الله
ودعا إلى نفسه فهو الإمام، ويقال أن محمدا هذا أوصى إلى عيسى بن زيد بعد أخيه
إبراهيم وسرعان ما أصبح عيسى من ثقات محمد بن عبد الله وصاحب شرطته في
المدينة.
التمييز بين زيد والزيدية
ظهرت الزيدية في الفترة الواقعة بين عصر الإمام أبي جعفر محمد بن علي
وعصر ابنه أبي عبد الله جعفر بن محمد منشقة عن الإمامية، والزيدية تفترق عن
الإمامية بأنها تعد الدعوة والجهاد ركنا من أركان الإمامة، هذا إلى فوارق أخرى
ذكرها المعنيون بتاريخ الفرق الإسلامية، وبناء على أصول المذهب الزيدي
المذكور بايع الزيدية كل علوي ثائر إذا توفرت فيه شروط الإمامة، بايعوا غير
واحد من بني الحسن كالنفس الزكية وأخويه إبراهيم ويحيى ثم غيرهم من العلويين
الثائرين من أبناء الحسن والحسين.
يعنى المحدثون والمؤلفون في سيرة أئمة أهل البيت بسيرة زيد وبأخباره في
خروجه ومقتله عناية فائقة لا يعهد مثلها فيما يكتبونه عن بني الحسن وعن خروج
من خرج ومقتل من قتل منهم في الحجاز والعراق وخراسان، ومن ذلك يستنتج
أن أصحاب الإمام جعفر بن محمد يفرقون بين زيد والزيدية فكان زيد معذورا في
خروجه على هشام بن عبد الملك وإن لم يخرج معه ابن أخيه ولا أوصى أحدا من
أصحابه بالخروج معه ولم يكن بنو الحسن بهذه المثابة فإن خروجهم لم يكن
مستساغا لدى الامام المذكور كما يتجلى ذلك واضحا في جوامع حديثهم وأخبارهم
وفي بعض الكتب المؤلفة في الأنساب. ومن المسلم عند كثير منهم انحراف بني
الحسن عن الأئمة من أبناء عمهم المذكورين.
خيف على زيد بن علي من الخروج وحذره أخوه الإمام محمد بن علي وأخبره
أنه مقتول إذا خرج وإنه لا يملك أكثر من حيطان المدينة ولذلك لم يخرج في عصر
أخيه وإنما خرج في عصر ابن أخيه.
كان لمقتل زيد أثر بالغ في نفس ابن أخيه جعفر بن محمد وبان عليه حزن
شديد يدل على ذلك أنه ابنه بكلمات مؤثرة وواسى أهله وذويه وأهل من قتل معهم
وذويهم ويلاحظ أنه لم يبد عليه مثل هذا الحزن البالغ في مقتل من قتل من بني
الحسن في حربهم بالمدينة، ومما يدل على ذلك أنه خرج قبل وقوع الحرب إلى
خارج البلد ولم يعد إلا بعد مقتل النفس الزكية وبعد أن عاد الهدوء إلى المدينة
المذكورة.
كان هذا المظهر من مظاهر الحياد معروفا عن الإمامين المذكورين في العصر
المذكور ولذلك كانا معنيين باسداء النصح وإتمام الحجة على بني العمومة من
علويين وطالبيين وغيرهم من سكان دار الهجرة فان سكانها ضعفاء لا يقاوون
الدول الناشئة في العصر المذكور.
تخليط وأوهام في معاجم الرواة
هذا ويلاحظ شئ غير قليل من التخليط والأوهام فيما يكتب عن بني

71
الحسن وعن أعيان الزيدية وعن رؤساء بعض الفرق وأصحاب المقالات المختلفة
في الإمامة ممن عاصروا أبا عبد الله جعفر بن محمد، تارة يحسبونهم في أصحابه
وطورا يعدونهم في خصومه المنحرفين عنه، وهذا التخليط في أقوال المؤلفين
وأصحاب معاجم الرواة محمول على اضطراب علاقات بني الحسن أعيان الزيدية
ورؤساء الفرق وأصحاب المقالات المتضاربة المختلفة بالامام جعفر بن محمد تبعا
لاختلاف الأحوال والأزمنة، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها انك ترى جل وجوه
بني الحسن المذكورين معدودين في بعض هذه الكتب والمعاجم في أصحاب الإمامين
محمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق المتحملين عنهما مثل
عبد الله بن الحسن، وأخيه زيد بن الحسن، ومحمد المدعو بالنفس الزكية وأخويه
إبراهيم وموسى أبناء عبد الله بن الحسن، ويحتج القائلون باستقامتهم وصحبتهم
برسالة بعث بها الامام المذكور إلى عبد الله بن الحسن مصدرة بقوله: " إلى الخلف
الصالح والذرية الطيبة من ولد أخيه وابن عمه " وليس هذا الاحتجاج بشئ فيما
نرى لأنها رسالة تعزية بنكبة المنصور لبني الحسن عند حملهم من المدينة إلى
العراق وسجنهم في الهاشمية، هذا إذا صحت رواية هذه الرسالة، ونحن لا نميل
إلى صحة هذه الرواية.
ومن هذا القبيل اضطراب رواياتهم وأقوالهم في عيسى بن زيد - المار ذكره
فقد عد في أصحاب جعفر بن محمد المتحملين عنه وقد غمزه وأهمله آخرون - وممن
اضطربت أقوالهم فيه الحسن بن زيد بن الحسن والي المدينة للمنصور تارة يعدونه
في أصحاب جعفر بن محمد ويصفونه بالصدق والفضل ومرة يشيرون إلى خصومته
وشدة وطأته على الامام المذكور. ومما لا شك فيه وشايته ببني عمه الحسن عند
المنصور.
ومن واجب المؤرخ الباحث عن الحق في هذا الباب أن يقارن ما جاء في بعض
معاجم الرواة للشيخ الطوسي والكشي والنجاشي وما ورد في غيرها من كتب
المؤرخين مثل تاريخ بغداد للخطيب - وقد ترجم لغير واحد من بني الحسن -،
وتاريخ دمشق لابن عساكر - وقد ترجم كذلك لعدد منهم ومن غيرهم من
الهاشميين، وكتاب التقريب لابن حجر - وغيرها من كتب التاريخ ففي هذه
التواريخ - تواريخ الخطيب وابن عساكر وابن حجر - ما فيها من الأعاجيب والروايات الغريبة المدهشة المروية عن بني الحسن وقد اعتبر بعضهم هذه الروايات
مفتعلة موضوعة على القوم أو صادرة عن الهوى والغرض وليس من السهل - فيما
نرى - تكذيب كل ما ورد في كتب التاريخ عن هؤلاء الهاشميين وأن كانت كتب
التاريخ والحديث مشحونة بالأحاديث الموضوعة، وفي وسعك أن تعرف من ايراد
هذه الروايات على ما هي عليه من التناقض والتباين في كتب اولائك المحدثين
والمؤرخين إلى أي حد بلغت القطيعة والجفاء والسخائم بين فرق هذه الأمة.
ملاحظات الباحثين
لاحظ الباحثون في نقد الرواة هذا الاضطراب فحاولوا وضع بعض القواعد
والأصول للتوفيق بين هذه الأقوال المضطربة قائلين أن روايات المتهمين والمضعفين
والغلاة تنقسم إلى قسمين فإن كان لهؤلاء الرواة حال استقامة وحال غلو أو ضلال
عمل بما ورد في حال الاستقامة وترك ما رووه في حال الخطا، وهو موضوع
يستدعي كثيرا من التمحيص والاستقصاء ودقة النظر في تاريخ الاعلام وسير
الرواة.
وقد توسع آخرون في هذا الأصل قائلين ان المهم في الأصل المذكور أن يكون
الراوي صادقا غير كاذب وأن كان مخطئا في أصول اعتقاده عندهم، ومن أجل
ذلك لم يردوا كثيرا من روايات الرواة المنسوبين إلى الفطحية والناووسية و الواقفة
وغيرها، ومن أجل ذلك أيضا ذهبوا إلى تصحيح ما يصح عن بعض الجارودية
وغيرهم من فرق الزيدية. ومجمل القول: يعتبر هذا العصر عصر بلبلة
ونزاع واختلاف بين رؤساء الفرق وأرباب المقالات في الإمامة وفي الاخفة،
وهو نزاع له علله وأسبابه - بلا شك - ومن المفيد تحرير هذا النزاع وعلله
المذكورة وتقريبها على الصورة الآتية:
نزاع في الأصول
لهذا الاختلاف بين بطون الأسر العلوية ثم بين اتباعها في العصر المذكور
ألوان وعلل شتى، منها ما يدخل في الأصول ومنها ما يدخل في الفروع، ومن
النوع الأول اختلافهم في نظام الإمامة وفي كيفية عقدها، فمنهم من الجهاد
والخروج أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، ركنا من أركان الإمامة، وهؤلاء هم
الزيدية على اختلاف فرقهم، ولما لم يكن هذا النوع من الخروج من منهج
جعفر بن محمد في هذا العصر - كما رأينا - لم تثبت إمامته عند هؤلاء فعدلوا إلى
القول بامامة من خرج من العلويين على الاطلاق.
ويفهم من كثير من الروايات أن جعفر بن محمد وأصحابه نظروا إلى زيد نظرة
تختلف عن نظرتهم إلى الزيدية المعروفين في العصر المذكور، وقد أجمعت كلمتهم
تقريبا على أن عقيدة زيد في الإمامة لا تختلف عن عقيدتهم وإن كان كثير من
الزيدية لا يسلمون لهم ذلك، وإذا ما قال أصحاب جعفر بن محمد بأن زيدا امام
فإنهم يعنون انه امام في العلم والورع والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
من هذه الناحية كانت بين بواعث ثورة بني الحسن على العباسيين وثورة
زيد بن علي على الأمويين فروق ظاهرة فان ثورة بني الحسن كانت - فيما نرى -
هجومية مسبوقة بمطالبهم المعروفة في الخلافة مستندة إلى القول بان محمد بن
عبد الله هو المهدي الذي بشرت فيه الأحاديث، وكانت ثورة زيد بن علي من نوع
آخر كانت ضربا من ضروب الدفاع عن النفس وعن الكرامات والأحساب، ولا
يخفى أن زيدا سيم خطة من الذل والخسف لا تطاق في مجلس هشام بن عبد الملك
وعانى أثناء اقامته في الشام ما عانى من امراء الدولة الأموية واستخفافهم به، ولم
يتمالك بعد أن أقيم من مجلس هشام بأمره أن يقول: " لم يكره قوم حد السيوف
الا ذلوا "، ويلاحظ أن أحدا من بني الحسن لم يساهم في الثورة، وقد يكون مرد
ذلك إلى بعد المدينة عن الكوفة وفي المدينة يقيم جل بني الحسن، وبعض
أشياخهم يكثر من التردد بينها وبين الشام فهم بعيدون عن العراق لا سيما إذا
علمنا أن الثورة الزيدية من الحوادث التي فوجئ بها العلويون في كل مكان، هذا
ومن رأي بعض المؤرخين أن زيدا كان يحدث نفسه بالخلافة دائما ويرى أنه أهل
لذلك.
من هم بنو الحسن؟
يعنينا من ذكر هؤلاء الطالبيين والعلويين حسنيين وحسينيين في هذه
الفصول، انهم ممن سنوا للعرب وللناس كافة، سنة الأنفة والاباء، وعلموهم
معنى الصبر والنجدة واختيار الموت على الحياة الدنية، وتقبل مذاهب الأجداد في
اباء الضيم والعزوف عن الذل، فمنهم القائل: " ذل من أحب الحياة " ومنهم
من قال: " لا أعطيكم اعطاء الذليل كرهوا الدنية وفضلوا عليها المنية، إلى غير
ذلك من محاسن الشيم والاخلاق.

72
يعرف كثير من العلويين - في الكتب المؤلفة في أنسابهم خاصة - بألقاب لا
تعرف في كتب التاريخ العامة، ومن ذلك عبد الله بن الحسن أبو الأخوين محمد
النفس الزكية وإبراهيم قتيل باخمرى، فهو في كتب الأنساب " عبد الله المحض "
وفي كتب التاريخ عبد الله بن الحسن، ويعرف أبوه الحسن " بالحسن المثنى " في
كتب الأنساب لمطابقة اسمه لاسم أبيه، ويعرف أخوه الحسن بن الحسن
" بالحسن المثلث " في كتب الأنساب ولا يعرف بذلك في كتب التاريخ، ومن
ألقابهم " مؤتم الأشبال " و " ذو الدمعة " و " الأطروش " و " الغمر "
و " الجون " و " الديباج " و " الأعرج " و " الأفطح " و " هي ألقاب لا تعرف في
كتب التاريخ الكبرى حيث تجد أسماءهم مجردة من هذه الألقاب، اما في كتب
الأنساب فإنها ألقاب معروفة مقرونة بذكر أسبابها.
أعيان بني الحسن وأشهر مشاهيرهم في صدر الدولة العباسية - عبد الله
المحض وأبناؤه وإخوته وأبناؤهم - كانوا على جانب كبير من الوجاهة والرياسة
ونفاذ الكلمة بويع بعضهم بالخلافة.
امتاز هذا الفرع من العلويين بمناوأة العباسيين وخروج من خرج منهم
واحدا بعد الآخر في الدولة العباسية طلبا للخلافة.
كابد بنو الحسن ما كابدوا في سبيل تضامنهم إزاء العباسيين وبقاء رابطة
العشيرة قائمة وثيقة فيهم مهما تحملوا في سبيلها، فقد كانوا مثلا في التضامن إذا
استثنينا بعض من شذ منهم ومالأ المنصور على بني عمه، ومن أجل ذلك حاول
رجال المنصور في المدينة التفريق بين العلويين من حسنيين وحسينيين،، وميزوا
بعضهم على بعض في المعاملات، ومن أجل ذلك نكل المنصور بهم ذلك التنكيل
الشديد حتى مات كثير منهم في السجون وقتل باقيهم بعد خروج محمد بالمدينة.
كان ولاة المدينة من قبل العباسيين يتهيبون بني الحسن في الحجاز ويخشون
بأسهم ويلاحظون منزلتهم وفي مقدمتهم عميدهم عبد الله بن الحسن فيعجزون
عن ملاحقة أولاده، وهم يعدون العدة للخلاف والخروج على المنصور، بل كان
محمد النفس الزكية وأخوه إبراهيم يترددان على المدينة بدون حرج وعلى مرأى
ومسمع من الولاة المذكورين إذ كان لوجاهة أبيهم ونفاذ كلمته شأن يذكر في دفع
غوائل السلطان عنهم في المدينة وقد أحفظ ذلك المنصور وراح يحرق الأرم عليه،
ومما زاد في الطين بلة وأزعج المنصور جدا تحزب جمهور كبير من أهل المدينة لبني
حسن عليه وكثرة المؤامرات فيها ومحاولة الفتك به في بعض مواسم الحج حتى لم
يعرج على هذا البلد في موس سنة 144 وهو الموسم الذي كان التنكيل ببني
الحسن احدى الغايات من شهوده، ومما يؤكد كون المدينة موالية لمحمد بن
عبد الله بن الحسن معادية للمنصور دخول محمد لها من حين إلى آخر - كما مر
ذلك آنفا - واجتماعه بأصحابه وأنصاره وذويه فيها مع شدة الطلب والملاحقة
له.
نشأت من بني الحسن دويلات في الشرق والغرب، ولهم في إفريقية ومصر
وبعض بلاد الروم والفرنج فتوح يحتاج شرحها إلى تاريخ منفرد، نشأ منهم أئمة
الزيدية في بعض الأقطار العربية والاسلامية كالأدارسة مؤسسي الدولة المشهورة
في مراكش والمغرب الأقصى وأئمة الزيدية في اليمن وبلاد الديلم والأقطار
الفارسية.
هذا ويحسن بنا ايراد فذلكة عن أشهر مشاهير بني الحسن على الصورة
الآتية:
عبد الله بن الحسن
يعرف في كتب الأنساب بعبد الله المحض وأنه أول من اجتمعت له ولادة
السبطين ومن هذا لقب " المحض " وكان المقدم بين بني الحسن علما وسخاء ومن
المنعوتين بأوصاف حسنة منها العلم والبيان والخطابة، ومما يشهد بذلك أنه أحد
الثلاثة الذين حاول أبو سلمة عقد الامر لهم من العلويين، وقد استجاب
عبد الله بن الحسن لدعوة أبي سلمة ولم يلتفت إلى تحذير جعفر بن محمد إذ أعلمه
أن أهل خراسان ليسوا من أنصاره وأن أبا سلمة مخدوع مقتول، والقصة
مشهورة، قبل عبد الله بن الحسن بعض الالطاف والكتب التي كتبها اليه بعض
جواسيس المنصور على لسان أنصاره فكانت حجة المنصور عليه وأمر بحبسه،
وخلاصة القول وقع في فخ نصبه له المنصور وقامت عليه حجة حسب روايات
بعض المؤرخين. وقد روى عنه فريق من الاعلام منهم أبناؤه، ويقول أبو الفرج
الإصفهاني أن مالك بن أنس احتج برأي عبد الله بن الحسن في بعض المسائل
الفقهية، ويعده الجاحظ من خطباء بني هاشم وقد روى له كلمة بليغة وسيرته
وأخباره في عصور الأمويين والعباسيين معروفة في كتب التاريخ والأنساب ومن
أشهرها وفوده على عمر بن عبد العزيز وهشام في الدولة الأموية ثم وفادته على
أبي العباس السفاح في الهاشمية بعد بيعته، وقد صحبه في وفوده على
السفاح اخوه الحسن المثلث وهو ممن مات في سجن المنصور بعد ذلك وكانت
حفاوة السفاح بهما بالغة وأن لم تخل من العتاب والسؤال والجواب بسبب تغيب
محمد وإبراهيم وقد اعتذر الحسن المثلث عن ولدي أخيه بما يدل على علو منزلته،
قال صاحب غاية الاختصار: " كان الحسن المثلث جليلا نبيلا ولو لم يستدل على
شرفه إلا بالجواب الذي قاله لأبي العباس السفاح في قصة محمد وإبراهيم ابني أخيه
لكفى ".
كان لهذا الزعيم الحسني - أعني عبد الله بن الحسن - رأيه الخاص في الخطة
التي رسمها العباسيون لإبادة بني أمية واستئصالهم أينما وجدوا في عصر أبي العباس
السفاح وهو - أي عبد الله - القائل لداود بن علي عم السفاح - وقد أمعن في قتل
الأمويين في الحجاز -: " يا ابن عمي إذا فرطت في قتل أكفائك فمن تباهى
بسلطانك؟، أو ما يكفيك منهم أن يروك غاديا رائحا فيما يسرك ويسؤوهم "،
وهو في هذا القول يرى رأي سياسي بعيد الغور.
قلما عانى أحد من وجوه بني الحسن ما عاناه عبد الله هذا من الخليفة أبي جعفر
المنصور فإنه حبسه حبسا شديدا في المدينة ثم حمله وافراد أسرته إلى العراق على
حالة يرثى لها، وحبسهم في الهاشمية حتى الموت، وقد أذاقهم من الأذى في
حبوسهم ما تقشعر له الأبدان مما نعلم منه مبلغ حقد أبي جعفر المنصور على
عبد الله بن الحسن وأبنائه.
لم يفعل المنصور ما فعله من هذا القبيل ولم يرتكب ما ارتكبه الا بعد أن لمس
في عبد الله بن الحسن لددا في الخصومة وصلابة في العقيدة وتصميما على
المعارضة، فقد أخفق المنصور في حمله على تسليم أبنائه أو الايماء إلى الجهات التي
يقيمون فيها، وطالما طلب اليه احضار ابنيه بالتهديد والوعيد وطالما جرى بينهما
كلام غليظ فما أجدى ذلك كله وحاول أن يقتله قبل حبسه ثم عدل عن ذلك.
كان تخلف محمد وإبراهيم ولدي عبد الله بن الحسن عن القدوم على أبي جعفر
المنصور - بعد مبايعته بالخلافة في الكوفة وتشجيع عبد الله لابنيه المذكورين على
الخلاف والثورة حتى قال لهما فيما قال: " أن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين فلا

73
يمنعكما أن تموتا كريمين " - في أولى البوادر التي أثارت شك المنصور وريبته في نيات
بني الحسن، ثم توالت عليه أخبار وأنباء بعث بها اليه عيونه وأرصاده أكدت له
خلاف بني الحسن وأن محمد بن عبد الله عازم على الثورة، وكان بعض بني الحسن
أنفسهم - وهو الحسن بن زيد بن الحسن - يؤكد لأبي جعفر المنصور أن بني الحسن
ثائرون عليه لا محالة فأيقظ الحسن منه عينا لا تنام، وفي الحسن هذا يقول
موسى بن عبد الله بن الحسن - ثالث الأخوين محمد وإبراهيم: " اللهم أطلب
حسن بن زيد بدمائنا ".
ولا شك انه كان عينا للمنصور يرفع اليه أخبار بني الحسن، وللحسن هذا
ابن مشهور اسمه القاسم ورث عنه هذه الخصومة لأبناء عمه وهو الذي حمل
البشارة بمقتل النفس الزكية إلى المنصور...
والواقع ان للحسن بن زيد أولادا آخرين لم يتبعوا طريقة والدهم في مجافاة بني
الحسن بل إنهم التحقوا بثوار المدينة وكانت لهم صلة وثيقة بالنفس الزكية والحق
أن المنصور كان بالغ القسوة شديد العقوبة والمؤاخذة لا يستطيع ضبط نفسه إذا
رأى زعيما من زعماء بني الحسن وخصوصا أبا محمد هذا، بل كان لا يتردد من
ضربهم وإهانتهم وتعذيبهم وزجهم في السجون المطبقة في الحجاز والعراق، وقد
عبر عما يكن من حنق وحقد غالب عليه بقوله - والسياط تنهال بأمره على أحد بني
الحسن في الربذة -: " هذا فيض فاض مني فأفرغت منه سجلا لم أستطع رده ".
النفس الزكية
أنجب عبد الله بن الحسن هذه السلالة التي قادت الجيوش وكانت شجى في
حلق الطبقة الأولى من بني العباس، ولا شك أن المنصور قمع ثورة غير واحد من
بني الحسن - وفي مقدمتهم النفس الزكية " قتيل أحجار الزيت "، واخوه إبراهيم
قتيل " باخمرى " الا انه قد استطاع غير واحد منهم أن ينشئ ملكا عريضا في غير
ناحية من نواحي العالم الاسلامي شرقا وغربا، فكانت لبعضهم دولة في المشرق
وكانت لآخرين منهم دولة أخرى تعرف بدولة الأدارسة في المغرب، وكان
لبعضهم ملك كبير في جهات أخرى لا شك أن أبعد بني عبد الله شهرة وأبقاهم
ذكرا هو محمد المعروف بالنفس الزكية الذي ناضل نضال الابطال حتى مات في
طلب الإمامة.
ولدت مع مولد محمد بن عبد الله هذا فكرة الدعوة بالإمامة وقدر أهله وفي
مقدمتهم أبوه عبد الله الذي كان يطوف به على الاحياء انه المهدي الموعود،
وتقبل كثير من الحجازيين وأهل المدينة خاصة هذه الدعوة ووقعت من نفوسهم
موقعا حسنا وصادفت هوى من قلوب المدنيين.
لقن محمد هذا وهو ناشئ أنه المهدي وألقي في روعة وهو حدث إلى أن شب
وترعرع انه الذي تحدثت بظهوره الروايات فلا سبيل إلى مناقشته في هذا الأمر،
بل كان من السهل وصم من يشك في إمامته بالمروق عند كثير من أهل الحجاز
والمدينة، ومن شان كل ناشئ على هذا النمط من التربية والتلقين أن يكون راسخ
العقيدة شديد الايمان بحقه، وهكذا كان محمد بن عبد الله بن الحسن نشأ وهو
واثق انه خليفة زمانه لم يتطرق اليه شك في ذلك وفي أن له حقا مغصوبا وأن غاصبه
هو المنصور، فلا مناص له من الخروج في سبيل الحق، أضف إلى ذلك أنه كان في
الواقع على قسط لا يستهان به من العلم والنسك والدين، ومن ذلك لقبه النفس
الزكية، وحسبك أن تتصفح الرسائل القيمة المتبادلة بينه وبين أبي جعفر المنصور
قبل خروجه لتجزم بأنه غزير العلم قوي الحجة بصير بالاخبار والانساب، لذلك
مال الهاشميون المؤتمرون في الحجاز في ذيل الدولة الأموية إلى ترشيحه للخلافة
وبايعه من بايعه منهم، وفي مقدمتهم أبو جعفر المنصور نفسه.
كان محمد بن عبد الله موقنا بان بيعة المنصور له لا يمكن نقضها شأنه في ذلك
شأن ذوي العقائد أو المبادئ الراسخة والمثل العالية وانها عقد لا يصح ابطاله وأن
الخلافة أصبحت حقا له لا ينازع فيه، والحق فوق القوة، وكان المنصور على
نقيض ذلك من الزعماء أو الساسة الواقعيين الذين يرون أن الحق للقوة وأن العهود
والمواثيق لا تعدو قصاصة ورق من السهل تمزيقها، وهكذا كان، فما أبعد الفرق
بين المزاجين والخلقين!
من ذلك عني أبو جعفر بملاحقة عبد الله بن الحسن وأبنائه أشد العناية - على
ما رأيت -، وكان بينه وبين سلفه أبي العباس السفاح بون بعيد في هذا الشأن.
بنو الحسن في خلافة السفاح
كان أبو العباس لين العريكة إذا قورن بأبي جعفر المنصور لم يسرف كأخيه في سفك
الدماء - إذا استثنينا وقايعهم مع الأمويين -، والحق أن المنصور يختلف عن
سلفه اختلافا ظاهرا من هذه الناحية ونحن نرى السفاح لا يعمل بكثير من آراء
أخيه المنصور ولا يوافقه على صرامته وشدته، أراده المنصور على قتل أبي مسلم
الخراساني فنهاه عن ذلك قائلا: " يمنعني عن قتله سابقته في الدعوة وجهاده في قيام
الدولة "، ولم ينزل أبو العباس السفاح كذلك على رأي أخيه في قتل وزيره أبي
سلمة الخلال وهو الذي حاول نقل البيعة إلى العلويين - على أن السفاح لم يكن
مصرا على ذلك ولهذا تولى قتله بعض العباسيين غيلة بعد استشارة أبي مسلم
الخراساني في الكوفة، ولا شك أن المنصور حاول الفتك بمن لقيه من بني الحسن
في ولاية عهده للسفاح ولكن كان يحسب لغضب أخيه حسابه.
لما استخلف أبو العباس السفاح وفدت عليه - وهو في الأنبار قاعدة ملكه
الجديدة - وفود العرب من كل فج وكان في طليعتها وفد كبير من الطالبيين
والعلويين وكلهم من أهل المدينة يتقدمهم عميد بني الحسن عبد الله بن الحسن
وأخوه الحسن ويلاحظ أن الوفد اقتصر على فريق من مشيخة الطالبيين وآل
الحسن اما معظم الشبان وفي مقدمتهم أبناء عبد الله وأبناء أخيه فإنهم تخلفوا عن
المجئ إلى العراق وأن السفاح احتفى بالوفد المذكور حفاوة بالغة وكان يتفضل أمام
عبد الله بن الحسن ويستقبله بمباذله محاولا إزالة الجفاء والوحشة بين البيتين ومن ذلك
أنه احتمل أثناء هذه الحفاوة بضيوفه في الأنبار أقوالا لا معنى لصدورها منهم الا
التعريض بالدولة العباسية، وقد أسمعه الضيفان الكبيران ما يوهم نزول
العباسيين عن ملكهم إلى غيرهم في مستقبل الأيام، ويلاحظ أيضا أن الحديث
على تشعبه بين هؤلاء الهاشميين في مدينة الأنبار لم يتناول موضوع " البيعة " وان
المؤرخين الذين عنوا برواية أخبار عبد الله بن الحسن وأخبار من معه من الطالبيين
في وفادتهم هذه لم يشيروا إلى البيعة ولا شئ أهم من الدخول فيها إذ ذاك، ومن
رأينا أن هؤلاء العلويين والطالبيين اشترطوا في هذه الوفادة عدم التعرض للبيعة كما
أن السفاح لم يكن ملحا عليهم في ذلك، ولذلك اعتبرت هذه الزيارة " أخوية
بحتة " أو " شخصية " ولو كان المنصور مكان السفاح في ذلك الحين لأصر على
الدخول في البيعة ولضرب أعناق القوم - لو امتنعوا - فورا أو ألقاهم في السجون
المطبقة والمطامير ليموتوا فيها أبشع ميتة كما قام بعد استخلافه بذلك.
كان زعماء العرب لا يرون في وفادتهم على أقرانهم وأندادهم وقبول الرفد

74
والهدايا منهم شيئا من الغضاضة لذلك نرى أبا العباس السفاح رضخ للوفد بمبالغ
طائلة من المال، ومن أهم العوامل في هذا السخاء أن المال كان ينفق في الحجاز
وهو بلد قاحل جل سكانه من ذوي الفقر والخصاصة ولكنه مهبط الوحي ومبعث
الرسالة.
هذا ولا بد لنا من القول: أن السفاح أظهر قلقا ووجلا عظيمين من تخلف
المتخلفين من شباب بني الحسن وفي مقدمتهم الأخوان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله
فألحف في الاستفسار عنهما وعن أسباب تخلفهما، ومن حق السفاح ان يساوره
القلق فإنهما تخلفا لأمر عظيم إذ كان محمد بن عبد الله مشغولا ببث الدعوة لنفسه في
الحجاز والعراق وفي الأهواز وفارس وفي أقطار أخرى - وكان له ولأنصاره نشاط
ملحوظ في هذه الأقطار يجري أكثره في الخفاء وان لم يخف على عيون بني العباس -
كما كان معنيا باعداد عدته للخروج، ولم يكن الغرض من ذلك الالحاف تفقدا أو
حبا وانما هو الاطمئنان والوقوف على مذهب الأخوين أو نيتهما في طلب الخلافة،
وفي وسعك أن تحكم على سياسة السفاح ومبلغ مجاملته لبني الحسن من تظاهره
بقبول المعاذير عن الأخوين الغائبين على مضض فإن الحسن المثلث أفهم السفاح
بان محاولاته في الوقوف على أمرهما من العبث، ولذلك أراح السفاح نفسه
باليأس من الظفر بالأخوين بعد الحديث المذكور مع أضيافه فأعرض عن طلبهم
إلى أن فرق بينهم الموت، وتعزى مجاملته لبني الحسن إلى خبرته بدخائل بني عمه
الهاشميين وإلمامه بما يخالج نفوسهم من الشعور بالأنفة، ولذلك نرى كثيرا من
هؤلاء الطالبيين والهاشميين يخاطبون خلفاء بني العباس مخاطبة النظراء الأكفاء أو
مخاطبة الأنداد، وقد يرون في آل عباس أتباعا لا متبوعين ومرؤوسين لا رؤساء فيما
مضى من خلافة الإمام علي وبعض الأئمة من أبنائه، قمن أشق الأمور على وجوه
العلويين أو الطالبيين أن يروا أنفسهم تابعين مرؤوسين للعباسيين بعد ذلك، وقد
تعزى المجاملة المذكورة فيما تعزى اليه إلى تأثير عبد الله بن الحسن نفسه فقد
اشتهر - كما مر بك - أن لحديثه تأثيرا كتأثير السحر في النفوس حتى كان
الأمويون والعباسيون يحسبون لبلاغته وعارضته وملاحة أحاديثه حسابا.
بنو الحسن في عصر المنصور
كان استخلاف المنصور بعد أخيه السفاح ايذانا بالانتقال إلى عصر جديد
يمتاز بشدته المتناهية واجتناب سياسة اللين والتهدئة وتفضيل الحلول الحاسمة على
انصاف الحلول، والواقع أن المنصور واجه في مستهل خلافته اخطارا شتى منها
القريب ومنها البعيد عني بدفعها عن الدولة، فهذا عمه الأمير الظافر عميد
العباسيين بعد السفاح وقائد جيشهم وقاتل مروان الجعدي يمتنع من بيعة المنصور
ويزحف على العراق مدعيا أن السفاح عهد بولاية العهد لمن يظفر بالأمويين وهو
الظافر بهم غير مدافع ولذلك فهو أولى العباسيين بهذه الولاية، وهؤلاء بنو الحسن
وأنصارهم في كل مكان لا يرون في بني العباس أهلا للبيعة بل يرون فيهم غاصبين
ناكثين بالعهود والمواثيق ولا بد لهم من وثبة على هؤلاء الناكثين الغاصبين، ثم هذه
الفتن الناجمة والخوارج الخارجون في شتى الأقاليم.
لا شك ان المنصور واجه هذه الأحاديث والفتوق في مستهل خلافته بجأش
رابط وعزيمة ماضية فتغلب على عمه بأبي مسلم الخراساني ثم ثنى بأبي مسلم ففتك
به وبأنصاره ثم قمع فتنا شتى في الشرق والغرب تفرع بعدها لمناجزة بني الحسن
وقد كونت حركتهم خطرا من أعظم الأخطار على الدولة، وكان هذا الخليفة في
كل هذه الأحداث ثابت الجنان يعتمد على القوة ولا محل عنده للعفو والرحمة.
ومن رأي أبي جعفر المنصور ان الأساس الذي قامت عليه دولة بني العباس
وأخذت بموجبه البيعة لخلفائهم لم يزل مهددا بالانهيار إذا أصر بنو الحسن على
المطالبة بحقهم في البيعة - وانهم لمصرون فعلا - طبقا لذلك الميثاق الذي اتخذه
الهاشميون في أيام بني أمية والى هذا الميثاق يستند بنو الحسن ومحمد بن عبد الله في
طلب البيعة وانها لبيعة يعرفها العرب والهاشميون بأسرهم في ذلك الحين، وأول
من عقدها للنفس الزكية هو السفاح، ويقال أن المنصور بايعه مرتين إحداهما بمكة
في المسجد الحرام فلما خرج أمسك له بالركاب ثم قال: " اما انه أن أفضى إليك
أمر نسيت لي هذا الموقف، ومن هذا نعلم أن مناط السياسة ومحورها الذي تدور
عليه في مذهب المنصور هو المصلحة لا غير، فهو يساوم ويماكس ولا يقيم وزنا لغير
هذا النوع من السياسة سياسة المنفعة لا سياسة العاطفة.
كان خبر هذه البيعة - بيعة المنصور للنفس الزكية - من جملة الأخبار المشهورة
المتعالمة في ذلك العصر، ومن الأدلة على ذلك حديث عثمان بن محمد بن الزبير
مع أبي جعفر المنصور، وهو حديث يدل على ثبات نادر وجرأة بالغة، كان عثمان
هذا من وجوه أصحاب محمد ولي الشرطة له وله ذكر في بعض كتب الأخبار، وقد
هرب إلى البصرة بعد مقتل صاحبه فحمل منها إلى المنصور فقال له " هيه يا
عثمان " أنت الخارج علي مع محمد؟ " قال: " بايعته أنا وأنت بمكة فوفيت ببيعتي
وغدرت ببيعتك " قال: يا ابن اللخناء، قال: ذلك من قامت عنه الإماء - يعني
المنصور - فامر له فقتل، وهذا الحديث يدل على أثر العقيدة في هذا الضرب من
أصحابه محمد بن عبد الله وعلى تفانيهم في ولائه والاخلاص له.
أضف إلى ما تقدم ما تناهي إلى علم المنصور من أن للعلويين أو لبني الحسن
في كثير من الأقطار أنصارا يدينون لهم بالولاء ويبعثون لهم بزكاة الأموال ومختلف
الألطاف ويعنون كثيرا باخبارهم ويتحدثون بأحاديثهم، ومن هؤلاء من يرى رأي
الزيدية في الخروج، ومنهم من يرى موالاة هؤلاء العلويين على كل حال، وكانت
للقوم هيبة ومكانة في صدور الناس، وإلى تلك المكانة الرفيعة والبيعة القائمة لبني
الحسن في أعناق الأول من بني العباس مرد هذا الحرص من المنصور على الظفر
بمحمد وبأخيه إبراهيم ليطمئن على ملكه الجديد ويقيمه على الأساس الذي
يريد، وقد تذرع إلى تحقيق بغيته بشتى الوسائل ونصب مختلف الحبائل.
يدهش المتأمل في سيرة المنصور لعنائه البالغ بعد استخلافه - وقبل ذلك
أيضا - بالتضييق على وجوه بني الحسن، كان ذلك شغله الشاغل أينما حل، ملأ
الجزيرة بالعيون والأرصاد وبذل الأموال الطائلة وفرق الأعراب يفتشون عنهم في
البوادي وكان أولئك العيون والأرصاد يتلقون تعاليم دقيقة من المنصور.
والحقيقة أن بني الحسن من ناحيتهم - وقد عقدوا النية وصمموا على
الخروج - أذكوا لهم عيونا وجواسيس يوافونهم باخبار المنصور بل كان إبراهيم بن
عبد الله نفسه يتغلغل في مملكة المنصور وفي قواعده العسكرية في الشام والعراق،
ويروى انه تناول الطعام على مائدة المنصور مرة وحضر مجلسه متنكرا، وقد بلغ
المنصور بذلك إلا أنه عجز عن الظفر به، ويلاحظ أن عامة الناس في العراق كانوا
يساعدون إبراهيم على الافلات والنجاة، وكان المنصور يقول: " غمض علي أمر
إبراهيم لما اشتملت عليه طفوف البصرة ".
عزل المنصور ولاة المدينة واحدا بعد آخر لفتورهم في طلب القوم ونسب
هؤلاء الولاة إلى الغش والمداهنة، والواقع أنهم دهشوا وأخذتهم الحيرة من هذا
الولاء البالغ الذي ينعم به هؤلاء العلويون في الحجاز وتفضيل القوم لهم على

75
العباسيين فلم يجد الحكام مساغا لإراقة الدماء نزولا على هوى المنصور، والغالب
أن لعبد الله بن الحسن والد الأخوين المتواريين دخلا قويا في ضعف هؤلاء الولاة
عن الاهتداء إلى مكان أبنائه وعجز المنصور عن الظفر بهما، ومرد ذلك إلى منزلة
عبد الله هذا وحرمته الكبيرة في المدينة ولدهاء وعقل فيه، فكان الولاة المذكورون
يسمعون عنه ويطيعون.
المنصور يلح
ما زال المنصور يلح وعبد الله يدافع، وقد نجح المنصور أو كاد في إشاعة
الاضطراب والارتباك في نفوس بعض بني الحسن، وكانت بين عبد الله بن الحسن
وسليمان بن علي - عم المنصور وعامله على البصرة - قرابة قريبة ومصاهرة
فاستشاره في اظهار ابنيه على شرط أن يعفى عنهما فقال سليمان: لو كان المنصور
من أهل لعفى عن عمه عبد الله بن علي - وهو أخو سليمان هذا - فلم يسع
عبد الله بن الحسن إلا قبول هذا الرأي الذي ارتاه صهره وقريبه سليمان، ومن ثم
أمعن في تشجيع أولاده على الثبات والمضي في الخلاف وهان عليه السجن في هذا
السبيل وطال لبثه فيه على وجه أثار إشفاق أولاده ورثاءهم لحالته، وكان محمد ابنه
يزوره في سجنه بالمدينة وخطر له أن يسلم نفسه للمنصور ليخلص والده ولكن
الوالد الجلد الصابر ظل وهو رهين السجن يحث أولاده على الثبات والمقاومة حتى
الموت وقد اشتهر له في هذا الشأن كلمته التي خاطب بها ابنيه قائلا " أن منعكما أبو
جعفر أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين ".
وكان عبد الله أول من بث الدعوة لابنه وبايعه، ولذلك كان المنصور يكنيه
" أبا قحافة " تشبيها له بعثمان بن عامر التيمي لأن أبا بكر ابنه بويع و هو حي
كما بويع النفس الزكية وأبوه على قيد الحياة.
طلائع الثورة
أجمع المؤرخون على أن طلائع الثورة الحسنية على الدولة العباسية بدأت
بتضييق أبي جعفر المنصور على عبد الله بن الحسن وأهله وزجهم في سجنهم الأول
بالمدينة - بعد استخلافه بنحو سبع سنين - متهما إياهم بتهم مختلفة ناسبا إليهم انهم
يكيدون للدولة العباسية ويبغونها الغوائل، ولم يأمر المنصور بسجن عبد الله - بعد
أن حاول قتله - إلا بعد أن أراده على احضار ابنيه وهدده وطالما تكاشفا وتغالظا في
الكلام وقد أراد المنصور بالتضييق عليه في سجن المدينة أن يضطره إلى تسليم ابنيه
ولما امتنع أشد امتناع أمر باشخاص بني الحسن إلى العراق وأشرف بنفسه على
وضع الأغلال في أعناقهم والقيود في أيديهم وسامهم في الطريق من الحجاز إلى
العراق ألوانا من العذاب والتنكيل والقتل إلى أن أودع من بقي على قيد الحياة منهم
سجنه في قصر ابن هبيرة أو الهاشمية، وكان ذلك سنة 144 ه‍.
بقي عبد الله بن الحسن في سجن المنصور ثلاث سنين، وكان ينتحل لغياب
ابنيه شتى الأعذار، مرة يقول: انهما منهومان بالصيد وطلبه وانهما هجرا لذلك
الأهل والديار، وتارة يقول: انه لا يعلم من أمرهما شيئا، وطورا يدعى أن
خوف المنصور اكرههما على الغياب وعلى الخروج إلى اليمن والى السند وإلى العراق
وإلى أقطار أخرى.
كان محمد خبيرا بالتنكر والاختفاء جوابة للبوادي ورادا على المياه الأواجن
وقد تزيا بشتى الأزياء، تزيا بزي الأعراب والعمال وغيرهم ولم يزل يتنقل من
موضع إلى موضع إلى حين خروجه بالمدينة.
ظهور محمد بالمدينة
ألح أمير المدينة في طلب محمد وضيق عليه وأرهقه الطلب طبقا للأوامر التي
تلقاها من أبي جعفر المنصور بعد قفوله إلى العراق بمن حملهم من بني الحسن فلم
يسع محمدا إلا الخروج والثورة بعد أن بعث بأخيه إبراهيم يجوس خلال مملكة
المنصور في العراق، وهي الثورة التي قمعت على يد الأمير عيسى بن موسى - بعد
ثلاثة أشهر - طبقا لما توقعه الإمام جعفر بن محمد - وقد مر شرح ذلك -.
تتضارب أقوال المؤرخين في أسباب نجاح المنصور في قمع ثورة بني الحسن
بمثل هذه السرعة فيقال: أن محمدا خرج قبل وقته الذي واعد أخاه إبراهيم على
الخروج فيه وقيل خرج بميعاده وكان التأخير من أخيه، ويبدو لنا أن أهل المدينة
برموا من القلق والاضطراب وسئموا من الانتظار على وجه اضطر معه محمد إلى
الخروج، ويقال أيضا أن أهل المدينة لم يكونوا أهل حرب كاهل العراق وكانت
ذخائرهم ومؤونهم قليلة، وقد اتصل ذلك ببني العباس من جواسيسهم في
الحجاز، ومن أجل ذلك هان على المنصور اخماد الثورة فيها، وفي كتب التاريخ
روايات تدل على أن المنصور كان بارعا في نصب المكايد والخدع للثائرين فكانوا
يتلقون رسائل مذيلة بتوقيع قواد الجيش العباسي وأمرائه يحثون فيها بني الحسن
على الظهور ويخبرونهم أنهم من أنصارهم، إلى ذلك ونحوه مما جعل محمد بن
عبد الله يعتقد بانحياز قادة الجيش العباسي إلى جانبه إذا ثار، وما كتبت تلك
الكتب والرسائل إليه إلا بأمر أبي جعفر المنصور.
عنى المنصور باستشارة أصحابه في كيفية التغلب على محمد بن عبد الله فكانت
لهم آراؤهم في هذا الشأن، وكثير منهم هون على المنصور أمر الثورة قائلين أن أهل
المدينة ليس معهم آلة الحرب ولا قدرة لهم على الزحف، وقد يستطيعون الدفاع
مدة قليلة، ومما يدل على ذلك أن عالما كثيرا من سكان المدينة تركوها إلى البادية
والجبال لما دنا منها جيش المنصور يقوده ابن أخيه الأمير عيسى بن موسى، ولم يبق
مع محمد بن عبد الله عدد يؤبه له وتفرق عنه جل أصحابه في أحرج لحظة.
أضف إلى ذلك أن أصحاب محمد اختلفوا في كيفية إدارة رحى الحرب داخل
المدينة بيد أن محمدا مع ذلك كله ثبت ثبات المؤمن بحقه وقاتل قتال الابطال حتى
قتل وقتل معه من أهل المدينة قوم لم يسع المنصور إلا الاعتراف ببسالتهم ونجدتهم
البالغة.
بعض مميزات الثورة
امتازت ثورة النفس الزكية ببعض المميزات الخطيرة وفي مقدمتها مشاركة
عدد غير قليل من وجوه الدولة العباسية بالدعوة والبيعة له في الشرق والعراق
والحجاز ومنهم عدد من أحفاد الصحابة والتابعين وعدد من النساك والقراء
والفقهاء ونقلة الحديث والأثر.
وكان أعيان معتزلة البصرة من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد من دعاته
و أنصاره ويقول بعض المؤرخين: بايعه الأئمة من أهل عصره كمالك وأبي حنيفة
ومن في طبقتهما.
خرج مع محمد جماعة من آل أبي طالب من أبناء الإمام علي ومن أولاد جعفر
الطيار وخرج معه اثنان من أولاد زيد بن علي عيسى وحسين وخرج معه جماعة
آخرون اعتقدوا إمامته وقتلوا على ذلك، ومنهم بعض من آل الزبير كعثمان بن
محمد بن خالد بن الزبير المتقدم ذكره، وقد خرج أكثر من خرج معه على أنه
المهدي الموعود.

76
ومن السهل تعليل هذا التأييد الذي لقيه محمد بن عبد الله من العلويين
والطالبيين وغيرهم وكذلك الانحراف الذي مني به المنصور والعباسيون فإن
مردهما إلى الاعتقاد أو إلى القول بالإمامة فإننا نعرف عن أولئك الفقهاء ونقلة الأثر
والحديث في ذلك العصر وأمثال هؤلاء - ممن اعتزل الحكم وتجرد للتفقه والنسك
والعبادة - أنهم يرون أن مناصب السياسة أهون من أن تراق في سبيلها ملء محجمة
من الدم، ولما كان الأمويون ومن بعدهم العباسيون على النقيض من ذلك في عدم
التحرج من سفك الدماء في سبيل الملك والسلطان لم يسع أولئك إلا المجاهرة
بالخلاف والخصومة العنيفة، وعقد غير واحد من المؤرخين فصولا خاصة سموا
فيها من أجاب دعوة محمد بن عبد الله أو خرج معه من أعيان ذلك العصر وأئمته في
عدة من الأقطار، وهي فصول تصلح للاحتجاج على متانة مركز بني الحسن من
الناحية المعنوية في العصر المذكور وأن اضطربت آراء فريق من وجوه الطالبيين في
خروجه وامتنع من امتنع منهم عن تأييده.
عمال محمد بن عبد الله
أرسل محمد قبل ثورته وبعدها عماله ودعاته إلى مكة والى الشام واليمن
والعراق، ومن أشهر هؤلاء العمال والدعاة أخواه إبراهيم بن عبد الله وجه به إلى
العراق قبيل ثورته وموسى ويعرف " بموسى الجون " في كتب الأنساب، وقد
استعلمه على الشام، ومنهم محمد بن الحسن بن معاوية من أحفاد جعفر بن أبي
طالب استعمله على مكة ويظهر من قوائم المؤرخين التي وردت فيها أسماء عماله
أنه اختارهم من ذوي قرباه ولم يكتب لأكثر هؤلاء العمال نجاح يذكر في الأقطار
المذكورة، فهذا عامله على مكة لم يقم إلا يسيرا فيها حتى استدعاه محمد لما خرج
إليه عيسى بن موسى ولكن محمدا قتل وعامله هذا في طريقه إلى المدينة فهرب إلى
العراق ولحق بإبراهيم بن عبد الله وأقام عنده حتى قتل، وقد مني موسى أخو محمد
وعامله على الشام بالفشل أكثر من غيره، تجهمه أهل الشام واستقبلوه استقبالا
رديا وكان أثر الرعب والوجوم باديا على القوم منذ زوال الدولة الأموية واستئصال
أمرائها وأبادتهم. تدلنا على ذلك رسالته التي بعث بها إلى أخيه من دمشق وقد جاء
فيها: " أخبرك أني لقيت الشام وأهله فكان أحسنهم قولا الذي قال: والله لقد
مللنا البلاء وضعفنا حتى ما فينا لهذا الأمر موضع ولا لنا به حاجة، ومنهم طائفة
تحلف لئن أصبحنا من ليلتنا وأمسينا من غد ليرفعن أمرنا، فكتبت إليك وقد
غيبت وجهي وخفت على نفسي " وقد ترك موسى الشام بعد رسالته هذه إلى المدينة
وقيل إلى البصرة - وهو الأصح فيما نرى - والمرجح أنه ترك الشام بعد أن حوصر
أخوه في المدينة وذهب رأسا إلى البصرة ملتجئا إلى قريبه محمد بن سليمان العباسي
في البصرة ولكن هذا وبخه توبيخا شديدا وجبهه بكلمات نابية تدل على اضطراب
ورعب من المنصور، وقد أشار المؤرخون إلى مصير موسى بعد وصوله إلى العراق
وسجنه في أيام المنصور والإفراج عنه في عصر ابنه المهدي وذكروا أنه عاش إلى أيام
هارون الرشيد وله معه أحاديث لطيفة هذا ولم يغفل المؤرخون أسماء ولاة محمد بن
عبد الله وقضاته على المدينة ووزرائه في إدارة الشؤون الحربية والمالية والقضائية.
إبراهيم يثار لأخيه في العراق
هرب عدد من أقرب المقربين إلى محمد بن عبد الله - بعد مقتله سنة 145 -
وعدد من ولاته وعماله إلى البصرة، وقد اشتملت باديتها على كثير من أنصار بني
الحسن عقدوا البيعة لأخيه إبراهيم بن عبد الله ونادوا وأعلنوا الخلاف على الدولة
العباسية.
يعد إبراهيم بن عبد الله - أخو النفس الزكية - من أشهر رجال بني الحسن علما
وفقها لم يملأ عين المنصور بعد أبيه وأخيه غيره من بني الحسن، وله ضلع في الأدب
ويروى له شعر، ومن رأى بعض المؤلفين في الأدب والتاريخ " أن المفضليات "
من جمع إبراهيم بن عبد الله جمعها من دواوين العرب لما كان مختفيا في منزل
" المفضل الضبي " فلما قتل إبراهيم نسبت المفضليات إلى المفضل المذكور، وكان
المفضل زيديا ومن رواة حديثه وشعره كما كان إبراهيم يكثر من الإقامة عنده.
كنز المادحون من الشعراء لإبراهيم، ومن مداحه بشار بن برد، وحسبنا من
شعره في إبراهيم قصيدته السائرة التي تعد من عيون الشعر العربي وفيها يقول:
أقول لبسام عليه جلالة غدا * أريحيا عاشقا للمكارم
من الفاطميين الدعاة إلى الهدى * سراج لعين أو سرور لعادم
أتى إبراهيم نعي أخيه فخرج وأخبر الناس في البصرة، وكانت البصرة موالية
له جدا كما كان البصريون من أكثر أنصاره وأشدهم انقيادا وطاعة له، ولإبراهيم
كلمة بليغة في الثناء على البصريين لايوائهم إياه مع أصحابه وقد أتخذ أصحابه من
هذه الكلمة شعارا لهم وأنشودة ينشدونها، وقد جاء في ختام الكلمة قوله: " إن
أملك فلكم الجزاء وإن أهلك فعلى الله الوفاء ".
توالت على المنصور الفتوق - بعد خروج إبراهيم - من البصرة والأهواز وفارس
وواسط والمدائن والسواد إلى جانب كثير من أهل الكوفة، ويبدو لنا أن كثيرا من
زعماء العراق في الكوفة وفي الموصل وغيرهما مالوا إلى إبراهيم وبايعوه وقد أجمع
المؤرخون على أن إبراهيم وجم واغتم بخروج أخيه وأمره إياه بالخروج فلعله كان
يرى خروجه مبتسرا أي قبل أوانه، ويفهم أن المنصور أكثر من استشارة رجال دولته
في أمر إبراهيم وخروجه، وقد أخذ برأي من ارتأى منهم بان يقاتله بجند من أهل
الشام لأنهم لا يميلون إلى آل أبي طالب بخلاف العراقيين.
استولى إبراهيم على واسط والقسم الجنوبي من العراق وأرسل إلى تلك الجهات
عماله، بايعه أهل واسط بعد البصريين وبايعه الزعماء والفقهاء ولم يبق أحد إلا تبعه
وقد سمى أبو الفرج جميع من خرج معه من الفقهاء والمحدثين ونقلة الآثار وكانت
وجهته الكوفة وفيها المنصور، ويلاحظ أن كثيرا من أصحابه لا بصر لهم بفنون
الحرب ولكنهم شجعان وقد وقعوا في هفوات حربية إليها مرد ظفر الجيش العباسي،
وبعض هذه الغلطات الحربية في واقعة " باخمرى " أدت إلى مقتله وتشجيع جيش أبي
جعفر المنصور على الثبات بعد الهزيمة، وعلى كل حال كانت ثورة إبراهيم في العراق
أخطر من ثورة أخيه في المدينة، وبين الثورتين فروق أخصها أن ثورة إبراهيم ألحقت
بالدولة العباسية خسائر كبيرة في الأموال والأرواح وهي أضعاف ما ألحقته ثورة أخيه
المذكورة وكانت وقعة باخمرى قريبة من الكوفة وفيها سرير المنصور.
نقلة الآثار يؤيدون الثوار
خرج مع إبراهيم عدد غير قليل من أهل العلم والفقه ونقلة الآثار سماهم
وترجم لهم أبو الفرج الأصفهاني، كما أفتى بالخروج معه فقهاء آخرون سماهم غير
واحد من المؤرخين كابن سعد والطبري، وقد عللنا فيما مر تأييد أهل الفقه والنسك
في صدر الدولة العباسية للثائرين عليها من العلويين، ومرد ذلك إلى هوان السياسة
وطلب الملك والدولة على هذا الفريق من الفقهاء والنساك وإن ذلك فيما يرون أقل
شانا من أن تراق في سبيله الدماء وأحرى أن يركن بسببه إلى العزلة والانزواء فقد

77
صح أن أبا حنيفة كان يجهر بآرائه في نقد سياسة المنصور وأصحابه نقدا لاذعا يعلن
عن مناوأته للخليفة ولعماله في شدة وطأتهم على العلويين على رؤوس الأشهاد،
حتى قال له بعض أصحابه: " والله ما أنت بمنته حتى توضع الحبال في أعناقنا "،
والواقع أن أبا حنيفة عارض سياسة الأمويين المجافية للدين والمبنية على اضطهاد
العلويين قبل معارضته لسياسة العباسيين فرفض ولاية القضاء في أيام مروان بن
محمد، وضرب وحبس في هذا السبيل، وفي هذا الامتناع الشديد عن ولاية القضاء
في العصرين الأموي والعباسي بعد ذلك ما فيه من الدلالة على تبرمه بالسياسة وعلى
مجافاته للحكام من أمويين وعباسيين، ويعده المؤرخون كافة من الموالين لآل علي،
وكان لخروج زيد بن علي وقتله على الصورة التي قتل فيها - في أيام هشام بن
عبد الملك - أثر عميق في نفسه ومشت بين زيد الشهيد وأبي حنيفة رسل وبعث إليه
بمال وأطلعه على بعض الموانع التي منعته من الخروج.
ومما لا شك فيه أن اغتباط أبي حنيفة كان عظيما بزوال دولة بني أمية وانتقال الأمر
إلى العباسيين، وتروى له خطبة في الكوفة عند بيعة السفاح استقبل فيها الدولة
الناجمة استقبال الولي الناصر، ولم تعرف عنه خصومة لهذه الدولة في أيام السفاح وفي
شطر غير قليل من أيام المنصور، ولما خرج محمد بن عبد الله النفس الزكية بعد مضي
عشر سنوات على بيعة المنصور - وكانت تربط أبا حنيفة بالنفس الزكية رابطة قديمة إذ
كان أبوه عبد الله بن الحسن من أجل أشياخه ظهرت الخصومة بينه وبين أمراء
الدولة العباسية ولم يسعه إلا المجاهرة بآرائه في مناصرة العلويين، لذلك نرى كتب
التاريخ حافلة باخبار سخطه على بني العباس بعد هذه الثورة وبعد مقتل العلويين
الثائرين.
آراؤهم في الخروج على السلطان
وقد عقد الخطيب فصلا عنوانه ذكر ما حكي عن أبي حنيفة من رأيه في الخروج
على السلطان "، وهذا الفصل عبارة عن أحاديث يستنتج منها أن أبا حنيفة يرى
الخروج بالسيف على سلطان زمانه الجائر، وقد ناقش هذه الروايات فريق من
المؤلفين والمحدثين زاعمين أنها روايات واهية الأسناد، وقال آخرون: أنها كذب
وافتراء على أبي حنيفة ودليلهم على ذلك أن فقهاء الحنفية مجمعون على القول بعدم
جواز الخروج على السلطان وإن طاعته واجبة ما لم يأمر بمعصية، ويفهم مما قالوه أن ما
نقله الخطيب في هذا الشأن لا أصل له في مذهب أبي حنيفة.
وممن ناقش الخطيب البغدادي فيما حكاه عن أبي حنيفة وأسند إليه والى أصحابه
أقوالا تنافي الأقوال الواردة في تاريخه وأنكر تلك الأقوال المنسوبة إليه في جواز الخروج
على ولاة الأمور الملك عيسى بن العادل الأيوبي في كتابه: " السهم المصيب " وقد
نقل عن أبي حنيفة قوله " ولا نرى الخروج على أئمتنا وأولياء أمورنا وأن جاروا علينا
وندعو لهم " ثم قال: " واجماع أصحاب أبي حنيفة على ذلك ".
ومن رأي بعض المؤرخين أن هذا القول مرجوح وإن في اجماعهم على محنته ما
يكفي لترجيح قول القائلين بخلاف ذلك، فالمنصور أعقل من أن يؤذي أبا حنيفة
لمجرد امتناعه عن القضاء وإنما اتخذ من هذا الإضراب ومن مواقف أخرى عارض أبو
حنيفة رغبات المنصور ذريعة يتذرع بها لايقاع هذه المحنة، وقد ثبت أن في أعوان
المنصور ووزرائه من يحرض على أبي حنيفة ويثير الخصومة بينه وبين الخليفة ومنهم
الربيع بن يونس وأبو العباس الطوسي والأمير عيسى بن موسى أمير الكوفة الآنف
ذكره وغير هؤلاء.
كان أبو حنيفة وهو في الكوفة يحث الناس على الخروج مع إبراهيم بن عبد الله
ويأمرهم باتباعه ويشجع إبراهيم على الطلب بدم أخيه ويدعوه إلى نزول الكوفة
مهونا عليه أمر عيسى وعمه المنصور، وقد أفتاه على ما يقول هذا الفريق ي أن يسير
معهم سيرة جده مع أهل الشام، وكان بقاؤه في الكوفة - وهي علوية في دعوتها -
خطرا على القوم، ولذلك هم واليها الأمير عيسى بهدر دمه ثم اكتفى بأن
أشخصه من الكوفة إلى بغداد بأمر من المنصور، وتوفي أبو حنيفة سنة (151)
على أصح القولين أي بعد مقتل إبراهيم بن عبد الله بست سنوات، ويجب أن
تكون إقامته هذه المدة ببغداد أو أنه كان يتنقل بينها وبين الكوفة، وفي كيفية
وفاته ببغداد أقوال بيد أن المؤرخين مجمعون على وفاته وهو في المحنة.
هذا ويلاحظ أن مذهب أبي حنيفة في الفقه أصبح مذهب الدولة العباسية في
عصر الهادي والرشيد بعد أن نوهض صاحب المذهب في عصر المنصور، وقد اختير
جل القضاة من بين المنتمين إلى المذهب المذكور، وكان لأبي يوسف صاحب أبي
حنيفة شان يذكر في ذلك حتى قيل: مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان
الحنفي في الشرق والمالكي في الغرب، وكان مرد رغبة كثير من الطلاب بعد ذلك
بدرس الفقه الحنفي إلى تولي المناصب القضائية أو مناصب التدريس.
محنة أخرى
كان المنصور يلاحق من خرج مع محمد وأخيه إبراهيم أو أفتى بجواز الخروج
معهما، وقد أجمعت كلمة المؤرخين على محنة امتحن بها مالك بن أنس المدني صاحب
الموطأ فضرب بالسياط ومدت يداه حتى انخلعت كتفاه وقيل: ضرب سبعين سوطا
في المدينة هذا ما أجمع عليه المؤرخون وأصحاب السير، وفي أسباب هذه المحنة
المتفق عليها أقوال أشهرها فتوى مالك المعروفة في " يمين المكره "، وفي " طلاق
المكره " إذا استفاض في كثير من كتب المؤرخين أن مالكا أفتى بجواز الخروج مع
محمد بن عبد الله وبصحة البيعة له: فقيل له: أن في أعناقنا بيعة للمنصور فقال إنما
بايعتم مكرهين أو قال: ليس على مكره يمين، وقد احتج من احتج بهذا الحكم على
بطلان بيعة أبي جعفر المنصور وبايع أهل المدينة النفس الزكية، وعلى هذا فإن
التحلل من بيعة أبي جعفر المنصور هو المقصود من هذه الفتوى ونفى آخرون عن
مالك الخوض في السياسة والتحريض على السلطان ذاهبين إلى أن هذه الفتوى عامة
لم تقصد بها نازلة أو حادثة بعينها، وهذا الفريق من المحدثين والمؤلفين يذهبون إلى أن
مالكا التزم الحيدة في حرب المدينة بين الأمير عيسى بن موسى مقدم جيش المنصور
والعلويين ومقدمهم النفس الزكية، بيد أن بعض حساد مالك ومثيري الخصومة بينه
وبين المنصور استندوا إلى هذه الفتوى فيما جرى بين مالك ووالي المدينة.
دولة لبني الحسن في المغرب
لم يكون بنو عبد الله بن الحسن الذين خرجوا على بني العباس في صدر دولتهم أو
في خلافة خلفائهم الأول دولة تذكر في المشرق ولا أمهلتهم الأيام أن يقوموا بذلك
وإن قامت لأعقابهم وأحفادهم امارات ودويلات بعد ذلك في بعض ديار العجم
كبلاد الديلم وفي بعض بلاد العرب كاليمن، وإنما قلنا دولة في المشرق لأن بني
الحسن كونوا لهم - والحق يقال - أكثر من دولة واحدة في المغرب الأقصى وفي بلاد
الأندلس، عرفت الدولة الأولى في كتب التاريخ بدولة الأدارسة وعرفت الثانية
بدولة بني حمود من أعقابهم، وقد استندت هاتان الدولتان في قيامهما على حزب لا
يستهان بقوته وشدة مراسه قوامه البربر والمغاربة المراكشيون، وقد نسبت دولة
الأدارسة إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن والى ابنه الذي خلفه في المغرب وسمى
باسمه، ويقال لإدريس ابن عبد الله " إدريس الأكبر تمييزا له عن ابنه الذي يقال له

78
" إدريس الأصغر " كما يقال لكل منهما " صاحب البربر " لأن جل من استجاب
لدعوتهما وشد أزرهما من قبائل البربر - وكان ذلك في عصر هارون الرشيد - وإدريس
الأكبر أو الأول ثاني اثنين من أولاد عبد الله بن الحسن المثنى أفلت من وقعه " فخ "
المشهورة، أما أخوه وهو يحيى بن عبد الله الذي أفلت معه من هذه الواقعة فيقال له
" صاحب الديلم " خروجه على الرشيد في بلاد الديالمة وإن خاب يحيى في حركته
بخلاف أخيه إدريس وأبنائه الذين حالفهم التوفيق في تكوين الدولة الإدريسية.
خيبة صاحب الديلم
تيسر للرشيد احباط حركة يحيى لوقوعها في إقليم غير بعيد عن العراق، وشتان
بين البلاد التي ظهر فيها إدريس - وهي مراكش - وبين بلاد الديلم من هذه الناحية،
لذلك لم يستطيع أن ينشأ ملكا أو دولة كالتي أنشأها الأدارسة.
كان ساعد الرشيد في احباط حركة صاحب الديلم الناجمة في المشرق وزيره أبو
الفضل بن يحيى، وهو وزير عرف بحنكته وكياسته واجتنابه سفك الدماء وميله إلى
حل المعضلات سليما، فلما ندب الرشيد وزيره المذكور إلى قتال هذا العلوي الثائر
استماله وأقنعه بالتسليم بشروط، منها أخذ الأمان له بخط الرشيد في حادثة مشهورة
يظهر منها أن يحيى عاش في عاصمة الرشيد بعد تسليمه عيشة أمرائها المرفهين مدة ثم
مات مسموما، وفي رواية ابن الأثير حبسه فمات في الحبس بعد أن أفتاه بعض فقهائه
بان أمانه منقوض، هذا وليحيى بعد ذلك ضلع في التاريخ والعلم بالأنساب
والأيام، ومناظراته مع بعض خصومه في مجلس الرشيد تدل على ذلك.
ولصاحب الديلم حديث مع الإمام موسى بن جعفر في الموقف الذي يجب أن
يقفه العلويون من الدولة العباسية في هذا العصر، وقد تبودلت بينهما رسائل طريفة
وهذه الرسائل صريحة جدا في الخلاف الناشب بين هذين البطنين من العلويين في
هذا الباب، وقد نهاه فيها الإمام موسى بن جعفر عن الخروج على هارون الرشيد
وأوصاه بالإخلاد إلى السكينة، ويقول أحد شراح أصول الكافي: يكثر الزيدية من
الثناء على يحيى ويروون أنه فيمن أوصى إليه جعفر بن محمد بعد ابنه موسى
الكاظم، وليحيى ذكر في بعض معاجم الرجال وأصحاب الحديث.
ورثة الحضارة الأندلسية
بدأت دعوة الأدارسة في مراكش أو المغرب الأقصى سنة 170، وفي قول بعد
ذلك بقليل، وجل أنصارها من البربر الذين استجابوا لدعوة إدريس الأكبر ثم بايع
البربر ابنه إدريس الأصغر، وهو أول من بويع بالخلافة من بني إدريس بيعة عامة في
البلاد المذكورة، وقد خلفه من خلفه من أبناء إدريس الأكبر وأحفاده، والخلاصة:
عبثا حاول الرشيد وأد هذه الحركة الإدريسية بدس السم لإدريس الأكبر فان أولاده
خلفوا أباهم في تلك البلاد فعاشت هذه الدولة رغم إرادة بني العباس، ويقول ابن
بسام - (542) - في معرض ذكره لبني الحسن وأسباب خروجهم إلى المغرب ما هذا
نصه - " بلغني أن عقبهم إلى اليوم هنالك ".
وإمارة الأدارسة المعروفة أخيرا في عسير شرقي اليمن أنشأها بعض ذراري
الأدارسة المعروفين في البلاد المغربية وكانت بين بني الحسن في المغرب وبني الحسن في
المشرق - وهم أئمة الزيدية في اليمن - مراسلات.
مقارنة بين الدولتين الفاطمية والإدريسية
عاشت دولة الأدارسة مدة تناهز مائة وثمانين سنة، وقد ناوءت الدولة
الفاطمية الإسماعيلية هؤلاء الأدارسة في أواخر أيامهم واستولى القائد جوهر على
عاصمتهم فاس سنة 347، وكان الفاطميون أنبه ذكرا وأبعد مغادا حتى أن دولة
الأدارسة التي استولت على المغرب كانت خاملة الذكر بالنسبة إليهم، ومرد ذلك إلى
انزواء الأدارسة في المغرب الأقصى واقتصارهم على الدفاع عن أنفسهم ومملكتهم
وخوفهم من بني العباس بخلاف دولة الفاطميين التي غزت المشرق وهددت بني
العباس في عقر دارهم وأزالت دولتهم من مصر والشام، إلى غير ذلك مما لم يحلم به
الأدارسة، ومع ذلك لا ينكر فضل هؤلاء الأدارسة على المغرب الأقصى أو مراكش،
ففي عهدهم قطعت هذه البلاد شوطا بعيدا في مراحل الحضارة، ومن مظاهرها
تأسيس المدن الكبيرة.
لا شك أن المدن الكبرى في المغرب الأقصى - وفي مقدمتها " فاس " وهي مدينة
الأدارسة، " ومكناس " و " سلا " و " تطوان " وغيرها من آثارهم أو ملحقات
مملكتهم - تعد وارثة الحضارة الاسلامية في الأندلس، وأهلها - أعنى أهل هذه المدن
المغربية - يمثلون مسلمي الأندلس في عاداتهم وأطوارهم وثقافتهم، وتعد مدينة
فاس معقل الثقافة الإسلامية في المغرب وبها جامع القرويين المشهور يؤمه طلاب
العلم من سائر انحاء البلاد.
عارف الحر
ولد في جباع جبل عامل سنة 1910 م وتوفي فيها سنة 1971 م درس
دراسته الأولى في جباع ثم انتسب في بيروت إلى مدرسة الشيخ أحمد عباس، ثم
اشترك في دورة لتدريب المعلمين تخرج منها سنة 1930 فعين معلما فتنقل في
وظيفته في عدة قرى إلى أن استقر سنة 1960 في صيدا. وساهم مع فريق من
أدباء جبل عامل في انشاء (الرابطة الأدبية العاملية).
ومن شعره قوله:
هذي فلسطين قد عاث اللئام بها * وجرعوها من الارزاء ألوانا
لا متع الله طرفا بالرقاد إذا * لم يكحل الفوز بالآمال أجفانا
ولا تمتع قلب بالحياة إذا * لم يقطف النصر يوم الثأر ريانا
وقوله في ثوار المغرب العربي:
دم في السفوح دم في الربى * تبارك عطرا وما أطيبا
وما ذاك عن شهوة للدماء * تلون حلما لها مرعبا
وليس انتشاء ولكنني * تنسمت في عطره يعربا
تنسمت ريح الجلاد الأبي * ونار الكفاح ومن ألهبا
دم لون الأفق من زهوه * وروى البطافما اخصبا
فقل للعتاة وللغاصبين * دماء التحرر لن تنضبا
وقوله في أحد حكام العرب:
يا حاكما بك يلعب الدولار * أضرمتها فعدت عليك النار
رق بطبعك لا يرى حرية * لبلاده يحيا بها الأحرار
فاملأ كؤوسك من نجيع شبابنا * واطرب فانات الورى مزمار
وارقص على جثث الضحايا نشوة * فكان ناعية القبور هزار
يا محرق الأوطان يرضي طبعه * نيرون قبلك أطربته النار
وقال:
يا ذكي المسك في أنفاسه وشبيه الغصن في مياسه
صورة الوجه أرتنا سورة * جمعت جمرته مع آسه
غارت النجمات من سحر العيون * واطل السحر من بين الجفون

79
وعيوني نبعت منها عيون * صب منها الشوق صهبا كأسه
حدثت عنك ورود زاهرة * وروت عنك بدور باهرة
بهوانا والمزايا طاهرة * رفع الزنبق عالي رأسه
كم روى عنا نسيم السحر * من حديث كان عطر الزهر
اطرب العشاق صدق الخبر * عن هوى يقرع في أجراسه
وقال شاعر في بلدة جباع وأهلها:
يا بلدة ضحكت فيها اقاحيها * خلت السماء لها أهدت دراريها
جميلة هي لولا قبح أهليها * شرطي لأدخلها اخراج من فيها
فرد عليه المترجم قائلا:
(يا بلدة ضحكت فيها أقاحيها) * كان قطعة فردوس زواهيها
بحسن آياتها غنت شواديها * (خلت السماء لها أهدت دراريها)
ما ضرها قول غر خابط تيها * (جميلة هي لولا قبح أهليها)
كهجو إبليس خلدا قول هاجيها * (شرطي لأدخلها اخراج أهليها)
وقال:
يا صادحا فوق عود * أحييت ميت وعودي
ردد فنون نشيدى * وهز أوتار عودي
وانشر حديث هوانا * وانفح بعطر ورودي
وردت عذب الأماني * فطاب اهنى ورودي
أحلامنا زاهيات * ألوانها بالخلود
ماست عروسة شعري * تهز قلب الوجود
قل للحبيبة عني * عودي لعهدك عودي
أيام كان نعيمي * يطيب بين النهود
قل للتي عاهدتني * ولم توفي عهودي
صوني فراشة صدري * هامت بنار الخدود
أطلت ليلي وصبحي * أراه تحت الجعود
حتى م تكوين قلبي * بميسم من صدود
وقال في بعض الأحداث التي تفاءل فيها بجميع شمل العرب:
كادت لهاة اللسن تنكر ضادها * وقلوبهم لا تستبين رشادها
هي أسرة لعب الزمان بمجدها * فسعى ليلطم في السباق جوادها
نسب العروبة فيه أعرق " نجدها " * " مصرا " وحيت " شامها " " بغدادها "
فالأم روعها الزمان بشملها * في نكبة قد شتت أولادها
وأباح منعتها لصولة فاتح * بعد السيادة أحكم استعبادها
ما عاسفت حكم القضاء وما ونت * عن رد ما تحيي به أمجادها
وأعانها طبع الليالي أنها * غير فكم جلى البياض سوادها
أما القلوب فلم تزل خفاقة * بهوى مفاخر تبتغي استردادها
وحمية الآناف باق عرقها * فيها العرائن أيقظت آسادها
ومشاعر الأشواق سعرها الجوى * حال الشتات فحركت أكبادها
وتقاربت تلك العواطف كتلة * خفاقة هز الشعور فؤادها
فغدت سويداء (الجزيرة) (مصرها) * والشام من عين العراق سوادها
آمنت في بعث الحياة أما ترى * هذي العروبة آذنت ميعادها
قومية العرب الكرام تآزرت * عضدا يحطم عزمه أصفادها
طويت حناياها على الشوق الذي * فتح العيون فلا تمل سهادها
لم لا يهيج حنينهم وقلوبهم * شطرت فلم تطق الضلوع بعادها
ذاك الشتات كسا الأعزة ذلة * فسقتهم نوب الزمان حدادها
وتجمع الاخوان بعد تفرق * حالت ماتمهم به أعيادها
فإذا فرقت الناي عن اخوانه * لم يصر ساحر فنها إنشادها
ورأيت جامعة الأزاهر جنة * فيحاء هز هزارها ميادها
والناس ما فاقوا الخلائق غير في * جمع الحواس فأصبحوا أسيادها
تلك " الثريا " ما تنظم عقدها * إلا لتسبيح الثرى عقادها
لا تحسبوا ان العروبة أسلمت * أبدا إلى حكم الزمان قيادها
لا تنكروا وعي العقول فإنها * عافت على نور الصباح رقادها
فلأسرة الضاد الكريمة مجمع * أحيت به أمم العروبة ضادها
ووشائج القربى تشد قلوبهم * نسبا به توفي القلوب ودادها
تترقب الدنيا رسالة مجدهم * نور الترفع للسماك عمادها
عباس اقبال الآشتياني
ولد في مدينة آشتيان (إيران) سنة 1314 وتوفي في روما سنة 1374 ودفن
في طهران.
ولد من أبوين كادحين، فقد كان أبوه نجارا في مدينته وقد فرض على ابنه
الاشتغال معه في مهنة النجارة، ولكن تلهف الولد للعلم وهوايته للأدب
شجعاه على الاقبال على تلقي مبادئ القراءة والكتابة أثناء فرصة فراغه و تعطيل
العمل. وبعد أن أتم دراسته الأولية على هذا المنوال في كتاتيب " آشتيان "
انتقل إلى طهران والتحق بمدرسة (دار الفنون). فنال منها شهادة الدراسة
الثانوية ثم عين معاونا لمدير مكتبة المعارف التي كانت ملحقة بهذه المدرسة
بالإضافة إلى تولية تدريس الأدب الفارسي في المدرسة نفسها، ثم عين أستاذا
للأدب الفارسي في (دار المعلمين) العالية وأستاذا للتاريخ والجغرافيا في كل من
كلية الحقوق والعلوم السياسية والكلية العسكرية.
وفي عام 1345 انتخب سكرتيرا للبعثة العسكرية التي أوفدت من قبل
حكومة إيران إلى باريس، فاستطاع فيها أن يلتحق بكلية الآداب في جامعة
(السوربون) وأن يثابر على تحصيل العلم خلال مدة أدائه واجبات السكرتارية
للبعثة المذكورة، فحصل منها على شهادة الليسانس في الأدب واللغة كما اتقن
أيضا اللغة الفرنسية في باريس التي أخذ يراسل منها بعض المجلات الإيرانية في
طهران كمجلة (دانكشده) ومجلة " فروغ تربيت " وغيرهما التي صارت تنشر له
المقالات الاجتماعية والتربوية.
ولما عاد إلى طهران عين أستاذا في جامعتها وعضوا في مجمع اللغة الإيرانية
(فرهنگستان) كما أشرف على شؤون مجلة " يادكار " التاريخية الأدبية الشهرية
التي كانت تنشرها (دار اطلاعات) للطباعة والنشر ذلك اعتبارا من أول عدد
صدر منها سنة 1365 حيث استمر صدورها مدة خمس سنوات كاملات وبعد
احتجاب مجلته هذه انتخبته الحكومة الإيرانية ملحقا ثقافيا لها في كل من تركيا
وإيطاليا فغادر طهران وبقي يشغل هذه الوظيفة حتى وافته المنية في مدينة
(رومة) بإيطاليا.

80
إن إكباب عباس اقبال آشتياني على التحقيق العلمي والتتبع الأدبي والدراسة
المعارفية حتى آخر لحظة من حياته كان معروفا لدى عارفي فضله والمقربين منه
وكان لا يالو جهدا ولا يترك فرصة تمر به دون أن يستغلها لتحقيق موضوع أو
تأليف كتاب أو تصنيف رسالة.
هوايته الكتب والبحث علميا وأدبيا وتاريخيا وكانت داره مفتوحة الأبواب
لأصحابه ورفاقه من رجال الفضل فيستقبلهم في مكتبته الحافلة بأنفس
الكتب من خطية ومطبوعة، عربية وفارسية وبعض المؤلفات الفرنسية،
وداره كانت في الحقيقة ندوة يلتقي فيها رجال الفضل والعلم والأدب،
وكان هو قطب الرحى في هذه الاجتماعات العلمية واللقاءات الأدبية.
لقد ترك المترجم مجموعة قيمة من المؤلفات وكثيرا من الكتب والرسائل التي
طبع معظمها إما في إيران أو في خارجها وبعضها لا زال مخطوطا، كل ذلك
بالإضافة إلى مقالاته الأدبية والتاريخية والاجتماعية التي ملأت صفحات
المجلات والصحف.
ومن تاليفه المطبوعة وكلها باللغة الفارسية هي:
1 - وزارت در عهد سلاطين بزرگ سلجوقي. 2 - شرح حال عبد الله بن
المقفع. 3 - قابوس وشمگير زياري. 4 - تاريخ مفصل إيران أزاستيلاى مغول
تا مشروطيت. 5 - كليات در علم جغرافي. 6 - تاريخ اكتشافات جغرافيائي
وتاريخ علم جغرافيا. 7 - كليات جغرافياى اقتصادي. 8 - مطالعاتي
درباره بحرين وسواحل خليج فارس. 9 - تاريخ إيران (في ثلاثة مجلدات
للمدارس) 10 - تاريخ عمومى (في ثلاثة مجلدات للمدارس أيضا) 11 -
جغرافياى عالم في ثلاثة مجلدات كذلك للمدارس) 12 - جغرافياي اقتصادي
(مجلد واحد مختص بالمدارس الثانوية) 13 - خاندان نوبختي (وهو من أهم
كتبه التاريخية).
هذا مضافا إلى الكتب العربية والفارسية التي حققها وأشرف على طبعها
وكتب لها المقدمات المستفيضة وأضاف عليها الشروح والتعليقات الوافية وهي:
1 - حدائق السحر في دقائق الشعر - بالعربية، لمؤلفه الوطواط
2 - بيان الأديان - بالعربية، لأبي المعالي محمد الحسيني العلوي.
3 - بيست مقالة - بالفارسية، للعلامة محمد القزويني.
4 - معالم العلماء - بالعربية، لابن شهرآشوب.
5 - تبصرة العوام في معرفة مقالات الأنام - بالعربية، للسيد المرتضى ابن
الداعي الحسين الرازي.
6 - تجارب السلف بالعربية، لهندو شاه بن سنجر النخجواني
الصاحبي.
7 - تتمة اليتيمة بالعربية، لأبي المنصور الثعالبي.
8 - الشاهنامة - بالفارسية، للفردوسي.
9 - طبقات الشعراء في مدح الخلفاء والوزراء بالعربية، لابن المعتز.
10 - ديوان أمير معزي بالفارسية.
11 - لغت فرس - بالفارسية، للأسدي الطوسي.
12 - تاريخ طبرستان - بالعربية، لبهاء الدين محمد بن الحسن ابن
اسفنديار الكاتب.
13 - سياست نامه - بالفارسية للخواجة نظام الملك.
14 - كليات عبيد زاكاني - بالفارسية.
15 - رجال حبيب السير بالفارسية.
16 - أنيس العشاق - لشرف الدين الرامي.
17 - تاريخ نو بالفارسية، لجهانكير ميرزا.
18 - روزنامة ميرزا محمد كلانتر فارس - بالفارسية.
19 - جنك إيران وانكليس - بالفارسية تاليف الكابتن هيت وترجمة حسين
سعادت نوري.
20 - شد الإزار في حط الأوزار عن زوار المزار - بالعربية لمعين الدين الجنيد
الشيرازي.
21 - سمط العلى للحضرة العليا - بالعربية، لمؤلفه ناصر الدين منشى
الكرماني.
22 - مجمع التواريخ... بالفارسية، لميرزا محمد خليل المرعشي
الصفوي.
23 - ترجمة محاسن أصفهان - بالفارسية، للسيد حسين بن محمد ابن أبي
الرضا آوى.
24 - مجموعة مراسلات ديوان السلطان سنجر، لمنتخب الدين أتابك
الجويني.
25 - المضاف إلى بدايع الأزمان في وقائع كرمان، تأليف حميد الدين
الملقب بأفضل كرمان.
26 - فضائل الأنام من رسائل حجة الاسلام الغزالي - بالفارسية.
27 - شرح حال عبد الله ميرزا ملك آرا - بالفارسية، لعبد الحسين
نوائي.
وإضافة لهذا كله فقد قام بترجمة الكتب التالية وطبعها ونشرها:
1 - مذكرات الجنرال تره زل مبعوث نابليون إلى الهند.
2 - مهمة الجنرال " غاردان في إيران ".
3 - طبقات سلاطين الإسلام - تأليف استانلي لين بول.
4 - (سيرت فلسفي رازي) وهو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي.
5 - سه سال در دربار إيران للدكتور فوريه.
وأول كتاب أصدرته له المطابع هو كتاب (قابوس وشمگير زياري) الذي
طبع في برلين سنة 1342 وآخر أثر طبع له هو: (فضائل الأنام من رسائل
حجة الإسلام الغزالي)، وقد طبع في طهران سنة 1374 هجرية أي قبل وفاته
بأشهر.
" ملخص عن مقال للسيد صالح الشهرستاني ".
السيد عباس أبو الحسن ابن السيد مهدي
ولد سنة 1331 في بلدة معركة وتوفي سنة 1392 في بلدة الغازية (جبل
عامل) ودفن فيها قرأ في جبل عامل على بعض فضلائه ثم انتقل إلى النجف
الأشرف سنة 1353 وكان معظم دراسته فيها على الشيخ محمد رضا آل ياسين
ثم عاد سنة 1369 إلى جبل عامل فأقام في بلدته معركة بضع سنين ثم انتقل إلى
بلدة الغازية وبقي فيها حتى وفاته وكان قد عين قبل سنتين من وفاته مفتيا لمنطقة
بنت جبيل.

81
كان خطيبا جريئا صداعا بالحق مناصرا لكل عامل مخلص أوله من المؤلفات
كتاب الإمامة والأئمة (مطبوع) وثلاثة كتب لا تزال مخطوطة. وله شعر منه:
قوله في مدح أمير المؤمنين عليه السلام من قصيدة:
بسرك صنو المصطفى يدفع الضر * وفيك لنا السلوى إذا استفحل الأمر
وفي آلك الغر الميامين عصمة * إذا ما دهانا معضل وطغى عسر
ففيكم لمن يبغي الوقاية جنة * من الغم والعاني له الغوث والذخر
وأنتم لمن يشكو الخصاصة وفره * وأنتم لذي كسر إذا مسه جبر
وأنتم لوراد الشريعة منهل * ترقرق من حافاته النور والتبر
أبا حسن يا خير من وطئ الثرى * وخير بدور حلقت فيهم فهر
لئن كان غيري يكتم الحب خشية * فديني باثراء المديح لك الجهر
وان كان يوما قد أعد ذخيرة * فأنت لي المأوى وأنت لي الذخر
فأنى تبارى بالفضائل والعلى * وللمصطفى قد شد في بأسك الأزر
وأنت لواء الله في كل موقف * يرفرف فوق المسلمين به النصر
ومن قصيدة في رثاء الشيخ حسين مغنية المتوفى سنة 1359:
تقوض للهدى منه البناء * أم احتجبت عن الدنيا ذكاء
أم الندب الحسين قضى فعجت * لعظم الخطب بالندب السماء
لك الصدر الرحيب بكل ناد * لك الرأي المصيب لك العلاء
فمن للدين بعدك مستغاث * ومن للمجد بعدك مستضاء
ومن قصيدة في رثاء الشيخ محمد رضا آل ياسين المتوفى في النجف سنة 1370:
هززت كيان الشرع يا ناعي الهدى * رويدا فأرواح الأنام له الفدا
أتنعى عمادا يامن الحق عنده * وعنه حديث الفضل يرويه مسندا
وكم فاضل غمت عليه أصوله * يؤوب إذا ما آب منه على هدى
وناشد حق لم يجد غيره حمى * يلوذ بمغناه وان بعد المدى
فان ارثه ارث الفضائل والنهى * وان ابكه ابك الإمامة والهدى
وابك نصوحا كان يمنحني العلى * وينشئني فضلا وخلقا وسؤددا
ومن قصيدة في رثاء السيد أبو الحسن الأصفهاني المتوفى سنة 1365:
في ذمة الدهر ان يقضي أبو حسن * ويثكل الشرع والاسلام والجود
وهو المدير رحى العليا بهمته * والعلم في يمنه والعطف مرصود
ومن قصيدة أرسلها إلى رفيقه في الدراسة في النجف السيد علي مهدي
الأمين حين عاد السيد علي إلى جبل عامل سنة 1358:
لقد غبت يا ابن الأكرمين ولم يغب * مثالك عنا بل ولا خلقك العذب
وسرت عزيزا فالفضائل جمة * تزينك والآداب والراجح اللب
ثوان خلسناها من الدهر فانقضت * كما ينقضي للواله الأمل الخصب
أترجع يوما يا علي زواهيا * وعيش لنا رغد وناديكم رحب
حنانيك يا ابن الأكرمين ترفقا * بقلب أخ اضناه من نايك الكرب
ولا غرو ان أضحيت فينا مميزا * فقد عرقت فيك الغطارفة النجب
الشيخ عباس القمي ابن محمد رضا
ولد في قم حوالي 1290 وتوفي في النجف الأشرف سنة 1359.
قرأ مقدمات العلوم وسطوح الفقه والأصول على عدد من علماء قم. وفي
سنة 1316 هاجر إلى النجف فاخذ عن علمائها لا سيما الميرزا حسين النوري.
وفي خلال اقامته في النجف ذهب إلى الحج ومن هناك عاد إلى قم فأقام فترة ثم
عاد إلى النجف. وفي سنة 1322 عاد إلى إيران وأقام في قم وانصرف إلى
البحث والتاليف. وفي سنة 1331 نزل مدينة مشهد الرضا واتخذها مقرا دائما
له. ولما أقام الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري في قم وأنشأ فيها الحوزة العلمية
كان المترجم من مناصريه والملتفين حوله. وفي أواخر حياته انتقل إلى النجف و
أقام فيها حتى وفاته، وكان قد كف بصره.
مؤلفاته
من مؤلفاته: 1 - الكنى والألقاب في ثلاثة اجزاء 2 - وقائع الأيام 3 -
مقاليد الفلاح في اعمال اليوم والليلة 4 - تحفة الأحباب في نوادر آثار الأصحاب
5 - الفوائد الرضوية في أحوال علماء الجعفرية 6 - طبقات العلماء قرنا قرنا.. لم
يتم 7 - شرح الوجيزة للشيخ البهائي 8 - تتمة المنتهى في وقائع أيام الخلفاء 9 -
مفاتيح الجنان في الأدعية والزيارات وهو أشهر مؤلفاته 10 - سفينة البحار وغير
ذلك.
الميرزا عباس الشيرازي الوارابي، المعروف ب‍ (حكيم عباس) توفي في شيراز
سنة 1300
من أساتيذ الفلسفة في شيراز، تلمذ على الحكيم السبزواري، ومن
تلاميذه: الشيخ أحمد الشيرازي النجفي المعروف ب‍ (شانه ناز) والميرزا إبراهيم
التبريزي، وهما من مدرسي الحكمة في شيراز.
له حواش على كتاب الأسفار، وله شرح دعاء كميل، وشرح لقصيدة
المير فندرسكي المعروفة.
الشيخ عباس القرشي
مرت ترجمته في موضعها من الأعيان، وتأتي دراسة عنه في
المستدركات. وقد تبين أنه جمع مختارات شريعة لعدد من الشعراء وجدت
مخطوطتها في دار الكتب الظاهرية بدمشق فحققها خير الدين منصور قبلاوي
ونشرتها وزارة السورية سنة 1997 فكتب عنها سعادة سوداح ما يلي:
لم يكتف علماء اللغة ورواة الشعر القدامى بجمع قصائد الشعراء في
دواوين خاصة بكل شاعر، ولا حتى بجمع قصائد شعراء القبائل، بل عمدوا
- أيضا - إلى تصنيف مختارات شعرية تضم ما أعجب كل واحد من أصحاب
هذه الاختيارات من قصائد كاملة أو أبيات منتقاة، تدل جميعا على نظرة
صاحب الاختيار إلى الشعر الجدير بالتذوق والقراءة. ولعل أقدم كتب
الاختيارات هي ما قام " الاصطفاء فيه على إثبات عدد كثير أو قليل من
القصائد الجياد المطولة بتمامها، وهو اختيار مطلق، لا تصنيف فيه، أو
ترتيب " مثل " المفضليات " لأبي العباس المفضل بن محمد الضبي (توفي سنة
138 ه‍.) و " الأصمعيات " لعبد الملك بن قريب الأصمعي (سنة 216 ه‍).
وقد سيق ظهور هذا النوع من الاختيارات، ظهور مجموعات المعلقات
التي كان الأصمعي، ضمن المعلومات المتوافرة حتى الآن، أول من جمعها
وشرحها في كتاب له بعنوان " القصائد الست " كما ذكر ابن النديم في
" الفهرست ". ونقل أحمد بن محمد النحاس في كتابه " شرح القصائد التسع
المشهورات " عن الأصمعي في ما يقرب من مئة وخمسين موضعا. ولذلك فإن
من غير الثابت ما ذهب إليه محقق " حماسة القرشي " حين قال " ولعل أقدم كتب
الاختيارات هي المعلقات ". إلا إذا كان يقصد بذلك اختيارها للتعليق على
أستار الكعبة كما ذكر ابن عبد ربه في " العقد الفريد "، وهي رواية يتحفظ
عليها قبلاوي نفسه.

82
وهناك نوع ثان من المختارات " يكتفي بإثبات الأبيات الجميلة القليلة أو
الكثيرة، المنتقاة من كل قصيدة. ومن هذه المختارات ما هو مبوب على
الموضوع أو الفن الشعري، ومنها ما هو مبوب على المعاني الجزئية، فهو
اصطفاء مقيد ومتعدد، يلتزم تصنيفا وترتيبا معينا ". وأطلق على هذا النوع من
المختارات اسم " الحماسيات "، لغلبة هذا الاسم عليها، وأقدم ما عرف منها
هو حماسة الشاعر أبي تمام الطائي (231 ه‍).
ولأن القرشي النجفي لم يسم اختياراته التي بين أيدينا، فإن المحقق لم
يتردد في إطلاق اسم " الحماسة " عليها، معللا ذلك بأسباب منطقية منها:
* جعل النجفي أول أبواب كتابه باب الفخر والحماسة، وهو الباب
الأول أيضا في حماسة أبي تمام، وإن كان زاد على الأول كلمة الفخر.
* إن تسمية الشئ بأوله معروفة مقررة، فقد سميت فاتحة الكتاب
الكريم بسورة " الحمد "، وسميت سورة " الإسراء " كذلك بسورة " سبحان "
كما أشار جلال الدين السيوطي في كتابه " الإتقان في علوم القرآن ". وكثيرا
ما تسمى القصائد بمطالعها، فيقال عن معلقة امرئ القيس، قصيدة " قفا
نبك " وعن قصيدة كعب بن زهير في مدح الرسول (ص)، قصيدة " بانت
سعاد ".
وإلى ذلك فإن النجفي صنف كتابه على عشرة أبواب تتفق تسمية أكثرها
مع تسمية أبواب " الحماسة " لأبي تمام. فهي عند النجفي: في الفخر
والحماسة، في المراثي، في النسيب، في المديح، في الهجاء، في الأدب، في
العتاب، في الأوطان، في الصفات، في الخمر.
ويشير المحقق إلى أنه " على الرغم من الاختلاف في تسمية الباب الثامن
والتاسع والعاشر، وفي ترتيب بعض الأبواب الأخرى، فإننا نلحظ أن
النجفي قصد اتباع سبيل أبي تمام، والسير على نهجه، وأراد أن يؤلف حماسة
فيها مختارات شعرية مرتبة ومبوبة حسب ترتيب وتبويب أبي تمام في مختاراته ".
كما يشير إلى أن " مصنف فهارس المخطوطات الأدبية في دار لكتب الظاهرية
(الدكتور عزة حسن)، سمى الكتاب بحماسة النجفي دون تردد، وأشار إلى
ذلك بوضع اسم الكتاب ضمن قوسين ".
ويبلغ عدد اختيارات النجفي في كتابه هذا 422 اختيار كلها مقطعات لا
يتجاوز عددها البيتين أو الثلاثة، إضافة إلى بعض القصائد التي بلغ عددها في
جميع الأبواب تسعا وثلاثين قصيدة، ويعتبر المحقق، في هذا المجال، أن هم
النجفي لم يكن الرواية والجمع، ولكن التخير والانتقاء " ولعله لم يغال حين
اقتصر في اختياره على مقطعة تتكون من بيتين أو ثلاثة أبيات، إذ أنه لم
يقتطعها من صلتها، ويفردها من دونها بالإثبات، وإنما حرص على أن يكون
للبيتين أو للثلاثة معنى مستقل، يمكن أن يفهمه القارئ فهما كاملا، فلا
يحس أنه مقتطع أو منبت، وهذه مزية طيبة حفظت للحماسة قيمتها
وحسنها ".
أما الشعراء الذين اختار لهم النجفي فهم من قدامي الشعراء الجاهليين
والإسلاميين والعباسيين. المكثرين أو المقلين، المشهورين أو المغمورين، وإن
كانت الأغلبية العظمى منهم تنتمي إلى العصر الإسلامي. وقد تكررت أسماء
شعراء بعينهم من أمثال الأحوص، وعبيد الله بن عتبة، والعباس بن
الأحنف، والفرزدق، وإبراهيم بن العباس الصولي.
ويرى المحقق أن الفكرة التي كانت تسيطر على النجفي في الاختيار
وتوجهه إليه " هي الجودة ولا شئ غيرها، الجودة في كل عصر، ومن كل
شاعر مهما كانت منزلته ونوازعه ومذاهبه... أما رائده الثاني فهو الجمال،
ولا شك أن الجمال كثيرا ما يقترن بالجودة... وإضافة إلى ذلك فقد راعى
المصنف في انتقائه اختيار المعنى السامي، والتعبير المبتكر اللطيف، والصورة
المعبر الجديدة، والخاطرة الرائعة، واللفظ السهل الواضح القريب ".
وفي سياق تقييم حماسة القرشي بين سائر الأعمال من صنفها يرى
قبلاوي أنها " حلقة لها مكانتها وأهميتها بين كتب الحماسيات. إضافة إلى أنها
تمثل مرحلة تطور ونمو لفكرة المختارات الحماسية التي تعيش في الأذهان
دائما، وكأنها الصورة المثلى للمختارات الشعرية. والحماسة بعد أوسع أفقا من
الديوان الشعري، لتنوع موضوعاتها، وتعدد شعرائها، فتصويرها للحياة الفنية
والاجتماعية أكمل وأدق ". وصاحب هذه الاختيارات هو الشيخ عباس ابن
الشيخ محمد بن عبد علي ابن الشيخ على ابن الشيخ محمد ابن الشيخ
مسعود بن عمارة القرشي العميري الربعي النجفي. وهو ينتمي إلى أسرة
معروفة في مدينة النجف، ترجع في نسبها إلى ربيعة من فخذ كان يعرف
بالجعافرة، وهم بطن من بني عامر بن صعصعة، وهم بنو جعفر بن
كلاب بن ربيعة بن عامر، والعامريون بطن من كنانة بن خزيمة من
العدنانية.
ولد النجفي في المدينة التي ينتسب إليها، في أوائل القرن الثاني عشر
الهجري، كما يرجع المحقق. وقد عرف خصوصا برحلاته الكثيرة
المتواصلة، فقد جاب البلاد وطاف " إيران ودخل خراسان والشام وحلب
والقسطنطينية... ووصل إلى جبل عامل وسافر إلى الحجاز ومصر...
وجاب بلاد العراق، وساحل فلسطين، وأقام مدة في حلب " إلى أن توفي فيها
سنة 1299 ه‍ / 1878 م، ودفن في مقبرة العبادة قرب باب الفرج في وسط
المدينة.
والمخطوطة التي اعتمدها المحقق في عمله موجودة في دار الكتب
الظاهرية بدمشق. وما يزيد من قيمتها أنها بخط المؤلف نفسه لقوله في خاتمتها
" تم بحمد الله تعالى في قرية جبع بقلم مرتبه الحقير المذنب الجاني عباس
القرشي النجفي، وقد وافق الفراغ منه غرة ذي الحجة سنة ست وثمانين
ومائتين بعد الألف من الهجرة النبوية ". وهي منسوخة بخط جيد، إذ كان
المؤلف خطاطا ماهرا، " ويندر فيها الطب أو التصحيح أو التصحيف، عني
ناسخها بها عناية فائقة، وهي مشكولة باللون الأحمر، كما كتب أول القصائد
باللون الأحمر بالخلط نفسه، أما أسماء الأبواب، فقد كتبها بالخط الثلث
الكبير ". وهذا دفع المحقق إلى القول: " وهذه المزايا الجيدة التي تتصف بها
المخطوطة، تجعلها نسخة أصلا معتمدة، يركن الباحث إلى نسبتها، لتوفر خير
الأدلة، وهو اعتراف صاحبها ".
السيد عباس الهمذاني الشيرواني
مرت ترجمته في الصفحة 432 من المجلد السابع باسم السيد عباس
الهمذاني الشيرواني. ولكننا وجدنا آغا بزرگ يسميه: الشيخ محمد عباس
الشيرواني. وكذلك جاء في (الأعيان) تاريخ وفاته سنة 1256 ولم يذكر تاريخ
مولده. وآغا بزرك يقول إن آخر تاريخ لطبع كتبه في حياته كان سنة 1309
فوفاته بعد هذا التاريخ، وأن مولده سنة 1241. ونحن لا نستطيع الحكم على
أحد الرأيين بما بينهما من التباين البعيد ولكن كان لا بد لنا من وضع هذا الرأي
أمام القارئ تحريا للحقيقة.
وقد وردت التفاصيل الآتية عن حياته:
كان جده الميرزا إبراهيم وزيرا للسلطان نادر شاه ولما عزله سكن النجف
وكان والده محمد علي خان مستوفي الممالك فقتله نادر شاه ففر ولده محمد تقي
إلى شيروان وأبدل اسمه فسمى نفسه (الشيخ محمد الشيرواني) ثم سافر إلى

83
الهند فهبط بنارس أولا ثم لكنو، ثم هبط اليمن فولد له فيها ابنه الشيخ أحمد
ولذلك يعرف باليماني وسكن الشيخ أحمد مدينة كلكتة من بلاد الهند سنة
1220 ثم هبط لكهنو فولد فيها المترجم سنة 1241.
السيد عبد الحسين دست غيب
ولد سنة 1332 في شيراز واغتيل فيها سنة 1402 وهو في طريقه بالسيارة
إلى إقامة صلاة الجمعة بتفجير عبوة ناسفة قضى على اثرها هو وجماعة من
مرافقيه.
كانت دراسته الأولى في شيراز ثم في النجف الأشرف فحضر على كبار
علمائها ثم عاد للإقامة في شيراز.
كان له موقف مقاوم للسلطات الحاكمة وفي العام 1398 حوصر في منزله
وعطل المسجد الجامع الذي كان يقيم صلاة الجماعة فيه واعتقل هو وسجن
ونفي.
وبعد نجاح الثورة الاسلامية كان من أعضاء مجلس الخبراء الذي وضع
الدستور الإيراني الجديد.
له من المؤلفات: حقائق من القرآن، شهر الله، الصديقة الكبرى، سيد
الشهداء، اثنان وثمانون مسالة، شرح الرسائل، شرح الكناية وغيرها.
الشيخ عبد الحسين الأميني ابن أحمد
ولد سنة 1320 في تبريز وتوفي سنة 1390 في طهران ودفن في النجف بدأ
دراسته في تبريز ثم انتقل إلى النجف الأشرف حيث حضر على السيد محمد
الفيروزآبادي والسيد أبو تراب الخونساري وميرزا علي الشيرازي وغيرهم.
له من المؤلفات: كتاب (الغدير) في عدة مجلدات جمع فيه كل ما يتعلق
بيوم غدير خم من حديث وشعر وترجم فيه لشعراء الغدير وكتاب شهداء
الفضيلة ترجم فيه لمن استشهدوا من علماء الشيعة، وقد نقل الكتابان إلى اللغة
الفارسية.
من مآثره انشاؤه المكتبة الكبرى في النجف الأشرف التي سماها مكتبة أمير
المؤمنين جمع فيها ما يقرب من أربعين ألف كتاب بينها مئات المخطوطات
وجعلها مكتبة عامة. وقد صادرها النظام العراقي فيما صادر من دماء الناس
وحرياتهم وكراماتهم ومكتباتهم وأموالهم.
الشيخ عبد الحسين الحلي بن قاسم
ولد في الحلة سنة 1883 م ثم هاجر إلى النجف سنة 1896 م فدرس على
علمائها واستقر فيها عالما شاعرا مبرزا.
اختير قاضيا شرعيا للبحرين فانتقل إليها وفيها توفي سنة 1955 م. له من
المؤلفات المطبوعة كتاب (حياة الشريف الرضي).
مرت له في الصفحات 286 - 288 من المجلد الرابع من (الأعيان) ثلاث
قصائد رثائية. ومن شعره ما نظمه سنة 1948 سنة النكبة في فلسطين:
هز قرار تقسيم فلسطين، وقيام إسرائيل في الأراضي المحتلة عام 1948 م
شعور الشاعر من الأعماق، فانبعث يصور المأساة، ويجسد الأمر الواقع،
ويستنهض أبناء قومه من العرب الأقحاح، في ثلاث قصائد نظمها تباعا عام
النكبة 1948 م.
أما قصيدته الأولى فعنوانها الجامعة العربية وفلسطين نظمها عام
1948 م، يقول فيها:
حي العروبة أنى كانت العرب * فهم على البعد إخوان قد اقتربوا
قد وحدت لغة القرآن بينهم * أشد ما وحد الأبناء فيه أب
وألفت بينهم آياته فغدوا * بعد التباغض أحبابا قد اصطحبوا
رامت تخادعهم عن حقهم عصب * يشتد للبغي منها العظم والعصب
جدت بهم لعبا كيما تفرقهم * فكان - لا كان - جدا ذلك اللعب
بنت حدودا من الأوهام بينهم
كي يبعد البعض عن بعض وإن قربوا
وسنت النظم الخرقاء ترهقهم * يا ليت لم يعدها الارهاق والنصب
نظم الطبيعة أولى أن يفوز بها * شعب تحامي حماه الغدر والشغب
خل السياسة للمراق تعصبها * إن السياسة جسم روحه الكذب
سنوا نظاما لهم يقوى الضعيف به * وفيه يدفع عنه الهلك والعطب
لو طالبوا النجم يوما أن يدين به لهم لنالوا به أضعاف ما طلبوا
ووحدوا أمرهم في نظم جامعة * كبرى، ليعتصموا فيها إذا اغتصبوا
فشيدوها بلا خوف ولا وجل
والأرض حرب، وحبل الأمن مضطرب
وأحكموها بإيمان وأنظمة
لا الغدر والرعب يبليها... ولا الرهب
كانت ولم تك إلا فكرة خفيت * كالسر وهو بصدر الغيب محتجب
فأصبحت دوحة لا تستمال ولا * تهوي بأغصانها الأهواء والريب
إن أثمرت طيبا في راحة فكفى * أولا... فما فات هدرا ذلك التعب
يا رافعي علم العرب إنصبوه لنا * إن الدليل على الخيرات ينتصب
قوموا بأمركم ننهض بطاعته * كيما نقوم كما قمتم بما يجب
كنا نؤمل أن نحيا بلا سبب * فكيف نهلك لما أمكن السبب
وكان قوم يرونا أمة نجحت * قرنا، وعفت على آثارها الحقب
فأيقنوا اليوم أن العرب ما برحوا * شعبا كريما يساوي بدءه العقب
هدمتم كل حد كان يفصلنا * حتى انمحت تلكم الأستار والحجب
شدتم لنا فوقها منحى ومعتصما * يرسو إذا خفت الأعلام والهضب
بنيتموه وشخص الموت مقترب * منه ومعوله الهدام مرتقب
وصنتم حرمة العرب الكرابه * أنى أراحوا من الآفاق أو ذهبوا
يا قوم عطفا على أوطانكم فلقد * تتابعت من أعاديكم بها النوب
دب البلاء لها من كل ناحية واليوم حتى رأوها فرصة وثبوا
أضحت فلسطين أوصالا مقسمة * كما تقسم في أربابه السلب
بعض لهم، ولنا بعض بزعمهم * والسيف يأبى ويأبى الله والعرب
قوم إذا غضبوا خفت حلومهم * وأرضوا السيف كيما يهدأ الغضب
لقد عجبت لهم أن يستباح لهم * سرح، وليس غريبا ذلك العجب
قومي الألى لا يحل الضيم ساحتهم * ولا يمد على ذل لهم طنب
ولا يحل حبا أندائهم فرق ولا يدر على غصب لهم حلب
وليس تجتاز إرغاما ثنيتهم * ولا تشاد على خزي لهم قبب

84
ما بالهم لا سمت فيهم مراتبهم * أغفوا، وقد أقنعتهم تلكم الرتب
فاتتهم الفرص الأولى التي ذهبت * وكان أولى لهم لو أنهم ذهبوا
عذرتهم إن كيد القوم دب لهم * يسري إليهم رويدا... وهو منتقب
أعطوا بكف وبالأخرى رموا شررا * لاقاه منا ومن أعدائنا حطب
كانوا ولم يملكوا غير انتدابهم * فلا تسل كيف ما لم يملكوا وهبوا
إذا تصارع ذو حق ومقدرة * لا شك يغدو لرب القدرة الغلب
يا شائدي العصبة الكبرى بجدهم * ندبتكم لو تقيم القاعد الندب
دعوا التكتل بالآراء جامدة * تصونها وتعيها الصحف والكتب
فليس تنفع آراء ولا كتب * حتى تنفذها الهندية القضب
وأما قصيدته الثانية فعنوانها " مجلس الأمن و فلسطين "، نظمها عام
1948 م، يقول فيها:
يا مجلس الأمن لا حيتك أيمان * ولا رست لك في الأنداء أركان
ما فيك مأوى لذي خوف فتؤمنه * وكلما بك فهو اسم وعنوان
ما للضعيف الذي يأتيك مهتضما * إلا اعتلال فارهاق فحرمان
(تعطي وتمنع لا بخلا ولا كرما) * لكن هوى، والهوى ظلم وكفران
كأنما أنت سوق يستسام به * ما فيه، و (الأمن) فوق الباب إعلان
تجمعت فيك أقوام مفرقة * أهواؤها، ولكل منهم شان
يزينهم حسن سمت في مراتبهم * عداه لطف على العاتي وإحسان
للحق شكل ولون واحد، ولهم * حول المطامع أشكال وألوان
تنكبوا المثل العليا، وما امتثلوا * غير الذي سنه فيهم (ترومان)
كأنه حين ينهاهم ويأمرهم * مسخرون لهم يوحي (سليمان)
لهم عيون ولكن ما لأكرمهم * - إذا الضعيف اشتكى - قلب وآذان
لا الحق حق، ولا البرهان متبع * وإنما القوة الورهاء برهان
أين العروبة ليت العرب قد عدموا * حياتهم فهي إذلال وخسران
لقد عجبت لهم أن يستهان بهم * وأن يدينوا لأقوام لهم دانوا
هذي اليهود تنزى في مواطنهم وكيف يسكن أرض القدس شيطان
عهدي بهم أنهم عند اللقا صبر * وأنهم قط ما ذلوا ولا هانوا
يستعذبون الردى من دون عزتهم * كما استلذ بشرب الماء عطشان
كم موقف أصحروا للموت فيه وقد * أضلهم وهو باد الناب عريان
وموقف وقفوا من دون عزته * سورا له وهو أطناب وعيدان
يأبى لهم شرف الأحساب أن يدعوا * عدوهم فيه يسري وهو عجلان
يا قوم عطفا على أوطانكم فلقد * حلت بها محن جلت وأشجان
تفجرت فتنا من كل ناحية * كما تفجر يرمي النار بركان
أنت دمشق من البلوى فشايعها * يواكب الدمع والبرحاء (لبنان)
و (تونس) و (طرابلس) وجارتها
تشكو فيرثي لها أهل وجيران
قالوا احصلوا بيننا في أمره حكما * وهل تحاكم أسياد وعبدان
إذا اليهود اغتدوا شعبا بلا وطن * فأين كانوا إذن يا ليت لا كانوا
في الحق أن يدعوا للعرب موطنهم * ويطلبوا وطنا ما فيه سكان
لو كان للحق سلطان لما طمعوا * يوما بأرض بها للعرب سلطان
قد غرهم أنهم في بغيهم وجدوا * عونا، وذو البغي للباغين معوان
لاذوا بقوة قوم لا ينازلها * حتى إذا طمعت فيه وأيمان
قوم رأوا أن يخونوا عهدهم وبغوا * بوعد من أفكوا قولا ومن خانوا
لو كان للقوم وجدان لعنفهم * عن نصرة البغي والعدوان وجدان
يا قوم عن نصرهم كفوا فقد كرهت * أرواحهم أرؤس منهم وأبدان
لقد نسوا فدعونا كي نذكرهم * بنا، فداء مراضى القوم نسيان
لا تخشون على البلدان إن هدمت * فسوف تبنى من الهامات بلدان
القوم للقوم أنداد لو التحموا * وضم أبطالهم للحرب ميدان
فحكموا السيف فيما بينهم، ودعوا * مواعدا، ملؤها زور وبهتان
فالسيف أقطع حكما وهو منصلت * مما يلفق طماع وفتان
به ترد وتستصفى بمنطقه * لا بالتهاويل أوطار وأوطان
خلوا التهاليل عنكم جانبا ودعوا * مزاعما وعهودا ما لها شان
هيهات تغدو فلسطين موزعة * ما دام للعرب فوق الأرض سلطان
ولم يشأ مبدع الأكوان أن يقفا * في موقف واحد ذئب وإنسان
أما قصيدة الشيخ الحلي الثالثة فعنوانها " تنظيم الرياحين "، نظمها في عام
1948 م أيضا ومطلعها:
بالروض تعبث من حين إلى حين * أموكل أنت تنظيم الرياحين
يقول فيها:
وارحمتا لفلسطين وما لقيت * قومي وما هي تلقى في " فلسطين "
لقد رمتها رجال الغرب لا سلمت * من النوائب بالأبكار والعون
توزعوها كما يهوون فامتلكوا * شطرا، وشطر غدا ملكا لصهيون
وأنزلوا أهلها في كل قاحلة * قفر، فبئس مناخ الذل والهون
من كل أبلج ميمون نقيبته * ينمى لأبلج يوم الفخر ميمون
سيموا على الضيم نوما في ديارهم * والضيم تأنفه شم العرانين
إن طاعنوا دون أقصى أرضهم فهم بقية من مطاعيم مطاعين
في كل مطرح جنب من بلادهم * دم لمنتحر منهم ومطعون
أضحوا قرابينها والنفس إن كرمت * من دون أوطانها أدنى القرابين
عتوا على (وعد بلفور) وهل خضعت
فيما مضى (يعرب) طوعا لمأفون
سل عنهم (الروم) في (اليرموك) ما صنعوا
فيه وفي (القدس) الأعلى و (جيرون)
وسل (فروق)، و (قسطنطين) منكمش
فيها بجيش على الأسوار مرصون
داسوا بأرجلهم رأس الرجا فغدت
تخطو، وتسحق في (الإسبان) و (الصين)
السيد عبد الحسين نور الدين
مرت ترجمته في موضعها من المجلد التاسع. وقد عثرنا بعد ذلك على

85
شئ من شعره ننشره هنا، ونقول إنه كان في عصره من أبرز علماء جبل
عامل:
قال في إحدى المناسبات:
أمصابيح تجلى أن بدور * هذه الأوجه أم روض نضير
سبح الكون لها مبتهجا * فهو نور وابتهاج وعبير
أوجه تبتسم الدنيا لها * زين الأوجه إشراق ونور
زينوها حفلة رائعة * أكذا الأنجم تزهو وتنير
أتراها كيف تختال بهم * ولو أسطيع لها كانت تطير
ملك لبنان هم التاج له * درة التاج أجل هذا الأمير
صاحب الدولة حامي مجدها * عشقته وهو حاشاه صغير
مهرها علم وبأس وحجا * وسخاء ووفاء وضمير
بك لبنان بما بوأته * شامخ الذروة تياه فخور
قمت في أعبائه مضطلعا * تابت العزمة والله النصير
بضمير يبصر الغيب به * عظم الخالق ما هذا الضمير
كم صعاب رضتها فاستوسقت * أحوذي عنده العسر يسير
وإذا ما المعضلات استعرت * فهو في إخمادها الفذ البصير
لا تروني غاليا في مدحه * أنا فيما خصه الله خبير
سل به مؤتمرات الغرب كم * بز من أقطابها هذا القدير
بجنان ثابت يبعثه * ثابت الرأي وذياك الزئير
تلك نفس كلفته ذروة * دونها العيق والشعرى العبور
يمعن الشاعر في تعريضه * فإذا في نعته الباع قصير
فهنيئا لك ما أعطيته * ساعد تقوى به هذا الوزير
من يجاريه بأشواط العلى * وله القدح المعلى والسرير
يخفق النصر على رايته * أبدا يتبعه حيث يسير
هذه أعماله شاهده * أنه ليس له قط نظير
يا رعاك الله ما أجملها * طلعة كم تتمناها البدور
يطفح البشر بها في هيبة * ووقار ملئت منه الصدور
هو قطب الكون موتا وحيا * وعلى محوره الخير يدور
رو هذا النش ء من ينبوعه * حبذا منهلك العذب النمير
وقال:
سرب يصطادك أغيده * ودموع عيونك مورده
فوقت الطرف لأقنصه * بالقوم فراح يسهده
وأحر القلب لريم نقا * أعيا القناص تصيده
نشوان اللحظ رشيق القد * أسيل الخد مورده
قسما بالكوثر من فيه * وبدر فيه ينضده
وبقد راح يثنيه * فضح الأغصان تأوده
ما طل دمي إلا سهم * لحظات الغيد تسدده
ظبي بمثقف قامته * يسطو واللحظ مهنده
والخال الآه الحسن على * كرسي جمالك مقعده
ترنو الألباب لعزته * فتسبحه وتمجده
ودنا فتدلى قرطك حتى * عانق جيدك فرقده
ترنو الجوزاء ومقلتها * حولاء عليه فتحسده
كم عقدة صبر حل نطاقا * بعد بخصرك يعقده
أمقلب قلب الصب على * جمر في خدك توقده
ضللت العرب به فغدت * كالفرس مجوسا تعبده
الله بناحل عطفك هذا * باهظ ردفك يجهده
ما خف وقام لحاجته * إلا وثناه فيقعده
ما الراح سوى معسول * الريق بثغرك راق مبردة
كم صب هام وقلب حام * عليه فينأى مورده
يحمي رمان نهودك من * منساب جعودك أسوده
والورد بجنات الوجنات * بعقرب صدغك ترصده
السيد عبد الرؤوف الأمين بن علي بن محمود
ولد سنة 1318 في شقرا (جبل عامل) وتوفي سنة 1390 في بيروت ونقل
جثمانه إلى (الصوانة) فدفن فيها.
كان من الأوائل الذين أخذوا يجددون في الشعر العاملي سواء في موضوعاته
أو أسلوبه أو أهدافه فنظم في الأمور الاجتماعية والسياسية والوطنية وغير ذلك.
تولى التدريس في ثانوية مدينة الناصرية في العراق ثم كان مفتشا في وزارة
التربية الوطنية في لبنان ثم في وزارة الشؤون الاجتماعية حتى احالته على التقاعد
طبع في أواخر عشر العشرين ديوانا صغيرا باسم (العواطف الثائرة) وفي سنة
1996 طبع ديوانه كاملا.
شعره
قال:
يوم ساروا أتبعتهم نظراتي
من مهاة تقتص إثر مهاة
أكبر الصحب مذ رأوني معيرا
لفتاتي يوم النوى لفتاتي
عجبوا من دمي المراق وعيني
نثرته طلا على وجناتي
ليس هذا المحمر إلا دموعا
صعدتها من الجوى زفراتي
عددت في الهوى ذنوبي وقالت
إن وجدي بها من السيئات
وعدتني وما وفت بوصال
هل تفي بالوصال قبل وفاتي
لست أنسى وقد تثنت دلالا
بين خمس من صحبها خفرات
هي بدر الدجى سنا وسناء
قد تبدت وهن كالنيرات
نفحات من النسيم اتتني
فعرفت الديار بالنسمات
وامتطيت الظلام سرا وحقا
إن سر الهوى لفي الظلمات
أوقفتني هنا هواجس فكر
من وراء الظنون والشبهات
سائرا والغرام رائد نفسي
شاكيا والحنين بعض شكاتي

86
وقال يرثي عمه السيد حسن محمود الأمين:
وافاك منهل السحاب * فغدوت زاهية الجناب
تشقى وتسعد تربة * كالناس وهي من اليباب
يا بقعة لي في ترابك * خير من فوق التراب
ضرحوا بأرضك للزكي * فأنزليه على الرحاب
تيهي فخارا بالنزيل * وطاولي شم الهضاب
قل للألى هجروا الحمى * أبعدتم أمد الغياب
ومروع ألف الأسى * قلق كقادمتي غراب
أتبعته ركب الأحبة * فاقتفى أثر الركاب
وبقيت بعد الراحلين * أسير دمع واكتئاب
ما أدمع المحزون غير * عصارة القلب المذاب
ذهب الذين أحبهم * متعاقبين على الذهاب
وأمض ما يشجي الفتى * وقع المصاب على المصاب
من كل أبلج كالشهاب * انقض في أثر الشهاب
كانوا مصابيح الدجى * في قومهم وأسود غاب
عماه قد عم الأسى * افقي وقد ضاقت رحابي
عماه أوقفني المصاب * على شفير من عذاب
فتجهمت واستوحشت * هذي البقية من شبابي
عماه آب الغائبون * فهل لركبك من اياب
ستطول بعدك لوعتي * ويدوم حزني وانتحابي
هيهات لو كشف الغطا * ما زاد في الدنيا ارتيابي
ظمآن أغراه السراب * فكيف يروى بالسراب
ساروا بنعشك خاشعين * كسيرهم يوم الحساب
يتهافتون عليه * كالظامي على برد الشراب
ساروا حيارى والهين * وطاطاوا غلب الرقاب
من للبيان السمح ينطق * فيه عن فضل الخطاب
من للقوافي الغر * بنظمها كازهار الروابي
من للندى يزينه * بروائع الأدب اللباب
من للشباب يرد * جامحة إلى اسمى مآب
من للصلاة وللخشوع * وللدعاء المستجاب
من للقضاء العدل * يتبع فيه هج أبي تراب
يقضي ويفصل في * الأمور فلا ولا يحابي
يا ابن الألى فقهوا الحديث * وأوضحوا سنن الكتاب
وابن الهداة الطيبين * تنزهوا عن كل عاب
الداخلين إلى المكارم * والعلى من كل باب
من كل مرموق السنا * كالسيف اسلط من قراب
وصلوا إلى الحق الصراح * وكان أمنع من عقاب
ساروا بسيرة جدهم * وكذا الشكير من الزغاب
وقال يرثي شجرة له أحرقتها الصاعقة:
يا سرحة الحي ما للطائر الغرد * غنى على غصنك الزاهي ولم يعد
غناك أجمل ما جادت قريحته * من كل عذراء في أثوابها الجدد
غرستها بيدي حتى إذا ورفت * بعدت عنها وهذا لم يكن بيدي
فيأت اظلالها صحبي فهل ذكروا * أيام لهو لهم في ظلها ودد
طوى الزمان أحبائي على عجل * فقد بقيت ولا زندي ولا عضدي
يا سرحة الحي لا أهلي ولا ولدي * كما عهدت ولا صحبي ولا بلدي
تفرق القوم لا غر بمبتعد * عن الضلال ولا شيخ بمتئد
إرادة الله شاءت وهي قاهرة * أن ينزل القرد منا منزل الأسد
فهل نعود إلى أحسابنا فارى * ما شاده والدي يأوي له ولدي
وقال:
أما آن للفجر المهيض طلوع * فتشرق أوطان لنا وربوع
حدبنا عليه وارتقبنا بزوغه * كما حدبت فوق القلوب ضلوع
هي " الوحدة الكبرى " التي طالما ثوى * شهيد على ثوراتها وصريع
مشينا إليها خطوة بعد خطوة * وقد يجشم الليل البهيم مريع
نحن إليها من قرون بعيدة * كما حن للأم الرؤوم رضيع
وكم أزهقت منا نفوس أبية * وسال على حد الشفار نجيع
نثرناهم نثر الأزاهير في الربى * وروى الثرى منا دم ودموع
ثرى طبق الآفاق نشر عبيره * وما زال كالمسك الفتيت يضوع
غياهب في آفاقنا قد تلبدت * تساوى لديها مغرب وطلوع
" تسرمد " هذا الليل فينا وكلما * توارى هزيع يقتفيه هزيع
وكم هامة منا انحنت عند ظالم * ودرت على الباغي الأثيم ضروع
وكم خائن منا مشى في ركابه * وند عن النهج القويم قطيع
وكم أحرقت للغاصبين مباخر * وكم أوقدت للحاكمين شموع
وضاق على أحرارنا رحب ارضنا * ولكنه للأجنبي وسيع
فكيف تباعدنا ونحن أقارب * وكيف تفرقنا ونحن جميع
وفينا كفاءات وفينا مواهب * وجانبنا في الحالتين منيع
وإن تذكر الأنساب يوما فإننا * لنا نسب بين الأنام رفيع
أرومتنا في مغرس المجد قد نمت * ومدت لها في المشرقين فروع
" وكنا لماء المزن ما في نصابنا * كهام ولا فينا يعد " وضيع
وكنا إذا ما استنفرتنا مصيبة * تهاوت على صوت النفير جموع
نسجنا من الإيمان درعا مفاضة * تقينا وايمان الشعوب دروع
ولما تنازعنا على أخذ حقنا * أضعناه والحق المشاع يضيع
كفرنا وخالفنا مبادئ قومنا * ولم يرض عنا " أحمد " و " يسوع "
متى تشرق الأرض اليباب بنورها * ويزهو خريف عندها وربيع
هل " الثورة الكبرى " على الظلم لم يزل * بساحاتها من يشتري ويبيع
رسا قبل في دنيا " العروبة " أصلها * وقامت على تلك الأصول فروع
تهاووا عليها كالنسور وكلهم * صبور على بلوائها ومطيع
وهل لم يزل في " الرافدين " و " جلق " * مجيب إذا استنجدته وسميع
تبدلت الدنيا فغلت جموعنا * وران عليها رهبة وخنوع
وها هي قد سلت علينا سيوفنا * ونادى بها في الخافقين " مذيع "
طلعنا على الدنيا بدورا وأشرقت * بنا الأرض واجتاح الظلام سطوع

87
وعدنا وقد كاد الظلام يلفنا * وما آن للفجر المهيض طلوع
وقال:
وطني هذا أراه جنة * عبثت فيه اكف النوب
كيف لا أبذل نفسي دونه * خائضا فيها غمار الرهب
وحسامي و لساني وانا * عربي عربي عربي
وقال في الزهراء ع:
أطلت على الدنيا بطلعتها الغرا * وليدة بيت الوحي فاطمة الزهراء
كإطلالة الفجر المدل بنوره * وكم ساهر في الحي يرتقب الفجرا
وبشر فيها الوحي عند نزوله * وباهى بها جبريل مذ جاء بالبشرى
فأشرق بالنورين بيت خديجة * فنور من الكبرى ونور من الصغرى
وقد نشأت بنت النبي محمد * مباركة اسما معطرة ذكرا
ومن كان يدعوها البتول طهارة * كما دعيت من قبلها مريم العذرا
وزوجها من صنوه وابن عمه * فأعظم بها زوجا وأعظم به صهرا
علي أبو السبطين أفصح من رقا * ذرى منبر أو خط في صفحة سطرا
وأمضى سيوف الله في كل موقف * به الفارس المغوار من هلع فرا
فسل عنه أحدا والنضير وخيبرا * وإن شئت ادراك اليقين فسل بدرا
وسل عنه عمروا والوليد وعتبة * ومن صرعوا في سيفه فهم أدرى
ومن حضن الاسلام بعد نبيه كما تحضن الطير التي تسكن الوكرا
حماه كما تحمي الأسود عرينها * من الكفر بل قد كان من أسد أضرى
شرى في سبيل الله نفسا أبية * وعاهدها أن لا تباع ولا تشرى
فيا لدة الاسلام والبضعة التي * بها أودع الله القداسة والطهرا
وأم الإمامين الشهيدين من هما * أجل وأعلى الناس في نسب قدرا
" لك الله من مفجوعة بحبيبها " * تشم تراب القبر من لهفة عطرا
هلم إلى التاريخ نسبر غوره * ونوسعه بحثا ونعلنه جهرا
أ ما روعت في بيتها يوم حزنها * أما حرمت إرثا أما دفنت سرا
وما ورثته عن أبيها وأمها * سمت وتعالت فيه عن " فدك " قدرا
" لسر من الأسرار لا تجهلونه " * أسئ لها لا بل أريد بها شرا
وقد نسبوا القربى إلى غير أهلها * ومن ولد " الزهراء " لم يلد " الحمرا "
ومن أغضب الحوراء بنت نبيه * فليس بمعذور وإن حاول العذرا
علي لأهل البيت عهد وذمة * سأذكرهم ما دمت أستلهم الشعرا
سأدفع عنهم في لساني وليس لي * سلاح سواه عنهم يدفع الضرا
ومن عمر الايمان بالله قلبه * يرى حبهم دينا وبغضهم كفرا
بني البضعة الزهراء تهفو إليكم * جوارحنا اليقظى وأكبادنا الحرى
وكل شهيد من ذؤابة هاشم شققنا له في كل جارحة قبرا
مشى تحت ظل الموت يطلب ثاره * وما ذا على الموتور أن يطلب الثارا
كفاني فخرا انني من سلالة * تمت إلى الزهراء في نسب فخرا
متى يرجع الاسلام سالف عهده و * تخفق في أجوائه الراية الخضرا
تطل على الدنيا كتائب يعرب * وتحشد في ساحتها مرة أخرى
أصبرا وثاني القبلتين تسودها * يهودية حمقاء تستسهل الوعرا
سنظفر بالفتح المبين تزينه * شريعتنا السمحا وأفعالنا الغرا
عدلنا فداست خيلنا تاج قيصر * وأورثنا أمجاده مرغما كسرى
وسدنا فكان العدل رائد حكمنا * فلم نجترح اثما ولم نقترف وزرا
وما عرف التاريخ في الدهر فاتحا * سوانا تحاشى الظلم واستنكر الغدرا
وقال:
تطلعت عبر الدهر ابحث عن صحبي * فلم ترهم عيني ومنزلهم قلبي
وسار بهم ركب المنون تتابعا * وما زال قلبي يقتفي أثر الركب
تقطعت الأسباب بيني وبينهم * فلا شرقهم شرقي ولا غربهم غربي
أناديهم والترب بيني وبينهم * وهل يملك الاصغاء من كان في الترب
وأصبحت كالطير المشتت سربه * فقد خانني دهري وضيعني سربي
" مضوا لا يبالون الحشى وتروحوا " * خليين من همي بعيدين عن دربي
وقد كنت أروي غلتي من لقائهم * كما يرتوي الظمآن من منهل عذب
وعايشتهم ليل الصبا ونهاره * فخدن إلى خدن وترب إلى ترب
أشاطرهم حلو الزمان ومره * فسلمهم سلمي وحربهم حربي
وشائج حب عذبة ذكرياتها * تطيب لها نفسي ويذكو بها حبي
وجشمني دهري مصاعب جمة * ويحملني قسرا على مركب صعب
وكم قطب علم من سراة عشيرتي * ترفع واستعلى إلى هامة القطب
هوى مثلما يهوي الشهاب إلى الثرى * ويا طول تحناني إلى مسقط الشهب
تهيج بي الذكرى ولولا بقية من الصحب في الجلى أراهم إلى جنبي
لضقت بهذا العيش ذرعا وربما * تضيق حياة المرء في المرتع الخصب
ذكرت شبابي والهوى ولياليا * صبوت بها والحب من شأنه يصبي
تماديت في حبي وقد ذقت عذبه وقد يحلو مر الحب للعاشق الصب
أحن إلى بيت تفيات ظله * إلى العين في شقرا إلى المرج والهضب
إلى الربوات الخضر يزهو ربيعها * إلى الزهر فواحا إلى الماء والعشب
إلى العين يملأن الجرار أوانس * ويمشين وهنا في دلال وفي عجب
يرددن الحان الهوى وفنونه * على مسمع الفتيان في زجمة الدرب
إلى ندوات الأنس والشعر والندى * إلى ملتقى الضيفان في المنزل الرحب
إلى القبة البيضا وما ضم تربها * من العلماء الصيد والسادة النجب
هنا قد ثوى جدي وأمي ووالدي * وثم أخي والعم جنبا إلى جنب
هنا تربة قد فاق نشر عبيرها * شذا العنبر الريان والمندل الرطب
أحبك يا شقراء من أجل حبهم * ومن أجله أهواك في البعد والقرب
أولئك حزب الله في العلم والتقى * وقد رفعت أيديهم راية الحزب
فيا مغرس الأمجاد من آل هاشم * سقت تربك الظمآن هطالة السحب
وعند ضريح الطهر " زينب " قد ثوى * منير سبيل الرشد في عتمة الحجب
تفرق شمل الطيبين وبدلت * معالم ذاك الخصب فيه إلى الجدب
فذلك عهد قد تقضى ولم يعد * سوى ذكريات أو صحائف في كتب
وما لي غير الشعر من متنفس * أداوي به همي ويكشف لي كربي
فكان رفيقي عبر خمسين حجة * فما خانني يوما وكان إلى جنبي
وكم جولة لي فيه تشهد انني * وقفت قوافيه على نصرة العرب
تصفح دواويني تراها مليئة * بما يدفع النكس الجبان إلى الحرب
أناشيد في بغداد والشام لم يزل * يرن صداها العذب في مسمع الحقب
ومحنة أولى القبلتين تحولت * لها أدمعي شعرا فأسرفت في السكب
وقفت على اليرموك استاف تربها * فمن مهبط الوادي إلى مرتقى الكثب
أفتش عن آثار قومي عن اللوا * لوا الفتح معقودا على العسكر اللجب

88
سمعت الصدى المكبوت من ألف حجة
صدى الزحف والتكبير من صرخة الغلب
تصورت ذاك الفاتح الفذ والذي
مشى لسبيل الله كالصارم العضب
وكان له في " الشرق " و " الغرب " دولة
أنارت سبيل العدل في " الشرق " و " الغرب "
ويا قوم أذنبتم بتفريق شملكم
فهل يهتدي للحق مرتكب الذنب
فعودوا إلى ماضيكم وتعلموا
بان سبيل النصر للسيف ذي الشطب
وقال في هجاء الوظيفة:
بليت بها عجفاء درت ضروعها * علي سموما مثل سم الأراقم
وظيفة سوء قد تجرعت صابها * وإن كنت من جرائها غير آثم
لحا الله دهرا أنزلتني صروفه * على مثل من لا يرعوي مثل كاظم
وإن انس لا أنس زكيا وما وعى * من القول إلا لفظة المتشائم
يبادرني في كل صبح بقوله * غدا حالنا! والويل! ضربة لازم
ويا رب جار ما حمدت جواره * يجادلني في عبد شمس وهاشم
كان " يزيدا " جده لا لأمه * تناسل منه أو قريب " لقاسم "
ومثل " زهير " وهو في ضد اسمه * زهير ولكن فعله جد قاتم
وقل عن سواهم ما تشاء فإنهم * عمالقة لكن بغير قوائم
كمثل ابن حرب وابن دبس وخالد * طوال جسوم أو ضخام جماجم
وكلهم في ساحة الأكل فارس * يصول بضرس لا برمح وصارم
وفي عكسهم موسى وحسني ومصطفى * وأشباههم من نسل حوا وآدم
وكل لهم في آخر الشهر غاية * هي الراتب المقبوض من كف " سالم "
إذا طير لبنان يرف جناحه * فلا في الخوافي هم ولا في القوادم
فمن مثل هؤلاء جاءت ظلامتي * (وما ظالم إلا سيبلى بظالم)
ومن نكد الأيام أن تلق جاهلا * يصول ويستعلي بمنطق عالم
عبد الرضا صادق بن الشيخ عبد الحسين
ولد سنة 1918 م في النبطية وتوفي سنة 1997 م في بيروت ودفن في
النبطية.
هو سليل أسرة علم وشعر وأدب ووجاهة، تسلسل فيها ذلك منذ جدها
الأعلى الشيخ إبراهيم يحيى حتى المترجم وإخوته.
درس دراسته الأولى في النبطية ثم هاجر إلى العراق فتلقى في النجف
دراسات قوت معارفه لا سيما في علوم اللغة العربية فآثر التدريس في
المدارس الثانوية الأهلية في العراق، وظل مثابرا على ذلك طيلة أربع سنين.
ثم اختير للانضمام إلى بعثته دراسية أوفدتها وزارة المعارف العراقية للالتحاق
بكلية (دار العلوم) في القاهرة، وهي من المعاهد الجامعية المختصة بتخريج
مدرسين للغة انتمى بعدها إلى معهد التربية العالي فقضى فيه سنتين ثم عاد إلى
العراق فعين مدرسا في المدارس الثانوية وظل في عمله حتى إحالته على
التقاعد. ثم عرض له مرض أقعده في المنزل فآثر العودة إلى موطنه ليكون بين
أهله فاستقر في بيروت حتى وفاته.
كان شاعرا متين الديباجة عذب الأسلوب، وناثرا في الطليعة من كتاب
جيله ومفكريه، نرك الكثير من الآثار شعرا ونثرا، وهي مما كان ينشره في
الصحف العربية، على أن شعره لم يجمع في ديوان مطبوع مستقل.
شعره:
قال بعنوان: أصداء من الموكب الحسيني:
روعت آمن سربه فارتاعا * أرباع مكة لا أمنت رباعا
ماذا تحس حمامة مذعورة * حطت عليك جناحها المرتاعا
أتبيت آمنة وألف دخيلة * سوداء ترصد خطوة إيقاعا
يا عائذات الطير لا تتوقعي * حفظ الجوار وخير جار ضاعا
أبقية السلف الخضيب حسامهم * في الحق من لشريعة تتداعى
عز النصير يمكة فاحشد لها * في الكوفة الأنصار والأتباعا
وأقم منار هداية واهتف به * لله واقرع فوقه الأسماعا
أمدارج الحرمين يا ذكرى رؤى * غر عبرن بأبطحيك سراعا
لعب النبي هنا وطاف بفسحة * خضراء ثمة واستقل بقاعا
ورعى شويهات وداعب ثغره * أثداءها المتحفلات رضاعا
وهفا ملاك أبيض وحبا سنا * غمر المغاني الكابيات شعاعا
ما كنت هينة وندت زفرة * قلت لمثلك أن تكون وداعا
الأبعدون هناك مدوا باعاهم * وضننت أنت فلم تمدي باعا
أرمال هذي البيد غلس موكب * سار وأوغل في الدجى إيضاعا
بثي حواليه العيون رقيبة * وتحذري في البيد أن يرتاعا
وترفقي أن تستثيري في الضحى * لفحا كجالية الغضا لذاعا
آل النبي جلا بهم عن مكة * أن يستباح بها الكريم ضياعا
نفر كما ائتلق الضحى إشراقة * وكما تنفست الرياض طباعا
حيتك فارعة النخيل غمامة * وشهدت، منها الخصب والأمراعا
هذا الركاب الهاشمي أما سرى * نبأ الركاب الهاشمي وشاعا
أين الرجال المؤمنون يثيرهم * أن يصبح الدين الحنيف متاعا
أترى أصيب القوم في إيمانهم * فتواكلوا نظرا به وسماعا
فحنت به الهام المدلة حطة * لليأس يوسع شمسها إخضاعا
ماذا وراء النهر أي غمامة * سوداء تقتحم الضفاف وساعا
غطت نجاد الأرض موغلة المدى * فيحاء واغتمرت ربى وتلاعا
هذي الجموع الحاشدات لباطل * كانت لداعية الهدى أشياعا
أكمي هاشم من يطيق على الظما * حربا ومن يقوى عليه صراعا
أتقول أشلاء الرجال بديدة * كان الحسين على الفرات شجاعا
يمنى هفت في المعمعان وما وهت * ضربا ولا وهنت هناك قراعا
يا قصة الأيام كم من عقدة * دعت البطولة عندها الإيقاعا
قضت المروءة أن يموتوا دونه * فتناثروا فوق الثرى أوزاعا
أتكون آكلة الكبود ضغينة * كالت بصاع من ذحول صاعا
وقال:
يا فتنة الشاعر أغفى الوجود * على سكون الليلة الغافيه
وما مضى من عمرنا لا يعود * ولا نراه مرة ثانية

89
فاغتنمي الليلة قبل الرواح * وقبل أن يشرق نور الصباح
غدا إذا ولى ربيع الحياة * وكسرت أغصانه العاصفه
نعود لا حب ولا ذكريات * ولا أمان غضة وارفه
سوى طيوف تجتليها العيون * سوداء لا ترسم غير المنون
يا لوحة الخافق إن أقبلت * تحثة للهوة القافلة
وحسرة الروح إذا ما انثنت * قسرا إلى صحرائها القاحلة
لا ماء لا ظل ولا من رفيق * في وحشة المسرى وعسف الطريق
قومي فهذي جلوات الربيع * شعت على السفحة والرابيه
وأشرقت دنيا الجمال البديع * فتانة زاهرة زاهيه
ونور الزنبق والياسمين * والورد والنرجس للعاشقين
الحب يدعونا فلا تعرضي * واختلسي لذاته الشائقة
اليوم حلم وغدا تنقضي * أحلامنا المذهبة الرائقة
وينطوي في غمرة من شجون * هذا الصبا العذب وهذا الفتون
أيار فتان بألواحه * يختلف النفس ويسبي النظر
قد أفعم الدنيا بأفراحه * ورق حتى في جمود الحجر
فزودي روحك من سحره * من قبل أن يوغل في دهره
قيثارتي هذبت أوتارها * فاستمعي منهن لحن الخلود
وقدسيها إن أسرارها * علوية مخلوقة للوجود
من عالم الخير وغيب الغيوب * مصنوعة ما دنستها العيوب
قومي فقد أعددت أنشودة * من رائع الألحان للملتقى
مرنانة الأوزان مملوءة * بالحس لن تفنى ولن تخلقا
وإنما تبقى بقاء الدهور * زخارة فياضة بالشعور
لا تحسبي أن الصبايا العذاب * فوق البلى العاتي وفوق الفناء
الحسن والسحر وغض الشباب * سحائب الصيف وشمس الشتاء
فلا تكوني من نعيم الحياة * صوفية تقنع بالسفسطات
الدهر يجتاز بنا مسرعا * أعمارنا للهيكل المظلم
فلنلتهم كأس هوانا معا * من قبل أن يترع بالعلقم
وقبل أن تغمرنا بالضباب * دنيا من الوحشة والاكتشاب
وقال:
رأيت ك بين حواشي الأصيل * وفي حمرة الشفق المشرق
وفي دفقة النور عند الصباح * وفي بسمة الزهر المونق
فرحت أهيج دفين الشجون * على نغم الوتر المشفق
وأذكر عهد الشباب الشهي * وكيف على ثغره نلتقي
زمانك ولى بحلمي الندي * وبالأمل المذهب الريق
ولم يبق في القلب إلا الجراح * تثور على وجنه المحرق
ألا هل تعود لي السالفات * من العمر الطيب الشيق
فأثمل من عبقة الياسمين * ومن طيب معطاره الزنبق
وأنشد للزهر شعر الغرام * ومن فيض أطيابه أستقي
وقال:
لمياء في الوادي البعيد مسارح * للروح تعمر بالجمال السامي
وسكينة خرساء تهدأ عندها * حرق النفوس وثورة الآلام
قومي إليه نذوب عند ظلاله * قبلا تلون في الفؤاد الدامي
وترف من فوق الشفاه ندية * حمراء عابقة بعطر غرام
فغدا يؤذن للرحيل مناديا * داعي المنون وتنقضي أعوامي
فتظل تخفق فوقا قبلاتنا * زهراء خالدة على الأيام
لي من عيونك جنة سحرية * جفلت بشتى الوحي والإلهام
هدهدت آمالي على أضوائها * وذريت فوق ورودها أحلامي
وتركت روحي تستظل بفيئها * وتحوم حول أقاحها البسام
قد كنت أحمل من أساي لواعجا * هوجا وجرحا في حاني الشغاف الظامي
فنفضت عن عيني أشباح الأسى * سودا تزاحم في دنا أوهامي
وسكبت روحك خمرة معسولة * وقطرت من أكسيرها في جامي
فسكرت حتى ما عرفت أسورة * للحب دبت أم لكأس مدام
وله من قصيدة في ميلاد الإمام علي (ع):
إن أقاموا لمولد مهرجانا * وتناسوك فاحتسب ما كانا
ربما تنكر الضياء خفافيش * وتعشى بنوره عميانا
ولقد تفسد القلوب مواريث * وتطغنى فتفسد الأذهانا
عبقري الحياة كم عبقري * رفعوا فيه للفضيلة شانا
جعلوا من نبوغه ميدانا * وتباروا بمدحه فرسانا
لحت في وجهه فطار هباءا * وتلاشي بجانبيك دخانا
وقال:
أخليت من آثارك الماضية * قلبي وما أشفقت يا قاسيه
لا تطمعي بعد به، أنني * فتشته زاوية زاويه
أو تحسبي ذكراك تعتاده * طهرته حاشية حاشية
كان إلى الأمس على شعلة * هوجاء من آلامك العاتيه
قرت مع اليوم فلا تنكري * للحب هذي الميتة الطاغيه
الليل لا ينكر فاستشهدي * أعماقه المسودة الداجيه
كم أنة ضاعت وكم زفرة * تاهت به محمومة داويه
شعت مع الأصباح لماحة * بيضاء فوق الوردة الحالية
والفجر لا يجهل فاستخبري * أطياره الصداحة الشاديه
هل أطبق العشاق أجفانهم * إلا على ألحاني الباكيه
ناموا على السفحة صرعى الهوى * وارتعشوا كالخرق البالية
شيعت من عهدك أحلامه * ومن هواك الصور الزاهيه
راح الذي كان فلا تذكري * أيامنا المعسولة الخالية
الآن أمشي واجما للربى * أجتازه رابية رابيه

90
وأهبط الوادي وأغواره * ناحية أطوي إلى ناحية
أمحو بكفي رسوم الهوى * - وضاحة - والصور الباقية
أقول والآهة في أضلعي * محبوسة والأنة الكاوية
هنا أقمنا من عناء السرى * نرتاح من جولتنا النائية
تمتد بالأطياب من حولنا * أنفاس هذي القمة العالية
وفوق هذا السفح غنيتها * أنشودة مشبوبة القافية
مرت على الزنبق ألحانها * فاستيقظت أوراقه الغافيه
وهاهنا طافت بأذيالها * تشكو هواها النسمة الغادية
وهاهنا والطير تشدو لها * أغفت على تمتمة الساقيه
وقال:
ما تظنين ولي حس وشعر وشباب
ومنى غر وأحلام عذاب ورغاب
ما تظنين ولي هذا الربيع المستطاب
أأنا أمشي على الزهر أم الدرب يباب
ربما يحجب عن عينيك مأساتي حجاب
هذه النظرة في وجهي خداع وكذاب
والدعاب المرح الضاحك هم واكتئاب
ووراء الهدأة الخرساء في نفسي اضطراب
لا يغرنك في الشاعر أن يندى اهاب
فلقد يعرض عذب الماء في القفر سراب
ويبل الحطب اليابس في الفجر ضباب
وقال:
تولى الظلام فكم نسهر * حنانك، قد تعب السمر
أرقن لذكرك أجفانهم * أنكرى وأنت التي تذكر
وطال فمثل نوازي الرحيق * تظل بأحشائهم تخطر
خيالك يا ضلة العبقري * وفتنته عالم نير
تألق فانغمر السامرون * وشع فملء الدجى أنور
وجل فأحقر نعمائه * نفوس تعيش ولا تشعر
عبدتك يا صبوة الشاعرين * خلودا بألآئه يزخر
ودنيا تزاحم بالطيبات * وتندى نعيما بما يغمر
وكونا تظل الأماني العذاب * توشح منه بما يبهر
جمالك، أي العيون المراض * تعيب جمالك أو تحقر
أتنكره، أي ألواحه * وأي مظاهره ينكر؟
تسامى فكل أديم به * يهز، وكل ثرى يسحر
وعم فحتى المعرى السليب * يروع وحتى المدى المقفر
تحير ما ينشئ الألمعي * بهذا الجلال، وما يخبر
أيبدع أنك فوق الكمل * وأنك في فنه أكبر؟
وكيف ينالك وصف البليغ * وغر صفاتك لا تحصر
أبنت الطبيعة هل عبقر * سواك، وأين ترى عبقر
أتملك مثلك هذا الفتون * وهذا الجمال الذي يأسر
أيخطر فيها الربيع الجميل * فيبتسم الورق الأخضر
وتألق العدوات الفساح * وتجري بأحضانها الأنهر
وتندي على الربوات العذاب * ورود بصافي الندى تقطر
تخطر في خطرات النسيم * عذارى تحب وتستهتر
أتعرف ما نزوات الخريف * وكيف عواصفه تجأر
تكسر من وقعهن الغصون * وينتثر الورق الأصفر
تهب أعاصيره الجامحات * تباعا، ويرتفع العثير
أيطغي بها من توازي الشتاء * جنون بقسوته منكر
يجوش، فلا ألق للضحى * ولا كوكب للدجى يظهر
ويرضى فللقمم العاليات * نصيب بهذا الرضا أوفر
يزنرها بالضباب الندي * فتعلقه العين إذ تنظر
وتعتم أرؤسها بالثلوج * لينثرها العارض الممطر
وماذا، أللصيف في عبقر * مقام تظل به تعمر
ينام الرعاة على خصبه * وملء العيون رؤى تزهر
ويصحو الصباح على جلجل * يرن وشبابة تزمر
ويبدو المساء بآفاقه * يوشحه الشفق الأحمر
بلادي وإنك معنى الحياة * أتزهو بغيرك أو تنضر؟
سلام على عهدك المستطاب * وشوق لأيامه مسعر
ضللت فذا كبدي خافق * يئن بأحنائه يزفر
سيبقى بهيكل آلامه * يسبح فيه ويستغفر
وقال شقيقه القاضي محمد علي يرثيه من قصيدة:
جفاني تبياني فقم عنه وافيا * ونب عن لسان رده الخطب بابيا
فما زلت نورا في الخواطر مشرقا * وما زلت وحيا في الضمائر ساريا
قصائد من معناك صيغت فرائدا * وآيات حسن من حلاك حواليا
فهذا الخثال الحر بات مصفدا * بواقعك الدامي يعاني المآسيا
وما كان قبل اليوم إلا أخ السهى * يسامر في الأفق النجوم الحوانيا
فأللوى به الخطب الجليل فرده * حطاما بصحراء الفجيعة خاويا
أخ الروح غاض الأنس بعدك وانطوت * ليال بها كنت السمير المناجيا
يحيطك أهل كالسوار بمعصم * فلا كنت مشكوا ولا كنت شاكيا
فخلفت ما بين الضلوع مجامرا * تزاحم في دفق الدموع المآقيا
هتكت حجاب الصبر ملء قلوبهم * وقد ضارعوا فيه الجبال الرواسيا
يبرحك الداء العياء بشدة * فتمضي بأحكام المشيئة راضيا
سنذكر والذكرى تعله واله * عهودا كما شاء الزمان زواهيا
أقمت بها ملء النواظر ماثلا * ورحت بها ملء المسامع شاديا
تمد رواقا للأحبة جامعا * وتبسط كفا بالمحبة جاريا
تناوبها الأحباب أندى من الندى * وأطيب من فوح الأزاهر زاكيا
وتسمو بصرح الضاد عزا وسؤددا * وتحفظ صرحا للثقافة ساميا
عبد الرضا المطبعي بن محمد
ولد في النجف سنة 1927 وتوفي سنة 1970.
كان كاتبا شاعرا قاصا من مؤلفاته: 1: - سمير الناس 2: - قلوب قاسية
3: - من سجل الحياة 4: - رسائل الرسول (ص) 5: - عكركوف وما جرى
للصعكوك وغير ذلك.
عبد العزيز بن البراج
مرت له ترجمة موجزة في المجلد الثامن الصفحة 18 وهي من الترجمات التي
توفي المؤلف قبل أن يكملها. وقد نشر له الشيخ جعفر السبحاني ترجمة مفصلة
في نشرة (تراثنا) التي تصدر في مدينة (قم) نأخذها فيما يلي:
سعد الدين أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن براج



(1) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
91
الطرابلسي، تلميذ السيد المرتضى، وزميل الشيخ الطوسي أو تلميذه المعروف
بالقاضي تارة، وبابن البراج أخرى، فقيه عصره، وقاضي زمانه، وخليفة
الشيخ في بلاد الشام.
وهو أحد الفقهاء الكبار في القرن الخامس بعد شيخيه: المرتضى
والطوسي، صاحب كتاب " المهذب " في الفقه وغيره من الآثار الفقهية فهو
اقتفى خطوات شيخ الطائفة من حيث التبويب والتفريع، ويعد هذا الكتاب
من الموسوعات الفقهية البديعة في عصره.
ونورد هنا بعض أقوال العلماء في حق المترجم:
1 - يقول الشيخ منتجب الدين في الفهرس عنه: القاضي سعد الدين أبو
القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن براج، وجه الأصحاب،
وفقيههم، وكان قاضيا بطرابلس، وله مصنفات، منها: " المهذب " و
" المعتمد " و " الروضة " و " المقرب " و " عماد المحتاج في مناسك الحاج "
أخبرنا بها الوالد، عن والده، عنه.
2 - ويقول ابن شهرآشوب في " معالم العلماء ": أبو القاسم عبد
العزيز بن نحرير بن عبد العزيز، المعروف بابن البراج، من غلمان (1) المرتضى
رضي الله عنه، له كتب في الأصول والفروع، فمن الفروع: الجواهر،
المعالم، المنهاج، الكامل، روضة النفس، في أحكام العبادات الخمس،
المقرب، المهذب، التعريف، شرح جمل العلم والعمل للمرتضى رحمه الله.
3 - وقال الشهيد في بعض مجاميعه، في بيان تلامذة السيد المرتضى -:
ومنهم أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن براج، وكان قاضي طرابلس، ولاه
القاضي جلال الملك رحمه الله.
وكان أستاذ أبي الفتح الصيداوي، وابن رزح [كذا]، من أصحابنا.
وقال الشيخ علي الكركي في إجازته للشيخ برهان الدين أبي إسحاق
إبراهيم بن علي - في حق ابن البراج -: الشيخ السعيد، خليفة الشيخ الامام
أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي بالبلاد الشامية، عز الدين عبد العزيز بن
نحرير بن البراج قدس سره.
4 - وقال بعض تلامذة الشيخ علي الكركي، في رسالته المعمولة في ذكر
أسامي مشائخ الأصحاب: ومنهم الشيخ عبد العزيز بن البراج الطرابلسي،
صنف كتبا نفيسة منها: المهذب، والكامل، والموجز، والاشراق،
والجواهر، وهو تلميذ الشيخ محمد بن الطوسي.
5 - وقال الأفندي في الرياض: وقد وجدت منقولا عن خط الشيخ
البهائي، عن خط الشهيد أنه تولى ابن البراج قضاء طرابلس عشرين سنة أو
ثلاثين سنة، وكان للشيخ أبي جعفر الطوسي أيام قراءته على السيد المرتضى كل
شهر إثنا عشر دينارا ولابن البراج كل شهر ثمانية دنانير، وكان السيد المرتضى
يجري على تلامذته جميعا.
6 - ونقل عن بعض الفضلاء أن ابن البراج قرأ على السيد المرتضى في
شهور سنة تسع وعشرين وأربعمائة إلى أن مات المرتضى، وأكمل قراءته على
الشيخ الطوسي، وعاد إلى طرابلس في سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، وأقام بها
إلى أن مات ليلة الجمعة لتسع خلون من شعبان سنة إحدى وثمانين وأربعمائة
وقد نيف على الثمانين.
7 - ونقل صاحب الروضات عن " أربعين الشهيد "، نقلا عن خط صفي
الدين المعد الموسوي: إن سيدنا المرتضى - رضي الله عنه - كان يجري على
تلامذته رزقا، فكان للشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه الله أيام قراءته عليه كل
شهر إثنا عشر دينارا وللقاضي كل شهر ثمانية دنانير، وكان وقف قرية على
كاغذ الفقهاء.
8 - وقال عنه التفريشي في رجاله: فقيه الشيعة الملقب بالقاضي، وكان
قاضيا بطرابلس.
9 - وقال المولى نظام الدين القرشي في نظام الأقوال عبد العزيز ابن
البراج، أبو القاسم، شيخ من أصحابنا، قرأ على المرتضى في شهور سنة تسع
وعشرين وأربعمائة وكمل قراءته على الشيخ الطوسي وعبر عنه بعض
- كالشهيد في الدروس وغيره - بالقاضي، لأنه ولي قضاء طرابلس عشرين سنة
أو ثلاثين، مات ليلة الجمعة لتسع خلون من شعبان سنة إحدى وثمانين
وأربعمائة.
10 - وقال الشيخ الحر العاملي في أمل الآمل:... وجه الأصحاب
وفقيههم وكان قاضيا بطرابلس، وله مصنفات، ثم ذكر نفس ما ذكره منتجب
الدين في فهرسه، ابن شهرآشوب في معالمه، والتفريشي في رجاله.
11 - وقال المجلسي في أول البحار: وكتاب المهذب وكتاب الكامل وكتاب
جواهر الفقه للشيخ الحسن المنهاج، عبد العزيز بن البراج، وكتب الشيخ
الجليل ابن البراج كمؤلفها في غاية الاعتبار.
12 - وقال التستري في مقابيس الأنوار: الفاضل الكامل، المحقق
المدقق، الحائز للمفاخر والمكارم ومحاسن المراسم، الشيخ سعد الدين وعز
المؤمنين، أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن البراج الطرابلسي الشامي نور الله
مرقده السامي، وهو من غلمان المرتضى، وكان خصيصا بالشيخ وتلمذ عليه
وصار خليفته في البلاد الشامية، وروى عنه وعن الحلبي، وربما استظهر
تلمذته على الكراجكي وروايته عنه أيضا (3).
وصنف الشيخ له - بعد سؤاله - جملة من كتبه معبرا عنه في أوائلها بالشيخ
الفاضل، وهو المقصود به والمعهود، كما صرح به الراوندي في " حل
المعقود "، وكتب الشيخ أجوبة مسائل له أيضا، وكان من مشائخ ابن أبي
كامل، والشيخ حسكا، والشيخ عبد الجبار، والشيخ محمد بن علي بن محسن
الحلبي، وروى عنه ابناه الأستاذان أبو القاسم وأبو جعفر اللذان يروي عنهما
القطب الراوندي وابن شهرآشوب السروي وغيرهم، وله كتب منها:
المهذب، والجواهر، وشرح جمل المرتضى، والكامل، وروضة النفس،
والمعالم، والمقرب، والمعتمد، والمنهاج وعماد المحتاج في مناسك الحاج،



(1) المراد من الغلمان في مصطلح الرجاليين هو الخصيص بالشيخ، حيث أنه تلمذ عليه وصار من بطانة
علومه.
(2) رياض العلماء ج 3 ص 141 - 142.
(3) سيوافيك من صاحب رياض العلماء خلافه وأن الذي تتلمذ عليه هو تلميذ القاضي لا نفسه، وأن
الاشتباه حصل من الوحدة في الاسم واللقب.
92
والموجز، وغيرها، ولم أقف إلا على الثلاثة الأول، ويعبر عنه كثيرا بابن
البراج.
13 - وقال المتتبع النوري:... الفقيه العالم الجليل، القاضي في
طرابلس الشام في مدة عشرين سنة تلميذ علم الهدى وشيخ الطائفة، وكان
يجري السيد عليه في كل شهر دينار الصحيح ثمانية دنانير، وهو المراد
بالقاضي على الاطلاق في لسان الفقهاء، وهو صاحب المهذب والكامل
والجواهر وشرح الجمل للسيد والموجز وغيرها... توفي - رحمه الله - ليلة
الجمعة لتسع خلون من شعبان سنة 481 ه‍، وكان مولده ومنشأه بمصر.
إلى غير ذلك من الكلمات المشابهة والمترادفة الواردة في كتب التراجم
والرجال التي تعرف مكانة الرجل ومرتبته في الفقه وكونه أحد أعيان الطائفة في
عصره، وقاضيا من قضاتهم في طرابلس.
ميلاده وموطنه
ميلاده: لم نقف على مصدر يعين تاريخ ميلاد المرتجم له على وجه دقيق،
غير أن كلمة الرجاليين والمترجمين له اتفقت على أنه توفي عام 481 ه‍ وقد نيف
على الثمانين (2)، فعلى هذا فان أغلب الظن أنه - رحمه الله - ولد عام 400 ه‍ أو
قبل هذا التاريخ بقليل.
وأما موطنه فقد نقل صاحب " رياض العلماء " عن بعض الفضلاء أنه كان
مولده بمصر، وبها منشأه وأخذ منه صاحب المقابيس كما عرفت، ولكن
الظاهر أنه شامي لا مصري.
الرزق بحسب الدرجة العلمية
قد وقفت في غضون كلمات الرجاليين والمترجمين أن السيد المرتضى كان
يجري الرزق على الشيخ الطوسي اثني عشر دينارا وعلى المؤلف ثمانية دنانير،
وهذا يفيد أن المؤلف كان التلميذ الثاني من حيث المرتبة والبراعة بعد الشيخ
الطوسي في مجلس درس السيد المرتضى، كيف وقد اشتغل الشيخ بالدراسة
والتعلم قبله بخمسة عشر عاما، لأنه تولد عام 400 ه‍ أو قبله بقليل وولد
الشيخ الطوسي عام 485 ه‍.
وحتى لو فرض أنهما كانا متساويين في العمر ومدة الدراسة ولكن براعة
الشيخ وتضلعه ونبوغه مما لا يكاد ينكر، وعلى كل تقدير فالظاهر أن هذا
السلوك من السيد بالنسبة لتلميذيه كان بحسب الدرجة العلمية.
هو الزميل الأصغر للشيخ
لقد حضر المؤلف درس السيد المرتضى عام 429 ه‍، وهو ابن ثلاثين سنة
أو ما يقاربه، فقد استفاد من بحر علمه وحوزة درسه قرابة ثمان سنين، حيث
أن المرتضى لبى دعوة ربه لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة 436 ه‍.
فعند ما لبى الأستاذ دعوة ربه، حضر درس الشيخ إلى أن نصب قاضيا في
طرابلس عام 438، وعلى ذلك فقد استفاد من شيخه الثاني قرابة ثلاث
سنوات، و مع ذلك كله فالحق أن القاضي ابن براج زميل الشيخ في الحقيقة،
وشريكه في التلمذ على السيد المرتضى.
ويدل على أن ابن البراج كان زميلا للشيخ لا تلميذا له أمور:
1 - عندما توفي أستاذه السيد المرتضى رحمه الله، كان القاضي ابن براج
قد بلغ مبلغا كبيرا من العمر، يبلغ الطالب في مثله مرتبة الإجتهاد، وهو
قرابة الأربعين، فيبعد أن يكون حضوره في درس الشيخ الطوسي من باب
التلمذ.
2 - إن السيد المرتضى عمل كتابا باسم جمل العلم والعمل " في الكلام
والفقه على وجه موجز، ملقيا فيها الأصول والقواعد في فن الكلام والفقه.
وقد تولى شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي شرح القسم الكلامي
منه، وهو ما عبر عنه ب‍ " تمهيد الأصول " وقد طبع الكتاب بهذا الاسم
وانتشر.
بينما تولى القاضي ابن براج - المترجم له - شرح القسم الفقهي.
ومن هذا يظهر زمالة هذين العلمين، بعضهما لبعض في المجالات
العلمية، فكل واحد يشرح قسما خاصا من كتاب أستاذهما.
3 - إن شيخنا المؤلف ينقل في كتابه شرح جمل العلم والعمل " عند
البحث عن جواز إخراج القيمة من الأجناس الزكوية ما هذا عبارته: " وقد
ذكر في ذلك ما أشار إليه صاحب الكتاب رضي الله عنه، من الرواية الواردة،
من الدرهم أو الثلثين، والأحوط إخراجها بقيمة الوقت، وهذا الذي استقر
تحريرنا له مع شيخنا أبي جعفر الطوسي، ورأيت من علمائنا من يميل إلى
ذلك ".
وهذه العبارة تفيد زمالتهما في البحث والتحرير. هذا فضلا عن أن المترجم
عندما يطرح في كتابه (المهذب) آراء الشيخ يعقبه بنقد بناء ومناقشة جريئة،
وهذا يعطي كونه زميلا للشيخ لا تلميذا آخذا عنه.
4 - إن الناظر في ثنايا كتاب " المهذب " يرى بان المؤلف - المترجم له - يعبر
عن أستاذه السيد المرتضى بلفظة " شيخنا " بينما يعبر عن الشيخ الطوسي بلفظة
" الشيخ أبو جعفر الطوسي " لا ب‍ " شيخنا " والفارق بين التعبيرين واضح
وبين.
وهذا وإن لم يكن قاعدة مطردة في هذا الكتاب إلا أنها قاعدة غالبية. نعم
عبر في " شرح جمل العلم والعمل " عنه ب‍ " شيخنا " كما نقلناه.
5 - ينقل هو رأي الشيخ الطوسي - بلفظ " ذكر " أي قيل، وقد وجدنا
موارده في مبسوط الشيخ ونهايته.
ولا شك أن هذا التعبير يناسب تعبير الزميل عن الزميل لا حكاية التلميذ
عن أستاذه.
استمرار الاجتهاد والمناقشة في آراء الشيخ
لقد نقل صاحب المعالم عن والده - الشهيد الثاني - رحمه الله بأن أكثر
الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليدا له لكثرة
اعتقادهم فيه وحسن ظنهم به، فلما جاء المتأخرون وجدوا أحكاما مشهورة قد
عمل بها الشيخ ومتابعوه فحسبوها شهرة بين العلماء، وما دروا أن مرجعها إلى
الشيخ وأن الشهرة إنما حصلت بمتابعته.
قال الوالد - قدس الله نفسه -: وممن اطلع على هذا الذي تبينته وتحققته من
غير تقليد: الشيخ الفاضل المحقق سديد الدين محمود الحمصي، والسيد

93
رضي الدين بن طاووس، وجماعة.
وقال السيد في كتابه المسمى ب‍ " البهجة لثمرة المهجة ": أخبرني جدي
الصالح - قدس الله روحه - ورام بن أبي فراس - قدس الله روحه - أن الحمصي
حدثه أنه لم يبق مفت للامامية على التحقيق بل كلهم حاك وقال السيد عقيب
ذلك: والآن فقد ظهر لي أن الذي يفتى به ويجاب على سبيل ما حفظ من كلام
المتقدمين.
ولكن هذا الكلام على إطلاقه غير تام، لما نرى من أن ابن البراج قد عاش
بعد الشيخ أزيد من عشرين سنة، وألف بعض كتبه كالمهذب بعد وفاة الشيخ
وناقش آراءه بوضوح، فعند ذلك لا يستقيم هذا القول على إطلاقه: " لم يبق
مفت للامامية على التحقيق بل كلهم حاك ".
وخلاصة القول أن في الكلام المذكور نوع مبالغة، لوجود مثل هذا الفقيه
البارع.
مدى صلته بالشيخ الطوسي
قد عرفت مكانة الشيخ ومنزلته العلمية، فقد كان الشيخ الطوسي ينظر إليه
بنظر الإكبار والإجلال، ولأجل ذلك نرى أن الشيخ ألف بعض كتبه لأجل
التماسه فها هو الشيخ الطوسي يصرح في كتابه المفصح في إمامة أمير
المؤمنين " بأنه ألف هذا الكتاب لأجل سؤال الشيخ ابن البراج منه، فيقول:
سألت أيها الشيخ الفاضل - أطال الله بقاءك وأدام تأييدك - إملاء كلام في
صحة إمامة أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، صلوات الله عليه. (1)
كما أنه ألف كتابه " الجمل والعقود " بسؤاله أيضا حيث قال:
أما بعد فانا مجيب إلى ما سال الشيخ الفاضل - أدام الله بقاءه، من إملاء
مختصر يشتمل على ذكر كتب العبادات (2).
ونرى أنه ألف كتابه الثالث " الإيجاز في الفرائض والمواريث " بسؤال الشيخ
أيضا فيقول:
سألت أيدك الله إملاء مختصر في الفرائض والمواريث (3).
ولم يكتف الشيخ بذلك، فألف رجاله بالتماس هذا الشيخ أيضا إذ
يقول:
أما بعد فاني قد أجبت إلى ما تكرر سؤال الشيخ الفاضل فيه، من جمع
كتاب يشتمل على أسماء الرجال الذين رووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن الأئمة
من بعده إلى زمن القائم - عليهم السلام -، ثم أذكر من تأخر زمانه عن الأئمة
من رواة الحديث (4).
ويقول المحقق الطهراني في مقدمته على " التبيان "، عند البحث عن
" الجمل والعقود ":
قد رأيت منه عدة نسخ في النجف الأشرف، وفي طهران، ألفه بطلب من
خليفته في البلاد الشامية، وهو القاضي ابن البراج، وقد صرح في هامش
بعض الكتب القديمة بأن القاضي المذكور هو المراد بالشيخ، كما ذكرناه في
الذريعة ج 5 ص 145.
ويقول المحقق الشيخ محمد واعظ زاده في تقديمه على كتاب " الرسائل
العشر ".
وفي هامش النسخة من كتاب " الجمل والعقود " التي كانت بأيدينا، قد
قيد أن الشيخ هو ابن البراج.
وعلى ذلك يحتمل أن يكون المراد من الشيخ الفاضل في هذه الكتب الثلاثة
هو الشيخ القاضي ابن البراج، كما يحتمل أن يكون هو المراد في ما ذكره في
أول كتاب الفهرس حيث قال:
ولما تكرر من الشيخ الفاضل - أدام الله تأييده - الرغبة في ما يجري هذا
المجرى، وتوالى منه الحث على ذلك، ورأيته حريصا عليه، عمدت إلى كتاب
يشتمل على ذكر المصنفات والأصول ولم أفرد أحدهما عن الآخر...، وألتمس
بذلك القربة إلى الله تعالى، وجزيل ثوابه، ووجوب حق الشيخ الفاضل - أدام
الله تأييده -، وأرجو أن يقع ذلك موافقا لما طلبه إن شاء الله تعالى (5).
ونرى نظير ذلك في كتابه الخامس أعني " الغيبة " حيث يقول:
فإني مجيب إلى ما رسمه الشيخ الجليل - أطال الله بقاه -، من إملاء كلام في
غيبة صاحب الزمان (6).
وربما يحتمل أن يكون المراد من الشيخ في الكتاب الخامس، هو الشيخ
المفيد، ولكنه غير تام لوجهين.
أولا: أنه قد عين تاريخ تاليف الكتاب عند البحث عن طول عمره حيث
قال:
فإن قيل ادعاؤكم طول عمر صاحبكم أمر خارق للعادات، مع بقائه
- على قولكم - كامل العقل تام القوة والشباب، لأنه على قولكم في هذا الوقت
الذي هو سنة سبع وأربعين وأربعمائة...
ومن المعلوم أن الشيخ المفيد قد توفي قبل هذه السنة ب‍ 34 عاما.
أضف إلى ذلك أنه يصرح في أول كتاب الغيبة بأنه " رسمه مع ضيق
الوقت، وشعث الفكر، وعوائق الزمان، وطوارق الحدثان "، وهو يناسب
أخريات إقامة الشيخ في بغداد، حيث حاقت به كثير من الحوادث المؤسفة
المؤلمة، حتى ألجأت الشيخ إلى مغادرة بغداد مهاجرا إلى النجف الأشرف،
حيث دخل طغرل بك السلجوقي بغداد عام 447، واتفق خروج الشيخ منها
بعد ذلك عام 448، فقد أحرق ذلك الحاكم الجائر مكتبة الشيخ والكرسي
الذي يجلس عليه في الدرس، وكان ذلك في شهر صفر عام 449 (7).
أضف إلى ذلك أن شيخ الطائفة ألف كتابا خاصا باسم " مسائل ابن
البراج ".، نقله شيخنا الطهراني في مقدمة " التبيان " عن فهرس الشيخ.
أساتذته
لا شك أن ابن البراج أخذ أكثر علومه عن أستاذه السيد المرتضى، وتخرج



(1) الرسائل العشر ص 117.
(2) الرسائل العشر ص 155.
(3) الرسائل العشر ص 269.
(4) رجال الشيخ ص 2.
(5) فهرس الشيخ ص 24.
(6) الغيبة ص 78.
(7) لاحظ المنتظم لابن الجوزي ج 8 ص 173، والكامل لابن الأثير ج 8 ص 81.
94
على يديه، وحضر بحث شيخ الطائفة على النحو الذي سمعت، غير أننا لم
نقف على أنه عمن أخذ أوليات دراساته في الأدب وغيره.
وربما يقال أنه تتلمذ على المفيد، كما في " رياض العلماء " وهو بعيد جدا،
لأن المفيد توفي عام 413 ه‍، والقاضي بعد لم يبلغ الحلم لأنه من مواليد 400
أو بعام قبله، ومثله لا يقدر على الاستفادة من بحث عالم نحرير كالمفيد.
وقد ذكر التستري صاحب المقابيس أنه تلمذ على الشيخ أبي الفتح محمد بن
علي بن عثمان الكراجكي، أحد تلاميذ المفيد ثم السيد، ومؤلف كتاب " كنز
الفوائد " وغيره من المؤلفات البالغة ثلاثين تأليفا (1).
وقال في الرياض ناقلا عن المجلسي في فهرس بحاره: إن عبد العزيز بن
البراج الطرابلسي من تلاميذ أبي الفتح الكراجكي، ثم استدرك على المجلسي
بأن تلميذه هو القاضي عبد العزيز بن أبي كامل الطرابلسي، لا عبد العزيز بن
نحرير.
غير أن التستري لم يذكر على ما قاله مصدرا نعم بحسب طبع الحال فقد
أخذ عن مثله.
وربما يقال بتلمذه على أبي يعلى محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري، صهر
الشيخ المفيد وخليفته، والجالس محله الذي وصفه النجاشي في رجاله بقوله:
بأنه متكلم فقيه قيم بالأمرين جميعا.
ولم نقف على مصدر لهذا القول، سوى ما ذكره الفاضل المعاصر الشيخ
كاظم مدير شانه جي في مقدمة كتابه لشرح " جمل العلم والعمل " للقاضي ابن
براج.
وربما عد من مشايخه أبو الصلاح تقي الدين بن نجم الدين المولود عام
347 والمتوفى عام 447، عن عمر يناهز المائة، وهو خليفة الشيخ في الديار
الحلبية، كما كان القاضي خليفته في ناحية طرابلس.
كما يحتمل تلمذه على حمزة بن عبد العزيز الملقب بسلار المتوفى عام 463،
المدفون بقرية خسرو شاه من ضواحي تبريز، صاحب المراسم ولم نجد لذلك
مصدرا وإنما هو وما قبله ظنون واحتمالات، وتقريبات من الشيخ الفاضل
المعاصر " مدير شانه جي "، وعلى ذلك فقد تلمذ المترجم له على الشيخ أبي
عبد الله جعفر بن محمد الدويريستي، ثقة عين، عدل، قرأ على شيخنا المفيد،
والمرتضى علم الهدى (2).
وقد ذكر الفاضل المعاصر من مشايخه عبد الرحمان الرازي، والشيخ
المقرئ ابن خشاب، ونقله عن فهرس منتجب الدين، غير أنا لم نقف على
ذلك في فهرس منتجب الدين وإنما الوارد فيه غير ذلك.
فقد قال الشيخ منتجب الدين: الشيخ المفيد أبو محمد عبد الرحمان بن
أحمد الحسين النيسابوري الخزاعي، شيخ الأصحاب بالري، حافظ، ثقة
واعظ، سافر في البلاد شرقا وغربا، وسمع الأحاديث عن المؤالف والمخالف،
وقد قرأ على السيدين علم الهدى المرتضى، وأخيه الرضي، والشيخ أبي جعفر
الطوسي، والمشايخ سالار، وابن البراج، والكراجكي.
وقال أيضا: الشيخ المفيد عبد الجبار بن عبد الله بن علي المقرئ الرازي
فقيه الأصحاب بالري، قرأ عليه في زمانه قاطبة المتعلمين من السادة والعلماء،
وقد قرأ على الشيخ أبي جعفر الطوسي جميع تصانيفه وقرأ على الشيخين سالار
وابن البراج (3).
عام تأليفه كتاب " المهذب "
قد ذكر القاضي في كتاب الإجارة تاريخ اشتغاله بكتابه باب الإجارة وهو
عام 467.
فالكتاب حصيلة ممارسة فقهية، ومزاولة طويلة شغلت عمر المؤلف مدة لا
يستهان بها، وعلى ذلك فهو ألف الكتاب بعد تخليه عن القضاء لأنه اشتغل
بالقضاء عام 438، ومارسه بين عشرين وثلاثين عاما، فعلى الأول كتبها بعد
التخلي عنه، وعلى الثاني اشتغل بالكتابة في أخريات ممارسته للقضاء.
وعلى ذلك فالكتاب يتمتع بأهمية كبرى، لأنه وقف في أيام توليه للقضاء
على موضوعات ومسائل مطروحة على صعيد القضاء، فتناولها بالبحث في
الكتاب، وأوضح أحكامها، فكم فرق بين كتاب فقهي يؤلف في زوايا المدرسة
من غير ممارسة عملية للقضاء، وكتاب ألف بعد الممارسة لها أو خلالها.
ولأجل ذلك يعتبر الكتاب الحاضر " المهذب " من محاسن عصره.
تلاميذه
كان المترجم له يجاهد على صعيد القضاء بينما هو يؤلف في موضوعات
فقهية وكلامية، وفي نفس الوقت كان مفيدا ومدرسا، فقد تخرج على يديه عدة
من الأعلام نشير إلى بعضهم:
1 - الحسن بن عبد العزيز بن المحسن الجبهاني (الجهياني) المعدل
بالقاهرة، فقيه، ثقة، قرأ على الشيخ أبي جعفر الطوسي، و الشيخ ابن
البراج، رحمهم الله جميعا.
2 - الداعي بن زيد بن علي بن الحسين بن الحسين الأفطسي الحسيني
الآوي، الذي عمر عمرا طويلا كما ذكره صاحب المعالم في إجازته الكبيرة،
وهو يروي عن المرتضى، والطوسي، وسلار، وابن البراج، والتقي الحلبي
جميع كتبهم وتصانيفهم وجميع ما رووه وأجيز لهم روايته.
3 - الشيخ الإمام شمس الاسلام الحسن بن حسين بن بابويه القمي،
نزيل الري، المدعو حسكا، جد الشيخ منتجب الدين الذي يقول نجله في
حقه: فقيه، ثقة، قرأ على شيخنا الموفق أبي جعفر جميع تصانيفه بالغري - على
ساكنه السلام -، وقرأ على الشيخين: سلار بن عبد العزيز، وابن البراج جميع
تصانيفهما.
4 - الشيخ المفيد أبو محمد عبد الرحمان بن أحمد بن الحسين النيسابوري
الخزاعي.
5 - الشيخ المفيد عبد الجبار بن عبد الله بن علي المقري الرازي.
وقد توفي بطرابلس، ودفن في حجرة القاضي، كما حكي عن خط جد
صاحب المدارك، عن خط الشهيد وكان حيا إلى عام 503.



(1) ريحانة الأدب ج 5 ص 40.
(2) فهرس منتجب الدين ص 215 - 216.
(3) بحار الأنوار ج 102 - فهرس الشيخ منتجب الدين - ص 242.
95
وقد عرفت نص الشيخ منتجب الدين في حق الرجلين.
6 - الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن المحسن الحلبي، فقيه، صالح،
أدرك الشيخ أبا جعفر الطوسي.
وقال في الرياض ": إنه يظهر من إجازة الشيخ علي الكركي للشيخ علي
الميسي وغيرها من المواضع، أنه يروي عن القاضي عبد العزيز بن البراج الشيخ
أبو جعفر محمد بن محسن الحلي (1) وينقل عنه.
وقال في تلك الإجازة في مدح ابن البراج هكذا: الشيخ السعيد الفقيه،
الحبر، العلامة، عز الدين، عبد العزيز بن البراج - قدس الله سره -.
7 - عبد العزيز بن أبي كامل القاضي عز الدين الطرابلسي، سمي شيخنا
المترجم له، يروي عن المترجم له، والشيخ الطوسي، وسلار، ويروي عنه
عبد الله بن عمر الطرابلسي كما في " حجة الذاهب ".
8 - الشيخ كميح والد أبي جعفر، يروي عن ابن البراج.
9 و 10 - الشيخان الفاضلان الأستاذان ابنا المؤلف: أبو القاسم (10) وأبو
جعفر اللذان يروي عنهما الراوندي والسروي وغيرهم.
11 و 12 - أبو الفتح الصيداوي وابن رزح، من أصحابنا.
هؤلاء من مشاهير تلاميذ القاضي وقفنا عليهم في غضون المعاجم،
وليست تنحصر فيمن عددناهم.
تنبيه
1 - إنه كثيرا ما يشتبه الأستاذ بالتلميذ لأجل المشاركة في الاسم واللقب،
فتعد بعض تصانيف الأستاذ من تاليف التلميذ.
قال في " رياض العلماء ": وعندي أن بعض أحوال القاضي سعد الدين
عبد العزيز ابن البراج هذا، قد اشتبه بأحوال القاضي عز الدين عبد العزيز بن
أبي كامل الطرابلسي.
ويظهر من الشهيد الأول في كتابه " الأربعين "، في سند الحديث الثاني
والثلاثين، وسند الحديث الثالث والثلاثين مغايرة الرجلين.
قال الشهيد الأول في سند الحديث الثاني والثلاثين:... القطب
الراوندي، عن الشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن المحسن الحلي (3)، قال:
حدثنا الشيخ الفقيه الإمام سعد الدين أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن
البراج الطرابلسي، قال: حدثنا السيد الشريف المرتضى علم الهدى أبو القاسم
علي بن الحسين الموسوي، إلى آخره، وفي سند الحديث الثالث والثلاثين...
الشيخ أبو محمد عبد الله بن عمر الطرابلسي، عن القاضي عبد العزيز بن أبي
كامل الطرابلسي، عن الشيخ الفقيه المحقق أبي الصلاح تقي بن نجم الدين
الحلبي، عن السيد الإمام المرتضى علم الهدى... إلى آخره.
ولاحظ الذريعة ج 23 ص 294 فلا شك - كما ذكرنا - فإن القاضي ابن
أبي كامل تلميذ القاضي بن نحرير.
2 - يظهر من غضون المعاجم أن بعض ما ألفه القاضي في مجالات الفقه كان
مركزا للدراسة، ومحورا للتدريس، حيث أن الشيخ سعيد بن هبة الله بن
الحسن الراوندي - الشهير بالقطب الراوندي - كتب بخطه إجازة لولده على
كتاب " الجواهر في الفقه " لابن البراج عبد العزيز وهذه صورتها:
قرأه على ولدي نصير الدين أبو عبد الله الحسين - أبقاه الله ومتعني به -،
قراءة اتقان، وأجزت له أن يرويه عن الشيخ أبي جعفر محمد بن المحسن
الحلبي عن المصنف (4).
ولم تكن الدراسة لتقتصر على كتاب " الجواهر "، بل كان كتابه الآخر وهو
" الكامل " كتابا دراسيا أيضا.
ولذلك نرى أن الشيخ أبا محمد عبد الواحد الحبشي، من تلاميذ القاضي
عبد العزيز بن أبي كامل الطرابلسي، قرأ الكامل عليه.
والكامل من مؤلفات المترجم له.
3 - نقل صاحب الرياض أنه تولى القضاء في طرابلس، لدفع الضرر عن
نفسه بل عن غيره أيضا، والتمكن من التصنيف، وقد عمل أكثر الخلق ببركته
بطريق الشيعة، وقد نصبه على القضاء جلال الملك عام 438 ه‍.
4 - وقد عبر العلامة الطباطبائي في منظومته عن القاضي بالحافي، ولم نجد
له مصدرا قبله.
قال في منظومته:
وسن رفع اليد بالتكبير * والمكث حتى الرفع للسرير
والخلع للحذاء دون الاحتفاء * وسن في قضائه الحافي الحفاء (5)
تاليفه
خلف المترجم له ثروة علمية غنية في الفقه والكلام، تنبئ عن سعة باعه
في هذا المجال، وتضلعه في هذا الفن.
وإليك ما وقفنا عليه من أسمائها في المعاجم:
1 - الجواهر: قال في رياض العلماء: رأيت نسخة منه في بلدة ساري،
من بلاد مازندران، وهو كتاب لطيف، وقد رأيت نسخة أخرى منه بإصفهان
عند الفاضل الهندي، وقد أورد فيه المسائل المستحسنة المستغربة والأجوبة
الموجزة المنتخبة.
2 - شرح جمل العلم والعمل.
3 - المهذب.
4 - روضة النفس.
5 - المقرب في الفقه.
6 - المعالم في الفروع.
7 - المنهاج في الفروع.
8 - الكامل في الفقه، وينقل عنه المجلسي في بحاره.
9 - المعتمد في الفقه.
10 - الموجز في الفقه، وربما ينسب إلى تلميذه ابن أبي كامل الطرابلسي.



(1) ووصفه الشيخ منتجب الدين: بالحلبي كما نقلناه آنفا.
(2) وبما أن كنية القاضي هو أبو القاسم، وملازم ذلك أن يكون اسم ابنه القاسم لا أبو القاسم، ومن
جانب آخر فإن التسمية بنفس القاسم وحده بلا ضم كلمة الأب إليه قليل في البيئات العربية،
فيحتمل وحدة الكنية في الوالد والولد.
(3) وقد عرفت أن الصحيح هو " الحلبي ".
(4) قد مضى أنه من تلاميذ القاضي.
(5) روضات الجنات ج 4 ص 205 والظاهر أن الحافي تصحيف القاضي.
96
11 - عماد المحتاج في مناسك الحاج.
ويظهر من الشيخ ابن شهرآشوب في " معالم العلماء " أن كتبه تدور بين
الأصول والفروع كما أن له كتابا في علم الكلام.
ولكنه مع الأسف قد ضاعت تلك الثروة العلمية، ولم يبق إلا الكتب
الثلاثة: الجواهر، المهذب، شرح جمل العلم والعمل.
ويظهر من ابن شهرآشوب أنه كان معروفا في القرن السادس بابن
البراج، وهذا يفيد بان البراج كان شخصية من الشخصيات، حتى أنه نسب
القاضي إلى هذا البيت.
هذه هي كتبه وقد طبع منها الجواهر ضمن " الجوامع الفقهية " على
وجه غير نقي عن الغلط، فينبغي لرواد العلم إخراجه وتحقيق متنه على نحو
يلائم العصر.
كما أنه طبع من مؤلفاته " شرح جمل العلم والعمل " بتحقيق الأستاذ كاظم
مدير شانه جي.
السيد عبد الصاحب الحكيم بن السيد محسن
ولد سنة 1942 م في النجف الأشرف واستشهد في 5 آذار سنة 1985 م
درس في النجف وكان من أساتذته السيد محمد الروحاني والسيد محمد باقر
الحكيم والشهيد السيد محمد باقر الصدر، هذا فضلا عن تلقيه دروس
(الخارج) على السيد الخوئي. وبلغ درجة الاجتهاد وهو في الثلاثين من عمره
تولى تدريس الفقه والأصول واهتم بتدريس الأخلاق، كما كان له في أواخر
أيامه بحث في التفسير.
وله كتابات في الفقه والأصول، وشرح الكفاية في الأصول.
استشهد على أيدي الطغاة البرابرة جلادي الشعوب جماعة النظام العراقي
التكريتي مع ستة من أهل بيته في مذبحة من أشجى مذابح العالم الإسلامي.
وكان قد سبقهم إلى الاستشهاد السيد محمد باقر الصدر والألوف من أبناء
الشعب العراقي المسلم، كما لحقهم بعد ذلك الألوف، قتلوا صبرا برصاص
البغي والعصبية اللئيمة بلا جرم سوى انهم مؤمنون.
أما الشهداء أهل بيت الشهيد فهم:
1 - اخوه السيد عبد الهادي المولود في النجف سنة 1940 م الذي درس
أولا في النجف ثم اتجه إلى الدراسات الجامعية حيث نال شهادة الماجستير في
الشريعة الاسلامية من جامعة بغداد. وكان موضوع رسالته (العقد الفضولي
في الفقه الاسلامي). ثم أكمل الدراسة في القاهرة حيث نال شهادة الدكتوراه
في الشريعة الاسلامية في حدود سنة 1977 م. وكان موضوع الرسالة
(المعاطاة في الفقه الاسلامي).
وتولى التدريس في كلية أصول الدين في بغداد وفي كلية الفقه في النجف.
2 - اخوه السيد علاء الدين. ولد في النجف سنة 1365 ه‍ وأكمل
دراسته فيها، ثم كان من مدرسي حوزتها في (السطوح والمقدمات) ثم اشترك
في إدارة مدرسة دار الحكمة لطلاب العلوم الدينية في النجف التي أسسها والده
السيد محسن.
3 - اخوه السيد محمد حسين. ولد في النجف سنة 1367 ه‍ ودرس فيها
ثم كان من مدرسي حوزتها العلمية على مستوى السطوح والمقدمات.
4 - ابن أخيه السيد كمال ابن السيد يوسف. ولد في النجف الأشرف
سنة 1362 ه درس في النجف، وكان من تلامذة السيد الخوئي في بحث
(الخارج). ثم كان من مدرسي الحوزة العلمية، وله محاضرات وشروح
وتعليقات في الفقه والعلوم الدينية.
5 - ابن أخيه السيد عبد الوهاب ولد في النجف سنة 1364 ه‍ ودرس
فيها.
6 - ابن أخيه السيد احمد ابن السيد محمد رضا. ولد سنة 1364 ه‍ في
النجف الأشرف وانهى الدروس الابتدائية والمتوسطة والثانوية في المدارس
الحكومية. ثم حاز على شهادة البكلوريوس من جامعة القاهرة في العلوم
الانسانية.
عبد الكريم الخليل
مرت ترجمته في الصفحة 32 من المجلد الثامن ونزيد عليها هنا ما يلي:
قال أحمد عزت الأعظمي في كتابه (القضية العربية) في الصفحة
الخامسة:
كان عبد الكريم أفندي قاسم الخليل من اخلص شباب العرب للقضية
القومية وكان ذا مبدأ قويم رضع أفاويقه منذ الصغر فشب على حب العروبة
وتمسك بأهدافها، فتراه وهو لا ينفك عن السعي دائما لتحقيق أماني الأمة
العربية حيث لم تكن أمانيها الا الاستقلال الذي تعتز به الأمم.
ولا نغالي إذا قلنا ونحن نسجل قضايا تاريخ النهضة العربية - ان ما نراه
اليوم من هذه النهضة يعود الأوفر منه إلى سعي ذلك الشاب النبيل.
إلى أن يقول الأعظمي:
نعم فان لعبد الكريم قاسم الخليل فضلا كبيرا على الأمة العربية لأنه كان
من أخلص خدامها الأمناء الأبرار.
ثم يقول في مكان آخر:
" كان العرب والترك من جملة العناصر التي اخذت في تشكيل جمعيات بعد
اعلان الدستور وقد اندفعت مختلف الأقوام إلى تشكيلها وكأنها انطلقت من
عقال. وباعتبار أن قانون 7 / 7 / 1909 بخصوص الجمعيات كان يحظر قيام
جمعيات وأحزاب ذات أهداف سياسية بتسمية قومية، فإن العناصر المختلفة قد
لجأت إلى تشكيل هذا النوع من الجمعيات بصورة سرية، لأنه لم يكن بالإمكان
وضع السدود أمام العواطف القومية التي بدأت تغزو الشعور العام، خاصة
بعد أن رأت عناصر الدولة المختلفة أن الاتحاديين لا يتقيدون بروح القوانين التي
يصدرونها هم أنفسهم، فيوجهون دفة السياسة الداخلية في مصلحة العنصر
التركي. أما العرب فكانت جمعياتهم إما علنية وإما سرية. فما كان منها
بتسميات قومية كان سريا. وأما الأخرى التي لا تحمل تسمية قومية فبعضها
كان سريا، والجمعيات السرية الشهيرة هي التالية: الجمعية القحطانية،
جمعية العلم الأخضر، جمعية اليد السوداء، جمعية العهد، جمعية العربية
الفتاة..

97
" وأما الجمعيات والأحزاب والنوادي العلنية فهي التالية:
" المنتدى الأدبي، حزب اللامركزية العثماني بمصر، الجمعية الاصلاحية
في بيروت، وجمعية البصرة الاصلاحية وغيرها من الجمعيات الصغيرة وقد عقد
مؤتمر من الشبيبة العربية في باريس لبحث حقوق العرب اطلق عليه اسم
(المؤتمر العربي الأول).
" وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الجمعية السرية المسماة " اليد السوداء "،
والتي كان طالب الطب في الآستانة (داود يوسف الدبوتي) من الموصل من
أبرز مؤسسيها، وكانت الغاية من تأسيسها اغتيال كل من يناوئ الفكرة
العربية من رجال العرب خدمة منهم للاتحاديين لقاء منافع ومطامع شخصية، لم
تتمكن من الحيلة فانحلت قبل أن تمضي سنة واحدة على تأسيسها واندمج
أعضاؤها في الجمعيات الكبرى ".
المنتدى الأدبي
" وأما أبقى هذه الجمعيات وأخلدها ذكرا وأعظمها أثرا وفائدة للعنصر
العربي فكان هو المنتدى الأدبي ذو الأهداف العلمية الأدبية الاجتماعية.
" بعد أن ألغى الاتحاديون جمعية الآخاء العربي العثماني. في أعقاب ثورة
13 ابريل المضادة، رأى فريق من شباب العرب النبهاء في الآستانة وفي
مقدمتهم طالب الحقوق عبد الكريم قاسم الخليل من أبناء جبل عامل في لبنان
ضرورة تشكيل ناد علمي يجمع شبان العرب. إذ كان عبد الكريم، عند
تأسيس جمعية الآخاء العربي - العثماني من الذين نشطوا في الدعاية لها، فكان
يبث فكرة التآخي بين شبان العرب، ويدعوهم بين آونة وأخرى إلى بناية
الجمعية فيعرف بعضهم ببعض ويشرح لهم فوائد الاتحاد والوفاق، ويذكرهم
بماضي أجدادهم وتاريخهم المجيد فلما حل الاتحاديون الجمعية مع كافة فروعها
والغوا جريدتها " الآخاء العثماني " بدعوى وقوع بعض ما لا يناسب في سورية
عند حدوث ثورة 13 نيسان وظهور الأفكار الرجعية في تشكيلاتها وأعضائها
شعر شبان العرب بالفراغ فألفوا المنتدى الأدبي في 16 محرم 1327، الموافق 8
شباط 1910، وكان القصد من إيجاده أن يجمع شبان العرب وطلابهم تحت
سقفه وبين جدرانه بدلا من أن ينتشروا في المقاهي، أو يمضوا أوقاتهم بالبطالة
متجولين من مكان إلى مكان آخر، فيؤمن لهم مبيتا نظيفا وحياة طيبة.
أما الذين اشتركوا مع عبد الكريم الخليل في تأسيسه فكانوا نخبة من
طلاب العرب في الآستانة من أبرزهم يوسف مخيبر، سليمان حيدر من
بعلبك، ورفيق رزق سلوم من حمص، سيف الدين الخطيب من دمشق،
أحمد خليل الحسيني من القدس، وكان يضم بين جدرانه شبانا من جميع الأقطار
العربية، فترى السوري والعراقي واليماني والحجازي والبرقاوي والطرابلسي
والفلسطيني جنبا إلى جنب يترنمون بذكر أمجاد العرب.
ثم يتحدث باطناب عن المنتدى الأدبي قائلا:
" هو الجمعية التي أحيت الروح القومي وبثت المبادئ السامية بين طبقات
الشبيبة العربية في الآستانة وخارجها، وكانت خطته الوحيدة نشر الدعوة
للقضية القومية الوطنية). وقال الأستاذ مصطفى الشهابي الذي عاصر
الحوادث وعاش في جوها " ان هذا النادي كان مباءة العروبة في عاصمة
الدولة. ففيه كان الطلاب الجدد يتلقون ممن تقدمهم في الدراسة مبادئ القومية
العربية ومراميها وفيه كانت تدرس وتناقش خطط الأتراك الاتحاديين الرامية إلى
تسييد القومية التركية والقضاء على القوميات السائدة في الدولة. وكانت
أهداف النادي القومية تبرز على الملأ فيما كان يلقى فيه من محاضرات وخطب
وما كان يقام فيه من حفلات، وما كان ينشر في مجلته من بحوث وقصائد
ومقالات وأناشيد وطنية، وما كان يدور فيه من أحاديث ومناقشات في الشؤون
العربية سواء بين بعض أعضائه وبعض، أو بينهم وبين زوار النادي الكثيرين
من نواب وساسة وموظفين وجالية عربية مقيمة في العاصمة ".
لم يكن نشاط شبان العرب في تأسيسه مقتصرا عليهم فقط انما لقوا مؤازرة
كبيرة من رجالات العرب السياسين في الآستانة وفي مقدمتهم خليل حمادة باشا
وزير الأوقاف، وعبد الحميد الزهراوي، وشفيق المؤيد، ورضا الصلح،
ورشيد رضا، وحقي العظم، ورفيق العظم، والطبيب حسين حيدر وطالب
النقيب وعزيز علي المصري، وندرة مطران، ونخلة مطران، ورشدي الشمعة
الذين كانوا يلقون الخطب أحيانا في احتفالاته.
كانت الفكرة التي وجهت عبد الكريم هي أن تكون قواعد المنتدى الأدبي
مبنية على التربية الأساسية ورفع المستوى العلمي والأدبي والاجتماعي لخدمة
الفكرة القومية العربية، فوضع له منهاجا مفصلا عرضه على الشيخ رشيد
رضا، وكان يومئذ في الآستانة، لاصلاح لغته، ثم على وزير الأوقاف خليل
حمادة باشا بغية تنقيح بنوده لاشتغاله في مثل هذه المؤسسات ولسعة اطلاعه وخبرته
الكاملة. فرحب الوزير بهذا العمل الجليل وشجع القائمين به. وبعد أن
درس المنهاج ونقح ما نقح منه وضع للنادي اسمه المعروف، ووعد أن يخصص
له سنويا معونة قدرها خمسمائة ليرة عثمانية من الأوقاف على أن يكون كمعهد
علمي للشباب العربي تلقى فيه المحاضرات العلمية في الليل وتؤسس فيه مكتبة
قيمة، مع اتخاذ البعض من غرفه مأوى لأبناء العرب الذين لا تساعدهم
حالتهم المالية على السكن في الفنادق وما ان اطلع المخلصون من رجالات
العرب على تأسيس المنتدى حتى اندفعوا في مساعدته وتشجيعه فوضع شكري
بك الحسيني محاسب وزارة المعارف، وأحد أعضاء هيئة إدارة جمعية الآخاء
العربي - العثماني المنحلة، تحت تصرف النادي ستين ليرة عثمانية كانت باقية
لديه من صندوق تلك الجمعية، ثم سلمه كل ما كان للجمعية من أثاث
ورياش وتلقى النادي عدا ذلك مساعدات مالية كبيرة من طالب النقيب،
وزميله أحمد الزهير من مبعوثي البصرة هذا فضلا عن كونه قد قام بتمثيل روايتي
صلاح الدين الأيوبي، وامرئ القيس، وجمع من ريعهما مبالغ كبيرة أضيفت
إلى المبالغ السابقة فتوفرت لديه القوة المالية للسير إلى الإمام.
لم يكن للمنتدى الأدبي صحيفة تخدم أغراضه في الفترة الأولى من
تأسيسه، إنما كان عبد الكريم الخليل يكتب هو وبعض زملائه في الجرائد
العربية التي كانت تصدر في الآستانة كجريدة (الحضارة) لعبد الحميد
الزهراوي والجرائد التي تصدر في سوريا والقاهرة وأراد أن ينشئ له مجلة خاصة
به غير أنه عندما رأى أنه قد صدرت مجلة باسم (لسان العرب) من قبل جمعية
العلم الأخضر (1)، بإدارة وتحرير أحمد عزت الأعظمي سعى عبد الكريم



(1) تأسست هذه الجمعية وكانت سرية في الآستانة بتاريخ أيلول 1912 من قبل الدكاترة إسماعيل
الصفار وداود الدبوني وعدد من الشبان والضباط العراقيين والدمشقيين والفلسطينيين كمسلم بك
العطار وأحمد عزت الأعظمي ومصطفى الحسيني وكثير من الطبقة بالمدارس العليا وكان القصد من
تأسيسها تقوية الرابطة بين طلبة المدارس العليا وتوجيه جهودهم إلى انتشال أمتهم من الدرك المهين
الذي وصلت إليه وكان اسم الجمعية يرمز إلى العلم النجدي الأخضر لأن أفكار العرب - حسب
قول الأعظمي - كانت متجهة إلى ابن السعود والامام يحيى.
98
الخليل أن تكون هذه المجلة ناطقة باسم المنتدى. وأن يكون اسمها " المنتدى
الأدبي "، فكاد ان ينشب خلاف شديد وخطير بين الجمعيتين لولا تدخل ذوي
الرأي من الحكماء مثل الدكتور حسين حيدر، وكان وطنيا غيورا جوادا كثير
البذل ساعد المنتدى بمال وفير (1)، وعبد الحميد الزهراوي، وحلت المسالة في
مصلحة المنتدى الأدبي.
لم يمض زمن على تأسيس المنتدى الأدبي حتى بلغ عدد من انضوى تحت
لوائه ما يزيد عن 280 شابا وأديبا من أبناء العرب المقيمين في الآستانة، وما
يقرب من 500 شاب من طلاب المدارس العالية فيها، من مختلف الأقطار و
مختلف الأديان والمذاهب وفتحت له فروع في شتى انحاء البلاد العربية وانتمى
إليها آلاف من أبنائها. فقد كان له صدى قوي فيها، كما كان رئيسه على
اتصال بالحركات الوطنية وببوادر اليقظة القومية التي تعهدها النابهون من أبناء
العرب في كل مكان، وبالجمعيات الاصلاحية العربية في بيروت والبصرة
وبحزب اللامركزية في مصر. وكان له أيضا باع طويل في عقد المؤتمر العربي
الأول في باريس، وبأقطاب المعارضة العربية في مجلس المبعوثان وخاصة
بممثليها من أمثال شفيق المؤيد، وشكري العسلي، وعبد الوهاب الانكليزي،
وعبد الحميد الزهراوي وغيرهم. وعلى قول الأمير مصطفى الشهابي: " كان
المنتدى يطوي في جنبات أعضائه نزوعا إلى الأهداف القومية وراء الأهداف
الأدبية الاجتماعية الظاهرية ".
على أن الذي لمسته من كل مطالعاتي المتعلقة بهذا البحث أن المسؤولين في
هذا المنتدى وخاصة منهم رئيسه عبد الكريم الخليل الذي أحرز رئاسته
بالانتخاب من قبل الأعضاء المنتسبين اليه، كانوا حريصين على الرابطة
العثمانية والوفاق مع العنصر التركي. وان الفكرة التي كانت تسيطر على أبناء
العرب المثقفين ثقافة عالية هي ضرورة احتفاظ كل قومية من القوميات العثمانية
بطابعها المميز ولغتها وتقاليدها واحياء أمجادها وتنمية الشعور القومي فيها ضمن
رابطة جامعة هي الرابطة العثمانية التي يجب أن يرفرف علمها على الجميع،
وان تنضوي القوميات تحت جناحيها في نظام ديمقراطي حر. وفي جو من
الآخاء والمساواة الذي يهئ لجميع العناصر والأديان العيش الهنئ الرغيد،
والحياة الاقتصادية والاجتماعية الرافهة. ان أكبر دليل على ذلك أن
الاجتماعات العامة وحفلات الخطابة والاحتفالات في شتى المناسبات، وخاصة
منها ذكرى المولد النبوي السنوية التي كان يقيمها المنتدى، كان يدعى إليها أبناء
الترك من رجالات السياسة والأدب والاجتماع (2) وكان يتخلل الخطب المتبادلة
بين الطرفين عواطف الود والآخاء والولاء للرابطة العثمانية كما كان يتخللها
استعراض لماضي العرب الزاهر ومجدهم الوضاء (3) وبيان السبل المؤدية إلى
تسهيل أمر التعليم الصحيح والثقافة القديمة للناشئة العربية، ومن الأدلة أيضا
المقالات الصحافية التي كان ينشرها كبار كتاب هذا المنتدى وفي مقدمتهم
الدكتور عزت الجندي، عضو هيئة الإدارة فيه في الجرائد العربية ومنها المؤيد،
والأهرام. فالدكتور عزت الجندي، حتى في أشد حملاته على الاتحاديين وفي
وقت وصلت فيه الأفكار القومية بعد حرب البلقان إلى آخر انطلاق لها في نطاق
الفترة التي أبحث فيها، ليس عند العرب فقط بل عند العرب والترك على
السواء، لم يخرج عن الرابطة العثمانية، وكل ما وصل إليه هو وكل من لف لفه
من القوميين المتطرفين أنه قدم العروبة على كل شئ آخر قال: اننا عرب قبل
كل شئ، المسلم عربي، والمسيحي عربي... و... أجل اننا عرب قبل أن
نكون مسلمين، والمسيحي عربي قبل أن يكون مسيحيا... و... و... و
قد تركنا مسالة الديانات والعبادات إلى الجوامع والكنائس. فإذا كنا عربا قبل
أن نكون مسلمين أو مسيحيين فبأولى أن نكون عربا قبل أن نكون
عثمانيين... ولكنه لم يقل أننا عرب ولسنا عثمانيين، فإذا كان عزت الجندي
قال هذا في الشهر الرابع من عام 1913 فالأحرى به أن تكون لهجته أخف
وارتباطه بالعثمانية أكثر قبل هذا التاريخ.
" كان عبد الكريم الخليل لولب المنتدى الأدبي وألمع شخصية فيه، كان
شعلة من النشاط والذكاء نال شهادة الحقوق من مدرسة الحقوق بالآستانة في
عام 1910 بدرجة التفوق.
وقد وصفه جمال باشا في مذكراته عندما جرت
مفاوضات عام 1913 بين الطرفين لبحث مطالب العرب بقوله: "... فبرز
لنا شخص قصير القامة يزيد عمره على الثلاثين ربيعا أسمر اللون ذو عينين
واسعتين براقتين تدلان على الذكاء والاقدام هذا هو عبد الكريم
الخليل... ". لقد اخلص عبد الكريم للقضية العربية وشب على حب
العروبة وتمسك بأهدافها وعرف السبيل الصحيح لاعلاء مجدها، سبيل التعليم
الصحيح والتربية القومية للناشئة العربية إذ كان يفضل سلوك البناء الاجتماعي
إلى جانب البناء السياسي. تباحث عبد الكريم مع النواب العرب حول خطة
مثلي تتعلق باصلاح المدارس الابتدائية في دوائرهم فدعاهم إلى حفلة أقامها لهم
في حزيران يونية سنة 1911 واقترح عليهم برنامجا يرمي إلى انهاض البلاد
العربية على دعامتين.
1 - توثيق عرى الآخاء بين العرب على اختلاف أجناسهم وأديانهم
وعناصرهم وطوائفهم حتى لا يذكر الواحد منهم في السياسة والوطنية غير عربيته
الشريفة.
2 - توحيد طرق التعليم في البلاد العربية حتى تتربى النفوس تربية واحدة
ليسير جميع العرب في طريق واحدة وإلى غرض واحد.
فاستصوب النواب البرنامج الذي عرضه عليهم عبد الكريم وتعهدوا
بتنفيذه بالتآزر مع المنتدى الأدبي بعد أن حفل الاجتماع بالخطب الحماسية
الرنانة من الحاضرين. ولم يتوان رئيس المنتدى لحظة في العمل وسرعان ما شد



(1) حكم عليه جمال باشا فيما بعد بالنفي 7 سنوات إلى الأناضول حيث توفي هناك.
(2) كان ذلك بعد سنة 1912 بصورة خاصة إذ كان رجالات الاتحاديين كطلعت وجمال يحضرون الحفلات
بعد أن جرى الاتفاق على حقوق العرب.
(3) كان من أروع هذه الحفلات حفلة افتتاح المنتدى في 8 - 2 - 1910 حيث حضرها رجالا العرب
السياسيون في الآستانة وخطب بعضهم فيها ثم ألقى أحد الشعراء العرب قصيدة رائعة
جاء فيها:
وان تكن عربي الأصل لا كذبا * قمت لا حياء مجد كان للعرب
دع المجامع في لهو وفي طرب * واجعل مقرك هذا المنتدى الأدبي
واختم الحفلة الموسيقي البارع وديع صبرا العربي اللبناني بعزف النشيد العربي الوطني على البيانو وكان
قد لحنه بالاشتراك مع بعض طلبة العرب ثم ترنموا بنشيد وطني من تأليف الشاعر اللبناني حليم
دموس.
99
رحال السفر إلى مصر وسائر الأقطار العربية يحمل المشروع الذي تضمن ما يلي
بالتلخيص:
" ان يقسم كل نائب دائرة انتخابية إلى اقسام تؤلف في كل منها لجنة لتعميم
التعليم الابتدائي. وأخرى اختصاصية لترتيب برنامج لاصلاح هذه المدارس
على أن تسلك خطة التوحيد، وان يعقد النواب مؤتمرا عاما يحددون زمانه خلال
السنة ذاتها 1911 يحضره مندوبون عن هذه اللجان لدراسة جميع البرامج
الموضوعة واستخلاص برنامج واحد منها يكون دستورا للعمل في سائر البلاد العربية، وان يبحث المؤتمر مسألة توحيد الكتب والتربية لايجاد شعور واحد في
نفوس طلاب جميع البلاد العربية وانشاء مدرسة لتخريج المعلمين - دار
للمعلمين - بطريق الإعانات وقد تعهد المنتدى بتضحيات مادية وأدبية في سبيل
تهيئة المعلمين لهذه الدار وبتطوع أعضاء المنتدى المثقفين للتدريس في المدارس
علاوة على وظائفهم أو أعمالهم العادية.
" ولقد قوبل هذا البرنامج بالترحيب والارتياح في البلاد العربية وخاصة في
مصر التي كانت أول من رحب به ونهض لمساعدته فتألفت لجنة فيها ضمت سبع
عشرة شخصية كبرى من أبرزهم: احمد تيمور باشا، محمد باشا الشريعي،
رفيق بك العظم، الدكتور شبلي شميل، الخ، للقيام به والعمل بموجبه.
" في الواقع كان اهتمام المنتدى الأدبي منصبا إلى الناحية الاجتماعية
والاصلاح الأساسي للنهوض بالأمة العربية من حيث الثقافة قبل كل شئ لتتبوأ
مكانها اللائق في السلطنة العثمانية فكان بهذا الوصف عبارة عن معهد علمي
وناد أدبي في آن واحد، حيث كانت تعطى فيه الدروس الليلية وتعلم الطلاب
اللغة التركية واللغات الأجنبية ويستفيدون من مكتبته الحافلة بالكتب العلمية في
سائر فروع الثقافة إنما لم يقتصر الطلاب والمنتسبون إليه على هذا الأمر بل كانوا
يتناقشون في المسائل الاجتماعية والوطنية التي تجري على مسرح السياسة في
الآستانة وفي تقدير قيم الرجال وتفضيلهم بعضهم على بعض وانتقاد أقوال
الجرائد والتنديد بأعمال رجال السياسة ويبحثون في الأحزاب السياسية في
مجلس الأمة وحقوق العرب، ويعللون العلائق السياسية بين الدولة العثمانية
ودول الغرب، وفي ميزانية الدولة وغير ذلك من المواضيع.
فالمنتدى الأدبي كان أول مؤسسة تعهدت فكرة القومية العربية بعنايتها
ورعتها منذ أول نشوئها وظهرت هذه الفكرة بنوع من الوضوح في أذهان
أعضائها وفي أحاديثهم ومناقشاتهم، ولكن في اطارها العثماني العام،
وتلمست طريقها الصحيح طريق العلم والمعرفة والثقافة، ففي الخطاب الذي
ألقاه عبد الكريم الخليل في الحفلة التي دعا إليها نواب العرب، ترددت على
لسانه كثيرا عبارة الأمة العربية وتوحيد قوى الأمة، وحدد فيه معالم وأركان
القومية وروابطها مثل وحدة اللسان، وحدة التاريخ، ووحدة الوطن، ووحدة
المنفعة، وبين أن هذه الروابط موجودة في الأمة العربية، لكنه قال: ان هذه
الروابط غير كافية ما لم ترتكز على أساس متين من الثقافة الموحدة والعلم
الراسخ "، فكان بذلك من أوائل الذين دعوا إلى الوحدة العربية، أو الجامعة
العربية وعرفوا الطريق الصحيح إليها وشرع فعلا في العمل نحو تحقيقها عن
طريق المشروع الذي تحدثت عنه.
وقد بقي المنتدى الأدبي حتى عام 1915، وقت أن شنق جمال باشا
رئيسه أثر محاكمات ديوان الحرب العرفي في عالية مع شهداء العرب.
عبد الكريم بن جمال الدين أحمد بن طاووس
مرت ترجمته في المجلد الثامن الصفحة 42 ونضيف إليها ما يلي:
درس على عمه رضي الدين وعلى المحقق الحلي وعلى الخواجة نصير الدين
الطوسي ويحيى بن سعيد والمفيد بن الجهم الحلي والسيد عبد الحميد بن فخار
الموسوي والشريف أبي الحسن علي بن محمد بن علي العلوي العمري النسابة
مؤلف كتاب المجدي في انساب الطالبيين والشيخ حسين بن اياد النحوي.
وتلمذ عليه جماعة منهم أحمد بن داود الحلي والشيخ عبد الصمد بن أبي
الجيش الحنبلي والشيخ علي بن الحسين بن حماد الليثي.
له من المؤلفات: الشمل المنظوم في مصنفي العلوم، فرحة الغري (1)
وجاء في كتاب تاريخ الحلة أن قبره مشهور لدى أهل الحلة واقع بالقرب من قبر
السيد علي بن طاووس في جهة الجنوب.
ونقول: كيف يتفق هذا مع ما ذكر في كتاب (الحوادث الجامعة) ونقله
صاحب تاريخ الحلة نفسه من أنه توفي في مشهد موسى بن جعفر وحمل إلى جده
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ومع ما ذكر كذلك في الترجمة المنشورة
في المجلد الثامن.
ويقول في " روضات الجنات ": حائري المولد، حلي المنشأ بغدادي
التحصيل كاظمي الخاتمة. اه ولم يذكر موضع قبره.
السيد عبد الله الجزائري
مرت له ترجمة في المجلد الثامن الصفحة 87 ونزيد عليها هنا ما يلي:
ولد في سابع شعبان سنة 1112، تعلم القراءة والكتابة ثم بدأ بقراءة
العلوم الدينية عند أبيه وعلماء آخرين، وفي سنة 1128 ذهب إلى أصفهان ثم



(1) تاريخ الحلة.
100
شيراز ومنها إلى خراسان وآذربايجان، وأكمل دراسته واهتم بتعلم الرياضة
والحكمة والنجوم، وبعد ذلك عاد إلى موطنه تستر وأخذ يدرس تلك العلوم،
واختص بتدريس النجوم والهيئة والرياضة.
له مناظرات مع علماء المذاهب الأربعة عند سفره إلى الحج، وكان ينظم
الشعر باللغتين العربية والفارسية.
توفي في سنة 1173 بمدينة تستر ودفن في مقبرة والده الملاصقة للمسجد
الجامع.
الشيخ عبد الله الستري البحراني
مرت ترجمته في الصفحة 57 من المجلد الثامن وذكر فيها أن وفاته سنة 1270
ولكن ذكر في (أنوار البدرين) ان وفاته كانت سنة 1281 ويقول عنه: كان من
بقايا علماء البحرين الأتقياء الورعين المصطفين الزاهدين العابدين، وكان مشتغلا
بالتدريس في قريته الخارجية من جزيرة ستر يحضر عنده جملة من الطلبة والعلماء،
كثير المواظبة على البحث والتصنيف متواضع النفس.
ثم يصف حياته قائلا: قبل اشتغاله بالدرس كان هو والحاضرون من العلماء
المستقلون يشتغلون في فتل الحبال وتمييلها لأجل صنعة الفرش المسماة ب‍ (المداد)،
وكانت معايشهم منها، وله ولأولاده من بعده دكاكين لصنعتها بالأجرة، فإذا أكمل
الطلبة والعلماء الذين يدرسون عنده أخذ مما صنعوه من الميال والحبال واشتغل
بالدرس.
توفي عما يقارب ثمانين سنة ودفن في جانب مسجده من الجنوب في قرية
الخارجية، ودفن أولاده بعده معه.
من تلاميذه الشيخ صالح الستري البحراني والشيخ عبد الله بن أحمد الستري
والشيخ عبد الله بن علي الستري.
عبد الله بن علي عسكر الشيرازي
من الأطباء الجراحين الشعراء في شيراز، ذو مسلك عرفاني. كان حيا
سنة 1330 ترك ديوانا شعريا.
عبد الله بن عمير الكلبي
قال أبو محنف حدثني أبو جناب قال كان منا رجل يدعى عبد الله بن عمير من
بني عليم كان قد نزل الكوفة واتخذ عند بئر الجعد من همدان دارا وكانت معه امرأة له
من النمر بن قاسط يقال لها أم وهب بنت عبد فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا
إلى الحسين قال فسال عنهم فقيل له يسرحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصا وإني لأرجو ألا
يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابا عند الله من ثوابه إياي في
جهاد المشركين فدخل إلى امرأته فأخبرها بما سمع وأعلمها بما يريد فقالت أصبت
أصاب الله بك أرشد أمورك افعل وأخرجني معك قال فخرج بها ليلا حتى أتى حسينا
فأقام معه فلما دنا منه عمر بن سعد ورمى بسهم ارتمى الناس فلما ارتموا فخرج
مولى زياد وسالم مولى عبيد الله بن زياد فقالا من يبارز ليخرج الينا بعضكم قال فوثب
حبيب بن مظاهر وبرير بن حضير فقال لهما حسين اجلسا فقام عبد الله بن عمير فقال
أبا عبد الله رحمك الله ائذن لي فلأخرج إليهما فرأى حسين رجلا آدم طويلا شديد
الساعدين بعيد ما بين المنكبين فقال حسين إني لأحسبه للأقران قتالا اخرج ان شئت
قال فخرج إليهما فقالا له من أنت فانتسب لهما فقالا لا نعرفك ليخرج إلينا زهير بن
القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن حضير ويسار مستنتل امام سالم فقال له
عبد الله بن عمير الكلبي يا ابن الزانية وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس ويخرج
إليك أحد من الناس إلا وهو خير منك ثم شد عليه فضربه بسيفه حتى برد فإنه لمشتغل
به يضربه بسيفه إذ شد عليه سالم فصاحوا به قد رهقك العبد قال فلم يأبه له حتى
غشيه فبدره الضربة فاتقاه عبد الله بيده اليسرى فأطار أصابع كفه اليسرى ثم مال
عليه عبد الله الكلبي فضربه حتى قتله وأقبل مرتجزا وهو يقول وقد قتلهما جميعا:
إن تنكروني فانا ابن كلب * حسبي ببيتي في عليم حسبي
إني امرؤ ذو مرة وعصب * ولست بالخوار عند النكب
إني زعيم لك أم وهب * بالطعن فيهم مقدما والضرب
ضرب غلام مؤمن بالرب
فأخذت أم وهب امرأته عمودا ثم أقبلت نحو زوجها تقول له فداك أبي وأمي
قاتل دون الطيبين ذرية محمد فأقبل إليها يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه ثم
قالت إني لن أدعك دون أن أموت معك فناداها حسين فقال جزيتم من أهل بيت خيرا
ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهن فإنه ليس على النساء قتال فانصرفت
إليهن ولما قتل زوجها خرجت تمشي إليه حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب
وتقول: هنيئا لك الجنة، فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمى رستم: اضرب
رأسها بالعمود، فضرب رأسها، فماتت مكانها (1).
عبد الله بن خليفة الطائي
واثب عائذ بن قيس الحزمري في صفين عدي بن حاتم الطائي في
الراية، وكانت حزمر أكثر من بني عدي رهط حاتم، فوثب عليهم عبد الله
بن خليفة الطائي البولاني عند علي عليه السلام فقال يا بني حزمر، على
عدي تتوثبون، وهل فيكم مثل عدي؟ أوفى لابائكم مثل أبي عدي؟ أليس
بحامي القرية ومانع الماء يوم روية؟ أ ليس بابن ذي الرباع وابن جواد
العرب؟ أليس بابن المنهب ماله ومانع جاره؟ أليس من لم يغدر ولم يفجر ولم
يجهل ولم يبخل ولم يمنن ولم يجبن؟ هاتوا في لابائكم مثل أبيه، أو هاتوا فيكم
مثله، أوليس أفضلكم في الإسلام، أليس وافدكم إلى رسل الله صلى الله عليه وآله وسلم أليس
برأسكم يوم النخيلة ويوم القادسية ويوم المدائن ويوم جلولاء الوقيعة ويوم
نهاوند ويوم تستر؟ فما لكم وله؟ والله ما من قومكم أحد يطلب مثل الذي
تطلبون.
فقال له علي بن أبي طالب: حسبك يا ابن خليفة، هلم أيها القوم إلي
وعلي بجماعة طئ، فأتوه جميعا، فقال علي من رأسكم في هذه المواطن؟
قالت طئ: عدي، فقال ابن خليفة: فسلهم يا أمير المؤمنين أليسوا راضين
مسلمين لعدي بالرئاسة، ففعل، فقالوا: نعم فقال لهم: عدي أحقكم
بالراية فسلموها له، فقال علي وضجت بنو الحزمر - إني أراه رأسكم قبل
اليوم ولا أرى قومه كلهم إلا مسلمين له، غيركم، فأتبع في ذلك الكثرة،
فأخذها عدي.
وكان عبد الله بعد ذلك من أصحاب حجر بن عدي (راجع ترجمة
حجر) فطلبه زياد بن سمية فتوارى فبعث إليه الشرط وهم أهل الحمراء
يومئذ فأخذوه فخرجت أخته النوار فقالت يا معشر طئ أتسلمون سنانكم
ولسانكم عبد الله بن خليفة؟ فشد الطائيون على الشرط فضربوهم وانتزعوا



(1) الطبري.
101
منهم عبد الله بن خليفة فرجعوا إلى زياد فأخبروه، فوثب على عدي حاتم
وهو في المسجد فقال ائتني بعبد الله بن خليفة. قال وماله؟ فأخبره قال:
فهذا شئ كان في الحي لا علم لي به قال: والله لتأتيني به. قال لا والله
لا آتيك به أبدا أجيئك بابن عمي تقتله والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما
عنه. قال فأمر به إلى السجن، قال فلم يبق بالكوفة يماني ولا ريعي ألا أتاه
وكلمه وقالوا تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب رسل الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فاني
أخرجه على شرط قالوا ما هو؟ قال يخرج ابن عمه عني فلا يدخل الكوفة ما
دام لي بها سلطان... فأتى عدي فأخبر بذلك فقال نعم فبعث عدي إلى
عبد الله بن خليفة فقال ين ابن أخي أن هذا قد لج في أمرك وقد أبى إلا
اخراجك عن مصرك ما دام له سلطان فالحق بالجبلين فخرج فجعل عبد الله
بن خليفة يكتب إلى عدي وجعل عدي يمنيه فكتب إليه:
تذكرت ليلى والشبيبة أعصرا * وذكر الصبا برح على من تذكرا
وولى الشباب فافتقدت غضونه * فيا لك من وجد به حين أدبرا
فدع عنك تذكار الشباب وفقده * وآساره إذ بان منك فأقصرا
وبك على الخلان لما تخرموا * ولم يجدوا عن منهل الموت مصدرا
دعتهم مناياهم ومن خان يومه * من الناس فاعلم أنه لن يؤخرا
أولئك كانوا شيعة لي وموئلا * إذا اليوم ألفي ذا احتدام مذكرا
وما كنت أهوى بعدهم متعللا * بشئ من الدنيا ولا أن أعمرا
أقول ولا والله أنسى ادكارهم * سجيس الليالي أو أموت فأقبرا
على أهل (عذراء) (1) السلام مضاعفا * من الله وليسق الغمام الكنهورا
ولاقى بها (حجر) من الله رحمة * فقد كان أرضى الله حجر وأعذرا
ولا زال تهطال ملث وديمة * على قبر حجر أو ينادى فيحشرا
فيا حجر من للخيل تدمى نحورها * وللملك المغزى إذا ما تغشمرا
ومن صادع بالحق بعدك ناطق * بتقوى ومن أن قيل بالجور غيرا
فنعم أخو الإسلام كنت وإنني * لأطمع أن تؤتى الخلود وتخبرا
وقد كنت تعطي السيف في الحرب حقه * وتعرف معروفا وتنكر منكرا
فيا أخوينا من هميم عصمتما * وبشرتما للصالحات فأبشرا
ويا أخوى الخندفيين أبشرا * فقد كنتما حييتما أن تبشرا
ويا أخوتا من حضرموت وغالب * وشيبان لقيتم حسابا ميسرا
سعدتم فلم أسمع بأصوب منكم * حجاجا لدى الموت الجليل وأصبرا
سأبكيكم ما لاح نجم وغرد * الحمام ببطن الواديين وقرقرا
فقلت ولم أظلم أغوث بن طئ * متى كنت أخشى بينكم أن أسيرا
هبلتم ألا قاتلتم عن أخيكم * وقد ذب حتى مال ثم تجورا
ففرجتم عني فغودرت مسلما * كاني غريب في إياد وأعصرا
فمن لكم مثلي لدى كل غارة * ومن لكم مثلي إذا البأس أصحرا
ومن لكم مثلي إذا الحرب قلصت * وأوضع فيها المستميت وشمرا
فها أنا ذا داري بأجبال طئ * طريدا ولو شاء الإله لغيرا
نفاني عدوي ظالما عن مهاجري * رضيت بما شاء الإله وقدرا
وأسلمني قومي لغير جناية * كان لم يكونوا لي قبيلا ومعشرا
فإن ألف في دار باجبال طئ * وكان معانا من عصير ومحضرا
فما كنت أخشى أن أرى متغربا * لحا الله من لاحى عليه وكثرا
لحا الله قتل الحضرميين وائلا * ولاقى الفناء من السنان الموفرا
ولاقى الردى القوم الذين تحزبوا * علينا وقالوا قول زور ومنكرا
فلا يدعني قوم لغوث بن طئ * لأن دهرهم أشقى بهم وتغيرا
فلم أغزهم في المعلمين ولم أثر * عليهم عجابا بالكويفة أكدرا
فبلغ خليلي أن رحلت مشرقا * جديلة والحيين معنا وبحترا
ونبهان والأفناء من جذم طئ * ألم أك فيكم ذا الغناء العشنزرا
ألم تذكروا يوم العذيب أليتي * أمامكم أن لا أرى الدهر مدبرا
وكري على مهران والجمع حاسر * وقتلي الهمام المستميت انقسورا
ويوم جلولاء الوقيعة لم ألم * ويوم نهاوند الفتوح وتسترا
وتنسونني يوم الشريعة والقنا * بصفين في أكتافهم قد تكسرا
جزى ربه عني عدي بن حاتم * برفضي وخذلاني جزاء موفرا
أتنسى بلائي سادرا با ابن حاتم * عشية ما أغنت عديك حذمرا
فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا * وكنت أنا الخصم الألد العذورا
فولوا وما قاموا مقامي كأنما * رأوني ليثا بالأباءة مخدرا
نصرتكم إذ خام القريب وأبعظ * البعيد وقد أفردت نصرا مؤزرا
فكان جزائي أن أجرد بينكم * سجينا وأن أولى الهوان وأوسرا
وكم عدة لي منك أنك راجعي * فلم تغن بالميعاد عني حبترا
فأصبحت أرعى النيب طورا وتارة * أهرهر ان راعي الشويهات هرهرا
كأني لم أركب جوادا لغارة * ولم أترك القرن الكمي مقطرا
ولم اعترض بالسيف خيلا مغيرة * إذ النكس مشى القهقرى ثم جرجرا
ولم أستحث الركض في اثر عصبة * ميممة عليا سجاس وأبهرا
ولم أذعر الأبلام مني بغارة * كورد القطا ثم انحدرت مظفرا
ولم أر في خيل تطاعن بالقنا * بقزوين أو شروين أو أعز كندرا
فذلك دهر زال عني حميده * وأصبح لي معروفه قد تنكرا
فلا يبعدن قومي وإن كنت غائبا * وكنت المضاع فيهم والمكفرا
ولا خير في الدنيا ولا العيش بعدهم * وإن كنت عنهم نائي الدار محصرا
فمات بالجبلين قبل موت زياد وقد مضى بعض هذه القصيدة في ترجمة حجر.
عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريان
جاء إلى الحسين يوم كربلاء فقالا يا أبا عبد الله عليك السلام، حازنا العدو
إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك نمنعك وندفع عنك. قال: مرحبا بكما، أدنوا
مني فدنوا منه فجعلا يقاتلان قريبا منه وأحدهما يقول:
قد علمت حقا بنو غفار * وخندف بعد بني نزار
لنضر بن معشر الفجار * بكل غضب صارم بتار
يا قوم ذودوا عن بني الأحرار * بالمشرقي والقنا الخطار
حتى قتلا.
الدكتور عبد الله أحمدية بن محمد حسن
ولد في آمل بمازندران (إيران) سنة 1303 وكان أبوه من كبار الملاكين
فيها. وفيها بدأ دراسته في أحد الكتاتيب القديمة. ثم تابع دراسته إلى أن
التحق بمعهد (دار الفنون) في طهران وكان هو المعهد الوحيد ذا الدراسات



(1) عذراء: المكان الذي قتل فيه حجر بن عدي خارج دمشق.
102
العالية في إيران، وكان قد أنشئ سنة 1268. وفيه أنضم إلى القسم الطبي
الذي كان يشرف عليه الطبيب الفرنسي (جورج غاله) فنال شهادة الدكتوراه
في الطب سنة 1333 فتنقل في عدة وظائف طبية ومنها رئاسة مستشفى
(أحمدية) سنة 1354 ثم أوفدته الحكومة إلى الكليات الطبية في كل من فرنسا
وألمانيا وبلجيكا للاستفادة من تجاربها الطبية، ولدى عودته عين مديرا للصحة
العامة في مقاطعة خراسان، ثم ترك العمل الحكومي وفتح عيادة طبية خاصة في
مدينة (مشهد) كان يعالج فيها مرضاه لا بحسب دراسته الطب الحديث، بل
مستندا إلى الطب القديم لاعتقاده بأن العقاقير الطبية القديمة بحشائشها ونباتاتها
هي أكبر ملائمة للبيئة الطبيعية التي يعيش فيها الشرقي. وأصبح الاقبال عليه
كبيرا لا سيما من الأسر العريقة والعائلات المحافظة، وكان يتلقى الرسائل من
الأوساط الطبية في الشرق والغرب مستعينة باختباراته في هذا الموضوع.
ترك من المؤلفات 1 - راز درمان، باللغة الفارسية، أي (سر العلاج)
2 - درمان روماتيسم ونقرص وسيأتيك، باللغة الفارسية. أي (علاج
المفاصل والنقرس وعرق النسا) ويعرض لمداواة هذه الأمراض بالحشائش
والأعشاب 3 - الجزء الثاني من (راز درمان) مخطوط 4 - بيماريهاي عصبي
بالفارسية. أي (الأمراض العصبية) مخطوط.
توفي في طهران سنة 1379.
السيد عبد الله الشيرازي ابن السيد محمد طاهر
ولد سنة 1319 وتوفي في مشهد الرضا سنة 1405.
درس في النجف الأشرف على السيد أبو الحسن الأصفهاني والشيخ حسين
النائيني والشيخ ضياء الدين العراقي. ثم استقر في النجف.
وبعد طغيان النظام العراقي سافر إلى مشهد الرضا وأقام هناك مرجعا من
مراجعها حتى وفاته.
له من المؤلفات: 1 - عمدة الوسائل في شرح الرسائل 2 - ذخيرة العباد في
المعاد 3 - ذخيرة الصالحين وأنيس المقلدين 4 - كتاب القضاء 5 - حاشية على
العروة الوثقى 6 - الاحتجاجات وغير ذلك.
الشيخ عبد الله بن علي بن عبد الله الوايل الأحسائي المعروف بالصائغ
قال الشيخ جعفر الهلالي في العدد الرابع من السنة الأولى (ربيع 1406)
من نشرة (تراثنا) الفصلية ما يلي:
إن مما يؤسف له حقا: أن هذه الرقعة من الأرض والتي عرفت ب‍
(الأحساء) اليوم، وقد كانت تعرف قديما ب‍ (هجر)، أو (هجر
البحرين)، والتي إليها يشير المثل المشهور " كناقل التمر إلى هجر " قد أغفلها
الدارسون والمتصدون لكتابة التاريخ والآداب بالخصوص.
يقول أحد أبناء تلك المنطقة: " فأنت إذا جئت تبحث في صفحات
التاريخ فلا تجد ما يبرد ظماك ولا ما يبل صداك، وليس حظك من كتب
التراجم والآداب بأحسن من حظك من صفحات التاريخ " (1).
وقد صدر قبل فترة ديوان باسم " ديوان هجر "، جمع فيه صاحبه أشعار
جماعة من شعراء الأحساء، وهي خطوة حسنة، وكنت أظن أن هذا الديوان
سيحتضن بين دفتيه قصائد وأشعارا لبعض هؤلاء الشعراء المنسيين ضمن من
تصدى لنشر شعرهم في هذا الديوان، ولكن يظهر أن العامل المذهبي عند
جامع الديوان كان قد أثر عليه فاسقط من حسابه أن يعني بنشر شعر هؤلاء
الشعراء، أو ذكرهم ولو ببعض ما يدل على وجودهم كشعراء يعيشون في هذه
المنطقة.
وهذا العامل في إغفال هذا النوع من الشعراء كان قد تأثر به غير واحد من
كتاب الأدب وأصحاب المعاجم، فالمعروف عن صاحب كتاب " نفح الطيب
من غصن الأندلس الرطيب " أنه أهمل الكثير من الشعراء الذين عرفوا بموالاتهم
لأهل البيت (عليهم السلام)، وهكذا الحال بالنسبة لصاحب " الذخيرة "
العماد الإصفهاني، فقد أسقط هو الآخر من حسابه مجموعة من هؤلاء
الشعراء، وعلى هذه الوتيرة مضى الثعالبي في " اليتيمة "، والميداني في " معجم
الأدباء ".
والذي نحن بصدده الآن هو ضياع هذا الأدب لمدينة الأحساء، ونسيانه.
وتتلخص الأسباب بما يلي:
1 - عدم تصدي الدارسين للتاريخ والأدب، وعدم التوجه منهم،
وإغفالهم هذه المنطقة إلا القليل النادر.
2 - التأثر بالعامل المذهبي لدى بعض من تصدى لجمع شعر شعراء هذا
القطر كما بينا ذلك.
3 - عامل الخوف الذي ساد رجال العلم والأدب في تلك البلاد، وهذا
ناتج عن الحملة الوهابية في أول مجيئها، فقد تعرض الناس وأهل العلم والأدب
- بالخصوص - إلى الامتهان والقتل أحيانا، مما دعا البعض من رجال العلم
والأدب أن يغادروا وطنهم ويهاجروا إلى سائر البلدان كإيران والعراق والبحرين
وغيرها، واضطر الباقون إلى إخفاء ما لديهم من تآليف علمية أو دواوين
شعرية، وذلك بدفنها في الأرض.
وأما ما سلم من هذا التراث وانتقل إلى يد الورثة من أبناء العلماء
والأدباء، فقد قام هؤلاء بسبب العامل نفسه باتلاف ما ورثوه من تلك
المأثورات العلمية والأدبية وخصوصا الشعر منها، وإذا أحسنوا رموها بين
سفوح الجبال أو وضعوها في المساجد مع نسخ القرآن الممزقة.
4 - جهل من انتقل إليهم ذلك التراث، وحرص بعضهم حتى تلف كثير
من تلك الكتب والدواوين، ولعل الجهل والحرص لم يختصا ببلاد دون
أخرى، فهناك الكثير من التراث العلمي والأدبي قد ضاع في كثير من البلدان
لهذا السبب أيضا.
وبالرغم من كل هذا فقد وقفت في إحدى سفراتي إلى بلاد الأحساء على
مجموعة لا بأس بها من الآثار الأدبية والدواوين الشعرية لبعض الشعراء هناك،
وقد نقلت كثيرا من القصائد والمقاطيع الشعرية وبعض البنود، وقد
استنسخت بعض الدواوين بكاملها، من ذلك ديوان الشيخ محمد البغلي من
شعراء القرن الثالث عشر... وكثير من شعراء هذا القرن والقرن الذي قبله،
وممن نقلت كثيرا من قصائده وتخاميسه وتشطيره الشيخ عبد الله الصايغ، كما
نقلت له ملحمة مطولة في المعصومين الأربعة عشر، تبلغ 1526 بيتا حسب



(1) ونقول نحن جوابا على ما كتبه هذا الكاتب المخلص: لقد سددنا فراغا كبيرا مما يشكو منه فيما نشرناه في
دائرة المعارف الاسلامية الشيعية في بحث الأحساء، ويبدو أن الكاتب لم يطلع على ما نشرناه.
103
تعداد الشاعر لأبيات تلك الملحمة، وإن كان الذي وقفت عليه من أبيات تلك
الملحمة يربو على هذا العدد بمائة بيت تقريبا.
وقد جارى فيها الشاعر قصيدة الملا كاظم الأزري، وقد أشار إلى الشاعر
المذكور وأشاد بأفضلية السبق له عليه، وقد نقلتها عن نسختين مخطوطتين
موجودتين لدى بعض المؤمنين في الأحساء، وها أنا أقدم للنشر جانبا من هذه
القصيدة، عسى أن تتهيأ فرصة أكبر لنشرها بكاملها.
الشاعر
هو الشيخ عبد الله بن علي بن عبد الله الوايل الأحسائي المعروف ب‍
" الصائغ ".
ولد الشاعر في الهفوف عاصمة الأحساء، في حدود النصف الأول أو بعده
بقليل من القرن الثالث عشر، ولم يحدد بالضبط تاريخ ولادته، غير أنه كان
حيا عام 1281 ه‍، وهو تاريخ الفراع من نظم ملحمته الشعرية، كما أرخها
هو في آخر أبياتها.
والشاعر، بالإضافة إلى ملكته الشعرية، كان أحد العلماء المحصلين،
اخذ دراسته العلمية في مدينة الأحساء على يد علمائها آنذاك، ومنهم الشيخ
محمد أبو خمسين (1) فقد أخذ عنه الفقه والحكمة، ولا يدرى هل سافر إلى
النجف أم لا؟
آثاره
للشاعر المذكور من الآثار المخطوطة ما وقفت عليه في الأحساء عند بعض
المعنيين بجمع تراث الأحساء - وخصوصا الأدبي منه - وهي كما يلي:
1 - ديوان شعر كبير يتألف من ثلاثة أجزاء في مختلف الأغراض والمواضيع.
2 - كشكول كبير في مجلدين سقطت أكثر أوراقه أو تلفت.
3 - نهج الأزرية، وهي الملحمة التي سنقدم جزءا منها للقارئ: تشتمل
على أكثر من (1500) بيت من الشعر، كما توجد له ثلاثة بنود، في
التوحيد، والنبوة، والإمامة.
وفاته
توفي الشاعر في قرية " سيهات " إحدى قرى مدينة القطيف، وكانت وفاته
سنة 1305 ه‍.
قصيدة نهج الأزرية
هذه رامة وهذي رباها * فاحبسا الركب ماعة في حماها
وأنيخا بها المطايا وميلا * للثرى وانشقا أريج شذاها
وقفا بي ولو كلوث إزار * عل نفسي تنال منها مناها
وأسائل طلولها عن ظعون * سار قلبي لسيرها وتلاها
وأؤدي لها يسير حقوق * من كثير وأين مني أداها
بمغان حوت لحسن غوان * تتوارى الشموس تحت ضياها
من ظباء كوانس بخدور * حجبتها ليوثها بظباها
يا خليلي لا تلوما خليعا * خلعت نفسه غرام سواها
واسعداني - سعدتما - في غرامي * إن خير الصحاب صحب صفاها
أودعاني بها أبث شجونا * كلمت مهجتي كلوم مداها
أنا فيها متيم وغرامي * شاهد أنني قتيل هواها
كيف تهوى الملام نفس معنى * كثرة اللوم في الهوى أغواها
ما لنفسي وللسلو وهذا * دمعها أهرقته سرب دماها
صيرته خضابها لا كف * وخدود قد صرت من قتلاها
لست أنسى - وكيف أنسى - زمانا قد تجلت أيامه بصفاها
وليال قد أقمرت بوصال العين * من غيدها وشط نواها
زمن أينعت ثمار الأماني * لي فيه وأتحفتني جناها
حيث لم نلف واشيا ورقيبا * نتقي منهما وقوع جفاها
فتولى كأنه ومضة من * برقة أو كخفقة من كراها
يا رعى الله تلك أوقات أنسي * تم حسن الزمان من حسناها
كم به من لبانة أنعشتنا * باجتنا صفوها بوصل مهاها
فقضينا به مناسك عشق * حيث إحرامنا بلبس هواها
ثم قد ضمنا معرس وصل * فأفضنا به لورد لماها
ثم حلت نفوسنا مشعر الأمن ونالت من بعد ذاك مناها
فنحرنا هدي الجوى وحلقنا * من وشاة لنا شعور رجاها
وقذفناهم برمي جمار البعد عنا فأحرقتهم لظاها
ثم طفنا بكعبة الحسن منها * واعتكفنا بها بهجر سواها
واستلمنا لأسود الخال منها * وشفاه قد أنعشتنا شفاها
وسعينا بصفو عيش هني * مرء لا بمروة وصفاها
فأراشت لنا الليالي سهاما * من صروف النوى فجد جفاها
فتداعت إلى الفراق رفاق الأنس منا ونوهت بدعاها
وجرى ما جرى ولا تسألا عن * حال أهل الهوى غداة نواها
فلكم ثم من قلوب تهاوت * مصعقات لفرط روع عراها
وقلوب تطايرت لوشيك البين منا كان ناف نفاها
لست أنسى على النقى وقفة التوديع والعين لا يكف بكاها
ثم سارت مطيهم تذرع البيد ولكن قلوبنا تلقاها
وانثنينا بصفقة الغبن ظميا * للقاها وأين منا لقاها
وكذا عادة الزمان بأهل * الفضل لا زال مولعا بجفاها
فاسألاني به فإني خبير * ذقت أحواله على استقصاها
برقة خلب وسحب أياديه * جهام لمن يروم استقاها
لم يهب نعمة بلا سلب أخرى * لبنيه ولا يدوم بقاها
من عذيري له وفي كل آن * تنتحيني صروفه بعناها
مستطيلا بخفض قدري ولم يدر بأني من المعالي فتاها
موقفي فوقهن ناش وطفلا * قد غذتني بدرها ثدياها
ولئن نابني بخفض مقامي * بعيون داعي الغوى أغواها
لا يعاب الإكسير يوما إذا ما * جهلته من الورى جهلاها
كيف لا تملك المعالي نفس * حب طه بنوره زكاها
احمد المصطفى أجل نبي * بعث الله للورى لهداها
عله النشأتين فيمن برى * الله ومولى وجودها وفتاها
ذات قدس تذوقت كل ذات * من هيولى هياكل حلاها



(1) أسرة آل أبي خمسين من الأسر العلمية المعروفة في مدينة الهفوف بالأحساء، أشهرهم الشيخ موسى أبو
خمسين.
104
هو في الكائنات أول نفس * برأ الله كنهها فاجتباها
وحباه من فضله بمعال * عرك النيرات أدنى علاها
ما اصطفى في العباد شخصا سواه * للعبودية التي يرضاها
ثم آتاه ما يشا من علوم * الملكوتية التي أبداها
بل وأنهى اليه خير مزايا * كبرت رفعة بأن تتناها
عالم عالم السرائر أسرى * سره في عوالم أنشأها
جاء للأنبياء منها يسير * فيه قد فضلت على من سواها
جمع الله فيه كل كمال * أخذت عنه كل نفس هداها
أول السابقين في حلبة الفضل ومصباح أرضها وسماها
نير أشرق الوجود بإشراقات أنوار عزة جلاها
وبه قرت القوابل طرا * بقبول الوجود عند دعاها
واستقامت به السماوات والأرض ومن فيهما بحسن استواها
ملك ملكه الممالك لا بل * هو قيومها الذي يرعاها
وهو ناموسها العليم بما قد * عملته بجهرها وخفاها
وهو الكلمة التي انزجر العمق لها واستقام من جدواها
عيلم فاض للعوالم منه * خير فيض حوت به نعماها
كل ما في الوجود من كائنات * ذو المعالي لأجله سواها
وكفاه على الخلائق طرا * أنه كان في العلى مصطفاها
وله اشتق ذو الجلالة من أسمائه اسما سمت به حسناها
فهو في خلقه الحميد وهذا * (أحمد) يا له على لا يضاها
سر فضل لما يطق كتمه الغيب * لأسرار حكمة قد حواها
لم يزل في عوالم منه يجري * في بحور به أفيض نداها
فأتى عالم الشهادة هاد * أمما قادها دواعي غواها
فبدا في سما الرسالة شمسا * مشرقا فوق كل شئ ضياها
جاء منه لها ولم تبد آيات عظام بهرن من قد رآها
كتهاوي شهب السما وهي تنبي * أنه للعدى شهاب رداها
وانشقاق الإيوان ينبئ عنه * أنه بالهدى يشق عصاها
وانطفا نار فارس عنه منب * أنه آن من لظاها انطفاها
واغتدت باسمه الهواتف تدعو * معلنات وفوهت بنداها
وأتت أمه البشائر منها * أنه في الورى بشير هداها
ورأت من كرامة الله منه * ما أقرت بنيله عيناها
وتهاوى لدى ولادته عن * كعبة الله كل جبت علاها
وسرى منه في فلاسفة الكهان حتف أبادها فاختلاها
وبه الماردون نالت دحورا * وثبورا به تحست رداها
ومن الحجب بالبشارة جبرائيل بأملاكها الغر فاها
وبه الأرض أشرقت واستطالت * إذ أتاها على علو سماها
وبه مكة على كل شئ * فخرت إذ حواه منها فناها
وحقيق بها إذا افتخرت بالمصطفى أحمد على من سواها
قد حوت سؤددا تود دراري الشهب منه تكون من حصباها
إذ حوت سيد السماوات والأرض ومختار خالق سواها
كعبة الفاضلين في كل فضل بل وناموسها الذي رباها
إن يكن جاء للنبيين ختما * فلقد كان في الوجود أباها
ما أتى آخرا سوى لمزايا * فيه ذو العرش حكمة أخفاها
إذ هو العالم المفيض عليها * كل علم أتى به أنبياها
فهي عنه بكل عصر تؤدي * ما من الرشد للبرايا عناها
فلذا ما حوته من مكرمات * وجلال إليه يعزى انتهاها
سل به آدما فكم من أياد * من جلال إليه قد أسداها
وبه تاب ذو الجلال عليه * إذ جنى من خطيئة حوباها
وله أسجد الملائك * والأسماء طرا لحفظه أملاها
وله نال بالسفينة نوح * خير عقبى وفلكه نجاها
والخليل اغتدت له النار بردا * وسلاما به وأطفى لظاها
وهو سر العصا لموسى فألقت * عنده الساحرون سلما عصاها
ولعيسى أعار سرا فأحيا * من قبور دوارس موتاها
كم له في العلى سوابق فضل * مستحيل على العداد انتهاها
يعجز العد عن مناقب نفس * ذو المعالي لأجله سواها
فهي صنع له وكل البرايا * أحكمت صنعها البديع يداها
ظهرت باسمه العظيم فكل * خاضع تحت مجتلى كبرياها
أنبا الخلق سورة النور عنه * نبأ كالشموس راد ضحاها
تاه في وصفه الخلائق طرا * وحقيق بوصفه أن يتاها
صاغه الله جوهرا وهي منه * عرضا منه كونها قد أتاها
سيد واجب الوجود إليه * كل فضل وحكمة أنهاها
ظهرت منه حكمة الله للخلق عيانا لأنه مجتلاها
من دعا البدر لانشقاق فأهوى * عن سماه وخر في بطحاها
كيف يعصيه وهو منه تحلى * حلية النور واكتسى أسناها
فهو لو يدع جملة الشهب طرا * من سماها لحطها عن سماها
أو تعصيه وهي منه استنارت * واستقامت به على مجراها
حيث قد كان للوجودات قطبا * وعلى مجده استدارت رحاها
ومن الوحش كلمته أسود * ثم طلس وأعربت عن ثناها
والظبا سلمت عليه ولا غرو بان سلمت عليه ظباها
ولتلقى هواه حنت نياق * وعلى مثله حقيق هواها
والنباتات كلمته وأحيا * باسقات وأينعت بجناها
والعصا أورقت لديه ولا غرو بان أورقت لديه عصاها
وله الجذع حن شوقا كثكلى * فارط الحزن مضها وشجاها
ومن الصخر كم أسال عيونا * بمعين تعب في مجراها
والحصا سبحت بكفيه جهرا * وكثير من الورى قد وعاها
وإذا سار في الظهيرة أرخت * أذيل السحب فوقه أفياها
حق لو ظللته فهو كريم * منه نالت حياتها وحياها
لا تخل ذا من النبي عجيبا * فهو من آي فضله أدناها
لم يزل في البلاد ينشر آيا * ضاق منهن كثرة قطراها
فدعاه اليه ذو العرش ليلا * ليريه من آية كبراها
ثم أسرت به إليه براق * بعروج سبحان من أسراها
وخطا عالم الجواز ولما * يبق في الكون ذرة ما وطأها

105
في قليل أقل من لمح طرف * سبحات الجلال قد جلاها
فدنا من مليكه فتدلى * بفنا حضرة تناهى علاها
لم يكن بينه سوى قاب قوسين وذات الجليل جل ثناها
ثم ناجاه ما هناك بما شاء يؤديه للبرايا شفاها
وعلى كتفه امر يدا قد * أثلج القلب منه برد رواها
وحباه من الكرامات ما لم * يحوها غيره ولا من سواها
وإليه مفاتح الغيب ألقى * وأراه كنوزها فاحتواها
لا رعى الله من قريش بغاة * ما رعته ولم يزل يرعاها
ظاهرته ببغضها وتولت * عن هداه وتابعت طغواها
قد أراها معاجزا ما رأتها * من نبي ولا الزمان رآها
بذلت جهدها لاطفاء نور * منه لا زال بالهدى يغشاها
فأباه إلهه إلا تماما * في علاه ونقصها وانتفاها
عبد الله بن سلمة
قال ما يسرني اني لم أشهد صفين، ولوددت أن كل مشهد شهده علي
شهدته.
عبيد الله علي بن أبي شعبة الكوفي الحلبي
في رجال ابن داود: له كتاب معمول عليه، وقيل إنه عرض على الصادق
(عليه السلام) فاستحسنه وقال ليس لهؤلاء مثله. قال البرقي: كان متجره
إلى حلب فغلب عليه هذا اللقب. وآل أبي شعبة بيت كبير في الكوفة له
اخبار. وهو أول من صنف للامامية، ثقة.
السيد عبد المطلب الحلي ابن داود بن مهدي
ولد في الحلة حوالي سنة 1280 وتوفي سنة 1339 في قرية (بيرمانة).
نشأ في الحلة وكان أكثر تحصيله الأدبي على عمه السيد حيدر، وأخذ منذ
أوائل شبابه يمارس نظم الشعر حتى اجاده. وكان إلى جانب اشتغاله بالأدب
يمارس الزراعة ويلتزم الأراضي الأميرية من الحكومة فحصل على ثروة كبيرة،
ثم تقهقرت أحواله المالية حتى صار لا يملك شروي نقير، فوضعت الحكومة
املاكه للبيع استيفاء لما عليه من الديون الحكومية، وكانت داره في جملة ما
وضع للبيع فهزت الأريحية السيد محمد القزويني فاشترى الدار وسلمها
لصاحبها.
وبعد أن جف نهر الحلة هاجر إلى النجف سنة 1324 على عهد الشيخ
كاظم الخراساني، وكان هذا يدعو للحياة الدستورية في إيران فانضم لدعوته
وصار شاعرها ومدح زعيمها الخراساني وهاجم شاه إيران محمد علي القاجاري
هجاء مقذعا كما عرض بمن لم يكونوا مع الدعوة من رجال النجف.
ثم رجع إلى الحلة ومنها سافر إلى البصرة فاتصل بالسيد طالب النقيب
وانضم إلى حركته اللامركزية، ونظم الشعر في تأييدها وهاجم الأتراك وقام
بجولات في الفرات الأوسط دعما للحركة. ولكن لما أعلنت الحرب العالمية
الأولى وخاضها الأتراك أخذ يؤيدهم ويحرض القبائل في الفرات الأوسط على
محاربة الإنكليز وزار جبهات القتال في البصرة ولكنه لم يسلم منهم حين وقعت
حادثة الحلة وهاجم القائد التركي عاكف الحلة وخرب دورها، فكانت دار
المترجم فيما خرب (1) فاعتذر له الأتراك بان ما حصل كان خطأ ولما احتل
الانكليز بغداد اعتزل في قرية (بيرمانة) التي كان له فيها بعض الأملاك وبقي
معتزلا فيها حتى مماته (2).
ويقول الدكتور مهدي البصير أنه توفي هو واثنان من أبناء عمه في وقت
واحد فكان هذه الأسرة التي طالما عركت الحياة وطلبت المجد والجاه والغنى
وأصابت من كل شئ حظا لا باس به في فترات مختلفة من الزمن قد أرادت أن
تودع الحياة دفعة واحدة لأنه لم تقم لها بعد أولئك الثلاثة قائمة حتى الآن.
شعره
من شعره من قصيدة يشيد بها بموقف الشيخ كاظم الخراساني في الحركة
الدستورية:
نصرت وداعي الجور خزيان واجم
فما ذل مظلوم ولا عز ظالم
غداة غشيت المستبد بلطمة
على تاجه منها غدا وهو لاطم
فولى وقد أعطاك للطعن كتفه
فما اتت الا العدل للجور هازم
إذا ما بنى للجور عرشا هدمته
ومن ذا الذي يبني وذو العرش هادم
فلو كان حرا ما استرق بجوره
رقاب لها الاسلام بالعتق حاكم
ولا أصبحت في القيد ترسف أرجل
برتها فادمتها القيود الاداهم
ولا اختار أرباب السفاه بطانة
فأدني ذو جهل وأقصي عالم
وله من قصيدة نظمها عندما هاجمت إيطاليا طرابلس الغرب سنة 1331:
أيها الغرب ماذا لقينا * كل يوم تثير حربا طحونا
تظهر السلم للأنام وتخفي * تحت طي الضلوع داء دفينا
أجهلتم بأننا مذ خلقنا * عرب ليس ينزل الضيم فينا
ولنا نبعة من العز يأبى * عودها أن يلين للغامزينا
قد قفونا آباءنا للمعالي * واليها أبناؤنا تقتفينا
ومنها:
كيف ترجو كلاب (رومة) منا * ان ترانا لحكمها خاضعينا *
دون ان نفلق الجماجم و * الهام بضرب يأتي على الدار عينا
نبحونا مهولين فلما * ان زأرنا عاد النباح انينا
حيث لم تجدها المناطيد نفعا * كلما حلقوا بها معتدينا
كيف رعناهم الغداة بضرب جعل الشك في المنايا يقينا
ومنها:
يا رسولي للمسلمين تحمل * صرخة تملأ الوجود رنينا



(1) راجع تفاصيل هذه الحادثة في ترجمة الشيخ محمد علي اليعقوبي من هذا المجلد.
(2) بير مانة قرية في جنوبي الحلة على ضفة الفرات اليسرى.
106
وتعمد بطحاء مكة واهتف * ببني فاطم ركينا ركينا
وعلى الحي من نزار وقحطان * فعج وامزج الهتاف حنينا
الحراك الحراك يا فئة الله * إلى الحرب لا السكونا السكونا
ومنها:
يا ابن ودي عرج بإيران فينا * انها اليوم نهزة الطامعينا
قف لنبكي استقلالها بعيون * تنزف الدمع في الخدود سخينا
وعلى مشهد (الرضا) عج ففيه * فعل الروس ما اشاب الجنينا
تركوا المسلمين فيه حصيدا * واستباحوا منه الرواق المصونا
لا تحدث بما جرى فيه اعلانا * فان الحديث كان شجونا
وقال يرثي الشيخ كاظم الخراساني من قصيدة:
نعم هكذا تفنى السيوف القواضب
وتنقاد للموت القروم المصاعب
وترمي المنايا السود عن قوس غدرها
بسهم حمام لا يقي منه حاجب
فيغتال حد السيف والسيف مصلت
وتستل نفس الليث والليث واثب
ومنها:
لقد بات ينوي الحرب لا العزم نأكل
ولا الرأي عن طرق البصيرة ناكب
يعبي لهم من بأسه وحفاظه
مقانب لا تقوى عليها المقانب
واقلامه هن القنا وجنوده
هي الكتب والآراء هن القواضب
قضى ليله شطرين شطرا محاربا
وشطرا به باتت تضيئ المحارب
فما ابيض وجه الصبح الا وسودت
مآتم في فقدانه ومنادب
وأضحت ركاب السير وهي مناخة
وهل ثائر فيه تثار الركائب
ولو أمهلته النائبات لأصبحت
به تترامى للجهاد النجائب
إذا انتدبت لم تبق للروس عسكرا
ولا فيلقا الا لهم فيه نادب
اسالب تيجان الملوك كفى جوى
بموتك ان الكفر للدين سائب
قضيت فاما حزننا فهو قاطن
مقيم واما صبرنا فهو ذاهب
مؤلفاته
شرح ديوان مهيار الديلمي الذي طبع في بغداد بثلاثة أجزاء سنة 1330
وعليه بعض الحواشي بقلم عمه السيد حيدر. وجمع شعر عمه المذكور في ديوان
ووضع له مقدمة ضافية، وجمع ديوان جده السيد مهدي في جزأين، وجمع
ديوان شعره.
السيد عبد المطلب الأمين
مرت ترجمته في المجلد الثامن الصفحة 101 وهنا دراسة عنه بقلم الأستاذ
محمد علي مقلد:
أحد الذين عرفوه عن قرب، حين طلب إليه أن يختار لعبد المطلب من بين
مواهبه لقبا، راح يحصي: الشعر، الشريعة، القانون، السياسة والحقل
الدبلوماسي، النقد والصحافة... الخ ثم اختار له لقب المفكر، واردف:
نعم لقد كان مفكرا، منظرا، بل لقد كان مجتهدا، وربما كان أحد كبار
المفكرين، أحد أدمغة سوريا في أيامه، مع أنه لم يتخصص في ميدان معين ولم
يحجز ثقافته في حقل واحد من الحقول.
أحد أصدقائه السوريين قال فيه: " كان عبد المطلب نموذجا فريدا
للمواهب المتجمعة في شخص " وقال: " نحس فيه أن ما فقدناه لا يعوض ".
وقال عنه حسن شرارة: " يوم يولد تولد دنيا جديدة لا تخوم لها ولا
حدود... ويوم يموت: تموت طيوف ابداع وأدوات خلق ومفاتيح رؤى...
يموت الفكر الحالم المتوقد... والوجدان المتفتح... تموت الطيوف والرؤى.
ولقد قيل فيه الكثير وأجمعت الأقوال دون استثناء على أن عبد المطلب
شخص هفت إليه الأسماع وأنشدت إليه الأذهان وكانت تميل القلوب حيث
يميل... والذين عرفوه كان الواحد منهم في حالة دائمة من الانتظار إلى أن يأتي
عبد المطلب.
على أن لكل لقب، أي لكل موهبة، ولكل وظيفة نوعا من العلاقة مع
الناس وإذا تنوعت وتمايزت علاقات الشاعر والقاضي والناقد والصحافي
والسياسي فلأن نافذة الشاعر على جماهيره هي نافذة صاحب الموهبة والشفافية
والخيال ومن خلالها يحكم على الشاعر أنه يرى ما لا يراه الآخرون وبصره يخترق
الحجب ولسانه يعزف على أوتار القلب... و... و... و...، والصحافي
أمام جماهيره قابض على السياسة دون أن يغرق فيها ملكة الفضول عنده كسلاح
الهندسة في الجيوش، يتبعها على الخيط ويعود من الكواليس ليجد الأذان في
انتظاره... شأنه شان الشاعر يعرف ما لا يعرفه الآخرون، أو على الأقل،
هكذا كان شانه منذ عقدين وما سبق.
والقاضي، في قلمه اللحظة التي يميز فيها بين الأسود والأبيض الجريمة
والبراءة، السجن والحرية، وذاكرته خزانة لغرائب الناس ومساكينهم،
أشرارهم وعقلائهم، وهو جزء من السلطة محاط بمهابتها، ينهار لقبه إذا
انهارت، ولكن إذا قويت وتماسكت فويل لمن يقع فريسة القانون...
والسياسي كما قال الشاعر: واحد يملك الشرفات وآخر يملك الحبال،
واحد يملك اللآلئ وآخر يملك النمش والتواليل... واحد السفن وآخر
الأمواج... ولكل منهما طريقة إلى القلوب ولكل منهما موقع وأثر، واحد يجيب
الذين يسألون: كم الساعة الآن... والآخر يعرف كم ستكون الساعة...
واحد يصنع زعامته بين الرؤساء والوزراء والسفراء ويصفع بها وجوه الناس
وأحلامهم، وآخر يمشي على خط طويل يمتد بين الحي الشعبي أو المدرسة أو

107
المعمل وبين ساحة واسعة اسمها حركة التحرر، ويختار حيث يستطيع موقع
الزعامة أي القيادة ويمنحها للذين ينضحون عرقا ونضالا...
والناقد في لغة الحروب مثل القناص يصوب من بعيد، يصوب عبر
نافذة ضيقة، باتجاه الناس فيطل عليهم " بالمفرق " بينما السياسي أو
القاضي... " بالجملة "....
وكيف إذا اجتمعت هذه الألقاب والصفات والوظائف والمواهب في
شخص واحد وكيف إذا كان هذا الواحد عبد المطلب الأمين. أجل هو نفسه
الذي حشد في داخله سياسيا وقاضيا وصحافيا وشاعرا وناقدا ومحاميا وغلف
هذه الجوانب ووحدها وصهرها واخرج منها شخصا ليس بالقاضي ولا بالشاعر
ولا بالمحامي ولا بالسياسي ولا بالصحافي... بل هو من كل واحد من هؤلاء
زبدته وقد تقمصت انسانا يتقن ترجمة معارفه ومواهبه بالمرح الدائم والنكتة
المبتكرة.
وقد يكون مفاجئا للبعض اعتبار جانب المرح واتقان فنون الضحك
والدعابة اللطيفة والفرح الجاهز دوما والمستخرج دوما من أي شئ، من أية
وظيفة، من أي موقع أو موقف أو شخص أو حدث أو خبر أو حركة... أهم
جوانب شخصيته، أجل أهم ما في عبد المطلب موهبته في تجميع المواهب
وموهبته في توزيعها على الناس عبر أقرب الطرق وأسهل السبل وأكثرها
امتاعا... قد نجمع على احترام عدد من الأشخاص وعلى محبتهم لكننا لا
نحبهم ولا نحترمهم بنفس المضمون وعلى نفس الطريقة، وقد تكون أساليب
تعبيرنا واحدة وأدوات تعبيرنا واحدة لكننا حيالهم كمن يعزف تنويعات على آلة
موسيقية واحدة... أي نوع من العزف كأنه عبد المطلب؟ كلما وجهت هذا
السؤال لأحد ارتبك لأنه لا يحسن اختصار عبد المطلب بالكلام أنه شخص لا
يجوز اختصاره.
أراني أمدح عبد المطلب الأمين أكثر مما أقدمه أو اعرف به، انني في ذلك
أترجم مواقف الذين سألتهم عن عبد المطلب. كلهم اجمعوا على أن من
الطبيعي بل ومن الضروري أن يكون موقع عبد المطلب أفضل مما كان...
وأن يكون دوره أكبر مما كان، وأن تكون مكانته الرسمية أكثر رسوخا وبروزا
وشهرة وتأثيرا...
كلهم دون استثناء اتفقوا اذن على أمرين:
- الأول هو أن امكاناته ومواهبه كانت كبيرة وكبيرة جدا.
- الثاني ان موقعه في تاريخ بلاده لم يكن موازيا لتلك الامكانات.
أما أن امكاناته كانت كبيرة ومتعددة فذلك أمر لا شك فيه، كما أنه لا
شك في الدور الكبير الذي كان لنشأته في بيت ذي مكانة في تاريخ جبل عامل
وبلاد الشام وفي تاريخ الفكر الشيعي الحديث، عبد المطلب هو ابن السيد
محسن الأمين وهو من هو في المجال الديني والفكري والسياسي، انه أحد
المراجع الكبرى في زمانه في الدين كما في المواقف الوطنية.
وانطلاقا من هذا المنشأ تهيات الظروف لعبد المطلب الأمين كي يكون في
عداد الرعيل الأول من المتعلمين والذين تابعوا دراستهم (حمل إجازة في الحقوق
عام 1939) وقد اتقن إلى جانب العربية الفرنسية والإنكليزية والروسية وأتيح
له أن يتخرج من بيت عريق بالثقافة تخصص في جانب مهم من التراث التاريخي
والديني...
على المستوى الثقافي العام استطاع عبد المطلب إذن ان يستفيد من منشأه
الأكاديمي والبيتي والوظيفي ليتكون في داخله جانب من شخصية رجل الدين
المحدث، العارف بشؤون الأولياء والصحابة الناقل لأخبارهم وسيرهم، الملم
بشؤون القرآن وتفسيره... إلى آخر ما يوفره الجو العام في بيت السيد محسن
الأمين... وليتكون في داخله نموذج المثقف الجديد الذي لا يكتفي بالتراث بل
يميل إلى حضارة الغرب ويطلع على بعض أثارها من خلال اللغات التي
يتقنها...
وليتكون في داخله نموذج يجسد المجتمع الجديد الذي يخطو من العلاقات
الدينية الاقطاعية إلى العلاقات المدنية الرأسمالية.
وهكذا بدا عبد المطلب بثقافته نموذجا للجديد الذي بقي على صلة وثيقة بما
كان سائدا في الذاكرة الشعبية من التقاليد والعادات والأفكار والقيم.
وعلى المستوى الأدبي لا سيما الشعر كان عبد المطلب، شاعرا، بل لقد
كان واحدا من الشعراء الأربعة أبناء السيد محسن الأمين: واخوته حسن وجعفر
وهاشم. وعبد المطلب عرفت عنه غزارة انتاجه فكان الشعر يتدفق منه لأنه
قابض على ملكة الكتابة الفنية ممتلك لأدوات تلك الكتابة وأولها اللغة وفوق
ذلك بل وفي أساسه موهبته وحساسيته...
يذكر من يعرفه أنه كان يكتب شعره على الهامش الأبيض من صحيفة بين
يديه أو على علبة السجائر، يكتبه في الأماكن العامة، في سيارات النقل وأحيانا
كان يكتب وهو على كرسيه وأمام الطاولة، كان بمقياس ما، حسب احدى
المجلات السورية، اشعر الناس.
على مستوى القانون والشريعة فقد عين لسنوات قاضيا وعمل لسنوات
أخرى محاميا... وكان يأتيه طلبة العلم في القضاء أو في المحاماة، أحد هؤلاء
وكان مثل غيره من المعجبين كان يعتبره دائرة معارف... هذا هو شانه في
القانون المدني، وكذلك كان في مجال القانون الديني أو الشريعة ومراجعه في
ذلك الكتب الاسلامية وتاريخ أهل البيت وهو من المتأثرين بهم والمعجبين.
على المستوى السياسي امكاناته أيضا كبيرة ومواهبه كبيرة. فعلى الصعيد
الرسمي عمل عبد المطلب سفيرا لسوريا في موسكو وكان سفيرا ناجحا بشهادة
مسؤوليه... يروي زهير مارديني بعض الحوادث التي تؤكد ذلك (مع الجابري
رئيس الوزراء) وقيل أنه أحد مؤسسي وزارة الخارجية السورية... وعلى
الصعيد الشعبي عرف بمواقفه الوطنية الدائمة دون خوف وبلا حساب لأية ردة
فعل... من القضايا المطلبية، إلى القضايا السياسية والموقف من السلطة
والرؤساء والوزراء، إلى القضايا القومية والموقف من القضية الفلسطينية
والوحدة العربية... الخ كان لعبد المطلب مواقف وطنية معروفة في كل
مجال...
وأخيرا وعلى مستوى الكفاءات الشخصية والمواهب والمزايا الذاتية يجمع
الذين يعرفونه على أنه انسان حاد الذكاء، كثير الاستقامة والصدق، كثير
التواضع بارع في تكيفه مع جميع فئات المجتمع من الفلاحين وأبناء الريف إلى
الدبلوماسيين وأجواء الأرستقراطية... وإلى جانب ذلك كان يمتلك مهارة
فائقة في صنع المرح وابتكار الضحكة واستحضار النكتة وكان لا يوفر، في

108
ذلك، أي شئ، أي شئ، وفي أساس كل ذلك قدرة على الاستيعاب
مدهشة.
هذه الامكانات الكبيرة لم يكن لها ما يوازيها على المستوى الرسمي. فحيث
كان من المفترض بهذه الإمكانات أن تدفع باسم عبد المطلب إلى سجل الشهرة
كواحد من المؤثرين والفاعلين في تاريخ بلادهم السياسي والثقافي والأدبي لم يتوفر
لهذه الإمكانات والطاقات ما يدفعها نحو تأثرها وعلى العكس من ذلك منيت
هذه الامكانات بمن لا يحسن تقديرها وبدا عبد المطلب يغرد خارج سربه منذ
ولادة أولى الانقلابات في هذا العالم العربي على يدي حسني الزعيم... فمع
مجئ هذا الرجل انقطع النشاط الدبلوماسي وتضاءلت احتمالات تجدده.
تذكر المكتبات والمطابع، ويذكر القراء اسم بدوي الجبل، اسم نزار قباني
بينما بقي عبد المطلب خارج التداول مع أنه عاش معهما في فترة واحدة،
واشتغل مع بدوي الجبل مثلا في حقل التعليم في العراق، وربما كان في أحد
جوانب العمل الفني أغزر نتاجا... هكذا شانه في ميدان النقد وفي ميدان
الصحافة وفي ميدان الفكر. في التشريع، في الحقل السياسي... نتداول
اليوم بعض شعره الذي جمعه له شقيقه السيد حسن الأمين ونندفع إلى الاعتقاد
أن ما يحكيه عنه شعره لا يوازي ما يتداوله البعض ممن عرفوه بل وندفع هذا
الاعتقاد قليلا إلى الأمام لنرى بينهما هوة لا يردمها إلا البحث الجاد والمعمق في
تفاصيل عبد المطلب مبتدئين من دمشق حيث ولد ونشأ ودرس وتعلم وتخرج
حاملا إجازة في الحقوق، وبالتحديد نبدأ من بيت السيد محسن الأمين وننتهي
في شقرا، قريته الجنوبية معرجين على الميادين التي عمل فيها: سفيرا لسوريا في
موسكو، معلما في دار المعلمين في بغداد، موظفا في وزارة الخارجية السورية
وواحدا من مؤسسيها، قاضيا في لبنان، محاميا في الكويت، صحافيا في
صحف دمشق بتوقيع القاضي الفاضل، وفي جريدة النداء في بيروت، موظفا
في وزارة الدفاع (رئيس قسم التوجيه) في سوريا حتى النكسة 1967... وما
تبقى من حياته قضاها في بيت متواضع في منطقة النهر في بيروت وفي بلدته
شقرا.
يستوقفنا في عبد المطلب الأمين أنه كان قاضيا ومحاميا وصحافيا وناقدا
وسياسيا... الخ على صورة ابتكرها لنفسه وعلى مثال يجمع الفرادة مع ما في
الفرادة من جوانب التألق أو جوانب الانكفاء. وإذا لم يكن الشعر ابرز مظاهر
هذه الفرادة فإنه نموذج ونتاج لشخصية تكونت خارج هيمنة الطراز السائد.
كتب شعرا كثيرا ولكن صحف زمانه ومجلاته كانت خلوا من أي بيت أو أية
قصيدة من قصائده، كتب كما لو كانت الكتابة عنده فيض لا يرد عطاؤه وكما لو
أن الشعر عنده عمل عادي وطبيعي كالتنفس لا يستوجب اهتماما كونه،
بالنسبة إليه، عملا تلقائيا جاهزا للممارسة على الدوام.
ان بعض المقاييس الفنية تمنحه بامتياز صفة شاعر في وقت تلجأ مقاييس
أخرى إلى التقليل من أهمية شعره. فهو من جهة قابض على مجموعة من
العناصر الضرورية للانتاج الفني ومنها لغته التي لا شك بتملكه لها اطلاعا على
التراث الديني، تراث أهل البيت، التراث الشعري القديم ومن عناصر
الانتاج الشعري المستوى الفكري والثقافي الذي تمتع به والذي قال عنه أحدهم
اعجابا: انه دائرة معارف، ومنها وضوح الموقف من الأحداث ومن القضايا
ومن المواضيع و من العلاقات، وقد كان في هذا المجال صاحب موقف لا يتأخر
عن اعلانه مهما كانت الظروف معاكسة.
أما مواقفه من الحياة والموت والحب والزمن... الخ فيمكن استخلاصها مما
توفر بين أيدينا من أشعاره وكذلك مواقفه من القضايا السياسية الوطنية والقومية
والاجتماعية.
الحياة كلها لم تكن في نظره إلا محطة، لم تكن هدفا لم تكن إلا إضافة كمية
ونوعية على التاريخ فقيمتها إذن في حجم ما تضيف لا في حجم ما تأخذ:
ودروب الحياة مهما استطالت * هي في خطونا الملح دروب
أو:
تضاءل العمر وانهارت مهابته * حتى استحال تساجيعا وأوزانا
والحياة من هذه الزاوية لمح من الحوادث تتراكم بتناقضاتها وتتعاقب
تفاصيلها ليضيع العمر بين هذه التفاصيل:
تبا له الزمن الواهي فمر بها * مر الكرام: عيون أوصدت وفم
في حياته اليومية، في تفاصيل العلاقات الاجتماعية كان ضاحكا مرحا وفي
شعره وجه آخر لهذا الفرح الحياتي. في شعره كآبة ويأس واشمئزاز ونفور
وقرف... نفس الأشياء التي يترجمها ضحكه ونكته أمام الناس كان يترجمها في
شعره شكوى وتذمرا، المقاييس المختلة بل القيم المختلة أضحكته وأبكته في آن
معا. يقول في قصيدة:
إلى أين يمضي بنا ركبنا * عنيفا لجوجا على عمرنا (1)
ان تراكم هذه التساؤلات هو بحد ذاته دليل على شكوى داخلية عميقة:
إلى أين؟ وحتام؟ أكنا... وهل؟ ومن؟...
ويختم أبياته بخيبات الأمل وباسفاف الأوهام وبالانتظار الممل.
في قصيدة أخرى نظمها كما يبدو في أواخر حياته يحشد عددا من المفردات
يكفي مجرد استعراضها للتأكيد على انزعاجه الشديد من القيم المختلة تلك:
ضلال العمى وضلال البصر * وحمى الحلال وحمى السفر (2)
على أن هذه الأجواء المفعمة بالتساؤلات لم تشكل كما عند الرومنطيقيين
مثلا مرضا اسمه الهروب مما قد يعترض الانسان من مشاكل والاحتماء بحصن
الأنا والذات والانكفاء إلى عالم داخلي باطني صوفي تأملي... لقد كان عبد
المطلب يرى إلى الواقع بعين ثاقبة ويحسن تشخيص الداء من اعراضه وتدفعه
جرأته إلى اعلان موقفه، وموقفه كان دائما منحازا إلى شعبه إلى المظلومين
والمستعبدين في كل زمان، منحازا إلى تلك القوى المناضلة من أجل تحرير
بلادها وتحرر شعوبها من صلف الحكام واستهتارهم وامتهانهم لكرامات الناس
وأعراضهم وأسباب عيشهم، منحازا إلى أهل البيت وشعره ينضح اعجابا بهم
وتمسكا بتاريخهم وتمسكهم العنيد بقضية ما زالت حتى اليوم تقبض على هواجس
بعض ذوي القربى والسلالات، منحازا إلى القضية القومية، قضية فلسطين
مستشرفا مستقبلها منذ أيامها الأولى... وربما بسبب مواقفه الواضحة تلك
عاش عبد المطلب حياة سماها حياة التشرد وحياة الغربة:
في أي صقع استقر واسكن * ولأي ظل استريح واركن (3)



(1) راجع القصيدة في ترجمته.
(2) راجع القصيدة في ترجمته.
(3) راجع القصيدة في ترجمته.
109
والغربة تلك هي نفسها التي شعر بها المتنبي يوما حين قال:
ما مقامي بأرض نخله الا * كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها الله * غريب كصالح في ثمود
أنها الغربة نفسها لأنها غربة أصحاب الإمكانات الكبيرة والطموح الكبير
والآمال العريضة الذين يصابون بخيبات أمل من واقع لا يساعدهم ويقف فوق
ذلك موقفا اعتراضيا من مواهبهم ومزاياهم. والا كيف نفسر إذن شخصا
بإمكانات عبد المطلب ومنزلته كان يسكن غرفة متواضعة في أحد الشوارع
المتشابهة من منطقة النهر في بيروت، وفي تلك الغرفة زاره دبلوماسيون عرب
وأجانب؟
قلنا أن عبد المطلب كان يمتلك الأدوات اللازمة والعناصر الضرورية ليكون
شاعرا كبيرا، امتلك اللغة ووضوح الموقف والموهبة وغزارة الانتاج... الخ وضوح الموقف والموهبة وغزارة الإنتاج... الخ
قال الدكتور حسين مروة في ذلك: يملك العدة الكافية، بل الغنية، لدقة
الاختيار وبراعة الاستصفاء، ثم لأحكام البناء الشعري واتقانه. وفي مكان
آخر يشير الدكتور مروة إلى امتلاكه، أي عبد المطلب، الوثيق لكل أدوات
اللغة الشعرية وقواعد النحو والعروض... وفضلا عن تملكه لتلك الأدوات
والعناصر كان بامكانه أن يجير موقعه الاجتماعي والسياسي كسفير ومنشاه في
بيت السيد محسن الأمين ويستعين بهما لكي يشيع شعره ويدفعه إلى التداول،
لكنه لم يفعل ذلك واكتفى بأنه أنشد الشعر بعفوية ليهمله على الفور بعد انشاده
تاركا لأصدقائه أن يحافظوا على شعره وأن يحفظوه. ورغم محبتهم له ولشعره لم
تنج قصائده من البعثرة والضياع إلى حد يدفعنا إلى الاعتقاد أن ما جمع من
أشعاره لا ينقل بأمانة تفاصيل عبد المطلب التي يتحدث عنها أصدقاؤه، وربما لا
يكون ذلك بسبب قلة ما جمع من أشعاره بل بسبب كون الشعر بالنسبة إليه مجرد
هواية متطورة لم يشأ أن يدخلها في باب الاحتراف مدخرا لهذا الباب طاقة أخرى
غير الشعر، ربما كانت السياسة، ظلت هي بدورها خارج باب الاحتراف.
الهواية في الشعر دون الاحتراف استندت عند عبد المطلب إلى أسس
ثلاثة:
الأساس الأول: هو ان الشعر لم يكن عالمه الوحيد ونظن أنه لم يكن الأهم
ولذلك لم تكن عنايته به موازية لموهبته فيه. يقول الدكتور حسين مروة عن
شعره:
" انه التفجر الأفقي المندفع خلال قشرة الاحساس ويأتي، حين يأتي،
استجابة لتوترات عفوية آنية يدفعها من العمق إلى... ذلك كان
شأنه في أغلب حالاته الشعرية... سمة العفوية انسحبت على تعامله مع اللغة
الشعرية في معظم ما كتبه شعرا بل انسحبت كذلك، أحيانا، على تعامله مع
قواعد النحو و العروض رغم امتلاكه الوثيق لكل أدوات اللغة الشعرية وقواعد
النحو والعروض ".
يضيف الدكتور مروة: " كانت استجاباته للحظات التوتر النفسي، تندفع
بقسرية حادة وبنورية لا تمهله أن يتوقف ليقارن ويختار ويستصفي ثم ليبني
قصيدته بروية وتدقيق وأحكام... ".
الأساس الثاني: ان الشعر عنده لم يكن طاقة استثنائية يندر وجودها، بل
أن ملكة الشعر بين يديه قد توفرت في بيت عج بالشعراء وقد ذكرنا أن اخوته
الثلاثة يكتبون الشعر، إضافة إلى عدد من أقاربه مما يترك الانطباع أن من
طبيعة الأمور أن يكتب عبد المطلب الشعر من أجل الابداع في ميدان آخر ينبغي
التفتيش عنه.
الأساس الثالث: انتماء شعره إلى ما يسمى الشعر العاملي. والشعر العاملي
ليس حدثا مفتعلا أو قولا ينحو نحو المبالغة. الشعر العاملي ظاهرة تستحق
التوقف وقد بادر الأستاذ حسن الأمين شقيق عبد المطلب كما بادر غيره إلى جمع
بعض التراث العاملي وما زال الجزء الأكثر من هذه الظاهرة مبعثرا في الذاكرة
الشعبية أو في الكتب أو في الأوراق الخاصة المغمورة...
لقد تفرد جبل عامل بهذه الميزة بحيث لم تخل قرية فيه من شاعر ينشد أو
ينظم أو يقرض شعرا بالفصحى وإذا لم يتوفر فبالعامية. وربما تكون هذه
الظاهرة مرتبطة بالتراث الشعري القديم أكثر من تأثرها بالتيارات الجديدة بدءا
من المدرسة الرومنطيقية وحتى يومنا هذا ولذلك جاء شعر عبد المطلب أكثر
استجابة لظاهرة الشعر العاملي بعفويته منه إلى التيارات الغنية والشعرية منها
بخاصة، رغم كونه ولج باب الجديد وكتب خارج المألوف التراثي من موزون
الشعر ومقفاة...
وعن هذه المسألة كتب الدكتور حسين مروة أيضا يحدد انتماء شعر عبد
المطلب:
" ان الذي نقدمه من شعره، وهو بعض شعره لا كله، يتخذ مسارا
يتقاطع حينا، ويتوازى حينا مع مسار حركة الشعر الجديد،... ان عبد
المطلب كان أزخر طاقة وأقوى طموحا وحيوية، وأشد اندفاعا للانطلاق
والتطور والتحرر من أن يتخلف عن قافلته... ".
إذن هل ينتمي شعر عبد المطلب إلى تيار الجديد؟ لا، لكنه ليس غريبا أو
بعيدا أو قاصرا عنه. كان قادرا على مواكبة الحركة الشعرية وقد عايش
انطلاقتها بين الحربين وبشكل خاص بعد الحرب العالمية الثانية، لكن نتاجه
الشعري لم يكن بشكل عام، مواكبا لها.
هذا عن عبد المطلب الشاعر. أما عبد المطلب السياسي فقد يكون الحكم
عليه مقاربا وقد يكون النموذج الذي تكون عليه شاعرا هو نفسه الذي تكون
عليه سياسيا... لذلك نسارع إلى القول أنه عمل في السياسة هاويا، أيضا،
وليس محترفا، لكنه هاو بامكانات محترف، هاو يجيد بامتياز حرفة السياسة التي
منع عن احترافها في السلطة بينما امتنع عنها في المعارضة الحزبية.
أما عمله كدبلوماسي فلم يدم طويلا رغم نجاحه الباهر حسب زهير
مارديني أحد أصدقائه وهو يروي عن لسان سعد الله الجابري رئيس وزراء
سوريا ووزير خارجيتها آنذاك وإذا كان عبد المطلب أحد مؤسسي وزارة
الخارجية السورية فهل إلى جانب ذلك أول سفير أو قائم بالأعمال السوري لدى
الاتحاد السوفياتي وقد كان ذلك في الأربعينات أي في السنوات العصيبة التي
مرت بالعالم العربي، أبان معارك الاستقلال وفي فترة النكبة والتآمر الامبريالي
على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. ويحكى عنه نافذ البصيرة ثاقب
الرؤيا حيال القضية الفلسطينية لكنه كان يقترح في واد والعرب الخونة يقررون
في واد آخر فاعتبرهم عبد المطلب من أفضل الذين يتقنون غموض المواقف
واستعداء الآخرين، ومن أفضل الذين " يكبرون الكلام ". على أن عمله في
الحقل الدبلوماسي لم يدم طويلا فما لبث بعد عودته إلى سوريا أن استقال من

110
وزارة الخارجية احتجاجا على انقلاب حسني الزعيم وبذلك بدأت مرحلة
جديدة من العمل السياسي عند عبد المطلب.
في الحقل الدبلوماسي لم يكن هاويا. لقد كان محترفا رغم حداثة عهده في
هذا الحقل، بل لقد كان محترفا بامتياز. في حقل النضال الحزبي والشعبي
والجماهيري كان عبد المطلب هاويا، لم يدخل في تنظيم حزبي لكنه منحاز
لحزب الناس، للمستضعفين، للفقراء، الذين سلبهم الظالمون حرياتهم،
والمستثمرون خيراتهم والمستعمرون أوطانهم، كان منحازا ضد المتآمرين على
بلادهم، ومنذ اللحظة الأولى لانقلاب حسني الزعيم أعلن موقفه واضحا:
لقد تمرد عبد المطلب لأنه رأى في حسني الزعيم خطرا على البلاد بتسلطه
وارتباطاته ولأنه كان وفيا للذين تعاون معهم قبل الانقلاب، ونظم قصيدته
الشهيرة في حسني الزعيم (1).
(نذكر بالمناسبة أن الشاعر نزار قباني كان قد تغزل بحسني الزعيم).
بعد هذه القصيدة الوطنية ضد صاحب الانقلاب فصل عبد المطلب من
الوظيفة وكانت قصيدته قد انتشرت انتشارا كبيرا. وعلى أساس مثل هذا
الموقف الوطني كان عبد المطلب مع قضايا الشعب والوطن كتب عن آلامهم
وأفراحهم ومعاركهم ضد الاستعمار، كتب عن الفدائي، عن معركة القناة،
قناة السويس، عن حكم كميل شمعون عن الهزيمة 1967.
من وحي مهنته قاضيا، وجد نفسه يحاكم قسرا متهمين شتان بين
جرائمهم وجرائم من يتربعون على كراسي الحكم.
وكان بسبب مواقفه الوطنية شاعرا جماهيريا يتضخم المهرجان ويتضاعف
عدد المشتركين فيه والحاضرين له إذا كان عبد المطلب في عداد الخطباء.
ان ذلك يفسر لنا الشفافية التي امتاز بها في حسه الشعبي وفي مواقفه
الجماهيرية وفي قدرته على التعبير عما يجول في خواطر الناس من حوله
والشهادات على ذلك كثيرة. في مثل هذه المواقف وإزاء مثل هذه القضايا كان
عبد المطلب يهجر أسلوبه الكئيب يائس الذي تحدثنا عنه ليعود إلى أسلوب
مفعم بالثقة بالمستقبل وبالناس، مستند إلى هذه الثقة في سخريته من القيمين
على أمور شعبهم من النماذج الشعرية التي كتبها تلك التي تركها بعد الهزيمة في
دمشق واعتزل بعد وظيفته وكان يومذاك رئيسا لمصلحة التوجيه و التعبئة في وزارة
الدفاع السورية. كتب هذه القصيدة وترك سوريا والوظيفة و غادر إلى لبنان.
قال يعارض قصيدة شوقي التي مطلعها:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا * مشت على الرسم احداث وأزمان
نم وانس جلق واندب حظ من هانوا * على الأرائك أطفال وغلمان
على الحدود تلاميذ ومدرسة * وفي السرايات ضباط وأركان
مع العدو رعاديد واقفية * مع الرفاق منافيخ وشجعان
مع الجواسيس تطنيش ومغيبة * وفي المباحث تعذيب وامعان
تضاءلت قيم التاريخ فانتفخت * فيه الزقاق وشاب الحور والبان
مررت في معرض التاريخ اسأله * هل للعروبة في البازار دكان
هل نحن في معرض التاريخ اقفية * أم اننا قيم تنمو وانسان؟
هل نحن عربدة تطفو كما زبد * أم أننا في يد التاريخ برهان
هل نحن معولة الهدام أم يده * منارة فيداه اليوم بركان؟
قم سائل الأكمه التاريخ: هل عبرت * مع الحضارة في مثواه عربان؟
هل عشعش القمل في أفيائه وحبا * حتى تضايق أهل ثم جيران؟
تبا له القزم التاريخ وانفجرت * شفاهه عن نوايا هن عدوان
لولا دمشق لما طارت قنيطرة * ولا ازدرى ببني القفقاس دايان
كل الشهور وصمناها بمأثرة * وكان آخر من قاسى حزيران
وقبله كان آذار وثورته * وجاء من بعد تشرين ونيسان
أما شباط فلم نترك به رمقا * للثائرين فللثوار أحزان
وكان يوليو: وحدث دونما حرج * عن الشقيق ليونيو نحن اخوان
وأشهر الهجرة الغراء رصعها * من الأشقاء بالثورات رمضان
وارحل لسيناء واسأل في متاهتها * عن المشير وقد وارته أكفان
من تاه فيها: أموسى في جماعته * أم جيشه اللجب حفيان وعريان
موشي يرد لفرعون هديته * مع الفوائد فالديان دايان
سل الحشيش سل الأفيون أن فرغت * حقائب، ففم التاريخ ملآن
ملآن باللعنات السود يبصقها * في وجه من غدروا عمدا ومن خانوا
وراء كل مواقفه صدق انتمائه. لقد انتمى إلى شعبه في جبل عامل، إلى
قضية شعبه والشعوب العربية، إلى القضية الفلسطينية، إلى قضية الحرية،
إلى قضية الإنسان... لذلك آمن بالانسان، بقدرته على تغيير العالم، بقدرته
على صنع المستقبل.
هذا عبد المطلب السياسي المنحاز إلى شعبه في معاركه الوطنية في معارك
عماله وفلاحيه ومثقفيه، في نضاله ضد الغلاء وضد القمع، في كفاحه من
أجل التحرر. لكن هذا السياسي الواضح في انتمائه لم ينخرط في تنظيم حزبي
ولم يعمل باتجاه الزعامة الشعبية عن أي طريق رغم كونه ابن السيد محسن ذي
الموقع المعروف كرجل دين، وكرجل دين مميز. كان بإمكانه أن يستعين بهذا
الموقع الاجتماعي والديني للحصول على موقع سياسي لكنه لم يفعل.
كما الشاعر والسياسي كان عبد المطلب المفكر وعبد المطلب القاضي وعبد
المطلب المحامي والصحافي والناقد... فكره هو موقفه بل هو جملة مواقفه التي
عبر عنها شعرا وصاغها في زاويته في جريدة النداء وفي بعض ما نشره في صحف
دمشق بتوقيع القاضي الفاضل وفي أحاديثه ونقاشاته مع أصدقائه وندمائه...
المسلك الثاني هو مسلك السخرية والنكتة والفكاهة الحاضرة دائما والفكاهة
تعريفا هي مهارة اللعب على التناقض بين ما هو طبيعي وما هو مفتعل، عادي
وغير عادي، سائد ومنقرض... الخ ولا يمتلك القدرة على الفكاهة من كان
لا يمتلك ناصية النقيضين، على حد سواء.
وتزداد المهارة في ابتكار الفكاهة كلما اتسعت مادة الفكاهة لتشمل كل
شئ، نعم كل شئ، القضاء، السلطة، الوزارة، السفارة، القصيدة،
الصديق، الزوج الشيح، المسائل الحياتية الاجتماعية الأخلاقية إلى ما هنالك
من أشياء ومواضيع، وبذلك تتجاوز الفكاهة حد التهريج والضحك الشكلي
وتصل في مستواها وغناها حد الطرب الأصيل وهذا ما كان يتقنه عبد المطلب
إلى آخر مداه مما يجعله متحدثا وحيدا في الجلسات والحاضرون على ترقب لجديد
من طرائفه وحكاياته وأشعاره واخباره...



(1) راجع القصيدة في ترجمته.
111
وراء مهارته الضاحكة استخفاف بجوانب الواقع الذي منعه من اطلاق
مواهبه وقد اتسع نطاق الاستخفاف هذا ليشمل بعض ما في الذهن من
مقدسات كان لا مباليا مع موته، مستخفا به. الأشهر الأخيرة من حياته قضاها
في المرض. كان يصاب بالغيبوبة وحوله الناس في حزن عميق كل واحد منهم
يذرف دمعة بصمت وفي مثل هذا الجو من كآبة الحاضرين يصحو من الغيبوبة
ليروي لهم نكتة تضحكهم. كان زائروه ينظرون إلى اعراض مرضه بخشوع
ومهابة وبتأمل عميق بالحياة والموت فيشرد واحدهم إلى حيث يذهب به الخيال،
وحده عبد المطلب كان دائم الابتسامة بل دائم الضحك على ما يظهر عليه من
أعراض.
في مجال الشعر قلنا: لا يتقن الشعر إلا من كان قابضا على عدة الشعر
وأدواته ممتلكا لمفاهيمه مستندا إلى وضوح موقفه... وفي مجال الفكاهة نقول:
لا يتقن الضحك والمرح والنكتة كعبد المطلب إلا من كان قابضا على أدوات
الفرح من الذكاء الحاد وسرعة البديهة ودقة الملاحظة وبلوع الجرأة والعبث
المفرط الذي يفتش عن الحقيقة فيما وراء الحقيقة، ويقابل بالنكتة من يلتقيهم
أيا كان موقعهم ورتبتهم من ستالين إلى تشرشل إلى زملائه وأصدقائه وندمائه
ورؤسائه ومرؤوسيه وكافة الفئات الشعبية التي كان يرتاح إليها أكثر من ارتياحه
للآخرين.
وطرائفه لا تحصى ومزاحه لا يتوقف والحوادث التي تروى عنه وعن فنونه في
الضحك كثيرة منها حادثة مع ستالين ومولوتوف.
وحادثة مع الشيخ هاشم الرفاعي في الكويت.
وحادثة مع السفير الأميركي في موسكو.
وآلاف الحوادث الأخرى التي نعتبرها مجتمعة أهم ما في شخصية عبد
المطلب. فبواسطة هذا الأسلوب الطريف الفكاهي المرح ترجم عبد المطلب
مواهبه وأخرجها إلى الناس وبها ادخل إلى القلوب فرح اللقاء به وبهجة التعرف
عليه شاعرا وقاضيا ودبلوماسيا وناقدا وصحافيا ومحدثا...
الشيخ عبد المهدي مطر ابن الشيخ عبد الحسين
ولد في النجف الأشرف سنة 1900 م وفيها نشا ودرس حتى غدا علما من
أعلامها علما وأدبا وشعرا. وكان على جانب كبير من طيب الذات وحسن المعشر
وكرم الخلق.
كان من الأعضاء العاملين في جمعية منتدى النشر في النجف منذ إنشائها،
وتولى تدريس النحو في كلية الفقه.
هو إلى جانب علمه الجم في الفقه والأصول والحديث والتفسير والنحو، في
الطليعة من شعراء العرب المبدعين في هذا العصر، ولكن محيطه الضيق وظروف
حياته وابتعاده عن توسل وسائل الأعلام وغير ذلك، حرم الأمة العربية من
وصول شعره إلى كل وسط من أوساطها وحصره في نطاق ضيق لم يتعده فضاع
اسمه في الضوضاء الفارغة التي تحيط بالأسماء الفارغة، ومن المؤسف أن ديوانه
ظل مخطوطا لم يطبع، والله وحده يعلم إلى أي مصير سيصير. ولم يصلنا من
شعره إلا هذا القليل الذي يراه القارئ فيما يلي. وقد طبع من مؤلفاته كتاب
(دراسات في قواعد اللغة العربية) في أربعة أجزاء.
من شعره:
قال وأنشدها يوم الاحتفال بافتتاح الباب الذهبي الذي أهداه بعض
الإيرانيين لمقام أمير المؤمنين في النجف سنة 1373:
ارصف بباب علي أيها الذهب * واخطف بابصار من سروا ومن غضبوا
وقل لمن كان قد أقصاك عن يده * عفوا إذا جئت منك اليوم اقترب
لعل بادرة تبدو لحيدرة * أن ترتضيك لها الأبواب والعتب
فقد عهدناه والصفراء منكرة * لعينه وسناها عنده لهب
ما قيمة الذهب الوهاج عند يد * على السواء لديها التبر والترب
ما سره أن يرى الدنيا له ذهبا * وفي البلاد قلوب شفها السغب
ولا تضجر أكباد مفتتة * حتى يذوب عليها قلبه الحدب
أو يسقط الدمع من عيني مولهة * أجابها الدمع من عينيه ينسكب
تهفو حشاه لأنات اليتيم بلا * أم تناغي ولا يحنو عليه أب
هذي هي السيرة المثلى تموج بها * روح الوصي وهذا نهجه اللحب
فاحذر دخول ضريح أن تطوف به * إلا باذن علي أيها الذهب
باب به ريشة الفنان قد لعبت * فأودعته جمالا كله عجب
تكاد لا تدرك الأبصار دقته * مما تماوج في شرطانه اللهب
كأن لجة أنوار تموج به * خلالها صور الرائين تضطرب
سبائك صبها الابداع فارتسمت * روائع الفن فيها الحسن منسكب
يدنو الخيال لها يوما لينعتها * وصفا فيرجع منكوسا وينقلب
أدلت بها يد فنان منمقة * تعنو لروعتها الأجيال والحقب
ملء الجوانح ملء العين رهبتها * ومربض الليث غاب ملؤه رهب
يا قالع الباب والهيجاء شاهدة * من بعد ما طفحت كأس بمن هربوا
بابان لم ندر في التبريح أيهما * أشهى إليك حديثا حين يقتضب
باب من التبر أم باب يقومه * مسماره وجذوع النخل والخشب
هذا يشع عليه التبر ملتهبا * وذاك راح بنار الحقد يلتهب
وأي داريك أحرى أن نطوف بها * وأن تجللها الأستار والحجب
دار تحج بها الدنيا لمجدك أم دار عليك بها العادون قد وثبوا
هذي تدال بها للحق دولته * زهوا وفي تلك فئ الحق يغتصب
حتى إذا جاءت الدنيا مكفرة * عما جنته وجاء الدهر يتهب
شادت عليك ضريحا تستطيل على * هام السماء به الأعلام والقبب
وتلك عقبى صراع قد صبرت له * وذا فديتك مظلوما هو الغلب
بلغ معاوية عني مغلغلة * وقل له وأخو التبليغ ينتدب
قم وانظر العدل قد شيدت عمارته * والجور عندك خزي بيته خرب
تبني على الظلم صرحا رن معوله * بجانبيه وهدت ركنه النوب
أبت له حكمة الباري بصرختها * أن لا يخلد مختال ومرتكب
قم وانظر الكعبة العظمى تطوف بها * حشد الألوف وتجثو عندها الركب
تأتي له من أقاصي الأرض طالبة * وليس إلا رضا الباري هو الطلب
قل للمعربد حيث الكأس فارغة * خفض عليك فلا خمر ولا عنب
سموك زورا أمير المؤمنين وهل * يرضى بغير (علي) ذلك اللقب
هذا هو الرأس معقود لهامته * تاج الخلافة فاخسا أيها الذنب

112
يا باب (حطة) سمعا فالحقيقة قد * تكشفت حيث لا شك ولا ريب
مواهب الله قد وافتك مجزية * ما كنت تبذل من نفس وما تهب
هذي هي الوقفات الغر كنت بها * للدين حصنا منيعا دونه الهضب
هذي هي الضربات الوتر يعرفها * ضلع بها أنقد أو جنب بها يجب
هذي هي اللمعات البيض كان بها * عن وجه خير البرايا تكشف الكرب
هذي هي النفس قد روضت جامحها * فراق للعين منها عيشها الجشب
فلا الخوان لها يوما ملونة * منه الطعوم ولا ابرادها قشب
لا تكتسي وفتاة الحي عارية * ولا تعب ومهضوم الحشا سغب
نفس هي الطهر ما همت بموبقة * وليس تعرف كيف الذنب يرتكب
هذي التي انقادت الأجيال خاشعة * لهديها وترامت عندها النجب
تعيفوا وركبنا في سفينته * فميز اللج من عافوا ومن ركبوا
وساوموا فاشترينا حب حيدرة * ولا نبيع ولو أن الدنا ذهب
يا فرصة كنت للاسلام ضيعها * حقد النفوس وأبلى جدها اللعب
شجوا برغمك أمرا أنت تعصبه * في ذمة الله ما شجوا وما شجبوا
فرحت تنفض من هذا الحطام يدا * إذ شمت فيه يد الأطماع تنتشب
تكالب عنه قد نزهت محتقرا * له وعندك ما يشفى به الكلب
فاستنزلوك عن العرش الذي ارتفعت * بك القواعد منه فهو منتصب
لو أنصفوك لفاض العلم منتشرا * في الخافقين وسارت بالهدى كتب
ولازدهى باسمك الإسلام دوحته فينانة وفناه مربع خصب
ولا تبنيت عليه من سماء علا * ما ليس تأفل عن آفاقها الشهب
لله أنت فقد حملت من محن * ما لم يطق صابر في الله محتسب
أمر به ضاقت الدنيا بما رحبت * ولم يضق عنه يوما صدرك الرحب
جاءتك " فارس " باسم الباب يجذبها * لك الولاء على شوق فتنجذب
أن يبعدوا عنك بالأوطان نائية * فكم لهم قربات باسمها قربوا
هم في المحاريب أشباح مقوسة * وفي الحروب ليوث غابها أشب
وقال سنة 1932 من قصيدة عنوانها (هتف القدس):
هتف القدس بعلياه فناجى * منه نفسا أبت الذل فهاجا
وانثنى يفتح بابا مقفلا * زاد فيه وعد بلفور الرتاجا
هاجه العدل، وأحماه الإبا * إذ رأى في بيئة القدس اعوجاجا
فانبرى يسعفها في همة * لو على الشم لأصبحن فجاجا
فأراها أن للقدس يدا * تمنع الضيم، إذا ما الحيف ماجا
ثم لما محص الحق الذي * زاد في استرجاع ماضيه احتجاجا
آب والعز على هامته * عاقد من شرف العلياء تاجا
يحتسي العزة عذبا صافيا * بعد ما أوردها الذل أجاجا
اسألوه سكنت أم أهل يرى * بعد في آمالنا البيض ارتجاجا
واسألوه السلطة هل أبقت لنا * أم أحالت باسنا الصلد زجاجا
واسألوا التاريخ عن آثارنا * واسألوا القدس إذا التاريخ داجى
من أقاموا عرشها من دوخوا * لابتيها، من أقاموها أذاجا
(ألقوم التيه) ذلا - بعد ما قد ملكنا منهم - نعطي الخراجا
أم هي السلطة حيفا غالطت * نفسها فينا فراحت تتحاجى
حكمت فينا الألى لم ندرهم * لا ولا مروا على البال اختلاجا
فأبت منا على أقلامها * أنمل، أو تملأ الدهر ابتهاجا
وقال بعد نكبة سنة 1948 في فلسطين:
وجدي ليعرب لا سرج ولا قتب * تنقاد حيث يشاء الصارم الذرب
سبع من الدول العرباء تنقضها * دويلة، ما لها ريش ولا زغب
هذي (فلسطين) نصب العين إن صدقوا
وذا هو (الزيت) منهم كيف يغتصب
شكت لهم وطأة الطاغي فما انبعثوا * وولولت ضجرا منهم فما غضبوا
وأيقظتهم من العادين مطرقة * فما استفاقوا لها، إلا وهم شعب
وأججت لهم نار لتضرمهم * هم يوقدون لظاها، وهي تحتطب
شنوا فقلنا على اسم الله غارتهم * تظنها الخيل، إلا أنها قصب
تغزو العدو بأطمار مهلهلة * وعنده الحلق الماذي و اليلب
يا وادعين إذا استسلمتم فلمن * هذي الجيوش، وماذا هذه الأهب
أما هو العار إن كأس العلى سكبت * أن لا تدار عليكم هذه النخب
سيف العقيدة يحسو من دمائهم * بخيبر، وقنا الإسلام تحتلب
وأصبحوا وكؤوس النصر مترعة * لديهم، ودماكم فوقها حبب
لقد طربتم على الأوتار، وانتفضوا * إلى المفاد، أما يكفيكم الطرب
ف‍ (ذو الفقار) لكم قد خط سابقة * حمراء، بين شباها الموت يضطرب
أنى يسود فتور في دمائكم * وفي العروبة رأس كله عصب
أعيذكم و المواضي في سواعدكم * أن يدركوا اليوم فيكم ثار ما طلبوا
لا تخدعنكم الأقوال فارغة * من قادة هم إذا جد الردى خشب
صفر العزائم، هزي جذع نخلتها * أو لا تهزي، فلا بسر، ولا رطب
يا ساحة العز بالباري معوذة * أو لا يخوضك قلب خافق وجب
وله من قصيدة تلت نكسة الخامس من حزيران عام 1967 م، يقول فيها:
و بكيت حقا للعروبة ضائعا * لا يسترد بغارة وكفاح
إذ عاد نهبا للألى أيديهم * غلت، فلم تظفر بيوم نجاح
أعن الملايين الثلاث تقاعدت * تسعون مليونا من الأقحاح
عادت مبددة القوى، إذ أصبحت * (صهيون) تطلق غارة بجماح
ما ذا يكون الغرب؟ ما هو شأنهم؟ * إما أعانوها بكل سلاح
أو ما لنا في (الفيتنام) وصدها * (الأمريك) أسوة قابس مقداح
أفلم نقف بالأمس وقفة حازم؟ * منهم لصد الغارة الملحاح
نشري البلاد بكل ما يشري الفتى * أوطانه، في صرع وأضاحي
حتى نزعنا منهم استقلالنا * جذلان بين أسنة وصفاح
ما بالنا عدنا وفي إيماننا * شلل، نعج بعولة ونياح
أين الذين إذا احتوتهم ندوة * ملأوا الفضاء بضجة وصياح
وتبرموا للفتح تحسب أنهم * آساد غيل، أو ليوث بطاح
من كل مقوال إذا جد الوغى * تلقاه يمزج جده بمزاح
فالحرب تهتف بالكماة أمامكم * من ممتط صهواتها لواح
والساحة الكبرى، وها هي أقفرت * تدعو بكل مسابق للساح
هبوا غضابا، إن صدقتم للوغى * كالأسد وثبة ثائر مجتاح

113
لا تخدعنكم الوعود من الألى * خدعت شعوب باسمهم ونواحي
أرأيت قولهم الكذوب لها افرجي * فورا، بلهجة ساخر ممزاح
فالجرح يعرفه الجريح إذا اكتوت منه العروق بمبضع الجراح
أتضيمنا يا للهوان حقوقنا * حتى اليهود، وفضلة النزاح
أو ما بنا عصب يثور، ونخوة * توري الوغى بلهيبها اللفاح
وله قصيدة يحيي بها (مؤتمر الأدباء العرب) المنعقد في القاهرة في
21 / 3 / 1968 م، ومطلعها:
قف أيها الأدب الفياض إذ تقف * بمسرح حل فيه المجد والشرف
يقول منها فيما يخص الموضوع:
وللعروبة أمجاد معطرة * تجنى لمنتجع منها وتقتطف
لا ينتهون لحد من سماحهم * والنبل أعذبه التبذير والسرف
حتى إذا ما أضعنا بعدهم سرفا * معالم الدين، واستشرى بنا الترف
تطلعت (حشرات الأرض) تنهشنا * لسعا، فلم يجدنا التقريع والأسف
تكهمت بعد إرهاف صوارمنا * فغودرت وهي لا حد ولا رهف
كانت (فلسطين) قبل اليوم طعمتنا * فأصبحت وهي منا اليوم تختطف
جفت عزائمنا عنها، فما انبعثت * آسادنا لحياض الموت تزدلف
عاد التواكل يثنينا فإن وثبت * غضبى، فقالون عن هيجائها انصرفوا
فلا ورب المعالي لا قرار * على هذا الهوان، إذا ما فاتنا الهدف
إن لم نقف حيث أم المجد ساحتها * تبرى بها الهام، أو تبرى بها الكتف
أو أن ترد حقوق ظن غاصبها * ان لا تدور رحى يعطى بها النصف
لتدري (صهيون) إن مدت حبائلها * إن العصا سوف تعلوها وتلتقف
وأن أرض (فلسطين) لنا خلقت * لا يعتلي تربها رجس ومقترف
وقال في الحفلة التي أقيمت في النجف لوفود مؤتمر الأدباء العرب:
يا شموسا لا يغطيها سحاب * وليوثا ضمها في المجد غاب
لحتم فازدهرت آفاقنا * وازدهت منا تلاع وهضاب
فتحيات لكم من بلدة * طالعت دربكم منها الرقاب
فأكف تتلاقى فرحا * وقلوب فيكم شوقا تذاب
أي وفد نظمت لؤلؤه * لبني العرب شعوب وشعاب
فالتقى منتظما في سلكه * كل عقد هو كالجمر شهاب
وتدانت بعد نأي فالتقى * فيه بعد البين للعرب اقتراب
وتجلى كوكب النصر الذي * كاد أن لا ينتهي منه الغياب
دب وعي فاستفاقت غفوة * وانبرت من غابها أسد غضاب
فانتهت أرض البطولات إلى * معقل في كل شبر منه غاب
وتمشى في الشرايين دم * فيه للوحدة هز وانجذاب
فتلاقت من قنا شوكتهم * أنصل هزت لطعن وكعاب
يا عقولا فجر الوعي بها * أعينا سائغة فهي عذاب
واستقت من كل فن فارتوت * منه حتى ملئت منها الوطاب
لم يخنهم حصف الرأي فهم * فيه إما استهدفوا مرمى أصابوا
وإذا بحر من الحيف طغى * خوضوا لجته وهو عباب
يا سقاة لم يكن من همها * غير أن تملأ بالوعى العياب
عودونا أن نرى من نهجكم * غمرات يرتوي منها الشباب
لا كما يلمع آل انه * ليس يروى قط ظمأنا سراب
علموه كيف يبني مجده * لا كما يبحث في قفر غراب
علموه كيف يقتات الأخا * دون أن ينبش عن رمس تراب
دون أن تعبث في صفو يد * دون أن يكشف عن حقد نقاب
فاقدحوا النور لعيني سادر * دونه اسود مصير ومآب
فعساه يبصر الدرب الذي * دونه ألف حجاب وحجاب
ليرى الحق جليا واضحا * حين يمتاز عن القشر اللباب
أدباء العرب حيتكم صدور * فتحت شوقا لكم فهي رحاب
لتحيي الأدب الحي بكم * إنكم من بيضة العرب اللباب
حيت الآداب فيكم بلدة * هي للآداب مفتاح وباب
بلدة الناطق بالفصحى التي * تورق الأعواد إن رن خطاب
علم الأقلام جريا فلها * كالصلال الرقش في الطرس انسياب
بلدة الضارب بالسيف إذا * شمخت هام أو استعصت رقاب
بلدة القاسم بالعدل وإن * ناشدته رحم غرثى سغاب
بلدة العاكف في محرابه * أبدا حتى اعتلا الشيب الخضاب
بلدة القانع بالقرص فما * لونت منه طعوم تستطاب
ملك الأرض وعاشت يده * فعليها ولها منها حساب
مبدأ الحق وما أعظمه * تلتقي السنة فيه والكتاب
مبدأ العفة إن خانت يد * مبدء الأمن إذا عم ارتياب
مبدأ الطهر إذا ما لوثت * دنسا من درن النفس ثياب
علموه النشا يصلح لكم * منه ما أفسده الغرب وعابوا
إنه قافلة آمنة * لم تدحرج بين رجليها دباب
أيها الوفد وفي النفس شجى * يتوخاكم وإن مض العتاب
أفترضيكم إذاعات لنا * ملأت آفاقنا وهي سباب
عربي يتحدى قرعه * عربيا أنه خزي وعاب
إنه الطعن الذي قرت له * عين إسرائيل والوخز الكذاب
سدد الرمي بما أدمت له * أعين العرب وماقف الإهاب
دللت في طعنها المضني بنا * أنها لابنة صهيون حراب
ليس يرضيكم، ولكن كيف لا * غضبت أقلامكم وهي صلاب
كيف لم تستنكروا سخرية * سفه العالم عقباها وعابوا
إنما الاصلاح إن قمتم به * في يد سيف وفي الأخرى كتاب
وكذا الطائش لم يقنع إذا * لم يلت في كأسه شهد وصاب
لا تقولوا جمرة قد تنطفي * إنه قد يعقب الجمر التهاب
فوراكم حاطب مستعمر * دأبه أن يوسع الجمر احتطاب
لعبت فينا يد عابثة * عذبها مر ونعماها عذاب
فغدونا كقطيع سائم * عز أن تحرسنا منهم ذئاب
ورموا فاستهدفوا مقتلنا * حيث كل الطعن منا والضراب
وأجالت طعنة القوم بنا * حيث لا مسبار للجرح يصاب
فأقاموا ابنة صهيون على * هامنا تبنى لها منهم قباب

114
فرخة المولد، ما ارتاشت ولا * حام في جولها يوما عقاب
وعجيب وهي درداء غدت * تتحدى من له ظفر وناب
إنها مهزلة الدهر، فلا * عجب لو أكل الفأر الجراب
وعلى الوضع التحيات إذا * ما انضوى نحل أو استشرى ذباب
ما العلاج الصدق إلا ضربة * تصفع الطائش إن غاب صواب
أين من ذاك الملبون الأولى * أن دعوا للبطشة الكبرى أجابوا
للطعان المر ردوها فلا * يسترد الحق نوح أو نعاب
ودعوني أفتح الشكوى لكم * وهي خطب لا يساويها مصاب
ألف باب للخصومات يرى * حيثما يفتح للأحزاب باب
وإذا ما ادارأت ما بينها * كان عقباها خصام واضطراب
إنها غالبة مغلوبة * فعليها لا لها ذاك الغلاب
صولة كانت لنا عامرة * هدها معولها فهي خراب
طفحت آمالنا فانطفأت * مثل ما يطفح في كأس حباب
فالدعايات مليئات بما * ينعش الآمال، والربع يباب
طبلت دهرا فما حلت بها * عقد أو ذللت منا صعاب
فظماء لم نزل وهي هيام * وخماص لم تزل وهي سغاب
ولهى أشداقنا غصت بما * يختم الفم، وإن سال لعاب
وكذا الشهد الذي نشتاره * فهو في العلقم والصبر مشاب
إن هذا بعض ما جاءت به * من لهيب فاكتوى فيه الشباب
إنما الأحزاب صفر فإذا * حميت بوتقة التقريع ذابوا
أدباء العرب هذي نفثة * سألتكم هل لها منكم جواب؟
عبد الله بن الحر الجعفي، وبعضهم ذكره باسم عبيد الله
مرت له ابيات في الصفحة 50 من المجلد الثامن ونذكر هنا ما يلي:
لما وصل الحسين عليه السلام إلى قصر بني مقاتل رأى
فسطاطا مضروبا، فقال لمن هذا الفسطاط، فقيل لعبد الله بن الحر الجعفي،
فأرسل إليه الحسين رجلا من عشيرته يقال له الحجاج بن مسروق، فأقبل فسلم
عليه، فرد عليه السلام ثم قال: ما وراءك؟ فقال ورائي يا ابن الحر لك
الخير، ان الله قد أهدى إليك كرامة ان قبلتها. فقال ورائي وما تلك الكرامة؟
فقال: هذا الحسين بن علي يدعوك إلى نصرته فإن أنت قاتلت بين يديه
اجرت، وإن قتلت بين يديه استشهدت. فقال عبد الله: والله يا حجاج ما
خرجت من الكوفة إلا مخافة أن يدخلها الحسين وأنا فيها فلا انصرنه لأنه ليس له
بالكوفة شيعة ولا أنصار إلا مالوا إلى الدنيا إلا من عصمه الله منهم فارجع إليه
فأخبره بذلك. فجاء الحجاج واخبر الحسين عليه السلام. فمشى الحسين حتى
دخل على ابن الحر، فلما رآه قد دخل وسلم، وثب عبد الله وتنحى عن صدر
مجلسه وقبل يديه. فجلس الحسين ثم قال: يا ابن الحر ما يمنعك أن تخرج
معي. قال: أحب أن تعفيني من الخروج معك يا ابن رسول الله، وهذه
فرسي المحلق فاركبها فوالله ما طلبت عليها شيئا الا أدركته وما طلبني الا فته،
وادلاء من أصحابي حتى تلحق بأمنك، وأنا ضمين لك بعيالاتك أؤديهم إليك
أو أموت أنا وأصحابي دونهم. فأعرض عنه الحسين عليه السلام وقال: لا حاجة لنا
فيك ولا في فرسك. ثم تلا قوله تعالى: (وما كنت متخذ المضلين
عضدا). ثم قال الحسين عليه السلام أهذه نصيحة منك لي؟ قال: نعم. فقال
الحسين: سأنصحك كما نصحتني: مهما استطعت أن لا تسمع واعيتنا، فوالله
لا يسمع اليوم واعيتنا أحد ثم لا يعيننا إلا أكبه الله على منحريه في النار.
فتركه الحسين عليه السلام ورحل عنه، حتى إذا كانت واقعة الطف وقتل
الحسين عليه السلام تداخله الندم وصار يظهر عليه ذلك في أشعاره، فمن ذلك
قوله:
فيا لك حسرة ما دمت حيا * تردد بين حلقي والتراقي
حسين حين يطلب بذلك نصري * على أهل الضلالة والنفاق
غداة يقول لي بالقصر قولا * أتتركنا وتزمع بالفراق
ولو اني أواسيه بنفسي * لنلت كرامة يوم التلاقي
مع ابن المصطفى روحي فداه * تولى ثم ودع بانطلاق
فلو فلق التلهف قلب حسي * لهم اليوم قلبي بانفلاق
فقد فاز الأولى نصروا حسينا * وخاب الآخرون أولي النفاق
وذكر ابن الأثير ان عبد الله بن الحر الجعفي تغيب عن الكوفة، وبعد مقتل
الحسين صار ابن زياد يتفقد الأشراف من أهل الكوفة فلم ير عبد الله بن الحر،
ثم جاءه بعد أيام حتى دخل عليه. فقال له: أين كنت يا ابن الحر؟ قال:
كنت مريضا، قال: مريض القلب أم مريض البدن. فقال: أما قلبي فلم
يمرض وأما بدني فقد من الله علي بالعافية. فقال ابن زياد: كذبت ولكنك
كنت مع عدونا. فقال: لو كانت معه لرئي مكاني، وغفل عنه ابن زياد،
فخرج وركب فرسه، ثم طلب ابن زياد فقالوا ركب فرسه الساعة. فقال علي
به، فاحضر الشرطة خلفه، فقالوا: أجب الأمير، فقال أبلغوه اني لا آتي إليه
طائعا ابدا، ثم اجرى فرسه حتى اتى كربلاء فنظر إلى مصارع الحسين عليه السلام
ومن قتل معه وإلى قبورهم فاستغفرهم لهم، ثم مضى إلى المدائن فقال: (الأبيات
المنشورة في المجلد الثامن).
وقال في كتاب (الاعلام) عن موته: وكان معه ثلاثمائة مقاتل واغار على
الكوفة واعيى مصعبا امره. ثم تفرق عنه جمعه فخاف أن يؤسر فألقى نفسه في
الفرات فمات غرقا.
وقد شهد أولاد عبد الله بن الحر - وهم ثلاثة - وقعة دير الجماجم مع ابن
الأشعث في ثورته على الحجاج.
السيد علي إبراهيم ابن السيد محمد
ولد سنة 1911 م وتوفي سنة 1981 م في بيروت ودفن في أنصار كان قد
كتب ترجمته بنفسه فقال:
ولدت في قرية أنصار (جبل عامل)، ولا تختلف نشأتي الأولى عن سائر
المواطنين في جبل عامل، فقد جرت العادة يومذاك أن يبدأ تعليم الطفل في
السنة السابعة عملا بحديث مروي (اتركه سبعا وأدبه سبعا) فعانيت من جهل
معلمي سامحه الله وتأثير أسلوبه البدائي على نفسي وتفكيري، وبعد ذلك
انتقلت لمدرسة القرية الرسمية، كان المعلم فيها شيخا قريبا في تفكيره ومنهجه
من الأول، يعلم الطلاب الكبار منهم والصغار، سائر الدروس، وحده لا
شريك له، ويرتفع مستواه بنظر المواطنين عن غيره ممن يتعاطى هذه المهنة فهو
موظف رسمي راتبه من الدولة.
وقد صمم الوالد رحمه الله على إرسالي للعراق لطلب العلم الديني في

115
النجف الأشرف انسجاما مع نهجه وسلوك من سبقه من أسرته، فإن والده
المرحوم السيد حسن إبراهيم أسس مدرسة دينية في قرية أنصار حفلت بالطلاب
وبعد وفاة والده تعهد هو بشؤونها، وتملك الأسرة بيتا في النجف يسكنه طالب
العلم من أبنائها.
ذهبت وأنا لا أتجاوز السنة الرابعة عشرة مع والدتي قاصدا النجف.
ثم أذكر أنني وصلت البلد المقصود فارتديت بزتي الجديدة ودخلت في غمار
الطلاب، ولم أنتسب لمدرسة ذات منهاج محدد وبرنامج خاص. ابتدأ أستاذي
يشرح لي كتاب (ابن هشام) في النحو وأنا أتلقف كلماته بشغف ونهم وانتباه،
وانتهى به المطاف وهو يفسر (الكلمة قول مفرد) ويفرق بين الجنس والفصل لهذه
الجملة (واستعمال الأجناس البعيدة في الحدود معيب عند أهل النظر).
فعسر على ذهني فهمها وصعب علي حلها، وعز على أستاذي ذلك فطاف
بموضوعات وعلوم متنوعة ليستعين بها على توضيح المعنى فلم يفتح الله عليه،
ثم رضت نفسي فألفت هذه التعابير وأقبلت عليها استسهل صعابها وأحل
رموزها، فقد علمت أنني نقطة صغيرة في الخضم الواسع ليس لي أن أشكو
غموض الأداء وقصور التعبير، وإقحام علم في علم والاستطراد من موضوع
لموضوع فأساليب التدريس لا يغيرها اقتراحي ولا تعدلها شكواي.
ولم تزل تحتل في فكري وقلبي - وإن بعد المدى - المكان الأول صورة ليالي
شهر رمضان وأسحارها وروعتها، تمر أمام ذهني هذه الصور الفاتنة من الماضي
فأود لو تعود، ويتملكني الحنين للنجف ومن فيه فأهتف بها وبساكنيها قائلا:
أرض الغري وكل ما منح الحجى * للناس من فضل فمنك المبتدى
ولكل فكر أنت كعبة مأمل * الركب سار وفيه حاديه حدا
وبكل نفح من عواطف شاعر * طيب من النجف امترى وتزودا
همنا بذكرك فالسواجع لم تثر * لولاك لحنا والمغرد ما شدا
بقي الحنين العاملي على المدى * شعرا ونثرا للوصي مخلدا و
لسادة حلوا بجيرة حيدر * باتوا لآمال البرية مقصدا
لي أوبة لحمي علي أنتشي * من قدسه وأرى بتربته الهدى
وأجدد العهد القديم وانثني * ومعي البراءة فهو أصل للندى
قرأت بعد رجوعي من النجف على المرحوم الوالد بقية الكتب المعروفة في
المنطق والبيان، والأصول والفقه، ثم عينت معلما للدروس الدينية في مدرسة
النبطية الرسمية فابتدأت مع الشعر والأدب مرحلة جديدة في حياتي، ذلك أن
النبطية كانت مسرحا فكريا وأدبيا واسعا، ويكفي للدلالة على ذلك وجود
الشيخ عبد الحسين صادق والشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر وغيرهم
فيها.
وكانت مجلة العرفان لصاحبها الشيخ أحمد عارف الزين، في أوجها
فوجدت في نفسي ميلا آسرا لنشر ما عندي، وكانت البداية في مجلة العرفان
(أدباء جبل عامل بقلم رسام).
ومن المواضيع التي عالجتها فيها، شعراء من جبل عامل، ومن صور
الحياة، ورسوم.
ولولا ذلك العلم الفرد الذي ظل ثمانين عاما أمام دواته وقلمه، يفكر
ويستهدف، يعبد ربه ويجلس إليه في الأسحار والناس نيام فيرتل ويحن ويتشوق
ثم ينصرف من ساعة النجوى مع خالقه لأرفع ما خلق وأسماه، فيقف أمام
باب المعرفة خاشعا ينفض الأتربة المتراكمة على الهيكل، أجل لولا صاحب
أعيان الشيعة) السيد محسن الأمين، ما عرفنا شيئا عن شعراء وأدباء جبل
عامل.
تحدثت عنهم طويلا بالإذاعة اللبنانية، فموضوع أدباء من وطني كان يذاع
كل أسبوع، وكانت لنا في أيامنا الزاهرة طرائف جميلة منشورة في العرفان فمنها
هذه القصيدة:
من للجمال إذا انصرفت عن الهوى * وأرقت راحك يا هوى الندمان
وجعلت همك يا طويل العمر في * دفن الجنائز من بني شيبان
وجلست بين عجائز لا ترتجى * الا حلول النصف من شعبان
وحملت سبحة زاهد متبتل * ما انفك يهدي الجهل للإنسان
من للحياة يكف من بأسائها * ويثيرها حربا على الحرمان
ويقول للزعماء آن حسابكم * فالذئب جار على قطيع الضان
من للشتيت من الرجال تنافسوا * بالجهل واتفقوا على الخذلان
وتمسكوا بالزور حتى خلتهم * أصلا لكل موارد البهتان
يا صاحب القلم المشع ألا اتئد * للشعب أنت ولست للأعيان
للحب أنت وللجمال فلا تقف * في الصف بين البوم والغربان
ما أشرف الحرمان يلهم شاعرا * فتفيض منه جوانب البركان
ويناضل الأحداث في غلوائها * إن النضال طبيعة الفنان
قل لي بربك أين أنت فحولنا * ليل ونحن على الضلال حواني
وعينت سنة 1943 بالمحكمة الجعفرية العليا بوظيفة لم تحقق أملي،
فذهبت للوزير الذي عينني، وظن أني جئته مادحا شاكرا، فسر أول الأمر،
ثم وقفت وخاطبته بقولي:
ما كنت أحسب أن سيغريني الهوى * فأجد في طلب الأماني الشرد
وأبيت بين الطامعين فريسة * للوهم لم تقبض على أمل يدي
ومن البلية أن أساس بمنطق * يوحيه للزعماء خلقهم الردي
إنا شهدنا للوظائف حلبة * يجري بها فيفوز كل مبلد
أما الكفاءة فهي ظل زائل * وردت بعهدكم أخس المورد
وكان لي مع قضاة المحاكم الجعفرية مواقف شعرية طريفة في السنين التي
قضيتها بينهم، والتي ندبت فيها سوء حظي بقولي:
ما بين ارث قسمت أبوابه * أحيا وإرث مهمل لم يحصر
وقلت من قصيدة (بين بعلبك وجبل عامل) مخاطبا الشيوخ البعلبكيين:
يا بعلبك أتيت من جبل سما * وله يعود النقض والإبرام
من عامل وطن المعارف والحجى * يكفيه ذا فخرا فليس يضام
كم رف فوق جباله علم وكم * جالت بمتن خيوله أعلام
وطن الجحاجح كم لهم من آية * غراء فيها عزز الإسلام
هم خلدوا الآداب في نفحاتهم * فزهت ونالت مجدها الأقلام
والشعر عندهم الحبيب المجتبى * صلوا له بعد الاله وصاموا
والعلم هم رواده وحماته تروى وتؤخذ عنهم الأحكام
وهم الذين تبوأوا دست العلى عشقوا الكمال وبالحقيقة هاموا
نثروا المعارف واستجابوا للهدى * تحني لمجد السابقين الهام
وعند ما أثرنا معركة شعرية بين الشيوخ والشعراء وقف أحدهم بجانب

116
الشيوخ فقال من قصيدة:
شحذ (الحسين) قرائح الشعراء * وأثارها حربا بغير دماء
وعداوة الشعراء نعم المقتني * لا ترهبنك عداوة الشعراء
فقلت معلقا على هذه الناحية من قصيدته:
هانت لديك مكانة الشعراء * وحسبت أنك فارس الهيجاء
آمنت فيك مثير أحلام الهوى * تنشي الخوالد في ربى " شقراء "
أيام كنت تسير في درب العلى * وتثيرها حربا على الدخلاء
وكفرت فيك رئيس مصلحة التقى * تذوي مع التدريس والإفتاء
قل لي بربك أي حلبة شاعر * لم تك فيها حجة العلماء
نصوا عليهم بالقضاء فهل ترى * نصا عليهم باقتسام الشاء
نوهت بالفقراء يا ليت الهنا * يسمو ليدخل خيمة الفقراء
لو أستطيع سكبت روحي بلسما * لجروحهم وكبحت عاتي الداء
صدرت لي عدة كتب، تحدثت فيها عن أعلام الشعر والأدب بما وصل إليه
علمي وبلغته معرفتي، وتحدثت عن الإمام علي بكتابي (في رحاب الإمام
علي)، وعن سيد الشهداء الحسين بن علي بكتابي (في رحاب سيد الشهداء
الحسين بن علي).
وبعد ذلك كله بعد أن طويت السبعين من عمري بعيدا عن ديار بها نشأت
وتحت سمائها ترعرعت.
وقفت والحنين في نفسي أستعرض الماضي الجميل وآسي على الحاضر
والمستقبل وأناجي قلبي ببعض الصور والذكريات قائلا:
يا خافقا أي المنى ومضها * ما علل الفكر بوهم عبر
تصرم العمر وسفر الأسى * يمشي مع العمر جديد الصور
ما غاب طيف الأمس عن خاطري * أستعرض الماضي فترنو الذكر
تألق الحب بها ساعة * ما لاح نجم منه حتى استتر
والسعد يأتي للفتى لمحة * تخبو كان الورد منها الصدر
هذا خريف العمر ما ساءني * إن جاءني فيه القضا والقدر
فالعيش بعد الحسن لا ينجلي * للعين إلا عن أسى أو كدر
تناثر الزهر ومن لوعتي * تناثر الدمع فروى الزهر
يا شعر إن أعطيتني نفحة * أغنيتني فيها بهذي الدرر
فطالما رويت من مهجتي * للفن غرسا لذ منه الثمر
وطالما صليت في وحدتي * للشعر أهفو للمعاني الغرر
وطالما أوريت فيك السنا * من شعلة القلب ونور البصر
ثم أجد بالايمان راحة وعزاء فأتوجه للنبي العربي بقولي:
يا وحي أحمد فجر طاقة العربي * وافتح لهم صفحة من سفرك الذهبي
أودى أبو لهب في حسرة ومضى * واليوم فيهم ألوف من أبي لهب
مالوا عن الدين واختاروا صيارفة * للجهل تتقن فن الزور والكذب
تنازعوا فاستباح الخطب عزتهم * وأصبحوا موطنا للويل والحرب
لم يجمعوا أمرهم فاجتاح لجهم * شعب تشرد مجهولا بغير أب
والدهر يلهو بمن ترسو مطامعه على المنى ويروم الجد في اللعب
تعاظم الخطب في لبنان وانبعثت * دهياء فيه تلف الرأس بالذنب
وأوغل القوم بالتنكيل واحتقبوا * وزر الجرائم بالمسلوب والسلب
الليل للقتل والتدمير والريب * والصبح يقذفنا في أفدح النوب
نريده موطنا للخير مزدهرا * بالعلم يبعد عنه كل مغتصب
ما زال ينزف والدنيا تشاهده * ما زال يقبض كذب السادة العرب
وقد مرت له في هذا الكتاب قصيدتان رثائيتان (المجلد الخامس الصفحة
300) و (المجلد السادس الصفحة 354) كما مرت له كلمة في ترجمة الشيخ
أحمد رضا، (المجلد الثاني الصفحة 465).
علي رضا عباسي بقلم: محمد عباس عبد الوهاب
كان رضا مصورا مشهودا له بالبراعة، وقد ظل اسمه وآثاره الفنية في طي
النسيان، ولم تعلم سيرته كما يجب إلا في العصر الحديث، حيث عكف مشاهير
المستشرقين الألمان أمثال ساره وميتوخ وغيرهما من مؤرخي الفنون على دراسة
حياته، والكشف عن مواهبه.
ورضا من الفنانين الذين عاشوا في أيام الشاه عباس الأكبر من سنة
(985 - 1038 ه‍)، تلك الفترة التي عرفت بالعصر الذهبي للدولة الصفوية
في إيران، إذ كان الشاه محبا للفن مشجعا للفنانين، ويقال: إنه أسس في
أصفهان - عاصمة ملكه معهدا للتصوير (1)، كان يؤمه المصورون والخطاطون
والمذهبون، فنشأت بذلك مدرسة جديدة للتصوير هي " المدرسة الصفوية
الثانية ".
وبنى الشاه عباس قصورا في أصفهان، منها قصرا: " جهل ستون "،
و " عالي قابو ". وقد وصف الرحالة الأوروبيون في القرن السادس عشر
الميلادي جمال هذه القصور وجمال نقوشها وزخارفها وصورها البديعة التي منها
مجموعات كبيرة من الرسوم الحائطية بالألوان المائية على الجص أو باللاكية، وقد
استقدم بعض المصورين الأوروبيين، فعلموا إلى جانب الوطنيين في تصويرها
على الطراز الإيراني والأوروبي، ولهذا تأثر التصوير الإيراني في عهده تأثرا قويا
بالتصوير الأوروبي (2). وقد كشف عن هذه الصور حديثا، فأحدثت ضجة
كبيرة في الأوساط الفنية وكان " جهل ستون " قد أحرق في أواخر القرن السابع
عشر الميلادي، فكانت الصور تالفة من جراء الرطوبة وتراب الحريق ودخانه،
ولكن أمكن تنظيفها وإعادتها إلى الكثير من سالف رونقها، فأمكنت دراستها
ودراسة خصائصها.
ويعتبر " رضا " من أعلام مصوري المدرسة الصفوية الثانية، بل هو
صاحبها، فإليه يرجع الفضل الأكبر في خلق أسلوب جديد للتصوير في إيران
بعد به بعدا تاما عن تقاليد العصور السابقة في هذا الفن، إذ تحرر من قيود
اللون والزخرفة، كما تحرر من ملء الفراع وكثرة المناظر والأشخاص، مما كان
يتميز بهما التصوير الإيراني، وبذلك خلق أسلوبا يعلوه طابع جديد هو اظهار
الفراع والموضوع في جو من الرقة والبساطة.
ويجدر بنا أن نلقى ضوءا على حياة هذا الفنان قبل أن نتعرض لدراسة
فنه، فحياة الفنان هي المؤثر الأول الذي يوجهه ويطبع إنتاجه بفلسفة خاصة
به، هذا إلى جانب روح العصر ذاته، فإن لها أثرا أيضا في هذا التوجيه.
53. P, 1947, N Y, A Handbook of MUhamadan Art; S Dimand. M (1)
1388. P 1939, Oxford 2. vol, A Survey of Persian Art: U pope. A (2)

117
ولد رضا في مدينة تبريز، وأصل اسمه علي رضا، وقد جاء إلى
أصفهان في عنفوان شبابه، وترعرع في بيئة ذواقة للفنون، ولذلك نشأ مقبلا
عليها: فأبوه " علي أصغر " كان رساما مشهورا في مكتبة الشاه إسماعيل.
ويقول إسكندر منشي في تاريخ العصر الصفوي فيما بين سنتي 1501
و 1629 م: إن رضا قد اشتغل في تصوير قصور الشاه منذ أن كان كبير
مساعدي " مظفر على " (1) ثم أحتل المكانة الأولى من بعده، وإنه أصبح أعجوبة
عصره في التصوير وفي رسم لوحات الأشخاص الفردية Single Figures،
وبالرغم من رقة لمساته فإنه لم يكن رقيق الطبع، فقد كان يمارس ألعاب
القوى، دائم الاتصال بالأندية الرياضية أندية المصارعة، لذلك اصطبغ
بطابعهم (2)، كما أنه قطع شطرا طويلا من حياته غير محمود السيرة، وكان في
ذلك الوقت قليل العناية بفنه، إذ كان حاد المزاج يميل إلى الوحدة وعدم مخالطة
المجتمعات، فلم يكن فنه معبرا عن شئ إلا عن مناظر الشراب والمنادمة،
ولهذا كان قليل الإنتاج في شبابه.
ثم التحق بخدمة البلاط، فحسنت سيرته، وزاد إنتاجه، وكان موضع
عناية الشاه، لذلك لقب " شاه نواز " أي مدلل الملك، ومنذ ذلك الحين
أضاف إلى اسمه لقب " عباسي " نسبة إلى الشاه، وأخذ يرسم الشاه في مجالسه
المختلفة، كما رسم أفراد العائلة الملكية، وصور شخصيات عصره رجالا ونساء
من قادة وأطباء وعلماء. وكانت فرشاته قادرة على تأدية مطلب البلاط، وفي
الوقت نفسه كانت تأخذها المتعة في الانتقال من تلك المظاهر البراقة المترفة إلى
تسجيل حياة الدراويش (3) والشحاذين والفقراء والمسنين في أوضاع لا تنقص
إتقانا عن سابقتها.
وآثار رضا عباسي الفنية نوعان:
أما النوع الأول منها فتلك الصور التي رسمها. المخطوطات، وهي على
العموم لم تخرج عن تقليد القديم، وكان إنتاجه فيها قليلا لتدهور تلك الصناعة
وقلة إنتاجها منذ أواخر القرن السادس عشر الميلادي. ومن المخطوطات التي
صورت في تلك الفترة شاهنامه الفردوسي، وفي متحف المتروبوليتان (4) بنيويورك
مخطوطة للشاهنامه مؤرخة بسنة 1014 - 1016 ه‍ (1605 - 1608 م)، بها
خمس وثمانون صورة تحمل خصائص رضا عباسي وأسلوبه. ومن المعروف
أن نشاط الفنانين قد تجلى في تصوير المخطوطات حتى ذلك العصر، وأن إيران
قد فاقت غيرها في هذا المضمار.
أما النوع الآخر فصوره الفردية التي تصادفنا تارة ملونة وتارة أخرى غير
ملونة، وهي خطوط بسيطة ولمسات سريعة، ولها سمات ودقائق فنية واضحة
وهذه الخطوط السريعة التنفيذ Sketches هي خير ما يمثل عبقرية هذا الفنان
وأستاذيته، لأنه استطاع أن يجعلها معبرة عن سمات الوجه وتفاصيله
وانفعالاته، كما أوضح فيها الحركة بإشارات اليد أو الجسم. ومما عرف عنه أنه
كان يعدل في الصورة، ويغير في إخراجها عدة مرات حتى يصل بها إلى النتيجة
المنشودة.
ولئن كانت صور الأشخاص الفردية هذه قد ظهرت على يدي المصور
محمدي قبل عصر الشاه عباس فإنه يرجع الفضل كل الفضل لرضا عباسي
ومدرسته في نشر هذا اللون الجديد من الصور على نطاق واسع، ووضع
الأسس التي أدت إلى تعميمها مما كان له الأثر أكبر الأثر في نقله التصوير الإيراني
من الطابع الملكي إلى الطابع الشعبي، إذ لم يعد المصور يرسم للسلطان،
ويوضح للمخطوطات، بل أصبح يرسم ما يمليه عليه خياله وفنه، ولهذا انتقل
إلى الرسم من الطبيعة بعد أن كان يرسم موضوعات تقليدية من الذاكرة، كما
أن الأشخاص الذين كانوا رمزيين متشابهي السحنة في الأسلوب القديم
أصبحوا أشخاصا حقيقيين معروفين غالبا.
ومن الخصائص التي تجلت في أسلوبه الجديد وأسلوب مدرسته بصفة عامة
عدم الاهتمام برسم العمائر. والواقع أنه لم يصبح لها أي اعتبار في رسومه على
ضد ما كانت عليه من مكانة وأهمية لدى المصورين، إذ كانت لا تخلو منها
صورة إلا فيما ندر، كما بعد الكثير من صوره عن الطابع الزخرفي لاستخدامه
القلم في إخراج صور سريعة الإنتاج رخيصة التكاليف. ومن المعروف أن
المصورين قبل رضا كانوا يعتمدون على الألوان الزاهية البراقة في إيجاد التباين
والجو الزخرفي الذي يكسب الصورة الإيقاع الفني، أما رضا فكان يعتمد على
خطوطه ولمساته في خلق هذا الإيقاع.
وامتاز رضا بدقة الملاحظة والتأثر بأسلوب الكتابة الخطية من حيث تكونها
من عدة خطوط منحنية وخطوط مستقيمة قصيرة أو ممتدة، لأن رضا كان خطاطا
إلى جانب كونه مصورا، وله إنتاج وافر في هذا الميدان. وأغلب كتاباته موقعة
باسمه الأصلي " علي رضا " حيث اشتغل في بداية حياته - كما أسلفنا - في
المخطوطات نسخا وتصويرا، كما وقع باسمه ونسبه " علي رضا العباسي ".
حينما اشتغل للشاه، وكتب. في مسجد الشيخ لطف الله وفي المسجد الجامع
العباسي بأصفهان (5) كتابات رائعة بخط النسخ والتعليق.
ويرى بعض مؤرخي الفن الإسلامي أن علي رضا الخطاط غير علي رضا
المصور وأنهما شخصان، ولكن جميع كتاباته توقيعاته وخطوطه بأسلوب واحد
مما يجعلنا نعتقد أنهما شخص واحد، وكل ما في الأمر أنه وقع بأساليب وعبارات
وأسماء متعددة مما دعا إلى الاختلاف في أمره، ومن ثم فهو فنان أصيل جمع بين
فنين من أعرق الفنون وأجلها مكانة عند المسلمين، وهما الخط والتصوير،
فالواقع الذي لا شك فيه أن سواد المسلمين لم ينظروا إلى التصوير نظرة ارتياح.
على أن عبقرية الفنان المسلم تجلت في ناحية التصوير في المخطوطات، إذ شغف
المصورون بتجميلها وتزيين كتب العلم والدين والأدب والتاريخ والصناعات
بصور مفسرة، كما تجلت عبقريتهم في نسخ هذه الكتب بالخط الرائق الجميل
ورسم رضا في أرضية صوره أغصانا ذات أوراق مبسطة مختلفة الشكل، وتعتبر
هذه الأغصان علامة ملازمة مميزة لصوره، ورسم الأفق والتلال والكثبان
والمناظر المرئية في الطبيعة الإيرانية والواقع أن أرضية بعض صوره يغلب عليها
التسطيح، وهي التي نهج فيها على الأسلوب القديم في المخطوطات أو بعض
الرسوم الملونة الأخرى، أما تلك التي تجلى فيها أسلوبه فيها ظلال أظهرت فيها
نوعا من التجسيم.
وولع بإظهار طيات الثياب كما نوع في أشكالها من ملابس دراويش، إلى



(1) المرجع السابق ص: 7.
. 83 - 82
PP 1929, Pergasco, The Islamic Book; Grohmann. A & Arnold. W. T (2)
. 114. P, Oxford 1928, Islam; Painting; Arnold. W. T (3)
53. P, 1947. Y. N, A Handbook of Muhammdan Art; Dimand. S. M (4) Zeichnungen; Mitt Woch. E & Sarre. F (5). 8
P Munchen 1914, Abbasi, von Riza
118
ملابس أمراء، وملابس صيد، ثم ملابس أوروبية الطراز، وكذلك رسم
أغطية متعددة للرأس من عمامات وقبعات للرجال والنساء.
أما السحنة التي صورها فتمتاز بمسحة من الهدوء، وبعضها يعلوه وقار إلا
أن أغلبها فيه ملامح الشباب المنصرفين إلى اللذة واللهو. وعلى العموم فكل
شخصياته غضة حتى الكهل لم يستطع أن يحمله ما حملته السنون من آلام الكبر
إلا في تعبيرات على وجهه ونادرا ما كان يحوط شخصياته بهالة تبرز مكانتها، كما
كان متبعا في الأسلوب القديم.
والواقع أنه كان مولعا بسطوح الأشياء وخاصة سطح البشرة، إذ رسمها
ناعمة تكاد تنبض بالحياة والدف ء، ولهذا نجد في تصويره لمحة جديدة تجعله
مقربا إلى الذوق الحديث، ومن الصعب تمييز شخصياته: ألفتيان هي أم
لفتيات (1)، ولا سيما أن أوضاعهم جميعا فيها أنوثة وليونة. ولا عجب في ذلك،
فقد نقل عن الواقع بكل دقة وأمانة: فها هو ذا " توماس هربرت " أحد الرحالة
الأوروبيين الذين زاروا بلاط الشاه عباس في سنة 1628 م يروي أنه شاهد
فتيانا بالقصر يروحون ويغدون، وهم على جانب من الوسامة، يرتدون
صديريات وعباءات مزخرفة بالقصب المذهب، وينتعلون أحذية جميلة منتقاة.
وقد راعى قواعد التشريح والمنظور، وكانت النسبة الجمالية محفوظة اللهم
إلا تلك الأرجل المعيبة التي نكاد نلحظها في معظم إنتاجه. وأغلب ظننا أنه
رسمها كذلك عن عمد، فان تلك الأرجل الرقيقة الصغيرة لها تقديرها الجمالي
في خيال الفنان.
وهناك ميزة خاصة في صوره وهي أنه يمكننا أن ندرس منها أشكال الملابس
وأنواعها المستعملة في ذلك العصر - على ما أسلفنا وكذلك أشكال الآنية، كما
نلاحظ ان بعض صوره يعلوها مسحة من التهكم والسخرية منتحيا فيها ناحية
" التصوير الهزلي ".
وقد خلف رضا مجموعة كبيرة من الصور المؤرخة التي بها توقيعه، وأغلبها
مؤرخ في النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي. وبعض رسوم له غير
مؤرخة وإن كان عليها توقيعه مثل: " رقم كمينه رضاي عباسي "، أو " رسمه
العبد الفقير رضا عباسي ".. إلخ وهذه عبارات تدل على تواضعه الجم
وخشوعه، وهو بخلاف أغلب من سبقوه من المصورين قد وقع على رسومه
معتزا بفنه، ولم يكن يوقع باسمه فحسب، بل كان أحيانا يذكر الحال التي
صور فيها، وهذه خواص جديدة ابتدعها رضا، واقتفى أثره فيها المصورون
من بعده، فكانت معينا على تاريخ الصور ودراستها ومعرفة مصوريها، ولا
شك أن أسلوب رضا بنوع خاص يميزه المتذوقون للفن الإسلامي حتى من غير
توقيعه، بخلاف كثيرين غيره من المصورين. وهذا ما نلمسه في رسوم
الفرسكو بقصور الشاه عباس التي أشرنا إليها، وفي رسوم أخرى.
وكان أسلوبه هو السائد في عصره، وأصبح تأثيره عظيما في الحياة الفنية في
أصفهان، وأخذ يدرس عليه تلاميذ كثيرون ومريدون نسبت إليه وإليهم هذه
المدرسة التي استمرت في إنتاجها حتى القرن الثامن عشر الميلادي، واستطاعت
أن تنشر هذا الفن بين طبقات الشعب مما جعلهم يدركون معانيه، ويفهمون
أصوله، ويتذوقون قيمه الجمالية.
ومن أشهر تلاميذه " معين "، فقد برز إنتاجه على أقرانه، وكان معجبا
بأستاذه، ورقم له صورتين خلدت محياه: إحداهما في مجموعة Quaritch
بلندن والأخرى في مجموعة Watson - Parish بباريس.
وبعد هذه المدرسة تدهور التصوير الإيراني الإسلامي، وبعد عن خواصه
وتقاليده الأصلية لاقتفائه أثر التصوير في أوروبا كل الاقتفاء.
علي أكبر دهخدا (2)
ولد في طهران حوالي سنة 1297 (1877 م). كان والده خان بابا خان
من طبقة الملاكين المتوسطين في قزوين قد أتى قبل ولادته من قزوين إلى طهران
واتخذها موطنا لاقامته. فلما بلغ علي أكبر دهخدا العاشرة من عمره توفي
والده، وتابع دهخدا دراسته تحت أشراف والدته وتوجيهها.
وقد عهد إلى أحد علماء عصره وهو الشيخ غلام حسين بروجردي أن يقوم
بتعليم دهخدا وتربيته، فقد كان له كتاب في مدرسة حاج شيخ هادي (بشارع
حاج شيخ هادي اليوم في طهران)، وكان متفرغا لتعليم اللغة العربية والعلوم
الدينية. فلما افتتحت المدرسة السياسية في طهران بعد ذلك، دخلها دهخدا
طالبا وتابع دراسته فيها. وكان أستاذ الأدب الفارسي في تلك المدرسة محمد
حسين فروغي يعهد أحيانا إلى دهخدا بان يعطي درس الأدب في الصف. وإذ
كان دهخدا قريبا من منزل الشيخ هادي نجم آبادي، فقد أفاد من جواره،
فكان على صغر سنه يحضر مجالسه باستمرار إلى جانب الشيوخ والكهول، وفي
هذه الفترة شغل دهخدا بتعلم اللغة الفرنسية. فلما عين معاون الدولة غفاري
بعد ذلك وزيرا لإيران في البلقان أخذ دهخدا معه، فقضى دهخدا بسبب ذلك
سنتين في أوروبا وبخاصة في فيينا عاصمة النمسا، وهناك أكمل الفرنسية
ومعارفه الحديثة.
كانت عودة دهخدا لإيران بعيد اعلان الدستور، فأصدر بالتعاون مع
قاسم خان جريدة باسم " صور إسرافيل ". وقد كان ألطف ما في تلك الجريدة
الزاوية الفكاهية التي يكتبها دهخدا بعنوان (چرند پرند) - اي ثرثرة - ويوقعها
بامضاء (دخو)، فقد كان الأسلوب جديدا فتح بابا لمدرسة جديدة في
الفن الصحافي وفي النثر الفارسي المعاصر، وكان يضمن تلك المقالات
موضوعات انتقادية وسياسية بأسلوب فكاهي. فلما ألغى الشاه محمد علي
الدستور وعطل المجلس النيابي (3) نفي دهخدا مع مجموعة من أنصار الدستور
إلى أوروبا.



(1). 71. P. ondon 1912. I 2. vol, etc... The Miniature Painting and Painters of Persia; FR Martin 90. P, Oxford 1938, Painting in Islam; Arnold. W. T: Fresco Painting وهو التصوير بالألوان على ملاط لين.
(2) ملخصه عن بحث للدكتور محمد معين.
(3) بدأت الثورة في إيران من اجل الدستور سنة 1906 ودامت عدة أشهر حتى أجير مظفر الدين شاه
القاجاري شاه إيران في ذلك الوقت على اعلان الدستور. ولكن مظفر الدين شاه توفي بعد فترة قليلة
وخلفه ولده محمد علي شاه الذي الغى مرسوم الدستور، الا أن النواب والأحزاب قاوموا تعسفه،
فضرب المجلس النيابي بالقنابل واعتقل أنصار الدستور فسجنهم وفر بعضهم. اما الشعب فلم
يرضخ لهذا الأمر وتألفت قوي ثورية زحفت من تبريز ورشت وشيراز وأصفهان ومختلف انحاء إيران
على طهران فاحتلتها بعد عدة معارك مع قوى الشاه، وفر محمد علي شاه إلى روسيا، وكان أول ما
حدث بعد انتصار الأحرار أن أعيد المجلس النيابي، ثم خلع المجلس محمد علي شاه وولى مكانه ابنه أحمد شاه.
119
كان دهخدا رفيقا في باريس للسيد محمد قزويني، ثم انتقل إلى ايفردون
Iverdon في سويسرا حيث أصدر ثلاثة اعداد أيضا من جريدة صور إسرافيل،
وانتقل بعد ذلك إلى استامبول فأنشأ بمساعدة عدد من الإيرانيين الذين كانوا في
تركيا جريدة باسم (سروش) [ملك الوحي] باللغة الفارسية، وصدر منها
حوالي خمسة عشر عددا. وبعد خلع محمد علي شاه انتخب دهخدا لتمثيل
طهران في المجلس النيابي ودعي من تركيا إلى طهران.
وقد انزوى دهخدا خلال الحرب العالمية الأولى في قرى (چهار محل)
البختيارية قرب أصفهان، ثم عاد بعد الحرب إلى طهران، وانصرف إلى
الدراسات العلمية والأعمال الأدبية والثقافية، وتولى مدة رئاسة ديوان وزارة
المعارف، ورئاسة تفتيش وزارة العدل، ورئاسة مدرسة العلوم السياسية، ثم
عهد إليه برئاسة مدرسة الحقوق العليا والعلوم السياسية بطهران، وتفرع من
ذلك العهد حتى ختام حياته للمطالعة والتحقيقات وتصنيف كتبه.
توفي في 27 - شباط 1955 في منزله، ونقل جثمانه إلى الري (ضاحية
طهران الجنوبية) ودفن في مدافن (ابن بابويه).
مؤلفاته
أهم مؤلفاته كتاب (لغت نامه) الذي سنتحدث عنه في آخر الكلام. وله
غيره مؤلفات وتحقيقات في مواضيع أدبية مختلفة نذكر منها ما يلي:
كتاب (أمثال وحكم) وقد ضمنه أمثالا ومصطلحات وكنايات واخبارا
وأحاديث وسواها. في أربعة اجزاء.
وقد ترجم إلى الفارسية من آثار مونتسكيو (عظمة وانحطاط الرومان) De
la grandeur et de la decadence des Romains و (روح القوانين) esprit ` L
des lois والكتابان لم يطبعا.
وله قاموس فرنسي فارسي يضم الكلمات العلمية والأدبية والتاريخية
والجغرافية والطبية الفرنسية مع ما يعادلها في الفارسية والعربية. وقد شغل
بتأليف هذا القاموس من مطلع شبابه إلى أواخر عمره، وهو لم يطبع.
وله تعليقات وتصحيحات لعدد من الدواوين الشعرية القديمة والقواميس
اللغوية والكتب الأدبية الفارسية بعضها مطبوع وبعضها لا يزال مخطوطا. من
هذه الكتب والدواوين الفارسية ديوان ناصر خسرو، وديوان حسن غزنوي،
وديوان حافظ الشيرازي، وديوان المنوجهري، وديوان الفرخي، وديوان
مسعود سعد، وديوان السوزني السمرقندي، وديوان ابن يمين، ثم لغة الفرس
للأسدي، وقاموس صحاح الفرس، وقصة (يوسف وزليخا) المنسوبة إلى
الفردوسي.
وله مجموعة مخطوطة تضم حكما وكلمات قصارا على طراز حكم
(لاروشفوكو) كما أن مجلة (شورى) الطهرانية نشرت مجموعة مقالاته في صور
إسرافيل وسروش.
وله ديوان شعري لا يزال مخطوطا.
لغت نامه
استطاعت اللغة الفارسية الدرية (المتداولة اليوم) في فترة تقرب من عشرة
قرون وبفضل شعراء كبار كالرودكي والفردوسي والعنصري والفرخي
والمنوچهري والنظامي والسنائي والعطار والمولوي وسعدي وحافظ وكتاب
بارزين كالبلعمي والبيهقي والگرديزي والوطواط وسعدي والفراهاني وسواهم
ان تصل إلى مرتبة أصبحت تستطيع معها أن تعبر عن أدق المعاني وأرق
الأحاسيس وأعمق الأفكار. وقد توسعت اللغة الفارسية الدرية مع الزمن
ودخلها كثير من الكلمات والتراكيب اللغوية من اللغات الإيرانية الفرعية
كالسغدية والختنية والخوارزمية، ومن اللهجات المحلية الإيرانية كالسكزية
والزاولية والأفغانية والكردية واللرية والفارسية وغيرها، كما دخلها كلمات من
العربية والتركية والفرنسية والانكليزية والروسية والألمانية، وكلما أتى عليها حين
من الدهر زادت ثروتها التعبيرية حتى غدت اليوم وبعد أحد عشر قرنا من
التطور والتقلب على ما هي عليه من الطاقة والدقة. وكانت هذه اللغة العريقة
المعبرة جديرة بمعجم يصورها بمجموعها وبمختلف شعبها، إذ أن المعاجم التي
ظهرت حتى الآن في إيران والهند وتركيا لا تفي قط بحاجة الأدباء وطلبة
العلم، ذلك لأن بعضها يضم الكلمات الفارسية وحدها دون الكلمات
العربية (المستعملة في الفارسية) مثل معجم " لغة الفرس " للأسدي و
" صحاح الفرس " و " برهان قاطع "، وبعض يضم الكلمات العربية
والفارسية مثل " غياث اللغات " و " قاموس آنندراج "، ولكنها جميعا لم تضبط
الكلمات المستعملة سواء الفارسية منها أو العربية، وإذا ما ضبط بعضها قسما
من الكلمات فان الطريقة التي استعملتها تلك المعاجم لا تدفع الالتباس، كما
أنها تكتفي من المعاني المتعددة للكلمة الواحدة بمعنيين أو ثلاثة، مهملة باقي
المعاني، عدا أن في المعاني الموردة أخطاء جسيمة وغير قليلة في كثير من الأحيان
وبعض تلك المعاجم يهمل اطلاقا ايراد الشواهد على المعاني والكلمات، وحتى
المعاجم التي تورد شواهد منها (كمعاجم جهانگيري، رشيدي، انجمن آرا،
سروري) انما تنقل شواهد على قسم من معاني بعض الكلمات، ومعظم هذه
الشواهد من الشعر لا من النثر، كما أن في تطبيق المعنى على الكلمة وفي مفهوم
الاشعار أخطاء بارزة في كثير من الأحيان.
يبدو بعد هذه المقدمة مدى وجوب تأليف قاموس فارسي جامع، هذا
العمل الذي تم على يد المترجم.
ان (لغت نامة) انما هو خلاصة مطالعات مستمرة وجهود جبارة مدى خمس
وأربعين سنة من دهخدا وعدد من أصدقائه، لقد كتب خلال هذه المدة قريبا
من ثلاثة ملايين بطاقة (فيش) من متون الكتب المعتبرة من أساتذة النظم والنثر
في الفارسية والعربية والقواميس المطبوعة والخطية وكتب التاريخ والجغرافية
وعلوم الطب والهيئة والنجوم والرياضة والحكمة والكلام والفقه وسواها، وقد
كانت هذه البطاقات نواة (لغت نامه).
اطلق على معجم دهخدا في مشروع القانون الذي تقدم به عدد من النواب
في مادة وحيدة سنة 1945 اسم (دائرة المعارف الفارسية) و (دائرة معارف
السيد علي أكبر دهخدا)، وفي القانون الذي صدر في مادة وحيدة سمي
(معجم السيد دهخدا اللغوي)، وكذا سمي في الميزانية (معارف السيد
دهخدا). أما دهخدا نفسه فقد تحاشى اطلاق اسم ضخم كدائرة معارف أو
انسيكلوپيدي واكتفى بتسمية الكتاب بكتاب اللغة (لغت نامه) مستمدا الاسم
من معجم الأسدي، أول قاموس موجود بالفارسية إذ جاء فيه:
" وقد طلب ولدي الحكيم الجليل الأوحد اردشير بن ديلمسپار النجمي

120
الشاعر أدام الله عزه مني أنا أبا منصور علي بن أحمد الأسدي الطوسي كتاب لغة
يضم... ".
فأخذ دهخدا هذه التسمية البسيطة وأطلقها على كتابه الكبير فأسماه
(لغت نامه دهخدا)، أي (كتاب لغة) دهخدا.
وشغل إلى جانب تدوين لغت نامه بتصحيح المتون والكتب والأشعار التي
كان يرجع إليها في تحضير عمله، وكان يكتشف كذلك أخطاء في الكتب التي
صححها علماء غربيون مدققون.
ويضم هذا المعجم الضخم جميع الكلمات التي تحويها كل المعاجم
والقواميس العربية والفارسية الهامة، وهي منقولة نقلا في غاية من الدقة خشية
أن تتكرر أخطاء المؤلفين السابقين. وبالإضافة إلى ذلك يشمل آلاف الكلمات
والتراكيب والكنايات والأمثال المأخوذة من بطون الدواوين الشعرية والكتب
النثرية وسواها من مصنفات العلماء والأدباء الأقدمين والتي لا يوجد مثلها في أي
من القواميس اللغوية الفارسية أو العربية، وبذا يصبح معجم (لغت نامه)
مفتاحا لحل المعضلات الواردة في المتون القديمة، وسيكون دليل الطلاب
والمحققين إلى السبيل الصحيح للاستفادة من منتجات الماضين، ولتوضيح
المصنفات التي يكثر فيها الغموض والتعقيد بسبب الخطأ في النسخ الناتج عن
فقدان القواميس اللغوية الجامعة، ثم إن آلاف الكلمات التي كانت لا تزال
مغلوطة ومتفرقة في العديد من الكتب المختلفة حتى اليوم أصبحت مصححة
ومجموعة في مرجع واحد.
وهناك من ناحية ثانية كميات ضخمة من الكلمات التركية والمغولية
والهندية والفرنسية والإنكليزية والألمانية والروسية المتداولة في اللغة الفارسية والتي
لم تذكر في أي من المعاجم اللغوية، ولكنها مدونة في هذا السفر الضخم
وموضوعة أمام المراجعين.
ان لمعجم لغت نامه ميزة هامة أخرى هي أنه يردف أكثر الكلمات بشواهد
و أمثال شعرية أو نثرية مأخوذة من الكتب المعتبرة. هذه الشواهد عدا أنها تكون
مستندا للكلمة المدروسة فإنها تشرح المعنى الصحيح للكلمة في عبارات مختلفة
و كيفية استعمالها في عدة صور بين مجازية وحقيقية. وقد روعي في مواضع
الشك ان يرجع إلى أصح النسخ وأقدمها ومقابلتها مع سواها لتؤخذ أصح
العبارات أو الأبيات الشعرية، وقد ساعد هذا العمل على تصحيح متون
الماضين أو ضبطها.
ومن فوائد معجم (لغت نامه) كذلك أنه يوجد مجموعة قواعد كاملة
للصرف و النحو في اللغة الفارسية، إذ من نواقص اللغة الفارسية المتداولة اليوم
أن قواعد الصرف والنحو فيها ليست مأخوذة من خصائص اللغة نفسها أو
مقتبسة من خلال كتابات القدامى، بل هي في معظمها ترجمة أو تقليد لأساليب
اللغات الأوروبية أو قواعد الصرف والنحو العربية. ولئن كانت كتبت قواعد
قليلة مستمدة من خصائص اللغة الفارسية نفسها، فإنما هي إلباس ثوب جديد
لمقدمات المعاجم القديمة أو التي وردت في علوم العروض والقوافي نظير (المعجم
في معايير أشعار العجم) أو هي مقتبسة من مؤلفات بعض أفاضل الهند، هذا
ولا نكران أن الدراسات التي نشرها عدد من العلماء المعاصرين في هذا السبيل
قيمة كلها مفيدة، ولكن مصنفات فضلاء الهند لا يعتمد عليها ولا يطمأن إلى
كفايتها، كما هو الحال في (نهج الأدب). والخلاصة أننا لا نملك في الوقت
الحاضر كتابا يجمع الشروط المتقدمة في الصرف والنحو الفارسيين، فحسنة معجم
(لغت نامه) أنه أوجد قواعد مفصلة للصرف والنحو في اللغة الفارسية من
خلال تفسيره للحروف المفردة.
ومما لا تنكر الحاجة إليه جمع الكلمات المتداولة اليوم في اللغة الفارسية في
مصطلحاتها الحديثة مع ضبطها وذكر معانيها من حقيقي ومجازي. فالقواميس
الفارسية التي كتبت حتى اليوم اهتمت بجمع الكلمات القديمة أو الحوشية غير
المألوفة التي وردت في كتابات الماضين وأشعارهم، ولما كانت هذه القواميس لا
تلحظ خاصة اللغة الفارسية بتقبل الكلمات الغريبة فإنها تكتفي بذكر جذور
الكلمات ومصادرها وتهمل عشرات الكلمات التي تشتق من كلمة واحدة بزيادة
الحروف السوابق les prefixes أو اللواحق Les suffixes، ولا تقدر ان كثيرا
من الكلمات العربية أو الأجنبية الأخرى اتحدت مع أداة أو كلمة فارسية
فاتخذت معنى جديدا وصارت تعد كلمة فارسية، من قبيل ذلك:
نصيحتگر، ملامتگر، نصيحت پذير، نصيحتگو، حقرو، حقگو،
حقشناس، ناحق، حرف زدن، مطالعه كردن، غم خوردن، طلبيدن،
غارتيدن وأمثالها من الكلمات المركبة التي لم يهملها قاموس لغت نامه بل أوردها
مع شواهد.
وكذا ذكر الكثير من الكلمات المحلية في مختلف نواحي إيران _ في حدود
الإمكان _ مع شرحها.
ولمعجم دهخدا خاصة أخرى هي انه قد أولى اعلام الرجال والأماكن عناية
وتحقيقات ودقة فأوجد، بذلك لكل قسم من البطاقات (الفيش) دراسات
ومراجع قيمة. وهنا يجب أن نذكر أن دهخدا قد أولى عظماء بلده عناية خاصة
وعمل على تبيان الآثار الإيرانية القديمة واظهار خصائصها البارزة. ومما يلاحظ
أنه فصل تراجم كثير من الشخصيات كما فعل في ترجمة أبي الريحان البيروني وأبي
علي ابن سينا وأردشير واردوان وسواهم.
علي أكبر نواب، المتخلص ب‍ (بسمل)
ولد سنة 1187 في شيراز وتوفي فيها سنة 1263.
درس في مدرسة حكيم. كان شاعرا خطيبا عالما. له: تذكرة دلگشا،
وشرح الثلاثين، وتعليقات على مدارك الشرائع، وسفينة النجاة، ورسالتان في
الأخلاق، وتفسير للقرآن الكريم، وحاشية على تفسير القاضي البيضاوي.
علي بن حسين الأنصاري الشيرازي المعروف ب‍ (حاج زين العطا)
ولد سنة 730 في شيراز وتوفي فيها سنة 806.
ترعرع وتعلم في شيراز فكان من العلماء الأطباء، معاصرا للملوك
المظفرية وطبيبا في قصورهم، موثوقا عندهم لا سيما الشاه شجاع.
له: أثر الاختيارات البديعة. وهو في مفردات الطب.
سيف الدولة الحمداني علي بن حمدان
يضاف إلى ترجمته المنشورة في الصفحة 269 من المجلد الثامن ما يلي:
حرص الإخشيديون أثناء ولايتهم على مصر على توطيد نفوذهم بولاية
الشام التي تقلدوا حكمها، فلما علم محمد بن طغج الاخشيد أن الخليفة
العباسي الراضي قلد محمد بن رائق الخزرى هذه الولاية، كتب إلى نائبه ببغداد

121
يطلب إليه أن يخبر الخليفة بمطامع ابن رائق في الشام ويستطلع رأيه في هذا
الامر. غير أن الخليفة العباسي لم يكن إذ ذاك لديه من النفوذ بحيث يستطيع أن
يتخذ قرارا يلزم أحد الفريقين باتباعه، لذلك استقر رأى الاخشيد على إعداد
العدة لمحاربة محمد بن رائق، فخرج على رأس جيشه في أوائل سنة 328 ه‍،
ودارت بينه وبين ابن رائق معركة في العريش، فمضى ابن رائق منهزما إلى
الرملة، ثم عقد الصلح بين الفريقين على أن يحكم ابن رائق الولايات الشامية
شمالي الرملة وعلى أن يدفع الاخشيد إليه جزية سنوية قدرها مائة وأربعون ألف
دينار. ومن المحتمل أن الاخشيد اضطر إلى قبول الصلح على هذه الصورة
رغم ما أحرزه من نصر خشية أن تواصل الخلافة العباسية الحملات عليه ورغبة
في إعداد نفسه لدرء الخطر الفاطمي الذي كان يهدده من ناحية حدود مصر
الغربية.
استطاع الاخشيد أن يعيد بلاد الشام إلى حوزته من غير حرب بعد وفاة
ابن رائق، وبذلك استقر حكمه في هذه البلاد وأصبح من القوة بحيث استطاع
أن يحصل على تقليد في بداية سنة 333 ه‍ من الخليفة المتقى بولاية مصر وحق
توريث إمارتها لأبنائه من بعده، كما أخذ تقليدا من الخليفة المستكفي في جمادى
الآخرة من هذه السنة، أقره فيه على ولاية مصر والشام.
لم يحتفظ الإخشيد فترة طويلة بسلطانه على جميع بلاد الشام ويرجع السبب
في ذلك إلى تطلع الحمدانيين (1) إلى انتزاع هذه البلاد من أيدي الإخشيديين،
فلما أسندت ولاية حلب إلى أبي الفتح عثمان بن سعيد الكلابي حقد عليه أهل
بيته من الكلابيين وراسلوا سيف الدولة بن حمدان ليسلموا إليه حلب. وكان
سيف الدولة قد طلب من أخيه ناصر الدولة أن يوليه إحدى الولايات، فقال له
ناصر الدولة: الشام أمامك وما فيه أحد يمنعك منه. فلما وقف سيف الدولة
على الخلاف القائم بين الكلابيين وأيقن من عجز أبي الفتح والي حلب عن
مقاومته، سار في جيشه الصغير قاصدا حلب، فقابله إخوة أبي الفتح الكلابي
عند نهر الفرات وأعلنوا ولاءهم له، كما أن أبا الفتح نفسه ما لبث أن لقي
سيف الدولة ودخل في طاعته، وبذلك تيسر لسيف الدولة الاستيلاء على حلب
وأصبح أميرا عليها منذ سنة 333 ه‍، وبدأ عمله بإقامة الخطبة للخليفة
العباسي المكتفي ولأخيه ناصر الدولة ولنفسه.
لما وصل إلى محمد بن طغج الإخشيد نبأ دخول سيف الدولة حلب وإقامته
الخطبة للخليفة العباسي، كتب إلى الخليفة بذلك، فأرسل إليه وإلى ابنه
أونوجور خلعا دليلا على تأييده له. على أن سيف الدولة ما لبث أن كشف عن
نواياه بعد أن استقرت له الأمور في حلب، فسار إلى حمص يريد دمشق. ولما
بلغ الإخشيد أن سيف الدولة عزم على بسط سلطانه على دمشق، أرسل إلى
الشام جيشا التقى بسيف الدولة عند بلدة الرستن (2)، فكان النصر حليف
الحمدانيين، وتقهقر الجيش الأخشيدي إلى دمشق، ثم خرج منها قاصدا
الرملة في طريق عودته إلى مصر، وسار سيف الدولة في أثر الجند المصريين يريد
دمشق، وكتب إلى أهلها كتابا، قرئ على منبر المسجد الأموي. وقد تضمن
هذا الكتاب حرصه على صيانة أرواحهم والمحافظة على أموالهم.
استقر رأى محمد بن طغج الاخشيد بعد أن وصلته نسخة من كتاب سيف
الدولة على أن يسير بنفسه لمحاربته، فاستخلف على مصر ابنه أونوجور وسار
على رأس جيش كبير إلى دمشق، والتقى الفريقان في قنسرين. وكان النصر في
البداية حليف سيف الدولة، غير أن هذا النصر ما لبث أن انقلب إلى هزيمة،
فدخل الاخشيد حلب حاضرة الحمدانيين واسترد دمشق.
وعلى الرغم من انتصار الاخشيد، فإنه رأى أن يصالح الحمدانيين، وتم
الصلح بين الأميرين في ربيع الأول سنة 334 ه‍، على أن يكون لسيف الدولة
حلب وما يليها من بلاد الشام شمالا، وأن يكون للإخشيد دمشق وأعمالها،
كما تضمن الصلح أن يدفع الاخشيد لسيف الدولة جزية سنوية.
ومن المرجح أن الاخشيد سعى إلى عقد الصلح مع سيف الدولة لأنه كان
يعتقد أن انتصاره عليه لم يكن حاسما وأن الحرب بينهما ستظل قائمة إلى أن يتم
النصر لسيف الدولة، كما أنه كان على يقين من أن النزاع بينه وبين الحمدانيين
على الشام سينتهي بانتصارهم عليه لأن هذا الإقليم يعد المجال الحيوي لاتساع
سلطانهم، وفضلا عن ذلك فإن الإخشيد كان يرمي من إبرام الصلح مع سيف
الدولة على هذه الصورة أن يبقي الدولة الحمدانية حصنا منيعا بينه وبين
البيزنطيين يكفيه مؤونة التعرض لهجومهم من وقت لآخر.
لما خلت دمشق من حامية قوية ترد غارة الحمدانيين على أثر وفاة محمد بن
طغج الاخشيد وعودة جنده من الشام إلى مصر، انتهز هذه الفرصة سيف
الدولة الحمداني واتجه إليها بجيشه، فسقطت في يده بعد أن استسلم إليه
حاكمها الإخشيدي، ولم يكتف بذلك، بل عمد إلى مطالبة أهلها بودائع
الإخشيد، فكاتبوا كافورا يستدعونه من مصر، فجاءهم بصحبة سيده
أونوجور، ثم دار القتال بين الفريقين، فكان النصر حليف المصريين وتقهقر
سيف الدولة إلى دمشق فحمص حيث أعاد تنظيم صفوفه، وجمع جيشا كبيرا
من الأعراب هاجم به الجنود المصرية شمالي دمشق، فلحقت به الهزيمة وطارده
الإخشيديون إلى حلب، فهرب إلى الرقة، ثم بدأت المفاوضات بين
الحمدانيين والإخشيديين، وانتهت إلى عقد معاهدة الصلح بنفس الشروط التي
كانت بين الإخشيديين وسيف الدولة ما عدا الجزية، فإن الإخشيديين لم يقبلوا
دفعها وكان من نتائج هذا الصلح أن ساد الصفاء بين الحمدانيين
والإخشيديين (انتهى).
وننشر هنا كلمة للكاتب إبراهيم ونوس علق بها على كلمة لكاتب زعم أن



(1) ينسب الحمدانيون إلى حمدان بن حمدون من قبيلة تغلب وموطنها ديار ربيعة في الجزيرة بالقرب من
سنجار ونصيبين، وكان لحمدان ستة أولادهم: إبراهيم والحسين ونصر أبو السرايا وأبو الهيجاء
عبد الله، وأبو العلاء سعيد، وداود، وقد ظهر نفوذ الحمدانيين في الموصل منذ أن تقلد ولايتها
عبد الله بن حمدان من قبل الخليفة الكتفي سنة 293 ه‍، (ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 1،
ص 175). ولما ولي المقتدر الخلافة أقره واليا عليها، فظل يلي أمورها حتى ستة 317 ه‍ حيث
اشترك في المؤامرة التي دبرت لخلع المقتدر، فكان مصيره القتل (أبو المحاسن: النجوم الزاهرة،
ج 3 ص 223).
على أن الخليفة المقتدر رغم ذلك حرص على الاستعانة بالحمدانيين وعلى الأخص في إقليم الجزيرة
لاعتقاده أنهم يستطيعون إخماد حركات القبائل المتنافرة بهذا الإقليم، فأسند إلى الحسن بن
عبد الله بن حمدان ولاية الموصل. وقد استطاع هذا الأمير أن يحتفظ بنفوذه في الموصل منذ
سنة 317 ه‍، كما تمكن من بسط سلطانه على جميع أرجاء ديار بكر وديار ربيعة (ابن الأثير،
الكامل في التاريخ، ج 8 ص 67، 68).
ولما استولى البريديون على بغداد ونهبوا دار الخلافة اضطر الخليفة المتقي إلى الهرب منها وسار مع فريق
من جيشه إلى الموصل، فقضى بها ما يقرب من أربعة أشهر، ثم عاد إلى بغداد في شوال
سنة 330 ه‍، وعلا منذ ذلك الوقت شأن بني حمدان، فخلع المتقي على الحسن بن عبد الله ولقبه
ناصر الدولة كما خلع على أخيه علي بن عبد الله ولقبه سيف الدولة (مسكويه: تجارب الأمم، ج 2، ص 28).
(2) تقع على نهر العاصي الذي يمر بالقرب من حماه.
122
جيش سيف الدولة كان خليطا من عدة شعوب فكان مما قاله صاحب المقال
المعترض عليه:
- " أما الصورة الثالثة التي وددت أن أشير إليها من صور المحاربين في
تاريخنا فهي صورة جيش الأمير سيف الدولة الحمداني الذي كان يقف رغم
صغر امارته على الحدود بين الدولة الاسلامية والدولة البيزنطية وقفة شجاعة،
وان كانت تتكئ على جيش يغاير في تركيبه جيش القبائل في الجاهلية، وجيش
المسلمين في الفتوح... فقد كان خليطا من أقوام متعددة الجنسيات، في عصر
اقطاعي غرق في أسواق الرقيق الذي أفاد منها سيف الدولة، فأنشأ ذلك الجيش
الذي يصفه الشاعر المتنبي بقوله:
أتوك يجرون الحديد كأنهم * سروا بجياد ما لهن قوائم
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه * وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسن وأمة * فما يفهم الحداث الا التراجم
فرد عليه إبراهيم ونوس بهذه الكلمة وفيها وصف لإحدى معارك سيف
الدولة:
والحقيقة التاريخية تخالف هذا القول تماما، فجيش سيف الدولة كان
بغالبيته من أبناء أفخاذ بكر بن وائل، عشيرته تغلب، وشيبان وغيرهما، وأبناء
القبائل العربية الأخرى التي كانت تسكن بوادي ومدن شمال بلاد الشام، كبني
كلاب، وقشير، ونمير، وبلعجلان وتنوخ وغيرهم... وهذه القبائل كانت
تسكن المناطق التي تمتد من الموصل، وديار بكر شرقا، إلى أنطاكية واللاذقية
غربا، و " من حدود بلاد الشام مع الدولة البيزنطية شمالا، حتى بوادي
" سلمية " و " تدمر " و " حسباء " جنوبا... وإذا وجد في جيشه بعض الغلمان
والقادة من غير العرب، فهم قلة لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، ذكر لنا
التاريخ أسماء بعض منهم " يماك " و " قرعويه " و " نجا "...
والشاعر أبو الطيب المتنبي لم يصف في الأبيات التي أوردها كاتب المقال
جيش الأمير سيف الدولة... بل وصف بها جيش الروم الكبير الذي هزمه
سيف الدولة شر هزيمة في معركة " الحدث الكبرى " عام 343 ه‍...
والحدث قلعة قديمة على حدود بلاد الشام مع الدولة البيزنطية، خربها
وأحرقها القائد البيزنطي " الدمستق فردس فقاس " سنة 237 ه‍. فقرر الأمير
سيف الدولة في 17 جمادى الثانية من عام 343 ه‍، احتلالها وإعادة ترميم
حصونها وجدرانها، كي يجعل منها قاعدة عسكرية متقدمة لقواته، ويحرم العدو
البيزنطي من الاستفادة منها في عملياته الحربية، وفيما كان سيف الدولة منهمكا
مع قادته وجيشه وعماله في بناء حصون القلعة تقدم القائد البيزنطي نحو القلعة
بجيش عرمرم من اليونان والبلغار والخزر والصقالبة والروس والأرمن، زاد عن
خمسين ألفا بين فارس وراجل...
وعندما وصل الجيش البيزنطي إلى أرض المعركة، أعطى القائد أوامره
بمحاصرة قلعة الحدث... فتم له هذا.
تم حصار الروم لجيش سيف الدولة في أصيل أحد أيام أواخر جمادى الثانية
من عام 343 ه‍، وكان الأمير سيف الدولة قد علم مسبقا ما ذا سوف يفعل
القائد الرومي، وقد هيأ نفسه له، فقرر أن يخوض معركته المريعة في صباح
اليوم التالي... فأمر وحدات الصدمة الرئيسية في جيشه أن تتهيأ خلال الليل،
وعددها حوالي خمسة عشر ألفا بين فارس وراجل، بقيادة ابن عمه الأمير أبي
فراس الحمداني ومحمد وهبة الله ابني أخي سيف الدولة، وناصر الدولة أمير
مدينة الموصل في تلك المرحلة من التاريخ، " ونجما " غلام سيف الدولة،
وأبقى الأمير سيف الدولة خمسة آلاف من خيالة البدو الخفيفة بإمرته لحسم
المعركة في الوقت المناسب...
مع بزوغ أول ضوء في سلخ جمادى الثانية، تقدم أبو فراس بقوام جيشه
وهاجم جيش الروم بعنف وضراوة، ومن مكان لم يكن يتوقعه القائد
البيزنطي، وهو اتجاه حصن من حصون القلعة يسمى " الأحيدب "... دارت
معركة رهيبة جدا لم يذكر التاريخ لها مثيلا في تلك الحقبة... أبدى الأمير سيف
الدولة حنكة، وفنا قياديا عالي المستوى، وتخطيطا مدهشا، وشجاعة فائقة...
وبعد مرور بضع ساعات على بدء المعركة، والروم يعتقدون أنهم الغالبون،
وفي الوقت المناسب الذي خطط له الأمير سيف الدولة... بدأ هجومه السريع
بخيالته الخفيفة من فرسان البدو المعروفين بخبراتهم القتالية العالية باتجاه قلب
الجيش البيزنطي، وشق طريقه بهم بين صفوف الجيش المعادي، ومعه أبو
الطيب المتنبي، حتى وصل إلى مقر قيادة الجيش البيزنطي فلم ير أمامه سوى
الفرار والنجاة من سيف الدولة... ففر بسرعة، وترك جيشه طعما لسيوف جنود
سيف الدولة... وقبل غروب شمس ذلك اليوم، كان جيش حلب يسيطر
سيطرة كاملة على الموقف، بعد إبادة جيش الروم بكامله تقريبا، وقتل في هذه
المعركة ابن الدمستق وصهره، وابن عمه، وزوج أخته... وانتشرت جثث
عشرات آلاف من القتلى من جيش الروم فوق أرض المعركة... فأهاج هذا
المنظر المريع شاعرية أبي الطيب المتنبي، فنظم قصيدته التي يصف فيها المعركة
ذات المطلع:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم * وتأتي على قدر الكرام المكارم
وأنشدها أمام الأمير سيف الدولة، وجنده المنتصرين، والعمال العرب
يبنون آخر شرفة في قلعة الحدث..
وفي هذه القصيدة يصف أبو الطيب الأمير سيف الدولة أثناء المعركة
فيقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة * ووجهك وضاح وثغرك باسم
ويصف أبو الطيب جيش الروم، و ليس كما ذكر كاتب المقال جيش سيف
الدولة... فيقول:
أتوك يجرون الحديد كأنهم * سروا بجياد ما لهن قوائم
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم * ثيابهم من مثلها، والعمائم
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه * وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسن وأمة * فما تفهم الحداث الا التراجم
قال أبو البقاء العكبري في شرحه للبيت الرابع من هذه الأبيات ما يلي:
- " المعنى: جعل الروم يبرقون لكثرة ما عليهم من الحديد، والبريق
اللمعان، يفرق بين سيوفهم وبينهم، لأن على رؤسهم البيض والمفاخر،
وثيابهم الدروع، فهم كالسيوف، وقد فسره بقوله: " من مثلها "... أي مثل
السيوف، يريد من الحديد وأشار بهذا الوصف، أعنى كثرة سلاح هذا الجيش
إلى قوته، وبما ذكره عن هذه الهيئة إلى شدته، وسمعت بعضهم، وكان شيخا
يقرأ عليه الديوان يقول: أخطأ أبو الطيب، كيف ذكر العمائم، والعمائم

123
للعرب... وليست للروم، فكيف جعلها للروم؟ " فضحكت من قوله،
وقلت له: " الضمير في " مثلها " إلى أين يعود؟ أليس إلى البيض وهي
السيوف؟ فلم يدر ما قلت ".
وبذا يتبين لنا أن أبا الطيب المتنبي في الأبيات التي أوردها الكاتب في
مقالة، يصف فيها جيش الروم، وليس جيش سيف الدولة، فجيش سيف
الدولة كانت وحداته متجانسة تماما - كما قلت سابقا - ويجمع بين الصورة الأولى
التي رسمها الكاتب للمحاربين العرب في العصر الجاهلي، لأن جيش سيف
الدولة بمعظمه كان من أفخاذ قبيلة بكر بن وائل، والصورة الثانية للمحاربين
المسلمين الأوائل، الذين كانوا يقاتلون لهدف سام، وتأدية رسالة عظيمة
خالدة هي رسالة الاسلام...
علي بن عبد الله بن العباس جد السفاح والمنصور
توفي سنة 114 وقيل 119 وقيل 118.
قال اليافعي: كان سيدا شريفا بليغا، وكان أصغر أولاد أبيه وأجمل قرشي
على وجه الأرض وأوسمه وأكثره صلاة وكان يدعى السجاد لذلك.
وروي أنه لما ولد أتى علي بن أبي طالب عليه السلام إلى أبيه فهناه وقال:
شكرت الواهب وبورك في الموهوب، ما سميته؟ قال: أو يجوز لي أن أسميه
حتى تسميه، فامر به وأخرج إليه فحنكه ودعا له ثم رده إليه وقال خذ إليك أبا
الأملاك، وقد سميته عليا وكنيته أبا الحسن، فلما كان زمن ولاية معاوية قال
ليس لكم اسمه وكنيته وقد كنيته أبا محمد فجرى عليه، هكذا قال المبرد.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء: لما قدم على
عبد الملك بن مروان قال له: غير اسمك وكنيتك فلا صبر لي عليهما، فقال:
أما الاسم فلا وأما الكنية فاكنى بأبي محمد، فغير كنيته. قيل وإنما قال
عبد الملك هذه المقالة لبغضه في علي بن أبي طالب، إذ اسمه وكنيته كذلك.
وذكر الطبري في تاريخه أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأكرمه وأجلسه
على سريره وسأله عن كنيته فأخبره، فقال لا يجمع في عسكري هذا الاسم
وهذه الكنية لأحد، وسأله هل له من ولد فأخبره بولده محمد وكناه أبا محمد.
على أن الواقدي يقول: ولد أبو محمد يعني علي بن عبد الله المذكور في
الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب.
وقال المبرد: ضرب علي المذكور بالسياط مرتين، كلتاهما ضربه الوليد بن
عبد الملك، أحدهما في تزوجه لبابة بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب،
وكانت عند عبد الملك فعض تفاحة ثم رمى بها إليها وكان أبخر فدعت
بسكين، فقال ما تصنعين بها؟ فقالت أميط عنها الأذى فطلقها وتزوجها
علي بن عبد الله المذكور فضربه الوليد وقال إنما يتزوج بأمهات الخلفاء ليضع
منهم، إن مروان بن الحكم إنما تزوج بأم خالد بن يزيد بن معاوية ليضع منه،
فقال علي بن عبد الله إنما أرادت الخروج من هذا البلد وأنا ابن عمها فتزوجتها
لأكون لها محرما.
وأما ضربه إياه في المرة الثانية، فقد حدث محمد بن شجاع بإسناد
متصل، قال: رأيت علي بن عبد الله مضروبا بالسوط يدار به على بعير ووجهه
مما يلي ذنب البعير وصائح يصيح: هذا علي بن عبد الله الكذاب (إلى آخر ما
قال...).
وكان عظيم المحل عند أهل الحجاز حتى روي أنه كان إذا قدم مكة حاجا
أو معتمرا عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام وهجرت مواضع حلقها
ولزمت مجلسه إعظاما وإجلالا وتبجيلا، فان قعد قعدوا وإن نهض نهضوا وإن
مشى مشوا جميعا حوله حتى يخرج من الحرم. وكان طويلا جسيما ذا لحية طويلة
وقدم عظيم جدا لا يوجد له نعل ولا خف حتى يستعمله. مفرطا في طوله، إذا
طاف كأنما الناس حوله مشاة وهو راكب.
الشيخ علي البحراني بن لطف الله
توفي سنة 1099 من أدباء البحرين، من شعره ما قاله متشوقا إلى وطنه
وإخوانه:
يا نسيم الريح أن جئت المقاما * فأبلغن عني أحباي السلاما
بلغيهم قبل ما ان تحملي * من هداها الروض شيحا وخزامى
سفر قد صار من أهواله * فيه كل المستحبات حراما
طال حتى ملت الروح به * الجسم والقلب به حل المقاما
ولقد صليت نحو الشرق والغر * ب في السير ولن أخشى الآثاما
ولعمري جاز من تطويله * لو به صمنا وصلينا تماما
فكأني صار قصد السدلي * مثل ذي القرنين في السير مراما
غربة قد عرف القلب بها * ربه من بعد ما عنه تعامى
وقال في (أنوار البدرين): الظاهر أنه هو صاحب المسائل التي أجاب عنها
الشيخ أحمد بن عصفور والد الشيخ يوسف في العطارة والتجارة. والظاهر أنه من
أهل حد حفص من البحرين والله العالم.
الملا علي النوري المازندراني الأصفهاني منشأ ومسكنا
توفي سنة 1247.
ذكر اسمه وتاريخ وفاته في الصفحة 368 من المجلد الثامن ولم تذكر ترجمته
فقد سقطت خلال الطباعة، واختلطت ترجمته مع ترجمة الذي يليه (علي بن
هارون) الذي سقطت ترجمته هو الآخر، وبقي منها مقطوعتان شعريتان.
لذلك نذكر هنا ترجمة الأول، ثم نتبعها بترجمة الثاني.
أما ترجمة الأول فهي:
انتقل في أوان الطلب من وطنه إلى أصفهان وانصرف فيها إلى درس
الفلسفة، اخذ فنونها أخذا عن فلاسفة عصره إلى أن صار إماما في هذا الشأن
وصارت الرحلة إلى أصفهان بسببه. اخذ عنه جماعة من الفلاسفة منهم
السبزواري.
صنف حاشية على شرح الارشادات ولما مات نقل إلى النجف.
أما ترجمة الثاني فهي:
أبو الحسن علي بن هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم
في معجم الشعراء للمرزباني: من بيت الأدب ومعدنه ومعاني الشعر
وموطنه وهو القائل:

124
السيد علي ابن السيد إبراهيم آل شبانة.
قال في (أنوار البدرين) عنه فيما قال نقلا عن ولده صاحب تتمة الأمل:
شاعر في زمانه ورئيس هذه الصناعة في وقته وأوانه اخذ عن الفضلاء
ولازم الأدباء حتى صار لأهل هذه الصناعة سيدا واماما ولكن حوادث الأهوال
الواقعة على (اوال) قد فرقت ما نظم وأذهبت منه الجزء الأعظم واني وقت
اشتغاله بالعلوم والآداب لم اخرج من الأصلاب فلما من الله علي بالابراز من
العدم إلى الوجود وألهمني شيئا من معرفة هذه الصناعة تتبعت أشعاره
واستقفيت لآثاره فلم أعثر بعد تتبع كثير إلا على شئ يسير فمنه قوله:
ضاق النطاق وأحكمت حلقاتها * فالنفس لا تختار طول حياتها
بلغ الزبا سيل الهموم ولا أرى * من يزجر الأيام عن نكباتها
فلذاك خاطبت الزمان وأهله * بشكاية الشعراء في أبياتها
قد قلت للزمن المضر بأهله * ومقلب الدولات عن حالاتها
ان كان عندك يا زمان بقية * مما تهبن به الكرام فهاتها
وله من قصيدة:
أن تقعد العيس بي من دون حيهم * أو يعتريهن من طول المسير حفا
فلا رعين الكلى غضا ولا وردت * من الموارد إلا موردا خسفا
بلى إذا قعدت بي في منازلهم * وقمت أسحب أذيال الهنا شغفا
فلا ذوى لهم فزع ولا برحت * تسقي السما طرفا إن امحلت طرفا
وقوله وهو يومئذ بمدينة شيراز:
يا بارقا في أفقه متعرضا * إن جزت يوما بالمنامات
ومنها:
والى أوال تروع قلبي كلما * سرت الصبا من تلكم الساحات
والى نواحي أرضها وربوعها * ولما بها قد مر من أوقات
وعراصها الفيح التي قد طرزت * أطرافها ببواسق النخلات
وعلى عشيات حسوت مكررا * فيها كؤوس الوصل في الخلوات
من كل شهدي المذاق تديره * من ريقها وردية الوجنات
حوراء فاترة اللحاظ كأنما * رضوان أبرزها من الجنات
عذراء ناحلة الوشاح بطيئة * الحركات آرامية اللفتات
أن حدثتك ارتك عند حديثها * دررا ولكن غير منتظمات
فإذا هي ابتسمت ارتك بثغرها * في السلك در الحب ملتئمات
هي روضة العشاق إلا انها * تصمي القلوب باسهم اللحظات
السيد علي البهبهاني
ولد سنة 1304 في مدينة بهبهان وتوفي فيها سنة 1400
درس المقدمات في إيران وفي سنة 1322 سافر إلى النجف الأشرف فحضر
درس الآخوند الخراساني وبعد وفاته حضر على شيخ الشريعة الأصفهاني
وغيره. ثم عاد إلى إيران فأقام بضعة شهور في رامهرمز، ثم عاد إلى كربلا
فبقي فيها سنتين ومنها انتقل إلى النجف ثم عاد إلى رامهرمز. وأخيرا قسم وقته
بين أصفهان ومنطقة خوزستان فكان يقيم في الصيف إلى انقضاء ستة أشهر في
أصفهان وفي الشتاء إلى انقضاء ستة أشهر متنقلا بين رامهرمز وعبادان
والأهواز.
وفي أصفهان كان يلقي الدروس في الفقه والأصول في مدرسة الصدر،
ويقيم الجماعة ظهرا في مسجد الامام وعشاء في مسجد السيد.
ترك من المؤلفات: مصباح الهداية في إثبات الإمامة، شرح وحاشية على
العروة الوثقى، كشف الأستار في الحديث، أساس علم النحو، بحث
الألفاظ، بحث الاشتقاق، القواعد الكلية، الفوائد الثماني عشرة وغير
ذلك.
السيد علي خان الشيرازي
مرت ترجمته في المجلد الثامن الصفحة 152 وذكر فيها أبيات من قصيدته
الرائية وأبيات من قصيدته السينية، وقد وجدنا بعد ذلك منهما ما يزيد عما هو
منشور وهو مدح أمير المؤمنين عليه السلام من القصيدة الرائية وبقية القصيدة
السينية، كما وجدنا أبياتا غير القصيدتين، وهو ما نأخذه فيما يلي:
هيهات يأبى الغدر لي نسب * أعزى به لعلي الطهر
خير الورى بعد الرسول ومن * حاز العلى بمجامع الفخر
صنو النبي وزوج بضعته * وأمينه في السر والجهر
إن تنكر الأعداء رتبته * شهدت بها الآيات في الذكر
شكرت (حنين) له مساعيه * فيها وفي (أحد) وفي (بدر)
سل عنه (خيبر) يوم نازلها * تنبيك عن خبر وعن خبر
من هد منها بابها بيد * ورمى بها في مهمه قفر
والطير إذ يدعو النبي له * من جاءه يسعى بلا نذر
وفراش أحمد حين هم به * جمع الطغاة وعصبة الكفر
من بات فيه يقيه محتسبا * من غير ما خوف ولا ذعر
والكعبة الغراء حين رمى * من فوقها الأصنام بالكسر
من راح يرفعه ليصدعها * خير الورى منه على الظهر
والناكثين غداة أمهم * من رد أمهم بلا نكر
والقاسطين وقد أضلهم * غي ابن هند وخدنه عمرو
من فل جيشهم على مضض * حتى نجوا بخدايع المكر
والمارقين من استباحهم * قتلا فلم يفلت سوى عشر
و (غدير خم) وهو أعظمها * من نال فيه ولاية الأمر
واذكر مباهلة النبي به * وبزوجه وابنيه للنفر
واقرأ (وأنفسنا وأنفسكم) (1) * فكفى بها فخرا مدى الدهر
هذي المفاخر والمكارم لا * قعبان من لبن ولا خمر
وله أيضا في مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
أمير المؤمنين فدتك نفسي * لنا من شانك العجب العجاب
تولاك الأولى سعدوا ففازوا * وناواك الذين شقوا فخابوا
خفيت عن العيون وأنت شمس * سمت عن أن يجللها سحاب
وليس على الصباح إذا تجلى * ولم يبصره أعمى العين عاب



(1) سورة آل عمران، آية (61).
125
لسر ما دعاك أبا تراب * محمد النبي المستطاب
فكان لكل من هو من تراب * إليك وأنت علته انتساب
وفيك وفي ولائك يوم حشر * يعاقب من يعاقب أو يثاب
فوا عجبا لمن ناواك قدما * ومن قوم لدعوتهم أجابوا
أزاغوا عن صراط الحق عمدا * فضلوا عنك أم خفي الصواب
أم ارتابوا بما لا ريب فيه * وهل في الحق إذ صدع ارتياب
وهل لسواك بعد (غدير خم) * نصيب في الخلافة أو نصاب
ألم يجعلك مولاهم فذلت * على رغم هناك لك الرقاب
لئن جحدوك حقك عن شقاء * فبالأشقين ما حل العقاب
فكم سفهت عليك حلوم قوم * فكنت البدر تنبحه الكلاب
وقال لما زار النجف الأشرف في طريقه إلى حج بيت الله الحرام:
يا صاح هذا المشهد الأقدس * قرت به الأعين والأنفس
و (النجف الأشرف) بأنت لنا * أعلامه والمعهد الأنفس
والقبة البيضاء قد أشرقت * ينجاب عن لألائها الحندس (1)
حضرة قدس لم ينل فضلها * لا المسجد الأقصى ولا المقدس
حلت بمن حل بها رتبة * يقصر عنها الفلك الأطلس
تود لو كانت حصى أرضها * شهب الدجى والكنس الخنس
وتحسد الأقدام منا على * السعي إلى أعتابها الأرؤس
فقف بها والثم ثرى تربها * فهي المقام الأطهر الأقدس
وقل صلاة وسلام على * من طاب منه الأصل والمغرس
خليفة الله العظيم الذي * من ضوئه نور الهدى يقبس
نفس النبي المصطفى أحمد * وصنوه والسيد الأرأس
العلم العيلم بحر الندى * وبره والعالم النقرس (2)
فليلنا من نوره مقمر * ويومنا من ضوئه مشمس
أقسم بالله وآياته * إليه تنجي ولا تغمس
إن علي بن أبي طالب * منار دين الله لا يطمس
ومن حباه الله أنباء ما * في كتبه فهو لها فهرس
هذا أمير المؤمنين الذي * شرايع الله به تحرس
وحجة الله التي نورها * كالصبح لا يخفى ولا يلبس
تالله لا يجحدها جاحد * إلا امرؤ في غيه مركس
والمقحم الخيل وطيس الوغى * إذا تناهى البطل الأحرس
جلبابه يوم الفخار التقى * لا الطيلسان الخز والبرنس
يرفل من تقواه في حلة * يحسدها الديباج والسندس
يا خيرة الله الذي خيره * يشكره الناطق والأخرس
عبدك قد أمك مستوحشا * من ذنبه للعفو يستأنس
يطوي إليك البحر والبر لا * يوحشه شئ ولا يؤنس
طورا على فلك به سابح * وتارة تسري به عرمس (3)
في كل هيماء يرى شوكها * كأنه الريحان والنرجس
حتى أتى بابك مستبشرا * ومن أتى بابك لا ييأس
أدعوك يا مولى الورى موقنا * أن دعائي عنك لا يحبس
فنجني من خطب دهر غدا * للجسم مني أبدا ينهس (4)
هذا ولولا أملي فيك لم * يقر بي مثوى ولا مجلس
صلى عليك الله من سيد * مولاه في الدارين لا يوكس (5)
ما غردت ورقاء في روضة * وما زهت أغصانها الميس
علي بن الحسن الملقب شميم الحلي
مرت ترجمته في المجلد الثامن الصفحة 182 ونزيد عليها هنا ما يلي:
قال عنه ابن خلكان: كان أديبا فاضلا خبيرا بالنحو واللغة وأشعار
العرب، حسن الشعر، وكان اشتغاله ببغداد على أبي محمد بن الخشاب ومن في
طبقته من أدباء ذلك الوقت، ثم سافر إلى ديار بكر والشام، ومدح الأكابر
وأخذ جوائزهم واستوطن الموصل وله عدة تصانيف. كان جم الفضائل إلا أنه
كان بذئ اللسان كثير الوقوع في الناس ولا يثبت لاحد من الفضل شيئا. ذكره
أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ اربل، وفتح ذكره بأشياء نسبها إليه من قلة
التدين ومعارضة القرآن. اه‍.
نقول: من المؤسف اسراع هؤلاء إلى الوقيعة بالناس دون تحرج ولا
تأثم!.
وقال عنه ياقوت في معجم الأدباء: هو من أهل الحلة المزيدية قدم بغداد
وبها تأدب ثم توجه تلقاء الموصل والشام وديار بكر وأظنه، قرأ على أبي نزار
ملك النحاة. وكنت وردت إلى آمد في شهور سنة 594 فرأيت أهلها مطبقين
على وصف هذا الشيخ فقصدته إلى مسجد الخضر ودخلت عليه فوجدته شيخا
كبيرا في حجرة من المسجد وبين يديه (جامدان) مملوء كتبا من تصانيفه
فحسب، فسلمت عليه وجلست بين يديه، فاقبل علي وقال من أين؟ قلت
من بغداد، فهش بي وأقبل يسألني عنها وأخبره. ثم قلت انما جئت لأقتبس من
علوم المولى شيئا، فقال لي: واي علم تحب؟ قلت أحب علوم الأدب، فقال إن
تصانيفي في الأدب كثيرة، وذلك أن الأوائل جمعوا أقوال غيرهم واشعارهم
وبوبوها وأنا كل ما عندي من نتائج أفكاري وكنت كلما رأيت الناس مجمعين
على استحسان كتاب في نوع من الأدب استعملت فكري وأنشأت من جنسه ما
ادحض به المتقدم، فمن ذلك أن أبا تمام جمع أشعار العرب في حماسته وانا
عملت حماسة من أشعاري، ثم رأيت الناس مجمعين على تفضيل أبي نؤاس في
وصف الخمر فعملت كتاب الخمريات من شعري، لو عاش أبو نواس
لاستحى ان يذكر شعر نفسه لو سمعها ورأيت الناس مجمعين على خطب ابن
نباته فصنفت كتاب الخطب. قلت له: أنشدني شيئا مما قلت فابتدأ وقرأ علي
خطبة كتاب الخمريات، ثم أنشدني من هذا الكتاب:
امزج بمسبوك اللجين * ذهبا حكته دموع عيني
لما نعى ناعي الفراق * بين من اهوى وبيني
كانت ولم يقدر لشئ * قبلها ايجاب كوني



(1) الكنس الخنس: هي النجوم كلها. والسيارات منها.
(2) النقرس: بكسر النون ثم القاف الساكنة بعدها الراء المكسورة ثم السين المهملة، هو الطبيب الماهر المدقق.
(3) العرمس: بكسر العين المهملة، الناقة الصلبة الشديدة.
(4) نهس: أخذ بمقدم أسنانه. نهست الحية: نهشت. نهس الكلب: قبض بالفم.
(5) وكس: نقص. ووكس وأوكس: خسر.
126
وأحالها التشبيه لما * شبهت بدم الحسين
خففت لها شمسان من * لألاتها في الخافقين
وبدت لنا في كأسها * من لونها في حلتين
فاعجب هداك الله من * كون اتفاق الضرتين
في ليلة بدأ السرور * بها يطالبنا بدين
ومضى طليق الراح من * قد كان مغلول اليدين
في زينة الأحياء في * الدنيا وزينة كل زين
وسألته أن ينشدني شيئا آخر فقال لي قد صنفت كتابا سميته: أنيس
الجليس في التجنيس في مدح صلاح الدين فانا أنشدك منه، أنشدني لنفسه:
ليت من طول بالشام * نواه وثوى به
جعل العود إلى الزوراء * من بعض ثوابه
أترى يوطئني الدهر * ثرى مسك ترابه
وارى اي نور عيني * موطئا لي وترى به
وأنشدني غير ذلك مما ضاع مني أصله. ثم سألته عمن تقدم من العلماء
فلم يحسن الثناء على أحد منهم، فلما ذكرت له المعري نهرني وقال لي: ويلك
كم تسئ الأدب بين يدي من ذلك الكلب الأعمى حتى يذكر في مجلسي.
فقلت يا مولانا ما أراك ترضى عن أحد ممن تقدم، فقال كيف أرضى عنهم
وليس لهم ما يرضيني. قلت فما فيهم أحد قط جاء بما يرضيك؟ فقال: لا
اعلمه الا أن يكون المتنبي في مديحه خاصة، وابن نباتة في خطبه، وابن
الحريري في مقاماته.
ثم قال ياقوت: حدثني الآمدي الفقيه فأبلغني أنه لما قدم من بغداد إلى
الموصل انثال عليه الناس يزورونه، وأراد نقيب الموصل وهو ذو الجلالة
المشهورة زيارته فقيل له أنه لا يعبأ بأحد ولا يقوم لزائر ابدا، فجاءه رجل
وعرفه ما يجب من احترام النقيب لحسبه ونسبه وعلو منزلته من الملوك فلم يرد
جوابا، وجاءه النقيب ودخل وجرى على عادته من ترك الاحتفال به ولم يقم عن
مجلسه، فجلس النقيب ساعة ثم انصرف مغضبا، فعاتبه الرجل الذي أشار
عليه باكرامه فلم يرد عليه جوابا، فلما كان من الغد جاءه وفي يد الحلي كسرة خبز
يابسة وهو يعض من جانبها ويأكل، فلما دخل الرجل عليه قال له: يا رقيع من
يقنع من الدنيا بهذه الكسرة اليابسة لأي معنى يذل للناس مع غناه عنهم و
احتياجهم إليه.
ثم ذكر ياقوت نماذج من نظمه وعدله من المصنفات ما ينيف على أربعين
كتابا منها: الحماسة من نظمه. مناح المنى في ايضاح الكنى. أنيس الجليس.
التعازي في المرازي. أنواع الرقاع في الأسجاع. الأماني في التهاني. المخترع
في شرح اللمع. المحتسب في شرح الخطب. المهتصر في شرح المختصر.
رسائل لزوم ما لا يلزم. كتاب خلق الآدمي. المنايح في المدايح. الخطب
الناصرية. شعر الصبا. مناقب الحكم في مثالب الأمم. اللماسة في شرح
الحماسة. المناجاة.
قال ابن خلكان: توفي ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من شهر ربيع
الآخر سنة 601 بالموصل ودفن بمقبرة المعافى بن عمران. وقال ياقوت: مات
الموصل عن سن عالية.
علي بن علي بن حمدون
أبو الحسن بن أبي القاسم الكاتب من أهل الحلة السيفية.
قال عنه صاحب كتاب (انسان العيون في مشاهير سادس القرون) (1)
تصرف في الأعمال الديوانية، وكان فاضلا أديبا مدح الأكابر وسافر إلى الشام،
وكان غاليا في التشيع مبالغا في الرفض خبيث العقيدة مجاهرا بتكفير
الصحابة!!.
نقول: يكفي في الرجل أن ينسب إلى التشيع لتنهال عليه التهم الباطلة ثم
أورد له قصيدة منها:
أصف السيد الذي يعجز الواصف * عن عد فضله في السنين
خاصف النعل خائض الدم في بدر وأحد والفتح خوض السفين
والقضايا التي بها حصل التمييز * بين المفروض والمسنون
سل براءة عمن تولت وفكر * ان طلبت النجاة فكر ضنين
ان في مرحب وخيبر والباب * بلاغا لكل عقل رصين
وكفى فتح مكة لمن استيقظ * أو نال رشده بعد حين
حين ولى النبي رايته سعد * المفدي من قومه بالعيون
فرأى أن عزله بعلي * هو احمى لمجده من افون
توفي على عهد الخليفة الناصر.
علي بن عبد القادر المراغي
قال الشيخ عبد القادر بدران في كتابه (منادمة الأطلال) وهو يتحدث عن
(خانقاه السميساطية) في دمشق وعن مشاهير صوفييها، وذكر منهم المترجم، ما
يأتي:
علي بن عبد القادر المراغي ثم الدمشقي الصوفي المعتزلي. قال ابن حجي:
كان فاضلا في العلوم العقلية ويعرف العربية ويقرئ المنهاج في الأصول،
وكان بارعا في الطب ويدري النجوم وما يتعلق بها، ويقرئ (الكشاف)، وكان
معتزليا وينسب إلى التشيع والرفض، وكان أولا صوفيا بالسميساطية، فقام
جماعة وشهدوا عليه بالاعتزال، وأخرجوه ورفعوه إلى الحاكم فعزره واستتابه، ثم
قدره بخانقاه خاتون فنزل بها إلى أن مات. وحصل له استيحاش من الفقهاء،
وربما كان يقرأ عليه من يأنس به. أخذ عنه التقي ابن مفلح، والتقى ابن
حجي، توفي سنة ثمان وثمانين وسبعمائة. (انتهى)
ووصفه بالمعتزلي هو ما اعتادوه في وصف كثير من أعلام الشيعة بالاعتزال،
لاتفاق الشيعة مع المعتزلة في بعض الأمور، وإلا فأين الاعتزال من التشيع.
ملا علي الهمذاني
ولد سنة 1313 في قرية من قرى همذان وتوفي سنة 1401 في همذان
درس على علماء همذان ثم على علماء طهران، ثم انتقل إلى قم فتابع
دراسته فيها على الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي. ثم استقر في همذان حتى
وفاته.
له من المؤلفات: الاجتهاد والتقليد، الاحباط والتكفير، حاشية على



(1) توجد نسخة خطية مصورة من هذا الكتاب في مكتبة الآثار العراقية.
127
العروة الوثقى، رسالة في حالات أبي بصير، رسالة في علم الكلام، قاعدة لا
ضرر وغيرها.
الميرزا علي خاموش الميبدي
ولد سنة 1287 في ميبذ إيران وتوفي سنة 1379 في النجف الأشرف.
هاجر والده إلى كربلا فكان معه طفلا فنشأ ودرس فيها وبدأ ينظم الشعر
الفارسي متخلصا (بخاموش) فلقب بذلك. وفي حدود سنة 1309 انتقل إلى
النجف الأشرف موظفا في القنصلية الإيرانية، فنظم الكثير من الشعر الفارسي
في أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام بلغ فيه حدا ملحميا.
له: 1 - ديوان شعر فارسي في ثلاثة مجلدات. 2 - مدائح المعصومين.
3 - الغزليات 4 - الرباعيات. 5 - تقليد وطهارت وهي نظم فارسي لمسائل
التقليد وأحكام الطهارة من كتاب (مجمع المسائل) الفارسي. 6 - خلافت نامه
امام حسن. في ثمانية عشر ألف بيت. 7 - خلافت نامه حيدري. في خمسة
وأربعين ألف بيت 8 - شهنشاه نامه حسيني. في أكثر من ستين ألف بيت. 9 -
مختار نامه. 10 - المثنويات. 11 - كتاب الرضا عليه السلام 12 - كتاب زينب
عليها السلام وغير ذلك وكلها باللغة الفارسية بقيت بعده عند ولده.
الشيخ علي الخياباني ابن عبد العظيم
ولد في تبريز سنة 1282 وتوفي سنة 1366 من مشاهير وعاظ إيران وخطباء
المنبر الحسيني فيها. له: (منتخب المقاصد ومنتجب الفوائد) في تسعة
مجلدات على نسق الكشكول. وله: (وقائع الأيام) فيما يخص شهور رجب
وشعبان ورمضان ومحرم. وله. (تحفة الأحباء في شرح قصيدة سيد الشعراء)
وهي القصيدة العينية للسيد الحميري. وله: (علماء معاصرون) بالفارسية
اشتمل على مائة وخمس وتسعين ترجمة.
علي بن محمد بن عبد الله الأبزري
توفي سنة 815.
من الأطباء العلماء المعروفين بإيران في القرن التاسع وأوائل القرن
العاشر.
كان معاصرا لتيمور لنك. له كتاب (المختصر في الطب) كتبه بخطه سنة
795.
الميرزا السيد علي نياز، المشهور ب‍ (خوشنويس)
ولد سنة 1197 وتوفي سنة 1263.
كان طبيبا شاعرا خطاطا. درس على والده الميرزا حسن علي الطبيب
المتوفى سنة 1225 الحكمة والطب، ودرس الفقه والأصول على خاله الميرزا
إبراهيم، وأتقن الخط عند الخواجة أبو الحسن الفسائي الذي كان تلميذا
للدرويش عبد المجيد شكسته نويس.
وفي الأربعين من عمره سافر إلى الهند وبعد عدة سنوات عاد إلى وطنه
شيراز، وعاش فقيرا.
له من المؤلفات الشعرية، فيروز ونسرين الذي يشتمل على ألفين وخمسمئة
بيت من الشعر، وديوانه الشعري المحتوي على خمسة آلاف بيت من الشعر.
عطية بن سعد العوفي الكوفي
قال اليافعي في الجزء الأول من مرآة الجنان وهو يذكر وفيات سنة إحدى
عشرة ومائة:
فيها توفي عطية بن سعد العوفي الكوفي، روى عن أبي هريرة وطائفة،
وضربه الحجاج أربع مائة سوط على أن يشتم علي بن أبي طالب فلم يشتم.
عمرو بن قرظة الأنصاري.
خرج يوم كربلاء يقاتل دون الحسين عليه السلام وهو يقول:
قد علمت كتيبة الأنصار * أني سأحمي حوزة الذمار
ضرب غلام غير نكس شاري * دون حسين مهجتي وداري
عمر بن خالد الصيداوي.
كان هو وجابر بن الحارث السلماني وسعد مولى عمر بن خالد ومجمع بن
عبد الله العائذي قد قاتلوا في أول القتال يوم كربلاء فشدوا مقدمين بأسيافهم على
الناس فلما وغلوا عطف عليهم الناس فاخذوا يحوزونهم وقطعوهم من أصحابهم غير
بعيد فحمل عليهم العباس بن علي فاستنقذهم فجاءوا قد جرحوا فلما دنا عدوهم
شدوا بأسيافهم فقاتلوا في أول الأمر حتى قتلوا في مكان واحد.
غالب
مرت ترجمته في المجلد الثامن الصفحة 384 ونزيد عليها هنا ما يلي:
ولد سنة 1212 في أكبرآباد وتوفي في دهلي سنة 1286
ترجم شعره إلى أكثر من لغة وأقيمت لذكراه العام 1969 م مهرجانات
عالمية في أكثر من عاصمة كبرى، ولم يعن بشاعر من شعراء اللغة الأردوية مثل
ما عني بهذا الشاعر ولم يشتهر أحد شهرته ولم ينل أحد منزلته. يقول عبد
الحق: " ويخيل إلينا أن الشعر الأردوي جمد في هذه المرحلة من مراحله، وفي
هذه اللحظة ظهر غالب فجأة كما يبزغ النجم في سماء الأدب، وكان غالب
- شأن عظماء الرجال - سابقا لعصره، كان طليعة الحركة الحديثة في الشعر
الأردوي. وليس له في دولة هذا الشعر نظير في الابتكار وقوة الخيال وسمو
الشاعرية ".
وإلى جانب شعره الأردوي فهو شاعر أيضا بالفارسية. وقد رتب السيد
مرتضى حسين صدر الأفاضل العالم و الكاتب والمفكر الباكستاني شعره وتتبع
أخباره وأشعاره فطبع ديوانه في ثلاث مجلدات.
ليس لغالب قرين فهو الشاعر الحكيم، يترجم في شعره عن الضمائر
ويحكي عن السرائر ويصور تجاريب الحياة ويدون أصول الفكر والنظر. غرامه
غرام الحكيم ونظرته نظرة الشاعر الحساس الذكي، ولا مساجل له من حيث
منهجه الخاص.
وبسبب ميله إلى الفارسية أكثر من كل شاعر ولتعمقه في المعنى ودقة فكره في
المغزى، احتاج شعره إلى شرح وتفسير، لذلك حظي ديوانه الأردوي بعشرات
الشروح.
ومع هذا فإنك لا تجد أحدا ممن يحسن اللغة الأردوية إلا وهو يملك (ديوان

128
غالب). أما غزله فيقبله كل شاعر ويحفظه كل قارئ.
ويحتوي على الغزل والرباعيات ومدائح الأئمة عليهم السلام. وغالب
كاتب كما هو شاعر، واشتهرت رسائله إلى تلاميذه واخوانه، ومن كتبه (ديوان
اردو) و (كليات فارسي) و (عود هندي) و (اردوي معلى).
غلام رضا گل سرخي
ولد في مدينة كاشان سنة 1312 وتوفي سنة 1369.
درس دراسته الأولى في كاشان، وبعد إنهائه الدارسة الابتدائية والمتوسطة
انتقل للدراسة في قم. وانتمى في أوائل شبابه إلى منظمة (فدائيان إسلام).
كان مفكرا إسلاميا عميقا نشر عدة دراسات في مختلف المجلات ومن
أهم ما كتبه شرحه لرسالة أمير المؤمنين علي (ع) إلى مالك الأشتر.
الدكتور فاضل الجمالي بن الشيخ عباس
ولد في الكاظمية (قرب بغداد) سنة 1903 م وتوفي في تونس
(العاصمة) سنة 1997 م.
تخرج من دار المعلمين الابتدائية في بغداد بعد أن درس العربية والعلوم
الإسلامية في مدرسة الشيخ مهدي الخالصي في الكاظمية ودرس في الجامعة
الأمريكية في بيروت فنال درجة (بكالوريوس علوم) مع شهادة تدريس
ودرس في كلية المعلمين بجامعة كولمبيا فحصل على درجة الماجستير ثم دكتور
فلسفة وقضى فصلا صيفيا في مدرسة التربية بجامعة شيكاغو ومنح وسام
الخدمة الممتازة في التعليم المعلمين بجامعة كولمبيا.
بدأ ممارسة التعليم في الخامسة عشرة من عمره سنة 1918 ثم درس
التربية وعلم النفس في دار المعلمين الابتدائية ثم درس الفلسفة التربوية
والتربوية الأخلاقية في دار المعلمين العليا. وتولى منصب المدير العام للتربية
والتعليم في العراق مدة تزيد على العشر السنوات وحاضر وكتب وألف في
التربية والتعليم.
عين مديرا عاما لوزارة الخارجية العراقية سنة 1943 ثم وزيرا للخارجية
ثمان مرات وانتخب رئيسا للمجلس النيابي العراقي مرتين وأصبح رئيسا
للوزارة العراقية مرتين وساهم في مؤتمر الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو
ووقع على الميثاق باسم العراق وترأس الوفد العراقي في الجمعية العامة للأمم
المتحدة في أكبر اجتماعاتها حتى سنة 1958. وترأس الوفد العراقي إلى المؤتمر
الآسيوي الإفريقي في باندونغ سنة 1955. دافع في المحافل الدولية عن حق
الشعوب الآسيوية والإفريقية بالاستقلال وناضل في المحالف الدولية من أجل
استقلال كل من ليبيا والمغرب وتونس والجزائر وعرب فلسطين.
حكم عليه بالإعدام بعد انهيار النظام الملكي في العراق سنة 1958 ولم
ينفذ الحكم لتداخل شخصيات عربية كبيرة وأفرج عنه ليلة 14 تموز 1961.
قدم إلى تونس سنة 1962 للتدريس في الجامعة التونسية وظل في ذلك
حتى وفاته. ساهم في مؤتمر العالم الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة سنة
1965 وترأس اللجنة الثقافية فيه. وظل يكتب ويحاضر في الشؤون التربوية
والعربية الإسلامية.
وقال الصحافي عرفان نظام الدين فيما كتبه في جريدة الحياة في 12 تموز
سنة 1997.
تلقيت بعض الردود حول مقالات عمالقة " رحلوا " تضيف إليها بعض
المعلومات الناقصة أو تزيد عليها مما يدل على أن الوفاء ما زال مزروعا في
قلوب الكثير من أبناء أمتنا، وأن ذكرى العمالقة والرواد ما زالت عالقة في
أذهانهم. فبالنسبة للراحل الكبير فاضل الجمالي تلقيت رسائل ودراسات يمكن
أن تتحول إلى كتاب عن حياته ومؤلفاته إلا أنني أكتفي الآن بمعلومات عن
كيفية نجاته من حبل المشنقة بعد أن حكم عليه " المهداوي " الشهير بالإعدام في
عهد ابن خالته " الزعيم الأوحد "!! في العراق آنذاك الديكتاتور عبد الكريم
قاسم. وقد اختلفت الروايات حول كيفية نجاته لكن عدنان العلمي يؤكد أن
أكثر من زعيم عربي تدخل من أجله لكن الذي أنقذه فعلا هو المغفور له الملك
محمد الخامس ملك المغرب عندما زار العراق في جولته الأولى والأخيرة في
العالم العربي وقد اشترط على حكام العراق لكي يزورهم أن يأخذ معه الجمالي
وحصل ذلك وبعدها خرج من السجن إلى سويسرا للعلاج والراحة فاتصل به
الملك حسين والرئيس بورقيبة والملك محمد الخامس ودعوه للاستقرار عندهم.
كما أرسل له بورقيبة سفير تونس في سويسرا ودعاه لزيارة تونس ولو لمدة سنة
ولكنه مكث حوالي 35 سنة في تونس وأصر على أن يعمل أستاذ تربية في
جامعة تونس.
وقد أكرمه بورقيبة ورعاه وأطلق اسمه على شارع في حي المنزه، وعندما
تسلم الرئيس زين العابدين بن علي مقاليد الحكم واصل رعايته والاهتمام به.
وقد أشرت إلى كتبه ومن بينها التربية والتعليم، إلا أن القارئ عادل الناصر
أشار إلى كتاب مهم عن الخطر الصهيوني على الأمة العربية يعتبر مرجعا تاريخيا
على كل عربي أن يقرأه ليفهم ما يدبر له (انتهى).
وكتب عنه عند وفاته الدكتور غسان العطية في عدد 26 أيار سنة
1997 من جريدة الحياة ما يلي:
غيب الموت رئيس الوزراء العراقي السابق الدكتور محمد فاضل الجمالي
في المستشفى العسكري في تونس أول من أمس وذلك عن 94 سنة، وكان
من مؤسسي الأمم المتحدة.
وسيرة الدكتور محمد فاضل الجمالي تختصر تاريخ العراق الحديث، من
ولادته في الكاظمية عام 1903 وأسرة دينية، وتعلمه في مدرسة الإمام
الخالصي ودار المعلمين في بغداد وبعدها في الجامعة الأميركية في بيروت،
حتى حصوله على الدكتوراه من جامعة كولومبيا بنيويورك سنة 1932، ليعود
مربيا ثم ديبلوماسيا وسياسيا ورئيسا للوزراء لينتهي في ما بعد لاجئا في وطنه
الثاني تونس.
شهد الجمالي ولادة العراق، وكان أحد ثمرات العهد الفيصلي الذي وضع
أساس البناء الثقافي والتعليمي الحديث في العراق، فكان الجمالي ضمن أول
دفعة ترسلها الحكومة العراقية للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم
في الولايات المتحدة.
وبعد أن تحصن بثقافة إسلامية انفتح على الفكر القومي العربي المتمثل
بالثورة العربية ضد الدولة العثمانية الذي تعرف عليه من خلال المعلمين
العرب الذين استدعاهم العهد الفيصلي للمساهمة في النهضة التعليمية في
العراق، إضافة إلى دور الجامعة الأميركية في بيروت كحاضنة للفكر القومي
العربي آنذاك.
إن حياة الجمالي كالعراق الحديث، جملة مفارقات، فتلميذ الإمام
الخالصي يصبح رائدا للفكر الليبرالي الإصلاحي، وابن الكاظمية يشارك في
توقيع ميثاق الأمم المتحدة في مؤتمر سان فرانسيسكو سنة 1945، ليصبح
صوتا عراقيا مدافعا عن الحق العربي بالاستقلال والحرية، وعن الحق
الفلسطيني، ومشاركا في الجهود لتحقيق استقلال ليبيا ثم تونس والمغرب
والجزائر.

129
ومن المفارقات أن تكون شفاعة محمد الخامس هي التي أنقذت رأسه من
حكم الإعدام وخمس وخمسين سنة سجنا أصدرته محكمة " المهداوي " عام
1958.
ومن المفارقات أن تكون مساعيه لوحدة سورية والعراق إحدى تهم
الادعاء العام " الجمهوري " ضده.
كان الجمالي واضحا في فكره السياسي " أنا عراقي، أنا عربي، أنا
مسلم "، العبارات التي لخص الدكتور الجمالي بها هويته الفكرية والسياسية
التي لا يزال صداها في ذاكرتي من آخر حديث لي معه في لندن صيف
1996.
كان الجمالي مدركا أن العراق الحديث، الذي هو ثمرة وحدة ولايات
البصرة وبغداد والموصل العثمانية سابقا، بحاجة إلى دعم دولي للوقوف على
قدميه من ناحية وحماية كيانه من جيران طالما كانت أرض العراق ميدانا
لحروبهم وغزواتهم. ويقول بوضوح أنه لولا التحالف مع بريطانيا لما تمتع
العراق بحال من الاستقرار دامت حوالي أربعة عقود تم فيها رسم حدود البلاد
مع معظم جيرانه، كما كان له الفضل في تفرغ العراق للبناء حتى أصبح على
رأس دول العالم الثالث المرشحة للانتماء للعالم الأول.
وعند اشتداد الحرب الباردة كان خياره واضحا وصريحا بالانحياز إلى
الغرب. وفي هذا كان صريحا في اجتماعات باندونع ومحادثاته مع جمال
عبد الناصر. ورغم اختلافه مع عبد الناصر إلا أنه كان ضد التورط في
صراع بين البلدين، ووقف علنا في الجمعية العامة للأمم المتحدة يدين
العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ويبدو أن هذه الوقفة كانت وراء برقية
جمال عبد الناصر لعبد الكريم قاسم قائد ثورة تموز (يوليو) 1958 يرجو فيها
عدم تنفيذ حكم الإعدام بالجمالي.
ولكن طالما ظلم الجمالي من جيل الأربعينات والخمسينات، وكاتب هذه
السطور أحدهم، عندما اعتبرنا اجتهاده خيانة واختلافه جريمة، فكتب
الدكتور الجمالي أخيرا في هذا الشأن يقول: " علاقتي بالولايات المتحدة هي
علاقة ثقافية وصداقة عمرها 73 سنة، وعلاقتي بالسياسة الخارجية الأميركية
علاقة الصديق مع الصديق، أقترح وأنتقد ولا أسكت إذا اعتدي على أمتي
خاصة والإنسانية عامة، وربما كنت العربي النادر الذي يخاطب الأميركان
مخاطبة الند للند وليس مخاطبة الضعيف للقوي. شعاري معهم، صديقك من
صدقك. لم أسكت على الظلم الذي الذي ألحقوه بالشعب الفلسطيني في انحيازهم
المفرط لإسرائيل. كما لم أسكت على المظالم التي أوقعوها على الشعب العراقي
وأنا أنتقدهم دفاعا عن حقي وحفظا لسمعتهم وكرامتهم ومصالحهم في
الشوط البعيد، فالولايات المتحدة دولة عظمى ليس بقوتها العسكرية وثروتها
فحسب بل بمبادئها السامية التي ترفع بالإنسانية ".
وإذا كان الجمالي في خريف عمره يعاني من الخيبة من السياسة الخارجية
الأميركية، فإن خيبته من الأطروحات والممارسات القومية العربية لم تكن
أقل... فقد كتب في سنوات الغربة أخيرا يقول: " أنه مما يؤلم القومي العربي
أشد الألم أن يرى أنه مضطر إلى أن يتوقف ثماني مرات في سفره بين عمان
وبيروت في العهد الوطني بعد أن كان يمر بسهولة في أيام الاحتلال
الأجنبي ".
إن البعد الآخر لثقافة الجمالي، بعد إسلامية مدارس الخالصي وقومية
الجامعة الأمريكية في بيروت، هو نزعته التربوية التي تلقنها على يد أبرز
التربويين، جون ديوي في جامعة كولومبيا، فمارس التعليم في البداية قبل
الانتقال لعالم السياسية الأمر الذي ترك بصماته على مواقفه وتصريحاته، فطالما
اختلط المربي بالسياسي، فكتب يقول تحت عنوان دور التربية والتعليم في
تجديد بناء الأمة أن " العروبة أخلاق قبل كل شئ، ولكن كيف حال أخلاق
العرب اليوم؟ لننظر إليها، ألا نشاهد ضعفا في الأمانة وزيادة في الخيانة...
هل لدينا مناعة ضد التجسس وخدمة النفوذ الأجنبي أما أن هناك من يبيع
الوطن بدريهمات معدودات؟ ".
وطالما كرس جهده في تشخيص أمراض المجتمع العربي، فكان داعية
للتسامح الديني والرافض للطائفية حيث قال: " وليس أدل على أن الطائفية
ليست من الدين من قوله تعالى في القرآن الكريم: (إن الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعا لست منهم في شئ)، و " من المؤسف أن بعض البلاد العربية
مني بحياة سياسية مؤسسة على أسس طائفية فيجب أن ينشأ الجيل الجديد
تنشئة تقوم على القضاة على هذه الأحوال وأن يعرف جيدا بأن الفرص
المتساوية والأخوة القومية والشعور الإنساني العام هي جوهر الدين وليست
الطائفية من الدين في شئ ".
أما على الصعيد العراقي فقد لخص الجمالي رؤيته في كتاب نشر في
بيروت عام 1969 تحت عنوان " رسالة مفتوحة إلى الشعب العراقي الكريم "
تبقى إلى اليوم مرجعا علميا في تشخيص علل العراق وسبل خلاصه انطلاقا
من ضرورة الوحدة الوطنية القائمة على الانتماء والولاء العراق أولا.
سألت الجمالي مرة، لماذا لم تفكر في إنشاء حزب سياسي عراقي إبان
العهد الملكي، فكان جوابه صريحا إلى حد المرارة: لو كان هناك عشرة
أشخاص مستعدين للتعاون المتكافئ لشكلت الحزب.
لم يزر الجمالي العراق منذ غادره عام 1961 بعد قضاء ثلاث سنوات في
السجن ليستقر ضيفا على تونس التي أولته كل الرعاية وأصبح أحد الأعلام
الثقافية هناك وسمي أحد شوارع العاصمة باسمه.
وهكذا وجد العرفان من هذا البلد الكريم في وقت بخل عليه العراق
والعراقيون بما هو حق له (انتهى).
وكتب عنه فؤاد التكرلي ما يلي:
التقيته لقاء عابرا قبل أسبوعين من وفاته، في معرض تونس الدولي
للكتاب الخامس عشر. كنت واقفا مع صحب في الجناح العراقي حين رأيته
يسير بتثاقل في الممر متجها نحونا، يستعين بعصاه وبصديق يسنده برفق. كان
مستبشرا، في بدلة بيضاء، يرد على محييه بابتسامته المميزة وبهزات من رأسه
الأشيب. رحبنا به وبدا عليه انجذاب غريب نحو الكتب المسجاة أمامه على
الطاولة، فانحنى متشبثا بعصاه وقرب عينيه من الصفحات، محاولا أن يتبين
جيدا عناوينها. كان ذلك منظرا فريدا من إنسان يحمل أعباء زمن ثقيل، ولا
تفارقه روح المحبة للقراءة والاطلاع.
طرق اسمه سمعي أول مرة في أوائل الأربعينات من هذا القرن، حين
كنت، في بداية فترة المراهقة، اهتم بالأدب فقيل لي إن رواية ذنون أيوب
(الدكتور إبراهيم) مستوحاة من شخصية موظف كبير في وزارة المعارف يدعى
الدكتور محمد فاضل الجمالي، تسبب في إزعاج المؤلف حين نقله من بغداد إلى
مدينة أخرى، ففقد ذلك العمل الأدبي الكثير من قيمته في نظري لاعتقادي
آنذاك أنه كان مسخرا لخدمة عرض شخصي لا علاقة له بالآخرين.
ثم كان أن جمعتنا صدفة عجيبة في سنة 1947 ففي نسيان (إبريل) من
تلك السنة أقيم احتفال الكليات الرياضي بحضور رجالات الحكم، وكنت
مشتركا فيه عن كلية الحقوق، وحدث أن فزت بجائزة القفز العالي، فالتقطت
لنا الصور ونحن نتسلم الميداليات من يد الوصي عبد الإله، وحينما رأيت
الصورة التي أظهر فيها مصافحا الوصي وجدت أن الواقف بجانبه كان وزيرا

130
المعارف آنذاك محمد فاضل الجمالي. لا تزال الصورة بحوزتي، إذ لم أفز
بميدالية أخرى بعد ذلك، وكان علي أن أحتفظ بهذه الصورة حفظا لماء الوجه
الرياضي! غير أني لم أكن فخورا بها مع ذلك، فقد كنا، شباب الخمسينات،
متمردين وحانقين، لا ندري، في الحقيقة، لمن نوجه ثار غضبنا إن لم يكن لمثل
هؤلاء!
في سنة 1953 ظهر العدد الثاني من مجلة (الثقافة الجديدة) فصودر بعد
توزيعه في السوق بساعات وجمعت أعداده. كنت قد نشرت فيه أقصوصة
(الآخرون)، وقيل بعد أيام، إن رئيس الوزراء محمد فاضل الجمالي سيواجه
مجلس النواب العراقي ويشرح لأعضائه سبب إصدار القرار بمنع هذه المجلة!
وقام، فعلا، بهذا العمل ووقف أمام أعضاء المجلس وأخذ يقرأ لهم من مجلة
(الثقافة الجديدة) - ذات الغلاف الأخضر كما أتذكر جيدا - مقتطفات من مقال
للدكتور إبراهيم كبه، ويبين لهم نواحي الفلسفة الماركسية التي يستند إليها
المقال المذكور. كان رئيس الوزراء آنذاك معروفا لنا بأنه يمثل التيار السياسي
الجديد المؤيد لأمريكا، الذي كان منافسا للتيار الإنكليزي القديم الذي يقف
نوري السعيد على رأسه. ولعل هذه المبادرة من رئيس الوزراء كانت لإظهار
المستوى الرفيع الذي يريد أن يبدو به في ممارسته للديمقراطية.
خطر لي وأنا أقرأ في الصحف تفاصيل هذه التمثيلية، بأن من الأكيد أن
رئيس الوزراء لن يهتم بقراءة أقصوصتي وتحليلها وفهم أبعاد ما تعبر عنه، فقد
كانوا جميعا، غير مكترثين بالمجرى الخطير المرعب الذي كان يسري بصمت
تحت أقدامهم والذي كان الأدب وحده يشير إليه ويرصد مسراه.
وكان الشيخ إذن، ذو السنوات الأربع والتسعين، منحنيا على عناوين
الكتب، يريد، معاندا بصره الضعيف، أن يتبين فحواها وأسماء مؤلفيها. لم
تكن الحياة رفيقة بهذا الإنسان دائما، ففي سنة 1958 أنزله الثوار من عليائه
وسجنوه، وعومل بقسوة وأهين علنا ثم أنهوا، بغوغائية لا مثيل لها، محاكمته
بالحكم عليه بالإعدام مرات وبالسجن مئات السنين. كانوا مصرين بشكل
مشبوه، على جعل أنفسهم وبلدهم المسكين، أضحوكة للعالم.
لم ينالوا من الجمالي مع ذلك، وعفي عنه فسافر ولقي الترحاب في بلده
الثاني الأمين... تونس. وكم كانت دهشتي كبيرة، قبل ست سنوات، حين
قرأت لهذا الرجل المسن مقالا ملتهبا يدين فيه الأمم المتحدة ومن ورائها أميركا
لما أصدرته من قرارات لا شرعية بحق العراق والعراقيين. كنت مندهشا
بسبب أن ذلك المقال لا يمثل ولا يعبر عن توجهاته السابقة حين كان مشاركا
في الحكم في الخمسينات، وتبادر إلى ذهني أنه قد يكون مجاملا لبعض
الجهات السياسية، إلا أن استمراره، وإصراره على الكتابة وعلى إدانة الولايات
المتحدة بنفس النسق الأول يجعل من المتعذر تصديق هذا الرأي.
الرجل، إذن، كان مخلصا وصادقا في غضبه وفي تعريته للقرارات
القاسية واللا إنسانية التي طاولت شعبا عريقا ذا حضارات متعددة قدمت
الكثير من أجل رفعة البشر وحفظ كرامتهم، ولعل هذا الشيخ الذي جاوز
التسعين وهو يجهد نظره منحنيا علي الكتب المطبوعة في العراق، كان يبحث
عن دليل آخر يضيفه إلى الأدلة الكثيرة المتجمعة لديه، ليثبت أن شعب العراق
شعب مبدع، صلد، وأن من الواجب الوقوف إلى جانبه على الدوام والإعلان
عن حقيقته الرائعة على الملأ ". (انتهى).
وكتب عنه فائق الشيخ علي ما يلي:
في 1903 حين ولد محمد فاضل الجمالي، في مدينة الكاظمية قرب
بغداد، كان العثمانيون يشيعون سياسة " التتريك والتجهيل " معا في العراق،
فشهدت الكاظمية حركة تزعمها الشيخ مهدي الخالصي، ودعا إلى التنوير.
وساهم في قيادة ثورة العشرين، وحث الناس على التنبه واليقظة لما يحيط بهم
من مخاطر، مستخدما منبره العلمي في " مدرسة الإمام الخالصي " في
الكاظمية، والتي درس فيها الجمالي، للترويج لأفكاره ودعواته. وعندما
قررت الحكومة العراقية عام 1922 إرسال أول بعثة من الطلبة العراقيين
للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت كان فاضل الجمالي أحد أفرادها.
وفي بيروت وجد الطلبة العراقيون أنفسهم بحاجة إلى تأسيس جمعية عراقية
تجمعهم وتلم شملهم في إطار الأخوة العراقية والرابطة الوطنية يعولون عليها
أمر تنوير الناس وتنبيه الأمة إلى أهمية النهضة العلمية والأدبية الحديثة
باعتبارهم النخبة المثقفة والفئة المتنورة في المجتمع العراقي.
ولما توسموا في الجمالي أخلاقه العالية وتنوع ثقافته وسعة اطلاعه، فضلا
عن بروز ملامح القيادة المبكرة لديه، أو عزوا إليه في 22 / 10 / 1924 ترؤس
الاجتماع لانتخاب الهيئة الإدارية الأولى لسنة 1924. وفي يوم الجمعة في 5
حزيران (يونيو) 1925 عقدت الجمعية العراقية اجتماعها الأخير لتلك السنة
وانتخب الجمالي رئيسا لها، بحسب تأريخ أحمد سوسة. أما أعضاء الجمعية
فلعبوا أدوارا سياسية وثقافية وغيرها في العراق عند عودتهم إليه بعد تخرجهم
في الجامعة الأميركية في بيروت، وتبوأوا مراكز قيادية في الدولة العراقية، إذ
يكفي أن الجمالي نفسه شكل حكومتين في العهد الملكي ورأس البرلمان مرتين
أيضا وتولى حقيبة الخارجية ثماني مرات، ما يعني أن أعضاء الجمعية حققوا
الأهداف التي من أجلها أسسوا جمعيتهم.
لقد شكل الجمالي وزارته الأولى بعد استقالة وزارة جميل المدفعي السابعة
وليس خلفا لنوري السعيد كما زعم توفيق السويدي في كتابه. واستمرت من
17 أيلول (سبتمبر) 1953 إلى 8 آذار (مارس) 1954. ووزارته الثانية كانت
من 8 آذار 1954 إلى 19 نيسان (إبريل) 1954. وقد توجه إلى إصلاح
الأوضاع الداخلية ولم يكن بحاجة إلى الشهرة لأن العالم والعراقيين عرفوه منذ
كان يقف خطيبا مفوها في المحافل الدولية يساند الدول الفقيرة ويدافع عن
مصالح العراق. وإذا ظل خصومه ينظرون إليه بوصفه ربط العراق بأحلاف
ومواثيق دولية " استعمارية "، فإن الدراسة الموضوعية لتلك الأحداث تبدد
الكثير من الأوهام وتكشف الكثير من الأكاذيب، كما ذكر لي الجمالي قبل
وفاته ببضعة أشهر.
وفي عهد قاد ثورة بيضاء ضد التخلف والمرض والفقر، أعداء الشعوب
الثلاثة، وانطلق مجلس الإعمار بمشاريعه وخططه الإصلاحية في البناء
والإعمار، وحمل على المحسوبية والمنسوبية وضخ دماء جديدة من الوزراء
الشباب في الحكومة العراقية لا يزال ثلاثة منهم على قيد الحياة ويقيمون في
لندن (عبد الكريم الأزري، عبد الغني الدلي، عبد الأمير علاوي)، وأزال
مظاهر العسف والتسلط في الدولة العراقية، وألغى الأحكام العرفية التي
كانت تطبق في البلاد منذ عهد وزارة نور الدين محمد في 23 تشرين الثاني
(نوفمبر) 1952، وسمح للأحزاب بمعاودة نشاطاتها السياسية، وأفسح في
المجال أمام الإعلام وحرية الصحافة. وبالرغم من كل تلك الإنجازات وقصر
عمر الحكومة، لم تتعرض وزارة في حياة الدولة العراقية وقتذاك إلى نكبات
وهزات كالتي تعرضت لها وزارة الجمالي، ففي عهدها اجتاح العراق أخطر
فيضان عرفه تاريخ الحديث. حيث هدد سكان بغداد بالرعب الحقيقي، دافعا
بحكومة الجمالي الثانية إلى السعي جديا لإنشاء السدود وفتح القنوات.
ولم ينتم الدكتور الجمالي في حياته إلى أي حزب سياسي ولم يسع إلى
تأسيس أي حزب، في وقت كان العراق يضج بمختلف الأحزاب السياسية
والاتجاهات المتعاكسة. كما أن ظروف ومتطلبات العمل السياسي كانت تملي
على المسؤولين التحزب أو التحالف مع هذه الجهة أو تلك - في أقل تقدير -

131
لخلق حال من التوازن بين القوى السياسية المتصارعة ومراكز النفوذ، لكنه
الوحيد الذي بقي مستقلا معتمدا على نفسه وثقله في الدولة ومكانته لدى
الملك. وكانت نظريته - حتى وفاته - بأنه من الصعوبة بمكان أن يجتمع عشرة
عراقيين تحت سقف واحد ويظلون مخلصين لما اتفقوا عليه، لا تضعفهم
النكبات ولا تشتتهم الأحداث. وأحسب أنه كان صادقا محقا في تشخيصه
هذا الداء الذي ما زال مستشريا في صفوف العراقيين إلى اليوم. ولم يكن
الجمالي بحاجة إلى خبرة ثلاثة أرباع القرن العشرين من العمل السياسي
ليتوصل إلى تلك النتيجة. ولم يكن بوسعي أن أفهم خلفية هذه المبدئية ونظرته
المتشائمة إلى الأحزاب والمتحزبين لولا أنني عدت إلى ما كتبه أحمد سوسة من
مذكرات، فوجدت أن الجمالي اتخذ موقفه المتزمت ذاك منذ كان طالبا في
بيروت وهو ابن العشرين، ناهيك عن تجاربه السابقة التي استقرأها من ثورة
العشرين وما صاحبها من خيانات ووشايات ثم المعارضة الشديدة التي كان
يواجه بها رجال الدين المصلحون من قبل المتخلفين والتقليديين والمتزمتين.
يذكر صديقه سوسة بأنه استلم رسالة بعثها الجمالي من بيروت إلى الولايات
المتحدة يخبره فيها بأن حالة من الانقسام بدأت تدب في أوساط الطلبة
العراقيين في بيروت. وبالرغم من تطمينات سوسة للجمالي بأنه لا يزال هناك
" بارق أمل في أخلاق الكثير من الإخوان وصدق معظمهم "، فإن الجمالي
يزداد تمسكا برأيه على " أننا قد اتفقنا على أن لا نتفق، وقد اتحدنا على أن لا
نتحد "!
بديهي أن سيرة الجمالي السياسية قد لا تكون السيرة المثلى لدى خصومه
ومعارضيه أو حتى لدى أولئك لم يدرسوه، ولكن عصاميته وتاريخه
النضالي يفتقر إليهما كثيرون. وهو فضلا عن كونه مربيا، كان شاعرا مرهف
الأحاسيس والعواطف حز في نفسه أن يرى من كان يربيهم ويخدمهم
يجرجروه إلى محاكم ثورية تحكم عليه بالإعدام والسجون المؤبدة والغرامات
الثقيلة. بينما كان الشعب يصفق مؤيدا تلك الأحكام! ورجال العهد الملكي
يسحلون في الشوارع وتعلق جثثهم على الأعمدة والبنايات.
لقد ظل لآخر لحظة من حياته يسائل من يلتقيه من العراقيين، لماذا ثرتم
علينا؟ ماذا فعلنا بكم؟ ألم نعمل من أجلكم؟ ولم يجبه أحد لا سيما وهو يقارن
بين " العهد المباد " وعهد " القائد الضرورة " حتى مات في الرابع والعشرين من
شهر أيار (مايو) الماضي عن عمر ناهز الرابعة والتسعين، بعد 39 عاما من
الحكم عليه بالإعدام! (انتهى).
التهم التي وجهت إلى الجمالي
تخلص التهم التي وجهت إلى الدكتور فاضل الجمالي كما جاءت على
لسان المدعي العام كما يلي:
1 - أنه عمل على التدخل في شؤون سوريا الداخلية وتآمر على كيانها
وسلامتها.
2 - أنه عمل على إدخال العراق في حلف بغداد.
3 - تعرض بالتجريح لشخص جمال عبد الناصر في مجلس الأمن وفي
جريدته العمل.
4 - صرف أموالا حكومية على التدخل في شؤون لبنان وسورية.
الجمالي يفند الافتراءات عليه
أوجز الدكتور غسان عطية حياة الجمالي الحافلة بأشرف المواقف في
الدفاع عن الشعوب العربية في المحافل الدولية لا سيما شعوب شمال أفريقيا.
وقد بلغ في ذلك أقصى ما يبلغه مخلص لأمته العربية. فكان مما فعله عندما
ذهب وفد تونسي شعبي لعرض ظلامة تونس في نيويورك مقر الأمم المتحدة،
وعجز هذا الوفد عن إسماع صوته في اجتماعات الهيئة العامة للأمم المتحدة
لأن لا صفة رسمية له تخوله الاشتراك في الاجتماعات. وكان صوت فاضل
الجمالي مندوب العراق الذي تولى عرض القضية التونسية، لم يكن صوتا
تونسيا ليكون له الأثر المطلوب، فعمد فاضل الجمالي إلى تعيين الموفد التونسي
سكرتيرا للوفد العراقي، وبذلك صار له الحق في حضور اجتماعات هيئة
الأمم المتحدد والتكلم فيها، وبذلك ارتفع صوت تونس عاليا على منبر الأمم
المتحدة.
وقد أغضب هذا التصرف مندوب فرنسا فصب نقمته على الجمالي،
ولكنه لم يستطع أن يبطل تصرفه.
وكما وقف إلى جانب الشعب التونسي الوقفات الجبارة، كذلك وقف
هذه المواقف إلى جانب الشعب المغربي الذي كانت بلاده تعرف يومذاك باسم
(مراكش).
وكان قبل ذلك قد وقف إلى جانب الشعب الليبي عند عرض قضيته.
ولما حلت المحنة بالجمالي وسيق إلى محكمة السفيه فاضل عباس المهداوي
ولقي ما لقي وحكم عليه بالإعدام، وفى له الأفارقة وعملوا على إيقاف تنفيذ
الحكم، فلم يكن بإمكان عبد الكريم قاسم إلا الاستجابة.
فأطلق سراحه، وتبين أن هذا الذي تولى رئاسة الوزارة مرتين ورئاسة
البرلمان مرتين، وتولى وزارة الخارجية مرات ومرات، فضلا عن توليه مديرية
التربية والتعليم ومديرية الخارجية سنين وسنين. - تبين أنه لا يملك شيئا من
حطام الدنيا يؤمن له ولأسرته ضرورات العيش. فهبت تونس تدعوه إليها
وعهدت إليه بالتدريس في جامعتها، فكان ذلك له مورد رزق حتى آخر
حياته. (انتهى).
لقد كان من نتيجة فتنة 14 تموز 1958 التي ابتدأ منها تدهور العراق أن
قبض - فيمن قبض عليهم - على فاضل الجمالي وأدخل السجن ثم سيق إلى
المحاكمة أمام محكمة فاضل عباس المهداوي. ومن مخازي تلك المحكمة أنها
كانت تحاكم الناس بتهمة مخاصمة جمال عبد الناصر، وكانت هي إحدى التهم
التي وجهت إلى فاضل الجمالي. فقد جاء في اتهام من سموه المدعي العام
لفاضل الجمالي هذا النص في الثناء على جمال عبد الناصر: " ووقف جمال عبد
الناصر يقرع آذان الإنكليز والأمريكان ويقول بصوت دوى في كل أرجاء
العالم إننا نعارض الأحلاف الأجنبية ".
كما جاء فيه: " بلغت الجرأة بالمتهم أنه هاجم القومية العربية بشخص
سيادة الرئيس جمال عبد الناصر " وجاء فيه عن ما كتبه الجمالي: " وكانت كلها
مكرسة للطعن في الجمهورية العربية المتحدة والنيل من سيادة رئيسها ".
وجاء فيه: " كما تعرض المتهم بالتجريح بشخص سيادة الرئيس
جمال عبد الناصر ".
وجاء فيه مخاطبا الجمالي: " لقد دعاكم الرئيس جمال إلى الحياة فلم
تستجيبوا تلك الدعوة ". وبسبب هذه التهمة طلب المدعي العام الحكم
على الجمالي بهذا النص: " كل ذلك ما ينطبق على أحكام الفقرة (ب) من المادة
الأولى من القانون الرقم (7) لسنة 958 وعليه أطالب بتجريمه بمقتضاها
والحكم عليه بمقتضى المادة الرابعة من القانون المذكور "
وفي خلال المحاكمة سأل المدعي العام أحد الشهود مستدرجا إياه للإقرار
بفظاعة مخاصمة جمال عبد الناصر - سأله هذا السؤال: " رأي الشاهد كمسؤول
في الحكم السابق بتهجم الجمالي على الجمهورية العربية وعلى شخص رئيسها

132
جمال عبد الناصر ".
وعندما رد الشاهد قائلا: " مصر والعراق كانوا أحدهما يشتم الآخر ".
تدخل رئيس المحكمة قائلا: " هل كان شتم جمال عبد الناصر من قبل
الجمالي في صالح العراق؟ "
فأنكر الشاهد أن يكون الجمالي شتم جمال عبد الناصر وقال: " أين شتم
عبد الناصر؟ "
فقال الرئيس: تهجمه أيضا لا تعرفه؟!
فرد الشاهد: أين تهجم ومتى؟
وظل هاجس اتهام الجمالي بمخاصمة جمال الناصر واتخاذ ذلك أحد
أسباب الحكم عليه - ظل هذا الهاجس يلازم محكمة المهداوي لدى استجوابها
كل شاهد.
فعند استجوابها لشاهد آخر سأله الرئيس مريدا توريطه بإجابة تدين
الجمالي: " هل كان الجمالي يؤيد فكرة التفاهم مع مصر؟ "
فحاول الشاهد التخلص من الإجابة، فقال: " قبلا كان الجمالي يرغب في
الوصول إلى شئ من التفاهم مع مصر. ولكن في المدة الأخيرة اتصالاتي
الشخصية معه كانت قليلة فلا أعرف عنه شيئا ".
وحاولت المحكمة استدراج شاهد آخر فسألته: سمعتم خطاباته أو
قرأتموها في الجرائد حول التهجم على مصر ورئيسها ما هو رأيكم فيها؟
وهكذا بينما كانت محكمة المهداوي تتخذ من مخاصمة جمال عبد الناصر
جريمة تحاكم الناس عليها، وبينما كان مدعيها العام يهاجم من يتهمهم بهذه
المخاصمة ويعتبرها خيانة ويطلب الحكم على أصحابها بأقصى العقوبات.
وبينما يتهم رئيس المحكمة، الجمالي بأنه شتم جمال عبد الناصر وتهجم
عليه وأن ذلك جريمة يتهم بها الجمالي فيما يتهم به من جرائم، وفيما يحاول
بعض الشهود إقصاء هذه التهمة عنه لعلمهم بخطورتها عند المحكمة.
بينما كان يجري كل ذلك، إذا بذاك المدعي العام نفسه يصرخ بعد أسابيع
في المحكمة ملقبا جمال عبد الناصر بناصر الاستعمار وينهال عليه بسيل من
الشتائم، وإذا برئيس المحكمة نفسه لا يدع مناسبة إلا ويشتم فيها جمال
عبد الناصر، وإذا بالتهمة الكبرى تنقلب على لسانه من شتيمة جمال
عبد الناصر إلى التقرب من جمال عبد الناصر وإذا بالرجال يواجهون في
المحكمة بتهمة مدح جمال عبد الناصر والثناء عليه فيطلب الحكم عليهم
بأقصى العقوبات.
وبعد أن كان المتهمون يحاولون التنصل من تهمة مجافاة جمال عبد الناصر
لأنها عند محكمة المهداوي خيانة وليست في صالح العراق، إذا بالمتهمين الآن
يحاولون التنصل عن موالاة جمال عبد الناصر ويزعمون لأنفسهم مجافاته ليكون
لهم ذلك زلفى عند المحكمة!.
وبعد أن كان يتعالى من منبر المدعي العام تمجيد جمال عبد الناصر، صار
يتعالى منه تقبيح جمال عبد الناصر وإسباغ الخيانة ومناصرة الاستعمار عليه!..
وصار من بعض أقوال المهداوي عن جمال عبد الناصر: " الزعيم الدعي
والفرعون الصغير والهتلر الحقير والدكتاتور الفاشي ".
هكذا كان يساس العراق ابتداء من 14 تموز سنة 1958، من عهد عبد
الكريم قاسم وصولا إلى عهد صدام حسين الذي بلغ فيه العراق أقصى
درجات الانحدار نحو الهاوية...
على أنه لا بد لنا هنا من أن نشير إلى أن مثل هذه المواقف هي التي تظهر
حقائق الرجال، وتميز معادن نفوسهم، ففي الشهود التي استدعتهم المحكمة
ليشهدوا على الجمالي اختارت شهودا معينيين راعت في اختيارهم ما اعتقدت
أنه يساعدها على إلصاق ما تعتبره تهما إلى فاضل الجمالي، فمن بين موظف
مطرود من وزارة الخارجية، إلى زميل للجمالي في الجامعة كان الحسد يتأكل
قلبه من تقدم زميله الجمالي في معارج النجاح حتى كان رئيسا للبرلمان ورئيسا
للوزراء، فضلا عن تعالي صوته بين كبار الرجال في الميادين السياسية العالمية.
وبين سياسي كان اجتهاده في توجه السياسة العربية يختلف عن اجتهاد
الجمالي، فكانا في المجال السياسي العراقي متعارضين.
وبين سياسيين كانوا رفقاء للجمالي في فترات من الحكم، ثم سيقوا مثله
مسجونين إلى محكمة المهداوي، لعل هؤلاء يبرؤون أنفسهم باتهام الجمالي.
وهنا تفاضلت أخلاق الرجال، وتمايز الشرفاء الشامخون عن الأنذال
الوضيعين.
فعبد الفتاح إبراهيم الذي كان زميلا للجمالي أيام الدراسة في الجامعة
الأمريكية في بيروت، ثم في جامعة كولومبيا، ثم عجز بعد ذلك عن أن
يكون شيئا مذكورا في الحياة العامة، ثم جاء القدر الأعمى فوضع فاضل
الجمالي بين يدي رجل مثل فاضل عباس المهداوي ليحاكمه، ووضع
عبد الفتاح إبراهيم في موقع الشاهد على فاضل الجمالي، فإذا بعبد الفتاح
إبراهيم ينقلب نذلا لا يرى إلا التشفي بهذا الذي فاقه مكانة ورفعة وتركه في
مؤخرة الركب الاجتماعي. فإذا به يقول فيما يقول في شهادته عن الجمالي:
" هذا الشخص التافه الذي يقف أمامكم ".
وأمثال هذا الكلام الطافح بالبذاءة...
ثم يحسب أن الجمالي وهو في محنته لا يستطيع أن يتذكر وأن يجمع أفكاره
لرد الأكاذيب، فقال يصف الجمالي وهو في الجامعة الأمريكية: " كان منعزلا
عن الشباب العراقيين باعتبار أنه كان عندنا نادي (النادي والجمعية العراقية)،
والمتهم لم يكن له شأن فيها ".
ولكن الجمالي الذي كان نبيها متفتح الذهن طيلة حياته، لم تضعف المحنة
هذه الصفات فيه، فعندما سألته المحكمة عما يقول في أقوال الشاهد، رد
عليها قائلا: " الشاهد المحترم ذكر أني لم أكن منتميا إلى الجمعية العراقية، هل
نسي أني كنت رئيس الجمعية في إحدى السنوات؟ هل يتذكر أني كنت رئيسها
أم لا؟ هل نسي أني كنت رئيس جمعية العروة الوثقى، الجمعية التي تجمع
الطلبة العرب في الجامعة على أساس قومي، هل يعرف ذلك أم لا؟ "
وهنا كان الخزي يغطي الشاهد النذل...
وفي المقابل: كانت الاتجاهات السياسية للشيخ محمد رضا الشبيبي
تتعارض مع الاتجاهات السياسية لفاضل الجمالي، فكانا في مجال السياسة
العراقية يعتبران خصمين متنافرين.
وعندما دعي الشبيبي ليشهد على الجمالي رفض أن يدينه، وقال ما
مضمونه: إن كل ما في الأمر أنه كان لنا في التوجه السياسي اجتهادنا، وكان
للجمالي ومن يرى رأيه اجتهادهم، وكل من الفريقين لا يبغي إلا مصلحة
العراق، وإن اختلف الطريقان والأسلوبان.
وقبل أن ننشر تلخيصا لدفاع الجمالي ننشر رأيا لأحد من يعتبرون من
الممهدين لما أسموه (ثورة 14 تموز) في أمور تلك الثورة - النكبة، وهو أحمد
الحبوبي الذي قال فيما قال:
وعلى حد علمي حصل مقتل الملك بتصرف فردي فلا يوجد قرار بقتل
فيصل الثاني. أما لجنة ضباط الثورة فناقشت مصير الملك، وطرح رأي
بالتصفية الجسدية اعترض عليه واستبعد تماما واتفق على أن يرحل مع أفراد
عائلته إلى خارج العراق كما فعلت ثورة يوليو المصرية مع الملك فاروق.

133
والذي حصل ان أحد الضباط انفعل ولم يسيطر على أعصابه ففتح نيران
رشاشته على الملك وأفراد عائلته بشكل مباغت وأرداهم قتلى أمام ذهول
الحاضرين من الضباط، بعد أن أبدى الملك وخاله عبد الإله الاستعداد لمغادرة
العراق... وقد عاش هذا الضابط في كابوس متصل نغص عليه حياته، ثم
أصيب بالصرع وأنهى حياته منتحرا. ثم أن الشعب العراقي قد حزن على
مصرع الملك الشاب فعلا.
أما أنا فكنت كمحام أزاول المهنة في مدينة النجف، وكنت مسؤول فرع
حزب الاستقلال فيها ومقرر فرع قيادة الجبهة الوطنية وعضو ارتباط مع قيادة
الجبهة في بغداد. وجبهة الاتحاد الوطني (الجبهة الوطنية) التي ضمت
الأحزاب السياسية العراقية العلنية والتي كانت تشكلت عام 1957، بعد أن
خاضت نضالا مشتركا ضد (حكومة نوري السعيد) إبان العدوان الثلاثي على
مصر في 1956.
وكنت قبيل الثورة في بغداد وكانت الأجواء السياسية ملبدة وغير
طبيعية، وتنذر بحدوث شئ ما. فالإشاعات كثيرة، فطلب مني سرعة
العودة إلى النجف.
وفي اليوم الثاني لقيام الثورة سافرت إلى بغداد وفي وزارة الدفاع التقيت
بمحمد صديق شنشل وزير الإرشاد في حكومة الثورة وممثل حزب
الاستقلال، كما التقيت عسكريين ومدنيين كانت تعج بهم وزارة الدفاع.
وكان الجميع وعلى رأسهم عبد الكريم قاسم في حالة ارتباك وقلق
واضحين وذلك لهرب نوري السعيد (رئيس الوزراء) وما يمثل هروبه من
مخاطر تهدد الثورة. كما كانت أخبار الحريق الهائل الذي شب في مصافي
النفط في بغداد من جراء عمل تخريبي، تصل إلى المجتمعين في وزارة الدفاع
فتزيد من حرارة الموقف واضطراب الأعصاب. عدت إلى النجف مزودا
بالتوجيهات العامة مع حرية التصرف بعد أن عثر على نوري السعيد ولقي
نهايته المعروفة. وبالنسبة إلى ضرورة الثورة يختلف الجواب باختلاف وجهات
النظر حول تقييم المشاكل التي يجأر بها العراقيون يومئذ.
والوضع في العراق اختلف عنه في مصر ففي مصر وجد تنظيم واحد
للضباط تولى القيادة وبناء الخلايا في مختلف الصفوف، أما في العراق فكان
أكثر من تنظيم للضباط يعمل في وقت واحد، ولضمان جدية العمل ارتؤي
أن تتوحد التنظيمات في قيادة واحدة بعد أن خرج من خرج وجمد نشاطه من
جمد، لذا نجد أسماء تدخل ضمن القيادة (اللجنة العليا للضباط الأحرار)
وأسماء تخرج منها كما جاء في الكتب التي ألفها بعض أعضاء القيادة.
وكذلك اختلف العدد، يزيد هنا وينقص هناك لنفس السبب، وقد يكون
للأمزجة دخل.
وقد حرصت اللجنة العليا للضباط على عدم كتابة محاضر لجلساتها أو ترك
أوراق خوفا من انكشاف أمرها، ولكن من خلال ما كتب بعضهم أو سمعته
من البعض الآخر، عرفت أنهم اتفقوا على مبادئ أساسية وأهداف رئيسية
تبحث في طبيعة النظام وشكل الحكم بعد الثورة، وذلك بالعودة إلى الشعب
العراقي (بعد فترة انتقال) فتتشكل الأحزاب الوطنية بصحافتها الحرة وتجري
الانتخابات للبرلمان ويسلم الحكم إلى الشعب (الحكم مدني)، حتى أن بعضهم
قال أنهم اتفقوا (كأعضاء لجنة عليا) على عدم قبول أي منصب بعد نجاح
الثورة. وأن تترك كل الأمور للشعب العراقي ولقواه وأحزابه الوطنية.
ولكنهم اتفقوا على قيام مجلس لقيادة الثورة (يضم أعضاء اللجنة العليا) جريا
على خطى ثورة يوليو المصرية. هذا من حيث الكلام. أما من حيث الواقع
والتطبيق فقد كان على النقيض تماما.
أما بالنسبة إلى الخلاف بين رجالات الثورة والذي سريعا ما دب،
فالمسؤولية عنه، في المحصلة النهائية، يتحملها الجميع، كما طالت تبعاته
الجميع أيضا، ولكن تظل الأنصبة تختلف كل حسب حجم دوره وإسهامه.
وقد اعتقد أعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار أن عبد الكريم قاسم
وعبد السلام عارف قد سرقا ثورة 14 تموز، ذلك أنهما لم يبلغا بقية الأعضاء
بساعة الصفر ووزعا خطة الثورة والأوامر والتعليمات على جماعتهما فقط
وحجبا الخبر عن بقية التنظيم، وكانت النتيجة أنهما اقتسما المناصب الأساسية
بعد نجاح الثورة: عبد الكريم قاسم رئيسا للوزراء، عبد السلام عارف نائبا
لرئيس الوزراء، عبد الكريم قاسم قائدا عاما للقوات المسلحة، عبد السلام
عارف نائبا للقائد العام للقوات المسلحة، عبد الكريم قاسم وزيرا للدفاع،
وعبد السلام عارف وزيرا للداخلية بل إنهما اتفقا على عدم قيام مجلس قيادة
الثورة كما كان مقررا من قبل اللجنة العليا للضباط. وامتصاصا لسخط
زملائهما من أعضاء اللجنة العليا عهدا إلى إسناد مناصب لبعضهم، فعين
العميد الركن ناجي طالب (عضو اللجنة العليا) وزيرا للشؤون الاجتماعية،
وعين العميد الركن (عضو اللجنة العليا) محي الدين عبد الحميد وزيرا
للمعارف، وعين العقيد الركن (عضو اللجنة العليا) عبد الوهاب الأمين
ملحقا عسكريا في القاهرة، وعين العقيد المتقاعد رجب عبد المجيد (عضو
اللجنة العليا) مديرا عاما في وزارة الإعمار، وعين العقيد المتقاعد رفعت
الحاج سري مديرا للاستخبارات العسكرية، كما عين بقية الأعضاء في
مناصب عسكرية ثانوية، فيما أشركت الجبهة الوطنية في الحكم من خلال
ممثليها كوزراء.
وأصبح لمجلس الوزراء الذي يرأسه قاسم ونائبه عارف، في ظل عدم
قيام مجلس قيادة الثورة، سلطات واسعة إذ بيده السلطتان التنفيذية
والتشريعية، ولم يكن لمجلس السيادة المتشكل من ثلاثة أعضاء صلاحيات
وكانت اختصاصاته شرفية وبروتوكولية.
والحقيقة أن الذي سهل على الحزب الشيوعي مهمته في التفرد وشجعه
على السير في خطته التي اختطها، التصرفات غير المحسوبة التي كانت تصدر
عن عبد السلام عارف. فالخطب التي كان يرتجلها أثناء تجواله في المدن
والمحافظات أثارت الكثير من البلبلة. فرغم أنه لم يخف أفكاره ومعتقداته
الوحدوية وكان يكثر من ذكر اسم جمال عبد الناصر في خطبه ويسميه " أخونا
الأكبر "، كان يأخذه الحماس فيتفوه بعبارات تثير الضحك والسخرية مثل
" جمهوريتكم هذه الهية، سماوية، خاكية "، أو " لا قصور ولا سيارات " أو
" طاسة طاسة وبالبحر غطاسة " كما جاء في خطبته في البصرة. وتعرضت
خطبه لمقاطعات وهتافات معادية كما حصل أثناء خطبته في الحلة، فقوطع
خطابه وحصل اشتباك بين المحتشدين وكذا في أماكن أخرى وكأنها أمور
مدبرة، كما كانت تصرفات عبد السلام بعيدة عن اللياقة أحيانا أو أنها تجافي
الذوق السليم فأمدت المتقولين بمادة دسمة لتشويه صورته وتكذيب ادعاءاته
وإضعاف مركزه كما حصل في الاحتفال الذي أقامته له الجبهة الوطنية في
النجف.
كما سهل على الحزب الشيوعي مهمته أيضا أن جريدة " الجمهورية " التي
صدرت بعد الثورة، وكان امتيازها باسم عبد السلام عارف، أخذت تبرز
خطبه وكلماته وتنشر صوره بأحجام كبيرة فكانت هي الأخرى مادة حملها
السعاة والرسل والناشطون الذين عرفوا طريقهم إلى أذن عبد الكريم قاسم
الذي أصاغ السمع جيدا. وكان من مصلحة الكثيرين إزاحة عارف وما يمثله
من تيار ليخلو الطريق لسالك جديد.
وهكذا أقيل من منصبه العسكري فصدر في 12 / 9 / 1958 قرار بإقالته
من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة. وبهذه الإزاحة سجل حاملوا

134
شعار " اتحاد فيدرالي، صداقة سوفياتية "، انتصارا كبيرا على حاملي شعار
" وحدة وحدة عربية، لا شرقية ولا غربية "، ولإظهار القوة والسيطرة على
الشارع السياسي حرصوا على ألا يرتفع صوت يشوش الأفكار أو يلفت
الأنظار إلى الإرهاب الفكري الذي أخذ يمارس ضد قطاعات وتيارات يحتويها
نسيج الشعب العراقي. فقد تصدت قوى كبيرة حشدها الحزب الشيوعي يوم
12 / 9 / 1958 (يوم إقالة عارف من منصبه العسكري) لموكب ديني اعتاد
شباب حزب الاستقلال في النجف على تنظيمه سنويا بمناسبة ذكرى وفاة
الرسول الأعظم (ص) ولأن شعارات هذا الموكب مغايرة فإنها نشاز ويجب ألا
تسمع، فتصدت الجموع التي حشدها الحزب الشيوعي من جميع أنحاء العراق
لهذه المناسبة وهجمت على هذا الموكب المسالم وفرقته باستعمال الرصاص،
وسقط جرحى ثم هجمت الجماهير على مكتبي للفتك بمن فيه بحجة أنهم
قوميون مزيفون ثم لفقت لي ولمجموعة من الأساتذة والطلبة والعمال من
شهاب حزب الاستقلال تهمة حمل السلاح واستعماله في ظل الأحكام العرفية
وقانون الطوارئ، فاعتقلت مع أربعين آخرين من طلاب وعمال وأساتذة في
معسكر أبو غريب مدة تزيد على الأربعة أشهر، وكل جريمتنا أننا حاولنا
استعمال حقنا في حرية التعبير.
ثم تداعت الأحداث وتسارعت كما هو مخطط من أجل السيطرة على
الشارع السياسي فكان قطار الموت إلى الموصل وفشل ثورة الشواف في 8 / 3 /
1959 ومحكمة القصاب التي طالت حتى النساء، إلى مجزرة كركوك. وقد
لعبت محكمة المهداوي ونائبها العام ماجد محمد أمين دورا خطيرا في بلبلة
الأفكار وإشاعة الفوضى والتحريض على القتل وتصفية الخصوم " العملاء "،
فكانت عبارة عن ساحة تلقى فيها الخطب والقصائد مدحا أو ذما أو تحريفا،
ما طال حتى رؤساء دول أجنبية وعلى رأسهم جمال عبد الناصر " الطامع بنفطنا
وبلحنا ". ورغم تهيئة الأجواء ورغم طرح شعار إشراك الحزب الشيوعي في
الحكم الذي راحت تردده مسيرات شعبية كبيرة، وبعد أن تم الإجهاز على كل
التيارات المعادية وخلو الساحة منها. أخرج قاسم من جعبته لعبة جديدة ممثلة
بحزب شيوعي جديد شكله داوود الصائغ وأجازه قاسم، فكان لابد للملهاة
من نهاية بعد أداء الأدوار، وكانت المحصلة المحسوبة أو غير المحسوبة أن
تفككت عرى الجبهة الوطنية، وحصل احتراب ودماء، وصار حلفاء الأمس
أعداء اليوم، وانفرد عبد الكريم قاسم بالحكم زعيما أوحد وخابت آمال
الشعب بوليده الجديد. وبالرجوع إلى الوثائق البريطانية التي أطلقت أخيرا بعد
مرور ثلاثين عاما على تلك الفترة نقرأ من خلال الكتب المتبادلة بين السفيرين
الأميركي والبريطاني في بغداد أن السفير الأميركي كان متخوفا من تنامي قوة
المد الشيوعي في العراق وخطره على مصالحهم، وكان السفير البريطاني يطمئنه
ويدعوه إلى عدم الخوف من الشيوعيين لأن الخوف هو من انتصار التيار
القومي الموالي لعبد الناصر.
لقد كانت ثورة يمكن أن تحقق للعراق والأمة العربية الكثير من المكاسب
والانتصارات لولا تغلب عقدة البديل والشعور بالفوقية والأنا والتهوين من
شأن الخصوم وعدم فهم قراءة التاريخ والجغرافيا.
لكن هل جاءت ثورة 8 شباط (فبراير) 1963 البعثية تصحيحا لمسيرة 14
تموز؟
أبدا. هكذا قيل أول الأمر وأعلن، لكن طغى عليها طابع الانتقام من
الشيوعيين أولا ثم من القوميين ثانيا ثم انقسمت على نفسها بين يسار ويمين
وحول من الذي يجب أن تكون له الوصاية أو القوامة على الشعب العراقي.
وهنا دخل عبد السلام عارف واهتبل الفرصة واستولى على الحكم، وكأن
الرجل استرد حقه المغتصب وسمى نفسه " بطل الثورات الثلاث 14 تموز و 8
شباط و 18 تشرين الثاني ". ومع الأيام تلاشت وأمحت ملامح 14 تموز. فقد
طواها الزمن وظلت مجرد ذكرى. (انتهى).
وزارة الجمالي
وكتب أحمد مختار بابان الذي كان رئيسا للديوان الملكي في مذكراته عن
وزارة فاضل الجمالي ما يلي:
ألف الدكتور محمد فاضل الجمالي أول وزارة له، وفي الواقع كانت هي
أيضا أول وزارة تؤلف في عهد الملك فيصل الثاني إذا استثنينا وزارة جميل
المدفعي السابعة التي ألفها في السابع من أيار 1953، وهي كانت استمرارا
لوزارته السابقة التي اقتضى تبوأ الملك فيصل الثاني استقالتها بموجب
الدستور.
أتصور أن العرش كان يفضل في ذلك الوقت أن يكون رئيس الوزراء
شيعيا، وهذا أدى دوره في اختيار الدكتور الجمالي، لأن بعض الناس كانوا
ينتقدون عدم تكليف زعما ء الشيعة بتأليف الوزارات العراقية المتعاقبة إلا ما
ندر.
ولكن بغض النظر عن كل ذلك فإن العرش كان مقتنعا تماما بشخصية
الدكتور الجمالي لشخصيته لا بسبب انتمائه الطائفي، وكان الملك والأمير
كلاهما يقدرانه، ويرغبان في أن يكون هو رئيس الوزراء المقبل بعد استقالة
المدفعي. وكنت أحسن أن الأمير عبد الإله يرغب في أن يعرف الملك فيصل
الدكتور الجمالي عن قرب لأنه، أي الملك، كان لا يزال شابا، غير ملم بأمور
السياسة، وغير متدرب على مسؤوليات الحكم. إن الدكتور الجمالي كان طيب
القلب، حسن النية، مثقفا ثقافة عالية، وعالما بنفس الوقت، هذا الذي لمسته
منه بسبب علاقتي الشخصية به، وعملي معه في المسؤولية، وأنه كان يفضل
بطبعه أن يكون رئيسا للجامعة أكثر من أي منصب آخر، وأستطيع أن أقول
عنه بأنه كان ديموقراطيا أصيلا، مؤمنا، متشبعا بقيمها بسبب ثقافته،
ودراسته.
جاء الدكتور فاضل الجمالي إلى الحكم في بلد ملئ بالصعوبات،
والمشكلات، وأراد مخلصا أن يبذل كل ما في وسعه من أجل وضع حلول
عملية للأمور تلك، وبالاستناد إلى قناعاته الديموقراطية، فإنه أعطى الحرية
للصحافة مثلا، فبدأت الجرائد تكتب، وتنتقد بأسلوب تجاوز ما عهده
العراقيون من قبل، ودبت الحياة في نشاط الأحزاب بصورة واضحة، وألغيت
الرقابة على المطبوعات، وأعيدت جميع الطلاب المفصولين بسبب أحداث سنة
1952 إلى مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم، وألغت وزارته الأحكام العرفية
التي أعلنت في عهد وزارة نور الدين محمود، ولم تلغها وزارتا جميل المدفعي
مع العلم أنهما تزامنتا مع انتقال العرش إلى الملك فيصل الثاني، فكان من
المفروض إلغاءهما بهذه المناسبة.
وكان الدكتور فاضل الجمالي يتحمل الانتقادات، ويعقد بين الحين
والآخر مؤتمرات صحفية على الطريقة الأميركية، هذا الذي لم يفهمه
الكثيرون، ولم يقدروه حق قدره لأنهم لم يعهدوه من قبل، فمعظم ما قام به
الجمالي كان شيئا جديدا، وبادرة جديدة لم يألفها العراق، بل إنها لم تكن
مقبولة لدى طبقات معينة.
في رأيي كان على الدكتور فاضل الجمالي، الذي تولى الحكم لأول مرة،
أن يأخذ بالحسبان كل أوضاع السياسة الداخلية، وكذلك التقاليد والعادات
والأفكار السائدة على الأقل إلى إن يثبت مركزه في الحكم، فلا يكشف عن
كل أوراقه بالشكل الذي أدى إلى ظهور طبقة قوية معارضة له. ظهرت بوادر
المعارضة في مجلس النواب، فإن المجلس كان مجلس نوري السعيد، وكان من

135
سلامة نيات فاضل الجمالي أنه طلب الإبقاء على المجلس. لكن الأحداث لم
تبرر ثقة الجمالي، فقد أصبحت المعارضة قوية ضده داخل المجلس.
لم تختلف سياسة الجمالي الخارجية عن سياسة نوري السعيد الخارجية
مطلقا، فلم يظهر أي خلاف بين الرجلين في هذا الصدد، لكنهما اختلفا في
نظرتهما للأمور الداخلية، فكان نوري ينتمي إلى المدرسة التقليدية، إذا جاز
التعبير، أما الجمالي فكان ينتمي إلى مدرسة حديثة متنورة، وكان مقتنعا بآراء لم
تكن صالحة في رأي نوري السعيد.
أخذ الدكتور فاضل الجمالي حزب نوري السعيد " حزب الاتحاد
الدستوري " بنظر الاعتبار حين تأليفه لوزارته، لكنه لم يدخل فيها العناصر
الأكثر طموحا وقربا من رئيس الحزب من أمثال خليل كبه وضياء جعفر، بل
أدخل فيها أربعة أعضاء آخرين، كان جميل الأورفلي أمين صندوق " حزب
الاتحاد الدستوري " أحدهم، وقد عهد إليه وزارة العدلية. والجمالي كان
يبحث عن العناصر الشابة، المثقفة النزيهة. على أي حال تحولت تشكيلة
الوزارة، وكيفية تأليفها إلى مبعث أمل لدى الكثيرين، فإن الشعب رحب
بوزارة الجمالي، وعلق آمالا كبيرة عليها.
ارتاحت طبقة واسعة من الشباب المتنور بصورة خاصة من وزارة الدكتور
محمد فاضل الجمالي، ولا سيما، شباب الشيعة، بينما أنها لم تكن مقبولة عند
بعض الطبقات الأخرى، فبدأت المناورات والشائعات ضد الوزارة القائمة،
وبدأوا يتهمون الجمالي بالطائفية في حين أن الرجل لم يكن يعرف روح الطائفية
مطلقا، أنه كان عراقيا مخلصا، وكان عنده سعة صدر يتحمل الانتقاد.
في اعتقادي كان على الجمالي، وهو أصبح رئيسا للوزراء لأول مرة، أن
يكون محيطا بكل أوضاع السياسة الداخلية، وكذلك التقاليد والعادات
والأفكار حتى يثبت مركزه في رئاسة الوزارة، ولا ينكشف هذا الشكل
الغريب، فيجعل المعارضة له قوية. وقد بدأت المعارضة في مجلس النواب
الذي كان أعوان نوري السعيد يمثلون الأكثرية الساحقة من أعضائه. وكان
من سلامة قلب فاضل الجمالي أنه طلب الإبقاء على المجلس، ولم يأخذ باقتراح
حله لأنه كان يعتقد أن المجلس يؤيد أي رئيس وزراء يختاره الملك، ولكن
يبدو لي أن ثقة الجمالي بالمجلس لم تكن في محلها، فبدأ المجلس يخلق له
المشاكل. وعادة عندما يكون رئيس الوزراء غير مؤيد من المجلس فإنه يصعب
عليه امرار بعض التشريعات أو القوانين، وكان البعض يتعمدون إحراج
الجمالي الذي كان عليه، تجاه هذا الوضع، أن يتلمس معرفة رأي الملك ويرى
إذ كان قد كسب ثقته إلى درجة أنه يستطيع أن يطلب حل المجلس، ويجري
انتخابات جديدة ليأتي بمجلس آخر يكون إلى جانبه في سياسته الجديدة. كان
على الجمالي أن يعمل ذلك، لأن استمرار الحكومة مع مجلس غير مؤيد له شئ
غير طبيعي.
لكن الدكتور الجمالي كان من رأيه أن المجلس لابد أن يكون معه على
أساس أن الملك اختاره، وأن من سياسة نوري السعيد التقليدية أن يكون هو
وحزبه وأنصاره دائما مع العرش. لهذا لم يطلب الجمالي حل المجلس،
وإجراء انتخابات جديدة، وعندما شعر بعدم تعاون المجلس معه فضل
الانسحاب من الوزارة، مع العلم أن نوري السعيد كان يتنصل دائما من
معارضة المجلس للجمالي، ولكني أعتقد شخصيا أنه لو كان نوري السعيد
قد فرض تعليماته على أعضاء حزبه فإنهم كانوا يغيرون موقفهم من الوزارة،
لأنهم كانوا لا يخالفون تعليماته.
كان يرأس المعارضة لحكومة الدكتور فاضل الجمالي في مجلس النواب
أقرب الناس إلى نوري السعيد، وأعني به خليل كنه الذي كان نوري يثق به
كثيرا، ويعتمد عليه إلى حد كبير. وهكذا بدأت بسرعة حملة واسعة ضد
الوزارة داخل المجلس: بلغت الحملة أوجها في نيسان 1954، إذ بدأ النواب
يحاولون عرقلة أعمال الوزارة ومشاريعها بصورة علنية. وحدث في ذلك
الحين أن عرضت على المجلس ميزانية مديرية الأوقاف العامة للمصادفة عليها،
فبدأت المناورات، حتى أن بعض أعضاء المجلس من النواب أعلنوا أشبه ما
يكون بتمرد عندما خرجوا من المجلس وجلسوا في إحدى الصالات وكأنهم
يقاطعون الجلسة، بل بدأ بعض النواب من الشيوخ بمغادرة المجلس،
فأقنعتهم بصعوبة ليعودوا إلى أماكنهم حتى لا يختل الاجتماع.
عندما بلغت الأمور هذا الحد اقتنعت شخصيا بضرورة أن يقدم الجمالي
استقالة وزارته، وكنت نائبا للرئيس فيها، وقد أيدني في ذلك كل من وزيري
المالية علي ممتاز، والعدلية محمد علي محمود. وكان الجمالي نفسه مقتنعا بذلك،
فهو لم يكن من النوع الذي يجب الدخول في المهاترات، وخلق المشاكل، لذا
فإنه قدم استقالة وزارته دون أي تردد، وكان ذلك، على ما أتذكر، في أواسط
نيسان (إبريل) سنة 1954.
وكان عهدا قصيرا، ومهما مع ذلك. وكما أسلفت حققت الوزارة
العديد من المكتسبات، وهي كانت تمثل نوعا من التحول في حياة البلاد
السياسية. وبالإضافة إلى الأشياء التي ذكرتها فإن وزارة الجمالي حاولت حل
المشاكل المالية للبلاد بصورة جيدة، فأصدرت مراسيم بهذا الخصوص أعادت
النظر في الضرائب، وفي بدلات إيجار العقارات، وفي أجور البريد وما
شاكل من أمور وقضايا. وشكلت الوزارة أيضا مديرية عامة للسياحة ارتبطت
مباشرة بمجلس الوزراء.
وقد وقعت أسوأ كارثة طبيعية في بغداد في آذار (مارس) 1954، أي
في عهد وزارة الدكتور الجمالي الثانية، فكادت بغداد أن تغرق بسبب فيضان
دجلة، وأصبحت الأوضاع حرجة للغاية، فكان الناس يعيشون في هلع
وخوف، إلا أن إجراءات الحكومة، حالت دون وقوع الكارثة، وهذا ما
يسجل أيضا لوزارة فاضل الجمالي.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فلم يكن هنالك اختلاف جوهري بين
سياسة الدكتور الجمالي وسياسة المرحوم نوري السعيد، سوى أن الجمالي بذل
بعض الجهود الطيبة للتقريب بين وجهات نظر الدول العربية المختلفة،
وازدادت الاتصالات والزيارات المتبادلة مع تلك الدول في عهده. كما حدث
بعض التقارب مع مصر، وفي نيسان (إبريل) 1954 عقد مؤتمر لغرف
التجارة والصناعة والزراعة العربية في بغداد حضرته وفود من مصر والأردن
وسورية ولبنان وغيرها من الدول العربية. وعلى ما أتذكر جرت بعض
الاتصالات بين اليمن والعراق، فكان إمام اليمن يرغب في توسط العراق في
الخلافات القائمة بين بلاده وبريطانيا.
وقد بادر الدكتور الجمالي في هذا المجال إلى عمل مهم، وخطير
باعتقادي، حين قدم مشروعا إلى الجامعة العربية في عهد وزارته الثانية اقترح
فيه العديد من النقاط لتوحيد البلاد العربية، ومن أجل التقريب بين وجهات
نظرها واعتقد أن نوري السعيد لم يكن مرتاحا من ذلك، فهو كان يرغب في
أن يتم أي تقارب بين دول عربية وأخرى على يديه فقط، بينما كان الأمير
عبد الإله يميل إلى خطوات الجمالي.
وعندما قدم الدكتور فاضل الجمالي استقالة وزارته الأولى (في الثامن من
آذار سنة 1954) جرت المشاورات بصدد الشخص الذي يخلف الجمالي في
تأليف الوزارة المقبلة، وكان نوري السعيد يومذاك في الخارج ولم يكلف
بتأليف الوزارة على رغم أن مجلس النواب كان مجلسه. أما أنا فكنت لا أزال
رئيسا للديوان الملكي. استدعاني الأمير عبد الإله ليتذاكر معي حول
الموضوع. فأخبرني أن الجمالي قدم استقالته، وكان البلاط عادة يعرف بنية كل

136
رئيس وزراء على الاستقالة قبل تقديمها، ذلك لأن علاقة رؤساء الوزراء
بالعرش كانت حسنة دائما، فكانوا يخبرون مسبقا عن استقالتهم قبل تقديمها.
ثم تكليف الدكتور الجمالي ليقوم بتأليف وزارته الثانية التي لم تستمر في
الحكم سوى أقل من شهرين على رغم بعض التبديلات التي أجراها في
المشتركين معه في وزارته الجديدة.
ألف الدكتور محمد فاضل الجمالي وزارتين في العهد الملكي الواحدة بعد
الأخرى، الأولى في السابع عشر من أيلول (سبتمبر) سنة 1953 التي
استقالت في الثامن من آذار (مارس) السنة التالية، ليؤلف الجمالي نفسه وزارته
الثانية في اليوم ذاته، وكانت من أقصر الوزارات العراقية عمرا، فقد بقيت في
الحكم لغاية التاسع والعشرين من نيسان (ابريل) 1954.
إن المعارضة لم تقدر توجهات الجمالي الديموقراطية بصورة صحيحة،
ففوتت على نفسها، وعلى العراق فرصة تاريخية نادرة لأنها كانت تنظر إلى
حجمها، ووزنها بصورة غير واقعية. (انتهى)
تلخيص نص الدفاع
وإننا لننشر هنا تلخيصا لنص الكلمة التي ألقاها فاضل الجمالي دفاعا عن
نفسه. وقد كان من أشد مآسي الدهر أن يقف اليوم مدافعا عن نفسه في قاعة
محكمة المهداوي، من كان يقف بالأمس في قاعة الأمم المتحدة مدافعا عن
قضايا العرب، وأن تتحول بلاغته من الدفاع عن شعوب الأمة العربية في
أعلى منصة عالية، إلى دفاع عن نفسه في أقذر منصة عربية!..
قال الجمالي: يندر أن تجدوا رجلا حيكت حوله الإشاعات وبثت الدعاية
الظالمة التي حاولت تشويه حقيقته كفاضل الجمالي. إذن التفريق بين الإشاعة
والواقع في قضيتي هي من أهم واجباتكم وهو ليس بالأمر الهين وقد قال
أفلاطون في جمهوريته ما معناه (أن أعدل الناس هو ذلك الذي يعمل بمنتهى
العدالة ويظهر وكأنه أكثر الناس ظلما) بسبب الدعاية طبعا. وهذا ما ينطبق
علي تقريبا أن الدعايتين الصهيونية والشيوعية تحارباني منذ سنين وفي هذه السنة
خاصة قامت إذاعة (صوت العرب) وما يمثله من جهاز دعاية تبث دعاية
حاولت أن تطمس ماضيي وتظهرني على عكس حقيقتي ذلك لأني صاحب
عقيدة ولي سياسة أجاهر بها وأدافع عنها. ولقد نجحت الدعاية ضدي إلى
درجة جعلت صديقا لي صحافيا أعرفه ويعرفني منذ أكثر من أربعين سنة
يصدق بأني قدمت احتجاجا لأن خارطة البلاد العربية نشرت بلون واحد
ونسي الصديق بأن أطلس المدارس الابتدائية والثانوية في ثلث البلاد العربية
بلون واحد يوم كنت في وزارة المعارف قبل خمسة وعشرين سنة، أجل يا
سادتي لقد استخدمت أضخم وأعظم أجهزة للدعاية في العالم لتشويه حقيقتي
ولكن الحقيقة إذا طمست بعض الوقت عن بعض الناس فلن تطمس إلى الأبد
عن جميع الناس وبذلك فإني أستميحكم عذرا إذا ما لخصت لكم بإيجاز كل
عقائدي وصفحات حياتي وسجل خدماتي لأمتي وذلك لأعينكم على التمييز
بين الدعاية والواقع أما عقائدي فتتخلص بما يلي:
1 - الإيمان بالله. فأنا مؤمن بالله مسلم وأنا أعتقد أن الإيمان بالله هو
أسمى ما توصلت إليه الإنسانية في أوائل نشوئها الروحي.
2 - الإيمان بالقومية ومن ضمنها القومية العربية والاعتقاد بأن الأمة
العربية من الدار البيضاء إلى البصرة تكون جزء واحدا وأن لها رسالة الأخوة
والسلام للإنسانية جمعاء وأن من أجل أماني القومية هي تحرير كل بقعة عربية
من الاحتلال الأجنبي وإحلال الاتحاد بين البلاد العربية جميعا.
3 - الإيمان بالكرامة الإنسانية المؤسسة على العلم أي الحقيقة والحرية
والعدل الاجتماعي وهذا أسمى ما توصلت إليه المدينة الإنسانية في تاريخ
نشوئها. ولم أجد المبادئ هذه مطبقة تطبيقا صحيحا لا في البلاد المتطرفة
الرأسمالية ولا في البلاد الشيوعية بل وجدتها مقبولة إلى حد كبير في البلاد
الإسكندنافية كالسويد والدنمارك. وصار همي في حياتي من جهة واحدة
مكافحة الرجعية التي نشاهدها في الاستعمار الغربي وفي الاستغلال الطبقي
والإقطاع والتعصب الطائفي والعنصري ومن الجهة الأخرى صرت أكافح
الشيوعية ولا أقصد بالشيوعية التذمر من الأوضاع الحاصلة وانتقادها هذا من
حق كل إنسان حر بل تلك الحركة التي تعمل على نسف الكيان القومي والسير
في ركاب الكومنتان أو الكومنفورم حيث يتآخى الشيوعي العربي مع الشيوعي
الإسرائيلي تلك الحركة التي تأخذ بالمادية الديالكتيكية وتنكر الحياة الروحية
ووجود الخالق الأعظم وتستعين بالفوضى وبالبغضاء والكراهية بين الطبقات
وبالقسوة لبلوغ مآربها. والحقيقة هي أن الرجعية والاستعمار هما اللذان
ينشران الشيوعية في العالم وما يحتاجه العالم اليوم هو حركة إطلاقية روحية
تقضي على الرجعية والاستعمار من جهة وتهدي الشيوعيين إلى الإيمان بالله
وإلى الرحمة والمحبة بدل القسوة والبغضاء من جهة أخرى.
على ضوء هذه المبادئ السياسية التي تمشيت عليها في الحقل الدولي
سياستي كانت مكافحة الاستعمار الغربي في كل مكان ودعوة الغرب خاصة
في الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية إلى إنصاف الغرب بحل قضية فلسطين
حلا عادلا وبالقضاء على بقايا الاستعمار الغربي في شمال أفريقيا وفي أطراف
الجزيرة والخليج وبإنصاف العرب بالتسلح والتصنيع وكنت أدعو إلى تبادل
المصالح مع الغرب على أسس المساواة والإنصاف كما أدعو إلى تعاون ثقافي
وعقائدي صحيح، إذ بذلك كله نستطيع أن ندرأ الخطر الشيوعي عن أنفسنا.
هناك مبادئ ومخابرات تقدر المحكمة مثلا محاضرتي في المجلس الاقتصادي
في ديترويت عن الشرق الأوسط من الرابح في الشرق الأوسط الشرق أم
الغرب وهناك محاضرة ألقيتها في بون في جمعية السياسة الخارجية الألمانية في
السنة الماضية أيضا توضح آرائي للغرب وهناك رسالة بعثتها إلى مدير التصنيع
الأمريكي السابق أبين فيها مصائبنا ومشاكلنا وعلاقتها بالغرب وكيف أن
الشيوعية تنشر من وراء هذه السياسة. هذه رسائل ونماذج من آرائي أترك
تقديرها للمحكمة.
وفي كل هذه الدراسة نقدات لاذعة لسياسة الغرب نحو العرب وما
انطوت عليه من رجعية وقصر نظر مما سببت الكثر من المآسي للغرب، ثم
مكافحة الشيوعية. والشيوعية بذلك يجب أن تكافح بالإصلاح الاجتماعي
والإنعاش الاقتصادي وبالتربية العقائدية السليمة وليس بالكره والضرب رأيي
أن الشيوعية هي أيضا استعمار ولكن في شكل جديد ونحن إذا ما عملنا
لتحرير أنفسنا من الاستعمار الغربي لا يجوز أن نعوض عنه بالاستعمار شيوعي
ورب سائل يسأل أن الاستعمار الغربي حقيقة واقعة والشيوعية لم تؤذنا بشئ؟
هذا صحيح ولكن الاستعمار الغربي في طريقه إلى الموت والزوال النهائي كلنا
نعرف خطره وكلنا نمقته، أما الشيوعية فهي خطر أخذ بالنمو والتوسع
والكثيرون غير شاعرين بخطره كما اختبرت ذلك في زيارتي للشرق الأقصى
سنة 1955 لهذا فقد تعاونت دوما في الأمم المتحدة مع الكتلة الشرقية في
مكافحة الاستعمار الغربي كما تعاونت مع الغرب في مكافحة الشيوعية. أما
الصهيونية فهي في عقيدتي عدوة العرب الأولى ويجب أن تكافح لتكوين أمة
عربية حية واعية منظمة متحدة ومسلمة. هذه هي بإيجاز معتقداتي والسياسة
التي تنبثق عنها وأني لأرجو أن تتصفح المحكمة المحترمة خطبي في الجمعية
العمومية للأمم المتحدة ولا سيما الخطب الافتتاحية للسنوات 1954 و 1955
و 1956 وهي السنوات الثلاث الأخيرة التي حضرتها في الأمم لتتأكد
المحكمة من أني لم أتزحزح عن هذه السياسة. أما سجلي في الخدمة وهو من

137
حق المحكمة ومن حق الشعب أن يطلع عليه فقد بدأ كما تفضل سيادة المدعي
العام قبل أربعين سنة بالضبط يوم بدأت كمعاون معلم ابتدائي براتب قدره
خمسون روبية أي ثلاثة دنانير وبعض الدينار ومنه تدرجت في الدرس
والتدريس فأصبحت معلما ابتدائيا ثم مدرسا في دار المعلمين ثم مرشدا عاما
للمعارف ثم مديرا عاما للمعارف ثم مفتشا عاما للتدريسات.
خدمت المعارف نحوا من ربع قرن في مختلف مراحل التعليم والإدارة
ولي اليوم مئات الطلاب بين رجال التعليم ورجال الدولة على اختلاف
مناصبهم وبين وزراء الثورة اليوم من درستهم أو أشرفت على دراستهم في
البعثات العلمية.
وفي المعارف ساهمت مساهمة فعالة في نشر التعليم ولا سيما في القرى
والأرياف والمناطق العشائرية، وعملت لجعل التعليم في القرى ابتدائيا أي
دراسة في ستة سنوات بعد أن كان أوليا أي دراسة لمدة أربع سنوات وصار
لابن الريف المجال لأن يتدرج في التعليم الثانوي والعالي كابن المدينة إذا
كانت لديه المؤهلات. ثم أن التربية القومية الحل الأول في التعليم وأصبح
التلميذ العراقي على اتصال بكل أنحاء البلاد العربية تقريبا بواسطة مئات
المعلمين الذين كنا نستقدمهم من سوريا ولبنان ومصر أو بواسطة البعثات
العلمية التي كان قليل منها من اليمن وحضر موت أو الخليج وشمال أفريقيا.
فمعارف العراق قد لعبت قبل الحرب العالمية الثانية دورا رئيسيا في بعث
الروح القومي وفي ربط شتى البلاد العربية ببعضها فكريا وأصبح المعلمون
والطلاب رسلا للقومية العربية. وكان لي نصيب من ذلك.
أما البعثات العلمية فصارت ترسل إلى جهات مختلفة كألمانيا وفرنسا
وسويسرا بعد أن كانت توجه وجهة واحدة تقريبا.
وفي الحرب العالمية الثانية أصر الإنكليز على إقصائي من التعليم فنقلت
بدون موافقتي المشروطة قانونا إلى وزارة الخارجية ويمكن أن يشهد السيد
محسن علي وزير المعارف آنذاك على هذه الحقيقة.
وحين نقلت إلى الخارجية ضد رغبتي أخذت على عاتقي خدمة القضايا
العربية كافة عن طريق الاجتماعات الدولية والاتصالات الدبلوماسية وهذا
بعض ما قمت به:
1 - حين ساهمت في مؤتمر سان فرنسيسكو 1945 ذلك المؤتمر الذي
كتب ميثاق الأمم المتحدة وأسس المنظم كعضو في الوفد العراقي سعيت بكل
قواي مع عدد من الأعضاء لا يتجاوزون الخمسة منهم سيد غروميكو وزير
خارجية الاتحاد السوفياتي اليوم ومنهم الدكتور رميلو من الفليبين لإدخال نص
مبدأ الاستقلال للشعوب التي تدخل تحت الوصاية في ميثاق الأمم المتحدة
وبعد كفاح دام نحو الشهر ضد الدول الاستعمارية قبل المبدأ.
2 - سعيت لإدخال مبدأ حماية وتنمية الثقافة القومية للشعوب المحكومة
في صلب الميثاق ووفقت إلى ذلك.
3 - هاجمت فرنسا هجوما عنيفا بقصفها دمشق وتساءلت عن صلاحها
للدخول ضمن الدول الخمس الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن بسبب ذلك.
4 - ساهمت في وضع مادة في الميثاق تمنع عودة سوريا ولبنان للانتداب.
5 - لم ننجح مع الأسف في وضع مادة خاصة في صلب الميثاق لحماية
فلسطين من الغزو الصهيوني بالرغم من كفاح دام أكثر من شهر ساهمت فيه
كل الوفود العربية.
6 - وبعد مؤتمر سان فرنسيسكو أصبحت المدافع العراقي الأول عن قضية
فلسطين فقد كافحت كفاح المستميت الطغيان الصهيوني أمام لجان التحقيق في
القاهرة وفي صوفر، كما حضرت مؤتمر لندن حول فلسطين وكنت في الصف
الأول في الكفاح في منظمة الأمم المتحدة. وأن خطبي ودفاعي عن فلسطين
لو جمعت وطبعت وكلها موجودة لكونت مجلدات ولي الشرف أن الصهيونية
تعتبرني العدو رقم واحد في منظمة الأمم المتحدة. الأمر الذي عرضني
للتهديد والاغتيال في أمريكا في بعض الظروف وحين سجلوا أسطوانة
(ولدت إسرائيل) في أمريكا لم يثبتوا من أصوات أعداء الصهيونية غير صوتين
صوت هتلر وصوتي في الأمم المتحدة مناضلا ضد تقسيا فلسطين ومنذرا
العراق بتأسيس إسرائيل.
7 - أما مصر فلم أنقطع عن العمل في سبيل جلاء بريطانيا عنها بالطرق
الدبلوماسية منذ عهد النقراشي وزيرا للخارجية ثم بقيت بعد ذلك أسعى
كسياسي بطرق مباشرة وغير مباشرة للجلاء عن مصر. وحين كنت رئيسا
للوزراء وانقطعت المفاوضات بيننا وبين الأمريكان حول اتفاقية المساعدات
العسكرية أرسلنا إلى سفيرنا في واشنطن برقية تحوي رسالة خاصة إلى دالس
في 8 آذار 1954 أقول فيها إن العلاقة بين أمريكا والعرب لن تستتب ما لم
تحل قضية فلسطين وتحرر شمال أفريقيا وما لم يتم الجلاء عن مصر.
ثم تقوية العراق وتسليحه فقد قدمت مصر على العراق وحين اجتمعت
بالرئيس أيزنهاور في تموز سنة 1954 أثنيت على شخصية الرئيس جمال
عبد الناصر وقلت له إن مفتاح حل القضايا العربي كلها هو الجلاء عن مصر
فقال إنهم جادون في ذلك وسيتحقق الجلاء قريبا.
8 - أما ليبيا فقد بذلت جهودا متواصلة مع إخواني أعضاء الوفود العربية
لإيجاد مخرج لتأمين استقلالها وذلك للملابسات العديدة بين الدول الكبرى
حول ليبيا. وفي هذه المناسبة أود أن أذكر بأني حين كنت أناضل في سبيل
استقلال ليبيا طيرت برقية مغرضة تقول إن الجمالي يريد وضع ليبيا تحت
الانتداب الأمر الذي حمل زعماء ليبيا في الأمم المتحدة الذين يعرفون مبلغ
جهادي أن يبرقوا محتجين على نشر هذه البريقات المدسوسة.
9 - أما مراكش (1) فقد ناضلت في الأمم المتحدة في سبيل استقلالها فقد
عرضت قضيتها في باريس 1951 حتى نالت استقلالها حين أبعد ملكها
المجاهد إلى مدغشقر بقيت أقارع فرنسا بأن ليس لها الحق في مس الملك
المغربي وهو يحمل صفة الزعامة الدينية إلى جانب الزعامة الزمنية. فالزعامة
الدينية هي من حق المؤمنين وحدهم التصرف بها هذا وأني لسعيد أن أبناء
المغرب الكرام يذكرون العراقي المتواضع العامل في سبيل استقلال بلادهم.
هذا وأنه لشرف عظيم لي وللعراق أن يرشحني ملك المغرب في السنة الماضية
لأكون عضوا في اللجنة التحكيمية بين المغرب وفرنسا لتبت في خطف فرنسا
للزعماء الجزائريين ابن بلا ورفقائه الذين كانوا في طريقهم من مراكش إلى
تونس على ظهر طائرة مراكشية ولي الشرف أيضا أن فرنسا احتجت على
ترشيحي، الأمر الذي منع اشتراكي في لجنة التحكيم.
10 - حين فشلت المفاوضات بين إخواننا التونسيين وفرنسا سنة 1951
رغب إخواننا التونسيون في عرض قضيتهم في الأمم المتحدة في تقدم أي
دولة في بادئ الأمر على تقديمها فقدمت اسم العراق فتبعتني الهند ثم
السعودية ثم تلت الدول العربية الأخرى. والتونسيون لا ينسون ذلك كما لا
ينسون دفاعي الحار عن استقلال تونس في الأمم المتحدة. ثم أدخلت الزعيم
التونسي السيد صالح بن يوسف ضمن الوفد العراقي فأثار ذلك احتجاج
فرنسا وسخطها ويشرفني أن تطلب الحكومة التونسية من الحكومة العراقية
هذه السنة أن أكون ممثل العراق في مجلس الأمن حين تعرض شكوى تونس
على فرنسا. كما يسعدني أن أكون اليوم مواطن شرف تونسي بفرار إجماعي من



(1) كانت تعرف بهذا الاسم قبل الاستقلال، وبعد الاستقلال أطلق عليها اسم: المغرب.
138
الجمعية التأسيسية التونسية تموز سنة 1956 وذلك حين زرت ذلك البلد
الكريم.
11 - الجزائر. رفضت اللجنة التوجيهية للأمم المتحدة سنة 1954 درج
قضية الجزائر في جدول أعمال الجمعية العمومية. فما كان لنا إلا أن نثير
الموضوع في الجمعية العمومية نفسها. استعانت فرنسا بالمسيو ستارك وزير
خارجيتها وهو علم من أعلامهم لإحباط القضية في الجمعية العمومية فكنت
أنا الذي تولى المعركة ضد ستارك فكسبا بصوت واحد. أدرجت قضية الجزائر
في جدول الأعمال وخرجت فرنسا من الجمعية العمومية في تلك الدورة ولم
تداوم. إن دفاعي عن الجزائر في المحافل الخارجية والعامة الرسمية وغير
الرسمية لم ينقطع. كما إني توسطت حين لم أكن في المسؤولية لإيصال ما
يمكن من السلاح إلى المجاهدين الجزائريين وترأست لجنة أهلية جمعت
التبرعات من الشعب العراقي الكريم ودفعت لإخواننا المجاهدين مبلغ 215
ألف دينار في السنة الماضية ويشرفني ويسرني أن السيد فرحات عباس الذي
أصبح رئيس وزراء حكومة الجزائر الحرة أدخلته عضوا في الوفد العراقي في
المرة الأخيرة حين كنت في الأمم المتحدة.
12 - عدا القضايا العربية فقد جاهدت ما استطعت في سبيل استقلال
أندونيسيا وفي حقها في أريان الغربية وفي ضمان استقلال الصومال الإيطالي
الذي سيستقل قريبا وفي مكافحة التمييز العنصري في إفريقيا وفي مؤازرة كل
الشعوب الآسيوية والإفريقية التي تناضل في سبيل استقلالها. وكانت
سياستي ومواقفي في الأمم المتحدة تتخلص بوضوح على الوجه التالي:
مع الدول العربية دوما في كل القضايا العربية. مع الشرق دوما ضد
الاستعمار الغربي. مع الغرب دوما ضد الانتشار الشيوعي. ضد الصهيونية
ومصالحها دوما. هذه سياسة ثابتة لم أحد عنها في حياتي في الخدمة الدولية
ويمكن للمحكمة المحترمة أن تعود إلى خطبي الموجودة في وزارة الخارجية
للتثبت من ذلك.
دوري في معاهدة بورتسموث:
أن مستر بيفن وزير خارجية بريطانيا جاءني بعد توقيع معاهدة
بورتسموث زائرا إياي في الفندق وتباحثنا في موضوع فلسطين، وكان مستر
بيفن صديق العرب حقا ولم يرتح لتقسيم فلسطين وتأسيس إسرائيل. ولذلك
وصفه أحد الصهاينة بأنه هتلر الثاني. تم الاتفاق بيننا وبين المستر بيفن على أن
يسلح 50 ألف فلسطيني بسلاح يرسل للشرطة العراقية. ويسلح الجيش
العراقي بأعتدة حديثة ويرسل لفلسطين فيستلم كل منطقة فلسطينية تخليها
الجيوش البريطانية حتى يستلم العرب كل فلسطين ولا تؤسس دولة يهودية.
هذا ما تم عليه الاتفاق والتفاهم مع مستر بيفن.
هذا ما وددت ذكره بمناسبة الإشارة إلى معاهدة بورتسموث.
والفلسطينيون يعرفوني حق المعرفة لأني من الذين ضحوا براحتهم
وسهروا الليالي وعرضوا أنفسهم للتهديد والاغتيال الصهيوني في أمريكا حين
كنت أدافع عن فلسطين.
بعد الخارجية ترأست المجلس النيابي ترأست المجلس دورتين وأستطيع أن
أفخر بأني كنت دوما أمثل الحياد التام بين الحكومة والمعارضة، وأوقفت تقريبا
اقتراحات الاكتفاء بالمذاكرة التي كان يقصد بها حرمان النواب الذين يريدون
الكلام ومن ضمنهم المعارضين طبقا.
وصرت رئيسا للوزارة مرتين مدة تقل عن الثمانية أشهر. ألغت وزارتي
الأحكام العرفية أعادت الحياة الحزبية والحريات، أعادت الصحف المعطلة،
أعادت الطلاب المفصولين جميعا، استصدرت العفو عن كثير من السجناء
الشيوعيين وغيرهم. عملت وزارتي في سبيل تخفيض تكاليف المعيشة ومن
ضمنها الإيجارات واستصدرت نظاما يجعل الحد الأدنى لأجور العامل العراقي
يوميا ربع دينار. كما استصدرت وزارتي الثانية مرسوما يجعل حصة الفلاح من
الحاصل لا تقل عن النصف وقد أعدت وزارتي تشريعات إصلاحية عديدة في
الشؤون الاجتماعية والاقتصادية ولا سيما في الأراضي ولكن القوى المحافظة
عارضت ذلك بشدة وكان هذا من أسباب استقالتي من الوزارة.
إن حركة الصبر التي كنت أقابل بها المعارضة في مجلس النواب كانت تمثل
روحي الديمقراطية أحسن تمثيل وقد لقيت الوزارة من سكان بغداد الكرام
تأييدا شعبيا شاملا في مكافحة الفيضان وبذلك التأييد أنقذ الله بغداد من غرق
محتم.
لقد تقدمت وزارتي إلى جامعة الدول العربية بمشروع اتحاد نشوئي بين
البلاد العربية وعملت في سبيل اتحاد سوريا والعراق فلقيت معارضة كانت
السبب الرئيسي لاستقالتها كنت أشعر دائما بضرورة وجود جذور للحكومة
في قلوب الشعب وأركانه، تلك الجذور التي تتكون عن طريق التنظيم النقابي
والحزبي والتنظيم الشبابي، ولكن لم أجد آذانا صاغية.
إن اتحاد سوريا والعراق من الأمور التي تشكل جزء من عقيدتي القومية
فعقيدتي القومية تتكون من تحرير البلاد العربية كلها واتحادها وفي رأيي أن
اتحاد سوريا والعراق كان يجب أن يكون الخطوة الأولى لأي اتحاد قومي عام
يقوم بين الأقطار العربية نظرا لما بين القطرين من المصالح الحيوية والدفاعية
بالإضافة إلى الشعور القومي.
وإني لموقن بأن لو توفرت للبلدين حكومات شعبية قوية تمثل مصالح
شعوبها تمثيلا صحيحا لكان الاتحاد قد تحقق منذ سنين بعيدة. أما ما قمت به
من أعمال في سبيل الاتحاد فيتخلص:
1 - بمجرد استلامي رئاسة الوزارة سنة 1953 وصل بغداد الأستاذ
معروف الدواليبي بوصفه رئيس وزراء سوريا الشرعي الذي كان يحكم قبل
قيام الشيشكلي وطلب من الحكومة العراقية مساعدة عسكرية ليطرد من سوريا
الشيشكلي مع الأسف لم نستطع تلبية طلبه لأسباب دولية وعسكرية ولأسباب
قانونية..
2 - أعدت وزارتي مشروع انتخاب عربي على أساس نشوئي عرضته على
مجلس جامعة الدول العربية المنعقد في القاهرة في كانون الثاني 1954 وفي
الوقت نفسه تفاهمت مع الحكومة المصرية على مبدأ الاتحاد.
3 - حين قامت سوريا كلها تقريبا ضد الشيشكلي وانتقل عدد من ساسة
سوريا إلى بيروت استعنت بصالح جبر فذهب إلى بيروت واتصل بهم وتفاهم
معهم على فكرة الاتحاد بين القطرين وقد قام بمهمته خير قيام.
4 - بعد أن غادر الشيشكلي دمشق وعقد مؤتمر حمص وأصبح السيد
الأتاسي رئيسا للجمهورية تشكلت حكومة جديدة برئاسة العسلي، بدأت
الاتصالات بيننا وبين بعض زعماء سوريا حول الاتحاد بالصورة الدستورية
ولكن معارضة نوري السعيد الذي كانت له الأكثرية في البرلمان لسياستي في
الاتحاد مع سوريا حملتني على الاستقالة وهي كانت السبب الرئيسي المباشر
لاستقالتي.
5 - كلف نوري السعيد بتشكيل الوزارة بعدي وكلفني بالاشتراك معه
فاعتذرت وكان موضوع الاتحاد أحد الأسباب الأساسية للاعتذار فلم يشكل
الوزارة.
6 - كلف أرشد العمري بتشكيل الوزارة بعدي فقبلت الاشتراك معه على
أساس حل المجلس والسير في موضوع الاتحاد مع سوريا.

139
7 - بعد تشكيل وزارة أرشد العمري ظهرت قرحة في معدتي سببها القلق
والإرهاق أيان الفيضان فاضطررت إلى مغادرة العراق ودخولي المستشفي في
بيروت ثم الاستشفاء في الجبل. في أثناء استشفائي زارني السادة صبري
العسلي رئيس وزراء سوريا وعبد الرحمن العظم وزير المالية في سوريا والسيد
عدنان الأتاسي من حزب الشعب والسيد ميخائيل أليان من الحزب الوطني
والسيد حسني البرازي مستقل وأظن هناك شخص آخر أو اثنين واستمعت إلى
آرائهم بالرغم من مرضي وسوء حالتي الصحية، ورفعت تقريرا بذلك أرسلته
بصيغة كتاب شخصي وسري إلى رئيس الوزراء أرشد العمري. ثم زارني بعد
ذلك السيد العسلي وتباحثنا ثانية، ودفعت مبالغ لتصرف للدعاية واستعداد
الجيش العراقي للتدخل إذا لزم الأمر وهذا لم يكن ممكنا بدون أسس شرعية،
وهي ليست متوفرة. وضمان عدم هجوم إسرائيل التي كانت تلك السنة قد
قامت بعدة اعتداءات فاجعة على الأقطار العربية المجاورة منها حادثة قبيه
ونحالين وذلك عن طريق التفاهم مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية
وإنكلترا هذا ولم تقم وزارة أرشد العمري بأي عمل ولم تنفذ شيئا من الرسائل
التي أرسلتها ووضعت مكاتيبي على الرف لا سيما وأنا مريض وقد سافرت
إلى أمريكا للفحوص الطبية. عدت من أمريكا والوزارة مستقيلة وقد شكل
نوري السعيد وزارته التي دامت ثلاث سنوات من 1954 و 1957 ولم
أشترك فيها ولم يكن لي منذ ذلك الوقت أي دور رسمي في موضوع الانتخاب
لا سيما أي ونوري السعيد لم نكن على تفاهم حول الموضوع بل بقيت بأني
معروف بالاهتمام اهتماما بالغا بالاتحاد بين القطرين وهذا واقع.
قبيل صيف سنة 1955 شكلت لجنة من وزير الخارجية برهان الدين باش
أعيان ونائب رئيس الوزراء أحمد مختار بابان وتوفيق السويدي وفاضل الجمالي
ورفيق عارف وسكرتارية يوسف الكيلاني وكيل وزير الخارجية للنظر في
موضوع العلاقات بين سوريا والعراق. اجتمعت اللجنة اجتماعا واحدا فقط
في وزارة الخارجية ولا أتذكر ما دار فيها من أحاديث وكل ما أتذكره هو أننا
انتهينا بتكليف السيد توفيق السويدي الذي كان عازما على الاصطياف في
لبنان بالاتصال مع ساسة سوريا والتوصل إلى ما يمكن من تحسين الروابط
وتحسين العلاقات والسير في طريق الاتحاد. ولم تجتمع اللجنة بعد هذا
الاجتماع ولم أسمع لها أي ذكر أو أي أثر.
سنة 1955 قضيت قسما من الصيف في برمانة مصطافا وبطبيعة مركزي
السياسي كنت أزور وأزار من قبل رجال الأقطار العربية الذين أعرفهم ومن
جملتهم عدد من إخواننا السوريين، فقد زارني وزرت أشخاصا من جميع
الأحزاب ومن مختلف وجهات النظر في سوريا تقريبا من الحزب الوطني ومن
حزب البعث ومن حزب كان يراد تأسيسه باسم حزب الاتحاد، وعرفني
الملحق العسكري على بعض أعضاء الحزب القومي الاجتماعي أيضا.
لم تكن هذه الاتصالات سوى اتصالات شخصية الغاية منها الاستطلاع
والتعرف وربما كان أهم اتصال أثر في هو اتصالي برئيس أركان الجيش
السوري الأسبق الذي رغب أن يتعرف على شخصية عراقية غير مسؤولة
فرحبت بالاجتماع به. اجتمعت به في دمشق فوصف لي الوضع في سوريا
اليوم قال إنه أشبه ما يكون بوضع الدولة العثمانية في أواخر أيامها هي كانت
تدعى بالرجل المريض، الكل يتدخلون بشؤونها مصر والسعودية والعراق
والإنكليز والأمريكان والفرنسيون والسوفيت والأتراك والطليان وغيرهم
وحتى إسرائيل لها عملاء وجواسيس. وقال أنه يرجو أن تصبح العلاقات بين
سوريا والعراق تعاونية وودية بعد انتخاب رئيس الجمهورية في ذلك الصيف.
وفي الحقيقة أني تأثرت وتخوفت على سوريا من هذا الوصف ومنذ ذلك الحين
أصبحت منكمشا ومتخوفا على الوضع في سوريا ولم أعمل شيئا ولم أكلف
بأي عمل في سبيل الاتحاد إلى يومنا هذا.
سنة 1956 لم أشتغل في القضية السورية بل كنت معظم الوقت متجولا
لا سيما في شمال أفريقيا وأوروبا والأمم المتحدة.
اجتماع في وزارة الخارجية الأمريكية شباط 1975.
وصل أمريكا في أوائل شباط 1957 وفد برئاسة ولي العهد (الأمير
عبد الإله) وعضوية كل من السادة توفيق السويدي وعلى جودت الأيوبي
وصالح جبر وأحمد مختار بابان وكنت آنذاك مترأسا الوفد العراقي في الجمعية
العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، وكان موضوع العدوان الثلاثي المسلح
على مصر يشغل الجمعية وكنت منغمسا في الموضوع طلب إلي الالتحاق بالوفد
فذهبت إلى واشنطن واجتمع الوفد في الليلة السابقة بوزير الخارجية في غرفة
ولي العهد وبحثت المواضيع التي ستثار مع المستر دالس، واقترح السويدي أن
لا يتكلم أعضاء الوفد بل يتكلم فاضل الجمالي باسم الجميع، وكانت الغاية
التي فهمتها من مجئ الوفد هي العمل على حمل أمريكا لتحل قضية فلسطين
وتخلق جوا تتحسن فيه العلاقات بينها وبين البلاد العربية وذلك لكي يقوى
مركز العراق السياسي في البلاد العربية وفي اليوم التالي اجتمعنا بوزارة
الخارجية الأمريكية فابتدأنا بموضوع فلسطين وإذا بأعضاء الوفد جميعهم
ساهموا بالمناقشة وأشغلوا معظم الوقت فلم يبق وقت كاف لمعالجة المواضيع
الأخرى، تكلمت أنا باسم الوفد حول بعض المواضيع الأخرى ولا أتذكر
بالضبط ما قلت ولكن أتذكر أني في موضوع مصر طالبت بضرورة طرد
إسرائيل من الأراضي المصرية وغزة فورا، وعدم السماع لوزيرة خارجية
إسرائيل بالمماطلة في شروط الانسحاب. أجاب مستر دالس أن أمريكا هي
التي حملت إنكلترا وفرنسا على الانسحاب. قلنا إن هناك رأيا في البلاد العربية
أنه لولا تهديد روسيا لما انسحبت إنكلترا وفرنسا فعلق الجانب الأمريكي أن
تهديد الروسي جاء بعد الضغط الأمريكي، وأن التهديد السوفياتي لم يكلف
روسيا شيئا بينما موقف أمريكا كلفها كثيرا فقد أغضبت صديقين حليفين
بحملها على الانسحاب. وهنا انتهى البحث بعد أن أكدنا ضرورة طرد
إسرائيل من الأراضي المصرية وغزة فورا بدون قيد أو شرط، أما سوريا فلا
أتذكر ما قلته بحقها ولكن أحتمل أشرت إلى تخريب مكان ضخ النفط
والأضرار التي ستلحق بالعراق من جراء ذلك كما أشرت إلى ضرورة طرد
إسرائيل من الأراضي المصرية بسرعة لأن الحكومة السورية أعلنت أن تصليح
مكائن النفط لن يسمح به إلا بعد جلاء إسرائيل تماما من الأراضي المصرية
وغزة. هذا ما أتذكره وأنا حينما كنت في الوفد لم أتكلم بآرائي الشخصية بل
كنت أتكلم باسم الوفد ولا يعقل أن الوفد جاء إلى واشنطن ليمس مصالح
سوريا أو مصر في ذلك الاجتماع وبذلك مع احترامي لمن كتب المحضر أو
التقرير الذي تلي في حينه ولم أطلع عليه أعتقد أنه بعيد عن الواقع.
الاجتماع بلوي هندرسون في أسطنبول.
كانت كل من الحكومتين التركية والعراقية قد اتفقتا على الاستفسار من
أمريكا عن خطورة الخطر الشيوعي في سوريا وذلك على ضوء الدعايات
والأخطار التي تشير إلى ذلك فأوفدت الحكومة الأمريكية السيد لوي
هندرسون إلى أسطنبول ليوضح وجهة النظر الأمريكية. ولما كنت زائرا لتركيا
في الصيف الماضي دعاني السفير العراقي تلفونيا يطلب حضوري إلى قصر
يلدز بأمر الملك فحضرت ووجدت من الجانب العراقي الملك وولي العهد
وأحمد مختار بابان والسفين العراقي ورئيس أركان الجيش. تحدث المستر
هندرسون وبين أن أمريكا تؤيد وجود خطر شيوعي في سوريا ولكنها لا
تتدخل وترك الأمر إلى الحكومة العراقية فمتى شعرت الحكومة العراقية بالخطر

140
عليها فأمريكا مستعدة لتساعدها للدفاع عن نفسها. أتذكر أن أحمد مختار بابان
قال ما معناه أنه ليس بوسعه أن يتكلم باسم الحكومة العراقية في أسطنبول
وأن الأمر يجب أن يقرر في بغداد وهنا انتهى الأمر حسب علمي أنا أتذكر ما
قلته في ذلك الاجتماع ولكن رأيي أن العراق لم يكن مستعدا لمجابهة أي خطر
شيوعي لا من الداخل ولا من الخارج. أما من الداخل فإن أوضاعه
الاقتصادية والاجتماعية لم تكن سليمة، وأما من الخارج فلم يكن لدى العراق
استعداد عسكري كافي لمجابهة أي خطر شيوعي يأتي من أية جهة وأظن هذا
ما قلت لرئيس الوزراء حين زارني في بيتي بعد عودتي من إسطنبول.
إن اجتماع كهذا لتقدير الموقف الدولي هو من الأمور العادية التي تجري
بين حين وآخر في عواصم كثيرة من الدول الحليفة، أما حضوري بصفة
شرعية وأنا غير مسؤول أي لست في الحكم فلا يلزمني شيئا ولا يلزم أحدا
برأيي فهو أمر من الأمور المألوفة لمن يتعاطون السياسة الدولية ولا شك أني
كنت ملزما بالحضور أدبيا.
التآمر على سوريا
إني أحب سوريا كواحد من أبنائها المخلصين وأدعوا إلى الله أن ينجيها من
مؤامرة تدبر ضدها. أنا لم أساهم في أية مؤامرة ضد سوريا ولم أكن أعلم عن
شئ من هذا القبيل، كما إني لم أساهم ولم أعلم عن إرسال أسلحة إلى سوريا
ولست أنا المسؤول عن السلاح أو إرسال السلاح فيما إذا كان قد وقع شئ
من ذلك. وإني لم أفكر يوما من الأيام في تحقيق الاتحاد بين سوريا والعراق
بطريق غرير مشروعة بل العكس والواقع يمكنكم التأكد من ذلك مما ورد
بإحدى رسائلي الموجودة لديكم إلى عبد الإله بأن الاتحاد لا خير فيه ما لم يقبل
عليه الشعب ويقوم بإرادته، وكذلك من اعتذاري مساعدة الأستاذ الدواليبي
مساعدة عسكرية حين جاء يريد أن ينقذ سوريا من الشيشكلي أنا دائما أعتقد
بأن الاتحاد لا قيمة له ما لم يتم التفاهم بين رجال البلدين وما لم يشعر الشعب
في القطرين بأن الاتحاد هو ضرورة قومية وحياتية لهم. أما اتصالاتي ومحادثاتي
مع رجال سوريا في شتى الأحزاب وشتى وجهات النظر فهو مجرد استناد
وتفكير في خطط عامة، ولم يتسن لي يوم أن أكون في المسؤولية وأعمل في
سبيل الاتحاد منذ 1954 حين زارني العسلي حين اجتمعت برئيس وزراء سوريا
آنذاك ولا يمكن بوجه من الوجوه أن يعتبر اجتماعي برئيس وزراء وأنا وزير
الخارجية في الخارج للاستشفاء وتبادل الآراء معه كمؤامرة ضد سوريا. وإلا
فتصبح كل الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية في العالم من قبيل المؤامرات،
أنه كيف يعقل أن يتآمر رئيس وزراء بلد مع عدد من أقطاب ساسة البلد على
بلده. وهل أنا ذاهب للاستشفاء أم للتآمر؟
أما اتصالاتي غير الرسمية مع عدد من رجال سوريا الذين اجتمعت بهم
منذ سنة 1955 إلى اليوم ومنهم أصدقائي بقطع النظر عن علاقاتهم السياسية
مع حكومتهم فليس له غير صفة اجتماعية أخوية ولا علاقة لها بأية خطة
للاتحاد. ولقد اجتمعت بأصدقائي السوريين في كل مكان وزمان حيثما
رأيتهم، وتحدثنا عن شؤون سوريا وشؤون وعلاقات البلدين حديثا وديا غير
رسمي. لا أدري كيف يسأل السياسي عن اجتماعات كهذه هي جزء من
حياته اليومية الأمر المهم الذي أؤكده هو أني لم أشترك في أية مؤامرة على
سوريا ولم أدع إلى الاتحاد بين القطرين بطرق غير دستورية أجل أن حبي الأكيد
لسوريا ورغبتي الصميمة في الاتحاد الصالح يمنعاني أن أتقدم بالاتحاد مع
سوريا عن طريق المؤامرات.
ما صرف في عهدي الأخير
للكثير من الدول التي تريد ترويج سياستها دوليا أو تريد الدفاع عن
نفسها مبالغ تخصص لتصرف في سبيل الدعاية ثم تكون سياسة صحيحة
ومغلوطة فهذا شئ ثاني لكن صرف مبالغ لترويج سياسة والعراق في هذا
الباب لا يختلف عن غيره وإن لم يستطع اللحاق بشقيقتيه مصر والسعودية في
هذا الصدد ولما توليت وزارة الخارجية هذه السنة لمدة شهرين وعشرة أيام
وجدت أن قسما مهما من مخصصات الدعاية، يوجه إلى وزارة الدفاع ليصرف
عن طريق الملحق العسكري في بيروت، كبعض الرواتب للبنانيين والسوريين
الذين شعرت الحكومة العراقية بفائدة مساعدتهم لسياستها، وإني في هذين
الشهرين مشيت على نفس الخطة التي كانت قد تمشت عليها الوزارات
السابقة، وذلك بتنسيب الملحق العسكري الذي رأيته في بيروت وإلحاح رئيس
الوزراء. وإنما دفع للقوميين السوريين أو القوميين الاجتماعيين للدعاية هو
ليس للعمل في سوريا بل للعمل في لبنان، فهو ليسوا سوريين بل لبنانيين
والدعاية التي يقومون بها للعراق هي في لبنان، وإن أسد الأشقر رئيس
الحزب هو نائب في البرلمان اللبناني والدراهم إنما دفعت للدفاع عن سياسة
العراق في لبنان. ولو علمتم أيها السادة بأن صحافيا واحدا من بيروت ذهب
إلى عاصمة عربية شقيقة وعاد باثني عشر ألف دينار. ولو علمتم بأن بناية
ضخمة لمجلة الصياد أنشأتها دولة عربية شقيقة أخرى في بيروت لقدرتم بأن
ما يبذله العراق لأغراض الدعاية لم يكن كثيرا، أما إذا كانت هنالك مبالغ
كثيرة أخرى صرفت لأغراض مؤامرات فإني لا أعرف عنها شيئا ولم تقع في
عهدي وأنا برئ منها.
هذا وأني لم أتدخل يوما ما في شؤون سوريا الداخلية ولم أر سوريا منذ
صيف سنة 1955. أما الدعوة إلى الاتحاد أو العمل في سبيله فلا يجوز أن
تعتبر من الشؤون الداخلية لأي بلد لأن الاتحاد هو خروج عن الحدود الطبيعية
بطبيعته ولا أدري كيف نسب إلى التدخل في شؤون سوريا الداخلية إلا إذا
كان المقصود استطلاعاتي الشخصية مع بعض الساسة حول انتخابات رئيس
الجمهورية فهذه مسألة استطلاع لا تدخل فكل سياسي عراقي كان يتمنى بأن
يختار لسوريا رئيس جمهورية يؤمن استقرار أمن سوريا ويجب العراق ويسعى
في سبيل التفاهم والاتحاد.
إن حب الاستطلاع هذا هو تبادل الآراء الشخصية حول الموضوع لا تأثير
له على مجرى الحوادث الداخلي في سوريا ولا يعتبر تدخلا. لأن المدعي العالم
ذكر بأني تدخلت بالشؤون الداخلية لسوريا.
أنا والرئيس جمال عبد الناصر
إنني ممن يحترمون الرئيس جمال عبد الناصر ويحملون له الإعجاب
والتقدير لا سيما وقد استطاع أن يكسب قلوب الجماهير العربية بحق وجدارة
وأني أشارك الجماهير العربية في تأييده حول المبادئ والأهداف التالية: -
1 - الأخذ بالقومية العربية وربط الشعوب العربية وتوحيدها عن
طريقها.
2 - شكواه من الغرب في سياسته الرجعية إزاء العالم العربي تلك السياسة
التي سببت المظالم والمآسي لا سيما في فلسطين والجزائر والتي جعلت العرب
في وضع ضعيف لا يليق بعزتهم وكرامتهم واستقلالهم.
3 - استئصال الفساد والظلم في الحكم والقضاء على الاستغلال والجشع
المتفشي في المجتمع وبناء مجتمع حديث. إن التمسك بهذه الأهداف الثلاثة هو
الذي يكون في رأيي عظمة الرئيس جمال عبد الناصر وهو ما أؤيده فيه كل
التأييد. أما اختلافي وإياه فهو في السياسة التي توصله إلى هذه الأهداف فإني
كرجل مدني غير عسكري لم أستطع أن أوافقه على السياسة التالية:
1 - سياسة الحياد الإيجابي مع أنني ممن يتمنون تحقيق الحياد إلا أنني أرى

141
ان الحياد يتطلب شروطا غير متوفرة بعد لدينا.
اتفاق المعسكرين العالميين على أن نبقى محايدين ويحترمان حيادنا أو أن
نكون من القوة بحيث نستطيع أن نحمي حيادنا. أما المعسكران فلن نضمن
موافقتهما على بقائنا محايدين بعد وأما قوتنا فهي غير كافية لإيقاف أي من
المعسكرين إذا ما أراد اجتياح بلادنا وما حصل بالفعل هو أن الرئيس تيتو لم
يستطع ضمان حياده، الكتلة الشرقية تقف له بالمرصاد أما الرئيس جمال
فاضطر أن يجافي الغرب ويعتمد على الشرق. أما نهرو فهو في موقع ممتاز
جغرافيا ذلك بالإضافة إلى عظمة الهند وقوتها السياسية والعددية. والنقطة
الثانية التي اختلفت بها مع الرئيس جمال عبد الناصر هي الأخذ بمبدأ الوحدة
بين البلاد العربية كما حصل بين مصر وسوريا بدل الاتحاد.
إنني ممن يعتقدون بأن إمكان تحقيق وحدة عربية من الدار البيضاء إلى
البصرة أمر عسير التحقيق وغير عملي إذن فكان الأليق الأخذ بمبدأ الاتحاد
وقد ظهر فعلا أن الوحدة بين مصر وسوريا أمر غير عملي ولذلك ألفت
وزارتان إقليميتان الواحدة لمصر والأخرى لسوريا كما عين نائبا رئيس جمهورية
لسوريا. ثم إني كنت أتوقع أن يدفع الرئيس جمال سوريا لأن تتحد مع العراق
أولا وهذه ليست مسألة عاطفية شخصية فحسب بل إن مصالح البلدين سوريا
والعراق هما أقرب إلى بعضهما من مصالح سوريا ومصر.
والأمر الثالث الذي اختلف به مع الرئيس جمال هو استخدامه ما يدعوه
بأساليب الدعاية المثيرة إزاء الحكومات العربية التي لا تماشي سياسته وهذا
الأسلوب من الدعاية هو الذي خلق المشاكل بين مصر والعراق ولبد الجو
القومي مع الأسف الشديد.
إني كسياسي مدني أؤمن بأساليب الأخذ والعطاء والتفاهم بدل الشدة
والعنف. هذه هي نقاط الخلاف بيني وبين الرئيس جمال عبد الناصر وهي
تتعلق بالوسائل لا بالأهداف القومية التي أقدسها. وفي الحقيقة أن تخوفي من
سياسة الرئيس جمال عبد الناصر كان يرجع إلى أنها قد تؤدي فيما إذا اصطدمنا
بالغرب:
1 - اندلاع حرب عالمية ثالثة تحرق الأخضر واليابس.
2 - اندلاع حرب موضعية قد يخسر فيها العرب ويكسب العدو كما
كسبت إسرائيل حرية المرور في خليج العقبة بعد العدوان الثلاثي الغاشم.
3 - أن تغتنم الشيوعية الدولية هذه الدعاية المثيرة فتثبت أقدامها في قطر
من الأقطار العربية وذلك بسبب ما قد يحدث في ذلك القطر من اضطرابات
وإخلال بالأمن.
هذا هو حسابي وهذه هي آرائي قد أكون مخطئا فيها وقد يكون الرئيس
جمال هو المصيب في سياسته وأساليبه أن لا أدعي العصمة ولكني مخلص في
رأيي على كل حل على ضوئه تصرفت بكل حسن نية.
السؤال الذي كان يخالج فكري كسياسي عراقي دوما هو ما يلي:
من حق مصر الشقيقة أن تختط السياسة التي تختارها لنفسها ومن حق
الرئيس جمال أن يخطط لمصر السياسة التي ينسبها ولكن هل من حقه أن يفرض
سياسته على بلد عربي آخر؟
نعم في إمكانه أن يقترح سياسته على البلاد العربية بالطرق الدبلوماسية
وبأسلوب الكسب والصداقة، كما أن في إمكانه أن يقترح سياسته عن طريق
جامعة الدول العربية. أما أن يفرض هذه السياسة على بلد آخر عن طريق
الدعاية والتحامل على حكام بلد فهو ما سبب التأزم بين مصر والعراق في
السنوات الأربع الماضية. وبما أنني أصابني رشاش من هذا التأزم في بداية
الأربع سنوات وفي نهايتها فها أنا ألخص للمحكمة ما جرى معي:
ذهبت إلى القاهرة في بداية سنة 1954 يوم كنت رئيسا للوزارة وتناولت
الغداء مع وفود الجامعة العربية على مائدة الرئيس محمد نجيب في نادي
الضباط وبعد الغداء قال الرئيس محمد نجيب لي أنه يود أن نتعشى لوحدنا في
داره تلك الليلة فقبلت مع الشكر على أن يرافقني السفير العراقي وكان من
الجانب المصري جمال عبد الناصر عبد اللطيف البغدادي على ما أتذكر. تحدثنا
عن العلاقات بين مصر والعراق وأنها يجب أن تتخذ شكلا تعاونيا بعد زوال
عهد فاروق ثم تحدثنا مليا في مشروع الاتحاد العربي الذي كنت أحمله للجامعة
فحبذه الإخوان كل التحبيذ وقالوا إن سياسة فاروق كانت مقاومة اتحاد العراق
وسوريا والأردن لكي تبقى كل منها ضعيفة.
دعوتهم الليلة للعشاء في السفارة العراقية فلبى الرئيس جمال ولم
يستطع الرئيس محمد نجيب الحضور لموعد سابق. وكانت مناسبة مفيدة إذ
استعرضنا شؤون البلدين، وأخبرت الرئيس جمال عن عزمنا على مفاوضة
الأمريكان للحصول على مساعدة عسكرية فاستحسن الفكرة وفي الوقت نفسه
أشار إلى أن جريدة النيويورك تايم ذكرت أن العراق ينوي دخول الحلف
التركي الباكستاني، ولما كانت مصر مشغولة في مفاوضات الجلاء مع بريطانيا
فهو يرجو أن لا يقع ذلك أي اشتراك العراق في الحلف قبل انتهاء المفاوضات
لكي لا يضعف مركز مصر في المفاوضات أجبته بكل سرور وهكذا عدت إلى
بغداد متفاهما كل التفاهم مع إخواننا في القاهرة.
ولم تمضي مدة طويلة على عودتي إلى بغداد إلا وبدأت إذاعة (صوت
العرب) تهاجم حكومة العراق وتتهمها بأنها استعمارية وقد انضمت إلى الحلف
التركي الباكستاني وقامت مظاهرات في بيروت من أجل ذلك قتل فيها شاب
وتعطل شباب آخر لإصابته بالعمود الفقري من أجل دخول العراق الحلف
التركي الباكستاني والعراق لم يدخل الحلف التركي الباكستاني. فيظهر أن رسالة
مدسوسة وصلت إلى الحكومة المصرية من إحدى العواصم العربية تقول إن
العراق قد انضم إلى الحلف التركي الباكستاني سرا.
وقد اعتذر السيد صالح سالم بعدئذ لحكومة العراق على الهجمات التي
شنتها الدعاية المصرية على الحكومة العراقية بلا سبب ولا مبرر.
ومضت شهور على استقالة وزارتي وجاء موضوع ميثاق بغداد الذي كان
ينعت بالحلف التركي العراقي وهنا بدأت حرب باردة دامت ثلاث سنوات
فعلا بين مصر والعراق وها أنا أتلو على المحكمة الجليلة صورة كتاب شخصي
بعثت به إلى الرئيس جمال عبد الناصر بعد عودتي من القاهرة حين حضرت
اجتماع رؤساء الوزارات وعلى أثر تفضله في إهداء كتاب فلسفة الثورة إلي
ومن هنا تحكمون على الروح التي أحملها وأعتقد أن كل عراقي مخلص يحملها
نحو إخوانه في مصر.
(الرسالة)
سيادة الأخ الجليل البكباشي جمال عبد الناصر (هذا في سنة 1955) تحية
كريمة.
وبعد فأسأله تعالى أن يأخذ بيدكم دوما إلى ما فيه خير مصر الشقيقة
خاصة والعروبة عامة.
لقد تشرفت بتسلم ثم بتلاوة هديتكم الأخوية القيمة فلسفة الثورة
فقدرت كل التقدير ما لمست فيها من حس مرهف وشعور وطني فياض
ومجابهة للواقع المر المؤلم ومغامرة في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية والإصلاح
الاجتماعي مع النظرة الشاملة إلى ما وراء حدود مصر إلى الدائرة العربية
والإفريقية فالإسلامية. وفي الحقيقة إني من الموقنين بأن العرب لن تقوم لهم
قائمة ما لم يفكروا تفكيرا أساسيا في أوضاعهم ويضعوا الخطط الإصلاحية

142
على أساس الواقع وهذا لا يتم ما لم يستند على الدرس العميق الشامل على
أسس علمية لكل أحوالنا وشؤوننا دولية كانت أو داخلية ثم التحلي بروح
العزم والإخلاص والصدق والتواضع ولا أقصد بالتواضع الاستكانة أو
الاستسلام بل الاعتراف بالحقيقة والواقع دون مبالغة.
أود أن أسجل هنا أن أكبر فائدة استفدتها باجتماع رؤساء الوزارات
العربية عدى ما ساد الاجتماع من صراحة وكشف للواقع هو التعرف إلى
شخصكم الكريم ولا أخفي عليكم بأني مهما اختلفت معكم في بعض الآراء
ولا سيما في تقدير الطرق لمجابهة الوضع فأرى فيكم دوما أخا مخلصا في
القومية العربية وذلك لما لمسته فيكم من روح سام وحب للخير أرجو أن يسودا
كل الإخوان الذين يعملون تحت لوائكم، وعلى ضوء هذه المعرفة الشخصية
أود أن أقرر لسيادتكم بأن التآخي والتعاون والتفاهم بين مصر والعراق هو
الأساس لكل نهضة عربية فالعراق ومصر هما الجناحان اللذان يطير بهما النسر
العربي ولا يمكن أن يطير نسر بجناح واحد أقسم لكم بالأخوة القومية أن
الخطوة التي خطاها العراق كانت منبعثة عن قناعة قومية لحاجة دفاعية ملحة
في موقف دولي خطير هذا هو اجتهاد جل من مارسوا المسؤوليات السياسية
في العراق. ولم يدر في خلد أحد أن ضمان سلامة العراق سيكون داعيا لتأثر
الحكومة المصرية وقلقها أو أنه أريد به مس أو إضعاف الضمان الجماعي
العربي إذ كيف يفكر في هذا الأمر من يعتبر مصر كالعراق وطنا له والمصرين
أخوة. والآن وقد وقع ميثاق التعاون بين العراق وتركيا فالمأمول من سيادتكم
عملا بروح المبدأ القومي الذي تعتنقونه أن تعملوا في إنهاء التوتر الذي قام بين
القطرين الشقيقين ذلك التوتر الذي لم يستفد ولن يستفيد منه إلا الأعداء وفي
مقدمتهم إسرائيل. وما العدوان الإسرائيلي الأخير الذي اهتزت له مشاعر كل
عراقي إلا نتيجة لهذا التوتر الذي يزيد الخصوم استغلاله أبشع استغلال. أما
المحاولات التي يقوم بها سيادة الأخ صلاح سالم من أجل إنشاء ضمان جماعي
أو اتحاد عربي بدون العراق فهي لا تخدم أهداف العرب العليا فهي في الحقيقة
تتنافى مع أبسط المبادئ القومية التي نؤمن بها جميعا فرجائي من سيادتكم أن
تأخذوا بنظر الاعتبار سياسة العراق التقليدية وتتدارسوا الأوضاع الدولية مع
رجال العراق المجربين وتتفقوا على الخطة المثلى للسياسة العربية في الوضع
الدولي الراهن فذلك خير وأجدى لمصر والعراق والعرب جميعهم يسرني أن
أهدي لسيادتكم نسخة من خطاب ألقيته في البرلمان العراقي سنة 1949 أي
قبل ست سنوات عن السياسة الخارجية العراقية ومنه يتضح أن ما قام به
العراق اليوم لم يكن وليد الارتجال إنما هو تنفيذ لسياسة ثابتة مستقلة لم يحد
عنها. رجائي لسيادة الأخ أن يعمل مسرعا لتصفية الجو وإعادة الحياة إلى
مجاريها بين مصر والعراق والأخذ بروح الأخوة والصداقة والمصلحة العربية
العليا التي لا يمكن أن تتجزأ. تلك المصلحة التي يجب أن تبنى على وحي
العصر والأخذ بحقائق السياسة الدولية ومعرفة المخاطر المحدقة بنا من جهة
ومعرفة أوضاعنا معرفة لا مغالاة فيها ولا ادعاء من جهة أخرى وأخيرا أهدي
إليكم فائق احترامي وجميل تحياتي وأطيب تمنياتي.
أخوكم المخلص
فاضل الجمالي
ولما تفاقم الوضع بين مصر والعراق ربيع 1955 تقدم الرئيس كميل
شمعون باقتراح إلى الرئيس جمال بأن يلغي ميثاق بغداد على أن يقوم الرئيس
جمال عبد الناصر بدعوة كل الدول العربية ودول ميثاق بغداد الإسلامية لعقد
ميثاق جديد ولكن الرئيس جمال لم يجب على هذا الاقتراح على ما أعلم.
اجتمعت بالرئيس جمال في مؤتمر باندونغ نيسان 1955 ورجوت وضع
حد للإذاعات وكانت قد ظهرت إذاعات سرية على ما أخبرني سيادته لإنهاء
التهاتر بين البلدين الشقيقين فوافقني على ضرورة ذلك ووعد ولكن شيئا لم
يحدث. اجتمعت في خريف 1955 مع الدكتور محمود فوزي وزير خارجية
مصر في نيويورك وتحدثنا في المصالح العربية وضرورة تنسيق سياسة البلدين
مصر والعراق فإذا وجدت مصر أنها تستفيد من الجبهة الشرقية قد تفعل ذلك
فإذا وجد العراق أنه يستفيد من الجبهة الغربية فليفعل ذلك على أن يكون هناك
تفاهم ووئام وأخوة بين البلدين وأن توقف المهاترات في الدعاية فاتفقنا على
ذلك ولم يحدث شئ من ذلك.
حدث الهجوم الغاشم على القنال في 1955 وأنا في طريقي إلى جمعية
الأمم المتحدة. وقفت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة أدافع عن مصر
أقوى دفاع وقفت أدافع عن العراق بالفعل إذ أن مصر والعراق واحد في
شعوري ويؤسفني أن أسمع بعدئذ أن الحكومة العراقية لم تذع خطبي الدفاعية
عن مصر في الإذاعة العراقية مما جعلني أرسل برقية إلى رئيس الوزراء أسأله
إذا كانت سياستي غير موافقة للحكومة لماذا لا تخبروني وإذا كانت موافقة
للحكومة تؤيدها لماذا لا تذاع خطبي؟
ولذلك فخطبي غير معروفة لدى الرأي العام هنا ولكن محاضر الجمعية
العمومية موجودة ومجموعة خطبي في الأمم المتحدة سنة 1956 و 1957
أرجو أن تكون موجودة لدى المحكمة المحترمة لأني طلبت إرسالها من قبل
وزارة الخارجية. أرجو أن تراجع خطبي السبعة أو الثمانية في الدفاع عن
مصر. وأرجو من المحكمة الجليلة أن تطلع عليها لتعرف بأني حين قلت
لوزيرة خارجية إسرائيل حين هاجمت الرئيس جمال عبد الناصر: كل ساسة
العرب هم جمال عبد الناصر وكل الأقطار العربية هي مصر كنت أعني ذلك
من أعماق قلبي هذا وأني لأرجو أن يستشهد الدكتور محمود فوزي وزير
خارجية مصر اليوم عن موقفي في الأمم المتحدة أثناء العدوان المثلث. ولكي
تقدر المحكمة المحترمة موقف إذاعة (صوت العرب) من شخصي آنذاك أسوق
لها الحادثة التالية:
في الوقت الذي كنت أدافع عن مصر أحر دفاع بحثت اللجنة السياسية
في الأمم المتحدة موضوع نزع السلاح فاغتنمت الفرصة وهاجمت سياسة
الغرب التي توازن بين تسليح الدول العربية وتسليح إسرائيل وقلت إن هذه
سياسة جائرة وهي سبب الاضطرابات في الشرق الأوسط وهي التي تشجع
إسرائيل على العدوان المتكرر على البلدان العربية المجاورة وأيدت مصر في
حصولها على الأسلحة من الجانب الشرقي وبالوقت نفسه طلبت أن ينزع
سلاح إسرائيل أو يوقف تزويد هذا السلاح حتى يكون لديها ما يناسب
حجمها.
تكلم بعدي مباشرة مندوب مصر فأيد ما قلته كل التأييد ومحضر اللجنة
السياسية موجود أتدرون يا سادتي ماذا أذاعت إذاعة صوت العرب؟ أذاعت
أن الجمالي يطالب بتسليح إسرائيل. جائتني برقية من بغداد تسأل عن الواقع
فأرسلت نص خطابي حرفيا.
جرت محاولات عديدة لإحلال التفاهم بين ساسة مصر والعراق وحاول
بعض رؤساء الوزارات السابقين أن يجتمعوا بالرئيس جمال فلم يفلحوا ومع أن
الرئيس جمال قد أبدى إلى السيد توفيق السويدي أنه نادم على مهاجمة ميثاق
بغداد ونادم على مجافاة الغرب إلا أن آثار هذا الندم لم تظهر عمليا. ولكن
الحرب الباردة اشتدت خاصة بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة ثم اتحاد
العراق بالأردن وقد نالني من هجوم الدعاية المصري نصيب وافر على أثر
اعتراضي على الوحدة بدل الاتحاد وكونها مع مصر قبل أن تكون مع العراق.
إني كسياسي حر في إبداء رأيي واجتهادي وليس من الضروري أن يكون
رأيي صائبا أو مقبولا أما حرية إبداء الرأي فهي من الأمور الأساسية في الحياة

143
السياسية في البلد وأنا لم أكن في المسؤولية لم أكن في الحكم كسياسي مستقل
ومع أني لم أكن في الحكم ولا تترتب أية مسؤولية على آرائي فقد خصني
الرئيس جمال في هجوم خاص في خطابه بدمشق في شباط الماضي فنعتني
بعميل الاستعمار وقال إن الاستعمار يمولني ويمول جريدتي.
أن شخصا له من الخدمات في الحقل مثلي ليتحدى أي إنسان. هل إني
خدمت غير أمتي؟ أو أني تقاضيت فلسا واحدا من أية جهة وطنية كانت أم
أجنبية غير راتبي ومخصصاتي؟ والكل يعلم أنني رجل لا أملك ثروة ولا أملاك
ولا أراضي حافظت على نزاهتي طول حياتي وهذا أعز شئ لدي. ولكن
العتب ليس على الرئيس جمال فليس المفروض بالرئيس أن يكون ملما بدخائل
الأشخاص بل العتب على مستشاريه الذين كان الإخلاص يدعوهم أن يعرفوا
الأشخاص جيدا قبل أن يزجوا أسماءهم في خطب الرئيس ولكن المهم يا
سادتي ليس شخصي. المهم أن الإذاعة المصرية وصوت العرب خاصة أخذت
شكلا استفزازيا يدعو الشعب العراقي إلى الثورة ويدعو الجيش والشرطة إلى
العصيان وينعت كل نائب في البرلمان الأخير بأنه إما خائن أو جاسوس أو
عميل إلى شركة النفط. الأمر الذي لم يسبق له مثيل في العلاقات الدولية لا
سيما بين الشقيقات ولما قدمت الحكومة العراقية احتجاجا بذلك إلى وزارة
الخارجية في القاهرة رفضت استلام الاحتجاج الأمر الذي جعل الحكومة
العراقية تفكر في تقديم شكوى في مجلس الأمن. ولما كان لبنان قد قبلت
شكوه اكتفينا على أن تقبل شكوانا ضمنا. هذا كل ما حدث وليس في خطابي
في مجلس الأمن الذي أصف فيه سياسة الرئيس جمال عبد الناصر كما طبقت
في العراق أي مس بشخصه أو تجريح بشخصه لأني أحترمه وأجله ولم تحدث
الأوضاع أي تغيير في احترامي لشخص الرئيس جمال أو إعجابي بشخصه
كزعيم عربي مخلص لشعبه وأؤكد للمحكمة المحترمة بأن الأمور مهما بلغت
من التوتر بين مصر والعراق فإني أكون دوما أقوى من يدافع عنه وعن مصر
إذا هاجمه أجنبي. هذه صفة عربية معروفة أحملها ثم يا سادتي شرعت الأمم
المتحدة قواعد ثابتة معروفة لا يجوز لأي خطيب أن يمس شخصية أي إنسان
إذا مسها فالرئيس يوقفه.
وقد أوقفت مرارا حين مناقشاتي مع اليهود والصهيونية ومع فرنسا أوقفني
الرئيس. وإذا لم يوقف الرئيس وتهاون فواجب مندوب تلك الدولة التي يهان
شخصها أن يلفت أنظار الرئيس. إن شيئا من هذا لم يحدث من وراء خطابي
في مجلس الأمن الذي يستدل منه بأنه لم يكن خطابا شخصيا موجها لشخص
إنما كان خطابا يناقش سياسة ومع أن اتصالي ليس فيه أي مس بشخصية
الرئيس فإني أثبت بأن للرئيس جمال شخصيتين فهو رئيس دولة ورئيس حكومة
في الوقت نفسه. ففي نظام الرئاسة المتبع في مصر وفي الولايات المتحدة
الأمريكية رئيسة الدولة هو في الوقت نفسه رئيس حكومة أي بمثابة رئيس
وزراء. وإذا نوقشت سياسته أو انتقدت فإنما تناقش وتنتقد بوصفه رئيس
حكومة وليس بوصفه رئيس دولة ولذلك فلا ينطبق تعبير رئيس دولة الوارد
في المادة الأولى الرقم 7 على ما ورد في خطابي فإنه موجه لسيادته بوصفه
رئيس حكومة وواضع سياسة وهو بهذه الصفة يجتمع مع السيد خروشيف.
وعلى هذا الأساس نفسه تنتقد سياسة الرئيس أيزنهاور ومبدأ أيزنهاور فإن
الرئيس أيزنهاور بوصفه رئيس حكومة يجتمع مع رؤساء الوزارات بالإضافة إلى
كونه رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية يجتمع بالملوك.
في الحقيقة أن ما حصل بين مصر والعراق في السنوات الأربع الماضية
يشكل مأساة قومية ليس العراق هو المسؤول عنها بالدرجة الأولى.
ويعلم الله أني حاولت في ظروف مختلفة وبطرق مختلفة تصفية الجو ولكن
الجهات المسؤولة لم تكن مستعدة وكانت تأخذها العزة (في العراقيين عندنا
وعندهم) فلا تتساهل ولا تلين.
في نهاية مناقشتي مع الدكتور عمر لطفي مندوب العربية المتحدة في
مجلس الأمن قلت له نحن إخوانكم نريد لكم الخير ولم نسئ إليكم وكل ما
نرجوه هو أن تكفوا دعايتكم عنا، هذا كل ما نريده منكم. وأخيرا أؤكد
للمحكمة المحترمة بأني لا أجد نفسي مقصرا قط في هذه المعركة المؤلمة التي لم
يكن لي دور فيها سوى دور الدفاع عن النفس بالنسبة للعراق والدفاع عن
النفس حق شرعي تعترف به الشرائع السماوية والأرضية. فإذا ما حللت
وانتقدت سياسة الرئيس جمال عبد الناصر بوصفه رئيس حكومة لا رئيس دولة
فإنما فعلت ذلك دفاعا عن العراق دفاع أخ إزاء أخ ولاني كنت أتمنى أن
يساعد المحيط الدولي على تصفية الجو بعد أن عجزت المحاولات الثنائية. ولم
أقصد قط التعرض أو مس شخص الرئيس جمال عبد الناصر الذي أجله
وأحترمه.
إن دفاعي عن لبنان في مجلس الأمن كان يمثل سياسة عراقية مستقرة
فالعراق كان ولا يزال يريد للبنان الشقيق الطمأنينة والاستقرار ولا سيما وأنه
يتكون من فسيفساء بشرية جميلة في شتى المذاهب والأديان كما أنه يكون
مركزا عصبيا حساسا للأقطار العربية وذلك لأنه مركز التقاء أبناء الشعوب
العربية المختلفة.
ولبنان في سياسته الخارجية كان دوما متعاونا مع العراق في منظمة الأمم
المتحدة، كما أنه في سياسته العربية يمثل الحياد بين الدول العربية كافة. ولما
قامت دعاية الجمهورية العربية المتحدة أريد إخراج لبنان من حياده العربي
وجعله ينحاز إلى سياسة الحياد الإيجابي، ولما صارت حكومة لبنان تهاجم في
الوقت الذي تهاجم فيه الحكومة العراقية من قبل دعاية الجمهورية العربية
المتحدة جمعت المصيبة الحكومتين. ثم إن معلومات مستمرة كان تصل الحكومة
العراقية عن طريق الممثليات والملحق العسكري تخبر عن تسلل الثوار من
سوريا إلى لبنان بصورة مساعدات وذلك قبل بداية الحركات في لبنان
وبعدها. ذلك عدى التدخل عن طريق الدعاية لا سيما الإذاعة وسياسة
الزعماء المعارضين للرئيس جمال وتبادل الرأي معه. كل ذلك مما جعل العراق
يدافع عن حكومة لبنان إذ كان ذلك بمثابة الدفاع عن النفس. وكلما طلبه
الوفد العراقي في مجلس الأمن هو إيقاف التدخل في لبنان وإيقاف الإذاعة
والدعاية التي كانت بمثابة المروحة فوق النار. هذا وأن موقفي في مجلس
الأمن كان بمثابة شكوى عراقية على الجمهورية العربية وذلك للهجمات
القاسية التي كانت تبثها الدعاية ضد رجال العراق إذ أن موقفي في مجلس
الأمن كان منسجما مع سياسة الحكومة العراقية وشعورها وقت عرض شكوى
لبنان. ولم يكن فيه أي تعرض كما قلت لشخص الرئيس جمال عبد الناصر
كرئيس دولة مطلقا.
لقد قيل إني عرضت العراق لخطر الحرب بسبب مهاجمة المعسكر الشرقي
والسير مع المعسكر الغربي. ردا على ذلك إني أهاجم المعسكر الشرقي ولا أحمل
للمعسكر الشرقي أي عداء، بل إني أهاجم الشيوعية الدولية كمبدأ وكسياسة
ومن حقي أن أدافع عن نفسي ضدها. فليس الوقوف في وجه تيار الشيوعية
الدولية معناه معاداة المعسكر الشرقي وليس اتخاذ التدابير الدفاعية ضد انتشار
الشيوعية معناه عداء للمعسكر الشرقي. ولا يعني ذلك أنني أود أن أنجرف
في العلاقات مع الشرق إلى درجة تطغى الدعاية الشيوعية على بلادي
وتقتحمها قبل أن نستطيع حمايتها إذ لو كنا بلدا راقيا قويا لما خشيت الدعاية
الشيوعية قط. أما دفاعي عن تدابيرنا الدفاعية مع الغرب فهي بدورها ليست
لتقريب العراق من الحرب بل بالعكس لإبعاد العراق عن الحرب وعن العالم.

144
لإيقاف الحرب في العالم طرق ثلاث:
1 - اتباع سياسة المقاومة السلبية أو الغاندية أو سياسة الكويترس أي لا
تتحرك وليحدث ما يحدث. وليس في العالم اليوم دولة تقبل هذه السياسة
حتى ولا الهند نفسها كما صرح نهرو بذلك.
2 - سياسة نزع السلاح وقبول مبدأ التفتيش الكامل للتسلح بما في ذلك
الجو المفتوح وهذا مع الأسف الشديد لم يحصل الاتفاق عليه إذ لم تتفق الدول
الكبرى بعد على مبدأ التفتيش الكامل أو اتباع سياسة الجو المفتوح للتفتيش
بحيث تكون الطمأنينة تامة، وهذا يتطلب بالطبع تفاهما حقيقيا على مبدأ
التعايش السلمي والتسليم بإمكانية وجود النظريات السياسية والاجتماعية
والاقتصادية المنوعة جنبا إلى جنب بدون أن تطغى إحداها على الأخرى
بالقوة. وهذا لم يحدث بعد مع الأسف.
3 - طريقة الاستعداد وتنظيم الدفاع فإذا كان هناك تنظيمات دفاعية واقية
فاحتمال مواجهة الخصم تكون أقل بعكس ما إذا عرف الخصم بان هناك نقاط
ضعف ينفذ منها ولذلك نظمت الجبهة الشرقية نفسها في ميثاق وارسو
ونظمت الجبهة الغريبة نفسها في ميثاق الأطلنطي وغيره من المواثيق.
أما الحياد فليس لدينا أي دليل أنه يضمن السلام، والدول المحايدة كم
شاهدنا في الحربين العالمتين السابقتين اكتسحت إذا كانت على الطريق.
ولذلك فإذا دعوت إلى اتخاذ موقف دفاعي إزاء الشيوعية العالمية، فليس معنى
ذلك معاداة الدول الشرقية أو الشعوب الشرقية. فمعظم دول العالم اليوم
داخلة في تنظيمات كهذه كما أنه لا يعني تقريب العراق من خطر الحرب بل
العكس هو الأقوى احتمالا، وليس عندنا أي دليل قاطع بأن نظرية الحياد هي
أقرب إلى مرامي السلم، بل العكس هو المحتمل أيضا هذا أمر اجتهادي ولا
يمكنني التكهن التام به نحن نرجو أن يكون خطر الحرب بعيدا عن الإنسانية
على كل حال ولا نستطيع أن نتصور إنسانا إلا إذا كان مجنونا يتحمل تبعة
إشعال نار حرب هي بمثابة انتحار للبشرية كلها ونهاية لمدنية الإنسان. هذا
وأرجو أن يكون واضحا بأن سياسة التعاون مع الغرب لم تكن سياسة العراق
لوحده بل إنها سياسة أقرتها الجامعة العربية سنة 1950 على ما أتذكر أما أن
الجامعة آنذاك اعترفت بضرورة طلب المعونة العسكرية وغيرها أما من الشرق
أو من الغرب، وقررت التعاون مع الغرب فحسب علمي أن ذلك القرار لم
يتبدل في الجامعة لحد الآن ولما قررت مصر الاستعانة بالجهة الشرقية في أخذ
السلاح رحب العراق بذلك وإني دافعت عن ذلك في عدد من خطبي داخل
الأمم المتحدة وخارجها. ولكن سياسة مصر هذه لم تقرر في الجامعة العربية
إجماعيا بعد وبقيت كل دولة تسير وفق مصالحها وبعض الدول العربية صارت
تتعامل مع الشرق والبعض الآخر مع الغرب ولذلك فلا يصح أن يظن أن
فاضل الجمالي هو واضع هذه السياسة وإنما أنا من المعتنقين بأن طلب المعونة
من أحد الطرفين ضروري. وأن استعانة مصر بالجهة الشرقية وهو عمل
مشروع سد عليها الجبهة الغربية إلى حد ما في الوقت الحاضر على الأقل
فالنتيجة واحدة أما أن نستعين أما بالشرق أو بالغرب ولذلك فلا يجوز أن يظن
بأني أنا الذي سقت العراق نحو المعسكر الغربي وأقصيته عن المعسكر الشرقي.
الدعاية حولي هو أني أسير مع المعسكر الغربي دون قيد أو شرط وهذا غير
صحيح كما شهد بذلك الأستاذ الشبيبي قبل أمس إذ طالما تحدثنا بأن سيرنا مع
الغرب يجب أن يكون مقرونا بشروط تضمن بها مصالحنا القومية. هذا وأني
لأنفي ما يشيعه عني المغرضون بأني أستوحي سياستي من جهات أجنبية.
والحقيقة هي أني استوحيت سياستي من تاريخ العراق الحديث وموقعه
الستراتيجي وظروفه السياسية آنذاك فظروف العراق السياسية لم تكن ثورية
كما هو الحال ولم تنح منحى الحياد الإيجابي.
ولا يجوز أن ننسى أن هم السياسة المسؤولين الأول كان لعهد قريب إنهاء
المعاهدة العراقية - البريطانية وخروج الإنكليز من مطاري الحبانية والشعبية.
أما ميثاق بغداد فجاء وسيلة للتخلص من معاهدة جديدة ثنائية بين بريطانيا
والعراق. فمصر حين وقعت اتفاقية الجلاء وقعت تعهدا ثنائيا تسمح به
للإنكليز بالعودة للقنال إذا هوجم بلد عربي أو هوجمت تركيا. ثم ألغت مصر
هذا الاتفاق بعد العدوان المثلث الغاشم.
إن الساسة العراقيين فضلو أن لا تكون بينهم وبين الإنكليز معاهدة ثنائية
فاستعانوا بميثاق بغداد، أما دخول المواثيق أو عدمه هذه المسألة اجتهادية في
الساسة الدولية، ينقسم فيها الساسة إلى قسمين القسم الأكبر وهم يشكلون
معظم دول العالم قد دخلوا في مواثيق كما في وارشو والكتلة الشرقية والبلقان
ودول شرقي آسيا وبغداد وحلف القارة الأمريكية. والقسم الأقل يدعو إلى
الحياد الإيجابي منهم الهند ويوغسلافيا والجمهورية العربية المتحدة وبورما
وأفغانستان. ويجب أن نقرر هنا بأن نفوذ الأحلاف يجب أن يكون دوما أمرا
دفاعيا لا عدائيا ولذلك فالعلاقات صاحبة الأطراف المختلفة يجب أن تكون
طبيعية سواء كانت في الشرق أو الغرب وليس من الصحيح من يرى صحة
المواثيق أو الأحلاف خائنا أنه قد قد يكون مخطئا فالأمر كما أشار الأستاذ
الشبيبي في شهادته أمر اجتهادي.
اجتهدنا فيما مضى بسياسة المواثيق عن قناعة واليوم وقد اختار العراق
سياسة الحياد الإيجابي فنرجو له التوفيق في سياسته الجديدة.
وبهذه المناسبة أود أن أبدي للمحكمة الجليلة بأني لم أكن من عاقدي ميثاق
بغداد ولا من الموقعين كما سبق أن أشار سيادة المدعي العام ولم أكن في
المسؤولية حين عقد بل كل ما هنالك أني أيدت الميثاق كما أيده الكثير من
أعضاء مجلس الأمة.
الحكم
حكمت محكمة المهداوي على الجمالي بما يلي:
1 - بالإعدام شنقا حتى الموت.
2 - بالأشغال الشاقة المؤبدة.
3 - أيضا بالأشغال الشاقة المؤبدة.
4 - بالأشغال الشاقة الموقتة.
5 - أيضا بالأشغال الشاقة الموقتة.
6 - تنفذ عليه هذه الأحكام بالتداخل.
معاهدة بورتسموت
أشار المترجم خلال دفاعه إلى معاهدة بورتسموث وكره وزير خارجية
بريطانيا يومذاك (أرنست بيفن) لليهود وتصميمه على إفشال مشروع الدولة
اليهودية في فلسطين واتخاذه المعاهدة ذريعة لإرسال 70 ألف بندقية باسم
الشرطة العراقية لتسلم إلى العرب الفلسطينيين، وإمداد الجيش العراقي
بالسلاح الخفيف والثقيل ليكون مهيئا لاحتلال كل أرض يجلو عنها الإنكليز
بعد إعلان التقسيم.
ونحن نعرف أن الغوغائية العربية أفسدت هذا الترتيب بما أثارته في
بغداد من هيجان في الشارع ومظاهرات استغلت فيها الشعارات الجوفاء حتى
أبطلت المعاهدة.
وذلك أن الوفد العراقي المفاوض في لندن أرسل نص المعاهدة إلى بغداد
ليطلع عليها الوزراء العراقيون قبل عودة الوفد العراقي، وأوصى الوفد بعدم
نشرها قبل عودته لأنها تحتاج إلى توضيح لا يوجد في النصوص، وهو ما

145
أشار إليه الجمالي من أمر السلاح. ولكن حماقة نائب رئيس الوزراء جلال بابان
لم تراع فنشر المعاهدة عند استلامه لها في الصحف.
ومع ذلك فقد كان على الناس درس نصوصها قبل الثورة عليها، ولكن
الذي حدث أنه بمجرد نشر النصوص وقبل أن تطرح تلك النصوص للدرس
والتحقق من صلاحها أو فسادها، هب الغوغائيون لإهاجة الشارع وإثارة
الطلاب، وتعمد من تعمد الاصطدام بالشرطة الموافقة للمظاهرات فحدثت
الإصابات وسالت الدماء وعاد الأمر فوضى لا حدود لها ما حمل الوصي عبد
الإله على إعلان إلغاء المعاهدة وعدم قبولها تسكينا للهياج وإخمادا للفتنة.
وذلك قبل عودة الوفد العراقي العاقد للمعاهدة. وقد كان وراء إثارة
تلك الغوغائية الشارعية عوامل أهمها: أنه لم يكن خافيا على الصهاينة في
لندن ما وراء إبرام المعاهدة من شر لهم، فإن لهم عيونهم التي ترصد
الخوافي، فتسرب إليهم ما تعاقد عليه (بيفن) مع الوفد العراقي فأوعزوا إلى
يهود بغداد بتدبير أمر الفتنة، وقد كانت لهم وسائلهم التي تمكنهم من إثارتها.
فقد كنت يومذاك في بغداد، ولم نكن على علم فما خفي من أمر
المعاهدة، فكانت تحدث أمور كنا نحار في تفسيرها. فبينما كانت المظاهرة
الصاخبة تمشي في شارع الرشيد في بغداد تواكبها الشرطة دون أن تتعرض
لها، وكان الأمر يمضي سلميا لا صدام بين المتظاهرين والشرطة. وبوصول
المتظاهرين إلى محاذاة جامع مرجان إنهال الرصاص من الشرفات على السائرين
في الشارع فأصاب بعضه الشرطة وأصاب بعضه المتظاهرين. فظن المتظاهرون
أن الشرطة تطلق عليهم الرصاص وظنت الشرطة أن المتظاهرين يطلقون عليها
الرصاص، فكان ذلك مفتاح الصدام الدموي، وتحوي المظاهرات إلى معارك
بين الناس والشرطة ثم الجيش. وأفلت الزمام وعمت الفوضى وخيف ما هو
أبعد من ذلك، فكان أن ارتأى من ارتأى إعلان إبطال المعاهدة تسكينا للهوجة
الهائجة باسم المعاهدة.
وبالفعل فقد هدأت الحال، فلم يرق هذا الهدوء لمن هم وراء ما جرى،
فكانوا يريدون استمرار الفوضى حتى عودة الوفد من لندن ليواجهوه
بالاضطراب العنيف الدائم الذي لا يمسكه شئ، خوفا من أن يعقل الناس
ما وراء المعاهدة من التسلح فيهدأوا.
وكانت الاصطدامات قد أعقبت قتلى نقلوا وهم جرحى إلى المستشفيات،
فعندما كان يموت أحدهم كانت تنطلق السيارات الكبيرة من شاحنات
وحافلات في الشوارع والأحياء لا سيما حيث تكون تجمعات، فينادي من في
الشاحنات والحافلات بأن شهيدا في المستشفى الفلاني قد توفي فمن شاء
الاشتراك في تشييع جنازته فهذه السيارات حاضرة لنقله، فيسرع الناس إلى
السيارات فتمتلئ بهم ليتجمعوا أمام المستشفى بعشرات الألوف فيتألف منهم
موكب حاشد حاقد ثائر للدماء المراقة، مثار بما يلقى على مسامعه من هتافات
ثأرية دموية. وهكذا تظل مظاهرات الحقد والنقمة والثورة متمادية لا تنقطع.
وكنا عندما كانت تصل هذه الأنباء كنا نتساءل عمن ينفق الأموال الطائلة
على تلك السيارات، ومن هي الجهة المحركة لكل ما يجري. ولم يكن في
أذهاننا شئ عما وراء عقد المعاهدة من أبعاد.
وقد رابنا ما أنبأنا به بعض العارفين من أن يهوديا يعرفهم كانوا يتحركون
تحركات مريبة لم يستطع تفسيرها.
ومما ساعد على الهياج تعمد من تعمد إفشال تجربة مجئ رئيس وزراء
شيعي (صالح جبر) لأول مرة. فكان في إفشال المعاهدة إفشال له شخصيا
وإفشال للخروج على التقليد الطائفي السابق الذي لم يجئ فيه رئيس شيعي
للوزارة.
ولو قدر لهذا الفريق ذي اللون الطائفي معرفة ما وراء عقد المعاهدة،
لأحجم عن الإقدام على ما أقدم عليه ولتغلبت وطنيته على طائفيته.
كذلك كان لدعاة الاتحاد السوفيتي مشاركة فعالة في تحريك الهياج.
وهكذا اجتمعت على إفشال المعاهدة عناصر متناقضة، متباعدة في
أهدافها وغاياتها فكان ما كان...
أما عداء بيفن وزير الخارجية البريطاني يومذاك لليهود إلى حد أن سموه
هتلر الثاني فقد كان واضحا. وهو الذي قال للزعيم الصهيوني ناحوم
غولدمان: " لقد قرأت التوراة ولم أجد فيها ما يشير إلى حق اليهود في امتلاك
فلسطين ".
وننشر هنا مقطعا من مقال نشره الصحافي المصري محمد حسنين هيكل
في جريدة النهار ثم نشره مع غيره في كتاب له:
توحي القراءة الأول للوثائق البريطانية عام 1946 أن الحكومة البريطانية
بزعامة كليمنت آتلي رئيس الوزراء العمالي، كانت ترى في شأن فلسطين رأيا
يختلف نوعا ما عما ذهبت إليه حكومة المحافظين بزعامة ونستون تشرشل
رئيس الوزراء السابق الذي اشتهرت عنه صهيونيته الجامحة.
لكن القراءة الثانية المتأنية لهذه الوثائق تظهر أن الحقيقة كانت أكثر تعقيدا
من ذلك، لأن التأثير الصهيوني كان نافذا إلى قاعدة حزب العمال بأكثر من
نفاذه في قمة حزب المحافظين (في ما عدا ونستون تشرشل شخصيا).
وربما بدا أن سياسة أرنست بيفن وزير الخارجية العمالي القوي تأخذ
منحى مغايرا، لكنه في الحقيقة كان طريقا آخر إلى الهدف عينه.
والحاصل أنه كانت أمام بيفن اعتبارات عدة تظهر واضحة في تصرفاته:
1 - وزير الخارجية البريطاني الجديد يريد قبل الحسم في فلسطين أن يصل
إلى تسوية لأوضاع البلدان العربية المحيطة بها، وهي بالتحديد الأردن والعراق
ومصر وكلها بدرجة أو بأخرى تحت النفوذ البريطاني وفق ترتيبات أبرمت قبل
الحماية.
- شرق الأردن منذ تنصيب عبد الله أميرا عليه عام 1922 تحت
الحماية.
- والعراق مرتبط بمعاهدة عام 1930 وهي علاقة أكثر تقدما بمسافة
قصيرة من الحماية.
- ومصر ضيقة الصدر بمعاهدة عام 1936 التي أصبحت " غير ذات
موضوع "، على حد تعبير أحد وزراء خارجيتها في ذلك الوقت وهو أحمد
لطفي السيد باشا.
وكان تقدير بيفن أن يبدأ بالأسهل وينتهي بالأصعب في شأن هذه البلدان
الثلاثة قبل البت النهائي لموضوع الدولة اليهودية في فلسطين. وفي ظنه أن
الدولة اليهودية إذا نشأت قبل تسوية العلاقات مع شرق الأردن والعراق
ومصر، فإن المشكلة الفلسطينية سوف تتداخل بما هو أوسع منها، ومن ثم
تجعل المفاوضات المنتظرة مع هذه البلدان الثلاثة مشكلة عويصة بالاتصال
والتشابك.
2 - وكان أرنست بيفن يريد تفادي خطر آخر رآه مقبلا، وهو أن
الولايات المتحدة الأميركية تدخل منطقة الشرق الأوسط بطريق الاقتحام
تقريبا. وهذا يضع الحكومة البريطانية العمالية في صورة تبدو معها كأنها
مستسلمة لمقادير أمريكية، فإذا حاولت أن تعترض فإن الاعتراض قد يؤثر على
العلاقات الخاصة بين البلدين، وهو أمر لا تتحمله بريطانيا التي خرجت من
الحرب طامعة في مساعدات أمريكية تعوض أعباءها.

146
وفي ذلك الشأن أيضا فان أرنست بيفن أحس بأن دول المنطقة التي يريد
أن يسوي الأمور معها (الأردن والعراق ومصر)، راحت تستند إلى التناقضات
البريطانية - الأميركية وتلعب على أوتارها، وإذا لم يتوصل بسرعة إلى ترتيبات
جديدة مع هذه الدول فإن الاقتحام الأميركي قد يعطل، ويخلق تعقيدات
إضافية لا تتحملها الظروف.
3 - ومن ناحية أخرى، فإن أرنست بيفن كان يرى نفوذ الحركة
الصهيونية الصاعد في الولايات المتحدة، وهو لا يريد أن يترك الزمام في يد
الولايات المتحدة التي لا يعتقد بخبرتها في قضايا الشرق الأوسط، وهو يخشى
أنها تقتحمه مثل " ثور اندفع إلى محل لبيع الزجاج والخزف الصيني، ومن
الأرجح أنه سوف يكسر كل ما فيه ". وكان بيفن يخشى من أن إنشاء الدولة
الإسرائيلية قد يتم الآن برعاية الولايات المتحدة الأميركية وليس بريطانيا،
وذلك ما لا يريده.
ويروي الزعيم الصهيوني ناحوم غولدمان في مذكراته التي صدرت تحت
عنوان " المأزق اليهودي "، أنه في لقاء وبيفن عام 1946 فوجئ بوزير
الخارجية البريطاني يوجه إليه سؤالا صريحا:
- ماذا تريدون بالضبط في فلسطين؟
فرد غولدمان: " نريد فلسطين نفسها ".
وقال بيفن: هل أفهم أنكم تريدون فلسطين كلها؟
وهز غولدمان رأسه إيجابا.
وقال بيفن: هل تريد من الحكومة البريطانية أن تتنازل عن أهم منطقة
استراتيجية في العالم لدولة يهودية في فلسطين؟
فرد غولدمان طبقا لقوله: " سيدي وزير الخارجية... ولم لا؟ ".
وابتسم بيفن وقال: لكن العهد القديم لا يقول ذلك. وقد قرأت التوراة
ولم أجد فيها ما يشير إلى الحق في امتلاك كل فلسطين ".
وكان رد غولدمان: " وأنا أيضا قرأت التوراة ولم أجد فيها ما يدل على أن
الحكومة البريطانية لها الحق في امتلاك كل فلسطين ".
ونقول: مما يؤيد ذلك أن أحد سكرتيري بيفن المقربين كشف النقاب في
مذكراته عن أن وزير الخارجية قد تنبأ بانتصار العرب في القتال.
نقول: إنه تنبأ بذلك اعتمادا على ما وعد العرب به من أمدادهم بالسلاح
استنادا إلى معاهدة بورتسموث.
ولكن الغوغائية العربية أفسدت ذلك، كما ظلت تفسد أمورهم بعد ذلك
وصولا إلى حرب 1967 ويبدو أنها ستظل تفسد أمورهم إلى وقت لا يعلمه
إلا الله.
مؤلفاته
من آثاره في حقل التربية والتعليم
1 - التربية لأجل حضارة مبتذلة، بغداد 1929. نقله عن الإنكليزية
للأستاذ وليم كلباترك.
2 - العراق الجديد - مشكلة في تربية البدو " بالإنكليزية " كلية المعلمين
جامعة كولومبيا 1934.
3 - وجهة التربية والتعليم في العالم العربي وخاصة في العراق، بغداد
1935.
4 - التربية والتعليم في تركيا الحديثة، بغداد 1937.
5 - اتجاهات التربية والتعليم في ألمانيا وإنكلترا وفرنسا، بغداد 1938.
6 - الاتجاهات المقترحة للتربية والتعليم في إنكلترا بعد الحرب، بغداد
1943.
7 - مذكرة في مستقبل التربية والتعليم في العراق، بغداد 1944.
8 - تربية الإنسان الجديد، تونس 1981، (طبعة ثانية).
9 - آفاق التربية الحديثة في البلاد النامية تونس والجزائر، طبعة ثانية
1986.
10 - نحو توحيد الفكر التربوي في العالم الإسلامي، تونس طبعة ثانية
1978.
11 - نحو تجريد البناء التربوي في العالم الإسلام، تونس 1984.
12 - نحو تربية مؤمنة، تونس طبعة ثانية 1985.
13 - الفلسفة التربوية في القرآن، بيروت 1980 طبعة ثانية.
14 - دعوة إلا الإسلام (حقيقة الإسلام) رسائل من والد في السجن إلى
ولده طبعات عديدة في بيروت وتونس، ترجم ونشر في عدة لغات عربية،
وشرقية، الطبعة الأولى بيروت 1963.
15 - خبرات وآراء في الدراسة الجامعية، القاهرة 1993.
16 - زاد المربي، تونس 1995.
17 - دفاعا عن العربية تونس 1996.
18 - نظرة واقعية متجددة إلى التربية الإسلامية، معد للطبع.
19 - التربية الإسلامية باللغة الإنكليزية، معد للطبع.
20 - عشرات البحوث والمحاضرات المنشورة في مجلات دولية.
من آثاره في الحقل القومي والدولي
1 - الخطر الصهيوني. بقلم ابن العراق، صدر في القاهرة 1945 الطبعة
الثالثة في تونس 1985.
2 - كارثة فلسطين والواقع العربي تونس 1985 وصدر بالفرنسية 1981.
3 - الصهيونية الأميركية والمأساة الفلسطينية، تونس 1984.
4 - من واقع السياسة العراقية، بيروت 1956.
5 - العراق الحديث آراء ومطالعات في شؤونه المصيرية 1969 بيروت.
6 - رسالة مفتوحة إلى الشعب العراقي الكريم، بيروت 1969.
7 - صفحات من الكفاح العربي في سبيل التحرير والتوحيد والتجديد.
تونس 1980.
8 - مواقف وعبر في سياستنا الدولية. تونس 1989.
9 - صفحات من تاريخنا المعاصر، القاهرة 1993.
10 - مأساة الخليج والهيمنة الغربية الجديدة 1992 القاهرة.
11 - رسالة الإسلام في عالم اليوم! الصحوة الإسلامية إلى أين. عمان
1992.
12 - دعوة لتجديد عالمنا المعاصر، دمشق 1994.
13 - فلتشرق الشمس من جديد، على الأمة العربية.
14 - الأمة العربية إلى أين. شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت
1997.
15 - Tunisia
ملحوظة: - للجمالي عشرات المحاضرات والأبحاث التي نشرت في

147
المجلات والصحف العالمية. وظل مثابرا على الكتابة في الشؤون القومية
والإسلامية والدولية حتى وفاته.
فؤاد عباس
ولد سنة 1910 في (المربعة) من محلات مدينة الخالص في العراق، وتوفي
سنة 1976 في بغداد ودفن في النجف الأشرف.
كان شاعرا مجيدا ولكن مقلا، على جانب كبير من طيب الذات ونبل
النفس وصفاء الروح، وفيا كل الوفاء، عذب المعشر، أنيس المجلس طيب
الحديث. محدثا بارعا ومعلقا ساحرا وفكهيا غاية في سبك النادرة، وإذا تحدث
ينصت إليه الجميع.
أفاد من دراسته ومطالعاته علما ومعرفة، ولكنه - كما قال أحد أصدقائه بعد
وفاته:: " إنه على غزارة معرفته وكثرة قراءته كان يحجم عن البحث والكتابة
لأنه يرى أن الخلود بعد الموت وهم من الأوهام، وأن هذا الوقت الذي يقضيه
بالبحث والكتابة جدير بأن يقضيه بالقراءة والمطالعة ليمتع نفسه أضعاف ما
يمتعها بالكتابة ".
قال عنه صديق آخر: " كان أميل إلى الحديث والخطابة الارتجالية البليغة
منه إلى الكتابة والتأليف، إذ كان مذوده يراعه، ولعل لسحر صوته الذي لا
يمكن أن يدون على قرطاس أثرا في هذا المنحى الذي انتحاه ".
أنهى دراسته الابتدائية في (الخالص) ثم انتقل إلى دار المعلمين الابتدائية
في بغداد وتخرج منها سنة 1931 وتولى التعليم الابتدائي في عدة مدارس
ابتدائية، وعند البحث عن المتفوقين من خريجي الدراسة الثانوية ودار المعلمين
لانضمامهم إلى البعثات التي ترسلها وزارة المعارف كان المترجم ممن اختيروا
لإرسالهم إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وفيها تفتحت شاعريته. وتخرج من
الجامعة الأمريكية سنة 1938 وعاد إلى العراق ليتنقل في الوظائف التعليمية
بوزارة المعارف مدرسا ومديرا للمدارس الإعدادية ومحاضرا، ثم مفتشا
اختصاصيا للغة العربية وآدابها سنة 1960 حتى سنة 1973 حيث أحيل على
التقاعد.
شعره:
من شعره قصيدة نظمها عندما كان طالبا في بيروت:
تهادين من كل الجوانب كالقفر * على رأس بيروت إلى ساحل البحر
كواعب أتراب كأن وجوهها * يفيض بها ماء الملاحة والبشر
فمنهن من قد أسفرت وتبذلت * وقد لاح ما بين الترائب والنحر
حصان رزان بضة قسماتها * مهفهة الأعطاف ناهدة الصدر
ومنهن من قد حجبوها لأنها * تريش من الألحاظ سهما من السحر
فغيب مسود النقاب جمالها * كما غيبت سود السحاب سنى البدر
خرجن ليستروحن طيب نسائم * ويشخصن بالأبصار في مسرح الفكر
وفي جانب منهن شيدت مساكن قصور وأكواخ لمثر وذي فقر
فثمة قصر قائم شامخ الذرى وثمة كوخ جاثم واطئ الجدر
وبالقرب منه دوحة قام فوقها * حمام بوكركم شجى الناس بالهذر
وقد طرزت أيدي الربيع ونمقت * بساطا من الريحان والعشب والزهر
وفي جانب منهن بحر وشاطئ * عليه من العشاق طير بلا وكر
تنهد صدر البحر بالموج مزبدا * يبث لعين الشمس برح الهوى العذري
فأخلجها بالعتب فاصفر لونها * فأهدته - كي يهدا - ذوائب من تبر
ولكنها لما رأته مقطبا * قد ازرق كالمخنوق من غصة الهجر
دنت نحوه تبغي رضاه وأقسمت * يمينا بان تلقاه باسطة العذر
وفي الأفق من بعد العتاب تعانقا * فقبلها عشرا وزاد على العشر
وجارية قاد البخار زمامها * وحيزومها كم هيج الماء إذ تسري
لقد سئمت طول الطواف فأرسلت * بآهاتها تترى حنينا إلى البر
توسل في ربانها كي يريحها * ولكن للربان قلبا من الصخر
وتنفث من غليونها بدخانها * لتجلو هموما قد جثمن على الصدر
فلما أجلن الطرف في كل منظر * هتكن به ما للطبيعة من ستر
تحلبن معسول الأماني والمنى * وكم خففت بعض الأماني من الضر
فهذي تود الشمس تاجا وهذه * تمنت لها عقدا من الأنجم الزهر
وتلك تريد الليل كحلا لجفنها * وأخرى حلال السحر من فمها يجري
فهيجن مني ذكريات دفنتها * وأذكرنني ما كان في سالف العصر
وأطلقن مسجونا - فؤادي - وطالما * بخلت عليه بالفكاك من الأسر
فهب طروبا ثم راح مغازلا * وجوه الأماني وهي باسمة الثغر
وعاوده الشوق القديم مذكرا * (عيون ألمها بين الرصافة والجسر)
ذكرت رياضا جمة وبواسقا * كأن بها شوقا إلى مطلع البدر
تراقصها ريح الشمال عشية * فتهتز كالنشوان مال من السكر
تذكرت صوب الكرخ والكرخ مربع * قضيت به صفو الشبيبة من عمري
فيا رأس بيروت سلاما وعصمة وخلدت في الدنيا إلى أبد الدهر
وقال أيضا وهو طالب في بيروت:
لن أبالي أن تبخلي أو تجودي * يا ليالي فانقصي أو فزيدي
بعد ما قد شهدت ليلة أنس * خلفتني كمسلم بن الوليد
ليلة لاحت (الكومون روم) فيها * غادة قد تزينت صبح عيد
فالخوانات قرطقت بزهور * والعواميد منطقت بورود
مدت البسط والزرابي بثت * وأعدت للقوم دار الخلود
ومشى في الفناء سرب حمام * برياش من زاهيات البرود
فخدود تضئ والضوء سحر * وزجاج يضئ دون وقود
وغصون تميس من غير ريح * بثمار من راقصات النهود
وهناك (الفؤاد) أصبح نهبا * بين زرق من العيون وسود
أيها القائلون إن جنان الله * مخصوصة بدين وحيد
هذه جنة حوت كل دين * من نصارى ومسلمين وهود
وقفوا يشربون قلت هنيئا * كظباء الغدير حين الورود
فسقى الحسن ورد تلك الخدود * وسقى الدل بان تلك القدود
والعذاري خطون كالطير مثنى * وثلاثا من مزوج وفريد
وفتى لم يكن لديه جواز * ود لو يشتري ببذل النقود

148
حام حول الشباك يشبه جاسوسا * يروم العبور خلف الحدود
ما الذي ضر لو منحتم جوازا * (لفؤاد) من الهوى مفئود
وفتاة لا أقصد الشمس لا بل * فضلتها بقامة وبجيد
أرأيت الغزال يبدي نفورا * أرأيت انعطافة الآملود؟
ما ائتلاق الياقوت من شفتيها * ما الثنايا بلؤلؤ منضود
تلك أحياء هذه جامدات * أفحي كميت ملحود؟
لبست مثل طهرها حلة بيضاء * تزري بناصع من جليد
كشكشتها بمنتهى كتفيها * وانتهى الكم بانتهاء الزنود
وبدت والدلال يعبث فيها * كجناح الملاك عند الصعود
يثب النهد تحتها أسجين * باذل جهده لكسر القيود
أم كقلبي لما دنت وتدلت * بعد حر الجوى ومر الصدود
أم كفرخ في البيض ينقر قشرا * يبتغي مخرجا لهذا الوجود
مد منقاره يريد غذاء * وهواء لذا الوليد الجديد
فانالته وردة قلت مهلا * هل طعام الطيور حمر الورود
فأجابت: لا ليس ذاك طعاما * بل حجابا من شر عين الحسود
وقال معزيا أحد أصدقائه بزوجته:
عهدتك من جزع أكبرا * ومن جل من صبروا أصبرا
فكم قد أغارت عليك الهموم * وكم رجعت ظلعا حسرا
بلى صادفت منك جلد الرجال * ولاقت بك الليث ليث الشري
فيا علما قد أغار الثريا * ويا جعفرا قد أغاث الثرى
إليك بمن قد مضى أسوة * نبي الهدى ووصي الورى
خديجة فارقت المصطفى * وفاطمة فارقت حيدرا
وأخرى (أبو حسن) قالها * إلى أشعث يوم قد ذكرا
أعيذك بالله مستعبرا * وأرجو لك الله أن تؤجرا
عميد الدين أبو الفرج الفتح بن عبد الله بن محمد بن علي بن هبة الله بن
عبد السلام:
الكاتب البغدادي، ذكره ابن الدبيثي في أصل تاريخه، ولكن لم يوجد بل
وجد مختصر الترجمة في مختصر تاريخه للذهبي، قال: من أهل بيت حديث
وكلهم ثقات، سمع محمد بن أحمد الطرائفي ومحمد بن علي بن الداية وأبا
الفضل الأرموي وأبا منصور نشتكين وغيرهم، سمعنا منه. ولد يوم عاشوراء
من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة. قلت روى عنه أبو عبد الله البرزالي وأبو
الفتح بن الحاجب والقاضي شمس الدين ابن العماد والسيف أحمد بن عيسى
وأبو إسحاق بن الواسطي وأبو الفرج بن الزين وأبو المعالي الابرقوهي
وعبد الرحمان المكبر البغدادي وجماعة كثيرة، وكتب عنه أبو الفتح بن الحاجب
وقال: شيخنا بقية بيته، صارت إليه الرحلة من البلاد وتكاثر عليه الطلبة وكان
من ذوي المناصب والولايات وترك الخدمة وقنع بالكفاف وأضر باخرة وكان كثير
الأمراض حتى أقعد، وكان محققا لسماعاته إلا أنه لم يكن يحب الرواية لمرضه
واشتغاله بنفسه وكان كثير الذكر ذا هيبة ووقار، وكان يتوالى (1) ولم يظهر لنا منه
ما نكره بل كان يترحم على الصحابة ويلعن من يسبهم، وكان صحيح السماع
ثقة، سمع جده وأبا القاسم بن أبي شريك وعلي بن نور الهدى الحسين الدبيثي
وأبا الكرم الشهرزوري وأبا لوقت. وذكر الذين ذكرهم ابن الدبيثي وقال:
توفي في رابع عشر محرم سنة أربع وعشرين وستمائة. وعده الضياء محمد في
الشيوخ الذين أجازوا له، وشيوخ الفتح في مشيخة جده أبو الفتح وأحمد بن
محمد ابن الاخوة وابن الداية ونور الهدى الزبنبي وابن الطرائفي وأحمد الميهني
وأبو الكرم الشهرزوري ونوشتكين والارموي وابن الحاسب وسعيد البناء وأبو
بكر الذاغوني وأبو الوقت وابن خضير وابن الخل " اه‍ ".
وذكره المنذري في وفيات سنة 624 وقال: كان شيخا حسنا كاتبا أديبا بليغا وله
شعر وتصرف في الأعمال الديوانية ولنا منه إجازة كتب بها الينا من بغداد غير
مرة. " اه‍ ".
وقال ابن الفوطي: " ولي الاعمال الجليلة وسار فيها السيرة الجميلة ".
فتى من أهل الكوفة.
أخذ علي عليه السلام مصحفا يوم الجمل فطاف به في أصحابه، وقال: من يأخذ
هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقام إليه فتى من أهل الكوفة عليه قباء
أبيض محشو، فقال: أنا، فاعرض عنه، ثم قال: من يأخذ هذا المصحف
يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقال الفتى: أنا، فاعرض عنه ثانية. ثم أعاد
القول للمرة الثالثة، فقال الفتى: أنا، فدفعه اليه، فدعاهم، فقطعوا يده
اليمنى، فاخذه بيده اليسرى، فدعاهم، فقطعوا يده اليسرى، فأخذه بصدره
والدماء تسيل على قبائه، فقتل. فقال علي: الآن حل قتالهم فقالت أم الفتى بعد
ذلك:
لا هم أن مسلما دعاهم * يتلو كتاب الله لا يخشاهم
وأمهم قائمة تراهم * يأتمرون الغي لا تنهاهم
قد خضبت من علق لحاهم (2)
الفضل بن جعفر بن الفضل بن يونس أبو علي البصير
عد ابن شهرآشوب في المعالم أبو علي البصير في شعراء أهل البيت
المتقين. وأورد له في المناقب قوله:
بنفسي وما لي من طريف وتالد * وأهلي أنتم يا بني خاتم الرسل
بحبكم ينجو من النار من نجا * ويزكو لدى الله اليسير من العمل
أواصل من واصلتموه وان جفا * واقطع من قاطعتموه وان وصل
عليه حياتي ما حييت فان أمت * فلست على شئ سوى ذاك اتكل
الفضيل بن الزبير بن عمر بن درهم الكوفي الأسدي
هو مردد بين أن يكون زيديا أو جعفريا، وإذا صحت زيديته فهو على كل
حال من أصحاب الباقر والصادق عليهما السلام.
قال السيد محمد رضا الحسيني الجلالي متحدثا عنه:
" فضيل " كذا عنونه البرقي في رجاله في أصحاب الإمام الباقر عليه السلام،
وفي أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، وهكذا الكشي لكنه ذكره مع " أل "
أيضا، وكذا الشيخ الطوسي بدون " أل " ومعها.
فظهر التصحيف في عنوانه ب‍ " الفضل " بدون ياء، كما صنعه الشيخ ابن



(1) يعني يوالي أهل البيت (عليهم السلام).
(2) الطبري.
149
داود، بدون ترديد وصنعه مترددا جمع، منهم السيد التفريشي والمامقاني
والزنجاني والخوئي وقد عاد هؤلاء الأعلام فعنونوا له ب‍ " الفضيل ".
كما ورد مصحفا - كذلك - في بعض أسانيد الكتب مثل: أمالي الشيخ
المفيد وإرشاد العباد له، ومقاتل الطالبيين للأصفهاني.
كما ظهر أن ما ورد في مطبوعة " الفهرست " لابن النديم بعنوان " فصل "
بالصاد المهملة خطا واضح.
وقد ضبط طابع كتاب الرجال للبرقي اسمه هكذا " فضيل " بضم الفاء
الموحدة وفتح الضاد المعجمة على صيغة تصغير " رجل ".
اسم أبيه ونسبه
(الزبير) كذا ذكره البرقي في رجاله وكذلك الكشي وابن النديم والشيخ
الطوسي و غيرهم.
وقد ضبطه طابع رجال البرقي هكذا " الزبير " بضم الزاي وفتح الموحدة
على زنة " رجيل " مصغرا، لكن الشيخ المامقاني عند ترجمة ابنه ضبطه هكذا:
" الزبير " بفتح الزاي، وكسر الموحدة، على زنة " شريف " الصفة المشبهة
وكذلك جاء هذا الضبط بالحركات في " مقاتل الطالبيين ".
ولم يذكر الشيخ المامقاني ما يرشد إلى وجه هذا الضبط، وما ورد في
مطبوعة رجال البرقي من الضبط هو المألوف وهو الظاهر من علماء الأنساب،
حيث ذكروا أبا أحمد الزبيري في عنوان المنسوب إلى " زبير " بضم الزاي وفتح
الموحدة، فلاحظ " تبصير المنتبه ". لابن حجر، وأنساب السمعاني.
وقد ذكر السمعاني نسبه هكذا: " الزبير بن عمر بن درهم " كما سيأتي في
ترجمة حفيده.
نسبته
" الرسان " كذا نسبه البرقي والكشي وابن النديم والطوسي، قال المامقاني
في ضبط الكلمة: " الرسان: بالراء المهملة المفتوحة والسين المهملة المشددة
والألف والنون، المراد بائع الرسن، وهو زمام البعير، ونحوه أو صانعه ".
وقد رسمت الكلمة في رجال العلامة: الرساني بإضافة ياء النسبة، قال
المامقاني: " ولم أجد له معنى صحيحا والظاهر أنه تصحيف، كما أن ما جاء في
مطبوعة طبقات ابن سعد - في ترجمة ابن أخي الفضيل وهو: " الرماني " بالميم
كالنسبة إلى الرمان، تصحيف أيضا، وصحفت الكلمة " ب‍ الريان " بالياء
المثناة بدل السين.
" الكوفي " نسبه الشيخ الطوسي كوفيا، والوجه فيه أنه من أهل الكوفة كما
يظهر من بعض رواياته وتراجم أخيه وابن أخيه.
" الأسدي " كذا نسبوه هو وأخاه وابن أخيه والنسبة إلى قبيلة " بني أسد "
الشهيرة بالكوفة وحواليها، لكن صرح كثير من الرجاليين وأهل الأنساب بان
آل الزبير لم يكونوا من صلب العشيرة، وإنما كان ولاؤهم في بني أسد، قال
الطوسي في ترجمة الفضيل: " الأسدي مولاهم " وقال ابن سعد في ترجمة ابن
أخيه: " مولى بني أسد ".
أخوه
يقترن اسم الفضيل باسم أخيه أو ابن أخيه في أكثر من مورد في كتب
الرجال والتراجم والفهارس وقال الكشي: " قال محمد بن مسعود: وسألت
علي بن الحسن، عن فضيل الرسان؟ قال: هو فضيل بن الزبير، وكانوا ثلاثة
إخوة: عبد الله وآخر ".
والملاحظ أنهم يذكرون اسم أخيه عندما يكون الحديث عن الفضيل، ولم
نجد موردا كان الحديث فيه عن أخيه فذكر فيه اسم الفضيل، وهذا يشير - من
بعيد - إلى أن الأخ كان أعرف منه بحيث يعرف الفضيل به، نعم ذكر الفضيل
في ترجمة ابن أخيه، معرفا له كما سيأتي.
قال أبو الفرج الأصفهاني: كان عبد الله بن الزبير من وجوه محدثي
الشيعة، روى عنه عباد بن يعقوب - الرواجني المتوفى 205 - ونظراؤه، ومن هو
أكبر منه.
أقول: روى عن عبد الله بن شريك العامري وعنه موسى بن يسار، وروى
عن صالح بن ميثم، وعنه بشر بن آدم في رواية أوردها كل من الكنجي
والحسكاني وابن عساكر وابن المغازلي، لكن اسم المروي عنه " صالح بن
رستم " في الأخير.
وكان عبد الله بن الزبير شاعرا، ومن شعره:
1 - عن " أنساب الأشراف " للبلاذري، في قصة تعذيب عبد الله بن
الزبير بن العوام أخاه عمرو بن الزبير، وهي طويلة، جاء في آخرها: فقال
ابن الزبير الأسدي:
فلو أنكم أجهزتمو إذ قتلتمو * ولكن قتلتم بالسياط وبالسجن
جعلتم لضرب الظهر منه عصيكم * تراوحه والأصبحية للبطن
2 - وهو القائل في رثاء مسلم بن عقيل رضي الله عنه وهانئ بن عروة رحمه
الله:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل
في أبيات عديدة.
3 - وعن مصعب في " نسب قريش " أنه ذكر: أول من جاء بنعي الحرة
الكردوس بن زيد الطائي، قال ابن الزبير الأسدي:
لعمري لقد جاء الكردوس كاظما * على خبر للمسلمين وجيع
ومن المحتمل أن يكون قائل هذه الأبيات شاعرا آخر بهذا الاسم، ولا بد
من المزيد من التحقيق.
وقد عنون له بعض الرجاليين.
وعبد الله كان من مناضلي الزيدية، حضر القتال مع الشهيد زيد رحمه
الله، قال الكشي - في حديث عن عبد الرحمان بن سيابة - قال: دفع إلي أبو
عبد الله عليه السلام دنانير، وأمرني أن أقسمها في عيالات من أصيب من عمه زيد،
فقسمتها، قال: فأصاب عيال عبد الله بن الزبير الرسان، أربعة دنانير.
وروى الشيخ المفيد هذه الرواية عن أبي خالد الواسطي، قال: سلم إلي
أبو عبد الله عليه السلام ألف دينار... وذكر نحوه، ولعلها واقعة أخرى غير ما
جرى على يد عبد الرحمان بن سيابة.
وقد ذكر العلامة الحلي بعد نقل الرواية: إن هذه الرواية تعطي أنه كان
زيديا وسيأتي مناقشة هذه الجهة في عنوان " مذهبه ".
أقول: كون عبد الله هو المستشهد مع زيد، هو المشهور، والمفهوم من
هذه الروايات أنه أصيب معه، لكن أبا الفرج الأصفهاني ذكر في المقاتل ما يدل
على أن عبد الله بن الزبير بقي إلى زمان محمد بن عبد الله النفس الزكية، الذي

150
استشهد في عهد المنصور العباسي، سنة (145)، قال أبو الفرج:
حدثنا علي بن العباس، قال: حدثنا بكار بن أحمد، قال: حدثنا
الحسن بن الحسين، قال: حدثنا عبد الله بن الزبير الأسدي - وكان في صحابة
محمد بن عبد الله - قال: رأيت محمد بن عبد الله عليه سيف محلى يوم خرج،
فقلت له: أتلبس سيفا محلى؟! فقال: أي باس بذلك؟! قد كان أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبسون السيوف المحلاة.
ثم قال أبو الفرج: عبد الله بن الزبير هذا أبو أحمد الزبير المحدث.
أقول: التشويش في عبارة المقاتل ظاهر في الفقرة الأخيرة، إذ من الواضح
أن عبارة " أبو أحمد الزبير " ليست صحيحة، وأظن قويا أن العبارة هكذا:
" عبد الله بن الزبير هذا أبو أبي أحمد الزبيري المحدث " وأبو أحمد الزبيري هو
محمد بن عبد الله بن الزبير، وستأتي ترجمته في عنوان " ابن أخي الفضيل ".
ولو كان عبد الله مستشهدا مع زيد - الشهيد سنة 122 - فلا يمكن أن يكون
هو الباقي إلى أيام محمد بن عبد الله النفس الزكية - الشهيد سنة 145 -
وعبارة الأصفهاني صريحة وواضحة الدلالة على بقاء عبد الله إلى سنة
(145)، لكن الروايات الدالة على شهادته مع زيد سنة (122) غير
صريحة، ولا تدل إلا على كون عائلته في عوائل المصابين، ولعله كان مجروحا،
مع أن عبارة الروايات تلك فيها اختلاف، فقد حكي عن المحدث التقي
المجلسي الأول قدس الله سره أنه قال في حواشي الفقيه مشيرا إلى الخبر الذي رواه
عبد الرحمان بن سيابة ما لفظه: يظهر من هذا الخبر - وغيره - أن المقتول [هو]
الفضيل، وكان عبد الله عياله، إنتهى.
قال المامقاني: وتأمل فيه الفاضل الحائري في المنتهى لما مر في ترجمة السيد
الحميري من بقاء فضيل بعد زيد ومجيئه إلى الصادق عليه السلام وإخباره بقتله
وإنشاده شعر السيد رحمه الله في حضرته ثم قال: ويقرب سقوط كلمة (عيال)
قيل عبد الله في نسخة أمالي الصدوق [أي في رواية ابن سيابة].
أقول: رواية إنشاد فضيل شعر السيد في حضرة الصادق عليه السلام صريحة
في بقائه بعد زيد - وسيأتي نقلها نصا فلا يمكن أن يكون فضيل هو المقتول مع
زيد قطعا، ولم نجد من صرح بذلك.
ورواية الإصفهاني صريحة في بقاء عبد الله بعد زيد إلى سنة (145) فالأمر
يحتمل أحد وجهين:
الأول: وهو الأقوى، أن يكون الحاضر مع زيد هو (عبد الله) ولكنه لم
يستشهد وإنما أصيب فقط، فلعله كان مجروحا وعليلا وكانت عائلته بحاجة إلى
نفقة، وهذا هو الموافق لظاهر تلك الروايات، بنقولها المختلفة.
الثاني: وهو الأبعد، أن يكون الاسم المذكور فيها هو (عبيد الله) وأن
يكون هو الأخ الآخر لفضيل الذي لم يذكر اسمه في رواية ابن فضال عند
الكشي، ولكن نسخ الكتب المتعددة متفقة على ذكر (عبد الله) مكبرا.
ابن أخيه
قال ابن سعد في الطبقات: أبو أحمد الزبيري، واسمه: محمد بن
عبد الله بن الزبير، مولى بني أسد، وهو ابن أخي فضيل الرسان.
وقال السمعاني: (الزبيري) أبو أحمد، محمد بن عبد الله بن الزبير بن
عمر بن درهم، الأسدي الزبيري، من أهل الكوفة، كان يبيع القت بزبالة.
وقال الذهبي: أبو أحمد الزبيري، الأسدي، مولاهم الكوفي الحبال.
قال ابن سعد: كان صدوقا كثير الحديث، وقال أحمد بن عبد الله
العجلي: كوفي ثقة كان يتشيع، وقال السمعاني: محدث كبير مكثر وقال أبو
حاتم: حافظ عابد مجتهد، له أوهام، وقال الذهبي: الحافظ الثبت، ونقل
الذهبي عن بندار قوله: ما رأيت رجلا قط أحفظ من أبي أحمد، وحكي أنه كان
يصوم الدهر.
روى عن يونس بن أبي إسحاق، وعيسى بن طهمان، وفطر، وسفيان
وطبقتهم وعن مسعر ومالك بن مغول، ومالك بن أنس، وبشر بن سلمان
وسفيان الثوري، وإسرائيل بن يونس.
وروى عنه: أحمد بن حنبل، وأبو بكر بن أبي شيبة، وخيثمة وعبد الله
القواريري وأحمد بن منيع، وعامة أهل العراق ومحمود بن غيلان، وأحمد بن
الفرات، ومحمد بن رافع، وخلق، قال نصر بن علي: قال أبو أحمد: لا أبالي
أن يسرق مني كتاب سفيان، إني أحفظه كله.
قال أحمد بن حنبل: كان كثير الخطا في حديث سفيان.
قال ابن سعد: توفي بالأهواز في جمادى الأولى سنة ثلاث ومائتين في خلافة
المأمون، لكن قال أحمد: مات بالأهواز سنة اثنتين ومائتين.
ووصفه بالزبيري نسبة إلى جده (الزبير) أبي الفضيل، يكشف عن شهرة
للزبير الجد كما لا يخفى، وقد صرح علماء الأنساب بأن النسبة ليست إلى
الزبير بن بكار كما توهم.
ابن آخر لأخي الفضيل: ذكر ابن الجعابي في ترجمة أبي أحمد الزبيري ما
نصه: إن له أخا يسمى (حسنا) من وجوه الشيعة يروى عنه، وروى عن ابن
نمير.
وقد عنون القهبائي لمن يكنى ب‍ (ابن أخي فضيل) فقال: ابن أخي
فضيل،، عن
فضيل، عن الصادق عليه السلام اسمه (الحسن) صرح به في باب
ما ينقض الوضوء من " الكافي ".
أقول: وعن " الوافي " بسند، عن ابن أبي عمير، عنه: ج 4 ص 38.
لكنه في هذا المورد روى عن الصادق عليه السلام.
وعلق بعضهم على قوله (الحسن) بقوله: لعله ابن عبد الله بن الزبير
الرسان، ابن أخي الفضيل بن الزبير... إلى آخره.
وعلق على قوله: (في باب...) بأن الموارد المذكور فيها ابن أخي
الفضيل كثيرة، والمحتمل لهذا العنوان في كتب الرجال ثلاثة: فضيل بن
الزبير، وابن غزوان، وابن يسار.
الحسن بن الزبير؟
عنون الشيخ الطوسي في أصحاب الصادق عليه السلام ل‍: الحسن بن الزبير
الأسدي مولاهم الكوفي، ونقله عنه الرجاليون من دون تعقيب، إلا أن الشيخ
الزنجاني قال: لم أقف لا على حاله ولا على حديثه.
والاحتمالات في هذا الشخص ثلاثة:
1 - فهل هو ابن الزبير، كما يدل عليه عنوان الترجمة، فيكون هو الأخ
الثالث للفضيل وعبد الله؟.

151
2 - أو هو الحسن بن عبد الله بن الزبير، الذي ذكره ابن الجعابي، نسب
إلى جده سهوا أو اختصارا فيكون أخا لأبي أحمد الزبيري؟
3 - أو هو شخص آخر، لا يرتبط بال الزبير الأسديين بصلة؟
ويقرب الاحتمال الثاني أن ظاهر ترجمة الشيخ له، وقوفه على روايته عن
الإمام الصادق عليه السلام، وحيث لم ترد عن الحسن بن الزبير رواية، وكان
الحسن بن عبد الله بن الزبير من وجوه الشيعة، ووردت له بهذا العنوان رواية
عن الصادق كما عرفت، تعين كونه هو المراد بالترجمة.
طبقته
يروي فضيل عن زيد الشهيد عليه السلام كما سيأتي، ويأتي - أيضا - أنه كان
من أنصاره ودعاته والمشتركين في نضاله، وقد استشهد زيد سنة (122).
وعده أصحاب الطبقات في أصحاب الإمام محمد بن علي أبي جعفر الباقر
عليه السلام (المتوفى 114)، وأصحاب الإمام جعفر بن محمد أبي عبد الله الصادق
عليه السلام (المتوفى 148)، وقد وردت له رواية عنهما، كما سيأتي في تعداد
مشايخه.
ولم نقف له على رواية عن الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام (المتوفى
95)، ولا عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام (المتوفى 183)
فتحدد فترة حياته العلمية بين (122 - 148).
مشايخه
1 - الإمام محمد بن علي أبو جعفر الباقر عليه السلام (57 - 114)، ذكروه
في أصحابه - كما تقدم - وهذا يقتضي أن يكون من الرواة عنه، لأن كتب
طبقات أصحاب الأئمة إنما ألفت لجمع أسماء الرواة المباشرين عن الإمام،
والتي عثر المؤلفون على رواياتهم، وهذا معنى ظاهر فيما صنعه الشيخ الطوسي في
كتاب رجاله إلا أنا لم نعثر على رواية كثيرة له عن الإمام سوى رواية واحدة،
نقل ورودها الشيخ الزنجاني عن الجزء الأول من بصائر الدرجات للصفار.
2 - الإمام جعفر بن محمد أبو عبد الله الصادق عليه السلام (83 - 148)،
والحديث فيه كما تقدم في روايته عن الإمام الباقر، وروايته عن الإمام الصادق
أيضا ليست كثيرة، لكن روى الكشي حديثا يدل على حضوره عند الامام، بل
يدل على نحو اختصاص له بالامام، وإليك نص الحديث:
قال الكشي في ترجمة السيد الحميري الشاعر - بسند فيه: حدثني علي بن
إسماعيل، قال: أخبرني فضيل الرسان، قال: دخلت على أبي عبد الله
عليه السلام بعد ما قتل زيد بن علي رحمة الله عليه، فأدخلت بيتا جوف بيت، فقال
لي: يا فضيل، قتل عمي زيد؟
قلت: نعم، جعلت فداك، قال: رحمه الله، أما والله كان مؤمنا
وكان عارفا، وكان عالما، وكان صدوقا، أما أنه لو ظفر لوفى، أما إنه لو ملك
لعرف كيف يضعها، قلت: يا سيدي ألا أنشدك شعرا؟ قال: أمهل، ثم
أمر بستور فسدلت وبأبواب ففتحت، ثم قال: أنشد، فأنشدته:
لام عمرو باللوى مربع * طامسة أعلامه بلقع
إلى آخر الحديث.
3 - زيد بن علي الشهيد أبو الحسين (78 - 122)، كان فضيل من
أصحابه، وله معه تراود في شؤون النضال كما سيأتي ذكر ما يتعلق بذلك،
وقد روى عنه فرات والحسكاني، والطوسي.
ويروي فضيل عن جمع من الرواة نذكر أسماءهم حسب أوائلها:
4 - أبو الحكم، روى عنه قوله: سمعت مشيختنا وعلماءنا يقولون.
5 - أبو داود السبيعي روى عنه في تفسير بعض الآيات، وقال في بعض
الروايات: " سمعت أبا داود " والظاهر أنه السبيعي هذا.
6 - أبو سعيد عقيصا، روى عنه في كامل الزيارات.
7 - أبو عبد الله، كما نقله الكشي.
8 - أبو عبيدة، كما نقل عن الصدوق في " الخصال " باب (3).
9 - أبو عمر - أو أبو عمرو، حسب اختلاف النسخ - وأضاف الكشي: البزاز.
10 - أبو الورد، روى عنه في هذا الكتاب الذي نقدم له.
11 - حمزة بن ميثم، كما نقله الكشي.
12 - صالح بن ميثم، أورد روايته القمي في تفسيره.
13 - عبد الله بن شريك العامري، روى عنه في هذا الكتاب.
14 - عمران بن ميثم، كما نقله الكشي وأورد روايته المفيد.
15 - فروة، كذا ورد اسمه في أكثر موارد روايته، وأضاف في بعضها:...
(... بن مجاشع) وردت روايته عنه في " الكافي " للكليني، وفي " الروضة "
" وأمالي المفيد ".
16 - يحيى بن أم طويل، روى عنه في هذا الكتاب.
17 - يحيى بن عقيل، كما رواه المفيد في " الأمالي ".
وقد وردت عن فضيل روايات مرسلة في " رجال الكشي " نذكرها:
1 - قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام.
2 - قال: خرج أمير المؤمنين عليه السلام.
3 - قال: مر ميثم التمار على فرس له، فاستقبل حبيب بن مظاهر
الأسدي، وذكر الكشي في نهاية هذه الرواية: هذه الكلمة مستخرجة من كتاب
" مفاخر الكوفة والبصرة ".
الرواة عنه
1 - أبان بن عثمان، نقله في الكافي والكشي.
2 - أرطاة، نقله الصدوق والمفيد.
3 - إسماعيل بن أبان، نقله المفيد والحسكاني.
4 - الحسن بن عبد الله بن الزبير، ابن أخيه.
5 - الحسن بن حماد، نقله الزنجاني عن الجزء الأول من بصائر الدرجات
للصفار.
6 - الحسين بن محمد بن فرقد، رواه الصدوق.
7 - داود رواه الصدوق.
8 - الربيع بن محمد المسلى، كما نقله الكوفي والحسكاني.
9 - زكريا بن يحيى القطان، ذكره المفيد.
10 - سفيان، ذكره المفيد، وفي غيبة الطوسي: سفيان الجريري.
11 - سكين بن عمار، نقله في الكافي.
12 - طاهر بن مدرار، هو راوي هذا الكتاب عن الفضيل.
13 - عاصم بن حميد الحنفي، أكثر الرواية عن فضيل، في " رجال
الكشي " ونقل روايته ابن قولويه، والمفيد.
14 - عبد الله بن يزيد الأسدي، أورده الكشي.

152
15 - علي بن إسماعيل التيمي، أكثر الرواية عنه، نقله الكشي والقمي
والطوسي.
16 - عامر السراج، كما في نقل الحسكاني.
17 - فضالة بن أيوب، روى عنه في ترجمة زرارة من " رجال الكشي ".
مذهبه
قال سعد بن عبد الله الأشعري - عند حديثه عن فرق الزيدية - من فرق
الزيدية يسمون (السرحوبية) ويسمون (الجارودية) وهم أصحاب أبي الجارود
زياد بن منذر، وإليه نسبت الجارودية، وأصحاب أبي خالد الواسطي
وأصحاب فضيل بن الزبير الرسان.
وفي موضع آخر قسم الزيدية إلى ضعفاء وأقوياء، ثم قال: وأما الأقوياء
منهم: فهم أصحاب أبي الجارود، وأصحاب أبي خالد الواسطي، وأصحاب
فضيل الرسان، فهذا يدل على أن الفضيل كان من الزيدية، بل من الأقوياء
منهم، ويشير إلى أنه كان صاحب رأي ونفوذ فيهم، حيث كان له
(أصحاب) ينسبون إليه.
وقال ابن النديم، ومن متكلمي الزيدية: فضيل الرسان، وهو ابن
الزبير، وذكر ناجي حسن فضيلا في عداد من نظمهم زيد الشهيد من الدعاة،
وأرسلهم إلى الأقطار المختلفة يدعون الناس إلى ثورته.
ومما يقرب ذلك أن الرجل كان ممن يسال عما يتعلق بشؤون زيد، وكان
مطلعا على أسرار حركته والمتصلين به، كما توسط في إيصال الأموال إليه
ودعمه، كما يستفاد ذلك من رواياته، ومنها ما نقله أبو الفرج الأصفهاني في
" المقاتل " بسنده عن الفضيل، قال: قال أبو حنيفة: من يأتي زيدا في هذا
الشأن من فقهاء الناس؟ قلت: سلمة بن كهيل، ويزيد بن أبي زياد،
وهارون بن سعد، وهاشم بن البريد، وأبو هاشم الرماني، والحجاج بن
دينار، وغيرهم فقال لي: قل لزيد: " لك عندي معونة وقوة على جهاد
عدوك، فاستعن بها أنت وأصحابك في الكراع والسلاح " ثم بعث ذلك معي
إلى زيد، فأخذه زيد.
وهذه الرواية تدل على مدى اختصاص الرجل بزيد، واتصاله به وسلوكه
مسلكه، وربما يستأنس ذلك أيضا مما رواه الكشي من دخوله على الإمام الصادق
عليه السلام، بعد مقتل زيد وسؤال الإمام منه عن مقتل عمه، وإنشاده
شعر السيد الحميري، كما تقدم نقله.
فيمكن أن يستظهر من هذه الروايات وأمثالها كون فضيل زيدي المذهب،
كما استظهر العلامة الحلي والسيد ابن طاووس زيدية أخيه عبد الله من رواية
عبد الرحمان بن سيابة التي ذكرناها سابقا، والتي جاء فيها أن الإمام الصادق
عليه السلام أمر بتقسيم الأموال على عوائل المصابين مع زيد، فأصاب عائلة عبد الله
أربعة دنانير، قال العلامة: وهذه الرواية تعطي أنه كان زيديا، وقال السيد:
ظاهر الحديث ينطق بأن عبد الله بن الزبير كان زيديا.
وناقش الشيخ المامقاني في هذا الاستظهار بقوله: إن الذين خرجوا مع زيد
ليسوا كلهم زيدية بالبديهة.
أقول: مجرد الخروج مع زيد ليس دليلا على الزيدية كما ذكر، لكن
تصريح علماء الفرق والرجال - كالأشعري وابن النديم - وضم الروايات
الآخرى التي تلائم زيدية الرجل، حجة للاستظهار المذكور، فهو زيدي على
الأظهر.
وما ذكره الشيخ المامقاني - بعد ما نقل عن الشيخ الطوسي، ذكر الرجل في
بابي أصحاب الباقر والصادق عليهما السلام - من: أن ظاهره كونه إماميا لا
وجه له أصلا وذلك:
أولا: لما عرفت من أن الأظهر كونه زيدي المذهب.
وثانيا: أن مجرد ذكر الشيخ الطوسي للراوي في كتاب رجاله لا يدل على
كونه إماميا، لأن الشيخ لم يلتزم في الرجال بذكر من كان إماميا، بل هو بصدد
جمع أسماء الرواة عن الأئمة، بمجرد عثوره على رواية له عن أحدهم فكتابه في
الحقيقة فهرس لأسماء الرواة، من دون نظر له فيه إلى توثيق أو جرح، ولا إلى
تعيين مذهب أو غير ذلك من الاهتمامات الرجالية، وهذا واضح لمن راجع
كتاب الرجال، نعم التزم الشيخ الطوسي في " الفهرست " بأن يذكر فيه
المؤلفين من الإمامية عدا من يصرح بمذهبه من غيرهم.
حاله في الحديث
1 - بناء على ما التزمه سيدنا الأستاذ من وثاقة رواة كتابي " كامل
الزيارات " للشيخ ابن قولويه، و " تفسير القمي " لعلي بن إبراهيم، بالتوثيق
العام، استنادا إلى كلام المؤلفين في أول الكتابين كما فصله.
فإن الرجل يكون (ثقة) شهد ابن قولويه والقمي بوثاقته، ويكون خبره
(موثقا) بناء على كونه زيدي المذهب، كما أسلفنا.
2 - ذكره ابن داود في القسم الأول من رجاله، المعد لذكر (الممدوحين)
ونقل عن (كش: ممدوح).
لكن قال السيد التفريشي: قد نقل عن الكشي مدحه، ولم أجده في
الكشي، وقال المامقاني: لم نقف فيه على مدح، ونسبة ابن داود مدحه إلى
الكشي لم نقف له على ماخذ، إذ ليس في الكشي إلا جعله معرفا لأخيه
عبد الله بن الزبير الرسان، ودلالته على مدحه ممنوعة، نعم يدل على كونه
أعرف من عبد الله، ومثل ذلك لا يكفي في درج الرجل في الحسان، كما لا
يخفى.
أقول يرد عليه:
أولا: أنه لم يظهر منه جعل فضيل معرفا لأخيه، بل الأمر بالعكس على
احتمال قوي، إذ المفروض ذكر الرواية المرتبطة بعبد الله في ترجمة الفضيل،
فيكون عبد الله هو المعرف ولم نجد ذكرا لفضيل في ترجمة عبد الله كما أشرنا إليه
سابقا.
وثانيا: أن ذكر الكشي لفضيل لا ينحصر بهذا المورد، بل ذكره في موارد أخر
، وضمن أسانيد أخرى، فلعل ابن داود استفاد المدح من مجموع ذلك.
وقال السيد الخوئي: لعله [ابن داود استفاد المدح مما رواه الكشي في
ترجمة السيد ابن محمد الحميري من أن الصادق عليه السلام أدخله في جوف بيت إلى
آخر الحديث.
أقول: لكن الرواية تلك مروية بطريق الرجل نفسه فكيف يتم سندها
حتى يستند إليها؟

153
والذي أراه أن الرجل معتبر الحديث، لما يبدو من مجموع أخباره وأحواله
من انقطاعه إلى أهل البيت عليهم السلام، واختصاصه بهم و نصرته لهم
وتعاطفه معهم، وكونه مأمونا على أسرارهم، وكذلك وقوعه في طريق كثير من
الروايات - وكلها خالية مما يوجب القدح فيه - فهذا كله مدعاة إلى الاطمئنان
به، ولو التزمنا بكفاية عدم القدح في الراوي لاعتبار حديثه من دون حاجة إلى
معرفة وثاقته بالخصوص، كما هو مذهب القدماء لكان الرجل معتمد الحديث
بلا ريب.
كتابه
هو صاحب كتاب (تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام) ومن ميزة هذا
الكتاب احتواؤه على أسماء شهداء لم يذكروا في موضع آخر، واحتواؤه على آثار
وروايات وتفصيلات، مما يرفع من قيمته العلمية والتاريخية.
القاسم بن الحسين بن معية
مر ذكره في المجلد الثامن الصفحة 438 ونضيف إلى ما ذكر هناك ما يلي:
قال فيه صاحب عمدة الطالب: كان جليل القدر شاعرا، ولم يل جلال
الدين القاسم بن الحسين صدارة وامتنع، وكان أبوه على قاعدة أبيه صدرا نقيبا
بالفراتية فعزل عن النقابة.
ومن شعره قوله:
تقاعست دون ما حاولته الهمم
ولا سعت بي إلى داعي الندى قدم
ولا امتطأت جوادا يوم معركة
وخانني في الورى الصمصامة الخذم
ولا بلغت من العلياء ما بلغ الآباء
قبلي ولا أدركت شأنهم
ان كنت رمت سلوا عن محبتكم
أو كنت يوما بظهر الغيب خنتكم
فما الذي أوجب الهجران لي فلقد
تنكرت منكم الأخلاق والشيم
أذاك من بخل بالوصل أم ملل
أم ليس يرعى لمثلي عندكم ذمم
وله:
ومن العجائب أن قلبي يشتكي * ألم الفراق وأنتم بمكانه
القاسم بن حبيب بن مظاهر.
تنازع في قتل حبيب بن مظاهر يوم كربلاء كل من بديل بن صريم والحصين بن
تميم. فقال الحصين لبديل اني شريكك في قتله، فقال بديل والله ما قتله غيري،
فقال الحصين أعطني رأسه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا اني شركت
في قتله ثم خذه أنت بعد فامض به إلى عبيد الله بن زياد فلا حاجة لي فيما تعطاه على
قتلك إياه، فأبى عليه، فاصلح قومه فيما بينهما على هذا، فدفع إليه رأس حبيب بن
مظاهر، فجال به في العسكر قد علقه في عنق فرسه، ثم دفعه بعد ذلك إليه. فلما
رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه في لبان فرسه، ثم أقبل به إلى ابن
زياد في القصر، فبصر به القاسم بن حبيب وهو يومئذ قد راهق، فأقبل مع الفارس
لا يفارقه كلما دخل دخل معه وإذا خرج خرج معه، فارتاب به فقال ما لك يا
بني تتبعني؟ قال: لا شئ، قال: بلى أخبرني. قال له: إن هذا الرأس
الذي معك رأس أبي أفتعطينيه حتى أدفنه؟ قال: يا بني لا يرضى الأمير أن
يدفن، وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثوابا حسنا. قال له الغلام: لكن
الله لا يثيبك على ذلك إلا أسوأ الثواب، أما والله لقد قتلته خيرا منك،
وبكى. فسكت القاسم حتى إذا أدرك لم يكن همه إلا اتباع أثر قاتل أبيه ليجد
منه غرة فيقتله بأبيه. فلما كان زمان مصعب بن الزبير، وغزا مصعب باجميرا
دخل عسكر مصعب، فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فاقبل يختلف في طلبه
والتماس غرته، فدخل عليه وهو قائل نصف النهار، فضربه بسيفه حتى
برد. (1)
قيس بن عبد الله النابغة الجعدي
قيل اسمه حيان بن قيس بن عبد الله وهو الذي صححه أبو الفرج في
الأغاني وقيل اسمه قيس بن عبد الله وقيل اسمه عبد الله.
مرت ترجمته في الصفحة 260 من المجلد السادس باسم (حيان). وقد
تحدث خليل إبراهيم العبطة عن ديوانه في العدد 47 من السنة الخامسة من مجلة
(المكتبة) (تموز 1965) فقال بعد أن ذكر أنه توفي سنة 70 في حين ذكر في
ترجمته في المجلد السادس أنه توفي حوالي سنة 65، وبعد أن ذكر كذلك أنه
أحد شعراء الطبقة الثالثة الفحول عند ابن سلام:
لقي شعره عناية من الأقدمين فائقة فرووه ونقدوا عليه واستشهدوا به،
ولكن الأيام جارت على ديوانه فلم نجد له اثرا على ما بذلنا من جهد رغم أن
جمهرة من العلماء الثقات جمعوا متفرق شعره في دواوين مستقلة: كالأصمعي
(216) وابن السكيت (243) والسكري (275) وثعلب (290) وابن
الأنباري (328) وغيرهم.
بل أن أبا بكر بن خير الأشبيلي (575) يذكر في (فهرسته) باب " تسميته
كتب الشعر وأسماء الشعراء التي وصل بها أبو علي إسماعيل بن القاسم
البغدادي إلى الأندلس " ما حرفه: " وشعر النابغة الجعدي تام في خمسة اجزاء
قرأته على نفطويه ". ويفيدنا هذا الخبر بأنه أول إشارة إلى حجم الديوان وان
كان لا يخلو من غموض، ولم يشر ابن النديم (385) في فهرسته إلى شئ من
ذلك.
ولكن أين الدواوين التي جمعها أولئك العلماء؟ لقد صارت اثرا بعد عين
وضاعت في خضم الأيام. وهذا الحاج خليفة (1067) صاحب (كشف
الظنون) لا يعرف عنه شيئا بدلالة عدم ذكره في مادة (علم الدواوين) واكتفى
بإشارة غامضة لا تغني ولا تنقع الغلة ذكرها في المجلد الثاني من مصنفه الآنف
الذكر في مادة (كتب الاشعار) قائلا " شعر النابغة وامرئ القيس وزهير
والجعدي ولبيد - جمعه أبو سعيد الحسن بن الحسن السكري النحوي المتوفى سنة
75 ". اه‍.
وليس في النص المذكور ما يدل على معرفة الحاج خليفة بديوان الجعدي ولو
كان رآه أو سمع عنه لترجم له كمألوف عادته.
وقد كنت استقرأت أغلب فهارس المخطوطات العربية فألفيت أن في معهد



(1) الطبري.
154
المخطوطات العربية المصورة قطعة من شعر الجعدي (فيض الله 1662) تقع
في ست ورقات فطلبت صورتها وعكفت على جمع شعره من المظان: مطبوعها
ومخطوطها فإذا بها جملة حسنة تنيف على ما جمعت المستشرقة ماريا نالينو منه سواء
ما نشرته في المجلد الرابع عشر من مجلة الدراسات الشرقية بنابولي أم ما نشرته
بديوان مستقل سنة 1952 بروما.
تحتوي القطعة المذكورة على رائية الجعدي ومطلعها:
خليلي غضا ساعة وتهجرا * ولو ما على ما احدث الدهر أو ذرا
وتقع في مائة وعشرين بيتا، وكان صاحب جمهرة أشعار العرب روى منها
خمسة وسبعين بيتا.
ولامية مطلعها:
أما ترى ظلل الأيام قد حسرت * عني وشمرت ذيلا كان ذيالا
وهي سبعة وثلاثون بيتا.
وفي المخطوطة بعض الشروح والتغييرات. ورغم أنها غفل من التاريخ
فإني أستطيع ارجاع نسخها إلى القرن الثامن الهجري لإشارة نقل فيها ناسخها
من كافية ابن مالك.
ويبدو أن هذه القطعة كانت في مجموع مخطوط فيه قصيدة لعمر بن أبي
ربيعة وديوان الحادرة وديوان لقيط بن يعمر الأيادي لتشابه الخط والنقول
والتقييدات كما بان لي بعدئذ، ومن المؤكد أن نسخة دار الكتب المصرية المرقمة
(1845 أدب) منسوخة عن قطعتنا.
وآخر ما ظهر عن الجعدي ما أصدره المكتب الاسلامي بدمشق معنونا ب‍
(شعر النابغة الجعدي) وهو إعادة لمطبوعة المستشرقة الإيطالية نالينو مع إضافة
مقطعتين أو ثلاث. وآمل أن أدفع بالديوان إلى الطبع قريبا - بإذن الله - والله
الموفق والمستعان " انتهى ".
ولا ندري هل دفع الكاتب بالديوان إلى الطبع أم لا؟
قيس بن عمرو المعروف بالنجاشي
مرت ترجمته في المجلد الثامن الصفحة 457 ونزيد عليها هنا ما يلي:
يبدو أن هذا الرجل قد ختم سيرته بالسوء فقد ورد في أكثر من مصدر انه
شرب الخمر في رمضان فضربه أمير المؤمنين عليه السلام مئة سوط، ثمانين للسكر
وعشرين لحرمة رمضان، فلما ضربه ذهب إلى معاوية، ونال من علي عليه السلام
والظاهر أن هذا هو الذي أشار إليه صاحب كتاب (الطليعة) وهو قوله:
ونسب إليه ابن أبي الحديد هناة لا تصح.
اي أن صاحب الطليعة ينكر هذه الحادثة.
كليب الجرمي.
حدث كليب الجرمي قال فيما قال: انتهينا إلى البصرة فلم نلبث إلا قليلا حتى
قيل: هذا طلحة والزبير معهما أم المؤمنين، فراع ذلك الناس وتعجبوا فإذا هم
يزعمون للناس انهم انما خرجوا غضبا لقمان وتوبة مما صنعوا من خذلانه، وإن أم
المؤمنين تقول: غضبنا لكم على عثمان في ثلاث: امارة الفتى وموقع الغمامة
وضربة السوط والعصا، فما أنصفنا إن لم نغضب له عليكم في ثلاث جررتموها إليه:
حرمة الشهر والبلد والدم. فقال الناس: أفلم تبايعوا عليا وتدخلوا في امره؟ فقالوا
دخلنا واللج على أعناقنا.
وقيل: هذا علي قد أظلكم، فقال قومنا لي ولرجلين معي: انطلقوا حتى تأتوا
عليا وأصحابه فسلوهم عن هذا الامر الذي قد اختلط علينا، فخرجنا حتى انتهينا
إلى علي فسلمنا عليه، ثم سألناه عن هذا الامر، فقال: عدا الناس على هذا الرجل
وأنا معتزل فقتلوه ثم ولوني وأنا كاره ولولا خشية على هذا الدين لم أجبهم، ثم طفق
هذان في النكث فأخذت عليهما وأخذت عهودهما عند ذلك وأذنت لهما في العمرة،
فقدما على أمهما حليلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرضيا لها ما رغبا نسائهما عنه
وعرضاها لما لا يحل لهما ولا يصلح، فاتبعتهما لكيلا يفتقوا في الاسلام
فتقاولا يفرقوا جماعة.
ثم قال أصحابه: والله ما نريد قتالهم إلا أن يقاتلوا وما خرجنا للاصلاح.
فصاح بنا أصحاب علي: بايعوا، بايعوا، فبايع صاحباي، واما أنا
فأمسكت، وقلت بعثني قومي لأمر، فلا احدث شيئا حتى ارجع إليهم، فقال
علي: فإن لم يفعلوا؟ فقلت: لم افعل. فقال: أ رأيت لو أنهم بعثوك رائدا فرجعت
إليهم فأخبرتهم عن الكلأ والماء، فحالوا إلى المعاطش والجدوبة ما كنت صانعا؟
قال: قلت كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء، قال: فمد يدك، فوالله ما
استطعت أن أمتنع، فبسطت يدي فبايعته.
وكان يقول: علي من أدهى العرب.
وقال (أي علي): ما سمعت من طلحة والزبير؟ فقلت: اما الزبير فإنه
يقول: بايعنا كرها، واما طلحة فمقبل على أن يتمثل الاشعار ويقول:
ألا أبلغ بني بكر رسولا * فليس إلى بني كعب سبيل
سيرجع ظلمكم منكم عليكم * طويل الساعدين له فصول
فقال: ليس ذلك ولكن:
ألم تعلم أبا سمعان انا * نصم الشيخ مثلك ذا الصداع
ويذهل عقله بالحرب حتى * يقوم فيستجيب لغير داع (1)
الكميت بن زيد الأسدي
مرت ترجمته في الصفحة 33 من المجلد التاسع ونزيد عليها هنا ما يأتي:
قال الدكتور عبد المجيد زراقط:
ولد الكميت عام 60 وهو عام كربلاء، وكان قومه بنو أسد هم الذين
دفنوا الحسين عليه السلام وأنصاره. ولعل كربلاء ظلت حاضرة في أذهانهم وفي
أحاديثهم وفي نفوسهم فرضعها الطفل مع الحليب ولا سيما ان بني أسد لم يكونوا
راضين هذه القرشية المستأثرة والمتمثلة ببني أمية. لا سيما أنه ولد لأبوين لا
يملكان من حطام الدنيا شيئا.
هذه الظروف أسهمت بقوة في فرض اختيار الكميت فشب وهو يعتقد
مذهبا دينيا وسياسيا واجتماعيا... وراح يدعو له بعد أن تهيا للأمر كأفضل ما
يكون، ونلمس هذا من خلال الأخبار التالية:
- يقول صاحب الخزانة: " قال بعضهم: في الكميت خصال لم تكن في
شاعر، كان خطيب بني أسد وفقيه الشيعة وحافظ القرآن وكان ثبت الجنان
وكان كاتبا وكان نسابة وكان جدليا ".



(1) الطبري.
155
- هذه الصفات يفصلها أبو الفرج في اخبار متفرقة فنعلم أنه " كان شاعرا
مقدما عالما بلغات العرب، خبيرا بأيامها، وأنه كان راوية للشعر وللحديث.
وبلغ من مقدرته أنه كان يحفظ شعر نصيب أكثر منه، وأنه تنازع وحماد الراوية
العلم بأيام العرب ورواية الشعر فأفحمه، وأنه كان عالما بالنجوم وقد مارس
التعليم في جامع الكوفة الكبير.
وهذه الإمكانات والمهارات، كانت تترافق مع صفات كان يتحلى بها
الشاعر تجل وتحترم. وليس سهلا على انسان عادي أن يصادق رجلا يختلف عنه
مذهبا وعصبية... أما الكميت، فقد كان يصادق الطرماح رغم بعد المسافة
بينهما، إنه نوع من الارتفاع بالنفس الانسانية. كما أن الشاعر كان مؤمنا يخاف
الله لدرجة أن يندم على هجائه لبني كلب. ويقول: " فعممتهن بالفجور والله
ما خرجت بليل قط إلا خشيت أن أرمى بنجوم السماء لذلك " وكان مخلصا
لمذهبه. " إذ أظهر ما كتم العباد من الحق وجاد حين ضن الناس " دون أن
يشاء مقابلا لذلك إلا الثياب تبركا.
الحق أن الكميت كان شاعر المعارضة أو داعيتها. وقد جهد في أن يحتل
موقعه عن جدارة، وهو بهذا الجهد أصبح الرجل الملم بكل معطيات عصره
السياسية والثقافية. بكل ما تعنيه هاتين الكلمتين، والرجل المخلص العامل
بكل ما يستطيع على نشر مذهبه.
الظلم والتشويه
رغم هذا لم يقدر للكميت أن ينجو من ظلم وتشويه نالا من أمثاله من
الشعراء، فهو عندهم أصم، برغم أنه كان معلم أولاد وطالب غريب...
هذا قليل بالنسبة إلى مظاهر أخرى للظلم والتجني نلمسها في ما يلي: أهمل ابن
سلام الشاعر ولم يتحدث عنه كما تحدث عن غيره من الشعراء، ولم يعامله
الأصمعي بالمقياس نفسه الذي عامل به ابن أبي ربيعة وآخرين من المولدين.
قال الأصمعي: " الكميت بن زيد ليس بحجة لأنه مولد وكذلك
الطرماح... " وقال: " وعمر بن أبي ربيعة مولد وهو حجة. سمعت أبا
عمرو بن العلاء يحتج في النحو بشعره ويقول هو حجة. وفضالة بن شريك
الأسدي وعبد الله بن الزبير الأسدي وابن الرقيات هؤلاء مولدون وشعرهم
حجة... ". ومما يجدر ذكره ان الحكم ب‍ " الحجة " كان امرا مهما جدا
لرواية الشعر والاهتمام والاستشهاد به أيضا. المفضل كان يقول: " لا يعتد
بالكميت في الشعر وقال: أنشدني أي معنى له حتى آتيك به من أشعار
العرب ".
وابن قتيبة يقول عنه: "... فإنه يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي
والهوى، وشعره في بني أمية أجود من شعره في الطالبيين، ولا أرى علة ذلك
إلا قوة أسباب الطمع وإيثار عاجل الدنيا على آجل الآخرة ".
والجاحظ يصفه فيقول: " الكميت كان شيعيا من الغالية " ويصف شعره
في مديح الرسول بأنه من الحمق كقوله: " إليك يا خير من تضمنت الأرض
وإن عاب قولي العيب ". ونقل المرزباني في موشحه هذا الرأي فقال: " ولا
يعيب قوله في وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا كافر بالله مشرك ".
وعابوا عليه أخذه من الشعر العربي القديم واستفادته من القرآن حتى أن
ابن كناسة حاول أن يضع مؤلفا في سرقاته من القرآن وغير القرآن.
أما عن تأثير شعره فيقول أحمد الهاشمي: " لشعره من التأثير السياسي
والمذهبي أثر سئ شتت شمل الوحدة العربية ".
هذه عينات لآراء ومواقف سببها، كما يرى د. ن. القاضي بحق، أن
هؤلاء كانوا متأثرين في أحكامهم بأمرين أساسيين الأول مذهب الشاعر الديني
والسياسي والثاني اتجاه شعره المخالف للقدماء، إذ طبقوا عليه مقاييسهم
المتعارف عليها في المدح والهجاء، في حين كان شعر الكميت يفترض نظرة
خاصة جديدة لشعر خاص بصاحبه جديد. وربما كان هذا الرأي للقدماء:
" الكميت، وكان يعتمد إدخال الغريب في شعره وله في آل البيت الأشعار
المشهورة، وهي أجود شعره ". أقرب الآراء إلى الحقيقة.
وإن كانت مواقف القدماء تجد تفسيرا لها في التعصب المذهبي دينا وفنا،
أو في الخوف من " السلطان "، فما هو تفسيرنا لرأي الدكتور شوقي ضيف
التالي: "... ومعنى ذلك أن قصيدته المذهبة كتبت لخدمة الشيعة عن طريق
تشتيت الجماعة الاسلامية وبث الفرقة بينها، أكانت الجماعة الاسلامية تنتظر
مذهبة الكميت كي تتفرق! أ لم تكن " الاستراتيجية " الأموية قائمة على رد
الناس إلى أنسابهم؟ أي على التمزيق القبلي، أ لم نر نماذج من هذه السياسة في
الفصول السابقة؟ أيحتاج الدكتور إلى التذكير بنقائض العصر الأموي!؟ والتي
رأينا أن " السلطان " الأموي كان يتبناها. ثم أن مذهبة الكميت أتت انعكاسا
لواقع كان مستفحلا، وكان في الوقت نفسه السبب في فشل ثورة اسلامية،
هذا الفشل وملابساته جعلا الكميت يستجيب لرجاء عشيرته ويجيب شاعرا
طالما هجا قومه وأفحش وما كان يجيبه لأنه كان مهتما بأمور أخطر، ولكن الواقع
هذا، والذي كان نتيجة للتطور الذي ساق الأمويون إليه الجماعة الاسلامية،
أضاع أموره وجره إلى المستنقع الذي سرعان ما خرج منه وندم على الارتماء فيه
ردحا بسيطا من الزمن.
الجديد في شعر الكميت وليد تجربته الخاصة
كان شعر الكميت تعبيرا عن موقف املاه عليه موقعه، وكان يريد منه
تأدية مهمة منوطة به. وكان من الضروري أن يتأثر هذا التعبير بشروط تتعلق
بالنشر والمنافسة والاقناع والتعبئة النفسية، عبر استخدام وسائل خاصة. وقد
لاحظ معظم من درس شعر الكميت تميز شعره، فوصفه القدماء بالخطب.
" جاء حماد الراوية إلى الكميت فقال: اكتبني شعرك: قال: أنت لحان ولا
اكتبك شعري "... فقال له: " وأنت شاعر؟ انما شعرك خطب ". وقال
بشار: " الكميت خطيب وليس بشاعر ". وقال الجاحظ: " ومن الخطباء
الشعراء الكميت بن زيد الأسدي وكنيته أبو المستهل ". وقال: " ان للخطبة
صعداء وهي على ذي اللب أرمى، الكميت وكان خطيبا ".
والدكتور عبد القادر القط يرى في شعر الكميت ما يلي: " والحق أن ما
يبدو جدلا سياسيا في مثل هذه الأبيات هو في حقيقته ألصق بما يمكن أن نسميه
" بالاستهواء الخطابي " الذي يحيل الخطيب فيه الفكرة إلى احساس بوسائل
الخطابة المعروفة من تكرار أو سخرية أو تأكيد أو اتجاه إلى عاطفة السامع ومحاولة
إثارة وجدانه قبل اقناع عقله ".
" وقد عرف الكميت بأنه كان يحسن الخطابة ولا شك أن هذه الموهبة تبدو
جلية في شعره السياسي بوجوه فنية كثيرة بعضها يتصل ببناء القصيدة وتسلسل

156
صورها واجزائها وبعضها خاص ببناء العبارة وإيقاعها وتكوين الصور نفسها.
أما بناء القصيدة فيقوم في الأغلب على استثارة فضول السامع كما يفعل
الخطيب... ". ويرى أن الشاعر يستخدم وسائل مثل التكرار الخطابي
والتكرار المؤكد (ألفاظ ذات معان متقاربة) والجناس الناقص والتقسيم،
واقتران الألفاظ بصفات توضح دلالاتها، والأرصاد للقافية من اجل أن يصل
إلى غرضه وهو كما يقول: " وكان الشاعر بتكرار هذه الألفاظ ذات الايقاع
الواحد والمعاني المشتركة يحاول أن يطبع عاطفته ويحفرها في وجدان القارئ أو
السامع إلى أعمق ما يستطيع.
ويثير الدكتور القط مسالة شديدة الأهمية عندما يقول: " ويمكن أن نجد في
تلك الصيغ الموقعة المشتركة بدايات واضحة لبعض مظاهر البديع التي يربطها
الدارسون دائما بالمخضرمين من شعراء الدولة الأموية والعباسية وببعض شعراء
الدولة العباسية كمسلم بن الوليد وأبي نواس ثم أبي تمام رأس هذا الاتجاه وتؤكد
هذه الظاهرة الملموسة في شعر الكميت أن التطور الفني الذي عرف فيما بعد
باسم البديع... كان تطورا طبيعيا ممتدا متأثرا بطبيعة التجربة عند الشاعر
وبحسه اللغوي والموسيقي ".
ويلاحظ الأستاذ احمد نجا، في كتابه عن الشاعر، أن الكميت استخدم
التكرار والطباق والترصيع والترتيب والمجاورة لتأكيد المعنى، والالتفاف لتأييد
فكرة أو لنفيها، كما يلاحظ أن شعره يتميز بصفاء لغة، وجزالة تعابير وانتفاء
مفردات. وأنه جدد من حيث القالب بحيث صار موضوع الناقة ثانويا، ومن
حيث الموضوعات إذ هجر النسيب وسخر من الأوضاع البدوية ويقارن بينه وبين
أبي نواس ويعطي أمثلة منها قول الكميت:
فدع ذكر من لست من شأنه * ولا هو من شأنك المنصب
وهات الثناء لأهل الثناء * بأصوب من قولك فالأصوب
ويقارن بين قوله الأخير وقول أبي نواس:
اثن على الخمر بآلائها * وسمها بأحسن أسمائها
وبين قول الكميت:
ما لي في الدار بعد ساكنها * ولو تذكرت أهلها، أرب
وقول أبي نواس:
ما لي بدار خلت من أهلها شغل * ولا شجاني لها شخص ولا طلل
وبعد أن يستنفد وجوه المقارنة بينهما ينتهي إلى القول: " الكميت هو الحافز
الحق للثورة الأدبية العباسية والسباق للتحرر والتجديد ".
إن كان الدكتور القط قد خالف الدارسين فاعتبر التطور الفني الذي عرف
باسم البديع تطورا طبيعيا يعود إلى طبيعة تجربة الكميت، وإن كان الأستاذ نجا
قد اعتبر أن الكميت هو الحافز الحق للثورة الأدبية العباسية، فإن خشافا في
حديثه مع أبي تمام قد لاحظ هذا قديما. سأل أبو تمام خشافا عن الكميت بن
زيد وعن شعره وعن رأيه فيه، فقال: " لقد قال كلاما خبط فيه خبطا من ذاك
[مما لا يجوز] لا يجوز عندنا ولا نستحسنه، وهو جائز عندكم، وهو على ذاك
أشبه كلام الحاضرة بكلامنا وأعربه وأجوده ولقد تكلم في بعض اشعاره بلغة غير
قومه ".
إذا يذكر الكميت بأبي تمام ومدرسته. ولكن يجب الانتباه لفروق ضروري
تحديدها بين طبيعة تجربة الكميت وطبيعة تجربة أبي تمام وشعراء مدرسته،
فالكميت كان داعية، يعبر عن موقف سياسي وديني اجتماعي، كان يدعو إلى
ثورة، فمسألة التجديد عنده يمكن أن ينظر إليها من زاوية، أنه كان يريد شد
الانتباه وتركيزه، وإيضاح المعنى وتأكيده وترسيخه، فاستخدم أساليب
الخطابة، وكل هذا يجعل من الضروري أن يكون الشعر متميزا كي ينشر، وذا
مستوى من الجودة يحترم من أجله فيحفظ وينشر ويقرأ أو يسمع ويروى
ويدرس. وهذا ما دفع الشاعر إلى طلب الغريب وإلى استعمال البديع،
وهكذا يمكن فهم بديع الكميت وصناعته من زاوية خدمته لغرض الشاعر الذي
كان يريد لقصيدته أن تتسرب وتسري. أما تشهيره بالأوضاع البدوية ففهمه
سهل، إذ أن الشاعر يريد من الناس أن يتجهوا إلى معالجة مشكلاتهم الحقيقية
وإلى الاهتمام بأمورهم الأساسية.
" مالي في الدار بعد ساكنها * ولو تذكرت أهلها، أرب "
نلاحظ هنا اهتمام الشاعر بسكان الدار، بالإنسان الذي يشكل همه
الرئيسي. ولعل هذا أفضل رد على من يتهمون الشعر الشيعي بالارتماء في
أحضان الحزن، كمنفس للمشاكل. ان الكميت يفتح بابا عريضا للتطور
الفني انطلاقا من فكرة الاهتمام بالإنسان، ومصيره، وضرورة معالجته
لمشكلاته، وهنا يمكن الفرق بين الأصالة والافتعال.
الفرق بين أن تفرض التجربة الشعرية الشكل، من بناء قصيدة وبناء
عبارة، والملائم للمضمون، وبين أن يدور الشاعر على شكل (قالب) يصب
فيه معانيه ولا يكون أمامه إلا تزيين هذا القالب وتزويقه. والفرق أيضا بين
موقف يرفض التعامل مع الديار كبديل عن التعامل مع ساكنها، وكأنه لاحظ
أثر المقدمات المدحية في إغواء المتلقي، والدعوة إلى الاهتمام بالذات، وبين
موقف يسخر من الديار وساكنها ويعود في مدائحه ليقتفي آثار نهج يسخر منه
بمرارة.
وما كان سهلا أن يتخلص أبو نواس من أسار التقليد لأنه كان يرفض وهو
في الإطار ذاته، وهو الإطار المتمثل ب‍: على الشاعر أن يدور على شكل يبدأ به
شعره، ولأنه كان يرفض وهو في داخل أسوار " السلطان ". ومما يؤكد أن
تحديد الكميت مرتبط بتجربته كداعية، أن شعره في الأمويين مختلف تماما، إذ
هو تقليدي، وقد قال فيه هو: " إن هو إلا كلام ارتجلته "، ولا أهمية لآراء
القدماء فيه إذ انهم كما قلنا متأثرون بمقاييس خاصة بهم في المدح. ويقول
الدكتور القط عن مدائحه في الأمويين: " إننا نحس إزاء القصيدة بغلبة النظم
الردئ والصفة الشكلية التي لا تنضح بعاطفة أو صدق أو توفق إلى ثورة فنية
ذات قيمة أو عبارة شعرية محكمة.
الكميت خطيب يستخدم وسائل الخطباء، وهي وسائل ليست مقنعة دائما
بالمعنى العقلي للإقناع، وإنما هي تنقل المتلقي بإحساسه وشعوره المتولد عن
الوسائل التي يستخدمها الخطيب إلى نتيجة هي موقف المتكلم.
والكميت أيضا جدل، وقد لاحظ الجاحظ هذا: " ما فتح للشيعة باب
الاحتجاج بالشعر إلا الكميت "، والمحدثون أكثروا من الحديث عن هذه
الصفة في الكميت. يقول الدكتور شوقي ضيف: " يتحول الشعر عند
الكميت إلى تاليف حجج وصياغة أدلة. وهذا معنى ما نقوله من أن الهاشميات

157
جديدة في اللغة العربية، فالشعر فيها يتصل بمنابع عقلية لا صلة بينها وبين
المنابع القديمة التي كان يستمد منها الشعراء ".
ويقول الدكتور نعمان القاضي: "... لم يكن شاعرا على الطريقة المألوفة
وإنما كان شعره لونا جديدا على الذوق العربي التقليدي ومحاولة رائدة في إدخال
الشعر العربي من باب جديد، واستمدادا لمنابع عقلية جديدة، وصياغته
صياغة فكرية لم يسبق إليها، تتحول بالشعر العربي من مجال العاطفة إلى مجال
الفكر والعقل المحض ومحاولة التصدي للتعبير عن نظرية مذهبية مدعمة بالنظر
العقلي وطرائق المتكلمين ووسائلهم في الاحتجاج والاستدلال حتى ليخرج
ديوانه الهاشميات نصا طريفا لمذهب الزيدية بكل تفاصيله ووقائعه بل أنه
ليتجاوز ذلك إلى الاستدراك على كتاب الملل والنحل الذي أغفل بعض مبادئ
الزيدية كفكرة العدل ".
وهكذا يبدو لنا الكميت خطيبا جدلا، داعية إلى الثورة، هكذا يبدأ
الكميت القصيدة من هاشمياته:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب * ولا لعبا مني، وذو الشيب يلعب
ولم يلهني دار ولا رسم منزل * ولا يتطربني بنان مخضب
ولا أنا ممن يزجر الطير همه * اصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية * امر سليم القرن أم مر أعضب
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى وخير بني حواء والخير يطلب
إلى النفر البيض الذين بحبهم * إلى الله، في ما نالني أتقرب
بني هاشم رهط النبي، فإنني * بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب
يستفيد الشاعر من تعود الناس على تقليد شعري، ويفاجئهم برفضه الذي
يأتي على شكل صدمة تنبههم، ويملك أنفاسهم مشوقا إلى أن يصرح بغرضه
وقد صرخوا، كما فعل الفرزدق عندما أتى يسأله إن كان يذيع هذا الشعر أم
لا: " من هؤلاء ويحك!؟ "، وينتهي بهم الأمر إلى الاستجادة، كما قال
الفرزدق أيضا له، بعد معرفته من هم هؤلاء الذين يطرب لهم: " أذع يا بن
أخي وأنت والله أشعر من مضى ومن بقي ". ويكون هذا الرضى عن الشعر
والشاعر الزاد المرافق طوال التعرف على باقي اجزاء القصيدة الهادفة إلى ايصال
المتلقي إلى موقف الشاعر.
هذه المقدمة الشادة تسلم المتلقي إلى التماس مباشرة مع مسألة أساسية في
المذهب الشيعي، وقد كانت محرجة لخصومهم الذين يحكمون باسم الدين
ويضطهدون آل النبي ومن يحبهم. وهذه حقيقة تاريخية لا يفيد فيها اغماض
العينين عنها والقول كالجاحظ مثلا: من يعيب على الكميت حبه لآل محمد الا
كافر؟ فقد كانوا يعيبون عليه حبه لآل محمد، ويضطهدون من يحبهم.
والأحداث التاريخية شاهد على هذا، لأن القضية لم تكن حبا لمجرد الحب،
وإنما كانت قضية سياسية، أو مسالة مركزية في السياسة الاسلامية، من حيث
تقرير حق الخلافة، فالعيب والاضطهاد لم يكونا من أجل الحب وإنما من أجل
ما يقرره هذا الحب من أحقية بالخلافة، وكان الكميت واعيا هذه القضية تمام
الوعي وقد استغلها كأفضل ما يكون الاستغلال مثيرا الناس على هؤلاء الذين
يرون حب آل النبي عارا، والذين يخيفون من يحبهم. ويستخدم الشاعر
وسائل كالاستفهام والتقرير والتضمين بآيات القرآن. والمقابلة لحب آل البيت
والمصاب بالجرب. والتكرار المؤكد " ترى... وتحسب، أعنف،
وأؤنب... ". والمتلقي يخرج من هذا التماس، ان لم يكن متبنيا لموقف
الشاعر، فعلى الأقل متعاطفا معه أو كحد أدنى يخرج مثارا غير مطمئن وغير
هادئ، ويغدو يريد إجابة على جملة من الأسئلة يطرحها هذا التحريض
وتثيرها هذه الإثارة:
... بأي كتاب أم بآية سنة * ترى حبهم عارا علي وتحسب
وجدنا لكم في حم (1) آية * تأولها منا تقي ومعرب
ألم ترني في حب آل محمد * أروح وأغدو خائفا أترقب
كأني جان محدث وكأنما * بهم يتقي من خشية العر أجرب
على أي جرم أم بآية سيرة * أعنف في تقريظهم وأؤنب
والداعية لا يترك المتلقي مثارا حائرا، وإنما ينطلق معه في جولة جديدة
وهذه المرة تختلف، إذ أنها تطول الأمر في العمق. يحكم الأمويون لأنهم من
قريش، وقريش تحكم لأنها رهط النبي، إذا هم يحكمون باسم هذا الذي
يؤنب في حبه! يحكمون بسبب هذا الذي يعتبر حبه وحب آل بيته عارا، وجرما
ويعامل محبه وكأنه أجرب. من هذا المنطلق، يناقش مسألة " الإرث " أو الحق
بالخلافة، من منطق الأمويين أنفسهم الذين يتناقضون عندما يروون: " نحن
معاشر الأنبياء لا نورث " و " إنما الأئمة من قريش "، فلم من قريش؟ أليس
بسبب النبي؟ إن كان الأمر هكذا، فكيف لا يورث:
يقولون لم يورث ولولا تراثه * لقد شركت فيه بكيل وأرحب
وعك ولخم والسكون وحمير * وكندة والحيان بكر وتغلب
ولانتشلت عضوين منها يحابر * وكان لعبد القيس عضو مؤرب
ولانتقلت من خندف في سواهم * ولامتدحت قيس بها ثم اثقبوا
ولا كانت الأنصار فيها أذلة * ولا غيبوا عنها إذا الناس غيب
هم شهدوا بدرا وخيبر بعدها * ويوم حنين، والدماء تصبب
ولكن مواريث ابن آمنة الذي * به دان شرقي لهم ومغرب
فإن هي لم تصلح لقوم سواهم
فإن ذوي القربى أحق وأقرب
الفكرة بسيطة جدا، إذا كان الرسول لم يورث، كما يقولون، فالخلافة
من حق العرب جميعا، كما يقول الخوارج الذين يجعلونها من حق المسلمين
جميعا، ولكن طالما أن الخلافة محصورة في قريش وليست من حق باقي القبائل
فهذا بسبب تراثه: " لولا تراثه " " ولكن مواريث ابن آمنة "، والتراث أحق
الناس به ذوو القربى، ولولا تراث النبي لكانت هذه القبائل جميعا لها الحق
بالخلافة وبخاصة الأنصار الذين لهم اليد الطولى في نصرة الإسلام، وتراث
النبي أولى به ذوو قرباه. وهكذا يوصل الكميت متلقي دعوته إلى دف ء اليقين
عبر التشويق والإثارة والإقناع.
وكان هذا دأب الكميت في هاشمياته جميعا، أنه في الهاشمية الرابعة يبدأ
بإيقاظ الأمة من نعستها:
ألا هل عم في رأيه متأمل * وهل مدبر بعد الإساءة مقبل!
وهل أمة مستيقظون لرشدهم * فيكشف عنه النعسة المتزمل!
فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى * مساويهم لو كان ذا الميل يعدل!
لا أظن أن هذا الإيقاظ للأمة من كراها ارتداد على الذات بالعدوان،



(1) قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى.
158
بحيث يعد صمام أمان للسلطان، وإنما هو شد للناس إلى رؤية واقع مرير،
وانهاضهم كي يلمسوا ما صارت إليه أمورهم. ولنلاحظ قبل أن نرى عرضه
لواقع الحال، هذا التساؤل الممتد المتعجب في البيت الأول. والذي يأخذ مداه
ومعناه في المقابلة بين (عم متأمل) وبين (مدبر ومقبل) دون أن ننسى هذا
الايضاح، بعد الإساءة، لتبيان مدى فظاعة هذا الادبار.
يعرض الكميت الوضع الذي يدعو إلى الثورة ويناقش مسألة على غاية من
الأهمية، وحسمها ضروري للخروج على السلطان، وأعني بها أن يصل المرء
إلى درجة من الاقتناع بالأمر ومن التبني له تدفعه لأن يضحي بحياته من اجله.
ويعود الكميت إلى هذه المسألة مرة أخرى في آخر القصيدة، ويرى الباحثون في
موقفه هذا وقوفا منه عند حد التأييد دون المخاطرة ببذل النفس ويرون أنه قاله
عند خروج زيد. والواقع أن القصيدة نظمت قبل خروج زيد بمدة طويلة.
وان التطرق إلى هذه القضية كان في نطاق مناقشة أمر مهم جدا وحسمه
ضروري من أجل نجاح الثورة.
لاحظ الكميت أن قلوب الناس مع آل البيت ولكنهم يخافون السيف
فعرض للأمر في أوائل القصيدة مؤكدا أن حياة كالتي تعاش ليست بذات
قيمة:
وعطلت الأحكام حتى كأننا * على ملة غير التي نتنحل
... رضينا بدنيا لا نريد فراقها * على أننا فيها نموت ونقتل
ونحن بها مستمسكون كأنها * لنا جنة مما نخاف ومعقل
أرانا على حب الحياة وطولها * يجد بنا في كل يوم ونهزل
فتلك أمور الناس أضحت كأنها * أمور مضيع آثر النوم بهل
ثم يعود إليه في أواخر القصيدة، وكأنه يريد أن يقطف الثمرة التي
انضج، وهنا يتحدث عن الناس، ولكن بلسانه، بحيث يصل ومتلقيه إلى:
فيا رب عجل ما يؤمل فيهم * ليدفأ مقرور ويشبع مرمل
وينفذ في راض مقر بحكمه وفي ساخط منا الكتاب المعطل
- فإنهم للناس... غيوث حيا، أكف ندى... عرى ثقة... مصابيح
تهدي.. ولكن كيف يتم التعجيل؟ ويجيب:
لهم من هواي الصفو ما عشت خالصا
ومن شعري المخزون والمتنخل...
تجود لهم نفسي بما دون وثبة
تظل بها الغربان حولي تحجل
لا يزال الشاعر يعالج هذه المسألة، مسألة بذل النفس، ويقول بلسانه
ولسان الآخرين أنه يضحي بكل شئ إلا بالحياة. أنه من هذا الموقف ينفذ إلى
الموقف الذي يريد أن يصل إليه، فقد أوصل المتلقي إلى تمنيهم وإلى تأييدهم،
ثم ينطلق به، ليصل معه إلى حيث لا يقف التأييد عند حدود ولهذا يكمل،
وهنا يصبح الحديث مع النفس.
وقلت لها بيعي من العيش فانيا... أتتني بتعليل ومنتني المنى... وقد
يقبل الأمنية المتعلل... ".
ثم يحسم الأمر وهذا ما يريد الوصول إليه:
وإن أبلغ القصوى أخض غمراتها * إذا كره الموت اليراع المهلل
إذا، عندما يجب " يخض غمراتها "، رغم ما يظهره من مداراة وتقية:
ويضحي أناة والتقيات منهم * أداجي على الداء المريب وأدمل...
هذا هو الموقف الذي يريد الكميت ايصال متلقيه إليه، التهيؤ للخروج
باقتناع كامل وبذل مطلق، عندما تبلغ الأمور الدرجة القصوى. ونحن أن كنا
نريد الحكم للكميت، أو الحكم عليه، لا يجب أن نقتطع بيتا ونقول هذا يمثل
موقف الكميت من القضية... معتقدين أن البيت يمثل الوحدة في القصيدة
العربية. وهذه الرؤية التي تحاكم القصيدة كأبيات منطلقة من ترداد غير مستند
إلى قراءة في التراث مخطئة. وقد بينا هذا لدى حديثنا عن قصيدة المديح
والنقيضة وقصيدة الغزل ونعيد هنا فنقول: يجب أن ننظر برؤية شاملة إلى
القصيدة كوحدة متكاملة، والموقف يؤخذ منها كاملة وإن كان من وجود مستقل
للبيت، فهو وجود آخر يختلف عن ذلك الذي يندرج في اطار القصيدة. وهو
ما يراه النقاد في وجود اجزاء القصيدة الحديثة: فلم يرون رؤيتين! لعله
الكسل وترديد ما اتبع وقيل. ولهذا ما كان ممكنا للشاعر أن يصل ومتلقيه إلى
النتيجة التي رأينا دون أن يناقش الساسة مسائلهم، إضافة إلى ما بدأ به من
ايقاظ لرؤية واقع. يقول الكميت:
فيا ساسة هاتوا لنا من حديثكم * ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أأهل كتاب نحن فيه وأنتم * على الحق نقضي بالكتاب ونعدل
يقود هذا التساؤل إلى عرض يبلغ فيه الذروة في استخدام الوسائل الفنية،
يكثف السؤال ويعرض صورتين متقابلتين:
فكيف ومن انى وإذ نحن خلفة * فريقان شتى تسمنون، ونهزل؟
من يقرأ: " فكيف ومن أنى وإذ " و " تسمنون ونهزل "! مفردة يحكم
حكما مخالفا لحكمه لو قرأها في إطارها، إنها ليست صناعة، ولكنها حشد
لوسائل توصل إلى الغرض. وهذا هو الفرق بين أن تكون الوسائل في خدمة
الشاعر وبين أن يكون الشاعر في خدمتها.
ثم يفصل عارضا صورة توضح حقيقة ما هم عليه:
برينا كبري القدح أوهن متنه * من القوم لأشار ولا متنبل،
ولنلاحظ هذه السخرية المستخدمة الفاظا غريبة وكأن هذه الألفاظ الغريبة
صورة كاريكاتورية مبرزة:
ولاية سلغد ألف كأنه * من الرهق المخلوط بالنوك أثول
كأن كتاب الله يعنى بأمره * وبالنهي فيه الكودني المركل
ألم يتدبر آية فتدله * على ترك ما يأتي أم القلب مقفل
وينتقل الشاعر إلى الهجوم المباشر مستخدما أيضا وسائل كالتكرار " فحتى
م حتى م، أيتموا وأثكلوا، خبال مخبل " وكالاستفادة من الأمثلة العربية " كلبة
حومل... كانت تربطها صاحبتها في الليل لتحرسها وتطردها في النهار، وكنار
الحالفين التي كان يضاف إليها الملح "...
فتلك ملوك السوء قد طال ملكهم * فحتى م حتى م العناء المطول
رضوا بفعال السوء من أمر دينهم * فقد أيتموا طورا عداء وأثكلوا
كما رضيت بخلا وسوء ولاية * لكلبتها في أول الدهر حومل
نباحا إذا ما الليل اظلم دونها * وضربا وتجويعا.. خبال مخبل

159
... هم خوفونا بالعمى هوة الردى * كما شب نار الحالفين المهول
لهم في كل عام بدعة يحدثونها * أزلوا بها اتباعهم ثم أوجلوا
وبعد هذا يفصل الشاعر في مساوئ الأمويين، ولنلاحظ هذه المقابلة بين
ما يحل وما يحرم، فالأمر ليس مجرد صناعة:
تحل دماء المسلمين لديهم * ويحرم طلع النخلة المتهدل
وليس لنا في الفئ حظ لديهم * وليس لنا في رحلة الناس أرحل
... هما هم بالمستلئمين عوابس * كحدان يوم الدجن تعلو وتسفل
يحلئن عن ماء الفرات وظله * حسينا ولم يشهر عليهن منصل
تهافت ذبان المطامع حوله * فريقان شتى ذو سلاح وأعزل
ثم لنرى هذا التوظيف لمأساة كربلاء عقلانيا ولخدمة الثورة التي كان يدعو
إليها، وكيف يستخدم هذا العرض المأساوي لينهض بالناس:
فلم ار موتورين أهل بصيرة * وحق لهم أيد صحاح وأرجل
كشيعته والحرب قد ثقبت لهم * امامهم قدر تجيش ومرجل
فريقان هذا راكب في عداوة * وباك على خذلانه الحق معول
فما نفع المستأخرين نكيصهم * ولا ضر أهل السابقات التعجل
فإن يجمع الله القلوب ونلقهم * لنا عارض من غير مزن مكلل
سرابيلنا في الروع بيض كأنها * اضا اللوب هزتها من الريح شمأل
على الجرد من آل الوجيه ولاحق * تذكرنا أوتارنا حين تصهل
نكيل لهم بالصاع من ذاك أصوعا * ويأتيهم بالسجل من ذاك أسجل
ألم يفزع الأقوام مما أظلهم * ولما تجبهم ذات ودقين ضئبل
إلى مفزع لن ينجي الناس من عمى * ولا فتنة إلا إليه التحول
إلى الهاشميين البهاليل إنهم * لخائفنا الراجي ملاذ وموئل
كان الكميت داعية ثورة، أفاد من إمكاناته ومهاراته، التي كانت شاملة
لمختلف شؤون الحياة في ذلك العصر من أجل خدمة عقيدته، فأتى بشعر جديد
في الأدب العربي، وما كانت هذه الجدة مفتعلة أو وسيلة زينة، وما كانت
صناعة تهدف لاظهار الحرفة الفنية، وإنما كانت جدة ابنة لموقف أو جدة وليدة
تجربة خاصة
الشيخ لطف الله العاملي
مرت ترجمته في الصفحة 38 من المجلد التاسع ونزيد عليها هنا ما يلي
لتعلق بعضه بالمترجم، وما ننشره هنا كان ردا على ما نشر في بعض المجلات:
إن المجال، مكانا وزمانا ليس فيما نعتقد ونقدر، مجال مناقشة مسهبة
كاملة شاملة لكل ما أورده الأستاذ فؤاد البستاني في جلسته مع مندوبي الصياد
(العدد 1692) في منهجيته وفحواه ومرتكزاته وبنيته، حضاريا وتاريخيا
وايديولوجيا وسياسيا وفي ما هو في عمقه الخلفي وما هو في بعده الإمامي وإذا كنا
انتظرنا. إفساحا منا في المجال لمن ألقيت الكرة في وجوههم، في يوم ممطر على
ملعب غير ذي عشب، ان يقذفوا بالكرة، ومر عددان من " الصياد " دون أي
أثر... إذا كان ذلك كله قائما فإنه لا يمكن أن يمر الإنسان مرور الكرام
بالمغالطات والأخطاء التاريخية التي ارتكز الأستاذ البستاني إليها، وسوف نكتفي
في هذه العجالة بابداء بعض الملاحظات حول ذلك:
أولا: قضية الهيثم بن عدي:
يقول الأستاذ البستاني ان العربي منذ العصور العباسية يعني المسلم. وقد
قيل في الهيثم بن عدي في العصر العباسي الأول لأنه كان يفرق بين العروبة
والإسلام:
ولا يزال له حل ومرتحل * إلى النصارى وأحيانا إلى العرب
إنه من المفزع فعلا تنكب منهجية مثل المنهجية التي تنكبها الأستاذ البستاني
من استقراء التاريخ حدثا وإطارا ودلالة، وبالتالي عبرة. وهي في الواقع
- ويسمح لنا الأستاذ البستاني بذلك - مجرد تجريد بدائي من جهة ومسخ وتشويه
من جهة ثانية. وهو داء طفولي معروف في علم التاريخ والاعتبار به.
لقد كان الهيثم بن عدي دعيا فاحتقره العرب المعتزون بأنسابهم فأراد أن
يعير أهل البيوتات العربية تشفيا بهم فراح يضع مثالب للعرب ويؤسس
للشعوبية، فهجاه شعراء العرب، وقال قائلهم مرة:
الله أكبر هذا أعجب العجب * الهيثم بن عدي صار في العرب
ويؤسفنا أن يحور الأستاذ البستاني قصة البيت الذي استشهد به هذا
التحوير العجيب.
أ - إن جميع المصادر التي بين أيدينا تروي البيت على هذا الشكل:
ولا يزال له حل ومرتحل * إلى الموالي وأحيانا إلى العرب
ب - إن القصة التي نظم فيها هذا البيت قصة تافهة لم يكن يجدر بالأستاذ
البستاني أن يجعل بسببها من الشاعر مفكرا يفرق في ذلك العصر بين العروبة
والإسلام. ونحن نريد أن نسلم - جدلا - مع الأستاذ البستاني انه وجد مصدرا
يؤيد رواية البيت على الشكل الذي رواه، ولكن كان من الكياسة أن يذكر
القصة التي نظم فيها هذا البيت لنرى إن كان يصح أن نعد معها الشاعر مفكرا
قوميا. وكل ما في الأمر ان الهيثم بن عدي أغضب أبا نواس - وكان أبو نواس
لا يزال حدثا - فهجاه بأبيات قال فيها:
لهيثم بن عدي في تلونه * في كل يوم له رجل على قتب
فما يزال أخا حل ومرتحل * إلى الموالي وأحيانا إلى العرب
وبذلك صار أبو نواس عند الأستاذ البستاني من غير المفرقين بين العروبة
والإسلام في العصر العباسي الأول!...
إذن ان اطار الحدث من قضية الهيثم بن عدي سببا وموقفا وظرفا ليس اطار
النزاع الطائفي أو الديني بالمعنى الذي يريده له الأستاذ البستاني. والشعوبية
أصلا ليست في هذا الإطار. وكلمة (نصارى) الواردة في بيت الشعر الذي
ذكره الأستاذ البستاني - على فرض صحة ورودها وهو غير صحيح -، لا تعني
المسيحيين باعتبارهم معتنقي هذا الذين وإنما تعني الروم: الأمة، الشعب،
الحكم، السلطة المواجهة العدوة. الإطار ليس صليبيا كما يحاول أن يوهم
بذلك الأستاذ البستاني. وكان من الممكن أن يعني ذلك: أي عدو آخر مسيحيا
كان أو يهوديا أو وثنيا.
والقول بأنه قد " قيل " في الشاعر ما قيل " من أنه كان لا يفرق بين العروبة
والإسلام " هو تجريد بدائي للتاريخ وطمس وتشويه له. ونتساءل إذا أخذنا
بمنطق الأستاذ البستاني إلى ما ذا كان يدعو إذن أبو نواس؟ هل إلى حكم علماني
أو إلى حكم فوضوي أو ماذا؟...

160
ثانيا: قضية نشوء الباكستان:
إن أكبر زعماء المسلمين في الهند كانوا ضد تقسيم الهند ويكفي أن نذكر
منهم: أبو الكلام آزاد، وفخر الدين علي أحمد، وذاكر حسين، والسيد محمد
سعيد العبقاتي إلى عشرات أمثالهم. بل إن أبو الأعلى المودودي زعيم (الجماعة
الإسلامية) ومؤسسها كان هو نفسه ضد التقسيم. هذه الجماعة المعروفة
بنزعتها الإسلامية المتصلبة. وعند ما اختلف المودودي مع رئيس جمهورية
الباكستان أيوب خان، كان مما عيره به هذا، انه كان معارضا لقيام
الباكستان.
وقد استوضحت خلال زيارتي للباكستان عددا من زعماء الجماعة الإسلامية
فأقروا بهذه الحقيقة.
وقد لعب الصراع على الزعامة لدى الزعيم محمد علي جناح دورا في
التقسيم بالإضافة طبعا إلى الأسباب الرئيسية الأساسية التي أدت إلى التقسيم.
إذن ليس صحيحا - وهو أمر عاصرناه - أن مسلمي الهند " ظلوا في الحض
حتى نشأت دولة الباكستان " كما يقول الأستاذ البستاني ليدعم ما انطلق به من
مبدأ أصلا: وهو أن المسلمين لا يمكن أن يتعايشوا مع أحد...
إن تاريخ الشعوب لا تلخص أسبابه وتكشف مكنوناته ببعض كلمات. إن
وراء تقسيم الهند ونشوء دولتين فيها، استعمارا دام عشرات السنين كان قوامه
نهب الخيرات وإثارة الفتن وبذر الشقاق وتقسيم الشعوب وتركيب الدول.
ونحن نريد أن نسأل الأستاذ البستاني ما دام ان " المسلمين يسعون بمعونة
مسلمي العالم ليكونوا دولة مسلمة " كما يقول فكيف خرجت بنغلادش المسلمة
من دولة مسلمة بمعونة الهند؟ ان اهمال العوامل الاقتصادية والسياسية والقومية
واللغوية في فهم مثل هذه الأمور هو تجريد بدائي للتاريخ. وعندما يرد ذلك
للدين وللدين الإسلامي فقط لا يعود هذا تاريخا أبدا. وأخيرا لماذا لا تزال تحبو
فكرة وحدة غرب أوروبا وليس فيها مسلمون وهي مسيحية من قرون عدة.
ثم إننا نسأل الأستاذ البستاني، من كان وراء الحركة الانفصالية التي قامت
في بيافرا؟ ومن هو وراء الحركات الانفصالية القائمة الآن في فرنسا وإسبانيا
وكندا؟ أ هم المسلمون؟... بل اننا نسأله من كان وراء انفصال لبنان عن
سوريا؟!
ثالثا: قضية الشيخ لطف الله العاملي:
يزعم الأستاذ البستاني أن فخر الدين المعني أرسل الشيخ لطف الله العاملي
من ميس الجبل إلى عند الشاه عباس في إيران، لينسق بين الشاه وفخر الدين في
حربه مع العثمانيين.
والأستاذ البستاني حين يقول هذا القول فإنه يجهل حقيقة مهمة علماء جبل
عامل في إيران في عهد الدولة الصفوية.
إن الهجرة العلمية العاملية إلى إيران هي أبعد عهدا وأسمى هدفا مما يظن
الأستاذ البستاني. وإذا كان فخر الدين المعني هو الذي أرسل الشيخ لطف الله
العاملي إلى الشاه عباس فمن الذي أرسل قبل ذلك المحقق الكركي الشيخ
علي بن الحسين ابن عبد العالي المتوفى سنة 940 هجرية (1534 م) إلى الشاه
إسماعيل والشاه طهماسب ومن الذي أرسل الشيخ حسين عبد الصمد المتوفي
سنة 984 هجرية (1576 م) وولده محمد بهاء الدين؟ ومن الذي أرسل الشيخ
إبراهيم البازوري والشيخ محمد علي خاتون والسيد بدر الدين الحسيني
الأنصاري؟ ومن الذي أرسل المئات غيرهم من علماء جبل عامل؟
لقد كان سبب هذه الهجرة ان الدولة الصفوية قامت أول ما قامت على
كيان عسكري بحت يرتكز إلى القوة المادية وحدها، فكانت بحاجة إلى العلماء
والمثقفين فوجدت بغيتها في هذا الجبل العظيم (جبل عامل) الذي استمر تدفق
علمائه ومفكريه إلى إيران طيلة قرنين حتى ظهر في الميدان العلماء الإيرانيون،
وكان أبرزهم محمد باقر المجلسي المتوفى سنة 1106 ه‍ (1699 م).
وقبل ذلك، قبل قيام الدولة الصفوية في عهد ملك خراسان علي بن
المؤيد، حاول هذا الاستعانة بعلماء جبل عامل فأرسل يستدعي الشهيد
محمد بن مكي المستشهد سنة 786 ه‍ ولكن محمدا اعتذر لأن بلاده كانت في
ذلك الوقت بأمس الحاجة إليه، إذ كان هو رأس النهضة العلمية العاملية التي
تضعضعت بفعل احتلال الإفرنج (الصليبيين)، ثم انبعثت على يد محمد بن
مكي. واكتفى محمد بن مكي بان ألف لعلي بن المؤيد كتاب (اللمعة) في
الفقه وأرسله إليه.
إذن: 1 - مبدئيا ان العلاقات بين الشيعة وفخر الدين كانت على الأغلب
سيئة، إن لم تكن عدائية ولم يكن من مبرر لهم حتى ولو كانوا مضطهدين من
قبل الحكم العثماني لأن يوالوا فخر الدين، ولا لأن تقوم علاقة تحالف
" مصيري " مع حكمه تستدعي " نشاطا دبلوماسيا دوليا " من قبل الشيعة لدعم
فخر الدين.
2 - إن قضية الوجود الشيعي في ظل الحكم العثماني في العهد المعني لم تكن
في لبنان مطروحة بالمعنى والمبنى اللذين يذكران للوجود المسيحي أو اللبناني.
فلم تكن لدى الشيعة آنذاك ولا الآن نزعات استقلالية ذات دور حضاري.
كما أنه من العبث الكلام عن علاقات آنذاك في هذا السياق بالذات بين شيعة
جبل عامل وشيعة إيران. وبالتالي لا مجال للقول بتحرك شيعي متمثل في عالم
كبير من علماء الشيعة في سفارة للأمير المعني. وهذا في رأينا مجرد كلام يراد به
تركيب تاريخ " بالإبرة والسنارة ".
3 - لم يكن في مطلق الأحوال من الوارد لدى الشيخ لطف الله، شأنه في
ذلك شأن علماء الشيعة آنذاك ان يقوم بمهمة مثل المهمة التي يذكرها الأستاذ
البستاني وبخاصة لرجل مثل الأمير المعني. وكان أولئك العلماء من المنزلة
والانشغال والعمل والترفع بحيث ان القصة الموردة لا تعدو أن تكون
موضوعة.
هذا من الناحية المبدئية، أما من حيث سيرة الشيخ لطف الله العاملي
نفسها، فهي تنفي النفي كله مثل هذه السفارة. فالشيخ لطف الله ليس هو
الذي ذهب إلى جبل عامل، بل إن جده إبراهيم بن علي بن عبد العالي الميسي
هو الذي ترك ميس وذهب من الجبل إلى إيران.
وقد كان له ولدان هما: الحسن وعبد الكريم، ولعبد الكريم ولد، هو
لطف الله.
وعن تفاصيل حياته ننقل له عبارة واحدة وليراجع تفاصيل ذلك في ترجمة

161
الشيخ لطف الله في أعيان الشيعة. أما العبارة فهي:
ودخل في أوائل أمره إلى مشهد الرضا (ع) وتلمذ على مولانا عبد الله
التستري وغيره. إلى أن انتظم في سلم المدرسين في الحضرة المقدسة والموظفين
بوظائف التدريس والنظارة لخدام الروضة. ثم انتقل منه إلى قزوين ومنها إلى
أصفهان وتوطن فيها إلى أن بنى له الشاه عباس المدرسة والمسجد. وهو وابنه
الشيخ جعفر ووالده وعمه الحسن وجداه من مشاهير الفقهاء الإمامية ".
فمتى كان الشيخ لطف الله - وهذه سيرته - سفيرا لفخر الدين؟!.
الشيخ لطف الله البحراني بن عطاء.
من أدباء البحرين ذكره في (أنوار البدرين) ولم يذكر لا تاريخ مولده ولا تاريخ
وفاته وقال: وله شعر في مراثي الحسين عليه السلام يقرأ في المجالس الحسينية والظاهر
أنه من قرية جد حفص ومن شعره قوله:
وصلنا السرى بالسير نقطعها قفرا * مهامه لا تهدى إليها القطا أثرا
يضل بها الخريث أن حل ارضها * وترصدها الجربا فتقذفها سعرا
على يعملات كالقسي تفاوضت * أحاديث من تهوى فطاب لها المسرى
تسابق أيديها على السير أرجل * قدحن من الصلد الصفاة لها حجرا
وما أن زجرناها ولكنها متى * تلهف ملهوف توهمه زجرا
وما اتخذت منا دليلا وانما * تخب وتستقري إذا انتشقت عطرا
إلى أن أجازت ساحة الحي وانتهت * إلى دار من تهوى وقد أقفرت دهرا
فلما عرفن الدار حنت وأرزمت * فلم تنبعث في السير أرجلها شبرا
فملنا عن الاكوار للأرض سجدا * فسابقت الأجفان أفواهنا فخرا
وعدنا فسلمنا سلاما فسلمت * ثلاثا فسلمنا عليها بها عشرا
وهي طويلة وله شعر كثير وقفت عليه.
السيد ماجد الصادقي بن هاشم.
توفي في شيراز سنة 1028 من علماء البحرين وأدبائها ارتحل إلى شيراز ووصف
بأنه أول من نشر علم الحديث فيها، وانه اقبل عليه أهلها. وتلمذ عليه بعض
علمائها مثل محمد محسن الكاشاني صاحب (الوافي). وانه اجتمع بالشيخ البهائي
في أصفهان، وان البهائي استجازه فكتب له إجازة طويلة، وإن هذه الإجازة
وجدت في خزانة بعض كتب الأعيان سنة 1103 وان له من المؤلفات: (الرسالة
اليوسفية) وله حواشي على الشرائع وعلى اثني عشرية الشيخ البهائي. وله رسالة
سماها (سلاسل الحديد في تقييد أهل التقليد) (1) من شعره قوله:
ناشدتك الله إلا ما نظرت إلى * صنيع ما ابتدأ الباري وما ابتدعا
تجد صفيح سماء من زمردة * خضرا وفيها فريد الدر قد رصعا
ترى الدراري يدانين الجنوح فما * يجدن غب السرى عيا ولا ضلعا
والأرض طاشت ولم تسكن فوقرها * بالراسيات التي من فوقها وضعا
فقر ساحتها من بعدما امتنعا * وانحط شامخها من بعد ما ارتفعا
وارسل الغاديات المعصرات لها * فقهقهت ملء فيها واكتست خلعا
هذا ونفسك لو أم الخبير لها * لارتد عنها كليل الطرف وارتدعا
وليس في العالم العلوي من أثر * يحير اللب إلا فيك قد جمعا
ومن شعره:
طلعت عليك المنذرات البيض * وابيض منها الفاحم الممحوض
ست مضين وأربعون نصحن لي * ولمثلهن على التقى تحضيض
وافى المشيب مطالبا بحقوقه * وعلي من قبل الشباب فروض
أيقوم أقوام بمسنون الصبا * متوافرا ويفوتني المفروض
أن الشباب هو المطار إلى الصبا * فإذا رماه الشيب فهو مهيض
بادرته خلس الصبا إذ لاح لي * بمفارق الفودين منه ووميض
فمشى وحاز السبق إذ أنا قارح * جذع بمستن العذار ركوض
واسود في نظر الكواعب منظري * إذ سودته الغائبات البيض
والليل محبوب لكل ضجيعة * تهوى عناقك والصباح بغيض
عريت رواحل صبوتي من بعد ما * أعيا المناخ بهن والتقويض
قد كنت في طلب العنان فساسني * وال يذلل مصعبي ويروض
عبث الربيع بلمتي وعاث في * تلك المحاسن كلهن مقيض
ومن شعره يحن إلى الفه ووطنه:
يا ساكني (جد حفص) (2) لا تخطفكم * ريب المنون ولا نالتكم المحن
ولا عدت زهرات الخصب واديكم * ولا أغب ثراه العارض الهتن
ما الدار عندي وان ألفيتها سكنا * يرضاه قلبي لولا الألف والسكن
ما لي بكل بلاد جئتها سكن * ولي بكل البلاد جئتها وطن
الدهر شاطر ما بيني وبينكم * ظلما فكان لكم روح ولي بدن
مالي ومالك يا ورقاء لا انعطفت * بك الغصون ولا استعلى بك الفنن
مثير شجوك أطراب صدحت بها * ومصدر النوح مني الهم والحزن
وجبرتي لا أراهم تحت مقدرتي * يوما وإلفك تحت الكشح محتضن
هذا وكم لك من أشياء فزت بها * عني وأن لزنا في عوله قرن
وقبره بشيراز في جوار السيد أحمد بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام المعروف
(بشاه جراغ) كما في اللؤلؤة.
عضد الدين أبو نصر المبارك بن الضحاك الأسدي أستاذ دار الخلافة:
ذكره صلاح الدين الصفدي في وفيات سنة " 627 " من تاريخه الذي على
الحوادث قال فيها: " وأستاذ دار الخليفة أبو نصر المبارك بن الضحاك... له
شعر حسن فمن شعره:
وقد كان حسن الظن جل بضاعتي * فأدبني هذا الزمان وأهله
وأكثر من تلقى يسرك قوله * ولكن قليل من يسرك فعله
وما كل معروف وإن قل قدره * يخف على عنق المروءة حمله
ودفن بمقابر قريش ". وجاء ذكره في كتاب الحوادث في وفيات سنة " 627 "
قال مؤلفه: " وفيها توفي عضد الدين أبو نصر المبارك بن الضحاك. وكان
شيخا دينا فاضلا أديبا وكان من المعتدلين بمدينة السلام ورتب ناظرا بديوان
الجوالي وكتب في ديوان الانشاء ثم نفذ رسولا إلى صاحب الشام فلما عاد رتب
أستاذ دار الخلافة فكان على ذلك إلى أن توفي وكان له شعر حسن فمما نسب إليه
ما رثى به بعض أصحابه وهو:
لئن مضى أحمد حميدا * ما الموت في أخذه حميد



(1) أنوار البدرين.
(2) جد حفص قرية في البحرين.
162
أو بخلت مقلة بدمع فهي على مثله تجود
وذكره ابن الفوطي في الملقبين بعضد الدين قال: " عضد الدين أبو نصر
المبارك بن أبي الرضا محمد بن أبي الكرم هبة الله بن الضحاك الأسدي القرشي
البغدادي المعدل أستاذ الدار. (هو) المبارك بن محمد بن هبة الله بن علي بن
محمد بن الحسن بن محمد بن القاسم بن أحمد بن محمد بن الضحاك بن
عثمان بن الضحاك بن عبد الله بن خالد بن حزام بن خويلد بن أسد بن
عبد العزى بن قصي. شهد عند قاضي القضاة محمد بن جعفر العباسي في
شعبان سنة خمس وثمانين وخمسمائة ورتب ناظرا بديوان الجوالي وكتب في ديوان
الانشاء وأنفذ رسولا إلى العادل محمد بن أيوب سنة خمس وستمائة (1) ولما عاد
من الرسالة ولي أستاذية الدار في ربيع الآخر سنة ست وستمائة فلم يزل على
ذلك إلى حين وفاته ليلة الجمعة الخامس والعشرين من المحرم سنة سبع
وعشرين وستمائة. ومولده سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، وله شعر
ورسائل ".
وكان لقبه بهاء الدين ثم بدل لما رفعت رتبته، قال ابن الساعي في حوادث
سنة 605: " وفيه (أي شهر ربيع الأول) خلع على رسولي الملك العادل ونفذ
صحبتهما العدل بهاء الدين أبو نصر المبارك بن الضحاك والأمير عماد الدين
أزبك الناصري "، ثم قال في حوادث ذي القعدة من السنة المذكورة: " وفي
يوم الاثنين سادس عشري وصل بهاء الدين أبو نصر المبارك بن الضحاك والأمير
عماد الدين أزبك من دمشق وتلقاهما حاجب الحجاب، وجماعة من الأعيان
ودخلا وعليهما الخلع التي خلعهما عليهما العادل وقصد البدرية الشريفة ".
وقال في حوادث سنة " 606 " في شهر ربيع الآخر: " وفي ليلة الخميس
ثاني عشري ولي بهاء الدين أبو نصر المبارك بن الضحاك أستاذية الدار العزيزة
ولقب عضد الدين وأسكن الدار المقابلة لباب الفردوس المحروس وذلك بعد
عزل أبي الفتح بن رزين في تلك الليلة ونقله عنها "، ثم قال في حوادث السنة
المذكورة في جمادى الآخرة منها: " وفيه نفذ عضد الدين أبو نصر المبارك بن
الضحاك أستاذ الدار العزيزة يومئذ رسولا إلى الملك العادل وصحبته الأمير نور
الدين آقباش الناصري المعروف بالدويدار، وكان العادل إذ ذاك على سنجار
محاصرا لها وأمرا أن يرحلاه عنها فمضيا ورحلاه وعادا في يوم الأربعاء ثاني شهر
رمضان ". ومما قدمنا يعلم أنه أرسل رسولا إلى الملك العادل الأيوبي مرتين.
وذكره كمال الدين المبارك بن الشعار الموصلي قال: " من بيت معروف
بالكتابة وتولي الأعمال الديوانية، وكان من أعيان أهل بيته دينا وفضلا ومعرفة
وأدبا. شهد عند قاضي القضاة محمد بن جعفر البغدادي العباسي في شعبان
سنة خمس وثمانين وخمسمائة ورتب ناظرا بديوان الجوالي ثم رتب أستاذ الدار
العزيزة في شهر ربيع الأول سنة ست وستمائة، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي
في ليلة الجمعة خامس عشر محرم سنة سبع وعشرين وستمائة - رح - وصلي عليه
بجامع القصر وحضر جماعة أرباب الدولة وغيرهم فصلوا عليه وحمل إلى مشهد
موسى بن جعفر - (عليهما السلام) فدفن في تربة له هناك. أنشدت له بمدينة
السلام هذه الأبيات، حكى لي أنه كتبها على بعض سطوح الحمام المعد للمهام
ونقل الأخبار:
يا حجرة بنيت بأيمن طائر * شيدت مبانيها بأحسن منظر
حفت بأطيار كأن حفيفها * ريح الشمال تضمخت بالعنبر
وضعت لأصناف سوابق لم تكن * لا لابن داود ولا الإسكندر
الله شادك نزهة المستبصر * ببقاء مولى خلقه المستنصر
مولى زكت أعرافه وجدوده * في الأطيبين وفي المحل الأطهر
فغمامه من رحمة وعراصه * من جنة ويمينه من كوثر
وأنشدت له في المعنى:
برج حمام سما بحمامه * حوما على الأبراج طرا
وحمامه سبق الرياح * وفاتها برا وبحرا
والمبارك بن الضحاك الأسدي هذا هو خال الوزير مؤيد الدين محمد بن
العلقمي الشهير. وله أخبار كثيرة لأنه كان من شيوخ الدولة العباسية
وأعيانها. وهو الذي درب ابن العلقمي على شؤون الإدارة والسياسة
والوزارة، وأن لم يكن وزيرا، فإنه كان مرشحا للوزارة ولكن انقطاع أجله
حال دون ذلك.
قال كمال الدين الشعار في ترجمة الوزير نصير الدين أحمد بن الناقد وتوكيل
الخليفة المستنصر له: وقال له أستاذ الدار أبو نصر ابن المبارك بن الضحاك وكانا
قائمين (2) بين يدي الشباك الشريف، وهو الذي قام بأمر البيعة (3) لشيخوخته
وملابسته لاشغال الدار العزيزة: أن أمير المؤمنين قد وكل أبا الأزهر أحمد بن
محمد بن الناقد في كل ما يتجدد من بيع وعتق وابتياع.
الحاج مجيد العطار ابن محمد
ولد سنة 1282 في بغداد وتوفي في النجف الأشرف سنة 1342 نشأ في
مدينة الحلة وفي سنة 1334 انتقل باهله إلى ناحية شريعة الكوفة، له شعر كثير
في مدح أهل البيت ورثائهم، وله إلمام في فن التاريخ الشعري.
من شعره قوله:
من حمى المرتضى اعصمت بحصن * قد حمى منه جانب العز ليث
فحبانا ببره وحمانا * فهو في الحالتين غوث وغيث
وله مقرظا على عصا من عوسج أهديت إلى السيد محمد القزويني:
وان عصا من عوسج ترهق العدى * وتثمر معروفا بيمنى محمد
لتلك التي يوم القيامة جده * يذود بها عن حوضه كل ملحد
وله متشوقا إلى لقاء الله:
ما شاقني قرب الحمام وانما * اشتاق قرب الواحد المنان
لأشم ريح العفو عند لقائه * وأذوق طعم حلاوة الاحسان
وله مناجيا ربه:
امحصلا ما في الصدور بموقف * لا عذر فيه لنا عن العصيان
أتقيم فينا العدل يحكم وحده * وأمرتنا بالعدل والاحسان



(1) كان السبب في إرساله سير العادل إلى الجزيرة واستيلاؤه على الخابور ونصيبين وحصره سنجار،
وذلك أن الأتابك نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل غدر به بعد أن عاهده
والخبر مفصل في الكامل لابن الأثير ولكنه سمي فيه " هبة الله بن المبارك " وهو تصحيف. وقال ابن
الأثير في تاريخه الآخر الأتابكي المعروف بالباهر " ص 361 أوربة " " إن أمير المؤمنين الناصر
لدين الله - أعز الله سلطانه - أرسل رسولا... وناهيك بهذا شرفا وجلالة وقدرا لنور الدين عند أمير
المؤمنين إذ ينفذ مثل أستاذ داره العزيز ". ولكن ابن الأثير في ترجمة الناصر شتم وجاوز الحد.
(2) الثاني قاضي القضاة أبو صالح نصر بن عبد الرزاق الجيلي.
(3) يعني أستاذ الدار.
163
محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم الهمذاني ثم الدمشقي
قال اليافعي في (مرآة الجنان) وهو يذكر وفيات سنة إحدى وعشرين
وسبعمائة:
فيها مات شيخ الشيعة وفاضلهم الشمس محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم
الهمذاني ثم الدمشقي. (انتهى)
(راجع ترجمته في الصفحة 61 من المجلد التاسع).
محمد بن أبي عمير البزاز بياع السابري
في رجال ابن داود: يكنى أبا أحمد. من موالي الأزد، واسم أبي عمير زياد بن
عيسى. من أوثق الناس عند الخاصة والعامة وأنسكهم وأورعهم وأعبدهم،
وقد ذكره الجاحظ في كتابه في فخر قحطان على عدنان بذلك، وذكر أنه كان
أوحد زمانه في الأشياء كلها. أدرك من الأئمة ثلاثة: أبا إبراهيم موسى بن
جعفر (عليه السلام) ولم يرو عنه، وروى عن أبي الحسن الرضا
(عليه السلام)، وروى عنه أحمد بن عيسى كتاب مائة رجل من رجال أبي
عبد الله (عليه السلام)، وله مصنفات كثيرة، وذكر ابن بطة انها أربعة
وتسعون كتابا.
حبس بعد الرضا (عليه السلام) ونهب ماله وذهبت كتبه، وكان يحفظ
أربعين جلدا فلذلك ارسل أحاديثه. وكان قد سعي به انه يعرف أسماء الشيعة
ومواضعهم، فأمره السلطان بتسميتهم فأبى فضرب ضربا عظيما. وقيل كان
ذلك ليلي القضاء - قال: فلما بلغ مني الضرب ذلك كدت أسميهم فسمعت
نداء: يا محمد بن أبي عمير: اذكر موقفك بين يدي الله، فتقويت بقوله
وصبرت ولم أخبرهم والحمد لله. وقيل إنه أدى مائة واحدة وعشرين ألف درهم
حتى خلص، وكان ممولا. وكان مولى بني أمية وقيل مولى المهلب بن أبي
صفرة، بغدادي الأصل والمقام، لقي الكاظم (عليه السلام) وسمع منه
أحاديث كناه في بعضها، فقال (عليه السلام): يا أبا احمد، تعظيما له رحمه
الله.
الدكتور محسن جمال الدين بن علي
ولد سنة 1918 م في مدينة العمارة (العراق) وتوفي سنة 1988.
حصل على الدكتوراه سنة 1958 من جامعة برشلونة بأطروحة موضوعها
(وصف العرف للأندلس خلال العصور الوسطى). ولما عاد إلى العراق تولى
التدريس في جامعة بغداد.
له من المؤلفات 1 - أدباء بغداديون في الأندلس 2 - العراق في الشعر
المهجري العربي 3 - المستشرقون والأماكن المقدسة. (1)
السيد محسن الموسوي بن السيد محمد
ولد في (بلتستان) إحدى ولايات باكستان عام 1938 م درس عند أخيه
الأكبر السيد أحمد الموسوي، ثم هاجر إلى النجف الأشرف لإكمال دروسه عام
1952 فبقي فيها مدة عشر سنوات وعاد إلى مسقط رأسه عام 1962 م كان
خطيبا بليغا ومرشدا دينيا، أغتيل عام 1977 على أيدي جماعة من
المتعصبين. (2)
أبو نصر الفارابي محمد بن أحمد بن طرخان
مرت ترجمته في الصفحة 103 وما بعدها من المجلد التاسع ومر فيها ذكر
مؤلفاته بصورة مجملة ونذكرها هنا مفصلة مكتوبة بقلم الأستاذ جعفر جاويشي.
ونكرر الآن ما قلناه في أول الكتاب عن البحوث المنشورة في ترجمته في المجلد
التاسع والمعنونة بهذه العناوين: (مع الفارابي الفيلسوف الروحي) و (مع
الفارابي في المدينة الفاضلة) و (مع أهل المدينة الفاضلة) - إن هذه البحوث
مكتوبة بقلم: الدكتور محمد مصطفى حلمي.
المنطق
1 - شرح العبارة لأرسطو طاليس:
شرح قيم على كتاب العبارة لأرسطو، كتبه الفارابي. أساس هذا الشرح
نسخة أصلية باليونانية، تختلف عن شرح امونيوس الذي أعده في القرن
السادس الميلادي، كما يختلف عن الأثر اليوناني الذي استفاد منه بوتيوس
المعاصر له باللاتينية، ولعل المآخذ والمباني لهذه الشروح الثلاثة هو التفسير
المفقود لفرفوريوس.
الطباعة:
ويلهولم كوش ومساعده طبعا ونشرا المتن العربي مع مقدمة وفهارس كاملة
ومفيدة ببيروت عام 1960 م.
الدكتور محسن مهدي نقد هذه الطبعة في المجلد الثاني والثمانون من مجلة
اتحاد شرق أمريكا، وكذا دانلوب في مجلة الاتحاد الملكي الآسيوي.
يوجد من هذه الرسالة أربعة نسخ خطية:
1 - المكتبة الحميدية، تركيا، ورقمها 4 / 812.
2 - مكتبة الأمة (فيضل الله أفندي) رقمها 1882.
3 - مكتبة تويقا بوسراي رقمها 20 / 1730.
4 - مكتبة براتيسلاوا رقمها 231.
الدكتورة مباهاة توركركويل ترجمت هذه النسخة إلى اللغة التركية عام
1966 م، وطبعت مرفقة مع المتن العربي بأنقرة.
2 - رسالة صدر بها كتاب التوطئة في المنطق:
دانلوب طبع المتن العربي لهذه الرسالة مرفقا بترجمة انكليزية عام
1957 م.
يوجد من هذا الكتاب خمس نسخ خطية في السليمانية.
الدكتورة مباهاة توركركويل طبعت المتن العربي وأرفقته بترجمة تركية.
في تعريف آثار الفارابي لموجغان جنبور تم تعريف ترجمتين المانيتين كنسخ
خطية لهذا الأثر.
3 - تعليقات انالوطيقا الأولى لأرسطوطاليس أو كتاب القياس الصغير:
- نسخة مكتبة الأمة (جار الله) رقم 1349، الحميدية 812 / 1.
- نسخة مكتبة تويقا بوسراي رقم 15 / 1730.
- نسخة مكتبة كلية الآداب والتاريخ الجغرافي بإسطنبول 183 / 1.
الدكتورة مباهاة توركركويل أعدت المتن العربي مع ترجمة تركية تشمل مدخلا
ممتعا جدا وطبعته في أنقرة عام 1958 م.
- نيكولاس روشر ترجمه إلى الإنكليزية.



(1) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
(2) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
164
4 - تفسير كتاب المدخل في صناعة المنطق:
هذه الرسالة منسوبة للفارابي، في حين تردد بعض المحققين في نسبتها له،
واعتقدوا أنها من إخوان الصفا.
النسخ الخطية:
- المكتبة السليمانية (آيا صوفيا) رقمها 5 / 4839.
- المكتبة السليمانية رقم 5 / 4854.
- مكتبة تويقا بوسراي رقم 2 / 3063.
ديتريشي طبع المتن العربي لهذه الرسالة في لايبزيك عام 1883 م.
ترجمة القرون الوسطى باللاتينية أعدت وطبعت عام 1897 م.
5 - شرح كتاب إيساغوجي فرفوريوس:
نسب هذا الكتاب إلى الفارابي، لكن التحقيق الذي أعده شتيرن - محقق
العلوم الاسلامية - يشير إلى أن هذا الكتاب هو في الواقع من آثار أبو الفرج بن
الطيب.
دانلوب طبع المتن العربي والترجمة الانكليزية لهذا الكتاب عام 1956 م.
6 - كتاب الأمكنة المغلطة أو كتاب في السفسطة:
توجد عدة نسخ من هذه الرسالة:
1 - مكتبة مجلس الشورى الوطني برقم 595.
2 - المكتبة السليمانية (الحميدية) برقم 812 / 12
3 - مكتبة كابل برقم 45 (217) 66.
4 - مكتبة براتسلاوا برقم 231 / 8.
تقسم هذه الرسالة إلى ثلاثة فصول هي:
الفصل الأول: يشمل مقدمة الكتاب (في صدر الكتاب).
الفصل الثاني: " في إحصاء الأمكنة المغلطة من الألفاظ ".
الفصل الثالث: " في إحصاء الأمكنة المغلطة من المعاني ".
وتوجد لهذه الرسالة ترجمة عبرية من القرون الوسطى.
عماد الدين المراكشي كتب شرحا على هذه الرسالة تحت عنوان شرح
مختصر في السفسطة. توجد نسخ من هذا الشرح في المكتبة المركزية لجامعة
طهران، ضمن الكتب المهداة من الأستاذ السيد محمد مشكاة.
7 - شرح كتاب المقولات لأرسطو طاليس أو شرح فاطيقورياس أرسطو:
يوجد من هذه الرسالة ترجمتين عبريتين من القرون الوسطى على شكل
مخطوطتين إحداهما في ميونيخ رقمها 2 / 307، والأخرى في مكتبة اسكوريال
رقمها 612.
دانلوب طبع المتن العربي والترجمة الإنكليزية لهذه الرسالة عام 1958
1959.
نهاد ككليك طبع المتن العربي مع مقدمة باللغة التركية من 11 صفحة في
إسطنبول عام 1960 م.
يحتمل أن تكون هذه الرسالة عينها رسالة الدكتوراه لككليك بجامعة
إسطنبول التي قدمت باللغة التركية إلى هذه الجامعة عام 1956 م بعنوان تاريخ
المنطق الإسلامي ومقولات الفارابي.
8 - كتاب الجدل:
النسخ الخطية:
1 - المكتبة السليمانية (الحميدية) رقمها 9 / 812.
2 - مكتبة براتسلاوي، تشيكو سلوفاكيا رقمها 231.
3 - المكتبة الوطنية الملكية ضمن المجموعة 1583.
هكذا بدأت هذه النسخة: " قال أبو نصر محمد بن محمد الفارابي في
صناعة الجدل، هي الصناعة بها يحصل للإنسان القوة على أن يعمل من
مقدمات مشهورة قياسا في إبطال كل (ما) وضع موضوعه كلي بتسلمه
بالسؤال ".
حسب زعم العديد من المحققين فإن كتاب الجدل للفارابي هو قسم مما أعده
من فصول يحتاج إليها في صناعة المنطق، وإن المتن الكامل لهذا الكتاب لم تصل
إليه يد حتى الآن، ولا يوجد منه سوى ترجمته العبرية ليعقوب بن أبي موري،
التي يوجد منها نسخة خطية محفوظة في المكتبة الوطنية بباريس تحت رقم
1008. FOL.
عماد الدين المغربي (المراكشي) كتب شرحا على كتاب الجدل للفارابي،
توجد نسخته الخطية في مكتبة سكوريال رقمه - 630. COD.
9 - كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق:
الدكتور محسن مهدي طبع المتن العربي لهذا الكتاب وأرفقه بمقدمة وحواشي
في بيروت عام 1968 م.
10 - كتاب شرائط البرهان تلخيص من فصول يحتاج إليها في صناعة المنطق:
دانلوب طبع المتن العربي لهذه الرسالة وأرفقه بترجمة انكليزية عام
1955 م.
الدكتورة مباهاة توركركويل طبعت نفس الملخص هذا وأرفقته بترجمة تركية
في أنقرة عام 1958 م.
11 - كتاب شرائط اليقين:
النسخ الخطية: توجد نسخة خطية من هذا الكتاب في باريس بحروف
عبرية، ونسخة أخرى في المكتبة السليمانية (أسد أفندي) رقمها 2 / 1918.
الطبعات: الدكتورة مباهاة توركركويل طبعت المتن العربي للكتاب
وأرفقته بترجمة تركية عام 1963 م.
يوجد شرح على رسالة الفارابي هذه تحت عنوان " شرح في شرايط اليقين "
على هيئة نسخة خطية في مكتبة سكوريال رقمها 261207.
وتوجد ترجمة عبرية لكتاب شرايط اليقين للفارابي في المكتبة الوطنية بباريس
رقمها 1008. Hebr.
12 - كتاب المختصر الصغير في المنطق على طريقة المتكلمين:
ورد اسم هذه الرسالة في برنامج وفهرسين للقفطي وابن أبي اصيبعة.
أراد الفارابي في رسالته هذه - في مقابل بعض الاشكالات التي جعلها
الظاهريون من المنطق - أن يقرب ذلك بأسلوب استدلال المتكلمين
الاسلاميين.
النسخ الخطية: توجد نسخة خطية في المكتبة المركزية لجامعة طهران رقمها

165
25 / 241. وكذلك نسخة خطية عبرية تعود للقرون الوسطى موجودة في
باريس.
فن الشعر والخطابة
13 - رسالة في قوانين صناعة الشعر:
هذه الرسالة بمثابة تلخيص لكتاب فن الشعر لأرسطو، مأخوذ عن شرح
ثامسطيوس وبعض الشارحين الأخر، وفي الواقع ليس بترجمة لكتاب أرسطو
وتلخيص صحيح له، إنما هو عبارة عن مطالب مختلفة جمعت ظاهرا عن بعض
الشروح المتداولة بين فضلاء مكتب الإسكندرية علق عليها.
أربري طبع المتن العربي لهذه الرسالة وأرفقه بترجمة انكليزية وذلك عام
1938 م.
14 - القول في التناسب والتأليف:
يوجد من هذه الرسالة فيلم 274 (= صورة 3135) في المكتبة المركزية
لجامعة طهران.
15 - كتاب الشعر:
الدكتور محسن مهدي طبع المتن العربي المنقح من هذا الكتاب على أساس
نسخة المكتبة الحميدية مع مقدمة وحواشي، وذلك في مجلة شعر، المجلد
الثالث، بيروت 1959 م، ص 90 - 95.
وأعيد نشره في مجلة آفاق في شهر أيار من نفس السنة، بيروت،
ص 128 - 136.
16 - كتاب الخطابة:
المتن العربي لهذا الكتاب مع ترجمته الفرنسية طبع ببيروت عام 1971 م.
17 - شرح كتاب الخطابة لأرسطو:
توجد نسخة خطية من هذه الرسالة في المكتبة الحميدية بتركيا رقمها
10 / 812.
وتوجد ترجمتين باللاتينية من القرون الوسطى طبعا عامي 1484 م
و 1515 م.
18 - صدر كتاب الخطابة:
المتن العربي لهذه الرسالة لم يعثر عليه حتى الآن، لكن الترجمة اللاتينية من
القرون الوسطى موجودة وقد طبعت في فينيز عام 1481 م.
نظرية المعرفة
19 - كتاب إحصاء العلوم:
كتب الفارابي هذا الكتاب حول تقسيم وتوضيح موضوعات العلوم. وقد
نال هذا الكتاب منذ بدايته إعجاب الجميع، وفي القرن الأخير كان موضع
اهتمام المستشرقين، حيث أنه يبين سعة علم فيلسوفنا من جهة، ومن جهة
أخرى هو بيان مفهوم للمراد من لفظ العلم في هذا العصر.
الفارابي اتبع في تقسيمه هذا أسلوب أرسطو، وزاد عليه في علمي الفقه
والكلام من العلوم الاسلامية ذات الأهمية الكبيرة في عصره.
طبع هذا الكتاب للمرة الأولى في إسطنبول عام 1880 م.
الشيخ محمد رضا الشبيبي طبع المتن العربي لهذا الكتاب على أساس
النسخة الخطية في النجف، دون أن يقابلها مع النسخ الأخرى، ونشره في مجلة
العرفان ج 4 / 11 و 20 و 13 - 134 و 241 257 في صيدا عام 1340 ه‍
1921 م.
الدكتور عثمان أمين طبع المتن العربي المنقح لهذا الكتاب في القاهرة عام
1931 م على أساس الصورة رقم 264 دار المصرية.
انجل بلانسية نشر المتن العربي لاحصاء العلوم - معتمدا على نسخة
سكوريال الخطية - بمدريد عام 1932 م.
وكان هو أول شخص تصدى لمهمة تحليل كتاب المدخل لصناعة المنطق
تأليف ابن طملوس الذي نقل فيه فصل المنطق من إحصاء العلوم بكامله،
وقابله مع نسخة اسكوريال.
الدكتور هنري جورج صحح القسم المتعلق بالموسيقى من كتاب إحصاء
العلوم ونشره في مجلة الاتحاد الملكي الآسيوي في لندن عام 1933 1934 م.
ثم نشر هذا القسم بمفرده في غلاسكو عام 1934 م.
السيد حسين خديو جم ترجم المتن العربي إلى الفارسية طبق طبعة
القاهرة، وقابلها مع متن طبعة مدريد، وطبعت هذه الترجمة مرفقة بمدخل ممتع
من قبل مؤسسة ثقافة إيران، طهران عام 1348 ه‍. ش.
البروفسور أحمد آتش أعد ترجمة تركية لهذا الكتاب تحت عنوان: Al
Farabi himerin Sayini وطبعت في إسطنبول عام 1955.
كالونيموس بن كالونيموس ترجم باختصار هذا الكتاب إلى العبرية
(المتوفى 1328).
يوسف بن عقنين (تلميذ موسى بن ميمون المتوفى عام 1226) قام بنقل
فصل الموسيقي في كتابه طب النفوس من كتاب إحصاء العلوم.
غودمان نشر المتن العربي لكتاب بالأحرف العبرية.
توجد ترجمتان لاتينيتان قديمتان للكتاب إحصاء العلوم، وضع إحداها
" دوي نيكوس غونديسالوي كاميرا ريوس "، طبعت ونشرت بباريس عام
1638 م. هذه الترجمة غير كاملة ومجدية، حيث أن المترجم حذف بعض
فصول الكتاب، مثل فصل علم الكلام، واختصر وأجمل مطالب أخرى.
الترجمة الثانية لمترجم القرون الوسطى المعروف " جيراد اوكرمونا " وهي
ترجمة كاملة ودقيقة ومطابقة للمتن العربي.
" آنجل بلانسيه " ضم هاتين الترجمتين مع الترجمة الإسبانية التي أعدها
بنفسه إلى المتن العربي لكتاب إحصاء العلوم وطبعها في مجلد واحد طبعة
نفيسة، نشرت ضمن سلسلة نشريات كلية الفلسفة والآداب بجامعة مدريد.
" الدكتور ويدمان " ترجم إلى اللغة الألمانية القسم الخاص بعلوم التعاليم
(الرياضيات) من كتاب إحصاء العلوم أخذا عن النسخة اللاتينية للمكتبة
الوطنية بباريس وطبعه.
" مرحبا " ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الفرنسية.

166
" الدكتور فارمر " ترجم إلى الانكليزية فصل الموسيقي من كتاب إحصاء
العلوم.
" البروفسور روزنفلد " ترجم إلى الروسية فصل الرياضيات من إحياء
العلوم، مستعينا بمعاونيه.
20 - كتاب الحروف أو كتاب الألفاظ والحروف:
ألف الفارابي هذا الكتاب لحل مشكلات أرسطو الإلهية، وبين في بدء
رسالته هذه ألفاظ المصطلحات، ثم أرسل كلامه حول المقولات، ثم شرح
معاني العبارات المستعملة في هذا العلم. وبخلاصة فقد تصدى للفرق بين
المطالب البرهانية والجدلية والمغالطة، إلى أن جر ذلك إلى أصل الكلام في
موجودات اللغات وارتباطها وتطابقها أو اختلافها في بناء الأعضاء الصوتية، ثم
وصل إلى أوضاع المجتمع، فتحدث عن النواميس الدينية والسياسية والفلسفة
البرهانية.
هذا الكتاب من الجانب العلمي مهم جدا بالنسبة لطلاب البحث،
والتحقيق في اللغات القديمة ولغات القرون الوسطى، من باب المثال: عندما
يبحث عن الوجود، الوجدان، الموجود وتعريف ذلك وتقسيمه، يستعمل
لغات سغدي الثلاث، ويذكر معادلها في اللغات العربية والفارسية وغيرهما.
توجد نسخة خطية خاصة في المكتبة المركزية لجامعة طهران رقمها
2 / 339.
" جلال الدين السيوطي " نقل قسما من هذا الكتاب في كتابه " المزهر في
علوم اللغة وأنواعها ".
" الدكتور محسن مهدي " طبع المتن العربي المنقح لهذا الكتاب، وأرفقه
بمقدمة وحواشي، أخذه عن نسخة المكتبة المركزية لجامعة طهران. وذلك عام
1969 بيروت.
" حسين عطائي " نقد هذه الطبعة ضمن مقالة باللغة التركية نشرت في
نشرة كلية الإلهيات لجامعة أنقرة عام 1969 م. المجلد 17، ص 315 -
327.
21 - كتاب العلل أو كتاب في الخير المحض:
هذا الكتاب رغم ميوله الإفلاطونية كان من جملة كتب نسبت سهوا إلى
الفارابي، في هذا الكتاب تم عرض مقصود أرسطو عن الخير المحض.
في الواقع هذا الكتاب خلاصة من Elementatio Theologica
لبروكلوس.
" عبد الرحمن البدوي " طبع المتن العربي لهذا الكتاب ضمن كتاب
إفلاطونية المحدثة عام 1955 م.
" يوحنا هيسباليني " ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية في القرون الوسطى،
وقد طبع عام 1882 م.
22 - مقالة في معاني العقل أو رسالة في العقل والمعقول:
سعى الفارابي في مقالته هذه إلى شرح وتحديد العقل وأنواعه حسب اعتبار
المتكلمين وبناء على تعريفات أرسطو. أن أحد هذه الاعتبارات يقول بأن
العقل هو ما ينسب إليه الشخص العاقل، والآخر ما جاء في اصطلاح
المتكلمين الذين قالوا هو الشئ الذي يؤيده أو ينكره العقل، والثالث العقل
الذي تحدث عنه أرسطو في كتاب البرهان، ومقصوده منه قوة النفس، والرابع
العقل الذي ذكر اسمه أرسطو في كتاب الأخلاق الذي يحمله الشخص الذي
يفرق بين الخير والشر، والخامس العقل الذي أورده أرسطو في كتاب النفس
وقسمه إلى أربعة أقسام: عقل بالقوة، عقل بالفعل، عقل مستفاد، عقل
فعال.
" ديتريشي " طبع المتن العربي لهذا الكتاب ضمن الثمرة المرضية في ليدن
عام 1890 م.
" عبد الرحمن مكوي " طبعه ضمن رسائل الفارابي الأخرى بالقاهرة عام
1907 م.
وطبع كذلك في هامش كتاب حكمة الاشراق بطهران عام 1315 ه‍ ش.
" بويش " اهتم بنقد هذه الرسالة، وطبع نقدها في بيروت عام 1938 م.
" يوحنا قمير " طبع قطعات من هذه الرسالة عام 1954 م.
توجد من هذه الرسالة ترجمة عبرية ولاتينية من القرون الوسطى طبعت عام
1858 م.
23 - مراتب العلوم:
هذا الكتاب مرادف لكتاب إحصاء العلوم، المتن العربي لهذا الكتاب كان
يعتقد أنه مفقود، لكنه اكتشف ضمن المجموعة 3832. O. 1. MS (ص 125 -
142) من مكتبة ديوان الهند (إنديا اوفس).
بدئ هذا الكتاب بهذه العبارة " بسم الله الرحمن الرحيم كتاب أبي نصر
محمد الفارابي في مراتب العلوم، قال: قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي
العلوم المشهورة علما علما، وتعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها، واجزاء
كل ما له منها، اجزاء وجمل ما في كل واحد من اجزائه، ومنجملة في خمسة
فصول:
الأول في علم اللسان وأجزائه، والثاني في علم المنطق، والثالث في علوم
التعاليم وهي العدد والهندسة وعلم المناظر وعلم النجوم وعلم الموسيقي وعلم
الأثقال وعلم الحيل، والرابع في العلم الطبيعي وأجزائه والعلم الإلهي
واجزائه، والخامس في العلم المدني وأجزائه وتعلم علم الفقه وعلم الكلام ".
" دومي نيكوس جوند بسالوي " ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية في القرون
الوسطى، وقد طبعت هذه الترجمة عام 1916 م.
شكك بعض المحققين مثل " فارمر " في انتساب المتن اللاتيني من مراتب
العلوم إلى الفارابي، وذلك قبل أن يكتشف المتن العربي.
" فارمر " طبع قسم الموسيقي من المتن اللاتيني من مراتب
العلوم إلى الفارابي، وذلك قبل أن يكتشف المتن العربي.
" فارمر " طبع قسم الموسيقي من المتن اللاتيني مرفقا بترجمة انكليزية،
وذلك عام 1934 م.
الطبيعيات
24 - كتاب في الخلاء:
أثر الفارابي هذا ذكر في المنابع القديمة ضمن تعداد آثاره، وكان مفقودا
حسب تصور البعض، ثم اكتشف عام 1951 م ضمن النسخ الخطية لمكتبة
الآداب والتاريخ والجغرافيا بجامعة أنقرة مجموعة " إسماعيل صائب سنسر "
الرديف 1، الرقم 381 / 3.

167
الدكتور آيدين صايلي ونجاتي لوغال " طبعا المتن العربي لهذا الكتاب
مرفقا بترجمة تركية وانكليزية في أنقرة.
أثر الفارابي هذا حاز على أهمية كبيرة في نظر تاريخ العلم، وللاطلاع على
أهميته من وجهة نظر تاريخ العلم تراجع مقالة " الدكتور يدين صايلي " في ملف
تاريخ الترك 1951، ج 15، ص 74 - 151. وقد كتبت هذه المقالة باللغة
التركية واشتملت على خلاصة باللغة الانكليزية.
25 - كتاب ما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم أو رسالة في فضيلة العلوم
و الصناعة:
ألف الفارابي رسالته هذه بطلب من إبراهيم بن عبد الله البغدادي - من
فضلاء القرن الرابع الهجري، والعالم الرياضي الذي تباحث مع الفارابي في
باب صحة أحكام النجوم - وراوي هذه الرسالة هو إبراهيم بن عبد الله نفسه.
وضع الفارابي في هذه الرسالة ثلاثين أصلا، وفي آخره استنسخ بطلان
أحكام النجوم منها.
الطبعات:
- طبعة ليدن 1890 م (ضمن الثمرة المرضية...)
- طبعة القاهرة 1907 م (دار المجموع للمعلم الثاني)
- طبعة حيدرآباد 1931 م.
- طبعة بومباي 1937 م.
" ديتريشي " ترجم هذه الرسالة إلى اللغة الألمانية و طبعها عام 1892 م.
" أولكان وبورسلان " ترجما هذه الرسالة إلى اللغة التركية وطبعاها عام
1941 م.
" السيد علي أكبر الشهابي " ترجم هذه الرسالة إلى اللغة الفارسية تحت
عنوان: في فضيلة العلوم والصناعة، وطبعها في المجلد 13 من نشرة كلية
الإلهيات والمعارف الاسلامية بجامعة الفردوسي بمشهد.
26 - مقالة في وجوب صناعة الكيمياء:
هذه المقالة عرفها ابن أبي أصيبعة ضمن أثار الفارابي، لكن ابن القفطي
ومنابع أقدم منه لم يتحدثوا عنها في تعدادهم لآثار الفارابي. كما لم يدع أي من
هذه المنابع أنه أحصى كل آثار الفارابي في فهرسته.
ومن جهة أخرى فإن المصطلحات والمفاهيم المدرجة في هذه المقالة من قبيل
نزوع، محاكات، اغتباط، تصديق وتصور. هي نفس ما جاء في سائر آثار
الفارابي ومن جملتها: آراء أهل المدينة الفاضلة والرسائل المنطقية.
المتن العربي المنقح لهذه المقالة نشره الدكتور آيدين صايلي، وأرفقه بترجمة
تركية، ومقدمة بالتركية والانكليزية تحت عنوان:.. Farabi nim Simyania Luzumu hkkindki risalesi belleten
وذلك في المجلد 15، الرقم 57 (شباط 1951) طبع أنقرة.
" ويدمان " ترجم هذه الرسالة إلى اللغة الألمانية.
27 - كتاب في أصول علم الطبيعة أو المقالات الرفيعة في أصول علم الطبيعة:
يوجد من هذا الكتاب ثلاث نسخ خطية هي:
1 - نسخة مكتبة جامعة ليدن رقمها 2930. Or
2 - نسخة لاندبرع رقمها 570
3 - نسخة مانشستر رقمها 377، 375
" الدكتور آيدين صايلي ونجاتي لوغال " طبعا المتن العربي لهذا الكتاب مرفقا
بترجمة تركية، وذلك ضمن تاريخ الترك ج 15، ص 81 122، 1951 م.
الرياضيات
28 - كتاب الحيل الروحانية والأسرار الطبيعية في دقايق الأشكال الهندسية:
توجد نسخة شخصية من هذه الرسالة في مكتبة جامعة تورنبرغ أويسالا
(السويد) رقمها 324. وحتى العام 1969 م كانت تعتبر هذه الرسالة ورسالته
الأخرى في الهندسة " بغية العمل في صناعة الرمل وتقويم الأشكال " رسالة
واحدة، ثم قام كل من " روز نفيلد " و " كوبسوف " بمقارنة صور النسخ
الخطية لهاتين الرسالتين، وأثبتا أن هاتين الرسالتين مختلفتان تماما، وأن الرسالة
الأولى تشبه تماما كتاب فيما يحتاج إلى صانع من الأعمال الهندسية تأليف أبو
الوفاء البوزجاني.
رسالة الفارابي التي تمت عام 321 ه‍ شملت مقدمة وعشر مقالات،
المقالات العشرة من رسالتها تشمل كلها نفس المباحث المدرجة في كتاب أبو
الوفاء بهذا الترتيب:
المقالة الأولى من رسالة الفارابي تتطابق مع النصف الثاني من الفصل الثاني
من كتاب أبو الوفاء من التقرير 9 حتى النهاية.
المقالة الثانية وحتى التاسعة متطابقة مع الفصول الثالثة وحتى العاشر
لكتاب أبو الوفاء. المقالة العاشرة متطابقة مع النصف الأول من الفصل الحادي
عشر من كتاب أبو الوفاء. التفاوت بين رسالة الفارابي وكتاب أبو الوفاء
جزئي.
29 - كتاب الحيل الهندسية:
في " عيون الأنباء " ذكر هذا الكتاب ضمن آثار الفارابي، كتب
حسب الظاهر في مجال الميكانيك، وخاصة طاقة الآلات المائية، ويحتمل أن المطالب
المذكورة فيه هي عين المذكورة في كتاب " في معرفة الحيل الهندسية " لبديع
الزمان الجزرمي (المتوفى عام 602 ه‍). لا توجد أي نسخة متداولة من هذه الرسالة.
30 - المنتخب من كتاب المدخل إلى الحساب:
توجد نسخة خطية من هذه الرسالة في مكتبة " رامبور " ونسخة أخرى في
مكتبة " آياصوفيا " رقمها 3336 / 3.
31 - شرح المجسطي لبطليموس أو كتاب اللواحق في علم المجسطي:
ذكرت هذه الرسالة في الفهارس القديمة ضمن آثار الفارابي. كتب في
النسخة الخطية الموجودة بمتحف بريطانيا برقم 7368. Or في الورقة الأولى منها
عبارة @ شرح مجسطي نسب تأليفه إلى العلامة أبي نصر الفارابي ".
النسخة الثانية من الكتاب رقمها 6530 موجودة في مكتبة مجلس الشورى
الوطني بطهران.
32 - شرح المستغلق في مصادرات المقالة الأولى والخامس من أقليدس:
طبع هذا الكتاب تحت عنوان:.. Buches. Zur Einleitung des I und V, Commenrar Zu Euklid

168
(يراجع بشأنه فهرست آثار الفارابي تأليف الدكتور مجغان جنبور).
" شتاي شنايدر ذكر في أثره حول الفارابي ترجمة عبرية للكتاب ترجمها
" موسى بن تبون ".
" روز نفلد " ومعاونوه قاموا بترجمته إلى الروسية، وطبع ضمن آثار الفارابي
الرياضية عام 1972 م.
33 - في بيان تساوي الزوايا الثلاث للمثلث القائمتين:
توجد من هذه الرسالة نسختان خطيتان:
1 - نسخة في مكتبة كلية الآداب بجامعة طهران رقمها 123 د.
2 - نسخة في مكتبة كلية الإلهيات والمعارف الاسلامية بجامعة طهران
رقمها 262 ج.
طبع المتن العربي لهذه الرسالة بطهران ضمن كتاب الكشكول للشيخ بهاء
الدين العاملي ص 59 - 60.
الطب
34 - الرد على جالينوس في الرد على أرسطوطاليس:
يجيب الفارابي في رسالته هذه على الاشكالات التي وضعها جالينوس على
آراء أرسطو حول العلة الأولية، ويحتمل أن يكون الفارابي قد كتب اثره هذا
تبعا لرد " إسكندر فردويسي " على جالينوس.
توجد نسخة خطية من هذه الرسالة في طشقند. ونسخة أخرى في كلية
الإلهيات و المعارف الاسلامية بجامعة طهران رقمها 71 من المجموعة 242 ب.
35 - رسالة في صناعة الطب:
توجد نسخة خطية في مكتبة متحف " تويقابوسراي " علامتها 2، 1730،
(b - yk a)، ونسخة في مكتبة آيا صوفيا رقمها 2 / 3749.
" الدكتور سهيل أنور طبع المتن العربي وأرفقه بترجمة تركية.
36 - كتاب التوسط بين أرسطوطاليس وجالينوس:
توجد نسخة خطية من هذا الكتاب في مكتبة المدرسة العليا للشهيد
مطهري بطهران ضمن المجموعة 1216. تبدأ هذه الرسالة بالعبارة هذه
"... قصدنا أن نثبت ما أخبر جالينوس أنه شاهده من أعضاء الإنسان وما
ذكر أن‍ (ه) شاهده في عضو منها، بإزاء ما أخبر أرسطوطاليس أنه غايته من
ذلك العضو وبعينه ل‍ () تبين لنا الموضوع التي (تذا) يتفق فيه ما يخبر ان
عنه... ".
37 - كتاب ما اشترك في الفحص عنه جالينوس وأرسطو طاليس من أمور أعضاء
الإنسان:
توجد نسخة خطية من هذه الرسالة في مكتبة المدرسة العليا للشهيد
مطهري بطهران، ضمن المجموعة 1216.
38 - رسالة في مداواة الأمراض بالأنغام:
حازت رسالة الفارابي هذه في نظر تاريخ العلم بأهمية كبيرة من حيث
مداواة ومعالجة المرضى بوسيلة الارتعاشات الصوتية. توجد نسخة شخصية في
إيطاليا.
39 - المزاج والأوزان على ما ذهب إليه الجمهور:
تقسم هذه الرسالة إلى ثلاث مقالات:
المقالة الأولى في المزاج الذي ينقسم إلى ثلاث أقسام:
- الفصل الأول في بيان ماهية المزاج.
- الفصل الثاني في أقسام المزاج.
- الفصل الثالث في المزاج الإضافي.
المقالة الثانية في معرفة أمزجة المركبات، وتقسم إلى عدة فصول.
المقالة الثالثة في التركيب.
توجد من هذه الرسالة نسخة خطية في مكتبة جامعة ليدن رقمها 2844. Or.
ونسخة أخرى في مكتبة برينستون رقمها 5 / 794.
الموسيقي
40 - كتاب الموسيقي الكبير:
تشكلت هذه الرسالة من كتابين، في الكتاب الأول تحدث الفارابي عن
المباحث التالية:
ألف - المدخل الذي حكمه حكم المقدمة، ويتشكل من مقالتين، تحدث
في هذا القسم حول فلسفة الموسيقي.
ب - الفن، ويشتمل على مقالتين، بحث فيه المسائل التالية: الصوت -
الأبعاد، الأجناس، الجموع - الأغاني - المقامات - الإيقاع.
ج - في القسم الثاني من هذا القسم بحث في قواعد وأصول تأليف الألحان
أو صناعة اللحن.
الكتاب الثاني يشتمل على أربعة مقالات، لم يعثر عليه حتى الآن.
بحث الفارابي في كتابه هذا نظرية الموسيقي من وجهة نظر الفيزياء
والرياضيات، ودخل في بحثه مفصلا في معرفة الأصوات (اكوستيك) مع
المحاسبات الفيزيائية، وطرح بعض المطالب التي ما زالت مدار بحث الفيزياء
اليوم.
" لاند " طبع الفصل الخاص بالآلات الموسيقية في ليدن عام 1883 م
وذلك بمناسبة انعقاد المجمع العالمي السادس للأوسط.
" لاند " قام بنفسه مستقلا بطبع هذا القسم تحت عنوان " البحث في
خطوات العرب " في ليدن وأرفقه بترجمة فرنسية عام 1884 م.
طبع المتن العربي المنقح مرفقا بشرح وتفسير ل‍ " الغطاس عبد الملك
خشبة " و " الدكتور محمود الحنفي "، وقد طبعه دار الكاتب العربي بالقاهرة عام
1967 م.
" رودلف ارلانزه " طبع المتن الكامل المترجم إلى الفرنسية في باريس عام
1930 - 1935 م. وقد جدد طبعه مرارا.
قسم من طبعة " ارلانزه " الفرنسية ترجم إلى اللغة الفارسية طبع في نشرة
رسالة الأونسكو السنة 1352 ه‍. ش، العدد 47، ص 31 - 34.
" الدكتور مهدي بركشلي " ترجم قطعات من كتاب الموسيقي الكبير إلى
اللغة الفارسية، وأقدم على تجزءتها وتحليلها علميا.
ونقلت قطعات منه إلى اللغات الألمانية، اللاتينية، الإسبانية والهولندية.

169
41 - المدخل الموسيقي:
مطالب هذا الكتاب جاءت خلال سائر آثار الفارابي حول الموسيقي، وفي
الحقيقة هي نفس المطالب المدونة في مقدمة كتاب الموسيقي الكبير، لكن أهميته
الوحيدة هي أنه حرر مستقلا عن غيره. توجد عدة نسخ خطية من هذه الرسالة
في مكتبات العالم، ومن جملتها مكتبة المتحف البريطاني.
42 - كتاب الايقاعات:
تحدث الفارابي في كتابه هذا عن الأوزان المختلفة، وقد اشتمل هذا
الكتاب على شرح نفس النظريات التي أشار إليها الفارابي في كتابه الموسيقي
الكبير.
" ابن زيلة الأصفهاني " نقل اقساما كثيرة من هذه الرسالة في كتابه " الكافي
في الموسيقي ".
" نيوباور " حلل هذا الكتاب في مقالة باللغة الألمانية.
43 - كتاب في إحصاء الايقاع:
قسم الفارابي في كتابه هذا الأوزان الموسيقية، ويشبه هذا الكتاب في كل
جهاته كتاب الايقاعات، ويحتمل أن يكون نفس الكتاب، لكنه بتحرير آخر.
يوجد هذا الكتاب مصورا على شكل ميكروفيلم (فيلم مصغر) في المكتبة
المركزية لجامعة طهران رقمه 262 (508 صورة).
44 - كلام... في النقل مضافا إلى الايقاع:
كتب الفارابي هذه الرسالة حول كيفية تغيير الوزن الموسيقي... وقد وضع
" شتاين شنايدر " في الصفحة 216 من كتابه حول الفارابي كلمة " نقرة " مكان
كلمة " في النقل ".
لا بد من التذكير بان " ايقاع " لفظ عامي للوزن الموسيقي، و " نقرة "
تطلق على اجزاء وزن واحد، لذا بناء على هذا صورة الكتاب الثاني قد تكون:
كلام... في نقرة مضافا إلى الايقاع.
45 - كتاب شرح السماع:
هذا الكتاب مفقود، ويبدو من عنوانه أنه شرح لسماع الموسيقي، وقد
يكون نفس الشرح المعروف للفارابي على كتاب الفيزياء لأرسطو الذي عنوانه
كتاب شرح السماع الطبيعي.
الفلسفة العامة وما بعد الطبيعة
46 - إثبات المفارقات:
طبع هذا الكتاب مرتين في حيدرآباد ضمن رسائل الفارابي، واحدة عام
1926 م، والأخرى عام 1931 م، كما وطبع في بومباي ضمن رسائله عام
1937 م.
" حلمي ضياء أولكن وقوان الدين بورسلان " ترجما هذا الكتاب إلى
التركية وطبعاه في إسطنبول عام 1941 م.
47 - فلسفة أفلاطون واجزاؤها ومراتب اجزائها من أولها إلى آخرها:
" روزنتال ووالترز " طبع المتن العربي مرفقا بترجمة لاتينية وحواشي مفيدة
عام 1953 م.
" الدكتور محسن مهدي " طبعه طبعة جديدة مع ترجمة انكليزية.
" الدكتور عبد الرحمن البدوي 2 طبعه ضمن كتابه أفلاطون في الإسلام
على أساس النسخة الخطية في آياصوفيا تحت الرقم 8833، مع مقابلتها مع
المتن المطبوع لروزنتال ووالترز.
" شتاين شنايدر " طبع الترجمة العبرية للقرون الوسطى - وهي قسم من
هذه الرسالة - وأرفقها بترجمته هو إلى الألمانية عام 1869 م.
48 - كلام في معاني اسم الفلسفة وسبب ظهورها وأسماء المبرزين فيها وعلى من
قرأوه منهم أو رسالة في بيان ظهور الفلسفة:
ذكر اسم هذا الكتاب القفطي والخزرجي، كما جاء في برنامج
اسكوريال، وحرر عنه المسعودي في التنبيه والاشراق ص 115 - 122، ونقل
ابن أبي أصيبعة عن الفارابي قطعة من هذه الرسالة حول الأكاديميات القديمة
ومدرسة الإسكندرية وتأسيس أوغست للشعبة الأكاديمية في روما،
والتحقيقات التي ستذكر كلها أخذت بهذا القول.
" شتاين شنايدر " طبع المتن العربي لهذه القطعة في كتابه حول الفارابي
عام 1869 م. (يراجع بشأنه قسم الكتب باللغة الأوروبية رقم 209).
" مولير " طبع هذا المتن عام 1882 م.
" عمر فروخ " نقل نفس القطعة العربية في كتاب العرب والفلسفة
اليونانية، وكذا " عبد الرحمن البدوي " في كتابه التراث اليوناني.
وجاءت الترجمة الفارسية لهذه القطعة في كتاب اللغة ل‍ " دهخدا "
" محمد تقي بزوه " وضع ترجمة فارسية عن النسخ المطبوعة، ونقل ابن أبي
أصيبعة، وكتابة المسعودي، ونسخة كابل (مجلة معهد المخطوطات 1 / 23) و
(فهرست بوركوي ص 293).
49 - المسائل الفلسفية والأجوبة عنها أو رسالة في جواب مسائل سئل عنها:
كتاب يشتمل على اثنين وأربعين مسالة سئل عنها الفارابي وأجاب باختصار
عنها. ويظهر أن مدون هذا الكتاب كان أحد تلاميذ الفارابي.
طبعاته: - طبعة ليدن 1890 م (في الثمرة المرضية)
- طبعة القاهرة 1907 م (في المجموع للمعلم الثاني).
- طبعة حيدرآباد 1931 م.
- طبعة بومباي 1937.
" ديتريشي " ترجم هذه الرسالة إلى اللغة الألمانية، وطبعها عام 1892 م.
" حلمي ضياء أولكن وقوام الدين بورسلان " ترجما المتن الكامل لهذه
الرسالة إلى اللغة التركية
50 - كتاب النفس:
توجد من هذه الرسالة نسخة في بودلين (605. II. S) 809, Bodleian I,
ونسخة أخرى في مكتبة توبقابوسراي رقمها 2 / 3195.
وتوجد لهذه الرسالة ترجمات عبرية ثلاث من القرون الوسطى.
51 - فلسفة أرسطوطاليس:
" الدكتور محسن مهدي " طبع المتن العربي لهذه الرسالة ببيروت عام
1961 م.

170
" الدكتور محسن مهدي " ترجمها إلى الإنكليزية وطبعها في نيويورك عام
1962 م.
52 - رسالة أفلاطون في الرد على من قال بتلاشي الإنسان:
النسخ الخطية:
1 - مكتبة جامعة إسطنبول رقمها 1458.
2 - إدارة النسخ الخطية في الهند رقمها...
3 - مكتبة جامعة برينستون علامتها ELS 308.
" الدكتورة مباهاة توركركويل " طبعت المتن العربي لهذه الرسالة وأرفقتها
بترجمة تركية في أنقرة عام 1965 م.
53 - رسالة من كلام أفلاطون في معنى الفلسفة والأعمال المرضية:
استوفى الفارابي في رسالته هذه لفوائد عديدة من أفلاطون، النسخة
الخطية لهذه الرسالة موجودة في كابل.
54 - كتاب في الواحد والوحدة.
" مشتاق " طبع المتن العربي المنقح وترجمته الانكليزية.
55 - مقالة في أغراض ما بعد الطبيعة أرسطوطاليس في كتاب ما بعد الطبيعة:
بحث الفارابي في رسالته هذه في غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة،
قسم فيه العلوم إلى مجملة وجزئية، وغرضه من العلم الجزئي هو العلم الذي
موضوعه عن بعض الموجودات أو الموهومات. والعلم المجمل في الشئ الشامل
لجميع الموضوعات مثل الوجود والوحدة وأنواعها ولواحقها، والأشياء التي
ليست بعارض على الموجودات الخاصة، وتبحث مبدأ جميع الموجودات ثم بعد
هذا شرح الفارابي غرض أرسطو في كل واحدة من المقالات الاثنتي عشرة.
طبعاته: - طبعة ليدن اهتم بها ديتريشي " 1890 (في الثمرة
المرضية...)
- طبعة القاهرة اهتم بها " عبد الرحمن مكوي " 1907 م (في مجموعة
فلسفة أبو نصر).
- طبعتان في حيدرآباد ضمن رسائل الفارابي الأخرى عامي 1930
و 1931 م.
- طبعة بومباي ضمن رسائل الفارابي الأخرى عام 1937 م.
56 - عيون المسائل:
يشتمل هذا الكتاب على مقدمة ومقدار من المباحث الطبيعية وأكثر مباحث
العلم الإلهي، وقد ألف باختصار ومتانة في اللفظ والمعنى.
" شمولدرس " طبع المتن العربي لهذه الرسالة مرفقا بترجمة لاتينية عام
1836 م.
" ديتريشي " طبع هذا المتن في " الثمرة المرضية... " ونشره عام
1890 م.
" عبد الرحمن مكوي " طبع هذه الرسالة في " المجموع للمعلم الثاني "
بالقاهرة عام 1907 م.
ثم جدد طبعه بالقاهرة عام 1910 م.
" يوحنا قمير " طبع المتن المنقح لهذه الرسالة ضمن كتابه حول الفارابي.
" كروز هرناندوز " طبع المتن العربي لهذه الرسالة وأرفقه بترجمة لاتينية من
القرون الوسطى عام 1951 م.
" حلمي ضياء أولكن وقوام الدين بورسلان " ترجما هذا الكتاب إلى
التركية عام 1941 م وطبعاه.
57 - ما ينبغي لمن أراد الشروع في الحكمة:
" البيهقي " أورد هذه الرسالة في تتمة صوان الحكمة "، كما وردت في
ترجمة فارسية. ولعله نفس ما ذكره ابن أبي أصيبعة تحت عنوان كلام في لوازم
الفلسفة.
توجد نسخ متفرقة من المتن مع ترجمة فارسية.
وضح الفارابي في رسالته هذه وظائف طلاب العلم.
58 - رسالة فيما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة المأخوذة عن أرسطو:
جاء ذكر هذه الرسالة في " برنامج اسكوريال " وفي كتابي القفطي وابن أبي
اصيبعة جاء ذكره تحت اسم " كتاب في الأشياء التي يحتاج ان تعلم قبل
الفلسفة ".
ذكر الفارابي في كتابه هذا عن سبع مجموعات فلسفية، ويبدو أنه أخذ من
" حنين بن إسحاق الترجمان ".
" شمولدرس " طبع المتن العربي للكتاب هذا، وأرفقه بترجمة لاتينية وذلك
عام 1836 م.
" ديتريشي " طبع المتن العربي لهذا الكتاب ضمن " الثمرة
المرضية... ".
وقد طبع المتن العربي ضمن رسائل الفارابي الأخرى في دلهي عام
1894 م.
" عبد الرحمن مكوي " طبعه ضمن آثار الفارابي الأخرى في " المجموع
للمعلم الثاني " بالقاهرة.
" محب الدين الخطيب وعبد الفتاح الفنلان " طبعا المتن العربي لهذه الرسالة
مع ترجمة انكليزية ضمن كتاب " مبادئ الفلسفة القديمة " بالقاهرة عام
1328 ه‍.
" قوام الدين بورسلان " ترجم قسما من هذا الكتاب إلى التركية وطبعه في
إسطنبول عام 1935 م.
59 - الجمع بين رأي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطو طاليس:
في هذا الكتاب يمكن لمس تأثير الإفلاطونيين الجديد في فكر الفارابي
بوضوح، حيث أنه يشبهه في سعيه بين آند والحكيم اليوناني، الذين ذهبوا إلى
أنه في الواقع مجزأ إلى طريقين، ووفق في موارد حدوث العالم وقدمه وإثبات
الخالق وأنه هو علة كل شئ، وكذلك في مسائل العقل والنفس والجزاء
والعقاب وكثير من أمور الأخلاق والسياسة والمنطق التي كانت في الغالب مورد
اختلاف ونزاع مفكري العصر.
" ديتريشي " طبع هذا الكتاب ضمن " الثمرة المرضية " في ليدن عام
1890 م.
" عبد الرحمن مكوي " طبع المتن العربي للكتاب في " المجموع للمعلم
الثاني " بالقاهرة عام 1907 م.
" محمود حجازي " طبع الكتاب هذا مستقلا بالقاهرة عام 1907 م.
وطبع بهامش " شرح حكمة الاشراق " بطهران عام 1315 ه‍.

171
وطبع مستقلا بطهران عام 1315 ه‍.
" البير نادر " اعتنى بطبعه منقحا مع مقدمة في بيروت عام 1960 م.
" قوام الدين بورسلان " ترجم قسما منه إلى التركية عام 1935 م، وطبع
في إسطنبول.
" الدكتور عبد الحسن مشكاة الدين " ترجمه إلى الفارسية عن متون طبعات
طهران وبيروت، والنسخة الخطية لمكتبة مجلس الشورى الوطني رقمها
117 / 4130، والنسخة الخطية لمكتبة الحضرة القدسية الرضوية ذات الرقم
126، وأرفقه بترجمة وشرح وحواشي، ليطبع وينشر من قبل الشورى العليا
للثقافة تو الفن بطهران عام 1353 ه‍. ش تحت عنوان الترابط بين أفكار
الفيلسوفين أفلاطون وأرسطو.
" ديتريشي " ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الألمانية، وطبع في ليدن عام
1892 م.
60 تعليقات الحكمة:
طبع هذا الكتاب مرتين في حيدرآباد ضمن آثار الفارابي الأخرى، وذلك
عامي 1927 و 1931 م.
وطبع في بومباي عام 1937 م.
" بورسلان وأولكن " ترجماه إلى اللغة التركية.
61 - تجريد رسالة الدعاوى القلبية:
طبعت هذه الرسالة مرتين في حيدرآباد ضمن آثار الفارابي الأخرى في
عامي 1930 و 1931 م.
وطبعت في بومباي ضمن باقي آثاره عام 1937 م.
" بورسلان وأولكن " ترجماه إلى اللغة التركية.
62 - تفسير بعض أسماء الحكماء المتقدمين:
أورد الفارابي في هذه الرسالة المعاني اللغوية لعدد من الفلاسفة اليونان،
ويظهر من هذا أنه كان عارفا باللغة اليونانية، توجد منها نسخة خطية في
لاندبرغ.
63 - الرد على يحيى النحوي في الرد على أرسطو:
كتب الفارابي رسالته هذه دفاعا عن أرسطو، وردا على النحوي ضمن آراء
الكندي حول الخلق وإيجاد العالم يحيى النحوي والكندي كلاهما كانا يقولان
بخلق العالم من العدم.
" الدكتور محسن مهدي " طبع المتن العربي لهذا الكتاب في ليدن عام
1972 م.
64 - شرح رسالة زينون الكبير أو تلخيص مقالات زينون والشيخ اليوناني:
المتن العربي لهذه الرسالة طبع ضمن رسائل الفارابي في حيدرآباد عامي
1930 م و 1931 م، وفي بومباي عام 1937 م.
" بورسلان وأولكن " ترجما هذه الرسالة إلى اللغة التركية...
الفلسفة المذهبية
65 - دعاء عظيم:
أثر صغير منسوب إلى الفارابي، لم يذكر هذا الدعاء في فهرست كتب
ورسائل الفارابي، لكن ابن أبي أصيبعة ذكره ضمن آثار الفارابي.
ذكر المتن العربي لهذا الدعاء في النص الأول من المجموعة 537 للشهيد
علي باشا بالمكتبة السليمانية بإسطنبول.
" الدكتور محسن مهدي " طبع هذا الدعاء ضمن " كتاب الملة ونصوص
أخرى " ببيروت عام 1967 م.
" السيد غلام حسين إبراهيمي دنيائي طبع المتن العربي لهذا الدعاء
مع ترجمة فارسية وتوضيح للمصطلحات الفلسفية تحت عنوان " دعاء الفيلسوف "
في نشرة كلية الإلهيات والمعارف الاسلامية بجامعة الفردوسي في مشهد العدد
113 (شتاء 1353 ه‍. ش) ص 260 - 279.
" الدكتور آيدين صايلي " ترجم هذا الدعاء إلى التركية ونشره ضمن مقالة
تحت عنوان:
Farabi tefekkur tarnindeki yeri المندرجة في المجلد الخامس عشر من مجلة Bellten، السنة 1950 م.
66 - كتاب في العلم الإلهي:
توجد نسخة خطية في مكتبة الحكمة رقمها 1 / 117، ونسخة أخرى في
مكتبة جار الله رقمها 1279.
" الدكتور عبد الرحمن البدوي " طبع المتن العربي المنقح ضمن كتابه
" أفلاطون عند العرب " ص 167 - 183.
67 - كتاب الملة:
توجد منه نسخة في ليدن رقمها 4 / 1002، ونسخة بالقاهرة بالمكتبة
التيمورية رقمها 290.
" الدكتور محسن مهدي " طبع هذا الكتاب وأرفقه بمقدمة وحواشي تحت
عنوان " كتاب الملة ونصوص أخرى " وذلك ببيروت عام 1968 م.
68 - فصوص الحكم:
كتاب في التوحيد بلحن قريب من كلام المتصوفة، لكنه مستند إلى الأدلة
المنطقية.
طبع المتن غير المنقح في إسطنبول عام 1874 م.
" ديتريشي " طبع المتن المنقح ضمن " الثمرة المرضية " عام 1890 م.
" عبد الرحمن مكوي " طبعه مع رسالة نصوص في شرح فصوص
الحكم " للسيد محمد بدر الدين الحلبي عام 1325 ه‍.
طبع في حيدرآباد ضمن رسائله الأخرى مرتين في عام 1924 و 1931 م.
طبع المتن المنقح مع مقدمة وشرح وتعليق للسيد جلال الدين الآشتياني
ونشر في نشرة كلية الالهات والمعارف الإسلامية بجامعة فردوسي بمشهد، في
العددين 13 (1353 ه‍. ش) و 14 (1354 ه‍. ش) ص 24 - 259.
كتب في القرون المتوالية عدة شروح وتفاسير على هذا الكتاب، كان أهمها
شرح الإسماعيلي الحسيني الفارائي.
" الأستاذ مهدي إلهي قمشه اي كتب شرحا معتبرا على هذا الكتاب في
المجلد الثاني من " الحكمة الإلهية " الخاص والعام (طهران 1325 ه‍. ش)
اخرجه على شكل دورة كاملة لكتاب عرفان تظهر جلية فيه كتابات ابن العربي،
صدر الدين القونوي، عبد الكريم الجيلي ومحمود الشبستري.

172
" مهدي إلهي قمشه اي " ترجم الكتاب وطبعه بطهران عام
1330 ه‍. ش.
" غلام حسين أهني " ترجم الكتاب وطبعه بأصفهان عام
1339 ه‍. ش.
" قوام الدين بورسلان " ترجم قسما من الكتاب إلى اللغة التركية عام
1935 م.
" بورسلان وحلمي ضياء أولكن " ترجما المتن الكامل إلى اللغة التركية عام
1945 وطبعاه.
اخلاق وسياسة المدن
69 - كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة:
كتاب ذو حجم ضئيل، لكنه ذو لحن عال، فيه ثلاث مباحث:
المبحث الأول نظري: في هذا البحث يشرح الفارابي العقائد التي يجب أن
يمتلكها أفراد المدينة الفاضلة، يشمل هذا القسم بدوره عدة أقسام مثل
الإلهيات الخاصة، وكذلك فيه مباحث أخرى من قبيل الكلام في مصدر
الوجود، صفات الموجودات الثانوية، تكوين وظهور كائنات هذا العالم
وغيره.
القسم الثاني من الكتاب بحث حول بناء المدينة الفاضلة.
القسم الثالث بحث حول هدم واجتثاث المجتمعات المتباينة مع المدينة
الفاضلة.
" ديتريشي " طبع هذا الكتاب في ليدن عام 1895 م.
طبع في القاهرة مرتان عام 1906 م و 1948 م.
" يوحنا قمير " طبع قطعات من الكتاب ضمن كتابه حول الفارابي عام
1945 م.
" البير نادر " اعتنى بطبعه في بيروت عام 1959 م.
" الدكتور السيد جعفر سجادي "، ترجمه إلى الفارسية وشرحه، وكتب
مقدمته " الأستاذ الدكتور ذبيح الله صفا وطبع ونشر بشكل نفيس من قبل
الشورى العليا للثقافة والفن تحت عنوان أفكار أهل المدينة الفاضلة وذلك عام
1354 ه‍. ش.
نظم هذا الكتاب في 396 صفحة مع مقدمة في 4 صفحات كالآتي:
(ص 1 - 64) بحث اثار الفارابي ونظرياته السياسية والاجتماعية
ومقايستها بنظريات أرسطو وأفلاطون والفلاسفة المسلمين.
(ص 73 - 357) الترجمة الفارسية لآراء أهل المدينة الفاضلة مع الشرح
والتعليق.
(ص 361 - 379) فهرست الكلمات والمصطلحات.
" نفيس دانشمن " ترجم هذه الرسالة عام 1950 م إلى اللغة التركية تحت
عنوان:
Fazil medine tercumesi وطبعها في إسطنبول ضمن مجموعة مقالات حول
الفارابي (Farabi Tetkikleri).
ثم طبعها في كتاب مستقل تحت عنوان: Farabi ELmedinetul - AL
Fazile في 108 صفحات بإسطنبول عام 1956 م.
" ديتريشي " ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الألمانية وطبعه في ليدن عام
1900 م.
70 - كتاب الملة الفاضلة:
توجد نسخة خطية منه في ليدن رقمها 1931، ونسخة خطية بالمكتبة
التيمورية بالقاهرة رقمها 19 / 290، وترجمة عبرية نقل " شتاين شنايدر "
قطعة منها.
71 - كتاب في الفصول المنتزعة لاجتماعات:
توجد نسخة خطية منه في مكتبة الشعب في ديار بكر رقمها 4 / 1970،
ونسخة خطية في بودلين رقمها 4 و 102 و I.
" الدكتور فوزي النجار " طبع المتن العربي مع مقدمة وحواشي في بيروت
عام 1971 م.
وتوجد ترجمة عبرية.
72 - في تحصيل السعادة:
في الحقيقة هذا الكتاب مبني على المنابع اليونانية، وليس له أثر أو صبغة
اسلامية أصلا، والقسم الأخير منه خلاصة لجزء من الكتاب السادس
لجمهورية أفلاطون.
طبع في حيدرآباد مرتين عام 1926 و 1931 م، وفي بومباي عام
1937 م.
" الدكتور محسن مهدي " طبعه طبعة اشتملت على نقد وترجمة انكليزية
له.
" قوام الدين بورسلان وحلمي ضياء أولكن " ترجما هذه الرسالة إلى
التركية، وطبعاها في إسطنبول عام 1941 م.
" شمطوب بن يوساب بن فلقيرة " ترجم قسما من هذه الرسالة إلى العبرية
في القرون الوسطى.
73 - التنبيه على سبيل السعادة أو رسالة السعادة:
" طبع مرتين في حيدرآباد دكن " ضمن رسائل الفارابي الأخرى وذلك
عامي 1927 و 1931 م، وجدد طبعه في بومباي عام 1937 م. وتوجد ترجمة
عبرية في المتحف البريطاني رقمها 425.
" زالمن " طبع ونشر الترجمة اللاتينية للقرون الوسطى.
" حلمي ضياء أولكن وقوام الدين بورسلان ترجماه إلى اللغة التركية.
74 - رسالة في السياسة أو كلام يعم نفعها جميع من يستعملوها من طبقات
الناس:
" لويس شيخو " طبع هذه الرسالة للمرة الأولى عام 1901 م في مجلة
المشرق (ص 653 - 700). ثم جدد طبعها ضمن مجموعة بعنوان مقالات
فلسفية قديمة لبعض مشاهير فلاسفة العرب في المطبعة الكاثوليكية للآباء
اليسوعيين ببيروت عام 1911 م.
" يوحنا قمير " طبع المتن العربي في كتابه حول الفارابي.
75 - سياسة المدينة أو مبادئ الأجسام أو مبادئ الموجودات:
طرح فيه الفارابي كل اجزاء الفلسفة بصورة منظمة، والغرض من تاليف
الكتاب وتدوينه ينعكس في عنوانه.
طبع في حيدرآباد عام 1927 م (1346 ه‍).
" البروفسور فوزي النجار " طبع المتن العربي المنقح مع مقدمة وحواشي في

173
بيروت عام 1964 م.
" موسى بن صموئيل بن تبرون ترجمه في القرون الوسطى إلى العبرية،
وطبع عام 1849 م.
" ديتريشي " ترجمه إلى الألمانية، وطبع في ليدن عام 904 م.
" فوزي النجار " ترجمه إلى الإنكليزية ونشره.
76 - كتاب الآداب الملوكية:
توجد منه نسخة خطية في المكتبة التيمورية بالقاهرة " عيسى إسكندر
المعلوف " تحدث عن هذه النسخة في مقالته " خزائن الكتب العربية: الخزانة
التيمورية " في مجلة المجمع العلمي بدمشق، عام 1923 م، العدد 3 / 339.
77 - تلخيص نواميس أفلاطون:
يشتمل على مقدمة وملخص لكتب نواميس أفلاطون العشرة، يشرح
الفارابي في البدء أسلوب أفلاطون، ويوضح حول أسلوب تلخيصه هو، ويبين
فائدة الكتاب، ثم يفسر ويبين بايجاز واختصار تحقيقات أفلاطون عن القوانين
الإلهية اليونانية.
" غبريلي " طبع المتن العربي مع ترجمته اللاتينية وحواشي عام 1952 م.
" الدكتور عبد الرحمن البدوي " طبع المتن المنقح في كتابه " أفلاطون في
الاسلام " ونشره بطهران.
78 - فصول المدني:
" أبو العباس لوكري " نقل هذه الرسالة في خمسة أبواب في كتابه " بيان
الحق بضمان الصدق " تحت عنوان " فصول مدينة ".
توجد نسخة خطية من " بيان الحق " في مكتبة كلية الإلهيات والمعارف
الإسلامية بطهران رقمها 698 د، ونسخة خطية أخرى في المكتبة المركزية
لجامعة طهران رقمها 250.
" دانلوب " طبع المتن العربي والترجمة الإنكليزية لفصول المدني مع مدخل
ممتع وحواشي مفيدة، لجهة جامعة كمبريدج بانكلترا عام 1961 م.
مسائل متفرقة
79 - كتاب البرهان:
قسم هذا الكتاب إلى خمسة أقسام كما يلي:
الأول: في صدر الكتاب.
الثاني: في أصناف البراهين.
الثالث: في أصناف الحدود.
الرابع: في كيفية استعمال الحدود والبراهين في الصناعات النظرية.
الخامس: في أصناف المخاطبات.
توجد منه نسخ خطية متعددة، من جملتها نسخة خطية في المكتبة
السليمانية (الحميدية) رقمها 1: 812 / 8. ونسخة منشستر رقم (349) 374،
ونسخة براتيسلاوا رقم 231 - 9.
80 - في بحث العروض:
توجد منه نسخة خطية في مكتبة متحف توبقابوسراي رقمها 1 / 1878.
81 - مقالة في بيان الأجسام السماوية تفعل في الأجسام التي تحتها:
توجد منه نسخة خطية في المجموعة 3832. 0. MS 1 في مكتبة ديوان الهند - In).
82 - في بيان كيفية القياس وكيفية الاستدلال:
توجد منه نسخة خطية في المجموعة 3832. 0. 1. MS. في مكتبة ديوان الهند.
83 - رسالة في الجزء الذي لا يتجزأ:
ذكرت هذه الرسالة ضمن آثار الفارابي في " عيون الأنباء "، لكنها لم يعثر
عليها حتى الآن.
84 - رسالة في الفراسة:
توجد منه نسخة خطية في مكتبة المجلس بطهران ضمن المجموعة 595.
85 - كلام في الجن وحال وجودهم:
ذكرت هذه الرسالة في " عيون الأنباء "، و لم يعثر عليها حتى الآن.
86 - رسالة في ماهية والهوية:
توجد نسخة منها في المكتبة السليمانية (آياصوفيا) رقمها 3 / 3577.
87 - كتاب الوصايا:
توجد نسخة شخصية منه في المكتبة السليمانية اياصوفيا رقمها
8 / 4855.
" عبد الرحمن البدوي " أورد المتن العربي لهذا الكتاب ضمن كتاب
" الحكمة الخالدة " طبعة القاهرة 1952 م ص 327 - 342.
أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب إسحاق بن محمد بن إسحاق المعروف ب‍ (ابن
النديم) أو النديم صاحب كتاب (الفهرست)
كتاب الفهرست لابن النديم، هو أشهر وأقدم وأشمل الفهارس في
معرفة العلوم الإسلامية في القرون الإسلامية الأولى. ثم تأليف الكتاب في
عصر ازدهار الثقافة والحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري في مركز
الخلافة الإسلامية في بغداد. سجل فيه أسماء الكثير من الكتب العلمية لأربعة
قرون وجاء فيه أسماء الكثير من العلماء في مختلف التصانيف الإسلامية من
العلوم والفنون الدينية وغير الدينية. أن أهمية هذا الكتاب بلغت إلى الحد الذي
إذا تجاهلناه وحذفناه من قائمة التصانيف الإسلامية، فإن ثغرة كبيرة وخسارة
لا تعوض قد تحدث في ميدان الثقافة الإسلامية وأن علقاتنا تنقطع عن أكبر
قسم من الثقافة والعلوم الإسلامية في القرون الإسلامية الأولى. كما أن تاريخ
حياة شخصية شهيرة كجابر بن حيان ومؤلفاته الثمينة استخرجت من هذا
الكتاب.
نظرة إجمالية على أبواب وفصول وفهرست هذا الكتاب، تؤكد لنا شمول
وتوسع فحواه. ولا شك أن معلوماتنا وفهمنا للقسم الأكبر من هذه
المحتويات تقتصر على هذا الكتاب.
من أبرز خصائص هذا الكتاب، بعد نظر مؤلفه وعدم انحيازه ثقافته
حيث كان له بعد نظر واسع بالنسبة لجميع المذاهب والفرق الإسلامية كما
كانت له علاقات وثيقة مع علماء المذاهب المختلفة، بادر بتعريف آثار كل
مذهب من كتب المعتزلة وأهل الحديث، أهل السنة والشيعة. كما لم تقتصر
نظرته على العلوم الدينية والكتب المذهبية بل بذل اهتمامه على جميع الفنون
والعلوم كالموسيقى والغناء ومشاهير المغنين وأصحاب العلوم الغريبة.

174
من أساتذته أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني المعروف حيث
يروي عنه بين حين وآخر. وأن بعد نظر ابن النديم جعلت الغربيين وعلماء
عصرنا الحاضر يبدون اهتماما بالغا لكتابه الفهرست.
يبدو أن ابن النديم صنف هذا الكتاب لأحد الرجال حيث يقول في بداية
الكتاب: " النفوس (أطال الله بقاء السيد الفاضل) تشرئب إلى النتائج... "
ويقول في الصفحة 92: " ونسأل الله البقاء لمن صنفنا له ولنا في عافية وأمن
وكفاية... ".
إن بحثنا هنا ليس حول أصل الكتاب وأهميته حيث يتطلب هذا الأمر
كتابا منفصلا لمعرفة أهميته. إن دراستنا وبحثنا الرئيسي هو حول أسرة ابن
النديم ومعرفة أصله ونسبه. وهذا الأمر مهم من ناحيتين:
الأول هو أن مثل هذا العبقري الفاضل الذي كان ولا شك من أهالي
بغداد لم تعرف أسرته بعد وهل هو عربي أو إيراني الأصل أو من عنصر آخر.
وفي أية أسرة ترعرع وفي أية ظروف عاش بحيث تمكن أن يكسب مثل هذه
المعلومات الغزيرة؟
والثاني هو أنه حتى يومنا هذا فإن جميع كتب الفهارس والرجال تسميه
" ابن النديم ". كما في فهرست الشيخ الطوسي (385 - 460) وهو أقدم
مأخذ يشير إلى ابن النديم وكتابه الفهرست وينقل عنه. كذلك المصادر
والمآخذ الأخرى إلى يومنا هذا. إلا أن (السيد تجدد) الذي بادر قبل سنين إلى
تصحيح هذا الكتاب وطبعه وحظي باهتمام الفضلاء في داخل البلاد
وخارجها واستنادا إلى بعض النسخ التي تشير إليه ب‍ (محمد بن إسحاق النديم)
أو (النديم). حيث بدل عنوان (ابن النديم) المعروف منذ القدم إلى (النديم)
حتى إن الزركلي في الطبعة الجديدة من الأعلام (ج 6 ص 29) أشار إلى هذا
القول وكتب في ذيل الكتاب: أقول: إن صاحب الترجمة اشتهر ب‍ (ابن
النديم) ولكن (رضا تجدد) في الطبعة الجديدة ل‍ (الفهرست) التي صدرت في
طهران في شعبان سنة 1391 ه‍ يشير على أنه (النديم) وليس (ابن النديم)
ونشر الصفحة الأولى للمخطوطة النادرة والثمينة الموجودة في مكتبة
(چستربتي) حيث ذكر اسم الكتاب فيه هكذا " الفهرست للنديم " وفي الهامش
الأيمن وبخط المؤرخ " أحمد بن علي المقريزي " جاءت هذه العبارة " مؤلف هذا
الكتاب أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب إسحاق بن محمد بن إسحاق الوراق
المعروف بالنديم ".
ويبدو أن الزركلي قد اقتنع إلى حد ما بأن صاحب الفهرست هو " النديم "
لا " ابن النديم ". ولقد كنت منذ البداية في شك من قبول وجهة نظر السيد
تجدد، ودهشت عندما علمت أن بعضهم قبل هذه النظرية فورا بدون أي
تحقيق واستعملوا في مقالاتهم وكتاباتهم كلمة (النديم) وتخلوا عن استعمال
(ابن النديم) الذي اشتهر بها صاحب الفهرست طوال ألف سنة. ولكن رويدا
رويدا تبادر إلى ذهني بعض الأسئلة مما حملني على القيام بالتحقيق في ذلك وما
أكتبه الآن هو نتيجة هذا التحقيق: طبعا ليس المهم أن يكون اسم صاحب
الفهرست " النديم " أو " ابن النديم " حيث لا يحل أية مشكلة ولكن معرفة ابن
النديم وعائلته تجرنا إلى طريق جديد، لنقوم من خلاله إلى إيضاح سبب تسميته
ب‍ (ابن النديم) أو (النديم) أو بالاثنين.
أما الأسئلة التي تبادرت إلى ذهني فهي:
1 - سابق كلمة (النديم) في التاريخ الإسلامي وعلى من كانت تطلق
كلمة (النديم)؟
2 - إذا كان (ابن النديم) نفسه يحمل هذا المنصب، فنديم من من الخلفاء
أو الوزراء كان ولماذا لم يذكر ذلك في كتابه الفهرست.
3 - إذا لم يكن هو نفسه (نديما) إذا فإن آباءه كان لهم هذا المنصب حتما،
فأي واحد من آبائه وأجداده اشتهر بهذا القلب بحيث بقيت هذه الكلمة في
أسرتهم وكان يسمى أفرادها ب‍ (ابن النديم) أو (النديم)؟
4 - هل سجلت أنساب ابن النديم صاحب الفهرست في مكان ما، أم
لا؟
5 - إذا كانت هذه السلسلة من الأنساب موجودة فلماذا لم يشر إليها ابن
النديم، حيث كان هو من أهالي مدينة بغداد وكما يبدو من كتاب الفهرست
أنه كان يعرف الأسر المعروفة وكان على صلة وصداقة مع الكثير من الرجال
المعروفين خاصة رجال العلم والأدب والقن وزعماء المذاهب الإسلامية.
6 - وأخيرا هل إن (ابن النديم) عربي أم إيراني ولماذا يتهمه أهل السنة بأنه
شيعي.؟
موضوع البحث
نبدأ دراستنا حول اسم آباء ابن النديم الذي جاء في المآخذ والمصادر
المختلفة.
يقول الزركلي هكذا:
" محمد بن إسحاق بن محمد بن إسحاق، أبو الفرج بن أبي يعقوب
النديم ".
وجاء في معجم المؤلفين تحت عنوان " محمد النديم " هكذا، " محمد بن
إسحاق بن محمد بن إسحاق النديم الوراق البغدادي أبو الفرج... " وذكر
هذه العبارة أيضا المقريزي نقلا عن ذيل مخطوطة " الفهرست " كما أشرنا إلى
ذلك سابقا. ولا شك أن مصدر هذا النسب هو كتاب الفهرست لابن النديم
حيث ذكر ترجمة الطبري (224 - 310): " قال لي أبي إسحاق بن محمد بن
إسحاق أخبرني الثقة أنه رأى أبا جعفر الطبري بمصر يقرأ عليه شعر الطرماح
أو الحطيئة - الشك مني.. " كذلك جاء في الفهرست كنية أبيه ومهنته! " قال
محمد بن إسحاق النديم المعروف بابن أبي يعقوب الوراق... " نستنتج من هذا
أن ابن النديم كان معروفا في عصره ب‍ " ابن أبي يعقوب الوراق... كما
سنقول فيما بعد أن والده كان معروفا باسم أبي يعقوب الوراق ".
والآن يجب أن نبحث عن أسرة توجد فيها بعض هذه الأسماء " محمد بن
إسحاق بن محمد بن إسحاق " مع لقب (النديم) أو (ابن النديم). يوجد في
القرنين الهجريين الثاني والثالث رجل باسم " إسحاق بن إبراهيم بن ميمون
التميمي الموصلي أبو محمد ابن النديم " يقول الزركلي عنه " أنه من أشهر ندماء
الخلفاء تفرد بصنعة الغناء وكان عالما باللغة والموسيقي والتاريخ وعلوم الدين
وعلم الكلام راويا للشعر، حافظا للأخبار، شاعرا وله تصانيف، نادم الرشيد
والمأمون والواثق العباسيين ". ذكر ياقوت الحموي نبذة من تاريخ حياته وأشاد
بمعلوماته كما أشاد بتفرده بصناعة الغناء لكن يقول: " وكان أكره الناس
للغناء ". وكان يفضل أن يكون فقيها وطلب من المأمون الخليفة العباسي أن
يحسبه ضمن الأدباء فقبل المأمون ذلك ثم طلب أن يرتدي الملابس السوداء في
يوم الجمعة ويقف معه في المقصورة للصلاة ولكن المأمون رفض ذلك. وكان
المأمون يقول " لو لم يكن إسحاق معروفا بالغناء لكنت جعلته قاضيا ".
تعلم إسحاق الحديث من مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وبقية علماء
العراق والحجاز.
على أي حال، بات يقينا أن إسحاق كان من أكبر المغنين وعالما بالموسيقى
في عصره بعد أبيه وقد ورث هذا الفن عن والده إبراهيم الموصلي كما جاء في
كتاب الأغاني ومعجم الأدباء. ويقول الذهبي تحت عنوان " إسحاق النديم "،
الإمام العلاقة الحافظ ذو الفنون، أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن ميمون

175
التميمي الموصلي، الأخباري صاحب الموسيقي والشعر... جاء في كتاب
الأغاني والمآخذ والمصادر الأخرى حول والد إسحاق " إبراهيم بن ميمون " أنه
كان أكبر المغنين في عصره وكان يغني لعدد من الخلفاء العباسيين، " المهدي
والهادي والرشيد " وينقلون عنه قصصا كثيره ويقولون عنه أنه: " إبراهيم بن
ماهان بن بهمن بن نسك التميمي بالولاء، الأرجاني الأصل " وجاء هذا الذكر
في كتاب الأغاني بالتفصيل بأنه كان من أهالي أرجان وولد في الكوفة وتيتم ثم
ذهب في طفولته إلى البصرة وتعلم الموسيقي فيها ثم سمى نفسه فيما بعد
إبراهيم بن ميمون (بدلا من ماهان) كان قد اشتهر بالموصلي. حيث قضى فترة
من الزمن في الموصل. ولما كان من موالي بني تميم سمي بالتميمي. ويبدو أن
هذه الأسرة كانت قد عرفت " بالموصلي " مدة من الزمن. يقول ابن الجوزي:
" إسحاق بن إبراهيم بن ميمون أبو محمد التميمي المعروف والده بالموصلي "
وسمي إسحاق نفسه في الكتب مرارا ب‍ " إسحاق الموصلي " وكان والده يكنى ب‍
(أبو إسحاق).
النديم أو ابن النديم
في الوقت الذي كان إسحاق بن إبراهيم وعائلته معروفين ب‍ " الموصلي "
وخاصة إبراهيم الذي كان قد اشتهر ب‍ (الموصلي) إلا أنهم كانوا يعرفون ب‍
" النديم " كما أشرنا سابقا فإن الذهبي قد سماه " إسحاق النديم " إلا أنه يقول
في الترجمة:
" إسحاق بن إبراهيم بن ميمون، أبو محمد التميمي الموصلي، ابن النديم "
ويقول ياقوت " وأما كتاب الأغاني الكبير فقال محمد بن إسحاق النديم
قرأت... "
جاء في معجم المؤلفين عن إسحاق بن إبراهيم: " إسحاق النديم " (150
- 235) وبعد أن يذكر نسبه يقول: " المعروف بابن النديم ".
إذا ففي ثلاثة مصادر ومآخذ أي " سير أعلام النبلاء، معجم الأدباء "،
ومعجم المؤلفين " نرى أن إسحاق بن إبراهيم سمي تارة بن " النديم " وتارة
أخرى ب‍ " ابن النديم ". وسبب هذا الاختلاف هو أن إسحاق ووالده إبراهيم
كانا " نديمين للخلفاء "، حيث كان إبراهيم نديما للمهدي والهادي والرشيد،
وكذلك نديما ليحيى البرمكي وربما لم يكن معروفا ب‍ " النديم " وأن لقبه كان
" الموصلي " و " المغني ".
أما ابنه إسحاق. كان وكما ذكرنا آنفا نديما لثلاثة من الخلفاء هم " الرشيد
والمأمون والواثق " وأن الوالد والولد كانا نديمين لخمسة من الخلفاء العباسيين.
توفي إسحاق في بغداد في سنة 235 في مستهل خلافة المتوكل ولما بلغ
نبأ وفاته إلى المتوكل حزن من ذلك ولما أبلغوه بعد ذلك بنبأ وفاة أحمد بن
عيسى بن زيد بن علي قال هذان الحادثان عوض بعضهما البعض حيث كان
يخاف من ثورة أحمد.
إذا فإن لقب " النديم وابن النديم " في عائلة إسحاق بن إبراهيم كانتا
موجودتين بعد " الموصلي " والمغني بالنسبة له ولوالده إبراهيم.
يقول الزركلي عن " إسحاق بن إبراهيم ": " ابن النديم الموصلي.. أبو
محمد ابن النديم " ولكي نتأكد ونتيقن عن " النديم " في لقب إسحاق يكفي أن
نعلم أن ابن بسام الشاعر وكذلك محمد بن يحيى الصولي.. صنفا كتاب
" أخبار إسحاق النديم " كما أن إسحاق وولده حماد صنفا كتاب " أخبار
الندامى " يدلان على ارتباط هؤلاء بهما.
عنوان النديم
الندامة والمنادمة عبارة عن المؤانسة والمعاشرة الطيبة حيث أن أكثر الخلفاء
والأمراء والوزراء بسبب كثرة انشغالهم وتعبهم أو مرحهم بحاجة إلى مثل
هؤلاء وذلك لكل واحد منهم ندماء. وخير مصدر لهذا الفن، هو كتاب
الفهرست لابن النديم الذي يقول " الفن الثالث من المقالة الثالثة من كتاب
الفهرست، ويحتوي على أخبار الندماء والجلساء، والأدباء والمغنين،
والصفادمة، والصناعة وأسماء كتبهم ".
من هذه العناوين يمكن أن ندرك جيدا أن ندماء الخلفاء كانوا من أي من
الرجال وماذا كانت فنونهم، كانوا رجال شعر وأدب ومؤانسة وغناء لكي
يتمكنوا من إرضاء مجالس أصحابهم ويفرحون قلوبهم. إن الندماء كانوا على
الأكثر يجيدون كل هذه الفنون بما في ذلك علمهم بالأنباء والأحداث
الماضية، قالوا عن إسحاق " كان حسن المعرفة حلو النادرة مليح المحاضرة "
الغريب أن ابن النديم يبدأ هذا القسم بأخبار إسحاق بن إبراهيم الموصلي
ووالده ويقول: ولد إبراهيم في سنة 120 وتوفي ببغداد في سنة 188 ثم
يذكر نسبه كما أشرنا إليه سابقا ثم يذكر أن إسحاق ولد سنة 150 وتوفي سنة
235 وهو في الخامسة والثمانين من عمره. ويقول في ترتيب نسب
إبراهيم بن ماهان بن بهمن بن نسك: " أصله من فارس. خرج (يعني
ماهان) هاربا منها من جور بني أمية في خراج كان عليه، فأتى الكوفة.. ".
في كتب الأغاني ج 5 ص 154 يقول عن لسان إسحاق بن إبراهيم أنه
قال: أصلنا من فارس من عائلة شريفة. جدنا ميمون هرب من جور أحد
رجال بني أمية فأتى الكوفة في بني عبد الله بن دارم (من بني تميم). وكانت
والدة إبراهيم امرأة من الهاربات من فارس اللاتي أتين الكوفة مع ميمون وأن
(ماهان) ميمون تزوجها وأنجبت له إبراهيم ولكن ميمون توفي بمرض
الطاعون أو الوباء وترك إبراهيم يتيما وكان ميلاد إبراهيم سنة 125 في الكوفة
وكان عند وفاة والده طفلا في الثانية أو الثالثة من العمر وبقي هناك حتى
شبابه وتعلم فيها مع أولاد خزيمة بن حازم ولهذا كان مخلصا لبني تميم
(ص 155). وفي الكوفة صادق الشطار وانحاز إلى الغناء. شدد أخواله الحال
عليه فذهب إلى الموصل فتعلم الغناء هناك على أيدي بعض الشطار ولما عاد إلى
الكوفة رحب به أصدقاؤه القدامى وقالوا له " مرحبا بالمغني الموصلي " وهذا كان
السبب في ذيوع صيته ب‍ " الموصلي " ص 158. ثم ذهب إلى الري وتعلم فيها
الموسيقي الفارسية والعربية وتزوج فيها مع والدة إسحاق (شاهك).. بدأ
الغناء في الري وسافر إلى (الأبلة) إحدى قرى البصرة للاستزادة من فنه وفي
البصرة التحق بمحمد بن سليمان بن علي وبعدها أخذه أحد رجال المهدي
العباسي إلى هذا الخليفة وحظي باهتمام الخليفة. ص 159. يذكر ابن النديم.
أحوال إسحاق وإبراهيم في عدة صفحات ولكنه ينفي انتساب كتاب " الأغاني
الكبير " إلى إسحاق، ثم يذكر أحوال " حماد بن إسحاق " الذي كان يشارك
والده في الغناء. وهناك في المآخذ والمصادر الأخرى منها " الأغاني ج 5 "
روايات كثيرة منقولة من حماد عن والده إسحاق. في عائلة " الموصلي " إضافة
إلى إبراهيم وإسحاق فإن " طياب " شقيق إسحاق و " حماد " ابنه كانا هاويين
للموسيقى ولكنهما لم يبلغا ما بلغه إبراهيم وإسحاق. والغريب أن ابن النديم
يشير في الفن الثالث الذي يحتوي على أخبار الندماء إلى هذه العائلة ولكن لا
يشيد بإسحاق وإبراهيم ولا يصفها ب‍ (النديم أو ابن النديم) ويصفهما ب‍
" الموصلي ". في حين أن المصادر الأخرى كما ذكرنا يذكرانهما ب‍ " النديم وابن
النديم " وسنشرح ذلك فيما بعد.
صلة ابن النديم مع هذه الأسرة
يجب أن نعرف أربعة أشخاص: محمد بن إسحاق بن محمد بن إسحاق:
يعني محمدين اثنين وإسحاقين اثنين، المحمد الأول هو صاحب الفهرست،
والإسحاق الأول هو والده وقلنا أنه اشتهر ب‍ " أبي يعقوب الوراق " ولا شك

176
أن مهنته كانت الوراقة (بائع الكتب وكاتب الكتب) ونقلا عن ابن النديم الذي
قال أن والدي نقل عن الثقة أنه رأى الطبري بمصر، تستنتج أن والده كان
رجل علم ومعرفة وهذا الأمر من ضروريات مهنة الوراق. إذا عرفنا " إسحاق
الأول. وهو والد محمد، رغم أننا لا نعرف تاريخ ولادته ووفاته لكن ما لا
شك فيه أنه كان رجلا معروفا اشتهر ب‍ " أبي يعقوب الوراق ". كما أن ابنه كان
قد اشتهر ب‍ " ابن أبي يعقوب الوراق ". والظاهر أن مهنته هو أيضا أنه كان
" وراقا " لكن لا يوجد نص قاطع بهذا الشأن إلا أن معلوماته الواسعة حول
الكتب والمؤلفين والمصنفين وكذلك معرفته للكثير من العلماء المعاصرين لزمانه
في مختلف الفنون وصداقته ومجالسته مع الكثير منهم، نظرا لمهنة والده، فإن
الشك يتبدل إلى اليقين بأنه كان " وراقا " أيضا وورث هذه المهنة كبقية
الكمالات والمعلومات من والده. إن حصوله على المخطوطات ومصنفات
العلماء كالطبري والآخرين الذين يشير إليهم بين حين وآخر في كتابه
الفهرست يؤيد هذه النظرية. كما وأن رابطته مع الوراقين يؤيد هذا الأمر أيضا
حيث يقول: " وقال جماعة من أهل العلم وأكابر الوراقين " وذكر في الصفحة
10 من الفهرست أسماء عدد من الوراقين الذين كانوا يكتبون المصحف. إلى
هنا عرفنا بواسطة صاحب الفهرست اثنين منهم وهما نفسه ووالده. كما عرفنا
فيما مضى من أجدادهما، اثنين أي " إسحاق وإبراهيم النديم ". يبقى واحد من
هذه السلسلة ليربط " إسحاق بن إبراهيم " بهذين الشخصين وهما صاحب
الفهرست ووالده. إن الحلقة المفقودة هو " محمد بن إسحاق " جد صاحب
الفهرست وابن " إسحاق بن إبراهيم "، فهل من سبيل للتعرف على محمد بن
إسحاق بن إبراهيم النديم؟
نعم. بالإمكان إعطاء معلومات عنه من خلال الوثائق الموجودة، كما
يلي:
أولا أن كنية إسحاق بن إبراهيم جاءت في الكثير من المآخذ " أبو محمد "،
يقول الذهبي: " أبو محمد إسحاق بن إبراهيم النديم ولد سنة بضع وخمسين
ومائة " وفي الأغاني: " حدثني أبو محمد إسحاق بن إبراهيم عن أبيه... "
والزركلي: " هو إسحاق بن إبراهيم بن ميمون التميمي الموصلي أبو محمد بن
النديم " يقول ابن الجوزي: " أبو محمد التميمي " ويروي ياقوت أن المأمون كان
يخاطب إسحاق ويقول له يا أبا محمد. ويقول الخطيب البغدادي: " إسحاق بن
إبراهيم بن ميمون أبو محمد التميمي الموصلي صاحب الأغاني المعروف والده
بالموصلي... ".
ويروي أيضا: " قلت يا أبا محمد " وكذلك في الكثير من المآخذ والمصادر
الأخرى. وعادة ينتخبون كنية الرجل من اسم ابنه الأول. إذا كان
لإسحاق بن إبراهيم ولد اسمه محمد وكان أكبر أولاده. ولكن لم يذكر في
قائمة أولاده. يقول ياقوت إن أسماء أبنائه هم: " حميد وحماد وأحمد وحامد
وإبراهيم وفضل " ولكن لم يذكر اسم محمد وهو ابنه الأكبر (. ولا شك أن
الذي كان مقيدا أن يختار لأولاده أسماء (أحمد وحامد وحميد وحماد) وهي
أسماء مشتقة عن اسم الرسول الأكرم كان المفروض أن يختار اسم محمد لأحد
أبنائه، إذا كان لإسحاق ولد يسمى محمدا.
ثانيا: ذكر الذهبي ضمن وفيات سنة (340): " محمد بن إسحاق بن
إبراهيم أبو تراب الموصلي من ساكني هرات، حدث بها عن عمير بن مرداس
النهاوندي، وعلي بن الحسين بن الجنيد الرازي، وعلي بن محمد بن عيسى
الماليني وعنه " أبو منصور محمد بن محمد الأزدي " ويقول مصحح الكتاب في
الهامش: " لم أجده بل ذكر السمعاني أباه إسحاق بن إبراهيم الموصلي ". وذكر
الذهبي أيضا: " محمد بن إسحاق بن إبراهيم القرشي الهروي وعنه القاضي
أبو منصور محمد بن محمد الأزدي. ويبدو أن هذين الاسمين لرجل واحد
والظاهر أنه لم يكن من أهل هرات بل حسب ما يقول الذهبي كان يقيم في
هرات وكان من العلماء والمحدثين. ولكن هناك نقطة تقلل من أن يكون
" محمد بن إسحاق " ابنا لإسحاق بن إبراهيم الموصلي وهو أنه يجب أن يكون
من وفيات الأعوام 270 أو 280 أو على الأكثر 300 ه‍ بينما يذكر الذهبي أنه
من وفيات سنة 340. والآن إذا كان احتمالنا صحيحا فيجب القول إن
" محمد بن إسحاق " كان كأبيه مشمئزا من صفة المغني ولهذا فقد غادر بغداد
متوجها إلى هرات كي لا يعرفه أحد هناك بهذه الصفة وهذه المهنة.
على أي حال نحن لا نعلم عنه أكثر من هذا عدا أن المحشي يعتقد أيضا
أنه ابن إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
والآن يمكننا القول إن محمد بن إسحاق غادر بغداد مبكرا وتوجه إلى
هرات إلا أنه احتفظ باسم أبيه وجده ولقب الموصلي ولهذا السبب قد يكون
قد ذهب عن الأذهان في بغداد ولم يذكر ضمن أبناء إسحاق. ويجب أن
نستمر في التحقيق في هذا الأمر للحصول على المزيد من المعلومات
والتأكيدات. ومن هذه التأكيدات أن ابن الجوزي يقول: إبراهيم بن محمد أبو
إسحاق التميمي قاضي البصرة أشخصه المتوكل إلى بغداد لتولية القضاء " حيث
من المحتمل أن يكون ابن محمد هذا وشقيق (إسحاق) والد صاحب الفهرست
وسمى ابنه إسحاقا على تسمية جده " إسحاق بن إبراهيم ".
ثالثا: كذلك من المؤكد أن ابن النديم ذكر مرارا في الفهرست عن خط
إسحاق بن إبراهيم الذي يحتمل أنه كان في أسرتهم. وهذا لا يعتبر دليلا
حيث إنه نقل عن خطوط علماء آخرين أيضا.
سؤال
هنا سؤال، هل إن ابن النديم كان يعرف نسبه إلى إسحاق بن إبراهيم
الموصلي، المغني، النديم، أم لا؟ يبدو أنه لم يكن يعلم حيث إنه بعد ذهاب
جده محمد من بغداد، فإن سلسلة الانتساب قد زالت بن الأسرة ورغم أنه
ذكر اسم الأجداد إلا أنه لم يكن يعرف انطباقهم على ما ندعيه نحن، إن هذا
الاحتمال متوقع من ابن النديم الذي لم يكن يعلم أن " المسعودي المؤرخ "
المعاصر له بغدادي. إن المسعودي ينشد في كتابه مروج الذهب ج 1 ص 334
أشعارا تحت عنوان " الحنين إلى الأوطان " بعد أن غاب من بغداد عدة أعوام.
ويقول ابن النديم في ص 171 من الفهرست حول المسعودي: " هذا رجل من
أهل المغرب و... " طبعا كان المسعودي قد قضى السنوات الأخيرة من حياته
في مصر والدول الأخرى ولكن كيف تجاهل ابن النديم، بغداديته.
إن مثل هذه الأدلة التي تدل علي قلة معلومات ابن النديم كثيرة في
الفهرست، الحقيقة هي أنه كان ذا فنون كثيرة ولكنه لم يكن متبحرا في فن
التاريخ والرجال. أنه يشير إلى كتاب مروج الذهب ولكنه لم يقرأه لكي يعرف
أن مؤلفه بغدادي مثله.
الاحتمال الآخر هو أن ذكر مثل هذا النسب والإشارة إلى أجداد كانوا
مغنين وندماء وقد كان هذا العنوان سيئا إلى حد أن إسحاق بن إبراهيم نفسه
كان يكرهه كما أشرنا سابقا وقد طلب من المأمون أن يحسبه ضمن الفقهاء، إن
ذكر مثل هذا النسب لم يكن لابن النديم. وربما لهذا السبب لم يحترف
مهنة الغناء في هذه العائلة عدا حماد بن إسحاق بن إبراهيم وأخيه طياب
وربما لهذا السبب أيضا غادر محمد بن إسحاق جد صاحب الفهرست مدينة
بغداد إلى هرات ليعمل في الفقه والحديث. وربما لهذا السبب لم يستخدم ابن
النديم في الفهرست عنوان (النديم) لإسحاق وإبراهيم، كي يضيع هذا
الانتساب ولا ينسب أحد من أسرته التي اشتهرت ب‍ (النديم) إلى إسحاق بن
إبراهيم الموصلي المغني وهذا هو الموضوع الذي وعدنا قبلا أن نشرحه، أن

177
هذين الاحتمالين ممكنان.
فيما يلي أسماء بعض الرجال الذين قد يمكن أن يكونوا من هذه العائلة:
1 - إبراهيم بن محمد أبو إسحاق التميمي قاضي البصرة. الذي أشرنا
إليه من قبل وهو شقيق إسحاق واحد صاحب الفهرست.
2 - إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم التميمي وهو ابن إسحاق بن
إبراهيم.
3 - أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي المعروف ب‍
(وسواسة) وهو يروي عن والده وجده عن مخارق تلميذ إبراهيم الموصلي. أما
حماد والفضل وطيآب وإبراهيم أبناء إسحاق بن إبراهيم فقد جاءت أسماؤهم
مرارا في الأغاني والمصادر والمآخذ الأخرى.
النتيجة
أن محمد بن إسحاق صاحب الفهرست هو من ذرية إسحاق بن إبراهيم
الموصلي المغني النديم وهو لا يدري أو لم يكن يريد أن ينتسب إليه. إن أسرته
كانت معروفة في بغداد وقد اشتهرت باسم (النديم أو بن النديم) وبسبب أن
محمد بن إسحاق جد صاحب الفهرست كان قد ذهب من بغداد فإن سلسلة
الذرية قد انقطعت ولكن اسم الأجداد بقي في سلسلة الذرية.
هل ابن النديم إيراني الأصل؟
الآن إذا كانت استطاعاتنا عن أسرة ابن النديم صاحب الفهرست
صحيحة فإنه يمكن أن يستنتج منها أنه كان إيراني الأصل مثل جده إبراهيم
الذي كان يغني بالفارسية والعربية.
لقد قومنا ما كان عندنا من معلومات والآن على المحققين أن يتابعوا
البحث للوصول إلى النتيجة القاطعة. (1)
محمد بن إدريس الحلي
ذكر في المجلد التاسع الصفحة 120 ونزيد هنا ما ترجمه به صاحب كتاب
(تاريخ الحلة) قال:
كان أصوليا بحتا ومجتهدا صرفا، له اثر كبير في تاريخ الفقه الشيعي، فقد
ثار في وجه السائد بين فقهاء عصره من العمل بخبر الآحاد، وفتح باب الطعن
على الشيخ أبي جعفر الطوسي جده من قبل الام، وندد بأقواله، وأبدى من
الجرأة الفكرية تجاه فقهاء عصره امرا عجيبا فتعرض بذلك لسهام نقدهم، ولم
يثنه كل ذلك عن عزمه، وكان يقصد من تلك المناوأة فتح باب الاجتهاد، فقد
كاد أن يقضى على روح الاجتهاد ولم يبق منه الا رمق. فإن الفقهاء من بعد
عصر الشيخ الطوسي كاد أن يتلاشى منهم روح الاستنباط والاجتهاد والتفريع،
ذلك لاعتقادهم بالشيخ الطوسي وحسن ظنهم به. تأمل ما قاله السيد رضي
الدين بن طاووس في كتابه (البهجة لثمرة المهجة) قال: " أخبرني جدي
الصالح ورام بن أبي فراس ان سديد الدين محمودا الحمصي حدثه أنه لم يبق
للامامية مفت على التحقيق، بل كلهم حاك. ثم قال السيد عقيب هذا
الكلام: فقد ظهر لك الآن ان الذي يفتى به ويجاب على سبيل ما حفظ ".
وقد أكثر فقهاء عصر ابن إدريس ومن تأخر عنهم الطعن في أقواله، وممن
طعن فيه سديد الدين الحمصي، قال فيه: أنه مخلط لا يعتمد على تصنيفه (2)
والمحقق الحلي، والعلامة الحلي ويعبر عنه في بعض مصنفاته بالشاب
المترف. (3)
قال فيه صاحب أمل الآمل: " وقد اثنى عليه المتأخرون، وعلى كتابه
السرائر، وعلى ما رواه في آخره من كتب المتقدمين وأصولهم ". وقال فيه
الحسن بن داود الحلي في كتابه الرجال: أنه كان شيخ الفقهاء بالحلة، متقنا
للعلوم كثير التصانيف لكنه اعرض عن اخبار أهل البيت بالكلية.
وقال فيه صاحب لؤلؤة البحرين: " هو أول من فتح باب الطعن على
الشيخ الطوسي، والا فكل من كان في عصر الشيخ أو من بعده انما كان يحذو
حذوه غالبا إلى أن انتهت النوبة إليه ".
يروي ابن إدريس عن عربي بن مسافر والحسن بن رطبة السوراوي وأبي
المكارم حمزة الحسيني، ويروي بالواسطة عن خاله أبي علي ابن الشيخ أبي جعفر
الطوسي، وعن أم أمه بنت مسعود بن ورام، وكانت امرأة صالحة فاضلة مجازة
بالرواية.
ثم يقول صاحب " تاريخ الحلة ": ذكر أرباب التراجم أن أم الشيخ ابن إدريس
كانت بنت الشيخ الطوسي وانها كانت مجازة من قبل أبيها، وان ولدها
صاحب الترجمة كان يروي عنها، وهذا لا يستقيم فان الزمن الذي كان بين وفاة
الشيخ الطوسي وولادة المترجم له نيفا وثمانين سنة. ولكن يمكن أن تكون أمه
بنت بنت الشيخ الطوسي " انتهى "
وقال السيد مهدي الروحاني:
اثرت عظمة الشيخ أبو جعفر الطوسي وكثرة تلاميذه من الكبار والصغار في أن
لا يتجرؤوا على مخالفته في فتاواه مدة من الزمن. فظهر ابن إدريس الحلي
رحمه الله صاحب كتاب السرائر فناقش الشيخ الطوسي في عدة من فتاواه وقسم
الفقهاء بعد الشيخ إلى محصلين واتباع ويسميهم بالمقلدة، وهذا وإن كان فيه
بعض الاغراق الا أنه كان لثورته هذه اثر جيد، وذلك لأن الفقهاء بعد ابن إدريس
وان لم يتبعوا آراءه خصوصا في رأيه الأصولي الذي يقول بعدم حجية
الخبر الواحد، ولكنه جعلهم مستقلي الرأي والنظر يكثرون من التأمل في
الأدلة، وبذلك كله نضج الفقه فقه أهل البيت عليهم السلام بما فيه من
المأثورات الكثيرة وبما فيه من المسائل المجمع عليها وما هو غير مجمع عليه فظهر
الصحيح من الروايات وغيرها في الأغلب.
مؤلفاته
كتاب السرائر في الفقه. كتاب التعليقات وهو حواشي وايرادات على
التبيان للشيخ الطوسي، كتاب يشتمل على جملة أجوبة مسائل كان قد سئل
عنها.
عمره ووفاته
قال صاحب روضات الجنات: والذي رأيته في البحار من خط الشهيد
رحمه الله هكذا: قال الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الامامي
العجلي: بلغت الحلم سنة 558.
وجاء في وفيات العلماء للكفعمي: " يقول ولده صالح: توفي والدي



(1) الشيخ محمد واعظ زاده خراساني.
(2) لؤلؤة البحرين.
(3) روضات الجنات.
178
محمد بن إدريس يوم الجمعة وقت الظهر 18 شوال سنة 598 " وقيل توفي
شابا ".
وقبره في الحلة جنوبي حديقة الجبل. وقد جدد بناءه الحاج حسان مرجان،
وأنشأ حوله بناية فخمة كما أسس مسجدا بجواره.
الملا محمد باقر، المتخلص في شعره ب‍ (صحبت)
ولد سنة 1162 وتوفي سنة 1251.
هو من (لار) في محافظة فارس. تعلم في مدرسة قرية (رونيز) ثم انتقل
إلى شيراز حيث تابع دراسته ثم عاد إلى (لار).
عني باللغة العربية والفنون الأدبية والتاريخ، وكان شاعرا وله ديوان
يحتوي على ثلاثين ألف بيت من الشعر.
الميرزا محمد حسين بن علي محمد الكازروني الملقب بشيخ الحكماء وناظم
الحكماء
توفي سنة 1336 في بوشهر
من الأطباء والحكماء والشعراء في محافظة فارس درس الفقه على الميرزا
محمد علي الدشتي الجهاردهي، وتعلم الطب القديم على أبيه. من مؤلفاته:
ملكوت السماء، ورسالة في النبض، وجغرافية كازرون وتاريخ، وناسخ
الآثار وهو في تاريخ مدينة بوشهر، وله ديوان شعر.
السيد محمد الحسيني عرب زاده الهمذاني بن السيد علي عرب
ولد عام 1322 ه‍ وتوفي في همدان ودفن في مشهد الرضا عام 1417 ه‍
عن عمر ناهز 96 عاما.
ولد في النجف الأشرف حيث كان أبوه السيد علي مهاجرا إليها للدراسة
وتعود أصول الترجمة له إلى السادة الأعرجية في مدينة الكاظمية في العراق
وكان أجداده من سادني الروضة الكاظمية. وقد عاد سنة 1330 ه‍ إلى همذان
مع والده فدخل المدارس وتخرج منها واستمر في دراسة العلوم الدينية عند
والده وجماعة من الأعلام مدة 13 سنة ثم هاجر إلى النجف الأشرف عام
1343 ه‍ لإكمال دراسته فنزل في منزل السيد أحمد الكربلائي - العارف
المشهور - مدة ثم انتقل إلى إحدى مدارس النجف وهي مدرسة القوام وهناك
ارتبط مع جماعة صاروا أعلاما بعد ذلك وهم السيد أبو القاسم الخوئي -
والسيد محمد حسين الطباطبائي صاحب التفسير - وآخرون. قرأ على السيد
محمد هادي الميلاني والسيد عماد الدين الرشتي ثم دخل حوزة الميرزا النائيني
ودرس عنده الفقه والأصول، كما درسهما عند الشيخ محمد حسين الأصفهاني
(الكمپاني) ودرس علي السيد محمد حسين البادكويي الفلسفة والحكمة، وصار
صهرا للميرزا النائيني وكان من المقربين عنده ودرس فترة دروس الأخلاق
عند السيد علي القاضي - العارف المشهور - وقد أثرت فيه دروسه فكان
منعزلا، كتوما، عارفا بالله، بعيدا عن الضوضاء والمناصب. عاد عام 1367
إلى إيران وبعد أن سكن فترة في خراسان ثم في قم عاد إلى همذان فصار أماما
للجماعة ومرجعا للفتيا والأحكام الدينية، واستمر نشاطه مدة نصف قرن.
ترك من المؤلفات:
(1) تفسير القرآن باللغة الفارسية باسم (أنوار درخشان) في 18 مجلدا.
(2) شرح أصول الكافي في 5 مجلدات باللغة الفارسية أيضا.
(3) المعاد الجسماني.
(4) رسالة حول حياة الإمام الحجة.
(5) تقريرات الفقه والأصول للنائيني.
(6) تقريرات الفقه والأصول للأصفهاني.
(7) عدة رسائل أخرى في العقائد والكلام. (1)
الميرزا محمد المتخلص ب‍ (سرور) بن الميرزا كاظم.
ولد في شيراز في القرن الثالث عشر الهجري.
متبحر في الفنون العربية والأدبية ومن الأطباء العلماء. له كتاب
(رشحات الفنون) وله حواش على بعض الكتاب الطبية. وله ديوان شعر.
الميرزا محمد الشيرازي المتخلص ب‍ (عالي) بن فتح الدين
توفي سنة 1121 في الهند. كان أحد أجداده من الأطباء الحكماء
ورجال اللغة، وكان هو شاعرا، له ديوان شعر باسم (سخن عالي). وله من
المؤلفات: وقائع نعمت خان عالي، وخوان النغمة. والتفككات والتفحكات
وغيرها.
محمد معصوم نايب الصدر الشيرازي
ولد سنة 1270 في شيراز توفي سنة 1344.
أصل آبائه من قزوين وهاجروا إلى شيراز. درس دراسته الأولى في شيراز
ثم انتقل إلى العراق فدرس على السيد علي اليزدي وحضر بحوث الميرزا
الشيراز والفاضل الأردكاني وغيرهم. ثم عاد إلى طهران واستفاد من بحوث
آقا علي النرنرزي والميرزا أبو الحسن جلوه والآقا محمد رضا قمشه أي، وقد
لقبه ناصر الدين شاه بلقب نايب الصدر، ثم عاد إلى شيراز وسافر إلى الهند.
وفي سنة 1303 ذهب إلى گناباد وصار مريدا للملا سلطان علي الگنابادي ثم
فسد ما بينهما، وظل في أسفار بعيدة وقريبة حتى ثورة (المشروطة) فكان من
أحرارها، وبعد انتصارها كان موظفا في إدارة مجلس الشورى. وفي أواخر
عمره صار رئيسا لأوقات مدينة (گرگان)، ثم لأوقاف گناباد. ثم سافر إلى
مدينة مشهد وبقي فيها حتى وفاته.
له: تحفة الحرمين، وطرائف الحقائق، وجنگل مولى. وكتب عن أسفاره
إلى الهند وتركستان والبلاد العثمانية وسمرقند وبخارا.
الميرزا محمد الكازروني الطبيب المتخلص في شعره ب‍ (طالع)
من الأطباء الشعراء في القرن الثالث عشر الهجري في إيران. ولد في
كازرون ودرس في شيراز.
يقول عنه فرصة الدولة: الميرزا محمد الطبيب، استفاد من الفنون الأدبية
وتوفي ريعان شبابه سنة 1303 ودفن في النجف، كان عالما أدبيا شاعرا.
الخواجة محمد بن محمود الدهدار الشيرازي
توفي سنة 1016.
كان علما من أعلام أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر في
شيراز وأحد عرفاء القرآن.
له آثار عرفانية عديدة. وله تفسير عرفاني حكمي لسورة الضحى
والانشراح كتبه سنة 1013 وله تفسير للقرآن.
الميرزا محمد نصير الدين بن الميرزا عبد الله الحكيم، المعروف ب‍ (الميرزا نصير
الحكيم)
توفي سنة 1191 في شيراز ونقل جثمانه فدفن في النجف.
من الحكماء والأدباء والأطباء والشعراء في إيران في القرن الثاني عشر



(1) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
179
الهجري. وهو الجد الأعلى لفرصة الدولة الشيرازي صاحب كتاب آثار
العجم.
ولد المترجم في (جهرم) من محافظة فارس وانتقل إلى شيراز وأصفهان
لدراسة علوم اللغة العربية والأدب والحكمة الإلهية والعلوم الطبيعية
والرياضية.
له من المؤلفات: كتاب في الحكمة الإلهية بالفارسي (جام گيتي نما)،
وكتاب أساس الصحة، وكتاب حل التقويم في النجوم (فارسي)، ورسالة في
حل مشكلات القانون لابن سينا، ورسالة في الموسيقى وربطها بعلم الطب،
ومرآة الحقيقة، وشفاء الأسقام (في الطب).
وكان يزاول نظم الشعر باللغة العربية، ومن طرائف ما نظم هذه
الأبيات:
ألا يا طبيب الناس دعني ودائيا * علاج مريض العشق ليس التداويا
نسيم نواحي أصفهان دوائيا * ووصل أحباء العراق شفائيا
أيا حارسي شيراز خلوا عن الصبا * إذا جاوزت في السير تلك النواحيا
بريد الحمى إن كنت تأتي ديارهم * فبلغ إليهم ثم بلغ سلاميا
سلام اشتياق من أسير مهاجر * يكون عن الأحباب والأهل نائيا
محمد مهدي حجاب الشيرازي
ولد سنة 1224 في شيراز.
درس اللغة العربية والآداب والمنطق والكلام والحكمة، وكان شاعرا
معروفا.
سافر إلى بمبئ في الهند وعمل في التجارة ثم رجع إلى شيراز. ترك
ديوانا شعريا.
محمد بن يوسف به شهاب الشيرازي المتخلص في شعره ب‍ (أهلي)
ولد في شيراز سنة 858 وتوفي فيها سنة 942 ودفن بجوار الشاعر
حافظ الشيرازي.
من شعراء العرفان وله في ديوانه الكثير من الشعر في مدح ورثاء
النبي (ص) والأئمة (ع) وهو يذكرهم واحدا واحدا.
ويخلط بعض المؤرخين بينه وبين (أهلي) الخراساني. عاصر المترجم عددا
من الملوك التيموريين، وملوك آق قوينلو، وقره قونيلو، والشاه إسماعيل
والشاه طهماسب الصفويين.
يقول سام ميرزا في (تحفة سامي): كان أهلي من كرام الشعراء الفضلاء
العظام، وكان فقيرا مسكينا قليل الاختلاط مع أهل الدنيا، وكان أحسنهم
وأفضلهم بلاغة وشعرا، ينظم في جميع أنواع الشعر.
عاصر أهلي كلا من: جامي وهلالي أسترآبادي وبابا فغاني الشيرازي
وشهيدي القمي ومكتبي الشيرازي وأهلي الخراساني وأميدي الطهراني وهاتفي
خرجردي.
وجاء في كتاب (هدية العارفين) أن للمترجم اثني عشر مؤلفا:
تحفة السلطان في مناقب النعمان، وترجمة مواهب الشريعة إلى اللغة
الفارسية، وديوان، شعر ورباعيات أهلي، ورسالة، والعروض والقافية،
وزبدة الأخلاق، ومثنوي السحر الحلال، وسر الحقيقة، والقصائد المصنوعة
في مدح الأمير علي شير، ومجمع البحرين، ومخزن المعاني، والديوان المشتمل
على الغزل والقصائد والتركيب والترجيع والقطعات والتاريخ والمخمس.
كانت طريقة أهلي الشعرية على نمط الشعراء العراقيين، ولم تكن هذه
الطريقة رائجة في ذلك الزمن، وهي البساطة وكثرة استعمال الكلمات العربية
وترك الكلمات الفارسية القديمة، وكان ابتداء الأخذ بهذه الطريقة في القرن
الخامس وانتشرت بشكل واسع. ومعظم الشعراء مثل سعدي وحافظ
ومولوي وخاقاني وأنوري وغيرهم نظموا أشعارهم بهذه الطريقة.
محمد بن الحسين الشيخ البهائي
مرت ترجمته في الصفحة 234 من المجلد التاسع ونزيد عليها هنا ما يلي:
من شعره، ما نظمه من قصيدة يذكر فيها مدينة هرات التي كان والده
شيخ الاسلام فيها، وكان له هو بعض الإقامة فيها مع والده:
ان الهرات بلدة لطيفة * بديعة شائعة شريفة
أنيقة أنيسة بديعة * رشيقة أنسة منيعة
خندقها متصل بالماء * وسورها سام إلى السماء
ذات فضاء يشرح الصدورا * ويورث النشاط والسرورا
حوت من المحاسن الجليلة * والصور البديعة الجميلة
ما ليس في بقية الأمصار * ولم يكن في سالف الأعصار
لست ترى في أهلها سقيما * طوبى لمن كان بها مقيما
ما مثلها في الماء والهواء * كلا ولا الثمار والنساء
كذلك الباحات والمدارس * فما لها فيهن من مجانس
هواءها من الوباء جنة * كأنه من نفحات الجنة
فيبسط الروح وينقي الكربا * ويشرح الصدر ويشفي القلبا
لا عاصف منه تمل الحرة * ولا بطئ السير فرد مرة
بل وسط يهب باعتدال * كغادة ترفل في أذيال
فمن رماه الدهر بالافلاس * حتى على المسكن واللباس
فلا يصاحب بلدة سواها * لأنه يكفيه في هواها
لو قيل إن الماء في الهرات * يعدل ماء النيل والفرات
لم يك ذاك القول بالبعيد * فكم على ذلك من شهيد
تراه في الأنهار جار صاف * كأنه لآلئ الأصداف
لا يحجب الناظر عن قراره * بل يطلعنه على اسراره
تظن غور عمقه شبرين * من الصفا وهو على رمحين
خفيف وزن رائق الأوصاف * ما مثله ماء بلا خلاف
يهضم ما صادف من طعام * كأنما أكلته من عام
نساؤها مثل الظباء النافرة * ذوات الحاظ مراض ساحره
يسلبن حلم الناسك الأواه * يسلمن جسمه إلى الدواهي
من كل حور عذبة الألفاظ * تقتل من تشاء بالألحاظ
أضيق من عيش اللبيب ثغرها * أضعف من حال الأديب خصرها
قاتله قد شهدت حداها * بما بنا تفعله عيناها
ترنو بطرف ناعس فتاك * يفسد دين الزاهد النساك
والصدغ واو ليس واو العطف * والثدي رمان عزيز القطف
والجسم في رقته كالماء * والقلب مثل صخرة صماء
ولفظها وثغرها كالردف * سحر حلال أقحوان قحف
وقدها ونهدها والخد * غصن ورمان طري وورد
والشعر والرضاب والأجفان * صوارم مدامة ثعبان

180
غير حميدات خصالهن * طوبى لمن نال وصالهن
يا حبذا أيامنا اللواتي * مضت لنا ونحن في هرات
تسترق اللذات والأفراحا * ولا تمل الهزل والمزاحا
وعيشنا في ظلها رغيد * والدهر مسعف بما نريد
واها على العود إليها واها * فما يطيب العيش في سواها
حمد الغفاري الملقب ب‍ " كمال الملك "، ابن الميرزا الكبير بن الميرزا
محمد بن الميرزا عبد المطلب الغفاري
ولد بمدينة كاشان في أواخر شهر شوال سنة (1264) وتوفي في نيسابور
سنة 1352.
امضى طفولته وصباه في تلك المدينة وأكمل فيها مراحل الدراسة الأولى ثم
انتقل إلى طهران وهو في الخامسة عشرة من عمره والتحق بمدرسة دار الفنون،
فأنهى مراحل الدراسة ودوراتها في هذه المدرسة، ولكونه يتمتع بموهبة متميزة في
الرسم فقد عينه ناصر الدين شاه رساما وافرد له غرفة خاصة في عمارة بادكير
من مجموعة شمس العماري، فصار مشغولا بأعمال الرسم وفنونه هناك تحت
عنوان (نقاشباشي).
ويمكن تلخيص الحياة الفنية لكمال الملك في أربع مراحل:
المرحلة الأولى: وتشمل المدة التي أمضاها في بلاط ناصر الدين شاه
مشغولا باعمال الرسم وقد بلغ عدد اللوحات التي أنجزها في هذه المرحلة مائة
وسبعين لوحة. وسنكتفي بذكر الآثار النموذجية لهذه المرحلة (1285 ه‍ -
1312 ه‍).
المرحلة الثانية: وهي تشمل المدة التي أمضاها في أوروبا. 1319 ه‍ -
1324 ه‍).
المرحلة الثالثة: وتتعلق هذه المرحلة بالآثار والنتاجات التي أنجزها عند
سفره إلى العتبات المقدسة.
المرحلة الرابعة: وهي التي شهدت بداية حركة المشروطة وتأسيس مدرسة
(صنايع مستظرفة).
وسنتناول الحديث مفصلا عن هذه المراحل.
المرحلة الأولى
يصعب علينا الاهتداء إلى كثير من اعمال ونتاجات كمال الملك وعلى
الخصوص تلك التي أنجزها في بدايات حياته الفنية، فقد يكون قسم منها قد
اندثر واختفى وقسم آخر توزع هنا وهناك بنحو يتطلب جمعه في مكان واحد
جهودا ضخمة كبيرة ووقتا هائلا طويلا ومن بين الأعمال النموذجية لكمال
الملك التي وصلت إلينا: لوحة " آبشار دو قلو " موقعة بأمضاء (نقاشباشي)
يعود تاريخ انجازها إلى سنة (1302 ه‍)، لوحة قصر (گلستان) وقد أنجزت
سنة (1303 ه‍)، منظر قرية (أمامية) أنجزها في (سنة 1304 ه‍)، منظر
حديقة (باغشاه) أنجزت في (سنة 1306 ه‍) ومنظر لوادي (زانوس) من
بعيد وقد أنجزت في سنة (1306 ه‍) أيضا. أما لوحة (المخيمات الحكومية)
التي أنجزت سنة (1299 ه‍) فهي تعد من بين أقدم الآثار التي بلغتنا من تلك
المرحلة التي كان يوقع كمال الملك لوحاته بامضاء (نقاشباشي) وهي موجودة
الآن ضمن مجموعة بمكتبة مجلس الصيانة.
ويستنتج من خلال عناوين اللوحات المذكورة أن كمال الملك قلما أعطى
المناسبات والموضوعات الانسانية اهتمامه وعنايته فنجد أن لوحاته أما أن تكون
حاكية عن الطبيعة وجمالها الفياض حيث يبدو فيها انعكاس النفحات الشاعرية
التي تتجلى في لمسات فنية معبرة عن الهامات عاطفية، أو أن تكون تلك
اللوحات متضمنة لمباني الدولة وأماكنها. كما أن عناصر لوحاته وسبكها الخاص
تأتي فاقدة للروح والحركة والابداع الذي يمنح العمل الفني أملا بالخلود والحكاية
عن أصالته. ورغم أن لوحاته ممتعة للذوق والنظر ومثيرة لعاطفة المشاهد الا أن
عمل الرسم المبذول في هذه اللوحات لا يعدو أن يكون مماثلا للتصوير الآلي
حيث الصور الجامدة والبسيطة والسطحية التي تقل فيها اللمسات الفنية الخلافة
الصادرة عن بديهة الفنانين وقريحتهم، كما يلاحظ فيها عدم الانسجام بين
موضوعات اللوحات وعناصرها وبين أحاسيس الفنان ومشاعره، وإن وجد مثل
ذلك فإنه يتوقف في حدود السطح ولا يمتد إلى الأعماق الخلاقة، سوى بعض
الاستثناءات القليلة التي نجد فيها الاندماج والانسجام الكلي للفنان وعواطفه
وروحه مع لوحاته المرسومة على أن التقنية العالية الملحوظة في تلك الأعمال
واللوحات وتطوراتها كانت تنبئ عن مستقبل مزدهر للفنان، حيث يشاهد
تحسن الإنتاج وتصاعد وتيرته الفنية لوحة بعد لوحة، كما يبدو فيه المنحى
التكاملي الذي يتسلقه.
تعد لوحة (تالار آئينه) معلما لمرحلة جديدة للرسم الإيراني فقد أحدثت
هزة حقيقية في بنيان مدرسة الفن القاجاري الذي كان يعتمد أساسا على رسوم
المينة التقليدية ويغوص في الجمود على الأساليب القديمة وتقليدها واتباعها.
أما الطريق الفني الذي سلكه كمال الملك حتى آخر عمره فقد كان
استمرارا وتطورا لأسلوبه الفني الذي انتهجه في لوحة (تالار آئينه)، وضمن
هذا السياق أيضا فقد عد كمال الملك وأسلوبه نقطة انعطاف في الحركة الفنية
حيث يمثل نهاية مرحلة للفن التقليدي وبداية مرحلة لتيار فني آخر متأثر بالفن
الغربي إلى حدود بعيدة. ورغم أن التأثر بالفن الغربي يعود تاريخه إلى أزمان
بعيدة إلا أنه كان من المستحيل بنحو من الأنحاء أن يتسلل تأثير الفن الغربي
- في أعمال الفنانين الذين سبقوه - داخل التقاليد الأصلية للفن الإيراني، أما في
أعمال كمال الملك ولوحاته فقد صارت القيم الفنية الإيرانية تذوي وتختفي
لتحل محلها القيم والمعايير الأساسية للفن الكلاسيكي الأوروبي.
إن هذا التطور الذي كسر التقاليد الفنية وخرج عن مألوفها تحول ليصير
بذاته تقليدا وأسلوبا جديدا للفن الإيراني الذي اندفع على أساسه في مسيرة
النهضة والازدهار. ولم يكن هذا التطور وليد صدفة أو نتيجة حدث طارئ بل
أنه يأتي ضمن سياق التطور والتحول العالم الذي طال كافة الأسس والعلاقات
الاجتماعية والمعايير الإنسانية للمجتمع الإيراني وأثر في حركة الرشد للخلايا
والمكونات والأنسجة التي تؤلف كيانه العام، فقد مضت مدة من الزمن شهد
البنيان القديم للمجتمع الإيراني جملة من التطورات وتعرض لعدة هزات
أوجدتها الاصلاحات الاجتماعية التي جاء بها (أمير كبير) وجعلت المجتمع
الإيراني في حالة غليان واضطراب مستمرة.
ومع اقتراب وقت انفجار ثورة المشروطة فإن القوالب القديمة والقيم البالية
العتيقة كانت تزداد عجزا في استيعاب المتطلبات الجديدة والمضامين الحية لحركة
المجتمع، ولذا فقد سيطرت حالة القلق وعدم الاستقرار في المجتمع،
وازدادت الحاجة الحاحا إلى التجديد والتحول الذي ينهض إلى مستوى تلبية

181
الاحتياجات المتطورة والتعاطي مع المتغيرات المتسارعة في إيران والعالم. ان كل
تلك الضرورات والمعطيات انعكست وتجلت بوضوح في الميدان الثقافي والفني.
وفي هذه المرحلة نشاهد أن فن الرسم يلتفت إلى الموضوعات الانسانية
ضمن حدود معينة، فنجد ذلك مثلا في لوحة تصور أحد المصريين وقد أنجزت
بعد لوحة (تالار آئينه) أما قبل زمن انجاز هذه اللوحة فثمة لوحة
" الصيادون " و " الشحاذتان ". أما آخر عمل أنجزه كمال الملك يحمل امضاء
ال‍ " النقاشباشي " فهو لوحة (الفوال) سنة (1309 ه‍) وهي تعد أرقى عمل
قدمه كمال الملك إلى ذلك الوقت حيث تبرز قدرته على الاستيحاء من الطبيعة
و ضلوعه في استخدام الألوان فقد رسمت شخصيات اللوحة بنحو جيد من
حيث الترابط المنطقي والانسجام فيما بينها. وقد عرضت هذه اللوحة لاحقا في
أحد معارض الرسم في باريس واختيرت من بين كل اللوحات المعروضة
كأفضل عمل فني فنالت الجائزة الأولى.
في سنة 1301 تزوج كمال الملك وهو في سن السابعة والثلاثين ورزق بنتا
وثلاثة أولادهم: نصرت خانم، معز الدين خان، حسنقلي خان، وحيدر
قلي خان، وقد كان له أخ يدعى أبا تراب يكبره بثلاث سنوات وكان رساما
أيضا تعود إليه تلك الرسوم واللوحات المنشورة في صحيفة (شرف وشرافت)
والتي تحمل امضاء (أبو تراب).
المرحلة الثانية
لقد فتحت أوروبا عالما جديدا أمام كمال الملك واستفاد من احتكاكه
وصداقاته لكبار الفنانين حيث اكتسب المزيد من التجارب واتسع مدى أفقه
الفني وأتيح له أن يطل على دنيا واسعة أكبر من أن توصف وخلال رحلة بحثه في
فن الرسم وعلومه استطاع كمال الملك أن يزور كل متاحف أوروبا وضمن تلك
الرحلة فتن ب‍ (رامبراند) رسام القرن السابع عشر، لقد لاحظ كمال الملك في
أعمال هذا النابغة الهولندي آثارا وعلامات للعرفان الشرقي فانجذب نحوها
بشدة، وكان يقول: " تكمن في لوحات رامبراندوتيسين القوة والروح
والفن ". لقد تعلم كمال الملك علوم الرسم من مطالعاته لآثار رامبرند،
نيسين، رافائيل، روبنس، انديك وليوناردو دافينشي: وكانت تتم دراساته
تلك وتعلمه لفنونهم من خلال استنساخه لأعمالهم وتجزئتها بحضور الرسامين
الكبار لتلك المرحلة في أوروبا.
فقد درس كمال الملك لوحة سان ماتيورا في متحف اللوفر بباريس، كما
درس لوحة رامبراند واستنسخها في قصر بيتي بإيطاليا.
وقد تعرف كمال الملك في فرنسا على الرسام الشهير في ذلك الوقت فونتين
لاتور فكان ثمرة هذه المعرفة لوحة رسمها الأستاذ هي عبارة عن صورة ذلك
الفنان الفرنسي الذي كان يصف كمال الملك بالشعلة القادمة من إيران ويدعو
تلاميذه للاستفادة منه فيقول: " انظروا إلى هذه الشعلة القادمة من إيران،
واستفيدوا من لهيبها وحرارتها الخلافة ".
يقول (بن زور) رئيس مدرسة ميونخ وأحد كبار الرسامين في أوروبا: إن
كمال الملك هو أفضل وأكبر ناسخ لآثار ونتاجات أساتذة الفن الكلاسيكي
الأوروبي.
ثمة أقوال مختلفة حول مدة إقامة الأستاذ في أوروبا وليس هناك اتفاق على
رأي موحد في هذا الشأن بل تردد القول حول طوال سفره بين 3 أو 4 أو 5
سنوات وأقوى تلك الأقوال وأكثرها سندا هي تلك التي تذهب إلى أن كمال
الملك اتجه إلى أوروبا سنة (1314) وعاد منها سنة (1319) إلى إيران...
وكان محصلة هذه السنوات الخمس على صعيد الانتاج الفني 12 لوحة أكثرها
كان عبارة عن استنساخ لأعمال كبار رسامي أوروبا عهدئذ.
وتدل تلك اللوحات على أن كمال الملك طوى خلال السنوات الخمس
طريقا عاليا واكتشف آفاقا جديدة في نفسه. فقد تطورت تقنياته الفنية
ونضجت مقدرته وازدادت رؤيته عمقا ودقة، وصار أكثر دراية ومعرفة بالألوان
وخطوط الربط ومفاصل اللوحة الفتية والتي تعتبر روح عملية الرسم وبنية
هيكله الفني، كما منحه حضوره المباشر في تجارب عباقرة الفن وأساطينه
وفطاحله فرصة الاتصال القريب باسرار هذا الفن وحقائقه فتبين وسط ذلك
المحيط الخلاق المكان الواقعي للطبيعة والحياة في دنيا الفن.
المرحلة الثالثة
وعند ما عاد كمال الملك إلى طهران كان يحمل معه روحا تفيض بالحيوية
وقلبا مفعما بالنشاط ونابضا بالرجاء والأمل... غير أنه وجد جوا ثقيلا راكدا
ومحيطا باهتا في طهران لا يلبي طموحاته ولا يستوعب حركة هذا النسر الذي
يريد أن ينطلق ويحلق في دنيا الفن كالأساطير. وكانت ظروف إيران عهدئذ غير
ملائمة لنمو الفن ورشده فقد أوصلت هذه الظروف المضطربة السيئة الأشكال
الأصيلة لفنون المينة إلى الحضيض، ومن الطبيعي لفنان كالأستاذ كمال الملك
الذي يجد حياته ورزقه في فنه، أن لا يجد في تلك الأجواء عوامل الهدوء
والاطمئنان والسكينة والرضى. وقد كانت عودته في زمن السلطان مظفر الدين
شاه القاجاري حيث كان يوصي كمال الملك بانجاز اعمال لا تنسجم مع ذوقه
ومزاجه الفني مما كان يبعث الضيق في نفس هذا الفنان إذ أن الفن يختنق ويفقد
خلاقيته عندما يخضع لجو القهر والأوامر المفروضة. وقد وجد كمال الملك نفسه
وسط امراء السلطان مظفر الدين شاه ورجاله الذين لا يدركون من مضمون
الفن شيئا ولا يعرفون حقيقة مكانة الفنان، فكانوا يطلبون منه أمورا لا تهدف
سوى إلى إرضاء رغباتهم في التفاخر والتمايز ويكلفونه بأعمال سطحية وسخيفة
بحيث أنه لو أراد مسايرتهم وانجاز ما يريدون لصار كمن يجعل من الرسام
مسخرة وأضحوكة. ولذا فقد دفع هذا الجو المفعم بتلك السلبيات إلى جانب
الوضع غير البناء في بلاط مظفر الدين شاه دفع بكمال الملك إلى العصيان
والفرار إلى بغداد حيث مكث فيها مدة وأنجز فيها اعمالا فنية مختلفة. فرسم
لوحات: (اليهود المنجمون البغداديون) و (الصائغ البغدادي) وتمتاز هذه
اللوحات بدرجة عالية من الاتقان في التركيب وبمقارنة هاتين اللوحتين بأعمال
الأستاذ السابقة لسفره إلى أوروبا نكتشف التطور الهائل في مقدرته الفنية وفكره،
ونلمس فيها نظرته إلى واقع المجتمع في بعده الطبقي.
عاد كمال الملك من بغداد إلى إيران في سنة (1312 ه‍) فعاود السلطان
طلباته إليه ليمارس عمله في رسم اللوحات التي يمليها عليه إلا أنه اعتذر متذرعا
بأنه يعاني من رعشة في يده. وقد زامنت عودته ظهور حركة المشروطة
وتصاعدها فكان أن ساهم فيها وكتب عدة مقالات في ذلك نشرت له على
صفحات جرائد الوقت.

182
المرحلة الرابعة
(تأسيس مدرسة صنايع مستظرفة)
بعد وقائع حركة المشروطة في حدود سنة (1329 ه‍) فكر وزراء ذلك
الوقت في تحسين الوضع المالي لكمال الملك الذي كان يعاني من فقر مدقع
وحرمان شديد، فطلب حكيم الملك وزير الثقافة عهدئذ إجازة منح ارض
مساحتها ستة آلاف ذراع في منطقة نگارستان مع مبلغ قدره سبعة آلاف تومان
لكمال الملك من أجل بناء مدرسة (صنايع مستظرفة) باسم كمال الملك نفسه
وبما أن المبلغ لم يسدد في ذلك العام فقد قام بتسديده حكيم الملك في العام
اللاحق عندما صار وزيرا للمالية، وتحقق بناء المدرسة بكل مرافقها فنقلت
إليها لوحات الأستاذ كمال الملك ونصبت فيها حيث كانت مدرسة فنية
تشيد تحت عنوان مدرسة صنايع مستظرفة، وصار كمال الملك يمارس نشاطاته
الفنية في تلك المدرسة كما أنها أصبحت أول مكان يزوره الضيوف باعتباره مركزا
ثقافيا ومرفقا فنيا.
أما اللوحات التي رسمها وأنجزها كمال الملك في هذه المدرسة فهي: منظر
بعيد ل‍ (مغانك)، لوحتان عن مدينة (دماوند)، ثلاث لوحات عن محلة
(شميران) و (جبل توچال) ولوحة (سيد نصر الله التقوي) وبعض اللوحات
لنفسه نسخها عن المرآة ولوحة (مولانا) ولوحة (ابن ناصر الملك) ولوحات
أخرى. كما أن الأستاذ كمال الملك استطاع أن يربي عددا كبيرا من الفنانين في
هذه المدرسة ولعل أبرزهم: إسماعيل الآشتياني، حسن علي وزيري، أبو
الحسن صديقي وعلي محمد حيدريان.
وينقل علي محمد حيدريان وهو تلميذ كمال الملك كما ذكرنا، أن المدرسة
كانت تشكل مكانا هاما وأحد المراكز الثقافية العليا، وبالإضافة إلى أن التلاميذ
في هذه المدرسة لم يطلب إليهم دفع بدل مالي لدراستهم فقد كانت توفر لهم كل
وسائل العمل من قبيل: القلم، الفرشاة، الألوان، والنماذج والعينات الفنية
واستمرت المدرسة محافظة على مستواها العالي في حوالي السنوات الثلاث
الأولى، إلا أنها بدأت تتراجع وتتقهقر عندما بدأت التدخلات تلقي بظلالها
على مصير هذه المدرسة حيث اقترح أن يحول مكانها إلى مقر للوزارة وساهم
حب الرياسة والجاه في تحويل هذا المركز الذي كان بمثابة الفردوس للفنون إلى
جهنم الاحتيالات والأنانيات، فصار مقرا لشبه وزارة أطلق عليها اسم وزارة
الصناعة، وفي عهد رضا شاه ظهرت خلافات بين كمال الملك ووزير المعارف
في ذلك الوقت سليمان ميرزا واستمرت تلك الاختلافات والتجاذبات مع وزراء
المعارف الآخرين بسبب التدخلات غير النافعة في المدرسة حتى أدت تلك
الخلافات المستمرة إلى إعاقة تقدم اعمال المدرسة إلى أن بلغت الاحتكاكات
أشدها في زمن سيد محمد تدين الذي صار وزيرا للمعارف. ولكن كمال الملك
الذي أعيته تصرفات أولئك وأتعبه الوضع السئ لهم لم يتمكن من المواصلة
فقدم استقالته إلى رئيس الوزارة آنذاك الميرزا حسين مستوفي الممالك وقبلت
تلك الاستقالة سنة 1306 هجري شمسي وغادر كمال الملك إلى منطقة حسين
آباد في مدينة نيشابور بتاريخ (22 ارديبهشت سنة 1307) وسكن في ملك
شخصي له هناك إلى آخر أيام حياته وقد زاره الكثير من أصدقائه وتلامذته من
داخل إيران وخارجها في منطقة حسين آباد كما أن بعض المستشرقين والفنانين توجهوا
إلى هناك ليحظوا بلقاء هذا الفنان الكبير وفي ذلك الزمان اتجه بعض المسؤولين
في مجلس الشورى الوطني نحو شراء لوحات كمال الملك لصالح المجلس وإقامة
متحف هناك باسم كمال الملك، لذا فقد ابتاعوا لوحة " سردار أسعد " بمبلغ
(500) تومان سنة 1310 ثم ابتاعوا اثنتي عشرة لوحة أخرى بمبلغ ستة آلاف
تومان وحملت إلى طهران حيث نصبت في مكتبة مجلس الشورى الوطني
عهدئذ.
وفي عام 1350 توجه السيد شريف رئيس مكتبة المجلس إلى حسين آباد
وحمل أربع لوحات من اعمال كمال الملك إلى طهران وألحقها بلوحات المجلس
الأخرى وفي سنة 1352 وقع كمال الملك صريع مرض تضخم البروستات
فتوفي في مدينة نيشابور بمنزل حفيده محمد غفاري وشيعت جنازته إلى مقبرة
الشيخ العطار " عن مقال للإسكندري ".
محمد باقر الدهلوي
قتل سنة 1857 م.
من رجال العلم والفضل في الهند، وهو خطيب وصحافي وكاتب، ومن
مجاهدي الثورة الهندية على الإنكليز. وكان لمجلته (دهلي اردو اخبار) مقام
رفيع في تاريخ الصحافة. ومن مؤلفاته (هادي التواريخ) رتبت فيه الأحداث
بحساب الشهور والأيام.
السيد محمد صادق بحر العلوم ابن حسن
ولد في النجف الأشرف سنة 1315.
درس في النجف فكان من أساتذته السيد محسن القزويني وأبو الحسن
المشكيني والسيد أبو تراب الخوانساري والشيخ محمد حسين النائيني والسيد أبو
الحسن الأصفهاني. وواصل البحث والمطالعة في كتب الأنساب والتاريخ واللغة
والأدب، ثم انصرف إلى تحقيق بعض كتب التراث مثل (تاريخ اليعقوبي)
لابن واضح الأخباري و (تاريخ الكوفة) للبراقي و (فرق الشيعة) للنوبختي و
(النقود الاسلامية) للمقريزي و (عمدة الطالب) في انساب آل أبي طالب
لابن عنبة و (أسماء القبائل العراقية وغيرها) للسيد مهدي القزويني و
(الفهرست) للشيخ الطوسي و (الكواكب السماوية) للشيخ محمد السماوي.
وله حواش على (الرسائل) و (المكاسب) للشيخ مرتضى الأنصاري و
(كفاية الأصول) للشيخ كاظم الخراساني و (كشف الظنون) للشلبي. وله
(المجموع الرائق) على طريقة الكشكول و (السلاسل الذهبية) و (الدرر
البهية) في تراجم علماء الإمامية من القرن الحادي عشر إلى هذا القرن.
و (دليل القضاء الشرعي). وله ديوان شعر مخطوط.
عين قاضيا شرعيا في محاكم العراق.
الدكتور السيد محمد بهشتي
ولد في أصفهان سنة 1349 واغتيل في 25 شعبان 1401 مع اثنين وسبعين
مسؤولا من مسئولي حزب الجمهورية الاسلامية الحاكم في انفجار المكتب
المركزي للحزب في طهران.
هو من عائلة دينية وكان أبوه امام مسجد لومان. وجده لامه هو الحاج مير
محمد صادق مدرسي الخاتون آبادي من المراجع الدينية.
انهى الدراسة الابتدائية وقسما من الدراسة المتوسطة في أصفهان ثم انتقل

183
إلى الدراسة الدينية، فدرس قواعد اللغة العربية والمنطق وسطوح الفقه
والأصول في مدة أربع سنوات وفي سنة 1367 انتقل إلى مدينة قم فدرس على
الشيخ مرتضى الحائري والسيد البروجردي والسيد محمد تقي الخونساري
وغيرهم. وكان خلال ذلك يتولى التدريس في بعض المدارس المتوسطة
الحديثة، وكان قد اتقن اللغة الإنكليزية فنوى الالتحاق بإحدى الجامعات
البريطانية، ولكنه حضر مرة درس السيد محمد حسين الطباطبائي في الفلسفة
الاسلامية فاستهواه هذا الدرس وقرر متابعته ولما وقعت احداث 1962
و 1963 م كان له فيها دور بارز لا سيما في كتابة البيانات، لذلك اعتقل على اثر
الأحداث الدموية التي عرفت باحداث (15 خرداد). وتحدث عنه السيد علي
خامنئي رئيس الجمهورية الاسلامية الإيرانية الذي كان زميله في الدراسة في
قم، في تلك الفترة، تحدث عنه بمناسبة مرور ذكري اغتياله فقال من حديث
طويل: (وشهرته كانت تعود إلى اتجاهاته الفكرية الناصعة النيرة والتقدمية.
هذا فضلا عن نبله وخلقه الرفيع الذين اتسم بهما بين مدرسي الحوزة العلمية،
وتطورت العلاقات بيننا حينما قام بفتح صف دراسي ودعا جمعا من افراد الحوزة
للمشاركة فيه من أجل التعرف على العلوم والمعارف الحديثة وكنت أحد من
شاركوا في هذا الصف. وبالطبع فإن أصدقاءنا المشهورين اليوم أغلبهم من
مجموعة الثلاثين الذي جمع الصف المذكور شملهم). ثم يذكر السيد خامنئي
انتقال السيد بهشتي من قم إلى طهران، ثم انتقاله إلى ألمانيا - كما سيأتي - ثم
عوده منها إلى طهران وكان السيد خامنئي قد انتقل إلى (مشهد).
ثم يستأنف السيد خامنئي كلامه قائلا: (ربطتنا معا صلة تشاور مستمرة
حول الشؤون الخاصة بالقضايا الاسلامية وعرض المفاهيم والمعارف الاسلامية
على الجيل الحديث وتوثيق الأواصر معه، وكنت على اتصال دائم معه وكنت آتي
إلى طهران للقائه وكان هو يأتي إلى مشهد مرة واحدة في كل عام. وبعد مضي
سنوات بدأنا عملا مشتركا مع عدد آخر من الاخوة أدى إلى تشكيل الحزب في
آخر المطاف) انتهى.
وهكذا يتبين أن نواة حزب الجمهورية الاسلامية - الذي كان المترجم في
الواقع عميده - كان وجودها سابقا لانتصار الثورة، ولم يكن ينقص الحزب إلا
إعلان وجوده. لهذا لم يرتبك رجال الحزب عند مفاجأتهم بانتصار الثورة، بل
كانوا منسجمين كل الانسجام. وكان الحزب منظما ومعدا اعدادا حسنا لتولي
مسؤوليات الانتصار، لذلك نراه يستولي بسهولة على الحكم وينفرد به مطبقا
برنامجه الذي كان قد أعده للحكم الاسلامي.
وكان المترجم خلال دراسته في الحوزة العلمية في قم يتابع دراسة منهج
الشهادة الثانوية التي تؤهله لدخول الجامعة حتى نجح في نيلها فانتسب إلى كلية
الإلهيات فحصل منها على شهادة (الليسانس) ثم شهادة الدكتوراه. وكان
المرجع الأعلى في قم السيد البروجردي قد اهتم بانشاء مسجد جامع للجالية
الإيرانية الكثيرة العدد في مدينة (همبورغ) بألمانيا وان لا بد لتلك الجالية ممن
يقوم على شؤونها وشؤون المسجد العتيد، فانتدب لذلك السيد بهشتي فسافر إلى
همبورغ وأتم بناء المسجد ونظم له برامج اسلامية، وبعد أن كان اسم المسجد
(مسجد الإيرانيين) حول اسمه إلى (المركز الاسلامي في همبورغ) وأصبح
ملتقى للمسلمين جميعا وبعد إقامة حوالي خمس سنوات في ألمانيا عاد إلى إيران
فمنعته السلطات من الذهاب إلى قم، ولكنه ظل يواصل نشاطه مع إخوانه في
طهران حتى نجاح الثورة الإيرانية. ورحيل الشاه.
وحين قررت الحكومة الموقتة اجراء انتخابات (مجلس الخبراء) ليعد
الدستور الإيراني الاسلامي كان السيد بهشتي عضوا فيه عن طهران. ثم كان
رئيسا أعلى للقضاء.
وعن حادث انفجار المكتب المركزي للحزب واجتماع ذلك العدد الكبير
من المسؤولين فيه يتحدث السيد خامنئي قائلا:
لقد كان ذلك الاجتماع في الواقع اجتماعا أسبوعيا بل كان محورا
للسياسات الرئيسية لكافة أجهزة الحكومة، فقد كان اجتماعا حزبيا يحضره جمع
من أعضاء المجلس المركزي للحزب وعدد من الأعضاء العاملين وممثلي الحزب
في المؤسسات والوزارات ومجلس الشورى الاسلامي ولقد كنا جميعا في
الاجتماعات السابقة ولولا انني كنت في المستشفى أثر حادث محاولة الاغتيال
التي تعرضت لها لكنت من المشاركين في ذلك الاجتماع، وان أحد الألطاف
الإلهية هو عدم وجود الشيخ هاشمي رفسنجاني (رئيس مجلس الشورى)
والشيخ باهنر في ذلك الاجتماع وقد كان عدم وجودهما لأسباب خاصة.
محمد تقي بهار الملقب بملك الشعراء
ولد سنة 1304 في مدينة مشهد وتوفي سنة 1370 في طهران.
انتقل إليه لقب (ملك الشعراء) من أبيه محمد كاظم الذي لقب بملك
الشعراء للروضة الرضوية العلوية في مشهد الرضا عليه السلام وأصبح ملك
الشعراء في تلك البقعة البهية ولقد حافظ على هذا اللقب ابنه المترجم وزاد عليه
بما أوتى من كفاءة وعبقرية.
هو محمد تقي بهار الملقب بملك الشعراء ابن محمد كاظم صبوري ملك
الشعراء، درس الأوليات من العلوم العربية والفارسية في مسقط رأسه على أبيه
و على بعض أدباء خراسان المعاريف كما أخذ ينظم الشعر ولم يتجاوز الرابعة
عشرة من عمره وقد أصبح نظمه وهو في سن العشرين موضع إعجاب الأدباء
والنقاد من المتضلعين باللغة الفارسية وآدابها في عصره.
وعند ما بزغت شمس النهضة الدستورية التي عمت جميع أنحاء إيران منذ
العشرة الثانية من القرن الرابع عشر الهجري وأعلن الدستور الإيراني سنة
1324 كان المترجم على رأس من ولج ميدان الكفاح السياسي والنضال
الاجتماعي في محافظة خراسان، رافعا راية هذه النهضة مستعينا بشعره
الحماسي ونثره المنسجم، مناضلا عن الدستور ومشتركا في المنتديات
والمجتمعات السياسية والأدبية التي كانت تعقد في مدينة مشهد. وكانت الصفة
الغالبة على شعره ونثره الانتقاد اللاذع للأوضاع السائدة و الاستنهاض الملح
للطبقة المنورة وإثارة الرأي العام وتأييد الأحرار في نضالهم الحاد وكان عمره لما
يتجاوز العشرين سنة عندئذ، كما أنه أصدر في نفس هذا الوقت في مدينة مشهد
جريدة باسم (نوبهار) أي (الربيع الجديد) ثم جريدة (تازه بهار) أي
(الربيع الطازج) وقد أصبحتا مرآة تعكس آراءه ونظرياته، كما ثابر على
إصدارهما سنوات في هذه المدينة المقدسة.
ولم يكد يبلغ السن القانونية حتى انتخب نائبا عن محافظة خراسان فانتقل
بحكم الضرورة إلى العاصمة طهران ونقل جريدته نوبهار أيضا من
مشهد إلى العاصمة و استأنف إصدارها فيها فضلا عن أنه أصبح يحرر في
صحف أخرى كانت تصدر في طهران وصار من رجال السياسة المعروفين في

184
إيران، وهكذا تكرر انتخابه نائبا في المجلس النيابي في دوراته الثالثة والرابعة
والخامسة والسادسة والحادية عشرة وكان صوته يرن من على كرسي النيابة في أكثر
جلسات المجلس ممثلا للمعارضة ومتعاونا مع زعيمها السيد حسن المدرس، كما
اشترك في بعض الأحزاب سواء في مشهد أو طهران كعضو بارز فيها وشغل
منصب وزارة المعارف الإيرانية سنة 1365 في الوزارة التي ألفها صديقه القديم
السياسي العنيف أحمد قوام السلطنة أثناء الحرب العالمية الثانية واستقال قبل
سقوط الوزارة لمعارضته لحكومة بيشه ورى التي كانت قد تالفت في
آذربيجان خلافا للدستور ممتنعا عن توقيع أي اتفاق معها.
وعلى الرغم من قضاء معظم وقته في الكفاح السياسي فإنه لم يترك نزعته
الأدبية وما جبل عليه من النظم الحاد والنثر اللاهب، ونزولا عند هذه النزعة
أنشأ سنة 1336 جمعية أدبية باسم " انجمن أدبي دانشكده " وأصدر مجلة
" دانشكده " التي كانت لسان حال تلك الجمعية، تلك المجلة التي كان لها الأثر
البالغ في تجديد حياة النهضة الأدبية في إيران واتسام النظم والنثر الفارسي بسمة
حديثة مجلببة بروح عصرية وبأسلوب يختلف كثيرا عن أسلوب النظم والنثر
المحاط بإطار القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين.
هذا وقد لقي مترجمنا في نضاله السياسي المعارض عنتا قويا وكبتا عنيفا من
السلطات القائمة، فسجن من جراء ذلك في سنة 1348 للمرة الأولى وفي سنة
1353 للمرة الثانية (دفعتين) وبقي حتى أواسط عمره معتما بالعمة البيضاء
الصغيرة ومرتديا زي علماء الدين على غرار زملائه ومن على شاكلته من الفضلاء
والأدباء عصرئذ لكنه على أثر إصابة عضده بالكسر أثناء رحلته مع المهاجرين
إبان إعلان الدستور اضطر إلى استبدال زيه هذا (ببدلة السترة والبنطلون
والقلبق) لأنه كان قد تعذر عليه بعد إصابة عضده بالكسر أن يلف بسهولة
طيات عمته.
ولقد كان لتأسيس المترجم جميعة (انجمن أدبي دانشكده) وإصداره
مجلتها القيمة أثر كبير في حياته وسيرته السياسية التي لقي من ورائها العنت
والتعب والنصب، من سجن وتبعيد وكفاح برلماني ونضال صحفي، ونتيجة
لكل ذلك آثر ترك السياسة والتفرغ للأدب والشعر والتعليم في المدارس العالية
كدار المعلمين العليا وكلية الآداب وكذا التاليف والترجمة والإشراف على طبع
الكتب الأدبية والتاريخية القديمة والتعليق عليها وتصحيح متونها.
هذا وبالاستطاعة اعتبار ملك الشعراء بهار أمير الشعر في إيران خلال
القرن الرابع عشر الهجري والعشرين الميلادي وذلك لما وهبه الله تعالى من
عبقرية لامعة وقريحة وقادة وشعور مرهف وطبع سليم وشعر قوي وبيان محكم
خاصة وأن لأسلوب شعره ونثره مسحة من الأدب الخراساني المعروف، كما كان
المترجم زعيم المجددين في النثر والنظم الإيراني الحديث، كل ذلك مضافا إلى
ما كان يمتاز به من وطنية ملتهبة وغيرة إسلامية وحمية شرقية.
لقد أصيب في السنوات الأخيرة من عمره بمرض السل الذي أقعده عن أي
نشاط علمي أو سياسي أو أدبي عدا نظم الشعر الذي كان يستعين به على قضاء
وقته في انزوائه واعتزاله ورغم المحاولات الكثيرة سواء في إيران أو في رحلاته إلى
مصحات ومستشفيات أوروبا للعلاج فإن هذا المرض العضال قد تغلب عليه.
حيث توفاه الله عن عمر يناهز (66) سنة.
كان ملك الشعراء بهار ملما إلماما تاما باللغة العربية وآدابها وكان يستعين
كثيرا بالكلمات العربية الفصحى في نظمه ونثره. ولذلك كنا نرى مكتبته التي
حوت الآلاف من الكتب الخطية والمطبوعة غاصة بدواوين الشعراء العرب من
قبل الإسلام وبعده والمعاصرين وكذا بكتب اللغة العربية وقواميسها وآدابها
وموسوعاتها.
مؤلفاته وآثاره
لقد ترك المترجم آثار كثيرة من نتاج أفكاره كثير منها مطبوع وبعضها لا
زال مخطوطا، منها:
1 - كتاب (سبك شناسي يا تاريخ تطور نثر فارسي) باللغة الفارسية في
ثلاثة مجلدات مطبوعة.
2 - ديوان شعره بالفارسية في مجلدين كبيرين مطبوعين.
3 - مجموعة مؤلفة من عدة مجلدات تحتوي على المقالات السياسية والأدبية
وغيرها التي نشرها في صحفه أو الصحف والمجلات الأخرى طوال مدة حياته.
4 - تعليقاته وتصحيحاته لمتون كتابي (تاريخ سيستان) و (مجمل التواريخ
والقصص) اللذين طبعا على نفقة وزارة المعارف الإيرانية وأشرف المترجم على
الطبع والتصحيح والتنقيح ملخص من مقال للسيد صالح الشهرستاني ".
السيد محمد الحجة ابن علي
ولد في تبريز سنة 1310 وتوفي سنة 1372 في قم.
درس في تبريز ثم سافر إلى النجف الأشرف فكان من أساتذته فيها
الخراساني واليزدي وشيخ الشريعة وغيرهم وظل في النجف حتى سنة 1349
وفي هذه السنة انتقل إلى مدينة قم فكان من مدرسيها وبنى فيها المدرسة
الحجتية. ولما أدرك الهرم الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري مؤسس جامعة قم
وعميدها خشي أن ينفرط عقدها بعد وفاته فاستدعى السيد صدر الدين الصدر
من (مشهد) وجعل منه ومن المترجم معاونين له، ثم توفي الشيخ عبد الكريم
فانضم اليهما السيد محمد تقي الخوانساري فتألفت منهم قيادة ثلاثية لحوزة قم،
ثم انتقل إلى قم السيد البروجردي فأشرف بنفسه على شؤون الحوزة وتصريف
أمورها.
له: لوامع الأنوار، جامع الأحاديث، مستدرك البحار، رسائل في فروع
الدين.
السيد محمد جمال الهاشمي ابن السيد جمال الدين
ولد في النجف الأشرف سنة 1914 م.
أصل والده من قرية سعيد أباد عن قرى كلبايكان في إيران ثم انتقل إلى
النجف سنة 1319 فأقام فيها طالبا فعالما من مشاهير علمائها، ثم توفي فيها
وهناك ولد نجله المترجم فدرس على والده وعلى كبار العلماء وتقدم في الدرس،
حتى كان من المبرزين واشتغل في تفسير القرآن حتى كانت له حلقة يلقي فيها
دروس التفسير على الطلاب. وكان إلى ذلك شاعرا مجيدا. ولما قام حكم
الطغيان البعثي التكريتي في العراق، فسفك الدماء وارتكب المجازر الإنسانية
وشرد العلماء وقضى على الحريات، كان هو ممن لحقته آثام هذا الحكم فاضطهد
وطورد، ثم توفي فجأة في الستين من عمره.
طبع من مؤلفاته: الأدب الجديد، الزهراء، المرأة وحقوق الإنسان. وبقي
ديوانه مخطوطا، ويؤسفنا أن لم يصل إلينا إلا هذا النزر القليل من شعره الكثير
الجيد، والله أعلم بما انتهى إليه أمر ديوانه.

185
شعره:
من شعره قصيدة له في فلسطين نظمها سنة 1946 وألقاها في إحدى
الحفلات الكبرى في النجف:
ثبي ففي سيره التاريخ قد وثبا * واستسهلي في سبيل المجد ما صعبا
وخلفي أمس ظهريا فإن لنا * يوما طوى ذكره الأجيال والحقبا
قولي لحاميك: يكفي ما غصبت فقد * أمسيت لا سلة عندي ولا عنبا
تلك الحقيقة لا زور ولا كذب * فأين ما حدث الراوي وما كتبا
الحرب أرأف من سلم يضيع به * شعب، ويصبح قطر فيه منتهبا
والضغط أرحم من رفق يجف به * دم ويخمد عزم كان ملتهبا
إن كان ما كان عن عدل ومرحمة * يا رب سلط علينا الظلم والغضبا
طال احتجاجك والقاضي بمنصبه * يراوع الحق مكشوفا ومحتجبا
ما تثبت اليوم تنفيه غدا نظم * سلت لتشخب من ذي درة حلبا
دعي المواثيق عنا إنها صور * تمحي، وخلي الدم الموروث والحسبا
الحكم للقوة الخرساء فاستمعي * لما تقول، وخلي الصدق والكذبا
ماذا يفيدك إضراب يقوم به * شعب عليه نطاق الظلم قد ضربا
أخوك مثلك في الإرهاب فالتجئي * لثالث ما رأى ضغطا ولا رهبا
نيف وعشرون عاما هل جنيت بها * من التعلم إلا الويل والحربا
قامت لآلامك الدنيا وما قعدت * إلا لتبرير ما قامت له عتبا
ماذا اكتسبت من الحربين هل ذهبت * تلك الدماء على أرض الفداء هبا
يراوغونك بالآمال لا فزعا * حاشا، ولكنهم راموا بها إربا
ويخلقون حياة للكفاح فإن * فتشت عنها وجدت الموت والعطبا
تلك السياسة لا كانت، فقد حصدت
حقولنا، وخسرنا اليذر والتعبا
كانت دروسا وضاعت، فاذكري عبرا
مرت عليك بها، واستعرضي النوبا
إيه فلسطين والأيام دائرة * بلا نظام، ولم تعرف لها قطبا
لا يرجفنك صهيون وعصبته * فطالما نجم الشيطان ثم خبا
ثبي إلى العمل المجدي، فما ربحت * تلك التجارة لا مالا ولا نشبا
غزاك أفتك جيش دربته يد * شلت قديما، ونفس تنفث اللهبا
قد خرجته (أوروبا) من معاملها * مثقفا وزن الأيام مرتقبا
مجهزا باحتياجات الحياة فما * يخاف جهلا ولا فقرا ولا وصبا
فهيئي قوة تحكيه واكتسحي * جيوشه فسيغدو زحفها هربا
وله قصيدة نظمها في عام 1948 م بعنوان " فلسطين " يقول فيها:
يا فلسطين تحييك دموع ودماء
أنت لحن هام فيه الفن وافتن الغناء
يزدهي الفتح بدنياك ويختال الفداء
يا فلسطين... وهل يجدي مناديك النداء
قضي الأمر، وجار الحكم واشتط القضاء
أمناء الحق شاءوا أن تخون الأمناء
وضح المحجوب وانجاب عن النور الغشاء
وسرى (التقسيم) في العرب كما يسري الوباء
واستشاط الحقد مجنونا وثار الكبرياء
وأبي (الضاد) بأن ينسخه في النطق (زاء)
حطمي القيد فلا ينفع عهد ووفاء
واجهي الواقع بالواقع إن فاض الأناء
واحذري العدل فبالعدل تضام الضعفاء
يرجع الحر إلى السيف إذا خان الإخاء
تأتي له ترجمة مفصلة في مجلد قادم.
الشيخ محمد حرز الدين ابن علي
ولد سنة 1273 في النجف الأشرف وتوفي فيها سنة 1365.
ينتسب إلى قبيلة عربية عراقية تدعى (بنو سليم) وهو من بيت علمي أدبي
أخرج جماعة من الفضلاء.
توفي والده وعمره أربع سنين فكفله أخوه الشيخ عبد الحسين فلما توفي عني
به أخوه الآخر الشيخ حسن، وتابع دراسته في النجف فكان من أساتذته الشيخ
إبراهيم الغراوي والشيخ محمد الإيرواني والشيخ حبيب الله الجيلاني والسيد
محمد الشرموطي والشيخ عبد الله المامقاني والشيخ محمد طه نجف والميرزا
حسين الخليلي، وأكثر من ملازمة الشيخ محمد حسين الكاظمي، وجل دراسته
عليه. كما تخرج عليه عدد من الفضلاء.
له ما يزيد على الأربعين مؤلفا بقيت مخطوطة لم تطبع. وطبع من كتبه
(معارف الرجال) في التراجم.
الشيخ محمد الخليلي ابن الشيخ صادق
ولد في النجف الأشرف سنة 1900 م وتوفي ودفن فيها سنة 1968 م.
من أسرة علمية نبغ فيها مراجع دينيون، كما نبغ فيها أطباء يتعاطون الطبابة على
الطريقة القديمة، وكان هو نفسه طبيبا على هذه الطريقة، أديبا شاعرا مقلا.
له من المؤلفات المطبوعة: (معجم أدباء الأطباء) جزءان. (شرح توحيد
المفضل)، طب (الإمام الرضا)، (الطب في القرآن)، (المغريات العشر).
من شعره قوله متحدثا عن فلسطين سنة 1936:
بالسيف - إن كل عن نيل المنى القلم - * يرجى النجاح، ولم تنفعكم الكلم
خلوا اليراعة للآراء تحفظها * في الطرس، ولتحفظ بالسؤدد الخذم
سيل الكوارث عنا غير منقطع * إن لم يسل فوق هامات الكماة دم
ولا يعالج جرح دام في جسد * إلا بمشرط جراح ويلتئم
إن السياسة للتفريق قد وضعت * لكنها بوسام العدل تتسم
فالعدل ظلم، وبالتشتيت قد جمعت
أطماعها، وبكذب الوعد تحتكم
هذي (فلسطين) قد أمست وليس لها
- لتبلغ العدل ظلم الأبرياء - فم
لكنما المدفع الهدار أسمعنا * صوت السياسة فيها حين تنتقم
وذي ضحايا الأباة الصيد قد صرعت
ولن تراعى لها في دارها ذمم
كم حرة هتكت، كم طفلة قتلت،
وكم شباب صريع، جنبه الهرم

186
وارحمتاه، وهل تجدي استغاثتهم * بنا، وهم بحراب الجور قد عدموا
ضيموا بدارهم، فاستنهضوا شمما * والعرب يأبى لها أن تخضع الشمم
وحاولوا غصب ما قد أورثته لها * آباؤها، فاستشارت عزمها الهمم
وشاطرتهم " بنو صهيون " أرضهم * وكيف ترقى إلى أسيادها الخدم
يأبى الفتى العربي الحر منقصة * فكيف يرضى إذا ما حقه اهتضموا
وهل تنام إذا ريع الحمى أسد * وفي الصدور شواظ العزم تضطرم
لله كيف ترى أوطانها علنا * " مقسومة وبعين الله تقتسم "
ثقي فلسطين أن العرب أجمعهم * إن تهضمي هضموا أو تسلمي سلموا
فالجسم إن سقمت إحدى جوارحه * نال الجميع كما قد ناله الألم
السيد محمد حسن الحكيم المشتهر بالشهرستاني
قال السيد صالح الشهرستاني:
- أسرة الحكيم الحائرية:
أسرة علوية عريقة، ينتهي نسبها بالإمام الشهيد الحسين بن علي ابن أبي
طالب عليهما السلام، وقد استوطنت هذه الأسرة مدينة كربلاء منذ أواخر
القرن الثاني عشر الهجري وتصاهر أفرادها بمرور الأيام مع بعض الأسر الكبيرة
في مدينة الحسين عليه السلام كالأسرة الشهرستانية وغيرها.
وأسرة الحكيم الحائرية هذه لا تمت بصلة باسرة الحكيم الطباطبائية التي
تسكن النجف الأشرف وسائر أرجاء العراق إذ أن أسرة الحكيم الحائرية حسينية
النسب وأسرة الحكيم الطباطبائية حسنية النسب.
لقد اشتهر أفراد أسرة الحكيم الحائرية الحسينية منذ أواخر القرن الثالث
عشر الهجري بلقب الشهرستاني عن طريق الشقيقتين (حافظة) و (ليلوة)
ابنتي أحد كبار شيوخ القبائل المقيمة في ضواحي مدينة كربلاء، لأن الأولى
السيدة (حافظة) المتوفاة في 6 جمادى الثانية سنة 1298 ه‍ تزوجها كبير الأسرة
الشهرستانية السيد الميرزا صالح الموسوي الشهرستاني المتوفى سنة 1309 فولدت
له السيد الميرزا محمد مهدي الموسوي الشهرستاني الثاني المتوفى سنة 1333 ه‍
وأخوة وأخوات له. كما أن السيدة (ليلوة) تزوجها السيد خليل بن السيد
إبراهيم الحسيني الحائري الذي اشتهر بالحكيم (جد صاحب الترجمة)،
فولدت له السيد مهدي الحكيم (أبو المترجم) وبذلك أصبح السيد مهدي
الحكيم الحائري هذا ابن خالة السيد الميرزا محمد مهدي الموسوي الشهرستاني
الثاني. ومن هذه النسبة السببية وعلى أثر الاتصالات التي توثقت بين السيد
مهدي الحكيم وابن خالته السيد الميرزا محمد مهدي الشهرستاني الثاني
وللعلاقات المتينة التي وجدت بين العديليين السيد خليل الحكيم الحائري
والسيد الميرزا صالح الموسوي الشهرستاني غلبت شهرة الشهرستاني على أفراد
أسرة آل الحكيم، ثم حافظ الذرية من الأولاد و الأحفاد من أسرة الحكيم
الحائرية على هذه الشهرة التي زادت تأصلا فيهم من جراء مصاهرة كثير من
أفرادها ذكورا وإناثا بأفراد من الأسرة الشهرستانية والعكس بالعكس.
هذا ويستبان من وثيقة مؤرخة في 20 شوال سنة 1293 ه‍ وخاصة ببعض
أملاك الأسرة الشهرستانية في كربلاء جرت مصالحتها بين بعض الإخوة
والأخوات من ذرية السيد الميرزا كاظم الموسوي الشهرستاني أخي السيد الميرزا
صالح الموسوي الشهرستاني. يستبان من هذه الوثيقة (الموجودة في مكتبتي) أن
السيد خليل الحكيم عديل السيد الميرزا صالح كان حيا في ذلك التاريخ لأن
خطه وختمه مسجلان على تلك الوثيقة المدونة في كربلاء بذلك التاريخ على
النحو التالي: (الأمر كما سطر وأنا من الشاهدين الأقل خليل بن إبراهيم
الحسيني - رسم الختم خليل بن إبراهيم الحسيني) كما وأن ابنه السيد مهدي
وضع شهادته جنب شهادة أبيه على هذه الوثيقة على النحو الآتي: (نعم الأمر
كما سطر لدي وأنا الجاني مهدي بن خليل الحسيني - رسم الختم مهدي
الحسيني) فيستدل من هذين التوقيعين والختمين أن لقب الحكيم وشهرة
الشهرستاني غلبت على أفراد هذه الأسرة الكريمة بعد سنة 1292 ه‍).
أما المترجم - الطبيب السيد محمد حسن الحكيم المشتهر بالشهرستاني:
فهو حكيم بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي، طبيب نطاسي على أسلوب
الطب القديم، طريقة ابن سينا والرازي، علوي خلقا وخلقا، دقيق في
فحوصه وعلاجاته وصفاته الطبية.
وهو السيد محمد حسن الحكيم المشتهر بالشهرستاني ابن السيد مهدي
الحكيم الشهير بالشهرستاني ابن السيد خليل بن السيد إبراهيم بن محمود ابن
عبد العزيز بن عمران... إلى أن ينتهي النسب الشريف بالإمام الحسين
الشهيد عليه السلام.
ولد صاحب الترجمة في مدينة كربلاء في ليلة الجمعة الثاني من شهر صفر
سنة 1294 ودرس على أبيه الطبيب النطاسى المعروف المقدمات في علوم العربية
وأصول الدين وقواعد الطب القديم وفقا لعرف زمانه. كما أخذ يتدرب على
يده أساليب العلاجات بالعقاقير الطبية والحشائش العلاجية، بالإضافة إلى
إكبابه على المطالعة فيما حوته مكتبة والده من كتب طبية خطية قديمة مستعينا بها
على دراساته الطبية وواضعا إياها نصب عينيه في علاجاته.
تلك الكتب القيمة التي انتقلت إليه بعد وفاة شقيقه الأكبر السيد أحمد
الحكيم الذي اعتنى بصاحب الترجمة بعد وفاة أبيهما سنة 1318 ه‍ وتدريبه
على استخلافه في مهنة الطب التي تلقاها هو أيضا من والده السيد مهدي
وخلف والده في وسادته الطبية وكان من أشهر أطباء كربلاء. ولم يكد يتوفى
شقيق المترجم إلا وجلس السيد محمد حسن الحكيم على وسادة الطب بعد أبيه
وشقيقه و أصبح من الأطباء المشار إليهم بالبنان في مدينة كربلاء وما جاورها من
القرى و الضياع.
وكان الإقبال عليه كبيرا خاصة من الأسر العريقة المعروفة، لا سيما و قد
اشتهر عنه سرعة تشخيص المرض وإتقان العلاج.
وفاته
لقد وافت المنية مترجمنا في 24 ذي الحجة سنة 1361 ه‍ في مسقط رأسه
(كربلاء) ودفن في مقبرة أسرة الحكيم الحائرية الواقعة في الجهة الشمالية من
الصحن الحسيني وقد ترك مجموعة خطية نفيسة ضخمة باللغتين العربية
والفارسية على شكل مذكرات أو كشكول ضمت بين دفتيها كل شاردة، وواردة
من المسائل العلمية والنبذ الأدبية والمقطوعات الشعرية والنكت المفيدة والقواعد
الطبية والتجاريب العلاجية والوصفات الصحية والحوادث التاريخية.
والده السيد مهدي الحكيم الشهير بالشهرستاني:
كان أستاذا لكثير من الأطباء الذين زاولوا مهنة الطب بعده في مدينتي

187
كربلاء والنجف وما جاورهما، ذلك الطبيب الحاذق والعالم المحقق والفقيه
المدقق الذي خلف كثيرا من المؤلفات والرسائل ذات الفوائد العميمة. فهو
السيد مهدي الحكيم بن السيد خليل إلى آخر نسبه الطاهر. وقد ولد في كربلاء
وتوفي فيها سنة 1318 ه‍ ودفن في مقبرة أسرة الحكيم المار ذكرها.
وقد أرخ بعض معاصريه الأفاضل وفاته بجملة (قد قضى المهدي من آل
النبي).
ومن مؤلفاته التي انتقلت يدا بعد يد وخلفا عن سلف إلى حفيده السيد
محمد صدر الدين:
1 - كتاب (هياكل الحكمة وصور النعمة) في الطب اليوناني في مجلد
ضخم يربو على (600) صفحة - مخطوط.
2 - كتاب (تحف السلف ومعارج الشرف) على نمط الكشكول،
مخطوط. وقد جاء في مقدمته أما بعد فيقول الأقل الأذل المفتقر إلى الأعز
الأجل مهدي المشتهر بالطبيب بن الخليل الحسيني الحائري حرسه القريب
(المجيب... الخ).
3 - كتاب (فقه الأطباء): مخطوط وللسيد الميرزا محمد علي المرعشي
الشهرستاني الحسيني المتوفى سنة 1344 ه‍ تعليقات مفيدة عليه.
4 - الرسالة الوبائية: مخطوط.
5 - مجموعة ديوان شعره. باللغتين العربية والفارسية. مخطوط.
6 - مسودات في اختباراته الطبية: مخطوط.
وقد خلف السيد مهدي أربعة أولاد أكبرهم السيد أحمد وثانيهم السيد
محمد حسن (صاحب الترجمة) وثالثهم السيد محمد حسين ورابعهم السيد
محمد علي.
كما ترك مكتبة غنية بأثمن الكتب الخطية وكان يضرب بها المثل لما احتوته
من النسخ الخطية النفيسة ولا سيما الطبية منها، كقانون ابن سينا وكتاب تشريح
المسبحى المكتوب سنة 717 ه‍ والأوقيانوس في الهندسة وكتاب الاقليدس
وتاريخ خطه سنة 753 ه‍ وقد اطلعت على بعضها لدى ابنه السيد محمد حسن قبل أكثر من 35 سنة وخاصة نسخة كتاب قانون ابن سينا التي أتذكر أن تاريخها
يرتقى إلى القرن السابع الهجري.
شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي محمد بن الحسن
مرت ترجمته في الصفحة 159 من المجلد التاسع، ونزيد عليها هنا ما كتبه
السيد علي خامنه إي رئيس الجمهورية الاسلامية الإيرانية عن كتاب (اختيار
الرجال) وكتاب (الفهرست) مقدما لذلك بمقدمة عن
علم الرجال:
علم الرجال:
موضوعه وأنواع كتبه حتى أيام الشيخ والنجاشي بإجمال.
لعله من المفيد قبل ورودنا موضوع البحث، يعنى " التعريف بالكتب
الأربعة الأصلية في علم الرجال وتقييمها " (1) أن نلقي نظرة إجمالية حول
الموضوع، فنقدم نبذة تاريخية عن علم الرجال وفائدته.
تعريف بعلم الرجال:
يجدر بنا أولا، أن نذكر بان " فن الرجال " في هذا البحث، هو علم
الرجال بمعناه العام، الذي يمكن تعريفه بأنه: " علم معرفة قبيل من الناس
يشتركون في جهة خاصة، والاطلاع على أحوالهم أو أنسابهم أو تأليفاتهم أو
بعض خصوصياتهم الأخرى " وعليه، فإن علم الرجال بمعناه الخاص، من
فهرست وتراجم وأنساب ومشيخة جميعا مندرج تحت ذلك التعريف.
هذا، لأن علم الرجال في اصطلاحه الخاص، علم يبحث في معرفة رواة
الحديث من حيث الاسم أو الأوصاف التي لها دخل في قبول أقوالهم ورواياتهم
وردها. " فالفهرست " مجموعة تنتظم أسماء المؤلفين والمصنفين. " والمشيخة "
عليها بيان أسانيد الحديث. و " التراجم " بصورة عامة هي شرح حال العلماء
أو الرواة بدون الإشارة إلى ما يؤثر في الرواية من حيث القبول والرد من
الجهات.
وعلم الرجال باصطلاحه الخاص، يقسم حسب الدواعي المختلفة إلى
أقسام ومواضيع أكثر تحديدا، كما تختلف الكتب الخاصة بهذه الأقسام في
شكلها. فبعضها كتب عامة شاملة لأسماء الرواة، لا تتعرض لتوفر الثقة فيهم
أو عدمها، مثل، " طبقات الرجال " المحتمل تاليفه لأحمد بن أبي عبد الله
البرقي (المتوفى سنة 374 أو 380)، وبعضها خاص بالممدوحين والمذمومين،
مثل، كتاب ابن داود القمي (المتوفى سنة 368). والكتاب الأكثر تفصيلا منه
أيضا لأستاذه أحمد بن محمد بن عمار الكوفي (المتوفى سنة 346). وبعضها
يقتصر على أصحاب امام واحد، مثل، كتاب ابن عقدة (المتوفي سنة 332 أو
333) الذي ألف خاصة لأصحاب الإمام الصادق عليه السلام واشتمل على أسماء
أربعة آلاف راو. كما أن بعضها نظر إلى جهات أخرى خاصة، ككتاب عبد
العزيز بن يحيى الجلودي (المتوفى سنة 332) المشتمل على أسماء العدة من
صحابة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذين رووا عن علي عليه السلام أو كتاب ابن
زيدويه (2) في شرح حال " من روى من نساء آل أبي طالب ". وكتب أخرى
نأتي إلى ذكر أسماء بعضها.
نبذة تاريخية عن هذا العلم وتطوره بالاجمال حتى زمان الشيخ النجاشي:
كان هذا العلم منذ القرون الأولى لظهور الإسلام محل عناية المسلمين، ثم
اتسع مجاله بالتدريج حسب تزايد الاحساس بالحاجة إليه.
فلو أننا عرفنا علم الرجال بتلك العمومية التي سبق بيانها، بمعنى، اننا
وسعنا اختصاصه إلى كتابة شرح الحال، فان سابقة هذا العلم تعود إلى النصف
الأول من القرن الاسلامي الأول. ففي حدود سنة 40 الهجرية (3). جمع
عبيد الله بن أبي رافع كاتب أمير المؤمنين علي عليه السلام أسماء العدة من أصحاب
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذين ساهموا مع علي في حروبه وحاربوا في صفه.
والظاهر أنه هو أول من كتب كتابا في الرجال. والشيخ الطوسي ذكر هذا
الكتاب في الفهرست باسم " تسمية من شهد مع أمير المؤمنين علي عليه السلام



(1) يقال أن المنظور من " تاريخ الرجال " المذكور في بعض الكتب في عداد فروع علم الرجال، واختصت به بعض مصنفات القدماء ككتاب العقيقي (الأب)، هو هذه التراجم.
(2) هذه الكنية في بعض المصادر (ابن ريدويه) بالراء المهملة. وضبطت في البعض الآخر (ابن
رويدة)، والكنية الواردة في المتن نقلت عن الفهرست للشيخ الطوسي. وعلى كل حال فالمقصود هو
علي بن محمد بن جعفر بن عنبسة الجداد العسكري.
(3) تم تحديد هذا التاريخ اعتمادا على قول الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة (ج 1 / / 84 (الا أنه
بالتوجه إلى أن عبيد الله كان حتى أواخر القرن الأول الهجري على قيد الحياة (الفهرست طبع النجف
حاشية الصفحة 133 نقلا عن " التقريب " لابن حجر) يصبح ذلك القول بلا دليل، اللهم الا أن
يكون تأليفه في سنوات في حدود الأربعين.
188
الجمل وصفين والنهروان من الصحابة - رضي الله عنهم " كما ذكر سنده أيضا.
وفي القرن الثالث الهجري ازدهر فن الرجال على أثر شيوع كتب الحديث
ورواج أصول هذا العلم ومصنفاته، فألفت ودونت في هذا الفن كتب كثيرة
نسبيا، لا يزال بعضها موجودا للآن، وتعتبر من نفائس آثار الشيعة في هذا
العلم. من جملتها: كتاب " طبقات الرجال " تأليف أحمد بن أبي عبد الله
البرقي (1) الذي لا تزال نسخة ناقصة منه موجودة اليوم. وكتاب محمد بن أبي
عبد الله بن جبلة بن حيان بن أبجر الكناني (المتوفى سنة 219) (2) الذي عده
الشيخ الطوسي في كتاب الرجال من أصحاب الإمام الكاظم. ونسب النجاشي
إليه كتبا كثيرة منها كتاب في الرجال.
ومجموعة أخرى من الكتب الرجالية في القرن الثالث عبارة عن: رجال،
حسن بن علي بن فضالة (المتوفى سنة 224) ويقال أنه كان معروفا في زمن
النجاشي وربما كان تابعا له (3) وكتاب رجال حسن ابن محبوب (المتوفى سنة
224) باسم " معرفة رواة الأخبار " (4) وهو غير كتابه الآخر في " المشيخة "
الذي رتبه أبو جعفر الأودي فصولا حسب ترتيب أسماء الرجال. وهناك أيضا
كتاب رجال إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي (5) (المتوفى سنة 283) وكتاب
رجال حافظ أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف بن خراش المروزي البغدادي (6)
(المتوفى سنة 283).
وهكذا يتبين مما قلنا أن قول " السيوطي " في كتاب " الأوائل " من أن:
أول مؤلف في علم الرجال، شعبة بن الحجاج - من أئمة أهل السنة وتوفي سنة
160 - (7)، مجاف للحقيقة عار عن التحقيق. إذ أن فن الرجال كما شاهدنا،
بدأ في القرن الأول، وقد وضع كتاب في هذا الفن بمعرفة عبيد الله بن أبي رافع
قبل شعبة بأكثر من قرن.
ونظير هذا الخطا ان لم يكن أسوأ أن الأستاذ الفاضل الشيخ محمد أبو زهرة
المصري المعاصر في كتابه " الإمام الصادق " يزعم بغفلة ناجمة عن عدم التتبع
الكافي في مصادر الشيعة ومآخذهم، لا عن الانتماء الفرقي والعصبية، أن
فهرست الشيخ الطوسي أول كتاب رجالي عند الشيعة فأثنى على الشيخ الثناء
الوافد ومجده أكبر التمجيد (8) باعتباره فاتحا لطريق جديد إلى أفق الثقافة
الشيعية بوسيلة هذا المعبر. ان هذا الحكم دليل على عدم تدقيقه في كتاب
الفهرست بالذات، إذ أن الشيخ نفسه أشار في مقدمة الكتاب إلى كتب أخرى
في نفس المجال ألفت بمعرفة العلماء السابقين.
وكائنا ما كان، فإن تاليف وتدوين كتب الرجال الذي اكتسب حالة نسبية
من الذيوع والانتشار في القرن الثالث الهجري، قد صار في القرن الرابع
وبنفس النسبة أكثر شيوعا وتنوعا وجامعية.
والظاهرة التي يمكن استخلاصها من دراسة الكثير من كتب الرجال في هذا
القرن هي أن هذه الكتب ألفت في موضوعات أكثر محدودية وانحصارا، وكأنما
راجت سنة التخصص في هذا القرن وأصبحت الفروع التخصصية
والموضوعات المتنوعة مورد نظر الخبراء وعلماء الفن بصورة مستقلة. مما يعتبر في
حد ذاته دليلا على اتساع دائرة هذا العلم في القرن المذكور.
فمثلا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن عقدة (المتوفى سنة
332 أو 332) (9) كما ذكرنا، جمع كتابا اشتمل على رجال الإمام الصادق
عليه السلام وذكر فيه أسماء أربعة آلاف شخص تشرفوا بصحبته عليه السلام والرواية
عنه. وأبو الحسين أحمد بن الحسين بن عبد الله الغضائري كتب كتابين عن
مؤلفي الشيعة (يعني ما نطلق عليه اصطلاحا " فهرست ") وكتابا آخر اشتمل
على أسماء الرواة الضعفاء وغير الموثقين باسم " الضعفاء " (10). والقاضي أبو
بكر بن عمر الجعابي البغدادي (المتوفى سنة 355) من كان قمة زمانه في
الحديث والرجال (11) ألف كتابا كبيرا باسم " الشيعة من أصحاب الحديث
وطبقاتهم " في طبقات رواة الشيعة، سمعه الشيخ النجاشي، وكتابا آخر في
" شرح طبقات أصحاب الحديث في بغداد " (12) ووضع عدة كتب أخرى في
موضوعات محدودة ترتبط برواة الحديث. (13)
ومجموعة أخرى من الكتب الرجالية المعروفة في القرن الرابع كالآتي.
رجال ابن داود القمي (المتوفى سنة 368) في باب الممدوحين
والمذمومين.
رجال محمد بن علي بن بابويه المعروف بالصدوق (المتوفى سنة 381).
فهرست حسن بن محمد بن الوليد القمي، أستاذ الصدوق وقميين
آخرين.
كتاب الطبقات لابن دول (المتوفى سنة 350).
كتاب رجال الكليني، محمد بن يعقوب مؤلف
كتاب الكافي المعروف
(المتوفى سنة 328 أو 329)



(1) الذريعة (ج 10 / 99) والإسناد المصفى / 79. ان ما قيل عن مؤلف هذا الكتاب هو نظر العلامة
الطهراني في كتابه القيم " الذريعة " وفي رسالته " المشيخة " أيضا المعروفة " بالاسناد المصفى " وهو
في هذا الكتاب إلى أبيه أبي عبد الله محمد بن خالد البرقي. ولكن المحقق الرجالي المعاصر محمد تقي
الشوشتري صاحب كتاب " قاموس الرجال " يرد هذين القولين، ويعتبر أن مؤلف " طبقات
الرجال " بقرينة طبقة الرواية هو عبد الله بن أحمد البرقي - من مشايخ رواية الكليني - أو أحمد بن
عبد الله البرقي من مشايخ الصدوق الثاني. وهناك أيضا بين هذين الاثنين احتمال كون الثاني أقرب
إلى الصواب. لمزيد من التفصيل ارجع إلى قاموس الرجال ج 1 / 31 - 32.
(2) فهرست النجاشي، طبع الحروف طهران / 160 وضبط هذا التاريخ في قاموس الرجال نقلا عن
فهرست النجاشي 229. وبالرجوع إلى نسختي النجاشي المطبوعتين والى بعض الكتب الأخرى التي
نقلت عن النجاشي مثل الذريعة وتأسيس الشيعة حصل الاطمئنان إلى وقوع صاحب القاموس أو
المامقاني صاحب الرجال في خطأ (لأن القاموس يكاد يكون حاشية عليه).
(3) الذريعة: ج 1 / 89.
(4) معالم العلماء: تأليف محمد بن علي بن شهرآشوب (المتوفى سنة 588) طبع عباس اقبال / 28 أما في
فهرست الشيخ الطوسي فلم يذكر الا المشيخة فقط دون هذا الكتاب.
(5) الذريعة: ج 10 / رقم 147.
(6) الذريعة: ج 10 / رقم 154.
(7) تأسيس الشيعة لفنون الاسلام - تأليف السيد حسن الصدر (المتوفى سنة 1354) / 233. وقدسها
قلم العلامة المذكور فأثبت وفاة شعبة سنة 260 وظنه متأخرا عن ابن جبلة، واعتبر عبد الله بن جبلة
أول مؤلف في علم الرجال.
(8) الإمام الصادق: طبع مصر / 458.
(9) أثبت الشيخ وفاته في الفهرست سنة 333 وذكر في كتاب الرجال انها سنة 332. والمحقق
الشوشتري في قاموس الرجال استصوب القول الأول. القاموس، ج 1 / 397.
(10) اكتشف هذا الكتاب لأول مرة جمال الدين أبو الفضائل أحمد بن طاووس الحلي (المتوفى سنة 673)
وأدرجه في كتابه " حل الإشكال " وهو مجموعة شاملة لهذا الكتاب والأصول الأربعة لعلم الرجال.
ثم استخرجه المولى عبد الله التستري بعد ذلك من حل الأشكال ودونه على حدة. لمزيد
من الاطلاع ارجع إلى الذريعة ج 10.
(11) قاموس الرجال، ج 8 / 323 نقلا عن انساب السمعاني.
(12) الذريعة، ج 1 / 323.
(13) الفهرست، طبع النجف / 178 والقاموس، ج 8 / 322.
189
رسالة معروف إلى غالب الزراري إلى حفيده في تراجم آل أعين و...
" التي حررت سنة 356 مرة وبعد 11 سنة يعني 367 حررت مرة أخرى.
والأشهر منها جميعا كتاب " معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين
عليهم السلام " (1) تأليف الشيخ أبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز
الكشي (المتوفي في حدود منتصف القرن الرابع) (2) وتوجد منه في الحال
الحاضر خلاصة منتخبة باسم " اختيار الرجال " والنسخة المطبوعة معروفة وفي
متناول الأيدي.
وفي حدود النصف الأول من القرن الخامس الهجري يعني بعد مرور ثلاث
قرون على تأليف أول كتاب رجالي، وضعت الأصول الأربعة الرجالية، أي
الكتب الأربعة المشهورة مورد استناد هذا العلم، التي تشكلت من تركيب
المصنفات السابقة وتصحيحها واندماجها، فبدأ فصل جديد في تاريخ هذا
العلم. ولحسن الحظ بقيت هذه الكتب الأربعة مصونة طول الزمان من تطاول
يد الحدثان، وظل أصلها باقيا حتى يوم الناس هذا، وقد تكرر طبع بعضها.
وهي عبارة عن:
اختيار الرجال
الفهرست
الرجال وثلاثتها تاليف الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
(المتوفى 460).
وكتاب الفهرست المعروف " برجال النجاشي " تأليف أحمد بن علي
النجاشي (المتوفى سنة 450). (3)
هذه الكتب الأربعة ظلت دائما مدى القرون العديدة التالية لتأليفها محل
العناية والاستفادة والمراجعة بالنسبة لخبراء الفن. وكما سنرى بالتفصيل ان
اعمالا من قبيل الترتيب والتبويب والجمع والتفصيل قد أجريت على أساسها.
ومن ثم استوجب تأليف هذه الكتب الأربعة اعتبار هذا القرن قمة القرون
السابقة ونقطة أوج فعاليتها الرجالية حتى ذلك الوقت.
بداية تدوين اقسام علم الرجال كل على حدة والدافع لكل:
ان علم الرجال بمعناه العام كما سبق ان قيل يتضمن عدة أقسام، من
جملتها: الرجال بالاصطلاح الخاص (= معرفة أسماء الرواة أو الأوصاف التي
تؤثر في رد اخبارهم وقبولها)، الفهرست (= معرفة أسماء المؤلفين
والمصنفين)، التراجم أو تاريخ الرجال (= معرفة تاريخ وشرح حال العلماء أو
الرواة لا من حيث التدخل في رد الخبر وقبوله)، والمشيخة (= معرفة سلسلة
الأسانيد الروائية).
فلو شئنا تعيين تاريخ دقيق لبداية كل من هذه الأقسام، لأعوزنا الاطلاع
الكافي الا ان جمع أسماء عدة من الناس تشترك في جهة واحدة كما سبق ان
وضحنا قد حدث لأول مرة في القرن الاسلامي الأول بمعرفة أحد الشيعة باسم
عبيد الله بن أبي رافع.
أما تدوين الكتب الرجالية بالمعنى المصطلح (يعني ما هو مرتبط بذكر
أحوال رواة الحديث من حيث الصفات التي يمكن أن تؤثر في رد اخبارهم
وقبولها) فإن الظن الغالب أنه بدأ في النصف الأول من القرن الثاني، يعني منذ
فترة رواج الحديث. وربما أمكن القول بصفة قاطعة أن الدافع الأصلي لظهور
هذا الفن وتدوين المصنفات الخاصة به، كان الاهتمام والمراقبة البالغين من
الشدة حد الوسواس، الذين كان المحدثون وجامعوا الحديث يراعونهما أثناء
قيامهم بمهمة تدوين الروايات.
لقد تعددت عوامل جعل الحديث في ذلك الوقت فمنها: أولا، ان مقام
المحدثين وحملة الحديث ووزنهم الاجتماعي أغرى بعض السطحيين طلاب
الشهرة بالاندساس في كوكبة المحدثين. ثانيا، كانت الأغراض السياسية
والفرقية هي الأخرى عاملا مهما قائما بذاته في تلك الحالة، مما أدى إلى نسبة
أحاديث كثيرة نبتت على السن منابع الحديث إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم - أو
في حوزة التشيع إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام. هذا الأمر الذي ينعكس
في كثير من بيانات الأئمة عليهم السلام أو الرواة، استوجب أن يأخذ خبراء
الفن في تشخيص الحديث صحيحه من سقيمه بذكر أسماء الرواة، وتمييز
الممدوح من المذموم. وهكذا ألفت الكتب في هذا الصدد.
وكذلك الحال، فان أيدينا خالية من الاطلاع الدقيق بالنسبة لبداية تدوين
الكتب الخاصة بقسم الفهرست. إلا أنه من المسلم أن الفهرسة كانت رسما
متداولا منذ سنوات قبل الشيخ الطوسي والشيخ النجاشي، شأنها شان كتب
الرجال، هذا ما يستفاد من قول الشيخ الطوسي في مقدمة كتابه الفهرست، إذ
يقول بالنص: " فإني لما رأيت جماعة من شيوخ طائفتنا من أصحاب الحديث
عملوا فهرست كتب أصحابنا وما صنفوه من التصانيف ورووه من
الأصول... " كما أن كلام المحقق الشوشتري في مقدمات الكتاب النفيس
" قاموس الرجال " يثبت أن أكثر القدماء كانت لهم فهارس (4) وإن كان محتوى
هذه الفهارس قد خضع لأسلوب الاختصار، ومؤلفوها لم ينصوا على الكتب
التي رووا عنها أو التي كانت في مكتباتهم (5). ولقد ذكر الشيخ الطوسي في
كتاب الفهرست بعضا من هذه الفهارس، من جملتها فهرست ابن عبدون
(المتوفى سنة 423) الذي ذكره ضمن ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد بن
هلال. (6)



(1) تكلمنا عن اسم هذا الكتاب بالتفصيل في القسم الخاص ب‍ " اختيار الرجال ".
(2) بناء على قول السيد محمد صادق بحر العلوم في مقدمة رجال الشيخ طبع النجف / 61.
(3) هذا القول بخصوص وفاة الشيخ النجاشي معروف وقد ذكره المؤلفون المتأخرون أيضا كالعلامة
المامقاني والعلامة الطهراني وغيرهما. كما وضح جماعة آخرون هذا التاريخ ذاته بعبارة عشر سنوات
قبل الشيخ " ولم يخطئ هذا القول الا المحقق الشوشتري صاحب القاموس، مستدلا بأن
النجاشي في كتابه أشار إلى محمد بن الحسن بن حمزة بن أبي يعلى وقال أنه توفي بعد ذلك (القاموس،
وجب أن يكون النجاشي على قيد الحياة في هذا التاريخ وأنه توفي بعد ذلك (القاموس،
ج 1 / 347). ولكن السيد موسى الشبيري الزنجاني (ساكن قم) له في هذا الصدد رأي يستند إلى
استدلال متين. وقد رد كلام مؤلف القاموس. والرأي المعزي إليه هكذا بالنص:
نظرا لأن النجاشي لم يثبت وفاة الشيخ الطوسي المتوفى سنة 460 في كتابه ولم يذكر كتب الشيخ المعروفة
كالمبسوط والتبيان، يمكننا أن نطمئن إلى أن التاريخ المذكور يعني تاريخ وفاة محمد بن الحسن بن حمزة
الثابت في كتاب النجاشي أما ان يكون خطأ وصحته 436، وأما أن يكون من الخطوط الملحقة
التي يحدث نظيرها في كثير من الكتب على اثر اختلاط الحاشية بالملحق، ومن ذلك القبيل تاريخ وفاة
عبد الكريم القشيري المتوفى سنة 465 الذي ضبط في بعض نسخ تاريخ بغداد تأليف الخطيب المتوفى
سنة 463، والخطوط الملحقة في فهرست بن النديم المتوفى 380 أو 385 زائدة جدا. والظن الغالب
سنة 463، والخطوط الملحقة في فهرست بن النديم المتوفى 380 أو 385 زائدة جدا. والظن الغالب
صحة الاحتمال الثاني. وذلك يعلم بالرجوع إلى " فرحة الغري " تأليف عبد الكريم بن طاووس.
(4) القاموس، ج 1 / 34.
(5) فهرست الشيخ، طبع النجف (سنة 1380) / ص 24.
(6) الفهرست / 28.
190
وأول من وضع كتابا مفصلا في مجال الفهرست أبو الحسين أحمد بن
حسين بن عبيد الله الغضائري المعروف بابن الغضائري معاصر الشيخ الطوسي
والشيخ النجاشي وكان يتقدم الاثنين في المرتبة. وهو كما ذكر الطوسي في مقدمة
الفهرست (3) قد ألف كتابين كبيرين كاملين في هذا القسم، أحدهما يقتصر على
" الأصول " والآخر يختص " بالمصنفات " (1) الا أن الذي حدث بعد موته
الفجائي أن أحد أعقابه أتلف نسختي هذين الكتابين العزيزين القيمين لا غير.
فلم يصل هذا الأثر العظيم إلى الأجيال التالية ولو بقي لكان بلا شك ثروة
رجالية شيعية. (2)
أما معرفة الدافع إلى تدوين الفهرست فيمكننا معرفته مما ذكره الشيخ
النجاشي في مقدمة فهرسته المعتبر المبسوط المشهور برجال النجاشي حيث قال:
" فإني وقفت على ما ذكره السيد الشريف أطال الله بقاءه وادام توفيقه - من
تعيير قوم من مخالفينا، أنه لا سلف لكم ولا مصنف. وهذا قول من لا علم له
بالناس ولا وقف على أخبارهم ولا عرف منازلهم وتاريخ أخبار أهل العلم ولا
لقي أحدا فيعرف منه... ".
ويكاد الظن أن يكون يقينا بأن نصف دوافع مؤلفي كتب الفهرست
الآخرين أو قسم عظيم منها على الأقل هو نفس هذا الدافع الذي تشير إليه
العبارة المذكورة، يعني التعريف بسلف الشيعة، وتجديد المعرفة بآثارهم القيمة
في العلوم والفنون المختلفة، والرد على مغامز عدة من المخالفين وانتقاداتهم ممن
يجهلون هذه الآثار ويقدحون في الشيعة بافتقارهم للسابقة العلمية.
وفي أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، يطالعنا اسم " مشيخة ابن
محبوب " (المتوفى سنة 224) وهو من الكتب الرجالية المعروفة، وقد رتبه أبو
جعفر الأودي (4) فصولا حسب أسماء الرجال. وعليه، تصل سابقة
" المشيخة " احدى اقسام علم الرجال بالمعنى العام إلى سنوات ما قبل 224.
وفي قسم تاريخ الرجال أيضا، وضعت في القرنين الثالث والرابع كتب،
مثل " تاريخ الرجال " تاليف أحمد بن علي العقيقي (الأب) وغيره، وقد ثبتت
أسماؤها في كتب الفهرست. (5)
وبناء عليه، يمكن القول إن جميع الأقسام المختلفة لعلم الرجال (بالمعنى
العام) قد ظهرت في القرون الأولى على فترات لا تكاد تطول، ثم أخذت
تتوسع بالتدريج. وألفت الكتب في كل قسم من الأقسام وصنفت استجابة
لمقتضيات الحاجة الماسة.
شخصية الشيخ الطوسي الرجالية:
يمكننا على ضوء ما تقدم (من نبذة تاريخية وجيزة وبيان للتطور التاريخي
لعلم الرجال على مدى القرون الثلاثة الأولى) أن نقدر المكانة العظيمة والمقام
الرفيع الذي بلغه في هذا العلم شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (385 -
460) الفقيه المحدث الكبير. أنه هو ذلك العالم الذي استطاع بتأليف كتبه
القيمة في هذا المجال، أن يسجل غاية خالدة في تاريخ هذا العلم. وكما أنه في
علم الحديث قد حاز قصب السبق بين مؤلفي " الكتب الأربعة " الآخرين،
فقد انفرد في الفقه بكتاب لم يسبق إلى أسلوبه المبتكر. لقد كان له في هذا
القسم أيضا دور فائق مشخص، فهو جامع ثلاثة من الكتب الأربعة المعروفة
عمدة اعتماد هذا الفن. وكانت كتبه من الجامعية ولياقة التنسيق ورشاقة
الأسلوب وحسن السليقة والنبوع العلمي بحيث بزت كتب السابقين وأخلفتها
متروكة مهجورة.
وما زالت هذه الكتب الثلاثة التي يختص كل منها بقسم من اقسام علم
الرجال المختلفة منذ زمان المؤلف حتى يوم الناس هذا. - وهي فاصلة تربو على 9
قرون - وهي مدار بحث الخبراء وتحقيقهم وتأليفهم، وكما سوف نبين فإن
الشروح والتذييلات والترتيبات قد دارت في مدار هذه الكتب.
اختيار الرجال
الفهرست
ولنتناول الآن التعريف بالكتاب الأول والثاني.
- 1 -
اختيار الرجال أو تلخيص رجال الكشي
يعود أصل هذا الكتاب - كما سنوضح بعد - إلى الشيخ أبي عمرو محمد بن
عمر بن عبد العزيز الكشي (6) (المتوفى في أواسط القرن الرابع). كان موسوما
ب‍ " معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين " وكانت قد وقعت فيه أخطاء
واشتباهات وإضافات، فاهتم الشيخ الطوسي بتلخيصه وتهذيبه، وأطلق عليه
اسم " اختيار الرجال " وبناء على رواية السيد علي بن طاووس في كتاب " فرج
المهموم " من نسخة بخط المؤلف، شرع في املائه على تلامذته يوم الثلاثاء 26
صفر سنة 456.
1 - مشخصات الكتاب:
موضوع هذا الكتاب، تاريخ الرجال وذكر طبقاتهم. ومبناه على ذكر
الروايات الواردة في مدح الرجال والقدح فيهم، دونما اظهار للرأي في تلك
الروايات.
ففي ذيل اسم كل رجل من الرجال. يأتي بحديث أو عدة أحاديث مسندة
ذكر فيها الشخص المعني بصورة من الصور. وأحيانا ما تكون هذه الأحاديث
محلا للنظر من حيث ما تتضمنه من مدح أو قدح، أو تكون متعارضة أحدهما مع
الآخر. ففي هذه الحالة التي عادة ما تقتضي ترجيح أحد الحديثين، يمسك عن



(1) يحتمل أن يكون " الأصل " كتابا ذكرت فيه المطالب دون تبويب وترتيب، و " التصنيف " ما ذكرت
فيه المطالب مرتبة تحت عناوين خاصة. أو أن الأصل هو ما نقلت فيه الروايات بسندها، والتصنيف
ما زاد عليه الجامع من كلامه وبيانه.
(2) الفهرست / 24. يعتقد مؤلف قاموس الرجال أن هذين الكتابين لم يتلفا وانهما وصلا بعده إلى
النجاشي. ويقيم على هذا الادعاء دلائل من أقوال النجاشي أيضا، لا تنهض مطلقا بتأييد هذا
الرأي. ارجع إلى القاموس، ج 1 / 291 - 292.
(3) وتمكن مشاهدة إشارة إلى هذا الدافع الفرقي في قول ابن شهرآشوب في مقدمة كتاب " معالم
العلماء " هناك عندما ينقل كلام الغزالي عن أول كتاب في الإسلام ثم يرده وينسب أول كتاب إلى
علي عليه السلام ثم إلى سلمان وأبي ذر واصبغ و...
(4) بناء على ضبط النجاشي: الأزدي.
(5) لو أن كتاب عبيد الله بن أبي رافع - الذي مر اسمع سابقا - كان مشتملا على شرح حال الأفراد
أيضا، لكان أول كتاب في قسم تاريخ الرجال بطبيعة الحال. أما قرينة ان الشيخ ضبط اسم
الكتاب المذكور " تسمية من شهد مع أمير المؤمنين " فتوجب احتمال اقتصاره على أسماء الرجال فقط
دون شرح حالهم. وفي هذه الحالة يكون خارجا عن موضوع تاريخ الرجال.
(6) ينسب إلى " كش " (بفتح الكاف وتشديد الشين) من قرى جرجان ويقول آخر، من بلاد ما وراء
النهر.
191
الكلام مكتفيا بما تقدره الروايات، اللهم الا في بعض الموارد، حيث يبدي
اعتقادا بخصوص الشخص المعني أو السند أو مضمون أحد الأحاديث.
فمثلا: في شرح حال زرارة بن أعين، بعد أن ذكر حديثا في مذمته هكذا
سنده " محمد بن الكرماني، عن أبي العباس المحاربي الجزري، عن يعقوب بن
يزيد عن فضالة بن أيوب... " يقول: " محمد بن بحر هذا غال، وفضالة
ليس من رجال يعقوب، وهذا الحديث مزاد فيه، مغير عن وجهه ". (1)
والكتاب، لا يقتصر على رجال الشيعة فحسب ولا ينحصر في الموثقين
والممدوحين قط. فكما أن فيه شرح حال زرارة وجه الشيعة المشرق، فيه أيضا
شرح حال أبي الخطاب المقلاص الغالي المعروف. الا أنه اقتصر من غير
الشيعة على ذكر من رووا للشيعة واعتبروا في عداد رجال الحديث الشيعة (2)
فوجود اسم شخص في هذا الكتاب ليس دليلا على كونه شيعيا ولا برهانا على
كونه ثقة. كما أن عدم وجود اسم شخص لا ينفي تشيعه أو يثبت ضعفه.
وفي مستهل الكتاب، ينقل سبع روايات في مدح الرواة وحملة الحديث،
وأربع روايات تختص بأصحاب علي عليه السلام ومقربيه، ثم يأخذ في ذكر أسماء
الرجال، فيذكر اسم صاحب الترجمة في البداية، ثم يعقب بما تقرره الروايات
في حقه.
مثلا: " زيد بن صوحان - جبريل بن أحمد، قال حدثني موسى بن
معاوية بن وهب... إلى آخره ". فالشخص المعني في العنوان عالية " زيد بن
صوحان "، و " جبرائيل بن أحمد " هو الراوي الأول في سلسلة الحديث الذي
نقل بخصوص زيد بن صوحان. وبعد هذا الحديث يشرع في الحديث الثاني
على هذا النحو: " علي بن محمد القتيبي قال... إلى آخره " وبهذا الترتيب
ينقل جميع الروايات التي وردت في زيد بن صوحان بالتوالي.
وأحيانا، يشخص اسم الشخص المعني بكلمة " في ". مثلا " في
الحسين بن بشار - حدثني خلف بن حماد قال حدثنا... إلى آخره ". أي أن
" حسين بن بشار " هو مورد الترجمة. وأحيانا يبدأ المطلب على هذا النحو:
" ما روي في ". مثلا: " ما روي في الحسن بن محبوب ".
والروايات التي تنقل في ذيل كل عنوان أيضا، تبدأ أحيانا بكلمة
" حدثني " وأحيانا بجملة " وجدت بخط فلان "، وأحيانا بدونهما مقتصرا على
اسم الراوي الأول.
ويبلغ مجموع من ذكر في هذا الكتاب من الرجال 515 شخصا، مندرجة
في ستة أقسام حسب التقدم والتأخر الزمني.
أما أسماء الرجال فلا أساس في ترتيبها، فلا هي على أساس تاريخ الوفاة
ولا هي على أساس صحابة آل البيت عليهم السلام ولا هي على أساس أبجدية
الأسماء، الأمر الذي يجعل العثور على شرح حال شخص ما أمرا صعبا.
والنسخة المطبوعة في بومباي، ترتب فهرست الأسماء بنفس الترتيب الكائن في
الكتاب مع ذكر رقم الصفحة الخاصة، مما يسهل أمر المراجعة إلى حد ما. إلا
أنه أحيانا، عندما تكون الروايات الخاصة بشخص ما موزعة على مواضع
مختلفة من الكتاب - وما زال " فهرست الأعلام " لم ينضم بعد إلى النسخة
المطبوعة ليجبر هذه النقيصة (3) - فان العثور على عنوان الشخص المعني، لا
يكفي للاطمئنان إلى تحقق الاطلاع على جميع ما يرتبط به من الاطلاعات.
3 - نسبة الكتاب إلى الشيخ الطوسي:
هناك اختلاف في نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ. وتعتقد غالبية علماء الفن
أن الكتاب موضوع البحث منتخب منقح جمعه الشيخ الطوسي من كتاب رجال
أبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي. كما أن عنوان الكتاب يؤيد هذا
الرأي إلى حد ما.
والقول الآخر أن الكتاب الموجود هو أصل الكشي بعينه لا منتخب
الشيخ. وهذا الرأي صادر من أحمد بن طاووس الحلي (المتوفى سنة 673)
وتلميذيه العلامة الحلي (648 - 726) وابن داود الحلي (المتولد سنة
647) (4). إلا أن عدة من الدلائل والشواهد تؤيد بشكل قاطع نسبة الكتاب
إلى الشيخ، وكونه منتخبا. وإليك بعض هذه الدلائل:
علي بن طاووس (المتوفى 664 - أخو أحمد بن طاووس المذكور) في كتاب
" فرج المهموم " يذكر نسخة من هذا الكتاب، كتب فيها بخط الشيخ بالذات
أن: " هذه الأخبار اختصرتها من كتاب الرجال لأبي عمرو محمد بن عمر بن
عبد العزيز واخترت ما فيها " (5) وهذه العبارة تدل صراحة على أن الكتاب
الموجود منتخب الشيخ الطوسي لا أصل الكشي.
والشيخ في فهرسته أثبت نسبة اختيار الرجال إلى نفسه، وعده بين آثاره
العلمية (6). ومنذ ما بعد الشيخ حتى الآن، وهذا الاسم منطبق على هذا
الكتاب موضوع البحث، ولا أثر هناك لكتاب آخر بهذا الاسم. والشيخ
النجاشي صاحب الفهرست المعروف، معاصر الشيخ الطوسي كان في بعض
الموارد ينقل من كتاب الكشي موضوعا لا توجد له أي إشارة في الكتاب الموجود
حاليا (7). وهذا دليل على أن النسخة الأصلية من كتاب الكشي - التي كانت
في متناول اليد أيام النجاشي وكانت مورد الاستفادة - غير كتاب " الاختيار "
الحالي. وأن الكتاب الموجود منتخب وملخص من كتاب الكشي وليس
أصلا (8).
وأيا ما كان، فإنه لا مجال للشك في أن ما هو في اليد بعنوان " رجال
الكشي " منذ عدة قرون حتى الآن، ليس شيئا آخر غير منتخب الشيخ الطوسي
هذا. وأغلب الظن أن النسخة الأصلية من كتاب الكشي لم تقع في يد أي من



(1) اختيار الرجال طبع بمباي / 99.
(2) قاموس الرجال، ج 1 / 16.
(3) ملحق بالنسخة الحديثة الجامعة التي جمعت وطبعت من اختيار الرجال، التي جمعها وصححها
ونقحها العالم المتتبع الحاج ميرزا حسن مصطفوي، فهرست كامل مبسوط للأعلام يشتمل على جميع
من ذكر من الرجال سيان من ترجم لهم ومن لم يترجم لهم، ولا شك في أنه انتاج قيم لجهد وعناء
كبير، شكر الله سعيه. كما أن السيد موسى الزنجاني هو الآخر قد أعد فهرستا للأعلام المترجم لها،
الا أنه لم يطبع لا مع أي من الكتب الرجالية ولا على حدة، فلم يتوفر لاستفادة المراجعين. هذا،
ويوجد مع الطبعة الجديدة الأخرى أيضا التي انتشرت أخيرا في النجف بتصحيح وتحشية السيد أحمد
الحسيني، فهرست بالأسماء والكنى والألقاب، وفهرست على حدة لأسماء النساء وكناهن والقابهن،
وفهرست للموضوعات المتفرقة.
(4) قاموس الرجال، ج 1 / 32.
(5) فرج الهموم طبع النجف / 130.
(6) الفهرست / 190.
(7) لتفصيل هذه الموارد، ارجع إلى: قاموس الرجال، ج 1 / 33.
(8) يقيم مولى عناية الله القهطپائي أيضا أدلة أخرى على هذا المطلب، وان كانت غالبا قاصرة عن إفادة
المدعي. للتفصيل ارجع إلى: قاموس الرجال، ج 1 / 34.
192
علماء الفن بعد أيام الشيخ، وانها انقرضت بالكلية. والوحيد الذي يظن أنها
كانت عنده، هو الشهيد الأول، لأنه في حاشيته على كتاب " الخلاصة "
للعلامة، بعد أن نقل أحد المطالب من اختيار الرجال، نقل نفس المطلب من
كتاب الكشي بصورة أخرى (1) وهذا يدل على أنه علاوة على وجود اختيار
الرجال عنده أن أصل كتاب الكشي كان عنده أيضا، وأنه قابل أحدهما بالآخر
وطابق بينهما. ولكن المحقق الشوشتري المعاصر مؤلف قاموس الرجال (المتمتع
بمقام رفيع في هذا الفن) يعتقد أن الشهيد قد اشتبه عليه أمر الكتاب الذي في
يده، فتوهم نسخة من اختيار الرجال على أنها أصل كتاب الكشي، لأن نسخ
اختيار الرجال تختلف الواحدة مع الأخرى في بعض الموارد. وأحسن شاهد على
سهو الشهيد، أن هذه الجملة بعينها التي نسبها الشهيد إلى كتاب الكشي،
نقلها المولى عناية الله القهپائي (2) (مرتب اختيار الرجال) من اختيار الرجال.
ويستفاد من بعض كلمات العلامة في كتاب " الخلاصة " أن النسخة
الأصلية من كتاب الكشي كانت لديه، لأنه كان في بعض الموارد. ينقل مطلبا من
الكشي مع عبارة " ذكره الكشي " أو " قال الكشي " على حين أنه لا توجد إشارة
للمطلب المذكور في اختيار الرجال. ولكن مع التوجه إلى أن العلامة في كتاب
الخلاصة ينقل عين عبارات أصحاب الأصول الرجالية لا مطالبهم فقط، يمكننا
الاطمئنان إلى أنه في الموارد المذكورة عبارة " ذكره الكشي " أو " قال الكشي "
أيضا مأخوذة من الكتب المذكورة، مثل كتاب النجاشي أو فهرست الشيخ،
وليست من العلامة، وفي هذه الحالة يكون نقلهم للمطلب من كتاب الكشي لا
العلامة. (3)
والنتيجة، أنه منذ أيام الشيخ الطوسي والنجاشي لم يعثر أحد من علماء
الفن على أثر لأصل كتاب الكشي أو كان لديه اطلاع عنه. كما قيل أن هذا
الكتاب لم يكن رائجا قبل الشيخ. وبعد الانتخاب منه وتلخيصه سقط من
التداول بالكلية، واكتسب المنتخب اعتبارا أكثر إلى مكانة منتخبه فاحتل
مكانه.
ويمكننا من عبارة النجاشي بخصوص الشيخ الكشي، إذ يقول: " له
كتاب الرجال كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة " (4) ومن تناول الشيخ الطوسي له
بالتنقيح، أن نستنتج أن النسخة الصحيحة المتقنة من الكتاب لم تصل حتى إلى
الشيخ أو النجاشي، أو أنها في أصلها بالذات كانت كتابا مليئا بالخطأ. وهذا
أيضا في حد ذاته يحتسب عاملا لاهمال الكتاب بعد اختيار الشيخ.
ويعتقد مؤلف قاموس الرجال، أن منظور النجاشي من الجملة: " وفيه
أغلاط كثيرة " أن في أصل الكتاب خطا في المطالب، لا أن الخطا والتصحيف
تطرق إليه فيما بعد عن طريق النساخ والكتاب. وإذ ذاك يبدي المحقق المذكور
رأيه بان هذا الحكم من النجاشي بلا أساس، وأن الأخطاء الموجودة في كتاب
الكشي فاحشة حتى أنه لا يخطر على البال نسبتها إلى شخص كالكشي (5) وما
أعجب هذا الرأي من المحقق!! إذ أنه مع قبول افتراض أن النسخة الأصلية
من كتاب الكشي لا وجود لها، من أين له أن يعلم أو يقدر أن أخطاء الكتاب
فاحشة أو غير فاحشة، وأن يحكم ويظهر الرأي في إمكان أو عدم إمكان نسبتها
إلى الكشي؟! وبعبارة أخرى: على أخطاء أي كتاب يدور الكلام؟ كتاب
اختيار الرجال؟ هذا الكتاب الذي تأتى من صافي تحقيق الشيخ الطوسي
وتنقيحه، وما كان النجاشي ليحكم عليه بطبيعة الحال؟ أم أصل كتاب
الكشي؟ ولم يبق منه طول القرون الا اسمه؟ وفي الحالة الثانية، من أين تأتى
لمؤلف قاموس الرجال أن يعرف أن أخطاءه فاحشة وينزه الكشي عن
ارتكابها؟!.
وعلى أية حال، إذا قبلنا ان أخطاء أصل كتاب الكشي ناشئة عن تصحيف
النساخ، وليست معلولا لخطأ المؤلف، فلا مندوحة قد وجب البحث عن علة
تحريضه في عدم اعتناء معاصريه بكتابه. لقد كان هو وأستاذه العياشي ينقلان
عن الرواة ضعيفي الحال، وهذا يحتسب طعنا كبيرا في عرف القدماء، نفس
الأمر الذي أدى إلى ترك كتابه وهجره حال حياته وبعدها، مما ترتب عليه
تحالف التحريف والتبديل على نسخه.
والعجب أن كتاب " اختيار الرجال " أيضا وهو المنتخب المنقح من ذلك
الكتاب، ولا شك في أنه أصلا برئ من كثير من اشتباهات كتاب الكشي
وأغلاطه، هو الآن مصاب بتحريفات وتصحيفات واشتباهات كثيرة.
وعلى حد قول العلامة الكلباسي مؤلف " سماء المقال " (6) فأن هناك قرائن
تشير إلى تعرض هذا الكتاب لتطاول يد الحدثان وأسقطت وحذفت منه مطالب
بمرور الزمان. كما أن المحدث النوري في خاتمة كتاب " مستدرك الوسائل "
يذكر موارد نقل فيها مؤلفو الكتب الرجالية مطلبا من " اختيار الرجال " وهذا
المطلب لا يوجد في النسخة الموجودة من الكتاب.
علاوة على كل هذا - كما أشرنا - فإنه تشاهد في النسخة الموجودة أخطاء
وتصحيفات أشار الرجاليون المتأخرون إلى بعضها. ويعتقد المحقق الشوشتري
أن أخطاء هذا الكتاب تفوق الحصر، وأن الموارد الصحيحة المصونة منه تعد
على الأصابع. ومن الأخطاء التي يشير إليها المحقق، أنه في كثير من العناوين
تختلط الأحاديث المتعلقة بشرح حال شخص، بالأحاديث المتعلقة بشرح حال
شخص آخر، أو بأحاديث سميه من طبقة أخرى. مثلا الأحاديث الخاصة ب‍
" أبي بصير ليث المرادي " اختلطت بالروايات الخاصة ب‍ " أبي بصير يحيى
الأسدي ". كما عرف " الحميري " وهو من أصحاب العسكري عليه السلام في
عداد أصحاب الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام. ومنها أيضا أن أول رواية
في حالات " عبد الله بن عباس " ذكرت خلال الأحاديث الخاصة ب‍ " خزيمة "
الذي عنون قبل عبد الله. وأنه قد ذكرت في ذيل اسم " محمد بن زينب " المكنى
ب‍ " أبي الخطاب " ثلاث وعشرون رواية لا ترتبط به من أي وجه. (7)



(1) على هذا النحو: انه أولا ينقل هذه العبارة من العلامة: " روى الكشي عن جعفر بن أحمد بن
أيوب عن صفوان.... " (ما يتعلق بخالد البجلي) ثم يقول: هذا الحديث علاوة على عدم
دلالته على التوثيق والمدح، سنده مجهول مضطرب، لأن الشيخ في كتاب الاختيار أورد السند بهذه
الصورة ولكن السند في كتاب الكشي بهذه الصورة عن جعفر بن أحمد عن جعفر بن بشير " الخ:
(قاموس الرجال، ج 1 / 36).
(2) بضم الكاف، معرب " كوهبايي " نسبة إلى " كوهباية " يا " كوهبايا " من محال أصفهان. وهو
من تلامذة الشيخ البهائي وله عدة تأليف في علم الرجال.
(3) ارجع إلى القاموس، ج 1 / 36 - 37.
(4) فهرست النجاشي، طبع طهران (مركز نشر الكتاب) / 288.
(5) قاموس الرجال، ج 8 / 321.
(6) صفحة 32.
(7) لمزيد من التفصيل ارجع إلى قاموس الرجال، ج 1 / 43 - 44.
193
وواضح جدا، أن هذا القبيل من الأخطاء ليس مما يشتبه على شخص
كالكشي أو كالشيخ الطوسي أو أنها تصدر عنه. ولا يرقى الظن بنسبتها إلا إلى
المستنسخين والكتاب... كما يبعد عن التصديق أن بعضا من الأخطاء الأخرى
الموجودة في هذا الكتاب من قبيل الاشتباه في تاريخ وفاة حماد بن عيسى، وتعيين
سني حياة معاوية بن عمار، وتحريف جبرئيل بن أحمد الفاريابي إلى جبرئيل بن
محمد الفاريابي الموجود في أول الكتاب، وأمثالها مما أشار إليه العلامة الكلباسي
في سماء المقال: تنسب إلى الشيخ الطوسي.
وبناء على ما قلناه، يمكن الحكم بان رأي " مولى عناية الله القهباني " في
اعتبار هذه الأخطاء من الشيخ، واعتقاده أن أصل كتاب الكشي كان مبرأ
وخاليا منها، خلاف التحقيق تماما وادعاء بلا دليل.
3 - اسم أصل كتاب الكشي:
لم يذكر اسم كتاب الكشي في ذيل حالاته بأغلب كتب القدامى مثل
فهرست الشيخ وفهرست النجاشي، واقتصرت على أصل وجوده.
فالشيخ الطوسي في " الفهرست " تحت عنوان " أبو عمرو الكشي " يقول:
" ثقة بصير بالأخبار وبالرجال، حسن الاعتقاد، له كتاب الرجال... " (1)
وعبارة النجاشي في هذا الصدد أيضا لا تزيد الأمر ايضاحا: " كان ثقة عينا،
وروى عن الضعفاء كثيرا وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه في داره التي
كانت مرتعا للشيعة وأهل العلم، له كتاب الرجال ". (2)
وعلى قدر اطلاعنا، فان أول من ذكر اسما لكتاب الكشي هو ابن شهرآشوب
(المتوفى سنة 588) صاحب كتاب " معالم العلماء ". ففي هذا الكتاب
الذي يعتبر ذيلا وتتمة لفهرست الشيخ، ذكر كتاب الكشي باسم " معرفة
الناقلين عن الأئمة الصادقين " (3) وبقرينة التقارب بينه وبين الكشي
والشيخ، لا يبقى مجال للشك في أن قوله مستند إلى قرائن قطعية، وان اسم
كتاب الكشي هو هذا الذي ذكره.
والشيخ الطوسي في الفهرست في ذيل عنوان " أحمد بن داود بن سعيد "
بعد أن نسب إليه كتبا متعددة، يقول: " ذكره الكشي في كتابه في معرفة
الرجال ". واستند مؤلف سماء المقال إلى هذا العبارة، وظن أن اسم كتاب
الكشي " معرفة الرجال " ونسب هذا الظن إلى الشيخ أيضا، على حين أن هذه
العبارة تقتصر على بيان أن كتاب الكشي كتب في معرفة الرجال، وليس فيها أي
ذكر لاسمه. ويحتمل أن تكون هذه العبارة في النسخة التي لدى الكلباسي على
هذا النحو: " ذكره الكشي في كتابه معرفة الرجال " (بحذف كلمة في) ومن
ثم وقع صاحبنا في مثل هذا الزعم.
وفي النسخة المطبوعة من كتاب " اختيار الرجال " (طبع بمباي سنة
1317) أيضا في آخر الجزء الخامس، ورد ذكر كتاب الكشي على هذا النحو:
" قد تم الجزء الخامس من كتاب أبي عمرو الكشي في معرفة الرجال... "
والملاحظ في هذه العبارة أيضا خلوها من أي تصريح بأن اسم الكتاب " معرفة
الرجال ". (4)
والعلامة المجلسي (5) وكذلك من معاصرينا مؤلف قاموس الرجال، (6)
قالا أن اسم كتاب الكشي معرفة الرجال " (7) ولكن بالنظر لما قدمناه، فإن
هذا القول يعوزه الدليل (8) ولا يجوز العدول عما ارتاه ابن شهرآشوب، لما
يتمتع به رأيه من رجحان.
ويمكننا على ضوء ما قلناه، أن ندرك أن اسم " معرفة اخبار الرجال " أيضا
المسمى به كتاب الكشي في أول النسخة المطبوعة في بمباي وآخرها، لا وجه له
ولا دليل. فعلاوة على أن الكتاب الموجود المطبوع، تأليف الشيخ الطوسي
وموسوم ب‍ " اختيار الرجال " لا " معرفة اخبار الرجال "، فإنه لا يوجد في
المدارك أو المآخذ محل الاطمئنان، أية إشارة أصلا إلى مثل هذا الاسم لكتاب
الكشي. وكأن الذي باشر الطباعة أو أحد المستنسخين استفاد من تركيب
عبارتي " كتاب أبي عمرو الكشي في اخبار الرجال " و " كتاب أبي عمرو الكشي
في معرفة الرجال " اللتين ذكرتا في بعض كتب الرجال أثناء ذكر كتاب الكشي
وزعم أنها اسم الكتاب.
4 - طريقة انتخاب الشيخ وتلخيصه:
ان الأخطاء والزوائد كما أشرنا دائما، هي أخطاء وزوائد كتاب الكشي،
الذي نهض الشيخ الطوسي بتهذيبه وتلخيصه حتى أخرج كتاب " اختيار
الرجال " إلى الوجود. وبقي علينا أن نرى من أي قبيل هذه الأخطاء
والزوائد، وكيف تصرف الشيخ بالنسبة لها.
يزعم البعض (9) ان كتاب الكشي مشتمل أصلا على رجال عامة
وخاصة، وأن الشيخ اسقط العامة وخصص كتابه بالاختيار لتوجيه رجال
الشيعة. الا أنه بالنظر إلى أن النسخة الموجودة من الاختيار تشتمل على أسماء
جمع من رجال العامة أيضا، يتضح خطأ هذا الزعم. والمحقق أن كتاب
الكشي أيضا كغيره من كتب الرجال العديدة من قبيل فهرست الشيخ وفهرست
النجاشي، كتبت لترجمة الشيعة وغير الشيعة ممن رووا للشيعة وعن أئمتهم
أيضا. ومن ثم نشاهد في كتاب الاختيار أسماء اشخاص مثل محمد بن إسحاق
ومحمد بن المنكدر وعمرو بن خالد و...، مع أنهم ليسوا من الشيعة، وذلك
لأنهم رووا عن أئمة الشيعة.
وأغلب الظن، ان الشيخ في تلخيصه وانتخابه كان ينظر قبل الرجال



(1) الفهرست / 167.
(2) رجال النجاشي / 277.
(3) معالم العلماء / 91 والعبارة هكذا: " وله معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين ".
(4) الفهرست / 59.
(5) نقلا عن الكلباسي في " سماء المقال " / 47.
(6) ج 1 / 15.
(7) يستنبط من جملة " اختيار معرفة الرجال " التي انتخبت عنوانا لكتاب الشيخ في الطبعة الأخيرة
المصححة الكاملة، ان مصححها كان يعرف اسم أصل كتاب الكشي. فكان طبيعيا أن يطلق على
كتاب الشيخ اسم " اختيار معرفة الرجال " باعتباره انتخابا واختيارا منه. على أن في هذه التسمية
مسامحتين: إحداهما بالنسبة إلى اختيار الشيخ المذكور في جميع المدارك المعتبرة باسم " اختيار
الرجال " لا اختيار معرفة الرجال.
(8) ابن شهرآشوب في كتابه الآخر " مناقب آل أبي طالب " يذكر كتاب الكشي باسم " معرفة الرجال "
ج 4 / 147. ولكن الظاهر أن منظورة هو تلخيص الشيخ لا أصل الكتاب، لأنه يقول: " معرفة
الرجال عن الكشي عن أبي بصير ".
(9) منهم المحدث القمي في الكنى والألقاب، ج 3 / 116 طبع النجف.
194
المذكورين في الكتاب إلى الروايات التي ذكرت تحت أسمائهم. وإذا كنا على
استعداد لقبول ما يفترض من حق الشيخ في اسقاط عدة من أصحاب التراجم
في أصل الكشي بجهة من الجهات، فإنه من باب أولى أن نعترف بحقه في أن
يسقط أو يصحح ما يجده - فيما أورده الكشي من الأحاديث بمناسبة المترجم لهم -
مخدوشا في نظره من حيث السند أو ارتباطه بالمترجم له. وهذا يبدو أقرب
وأليق بمقام الشيخ والكشي من أي احتمال آخر بالنسبة لطريقة تلخيص الشيخ
واختياره أو انتخابه.
ويمكننا أن نستنتج بناء على بعض القرائن، أن الشيخ في كتاب
الاختيار، لم يذكر جميع القضاة الواردين في أصل كتاب الكشي. فمثلا، في
الفهرست، بعد أن ذكر داود بن أبي زيد النيشابوري " وصرح بأنه ثقة
وصادق، كتب: " وله كتب ذكرها الكشي وابن النديم في كتابيهما " على حين
أن النسخة الحالية لاختيار الرجل خالية من اسمه. وعليه، إذا سلمنا بان
المراد من كتاب الكشي المشار إليه في العبارة عالية، هو كتاب ومعرفة الناقلين "
يعني أصل كتاب اختيار الرجال، مع فرض أن نسخة الاختيار الحالية لم
تتعرض في هذا القسم إلى التحريف والاسقاط، فلن يبقى هناك شك في أن
تصفية الشيخ شملت قسما من الرجال الثقات.
5 - ما دار حول محور " اختيار الرجال " من تأليف:
كتاب اختيار الرجال كما قلنا في البداية، أحد الكتب الأربعة الأصلية في
علم الرجال. وكان دائما فيما بعد الشيخ الطوسي من الأزمان معقد نظر علماء
الشيعة ومورد مراجعتهم. ونتيجة لهذه العناية والاهتمام تمت على مر الزمان
عدة اعمال علمية ظهرت في صورة كتب تدور على محوره. ولما كان الكتاب
المذكور غير مرتب أصلا وغير مفصل بصورة كاملة، مما جعل الرجوع إليه
والاستفادة منه امرا شاقا. فإن أغلب هذه الأعمال حدثت على مستوى التبويب
والترتيب هادفة إلى تحقيق اليسر والسهولة للمراجعين. ونحن في حدود هذا
البحث نقدم ما كتب على هذا الأساس:
أ - ترتيب القهيايي: رتب المولى عناية الله بن شرف الدين الألفبائي
النجفي (المتوفى بعد 1016 (1) كتاب الاختيار حسب الحروف الأولى من
الأسماء، فذكر جميع من وردوا فيه سواء كانوا مستقلين أو واردين في ترجمة
الآخرين على هذا الوتيرة. وأورد في كل مورد عين عبارة الكشي الخاصة بكل
منهم بلا نقص ولا زيادة. وبعد أن ذكر روايات أول الكتاب أدرج أولا الكنى
المصدرة ب‍ (ابن) ثم الكنى المصدرة ب‍ (أب) وأذاك شرع في الأسماء من
(ابان) إلى " يونس " حسب ترتيب الحرف الأول. وتم هذا الكتاب بتاريخ
سنة 1011 الهجرية.
وكما ذكرنا فإن طريقة هذا الكتاب تلتزم بعين عبارة الكشي ولا تتجاوزها،
فتكرر ألفاظه بلا نقص أو زيادة تحت اسم كل واحد من الرجال. ومع هذا لم
يكن هناك بد، مراعاة للترتيب الذي ارتأه، من أن يغير العناوين الموجودة في
اختيار الرجال، وفي الموارد التي يعنون فيها الكشي شخصين أو بعض
الأشخاص معا وضع كل اسم في مكانه حسب ترتيب الحروف. كما أن نسخته
تتفاوت في بعض الموارد مع نسخة الاختيارات المطبوعة. من جملة ذلك،
عنوان حسن بن سعيد الأهوازي ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي. (2)
ب - ترتيب السيد يوسف بن محمد حسب الحسيني العاملي مؤلف جامع المقال:
رتب المؤلف اختيار الرجال حسب طبقات أصحاب المعصومين
عليهم السلام ترتيبا نظير ترتيب الشيخ، بمعنى، أنه ابتدأ أولا بأصحاب
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فأصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وبعده أصحاب الإمام
الحسن عليه السلام وهكذا حتى أصحاب الإمام الحادي عشر عليه السلام جميعا
بالتتابع.
وبناء على ما قاله المحدث النوري في خاتمة " مستدرك الوسائل " فإن تاريخ
اتمام هذا الكتاب هو سنة 981. (3)
ج - ترتيب الشيخ داود بن حسن بن يوسف البحراني:
هو على وجه التقريب من معاصري الشيخ الحر العاملي صاحب " وسائل
الشيعة ". رتب الاختيار بالترتيب الألفبائي الكامل، يعني، مراعاة حروف
الكلمة كلها، الأول والثاني والثالث و... (4) نظير منهج المقال. (5)
د - كتاب " حل الأشكال " تأليف: السيد أحمد بن طاووس الحلي،
رجالي القرن السابع المعروف:
جمع المؤلف متن كتاب اختيار الرجال إلى متن الأصول الثلاثة الأخرى
(فهرست ورجال الشيخ وفهرست النجاشي) بإضافة متن كتاب " الضعفاء "
لابن الغضائري في كتاب وأطلق على هذه المجموعة اسم " حل الأشكال في
معرفة الرجال ". وقيل أن الشهيد الثاني رحمة الله عليه، كانت عنده النسخة
الأصلية لهذا الكتاب. (6)
وعلى الرغم من أن الكلباسي مؤلف " سماء المقال " (المتوفى سنة 1356)
قد أفاض في تمجيد حسن الترتيب في هذا الكتاب والثناء عليه نظرا لأن
أكثر أحاديث اختيار الرجال لم ترد فيه وان بعضها قد اكتفى بالإشارة إليه أو
نقلت بالمعنى حتى لا يستغني المراجعون عن الأصل، فإنه ينتقد الكتاب المذكور
في موارد طرأ فيها الخطا على قلم المؤلف العظيم. (7)
وبعد ابن طاووس سار بعض تلاميذه وجماعة من المتأخرين على اثره وجمعوا
الأصول الأربعة الرجالية مع بعض كتب أخرى للقدامى، مثل: الضعفاء،
رجال البرقي ورجال العقيقي في كتاب واحد. (8)
ه‍ - كتاب " تحرير طاووس " تأليف الشيخ حسن بن الشهيد الثاني،
صاحب المعالم (959 - 1011).
استخرج المؤلف كتاب " اختيار الرجال " من مجموعة حل الأشكال



(1) التاريخ المذكور سنة فراغه من تأليف كتابه المشهور " مجمع الرجال " وليس لدينا بعد هذا التاريخ
اية معلومات عن حاله، كما أننا لم نحصل على تاريخ دقيق لوفاته.
(2) لمزيد من التفصيل وتحقيق هذه الموارد ارجع إلى قاموس الرجال، ج 1 / 46.
(3) ثبت هذا الكتاب برقم 281 في المجلد الرابع من الذريعة.
(4) ثبت هذا الكتاب برقم 281 في المجلد الرابع من الذريعة.
(5) يعرب ب‍ " الرجال الكبير " تأليف ميرزا محمد الأسترآبادي المتوفى 1026 أو 1028.
(6) سماء المقال / 30.
(7) لمزيد من التفصيل ارجع إلى سماء المقال / 30 - 31.
(8) الذريعة، ج 10 / 81.
195
(المذكور عاليه في الفقرة د) وسماه " تحرير الطاووسي " وعليه، فهذا الكتاب
هو متن الاختيار بلا تفاوت الا في أن عناوينه نقلت على نسق حل الأشكال لا
بطريقة أصل الكشي والشيخ. (1)
و - كتاب " مجمع الرجال " تأليف: المولى عناية الله شرف الدين
القهيايي.
علاوة على أن المؤلف رتب كتاب اختيار الرجال (المذكور في الفقرة أ) فإنه
قد وفق بين عبارات الكتاب المذكور بعينها وعبارات رجال الشيخ وفهرسته
وفهرست النجاشي وضعفاء الغضايري، ورتبها، وأطلق على هذه المجموعة
اسم " مجمع الرجال ".
وتاريخ الفراع من تاليف هذا الكتاب سنة 1016. وتوجد نسخة منه
بخط المؤلف في مكتبة العلامة الطهراني صاحب " الذريعة ". (2)
6 - هل حصل انتخاب آخر من رجال الكشي؟
عرفنا أن ما هو متداول اليوم باسم رجال الكشي، هو النخبة المنقحة التي
جمعها الشيخ الطوسي رحمة الله عليه من كتاب رجال أبي عمرو الكشي، يعني،
" معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين " والتي أسماها " اختيار الرجال " وأن
أصل كتاب " معرفة الناقلين " لم يتيسر ليد أحد ما حتى في أيام العلامة الحلي
(648 - 726).
ويستنبط من بعض العبارات أن شخصا آخر غير الشيخ الطوسي قام
بانتخاب من كتاب الكشي وهيا منتخبا منه بصورة تأليف مستقل، وحسبنا أن
نلفت النظر إلى هذه العبارة من " سماء المقال ".
" ومن العجيب ما ذكره الفاضل العناية، من أنه يظهر بعد التصفح
والتتبع التام في الكتاب أن الأغلاط ليس فيه (منه، ظ)، بل إنما هي من قلم
المنتخبين منه مثل الشيخ قدس سره ثم أضاف مؤلف سماء المقال: " نعم
يحتمل ذلك في البعض ". (3)
فبهذه القرينة الموجودة في العبارة المذكورة، لو كان الكلام على اختيار
الرجال، لأمكن احتمال كلمة " المنتخبين " على أن عدة اشتركوا مع الشيخ
الطوسي في تهيئة الكتاب المذكور ويكون المراد بها هؤلاء المنتخبين. ولكن من
حيث أن انتساب هذا الكتاب للشيخ لا يشوبه أي شك، وأن التأليف
الجماعي لم يكن معهودا ولا متداولا في تلك الأعصار فان الزعم بأن أشخاصا
آخرين أيضا تناولوا كتاب الكشي بالتلخيص والانتخاب بصورة مستقلة يجد ما
يقويه في هذه العبارة المذكورة.
- 2 -
الفهرست
هذا الكتاب من أثمن الآثار القديمة في فن الرجال لدى الشيعة، ومن
الكتب العمدة بالنسبة لعلماء هذا الفن.
والفهرست كما بينا في البداية، يطلق اصطلاحا على الكتب التي تذكر فيها
أسماء أصحاب " الأصول " و " المصنفات " (4) وغالبا ما كانت لدى القدامى
من علماء الرجال فهارس اكتفوا فيها بالتعريف ببعض مؤلفي الشيعة أو بالكتب
الموجودة عندهم، مثل: " فهرست الزراري " و " فهرست ابن عبدون ".
وأول من وضع كتابا مفصلا في هذا القسم، أبو الحسين أحمد بن
حسين بن عبيد الله الغضائري رجالي الشيعة المعروف، معاصر الشيخ الطوسي
والنجاشي، الذي كتب كتابين أحدهما في الأصول والآخر في المصنفات. ومن
دواعي الأسف أن الكتابين لم يصلا إلى الأجيال اللاحقة كما سبق أن ذكرنا.
ويستفاد من لهجة الشيخ الطوسي في مقدمة " الفهرست " هناك حيث يتكلم
عن اصرار " الشيخ الفاضل "، ومن بيان الشيخ النجاشي معاصر الشيخ في
مقدمة كتابه الذي ألفه في نفس الموضوع أيضا، أن الدافع لهذين العالمين
الجهبذين المعاصرين، هو بالذات خلو المجال من هذا العمل، وافتقاد كتاب
جامع مشبع في هذا القسم.
فإذا تجاوزنا فهرست ابن النديم " (المتوفى سنة 385) الذي يتفاوت إلى
حد من وجهة النظر الموضوعية مع الفهرست المصطلح، ويستوعب جميع
العلوم والفنون والمذاهب والسنن الجارية بين المسلمين وبيان مؤلفاتهم في كل
منها ومؤلفات علماء غير المسلمين، وكان تاليفه سنة 378: فان فهرست الشيخ
هو أقدم كتاب موضوعي مفصل موجود في هذا القسم وفي متناول الأيدي منذ
كان.
فهرست أبي غالب الزراري (5) (المتوفى سنة 368) ومن الفهارس
المتقدمة على الشيخ، (6) وهو موجود في متناول اليد، وعبارة عن كتيبات، بل
رسالات للتعريف بعدة كتب. (7)
أما عن أسبقية تاليف أي من الفهرستين، فهرست الشيخ أم فهرست
النجاشي، فلم يحدث تحقيق يبعث على اليقين. ولا يستبعد بالنظر إلى أن
النجاشي في فهرسته ذكر الشيخ وتأليفاته ومنها الفهرست، على حين أنه لا
يوجد في فهرست الشيخ ذكر للنجاشي وتأليفاته، ان يظن أن كتاب النجاشي
الف بعد كتاب الشيخ. الا أن ذكر كتاب الشيخ في فهرست النجاشي لا ينهض
دليلا على تقدم كتاب الشيخ. الا يمكننا أن نتصور أن النجاشي كان قد سجل



(1) من هذا الكتاب نسختان في مكتبة استان قدس في مشهد برقمي 36033625.... 13...
(2) مقدمة رجال الشيخ، طبع النجف / 81.
(3) سماء المقال / 26.
(4) سبق ايضاح معنى " الأصول " و " المصنفات " والفرق بين هذين الاصطلاحين في الهامش رقم
23.
(5) فهرست أبو غالب جزء من رسالته المعروفة (نامه) إلى حفيده التي ذكر فيها شرح حال آباء عائلته
وأعمامها وسلسلتها. وفيها إجازة لرواية الكتب المذكورة في هذا الفهرست. وتوجد نسخة من هذا
الكتاب بالخط النسخ الجميل لم توغل في القدم تقع في 29 صفحة قطع " الجاير " تحت رقم 7669
بمكتبة استان قدس الرضوية هكذا أولها:
" حدثنا أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن إبراهيم الواسطي، قال حدثنا أبو غالب أحمد بن محمد بن
سليمان بن الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين الشيباني، منه إلى ابن ابنه محمد بن عبد الله بن أحمد،
سلام عليك فإني أحمد الله إليك الله الذي لا إله إلا هو... ".
(6) من جملة الفهارس المعروفة قيل الشيخ فهرست كتب السيد المرتضى. ويحتمل أن يكون لنفس السيد
كما يحتمل أن يكون لتلميذه محمد بن محمد البصروي (المتوفى سنة 443) ارجع إلى الذريعة
(ج 16 / 381 و 392) نقلا عن العلامة الطهراني. وتوجد نسخة من هذا الكتاب في مكتبة
سبهسالار.
(7) على أي حال، فإن رأي المرحوم عباس اقبال الوارد في مقدمة معالم العلماء أن فهرست الشيخ أول
كتاب بقي من علماء سلف الشيعة، ناشئ عن قلة الاطلاع، فبالإضافة إلى فهرستي أبي غالب
والسيد المرتضى الموجودين الآن، فإن ابن النديم مؤلف فهرست ابن النديم هو أيضا شيعي. ارجع
إلى الذريعة، ج 16 / 375.
196
اسم الشيخ وتأليفاته الأخرى في فهرسته، حتى إذا ما ظهر فهرست الشيخ
أضافه النجاشي إلى شرح حال الشيخ وزاده على كتبه، تماما بتمام كما أضاف
الشيخ نفسه كتابه " المبسوط " الذي قيل أنه آخر تأليفاته إلى شرح حاله وزاده
في عداد تأليفاته في فهرسته؟ ثانيا إذا كان خلو فهرست الشيخ من كتاب
النجاشي موجبا لعدم وجود فهرست النجاشي أثناء كتابة الشيخ لفهرسته،
لاستوجب ذلك - وقد كتب فهرست النجاشي فيما بعد - ان يذكره الشيخ في
فهرسته. لأن المشهور أن الشيخ الطوسي ظل على قيد الحياة 10 سنوات بعد
النجاشي، ولا بد من أنه كان قد علم بوجود كتابه. وعليه، ينبغي البحث
عن دليل لعدم ذكر كتاب النجاشي في فهرست الشيخ مع ذكر النجاشي لكتاب
الشيخ، في شئ آخر، يحتمل أن يكون اشتهار الشيخ الطوسي وعظمته
العلمية وكتبه التي سيطرت على المجتمع الشيعي آنذاك في مقابل قلة حظ النجاشي
من الشهرة، هي التي جذبت الأنظار إليه وإلى كتبه.
ولكن مع هذا كله، فإنه بالدراسة ومقابلة الكتابين المذكورين والعثور في
فهرست النجاشي على عبارات هي بعينها عبارات فهرست الشيخ مع شئ من
الإضافات، وبملاحظة طريقة بيان النجاشي التي تعرض نظره الانتقادي بالنسبة
إلى مطالب فهرست الشيخ في كثير من الموارد، لا يبقى هناك مجال للشك في أن
فهرست النجاشي ألف بعد فهرست الشيخ.
خصوصيات الكتاب:
يشتمل هذا الكتاب على أسماء ما يقرب من 900 شخص وآثارهم من
أصحاب الأصول والمصنفات مع سلسلة السند بينهم وبين الشيخ غالبا.
وجاءت تهيئة هذا الكتاب وتأليفه بناء على رغبة أحد معاصري الشيخ
يشير إليه في مقدمة الكتاب بقوله " الشيخ الفاضل ". ومع أنه لا توجد قرينة
معتمدة تمكننا من معرفة هذا الشخص، الا أنه يمكن من تعبير " الشيخ
الفاضل " وكذلك من أن رجاءه لتأليف هذا الكتاب (وكذلك كتابي الشيخ
الآخرين " الرجال " و " الجمل والعقود ") قد استجيب من قبل الشخصية
العلمية الكبيرة في زمانه، يمكن بصورة كلية أن تطمئن إلى أن هذا الفاضل كان
يتمتع بمقام علمي مرموق. (1)
ومبنى الكتاب على التعريف بأصحاب الأصول والمصنفين الشيعة ومن ألفوا
كتابا للشيعة على السواء. (2) والشيخ نفسه يعد في مقدمة الكتاب بأن يردف
اسم كل من المصنفين وأصحاب الأصول بما يرتبط به من جرح أو تعديل وأن
يشير إلى ما إذا كانت روايته مورد الاعتماد أم لا، وإلى مذهبه واعتقاده. الا
أنه حصل في الكتاب بعض التخلف عن هذه الطريقة فسكت في بعض الموارد
النادرة عن توثيق المذكورين أو تضعيفهم. (3) وامسك في بعض الموارد عن
ذكر المذاهب في التعقيب على الشيعيين غير الإماميين من قبيل الفطحية
والواقفية. والتزم بذكر المذهب إذا كان صاحب الترجمة من العامة. وبناء
عليه، وجب كلما سكت عن مذهب شخص ولم يذكره، الاطمئنان إلى أنه
ليس من العامة وإن لم يثبت كونه شيعيا إماميا، بمعنى أنه من الممكن أن يكون
متمذهبا بمذهب من سائر شعب الشيعة مثل الفطحية والواقفية وغيرهما.
والخلاصة، ان من كان على مذهب الشيعة الإمامية أو غير الإمامية (4) قد ذكر
مذهبه أحيانا وأحيانا لم يذكر في الفهرست، أما مذهب العامة وهو غير شيعي،
فهو دائما مورد الذكر. وكذلك، غالبا ما يتحاشى القدح في امامي ضعيف أو
تضعيفه، لأن موضوع الكتاب ومبناه كما قلنا تدوين أسماء من كتبوا أصولا أو
مصنفات للشيعة سواء أكان شيعيا أم غير شيعي ممدوحا أم مذموما. فتعيين هذه
الصفات ليس مهمة هذا الكتاب.
وضع الكتاب وترتيبه:
والكتاب مرتب حسب حروف الهجاء. وفي كل حرف فتح باب لكل اسم
من الأسماء المصدرة بهذا الحرف. فمثلا، في حرف الألف، فتح " لإبراهيم "
باب و " لإسماعيل " باب و " لأحمد " باب. وبالنسبة لجميع أسماء الآحاد،
فقد فتح لكل حرف باب على حدة بعنوان " باب الواحد ". فمثلا، في باب
الواحد من حرف الألف تأتي أسماء " أصبغ " و " إدريس " و " اصرم " وهي
آحاد لا غير. وهكذا دواليك حتى آخر حروف الهجاء. وجميع الأسماء الواردة
في الكتاب البالغ عددها 900 تتدرج كلها تحت هذه الأبواب.
كيفية نسخ الكتاب:
بناء على ما قرره خبراء الفن، فإن نسخ كتاب الفهرست مثل غالبية كتب
الرجال المعتبرة القديمة من قبيل كتب الكشي والنجاشي والبرقي والغضائري،
مصاب بالتحريف والتصحيف والنقص والزيادة. ولم تصل نسخته الصحيحة
إلى يد أبناء هذا الزمان. ويقول العلامة الكلباسي، ان " أكثر نسخ الفهرست
الحالية لا تخلو من التصحيف والغلط. وكما قال بعض أصحاب النظر أن أكثر
النسخ المتيسرة للمراجعين في هذا الدور أصبحت محلا لتطاول الحدثان وألعوبة
بيد التصحيف. وقد تصدى المحقق الشيخ سليمان البحراني (5) لشرح هذا
الكتاب وترتيبه وتصحيحه، فأصلح الأخطاء الناجمة عن قلم الكتاب في أكثر
تراجمه، ولكنه لم يطبع الا الأسماء المصدرة بالألف " (6).
فيستنبط من هذا القول أن تصحيحات المحقق البحراني من نوع
" التصحيح القياسي ". أنه أجري على أساس المقابلة مع الكتب الأخرى
المعتمدة لدى الرجال، لا " تصحيح النسخ " بمعنى الحصول على نسخ
مصححة قابلة للاعتماد من كتاب الفهرست ومقابلتها الواحدة بالأخرى. والا
لوجب على المحقق نفسه في هذه الحالة أن يشير إلى هذا الموضوع، ولنقله
الكلباسي أيضا. ولتحتم علاوة على هذا أن تكون مسالة اختلاف النسخ قد
انحلت منذ ذاك، وتشخصت نسخة كاملة أو صحيحة تقريبا.
وفي حدود اطلاعنا، إن النسخة الصحيحة من الفهرست. كانت موجودة



(1) ينقل العلامة الطهراني في المجلد الخامس من الذريعة (ص 145) عن بعض نسخ " الجميل
والعقود " القديمة أن المقصود بالشيخ الفاضل هو القاضي عبد العزيز بن البراج قاضي طرابلس
(المتوفى سنة 481).
(2) زعم عباس اقبال في مقدمة " معالم العلماء " أن الفهرست يختص بالمصنفين وأصحاب
الأصول من الشيعة، ولكن بيان الشيخ ذاته في مقدمة الفهرست وذكر جماعة من المؤلفين من غير
الشيعة بالفعل، يجب ذلك الرغم.
(3) لمزيد من التفصيل ارجع إلى: الفهرست طبع النجف 1380) الصفحات 71 / 78 / 88 / 89 - وسماء المقال / 41 - 42.
(4) قاموس الرجال، ج 1 / 18 في هذه الحالة يكون كلام العلامة الطباطبائي والسيد الداماد (نقلا عن
المامقاني في الرجال ج 1 / 205) من أن مبنى الشيخ على التصريح بمذهب غير الامامي مثل الفطحية
والواقفية، لا وجه له.
(5) توفي سنة 1121 الهجرية.
(6) سماء المقال / 42.
197
حتى زمان ابن داود الحلي (المولود سنة 647) فقد صرح في موارد بأن نسخة
الرجال وفهرست الشيخ بخط المؤلف موجودة لديه. وليس لدينا من بعد اطلاع
عن النسخة المصححة. ومن حيث إن العبارات المحرفة تشاهد بصورة قطعية
في النسخ الحالية، ومن حيث إن مؤلفي الرجال المعروفين في الأدوار المتأخرة
عن ابن داود مثل ميرزا محمد الأسترآبادي مؤلف " الرجال الكبير " (المتوفى سنة
1028 أو 1026) ومير مصطفى التفرشي مؤلف " نقد الرجال " (من علماء
القرن الحادي عشر) يختلفون الواحد مع الآخر فيما نقل من المطالب، يمكننا
بناء عليه الاطمئنان إلى أن أحدا منهم لم يصل إلى نسخة مصححة من هذين
الكتابين وان نسخة ابن داود مفقودة الأثر.
فحيثما كانت نسخ الفهرست الموجودة لا تنطبق على ما نقله ابن داود من
الكتاب المذكور، وجب بلا ترو تقديم نقل ابن داود واعتباره حجة، فالاعتقاد
في صحته وتطابقه مع ما كتبه الشيخ أقوى وابعث على الرضا. ولا يفوتنا، أنه
حيثما شوهد عدم التطابق بين ما نقله ابن داود وما نقله العلامة الحلي (معاصره
وزميله في التتلمذ على أحمد بن طاووس) لا نستطيع بصفة دائمة أن نقدم كلام
ابن داود، لأن العلامة أيضا كانت لديه نسخة مصححة من الرجال وفهرست
الشيخ. وطبعي الا ينتفى الاشتباه بالكلية عن ابن داود في قراءة النسخة.
كيفية النسخ المطبوعة:
طبع متن الفهرست بنفس الترتيب الأصلي لأول مرة سنة 1356 في المطبعة
الحيدرية بالنجف مع مقدمة وتصحيح وهامش بمعرفة (السيد محمد صادق بحر
العلوم) وتجدد طبع النسخة نفسها بنفس الخصوصيات مرة أخرى سنة
1380. وتقع هذه الطبعة في 252 صفحة من القطع " الوزيري " [*] وبها
فهرست للأسماء وأرقام أسماء الرجال وهي كاملة التنقيط نسبيا والطباعة على
وجه العموم ممتازة ولافتة للنظر. وقبل هذا التاريخ بسنوات يعني سنة 1271
الهجرية (= 1853 الميلادية) رتبت نسخة من الفهرست حسب الحرف الأول
والثاني والثالث من الاسم واسم الأب واسم الجد وصححت وطبعت في الهند
بمعرفة " أ. سبرنجر " و " مولى عبد الحق ". والعلامة الكبير الشيخ آقا بزرك
الطهراني (مؤلف كتاب الذريعة) رأى هذه النسخة ونقل خصوصياتها في
الذريعة (ج 16 / 384) والسيد محمد صادق بحر العلوم وصفها في مقدمة
رجال الطوسي (ص 69) بالنقص والامتلاء بالغلط ورداءة الطباعة.
والمصحح المذكور ينقل في مقدمة كتاب الرجال عن قول العلامة الطهراني
وصفا لطبعة أخرى من الفهرست أنه قال ما خلاصته: " منذ عدة سنوات (في
حدود سنة 1315) في طهران، رأيت نسخة من الفهرست في مكتبة العالم
الكبير الحاج ميرزا أبو الفضل الطهراني. وهذه النسخة طبعت في " ليدن ".
وهي من حيث الاتقان وجودة الطباعة رائعة بالغة القيمة. وبعد أن تكبدنا
مشقة ترجمة ما كتب باللاتينية في آخرها من شرح، اتضح أن الناشر بذل جهودا
كبيرة في مقابلة النسخ والدقة في التصحيح. والآن، فإن النسخة التي
استنسختها بخطي في ذلك التاريخ لا تزال موجودة بنفس الخط والورق ".
ومما يبعث على العجب، أن العلامة الطهراني مع اعجابه بهذه النسخة لم
يأت لها بذكر أصلا في الذريعة في ذيل اسم " الفهرست " واكتفى بما قرره عن
طبعة الهند. أ لا يرقى الظن بهذه القرينة، وقرينة أن أحدا آخر لم ير نسخة
هكذا من كتاب الفهرست أو تكن لديه إشارة عنها، إلى أن العلامة المذكور قد
اشتبه عليه الأمر وظن طبعة الهند طبعة ليدن، أو أنه أثناء كتابة الوصف (الذي
ذكرنا خلاصته) يكون قد نسي خصوصياتها نظرا لطول المدة واختلط الأمر
عليه؟!
اعتبار الفهرست والانتقادات الموجهة إليه:
حتى نقدر ما لكتب الشيخ الطوسي من اعتبار، يجمل بنا قبل تناول الكتب
بالدرس أن ننظر إلى ما يحتازه مؤلفه من اعتبار. لقد كانت عظمة مقام الشيخ
العلمي ورفعة شانه بحيث لا يطرأ على الذهن سوى التسليم بعظمة كتبه ورفعة
مكانتها. إن كتبه في كل قسم كانت فتحا لطريق جديد وابتكارا لأسلوب
وعرضا لقدرة علمية فائقة يندر وجود سابقة لها.
فلا يخفى على أحد أن كتابيه " التهذيب " و " الاستبصار " في عداد كتب
الحديث الأربعة المشهورة وكتبه الفهرست والرجال واختيار الرجال ثلاثة من
الأصول الأربعة العمدة في علم الرجال. وكتبه الأخرى، كل في قسمه الخاص
من تفسير وكلام وأصول وفقه ممتاز مشخص على خط من الابتكار.
وعليه، فإن الخدش في آرائه ونظراته في فن الرجال أمر صعب وبعيد عن
الاحتياط. وبالفعل كان كتاباه الفهرست والرجال فيما بعده من الأدوار مورد
اهتمام وعناية العلماء الكبار المشهورين أمثال المحقق والعلامة وابن طاووس و
الشهيد وغيرهم. وعلى حد قول العلامة الكلباسي في سماء المقال
(ص 52):
" لقد نظر إلى مشهوري العلماء والتواثيق والتضعيفات وغيرها من نظراته
للرجال بعين الاعتبار والاتقان.
وعلى الرغم من هذا كله، لا نستطيع أن نصف كل أقوال الشيخ الكبير
الطوسي في الرجال بالصحة، ونغمض العين عن وجود بعض الاشتباهات في
كتبه، وان وجب الاذعان لكون هذه الاشتباهات نادرة وتعتبر بطبيعة الحال كلا
شئ بجانب نظرات شيخ الطائفة الدقيقة الصائبة.
ولقد أشار المحقق الرجالي في أيامنا هذه الشيخ محمد تقي الشوشتري في
عموم كتابه التحليلي الجامع " قاموس الرجال " إلى موارد أخطاء الشيخ (قدس
سره) الواقعة في كتابيه " الفهرست " و " الرجال " ومن جملة ذلك ما عرضه في
الفصل العشرين من مقدمات الكتاب المذكور من نموذج لها في ترجمة " أبي غالب
الزراري ".
وبناء على ما أظهره المحقق المذكور، فان الموجب الأصلي لاشتباهات
الشيخ هو أنه نقل في موارد كثيرة عن " فهرست ابن النديم " وهو غير بالغ في
دقته وليس محلا للاعتماد. ومن ثم كلما وجد اختلاف بين نظر الشيخ
والنجاشي في مورد ما، فإن كلام النجاشي هو المقدم، لأنه لم ينقل في كتابه كله
عن الكتاب المذكور الا مرة واحدة. (1)
ومع هذا، لا نستطيع أن نحكم بصورة دائمة بتقديم كلام النجاشي على
الشيخ في موارد الاختلاف بينهما، إذ أن الحكم في غالب الموارد هو القرائن
والإمارات الخارجية.



* لعل القطع الوزيري هو ما يقال عنه باصطلاح المطابع في مصر 70 * 100.
(1) القاموس، ج 1 / 37 - 39.
198
(وسوف نستوفي الكلام في هذا الصدد في قسم تحت عنوان المقارنة بين
فهرست النجاشي والشيخ).
ما كتب من الكتب على محور الفهرست:
ان التذييلات والترتيبات المتعددة التي كتبت على محور هذا الكتاب فيما بعد
الشيخ من أدوار، دليل بارز على اهتمام الأصحاب به. وسنذكر تحت كل ما
وصلنا إليه في هذا المجال:
1 - معالم العلماء: تأليف رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب
المازندراني (المتوفى سنة 588) هذا الكتاب بناء على تصريح مؤلفه كتب لتتمة
وتكملة " فهرست " الشيخ - رحمة الله عليه - ويشتمل علاوة على ما ورد في
الفهرست من أسماء، على أسماء جماعة من المعاصرين والمتأخرين عن الشيخ
أيضا. ومجموع من ورد ذكرهم فيه 990 شخصا ما عدا الشعراء. فإنهم
اختصوا بفصل في الآخر لذكر أسمائهم أيضا. وهذا الكتاب ولو أنه يشتمل
على أسماء 990 شخصا و 600 كتاب علاوة على المذكورين في الفهرست، الا أنه
نظرا لحذف الأستاذ يبدو مختصرا في مجموعه بالنسبة للكتاب المذكور.
وأحيانا ما يعقب أسماء الأفراد بالإشارة إلى توثيقهم أو ضعفهم وكذلك
تاريخ وفاتهم. وهذا امتياز آخر لهذا الكتاب على فهرست الشيخ. وفي ترتيب
الأسماء روعي الحرف الأول، أما الحرف الثاني والثالث... فلم تراع. وعليه
فهناك ترتيب بين " أحمد " و " وبلال " ولا ترتيب بين " إبراهيم " و " احمد ".
وطبع هذا الكتاب لأول مرة سنة 1353 في طهران بعناية المرحوم عباس
اقبال الذي قام بتصحيحه ومقابلته والتقديم له. وطبع مرة أخرى سنة 1381
مع تعليق ومقدمة مفصلة للسيد صادق بحر العلوم في 153 صفحة في المطبعة
الحيدرية بالنجف. وهو في متناول اليد.
2 - فهرست الشيخ منتجب الدين علي بن أبي القاسم عبيد الله بن بابويه
القمي (وتوفي بعد 585). (1)
اسم هذا الكتاب " أسماء مشايخ الشيعة ومصنفيهم ". وموضوعه، ذكر
أصحاب الأصول والمصنفين الذين جاءوا بعد الشيخ الطوسي أو عاصروه ولم ترد
أسماؤهم في " الفهرست ". فهذا يتفاوت من حيث الموضوع، لاشتماله على
المعاصرين و المتأخرين عن الشيخ، مع كتاب معاصره يعني معالم العلماء
المتضمن للمتقدمين على الشيخ. وبناء على تحقيق عباس اقبال في مقدمة معالم
العلماء، فإن هذين الكتابين مع كونهما من عالمين معاصرين وانهما صدرا في
وقت واحد تقريبا، قد كتبا دون علم لأحدهما بالآخر. وهذه الحقيقة لا تقبل
الشك بالنسبة للشيخ منتجب الدين، لأنه في مقدمة كتابه بعد أن ذكر
الفهرست، أضاف قوله: " ولم يصنف بعده شئ من ذلك... " وعليه،
فاما أن يكون معالم العلماء في ذلك التاريخ ما زال يؤلف بعد، وأما أنه لم يصل
إلى علم الشيخ منتجب الدين.
وترتيب هذا الكتاب عين ترتيب كتاب المعالم بلا زيادة ولا نقصان
وحجمه أقل منه. وقد طبع مرة واحدة فقط بقطع كبير (رحلي) [*] منضما إلى
الكتاب المعروف بحار الأنوار (في أول المجلد الخامس والعشرين) طبعة
حجرية. وهو في حاجة إلى التصحيح وتجديد الطبع.
3 - تلخيص الفهرست، تأليف الشيخ نجم الدين أبي القاسم جعفر بن
الحسن بن يحيى المعروف بالمحقق الحلي (المتوفى سنة 676).
اكتفى في هذا الكتاب باسم الرجال والكتاب وبعض خصوصياتهم،
وحذفت أسماء الكتب وكذلك سند المؤلفين. وبناء على ما نقله العلامة
الطهراني في الذريعة، فإن نسخة من هذا الكتاب توجد في المكتبة الخاصة
للسيد حسن الصدر.
4 - ترتيب القهيابي:
المولى عناية الله القهيابي كما علمنا جامع الأصول الأربعة الرجالية في
مجموعة " مجمع الرجال " وقد رتب جانبا من هذه الأصول أيضا على حدة،
سبق أن تكلمنا عنها عند الكلام عن ترتيب اختيار الرجال. ومن بين الكتب
التي رتبها " الفهرست " وقد ذكر هذا بنفسه في مقدمة مجمع الرجال. (2)
5 - ترتيب البحراني:
الشيخ علي بن عبد الله الأصبعي البحراني (المتوفى سنة 1127) هو الآخر
رتب الفهرست. وهذا الكتاب ثابت برقم 277 في المجلد الرابع من الذريعة.
وليس لدينا اطلاع عن خصوصياته، وعما إذا كانت نسخة منه باقية أم لا وأين
هي.
6 - شرح الفهرست:
شرح الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله البحراني الماحوزي (1075 -
1121) الفهرست وصححه ورتب تراجمه وأطلق عليه " معراج الكمال إلى
معرفة الرجال " ولكن هذا الكتاب لم يكتمل، ولم يكتب منه إلا حرف الألف
(بناء على قول الكلباسي في سماء المقال / 42) أو كتب منه حتى حرف التاء
(بناء على رواية السيد صادق بحر العلوم في مقدمة رجال الشيخ عن قول
الشيخ يوسف البحراني في لؤلؤة البحرين).
7 - بناء على ما نقله العلامة الطهراني في الذريعة (ج 4 / 66) فإن أحد
الفضلاء رتب الفهرست بترتيب الحروف: الحرف الأول والثاني والثالث.
وفرغ منه سنة 1005، وهو نفس النسخة التي طبعت في كلكتا سنة 1271
الهجرية.
الشيخ محمد تقي الآملي ابن محمد
ولد في طهران سنة 1304 وتوفي فيها سنة 1391.
درس في طهران على والده وعلى غيره من علماء طهران. ثم سافر إلى
النجف الأشرف فحضر دروس النائيني والفيروزآبادي والخوانساري والعراقي
والكمباني، وبعد انهاء دراسته عاد إلى طهران فأقام فيها ما يقارب الأربعين



(1) كان منتجب الدين معمرا وفي سنة 600 ه‍ حصل على الإجازة العامة لرواية الحديث والدليل على
ذلك، لقول الآتي: " قال ابن الفوطي في مجمع الآداب في تلخيص معجم الألقاب في كتاب الميم
ص (775): منتجب الدين أبو الحسن علي بن عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن الحسن بن
الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الرازي المحدث المقري، ذكره الشيخ الحافظ
صائن الدين أبو رشد محمد بن أبي القاسم بن الغزال الأصبهاني في كتاب الجمع المبارك والنفع
المشارك من تصنيفه وقال: أجاز عامة سنة ستماية، وله كتاب الأربعين عن الأربعين رواه عنه مجد
الدين أبو المجد محمد بن الحسين القزويني... " (حواشي وتعليقات ديوان قوامي الرازي، من
جلال الدين المحدث الأرموي / 299).
* القطع الرحلي هو ما زاد في الحج عن 70 * 100.
(2) الذريعة، ج 4 / 64.
199
السنة مرجعا من مراجعها.
له من المؤلفات: شرح على منظومة السبزواري، شرح على الإشارات لابن
سينا، حاشية على المكاسب للأنصاري، حاشية على العروة الوثقى.
الدكتور محمد جواد باهنر
ولد سنة 1352 في مدينة كرمان بإيران واغتيل سنة 1401.
درس المقدمات في كرمان ثم انتقل إلى مدينة (قم) حيث درس على السيد
حسين البروجردي والسيد محمد حسين الطباطبائي وغيرهما ثم نال شهادة
الدكتوراه من كلية الإلهيات في جامعة طهران.
اختير رئيسا للوزراء في عهد رئاسة (رجائي) للجمهورية، ثم اغتيل معه
في تفجير مكتبه. وهو من المؤسسين لحزب الجمهورية الاسلامية إلى جانب
أركانه البارزين.
له من المؤلفات: معرفة الخالق، معرفة الاسلام، دروس من أصول
الدين، العالم في عصر البعثة.
محمد حسين آزاد
ولد في دهلي سنة 1245 وتوفي في لاهور سنة 1328.
بعد الشاعرين أنيس ودبير جاء عصر جديد بالعلوم والأفكار والنهضة
السياسية في الهند وكان الإنكليز قد سيطروا على البلاد فواجه الشعر والنثر
حالات طارئة حديثة، كان لا بد فيها من شئ جديد. هنا يبرز رجل عظيم
وكاتب مبدع ومصنف خالد، يدعو للتجديد، هو محمد حسين آزاد.
استقبل آزاد عهدا جديدا فكتب مقطوعات من الشعر الجديد ودعا إليها
فاستجاب له المستجيبون واتبعوه، وكان أولهم (حالي) غير الشيعي.
كان آزاد حامل لواء الأدب الجديد والشعر الحديث في الهند. وقد جمع
شعره في ديوان سمي (نظم آزاد) وهو مطبوع
(راجع ترجمة أنيس وراجع ترجمة دبير في محليهما من هذا الكتاب).
السيد محمد حسين الطباطبائي
مرت ترجمته بقلمه في الجزء التاسع الصفحة 254 ونزيد عليها هنا بعض ما
جاء في كتابه (الشيعة والإسلام) المترجم عن الفارسية ولم يذكر اسم
المترجم:
ذاعت شهرته في إيران بعد أن هاجر إلى قم، فشرع بتدريس التفسير
والحكمة، وكان لمحاضراته في الحوزة العلمية اثر بليغ في طلابها، بل شملت
غيرهم من المثقفين. فكانت لقاءاته مع الأستاذ " هنري كربن " مستمرة في كل
خريف يحضرها جمع من الفضلاء وتثار فيها المسائل الدينية والفلسفية وقد اهتم
بتدريس الحكمة، فشرع بتدريس كتاب " الشفاء " و " الأسفار " كما اهتم
بتدريس التفسير.
الشيخ محمد رضا الشبيبي
ولد في النجف سنة 1306 وتوفي سنة 1385 في بغداد ودفن في النجف.
مرت ترجمته في المجلد التاسع الصفحة 287 ونشرنا له هناك قصيدتين لم
ينشرا في ديوانه. ولما كان ديوانه مفقودا ولم يعد طبعه بعد طبعة 1940 آثرنا أن
ننشر هنا هذه القصائد:
قال وقد قدم لها بما يلي:
أشهر أيام الحرب العراقية ان لم يكن أعظمها يوم الشعيبة ذلك اليوم الذي
استنفر إليه أهل البلاد من حاضر وباد قلت قبيلة أو مدينة لم يشهده منها جماعة
أضف إلى ذلك عظيم محنتهم وقد رابطوا عدة شهور في النخيلة صابرين على ما
لا يصبر على مثله من جدب المكان وشظف العيش إلى أن منوا بذلك الخذلان
العظيم ومجمله أنه في أوائل صفر سنة 1333 ورد بغداد أمير الآي اسمه سليمان
عسكري بك متقلدا قيادة الجيش العثماني العامة في العراق خلفا لجاويد باشا
ومعه فريق من الجنود التركية المدربة انحدر بها إلى القرنة وواقع الإنكليز هناك
في منتصف صفر المذكور فجرح جراحا بليغة أعيد بسببها إلى بغداد وأقام في
المستشفى شهرين لم ينجح فيه علاج لكنه أبي مع هذا أن يستقيل وثابر على تدبير
الأمور الحربية والنظر فيها متوقعا البرء التام ليعود إلى الميادين ولما طال ذلك
عليه صمم على أن يتحامل ويقود الجيش بنفسه في وادي الشعيبة دوين البصرة
فحمل في محفة من بغداد إلى الناصرية بعد أن تقدم بان يحتشد فيها الجيش المؤلف
من ثلاث كتائب (الآيات) واحدة تركية واثنتان ملفقتان من العرب والعراقيين
والأكراد ومعها عدة رشاشات ونحو أربعين مدفع سهل قام هذا الجيش منتصف
جمادى الأولى سنة 1333 من الناصرية إلى المعسكر العام في النخيلة مشيا على
الأقدام وبعد يومين أو ثلاثة من وصوله زحف بايعاز من القائد العام هو والعرب
المجاهدون على الشعيبة وهاجموا الإنكليز وهم فيها أمنع من عقاب الجو صباح
الاثنين السابع والعشرين من الشهر المذكور هجوما شديدا دام يومين بدون
طائل إلى أن ارتدوا فشلين فاغتنم الإنكليز انقطاع الطرق والمواصلات بهم
وغلبة الأعياء والتعب عليهم وسوء أثر العطش والجوع فيهم فاتبعوهم
وناجزوهم صباح الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة 1333 مناجزة
شديدة غلب في آخرها العثمانيون غلبة تامة وفقدوا نصف ذلك الجيش بين قتيل
وجريح وأسير وفقيد وانتحر سليمان عسكري بك:
نبت الربى حمر أشلاء وأوراد * منثورة لك بين القصر فالوادي
دون الشعيبة أجساد موزعة * في البيد توزيع أعضاء بأجساد
وفي النخيلة أرماس موثقة * علائقا بين أسياف وأغماد
للترك ثمة أوتاد وأخبية * فيها أصيبوا وشجوا شج أوتاد
جيش أقام ثلاثا في خنادقها خالي الحقائب من ماء ومن زاد
ماء الفراتين موفور وحبهما * والجند غرثان ملتاح الحشا صادي
الغلة الغضة المجنى التي نهبت * متروكة نهب أيدي الرائح الغادي
أقواتنا في بطون الذر أكثرها * لا في بطون صعاليك وأجناد
صم مدافعنا ما أمطرت حمما * ولم تكن ذات ابراق وإرعاد
ننازل القوم فاتوا ذرع فيلقنا * بعدة وكثرناهم بأعداد
عشرون ألف عراقي ومثلهم * حمر الحماليق من ترك وأكراد
مشمرون تجافوا عن ديارهم * واستبدلوا الوحش من أهل وأولاد
مكابدون على حالي حفا ووجى * في الرمل كلفة أغذاذ واساد
بحر من الرمل قامت عن تغطمطه * تنزو غوارب أمواج وأزباد
يهاجمون وهم رجالة كشف * في البر جملة أسوار وأسداد
فل العدو جناحيهم وقلبهم * من قبل تجهيز أعوان وأمداد
ان الدماء التي حلت نحورهم * قد أوهمتنا عقودا فوق أجياد
تلك الجماهير لا تلوي على أحد * مخفة بعد أثقال وأزواد

200
الصادرون وقد أكدت مطامعهم * من بعد ما أوردوها شر إيراد
والراصدون من الفيحاء ثروتها * باتت مناياهم منهم بمرصاد
وقائد حملوه في محفته * إلى الشعيبة من زوراء بغداد
أفاتك بالعدى جيش يدبره * معطل الجسم ملقى فوق أعواد
جرى سليمان في استعجال مصرعه * مجرى كفاة بأمر الحرب قواد
قاد الألوف فأرداها واتبعها * في الحال نفس أبي غير منقاد
مخاطر عاش اعمارا لأن له * في أثر كل نجاة يوم ميلاد
وكثرة أعجبته من كتائبه * فراح للنصر فيها أي مرتاد
كأنه والمقادير التي سبقت * على مقر وميقات وميعاد
ظن الألوف من الأعراب تعضده * فكان ما ظنه فتا باعضاد
ان القصور التي جلت عمارتها * أمست صوامع رهبان وعباد
سقيا لواديك لا من ماء غادية * كأن أجزاءها علت بفرصاد
وقال يصف وقعة المدائن وقدم لها بما يلي:
ان هذه الوقعة من أكبر الوقائع في العراق وأشهرها تسميها العامة واقعة
سلمان باك خسر فيها الفريقان أكثر من عشرة آلاف جندي خلاصتها ان
الإنكليز زحفوا في أوائل المحرم سنة 1334 من كوت الامارة بقيادة الفريق
طاونسند قاصدين أخذ بغداد فصمد لهم العثمانيون بقيادة نور الدين باشا قائد
الجيش العثماني العام وتحصنوا في أنقاض المدائن قرب مشهد سلمان الفارسي
وبدأت المناوشات بين الفريقين منذ المحرم سنة 1334 ثم شرع الإنكليز
بهجومهم العنيف الشديد يوم الاثنين في 14 المحرم بعد تمهيد هائل بالمدفعية لم
يسمع البغداديون نظيره فاستولوا أول الأمر على خنادق العثمانيين وتأخر الأتراك
إلى ديالى فاشتد الأمر على الناس وكثرت الأراجيف ثم كرت الجنود التركية
الجديدة التي كانت تتواصل منذ أوائل المحرم من السنة المذكورة بقيادة خليل
باشا ومحمد علي بك على العدو كرة شديدة واستقتلوا وتغامسوا مع الإنكليز
بالحراب فكشفوهم وأورثوهم وهنا بينا بعد أن دامت الحرب أربعة أيام بلياليها
حتى اضطر الإنكليز إلى الانسحاب فجأة ليلة 19 المحرم فثابرهم الأتراك إلى
يوم 26 منه وفيه ضرب الحصار على كوت الإمارة:
أعالم بالذي وافت مدائنه * كسرى وإيوانه المعقود والسور
يا أعدل الناس قم للناس أوصهم * ان الوصية شئ عنك مأثور
اسمعهم بعد أن صحت اصفحوا انتقموا وقل لهم بعد أن قلت اعدلوا جوروا
أبعد عشرين قرنا لم يزل ذلقا * قيل السياسة والبهتان والزور
أبا المدائن في أيامك انبعثت * وفي مدائنك السبع الأعاصير
ما في البسيطة من أنس ومن بشر * إلا الوحوش تعادى واليعافير
مدائن اردشير الملك خططها وقام في عقرها كسرى وسابور
لولا بلى طيسفون والبلى حرم * دكت كما دك من أركانه الطور
من حاسديك على هذا البلى كرة * لم يبق في ربعها المعمور معمور
الأرض كاسفة الأرجاء قد عبثت * فيها الصروف ونابتها التغايير
رواية النصر صحت بعد ما اشتبهت * وحينما رجمت عنك الأخابير
لتذكري بخليل أو بفيلقه * سعدا وفيلق سعد فيك منصور
كل همام وكل ليث ملحمة * أزل دامية منه الأظافير
تجاه إيوان كسرى مازق ضنك * أودى الرجال به والخيل والعير
كادت تميز ذبا عن حقائقها * فيه النقوش وتستضري التصاوير
شأو تعاطت سباقا دون غايته * جرد البصائر والجرد المحاضير
ان كان للخيل مضمار ومضطرب * فكم خلت ثم للرائي المضامير
قتلى بدجلة منها دجلة امتلأت * والنهروانان والأنقاض والدور
من لم يلذ يوم ساباط وليلته * صوب النجاة فمقتول ومأسور
يوم أغر من الأيام منبلج * وموقف في سبيل الله مأثور
من جالب جرح بغداد وقد علمت * ان الرشيد بذاك الجرح موتور
للكرخ عهد من المأمون مؤتمن * وفيه روح من المنصور منصور
أيستبيح الحمى قوم أمامهم * ومن وراء الحمى غلب مساعير
يا من أحبوا على الدنيا شهادتهم * تزينت لكم الولدان والحور
وقال بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى واحتلال الانكليز لبغداد
والفرنسيين لدمشق:
ما ذا بنا وبذي البلاد يراد * فقدت دمشق وقبلها بغداد
من موطن الميعاد (1) قامت نزعا * خيل لهن بجلق ميعاد
ساءت وقائعها وما سرت بها * لا الهجرة الأولى ولا الميلاد
وردت مياه الرافدين (2) مغيرة * شقر من القب البطون وراد
هجن طردن من الجياد كرائما * عربية فكأنهن جياد
بردى وأودية الفرات ودجلة * والنيل غص بمائك الوراد
حال العلوج من الأحامر بيننا * وتعذر الاصدار والإيراد
لا ساغ يا بردى الشراب ولا هنا * عذب من الماء القراح براد
نبأ بأعلى قاسيون تجاوبت * بدويه الأغوار والأنجاد
وأصاب بحر الروم حتى عبرت * عن شجوه الأمواج والأزباد
حولان حال الشرق حالت فيهما لا تكلم الأحقاب والآباد
الشرق مسود الجوانب كله * ليس العراق وما لديه سواد
أعياد هذا الشرق صرت مآتما لكنها لعداتنا أعياد
الجو وهو مقطب متجهم يبكي
لنا والأرض وهي جماد
لسنا نحد عليك يوما واحدا * أو ليلة كل الزمان حداد
شل العداة جموعنا فتفرقت * في الخافقين كأنها أذواد
آحادهم فينا جموع جمة * مرهوبة وجموعنا آحاد
في كل يوم للعدو مهابة * فينا تقوم وقدرة تزداد
أنا لست منتظرا تألف شملنا * شمل العراق وساكنيه بداد
يا راكبين إلى دمشق تزودوا * مني السلام لكل ركب زاد
الملك مضطرب النظام كأنه * جسد دمشق الشام منه فؤاد
هل في مروج الغوطتين لأهلها * ولرائديها مربع ومراد
وهل الربى حلل ضواف طرزت * وطرزاها الأزهار والأوراد
وشيت من الروض الأريض مطارف * خضر الأديم وفوفت أبراد
بين المعاطف والغصون تشابه * في الحال كل مورق مياد
تلك القصور كأنهن قلائد * فوق الشطوط كأنها أجياد
أو ما تزال على معاهد جلق * ترد الضيوف وتصدر الوفاد
يحلو لها هذا القريض مهذبا * ويروقها الإنشاء والإنشاد



(1) أرض الميعاد فلسطين.
(2) الرافدان دجلة والفرات.
201
غدت العواصم خطة مغزوة * لا الخيل تعصمها ولا الأجناد
لا آل حمدان ولا أيامهم * فيها لهاتيك الثغور سداد
المصلتون سيوفهم ليست لها * إلا رقاب عداتهم أغماد
أخذوا المضايق والدروب تغلغلت * فيها الجيوش وأمعن القواد
ضاقت على سعة المجال بجندهم * شعف الجبال وغصت الأسناد
فوق الجنادل راسخات مثلها * صم الصفاة من القلوب صلاد
سمعوا الصريخ فأنعموه إجابة ما ذاك إلا أنهم أنجاد
الذاهبون مضى لنا بذهابهم * في الله جد دائم وجهاد
خنا ذمام الفاتحين وعهدهم * ما هكذا تستنجب الأولاد
إنا بما نجني وهم فيما جنوا * بئس البنون ونعمت الأجداد
كانت حفائظ يعرب إن صوليت * نارا ونار الآخرين رماد
إني يذكرني الشهامة عنتر * فينا ووالد عنتر شداد
ويهزني عصر العراق تسوسه * لخم وآل محرق واياد
يا أيها الجيل الطريد كم انقضت * فيما تحاول غارة وطراد
وعدت بغربتك الرواة وانه * حتم عليك كما بدئت تعاد (1)
مما أضعتم من تراث بابل * ومصانع الخلفاء والأسداد
لم تخلفوا باني السدير بما بنى ومشيديه بما أتوه وشادوا
لولا التفكر في مصير بلادكم * تالله ما ضاقت علي بلاد
إني أبيت لأجلها متململا * قلق الوساد وما لدي وساد
أضدادكم متساندون قد اجتنوا * ثمر الوفاق وأنتم اضداد
نبذوا لكم ثمن البلاد وفيكم * من لا يشك بأنهم أجواد
وعدوكم الاصلاح فلتتوقعوا * برقا جوانب وعده إيعاد
إطلاق أيدينا على أيدي العدى * رق وفك أسارنا استعباد
ما ولد الآثار إلا معشر * حركوا الطباع وجودهم إيجاد
القوم ملح بالحديث قديمهم * فرقوا وزين بالطريف تلاد
ألقى أعنته الهواء إليهم * والماء صعب كليهما منقاد
هانت على السفن التي مخرت بهم * لجج المياه كأنها أثماد
كم بين من بلغوا السماء وبيننا * نحن الذين خيالنا منطاد
هل في غياض الدردنيل مجاوب * إن قلت لم لا تزأر الآساد
خرس المقاول ناطقون دهاهم * ريب الزمان وغيب اشهاد
أسماؤكم فيما ظننا جنة * مما نخاف وعدة وعتاد
الصدر في دار الإمارة " طلعة " * وممالئوه والإمام " رشاد "
أأفادكم شن الحروب تتابعت * وأنالكم ما لا ينيل حياد
رفع الخيال لكم وقرب روضة * غناء تسقى بالمنى وتجاد
ثمن دنا منه القطاف زعمتم * سفها وزرع حان منه حصاد
رفع الهلال عن السماء وقد خبا * أو كاد ذاك الكوكب الوقاد
لله اكتاد عوات حملت * ما ليس تحمل بعضه أكتاد
من كل قاصية لأخرى لم تحط * تجبى الجنود وتجلب الأمداد
ما بين مصر والحجاز تطاحن ومن العراق إلى الخليج جلاد
يتزودون من التجلد كلما * قل المتاع وخفت الأزواد
ويعللون جريحهم بأدائه * فرض الدفاع كان ذاك ضماد
يا للرزية كم تفرق بيننا * وتضلنا الأضغان والأحقاد
لا تبرد الأكباد فيما بيننا * حتى تذوب وتعطب الأكباد
الآن لا الحجاج فينا قائم * لننال منه ولا الدعي زياد
حسب البغاة الظالمين تربص * بالمسلمين وحيلة وكياد
ان الزعامة سلمت لزعانف * في الشرق قادوا أهله فانقادوا
انظر إلى الاعجاز كيف تصدرت * وعمائم السادات كيف تساد
شر العصور وفي العصور تفاوت * عصر به تتقدم الأوغاد
أما مخازيهم فليست تنتهي * ولو انقضت وتناهت الأعداد
ولو أن أشجار البسيط يراعة * والأرض درج والبحار مداد
قال وقدم لها بما يلي:
السيد محمد سعيد بن السيد محمود الحسني الشهير بحبوبي النجفي الشاعر
البليغ المعروف زعيم النهضة العراقية المأثورة المتوفى عشية الأربعاء ثاني شعبان
سنة 1333 في دار الجهاد بناصرية المنتفق المحمول إلى النجف المدفون في المشهد
العلوي كان نهوضه من النجف بالدعوة إلى الدفاع في المحرم سنة 1333 فأجابه
خلق من أهل الفرات والغراف والمجرة سار بهم إلى الشعيبة إلى أن كان ما كان
من الخذلان المعروف هناك فعاد إلى الناصرية ورابط فيها إلى أن مات:
عم الثغور الموحشات ظلام * ودجت لأنك ثغرها البسام
طوت الفيالق نكسا أعلامها * إذ ليس تخفق بعدك الأعلام
رابطت في ثغر العراق وثغرها * يحمي الحجاز بسده والشام
سقط الذي شيدت من أركانه * وأعيد فيه النقض لا الإبرام
رام العدو بك الوثوب فأدركوا * من غير أن يتكلفوا ما راموا
صالت على تلك المنية أختها * وسطا على ذاك الحمام حمام
لله تسعة أشهر موصولة * طالت عليك فكل شهر عام
شهر الصيام أتى فراعك أنه * في ظل غير المسلمين يصام
شهر الإطاعة والعبادة خائف * من أن تطاع وتعبد الأصنام
فارقته لا ذلك الليل الذي * يحيا ولا تلك الصلاة تقام
لك في الدفاع موفر أجر الأولى * في الثغر صلوا خاشعين وصاموا
ما كنت تؤثر في جهادك لذة * فيسوع شرب أو يطيب طعام
قلق وغيرك ساكن ومسهد * والمسلمون مهومون نيام
القوم دونك حائرون لدينهم * والناس بعدك والهون هيام
ما حبهم لك حب راج حظوة * في الحب بل هو لوعة وغرام
علم الرجال الحاملوك بأنهم * حملوا الصلاة فكبروا وأقاموا
فعليكما من ذاهبين تحية * وعليكما من غاديين سلام
إذ لست وحدك في الحقيقة ذاهبا * طي الردى بل أنت والإسلام
الآن لما غيبوك تيقنوا * أن الحياة جميعها أحلام
أين البسالة والعدالة والتقى * أين الحفاظ المر والإقدام
أين الذي بثباته ثبت الورى * وتزلزلت من بعده الأقدام
هل كان يومك وهو بغتة باغت * طيف الكرى وطروقه إلمام
يوم يكاد الدهر ينكر عده * منه وتطلب لغوه الأيام



(1) إشارة إلى حديث بدئ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدئ.
202
أأبا الفريق البائسين كفلتهم * ورعيتهم فإذا هم أيتام
أدركت أن ستدول دولة أحمد * وعلمت أن ستبدل الأحكام
وتكذب الآيات وهي حقائق * مجلوة وتصدق الأوهام
ترك الإقامة في المقام فريضة * وتطلب البيت الحرام حرام
يستعظمونك في ابتكارك نهضة * وشؤون ذاتك كلهن عظام
قدت القبائل في الإمامة فيهم * فمن الإمامة في يديك زمام
شافهتهم بالدر وهو مباسم * وأخذتهم بالسحر وهو كلام
كلم بها وبمعجزات مثلها * تجلى العقول وتصقل الأفهام
أصلحت شأنهم وكانوا عصبة * لا الدين يحجزهم ولا الأرحام
عقدوا عليك خناصرا وتأكدوا * أن الوكيل عن الإمام إمام
وسعوا إليك فثم ودت أنها * تسعى الرؤوس إليك لا الأقدام
وتكاثفوا يطاون عتبتك التي * عنت الوجوه لها وذل الهام
وبدا جبينك فيهم فتهافتوا شأن الفراش فهم عليك حيام
أيد يؤثلن الثناء وأنعم * لك في رقاب المسلمين جسام
خلدن ذكرك ليس تدرك ثلمة * منه السنون الغبر والأعوام
قال وقد سماها لامية العرب الجديدة:
يسائلني من لو درى لم يسائل * أنا الآن في شغل عن الرد شاغل
ويطلب مني أن أقول ولم أشأ * ولو شئت لم أترك مقالا لقائل
من الحق حبس الشعر إلا لغاية * تفرق فيها بين حق وباطل
إذا أنت كابرت الحقيقة عبرت * فصاحة قس عن فهاهة بأقل
كفى الشعر ذما إن للشعر قائلا * وما هو إلا قائل غير فاعل
ولا خير في شعر إذا لم يقم به * خمول نبيه أو نباهة خامل
إذا قلت إن الشعر بحر غبنته * متى يستقيم البحر من غير ساحل
قرائحنا منها بحور خضارم * ومنها إذا جربت رشح الجداول
واجمع أقوال الرجال أسدها * معان كبار في حروف قلائل
وقد يفضل البيت البليغ قصيدة * مطولة لكن على غير طائل
وقد يبلغ اللفظ القصير رسالة * إذا عدت الألفاظ روح الرسائل
بلاغة سحبان وراء لسانه * وأبلغ منه قلب سحبان وائل
وكم راجل في حلبة الشعر رامها * فأصبح فيها فارسا غير راجل
وساجله قوم إلى أن رماهم * بما كف من غرب الفريق المساجل
وكم شعراء في القبائل غبروا * بما أنشاوه في وجوه القبائل
إذا نبغوا في قومهم حفلوا بهم * ولم يعهدوا من قبل عقد المحافل
نشيدك من أبيات شعر نواقص * دليل على أبيات شعر كوامل
أما رفع الطائي في الذكر نعتنا * وتشبيهنا أشعاره بالسلاسل
من الشعر هزل مستفاد وربما * أتاك صريح الجد من هزل هازل
وتعجبنا منه حقائق جمة * على أنها منا تخاييل خائل
أحاول طورا منه صعبا وطالما * أتى طائعا حاولت أو لم أحاول
ويلذعني منه شرار قدحته * وقد أتلقى منه ريا الخمائل
ترى الذهن حينا حائلا غير لاقح * بشئ وحينا لاقحا غير حائل
أهيم بسر الابتكار لأنني * - وقد طال عهدي - لا أرى غير ناقل
ويحزنني أن الأواخر قصروا * ولم ينزعوا في الفضل نزع الأوائل
ولم يرثوا من ديدن القوم قبلهم * سؤال مجيب أو إجابة سائل
عفت بابل أم العراق وجددت * معانيك إذ أوتيتها سحر بابل
معانيك أرواح هياكلها اللغى * وسرك في الأرواح لا في الهياكل
تمر بك الأسراب من كل خاطر * فتنقض فيهن انقضاض الأجادل
وتنصب للفظ الشرود حبائلا * فيأخذ من يصغي له بالحبائل
وتسجع ألحانا تثير بلابلا * وتنسي حسان الطير سجع البلابل
تسافر من معنى بعيد لآخر * وتطوي سهوب الفكر طي المراحل
إذا ارتفعت نفس وجلت تعشقت * جلال المعاني لا جلال المنازل
أرى غربة الإنسان شتى صنوفها * وأعظمها لقيان من لم يشاكل
وما كل ربع غص بالناس آهلا * وإن كان من معروفهم غير آهل
وكم هيكل حال كان لم تحله * وكم عاطل من حلية غير عاطل
يقر لعيني أن تطالع صاحبا * إذا طال في الأقران لم يتطاول
يعالج أضداد الطباع بمثلها * ويلقى بمر البأس حلو الشمائل
يهون خروج المرء من كل مأزق * إذا كان دأب المرء لطف المداخل
أضاع صوابي عامل غير عالم * سيسأل عنه عالم غير عامل
أحب إلى الديان من علم عالم * إذا هو لم ينفع به جهل جاهل
إذا لم يزدك العلم تقوى وعفة * فمن قلة التحصيل حفظ المسائل
وطعنك في إحساب قوم ذريعة * إلى الطعن في لباتهم والشواكل
ومن يدعي أن الشكوك فضيلة * فإني أرى الايمان رأس الفضائل
تزول ظلال الناس عنا سريعة * ولله ظل فوقنا غير زائل
تداولت الأيام والحقب بيننا * لتلهمنا إكبار شأن المداول
من الجهل لا من صحة العقل أننا * نحكم في الأقدار أوهام عاقل
أمور باسعاف المقادير نلتها * على حين أعيى نيلها بالوسائل
أتأمل أن ترقى إلى الحق سلما * وتقعد عجزا تلك آمال آمل
لكل أوان سنة وفريضة * وليست فروض الناس مثل النوافل
توسط تزد شانا ففي الكف خمسة * وأطول ما في الكف وسطى الأنامل
إذا لم تصب فيما بذلت مكانة * فما أنت إلا مانع غير باذل
ذوو الجود من أن يعذلوا لم يفرقوا * أإغراء مغر ثم أم عذل عاذل
من الطبع والذوق السليم أدلة * كفت ناقد الأشياء وضع الدلائل
إذا قام حسن الشئ في حد ذاته فاثبات ذاك الحسن تحصيل حاصل
خذ الحذر أو لا تأخذ الحذر إنني * إذا جاء أمر الله بادي المقاتل
وما هالني كالموت شئ فإنني * أرى كل شئ غيره غير هائل
لقد فشلت أوهامنا وتخاذلت * من الموت لم يفشل ولم يتخاذل
سأقتل دهري خبرة وتجاربا * ولا رد للموت الذي هو قاتلي
كأن البرايا في الوجود قوافل * تسير إلى الأجداث إثر قوافل
فثمة ركب عاجل غير آجل * وثمة ركب آجل غير عاجل
عبورك من دار التقلب رحلة * إلى دارك الأخرى فكن خير راحل

203
محمد بن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمي الأصل المشهدي المولد
والمسكن
من تلامذة المجلسي صاحب البحار. له 1 - أرجوزة في المعاني والبيان في
مائة بيت وشرحها سنة 1074 وسمى الشرح انجاح المطالب في الفوز بالمآرب.
2 - التحفة الحسينية في اعمال السنة والشهور والأسابيع والأيام. 3 - كنز
الدقائق وبحر الغرائب، في التفسير، يقع في أربعة مجلدات كبار ألفه بين
السنين 1094 و 1103 وكتب المجلسي تقريظا له سنة 1102 كما قرظه آغا جمال
الخونساري سنة 1107. 4 - حاشية على الكشاف للزمخشري 5 - حاشية على
حاشية الشيخ البهائي على تفسير البيضاوي 6 - رسالة في أحكام الصيد
والذباحة. ومؤلفات أخرى.
ويقول السيد عبد العزيز الطباطبائي عن كتابه في التفسير: جمع بين
التفسير الأدبي واللغوي وبين التفسير المأثور عن أئمة أهل البيت
عليهم السلام.
ويتحدث عن المترجم قائلا: كان من اعلام المفسرين والمحدثين في بداية
القرن الثاني عشر، وفقدنا خبره بعد فتنة الأفغان في أصفهان سنة 1135 ولعله
استشهد في تلك الوقعة.
محمد شريف خان
ولد في دهلي سنة 1222
الحكيم الطبيب الفاضل. كان أول من ترجم القرآن الكريم إلى اللغة
الأردوية.
الدكتور الشيخ محمد مفتح بن محمود
ولد سنة 1347 في مدينة همذان واغتيل في طهران سنة 1399.
كانت دراسته الأولى في مسقط رأسه في المدرسة الابتدائية وعلى والده وعلى
ملا علي الهمذاني ثم انتقل إلى قم وتابع دراسته في حوزتها العلمية، ثم التحق
بجامعة طهران حيث نال (الليسانس) ثم (الدكتوراه) ثم تولى تدريس
الفلسفة في كلية الإلاهيات في جامعة طهران.
له من المؤلفات: شرح وتعليق على كتاب الأسفار لصدر الدين
الشيرازي، حاشية على منظومة السبزواري، رسائل في المنطق.
ابن الأبار محمد بن عبد الله القضاعي
مرت ترجمته في الصفحة 384 من المجلد التاسع ونزيد عليها هنا بحثا عن
كتابه (درر السمط) مكتوبا بقلم الدكتور رضوان الداية:
في الآثار الأدبية الأندلسية الباقية كتاب " لطيف الحجم، بل هو رسالة
صغيرة لابن الأبار القضاعي البلنسي الأندلسي سماه: " درر السمط في خبر
السبط " (1) خصصه لفصول قصيرة متلاحقة تتابع من وراء أسلوب أدبي ممتع
أطرافا من السيرة النبوية مما يخص النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم،
وزوجه أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وابنته البتول فاطمة
الزهراء وابنيها الحسن والحسين عليهم السلام.
وانفرد المؤلف بعد فصول بحديث أحد السبطين الكريمين فوقف عند
أخبار من أخبار الحسين بن علي عليهما السلام. متابعا الوقائع إلى ما بعد نكبة
كربلاء بما فيها من أحداث جسام.
والكتاب، من حيث تقويمه وتبويبه كتاب نثر أدبي فني، لكنه يتمركز حول
قضية تاريخية. ومن هنا جاء الكتاب متميزا بمزايا هذين الطرفين: طرف التاريخ
من جهة وطرف التعبير الأدبي المؤثر من جهة أخرى.
ولئن لم يكن الكتاب من حيث موضوعه وفكرته بدعا في الآثار الأندلسية
فإنه متميز من حيث طريقة عرضه، ومستقل بأسلوبه وصياغته، وخاص من
حيث الشحنة العاطفية الغامرة التي غلبت على جوانبه وفصوله.
لم يكن ابن الأبار أول من التفت إلى المديح النبوي، وتذكار ما أصاب
الحسين بن علي عليهما السلام، فقد سبقه عدد غير قليل من الأدباء والشعراء
نذكر منهم الكتاب الفقيه أبا عبد الله محمد بن مسعود بن أبي الخصال (2)
الغافقي المتوفى سنة 540 وأبا بحر صفوان بن إدريس التجيبي (561 - 598)
وغيرهما كثير.
ونذكر هنا أن ابن الأبار روى كتاب (مناقب السبطين) لأبي عبد الله محمد التجيبي (540 - 610) وأجيز فيه (من المؤلف) وهو ابن ثلاثة عشر عاما.
ويتألف الكتاب على صغر حجمه من مقدمة، وواحد وأربعين فصلا.
والمقدمة قصيرة مهمتها أن تبدأ الكلام، وأن تسوقه دون إطالة إلى الفصل
الأول الذي تتلوه الفصول الأخرى، دون مشقة.
وعنوان (الفصل) الذي يحجز فقرة عن أخرى هو في الحقيقة إشعار بانتقال
الكاتب عادة من جانب من جوانب الموضوع إلى طرف آخر جديد فكأنها
حلقات متسلسلة متواصلة، تتنامى فيها الأحداث، ويغزر عطاء الأخبار،
وعرض الأسماء، وتقويمها، حين تبلغ تلك الأحداث الذروة، ثم تكون الخاتمة
سريعة، فاصلة، مؤثرة.
وكانت فصول الكتاب، من خلال عرض الكاتب البليغ قادرة على تصوير
الأحداث بعنفها وانفعالها، وبنهايتها الدرامية المأساوية. وكان تمكن الكاتب - في
الغالب - من ناحية اللغة هو الوسيلة التقنية لحسن عرض الفكرة المختصرة من
جهة ولتذويب أثر التكلف (من سجع وجناس خاصة) من جهة أخرى.
وهذه قطعة من المقدمة، نتعرف من خلالها على نمط من أسلوب المؤلف،
وطريقته في التناول: متنبهين إلى ما في النص من الاقتباس والتضمين والإشارة
الخ، قال:
" رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، فروع النبوة والرسالة، وينابيع
السماحة والبسالة صفوة آل أبي طالب، وسراة بني لؤي بن غالب الذي حياهم
الروح الأمين، وحلاهم الكتاب المبين. فقل في قوم شرعوا الدين القيم، ومنعوا



(1) طبع الكتاب بعنوان " درر السمط في خبر السبط " وفوقه عنوان صغير تعريفي وهو: " من
أدب التشيع بالأندلس ". حققه أول مرة الدكتوران عبد السلام هراس وسعيد أحمد
أعراب. تطوان 1972، ولم يجاوز بمقدمته وفهارسه مائة صفحة من القطع الوسط.
(2) صدر ديوان رسائله عن دار الفكر بدمشق (إصدار 1987).
204
اليتيم أن يقهر والأيم. ما قد من أديم آدم أطيب من أبيهم طينة، ولا أخذت
الأرض أجمل من مساعيهم زينة... " الخ.
وتسترسل الفصول على هذا النمط من العبارة، ويستفيد الكاتب من ثقافته
اللغوية والأدبية والتاريخية، ومن الثقافة العامة أيضا ليوظف ذلك كله في
فصوله، فيعطيها رصيدا ضخما من الإشارات والإحالات، وليمزج النص
النثري بألوان شعرية مختلفة. وقد استغل الأبيات الشعرية ذات الأغراض
المتعددة المتباينة فوجهها لتزيد النص - على ما قصد إليه - إثارة وإحكاما،
قال في الفصل الثاني:
" يا لك من أنجم هداية، لا تصلح الشمس لهم داية. كفلتهم في حجرها
النبوة (ذرية بعضها من بعض). سرعان ما بلي منهم الجديد وغري بهم
الحديد. نسفت أجبلهم الشامخة، وشدخت غررهم الشارخة، فطارت بطررهم
الأرواح، وراحت عن جسومهم الأرواح، بعد أن فعلوا الأفاعيل، وعيل صبر
أقتالهم وصبرهم ما عيل!
يود أعداؤهم لو أنهم قتلوا * وأنهم صنعوا بعض الذي صنعوا
تذامروا والردى موجه يلتطم، وتوامروا والقنا يكسر بعضه بعضا ويحتطم.
فإن يكونوا ما عرجوا في مراقي الملك فقد درجوا في مهاوي الهلك.
ونحن أناس لا توسط بيننا * لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وعلى هذا فقد نجموا ونجبوا مع الحتوف الشداد والسيوف الحداد، والتمر
أنمى على الجداد. ما أعجب كلمة أبيهم ظهر صدقها فيهم: " بقية السيف أنمى
عددا وأنجب ولدا "، (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا).
رضوا في ذاته رضا، فمشوا إلى الموت ركضا " إنا والله لا نموت حبجا كما
يموت بنو مروان ".
تسيل على حد الظباة نفوسنا * وليست على غير الظباة تسيل
وخلاصة القول:
- إن ما كتبه ابن الأبار في (درر السمط في خبر السبط) هو نثر فني يعبر عن
موضوع تاريخي، مزجه الكاتب بطاقة وجدانية عارمة، وأعد له قدرا كبيرا من
الإشارات ووجوه الاحتجاج والاستشهاد، وعرض فيه براعته الفنية عرضا
معجبا، وإن أثقل النص باختياره الأسلوب الشائع في زمانه من القيود البديعية
والتلميحات الواسعة والاتكاء على النصوص التراثية.
- والكتاب: ذو مقصد واحد واضح، أدى التعبير عنه بنثر فني مزوق منمق
متقن.
- والعبارة منمقة، مسجوعة، تعتمد - بالإضافة إلى السجع - على ضروب
من الجناس، وقد يخرج الكاتب في الفواصل (أواخر السجع) إلى لزوم ما لا
يلزم، كقوله من الفصل الحادي عشر:
" إلى البتول سير بالشرف التالد، وسيق الفخر بالأم الكريمة والوالد. حلت
في الجيل الجليل، وتحلت بالمجد الأثيل ثم تولت إلى الظل الظليل... ".
- ويتعانق الشعر والنثر في الفصول كلها. ومعظم الشعر من قصائد
مشهورة قديمة، ليست أصلا من الشعر الذي قيل في المناسبات التاريخية ولا هو
من الشعر الذي قيل في النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما وظفه الكاتب ليكون
مجاريا للسياق، مناسبا للكلام، متداخلا مع النثر ليعطي الإحساس المطلوب،
ويساعد على ظهور المقصد، ويرتفع بالقارئ إلى درجة التأثر القصوى.
- والنص يحفل بالاقتباس، والاستشهاد بآيات القرآن الكريم، والتحلية
بالأحاديث النبوية، والأخذ من أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم.
- والنص زاخر بالإشارات التاريخية والتلميحات إلى الخلفاء والقادة
والأشخاص المعاصرين ذوي الشأن.
- وأسلوب ابن الأبار في هذا الكتاب أسلوب مقيد، مصنوع، قال فيه
العبدري صاحب الرحلة إنه نحا فيه منحى ابن الجوزي.
قال في ص (271 - 272) في ترجمة الشيخ الفاضل أبي محمد بن هارون (من
علماء تونس: " وقرأت عليه: درر السمط في خبر السبط لأبي عبد الله
القضاعي، وحدثني به سماعا وقراءة، وهو جزء وضعه في مقتل الحسين رضي
الله عنه نحا فيه نحو طريقة أبي الفرج بن الجوزي " قال: " وكنت أتكلم معه في
تعقب مواضع منه فيعجبه قولي فيها "... ولم يبين لنا تلك المواضع التي كان
العبدري ينتقد ابن الأبار فيها، ولعلها في الواقف التاريخية خاصة.
ومعلوم أن بعض من ترجم لابن الأبار أخذ عليه بعض شططه في طريقة
تناول أحداث من التاريخ أو في طريقة عرضها.
وللدارسين الباحثين من القدامى والمحدثين كلام في جوهر الكتاب وفي
ألفاظ منه، وكلام آخر في الظروف التي أنشا فيها الكاتب كتابه تستحق أن
تكون جزءا من دراسة واسعة أخرى عن النثر الفني في عصري المرابطين
والموحدين.
وأزيد أمرا آخر هو أنني لاحظت أثر أبي عبد الله بن أبي الخصال، الغافقي
الأندلسي أحد كتاب العصر السابق لابن الأبار في كتاباته، وفي درر السمط
أيضا. وكان ابن أبي الخصال يعرف ب‍ (رئيس كتاب الأندلس) وكانوا يحفظون
رسائله حفظا ويستظهرونها زيادة في الاعجاب بها والتأثر، والنسج على منوالها.
وعدا عن الكتب التي ذكرت في ترجمته فإن له من المؤلفات: (رسالة المسفى
الجميل ومحاذرة المرعى الوبيل في معارضة فلقي السبيل). نشرها المنجد في
(رسائل ونصوص).
وله ديوان شعر نشره الدكتور عبد السلام هراس في الدار التونسية سنة
1985.
وقد سردت كتب التراجم لابن الأبار أكثر من أربعين كتابا ورسالة وفي
جملتها (معدن اللجين في مراثي الحسين) وهو كتاب مفقود وقد قال عنه الغبريني
في عنوان الدراية: ولو لم يكن له من التآليف إلا هذا الكتاب لكفاه في ارتفاع
درجته وعلو منصبه وسمو رتبته.
ويتوزع كتبه الاهتمام بالحديث والتاريخ والأدب والتراجم والفقه. وقد
ألف ابن الأبار في تراجم الأندلسيين وأخبار بلادهم كتبا مهمة ضاع كثير منها،
وبقي القليل.
الشيخ محمد ابن الشيخ عبد الله الشويكي
توفي سنة 1254.

205
الشويكي: نسبة إلى الشويكة، قرية بقرب مدخل مدينة القطيف. ذكره
السيد علي العدناني في نشرة (ثقافتنا) التي تصدر في مدينة (قم) وقال أنه تلمذ
على الشيخ حسين آل عصفور، وانه كان من العلماء الأدباء البارزين في
عصره، وله في أهل البيت عليهم السلام مرات كثيرة، وأنه اختار له القصيدة
الآتية في رثاء الحسين عليه السلام، وأنه اقتطفها من مجموعة خطية تضم مراثي
ومدائح أهل البيت ع لشعراء معدودين. وأنه ورد للمترجم ذكر في
" أنوار البدرين " ضمن ترجمة ابنه الشيخ مرزوق، وفي " شعراء القطيف "
القسم 1 ج 1 ص 79. وهذا ما أخذناه نحن من القصيدة:
حنانيك لا تصبو وإن هصر الصبا * قوامك مرتاحا إلى زمن الصبا
ولا تك صبا يستفزنك الهوى * فتحسو كؤوس الشوق من مورد الصبا
وأنى وقد ولى شبابك مدبرا * وعارض ليل العارضين ضيا الصبا
فدع ذكر لذات بأيام وجرة * مضت ولييلات تقضت على قبا
وإن صرمت يوما حبالك زينب * بعيد وصال فاصرمن حبل زينبا
فليس احتسا اللذات ينجع مطلبا * وليس وصال الغيد ينفع مأربا
وسالف عصر مر باللهو لم تنل * به شامخ العليا ولا نلت منصبا
سطحت به شرخ الشبيبة إذ غدا * قوامك ريانا ووقتك طيبا
فصيرت شرب الإثم أعذب مشربا * لديك وكسب الإثم أعذب مكسبا
فيا ويح نفسي كم تقاسي من الدنا * بلايا أعادت ليل فودي أشيبا
وذلك من فعل الزمان فكم رمى * بزاوية الهجران شهما مجربا
وسكن أهل الجهل مرتفع البنا * ووطن أهل الفضل منخفض الربا
بكلكله ألقى على كل ذي حجى * فحمله عبئا من الخطب متعبا
وبث على أهل المعالي صروفه * فأبدع في سبط النبي وأغربا
أناخ به في عرصة الطف بعدما * أضاقت عليه الأرض شرقا ومغربا
وقد كان في ربع المدينة آمنا * فأخرج منها خائفا مترقبا
كأني به يفلي الفلاة بعيسه * إذا سبسبا وافاه جاوز سبسبا
فحط على تلك السباسب رحله * وخط على تلك المضارب مضربا
ومنها:
أيا راكبا علياء حرف متى سرى * بها مدلج قدت بأخفافها الربى
متى شمت أطلال الغري فعج به * ولاتك عن سمت به متنكبا
فإن بمثواه ابن عمران خير من * سما وعلى هام المجرة طنبا
علي أمير المؤمنين وإنه * أجل الورى قدرا وأرفع منصبا
فإن لزمت كفاك سامي ضريحه * فقل بعد ما تقري السلام تقربا
ألا يا ولي الله جئتك مخبرا * وعما رأى طرفي أتيتك معربا
تركت حسينا في ثرى الطف ضارعا * له كبد حرى تزيد تلهبا
تلبس سافي عثير العفر إذ غدا * عفيرا ومن أثوابه قد تسلبا
وقد صار للبيض الصفاح ضريبة * وللصافنات الجرد أصبح ملعبا
وأصحابه من حوله وبناته * أيادي سبا تعنو إلى من لها سبى
ومنها:
ودونك يا رب الفخا فريدة * إذا ما تلاها منشد القول أطربا
قلائد در في رثاك نقبتها * وتأبى لغيري في الرثا أن تنقبا
جعلتك في الدارين ذخري ومن تكن * ذخيرته عن مطلب لن يخيبا
فكن لي معينا في زماني فإنني * وحقك قد أمسيت في الدهر متعبا
وجد لي ببسط من ندى كفك التي * إذا ما همى في مجدب آب مخصبا
وخذ بيدي ذات اليمين بمحشري * وكن شافعي فيه وإن كنت مذنبا
عليك سلام الله ما هطل الحيا * فأحيا رياض الممحلات وأعشبا
محمد شرارة ابن الشيخ علي
ولد في بنت جبيل (جبل عامل) سنة 1906 م وتوفي في بغداد سنة
1979 م ودفن في النجف الأشرف.
درس دراسته الأولى في بنت جبيل وكان لوالده العالم الشاعر الأثر الكبير في
تكوينه الأدبي، فقد درس عليه علوم اللغة العربية وكان يجبره على حفظ غرر
من قصائد الشعر العربي وهو لما يبلغ العاشرة من عمره ويعاقبه عقابا صارما إذا
أخطأ، وعند ما بلغ الرابعة عشرة أرسله والده إلى النجف الأشرف لمتابعة
دراسته فيها فانتمى إلى الحلقات العلمية مواظبا فيها على تلقي علوم اللغة
وعلوم الشريعة، وفي الوقت نفسه عكف على دراسة اللغة الانكليزية وتلقي
العلوم الحديثة من المجلات والكتب وتتبع نتاج الفكر الأوروبي وما حققه في
ميادين العلم والأدب والشعر. ثم اخذ يواصل نشر المقالات في الصحف
العربية مركزا في بعضها على الهجوم على آفات الوضع الاجتماعي وعيوبه بعيدا
عن التطرف والمغالات في النظر إلى الأمور، ومحاكمتها بروية وهدوء. فهو
يقول مثلا في احدى مقالاته: " وعلى دعاة التجدد أيضا أن يفهموا أن في
القديم روعة تتضاءل امامها روعة كثير من جديدهم الذي يدعون إليه ويبشرون
به ".
وهكذا مضى يعالج جميع القضايا الاجتماعية والدينية واللغوية التي دعا إلى
اصلاحها وتخليصها من شوائب العادات وغبار الركود.
وثمة ألوان أخرى من المقالات استقى مواضيعها من الحياة اليومية
المألوفة. وكتب بعضها تحت عنوان " من صور الحياة " وهي صور أدبية تحمل
انطباعاته وخواطره عن مجرى الأيام التي يحياها، وهي تمضي بين العناء والرتابة
وغضب الطبيعة وجمالها وسكون الحياة ويبوستها.
وأولى مقالاته كانت سنة 1928 في مجلة العرفان. وكذلك فقد نشر أولى
قصائده في المجلة نفسها في العام نفسه. وكانت أشعاره لونا من ألوان الشعر
الوجداني العامر بالحب السامي، المحاط بهالة من الخيال والمفعم بالنزعة
الرومانتيكية المعبرة عن روحه الظمأى للجمال والأماني الحلوة والعواطف
الرقيقة.
ويؤسفنا ان مجموعة شعره ليست الآن بين أيدينا لنعطي القارئ نماذج
كاملة عن شعره في مختلف أدوار حياته، وما سيراه القارئ بعد هذا الكلام
منشورا من شعره ليس هو الذي كان يمكن أن نختاره، ولكن كان مفروضا
علينا اخذه لأنه وحده الشعر الذي وجدناه ونحن نقلب الصحف تفتيشا عن
شعره.
ونحب هنا ان لا يفوتنا ذكر هذين البيتين الذي قرأناهما خلال دراسة عنه:
هي نظرة أخفت وراء طيوفها * ليلى وعفراء الهوى ولداتها
رفعتك للملأ العلي بلحنها * وعن الورى شالتك في نغماتها
ويتعالى في أجواء شعره صوت يشبه الألم والتأسي من الركود والجهل اللذين
يسيطران على الناس، وترفع المناداة لتنبيه قومه وايقاظهم من السبات الذي

206
يغطون فيه ويتبرم من السكينة التي تلف الحياة وتكتنفها والتي تحتاج إلى انسام
تنعش الروح وتمدها برعشات الفكر المستنير وترفدها بنبض حي قوي ولكن من
يحرك مواطنيه ويوقظهم من غفوتهم:
فمن ينبه قومي * ويستثير العزائم
ومن يفيق إذا ما * كان المنبه نائم
هيهات ينجح شعب * يرى التكاسل حزما
ايبصر النور قوم * وقائد القوم أعمى
وقد عالج الترجمة، وكانت جل ترجماته لشاعر الهند " طاغور "، كما ترجم
قصصا لموباسان.
وهكذا فقد كتب المقالة والقصة والقصيدة ومارس الترجمة وبرغم الظروف
القاسية التي مرت به فيما بعد. فلم يتوقف عمله الأدبي عند منتصف الطريق ولم
ينغلق ضمن اطار محدود، ولم يصب أسلوبه بالتكرار سواء في مواضيعه أو لغته
أو مضامينه.
وكان أسلوبه متميزا في مختلف المواضيع التي طرقها، ويشف عن روح
شاعرية سواء في مقالاته أو قصصه أو تراجمه ناهيك عن قصائده، ويتسم بميسم
رومانتيكي وينم عن حسن مرهف تجاه الكلمة ووظيفتها الفنية في النص الأدبي.
فأسلوبه النثري ينأى عن العبارات التقريرية الصحفية التي تصوغ الفكرة بشكل
مكرر، خال من الروح الفنية، فهو يحلق بالكلمة في دنيا الابداع فتتفتح قوتها
الداخلية وتكتسي بظلال شعرية وتتكشف نضارتها وليونتها، وبذلك تنتعش
الكلمة مفعمة بعبق الشعر وعذوبته باعثة في النفس الجمال والدف ء والدهشة.
أغنت فترة دراسته في النجف معلوماته وفتحت امكاناته الفكرية والفنية
وأبرزت شخصه على مسرح الحياة الاجتماعية والأدبية، وكانت بمثابة الأساس
الصلب الذي استند اليه وانطلق منه ليشق طريقه في مجاهل الدنيا ومضاربها،
بعد قضاء ما ينيف على اربع عشرة سنة في الدراسة حصل فيها على أعلى ما
يحصل عليه طالب من الإجازات العلمية.
ولقد كانت النجف في تلك الآونة مركزا للاشعاع الفكري، فقد ازدهرت
فيها الحياة الثقافية وشهدت صدور العديد من الجرائد والمجلات مثل (الهاتف)
و (الحضارة) و (البيان) و (الغري) وغيرها، ورفدت العراق برعيل من
المؤلفين و الأدباء والشعراء والسياسيين والأساتذة نذكر منهم على سبيل المثال:
الشيخ محمد رضا الشبيبي واخاه الشيخ باقر والجواهري والشرقي والخليلي
وسعد صالح.
سنة 1936 م كانت حاسمة في حياة محمد شرارة فبعد أن بلغ ما بلغ في
دراسته النجفية قرر السير في طريق جديد، وكان قد تجنس بالجنسية العراقية
فعين في وزارة المعارف أستاذا للأدب العربي في ثانويات العراق فتنقل بين
الناصرية وكربلا وأربيل والحلة حتى استقر به المقام في بغداد في أواسط عشر
الأربعين. ولم تنقطع صلته بالحياة الثقافية بالنجف واستمر ينشر في مجلتي
الحضارة والهاتف ويساهم في معالجة المشاكل الفكرية والأدبية. (1)
وفي العام 1948 بدأت الانتفاضات الشعبية على الوضع القائم، وكانت
له مشاركات فعالة في ذلك فاعتقل في كانون الثاني 1949 وظل معتقلا زهاء
الشهرين ثم فصل من وظيفته وحاول في هذه الفترة المساهمة في بعض الأعمال
التجارية، ولكنه لم يخلق لذلك، وحسب الناس كلهم مثله أمانة واخلاصا
فاختلسه شركاؤه وسعى إلى أن وجد عملا في احدى المدارس الأهلية وفي العام
1952 م قامت المظاهرات وأعلنت الاحكام العرفية فكان محمد شرارة فيمن
اعتقلوا وقدموا إلى المحاكمة فحكم عليه بالسجن سنة واحدة. وبعد انقضائها
كان مجال العمل أمامه في العراق معدوما فذهب إلى لبنان سنة 1954 وقام
بالتدريس في احدى المدارس الأهلية وظل يواصل الكتابة والنشر حتى العام
1958 حين قامت حركة 14 تموز فعاد إلى العراق وأعيدت إليه حقوقه في مجال
عمله وعاد إلى التدريس والكتابة ولكن الحكم الذي تلا 14 تموز لم يكن هو الحكم
الذي كان يطمح إليه محمد شرارة وغيره من المخلصين، فلم يلبث أن قبض
عليه وحكم بالسجن ثلاثة أشهر. فكان ان عاد
العام 1961 إلى لبنان. وفي
العام 1962 دعي لتدريس اللغة العربية في جامعة بكين في الصين، وعند ما
وصل إلى بكين تبين له ان عمله سيكون الترجمة في مجلة (بناء الصين)، فلم
يلبث في هذا العمل سوى بضعة شهور حيث كان لا يرتضي ترجمة بعض
المواضيع الذي كان يرى أنها لا تتفق مع تفكيره فترك عمله وسافر إلى الاتحاد
السوفيتي في مطلع العام 1963 وكان يتوقع ان يجد عملا تدريسيا هناك فلم
يتيسر له ذلك فسافر إلى لبنان وبقي فيه حتى العام 1968 مارس خلال ذلك
التدريس والكتابة والترجمة ونظم الشعر، ثم عاد إلى العراق وظل فيه حتى
السنة 1974 حيث عاد إلى لبنان وسكن في بلدته الأولى بنت جبيل، ولكن قيام
احداث سنة 1975 في لبنان اضطرته إلى العودة إلى العراق صيف سنة 1976
وهناك توفرت له أسباب الكتابة والمطالعة بعد أن كانت قد خفت عنه الأعباء
العائلية بتخرج أبنائه وبناته من الجامعات وشقهم طرقهم بنجاح في الحياة
العامة، فاحتضنته ابنته الدكتورة حياة حتى وفاته، حيث عاش عندها ثلاث
سنوات اخرج فيها - كما يعتقد هو - خير مقالاته.
كان كما قيل عنه بحق: " كان محمد شرارة عالما كاملا من العطاء
والمعارف والمعلومات والصلابة الفكرية والثبات في الشدائد والنقاء الروحي و
الخلقي، لقد توارى ذلك العالم وانطوى من الوجود ولكنه أبقى لنا عالمه الأدبي
الذي بناه وشيده لبنة لبنة على مدى نصف قرن ". (2)
وبعد وفاته أخرجت له ابنته الدكتورة حياة كتابه (المتنبي بين البطولة
والاغتراب) كما جمعت بعض مقالاته في كتاب أسمته (نظرات في تراثنا
القومي). كما جمعت له ديوانا شعريا لم ندر إن كان قد طبع بعد ذلك أم لا.
وكان قد كتب مقالاته تحت عناوين شتى منها: " من صور الحياة " " نهلات
طائر " " صور واخلاق " " في الأدب والحياة " " مع العرب في الجوانب العليا
من الأخلاق " " نساء ومواقف " " نظرات في تراثنا القومي " " من تراثنا
الشعري " " الكلمة و البناء الشعري ". وكان يزمع إصدار كتب تحت بعض
هذه العناوين مثل " نساء و مواقف " و " تأملات في الأدب والحياة "، ولكنه لم
يستطع تحقيق ما يصبو إليه، وأتم فقط كتابه عن المتنبي.
شعره
ما ننشره له هنا من الشعر هو ما اطلعنا عليه منشورا في أوقات متباعدة في
مجلة العرفان:



(1) المتنبي بين البطولة والاغتراب.
(2) المصدر السابق.
207
قال من قصيدة، وهي من شعره عندما كان مدرسا في ثانوية الناصرية:
على وحي الهوى خفقت بنودي * وفي نغماته دوى نشيدي
بمدرسة العواطف رف قلبي * وبين ضلوعها رفت مهودي
انا الذكرى التي طارت وحامت * على الدنيا بأجنحة الخلود
أنا الحب الذي ربط البرايا * بأسلاك أشد من الحديد
تهز الكائنات بمن عليها إذا ما استيقظت نغمات عودي
أرق من الهوى لغة وأحلى * من النشوى وتمتمة الوليد
سكبت على القلوب ندى رقيقا * كأنداء الصباح على الورود
دعوني املأ الدنيا حنانا * وأشدو بالنشائد والقصيد
على شفتي جميل طاف لحن * شجي عبقري من نشيدي
وفي ديوان قيس لاح ضوء * سماوي مشع من وجودي
ومن روحي أطل الوحي شعرا * على (ولادة) وأبي الوليد (1)
وقال:
ذاب الرحيق العذب في شفتيك * والوردة الحمراء في خديك
ظمئ الجمال ومذ رآك تحركت * شفتاه وارتمتا على نهديك
حتى إذا مص السلافة وانتشى * منها هوى لثما على قدميك
والروح إن خفقت فما بخفوقها * غير الصبابة والحنين إليك
والقلب ما في القلب يا ليلى سوى * ذكرى تطل مع الزمان عليك
هذا مكانك في الحياة فما الذي * جعل الدموع تجول في عينيك
لا الهزة النشوى ولا أحلامها * تختال كالنغمات في عطفيك
لا البلبل الشادي يهزك حسنه * بين الرياض ولا حمام الايك
ولقد - لمحت لدن لمحتك - بسمة * صفراء شاحبة على شفتيك
لو كان دهرك في يدي لحملته * ووضعته كالعبد تحت يديك
وقال:
دنياك عابسة وفي لحظاتها * صور الحياة تنم عن نياتها
ومشت على ضوء النجوم غمامة * مجنونة رعناء في خطواتها
طار الرفاق وخلفوك أمامها * في الأفق وحدك تتقي غاراتها
فخلقت من دمك المذوب شمعة * سخرت من الدنيا ومن ظلماتها
ووقفت في دنيا العواصف ضاحكا * مستهزأ فيها، وفي صرخاتها
وحملت في يدك الشموع وسرت في * وادي الحياة تجوب منعطفاتها
أقوى من الدنيا العنيفة مهجة * وأشد في الأهوال من وثباتها
حتى تناوحت الرياح وأقبلت * تغزو شموعك من جميع جهاتها
رجفت لها الأضواء واضطربت وما * بقيت سوى الخفقات في شعلاتها
وبقيت في الصحراء وحدك لا ترى * غير الرمال موج في جنباتها
حيران!! لا قمر ولا نجم بها * يهديك - يا قلبي - إلى واحاتها
وتلفتت عيني لتبصر ما الذي * أعددت للأكوان في غاراتها
فإذا العيون ترى - كما كانت ترى - * ضحكا على الدنيا، على حركاتها
ضحكا على الصحراء وهي تهدد * القلب الغريب بهولها وعتاتها
ضحكا على الأكوان في وثباتها * ضحكا على الوادي، على هضباتها
ما أنت في لغة الحياة؟! ألفظة؟! تتحرك الألغاز في حركاتها!!
أم أنت في كتب الطلاسم صفحة * لا تعرف الأفلاك محتوياتها؟!
وحمامة وقفت بافقك وانبرت * تملي عليك الوحي في وقفاتها
شدوا أحن من القلوب - إذا مشى * فيها الهوى - وارق من خفقاتها
ترنو إليك، وفي العيون قصيدة * تتظلل الأحلام في أبياتها
هي نظرة أخفت وراء طيوفها * ليلى، وعفراء الهوى، ولداتها
رفعتك للملأ العلي بلحنها * وعن الورى شالتك في نغماتها
فذهبت في دنيا النعيم ترف في * اجوائها، وتطوف في جناتها
الجو كأس والشعاع سلافة * ورؤاك عاكفة على نهلاتها
والأرض حولك روضة قدسية * وهواك كالانداء في زهراتها
شاعت أمانيك العذاب بها كما * شاع الشذى والعطر في نفحاتها
ودنت حمامتك المطوقة التي * رفعتك عن دنياك في نبراتها
فأذبت روحك عندها أنشودة * وسكبتها - يا قلب - في نظراتها
أخذتك حتى كنت فوق جفونها * لحنا، وإشعاعا على بسماتها
أخذتك حتى كنت فوق شفاهها * نغما، وتمتمة على كلماتها
ومشت إليك وفي خطاها رعشة * أفهل مشت نجواك في خطواتها؟!
حتى إذا قرب العناق وأوشكت * تتنهد الشفتان في وجناتها
" شحذوا المدى لك دونها فركبتها * تغتر حتى طرت في شفراتها "
هزتك روح الكبرياء، وعزة * تتضاءل الأكوان في ساحاتها
فوقفت في وجه المدى ورميتها * ورمتك حتى ذبت في طعناتها
ثم انثنيت وفي ضلوعك لوعة * حرى يضج الكون من لذعاتها
لواحة غضبى كأن جهنما * سكبت على جمراتها زفراتها
أين العيون الفاتنات وما حوت * من عاطفات الروح في نظراتها؟!
أين الشفاه الحالمات وما طوت * من عاطفات الحب في بسماتها؟!
لتلم من هذي وتلك تميمة * تحميك من سقر، ومن جمراتها؟
ذهبت وما تركت سوى الذكرى وما * خلعت على الأرواح من غصاتها
وبقيت لا عين، ولا روح، ولا * شفة، ترف عليك في قبلاتها
ظمآن ترنو، والكؤوس بعيدة * ومناك حائمة على قطراتها
خذلتك ساحرة العيون وأنت ما * زلت الوفي تطوف في شرفاتها
يا أيها المضني أفق ما هذه * النشوى التي تطويك في غمراتها؟
حرمت عليك الكأس حتى نهلة * منها، فكيف طمعت في رشفاتها (2)
وعصابة عمياء تعتنق الهدى * اسما وما مر الهدى بحياتها
عاشت على الموتى ولما لم تجد * شبعا بها عكفت على حشراتها
وتحرك القدر اللئيم عشية * ثم انثنى ورماك في عرصاتها
فتلفتت عيناك في انحائها * لترى... فلم تبصر سوى هبواتها
الأرض بيداء، وأنت مشرد * ناء غريب الروح في جناتها
والجو ملتهب كأن وراءه * سقرا تصب عليه مقذوفاتها
فوقفت تلتمس النجاة كسائح * تاهت به الأظعان في طرقاتها
حتى إذا انحدرت رفيقة يوشع * وبدا الشحوب يلوح في وجناتها
عوت الذئاب وولولت حتى شكا * أهل السما والأرض من أصواتها
فجزعت من أخلاقها وارتعت من * أوضاعها ونفرت من عاداتها



(1) هو الشاعر ابن زيدون.
(2) النهل هو أول الشرب والرشف هو استقصاء الشرب حتى لا يدع الشارب شيئا في الإناء.
208
وحملت في يدك اليراع وطرت في * جو الصراحة فاضحا نياتها
غضبت وصاحت في الفضاء ولوحت * بالإفك والتدجيل في صيحاتها
وتلعلعت (1) بالزور ألسنة وقد * أوحت بأن الوحي في كلماتها
واهتز بركان الشرور ولعلعت * نيرانه وأطل في مقلاتها
وأمدها الزمن البليد بدوحه * وهوى - كما شاءت - على رغباتها
فسخرت من أعمالها وضحكت من * تدجيلها، وهزئت من غضباتها
ووقفت تقرأ للزمان قصيدة * طافت على شفتيك من أبياتها
" إن كان عندك يا زمان بقية * مما تضيم به الكرام فهاتها "
وقال في بعض المناسبات وهي من شعره عندما كان طالبا في النجف:
حيتك في وادي الهدى نفحاته * ورنت إليك بلهفة زهراته
فاض السرور عليه حتى شاركت * أزهاره بسرورها ربواته
ويرف كالاحشاء جنح حمامه * عند التحية والخفوق لغاته
يا حامي الإسلام في اليوم الذي * عزت بمعركة الحياة حماته
كم أن من جور الخطوب وظلمها * جزعا فضاعت في الفضا أناته
كانت بنوه بظله تجد المنى * عذبا وتحلم بالنعيم بناته
واليوم كاد لها الزمان وأوشكت * تقضي على أحلامها صولاته
ما في الرجال سوى شج متأوه وبصدره محبوسة آهاته
حتى نهضت تذود عنه فأورقت * وتمايلت نشوانة شجراته
كمجاهد يجد الحياة عقوبة * إن لم تنل شرف العلى رغباته
تحمي لواء الحق صولته كما * تحمي الشجاع من العدو قناته
قلم الإمامة في يمينك روحه * من روحها ومن الهدى رشحاته
ما زال يشرق في الحياة وكلما * دجت الحياة تشعشعت قطراته
والمنبر السامي تهادى حينما * واجهته وتهللت جنباته
ما كنت إلا صوت أحمد فوقه * والصوت من وحي السما نبراته
تملي على الدنيا حديثا كله * عبر وأحوال الشعوب رواته
فمن الكتاب وضوئه أسلوبه * ومن الفنون وغورها كلماته
فيه من الرعد الغضوب دويه * وعليه من ورد الربى نسماته
لم يبق في الاسلام قطر هادئ * إلا وهاجت روحه نغماته
وبكل قلب رعشة روحية * خفقت كما خفقت به نبضاته
هي يقظة في مصره وعراقه * زأرت على خطواتها شاماته
لا ينهض الاسلام من عثراته * إن لم تسر في ضوئه طبقاته
ما قيمة الدرع الدلاص إذا التوت * وتفككت بنظامه حلقاته
ما ذا رأيت وما سمعت بموطن * الميعاد هل عادت اليه حياته
حدث عن الوطن المقدس انه * وطن النبوة والهدى عرصاته
ما ذا جنت أوعاد (بلفور) وهل * كانت سوى خزي له دعواته
في ذمة الدهر الخئون وأهله * عصر تطالب بالحقوق طغاته
وقال:
وهفت... فكان جناحها وجناحي * وترين يرتعشان في الصحصاح
عطش الرياح اللاغبات بها وبي * عطش السرى الحيران للاصباح
أسري ومن حولي تدور وترتمي * بيد يغير صوى... بغير نواح
والليل تنسجه الرماح، فينثني * ويعود سدا من رؤوس رماح
وأوابد الصحراء تتعب والرؤى * تنساب بين لوائم ولواح
سود تسير تغتدي وسوادها * ينداح بين غدوها ورواحي
حتى إذا لاحت خيامك أو مضت * اشعاعة بجبيني الملتاح
رفت كما رف الشراع فأشرقت * عيناي، واختلج الحصى ببطاحي
كنا وكان لقاؤنا أنشودة * في الظل بين خمائل التفاح
وعلى شفاهك نجمة وقصيدة * تنساب بين الورد والقداح
من وردة ذهبية ان حومت * في الفجر أو من سوسن واقاح
ليلى وشاعرها الحبيب بها وما * تركاه من أمل ومن أفراح
وحنين هاتفة تذوب ونشوة * نسري من " الأعشى " إلى " وضاح "
نبرات صوتك واحة وخميلة * في الدو في لهب الحصى اللواح
رنت فلملمت النجوم شعاعها * خجلا، وتاه بضوئها مصباحي
ستظل ما بقي الأسى وجروحه * بين الجوانح بلسما لجراحي
كنا وكان لقاؤنا أنشودة * في الظل بين خمائل التفاح
وعلى خيالي من لقائك نغمة * لماحة كجبينك اللماح
والأرض من حولي قصيدة شاعر * وحنين صادحة إلى صداح
والبيد في ظما المهامة واحة * ومدائن مأهولة وضواح
وهوادج خضر تميل وجدول * بدل السراب ومائه الضحضاح
ثم انطوت تلك الظلال وعطرها * فيها ولم تترك سوى الأشباح
عش ولا أغرودة فيه ولا * وتر ينوس ولا رفيف جناح
طارت حمائمه، واقفرت الربى * من حوله ومحا رؤاه الماحي
الدود والأشباح فيه وعتمة * تلتف حول ذبالة المصباح
جرس جريح يستعير رنينه * ونياحه من ماتم الأقداح
خيط من الفجر البعيد ونغمة * تنسل ثم تعود للأرواح
عودي فقد تعب النضال وأوشكت * تلك العواصف أن تنوش كفاحي
والشعر يذبل والهواتف تنحني * ويكاد يخرس بلبل الادواح
ومن العجائب أن ينهنهني السرى * وتصد غاشية الخطوب جماحي
عودي فقد تعب الحنين وقد ونت * روحي وهلهلت الرياح وشاحي
ناحت ولو بقيت خيامك في الدجى * حولي لما عرف الزمان نياحي
عودي ففي عينيك كل قصائدي * وازاهري وخمائلي وسلاحي
لا تذكري السلوى، ولا تتحدثي * حول السلو ولو حديث مزاح
انا ان سلوتك لحظة أو مر بي * طيف من السلوى كسرت جناحي
أنت الخيال إذا ترنح وانتشى * فوق الغمائم وهو أروع صاح
وضياء قافلة تشق دروبها * في الليل بين زوابع ورياح
موسى تحول رقة ووداعة * لما رأى معناك في الألواح
طافت بعينيه السعادة مذ رأى * عينيك في فلك الجمال الضاحي
عودي فقد تعب الحنين وقد ونت * روحي وهلهلت الرياح وشاحي
وخذي يدي ودعي الحياة تمر من * راح يهدهدها النعيم لراح
وتنفسي في الشاحبات من المنى * والعطر والنفحات والأرواح



(1) تلعلع لسان الكلب (اندلع) وقد جاءت هنا على سبيل الاستعارة التمثيلية.
209
وتسمعي نغم السماء وكل ما * في ذلك الفلك البديع الواحي
أنا لم أزل بالرغم من تعب السرى * بين الحقول ربابة الفلاح
وغناء راعية تلم قطيعها * في المرج بين مسرة ومراح
وتئوب والشفق الجميل يطل في * وجناتها وجبينها الوضاح
وقال وقد نظمها سنة 1389 (1969 م) ولعلها آخر ما نظم:
كرنين الجرس البالي على قبر الحبيب
كنداء الطائر التائه في جو غريب
كان صوت النعي في المئذنة الثكلى
صدى ينداح في الأرض الحزينه
وتعيد الصوت في نبرته الخرساء أجراس الغروب شاحبا
مثل مناديل الحزانى النائحات
في دروب اللانهايات وفي شتى الدروب
ثم تلقيه، وقد مات، على الاطلال في قلب المدينة
وعلى الأفق، وقد ماد من الارهاب، أهوال القيامة
وشاح احمر اللون ونجم وغمامة
وعلى صفصافة النهر التي مالت غراب وحمامة
سافرت تحتهما الريح إلى الدنيا نعيبا وابتسامة
وسرت دوامة الموت كما يسري عويل الزوبعة
وطوت في سيرها الجائع أزهار الفصول الأربعة
وأعادت ذابح الأطفال في صدر الأمومة
حيوانا هائجا
يغتال أوراق البراعم
ويدوس المرجة الخضراء
أو يلقي على الدوح سمومه
عسعس الدخان وأغبر الفضاء الرحب
وامتدت عجاجة
ومضت تلتف في ولولة الريح وتلتف
على كل زجاجة
وتغطي قطع البلور في درب السراة المدلجينا
وتصوغ الجو كبريتا على الركب ونارا وجنونا
وتمشى الليل في حمحمة الخيل وفي أحلى الأغاني
وعلى متنيه يختال مع الزهو رداء الأفعوان
واله الحرب في موكبه الأعلى يقيم المهرجانا
وكؤوس النصر تنساب على الشرب دموعا أرجوانا
وانحنى الرعب على الأرض وغطاها
كقوس من أفاع
ولواء النصر يختال على القوس كأصوات الضباع
وعبيد الله يلقي " الخطبة البتراء "
في الجيش الشجاع!
ويهين الكوفة الحمراء في قتل الحسين السبط...
في دوس ضلوعه
ثم يختال، كما يختال، طاووس الروابي
في ربوعه
آه ما أكبرها مأساة... مأساة المروءات النبيلة
شفق يسود في الفجر على الدنيا
ورايات خجولة
وعيون تبلع الدمع الذي ماج
وتمتص سيوله
وعذارى كطيور الورق اليابس
في الأسر سبيات ذليلة
آه ما أفظعها المأساة... مأساة البطولات النبيلة!
وتبدى الصمت كالكابوس... كالهول
على كل الملامح
كهواء اللحد... كالشوك الذي ينمو
وينمو في الجوانح
كذباب ازرق عاش على أخبث
ما لمت روائح
حول الأنفاس في المحفل انذارا
ونيرانا لوافح
وانتهى
في صرخة كالقدر الزاحف تحت المعمعة
كاذب أنت وكذاب أبوك الوغد...
والوغد الذي ولى أباك
أيها الشاتم في الحفل سماء الطهر
سترى ما أنت... أو من أنت
ان هبت على الوادي الرياح الأربعة
السيد محمد حسين بن محمد علي الشهرستاني
مرت ترجمته في المجلد التاسع الصفحة 232 ونضيف إليها هنا ما يلي:
كانت ولادته في كرمانشاه وفيها نشأ واخذ فيها مقدمات العلوم، ثم هاجر
إلى كربلا، فقرأ السطوح وأتمها ولازم حوزة والده السيد محمد علي الشهرستاني
وحوزة المولى حسين الأردكاني. له عدا مؤلفاته المذكورة في ترجمته أرجوزة في
أقل من ثلاثمائة بيت سماها " غاية التقريب ".
قال في أولها:
وبعد هذا " غاية التقريب " * مهذب " لمنطق التهذيب "
ويعني بمنطق التهذيب كتاب تهذيب المنطق للتفتزاني، وقد جمع في هذه
الأرجوزة مطالب الكتاب المذكور. وكان نظمه له في سنة 1283.

210
السيد محمد صادق نشأت ابن السيد محمد مهدي الحسيني
ولد في كربلا سنة 1313 وتوفي في طهران سنة 1387 اسمه في الأصل
محمد صادق الحسيني، ثم بعد اقامته بمصر اختار اسم صادق نشأت، ثم
أضاف اليه بعد استقراره في طهران لقب (مير داماد) لأنه يتصل به في النسب.
أديب كاتب باللغتين العربية والفارسية ومؤرخ وله المام باللغتين التركية
والانكليزية درس في كربلا آداب اللغتين العربية والفارسية لدى الشيخ غلام
النحوي والشيخ عبد الرحمن الكويتي والشيخ احمد الأصفهاني والفقه والأصول
في حلقات الشيخ مهدي الكرمنشاهي والشيخ محمد سعيد الفارسي والشيخ
محمد علي القمي والشيخ عبد الكريم اليزدي. والحكمة والاخلاق لدى الشيخ
مهدي الحكمي المعروف بعلاقبند والشيخ محمد علي القمي. اما التفسير
والحديث والتاريخ فقد درسها على والده السيد محمد مهدي الحسيني المعروف
بالمهندس. وقد انتسب إلى منظمة المعارف الإيرانية في كل من كربلا وبغداد
والكاظمية. ثم انتقل إلى طهران وتولى تدريس اللغة العربية وآدابها وجغرافية
إيران وتاريخها وجغرافية الأقطار الاسلامية في كلية المعقول والمنقول ومعهد
سبهسالار. ثم دعي إلى القاهرة لالقاء محاضرات في الأدب الفارسي وتاريخ
إيران وجغرافيتها في جامعة القاهرة بكلية الآداب وجامعة عين شمس، ثم عين
مستشارا ثقافيا للسفارة الإيرانية في القاهرة مع استمراره في التدريس الجامعي
وظل في القاهرة 13 سنة. ثم عاد إلى طهران فتولى التدريس في معهد سبهسالار
وفي كلية الآداب مواصلا نشاطه في التاليف والترجمة وطبع ما لم يطبع من
مؤلفاته.
مؤلفاته
باللغة الفارسية: 1 - رسالة روح ملي إيران (رسالة الروح القومية
الإيرانية) 2 - اخلاق عملي 3 - راهنماي تربيت جوانان (المرشد في تربية
الشبان) 4 - معلم جديد 5 - تاريخ سياسي خليج فارس.
باللغة العربية: 1 - عمران بغداد 2 - صفحات من تاريخ إيران بالتعاون
مع مصطفى حجازي 3 - كشكول نشأت وهناك عشرون كتابا باللغة العربية
واللغة الفارسية شرع بتأليفها ولم يكملها. كما أنه ترجم إلى العربية عن
الفارسية ستة كتب من أهمها كتاب (تاريخ البيهقي) بالاشتراك مع الدكتور
يحيى الخشاب والمجلدات الأول والثاني والثالث والرابع من كتاب (جامع
التواريخ) بالاشتراك مع الدكتور موسى الهنداوي والدكتور فؤاد الصياد.
وكتاب (تاريخ التصوف في إيران).
السيد محمد رضا شرف الدين ابن السيد عبد الحسين
ولد في صور، وتوفي فيها سنة 1970 م في سن الكهولة.
درس أولا في صور ثم ذهب إلى النجف الأشرف فتابع فيه الدراسة ثم
تجنس بالجنسية العراقية وأصدر في بغداد مجلة (الديوان) أسبوعية أدبية فكانت
من خيرة المجلات العربية في موضوعها، ولكن المحيط لم يكن يومذاك يتحمل
المجلات المتخصصة، فأصدرها شهرية ولكنها لم تلبث أن توقفت، فعين موظفا
في الحكومة العراقية فظل كذلك حتى احالته إلى التقاعد.
كان كاتبا شاعرا ولكن غلب عليه الشعر، وتعاطى النظم المسرحي فنظم
مسرحية (الحسين). لم يطبع له ديوان بل بقي شعره مخطوطا. اما مسرحية
الحسين فقد طبعت وانتشرت ولاقت رواجا، ومع ذلك فلم تطبع سوى طبعة
واحدة.
من شعره
قال بعنوان نشيد الأرياف نظمها وهو في العراق:
أنت أرياف بلادي * جنة الفردوس عذبا
لك كيمياء ارض * قد حوت ماء وخصبا
فأحال الترب تبرا * و أعاد اليبس رطبا
حبذا طيب ثراك
ونبات في حماك
من نخيل وأراك
قد حويت ما حوته * عنبا كان وأبا
أملاك من سماه؟ * باعث فيك الأمانا
حل في الأرياف حتى * خطط القاع جنانا
ملأ الآفاق رحمي * وشعورا وحنانا
وكسا الروض بهاء
وجمالا وسناء
هبة جلت ثناء
كل فذ ذو شعور * مطلق فيك اللسانا
أمليك ذو حنان؟ * تخذ العدل دليلا
بذر العمران فينا * فنما غرسا جليلا
وسقى الزرع رحيقا * وسقانا السلسبيلا
هل لنعمائك شاكره؟
من عليك اليوم آمره
أم عدا الازراء ضامره؟!
سامك ظلما وذلا ومنحتيه الجميلا
أنت رب في قراك * ومليك في المدن
قد منحت ذي حياة * وغمرت ذي منن
وبنيت الكوخ في ذي * وبذي قصرا وفن
فلما ذا في عناء
- قد ظللت - وشقاء
وانزويت في الفضاء
حكم الجهل عليك * - يا حياتي - بالمحن
سكن الآساد فيك * تحت كوخ من شقاء
وزرعت وحصدت * فجنته الغرباء
وبنيت دور حكم * غصبتها الأقوياء
ذات فضل أنكروك
من جناك حرموك
بدخيل نبذوك
واعتلو كرسي حكم * نجدته الضعفاء
وادعى ارضك ملكا * وله طاب جناك
فسماك في يديه * وثراك وهواك

211
وبنوك غرباء أو عبيد - فهناك
قلب الإيمان كفرا
جعل الاحسان نكرا
ودماء منك هدرا
وإذا حيفا شكوت * فإلى السجن شكاك
قد صدمت في قواك * دولة فوق الدول
كم فتى راح إربمن * حراب أو أسل
وشباب ضاع ما بين * رصاص (أو كلل)
ما عرفنا ما دهاه
أي قفر قد حواه
هلى اتى ثم رداه
أم ترى قد هام في * الآفاق أفاقا يسل
أفرارا من ممات * حرم النفع بلاده؟!
طائعا ما اختار ليث * هجر غاب أو بعاده
خائبا بان - وحاشا * تنبت الريف قتادة
بذر الصدق نواه
بالوفا طاب ثراه
وسقاه أبواه
صوب إيمان وحق * ثبت الله فؤاده
وقال في ذكرى عيد الغدير:
ما المرء غير لسانه وفؤاده * والعقل خير دليله لرشاده
لا يغررنك من شباب بزة * مبيضة والجهل في ابراده
لبث إذا أرسلت أول نظرة * تعلم بان الغي جل مراده
أنموذجا أعطيك من أفعاله * فاحكم ودونك بينات فساده
قد قلد الغربي في إغوائه * ولوى عن الشرقي في ارشاده
وغدا يحبذ ترك دين جهرة * قد انهض الأنجاد من أجداده
وغدا يخط بمزبر مستأجر * يبغي الغواية جاحدا لمعاده
قصد السفور لكل كاعب غرة * لم تدر ان النار تحت رماده
زعم الحجاب لهن ابعد غاية * عن رشدهن فضل في إبعاده
لم ترتق الأوطان في سعدى ولا * ملك (الرشيد) بهن في بغداده
كلا ولم تجر الفتوح (لطارق) * فيهن حيث دخلن في اجناده
والعلم في زمن (الأمين وصنوه) ما كان في الفتيات نهج رشاده
فثبي لرشدك يا شبيبة فانجدي * لك موطنا فالعز في انجاده
وتسنمي المجد الجموح لترتقي فالحر من بيني العلى بنجاده
خلي مرادك يا شبيبة وأبصري * فالدين أجدر باتباع مراده
لا تسخري بالدين ان مناله * صعب ودون مناك خرط قتادة
ملئ القليب قليب بدر بالأولى * راموا اقتلاع الدين من أوتاده
ومضى ابن ود لم تفده لدى الوغى * أحزابه كلا ولا ابن وداده
الدين سل على ابن حرب صارما * فقضى على إعداده وعداده
رام ابن هند ان يعارض حيدرا * (وهو الإمام) بأرضه وبلاده
علم الإله بان حيدر سيفه * ولسانه في خلقه وعباده
وأمينه ووليه ونصيره * ومفرق الأحزاب من أضداده
نصر الإله بنفسه وبماله * وبأكرم الأنجاب من أولاده
بطل اناف على الورى في علمه * وسداده وجهاده وجلاده
وسم الإله به خراطيم العدى * فلوت على بغضائه وعناده
نطق الكتاب به وفاض بمدحه * وهداه من ميلاده لمعاده
وتكشفت غرر المواقف عن فتى * جعل الاله به الهدى لعباده
اخذ النبي بكفه وسما به * لله من داع سما بعماده
هذا علي فان من والاه قد والى الإله وكان من أجناده
لبوا النبي وبخبخوا لوصيه * وتفرقوا عنه بيوم بعاده
مالت بهم عنه لوامع فضله * وبروق صارمه وسمر صعاده
لا يذهبن عليكم ان الهدى * فيه وفي الأفذاذ من أولاده
ان تعضدوه فقد أخذتم حظكم * أو لا فتلك الصيد من اعضاده
رفعوا لواه وكبروا في نصره * وتسربلوا الادراع في إنجاده
عشقوا الممات على مذابح عزه * واستعذبوا الأحشاد في وراده
السيد محمد بن السيد علي آل أبي شبانة البحراني
قرأ على فضلاء زمانه من أهل البحرين كالشيخ يوسف البلادي والشيخ حسين
الماحوزي وغيرهما وله (تتمة الامل) الذي كتبه تتمة لكتاب الأمل للحر العاملي وله
كتاب آخر بمنزلة الكشكول كتاب أدب وله فيه أشعار كثيرة. ويقول صاحب (أنوار
البدرين): لم أقف له على ترجمة، حتى منه في كتابه التتمة لم يذكر لنفسه ترجمة
وينسب الأشعار التي فيه: لصاحب الكتاب، فمن شعره قوله:
أبا حسن لولا اختياري ولاية * علقت بها من تكوين آدم
لما كان ينجيني انتسابي لأحمد * ولا بك كلا أو ثلاث الفواطم (1)
ومن شعره:
بنى لنا أحمد بيتا دعائمه * سمت على هامة المريخ مع زحل
وكان قدما لنا من هاشم نسب * يعلو علاه على الأفلاك والحمل
فلا أبالي وأن أضحت معاقدة * دنيا تحاربني بالبيض والأسل
كفى باني من أولاد حيدرة وفاطم وأبيها سيد الرسل
ومن شعره:
اقلي عن ملامك والعتاب * ولا تعزي بتمويه الخطاب
لقد سافرت عن وطني وقومي * إلى أن مل أصحابي ذهابي
وطفت على البلاد فما تراءي * إلي سوى ذئاب في ثياب
لقد ضاقت علي الأرض حتى * رضيت من الغنيمة بالأياب
وأيام العذيب تبدلت لي * بأيام أشر من العذاب
فلي حظ كخافقة الغراب * ولي عرض كأيام الشباب
أنا الرجل الذي لم اثن عزمي * عن المعروف في النوب الصعاب
سل الدار التي شط التنائي * بها هل ناب ساكنها منابي
الشيخ محمد صدوقي
ولد في مدينة يزد سنة 1327 واغتيل سنة 1402 في يزد ودفن فيها.



(1) فاطمة أم عبد الله وأبي طالب وفاطمة أم أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء.
212
نشأ في أحضان أسرة علمية عريقة، فوالده الميرزا أبو طالب كان من أبرز
علماء يزد.
يرجع بنسبه إلى الشيخ الصدوق صاحب كتاب " من لا يحضره الفقيه ".
بدأ دراسته على علماء يزد ثم هاجر إلى أصفهان فواصل دراسته فيها، ثم انتقل
إلى قم متابعا الدراسة، ثم صار مدرسا بارزا بين مدرسي الحوزة العلمية في
قم. وهناك توثقت الصلة بينه وبين السيد الخميني ثم دعاه أبناء مدينة يزد إلى
العودة.
ولما نفي السيد الخميني إلى النجف الأشرف، ثم انتقل بعد ذلك إلى قرب
مدينة (باريس) كانت نداءاته وبياناته تصل أكثر ما تصل إلى صديقه القديم
(الصدوقي) في يزد، ومن هناك تنتشر في أنحاء إيران ولما بدأت حركة الثورة
الاسلامية تشتد داخل إيران، أصدرت حكومة الشاه في أحد الأيام أمرا بمنع
التجول فتحدى الشيخ الصدوقي امر المنع وخرج متجولا مع جماعة من الناس.
ولما هاجم النظام العراقي إيران تولى المترجم توعية الناس وإثارة الحماسة
في نفوسهم لصد العدوان الغادر. ثم اخذ يتنقل في مناطق العمليات العسكرية
حاضا المجاهدين على الثبات والصمود لا سيما في عمليات (بيت المقدس) التي
انتهت بتحرير مدينة (خرمشهر).
ولما هاجمت إسرائيل لبنان سنة 1982 كان مما قاله: لقد سمعنا صوت
الشعب اللبناني المظلوم ولبينا النداء لمساعدته فورا في قتال الصهيونية العالمية،
رغم استمرار الحرب المفروضة علينا، ونعلن أننا لن يهدأ لنا بال ما لم نقض على
جذور الظلم والبغي في المنطقة.
الشيخ محمد علي الأردوبادي
مرت ترجمته في المجلد التاسع الصفحة 438 ونضيف إليها ما يلي:
هو الشيخ محمد علي بن الميرزا أبي القاسم بن محمد تقي بن محمد قاسم
الأردوبادي التبريزي النجفي.
ونسبته إلى أردوباد، مدينة تقع على الحدود بين آذربايجان والقفقاز، قرب
نهر أرس.
وكانت ولادته في تبريز في 21 رجب سنة 1312 هجرية.
وأتى به والده إلى النجف بعد عودته إليها في حدود سنة 1315 فنشأ عليه
ووجهه خير توجيه.
قرأ مقدمات العلوم على لفيف من رجال الفضل والعلم، وحضر في الفقه
والأصول على والده، وشيخ الشريعة الإصفهاني - وقد أخذ عنه الحديث
والرجال أيضا - والسيد ميرزا علي الشيرازي، وفي الفلسفة على الشيخ محمد
حسين الإصفهاني، وفي الكلام والتفسير على الشيخ محمد جواد البلاغي،
ولازم حلقات دروس مشايخه الثلاثة المتأخرين أكثر من عشرين سنة. وبرع في
الشعر والأدب العربيين وتضلع في التاريخ والسير وأيام العرب ووقائعها. توفي
سنة 1380 في النجف الأشرف.
له: كتاب ضخم في ست مجلدات على نهج الكشكول، فيه الكثير من
الفوائد التاريخية والرجالية والتراجم والتحقيقات.
و " حياة إبراهيم بن مالك الأشتر " مختصر نشر في آخر مالك الأشتر
للسيد محمد رضا بن جعفر الحكيم المطبوع في طهران سنة 1365 ه‍.
و " حياة سبع الدجيل " في ترجمة السيد محمد ابن الإمام علي الهادي عليه السلام
صاحب المشهد المشهور في الدجيل قرب بلد، طبع في النجف أيضا.
و " سبيك النضار في شرح حال شيخ الثار المختار ".
و " الرد على ابن بليهد القاضي " وهو رد على الوهابيين طبع.
و " الأنوار الساطعة في تسمية حجة الله القاطعة ".
و " منظومة في واقعة الطف ".
و " منظومة في مناضلة أرجوزة نير " جارى بها ألفية الشيخ محمد تقي
التبريزي المتخلص بنير، وقد بلغت " 1651 " بيتا.
و " علي وليد الكعبة " طبع في النجف عام وفاته 1380 مع مقدمة لسبطه
السيد مهدي ابن الميرزا محمد ابن الميرزا جعفر ابن الميرزا محمد الشيرازي.
و " حياة الإمام المجدد الشيرازي " في ترجمة السيد الميرزا محمد حسن
المتوفى سنة 1312، وهو يشتمل على تراجم كثير من تلاميذه ومعاصريه.
و " سبك التبر فيما قيل في الامام الشيرازي من الشعر " في " 600 "
صفحة، ترجم فيه لشعرائه ومادحيه مع إيراد قصائدهم مرتبة على حروف
الهجاء.
و " ديوان شعر " عربي، معظمه في مدح آل البيت ورثائهم، ومراثي
العلماء والعظماء وفي سائر الأغراض الأخرى، ويبلغ مجموع نظمه أكثر من ستة
آلاف بيت.
و " التقريرات " في الفقه والأصول وغيرهما، كتبها من تقريرات مشايخه
وآخر آثاره " تفسير القرآن " خرج جزؤه الأول فقط.
الشيخ محمد علي بري ابن الشيخ أحمد
ولد في بلدة تبنين (جبل عامل) وهاجر قبيل الحرب العالمية الأولى إلى
ديترويت ميشغن في الولايات المتحدة الأمريكية والتحق للعمل في معامل فورد
للسيارات وظل هناك حتى مطالع شيخوخته فعاد إلى بلده تبنين وفيها توفي.
قال يصف حياته في معامل فورد:
معامل " فورد " قد طويت بها عمرا * الأهل أرى بعد الزوال له نشرا
قطعت بها العشرين كرها كأنني * أسير يمج الماء من فمه صبرا
وقاسيت اتعابا بصدري مريرة * وهيهات أشفي من مرارتها الصدرا
وما مر يوم في الزمان مساعف * على اليسر الا قد لقيت به عسرا
تخال شباب العرب قبل وصولها * إلى النار تشوى من مداخنها الصفرا
فهذا عليل يائس من شفائه * وذاك يداوى من أذاها ولا يبرا
وقالوا اصطبر بعد العناء لمهجر * لعلك تثرى أو تنال به اجرا
صبرت على ضيمي وصبري وراءه * معاول شقت في التراب لي القبرا
محمد بن علي الشيباني (1)
عماد الدين أبو جعفر وأبو الفضل محمد بن علي بن حمد بن علوان بن
علي بن حمدون بن علوان بن المرزبان بن طارق بن يزيد بن قيس بن جندب بن
عمرو بن يحيى ابن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة، الشيباني السورائي،
الفقيه الشاعر المقرئ.
هكذا عنونه ابن الفوطي في تلخيص مجمع الآداب ج 4 ق 2 ص 831
رقم 1218 وقال في ترجمته:
كان أديبا فاضلا وفقيها شاعرا، حسن الشعر، طيب الإنشاد، فصيح
الإيراد، كريم الأخلاق والشيم، ممتع المحاضرة والمذاكرة، كثير المحفوظ،



(1) بقلم أسد مولوي.
213
حسن المحاورة، كتبت عنه، وكان ينعم ويشرفني إلى منزلي، وكتب لي الإجازة
نظما... وتوفي ثالث عشر رجب سنة 706 ودفن بمشهد علي.
وترجم له أيضا في نفس الجزء ص 837 برقم 1226 وكناه أبا عبد الله
فقال:
عماد الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن علوان الشيباني الحلي
الفقيه المقرئ الأديب.
يعرف ب‍ (ابن الرفاعي) من أكابر العلماء وأفاضل الأدباء والفقهاء، كتبت
شعره في (أشعار أهل العصر) ومما أنشدني وهو متوجه إلى زيارة أمير المؤمنين
(عليه السلام)...
وأورد له ابن الشهرزوري الموصلي في مجموعته المخطوطة - في الورقة 114
وما بعدها - قصيدة غديرية في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعبر عنه ب‍
(نصير الحق والدين ابن علوان).
كما أورد له في نفس المجموعة في الورقة 146 - قصيدة في رثاء
الحسين (عليه السلام) صاغها تخميسا للامية العجم المعروفة ووصفه ب‍ (ابن
علوان الرفاعي الربعي البغدادي).
هذا ما استفدناه من المجموعة المخطوطة التي جمعها السيد عبد العزيز
الطباطبائي في تراجم المنسيين والمغمورين من السابقين، وهي مجموعة ضخمة
قوامها أضابير عديدة. وفقه الله لتبييضها وطبعها.
وعن مجموعة ابن الشهرزوري ننقل هذا التخميس.
والنسخة التي عندنا تختلف في بعض الألفاظ مع رواية ياقوت للامية
العجم، وقد صححنا قسما منها على رواية ياقوت بعد أن وضعنا الكلمة
الصحيحة بين عضادتين وأشرنا إلى ذلك في الهامش. وكذلك فعلنا في الألفاظ
التي استظهرنا خطاها وصححناها. وتركنا ما له وجه من الصحة على حاله.
قال الشيخ الإمام العالم الأديب الفاضل عماد الدين أبو جعفر محمد بن
علي بن علوان الرفاعي الربعي البغدادي - رحمه الله تعالى - يرثي مولانا وسيدنا
الإمام السبط الشهيد أبا عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب
(عليهم السلام)، مما وشح به لامية الطغرائي رحمه الله:
لولا إبائي بنفسي عن ذوي البخل * وصون مدحي عن الأنذال والسفل
ما كنت أنشد والآفاق تشهد لي * (أصالة الرأي صانتني عن الخطل
وحلية الفضل زانتني لدى العطل)
صبرا فليس لما قد فات مرتجع * فالصبر ينفع إذا لا ينفع الجزع
والدهر يخفض أقواما وإن رفعوا * (مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل)
لواعج الشوق تطويني وتنشرني * إلى بلادي [و] من خلفت في وطني
وأطول شوقي! وواوجدي! وواحزني! * (فيم الإقامة بالزوراء، لا سكني
بها، ولا ناقتي فيها ولا جملي؟) (1)
مثل الحسين بأرض الطف حين غدا * لهفي عليه، وحيدا بين جمع عدا
لا يرقبون لديه ذمة أبدا * (ناء على الأهل صفر الفك منفرد [أ]
كالسيف عري متناه عن الخلل) (2)
يشكو إلى الله ما يلقى من المحن * ويحتمي بظبا الهندي واللدن
بقول: هل ناصر لله ينصرني؟ * (فلا صديق إليه مشتكى حزني
ولا أنيس لديه منتهى جذلي)
ما ذا أردتم - لعنتم - من مكاتبتي * أبعدتموني عن جدي ومنزلتي
برحلة قتلت أهلي وقاطبتي * (طال اغترابي حتى حن راحلتي
ورحلها وقر العسالة الذبل)
كم قد سفكتم لأبناء النبي دما * وكم أبحتم له في كربلا حرما
وقلت للصحب: عاد الدين مبتديا * (فسر بنا في ظلام الليل مهتديا
فنفحة الطيب تهدينا إلى الحلل)
فجاءت الخيل منكم وهي راكضة * والعهد والدين والأيمان ناقضة
وفي دما خير خلق الله خائضة * (فالحب حيث الردى والأسد رابضة
حول الكناس لها غاب من الأسل)
لبئس ما شاهدت عيني وما لقيت * منكم ومن بعدكم يا ليت لا بقيت
يا قوم جدوا فإن النفس قد شقيت * (نوم ناشئة بالجزع قد سقيت
نصالها بمياه الغنج والكحل)
جنات عدن كساها الله ثوب بها * عدونا لجحيم والولي بها
بها توله أرباب الصفا ولها * (قد زاد طيب أحاديث الكرام بها
ما بالكرائم من جبن ومن بخل)
عوجوا عليها ولا تلووا على أحد * فالعيش في نغص والدهر في نكد
قتلتمونا على بعد وعظم ظما * (وضج من لغب نضوي، وعج لما
ولي تأس بيحيى وهو خير [ولي] * (وذي شطاط كعقد الرمح معتقل
لمثله غير هياب ولا وكل) (3)
شقيقي الحسن المسموم من فرجت * لفقده الأرض والأفلاك وانزعجت
والنفس بعد أخي - العباس - ما ابتهجت * (حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت
بقسوة الباس منه رقة الغزل)
فجعتم المصطفى الهادي بعترته * قتلى وأسرى لكم، يا شر أمته
وابني علي فلو لا عظم مرضته * (طردت سرح الكرى عن ورد مقلته
و [الليل] يغري سوام النوم بالمقل) (4)
غادرتم الله والمختار في غضب * والأنبياء وأهل الحق في حرب
أتقتلونا بلا ذنب ولا سبب!؟ * (والركب ميل على الأكوار من طرب
صاح وآخر من خمر الهوى ثمل)
أدعو الشقي ابن سعد كي يساعدني * وقد جرى الدم من رأسي ومن بدني
دعوت نذلا لئيما لا يجاوبني * (فقلت: أدعوك للجلى لتنصرني
وأنت تخذلني في الحادث الجلل) (5)
جيوشكم بإله العرش كافرة * دنيا طلبتم ففاتتكم وآخرة
لتندمن إذا ضمتك ساهرة * (تنام عني وعين النجم ساهرة
و تستحيل وصبغ الليل لم يحل) (6)
فقال كل امرئ منهم لصاحبه * هذا الحسين أتانا في أقاربه
وعزمنا الفتك فيه مع حبائبه * (فهل تعين على غي هممت به
والغي يصرف أحيانا عن الفشل) (7)
فجردوا كل عضب صارم خذم * وأقبلوا نحو خير العرب والعجم
ما ذا تريد؟ فقال السبط ذو الكرم: * (إني أريد طروق الجزع من إضم



(1) الواو بين المعقوفتين يقتضيها السياق.
(2) في المخطوط (منفرد) والألف تقتضيها القافية.
(3) في المخطوط (نبي) والقافية تأباها، وما أثبتناه ملائم للقافية.
(4) في المخطوط (النوم) وما أثبتناه من معجم الأدباء.
(5) ابن سعد، هو عمر بن سعد.
(6) في المخطوط (عني) وفي معجم الأدباء (عيني) وكل منهما في سياقه مقبول.
(7) في المخطوط (شئ) وفي معجم الأدباء (غي).
214
وقد حمته حماة الحي من ثعل)
قلتم لنا: الدين أضحى من جوانبه * قد هد، والكفر في أعلى مراتبه
وجئتم بابن سعد في كتائبه * (يحمون بالبيض والسمر اللدان به
سود الغدائر حمر الحلي والحلل)
أجبتكم برسول الله مقتديا * والعدل والفضل والمعروف مرتديا
يلقي ركابي، ولج الركب في عذلي)
ما نهى عن بني الزهراء نور نهى * بقتلهم قد ملأتم قلبها ولها
تيت أطلب حقا ليس مشتبها * (أريد بسطة كف أستعين بها
على قضاء حقوق للعلا قبلي)
خرجت للأمر بالمعروف من وطني * والنهي عن منكر والله يأمرني
فجاء يخذلني من كان ينصرني * (والدهر يعكس آمالي ويقنعني
من الغنيمة بعد الكد بالقفل)
إن تظلموني فجدي خاتم الرسل * غريمكم وأمير المؤمنين علي
ولا تميلوا على حي ولا بلد * (تبيت نار الهوى منهن في كبد
حرى ونار القرى منهم على القلل)
أمر الغرام مطاع في تقلبها * فلا يفيد نهى عن حب تلك بها
بها أسود شرى غلب وفتك مها * (يقتلن أنضاء حب لا حراك بها
وينحرون كرام الخيل والإبل) (1)
نأيت عنهم وقلبي في ربوعهم * مقيد مغرم صب بحبهم
وما لدائي دواء غير وصلهم * (يشفى لديغ العوالي في بيوتهم
بنهلة من غدير الخمر والعسل)
ترقبوا دولة المهدي دانية * تجلو قلوبا لأهل الحق صادية
لا تأيسوا هذه الآيات بادية * (لعل إلمامة بالجزع ثانية
يدب منها نسيم البرء في عللي)
إني إذا بدت الآيات، وارتفعت * أنوارها تملأ الآفاق إذ لمعت
وأدبرت دولة الكفار وانقشعت * (لا أكره الطعنة النجلاء قد شفعت
برشقة من نبال الأعين النجل)
وآخذ الثار من ضد يعاندني * في حب آل الحسين الطهر والحسن
وأصطلي الحرب بالهندي واللدن * (ولا أهاب الصفاح البيض تسعدني
باللمح من صفحات البيض في الكلل)
ولا أحول إذا ما حال بي زمني * لكن أصول ولو أدرجت في كفني
ولا أبقي على أسد تنازلني * (ولا أخل بغزلان تغازلني
ولو دهتني سود الغيل بالغيل)
أتقتلون حسينا مع مناقبه! * وا حسرتاه مذودا عن مشاربه
لهفي له حين يدعو مع مصاحبه * (حب السلامة يثني عزم صاحبه
عن المعالي ويغري المرء بالكسل)
صبرا ولا تنكلوا جبنا ولا فرقا * صربا يقد الظبا والبيض والدرعا
فكيف أطلب في دار الفناء بقا * (وإن جنحت إليها فاغذ نفقا في أرض
سابق إلى قصبات السبق واسم علا * فالطعن في أعين والضرب فوق طلى
وإن عدلت بنفس في البلى ببلا * (ودع سبيل العلا للمقدمين على
ركوبها واقتنع منهن بالبلل)
تهوى العلا وسبيل المجد تبغضه * كمبتن لبناء وهو ينقضه
لا ترض بالدون من دنياك تقبضه * (يرضى الذليل بخفض العيش يحفظه
والعز عند رسيم الأينق الذلل)
لا تترك النفس في الأهواء غافلة * وخذ لدينك من دنياك نافلة
وحثحث العيس نحو العز قافلة * (وادرأ بها في نحور البيد جافلة
معارضات مثاني اللجم بالجدل)
واعلم بان ذرى العلياء رائقة * بحبها أنفس العشاق وامقة
ولا تعقك عن الادلاج عائقة * (إن العلا حدثتني - وهي صادقة
فيما تحدث أن العز في النقل)
فخذ لنفسك عن دار الفنا وطنا فكيف تظفر في دار الفنا بهنا
ولا تقل مسكنا فارقت أو سكنا * لو كان في شرف المأوى بلوغ منى
لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل)
فالحظ والفضل في دنياك ما جمعا * لواحد من جميع والعالمين معا
ولو أجابا جوابا أو لو انخدعا * (أهبت بالحظ لو ناديت مستمعا
والحظ عني بالجهال في شغل)
أنا الحسين بجدي الطهر فقتهم * والعدل والصدق والمعروف حزتهم
والدهر حرب لأمثالي وسلمهم * (لعله إن بدا فضلي ونقصهم
لعينه نام عنهم أو تنبه لي)
كواهلي بعد خف الحمل مثقلة * وحالتي عند أهل الجهل مهملة
فإن تولت حياتي وهي مرقلة * (لم أرض بالعيش والأيام مقبلة
فكيف أرضى وقد ولت على عجل)
صفت موارد شتى كنت أشربها * عزا، ولست بذل النفس أقربها
رجاء نعمة ربي منه أطلبها * (أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل)
أبي علي ونفسي جل شيمتها * كل المحامد من أبعاض قيمتها
أضحت ترى القتل من أسنى مراتبها * (غالى بنفسي عرفاني بقيمتها
فصنتها عن رخيص القدر مبتذل)
فلا أطيع يزيدا في تكبره * إذ ساء في ورده قدما ومصدره
أنا ابن من ليس في الدنيا كمفخره * (وعادة النصل أن يزهى بجوهره
وليس يعمل إلا في يد البطل)
خلافة الله إرثي من أخي الحسن * عن والدي ثم جدي، أنتم بمن؟
يزيد يحكم في مالي وفي بدني! * (ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني
حتى أرى دولة الأوباش والسفل)
لا خير في العيش مع قوم عقولهم * كدينهم في البرايا ناقص وهم
أنا ابن من عم خلق الله فضلهم * (تقدمتني رجال كان شوطهم
وراء خطوي إذ أمشي على مهل)
عن نصرنا إذ دخلنا مصرهم خرجوا * فليس لي في حياتي معهم فرج
فان أمت منهم غبنا فلا حرج * (هذا جزاء امرئ إخوانه درجوا
من قبله وتمنى فسحة الأجل) (2)
نفوسنا بالظبا والسمر تستلب نساؤنا كسبايا الروم تنتهب



(1) في الشطر الثاني من التخميس وردت عبارة (تلك بها) وهي واضحة في المخطوط، ولعل صحتها
(ذات بها) أي ذات بهاء.
(2) في المخطوط: (رحلوا)، و (درجوا) في معجم الأدباء، وهي المناسبة لقافية المخمس.
215
فابكوا علينا دما يا قوم وانتحبوا * (وإن علاني من دوني فلا عجب
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل)
فإن نصر في البرايا عبرة العبر * كما بدا سيعود الدين فاعبر
بنا ومنا وفينا سيد البشر * (فاصبر لها غير محتال ولا ضجر
في حادث الدهر ما يغني عن الحيل)
فجئت إذ شدت الكفار وابتهجت * إلى قتالي وباب الغدر قد ولجت
وليس في أمرنا شئ بمشتبه * فيما مضى والذي لم يأت فانتبه
ولا تصاحب رفيقا إن ولعت به * (أعدى عدوك أدنى من وثقت به
فحاذر الناس واصحبهم على دخل)
كتب مطولة جاءت وموجزة * أن سر إلينا فإن الأرض محرزة
وحسن الظن فالأيام منجزة * (وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظن شرا وكن منها على وجل)
فقلت: أيمانكم ما بالها فلجت؟ * (غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل)
أجابني الحر (1): إن القوم ربهم * عليهم ساخط إذ جل ذنبهم
بدا لهم بغضكم والضد حبهم (وشان صدقك عند الناس كذبهم
وهل يطابق معوج بمعتدل)
فاقتل لمن يتعدى من طغاتهم * ولا تبق بحال من بغاتهم
فلست ترجو سرورا من سراتهم * (إن كان ينجع شئ في ثباتهم
على العهود فسبق السيف للعذل)
قل لابن سعد: لحاك الله يا عمر * قتلت قوما بهم جبريل يفتخر
حصلت في شر نار كلها شرر * (يا واردا سؤر عيش كله كدر
أنفقت عمرك في أيامك الأول)
أتسخط الله والمختار تغضبه * بقتل أبنائه طرا تحاربه
والآل والمال تسبيه وتنهبه * (فيم اعتراضك لج البحر تركبه
وأنت يكفيك منه مصة الوشل)
غادرت سبط رسول الله منجدلا * طلبت ملكا كساك الله ثوب بلا
ولو قنعت لزاد الله فيك علا * (ملك القناعة لا يخشى عليه ولا
يحتاج فيه إلى الأنصار والخول) (2)
ويل لمن حارب ابن المصطفى ولها * عن نصره وتعدى أمره ولها
يا بائع الدين بالدنيا وأخذ لها * (ترجو البقاء بدار لا بقاء لها
فهل سمعت بظل غير منتقل)
كن مسلما صان عهد المصطفى ورعى * في آله وبنيه وأدخر ورعا
ولب عبد بني الديان حين دعا * (ويا خبيرا على الأسرار مطلعا
أصمت ففي الصمت منجاة من الزلل) (3)
أدم مفصل حمد ثم مجمله * لمن لخلقك بالايمان حمله
ثم الصلاة لمن بالحق أرسله * (قد رشحوك لأمر إن فطنت له
فاربا بنفسك أن ترعى مع الهمل)
محمد علي الحوماني
ولد حوالي سنة 1315 (1896) م. في قرية حاروف (جبل عامل)
وتوفي سنة 1964 م في بيروت ودفن في حاروف تعلم الخط والقراءة على أبيه
وأخيه الشيخ حسين ثم دخل المدرسة الابتدائية في النبطية ثم مدرسة السيد
حسن يوسف في البلدة نفسها فدرس فيها علوم اللغة العربية. وفي نهاية الحرب
العالمية الأولى وابتداء الاحتلال الفرنسي للبنان عين معلما لمدرسة شقراء سنة
1920 م. ثم تنقل في عدة قرى حتى استقر في النبطية، وكانت قد تفتحت
شاعريته وبدأ ينظم الشعر. وهنا في النبطية خطا خطوته الأولى في تملق النافذين
الأثرياء استدرارا لأموالهم، فنظم في أحدهم قائلا من قصيدة: (4)
من فيض كفك هذا البحر منفجر * ومن سمائك هذا الغيث منهمر
يا تاركا حصب الغبراء تحسده * عليك فوق السماء الأنجم الزهر
هل أبصروك على عرش العلى ملكا * اكليله الكلم المنظوم لا الدرر
وبقدر ما كان يسر الناس بروز شاعرية هذا الشاعر، كان يؤلمهم ان يسلك
في شاعريته تلك السيل المزرية، ثم يكرر القول في الشخص نفسه قائلا من
قصيدة: (5)
كأن جبين (يوسف) وهو فيهم * هلال بالنجوم الزهر حفا
روى عنه الحيا كرما فأمست * غواني المكرمات تميس عطفا
ونلاحظ دائما في هذا الشعر. التركيز على (فيض الكف) في القطعة
الأولى، (والكرم) في القطعة الثانية استنهاضا للممدوح على أن تفيض كفه
وينهل كرمه (كالحيا) لتتحقق أهداف الشاعر من نظم هذا الشعر. ولا شك
أن الكثير من أهدافه قد تحقق بدليل أنه ظل مسترسلا في هذا الضرب من الشعر
موجها إلى الممدوح نفسه (6)
اتى العيد يرفل لكن بما * كسته المحامد من يوسف
ترى المسنتين لدى بابه * عكوفا بالسنة هتف
تنادي الجواد أبا حاتم * وتدعو الحليم ابا الأحنف
" فالمسنتون " - وهو بالطبع منهم - عاكفون على باب الممدوح وألسنتهم
هاتفة في ذاك الباب، ولا شك أن الشاعر كان أعلاهم صوتا في الهتاف
بشعره، والشاعر صريح ببيانه حقيقة ذلك الهتاف بقوله ان تلك الأصوات،
- وصوته في أولها - كانت تنادي (الجواد أبا حاتم) وحين تنادي الجواد أبا حاتم
فمعنى ذلك أنها كانت تطالب بعطاياه ولئلا يغضب الممدوح لعلو تلك الأصوات
وصخبها فهي تدعوه في الوقت نفسه (الحليم أبا الأحنف) وقد شجعت العطايا
هذا الشاعر على أن يزداد استرسالا في الوقوف على باب الممدوح، وان يعلن
بصراحة ما بعدها صراحة بأن الكدية هي مهنته، وأنها ما دامت مهنته فهو
يقول ويكرر في قوله بدون أي حياء أنه يعكف على الأبواب ويجتدي الأكف
من العيد أن نجتلي وجهه هلالا * يتم ولا يخسف
من العيد أن نجتدي كفه * ندى وعلى بابه نعكف
والواقع أنه لم يعرف المدح في الشعر العربي مثل هذه الوقاحة التي لا يخجل
صاحبها من أن يقول: (نجتدي كفه) (وعلى بابه نعكف) وكان من يطالب
بالعطايا في الماضين يلمح إلى ذلك تلميحا خفيفا خجلا واستحياء، اما هذا
الشاعر فلا يخجله شئ.



(1) الحر، هو ابن يزيد الرياحي.
(2) في المخطوط: (تلك القناعة) وما أثبتناه من معجم الأدباء.
(3) أشار الشاعر بقوله: " عبد بني الديان " إلى نفسه، حيث عد نفسه عبدا للعترة الطاهرة، الدين
هم بنو الديان ويعني بالديان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
(4) ديوان الحوماني الصفحة 102.
(5) الصفحة 110.
(6) ديوان الحوماني الصفحة 120.
(7) الصفحة نفسها.
216
ثم رأى أن العكوف على باب هذا الممدوح وحده، واجتداء كفه دون غيره
من الأكف لا يحقق مطامحه والطموح أشكال، فهو كما يكون في معالي الأمور
يكون كذلك في الكدية، وهنا يكون الشاعر قد عرف طريقه وابتدأ رحلة
الكدية الطويلة التي استمرت طيلة حياته.
فقد قرر أن (يعكف) على أبواب أوسع وأن يجتدي اكفا أكثر امتلاء
وكان أقرب بلد إليه هو الأردن، وكان قد علم أن أميرا جاءها (هو الأمير
عبد الله) وأنه أنشأ حكما جديدا فصمم على الذهاب إليه وأخذ يمدحه بمثل قوله:
فوق السرير ولا أدري به ملك * يدري به الحزم والاقدام والشمم
بل سيد في حشا الجوزاء صارمه * يفري وفوق السها تجري به قدم
يا صاعدا خفقت للمجد ألوية * عليه لما جرت من تحته الديم
أقمت (رغدان) حيث النجم يحسده * ولحت في أفقه فانجابت الظلم
وسمت آناف من شف الضنا حسدا * جسومهم وبغير الجود لا تسم
مررت بالروض فاعتل النسيم به * وكاد يقطر من أكمامه الكرم (1)
وصحت نبؤة الشاعر فأصبح (الأمير) بعد ذلك (ملكا) ولكن لم يصح
فيه ما ادعاه له بان صارمه يفرى في حشا الجوزاء، وأنه تجرى به قدم فوق
السها، فالأمير عبد الله كان أضعف وأقل شانا من أن تكون له هذه الصفات،
وقصر رغدان كان من التواضع بحيث لا يحسده النجم ولا أحسب كذلك أن
أحدا كان يحسد عبد الله على ما كان فيه.
ونلاحظ هنا كما لاحظنا من قبل أن التركيز هو دائما على (الجود) و
(الكرم)، لأنهما هما وحدهما اللذان يحققان للشاعر مطامعه.
ولا يخجل هذا الشاعر من أن يقول بان خير أيامه هو يوم يكون على مائدة
الأمير، وهكذا يكون قد انحدر بالكدية إلى أحط دركاتها فهي ليست كدية في
اجتناء المال فقط بل هي كدية باجتناء الطعام أيضا:
أفضل أيام حياتي التي * أنشدها يومي على المائدة
مائدة كف أبي نايف * تملي عليها سورة المائدة
معبودة الأيدي فان أومأت * خرت أيادينا لها ساجدة
خولها فرط الندى مرفقا * قد وصل الحمد به ساعده (2)
ويذكرنا هذا الشعر بشعر لابن الرومي يصف به أحد الطفيليين وكأنما عنى
به الحوماني:
يلين الطعام على ضرسه * ولو كان من صخرة جامدة
ويأكل زاد الورى كله * ولكنها اكلة واحدة
ولو عاينته جحيم الاله * لخرت لمعدته ساجدة
وهناك قصيدة في الأمير عبد الله تحسب وأنت تقرأها أنها نظمت في بطل من
أبطال العرب سما إلى الملك بجهاد وطني طويل، لا في أمير مسكين جاء به
الإنكليز واقطعوه رقعة صغيرة كانت في يوم من الأيام (قائم مقامية)، فعاش
فيها لا حول له ولا طول، على أنه تنبأ له الشاعر في هذه القصيدة بأنه سيحمل
لقب الملك كما تنبأ في قصيدة تقدمت وصحت النبؤة كما قلنا. ومن المضحك
وربما من المبكي تلك الصفات التي أغدقها على الأمير بأنه من عزت به (مضر)
وأنه (جبرئيل) تحف به الملائكة وأن العلى صافحت به قمرا إلى غير ذلك:
كيف لا تزهى منازلنا * وعليها أشرق القمر
وطأتها وهي خاشعة * رجل من عزت به مضر
مرحبا بالروح (3) تعضده * من ملائكة السما زمر
رد مغانيه ترد ملكا * وشيه الماذي لا الحبر
حيثما حلت ركائبه * فهناك الظل والثمر
صافحت منه العلى قمرا * تجتليه البدو والحضر
وتعالى في أسرتها * ملكا اكليله الظفر (4)
هكذا كانت تمضي مدائح الحوماني في الأمير عبد الله ملقا واستجداء
وكدية. ويبدو واضحا أن أعطيات الأمير لم تمنع الحوماني من أن يعرج بين الحين
والحين على بعض من يتوسم فيهم العطاء من الأردنيين فيمدحهم كهذا الذي
نظمه مثلا في أديب وهبه مدير معارف الأردن:
هل قدروا لك اعمالا برتك بها * يد العناية بري النصل للقلم
حسب المعارف ان أصبحت ناظرها * والشمس في الأفق غير النار في العلم (5)
وهذا الذي نظمه في ذوقان الحسين، وفيه يفاخر بتناوله الحلوى على
مائدته، ويبدو أنه كان كثير الشغف بولوج موائد الناس والتغني بهذه الموائد التي
كان يسعى إليها سعيا، وأنه كان لا يخجل بذلك، والدليل على هذا تخصيصه
لها بالقصائد ونشر تلك القصائد في ديوانه:
في مجلس (ذوقان) نظم شمله * من نابهين بهم أنار المجلس
نتناول (الحلوى) على أنواعها * وتدار سائغة علينا الأكؤس (6)
ومن انفعاله بتناول الحلوى يحرص على أن يذكر انها لم تكن نوعا واحدا بل
هي أنواع، ومن المضحك الباعث على الاحتقار الذي يستحقه هذا الشاعر
تشديده على أن الحلوى كانت أنواعا، فكم هو تافه من يتغنى بتناول الحلوى
على موائد الناس... ثم هذا الجهر المصحوب بالتباهي بأن الأكؤس كانت
تدار سائغة، وهكذا فالذي ينطقه بالشعر ويجعل يومه أفضل الأيام هو التهامه
الطعام على مائدة الأمير، ثم تناول الحلوى على أنواعها على خوان ذوقان
الحسين، وحسب الشعر مهانة ان المائدة والخوان هما ملهماه.
واحسب أن هذه هي المرة الثانية التي يذكر فيها شاعر الحلوى في شعره فقد
ورد في شعر قديم لشاعر من شعراء الطفيليين قوله من قصيدة طفيلية:
قل لأهل التطفيل اني امام * لكم بين شيبكم والشباب
لا أبالي حللت بالسادة القادة * أم بالعلوج والأعراب
فتراني ألف بالرغم منهم * كل ما قدموه لف العقاب
قابل أن جرى على امتهان * في سبيل الحلواء والحوذاب
ويبدو التقارب ما بين هذا الشاعر وبين الحوماني، فكما أن الأول لا يهمه



(1) ديوان الحوماني الصفحة 39.
(2) ديوان الحوماني الصفحة 40.
(3) خشي الشاعر بأن لا يدرك القارئ ما يقصده بكلمة الروح لذلك أوضحها في الحاشية قائلا:
الروح: جبرائيل.
(4) ديوان الحوماني الصفحة 83.
(5) الصفحة 57.
(6) الصفحة 103.
217
في التطفيل أن يكون على موائد السادة القادة أو على موائد العلوج والأعراب
كذلك كان هم الحوماني هو أن يكون على المائدة لا فرق بين مائدة الأمير عبد الله
أو مائدة ذوقان الحسين.
وبعد ان امتلأ وطاب الحوماني في الأردن رأى أن الأردن وحده لن يحقق له
مطامحه، والطموح - كما قلنا من قبل - يكون في معالي الأمور كما يكون في
الكدية فمضى في فترة إلى العراق فكانت له فيه نفس الحياة على أن من اخزى ما
فعله هناك أنه ارتبط باقطاعي معروف بعسفه وتسلطه على الفلاحين واستعباده
لهم، وجنيه الأموال لا يبالي من حيث تجنى. ولو كان في جنيها قتل النفوس
وارهاق العباد واغتصاب الأرزاق، فعكف الحوماني يمدحه ويثني عليه بالشعر
ثم ألف كتابا ضخما اطلق عليه اسم ذلك الظالم القاتل السالب ووصفه بأعظم
الصفات.
وبعد أن استنفد أغراضه في العراق انتقل إلى السعوديين يستعطي من
أموال أثريائهم ما يستعطي، ثم سكن بلادهم يعيش على فتات موائدهم ويقف
شعره عليهم لا سيما محمد سرور الصبان الذي نظم فيه ديوانا كاملا كله كدية
وتملق سماه " معلقات "، طبعه سنة 1960 وهكذا انحدر بهذا الاسم الرفيع
(المعلقات) من عليائه التي كانت له في الشعر الجاهلي إلى هذا المنحدر الزري
فأصبح استجداء لرجل مثل محمد سرور الصبان كل ميزته أنه جمع أموالا
بالطرق التي يجمع بها عبيد السعوديين أموالهم وحسبك بها من طرق. وكان
الصبان هذا يكنى (أبو حسن).
فيقول فيه الحوماني فيما يقول:
أبا حسن نعماي ان احمد السرى * إليك وأدنو منك في كل ما أرى
أرى كل ما يبدو لعيني لوحة * من الحسن ترقى بي إليك مصورا
كأنك ألوان الحياة تزاحمت * على الفكر حتى صاع منهن عبقرا
ومن الطريف ان الصبان هذا هو زنجي الأب ومن بقايا العبيد الذين تم
اعتاقهم بعد الامتناع عن تعاطي الرقيق. وإذا كان المتنبي في مدحه لكافور لا
ينكر سواد كافور فيعبر عن ذلك بتكنيته بأبي المسك فان الحوماني يتغزل بوجه
الصبان ويتجاهل لونه الأسود ويرى في ذلك الوجه (لوحة من الحسن). ثم
يبلغ به التغني بذلك الحسن أقصى مداه فيقول: أنه عندما يراه تتزاحم ألوان
الحياة في فكره فتريه (عبقرا) قد صيغت بالصبان ووجهه الأسود.
ولا يدري الإنسان وهو يقرأ هذا الشعر أيضحك من هذه الصورة البشعة
التي ال إليها عبقر والعبقرية في شعر الحوماني، أم يحزن لهوان الشعر هذا
الهوان.
وبعد أن يتغزل بوجه الصبان الأسود في هذه القصيدة، يرى أن هذا
التغزل غير كاف، وإذا كان المتنبي لا ينكر سواد كافور - كما قلنا - فإن الحوماني
لا يعرض أبدا لذلك السواد بل يهيج فيه الغرام بذاك الوجه الفاحم الذي يراه
توأما للصباح فيقول من قصيدة:
لكان وجهك والصباح كلاهما * فم توأم ينقض عن فم توأم
ومن اضحك وأفجع ما قاله في معلقته بالصبان هذا البيت:
كأنك بدعة هذا الزمان * أما لاحداثه أو أبا
يمكن ان يقال لأحد ابطال التاريخ انه أم أو أب لأحداث زمانه. ولكن
يوم يقال لمحمد سرور الصبان أنه أم أو أب لأحداث الزمان ويكون القائل هو
محمد علي الحوماني، فلا شك أن ذاك الزمان هو شر الأزمنة.
ولما تقدمت به السن ثقل على السعوديين فعاد إلى لبنان فلم يعش فيه
طويلا، وننقل هنا بعض ما جاء في كتاب (مع الأدب العاملي) في الصفحة
25: (وربما كان الحوماني في نزعته الأخيرة أقرب أبناء هذه الطبقة إلى الجديد
لو لم يتخذ الأدب وسيلة للتكسب) إلى آخر ما قال.
ونحن حين نترجم لهذا الشاعر فلكي نعطي صورة عن حالات بعض
الشعراء، في فترة من الفترات، وهذا واجب على من يسجل تاريخ الأدب،
فليس التاريخ دائما صورا مشرقة، وعلى المؤرخ أن لا يكتفي بعرض الصور
المشرقة وحدها والا خان التاريخ.
وهذا الشاعر ليس فريدا في دنيا الشعراء، ولا نختص به نحن وحدنا
لنخجل من ذكره، فعند الناس جميعا أمثال له.
الشيخ محمد علي خاتون
مرت ترجمته في مكانها.
ذكر السيد أحمد الحسيني في مقال له في نشرة (تراثنا) التي تصدر في مدينة
(قم) وهو يتحدث عن مخطوطات مكتبة الحاج هدايتي ان فيها مخطوطا باسم
(ترجمة قطب شاهي) تأليف الشيخ محمد بن علي بن خاتون العاملي.
الشيخ محمد علي الصاحبي ابن محمد علي
ولد في أصفهان سنة 1285 وتوفي في طهران سنة 1361.
من الأدباء الإيرانيين، كان يتخلص في شعره ب‍ (عبرت) ويلقب ب‍
(عارف علي). له: (نامه فرهنگيان) ترجم فيه لخمسة وثلاثين شاعرا في
القرن الرابع عشر (مخطوط).
السيد محمد علي الجزائري ابن محمد عباس
ولد في لكنهو (الهند) سنة 1298 وتوفي سنة 1360.
درس أولا في لكنهو ثم انتقل إلى النجف سنة 1325 فحضر على السيد
محمد كاظم اليزدي والشيخ محمد كاظم الخراساني والشيخ ضياء الدين العراقي
وغيرهم. ثم عاد إلى لكنهو فتولى إدارة المعهد العلمي الذي عرف باسم
(شيعة عربي كالج) وتولى التدريس فيه فتخرج على يديه جملة من الأفاضل.
له: تخميس القصيدة العلوية باللغة العربية، والقصيدة في الأصل
لوالده. شرح ديوان امرئ القيس باللغة الأردوية. رنات الطرب في قصائد
العرب باللغة الأردوية. مزاعم العرب في الجاهلية، ديوان شعر باللغة
العربية. ضبط الغريب من لغة العرب. الإفادات المحمدية وغير ذلك.
وهو والد السيد طيب من العلماء الفضلاء العاملين وقد تخرج من معاهد
النجف ثم سكن في مدينة لاهور بالباكستان ثم استقر في مدينة قم بإيران.
الشيخ محمد علي المدرس التبريزي
ولد في تبريز سنة 1296 وتوفي سنة 1373 ودفن في (الطوبائية) في تبريز.
درس على مشاهير علماء عصره، وكان بعيدا عن المظاهر والضوضاء
الفارغة مؤثرا العزلة، وسكن في الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياته في احدى
غرف (مدرسة سبهسالار) في طهران منصرفا إلى ما أخذ نفسه به من البحث

218
التأليف والتحقيق. ومن أهم كتبه كتاب (ريحانة الأدب في تراجم المعروفين
بالكنية أو اللقب) فارسي طبع منه في حياته خمسة مجلدات، وطبع المجلد
السادس بعد وفاته طبعه نجله علي أصغر المدرس. ومن مؤلفاته (حياض
الزلائل في شرح رياض المسائل) وهو شرح باللغة العربية لكتاب الطهارة من
الرياض (مخطوط) و (غاية المنى في تحقيق الكنى) (مخطوط) و (قاموس
المعارف) بالفارسية (مخطوط) و (فرهنگ نوبهار) مجلدان بالفارسية
(فرهنك بهارستان) في مترادفات اللغة الفارسية (مطبوعان) والدر الثمين
أو ديوان المعصومين) جمع فيه الأشعار المنسوبة إلى الأئمة عليهم السلام، طبع
منه المجلد الثاني و (فرهنگ نگارستان) باللغة الفارسية في خمسة مجلدات
(مخطوط) و (أمثال حكم تركي آذربايجاني) لم يطبع.
الشيخ محمد علي المعصومي ابن سليمان
ولد سنة 1288 وتوفي سنة 1372
تلقى دروسه الأولى في إيران ثم سافر إلى النجف الأشرف فحضر على
الشرابياني والخراساني واليزدي والطهراني. ثم عاد إلى بلاده فاستقر في مدينة
بهبهان. ولما هاجم الإنكليز العراق في أوائل الحرب العالمية الأولى واحتلوا
البصرة وأعلن مجتهدو النجف الجهاد لدفعهم عن العراق، اعتقد المترجم أن
اعلان الجهاد يشتمله هو نفسه لقربه من العراق فدعا الناس إليه وشارك فيه.
له: حاشية على الجواهر. شرح اللمعة. القواعد المشكلة. أنيس
المهموم. كتاب المواعظ. رسائل في الفروع.
محمد بن علي بن طباطبا
صفي الدين المعروف بابن الطقطقي. ولد سنة 660 وتوفي سنة 709
تولى أبوه تاج الدين أبو الحسن علي بن محمد بن رمضان المعروف
بالطقطقي صدارة الحلة، وكانت أسرته قد سكنت الحلة من أيام جده
رمضان. وتولى المترجم بعد أبيه نقابة العلويين سنة 672 وسافر إلى بلاد فارس
ودخل مراغة سنة 696.
وزار الموصل واتصل بأميرها فخر الدين عيسى بن إبراهيم أيام غازان
وباسمه صنف سنة 701 كتابه في التاريخ (منية الفضلاء في تواريخ الخلفاء
والوزراء) الذي عرف بالفخري نسبة إلى فخر الدين. وقد يعرف باسم
(الفخري في الآداب السلطانية) طبع مرارا في مصر وطبع في ألمانيا بسعي
المستشرق الألماني (آهلوارد) (1860 م) وكان طبع في فرنسا بسعي
(ارنبورك) المستشرق الافرنسي (1895 م) وترجمه (آمار) إلى الفرنسية،
وترجمه إلى الفارسية وزاد عليه (هندو شاه) فرع منه سنة 724 وسماه (تجارب
السلف)، وطبع في طهران.
ميرزا محمد علي شاه آبادي بن محمد جواد
ولد سنة 1293 في أصفهان في محلة بيد آباد وتوفي سنة 1379.
كان والده الشيخ محمد جواد مجتهد من تلاميذ الشيخ حسن صاحب
الجواهر والشيخ الأنصاري.
درس المترجم على والده وأخيه الشيخ أحمد والميرزا هاشم چارسوئي.
وفي سنة 1304 سافر برفقة والده إلى طهران حيث درس العلوم العقلية
والفلسفة والعرفان على الميرزا حسن الآشتياني والملا هاشم الرشتي والميرزا
جلوه. وبعد وفاة والده هاجر إلى النجف الأشرف فحضر درس الملا كاظم
الخراساني طيلة سبع سنوات وكتب دورة كاملة لشرح الكافية.
وقد أجيز من كل من الميرزا الشيرازي والآخوند الخراساني وشيخ
الشريعة والسيد إسماعيل الصدر والشربياني الكبير والشيخ حسين مرزا
خليل. وبعد وفاة الخراساني سافر إلى سامراء وحضر درس الشيخ محمد تقي
الشيرازي. وبعد فترة سافر إلى إيران بعد أن عرف بمرض والدته ولم بعد
بعدها إلى العراق.
وفي سنة 1325 ترك أصفهان إلى طهران وأسس فيها حوزة علمية
وأصدر سلسلة (شذرات المعارف). ثم قرار الانتقال إلى قم حيث قام بتدريس
الفقه والأصول والعرفان، وكان من بين طلابه السيد الخميني الذي درس
عليه سبع سنوات.
ثم رجع إلى طهران مدرسا مرشدا، فأسس فيها صناديق خيرية لإقراض
المحتاجين مخلصا لهم من دفع الربا للمصارف والمرابين. وكان من طلابه في
طهران الحاج مصطفى خان الإيرواني وعباس قلي بازرگان والد المهندس مهدي
بازرگان والشيخ علي محدث زاده الخطيب الطهراني الشهير.
ومن طالبه به في قم: السيد المرعشي النجفي والآخوند ملا علي الطهراني
والشيخ موسى المازندراني وشهاب الدين الملايري ومحمد نقضي الطهراني
والميرزا حسن اليزدي والميرزا خليل الكمره أي والسيد حسن الأحمدي والميرزا
هاشم اللاريجاني والسيد علي البهشتي وغيرهم.
تخلف بعشرة بنين وست بنات. وابنه الشيخ مهدي كان من علماء طهران
العاملين استشهد في الجبهة سنة 1363 وابناه الشيخ نور الله والشيخ
نصر الله من علماء طهران البارزين.
مؤلفاته
1 - شذرات المعارف
2 - رشحات البحار - ألفه سنة 1359 ه‍.
3 - مفتاح السعادة في أحكام العبادة - رسالة عملية.
4 - حاشية على كتاب نجاة العباد للشيخ صاحب الجواهر.
5 - رسالة العقل والجهل.
6 - أربعة رسائل في النبوة والولاية العامة والخاصة.
7 - منازل السالكين.
8 - شرح كفاية الأصول للآخوند الخراساني.
9 - كتيبات في الأدب العربي (الصرف والنحو).
10 - حاشية مع الشرح على كتاب فصول الأصول.
الشيخ محمد علي ناصر ابن الشيخ عبد اللطيف
ولد في قرية حداثا (جبل عامل)، ودرس دراسته الأولى في الجبل ثم
هاجر إلى النجف الأشرف فتابع الدراسة هناك، ثم عاد إلى بلاده فأقام في
حداثا حتى عين قاضيا شرعيا في صيدا فانتقل إليها وبقي فيها حتى وفاته.
كان شاعرا مجيدا وظلت مجموعة شعره مخطوطة لم تطبع، ومرت له في هذا
الكتاب في الصفحة 441 من المجلد العاشر قصيدة رثائية.
قال سنة 1371 في ذكرى المولد النبوي:

219
عيد التحرر والعلياء للعرب * يوم بعثت به يا خير كل نبي
ذكرى حياتك أمجاد يرددها * فم الزمان بزهو الفخر والعجب
بنيت للعرب في دين دعوت له * مجدا أطل باشراق على الشهب
ورحت تغرس فيهم كل مكرمة * حتى تساموا إلى أوج من الرتب
تسمو بهم لذرى العلياء في صعد * من نهج دينك لا يفضي إلى صبب
وتنتحي بهم للعز منزلة * حيث المفاخر قد شدت من الطنب
نزهتهم عن تماثيل مجسمة * خروا لها سجدا جهلا على الترب
وقدتهم للهدى تجلو حقيقته * بالمعجز الحق من قرآنك العجب
في شرعك العدل والقرآن ملتئم * والعفو والعرفان مقرونان في سبب
ولدت في الدهر فانجابت غياهبه * بالنور من وجهك الكشاف للكرب
يفوح بالبشر من طيب نفحت به * ارجاءه الفيح لا بالمندل الرطب
يختال فيها بما قد حاز من شرف * بمولد لك مزهوا من الطرب
ابنت للناس نهج الحق منبلجا * كالصبح شاع بنور غير محتجب
آيات فرقانك السامي بحكمته * فيها جلاء العمى والشك والريب
وحي تفرد بالاعجاز إذ عجزت * عن مثله بلغاء العجم والعرب
بعثت كي تغمر الدنيا بنور هدى * يبدو فيكشف ما في باطن الحجب
يشيع حتى نرى الدنيا بزينتها * تجلى وتختال في ابرادها القشب
وتبرز الأرض في ثوب تتيه به * من رائع الزهر في لون من الذهب
بعثت كي تبتني بالخير مجتمعا * للشر فيه ضلالا أي مضطرب
وتبتني للعلى والمجد صاعدة * من يعرب أمة وضاحة الحسب
وتعمر الدهر بالأخلاق فاضلة * يروق سائغها كالمنهل العذب
وتنشر العلم في الدنيا إلى أدب * جم الفوائد من شعر ومن خطب
وتظهر الحق وضاء السنا ليرى * نور الهدى مذعنا للحق كل غبي
وتكبر العقل يستهدي بنيره * إلى السلامة في داج من النوب
وتمنح المثل العليا بما اشترعت * لك الرسالة في وحي من الكتب
بدلت بالأحسن الدنيا إذ انفجرت * يمناك بالخير من جود ومن حدب
وصنت للناس حقا كان مهتضما * من قبل بعثك نهبا للقنا السلب
اتيتهم بالهدى دينا مناهجه * إلى الفضائل في بدء وفي عقب
وعدتهم باخاء يلجؤون له * حصنا أعز حمى من معقل اشب
ما كنت الا بشيرا بالحياة لمن * يبغي الحياة وخيرا غير منقضب
هديتنا لو وعينا ما اتيت به * من بالغ القول ما يجدي ولم تخب
علمتنا كيف نحمى المجد إذ عصفت * به العواصف من خوف ومن رعب
وكيف نبذل ذودا عن كرامتنا * ما عز من أنفس منا ومن نشب
ولم تزل تهب الدنيا دروس علا * كالشمس تغمر اشراقا ولم تغب
لكنما ضاع ما أسديت من عظة * والطبع ان ساء أنسى كل مكتسب
يا أمة سرت في ظل الهدى كرما * ونلت في جاهه ما عز من ارب
حللت في أفق العلياء ناشرة * رايات عز سمت خفاقة العذب
وقدت للفتح بالاسلام منتصرا * جيشا من الصيد في جيش من الرهب
ما بالك اليوم قد أصبحت في ضعة * وصرت ماسورة في قيد مغتصب
ما ذا جنيت من الأوزار مسخطة * حتى سقيت بكأس الذل والعطب
اجل تنكبت عن نهج الهدى وهوت * بك المطامع خسفا شر منقلب
وصرت في حالة تزري بصاحبها * رأي بديد وشمل غير منشعب
عاث الأجانب في دنياك تفرقة * كما تعيث صغار السوس بالخشب
ومزقوك دويلات فكنت لهم * رهن الإشارة طوع الأمر والطلب
رضيت بالذل بعد العز خانعة * وطالما عفت طيب النوم من حرب
أما علمت بأن المجد مغتصبا * لا يسترد بغير السمر والقضب
ولا ينال العلى الا الأولى اعتصموا * بشفرة السيف في جد وفي لعب
وهمة تعتلي الجوزاء في شمم * ان شاب فود ليالي الدهر لم تشب
وعزمة هي امضى من غرار ظبي * تشب نار لظى في صدر كل أبي
يا أمة العرب لا غالتك غائلة * ولا جثت بك أطماع على الركب
ولا شربت بكأس الذل قد ملئت * من كف مستعمر أو كف منتدب
وثرت حتى تعيدي المجد مستلبا * بالرغم من انف ذي بغي ومستلب
تمشين للعز والعلياء في نفر * من كل ذي همة أرسى من الهضب
وترفعين لواء المجد تحرسه * ضياغم العرب فوق الجحفل اللجب
وتغسلين بيوم الروع إذ وجمت * به الفوارس عارا بالدم السرب
وتنقذين بلادا عز منقذها * من معشر قلدونا الذل في اللبب
وترجعين " فلسطينا " كما غصبت * وتأخذين بثأر لج بالطلب
فما المواعيد تجدي القوم منفعة * وكلها نسجت بالمكر والكذب
ولا القصائد تذكي في حماستها * عزائما تضرم الأحشاء باللهب
ولا المنابر تتلى فوقها خطب * من لفظها تتنزى سورة الغضب
وانما النافع المرجو بارقة * من المواضي ترينا النصر من كثب
وتملأ الأرض من قاني دم سرب * يودي بمنعفر في زي مختضب
وترجع الحق وضاء السنا لهجا * عادت " فلسطين " عاد المجد للعرب
وقال سنة 1380 من قصيدة في رثاء الشيخ عارف الزين صاحب مجلة
العرفان:
ما مت بل خفت بك الأقدار * فمضيت تهتف باسمك الأمصار
رمت الخلود فحلقت بك عن دنا * نفس أبت غير العلى تختار
حاشاك ان تطوى ويغمرك الفنا * ولأنت من خلدت به الآثار
كنت المنار بها لكل دجنة * ان عز في حلك الظلام منار
تملي على القلم الدئوب روائعا * من كل ما يحلو وما يختار
ولكم أذعت من المعارف ما به * تسمو العقول وترتقي الأفكار
" عرفانك " الغراء أصدق شاهد * في أن جهدك للعلى جبار
قد كنت للأحرار أعظم قدوة * وعليك قد عقد اللوا الأحرار
تلفى بساحات الجهاد مناضلا * فردا يهابك جحفل جرار
ما هنت يوما للصعاب ولم تلن * حتى مشت بك للردى الأقدار
ايه أبا الأدباء كم لك موقف * يزهو به الاعجاب والاكبار
خمسين عاما في الجهاد قضيتها * ما ان سئمت ولا خلا المضمار
أديت فيها للحياة رسالة * ملئت بها الأسماع والأبصار
ما ذا احدث عن مواقفك التي * غنى بها الحادون والسمار
ويراعك المشاق يجري دائبا * ما عاقه ورد ولا اصدار
ومجلة لك في البلاد نشرتها * يقف الزمان ونفعها سيار
أسفا خلت منك المحافل بعد ما * ملئت بفضل جهادك الأسفار
وقال سنة 1364:

220
خلني والهموم تترى على القلب * بما يحكم القضا والزمان
ليس في الكون ما يروقك لونا * سمجت في حياتنا الألوان
أخذ الناس عن زمانهم المكر فكل بمكره شيطان
ولبئس الرياء في الناس قولا * وفعالا يسيغه الإنسان
خدع الناس في زخارف إبليس ولما يهب بهم إيمان
عشقوا نضرة الحياة حريصين عليها وفي الهوى خسران
وتفانوا على خسيس من العيش ضئيل كأنهم ذئبان
ليت شعري أللزمان بقاء * أم تدوم القصور والتيجان
ملك كسرى عدت عليه الليالي * سقط التاج وامحى الإيوان
لا يغرنك من زمانك لين المس منه فإنه ثعبان
كم تراق الدماء في ساحة الحرب وكم تعمل القنا المرآن
عجز الطب عن دواء نفوس * وتداوى من دائها الأبدان
عالم لا يفيق من سكرة الجهل وخلق في رشده حيران
كل أدوائه عضال ولكن * شر أدواء نفسه الطغيان
كم قرأنا من الحياة دروسا * يتساوى سماعها والعيان
وبلونا الزمان في حالتيه * فإذا في سروره أحزان
يحكمون البناء ظن بقاء * وقريبا ما يهدم البنيان
عظة الدهر آذنت بوداع * فتيقظ يا أيها الإنسان
ان تنم سادرا عن الموت لاه بأمانيك فالردى يقظان
وقال في ذكرى مرور خمسين سنة على صدور مجلة العرفان سنة 1371:
حملت من عب ء الجهاد ثقيلا * وجزيت من طيب الثناء جميلا
وبلغت من شرف الجهاد مكانة * توجت فيها بالعلى إكليلا
خمسين عاما قد قضيت مجاهدا لم تتخذ إلا الجهاد سبيلا
أديت للآداب خير رسالة * فيها وكنت لها الأمين رسولا
ما إن أصبنا في جهادك كله * لك في الثبات وفي الإباء مثيلا
(عرفانك) السفر النفيس مجلة * حازت بمضمار العلى التفضيلا
يحوي من الأدب الشهي موائدا * تغذو العقول ومنهلا معسولا
يجلى لقارئه عروس ثقافة * حسناء تسبي أنفسا وعقولا
يجلى بكل طريفة أدبية * تحلو وتحسن في المسامع قيلا
يا منفق الخمسين عاما كافلا * نشر الثقافة قد عظمت كفيلا
أبديت للأدب الرفيع جماله * وجعلته بين الورى مبذولا
ونشرت رايته فرفت واحتوت * دنيا الثقافة عرضها والطولا
حق لجهدك في الحياة تجلة * توليك شكرا يستطاب جزيلا
وتريك أن مكانة الأدب التي * عظمتها بلغت بك المأمولا
وبلغت منها ما تحب ونلت من * أسبابها ما نلت منه السولا
لم تتخذ باب الصحافة متجرا * للربح ينقع من ظماك غليلا
لكنما حاولت فيها غاية * تسمو وقصدا في الحياة نبيلا
شأن الصحافة أن تكون نزيهة * تأبى الرشى وتجانب التدجيلا
وترى الحقيقة رائدا لجهادها * لا ترتضي عن نهجها تحويلا
وترى لزاما أن توجه للعلى * شعبا تعود أن يعيش ذليلا
شعبا يعيث ولاته بحقوقه * وإذا اشتكى منهم غدا مسؤولا
شعبا يئن لما به وبلاده * كادت تمثل أربعا وطلولا
الفقر ملء بيوته وولاته * عمروا القصور وأحسنوا التجميلا
وتحفز الجيل الجديد ليقظة * يسمو بها عن أن يكون جهولا
وتجله عن أن يكون مسخرا * يحيا كما عاش القرون الأولى
وتبث فيه من المعارف ما به * تبني على أسس الحياة الجيلا
فالعلم مرقاة الشعوب وما ارتقى * شعب يظل بجهله مغلولا
والعلم نهج الراشدين وما اهتدى * من لم يجد منه عليه دليلا
والعلم نبراس الحياة ونوره * يجلو الظلام ويكشف المجهولا
والجهل داء في الحياة ولم نجد * كالجهل داءا للحياة وبيلا
إن نحتفل بالعاملين فإنما * نجزيهم التقدير والتبجيلا
رمز الجهاد أبو (الأديب) وحقه * حسن الثناء مرددا موصولا
ولربما كثر الثناء وربما كان الكثير من الثناء قليلا
الشيخ محمد علي اليعقوبي ابن الشيخ يعقوب
ولد سنة 1313 في النجف الأشرف، وتوفي ودفن فيها سنة 1385.
خرج به أبوه وهو صغير السن إلى الحلة حيث هاجر إليها فنشأ ودرس
دراسته الأولى فيها. وكان والده من خطباء المنبر الحسيني فاخذ يدرب ولده
المترجم على الخطابة الحسينية، ثم كان يرود مع والده مجتمعات الحلة التي
كانت عامرة بالأدب والشعر، لا سيما منتدى السيد محمد القزويني، وبعد وفاة
والده سنة 1329 ارتبط بالسيد القزويني ولازمه وتلمذ عليه، ثم وقعت حادثة
الحلة، وتلخص هذه الحادثة بأنه في أواخر الحرب العالمية الأولى جاء القائد
التركي عاكف إلى مدينة الحلة ومعه فريق من الجند واستدعى المختارين
وبعض النافذين في البلد وطلب إليهم أن يسلموا خلال اربع وعشرين ساعة
الجنود الفارين والا فإنه سيتخذ ما يقتضيه الموقف من اجراءات صارمة.
وكانت الحلة ملأى بهؤلاء الجنود. ولما جن الليل فرق عاكف عساكره في
الطرقات وعلى السور ودوائر الحكومة وعلى منارة المسجد الكبير فوقع الصدام
بين العسكر وأهل الحلة واستطاع الحليون السيطرة على الموقف. وكان عاكف
قد استنجد بمن في السدة من الجنود فانجدوه ولكن الحليين ومن انضم إليهم من
الاعراب أوقفوا النجدة عند مشهد الشمس، فلما رأى عاكف ذلك خادع أهل
الحلة ووعدهم بان يخرج بمن معه من الجند من الحلة إذا فكوا الحصار عن القوة
المحاصرة في مشهد الشمس، وهكذا كان فاخلى عاكف الحلة وخرج منها
بجنوده. ثم أنه في أوائل شهر المحرم سنة 1335 ارسل عاكف إلى الحليين
يطلب إليهم الاذن بان يمر في الحلة في طريقه لانجاز مهمة عسكرية في مكان
آخر.
فاجتمع أهل الحل والعقد في منزل السيد محمد علي القزويني لينظروا في
طلب عاكف، فوقع الخلاف بينهم، إذ قال بعضهم بإجابة طلبه وقال الآخرون
بعدم الاذن له لأنه انما يخادعهم فإذا دخل الحلة فلن يخرج منها ورأوا انهم الآن
في منعة ويستطيعون صده إذا حاول الدخول عنوة لمناعة سور الحلة وقوة المدافعين
وان الناس في أرياف المدينة سينجدونهم حتما إذا صمدوا فيقع عاكف بين
نارين. واشتد الهرج والمرج بين المجتمعين وامتد ذلك إلى جمهور الناس خارج
الاجتماع بعد أن بلغهم خلاف من اجتمعوا وقامت مجموعات من الحليين
بالنزوح عن الحلة وتشتت امر الناس تشتتا كاملا فدخل عاكف المدينة دخولا
هينا، وقام الجنود بالنهب والحرق والهدم والقتل وخربت محلات
الجامعين والطاق وجبران والوردية وكان عدد من علقوا على أعواد المشانق مائة

221
وستة وعشرين رجلا. ثم سيق من بقي من الناس وفيهم الشيوخ والعجائز
والأطفال مشيا على الأقدام إلى ديار بكر في الأناضول فمات الكثيرون منهم في
الطريق. وبقي الذين استطاعوا النجاة قبل دخول عاكف إلى المدينة منتشرين
حيث حلوا حتى سقوط بغداد بيد الانكليز فعادوا إلى الحلة.
ولم يكن بين استباحة الحلة وسقوط بغداد أكثر من خمسة أشهر وكان المترجم
فيمن نزحوا إلى بلدة جناجة وهناك التقى بالشاعر الشيخ محمد حسن
أبي المحاسن الكربلائي فاتصل به وتخرج عليه. وبعد احتلال بغداد من الإنكليز
عاد إلى النجف فأقام فيها، ثم سكن الكوفة ثم الحيرة. وبعد سنة 1340
استقر في النجف خطيبا حسينيا مؤثرا، منصرفا في الوقت نفسه إلى البحث
والمطالعة ونظم الشعر، واختير عميدا لجمعية الرابطة الأدبية حتى آخر حياته.
وقد ذاع اسمه بالخطابة الحسينية في جميع انحاء العراق، وصار سمة من
سمات النجف البارزة.
ترك آثارا منها: 1 - المقصورة العلوية وهي قصيدة تناهز (450) بيتا من
الشعر في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام 2 - عنوان المصائب في مقتل الإمام علي
عليه السلام. 3 - البابليات في ثلاثة اجزاء وهو في تراجم شعراء الحلة. 4 - الذخائر
ديوان شعري خاص بأهل البيت عليهم السلام 5 - ديوان شعره.
وقد حقق عدة دواوين شعرية طبعت باشرافه. وله تعليقات على بعض
كتب التاريخ والتراجم، كما أن له كثيرا من البحوث في المجلات في التراجم.
شعره
مرت له قصيدة رثائية في الصفحة 41 من المجلد الثامن، وقصيدة رثائية
أخرى في الصفحة 440 من المجلد العاشر، وله ديوان مطبوع في حياته قال
الشيخ محمد رضا الشبيبي في المقدمة التي كتبها للديوان: " تجد الشاعر
يستوحي احداث العالم العربي من العراق إلى المغرب، وهي احداث ومآس
جلبها استعمار المستعمرين الغربيين على العالم المذكور ".
ويقول أيضا: " جبل اليعقوبي على شئ غير قليل من لطف الطبع وخفة
الروح وحرارة النكتة والفكاهة وانك لتجد في شعره شواهد يتناولها الرواة، على
أن بعض أبياته في المداعبة والمباسطة تعد نقدا سياسيا لاذعا ".
قال في الحفلة التي اقامتها جمعية الرابطة الأدبية في مركزها العام في النجف
احتفاء بأعضاء النادي العربي بدمشق يوم زيارتهم النجف في 3 شوال سنة
1357:
عسى وحدة للعرب أنتم رعاتها * يلم بكم عما قريب شتاتها
وليس عجيبا ان نهضتم بعبئها * فإنكم اكفاؤها وكفاتها
سعيتم لتحقيق الأماني لقومكم * ورب أمان لا تخيب سعاتها
وأيقظتم للعز أشرف أمة * على الذل لم يعهد قديما سباتها
تحن بلاد الرافدين لوصلكم * ودجلتها تشتاقكم وفراتها
سقى الله في ارض الشام مغارسا * من العز فينا أينعت ثمراتها
فروع علا من دوحة عربية * تطاول جوزاء السماء نبعاتها
وارواح بشرقي العراق تضوعت * ولكن سرت من جلق نفحاتها
تحييكم منا الوجوه ضواحكا * وأنفسنا مطوية حسراتها
ولو كان يروي الدمع غلة واجد * رأيتم عيونا ثرة عبراتها
حدادا لما قاست فلسطين انها * عليها الرزيات التقت حلقاتها
إذا اليوم لا يطفى شرار لهيبها * فهيهات تطفى في غد جذواتها
تئن فيبكي العالمين أنينها * وتشكو فتشجي السامعين شكاتها
توالى عليها الظلم والكرب والبلا * ولا تنجلي الا بكم كرباتها
ومن عجب يغدو حماها مقسما * ومن دونها تفدي النفوس حماتها
كماة إذا فلت مواضي سيوفها * كفتها بماضي حدها عزماتها
تضحي لاولى القبلتين نفوسها * وتلك أضاحيها وذي قرباتها
تفانى العدى في غصبها بعد ما غدت * بفيض الدما مغمورة جنباتها
فلا عجب فالخود تسبي مشوقها * إذا ما بدت محمرة وجناتها
ولما نبا عن صوتها سمع خصمها * اتتها تلبي صوتها أخواتها
وما موتنا بين الورى وحياتنا * مدى الدهر الا موتها وحياتها
وقال حين وقف على ضريح مؤلف (أعيان الشيعة) سنة 1374:
قد كنت آمل أن أراك * إذا دخلت الشام حيا
ويقر طرفي ان رأى * لمعان ذياك المحيا واليوم زرتك ثاويا * بثرى له تعنو الثريا
ما المسك أطيب من شذى * عبقاته نفحا وريا
فلئن طوتك يد الردى * فبنشر ذكرك سوف تحيا
لم يسل ذكرك غدوة * ابد الحياة ولا عشيا
محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي
ذكر في الصفحة 27 من المجلد العاشر، ولم يشر إلى عصره. ونقول هن
أنه توفي في حدود منتصف القرن الرابع. ويراجع بشأن كتابه (معرفة الناقلين
عن الأئمة الصادقين) ما جاء في هذا المجلد فيما استدرك على ترجمة الشيخ أبو
جعفر محمد بن الحسن الطوسي (شيخ الطائفة).
الشيخ محمد قسام ابن محمد علي
ولد في النجف سنة 1299 وتوفي في بغداد سنة 1373 ودفن في النجف.
توفي أبوه وهو ابن عامين فكفله اخوه الشيخ قاسم ودرس في النجف ثم
اتجه إلى الخطابة الحسينية وتخرج فيها على الشيخ محمد تأمر.
سكن الحيرة خطيبا ناجحا يلتف الناس حول منبره، ولما هاجم الانكليز
العراق في الحرب العالمية الأولى واحتلوه كان صوته مدويا في الدعوة إلى
مقاومتهم في خطبه التي كان يلهب بها الجماهير. وبعد احتلال النجف توارى
عن الأنظار والتجا إلى (بدرة) وبعد توسطات ومداخلات سمح له بالعودة إلى
النجف على أن يمتنع عن الخطابة. ولما قام الحكم الوطني زالت عنه القيود وعاد
إلى المنبر الحسيني واقبل عليه الناس وعمت شهرته العراق كله.
ترك: (الأخلاق المرضية في الدروس المنبرية) طبع بعد وفاته والحق به
بعض قصائده في رثاء أهل البيت عليهم السلام. وله غيرها من النظم والنثر.
محمد قطب شاه السادس
مرت ترجمته في المجلد العاشر الصفحة 41 ونزيد عليها هنا ما يلي:
كان شاعرا فذا مرب للشعراء. وله في شعره الكليات، وفيها الشعر
الغنائي والوجداني وقصائد في مدح أئمة أهل البيت ع ورثاء الحسين
عليه السلام. ويعتبر مؤسس الاحتفالات السنوية بذكرى استشهاد الحسين عليه السلام
في الهند.

222
محمد قلي قطب شاه الخامس
أحد ملوك الدولة القطبشاهية في الهند. مرت ترجمته في المجلد العاشر
الصفحة 41 ونزيد عليها هنا ما يلي:
هو الذي ارتفع باللغة الأردوية إلى ما وصلت، وقد كان شاعرا فكان
ديوانه الشعري أول ديوان بهذه اللغة، ثم أخذ يقرب شعراءها ويغدق عليهم
الجوائز، فاستطاع أن يرسي قواعدها ويجعل منها لغة شعر وأدب بعد أن كانت
لغة تخاطب فقط.
ومن تأثيره أنه أخذ ينظم الشعر في مدائح أهل البيت عليهم السلام
ومراثيهم، ويتفنن في الحديث عن بطولة الحسين عليه السلام ووقعة كربلا، وأخذ
الشعراء يتبعون أثره في النظم مدحا لآل البيت ورثاء للحسين، ومن شعراء
عاصمة محمد قلي وما يليها نستطيع أن نعد كلا من: غواصي وابن نشاطي وفائز
وبحري وأشرف وولي وكلهم من شعراء مراثي الحسين عليه السلام ولهم كما
لمعاصريهم المجاميع العديدة الكبيرة والصغيرة المختصة برثاء الحسين وأهل بيته،
وليس لأحد غيرهم ما يمكن ان يسمى ديوانا في تاريخ الأدب الأردوي في ذلك
العصر.
ومن هنا يبدو فضل الشيعة لا سيما المترجم على اللغة الأردوية التي
أصبحت بفضلهم من أرقى اللغات العالمية (راجع آصف الدولة).
دول الهند الشيعية
القطب شاهيون:
ولد محمد علي قطب شاه في همذان وسافر في غضارة الشباب إلى الهند ولازم
حاكم (الدكن) واستزاد في العزة والمقام يوما بعد يوم لما كان يتمتع به من
النشاط حتى لقب بعد مدة بلقب (قطب الملك) وأصبح عام 918 ه‍ حاكم
منطقة الدكن، وكان قطب شاه من تلامذة صفي الدين الأردبيلي، وحين أعلن
الشاه إسماعيل المذهب الجعفري رسميا للدولة في إيران، تبعه في ذلك قطب
الملك في الهند وعمل على نشره والتبليغ عن التشيع سعيا بليغا، وهاجر على
عهدهم جمع من إيران إلى الدكن وعملوا على نشر الاسلام والتشيع. وكان
أحد كبار الشخصيات العلمية التي هاجرت من إيران إلى الهند على عهد القطب
شاهيين هو المير محمد مؤمن الأسترآبادي، واستمر هذا العالم مدة خمسة
وعشرين عاما في منصب (وكيل السلطنة) يعمل في نشر الاسلام والتشيع
الكثير، وكان يعتبر متبحرا في أكثر العلوم العقلية والنقلية على عهده بل كان من
اعلم العلماء في عصره. واستمر القطبشاهيون في حكم هذه المنطقة قرنين من
الزمن، ولهم تاريخ في ذلك طويل مفصل (1).
العادل شاهيون:
كان مؤسس هذه الأسرة يوسف عادل شاه الإيراني الساوجي، فقد ولد في
مدينة ساوة قرب قم، وسافر إلى الهند في عنفوان الشباب ودخل في خدمة حكام
بيجابور وتملك السلطة في هذه الناحية بعد مدة وعرف باسم عادل شاه
الساوجي. وكان العادلشاهيون شيعة ولهم السعي الكثير في سبيل تبليغ
الاسلام ونشر التشيع في الهند، وفتح عادل شاه كثيرا من مناطق الهند المركزية
التي كانت بأيدي الوثنيين ونشر فيها الاسلام والتشيع.
وكان في جيشه على الدوام جماعة من العلماء الأعلام من إيران والعراق
ومن المدينة المنورة، وكان هؤلاء يشرفون على الأمور الدينية في العسكر
والبلاط، وكان أكثر الأمور الحكومية والسياسية في أيدي الإيرانيين.
ولهؤلاء الملوك المسلمين تاريخ طويل (2).
النظام شاهيون:
كان مؤسس هذه الأسرة رجلا هنديا اسمه تبمابهت أصبح أسيرا لدى
المسلمين في عهد السلطان احمد شاه البهمني، فوجده السلطان ذا ذكاء وفطنة
ودهاء واستعداد وقريحة، فوهبه لابنه محمد شاه وبعثه معه للدراسة في
المدارس، فتعلم هذا الهندي الخط العربي واللغة الفارسية بمدة قليلة ولقب
بالملك حسن البحري، وتوصل أخيرا إلى الحكم بما يطول ذكره، وتشيع بعد
تملكه السلطة وسعى في نشر الاسلام والمذهب الشيعي سعيا بليغا.
وكان أكثر رجال بلاطة وحكومته وأكثر الشخصيات الدينية لدولة النظام
شاهيين من الإيرانيين، وكان الإيرانيون هم الذين يديرون الأمور السياسية
والدينية في الدولة. والملك شاه طاهر الهمذاني الدكني سافر على عهد هؤلاء
إلى الهند، وكان هذا من مؤيدي الشاه إسماعيل الصفوي ثم خالفه وكاد ان
يقتل على ذلك فتخفى ودخل الهند هاربا من الصفويين وعاش في بلاط النظام
شاهيين معظما محترما حتى توصل إلى الحكم بنفسه.
وقد خدم هذا الرجل " شاه طاهر " في الهند خدمة هامة، فقد تربى على
يديه علماء كثيرون في مختلف الفنون والفروع الاسلامية، وكانت حوزته العلمية
احدى كبريات الحوزات العلمية في الهند (3).
محمد كامل شعيب ابن الشيخ وهبة المعروف بالعاملي
ولد في قرية الشرقية (جبل عامل) سنة 1890 م وتوفي سنة 1980 م في
صيدا ودفن فيها.
تلقى مبادئ القراءة والكتابة في الشرقية، ثم دخل مدرسة المقاصد
الخيرية في صيدا ثم المدرسة الرشدية فيها، بعد أن كان والده قد انتقل إليها
وسكنها.
تلقى علوم اللغة العربية على الشيخ موسى مغنية والسيد محمد إبراهيم.
وفي العام 1924 أصدر جريدة العروة الوثقى أسبوعية، كما كان قد شارك في
اصدار جريدة الاتفاق أسبوعية أيضا، ولم تطل مدة صدور الجريدتين كما أصدر
في تلك الفترة ديوانا صغيرا باسم (الحماسيات). وطبع له بعد وفاته ديوان
شعري كبير باسم (البحار) في مجلدين.
ومما أضاع عليه ما تستحقه شاعريته وأدبه من تقدير معاصريه أنه كان
مهووسا بالحديث عن المناصب العليا إلى حد الشطط... والا فقد كان في
الطليعة من أدباء النهضة لا سيما في جبل عامل.
ويبقى للأجيال المقبلة التي لم تعاصره أن تنصفه وتضعه في المكان الذي
تؤهله له مواهبه الشعرية والنثرية بعد أن لا يبقى لتلك الأجيال الا ما تعرفه عن
تلك المواهب.
وكان يتميز في نظم الشعر بحضور البديهة وسرعة الخاطر.



(1) الاسلام وإيران الجزء الثالث، الصفحة 270.
(2) ن. م الصفحة 271.
(3) ن. م الصفحة 271.
223
من شعره
مرت له في هذا الكتاب قصيدتان رثائيتان إحداهما في الصفحة 315 من
المجلد السابع، والثانية في الصفحة 442 من المجلد العاشر.
من قصيدة له بعنوان الدهر:
نروم صفاء العيش مما يشوبه * وغارب صرف الدهر صعب ركوبه
خليق كبالي الطمر باطن وده * وظاهره غض الإهاب قشيبه
وكم قد توسمنا به الخير والمنى كأن * ثراه عنبر وهو طيبه
ويا طالما أعيا الورى سبر غوره قبائله في حيرة وشعوبه
وكم قد جنينا منه كالحلم لذة * وفاضت باشتات المسرات كوبه
فلم نستفق إلا وقد خاب فألنا * وفاضت أسى أرزاؤه وخطوبه
يصيب بسهم البين من رام غدره * ومن لم يرم غدرا به لا يصيبه
كان الليالي خبط عشواء تستوي * بها حسنات للفتى وذنوبه
ومن قصيدة له بعنوان " يا أخت شمس الضحى ":
يا أخت شمس الضحى والكوكب الساري
فقت الشموس بهالات وأنوار
إن رمت والغيد في حسن، مسابقة * ما فاز غيرك في شوط بمضمار
في صحن خديك روض بالورود زها * وفي لحاظك فتك الضيغم الضاري
ما هذه القامة الهيفاء مائسة * كذابل من طوال الخط خطار
تكاد إذ تتثنى أن تميل كما * يميل من لجة في المركب الصاري
إذا الرديني أدميت القلوب به * أم هدب جفن كحد السيف بتار
كزئبق فوق أحداق مركبة * على أجاج بماء الحسن موار
ما ذا بفيك؟ أ در؟ أم تساقط في * فجاجه برد من صوب مدرار؟
أم ذا فم شفتاه ضرجا بدم * كأنما قدتا مثنى بمنشار
لم يحو برق ثناياك العذاب لمى * عنقود كرم ولا حانوت خمار
سمط من اللؤلؤ المكنون متسق * ذو منبع بالرحيق العذب فوار
هلا جعلت سهاما ترشقين بها * على لقاء عداتي بعض أنصاري؟
خلبت لبي بصوت رن في أذني * كأن رجع صداه شدو أطيار
برزت في حسنك الطاووس زركشة * وحامل العود في تحريك أوتار
ومن قصيدة له بعنوان " ملحمة الغدير ":
أملحمة، بنودك أم صروح * ممردة كشاهقة الجبال؟
جلوت الصرح عن زبد التجني * على الحق الصراح ولم تبال
فحققت الفراسة فيك ظني * ولم تبلغ أشدك في النزال
زففت إلى أبي حسن رداحا * من الخفرات فائقة الجمال
فكاد بطرفه يرنو إليها * جوى تحت الجنادل والرمال
طويت عن الفنا الشدو كشحا * وأنت مرنح الأعطاف سال
كأنك قد أصبت بها دواء * لما تشكو من الداء العضال
كلفت بصاحب النهج المعلى * وخير غضنفر للحرب صال
أتدري ما السوى ولأي باب * من الأبواب شدك للرحال
تجشمت المفاوز في الفيافي * وأرهقت العزائم بالكلال
ورمت من الذرى ما ليس منه * يطاول طائر وطء النعال
أبو حسن له القدح المعلى * بمضمار البسالة والكمال
تظل الشهب شاخصة إليه * فتخطئه على بعد المجال
ويفرق أن يؤوب الدهر كيلا * يصاب به بقحط في الرجال
إذا شكت الظماء صدور غلف * سقاها البيض والأسل العوالي
وتقطر إن نضا للحرب سيفا * مواضيه كانداء الطلال
وكم في الخيزوانة غال قرما * وجندل كل مفتول السبال
ومن قصيدة له بعنوان قلعة الشقيف:
رحماك من طل، يا أيها الطلل * أين المعاقل والأجناد والقلل
وقفت عندك لا أدري، وقد ظعنوا *، أمن بنيك مجيب، إن هم سئلوا
أين المضارب، والجرد السلاهب، * والبيض القواضب، والعسالة الذبر
أين الجحافل، والقب الأياطل، * والغر الشمائل، والأمجاد والمثل
أين الجفان، وما يروي الرواة لنا * عن ذلك الجود، وهو العارض الهطل
أين الأسود، أسود الغاب، من عرفوا * بالباس، في الروع فيهم يضرب المثل
وكيف، يا صرح، لم تجزع لفقدهم * وكيف ويحك باق، بعد ما ارتحلوا
أ لا شرحت لنا ما قد أحاق بهم * وكيف، كيف على ذئب البلى نزلوا
من قصيدة له بعنوان " وادي العرايش ":
تمضي القرون وتنطوي الأعوام * أبدا وثغرك ضاحك بسام
متجدد فيك الشباب وإنما * حرم الأمان لديك والإلهام
خلع الهيام على صباك وشاحه * ما للصبا والشوق فيك فطام
مشكاة نبراس العصور وطالما * بك قد تقشع في العشي
ظلام ما كان من خدع السراب تألق * بك، أو نسيم عاطر وخزام
تحلو الحياة لديك، وهي مريرة * ويطيب فيك الموت، وهو زؤام
خضعت لعزتك المعاقل والذرى * أين الخورنق منك، و (الأهرام)؟
دار السعادة أنت إن شاءت وإن * أنحت عليك بعذلها اللوام
ولكم هززت من الهواة معاطفا * وشدت بعاطر ذكرك الأقلام
ومن قصيدة له بعنوان " على نبع الباروك ":
هاج وجدي بك الخدود الملاح * وغبوق بين ألمها واصطباح
وعبير من الأزاهير فيها * طالما ضاحك الغدير المراح
والغواني نواعم فاتنات * ورقاق كأنها أشباح
صيرت فحمة الظلام نهارا * وجنتاها، وثغرها الوضاح
والصفا باسط جناحيه دلا * حيث لا شقوة ولا أتراح
وبساط الندمان ثم عجيب * إذ يطيب الهوى ويحلو المزاح
سرحة الفن والرياض عليها * تتدلى الأغصان والأدواح
كل صبح يغدى وكل مساء * لدوالي أفيائها، ويراح
والأداة الخرساء تنفث فيه * حرقا للغرام وهي فصاح
والقدود الهيفاء إذ تتهادى * مائسات كأنها أرماح
تجمع الظرف والبهاء وترمي * بلحاظ، هي المراض الصحاح
كاشفات عن مرمر أو لجين * إن ذرت ثوبها الرقيق، الرياح
فقات أعين الظلام وشعت * كلما لاح نورها اللماح
تأخذ النفس قسطها من هناء * إذ تدار الأوتار والأقداح

224
مؤيد الدين أبو الحسن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن برز المقدادي القمي
الوزير
ذكر مؤلف الحوادث نقله من مدفنه إلى مشهد الكاظمية سنة " 643 " قال في
حوادث هذه السنة: " وفي ليلة الجمعة حادي عشري رمضان نقل مؤيد الدين
أبو الحسن محمد بن عبد الكريم بن برز القمي الوزير من مدفنه بمقبرة
الزرادين (1) بالمأمونية إلى تربة كان أنشأها بالمشهد الكاظمي ووقف عليها وقوفا
وذلك بعد ثلاث عشرة سنة وأحد عشر شهرا ".
قال الدكتور مصطفى جواد: ذكر المؤرخ نفسه خبر القبض على مؤيد
الدين القمي في حوادث سنة 629 من كتابه هذا ومعنى ذلك الخبر الأول أنه
توفي في سنة القبض عليه ويؤيده ابن الطقطقي في تاريخه، وقد ذكره ابن
الطقطقي قال: " وزارة مؤيد الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم بن برز
القمي، هو قمي الأصل والمولد، بغدادي المنشأ والوفاة ينتسب إلى المقداد بن
الأسود الكندي، كان - رحمه الله - بصيرا بأمور الملك خبيرا بأدوات الرئاسة،
عالما بالقوانين، عارفا باصطلاح الدواوين، خبيرا بالحساب، ريان
من فنون الأدب، حافظا لمحاسن الأشعار، راويا لطرائف الأخبار،
وكان جلدا على ممارسة الأمور الديوانية، ملازما لها من الغدوة
إلى العشية. وكان في ابتداء أمره قد تعلق بسلاطين العجم
وكان يلوذ ببعض وزراء العجم بأصفهان في حال صباه ولم يبلغ
العشرين من عمره، وكان ذلك الوزير قد ضجر من الكتاب الذين بين يديه
ونسبهم إلى أنهم يخالفون تقدماته فأبعدهم عنه واستكتب القمي ظنا منه أنه
لمجرد حداثة سنة لا يقدم على مخالفة ما يشير به. فمكث القمي يكتب بين يديه
مدة، ففي بعض الأيام أحضرت بين يدي الوزير جملة من الثياب النسيج
بعضها صحيح وبعضها مقطوع، فاحضر القمي بين يديه، ليثبت عددها
ويحملها إلى الخزانة وكان الوزير يورد عليه كذا وكذا ثوبا صحاحا. فيكتب
القمي كذا وكذا ثوبا وما يكتب لفظة (صحاحا) فقال له الوزير: لم لا تكتب
ما أقول لك؟ فقال: يا مولانا لا حاجة إلى ذكر الصحاح فإني إذا وصلت إلى
ذكر ثوب مقطوع ذكرت تحته أنه مقطوع، فتخصيص المقطوع بالذكر يدل على
أن ما لم يوصف بالقطع صحيح. فقال الوزير، لا بل أكتب كما أقول.
فراجعه القمي، فحرد الوزير لذلك وارتفع صوته والتفت إلى الحاضرين
وقال: أنا عزلت الكتاب الكبار الذين كانوا عندي لأجل مخالفتهم ولجاجهم فيما
أقوله واستكتبت هذا الصبي ظنا مني أنه لحداثة سنه لا يكون عنده من التجرؤ
والمخالفة ما عندهم، فإذا هو أشد مخالفة من أولئك. فخرج بعض خدم
السلطان من بين يديه وكان جالسا قريبا من مجلس الوزير، وسال عن كثرة
الصياح وحرد الوزير، فعرف الخادم صورة ما جرى بين الوزير والقمي،
فدخل وحكى للسلطان ما قيل، فقال له: أخرج وقل للوزير: الحق ما
اعتهده الصبي الكاتب. فنبل القمي في عيون الناس وعلت منزلته وأنس
القمي بهذا الخادم وصار الخادم يستشيره ويسكن إليه ويأنس به. فاتفق أن
السلطان عين على هذا الخادم وعلى رجل آخر ليتوجها في رسالة إلى ديوان
الخليفة، فالتمس الخادم أن يكون القمي صحبته. فأرسل صحبته فتوجهوا إلى
بغداد وحضر الخادم ورفيقه عند الوزير ابن القصاب، فشافهاه بالرسالة وسمعا
الجواب، وكان جوابا غير مطابق للرسالة ولكنه كان نوعا من المغالطة، فقنع
الخادم ورفيقه بذلك الجواب وما تنبها على فساده وخرجا، فرجع القمي ووقف
بين يدي الوزير وحادثه سرا وقال له: يا مولانا الجواب غير مطابق لما أنهاه
المماليك. فقال له الوزير: صدقت ولكن دعهم على غباوتهم ولا تفطنهم إلى
ذلك. فقال السمع والطاعة. ثم إن ابن القصاب كتب إلى الخليفة
(الناصر لدين الله) يقول له: إنه قد وصل صحبته خادم السلطان فلان شاب
قمي قد جرى من تنبهه كيت وكيت ومثل هذا يجب أن يصطنع ويحسن إليه
ويستخدم. فكتب الخليفة إليه يأمره بان لا يمكنه من التوجه معهم. فعمل له
حجة وقطع عنهم فتوجهوا وأقام القمي ببغداد فعين عليه في كتابة الانشاء،
فمكث على ذلك مدة ثم تولى الوزارة وتمكن في الدولة تمكنا لم يتمكن مثله أحد
من أمثاله، وكان أوحد زمانه في كل شئ حسن، كثير البر والخير
والصدقات. حدث عنه مملوكه بدر الدين أياز قال: طلبت ليلة من الليالي
حلاوة النبات فعمل منها في الحال صحون كثيرة وأحضرت بين يديه في ذلك
الليل، فقال لي: يا أياز تقدر تدخر هذه الحلاوة لي موفرة إلى القيامة؟
فقلت: يا مولانا وكيف يكون ذلك وهل يمكن هذا؟! قال: تمضي هذه
الساعة إلى مشهد موسى والجواد - (عليهم السلام) - وتضع هذه الأصحن قدام
أيتام العلويين فإنها تدخر لي موفرة إلى يوم القيامة. قال أياز. فقلت: السمع
والطاعة. ومضيت، وكان نصف الليل إلى المشهد وفتحت الأبواب وأنبهت
الصبيان الأيتام ووضعت الأصحن بين يديهم (كذا) ورجعت. وما زال
القمي على سداد من أمره، تولى الوزارة للناصر ثم للظاهر ثم للمستنصر حتى
قبض عليه المستنصر وحبسه في باطن دار الخلافة مدة فمرض وأخرج مريضا
فمات - رح - سنة تسع وعشرين وستمائة ".
وقال مؤلف الحوادث في أخبار سنة 629: " ذكر عزل الوزير مؤيد الدين
القمي... في يوم السبت سابع عشر شوال تقدم إلى مؤيد الدين أبي طالب
محمد بن أحمد بن العلقمي مشرف دار التشريفات يومئذ أن يحضر عند أستاذ
الدار شمس الدين أبي الأزهر أحمد بن الناقد ويتفقا على القبض على نائب
الوزارة مؤيد الدين القمي. فجمع أستاذ الدار رجال النوبتين وأمرهم بالمبيت
في دار الخلافة، ولم يشعر أحدا منهم بشئ، فلما أغلق بابا النوبي و العامة عين
على جماعة مع ابن شجاع مقدم باب الأتراك بالقبض على القمي إذا فتح باب
النوبي، وعين على جماعة مع حسن بن صالح المعمار للقبض على ولده (فخر
الدين أبي الفضل أحمد) في الساعة المعينة، وعين على جماعة للقبض على أخيه
وجميع أصحابه وخواصه، فلما فتح باب النوبي خرج الجميع بالسيوف وهجموا
عليه وعلى ولده وأخيه وجميع أصحابه في ساعة واحدة فلم يفلت منهم صغير
وكبير فأما هو وولده فنقلا ليلا إلى باطن دار الخلافة فحبسا هناك وأما أخوه
ومماليكه وأصحابه فحملوا إلى الديوان.
وكان المؤرخ نفسه قال في حوادث سنة 628: " وفي صفر دخل بعض
الأتراك إلى دار الوزير مؤيد الدين القمي وطلب غفلة الستري وانتهى إلى مجلسه
فلم يصادفه جالسا وكان بيده سيف مشهور وكان آخر النهار، وقد تقوض



(1) هي مقبرة الصدرينة وسراج الدين بشرقي بغداد وقد أصبحت مسكونة وابنتي الناس
الدور فوق القبور.
225
الجماعة من الديوان فصاح عليهم خادم فتبادر الغلمان وأمسكوه وأنهي ذلك إلى
مؤيد الدين فجلس وأحضر التركي بين يديه وسأله عما حمله على ذلك فلم يقل
شيئا، فضرب ضربا مبرحا فذكر أن له مدة لم يصله شئ من معيشته وهو ملازم
الخدمة وقد أضر به ذلك فحمله فقره وحاجته وغيظه على ما فعل، فأمر بصلبه
فصلب وحط بعد يومين ".
وذكره هندو شاه الصاحبي وذكر أنه أنشا مارستانا في المشهد الكاظمي
وزوده وجهزه بالأدوية والأشربة والمعاجين وأنشأ مكتبا ودار للقرآن لأيتام
العلويين هناك ووقف على ذلك أوقافا وأحسن الثناء عليه وذكر ابنه فخر الدين
أحمد وأنه كان أديبا فاضلا وكان يتولى الشرطة والاحتساب وكان قاسيا في
العقوبة ينتهي بها إلى قطع الأعضاء ولما نكب أبوه وحبس قال له: بخلك
أنسلقنا. يعني أنه كان السبب في تلك النكبة وحبس عز الدين عبد الحميد بن
أبي الحميد لأنه كان مفتونا بتركي اسمه عثمان فبعث إليه بقصيدة من السجن
يقول فيها:
وقد تبت من الغي * وقد أقلع شيطاني
وقد ذكر ابنه فخر الدين أحمد كمال الدين بن الفوطي قال: " فخر الدين
أبو الفضل أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الكريم، القمي محتدا، البغدادي
مولدا، نائب الوزارة يعرف بخداوند زاده. ذكره شيخنا جمال الدين أبو الفضل
أحمد بن مهنا الحسيني في كتاب وزراء الزوراء (قال) ظهر من فخر الدين في
وزارة أبيه من القوة والحرمة والنقمة ما جاوز فيه حد التأديب، وبلغ منه إلى
الفظيع الغريب من قطع الأيدي وصلم الآذان وأزداد منه ذلك حتى ولي الشرطة
وحجبة باب النوبي، وكان ذا فطنة وذكاء ودهاء وناب عن والده حين تخلف عن
الركوب إلى الترب. وفي سابع شوال سنة تسع وعشرين وستمائة وكل به وبأبيه
الوزير ونقلا إلى دار الخلافة ولم نقف لهما على أمر ".
وترجم له الصفدي بما يخالف ما نقلنا بعض المخالفة قال: " محمد بن
محمد بن عبد الكريم بن برز القمي الوزير مؤيد الدين أبو الحسن القمي البليغ
الكاتب، قال ابن النجار: قدم بغداد صحبة الوزير ابن القصاب وكان به
خصيصا فلما توفي قدم بغداد (1) وقد سبقت له معرفة بالديوان ورتب ابن مهدي
في الوزارة ونقابة الطالبيين أختص به أيضا وكانا جارين في قم ولما مات أبو
طالب بن زيادة كاتب الإنشاء رتب القمي مكانه ولم يغير هيأة القميص
والشربوش على قاعدة العجم ثم ناب أبو الوليد (محمد) ابن أمسينا في الوزارة
وعزل في سنة ست وستمائة فردت النيابة وأمور الديوان إلى القمي ونقل إلى دار
الوزارة ولما ولي الظاهر الخلافة أقره على حاله وكذلك المستنصر قربه ورفع قدره
وحكمه في البلاد والعباد ولم يزل في سعده إلى أن عزل وسجن هو وابنه بدار
الخلافة فمات الابن أولا وأبوه بعده في سنة ثلاثين وستمائة وكان كاتبا بليغا
فاضلا كامل المعرفة بالانشاء يكتب بالعربي والعجمي كيف أراد ويحل المترجم
المغلق وكان حسن الأخلاق مليح الوجه، تخافه الملوك وترهبه الجبابرة وله يد
باسطة في النحو واللغة ومشاركة في العلوم ".
ومن إنشاء مؤيد الدين القمي عهد نقابة الطالبيين الذي كتبه في تولية
نقابتهم فخر الدين أبا الحسن محمد بن محمد بن المختار الكوفي في السابع عشر
من شهر ربيع الأول سنة 603 قال ابن الساعي: وهو بخط المكين أبي الحسن
محمد بن محمد بن عبد الكريم القمي كاتب ديوان الانشاء المعمور حينئذ ومن
إنشائه ومن خطه نقلت وهذه نسخته:
" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد عبد الله وخليفته الإمام المفترض
الطاعة على سائر الأنام الناصر لدين الله أمير المؤمنين إلى محمد بن محمد ابن
المختار، حين وجده مرضي الخلائق، سوي الطرائق، محمود السجايا
والشيم، متمسكا من الديانة بامتن سبب وأوثق معتصم، سالكا في الزكانة
والرصانة لاحب جدد، وأقوم لقم، متحليا من التقى والورع، بأحسن لباس
وأبهى مدرع، قد فاق بكفايته الأكفاء وبرع، واستشرف إلى محامد الخلال،
ومحاسن الخصال كل مطلع، فقلده نقابة العترة الكريمة العلوية، والأسرة
الجليلة الطالبية، بمدينة السلام، وسائر بلاد الإسلام، شرقا وغربا، وبعدا
وقربا، مقدرا فيه الاضطلاع بالأعباء، والقيام بحسن الاستخدام
والاستكفاء، والنهوض بتأدية شكر النعماء، والله تعالى يقرن آراء أمير المؤمنين
بالتأييد والتوفيق في كل ما ينتحيه للاسلام والمسلمين من المصالح، ويدني لي في
كل ما يبتغيه من مناظم الدين كل بعيد نازح، إنه سميع مجيب، وما توفيق أمير
المؤمنين إلا بالله، عليه توكل وإليه ينيب، أمره بتقوى الله تعالى واستشعاره
مراقبته في سره وعلانيته، فإنهما الفريضة اللازمة، والسنة القائمة، واللباس
الأحسن الأروع، والحرز الأحصن الأمنع، وأفضل ما اعتقده المعتقدون،
ودعا إليه الصالحون، ووزن به المرء مراجع لحظة، ومخارج لفظه، ومسارح
خواطره، ومطارح نواظره، وأوضح سبل الرشاد، وخير الزاد ليوم المعاد،
قال الله تعالى: (وتزودوا فان خير الزاد التقوى). وقال سبحانه: (يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، فطوبى لمن
سمع قوله فاتبعه، وتجلبب لباس مراقبته وأدرعه، واقتدى بكتابه، فاستخرج
كنوز المراشد من عيابه، واقتنى ذخائر ثوابه، فتوقى به أليم عقابه، أولئك
الذين أنعم الله عليهم بالعقائد الصحائح، وأثقل موازين توفيقهم الرواجح،
وهداهم بما كبت في قلوبهم من الإيمان إلى الجدد اللاحب والمنهج الواضح،
فعمل في دنياه لأخراه، وقوم بالهدى بالجد في معاده جدواه، (أولئك على
هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون). وأمره بان يتأمل أحوال من فوض أمره
من أهل بيته إليه، وعول في زعامته من ذوي الرحمة عليه، ويعتبر طرائقهم
ويختبر شيمهم وخلائقهم، وينزلهم منازلهم التي يستوجبونها بكرم العناصر،
ويستحقونها بتباين المساعي والمآثر قال الله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم
والذين أوتوا العلم درجات). فلمن كان منهم رشيد المنهج، متنكبا عن
الطريق الأعوج، متحليا من الدين بما يناسب نسبه، ويلائم محتده الكريم
ومنصبه، يحق له من الإكرام، وخصه من الأنعام، والتودد والاحترام، بما
يرفع منزلته، ويحث على اكتساب فضيلة من تأخر عن غلوته ليشيع فيهم
المناقب والفضائل، ويسفروا عن المناظر المهيبة في النوادي والمحافل ويستضيفوا
إلى شرف الأبوة فضل النبوة، ويتقيلوا آثار من قال الله فيهم: (أولئك الذين
آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة). فإنهم أغصان تلك الدوحة الشريفة،
والشجرة المباركة المنيفة، وأمره بان يعاملهم برفق لا يشينه ضعف، وتهذيب لا
يهجنه عنف، فمن بدت منه بادرة، أو عثرة نادرة أقالها، وألحق جناح المياسرة
أذيالها، وأتخذ له من التأنيب بما يجنبه أمثالها، قال الله (وليعفوا وليصفحوا
ألا تحبون أن يغفر الله لكم). وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقيلوا ذوي الهيئات



(1) تأمل قوله: قدم بغداد... فلما توفي قدم بغداد " هكذا نهوا يخلطون حين يترجمون.
226
عثراتهم، فليس من كانت زلته بادرة، وخطيئته مبتكرة كمن كان في الغي
متهوكا، وبعرا الاصرار عليه متمسكا، ومن صادفه جاهلا بقدره، نابذا
مصلحته وراء ظهره وعرف خلوص دخلته وسلامة صدره، إلا أنه عن مصلحة
شانه غافل، وعن حلى العلم الذي هو قيمة المرء عار عاطل، أيقظه من هجوع
الاعترار بالأمل، ونبهه على أن الأمل لا يغنى بغير عمل، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم
أوحي إليه: وأنذر عشيرتك الأقربين. وقال: يا بني هاشم، يا بني
عبد المطلب إنني لا أغني عنكم من الله شيئا، إئتوني بأعمالكم ولا تأتوني
بأنسابكم، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ومن ألفاه منهم ذاهبا في مجاهل
الجهال، وسادرا في مهاوي الضلال، ومشايعا في احتقاب الأوزار، وهاتكا
لأستار التصون والاستتار، واجهه خاليا بالتقريع والتقييد، وزجره بالإخافة
والوعيد، فإن أنجع ذلك وأفاد، ورجع عن جهالته وعاد، وإلا قوم من ميده
واعوجاجه، ووقف به على سبيل الحق ومنهاجه، وإن قرف أحدهم بجريمة أو
رمي بجريرة فلا يعجل عليه بالمؤاخذة أو لا يسرع إليه بإجراء المقابلة، بل
يتثبت إلى أن يقف بالبحث والايضاح، على الحق المحض الصراح، قال الله
تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما
بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فان اتضح ما قرف به وزن بسببه،
نظر فإن كان مما أوجب الله فيه حدا من الحدود أقامه، من غير تعد على سلكه
المحدود فيه ونظامه، قال الله سبحانه وتعالى: (تلك حدود الله فلا
تعتدوها) وقال تعالى: (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). وقال
سبحانه: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون). ولا يجرمنه
احتقابه الجرائم من نظر اعتنائه، ولا إقامة حد الله فيه من ملاحظته وإرعائه،
(فأهل) هذا النسب وإن تفاوتت أحوالهم، وتباينت أعمالهم، خصوا
بالاصطفاء، ووسموا بالاجتباء، قال الله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين
اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن
الله، ذلك هو الفضل الكبير) وأمره بصرف همته إلى مصالح اليتامى
وتخصيصهم من الإعناء، وتخويلهم من الارعاء بما ينسيهم ذلة اليتم وفقد
الآباء، فمن كان منهم غنيا فيثمر ماله، ويهذب خلاله، وينفق عليه
بالمعروف، لا شطط ولا تبذير، ولا تضييق ولا تقتير، فإذا بلغ الأشد وأنس
منه الرشد، سلم ماله موفورا إليه، وأشهد بقبضه عليه، قال الله تعالى:
(وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم
أموالهم) إلى قوله: (فاشهدوا عليهم). ومن كان فقيرا فليثن عنان العناية
إلى ما يعود بإصلاح أمره، وليصرف همه إلى جبر كسره، إلى حين استوائه،
وتهذب أنحائه، وليدر عليه من الوقوف بالمعروف وليكن به عطوفا، وله أبا
رؤوفا، وأمره بالنظر في أمر الأيامى بعين الاعتناء، وتزويجهن من الأضراب
والأكفاء، وتحصينهن بالاحصان لا بالمنع والنسيان فإن التناكح مدد الوجود
وقوامه، وبه يستتب أمره ويتسق نظامه، قال الله تعالى: (وانكحوا الأيامى
منكم). وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تناكحوا تناسلوا أباه بكم الأمم يوم
القيامة. وليتوخ تطهير عقود نكاحهن من أدناس الالتباس، وينزهها من أدران
الأنجاس، قال الله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
وليطهركم تطهيرا). وأمره بصونه هذا النسب الكريم، والبيت الماجد
العظيم، من تنحل الأدعياء، وانتماء الزنماء، فإن صادف من يدعي من ذلك
ما لا يقوم البرهان على صحته، ولا تشهد الاستفاضة والشيوع بدحض
حجته، صب عليه سوط التأديب، وردعه بزواجر التهذيب، فإن كفه
الردع، وزجره المنع، وإلا وسمه بميسم يعرف به تنحله، ويشيع به كذبه
وتقوله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ملعون ملعون من انتسب إلى غير أبيه وادعى
إلى غير مواليه. هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك، هداك به إلى
طريق الرشاد، وحداك في سبيل السداد، فاهتد بأنواره، واتبع لرشيد آثاره،
تظفر بمغانم الرشاد، وتفز في المبدأ والمعاد، والله ولي التوفيق، لأرشد جدد
وأقوم طريق، وكتب في سادس عشر شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وستمائة
والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي المصطفى وآله وسلامه، رب
أختم بخير. صورة العلامة الشريفة تحت البسملة (الناصر لدين الله). صورة
خط الوزير نصير الدين أبي الحسن ناصر بن مهدي العلوي بين سطوره... ".
ولمكين الدين القمي أي مؤيد الدين في آخر عمره منشور كتبه بأمر الخليفة
الناصر فيه تجديد الفتوة، قال ابن الساعي: قرأ المنشور عليهم (على رؤساء
الفتيان) المكين أبو الحسن محمد بن محمد القمي كاتب ديوان الإنشاء المعمور
وهو من إنشائه وهذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، من المعلوم الذي لا يتمارى في صحته، ولا
يرتاب في براهينه وأدلته، أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -
هو أصل الفتوة ومنبعها، ومنجم أوصافها الشريفة ومطلعها، وعنه تروى
محاسنها وآدابها، ومنه تشعبت قبائلها وأحزابها، وإليون غيره تنتسب
الفتيان، وعلى منوال مؤاخاته النبوية الشريفة نسج الرفقاء والاخوان، وأنه كان
عليه السلام مع كمال فتوته، ووفور رجاحته يقيم حدود الشرع على اختلاف
مراتبها، ويستوفيها من أصناف الجناة على تباين جناياتها أو مللها ونحلها
ومذاهبها، غير مقصر عما أمر به الشرع المطهر وحرره، ولا مراقب فيما رتبه من
الحدود وقرره، امتثالا لأمر الله تعالى في إقامة حدوده، وحفظا لمناظمة الشرع
وتقويم عموده، فإنه عليه السلام فعل ذلك بمرأى من السلف الصالح ومسمع،
ومشهد من خيار الصحابة ومجمع، فلم يسمع أن أحدا من الأمة لامه، ولا
طعن عليه طاعن في حد أقامه، وحقيق بمن أورثه الله مقامه، وناط به شرائع
الإسلام وأحكامه، وانتمى إليه عليه السلام في فتوته، واقتفى شريف شيمه وكريم
سجيته، أن يقتدي به عليه السلام في أفعاله، ويحتذي فيما استرعاه الله تعالى واضح
مثاله، غير ملوم فيما يأتيه من ذلك ولا معارض فتوة ولا شرعا فيما يورده
ويصدره، وقد رسم - أعلى الله المراسم العلية، المقدسة النبوية الإمامة وزادها
نفاذا معضودا بالصواب، وتأييدا ممتد الأطناب محكم الأسباب - على كل من
تشرف بالفتوة برفاقة الخدمة الشريفة المقدسة، المعظمة الممجدة المكرمة الطاهرة
الزكية النبوية الامامية، الناصرة لدين الله تعالى - شرف الله مقامها وأخلد
أيامها، وأعلى كلمتها ونصر رايتها - أنه من قتل رفيق له نفسا نهى الله تعالى عن
قتلها وحرمه، وسفك دما حقنه الشرع المطهر وعصمه، وصار بذلك ممن قال
الله تعالى في حقه، حيث أرتكب هذا المحرم، واحتقب عظيم هذا المأثم:
(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) (الآية) أن ينزل عنه في الحال
في جمع الفتيان عند تحققه لذلك ومعرفته ويبادر إلى تغيير رفقته، مخرجا له بذلك
عن دائرة الفتوة، التي كان متسما بها، مسقطا له من عداد الرفاقة التي لم يقم
بواجبها: (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم). وأن كل فتى
يحوي قاتلا ويخفيه، ويساعده على أمره ويؤويه، ينزل كبيره عنه ويغير رفاقته،
ويتبرأ منه وأن من حوى ذا عيب فقد عاب وغوى ومن آوى طريد الشرع فقد

227
ضل وهوى، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. ولا حدث أكبر من قتل
النفس عدوانا وظلما، ولا ذنب أعظم منه وزراء وإثما، وأن الفتى متى قتل فتى
من حزبه سقطت فتوته ووجب أن يؤخذ منه القصاص عملا بقوله: وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف و الأذن بالأذن
والسن بالسن والجروح قصاص. وأن (من) قتل غير فتى عونا من الأعوان أو
متعلقا بديوان في بلد سيدنا ومولانا الإمام المفترض الطاعة على كافة الأنام
الناصر لدين الله أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين فقد عيب هذا القاتل في حرم
صاحب الحزب بالقتل، فكأنما عيب على كبيره فسقطت فتوته بهذا السبب
الواضح، ووجب أخذ القصاص منه عند كل فتى راجح، وليعلم الرفقة
الميمونة ذلك وليعملوا بموجبه وليجروا الأمر في أمثال ذلك على مقتضى
المأمورية، وليقفوا عند المحدود في هذا المرسوم المطاع، ويقابلوه بالانقياد
والاتباع - أن شاء الله تعالى - وكتب في تاسع صفر سنة أربع وستمائة.
وقال ابن الساعي: وسلم إلى كل واحد من رؤساء الأحزاب منشور بهذا
المثال فيه شهادة ثلاثين من العدول. ثم كتب تحت كل مرسوم ومنشور ما هذا
صورته. والظاهر أنه من انشاء مؤيد الدين القمي:
قال العبد ما تضمنه هذا المرسوم المطاع، وقابله مما يجب عليه من الانقياد
والاتباع والامتثال وهو الذي يجب العمل به فتوة وشرعا، وهذا المعروف من
سيرة الفتيان المحققين نقلا وقد ألزمت نفسي أجراء الأمر على ما تضمنه هذا
المرسوم الأشرف فمتى جرى ما ينافي المأمورية، المحدود فيه كان الدرك لازما
لي، والمؤاخذة مستحقة على ما يراه صاحب الحزب ثبت الله دولته، وأعلى
كلمته وكتب فلان بن فلان
أبو منصور محمد بن محمد بن المبارك الكرخي
ذكره ابن الساعي في وفيات سنة 598 قال بعد ذكر أسمه: شيخ حافظ
القرآن المجيد، قرأه بالقرءات وكان حسن القراءة جيد الأداء طيب الصوت
شجيه، وكان يتشيع وينشد في المواسم بالمشاهد المقدسة ويعظ في الاعزية.
توفي في حادي عشر المحرم من سنة ثمان وتسعين المذكورة ودفن بمشهد الإمام موسى
بن جعفر (عليهما السلام). " اه‍ ".
وقال المنذري في وفيات السنة المذكورة بعد ذكر أسمه وتاريخ وفاته ووصفه
بالمؤدب المغربي: قرأ القرآن الكريم بشئ من القراءات ببغداد على أبي محمد
الحسن بن علي بن عبيدة، وبواسط على أبي بكر عبد الله بن منصور الباقلاني
وغيرهما وسمع من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد وغيره. " اه‍ ".
وترجم له ابن الدبيثي ترجمة أحسن مما نقلناه آنفا قال: محمد بن محمد بن
المبارك الكرخي أبو منصور المقرئ المؤدب، كان يسكن الجانب الشرقي وله
مكتب يعلم فيه الصبيان الخط، وكان حافظا للقرآن المجيد، حسن القراءة
له، قرأ بشئ من القراءات على أبي محمد الحسن بن علي بن عبيدة وبواسط على
شيخنا أبي بكر بن عبد الله بن منصور ابن الباقلاني وغيرهما، وكان ينشد
الاشعار في مدح أهل البيت (عليهم السلام) في المشاهد وأوقات الزيارات سمع
شيئا من الحديث من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن سلمان وغيره، ولم يعن
بالرواية ولا حدث بشئ.
نصير الدين الطوسي محمد بن محمد بن الحسن
مرت ترجمته في المجلد التاسع الصفحة 414 ونزيد عليها هنا ما يأتي:
عمله في انقاذ الاسلام
كان نصير الدين الطوسي ضحية من ضحايا الغزو المغولي الأول، حينما
اجتاحت جحافل جنكيز خان (1215 1227 م) البلاد الاسلامية ودمرت ما
مرت به منها. وكان من تلك الضحايا مدينة نيسابور التي كانت تعج بالعلماء
وتزخر بالمدارس.
ولم يكتف المغول بتدمير المدينة بل أعملوا السيف في الناس، فقتل من قتل
واستطاع الفرار من استطاع، وكان بين الناجين نصير الدين الطوسي، فهام
على وجهه يطلب الملجأ الأمين فوجده في قلاع الإسماعيلية الحصينة، تلك
القلاع التي صمدت وحدها لجنكيز خان وصدته عن أسوارها، فظل حقد
المغول مضطرما على الإسماعيليين إلى أن استطاعوا الثار منهم في عهد هولاكو
حفيد جنكيز.
ولم يكن نصير الدين وحده هو الذي احتمى بهذه القلاع، بل لقد لجأ إليها
كثير ممن استطاعوا الفرار والنجاة.
وعند ما تقدم المغول في غزوهم الثاني، وأعاد هولاكو سيرة جده، كانت
الحملة هذه المرة من القوة بحيث هابتها القلاع الإسماعيلية فلم تستطع لها
صدا، ونزل الأمير الإسماعيلي ركن الدين خورشاه على حكم المغول، فكان
حكمهم قتله وقتل أعوانه ومن لجا إليه، واستثنوا من ذلك ثلاثة رجال كانت
شهرتهم العلمية قد بلغت هولاكو فامر بالابقاء عليهم، ولم يكن هذا الإبقاء
حبا للعلم وتقديرا لرجاله، بل لأن هولاكو كان بحاجة إلى ما اختص به هؤلاء
الثلاثة من معارف، فاثنان منهم كانا طبيبين هما موفق الدولة ورئيس الدولة،
والثالث كان مشهورا باختصاصه في أكثر من علم واحد هو نصير الدين
الطوسي، وكان مما اختص به علم الفلك، وكان هولاكو مقدرا لهذا العلم
تقدير حاجة لا محض تقدير، مؤمنا بفائدته له. لذلك رأيناه بعد ذلك يعني
بانشاء مرصد مراغة ويوفر له كل ما يستدعي نموه وتقدمه...
جمع نصير الدين الطوسي إلى العلم الواسع العقل الكبير، فتريك سيرته
رجلا من أفذاذ الرجال لا يمر مثله كل يوم. وتشاء الأقدار أن تعده لمهمة لا
ينهض لها إلا من اجتمعت له مثل صفاته: علم وعقل وتدبير وبعد نظر، فكان
رجل الساعة في العالم الإسلامي، هذا العالم الذي كان مثخنا بالجراح.
كانت مهمة الطوسي من أشق المهمات، وكانت أزمته النفسية من أوجع ما
يصاب به الرجال، فإنه وهو العالم الكبير ذو الشهرة المدوية بين المسلمين، يرى
نفسه فجأة في قبضة عدو المسلمين، ويرى هذا العدو مصرا على أن يبقيه في
جانبه ويسيره في ركابه. وإلى أين يمشي هذا الركاب؟ أنه يمشي لغزو الإسلام
في دياره والقضاء عليه في معاقله، فهل من محنة تعدل هذه المحنة؟
ان أقل تفكير في التمرد على رغبة القائد المغولي سيكون جزاؤه حد
السيف... وأنني لا تخيل الطوسي متأملا طويل التأمل، مطرقا كثير الإطراق،
لقد كان يعز عليه أن يذهب دمه رخيصا وأن يكون ذلك بإرادته هو نفسه، فلو

228
أن سيفا من سيوف المغول الجانية أودى به فيمن أودى بهم في رحاب نيسابور
وسهول إيران لكان استراح. أما الآن فلن يستسلم للقدر الطاغي وسيثور على
حكم الزمن الغاشم.
كان الطوسي ذا فكر منظم يعرف كيف يخطط ويدبر. وهو في ذلك آية من
الآيات، وقد أدرك أن النصر العسكري على المغول ليس ممكنا أبدا، فقد
انحل نظام العالم الإسلامي انحلالا تاما لم يعد معه أمل في تجميع قوة تهاجم
المغول وتخرجهم من دياره، وكانت البلاد المحتلة أضعف من أن تفكر في ثورة
ناجحة. على أن الغرب الإسلامي كان لا يزال سليما، وكانت مصر هي القوة
الوحيدة التي تتجه إليها الأنظار، وقد استطاعت مصر أن تذيق المغول مرارة
الهزيمة وأن تردهم عنها، ولكنها لم تكن مستطيعة أكثر من ذلك، فمهاجمة
المغول فيما احتلوه من بلاد بعيدة وإخراجهم من تلك البلاد كان فوق طاقة
مصر.
وفكر نصير الدين طويلا فأيقن أنه إذا تم للمغول النصر الفكري، بعد
النصر العسكري، كان في ذلك القضاء على الإسلام، وها هو يرى بأم عينيه
الكتب تحرق والعلماء يقتلون، فماذا يبقى بعد ذلك؟...
لقد استغل حاجة هولاكو إليه، وحرصه على أن يكون في معسكره فلكي
عالم بالنجوم، فعزم على كسب ثقته واحترامه فكان له ما أراد، وصار له من
ذلك سبيل لانقاذ أكبر عدد من الكتب وتجميعها، كما استطاع أن ينجي من
القتل الكثيرين ممن كانوا سيقتلون.
ولما استتب الأمر لهولاكو خطا نصير الدين خطوته الأولى، وكانت هذه المرة
خطوة جبارة فقد أقنعه بأن يعهد إليه بالإشراف على الأوقاف الإسلامية
والتصرف بمواردها بما يراه، فوافق هولاكو. وتتطلع نصير الدين فرأى أن
المسلمين كانوا قد وصلوا من الانحلال الفكري إلى حد أصبح العلم عندهم
قشورا لا لباب فيها، وأنهم حصروا العلم في الفقه والحديث وحدهما، وحرموا
ما عداهما من سائر صنوف المعرفة التي حث عليها الدين العظيم، وانصرفوا
عن العلوم العملية انصرافا تاما. فأعلن افتتاح مدارس لكل من الفقه،
والحديث، والطب، والفلسفة، وأنه سيتولى الإنفاق على طلاب هذه
المدارس، ولكنه سيجعل لكل واحد من دارسي الفلسفة ثلاثة دراهم يوميا،
ولكل واحد من دارسي الطب درهمين ولكل واحد من دارسي الفقه درهما،
ولكل واحد من دارسي الحديث نصف درهم، فاقبل الناس على معاهد
الفلسفة والطب، بعد ما كانت من قبل تدرس سرا.
أحرز نصير الدين النصر الأول في معارك الإسلام، فالعلم لن ينقطع بعد
اليوم، ولن يجمد المسلمون عن طلبه، ثم انصرف يخطط للمعركة الكبرى
الكاسحة. فإذا كان انشاء المدارس المتفرقة لن يلفت هولاكو إليها، ولن يدرك
أهميتها، فإن انشاء الجامعة الكبرى وحشد العلماء فيها وحشر الكتب في
خزانتها، سيكون حتما منبها لهولاكو فكيف العمل؟.
هنا تبدو براعة الطوسي، فهولاكو استبقاه لغاية معينة، فراح يقنع هولاكو
بأنه من أجل استمراره في عمله والاستفادة من مواهبه لا بد من انشاء مرصد
كبير، فوافق هولاكو على انشاء المرصد، وفوض لنصير الدين المباشرة
بالعمل.
لقد كانت هذه الموافقة الحلم الأكبر الذي حققته الأيام لنصير الدين،
وبات بعدها مستريحا للمستقبل لا يشغله شئ إلا الاعداد الدقيق والتخطيط
السليم الموصل إلى الغاية القصوى.
ضخم نصير الدين أمر المرصد لهولاكو وأقنعه أنه وحده أعجز من أن يرفع
حجرا فوق حجر في ذاك البناء الشامخ، وأنه لا بد له من مساعدين أكفاء
يستند إليهم في مهمته الشاقة، وأنه لا مناص من أجل ذلك من أن يجمع عددا
من الناس المختارين، سواء في البلاد المحتلة أو في خارجها، فوافق هولاكو على
ذلك.
وهنا هب نصير الدين إلى اختيار رسول حكيم هو فخر الدين لقمان بن
عبد الله المراعي، وعهد إليه بالتطواف في البلاد الإسلامية، وتأمين العلماء
النازحين ودعوتهم للعودة إلى بلادهم، ثم دعوة كل من يراه كفؤا في عمله
وعقله من غير النازحين.
مضى العمل منظما دقيقا وانصرف العلماء باشراف الطوسي منفذين مخططا
مدروسا، فلم يمض كبير وقت حتى كانت المكتبات تغص بالكتب، وحتى
كانت مكتبة مراغة بالذات تضم مجموعة قل أن اجتمع مثلها في مكتبة أخرى،
وحتى كانت المدارس تقام في كل مكان، وحتى كانت الثقافة الإسلامية تعود
حية سوية، وحتى كانت النفوس مشبعة بالأمل والقلوب مليئة بالرجاء، وحتى
كان الدعاة ينطلقون في كل صوب والهداة ينتشرون على كل وجهة...
ثم يموت هولاكو، ولكن الإسلام الذي أراد له هولاكو الموت يظل
صحيح البنية، متوهج الفكر، ثم يموت ابن هولاكو وخليفته (ابقاخان)
والإسلام لا يزال بقيادة الطوسي صامدا، يقاتل ويقاوم ويدعو ويهدي.
ويأتي بعد ابقاخان، ابن هولاكو الآخر (تكودار) فإذا بالإسلام ينفذ إلى
قلبه وعقله، وإذا به يعلن إسلامه وتسلم الدولة كلها بعد ذلك.
وكان الطوسي قد مات سنة 672 ه‍ (1274 م). مات قرير العين وهو
يرى طلائع الظفر مقتحمة الدنيا بموكبها الرائع وبشائر النصر هازجة بأرفع
صوت وأعلى نبرة. مات الطوسي مودعا الأمر إلى تلميذه وأقرب المقربين إليه
قطب الدين أبو الثناء محمود بن مسعود الشيرازي، فنهض بالعب ء على ما اراده
نصير الدين. فلم يجد " تكودار " الذي أصبح اسمه " أحمد تكودار " خيرا من
الشيرازي خليفة الطوسي ليكون رسوله إلى العالم العربي والإسلامي.
يقول الأستاذ عبد المتعال الصعيدي: " لم يمت نصير الدين إلا بعد أن
جدد ما بلي في دولة التتار من العلوم الإسلامية وأحيا ما مات من آمال المسلمين
بها ".
إلى أن يقول: "... ان الانتصار على التتار لم يكن في الحقيقة بردهم عن
الشام في موقعة " عين جالوت " وإنما كان بفتح قلوبهم إلى الاسلام وهدايتهم
له ".
وهذا ما حققه نصير الدين الطوسي.
هكذا استطاع نصير الدين الطوسي أن يهزم بالعقل والعلم الدولة الطاغية
الباغية، وأن تنجح خططه في تحويل المغول من وثنيين إلى مسلمين.

229
دراسته الأولى (1)
بعد أن ألم بعلوم اللغة والأدب تحول إلى دراسة الفقه
والمنطق والحكمة والرياضيات... فتعلم الفقه عند والده وحضر مدة دروس
خاله (نور الدين علي بن محمد الشيعي)، أما مقدمات المنطق والحكمة فيذكر
البعض أنه تتلمذ فيها على خاله أيضا، وقد درس مقدمات في الرياضيات
بمدينة طوس عند (كمال الدين محمد حاسب). رحل بعد ذلك إلى مدينة
نيشابور، التي كانت تعد عهدئذ مركزا علميا هاما وموطنا لجمع من كبار
الحكماء والفقهاء والعلماء والفضلاء، ومكث فيها مدة يختلف إلى مجالسهم
وينهل منها الحكمة والمعرفة، حتى صار في عنفوان شبابه بارعا ضليعا في أكثر
الفنون والعلوم... ويبدو أنه رحل عن تلك الديار قبل أن تتعرض نيشابور
لحملة جيش التاتار الذي ألحق بها الهلاك والدمار. فسافر إلى مدينة (الري)
ومنها توجه إلى بغداد والموصل حيث حضر مجالس كبار العلماء، وقد درس في
الموصل عند (كمال الدين بن يونس الموصلي) ثم نال إجازة من (سالم بن
بدران المصري) الذي كان يعد من كبار فقهاء الشيعة ثم عاد إلى وطنه.
أساتذته
1 - وجيه الدين محمد بن الحسن: وهو جد نصير الدين، يعد من فقهاء
ذلك العصر ومحدثيه، تعلم عنده الفقه والحديث. ومحمد بن الحسن هذا، هو
تلميذ السيد فضل الله الراوندي والذي هو تلميذ المرتضى علم الهدى (2).
2 - نور الدين علي بن محمد الشيعي: وهو خال المترجم، كان من
العلماء. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن المترجم تعلم مقدمات المنطق والحكمة
عند خاله ولكنهم لم يوردوا اسم هذا الخال، إلا أن ابن الفوطي الذي ذكر ذلك
أيضا صرح باسم خاله (نور الدين علي بن محمد الشيعي).
3 - نصير الدين أبو طالب عبد الله بن حمزة الطوسي: وهو خال أبيه
(محمد بن الحسن)، وكان من كبار علماء الإمامية. سمع المترجم عنده
الحديث وحصل منه على إجازة في روايته. أن نصير الدين هذا يروي عن
عفيف الدين محمد بن الحسن الشوهاني وهذا يروي عن الشيخ المفيد عبد الجبار
المقري والأخير يروي عن شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي.
وبناء على هذا التسلسل فان الخواجة نصير الدين يتصل بشيخ الطائفة الطوسي
عبر أربع وسائط.
4 - فريد الدين النيشابوري: أبو محمد الحسن بن محمد بن حيدر
الفريومدي النيشابوري وهو رجل حكيم وأصولي، عرف ب‍ " الداماد ".
يذهب أكثر المؤرخين إلى أن فريد الدين هذا كان تلميذ صدر الدين
علي بن ناصر السرخسي النيشابوري والذي هو تلميذ أفضل الدين الجيلاني،
والجيلاني هذا كان تلميذا لابن العباس اللوكري تلميذ بهمنيار الذي تتلمذ
بدوره على (أبو علي بن سينا). وبناء على التسلسل هذا فان المترجم يعد تلميذ
ابن سينا عبر خمس وسائط ثم هو تلميذ الامام الفخر الرازي بعد واسطة
واحدة.
لقد تعلم المترجم كتاب الإشارات للشيخ (ابن سينا) عند فريد الدين
كما أخذ عنه في الحكمة أيضا.
5 - قطب الدين المصري (المقتول في 618 ه‍): وهو إبراهيم بن علي بن
محمد السلمي، أصله من المغرب، ولأنه أقام مدة من حياته في مصر فقد أطلق
عليه لقب المصري عندما استقر في خراسان.
وهو من ألمع تلامذة الإمام الفخر الرازي. وبعد وفاة الإمام الرازي
اتسعت دائرة نشاطه وإفاداته في نيشابور حيث كان يقصده الطلاب من مختلف
الأمصار و البلدان ليفيدوا من علومه ودروسه. وقد قتل المصري عندما غزا
المغول مدينة نيشابور. من تأليفاته، شرح ل‍ (قانون) ابن سينا. ويبدو أن
المترجم درس عنده في علوم الحكمة والطب.
6 - كمال الدين بن يونس الموصلي (المتوفى ب‍ 14 أو 15 شعبان سنة
639 ه‍): هو أبو الفتح موسى بن أبي الفضل يونس بن محمد، كان جامعا
لجميع العلوم وماهرا ضليعا في كل الفنون، خاصة رياضيات أقليدس،
الهيأة، المخروطات المتوسطات، ال‍ (مجسطي)، الحساب، الجبر،
المقابلة، الموسيقي، الفقه وأصول الفقه، وكان متميزا قديرا نحريرا لم يبلغ
درجته العلمية أي واحد من أقرانه ورفاقه.
أما المترجم فقد استفاد من دروسه - في بغداد أو الموصل - حيث أخذ عنه
شيئا من علوم الرياضيات والحكمة.
7 - معين الدين المصري: هو أبو الحسن سالم بن بدران المازني، من كبار
فقهاء الشيعة وله عدة مصنفات حول مذهب الإمامية. لقد وصفه صلاح
الدين الصفدي في كتاب (الوافي بالوفيات) بأنه شيعي معتزلي وكذلك فعل
محمد بن شاكر في كتاب (فوات الوفيات).
وهو من تلاميذ ابن إدريس الحلي صاحب كتب (السرائر)، وقد روى
عن السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلي صاحب
كتاب (غنية النزوع).
كان المترجم الطوسي من تلاميذه في الفقه وأصول الفقه كما كان مجازا من
قبله، وننقل فيما يلي نص الإجازة.
" قرأ علي جميع الجزء الثالث من كتاب " غنية النزوع إلى علمي الأصول
والفروع " من أوله إلى آخره قراءة تفهم وتبين وتأمل، مستبحث عن غوامضه،
عالم بفنون جوامعه، وأكثر الجزء الثاني من هذا الكتاب وهو الكلام في أصول
الفقه. الإمام الأجل العالم الأفضل الأكمل الأورع المثقف المحقق نصير الملة
والدين وجيه الإسلام والمسلمين سند الأئمة والأفاضل مفخر العلماء والأكابر
أفضل أهل خراسان محمد بن محمد بن الحسن الطوسي زاد الله في علائه
وأحسن الدفاع عن حوبائه، وأذنت له في رواية جميعه عني وعن السيد الأزهر
العالم الأوحد الطاهر الزاهر البارع عز الدين أبي المكارم حمزة بن علي بن زهرة
الحسيني قدس الله سره ونور ضريحه وجميع تصانيفه وجميع تصانيفي ومسموعاتي
وقراءاتي واجازاتي عن مشايخي ما أذكر أسانيده وما لم أذكر إذا ثبت عنده وما
لعلي أن أصنفه.
وهذا خط أضعف خلق الله وأفقرهم إلى عفوه سالم بن بدران بن علي



(1) من هنا إلى آخر البحث مكتوب بقلم: مدرس رضوي، ومؤلفاته وان ذكرت من قبل فإن هنا
تفاصيل أخرى عنها.
(2) لا يبدو أن الراوندي أدرك زمان المرتضى علم الهدى (المتوفى سنة 426 ه‍) ولهذا السبب يذهب
البعض إلى أن السيد فضل الله الحسيني الراوندي من تلامذة شرف السادات أبو تراب المرتضى بن
السين الداي مؤلف كتاب (تبصرة العوام)، وليس السيد المرتضى علم الهدى.
230
المازني المصري كتبه ثامن عشر جمادى الأخرى سنة تسع عشرة وستماية
حامدا لله مصليا على خير خلقه محمد وآله الطاهرين " (1).
أما نصير الدين فإنه ينقل عن أستاذه معين الدين في كتاب (الفرائض)
ويذكره:
ولنورد المثال الذي ذكره شيخنا الإمام السعيد معين الدين سالم
بدران المصري في كتابه الموسوم بالتحرير ".
8 - الشيخ أبو السعادات أسعد بن عبد القاهر بن أسعد الأصفهاني: لقد
استفاد المترجم منه لمدة من الوقت وكان حينها زميلا وشريكا في الدرس للشيخ
ميثم البحراني والسيد رضي الدين بن طاووس.
ولقد ذكر البعض أن المترجم تعلم في الفقه عند الشيخ ميثم البحراني كما
أن الشيخ ميثم البحراني كان يأخذ عنه دروسا في الحكمة. ولهذا فإن الشيخ
ميثم البحراني يعد من بين أساتذة المترجم.
9 - الشيخ برهان الدين محمد بن محمد بن علي الحمداني القزويني: كان
ساكنا في الري وكان مجازا للرواية من الشيخ منتخب الدين أبو الحسن علي بن
عبد الله بن الحسن الرازي القمي صاحب الفهرست. وقد عاش إلى العام
(612 ه) وسمع المترجم عنه الحديث وكان بعد شيخ المترجم في رواية
الحديث.
10 - كمال الدين محمد الحاسب: وقد ورد ذكره فقط في رسالة (السير
والسلوك) المنسوبة للمترجم ولم يذكر اسمه في المصادر والنصوص الأخرى.
11 - سراج الدين القمري: الذي ذكر في كتاب (درة الأخبار) - فقط -
على أنه أستاذ المترجم.
مؤلفاته
يعد المترجم من بين الذين اشتهروا بكثرة التأليف والتصنيف في مختلف
العلوم والفنون المعروفة في عصره. كالتاريخ والعلوم والأدب والفقه والتفسير
والأخبار والحكمة والفلسفة والأخلاق والهندسة والحساب والجبر والمقابلة والهيئة
والنجوم (الفلك) وعلم التقويم وال‍ (زيج) وأحكام النجوم والأسطرلاب
والموسيقي وبقية العلوم.
وقد عرفت مؤلفاته بسهولة العبارة والخلو من تعقيداتها والتهذيب وتنقيح
المعاني وبعدها عن الحشو والزوائد الخالية من المعاني مما جعلها مورد رغبة
الطلاب واقبال العلماء بنحو أصبحت تلك المؤلفات من بين كتب الدراسة على
امتداد قرون من الزمن وهذا تناولها كثير من العلماء بالتعليق والتداول والشرح.
وقد كانت مؤلفاته باللغة العربية والفارسية، كما ترجمت بعض رسائله
العلمية من العربية إلى الفارسية وبعض كتبه من الفارسية إلى العربية كما ترجم
قسم من مؤلفاته إلى اللغات الأجنبية الأخرى.
وقد تناولت تلك المؤلفات علوم الرياضيات والأجوبة على المسائل المطروحة
وكذلك جملة من المقالات والمعالجات المختصرة إلى جانب ترجماته لكتب
كثيرة...
وفيما يلي ثبت بأسماء مؤلفاته:
1 - تحرير (المجسطي): وأصل هذا الكتاب من بطليموس قلوذيست،
وهو يشتمل على ثلاث عشرة مقالة وبعض الفصول و 196 شكلا. وقد حرر
المترجم هذا الكتاب لحسام الدين وسيف الناظرين الحسن بن محمد السيواسي.
وانتهى من تحريره في الخامس من شوال سنة (644 ه‍).
2 - تحرير أقليدس: (أو تحرير أصول الهندسة) وهذا الكتاب نقله من
اليونانية إلى العربية ثابت بن قرة وقد قام المترجم بتحريره.
كتب المترجم في مقدمة هذا الكتاب: " كتبت هذا الكتاب بعد (تحرير
مجسطي) وفرغت من تحريره في 22 شعبان 646 ه‍ ".
3 - تحرير اكرمالاوس: وهو من كتب المتوسطات، والمقصود بالمتوسطات
الكتب التي كان ينبغي أن تقرأ بعد كتاب أقليدس وقبل ال‍ (مجسطي) - وقد
ورد في بعض نسخ الكتاب ثلاث مقالات وفي بعض نسخه مقالتان. وقد فرع
من تحرير هذا الكتاب في 21 شعبان (663 ه‍).
4 - تحرير اكرثا وذوسيسوس: وهو أيضا من بين كتب المتوسطات.
ويتكون من ثلاث مقالات ويشتمل على 59 أو 58 شكلا.
وقد فرع من تحريره في جمادى الأولى سنة 651 ه‍.
5 - تحرير المأخوذات: في أصول الهندسة، وأصل هذا الكتاب من
أرشميدس حيث نقله ثابت بن قرة إلى اللغة العربية.
وقد ذكر المترجم في مقدمته:
عد المتأخرون هذا الكتاب في كتب المتوسطات وهو يشتمل على مقالة و 51
شكلا.
6 تحرير كتاب المعطيات في الهندسة: ان مؤلف هذا الكتاب هو
أقليدس، وقد ترجمه من اليونانية إلى اللغة العربية إسحاق بن حنين ونقحه
واصلحه ثابت بن قرة، وقام المترجم بتحريره وهو يشتمل على 95 شكلا.
7 - تحرير كتاب (كرة متحركة) (الكرة المتحركة): ان مؤلف هذا
الكتاب (اطولوقس) وقد ترجمه إلى العربية ثابت بن قرة. وقام بتحريره
المترجم وهو يشتمل على مقالة و 12 شكلا. وقد فرع من تحريره في يوم الجمعة
7 - جمادى الأولى سنة 651 ه‍.
8 - تحرير معرفة مساحة الأشكال البسيطة والكروية: من تأليف بني موسى
أحمد وحسن ومحمد. وقد قام المترجم بتحريره سنة 653 ه‍.
9 - تحرير كتاب الليل والنهار: أو كتاب الأيام والليالي. ان مؤلف هذا
الكتاب هو ثاوذوسيسوس. ويحوي مقالتين و 33 أو 30 شكلا. وقد فرع
المترجم من تحريره في التاسع من جمادى الأولى سنة 653 ه‍.
10 - تحرير كتاب المناظر: ان مؤلف هذا الكتاب هو أقليدس. وقد ترجمه
إسحاق بن حنين إلى اللغة العربية وقام بإصلاحه وتنقيحه ثابت بن قرة. وانتهى
المترجم من تحريره في شوال 651 ه‍.
11 - تحرير كتاب جرمي النيرين وبعديهما: مؤلف الكتاب ارسطرخس.
وهو يشتمل على 17 شكلا. قام بتحريره نصير الدين في سنة 653 ه‍.
12 - تحرير طلوع وغروب (الشروق والغروب): مؤلف الكتاب هو



(1) الإجازات: بحار الأنوار، طبع طهران، ص 16. وورد في كتاب (لؤلؤة البحرين) كذلك.
231
اطولوقس وقد نقله قسطا بن لوقا من اليونانية إلى العربية وقام ثابت بن قرة
والكندي باصلاحه وتنقيحه كما قام المترجم بتحريره سنة 653 ه‍ والكتاب
يحوي مقالتين و 36 شكلا.
11 - تحرير مطالع (المطالع): مؤلف الكتاب هو اسقيلاوس. وقد قام
بترجمته من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية قسطا بن لوقا. وصححه ونقحه
يعقوب بن إسحاق الكندي. كما حرره المترجم. والكتاب يشتمل على ثلاث
مقدمات وشكلين. فرع من تحريره سنة 653 ه‍.
14 - تحرير كتاب المفروضات: مؤلف الكتاب ارشميدس. ترجمه من
اليونانية إلى العربية ثابت بن قرة وحرره المترجم، يحوي 36 شكلا وفي بعض
النسخ 34 شكلا. فرع من تحريره سنة 653 ه‍.
15 - تحرير كتاب ظاهرات الفلك: مؤلف هذا الكتاب هو أقليدس وقد
ترجمه ثابت بن قرة من اليونانية إلى العربية. وحرره المترجم. يتضمن 23
شكلا - كما ورد في بعض النسخ - أو 25 شكلا كما ورد في نسخ أخرى. أما في
الحال الحاضر فليس بين أيدينا سوى شكلين مما تضمنه الكتاب. وقد فرغ من
تحريره في ربيع الأول سنة 653 ه‍.
16 - تحرير (كرة واستوانة) الكرة والأسطوانة: أو شرح الكرة
والأسطوانة.
مؤلف هذا الكتاب هو ارشميدس - وقد نقله من اليونانية إلى العربية
ثابت بن قرة. وحرره المترجم يحوي هذا الكتاب 48 شكلا وفي بعض النسخ
43 شكلا.
17 - مقالة في تكسير الدائرة: وهو من تاليف ارشميدس أيضا حرره
المترجم وأضافه إلى آخر كتاب. (تحرير الكرة والأسطوانة).
18 - تحرير كتاب المساكن: مؤلف الكتاب ثاذوسيسوس. وقد نقله إلى
العربية قسطا بن لوقا. وحرره المترجم يحوي هذا الكتاب 12 شكلا. فرع من
تحريره سنة 653 ه‍.
19 - المخروطات: مؤلف الكتاب هو اپلوثيوس وهو يتضمن سبع
مقالات. ترجم المقالات الخمس الأول منها إلى اللغة العربية هلال بن هلال
الحمصي، أما المقالة السادسة والسابعة فقد قام بنقلها إلى العربية ثابت بن
قرة. كما قام بتصحيحها وتنقيحها أحمد بن موسى وحررها المترجم.
20 - الأسطوانة: ورد اسم هذا الكتاب في فهرست كتب المترجم التي
ذكرها كل من الصفدي ومحمد بن شاكر. الا أن صاحب (الذريعة) احتمل
أن يكون هذا الكتاب هو نفس كتاب (تحرير الكرة والأسطوانة) لمؤلفه
ارشميدس.
21 - كشف القناع عن اسرار شكل القطاع: هذا كتاب الشكل الأول من
الأشكال ذات الأبعاد الثلاثة لأكرمانالاوس الذي نقله المترجم إلى الفارسية
أولا ثم إلى العربية. وهو مرتب في خمس مقالات. ويسمي البعض هذا
الكتاب ب‍ (الشكل القطاع).
22 - تربيع الدايرة: صنفه أرشميدس وحرره المترجم.
23 - حالات الخطوط المنحنية: من تأليف الحكيم الرياضي اپلنيوس.
يحوي اربع مقالات، ترجم المقالة الأولى أحمد بن موسى الحمصي. وترجم
البقية ثابت بن قرة، ثم راجعه ونقحه حسن وأحمد بن موسى بن شاكر.
وحرره المترجم.
24 - تسطيح الكرة والمطالع: من تصنيفات بطليموس قلوذيست. نقله
من اليونانية إلى العربية ثابت بن قرة. وحرره المترجم.
25 - رسالة في انعطاف الأشعة وانعكاسها: أو رسالة في انعكاسات
الأشعة.
26 - رسالة الشافعية: أو رسالة في مصادرات أقليدس في الهندسة ".
ينقل وينقد المترجم في هذه الرسالة أقوال علي بن هيثم المتبحر في علوم
الرياضيات وأبي الفتح عمر الخيامي وعباس ابن سعيد الجوهري في باب
مصادرات أقليدس ويعرض رأيه في هذا الباب ويدلل عليه.
27 - كتاب التجريد في الهندسة: ويشمل سبع مقالات.
28 - كتاب البلاغ: وهو عبارة عن شرح لكتاب أقليدس. من تأليف
الخواجة نصير الدين الطوسي.
29 - رسالة في شكل القطاع السطحي: توجد نسخة من هذا الكتاب في
المكتبة الوطنية بباريس.
30 - مختصر كرات ارشميدس: ترجمة ثابت بن قرة وتحرير الخواجة نصير
الدين الطوسي.
31 - تحرير المائة والخمس مسائل من أصول الهندسة.
32 - رسالة في باب تعيين قبلة تبريز، باللغة العربية.
33 - جامع الحساب بالنحت والتراب: أو (جوامع الحساب) يشتمل
هذا الكتاب على ثلاثة أبواب وبعض الفصول.
34 - رسالة الحساب: باللغة الفارسية، وتوجد نسختها في مكتبة ملك
الوطنية. (طهران).
35 - رسالة في الحساب والجبر والمقابلة: يحوي هذا الكتاب بابين:
الباب الأول في أصول قواعد الحساب، والباب الثاني في كيفية استخراج
مجهولات الأعداد المتناسبة بطريقة الجبر والمقابلة. وقد ألف في سنة 667 ه‍.
36 - كتاب الظفر: وهو أيضا في الجبر والمقابلة، وقد نسبه (الحاج
خليفة) إلى المترجم.
37 - رسالة في علم المثلثات: ذكر في (تذكرة النوادر) ان نسخة هذا
لكتاب بخط قطب الدين العلامة الشيرازي موجودة في مكتبة مولانا يعقوب
بدواني في الهند.
38 - " الرسالة المعينية " أو " المفيد ": وهو كتاب في علم الهيأة، كتب
باللغة الفارسية. مؤلف في أربع مقالات. كتبه سنة 632 ه‍ في قهستان باسم
أبو الشمس معين الدين بن ناصر الدين المحتشم.
39 - شرح المعينية: أو (حل مشكلات الرسالة المعينية) وقد كتب هذا
الشرح بطلب من نفس معين الدين في قهستان.
40 - زبدة الهيئة: وهو مختصر في علم الهيئة. كتب باللغة الفارسية

232
ويحتوي على ثلاثين فصلا.
41 - زبدة الادراك في هيئة الأفلاك: وهي رسالة مختصرة في علم الهيئة
كتبت في مقدمة ومقالتين، باللغة العربية.
42 - التذكرة النصيرية: في علم الهيئة، يعد هذا الكتاب من أهم الكتب
في هذا الفن وأجمعها لمسائله. وهو مرتب على أربعة أبواب، وقد ألفه بناء على
طلب عز الدين الزنجاني بتاريخ 656 ه‍. وقد تناوله جمع كبير من أخصائي
هذا العلم بالشرح والتوضيح.
43 - رسالة في بيان الصبح الكاذب: وهي رسالة مختصرة جدا في هذا
الباب وتوجد نسختها في مكتبة مدرسة سپهسالار بطهران.
44 - رسالة في تحقيق قوس قزح: وهي أيضا رسالة مختصرة جدا ونسختها
موجودة في مكتبة ملك الوطنية.
45 - مختصر في معرفة التقويم: وهو كتاب معروف بأنه يتألف من ثلاثين
فصلا، ألفه باللغة الفارسية سنة 658 ه‍ بعد الشروع في مرصد مراغة.
46 - ثلاثون فصلا في الهيئة والنجوم: توجد نسخته في مكتبة اكسفورد.
47 - (زيج ايلخاني): وهو كتاب ألف باللغة الفارسية. يحوي أربع
مقالات: المقالة الأولى في معرفة التواريخ، والمقالة الثانية في معرفة حركة
الكواكب ومواقعها في خطوط الطول والعرض وتوابع ذلك، والمقالة الثالثة في
معرفة الأوقات، والمقالة الرابعة في بقية اعمال النجوم وجداول حركات
الكواكب.
48 - مدخل إلى علم النجوم: منظومة في علم النجوم باللغة الفارسية.
49 - اختيارات مسير القمر: هذا الكتاب أيضا عبارة عن منظومة باللغة
الفارسية كتبت على وزن بحر الرمل، المثمن، المحذوف أو المقصور حول
اختيارات حركة القمر وأحواله.
50 - رسالة في التقويم وحركات الأفلاك: وتوجد نسختها في مكتبة
(آستان قدس) " مشهد / إيران ".
51 - كتاب (البارع في علوم التقويم).
52 - تحصيل در علم نجوم (الدراسة في علم النجوم): توجد نسخة
هذا الكتاب في مكتبة اكسفورد.
53 - التقويم العلائي: ألف باسم علاء الدين محمد الملك الإسماعيلي.
54 - نهاية الادراك ودراية الأفلاك: ذكر في كتاب (كشف الحجب
والاستار) ان الخواجة نصير الدين ألف هذا الكتاب في عهد بهاء الدين محمد
الجويني بطلب محمد بن عمر بدخشاني.
يرجى ملاحظة أن نسبة الكتب الخمس الأخيرة للمترجم غير أكيدة.
55 - شرح ثمرة بطليموس أو " ترجمة ثمره " (ترجمة الثمرة): بناء على
تمني ورغبة حاكم أصفهان الخواجة بهاء الدين محمد بن شمس الدين الوزير
فإنه قد ترجم كتاب الثمرة لبطليموس وأضيفت إليه مطالب وموضوعات
أخرى.
ويتضمن هذا الكتاب مائة عبارة ومقولة ولذلك يقرأ باليونانية
انسطوريطا. وقد تمت ترجمة هذا الكتاب وشرحه في سنة 670 ه‍.
56 - بيست باب در معرفت أسطرلاب (عشرون بابا في معرفة
الأسطرلاب): رسالة صغيرة باللغة الفارسية في معرفة الأسطرلاب وطريقة
عملها.
57 - صد باب در معرفت أسطرلاب (مائة باب في معرفة
الأسطرلاب): يرى صاحب " الذريعة " أن الكتاب الأول " عشرون بابا في
معرفة الأسطرلاب " هو مختصر هذا الكتاب.
58 - مقالة در موسيقى (مقالة في الموسيقي) توجد نسخة هذا الكتاب في
المكتبة الوطنية بباريس.
59 - كتاب تحرير المنطق مختصر باللغة العربية يحوي تسعة فصول. توجد
نسخة قديمة من هذا الكتاب في مكتبة ملك الوطنية بطهران.
60 - أساس الاقتباس: يعد هذا الكتاب أكبر الكتب في علم المنطق
وأهمها بعد كتاب " الشفاء ". وقد كتب باللغة الفارسية. ويحوي تسع
مقالات. وقد ألف في سنة 642 ه‍.
61 - تعديل المعيار في نقد تنزيل الأفكار: أصل الكتاب ألفه المفضل بن
عمر أثير الدين أبهريست، وقد نقده المترجم وأسماه ب‍ (تعديل المعيار...).
62 - مقولات عشر (المقولات العشر).
63 - كتاب التجريد: أو (تجريد العقائد) أو (تحرير العقائد في الكلام)
وهذا المختصر يعد أول كتاب يصنف بهذه الطريقة وفق معتقدات وعقائد
الإمامية، وهو مرتب في ستة مقاصد أو موضوعات.
64 - قواعد العقايد: وهو رسالة مختصرة في أصول العقائد، وقد ذكر اسم
هذا الكتاب بصور أخرى مثل: " رسالة اعتقادية " و " مقالة نصيرية ".
65 - فصول نصيرية: وهو كتاب صغير في أصول العقايد كتب باللغة
الفارسية. وقد نقله إلى العربية ركن الدين محمد بن علي الفارسي الجرجاني.
66 - تلخيص المحصل: (أو نقد المحصل)، وهو في علم الكلام. وهو
عبارة عن تهذيب وتنقيح قام به المترجم لكتاب (محصل أفكار المتقدمين
والمتأخرين) للإمام الرازي، بالإضافة إلى نقود لبعض مواضيع الكتاب. وقد
ألفه باسم عط ملك الجويني سنة 669 ه‍.
67 - آغاز وانجام (البداية والنهاية): رسالة في المبدأ والمعاد وقد ذكرت
أيضا باسم: " رسالة في المبدأ والمعاد " وقد ذكر المترجم نفسه في مقدمة هذه
الرسالة اسما آخر هو تذكرة باد.
68 - (رسالة اعتقادية) أو (اعتقادات) أو (العقيدة المفيدة): مقالة
مختصرة حول ما يجب أن يعتقد به المسلم الشيعي.
69 - رسالة اثبات واجب (رسالة اثبات الواجب): وهي رسالة مختصرة
باللغة الفارسية، أورد فيها أربعة أوجه لاثبات الواجب (الله) (واجب
الوجود) على طريقة المتكلمين، وثلاثة أوجه على طريقة الحكماء.
70 - رساله ديگر در اثبات واجب (رسالة أخرى في اثبات الواجب):

233
وقد ألفها على طريقة المناظرة.
71 - الرسالة المقنعة: وهي رسالة في أصول الدين باللغة العربية.
وقد شرح محمد مؤمن ابن طاهر الدين الكرماني هذه الرسالة ونسبها في المقدمة
إلى نصير الدين الطوسي.
72 - رسالة أصول الدين: وهي رسالة في أصول العقائد مؤلفة باللغة
العربية.
73 - رسالة أخرى في أصول العقائد: وهي رسالة كتبت باللغة العربية
تبحث في التوحيد والعدل والمعاد والإمامة.
74 - رسالة امامت (رسالة الإمامة): وقد ألفها بناء على طلب محمد
الدين شهاب الإسلام علي بن نام آور.
75 - اثبات الفرقة الناجية: يرى صاحب (الذريعة) ان هذه الرسالة من
تأليف الخواجة نصير الدين الطوسي.
76 - رسالة جبر واختيار (رسالة الجبر والتفويض): وقد ورد اسمها
بنحو آخر وهو (جبر وقدر وقضاء وقدر) أي (الجبر والقدر والقضاء والقدر).
77 - شرح إشارات (شرح الإشارات): والمسمى ب‍ (حل مشكلات
إشارات)، لقد طبع أصل هذا الكتاب باسم (الإشارات والتنبيهات)
للفيلسوف الحكيم الكبير الشيخ أبو علي بن سينا. وقد تناوله جمع من كبار
العلماء بالشرح ومنهم الإمام فخر الدين الرازي والذي أورد كثيرا من
الاشكالات على الشيخ ابن سينا. ثم تناوله نصير الدين بالشرح أيضا ورد
خلال الشرح على إشكالات الفخر الرازي، وقد استغرق عمله في هذا الكتاب
عشرين عاما حيث فرع من الشرح في سنة 644 ه‍.
78 - مصارع المصارع: كتب تاج الدين محمد بن عبد الكريم الشهرستاني
كتابا أسماه (المصارعات) وضمن هذا الكتاب اعتراضات واشكالات كثيرة
على فلسفة ابن سينا وآرائه. (وادعى في كتابه انه يصارع الشيخ). فألف
المترجم كتابه (مصارع المصارع) ورد فيه على الاعتراضات والشبهات التي
أوردها تاج الدين في كتابه.
79 - اقسام الحكمة: رسالة مختصرة باللغة العربية. في بيان اقسام
الحكمة بنحو موجز.
80 - شرح مرموز الحكمة: ان كتاب (مرموز الحكمة) مؤلف باللغة
العربية ومنسوب (أبو علي بن سينا). وله شرح باللغة الفارسية منسوب إلى
نصير الدين.
81 - شرح رسالة العلم: وهي رسالة مختصرة من تأليف أبو جعفر
أحمد بن علي بن سعيد بن سعادة. وقد أرسلها تلميذه جمال الدين علي بن
سليمان البحراني إلى نصير الدين الطوسي ليقوم بتوضيح موضوعاتها وشرح
المسائل التي وردت فيها. وقد قام الطوسي بشرحها وتوضيحها بنحو بديع
رائع.
82 - الرسالة المنتخبة في معالم حقيقة النفس وما يتصل بذلك: رسالة
مؤلفة باللغة العربية. في حقيقة النفس. وتشتمل على ثلاثة فصول وخاتمة.
83 - رسالة في ماهية العلم والعالم والمعلوم: وهي رسالة مختصرة باللغة
العربية منسوبة إلى نصير الدين. وقد طبعت بطهران باسم (العلم اللدني
والكسبي) في حاشية كتاب (المشاعر) للأخوند ملا صدرا.
84 - لقاء النفس بعد فناء البدن: ألف هذه الرسالة بطلب رفيقه في
العمل مؤيد الدين العرضي.
85 - رسالة در موجودات وأقسام آن (رسالة في الموجودات واقسامها):
رسالة مختصرة باللغة الفارسية.
86 - رسالة في صدور الخلق من (حضرة) الحق: وهي رسالة مكتوبة
باللغة العربية يتحدث فيها عن كيفية صدور الموجودات من المبدأ الفياض، ثم
يتبادل آراء الحكماء في باب علم الله تعالى. وقد ألف هذا الكتاب في سنة
666 ه‍. بناء على طلب قاضي القضاة في هرات (بأفغانستان).
87 - رسالة اثبات جوهر مفروق (رسالة اثبات الجوهر المفروق): وقد
ذكر لهذه الرسالة اسمان آخران هما (اثبات العقل) و (رسالة نصيرية).
88 - رسالة در كيفيت صدور كثرت از وحدت (رسالة في كيفية صدور
الكثرة من الوحدة): توجد نسخة هذه الرسالة في مكتبة ملك الوطنية.
89 - رسالة در نفي واثبات (رسالة في النفي والاثبات): وهي رسالة
مختصرة باللغة الفارسية.
90 - روضة القلوب: رسالة حول الحقيقة كتبت باللغة الفارسية.
91 - تحفة (التحفة) رسالة باللغة الفارسية حول معرفة النفس.
92 - ربط الحادث بالقديم: وهي رسالة يبحث فيها عن ارتباط وعلاقة الموجودات الحادثة بالله الخالق تعالى. وفي هذه الرسالة يذكر أستاذه فريد الدين
محمد الداماد النيشابوري.
93 - رسالة رد إيراد كاتبي قزويني بر حكما (رسالة في رد إشكال الكاتب
القزويني على أدلة الحكماء): ألف علي بن عمر الكاتبي رسالة مختصرة في اثبات
الواجب (الله) وفي هذه الرسالة عرض إشكالات على أدلة الحكماء. فألف
المترجم الرسالة المذكورة وأبطل اشكالات الكاتبي وأجاب عليها.
94 - رسالة اثبات عقل فعال (رسالة اثبات العقل الفعال).
95 - رساله در اينكه مفهوم از ادراك تعقل است يا غير آن (رسالة في أنه
هل المفهوم من الادراك التعقل أم غير ذلك).
96 - رسالة در اتحاد مقول ومقول عليه (رسالة في اتحاد المقول والمقول
عليه).
97 - رساله در بحث از علل ومعلولات مترتبه (رسالة في بحث العلل
والمعلولات المترتبة).
98 - رساله در كيفيت انتفاع بحس (رسالة في كيفية الانتفاع بالحس).
99 - جام گيتي نما (مرآة العالم): في اكتفاء القنوع بما هو مطبوع، وقد
نسبت إلى الخواجة الطوسي.
100 - شرح التهافت: هذا الكتاب أيضا في اكتفاء القنوع نسب إلى
الخواجة. أما شرح التهافت فهو ل‍ (علاء الدين الطوسي) وليس لنصير الدين
الطوسي.

234
101 - رسالة خلق اعمال (رسالة خلق الأعمال): باللغة الفارسية.
102 - رساله در نفوس ارضيه وقواي انها (رسالة في النفوس الأرضية
وقواها).
103 - (الفوائد الثمانية): وهي رسالة تشتمل على ثماني فوائد. في
هذه الرسالة بحث في مسائل مختلفة. كلامية وفلسفية من قبيل الزمان والمكان
والعلل والمعلولات ومعنى العصمة ومعاني الطبيعة وأفعال العباد وحول ان المبدأ
الأول ليس ممكن الوجود.
104 - المقالات الست: وتشمل هذه الرسالة مقالات مختلفة.
105 - رسالة در إشارات به مكان وزمان آخرت (رسالة في الإشارات
لمكان وزمان الآخرة): وهي رسالة مختصرة باللغة الفارسية.
106 - قوانين الطب: ذكرها الحاج خليفة ونسبها إلى الخواجة
107 - حواشي بر كليات قانون أبو علي سينا (حواشي على " كليات
قانون " أبو علي ابن سينا): ذكر شاكر والصفدي اسمها وعداها من كتب
الخواجة.
108 - حل مشكلات قانون ابن سينا: وهي أجوبة لتساؤلات واشكالات
نجم الدين الكاتبي القزويني.
109 - جواب أسئلة العلامة قطب الدين الشيرازي حول مشكلات قانون
ابن سينا: ذكر العلامة الشيرازي في مقدمة (التحفة السعيدية) هذين الكتابين
ونسبهما إلى الخواجة.
110 - رسالة در جواب أسئلة سيد ركن الدين أسترآبادي (رسالة في
جواب أسئلة السيد ركن الدين الأسترآبادي): المذكور قدم عشرين سؤالا
حول المنطق والحكمة من أستاذه في شهر محرم سنة 671، وقد أجاب على تلك
الأسئلة ضمن هذه الرسالة.
111 - رسالة في جواب ثلاثة أسئلة لأثير الدين الأبهري أجاب عليها
وأرسلها إلى الحكيم.
112 - رسالة في جواب أسئلة شرف الدين محمد بن محمود الرازي: وهي
أسئلة موجهة إلى الروم أجاب عليها.
113 - رسالة في جواب نجم الدين علي بن عمر الكاتبي القزويني: والتي
يسأل فيها حول معنى قول ابن سينا، ان الحرارة تنقل في الرطب سوادا وفي ضده
بياضا... الخ " ما المقصود من ذلك؟ فأجاب عليها بجوابين.
114 - سأله أحد الحكماء حول التنفس فكتب حول ذلك رسالة.
115 - قدم معز الدين سعد بن كمونة إلى الخواجة أسئلة حول مغالطات
الكاتبي القزويني، فكتب رسالة في جواب ذلك.
116 - شكك نجم الدين علي بن عمر الكاتبي القزويني في المسألة
المنطقية: " نقيض العام أخص من نقيض الخاص ". فكتب رسالة في الجواب
على ذلك التشكيك.
117 - رسالة جوابية بخصوص سؤال أحد العلماء حول مزاج الأعضاء.
118 - رسالة في جواب لسؤال حول خيرية الوجود؟.
119 - رسالة في الأجوبة على أسئلة محيي الدين محيجا العباسي الذي كان
تلميذا للمترجم وفي سنة 671 قدم لأستاذه جملة من الأسئلة فأجاب عليها.
120 - رسالة في أجوبة المسائل الأسبوعية التي كان يطلبها عز الدولة
سعد بن منصور بن كمونة.
121 - أجوبة على أسئلة شمس الدين محمد الكيشي في المنطق والحكمة.
122 - رسالة في جواب الكاتبي القزويني: الذي سال حول معنى مقولة
الحكماء: " السالبة أعم من موضوع الموجبة ".
123 - رسالة في جواب الامام نجم الدين النخجواني حول تساؤله عن
معنى قول الحكماء: " المجهول المطلق يمتنع الحكم عليه ".
124 - معاوضات (المعاوضات): وهي رسالة تتضمن أجوبة على أسئلة
الشيخ صدر الدين القونوي - وقد ذكر اسم آخر للرسالة هو: (أجوبة
المسائل) -.
125 - رسالة أخرى في الإجابة على نفس العالم العارف المذكور.
126 - رسالة سؤالية: قدم ثلاثة أسئلة في هذه الرسالة إلى عين الزمان
الجبلي.
127 - الأسئلة النصيرية: وهي أسئلة قدمها إلى (الفيلسوف الحكيم
المتكلم: فيلسوف عصره ومتكلمه وحكيمه شمس الدين الخسروشاهي).
الكتب المترجمة من العربية إلى الفارسية والتي نسبت اعمال ترجمتها إلى المترجم
128 - ترجمة كتاب زبدة الحقائق ل‍ (عين القضاة الهمداني) بناء على
طلب ناصر الدين المحتشم قام بترجمة هذا الكتاب وشرح المسائل الغامضة
فيه.
129 - ترجمة صور الكواكب لأبي الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي
المتوفى سنة 376 ه‍.
130 - ترجمة الأدب الصغير لابن المقفع. وقد ترجمه بناء على طلب ناصر
الدين المحتشم أيضا.
131 - ترجمة مالك وممالك (المالك والممالك): وهو ترجمة صور
الأقاليم، وينسب (فلوكل) في (فهرسته) الترجمة إلى الطوسي.
132 - جواهر الفرائض بالفرائض النصيرية: وهي رسالة مختصرة في
أصول علم الفرائض والمواريث وفي هذه الرسالة ينقل الخواجة عن كتاب
التحرير لأستاذه معين الدين سالم بن بدران المعري.
133 - شرح لأصول الكافي:
134 - تفسير سورة الاخلاص والمعوذتين: وهو تفسير مختصر جدا،
وبلغة عرفانية فسر هذه السور الثلاث الاخلاص والخلق والناس، وينسب هذا
التفسير للشيخ ابن سينا أيضا.
135 - اخلاق ناصري: وهو من الكتب المشهورة في هذا الفن وقد ألف
هذا الكتاب سنة 633 بناء على طلب ناصر الدين عبد الرحيم بن أبي منصور
المحتشم القهستاني، في قصة قاين.
136 - أوصاف الأشراف: رسالة مختصرة باللغة الفارسية حول اخلاق
العرفاء والزهاد (من أهل السير والسلوك)، ألفها بطلب ورغبة شمس الدين
محمد الجويني، وهي مرتبة في ستة أبواب.
137 - تكميل وترجمة اخلاق محتشمي: ألف ناصر الدين المحتشم الذي

235
يعد من علماء الإسماعيلية كتابا في الأخلاق معتمدا على آيات القرآن والأحاديث
الشريفة النبوية والآثار القيمة. فجمعه عدد من علماء الدين وكبار
الإسماعيليين وسلموه للمترجم طالبين إياه اكماله وترجمته. وبناء على طلبهم
فقد قام باكماله وترجمته.
138 - نصيحت نامه: وهي جملة نصائح باللغة الفارسية كتبها ل‍ (آباقا
خان) حين جلوسه على كرسي السلطنة.
139 - ذيل تاريخ جهانكشاي جويني.
140 - معيار الأشعار: باللغة الفارسية. كان يسمى قديما ب‍ (رسالة
العروض) ألف سنة 649 ه‍ أقدم نسخة لهذه الرسالة موجودة ضمن مجموعة
آثار المترجم في مكتبة الدكتور محمود نجم آبادي.
141 - الوافي في العروض والقوافي.
142 - رسالة آداب المتعلمين: وهي رسالة في آداب التعليم والتعلم
وأخلاق المتعلمين والمعلمين. وهي معروفة لدى طلاب العلوم القديمة.
143 - كتاب الجوهر أو تنسيق نامه ايلخاني: وهي رسالة في صفات
الأحجار الكريمة والمجوهرات وخواصها وقد ألفها بأمر من هولاكو.
144 - آغاز وانجام (المبدأ والمعاد): وهو كتاب باللغة الفارسية، موزع
على أربعة فصول، في الحيوان والنبات، والمعدن والمتفرقات والنوادر، وقد
نسبه صاحب الذريعة، إلى المترجم، ويقال أن نسخة هذا الكتاب موجودة في
مكتبة شيخ الشريعة الإصفهاني بالنجف الأشرف.
145 - رسالة في سلوك الملوك القدامى وتقاليدهم: وهي تتناول وصول
الضرائب والخراج وموارد صرفها.
146 - رسالة في ضرورة الموت (وحتميته): وهي باللغة العربية تتحدث
عن حتمية الموت ولا بديته.
147 - خلافت نامه: أو بتعبير (دولتشاه السمرقندي): خلافت نامه
إلهي.
148 - ساقي نامه: يذهب الحاج خليفة إلى أن هذا الكتاب من آثار
المترجم.
149 - قانون نامه: يقول الحاج خليفة أيضا في كتاب كشف الظنون ان
هذه الرسالة كتبت باللغة الفارسية وهي من تأليفات المترجم.
150 - تبرا نامه مختصر في ذم أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي رسالة في
أربعة فصول.
151 - صلوات النصير: أو (الأئمة الاثنا عشر)، أو (انشاء الصلوات
على أشرف البريات وعترته).
152 - اثبات اللوح المحفوظ: في كشف الحجب والأستار نسب
للخواجة.
153 - النقطة القدسية: وهي رسالة ألفها الخواجة في شرح وبيان قول الإمام
أمير المؤمنين علي عليه السلام: ان العلم نقطة.
154 - آداب البحث: رسالة ينسبها صاحب الذريعة إلى الخواجة.
155 - الرسالة النصيرية: رسالة في توضيح أن الحكيم لا يتعلق بلذائذ
البدن.
156 - شريعة الأشر في انجاح المقاصد والملمات: يذكر الخوانساري في
كتاب روضات الجنات أن هذه الرسالة من تاليف المترجم.
157 - مقامات الخواجة: وهو كتاب في مقامات العارفين وهو نفس بحث
مقامات العارفين ضمن كتاب شرح الإشارات، ولكنه يرى مستقلا أحيانا.
158 - كتاب حزبدة العجايب: لقد نسب صاحب (آثار الشيعة) هذا
الكتاب إلى المترجم، ولكنه - قطعا - ليس له وانما هو لابن الوردي.
159 - شرح رسالة التنجيم: هذا الكتاب ينسبه صاحب (آثار الشيعة)
إلى المترجم أيضا ولكن ثمة شك في هذه النسبة.
160 - رسالة مختصرة تتضمن بعض الفوائد: الفائدة الأولى: ان العقل
والجسم ليسا كالجوهر والعرض. توجد نسخة هذه الرسالة في مكتبة الثقافة
الوطنية.
161 - رسالة في بعض المسائل: المسألة الأولى: في وجوب معرفة الله،
المسألة الثانية: في وجود الباري. توجد نسخة هذه الرسالة في المكتبة الوطنية.
162 - فوائد مجموعة مقالات مختصرة.
الأولى: في تعارف الأرواح بعد مفارقة الأبدان.
الثانية: في الفرق بين الجنس والمادة.
163 - رسالة في الرمل: وهي باللغة الفارسية كتبها بأمر من هولاكو.
164 - مختصر الرسالة المذكورة: وقد ألف هذا المختصر بأمر من هولاكو
أيضا.
165 - رسالة في أحكام منازل الرمل الاثني عشر: وهي باللغة الفارسية.
166 - رسالة الرمل: وقد كتبها باللغة العربية. وضح فيها أعمال ملء
الدوائر ويصطلح على ذلك في هذا العلم ب‍ (تسكين الدايرة).
167 - رسالة أخرى في الرمل: وقد كتبت بلغات ثلاث هي: العربية
والفارسية والتركية - منسوبة للمترجم.
168 - رسالة استخراج الخبايا: منسوبة أيضا للمترجم.
169 - رسالة أخرى وهي باللغة الفارسية.
170 - رسالة أخرى في نفس الموضوع: توجد نسخة منها في المكتبة
الوطنية بباريس، ويمكن أن تكون نفس الرسالة المذكورة أعلاه.
" بعض الكتب والرسائل المكتوبة وفقا لمذهب الباطنية ومنسوبة للمترجم "
171 - رسالة باسم (سير وسلوك): يقال أن هذه الرسالة كتبها مضطرا
ومجبورا عندما كان في قلاع الإسماعيلية.
172 - رسالة التولي والتبري: وهي مكتوبة بنفس وفكر باطني ويبدو أن
هذه الرسالة كتبها في (قهستان) وفي المقدمة يذكر اسم ناصر الدين المحتشم
ويلقبه معلم العصر والملك الكبير.
173 - رسالة في النعم والمتع واللذائذ: وهي مكتوبة على الطريقة
التعليمية الباطنية ومنسوبة إلى المترجم.
174 - رسالة باسم " مطلوب المؤمنين ": وهي مكتوبة في تأييد مذهب
الإسماعيلية وينسبها المستشرق (ايوانف) إلى المترجم. وقد قام هذا المستشرق
بطبعها.
175 - كتاب روضة التسليم: وهو كتاب حول عقائد التعليميين وقد قام

236
المستشرق (ايوانف) بطبعه.
ان نسبة هذه الرسائل للمترجم غير متأكد منها وان سياق الرسائل الثلاث
الأخيرة أو طريقة وأسلوب كتابتها ليس كأسلوب المترجم وعلى الأرجح انها
نسبت إليه وليست له.
176 - يذكر صلاح الدين الصفدي في الفهرست، الذي يدرج فيه كتب
المترجم بعض الكتب التي تؤيد مذهب النصيرية. الا أن المؤلف نفسه يقول:
" لا اعتقد أنه قد كتب مثل هذا الكتاب ".
بالإضافة إلى الكتب المذكورة والرسائل العلمية فان هناك بعض مراسلاته
(وربما تكون منسوبة اليه) مع العلماء وغيرهم توجد بعضها ضمن كتب
التاريخ.
177 - رسالة من جانب هولاكو بعد فتح بغداد إلى الملك ناصر ملك الشام
مكتوبة باملاء الخواجة باللغة العربية وصورة هذه الرسالة مثبتة في كتاب
(وصاف الحضرة).
178 - رسالة أخرى مكتوبة من جانب ملك المغول إلى الملك ناصر ومثبتة
في كتاب جامع التواريخ.
179 - رسالتان في جواب علم الدين قيصر. مدرجتان في نهاية بعض
نسخ (الشافية).
180 - رسالة إلى الكاتبي القزويني. باللغة العربية، وقد ورد في آخر
الرسالة رد دليل الحكماء على اثبات الواجب.
181 - رسالة أخرى باللغة العربية مكتوبة إلى جمال الدين علي بن سليمان
البحراني، والتي ذكر في بدايتها شرح رسالة العلم.
182 - رسالة أخرى إلى جمال الدين عين الزمان الجبلي، مكتوبة في بعض
المجامع المذكورة.
183 - رسالة أخرى إلى محيي الدين محيا العباسي مكتوبة باللغة العربية،
شوهدت في بعض المجامع.
184 - رسالة باللغة الفارسية إلى صدر الدين القونوي.
185 - رسالة باللغة الفارسية إلى أثير الدين الأبهري.
186 - رسالة باللغة الفارسية إلى شمس الدين الكيشي.
الشهيد الأول محمد بن مكي
مرت ترجمته في الصفحة 59 من المجلد العاشر وذكر فيها أن السلطان
علي بن المؤيد ملك خراسان وما والاها طلب إليه التوجه إلى بلاده فاعتذر عن
ذلك وألف له كتاب اللمعة إلى آخر ما ذكر. ونزيد عليها هنا ما يأتي:
قال الأستاذ رضا مختاري وهو يتحدث عن المترجم ودعوة علي بن المؤيد
له:
إن علي بن المؤيد هو آخر حاكم في خراسان من الأسرة السربدارية، وان
هذه الأسرة قد حكمت خراسان من سنة 738 إلى سنة 783، وان عليا هذا
كان مهتما بترويج التشيع ونشر المعارف الاسلامية، وقد توفي سنة 795 أي بعد
شهادة الشهيد بتسع سنوات. ثم يذكر الأستاذ مختاري نص رسالة علي بن
المؤيد التي يدعو بها الشهيد إلى خراسان وهو التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام كنشر العنبر المتضوع * يخلف ريح المسك في كل موضع
سلام يضاهي البدر في كل منزل * سلام يضاهي الشمس في كل مطلع
على شمس دين الحق دام ظلاله * بجد سعيد في نعيم ممتع
أدام الله تعالى مجلس المولى الهمام العالم العامل الفاضل الكامل السالك
الناسك رضي الاخلاق وفي الاعراق علامة العالم مرشد الأمم قدوة العلماء
الراسخين أسوة الفضلاء والمحققين مفتي الفرق الفارق بالحق حاوي (فنون)
الفضائل والمعالي حائز قصب السبق في حلبة الأعاظم والأعالي وارث علوم
الأنبياء والمرسلين محيي مراسم الأئمة الطاهرين سر الله في الأرضين مولانا
شمس الملة (والحق) والدين مد الله اطناب ظلاله بمحمد وآله من دولة راسية
الأوتاد ونعمة متصلة الامداد إلى يوم التناد.
وبعد فالمحب المشتاق، مشتاق إلى كريم لقائه غاية الاشتياق، وان يمن
بعد البعد بقرب التلاق.
حرم الطرف من محياك لكن * قد حظي القلب من محياك ريا
ينهي إلى ذلك الجناب لا زال مرجعا لأولي الألباب أن شيعة خراسان صانها
الله عن الحدثان متعطشون إلى زلال وصاله والاغتراف من بحر فضائله وافضاله
وأفاضل هذه الديار قد مزقت شملهم أيدي الأدوار ومزقت جلهم أو كلهم
صروف الليل والنهار.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ثلمة الدين موت العلماء، وأنا لا نجد فينا
من يوثق بعلمه في فتياه، يهتدي الناس برشده وهداه، فهم يسألون الله تعالى
مشرف حضوره، والاستضاءة بأشعة نوره والاقتداء بعلومه الشريفة والاهتداء
برسومه المنيفة، واليقين بكرمه العميم وفضله الجسيم أن لا يخيب رجاءهم ولا
يرد دعاءهم، بل يسعف مسئولهم وينجح مأمولهم إذا كان الدعاء لخير محض على
أيدي الكريم فلا يرد (امتثالا لها) قال الله تعالى: (والذين يصلون ما أمر الله
ان يوصل).
ولا شك أولى الأرحام بصلة الرحم الاسلامية الروحانية، وأحرى
القرابات بالرعاية القرابة الايمانية، ثم الجسمانية، مهما عقدتا لا تحملها الادوار
والأطوار بل ستبقيان لا يهدمهما إعصار الأعصار.
ونحن نخاف غضب الله على هذه البلاد لفقدان الرشد وعدم الارشاد،
والمأمول من العامة الهام والكرامة التام أن يتفضل علينا ويتوجه إلينا، متوكلا
على الله القدير، غير متعلل بنوع من المعاذير، إن شاء الله تعالى. (فانا بحمد
الله نعرف قدره ونستعظم امره إن شاء الله تعالى). والمتوقع من مكارم صفاته
ومحاسن ذاته اسبال ذيل العفو على هذا الهفو والسلام على أهل الإسلام.
المحب المشتاق علي بن المؤيد
أبو عبد الله محمد بن أبي المعز منصور بن جميل أبو عبد الله الجبي
ترجم له الدكتور مصطفى جواد في (سلك الناظم) فقال: الكاتب
الشاعر ذكره ابن الدبيثي في تاريخ بغداد، قال: " محمد بن أبي العز بن جميل
أبو عبد الله ولد بقرية تعرف بجبا من نواحي هيت وقدم بغداد صبيا واستوطنها
وقرأ بها القرآن الكريم والأدب والفرائض والحساب وسمع الحديث من جماعة
منهم أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب والقاضي أبو الفتح

237
محمد بن أحمد بن المندائي الواسطي لما قدمها وقال الشعر ومدح سيدنا ومولانا
الامام المفترض الطاعة على كافة الأنام الناصر لدين الله أمير المؤمنين - خلد الله
ملكه - بقصائد كثيرة وكان يوردها في المواسم والهناءات، وخدم في أشغال
الديوان العزيز - مجده الله - ونظر في ديوان التركات الحشرية وتولى كتابة المخزن
المعمور ثم ولي صدرية المخزن بعد عزل أبي الفتوح بن أبي المظفر في ليلة عاشر
ذي القعدة سنة خمس وستمائة مضافا إلى النظر بدجيل وطريق خراسان و
الخالص والخزانة والعقار وغير ذلك من أعمال الحضرة ولم يزل على ذلك إلى أن
عزل في يوم السبت الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة
وستمائة. وتوفي يوم السبت النصف من شعبان سنة ست وستمائة ودفن بمقابر
قريش ". وذكره ياقوت الحموي قال: " محمد بن منصور بن جميل أبو عبد الله
(ابن أبي) العز (1) الكاتب، نحوي لغوي أديب من أفاضل العصر. قدم
بغداد في صباه وقرأ الأدب ولازم مصدق بن شبيب (الواسطي) النحوي حتى
برع في النحو واللغة وقرأ الفقه والفرائض والحساب وقال الشعر ومدح الناصر
فعرف واشتهر ورتب كاتبا في ديوان التركات مدة ثم ولي نظره ثم ولي الصدرية
بالمخزن ثم عزل واعتقل وأفرج عنه بعد مدة ورتب وكيلا للأمير عدة الدين ابن
الناصر وكان كاتبا بليغا مليح الخط، غزير الفضل، متواضعا مليح الصورة،
طيب الأخلاق. مات في شعبان سنة 616 " (2) وذكره في الكلام على " جبا "
من معجم البلدان قال: " وجبا أيضا قرية قرب هيت قال أبو عبد الله الدبيثي
منها أبو عبد الله محمد بن أبي العز بن جميل " وأختصر ما ذكره ابن الدبيثي في
تاريخه. وترجم له المنذري في وفيات سنة 616 المذكورة قال: " وفي النصف
من شعبان توفي الشيخ الأجل أبو عبد الله محمد بن أبي العز بن جميل الجبائي
المولد البغدادي الدار، ببغداد ودفن بمقابر قريش، قرأ القرآن الكريم وقرأ
الأدب والفرائض والحساب " إلى أن قال " وتقلب في خدمة الديوان العزيز وهو
منسوب إلى جبا قرية من نواحي هيت وهي بضم الجيم وتشديد الباء الموحدة
وفتحها وألف وهي مقصورة " (3).
وترجم له القفطي في أحد كتبه قال: " محمد بن جميل - وجميل جده - وهو
أشهر من أبيه ولا يعرف إلا به، وأبوه أبو العز بن جميل من أهل جبا قرية
(قرب) هيت. دخل إلى بغداد في أول عمره وقرأ على مشايخها المتأخرين،
وتولى عدة خدم ديوانه في أيام الامام الناصر أحمد بن المستضئ، منها صدرية
المخزن، وصرف دفعات، وكان فيه فضل وأدب وله شعر، وكان يظن بنفسه
الكثير حتى لا يرى أحدا مثله، وقد كان أنشا مقامات ظهر منها قطعة رأيتها في
جملة أجزاء أحضرت من بغداد إلى حلب للبيع وهي بخطه وكان خطا متوسطا
صحيح الوضع، فيه تلتبس نقط ثابتة لا تكاد تتغير، وشعره جيد مشهور
مصنوع لا مطبوع، وكان ظالم النفس فيما يتولاه، وتولى الترك (4) الحشرية في
أول أمره ثم تولى عدالة المخزن (كذا) ثم توصل حتى تولى صاحب مخزن،
وقال يوما لبعض العاملين: خف عذابي فإنه أليم شديد. فقال له الرجل:
فاذن أنت الله لا إله إلا هو. فخجل ولم يمنعه ذلك ولم يردعه عما أراده من
ظلمه وكان ببغداد تاجر يعرف بابن العينبري (5) وكان صديقا له، فلما
حضرته الوفاة سأله الحضور إليه، فلما حضر قال له: أنا طيب النفس بموتي في
زمان ولايتك ليكون جاهك (على) أطفالي وعيالي. فوعده بهم جميلا، فلما
مات حضر إلى تركته وباشرها فرأى فيها... ألف دينار (6) عينا، فأخذها
وحملها إلى الامام الناصر وأصحبها مطالعة منه يقول فيها: مات ابن العنيبر -
ورث الله الشريعة أعمار الخلائق وقد حمل المملوك (يعني نفسه) من المال
الحلال الصالح للمخزن... ألف دينار وهو في عهدة تبعتها (7) دنيا وآخرة
وسأله بعض التجار والغرباء العناية بشخص في إيصال حقه إليه من المخزن
فوعده ومطله وكان ذلك بعد أن تولى صاحب المخزن وكانت جامكيته وهو عدل
خمسة دنانير في الشهر فلما ولي الصدرية قرر له عشرة دنانير، فقال التاجر
الشافع - وكان يدل عليه فدفعت إليه في كل يوم بدانق (8). قال له: كيف؟
قال: لأنك كنت عدلا أقرب منك حالا اليوم. وأشار إلى أنه لما زيد رزقه
ورفعت مرتبته بجبر يصير زيادة (9) وهي سدس درهم وهو الدانق أهمل جانب
الله وباعه بذلك. وما بعد عهده وأخجله الله وصرفه عن ذلك وسجن مدة ثم
بعد ذلك أنعم عليه بأن جعل كاتبا في باب دار الأمير عدة الدين أبي نصر
(محمد) ولي العهد فأقام مدة ومات وهو على ذلك (بعد) ستة شهور سنة
(ست) عشرة وستمائة " (10).
وذكره ابن الفوطي في الملقبين بمجد الدين قال: " مجد الدين أبو عبد الله
محمد بن أبي العز منصور بن جميل الجبي صاحب المخزن، ذكره محب الدين
ابن النجار في تاريخه وقال: " ولد بالجبة من أعمال هيت وقدم بغداد وقرأ بها
الأدب حتى برع في النحو واللغة والحساب، وكان مقبول الشكل. مدح الامام
الناصر ورتب كاتبا في ديوان التركات ثم ولي صدرية المخزن سنة خمس
وستمائة. وكان كاتبا بليغا مليح الخط، غزير الفضل، كتب شعره في كتاب
(نظم الدرر الناصعة) (11) وتوفي في منتصف شعبان سنة ست عشرة وستمائة ".
وذكره أبو شامة وفي ذكره فائدة، قال في وفيات سنة 616 ه‍: " وفيها توفي
ببغداد محمد بن جميل صاحب مخزن الخليفة ومولده بهيت وكان فاضلا بارعا،
وقدم علينا بدمشق ابن ابنته (يعني سبطه) وهو شاب فاضل يلقب فخر الدين
له خط حسن وصورة جميلة ونزل عندنا بالمدرسة العزيزية ثم توجه إلى الحجاز
مع جماعة فضلاء). وجاوروا " (12). وأرخه الذهبي في تاريخه بما هو موجز ما
قيل قبله وقال في إيجازه: " مات كهلا ". (13) ولم يخل الجلال السيوطي بغية
الوعاة (14) من ذكره بما يشبه ما ذكره به ياقوت.
وقال ابن الساعي في حوادث سنة 605: " وفي ليلة الأربعاء سابع ذي
القعدة المذكور عزل عضد الدين أبو الفتوح ابن رئيس الرؤساء عن صدرية
المخزن المعمور وحول من الدار التي كان يسكنها، وولي عوضه مجد الدين أبو



(1) ورد تصحيف هذا الاسم إلى " الغر " مع اختلال النص.
(2) مختصر الجزء السابع من معجم الأدباء " ص 110 " طبعة مرغليوث.
(3) مختصر الجزء السابع من معجم الأدباء " ص 110 " طبعة مرغليوث.
(4) كان القفطي إن صح نقل قوله جمع التركة وهي لغة جائزة في التركة كالشركة والشركة على ترك
تكسيرا مثل برك.
(5) ورد في القصة نفسها بعد ذلك " ابن العينبر " ولم نهتد إلى الاسم الصحيح لأن صاحبه غير مشهور.
(6) كذا ورد في الأصل الذي نقلت منه وهو يدل على فقدان العدد قبل الأنف.
(7) كلمة غير واضحة ولكنها قريبة مما أثبت.
(8) كذا وردت الحكاية مضطربة الأصل لأن النسخ سقيم.
(9) المحمدون من الشعراء " نسخة دار الكتب الوطنية بباريس 3335 و 66، 67 ".
(10) وترجم له كمال الدين بن الشعار الموصلي في كتابه " عقود الجمان في شعراء الزمان ج 6 و 132
نسخة خزانة أسعد أفندي في دار الكتب السليمانية باستانبول ".
(11) ذيل الروضتين " نسخة باريس 5852 و 131 ". وطبعة عزة العطار " ص 120 ".
(12) تاريخ الاسلام " نسخة باريس 1582 و 230 ".
(13) البغية " ص 107 ".
(14) الجامع المختصر " 9: 265، 266 ".
238
عبد الله محمد بن جميل وخلع عليه بالبدرية الشريفة وأنزل بالدار التي كان
يسكنها ابن رئيس الرؤساء بالمسعودة وأعطي جميع ما كان وصل إليه من غلمان
ابن ناصر وآلاته وكرائمه ". ومن إنشاء مجد الدين بن جميل توقيع كتبه
بتفويض التدريس في مدرسة الامام أبي حنيفة إلى ضياء الدين أحمد بن مسعود
التركستاني الفقيه المدرس الحنفي والنظر في أوقات المشهد سنة 604 قال ابن
الساعي: " وكتب توقيع من المخزن المعمور بانشاء مجد الدين بن جميل كاتب
المخزن المعمور يومئذ ومن خطه نقلت وهذه نسخته:
" بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المعروف بفنون المعروف والكرم.
الموصوف بصنوف الاحسان والنعم، المتفرد بالعظمة والكبرياء والقدم، الذي
أختص الدار العزيزة - شيد الله بناها، وأشاد مجدها وعلاها، - بالمحل
الأعظم، والشرف الأقدم، وجمع لها شرف البيت العتيق ذي الحرم، إلى
شرف بيت هاشم الذي هشم، جاعل هذه الأيام الزاهرة الناضرة، والدولة
القاهرة الناصرة، عقدا في جيد مناقبها، وحليا يجول في ترائبها، - أدامها الله
تعالى ما أنحدر لئام الصباح، وبرح خفاء براح - أحمده حمد معترف بتقصيره
عن واجب حمده، مغترف من بحر عجزه مع بذل وسعه وجهده، وأشهد أن لا
إله إلا الله، وحده لا شريك له، وهو الغني عن شهادة عبده، وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله، الذي صدع بأمره، وجاء بالحق من عنده، صلى الله
عليه صلاة تتعدى إلى أدنى ولده، وأبعد حده حتى يصل عبقها إلى أقصى قصية
ونزاره ومعده - وبعد فلما كان الأجل السيد الأوحد العالم ضياء الدين شمس
الاسلام رضي الدولة، عز الشريعة علم الهدى رئيس الفريقين، تاج الملك،
فخر العلماء أحمد بن مسعود التركستاني - أدام الله علوه - ممن أعرق في الدين
منسبه، وتحلى بعلوم الشريعة أدبه، واستوى في الصحة مغيبه ومشهده، وشهد
له بالأمانة لسانه ويده، وكشف الاختبار منه عفة وسدادا، وأبت مقاصده إلا
أناة واقتصادا، رئي الاحسان إليه، والتعويل عليه في التدريس بمشهد أبي
حنيفة - رحمة الله عليه - ومدرسته، وأسند إليه النظر في وقف ذلك أجمع
لاستقبال حادي عشري ذي القعدة سنة أربع وستمائة الهلالية وما بعده
وبعدها، وأمر بتقوى الله - جلت آلاؤه، وتقدست أسماؤه -، التي هي أزكى
قربات الأولياء، وأنمى خدمات النصحاء، وأبهى ما استشعره أرباب
الولايات، وأدل الأدلة على سبل الصالحات، وفاعلها بثبوت القدم خليق،
وبالتقدم جدير، قال الله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم
خبير). وأن يذكر الدرس على أكمل شرائط، وأجمل ضوابط، مواظبا على
ذلك، سالكا فيه أوضح المسالك، مقدما عليه تلاوة القرآن المجيد، على عادة
الختمات في التبكر والغدوات، متبعا ذلك بتمجيد آلاء الله وتعظيمها والصلاة
على نبيه - صلى الله عليه - صلاة يضوع أرج نسيمها، شافعا ذلك بالثناء على
الخلفاء الراشدين - صلوات الله عليهم أجمعين - والاعلان بالدعاء للمواقف
الشريفة المقدسة النبوية الامامية (1) الطاهرة الزكية، المعظمة المكرمة، الممجدة
الناصرة لدين الله تعالى - لا زالت (2) منصورة الكتب والكتائب، منشورة المناقب
مسعودة الكواكب والمواكب مسودة الآهب مبيضة المواهب، ما خطب إلى جموع
الأكابر وعلا فروع المنابر خطيب وخاطب -، وأن يذكر من الأصول فصلا يكون
من سهام الشبه جنة، ولنصر اليقين مظنة، متبعا المذهب ومفرداته، ونكته
ومشكلاته، ما ينتفع به المتوسط والمبتدي، ويتبينه ويستضئ به المنتهي،
وليذكر من المسائل الخلافية ما يكون داعيا إلى وفاق المعاني والعبارات، هاديا
لشوارد الأفكار إلى موارد المنافسات، ناظما عقود التحقيق في سلوك
المحاققات (3)، مصوبا أسنة البديهة إلى ثغر الأناة، معتصما في جميع أمره
بخشية الله وطاعته، مستشعرا ذلك في علنه وسريرته. والمفروض له عن هذه
الخدمة في كل شهر للاستقبال المقدم ذكره من حاصل الوقف المذكور لسنة تسع
وتسعين الخراجية وما يجري معها من هلالية وما بعدها أسوة بما كان
لعبد اللطيف ابن الكيال من الحنطة كيل البيع ثلاثون قفيزا ومن العين
الامامية عشرة دنانير، يتناول ذلك شهرا فشهرا مع الوجوب والاستحقاق،
للاستقبال المقدم ذكره، من حاصل الوقف المعين للسنة المبينة الخراجية وما
بعدها بموجب ما استؤمر فيه من المخزن المعمور - أجله الله تعالى - وإذن فليجر
على عادته المذكورة، وقاعدته ولتكن صلاته وجماعته في جامع القصر الشريف
في الصفة التي لأصحاب أبي حنيفة - رحمة الله عليه - وليصرف حاصل الوقوف
المذكورة في سبلها بمقتضى شرط الواقف المذكور في كتاب الوقفية من غير زيادة
فيها ولا عدول عنها، ولا حذف شئ منها، عالما أنه مسؤول في غده عن يومه
وأمسه، وأن أفعال المرء صحيفة له في رمسه، وليبذل جهده في عمارة الوقوف
واستنمائها واستثمار حاصلها وارتفاعها، مستخيرا من يستخدمه فيها من
الأجلاد الأمناء، ذوي العفة والفناء، متطلعا إلى حركاتهم وسكناتهم، مؤاخذا
لهم على ما لعله يتصل به من فرطاتهم، لتكون الأحوال منسقة النظام والمال
محروسا من الانثلام، وليبتدى بعمارة المشهد والمدرسة المذكورين، وإصلاح
فرشها ومصابيحها، وأخذ القوام بالمواظبة على الخدمة بها وإلزام المتفقهة بملازمة
الدروس وتكرارها، وإتقان المحفوظات وأحكامها، وليثبت ما بخزانة الكتب
من المجلدات وغيرها، معارضا ذلك بفهرسته، متطلبا ما عساه قد شذ منها،
وليأمر خازنها بعد استصلاحه بمراعاتها ونفضها في كل وقت، ومرمة شعثها وأن
لا يخرج شيئا منها إلا إلى ذي أمانة، مستظهرا بالرهن عن ذلك، وليتلق هذه
الموهبة بشكر يرتبطها ويدر أخلافها واجتهاد يضبطها ويؤمن إخلافها، وليعمل
بالمحدود له في هذا المثال، من غير توقف فيه بحال، إن شاء الله تعالى، وكتب
لتسع بقين من ذي القعدة من سنة أربع وستمائة. وحسبنا الله ونعم الوكيل،
وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله الطاهرين الأكرمين وسلم " (4).
وقال العالم الفقيه القاضي الشيخ محمد بن طاهر السماوي: " وجدت في
مجموعة شعر فيه مدائح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللأئمة - (عليهم السلام) - مدائح
ومراث وفيها أن مجد الدين ابن جميل صاحب المخزن للناصر غضب عليه
فحبسه فضاق صدره فمدح أمير المؤمنين - عليه السلام - بقصيدة ذات ليلة في
المحرم (5) وهي:
ألمت وهي حاسرة لثاما * وقد ملأت ذوائبها الظلاما
وأجرت أدمعا كالطل هبت * لها (6) ريح الصبا فجرت تؤاما
وقالت أقصدتك يد الليالي * وكنت لخائف منها عصاما



(1) والصواب أن تكون (ما زالت) ولكن هكذا وردت في النص.
(2) الامامية نسبة إلى الإمام الخليفة الناصر لدين الله.
(3) الصواب " المحاقات " بالادغام وقد فك الادغام من أجل الموازنة اللفظية.
(4) الجمع المختصر " 9: 233 - 237 ".
(5) في الأصل المطبوع في محرم " ولا أحسبه " إلا كان محلى بأل.
(6) في المطبوع " له " والهاء تعود إلى الأدمع وهذا لا يجوز.
239
وأعوزك اليسير وكنت فينا * ثمالا للأرامل واليتامى
فقلت لها كذاك الدهر يجني * فقري وارقبي الشهر الحراما
فإني سوف أدعو الله فيه * وأجعل مدح حيدرة اماما
وأبعثها إليه منقحات * يفوح الشيخ منها والخزامى
تزور فتى كان أبا قبيس * تسنم منكبيه أو شماما
أغر له إذا ذكرت أياد * عطاء وابل يشفي الأواما
وأبلج لو ألم به ابن هند * لأوسعه حياءا وابتساما
ولو رمق السماء وليس فيها * حيا لاستمطرت غيثا ركاما
وتلثم من تراب أبي تراب * ترابا يبرئ الداء العقاما
فتحظى عنده وتئوب عنه * وقد فازت وأدركت المراما
بقصد أخي النبي ومن حباه * بأوصاف يفوق بها الأناما
ومن أعطاه يوم غدير خم * صريح المجد والشرف القدامى
ومن ردت ذكاء له فصلى * أداءا بعد ما كست الظلاما
وآثر بالطعام وقد توالت * ثلاث لم يذق فيها طعاما
بقرص من شعير ليس يرضى * سوى الملح الجريش له إداما
فرد عليه ذاك القرص قرصا * وزاد عليه فوق القرص جاما
أبا حسن وأنت فتى إذا ما * دعاه المستجير حمى وحامى (1)
أزرتك يقظة غر القوافي * فزرني يا ابن فاطمة مناما
وبشرني بأنك لي مجير * وأنك ما نعي عن أن أضاما
وكيف يخاف حادثة الليالي * فتى يعطيه حيدرة ذماما
سقتك سحائب الرضوان سحا * كفيض يديك ينسجم انسجاما
ونام فرأى أمير المؤمنين عليه السلام فتلاها عليه، فقال له: الساعة تخرج
فانتبه فرحا وجعل يجمع رحله. فسأله من كان معه، فقال: الآن أخرج.
فظنوا به الاختلال وتغير العقل، فطرق باب السجن ودعي إلى الناصر،
فخرج وأخبره (2) الرسول أنه وجده متهيئا للخروج فلما مثل بين يديه قال:
أخبرت أنك عند مجئ الرسول إليك كنت متهيئا للخروج. قال: نعم. ومن
أعلمك باطلاقك؟ قال: أمير المؤمنين عليه السلام. وحكى له القصة. فقال
الناصر: صدقت إني رأيت أمير المؤمنين - عليه السلام - في منامي فأمرني باطلاقك في
هذه الساعة وتوعدني إن تركتك للصبح. ثم أعطاه ألف دينار وأعاده في محله
من الديوان ورد إليه ما صادره (3) عليه " قال الشيخ محمد السماوي: " أقول:
ولم أقف على ترجمة مجد الدين هذا ولعلني أقف عليها فيما بعد " (4). قال
مصطفى جواد: ذكرت ترجمته في معجم الأدباء لياقوت الحموي وبغية الوعاة
للسيوطي فمن السهل الوقوف على ترجمته.
ولشرف الدين محمد بن عنين الشاعر الدمشقي المشهور في مدح مجد الدين
ابن جميل:
وقالوا غدت بغداد خلوا وما بها
جميل ولا من يرتجى لجميل
وكيف استجازوا قول ذاك وقد حوت
لنا الفضل شمس الدولة بن جميل
الميرزا محمد هاشم بن محسن الأشكوري (5)
علم من أعلام طبقة المتأخرين من الفلاسفة والعرفاء. والذي حدث بعد
انتقال رائد الفلاسفة والمتكلمين صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي
المعروف بملا صدرا إلى الرفيق الأعلى سنة 1050 ه‍ (1640 م)، أن واصل
الفكر نشاطه في حقل العلوم العقلية، فراجت الفلسفة واتسعت دوائر البحث
في إيران عامة، وفي أصفهان على وجه الخصوص. فكان أن انتقل جماعة من
الفلاسفة ومدرسي الفلسفة إلى العاصمة طهران، في مستهل القرن الثالث عشر
الهجري (التاسع عشر الميلادي) حيث أنشأوا حوزة لتدريس الفلسفة
والتصوف العلمي أو العرفان النظري. وكان من أبرز أساتذة هذه الحوزة: آقا
محمد رضا القمشهي (1241 1306 ه‍) (1819 - 1889 م) وآقا علي
المدرس (1234 - 1307 ه‍) (1819 - 1889 م) والميرزا أبو الحسن جلوة
(1238 - 1316 ه‍) (1823 - 1896 م). والى هذه المدرسة أو الحوزة
الطهرانية ينتمي علميا الميرزا محمد هاشم الأشكوري.
ولد في أشكور، احدى قرى مقاطعة جيلان شمالي إيران بالقرب من بحر
قزوين، حيث درس المراحل التمهيدية. ثم انتقل إلى طهران لدراسة
الفلسفة، فتلقنها من أئمة هذا الفن. وثمة التحق بمجلس آقا محمد رضا
القمشهي ونبغ على يده وصار من ابرز تلامذته. ولم يلبث ان تربع على أريكة
الأستاذ خلفا لأستاذه، في تدريس الفلسفة والتصوف. وظل يلقى دروسه في
مدرسة سبهسالار حتى وافاه الأجل عام (1332 ه‍ 1914 م) ودفن في مقبرة
ابن بابويه في ضواحي طهران.
وقد تخرج على يد الأشكوري تلامذة أصبحوا بدورهم أساتذة حاملين لواء
الفلسفة من بعده سدنة أمناء على التراث الفكري الاسلامي، من أشهرهم،
ميرزا محمد علي الشاه آبادي الإصفهاني، وآقا سيد حسين البادكوبه ئي،
وميرزا مهدي الآشتياني، والشيخ محمد حسين فاضل التوني، والسيد كاظم
العطار، وميرزا احمد الآشتياني والسيد أبو الحسن رفيعي القزويني.
وللأشكوري حواش وشروح على بعض النصوص الفلسفية كما أنه حرر
عدة رسائل في مجالات الفلسفة والتصوف. طبع منها حتى الآن:
1 - حاشية على مفتاح مفاتيح النصوص لصدر الدين القونيوي. طبعت
طبعة حجرية في طهران عام 1316 ه‍ (1898 م) كما طبعت أيضا ضمن عدة
رسائل فلسفية وصوفية أخرى من جملتها: تمهيد القواعد لابن تركه (6) وحاشية
محمد رضا القمشهي عليها ورسالة وحدة الوجود لأبي الحسن جلوة.
2 - حاشية على مصباح الأنس (7) طبعت على هامش المصباح طبعة حجرية
في طهران عام 1323 ه‍ (1905 م).
وله رسالة المراتب الخمس التي عثرنا عليا والتي كتبها أو استكتبها لنفسه
تلميذه الشيخ محمد حسين الشهير بفاضل التوني (8). وهي رسالة رائقة الصفو
شريفة في موضوعها قيمة في بابها. والظاهر أن الأشكوري أراد بأستاذية
مستنيرة ان يزيد مسالة الوحدة الحقيقة وضوحا بإزالة ما قد يتوهم من اللبس
بين الأحدية والواحدية في بعض الأذهان. وذلك بالقاء الضوء على المراتب
الوجودية من حيث عددها الذي حدده بخمس مراتب ومن حيث جمعها



(1) كذا ورد ولعله " وحاما " وهو حام يحوم حوما " ومعناه معروف.
(2) أي أخبر الخليفة.
(3) في الأصل " ما صادره منه " وهو خطأ لأن الانسان هو المصادر - لمال مصادر عليه.
(4) ظرافة الأحلام في النظام المتلو في المنام لأهل البيت الحرام " ص 42 - 43 "، طبعة المطبوعة الحيدرية
بالنجف الأشرف سنة 1360.
(5) بقلم الدكتور صلاح الصاوي.
(6) صائن الدين علي بن محمد التركة الإصفهاني المتوفي 836.
(7) مصباح الأنس بين المعقول والمشهود لابن القناري محمد بن حمزة المتوفي سنة 834 قاضي قضاة
استانبول وهو شرح لكتاب مفتاح غيب الجمع والوجود لصدر الدين القونيوي.
(8) كان الشيخ محمد حسين فاضل التوني (1288 - 1380 / 1871 - 1961 من أكابر أستاذة الفلسفة
في طهران وقد التحق بجامعة طهران بعد انشائها فكان يدرس الفلسفة في كلية الآداب. وقد ترك
عدة تأليف في الفلسفة.
240
وتفصيلها، كما عمد لنفس الغرض إلى بيان ما اختلف من الاصطلاحات
المطلقة على المصداق الواحد، مما يؤدي إلى معاناة فكرية قد ينجم عنها
اضطراب في الذهن إذ الواقع أن كل مرتبة تخطى من الأسماء بمقدار ما لها من
الاعتبارات والجهات. ومع أن أقواله جاءت كافية في الاستدلال بذاتها غنية
عن الاستشهاد بغيرها، الا أنه عمد إلى تعزيز أقواله بأقوال أكابر المحققين
الاعلام بله الآيات القرآنية والمأثورات النبوية ومن ثم أضاف إلى الرسالة أبعادا
أخرى من التمكين والإفادة.
ومهما يكن، فالحضرات خمسا كانت أو أكثر أو أقل، والآراء في صددها
معروفة لدى أهل الفضل، ولا نرى داعيا لفضول الإشارة إليها، وحتى لا
نفسد على القارئ لذة استكشاف الحقائق بنفسه بتكرارنا لها. الا أن الذي
ينبغي الا يفوتنا هو أن نشير إلى أن الرسالة لم تستوعب الحضرات أو المراتب
كلها، الأمر الذي يعدنا به عنوان الرسالة.
والذي حدث أن المؤلف استوفى الكلام في مراتب الغيب ولم يتعرض
لمراتب الشهادة. فتكلم عن غيب الهوية ومقام اللاتعين، ثم اقتضاء الاسم
" الظاهر " للتعين الأول في صورة الوحدة البرزخية الجامعة بين البطون والظهور
بالتساوي، وفيما لهذه الوحدة الحقيقة من اعتبارين: أولهما الاطلاق بدون
شرط، وسقوط الاعتبارات، حيث تسمى الذات " أحدا ". ومتعلق هذه
الأحدية بطون الذات واطلاقها وأزليتها وهنا موطن الألوهية، والآخر ثبوت
الاعتبارات غير المتناهية وتقيدها بالاطلاق، حيث تسمى الذات واحدا
بهذا الاعتبار ومتعلق الواحدية ظهور الذات ووجودها وأبديتها. وهذا الاعتبار
الثاني هو التعين الثاني أو المرتبة الثانية للوجود حيث تظهر الأشياء بصفة تميز
علمي في الذات، ولهذا سميت هذه المرتبة أو الحضرة بعالم المعاني، وحضرة
الارتسام، وحضرة العلم الأزلي ومرتبة الامكان. وهي كما عبر الأشكوري
أول مراتب الظهور بالنسبة إلى الغيب الذاتي. وهنا موطن الربوبية، وهنا
موطن الأعيان الثابتة. اما بالنسبة للمراتب أو الحضرات الأخرى من مرتبة
الأرواح التي تعرف أيضا بعالم الأمر وبالعالم العلوي وبعالم الملكوت، وما ليس له
منها تعلق بعالم الأجسام من المهيمين وحجاب سرادق العزة ووسائط فيض
الربوبية وما إلى ذلك، وما له منها تعلق بالأجسام وهي الروحانيات من أهل
الملكوت الاعلى المتصرفين في السماويات، وأهل الملكوت الأسفل المتصرفين في
الأرضيات، واما حضرة المثال، هذه الحضرة الوسطية بين عالم الأرواح وعالم
الأجسام، التي يطلق عليها الشرع اسم البرزخ لكونها فاصلا بين الجسم المادي
المركب والجوهر العقلي المجرد، هذا البرزخ بقسميه، البرزخ الاعلى أو الغيب
الامكاني، لإمكان ظهوره والبرزخ الأسفل أو الغيب المحالي، المحال ظهوره أو
عودته، واما مرتبة الأجسام علوياتها وسفلياتها، وأخيرا، اما مرتبة المظهر
الكلي أو حضرة الكون الجامع للأمر الإلهي، الانسان الكامل الجامع بين
مظهرية الذات المطلقة وبين مظهرية الأسماء والصفات والافعال بما في نشأته
الكلية من الجمعية والاعتدال وبما في مظهريته من السعة والكمال، الجامع أيضا
بين الحقائق الوجوبية ونسب الأسماء الإلهية وبين الحقائق الامكانية والصفات
الخلقية، فهو جامع بين مرتبتي الجمع والتفصيل محيط بجميع ما في سلسلة
الوجود: أما هذه الحضرات، فلم يتعرض لها الأشكوري في رسالته.
والذي حدث انه عندما تعرض بالحديث إلى علم الحق، وانه علمان
علم علمه ملائكته ورسله وعلم استأثر به لنفسه لا يطلع عليه أحد سواه، وان
الإحاطة بجميع ما انطوت عليه الذات من الأمور الكائنة في غيب كنهها
مستحيلة. وما قيل من: انه ربما يكون في الحضرة العلمية الأزلية أمور باطنة
كلية أو جزئية لم تتعين بعد لا في المرتبة الثانية والحضرة العلمية والقلمية ولا في
اللوح المحفوظ، تطرق الكلام به إلى مسالة " البداء " وبيان حقيقته
والواقع ان ما تطرق إليه لم يكن بأقل أهمية أو لزوما مما ترك. ولعل المقام كان
يقتضي ذلك، فخير الكلام ما جاء في مناسبته.
محمد بن هاني الأندلسي
مرت ترجمته في الجزء العاشر الصفحة 85 ونزيد عليها هنا ما يأتي:
إذا كان المدح قد فرض على الشعر العربي فأصبح الشاعر ولا حيلة له إلا
صوع المدائح ليستطيع العيش فقد كانت حظوظ الشعراء في هذا السبيل
مختلفة، مختلفة لأن شاعرا قد يوفق لممدوح لا يخجله مدحه لبطولة فيه أو سجايا
حميدة، ومما لا يبدو معه الشاعر بادي الكذب ظاهر الدجل واضح
الاستجداء...
كما قد لا يوفق شاعر آخر لمثل هذا الممدوح، وقد يكون في مجموعه أولى
بالذم والتجريح منه بالثناء والمديح. ومع ذلك فالشاعر مسوق إلى مدحه مدفوع
إلى الإشادة به لأن الرزق في يديه، والمال رهن كلمته.
على أن حظ الشاعر الواحد قد يختلف بين ممدوح وآخر، فحط المتنبي وهو
عند سيف الدولة غير حظه وهو عند كافور. وإذا كانت قصد المتنبي في سيف
الدولة هي في أصلها مدحا، فإنها أيضا اعجاب ببطولة الرجل العربي الصامد
في وجه الغزو الأجنبي، المكافح عن الحمى الوطني. ومعارك التي شهدها
المتنبي مع سيف الدولة جديرة بأن توحي إليه بمثل ما أوحت حتى ولو لم يكن
المتنبي يقصد المدح أو لو لم يكن الكسب من غاياته.
والأمر مع المتنبي يجري على هذا القياس حتى وهو يمدح غير كافور ممن لم
يكن يزري مدحهم في ذلك العصر مثلما كان يزري مدح كافور. فالمتنبي وهو
يمدح عضد الدولة كان في موقف غير موقفه وهو يمدح سيف الدولة وإذا كان
عضد الدولة من الملوك الذين لا مغمز فيهم، وله من المآتي ما يصح معه أن
يكون ممدحا. فهو على كل حال ليس في وضع يشبه وضع سيف الدولة وهو لم
يكن الجندي المقاتل للعدو الخارجي، ولا وضعته الأحداث في لهوات الحرب
الوطنية فما يمكن أن يوحي به لشاعر كالمتنبي يستطيع أي أمير أن يوحي بمثله.
ومن هنا تراجعت قصائد المتنبي في مدح عضد الدولة عن قصائده في مدح
سيف الدولة وقد كان هذا التراجع واضحا لكل ذي حس شعري، واعترف به
المتنبي نفسه.
والواقع أن ما كان يهز المتنبي وهو يشهد معركة الحدث مثلا مع سيف
الدولة فينطقه بهذا القول:
هل الحدث الحمراء تعرف لونها * وتعرف أي الساقيين الغمائم
سقتها الغمام الغر قبل نزوله * فلما دنا منها سقتها الجماجم
بناها فاعلى والقنا يقرع القنا * وجيش المنايا حوله متلاطم
وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة * ووجهك وضاح وثغرك باسم
ومن طلب الفتح الجليل فأنما * مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم
لم يكن عند عضد الدولة مثله ليهتز له المتنبي، وبالعكس من ذلك،
عندما مست قلب المتنبي عاطفة جياشة فرأى جمال الطبيعة في شعب بوان، ثم
لم يسمع في تلك المغاني لسانه العربي، عاد متأثرا لما يرى ويسمع، ففاض

241
الشعر من حنايا نفسه فأبدع ما أبدع.
ومن الشعراء الذين وفقوا لممدوح جدير بمدحهم الشاعر محمد بن هاني
الأندلسي شاعر المعز لدين الله الفاطمي الذي اطلق عليه معاصروه لقب
(متنبي المغرب).
وربما كان ما يجعل ابن هاني جديرا بهذا اللقب هو أن مواضيع مدح ابن
هاني للمعز، هي عين مواضيع مدح المتنبي لسيف الدولة. فقد كانت ظروف
كلا الممدوحين متشابهة، وكان كلاهما مندفعا لمقاومة الخطر الخارجي المهدد
للبلاد الاسلامية يومذاك بل أن مسؤولية المعز كانت أكبر، فهو مسؤول عن
جبهة طويلة ممتدة على مدى شواطئ إفريقيا الشمالية كلها، ثم هو مسؤول عن
الجزر الاسلامية المهددة وفي طليعتها جزيرة صقلية.
ولم يكن الوضع الإسلامي والوضع العربي يومذاك مما يقوى العزائم
ويشحذ الهمم، بل كان شمل العرب والمسلمين ممزقا واختلافاتهم مشتدة، لا
الهدف يجمعهم ولا الخطر يوحدهم.
وكان الأجنبي الطامع يعرف ذلك كله، وكانت نار الانتقام متأججة في
نفوس البيزنطيين (الروم) الذين لم ينسهم تطاول الأيام ذكريات هزائمهم
الماضية، وجلائهم عن بلاد الشام وغيرها، وكانوا يحنون للعودة إليها من
جديد. بل أن نقفور فوقاس الثاني كان يهدد بالاستيلاء حتى على المدينة ومكة
واستطاع تحقيق الكثير من أمانيه وفي ذلك يقول ابن هاني:
أسفي على الأحرار قل حفاظهم * لو كان يجدي الحر أن يتاسفا
يا ويلكم أفما لكم من صارخ * الا بثغر ضاع أو دين عفا
حتى لقد رجفت ديار ربيعة * وتزلزلت أرض العراق تخوفا
فمدينة من بعد أخرى تستبى * وطريقة من بعد أخرى تقتفى
والشام قد أودى وأودى أهله * إلا قليلا والحجاز على شفا
هذه صرخة وطني مناضل يرى بلاده تتساقط أمام ضربات الأعداء، ويرى
قومه متخاذلين، هذه صرخة وطني مناضل أكثر منها نغمة شاعر مداح.
والواقع أن المعز لدين الله الفاطمي كان في ذلك العهد أمل العرب
والمسلمين وكانوا يتطلعون إليه من كل مكان، حتى من الأرض البعيدة عنه غير
الخاضعة لسلطانه. فعند ما شعرت مثلا جزيرة (كريت) بالخطر الداهم،
ولاحت لها طلائع الغزو مطلة من بعيد كان همها أن توصل نداءها إلى الرجل
المأمول، ويحدثنا الدكتور حسن إبراهيم حسن وهو يتحدث عن كتاب
(المجالس والمسايرات) للنعمان فيقول: " وعرض النعمان غير مرة لعلاقة المعز
بالدولة البيزنطية فأوضح اعتماد حاكم الأندلس عبد الرحمن الناصر الأموي على
الروم في صراعه مع الفاطميين، وصور ما حل بالروم وحلفائهم أمام أساطيل
المعز تصويرا رائعا، وذكر الرسائل التي بعث بها أباطرة الدولة البيزنطية
لاستدرار عطف المعز ومهادنته. ولأول مرة نسمع أن مسلمي جزيرة قريطش
(كريت) الذي كانوا تحت الحكم العباسي يطلبون النجدة من المعز لحرب
الروم. ومن دراستنا للوثائق التي تبولدت بين أهل قريطش وبين المعز لدين الله
نرى ما وصلت إليه الدولة الفاطمية من وقوة ونفوذ ".
وابن هاني يدرك ذلك ويدرك أن ممدوحه أهل لما علق عليه من آمال
فيقول.
لا تيأسوا فالله منجز وعده * قد آن للظلماء أن تتكشفا
لقد كان المعز جديرا بالظرف الحرج الذي وضعته فيه الأيام، فلم يدع
الوقت يذهب عبثا وأدرك للوهلة الأولى أنه امام خطر بري وآخر بحري قد
يكون هو الأشد. لذلك صرف جهده أول ما صرفه إلى انشاء أسطول ضخم
يتناسب مع المهمة الثقيلة التي تنتظره وهي حماية الشواطئ الإفريقية الشمالية من
أي غزو متوقع، وبذل لهذا الأسطول أقصى ما يستطيع بذله حتى أصبح أسطوله
سيد البحر المتوسط، وحتى صار مهددا للأعداء بعد أن كان الأعداء مهددين،
وحتى صاروا يخشونه بعد أن كانت البلاد تخشاهم.
وقد كان هذا الأسطول أعظم ما يمكن أن يصل إليه أسطول في ذلك العصر
مجهزا بأحدث الآلات الحربية والأدوات النارية. فأثار هذا الأسطول حماسة
الشاعر ورأى فيه المخرج من الأخطار والحماية من النوازل، وهاج فيه اعتزازه
وحميته، فانطقه ذلك بقصيدة هي بحق من فرائد الشعر العربي:
لك البر والبحر العظيم عبابه * فسيان أغمار تخاض وبيد
وما راع ملك الروم الا اطلاعها تنشر أعلام لها وبنود
عليها غمام مكفهر صبيره * له بارقات جمة ورعود
مواخر في طامي العباب كأنه * لعزمك باس أو لكفك جود
أنافت بها أعلامها وسمالها * بناء على غير العراء مشيد
من الراسيات الشم لولا انتقالها * فمنها قنان شمخ وريود
من الطير إلا أنهن جوارح * فليس لها إلا النفوس مصيد
من القادحات النار تضرم للصلى * فليس لها يوم اللقاء خمود
إذا زفرت غيظا ترامت بمارج * كما شب من نار الجحيم وقود
فأنفاسهن الحاميات صواعق وأفواههن الزافرات حديد
لها شعل فوق الغمار كأنها دماء تلقتها ملاحف سود
تعانق موج البحر حتى كأنه * سليط لها فيه الذبال عتيد
ثم يصف وصول وفود الروم متذللة تطلب الصلح مخاطبا المعز مشيرا إلى ما
كان من تغلغل الروم قبل ذلك في بلاد الشام:
فلا غرو أن أعززت دين محمد * فأنت له دون الأنام عقيد
غضبت له أن ثل في الشام عرشه * وعادك من ذكر العواصم عيد
وقلت أناس ذا (الدمستق) شكره * إذا جاءه بالعفو منك بريد
تناجيك عنه الكتب وهي ضراعة * ويأتيك عنه القول وهو سجود
إذا أنكرت فيها التراجم لفظه * فأدمعه بين السطور شهود
ليالي تقفو الرسل رسل خواضع * ويأتيك من بعد الوفود وفود
ويمضي الأسطول العربي في أداء رسالته، وتجوب قطعه البحر المتوسط
متحدية كل من تحدثه نفسه بالشر، وتعلن سفنه بنفسها عن نفسها، ثم تلتقي
على غير موعد بسفن الأعداء فلا تلبث أن تصطدم بها، ويتهاوى الفريقان في
نار الوغى ويتجالدون أعنف جلاد، تحفز الروم ثارات متأصلة وأوتار دفينة...
وتحفز العرب اخطار منتظرة وشرور مرتقبة ويتطلع العرب بقلوبهم إلى الوطن
العربي العزيز ويتخيلون ما ذا سيحل بتلك الأرض الطيبة، إذا هم تزحزحوا
عن موقفهم أو تزلزلوا في حربهم فيندفعون مكبرين وينطلقون مهللين فتنجلي
المعركة عن نصرهم البحري الحاسم في معركة المجاز. ويكون الشاعر معهم

242
بكل شعوره وكل جوارحه، متلهفا لمعرفة الخبر الأخير ولما يبلغ اذنيه نبأ الفوز
ينطلق مزهوا متغنيا بالبطولات:
يوم عريض بالفخار طويل * لا تنقضي غرر له وحجول
مسحت ثغور الشام أدمعها به * ولقد تبل التراب وهي همول
قل للدمستق مورد الجمع الذي * ما أصدرته له قنا ونصول
سل رهط (منويل) وأنت غررته * في أي معركة ثوى منويل
منع الجنود من القفول رواجعا * تبا له بالمنديات قفول
وبعثت بالأسطول يحمل عدة * فأثابنا بالعدة الأسطول
أدى إلينا ما جمعت موفرا * ثم انثنى بأليم وهو جفول
ومضى يخف على الجنائب حمله * ولقد يرى بالجيش وهو ثقيل
لم يتركوا فيها بجعجاع الردى * إلا النجيع على النجيع يسيل
نحرت بها العرب الأعاجم أنها * رمح أمق ولهذم مصقول
ثم ينثني إلى مدبر ذلك كله وقائد النصر ومعد الأسطول ومهيئ الجيش،
إلى المعز:
لا تعدمنك أمة أغنيتها * وهديتها تجلو العمى وتنيل
وتتكرر معارك الأسطول العربي وتتكرر انتصاراته فيحرص الشاعر على
الإشادة بالأسطول:
وسفن إذا ما خاضت اليم زاخرا * جلت عن بياض الصبح وهي غرابيب
تشب لها حمراء قان أوارها * سبوح لها ذيل على الماء مسحوب
وتلتقي جيوش الروم وأساطيلهم بجيوش الفاطميين البرية وأساطيلهم
أكثر من مرة وتقع المعارك البرية والبحرية في أوقات متقاربة وينتصر الفاطميون
وتحمى بانتصاراتهم ديار الإسلام والعروبة فيقول ابن هاني مشيرا إلى أن الروم
كانوا قبل اليوم سادة البحر المتوسط، تجول فيه أساطيلهم وتصول بلا رقيب ولا
منافس، وإلى أن جيوشهم البرية كانت كذلك:
لو كان للروم علم بالذي لقيت * ما هنئت أم بطريق بمولود
القى " الدمستق " بالاعلام حين رأى * ما أنزل الله من نصر وتأييد
فقال له حال من دون الخليج قنا * سمر وأذرع ابطال مناجيد
ثم يخاطب المعز:
ذموا قناك وقد ثارت أسنتها * فما تركن وريدا غير مورود
حميته البر والبحر الفضاء معا * فما يمر باب غير مسدود
قد كانت الروم محذورا كتائبها * تدني البلاد على شحط وتبعيد
وشاغبوا إليم ألفي حجة كملا * وهم فوارس قارياته السود
فاليوم قد طمست فيه مسالكهم * من كل لاحب نهج الفلك مقصود
هيهات راعهم في كل معترك * ملك الملوك وصنديد الصناديد
ابن هاني إشبيلي المولد أندلسي النشأة فقد ولد سنة 320 أو 326 في قرية
سكون من قرى مدينة إشبيلية وكان صديقا لوالي إشبيلية مقربا إليه. وكان
الحكام في الأندلس لا يحبون الدولة الجديدة التي أخذت تشب ويقوى ساعدها
في إفريقيا فأخذوا يعملون على زعزعتها. ولم يتورعوا عن التحالف مع الأجنبي
للقضاء عليها (1).
وكان هوى ابن هاني مع الفاطميين وقلبه متجها إليهم، وكان كغيره يرى
في شباب دولتهم ما يمكن أن يعيد الشباب إلى الوطن العربي. ويبدو أنه كان لا
يتورع عن الجهر بارائه والدعوة إليها، مما لم يكن يخفى على الحاكمين، فدبروا
له تهمة الأخذ بالفلسفة، وهي تهمة كانت هناك في ذلك الوقت كافية
لاستحلال الدماء. ويبدو أن صديقه الوالي الإشبيلي قد أحس بما يدبر للشاعر
في الخفاء فنصحه بترك إشبيلية فاخذ الشاعر بالنصيحة واتجه إلى العدوة الإفريقية
حيث اتصل في المسيلة بجعفر بن علي بن حمدون المعروف بابن الأندلسية والي
المسيلة (2) فلم يجد جعفر هدية يقدمها لخليفته أثمن من هذا الشاعر، فأوفده
إليه. وكان المعز في أمس الحاجة لمثل ابن هاني ليكون لسانه الناطق في تطور
دولته وتقدمها، وليكون وسيلته الاعلامية، وإذاعته القوية، فاحتفى به وقربه
إليه وظل ابن هاني يسجل انتصارات المعز ويعدد وقائعه إلى أن خطا المعز خطوته
الحاسمة فأرسل قائده جوهرا لضم مصر إلى خلافته ودخل جوهر الإسكندرية
متقدما إلى العاصمة فأذاع ابن هاني النبأ بهذا الشكل:
يقول بنو العباس هل فتحت مصر؟ * فقل لبني العباس قد قضى الأمر
وقد جاوز الإسكندرية جوهر * تسير به البشرى ويقدمه النصر
ويتهيأ المعز للذهاب إلى مصر وانشاء عاصمته الجديدة (القاهرة) ثم يمضي
إليها على أن يلحقه شاعره ليكون هناك كما كان هنا المذيع البليغ. وكان حكام
الأندلس متابعين لخطر الشاعر عالمين بما فعله شعره للدولة المتقدمة وما يمكن أن
يفعله بعد أن تطورت من حال إلى حال. ورأوا في قلمه خطرا لا يقل مضاء عن
السيف فقرروا حرمان الدولة الحديثة منه فأرسلوا إليه من اغتاله وهو في الطريق
إلى مصر عند برقة سنة 362 وهكذا انتهى هذا الشاعر الفريد نهاية اليمة غير
متجاوز مراحل الشباب. ولا شك أنه لو قدر له الوصول إلى مصر لترك في
احداثها وحياتها وطبيعتها الشئ الكثير الثمين.
محمد يوسف مقلد
ولد في تبنين (جبل عامل) سنة 1913 م وتوفي ببيروت سنة 1965 م.
نشأ فقيرا فهاجر سنة 1937 م إلى السنغال في إفريقيا الغربية مع قوافل
المهاجرين إليها سعيا وراء الثروة، ولكنه عاد منها بعد سنين كما ذهب.
وهو في هذه الأبيات يصف ارتحاله بعد أن باع أبوه كرم التين ليؤمن له
نفقات السفر:



(1) يقول الدكتور حسن إبراهيم حسن عن كتاب المجالس والمسايرات المخطوط: (...
فأوضح اعتماد حاكم الأندلس عبد الرحمان الناصر الأموي على الروم في صراعه مع
الفاطميين...)
(2) المسيلة: قاعدة المغرب الأوسط، أو ما كان يسمى ببلاد الزاب ويطلق عليه الان اسم
(الجزائر). وهذه المدينة هي إحدى المدن التي أنشأتها الدولة الفاطمية في أول قيامها،
اختطها ولي عهد هذه الدولة محمد بن عبد الله المهدي. وكان أبوه قد وجهه إلى إقليم
الزاب ليقربه سلطانه ويقمع بعض الفتن الناشبة فيه حتى إذا فرغ من شأنه وتم له ما
أراد، اختط هذه المدينة لتكون قاعدة هذا الإقليم بدلا من مدينة طبنة، وعهد إلي
علي بن حمدون (والد جعفر) الأندلسي ببنائها، ثم اطلق عليها اسم (المحمدية) نسبة
إلى ولي العهد، إلى جانب اسم المسيلة، ذلك الاسم الذي يرجع - فيما نحسب -
إلى أصل قديم. ولم تلبث هذه المدينة أن نمت وازدهرت وخاصة في عهد أميرها جعفر بن
علي بن حمدون، وقد آلت إليه امارتها بعد أبيه الذي تولى - كما مر - بناءها، وكان معتزا
بها فجعلها مناط همته ووجه إليها طموحه كله حتى استطاع أن يجعل منها مركزا من أول
المراكز الأدبية في المغرب العربي تحفيا بالأدب وتشجيعا للأدباء ورعاية لهم واستشارة
لمواهبهم. وفيها برزت شاعرية ابن هاني.
243
ركبت مع صحبي متون البحار * من بعد ما صلى أبي (واستخار)
نزحت عن داري غيرها * وبعت (كرم التين) داني الثمار
فيا خيام التين هل رجعة * إليك يوما بعد شط المزار
حيث الصبايا من بعيد المدى * يحملن للظمآن فيك الجرار
يا خيمة (المسطاح) في التين * سلام من وراء البحار
وبعد عودته من المهجر تعاطى بعض الأعمال الصحفية في بيروت ودمشق.
ونشر بعض الدراسات.
كان أهمها سلسلة مقالات عن ابنة بلدته الأديبة زينب فواز وسلسلة
مقالات أخرى عن عرب (موريتانيا) وأدبهم وشعرهم بعد أن غرفهم عن كثب
أيام اقامته في السنغال.
وقد أصدر ديوانا شعريا باسم (الانسام) قال عنه الناقد مارون عبود:
" أقول لصاحب ديوان الأنسام ان اسم ديوان الأنسام يلائم المسمى، أما
العنوان الصغير (شعر مهجري) فلا يصح إلا من حيث الحنين إلى الوطن فما
رأيت حنينا صادرا من أعمق الأعماق كحنين مقلد، ولعل الشاعر قاصا أروع
منه شاعرا فقد رأيته أجمل ما يكون حين يقص ".
من شعره
قال يصف رقصة " الدبكة " العاملية:
" مجوز " ينشد الحنان إلى النفس * و " شبابة " تهز المشاعر
حلقات تدور محورها " الدقاق " * كدور الرحى وفن ساحر
وحماس يهيب في أنفس الحشد * ويذكي الغرام في كل ثائر
بين جذب إلى الوراء ودفع * شائق تبلغ القلوب الحناجر
بشر القرية الوديعة بالعرس * فان الأعراس خير البشائر
وافرش الدرب للصبايا ورودا * فالصبايا روح الشباب الناضر
ونسيم الصبا وعرف الخزامى * هن والشعر في ضمير الشاعر
كم تراهن آيبات عن (العين) * كسرب من الحمام الطائر
سابلات الشعور مثل الأفاعي * عاقدات على الجرار الخناصر
تلك في صدرها ترجرج نهدين * وذي خلفها تدلي الضفائر
عمر " الدبكة " الرشيقة وانظر * فالحواشي لكل غاو " شاطر "
لهي الأنس مذ تنادوا إليها * لم يحل للرقاد طرف ساهر
وقال وهو في مهجره يحن إلى بلاده:
يا نسمة الصبح أطوي البعد وانطلقي * إلى بلادي وطوفي في روابيها
خفي إليها بتهيامي مبكرة * قبل الشروق وحيي سفح واديها
هيا فهذا جناحي يستحر جوى * طيري به ثم رفي في مغانيها
طيري فعندي لها في كل جارحة * حب يصورها شعرا ويحليها
ويستعيد إلى ذهني مباهجها * حلما لذيذا كاني في لياليها
فان توغلت في جناتها فهبي * روحي إذا أبت عطرا من أقاحيها
وإن عطفت على أنغام أنهرها * فأسمعيني نشيدا من شواطيها
وان نزلت خيام التين فاصطحبي * قلبي الذي قد عصاني باقيا فيها
وقال بعد تغربه في السنغال:
ابعد البين هل لي أن اؤوبا * وانظر فيك يا وطني الحبيبا
بلادي جنة الدنيا واني * أحب لأجلها الريح (الجنوبا)
الأهل نسمة منها لقلبي * تكون إذا دعا الداعي طبيبا
لئن كنا هجرناها فأنا * تركنا في مرابعها القلوبا
تركنا النهر يجري سلسبيلا * تركنا الروض والغصن الرطيبا
تركنا غيضة الوادي تركنا * ربيعا في روابيها خصيبا
وعينا مثل عين الديك صفوا * تعانق جدولا جذلا طروبا
تصف على حوافيها الصبايا * جرارا ما شكت يوما نضوبا
وقال يصف حياته في السنغال:
أتهديني على الرأي الوجيه * لأنجو فيه من سود الوجوه
رأيت العيش في (السنغال) ضربا * من الكدح الذي لا خير فيه
إذا سلمت حياتك من بلاء * فلست بسالم مما يليه
يسبك لست تمتلك اعتراضا * ترد به على القذف السفيه
يؤم كمن يريد شراء شئ * وما هو في الحقيقة مشتريه
ولكن نية ظهرت وأخفت * وراء القصد أمرا يبتغيه
وهبك شكوت أمرك للفرنسي * لينصف، يزدريك ويزدريه
أيا وطن العبيد! فقدت فيك الهنا * والأنس والهزل البديهي
نأى عن أرضك اللطفاء طرا * كأنك عندهم صحراء تيه
ألا نفي يعجل في رحيلي * ويرجع بالغريب إلى ذويه
فلي وطن وإن هو لم يصني * بروحي لو دعاني أفتديه
وقال عندما ركب الباخرة من بيروت متجهة به إلى مهجره سنة 1937:
تشق عباب اليم واليم زاخر * وتدفع عنها الموج والموج لاطم
هموم بقلبي هون الله جمة * أبيت أعانيها وثغري باسم
فما راعني يوم النوى غير موقف على (البور) إذ كانت تلوح (المحارم)
ولو قدر لسلسلة مقالاته عن موريتانيا وعن زينب فواز أن تجمع في كتابين
مستقلين لكانا من الكتب الجيدة.
على أنه أساء في أواخر حياته لأدبه ولنفسه بان سخرها لبعض تافهي
السياسة.
أبو منصور محمد بن المبارك الكرخي
قال الشيخ محمد رضا الشبيبي في الجزء الثاني من كتابه (ابن الفوطي):
جرت العادة من قديم الزمان أن تقرأ قصة مقتل الإمام الشهيد أبي عبد الله
الحسين يوم عاشوراء في جملة من محافل بغداد وغير بغداد من حواضر العراق،
وذلك في أواخر عصور بني العباس أو قبل ذلك قليلا، وعرفت وشاعت قراءة
هذه القصة في دمشق إذ كان خطباء الدماشقة يقراونها في جمعة المحرم وينعون
الإمام الشهيد على منابر الشام، والدليل على ذلك أن ابن تيمية أنكره على
خطباء جوامع الشام في كتابه (منهاج السنة)، وعرفت قراءة المقتل في القاهرة منذ
عصور الفاطميين، وفي العراق بعد غلبة البويهيين، كانوا يقرأونها في المحافل
والمشاهد وفي المنازل على ما هي عليه الآن.
لم تخل العصور المذكورة من طبقة (المنشدين) و (القراء) و (الذاكرين) وهم
قوم انقطعوا لهذا العمل أي للقراءة والإنشاد في مواسم معينة من السنة
وخصوصا المحرم، والأمثلة غير قليلة في تاريخ المائتين السادسة والسابعة على
ذلك، وقد ورد ذكر بعض هؤلاء القراء والمنشدين في تاريخ ابن الساعي. ومنهم

244
أبو منصور محمد بن المبارك الكرخي المنشد. ذكره في وفيات سنة 598
ووصفه بما يأتي:
" حافظ للقرآن المجيد قرأه بالقرءات، جيد الأداء، طيب الصوت شجيه،
كان يتشيع وينشد في المواسم والمشاهد المقدسة، ويعظ في الأعزية " (1).
فهذا مثال حسن لهذه الطبقة من القراء المنشدين في المواسم والمشاهد أو
الواعظين في الأعزية، كما نراه في عصرنا هذا.
الدكتور محمد مهدي البصير
ولد في الحلة سنة 1313.
فقد بصره صغيرا ومن هذا استمد لقبه (البصير). تلقى علومه الأولى في
الحلة وقرض الشعر وهو ابن أربع عشرة سنة، وتولى منذ نشأته الخطابة الحسينية
في الحلة ثم في بغداد، ثم ظهر على مسرح الحياة العامة سنة 1920 م بإلقاء
عشرات الخطب والقصائد في بغداد حثا على القيام بالحركة الوطنية، وقد سجن
ونفي في سبيل مبادئه السياسية مرارا عديدة.
عين محاضرا في الأدب العربي بجامعة آل البيت سنة 1925. وفي سنة
1930 أوفد إلى مصر للقيام بتتبعات علمية وأدبية واجتماعية. وفي سنة 1931
سافر إلى فرنسا فمكث فيها ستة أعوام نال في نهايتها شهادة الدكتوراه في الأدب
الفرنسي. وفي سنة 1938 عاد إلى بغداد فعين أستاذا للأدب العربي بدار
المعلمين العالية حتى أحيل إلى التقاعد.
مؤلفاته:
تاريخ القضية العراقية في جزئين. بعث الشعر الجاهلي. الموشح في
الأندلس وفي المشرق. البركان وهو مجموع شعره السياسي. زبدة الأمواج وهو
ديوان يحتوي على ما له في شتى أبواب الشعر وأغراضه. وله باللغة الفرنسية:
شعر كورني الغنائي.
شعره:
قال من قصيدة:
ولقد وقفت على شواطئ دجلة * متروحا مما بها أضناني
ناجيتها وذكرت سالف مجدها * فبكيتها وهو الذي أبكاني
وسمعت شكواها بصوت خريرها * فنزا فؤادي أيما نزوان
لم تخفق النسمات بين ربوعها * إلا وقلبي لج بالخفقان
وتجهمت أمواجها فكأنما * شعرت بما أنا في البلاد أعاني
تتنفس الصعداء واجمة معي * فإذا كلانا في الجوى سيان
لكنني نهنهت ماء محاجري * من بعد ما غرقت به أجفاني
ومشيت أنتشق النسيم وإنما * أمشي بظل ذوائب الأغصان
وقال:
لك يا شمس دولة في الفضاء * يصل الأرض حكمها بالسماء
فوق سطح الغبراء مجدك عال * وهو أعلى في القبة الزرقاء
تبعتك الكرات فاجتذبيها * تحت تيار قوة الكهرباء
أنت ألفتها فكانت كشعب يطلب المجد عن طريق الإخاء
فتوسطتها كأنك ملك * حف فيه جمع من الكبراء
في فم الجو من سناك لسان * لا تباريه ألسن الخطباء
كم وكم آية له بهرتنا * من بيان الطبيعة الخرساء
طفح النور من جبينك لكن * صقلته لنا مجاري الهواء
فابعثي في عقولنا كل نور * ولدي يا ذكاء كل ذكاء
إن فعل القوى ليعلو ظهورا * بك مهما تبرقعت بالخفاء
لست إلا كما روى العلم نارا * هددتها الأيام بالإنطفاء
ثم يقول في هذه القصيدة:
نطلب العلم كي تنظم فيه * أو لتحمى مصالح الأقوياء
نبتغي المال كي نعذب فيه * لا لنبقى لراحة وهناء
ما فتحنا معاهد العلم إلا * وخططنا مصارع الشهداء
أيها الساسة الأعاظم ميلوا * عن طريق الخيال والخيلاء
أنصفونا منكم ومن سلطة النار * فقد جار حكمها في القضاء
خلصوا الأرض من معارف قوم * عرضوها بأسرها للعفاء
انظروها فكم جرت من دموع * بثراها ممزوجة بدماء
فاعصموها ونزهوا العلم مما * أوجبته مقاصد الزعماء
نشطوا النار في المصانع حتى * أكلتهم بساحة الهيجاء
سلطوها على العدو فقال الحق * يا قوم كلكم أعدائي
فامنعوا الابتكار فيها وإلا * ما لنوع الإنسان غير الفناء
ما لمستحدث الوسائط للقتل * سوى قتله بها من جزاء
جربوا فعلها به وامحقوها * فهو أولى بها من الأبرياء
ذاك صل يستأصل الناس نهشا * ما لهم غير قتله من شفاء
جال في خاطري اليراع ولكن * جاء يمشي به على استحياء
عن لي واجب فناديت فيه * طوع رأيي ومن يلبي ندائي
أين أين الروح السياسي مما * تقتضيه مبادئ الحكماء
ربي من للضعيف رحماك يا * رب أعذنا من قسوة الرحماء
ليت شعري من أين يلتمس الصدق * وهذي صداقة الأمناء
لك يا غرب خطة رسمتها * نزغات الغرور والكبرياء
آيستنا من كل ما نتمنى * من هناء نروده أو صفاء
فتمهل فما يضيرك إلا * ما نرى من تغطرس العظماء
فيك يا غرب علة الشرق عادت * بانقسام الأغراض والأهواء
أيقظونا لغاية ثم قالوا * راقبوهم فالقوم في إغفاء
ذهب الليل أسودا فانتبهنا * إذ أتى الصبح باليد البيضاء
فسيشقى شعب ويسعد شعب * بانتقال السراء والضراء
قيل أين السلام قلت لهم مات * وها كم له شجي رثائي
رسمته صحيفة الكون سطرا * فأزالته سلطة الرقباء
أتسير البلاد إلا لحرب * بعد حرب مرت بها شعواء
سوف لا تترك الزوابع زهرا * في ربوع الحديقة الغناء
وستروى منابت الزهرة الخضراء * لكن بالدمعة الحمراء
طال ما غنت العنادل فيها * وستملي الرثا بعيد الغناء



(1) الجامع المختصر (9 / 85).
245
وقال:
أعلمت أن سلامة الأوطان * هي عين قتل سلامة الإنسان
وطنية الإنسان سلم مجده * إن قوبلت بعواطف وحنان
فيذب دون كيانه لكنه * لا يبتغي في الكون هدم كيان
أنا لا أحب سوى السلام أو الردى * إن جر حب السلم للأذعان
لا عاش من يسعى ليهلك نوعه * لا جد جد العاجز المتواني
ما الحر إلا من يطهر أرضه * أو لا فما هو طاهر الوجدان
ولأنت في ديوان شعبك صفحة * فلتفد غرة ذلك الديوان
الروح والجثمان منه فحقه * أن يفتدى بالروح والجثمان
فادرء بموتك عن بلادك موتها * لتعيدك الذكرى لعمر ثان
ولدتك تربتها وضمك جوها * وبها نطقت مميزا بلسان
أفبعد ذاك تعاف نفسك نصرها * ببيان حر صادق وبنان
ما أنت من أبنائها إن لم تكن * عنها تذود بيوم كل طعان
أو ما يروقك أن تعيش بؤمة * قد أعطيت في المجد أي مكان
أيطل من أوج الحضارة مرتق * ترمي له نظر الذليل العاني
وأمامك الطرق التي فيها سعي * فعلا م فاز وأبت بالخسران
أيريد فيك نفوذه وتغض طرفك دونه ما أنت بالإنسان
لا يلبسن الشعب حلة مجده * حتى تطرز بالنجيع القاني
وإذا تتوجت الجماجم بالظبا * كانت لهن فخامة التيجان
قضت السياسة أن تعم صروفها * أبناء هذا العالم المتفاني
وتطاحنت في الأرض كل شعوبها فاليوم ها هي طعمة النيران
فطغا النجيع بكل واد والطلا * كانت منابع ذلك الطوفان
إن ينفجر في الأرض بركان الوغى * فالكون في فم ذلك البركان
ساد الفناء على البسيطة كلها * والسلم بان مقوض الأركان
وتنبهت أمم ستملك أمرها * وتسلمت أخرى يد الحدثان
فتألفت هذي وتلك تمزقت * وهما إلى العلياء يستبقان
فاستخبر التاريخ أية صفحة للعرب فيه كريمة العنوان
أو لم يقيموا الفخر مرتفع الذرى * حتى أطل بهم على كيوان
ملكوا الرقاب بعدلهم فتحررت * وتألف القاصي لهم والداني
فتداولوا الدنيا مسخرة لهم * بين اليراعة والقنا المران
مدوا رواق الارتقاء وفوقه * علم السعادة دائب الخفقان
وتسنموا العلياء ثم مضوا بها * فمفاخر الآباء في الأكفان
خلقوا ليبتكروا الفنون ولم نجئ * إلا لنطريهم بكل لسان
يا أمة بنت الأوائل مجدها هدمت علاك فأين منك الباني
ما كنت أحسب بعد عزك أن أرى * مثواك والهفا بدار هوان
محمود بن الياس الشيرازي
من الأطباء العلماء في العهد الصفوي في شيراز. تلمذ على المير داماد،
له: (كتاب العشق) منه نسخة خطية في مكتبة السيد المرعشي بقم.
السيد محمود الحبوبي ابن السيد حسين
ولد في النجف الأشرف سنة 1323.
هو ابن شقيق السيد محمد سعيد الحبوبي العالم المجاهد الشاعر الشهير.
درس في النجف القراءة والكتابة ومبادئ الحساب ثم ترك المدرسة ليدرس
العلوم العربية والمنطق ومبادئ الفقه وأصوله.
انتخب عضوا إداريا في جمعية الرابطة العلمية الأدبية في النجف منذ
تأسيسها ثم أصبح سكرتيرها. ثم ترك النجف وأقام في بغداد.
طبع الجزء الأول من ديوانه سنة 1367 (1948) وله عدا الديوان مجموعة
موشحات ومجموعة رباعيات. وقد عني بجمع ديوان الشيخ جواد الشبيبي وجمع
ما لم ينشر من شعر عمه السيد محمد سعيد.
مرت له قصيدة رثائية في الصفحة 69 من المجلد السادس.
قال بعنوان سكان الريف بين عهدين:
خلت المنازل والمرابع * فاكفف فليس بهن سامع
ما ذا وقوفك وهي قفرى * من أماجدها بلاقع
لم يبق منهم (نهشل) * بين البيوت ولا (مجاشع)
من كل من لم يتخذ * لعلاه إلا السيف شافع
أو بذل ما يحويه إن * بخلت به الأيدي الموانع
يهتز - مثل قناته - * للجود لدن القد فارع
باد عليه لناظريه * من الفتوة خير طابع
لم يهنه شبع وبين * الحي طاوي الكشح جائع
يقري الوفود مع القرى * كرم الخلائق والطبائع
فتراه أندى للضيوف * يدا من المزن الهوامع
وتراه أجرأ من أسامة * في الملاحم والوقائع
وتراه أقضى من (شريح) * يوم تستعصي المنازع
للقوم يكشف عن وجوه * غوامض الأمر البراقع
إن يقتنع بالرزق لم * يك بازدياد المجد قانع
جلد إذا ما الدهر أنذر * بالقواصف والقوارع
رأسي العقيدة واليقين * بما به أتت الشرائع
لم تلفه لأبائه * إلا لحكم الله ضارع
يا نادبا شرف العروبة * عاد في الأرياف ضائع
كم رحت تسعى نحوها * جذلا فعدت وأنت جازع
أدمى حشاك خلوها * من أهلها البيض الصنائع
وتنكرت لك بعدهم * حتى مناظرها الروائع
فتكاد تشقيك الحقول * بها، وتشجيك السواجع
وتكاد هبات النسيم * تشب نارا في الأضالع
وتكاد تورث غلة * تلك المناهل والمشارع
وتكاد إذ تجري السواقي * أن تسابقها المدامع
أنى اتجهت رأيت ثمة * ما تقض له المضاجع
غرف أعدت للعقار * وللقمار وللشنائع
لم تحو إلا كل مخمور * هزيل الجسم مائع
تلقاه مضطرب الخطى * في القوم مرتعش الأصابع
وأذل من فقع بقر * قرة إذا غشي المجامع
لعبت به شهواته * فغدا لها كالعبد خاضع
وغدا لأغلى المكرمات * بأبخس الأثمان بائع
أسراره عند المخادع * لو تبوح بها المخادع

246
مستسلم للمنكرات * وللفضائح والفظائع
يسود ساعة عرضها * وجه العروبة وهو ناصع
طف ههنا أو ههنا * وسل المرابط والمرابع
أين الفوارس، والجياد * تزينها الغرر اللوامع
متراقصات بالمغاوير * الميامين المطالع
متجاوبات بالصهيل * تكاد ترشفه المسامع
أم أين نيران القرى * منها السنا العربي ساطع؟
يهدي الألى ضلوا إلى * خير المنازل والمواضع
أم أين أندية العلا * يأوي إليها كل فازع؟
لم تلق فيها من يماكر، أو يكابر، أو يصانع
أسمارها أسمار أندية * الأباطح والأجارع
سل ما تبقى من مآثر أهلها، والجفن دامع
ستريك أن زمانهم * ولى، وأمر الله واقع
عصفت بهم فتفرقوا * شتى العواصف والزعازع
وغدت لهم بل للمفاخر * ههنا وهنا مصارع
يا للحماة ألا فتى * منهم لهذا الريف راجع
ليجدد العزمات فيه * ويوقظ الهمم الهواجع
ويبيت في غاب الأسود * مناضلا عنه مدافع
خفت الزئير وأصبحت * أسفا تنق به الضفادع
تركوا ودائع مجدهم * للجاهلي قدر الودائع
الساقطين إلى الحضيض * من المشارف والمتالع
الذاهبين مع الرياح * الساخرين بكل رادع
الجاعلين عقولهم * لسواهم بعض البضائع
الواثقين من الولاة * بكل محتال مخادع
الواقعين على حبائل * ماهر بالصيد بارع
بهم تذرع للمآرب * إذ هم أجدى الذرائع
حتى إذا الأمل الجموح أتاه وهو له مطاوع
ثقلوا عليه مثلما * ثقلت على الجسم المباضع
فإذا الشراب لغيرهم * وإذا هم لهم الفواقع
أردت نفوسهم المطامع * فارثهم صرعى المطامع
وقال عند جلاء الجيوش الأجنبية عن سوريا سنة 1947:
عاود العين بعد لأي كراها * يوم نالت (سورية) مبتغاها
فاستعادت من غاصبيها حياة * حرة، فقدها أطال شقاها
خلت الكتب جانبا واستجارت * بالمواضي فأبلغتها مناها
وغدت أمة لها حكمها الذاتي *، أبناؤها تصون حماها
أنزلت من فضائها علم استعبادها * فاعتلى الفضاء لواها
وسما خافقا عليها فباتت * تتسامى عزا، ومجدا، وجاها
رفعته على ذراها ينادي *: إرفعي اليوم بالجلاء الجباها
ألف بشرى بنهضة، كل قطر * عربي بها ازدهى وتباهى
أرجعت للقلوب ما طلبته * حين جاب الشعوب رجع صداها
فاجعليها ما عشت ذكرى صراع * بين حق وباطل قد تناهى
واهتفي يا ابنة البهاليل: ما * أطيب هذي الذكرى وما أحلاها
وعن الأمة التي أنت منها * خير جزء لا تستقلي اتجاها
سانديها في كل حال تساندك *، فليست قواك إلا قواها
واسلمي، لا رأيت إلا حياة * لك لا للجناة حلو جناها
وقال بعنوان (فلسطين المجاهدة) سنة 1935:
ثباتا وإن جلت بك النكبات * فأصدق عون عزمة وثبات
ودومي (فلسطين) يحوطك منعة * حماة من العرب الكرام كماة
رأوا ليس تجدي (الاحتجاجات) جمة * وما لسوى صوت الحديد وعاة
فثاروا يصونون الحمى حسبما اشتهى * وشاء الحفاظ المر والعزمات
وأبلغ من ألفي كتاب وخطبة * - إذا احمر بأس - صارم وقناة
وقد بذلوا دون البلاد حياتهم * وليس لشعب يستضام حياة
أبوا أن يقيموا في الديار أذلة * وتسمو على أعلامها نكرات
وتغتصب الأرض المقدسة التي * يقل لها أن تبذل المهجات
فجادوا لنيران الوغى بنفوسهم * وكم أرخصت أغلى النفوس أباة
مغاوير، كم من موقف بعد موقف * لهم رفعت عزا به الجبهات
وفي السلم إن رقوا طباعا ففي الوغى * رأى خصمهم الرقاق قساة
أقام بناء المكرمات جدودهم * وهم مثلهم كرمات بناة
وليس عجيبا أن يطيبوا فإنه * إذا طاب طابت الثمرات
فلا بعدوا من ثائرين بمثلهم * تصد خص، أو ترد عداة
حموا بالدم الزاكي بلادا عزيزة * عليهم، فأحيوا ما تريد وماتوا
قال وقد قدم لها يلي: نظمت بعد ما شاء إنسان أن يلهو ويعبث بتعذيب
نملة وإحراقها بنار (لفافته).
عجبت وقد دبت على الأرض (نملة) * أتاحت لها الأقدار من قشها طعما
فأمعنت تفكيرا بها فرأيتها * - وإن صغرت - قد فاقت الهضب الشما
رأيت بها مثلي ومثلك عالما * كبيرا، وكونا لا نحيط به علما
تواصل مسراها إلى الغاية التي توخت، ولم تقنع بأرزاقها حلما
خذوا لكم منها دروسا تحثكم * لسعي، ولا تشكو الكلال ولا الغما
فليس كلال العيش إلا لمؤثر * على الجد في راحاته الفقر والعدما
أتت نحونا تمشي وتحمل رزقها * على فمها لما به رضيت قسما
مشت في طريق لم تخف حادثا بها * وما أحدثت سوءا ولا اقترفت إثما
تجد وتسعى فهي لو سئلت إذا * لقالت: نعم كي لا أجوع ولا أظما
فأبصرها مستحقر قدر ذاتها * وقد شاء أن يلهو فأرهقها ظلما
وسد عليها الدرب من كل وجهة * فحارت كما قد سار في مهمة أعمى
وخرق رجليها بنار (لفافة) * له فكبت تشكو قساوته العظمى
تزيد انكماشا كلما زاد كيها * فتعجب منه وهي ما ارتكبت جرما
وخلفها تبغي النهوض فلم تطق * وأعرض عنها، والذي شاءه تما
وقالت له - والنار تأكل جسمها - * ولكنها لم تقو أن تسمع الصما
أغرك يا ابن الماء والطين أنني * دقيقة جسم بعد ما فقتني جسما
وأني خرساء، وأنك ناطق * وكم ناطق لم يبلغ الخرس والعجما

247
وأنك وحشي بطبعك ظالم * وإن لم تجد بالظلم في عمل غنما
وأنك إن تنزل بي الموت لم تخف * عدوا مغيرا يطلب الثار أو خصما
وأنك ذو حزم، فسل ذا معارف * يخبرك أن (النمل) فوقكم حزما
نعيش فلا يطغى على البعض بعضنا * غرورا، ولم ندر السباب ولا الشتما
ونحيا جميعا للتعاون بيننا * لنبني إذا ما زدتم بينكم هدما
وإن ثارت الأطماع فيكم فأنشأت * حروبا فانا لم نزل ننشئ السلما
أو امتلأت حقدا وهما صدوركم * فإنا جهلنا الحقد في العيش والهما
ولم يطغنا فرط الغنى ويضلنا * فنستخدم البله المساكين والبكما
وسؤنا بكم ظنا ملوكا وسوقة * فخفنا ابن داود وأجناده قدما
تأمل قرانا تحتقر مدنكم وما * حوت من لذاذات تفيض ومن نعمى
وشاهد نظام النمل في العيش بينها * لتبغض في الناس القوانين والنظما
ترانا سواء في الحقوق فما ترى * جحودا لحق دون آخر أو هضما
يؤلفنا حب التاخي فلا بد * تنعمها الأخرى التي كلمها يدمى
ولم تستبد العنجهيات بيننا * فهذا لذا يعزى، وهذا لذا ينمى
وهذا أجل الناس قدرا ورتبة * وأغزرهم علما، وأرجحهم حلما
وهذا كهذا أوفر القوم ثروة * وأشرفهم خالا، وأكرمهم عما
وهذا الذي تخشى المنايا لقاءه * وهذا الذي أخزت مواهبه اليما
وهذا ابن من كالنجم يلمع مجده * وهذا الذي لو شاء لأنتعل النجما
دعاوى تزيد (النمل) هزءا بجنسكم * وهجر كما تهذون إن جدت الحمى
أمن بعد هذا كله أنتم الورى * أجل، رمى المقدار أخطانا سهما
أغرك إذ عذبتني فتركتني * لنارك طعما أن مثلي لا يحمى
وأنك إنسان يصارع نملة * كاحقر ما شاهدت ذاتا دنت واسما
أحاذرت - لو خليتها لسبيلها - * منازعة علياك أو ما لك الجما؟
فأصليتها تحت (اللفافة) نارها * على م ترى أصليتها النار أو مما
ألم تحو قلبا بين جنبيك موجعا * لظلم برئ ما أساء ولا هما
أكنت تراها لا تحس لضعفها أذى أترى خص الأذى الهيكل الضخما
أم القوة الخرقاء شاءت، وكم لها * جرائم بين الخلق قد بعدت مرمى
أم أنك قد حاولت ساعة قتلها * وتعذيبها أن تصبح البطل القرما
سلاحك - إذ جل الحسام - (لفاقة) * تميت بها ما دق بينكم جرما
فتزهى كذي بأس يهاجم لبوة * بأجمتها مذ راح يقتحم الأجما
وتختال مغترا كسار على سنا * مهنده للروع في الليلة الظلما
ولو كنت ذا فهم تجنبت (نملة) * سعت تتحرى الماء أو تطلب الطعما
فإنك إذ أوردتها القتل إنما * قتلت الشعور المدعى فيك والفهما
أليس لها نفس كنفسك تزدهي * مع الخير، أو تشكو مع الألم السقما
إذا العقل لم يردعك عن ظلم هذه * فقل لي بما ذا الوحش فقت أو البهما
جنيت عليها لا لشئ طلبته * سوى اللهو واستحققت في لهوك الذما
أما كان أحرى أن ترى عبرة بها * فتعلم منها السعي للرزق والعزما
ألست وإياها وما هو دونها * سواء بحكم الله لو تعرف الحكما
ألست قبيل الخلق وهما، وهكذا * تعود باحشاء الثرى أبدا وهما
ألست بهذا الكون أصغر ذرة * فلست بعين الكون من (نملة) أسمى
وقال يصف ليلة إخوانية على سدة الهندية:
يا ليلة (السدة) العباقة الأرج * عودي بامال قلب في الحياة شجي
وحققي للضيوف الغر ما طلبوا * وقابليهم بوجه منك مبتهج
لدات لهو وضاء، بيض أوجههم * تكاد تغنيك عن وضاءة السرج
لو كان صبحك عينا للزمان إذا * لكنت منها مكان السحر والدعج
أشهى لنا ظلمة الإمساء تجمعنا * لديك من وضح الأصباح والبلج
يا ليلة (السدة) الجذلى التي ذهبت * بكل هم لنا في الصدر معتلج
أوليتنا الفضل حتى بات معترفا * بالعجز كل لسان بالثنا لهج
ليست مراثيك إلا السحر تطلبه * هذي النفوس بلا إثم ولا حرج
ولا التحايا بها استقبلت موكبنا * غير الحفيف وغير العزف والهزج
حسن الطبيعة أغنانا بروعته * عن الغواني وعن دل وعن غنج
هذا هو النهر هاج الشعر منبجسا * كمائه بعد ما استعصى فلم يهج
راق النواظر ما في ضفتيه زها * من النبات، وما فيه من اللجج
وهذه نفحات الزهر قد حملت * طيب الحياة إلى الأرواح والمهج
وفي الزنابق ما نغني العيون به * عن اللمى في الثنايا الغر والفلج
وكل ما بيننا حب وعاطفة * تفيض عن وله في القلب ممتزج
جلت يد نسقت للناظرين هنا * هذي الحقول بلا أمت ولا عوج
لئن نعمنا سويعات بها فلقد * نلنا الذي لم تنله النفس في حجج
وإن أبى الدهر يوما أن يصاحبنا * إلا مصاحبة الصمصام للودج
فليحبنا الفضل دون المال مدخرا * فرط الغنى لرعاع الناس والهمج
وليبق يارج طيبا كلما ذكرت * ساعات ليلتنا العباقة الأرج
وقال خلال الحرب العالمية الثانية سنة 1940:
أوقدتها تفزع العالم نارا * أمم ما طلبت إلا الدمارا
سرها ما ألفت من جشع * أن تحيل الأرض بالحرب غبارا
تتبارى أيها أبعد من * غيرها في كرة الظلم مغارا
لا تبالي أن تنل ما أملت * فني الكون أم ازداد ازدهارا
لا تبالي بالذي تنزل في * كل شعب سيم إرهاقا فثارا
لا تبالي بالذي تزهق من * أنفس سيقت إلى الموت اضطرارا
لا تبالي، خلدت أعمالها * شرفا، أم خلدت خزيا وعارا
التحيا أمة واحدة * يذهب العالم قتلا وانتحارا؟
يا " فتى العذراء " هل أوصيتهم * أن يسوقوا للوغى حتى العذارى
أمم باسمك سامت هذه * الأرض من بعدك ذلا وصغارا
قسما لو عدت تسعى بينها * ساعة لازددت بعدا ونفارا
ما ترى إلا يدا باطشة * وخطى تمتد للظلم ابتدارا
كل آن تتلقى غدرة * بعهود، وعلى الخلق ائتمارا
أصدق الأبناء إخلاصا لها من إذا ما طلب التصريح ماري
لم تكن - مذ كنت جبارا، ولا * ناكثا عهدا لقوم أو ذمارا
كنت برا تخذ العدل له * سمة، والرفق بالناس شعارا
أفهذا منتهى رفقهم * بشعوب قد أحلوها البوارا؟
أم ترى صار وبالا علمهم * بحياة ملئوا فيها اختبارا

248
لم يك العلم أداة للفنا * ولتحطيم الدنى دارا فدارا
ببنات الجو قد سدوا الفضا * وبنات الماء قد رجوا البحارا
ههنا سرب من الآجال طارا * وهنا فوج من الأقدار سارا
سادت البحر فأضحى مكمنا لجنود عجبا فيه توارى
كم ترى غواصة تحسبها * تبتغي القعر لمن فيها قرارا
هي تحت الماء تجري خلسة * ثم لا ترجع أو تلقى انتصارا
راعت الحيتان في مسبحها * حين كاد البحر ينشق انفجارا
وترى بارجة تلقاءها * أختها تعدو لتوليها اندحارا
تلطم الموج حواليها، وما * لطمت إلا هضابا لا غمارا
وهي بينا تزدهي ماخرة * إذ بها عادت على الأمواج نارا
سل: إلى أين مضى ربانها * وإلى أين بها التاريخ صارا؟
أمم قائدها الأعلى بها * ملأ الأبحر جندا والقفارا
قد حداها للردى مذعنة * وبها حاد عن القصد وجارا
كلما أرعد من ناحية * مدفع أمطرها الموت انهمارا
وإذا ما زحفت دبابة * نحوها لم تهدها حتى الفرارا
وإذا ما قصفتها من عل * طائرات هدت الصف انهيارا
وإذا ما حجب الليل الضحى * عاد من نيرانها الليل نهارا
فمن المسؤول عن مال لها * قد تلاشى، ودم ضاع جبارا
أمم غضبى لأخرى مثلها * تحمل الموت حديدا وبخارا
أضمروا العزم بحرب بدعة * ودعوا للسلم في الناس جهارا
بعثوها من جديد، أو ما * أبقت الأولى لواعيها اعتبارا؟
إن تسوء تلك فاجدر أن يروا * هذه أسوأ غرسا وثمارا
قال وقد زار بغداد سنة 1940:
جئت " دار السلام " أرجو الفرارا * من أسى لم أجد عليه انتصارا
فإذا بي أضيف للحزن حزنا * وكأني أضيف للنار نارا
أين وجهت مقلتي لم تزدني * نظراتي إلا جوى وأوارا
لا أرى غير ما يؤرق جفني * من مراء تقذي عيون الغيارى
ونفوس لم تدر إلا امتهانا * جنب أخرى لم تدر إلا اغترارا
جمع الياس والرجاء ببغداد * كما تجمع الدجى والنهارا
سر قليلا معي لتبصر ما لم * يستطع شاعر عليه اصطبارا
غص من كل شارع جانباه * بشيوخ، وصبية، وعذارى
كلهم يشتكي إلى الله حكما * " تتريا " زاد النفوس انفجارا
هم وقوف، وبالكرام بنات النار * كالبرق بينهم تتجارى
كل سيارة تمر عليهم * أتبعوها القلوب والأبصارا
كاد أن يذهب النهار، وكادوا * أن يذوبوا مع النهار انتظارا
أي دور هذا الذي نحن فيه * لم يشاهده " اردشير " و " دارا "
ما العصور التي استبدت تضاهي * ظلم عصر سام الضعاف احتقارا
ألف سيارة تمر بفرد وألوف على الرصيف حيارى
فئة أطلقت لها الحكم فانظر * زمر الناس بينها كالأسارى
كل يوم لها نظام جديد * لم يحقق إلا لها الأوطارا
أغرت الشعب بالوعود فمهما * رغبت أن يهيج هاج وثارا
إن تكن هكذا الولاة فجاور * في الشري الأسد فهي خير جوارا
أو تكن هكذا العدالة فاحذر * عن قريب يا ابن البلاد الدمارا
خبثت منهم السرائر حتى * ما أجنوا لصالح أسرارا
وأمان ما تدخل القلب إلا * مثلما تدخل الأفاعي الوجارا
ليتهم حين لم يجيدوا صنيعا * لبني شعبهم أجادوا اعتذارا
وإذا شئت أن ترى الوضع أجلى * طف ببغداد وائت دارا فدارا
واسأل القوم عن بلاد تمنت * أن ترى منهم لها أنصارا
هل أعدوا لها المشاريع تجني * الخير منها، أو تدفع الأضرارا
ستراهم ما هيأوا وأعدوا * للعراق المسكين إلا البوارا
ما أروه غير المآسي، كأن * القوم عند العراق تطلب ثارا
وتأمل بما ترى من نعيم * إن يزد زادت البلاد افتقارا
نعم بلدت طباع ذويها * فاختبرهم لم تلق إلا حمارا
ليس يدرون غير أن يتهادوا كل آن بين الزواني سكارى
أيهم زاد في الملاهي انغماسا زاد * إخوانه علا وفخارا
إن أرتنا الآثار مجد ذويها * فهم أسوأ الورى آثارا
أيها الكادح المرزأ عيشا * خل هذي البلاد وأو القفارا
خلها هازئا بها، وبمن فيها * عبيدا تستخدم الأحرارا
خلها وانتزع هوى لك فيها * من قديم، واسدل عليه الستارا
خلها فالكهوف أرحب صدرا * لك منها، والوحش أوفى ذمارا
خلها ساعة ليعلم أهل * البذخ أن الثراء عنهم توارى
وارح ما استطعت يمناك مما * أغدقته على الجناة يسارا
أنت إذ تستدر منهم حنانا * مثل من بات يستدر جدارا
لست حرا إن ترض أن تلبس القوم * حريرا، وتلبس الأطمارا
لست حرا إن ترض أن تجني الشوك *، ويجنوا مما غرست الثمارا
لست حرا إن ترض أن تحسو الرنق *، ويحسوا على يديك العقارا
نشر الفجر نوره فتيقظ * وأجل عن عينك القذى والغبارا
ليس في هذه الحياة نصيب * لجبان فلا تخف جبارا
لك حق كما لغيرك فادأب * بتقاضي حقوقك استمرارا
وأعدها كما اشتهيت، وإلا * فلم العزم، واعذر الأقدارا
محمود بن علي بن الحسن الحمصي
مر ذكره في المجلد العاشر الصفحة 105 ونزيد هنا ما يلي:
هو سديد الدين محمود بن علي الحمصي الرازي الحلي. قال فيه صاحب
لؤلؤة البحرين: كان هذا الشيخ علامة زمانه في الأصولين ورعا ثقة، له
تصانيف منها: التعليق القصير والتعليق الكبير، وكتاب المنقذ من التقليد
والمرشد إلى التوحيد المسمى بالتعليق العراقي، وكتاب المصادر في الأصول.
وكتاب التبيين والتوضيح في التحسين والتقبيح. وكتاب بداية الهداية. وكتاب
نقض الموجز للنجيب أبي المكارم اه‍ وقال منتجب الدين بن بابويه القمي في
فهرسته: حضرت درسه سنين وسمعت أكثر هذه الكتب. اه‍.
وقال محمد بن إدريس الحلي في كتابه السرائر في كتاب القضاء: سألني

249
شيخنا محمود بن علي بن الحسين الحمصي الرازي رحمه الله عن معنى هذا
الحديث وكيف القول فيه: روى محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر
عليه السلام يقول: قضى أمير المؤمنين عليه السلام برد الحبيس وانفا المواريث، فقلت
له: الحبيس معناه الملك المحبوس على بني آدم من بعضنا على بعض مدة حياة
الحابس دون حياة المحبوس عليه، فإذا مات الحابس فإن الملك المحبوس يكون
ميراثا لورثة الحابس وينحل حبسه على المحبوس عليه، فقضى عليه السلام برده إلى
ملك الورثة لأنه ملك مورثهم. فأما ان كان الحبيس على مواضع قرب
العبادات مثل الكعبة والمساجد فلا يعاد إلى الأملاك ولا ينقد فيه المواريث لأنه
بحبسه على هذه المواضع خرج من ملكه عند أصحابنا بلا خلاف بينهم فيه
فأعجبه ذلك. وقال أنت كنت اطلع إلى المقصود فيه وحقيقة معرفته، وكان
منصفا غير مدع لما لم يكن عنده معرفة حقيقته ولا هو من صنعته، وحقا أقول
لقد شاهدته على حلق قل ما يوجد في أمثاله من عوده إلى الحق وانقياده إلى ربقته
وترك المراء ونصرته كائنا من كان صاحب مقالته وفقه الله وإيانا لمرضاته
وطاعته.
وقد تلمذ عليه جماعة منهم الشيخ ورام بن أبي فراس ومنتجب الدين
القمي وموفق الدين الحسين بن الفتح الواعظ البكرابادي الجرجاني، ويروي
عنه بالإجازة أو القراءة برهان الدين محمد بن محمد بن علي الهمذاني القزويني
المشتهر بنزيل الري.
وله شعر ينحو فيه منحى أهل العرفان من ذلك قوله:
قد كنت أبكي ودار منك دانية * فحق لي ذاك إذ شطت بك الدار
أبكي لذكرك سرا ثم اعلنه * فلي بكاءان اعلان واسرار
أما نسبته (الحمصي) فيقال أنها إلى النبات المعروف، ويقال انها نسبة إلى
البلد الشهير في بلاد الشام.
وجاء في (الكنى والألقاب) عن خط البهائي أنه قال: وجدت بخط
بعضهم ان سديد الدين الحمصي الذي هو من مجتهدي أصحابنا منسوب إلى
حمص قرية بالري (1).
السيد محمود الشاهرودي ابن علي
ولد سنة 1301 في قرية من قرى شاهرود وتوفي سنة 1394 في النجف
الأشرف.
تلقى دراسته الأولى في شاهرود ثم سافر إلى النجف الأشرف فأقام هناك ولم
يعد إلى بلده واستقل في التدريس وبعد وفاة السيد محسن الحكيم كان من ابرز
المراجع.
السيد محمود الطالقاني ابن السيد أبو الحسن
ولد سنة 1329 في قرية من قرى طالقان وتوفي في طهران سنة 1399 ودفن
في مقبرة جنة الزهراء.
درس في قم وفي سنة 1357 ه‍. ش وهو فيها دخل السجن لأول
مرة دفاعا عن الحريات في عهد الشاه رضا البهلوي وظل مسجونا ستة أشهر،
ثم أفرج عنه.
ثم اتهم في عهد الشاه محمد رضا بأنه اخفى نواب صفوي رئيس جمعية
فدائيان اسلام، ثم أفرج عنه بعد شهور، وظل صامدا في مكافحة الحكم
فسجن للمرة الثالثة. وبعد الاحداث الدموية التي عرفت باحداث
(15 خرداد) (2) التي كانت انتفاضة شعبية كبرى حكم عليه بالسجن عشر
سنوات.
وفي سنة 1390 وبعد أن قضى في السجن ثماني سنوات أفرج عنه.
ولما أقيمت الاحتفالات الملكية بمناسبة مرور 2500 سنة على قيام
الإمبراطورية الإيرانية كان من الناقمين على ما رافقها من بذخ واسراف بالغين،
فنفي إلى مدينة ذابل ومدينة بافت في كرمان، ثم أعيد إلى طهران وظل ثائرا
ناقما لا يهدأ فادخل السجن من جديد، وسجنوا معه بعض أقربائه وأهل بيته،
وظل مسجونا حتى نجاح الثورة الاسلامية فافرج عنه مع من أفرج عنهم من
ضحايا (السافاك). ولكن لم يلبث إلا قليلا حتى توفي.
له من المؤلفات: 1 - تفسيره للقرآن باسم (أنوار القرآن). 2 - نسلك
الطريق إلى أنفسنا. 3 - الملكية والاسلام.
عماد الدين محمود بن مسعود الشيرازي
كان حيا في أوائل القرن الحادي عشر.
كان طبيبا ومؤلفا مشهورا في القرن العاشر الهجري في إيران، معاصرا
للشاه طهماسب الصفوي وطبيبا في قصره.
له: الينبوع، منه نسخة خطية في المكتبة الوطنية في باريس، ورسالة في
خواص ومنافع الخشب الصيني، وقلع الآثار في رفع الألوان عن الملابس
والورق وغيرهما، والرسالة الأفيونية، ورسالة المفرح الياقوتي، وكتاب
التشريح.
الشيخ محيي الدين شمس الدين ابن الشيخ محمد حسين
ولد في بلدة مجدل سلم (جبل عامل) سنة 1911 م وتوفي فيها
سنة 1976 م هو ابن الشيخ محمد حسين شمس الدين شاعر جبل عامل في
عصره وسليل أسرة علمية ينتهي نسبها بالشهيد الأول محمد بن مكي تسلسل
فيها العلم والأدب حتى العصر الحاضر.
درس في مدرسة القرية ثم اتصل بابن بلدته السيد علي طالب بدر الدين
وكان شاعرا أديبا فوجهه في طريق النظم ولقنه ما يجب تلقينه للإجادة فكان
أستاذه الأول.
ثم أنشأ مدرسة أهلية في قريته لتعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن ثم
تركها وانتقل إلى بلدة شقرا حيث درس علوم اللغة العربية على السيد محمد
حسن الأمين، ثم واصل هذه الدراسة على السيد حسن محمود الأمين في بلدة
خربة سلم. وفي سنة 1944 تولى التدريس في مدرسة الإمام زين العابدين
عليه السلام في صالحية دمشق وهي احدى المدارس الذي كان قد أنشأها مؤلف
(أعيان الشيعة). وفي سنة 1948 عينته وزارة التربية اللبنانية معلما في ملاكها
الابتدائي فتنقل بين مجدل سلم وقبريخا وبرعشيت وميس الجبل. ثم استقال
وتولى التعليم الديني والارشاد في بعض مدارس ضاحية بيروت الجنوبية.



(1) جاء في مراصد الاطلاع: وحمص بالفتح ثم الكسر والتخفيف: قرية قرب خلخال من اعمال
الشار في طرف آذربايجان من جهة قزوين.
(2) يصادف 5 حزيران 1963.
250
كان جيد السليقة سريع البديهة متوقد الذهن نظم في معظم مواضيع الشعر
في عصره فكان له من ذلك ديوان لا يزال مخطوطا. على أنه طبع (علوياته)
وسماها (اعلام الفضيلة). وقد أكثر من نظم التاريخ الشعري على حساب
الجمل مما يؤلف مجموعة مستقلة.
شعره
قال من قصيدة يمدح بها صاحب (أعيان الشيعة):
للشام أنت كما لعامل مفخر * تتغير الدنيا ولا يتغير
مثل غدا بين البرية سائر * فكأنما هو في الحقيقة جوهر
وقال من قصيدة عنوانها لبنان:
شمم دعاك إلى الظهور * فبرزت معدوم النظير
مستأثر بالأفق عن سكناك في قعر البحور
لبنان والعليا دعتك وأنت سر في الضمير
حيث الجبال تماسكت فقضت على الباغي القدير
وتناسقت مثل الحروف تناسقا بين السطور
كادت تمس الأفق في قمم تفوق على الأثير
قسمت لشطرين استقلا بالجلال بلا نكير
قد سطرت فيها الحوادث فهي تقرأ في الحضور
وترديا ثوب الجمال لدى المساء وفي البكور
فكأن كلا منهما ملك أقام على سرير
لبنان يا وطن الجمال وهيبة الشيخ الوقور
وله من قصيدة علوية:
مولى البرية قاصيها ودانيها * وأول الناس ايمانا بباريها
إليك ارفعها غراء ناصعة * لولا مديحك لم تنظم قوافيها
جهد المقل لقد جاءت ولا عجب * ان الهدايا على مقدار مهديها
فاجعل قبولك مني تلك لي صلة * ترفع عن النفس اثقالا تعانيها
وكن شفيعي في يوم الحساب فما * الا شفاعتك العليا أرجيها
وقال:
تجلد لو كان التجلد ينفع * وكفكف جاري دمعه حين يدمع
وأقصر من غلوائه وهو مغرم * واسكت شاديه فليس يرجع
وقد كان في بحبوحة من حياته * له في رياض الأنس ناد ومربع
إذا سامر منه خلا ازدان سامر * به للهنا فيه مصيف ومربع
وقال من قصيدة في رثاء الشيخ علي مهدي شمس الدين:
عبقري والحزم ملء إهابه * وطريق الخلود من آدابه
قد تخطى السنين يطلب المجد * على الرغم من ثنايا شعابه
صاعدا صاعدا من المهد حتى * غيب اللحد وجهه في ترابه
ذا علي وتلك دنيا علي * وعلي فما له من مشابه
أدب يجعل النفوس سكارى * ذاهلات الحجى على اعتابه
كلما رحت منه تقرأ سطرا * ردك العجب نحو أول ما به
وقال عن ذكريات وادي السلوقي:
سلوا (السلوقي) ينبي عن تلاقينا * أيام طال بواديه تناجينا
وسائلوا رنده إذ كان يحجبنا * ظلال أغصانه عن عين واشينا
أيام كنا وكان الشمل مجتمعا * وللزمان ابتسام من تصافينا
نشكو الأسى وكلانا مغرم وله * ونجتني من ثمار الأنس ماشينا
وننثني ولنا من فعلنا عجب * نساجل الطير اسجاعا وتلحينا
وكم حديث لنا عذب أتاح لنا * سكر الغرام ولا خمر بوادينا
أيام انس قضيناها على مهل * ما كان أجملها لولا تنائينا
وقال وأرسلها إلى أحد أقربائه في المهجر سنة 1401 يصف فيها ما يجري في
بيروت من خطوب بدأت سنة 1975 ولا تزال مستمرة حتى الآن (سنة
1980) ولا يعلم إلا الله متى ستنتهي، كما يصف فيها شيخوخته.
ان يفرق ما بيننا شاسع البعد * وبانت عن الجسوم الجسوم
فبقلبي يا نعمة الله باق * لك مأوى فأنت فيه مقيم
وإذا ما الهموم ارهقت العزم * وكادت بالصبر تودي الهموم
فلروحي من ذكرك العذب روح * وارتياح وغبطة ونعيم
ذكرك العذب مؤنسي وانيسي * وسميرى طول النوى والنديم
لك مني جزيل شكري وعذرا * انما يعذر الكريم الكريم
فتهنا بكل عيد جديد * ما تبدت كواكب ونجوم
وانا اليوم في غيابة سجن * مطبق جانباه بؤس وشوم
يتفرى قواى دون انقطاع * مستبد من الزمان غشوم
سلبتني الأيام صفو حياتي * فحياتي صفاؤها معدوم
لو تفحصتني لألفيت شخصا * جسمه ليس فيه عضو سليم
ان أردت السير اقعدني العجز * ولم يعدني الونى إذ أقوم
ووقوفي لولا العصا مستحيل * وقعودي لولا العصا مستديم
تلك دنياي انها يا حبيبي * شر دنيا بها الحياة جحيم
لا رخاء لا صحة لا أمان * " فلتان " يحار فيه الحكيم
دائما جو موطني مستباح * طيران العدو فيه يحوم
يحرث الأرض بالقنابل حتى * لكان الأخدود فيه رقيم
وكأن الدخان من شدة القصف سحاب يغشى الفضا وغيوم
ابدا تقرع المدافع سمعي * بمخيف تطيش منه الحلوم
ترجف الأرض إذ يدوي فتغدو * كسفين وسط البحار تعوم
قذفتها الأمواج من كل صوب * واستخفت بها الرياح السموم
ان تفجر تناثرت فلزات * فوق وجه البسيط منا اللحوم
تتحدى الأحياء حيا فحيا * شظايا كأنهن رجوم
كان يتردد في صباه إلى بلدة عيثا فقال فيها:
مسارح الأنس في (عيثا) أحييك * وما حييت فاني لست اسلوك
رأيت فيك البها والعز مزدوجا * وراعني كل مرأى من مرائيك
يممت ارضك قدما كي إبل جوى * بين الأضالع اذكته غوانيك
من كل هيفاء لم تترك لنا جلدا * ولا دما ان تثنت غير مسفوك
ريا الشذا من روابيك مؤرجه * يفوح أكرم بما تعطي روابيك
تخيل الناظر الآتي إليك دجى * ان الكواكب تبدو من مغانيك
ضحكت إذ عبست كل القرى فغدت * منك البشاشة تطفو في أعاليك
يود كل فتى وافى إليك بان * يظل طول المدى مستوطنا فيك
من ذا يدانيك في قدر ولست * أرى من البلاد لعمري ما يدانيك

251
الماء يجري بواديك مسلسله * ما أعذب الماء إذ يجري بواديك
من لي برد ليال فيك قد سلفت * ما كان أجملها عندي لياليك
حيث الأحبة حولي كالبدور سنا * سبحان من بالبدور التم يحبوك
الشيخ مرتضى مطهري ابن محمد حسين
ولد سنة 1338 في بلدة فريمان من توابع مدينة مشهد بخراسان، واغتيل
سنة 1399 في طهران درس على والده ثم في مدينة مشهد، ثم انتقل إلى مدينة
قم حيث انهى دراسته في الفقه والأصول والفلسفة والمنطق. وبعد ذلك سكن
طهران وتولى تدريس الفلسفة في جامعتها كما أسس حوزة علمية صغيرة في
مدرسة (مروي) كان يلقي دروسه فيها، وفي انتفاضة (15) خرداد سجن
لمدة 43 يوما، و كان عضوا بارزا في جمعية (علماء الدين المجاهدين). وفي
العام 1976 م. قبل انتصار الثورة الاسلامية بثلاثة أعوام القى خطابا في
الجماهير الإيرانية حث فيه على مناصرة قضية فلسطين ودعا إلى التبرع المالي لها.
وكان مما قاله: فلنتصور أن الإمام الحسين هو اليوم حي بين ظهرانينا فماذا يمكن
أن يقول لنا؟ لا شك أنه كان يوصينا ويصرخ فينا: ليكن شعاركم اليوم هو:
فلسطين. ان شمر هذا العصر (1) هو موشي دايان فاعرفوا أيها الإيرانيون شمر
عصركم وزمانكم.
ترك من المؤلفات: تعاليق أصول الفلسفة والمذهب الواقعي في خمسة
مجلدات، الدوافع نحو المادية. في رحاب نهج البلاغة. الإنسان والقضاء
والقدر. قصص المخلصين في جزئين. الإنسان والمصير. نظام حقوق المرأة في
الإسلام. العدل الإلهي. الإنسان والطبيعة، الوحي والنبوة، الإنسان
والإيمان وغيرها.
الأمير مزيد بن صفوان بن الحسن بن منصور بهاء الدولة المزيدي
هو من آل مزيد امراء الحلة، وكان شاعرا فمن شعره قوله يحن إلى
" الجامعين " وهي الحلة:
ومرابع بالجامعين عهدتها * تزهو بغيلان لها وجآذر
أيام كنت اجر في روض الصبا * ردفي بين رفارف وعباقر
من كل فاتنة اللحاظ إذا رنت * يا للرجال من اللحاظ الفاتر
بيضاء كاملة المحاسن كاعب * تختال بين خلاخل وأساور
اخذت من الضدين ما عرفا به * من فاحم جثل وابيض زاهر
فمن الصباح لها ابيضاض معاصم * ومن الظلام لها اسوداد غدائر
وقوله:
إلى كم ألوم النفس عند ادكارهم * وحتام أخفي ما ألاقي واكتم
وفي كبدي للبين ناب ومخلب * وحولي ذئاب للحوادث حوم
وكم ليلة قضيت فيها مآربي * أعانق ربات الخدور وألثم
فيا دهر هل بعد التغيب رجعة * وهل يشتفي من لاعج هو مغرم
وبسبب بعض الأحداث التي وقعت في الحلة وجوارها فضل المترجم
الرحيل عن الحلة وقصد إلى بلاد الشام. ويقول صاحب تاريخ الحلة " أنه
سكن بلدة مصياف وتوفي فيها سنة 584 وان ضريحه لا يزال قائما فيها إلى الآن
إلى جانب ضريح سنان راشد الدين في جبل مشهد. وقد كان كثير الحنين في
غربته إلى وطنه الحلة فمن ذلك قوله:
ليس موتي بعد الفراق عجيبا * عجب كيف لي عليه البقاء
من بشط الفرات هل يسعد الدهر * على البين أو يعين القضاء
ويعود الشمل الشتيت كما كان * وتنأى الهموم والبرحاء
ويقول صاحب " تاريخ الحلة " أيضا: ان الأديب السوري عادل ناصر
جمع للمترجم ستين قصيدة من مصادر إسماعيلية مخطوطة متفرقة.
الدكتور مصطفى جواد
ولد في بغداد وتوفي فيها 1970 م.
تدرج من معلم في المدارس الابتدائية إلى التخرج من جامعة القاهرة ثم
من جامعة الصوربون في باريس بشهادة الدكتوراه في التاريخ، وقد انصرف
منذ وعى الحياة إلى البحث والتنقيب والتتبع حتى أصبح حجة لا يبارى في اللغة
والتاريخ والخطط كتب عنه عند وفاته عبد القادر البراك في جريدة الجمهورية
البغدادية ما نكتفي به في وصفه وهو لم يعد فيه الحقيقة. قال:
كما يخر المجاهد شهيدا في المعركة فيرضي شعبه وربه، خر الدكتور
مصطفى جواد صريعا في ميدان الجهاد العلمي والأدبي والتاريخي دون أن تصرفه
أوصاب المرض وأوجاعه عن ملازمته البحث والتحقيق بروح الطالب المثابر
الدئوب، وبخلق العالم المتواضع الصبور، وبتجرد الصوفي الذي يقدم ذوب
نفسه وقلبه للناس وهو قرير العين مستريح الضمير فلا غرو ان يستشعر الجميع
عظم الخسارة فيه وعدم سهولة التعويض عنه ليس بين زملائه في القطر العراقي
بل في سائر الأقطار العربية، مؤرخا ثبتا ومحققا دقيقا ولغويا نادر المثيل، ملما
بكل ضروب المعرفة المام العالم الكامل ولئن وصف (ابن خلدون) الأديب بأنه
(الذي يأخذ من كل علم بطرف) فإن الفقيد الكبير يعتبر النموذج الفذ الذي
تنطبق عليه هذه القاعدة.
لقد كان الدكتور مصطفى جواد مثلا عاليا من أمثلة العصامية استطاع
بكده الدائب وجهده المستفيض أن يبني شخصيته حجرا حجرا، فلم يثنه الفقر
المدقع والخصاصة المرة عن الاستمرار في الدراسة الابتدائية ولم يحل فقدان
النصير والمعين والمال دون مضيه في التعليم والتعلم، والنجاح فيهما كأحسن ما
يكون الأستاذ والتلميذ، بل لعل ما اكتسبه من العلوم والمعارف في مختلف
فروع المعرفة لا يرجع إلى دراسته الجامعية في القاهرة والسوربون بفرنسا بل إلى
جهده الذاتي المحض، الذي بسط بعض فصوله في السيرة الذاتية التي كتبها
عن نفسه في كتاب (شعراء العراق) للدكتور يوسف عز الدين، فإن تفرده
بمعرفة خطط بغداد القديمة، ومدوناته الكثيرة عن بعض الجوانب الخفية من
التاريخ ليست ذات صلة كبرى بموضوع أطروحته التي نال بها الدكتوراه، والتي
لم تترجم ولم تطبع حتى الآن بل أن هذا التفرد يعود إلى تتبعه الشخصي الذي لم
يفتر ولم يكل في يوم من الأيام.
لقد كان الدكتور مصطفى جواد أغزر علماء عصره انتاجا في التعقيب
والاستقصاء في أمهات الكتب العربية حتى لقد بلغ ما كتبه معقبا على بعض
الكتب أكبر من تلك الكتب نفسها، ولكن فقدانه للاستقرار والدعة حال دون



(1) شمر هو قاتل الحسين عليه السلام ولا يكره الإيرانيون أحدا كما يكرهونه. وهذا الكلام الذي يلقيه
الشيخ المطهري على الجماهير الإيرانية المؤمنة هو رأي الشيعة وعلمائهم في اليهود وفي قضية
فلسطين، وهو موقفهم الذي ثبتوا عليه وقاتلوا في سبيله وقتلوا ومع ذلك تتكلم عنهم كتب التاريخ
المدرسية السعودية وغيرها بما تتكلم.
252
اكمال العديد من هذه الدراسات كالذي عقب بها على (فوات الوفيات) لابن
شاكر الكتبي وغيره من الكتب. وتأتي له ترجمة مفصلة في مجلد قادم.
معاذ بن مسلم الهراء
مرت ترجمته في الصفحة 130 من المجلد العاشر، ونزيد عليها هنا ما
يلي:
جاء في رجال ابن داود: روى الكشي باسناده عنه عن أبي عبد الله
(عليه السلام): بلغني انك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟... قلت نعم
وأردت ان أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، اني اقعد في المسجد فيجئ الرجل
فيسألني عن الشئ فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجئ الرجل
أعرفه بمحبتكم ومودتكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجئ الرجل لا أعرفه ولا
أدري من هو فأقول: جاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال
(عليه السلام): اصنع كذا فاني كذا اصنع.
على أن ابن داود لقبه الفراء لا الهراء. (انتهى).
عمر طويلا - كما ذكر في ترجمته - ومات أولاد أولاده وهو باق. قال عثمان بن
أبي شيبة: رأيت معاذ بن مسلم الهراء وقد شد أسنانه بالذهب من الكبر، وفيه
يقول أبو السري سهل بن أبي غالب الخزرجي:
إن معاذ بن مسلم رجل * ليس لميقات عمره أمد
قد شاب رأس الزمان واكتهل * الدهر وأثواب عمره جدد
قل لمعاذ إذا مررت به * قد ضج من طول عمرك الأمد
يا بكر حواء كم تعيش وكم * تسحب ذيل الحياة يا لبد
قد أصحت دار آدم خربا * وأنت فيها كأنك الوتد
تسأل غربانها إذا نعبث * كيف يكون الصداع والرمد
مصححا كالظليم ترفل في * بدريك مثل السعير تتقد
صاحبت نوحا ورضت بغلة ذي * القرنين شيخا لولدك الولد
فارحل ودعنا لان غايتك الموت * وان شد ركنك الجلد
وحكى بعض كتابه قال: صحبت معاذ بن مسلم زمانا فسأله رجل ذات
يوم: كم سنك؟.. فقال: ثلاث وستون، قال: ثم مكث بعد ذلك سنين
وسأله: كم سنك؟ فقال: ثلاث وستون، فقلت: أنا معك منذ احدى وعشرين
سنة، وكلما سألك أحد: كم سنك؟ تقول: ثلاث وستون، فقال: لو كنت معي
احدى وعشرين سنة أخرى ما قلت إلا هذا!.
ولما أراد صديقه الكميت قصد خالد بن عبد الله القسري أمير العراقين في واسط
بعد أن بلغه انه أجاز الطرماح بثلاثين ألف درهم، وخلع عليه حلتي وشي لا قيمة
لهما. قال معاذ للكميت: لا تفعل، فلست كالطرماح، فإنه ابن عمه، وبينكما
بون: أنت مضري وخالد يمني متعصب على مضر، وأنت شيعي وهو أموي،
وأنت عراقي وهو شامي، فلم يقبل إشارته، وأبى الا قصد خالد، فقصده،
فقالت اليمانية لخالد: قد جاء الكميت وقد هجانا بقصيدة نونية قد خرق فيها
علينا، فحبسه خالد، وقال: في حبسه صلاح، لأنه يهجو الناس ويتأكلهم،
فبلغ معاذا فهمه، فقال الأبيات المنشورة في ترجمته.
وسأل شخص معاذا عن مولده، فقال: ولدت في أيام يزيد بن عبد الملك، أو
في أيام عبد الملك.
والهراء: منسوب إلى الثياب الهروية لأنه كان يبيعها.
المقداد بن عبد الله السيوري الحلي
مرت ترجمته في المجلد العاشر الصفحة 134 ونزيد عليها هنا ما يلي:
يروي عن الشهيد الأول ويروي عنه تلميذاه: محمد بن شجاع القطار
الحلي والشيخ زين الدين علي بن الحسن بن العلالا، اجازه المترجم في جمادى
الآخرة سنة 822. له عدا ما مر في ترجمته: رسالة في آداب الحج. تجويد
البراعة في شرح تجريد البلاغة في علمي المعاني والبيان. شرح ألفية الشهيد.
منهاج السداد في شرح واجب الاعتقاد للعلامة الحلي. اللوامع. الأربعون
حديثا ألفه لولده عبد الله. كنز العرفان في فقه القرآن. التنقيح الرائع في شرح
مختصر الشرائع. شرح الباب الحادي عشر للعلامة الحلي. شرح مبادئ
الأصول. نضد القواعد في الفقه.
توفي بالنجف الأشرف في 26 جمادى الثانية سنة 826.
مهيار الديلمي
مرت ترجمته في الصفحة 170 من المجلد العاشر، ولم ننشر هناك شيئا من
شعره، واننا نقدم هنا دراسة عنه بقلم الدكتور عبد المجيد زراقط، ثم نعقبها
بشئ من شعره:
1 - ملامح عامة ومسائل أساسية
في تاريخ الأدب العربي أسماء شعراء أعلام لم يتح لنا التعرف إليهم جيدا (1)
قد يكون في حياة هؤلاء، أو في الظروف التي عاشوها، من الملابسات، ما يفسر
غياب تلك الأسماء عن دائرة الضوء. وقد نفهم، نحن اليوم، مثل تلك
الملابسات، وإن كنا نعتقد أنها مبررات غير كافية لطمس عطاءات مبدعين
جديرين بالمعرفة والدراسة والتقدير. قد نفهم تلك الملابسات التي تفسر، في
إطارها التاريخي العام، ولكننا لا نرتضي أن تبقى تفعل فعلها، فمن حق مبدعي
تراثنا أن يوفوا حقهم، وأن ينظر إليهم بمنظار لا يجحد لأهل الفضل فضلهم.
قد يكون اعتقادنا هذا، أحد دوافعنا للتعرف إلى مهيار الديلمي الذي يدرك
حقيقته ويعتب فيخاطب أهل زمانه وأهل كل زمان، وكأنه يعتذر:
إذا كان عزي طاردا عني الغنى * فلله فقر لا يجاوره الذل!
علي اجتناء الفضل من شجراته * ولا ذنب إن لم يجن حظا لي الفضل
يبقى موقف مهيار الذي نلمسه، في بيتيه هذين، في الذهن طويلا، حيث
ترتسم صورة إنسان فاضل أبي يعاني مشكلات عالمه ويرى إليها بعمق، الأمر
الذي يتيح له اتخاذ مواقف إنسانية وامتلاك ما يحقق الذات ويسهم في بناء
المجتمع.
تبدو هذه الصورة التي أشرنا إلى ملامحها العامة واضحة في ثنايا ديوان الشاعر
الكبير ذي الأجزاء الأربعة.
ونحن وإن كنا نريد تلمس هذه الصورة، في بعض تفصيلاتها، إلا أننا نرى
أن نلم قبل ذلك برؤية مؤرخي الأدب لهذا الشاعر وأن نتعرف إلى المسائل التي



(1) ومن هؤلاء الشعراء الأعلام الشاعر مهيار الديلمي الذي يقول محرر الهلال بمناسبة صدور
دراسة موجزة عنه بقلم الأستاذ إسماعيل حسين: " مهيار الديلمي من نوابغ شعراء
العربية، وديوانه من ابدع ما نظم في فنون الشعر العربي... ومن الغريب أننا لم نجد
قبل الآن أحدا من الأدباء عني به في العهد الحديث عناياتهم بغيره من الشعراء. بل إن
مدرسي تاريخ الأدب العربي، في مدارس الحكومة كادوا يتناسونه ولا يذكرون عنه شيئا "
(الهلال الجزء 8، السنة 39، ص 1250).
253
يثيرونها، وذلك لأن هذا الصنيع يتيح لنا أن نكون موضوعيين ومقدرين لأصحاب
الفضل فضلهم في آن.
نقرأ، في كتب الأدب، ما يفيد أن " الشاعر المشهور " أبا الحسين مهيار بن
مرزويه، الكاتب الفارسي الديلمي، كان مجوسيا فاسلم سنة 394 ه‍ على يد
الشريف الرضي، كما أن هذه الكتب تصفه بقولها: " كان شاعرا جزل القول
مقدما على أهل وقته " وله ديوان شعر كبير، وهو رقيق الحاشية طويل النفس في
قصائد... توفي سنة 428 ه‍.
في ما قرأناه تعريف موجز بالشاعر وشئ من ثناء، غير أن بعض مؤرخي
الأدب يورد ما يثير مسائل على درجة من الأهمية جعلت بعضهم يقول مخاطبا
الشاعر: يا مهيار، انتقلت باسلامك، في النار، من زاوية إلى زاوية ".
قد نجد، في هذا القول، ما يلخص رؤية معينة إلى مهيار وشعره كنا قد
أشرنا إليها قبل قليل. وفي ما يلي، سوف نسعى إلى تبين مدى صحة هذه
الرؤية، وذلك في إطار المسائل الكثيرة التي تثيرها قراءة ديوان هذا الشاعر قراءة
منصفة.
2 - منابع الرؤية وتوجهها
نلحظ، في قصائد مهيار، ميزة يتصف بها كل شعر يتخذ الصور وسيلة
وفنية الأسلوب أداة، وقد رأى القدماء هذه الميزة وعبروا عنها بأسلوبهم، فقال أبو
الحسين الباخرزي في دمية القصر: " هو شاعر له في مناسك الفضل مشاعر،
وكاتب تحت كل كلمة من كلماته كاعب، وما في قصائده بيت يتحكم عليك بلو
وليت، وهي مصبوبة في قوالب القلوب وبمثلها يعتذر المذنب عن الذنوب ".
نتجاوز عن سجع أبي الحسن ونتوقف عندما نفهمه من هذا القول، وبخاصة
تركيزه على ما تتصف به الألفاظ من صفات تجعلها شبيهة بالعذارى الجميلات وما
تتميز به القصائد من ميزات تجعلها تعبر عما في القلوب وكأنها مصبوبة فيها.
ثمة سببان، يجعلاننا لا نعجب من وصول مهيار إلى مثل هذه المرتبة من
مراتب الابداع في لغة ليست لغته الأولى يعود السبب الأول، في تقديرنا، إلى
تتلمذ هذا الشاعر على الشريف الرضي، ويتمثل السبب الثاني في اطلاعه الوافي
على الشعر والتاريخ العربيين وفي فهمه لأسرار اللغة العربية وتعمقه في ذلك كله
وهذا ما نلمسه في الديوان من خلال إشارات دالة. فالملاحظ أنه كثيرا ما يضمن
شعره إشارات إلى فحول الشعر العربي وإلى حوادث من التاريخ العربي
والاسلامي، ففي إحدى قصائده، على سبيل المثال، يرى أن الشعر لم ينبح
" الغريب المقرح " و " مستنزل النعمان عن سطوته " كما أن الردى لم يخضع لنسيب
" عروة " ولم نعط قيسا " مناه " وفي قصيدة أخرى يشير إلى استشراء الهجاء في
العصر الأموي عندما يقول:
بهذا الحكم حين تحالباها * نقائض حاز زبدتها جرير
كما وأننا نلمس، في الديوان، إشارات إلى التاريخ العربي نذكر منها، على
سبيل المثال:
لئن كانت الزباء عزا ومنعة * فأنت لها من غير جدع قصيرها
ونقرأ له أيضا:
حديث لو تلوه على زهير * غدا من مدحه هرما يتوب
فأردي كليب لحفظ الجوار * ورعي الذمار وصون الحريم
وللخوف في قومه أن يضام *، مات ابن حجر قتيل الكلوم
وخاطر حاجب في قوسه * فخلفها شرفا في تميم
نكتفي بهذه الأمثلة التي تدل على أن مهيار كان على قدر كبير من المعرفة
بالتراث العربي: تاريخا وشعرا ولغة، كما أن هذه الأمثلة تدل، من جهة ثانية،
على طبيعته: شخصية ورؤية إذ أنه سمى النابغة " مستنزل النعمان عن
سطوته "، ورد أسباب قتل كليب إلى " حفظ الجوار ورعي الذمار وصون الحريم "
وأعاد أسباب مغامرة امرئ القيس التي أدت إلى موته غريبا مقرحا " للخوف في
قومه أن يضام " كما أنه سمى صنيع حاجب الذي رهن قوسه عند كسرى ووفى
بذلك شرفا يتوارثه الأبناء عن الأجداد، إن في اختيار هذه الأحداث واستخدامها
إشارات دالة موحية وتوظيفها في سياق معين دلالات عديدة أهمها اتساع ثقافة
الشاعر وعمقها وملكة رؤية خاصة تنظر إلى التاريخ محاولة فهمه واستخلاص
الدروس والعبر منه، بغية الإفادة منه في فهم الحاضر والكشف عن الواقع
والتأثير في توجهه.
يقرأ مهيار التاريخ ويرقب الحاضر ويحياه، ترتسم حركة التاريخ أمامه
وتنكشف علاقات الواقع أمام عينه الثالثة، وتتكون لديه تجربة عميقة يختلط فيها
وعي العقل وحدس الشعر ويعبر عن تجربته معادلا شعريا لها يحمل رؤية خاصة
أشرنا إلى بعض منابعها وإلى توجهها العام وسنحاول في ما يلي أن نلمس أهم
عناصرها المكونة.
3 - معنى الحياة وقيمة الإنسان
يعتقد مهيار أن الحياة عبارة عن رحلة يحث فيها الإنسان الخطى مطاردا من
الدهر ويرى أن لهذه الرحلة نهاية حتمية هي الموت، أو لعله يرى أنها رحلة باتجاه
الموت وأثناء الرحلة ينشب صراع مع الدهر وطالما كان الأمر على هذه الصورة
فلتكن هذه الرحلة في سبيل هدف أسمى وليكن الإنسان فيها صانعا مجده محققا
ذاته مهما كلف ذلك من مخاطر ولنقرأ بعض ما يقوله في هذا الصدد:
باتت تخوفني الأخطار مشفقة * ترى الإقامة حزما والنوى غلطا
وهل رأيت الذي نجاه مجثمه * بعقوة الدار، أو أرداه إن شحطا
وما نحن إلا قطين الموت يعسف * بالواني ويلحق بالسلاف من فرطا
وطول أيامنا، والدهر يطلبنا * مراحل تنتهي اعدادها وخطى
ويدعوه هذا الاعتقاد إلى تحديد غايته من الحياة وجعل موضوع الصراع مع
الدهر " مرمى العز " وإلا فأهلا بالموت، وليس من مرتبة وسط، كما يقول:
... وقم بنا نطلبها عالية * إما لمرمى العز أو للمرمس
ويتخذ الصراع بعدا انسانيا عاما، فهو لا يصارع أياما بعينها وإنما يجالد
" الدهر " بما يعنيه من امتداد للزمان والمكان ومجرى الحياة فيهما وهذا الصراع
الذي يخوضه الإنسان ليس مع الطبيعة وحدها أو مع أحداث الحياة فترة معينة
فحسب، وإنما مع الدهر في معناه العام ينطلق من أن للانسان جوهرا ينبغي أن
يتحقق، وعلى كل انسان أن يصنع مصيره ويجسد حقيقته وإلا فقد معناه وقيمته
وغدا شيئا آخر، ولنسمعه يعلن هذه الحقيقة متخذا السيف والليث مثالين على
ذلك:
فالسيف ما لم يمض قدما زبرة * والليث كلب البيت ما لم يفرس

254
كما أن الحياة تفقد معناها إن لم يحقق الانسان ذاته ويصنع مشروعه:
فما الحياة، وإن طالت، بصالحة * لمن يعد متاعا بائرا سقطا
ما خطه العجز و الأرزاق معرضة * إلا لمن نام تحت الذل أو قنطا
ويدرك مهيار أن تحقيق الذات وصنع مجدها يتطلبان صراعا مع الدهر يقتضي
مخاتلته واقتناص الفرص منه فنسمعه يقول:
لا تفرط جلوسا بانتظار غد * خاتل يد الدهر وانصل غيله أبدا
4 - في دروب الحياة: وجه يوقد الهم تحته
ويكون صراع مهيار مع الدهر صراعا مريرا، تتكون لديه آمال ويسعى حادا
إلى تحقيقها ظانا أن اخوانه يساعدونه، ثم يذهب هذا كله هباء وتتكرر الخيبة،
فيعبر مهيار عن هذا الصراع ونتائجه:
كم يوعد الدهر آمالي ويخلفها * أخا أسر به، والدهر عرقوب
وتتكرر ذنوب الأيام، فيعجب ويرجو بحسرة أن يحيا أياما تعد ذنوبها:
وليست الذنوب ذنوب الأيام فحسب وإنما هي ذنوب الناس أيضا، الذين
غدوا صخورا لا تلين، وقد نلتفت إلى نظرة مهيار التي رأت تحول الإنسان الذي
فقد جوهره أو إنسانيته، إنه لم يعد إنسانا وإنما صخرة:
يقولون دار الناس ترطب أكفهم * ومن ذا يداري صخرة ويذيبها
والحق ان مهيار ما كان غافلا عن حقيقة الزمان والناس وطبيعة العلاقات
الاجتماعية، كان يدرك هذا كله تمام الادراك:
وما أطمعتني أوجه بابتسامها * فيؤيسني مما لديها قطوبها
وكان يدرك أيضا سبل الوصول ووسائل نيل المطالب في ظل المجتمع الذي
يعيش فيه:
وفي الأرض أوراق الغنى لو جذبتها * لرف على أيدي النوال رطيبها
ولكن هذه السبل ليست سبله كما أنه لا يرضى اتباع تلك الوسائل إن في
المرعى لأوراقا خضراء يانعة ولعشبا طريا ولكلأ خصيبا شهيا ولكن ما نفع هذا كله
إن كانت الإبل الجائعة تأنف من هذا كله وتمجه إن مهيار الديلمي يرفض سبلا
تحقق الذات ويرتضي سبلا أخرى وشتان ما بين دربي الوصول إلى " مرمى
العز "، ولنسمعه يشير إلى هذا في صورة حسية مقتلعة من الواقع، وكأنها تضع
الحقيقة أمامك مصورة فتراها وتلمسها:
إذا إبلي أمست تماطل رعيها * فهل ينفعني من بلاد خصيبها
يسعى مهيار إلى المجد، ويجد في سبيل ذلك مصارعا الدهر، ويعي سبل
الوصول ولكنه بدلا من أن يمتطي مطايا الركب يشكو الزمان والناس. فلم
الشكوى؟ ولماذا لا يحقق ما يصبو إليه وبخاصة أنه يرى الحياة القانعة من دون
قيمة؟
ليس من شك في أن هذا السؤال الذي تثيره قراءتنا لتجربة مهيار مع الدهر
سؤال كبير، وهو لا يخص مهيار وحده، وإنما يعني الإنسان في كل زمان ومكان،
إذ انه يثير مشكلة الانسان وسلوكه في هذه الحياة سواء أ كان ذلك من حيث طبيعة
هذا السلوك أم من حيث أهدافه وسبل تحقيق هذه الأهداف وتعارض ذلك أو
توافقه مع التوجه العام وحقوق الآخرين.
يسمي مهيار ما يصل إليه الناس من مناصب وغنى " حظوظا "، وهو يعرف
الطرق إلى هذه الحظوظ، ولكنه يرفض أن يسلكها، والأمثلة التي تؤكد هذا
كثيرة نذكر منها:
- ويا نيل الحظوظ، أما إليها * بغير مذلة منها طريق
- فلو قنن الجبال زحفن جنبي * وقعن أخف من منن الرجال
- فما تراني أبواب الملوك مع الزحام * فيها على الأموال والرتب
- وعابوا على هجز المطامع عفتي * وللهجر خير حين يزري بك الوصل
ويبدو مهيار، في موقفه هذا، منسجما مع نفسه، فيناقشه مع فتاته وفق
مبادئ أساسية ينطلق منها في سلوكه، تلومه فتاته فيجيب:
وقد كنت ذا مال مع الليل سارح * علي، لو أن المال بالفضل يكسب
ولكنه بالعرض يشرى خياره * وينمي على قدر السؤال ويخصب
وما ماء وجهي لي إذا ما تركته * يراق على ذل الطلاب وينضب
في ما قرأناه كشف لواقع ورفض له وأنفة عن الانخراط في جموعه وعن الوقوع
في شباكه، ويندرج هذا الموقف في إطار رؤية شاملة تنظر إلى الإنسان بوصفه سيد
المخلوقات، وقد خلق حرا يجهد لتحقيق غاية كبرى، وهذا كله ليس ملكه
وليس من حقه أن يفرط فيه ويريقه في غير ما خلق له ينطلق مهيار إذا في دروب
المجد من مفهوم سر الخلق ومن أن الله كرم الإنسان وعلى الإنسان أن يحافظ على ما
أودع الله فيه، وانطلاقا من هذا المفهوم يبقى ظمانا، يعرف دروب الري،
ويرفض سلوكها لأن المذلة فيها والمذلة أشد حرارة وأقسى ولنقرأ هذا البيت
ولنلاحظ الصورة فيه والتلاعب بالأضداد وفي هذا إضاءات وإيجاءات تسكن
الحالة في القلب حارة الطلوع من تنور المعاناة:
أظمى، وريي في السؤال، ولا يفي * حر المذلة لي ببرد الماء
ويدرك مهيار نتائج موقفه، ويلمس الواقع الذي توصله إليه خياراته ولكن
لا يأبه لهذا، إذ ان له مقاييس تختلف عن مقاييس الآخرين، فليس مهما ما يجري
في الخارج، فالمهم ما يجري في داخل الذات الانسانية، المهم أن يبقى الجوهر
صافيا وأن يبقى الهم دافعا ومؤرقا:
وإن هوى بي أو حطني حمق * الحظ، فهمي يسمو ويرتفع،
... نفسي أحجى من أن تحلم * بالوعظ، وقلبي بالمجد مضطلع،
والواضح أن مهيار يعي أن معركته المريرة مع الدهر طويلة، وأن سبله
شاقة، فيختار الصبر الذي يكشف ويحرض ويدل على الصواب:
- لله قلب حسن صبره * ما سئل الذلة إلا أبى
- شفى الله نفسا لا تذل * لمطلب وصبرا متى يسمع به الدهر يعجب
وصدرا إذا ضاقت صدور رحيبة * لخطب تلقاه باهل ومرحب
ولا يكون صبر مهيار العجيب مسالمة للدهر وركونا لأحداثه وناسه، وإنما هو
نوع من تعرف " جريح زمانه " إلى سبل مداواة قروحه والانتصار عليها
سالمت دهري قبل أعلم أنه * فيمن يهادنه السلامة طامع
فالآن أصميه بسهم ما له * في قلبه إلا المنية نازع

255
وتقتضي طبيعة هذا الصراع أن يتحمل الإنسان كل ما يتعرض له، فيسغب
والثرى عمم ويظما والغيث مسكوب:
- إني لأسغب زهدا والثرى عمم * نبتا، وأظما وغرب الغيث مسكوب
وإن ليم في ذلك يجيب منكرا كل ما يعرضونه من إغراءات ليست مكاسب
حقيقية ولا يريد أن يوهم نفسه بها، وإن لم يكن سواها فالجوع أفضل من الشبع
في هذه الحالة، إنه خيار ينطلق من رؤية عميقة وشاملة للحياة والعالم وسبل تحقيق
الذات:
أ أشري بعرضي رفد قوم معوضه * وأشعر نفسي أن ذلك مكسب
فاقعد إذا السعي جر مهضمة * وجع إذا ما أهانك الشبع
ويكون الصراع مع الدهر أشد مرارة وقسوة عندما يقف الإنسان وحيدا في
دروب الحياة يحس وحشة الغربة في غياب الصديق والحبيب.
يفهم مهيار الصداقة أخوة وشد أزر وقت الشدة:
قلبي للأخوان شطوا أو دنوا * وللهوى ساعف دهر أو نبا
ولكن هؤلاء الأصحاب يكونون وقت الشدة كاليد الشليلة:
وصاحب كاليد الشليلة لا * يدفع بها شيئا فيندفع
يتلونون ويتغيرون بتغير الأحوال، أحوالهم وأحوال صديقهم:
كم أخ غيره يومه * المقبل عن أمس به الذاهب
كنت وإياه زمان الصدى كالماء * والقهوة للشارب
وفرق كبير بين أن يكون حمامة حينا عقربا حينا آخر:
يطير لي حمامة فان رأى خصاصة دب ورائي عقربا
يرفض مهيار هذه الأسس في التعامل، فلا يكون ذا وجهين، ويتحمل
الكثير:
وصاحب كالجرح أعيا سبره * وجل عن ضبط العصاب والقمط
حملته لا أتشكى ثقله * كي لا تقولوا: طرف أو مشترط
ويعاتب برقة وحنو وطهارة:
أيها العاتب ما ذاك *، وما أعرف ذنبي؟
أتظن الدمع دينا * تتقاضاه بعتبي...
ويبقى ودودا مخلصا يحرص على الصديق ويتالفه شريطة ألا يؤدي هذا إلى
الذل، إذ أن هناك حدودا ينبغي ألا تتجاوزها العلاقة بين الطرفين وإن تجاوزتها
يكون لمهيار موقف واضح، فهو يختار البعد الأجمل:
إذا لم يقرب منك إلا التذلل وعز فؤاد فهو للبعد أجمل
سلوناك لما كنت أول غادر * وما راعنا في الحب أنك أول
وقد يختار الهجر إن اقتضى الأمر ذلك، ويدافع عن موقفه قائلا:
أأنت على هجر اللئام معنفي * نعم أنا ثم فارض عني أو أغضب
توصله هذه التجربة المريرة مع الآخرين والأصدقاء منهم بخاصة إلى القول:
طهر خلالك من خل تعاب به * واسلم وحيدا فما في الناس مصحوب
نلمس في هذا كله شخصية تكاملت عناصرها ورؤية شاملة عميقة نفاذة
تبلورت: منطلقات وأدوات ومفاهيم وتوجها، ونلمس أيضا حرصا على نقاوة
هذه الشخصية ورؤيتها وكأنها جوهر كريم ينبغي أن يسلم فلا يعاب ولا يخدش،
ولنسمعه يخاطب من يطلب منه تغيير سلوكه غير المجدي في هذه الحياة، بعد أن
كبر ولم يحرز مالا أو منصبا:
قالوا ارتدع إنه البياض وقد * كنت بحكم السواد ارتدع
لم ينتقل الشيب لي طباعا ولا * دنسني مثل صقله طبع
ثم يؤكد حقيقة موقفه وطبيعته فيقول:
يا ناقد الناس كشفا عن جواهرها * متى تغير عن أعراقه الذهب
وهو يعرف تمام المعرفة الأسباب التي أوصلته إلى ما هو عليه، فيذكر أسباب
إخفاقه في تجربته مع الزمان والناس قائلا:
أذنبني الحب والاخلاص عندكم * فان ذنبي إلى أيامي الأدب.
5 - الإنتماء والهوية
نظام الحكم
وبديهي أن من يمتلك مثل هذه الرؤية ويتخذ مثل هذه المواقف أن يرى إلى
الإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا تتحدد قيمته بما يملكه من إمكانات ومؤهلات وبما
يطمح إلى تحقيقه وبسبله التي يتبعها لتحقيق ذاته وتحسين مشروعه... بديهي أن
ينظر إلى الجوهر الإنساني الذي يبقى ضياء يشع ويضئ في دروب الدنيا مثل
الذهب، دونما أي اهتمام بالمؤثرات الخارجية كالعرق والنسب والإقليم، ولكن
هذه الرؤية التي تقيم الإنسان باعتباره فردا يملك امكانات وطموحات وسبلا
ومفاهيم كانت تصطدم برؤية المجتمع الذي كان يعيش فيه مهيار إلى الموضوع.
إن لهذا المجتمع مقاييسه الأخرى في التقييم، وقد اصطدم مهيار بهذه المقاييس
في مجالات من الحياة عديدة، كانت أقساها تجربته في علاقته بالجنس الآخر،
نعني تجربة حبه لفتاة كانت تختلف عنه نسبا.
كانت فتاة مهيار جميلة، صعبة القياد، ذات دلال ياسر، تبخل ولا تفي
بالوعود، كأي حبيبة عرفها الشعر العربي من قبل، ولكن مهيار يوظف بعض
المفارقات في لعبة فنية، فهي بخيلة وقومها عرفوا بالجود ويريد من قومها الذين
عرفوا بحفظ الجوار أيضا أن يؤنسوا فؤاده الذي التجأ إليهم ويردوه إليه، وفي هذا
إشارة من طرف خفي إلى موقف قومها منه، وكأنه يحثهم في إطار لعبة فنية على
إنصافه وهم الذين اتصفوا بصفات يريد لها الآن أن تفعل فعلها، ولنقرأ بعض ما
يقوله مهيار في هذا الصدد:
... من العربيات شمس تعود * بأحرار فارس مثلي عبيدا
إذا قومها افتخروا بالوفا * ء والجود ظلت ترى البخل جودا
ولو أنهم يحفظون الجوار *، ردوا علي فؤادي طريدا
تعجب به الفتاة في نادي قومها، ولكنها تسال عن نسبه يسرها ما تعلمه عنه
وعن أخلاقه غير أنها تريد أن تعلم ما حسبه.
أعجبت بي بين نادي قومها * أم سعد فمضت تسأل بي
سرها ما علمت من خلقي فأرادت علمها ما حسبي
قوة أخرى سوى شخصية الفرد ورؤيته ومؤهلاته نتحكم هنا انها تلغيه لتحل

256
مكانه الجماعة: القبلية أو الشعب وما يعنيه هذا من علاقات بين القبائل
والشعوب.
ويثير السؤال عن الحسب، في مثل حالة مهيار، قضية كبرى كثر الحديث
عنها وهي قضية السيد والمولى، وتثيره أسئلتها فيفخر بنسبه ومجد قومه القديم
فيقول:
لا تخالي نسبا يخفضني * أنا من يرضيك عند النسب
قومي استولوا على الدهر فتى * ومشوا فوق رؤوس الحقب
مؤكدا أن هذا الانتماء القديم لا يخفضه، ولنلاحظ اختياره لهذه الكلمة التي
تركز على المشكلة فكأنه يقول إن انتماءه إلى فارس لا ينقص من قدره فقومه قديما
فعلوا وفعلوا... ثم يعلن هويته الحقيقية وانتماءه:
قد قبست المجد من خير أب * وقبست الدين من خير نبي
ويكون بهذا قد جمع المجد من أطرافه:
وضممت الفخر من أطرافه * سؤدد الفرس ودين العرب
تعد قضية الانتماء أو قضية هوية الإنسان، أهم قضايا الفرد في كل عصر وقد
كانت على قدر من الأهمية كبير في تلك الفترة من فترات التاريخ العربي
الاسلامي وذلك لاشتداد الصراع بين العرب وعناصر ذلك المجتمع، هذا
الصراع الذي أبرز أشكالا عديدة: سياسية واجتماعية وثقافية، ولعل من أهم
هذه الأشكال ما عرف باسم " الشعوبية ".
لن ندخل في مشكلات هذه القضية التي قيل فيها الكثير ولكننا لن نهمل فيها
ما يتعلق بموضوعنا، إذا اننا سنعمد إلى طرح السؤال الذي يعنينا هنا محاولين
الإجابة عنه في مقاربة مباشرة لا تهتم باي إسقاطات ذاتية كانت أم خارجية
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل كان اعتداد مهيار بنسبه الفارسي يندرج
في إطار الحركة المناهضة للعرب أو أنه كان موقفا أملته معطيات مرحلة تاريخية كان
لمهيار رؤيته المميزة لقضاياها ومسائلها؟ وهل كانت هذه الرؤية المميزة منبثقة من
رؤية شاملة للكون والعالم؟ وما هي طبيعة هذه الرؤية الشاملة ليس من شك في
أن مهيار يذكر ماضي قومه ومجدهم ويذكر بذلك ويعلنه ففضلا عما أثبتناه له قبل
قليل، نثبت هنا مثالا آخر، وهو قوله:
... من بها ليل أنبتوا ريشة الأرض، وربوا عظامها والجلدا،
... بين جم وسابور أقيال *، يعدون مولد الدهر عدا،
والملفت أن ذكر مهيار لأمجاد قومه والتذكير به يندرج في إطار التأكيد أن نسبه
هذا لا يخفضه كما مر بنا آنفا، وكأنه يرد على من ينتقصه ويزري به بسبب من هذا
النسب، والملفت أيضا في موقف مهيار أنه يتجاوز هذا التذكير الدفاعي سريعا
لينظر إلى التاريخ: الفارسي والعربي والاسلامي أيضا نظرة تقويمية فيشيد بما يراه
جيدا ويتبناه وفق فهمه لأحداث التاريخ ومجرى الحياة. إنه يذكر للفرس
فضائلهم، ومنها، على سبيل المثال، العدل وحسن التنظيم، فيقول:
سير العدل في مآثرهم تروى * وحسن التدبير عنهم يؤدى
وقد مر بنا إعجابه بالعديد من فضائل العرب كالوفاء وحسن الجوار ورفض
الظلم والاباء ونورد هنا، على سبيل المثال، تقديره مشاعر العرب الإنسانية
وصدق حنينهم فيقول:
وحننت نحوك حنة عربية * عيبت، وتعذر ناقة إن حنت
ويبدو مهيار، في موقفه هذا، إنسانا متجردا عن الأهواء الشعوبية يطل على
العالم وينظر إلى قضاياه ومسائله ويتأملها ويعلن ما يراه حقا ومصيبا وفق أسس
تحدد انتماءه الحقيقي فلنحاول أن نتعرف إلى هذه الأسس مثبتين بعض الأمثلة
الدالة.
يقرأ التاريخ الفارسي، ويتوقف عند صفحات منه ينتصر فيها الحق ويرغم
المظلوم أنف الظالم، فمن جدوده:
من فرس الباطل بالحق ومن أرغم للمظلوم أنف الظالم
ويقرأ التاريخ العربي، ويشيد بفضائل فيه مشرقة ولكنه ينخرط كليا في بهاء
الفجر الذي أشرق وأبان نهج السبيل وحدد دروب العيش:
- ما برحت مظلمة دنياكم * حتى أضاء كوكب في هاشم
- أبان الله نهج السبيل * ببعثته وأرانا الغيوبا
هنا، تتحدد هوية مهيار الحقيقية، انه ينتمي إلى هؤلاء الذين فرج الله بهم
الضيق فكشفوا اللبس، وحملوا الناس على الصراط " وحطموا " ود " و " هبل "
وأيقظوا للرشد أبصار القلوب. وتتجلى هوية مهيار في موقف لا يدع مجالا
للشك، إذ انه ينتمي للفتية الذين داسوا تيجان ملوك قومه وحطموا عروشهم
ولعبوا بجماجمهم كي يبنوا للانسان عالما جديدا أبان الله نهجه ببعثه خاتم الأنبياء
والرسل، ولنقرأ بعض ما يقول في هذا الصدد:
ديست من الشرك بهم جماجم * ترابها من عزه لم يدس
ساروا بتيجان الملوك عندنا * معقودة على الرماح الدعس
إن هؤلاء الذين داسوا جماجم ملوك قومه وحطموا تيجانهم، كما حطموا
" ود " و " هبل " هم الذين فكوا أسره وأعطوه قيمته الانسانية، وهم قومه وإليهم
ينتمي:
وفك من الشرك أسرك وكان * غلا على منكبي مقفلا
إن أسس رؤية مهيار هي مبادئ الاسلام، ولهذا لم تعد التيجان
" الكسروية " تعنيه إن ديست، كما أنه صار يطمح إلى تحقيق نظام اسلامي ويريد
ذلك رافضا النظام " الكسروي " و " الأردشيري " وكل نظام يقوم على شاكلته في
هذا الإطار من الرؤية ينبغي أن ننظر إلى مواقف مهيار ويحق لنا أن نسأل كل
مجادل، أنطلب من رجل يرفض أنظمة قومه لأنها ذات طبيعة معينة أن يقبل أنظمة
أخرى ذات طبيعة مشابهة لقوم آخرين ثم نسأل: أيحق لنا إن رأيناه يرفض مثل هذه
الأنظمة أن نعده مناهضا للعرب وشعوبيا؟
يقول مهيار، بعد مقدمة وجدانية وعرض تاريخي، متحدثا عن طبيعة
الحكم في الاسلام منتهيا إلى رفض نظام معين لأنه ذو طبيعة لا تنتمي إلى الاسلام
وإنما إلى مبادئ ومفاهيم مغايرة سماها " أردشيرية "
- وقلبها " أردشيرية " * فخرق فيها بما أشعلا
- وردها عجما " كسروية " * يضاع فيها الدين حفظا للدول
إن لمهيار هنا منطلقاته ومقاييسه التي تختلف عن منطلقات الآخرين
ومقاييسهم فهو يجد هذا الحكم ذا الطبيعة الخاصة شبيها بالنظام
" الكسروي ". وهو يرفضهما معا داعيا إلى نظام اسلامي عادل تسود فيه

257
" الأسوة "، معلنا انتماءه للساعين إلى إقامة مثل هذا النظام مهما كلفه هذا الأمر
من مشاق ومتاعب وتضحيات، فيقول مخاطبا الإمام العادل:
ثم قسمت بالسواء بينهم * فعظم الخطب عليهم وثقل
عاديت فيك الناس لم أحفل بهم * حتى رموني عن يد إلا الأمل
ولو يشق البحر ثم يلتقي * فلقاه فوقي في هواك لم أبل
ويعود مهيار، في موقفه هذا، إلى مبادئ الاسلام فيختار شعارا له: " الله
أعلى في الورى ".
... فيقول:
يستشعرون " الله أعلى في الورى " * وغيرهم شعاره " اعل هبل "
مشيرا إلى قول أبي سفيان، في يوم أحد: " أعل هبل " الذي سمعه النبي
فامر عمر بن الخطاب بأن يجيبه فيقول: " الله أعلى وأجل ".
ويبدو أن انتماء مهيار الصادق للاسلام هو الذي يحدد مفاهيمه ومواقفه
ويوجه سلوكه. وفي سبيل استكمال الإجابة عن سؤالنا الذي طرحناه آنفا
سنحاول تلمس مفهومه للقرابة وأسسه لإقامة العلاقات الانسانية
إن مفهوم مهيار للقرابة واضح، وهو يتجلى في العديد من قصائده ولعلنا
لا نجانب الصواب عندما نقول أنه ينطلق مما يفيده هذا البيت:
وود " سلمان " أعطاه قرابته * يوما، ولم تغن قربى عن " أبي لهب "
ليؤكد:
أحببتكم، وبعد بين دوحتنا * فكنت بالحب أي مقترب
فما سرني في الحق أني مع العدا * ولا عاب أني في المحال على أبي
خلقت رقيق القلب صعبا تقلبي * أرى لبعيد ما أرى لقريب
أخي في الود فوق أخي النسيب * وخلى دون كل هوى حبيبي
ومولاي البعيد يقول خيرا * قريب قبل مولاي القريب
وليبني سلوكه على أسس تنطلق من مفاهيم الحب والحق والخير والتجرد في
الرؤية والحكم فيقول:...
ورب أخ قصي العرق فيه * سلو عن أخيك في الولاد
فلا تغررك ألسنة رطاب * بطائنهن أكباد صوادي
وعش إما قرين أخ وفي * أمين الغيب أو عيش الوحاد
وهكذا يبدو واضحا أن مهيار بن مرزويه الديلمي تخلى عن انتماءاته العرقية
والوطنية والإقليمية واختار هوية له تتمثل في الاسلام سالكا في الحياة وفق
الطرق التي تحددها ناظرا إلى الدنيا بمنظارها راجيا من الله أن يثيبه على ذلك:
وإن أك من " كسرى " وأنت لغيره * فإني في حب " الوصي " نسيب
ومهما يثبك الشعر شكرا مخلدا * عليها، فإن الله قبل يثيب
6 - مسألة خلافية
وفي تفصيل لقضية الانتماء التي وصلنا فيها إلى إجابة نعتقدها مصيبة تلفتنا
مسألة تعلنها عبارة " حب الوصي نسيب " إذ أن هذه العبارة تشير إلى أن مهيار
كان يقف إلى جانب اتجاه في الإسلام كان يرى أنه المحق، وذلك انطلاقا من
رؤيته الشاملة إلى العالم، وبخاصة في ما يتعلق بطبيعة الحكم وبنية النظام
وتنظيم العلاقات الإنسانية...
إن تطرقنا إلى هذه المسألة يندرج في إطار مقاربتنا التي قلنا إنها ستكون
مباشرة، كما أنه يبدو ضروريا لفهم موقف قيل لمهيار بسببه انه انتقل في النار من
زاوية إلى زاوية. وإن يكن في تطرقنا إثارة لمسألة خلافية في وقت نحن فيه بأمس
الحاجة إلى الوحدة، فان اغفالنا لا يلغي الخلاف وقد يكون في النظر الموضوعي
الهادئ قدر كبير من الجدوى على صعيد فهم طبيعة الخلاف وحدوده، الأمر
الذي يلغي تأثيره على المستويات الأخرى.
يقرأ مهيار التاريخ الاسلامي على ضوء فهمه لمبادئ الاسلام المأخوذة في
مصدريه: الكتاب والسنة، ويتخذ موقفا، مستندا إلى حجج يبسطها في عدة
قصائد طويلة يمدح بها أهل البيت. وحججه تتمثل في ثلاث: حجة نقية تقول
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى للأمام علي عليه السلام من بعده بالخلافة وحجة عقلية جدلية
تناقش أسس قريش في اختيارها من اختارت للخلافة وحجة مبدئية تتعلق
بالكفاءة وطبيعة النظام ومفهوم الحكم من جنب علاقته بالله وبعبيده. وهذا
كله سوف نلم به من خلال عرضنا لنموذجين من قصائد مهيار عرضا موجزا،
على سبيل المثال.
يبدأ مهيار قصيدته، على عادته، بمقدمة وجدانية تمهد للموضوع وترسم
إطاره وتكون مناخه، ثم يذكر مناقب أهل البيت ويجادل قريشا في مواقفها طالبا
منها أن تقر بنعمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المرشد وأن تتبع سننه:...
وقل: ما لكم بعد طول الضلال * لم تشكروا نعمة المرشد
أتاكم على فترة فاستقام * بكم جائرين عن المقصد
وولى حميدا إلى ربه * ومن سن ما سنه يحمد
وقد جعل الأمر من بعده * لحيدر بالخبر المسند
وسماه مولى باقرار من * لو اتبع الحق لم يجحد
ثم يناقش قريشا ادعاءها أن ذلك كان عن اجماع المسلمين، وينتهي إلى
القول أنه لم يكن اجماعا، ثم يشيد بموقف الإمام علي الذي صبر من أجل
انتصار الاسلام، ولكن ما حدث في ما بعد كان كما يرى:
أرى الدين عن بعد يوم الحسين * عليلا له الموت بالمرصد
وينتهي به هذا العرض وهذا النقاش إلى إعلان موقف طالب في مطلع
القصيدة أن يتخذ، وهو الايمان بالحق والاقرار بالفضل وتأييد ذلك:
وفيكم ودادي وديني معا * وإن كان في فارس مولدي
خصمت ضلالي بكم فاهتديت * ولولاكم لم أكن أهتدي
وجردتموني وقد كنت في * يد الشرك كالصارم المغمد
ولا زال شعري من نائح * ينقل فيكم إلى منشد
وما فاتني نصركم باللسان * إذا فاتني نصركم باليد
وفي قصيدة ثانية، يبدأ مهيار بمقدمة وجدانية نحس فيها أسى وحزنا
عميقين ويسيطر عليها الاحساس بحق مضاع، ينتقل بعدها إلى مناقشة
موضوعه فيعرض للواقع:
هذي قضايا رسول الله مهملة * غدرا، وشمل رسول الله منصدع...
وآله، وهم آل الاله، وهم * رعاة ذا الدين ضيموا بعده ورعوا
ميثاقه فيهم ملقى، وأمته مع من بغاهم وعاداهم له شيع
ثم يعود إلى التاريخ فيعرض احداثه ويتوقف إزاء بيعة يوم الغدير " التي
ضاعت

258
ما بين ناشر حبل أمس أبرمه * تعد مسنونة من بعده البدع
ويتجاوز الكثير من الأمور:
فقلت: كانت هنات لست أذكرها * يجزي بها الله أقواما بما صنعوا
بغية إبلاغ رجال موقفا سياسيا يناقش أسسهم في اختيار الخليفة
بأي حق بنوه يتبعونكم * وفخركم أنكم صحب له تبع...
وفيم صيرتم الاجماع حجتكم * والناس ما اتفقوا طوعا ولا اجتمعوا
ويستطرد موضحا حججه، وينتهي إلى إكبار الإمام علي وبيان ما يتميز به
من صفات وكفاءة:
صبرت تحفظ أمر الله ما اطرحوا * ذبا عن الدين فاستيقظت إذ هجعوا
وكان، في مكان آخر، قد أشار إلى نهج الإمام في الحكم، ومن
إشاراته:
- ثم قسمت بالسواء بينهم * فعظم الخطب عليهم وثقل
- ولما امتطاها علي، أخو * ك، رد إلى الحق فاستثقلا،
ويؤكد تأييده للحق:
جاهدت فيك بقولي يوم تختصم * الأبطال، إذ فات سيفي يوم تمتصع،
هذا الحق الذي يمثل دنياه وآخرته:
هواكم هو الدنيا وأعلم أنه * يبيض يوم الحشر سود الصحائف
قيل في مواقف مهيار الكثير، وقد أشرنا إلى بعض ما قيل، وكان مهيار
يعرف ما يقال عنه، فكان يبتسم مشفقا على القائلين، ثم لا يلبث أن يخاطبهم
محددا أسباب غيظهم ودوافعه طالبا من الله أن يكون الحكم فيلعن المداجي
والكاذب ويعذبهما:...
من معشر لما مدحتك غظتهم * فتناوشوا عرضي وشانوا شانيا
لما رأوا ما غاظ مني شنعوا * حاشاك أني قلت فيك مداجيا
والله ينصب لعنه وعذابه * من قال فيك ومن يقول مرائيا
7 - هم الشعر
ويتضح، من خلال هذا كله، ان مهيار لا يناهض العرب، كما أنه لا
يناصر الفرس، وإنما يتخذ مواقف تنبثق من رؤية إنسانية للعالم والحياة واضحة
وشاملة وعميقة، وترتكز رؤيته على إيمان عميق بمبادئ الاسلام الذي فك
أسره وهداه وجعله إنسانا ذا قيمة ومعنى في هذا الوجود. وكان يريد لشعره أن
يعادل هذه الرؤية فنيا وينقلها للآخرين، كما بدا لنا من تأكيده على عزمه نصرة
مبادئه بشعره ولسانه.
وهذا يعني أن مهيار كان يرى أن للشعر تأثيرا في القلوب كبيرا قد يفوق
تأثير السيوف القواطع:
إن اللسان لوصال إلى طرق * في القلب لا تهتديها الذبل الشرع
وطالما كان للشعر مثل هذا التأثير في التغلغل إلى حنايا النفس الإنسانية،
فإن الشاعر كان يجهد في صوغه شعرا جميلا مؤثرا يصفه بقوله:
وكالشجا قافية أسغتها * لو عارضت حنجرة البازل أط
(أظ = أن).
ويتضح، من خلال قراءة نماذج من قصائد مهيار، أنه يملك مفهوما
للشعر يرى إليه بوصفه التعبير الصادق الجميل الذي يجسد الرؤية وينقلها مؤثرا
أشد تأثير. وانطلاقا من هذا الفهم للشعر كان مهيار يعنى بشعره عناية فائقة
فيقول موجبا العناية به محددا مصدره:
وأحن عليه فإنه ولد أبوه قلب وأمه خاطر
وإن يكن الشعر في مثل هذا الموقع، كانت العناية به واجبة، وقد يرقى
حب صون الشعر وعدم امتهانه إلى مستوى الواجب الديني:
والشعر صنه، فالشعر، يحتسب الله، إذا لم يصن على الشاعر
لا تمتهنه في كل سوق فقد * تربح حينا وبيعك الخاسر
وينسجم مهيار مع فهمه هذا فيصون شعره عن الهجاء والمديح الكاذب
ويحصر أغراض شعره في شؤون حياته الخاصة من تهنئة وعتاب وشكر ووصف
مقدما لهذا كله بمقدمات وجدانية. وهو إن مدح أحدا فلا يقف على الأبواب
ويمدح بما يراه مناقب تستاهل المديح، فيقول، على سبيل المثال في احدى
قصائده المدحية:
ينصح الله والخلافة لا * يرفع في شهوة ولا يضع
وزارة مذ أتيتها عاشت السنة وماتت البدع
تشهد لي انها اليقين قضا * يا الله والمسلمون والجمع
وقد جعله هذا الفهم للشعر: مصدرا ووظيفة وتأثيرا يبتعد عن التقليد
وبخاصة عن المقدمات الطللية فنسمعه يقول فيها:
أجدك بعد أن ضم الكئيب * هل الأطلال إن سئلت تجيب
ويبدو مهيار، في قوله هذا، وكأنه يحث على الانصراف إلى موضوعات
الحياة وقضايا الإنسان.
إن اللافت في شعر مهيار، وقد أشرنا إلى ذلك غير مرة، ولعلنا لاحظناه
في الأبيات التي كنا نثبتها استشهادا، هو فنية هذا الشعر المتمثلة في الصور وفي
فنية الأسلوب وأناقته، نلمس هذه الفنية التي تبعد عن الصناعة البديعية وإن
كانت تفيد منها صانعة ما يسمى ب‍ " سحر الألفاظ " المتكون من تضادها وتآلفها
وتكرارها وتناغمها وتكونها موسيقى داخلية تلحظ في الكثير من المقاطع
والأبيات.
والواقع أن الأمثلة على ما نذهب إليه كثيرة جدا، ونكتفي هنا على سبيل
التمثيل فقط، إضافة إلى معظم ما اقتبسناه استشهادا في ثنايا قراءتنا هذه،
بذكر بعض الأبيات المشيرة إلى ما نذهب إليه ولنقرأ هذا البيت:
أما ترون كيف نام وحمى * عيني الكرى، فلم ينم ظبي الحمى!؟
ونتوقف أمام هذه الألف التي تتكرر وكأنها نفس طويل يتأوه أو كأنها امتداد
مدى يرتسم في الأفق، بانتظار إطلالة، ويقوم الانتظار قلقا ومتقطعا، فلنذكر
كي نحس بذلك إلى هذه المحطات التي نتوقف عندها في هذا المدى الممتد
بعيدا، "... حمى "، "... الكرى "، "... الحمى "، انها محطات نرقب
فيها اطلالة هذا الظبي في انتظار يطول فيه السهر والتأوه والتطلع إلى
البعيد...

259
لا نريد الإطالة، وإنما هي بعض إيحاءات هذا البيت الذي لم نبحث عنه
كي نجده، إذ أن أمثاله كثير في ديوان مهيار الضخم.
ولنقرأ هذه الأبيات متوقفين لدى " سحر الألفاظ " وروعة الصور وسمو
العاطفة وعمقها:
أعير المنادي باسمها السمع كله * على علمه أني بذاك مريب
وكم لي في ليل الحمى من إصاخة * إلى خبر الأحلام وهو كذوب
وما حب مي غير برد طويته * على الكره طي الحرث، وهو قشيب
أحين عسا غصني طرحت حبائلي * إلي، فهلا ذاك وهو رطيب
وما كان وجه يوقد الهم تحته * لتنكر فيه شيبة وشحوب
كثيرة هي خطوب الدهر التي توقد الهم، مر بنا عيش مهيار لبعضها
ويضيف إليها، في هذا المقام، هم جديد، وهو هم الشعر الذي يقول عنه
مهيار، مخاطبا أحد الوزراء:
- وتحمون البلاد وفي ذراكم * حريم الشعر منتهك سليب
هم الشعر أو حماية الشعر من الانتهاك والسل هم مؤرق كبير، وبخاصة لمن
يمتلك رؤية ويلتزم مبادئ ويريد لشعره أن يكشف على أضواء هذه الرؤية وأن
ينبثق عن هذه المبادئ. إن من يحمل هذا الهم يغدو، في زمن مثل زمن
مهيار، مثل هذا الذي يصوره الشاعر بقوله:
أما جنى خيرا له آدابه * أعاذكن الله من شر الأدب
هو الذي أخرني مشارف * السبق، فاظما شفتي على القرب،
- تجمع بين الماء والنار يد * وما جمعت الرزق والأديبا
ولا يرى مهيار هذا امرا عجبا، فيقول وكأنه يعزي نفسه:
لا تحسب الهمة العلياء موجبة * رزقا على قسمة الأقدار لم يجب
لو كان أفضل من في الناس أسعدهم * ما انحطت الشمس من عال عن الشهب
8 - غريب في باب الله
إنه إيمان بالقدر، ومثل هذا الايمان قد يجعل الوحدة والغربة ممكنتين تظما
شفتا مهيار على القرب... تروقنا الصورة الحسية المنتزعة من صميم الحياة
ونكاد نصرخ ما أروعها، ولكننا ندرك أن ما يمتاز به من مواهب ومناقب ورؤى
أوصله إلى هذا الظمأ، وعندما يمد يده إلى الخلان يصاب بالخيبة، ويعبر عن
خيبته في صورة رائعة أخرى منتزعة من صميم الحياة أيضا فيقول:
تستحفل الضرع فأن لامسته * عاد بكيئا جلده بلا حلب
إن إنسانا يعيش مثل هذا الواقع يحس إن عاده أحدهم في مرض أو تفقده
كأحمد بن عبد الله الكاتب أن هذا صنيع غريب، فيخاطبه عندما يفعل هذا:...
ولا تعدم الدنيا بقاءك وحده * فإنك في هذا الزمان غريب
يسلم الشاعر أمره للدهر، ثم نلحظ في ابيات كثيرة عدم اهتمامه بأمور
الدنيا مثل قوله:
تلاعبت بي يا دهر حتى تركتني * وسيان عندي جد خطب ولعبه
ولكننا نلاحظ أيضا أن استسلام مهيار ليس استسلاما عبثيا يائسا، وإنما
هو يسير مسلما أمره، في رحلة هذه الحياة ذات الفضاء الواسع لله، كما يقول:
وقلت: باب الاله إن ضقت مفتوح، وهذا الفضاء متسع
9 - كلمة أخيرة
وأعتقد أننا، من خلال هذه القراءة السريعة في ديوان مهيار الديلمي
استطعنا أن نشير إلى مكونات أساسية في شخصيته وإلى عناصر مركزية في
رؤيته، فضلا عن إماطتنا اللئام عن بعض المشكلات وقد يكون في هذا الصنيع
مدخل لدراسات أرحب تحيط وتتعمق، ومهيار بهذا جدير.
رأي في مهيار الديلمي
يقول حسن الأمين: كان المؤرخ المصري الدكتور محمود علي مكي قد نشر
بحثا عن التشيع في الأندلس، فكتبت إليه بملاحظاتي على ما كتب، فأرسل إلي
رسالة تعرض فيها لذكر مهيار قال فيها:
كان موضوع التشيع يستهويني إذ كنت مشتغلا به من قبل، وذلك منذ
تخرجي من كلية الآداب في جامعة القاهرة كنت متوفرا على دراسة شاعر ما زال
في نفسي حنين إلى العودة إليه، شاعر ما زلت اعتبره أعظم شعراء العربية على
الاطلاق، هو مهيار الديلمي الذي كنت في ذلك الوقت احفظ معظم ديوان
شعره، ولست انفك حتى الآن أردد النظر في قصائده ولا سيما شيعياته التي
اعتبرها من غرر شعر العقائد بما فيها من حرارة العاطفة ونصاعة البراهين
والمقدرة على الحجاج، وما زلت حتى الآن أترنم في الأوقات التي أخلو فيها إلى
نفسي بعينيته:
هل بعد مفترق الأظعان مجتمع * أم هل زمان بهم قد فات يرتجع
أو بداليته:
بكى الناس سترا على الموقد * وغار يغالط في المنجد
أو بلاميته:
سلا من سلا من بنا استبدلا * وكيف محا الآخر الأولا
وما أشد شوقي إلى أن أعود إلى مهيار وأتوفر عليه مرة أخرى بعد أن
قطعتني عنه دراساتي الأندلسية واقتحامي ميادين أخرى بعيدة عن ميدان ذلك
الأدب الشيعي الذي كان يستهويني كثيرا من قبل.
من شعره
وقال وأنشدها الأمير سند الدولة أبا الحسن بن مزيد في داره بالنيل
هب من زمانك بعض الجد للعب * واهجر إلى راحة شيئا من التعب
ما كل ما فات من حظ بليته عجز، ولا كل ما يأتي بمجتلب
لا تحسب الهمة العلياء موجبة * رزقا على قسمة الأقدار لم يجب
لو كان أفضل من في الناس أسعدهم * ما انحطت الشمس عن عال من الشهب
أو كان أسير ما في الأفق أسلمهم * دام الهلال فلم يمحق ولم يغب
يا سائق الركب غربيا وراءك لي * قلب إلى غير نجد غير منقلب
تلفتا، فخلال الضيق متسع * ورب منجذب في زي مجتنب
قف ناديا آل بكر في بيوتكم * بيضاء يطربها في حسنها حربي
لما رأت أدمة نكرا وغائرة * شهباء راكضة في الدهم من قضبى
لوت - وقد أضحكت رأسي الخطوب لها - * وجها إلى الصد يبكيني ويضحك بي
لا تعجبي اليوم من بيضائها نظرا * إلى سنيي، فمن سودائها عجبي

260
ما زلت - علما بان الهم مخترم * عمر الشيبة - أبكيها ولم أشب
وسوم شيب، فإن حققت ناظرة * فإنهن وسوم في للنوب
ترى نداماى ما بين الرصافة فالبيضاء * راوين من خمر ومن طرب؟
أو عالمين - وقد بدلت بعدهم - * ما دار أنسى وما كأسي وما نشبي؟
فارقتهم، فكأني - ذاكرا لهم - * نضو تلاقت عليه عضتا قتب
سقى رضا عن الأيام بينهم * غيث، وبان عليها بعدهم غضبي
إذ نسكب الماء بغضا للمزاج به * ونطعم الشهد إبقاء على العنب
يمشي السقاة علينا بين منتظر * بلوع كأس ووثاب فمستلب
كأنما قولنا للبابلي: أدر * حلاوة، قولنا للمزيدي: هب
فدى علي جبان الكف مقتصر * من الفخار على الموروث بالنسب
يرى أبوه ولا ترضى مكارمه * الأرض صحت وأودى الداء بالعشب
ومشبعون من الدنيا وجارهم * بادي الطوى ضامر الجنبين بالسغب
قل للأمير، ولو قلت: السماء به مفضوحة الجود، لم تظلم ولم تحب:
أعطيت مالك، حتى رب حادثة * أردت فيها الذي تعطى فلم تصب
لو سمت نفسك أن ترتاض تجربة * بحفظ ذات يد يومين لم تطب
كأن مالك داء أنت ضامنه * فما يصحك إلا علة النشب
لو كان ينصفك العافون لاحتشموا بعض السؤال، فكفوا أيسر الطلب
يا بدر عوف، وعوف الشمس في أسد * وأسد شامة بيضاء في العرب
أنتم أولو الباس والنعماء، طارفة * أخباركم، وعلى تلد من الحقب
أحلى القديم حديثا جاهليتكم وقص أسلافكم من رتبة الكتب
ما كنتم مذ جلا الإسلام صفحته * إلا سيوف نبي أو وصي نبي
بكم بصفين سد الدين مسكنه * وآل حرب له تحتال في الحرب
وقام بالبصرة الإيمان منتصبا * والكفر في ضبة جاث على الركب
حتى تقيلتها إرثا، وأفضل ما * نقلت دينك شرعا عن أب فأب
إذا رأيت نجيبا صح مذهبه * فاقطع بخير على أبنائه النجب
لا ضاع، بل لم يضع يوم انتصرت به * وأنت كالورد، والأعداء كألقرب
وقد أتوك برايات مكررة * لم تدر قبلك ما اسم الفر والهرب
تمشي بهم ضمر، أدمى روادفها * غرور فرسانها بالفارس الذرب
لما دعوت عليا بينهم، ضمنت * لك الولاية فيهم ساعد العطب
حكت رؤوس القنا فيه رؤوسهم * حتى تموهت الأعناق بالعذب
وطامع في معاليك ارتقى فهوى * وهل يصح مكان الرأس للذنب؟
ما كان أحوج فضلا تم فيك إلى * عيب يعوذه من أعين النوب
أحببتكم، وبعيد بين دوحتنا * فكنت بالحب منكم أي مقترب!
وود سلمان أعطاه قرابته * يوما، ولم تغن قربى عن أبي لهب
ورفع الصون إلا عن مناقبكم * أسباب مدحي في شعري وفي خطبي
فما تراني أبواب الملوك مع * الزحام فيها على الأموال والرتب
قناعة رغبت بي عن زيارة مسدول * الستور وعن تاميل محتجب
ولي عوائد جود منك لو طرقت * تستام ملكك لم تحرم ولم تخب
ملأت بالشكر قلب الحافظ الغزل * الفؤاد منها وأذن السامع الطرب
فرأي جودك في أمثالها لفتى * أتاك بالحرمتين الدين والأدب
ومن توسل في أمر فما سبب * إليك أوكد في الأمرين من سببي
وقال:
وتعجب أن حصت قوادم مفرقي * وأكثر أفعال الزمان عجيبها!
ومن لم تغيره الليالي بعده * طوال سنيها غيرته خطوبها
إذا سل سيف الدهر والمرء حاسر * فاهون ما يلقى الرؤوس مشيبها
يعدد أقوام ذنوب زمانهم * فمن لي بأيام تعد ذنوبها
يقولون: دار الناس ترطب أكفهم * ومن ذا يداري صخرة ويذيبها؟
وما أطمعتني أوجه بابتسامها * فيؤيسني مما لديها قطوبها
وفي الأرض أوراق الغنى لو جذبتها * لرف على أيدي النوال رطيبها
إذا إبلي أمست تماطل رعيها * فهل ينفعني من بلاد خصيبها؟
عذيرى من باع يود لنفسه * نزاهة أخلاقي، ويمسي يعيبها
إذا قصرت عني خطاه أدب لي * عقارب كيد غير جلدي نسيبها
وقال:
كم أداري عنت الأيام في * غبن حظي وأطاطي للخطوب؟
وأرد الحزم في أفحوصه * وهو هاف يتنزى للوثوب
قاعدا والجد قد رحل بي * والمعالي يتقاضين ركوبي
جلسة الأعزل يلوي يده * وسلاحي بين كورى وجنيبي
أمدح المثرين ظنا بهم * ربما يقمر بالظن الكذوب
كل وغد الكف منبوذ الحيا * طيب المحضر مسبوب المغيب
يمنع الرفد وتلقى وفده * قحة البخل بادلال الوهوب
يطلب المدح لأن يفضحه * وهو قبل المدح مستور العيوب
قلت للآمال فية - كذبت * أمه -: إن كنت آمالي فخيبي
جلب الأرض عريض دونه * وسرى العيس وإدمان اللغوب
وغلام آخذ ما طلبت * نفسه أو فائت كل طلوب
يقمح الضيم ولو أبصره * ليلة العشر على الماء الشروب
ما أذل الخصب في دار الأذى * وألذ العز في دار الجدوب
يا بني كل نعيم ضاحك * في حمى وجه من اللؤم قطوب
قد مللناكم على شارتكم * ويضيق الصدر في البيت الرحيب
وعسى الدنيا التي أدتكم تصطفينا من بنيها بنجيب
ماجد الشيمة سهل، ليله * للقرى، صب إلى الحمد طروب
يكسب المال لأن يتلفه * والعلا في يد متلاف كسوب
تخبث الأيدي وفي راحته * من نداه أرج المشتا المطيب
وقال يرثى الشريف الرضي:
من جب غارب هاشم وسنامها * ولوى لويا فاستزل مقامها؟
وغزا قريشا بالبطاح فلفها * بيد وقوض عزها وخيامها؟
وأناخ في مضر بكلكل خسفه * يستام، واحتملت له ما سامها؟
من حل مكة فاستباح حريمها * والبيت يشهد - واستحل حرامها؟
ومضى بيثرب مزعجا ما شاء من * تلك القبور الطاهرات عظامها؟
يبكي النبي ويستنيح لفاطم * بالطف في أبنائها أيامها
الدين ممنوع الحمى، من راعه؟ * والدار عالية البنا، من رامها؟
تناكرت أيدي الرجال سيوفها * فاستسلمت أم أنكرت إسلامها؟
أم غال ذا الحسبين حامى ذودها * قدر أراح على الغدو سوامها؟
فتقامصت ملسوعة بشتاتها * تسم المذلة بزلها ووسامها

261
أخلق بها مطرودة من بعده * تشكو على قرب الحياض أوامها
لمن الجياد مع الصباح مغارة * تنضي الظلام وما نضى أجسامها؟
صبغ السواد - ولم تكن مسبوقة - * أعرافها ظلما وعم لمامها
من كل ماشية الهوينا أنكرت * شقاتها واستغربت إحجامها
جرداء تسال ظهرها عن سرجها * وتجر حبلا لا يكون لجامها
بكر النعي من الرضي بمالك * غاياتها متعود إقدامها
كلح الصباح بموته من ليلة * نفضت على وجه الصباح ظلامها
صدع الحمام صفاة آل محمد * صدع الرداء به وحل نظامها
بالفارس العلوي شق غبارها * والناطق العربي شق كلامها
سلب العشيرة يومه مصباحها * ورمى الردى عمالها علامها
برهان حجتها الذي بهرت به * أعداءها وتقدمت أعمامها
دبرتها كهلا وسدت كهولها * ترضي النفوس وكنت بعد غلامها
النص مروي وكنت دلالة مشهورة لما نصبت إمامها
قدمت فضلتها وجئت فبرزت * سبقا خطى لك أحرزت إقدامها
كم رضت بالارفاق نخوة عزها * والعسف حتى جمعت أحلامها
ولقد تكون مع الفظاظة رحمة * وعلى جفائك واصلا أرحامها
قودتها للحق إذ هي ناشط * لا تستطيع يد الزمان خطامها
حتى تصالحت القلوب هوى على * إعظامها وتصافحت إجرامها
فلئن مضى بعلاك دهر صانها * فلقد أتى برداك يوم ضامها
يوم إذا الأيام كن سوانحا * بالصالحات وعد فيها شامها
من حط هضبتك المنيفة بعد ما * عيي الزمان فما استطاع زحامها؟
ورقى إباءك فاستجاب بسحره * صماء لم تعط الرقى أفهامها
فض الحمام إليك حلقة هيبة * ما خلت حادثة تفض ختامها
واستعجلتك يد المنون بحثها * قبل السنين وما أطلعت تمامها
أفلا تطاعن دون مبلغك الردى * خيل أطلت لحاجة إلجامها؟
وتقوم حولك سمحة بنفوسها * عصب على العوجاء كنت قوامها
وبلى وقتك! لو أن قرنك يتقي * ما خلفها طعنا وما قدامها
ولعرضت في الذب دونك أوجها * للضرب أكثرت السيوف لطامها
تلقى الحديد بمثله من صبرها * فتخال من أدراعها أجسامها
ما ضرها لما ضفت أعراضها * جننا لها أن لم تسربل لامها
تحميك منها كل نفس مرة يحلو فداءك أن تذوق حمامها
لكن أصابك عائر من مخلس، * لا تضبط الحدق الحسان سهامها
وصلت بلا إذن وأنت محجب * وقضت عليك فلم تفت أحكامها
سفرت بك الأخبار حين سألتها * دردا فليتني استطلت لثامها
ورأيت ساعتك التي فجئت فخلت * الساعة اقتربت بها وقيامها
حل الملوك لك الحبى وتسلبت * قمم عمائمها استنبن كمامها
تستاف تربك تشتفي بشميمه * من داء فقدك وهو جر سقامها
ومشت على رمض الهجير أخامص * ربت النعيم فما شكت أقدامها
أبكيك للدنيا التي طلقتها * وقد اصطفتك شبابها وعرامها
ورميت غاربها بفضلة [معرض] * زهدا وقد ألقت إليك زمامها
والأرض كنت على قفارة ظهرها * علما إذا كتم الدجى أعلامها
ولدتك ثم تحولت لك في أخ * وعلى بنيها الكثر كنت عقامها
ولقولة عوصاء ارتج بابها * ففتحته لما ولجت خصامها
وقلائد قذفت بحارك درها * وقضى لسانك رصفها ونظامها
هي آية العرب التي انفردت بها * راعيت فيها عهدها وذمامها
كم معجز منها ظهرت بفضله * سير الرجال فلم تجد أفهامها
وغريبة مسحت يداك مؤانسا * منها النفور ومفصحا إعجامها
حمست حتى قيل: صب دماءها * وغزلت حتى قيل: صب مدامها
ماتت بموتك غير ما خلدته * في الصحف إذ أمددته أقلامها
قد كنت ترضاني إذا سومتها * تبعا وأرضى أن تسير أمامها
وإذا سمعت حمدت صفوى وحده * وذممت غش القائلين وذمامها
فتركتني ترك اليمين شمالها * فردا أعالج فاتلا إبرامها
حيران أسال: أين منك رفادتي، * دهش البنان تفقدت إبهامها
لا سامع يصغي ولا ذو قولة * أصغي له، يا وحدتي ودوامها!
فبرغم أنفي أن أبثك لوعتي * والأرض قد بثت عليك رغامها
وأبى الوفاء - إذا الرجال تحرجت * حنث اليمين - فحللت أقسامها،
لأساهرن الليل بعدك حسرة * إن ليلة عابت حزينا نامها
ولأشرجن عن العذول على الأسى * أذنا محرمة على من لامها
ولأبدلن الصبر عنك بقرحة * في الصدر لا يجد الدواء لحامها
أبكي لأطفئها وأعلم أنني * بالدمع محتطب أشب ضرامها
عصر الغمام ثراك ثم سقى به * أرضا تظلم مذ فقدت غمامها
بك أو بجدك أو أبيك نغاث في * السقيا إذا الشهباء خفنا عامها
فسواك لو كان المقيم بحفرة * يبس لقلت: سقى السحاب رمامها
قال وقد رثى الشريف الرضي بالقصيدة الميمية، وشقت على جماعة ممن
كان يحسد الرضي بالفضل في حياته أن يرثى بمثلها في وفاته، ونسبه قوم إلى
السرف فيما أدعى له ولنفسه من اللحاق به وشدة الأنس معه، حبا لأن تضاف
بعض المحاسن إليهم، وطعنوا في غرضه من الإقرار بالتوحيد، وتكلموا في
ذاك، وكان فيهم من رثاه بما ظاهره التأسي، وباطنه الشماتة، بشعر لا يسر
سامعا، ولا يملك فهما، فأسف لمكان قصوره عما كان يجب أن يقدر على قوله،
وعمل هذه القصيدة يرثيه، ويلوح بذكرهم، ويزيد في غيظهم:
أقريش، لا لفم أراك ولا يد * فتواكلي، غاض الندى وخلا الندي
حولست، فالتفتي باوقص، واسألي * من بز ظهرك، وانظري من أرمد
وهبي الذحول فلست رائد حاجة * تقضى بمطرور ولا بمهند
خلاك ذو الحسبين أنقاضا متى * تجذب على حبل المذلة تنقد
قمر الدنا أضحت سماؤك بعده * أرضا تداس بحائر وبمهتدى
فإذا تشادقت الخصوم فلجلجي * وإذا تصادمت الكماة فعردي
يا ناشد الحسنات طوف فاليا * عنها وعاد كأنه لم ينشد
اهبط إلى مضر فسل حمراءها * من صاح بالبطحاء يا نار اخمدي؟
بكر النعي فقال: أردي خيرها، * إن كان يصدق فالرضي هو الردى
عادت أراكة هاشم من بعده * خورا لفاس الحاطب المتوقد
فجعت بمعجز آية مشهودة * ولرب آيات لها لم تشهد
كانت إذا هي في الإمامة نوزعت ثم ادعت بك حقها لم تجحد
رضي الموافق و المخالف رغبة * بك واقتدى الغاوي برأي المرشد
ما أحرزت قصباتها وتراهنت * إلا ظهرت بفضلة من سؤدد

262
تبعتك عاقدة عليك أمورها * وعرى تميمك بعد لما تعقد
ورآك طفلا شيبها وكهولها * فتزحزحوا لك عن مكان السيد
أنفقت عمرك ضائعا في حفظها * وعققت عيشك في صلاح المفسد
كالنار للساري الهداية والقرى * من ضوئها ودخانها للموقد
من راكب يسع الهموم فؤاده * وتناط منه بقارح متعود؟
ألف التطوح فهو ما هددته * يفري فيا في البيد غير مهدد
يطوي المياه على الظما وكأنه * عنها يضل، وإنه للمهتدى
صلب الحصاة يثور غير مودع * عن أهله ويسير غير مزود
عدلت جويته على ابن مفازة * مستقرب أمم الطريق الأبعد
يجري على أثر الدراب كأنه * يمشي على صرح بهن ممرد
يغشى الوهاد بمثلها من مهبط * وربا الهضاب بمثلها من مصعد
قرب، قربت التلاع فإنها * المناسك مثلها لم يقصد
دأبا به حتى تريح بيثرب * فتنيخه نقضا بباب المسجد
وأحث التراب على شحوبك حاسرا * وأنزل فعز محمدا بمحمد
وقل: أنطوى حتى كأنك لم تلد * منه الهدى وكأنه لم يولد
نزلت بأمتك المضاعة في ابنك * المفقود بنت العنقفير المؤيد
طرقته تأخذ ما اصطفته ولا ترى * مكرا وتقتل من نحته ولا تدى
نشكو إليك وقود جاحمها وإن * كانت تخصك بالملظ المكمد
بكت السماء له وودت أنها * فقدت غزالتها ولما يفقد
والأرض وابن الحاج سدت سبله * والمجد ضيم فما له من منجد
وبكاك يومك إذ جرت أخباره ترحا وسمى بالعبوس الأنكد
صبغت وفاتك فيه أبيض فجره يا للعيون من الصباح الأسود
إن تمس بعد تزاحم الغاشين * مهجورا بمطرحة الغريب المفرد
فالدهر ألأم ما علمت وأهله * من أن تروح عشيرهم أو تغتدى
ولئن غمزت من الزمان بلين * عن عجم مثلك أو عضضت بادرد
فالسيف يأخذ حكمه من مغفر * وطلى ويأخذ منه سن المبرد
لو كان يعقل لم تنلك له يد * لكن أصابك منه مجنون اليد
قد كان لي بطريف مجدك سلوة * عن سالف من مجد قومك متلد
فكأنكم - ومدى بعيد بينكم - * يوم افتقدتك زلتم عن موعد
يا مثكلا أم الفضائل مورثا * يتما بنات القاطنات الشرد
خلفتهن بما رضينك ناظما * ما بين كل مرجز ومقصد
فتحت بهن - وقد عدمتك ناقدا - * أفواه زائفة اللهى لم تنقد
ورثيت حتى لو فرقت مميزا * راثيك من هاجيك لم تستبعد
غادرتني فيهم بما أبغضته * أدعو البيوع إلى متاع مكسد
أشكو انفراد الواحد الساري بلا * أنس وإن أحرزت سبق الأوحد
وإذا حفظتك باكيا ومؤبنا * عابوا عليك تفجعي وتلددي
أحسنت فيك فساءهم تقصيرهم، * ذنب المصيب إلى المغير المعضد
كانوا الصديق رددتهم لي حسدا * صلى الاله على مكثر حسدي
يغتر فيك الشامتون وإنه * يوم هم رهن عليه إلى غد
وسيسبروني كيف قطع مجردي * إن كان حز ولم يعمق مغمدي
وتثير عارمة الرياح سحابتي * من مبرق في فضل وصفك مرعد
فتقت بذكرك فأرها فتفاوحت * نعما تارج لي بطيب المولد
تزداد طولا ما استرحت فإنني * أرثيك بعد وحرقتي لم تبرد
ماء الأسى متصبب لي لم يفض في صحن خد بالبكاء مخدد
لو قد رأيت مع الدموع جدوبه فرط الزفير عجبت للراوي الصدي
لا غيرتك جنائب تحت البلى * وكساك طيب البيت طيب الملحد
وقربت، لا تبعد، وإن علالة * للنفس زورا قولتي لا تبعد
وقال يمدح أهل البيت:
بكى النار سترا على الموقد * وغار يغالط في المنجد
أحب وصان فورى هوى * أضل، وخاف فلم ينشد؟
بعيد الاصاخة عن عاذل * غني التفرد عن مسعد
حمول على القلب وهو الضعيف * صبور عن الماء وهو الصدى
وقور وما الخرق من حازم * متى ما يرح شيبه يغتدى
ويا قلب إن قادك الغانيات * فكم رسن فيك لم ينقد
أفق فكأني بها قد أمر * بأفواهها العذب من موردي
وسود ما أبيض من ودها * بما بيض الدهر من أسودي
وما الشيب أول غدر الزمان * بلى من عوائده العود
لحا الله حظي كما لا يجود * بما أستحق وكم أجتدي
وكم أتعلل عيش السقيم أذمم يومي وأرجو غدي
لئن نام دهري دون المنى * وأصبح عن نيلها مقعدي
ولم أك أحمد أفعاله * فلي أسوة ببني أحمد
بخير الورى وبني خيرهم * إذا ولد الخير لم يولد
وأكرم حي على الأرض قام * وميت توسد في ملحد
وبيت تقاصر عنه البيوت * وطال عليا على الفرقد
تحوم الملائك من حوله * ويصبح للوحي دار الندى
ألا سل قريشا ولم منهم * من استوجب اللوم أو فند
وقل: ما لكم بعد طول الضلال * لم تشكروا نعمة المرشد؟
أتاكم على فترة فاستقام * بكم جائرين عن المقصد
وولى حميدا إلى ربه * ومن سن ما سنه يحمد
وقد جعل الأمر من بعده * لحيدر بالخبر المسند
و سماه مولى بإقرار من * لو اتبع الحق لم يجحد
فملتم بها - حسد الفضل - عنه * و من يك خير الورى يحسد
وقلتم: بذاك قضى الاجتماع * ألا إنما الحق للمفرد
يعز على هاشم والنبي * تلاعب تيم بها أو عدى
وإرث علي لأولاده * إذا آية الإرث لم تفسد
فمن قاعد منهم خائف * ومن ثائر قام لم يسعد
تسلط بغيا أكف النفاق * منهم على سيد سيد
وما صرفوا عن مقام الصلاة * ولا عنفوا في بنى المسجد
أبوهم وأمهم من علمت * فأنقص مفاخرهم أو زد
أرى الدين من بعد يوم الحسين * عليلا له الموت بالمرصد
وما الشرك لله من قبله * إذا أنت قست بمستبعد
وما آل حرب جنوا إنما * أعادوا الضلال على من بدى
سيعلم من فاطم خصمه * بأي نكال غدا يرتدى
ومن ساء أحمد يا سبطه * فباء بقتلك، ما ذا يدي؟

263
فداؤك نفسي ومن لي بذاك * لو أن مولى بعبد فدى
وليت دمي ما سقى الأرض منك * يقوت الردى وأكون الردى
وليت سبقت فكنت الشهيد * أمامك يا صاحب المشهد
عسى الدهر يشفى غدا من عداك * قلب مغيظ بهم مكمد
عسى سطوة الحق تعلو المحال * عسى يغلب النقص بالسؤدد
وقد فعل الله لكنني * أرى كبدي بعد لم تبرد
بسمعي لقائمكم دعوة * يلبي لها كل مستنجد
أنا العبد والاكم عقده * إذا القول بالقلب لم يعقد
وفيكم ودادي وديني معا * وإن كان في فارس مولدي
خصمت ضلالي بكم فاهتديت * ولولاكم لم أكن اهتدى
وجردتموني وقد كنت في * يد الشرك كالصارم المغمد
ولا زال شعري من نائح * ينقل فيكم إلى منشد
وما فاتني نصركم باللسان * إذا فاتني نصركم باليد
وقال يمدح أهل البيت عليهم السلام، وهي من أول قوله:
سلا من سلا: من بنا استبدلا وكيف محا الآخر الأولا!
وأي هوى حادث العهد أمس * أنساه ذاك الهوى المحولا؟
وأين المواثيق، والعاذلات * يضيق عليهن أن تعذلا؟
أكانت أضاليل وعد الزمان * أم حلم الليل ثم انجلى؟
ومما جرى الدمع فيه سؤال * من تاه بالحسن أن يسألا
أقول برامة يا صاحبي * معاجا - وإن فعلا -: أجملا
قفا لعليل فان الوقوف * وإن هو لم يشفه عللا
بغربي وجرة ينشدنه * وإن زادنا صلة منزلا
وحسناء لو أنصفت حسنها * لكان من القبح أن تبخلا
رأت هجرها مرخصا من دمي * على الناي علقا قديما غلا
وربت واش بها منبض * أسابقه الرد أن ينبلا
رأى ودها طللا ممحلا * فلفق ما شاء أن يمحلا
ويأبى لحسناء إن قبلت * تعرضها قمرا مقبلا
سقى الله ليلاتنا بالغوير * فيما أعل وما أنهلا،
حيا كلما أسبلت مقلة * - حنينا له - عبرة أسبلا
وخص، وإن لم تعد، ليلة * خلت فالكرى بعدها ما حلا
وفي الطيف فيها بميعاده * وكان تعود أن يمطلا
فما كان أقصر ليلي به * وما كان لو لم يزر أطولا
مساحب قصر عني المشيب * ما كان منها الصبا ذيلا
ستصرفني نزوات الهموم * بالأرب الجد أن أهزلا
وتنحت من طرفي زفرة * مباردها تأكل المنصلا
وأغرى بتابين آل النبي * إن نسب الشعر أو غزلا
بنفسي نجومهم المخمدات * ويأبى الهدى غير أن تشعلا
وأجسام نور لهم في الصعيد * تملؤه فيضئ الملا
ببطن الثرى حمل ما لم تطق * على ظهرها الأرض أن تحملا
تفيض فكانت ندى أبحرا * وتهوي فكانت علا أجبلا
سل المتحدي بهم في الفخار *، أين سمت شرفات العلا:
بمن باهل الله أعداءه * فكان الرسول بهم أبهلا؟
وهذا الكتاب وإعجازه * على من؟ وفي بيت من؟ نزلا
وبدر وبدر به الدين * تم، من كان فيه جميل البلا؟
ومن نام قوم سواه وقام؟ * ومن كان أفقه أو أعدلا؟
بمن فصل الحكم يوم الحنين * فطبق في ذلك المفصلا؟
مساع أطيل بتفصيلها * كفى معجزا ذكرها مجملا
يمينا لقد سلط الملحدون * على الحق أو كاد أن يبطلا
فلو لا ضمان لنا في الطهور * قضى جدل القول أن نخجلا
أ الله يا قوم، يقضي النبي * مطاعا فيعصى وما غسلا!
ويوصي فنخرص دعوى عليه * في تركه دينه مهملا!
ويجتمعون على زعمهم * وينبيك سعد بما أشكلا
فيعقب إجماعهم أن يبيت * مفضولهم يقدم الأفضلا
وأن ينزع الأمر من أهله * لأن عليا له أهلا
وساروا يحطون في آله * بظلمهم كلكلا كلكلا
تدب عقارب من كيدهم * فتفنيهم أولا أولا
أضاليل ساقت مصاب الحسين * وما قبل ذاك وما قد تلا
أمية لابسة عارها * وإن خفي الثار أو حصلا
فيوم السقيفة يا بن النبي * طرق يومك في كربلا
وغصب أبيك على حقه * وأمك حسن أن تقتلا
أيا راكبا ظهر مجدولة * تخال إذا انبسطت أجدلا،
شأت أربع الريح في أربع * إذا ما انتشرن طوين الفلا،
إذا وكلت طرفها بالسماء * خيل بادراكها وكلا،
فعزت غزالتها غرة * وطالت غزال الفلا أيطلا،
كطيك في منتهى واحد * لتدرك يثرب أو مرقلا،
فصل ناجيا وعلي الأمان * لمن كان في حاجة موصلا،:
تحمل رسالة صب حملت * فناد بها أحمد المرسلا
وحي وقل: يا نبي الهدى * تاشب نهجك واستوغلا
قضيت فارمضنا ما قضيت * وشرعك قد تم واستكملا
فرام ابن عمك فيما سننت * أن يتقبل أو يمثلا
فخانك فيه من الغادرين * من غير الحق أو بدلا
إلى أن تحلت بها تيمها * وأضحت بنو هاشم عطلا
ولما سرى أمر تيم أطال * بيت عدي لها الأحبلا
ومدت أمية أعناقها * وقد هون الخطب واستسهلا
فنال ابن عفان ما لم يكن يظن *، وما نال بل نولا
فقر، وأنعم عيش يكون * من قبله خشنا قلقلا
وقلبها أردشيرية * فحرق فيها بما أشعلا
وساروا فساقوه أو أوردوه * حياض الردى منهلا منهلا
ولما امتطاها علي أخوك * رد إلى الحق فاستثقلا
وجاءوا يسومونه القاتلين * وهم قد ولوا ذلك المقتلا
وكانت هناة وأنت الخصيم * غدا، والمعاجل من أمهلا
لكم آل ياسين مدحي صفا * وودى حلا وفؤادي خلا
وعندي لأعدائكم نافذات * قولي ما صاحب المقولا
إذا ضاق بالسير ذرع الرفيق * ملأت بهن فروج الملا

264
فواقر من كل سهم، تكون * به كل جارحة مقتلا
وهلا ونهج طريق النجاة * بكم لاح لي بعد ما أشكلا؟
ركبت لكم لقمى فاستننت * وكنت أخابطه مجهلا
وفك من الشرك أسرى وكان * غلا على منكبي مقفلا
أواليكم ما جرت مزنة * وما اصطحب الرعد أو جلجلا
وأبرأ ممن يعاديكم * فإن البراءة أصل الولا
ومولاكم لا يخاف العقاب * فكونوا له في غد موئلا
قال يمدح الوزير زعيم الدين أبا الحسن في النيروز:
بكر العارض تحدوه النعامى * فسقاك الري يا دار إماما
وتمشت فيك أرواح الصبا * يتأرجن بأنفاس الخزامى
وإذا مغنى خلا من زائر * بعد ما فارق أو زير لماما
فقضى حفظ الهوى أن تصبحي * للمحبين مناخا ومقاما
أجتدي المزن، وما ذا أربى * أن تجود المزن أطلالا رماما
وقليلا فيك أن أدعو لها * ما رآني الله استجدي الغماما
أين سكانك؟ لا أين هم! * أحجازا أقبلوها أم شاما
صدعوا بعد التئام فغدت * بهم أيدي الموامى تترامى
وتبقوا كل حيران بليد * يسأل الجندل عنهم والرغاما
يا لواة الدين عن ميسرة * والضنينات وما كن لئاما
قد وقفنا قبلكم في ربعكم * فنقضناه استلاما والتزاما
سعد الراكب تحتث به * جسرة تخلط وهدا وإكاما
تطأ العسف، فتدمى خفها * جبهات الأرض شجا ولطاما
تتنزى أنفا في خلقها * أن تطيع السوط أو ترضي الزماما
تطعم البيد إذا ما هجرت * شبع البيداء نقيا وسلامى
ماؤها بسل على أظمائها * أو ترى بالنعف هاتيك الخياما
وبجرعاء الحمى قلبي، فعج * بالحمى فاقرأ على قلبي السلاما
وترجل فتحدث عجبا: * أن قلبا سار عن جسم أقاما!!
قل لجيران الغضا آه على * طيب عيش بالغضا لو كان داما
نصل العام وما ننساكم، * وقصارى الوجد أن نسلخ عاما
حملوا ريح الصبا نشركم * قبل أن تحمل شيحا وثماما
وابعثوا أشباحكم لي في الكرى * إن أذنتم لجفوني أن تناما
وقف الظامى على أبوابكم، * أفيقضي وهو لم يشف أواما؟
ما يبالي من سقيتن اللمى * منعكن الماء عذبا والمداما
واعجبوا من أن يرى الظلم حلالا * شارب وهو يرى الخمر حراما
أشتكيكم، وإلى من أشتكي؟ * أنتم الداء فمن يشفى السقاما!
أنتم والدهر سيف وفم * ما تملان ضرابا وخصاما
كلما عاتبت في حظي دهري * زاده العتب لجاجا وعراما
وإذا استرهقت خلا فكأني * منه جردت على عنقي حساما
لمت أيامي على الغدر فقد * زادت الاجرام حتى لا ملاما
ولزمت الصمت لا أشكو، وصمتي * بعد أن أفنيت في القول الكلاما
قعد الناس بنصري في حقوق * قعد المجد يبكيها وقاما
دفع الله وحامي عن رجال * قد رعوني لم يضيعوا لي سواما
كفني جودهم أن أجتدي * وأبى عزهم لي أن أضاما
طلعوا في جنح خلاتي نجوما * وانتحوا نحو مرامي سهاما
وأضاءت لي أماني بهم * عشيت في الناس تيها وظلاما
عرفوا بالجود حتى أصبحوا * من وضوح في سواد الدهر شاما
لم أذمم حرمة سالفة * في معاليهم ولا عهدا قدامي
ما استفادوا كرما في ولكن * خلقوا من طينة المجد كراما
من رجال لبسوا الملك جديدا * وافتلوا ناصية الدهر غلاما
روضوا العلياء حتى اقتعدوا * ظهرها الذروة منه والسناما
وإذا الأيام غمت أقبلوها * غررا تقدح في الخطب وساما
ببني عبد الرحيم استحلبت * مزن الجود وقد كن جهاما
أولدوا أم الندى فالتحقت * ببنيها بعد أن حالت عقاما
ورثوا أصل العلا فأفترعوا * بنفوس ضمنت فيها التماما
تركوا الناس قعودا للحبى * يشتكون العجز أفواجا قياما
فتحوا باب الندى واستشهدوا * بزعيم الدين إذ كان ختاما
جاء مأموما وقامت آية * فيه دلت أنه جاء إماما
سبق الناس قروما قرحا * جذع ريض وما عض اللجاما
وحوى السؤدد من أطرافه * فكلا جنبيه أيمانا وساما
وانتهى في الفضل من حيث ابتدأ * ما تثنى غصنه حتى استقاما
ورعى الدولة من تدبيره * يقظ العين إذا الذائد ناما
لو رأى الذئب قريبا سرحه * لعمي من فرق أو لتعامى
حاطها سيفا ورأيا ولسانا * إن تداهى وتلاحى وترامى
وشفى أدواءها من معشر * قبل طبوها فزادوها سقاما
فهو فيها وأخوه وأخوه * يذبل ساند رضوى وشماما
عزمات كالمقادير مضاء * وقضايا كالأنابيب انتظاما
ويد يرتعد السيف بها * وسماح لقن الجود الغماما
وسجايا تشرب الصهباء منها * كلما أرعش رأسا وعظاما
ومعال كملت، ما تبتغي * لك فيها زائدا إلا الدواما
شرف كان عصاميا فلم * يرض عن كسبك أو صرت عصاما
أنت من جاثيت أيامي به * وهي خصم فتحامتني احتشاما
وتروحت من الثقل وقد * حفيت جنباي ضغطا وزحاما
كم يد أرضعتني درتها * بعد أن قد كنت عوجلت الفطاما
أدركت حالي فكانت بالندى * في ضرام الفقر بردا وسلاما
كنت لي أمتنهم حبل وداد * في الملمات وأوفاهم ذماما
فعلا م ارتجع الإعراض مني * ذلك الاقبال والعطف علاما؟!!
وكم النسيان، والشافع لي * يخفر الذكرة بي والاهتماما
وإذا سحبك عني عبست * فمتى آمل من أرضى ابتساما
والملال المر لم فاجأني * من فتى كان بحبي مستهاما
ونعم أعذركم فالتمسوا * عذرة المجد إذا ما المجد لاما
وانظروا أي جواب للعلا * إن أتت تغضب لي أو تتحامى
فتمنوا فضلتي واغتنموا * ما وجدتم من بقاياي اغتناما
واستمدوها نطافا حلوة * تنهل الاعراض غزرا وجهاما
تنفض الأرض بأوصافكم * طبق الأرض مسيرا ومقاما
لو أقيمت معجزاتي فيكم * قبلة صلى لها الشعر وصاما

265
أو زقا الأموات يستحيونها * نشرت بالحسن رمات وهاما
فاسمعوها عودا وأبقوالها * وزرا ما صرف الصبح الظلاما
واستماحت روضة ربعية * صبحة النيروز وطفا وركاما
وسعى الوفد يحلون الحبى * نحو جمع ويزفون جماما
كل يوم للتهاني عندكم سوق ربح في سواكم لن تقاما
وقال وكتب بها إلى صديق له:
دع بين جلدي والعظام مكانا * يسع الغرام ويحمل الأحزانا
وأستبق طرفي ربما غلط الكرى * بطروقه فسلكته وسنانا
ما كان ما حمل الوشاة نصيحة * ممن يوثق ناقلا بهتانا
عذلوك في فغيروك سريرة * ورأيت شيبا فاستحلت عيانا
عذل يرى عدلا، وجور ذوائب سموه لي عزا فجر هوانا
ما عيرت بالشيب لونا لمتى * حتى تغير صاحبي ألوانا
بيضاء سودت الصحيفة عنده * واستعجلته بوصلها الهجرانا
إن يجتنب منها الهشيم مصوحا * فيما اجتنى ريعانها ريحانا
يا من يعير في الكرى ويلذه: * لله أجفانا له أجفانا!!
إن الذين نسوا برامة عهدنا * سعدوا وأشقانا به أوفانا
ظعنوا فشبت وما كبرت وإنما * راح الشباب يشيع الأظعانا
أجد الديار كما عهدت وإنما * شكواي: أني أفقد الجيرانا
يا تاركي أنسى العناق فراقه * أشكو إليك الريح والأغصانا
لأن الصفا يوم الوداع لرحمتي * لو أن قلب الوادعية لأنا
يا وحدتي ما أكثر الإخوانا * نظرا وأكثر فيهم الخوانا
في كل مطرح لحظة حولى أخ * صفو إذا هز الغنى الأفنانا
راع معي إبلي، فإن هي أعجفت * إبلي تقلب، أو يعدن سمانا
إن عضني ريب الزمان أعانه * وتراه يأبى ما أصبت زمانا
أشريه في خفض المعيشة غاليا * ويبيعني في ضنكها مجانا
ألقاهم عدد الكواكب كثرة * حولي وألقى وحدي الحدثانا
كفر وكن مستثنيا، إلا إذا
أقسمت أنك لا ترى إنسانا
كم أسمع الصم البلاغة مفهما * وأرى عجائب فضلي العميانا!
فإن الزمان صحا وصح * لواحد فبطول حملي جهله سكرانا
وقال:
أستنجد الصبر فيكم وهو مغلوب * وأسال النوم عنكم وهو مسلوب
وأبتغي عندكم قلبا سمحت به، * وكيف يرجع شئ وهو موهوب؟
ما كنت أعرف ما مقدار وصلكم * حتى هجرتم، وبعض الهجر تأديب
أستودع الله في أبياتكم قمرا * تراه بالشوق عيني وهو محجوب
أرضى وأسخط أو أرضى تلونه * وكل ما يفعل المحبوب محبوب
أما وواشيه مردود بلا ظفر * وهل يجاب وبذل النفس مطلوب؟
لو كان ينصف ما قال: انتظر صلة * تأتي غدا، وانتظار الشئ تعذيب
وكان في الحب إسعاد ومنعطف * منه، كما فيه تعنيف وتأنيب
يا للواتي بغضن الشيب وهو إلى * خدودهن من الألوان منسوب
تأبى البياض وتأبى أن أسوده * بصبغة وكلا اللونين غربيب
ما أنكرت أمس منه ناصلا يققا * ما تنكر اليوم منه وهو مخضوب
ليت الهوى صان قلبي عن مطامعه * فلم يكن قط يستدنيه مرغوب
إني لأسغب زهدا والثرى عمم * نبتا، وأظما وغرب الغيث مسكوب
ولا أرق لحرص خاب صاحبه * سعيا، ويعلم أن الرزق مكسوب
عقبى الطماعة في مال يمن به * عصارة لا يغطي خبثها الطيب
طهر خلالك من خل تعاب به * وسم وحيدا فما في الناس مصحوب
إني بليت بمضطر رفيقهم * والماء يملح وقتا وهو مشروب
كم يوعد الدهر آمالي ويخلفها * أخا أسر به، والدهر عرقوب
قال في أمير المؤمنين عليه السلام:
هل بعد مفترق الاظعان مجتمع * أم هل زمان بهم قد فات يرتجع
تحملوا تسع البيداء ركبهم * ويحمل القلب فيهم فوق ما يسع
مغربين هم والشمس قد ألفوا * ان لا تغيب مغيبا حيثما طلعوا
شاكين للبين أجفانا وأفئدة * مفجعين بها أمثال ما فجعوا
تخطو بهم فاترات في أزمتها * أعناقها تحت إكراه النوى خضع
تشتاق نعمان لا ترضى بروضته * دارا ولو طاب مصطاف ومرتبع
فداء وافين تمشي الوافيات بهم * دمع دم وحشا في اثرهم قطع
الليل بعدهم كالفجر متصل * ما شاء والنوم مثل الوصل منقطع
ليت الذين أصاخوا يوم صاح بهم * داعي النوى ثوروا صموا كما سمعوا
أوليت ما اخذ التوديع من جسدي * قضى علي فللتعذيب ما يدع
وعاذل لج أعصيه ويأمرني * فيهم واهرب منه وهو بتبع
يقول نفسك فاحفظها فأن لها * حقا وان علاقات الهوى خدع
روح حشاك ببرد الياس تسل به * ما قيل في الحب الا أنه طمع
والدهر لونان والدنيا مقلبة * الآن يعلم قلب كيف يرتدع
هذي قضايا رسول الله مهملة غدرا وشمل رسول الله منصدع
والناس للعهد ما لاقوا وما قربوا * وللخيانة ما غابوا وما شسعوا
وآله وهم آل الاله وهم * رعاة ذا الدين ضيموا بعده ورعوا
ميثاقه فيهم ملقى وأمته * مع من بغاهم وعاداهم لهم شيع
تضاع بيعته يوم الغدير لهم * بعد الرضا وتحاط الروم و البيع
مقسمين بايمان هم جذبوا * ببوعها وباسياف هم طبعوا
ما بين ناشر حبل أمس ابرمه * تعد مسنونة من بعده البدع
وبين مقتنص بالمكر يخدعه * عن آجل عاجل حلو فينخدع
وقائل لي (علي) كان وارثه * بالنص منه فهل أعطوه أم منعوا
فقلت كانت هنات لست اذكرها * يجزي بها الله أقواما بما صنعوا
أبلغ رجالا إذا سميتهم عرفوا * لهم وجوه من الشحناء تمتقع
توافقوا وقناة الدين مائلة * فحين قامت تلاحوا فيه واقترعوا
قفوا على نظر في الحق نفرضه * والعقل يفصل والمحجوج ينقطع
بأي حكم بنوه يتبعونكم * وفخركم انكم صحب له تبع
وكيف ضاقت على الاهلين تربته * وللأجانب من جنبيه مضطجع
وفيم صيرتم الاجماع حجتكم والناس ما اتفقوا طوعا ولا اجتمعوا
امر (علي) بعيد من مشورته * مستكره فيه و العباس يمتنع
وتدعيه قريش بالقرابة والأنصار لا رفع فيه ولا وضع
فأي خلف كخلف كان بينكم * لولا تلفق اخبار وتصطنع
واسألهم يوم خم بعد ما عقدوا * له الولاية لم خانوا ولم خلعوا

266
قول صحيح ونيات بها نغل * لا ينفع السيف صقل تحته طبع
انكارهم يا أمير المؤمنين لها * بعد اعترافهم عاربه أدرعوا
ونكثهم بك ميلا عن وصيتهم * شرع لعمرك ثان بعده شرعوا
تركت امرا ولو طالبته لدرت * معاطس راغمته كيف تجتدع
صبرت تحفظ امر الله ما اطرحوا * ذبا عن الدين فاستيقظت إذ هجعوا
ليشرقن بحلو اليوم مر غد * إذا حصدت لهم في الحشر ما زرعوا
جاهدت فيك بقولي يوم تختصم * الأبطال إذ فات سيفي حين تمتصع
ان اللسان لوصال إلى طرق * في القلب لا تهتديها الذبل الشرع
آباي في فارس والدين دينكم * حقا لقد طاب لي اس ومرتبع
ما زلت مذ يفعت سني ألوذ بكم * حتى محا حقكم شكي وانتجع
وقد مضت فرطات ان كفلت بها * فرقت عن صحفي الباس الذي جمعوا
سلمان فيها شفيعي وهو منك إذا * الآباء عندك في أبنائهم شفعوا
فكن بها منقذي من هول مطلعي * غدا وأنت من الأعراف مطلع
سولت نفسي غرورا ان ضمنت لها * اني بذخر سوى حبيك انتفع
وقال من قصيدة:
من عذيري يوم شرقي الحمى * من هوى جد بقلبي مزحا
نظرة عادت فعادت حسرة * قتل الرامي بها من جرحا
قلن يستطردن لي عين النقا * رجل جن وقد كان صحا
لا تعد إن عدت حيا بعدها * طارحا عينيك فينا مطرحا
قد تذوقت الهوى من قبلها * وارى معذبه قد أملحا
سل طريق العيس من وادي الغضا * كيف أغسقت لنا رأد الضحى
ألشئ غير ما جيراننا * نفضوا نجدا وحلوا الابطحا
يا نسيم الصبح من كاظمة * شد ما هجت الجوى والبرحا
الصبا ان كان لا بد الصبا * انها كانت لقلبي اروحا
يا نداماي بسلع هل أرى * ذلك المغبق والمصطبحا
اذكروني مثل ذكرانا لكم * رب ذكرى قربت من نزحا
واذكروا صبا إذا غنى بكم * شرب الدمع وعاف القدحا
رجع العاذل عني آيسا من فؤادي فيكم ان يفلحا
لو درى لا حملت ناجية * رحله فيمن لحاني مالحا
قد شربت الصبر عنكم مكرها * وتبعت السقم فيكم سمحا
وعرفت الهم من بعدكم * فكأني ما عرفت الفرحا
ما لساري اللهو في ليل الصبا * ضل في فجر برأسي وضحا
ما سمعنا بالسرى من قبله * بابن ليل ساءه ان يصبحا
طارق زار وما أنذرنا * مرغيا بكرا ولا مستنبحا
صوحت ريحانة العيش به * فمن الراعي نباتا صوحا
أنكرت تبديل أحوالي ومن * صحب الدنيا على ما اقترحا
شد ما منى غرورا نفسه * تاجر الآداب في أن يربحا
ابدا تبصر حظا ناقصا * حيثما تبصر فضلا رجحا
والمنى والظن باب ابدا * تغلق الأيدي إذا ما فتحا
قد خبرت الناس خبري شيمي * بخلاء وتسموا سمحا
وقال في أمير المؤمنين وولده الحسين عليهما السلام من قصيدة:
جوى كلما استخفى ليخمد هاجه * سنا بارق من ارض كوفان خاطف
يذكرني مثوى علي كأنني * سمعت بذاك الرزء صيحة هاتف
ركبت القوافي ردف شوقي مطية * تخب بجاري دمعي المترادف
إلى غاية من مدحه ان بلغتها * هزأت بأذيال الرياح العواصف
بنفسي من كانت مع الله نفسه * إذا قل يوم الحق من لم يجازف
إذا ما عز وادينا فآخر عابد وان قسموا دنيا فأول عائف
أبا حسن قد أنكروا الحق واضحا * على أنه والله انكار عارف
سلام على الاسلام بعدك انهم * يسومونه بالجور خطة خاسف
وجددها بالطف بابنك عصبة * أباحوا لذاك القرف حكة قارف
ايا عاطشا في مصرع لو شهدته * سقيتك فيه من دموعي الذوارف
سقى غلتي بحر بقبرك انني على غير إلمام به غير آسف
واهدى إليه الزائرون تحيتي لأشرف ان عيني له لم تشارف
وعادوا فذروا بين جنبي تربة شفائي مما استحقبوا في المخاوف
أسر لمن والاك حب موافق * وابدي لمن عاداك سب مخالف
وكم حاسد لي ود لو لم يعش ولم * انابله في تأبينكم واسايف
تصرفت في مدحيكم فتركته * يعض علي الكف عض الصوارف
هواكم هو الدنيا واعلم أنه * يبيض يوم الحشر سود الصحائف
وقال في آل البيت عليهم السلام:
بال علي صروف الزمان * بسطن لساني لذم الصروف
مصابي على بعد داري بهم * مصاب الأليف بفقد الأليف
وليس صديقي غير الحزين * ليوم الحسين وغير الأسوف
هو الغصن كان كمينا فهب * لدى كربلاء بريح عصوف
يعز علي ارتقاء المنون * إلى جبل منك عال منيف
ووجهك ذاك الأغر التريب * يشهر وهو على الشمس موفي
وأنت وان دافعوك الامام * وكان أبوك برغم الأنوف
تفلل سيف به ضرجوك * لسود خزيا وجوه السيوف
أمر بفي عليك الزلال * وآلم جلدي وقع الشفوف
أتحمل فقدك ذاك العظيم * جوارح جسمي هذا الضعيف
ولهفي عليك مقال الخبير * انك تبرد حر اللهيف
أنشرك ما حمل الزائرون * أم المسك خالط ترب الطفوف
كأن ضريحك زهر الربيع * هبت عليه نسيم الخريف
أحبكم ما سعى طائف * وحنت مطوقة في الهتوف
وقال من قصيدة:
هل في الشموس التي تحدى بها العير * قلب إلى غير هذا الدين مفطور
أم عند تلك العيون المتبلات لنا * دم على اسهم الرامين محظور
زموا المطايا فدمع مطلق أمن العدوي ودمع وراء الخوف محصور
وفي الخدور مواعيد مسوفة * لم يقض منهن منذور ومنظور
وماطلات ديون الحب تلزمها * لياوهن مليات مياسير
يجحدن ما سفكت أجفانهن دما وقد أقر به خدو وأظفور
يا سائق البكرات استبق فضلتها * على الوريد فظهر العفر معقور
حبسا ولو ساعة تروى بها مقل * هيم وأنت عليها الدهر مشكور
فالعيس طائعة والأرض واسعة * وانما هو تقديم وتأخير

267
تغلسوا من زرود وجه يومهم * وحطهم في ظلال البان تهجير
وجاذبوا الجزع من وادي الأراك وقد * تعصبت بالغروب الأحمر القور
وضمنوا الليل سلعا ان رأوه وقد * غنت على قنتي سلع العصافير
وكيف لا يستطيب العشب رائدهم * وكل واد لهم بالدمع ممطور
أطبقت جفني على ضوء الصباح لهم * حفظا فما لنهار فيهما نور
موسى الزين شرارة
توفي في بلدة بنت جبيل جبل (عامل سنة) 1406 (1986) ودفن فيها
ترجم نفسه بقلمه فقال فيما قال:
ولدت سنة 1902 م في بلدة بنت جبيل وفي سنة 1908 توفي المرحوم
والدي وهو في ريعان شبابه وبقيت مع الوالدة التي كنت أغفو وأستيقظ على
نواحها وبكائها الأمر الذي أرهف حسي وجعلني أحس مع كل مصاب وأتألم مع
كل منكوب وأهب لمساعدة كل مظلوم ولكني بالرغم من هذا كنت ولا أزال
متفائلا مرحا أتلقى ضربات الأحداث مهما قست بالبسمة والصبر والثقة بالنفس
منشدا:
ولما ان رأيت الدهر بغيا * إلى حربي، بلا سبب، تطوع
لبست له متين الصبر درعا * وقلت له الا ما شئت فاصنع
فزد يا دهر بالنكبات إني * أقابلها بصدر منك أوسع
وجرد ما استطعت من الرزايا * فخصمك من عرين الليث امنع
عجبت لمن يطاطئ للرزايا * ومن يشكو لدهر ليس يسمع
ومن يخشى ويرهب مستبدا * ولمن لسوى الذي سواه يركع
الذي أذكره من العهد التركي هو ما كان في سنة 1914 السنة التي توفي بها
الشيخ عبد الكريم شرارة ابن الشيخ موسى شرارة العالم الكبير المعروف من
الجميع حيث بهذه المناسبة جاءت وفود كثيرة لبنت جبيل من شتى القرى
والمدن العاملية وكذلك الفلسطينية المجاورة للمشاركة بتشييع الجنازة
وتقديم التعزية وقد حضر بهذه المناسبة أيضا ضابط تركي مع ثلة من الجنود
للمحافظة على الأمن وهذا الضابط يدعى " عارف بك الحسن " وهو عربي
من طرابلس الشام - كما كان يقال في ذلك الوقت - وبعد تشييع الجنازة استدعى
جميع مخاتير القرى التي كانت موجودة وأمرهم بفض التحارير المغلقة التي
كانوا تلقوها من الحكومة وطلبت أن لا تفض إلا بأمر منها وقد تبين أن
مضمونها دعوة لسفر برلك " أي التجنيد العام وأنه يجب على جميع الذكور
من سن 18 إلى سن 40 أن يكونوا بتارخ عينه لهم في قاعدة القضاء - وقد
كان جبل عامل بذاك الوقت ثلاثة أقضية. قضاء صيدا وصور ومرجعيون -
لأجل المعاينة والاحصاء وإثبات الوجود وقد لبى الجميع الدعوة وبعد
المعاينة جندوا منهم " الاسكيه " أي " المدربون " وساقوهم فورا وسمحوا
للباقين بالعودة لقراهم وأن يكونوا تحت الطلب.
لقد وضعتني والدتي عند " الشيخ المحلي " سنة 1908 وكنت في السادسة
من عمري فقرأت عليه الأحرف الهجائية وبعدها القرآن الكريم وبعدها الكتابة
على " اللوح " واللوح هذا من تنك حيث كان السمكري يجعل من تنكة الكاز
أربع ألواح يبتاعها منه الطلبة ويكتبون عليها بقلم غزار. والمداد كان من حجر
كلسي يسمونه " الفرس " كنا نذيبه في الماء كالكلس ونكتب به وكان الأستاذ أي
الشيخ يكتب لنا سطرا بأعلى اللوح " يسميه القاعدة " والتلميذ يكتب مثلها
فبعد أن يملأ اللوح يحمله للأستاذ الذي يعاينه فإذا كان الخط جيدا والنقل
صحيحا يقول " عفارم " وإلا فعلى كل غلطة ضربة قضيب على يده الصغيرة
والقاعدة هذه غالبا ما تكون بيت شعر.
بعدها انتقلت لمدرسة شيخ إيراني لأتعلم الخط الذي يسمونه " ديواني "
وأكتبه بالخط الصغير وبالحبر.
ثم دخلت المدرسة الحكومية التي أنشئت سنة 1913. ولم يكن سوى هذه
المدرسة بكل منطقة بنت جبيل والذي أذكره أن عدد الطلاب فيها لم يتجاوز المئة
طالب أما عدد الأساتذة فهو واحد، وكان عازبا وفي ذلك الوقت كان لا يوجد
مطعم في البلدة فيفرض كل يوم على عدد معين من التلامذة تامين طعامه اليومي
وبالطبع لم يكن هذا الطعام من نوع واحد فكان عنده طنجرة يضع فيها كل ما
يأتيه من طبيخ ويخلطه ويضعه على النار ويأكله.
وبعد المدرسة كان على من يحب الثقافة أن يتابع تحصيله بنفسه وأن يقصد
مجالس رجال الدين حيث كان هؤلاء يتندرون بالشعر ويحفظونه ويروونه ويعنون
بالاخبار ويمتحن بعضهم البعض الآخر بقواعد اللغة ويتراسلون بالاشعار وقد
جذبتني هذه المجالس إليها خصوصا مجلس الشيخ علي شرارة الذي كان يرعى
نشاتي الأدبية والقى لديه كل تشجيع.
وقد كانت أول قصيدة لي سنة 1928 نشرتها في مجلة العرفان وكان عنوانها
" العلم " ومطلعها:
العلم نور يهتدى بسنائه * لولاه تاه الكون في ظلماته
وقد ختمتها بعرض حالة الجهل التعيسة في الجنوب فقلت:
عجبا أراه وقد تلألأ نوره * وهدى الأنام إلى الهدى بضيائه
وأهاب فيهم داعيا فتجندوا * ومشوا لحرب الجهل تحت لوائه
الا بنو وطني إذا اعشاهم * في نوره وثبوا إلى اطفائه
والمطفئون له هم كبراؤه * يا ويح هذا الشعب من كبرائه
قد أوصدوا باب العلوم بوجهه * ليظل يخبط في ظلام غبائه
أرأيت أسوأ حالة من موطن * كبراؤه والدهر من أعدائه
والعلم فيه مكافح ومطارد * كالفقر أو كالداء من زعمائه
وقد قادني المشوار الطويل على هذا الطريق إلى مجابهات عديدة كان أبرزها
مع أحد رجال الدين الذي حكم بكفري وسفك دمي عام 1933 أما السيد
محسن الأمين الذي كان رائدا من رواد الاصلاح فقد رد على الفتوى وصاحبها
ردا عنيفا.
وقد قلت في هذا الحادث قصيدة منها.
قالوا كفرت فقلت في أفعالكم * وسخرت من تضليل كل مدجل
يغري الأنام بعمة نسجت على * نول الرياء لصيد كل مفضل
كبرت قماشا انما صغرت حجى * فبدت كبرج فوق حبة خردل
قسما بقدس ترابها لو أنطقت * لتألمت من لمس تلك الأنمل
قد كنت أخشع إن رأيت عمامة * كخشوع راهبة أمام الهيكل
والآن إن لاحت أفر أمامها * ذعرا فرار طريدة من أجدل
وقد قلت بعد ذلك في إحدى المناسبات الوطنية:
بلادي يا جنان الخلد حسنا * ويا أرض النبوع والابتكار
ويا أم الألى جلوا وصلوا * بميدان المكارم والفخار

268
ويا أم الكماة بكل روع * ويا غاب الضياغم والضواري
فديتك لا تقولي راض شعبي * وأسلس للهوان وللصغار
أ نذعن للهوان ونرتضيه وفي ايماننا بيض الشفار
إذن لسنا الاباة ولا نمتنا ليوث الحرب من عليا نزار
ولا نحن لضيغم كربلاء ولا نحن لصاحب ذي الفقار
ولا لأشاوس يعزى إليهم * إباء الضيم مع حفظ الذمار
شباب لو يقاد بألمعي * عروبي الشمائل والنجار
لما زلت به قدم وبيعت كرامة شعبه من كل شاري
ولكن الألى قادوه كانوا * ذيول الانتداب والاحتكار
وعبدانا أرقاء صغارا * لكرسي الوظيفة والنضار
لقد نحروه قربانا سمينا * زكاة عنهم للمستشار
وفي الختام قلت:
افتيان الحمى وشباب قومي * ومن باتت محبتهم شعاري
أقول لكم وقول الحروحي * وها أنا ذلك الحر " الشراري "
بان العهد - عهد الجور - امسى * على درب الزوال والانهيار
وإن ذيوله باتت فلو لا * وأشباحا برسم الاحتضار
الا أبلغ طغمة باعت بلادا * وضحت بالقرابة والجوار
مشى ركب الشباب وجئت فيه * أحاسبكم على ضوء النهار
فويل للعميل إذا التقينا * غدا ومشى امام الشعب عاري
وقلت في احدى المناسبات الأخرى:
نضام ونقذى منهم في ديارنا * وان نشتكي قالوا عصوا وتمردوا
لهم أن يبيدونا وأن يفتكوا بنا * لهم أن يقولوا أبعدوهم فنبعد
ولكنهم لا يستطيعون أن نرى * مظالمهم تترى علينا ونحمد
فقولوا لهم ما شئتم لا يضيرنا * سواء لدينا سخطهم والتودد
فان الردى أشهى لنا من معيشة * يعلى بها وغد ويخفض سيد
وقولوا لمن باعوا البلاد برتبة * وشادوا صغارا بالدخيل ومجدوا
لكم دينكم فيما ترون فإنني * به وبكم دون البرية ملحد
أ أعطي يدي للغاصبين وثائر * أنادي وارضى بالهوان واخلد
خذيني عزيزا يا منون ولا أرى بلادي على ضيم تبيت وترقد
ينعم فيها وغدها * ودخيلها وكل أبي عن حماها مشرد
متى تنتضي اساد " عامل " بيضها * متى ينجلي هذا الدجى المتلبد
متى يرجع الحق السليب لأهله * متى عامل يهنا ويرقى ويسعد
وفي عام 1936 حضر إلى المنطقة المطران المعوشي الذي صار فيما بعد
كاردينالا واتفقنا معه على المطالبة برفع اسعار التبغ واعطاء مساحات أوسع
للمزارعين وقد كتبت مضبطة بهذه المطالب وأودعت منزل الحاج علي بيصون
ولكن المستشار الفرنسي علم بأمرها فأوعز للدرك في بنت جبيل بمصادرة المضبطة
واعتقال الحاج علي وكانت ليلة عاشوراء، والناس مجتمعة في الجامع الكبير.
جاء من يقول لنا: اعتقلوا الحاج علي فهرع الناس إلى السراي بتظاهرة هادرة
نهتف ضد الانتداب فأخلى رئيس المخفر سراح الحاج بانتظار وصول تعزيزات
عسكرية وفعلا وصل البلدة ليلا ما يقارب المائتي جندي فطوقوا العدد الكبير من
البيوت واعتقلوا ما يقارب الثلاثين من شباب ووجهاء البلدة وقد كان رد الفعل
الشعبي عنيفا فتجمهر الناس أمام السجن وكانوا من أهالي البلدة والقرى
المجاورة خصوصا من عيناثا وقد أخذ بعض الشباب ينقب جدار السجن ليخرج
السجناء منه وما زالت صورة المرحوم حسن بسام من عيناثا أمام ناظري وهو
يكسر باب السجن ويدعونا للخروج تحت وابل الرصاص الذي كان يطلقه
الجنود على الجمهور وقد استشهد في هذه الانتفاضة ثلاثة هم: مصطفى العشي
من بنت جبيل ومحمد جمال وعقيل دعبول من عيناثا وعند المساء جرى نقل
المساجين إلى صيدا فتجمهر الناس في صيدا تأييدا لانتفاضة بنت جبيل وفي
اليوم الثاني عم الاضراب جميع مدن وقرى الجنوب. وخوفا من أن يحاصر سجن صيدا كما حوصر
سجن بنت جبيل من قبل ارتات سلطات الانتداب نقل
المساجين إلى سجن الرمل في بيروت.
وقد مكثنا في السجن مدة شهر تقريبا وقد أفرج عن المساجين لايقاف
انتفاضة كبيرة كانت قد أخذت تتفاعل على صعيد جبل عامل ولبنان ولدى
خروجنا من السجن ذهبنا جميعا إلى النبطية حيث جرى لنا استقبال حافل
واحتفال وطني كبير وألقيت هناك قصيدة كنت كتبتها في سجن الرمل عنوانها
" أنى يكون الليث فهو الغاب " منها:
لا السجن يثنينا ولا الارهاب * ما شئت فاصنع ما عليك عتاب
لا يطعمن بنا عميل غره * منا السكوت ومنكم الألقاب
نحن الليوث فهذه أثارنا * إما جهلت وهذه الأحساب
اسجن وشرد ما عليك غضاضة * أنى يكون الليث فهو الغاب
ومما قلته في إحدى المناسبات:
ليس في قولك معنى * ان مضى من غير ضجه
ان صوت الحق يبقى * في فم الأجيال حجه
ورخيص القول يبقى مثل ماء فوق ثلجه
كن على الظالم ذئبا * ومع المظلوم نعجه
واجعل الصدق سفينا * ان رأيت الكذب لجه
وقلت بعد الاستقلال اللبناني:
يقول رفاقي ما لصوتك خافتا * وكان بعهد الانتداب يلعلع
فما خفت بطش الانتداب وعنده * عدا السجن أسطول وتنك ومدفع
وترهب في عهد لنا في بنائه * وحرب أعاديه دماء وادمع
وفي ثورة التحرير من كل غاصب * وطاع لنا باع وكف وإصبع
سل السجن تنبيك الغياهب كم به * جرعنا من الآلام ما ليس يجرع
ألم يكف الاستئثار بالحكم دوننا * ألم يكف مال كدسوه وجمعوا
ألم يكفهم " ابطال تشرين (1) " عنهم * مع الناس قلنا وادعينا كما ادعوا
وقلنا بشامون (2) عرين وكلهم * هصور - إذا ريع العرين - سميدع
فلولاهم الجزار لم يخل ارضنا * ولا هي باستقلالها تتمتع
فما بالهم في عهدهم - ويح عهدهم - * عن البث حتى والشكاية نمنع
فأين قوافيك التي هي ثورة * تدك الكراسي تحتهم وتزعزع
رويدك ان السيل قد بلغ الزبى * ولم يبق في قوس التصبر منزع



(1) لقب أطلقه على أنفسهم الذين اعتقلوا سنة 43 في قلعة راشيا.
(2) قرية في الشوف.
269
فقلت رفاقي داؤنا اليوم معضل * فلا نظمنا يجدي ولا النثر ينفع
بنا داء خلق باحتياج لمبضع * وما عندنا " للخلق " آس ومبضع
وحكام هذا العهد بالاذن منهم * على عدم الاصغاء للقول اجمعوا
أصموا عن الشكوى الجريئة سمعهم * فليس سوى المدح المزيف يسمع
فكم شاعر أطراهم لا لأنهم * كرام وابطال وصيد كما ادعوا
ولا هو غر ليس يدري بأنهم همو دمروا أرض المعاد وضيعوا
ولكنه هو لرشح أكفهم * يموء وفي وصل الوظيفة يطمع
ذليل إذا ما قيل في الصين ظالم * يطأطئ في لبنان هاما ويركع
له الويل من يطري أبا لقوم ثائر أبي تغنيه القوافي فتبدع
فها هو لبنان الحبيب كما يرى * على الصحب والأنصار فئ موزع
غدا ضرع شاة رغم أنف أباته * وأحراره فيه المحاسيب ترضع
تقاسمه الاقطاع فهو فريسة * تمزقه ذئبانهم وتقطع
أذلوا بنيه بعد عز فكلهم * أخو حاجة في بابهم يتسكع
لقد خدعونا والكريم بطبعه * وأن كان أذكى الناس بالناس يخدع
فقلنا بهم ما لم يقله فرزدق * ودعبل قدما بالكرام ومربع
وسرنا وإياهم نعب من المنى * كؤوسا كصهباء المدام ونكرع
ونبني علالات الأماني رفيعة * ونغرس آمالا كبارا ونزرع
غداة لنا " الأبواق " قالوا بأنهم * على سحق أعداء التحرر اجمعوا
وان طبول الحرب منهم بقدسنا * لتطهيرها من غاصبيها ستقرع
فهذي فلسطين - بفضل جهادهم - * لأعدائها دار وربع ومرتع
تشرد اهلوها واخلوا مرابعا * تبللها منهم دماء وأدمع
فللنار أكل دورها وقصورها * فانى أجلت الطرف قفر وبلقع
" وللتائه المنبوذ " بعد حماتها * - ربوع العلى - فيها مقيل ومربع
لقد نال منها فوق ما كان يشتهي * ويبغي عدو من عدو ويطمع
شفى حقده منها وها هو نحونا * بمقلة ذئب جائع يتطلع
ونحن - بحمد الله - ما زال شملنا * تهدمه اهواؤنا وتصدع
وحكامنا بالرغم مما أصابنا * وما مثل الأعداء فينا وفظعوا
وبالرغم من عار على الدهر والمدى * لبسناه بردا ضافيا ليس ينزع
تواصوا ولكن بالخصام فكلهم * لصاحبه أفعى تدب وتلسع
فلم تجمع الشمل المصيبة بينهم * ولم يسمعوا أن المصيبة تجمع
ولم يذكروا تلك الوعود وقولهم * لمن طوردوا منا وضيموا وروعوا
وزجوا بأعماق السجون كأنهم * جناة وعبوا كل صاب وجرعو
غدا ينجلي هذا الظلام وشمسكم * تلوح - كما يهوى الكرام - وتسطع
ويصبح كالفردوس لبنان بهجة * ونحن بها الأبرار نجني ونرتع
فراحت قوافينا تشيد بمدحهم * وتهجو الذي يهجوهم وتقرع
ولكنهم لما دنا الحكم منهم * وفوق الكراسي في القصور تربعوا
لووا دوننا جيدا وعن ما يسيئنا * ويشمت اعدانا بنا ما تورعوا
فعدنا لعهد الانتداب وأهله * نحن وندعو لو يعود ونضرع
لئن ضاع حر الرأي والقول عنده * فها هو في " عهد الكرامة " أضيع
وإن رفعت فيه الجواسيس للذرى * فها هي في عهد " المجاهد " ارفع
وإن شفعت قدما لديه بخائن * فها هي في أحرارنا اليوم تشفع
فلو دام فينا ما تكشف سترنا * ولاكثر المهجو بنا والمقرع
ولا أبصر الشعب المغرر أوجها * مشوهة كانت به تتقنع
بدونا لدن ولى بانت عيوبنا * كوجه دميم كان يخفيه برقع
موسى بن يوسف سيار الشيرازي المشتهر ب‍ (أبو ماهر الشيرازي)
من كبار الأطباء في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجريين،
ومن تلاميذه علي بن عيسى الأهوازي مؤلف كتاب (كامل الصناعة).
للمترجم من المؤلفات: (1) رسالة في الآداب الجراحية (2) كتاب
الأربعون بابا في الاجزاء النظرية والعملية (3) تعليقات على كتاب الاغلاقين
(4) مقالة في الفقه وغير ذلك.
مير أمين
ولد في دهلي وتوفي في كلكته سنة 1217.
من أدباء الهند: أديب بارع وكاتب عظيم، له على الأدب الهندي فضل
خالد، وكتابه (باغ وبهار) (1215) لا يزال يقرأ ويدرس ويطبع. منهجه
خطابي وحديثي عام، خال من الصناعات البديعية، وهو قصة وفي ذيل القصة
إشارات إلى حياة العامة وتقاليد الأسرة وآداب الشيعة، وقد ترجم إلى عدة
لغات أوروبية.
ومن مؤلفاته الكثيرة كتاب (كنج خوبي) وهو ترجمة اخلاق محسني
الفارسي.
(مير حسن)، غلام حسن بن مير ضاحك
ولد في حدود سنة 1140 في دهلي وتوفي سنة 1201 في لكنو.
اشتهر بمير حسن لذلك ترجمناه في حرف الميم لأنه لا يعرف بغير هذا
اللقب.
من اشهر شعراء الهند ويعتبر شاعر الغزل والقصيدة والمثنوي، ولكن
لقصته المنظومة رواج خاص وهي مشهورة بسحر البيان ولا مثيل لها في اللغة
الأردوية. وصناعة مير حسن هي في حسن لفظها ولطافة معناها وبداعة
نسجها. انه حكاية عصره المترف، انه يحرك صور ما حوله من المرايا الجميلة
وحفلات الأمراء ومهرجانات الملوك وحياة قصور السلاطين، فإذا تطلعت إلى
مثنوية رأيت الصور المتحركة الناطقة.
وإذا كان الشاعر مير تقي نسيج وحده في الغزل وميرزا (سودا) نسيج
وحده في القصيدة فإن مير حسين نسيج وحده في المثنوي (راجع ترجمتي مير
تقي ومير سودا في محلهما من هذا المجلد).
(مير) محمد تقي اكبرآبادي
ولد سنة 1136 وتوفي سنة 1225 في لكنو (الهند).
من الاصطلاحات اللغوية الهندية ما اطلق في فترة من الفترات على اللغة
الهندية اسم (الريختة) اي المزيج ويعتبر المترجم شاعر الريختة، وشعره من نوع
السهل الممتنع، يقرأ ويفهم ويستحسن، وهو شاعر الغزل الرشيق الرقيق. في
شعره أنين المغرمين وحنين العشاق ومرارة العيش وألم الحياة، يؤثر في النفس
ويفعل في القلب فيشاركه القارئ أشجانه وآلامه، ولذا يطلقون على هذا
الشاعر لقب (شاعر الآه) اي شاعر التأوه.
في كلياته (اي مجموعة أشعاره) عدا الغزل، مدائح الأئمة ومراثي
الحسين عليه السلام وكل فنون الشعر.
وله كتاب في سيرته الذاتية (ذكر مير). وكتاب الشعر والشعراء باسم

270
(نكات الشعراء) وهما بالفارسية.
وقد ترجمناه في لقبه الذي اشتهر به (مير) ولا يعرف بغيره.
(ناسخ)، امام بخش فيض ابادي
ولد حوالي سنة 1202، وتوفي بلكنو سنة 1254.
من شعراء الهند، اشتهر بلقبه (ناسخ) لذلك ترجمناه في حرف النون.
هو ناسخ منهج المتقدمين ومؤسس أصول المتأخرين، ناظم لقواعد النظم
وقوانين اللهجة.
تعمد التخلص من الكلمات الهندوكية والاعتماد على الكلمات العربية
والفارسية، له ديوان كبير مطبوع.
ناصر الدين الشيخ راشد
قال في (أنوار البدرين):
الامام اللغوي الفقيه المتكلم الأديب العالم ابن إبراهيم بن إسحاق البحراني
بينه وبين الشيخ أبي جعفر الطوسي كما ذكره شيخنا الشهيد الأول في الأربعين حديثا
في الحديث الثالث ثلاث وسائط وهم السيد أبو الرضي فضل الله الراوندي الحسيني
عن أبي الصمصام ذي الفقار الحسيني عن الشيخ الامام أبي علي بن الشيخ أبي جعفر
الطوسي عن والده واثنى عليه كثيرا كما ذكرناه وبين شيخنا الشهيد وبينه اربع وسائط
وهم السيد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي المعالي عن الشيخ
الصدوق كمال الدين أبي الحسين علي بن الحسين بن حماد الليثي عن الشيخ الفقيه
الصالح شمس الدين أبي جعفر محمد بن محمد بن صالح الواسطي عن والده وجمال
الدين أحمد بن صالح. ولم أقف على تاريخ ولادته ولا شئ من مصنفاته، قاله شيخنا
الشيخ سليمان الماحوزي البحراني. وهو أول من ذكره من علمائهم في فضله وما لم
يذكره أيضا كثير ولا ينبئك مثل خبير، وقال تلميذه الصالح الشيخ عبد الله بن صالح
السماهيجي البحراني في اجازته الكبرى للعالم الفاخر التقي الشيخ ناصر بن محمد
الجارودي الخطي التي ننقل عنها كثيرا في هذا الكتاب، وعن محمد بن أحمد عن أبيه
عن الشيخ راشد البحراني وكان هذا الشيخ فقيها أديبا متكلما لغويا دينا قرأ على
العراق واقام بها مدة وقبره في جزيرة النبي صالح من اوال حرست من الوبال في الدار
الجنوبية المقابلة للشمال من حضرة النبي صالح انتهى كلامه، ومثله ما ذكره
صاحب اللؤلؤة فيها وفي اجازته للسيد العلامة الطباطبائي بحر العلوم إلا أنه زاد
فيهما ومعه في الدار العلامة ابن متوج البحراني.
قلت: وقد ذكر هذا الشيخ جملة من علماء الرجال في الإجازات وبلغوا في الثناء
عليه علما وعملا، وجزيرة النبي صالح التي ذكرها الشيخ عبد الله وصاحب اللؤلؤة
هي قرية من قرى البحرين في وسط البحر ذات عيون وانهار ونخيل وأشجار وفي
طرفها الغربي مقام عظيم ينسب للنبي صالح عليه السلام و فيها جملة من قبور العلماء ولم
نعرف وجه النسبة وتعرف هذه الجزيرة أيضا في بعض الكتب (بجزيرة اكل) بضم
الأولين ورأيت في هذه الجزيرة مدرسة كبيرة خرابا تسمى مدرسة الشيخ داود وينقل
أهل هذه الجزيرة انه قتل في بعض الوقائع في تلك المدرسة أربعون أو سبعون عالما
ومشتغلا كلهم شهداء ولهذا يسمونها الآن بكربلاء.
شاعر في زمانه ورئيس هذه الصناعة في وقته وأوانه اخذ عن الفضلاء ولازم
الأدباء حتى صار لأهل هذه الصناعة سيدا واماما ولكن حوادث الأهوال الواقعة على
(اوال) قد فرقت ما نظم واذهبت منه الجزء الأعظم واني وقت اشتغاله بالعلوم
والآداب لم اخرج من الأصلاب فلما من الله علي بالابراز من العدم إلى الوجود،
والهمني شيئا من معرفة هذه الصناعة تتبعت أشعاره واستقفيت آثاره فلم أعثر بعد
تتبع كثير إلا على شئ يسير فمنه قوله:
ضاق النطاق وأحكمت حلقاتها * فالنفس لا تختار طول حياتها
بلغ الرباسيل الهموم ولا أرى من يزجر الايمام عن نكباتها
فلذاك خاطبت الزمان وأهله * بشكاية الشعراء في أبياتها
قد قلت للزمن المضر بأهله * ومقلب الدولات عن حالاتها
ان كان عندك يا زمان بقية * مما تهبن به الكرام فهاتها
أبو القاسم نصر بن أحمد بن نصر بن مأمون البصري، المعروف بالخبز أرزي.
قال ابن خلكان أنه توفي سنة 317 ثم قال: في تاريخ وفاته نظر لأن الخطيب
ذكر في تاريخه أن أحمد بن منصور النوشري سمع منه سنة 325.
مر شئ من شعره في الصفحة 209 من المجلد العاشر.
كان أميا لا يتهجى ولا يكتب وكان يخبز خبز الأرز بمربد البصرة في دكان، وكان
ينشد أشعاره المقصورة على الغزل والناس يزدحمون عليه ويتطرفون باستماع شعره
ويتعجبون من حاله وأمره. وكان أبو الحسين محمد بن محمد المعروف بابن لنكك
البصري الشاعر المشهور - مع علو قدره عندهم - ينتاب دكانه ليسمع شعره،
واعتنى به وجمع له ديوانا، وكان نصر المذكور قد وصل بغداد وأقام بها دهرا طويلا.
ذكره الخطيب في تاريخه، وقال قرأ عليه ديوانه، وروى عنه مقطعات من شعره
المعافى بن زكريا الجريمري وأحمد بن منصور بن محمد بن حاتم النوشري، وعد
جماعة رووا عنه.
وذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة، وأورد له مقاطيع، فمن ذلك قوله:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما * بأكرم من مولى تمشى إلى عبد
أتى زائرا من غير وعد وقال لي: * أجلك عن تعليق قلبك بالوجد
فما زال نجم الوصل بيني وبينه * يدور بافلاك السعادة والسعد
فطورا على تقبيل نرجس ناظر * وطورا على تعضيض تفاحة الخد
وأورد له أيضا:
ألم يكفني ما نالني من هواكم * إلى أن طفقتم بين لاه وضاحك
شمأتكم بي فوق ما قد أصابني * وما بي دخول النار في طرمالك
وله:
كم أناس وفوا لنا حين غابوا * وأناس جفوا وهم حضار
عرضوا ثم أعرضوا واستمالوا * ثم مالوا وجاوروا ثم جاروا
لا تلمهم على التجني فلو لم * يتجنبوا لم يحسن الاعتذار
وله:
وكان الصديق يزور الصديق * لشرب المدام وعزف القيان
فصار الصديق يزور الصديق * لبث الهموم وشكوى الزمان
وقال أحمد بن منصور بن محمد بن حاتم النوشري: أنشدنا أبو القاسم
نصر بن أحمد الخبز أرزي لنفسه:

271
بات الحبيب منادمي * والسكر يصبغ وجنتيه
ثم اغتدى وقد ابتدأ * صنع الخمار بمقلتيه
وهبت له عيني الكرى * وتعوضت نظرا اليه
شكرا لاحسان الزمان * كما يساعدني عليه
ومن شعره:
كم أقاسي لديك قالا وقيلا * وعدات تترى ومطلا طويلا
جمعة تنقضي وشهر يولي * وأمانيك بكرة وأصيلا
إن يفتني منك الجميل من الفعل * تعاطيت عنك صبرا جميلا
والهوى يستزيد حالا فحالا وكذا ينسلي قليلا قليلا
ويك لا تأمنن صروف الليالي * إنها تترك العزيز ذليلا
فكأني بحسن وجهك قد * صاحت به اللحية الرحيل الرحيلا
فتبدلت حين بدلت بالنور * ظلاما، وساء ذلك بديلا
فكأن لم تكن قضيبا رطيبا * وكان لم تكن كئيبا مهيلا
عندها يشمت الذي لم تصله * ويكون الذي وصلت خليلا
وله:
رأيت الهلال ووجه الحبيب * فكانا هلالين عند النظر
فلم أدر من حيرتي فيهما * هلال الدجى من هلال البشر
ولولا التورد في الوجنتين * وما راعني من سواد الشعر
لكنت أظن الهلال الحبيب * وكنت أظن الحبيب القمر
وذكر الخطيب في تاريخ بغداد، ما مثاله: حكى أبو محمد عبد الله بن محمد
الأكفاني البصري، قال: خرجت مع عمي أبي عبد الله الأكفاني الشاعر، وأبي
الحسين بن لنكك، وأبي عبد الله المفجع، وأبي الحسن السماك، في بطالة عيد،
وأنا يومئذ صبي أصحبهم، فمشوا حتى انتهوا إلى نصر بن أحمد الخبز أرزي، وهو
جالس بخبز على طابقه، فجلست الجماعة عنده يهنونه بالعيد، ويتعرفون خبره،
وهو يوقد السعف تحت الطابق، فزاد في الوقود، فدخنهم، فنهضت الجماعة عند
تزايد الدخان، فقال نصر بن أحمد لأبي الحسين بن لنكك: متى أراك يا أبا
الحسين؟ فقال له أبو الحسين: إذا اتسخت ثيابي، وكانت ثيابه يومئذ جددا على
أنقى ما يكون من البياض للتجمل بها في العيد، فمشينا في سكة بني سمرة، حتى
انتهينا إلى دار أبي أحمد بن المثنى، فجلس أبو الحسين ابن لنكك، وقال: يا
أصحابنا إن نصرا لا يخلي هذا المجلس الذي مضى لنا معه من شئ يقوله فيه، ويجب
أن نبدأه قبل أن يبدأنا، واستدعى دواة وكتب:
لنصر في فؤادي فرط حب * أنيف به على كل الصحاب
أتيناه فبخرنا بخورا * من السعف المدخن للثياب
فقمت مبادرا وظننت نصرا * أراد بذاك طردي أو ذهابي
فقال: متى أراك أبا حسين؟ * فقلت له: إذا اتسخت ثيابي
وأنفذ الأبيات إلى نصر، فأملى جوابها، فقرأناه فإذا هو قد أجاب:
منحت أبا الحسين صميم ودي * فداعبني بألفاظ عذاب
أتى وثيابه كقتير * شيب فعدن له كريعان الشباب
ظننت جلوسه عندي لعرس فجدت له بتمسيك الثياب
فقلت: متى أراك أبا حسين؟ * فجاوبني: إذا اتسخت ثيابي
فإن كان الترفه فيه خير * فلم يكنى الوصي أبا تراب
وحكى الخالديان الشاعران المشهوران في كتاب الهدايا والتحف " أن
الخبز أرزي أهدى إلى ابن بزداد والي البصرة فصا، وكتب معه:
أهديت ما لو أن أضعافه * مطرح عندك ما بانا
كمثل بلقيس التي لم يبن * إهداؤها عند سليمانا
هذا امتحان لك إن ترضه * بان لنا أنك ترضانا
نصير الدين أبو الحسن ناصر بن مهدي العلوكي الحسني المازندراني الوزير
ذكره ابن الطقطقي في تاريخه قال: هو مازندراني المولود الأصل، رازي
المنشأ، بغدادي التدبير والوفاة، كان من كفاة الرجال وفضلائهم وأعيانهم،
وذوي الميزة منهم، اشتغل بالآداب في صباه فحصل منها طرفا صالحا ثم تبصر
بأمور الدواوين ففاق فيها.
وكان في ابتداء أمره ينوب عن النقيب عز الدين المرتضى (1) القمي نقيب
بلاد العجم كلها ومنه استفاد قوانين الرئاسة. وكان عز الدين النقيب من
أماجد العالم وعظماء السادات، فلما قتل النقيب عز الدين، قتله علاء الدين
خوارزمشاه (2) هرب ولده النقيب شرف الدين محمد وقصد مدينة السلام
مستجيرا بالخليفة الناصر، وصحبته نائبه نصير الدين ابن مهدي. وكان (ابن
مهدي) من عقلاء الرجال فاختبره الناصر فرآه عاقلا لبيبا سديدا فصار يستشيره
(كذا) سرا فيما يتعلق بملوك الأطراف فوجد عنده خبرة تامة بأحوال السلاطين
العجم ومعرفة بأمورهم وقواعدهم وأخلاق كل واحد منهم، فكان الناصر كلما
استشار به في شئ من ذلك يجده مصيبا عين الصواب فاستخلصه لنفسه ورتبه
أولا نقيب الطالبيين ثم فوض إليه أمور الوزارة، فمكث فيها مدة تجري أموره
على أتم سداد، وكان كريما وصولا عالي الهمة شريف النفس. حدث عنه أنه
كان يوما جالسا في دست الوزارة وفي يده قطعة عود كبيرة، فرأى بعض الصدور
الحاضرين وهو يلح بالنظر إليها. فقال: أ تعجبك هذه، فدعا له. فوهبه
إياها. وقام الرجل ليخرج، فلما بعد عن مجلس الوزير استدعاه بسرعة وقال
له: أتريد أن تفضحنا وتصدق المثل فينا (بخره عريانا)؟! ثم أمر فخلع عليه
ودفع إليه تخت ثياب وقال له: تبخر في هذه الثياب. ومدحه الأبهري الشاعر
الأعجمي بقصيدة مشهورة في العجم.. وأرسلها الأبهري صحبة بعض التجار
مع بعض القفول وقال للتاجر: أوصلها إلى الوزير وإن قدرت أن لا تعلمه من
قائلها فافعل فلما عرضت القصيدة على الوزير استحسنها وطلب التاجر ودفع
إليه ألف دينار ذهبا وقال: هذه تسلمها إلى الأبهري ولا تعلمه ممن هي.
وقبض الناصر عليه كارها لأمور اقتضت ذلك وكان القبض عليه في سنة
أربع وستمائة، ونقل إلى دار الخلافة فأقام بها تحت الاستظهار على حالة الإكرام
والمراعاة إلى أن مات تحت الاستظهار في سنة سبع عشرة وستمائة ". وذكره
السيد ابن عنبة في عقب زيد بن الحسن - ع - قال: " ومنهم زيد بن حمزة بن
محمد ". من ولده الوزير أبو الحسن ناصر بن مهدي بن حمزة بن محمد بن حمزة
(بن) مهدي بن الناصر بن زيد المذكور، الرازي المنشأ المازندراني المولد. ورد
بغداد بعد قتل السيد النقيب عز الدين يحيى بن محمد الذي كان نقيب الري
وقم وآمل - وهو من بني عبد الله الباهر وكان محمد بن النقيب المذكور معه،
وكان الوزير ناصر (3) فاضلا محتشما حسن الصورة، مهيبا فوضت إليه النقابة



(1) هو السيد أبو محمد يحي بن محمد الحسين ذكره ابن الفوطي في الملقيين بعز الدين وقال: " همو النقيب
بقم ومازندران وعراق العجم، وكان كثير الجاه والمال والحشمة " " التخليص " 4: القسم
1 ص 384، 385 ".
(2) لا بد أن كان سبب قتله النزاع بين الناصر والملك الأحمق الآخر وعلاء الدين خوارزم شاه على مدن
الجبال، والظاهر أن النقيب عز الدين كان من أعوان الناصر ففتك به ذلك الملك الخارجي.
(3) في طبعة بمبي " ناصر الدين " وهو خطأ فلقبه نصير الدين واسمه ناصر كما هو معلوم.
272
الطاهرية ثم فوضت إليه نيابة الوزارة فاستناب في النقابة محمد بن يحيى النقيب
المذكور ثم كملت له الوزارة وهو الأربعة الذين كملت لهم الوزارة في زمن
الخليفة الناصر لدين الله، ولم يزل على جلالته في الوزارة ونفاذ أمره وتسلطه
على السادة بالعراق إلي أن أحيط بداره ذات ليلة، فجزع لذلك وكتب كتابا ثبتا
يحتوي على جميع ما يملكه من جميع الأشياء حتى حلي ثيابه وكتب في ظهره: إن
العبد ورد هذا البلد وليس له شئ يلبسه ويركبه وهذا المثبت في هذا الثبت إنما
استفدته من الصدقات الإمامية والتمس أن يصان في نفسه وأهله. فورد الجواب
عليه: إننا لم ننقم عليك بما سترده وقد علمنا ما صار إليك من مالنا وتربيتنا
وهو موفر عليك. وذكر له أمرا اقتضى له أن يعزل. فسأل أن ينقل إلى دار
ليأمن من سعي الأعداء وتطرقهم إليه بشئ من الباطل، فنقل إلى هناك وبقي
في داره مصونا إلى حين وفاته. وقد قيل في سبب عزله أقوال منها أن الخليفة
الناصر القي إليه رقعة ولم يعلم صاحبها وفيها هذه الأبيات (1):
ألا مبلغ عني الخليفة أحمدا * توق وقيت الشر ما أنت صانع
وزيرك هذا بين شيئين فيهما * فعالك يا خير البرية ضائع
فإن كان حقا من سلالة أحمد * فهذا وزير في الخلافة طامع
وإن كان فيما ادعى غير صادق * فأضيع ما كانت لديه الصنائع
ومنها أنه كان لا يوفي الملك صلاح الدين بن أيوب ما (له) من الألقاب.
وكان صلاح الدين هو الذي أزال الدولة العبيدية (الفاطمية) من مصر وخطب
للخليفة الناصر بالخلافة هناك فيقال إن بعض رسله إلى دار الخلافة لما أنهى ما
جاء لأجله قال: عندي رسالة أمرت أن لا أؤديها إلا مشافهة في خلوة. فلما
خلا به قال: العبد يوسف بن أيوب يقبل الأرض ويقول: تعزل الوزير ابن
مهدي وإلا فعندي باب مقفل خلفه قريب من أربعين رجلا، أخرج واحدا
منهم وأدعو له بالخلافة في ديار مصر والشام. فكان هذا سبب عزل الوزير (2).
وكان (نصير الدين) جبارا مهيبا وجد ذات يوم رقعة في دواته واستعبرها ولم
يعلم من طرحها فإذا فيها شعر:
لا قاتل الله يزيدا ولا * مدت يد السوء إلى نعله
فإنه قد كان ذا قدرة * على اجتثاث العود من أصله
لكنه أبقى لنا مثلكم * أحياء كي يعذر في فعله
فقامت عليه القيامة، فاجتهد فلم يعرف من ألقاها " (3)
وقال ابن الأثير في حوادث سنة 592: " وفي شوال منها أثبت نصير الدين
ناصر بن مهدي العلوي الرازي في الوزارة " والصحيح نيابة الوزارة ألا تراه
قال في حوادث سنة 604 في خبر عزله: " كان هذا نصير الدين ناصر بن
مهدي العلوي من أهل الري من بيت كبير فقدم بغداد لما ملك مؤيد الدين ابن
القصاب وزير الخليفة الري ولقي من الخليفة قبولا فجعله نائب الوزارة ثم
جعله وزيرا ". ثم إن هذا مخالف للتاريخ قال ابن الساعي في حوادث سنة
597: " وفي تاسع عشر صفر خلع على نصير الدين أبي الحسن ناصر بن
مهدي العلوي الرازي وولي نيابة الوزارة وركب إلى الديوان العزيز وجلس (4)
به ونفذ المراسم الشريفة الناصرية ووقع إلى الأطراف " وقال في حوادث السنة
المذكورة: " وفي خامس ذي القعدة خرج نصير الدين ناصر بن مهدي المذكور
وخرج معه الأمير طاشتكين لاستعراض العساكر وكان على عزم التوجه إلى
اليمن لمحاربة إسماعيل ابن سيف الاسلام طغدكين لأنه ادعى أنه أموي وسمى
نفسه خليفة فأغناهم الله عن قصده وقصمه وطهر البلاد منه ".
وقال في حوادث سنة 602: " وفي ثاني عشر جمادي الأولى منها أشهد
الإمام الناصر لدين الله - رضي الله عنه - على نفسه الشريفة بالوكالة الجامعة
للوزير نصير الدين ناصر بن مهدي، العدلين أبا منصور ابن الرزاز وأبا
نصر بن زهير " وقال: فيها: " وفي ثامن ذي الحجة من السنة خلع على نائب
الوزارة نصير الدين ناصر بن مهدي بباب الحجرة الشريفة خلع الوزارة وخرج
راكبا من هناك وجميع أرباب الدولة بين يديه رجالة وكذلك الأمراء إلى الديوان
العزيز وجلس في دست الوزارة وكتب إنهاءا وعرضه فبرز الجواب عنه على يد
الأستاذ تاج الدين رشيق القادم الخاص فقرأه على الحاضرين وعاد إلى داره " ثم
قال في سنة 604: " وفي يوم السبت ثاني عشري جمادي الآخرة من سنة أربع
وستمائة المذكورة عزل الوزير نصير الدين أبو الحسن ناصر بن مهدي العلوي،
حضر عنده ليلا من شافهه بالعزل وأغلق بابه وضرب له الطبل في تلك الليلة
بالرحبة جريا على عادته واحتيط على داره وأبوابه وكذلك دار ولده ركن الدين
محمد المقدم، ذكر عزله (عن صدرية المخزن) ثم نقل هو وأولاده إلى دار
بالصاغة من دار الخلافة المعظمة ونقل معه أمواله وأسبابه جميعها وجعل معه
غلمان من رجال الدار العزيزة يحفظونه ".
وقال ابن الأثير في حوادث سنة 604 تحت عنوان (ذكر عزل الوزير نصير
الدين وزير الخليفة) وقد نقلنا بعضه آنفا: فلما كان في الثاني والعشرين من
جمادي الآخرة من هذه السنة عزل وأغلق بابه وكان سبب عزله أنه أساء السيرة
مع أكابر مماليك الخليفة فمنهم أمير الحاج مظفر الدين سنقر وجه السبع (5) فإنه
هرب من يديه إلى الشام سنة ثلاث وستمائة، فارق الحاج بالمرجوم وأرسل
يعتذر ويقول: إن الوزير يريد أن لا يبقى في خدمة الخليفة أحد من مماليكه ولا
شك أنه يريد أن يدعي الخلافة. وقال الناس في ذلك فأكثروا وقالوا الشعر فمن
ذلك قول بعضهم: أ لا مبلغ عني الخليفة أحمدا (6)... فعزله، وقيل في سبب
ذلك غيره ولما عزل أرسل إلى الخليفة يقول: إنني قدمت إلى هاهنا وليس لي
دينار ولا درهم، وقد حصل لي من الأموال والأعلاق النفيسة وغير ذلك ما يزيد
على خمسمائة ألف دينار (7). ويسأل أن يؤخذ منه الجميع ويمكن من المقام
بالمشهد أسوة ببعض العلويين، فأجابه (الخليفة الناصر: إننا ما أنعمنا عليك
بشئ فنوينا إعادته ولو كان ملء الأرض ذهبا، ونفسك في أمان الله وأماننا ولم
يبلغنا عنك ما يستوجب به ذلك، غير أن الأعداء قد أكثروا فيك، فاختر



(1) في الكامل لابن الأثير في حوادث سنة 604 " قول بعضهم " وفي نسخة ثانية من الكامل خطية
" الشعر ليعقوب بن صابر " أو جاء في كتاب الحوادث " ص 10 " أنها ليعقوب بن صابر المنجيقي.
قال: " وكان كثير الدخول على الوزير ناصر بن مهدي ثم صار إذا جاء يجلس ظاهر الستر وذكر له أبياتا
وقال: ثم انقطع عنه مدة فلما دخل اليه أنكر عليه انقطاعه، وذكر له بيتين، قال: ثم هجاه فقال:
" خليلي قولا للخليفة أحمد ".
(2) أقال مصطفى جواد: لقد عجبت أشد العجب من نقل السيد ابن عنبة هذه القصة المزورة فالسلطان
صلاح الدين توفي سنة " 589 " باجماع المؤرخين الذين ذكروا سيرته، وناب نصير الدين ناصر بن مهدي
في الوزارة سنة 592 كما في الجامع المختصر " 9 ": أي بعد وفاة صلاح الدين بثلاث سنين وكان قرض
الدولة الفاطمية على عهد المستضئ والد الناصر لا على عهد الناصر ولم يكن لصلاح الدين من الجرأة أن
يقول للناصر ذلك القول فضلا عن أنه كان يعتقد قطع خطبة الفاطميين وخلافتهم من الأمور الواجبة لأنه
كان شافعيا.
(3) عمدة الطالب " ص 62 - 64 طبعة النجف والعجب كيف مرت هذه القصة على السيد محمد صادق
آل بحر العلوم المشرف على تصحيح الكتاب ولم ينتبه إلى هذا الغلط التاريخي.
(4) من العجب أن عز الدين ابن الأثير ذكر في حوادث سنة 592 تثبيته في الوزارة وذلك غير صحيح
(الكامل في حوادث سنة 592).
(5) ذكر ابن الأثير في حوادث سنة " 603 " أنه " فيها فارق أمير الحاج مظفر الدين ستقر مملوك الخليفة
المعروف بوجه السبع الحاج بموضع يقال له المرجوم ومضى في طائفة من أصحابه إلى الشام وسار الحاج
ومعهم الجند فوصلوا سالمين، ووصل هو إلى الملك العادل أبي بكر ابن أيوب فأقطعه إقطاعا كثيرا بمصر
وأقام عنده إلى أن عاد إلى بغداد سنة ثمان وستمائة في جمادي الأولى فإنه لما قبض على الوزير (ناصر بن
مهدي) أمن على نفسه وأرسل يطلب العودة فأجيب.. قلنا عزل الوزير بسنة 604 فلماذا تأخر رجوعه؟
(6) ذكرنا الأبيات آنفا من عمدة الطالب وأشرنا إلى ورودها في كتاب الحوادث.
(7) في نسخة الكامل المطبوعة المتداولة " خمسة آلاف دينار " وهو غير معقول ولا مقبول فرجعنا إلى النسخة
الخطية الأولى فإذا المبلغ كما ذكرناه.
273
لنفسك موضعا تنتقل إليه موقرا (1) محترما. فاختار أن يكون تحت الاستظهار من
جانب الخليفة لئلا يتمكن منه العدو فتذهب نفسه، ففعل به ذلك. وكان
حسن السيرة قريبا إلى الناس حسن اللقاء لهم والانبساط معهم، عفيفا عن
أموالهم، غير ظالم لهم. فلما قبض عاد أمير الحاج سنقر (2) وعاد أيضا
قشتمر " (3).
وقال سبط ابن الجوزي في حوادث سنة 602: " وفيها استوزر الخليفة
نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الحسني وخلع عليه خلعة الوزارة:
القميص والدراعة والعمامة وخرج من باب الحجرة فقدم له فرس من خيل
الخليفة وبين يديه دواة فيها ألف مثقال ذهب ووراء المهد الأصفر وألوية الحمد
وطبول النوبة والكوسات تخفق والعهد منشور بين يديه وجميع أرباب الدولة
مشاة بين يديه وضربت الطبول والبوقات له بالرحبة في أوقات الصلوات
الثلاث: المغرب والعشاء والفجر. فقال الناس: يا ليت شعرنا ماذا أبقى
الخليفة لنفسه ".
وكانت صورة خطاب الوزير ابن المهدي الرسمية " المولى الوزير الأعظم،
الصاحب الكبير المعظم، العادل المؤيد المظفر، المجاهد نصير الدين صدر
الاسلام، غرس الامام، شرف الأنام عضد الدولة مغيث الأمة، عماد
الملك، اختيار بالخلافة المعظمة، مجتبى الأمة المكرمة، تاج الملوك. سيد
صدور العالمين ملك وزراء الشرق والغرب غياث الورى نصير الدين أبو الحسن
نصر بن مهدي، ظهير أمير المؤمنين ووليه المخلص في طاعته الموثوق به في صحة
عقيدته ".
وقال أبو الفضائل محمد بن علي الحموي والعهدة عليه في تاريخه في حوادث
سنة 611: " سنة " حادي عشرة وستمائة كان قد تجهز خوارزم شاه إلى
العراق وفيها وصلت رسل خوارزم شاه يطلب الدار ببغداد والخطبة وأن يخاطب
بمخاطبة السلجوقية، ويقال له في الخطبة (قسيم أمير المؤمنين) فما أجيب إلى
ذلك، وأنكر عليه غاية الانكار، سبب عزل الخليفة لوزيره نصير الدين
العلوي أنه كان قد سير ثلاثمائة جمل عليها قواصر التمر وأودع كل جمل ألف
دينار، فتعرض لها بعض ولاة الخليفة وطلب شيئا من ذلك التمر يأكله،
فامتنعوا عليه من ذلك إلا أنه ألح عليهم، فأخذ جملين وفتح قوصرة تمر ففرقها
على الجماعة وجد الذهب، ففتح الثانية فوجد كذلك فضبط الجميع وطالع به
الخليفة، فأنكر ذلك عليه وعزله ونقله إلى دار الخليفة هو وأولاده بعد أن أخذ
جميع الذي كان له فما وجد إلا القليل لأنه كان قد نقله إلى العجم واستوفينا
قصته في البيان ".
وهذا الخبر مضطرب عليه سيماء الكذب ويدل على أن هذا المؤرخ كان عاميا
بعيدا عن التعقل، ثم إن الخبر أشبه باخبار العوام منه باخبار المؤرخين
الاثبات.
ناصيف النصار
مرت ترجمته في المجلد العاشر الصفحة 205 ونزيد عليها هنا ما يأتي:
محاولة محمد علي باشا قهر الدولة العثمانية واكتساح حكمها في بلاد الشام
وإقامة حكم مصري عربي على أنقاضه. ونجاحه في ذلك أكثر مما كان يقصد،
إذ تعدى في انتصاراته بلاد الشام وتقدم إلى الأناضول حتى بدا كأن انهيار الدولة
العثمانية انهيارا كاملا بات ذا وقت محدود. لولا تدخل الإنكليز مع مجموعة من
الدول الأوروبية وارغامهم محمد علي على التوقف. وعودة جيوشه المظفرة من
حيث أتت.
هذه المحاولة سبقتها أخرى نجحت أول أمرها كل النجاح لولا أمر طارئ
كما سنفصله:
دخل السلطان سليم القاهرة منهيا الحكم المملوكي الذي كان قائما في
مصر. وخطب باسمه في مساجد القاهرة في 24 كانون الثاني سنة 1517،
و خضعت مصر كلها للسيادة العثمانية، وقام عهد جديد افتتح هو أيضا
بالمماليك، فإن السلطان غادر مصر في شهر أيلول من العام نفسه موكلا الحكم
فيها إلى خير بك، من مماليك السلطان الغوري ونائبه في حلب، وكان تخلى عن
سلطانه وانضم إلى السلطان سليم.
وبعد وفاة خير بك سنة 1522 كانت الدولة ترسل لحكم مصر (باشا)
عثمانيا. لم يكن ينفرد بالحكم الفعلي بل كان يشاطره المماليك الكثير من شؤونه
إلى أن استطاع هؤلاء المماليك السيطرة سيطرة كاملة على البلاد في عهد علي بك
الكبير الذي دخل في صراعات عنيفة مع غيره من المماليك إلى أن استطاع
الانفراد بالحكم سنة 1763 ولكنه غلب على أمره واضطر إلى الفرار إلى
القدس، ثم إلى عكا حيث توطدت الصلات بينه وبين ظاهر العمر الذي
ساعده على العودة إلى مصر، ثم انقلبت عليه الأمور ثانية واضطر إلى الفرار
وملاقاة ظاهر العمر من جديد، فالعودة إلى مصر سنة 1766.
وهنا حاول علي بك الاستقلال نهائيا في مصر وقطع صلاته بالآستانة
والتخلص من السلطة الأسمية التي كانت للدولة على مصر. فطرد الباشا
العثماني وامتنع عن دفع الجزية للباب العالي، ثم ضرب النقود باسمه سنة
1768 وأرسل إلى صديقه ظاهر العمر يخبره بكل ذلك.
وكان ظاهر العمر في صراع دائم مع العثمانيين إلى أن استأثر بالحكم في
عكا. وهكذا اجتمع للصديقين سيطرة كاملة على بلديهما فتحت لهما آفاق
المطامع الواسعة. وإلى جانب ظاهر العمر كان يقيم أمير جبل عامل ناصيف النصار، وكان
أول الأمر في خصام مع ظاهر ثم تحالفا على أعدائهما المشتركين. وناصيف نفسه
يتمتع باستقلال في جبله لا يقل عن مثيليه في القاهرة وعكا.
وهنا تم التفاهم بين علي بك الكبير وظاهر العمر على توحيد قواهما بأن
تزحف قوى مصر إلى بلاد الشام فتنضم إليها قوى عكا فتتألف مجموعة تستطيع
اكتساح بلاد الشام جميعها. وتم التفاهم بين ظاهر العمر وحليفه ناصيف
النصار على توحيد قواهما في هذا المعترك ومساهمة جبل عامل في قيام الدولة
الجديدة.
الواقع أن نصوص هذه الأحداث قليلة، والكثير من الموجود يشير إشارات
عابرة إلى احداث ضخام. فنحن لا نعلم تفاصيل الخطة التي اعتزم تنفيذها
الحلفاء الثلاثة، ولا تفاصيل ترتيبات التدرج من الكلام إلى الثورة. ولكننا
نعلم، نحو سنة 1768، ان جهر ظاهر العمر بمطالب صريحة لدى الباب
العالي أن يكون له حكم عكا مدة حياته، ثم لأولاده، وزاد فطالب بحكم
الناصرة وطبرية وصفد وبلاد الجليل.



(1) في النسخة الخطية " موفورا " وهو الفصيح.
(2) ذكر المؤرخ نفسه أن عودته كانت سنة 608 لا سنة 604.
(3) ذكر ابن الأثير مفارقته لخدمة سنة 603 أيضا.
274
وكان يطالب بذلك من مركز قوة بعد انتصاره على عثمان باشا والي
دمشق، وكان لهذا الانتصار صدى بالغ عند علي بك الكبير.
ويبدو أن علي بك لما اطمأن إلى مناعة حليفه في بلاد الشام أراد أن ينطلق
في ميدان آخر يضمن له بسطه في الملك وسعة في الحكم فاتجهت أنظاره إلى
الحجاز، فوجه إليه في شهر صفر سنة 1148 ه‍ (1770 م) حملة ناجحة
استطاعت الاستيلاء على الحجاز وإقامة شريف في مكة يأتمر بأمر حاكم مصر هو
الشريف عبد الله، الذي اعطى بما له من سلطة روحية لقب سلطان مصر
وخاقان البحرين " لعلي بك الكبير.
وبعد هذا النجاح أخذ علي بك يتهيأ لحملة بلاد الشام، وجاء في مخطوط
هذا النص: " وكان علي بك عزم على العصيان للدولة وطمع في تملك بلاد
العرب ". مما يدل على ذيوع أهداف علي بك وانها عمل يؤدي بالاستقلال في
البلاد العربية.
وفكر في الاستعانة على تحقيق أهدافه بالإمبراطورة كاترينا إمبراطورة روسيا
على أن ترسل إليه المهندسين لاستخدامهم في الحصار، والضباط لتنظيم جيشه
تنظيما حديثا، ولكن هذه الفكرة لم تسفر عن شئ عملي.
وأراد علي بك أن يجد المبرر لحملته فأرسل في آذار سنة 1767 إلى الباب
العالي يشكو من عثمان باشا والي دمشق محتجا بأن بعض المصريين المطرودين
استقبلهم عثمان باشا وشجعهم. كما أراد أن يستغل عواطف الشعب الشامي
الذي كان يشكو من مظالم عثمان باشا، فاصدر منشورا في كانون الأول سنة
1770 يبشر به الشاميين بسعيه لإنقاذهم من الظلم.
وتتشابك الروايات هنا فيبدو من المصادر القديمة المخطوطة أن عثمان باشا
والي الشام هو الذي بادر إلى تحدي ظاهر العمر، وربما كان ذلك اتفاقا مع
الدولة ردا على مطالب ظاهر العمر التي ذكرناها، وان عثمان باشا اتفق مع
أمراء الشوف في لبنان وعزموا على غزو ظاهر، وان هذا أرسل يستنجد بعلي بك
وأنه انجده بحملة يقودها إسماعيل بك قوامها عشرة آلاف مقاتل، طليعة
للحملة الكبرى، فأرسل ظاهر أولاده فقدموا مع إسماعيل بك إلى عكا، لكن
هذا تباطا في انجاد ظاهر العمر وتعلل ببعض العلل وكان علي بك جهز حملة
يقودها محمد أبي الذهب زحفت على الشام عبر الصحراء، كما أرسل سفنا لنقل
الميرة من دمياط إلى عكا.
ويقول كتاب " الحملة الفرنسية " بأن عدد الجنود المصريين كان أربعين
ألفا، ويقول مصدر آخر: " خرجت العساكر المصرية قاصدة بلاد الشام
يقودها محمد بك أبو الذهب والتقى أولا بالسناجق المرسلة (بقيادة إسماعيل
بك). وجاء أولاد ظاهر العمر ومشايخ المتأولة (العامليين) وانضموا إليه
فصار جيشه ينيف على ستين ألفا. وهذا المصدر لم يحدد عدد الجنود المصريين
فإذا أخذنا بما جاء في المصدر الأول يكون عدد المنضمين من جنود فلسطين
وجنود جبل عامل عشرين ألفا.
وتقدم محمد أبو الذهب بحملته المصرية العاملية الفلسطينية طالبا دمشق
فاشتبك بقوى عثمان باشا فهزمها، ثم خيم حول دمشق، وأرسل إلى
الدمشقيين كتابا احضره من علي بك يتضمن ذما لعثمان باشا واستنصارا بالدين
عليه، قائلا أن المذاهب الأربعة أفتت بقتالة وان الأمة لا تجتمع على الضلالة
فاستخرنا الله وسألناه أن ينصر دين محمد بعلي (يعني نفسه)، فخرج
الدمشقيون إلى أبي الذهب مستأمنين فأمنهم ودخل دمشق في نهاية تشرين الثاني
سنة 1771 وتقدم إلى القلعة وكان جنوده يحاصرونها فاستسلمت وفر عثمان
باشا إلى حمص.
كان النصر إلى حد ما حاسما، إذ استطاع أبو الذهب أن يهزم قوى الدولة
متمثلة بعثمان باشا، كما اجتاز فلسطين، وأصبح الطريق مفتوحا أمامه
لاستصفاء بلاد الشام كلها.
وهنا حدثت المفاجأة وكانت وستظل لغزا من الألغاز، فإن محمد أبو
الذهب وهو في قمة انتصاره بدلا من أن يواصل الزحف متوغلا في سوريا، إذا
هو يعلن الانسحاب إلى مصر واهدار النصر إهدارا كاملا.
واختلفت الأقوال في أسباب التراجع فنسبة بعضهم إلى تأثير إسماعيل بك
قائد الحملة الأولى الذي رفض من أول الأمر القتال مع ظاهر العمر، وأنه أخذ
يخوف أبا الذهب عاقبة الأمر والخروج على السلطان، وأنه كان يستغل بعض
التصرفات ويحذره من ظاهر العمر قائلا له: انظر كيف يجلس علي الظاهر في
مجلسك كأنه في مجلس بعض الصعاليك.
ومهما يكن من أمر فان محمد أبو الذهب انسحب من دمشق وعاد في طريقه
التي جاء منها متجها إلى مصر.
وأسقط في أيدي الفلسطينيين والعامليين وعاد كل منهم إلى بلاده.
ولسنا الآن في صدد تدوين الأحداث التي وقعت من بعد بين علي بك وأبي
الذهب وإنما نكتفي بالقول، ان عودة أبي الذهب إلى مصر بمثل ما عاد به من
الخيانة أدت إلى نشوب صراع بينه وبين علي بك، كانت نهايته انهزام علي
بك ولجوءه مع فريق من جنوده إلى حليفه ظاهر العمر وتعاونهما في فلسطين على
قتال العثمانيين. ثم عودته إلى مصر مزود بنجدات من ظاهر العمر، فتلقاه أبو
الذهب وهزمه، ثم لم يلبث أن مات في 15 صفر سنة 1187 ه‍ (1773)
متأثرا بجراحه التي أصابته خلال المعركة.
أما أبو الذهب فيبدو أن أحلام علي بك الكبير عاودته هو نفسه فطمع
بالاستيلاء على بلاد الشام، ولكن لا تحالفا مع ظاهر العمر وناصيف النصار،
بل حربا عليهما. فخرج في آذار سنة 1775 وتقدم إلى فلسطين وانتصر على
ظاهر العمر في يافا وتقدم نحو عكا فانسحب منها ظاهر متحاشيا الاصطدام بأبي
الذهب. ولم يجد ظاهر ملجا له إلا عند حلفائه العامليين فقصد جبل عامل
وحل في قلعة هونين ضيفا على الشيخ قبلان.
وبعد انتصار أبي الذهب على الفلسطينيين بقي أمامه ناصيف النصار
حليف ظاهر، وفي رواية عاملية، ان ناصيف قصد إلى عكا متصلا بأبي
الذهب وأن أبا الذهب احتفى به وأكرمه. والواقع أنه بعد هزيمة ظاهر العمر لم
يكن للعامليين قبل بمحاربة أبي الذهب فكان لا بد لهم من معالجة الأمر
بالوسائل السلمية، ولا ندري حقيقة ما حدث في عكا بين ناصيف وأبي
الذهب، فإن رواية أخرى تقول أن أبا الذهب منع ناصيف من الرجوع إلى أن
يأتي جميع الزعماء العامليين.
على أن ما لا شك فيه أن أبا الذهب كان مصمما على الزحف على جبل
عامل سالكا إليه طريق الحولة وكان لا بد من أعمال الروية والحكمة فاجتمع

275
كبار علماء الجبل كالسيد أبي الحسن جد آل الأمين والسيد فخر الدين العيناتي،
هكذا أسماه المؤرخون ويبدو أنه جد آل فضل الله والشيخ محمد الحانيني والشيخ
الخاتوني والسيد حيدر نور الدين وتداولوا مع ناصيف النصار الأمر ويظهر أنهم
رأوا أن يتظاهروا بالشدة وأن يتعاملوا باللين، فأضرموا في الليل النيران في
الجبل المطل على معسكر أبي الذهب في الحولة، وامتدت النيران من هونين إلى
ديشوم، وأرادوا باضرامها التظاهر بكثافة الجموع المحتشدة. ثم أعقبوا ذلك
بأن توجه ناصيف النصار وحده لا يصحبه إلا رجل واحد من بيت الحاج من
قرية شحور إلى مخيم أبي الذهب، وتقدم ناصيف إلى " كاخية " أبي الذهب،
وقال له: أنا ناصيف النصار، وهذا سيفي في عنقي ولا نريد حربا مع أبي
الذهب، فخذني إليه.
فقال له الكاخية: ان الباشا يموت فاذهب فليس عليك بأس، فعاد
ناصيف، ومات أبو الذهب، في ليلته تلك، وحنطت جثته وأرسلت إلى
القاهرة ودفنت في المدرسة التي أنشأها تجاه الأزهر.
وكان العامليون حين علموا بتوجه أبي الذهب إليهم خافوا خوفا شديدا
لضآلة قوتهم أمام قوى أبي الذهب، وتحسبوا لكل شر وبلاء. وليس أكثر دلالة
على ذلك من أنهم أرخوا تلك السنة وهي سنة 1189 هجرية، بهذه
الكلمات: (سم، هم، غم). كما أن أحد مؤرخيهم قال يصف الواقع:
" أبو الذهب تعب في سطوته جميع العجم والعرب، وما أحد إلا ونزل به الهم
والكرب، وحل بالناس الويل والعطب، وكل يقول: الهرب ثم الهرب ما دام
أبو الذهب لنا بالطلب ".
وقال الدكتور حسين سلمان سليمان:
شهدت سنوات الثلث الثاني من القرن الثامن عشر انقسام ولايات الشام
العثمانية إلى حزبين، الأول برأسه عثمان باشا الصادق في دمشق ويضم
باشاوات حلب وطرابلس وصيدا والقدس وبغداد والموصل، والثاني يرأسه
ظاهر العمر في عكا ويسيطر على القسم الجنوبي من فلسطين حول عكا وصفد
وطبرية وغزة (1)، وأتباعه مشايخ بلاد صفد عشائر جبل عامل، وأكثر قبائل
الرحل ويؤيده علي بك الكبير بمماليكه في مصر. (2)
وانعكس هذا الانقسام على أمراء الأسرة الشهابية في جبل الدروز، فبينما
اعتمد الشيخ سعد الحوري وسيده الأمير يوسف الشهابي على عثمان باشا في
مناهضة أمير جبل الدروز منصور الشهابي وإزاحته عن منصبه والحلول مكانه،
كان موقف الأخير يتحدد إلى حد بعيد بالمساعدات التي كان يتلقاها من والي
صيدا السابق محمد باشا العظم. ولما يكن أمير جبل الدروز يجرؤ على مقاومة
العثمانيين، فقد اتبع الأساليب المألوفة في هذا المجال، أي التظاهر بمظهر
المخلص لهم في حين كان يساعد في الخفاء عدوهم ظاهر العمر، (3)
ومما ينبغي الإشارة إليه أن أحدا من زعماء حزب المتمردين (ظاهر العمر
وعلي بك الكبير وناصيف النصار) تجرأ وأعلن استقلاله عن السلطان
العثماني، رغم السلطة التي تمتع بها كل منهم في منطقة نفوذه، وإنما كانوا
يعلنون العصيان العلني على ممثلي السلطة العثمانية في مناطقهم، بحجة الظلم
والاضطهاد اللذين يتعرضون لهما من قبل هؤلاء، والسبب في امتناعهم عن
إعلان العصيان على السلطان العثماني، أنه مهما بلغ ضعفه السياسي
والعسكري، كان لا يزال زعيم المسلمين، وأن عصيانه من شأنه أن يؤلب
الرأي العام الإسلامي ضد هؤلاء المتمردين. (4)
سقوط دمشق
وانضمت القوات العاملية وجنود أبناء ضاهر إلى الحملة المملوكية التي
أرسلها علي بك الكبير لاحتلال بلاد الشام، وفي 25 نيسان (أبريل) عام
1771 قرر العامليون غزو مدينة صيدا ليلا، وعلم الوالي درويش عثمان باشا
بقرارهم هذا عن طريق الشيخ قبلان، حاكم مدينة صور، الذي كان يقف
على الحياد في الصراع الدائر على النفوذ في بلاد الشام. فاتخذ الباشا
الاستعدادات اللازمة، فاستنفر قواته ووضعها على أبواب المدينة الثلاثة،
ونظرا لانشغال والده وشقيقه بالاستعداد لصد القوات المصرية، استنجد
بالأمير يوسف شهاب للمساعدة بالدفاع عن المدينة إذا تعرضت للهجوم
المتوقع فحضر الأخير إلى صيدا ومعه بضع مئات من أنصاره، كان بإمكانه أن
يزيد عددها عند الخطر، بالاستعانة بخمسة عشر ألف رجل من أتباع الشيخ
علي جنبلاط. لم يترك الأمير يوسف الشهابي مدينة صيدا إلا بعد أن حضر
عثمان باشا بقافلة الحج الشامي إلى دمشق (5).
وفي الخامس والعشرين من شهر أيار (مايو) 1771 أشيع في صيدا أن
القوات المملوكية سوف تقوم بمهاجمة المدينة ليلا بمساعدة العامليين، وأظهر
والي صيدا شجاعته، واستنفر قواته واستحضر المدافع ووضعها على
التحصينات القديمة التي تشرف على الأرياف، وضاعف الحراسة على أبواب
المدينة. وأشارت الوثائق الفرنسية المعاصرة بأن " كل هذه الاستعدادات لن
تؤدي إلى أية نتيجة فعالة، ما لم يبادر الدروز إلى صد الهجوم المتوقع " (6).
واستعان درويش باشا والي صيدا بأتباع الأمير يوسف، لكن هؤلاء كانوا
غير راغبين في مساعدته، لأن والده، عثمان باشا والي دمشق، أغار على
مدينة بعلبك التي كان حاكمها أمير من آل الحرفوش من أنصار الأمير
يوسف، وطالب الأخير بإصلاح الخطأ الذي ارتكب بحق حليفه. وأشارت
الوثائق الفرنسية الصادرة عن صيدا في هذا الوقت إلى ذلك بقولها: " هذه
المدينة (أي صيدا) ليست بعيدة تماما عن الخطر الذي يتهددها، إذا لم يبادر
عثمان، باشا دمشق، إلى تحويل الاستياء العام الذي يسود جبل الدروز ".
وبعث عثمان باشا برسائل إلى الأمير يوسف، كان لها وقعها في إعادة
الوئام بينهما، وفرحت المدينة بذلك، ورغم ذلك ظل الخوف والرعب



(1) أدوارد لكروي: أحمد باشا الجزار وأعماله في سوريا ولبنان وفلسطين، ترجمة جورج
مسرة، ساو باولو، 1934، ص 430.
(2) محمد رفعت رمضان: علي الكبير القاهرة، 1950، ص 161.
(3) فرنسوا فولني: سوريا ولبنان وفلسطين في القرن الثامن عشر، ترجمة حبيب السيوفي، جزءان، صيدا، 1948 - 1949، ج 1، ص 50.
(4) عبد الكريم رافق: بلاد الشام ومصر منذ الفتح العثماني إلى حملة نابليون بونابرت،
دمشق، 1956، ص 306.
(5) 1771 / 2 / Seyde le 351 B 1035. E. A ملاحظة: تشير الأحرف الثلاثة الأولى (E. B. A)
إلى وثائق وزارة الخارجية الفرنسية المحفوظة في دائرة الوثائق الوطنية في باريس، ويشير
الرقم الذي يليها إلى رقم المجلد، ويليه اسم البلد التي أرسلت منه الوثائق إلى وزارة
الخارجية الفرنسية، ويليه تاريخ الوثائق باليوم والشهر والسنة. وهذه الوثائق من أهم
المصادر في كتابة تاريخ بلاد الشام في العصر الحديث. يراجع دراستنا لهذه الوثائق في:
" حول وثائق المحكمة الشرعية في طرابلس " مجلة تاريخ العرب والعالم " السنة الخامسة،
عدد رقم 53، سنة 1984، ص 43 وما يليها، " لبنان في القرن الثامن عشر نزول في
قناصل المخطوطات " صحيفة النهار، تاريخ 24 / 6 / 1979.
(6) 1771 / 5 / Seyde le 31, Lbid.
276
مسيطرا على درويش باشا، وامتنع عن الطعام والنوم، وكان يبكي لأبسط
الأمور (1).
وفي الأول من حزيران (يونيو) 1771 تلقى والي دمشق عثمان باشا
إنذارا من محمد أبي الذهب، قائد القوات المصرية الزاحفة على بلاد الشام، بأن
علي بك الكبير قد عينه حاكما لدمشق، وأن على الباشا أن يغادر المدينة فورا
ليريح السكان من أذيته (2).
وفي هذه الأثناء كان القلق يزداد لدى سكان صيدا كلما اقترب المصريون
من عكا، ويتساءلون إلى أي مدى ستتقدم قوات أبو الذهب؟ ألم تزحف بعد
إلى صيدا؟ وترك تجمع القوات المثحالفة حول دمشق بعض الراحة لدى سكان
صيدا، وتمنى الجميع حصول عمل حازم، وتوقفت التجارة في المدينة (3).
وفي 7 حزيران (يونيو) 1771 تعرضت القوات المدافعة عن دمشق
لهزيمة ساحقة في داريا، وانعكس صدى سقوط دمشق على سكان مدينة
صيدا الذين كانوا يستعدون للدفاع عنها، فأصيبوا بالذهول حين بلغهم في
الحادي عشر من حزيران نبأ سقوط دمشق (4).
وقرر درويش باشا الخائف، الهروب إلى الأمير يوسف الشهابي الذي
سوف يؤمن له المجأ لديه، واستعد لذلك في مساء العاشر من حزيران، لكن
سكان المدينة منعوه، وليس ذلك بسبب تركه لهم، ولكن لإجباره على دفع
ثمن المفروشات التي أرغمهم على صنعها له، ونام في المدينة، وأذاع بأنه لن
يغادرها، ولكنه في الواقع كان ينتظر معونة درزية تسهل له الخروج، وكان
يعلق الآمال على الأمير يوسف (5).
وخشي القنصل الفرنسي في صيدا من نوايا السكان السيئة تجاه الجالية
الفرنسية، وما قد يترتب على ذلك إذا صحت الإشاعات التي كانت تصله بأن
الخان الفرنسي سوف يتعرض للنهب، فجمع التجار الفرنسيين في العاشر من
حزيران (يونيو)، وأحاطهم علما بمخاوفه تلك، واستشارهم فيما يجب القيام
به للحفاظ على أنفسه وممتلكاتهم، وبعد المداولات رفع المجتمعون بمخاوفهم
إلى سلطات المدينة، التي طمأنتهم وضاعفت الحراسة على الخان ومنزل
القنصل (6).
وفي نفس الوقت كتب القنصل الفرنسي في صيدا إلى زميله في القاهرة
أميرات، للاتصال بعلي بك لكي يصدر رسائل توصية إلى
فائدة أبي الذهب في بلاد الشام، لكي تنعم الجالية الفرنسية في بلاد الشام
بالحماية نفسها والامتيازات الممنوحة لها من قبل العثمانيين (7).
وبهروب درويش باشا لم تعد مدينة صيدا تنتظر، سوى تدوم ضابط من
قبل محمد بك أبي الذهب لإخضاعها لسلطته، وأصيب السكان بالذعر.
وأغلق القنصل الفرنسي الخان، بانتظار رؤية الهدوء في شكل الحكومة التي
سوف تجعله بعيدا عن الخطر، وكان خوفه من الفاتحين الجدد أقل من خوفه
من السكان (8).
وتسلم حكم مدينة صيدا أحمد آغا حمود، وهرب معظم السكان بنسائهم
وأطفالهم، أشاع المتسلم الجديد النظام، مما حفظ الجالية الفرنسية من تعرضها
لأي خطر. واتفق السكان على عدم مقاومة القوات المنتصرة، كما اتفق
المتسلم وباقي سلطات المدينة على تسليمها لحجب دم السكان، ووضع أحمد
آغا حراسة على الخان الفرنسي، بانتظام قدوم مكلفين من قبل القائد أبي
الذهب لحكم لمدينة (9). وكتب الشيخ علي جنبلاط إلى المتسلم يوصيه، بحسن
معاملة الجالية الفرنسية والسهر على عدم تعرضها لأية إهانة من قبل
السكان (10).
وأرسل الشيخ ظاهر العمر جمركيا من قبله، يرافقه ثلاثة مشايخ من
العامليين لإدارة حكم صيدا (11). وفي اليوم الثالث عشر من حزيران أرسل
ضابطا من قبله جدد تعيين أحمد آغا حمود كمتسلم للمدينة من قبل الشيخ
ضاهر، أذاع في نفس الوقت بأن يطمئن الجميع، وبأن يعود الهاربون إلى
صيدا، وأن تستمر الأعمال كما كانت في السابق دون أن يعركها شئ. ثم
دخل العامليون إلى المدينة وأقاموا في السراي، وكان يرافقهم ما بين مئة ومئة
وخمسين فارسا مما أثار حفيظة رعايا جبل الدروز (12).
وفي الوقت الذي كان من المنتظر فيه أن يتابع محمد بك زحفه، أعلن يوم
الثلاثاء 5 ربيع الأول 1185 ه‍ / 18 حزيران 1771 م الانسحاب، دون أن
يترك أحدا من قبله في دمشق بل سلم سلطاتها إلى آغا القلعة (13)، مبررا حملته
على بلاد الشام:
"... إنه كان سبب مجيئنا لهذه البلاد الشامية لأجل مقابلة عثمان باشا،
فلو خرج لنا للخارج ما قارشناكم (قاتلناكم)، وتعرضنا للقلعة أخبرونا أن بها
عثمان باشا وأمواله، فلما تحققنا دهابه وأنه ليس بها رفضنا التعرض، وما
مرادنا بلدتكم ولا إضراركم وأديتكم... " (14).
ويبدو أن الشيخ علي جنبلاط قد علم بانسحاب القائد المصري، فأرسل
في العشرين من حزيران (يونيو) اثنين من أبنائه ومعهما ثلاثماية نفر من رعايا
جبل الدروز، لطرد جمركي ظاهر ومشايخ جبل عامل المتواجدين في صيدا.
وبعد التشاور أرسل رعايا جبل الدروز إلى عمال ظاهر في المدينة إنذارا
بمغادرتها، فتركها هؤلاء على الفور سعيدين بنجاتهم من رعايا جبل
الدروز (15).
وعادت الحركة إلى مدينة صيدا، وحاول السكان إلحاق الأذى بالعامليين
والصفديين، ولكن رعايا جبل الدروز حالوا بينهم، وهدأوا الأمور ومنعوا
الأهالي من إلحاق أي سوء بالفارين. وبعد اجتماع أهالي صيدا مع التمسلم أحمد
آغا حمود أذاع الأخير بيانا باسم السلطان، بأن يعود الجميع إلى أعمالهم،
وأرسل حرسا من قبله لحماية الخان الفرنسي من أية إهانة أو أذية (16).
وشعر السكان بالطمأنينة من الحماية التي أمنها لهم الزعيم الجنبلاطي،
الذي أبقى أبناءه في المدينة، إلى حين قدوم حاكم شرعي من قبل السلطات
العثمانية. وكان الجميع يطالب بضرورة إقالة عثمان باشا والي دمشق وأبنائه
درويش ومحمد في صيدا وطرابلس، بسبب سلوكهم السئ والظلم الذي
ألحقوه بالسكان (17).



(1) Ibid.
(2) 1771 / 6 / Seyde le 11 B 1035. E. A.
(3) CharlesRoux Francois Les Echelles de Syrie et de Palestine au XV III Siecle 94. p, 1927. Paris.
(4) 1771 / 5 / Seyde le 31 B 1035. E. A.
(5) ibid.
(6) ibid.
(7) ibid.
(8) P 94,. op cit. Roux - Charles.
(9) cit. Loc.
(10) 1771 / 6 / Seyde le 12 B 1035. E. A.
(11) 1771 / 6 / Seyde le 28 B 1035. E. A.
(12) 1771 / 6 / Seyde le 31 B 1035. E. A.
(13) 1771 / 6 / Seyde le 28 B 1035. E. A.
(14) سليمان المحاسني: حلول التعب والآلام بوصول أبي الذهب بلاد الشام، بيروت
1935، ص 35.
(15) 177 / 6 / Seyde le 28 B 1035. E. A.
(16). ibid
(17) ibid.
277
نتائج معركة بحيرة الحولة
وبانسحاب أبي الذهب تبدل موقف الأمير يوسف الشهابي من الصراع
السياسي الدائر في بلاد الشام، فتخلى عن موقف الترقب والتبصر وجاهر
بعدوانه للزعيم الزيداني (1) كما بدأ مربيه ومستشاره الشيخ سعد الخوري في
دس الدسائس وتخريب زعماء طوائف الجبل السبع لصالح الأمير الشاب (2).
وبدعوة من الأمير منصور الشهابي اجتمع هؤلاء الزعماء وتخلى أمامهم عن
كافة صلاحياته في الحكم، واعترف بسلطة ابن أخيه الأمير يوسف على سكان
جبل الدروز (3). وبذلك أصبح الأخير حاكما على المقاطعات اللبنانية الشمالية
والجنوبية من ظاهر طرابلس إلى ظاهر صيدا.
ازدادت مخاوف الشيخ ظاهر العمر الزيداني بعد تولي الأمير يوسف مكان
عمه الأمير منصور، في حين كان والي دمشق عثمان باشا يرغب في إعادة
سلطته على جميع أجزائه ولايته، فاقترب صدام الفريقين (4). وزحف الباشا
بقواته لاستعادة الأقاليم التي كان قد استولى عليها الشيخ الزيداني من ولاية
دمشق وأقام معسكره على الشاطئ الغربي لبحيرة الحولة (5)، لكن قوات ظاهر
العمر وناصيف النصار انقضت على معسكر الباشا في آخر ليلة من شهر آب
(أغسطس) 1771 وأنزلت الهزيمة بقواته (6).
وقد رصدت الوثائق الفرنسية الصادرة عن صيدا، تأثير الانتصار على
مدينة صيدا بقوله:
"... حملاتهم الناجحة أثارت الحزن لدى سكان صيدا، وانتشر الرعب
والخوف في هذه المدينة وضواحيها من عودة الحرب ومآسيها، وانعكس هذا
الوضع على تجارتنا وعلى استقرارنا فقد أصبنا بنكسات بالغة الشدة وتوقفت
الأولى تماما... " (7).
وازدادت مخاوف والي صيدا درويش باشا حين بلغه نبأ وصول ما يقارب
الألفين إلى الثلاثة آلاف جندي مصري إلى غزة، ورسو سبعة عشر مركبا محملة
بالمؤن في يافا، وبأن جميع هذه القوات سوف تحضر إلى صيدا لمحاصرته برا
وبحرا (8).
وفي العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1771 أمر ظاهر العمر
المراكب المصرية بالتوجه من يافا إلى صور ومن هناك إلى صيدا، وطلب من
العامليين الاجتماع به في المعسكر العام الذي سيقيمه على بعد ثلاث ساعات
من صيدا (9).
وخشي درويش باشا أن يسيطر أعداء والده على صيدا، وأن يتعرض
لانتقامهم، فقرر مغادرة المدينة واللجوء إلى دمشق (10). وعقد الديوان (11)
وأطلعه على رغبته، ولكن الأعضاء رفضوا الموافقة على ذلك، وتم الاتفاق
على إرسال ضابطين إلى معسكر ظاهر العمر للاستفسار عن نواياه
الحقيقية (12).
وفي الحادي عشر من تشرين الأول (أكتوبر) عاد المبعوثان ومهما جواب
الشيخ ظاهر إلى درويش باشا، وفيه أن عداوة الشيخ لوالي دمشق عثمان باشا
تجبره على أن لا يجعل ابنه والي صيدا يدفع الثمن، ولكنه ينذره بمغادرة المدينة
مع جميع رجاله بعد يومين، وله الخيار بالانسحاب، إما إلى جبل الدروز أو إلى
جبل عامل، وإذا عاند ورفض هذه الشروط، فسوف يكون الضحية الأولى
وسبب المصائب التي سوف تصيب السكان (13).
وفي يوم الثالث عشر من تشرين الأول شعر الباشا باقتراب الساعة
المحددة له لمغادرة صيدا، فتركها ظهرا وسلم إدارتها إلى سلطاتها لكي تسلمها
إلى أول من يطلبها منها (14)، ثم التقى عند نهر الأولي بفرقة من جبل الدروز
يقدر عددها بحوالي أربعمائة رجل، منعوه من متابعة سيره، وأعلموه بأنهم
مرسلون من قبل الأمير يوسف (15).
وفي الرابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) حضر الأمير أفندي الشهابي
وطلب من درويش باشا دخول صيدا معه، وأرسل فرقة خيالة ليدخلوا إلى
المدينة ويبلغوا من فيها عودة الباشا (16). وحاولت القوات الموجودة في داخل
صيدا منعهم من الدخول، بحجة أنهم لن يسلموها إلا للأمير يوسف أو
للشيخ ظاهر، اللذين كانوا يتوقعون دخولهما إليها في ذلك اليوم. وبعد
التهديد والوعيد تمكن خيالة الأمير أفندي دخول المدينة، ثم تبعهم بعد نصف
ساعة الأمير أفندي من والباشا يصحبهما ألف فارس. وكان ذلك مفاجأة
للشيخ ظاهر، فعاد إلى عكا وترك حلفائه العامليين في المعسكر، وما لبث أن
انسحب هؤلاء بدورهم (17).
معركة النبطية.
وكان ما حدث بمثابة انتصر معنوي للأمير يوسف الشهابي، فوجه إليه
الباب العالي خطا شريفا يأمره فيه بمهاجمة جبل عامل، ويعفيه مقابل ذلك عن
ميري بلاده لمدة سنتين (18). وفي التاسع عشر من تشرين الأول عام 1771
تجمعت القوات التي طلبها الأمير يوسف، وبعد أن ترك في صيدا الشيخ علي
جنبلاط ومعه ألف وخمسماية مقاتل لحراسة المدينة من أي عدوان مفاجئ،



(1) فولني: مصدر سابق، ج 1، ص (50 - 51).
(2) لكروي، مرجع سابق، ص 63.
(3) حيدر الشهابي: الغرر الحسان في أخبار أبناء الزمن، ثلاثة أجزاء، بيروت، 1933.
يراجع الجزء الأول ص 88، حنانيا المنير، الدر المرصوف في تاريخ الشوف (1657 -
1807)، مجلة المشرق م 49، ص 363، 1771 / 8 / Seyde le 20 B 1035. E. A.
(4) 280 - P 299, 1966, Beirut (1783 - 1723) the province of Damascus (K. A) RAFEK
(5) فولني، مصدر سابق ج 1، ص 76، عبود الصباغ: الروض الزاهر في تاريخ ظاهر.
مخطوط موجود في مكتبة يافث في الجامعة الأميركية في بيروت محفوظ تحت رقم / MS
MA 7 / Z / 956. ورقة 30، مخايل الصباغ: تاريخ الشيخ ظاهر العمر: ص 100،
حيدر الركيني: جبل عامل في قرن، مجلة العرفان، مجلد رقم 37 - 38 - 39،
عام 1937 - 1940، م 38، ص 54، 1771 / 9 / Seyde le 2 B 1035. E. A
(6) المصدر نفسه، حيدر الشهابي، مصدر سابق، حنانيا المنير مصدر سابق، مجلة المشرق،
م 49، ص (363 - 364)، حيدر الركيني، مصدر سابق، العرفان، م 38، ص 54،
مخايل بريل، تاريخ الشام (1730 - 1783) / 1933 - 1196 حريصا (لبنان)،
1930، ص 67، 9771 / 9 / Seyde ld 21 B 1035. E. A.
(7) 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(8) 1772 / 1 / Marselle le 29 dB 90, ibi.
(9) ibid.
(10) ibid.
(11) ملاحظة: الديوان، من الفارسية تشير إلى المكان الذي يتم فيه انعقاد الهيئة الحاكمة.
خالد زيادة، أركيولوجيا البحث الوثائقي، معهد العلوم الاجتماعية (طرابلس)،
1981، ص 65.
(12) 1771 / 11 / 9 1771 / 10 / Seyde le 13 B 1035. E. A.
(13) Marswlle, 1771 / 11 / Alep le 17 B 91. E. A., 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A. 1771 / 1 / B le 29.
(14) 172 / 1 / Marselle B le 29; 1771 / 11 / Alep le 17 AEB 91, ibid.
(15) 172 / 1 / Marselle B le 29; 1771 / 11 / Alep le 17 AEB 91, (16) 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(17) ibid.
(18) ibid.
278
قاد الأمير هذه القوات إلى جبل عامل تنهب وتدمر القرى التي تمر بها (1).
وفي العشرين من تشرين الأول 1771 ظهرت على شاطئ صيدا المراكب
المصرية التي وجهها ظاهر العمر من يافا لاحتلال المدينة، فحاولت أن تقوم
بعملية إنزال بحري، لكن مدفعية المدينة حالت دونها، وتبادل الفريقان
القصف ولم تلبث أن عانت مدفعية القلعة من نقص البارود. فطلب درويش
باشا من القنصل الفرنسي في صيدا أن يزوده بالبارود، وإلا تعرضت الجالية
الفرنسية لانتقام الأهالي، فاضطر الأخير أن يأتيه بعشرين رطلا من قعر إحدى
السفن الفرنسية الراسية في ميناء صيدا. وحين وجد المصريون أنهم لم يتمكنوا
من احتلال المدينة انسحبوا بمراكبهم إلى صور (2).
وفي 21 تشرين الأول وصلت إلى صيدا أنباء هزيمة الأمير يوسف في
النبطية. فدب الرعب في قلب الشيخ علي جنبلاط ودرويش باشا، وخشيا أن
تتابع زحفها إلى صيدا قوات جبل عامل المنتصرة، وليس لدى المدينة القوات
الكافية للمدافعة عنها، مما يعرضها لخطر الوقوع في قبضة ظاهر وحلفائه (3).
كما شعر المشايخ الذين أبقاهم الأمير يوسف في المدينة بأن قواتهم سوف
تتعرض للهزيمة بجانب القوات العثمانية، ولن ينالوا أية نتيجة من الدفاع عن
صيدا ضد ظاهر والعامليين، فأخلوا المدينة بعد أن نهبوها وهرب معهم
درويش باشا (4). وتسلمت سلطات المدينة مسؤولية الأمن فيها (5).
وقرر ظاهر وحلفاؤه الاستفادة من هذا النصر والعودة إلى صيدا، التي
أصبحت خالية من الجنود بعد أن كانت تعج بهم (6). فسار الشيخ الزيداني
بقواته من عكا إلى صور، حيث أقامت معسكرا فيها، وأمر المراكب الروسية
الراسية في ميناء بالإبحار إلى صيدا (7).
وفي صباح الثالث والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1771
وصل المنتصرون إلى أبواب صيدا، وأعطوا السكان الأمان والطمأنينة،
وأشاعوا بينهم بأنهم لن يسيئوا إلى أحد، فوثق الأهلون بكلامهم وفتحوا لهم
أبواب المدينة، فدخلوها والسيوف بأيديهم، ثم أخذوا ينهبون كل ما صادفوه،
وخلعوا وكسروا أبواب المنازل والمخازن، ورفعوا محتوياتها من مفروشات
وثياب وبضائع. ولم يفرقوا في السلب بين رجل أو امرأة أو طفل، وخلال
ثلاث ساعات لم يكن يسمع في المدينة سوى الصراخ والعويل ولكنهم لم يقتلوا
أحدا (8).
وعم الخوف وخشي القنصل الفرنسي والجالية أن يصيبهم ما أصاب
السكان، لكن الغزاة الجدد احترموا تعليمات ظاهر القاضية، بعدم التعرض
للفرنسيين بأي أذى. وكلف القنصل بعض جنود ظاهر بحراسة الخان لمنع
التعديات عنه، وقد أصابت النكبة جميع سكان المدينة ونادرا ما وجد منزل
سلم من النهب (9).
وبعد ثلاث ساعات وصل إلى المدينة الشيخ ناصيف النصار والشيخ
عباس العلي والشيخ علي ظاهر العمر فأوقفوا النهب وأبدوا كثيرا من الألم لما
حصل (10). وبعد ما أمنوا القنصل الفرنسي، تركوا له حراسة على الخان،
وأخرجوا جميع القوات التي اجتاحت المدينة وحاولوا إعادة النظام والهدوء
إليها (11). ثم رسى ثمانية عشر مركبا تحمل المدينة من قبل علي بك
ويدعى الكاشف المصطفى بك، معه سبعماية جندي أعادوا الأمن إلى
صيدا (12). وأبدى الحاكم الجديد استياءه لما أصاب السكان، وأبلغ ترجمان
القنصلية الفرنسية، بأن نية سيده علي بك إنقاذ الأهالي من الظلم وإنعاش
التجارة، وبعد أن تفقد القلعة والمدينة (13)، طلب من المشايخ العامليين أن
يخرجوا بفرسانهم (14). ثم حضر إلى صيدا حاكمها من قبل ظاهر العمر ويدعى
أحمد آغا الدنكزلي ومعه قوات من الصفديين، واهتم بتحصين أسوار المدينة
لتتمكن من الصمود إذا ما تعرضت لأي هجوم مفاجئ، واستخدم في سبيل
ذلك عددا كبيرا من السكان. ومع ذلك ظلت الأسوار ضعيفة، لا يمكنها
الصمود أمام طلقة مدفع، كما أفاد القنصل الفرنسي الذي شهد ذلك، (15)
والذي ألقى مسؤولية سقوط المدينة على عثمان باشا وابنه دوريش (16).
وكانت معظم القوات المملوكية التي دخلت المدينة من الأتراك، الذين
أجبرهم علي بك على الحضور إلى صيدا بالقوة، وكانوا في حالة خوف دائم
من أن يتعرضوا لأي هجوم من رعايا جبل الدروز (17)، الذين كانوا يطالبون
بإعادة صيدا لهم، لأن أجدادهم كانوا يحكمونها سابقا منذ القدم، وبأنهم
سوف يسترجعونها عندما تحين الفرصة المناسبة (18).
صدى هزائم والي دمشق وحلفائه
وبسقوط صيدا تكون جميع المدن الساحلية الشامية، الممتدة من غرة إلى
صيدا وجانب كبير من فلسطين وولاية صيدا، قد تخلصت من السيطرة
العثمانية واستبدلتها بنوع من الحكم الثنائي، المكون من ظاهر وناصيف وعلي
بك. وبذلك يكون المتحالفان قد حققا الجانب الأكبر من مشروعهما التوسعي
المشترك، القاضي بالسيطرة على كل الساحل الشامي (19) من غزة إلى
طرابلس، على أن تمتد سلطة شيخ البلد لغاية غزة، في حين يخضع لسلطة
ظاهر ما تبقى منه، على أن يقوم كلا منهما بالتوسع بمفرده وبجهوده
الشخصية في عمق البلاد الخاضعة له. وذلك يمنحها موقعا ممتازا من حيث
نجدة بعضهما، وسوف تكون بلاد ضاهر بمثابة حاجز يحمي علي بك من
أعتى القوات، ويمكنه من الانصراف إلى الاهتمام بحماية ما تبقى من حدوده
أي من الصحراء والمغرب والبحر (20).
حين علم السلطان العثماني مصطفى الثالث (1757 - 1774) بالهزائم
التي مني بها عثمان باشا وحلفاؤه في بلاد الشام، وجد أن من غير المناسب أن
يقيل عثمان باشا في أثناء وجود القوات المملوكية في بلاد الشام، لأن ذلك
سوف يؤدي إلى زيادة نفوذ علي بك الذي قد سبق وطلب من السلطان مع
حليفه ظاهر العمر بإقالة الباشا، وساعد انسحاب القوات المصرية، بقيادة



(1) 1171. 11 / l le 17 Alep 9; 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(2) ibid.
(3) قولني، مصدر سابق ج 1، ص 77، عبود الصباغ، مصدر سابق، ورقة 31، حيدر
الشهابي، مصدر سابق، ص 93، 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(4) مصدر سابق، ج 1، ص 77 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A, ibid.
(5) ibid.
(6) 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A. (7) 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A. (8) 1771 / 11 / 9, 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(9) ibid.
(10) 1771 / 11 / Alep le 17 91; 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(11) ibid.
(12) حيدر الركيني، مصدر سابق، مجلة العرفان، م 38، ص 56.
(13) 1771 / 11 / le 17 Alep 91; 1771 / 11 / 9, 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(14) 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(15) 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(16) 1771 / 5 / 2 - 4 / du 30 (Bulletin) Seyde le B 1035. E. A.
(17) 1717 / 11 / le 17 Alep 91; 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(18) ibid seyde.
(19) 1772 / 5 / 21, 1771 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(20) 1772 / 5 / Seyde le 21 B 1035. E. A.
279
محمد بك أبي الذهب، من بلاد الشام إلى إعطاء السلطان العثماني حرية
الحركة (1). وفي الثاني عشر من رجب 1185 ه‍ / 22 تشرين الأول (أكتوبر)
1771 م صدر فرمان سلطاني بنقل عثمان باشا وأبنائه من ولاياتهم (2)،
وجعلت الدولة محمد باشا العظم واليا على دمشق (3)، وقدمت إلى الباشا
الجديد الولاء والطاعة القوى المحلية في مدينة دمشق وأجزاء الولاية، لكنه
ظل عاجزا عن ممارسة المهام الملقاة على عاتقه بصفته واليا على دمشق. وبدا
ذلك واضحا عند حلول هو عد القيام بالدورة السنوية المعتادة لجمع الضرائب
المتوجبة على أجزاء ولايته بغرض تأمين مصاريف قافلة الحج الشامي، فقد بلغ
ضعفه إلى حد الطلب من ظاهر العمر أن يأذن له بالتجول في أجزاء ولاية
دمشق أثناء موعد الدورة، لكن الأخير أبلغه أن لا داعي لذلك وسوف يقوم
هو أي الشيخ ظاهر بإرسال عائدات أقاليم دمشق إليه (4).
ولم تعين السلطات العثمانية ممثلا لها في ولاية صيدا بديلا عن درويش
باشا، لأن معظم أجزاء الولاية بما فيها العاصمة صيدا كانت قد تخلصت من
السيطرة العثمانية وخضعت لحكم المتمردين. ولقد ضاعف قلق الباب العالي
فقدان السلطات العثمانية لمدينة صيدا، نظرا لما كان للمدينة من مكانة لدى
رعايا جبل الدروز، الذين استمروا بالمطالبة بإعادتها لهم، فهي كانت تخص
أجدادهم، وهي منفذ بحري لهم على الخارج يصدرون منه إنتاجهم من القطن
ويستوردون ما يحتاجه الجبل من مواد غذائية. ومن هنا نظر الباب العالي نظرة
تشاؤم لما قد يقع بعد رفع النفوذ العثماني عن هذه المدينة، وبعد أن كان يتكل
على رعايا جبل الدروز أحيانا في التصدي لخصومه، أما الآن بعد زوال
سيطرته على المدينة وخضوعها للمتمردين فقد يشك بإخلاصهم له. وتوقع
الباب العالي أن يتخلى رعايا جبل الدروز عن محالفة السلطان، وأن ينحازوا إلى
جانب علي بك بمجرد أن يلوح لهم بورقة المدينة، لأنها كانت أملهم الوحيد
ولم ينسوا بعد علاقة أجدادهم بها (5).
ولكن لم يكن من خصال الشيخ ظاهر العمر إعادة ما أخذه بالقوة، هذا
إلى جانب الكراهية المتبادلة بينه وبين الأمير يوسف، فقد كان الشيخ يفضل أن
تعود مدينة صيدا إلى سلطة العثمانيين، على أن تكون من نصيب رعايا جبل
الدروز الذين تحولوا بموقعهم إلى أعداء طبيعيين له. ولكن بالرغم من أحقاد
فقد كانت المصلحة المشتركة أن يتفقا (6).
وأدى سقوط صيدا بأيدي المتمردين، والاضطرابات التي كانت تسود
ولايتي دمشق وصيدا، أن انقطعت المواصلة بين المدينتين وتوقفت التجارة (7).
واتفق الحليفان على كيفية إدارة حكم المدينة، فقد كلف علي بك الكاشف
مصطفى بك أن يكون حاكما للمدينة من قبله، وهذا القائد المملوكي أصله
من جورجيا، وكانت تبدو عليه الطيبة والكرم وكان كل الجنود من أتباعه.
وكان يمثل سلطة ظاهر أحمد آغا الدنكزلي، وهو من أصل مغربي أو تونسي
شرير ويعاقب بدم بارد يعادل قسوته، وكانت السلطة الفعلية في المدينة في
يده، وقد أسند إليه مهمة حراسة القلعتين وكان الجمركي مصريا ويجمع
الضرائب لأمر علي بك، الذي يقوم من جهته بتموين الجانب الأكبر من
احتياجات الحامية، المؤلفة من مصريين ومغاربة وعدد مماثل لهم من الصفديين
رعايا الشيخ ظاهر العمر. وكانت الحامية تتناقض يوما بعد يوم، ولم تشكل
قوة قادرة على الصمود، بالرغم من مجاورة العامليين لها، الذين كانوا على
استعداد لنجدتها بقوة مؤلفة من ثلاثة إلى أربعة آلاف رجل. وتوقع
المحاصرون إذا توجهت قوة عثمانية مهما كانت درجة ضعفها، يمكنها
استعادة المدينة بكل سهولة، لأن القائدين لن يستطيعا منع قواتهما التي تقوم
بالحراسة من الهرب، إذا لم يبادر بنفسيهما إلى الهرب قبلهم (8).
نصر بن علي بن منصور النحوي الحلي
أبو الفتوح المعروف بالخازن، كان حافظا للقرآن المجيد عارفا بالنحو
واللغة. قدم بغداد واستوطنها مدة، وقرأ على ابن عبيدة وغيره وسمع الحديث
على أبي الفرج بن كليب وغيره ولم يبلغ أوان الرواية.
توفي شابا في الحلة في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة 600 ودفن في مشهد
الحسين عليه السلام (9).
نصير الدين بن أحمد بن علي المنازي
مرت ترجمته في الجزء العاشر الصفحة 221 ونزيد عليها هنا ما يأتي:
ومن شعره قوله:
ودار خراب قد نزلت بها * ولكن نزلت إلى السابعة
فلا فرق بين ان أكون * بها أو أكون على القارعة
وأخشى بأن أقيم الصلاة * فتسجد حيطانها الراكعة
إذا ما قرأت " إذا زلزلت " خشيت بان تقرأ " الواقعة "
نظير، ولي محمد اكبرآبادي
اشتهر بلقبه (نظير) لذلك ترجمناه في حرف النون.
هو شاعر الحياة الشعبية ولسان العامة يصور مواسمهم وأسواقهم
وأشواقهم، وشعره منتم إلى أفكار الفقراء والمعوزين وطبقاتهم، لذلك يحبه
الناس في الهند وينشدونه في مهرجاناتهم واحتفالاتهم.
نواب صفوي
اسمه السيد مجتبى نواب صفوي
ولد سنة 1343 في بلدة خاني آباد الواقعة قريبا من طهران واعدم سنة
1375 في طهران. هذا ما قاله أحد المصادر عن مكان ولادته ولكن مصدرا
آخر قال إنه ولد في محلة فقيرة من محلات طهران نفسها وكان أبوه من طلبة
العلم ثم أصبح محاميا سجن أيام الشاه رضا بهلوي كما أن مصدرا آخر قال إنه
ولد في قرية من قرى أصفهان.
دخل مدرسة الصناعة بعد اكمال الدراسة الابتدائية، وكان خلال دراسته
هذه يتابع دراسة اللغة العربية والعلوم الدينية، وكانت أمنيته ان يدرس في
النجف الأشرف ولكن أحواله المادية لم تسمح له بذلك، فذهب إلى الأهواز
واشتغل بما تخصص به في مدرسة الصناعة، ولكن لم تطل اقامته هناك إذ ساهم
بمظاهرات وخطب بالمتظاهرين فأرادت السلطات القبض عليه فاستطاع الفرار
حتى وصل النجف الأشرف وكان احمد كسروي قد جاهر بدعوته الالحادية



(1) 284. p, cit. Rafek op.
(2) محمد المرادي، سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، 4 أجزاء، بولاق، 1301،
ج 3، ص 161.
(3) 1772 / 11 / Seyde le 9 B 1035. E. A.
(4) 288. p, cit. Rafek op.
(5) 1771 / 5 / Seydle le 21, cit. op.
(6) 1772 / 5 / Seyde 2 B 1035. E. A. (7) 1772 / 5 / 2 / - / 4 / du 30 (Bulletin) ibide seyde.
(8) (Bulletin) ibid.
(9) مختصر ابن الساعي.
280
الهدامة في إيران سواء بأحاديثه أو بمطبوعاته، ووصلت اخباره إلى النجف،
فقرر المترجم العودة إلى إيران لمناوأة كسروي والقضاء عليه فاعتقل وأودع
السجن، ثم اطلق سراحه فدخل كلية الشريعة، ولكنه لم يلبث أن تركها
عائدا إلى النجف بعد أن كان قد دبر اغتيال رئيس الوزراء حسين امامي.
ولبث في النجف مدة يدرس على علمائها ثم عاد إلى إيران.
ويبدو ان دعوة كسروي الالحادية هي التي أنبتت في ذهنه وجوب ايجاد
تنظيم اسلامي واع يرتكز على جماعات متكاتفة تقاوم الدعوات الهدامة وتدعو
إلى الاسلام وتحارب الالحاد.
فاتصل أول الأمر بأحمد كسروي والتقى به في عدة جلسات يناقشه ويحاوره
فلم يزدد كسروي الا عنادا واسترسالا في دعايته وبثها في الناس. فصمم
المترجم على القضاء عليه، واستطاع الحصول على ثلاثمائة تومان من أحد
المؤمنين فاشترى بها مسدسا وترصد لكسروي في أحد المنعطفات حتى إذا مر
اطلق عليه النار ولكن الرصاصة أصابت رجله، ولما رأى المترجم أن كسروي لم
يقتل انهال ضربا بالمسدس على رأسه ووجهه فتجمع عليهما الناس وخلصوه
منه، فقبض على نواب صفوي ونقل كسروي إلى المستشفى. وصدف ان زار
وفد حكومي إيراني بعض العلماء في النجف الأشرف فتوسطوا لاطلاق صفوي
فنجحت الوساطة وأطلق.
ومما يذكر أنه قبل أن يتطوع له متطوع بثمن المسدس لم يكن يملك هذا
الثمن، ولكنه كان مصمما على اغتيال كسروي فاستطاع ايجاد سيف و ترصد
الكسروي ثلاثة أيام ولكن صدف أن مرض كسروي، فكان بعد ذلك ان
اشترى المسدس.
ويقول السيد اللواساني الذي كان عضوا في منظمة فدائيان اسلام في
حديث له لرسالة الثورة الاسلامية نشرته في العدد السادس سنة 1402
(1982)، و بعض معلوماتنا في هذه الترجمة تستند إلى ذلك الحديث، يقول
السيد اللواساني بعد أن ذكر الوقائع المتقدمة (من هنا بدأ هذا التنظيم) ثم
ينقل عن لسان صفوي: (لقد فكرت عندما أصدرت أول منشور فتبادر إلى
ذهني اسم (فدائيان اسلام) أي - فدائيو الإسلام - وقد كنت آنذاك وحيدا
فريدا، ولكن بعد ذلك التحق بي الاخوة الراغبون المؤمنون الثوريون وابدوا
استعدادهم للتعاون معي في هذا المجال).
وكان أول عمل قام به التنظيم أن نجح في اغتيال احمد كسروي، واهتدت
السلطة إلى الفاعلين فاعتقلت (امامي) المنفذ للاغتيال ورفاقا له وسجنتهم
تمهيدا لمحاكمتهم والحكم عليهم، وصدف ان الشاه محمد رضا ارسل وفدا إلى
النجف الأشرف ليعزي الحوزة العلمية بوفاة السيد أبو الحسن الإصفهاني،
فاسرع صفوي للاتصال بالسيد حسين القمي الذي كان شبه منفي في العراق
ليحمل العلماء على التوسط لاطلاق المعتقلين ونجحت الوساطة فأطلقوا وساعد
على اطلاقهم ان الشعب الإيراني كان قد ابدى ضروب الابتهاج بقتل احمد
كسروي وابدى تضامنه مع منفذي هذا القتل. فرأت السلطات ان في اطلاقهم
تقربا بعلماء النجف، وارضاء لعواطف الشعب.
ويبدو الغموض فيما يذكره السيد اللواساني هنا: إذ يقول: (وكان الشهيد
نواب صفوي في تلك الفترة في النجف الأشرف سيدا شابا عرف بين الناس
بقاتل كسروي، وكانوا يعظمونه ويجلونه ويعتزون بصحبته ورفقته) في حين أنه
لم يذكر من قبل أن صفوي انتقل إلى النجف بعد قتل كسروي، وهنا موضع
الغموض، فهل تم القتل والمترجم في طهران ثم انتقل اثر ذلك إلى النجف،
أم تم القتل وصفوي في النجف، جاءها بعد ترتيب امر الاغتيال.
وفي سنة 1953 م. وكان أمر التنظيم قد استقر وانتشرت دعوته وعمت
شهرته وبدأ يدعو لمبادئه الاسلامية وينشط في مختلف ميادين العمل ويتصل
بالدعوات خارج إيران ويعقد معها الصلات، في هذه السنة زار نواب صفوي
البلاد العربية لحضور مؤتمر القدس في مدينة القدس وزار سوريا كما زار مصر
بدعوة من الإخوان المسلمين، وكانت الأمور قد تأزمت بين الاخوان وحكومة
الثورة وأوشك الانفجار بينهما ان يقع، وجاء يوم 12 كانون الثاني 1954
فاحتشد الاخوان وطلابهم في حرم جامعة القاهرة للاحتفال بذكرى بعض
ضحاياهم، كما حضرت جماعات من خصومهم، واقبل جمهور من طلاب
الاخوان على الاجتماع حاملين نواب صفوي على الأكتاف، ثم أوصلوه إلى
المنصة حيث خطب في الجماهير وكان موضوع فلسطين أهم ما في خطابه،
فكان جمهور الاخوان يقابل فقرات خطابه بهتافهم التقليدي (الله أكبر ولله
الحمد) فيرد عليهم خصومهم بهتاف (الله أكبر والعزة لمصر) فهاجمهم جمهور
الاخوان واشتبكوا معهم وعمت الفوضى وكان هذا الحادث مفتاح الواقعة التي
وقعت بين حكومة الثورة والإخوان المسلمين، إذ قبض على زعمائهم وشرد
رجالهم، وأصبح نواب صفوي ضائعا في القاهرة إلى أن تسنى له الخروج منها.
وكان قبل وصوله إلى مصر قد لقي كل الحفاوة في سوريا وفلسطين أما
أهداف (فدائيان اسلام) فقد عبر عنها نواب صفوي نفسه في حديث له مع
مندوب وكالة (اسوشيتد برس) الأمريكية حين سأله المندوب عن الهدف
الرئيسي للحركة. فأجابه قائلا: اننا نعتقد بوجوب نشر العقيدة الاسلامية
الصحيحة في العالم كله ونعتقد بوجوب تطبيق شريعة الاسلام الكاملة في جميع
الدول الاسلامية اننا نعتقد أن التعاليم الاسلامية الصحيحة هي وحدها يمكن
أن تنقذ البشرية من الحروب والجرائم وفي سبيل هذه العقيدة بدأنا العمل لكي
نجعل من إيران قدوة للعالم المتمدن).
وسأله مندوب الوكالة عن مدى استعداده للتضحية في سبيل هذا الهدف،
فاجابه (اعتقد انا واخواني ان ارخص شئ عندنا في الحياة هي أرواحنا ونحن
نعتقد أننا لا يمكن ان نخدم الاسلام إلا باعطاء أرواحنا ودمائنا في طريق
هذا الهدف المقدس. ان (فدائيوا اسلام) هم أناس أقوياء وشجعان لا يخافون أي
شئ في طريق الهدف المقدس الذي يحملونه واننا جميعا مستعدون للشهادة
ونستقبلها بفارغ الصبر إذا كانت من اجل الله والأمة الاسلامية. انكم في
المستقبل سوف تعرفون صحة هذا الكلام) انتهى.
ويمكن اعتبار نواب صفوي أول من كتب برنامجا مفصلا ومتكاملا عن
الحكومة الاسلامية وكان عمره إذ ذاك ستة وعشرين عاما. ويبدو من
النصوص التي بين أيدينا ان التأسيس الفعلي للحركة كان سنة 1945 م
ولم يكن في منهج صفوي الاستناد إلى الوسائل السلمية الكلامية في تحقيق
أهداف حركته، بل كان يرى التوسل بكل وسيلة مهما كانت نارية عنيفة،
ويعتقد أن اغتيال رموز النظام واحدا بعد واحد يوهن عزائم هذا النظام
ويقضي في النهاية عليه. لذلك عمد إلى تدبير اغتيال (هجير) وزير البلاط

281
الشاهاني. وقد قال منفذ الاغتيال (حسين امامي) امام المحكمة التي
تحاكمه (لقد أصبح من الواضح لدينا - فدائيان اسلام - ان اعمال هجير
وزير البلاط هي اعمال خيانية ضد مصالح الوطن والشعب وضد المصالح
الاسلامية وعلى هذا الأساس حكمنا عليه بالاعدام ونفذنا الحكم).
ثم اغتالوا اللواء (رزم آرا) بعد تشكيله الوزارة لأنهم اعتقدوا أنه أضر
بمصالح الأمة بعقده اتفاقية النفط مع الشركة البريطانية (بي - بي)، ولم
يحالفهم الحظفي محاولة اغتيال رئيس الوزراء (حسين علاء) الذي وقع على
معاهدة السنتو (حلف بغداد) ولكنه حالفهم في اغتيال (حسين علي منصور)
رئيس الوزارة التي أقرت الحصانة القضائية للأمريكيين في إيران.
وبفضل اتفاقهم مع الجبهة الوطنية التي كان يرئسها الدكتور مصدق
ودعمهم لها استطاع مصدق ان يأتي إلى الحكم ويشكل حكومة وطنية برئاسته
ويقدم على تأميم النفط في إيران. ولكن (الفدائيين) لم يقنعهم تأميم النفط
وحده، فقد كان طموحهم أن يقيم الحكومة الاسلامية لذلك اختلفوا معه.
ويقول السيد اللواساني: ان الخلاف بين المنظمة والدكتور مصدق نشأ
نتيجة لخرق مصدق اتفاقية كانت بينه وبينهم بشأن تطبيق أحكام الاسلام، إذ
كانت المنظمة قد اخذت عهدا من الجبهة الوطنية على تطبيق احكام الإسلام،
وكان الوسيط بين الفريقين السيد أبو القاسم الكاشاني حيث لم تكن المنظمة على
اتصال وثيق بالجبهة الوطنية. ثم تم لقاء بين المنظمة والجبهة وتعهد الجبهويون
بالالتزام بوعدهم. وبعد اغتيال (رزم آرا) آخر رئيس حكومة قبل مصدق
اضطرت السلطات للالتقاء بنواب صفوي والتشاور معه حول الحكومة الجديدة
فأوكل ذلك إلى الدكتور مصدق والجبهة الوطنية، فقامت حكومة مصدق ولكن
كان أكثر وزرائها هم وزراء حكومة (رزم آرا) أنفسهم، ومن هنا بدأت
الخلافات بين نواب صفوي والدكتور مصدق ثم اشتدت هذه الخلافات برفض
موافقة حكومة مصدق على تطبيق أحكام الاسلام وفقا لما جرى عليه الاتفاق بين
الطرفين.
وادى الأمر إلى أن حكومة مصدق اعتقلت أعضاء في منظمة فدائيان اسلام
ونفتهم إلى الأماكن النائية ثم اعتقلت نواب صفوي نفسه وأودعته السجن.
ويقول اللواساني انه خلال وجود صفوي في السجن حاول الشيوعيون
السجناء في السجن نفسه، ان يقابلوه ويتحالفوا معه في محاربة العدو المشترك
(حكومة مصدق) التي كان الشيوعيون في عداء معها، ولكن صفوي رفض
هذا اللقاء ورفض أي بحث في هذا الموضوع وقال (ليس لنا هدف مشترك مع
أحد، اننا مسلمون وفي جهاد مستمر مع كل معاد للدين ونحارب على عشر
جبهات لوحدنا، نحن لا نعترف بالهدف المشترك).
وكان يقول (قد تستفيد روسيا من جهادنا الفعلي في مقاومة أميركا لكن
هذا لا يدل على اننا متفقون مع السوفيت نحن في جهادنا مع أمريكا نسير وفقا
لأهدافنا، ونحاول الا يستفيد أعداؤنا الآخرون من هذا الجهاد، إلا أنه شئنا
أم أبينا فإنهم يستفيدون ولو بعض الشئ).
وكانت نهاية نواب صفوي ومنظمة فدائيان اسلام) انه بعد انقلاب
زاهدي و عودة الشاه إلى طهران، اخذت السيطرة العسكرية تبسط سلطانها
وأخذ الحكم يشدد قبضته على البلاد مدعوما من القوى الأمريكية، وأخذت
السجون تمتلئ بالناس والاعدامات تنفذ، فقبض على صفوي فيمن قبض
عليهم بتهمة الاعداد لاغتيال رئيس الوزراء (علاء)، وتم القبض عليه بعد
فشل عملية الاغتيال وقدم إلى المحاكمة هو وعدد من أنصاره واستمرت
المحاكمة شهرين حكم في نهايتها عليه وعليهم بالاعدام رميا بالرصاص.
وصودف ان كان يوم اعدامه يوم ذكرى وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعتبرها
الإيرانيون مكرمة له.
وقالت جريدة التايمس البريطانية وهي تنشر خبر اعدامه واعدام رفاقه:
(باعدام أعضاء فدائيان اسلام ابعد الغرب عن طريقه أخطر عدو عرض
مصالح الغرب للخطر في السنين الأربعة الماضية) (انتهى).
اننا ونحن نستعرض حركة نواب صفوي (فدائيان اسلام) ليخطر في
ذهننا حركة سبقتها هي حركة حسن البنا (الاخوان المسلمون) في مصر التي
نشأت أول امرها صغيرة في مدينة الإسماعيلية سنة 1928 ثم اتسعت وامتدت
حتى انضم إليها في مصر وحدها مئات الألوف.
وإذا اعتبرنا أن التأسيس الفعلي لفدائيان اسلام يعود تاريخه إلى سنة 1945
كانت المدة الفاصلة بين تأسيس الحركتين سبعة عشر عاما وبالرغم من التشابه
وشبه التطابق بين أهداف فدائيان اسلام والاخوان المسلمين، فلا شك أن
نواب صفوي لم يستوح أحدا حين خطط لحركته وأهدافها، وان هذا التشابه
بين الحركتين ناتج من طبيعة الأهداف التي هي واحدة لكل من يفكر بالدعوة
للرجوع إلى الحكم الاسلامي.
ومن التطابق بين خطة كل من الحركتين انهما توسلتا السلاح لتحقيق
الأهداف، وصممتا على استعمال القوة لتبديل الحكم. فاغتال الاخوان
المسلمون رئيس الوزراء احمد ماهر ثم رئيس الوزراء الآخر محمود فهمي
النقرشي كما اغتالوا مدير الشرطة سليم زكي والقاضي احمد الخزندار، ولم
ينجحوا في محاولة اغتيال جمال عبد الناصر.
كذلك فعل فدائيان اسلام فقد اغتالوا أحمد كسروي، واغتالوا (هجير)
وزير البلاط الشاهاني ورزم آرا رئيس الوزراء ولم ينجحوا في محاولة اغتيال رئيس
الوزراء (علاء).
وكانت نهاية كل من رئيس الحركتين رميا بالرصاص، رئيس الاخوان
رصاص الاغتيال ورئيس (فدائيان) برصاص الاعدام.
ولكن الشئ الذي اختلفت فيه الحركتان كل الاختلاف هو ان حسن البنا لم
يكن مستعجلا في تحقيق أهدافه فهو لم يقدم على العمل الفعلي الا بعد مضي
سنين على تأسيس الحركة وترسيخ قواعدها وانضمام مئات الألوف إليها.
اما نواب صفوي فقد كان مستعجلا كل الاستعجال، لذلك اقدم على ما
أقدم عليه قبل أن يبلغ المنتمين إلى حركته الألوف لا مئات الألوف، وقبل أن
تنتشر جذورها في كل مكان.
ومن هنا رأينا أن حركة الاخوان إذا كانت تأثرت تأثرا كبيرا باغتيال
مرشدها، لكنها لم تمت لأنها استطاعت أن تجد للمرشد بديلا ثم بديلا ثم بديلا
وظلت تعيش شديدة صلبة وإن كانت قد فقدت وهجها السابق.
على العكس من حركة (فدائيان) فقد كان القضاء على رئيسها وبعض
مساعديه كافيا للقضاء عليها إلى الأبد، لأنها لم تكن مستطيعة في المدة القصيرة

282
التي عاشتها ان تعد من يحلون مكان من يرحلون، ولم تكن قد قدرت في تلك
المدة ان تحتوي الجمهور الذي يظل متماسكا عند الشدائد لقلة عدد ذلك
الجمهور تبعا لقلة عدد السنين التي عاشتها قبل الانقضاض عليها، ولولا
السرعة في ذلك الانقضاض والسرعة في الانهيار، ولو تانى نواب صفوي قبل
أن يقدم على ما اقدم عليه ولم يتحرك الا بعد أن تكون الأرض قد غدت صلبة
تحت قدميه لكان له شان محلي وعالمي باهر الدوي.
النوار ابنة مالك بن عقرب زوجة خولي بن يزيد
بعد ما قتل الحسين عليه السلام سرح عمر بن سعد برأسه من يومه ذلك مع
خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد، فأقبل به خولي
فأراد القصر فوجد باب القصر مغلقا فأتى منزله فوضع الرأس تحت أجانة في
منزله.
وقد حدثت زوجته النوار، قالت: أقبل خولي برأس الحسين فوضعه تحت
إجانة في الدار ثم دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقلت له: ما الخبر، ما عندك؟
قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار، فقلت له: ويلك جاء
الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا والله لا يجمع
رأسي ورأسك بيت أبدا. فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد الله بن زياد، ونصبت له
النوار العداوة من ذلك اليوم، وكانت محبة لأهل البيت عليه السلام. فلما سيطر.
المختار على الكوفة وتتبع قتلة الحسين عليه السلام، أرسل من أحاط بدار خولي،
فاختبأ خولي في بيت الخلاء ووضع على رأسه قوصرة - وهي ما يصنع من ورق النخل
ليوضع فيه التمر - قد خلوا الدار ليفتشوا عليه، فخرجت امرأته النوار فقالت ما
تريدون؟ فقالوا أين زوجك؟ فقالت: لا أدري أين هو، وأشارت بيدها إلى بيت
الخلاء، فوجدوه وقد وضع على رأسه القوصرة فأخرجوه وقتلوه.
الشيخ هادي النحوي
مرت ترجمته في الجزء العاشر الصفحة 230 ونزيد عليها هنا ما يلي:
ولد في الحلة وفيها تلقى مبادئ العلوم، وتعاطى نظم الشعر منذ شبابه
وله مع أبيه وأخيه الرضا مطارحات. ولما توفي والده انتقل هو واخوه الرضا إلى
النجف على عهد السيد بحر العلوم، ثم رجع إلى الحلة بعد وفاته وبقي فيها
حتى وفاته على أثر مرض ألزمه الفراش مدة طويلة وقال في مرضه:
مولاي يا سر الحقائق * كم كشفت غطاءها
مولاي يا شمس المعارف * كم انرت سناءها
مولاي يا باب العلوم * وارضها وسماءها
يا قطب دائرة الوجود * فكم أدرت رحاءها
وبيوم خيبر قد حملت * من الاله لواءها
فكشفت عن وجه النبي * محمد غماءها
للعبد عندك حاجة * يرجو لديك قضاءها
أودت بجسمي علة * جهل الاساة دواءها
النفس قد تلفت اسى * واتتك تشكو داءها
وله في رثاء الحسن من قصيدة تبلغ 63 بيتا:
لمن الظعائن في اليباب المقفر * واصلن بين سرى وطول تهجري
من كل وافرة الحجاب مصونة * للشمس من فرط الحيا لم تسفر
تلك الظعائن من بنات محمد * أضحت هدايا للدعي الأكبر
يا ارض من كيد الزمان تزلزلي * وجدا ويا كبد السماء تفطري
سفها لرأي أمية هلا درت * ما ذا اتته من القبيح المنكر
أسرت كرائم أحمد واماؤها * قد عف عنها أحمد لم يأسر
ما بالها خفرت ذمام نبيها * ونبيها لذمامها لم يخفر
تبا لها قد صدعت دين الهدى * وإلى القيامة صدعه لم يجبر
جعلت عزيز محمد وحبيبه * نهب المواضي و الوشيج السمهري
فكبت عن النهج القويم ببغيها * وتورطت في المأزق المتوعر
قد قادها للشر خبث نجارها * وخسيس مغرسها ولؤم العنصر
هدمت قواعد دين احمد وابتنت * دين الضلالة والردى والمنكر
كم ترب مجد من سلالة أحمد * في الترب متلول الجبين معفر
لله نجدته كاساد الشري * من كل عبل الساعدين حزور
كل يرى من عزمه في فيلق * فكأنه فردا يكر بعسكر
بذلوا نفوسهم بمشتجر القنا * دون الإمام ابن الإمام الأطهر
فتخال من فرط الطعان نفوسهم * أرضا بها نبت الوشيج السمهري
واليه تنمى الأسرة المعروفة في النجف بآل الشاعر.
السيد هادي كمال الدين بن السيد أحمد
ولد في مدينة الحلة سنة 1908 م وتوفي سنة 1986 م.
وهو من أسرة علمية انتشرت في النجف والحلة. درس دراسته الأولى في
الحلة ثم أكمل الدراسة في النجف، وعاد إلى الحلة هاديا مرشدا.
كان إلى ذلك شاعرا باحثا عارفا بالوضع الاجتماعي. له من المؤلفات:
كتاب التخميس والتشطير في أصحاب آية التطهير، وكتاب فقهاء الفيحاء
وتطور الحركة الفكرية في الحلة وغير ذلك. كما أن له ديوان شعر (1)
السيد هاشم معروف الحسني
ولد سنة 1919 م في قرية جناثا (جبل عامل) وتوفي ودفن فيها سنة
1984 م. بدأ دراسته الأولى في جبل عامل ثم انتقل إلى النجف الأشرف
فدرس على علمائه وعاد إلى وطنه. وبعد حين عين قاضيا شرعيا في مدينة صور
ثم مستشارا في المحكمة الشرعية الجعفرية العليا حتى وفاته. له من المؤلفات:
1 - عقيدة الشيعة الإمامية. - 2 الحديث والمحدثون. 3 - سيرة المصطفى.
4 - سيرة الأئمة الاثني عشر. 5 - تاريخ الفقه الجعفري. 6 - المبادئ العامة
للفقه الجعفري. 7 - نظرية العقد في الفقه الجعفري. 8 - المسؤولية
الجزائية في الفقه الجعفري 9 - الولاية والشفعة والإجارة في الفقه الاسلامي
10 - الوصية والوقف والإرث من الأحوال الشخصية في الفقه الاسلامي
11 - الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة. 12 - بين التصوف والتشيع 13 -
دراسات في الصحيح للبخاري والكافي للكليني 14 - أصول التشيع 15 -
من وحي الثورة الحسينية 16 - صور مشرقة من وحي الاسلام.
وعن كتابه دراسات في الصحيح للبخاري والكافي للكليني يقول بعض



(1) الشيخ محمد رضا الأنصاري.
283
الباحثين: تعرض المؤلف للمقارنة بين الكتابين وبين أوجه الشبه والافتراق
والامتيازات التي يمتاز بها كل منهما عن الآخر، في دراسة تتسم بالصراحة
والتجرد والموضوعية.
وعن كتابه (الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة) يقول باحث آخر: دفاع عن
استقلالية الشيعة عن كل من الأشاعرة والمعتزلة، ردا على خطا يساوي الشيعة
بالمعتزلة.
مجد الدين الصاحب هبة الله بن علي
قال اليافعي في (مرآة الجنان) وهو يتحدث عن وفيات سنة 583: فيها توفي
مجد الدين الصاحب هبة الله بن علي، ولي أستاذ دار للمستضئ، ولما ولي
الناصر رفع منزلته وبسط يده، وكان رافضيا سبابا لما تمكن أحيا شعار الإمامية
واشتهر بأشياء قبيحة فقتل وأخذت حواصله من جملتها ألف ألف دينار
(انتهى).
بهذه اللغة يتكلم هذا المؤرخ ويفتري، وليس هو وحيدا في ذلك. وكان قد
قال قبل ذلك وهو يتحدث عن أحداث سنة 582: قال محمد بن القادسي فرش
الرماد في أسواق بغداد وعلقت المسوح يوم عاشوراء وناح أهل الكرخ وتعدى
الأمر إلى سب الصحابة، وكانوا يصيحون به ما بقي كتمان. وقال غيره: وقعت
فتنة ببغداد بين الرافضة والسنية قتل فيها خلق كثير، وكان ذلك منسوبا إلى
الصاحب الملقب مجد الدين.
ثم يكمل الكلام عن أحداث السنة نفسها قائلا: وفيها قتل ابن الصاحب
ببغداد فذلت الرافضة.
فهل هما رجلان، أحدهما هو الصاحب، والثاني هو ابن الصاحب، مات
الأول كما يدل عليه ظاهر كلام اليافعي؟ أم هما رجل واحد سماه تارة
بالصاحب وتارة بابن الصاحب كما قد يتبادر إلى الذهن؟
ولا يمنع من هذا ذكره قتل ابن الصاحب، ثم قتل الصاحب، فله في هذا
نظائر في أقواله المتقدمة، إذ أنه اعتاد أن يذكر أخبار القتل ضمن الأخبار
المتتابعة، ثم يذكر أسماء من ماتوا خلال ذكره الوفيات على أن الكتاب مشحون
بالأغلاط المطبعية فربما كان هذا من تلك الأغلاط.
السيد أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الحسني،
المعروف بابن الشجري، البغدادي
مرت ترجمته في الصفحة 262 من المجلد العاشر ونضيف إليها هنا ما ذكره ابن
خلكان:
كان إماما في النحو واللغة وأشعار العرب وأيامها وأحوالها، كامل الفضائل،
متضلعا من الأدب، صنف فيه عدة تصانيف، فمن ذلك كتاب " الأمالي "، وهو
أكبر تآليفه وأكثرها إفادة، أملاه في أربعة وثمانين مجلسا، وهو يشتمل على فوائد جمة
من فنون الأدب، وختمه بمجلس قصره على أبيات من شعر أبي الطيب المتنبي تكلم
عليها وذكر ما قاله الشراح فيها وزاد من عنده ما سنح له وهو من الكتب الممتعة، ولما
فرغ من إملائه حضر إليه أبو محمد عبد الله المعروف بابن الخشاب المقدم ذكره،
والتمس منه سماعه عليه، فلم يجبه إلى ذلك فعاداه ورد عليه في مواضع من الكتاب
ونسبه فيها إلى الخطأ، فوقف أبو السعادات المذكور على ذلك الرد، فرد عليه في
رده، وبين وجوه غلطه، وجمعه كتابا وسماه " الانتصار " وهو على صغر حجمه
مفيدا جدا، وسمعه عليه الناس، وجمع أيضا كتابا سماه " الحماسة " ضاهى به
حماسة أبي تمام الطائي، وهو كتاب غريب مليح أحسن فيه، وله في النحو عدة
تصانيف " ما اتفق لفظه واختلف معناه " وشرح " اللمع " لابن جني، وشرح
" التصريف الملوكي ".
وكان حسن الكلام، حلو الألفاظ، فصيحا، جيد البيان والتفهيم، وقرأ
الحديث بنفسه على جماعة من الشيوخ المتأخرين مثل أبي الحسن المبارك بن
عبد الجبار بن أحمد بن القاسم الصيرفي، وأبي علي محمد بن سعيد بن شهاب
الكاتب وغيرهما.
وذكره الحافظ أبو سعيد بن السمعاني في كتاب " الذيل "، وقال: اجتمعنا في
دار الوزير أبي القاسم علي بن طراد الزينبي وقت قراءتي عليه الحديث، وعلقت عنه
شيئا من الشعر في المدرسة، ثم مضيت إليه، وقرأت عليه جزءا من أمالي أبي
العباس ثعلب النحوي.
وحكى أبو البركات عبد الرحمن بن الأنباري النحوي، في كتابه الذي سماه
" مناقب الأدباء " أن العلامة أبا القاسم محمود الزمخشري لما قدم بغداد قاصدا الحج
في بعض أسفاره مضى إلى زيارة شيخنا أبي السعادات ابن الشجري، فمضينا
معه إليه، فلما اجتمع به أنشده قول المتنبي:
وأستكثر الأخبار قبل لقائه * فلما التقينا صغر الخبر الخبر
ثم أنشده بعد ذلك:
كانت مسامرة الركبان تخبرنا * عن جعفر بن فلاح أحسن الخبر
ثم التقينا، فلا والله ما سمعت * أذني بأحسن مما قد رأى بصري
قال ابن الأنباري: فخرجنا من عنده ونحن نعجب، كيف يستشهد
الشريف بالشعر والزمخشري بالحديث وهو رجل أعجمي؟.
وله شعر حسن فمن ذلك قصيدة يمدح بها الوزير نظام الدين أبا نصر المظفر بن علي
ابن محمد بن جهير، وأولها:
هذي السديرة والغدير الطافح * فأحفظ فؤادك إنني لك ناصح
يا سدرة الوادي الذي إن ضله * الساري هداه نشره المتفاوح
هل عائد قبل الممات لمغرم * عيش تقضى في ظلالك صالح
ما أنصف الرشا الضنين بنظرة * لما دعا مصفى الصبابة طامح
شط المزار به وبوئ منزلا * بصميم قلبك فهو دان نازح
غصن يعطفه النسيم وفوقه * قمر يحف به ظلام جانح
وإذا العيون تساهمته لحاظها * لم يرو منه الناظر المتراوح
ولقد مررنا بالعقيق فشاقنا * فيه مراتع للمها ومسارح
ظلنا به نبكي فكم من مضمر * وجدا أذاع هواه دمع سافح
برت السنون رسومها فكأنما * تلك العراص المقفرات نواضح
يا صاحبي تأملا حييتما * وسقى دياركما الملث الرائح
أدمى بدت لعيوننا أم ربرب * أم خرد أكفالهن رواجح
أم هذه مقل الصوار رنت لنا * خلل البراقع أم قنا وصفائح
لم يبق جارحة وقد واجهننا * إلا وهن لها بهن جوارح
كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى * ومن الشقاوة أن يراض القارح
لو بله من ماء ضارج شربة * ما أثرت للوجد فيه لواقح

284
ومن ههنا يخرج إلى المديح فاضربت عنه خوف الإطالة، ولم يكن المقصود إلا
إثبات شئ من نظمه ليستدل به على طريقته فيه.
ومن شعره أيضا:
هل الوجد خاف والدموع شهود * وهل مكذب قول الوشاة جحود
وحتى متى تفنى شئونك بالبكا * وقد حد حدا للبكاء لبيد
وإني وإن خفت قناتى كبرة * لذو مرة في النائبات جليد
وكان بين أبي السعادات المذكور بين أبي محمد الحسن بن أحمد بن محمد ابن
جكينا البغدادي الحريمي الشاعر المشهور تنافس جرت العادة بمثله بين أهل
الفضائل، فلما وقف على شعره عمل فيه قوله:
يا سيدي والذي يعيذك من * نظم قريض يصدا به الفكر
مالك من جدك النبي سوى أنك ما ينبغي لك الشعر
وشعره وماجرياته كثيرة وكانت ولادته في شهر رمضان سنة خمسين
وأربعمائة.
ورام بن أبي فراس الحلي (1)
أبو الحسين ورام بن أبي فراس عيسى بن أبي النجم بن حمدان بن خولان.
وهو من بيت رفيع من الأكراد الجاوانيين الحليين المستعربين. والجد الأعلى لهذا
البيت هو الأمير ورام الكردي الجاواني، وقد انجب هذا البيت رجالا تولوا
اعمالا عسكرية وإدارية مثل الأمير أبي الهيج عبد الله بن الحارث بن ورام (2)
ممدوح ابن جيا الشاعر الحلي، ومثل الأمير ابن مجير الدين جعفر أخي
المترجم وابن أخيه حسام الدين بن جعفر.
ان للوراميين مصاهرة مع الأمراء المزيديين ومع بعض الأسر العلمية، فقد
كان أبو النجم جد المترجم ابن خال الأمير سيف الدولة المزيدي، وكان الشيخ
أبو جعفر الطوسي متزوجا بنت مسعود بن ورام، وكانت أم السيد رضي
الدين بن طاووس بنت ورام، وهي تنتهي بالنسب من جهة الأم إلى الشيخ أبي
جعفر الطوسي من زوجته بنت مسعود بن ورام، وكذلك أم ابن إدريس الحلي
ينتهي نسبها من قبل الأم إلى الشيخ الطوسي من زوجته بنت مسعود بن ورام.
نشأ المترجم أول الأمر على طريقة أهل بيته فتربى تربية عسكرية، وصار
أميرا من الأمراء العسكريين، ثم ترك سلك الجندية وزهد في الدنيا وانصرف
إلى الدراسة والعلم.
قال ابن الساعي في المختصر: أبو الحسن ورام بن أبي فراس الحلي شيخ
زاهد متعبد، كان أولا جنديا على طريقة سوية، فهداه الله تعالى إلى التوبة
والإنابة فتحرك جميع ما كان فيه ولزم باب الله عز وجل وانعكف على الخير
والعبادة وقراءة القرآن المجيد ومداومة الصوم وكثرة الصلاة نافلة، معظم في
أعين الناس وصار تقصده الأكابر للتبرك به، توفي يوم الجمعة وحمل إلى الكوفة
فدفن في مشهد علي عليه السلام (3).
وقال فيه منتجب الدين: شاهدته بالحلة فوافق الخبر الخبر اه يروي
الشهيد عن محمد بن جعفر المشهدي عنه. له من المؤلفات (تنبيه الخواطر
ونزهة الناظر) قال عنه صاحب أمل الآمل ان فيه الغث والسمين. وكتاب
(المجموعة) وهو في الاخلاقيات لطيف مشهور مشتمل على أحاديث جمة وردت
في مراتب الموعظة الحسنة والحكمة عن أهل بيت العلم والمعرفة لكنها في الأغلب
من المقطوعات والمراسيل، أو من جملة كلمات من ليس عليهم التعويل (4).
وقال ابن الأثير في الكامل: توفي سنة 605 بالحلة العالم الزاهد ورام بن
أبي فراس، ولم يذكر ابن الأثير مكان دفنه.
يحيى بن محمد القرشي
قال اليافعي في الجزء الرابع من كتابه (مرآة الجنان) وهو يتحدث عن
وفيات سنة 668:
فيها توفي قاضي القضاة أبو الفضل يحيى ابن قاضي القضاة أبي المعالي
محمد ابن قاضي القضاة أبي الحسن ابن قاضي القضاة منتجب الدين القرشي
الدمشقي الشافعي، تفقه على الفخر ابن عساكر وولي قضاء دمشق مرتين وكان
صدرا معظما معروفا بالفضائل.
وقال الذهبي له في ابن العربي عقيدة تجاوز حد الوصف. قال وكان يفضل
عليا على عثمان ثم نسبه إلى التشيع، وجعل التفضيل المذكور كالعلة لتشيعه
قلت وهذا من الذهبي العجب العجاب، أما علم أن جماعة من أكابر
أئمتنا المحققين ذهبوا إلى تفضيل علي على عثمان، منهم الأئمة الأجلة سفيان
الثوري ومحمد بن إسحاق والحسين بن الفضل، بل هو منسوب إلى أهل الكوفة
قاطبة، ولهذا قال الإمام سفيان الثوري لما سئل عن اعتقاده في ذلك: أنا رجل
كوفي. وقد أوضحت رجحان الدليل على هذا في كتاب (المرهم) في الأصول وأن
عليا رضي الله عنه اجتمع فيه من الفضائل في آخر عمره ما لم يكن في أوله، وقد
قدمت قصيدة ذكرت فيها التفضيل المذكور والإشارة إلى فضائل الكل منهم
رضي الله تعالى عنهم في ترجمة علي كرم الله وجهه. ولكن لو نسب إلى التشيع
بسبب ما ذكر عنه في تاريخه من أنه هو القائل البيتين اللذين ذكرهما في كتابه
ونسبهما إليه كان أنسب إذ في ذلك التصريح أن عليا رضي الله تعالى عنه هو
الوصي حيث قال:
أدين بما دان الوصي ولا أرى * سواه وإن كانت أمية محتدي
ولو شهدت صفين خيلي لأعذرت * وساء بني حرب هنالك مشهدي
يزدن الأمير القائد التركي
قال ابن الجوزي في المنتظم: كان من كبار الأمراء وتحكم في هذه الدولة
وتجرد للتعصب فانتشر بسببه الرفض وتأذى أهل السنة، فمرض أياما بقيام
الدم وتوفي في ذي الحجة من هذه السنة (568) ودفن في داره بباب العامة ثم
نقل إلى مقابر قريش.
وذكر ابن الأثير في حوادث سنة 562 وفاة قماج المسترشدي والد الأمير يزدن
قال: وهو من أكابر الأمراء ببغداد، كما ذكر وفاة يزدن، قال: وفيها - يعني



(1) بقلم الشيخ يوسف كركوش في كتابه (تاريخ الحلة).
(2) قال الدكتور مصطفى جواد في حاشيته على مختصر تاريخ ابن الديثي انه من الأمراء الوراميين الأكراد
المستعر بين النازلين في الحلة مع بني أسد.
(3) يوجد في الحلة بمحلة الأكراد قبر يعرف بقبر الشيخ ورام. وقد جدد بناءه الحاج عباس مرجان السنة
1952 وكانت العرصة التي فيها القبر مملوكة لأحد الناس فاشتراها بالاشتراك مع الحاج شاكر غزالة
أحد تجار الحلة ووقفا العرصة على القبر.
(4) روضات الجنات.
285
سنة 568 - توفي الأمير يزدن وهو من كبار امراء بغداد وكان يتشيع، فوقع
بسببه فتنة بين السنة والشيعة بواسط (1) لأن الشيعة جلسوا للعزاء واظهر السنة
الشماتة به قال الأمر إلى القتال، فقتل بينهم جماعة، ولما مات اقطع اخوه
تنامش ما كان لأخيه وهي مدينة واسط ولقب علاء الدين.
وذكر ابن الأثير حوادث سنة 568 خروجه إلى حرب بني حزن المفسدين
بالعراق، وكان له دار مشهورة.
يزيد بن قيس
اقتتلت المجنبتان يوم الجمل حين تزاحفتا قتالا شديدا يشبه ما فيه القلبان،
واقتتل أهل اليمن فقتل على راية أمير المؤمنين من أهل الكوفة عشرة كلما أخذ رجل
قتل، خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن، فلما رأى ذلك يزيد بن قيس أخذها
فثبتت في يده وهو يقول:
قد عشت يا نفس وقد غنيت * دهرا فقطك اليوم ما بقيت
أطلب طول العمر ما حييت
وأنما تمثلها وهو قول الشاعر قبله.
وقال نمران ابن أبي نمران الهمداني:
جردت سيفي في رجال الأزد * أضرب في كهولهم والمرد
كل طويل الساعدين نهد
يزيد بن زياد أبو الشعثاء الكندي
حدثني فضيل بن خديج الكندي أن يزيد بن زياد وهو أبو الشعثاء الكندي من
بني بهدلة جثى على ركبتيه بين يدي الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم
وكان راميا فكان كلما رمى قال أنا ابن بهدلة فرسان العرجلة ويقول حسين اللهم سدد
رميته وأجعل ثوابه الجنة فلما رمى بها قام فقال ما سقط منها إلا خمسة أسهم ولقد تبين
لي أني قد قتلت خمسة نفر وكان في أول من قتل وكان رجزه يومئذ:
أنا يزيد وأبي مهاصر * أشجع من ليث بغيل خادر
يا رب إني للحسين ناصر * ولإبن سعد تارك وهاجر
وكان يزيد بن زياد بن المهاصر ممن خرج مع عمر بن سعد إلى الحسين فلما
ردوا الشروط على الحسين مال إليه فقاتل معه حتى قتل.
يزيد بن مفرغ (2)
نعود، في التاريخ العربي، إلى أوائل النصف الثاني من القرن الأول
للهجرة، إلى عهد يزيد بن معاوية وقد استخلف على عرش بني أمية بعد أبيه،
مؤسس النظام الملكي الوراثي.
وها نحن أولاء، نرى إلى جماهير الشعب العربي، في الأمصار والعواصم
والأقاليم، يحسون ثقل هذا الحكم الجديد الرهيب، وقد زاده يزيد بعد أبيه،
ثقلا وارهابا بما استهل به عهده من أفاعيل أنكرتها هذه الجماهير في سرائرها،
ولم تستطع ان تظهر انكارها جهرا وعلانية من فرط ما تستشعر من عوامل الجزع
والرهبة، وعلى رأسها جلادون من هنا وسفاكون من هنا، والعيون مبثوثة
عليها في كل وجه تحبس أنفاسها وتسجل خفقات قلوبها، وأسباب الوشاية
والنميمة ترصد الطريق على كل رائح وغاد ومتحدث. وهذه البصرة يحكمها،
من قبل يزيد وال عرفه أهل هذا المصر بأنه شارك في مصرع الحسين بن علي يوم
الطف بكربلاء، وعرفوه عليهم واليا مستبدا طاغيا ظالما يقيم الحكم فيهم
بالارهاب والسعاية والوشاية وبالسجن والقتل والتعذيب، ذلك هو عبيد الله بن
زياد.
كان ذلك ولآل زياد في الأمصار كلها، صيت يثير في نفوس الجماهير صورا
شتى يقترن بكل واحدة منها معنى أقل شأنه انه يبعث السخر والابتسام، أو
يبعث الحقد والسخط، أو يبعث الذعر والهلع.
وكان آل زياد يعرفون هذا كله في الجماهير، فيخشون نقمتها أو انفجار
نقمتها، إذ يكبتونها بالارهاب من كل نوع وكل أسلوب.
وكان أخشى ما يخشونه، ألسنة الشعراء، ولا سيما الهجائين منهم وذوي
الخلاعة والمجانة، فان مثل هؤلاء يكشفون للناس من العيوب والمساوئ ما
كان آل زياد يتحامون ان ينكشف، أو أن تتحدث به الجماهير في حين يعلمون
أن عند هذه الجماهير أنباء يتناقلونها عن آل زياد، سواء أصدقت هذه الأنباء أم
كانت من الأكاذيب والأراجيف...
و هنا يبرز في البصرة شاعر يعرف فيه عبيد الله بن زياد قسوة الهجاء،
وتعرف فيه جماهير البصريين حقده وسخطه على آل زياد لما شاركوا فيه من
هاتيكم الأفاعيل في عهد يزيد، نعني بهذا الشاعر يزيد بن ربيعة بن مفرع.
وقد جاء لقب " مفرع " هذا، من أن جد الشاعر راهن على ظرف
لبن ان يشربه كله، فشربه حتى فرع، فلقب " مفرغا ".
وشاعرنا يزيد بن مفرع يماني ينتمي إلى حمير، ويحالف قريش، ويبدو أنه
كان علوي الهوى، وأن مصرع الحسين بن علي كان له أثر في أسباب حقده على
آل زياد، وسنرى من شعره ما يدل على هذا.
ويبدو كذلك أن شاعرنا كان يتربص بال زياد، حتى تحين له الفرصة ان
يكشف عوراتهم، وأن يعبر عن سخط الجماهير عليهم بهذا الهجاء الفاضح
الذي عرف به.
وقد واتته الفرصة المرتقبة، حين ولي عباد بن زياد، أخو عبيد الله بن
زياد، قيادة الجيش في خراسان، وولي سعيد بن عثمان عهد الولاية من قبل
يزيد بن معاوية على خراسان نفسها، فطلب سعيد إلى شاعرنا هذا يزيد بن
مفرغ، أن يصحبه، إلى موضع ولايته، فأبى ان يصحبه وآثر ان يصحب
عباد بن زياد، وإنك لتعجب أول الأمر كيف يؤثر الشاعر أن يصحب عبادا
وهو لم يطلب إليه ذلك، على حين يأبى ان يصحب سعيدا، وسعيد هو الذي
يطلب إلى الشاعر أن يصحبه؟...
فهل تراه يكره صحبة سعيد بن عثمان، ويهوى صحبة عباد بن زياد؟.
هذا ما نشك فيه كل الشك، فإن الظاهر من حال سعيد مع الشاعر أنه
يحبه ويخلص له الحب، ثم إن الظاهر مما سيأتي من حال الشاعر مع عباد بن
زياد أنه ليس محبا لعباد هذا، وما كانت رغبته في صحبته إلى خراسان لأمر
يعجبه فيه، ولكن لأمر آخر يبيته في نفسه، وسنعرف، بعد، هذا الأمر.
ويدلنا على ما بين يزيد ابن مفرغ وسعيد بن عثمان من صلة الود والصداقة
ان سعيدا حين أعياه ان يقنع ابن مفرع بصحبته، قال له:
- " اما إذ أبيت أن تصحبني وآثرت عبادا، فاحفظ ما أوصيك به: ان



(1) هكذا وردت في النسخة الأصلية.
(2) بقلم الدكتور حسين مروة، ويزيد بن مفرغ هذا وقد يطلق عليه اسم يزيد بن ربيعة،
هو جد شاعر أهل البيت في عصره إسماعيل بن محمد المعروف باسم (السيد
الحميري)، فهو إسماعيل بن حمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ (ح. أ).
286
عبادا رجل لئيم، فإياك والدلالة (1) عليه، وان دعاك إليها من نفسه، فإنها
خدعة منه لك عن نفسك، واقلل زيارته فإنه طرف (2) ملول، ولا تفاخره وإن
فاخرك، فإنه لا يحتمل لك ما كنت احتمله ".
ثم دعا سعيد بن عثمان بمال - كما يروى في الأغاني - فدفعه إلى ابن مفرع،
وقال:
- " استعن بهذا المال على سفرك، فان طاب لك مكانك من عباد، وإلا
فمكانك عندي ممهد ".
وظاهر من هذا كله، ان سعيد بن عثمان كان خالص النصيحة والود
لشاعرنا بن مفرع، وظاهر كذلك أن سعيدا ليس بالبخيل الشحيح حتى نقول إن
لعل بن مفرغ إنما رغب عن صحبته، طمعا بان ينال من عباد بن زياد ما لا
يناله من سعيد بن عثمان من عطاء، كلاهما راحل إلى خراسان وكلاهما مقبل
فيها على منصب رفيع مضافا إلى تحذير سعيد له من لؤم عباد وسرعة ملالته
وتغيره على صاحبه، فماذا الذي يدعو الشاعر إلى إيثار عباد على سعيد اذن؟.
نجد مفتاح الجواب عند عبيد الله بن زياد، أخي عباد.
فإن عبيد الله هذا، ما إن علم أن مفرع سيصحب أخاه عبادا إلى
خراسان، حتى أحس الشر في قرارة نفسه، وشق عليه ذلك، ولم يستطع ان
يمنع أخاه من صحبة هذا الشاعر، واسر الأمر في صدره حتى ساعة السفر،
وخرج أخوه ومعه الناس يشيعونه إلى خارج البصرة، وجعلوا يودعونه، فلما
أراد عبيد الله أن يودع أخاه، دعا إليه الشاعر ابن مفرغ فقال له:
- انك سألت عبادا أن تصحبه، وأجابك إلى ذلك، وقد شق علي هذا.
فقال الشاعر: ولم ذاك، أصلحك الله؟...
فقال عبيد الله: " لأن الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من
بعض، فهو - أي الشاعر - يظن، فيجعل الظن يقينا، ولا يعذر في موضع
العذر، وأن عبادا ليقدم على أرض حرب، فيشتغل بحروبه وخراجه عنك،
فلا تعذره أنت، وتكسبنا شرا وعارا!
فقال الشاعر: لست كما ظن الأمير، وأن لمعروفه عندي شكرا، وان
عندي - ان أغفل أمري - عذرا ممهدا.
قال عبيد الله: " لا، ولكن تضمن لي إن أبطا عنك ما تحبه ان لا تعجل
عليه حتى تكتب إلي ".
قال الشاعر: نعم.
فقال عبيد الله: امض - اذن - على الطائر الميمون.
فهل ترى إلى قول عبيد الله: " فتكسبنا شرا وعارا؟ " وهل ترى إلى عبيد
الله كيف يبلغ به الذعر والهلع من صحبة هذا الشاعر لأخيه عباد؟. وهل تجد
في ذلك كله سوى ذعر الطغاة المستبدين يحسون هول النقمة في نفوس الجماهير،
ويخشون لسان الشاعر ان يلقي " الفتيل " في مواطن النقمة من هذه النفوس،
فتشتعل وتنفجر؟.
الا ترى في هذا القلق يبديه عبيد الله من صحبة الشاعر لأخيه، وفي هذا
الاحتياط الشديد للأمر، حتى يأخذ من الشاعر الضمانة بان لا يعجل على أخيه
- إن ابطأ عنه - قبل أن يكتب الشاعر إليه، أي إلى عبيد الله في البصرة ليدبر هو
الأمر - ألا ترى في هذا القلق وهذا الاحتياط الشديد، ان عبيد الله كان يعرف
كيف تنظر الجماهير، في الأمصار إلى آل زياد، وكيف تنطوي صدورها على
أسرار من أمورهم تنتظر لسان شاعر أن يثيرها في غضبة من غضباته وفي هجوة
من أهاجيه الفاضحة، فإذا الأسرار تنتشر، وإذا الشاعر يكسبهم شرا
وعارا "؟.
من هذا كله، يمكننا أن نقول أن عبيد الله كان يعلم من أمر الشاعر
يزيد بن مفرع أنه لم يؤثر صحبة أخيه عباد إلى خراسان، لمجرد عطائه
وجوائزه، ولكن ليطلع على أخباره واسوائه، ثم يعود بها إلى الناس أهاجي
وفضائح.
وكان الأمر كما توقع عبيد الله. ولم ينفعه الاحتياط شيئا، ولم تغنه الضمانة
التي ضمنها له الشاعر، فقد كان شاعرنا يزيد بن مفرع ينتظر ابطاء عباد عنه في
خراسان، حتى يجد في ذلك فرصة لاصلات لسانه فيه، دون أن يكتب إلى
عبيد الله يشكوه، لأن العطاء والجائزة لم يكونا بغية هذا الشاعر.
فهذه رواية الأغاني تقول ان عبادا ما كاد يصل إلى خراسان، حتى شغل
بحربه وخراجه، فاستبطأه الشاعر، ولم يكتب إلى أخيه عبيد الله في ذلك كما
ضمن له ساعة وداعه.
وهنا تقول الرواية: "... ولكنه - اي ابن مفرع - بسط لسانه في عباد،
فذمه وهجاه، وكان عباد عظيم اللحية، فسار يزيد ابن مفرع مع عباد فدخلت
الريح لحيته فنفشتها، فضحك ابن مفرع، وقال لرجل من بني لخم كان إلى
جنبه:
الا ليت اللحا كانت حشيشا * فنعلفها خيول المسلمينا!
وتمضي الرواية فتقول ان اللخمي هذا، وشى ابن مفرع إلى عباد، وان
عبادا اغتاظ غيظا شديدا، ولكنه كظم غيظه، وأسرها في نفسه معتزما الشر
لابن مفرع، وقال للواشي اللخمي:
- " لا تحمل بي عقوبته بهذه السرعة مع الصحبة لي، وما اؤخرها الا
لأشفي نفسي منه، لأنه كان يشتم أبي في عدة مواطن ".
ويتبين لنا من هذا القول، ان عبادا ما كان ليجرؤ ان يعجل على الشاعر
بالعقوبة، خشية " الشر والعار " وطمعا بان يداري الأمر قبل ان يفلت زمام
الشاعر من يديه، ويتبين لنا من هذا القول أيضا أن ابن مفرع كان معروفا
بعدائه لآل زياد، فقد كان " يشتم أبا عباد في مواطن كثيرة "... وهذا يؤيد
ما قلناه في المقال السابق من أن رغبة الشاعر في صحبة عباد، وايثاره على
سعيد بن عثمان، ليسا حبا بعباد أو طمعا فيه، بل لتكون له الفرصة ان يشفي
نفسه منه " بذمه وهجائه ".
ويبلغ ابن مفرع ان اللخمي قد وشى به إلى عباد، ويبلغه وعيد عباد
واسراره الشر له، فيداخله الخوف، ويستعجل الخلاص، فيستأذن عبادا
بالرجوع إلى العراق، فيقول له عباد:
- " طلبت الاذن لترجع إلى قومك، فتفضحني فيهم "؟...
وهذه كلمة أخرى تضج بالذعر والهلع ان يكسبه الشاعر " شرا وعارا ".
ولعلك تتساءل الآن: ترى، كيف لم يكتب ابن مفرع إلى عبيد الله بن
زياد يشكو إليه أخاه عبادا حين ابطأ عنه وفاء بوعده؟.
ولكنك عرفت الجواب مما قدمناه منذ قليل، فإن الشاعر قد ضمن
لعبيد الله ان يكتب إليه وهو معتزم أن لا يفي بضمانته، وإنما كانت منه حتى لا
يعوقه عبيد الله عن صحبة أخيه، ونيل الوطر الذي ينشده من صحبته، أي ان
يهجوه ويكسبه " شرا وعارا ".
والمسألة الآن هي: كيف يصنع عباد لكي يخنق شبح " الشر والعار "
الذي يتراءى له من وراء لسان الشاعر، ويكاد من خوفه أن يراه منطلقا في
الجماهير يكسب آل زياد " شرا وعارا "؟.



(1) اي اظهار الدالة ورفع الكلفة.
(2) الطرف (بفتح الطاء وكسر الراء): من لا يثبت على رأي.
287
هنا تبتدئ مأساة هذا الشاعر، ومأساة آل زياد معا... انه لا بد لعباد من
الانتقام، ولكن آل زياد يخشون نقمة الجماهير، إذا هم أساءوا إلى الشاعر من
غير ذنب ظاهر تسمع به الجماهير، فتعذرهم على عقوبته.
وتربص عباد بالشاعر حتى جاءت فرصة الانتقام، إذ علم عباد أن لقوم
دينا على الشاعر، فدس إليهم من يدفعهم أن يشكوا ابن مفرع إليه، فلما
شكوه، حبسه وأخذ يعذبه، فلا يحتمل الشاعر التعذيب، ويجتهد في الحيلة
على عباد حتى يطلقه من سجنه، ثم يجتهد الشاعر وقد استطاع الخروج من
السجن - ان يجد الحيلة في الهروب من خراسان إلى العراق.
وهنا تكبر مأساة آل زياد أنفسهم، فإذا بالشاعر يبلغ منهم إربه، وإذا هو
يشحذ لسانه في ذمهم وهجائهم وهو ما يزال في الطريق إلى العراق، يرسل
البيت من الهجاء فيكتبه على حائط هذا الخان في أحد منازل الطريق، ثم يرسل
البيت الآخر فيكتبه على حائط آخر في هذه المرحلة الأخرى من الطريق، وإذا
الجماهير في مراحل الطريق كلها من خراسان إلى العراق، تتناقل أهاجي الشاعر
في آل زياد فتحفظها بسرعة البرق، ثم تتناقلها بأكثر سرعة من ذلك، حتى
تصل هذه الأهاجي إلى جماهير البصرة قبل أن يصل إليها الشاعر، وإذا أهل
البصرة كلهم يتغنون في أشعار ابن مفرع بال زياد، ينفسون بها عن كربهم،
ويمطون بها ألسنتهم يتلمظون بمساوئ آل زياد مستطيبين هجاءهم، لأنه جاء
تمثيلا لما في صدورهم من الضغينة عليهم ومن الحقد على ما يجدون من
استبدادهم وطغيان أمرهم فيهم.
ولكن الشاعر ما يكاد يصل البصرة، ويرى أهلها قد سبقته أشعاره إليهم
فحفظوها وتغنوا بها في اسمارهم، وانطلقت بها ألسنتهم في هذا الحقل، وفي
هذا البستان، وفي هذا المصنع، في طول المصر وعرضه، حتى يتجسم له شبح
مأساة جديدة...
فقد علم عبيد الله بن زياد، والي البصرة، بمقدم الشاعر إليها من
خراسان، وكان قد سمع بما تتغنى به أهل البصرة من أهاجيه في أخيه وآله،
فأخذ يبحث عنه بحثا شديدا، حتى كاد يقبض عليه، فهرب إلى بلاد الشام.
وطفق الشاعر ابن مفرع ينتقل في قرى الشام ونواحيها - كما تقول رواية
الأغاني - يهجو بني زياد، وتنتقل أشعاره فيهم من هناك إلى البصرة وتنتشر،
وتبلغ بني زياد على السنة الناس أينما اتجهوا في المدينة، ويضيق عبيد الله ذرعا
بهذا الأمر، فكتب إلى يزيد بن معاوية يقول له:
- " ان ابن مفرع هجا زيادا وبني زياد بما هتكه في قبره وفضح بنيه طول
الدهر، وتعدى ذلك إلى أبي سفيان، فقذفه بالزنا، وسب ولده، فهرب من
خراسان إلى البصرة، وطلبته حتى لفظته الأرض فلجأ إلى الشام يتمضغ لحومنا
بها ويهتك أعراضنا، وقد بعثت إليك بما هجانا به لتنتصف لنا منه ".
وبعث عبيد الله إلى يزيد بجميع ما حفظته جماهير البصرة من أشعار ابن
مفرغ في بني زياد، فأمر يزيد بطلب الشاعر، فجعل يفلت من أيدي " رجال
التحري " منتقلا من بلدة إلى بلدة، فإذا شاع خبره هنا انتقل إلى موضع آخر،
حتى خرج من أرض الشام وانتهى إلى البصرة، ونزل فيها على الأحنف بن
قيس مستجيرا فأبى أن يجيره رهبة من بني زياد، فلجأ إلى عدد من وجوه القوم،
فلم يجره أحد منهم خشية ورهبة كذلك، حتى اجاره المنذر بن الجارود
العبدي، وكانت ابنة هذا زوجا لعبيد الله بن زياد.
فلما علم عبيد الله، بعث إلى حميه المنذر أن يأتيه، فأتاه، وما كاد يخرج
المنذر من داره، حتى كبسها الشرطة، وقبضوا على ابن مفرع وجاءوا به إلى
عبيد الله، فلم يشعر المنذر الا وابن مفرع قد أقيم على رأسه، فجزع المنذر،
وقال لعبيد الله:
- " أذكرك الله أيها الأمير، لا تخفر جواري، فإني قد أجرته ".
فقال له عبيد الله: " يا منذر، ليمدحن أباك ويمدحنك، ولقد هجاني
وهجا أبي، ثم تجيره؟... لا ها الله لا يكون ذلك ابدا ولا أغفرها له ".
ويقف الشاعر امام عبيد الله، حين خلا به يعاتبه، موقفا جريئا صريحا لم
يضطرب، ولم يتخاذل، ولم يستخذ استخذاء الذليل الجبان، وقال له في آخر
حديث طويل له معه:
- "... وقد صرت الآن في يدك، فاصنع بي ما أحببت ".
فحبسه عبيد الله، ثم بعث إلى يزيد بن معاوية يسأله ان يأذن له في قتله،
فكتب إليه يزيد يقول:
- " إياك وقتله، ولكن عاقبه بما ينكله ويشد سلطانك، ولا تبلغ نفسه
(أي لا تزهق روحه) ".
فلما ورد كتاب يزيد على عبيد الله، امر بابن مفرع ان يسقى نبيذا حلوا قد
خلط معه ما يسهل معدته، فلما أسهلت، أخذ الشرطة يطوفون به في شوارع
البصرة، وهو في اسهاله، وقرن بهرة وخنزيرة، وجعل الصبية يتبعونه، حتى
اضعفه الاسهال، فسقط، واخبر الشرطة ابن زياد ان ابن مفرع قد صار من
الضعف بحيث لا نأمن أن يموت، فامر أن يغسل، فلما اغتسل الشاعر قال
يخاطب ابن زياد: يغسل الماء ما فعلت، وقولي * راسخ منك في العظام البوالي.
فرده عبيد الله إلى الحبس، واخذ يتفنن السجانون في تعذيبه، ووصلت في
هذه الأثناء من عباد بن زياد إلى أخيه عبيد الله جملة من أشعار ابن مفرع في بني
زياد، فازداد غضبه، وبعث إلى يزيد بن معاوية ثانية يستأذنه في قتله، فلم
يأذن له، وحذره أشد التحذير من ذلك، وأمره أن يعذبه وينكل به ما شاء ولا
يبلغ به ازهاق روحه.
ولكن عبيد الله لم يشف غيظه من الشاعر، على رغم التعذيب والتنكيل،
فبعث به إلى أخيه عباد في سجستان من بلاد خراسان، ليشفي هذا غيظه منه
أيضا، فلما بلغه، وكل به رجالا أن يسيروا معه إلى كل مكان كتب على جداره
شعرا في هجاء بني زياد، فيجبروه على أن يمحوه بأظافيره، فكانوا إذا دخلوا
الخانات التي نزلها يوم هرب من خراسان إلى العراق، ألزموه أن يمحو ما وجدوه
مكتوبا من شعره، فكان يفعل ذلك حتى ذهبت أظافره، فاخذ يمحوه بعظام
أصابعه ودمه، حتى قطعوا الطريق كله على هذا مرحلة مرحلة، ثم ردوه إلى
عباد فحبسه، وزاد في تعذيبه، إلى أن ضجت عشيرته، وضجت قبائل اليمن
وقريش، وذهبت وفود إلى يزيد بن معاوية في الشام تنذره أن يطلق الشاعر من
سجنه في خراسان.
فاضطر يزيد، ان يستجيب لطلب القوم، فبعث رجلا من بني أسد يقال
له خمخام - وقيل جهنام - إلى عباد، وأمره ان يذهب إلى الحبس، فيخرج بابن
مفرغ ويطلقه، قبل ان يعلم عباد، خشية أن يقتله في السجن اغتيالا، فلما
خرج الشاعر من سجنه قربت إليه بغلة من بغال البريد، فركبها، فلما استوى
على ظهرها، قال:
عدس (1)، ما " لعباد " عليك إمارة * نجوت، وهذا تحملين طليق
فإن الذي نجى من الكرب، بعدما * تلاحم في درب عليك مضيق



(1) عدس: حكاية لصوت البغلة.
288
اتاك بخمخام، فانجاك، فالحقي * بأرضك، لا تحبس عليك طريق
ولكن القصة تنتهي بان الدائرة تدور على بني زياد أنفسهم، فإن الشاعر
يختار بعد خلاصه من السجن والتعذيب، أن يقيم في الموصل، ثم يحدوه
الشوق والحنين إلى البصرة، فيعود إليها، ولكنه لا يامن على نفسه فيها أن يدبر
له عبيد الله بن زياد مؤامرة ليبطش به، فيرتحل إلى كرمان يستجير شريكا ابن
الأعور، وكان عاملا عليها، ويبقى الشاعر هناك حتى تقوم ثورة العراق بقيادة
عبد الله بن الزبير، وتجمع الجماهير في البصرة على قتل عبيد الله بن زياد،
فيهرب هذا، ويغلب امر ابن الزبير، فيرجع الشاعر إلى البصرة، ويعود إلى
هجاء بني زياد، وترى فيه الجماهير مناضلا شارك في هيج الثورة على الاستبداد
والطغيان، فتزداد اقبالا على التغني بهجائه السياسي، وان كان لا يخلو من
الهجاء من فاحش القول، وها هو ذا يصف هرب عبيد الله من البصرة وتركه أمه
فيها ويشمت بمصيره:
اعبيد، هلا كنت أول فارس يوم الهياج دعا بحتفك داع
أسلمت أمك للرماح تنوشها * يا ليتني لك ليلة الافزاع
هلا عجوز إذ تمد بثديها * وتصيح ان: لا تنزعن قناعي
أنقذت من أيدي العلوج كأنها * رمداء مجفلة ببطن القاع
فركبت رأسك، ثم قلت: أرى العدا * كثروا، واخلف موعد الاشياع
ليس الكريم بمن يخلف أمه * وفتاته في المنزل الجعجاع
وها هو ذا الشاعر يذكر عبيد الله أيضا باستبداده ومظالمه:
بما قدمت كفاك، لا لك مهرب * إلى اي قوم، والدماء تصيب
فكم من كريم قد جررت جريرة * عليه، فمقبور، وعان (1) يعذب
ومن حرة زهراء قامت بسحرة * لتبكي قتيلا، أو فتى يتاوب
فصبر، عبيد ابن العبيد، فإنما * يقاسي الأمور المستعد المجرب
وذق كالذي قد ذاق منك معاشر * لعبت بهم إذ أنت بالناس تلعب
وها هو ذا أيضا لا ينفك يستعرض طغيان عبيد الله وجرائمه:
كم يا عبيد الله عندك من دم * يسعى ليدركه بقتلك ساع
ومعاشر انف (2)، أبحت حريمهم * فرقتهم من بعد طول جماع
واذكر حسينا (3) وابن عروة هانيا * وبني عقيل فارس المرباع
وكان يوم آخر في التاريخ... فإذا عبيد الله بن زياد في معركة الزاب
بالعراق، وقد ثار أصحاب المختار بن أبي عبيد يثأرون من قتلة الحسين بن
علي، وإذا إبراهيم بن الأشتر يحمل في المعركة على كتيبة عبيد الله، فتنهزم
الكتيبة، ويتخلف عبيد الله، فيضربه إبراهيم فيقتله ويرجع إلى أصحابه
فيقول:
- اني ضربت رجلا، فقددته نصفين، فشرقت يداه، وغربت رجلاه،
وفاح منه المسك وأظنه ابن مرجانة.
وأوما إبراهيم للقوم إلى موضعه، فذهبوا إليه، فوجدوه كما ذكر إبراهيم،
وإذا هو ابن زياد، وإذا شاعرنا ابن مفرغ يظهر هنا أيضا ويلاحق عبيد الله حتى
مصرعه يهجوه.
ان الذي عاش ختارا بذمته * وعاش عبدا قتيل الله بالزاب
العبد للعبد، لا أصل ولا طرف * ألوت به ذات أظفار وأنياب
ان المنايا إذا ما زرن طاغية * هتكن عنه ستورا بين أبواب
هلا جموع نزار إذ لقيتهم * كنت امرأ من نزار غير مرتاب
لا أنت عن ملك فتمنعه * ولا مددت إلى قوم بأسباب
ما شق جيب ولا ناحتك نائحة * ولا بكتك جياد عند اسلاب
لا يترك الله انفا تعطسون بها * بين العبيد شهودا غير غياب
أقول له بعدا وسحقا عند مصرعه * لابن الخبيثة وابن الكودن الكابي (4)
وجاء في كتاب الأغاني للأصفهاني:
حين سجن عباد بن زياد يزيد بن مفرغ أرسل الشاعر إلى يمانية الشام
رسولا بأبيات يستثير فيها حميتهم ويدعوهم إلى نصرته، فلما تليت عليهم
هاجوا ودخلوا على يزيد يهددون و يتوعدون أن لم يطلق سراح شاعرهم فاضطر
يزيد إلى إرضائهم وأمر باطلاق سراح ابن مفرع.
وكان عبيد الله بن زياد حين ظفر بابن مفرع هم أن يقتله وكتب إلى يزيد
يستأذنه بالامر فكتب اليه يزيد يحذره من الاقدام على ذلك وكان مما قاله له:
" إياك وقتله، ولكن عاقبه بما ينكله ويشد سلطانك. ولا تبلغ نفسه فان له
عشيرة هي جندي وبطانتي ولا ترضى بقتله مني ولا تقنع الا بالقود منك
فاحذر ".
يحيى بن البطريق
مرت ترجمته في الجزء العاشر الصفحة 289 ونزيد عليها هنا ما يلي:
قال ابن حجر في لسان الميزان: يحيى بن الحسن بن الحسين بن علي
الأسدي الحلي الربعي المعروف بابن البطريق، قرأ على الحمصي الرازي الفقه
والكلام على مذهب الإمامية وسكن بغداد مدة ثم واسط، وكان يتزهد
ويتنسك، وكانت وفاته بالحلة في شعبان سنة 600 وله سبع وسبعون سنة ذكره
ابن النجار ".
وولده نجم الدين أبو الحسن علي بن يحيى كان فقيها فاضلا شاعرا وكاتبا
هاجر إلى مصر وكتب في أحد الدواوين المصرية أيام الدولة الكاملية، ولما
اختلت حاله عاد إلى العراق، توفي سنة 542.
قال عنه في الفوات: وكان فاضلا أصوليا، قال القوصي أنشدنا ابن
البطريق لنفسه بدمشق وكتب بها إلى ابن عنين، وكان به جرب انقطع بسببه في
داره:
مولاي لابت في همي ولا نصبي * ولا لقيت الذي القى من الجرب
هذا زماني أبو جهل وذا جربي * أبو معيط وذا قلبي أبو لهب
وأنشدني لنفسه وقد بلغه ان الملك الأشرف اعطى الحلي (راجحا) سيفا
محلى فتقلد به وتشبه بالحيص بيص:
تقلد راجح الحلي سيفا * محلى واقتنى سمر الرماح
فقال الناس فيه وقلت كفوا * فليس عليه في ذا من جناح
أيقدر ان يغير على القوافي * وأموال الملوك بلا سلاح
وله قوله:

289
لي على الريق كل يوم ركوب * في غبار أغص منه بريقي
اقصد القلعة السحوق كأني * حجر من حجارة المنجنيق
فدوابي تحفى وجسمي يضنى * هذه قلعة على التحقيق
" انتهى الفوات ".
وفي سنة 631 رجع الحاج إلى الحلة من بعض المنازل إذ بلغهم أن العرب
الأجاودة طموا الآبار في منزل السلمان وعزموا على أخذ الحاج، فأشير على أمير
الحاج بالرجوع فاستفتى بعض من كان معه من الفقهاء فافتوه بالرجوع،
وأصيب الحاج بخسائر فادحة في الأرواح والأموال. فنظم علي بن البطريق
قصيدة وسيرها إلى الخليفة يحرضه على قتال العرب الذين يتعرضون للحاج منها
هذه الأبيات:
الكفر في الترك دون الكفر في العرب * أليس منهم إذا عدوا أبو لهب
أليس منهم أبو جهل وبنتهم * عدوة المصطفى حمالة الحطب
فيا امام الهدى يا من نظمت له المدائح يا ابن السادة النجب
يا أيها القائم المنصور أنت ذا * حضرت وجه رسول الله لم يغب
فاغز الأعاريب بالأتراك منتقما * منهم ولا ترع فيهم حرمة النسب
فقد غزاهم رسول الله في حرم الله * المنيع بإذن الله وهو نبي
وما رعى فيهم إلا ولا نسبا * ولم يقل ان أمي منهم وأبي
ان ادعوا انهم قد أسلموا فقد * ارتدوا بمنعهم للحج عن كثب
وقال عبد الله بن يعقوب بن داود: أخبرني ابني أن المهدي حبسه في بئر
وبنى عليه قبة، فمكث فيها خمس عشرة سنة، وكان يدلى له فيها كل يوم.
رغيف خبز وكوز ماء، ويؤذن بأوقات الصلاة.
وقد قال له الرشيد بعد افراجه عنه: يا يعقوب بن داود والله ما شفع فيك
إلي أحد، غير اني حملت الليلة صبية لي على عنقي فذكرت حملك إياي على
عنقك فرثيت لك من المحل الذي كنت به فأخرجتك. وكان يعقوب يحمل
الرشيد وهو صغير ويلاعبه.
يعقوب بن داود
توفي في مكة سنة 187 وقيل 182.
كان أبوه داود بن طهمان واخوته كتابا لنصر بن سيار عامل خراسان
للأمويين. وقد نشأ ولده يعقوب كما يقول ابن خلكان: أهل أدب وفضل
وافتنان في صنوف العلم. وأول ما عرف من تشيعه انه كاتب إبراهيم بن
عبد الله بن الحسن حين خرج على المنصور، ثم انتهى الأمر بمقتل إبراهيم وفوز
المنصور. وكان قد بلغ المنصور مكاتبة يعقوب لإبراهيم فقبض على يعقوب
وأودعه سجن المطبق. ولا يذكر ابن خلكان شيئا عن مصير يعقوب طيلة حياة
المنصور سوى قوله: ولما مات
المنصور وقام بالأمر ولده المهدي جعل يعقوب
يتقرب إليه حتى أدناه واعتمد عليه وعلت منزلته عنده وعظم شأنه، حتى خرج
كتابه إلى الدواوين أن أمير المؤمنين المهدي قد آخى يعقوب بن داود فقال في
ذلك سلم الخاسر:
قل للامام الذي جاءت خلافته تهدى إليه بحق غير مردود
نعم القرين على التقوى أعنت به * أخوك في الله يعقوب بن داود
ومن ذلك فإننا لا نعلم هل أن المنصور كان قد أطلقه بعد سجنه أم أنه بقي
سجينا حتى تولى المهدي فاطلقه ثم قربه.
ولما حج المهدي 160 اصطحب معه يعقوب ويقول ابن خلكان: " وفي
سنة احدى وستين تقدم إليه بتوجيه الأمناء إلى العمال في جميع الآفاق ففعل
ذلك، فلم يكن ينفذ شئ من الكتب للمهدي حتى يرد كتاب من يعقوب إلى
أمينه بانفاذه ".
ولم تأت سنة 163 حتى كان يعقوب قد أصبح وزيرا للمهدي مسيطرا على
شؤون الدولة سيطرة كاملة. وعلى حد قول ابن خلكان: " وغلب يعقوب على
أمور المهدي كلها ".
وفي ذلك يقول بشار بن برد:
بني أمية هبوا طال نومكم * ان الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا * خليفة الله بين الزق والعود
ويبدو مما ذكره ابن خلكان أن بشارا لم يكن مبالغا في هذا القول، فابن
خلكان يقول عن المهدي، مشيرا إلى أن يعقوب كان مغريا للمهدي فيما هو
فيه: " ولما عزل - أي الوزير السابق - وولى يعقوب زين له هواه فأنفق الأموال
وأكب على اللذات والشراب وسماع الغناء، واشتغل يعقوب بالتدبير ".
على أن ابن خلكان يناقض نفسه في هذا الموضوع، ويذكر كلاما يدل على
أن يعقوب كان يحاول أن يكبح جماح المهدي في تصرفاته، فهو يقول: " وأراد
المهدي امرا فقال له يعقوب: هذا يا أمير المؤمنين السرف، فقال: ويلك وهل
يحسن السرف الا باهل الشرف ".
ثم يذكر ما يدل على أن يعقوب كان متبرما من تلك الأحوال وأنه كان يؤثر
التخلي عن منصبه: " وكان يعقوب قد ضجر مما كان فيه، وسأل المهدي
الإقالة، وهو يمتنع ".
وروي أن المهدي حج في بعض السنين فمر بميل وعليه كتاب، فوقف
وقرأه فإذا هو:
لله درك يا مهدي من رجل * لولا اتخاذك يعقوب بن داود
فقال لمن معه: اكتب تحته: على رغم أنف الكاتب لهذا وتعسا لجده.
على أنه لم يمض غير قليل حتى أوقع بيعقوب ونكبه كما يأتي. وكما يحدث
لكل نافذ مسيطر من حسد الناس له ووقيعتهم فيه، حدث ذلك ليعقوب،
فقد أكثر أعداؤه القول فيه وذكروا المهدي بتأييده لثورة إبراهيم على أبيه
المنصور، فأراد المهدي أن يختبر حقيقة ما في نفس يعقوب من الميول الشيعية.
وندع هنا لابن خلكان أن يصف لنا ما جرى. قال ابن خلكان: " فدعا - اي
المهدي - به - أي يعقوب - يوما وهو في مجلس فرشه موردة وعليه ثياب موردة
وعلى رأسه جارية على رأسها ثياب موردة وهو مشرف على بستان فيه صنوف
الأوراد، فقال له: يا يعقوب كيف ترى مجلسنا هذا؟ قال: على غاية الحسن
فمتع الله أمير المؤمنين به. فقال له: جميع ما فيه لك، وهذه الجارية لك ليتم
سرورك وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، فدعا له. فقال له المهدي: ولي
إليك حاجة، فقام يعقوب قائما وقال: يا أمير المؤمنين ما هذا القول الا لموجدة
وأنا أستعيذ بالله من سخطك، فقال: أحب أن تضمن لي قضاءها، فقال:
السمع والطاعة، فقال له: والله، فقال له: والله فقال له: والله، فقال له:

290
والله، ثلاثا، فقال له: ضع يدك على رأسي واحلف به، ففعل ذلك، فلما
استوثق منه قال له: هذا فلان بن فلان، رجل من العلوية أحب أن تكفيني
مؤونته وتريحني منه فخذه إليك، فحوله إليه وحول إليه الجارية وما كان في
المجلس والمال، فلشدة سروره بالجارية جعلها في مجلس يقرب منه ليصل
إليها، ووجه فاحضر العلوي فوجده لبيبا فهما، فقال له: ويحك يا يعقوب تلقى
الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد، فقال له يعقوب: يا هذا أفيك
خير؟ فقال: أن فعلت معي خيرا شكرت ودعوت لك، فقال له: خذ هذا
المال وخذ أي طريق شئت، فقال: طريق كذا وكذا آمن لي. فقال له:
امض مصاحبا. وسمعت الجارية الكلام كله، فوجهت مع بعض خدمها به،
وقالت: قل له: هذا فعل الذي آثرته على نفسك بي وهذا جزاؤك منه، فوجه
المهدي فشحن الطريق حتى ظفر بالعلوي وبالمال، ثم وجه إلى يعقوب
فأحضره، فلما رآه قال: ما حال الرجل؟ قال: قد أراحك الله منه، قال:
مات؟ قال: نعم، والله؟ قال: والله. قال: فضع يدك على رأسي، فوضع
يده على رأسه وحلف به، فقال: يا غلام اخرج إلينا من في هذا البيت، ففتح
بابه عن العلوي والمال بعينه، فبقي يعقوب متحيرا، وامتنع الكلام عليه فما
درى ما يقول، فقال له المهدي: لقد حل دمك، ولو آثرت اراقته لأرقته،
ولكن احبسوه في المطبق، فحبسوه، وأمر بان يطوى عنه خبره وعن كل
أحد. وبقي محبوسا طيلة حياة المهدي وجميع أيام الهادي موسى بن المهدي
وخمس سنين وشهورا من أيام هارون الرشيد. ثم ذكر يحيى بن خالد البرمكي
أمره وشفع فيه، فأمر باخراجه فأخرج وقد ذهب بصره، فأحسن إليه
الرشيد، ورد إليه ماله وخيره المقام حيث يريد فاختار مكة فاذن له في ذلك،
فأقام بها حتى مات. "
الشيخ يوسف بن المطهر الحلي والد العلامة الحلي
هو الشيخ سديد الدين يوسف بن الشيخ شرف الدين علي بن المطهر.
كان فاضلا فقيها متبحرا في العلوم العقلية والنقلية. قال ابن داود في رجاله:
كان فقيها محققا مدرسا عظيم الشأن. اه‍ وقال صاحب أمل الآمل: فاضل
فقيه متبحر، نقل ولده العلامة أقواله في كتبه. اه‍.
يوسف رجيب
ولد في النجف سنة 1900 م ودرس فيها واتجه اتجاها أدبيا كاتبا وناقدا
بصيرا وواكب الحركات الوطنية في العراق وساهم فيها بقسط وافر وأصدر سنة
1925 م في النجف الأشرف جريدة أسبوعية باسم (النجف) وفي سنة
1927 م استوطن بغداد وتولى تحرير جريدة النهضة لسان حال حزب النهضة،
ثم عمل في الوظائف الحكومية. توفي سنة 1947 م
السيد يونس الأردبيلي ابن فتح علي
ولد سنة 1293 في أردبيل وتوفي سنة 1377 في مشهد الرضا
درس المقدمات في أردبيل ثم في زنجان ثم سافر إلى النجف الأشرف
فحضر على اليزدي والخراساني وغيرهما. وفي سنة 1346 سافر إلى مدينته
أردبيل ولكنه لم يطل الإقامة فيها فغادرها إلى مشهد الرضا وبعد احداث المشهد
في عهد الشاه رضا بهلوي التي سجن المترجم بسببها، عاد إلى أردبيل وظل فيها
حوالي ثماني سنوات حيث سقط البهلوي فعاد إلى المشهد فبقي هناك مرجعا
من مراجعه حتى وفاته.
ملحق بالمستدركات
هذه مقالات لا تدخل في باب التراجم الذي هو موضوع (أعيان الشيعة
) ومستدركاته، ولكن لها صلة وثقى بهذا الموضوع لذلك جعلناها
ملحقا للمستدركات:
الأمويون والاسلام والعروبة
في الكلمة التي كتبها كاتب في جريدة النهار حرص كل الحرص على التنويه
بعروبة الدولة الأموية وأغرق في ذلك ما شاء له الاغراق.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يبدي فيها الكاتب هذا الرأي فقد
سبق له ان أبداه أكثر من مرة، وعاد هنا يكرره ويشيد به... وليس هو وحده
الذي يقول هذا القول، بل هناك غيره ممن سبقوه اليه ونادوا به مجاهرين
مفاخرين... فما هي الحقيقة في ذلك؟
نحن نريد أولا ان نسلم - جدلا - بصحة هذا القول، ولكننا نريد ان
نسأل هذه الجماعة هل ان النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم المؤسس الأول للدولة انما قصد
بتأسيسها ان يحل محل الحكمين البيزنطي والساساني الاستبداديين الظالمين
المتحكمين بشعبيهما تحكما فرديا لا يبالي بان يستبيح الدماء والأموال
والكرامات، ولا يهمه استفحال الفقر بالفقراء واستشراء الغني بالأغنياء، وتميز
فئة محدودة بكل الخيرات، وتميز جمهور الشعب بالبؤس والفاقة والذل، هل
كان قصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان يحل محل هذين الحكمين حكم عربي فيه
المفاسد نفسها، ولا يبرره الا انه حكم عربي؟.
أم ان مقصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برسالته الاسلامية وتأسيسه للدولة
الجديدة أن تكون ثورة عالمية على فساد الحكام والتمييز بين الطبقات، وتطبيق
القانون على الناس جميعا، واحلال الكفاءة والاخلاص محل الأنساب، وتوزيع
الثروات على الناس توزيعا عادلا، واحلال الشورى محل الاستبداد وإلغاء
التمييز العنصري إلى غير ذلك مما ليس هذا مجال تعداده. ان كانت رسالة
محمد صلى الله عليه وآله وسلم تستهدف الأمر الأول، فيحق لنا حينئذ ان نباهي بالعروبة
المزعومة للدولة الأموية... واما إذا كانت تستهدف الأمر الثاني، فان علينا ان
نخجل كل الخجل من المصير الذي صارت اليه الشعوب كلها بما فيها الشعب
العربي من الانقلاب على الحكم الذي هدفت اليه رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن ما هي حقيقة عروبة الدولة الأموية؟ أ صحيح انها استهدفت مصلحة العرب؟
الاحداث تجيب
لنترك الاحداث تجيبنا على ذلك فنحن نعلم أن العرب قبل الاسلام كانوا
منقسمين على أنفسهم قبائل، لا يرى الواحد منهم من فخر له الا بقبيلته
وحدها، ولا شأن له ببقية العرب، وان انتماءه انما هو لهذه القبيلة، وانه
يستبيح دماء أي فرد من قبيلة أخرى إذا حاولت منافسة قبيلته، انهم لا يهمهم
الا اعزاز قبائلهم لا اعزاز أمتهم. ان عمرو بن كلثوم صاحب النونية
الافتخارية الشهيرة كان يباهي القبائل الأخرى ويتحداها بقبيلته، فهو حين
يقول مثلا:
إذا بلغ الفطام لنا صبي * تخر له الجبابر ساجدينا
أو يقول:
ملأنا البر حتى ضاق عنا * وظهر البحر نملؤه سفينا

291
انما يقصد بني تغلب وحدهم ولا علاقة له بالعرب، وهو يريد ان تخر
جبابرة العرب ساجدة امام الصبي التغلبي المفطوم؟
وهو يريد ان يملأ البر والبحر لا ليقاتل به أعداء العرب، بل ليقاتل به
العرب...
هذه هي الذهنية الجاهلية التي جاء الاسلام ليقضي عليها، واستطاع
ذلك، وصهر العرب كلهم في أمة واحدة أرادها ان تحمل الاسلام إلى العالم كله
مطبقة فيه مفهومه الجديد للحكم، لا ان يطبق على الشعوب حكم القياصرة
والأكاسرة نفسه، وان يحل محل ذلك الحكم بكل شروره ومفاسده...
فما ذا كانت نتيجة الحكم الذي يسميه من يسميه بالحكم العربي ويشيدون
بتعصبه للعرب وحدهم؟...
كانت النتيجة ان هذا الحكم عاد بالعرب إلى جاهليتهم الأولى من إثارة
النعرات القبلية وتحريش القبائل بعضها ببعض لتنشغل بصراعاتها فيما بينها عن
التبصر فيما يمارسه الحكم من اضطهاد وبما يتحكم فيه من فساد، وقد نجح
الحكم في ذلك إلى أبعد الحدود.
لقد كان يصنف الناس إلى قبائل فيقدم أحدها ويغدق عليها نعمه ليثير
احقاد القبيلة الأخرى لتنسى كل شئ ولا تفكر الا كيف تتقرب من الحكم
لتغيظ القبيلة المنافسة.
وقد استعمل الحكم في ذلك مختلف الوسائل فكان يحرش بين رؤساء
القبائل ويحرش بين شعراء القبائل، فيثير بذلك الفتن بين القبائل وتعود إلى
ماضيها الجاهلي البغيض.
وكان الحكام يستغلون التقاء وفود القبائل في مجالسهم فيحرضونها بعضها
على بعض، ويدعون خطباء كل قبيلة إلى التفاخر والتباهي حين تفد إليهم
وفودهم. لذلك كانت كل قبيلة تحرص على أن يكون في وفدها من يجيد
المقارعة والمفاخرة.
فقد التقى وفد نزار ووفد اليمن في مجلس معاوية فما زال بهم حتى قام
خطباء نزار وذهبوا في خطبهم في التفاخر كل مذهب فقام صبرة بن شيمان سيد
الأزد واختصر الامر بان قال: (انا حي فعال ولسنا حي مقال ونحن نبلغ
بفعالنا أكثر من مقال غيرنا).
وانفض المجلس بعد ان بلغ الحكم غايته من إثارة الأحقاد بين القبيلتين
الكبيرتين.
وفي يوم آخر كانت عنده مجموعة من رجال القبائل فأراد ان يثير المنافسة
بينها جميعها دفعة واحدة فقال:
إذا جاءت بنو هاشم بقديمها وحديثها، وجاءت بنو أمية بأحلامها
وسياستها وبنو أسد بن عبد العزى برفادتها ودياتها، وبنو عبد الدار بحجابها
ولوائها وبنو مخزوم بافعالها وأموالها، وبنو تيم بصديقها وجوادها وبنو عدي
بفاروقها ومتفكرها وبنو سهم بأرائها ودهائها، وبنو جمح بشرفها وبنو عامر بن
لؤي بفارسها وقريعها، فمن ذا يجلي في مضمارها ويجري إلى غايتها؟...
ولم يكن شئ أكثر تحريشا بين القبائل وإثارة أحقادها ودعوتها إلى التفاخر
والتنابذ أكثر من هذا القول ينطق به رأس الحكم...
وكذلك فعل عبد الملك بن مروان حين دخل عليه عياش بن الزبرقان
وعنده روح بن زنباع فقال عبد الملك: يا عياش، أ ما ترى هذا اليماني يفخر
بملوك اليمن؟...
وكان هذا القول كافيا لان يثير ما اثار في القبيلتين.
وكذلك فعل هشام بن عبد الملك حين حرش بين الأبرش الكلبي
وخالد بن صفوان.
وفيما ذكر في هذا الموضوع ان معاوية وابنه يزيد بذلوا لقضاعة أموالا
جسيمة لتنتفي من اليمن وتنتسب إلى معد فاستجاب نفر من رؤسائها لذلك،
ولكن آخرين رفضوا هذا الانتساب وقاموا بمظاهرة صاحبة كان رجالها يرتجزون
وهم يقتحمون المسجد:
يا أيها الداعي ادعنا وبشر * وكن قضاعيا ولا تنزر
نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر * قضاعة بن مالك بن حمير
النسب المعروف غير المنكر * من قال قولا غير ذا يبصر
وهكذا وقعت الفتنة في القبيلة الواحدة، ثم امتدت إلى أوسع من ذلك،
بين القبيلتين، ثم إلى العبث بأحاديث الرسول فوضعت نزار حديثا ينسب فيه
الرسول قضاعة إلى معد، بل يجعله بكر ولده ووضع أهل اليمن أحاديث
تنقض هذا القول وتؤيد نسبة قضاعة إلى حمير (1).
أرأيت كيف نجحت اللعبة وبما ذا انشغل الشعب؟...
وهناك قصيدة الوليد بن يزيد التي قالها في تحدي اليمن، مما أثار الفتنة بين
النزاريين واليمنيين... وهذا الذي نذكره غيض من فيض، وليس هو كل ما
جرى، بل هو نقطة من بحر ما جرى حتى لقد أدى الامر إلى أن تكون
النزاعات القبلية هي شغل الناس الشاغل اليومي، ولعل ما يصور الامر على
حقيقته ما رواه الجاحظ في (البيان والتبيان) من أنه: ما كان رجلان من
قبيلتين يلتقيان حتى يتذكرا أيام قبيلتيهما في الجاهلية ويتفاخرا. وهذا ما رمت
اليه دولة (القومية العربية) من أشغال الناس عنها بنزاعاتهم. القتال الدموي
على أن الامر تعدى التشاحن باللسان واستثارة الضغائن في النفوس، إلى
القتال الدموي بين القبائل، وهو النتيجة الطبيعية لشحن العقول بكل ما
شحنت به، فرأينا مثلا الوقائع الدامية بين قبيلتي قيس وتغلب في بلاد
الجزيرة. وبعد ان كان المسجد مكان تلاقي الناس على المحبة والوئام أصبح
مكان تلاقيهم على البغضاء والقتال كهذا الذي جرى في مسجد البصرة بين
مضر وربيعة، وبعد ان كان الهتاف فيه: حي على الفلاح، صار
يا لتميم... واقتحم بنو تميم في احدى المرات مسجد البصرة على مسعود بن
عمر وأنزلوه عن المنبر وقتلوه.
وعمت الفتن القبلية جميع الارجاء وحملها ولاة دولة (القومية العربية)
معهم إلى ما تولوه من بلاد خارج الأرض العربية، لمن نزلها هناك من القبائل



(1) ليس هذا الحادث وحده الذي وضعت فيه الأحاديث النوبية، فان أحد كبار رواة الحديث
المشهورين جعل الأحاديث الرسول طرفا في النزاع القبلي، فأخذ يروي: الايمان يمان، آل لخم
وجذام صلوات الله عليه جذاب يقاتلون الكفار على رؤوس الشعاف وينصرون الله ورسوله
(الانباه ص 104)
292
فكان والي خراسان الجراح الحكمي يصرخ على منبر المسجد (1): والله لرجل
من قومي أحب إلي من مائة غيرهم، يقول هذا القول على مسمع من
ليسوا قومه فتثور حزازاتهم وأضغانهم.
وعمر بن هبيرة والي العراق كان من دواعي فخره انه لم يعرض له أمر رأى
فيه منفعة (لقومه) الا فعله.
وخالد بن عبد الله القسري كان أشد خلق الله عصبية على نزار (4) وقد
اتهمته المضرية بتعمد ايذاء شعراء مضر وحبسهم (5) وأخوه أسد بن عبد الله والي
خراسان كان ينافس أخاه خالدا في عصبيته على النزارية (6) وجاء بعده واليا
عليها نصر بن سيار فعمد إلى فعل عكس ما فعله سلفه فاظهر العصبية لمضر،
لتزداد الفتنة تأججا فالحكم تارة مع هؤلاء وتارة مع خصومهم.
وعبيدة بن عبد الرحمان السلمي والي إفريقيا أضر بمن هناك من الكلبيين
وتعصب عليهم (8).
وكما قلنا فقد أدى ذلك إلى الاقتتال الدموي حتى بين القبائل العربية خارج
الأرض العربية كهذا القتال الطويل في خراسان الذي قاده عبد الله بن خازم
السلمي في الحرب بين قبيلته وبين قبائل ربيعة والأزد والذي استطاع بعده ان
يستأثر بالأمور في خراسان إلى حين (9) فتساءلت قبيلة بكر: علام يأكل هؤلاء
خراسان دوننا؟ وهكذا فالتزاحم لا على المآثر والمكارم، ولا على نشر العدل،
بل على (الاكل) (10).
ولم تقتصر فتنة خراسان هذه على عرب خراسان بل تردد صداها وامتد
اثرها إلى العراق حيث حرق مالك بن مسمع دور تميم في البصرة ردا على مذابح
ابن خازم في قبيلة ربيعة في هرات (11) وعبد الله بن خازم نفسه لم يقصر في
خراسان بالايقاع في بني تميم حين حصرهم في حصن (فرتنا) وقتل فرسانهم
وابطالهم مما تردد صداه في تميم في العراق (12).
وكذلك لما هاجت العصبية بخراسان بين اليمنية والمضرية أرسلت يمانية
الشام إلى خراسان نجدة عسكرية لنصرة قومهم وفي بلخ وقعت
معركة البرقان بين المضرية وعلى رأسهم نصر بن سيار وبين الأزد وبكر وعليهما
عمرو بن مسلم (15) ولما ثارت الفتنة القبلية في خراسان بين نصر بن سيار
والكرماني اجتمعت اليمانية تحت لواء الكرماني واجتمعت مضر إلى نصر.
الوحشية والفظائع
على أن أخطر ما أنتجته سياسة دولة (القومية العربية) في اثارتها النزاع بين
قبائل العرب إلى حد الحروب الدامية، هو ان هذه الحروب فاقت بشراستها
وفظائعها حروب القبائل في الجاهلية بل أدت هذه الحروب إلى ما يصم التاريخ
العربي بوصمة العار. فقد كانت الحروب القبلية في الجاهلية انما يثيرها الفقر
وطلب المغانم، لذلك كان الظافرون فيها يحرصون على استبقاء الاسرى
لمفاداتهم بالمال. اما في حروب دولة (القومية العربية) فقد عادت الحروب
القبلية حروب افناء وابادة لا حروب حصول على الاسرى، وارتكب فيها من
الفظائع ما يخجل الإنسانية كلها لا العرب وحدهم، فضلا عن قتل الاسرى
وما فيه من شناعة وعار، فقد جاءت هذه الحروب بما لم يعرفه العرب في
تاريخهم من وحشية وفظاعة، لقد كانت حروب القبائل الجاهلية تتسم دائما
بطابع من المروءة العربية الأصيلة التي كانت هي ميزة العربي الأولى لا سيما مع
النساء.
اما الحروب القبلية التي اثارتها دولة (القومية العربية) فقد كان بعض
أفعالها بقر بطون النساء الحوامل. ففي وقعة (ماكسين) وحدها بقرت قبيلة
قيس بطون ألفين من بطون نساء تغلب (16) وافتخر بذلك شاعرهم نفيع بن
صفار المحاربي فقال:
بقرنا منهم ألفي بقير * فلم نترك لحاملة جنينا
وفي معركة الثرثار (17) الأولى بين جموع بني سليم وجموع ربيعة التي انهزم
فيها بنو سليم، بقرت ربيعة بطون ثلاثين امرأة من بني سليم.
ولما التقت تغلب وقيس يوم الكحيل وانهزمت تغلب وراحت فلولها تحاول
عبور دجلة، غرق القيسيون من التغلبيين بشرا عظيما في النهر وقتلوا من
وقع في أيديهم أسيرا وبقروا بطون نسائهم، وفي معارك ابن خازم مع ربيعة في
خراسان التي مرت الإشارة إليها وانتصر فيها ابن خازم، ظل ابن خازم يقتل
كل من وقع في يده من الاسرى حتى غابت الشمس.
والظاهرة الملفتة للنظر انه في المدن المتأثرة بسياسة دولة (القومية العربية)
كانت الفتن تعظم وتشتد وتمتد ففي البصرة مثلا حيث كان التجمع القبلي
الكبير: مضر وربيعة والأزد كانت الفتن بين القبائل متواصلة لا تهدأ ولا
تستقر، في حين ان الكوفة غير المتأثرة بسياسة دولة (القومية العربية)، كانت
قبائلها على كثرتها وتنوع أصولها متماسكة فلم يظهر فيها نزعات قبلية ذات شأن
كالتي شهدتها البصرة. والعجيب في أمر هذه القبائل المتنازعة المتقاتلة انها في
أعماق نفوسها كانت تحس ان الدولة هي التي تؤرث البغضاء بينها فتدفعها إلى
الاحتراب والتعادي. وبدافع من هذا الإحساس رأينا هذه القبائل عندما كانت
تلوح لها أول فرصة للثورة على هذه الدولة تنسى كل ما كان بينها من اشتجار
وتهاجي واقتتال، وتهب كلها يمنيها ومضريها وربيعيها وتجتمع على الثورة على
دولة (القومية العربية) كما حدث في الثورة على ممثل السلطة الحجاج بن يوسف
التي فرضت الظروف ان يقودها عبد الرحمان بن الأشعث سنة 81. فسمعنا
شاعر تلك الثورة أعشى همدان ينطق باسم العرب جميعا، باسم القبائل الثائرة



(1) الطبري.
(2) سنرى ما يقصد بكلمة (قومي).
(3) الأغاني.
(4) الطبري.
(5) طبقات ابن اسلام.
(6) الطبري.
(7) الطبري.
(8) أنساب الأشراف.
(9) فتوح البلدان.
(10) ن. م.
(11) الطبري.
(12) ن. م.
(13) ن. م.
(14) هي اليوم تنبع أفغانستان
(15) الطبري.
(16) أنساب الأشراف والأغاني وماكسين أو ماكس من قرى الخابور قرب رأس العين.
(17) الثرثار: نهر ينبغ من هرماس نصيبين ويفرغ في دجلة بين الكحيل ورأس العين.
293
كلها معددا لها قبيلة قبيلة قائلا:
سار بجمع كالدبى من قحطان * ومن معد قد أتى ابن عدنان
بجحفل شديد الارنان * فقل لحجاج ولي الشيطان
يثبت لجمعي مذحج وهمدان * والحي من بكر وقيس عيلان
وكذلك في ثورة الحارث بن سريج في خراسان سنة 116 حيث
اجتمعت تحت قيادته مضر واليمن والأزد * وتميم وهي القبائل المتنافرة المتنازعة،
ولم يكن أعجب من أن تمشي اليمن وراء زعيم مضري.
السياسة التطبيقية
وكانت السياسة التطبيقية بتأريث العداوة بين القبائل هي خطة الحكم
فعبد الملك بن مروان مثلا بعد ان قرب اليمانية وأغدق عليهم ما أغدق، فاثار
العداء بينهم وبين القيسية وتحققت أهدافه، عاد يقرب القيسية ويحلهم محل
اليمانية لتزداد الأحقاد ويتأصل النزاع.
ومثل هذا فعل من تقدموه ومن تأخروا عنه. فمنهج الحكم قبلي بحت لا
عربي قومي، فلا يقدم العربي لأنه عربي، بل تقدم القبيلة كلها أو تجفى كلها
ليظل الصراع مشتعلا بين القبائل.
وهكذا تقسمت الأمة العربية من جديد إلى قبائل متنازعة متخاصمة، بعد
ان صهرها الحكم العربي الصحيح حكم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم في وحدة
متراصة متكاتفة تبرز العربي عربيا لا يعلن انتماءه الا للعرب، لا إلى قبيلة من
القبائل، إلى العرب الذين عول عليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حمل رسالته العالمية إلى
الكون كله.
وكان أعظم أدوات الحكم (العربي) الذي يباهي به الكاتب لتمزيق
الصف العربي هم الشعراء الذين كان يغريهم الحكام بالعودة إلى التفاخر بالقبيلة
لعلمهم باثر الشعر في ذلك. وكان الرسول العربي يعرف ما يفعله شعر الشعراء
في اضرام التعادى القبلي لذلك قال في بعض ما قاله: (من قال في الاسلام
هجاء مقذعا فلسانه هد). وعماد الهجاء المقذع تفضيل الشاعر احدى القبائل
على القبيلة المهجوة.
وهكذا انفصمت عروة القومية العربية، وعاد (قوم) الفرد لا أمته، بل
قبيلته فسمعنا مثلا الفرزدق يقول:
تميم هم (قومي) فلا تعدلنهم * بحي إذا اعتز الأمور كبيرها
وسمعنا عبد الله بن خليفة الطائي يقول:
فلا يبعدن (قومي) وان كنت غائبا * وكنت المضاع فيهم والمكفرا
وسمعنا الفرزدق يكرر القول:
انا الضامن الراعي عليهم وانما * يدافع عن أحسابهم انا أو مثلي
إذا ما رضوا مني إذا كنت ضامنا * باحساب (قومي) في الجبال وفي السهل
وسمعنا جريرا يقول، وهوو ان لم يذكر كلمة (قومي)، فيكفي انه يعلن
ان (الأعداء) في نظره هم أعداء قبيلته لا أعداء العرب:
ألم أك نارا يصطليها (عدوكم) * وحرزا لما الجاتم من ورائيا
كما أعلن الفرزدق بأن الأحساب التي يدافع عنها هي أحساب القبيلة لا
أحساب العرب.
وإذا كان جرير لم يذكر في البيت المتقدم كلمة (قومي) فقد ذكرها في بيت
آخر هو:
واني لمن (قوم) بهم تتقى العدى * ورأب الثاى والجانب المتخوف
وهكذا استحالت الرابطة بين العرب من الرابطة القومية التي تعني
(بالقوم) العرب جميعهم، إلى الرابطة القبلية التي تعني (بالقوم) القبيلة.
وكثر ذلك في الشعر العربي. فقال الطرماح:
لم يفتنا بالوتر (قوم) * وللضيم رجال يرضون بالاغماض
وقال أيضا مفتخرا بمحاماة مذحج والأزد عن أهل العراق ومشاركتهم في
قتل قتيبة بن مسلم:
(قوم) هم قتلوا قتيبة عنوة * والخيل جانحة عليها العثير
بالمرج مرج الصين حيث تبينت * مضر العراق من الأعز الأكبر
وقال عبد الله بن عمر العبلي:
أولئك (قومي) تداعت بهم * نوائب من زمن متعس
وقال عبد الله بن قيس الرقيات:
حبذا العيش حين (قومي) جميع * لم تفرق أمورها الأهواء
وهكذا نسي العرب انهم عرب تربطهم أمة واحدة.
الهوان
وقد أدى تحريش السلطة بين القبائل إلى أن يستهين العرب بعروبتهم وان
يلجأوا إلى الأمم الأخرى ليفاخروا بانتسابهم إليها، فلما فاخرت القحطانية
بملوكها القدامى وبما كان لهم من سلطان على القبائل المعدية، ادعت العدنانية
ان الفرس الذين دانت لهم بلاد اليمن قديما يرجعون في نسبهم إلى جدهم الذي
ينتمون اليه إذ هم من ولد إسحاق بن إبراهيم. فقال إسحاق بن سويد
العدوي:
إذا افتخرت قحطان يوما بسؤدد * اتى فخرنا أعلى عليها واسودا
ملكنا هم بدأ بإسحاق عمنا * وكانوا لنا عونا على الدهر أعبدا
ويجمعنا والغر أبناء فارس * أب لا نبالي بعده من تفردا
وهكذا عاد العرب في ظل دولة (القومية العربية) يفاخرون بأن العرب
كانوا عبيدا لغيرهم، ويتباهون لا بالعروبة وانسابها، بل بصلة النسب التي
زعموا بأنها تربطهم بالفرس (الغر). والدولة مرتاحة لذلك ما دام فيه شاغل
للشعب عن التفكير في تدبر أموره، وما دامت هي المسبب لكل ذلك.
وقد بلغ الهوان العربي أقصاه، إذ تعدى الامر الافتخار بالفرس (الغر)
إلى التفاخر باليهود (الغر). في طل دولة (القومية العربية) فسمعنا جريرا
يقول:
أبونا أبو إسحاق يجمع بيننا * أب كان مهديا نبيا مطهرا
ومنا سليمان النبي الذي دعا * فأعطي بنيانا وملكا مسخرا
وموسى وعيسى والذي خر ساجدا * فأنبت زرعا دمع عينيه اخضرا
ويعقوب منا زاده الله حكمة * وكان ابن يعقوب أمينا مصورا
فيجمعنا و (الغر) أبناء سارة * أب لا نبالي بعده من تعذرا
ثم عاد الامر مهزلة من المهازل كانت تضحك لها الدولة بملء ء أشداقها،
ان العدنانية أرادوا ان يزيدوا إلى فخارهم بالفرس فخارا بأمم أخرى فجمعوا
إلى ارتباط نسبهم بالفرس ارتباطه بالأكراد والهنود والبربر والديلم (1). ولما

294
رأى القحطانية ذلك جاروهم في التنصل من النسب العربي فادعوا اتصال
نسبهم باليونان، واختصوا اليونان، لأن العدنانية انتسبوا إلى الفرس أعداء
اليونان، فزعموا أن يونان بن عابر هو أخو قحطان بن عابر (1). ولا دعاء
النزارية قرابتهم بالديلم ادعى القحطانية قرابتهم بالترك (1).
وقد أدى هذا الحال إلى أن يصبح العرب في ظل دولة (القومية العربية)
مهزأة الأمم ومضحكتها فقال أحد شعراء الأعاجم يخاطب العرب ساخرا
منهم:
زعمتم بان الهند أولاد خندف * وبينكم قربى وبين البرابر
وديلم من نسل بن ضبة باسل * وبرجان من أولاد عمرو بن عامر
فقد صار كل الناس أولاد واحد * وصاروا سواء في أصول العناصر (3)
لمن السيادة
يقول الكاتب فيما يقول: (حيث العرب من كل قبيلة وفخذ ودين هم
السادة وغير العرب ولو هم مسلمون من الموالي).
ونقول له: كلا لم يكن الامر كذلك فالسيادة والسلطة والحكم لفئة نفعية
تحسن استعباد الناس وسفك دمائهم ونهب أموالهم، اما بقية العرب فللهوان
والذل والقتل والنهب ولا تشفع لهم عروبتهم ولا نسبهم العدناني أو القحطاني
العريق.
ونعرض له واحدا ممن كانت لهم السيادة. فقد كان سمرة بن جندب واليا
على البصرة بالوكالة، فلما جاء الوالي الأصيل كان سمرة قد قتل في غيابه ثمانية
آلاف رجل، وكان لا بد له من أن يقدم (تقريرا) شفهيا للوالي الأصيل فذكر
له فيما ذكر انه قتل في هذه المدة القصيرة ثمانية آلاف رجل، فكان كل ما علق
به الأصيل - وهو زياد بن سمية - ان سأله هل تخاف أن تكون قد قتلت أحدا
بريئا؟ فأجاب سمرة: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت... وانتهى التحقيق
واقفل المحضر بهذا الجواب الموجز.
ثمانية آلاف عربي يقتلهم هذا الوالي الذي كانت له (السيادة) في دولة
(القومية العربية)، يقتلهم بكلمة واحدة يقولها...
فأين (سيادة) هؤلاء الآلاف الثمانية الذين هم من (كل قبيلة وفخذ)
على حد تعبير الكاتب؟...
وإذا كان هذا ما فعله وال واحد كان واليا (بالوكالة) لمدة قصيرة فلك ان
تقدر ما فعله الولاة الاصلاء في المدد الطويلة وهذا الوالي بالوكالة خرج يوما من
بيته إلى (مكتبة) بموكبه الرهيب، فلما كان عند دور بني أسد خرج رجل من
بعض أزقتهم ففجأ أوائل الخيل فحمل عليه رجل من القوم فأوجره الحربة ثم
مضت الخيل، فاتى عليه سمرة بن جندب وهو متشحط بدمه، فقال ما هذا؟
قيل: أصابته أوائل خيل الأمير، قال: إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا
أسنتنا...
العرب سكان البصرة (من كل قبيلة وفخذ) وفيهم بنو أسد: عليهم إذا
سمعوا ان سمرة بن جندب قد ركب وسار بموكبه عليهم ان يخلوا الشوارع
وينخذلوا في بيوتهم حتى يمر الموكب، والا أوجرتهم الحراب.
ومن سوء حظ العرب سكان البصرة (من كل قبيلة وفخذ)، انه لم يكن في
البصرة يومذاك (إذاعة) تعلن ساعة الصفر لموكب الأمير ليتقي أهلها الأسنة.
هذه هي (السيادة) التي كانت للعرب (من كل قبيلة وفخذ) في حكم
دولة (القومية العربية). ونحن نسأل الكاتب - وهو اليساري العتيق - هل
جعلت روسيا الشيوعية السيادة للروس وحدهم في الاتحاد السوفيتي، أم
جعلتها - وهي صاحبة الدعوة العالمية - لكل من آمن بالدعوة من سكان
الاتحاد؟
ألم يتول أعلى منصب فيها في وقت من الأوقات رجل ارمني كان مؤهله انه
مؤمن بالدعوة مخلص لها؟
فلماذا أذن تتبجح بما تتبجح به، في حين ان الأصل في قيام الدولة العربية
كان الدعوة الاسلامية العالمية؟
ان رسول الدعوة ومنشئ الدولة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل في قمم
السلطة ثلاثة من غير العرب، كانت مؤهلاتهم هي إيمانهم بالدعوة و اخلاصهم
لها. لقد كان سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي من أركان الدولة
حاملة الرسالة الاسلامية، هذا والدولة لم تكن تعدت بعد حدود الجزيرة
العربية، فكيف بها لو تعدتها فإلى أي حد كان يمكن أن يكون عدد المشاركين
من غير العرب في بناء الدولة والمساهمين في تسيير دفتها؟؟ يتبجح الكاتب بما
صار اليه امر الموالي... ونحن نريد ان نعرض للقراء بعض ما كان عليه امر
الموالي الذين آمنوا بالدعوة العالمية الاسلامية، لنرى ان كان القراء يشاركون
الكاتب تبجحه.
كان من خلفاء دولة القومية العربية خليفة واحد يستحق بان يحمل
لقب (القومي العربي) بكل ما تحمله هذه القومية من حب وتسامح وعدل
وتكفل بالتزام الدعوة الاسلامية العالمية. ذاك هو عمر بن عبد العزيز، ففي
أول عهده بالحكم ارسل اليه والي خراسان الجراح بن عبد الله وفدا من قبله تملقا
له، وكان الوفد مؤلفا من عربيين ومن مولى يصفه الطبري بأنه كان فاضلا في
دينه، فتكلم العربيان عند عمر والمولى ساكت، فقال له عمر: أ ما أنت من
الوفد؟ قال: بلى. قال فما يمنعك من الكلام؟ قال: يا أمير المؤمنين،
عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق... إلى أن يقول: أميرنا
عصبي جاف يقوم على منبرنا فيقول: والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة
من غيرهم، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج قد عمل بالظلم
والعدوان...
هال عمر بن عبد العزيز ما سمع، وأكبر هذا المولى (عضو الوفد) على
صراحته وجرأته وتقريره الحقيقة الفظيعة، فقال له: إذن مثلك فليوفد...
ما ذا يعني هذا القول؟ انه يعني ان عشرين ألف رجل من الموالي يجندون في
الجيش ويساقون إلى الغزو دون ان تدفع لهم دولة (القومية العربية) درهما
واحدا، وفوق ذلك فإنها لا تقدم لهم الطعام، بل إن عليهم ان يقاتلوا،
وعليهم في الوقت نفسه ان يتكلفوا تدبير امر طعامهم...
عشرون ألفا في منطقة وال واحد، فإذا حسبت عدد الولاة فكم من



(1) التنبيه والاشراف ص 100.
(2) مروج الذهب.
(3) العقد الفريد 3 / 407.
295
عشرين ألف آخرين ستجد؟...
هذا مثال واحد عن معاملة دولة (القومية العربية) لغير العرب الذين
تحكمهم وهذه هي المعاملة التي يتبجح بها الكاتب.
ولن نتعرض إلى ذكر المهانة اليومية التي كان يعيش فيها الموالي، مثل انهم
كانوا ينادونهم بألقابهم لا بأسمائهم كما ينادون الرقيق، وإذا أرادوا الزواج فلم
يكن بد من الرجوع إلى (السادة) الذين كان لهم حق المعارضة في تلك
العقود، وكان مفروضا عليهم وحدهم ضريبة الرؤوس. ويفهم مما ذكره
الطبري انهم في حال الحرب لم يكن مسموحا لهم ان يكون منهم أحد في صفوف
الفرسان، بل كانوا دائما من المشاة...
ما رأى الكاتب - وهو اليساري العتيق كما قلنا - ما رأيه لو أن الروس في
حروبهم للنازية ساقوا شبان القوميات التابعة لهم إلى حرب الألمان دون ان
يدفعوا لهم (روبلا) واحدا وأجبروهم على أن يتكفلوا بأنفسهم اطعام أنفسهم
خلال القتال؟؟
ثم ما رأيه لو أن الروس اعتبروا أبناء تلك القوميات من (الموالي) مهما
أخلصوا في شيوعيتهم، واعتبروا أنفسهم وحدهم السادة؟؟.
وما رأيه حين فعلوا العكس فاعتبروا كل شيوعي من السادة لو كان غير
روسي، فسلموا حكم القوميات الأخرى للشيوعيين منها؟.
ثم ما رأيه لو أن الذي خلف لينين في حكم الاتحاد السوفيتي كان من أعنف
من قاوموا ثورة أكتوبر وقاوموا لينين بالذات ثم لم يترك من ثورة أكتوبر الا اسمها
وعمد إلى تهديم كل ما اقامته الثورة من قواعد ومنها اعتبار كل الشيوعيين من
(السادة) لا من (الموالي) مهما اختلفت جنسياتهم؟...
المتعصبون الحرفيون
يسمي الكاتب الذين قاوموا الانقلاب على شعارات وتشريعات الدولة
العربية حاملة الدعوة الاسلامية العالمية، يسميهم (رجال الدين المتعصبين
والحرفيين والجامدين).
ونحن نسأله وهو كما قلنا ونكرر القول للمرة الثالثة اليساري العتيق ألم
يكن من أهدافه هو نفسه ان يثور على النظام القائم، مع أن هذا النظام له
دستوره وقوانينه وأنظمته التي يتساوى فيها الناس جميعا، ولم يكن فيه (المحافظ
بالوكالة) يأمر بقتل ثمانية آلاف رجل بلا محاكمة ولم يكن هذا النظام يسوق إلى
الجندية والحرب عشرات الألوف دون ان يدفع لهم ليرة واحدة ودون ان يقدم
لهم الطعام، وكل عيوب هذا النظام انه يختلف مع الكاتب في النظرة
الاقتصادية. ومع ذلك كان الكاتب يدعو للثورة على هذا النظام ويعمل لهذه
الثورة ولا يرى نفسه (من رجال الدين المتعصبين والحرفيين والجامدين).
وهل من هؤلاء حتى الشعراء المداحون المتملقون الذين لم يستطيعوا مع
ذلك ان يسكتوا على ما ينال الشعب من حرمان واهتضام، فنرى مثلا الراعي
النميري وهو ممن لا يتهمون في ولائهم لدولة (القومية العربية)، نراه يضطر
للخروج على التملق، ليشكوا ما ينال الرعية من جباة الضرائب الذين ينزلون
بها كل صنوف الجور:
قطعوا اليمامة يطردون كأنهم * قوم أصابوا ظالمين قتيلا
واتاهم يحيى فشد عليهم * عقدا يراه المسلمون ثقيلا
كتبا تركن غنيهم ذا عيلة بعد الغنى وفقيرهم مهزولا
ثم يكرز وصف ما ينزل بالشعب في قصيدة أخرى:
اما الفقير الذي كانت حلوبته * رفق العيال فلم يترك له سبد
واختل ذو المال والمثرون قد بقيت * على التلاتل من أموالهم عقد (1)
فهل هذا الشاعر الذي يعطينا صورة عن حال الشعب الهضيم في ظل دولة
(القومية العربية) هو الاخر من (رجال الدين المتعصبين والحرفيين
والجامدين).
وهل بلغت الحال بالشعب في عصر الكاتب إلى حال الشعب في عهد
الراعي النميري التي رأينا بعض وصفها في شعره حين كان يدعو الأول إلى
الثورة على النظام؟؟.
الشيعة يحمون العالم الاسلامي
يردون البيزنطيين عن بلاد الشام
ويذودونهم عن القدس
إذا كان العاهل البيزنطي (هرقل) قد وقف بعد معركة اليرموك وما
تلاها - إذا كان قد وقف فوق جبال طوروس وتطلع إلى سوريا التي تمزقت فيها
جيوشه، وتنهد تنهد الاسيف وقال: وداعا يا سوريا، وداعا لا لقاء بعده...
إذا كان هرقل قد ايس من العودة إلى سوريا فان الذين تلوه بعد ذلك
بقرون لم ييأسوا منها وظلوا متشبثين بها لا سيما بعد ان انفرط نظام الدولة
الكبرى، دولة أعدائهم، وعادت دولا مقسمة تتنازع وتتقاتل، في حين كانوا
هم قد تقووا واستفحل امر بعضهم استفحالا يرى فيه نفسه جديرا بالعودة إلى
سوريا تحت رايات الظفر المؤزر.
فقد جاء قسطنطين ليكابينوس، ثم تلاه الاخوان برداس فوكاس أولا ثم
نقفور فوكاس، وكل من هؤلاء الثلاثة كان يجمع إلى المطامح البعيدة، القوة
التي يرتكز عليها لتحقيق هذه المطامح، وفي رأس هذه المطامح: أعظمها وهو
العودة إلى بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) واسترداد السيادة
البيزنطية عليها.
ولكن تشاء المقادير ان تخلق من ذلك التمزق العربي تكتلين، يتماسك كل
منهما تماسكا محكما، ويقود كلا منهما قائد يجمع إلى الاخلاص، الكفاءة التي
تعوز مواجهة المطامح البيزنطية.
فقد قامت في شمال إفريقيا دولة الفاطميين، وقضت هناك على الكيانات
الانفصالية وجمعتها كلها في كيان واحد متلاحم. كما قامت في الوقت نفسه في
شمال بلاد الشام دولة الحمدانيين (2)، وضمت إليها ما استطاعت ضمه من
الأشلاء ومضت تشق طريقها شجاعة طماحة.
فوقت كان يتعاقب على حكم بيزنطية من عددناهم من قبل، ووقت كان
قسطنطين ليكابينوس يعربد مهددا متوعدا، كان يقوم على رأس الدولة
الحمدانية: سيف الدولة فلا ينتظر تقدم عدوه اليه، بل يتحداه في عقر داره.
ثم يأتي برداس فوكاس ويقود الجيوش مقتحما الأرض العربية على سيف
الدولة، ويصمد له سيف الدولة فلا ينال برداس منه منالا، بل يفقد في كل
معركة العدد الخطير من جيشه وقواده، حتى يحيق به المصير الرهيب في معركة



(1) الحلوية. الناقة. رقق العيال: أي بها لبن على قدر حاجتهم لا يفيض عنهم. اختل: افتقر.
التلاتل: الشدائد. العقد: البقايا القليلة.
(2) راجع ترجمة سيف الدولة الحمداني علي بن حمدان في موضعها من (أعيان الشيعة).
296
مرعش سنة 332 ه‍ (953 م) فيجرح في وجهه ويقع ابنه قسطنطين أسيرا
فيمن يقع من الاسرى.
ويكبر الامر على برداس ويبلغ به الحزن مداه على أسر ولده، فلا يجد
ملاذا لخيبته وأحزانه الا الترهب ودخول الدير.
ويأتي شقيقه نقفور فوكاس الثاني وهو أشرس الثلاثة واعتاهم، وقد كانت
مطامحه متوازية مع شراسته وعتوه. وقد سبق له قبل توليه الملك ان قهر العرب
حين كان قائدا عاما للقوات البيزنطية البرية والبحرية في الجبهة الغربية، فانتزع
منهم جزيرة كريت سنة 350 ه‍ (961 م).
ثم ازداد طموحا وثقة بالنفس بعد ان تولى الملك سنة 352 ه‍ (963 م)
بتزوجه ثيوفانو أرملة الإمبراطور رومانوس واعلان نفسه إمبراطورا. وكان
شعاره الوصول إلى القدس، وحين تقدم ففتح طرسوس خطب على منبرها
قائلا ان هذه البلدة هي التي كان تعوقه عن الوصول إلى القدس.
الأسطول الفاطمي
وفي هذا الوقت كان على رأس الدولة الفاطمية خليفة خليق بالمهمة التي
أعدتها له المقادير هو المعز لدين الله. وإذا كانت مهمة سيف الدولة الحمداني
مقصورة على مقاتلة البيزنطيين برا فاكتفى باعداد الجيوش البرية، فأن مهمة
المعز الفاطمي كانت مزدوجة إذ كان عليه ان يقاتل برا وبحرا، لذلك انصرف
أول ما انصرف إلى اعداد أسطول ضخم جعل منه سيد البحر المتوسط، حتى
لقد وصف أحد المؤرخين الوضع قائلا: " استطاع المعز بفضل أسطوله القوي
ان يجعل غربي البحر الأبيض المتوسط بحيرة فاطمية ". وقد خص هذا المؤرخ
غربي البحر، لأن الفاطميين لم يتقدموا بعد إلى الشرق ولم يصلوا إلى مصر وبلاد
الشام. اما بعد ان وصلوا اليهما فقد أصبح هذا البحر كله بغربيه.
وشرقيه بحيرة فاطمية. كما امتد أسطولهم إلى البحر الأحمر، فكما كانت
الإسكندرية ودمياط في مصر وعسقلان وعكا وصور وصيدا في الشام أهم
المرافئ تتجمع فيها قطع هذا الأسطول في البحر الأبيض، كانت عيذاب أهم
مرافئ البحر الأحمر.
وقد أثار هذا الأسطول شاعرية شاعر المعز، محمد بن هاني الأندلسي
فأنطقها بقصيدة من عيون الشعر العربي الخالد، تحسب وأنت تقرأها انك امام
وصف أسطول حربي معاصر، يقول فيها مخاطبا المعز بعد انتصار الأسطول في
احدى معاركه الكبرى مع أسطول البيزنطيين:
لك البر والبحر العظيم عبابه * فسيان أغمار تخاض وبيد
وما راع ملك الروم الا اطلاعها * تنشر اعلام لها وبنود
عليها غمام مكفهر صبيره * له بارقات جمة ورعود
مواخر في طامي العباب كأنه * لعزمك باس أو لكفك جود
أنافت بها اعلامها وسمالها * بناء على غير العراء مشيد
من الراسيات الشم لولا انتقالها * فمنها قنان شمخ وريود
من القادحات النار تضرم للصلى * فليس لها يوم اللقاء خمود
إذا زفرت غيظا ترامت بمارج * كما شب من نار الجحيم وقود
فأنفاسهن الحاميات صواعق * وأفواههن الزافرات حديد
لها شعل فوق الغمار كأنها * دماء تلقتها ملاحف سود
ولابن هاني في وصف معارك هذا الأسطول الخالدات من القصائد التي
نعتبر من أروع ما خلف الشعراء العرب من تراث شعري ملحمي، ولا يتسع
المجال هنا للإفاضة في الحديث عنها ولكننا نكتفي بهذه الأبيات من قصيدة
يخاطب فيها ابن هاني نقفور فوكاس بعد هزيمة أسطوله امام الأسطول
الفاطمي:
وبعثت بالأسطول يحمل عدة * فأثابنا بالعدة الأسطول
أدى الينا ما جمعت موفرا * ثم انثنى بأليم وهو جفول
ومضى يخف على الجنائب حمله * ولقد يرى بالجيش وهو ثقبل
ثم يموت بطل الحمدانيين بل بطل العرب في عصره سيف الدولة، فيموت
بموته عنفوان الدولة، ولا يكون في خلفائه من له شئ من صفاته، وتنهار
الجبهة الشرقية امام البيزنطيين، في حين ظلت الجبهة الغربية، جبهة الفاطميين
قوية عنيفة بتوالي الخلفاء الأقوياء، وكانت قد بلغت في ذلك كل مبلغ بوصول
الفاطميين إلى مصر والجزيرة العربية وبلاد الشام.
الشعر في معارك الظفر
من حسن حظ الأدب العربي ان قد رافق معارك الظفر التي قادها سيف
الدولة الحمداني والمعز لدين الله الفاطمي شاعران عبقريان، ولن نقول عن
المتنبي شاعر سيف الدولة شيئا، فهو مالئ الدنيا وشاغل الناس في عصره وفي
كل العصور حتى هذا العصر. ولكن لا بد لنا من كلمات قصار عن الشاعر
الآخر شاعر المعز: محمد بن هاني الأندلسي الذي بلغ من تفاخر مواطنيه به
سواء في منبته بالأندلس أو في مهجره بشمال إفريقية، ان سموه متنبي
المغرب، كما سموا بعد ذلك ابن زيدون: بحتري المغرب، على عادتهم في
محاولة مماشاة المشرق في كل شئ.
ولقد رأينا فيما تقدم نموذجا من شعر ابن هاني في وصف الأسطول، وكل
قصائده في وصف المعارك لا سيما البحرية منها على هذا النسق المتألق المتوثب،
حتى لقد كان جديرا بان يحمل اسم (متنبي المغرب)، والموضوع الذي حلق
فيه متنبي المشرق هو الموضوع الذي حلق فيه متنبي المغرب، وهو المعارك
الظافرة والبطولة العربية الهادرة.
وكانت شهرة ابن هاني قد امتدت إلى المشرق حتى وصلت إلى المتنبي
نفسه، وقيل إن المتنبي كان عازما بعد فراق سيف الدولة على التوجه إلى المغرب
فلما بلغته قصيدة لابن هاني مطلعها:
تقدم خطى أو تأخر خطى * فان الشباب مشى القهقرى
عدل عن عزمه وقال: لقد سد علينا ابن هاني طريق المغرب. ولم يحدد
المؤرخون الذين رووا هذا القول زمن هذا العزم، ولم يوضحوا هل كان قبل
ذهابه إلى كافور أو بعد مفارقته له.
ومهما كان من امر فان القصة تدل على تهيب المتنبي من مجاورة ابن هاني.
ومن المؤسف ان الحياة لم تطل بابن هاني. فقد اغتيل وهو لم يتجاوز السادسة
والثلاثين، وكان اغتياله وهو يهم باللحاق بالمعز إلى القاهرة. ولقد خسر الشعر
العربي خسارة كبرى بموت ابن هاني قبل ان يصل إلى مصر، فلو وصلها ورافق
المعز في حياته المصرية وما حفلت به من أمجاد لترك تراثا شعريا رائعا.
ولقد تألبت على ابن هاني قوى شتى عملت جاهدة على طمس اسمه
وتشويه امره واخمال ذكره، ولقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد، ولست الآن في
صدد الإشارة إلى هذه القوى.

297
بعد المتنبي وابن هاني
رأينا فيما تقدم انهيار الدولة الحمدانية بعد سيف الدولة فتمهد الطريق امام
البيزنطيين ليتقدموا في شمال بلاد الشام ويحتلوا فيه المدن ويبسطوا سيادتهم على
اجزاء منه كما سيطروا على كيليكيا، بل لقد غزوا شمال العراق وعبروا نهر
دجلة. ولم يكن باستطاعة الفاطميين الأقوياء ان يعملوا شيئا على الجبهة
المشرقية، لان بينهم وبينها أمادا واسعة لا سلطة لهم عليها. ثم إذا بهم على
أبواب المشرق ثم في صميم مصر. ثم جاءت الخطوات التالية فإذا بهم يوغلون
في المشرق ثم يصبحون جزءا منه، وإذا بهم وجها لوجه مع البيزنطيين في
المشرق كما هم معهم في المغرب، فجعلوا همهم الأول استرجاع ما استولى عليه
البيزنطيون من المدن الشامية. وحاولوا أول الأمر اجلاء البيزنطيين عن أنطاكية
التي كان قد استولى عليها نقفور فوكاس سنة 358 ه‍ (2969 م)، ولكن
القوى البيزنطية كانت أكثر كثافة مما قدرت مخابرات الفاطميين وكانت تفوق
قواتهم عددا واعدادا، فان البيزنطيين عرفوا خطورة سقوط أنطاكية فضلا عن
انها مدينة البطاركة والقديسين، لذلك اعتبرت منافسة بيزنطية من الناحية
الدينية لهذا حشدوا للدفاع عنها قوى لم تكن في تقدير الفاطميين، ففشل
الجيش الفاطمي في استردادها، واغتنم الإمبراطور البيزنطي حنازيمسكس هذا
الفشل وتقدم بجيوشه سنة 975 من أنطاكية إلى حمص ومنها إلى بعلبك،
وخافت دمشق مغبة مقاومته فخضعت ودفعت له الجزية، كما سلمت له طبريا
وقيسارية، وكان مصمما على الوصول إلى القدس، وهكذا يكون هذا
الإمبراطور البيزنطي ثاني من يفكر من أباطرة بيزنطية، في استرجاع القدس من
المسلمين، بعد المفكر الأول نقفور فوكاس الثاني، وهكذا تكون بيزنطية قد
سبقت الصليبيين في التخطيط للنفاذ إلى القدس.
ويبدو جليا من استعراض الاحداث ان الفاطميين أدركوا نية حنازيمسكس
وصمدوا له فتراجع عن محاولة الوصول إلى القدس وحول هدفه فاتجه إلى
الساحل اللبناني مغتنما فرصة حشد الجيوش الفاطمية في طريق القدس،
فاستطاع الاستيلاء على صيدا وبيروت، ثم اتجه إلى طرابلس. وهكذا نرانا
ونحن نقص هذا القصص، قد صرنا في صميم التاريخ اللبناني، وان ما نقصه
هو جزء من تاريخ هذا البلد الجريح.
لم يغفل الفاطميون عن نيات الإمبراطور البيزنطي فاسرعوا لصده عن
طرابلس والوقوف في طريق زحفه إليها، وعضدوا جيشهم البري المدافع عنها
بأسطولهم الحربي، واستطاعوا الحاق الهزيمة بالبيزنطيين ورد حنازيمسكس عن
طرابلس وملاحقته حتى أخلى بيروت وصيدا وكل ما استولى عليه من مدن
الساحل اللبناني. وظلت الضربات الفاطمية تلاحقه حتى ردته إلى أنطاكية.
ولما حاق به الفشل عاد آيبا إلى القسطنطينية مقهورا حيث توفي في أوائل
سنة 976.
هنا نفتقد المتنبي ونفتقد ابن هاني، هنا نفتقد الشاعر العربي الذي يتغنى
بالظفر العربي، ونتلفت فلا نجد في الساحة من يقول في حنازيمسكس المهزوم
المقهور اللائذ من بطولات الفاطميين بعاصمته ما قاله المتنبي في برداس فوكاس
حين فر من المعركة جريحا في وجهه وترك ابنه أسيرا فيها ثم لاذ بالدير:
نجوت بإحدى مهجتيك جريحة * وخلفت احدى مهجتيك تسيل
أتسلم للخطية ابنك هاربا * ويسكن في الدنيا إليك خليل
بوجهك ما أنساكه من مرشة * نصيرك منها رنة وعويل
أو ما قاله ابن هاني في نقفور فوكاس بعد معركة المجاز البرية البحرية:
يوم عريض في الفخار طويل * لا تنقضي غرر له وحجول
مسحت ثغور الشام أدمعها به * ولقد تبل الترب وهو همول
قل للدمستق مورد الجمع الذي * ما أصدرته له قنا ونصول
سل رهط (منويل) وأنت غررته * في اي معركة ثوى منويل (1)
منع الجنود من القفول رواجعا * تبا له بالمنديات قفول
لم يتركوا فيها بجعجاع الردى الا النجيع على النجيع يسيل
نحرت بها العرب الأعاجم انها * رمح امق ولهذم مصقول
قلت انا افتقدنا الشاعر العربي الذي يعيش بشعره المعارك العربية
الظافرة، فلم نره بعد المتنبي وابن هاني، فهل كانت الساحة العربية خالية من
عباقرة الشعر؟
الواقع انها لم تكن خالية، فقد كان فيها أيام تلك الاحداث شاعر العرب
الفريد (أبو العلاء المعري)، ولكن هل كان باستطاعة أبي العلاء ان يسد فراغ
الشاعرين الحماسيين؟
انه رهين المحبسين، سجين في سجنين رهيبين، وماذا عسى الشاعر
الحبيس ان يفعل؟
انه لم يكن مستطيعا ان يمتطي الجواد ويجرد السيف ويمشي إلى جنب القائد
فيشارك في المعركة ويراها عن كثب فينفعل برهجها، كما كان يحدث للمتنبي
مع سيف الدولة... ولا كان مستطيعا ان يواكبها في احداثها متتبعا لها ساعة
فساعة فيضطرم بانبائها، كما كان يحدث لابن هاني مع المعز.
انه كان في محبسيه... ولكن المعري الذي عاش هموم شعبه، فأنطقته
هذه الهموم بالشعر الثائر المثير، هل كان يمكن ان يكون بعيدا عما يجري على
حدود الوطن، أو في قلب الوطن من صراع بين حرية الوطن واستعباده...
بين الأجنبي المنقض على الوطن، وبين المواطن المنقض على هذا المنقض؟
لم يكن هذا من طبعه، لهذا كان وهو في محبسيه يعيش مع المناضلين في
ميادين الحرب، يعيش معهم بحسه وعواطفه ووطنيته، ان لم يستطع ان يعيش
معهم بجسمه وعينيه.
لذلك كان المعري شاعر النضال العربي المسلح في تلك الفترة الحرجة من
حياة الوطن العربي.
كان الصوت الذي تغنى ببطولات المقاتلين، وتحمس لوقائعهم، وحرض
على أعدائهم.
المعري الهادئ الرقيق القلب الذي يشفق على الحيوان المذبوح فلا يأكل
اللحم، هو نفسه الذي يقول وقد سمع بجولات فرسان العرب ذيادا عن
وطنهم:
فوارس قوالون للخيل اقدمي * وليس على غير الرؤوس مجال
لهم اسف يزداد اثر الذي مضى * من الدهر سلما ليس فيه قتال
بأيديهم السمر العوالي كأنما * يشب على أطرافهن ذبال
ها هو المعري ينقلب بعد الرفق واللين أسدا هصورا يستطيب مرأى الدم
الفوار، ويستعذب تخيل الفوارس جوالة فوق الرؤوس المضرجة بالنجيع



(1) بلغ من اهتمام الإمبراطور نقفور فوكاس بمحاربة الفاطميين، انه أسطولا ضخما ملأه بالمؤمن
والذخيرة، واعد جيشا يقرب من خمسين الف رجل مجهزين بأحسن آلات الحرب وامر عليه رجلين
أحدهما (منويل) وكان يمت اليه بصلة القرابة، فانهزم الجيش والأسطول هزيمة كاسحة.
298
الأحمر!
ويأسف على أيام السلم الوادعة التي انطوت بلا قتال تزهق فيه النفوس
وتطيح الهامات!
هل المعري هو الذي يتكلم؟ اجل هو المعري بلسانه الطلق وبيانه
الفياض!
إذا كانت الإنسانية هي التي أوحت للمعري ان يقول للذين ذبحوا له
(الفروج) وأنضجوه وقدموه له ليأكله في مرضه الذي أنحله: " استضعفوك
فوصفوك... هلا وصفوا شبل الأسد... " ثم يمتنع عن اكله استفظاعا
لتخيل دمه المراق!
إذا كانت الإنسانية هي التي رققت قلب المعري، فان الوطنية هي التي
قست ذلك القلب الرحيم، فجعلت الدم المراق عنده أجمل منظر وأعذب
مرأى!
دم الأعداء الذين لم يتورعوا عن اقتحام وطنه واستباحة ارضه وترويع أهله و
تشريد سكانه!
ثم يشتد في القول فيخاطب الغزاة مهددا متوعدا بمواصلة الحرب:
بني الغدر هل ألفيتم الحرب مرة * وهل كف طعن عنكم ونضال
وهل اطلعت سحم الليالي عليكم * وما حان من شمس النهار زوال
وهل طلعت شعث النواصي عوابسا * رعال ترامى خلفهن رعال
لها عدد كالرمل المبد على الحصا * ولكنها عند اللقاء جبال
فان تسلموا من سورة الحرب مرة * وتعصمكم شم الأنوف طوال (1)
خذوا الآن ما يأتيكم بعد هذه * ولا تحسبوا ذا العام فهو مثال
ثم يعود إلى ذكر الدماء بعد ان يصف الخيل العربية واثبة بفرسان العرب،
وان تلك الخيول الظامئات لن يكون الماء موردها، ولن يرويها الا دماء الروم:
يردن دماء الروم وهي غريضة * ويتركن ورد الماء وهو زلال
وفي قصيدة أخرى يندد بالانهزاميين الذين يخوفون المواطنين باس الروم
ويحث قومه على الثبات:
أيوعدنا بالروم ناس وانما * هم النبت والبيض الرقاق موام
ويذكر مواطنيه بانتصاراتهم السابقة على الروم وان ما يوعدهم به
الانهزاميون لن يكون مصيره بأفضل:
كأن لم يكن بين " المخاض " و " حارم " * كتائب يشجين الفلا وخيام
ولم يجلبوها من وراء " ملطية " * تصدع أجبال بها واكام
كتائب من شرق وغرب تألبت * فرادى اتاها الموت وهي توام
بيوم كأن الشمس فيه خريدة * عليها من النقع الاحم لثام
كأنهم سكرى أريق عليهم * بقايا كؤوس ملؤهن مدام
فاضحوا حديثا كالمنام وما انقضى * فسيان منه يقظة ومنام
ويبدو ان البيزنطيين (الروم) قد ارسلوا يفاوضون على الصلح وانهاء
الحرب مما لم يعجب المعري لأنه يريد أهداف أمته كاملة ولو أدى الامر إلى ما
يمكن ان يؤدي اليه من الضحايا الكثيرة: قتلى وجرحى. وهنا نرى المعري
داعية حرب لا هوادة فيها، حرب تسيل فيها الدماء اي مسيل فهو يخاطب
المفاوض العربي بهذا القول الصريح ويحدد له الموقف المطلوب:
وردوا إليك الرسل، والصلح ممكن * وقالوا على غير القتال سلام
فلا قول الا الضرب والطعن عندنا * ولا رسل الا ذابل وحسام
فأن عدت، فالمجروح توسى جراحه * وان لم تعد متنا ونحن كرام
فلسنا وان كان البقاء محببا * بأول من اخنى عليه حمام
هذه صفحات من تاريخنا النضالي كان فيها الشعراء مع الفرسان جنبا إلى
جنب في كفاح الغزاة، تاريخنا النضالي الذي اطلق شاعرا وديعا رقيق القلب
عطوف النفس من محبسيه واعاده من الدعوة إلى الهدوء والحنان والتعاطف، إلى
الصخب والقسوة والعنف، من داعية سلام إلى داعية حرب عنيف الدعوة
صارمها.
وإذا كان اعجابنا بالمعري المسالم الهادئ العطوف عظيما، فأن اعجابنا
بالمعري المحارب الثائر الحاقد الدموي أعظم.
الحجاج بن يوسف
قال كاتب يصف الحجاج بن يوسف: " نشر الأمن والأمان والأمانة
والايمان ".
ثم قال: وكان الحجاج عادلا في الحكم بالفعل ".
والكاتب في هذا الكلام يرد بدون ان يسمي كلامه ردا على تطرقنا
عرضا لذكر الحجاج ومظالمه في مقال لنا سابق.
ولقد كان شيئا رهيبا ان يخالف كاتب في هذا العصر ما اجمع عليه خيار
الأمة في عصر الحجاج وبعد عصر الحجاج فيتكلم بهذا الكلام عن رجل يقول
عنه خير الدين الزركلي في كتابه (الاعلام): " وكان سفاكا سفاحا باتفاق
معظم المؤرخين ".
لقد اتفق على ذلك معظم المؤرخين بنص المؤرخ المعاصر صاحب
الأعلام. وطبيعي ان يوجد من له مثل ذهنية كاتب المقال فيشذ عن هؤلاء
المؤرخين ويخرج على اجماعهم.
ومن العجيب ان الكاتب ممن يرون الاجماع حجة في الشؤون الكبرى
والصغرى ويغمزون بمن لا يأخذ بهذا الاجماع، ولكنه هنا لا يبالي ان يكون
شاذا عن هذا الاجماع ما دام هذا الشذوذ يوافق هوى في نفسه!
ان الحسن البصري، وهو من هو في التاريخ الاسلامي، والكاتب اعرف
الناس به. ان الحسن البصري هذا يسجد لله شكرا لما مات الحجاج،
ويقول: " اللهم كما أمته فامت عنا سنته ".
وان عمر بن عبد العزيز يقول: " الوليد بالشام والحجاج بالعراق وقرة
بمصر، وعثمان بن حيان بالحجاز، امتلأت والله الأرض جورا ".
لا يتمالك الحسن البصري - وهو الشيخ الوقور الرزين، الذي يزن القول
والفعل - لا يتمالك نفسه أن يخر ساجدا لله معفرا جبينه بالأرض شكرا لله تعالى
على أن أراح الأمة من السفاح السفاك الطاغية، وأنقذها من المجازر البشرية
التي كانت تحدث في كل يوم، ومن الجور الفادح الذي كان يحل بها في كل
ساعة. ثم يخشى هذا الامام الجليل أن يخلف الحجاج من يسير على سنته، فلا
ينسى أن يدعو الله أن يميت سنته كما أماته هو نفسه.
يفعل الحسن البصري هذا الفعل ويقول هذا القول عن الحجاج،. وهو
المعاصر له الشاهد على أفاعيله، ثم يأتينا في هذا العصر من يقول: " كان
الحجاج عادلا في الحكم فعلا ".
ونقول لهذا القائل: ان الحسن البصري أوثق عندنا وعند غيرنا منك،
وهذا أضعف ما يمكن ان نقوله!
ويرى عمر بن عبد العزيز وهو أيضا الشاهد المعاصر - ان الأرض



(1) يقصد بها الجبال.
299
امتلأت جورا في حكم الحجاج وزملاء الحجاج، ويقسم بالله على ذلك، ثم
نعيش لنرى من لا يتورع عن القول في الحجاج: " انه نشر الأمانة
والايمان ". ونكرر القول لهذا القائل: ان عمر بن عبد العزيز أوثق عندنا وعند
غيرنا منك!
ولو أردنا نقل ما قاله خيار المسلمين في الحجاج لكان علينا ان نملأ مجلدا
ضخما، ولضاقت بانقالنا الصفحات، فهذا مثلا (اليافعي) في كتابه (مرآة
الجنان) يذكر موت الحجاج بهذا النص: " أراح الله المسلمين من الحجاج بن
يوسف الثقفي في ليلة مباركة ".
ثم عندما يضطر لذكره في مكان آخر يقول: " فقصته السم القاتل والشؤم
العاجل ". ثم يقول: " فأراح الله العباد والبلاد من الحجاج وما كان فيه من
الافساد ".
ويقول في مكان آخر " أراد الحجاج ان يتشبه بزياد فأهلكه الله ودمره ".
ولا يمر اليافعي في كتابه (مرآة الجنان) بذكر الحجاج الا ويصفه بما هو
فيه، ثم يقول: " يخبر عن نفسه ان أكبر لذته سفك الدماء ".
وقد اخترنا من بين المؤرخين مؤرخا واحدا ليكون نموذجا لما اتفق عليه
المؤرخون في وصف الحجاج.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل يقول: " قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على
وجه الأرض أحد الا وهو مفتقر إلى علمه ولم يسلطه الله بعده على قتل أحد ".
ذلك ان الحجاج لم يعش الا قليلا بعد قتله سعيد بن جبير.
وكان تفجع الإمام ابن حنبل على قتل سعيد هذا ما هو منصب
على علم هذا الشهيد. فالفاجعة بقتل العلماء أعظم الفواجع.
ويزيد في فظاعة هذا الجرم ان المقتول كان في التاسعة والتسعين من عمره.
ونحن لا ندري أ نصدق اليافعي والإمام أحمد بن حنبل، أم نصدق كاتب
المقال؟
ولكن الحقيقة اننا ندري!
نحن لا نريد ان نحدث الكاتب عن عشرات الألوف البريئة التي قتلها
الحجاج صبرا، ولا عن عشرات الألوف من النساء والرجال التي وجدت في
سجنه بعد موته.
لا نريد ان نحدثه عن ذلك، لأن هذا امر انساني، ويبدو جليا ان
الانسانية لا تهم الكاتب، لذلك سننصرف عن الحديث الانساني إلى الحديث
الاسلامي:
قال ابن سعد في كتاب الطبقات: " قال الحجاج هممت ان اضرب عنق
ابن عمر ".
ثم لما استدعاه إليه خاطبه شاتما له:
" اسكت فإنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، يوشك شيخ ان يؤخذ
فتضرب عنقه ".
ثم يذكر ابن سعد ان الحجاج ارسل اليه من اغتاله، ثم منع ان يدفن
حيث أوصى.
عبد الله بن عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين. عبد الله بقية صحابة
رسول الله: الهادئ الوديع الورع، ينحدر به الزمن إلى أن يقف بين يدي
الحجاج ضارعا ذليلا يلتقى الشتيمة صابرا محتسبا.
والحجاج في ذلك عند الكاتب " رجل الأمن والأمان والأمانة والإيمان ".
ولو وجد الكاتب مشتقات أخرى لكلمة (امن) لأضافها إلى هذه الصفات
الرائعة التي أضفاها على الحجاج جزاء ما لقي ابن عمر بن الخطاب منه، ولقاء
ما أبداه من احتقار لذكرى الخليفة الراشدي الثاني!
وحقد الحجاج على أصحاب رسول الله لم يقتصر على عبد الله بن عمر،
فقد امتدت الحياة بثلاثة من الصحابة إلى أن أدركت عصر الحجاج. وعوضا
عن أن يكون هؤلاء الثلاثة في شيخوختهم الواهنة موضع الاجلال والتكريم،
وان يرى الناس فيهم بقية ذلك السلف الصالح الذي رأى النبي وعاشره وتعلم
منه فيتبركون بهم ويرفعون من شأنهم، عوضا عن ذلك، لم ير فيهم الحجاج
إلا موضعا للاذلال، فقد قال في (أسد الغابة) ما يلي بنصه: " ختم الحجاج
في عنق سهل الساعدي وأنس بن مالك وفي يد جابر بن عبد الله يريد
إذلالهم "، وهؤلاء الثلاثة كانوا آخر من بقي من أصحاب رسول الله.
فإذا كانت الناحية الإنسانية لا تهم (الكاتب) فلا تروعه مجازر عشرات
الألوف، أ فما كان يقتضي ان تهمه الناحية الإسلامية فيغضب لإهانة عمر بن
الخطاب في شخص ابنه عبد الله، وقبل ذلك لإهانة الرسول في اشخاص
أصحابه؟
ونريد ان نسأل الكاتب عن " الأمن والايمان والأمانة والأمان " فيما سنقصه
عليه، وهو صورة عما كان يعانيه الشعب في ظل الحاكم الذي يعجب به هذا
الكاتب.
احدث الحكام الذين تولوا حكم العرب والمسلمين منذ السنة (41)
هجرية وظيفة جديدة لتثبيت حكمهم هي وظيفة (صاحب العذاب). ويغني
ذكر اسم الوظيفة لمعرفة مهمة متولي امرها.
ولقد كان لعبيد الله بن زياد بن سمية (صاحب عذاب)، ومن قصصه ما
رواه ابن عبد البر في كتاب (الاستيعاب) وهو يتحدث عن الصحابي قيس بن
خرشة القيسي: " أراد عبيد الله بن زياد تعذيبه لأنه كان قوالا بالحق، فلما أعد
له العذاب مات قبل ان يصيبه شئ ".
وصاحب السيرة الحلبية يقول وهو يروي القصة: " ان عبيد الله بن زياد
قال: اؤتوني بصاحب العذاب، فمال عند ذلك قيس فمات ".
لقد كان مجرد ذكر (صاحب العذاب) كافيا لأن يحدث صدمة في نفس
الصحابي قيس بن خرشة فيموت في الحال.
وفي عهد الحجاج كان اسم (صاحب العذاب) (معد). ويروي
صاحب كتاب (النجوم الزاهرة) ما جرى لحطيط الزيات الكوفي مع الحجاج:
وبعد ان يعدد المؤلف بعض صفات حطيط الزيات بقوله: " كان عابدا زاهدا
يصدع بالحق "، يروي حوارا جرى بينه وبين الحجاج، كان فيه حطيط
شجاعا صريحا لم يحد عن خطه المستقيم. فقال معد (صاحب العذاب): اني
أريد أن تدفعه إلي فوالله لأسمعنك صياحه، فسلمه إليه فجعل يعذبه ليلته كلها
وهو ساكت. فلما كان وقت الصبح كسر ساق حطيط، ثم دخل عليه الحجاج
فقال له: ما فعلت بأسيرك، فقال: إن رأى الأمير ان يأخذه مني فقد أفسد
علي أهل سجني، فقال الحجاج علي به، فعذبه بأنواع العذاب وهو صابر،
فكان يأتي بالمسال فيغرزها في جسمه وهو صابر، ثم لفه في بارية وألقاه حتى
مات.
أهذا هو (الأمن والأمان والأمانة والإيمان) التي يصف بها الكاتب صاحبه
الحجاج؟
وإذا كان الكاتب لا تعنيه الناحية الإنسانية، ولا يؤثر فيه ذبح عشرات
الألوف، أ فلا تؤثر فيه الناحية الاسلامية فيرثي لحال المسلم الذي وصف بأنه
" عابد زاهد يصدع بالحق " ويتورع عن الثناء على من هذه افعاله مع المسلمين
الزاهدين العابدين الصادعين بالحق.
ومن الطريف العجيب المحزن في الوقت نفسه ان يذكر الكاتب قصة يعلم
هو قبل غيره أنها خرافة من الخرافات، لذلك يقرن روايته لها بقوله: (كما

300
والقصة تكذب نفسها بنفسها، وخلاصتها ان قائد الحجاج طلب من ملك
الهند أن يملأ له قاعة القصر ذهبا ليكون ذلك الذهب غرامة حربية وان الملك
استجاب لذلك فملأ القاعة ذهبا!
ان الكاتب نفسه يعلم أن أحدا ذا عقل سليم لا يمكن ان يصدق هذه
الرواية، لذلك قرنها كما ذكرنا من قبل - بقوله (كما تقول الرواية)
و (يقال). ومع ذلك فقد انهى القصة بجعله لها حقيقة مسلمة فقال:
" أرسل القائد الشاب ذلك الذهب كله إلى الحجاج حاكم العراق، وانفق
الحجاج هذا المال في إصلاح العراق وفي حاجات البلاد المفتوحة! ".
ليتصور القارئ قاعة قصر إمبراطور الهند، وليتصور سعتها ومساحتها
بالأمتار المكعبة. إنها ليست كوخا، بل قاعة قصر إمبراطور الهند، وكفى ذلك
وصفا لطولها وعرضها وارتفاعها، ليتصور القارئ ذلك، فإذا تصوره فهل
يتصور ان انسانا ذا عقل سليم يمكن ان يصدق ان أحدا يمكنه ان يملأها ذهبا،
ولو كان إمبراطور الهند، لا سيما إذا كان هذا الأمر قد تم في طرفة عين!
بمثل هذه الخرافات الساذجة المفضوحة يريدون ان يغطوا فظائع جلادي الشعوب.
كلمة الختام
كما قلت في مقدمة الكتاب: إذا بقيت في الحياة بقية - وانا الآن عند تحرير
هذه الكلمات في السابع من جمادى الثانية سنة 1407 والسادس من شباط سنة
1987 على أبواب الثمانين - إذا بقيت في الحياة بقية، فاني سأتابع تدوين ما
يجب تدوينه واستدراك ما فات وإذا شاءت إرادة الله غير ذلك فلعل وراء الغيب
من سيوفقه الله للسير بموسوعة (أعيان الشيعة) مع الزمن جيلا بعد جيل لتظل
مؤدية رسالتها، ناهضة بمهمتها، وليس ذلك على الله بعزيز.
والآن - وانا أخط آخر سطر في هذه المستدركات - أودع القراء الكرام وداع
المشوق إليهم، المعتز بهم، الشاكر عطفهم. أودعهم وانا لا أدري ان كان
سيقدر لي بعد ان ألقاهم أم لا. فإذا شاء الله ان ألقاهم مرة ثانية فسيطول
الحديث بيننا، وإذا لم يشأ ذلك فليذكروا ابدا هذا الذي حرص كل الحرص
وجهد كل الجهد على أن يقدم لهم الحقائق ناصعة، وان يحفظ تاريخ فئة من
الناس كان يخشى عليها الضياع.
أقول هذا وانا اعرف ان الكمال لله وحده، وكم يكون متفضلا علي من
يرشدني إلى خطأ وقعت فيه، أو يدلني على حقيقة جهلتها.
هذه كلمتي إلى الجيل الذي يعاصرني وأعاصره، أما الأجيال الآتية التي
ستقرأ ما دونته لها في هذه الأوراق، ستقرأ ذلك في أزمان غير زمننا وأحوال غير
حالنا، فلعلها ستجد فيما ستقرؤه بعض الصورة عنا: أدبا وعلما وفكرا
ونضالا. فإذا وجدت ذلك فحسبي به تعزية عن كل عناء كابدته في سبيل
ايصال هذه الصورة إليها.
وسلام عليكم أيها القارؤون في هذا الربع الأخير من القرن العشرين،
وأيها القارؤون فيما بعده من قرون.
حسن الأمين
ابن السيد محسن الأمين
هذا ما كتبته عند إصداري الطبعة الأولى من هذا المجلد. وقد شاء الله أن
تبقى في الحياة بقية فيتاح لي مواصلة إصدار مجلدات (المستدركات) حتى
المجلد الثامن وإصدار هذه الطبعة الثانية في هذا المجلد في 25 جمادى الأول
سنة 1418 و 27 أيلول سنة 1997 وأنا في التسعين من العمر.

301
تنبيه هام
نظام الملك أبو علي الحسن
وردت ترجمته في المجلد الخامس الصفحة 165 وفي مقدمتها ما يلي:
ذكرناه في ج 1 من هذا الكتاب في عداد وزراء الدولة السلجوقية الشيعة، ولسنا نعلم الآن مأخذه،
ولا بد أن نكون اخذناه من مصدر معتمد مع اننا فتشنا الآن على مأخذه فلم نجده.
هذا ما ذكره المؤلف في الطبعة الأولى، وحين كنت أعد الكتاب لطبعته الجديدة واقرأ ما علقه المؤلف
على بعض تراجمها وما استدرك عليها، وجدت أنه علق على ترجمة نظام الملك بما يلي: " بعد التحري
تبين لنا أن صاحب هذه الترجمة ليس من موضوع كتابنا وان ذكره فيه كان خطا " (انتهى).
ولقد ترددت فيما افعله في هذه الترجمة هل أسقطها من الكتاب بعد ان ثبت للمؤلف انه ليس شيعيا،
أم افعل شيئا آخر؟
وبعد التردد الطويل قررت أنه ما دام المؤلف قد تعب في اعداد هذه الترجمة، وان ذكرها ليس الا
عملا تاريخيا يفيد منه القارئ في دراسة حياة رجل مسلم كان له شان كبير في التاريخ الاسلامي، وإن لم
يكن شيعيا، وأن في اسقاطها من الكتاب هدر لجهد قام به المؤلف في اعدادها، قررت ابقاءها في الكتاب
مع الإشارة إلى ما علقه المؤلف على طبعتها الأولى، وهكذا كان، ولكن هذه الإشارة سقطت خلال
الطبع، لذلك فإنني أذكرها هنا.
وكذلك القول في ولده أبو عبد الله الحسين المنشورة ترجمته في الصفحة 480 من المجلد الخامس.
الفارابي محمد بن أحمد
مرت ترجمته في الصفحة 103 من المجلد التاسع. وفي الصفحة 108 تبدأ بحوث عن فلسفته، أولها
(مع الفارابي الفيلسوف الروحي) ثم (مع الفارابي في المدينة الفاضلة). ثم (مع أهل المدينة
الفاضلة).
وهذه البحوث مكتوبة بقلم: الدكتور محمد مصطفى حلمي. وقد سقط توقيعه خلال الطباعة مما
أسفنا له، ونشير إليه هنا.

302
/ 1