بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: مستدركات أعيان الشيعة المؤلف: حسن الأمين الجزء: 2 الوفاة: 1368 المجموعة: مصادر التاريخ تحقيق: الطبعة: الثانية سنة الطبع: 1418 - 1997 م المطبعة: الناشر: دار التعارف للمطبوعات - بيروت ردمك: ملاحظات: مستدركات أعيان الشيعة
1 مستدركات أعيان الشيعة المجلد الثاني حسن الأمين دار التعارف للمطبوعات بيروت
3 بسم الله الرحمن الرحيم جميع الحقوق محفوظه الطبعة الأولى 1409 ه - 1989 م. دار التعارف المطبوعات وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم المكتب: شارع سوريا - بناية درويش - الطابق الثالث الإدارة والمعرض - حارة حريك - المنشية - شارع دكاش ص - ب 8601 - 11 تلفون 836696 - 837868 تلكس تعارف 23644 - le
4 بسم الله الرحمن الرحيم أقدم للقراء المجلد الثاني من (مستدركات أعيان الشيعة)، وبذلك أكون قد وفيت بوعيدي لهم، شاكرا الله على أن من بتحقيق ذلك، بعد أن من بما من به من انجاز الكتاب بكامله وإخراجه بحلته التي خرج بها. وإذا كانت نعم الله لا تحصى، فإن من تلك النعم ما لا ينسى، بل يظل مائلا في الذهن ما طلعت الشمس وتوالى الليل والنهار، ويظل مبعث الحمد في كل ساعة. ومن اجل تلك النعم علي أن وفقني لان أجعل من تلك المسودات المتراكمة التي تركها والدي مما لم يطبعه من اجزاء (أعيان الشيعة ) أن اجعلها كتبا مطبوعة وأسفارا سائرة كل مسير. لقد كنت عندما أبصر تلك المسودات وأجيل ناظري عليها مبثوثة على الرفوف طبقة فوق طبقة - كنت استغرق في اليأس والأسى، فمن لي بأن استوعب ما فيها، واجمع متناثرها وألم متنافرها، ومن لي - إذا استطعت ذلك - بأن أضمها بعضها إلى بعض مجلدا بعد مجلد تصل إلى أيدي القراء. لقد كان مبعث أساي إني عاجز عن إخراج مسودات (أعيان الشيعة) وإني شبه يائس من أن لا تقف مواضيعه عند حرف السين في الجزء الخامس والثلاثين. لقد كنت أحلم بأن أرى مواد حرف الشين، ثم مواد الحروف الأخرى مرسومة رسما طباعيا بعد أن كنت اقلبها بيدي مرسومة رسما كتابيا... تلك كانت أحلام اليقظة وأحلام الهجوع. تلك كانت مطامعي ومطامحي!... ومن لي بأن يصبح الحلم أمرا واقعا، ومن لي بتحقيق المطامع والمطامح؟!. ولكن الله العلي القدير، الله الرحمن الرحيم، حول الحلم إلى حقيقة وجعل المطاع والمطامح ملء اليد... فإذا بموسوعة (أعيان الشيعة) تخرج في أحد عشر مجلدا هي الغاية في الأناقة والاتقان، ورقا وطباعة وتجليدا. وإذا بها لا تقف عند ذلك... وإذا بالمطامع والمطامح تتسع وتتسع، وإذا بي وأنا القانع أصبح الطامع الذي لا حدود لطمعه، وإذ بالأحد عشر مجلدا لا تسد خلتي ولا تشبع نهمي، وإذا بي أركض من مكان إلى مكان، وأسعى من إنسان إلى إنسان، ركض الواله وسعي السغب!.. لقد خرج المجلد الأول من (المستدركات)، وها هو المجلد الثاني يتبعه، فهل هدأ الطمع، وهل قر النهم؟!. لا... سيظلان مستعرين ما دامت الأنفاس تتردد والقلب ينبض والجسد يتحرك... وما دام توفيق الله يرعاني، ورحمته تحوطني... وإلى اللقاء في المجلد الثالث إن شاء الله. رمضان 1408 نيسان 1988 حسن الأمين
5 آمنة خاتم بنت الشيخ محمد علي بن الشيخ عبد الكريم صاحب كتاب نظم الغرر بن الشيخ محمد يحيى صاحب ترجمان اللغة ابن المولى محمد شفيع القزويني بن محمد رفيع بن فتح الله القزوينية. ولدت في قزوين سنة 1202، وتوفيت حدود سنة 1269. قرأت على أخيها الشيخ الميرزا عبد الوهاب القزويني، وفي حدود سنة 1219 زفوها للشيخ محمد صالح البرغاني، ثم حضرت الفقه والأصول على زوجها المذكور، وأخذت الحكمة والفلسفة العالية من حوزة الشيخ الملا آغا الحكمي القزويني في المدرسة الصالحية، كما حضرت مجلس درس الشيخ أحمد الأحسائي في قزوين، حتى بلغت درجة عالية في العلم والفضل، وكان زوجها يأمر النساء بالاقتداء بها والرجوع إليها في أحكام الدين، وكانت لها حوزة تدريس لنساء عصرها في كل من كربلاء وقزوين، وقد أجازها زوجها وأخوها والشيخ أحمد الأحسائي بإجازات مفصلة، وكانت تقية، عابدة، زاهدة، متورعة، وهي من أسباط السيد حسين القزويني المتوفى سنة 1208، شيخ السيد مهدي بحر العلوم وأم قرة العين الشهيرة. ومن آثارها قصيدة طويلة في 480 بيتا عن لسان زينب الكبرى س، في حوادث كربلاء، ولها بعض الرسائل مع أبي الثناء محمود الآلوسي حين نزلت بنتها قرة العين في دار الآلوسي ببغداد (1). السيد إبراهيم القطيفي قال في تاريخ البحرين المخطوط: له ذكر في الرجال، وأثنى عليه أهل الكمال. أخذ العلوم الشرعية عن صاحب البحار، وتصدر بأمره في كاشان. وله جملة من المؤلفات منها رسالة في فتح باب العلم في زمن الغيبة. ورسالة في المحرمات، وكتاب في الفقه لم يتم مات قدس سره سنة 1112. الثاني عشر بعد المائة والألف. الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد النبي القدمي البحراني قال في تاريخ البحرين المخطوط: (2) هو من فضلاء أوال والمبرزين من أهل الكمال أخذ الفقه عن جدي صاحب الحدائق، ومجاز عنه وله عدة رسائل، منها كتاب في الأدب، ورسالة في القبلة، ورسالة في الشكيات، ومسألة في الجوهر ولم يحضرني تاريخ وفاته. الشيخ إبراهيم بن الشيخ يوسف الخطي ذكره الشيخ الأحسائي فعظمه، ونقل عنه صاحب القوانين فاثنى عليه، له الرسالة المسماة ب النجفية ولم توجد تأليفاته وتاريخ وفاته. الشيخ أحمد بن حبيب الدندن ولد في الأحساء وبها نشأ وترعرع، ولا نعلم سنة مولده، والمعروف أنه تلقى كل دروسه العلمية في الأحساء على يد علمائها الأعلام. وكانت الأحساء في عصره مشرقة بالعلم والعلماء، وكان للنشاط العلمي فيها نمو وتفوق قليل النظير. والمترجم كان من تلامذة السيد هاشم السيد أحمد الموسوي الأحسائي، قائد الحركة العلمية في مدينة المبرز وطن المترجم ولعله تتلمذ على غيره، وكان من الملازمين لأستاذه المذكور، ومن المقربين لديه، حتى نال رتبة عالية من العلم والفضل وأصبح من العلماء الأجلاء، وكان أستاذه يمدحه ويثني عليه ثناء بالغا كما قيل. وبعد وفاة أستاذه المذكور عام 1309 ه كان المترجم يراسل الشيخ محمد بن عبد الله آل عيثان الأحسائي، ويسأله عن مسائل علمية طوال سنة كاملة، مما يدل على نشاطه العلمي وشغفه باكتساب المعارف. توفي حدود عام 1310، أي بعد وفاة أستاذه بحوالي عام واحد كذا أفادنا بعض رجال أسرته وكانت وفاته في وطنه مدينة المبرز من الأحساء ولم يخلف ذرية. وله أخ اسمه الشيخ حسين كان من أهل العلم أيضا، ومن تلامذة السيد هاشم المتقدم، ولا نعلم عن حاله شيئا (3). الشيخ أحمد الصحاف بن علي توفي سنة 1319 في النجف. آل الصحاف من الأسر العلمية الجليلة التي أنجبت العديد من العلماء والشعراء، ويعود نسب هذه الأسرة إلى ربيعة إحدى القبائل العربية الشهيرة.
(1) التاريخ عبد الحسين الصالحي. (2) تاريخ البحرين: هو كتاب خطي مؤلفه الشيخ محمد علي بن الشيخ محمد تقي بن الشيخ موسى بن الشيخ يوسف البحراني صاحب كتاب الحدائق الناضرة. وقد عثر على الكتاب فريق من شبان القطيف المناضلين، العاملين على نشر تراث بلادهم وقد لقيتهم في مهجرهم في طهران شتاء سنة 1408 (1988 م)، حيث نجوا بأنفسهم من الجور والظلم، فتألفوا واجتمعوا، وخططوا لخدمة موطنهم، الذي كان في يوم من الأيام منارة من منارات العلم والشعر والفكر والأدب، فكان من مناهج أولئك الشبان المجاهدين جمع ما تشتت من آثار بلدهم والعمل على نشرها وإحيائها، فكان مما عثروا عليه الكتاب المذكور فاستنسخوه بالآلة الكاتبة وأعطوني نسخته، فكانت من مصادري في هذه المستدركات. ولا شك أن المؤلف قد أدى خدمة جلى لبلاده، ولكنه كان لا يذكر في بعض من ترجمهم لا تاريخ الولادة ولا تاريخ الوفاة، إما لجهله بها كما قد يصرح، وإما إهمالا، وقد رأينا أن ننقل نصوصه كما هي، مما سيراه القارئ في طيات هذا الكتاب. ومؤلف الكتاب ولد سنة 1298. (3) السيد هاشم الشخص من كتابه المخطوط (أعلام هجر). 7 وكان لآل الصحاف وجود مرموق في الأحساء والكويت، كما لهم امتداد في كل من البحرين والقطيف وسوق الشيوخ من العراق. والمترجم واحد من ثلاثة إخوة، كلهم علماء أجلاء، ثانيهم الشيخ حسين الصحاف، وثالثهم الشيخ كاظم الصحاف الشاعر الكبير المعروف، وآباء المترجم أيضا وأجداده كلهم من العلماء والشعراء. ونحن لا نعلم عن مولده شيئا، غير أنه عاش جل حياته في الكويت، حيث كان يعيش فيها أبوه وجده، ولعله ولد بها، وفي الكويت أيضا تلقى جل دروسه العلمية على والده الشيخ علي وجده الشيخ محمد، حتى أصبح في عداد العلماء الفضلاء. وكان جده الشيخ محمد الصحاف مرشدا دينيا في الكويت، ووكيلا من قبل المرجع الديني الشيخ محمد حسين أبو خمسين، فلما توفي الشيخ الصحاف سنة 1313 انتخب حفيده صاحب الترجمة ممثلا ووكيلا في جميع الشؤون الدينية عن الشيخ أبو خمسين المذكور. وبعد برهة يسيرة من الزمن قرر المترجم مغادرة الكويت والتوجه إلى النجف الأشرف، للحصول على رتبة أعلى في العلم، وكان ذلك على ما يبدو بعد وفاة المرجع الشيخ محمد حسين أبو خمسين سنة 1316، وفي النجف الأشرف حط المترجم رحله، وعاد يواصل دراسته العلمية. ولولا أن الموت عاجله لتقدم وفاق، إذ توفي قبل أن يتجاوز عهد الشباب. علمه وفضله وذكره أخوه الشيخ كاظم الصحاف في كتابه تذكرة الأشراف وصرح: بأنه كان عالما فاضلا مراهقا للاجتهاد، وقال في شانه أيضا: وكان الشيخ أحمد مع ارتقائه في العلم تقيا، عابدا، زاهدا، متهجدا، وكاتبا ماهرا، وشاعرا باهرا. له ديوان شعر مخطوط يحتوي على جملة من القصائد في مدح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الكرام (1). مسكويه أحمد بن محمد مرت ترجمته في الصفحة 158 من المجلد الثالث، وننشر هنا ما كتبه عنه محمد حسين ظاظا: نعرض اليوم بايجاز لفيلسوف إسلامي، أخرج للناس دستورا إيجابيا أخلاقيا طريفا قوامه المنطق الصحيح والذوق السليم، بحيث لو تبعوه في حياتهم لنالوا به السعادة الحق دنيا وآخرة. ونعني به الفيلسوف أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه صاحب كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، وهو الكتاب المعروف الذي نصح الإمام محمد عبده بتدريسه في الأزهر إلى جانب الاحياء للغزالي، والذي قام علي باشا رفاعة بنشره وتبويبه، والذي شرع سعد زغلول في اختصاره والتعليق عليه دون أن يتمه. 1 - عصره عاش ابن مسكويه (2) في العصر العباسي، الذي يمتاز بشدة ضعف الخلافة العباسية، وبقيام دويلات لا يعترف أكثرها للخليفة بغير السلطة الاسمية. ويهمنا من هذه الدويلات الدولة البويهية 320 - 447 ه لأن ابن مسكويه عاش ومات في كنفها. وكان ملوكها يحبون العلم والأدب ولا يستوزرون أو يستكتبون إلا عظماء الأدباء كالمهلبي وابن العميد وابن عباد وغيرهم. وكانت مجالسهم أبدا حافلة بكبار الشعراء والعلماء والفلاسفة ومن على شاكلتهم. لذلك لا عجب أن يمتاز هذا العصر بنضج العلم، وتكوين المعاجم اللغوية، واستقرار الإنشاء على أسلوب مثالي. ولا عجب أن تنمو الفلسفة وتزهر، وتستقر قواعد الطبيعيات والطب، ويتسع خيال الشعراء، ويظهر الشعر الفلسفي، وينمو فن التاريخ والجغرافيا، ويظهر النقد الأدبي، وتؤلف القصص المجازية، وتنتشر المكاتب حاوية لألوف المخطوطات، أجل ولا عجب أن يظهر أمثال ابن سينا، وابن مسكويه، والهمذاني، والخوارزمي، والمتنبي، وأبي فراس، والأصفهاني، والقالي والثعالبي، والتوحيدي، والصابي، والشريف الرضي، والتنوخي، والطبري. 2 - حياته وعسير جدا أن نتلمس حياته فيما ترك من كتب أو فيما ذكر عنه الكتاب والمؤرخون. وكل ما قد استطعنا كشفه من المؤلفات والتراجم العديدة التي اطلعنا عليها، هو أنه ولد حوالي عام 330 ه ومات في 9 صفر سنة 421 ه 16 فبراير سنة 1030 م، وكان مولده بالري في أسرة فارسية شريفة. وسرعان ما يترك والده أمه، فيبقى هو راعيا لها حتى تتزوج بغير أبيه، فيتركها وينزح إلى بغداد شابا. وهناك يتصل بالوزير المهلبي حوالي سنة 348 ه ويدخل في خدمته ككاتم لسره، ويبقى إلى جانبه ينادمه ويسامره حتى عام 352 ه، وهو عام وفاة الوزير، ومن ثم يعود إلى الري حيث يلتحق بخزانة الوزير العظيم ابن العميد وينال ثقته ومحبته وصداقته، ويبقى معه حتى عام سنة 360 ه لينتقل بعد وفاته إلى خدمة ولده الوزير أبي الفتح. وقد بقي في خدمة هذا الشاب حتى تنكر له الدهر ودخل الوزير السجن سنة 366 ه. ثم التحق بعدئذ بخدمة عضد الدولة الذي استولى على بغداد، كما التحق بعده بخدمة صمصام الدولة وشرفها حتى عام 379 ه، وهو العام الذي دخل فيه في خدمة بهاء الدولة واختص به وعظم قدره عنده. وهكذا انتقل ابن مسكويه من خدمة وزير إلى سلطان، حتى هرم وشعر بدنو الموت، فانتقل كما يقول صاحب روضات الجنات إلى أصبهان حيث مات عام 421 ه. 3 - ثقافته وأخلاقياته وقد تثقف ثقافة أدبية واسعه، ونهل من مجالس العلم ومكتباته، وعنى عناية خاصة بالأخلاق فدرس حكمها عند الفرس والعرب والهنود والروم، وجمع ما راقه من هذه الحكم وأخرجه في كتاب لا يزال مخطوطا. هذا إلى أنه قرأ ما قد خلفه أرسطو وأفلاطون وجالينوس في هذه الناحية ومحصه تمحيصا. وكأنما دفعته تربيته العائلية السليمة، وقلبه الكبير الحي، وتجربته الأليمة في مجالس السلاطين والوزراء، إلى إنقاذ عصره والعصور التي تليه من السياسة الخرقاء والأخلاق المعتلة، فراح يقرأ في الأخلاق ويؤلف، ويخرج للناس كتبا فيها من المنطق الصحيح ما يهديهم إلى كمالهم الإنساني، ويأخذ بيدهم إلى طريق الفضائل والعلوم لتتم لهم السعادة التي ينشدونها عبثا في تلك الخيرات الوهمية الخارجية، خيرات الكون والفساد. وقد تجلت هذه النزعة فيما ترك من عهد عاهد فيه نفسه أن يجاهدها ويتفقد أمرها ما استطاع، فيعف ويشجع ويحكم، ويقتصد
(1) السيد هامش الشخص من كتابه المخطوط (أعلام هجر). (2) هو مسكويه لا ابن مسكويه. كما يكرر الكاتب " ح ". 8 في مآرب بدنه حتى لا يحمله السرف على ما يضر جسمه أو يهتك مروءته، ويحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره شهوة قبيحة ولا غضب في غير موضعه، ويستبصر في اعتقاداته حتى لا يفوته بقدر طاقته شئ من العلوم والمعارف الصالحة، ليصلح أولا نفسه ويهذبها ويحصل له من هذه المجاهدة ثمرتها التي هي العدالة (1)... الخ... أقول تجلت هذه النزعة في ذلك العهد الطريف، وتجلت كذلك في كتابه التاريخي المعروف تجارب الأمم وعواقب الهمم وهو الكتاب الذي فضح فيه بجرأة وصراحة الكثير من رذائل السلاطين، الذين خدم أولادهم وأحفادهم (2) كما تجلت على الخصوص في كتابه العظيم الذي نحدثك عنه الآن: 4 - كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ويعتبر هذا الكتاب أهم كتبه الأخلاقية وأطرفها وأكملها (3)، ونظرا لأن ابن مسكويه كان أديبا شاعرا يحذق العربية والفارسية على السواء، فإن أسلوبه فيه يمتاز بالسلاسة والرقة والعذوبة على غير عادة الفلاسفة الإسلاميين. وقد أعجب " الطوسي " به كل الاعجاب فترجمه إلى الفارسية وقال عنه: بنفسي كتاب حاز كل فضيلة * وصار لتكميل البرية ضامنا مؤلفة قد أبرز الحق خالصا * بتأليفه من بعد ما كان كامنا ووسمه باسم الطهارة قاضيا * به حق معناه ولم يك ماثنا لقد بذل المجهود لله دره * فما كان في نصح الخلائق خائنا والكتاب بعد هذا ست مقالات، تدور كما قلنا حول الأخلاق الإيجابية للانسان، أي الأخلاق التي تليق به من حيث هو حيوان ناطق. ولذلك نراه يفرق في المقالة الأولى بين النفس والجسد تفريقا يثبت به روحانية الأولى وخلودها، واحتياج قواها المختلفة إلى كمال خاص يتفق وما فيها من عقل مسيطر وفكر مقدس. ونراه يتناول في الثانية خلق الإنسان وقابليته للتغير والتهذيب ومدى أثر المعرفة في العمل الخلقي، ويتأدى من ذلك إلى " المنزلة الرفيعة " الجديرة بالإنسان وماذا عسى أن يعوقنا عنها. أما المقالة الثالثة فلا تتناول غير موضوع السعادة بالبسط والمناقشة والعرض. وأما المقالة الرابعة فتحدد الأعمال الخلقية وتميزها عن غيرها، وتنتهي بنا إلى المقالة الخامسة التي يبسط فيها أنواع المحبة بوجه عام، ومحبة الصديق على الخصوص، وأخيرا تأتي المقالة السادسة لتبين لنا طريق حفظ الصحة على النفس ومعالجتها إذا مرضت. ويطول بنا المقام إذا أردنا أن نبين وجه الطرافة والجمال والإنساق في هذه المقالات البعيدة في منهجها عن منهج الدينيين - (كالبصري في كتاب أدب الدنيا والدين) (4) -، والمعتمدة في طريقتها على الاستقراء العلمي الدقيق الذي " يكاد " بنطق بالتطور، والذي يرسل البصر في الكون كله ويحدد للإنسان ماهيته وعمله فيه!. أما مصادره في ذلك الكتاب فهي تلك الثقافة الخلقية الواسعة التي استمدها من الأمم الأربع، والتي يلوح فيها القرآن متفقا مع أرسطو وأفلاطون وجالينوس وغيرهم من حكماء اليونان على الخصوص. وإذا حاولنا أن نعقد مقارنة بين هذا الكتاب وبين كتاب أرسطو إلى نيكوماخوس " وجدنا ابن مسكويه يبز المعلم الأول أحيانا في الوضوح والانسجام، ويتفوق عليه في فصول خاصة كفصل الصداقة والصديق، ويزيد على فصوله فصولا أخرى جوهرية كفصلي دفع الأحزان وحفظ الصحة على النفس السليمة!!. لذلك ننصح القارئ العزيز بقراءة هذا الكتاب مرة ومرة ومرة، ويجعله دستورا له في حياته كانسان يرنو إلى السعادة الحق دنيا وآخرة ونختم هذا التعريف الموجز بقول ابن مسكويه لابن العميد: لا يعجبنك حسن القصر تنزله * فضيلة الشمس ليست في منازلها لو زيدت الشمس في أبراجها مائة * ما زاد ذلك شيئا في فضائلها أو بقوله لعميد الملك: فانظر إلى سير القوم الذين مضوا * والحظ كتابتهم من باطن الكتب تجد تفاوتهم في الفضل مختلفا * وإن تقاربت الأحوال في النسب هذا كتاج على رأس يعظمه * وذاك كالشعر الجافي على الذنب!! مسكويه وتصنيفه تجارب الأمم وقال الدكتور أبو القاسم إمامي (5): لم يرد في المصادر القديمة التي وصلت إلينا، ذكر بالتفصيل عن حياة مسكويه يجيب على الكثير من الأسئلة المطروحة أمام دارسيه. وكل ما لدينا هو قطع مبعثرة في هذا المصدر أو ذاك، كتبها أصحاب التراجم ومؤرخو الحكمة، وهي نزر قليل للغاية. ومن حسن الحظ أن نرى كاتبا حكيما من كبار الحكماء المعاصرين لمسكويه، من يعرف مسكويه عن كثب ويقدر القيم التي تنطوي عليها شخصيته، نراه ولم يقنعه ما كتبه عن مسكويه في كتابه بقدر ما كتبه حول الحكماء الآخرين، بالاختصار والتلخيص، بل يعدنا فيه أنه سيخصص رسالة بمسكويه، يعالج فيها مزيدا من تفاصيل حياته، وهذا الحكيم هو أبو سليمان المنطقي الذي يعد بدوره من أعظم الحكماء في تلك الحقبة. ثم نرى وهذا من سوء الحظ أن ما وعده أبو سليمان لم يصل إلينا أيضا، سواء لم يوفق في إنجاز ما وعد، أو لأنه أنجزه، ولكن صروف الدهر هي التي حرمتنا هذه الوثيقة التي كان من شانها أن تغنينا مما هو مبعثر هنا وهناك، وليس إلا تردادا لقليل من الكثير اللازم في التعرف على حياة مسكويه. أما ما وعد به أبو سليمان، فهو ما قاله في كتابه صوان الحكمة:... أما ما سمعته من مجاري حياته، وشاهدته من سيره الحسنة، وأخلاقه الطاهرة، فسأفرد فيه رسالة أقصرها على ذلك، إذ ليس يحتمل هذا الموضع أكثر مما ذكرته.
(1) انظر الارشاد لياقوت، والمقابسات للسندوبي. (2) وقد أعجب المستشرقون بذلك الكتاب وبدقته العلمية فطبعته لجنة جيب التذكارية، ومجده الأستاذ " مرجليوث " في مقدمة لكتابة الإنجليزي (سقوط الخلافة العباسية) وفي كتابه " محاضرات في مؤرخي العرب ". (3) وله غير هذا الكتاب كتاب " جاويدان خرد " أي - العقل الأزلي - جمع فيه آداب العرب والفرس والهنود والروم وجعله مصداقا للقوانين الخلقية التي ذكرها في " التذهيب "، وله كذلك رسالة صغيرة في السعادة كتبها لصديقه ابن العميد لا تخرج في معناها عما في التهذيب، وكاتب ثالث يسمى " بالفوز الأصغر " ويعتبر أساسا لفلسفته الخلقية وإيمانه الديني الفلسفي. وهذان الأخيران مطبوعان. أما الأول فما يزال مخطوطا بمكاتب أوروبا ولا سيما مكتبة باريس الأهلية. (4) أنظر على الخصوص كلامه في دفع الغم والحزن ووجوب عدم الخوف من الموت، أو كلاما في خلود النفس، أو رأيه في اختيار الصديق والاحتفاظ به. (5) مقدمة تجارب الأمم. 9 وكان ظهور هذا الوعد في الصوان، ومصيره المجهول بعد ذلك، بالنسبة للمعنيين بدراسة مسكويه غمامة أبرقت كما قال القائل قوما عطاشا، فلما رأوها، أقشعت وتجلت ولم تمطر ما يشفي غليلهم. وأما تصنيفه تجارب الأمم، الذي ضمنه في الجزأين الأخيرين منه حوادث عصره، ومن خلالها بعض حوادث حياته، فهذا المصدر أيضا، يتوقف عند سنة 369 ه، وهذا يعني أن مسكويه عاش بعد ذلك حوالي نصف قرن، تاركا كتابة الحوادث المتبقية من عصره، الحوادث التي كان من شانها أن تلقي مزيدا من الضوء على النصف الثاني من حياته أيضا، وذلك من خلال اتصاله الوثيق بالشخصيات المشاركة في تلك الحوادث، حيث كان مسكويه من وجوه أوساطهم. الفترة التي عاشها عاش مسكويه حوالي مائة سنة، ووصل إلى أرذل العمر الذي امتد من سنة 320 ه على الأقوى، إلى التاسع من صفر سنة 421 ه بالتحديد على ما ذكره ياقوت نقلا عن يحيى بن مندة. ويبدو أن مرجوليوث هو أول من حاول تحديد مولد مسكويه، وذلك في المقدمة التي قدمها لترجمته الإنجليزية للجزأين الأخيرين من تجارب الأمم انظر:...، فنراه وقد حدد مولد مسكويه مؤقتا سنة 330 ه، ثم يعود قائلا: أو أسبق بقليل. ثم يحاول الدكتور عزت ص 79 80 تقديم هذا التاريخ من 330 إلى 325 ه كما يقدمه الدكتور عبد الرحمن بدوي ص 20 21 أكثر من ذلك ويجعله سنة 320 قائلا: إن لم يكن قبل ذلك. وأما الدلائل أو الأمارات الموجودة لتحديد مولد مسكويه فهي: 1 - ما قاله مسكويه نفسه في تجارب الأمم في مقدمة حوادث سنة 340 فصاعدا، وذكر مصادره في تقرير تلك الحوادث. قال: أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة، أي بعد سنة 340 ه فهو عن مشاهدة وعيان، أو خبر محصل يجري عندي خبره مجرى ما عاينته. وذلك أن مثل الأستاذ الرئيس أبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد رضي الله عنه خبرني عن هذه الواقعة وغيرها بما دبره وما اتفق له فيها، فلم يكن إخباره لي دون مشاهدتي في الثقة والسكون إلى صدقه، ومثل أبي محمد المهلبي رحمه الله خبرني بأكثر ما جرى في أيامه، وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة، وحدثني كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره، وما شاهدته وجربته بنفسي فسأحكيه أيضا بمشيئة الله. 2 - ما قاله مسكويه في تجارب الأمم أيضا عن نفسه، انظر حوادث سنة 341. وذلك عند ذكر معز الدولة بالحدة والبذاءة، وموقف الوزير المهلبي من أخلاقه. قال مسكويه: وكان معز الدولة حديدا، سريع الغضب، بذيء اللسان، يكثر سب وزرائه والمحتشمين من حشمه، ويفتري عليهم، فكان يلحق المهلبي رحمه الله من فحشه وشتمه عرضه ما لا صبر لأحد عليه، فيحتمل ذلك احتمال من لا يكترث له وينصرف إلى منزله، وكنت أنادمه في الوقت، فلا أرى لما يسمعه فيه أثرا، ويجلس لأنسه نشيطا مسرورا.... أما في الدليل الأول فيحدثنا مسكويه عن طول الصحبة وكثرة المجالسة التي كانت بينه وبين الوزير المهلبي، وفي الدليل الثاني يقول: وكنت أنادمه في الوقت. والمعروف أن المهلبي قد تولى الكتابة لمعز الدولة سنة 339 ه وخوطب بالوزارة سنة 345 ه، وتوفي في شعبان سنة 352 انظر التجارب، حوادث سنوات 339، 345، 352، والفترة الواقعة بين سنتي 339 و 352 هي التي كانت فيها تلك المنادمة والصحبة والمجالسة، التي وصفها مسكويه بالكثرة والطول. نعم صحيح أنه قد صحب الوزير المهلبي في أيام شبيبته كما صرح به أبو سليمان أيضا في الصوان ص 346 347 ولكن مسكويه في هذه الشبيبة، لا يمكن أن تكون سنه أقل من 25 سنة، وخاصة بالنظر إلى أنه كان من خواصه ووجوه المختصين به كما أضاف أبو سليمان وكان من الحنكة والبصيرة على مستوى جعل المهلبي يتخذه نديما له ويخبره بأكثر ما جرى في أيامه، كما جعل مسكويه يعد نفسه مصدرا من مصادر تاريخ سنة 340 فصاعدا، وذلك في قوله: وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره، وما شاهدته وجربته بنفسي، فسأحكيه بمشيئة الله. فبذلك لا يصح أن يكون مولده بعد سنة 320، كما تكون منادمته وصحبته الطويلة ومجالسته الكثيرة للوزير المهلبي ابتداء من عام 345 أي دون احتساب الخمس السنوات الأولى 339 344 ه من وزارة المهلبي وذلك لبعض الاحتمالات السلبية التي قد تعتري هذا الافتراض. 3 - وهناك دليل آخر، وهو دليل على طول عمره أكثر من كونه دليلا على تحديد سنواته أو تحديد ميلاده، وهو أن لمسكويه أبياتا يشكو فيها سوء أثر الهرم وبلوغه أرذل العمر انظر الثعالبي التتمة ص 96. فبهذا لا نستبعد أن يكون مسكويه قد عمر مائة سنة كاملة 320 421 إن لم نقل أكثر من ذلك، وعاش قرنا كاملا هو ألمع القرون الاسلامية حضارة، وهو عصر النهضة في الاسلام كما سماه آدم متز. وإذا عرفنا أن دولة البويهيين قد بدأت هي أيضا في سنة 320 ه، فيكون مسكويه والدولة البويهية، تربين، أو، لدين، تعاصرا قرنا كاملا. والسنوات المائة هذه كانت قمة ازدهار تلك الدولة. وأما السنوات المتبقية من عمر الدولة 27 421 448 ه فهي سنوات تنحدر الأسرة البويهية فيها، إلى الضعف والاضمحلال. فبذلك، يصبح مسكويه وثيقة حية من أوثق وثائق تلك الحقبة التاريخية التي لها خصائص وميزات في تاريخ الفكر والعلم الاسلاميين، وإن كانت بالنسبة للخلافة العباسية عصر تفكك وتعدد في مراكز الحكم، وهذا بالذات، أدى إلى تعدد مراكز العلم أيضا، كما أدى إلى ازدهار تلك المراكز، ونبوع العلماء المنتمين إلى مختلف أرجاء العالم الاسلامي آنذاك، وذلك لتنافس الأمراء وتفاخرهم فيما بينهم باجتذاب العلماء والأدباء إلى بلاطاتهم. فنبغ في غضون ذلك رجال علم وحكمة وأدب وسياسة عاصرهم مسكويه وعاصروه، وكان مسكويه على اتصال وثيق بكثير منهم. مسكويه، لا ابن مسكويه واختلفوا لا سيما في القرون الاسلامية الأخيرة في أنه: من هو الملقب بمسكويه؟ هو، أو أبوه محمد، أو جده يعقوب؟. والواقع أن مسكويه لقبه هو، وأما الاختلاف الموجود بهذا الصدد، فيرجع
10 أولا، إلى عدم الانتباه إلى التسمية التي سماه بها معاصروه من أصدقائه وزملائه، وثانيا، لأن بعض المتأخرين رأوا مسكويه يسمي نفسه بشكل لا يمكن معه البت، لو لم نستدل بما دعاه معاصروه. فإننا نراه قد يسمي نفسه الأستاذ أحمد بن محمد مسكويه انظر التجارب 136 6 310 5 جاويدان خرد الحكمة الخالدة: 375، كما قد يسمى أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه أيضا جاويدان خرد ص 5، ورسالته إلى أبي حيان في ماهية العدل، ص 12. فوقوع مسكويه تارة بعد اسم أبيه محمد، وتارة بعد اسم جده يعقوب، كان سبب الخطأ الذي شاع في ما بعد، في ضبط اسم مسكويه، فأوهم بعض الكتاب أن مسكويه لقب لأبيه، أو جده، فكتبوه: أحمد بن مسكويه، أو: أحمد بن محمد بن مسكويه أو بشكل أغرب: أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه، بمعنى أن مسكويه أصبح لقبا لجد جده انظر الخوانساري، الروضات 1: 254، والطهراني، الذريعة 3: 347. والحقيقة أنه عند ما يقال: أحمد مسكويه أو أحمد بن محمد مسكويه، أو أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه، فالقصد أن يجيء اللقب بعد أحمد أي بعد اسمه، فإذا ذكر الاسم وحده فاللقب يتلوه مباشرة. ولكن إذا ذكر الاسم مخصصا بذكر اسم الأب، فيجئ اللقب بعد ذكر الأب، وإذا كان هناك تخصيص آخر بذكر اسم الجد فيأتي اللقب بعد ذكر اسم الجد، وهكذا. لأن مسكويه ذاته لم يذكر اسمه متلوا باسم أبيه، أو جده دائما، بل نراه أحيانا يذكر لقبه بعد كنيته أبي علي فقط، ونراه يفعل ذلك بتكرار مشهود يبدد كل الشكوك بهذا الصدد، ففي شوامله على هوامل أبي حيان التي يبلغ عددها 175 مسالة، نراه يذكر اسمه في مستهل كل جواب بقوله: قال أبو علي مسكويه اللهم إلا في الإجابة الأولى، حيث يذكر اسمه متلوا باسم أبيه فيقول: قال أبو علي أحمد بن محمد مسكويه، أي لمرة واحدة فقط، وذلك لتخصيص اسمه باسم أبيه كما أشرنا إلى ذلك، فاحمد نفسه هو الملقب بمسكويه، وليس ابنا لمسكويه، أو سبطا له. وأما المعاصرون لمسكويه 320 421 الذين سموه في كتبهم مسكويه فهم: أبو سليمان المنطقي 310 391 ه في صوان الحكمة: ص 321، وأبو حيان التوحيدي 320 414 ه في الامتاع: 1: 35، 136، 3: 227، وفي الصداقة والصديق: 67 68، وفي مثالب الوزيرين: 18 19، وفي المقابسات: 25 26، وأبو منصور الثعالبي 350 429 ه في تتمة اليتيمة 1: 96، وأبو بكر الخوارزمي... 382 ه في رسائله: 102. وأما بديع الزمان الهمذاني... 389 ه فنقل ضبطه ياقوت في معجم الأدباء حيث قال: وللبديع الهمذاني إلى أبي علي مسكويه على أن هناك طبعة غير محققة من رسائل البديع ص 100، 323 ورد فيها اسم مسكويه بصورة خاطئة هكذا: أبو علي بن مشكويه فلو كان ضبط البديع كمصدر لياقوت مخالفا لضبط ياقوت، أو ضبط أبي حيان، أو ضبط ابن مندة، من الذين ذكرهم ياقوت في معجمه، لكان ياقوت ذكر الاختلاف. وأما القدماء من غير معاصري مسكويه الذين سموه مسكويه أيضا فهم: الروذراوري 437 488 ه في مقدمته على الذيل ص 8، وابن أبي أصيبعة 579 616 ه في عيون الأنباء الطبعات الثلاث ص 245، ص 246، ص 331، وياقوت في معجم الأدباء نشرة مرجوليوث ج 5: ص 5، 6، 10، 11، والصفدي 696 764 ه نقل كلام ياقوت بتمامه انظر مرجوليوث في نشرته لياقوت 5: 5 الحاشية. وقد صرح ياقوت بان مسكويه لقب لأحمد حيث ذكره في عنوان كلامه بقوله: أحمد بن محمد بن يعقوب الملقب مسكويه برفع الملقب والحق مع مرجوليوث حيث ضبط الملقب بالرفع نعتا لأحمد لا ليعقوب، وذلك لأن مرجوليوث شاهد بوضوح أن ياقوت نفسه يكرر ذكر مسكويه في خمسة مواضع ناقلا عن معاصريه بلفظ مسكويه، فلم يتردد في ضبط الملقب بالرفع إذا كان الضبط منه وليس من مخطوطة معجم الأدباء، ونحن نعتبر ابن مندة أيضا من الذين ذكروا مسكويه، مسكويه حيث نرى ياقوت ينقل عنه بنفس الضبط. ومن هؤلاء القدماء القفطي 564 646 ه في تاريخ الحكماء ص 331 ونصير الدين الطوسي 597 672 ه في أخلاق ناصري باللغة الفارسية ص 35، 36، وحاجي خليفة المتوفي 1067 ه في كشف الظنون، والسخاوي القرن التاسع في التوبيخ ص 39. وأما في الموسوعات ودوائر المعارف، فهو مسكويه أيضا في: دائرة المعارف الاسلامية الطبعة الجديدة 1971، الإنجليزية والفرنسية انسحابا من الموقف في الطبعة القديمة، ففي تلك الطبعة ورد ابن مسكويه كما في الطبعة العربية والطبعة الفارسية دانشنامه إيران وإسلام، وهو مسكويه أيضا عند دهخدا في لغتنامه، وكذلك في دائرة المعارف للبستاني، كما صرح في أعيان الشيعة بقوله: مسكويه لقب أحمد نفسه كما صرح به جماعة.... أما الدراسات المستقلة التي نشرت عن مسكويه، فهو في كلها مسكويه كما رأيت من عناوينها التي سبق أن ذكرناها. ومن بين المستشرقين فان مرجوليوث أيضا صرح بقوله: إن مسكويه لقب له بالذات لا لأبيه وهذا يظهر بجلاء كثير من كلام معاصريه... انظر. وكذلك برجشتر أيسر الذي أورد مواضع جاء فيها مسكويه بدون ابن انظر:. 65 674، كما أخبرنا الدكتور عزت عن مخطوطات رسائل مسكويه مجموعة راغب باشا جاء فيها ضبط مسكويه بالصورة الصحيحة. أما ما ورد في مخطوطة كتاب تاريخ الحكماء للبيهقي انظر عزت: 146 أو في مخطوطة نزهة الأرواح للشهرزوري حيث جاء ابن مسكويه فهو اقتضا محرف خاطئ من صوان الحكمة لأبي سليمان، ونحن عرفنا ضبط أبي سليمان سواء في ما نقله عنه ياقوت، أو في الصوان نفسه في نشرة بدوي ص 321، 346. فهاتان المخطوطتان لا يمكن الاعتماد عليهما، ولعل أخطاء المتأخرين في ضبط اسم مسكويه إنما نشأ عنهما. وإما ما جاء في مخطوطة ابن خلكان 608 681 ه الذي كتبه بخط يده المتحف البريطاني، الإضافات، رقم 25735، ورقة 10 ب والذي اعتمد عليه بروكلمن، الملحق 1: 582 رقم 1 وقال من المحتمل أن يكون مسكويه وأصله مشكويه لقب جده كما فعل أيمدروز. فمردود ما دام مسكويه ومعاصروه الكبار يشهدون بخلافه. فبذلك كله، وفي نهاية المطاف، فهو مسكويه، أي هو أبو على أحمد
11 مسكويه ابن محمد بن يعقوب أي اللقب له، لا لأبيه، أو لجده، أو لجد جده!. مسكويه: مشكويه إن الأصل الفارسي لمسكويه هو مشكويه كما جاء في بعض طبعات رسائل الهمذاني، وعند دولتشاه السمرقندي القرن التاسع الهجري في تذكرة الشعراء، ص 24 وعند يوستي في الأسماء الإيرانية بالألمانية، ص 218، وعند بروكلمن الملحق 1: 582 الحاشية وعند جب في دائرة المعارف الاسلامية، وكذلك عند لفيف من الكتاب الإيرانيين منهم سعيد نفيسي في ترجمته لابن سينا ص 131، والدكتور دانش بزوه على ظهر نشرته لجاويدان خرد. أما في تاريخ كمبردج فالشكل الفارسي للاسم بالسين: مسكويه: انظر 30 429. 4... وهذا غريب. لأن النطق الفارسي للكلمة منذ عصر مسكويه، أو أسبق من ذلك، لا يعترف بوجود حرف السين فيها، مهما يكن من أمر أصلها في اللغات الهند وإيرانية القديمة. فالسين هذه علامة وجود شكلين لتعريب هذا الاسم: مسكويه، مسكويه. والأول أوفق للنطق العربي، والثاني أقرب إلى الشكل الفارسي: مشكويه. إن كلمة مشكويه تركبت من جزأين: مشك أويه أما الجزء الأول فهو في الفارسية بضم الميم وكسرها، وأصله في السنسكريتية مصغر: بالفارسية موش: الفأرة، وفي اليونانية، وفي اللاتينية، ومعنى الكلمة: المادة العطرة المعروفة المأخوذة من غزال المسك، ولا حاجة إلى القول أنه عرب إلى مسك. قال الجوهري: المسك من الطيب فارسي معرب. قال: وكانت العرب تسميه المشموم. أما الجزء الثاني أويه فهو لاحقة تلحق بالكلمات لبيان الاتصاف، أو النسبة أو التصغير، أو الاستعطاف. وأما إذا قلنا مشك بفتح الميم، فمعناه جلد الغنم مدبوغا وغير مدبوع، أو الوعاء الذي يصنع منه ويجعل السقاء فيه الماء. وتعريبه مسك بالسين المهملة وبنفس المعنى انظر اللسان، نفس المادة. وهذا الشكل بمعناه ربما يهم الذين ضبطوا مسكويه بفتح الميم، كما نجده عند مرجوليوث في نشرته لمعجم ياقوت 5: 5 17 مع العلم بأنه ذكره بالكسر في مقدمته لترجمة تجارب الأمم. أوصافه وألقابه الأخرى لقد وصفه المترجمون له من القدماء والمتأخرين بقولهم: الحكيم، المتكلم، الفيلسوف، الأخلاقي، المؤرخ، الرياضي، المهندس، اللغوي، الأديب، الشاعر، الكاتب، الذكي، الناقد، النافذ الفهم، الكثير الاطلاع على كتب الأقدمين ولغاتهم المتروكة. كما كان من ألقابه، علاوة على لقب مسكويه: الخازن، والنديم، كما لقب بالمعلم الثالث، مع أن اللقب كان قد ترشح له ابن سينا أيضا. ويقال إن مسكويه لقب بالمعلم الثالث لدوره الفذ الذي لعبه في إعادة بناء الفلسفة اليونانية في فرعها العملي، أي في فلسفة الأخلاق، وجمع أشتاتها وتمحيصها وترصيص أركانها، بصورة لم يزد عليها أي مصنف صنف في فلسفة الأخلاق حتى زماننا هذا. أضف إلى ذلك أن أبرز كتاب في الأخلاق، ظهر في اللغة الفارسية، هو كتاب: أخلاق ناصري، الذي ليس إلا ترجمة لكتاب مسكويه: تهذيب الأخلاق، نقله إلى الفارسية نصير الدين الطوسي نقلا يكاد يكون حرفيا، وهو معجب بمسكويه وكتابه إعجابا كبيرا، يعرب عنه بأبياته المعروفة التي نظمها في زمن سابق لترجمته، وأولها: بنفسي كتاب حاز كل فضيلة... انظر أخلاق ناصري: 36. إن هذه الألقاب والنعوت التي لقب بها مسكويه ونعت، لهي دليل على تعدد أبعاد شخصيته وسعة آفاقه في العلم والحكمة، تعززه أدلة أخرى تتمثل في تلك الآثار الكثيرة القيمة التي تركها لنا، والتي نوردها ونعرفها هنا باختصار: آثاره في حقول المعرفة 1 - ترتيب السعادات ومنازل العلوم الترتيب، ترتيب السعادات. انظر التهذيب: زريق: 15، 49، 91، 124، السعادة، طبعة الطوبجي، ترتيب العادات. انظر أعيان الشيعة. والكتاب شرح لمراتب السعادة الثلاث، وتحديد دقيق لمراتب العلوم حسب مدرسة أرسطو، وقيمتها في الرقي بالانسان نحو السعادة والكمال الإنسي التهذيب: 15. 2 - الفوز الأصغر الفوز الصغير. انظر الصوان، بدوي: 347، والقفطي: 332 وقد يسمى الكتاب باسم آخر هو: كتاب الجواب عن المسائل الثلاث. اختصر إقبال اللاهوري نظام مسكويه الفلسفي من حلال الفوز الأصغر، وقال: إني أطرح الفلسفة الأولى لمسكويه التي لا شك أنها أكثر انتظاما من فلسفة الفارابي، كما أستبدل الفلسفة الأفلاطونية الحديثة لابن سينا، بالخدمة الأصيلة التي أداها مسكويه تجاه فلسفة بلاده. انظر: سير فلسفة در إيران: 33. 3 - الهوامل والشوامل وقد استعار أبو حيان التوحيدي كلمة الهوامل لأسئلته المبعثرة التي تنتظر الجواب 175 مسالة واستعمل مسكويه كلمة الشوامل في الإجابات التي أجابه بها، فضبط بها هوامل أبي حيان التي كانت كالإبل المسية، لأن الشوامل هي الحيوانات التي تضبط الإبل الهوامل فتجمعها انظر أمين، المقدمة ص ج. 4 - تهذيب الأخلاق كتاب الطهارة، كتاب طهارة النفس، طهارة الأعراق. انظر نشرة زريق: 91، 104 أما تهذيب الأخلاق اسم أطلقه مسكويه أيضا في كتابه الآخر جاويدان خرد انظر نشرة دانش بزوه: 24. وقد اتخذ اسم الكتاب أشكالا مختلفة في مخطوطات الكتاب. نقله نصير الدين الطوسي إلى الفارسية وسماه: أخلاق ناصري، كما قال فيه وفي مؤلفه أبياته الأربعة المعروفة، إعجابا بهما. ونقله أبو طالب الزنجاني إلى الفارسية أيضا، كما نقله زريق إلى الإنجليزية بيروت 1968 م وأركون. إلى الفرنسية دمشق، المعهد الفرنسي 1969 م. والكتاب يتألف من ست مقالات هي: الأولى في مبادئ الأخلاق، والثانية في الخلق وتهذيبه والكمال الإنساني وسبيله، والثالثة في الخير وأقسامه، والسعادة ومراتبها، والرابعة في العدالة، والخامسة في المحبة والصداقة، والسادسة في صحة النفس وحفظها. 5 - الفوز الأكبر الكبير ليس للكتاب أثر في فهارس الكتب المطبوعة. بيد أن هناك رأيا قائلا بكون الفوز الأكبر وتهذيب الأخلاق كتابا واحدا، على أن أبي سليمان أورد العنوانين لكتابين مختلفين انظر الصوان: 347. 6 - فوز السعادة نور السعادة. انظر أعيان الشيعة. نرجح أن يكون
12 الشبه القريب بين فوز ونور قد أدى إلى تصحيف جعل صاحب ريحانة الأدب 8: 208 يعدهما عنوانين لكتابين مختلفين وهما كتاب واحد. كما أن موضوع الكتاب يظهر من عنوانه بجلاء. 7 - رسائل فلسفية، محفوظة في مجموعة راغب باشا تحت رقم 1463. وهذه الرسائل مختصرة تبلغ صفحاتها 32 صفحة وتتراوح بين صفحة واحدة و 16 صفحة وعناوينها هي: أ. رسالة في اللذات والآلام، ب. رسالة في الطبيعة، ج. رسالة في جوهر النفس والبحث عنها، د. رسالة في العقل والمعقول، ه. رسالة في النفس والعقل، و. رسالة في إثبات الصور الروحانية التي لا هيولى لها، ز. ما الفصل بين الدهر والزمان. 8 - رسالة في ماهية العدل. العنوان الكامل لها كما جاء في مستهل المخطوطة الموجودة في مشهد 1: 43، 44 137 هو: رسالة الشيخ أبي علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه إلى علي بن محمد أبي حيان الصوفي، في ماهية العدل وبيان أقسامه. 9 - جاويدان خرد. قال مسكويه عنه:... فهذه جمل نحكمها قبل تفصيلها بالجزئيات، ولولا أنا قد أحكمنا لك الأصول كلها في كتابنا الموسوم بتهذيب الأخلاق، لأوجبنا لك إيرادها ها هنا، ولكن هذا كتاب غرضنا فيه إيراد جزئيات الآداب بمواعظ الحكماء من كل أمة ونحلة، وتبعنا فيه صاحب كتاب جاويدان خرد أحد ملوك الفرس الأقدمين كما وعدنا به في أوله، ولأن موضوع الكتاب الأول كتاب فارسي، وجب أن نبدأ بآداب الفرس ومواعظهم، ثم نتبعها بآداب الأمم الآخرين. فاذن، القسم الأول للكتاب بني على جاويدان خرد من تأليف قدامي الفرس، والقسم الثاني هو آداب الأمم الأخرى، بدأها بآداب الفرس المتأخرين إلى ما قبل الاسلام. وأما آداب الأمم الأخرى فهي: آداب الهند، آداب العرب، آداب الروم منها لغزقابس، حكم الاسلاميين. لقد أسهبنا الكلام عن هذا الكتاب وآثار مسكويه الأخرى في دراستنا المستقلة عن مسكويه. 10 آداب الدنيا والدين. ذكره في أعيان الشيعة 3: 158 وصاحب الذريعة 1: 387 بفارق أن الأخير ضبطه أدب الدنيا والدين ومصدرهما صاحب الروضات الذي نقل بدوره عن النراقي في الخزائن. كل ما نقله الخوانساري بشأن هذا الكتاب هو ما أورده في حاشية الروضات 1: 255 وهذا نصه: وقال المحقق النراقي في كتابه الخزائن: قال ابن مسكويه في كتاب آداب الدنيا والدين: الفرق بين السرف والتبذير، أن السرف هو الجهل بمقادير الحقوق، والتبذير هو الجهل بمواقع الحقوق. انتهى. ثم قال صاحب الروضات: وظني أن الغالب على كتابه هذا الذي لم نذكره في المتن، متون اللغة، وأصول المعرفة مع شئ من مراسم الشريعة وأحاديث والعلم والحكمة، فيلاحظ إن شاء الله منه ره. 11 - أنس الفريد. هذا هو عنوانه عند أبي سليمان في الصوان: 247، وياقوت 5: 10 والقفطي 331 والشهرزوري انظر عزت: 144، وعنوانه: نديم الفريد، عند كل من الخوانساري 1: 255 والأمين 1: 146. قال ياقوت: وله كتاب أنس الفريد وهو مجموع يتضمن أخبارا وأشعارا وأمثالا غير مبوب. وقال القفطي: فمن تصانيفه كتاب أنس الفريد وهو أحسن كتاب صنف في الحكايات القصار والفوائد اللطاف. قال آدم متز 1: 468، وذلك بعد أن تحدث عن تطور القصص المسلية والأسمار الأجنبية الظاهرة في فن القصة منذ القرن الثالث، قال: وأخيرا جاء دور مسكويه، وكان أكبر مؤرخي القرن الرابع، فألف كتاب أنس الفريد وهو أحسن كتاب صنف في الحكايات القصار والفوائد اللطاف. وهذه القصص الجديدة، هي من نوع يغاير كل المغايرة القصص القديمة التي ألفها ابن قتيبة وصاحب العقد، ففيها نجد لأول مرة تمام الأسلوب القصصي الاسلامي، أعني طريقة القصص التي ليست عربية خالصة. 12 - الخواطر أنس الخواطر؟. ذكره أبو سليمان في الصوان باسم الخواطر ونقل منه قطعة تدل على أن الكتاب في النفس، وأنها جوهر بجهة وعرض بجهة، وما إلى ذلك. 13 - حقائق النفوس. هكذا ورد في أعيان الشيعة وتبعا له في ريحانة الأدب 8: 208 وهو مجال آخر لدراسات مسكويه النفسية. 14 - كتاب السياسة للملك أعيان الشيعة والخوانساري ذكره مسكويه في التهذيب. ذكر السيد حسن الصدر في كتابه التأسيس ص 384 كتابا لمسكويه بعنوان: كتاب السياسة السلطانية. ونحن نظن أنه ليس غير كتاب السياسة للملك. 15 - المستوفى في الشعر. ذكر هذا الكتاب بنفس العنوان عند كل من أبي سليمان ص 247 وياقوت 5: 10. وذكره الشهرزوري ص 76، عزت: 144، وأعيان الشيعة 3: 158. ولكن الخوانساري ذكره بوصفه لا بعنوانه. فقال عند إحصاء آثار مسكويه... كتاب في مختار الأشعار فأصبح ذلك عنوانا للكتاب عند صاحب الريحانة 8: 208. ذكره أبو سليمان قائلا: المستوفى في الشعر المشتمل على حل المختار منه. 16 - الرسالة المسعدة. ذكره مسكويه في التهذيب بنفس العنوان كما ذكره أبو سليمان ص 24 بعنوان رسالة المسعدة دون أي شرح له، ولكن عنوان الرسالة ينطق بكونها دراسة في مسالة السعادة، لا سيما بالنظر إلى ما نعرفه عند مسكويه من الاهتمام بموضوع السعادة. 17 - فوز النجاة. ذكر الكتاب عند بعض من درس مسكويه هامشيا بعنوان: فوز النجاة في الاختلاف الأخلاق. يمكن أن يكون عنوانا ثانيا لكتابه الآخر المسمى فوز السعادة، ولكننا لا نستبعد أن يكون عنوانا لكتاب على حدة، بالنظر إلى كثرة ما كتبه مسكويه خصيصا في علم النفس والأخلاق. 18 - كتاب السير. ذكره ياقوت 5: 10 كما عرفه باختصار قائلا: ... وكتاب السير، جاده، ذكر فيه ما يسير به الرجل نفسه من أمور دنياه. مزجه بالأثر، والآية، والحكمة، والشعر. هذا كل ما أورده ياقوت ونقل عنه أعيان الشيعة بتمامه. 19 - كتاب الجامع. ورد بنفس العنوان عند كل من ياقوت 5: 10 والعاملي 10: 146. ورجح عزت ص 140 أنه في الطب. إن كان هذا صحيحا يمكن القول، إنه أجمع من كتاب الرازي المسمى بالحاوي، لأن مسكويه درس الرازي وأكب على كتبه. ثم كتب هذا الكتاب في ضوء اجتهاداته بعد تلك الدراسة.
13 20 - كتاب في تركيب الباجات من الأطعمة كتاب الطبيخ. انظر ابن أبي أصيبعة ص 24. قال القفطي ص 332 وذلك عند احصائه لكتب مسكويه الطبية:... وكتاب في تركيب الباجات من الأطعمة، أحكمه غاية الاحكام، وأتى فيه من أصول علم الطبيخ وفروعه وكل غريب حسن. 21 - كتاب الأشربة. ذكره ابن أبي أصيبعة ص 245 بنفس العنوان، كما ذكره في أعيان الشيعة بقوله: كتاب الأشربة وما يتعلق بها من الأحكام الطبية. 22 - كتاب في الأدوية المفردة هذا الكتاب تفرد بذكر اسمه القفطي ص 332 فلم يذكره غيره من المترجمين لمسكويه، من أمثال ابن أبي أصيبعة الذي ذكر بعض آثاره في الطب والعلاج. 23 - مختصر النبض. كتاب في الطب كتب لعضد الدولة البويهي، وهو متنازع فيه بين ابن سينا وبين أبي علي مسكويه، أو أبي علي مندويه، أما انتساب الكتاب إلى ابن سينا فمردود، لأنه كان طفلا عمره سنتان عند ما مات عضد الدولة، ولذلك ذهب فيلسوف الدولة صاحب كتاب مطرح الأنظار إلى أن الكتاب لأبي علي مسكويه أو لأبي علي مندويه انظر الكود، تاريخ بزشكى إيران ص 280. 24 - تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين. قال في الذريعة: ذكر هذا العنوان صاحب الريحانة ولم نجده عند غيره. قال صاحب الريحانة عند ذكره لآثار مسكويه: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين في الأخلاق، وللراغب الأصفهاني أيضا كتاب في معرفة النفس بهذا العنوان. 25 - أحوال الحكماء وصفات الأنبياء السلف. هكذا ورد العنوان عند الخوانساري 1: 256، وهو في أعيان الشيعة: أحوال الحكماء السلف وصفات بعض الأنبياء السالفين. 26 - المختصر في صناعة العدد. إن أبا سليمان المنطقي ص 247 وبعده الشهرزوري عزت: 141 يشيران إلى أن له مصنفات في جميع الرياضيات... والحساب و... مما هو متداول في الأيدي يقرأ عليه في أيام مجالسه. دون ذكر لعنوان واحد من عناوين آثاره الرياضية. بيد أن مسكويه نفسه ذكر في التهذيب اسم أحدها وهو: المختصر في صناعة العدد. 27 - فقر أهل الكتب. ذكره الشهرزوري ص 76، انظر عزت: 141، وهو كتاب قد يكون طريفا كما نبه عليه عزت. لأن مسكويه ربما يعرض فيه نتائج تجربته الخاصة مع هذه الفئة التي احتك بها، والتي ينتمي إليها بحكم كونه خازنا لمكتبات الأمراء والوزراء البويهيين. 28 - رسالة في دفع الغم من الموت. هكذا ورد عند سزكين 336 3 حققها لويس شيخو ونشرها تحت عنوان رسالة في الخوف من الموت عام 1911 م، ونسبها خطا إلى ابن سينا وهي من مسكويه انظر أخلاق ناصري، نشرة مينوى ص 606 ونسبت مرة أخرى إلى ابن سينا عند ما نشرت ضمن رسائل ابن سينا في الحكمة المشرقية ليدن 1894 انظر محقق ص 209، 430، كما نقلها إلى الفارسية البرقعي القمي في 73 صفحة تحت عنوان: چرا از مرگ بترسم؟ لماذا أخاف من الموت؟ قم، ط 2، 1327 ش انظر مشار. 29 - تعاليق على الكتب المنطقية. ذكرها أبو سليمان المنطقي ص 247 بقوله: تعاليق حواشي الكتب المنطقية. كما ذكرها الشهرزوري والخوانساري وأعيان الشيعة بتغيير طفيف في الاسم. 30 - وصية له. أوردها أبو سليمان في الصوان ص 247 352 ومسكويه نفسه في جاويدان خرد نشرة بدوي ص 285 292 أولها: يا طالب الحكمة طهر لها قلبك... وختامها: بلا حاجة إلى تفكير وتمييز وتطلب. كما أورد أبو سليمان فصلا آخر من كلام مسكويه بعد إيراده الوصية. 31 - وصية أبي علي مسكويه عهده مع نفسه. أوردها ياقوت 5: 17 19 ونقل عنه أعيان الشيعة أولها: هذا ما عاهد عليه أحمد بن محمد وهو يومئذ آمن في سربه... وختامه: وصرف جميع البال إليه. 32 - مراسلة بينه وبين بديع الزمان الهمذاني. للبديع رسالة اعتذار إلى مسكويه، أجاب عليها مسكويه. تجد الرسالة والجواب عند ياقوت 5: 11 17. 33 - شعر مسكويه. نقل الثعالبي التتمة: 96 100 ونقل عنه ياقوت 5: 7 17 نماذج من شعره. وأثنى عليه الثعالبي بقوله: وكان في الذروة العليا من الفضل والأدب والبلاغة والشعر. 34 - نزهت نامه علائي. ذكره في أعيان الشيعة وصاحب الريحانة 8: 208 ونسباه إلى مسكويه. كما ذكره صاحب الذريعة 24: 130 ونسبه إلى شهمردان بن أبي الخير الرازي قائلا: وقد نسبه إسماعيل باشا هدية 1: 73 خطا إلى ابن مسكويه وعنه أخذ في أعيان الشيعة وكذلك أخطأنا نحن في النابس. فاذن الكتاب ليس لمسكويه. 35 - تجارب الأمم. هذا الكتاب من كتب مسكويه. كتاب جليل من التاريخ، ومصدر لا يستغنى عنه في الدراسات التاريخية، لم ينشر حتى الآن مع الأسف لا عندنا في إيران، ولا في غيرها من البلدان الاسلامية أو البلدان الأخرى، إلا بعض أجزائه، فأخذنا على عاتقنا تحقيق نصه ونشره بكامل أجزائه، كما عزمنا على ترجمته إلى اللغة الفارسية، حتى لا يبقى مواطنونا الذين هم مواطنو مسكويه أيضا، محرومين من قراءته، والتمتع بما يتضمنه هذا الأثر العظيم، من الفوائد في دراسة الماضي، والاعتبار به. ولتجارب الأمم كمصدر كبير لدراسة التاريخ أهمية بالغة، كما له من حيث عرضه ونشره والاهتمام به، مصير ملتو غريب، نحاول أن نتناوله هنا بقدر ما يتيح لنا المجال فنقول: التاريخ كما يراه مسكويه بنظرة إلى مقدمة تجارب الأمم، يتضح أن التاريخ في رأي مسكويه، يشتمل على أحداث يمكن للانسان أن يستفيد منها تجربة في الحياة الفردية والاجتماعية، في أمور لا تزال يتكرر مثلها، وينتظر حدوث أشباهها، وإذا عرف الإنسان تلك الأحداث وقيمتها التجريبية ثم اتخذها إماما لنفسه، يقتدي به، فهذا يجعله يحذر مما ابتلي به قوم، ويتمسك بما سعدوا به. والنظرة هذه تبتني على رأيه القائل: إن أمور الدنيا متشابهة، وأحوالها متناسبة. فباستطاعة الإنسان أن يقارن الحاضر بالماضي، ويهتدي بهدي التجارب التي حصلت فيه للأسلاف. ثم إن ما يحفظه
14 الإنسان من التاريخ، كأنه تجارب له، باشرها بنفسه، فأصبح خبيرا بالأمور التي لم يجربها فعلا في حياته، حتى إنه يعرفها بعد ذلك قبل وقوعها، فيستقبلها استقبال الخبر، فيفعل في علاجها الأنسب والأجدى، فيحل مشاكله، وينجح في مشاريعه نجاح الخبير الواعي. بيد أن مسكويه لا حظ أن تلك الأخبار التاريخية الحقة مغمورة بالأسمار، متبددة في الخرافات والأساطير التي ليست لها فائدة إلا استجلاب النوم بها، والتأنس بالمستطرف منها. فأخذها بالنقد واستخراج ذات القيمة منها، وضرب صفحا عما لم يجد فيها قيمة تاريخية تجريبية وتركها وهو يرى أن للأحداث التاريخية الحقة أيضا أنس السمر الذي يوجد في الخرافات والأساطير. إن مسكويه لم يثق بروايات ما قبل الطوفان، لفقدانها القيمة التاريخية التي ينشدها هو، كما لم يجد في المعجزات تجربة إنسية يستطيع الجميع أن يمارسوا مثلها، أو يعتبروا بها، وهذا لا يعني أنه ترك ما كان للأنبياء من تدابيرهم البشرية التي ليست مقرونة بالاعجاز، لأن هذا النمط من أخبارهم وارد في صميم ما اهتم به مسكويه في كتابة التاريخ. مع العلم بان لمسكويه كتابا في صفات الأنبياء السالفين تحت عنوان: أحوال الحكماء وصفات الأنبياء السالفين أنظر التصدير: الآثار. وهذا رد على المستشرق كزادي فو 106 في ما اتهمه به من أنه لم يحترم السنة. وأخيرا، عمد مسكويه إلى أحداث تجري على البخت والاتفاق، مما هو خارج عن نطاق تدبير الإنسان وقدرته، حتى تكون في حسبانه، ولا تسقط من ديوان الحوادث عنده، وما ينتظر وقوع مثله، وإن لم يستطع تحرزا من مكروهه. إنه لن ينسى ما ضمنه في مقدمة الكتاب، بل نراه يؤكد هنا وهناك، وبمناسبات شتى، على أغراضه ويصر على المضي في النهج الذي نهجه لنفسه في عمله. فحينا نراه يبرر تركه ذكر بعض الأشياء بقوله: لخروجها عما بنينا عليه غرض هذا الكتاب 264 1 وحينا يؤكد على هذا الغرض حتى في عنوان حدث أراد ذكره، ففي عنوان الحديث عن الشورى يقول: ذكر ما يجب ذكره من حديث الشورى وما يليق منه بهذا الكتاب. وكذلك وبعد أن ينقل الحوار الذي جرى بين الإمام علي بن أبي طالب والزبير: الحوار الذي أثر في الزبير حتى أقسم أن لا يحارب عليا لولا وسوسة ابنه له واقتراحه التكفير عن اليمين بعتق غلام له، يقال له: مكحول وبعد إيراده هذا الحدث نراه يقول: وإنما حكينا هذه الحكاية لأن فيها تجربة تستفاد، وإن ذهب على قوم فانا ننبه عليه، وذلك أن المحنق ربما سكن بالكلام الصحيح، والساكن ربما أحنق بالزور من الكلام، وذلك بحسب تأتي من يريد ذلك، وإتيانه من وجهه. 550 1 ولا يهمه في ذلك شخصية القائل أو الفاعل، ولا ينظر إلى من قال أو فعل، بل يهمه مغزى ما قال أو فعل، من حيث تلاؤمه وأغراضه في كتابه تجارب الأمم. فنراه يستحسن موقفا من مواقف الضحاك الشهير بالسفك والقتل والظلم، وينقل كلاما منه حيث قال في الإجابة على أمه البذيئة: فلما هممت بالسطوة بهم أي: بكابي الأصبهاني وأصحابه عند ما زاروه للتأتي له واستعطافه 14 151 وقف الحق بيني وبينهم كالجبل، فحال بيني وبين ما أردت. ثم يعلق مسكويه على هذا الكلام بقوله: فهذا ما استحسن من فعل الضحاك وقوله ولا يعرف له شئ مستحسن غيره. إن هذا الالتزام الواعي الذي يبديه مسكويه تجاه منهجه، هو ما لا نراه عند كثير من المصنفين. فمسكويه، كما قال روزنتال 196، 197 يمثل مستوى عاليا في الكتابة التاريخية، فهو قلما يهتم بالأمور التافهة، بل يدرك كل ما له قيمة تاريخية جوهرية ويعرض الأحداث الهامة بشكل معقول متماسك. إن المؤرخين المسلمين ومعظمهم ممن تأخر عن مسكويه وربما تأثر به بالذات نظروا إلى التاريخ من حيث هو درس وعظة وعبرة، ولكن مسكويه، السابق في هذا المضمار، هو المؤرخ الوحيد الذي نهج منهج الاستدلال الفلسفي مع ما كان له من نظرة أخلاقية عملية برغماتية إلى حوادث التاريخ زرياب: 118 بتصرف. إنك لا تجد بين المؤرخين المسلمين مؤرخا عمد إلى التاريخ عن وعي وجد، نشدانا للفوائد التي تنطوي عليها أحداثه، بالمستوى الذي عمد إليه مسكويه. إنه حكيم أخلاقي، ومصنف كتاب حكيم باسم تجارب الأمم. كما هو رائد في الكتابة العلمية للتاريخ، وأول من شق الطريق إلى فلسفة التاريخ، ليكون أسوة حسنة فيما بعد، لأمثال رشيد الدين فضل الله 645 718 ه في جامع التواريخ، وابن خلدون 732 806 ه في مقدمته، ثم الكافيجي القرن التاسع في كتابه: المختصر في علم التاريخ، والسخاوي 830 920 ه في كتابه: الاعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ زرين كوب: 71، 74 بتصرف. وهناك ميزة أخرى أشار إليها كيتاني في مقدمته حيث قال: إن الأثر الذي بقي لنا من مسكويه، بني على أساس منهج قريب جدا من المبادىء المتبعة عند مؤرخي العالم الغربي والمؤرخين المتأخرين، ومسكويه خلافا لسلفه الشهير الطبري الذي استهدف أساسا جمع المواد التاريخية، وعرضها على ترتيب تاريخي لائق، عزم على أن يصنف تاريخه كبناء عضوي يكون الفكر الأساسي المحدد عنصرا بناء في الكتاب بأسره، رابطا كل أجزاء التصنيف بعضها ببعض. يرى القارئ على صفحات هذا الكتاب عنصرا شخصيا لا يجده في المصنفات التاريخية الأخرى المؤلفة في تلك الحقبة. إن تجارب الأمم وبصورة جلية عمل فكري نتج عن ذهن استدلالي بناء، يسوده انطباع سام من غرض المؤرخ وواجبه، وبهذا، يبدي مسكويه فضلا كبيرا على من سبقه أو عاصره من المؤرخين الذين كتبوا آثارهم باللغة العربية. إنه لا يرضيه مجرد جمع المادة التاريخية وعرضها في ترتيب تاريخي، لأنه يعتقد أن أحداث الماضي تترابط في ما بينها بشبكة من المصالح الإنسية. وفي الحقيقة، فان التاريخ كما يراه مسكويه ليس غير هذا، كما يرى العاقل في رواية التاريخ الحقه ينبوعا من العلم الثمين كيتاني، المقدمة:. إن مسكويه لا يميل إلى أحد في كتابة التاريخ، ولا يحيد به عن المنهج القويم أي انتماء. لقد كتب تاريخه كما نبه عليه مرجوليوث أيضا في حياد تام، مع أنه عاش في خدمة الأمراء والوزراء البويهيين، وكان من المتوقع أن يشيد بهم ويمدحهم، ولا يتعرض لنقدهم أبدا، في حين نراه لم يمل إليهم في كتابة التاريخ، ولم يراع جانبهم في ما كتبه عنهم، بل يؤاخذهم على أشياء في سلوكهم وتدابيرهم. مصادر مسكويه في كتابة التاريخ صرح مسكويه بأنه لما قرأ أخبار الأمم، وسير الملوك، وأخبار البلدان، وكتب التواريخ انظر المقدمة: ص 1 وجد فيها ما تستفاد منه تجربة... وهذا دليل واضح على تعدد مصادره، في كتابة التاريخ. بيد أنه اعتمد اعتمادا كليا على الطبري 224 310 ه، كما اعتمد على المصادر الأخرى التي تتنوع وتختلف، حسب الفترات التاريخية التي أرخها في تصنيفه، وحسب مصادر كانت
15 في متناولة، بحيث لا يمكن عدها وحصرها إلا بعد المصرح منها في الكتاب، وحصر غير المصرح منها بارجاع نقول مسكويه إلى أصولها وأصحابها، وهذا بتطلب دراسة مستقلة قد تأخذ وقتا طويلا. فمصادر مسكويه حسب هذه العجالة هي: 1 - تاريخ الطبري: عول مسكويه، أولا وقبل كل شئ. على الطبري. وذلك بحذف كثير من مواد الطبري، من مكرره وما لم يدخل في إطار منهج مسكويه في كتابة تاريخه. فمسكويه يوازي الطبري ابتداء من العصر الفيشداذي وذكر أوشهنج بالذات، أو مما بعد الطوفان حسب تصريحه، إلى سنة 295 ه، مع العلم بان الطبري استمر في تاريخه حتى سنة 302 ه. ومسكويه ليس المؤرخ الوحيد الذي ينهل من مناهل الطبري ويعول عليه في تصنيفه. فمن هو الذي لم يعول على الطبري؟ فها هو ابن الأثير يصرح في مقدمته ص 3 قائلا: فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري، إذ هو المعول عند العامة عليه، والمرجوع عند الاختلاف إليه. فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم أخل بترجمة واحدة منها، وقد ذكر هو في أكثر الحوادث روايات ذات عدد، فقصدت أتم الروايات، وأضفت إليها من غيرها م ليس منها... فلما فرغت منه أخذت غيره من التواريخ المشهورة منها تجارب الأمم فطالعتها، وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه.... هذه هي الحالة عند جل المؤرخين منهم ابن خلدون أيضا العبر 4: 1140. إنهم وجدوا تاريخ الطبري ينبوعا ثرا يتدفق منه ذلك الحجم الهائل من المواد التاريخية، والروايات المختلفة الكثيرة، التي أوردها فيه، دون نقد، أو تعديل، أو تعليق، واعيا عامدا ما يفعله، كما صرح به في مقدمته. ولكن المؤرخين صاغوا ما أخذوه من الطبري في قوالب ارتضوها لتصانيفهم، كل على شاكلته. ومن هؤلاء مسكويه، الذي أخذ بدوره عن الطبري أخذ نقد واختيار وتعديل وتمحيص وحذف وإضافة من مصادر أخرى، وفقا لأغراضه التي تحدث عنها في مقدمة تجارب الأمم. والجدير بالذكر أن هناك مناسبة خاصة بين مسكويه والطبري يمتاز بها مسكويه من بين سائر المؤرخين، حيث يعتبر مسكويه تلميذا غير مباشر للطبري في استماع تاريخه عن صاحبه، وقراءة كتابه عليه، والحصول على الإجازة منه. قال مسكويه بهذا الصدد انظر التجارب 243 6: وفيها أي في سنة 350 ه مات أبو بكر أحمد بن كامل القاضي، رحمه الله، ومنه سمعت كتاب التاريخ لأبي جعفر الطبري، وكان صاحب أبي جعفر، قد سمع منه شيئا كثيرا، ولكني ما سمعت منه عن أبي جعفر غير هذا الكتاب، بعضه قراءة عليه، وبعضه إجازة لي، وكان ينزل في شارع عبد الصمد، ولي معه اجتماع كثير. 2 - نفائس المكتبات: لم يكتف مسكويه بالطبري، حتى بالنسبة إلى القسم الذي قلنا إنه عول فيه عليه تعويلا كليا العصر الفيشداذي إلى سنة 295، بل أورد في تاريخه نصوصا إيرانية عديمة النظير لا نجدها لا عند الطبري ولا عند غيره من كبار المؤرخين من أمثال المسعودي وابن الأثير ومن إليهما، ونخص بالذكر عهد أردشير الذي يعتبر من أقدم النصوص الإيرانية المدونة التي وصلت إلينا، وكذلك السيرة الذاتية لأنوشروان، خطبته المشحونة، اللتين نقلهما مسكويه عن كتاب كتبه أنوشروان نفسه في سيرته. من أين أتى مسكويه بهذه النصوص وغيرها مما تفرد بنقلها بين المؤرخين؟ إنه كان خازنا لمكتبات البويهيين من أمثال ابن العميد، وابنه أبي الفتح، وعضد الدولة. لقد دامت صحبته أو خزانته سبع سنين لابن العميد فقط 350 6 وكان لفهرس مكتبة ابن العميد 1056 ورقة 44 كراسة لكل منها 24 ورقة متز 1: 297 ولم يثبت في هذا الفهرس إلا أسماء الكتب، وقد اجتمعت في تلك المكتبة كل أنواع العلوم والحكم ولآداب، تحمل على مائة وقر وزيادة انظر التجارب: 286 6. وعن مكتبة عضد الدولة حكى لنا المقدسي الذي كان يختلف إليها، فلا جرم أنه زار مسكويه أيضا حيث قال عند وصفه لدار عضد الدولة بشيراز وغرفها وعجائبها:... وخزانة الكتب، عليها وكيل وخازن ومشرف من عدول البلد، ولم يبق كتاب صنف إلى وقته من أنواع العلوم كلها إلا وحصله فيها، وهي أزج طويل، في صفة كبيرة، فيه خزائن من كل وجه، وقد ألصق إلى جميع حيطان الأزج والخزائن بيوتا طولها قامة في عرض ثلاثة أذرع من الخشب المزوق عليها أبواب تنحدر من فوق، والدفاتر منضدة على الرفوف لكل نوع بيوت وفهرستات، فيها أسامي الكتب لا يدخلها إلا وجيه... المقدسي: 449. فلا شك أن مسكويه استفاد من هذه المكتبات كثيرا من علمه والمواد التاريخية التي أوردها في كتابه مما لا يوجد عند سائر المؤرخين سواء ما أضافه في تاريخ ما قبل الاسلام مستمدا من مصادر إيرانية قديمة موجودة في تلك الخزانات، أو ما أضافه إلى تاريخ ما بعد الاسلام آخذا عن مصادر إسلامية كانت فيها. 3 - ثابت بن سنان: هناك فترة تاريخية تبدأ من سنة 295 إلى سنة 340 ه يعتمد مسكويه فيها على مصادر مستقلة عن الطبري، منها: تاريخ ثابت بن سنان المتوفي سنة 363 ه ابن ثابت بن قرة الصابي الحراني 221 288 ه خال أبي إسحاق هلال بن محسن الصابي. كتب ثابت بن سنان تاريخه ابتداء من خلافة المقتدر من سنة مائتين ونيف القفطي إلى سنة 360 ه. فكتب أبو إسحاق هلال بن محسن تتمة لتاريخ ثابت بن سنان وصلت إلى سنة 447 كلود كاهن، دانشنامه إيران وإسلام. ومن دلائل كونه مصدرا لمسكويه ما جاء في التجارب 371 5 حيث قال:... وحكى ثابت بن سنان في كتابه أن... فهذا تصريح من مسكويه أنه أخذ في تاريخ هذه الفترة عن ثابت بن سنان أيضا. وهناك قول بكون أبي إسحاق هلال الصابي أيضا من مصادر مسكويه، لا يمكن الاطمئنان إليه. قال الروذراوري في الذيل ص 23: وعمل أبو إسحاق الكتاب الذي سماه: التاجي في الدولة الديلمية... وهو كتاب بديع الترصيف حسن التصنيف... ووجدنا آخره موافقا لآخر كتاب تجارب الأمم، حتى إن بعض الألفاظ تتشابه في خاتمتهما، وانتهى القولان في التاريخ بهما إلى أمد واحد، والكتاب موجود يغني تأمله عن الاخبار عنه. فكيف نطمئن إلى هذا القول ونحن نعلم أن أبا إسحاق الصابي كتب تاريخه حتى سنة 447 ه. في حين ان تجارب الأمم لا يتجاوز سنة 369 كما أقر به صاحب الذيل أيضا انظر الذيل، ص 8. وافتراض أن لتجارب الأمم أجزاء أخرى أيضا لم تصل إلينا وما هو موجود ناقص بالرغم من تصريح نجده في آخر الجزء السادس، فهذا الافتراض أيضا مردود. لأن مسكويه لم يعش بعد سنة 421 ه. اللهم إلا أن يكون الأمر قد اختلط للروذراوري، أو كان الذي قصده، هو ثابت بن سنان الصابي الذي وصل تاريخه إلى سنة 360 ه، أو إلى آخر حياته سنة 363 ه حسب قولين يذكران بصدد نهاية كتابه. بيد أن هذا أيضا غير مقبول، لأن
16 تاريخ مسكويه وصل إلى سنة 369 ه، فكيف يمكن أن يكون آخر الكتابين أمدا واحدا. وأما هلال الصابي لو صح نقل مسكويه عنه، فهو يصل بحوادث أوائل كتابه أي من سنة 364 ابتداء تاريخ هلال إلى سنة 369 أي انتهاء تجارب الأمم. بيد أن هذا أيضا، مرفوض. لأن مسكويه في هذه الفترة، يكتب التاريخ عن مشاهدة وعيان، ويعتبر مصدرا لنفسه. 4 - مسكويه مصدرا: مهما يكن من أمر الفترة السابقة، أي التي تنتهي إلى سنة 340 ه، فان مسكويه بشهوده وعيانه تارة، وبسماعه من الأصدقاء والزملاء الساسة المشايخ تارة أخرى، يعتبر مصدرا حيا لكتابة تاريخه. لقد صرح مسكويه بذلك في بداية ذكر الحوادث لتلك السنة حيث قال: أكثر ما أحكيه بعد هذا السنة 340 ه فهو مشاهدة وعيان، أو خبر محصل، يجري عندي خبره مجرى ما عاينته، وذلك أن مثل الأستاذ الرئيس أبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد رضي الله عنه خبرني عن هذه الواقعة وغيرها بما دبره، وما اتفق له فيها، فلم يكن إخباره لي دون مشاهدتي في الثقة به، والسكون إلى صدقه، ومثل أبي محمد المهلبي رحمة الله خبرني بأكثر ما جرى في أيامه، وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة، وحدثني كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة، وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره منه وما شاهدته وجربته بنفسي، فسأحكيه أيضا بمشيئة الله. وهكذا يصل تاريخه إلى سنة 369 ه مع أنه عاش حتى 421 ه أي لمدة نصف قرن، تاركا كتابة تاريخ تلك المدة، وبالرغم من ذلك، فان تجارب الأمم عرف كمصدر أساس لا يستغنى عنه لدراسة القرن الرابع الهجري والعصر البويهي الذي يعتبر ألمع العصور الاسلامية علما وحضارة. تجارب الأمم: اسمه اسم الكتاب هو تجارب الأمم كما سماه مسكويه نفسه في مقدمته حيث قال: فجمعت هذا الكتاب وسميته تجارب الأمم. وقد ذكره بضبط أمين كل من ياقوت 5: 10، وابن الأثير 7: 118، 8: 86، وكذلك القفطي: 331، والبيهقي: 18 19، وابن خلكان 2: 19، وابن خلدون 3: 772، والخوانساري 1: 255، وغيرهم. ولكنه ورد بزيادة عواقب الهمم عند كل من أبي سليمان في الصوان: 347، والروذراوري في الذيل: 5، والسخاوي نقلا عن عمر بن الفهد الهاشمي المكي في إتحاف الورى روزنتال: 441. والزيادة عند العاملي 10: 146 هي تعاقب الهمم وهي ضبطت عند كيتاني في مقدمته بكسر القاف وهو خطا. والزيادة هذه إنما نشأت عن أسلوب السجع في عنونة المصنفات، الأسلوب الذي طالما ساد أو ساط الكتاب والنساخ طيلة القرون ممن لم يرضوا بما سماه المصنفون تصانيفهم، فشفعوا أسماءها بما شاء لهم السجع والصنعة المتكلفة، بالرغم من تصريح المؤلفين في ضبط أسماء آثارهم. ولذلك نرى الشطر الثاني: عواقب أو: تعاقب الهمم موضوعا مختلقا، لأن مسكويه صاحب الكتاب، أثبت اسم كتابه في مقدمته بقوله: تجارب الأمم لا أكثر ولا أقل، حيث قال: فجمعت هذا الكتاب وسميته تجارب الأمم. والغريب في الأمر أن الناسخ الذي نسخ فيما نسخ، هذه المقدمة وتصريح المصنف باسم كتابه، نراه في عبارات الختام والفراع، وقد أضاف على الاسم شطرا ثانيا تارة، وقدم الشطر الثاني على الشطر الأول تارة أخرى، أي كتب مرة: تجارب الأمم وعواقب الهمم. ومرة: عواقب الهمم وتجارب الأمم!. تجزئه تجارب الأمم إن التجزئة الكاملة الوحيدة التي وصلت إلينا من تجارب الأمم هي تجزئة مخطوطة أيا صوفيا وهي ستة أجزاء. أما مخطوطة ملك مط فهي في مجلد واحد كبير، وليس فيه تجزئة، اللهم إلا إشارة بسيطة في الهامش تدل على أن المخطوطة انتسخت عن نسخة كانت على ثلاثة أجزاء، دون أي إشارة إلى عبارات الافتتاح من البسملة والتحميد وغير ذلك. وهذا التثليث يبدو أيضا مما بقي من مخطوطة ملك الثانية مح، أو مخطوطة آستان قدس أ، فهما أيضا كانتا في الأصل ثلاثة أجزاء. أما تجزئة أيا صوفيا فهي تجزئة كمية، أي لم يعتبر فيها التقسيم التأليفي الذي يبتنى عادة على المواضيع الرئيسة، أو الفترات التاريخية المحددة خاصة في أثر تاريخي مثل تجارب الأمم. لذلك نقلنا 43 صفحة من بداية الجزء الثاني وأضفناها إلى نهاية الجزء الأول، أولا لاكمال الفصل الأخير من الجزء الأول، ثانيا من أجل إكمال عصر ما قبل الأموي، وسنراعي هذا المبدأ في الأجزاء الباقية أيضا إذا اقتضى الحال. ومن ناحية أخرى، قسمنا الجزء الأول إلى قسمين: قسم خاص بما قبل الاسلام وهو مفصل بدوره إلى فصول حسب عصور الأسر الحاكمة الإيرانية مثل: الفيشداذية، والكيانية، والأشغانية، والساسانية، وقسم آخر خاص بالعصر الراشدي، وفيه فصول حسب أيام الخلفاء. أما العناوين الفرعية التي كانت في أصل المخطوطة فلم نجدها كافية لارشاد القارئ إلى مواد الكتاب ومواضيعه، ولذلك اخترنا لها عناوين وأثبتناها بين المعقوفتين شانها في ذلك شان العناوين الرئيسة التي وضعناها للأقسام والفصول. مخطوطات تجارب الأمم لم يصل إلينا من مخطوطات هذا الكتاب إلا القليل، لا سيما إذا كان المراد المخطوط الكامل المشتمل على كل أجزائه. وهذه المخطوطات بغض النظر عن كمالها ونقصها هي: 1 - أيا صوفيا الأصل: مخطوط كامل في ستة أجزاء محفوظ في أيا صوفيا باسطنبول برقم 3116 إلى رقم 3121. انتسخه محمد بن علي بن محمد أبو طاهر البلخي بكامل أجزائه بحيث فرع من انتساخ الجزء الأول في شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسمائة 505 ومن انتساخ الجزء السادس والأخير منه في منتصف شهر ربيع الأول سنة ست وخمسمائة 506. أي في مدة سنة واحدة. قطعه صغير، وفي الصفحة الواحدة منه 12 سطرا، وفي كل سطر 13 كلمة. أول هذه المخطوطة أي في فاتحة الجزء الأول وبعد البسملة والتحميد: قد أنعم الله علينا... وأخرها أي في نهاية الجزء السادس: إلا أنه لم يظهر أمره لأحد. هذا آخر ما عمله الأستاذ أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه رضي الله عنه والحمد لله وصلواته على محمد النبي وآله أجمعين وحسبنا ونعم الوكيل. أما تجزئة الكتاب في هذه المخطوطة فهي كما يلي:
17 الجزء الأول أيا صوفيا، رقم 3116، 296 ورقة: 591 صفحة. تاريخ النسخ: ربيع الأول سنة خمس وخمسمائة 505. يشتمل هذا الجزء على الحوادث التاريخية منذ العصر الفيشداذي الإيراني حتى سنة 37 هجرية. الجزء الثاني أيا صوفيا، رقم 3117، 297 ورقة: 593 صفحة، طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 120 والصورة رقم 290. ويشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 38 إلى سنة 103 هجرية. الجزء الثالث أيا صوفيا، رقم 3118، 297 ورقة: 593 صفحة، طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 121، والصورة رقم 244. يتضمن هذا الجزء على حوادث سنة 104 إلى سنة 191 هجرية. الجزء الرابع أيا صوفيا، رقم 3119، 290 ورقة، 580 صفحة، طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 122، والصورة رقم 293. يشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 191 إلى سنة 233 هجرية. الجزء الخامس أيا صوفيا، رقم 3120، 293 ورقة: 585 صفحة تاريخ الانتساخ: شهر محرم سنة ست وخمسمائة 506. يشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 234 إلى 326 هجرية. الجزء السادس أيا صوفيا، رقم 3121، 260 ورقة: 520 صفحة تاريخ الانتساخ: منتصف شهر ربيع الأول سنة ست وخمسمائة 506. يشتمل هذا الجزء على حوادث سنة 326 إلى سنة 369 هجرية. ما نشر من هذه المخطوطة: نشر كيتاني. الجزء الأول، والجزء الخامس، والجزء السادس من المخطوطة ليدن 1909، 1913، 1917 م عن مؤسسة جب التذكارية، طبعة فتوغرافية. إنه قدم الجزأين الخامس والسادس على الأجزاء الأخرى الثاني والثالث والرابع نظرا لكونهما استمرارا لتاريخ الطبري. وكان مشروع المؤسسة يقضي بان يعود كيتاني وأعوانه إلى العمل لنشر الأجزاء الوسطى 2، 3، 4 بعد الفراغ من الجزأين الأخيرين كيتاني، مقدمة الجزء الخامس: ولكنهم لم يوفقوا في إنجاز مشروعهم لأسباب قد تكون ظروف الحرب العالمية الأولى منها. فلم تنشر تلك الأجزاء وبقيت بعيدة عن متناول الباحثين. أما الملاحق التي ألحقت بهذه الطبعة طبعة كيتاني الفتوغرافية فهي في الجزء الأول: مقدمة لكيتاني 5 صفحات وكلمة أيمدروز عن حياة مسكويه 13 صفحة وملخص لمضمون الجزء الأول بقلم ملوني. وفهرس أعلام لملوني أيضا، كما ألقى لي سترنج. نظرة على الملخص والفهرس قبل إرسالهما إلى المطبعة. وفي الجزء الخامس، مقدمة لكيتاني أيضا 4 صفحات مع ملخص وفهرس. أما الجزء السادس فليس معه غير مقدمة كتبها لي سترنج صفحتان. أما ما نشره أيمدروز فهو الجزءان الخامس والسادس من هذه المخطوطة القاهرة شركة التمدن 1914، 1915 م باسقاط 56 صفحة من أول الجزء الخامس وضم 28 صفحة من الجزء السادس إلى الجزء الخامس، كما نشر معهما جزءا ثالثا يتألف من ذيل تجارب الأمم للوزير أبي شجاع محمد بن الحسين الملقب بظهير الدين الروذراوري من سنة 369 إلى سنة 389 هجرية، وجزءا رابعا يتشكل من الجزء الثامن من تاريخ أبي الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي الكاتب من سنة 389 إلى سنة 393 وهذان الجزءان صدرا في مجلد واحد تحت عنوان ذيل تجارب الأمم القاهرة شركة التمدن 1916 م، مع العلم بان أيمدروز لم يوفق في إكمال تحقيق نص الذيل بسبب وفاته، فتابع عمله مرجوليوث، فحقق النصف الباقي منه مرجليوث، المقدمة:. فكل ما نشره أيمدروز هو مجلدان 5، 6 من تجارب الأمم، ومجلد ثالث عرف بذيل تجارب الأمم ذيل الروذراوري الجزء الثامن من تاريخ هلال الصابي. والأجزاء الثلاثة هذه نشرة أيمدروز نشرت بترجمة إنجليزية ترجمها مرجوليوث بمقدمة 11 صفحة وفهرس 144 صفحة في مجلد واحد في سبعة أجزاء أكسفورد 1920 1921 م تحت عنوان: أما مشروعنا، كما أشرنا إليه قبل، فيشمل تحقيق أجزاء تجارب الأمم الستة، ونشر الكتاب بكامله، كما يشمل ترجمته إلى اللغة الفارسية، لنكون بذلك قد أسهمنا في سد الفراغ الذي طالما شغل بال الكثيرين من المعنيين بالدراسات التاريخية الإيرانية الاسلامية. 2 - ملك مط برقم 4145: نسخة كاملة من حيث الكمية، في مجلد واحد من القطع الكبير. عدد صفحاتها 1014، في كل صفحة منها 25 سطرا ولكل سطر 21 كلمة. هي مثل أيا صوفيا في أولها وآخرها. وعبارة الفراغ في الختام هي: قد تم الفراغ من هذه المسودة في عشر العشر الأول من شهر ذي الحجة الحرام في الليلة ليلة الأضحى منه، من سنة أربع وتسعين ومائتين بعد الألف 1294 من الهجرة المقدسة، على يد أقل الطلاب والسادات محمود الطباطبائي الأردستاني الأصفهاني. خط النسخة نسخي جميل مقروء، ولكن الهفوات والأخطاء الناتجة عن قلة الثقافة لدى الناسخ، حطت من قيمتها كنسخة. وسيأتي الكلام عنها في مكانه. 3 - ملك الثانية: مح برقم 4324، عدد أوراقها 231 وعدد صفحاتها 462، بالقطع المتوسط وفي كل صفحة منها 21 سطرا. انتسخه محمد بن داود الحسيني المشهدي في سنة 1307 هجرية. أولها: ودخلت سنة إحدى ومائة وفيها ولي يزيد بن عبد الملك الخلافة... وآخرها: واتصل خبر انصرافه بالمهتدي، فكتب إليه في ذلك كتابا كتبا كثيرة، فلم يؤثر شيئا فلما نظر...، تمت.... تشتمل المخطوطة هذه على حوادث سنة 101 إلى سنة 256 هجرية. وهي كما ترى مخطوطة ناقصة. 4 - آستان قدس: أ برقم 4090، طهران، المكتبة المركزية، الميكروفيلم رقم 1638 والصورة رقم 3 6188 ثلاثة أقسام عدد الأوراق 257، وعدد الصفحات في الأقسام الثلاثة 514 صفحة. أولها بعد البسملة والحمدلة: ودخلت سنة إحدى ومائة 101 وآخرها: وخرج واتصل خبر انصرافه بالمهتدي، فكتب إليه كتابا كتبا كثيرة، فلم يؤثر شيئا. فلما نظر... تشبه في أولها وآخرها مخطوطة ملك الثانية مح. يعود تاريخ انتساخ المخطوطة إلى شعبان سنة 1297 فهرس مخطوطات مدرسة نواب وآستان قدس وهذه المخطوطة ناقصة أيضا كمخطوطة ملك الثانية. 5 باريس: 1. 5838. نسخة ناقصة تشتمل على حوادث سنوات 249 315 هجرية فقط. كيتاني، المقدمة:
18 6 - بودلي: 804. 357. وهذه النسخة تشتمل على حوادث 340 365 هجرية. كيتاني المقدمة:. 7 - آمستردام: 101. مخطوطة ناقصة تشتمل على حوادث سنة 196 إلى سنة 251 هجرية كيتاني، المقدمة: أولها ناقص بأكثر من سطرين، ثم تبدأ هكذا:... أمر العراة باتخاذ تراس من البواري، وبالرمي بالمقاليع ومحمد قد أقبل على اللهو والشرب، ووكل الأمر كله إلى محمد بن عيسى بن نهيك، وإلى الهرش... وأخره:... ونزل الحسين بالقرب من دمما. نجز الكتاب... ويتلوه في الجزء السادس: ذكر رأي أشير به عليه صواب. والحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد النبي وآله الطاهرين وسلم. نشر المخطوطة دي خويه بترجمة لاتينية ومقدمة بريل 71 1869 م تحت عنوان:. كما نشرت مرة ثانية بالأفست وبحذف الترجمة اللاتينية بغداد، المثنى، دون تاريخ تحت عنوان: العيون والحدائق، لمؤلف مجهول من خلافة الوليد بن عبد الملك إلى خلافة المعتصم ويليه مجلد من تجارب الأمم. والعنوان الخاص بقسم تجارب الأمم هو: تجارب الأمم، تأليف أبي علي أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه، الجزء السادس. فالنشرة هذه هي من جزأين: الجزء الأول هو الجزء الثالث المتبقي من كتاب العيون والحدائق في أخبار الحقائق اشترك يونج. مع دي خويه في تحقيقه، والجزء الثاني وهو جزء من تجارب الأمم حققه دي خويه وحده. من صفحة 411 إلى صفحة 583، المجموع: 172 صفحة مطبوعة. 8 - اسكوريال: 1709. 1704. نسخة ناقصة تشتمل على حوادث سنة 36 إلى سنة 67 هجرية كيتاني، المقدمة،. الشيخ أحمد بن الشيخ إبراهيم آل عصفور مرت ترجمته في الصفحة 463 من المجلد الثاني. ونأخذ هنا ما جاء في تاريخ البحرين المخطوط: هذا الشيخ هو والد جدي صاحب الحدائق، قال في اللؤلؤة: الشيخ أحمد بن الشيخ إبراهيم بن الحاج أحمد بن صالح بن عصفور بن أحمد بن عبد الحسين بن عطية بن شنبة كذا وجدته بخطه في آخر كتاب قطر الندى المكتوب بخطه في وقت اشتغاله بالنحو في أول عمره. وقد طلب له والده رجلا فاضلا يسمى الشيخ أحمد بن إبراهيم المقابي يجيء له في البيت كل يوم لتدريسه، وعين له وظيفة هذا في أول اشتغاله بالطلب، ثم لما صارت له قوة في علم الصرف والنحو انتقل إلى الشيخ محمد بن يوسف المتقدم ذكره إلى شيخه الشيخ سليمان الماحوزي. وكان قدس سره مجتهدا فاضلا جليلا وفقيها نبيلا لا يجاريه في البحث مجار ولا يباريه مبار، وكان لا يمل من البحث ولا يغتاظ، ولا يظهر الغضب والانقباض كما هو عادة جملة من علماء الدين ليس لهم مقدرة ملكة البحث، ولقد كان يدرس في خطبة كتاب الكافي، وكان في الحلقة جملة من الفضلاء منهم الشيخ علي بن عبد الصمد الأصبعي الآتي ذكره وكان فاضلا دقيق النظر فوقع البحث في قوله: احتجب بغير حجاب محجوب، واستمر البحث من أول الدرس من الصبح إلى وقت الظهر، وهما ينتقلان في البحث من علم إلى علم، ومن مسالة إلى أخرى، وانفصل المجلس بدخول وقت الظهر، وافترقوا ثم بعد العصر جلسوا للدرس، فعاد الشيخ علي في البحث واستمر الكلام إلى المغرب إلى أن قال قدس سره نقلا عن المحدث الشيخ عبد الله السماهيجي في وصفه: أخي بالمواخاة وصديقي بالمصافاة الشيخ العلامة الفهامة الأسعد الأمجد شيخنا الشيخ أحمد بن المقدس الحكيم الشيخ إبراهيم البحراني متع الله المسلمين بوجوده وشمل المتعلمين بإفادات جوده. وهذا الشيخ أعني الشيخ أحمد المزبور ماهر في أكثر العلوم لا سيما العقلية والرياضية، وهو فقيه مجتهد محدث وله شان كبير في بلادنا واعتبار عظيم، إمام في الجمعة والجماعة، ولي به اختصاص زائد دون سائر الإخوان والأقران، وقد فرأت عليه شيئا من النحو في كتاب الرضي وأوائل الخلاصة في طريق السفر، وله لسان طلق وسرعة في الجواب، حسن الإنشاء والعبادة، وهو أفضل أهل بلدنا الآن في العلوم العقلية والنقلية والرياضية. انتهى كلامه في اللؤلؤة. له من التصانيف جملة من الرسائل الرشيقة والتحقيقات الدقيقة، وكانت تصانيفه مهذبة محررة، وعباراته مع دقتها ظاهرة مسطرة منها: رسالة في بيان القول بحياة الأموات بعد الموت، ورسالة في الجوهر والعرض، ورسالة في الجزء الذي لا يتجزأ، وقد اختار فيها مذهب الحكماء، ورسالة في شرح الحمدية لشيخه الشيخ سليمان بن عبد الله المتقدم ذكره، وقد مدحه في صدرها وأثنى عليه غاية الثناء. ورسالة في بيان ثبوت الولاية على البكر البالغة الرشيدة، ورسالة في مسالة القرعة حسنة، ورسالة في التقية عجيبة غريبة، إلا أن هاتين الرسالتين ذهبتا فيما وقع علينا في قصبة البحرين مع جملة من الكتب. وقد كان قدس سره يتلهف عليهما غاية التلهف ويتأسف على عدم حفظهما تمام التأسف، ورسالة في شرح عبارة شرح اللمعة في مبحث الزوال، ورسالة في مسالة موت الزوج أو الزوجة قبل الدخول هل يوجب المهر كاملا أم لا، ورسالة في الدعوى على الميت هل تثبت بشاهد ويمين أم لا، ورسالة في الصلح، ورسالة في تحقيق غسالة النجاسة، ورسالة في العدول من سورة إلى أخرى، ورسالة في أجوبة مسائل الشيخ ناصر الخطي الجارودي، والرسالة العطارية وهي أجوبة جملة من المسائل للشيخ علي بن لطف الله الجد حفصي تتعلق بالعطارة وتنظم في كتاب التجارة، ورسالة في أجوبة لمسائل السيد يحيى بن السيد حسين الأحسائي، ورسالة في مسالة المتنجس بعد زوال عين النجاسة هل ينجس أم لا وهي مسالة المحدث الكاشاني التي تفرد بها قد رد عليه فيها، ورسالة في أجوبة مسائل الشيخ عبد الامام الأحسائي، ورسالة في دخول الرقبة في الرأس في الغسل. وقد كان الشيخ عبد الله بن صالح كتب رسالة في عدم دخولها إلى أن قال:... توفي رحمة الله عليه في بلدة القطيف بعد أخذ الخوارج البحرين وخروج جميع أعيانها إلى بلاد القطيف وذلك بضحوة اليوم الثاني والعشرين من شهر صفر سنة الحادية والثلاثين بعد المائة والألف، ودفن في مقبرتها المعروف بالحناكة وعمره يومئذ مما يقرب من سبع وأربعين سنة. الشيخ أحمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد السلام البحراني قال في تاريخ البحرين المخطوط: قال شيخنا الأمين الشيخ ياسين في رجاله: وأنا لحقت زمانه ووقت تدريسه وكان من فضلاء المعاصرين. غلبت عليه الحكمة. مات سنة 1073 ثلاثة وسبعين بعد الآلف.
19 الشيخ أحمد بن حاجي قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من أدباء البحرين وخطبائها، ومن أولي المفاخر ونقيبها، جمع مع الشعر بعض العلوم الأدبية، وله ديوان كبير مشتمل على مجلدين، مجلد في حكايات طريفة وأشعار منيفة، ومجلد في القصائد والمراثي ومن قصائده: أطل الوقوف على الديار وناد * يا دار أحمد النبي الهادي يا دار فاطمة البتول وحيدر * وبنيهما والتسعة الأمجاد يا مهبط الوحي الشريف ومنزل * التنزيل والآيات والارشاد يا منبع العلم الغزير ومعدن * الصلوات والأذكار والأوراد وهذه القصيدة مشتملة على سبعين وله أيضا: أتصبو لذكرى عافيات المنازل * وتسلو عفير الخد فوق الجنادل وتشرب ماء سائغا غير آسن * ومولاك ممنوع ورود المناهل وتزعم إيمانا فلست بمؤمن * إذا لم تنح نوح الحمام الثواكل ومات قدس سره سنة 1010 العاشر بعد الألف من الهجرة. الشيخ أحمد بن صالح الدرازي البحراني من آل عصفور مرت ترجمته في الصفحة 605 من المجلد الثاني. ونأخذ ما جاء في تاريخ البحرين المخطوط: قال جدي قدس سره: كان الشيخ أحمد مقيما في بلاد الهند إلى أن فتح تلك البلاد الشاه أو تكريت (1) فامر باخراج الأصناف منهم كل يقدمه، فكان الشيخ أحمد المذكور مقدما على من فيها من صنف العلماء، فامر له بألف روبية، ورجع الشيخ أحمد منها إلى ولاية العجم بعد أن حج بيت الله الحرام واستوطن في بلدة جهرم. وكان قدس سره على غاية من الزهد والورع والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤثر بماله الأضياف، وكان بيته لا ينفك دائما عن جمع من الغرباء الواردين لا سيما من أهل بلاده البحرين. إماما في الجمعة والجماعة وكانت مكاتباته ترد على الوالد في البحرين لبعض المطالب التي له فيها. انتهى. وهذا يدل على هجرة علمية من البحرين أشبه بالهجرة العاملية. الشيخ أحمد بن الشيخ حسن الدمستاني قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو الفاضل البارع، والحبر الجامع، حسن الأخلاق، طيب الأعراق، جمع بين العلم والعمل، وأحاط بالفضل المحلل، إذ عنت له العلماء وأقرت بفضله العرفاء، عالما بفنون العلوم لا سيما علم اللغة وسائر علوم الأدب، أخذ الأدب عن أبيه العلامة الشيخ حسن صاحب الأوراد، والفقه عن جدي صاحب الحدائق، وله من التصانيف رسالة في انتصار ابن أبي عقيل، قال بعد البسملة والحمد لله الذي جعل الماء طهورا ولم يجعل مطلقه المطلق النجاسة مقهورا، إلى أن قال: وبعد فهذا كلام جليل ويحث نبيل فيه برء العليل وبرد الغليل بإقامة الدليل على عدم تنجيس ملاقاة النجاسة الماء القليل، كما هو مذهب ابن أبي عقيل وأجوبة مسائل الزنكبارية، ورسالة في الأصول، ورسالة في العروض: وله كتاب الإجازة أعني إجازات مشايخه من صاحب الحدائق إلى المفيد لم يعمل مثله، مات رحمه الله سنة 1240 وله ديوان في المدائح والمراثي... ومن جملة قصائده: أصبحت في كرمان اليوم محبوسا * مبرحا في بحار الغم مغموسا مبلبل اللب محشو الحشا أسفا * موزع البال تثليثا وتسديسا معكوس موجبة الآمال أجمعها * عكس النقيض وليس العكس معكوسا في القلب مني هموم لا تطاق وقد * جالت بمعترك ضنك كراديسا فحل كل جزء غير منقسم * فكذبت مدعي أرسططاليسا أني أقمت بمصر جل قاطنه * عباد نار وضرابوا نواقيسا لم ألق في أرضها شيئا أسر به * ولا وجدت بها درسا وتدريسا بلى مدارس منقوشا جوانبها * تخالها من أصابيغ طواويسا لقد رمتني مجانيق القضاء بها * لأم رأسي تحليقا وتنكيسا أن أمس ذا غربة في كرمان فقد * أمس غريبا علي الطهر في طوسا شمس الجلالة مريخ النبالة ميزان * العدالة قسطا لمس منحوسا قطب الولاية مفتاح الدراية * مصباح الهداية نور من مقابيسا صحاح أخبار علم المصطفى جمعت * له فكانت لكل العلم قاموسا توراة موسى وإنجيل المسيح معا * في علمه قطرة في البحر لو قيسا أحمد بن الحسين المتنبي مرت ترجمته في الصفحة 513 وما بعدها من المجلد الثاني، وننشر هنا عنه الدراسات الآتية: قال الدكتور حسين مروة: المتنبي شاعر الجهاد العربي ليس يختلف المؤرخون في عروبة أبي الطيب المتنبي أحمد بن الحسين، شاعر العروبة الأكبر. وإذا كان الدكتور طه حسين قد شكك (2) في ما رواه الرواة من أمر أبيه وأمه ومن نسبته إلى جعفي من قبل الأب وإلى همدان من قبل الأم، فلم يشكك قط في أن المتنبي كان عربيا صريحا، لأنه ليس لزاما عند طه حسين أن يكون العربي الصريح أو العربي الصليبة هو الذي يعرف له نسب صحيح إلى قبيلة من قبائل العرب في الشمال أو في الجنوب... وهو أي طه حسين يرى أن ليس ب العقل العاقل الذي يصدق أن جميع سكان جزيرة العرب، منذ العصور الجاهلية الأولى إلى هذا العصر الذي نعيش فيه، قد حفظوا لأنفسهم أنسابا صريحة صحيحة ترفعهم إلى عدنان أو قحطان... إنما حفظ الأنساب مزية قد اختصت بها طبقات من أشراف العرب وساداتهم في بعض الأوقات، ثم أصبحت سنة موروثة وعادة مألوفة، ومظهرا من مظاهر الأرستقراطية، ثم فرضت على أصحابها أن يحفظوها ويتوارثوها، ويبتدعوها ابتداعا إذا غلبهم. عليها النسيان (3). والدكتور طه حسين على صواب كثير في ما يقرر من أنه لو كان حقا أن العربي لا يكون عربيا حتى يحفظ لنفسه أو يحفظ الناس له نسبا صحيحا صريحا
(1) هكذا كتب الاسم، والصحيح: أورنك زيب (ح). (2) مع المتنبي طه حسين - ص 12 - 25. (3) المصدر السابق ص 19. 20 ينتهي إلى قبيلة من القبائل، لتغير كثير جدا من القيم التاريخية (1) المعاصرة. فالمتنبي، إذن، عربي الأصل، لا يشك في ذلك أحد من المؤرخين ولا الباحثين، قدامي ومحدثين، والمتنبي نفسه قد نفى من حيث لا يقصد قطعا أسباب الشك في أصله العربي، حين قال في معرض الفخر بنفسه أثناء قصيدة من شعر الصبا: لا بقومي شرفت، بل شرفوا بي * وبنفسي فخرت، لا بجدودي وبهم فخر كل من نطق الضاد * وعوذ الجاني، وغوث الطريد بل هو لا يقتصر هنا على أن يؤكد نسبته وأصله العربي، وإنما هو يغلو بهذا الأمر حتى يرى قومه في ذؤابة العرب، بهم يفخر كل من نطق لغة العرب... ونحن إذا فرغنا من هذا الأمر، أي من نسبة المتنبي إلى العربية، فقد بقي أن نفرع الآن للأمر الأهم من ذاك، وهو أمر نزعته العربية، أو ما نسميه في لغة العصر بالنزعة القومية، نقصد بها شعور المرء شعورا عميقا راسخا بان كيانه الشخصي، من نواحيه الإنسانية والوجدانية، مرتبط وجودا وحياة ومصيرا، بهؤلاء القوم، أو بهذا الشعب الذي تنميه إليه وشائج النسب والتاريخ والتراث واللغة والثقافة والمفاخر والوقائع والتقاليد، فضلا عن وشائج الأرض، ومصالح العيش، وبواعث الآمال الكبيرة والأشواق العليا. ولعل من الدقة أن نقول إن النزعة القومية في الفرد، كما نعنيها هنا، هي أكثر من مجرد الشعور بهذا الارتباط، فلا بد من إضافة شئ آخر إلى ذلك، وهو أن يكون هذا الشعور من القوة والعمق والوعي بحيث يرى الفرد أن أحزانه الشخصية وأفراحه، مناقبه ومعايبه، عزته وذلته، سعادته وبؤسه، منصهرة كلها، أو منفعلة بالأقل في كل ما يتاح لقومه أو شعبه من أفراح وأحزان، ومن انتصارات وهزائم، ومن مناقب ومعايب، ومن عزة وذلة، ومن سعادة وبؤس. ولعل من الدقة أيضا أن نضيف إلى ذلك أمرا آخر، وهو أن يكون هذا الانصهار أو هذا الانفعال من قوة الأثر بحيث ينعكس تلقائيا، دون تكلف متعمد، في حياة الفرد، أي في سلوكه العملي، في ما يفعل وما يدع من أمور الحياة العملية، في ما يحب وما يكره، في ما يأتي من أمر وما يصدر عنه من فكر أو رأي أو فن أو أدب إذا كان من ذوي الفكر أو الرأي أو الفن أو الأدب. فما ذا كان المتنبي من النزعة القومية هذه؟... نستطيع أن نجيب عن ذلك بان المتنبي كان عربي النزعة، بالمعنى الذي قلنا، كما هو عربي النجار عربي النسب. تحدثنا كتب التاريخ والأدب العربي عن مولد أبي الطيب ونشأته وبيئته، فنعلم أنه ولد في الكوفة بالعراق سنة ثلاث وثلاثمائة للهجرة، أي في ذلك المركز الثقافي الأصيل من مراكز الثقافة العربية الخالصة، وفي تلك البيئة التي أقلق أمرها وعصف باهلها ما كان يقلق يومئذ أمر الدولة العربية الاسلامية كلها، ويعصف باهلها جميعا من اضطراب سياسي واجتماعي، وفي أوائل ذلك القرن الرابع الهجري الذي ورث عن سابقه شؤونا عجابا من ذلك الاضطراب السياسي والاجتماعي في كيان هذه الدولة الوسيعة الرقعة المترامية الجوانب في ثلاث قارات من الأرض... وقد أضاف هذا القرن الرابع، إلى ذلك، اضطرابا أشد أثرا وأعمق غورا وأوسع مدى، بحيث شمل طبقات مختلفة، وأمصارا عدة، وشؤونا كثيرة من شؤون الحياة، وزاد في ذلك الاضطراب أنه كان ينبع من الداخل ويأتي من الخارج في وقت معا: في الداخل انقسام واحتراب بين ملوك الأمصار وأمرائها وولاة أمرها من جانب، ثم بين هؤلاء وبين مركز الخلافة بالعراق من جانب... وقيام ثورات شعبية وانتفاضات اجتماعية تنقم على نظام الحياة والدولة من جانب آخر. وفي الخارج، وبالأصح: على حدود الدولة من الشمال، تتوالى الغارات من جانب الروم الطامعين في الفتح والاكتساح، لانتقاص أطراف الدولة العربية شيئا فشيئا حتى يتاح لهم القضاء على سلطانها كله. وتحدثنا كتب الأدب والتاريخ كذلك أن أبا الطيب ولد ونشأ حينذاك في بيت فقر وإعواز، وفي بيئة كدح ورهق، ولكنه على ذلك استطاع أن ينال في الكوفة نصيبا من ثقافة، ثم أن يخرج إلى بعض نواحي البادية في العراق، وهو ما يزال في غرارة الصبا، فيفقه هناك بعض ما كان يجب أن يفقه من فصاحة البادية، ولكن هذا كان أيسر ما أفاده من إقامته بعض الوقت هناك... ذلك بان الرواة حين يتحدثون عن شانه في البادية يلمحون حينا ويصرحون حينا بأنه ربما اتصل فيها بحركة القرامطة، أو ببعض دعاتها، وأن هذه الصلة، وإن جاءته وهو في حداثة السن، ربما أيقظت فيه شيئا من ثورة ونقمة: ثورة أصابت هوى عميقا من نفسه، إذ هاجت فيها مشاعر الفتى المحروم، ونقمة نبهت ذهنه الطري إلى مساوئ هذا الحال الذي يبعد أسباب النعمة وأسباب الثقافة عن فئة عريضة من قومه، بينما هو يدني هذه الأسباب كلها إلى فئة خاصة منهم، فيغدق عليها النعمة، ويهئ لها أكبر نصيب من الثقافة والمعرفة. وقد يكون هذا الذي يقوله الرواة، تلميحا أو تصريحا، واحدا من الأسباب التي أوقعت في نفس المتنبي، وهو صبي، أنه مرجو لأمر خطير من الأمور ربما كان فيه الخير لنفسه ولقومه، وربما كان فيه الوسيلة لتغيير ذاك الحال من الظلم الاجتماعي الذي نبهته إليه الأحداث المضطربة الفاجعة من جهة، ونبهته إليه كذلك ضعة حاله وإعواز أهله ولوعة حرمانه، من جهة ثانية. وفي ديوان أبي الطيب أبيات ثلاثة كل ما نعرف عنها من الديوان أنه قالها في صباه، ونستطيع أن نعرف، استنتاجا، أنه قالها في الكوفة قبل أن يبرحها إلى بغداد، وبعد أن رجع إليها من البادية، ذلك لأنه كان في الخامسة عشرة حين وفد إلى بغداد أول مرة، فلم يكن صبيا إذن، وأما قبل أن يخرج من الكوفة إلى البادية، فقد كان في سن ليس من اليسير التصديق بأنه يقول فيها شعرا في مستوى هذه الأبيات الثلاثة: إلى أي حين أنت في زي محرم * وحتى متى في شقوة، وإلى كم؟ وإن لا تمت تحت السيوف مكرما * تمت وتقاسي الذل غير مكرم فثب واثقا بالله وثبة ماجد * يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم نحن نرى في هذه الأبيات أمرا هو أكثر من ثورة تدفعه إلى تغيير حاله والانتقام لفقره وشقوته، نرى فيها أن الفتى وقد رجع إلى الكوفة من رحلة البادية إنما امتلأت نفسه بأمر كبير يدعوه أن يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم أي أن يخوض حربا يستعذب فيها الموت حتى كأنه الشهد في فمه.
(1) المصدر السابق ص 19 21 فلم هذه الحرب؟... أهي لمجرد أن يخرج من الفقر إلى الغنى، ومن الشقوة إلى السعادة؟... أتراه قام في ذهن الفتى يومئذ أنه لا يستطيع أن يغتني ويسعد إلا بحرب كهذه؟. نستبعد أن يكون الفتى قد أراد الحرب هذه لنفسه هو بمفرده، بل توحي إلينا هذه الأسباب، بما فيها من حرارة اللهجة وحماسة العزم، أنه عاد من البادية إلى الكوفة وهو يحمل فكرة الثورة على الأوضاع العامة، لا على حاله هو بشخصه. وطبيعي أننا لا نقصد بهذا أن نتجاهل العامل الشخصي عند الفتى البائس الفقير المحروم، الطموح، ولكن نقصد أن الفتى قد أتيح له خلال تجرباته تلك، في مناخ اجتماعي ثوري، أن يكتشف ولو بشكل بدائي علاقة ما بين بؤسه وفقره وحرمانه. شخصيا، وبين ما يصيب غيره في مجتمعه العربي من ظلامات وتعاسات، فإذا هو يرى أن أمره الشخصي من أمر قومه، وأن بؤس حاله من بؤس أعم وأشمل، مصدره هذا الاضطراب العام السائد، أوضاع الدولة العربية كلها، وإذا هو يرى بعد، أنه متصل أوثق اتصال بهذه الأوضاع، وأنه لذلك على ارتباط بقضية قومه، وأنه إذا كان يطمح إلى تغيير حاله فلا بد أن يرتبط طموحه هذا بطموح هذه الفئات الكثيرة المظلومة المحرومة في مجتمعة. قد يكون في هذا التفسير شئ كثير أو قليل من المبالغة، وتحميل للفتى ولعصره أكثر مما كان يمكن أن يحتملا من فهم القضية على هذا الوجه... ولكن، هل تراني أقصد أن القضية كانت واضحة محددة في ذهن المتنبي على هذا النحو الذي يلائم عصرنا وتفكيرنا العلمي أكثر مما يلائم عصر المتنبي وتفكيره؟... طبعا، لا. وإنما الأمر الذي لا شك فيه، على ما يبدو لي، أن المتنبي كان في ذلك الحين على شعور بأنه يحمل قضية ما هي أكبر من قضيته الخاصة، وأن هذه القضية ذات صلة بنظام الحكم أو بالأشخاص الذين يديرون أمر الدولة في وطنه وقومه. ولقد خرج المتنبي من الكوفة إلى بغداد أول مرة، وهو في الخامسة عشرة، بعد أن انحسرت عن العراق موجة القرامطة، ولم تطل إقامته في بغداد، ولم يترك في عاصمة الخلافة أثرا ولا ذكرا، وليس في النصوص والأخبار ما يكفي للكشف عن سبب هذا، وإن كان يمكن أن نربط ذلك بهذه النزعة الثورية التي ظهرت عليه وهو في الكوفة، وأن تكون هذه النزعة قد باعدت بينه وبين سراة بغداد وذوي السلطان والثراء فيها، فأعجل رحيله عنها إلى بلاد الشام، ولعله كان في نحو السابعة عشرة من عمره حينذاك. ومن المحقق أن نزعته الثورية هذه قد صاحبته إلى بلاد الشام أيضا، وطوفت معه في أنحاء الجزيرة بشمال سورية، وفي رحلاته إلى طرابلس واللاذقية وفي حمص حيث قيل في الأخبار أنه سجن لدعوته قوما من البادية إلى أمر أنكره عليه أمير حمص لؤلؤ الإخشيدي فسجنه... ولكن ما هو هذا الأمر؟... أحقا أنه ادعاؤه النبوة؟... ليست النصوص، والأخبار التي بأيدينا بمفصحة عن حقيقة هذا الأمر، وليس ادعاؤه النبوة مما تصدقه هذه النصوص والأخبار، وما تزال مسالة ادعائه النبوة مما يعد في باب الخرافة... فما ذا أحدث المتنبي إذن من أمر استوجب اضطهاده وسجنه في حمص؟... أليس يمكن أن نستعين هنا بما ذكرناه آنفا من أن المتنبي قد استشعر، منذ أوائل نشأته وشبابه، بتلك الصلة العميقة الغامضة بين قضيته الخاصة، قضية بؤسه وفقره وحرمانه، وبين قضية مجتمعه وقومه، أعني أنه استشعر بترابط القضيتين معا، واتصالهما بالأوضاع السياسية والاجتماعية العامة، التي يفرضها نظام دخله الفساد، أو حكام فاسدون مفسدون، وأنه لذلك حمل فكرة الثورة على هذه الأوضاع، وظلت هذه الفكرة تحيا في نفسه وتنمو، ثم تتحين كل فرصة تتمكن فيها من التعبير عن ذاتها بأشكال مختلفة من التعبير، وأنه ربما وجد في بادية حمص فرصة من هذه الفرص التي كان يترصدها طوال ذلك العهد من حياته، فحاول نوعا من الثورة بأوضاع الحكم هناك، ولا سيما أن السلطة في ذلك الصقع كانت حينذاك لغير العرب، إذ كانت لدولة الأخشيديين، وهم من الأجانب يحكمون قوما من العرب في أرض عربية.؟؟... فالمتنبي فتى عربي، وفي قرارة ذاته ثورة، وهو منذ وجدت هذه الثورة مكانها في ذاته يبحث عن ناس من العرب يعينونه على أحداثها، لعل بها خيرا لنفسه ولقومه كما أشرت من قبل، ولعل بها، في حمص ذاتها، ما يرغم هذه الدولة الأجنبية على الجلاء عن هذه الأرض العربية، ليكون الحكم فيها إلى عربي صالح يقيم ميزان العدل في قومه. ولقد كانت الأيام تنتظر هذا الشاعر الثائر حتى يقيض له أن يعبر عن ثورته، عن نزعته العربية المكبوتة الحائرة في أعماق سريرته، تعبيرا يشبه الانفجار من وجه، ويشبه من وجه آخر روعة النضج في إبانه وفي أزهى عنفوانه. ولقد طاولته الأيام كثيرا، وما طلته كثيرا، وامتحنته بألوان من المحن مقيتة ثقيلة سمجة... لقد وقف المتنبي عند التنوخيين في اللاذقية يهز عروبتهم عسى أن يرجع بهم للعرب سلطانهم، وينتزعوا من أيدي الأجانب ملكهم وأرضهم: أحق عاف بدمعك الهمم * أحدث شئ عهدا بها القدم (1) وإنما الناس بالملوك وما * تفلح عرب ملوكها عجم لا أدب عندها ولا حسب * ولا عهود لهم ولا ذمم بكل أرض وطئتها أمم * ترعى بعبد كأنها غنم... ووقف المتنبي عند بدر بن عمار في طبرية، وقد ملك عليه الفرح بلقائه كل نواحيه، فان بدر بن عمار مجاهد عربي، والمتنبي يبحث في الملوك والأمراء والقواد عن عربي يستحق مدائحه، وها قد وجده فقصده من شمال سورية إلى جنوبها، وها هو ذا يلقاه فيهتف من فرح: أحلما نرى أم زمانا جديدا * أم الخلق في شخص حي أعيدا تجلى لنا فأضأنا به * كانا نجوم لقينا سعودا ووقف المتنبي، في ما بين هذا وهؤلاء، عند ناس كثيرين ينشدهم شعره متكلفا ما ليس عنده لهم من حب ولا إعجاب، متحفظا في إظهار سريرته وثورته، متنفسا حينا ببعض ما يكتم من هم ثقيل وسر خطير:
(1) من قصيدة قالها في علي بن إبراهيم التنوخي حوالي سنة 323 هجرية، وكان المتنبي في نحو العشرين من عمره 22 فؤاد ما تسليه المدام * وعمر مثل ما تهب اللئام (1) ودهر ناسه ناس صغار * وإن كانت لهم جثث ضخام وما أنا منهم بالعيش فيهم * ولكن معدن الذهب الرغام أرانب غير أنهم ملوك * مفتحة عيونهم نيام وظلت الأيام تطاوله وتماطله حتى آذنت بان يجد الشاعر الثائر بطله الفارس المجاهد، والتقيا معا أول مرة، عند أبي العشائر في أنطاكية سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة هجرية، وحظي شاعر العروبة الأكبر أبو الطيب المتنبي بمجاهد العروبة الأكبر يومئذ، سيف الدولة أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان، أمير حلب وقد كان كلاهما ينتظر صاحبه منذ زمن... سلكت صروف الدهر حتى لقيته * على ظهر عزم مؤيدات قوائمه (2) مهالك لم تصحب بها الذئب نفسه * ولا حملت فيها الغراب قوادمه فأبصرت بدرا لا يرى البدر مثله * وخاطبت بحرا لا يرى العبر (3) عائمه والأمر في لقاء المتنبي لسيف الدولة، أنه ظاهرة تحول وانتقال في نفسية أبي الطيب وفي شعره وفي شخصيته جميعا... ومن هذه الظاهرة، بعد أن تتضح لنا في ما يأتي، نخلص إلى حقيقة ذات شان كبير في الوصول إلى جانب النزعة القومية عند المتنبي. يكفي أن يرجع الناقد الباحث إلى ديوان المتنبي يدرس قصائده بتعمق وتذوق، ليعلم أن شعره في هذه السنوات التسع التي صحب فيها بطله العربي المناضل وحده عن ثغور الدولة العربية ضد غزوات الروم الطامعين بانتقاص هذه الدولة أطرافها، ليتسنى لهم القضاء على سلطانها كله أقول: ليعلم أن شعر أبي الطيب في هذه السنوات التسع قد جاء بأروع ما كانت تختزن عبقريته من طاقات شعرية وقوى ثورية. نحن نحس في قصائد أبي الطيب عند سيف الدولة أنه ينطلق فيها من جانب في نفسه يختلف كثيرا عن تلك الجوانب كلها التي كان يصدر عنها شعره في غير سيف الدولة من جميع ممدوحيه، سواء منهم الذين مدحهم قبل لقائه سيف الدولة، أم الذين مدحهم بعد ذلك، إلى أن لقي حتفه. وذلك الجانب الذي نعني، ليس هو مجرد حبه لشخص سيف الدولة بما أنه سيف الدولة بذاته، وليس هو مجرد إعجابه بذكاء سيف الدولة أو ببطولته، بما أنه ذكاء وأنها بطولة وكفى، وليس هو مجرد رضاء نفسه بما لقي في رحاب سيف الدولة من إجزال في عطائه وتقدير لشعره ورفع لقدره، بل الأمر كما نحس في جميع قصائده بسيف الدولة يجاوز هذا كله إلى أن المتنبي وجد في صحبة هذا الأمير الفارس، وفي جهاده المتواصل الدائب، والمظفر في أكثر الأحيان، وجد في ذلك إرواء وشبعا لثورته القديمة المكبوتة، وإرضاء وتجسيدا لنزعته القومية التي صحبت تلك الثورة وعاشت فيها ونمت نموها وهي تتفاعل معها، حتى تمازجتا تمازج إلفة ووحدة. لقد قيل في بعض ما يروي الرواة، أو في بعض ما يشيع في الأذهان، أن المتنبي كان جبانا، فإذا صح هذا فان الذي كانوا يرونه جبنا فيه، قد ظهر من سيرته عند أمير حلب الحمداني أنه لم يكن جبنا حقا، وأنا لا أعلم ولا أذكر حادثة واضحة تدل على جبنه، بل كان ذلك كما يبدو عزوفا من المتنبي عن إظهار جرأته في غير موطنها الذي تستحقه... ونحن لا نعلم في أخبار ثورته ببادية حمص ما يكشف بوضوح عن هذه القضية، فما تزال هناك حلقة مفقودة في أخبار هذه الثورة... وقد رأينا أبا الطيب يقبل على ممارسة فنون الفروسية والقتال مع سيف الدولة ويخوض معه معارك الجهاد ضد غزوات الروم، ونراه في المعركة يخرج منها سيف الدولة منكسرا، مثله في المعركة يخرج منها سيف الدولة منتصرا أي أننا نراه في الحالين يطلع بعد المعركة بشعر هادر ثائر رائع، يطفح فيه الأمل بالنصر بعد الهزيمة، أو يطفح فيه الأمل بالنصر بعد النصر. فهل كان هذا مجرد إعجاب ببأس سيف الدولة وشجاعته؟... أكان هذا مجرد مدح لأجل المدح ذاته؟. كان يمكن أن يصح القول هذا لو أن ذلك الشعر لا يختلف في مستواه الفني وفي نبضات الحياة فيه عن غيره من الشعر الذي قاله أبو الطيب في غير سيف الدولة، ولكنه مختلف جدا، فشعره هذا بسيف الدولة يهدر هديرا عجيبا وينبض بالقوة والفرح والصدق والحرارة والحماسة، فالشاعر هنا يخرج من المعركة وهي تضج في دمه ومشاعره وأمانيه وأشواقه، يخرج منها وهي تجربة من تجارب نفسه وعقله تملأ جوانب نفسه وعقله، فلا يكون الشعر هنا إلا هذه التجربة النفسية العقلية الشخصية ذاتها متجاوبة مع أصداء تلك النزعة الكامنة النامية عنده أبدا، نزعته القومية. إن وراء هذا الشعر الهادر الثائر الرائع، أمرا حقيقيا هو غير ما نعرف في سائر شعر المتنبي، وذلك أن المتنبي كان يدخل المعركة مع سيف الدولة، وهو يمزج عواطفه لشخص سيف الدولة بعواطفه لهذا الجهاد العربي الذي يحمي الثغور ويدفع الأخطار عن دولة العرب وسلطان العرب. وهنا نذكر ملاحظة دقيقة عميقة لاحظها الدكتور طه حسين في الفرق بين مدائح المتنبي للفارس العربي سيف الدولة، وبين مدائحه لجماعة من غير العرب، فهو حين يمدح هؤلاء الجماعة يتجنب التعرض لمدح أجناسهم الأجنبية، ويكتفي بمدح أشخاصهم، فان تجاوز أشخاصهم لم يتجاوز أن يذكر ما لآبائهم من الاسلام وفي ظل الدولة العربية (4). ويلاحظ الدكتور طه حسين، بهذه المناسبة، أن المتنبي قد اتخذ العربية مذهبا سياسيا وفلسفيا، ولكن يأخذ عليه أنه خرج على مذهبه هذا في قصيدته التي مدح بها علي بن صالح الروذباري والي دمشق، حين فر من طرابلس إلى دمشق، وهو في نحو الثالثة والثلاثين من عمره، وفيها يقول: ليس كل السراة بالروذباري * ولا كل ما يطير بباز فارسي له من المجد تاج * كان من جوهر على أبرواز وبآبائك الكرام التأسي * والتسلي عمن مضى والتعازي تركوا الأرض بعد ما ذللوها * ومشوا تحتهم بلا مهماز
(1) قالها في المغيث بن علي العجلي في أنطاكية. (2) من أول قصيدة قالها المتنبي في سيف الدولة، ومطلعها: وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه * بأن تسعدا، والدمع أشجاه ساجمه مؤيدات: جمع مؤيد، وهو القوي. (3) عبر البحر: شطه. (4) مع المتنبي - طه حسين ص 959. 23 غير أن هذا المأخذ هل يصح أن نتخذه دليلا على شعوبية صريحة من المتنبي كما يتهمه الدكتور طه حسين؟. هل مجرد مدح الفرس أو أي قوم آخرين يعد شعوبية صريحة؟... إذا صح مثل هذا فان الدكتور طه حسين مدح أقواما كثيرين كاليونان والفرنسيين في كثير من آثاره الأدبية، فهل يرضى العقل والعلم أن نقول فيه ما يقوله في المتنبي؟. نعم، إن للمتنبي هفوة غير هذه ننكرها عليه ولا نغتفرها له، ونعتقد أنها تناقض نزعته القومية كل المناقضة، وهي تنحصر في بيت واحد من مجموع شعره كله، بيت قاله في إحدى قصائده بمدح كافور: وأي قبيل يستحقك قدره * معد بن عدنان فداك، ويعرب!... ما ندري كيف قال المتنبي هذا البيت وباي حال ولأي غرض، ولكن ندري أنه مهما تكن حاله ومهما تكن الظروف التي أحاطت به، ومهما يكن الغرض الذي قصد إليه، فلا شئ مطلقا يبرر أن يقول كلاما من هذا القبيل، وهو الذي ملكت عليه، في كل شعره، نزعته العربية، ودخلت هذه النزعة في كيانه وفي وجدانه، ثم دخلت في تجربته الشعرية فأنضجت مواهبه وفتقت عبقريته وأخرجت من تجربته هذه، فنا من الأدب القومي يندر نظيره في أدبنا القديم. ولكنها هفوة واحدة لا تغير شيئا من الواقع الذي كأنه المتنبي، أعني واقع أن أبا الطيب كان أعظم شاعر عربي غنى معارك النضال العربي في زمن كان هذا النضال يحمل أثقاله فارس بني حمدان وحده في أمراء العرب وملوكهم. ولقد كان أبو الطيب يشعر بثقل المهمة التي يحملها سيف الدولة، ويشعر مع ذلك بتقصير الآخرين من ذوي السلطان في الدولة العربية، بل يشعر فوق ذلك بان هؤلاء لا يكتفون بالقعود عن مناصرة سيف الدولة في مناهضة الغزوات الأجنبية على حدود دولتهم، بل يزيدون فيقلقون على سيف الدولة أمنه الداخلي ويثورون به ويصرفون كثيرا من جهده عن مقاتلة الروم إلى مقاتلتهم في داخل البلاد لاخماد الفتنة أثر الفتنة، ولطالما ألمح المتنبي في قصائده إلى هذا الأمر، ولطالما عرض بهؤلاء تعريض اللائم العاذل... نسمعه في القصيدة التي يذكر فيها استنقاذ سيف الدولة لأبي وائل تغلب بن داود بن حمدان العدوي من أسر الخارجي، وذلك سنة ثماني وثلاثين وثلاثمائة، وكان الخارجي يطمع في الخلافة والملك (1) ومطلع القصيدة: الام طواعية العاذل * ولا رأي في الحب للعاقل نسمعه في هذه القصيدة يقول: أما للخلافة من مشفق * على سيف دولتها الفاصل يقد عداها بلا ضارب * ويسري إليهم بلا حامل وفي هذا البيت الأخير إشارة إلى أن سيف الدولة ناهض وحده في ضرب أعداء الخلافة غير محمول بمعاونة أحد من رجال الخلافة. وفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة هجرية، أحدث بنو كلاب فتنة ضد سيف الدولة، فسار إليهم وأبو الطيب معه، فأوقع بهم، وقضى على فتنتهم، وأحسن معاملة حريمهم، فلما عاد مظفرا قال أبو الطيب قصيدته التي مطلعها (2): بغيرك راعيا عبث الذئاب * وغيرك صارما ثلم الضراب وفيها يقول: ترفق، أيها المولى، عليهم * فان الرفق بالجاني عتاب وإنهم عبيدك حيث كانوا * إذا تدعو لحادثة أجابوا وعين المخطئين هم، وليسوا * بأول معشر خطئوا فتابوا وأنت حياتهم غضبت عليهم * وهجر حياتهم لهم عقاب وما جهلت أياديك البوادي * ولكن ربما خفي الصواب ثم يقول: وأن يك سيف دولة غير قيس * فمنه جلود قيس والثياب وتحت ربابه نبتوا وأثوا * وفي أيامه كنزوا وطابوا (3) وتحت لوائه ضربوا الأعادي * وذلك لهم من العرب الصعاب ولو غير الأمير غزا كلابا * ثناه عن شموسهم ضباب ولاقى دون ثايهم طعانا * يلاقي عنده الذئب الغراب (4) فالمتنبي هنا يدعو سيف الدولة إلى العفو عن بني كلاب، فهم عرب من قومه، وهم إذن عون له على أعداء العرب إذا احتفظ بهم، ثم تهزه عروبته فيثني على شجاعة هؤلاء الثائرين، وهم إذا كانوا قد انهزموا أمام سيف الدولة فلأنه سيف الدولة، ولو أن غيره جاءهم لثناه عن شموسهم ضباب من غبار فرسانهم وشجعانهم. وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة هجرية، أحدث بنو عقيل وقشير وبنو العجلان وكلاب فتنة أخرى في نواحي الدولة الحمدانية، فقضى سيف الدولة على فتنتهم، فقال أبو الطيب في ذلك قصيدته (5) التي مطلعها: تذكرت ما بين العذيب وبارق * مجر عوالينا ومجرى السوابق وفيها يقول: فما حرموا بالركض خيلك راحة * ولكن كفاها البر قطع الشواهق ولا شغلوا صم القنا بقلوبهم * عن الركز، لكن عن قلوب الدماسق (6) وههنا يبدو المتنبي أكثر صراحة في هذه المسألة، فهو يقول للثائرين إن خيل سيف الدولة حين طاردتهم منهزمين لم يحرمها الركض وراءهم راحتها، بل كفاها مؤونة قطع الجبال الشواهق في مطاردة الروم أعداء العرب، وأن رماح سيف الدولة حين أمعنت طعنا في قلوبهم، لم يشغلها هذا الطعن عن أن تكون مركوزة في الأرض دون عمل، وإنما شغلها ذلك عن طعان جيش الروم أعداء الدولة العربية. ومعنى هذا، كما يريد أن يقول المتنبي، أن هؤلاء العابثين في الداخل، قد صرفوا جيش سيف الدولة عن قتال أعدائهم المغيرين عليهم من الخارج،
(1) شرح ديوان المتنبي - البرقوقي ج 2 ص 30. (2) المصدر السابق ج 1 ص 55. (3) الرباب: غير ماطر - واث النبات: كثر والتف. (4) أي: جمع ثأية، وهي حجارة تجعل حول البيت يأوي إليها الراعي. (5) المصدر السابق ج 1 ص 467. (6) الدماسق: جمع دمستق، وهو قائد الروم. 24 أين عن أداء واجبه القومي المقدس، الذي هو في الوقت نفسه واجبهم أيضا... ونكتفي بهذه الأمثلة، دون استقصاء، للدلالة على أن المتنبي كان مشغول الذهن والعاطفة، وهو يمدح سيف الدولة في هذه المناسبات، بأمر هذا الجهاد القومي المقدس الذي كان أميره الحمداني يحمل نفسه على النهوض باعبائه وحده في الدولة الواسعة ذات الدويلات العديدة. والتعريض هكذا بخصوم سيف الدولة الداخليين، ليس هو إلا أيسر الجوانب المعبرة عن اهتمام المتنبي بأمر ذاك الجهاد القومي، وهناك جوانب المدح الخالص لسيف الدولة في قصائده الروميات، بل في كل قصائده التي قالها بهذا الأمير المجاهد، وهي تكاد تزيد عن ثمانين قصيدة ظل ينشئها في مدى تسع سنوات متواليات، وهي بلا شك أعظم شعر المتنبي على الاطلاق، بل من أعظم الشعر القومي في أدبنا العربي. فهذه قصيدته التي مدح بها سيف الدولة بعد انتصاره على الروم في مرعش انتصارا تاريخيا رائعا، سنة اثنين وأربعين وثلاثمائة هجرية، يسرد فيها وقائع عدة معارك، ويسمي أمكنتها وأشخاصها، وهي القصيدة التي مطلعها: ليالي بعد الظاعنين شكول * طوال، وليل العاشقين طويل هذه القصيدة تكاد تكون لوحة كبيرة متقنة الصنع متكاملة الأجزاء، تصف بلاء الأمير الحمداني في جيوش الروم، وتصف فنون الكر والفر، ولكنها ليست وصفا حقيقيا بقدر ما هي غناء وجداني نحس فيه وهج العاطفة ولهب الحماسة وفرح الانتصار، حتى لكان المتنبي ينشئ في كل بيت من القصيدة معركة، ويحرز في كل معركة نصرا، ويتذوق مع كل نصر فرحة جديدة. ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي * فتظهر فيه رقة ونحول لقيت بدرب القلة الفجر لقية * شفت كمدي، والليل فيه قتيل ويوما كان الحسن فيه علامة * بعثت بها، والشمس منك رسول وما قبل سيف الدولة اثار عاشق * ولا طلبت عند الظلام ذخول ولكنه يأتي بكل غريبة * تروق، على استغرابها، وتهول رمى الدرب بالجرد الجياد إلى العدا * وما علموا أن السهام خيول شوائل تشوال العقارب بالقنا * لها مرح من تحته وصهيل وما هي إلا خطرة عرضت له * بحران لبتها قنا ونصول ويقول فيها: وأنا لنلقى الحادثات بأنفس * كثير الرزايا عندهن قليل يهون علينا أن تصاب جسومنا * وتسلم أعراض لنا وعقول إنه هو المتنبي نفسه في المعركة، وهو هنا يتحدث بانفعاله وتجربته واندماجه في القضية التي تدور لأجلها المعركة... هو هنا ليس مادحا للمدح ذاته، وليس مادحا للجائزة ذاتها، وليس مادحا زلفى وتمليقا لصاحبه... هو هنا عربي يهتز كيانه ووجدانه بحركة المعركة، وبقضية المعركة، وبمجد المعركة، ثم بفرح الانتصار في المعركة. وفي شهر صفر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة هجرية، يدخل على سيف الدولة رسول من قائد الروم يطلب الهدنة، فينبري المتنبي إلى هذه القصيدة التي مطلعها: دروع لملك الروم هذي الرسائل * يرد بها عن نفسه ويشاغل هي الزرد الضافي عليه ولفظها * عليك ثناء سابغ وفضائل لم يبدأ الشاعر القصيدة، هذه المرة، بالغزل أو النسيب كعادته، فقد أعجله عن ذلك أمر خطير هو أحق أن يشغل به نفسه ويحذر به أميره... إن الأمر عنده ليس مدح سيف الدولة وكفى، وليس طلب المنزلة أو طلب الجائزة وكفى... بل الأمر الأهم من هذا كله أن يعلم أميره مغزى هذه الهدنة التي يرجوها قائد الروم... هذه الهدنة ليست سوى خدعة يريد أن يدفع بها ملك الروم عن نفسه وجيشه إحدى الهزائم يوقعها به هذا الأمير العربي، سيف الدولة. فالمتنبي، إذن، يدرك قصد الهدنة هذه، وهو إذن يسارع إلى أميره أن يرفض الهدنة، حتى لا يفيد منها العدو كسبا عسكريا على حساب الدولة العربية. ويصاب العرب بالهزيمة، بعد النصر، في المعركة التي وقعت قرب بحيرة الحدث، سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وكان سبب الهزيمة أن أتباع سيف الدولة بعد أن انتصروا على الروم عدة انتصارات في تلك السنة، أبوا عليه أن يتابع غزوه للروم، وألحوا عليه في طلب العودة إلى ديارهم، فاستجاب لهم، وعادوا بمغانم النصر وبالأسرى، وبينا هم في طريق العودة فوجئوا بالعدو وقد أحاط بهم، وسد عليهم كل طريق فأوقع بهم الهزيمة، وكان المتنبي من شهود أحداث النصر والهزيمة معا، فلما عادوا إلى حلب كانت نفس الشاعر قد امتلأت ألما وحزنا على ما قد أصيب به الجيش العربي في تلك الحوادث، وسرعان ما أحدث الألم والحزن هذه القصيدة التي مطلعها: غيري بأكثر هذا الناس ينخدع * إن قاتلوا جبنوا، أو حدثوا شجعوا أهل الحفيظة، إلا أن تجربهم * وفي التجارب، بعد الغي ما يزع وما الحياة ونفسي بعد ما علمت * أن الحياة كما لا تشتهي طبع ليس الجمال لوجه صح مارنه * أنف العزيز بقطع العز يجتدع فهذه بداءة القصيدة كما ترى، وقد أنشدها سيف الدولة، فهل يبدأ شاعر قصيدة مدح على هذا النحو وهو يقصد إلى مجرد المدح أو مجرد الجائزة أو مجرد الزلفى إلى أميره؟... أنت تحس في هده البداءة أن شاعر هذه القصيدة امرؤ محزون بالفعل، حاقد حانق أشد الحقد والحنق على أولئك الذين جبنوا عن متابعة الحرب، فأوقعوا الهزيمة بجيشهم وقومهم وأميرهم... وهو ينطلق من هذا الشعور الصادق ليس واصفا ولا مادحا، بل معبرا عن وجدانه المنفعل المتأذي، بما في
(1) القلة: موضع في بلاد الروم. (2) حران: بلد كان يعسكر فيها سيف الدولة. (3) الحفيظة: الحمية والأنفة، يزع، يردع. (4) بفتح الباء: الدنس. (5) المارن: اللين من الانف. يجتدع. يجتدع: يقطع. 25 وجدانه من نبض عربي يساير الأحداث وينفعل بها... وهو مع ذلك يسخر بهؤلاء الذين يجبنون عند القتال ولكنهم يشجعون في الحديث عن القتال، ويتظاهرون بالحمية والأنفة، ولكن التجربة تذهب بحميتهم وأنفتهم... وهو إلى ذلك يسأل في مرارة وحرقة: ما الحياة ونفسي، وقد علمت هذه النفس أن الحياة على غير ما تشتهي ليست سوى دنس... ثم هو ينفي الجمال عن وجه يلين أنفه ويخنع ويذل، ويرى أن العزيز كالمقطوع أنفه حين ينقطع عنه عزه... أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه * وأترك الغيث في غمدي وانتجع؟ والمشرفية، لا زالت مشرفة، * دواء كل كريم أو هي الوجع وفارس الخيل من خفت فوقرها * في الدرب، والدم في أعطافها دفع وأوحدته وما في قلبه قلق * وأغضبته وما في لفظه قذع هذا شعر شاعر تضج النكبة في صدره وفي دمه، وتحس أنت، حين تقرأ هذا الشعر، أن النكبة تضج في صدرك وفي دمك كذلك، فالمتنبي إذن صاحب قضية هنا، وليس صاحب أمير يزجي إليه القصيد إزجاء لينال بره أو ليثير إعجابه... وهو هنا شاعر أمة لا شاعر أمير... وتستطيع أنت، بعد هذا، أن ترجع إلى ديوان المتنبي بنفسك، تقرأ قصائده في سيف الدولة كلها، وتتعمق هذه القصائد، وتتأمل أغراضها، وتتذوق فنها الرفيع، ثم ترى: أكان المتنبي مجرد شاعر يطلب ضيعة أو ولاية أو رفدا كيفما جاءه الرفد ومن أي مصدر أتاه، أم كان صاحب نزعة قومية ثورية، بالمعنى الذي أوضحناه أول الفصل... ثم ترى: أكان المتنبي مجرد صانع كلام مقفى موزون، ماهر الصنعة، أم كان إلى ذلك شاعر ثورة وعاطفة وهدف كبير؟... وأنت تستطيع بعد هذا أيضا أن ترجع إلى قصائد المتنبي في مدح كافور نفسه، بعد أن ألجئ إلى فراق سيف الدولة، تقرأها كذلك وتتعمق روحها وتتأمل أغراضها وتتذوق فنها، ثم ترى: أكان المتنبي يحن حنينه ذاك إلى سيف الدولة، ويعتب عليه عتبه ذاك الناضح دما وحبا وأسى، لمجرد أن سيف الدولة كان يحسن تقديره وبره، أم لأن سيف الدولة قد أروى وأشبع في المتنبي عروبته وثوريته وشاعريته؟... المرحلة المأساة في حياة المتنبي: المرحلة التي انفصل فيها أبو الطيب عن صديقه المفضل، الأمير الحمداني سيف الدولة، واتصل فيها بأمير مصر كافور الإخشيدي عام 345 ه، هي المرحلة المأساة في حياته. لقد فجع المتنبي، يومئذ، بأعز علاقاته الإنسانية، وأسمى تجربات حياته، وأنبل قرابة وجدانية بينه وبين الناس، فضلا عن فجيعته حينذاك بتلك الطمأنينة الروحية والمادية التي لم يتذوق مثلها في مراحل عمره جمعاء... وفي الحقيقة أن انفصاله عن سيف الدولة لم يكن يعني انتهاء مرحلة وابتداء مرحلة، بل كان يعني في نفس الشاعر تحول معنى المرحلة نفسها من الطمأنينة إلى القلق العارم، ومن الغبطة والسعادة إلى الكدر والألم والتمزق النفسي... ومعنى ذلك أن المرحلة الأخيرة لم تكن مرحلة مستقلة عن سابقتها. بل هي امتداد لها، ولكن بوجه جديد عابس قاتم مثخن بالجراح... فالمتنبي لم ينفصل عن سيف الدولة روحيا ووجدانيا حين غادر بلاطه وغادر صحبته في دولته ومعارك جهاده، وإن انفصل عنه ماديا وجسديا... لقد ظل مرتبطا بمرحلته السابقة وبأميره المفضل، ولكن ارتباط ألم وعتب وحنين وتفجع... فقد راح إلى دمشق، ثم إلى الرملة، وهو ينظر بقلبه ووجدانه وقضيته الكبرى إلى الوراء... إلى حلب... إلى رحاب سيف الدولة... إلى معارك الحدود والثغور... إلى هزج الفرسان وصليل السيوف وهدير القتال وعظائم الانتصارات وتدارك الهزائم... بينما ينظر بعينه وبحاجته ومطامحه المحرجة، إلى أمام... ولكن أين؟... لقد كان في نفسه، وهو يغيب عن وجه الأمير الحمداني الذي خذله واستمع إلى أقاويل حساده وخصومه... لقد كان في نفسه حينذاك أمران اثنان: الأول: أن يجد المكان الذي يسع مطمعه كطالب ضيعة أو ولاية يستريح إليها بعد كفاح طويل، وتغنيه عن بيع شعره في سوق الكساد من جديد... الثاني: أن يجد وجوده كشاعر يملأ الدنيا ويشغل الناس، بعد أن رأى وجوده هذا قد فقد مكانه المطمئن المفضل الذي وجده في ظل الأمير الحمداني، وهو يطوي في ضميره رغبة جارفة في أن يغيظ سيف الدولة، ويثير غيرته وحميته وندمه إذا وجد المكان الجديد الذي يرجو في ظل أمير جديد ينافس سيف الدولة... وكان كافور الإخشيدي، حاكم مصر يومئذ وخصم أمير حلب، هو الأمير الذي تطلع إليه المتنبي، أول ما تطلع، حين أرغمه كيد الكائدين على أن يولي ظهره لسيف الدولة... كان يتطلع إلى مصر وكافورها، وهو يرجو أن يحقق بذلك كلا الأمرين معا: مكان مطمعه، ومكان شاعريته، ليستريح، وليغيظ أميره الذي فارقه مرغما وظل متصلا به روحا ووجدانا. وفي الوقت نفسه كان الإخشيدي كافور هو أيضا يرقب هذه الفرصة ليضع يده على الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، لكي يملأ به دنياه ويشغل به أعداءه... وكان سيف الدولة هو الشبح الذي يتجسد فيه كل عداوات كافور، وكان القبض على يد المتنبي يعني، في نفس كافور، القبض على سنان الرمح الذي يطعن به كبرياء سيف الدولة، ويثير حنقه، ويهيج أعمق مشاعر المنافسة في سويداء قلبه... هكذا تلاقت الرغبتان: رغبة المتنبي، ورغبة كافور، وإن اختلفت أسبابهما وأهدافهما... وفي حين كان المتنبي ينتظر الفرصة لبلوغ مأربه، وهو عند أمير الرملة بفلسطين جاءته الدعوة من كافور إلى مصر... فخف إليه مستجيبا لدعوته،
(1) انتجع: طلب العشب. (2) المشرقية: السيوف. (3) القذع: الفحش. 26 وفي قلبه هزة فرح وأمل تقابلها رعدة حنق وعتب وحنين تتجه به إلى حلب، إلى سيف الدولة... ويتلاقى الشاعر وحاكم مصر، وتتلاقى رغبتاهما، ولكن كافور رجل عصامي ماكر حاذق، فلم يعط الشاعر كل ما في نفسه من مشاعر النصر... وكان النصر يعني عند كافور نصرا على المتنبي ونصرا على سيف الدولة معا... لقد كبح الأمير الماكر الحاذق عواطفه، فما قابل الشاعر بما ينبغي أن يقابله به من فرح بلقائه بعد انتظار طويل صابر، بل واجهه ببرودة ماكرة، بالرغم مما هيأ له من أسباب الراحة والسكن، ليستدر مدائحه، مستعجلا إياه بهذه المدائح... وما خفي على فطنة الشاعر هذا المظهر البارد الماكر من كافور، فاغتم لذلك وأحس لوعة الجرح من جديد، وأحس الطعنة في كبريائه تمزق وجدانه... ولكنه أضمرها في طيات نفسه إلى حين، وشاء أن يقابل المكر بمكر مثله بعض الوقت... فتأخر عن كافور بالمديح، حتى ينتزع منه المكان الذي جاء مصر من أجله... ولم يطل الوقت... فإذا الشاعر يفتتح مدائحه لكافور بأولى قصائده فيه جمادى الثانية سنة 346 ه 957 م، وهي القصيدة التي مطلعها: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا * وحسب المنايا أن يكن أمانيا وننظر في هذه القصيدة لا لنرى كيف حال أبي الطيب وهو يقول أول قصيدة بعد انقطاعه عن سيف الدولة يمدح بها غيره أول مرة... فنرى تلك الحال نفسها التي وصفناها، أي أنه ما يزال يتلفت بقلبه إلى صديقه الذي فجع بصداقته، ولا يزال يرتبط به ارتباط روح ووجدان، رغم القطيعة، ورغم الجرح، ورغم الفجيعة... فقد وقف نحو اثني عشر بيتا من أبيات هذه القصيدة على التغني بتلك العلاقة المقطوعة الموصولة معا معبرا عن غيظه، ولكن أي غيظ؟... إنه غيظ المحب الذي فارق من أحبه مرغما جريحا، دون أن تنقطع في نفسه وشائج الحب... لقد انتظر كافور طويلا، وهو يتحرق، حتى يرى شاعر سيف الدولة يقف بين يديه منشدا فيه المدائح، فلما وقف فعلا، وتحقق حلم كافور، فوجئ بأولى قصائده تتحدث في مطلعها حديث شاعر يرى الموت خير دواء يشفيه من دائه، ويرى المنية أحلى أمانيه. فهل انتظر كافور كل ذلك الانتظار ليسمع مثل هذه اللهجة من شاعره عند أول موقف بين يديه منشدا؟... ولا يكتفي الشاعر بهذا الاستهلال يجبه به ممدوحه الجديد، بل يزيد في تحديه للموقف، حين يعلن استكباره عن تحمل عيش الذل وإيثاره الدفاع عن عزته وكرامته بحد السيف وسنان الرمح واختيار كرائم الخيل، كشان الأسود لا يغنيها الحياء في دفع غائلة الجوع، ولا تهاب إلا حين تكون ضارية... إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة * فلا تستعدن الحسام اليمانيا ولا تستطيلن الرماح لغارة * ولا تستجيدن العتاق المذاكيا فما ينفع الأسد الحياء من الطوى * ولا تتقى حتى تكون ضواريا ماذا يعني المتنبي بهذه اللهجة يفتتح بها عهده مع كافور؟... لقد أراد أن يحذره منذ البدء... أراد أن يقول له: إياك أن تسومني المذلة، فلقد فارقت سيف الدولة مذ رأيته يريدني أن أرضى عيش الذل، ولن أرضى أبدا هذا العيش، فكن على حذر... ثم أراد أن يوحي لكافور أنه لم يفارق سيف الدولة كارها له، بل لا يزال يضمر له الحب... وإن كان يعبر عن هذا الحب بصورة عتاب وتحذير لقلبه: حببتك قلبي قبل حبك من نأى * وقد كان غدارا، فكن أنت وافيا واعلم أن البين يشكيك بعده * فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا فان دموع العين غدر بربها * إذا كن أثر الغادرين جواريا فهل نرى إلى قوله: واعلم أن البين يشكيك بعده. أليس هذا أصرح تعبير عما يهيج في قلبه من مشاعر الحنين إلى سيف الدولة؟... بل، هل أبلغ صراحة في ذلك من قوله: أقل اشتياقا أيها القلب ربما * رأيتك تصفي الود من ليس صافيا خلقت ألوفا، لو رجعت إلى الصبا * لفارقت شيبي موجع القلب باكيا إنه يريد أن يقول لكافور: أنا لست لك... إن قلبي لا يزال يصفي غيرك وده، وإن لم يكن ذلك الغير صافيا... ولنتأمل في قوله خلقت ألوفا... فهو يريد أن يوحي لكافور أن المسألة بيني وبين سيف الدولة مسالة ألفة، والألفة خليقة أصيلة بي... ولذا أراني موجع القلب باكيا لفراقه. هكذا تبين، منذ القصيدة الأولى، بل منذ اللقاء الأول، أن كافور والمتنبي لن يكون أحدهما للآخر مثلما كان الحال بين سيف الدولة والمتنبي. ولعل كلا من المتنبي وكافور قد أضمر لصاحبه، منذ ذلك الوقت، أن يكون منه على حذر، وأن يستفيد من صحبته قدر ما يستطيع دون أن يعطيه كل ما يستطيع. فالمتنبي قد عقد النية على أن يرتضي المصير الذي انتهى به إلى صحبة كافور رغم إرادته، ولكن شرط أن ينال منه مطلبا ماديا يغنيه عن التشرد في الآفاق، ويسكن إليه من متاعب التطواف ومتاعب التقلب بين ذوي الجاه والسلطان... لقد أصبح المتنبي، إذن، عالق النظر والرجاء في أمر واحد سيصبر من أجله على المكاره كلها عند كافور... وهذا الأمر هو الحصول على المال، فلقد صار إلى حال لا يرى معها المجد كله شيئا إذا لم يدعمه المال، أو لم يكن هو المال... وذلك ما قد كان يعلنه بأشكال مختلفة في مدائحه بكافور، ففي القصيدة التي مطلعها: أود من الأيام ما لا توده * وأشكو إليها بيننا وهي جنده في هذه القصيدة قال: فلا ينحلل في المجد مالك كله * فينحل مجد كان بالمال عقده ودبره تدبير الذي المجد كفه * إذا حارب الأعداء، والمال زنده فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله * ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
27 إنها مأساة المتنبي... فقد حرمته القطيعة مع سيف الدولة مجدا يحرك في ذاته كل طاقات الخلق والابداع، هو مجد الصداقة أولا، ومجد الايمان بالبطولة ثانيا، ومجد القضية التي كان يرى في سيف الدولة بطلها. ثالثا... لقد حرمته القطيعة هذا المجد، فلم يبق له الدافع العظيم الذي ينشد المطلب العظيم ويفجر الشعر العظيم، كما كان يوم كان في صحبة سيف الدولة. من هنا نراه ينحدر في مدح رخيص، وفي شعر خمد لهيبه الذي نعرفه يتوقد في القصائد الحمدانية، ونرى الصور الملحمية تختفي كليا من القصائد الكافورية. ومن هنا أيضا لم يطل عهده بكافور، لأن حاكم مصر كان ينوي منذ البدء أن لا يعطي المتنبي ما يرجوه، بل يماطله بالوعيد حتى يستنفد من مدحه قدر ما يمكن. فلما أيقن الشاعر أن أمواله التي يرجوها من كافور لن تكون سوى المواعيد تنكر له، وعزف عن مدحه إلى هجائه، ورأينا لهب الشعر يتسعر من جديد في أهاجيه اللاذعة بكافور... ويترقب الفرص للفرار من قبضة حاكم مصر على حال سيئة تقتضيه المسير على قدميه تحت أستار الظلام، ويعود إلى موطنه العراق يائسا تشتعل نار المأساة في جوانحه، لا يدري بعد أين المصير؟... ولكن تحدث له أحداث، وهو في العراق، إذ تموت جدته، وتأتيه الأنباء والوفود من سيف الدولة فتتحرك شاعريته بأمر جديد، ويتأجج وجدانه بلهب جديد، فإذا مرثيته لجدته، ومرثيته لأخت سيف الدولة، ترجعان إلى شعره روعة النغم النابع من مصادره الوجدانية العميقة الصادقة الدافقة... ثم يختم حياته القلقة ببضع مدائح ليست في مستوى شعره العظيم، يقولها بابن العميد وعضد الدولة عند تلبية دعوتهما في فارس... ويسدل الستار بمصرعه الفاجع عند عودته إلى موطنه الأول، الكوفة... يسدل الستار على تلك الحياة المتعبة المتناقضة، ويبقى شعره مجدا باقيا له وللأدب العربي لن ينطفئ وهجه أبدا... المتنبي في شعب بوان قال محمد شرارة: قد تكون وقفة التاريخ مع المتنبي أطول الوقفات التي عرفها مع الأدباء عامة والشعراء خاصة. وإذا استعرضنا ما قيل فيه وعنه وجدنا سيلا من الأفكار والعواطف المختلفة ينتشر حوله، ويدور حول حياته وأدبه، بينما لم ينل غيره سوى قطرات. والإطار العام الذي وضعه التاريخ فيه لا يتعدى الكبرياء والغطرسة والغرور وما أشبه ذلك من المعاني التي توحيها قصائده أو معظم قصائده. وكان من وراء الإطار المذكور شيوع الصور المتكبرة وانطباعها في النفوس عن الشاعر بحيث أصبح ذكره كافيا لأن ينقل إلى نفس السامع معاني الكبرياء والغطرسة والغرور. وإذا شاعت هذه المعاني عن شخص وضعت بينه وبين الناس هوة أو أسلاكا شائكة يصعب اجتيازها، وأصبح مكروها ممقوتا يثير ذكره معاني الاشمئزاز، لأن الصفات المذكورة تؤدي بصاحبها إلى احتقار الآخرين، والحط من شانهم، والإنسان مهما كان، يرفض احتقار الآخرين، ويرى فيه إهانة لنفسه، ولا يرى موجبا للاتصال بمن يحتقره، ويحاول إهانته إلا إذا كانت كرامته ضئيلة، وكان له نفع من وراء الخضوع للإهانة، فإنه عندئذ يبلع الإهانة في سبيل المنفعة الخاصة، ويتحمل كبرياء غيره، ويرضى بالذل. ولا نعرف للشاعر جولة في هذا الميدان: ميدان المنافع حتى يتحمل المتصلون به في سبيل ذلك غطرسته وكبرياءه!. هذا الإطار الذي خطه التاريخ حول الشاعر هو الخط البارز في حياته، وفي شعره. ولم يكن التاريخ جانيا ولا ظالما حينما وضع هذا الإطار حوله... لم يكن جانيا كل الجناية، ولا ظالما كل الظلم، ولكن قد يكون في تخطيطه بعض الجناية لأن هناك ومضات حلوة سائغة هاربة من ذلك الإطار التاريخي المعروف، هذه الومضات خالية من الكبرياء والغطرسة والغرور وما أشبه ذلك من المعاني التي توحيها قصائده أو معظم قصائده!. وقد وقف صديقنا الأستاذ حسين مروة في بحثه القيم عنه على ومضة من تلك الومضات الصافية، وأخرج الشاعر من الإطار التاريخي المعروف، أخرجه منه إلى عالم جميل... عالم مناضل يذيب نفسه في سبيل العقيدة أو الفكرة. ولكن صديقنا كبر الومضة وخلق منها هالة واسعة... هالة عظيمة تكاد تخرج الشاعر من الإطار الذي وضعه فيه التاريخ، وتضعه في إطار معارض له. فاعتبار المتنبي... شاعر الجهاد العربي شئ كبير تؤاخذ عليه المقاييس العلمية. ونحن الذين اعتدنا والأستاذ مروة في طليعتنا أن نستشير الفلسفة القائمة على العلم فيما نقول أو نكتب، نستكبر أن يكون المتنبي... شاعر الجهاد العربي، ونرى في هذا الوصف هالة أو وساما لا يستحقه الشاعر. ومهما يكن الأمر فالإطار الذي وضعه التاريخ حول الشاعر لم يكن عادلا كل العدالة، كما أن الهالة الرائعة التي وضعه فيها الأستاذ مروة كانت كبيرة عليه، وفوق ما يستحقه. ووضع الأمور في نصابها يدفعنا إلى محاسبة التاريخ، ومحاسبة الأستاذ مروة أيضا وإن اختلفت وجهة الحساب. فالمتنبي لم تكن حياته كلها أنانية وعجرفة كما يصوره التاريخ، ولا كانت جهادا في سبيل العرب والعروبة كما حاول أن يصوره الأستاذ مروة. والمقياس الدقيق الذي وضعه الأستاذ في تحليل النزعة القومية هو نفسه يخرج المتنبي من تلك الهالة ويبعده عنها مسافة كبيرة، ولكنه وإن أخرج منها يبقى في شعره نبرات منها، وهذه النبرات هي التي أغرت الأستاذ مروة، وزينت له أنها أكثر من مجرد الشعور وجذبته إليها تلك الجاذبية التي جعلته يحسها نغمات عميقة منبعثة عن فكرة موسيقية مدروسة، صادرة عن آلات منسجمة متوافقة تعرف كل آلة منها اللحن المفروض عليها، وهي في آخر المطاف نبرة... نبرة فقط. والذي لا ريب فيه أن الشعور بالقومية تفلت من الذات، وانطلاق نحو أفق أوسع، وهو بالتالي شعور بالمسؤولية نحو الآخرين... شعور بالانتقال من أنا إلى نحن. وفي هذا الانتقال تتلقى الذات شحنة إنسانية. وفي نبرة المتنبي تحول من الذاتية الطاغية على حياته، وبداية شعور بان وراء ذاته شيئا
28 اسمه قوم... اسمه عرب. على أن الدقة العلمية تقتضينا أن نحتاط كثيرا في وصف هذا الشعور وتحديده، وتفرض علينا الحذر في إخراجه، وفي الحجم الذي ينبغي أن يخرج فيه. والتأمل في الشعور المذكور، المنطوي وراء تلك النبرة يؤدي بنا إلى الحكم بأنه شعور غامض، بعيد عن البلورة. وأبياته التي يقول بها: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي تدل على أنه لا يزال يفهم من كلمة القوم معنى القبيلة: لا بقومي شرفت بل شرفوا بي * وبنفسي فخرت لا بجدودي وبهم فخر كل من نطق الضاد، * وعوذ الجاني وغوث الطريد والنطق بالضاد شئ مقصور على العرب كما هو معروف فإذا كان جميع الناطقين بالضاد: أي كل عربي على وجه الأرض يفخر بقوم المتنبي قومه خاصة. فما ذا يكون عندئذ تفسيره لكلمة القوم، وماذا يكون قصده منها؟ وهل يعني غير القبيلة؟ ولكن موقفه أمام انتصار سيف الدولة على بني كلاب يطل بنا على شعور عربي أوسع من الشعور القبلي: ترفق أيها المولى عليهم * فان الرفق بالجاني عتاب وعين المخطئين هم وليسوا * بأول معشر خطئوا فتابوا فان المطالبة بالرفق منبثق عن عاطفة عربية، أو قد يكون على الأقل منبثقا عن شعور عربي. وربما يتأكد ذلك إذا عرفنا أن بني كلاب ينتمون لقيس، وبني حمدان يرجعون لتغلب، وبين قيس وتغلب ضغائن قديمة، وأحقاد عميقة، وبرغم ذلك يرجو الرفق بهم، ويسمي الرفق عتابا. واختيار لفظة العتاب في هذا المكان إذا صح أنها عتاب لا عقاب تشير إلى عطف عميق. وكأنه يريد أن يقول إنهم لا يستحقون على جنايتهم أكثر من عتاب والعتاب يكون للصديق عادة إذا أخطأ وإن استعملها بشار في غير ذلك: إذا الملك الجبار صعر خده * مشينا إليه بالسيوف نعاتبه ولكن هذا الاستعمال قائم على التصرف بالكلمة، والتطوير لها، وإن كان هذا التصرف في منتهى الجمال الفني. ومهما يكن فاللفظة فيها حنان، وفيها حب، وفيها إحساس جميل نحو الناس الذين نشير إليهم، وإذا لم يكن هذا الاحساس منبعثا عن عاطفة قومية فمن الصعب أن نجد له تعليلا آخر. وإذا قارنا هذا الموقف بموقف آخر مشابه له من حيث الانتصار، مخالف له من حيث الجناة وجدناه يختلف اختلافا كبيرا. ونستطيع أن نأخذ مثلا على ذلك معظم القصائد التي قيلت بعد انتصار سيف الدولة على البيزنطيين، فان الشاعر لا يطلب فيها رفقا بالمهزومين، ولا شفقة عليهم، ولا عطفا. وسيف الدولة فيها لم يكن ملكا يهزم ملكا، وإنما كان التوحيد يصارع الشرك ومعنى ذلك أن سيف الدولة هنا مبدأ يصارع مبدأ، وعقيدة تصارع عقيدة. ولست مليكا هازما لنظيره * ولكنك التوحيد للشرك هازم تشرف عدنان به لا ربيعة * وتفتخر الدنيا به لا العواصم فهذه النظرة المختلفة إلى الجناة على اشتراكهم في الجناية والجناية بذاتها لا تتجزأ تشير على أقل افتراض إلى عاطفة تختلج بحب الجناة إذا كانوا عربا، وتتجرد منها إذا لم يكونوا كذلك. والعاطفة نحو القوم بداية شعور إنساني... بداية انطلاق من الذات، وانفلات من الأنانية. وإذا قيل: إن هذه النظرة بدوية أكثر منها قومية، لأن البدوي لا يخرج عن هذه القاعدة في نظرته إلى قبيلته. ومن هنا قيل: وهل أنا إلا من غزية: إن غوت * غويت، وإن ترشد غزية أرشد فهذا القول صحيح لو كان المتنبي من بني كلاب، وكانت القبلية هي التي تربطه بهم. ولكن المعروف أنه من جعفى الهابطة من سعد العشيرة، بينما تهبط كلاب من عامر بن صعصعة الهابطة بدورها من هوازن وليس بينها هذه القرابة. ومن هنا يمكن أن يعد عطفه على بني كلاب نوعا من القومية. والقومية كما قلنا بداية شعور إنساني. ولا شك أن المتنبي يمتلك هذا الشعور. وإذا بدا في بعض الأحيان ضعيفا، فإنه يبدو في أحيان أخرى قويا بالغ القوة. وإذا قرأت قوله: ومراد النفوس أهون من أن * نتعادى فيه وأن نتفانى لمست هذا الشعور، ولمست مدى عمقه وقوته. فالإرادة هي مصدر الشقاء، ومنها تنبع العداوة في الحياة، ولكن الإرادة أهون من أن تبعث على العداوة، والروابط الإنسانية ينبغي أن تكون فوق الإرادة ورغباتها. والمتنبي بهذه النظرة يسبق شوبنهور الذي تتلخص فلسفته في أن الحياة إرادة. يسبقه في نظرته أو نظريته ويفوقه في وصف العلاج. فشوبنهور يرى أن في كل إنسان حوضا من الألم لا محيص له عنه، وهو حوض يستحيل أن يظل فارغا كما أنه لا يمكن أن يسع أكثر مما يملؤه. فإذا ما أزيح عن صدورنا عناء جسيم مضن حل مكانه عناء آخر. ولقد كانت مادة هذا العناء موجودة فعلا، ولكن منعها أن تجد سبيلها. إلى الشعور بها إن لم يكن هنالك من القوى ما يتفرع لها... أما الآن فإنها تندفع وتتبوأ مكانها. إن طبيعة الجهاد تبدو لنا في كل ما تبدو فيه من صور كأنما هي مقصودة ومدبرة بحيث تدعونا إلى العقيدة بان ليس فيها البتة ما هو جدير منا بالجهاد، وما طيبات الحياة كلها إلا عبث، والعالم في كل ما يقصد إليه فاشل، فهو كالعمل الذي لا يغطي مصاريفه. وإذا كانت طيبات الحياة كلها عبثا فقد أصبح بلوغها كالحسنة التي تقذف بها إلى الفقير فتحفظ حياته اليوم لكي يمتد شقاؤه إلى الغد... إنه ما دام إدراكنا مغمورا بإرادتنا، وما دمنا خاضعين لمزدحم الرغبات بآمالها ومخاوفها التي لا تنقطع... ما دمنا مدفوعين لإرادة هذا الشئ أو ذاك فيستحيل أن نحيا في سعادة كاملة أو في سلام دائم. وما هي الإرادة التي تقودنا إلى هذا الظلام المخيف الذي يطفئ جميع المصابيح ولا يبقي حتى على البصيص؟ يجيب شوبنهور: هي العنصر الوحيد الدائم الثابت... جميع الأديان تبشر بالجزاء لحسنات الإرادة أو القلب، ولكنها لا تعد نبوع العقل والفهم شيئا.
29 إن عمل الإرادة وحركة الجسم ليسا شيئين مختلفين تفرق بينهما تفرقة موضوعية، ويتحد أحدهما بالآخر برباط السببية. أي أن ما بينهما من صلة هي صلة العلة بمعلولها. بل هما شئ واحد ولو أنهما يحدثان بطرق مختلفة أتم الخلاف. إن عمل الجسم ليس إلا عمل الإرادة مجسدا. وهذا صحيح في كل حركة من حركات الحسم... فليس الجسم كله إلا إرادة تجسدت، فيجب لذلك أن تقابل أجزاء الجسم الرغبات الرئيسية التي تتجلى فيها الإرادة مقابلة تامة، ولا بد أن تكون تلك الأجزاء هي التعبير المرئي لهذه الرغبات. فالأسنان والحلق والأمعاء هي الرغبة قد تجسدت، وأعضاء التناسل هي الجنسية. ويكون الجهاز العصبي في جملته أداة الحس التي تشعر بها الإرادة فتمدها لتتحسس بها في الداخل وفي الخارج. وكما أن الجنس الإنساني بصفة عامة يقابل الإرادة الإنسانية بصفة عامة فان البنية الجسدية للفرد تقابل إرادة الفرد... أي شخصيته.... وما دام الإنسان إرادة فلا بد أن ينتهي الأمر بقائل هذا القول إلى هذه النتيجة: لشد ما يغيظني أن نجادل رجلا بالبراهين، ونعاني الآلام، في إقناعه ثم يتضح لنا آخر الأمر أنه لا يريد أن يفهم، وأنه ينبغي لنا أن نتصل بإرادته. من جهة أخرى إن أغبى إنسان ينقلب مرهف الذكاء إذا ما كانت المسألة المطروحة عليه تمس رغباته مسا قريبا. وقد يبدو على الناس أنهم مقودون من الإمام، والواقع أنهم مسوقون من الخلف. فإذا ربطنا بين هذه الأفكار من حوض الألم إلى سد الرغبات إلى جعل الإرادة والحياة شيئا واحدا بدا لنا الدهليز المرعب، والغاية المريعة التي تقودنا إليها هذه الفلسفة. بينما تقودنا فكرة المتنبي على بساطتها، وبعدها عن التحليل الفيزيولوجي إلى واحة هادئة مريحة. فالشاعر العربي، والفيلسوف الألماني يلتقيان في هوان الإرادة، ولكن شتان بين اللقائين. فالفيلسوف يرى الإرادة على هوانها كل شئ... إنها الشخصية... إنها الإنسان... والتنازل عنها تنازل عن الوجود، على أن هذا الوجود وجود شقي لا يستحق الجهاد ما دامت طيبات الحياة كلها عبثا وما دام العالم فاشلا في كل ما يقصد إليه. فاستخفاف الفيلسوف بالإرادة مستمد من استخفافه بالوجود كله، وما دام الوجود كله تافها والإرادة هي الوجود كانت الإرادة هينة! فإذا تخليت عنها في ضوء هذه النظرة فلست بخاسر شيئا إن لم تكن رابحا... والدعوة إلى تركها دعوة إلى البعد عن الخسائر. بينما الشاعر العربي لا يراها هذه الرؤيا... إنه يراها شيئا... وقد تكون شيئا مهما. ولكنه على أهميته ينبغي التخلي عنه إذا أدى إلى التصادم... إذا أدى إلى العداوة. فالتأدية إلى العداوة عند الشاعر هي التي تلقي الهوان على الإرادة فقط، لا وجود الإرادة نفسها، وبإضافة التأدية إلى العداوة يلتقي المتنبي مع شوبنهور في قوله: ما دمنا مدفوعين لإرادة هذا الشئ أو ذاك فيستحيل أن نحيا في سعادة كاملة، أو في سلام دائم. فنظرة الشاعر تنتهي كما رأينا إلى أن الإرادة شئ والدعوة إلى تركها والتخلي عنها تضحية... ولكنها تضحية في سبيل التخلص من العداوة... في سبيل سلام دائم بين الناس. ووراء هذه النظرة عنصر إنساني يمدها بالجمال والقوة. أما التخلي عنها بنظر الفيلسوف فليس بعيدا عن التضحية فقط! وإنما هو تخلص من شر... تخلص من مرض!... تخلص من آلام ومتاعب! ووراء هذه النظرة يقف كل ما في الحياة من خوار ووعوعة... وما من شك بان القرن التاسع عشر، وما تم فيه من رأسمالية شرهة، واستعمار منهوم يمد نظرة الفيلسوف الألماني بكل ما فيها من سواد وظلمة. إن عصر المتنبي وإن كان لا يقل قلقا عن عصر شوبنهور مع اختلاف الأسباب الداعية إلى القلق طبعا بيد أن نظرة الشاعر في هذا الموضوع بالذات ظلت أصفى من نظرة الفيلسوف، وأدق منها كثيرا. وقد ظل الجوهر الإنساني حيا في نفس الشاعر على رغم القلق المريع في عصره. على أن الشاعر لا ينسى وهو في هذا الصفاء الإنساني أن الإنسانية لا نعني التسامح المطلق، أو التضحية من أحد الجانبين، أو تنازل أحد الطرفين فقط. الإنسانية لا تعني استغلال المؤمن بها لمنفعة الكافرين بالانسان، وبالقيم العليا، وإنما هي تسامح عام وتنازل مشترك بين الناس. وإذا حولها الكافرون بها إلى استغلال انقلبت عند المؤمنين بها إلى هوان ولم تعد إنسانية بل ذلا أو نوما على الذل. وإذا فهمت على أنها نوم أو تغاض كان على المؤمن بها أن يعرف كيف يواجه هذا الفهم القذر... عليه أن يستعد، ويقف للرد ولو لاقى في رده المنايا الكالحات: غير أن الفتى يلاقي المنايا * كالحات ولا يلاقي الهوانا وكان الشاعر يريد أن يقول: نحن مستعدون للتنازل عن مراد النفوس، لأن مرادها أصغر من أن تكون العداوة ثمنا له. ولكن حذار أن يفهم هذا التنازل على أنه جبن أو هزيمة فنحن مستعدون في سبيل إعادتكم إلى الفهم الصحيح أن نلاقي المنية ولو كانت كالحة. ونحن مدركون أن الحياة مقبلة على الفناء، وأنها قصيرة مهما طالت. ومع ذلك فنحن مستعدون لاختصارها أكثر إذا كنتم تظنون أن تنازلنا عن مراد النفوس هزيمة وخوف منكم. ويكاد لشدة حرصه على هذا المعنى أن ينقلب عن فكرته الأساسية إلى مبشر بالنضال: ولو أن الحياة تبقى لحي * لعددنا أضلنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموت بد * فمن العجز أن تكون جبانا وهكذا يمضي الشاعر في طرح المسألة: فمراد النفوس صغير، بل وأصغر من أن ندفع العداوة ثمنا له، ولكن حذار أن يفهم ذلك على أنه هزيمة، فان المسألة عندئذ تتخذ شكلا آخر... شكلا فيه كثير من العنف والتحدي. وطرح المسألة بهذا الشكل يضع النقاط على الحروف، ويديرها في إطارها الذي يجب أن تدور فيه: فالتسامح شئ جميل، ولكن على شرط أن يبتعد عن الجو الصوفي... أن يبتعد عن الحب المطلق وأن يبقى قريبا من الحكمة القائلة: وقالت لنا قولا أجبنا بمثله * لكل كلام يا بنين جواب ولو كانت بثينة محبوبة إلى حد التقديس!. والمتنبي بهذه اللحظة يعبر عن الفطرة الإنسانية الصافية، ويشير إلى الجوهر الإنساني المغطى بفلسفة المصالح، المقنع بالأضاليل. هذه اللحظة هي
30 من اللحظات الهاربة من الإطار الذي وضعه فيه التاريخ. وإذا رافقنا المتنبي إلى شعب بوان وجدنا لحظة أخرى من حياة الشاعر، يرتفع بها عن المقاييس المألوفة. وهذا الشعب بقعة من البقاع الفاتنة التي مر بها المتنبي في طريق فارس، وهو آية من آيات الجمال الطبيعي، فلما وقف عليه أخذ أخذة المسحور، وذاب في روعة الجمال، ولا يكاد يفيق من غيبوبته حتى تسيل روحه في أبيات تدل على قوة الجمال، وقوة تأثيره: يقول بشعب بوان حصاني: * أعن هذا يسار إلى الطعان؟ أبوكم آدم سن المعاصي * وعلمكم مفارقة الجنان فان أداة الاستفهام هنا تنطوي على أدق معاني الإنكار، ويصب فيها الشاعر أعمق ما في روحه من الحسرات على مأساة الإنسان، ويستغرب حتى حصانه العاري من الفكر، ومن الشعور بالجمال مغادرة هذه الجنة الفاتنة!. وإلى أين!. إلى الطعن الذي تسيل فيه الدماء، وتتمزق تحته الأشلاء، وتذهب فيه الأرواح إلى واد عميق عميق!. إن الشاعر يرتفع في هذه اللحظة عن جميع المقاييس المألوفة في عصره، ولا ينسى تمجيده للحرب، وتروية رمحه بالدماء فحسب، وإنما ينكر ما كان يمجده، ولا يكاد يذكر قوله: ومن عرف الأيام معرفتي بها * وبالناس روى رمحه غير راحم فما السر في هذا التباعد العظيم في المواقف؟ إن البعض يراه من إزدواج الشخصية والبعض الآخر يرى التناقض شيئا اعتياديا في حياة الأدباء. يقول ليتون ستراتشي عن فولتير: كان أعظم أناني بين الناس، وكان أبعد الناس عن الأغراض الذاتية، كان طماعا بخيلا، وكان كريما بافراط، كان طائشا خبيثا غدارا، ومع ذلك كان صديقا، متينا، ومنعما صادقا ووقورا بعمق، وملهما بحماس نبيل (1). فهل ينطبق على المتنبي ما ينطبق على فولتير؟ وهل يكون الأديب مجمع متناقضات؟ إذا أخذنا برأي أرسطو في التناقض، واعتبرنا وحدة الزمان والمكان والشخصية وغيرها من الشروط وجدنا الأديب كغيره واقعا تحت المؤثرات المختلفة، وهذه المؤثرات هي التي تملي عليه خواطره في الحياة إذا لم يكن وراءها خط فلسفي متين يراقبها، ويراقب تذبذبها بين الأنانية وإنكار الذات. والمتنبي من هؤلاء الناس الذين تؤثر بهم الظروف التأثير الذي رأيناه، فحينا يرتفع إلى القمة في إنسانيته، ويتمرد على مقاييس العصر، وحينا يصبح ريشة في التيار المندفع في وادي الزمان... زمانه الخاص. حصان المتنبي... وقال محمد شرارة: يقول بشعب بوان حصاني * أعن هذا يسار إلى الطعان؟! أبوكم آدم سن المعاصي * وعلمكم مفارقة الجنان! هذان البيتان من قصيدة طويلة نظمها الشاعر بعد مروره ب شعب بوان، وهو مرج تتعالى فيه الأشجار، وتغني البلابل، وتنتشر الأعشاب، ويختلط فيه تغريد البلبل بزقزقة العصفور، وأحاديث الناس بحفيف الأوراق، وتتصاعد فيه لغات لو سمعها النبي * سليمان لاحتاج إلى مترجم: ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان وقد وصف الشاعر هذا الشعب وصفا دقيقا، وصوره تصويرا فنيا يكاد يرى القارئ من خلاله الظلال والأفياء، والأشجار، والمروج، وما تنطوي عليه من روعة وفتنة، ويرى الطبيعة وقد لبست ثوبها الساحر الأخضر فتنة تسبي العيون، وتنعش القلوب. في هذين البيتين إحساس وتصوير، أما التصوير وما فيه من إبداع ودقة وصدق فلا يهمنا كثيرا في هذه الكلمة، وإنما الذي يهمنا، ويهم أغلبية القراء على ما أظن هو الاحساس، إحساس الشاعر، بالجمال، والأثر الذي انبثق من هذا الاحساس. وإحساس الشاعر في هذه اللحظة الفاتنة كما يراه القارئ هو إحساس إنساني عميق تتفتح به الحياة كما تتفتح الزهرة على هبوب النسيم، وأطياف الأشعة، وترى الوجود وما فيه من جمال أخاذ، جنة لا تختلف عن الجنة التي خرج منها آدم جنة حلوة فاتنة تغري الأحياء بالحياة، وتجذبهم إليها، وتحبب إليهم العيش في ظلالها وأفيائها الناعمة اللذيذة. ولا يقتصر إحساس الشاعر في هذه اللحظة على نفسه، وإنما يطغى عليه فيفيض ويفيض كما تفيض الكاس عند امتلائها. وإذا الشاعر يخلع هذا الاحساس الرائع على ما حوله على حصانه. وإذا الحصان يرى الحياة وقد ارتدت هذا الثوب المغري الفاتن شيئا لذيذا تستحق العناية، وتستحق الحرص... ولا يقف الحصان عند هذا الحد بل ينتقل إلى التفكير بما يهدد هذه الحياة، وبمن يهددها، وإذا بتفكيره وهو في قمة الاحساس يوصله إلى مصدر هذا التهديد الضاري: إنه الحرب - الحرب التي تأخذ الناس والخيل، وتختطفهم من هذه الجنة الحلوة السائغة إلى الطعن والضرب والقتل، وعندئذ يصرخ الحصان صرخة الجريح، ويستفهم استفهاما إنكاريا موجعا: أعن هذا يسار إلى الطعان؟!. ولا يلبث أن ينتقل بعد ذلك الاستفهام الموجع وقد أخذه الغضب إلى آدم الذي علم أولاده مفارقة الجنة!. في هذه النهاية يلقي حصان الشاعر تبعة الحروب وإثارتها على الإنسان الأول الذي لم تكفه معصيته الأولى التي سببت طرده من الجنة حتى أتبعها بغيرها من المعاصي وأكبر معاصيه بعد الخروج من الجنة هي الحروب والشاعر يجعل الحيوان في هذا الاستنتاج أرقى إحساسا وأصح تفكيرا من الإنسان!. لم يحالف التوفيق شاعرنا في هذه النتيجة التي انتهى إليها. إنه على عظمته ضحية في هذه الفكرة المغلوطة للأساس الفلسفي الذي يرى بان الحرب ظاهرة طبيعية من ظواهر الحياة الإنسانية. شانها في ذلك شان العواصف والأوبئة في الطبيعة. وإذا كانت الحرب ظاهرة إنسانية لازمة كان الإنسان أحط إحساسا، وأدنى تفكيرا من الحيوان من حصان الشاعر مثلا.!. لم يكن شاعرنا العظيم وحده ضحية هذا الاحساس الفلسفي المتداعي، بل تعداه إلى كثير من الشعراء وكما سمعت منه: أبوكم آدم سن المعاصي فقد سمعت من غيره:
(1) 290. p, by Drink water, The Out line of Literture 31 عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى * وصوت إنسان فكدت أطير! وما أشبه ذلك في الهذيان العاطفي الذي يرى الذئب عامة أقرب إلى الاستئناس من البشر كافة! إنه أدب الهزيمة العمياء الشارد من تبعات الحياة بعد أن حقن بالسموم!. وما قصدت في هذه الكلمة إلى هذا اللون من التفكير وغربلته. بل لم يجرني إليه سوى الربط الخاطئ الذي وقع فيه شاعرنا عند ما ربط تأثره العميق من الجمال بأسباب الحرب التي ذكرها على لسان حصانه، هذه الحرب التي تحرم الإنسان من أجمل مناظر الطبيعة كما تحرمه من أعذب مفاتن الحياة. إن الشئ الذي حرصت عليه، وأحببت أن أوصله إلى القارئ العزيز بهذه الكلمة، هو التأثر العميق الذي أيقظه جمال الطبيعة في نفس الشاعر، ذلك التأثر الذي أوجد تحويلا ولو كان التحويل وقتيا في روحه وعاطفته. حيث أحس وهو أمام الطبيعة الفاتنة بقيمة الحياة، وأدرك وهو في نشوة هذا الاحساس العدو اللئيم لهذه الحياة. وإذا الريشة الشعرية تمتد وتصور هذا العدو، وتشن عليه غارتها العنيفة. وتستشرف الهدف وأنت ترافق الشاعر في غارته، وإذا الحرب هي الهدف الوحيد، إنها إذن هي العدو: عدو الحياة، وهي التي تتلقى نقمة الشاعر. وعند ما يشن هذه الغارة على الحرب ينطلق من ذاته المحدودة، ويتحرر منها، وتصبح الحياة كلها معنى من معاني أغنيته إن الحملة على الحرب، وتصويرها بصورها القبيحة، هي خدمة للانسانية، ولو كان من بواعثها الاحساس الآني بجمال الحياة. هذه اللحظة من حياة الشاعر، وحياة أمثاله، لها وزنها عندنا، ولها قيمتها الكبرى. إننا نعتبر هذه اللحظة بمثابة الثمرة الناضجة في الشجرة، وإذا كانت الأشجار تقدر بثمراتها فالحياة أيضا تقدرها فيها من هذه اللحظة الخالدة وأمثالها. إن هذه اللحظة في حياة شاعرنا تكاد تكون أصفى لحظاته. لقد تجرد فيها من مطامعه، وانطلقت فيها إنسانيته انطلاقة الجواد المكبوت في الميدان الواسع. ورأى فيها الحياة شيئا جميلا، كما رأى هذا الجمال متعة مشاعة لجميع الناس. وتبدو ميزة هذه اللحظة إذا قورنت بأمثالها من اللحظات التي مرت بحياة غيره من الشعراء، فإذا سمعت قول المنازي مثلا: وقانا لفحة الرمضاء واد * سقاه مضاعف الغيث العميم يصد الشمس أنى واجهتنا * فيحجبها ويأذن للنسيم يروع حصاه حالية العذارى * فتلمس جانب العقد النظيم رأيت جمالا، ورأيت تصويرا، ورأيت إحساسا بهذا الجمال، ولكنه إحساس على رقته لا يتعدى المشاعر الفردية. وإذا سمعت الآخر: ولما جلسنا مجلسا طله الندى * أنيقا وبستانا من الزهر خاليا أجد لنا طيب المكان وحسنه * منى، تمنينا فكنت الأمانيا أحسست بالجمال أيضا، وأحسست بالعاطفة الرقيقة الناعمة التي تشبه زغب الطائر. ولكن الشاعر لم يستطع التخلص من ذاته إلا إلى ذات أخرى يتمم وجودها إذا وجدت بجانبه سروره، واستمتاعه بالحياة استمتاعا أوسع. فهذان الشاعران تأثرا بالجمال كما رأيت ولكن تأثرهما لم يخرجهما من نطاق الذات إلى إنسانية أوسع. أما شاعرنا المتنبي فقد كان كما رأينا روحا واثبة عبرت حدود الذات الفردية إلى الحياة كلها. ورأت في جمال الطبيعة متعة تحبب الأحياء لجميع الأحياء. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل حمل على الذين يشوهون الحياة، ويحولونها إلى خرائب ينعب فيها البوم. شئ واحد أخطاه التوفيق فيه، وهو الإشارة الدقيقة إلى الذين يثيرون الحروب. فقد نسب الحرب إلى المعصية، وهذه المعصية الجديدة جزء من المعصية الكبرى التي وقع فيها الإنسان الأول. إن الذي يقرأ ديوان الشاعر يرى فيه تمجيدا كبيرا للحرب، ويرى الفخر بالقتل والاعتزاز به من أظهر أفكاره: ومن عرف الأيام معرفتي بها * وبالناس روى رمحه غير راحم وما أشبه ذلك من الآراء التي ترى القيم كلها بالقتل والقتال، الأمر الذي جعل بعض الكتاب الرجعيين يعده في هذه الناحية بمصاف نيتشه الأديب الألماني المعروف الذي مهد بآرائه إلى الفلسفة الهتلرية. فما الذي جعل الشاعر يتحول هذا التحويل فيشن الغارة على الحرب، ويعدها معصية؟! إنه الاحساس بالجمال جمال الطبيعة إن هذا الاحساس جعل الشاعر ينتشي... جعله كالنحلة التي تمتص رحيق الأزهار، ثم تحوله إلى عسل حلو لذيذ، ثم تقدمه طعاما شهيا لمن يرغب بأكله... جعله ينسى كل ما كان يطمح إليه، ويرغب فيه من عجرفة الملك، وعنجهية السلطة!. لقد هرب في تلك اللحظة الخالدة من أوهام الامارة، وجاه السلطة، وما أشبه ذلك من المثل العليا التي كانت سائدة في عصره، وانطلقت فيه الذات الإنسانية الرفيعة، وتحررت من خرافات الطوائف الحاكمة، وراحت تزقزق كما تزقزق العصافير في الغابة، وتغني أغنية الحب. ولكن هذه اللحظة لم تطل ولم تمتد، وإنما نامت بنوم ذلك الاحساس الذي أيقظه جمال الطبيعة. بيد أنها ألقت علينا درسا عميقا بالرغم من قصرها. لقد صورت لنا الأعجوبة التي يستطيع أن يصنعها جمال الطبيعة، وجمال الحياة. الشيخ أحمد آل طعان القطيفي الستري البحراني ابن صالح. مرت ترجمته في الأعيان ونذكره هنا بتفاصيل أوسع: ولد في سترة من قرى البحرين عام 1251 ونشأ في مدينة المنامة من البحرين. درس المقدمات من نحو وصرف وعلوم عربية وتجويد ومنطق في البحرين. ثم توجه إلى النجف الأشرف وأكمل دراساته في الفقه والأصول عند كبار علمائها. فأساتذته في البحرين: السيد علي بن السيد إسحاق البحراني، والشيخ عبد الله بن الشيخ عباس البحراني. وفي النجف: حضر بحوث الفقه والأصول عند الشيخ مرتضى الأنصاري، وبعد وفاة الشيخ الأنصاري، درس
32 عند الشيخ راضي النجفي، كما درس عند الطبيب الشيخ علي بن ميرزا خليل الطهراني، والشيخ محمد حسين الكاظمي. عصره السياسي: كان من مواليد البحرين، ولكننا في ترجمة حياته نجد أنه سكن القطيف ويذكر المؤرخون سبب ذلك في كلمة مختصرة... لوقوع الفتن فيها ولو تصفحنا تاريخ المنطقة السياسي لوجدنا أن سبب هجرة الشيخ من وطنه الأصلي واتخاذه القطيف وطنا هو تسلط حكومات الحور والضلال على البحرين، وشدة الارهاب التي تمارسها، والتي اضطرت علماء كثيرين غيره للهجرة إلى مناطق الخليج الأخرى مثل بوشهر، وبندر لنجة، وبندر عباس، وعبادان، والأهواز، وشيراز، ومسقط، والأحساء، والقطيف. لذا رأى أن وجوده في القطيف مهاجرا وعاملا في سبيل الاسلام أكثر نفعا للاسلام والعلم، ولم يكن السعوديون قد تسلطوا في ذلك الوقت. ولا أدل ثم هذا من كثرة طلاب العلم حوله، وكثرة مؤلفاته وازدياد مجالس إرشاداته حتى إنه في أواخر عمره صار يتردد إلى البحرين كثيرا للقيام بواجب الارشاد بناء على مراسلة أهلها ومع الاستقرار النسبي للأوضاع هناك. أسفاره: سافر للنجف للدراسة الدينية ورجع وسكن البحرين ثلاث سنوات ثم سافر إلى العراق لزيارة الأئمة ع، ثم رجع وسكن القطيف، وسافر كذلك لزيارة الإمام الرضا ع وكذلك للحج. مؤلفاته: تنقسم مؤلفاته إلى كتب ورسائل وشعر وأجوبة مسائل: أولا: الكتب 1 - شرح خطبة اللمعة الدمشقية في مجلد كبير. 2 - زاد المجتهدين في شرح بلغة المحدثين في علم الرجال مجلد كبير. 3 - التحفة الأحمدية (1) في الأدعية مجلد كبير. 4 - قبسة العجلان في وفاة غريب خراسان في السيرة مجلد. 5 - ملاذ العباد في تتميم (2) السداد في الفقه فرج منه مسائل الاجتهاد والتقليد. 6 - كاشفة السجف في علم الصرف في علوم العربية مجلد كبير. 7 - سلم الوصول إلى علم الأصول في مجلد وهو غير تام. 8 - إقامة البرهان على حلية الاربيان الربيان في تحقيق مسالة فقهية. 9 - حواشي رجال الميرزا الكبير في علم الرجال. 10 - حواشي رجال النجاشي في علم الرجال. ثانيا: الرسائل: 1 - رسالة في معنى العقل وأقسامه في تحقيق مسالة فلسفية 2 - رسالة في ترجمة أستاذه الشيخ الأنصاري. 3 - رسالة في نقض رسالة معاصرة الشيخ علي الستري البجراني. 4 - ثمان رسائل في تحقيق ثمان مسائل فقهية مختلفة منها رسالة تسمى منهج السلامة ورسالة تسمى قرة العين وكذلك مختصرها. ثالثا: أجوبة المسائل: 1 - الأسئلة الأحمدية في التوحيد وأصول الفقه. 2 - مجموعة أجوبة مسائل سألها بعض العلماء تبلغ سبع رسائل. 3 - أجوبة مسائل كثيرة متفرقة تبلغ مجلدين. رابعا: الشعر: 1 - ديوان شعر اسمه المراثي الأحمدية مطبوع في بمبي. 2 - منظومة في الفقه تبلغ 2500 بيتا. 3 - منظومة في التوحيد تسمى الدرة تبلغ 500 بيتا. 4 - أرجوزة في نظم زبدة الأصول للشيخ البهائي تسمى العمدة في نظم الزبدة. 5 - مجموعة كبيرة من المنظومات والقصائد في المدائح والمراثي والتخميس والألغاز النحوية والفقهية تبلغ أكثر من مجلد. 6 - القصيدة البديعية في مدح أمير المؤمنين. وللمترجم كذلك مجموعة من الكتابات المتفرقة تبلغ مجلدين كبيرين. أولاده للمترجم ولدان من العلماء، أحدهما الشيخ عبد الله، وله بعض المؤلفات، توفي في حياة والده 1298، والآخر الشيخ محمد صالح، كذلك له بعض المؤلفات وتوفي في كربلاء 1333 وفاته: توفي في البحرين ليلة عيد الفطر 1315، ودفن في مقبرة الشيخ ميثم البحراني بقرية هلتا من قرى الماحوز في البحرين (3). الشيخ أحمد بن الشيخ محمد الربعي (4) المحسني (5) الأحسائي (6) الدورقي (7) الفلاحي (8). وجاء في نسبه المدني (9) الغريفي (10). ورد ذكره في الصفحة 135 من المجلد الثالث وننشر له هنا هذه الترجمة وهي بقلم: الشيخ جعفر الهلالي من كتابه المعد للطبع باسم: معجم شعراء الحسين. لم تشر المصادر التي ترجمت له إلى سنة ولادته، ولا إلى المحل الذي ولد فيه. غير أن السيد هادي باليل الذي تصدى لأحباء التراث العلمي والأدبي
(1) التحفة الأحمدية يقال لها الصحيفة الصادقية أيضا ". (2) ويسمى ملاذ العباد في مسائل التقليد والاجتهاد. (3) أحمد العلي. (4) الربعي: يراد بذلك النسبة إلى ربيعة القبيلة العربية المعروفة. (5) الحسني: نسبة إلى آل محسن وهم بطن من ربيعة. ولأسرة المترجم الرئاسة على آل محسن. (6) الأحسائي: نسبة إلى الأحساء، وقد توطنها المترجم له ثلاث سنوات. (7) الدورقي: نسبة إلى الدورق، وهي بلد بخوزستان. (8) الفلاحي: نسبة إلى الفلاحية، وهو الاسم الثاني الذي يطلق على الدورق اليوم. (9) المدني: نسبة إلى المدينة المنورة، فهي مسكن ابائه، وبها كانت ولادته، كما عرف أخيرا. (10) الغريفي: نسبة إلى قرية الغريفة إحدى قرى البحرين، وعرف بذلك إما لأن أصله من الغريفة في البحرين، أو لأنه سكنها فترة من الزمن. 33 لمدينتي الحويزة والدورق كما في كتابه المخطوط المسمى ب الياقوت الأزرق في تراجم علماء وأدباء الحويزة والدورق، وكما جاء في المقدمة التي كتبها لديوان المترجم، وقد عثر عليه أخيرا، قال عند ذكره لوفاة المترجم له وذكر قبره: وكتب على صخر القبر تاريخ ولادته سنة 1157 في المدينة المنورة، ووفاته سنة 1247. وعلى هذا فتكون نشأته الأولى في المدينة المنورة مسقط رأسه على يد والده الشيخ محمد. أما تحصيله العلمي فقد كان في بادئ الأمر في المدينة المنورة على والده وكان من العلماء الأفاضل آنذاك، ويظهر أن أباه قد رحل به إلى البحرين وسكنوا الغريفة، إحدى قرى البحرين كما أسلفنا، وكانت آنذاك زاخرة بالعلماء. فاخذ المترجم هناك قراءة بعض السطوح، قال حفيده الشيخ موسى بن الشيخ محمد: إن جدي المترجم له قرأ كتاب اللمعة في ستة أشهر على العلامة الشيخ حسين البحراني (1) وفيه يقول أحد أدباء البحرين مخاطبا أباه الشيخ محمد: حافظ على أحمد من دون إخوته * فإنه غيرهم في كل أسلوب ولا عجيب إذا ما فاق إخوته * فيوسف كان من أولاد يعقوب ولا أعلم هل سافر إلى النجف لاكمال تحصيله هناك أم لا؟ إذ لم ينص على ذلك مترجموه. وإن كنت لا أستبعد ذلك، فقد رأيت في بعض المصادر أنه مجاز من قبل بعض علمائها المشهورين آنذاك، كما أشاد البعض الآخر بفضيلته العلمية، وأكد على صلاحه وتقواه. فممن أجازه السيد محسن الكاظمي البغدادي والشيخ جعفر الكبير صاحب كشف الغطاء والسيد جواد العاملي هجراته ذكرنا أن ولادة المترجم كانت في المدينة المنورة حسب ما هو مثبت في الصخرة التي على قبره. وقد كانت له أكثر من هجرة: فهجرته الأولى كانت مع والده وإخوته إلى البحرين حيث استوطنها فترة لم تحدد، وهناك أخذ بعض السطوح، كما مر، ثم عاد إلى المدينة المنورة، وبقي إلى سنة 1210. أما هجرته الثانية، فكانت إلى الأحساء، وذلك عند ما وقعت حادثة عبد العزيز وولده سعود الوهابي، فقد جار فيها على علماء الشيعة، مما اضطره إلى الهجرة إلى الأحساء بطلب من أهلها وأقام فيها ثلاث سنوات تقريبا. أما هجرته الثالثة فقد كانت من الأحساء إلى بلد الدورق وذلك سنة 1214. وكانت الفلاحية أو الدورق آنذاك حافلة بالعلماء والأدباء والشعراء، والمحدثين من العصفوريين والطريحيين، والجزائريين، والكعبيين وغيرهم. وكانت الامارة هناك لآل كعب، وكانوا يجلون العلماء والأدباء، ويهبونهم الاقطاعات ويملكونهم الأراضي، وكان العلماء والشعراء والأدباء من الشيعة يلجأون إلى الدورق عند تضييق الحكام عليهم، ومن هنا حط الشيخ أحمد رحل إقامته فيها (2). وقد عاصر الشيخ أحمد جماعة من أعيان الفلاحية الدورق وعلمائها فمن أمراء كعب عاصر أميرين هم الشيخ محمد بن بركات بن عثمان بن سلطان بن ناصر الكعبي، والثاني هو: الشيخ غيث بن غضبان الكعبي. أما معاصروه من العلماء والأدباء في الدورق فمنهم الشاعر الشهير الشيخ هاشم بن حردان الكعبي الدورقي المتوفى سنة 1231، والشيخ شبيب بن صقر الدورقي، والشيخ يوسف بن خلف بن عبد علي العصفوري، والشيخ علي بن محمد بن جلال الدين الطريحي الدورقي، والشيخ عبد الأمير بن ناصر الكعبي الدورقي، والسيد إسماعيل بن السيد محمود آل باليل الموسوي الدورقي، وابنه السيد إبراهيم بن السيد إسماعيل آل باليل الموسوي الدورقي المتوفى سنة 1243، والسيد محمد الحسيني البحراني الدورقي (3). مكتبته كانت الفلاحية تضم كتب العلم وأبوابه من الفقه، والحديث، والتفسير، والرجال، والطب، والأدب، والتاريخ، وغيرها مما كان معروفا، ومتداولا عند علماء المسلمين، وكانت هذه الكتب موزعة في المكتبات الخاصة، وعند ورود الشيخ أحمد الفلاحية سنة 1214 كان أكثر علمائها القدامى قد انقرضوا، أو آذنت البيوتات العلمية أن تخلو من أهل العلم. فانتقل أغلب تلك الكتب إلى مكتبة الشيخ أحمد حتى صارت مكتبة قيمة فيها الكتب الموقوفة والمهداة، والمبتاعة من جميع مكتبات الفلاحية والدورق القديمة، وبعد الشيخ أحمد أضاف عليها ابنه الشيخ حسن وأحفاده الشئ الكثير، ولكن بعد مرور أكثر من قرن ونصف وفي زماننا هذا، تقاسمها أحفاده فتلف بعضها في الحرائق، وراح بعضها طعمة للأرضة والفئران، وبقي بعضها عرضة للأمطار والاهمال. قال السيد هادي باليل: وقد وقفت على بعض مخطوطاتها المخرومة سنة 1401 في حسينية الشيخ محمد علي في الفلاحية ومن جملتها ديوان الشاعر المترجم، وهو بخط الناظم فاستأذنت من المحتفظ أن أستنسخه، فاذن لي بذلك، والديوان قد سقط منه بعض الأوراق (4). وفاته توفي في الطاعون الذي ضرب البصرة والمناطق المجاورة بما فيها الفلاحية سنة 1247 ودفن في مقبرته التي أعدها لنفسه هناك محاذية لمسجده، وقد أصبح قبره اليوم داخل مسجده لتجديد بناء المسجد واتساعه،. أبو العلاء المعري أحمد بن عبد الله. مرت ترجمته في الصفحة 16 من المجلد الثالث كما مرت دراسة عنه في الجزء الأول من المستدركات وننشر عنه هنا هذه الدراسة: شخصية المعري في سقط الزند قال الدكتور حسين مروة: يخرج المتتبع لهذا الاختلاف القديم المتجدد بشأن أبي العلاء، من حيث فلسفته ومعتقده ومذهبه، ومن حيث طريقته في العيش وعلاقته بمجتمعه وآرائه بالناس والحياة والكون يخرج من يتتبع هذا الاختلاف ويتتبع أسبابه
(1) لعله الشيخ حسين الماحوزي البحراني المتوفي سنة 1181، ويكون عمر المترجم آنذاك 24 سنة. والله أعلم. (2) مقدمة الديوان المخطوط للشاعر بقلم السيد هادي باليل. (3) المصدر السابق. (4) مقدمة الديوان بقلم السيد هادي باليل. 34 ومصادره، بظن يقرب من اليقين في أن معظم تلك الآراء المتخالفة المتناقضة إنما استمدها الباحثون، في الأكثر، من مصدر واحد، هو حياة أبي العلاء في عهد كهولته الأخير وشيخوخته، وفي لزومياته وبعض رسائله التي أنشأها آنئذ، ولم ينظروا إلا قليلا في حياته عهد الحداثة والشبيبة، وفي ما كان له عهد ذاك من شعر وأدب وسيرة. ولست أعني طبعا أنهم لم يتحدثوا عن حياته في طوري الحداثة والشباب، ولم يفصلوا الحديث فيهما تفصيلا كافيا، فان أكثرهم صنع ذلك، ونخص الدكتور طه حسين بالذكر، لأنه بذل جهدا رائعا في استقصاء حياة أبي العلاء من فجرها إلى مغربها، وفي تحقيق أخباره كلها على منهج علمي واضح بكتابه تجديد ذكرى أبي العلاء. ولكن الأمر الذي أعنيه هو أن حياة المعري وشعره في أيام حداثته وشبابه وقسم من كهولته الأولى، لم يكونا مرجعا للباحثين في دراسته وفي تعرف شخصيته من منابعها وأصولها. ولذلك جاءت آراؤهم عنه في الغالب متناقضة، لأنها منتزعة من ظواهر سيرته وشعره أيام هو يلتزم سيرة متكلفة، ويقسر نفسه وفنه على أشياء قد لا تكون في الأصل من مكونات شخصيته وفنه. ومن الإنصاف للحق أن نذكر الأستاد مارون عبود في أول من يمكن استثناؤهم في هذا المقام. فقد نظر في كتابه زوبعة الدهور إلى أبي العلاء نظرة شاملة بصيرة، فأقام فارقا واضحا بين المعري الإنسان في شبابه والمعري المفكر المتمذهب في أيام عزلته وشيخوخته. لقد تنبه مارون عبود إلى مرد الخطأ الذي وقع فيه معظم الذين درسوا أبا العلاء من المحدثين، إذ أسبغوا على حياته كلها ثوب زهده وتعففه وانقباضه عن الناس ومقته إياهم وتغلفه بالأحاجي والأسرار دونهم، كما يظهر في اللزوميات، وأغفلوا أن هذا ثوب أبي العلاء في عهد اللزوميات، لا ثوبه في عهد سقط الزند. وبهذا الصدد يقول أديبنا الناقد الباحث مارون عبود: فقد توهم الناس، حتى الخواص من الأدباء هدانا الله وإياهم أن أبا العلاء خلق منزها عن الشهوات، بريئا مما يسميه غيرنا الضعف البشري، لا ينقصه شئ من الكمال في نظرهم، حتى كادوا يجعلونه بمعزل من الغرائز، كأنه غير مركب من لحم ودم. إن أبا العلاء. أيها، الفضلاء، وهذا لا يضير عصمته التي تزعمونها له قد تغزل كالشعراء لأنه أحب مثلهم الحب لا يضر يا سادة وأحس بما أحس به كل مركب من نفس وجسد وله دماع وقلب (1). حين لم يحصر مارون عبود نظره في نطاق اللزوميات وسائر ما أنشأه أبو العلاء في محبسيه، وجد سقط الزند، ثم وجد في أشعار هذا الديوان وأغراضه شاعرا إنسانا يحيا كالشعراء، وكالناس في زمانه، ورأى أبا العلاء لا يقول عبثا، أي لا يصدر عن غير قلب يخفق بالحب، حين يقول: أيا دارها بالخيف أن مزارها * قريب، ولكن دون ذلك أهوال أو حين يقول: أيا جارة البيت الممنع جاره * غدوت ومن لي عندكم بمقيل لغيري زكاة من جمال فان تكن * زكاة جمال فاذكري ابن سبيل ورآه، كذلك، يمدح كالشعراء، ويهنئ بالزفاف وغيره مثلهم، ويغلو ويبالغ حتى لا يقصر عن صاحبه المتنبي في الغلو والمبالغة، ويجني غلة الشعر ويذوق بواكير محصوله كما يفعل غيره من شعراء ذاك الزمان، ويرثي كما يرثون، ويهجو مثلهم ولكن دون هجر، ويفتخر ويدعي مثل الشعراء بل أكثر منهم، إذن فلنثق جيدا أن المعري إنسان مثلنا، أكل وشرب وتلذذ مثل الناس، وهو لم يكذب حين قال: تنسكت بعد الأربعين ضرورة * ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ فكيف ترجي أن تثاب، وإنما * يرى الناس فضل النسك والمرء شارخ (2) وإذا كان مارون عبود وقف من أمر أبي العلاء الإنسان الذي يحيا في سقط الزند عند هذه اللمحات، ولم يجاوزها إلى تفصيل كامل يخرج منه بالحلقة المفقودة التي تصل المعري هذا بالمعري المفكر المتمذهب الزميت بعد أن انطفأت نار شبيبته... فان هذا لا يقلل قطعا من شان السابقة التي بدأها صاحب زوبعة الدهور باهتدائه إلى شاعر سقط الزند، دون أن يخلطه بناظم اللزوميات... روى الثعالبي في يتيمة الدهر عن المصيصي الشاعر أنه قال: رأيت بمعرة النعمان عجبا من العجب، رأيت أعمى شاعرا ظريفا يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر. وأخذ بهذه الرواية كل من أرخ لأبي العلاء بعد ذلك، ولم نجد من يكذبها أو ينكرها عليه، غير أن الدكتور طه حسين شك (3) في أن أبا العلاء كان قادرا أن يلعب الشطرنج والنرد، وتأول قوله أنه يحمد الله على العمى كما يحمده غيره على البصر، تأولا ليس يخلو من تلك النظرة التي ينظر بها الباحثون إلى أبي العلاء من خلال حياته في اللزوميات... ونحن نأخذ بهذه الرواية من حيث دلالتها العامة، دون تفاصيلها بالدقة. فسواء كان أبو العلاء يلعب الشطرنج والنرد حقا أم لم يكن، وسواء أكان يعني حقيقة ما يقول من أنه يحمد الله على العمى كما يحمده غيره على البصر، أم كان يعني من هذا القول ظاهرة وفي نفسه شئ آخر، إما سخرا بالمبصرين، وإما اعتدادا بالنفس وفخرا فان هذه الرواية بجملتها، تدل على كل حال أن شاعر المعرة الفتى كان ظريفا مرحا يجالس الظرفاء، ويشارك أهل الهزل هزلهم وأهل الجد جدهم، ويتصل بمواطنيه في المعرة اتصال مواطن إنسان، فهو يحيا حياتهم اليومية في غير تحفظ، ويخالطهم في لهوهم دون تزمت، ويحس معهم إحساس المسرة والمرح، دون أن تمنعه العاهة شيئا من ذلك، بل تزيده العاهة إقبالا على مثل ما يقبل عليه أترابه المبصرون توكيدا لوجوده وتفوقه. أقول: نأخذ بالرواية من حيث دلالتها هذه، مع علمنا أنه ليس في أخبار أبي العلاء ما ينفي شيئا من نصها، فهي من الوجهة التاريخية المحض ثابتة غير منقوضة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن أشعار سقط الزند ذاتها تنبئ بأن الرواية ليست غريبة عن الواقع الذي كان يحياه أبو العلاء في عهده الأول
(1) زوبعة الدهور - ص 14. (2) الشارخ: من يكون في شرح العمر، أي الصبا. (3) تجديد ذكرى أبي العلاء - ص 137. 35 الذي سبق عهد عزلته وتزهده، ازددنا يقينا بان شاعر المعرة قد مارس حياته الأولى على امتلاء من علاقاته الإنسانية بحياة مواطنيه، وانفعال وجدانه الشاعري بالكثير من هذه العلاقات، وأنه كان ينظر إلى الناس والحياة من خلال عواطفه وعلاقاته هذه، وأن النظرة المتزمتة المتبرمة بالناس وبالحياة لم تكن عهدئذ قد وجدت سبيلها إلى نفسه وتفكيره. وأول ما يلفت انتباهنا من الدلالات على ذلك في شعر سقط الزند، ما جاء في قسم الدرعيات من أبيات قالها في لاعب شطرنج: قل لترب الآداب في كل فن * وحليف الندى وحرب العذول أيها اللاعب الذي فرس الشطرنج * همت في كفه بالصهيل من يباريك والبياذق في * كففك يغلبن كل رخ وفيل نصرع الشاه في المجال ولو * جاء مردي بالتاج والإكليل لطف رأي يستأسر الملك الأعظم * بالواحد الحقير الذليل أنت فوق الصولي في هذه الخللة، * مزر في غيرها بالخليل (1) لسنا ندري متى نظم المعري هذه الأبيات، ولكن يكفينا منها دلالتها الصريحة على معرفة أبي العلاء بأدوات الشطرنج وحركاتها معرفة الخبير، ثم دلالتها ضمنا على أن رواية يتيمة الدهر عن ظرف أبي العلاء ومشاركته في لعب الشطرنج زمن شبيبته، ليست بعيدة ولا غريبة عن الصدق والواقع، حتى في أضعف فقرة منها، وهي الفقرة التي شكك فيها الدكتور طه حسين كما تقدم. ولنقارن الآن أبا العلاء الكاره للزواج وللمرأة وللنسل، المتشدد في هذه الكراهية إلى الحد المعروف عنه في أشعار اللزوميات، أو إلى الحد الذي دفعه كما يخبرنا أكثر المؤرخين له أن يوصي بان يكتب على قبره ذلك البيت الذي يصف جماع آرائه الصارمة في النسل والزواج والحياة معا: هذا جناه أبي علي، * وما جنيت على أحد لنقارن أبا العلاء هذا صاحب اللزوميات، بأبي العلاء صاحب سقط الزند، فسنرى أن هذا الآخر قد أنشأ ثلاث قصائد في تهنئة ثلاثة من قومه بزواجهم، وأنشأ قصيدتين في التهنئة بمولودين... ترى، أيتوافق هذا الاندفاع في التهنئة بالزواج وبالمولود، مع تلك النظرة الساخطة إلى المرأة والزواج والتناسل؟. إن بين الأمرين تناقضا ظاهرا!... فإذا قيل لنا إن هذه القصائد كان يدفع إليها المدح والمجاملة لبعض الأمراء في حلب، أكثر مما يدفع إليها الاستبشار بالزواج وبالمولود، أو التهنئة بهما لذاتيهما قلنا أولا: إن هذا أيضا دليل على أن أبا العلاء لم يكن يكره أن يمدح أمراء زمانه، ولم يخالف طريقة الشعراء في عهده من هذا الوجه. ونقول ثانيا: إن شاعر المعرة قد ذكر المرأة في القصائد الثلاث، إلى جانب المدح، ذكرا جميلا تفوح منه رائحة الرجل الإنسان الذي يرى في المرأة وجه النعمة والنضرة والغبطة والخير. في حين هو يرى في اللزوميات أن: بدء السعادة إن لم تخلق امرأة ويظهر لنا أنه لم ينظم هذه القصائد في صباه، لأن جامع الديوان وأبو العلاء نفسه هو جامع الديوان عودنا أن ينص عند كل قصيدة قالها في الصبا أنها مما قاله في ذلك العهد. فإذا رجعنا إلى إحدى هذه القصائد نسمعه يقول لصاحبه الذي يهنئه بزفافه (2): وتهن النعمى السنية والبس * حلل المجد والفعال الخطير وتمتع بنضرة العيش، إذ جاءتك * في رونق الزمان النضير خير أيدي الزمان عند بني الدنيا * أتت في أوان خير الشهور يا لها نعمة، وليس ببدع * أن تحوز الشموس رق البدور ونرى استطرادا أن نثبت هنا أبياتا ثلاثة في القصيدة خص بها أبو العلاء مدينة حلب، قال: حلب للولي جنة عدن * وهي للغادرين نار سعير والعظيم العظيم يكبر في عينيه * منها قدر الصغير الصغير فقويق في أنفس القوم بحر * وحصاة منها نظير ثبير (2) وفي القصيدة الثانية، وأكثرها طراز من المديح العادي المألوف، يخلص الشاعر إلى تهنئة أمير حلب بعرسه، فيقول: الآن فاله عن الهيجاء مغتبطا * طال امتراؤك خلفي نابها الضبس (4) وفي حين نرى المرأة في اللزوميات، موضع سوء ظنه دائما، لا يثق بحفاظها على حصانتها، ويرى ضعفها على الاغراء هو الأصل في سلوكها، بحيث يقول هناك في اللزوميات: وما يمنع الخود الحصان حصونها * ولو أن أبراج السماء حصونها نراه مع ذلك هنا في سقط الزند يراها أخت الأسد الصعب في امتناعها على غير المحلل لها من الرجال. وها هو ذا يقول لأمير حلب الذي يهنئه بعرسه، في القصيدة المتقدمة الذكر، وهو يصف عروسه: ما ربة الغيل أخت الظبي فزت بها * بل ربة الغيل أخت الضيغم الشرس (5) يقصد أن هذه العروس ليس ينبغي أن تشبه كالعادة بالظباء، بل هي أشبه باللبوة أخت الأسد في امتناعها وحصانتها وعفافها. ألا ترى أن المرأة هنا عند أبي العلاء تناقض المرأة عنده هناك في اللزوميات؟. وفي حين يرى أبو العلاء في اللزوميات أن من الخير للانسان أن لا يولد، وأن الحياة هبة أثيمة يجني بها الآباء على الأبناء: فليت وليدا مات ساعة موته * ولم يرتضع من أمه النفساء نجده هنا، في سقط الزند يرى نقيض ذلك أيضا... فها هو ذا يهنئ أبا القاسم بن القاضي التنوخي بمولوده، فكيف يهنئه؟. إنه يرى الوليد المستهل نعمة نزلت من السماك الأعلى، فاستحق أن توفي بمولده النذور وأن تساق الهدايا إلى البيت الكريم، أي الكعبة، لأنه يرى المولود الكريم سرا من أسرار المجد لأبيه:
(1) الصولي: هو أبو إسحاق الصولي وقد كان ماهرا بلعب الشطرنج، والخليل: هو الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب علم العروض. (2) سقط الزند - الطبعة اللبنانية - ص 15. (3) قويق: نهر صغير معروف في حلب. وثبير: اسم لبضعة جبال في ظاهرة مكة. (4) الهيجاء: الحرب. امترى: استخرج الحليب من ضرع الناقة أو غيرها. الخلف (بكسر الخاء): حلمة الضرع. الناب: الناقة المسنة. الضبس: الشرس العسير. (5) الغيل: أجمة الظباء والأسود: الضغيم: الأسد. 36 متى نزل السماك فحل مهدا * تغذيه بدرتها الثدي (1) أهل بصوته، فأهل شكرا * به الأقوام، وافتخر الندي (2) بيوم قدومه وجبت علينا النذور، * وسيق للبيت الهدي (3) وسر المجد مولود كريم * أبان وفوده خبر جلي علو زائد بأبي علي * أتاك بفضله الله العلي ويهنئ ثانية صديقا له بمولوده، وقد كتب له الصديق بنبأ ولادته، فإذا النبأ عنده أي أبي العلاء بشرى، وإذا الوليد نفسه هو النعمى. ونحس هنا حرارة الصدق في تهنئته، وتكاد نبضات قلبه تنتقل إلى صدورنا ونحن نقرأ هذه اللهفة إلى صديقه. وفي ظننا أن هذه التهنئة الشعرية كانت في أوائل عهده بالعزلة، وكانت ما تزال في نفسه صبوات إلى تلك المتع الروحية بلقاء الأصدقاء والشعراء، وما يزال يضطرب وجدانه وينفعل بتجربات حية باقية من زمانه الأول: كتابك جاء بالنعمى بشيرا * ويعرض فيه عن خبري سؤال وحالي خير حال كنت يوما * عليها، وهي صبر واعتزال فاما أنت، والآمال شتى، * فلقياك السعادة لو تنال! بعدنا، غير أنا أن سعدنا * بغبطة ساعة، عكف الخيال ولو صنعاء كنت بها لهزت * هواي إليك نوق أو جمال أرى راح المسرة أثملتني * وتلك، لعمري، الراح الحلال وقبل اليوم ودعني مراحي * وأنستنيه أيام طوال هنيئا، والهناء لنا جميعا * يقينا لا يظن، ولا يخال أهل فبشر الأهلين منه * محيا في أسرته الجمال بأخوته الذين هم أسود * على آثار مقدمه عجال فان تواتر الفتيان عز * يشيد حين تكتهل الرجال وهل يثق الفتى بنماء وفر * إذا لم تتل أينقه فصال (4) ستركز حول قبتك العوالي * وتكثر في كنانتك النبال فان مناي أن يثري حصاكم * ويقصر عن زهائكم الرمال (5) يستوقفنا من هذه القصيدة العاطفية، أولا: إحساسها الصادق وصفاؤها النفسي والتعبيري معا، وثانيا: نظرة أبي العلاء إلى التناسل هذه النظرة الطبيعية السليمة، فإذا الوليد الجديد بشارة بمواليد كثيرة تتبعه، وإذا تكاثر الأبناء عز للأباء يشيدونه لهم في أعمال الكهولة، وإذا هم المال الطيب، ولا يثق المرء بنمو هذا المال إلا أن يتناسل ويتلو بعضه بعضا، وإذا أبو العلاء يتمنى، أغلى ما يتمنى لصديقه، أن يتكاثر أبناؤه حتى يقصر عدد الرمال عن أعدادهم... يقول هذا وهو في عافية من نفسه ووجدانه، وفي رغبة صادقة أن ينال هذا الصديق ما هو خير ونعمى له، والنسل هنا هو خيره ونعماه... أين هذا كله من رأي أبي العلاء في الأبناء وفي التناسل وفي جناية الآباء على أبنائهم حين يهبونهم نقمة الحياة؟... أين هذا الذي ينطق به سقط الزند من ذاك الذي تضج به اللزوميات؟... وينقم أبو العلاء على الناس، في اللزوميات، أنهم يفتخرون، ويرى افتخارهم، كالكذب، منشأه الجهل، فعلا م يفتخر الناس وهم تراب ومن التراب: ادفع الشر، إذا جاء، بشر * وتواضع، إنما أنت بشر هذه الأجسام ترب هامدة * فمن الجهل افتخار وأشر فكيف شان أبي العلاء إذن في سقط الزند، أهو يرى الفخر هنا كما هو هناك عنده؟. الفرق بين حاليه هنا وهناك، هو الفرق بين من يمارس الافتخار بنفسه فعلا إلى حد الغو والاغراب، ومن يفلسف الافتخار للناس، وينقمه عليهم، ويعجب منهم أن يجدوا في إنسانهم موضع فخر... أي أن الفرق بين أبي العلاء في سقط الزند وبينه في اللزوميات من هذا الوجه، هو أنه في الأول شاعر، وفي الثاني متفلسف، أو إذا شئت فيلسوف، أو فلنقل: مفكر متمذهب، يجري في هذه المسألة على غير ما تقتضيه طبيعة الشاعر الإنسان. ومن منا يجهل بيتيه السائرين في مطلع قصيدته المعروفة: ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل * عفاف وإقدام وحزم ونائل أعندي، وقد مارست كل خفية، * يصدق واش، أو يخيب سائل! في سقط الزند قصيدتان موضوعهما الفخر، ولكن قصائد غيرهما جاءت في الديوان في مواضيع أخرى، يطلع الفخر أثناء أبياتها، لمناسبة حينا، ولغير مناسبة حينا. وفخر أبي العلاء تبدو فيه من المتنبي نفحة ظاهرة، ولعل قصيدة ألا في سبيل المجد أدل على هذه النفحة المتنبية، سواء برويها الصاخب وبعروضها المجلجل، أم بكبرياء التحدي ممتلئة بها أوداج شاعر المعرة، تشبها بكبرياء صاحبنا أبي الطيب شاعر الفرسان، وفارس الشعراء... وإني وإن كنت الأخير زمانه * لآت بما لم تستطعه الأوائل لقد قال المعري هذا الكلام وهو في عنفوان حيويته، وفي عز إقباله على الدنيا، وله في الحياة آمال كبار، وأمامه دنيا بغداد لما تزل يومئذ دنيا أحلامه، فكان طبيعيا أن يزهو هذا الزهو كله، وليس في ذاك عاب يعيبه، فقد كان شاعرا، وكان يستشعر في ذاته أمرا غير عادي، وكانت نفسه أشواق أبكار لما تمتحنها التجربة الكبرى المنتظرة، وكانت شهرة ذكائه وتفوقه في الحفظ والفطنة تكتسح بلاد الشام وتجاوزها إلى العراق ومصر، وتتضخم في طريقها إلى الناس حتى تبلغ حدود الأساطير، ولعلها كانت وهي تجوب الآفاق، ترجع إلى مسمعه بضجتها وضخامتها الأسطورية، فينتشي بها، ويزهى بنفسه،
37 فيفخر هذا الفخر الموغل في المبالغة. وما ندري، أهذا النوع من الفخر، وقد كان أمرا مألوفا في شعرنا العربي عهد أبي العلاء، يدخل في باب المين والصفاقة، كما يرى الدكتور طه حسين، بحيث ينبغي أن ننزه عنه شيخ المعرة؟... هنا أيضا مسالة الخطأ التي أشرنا إليها في مطلع هذا الفصل، الخطأ في إسباع ثوب الشيخوخة الزاهدة المتزمتة على حياة أبي العلاء كلها من حداثته وشبابه إلى يوم محبسيه... وفي المسألة أمر آخر: أيصح، من الوجهة الفنية المحض، أن نصف المبالغات الشعرية في باب الفخر، كذبا وصفاقة، مع أننا نعلم أن أمثال هذه المبالغات لا تقتصد إلى المعاني الحقيقية الحرفية التي تنطق بها الألفاظ والعبارات، بل لا تقصد حتى إلى المعاني المجازية الجزئية المباشرة التي تدل عليها كل عبارة بنفسها منفصلة عن علاقتها بالكل الكامل لبناء القصيدة وموضعها، وإنما هي تقصد بمجموعها وبدلالتها الكبرى الشاملة إلى التعبير عن مشاعر إنسانية تمتزج بآمال الشاعر ومطامحه وأشواقه الكبيرة، غير أن خيال الشاعر قد يضخمها في فورة من فوران العنجهية الفردية، وقد يكون الكبت الاجتماعي أو الحرمان أو الشعور بالاضطهاد والظلم سببا في هذه الفورة، أو سببا في جموح الخيال إلى أبعد حدوده تعويضا عن نقص، أو انتقاما لحرمان... إذا صح أن نصف هذه المبالغات بالكذب والصفاقة في باب الفخر، فلما ذا لا نصفها كذلك في باب المدح، أو في باب الرثاء، أو في باب الغزل الخ... ومهما يكن، فقد فخر أبو العلاء فعلا، وغلا في ذلك حتى أنه، وهو الأخير زمانه، قد أتى بما لم تستطعه الأوائل... فما ذا يجدينا تنزيه أخلاقه عن الفخر؟. أترانا نقسره قسرا، بعد ألف عام، على أن لا يقول الشعر افتخارا؟. أبو العلاء المعري في سقط الزند وقال الدكتور حسين مروة، كتب الباحثون كثيرا عن أبي العلاء، وفي القديم وفي الحديث، ونظروا إلى جوانب عديدة من حياته وأدبه وتفكيره ومعتقده، ولكن رأيت هؤلاء الباحثين، بالاجمال، لا يعنون العناية اللازمة بدراسة ديوانه الذي جمع فيه جملة من أشعاره واختار له هو بنفسه اسمه المعروف سقط الزند، قاصدا بهذه التسمية الشعرية المجازية أن يرمز إلى الحقيقة التي ينطوي عليها هذا الديوان، وإلى الواقع الذي يمثله من حياته ومن شخصيته ومن أدبه. فان الزند لغة هو العود الذي تقتدح به النار، وسقط الزند هو أول نار تخرج من الزند عند الاقتداح. وقد قصد المعري هذا المعنى بذاته، لأن سقط الزند يجمع الكثير من شعره الذي نظمه في أوائل حياته، فهو إذن أول تلك النار العبقرية التي اقتدحها زناد ذهنه العبقري. ولكن الأمر في هذه الأشعار لا يقتصر على هذا الظاهر السطحي من دلالة التسمية، بل الواقع أن ديوان سقط الزند يصح أن يكون المدخل الحقيقي لدراسة أبي العلاء دراسة مستوعبة متوغلة في جوانب شخصيته جميعا، وأعني أن هذا الديوان جدير بان يكون للباحثين والناقدين بمنزلة ما يسمى مفتاح الشخصية لمن يشاء منهم أن يستجلي شخصية أبي العلاء على حقيقتها وواقعها الأصيل. وقد يرجع أكبر السبب في أن أولئك الباحثين لم يهتموا بديوان سقط الزند اهتمامهم بغيره من آثار أبي العلاء، إلى ما هو شائع عند الذين أرخوا لحياة أديبنا العظيم من القدماء، من أن هذا الديوان إنما يجمع أشعاره التي قالها في صباه... فقد تمسك الباحثون المحدثون بكلمة صباه على حرفيتها، ولم ينظروا إلى هذه الأشعار نفسها بحيث يجدون أن الذي صدر عنه في صباه هو أقل ما يحتويه سقط الزند، وأن أكثر هذه الأشعار وأروعها شاعرية وأقواها دلالة عليه إنما صدرت عنه في أعلى مراحل شبيبته، وفي أخصب مراحل شاعريته، وفي أدق التجارب التي عاناها في حياته قبل معتزله، بل في أقسى هذه التجارب وأعمقها أثرا في نفسه ووجدانه وتفكيره. ولقد أبيح لنفسي أن أقول، إن الذين أرخوا لأبي العلاء من القدماء، قد أوهمونا أن صاحب سقط الزند نفسه لم يكن راضيا كل الرضا عن أشعاره التي تضمنها هذا الديوان، فقد نقل أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي عن أستاذه أبي العلاء نفسه ما يوهم هذا المعنى، إذ قال: لما حضرت أبا العلاء، قرأت عليه كثيرا من كتب اللغة، وشيئا من تصانيفه، فرأيته يكره أن يقرأ عليه شعره في صباه، الملقب ب سقط الزند، وكان يغير الكلمة بعد الكلمة منه إذا قرئت عليه، ويقول معتذرا عن تأبيه وامتناعه من سماع هذا الديوان: مدحت نفسي فيه، فلا أشتهي أن أسمعه. وكان يحثني على الاشتغال بغيره من كتبه (1). وفي رسالة كمال الدين بن العديم، المسماة الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتحري عن أبي العلاء المعري قال مؤلف الرسالة وهو يستعرض تواليف أبي العلاء: من الأشعار التي نظمها: ديوانه المعروف بسقط الزند وهو ما قاله في أيام الصبا في أول عمره، وهو من أحسن أشعاره، وقد اعتنى به العلماء وشرحوه، مقداره خمس عشرة كراسة، تزيد أبياته المنظومة على ثلاثة آلاف بيت، شرحه الخطيب التبريزي وشرحه ابن السيد البطليوسي وأحسن شرحه. وقال ياقوت في معجم الأدباء الجزء الثالث ص 154 في معرض الكلام على مؤلفات أبي العلاء:... ومن غير هذا الجنس كتاب لطيف فيه شعر قيل في الدهر الأول يعرف بكتاب سقط الزند وأبياته ثلاثة آلاف. هكذا تواترت أقوال القدماء الذين أرخوا لأبي العلاء، حتى استقام في أذهان المحدثين أن سقط الزند ليس ذا شان يؤبه له في آثار المعري ما دام من نتاج صباه... وما دام المعري نفسه لم يكن يأبه لهذا الديوان، كما توهمنا مقالة أبي زكريا التبريزي. والحقيقة أن المعري كان يحتفل لديوانه هذا احتفالا ظاهرا. يدل على ذلك أنه عني بشرح الغريب من ألفاظه وجعل هذا الشرح في كتاب خاص سماه ضوء السقط وقد تحدث ابن العديم عن هذا الكتاب فوصفه بأنه يشتمل على تفسير ما جاء في سقط الزند من الغريب، مقداره عشرون كراسة، وضع أي المعري هذا الكتاب لتلميذه أبي عبد الله محمد بن
(1) كتاب " أبو العلاء " - تأليف أحمد تيمور " باشا " - ص 20. 38 محمد بن عبد الله الأصبهاني، وكان رجلا فاضلا قصده إلى معرة النعمان ولازمه مدة حياته يقرأ عليه بعد أن استعفى أي المعري من ذلك، ثم أجابه فقرأ عليه الكتب إلى أن مات يقصد المعري وقد أشار إلى ذلك في مقدمة ضوء السقط. وأقام أبو عبد الله الأصبهاني بحلب، وروى عن أبي العلاء كتبا متعددة من تصانيفه، وهو الذي سأله أبو العلاء أن يشرح له سقط الزند فشرحه، ووسمه ب ضوء السقط. ومن هذا النص، ومن أمثاله في تضاعيف عدد من المراجع التاريخية الأدبية، يتبين بجلاء وتوكيد أن أبا العلاء كان حفيا بديوانه سقط الزند إلى حد أن تلاميذه كانوا يروونه عنه بالإجازة، وكان عدد من طلاب العلوم الوافدين إليه من أقطار مختلفة يدرسون هذا الديوان عليه في جملة ما يدرسون. فقد ذكر السيوطي في بغية الوعاة في ترجمة نصر بن صدقة القابسي النحوي أنه كان ممن يعاني الأدب، فقدم مصر وأخذ عن علمائها، ثم توجه إلى المعرة فلازم أبا العلاء، وأخذ عنه ديوانه سقط الزند وكتب منه نسخة جيدة، ورجع إلى مصر فقدمها للحاكم وقرأها عليه، فأعجبه نظمه، وأرسل إلى عزيز الدولة الوالي بحلب أن يحمله أي يحمل المعري إلى مصر. فاعتذر، فكف عنه. ويروي أحمد تيمور باشا (1) هذه الحكاية بصورة أخرى نقلا عن مقدمة رسالة للمعري تسمى الفلاحية تقول أن القابسي هذا لما رجع إلى مصر بنسخته سقط الزند أهداها للوزير أبي نصر صدقة بن يوسف الفلاحي، فأعجب بها واستدعى كاتب الديوان وأمره أن يكتب إلى عزيز الدولة متولي حلب وأعمالها، في حمل أبي العلاء إلى مصر، ليبني له دار علم، وسمح بخراج معرة النعمان له في حياته وبعدها، فوصلت الأوامر إلى ديوان الشام بكتب السجل، فكتب وجهز على البريد، فلما وقف عليه عزيز الدولة نهض للوقت حتى دخل معرة النعمان، وقرأ السجل على أبي العلاء، فقال: أمهلني حتى أكتب جواب السجل إلى مجلس الوزارة، فلعل العفو يسامحني بالمقام في بلدي، إذ لا يمكنني الخروج منه. فأمهله الأمير، فاحضر الكاتب للوقت، وأملى عليه هذه الرسالة أي الرسالة الفلاحية يعتذر فيها عن عدم الرحيل بعجزه عنه. وفضلا عما لهذه الحكاية، بوجهيها، من دلالة على احتفال أبي العلاء وتلاميذه بديوان سقط الزند، تدل كذلك على احتفال الناس في عصره بهذا الديوان وبأدب أبي العلاء وبمكانته، كما تدل على إباء المعري نفسه وعزوفه عن عروض المال والجاه من حكام زمنه، وقد دلت على ذلك روايات عدة في أخبار أبي العلاء. وأما ما تنبئ عنه رواية أبي زكريا التبريزي، المتقدمة الذكر، من أنه رأى أبا العلاء يكره أن يقرأ عليه شعره في صباه الملقب بسقط الزند، فيمكن حمله على بعض أشعار هذا الديوان مما هو منظوم في صباه حقا. يدلنا على هذا التخريج للرواية أن أبا العلاء قد جعل حجته في الامتناع عن سماع هذا الديوان كونه مدح نفسه فيه، وهذه حجة لا تنهض إلا بالنسبة للأبيات التي مدح فيها نفسه، ولم أجد من هذه الأبيات في النسخة المطبوعة من سقط الزند التي درست فيها الديوان، سوى قليل، وهي أقل من أبيات نستشعر فيها تواضعه جاءت في مراسلاته لأخوانه، فلعل شيئا من النقص أصاب الديوان خلال القرون التي انقضت من عهد أبي العلاء إلى اليوم، أو لعل طابعي هذه النسخة قد أنقصوا الديوان بعض قصائده، وهذا ظاهر بالفعل وسنوضحه بعد. ومهما يكن من شان رواية التبريزي، فإنها لا تستطيع أن تعارض ما نقلناه وما لم ننقله من الروايات والأخبار المستفيضة عن اهتمام أبي العلاء بهذا الديوان. على أن أديبنا العظيم، أبا العلاء، قد ذكر في خطبة سقط الزند أي مقدمته ما يشبه هذا الذي حكته عنه رواية التبريزي، فقد قال ما نصه: أما بعد، فان الشعراء كأفراس تتابعن في مدى، ما قصر منها لحق وما وقف ذيم (2) وسبق، وقد كنت في ربان الحداثة (3) وجن النشاط، مائلا في صغو القريض، أعتده بعض مآثر الأديب، ومن أشرف مراتب البليغ، ثم رفضته رفض السقب (4) غرسه، والرأل تريكته (5)، رغبة عن أدب معظم جيده كذب، ورديئة ينقص ويجدب، وليس الري عن التشاف (7)، ويعلمك بجنى الشجرة الواحدة من ثمرها، ويدلك على خزامي الأرض النفحة من رائحتها، ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طالبا للثواب وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس أي الطبيعة فالحمد لله الذي ستر بعفة من قوام العيش ورزق شعبة من القناعة أوفت على جزيل الوفر. هذه قضية يعنينا أن يجلوها أبو العلاء بمثل هذا الكلام يصدر عنه هو، ولا يتركها لمجرد الاجتهاد والاستنتاج، وإن كان لنا من أخباره كما قلت ما يعين على الاجتهاد والاستنتاج. ويبقى الآن أن نعود إلى هذه الدعوى من أبي العلاء ومن المؤرخين لحياته وأدبه، من القدماء والمحدثين على السواء، وهي دعوى أن شعر سقط الزند هو شعر الحداثة والصبا. هذا غير صحيح، ففي شعر هذا الديوان، كما وصل إلينا وكما نراه في شرح أبي يعقوب يوسف بن طاهر النحوي صاحب التنوير وهو مقارب لعهد أبي العلاء ما قد نظمه المعري وهو في بغداد، وما قد نظمه بعد رحلته إلى بغداد أثناء اعتزاله الأخير بالمعرة. ومن ذلك قصيدته في رثاء أبي أحمد الطاهر والد الشريفين الرضي والمرتضى، فقد توفي هذا عام 403 ه، ومعلوم أن المعري بدأ عزلته بالمعرة عام 400 ه، فكيف تكون هذه القصيدة وهي من شعر سقط الزند مما قاله الشاعر في صباه؟. ومن
(1) " أبو العلاء المعري " - تيمور ص 92. (2) ذيم: أي لحقه الذم. (3) ربان الحداثة: أول الشباب. (4) الصغو: الميل إلى الشئ. (5) السبق: الذكر من ولد الناقة. والغرس: جلدة رقيقة توضع على الولد ساعة يولد. (6) منها الفرخ ويتركها. (7) التشاف، كالاشتفاف: أن يشرب جميع ما في الإناء: ومعنى الجملة: أنه يمكن أن يرتوي المرء من شرب القليل دون شرب ما في الإناء كله، أي قد يغنيك القليل الجيد من الشعر عن الكثير الردئ منه، ثم ضرب مثالين على ذلك من أن الواحدة من الثمر تدلك على جنى الشجرة وأن النفحة من الرائحة تدلك على خزامى الأرض، أي نباته العطر. 39 ذلك قصائد بعث بها من المعرة إلى صديقه القاضي أبي القاسم التنوخي، في بغداد، وفي هذه القصائد أغراض مختلفة أظهرها الحنين إلى أيامه التي قضاها في بغداد خلال رحلته الشهيرة إليها، وهي الرحلة التي اتخذ بعدها منزله بالمعرة محبسا ثانيا له، ومن قصائده إلى القاضي التنوخي هذا، القصيدة التائية التي مطلعها: هات الحديث عن الزوراء أو هيتا * وموقد النار لا تكرى بتكريتا وفي هذه القصيدة يصف حنينه إلى العراق ويذكر سبب عودته من بغداد إلى المعرة مرغما، في حين كان يرجو أن لا يفارقها: ولا مدحت طالبا للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السوس (1)، فالحمد لله الذي ستر بعفة (2) من قوام العيش ورزق شعبة من القناعة أوفت (3) على جزيل الوفر. وما أوجد لي من غلو علق في الظاهر بادمي، وكان مما يحتمله صفات الله عز وجل، فهو مصروف إليه. وما صلح لمخلوق سلف من قبل، أو غير، أو لم يخلق بعد، فإنه ملحق به. وما كان محضا من المين (4) لا جهة له فأستقيل (5) الله العثرة فيه والشعر للخلد مثل الصورة لليد (6): يمثل الصانع ما لا حقيقة له، ويقول الخاطر ما لو طولب به لأنكره، ومطلق في حكم النظم دعوى الجبان أنه شجيع، ولبس العزهاة ثياب الزير (7) وتحلي العاجز بحلية الشهم الزميع (8) والجيد من قيل الرجال وإن قل يغلب على رديئه وإن كثر، ما لم يكن الشعر له صناعة، ولفكره مرنا وعادة. وفي هذه الكلمات جمل يدللن على الغرض، والله تعالى أستغفر، وإياه أسال التوفيق. لهذا النص يمليه أبو العلاء نفسه في مقدمة سقط الزند قيمة ذات شان كبير، فهو يلقي ضوءا غامرا على كثير من القضايا التي يختصم الباحثون فيها منذ زمن بشأن أبي العلاء، في شعره وفلسفته ومعتقده الديني. وإنه لمؤكد أن صاحب سقط الزند قد أملى هذا النص أثناء اعتزاله الأخير في منزله بالمعرة بعد الأربعين من عمره، وذلك هو العهد الذي أنشأ فيه خيرة أعماله الفكرية والأدبية، وأملى فيه اللزوميات ذاتها، وهي التي يشتد فيها الجدل بين المفكرين والباحثين، من حيث أنها تحتوي معظم آرائه في الكون والحياة والناس والمعتقدات. فنحن نرى في هذه المقدمة الصريحة أن الرجل يبرئ نفسه من تهمة الزندقة ويصرف ظواهر شعره إلى مقاصد لا تنافي الاعتقاد بالله، ثم يستغفر الله مما قد لا يكون فيه مجال للتأويل. على أننا ننظر في سقط الزند فنرى فيه شعرا كثيرا يدل على الايمان والتدين من مثل قوله في رثاء أبيه: جهلنا فلم نعلم على الحرص، ما الذي يراد بنا، والعلم لله ذي المن وقوله في قصيدة يحن فيها إلى وطنه وهو في بغداد: فيا وطني، إن فاتني بك سابق * من الدهر فلينعم لساكنك البال فإن أستطع في الحشر آتيك زائرا * وهيهات لي يوم القيامة إشغال وليس هذا الأمر موضوع بحثنا وإلا لأتينا من سقط الزند بشواهد كثيرة على ذلك. وإنما الغرض هنا أن نقف قليلا عند ذلك النص الذي نقلناه من إملاء أبي العلاء، فنرى إليه وهو يقدم لديوانه بهذا الكلام الذي يشبه من بعض وجوهه، رواية التبريزي عنه بأنه كان يرى في سقط الزند أنه من شعر الحداثة، ولكن هذا لم يمنعه أن يهتم بأمر هذا الديوان، وأن يقدم له، وأن يرويه لتلاميذه ويجيز روايتهم إياه ويتدارسه معهم في حلقات دروسه. وثمة ناحية أخرى ذات شان في هذا النص، وهي اعتذار أبي العلاء عما ورد في سقط الزند من مدائح ربما توهم أن الرجل كان كغيره من شعراء لك العصور يقف بشعره على أبواب الحكام وذوي الجاه، إما زلفى ورياء وتمليقا، وإما استجداء للعطايا والهبات، في حين نعلم من أخباره أنه تفرد في شعراء تلك العصور بميزة الترفع بنفسه وخلقه وأدبه عن كل ما هو من قبيل الزلفى والملق والرياء، والاستجداء، بل نعلم من أخباره المستفيضة أنه لقي في كثير من الحالات أزمة الحاجة والاعواز، وإنه إلى ذلك قد أتيح له مرارا أن يملأ كفيه بالمال وأن يملأ حياته بالرفاهة، غير أنه رفض كل ذاك رغم إقلاله وحرمانه. وها هو ذا، في مقدمة سقط الزند، كما رأينا. يرفع ذلك التوهم بنفسه، ويكشف عن حقيقة تلك المدائح في هذا الديوان، بقوله:... ولم أطرق مسامع أثارني عنكم أمران: والدة * لم ألقها، وثراء عاد مسفوتا أحياهما الله عصر البين ثم قضى * قبل الإياب إلى الذخرين: أن موتا لولا رجاء لقائها لما تبعت * عنسي دليلا كسر الغمد أصليتا ولأصحبت ذئاب الأنس طاوية * تراقب الجدي في الخضراء مسبوتا سقيا لدجلة، والدنيا مفرقة * حتى يعود اجتماع النجم تشتيتا وبعدها لا أريد الشرب من نهر * كأنما أنا من أصحاب طالوتا ومما بعث به من المعرة إلى بغداد بعد رحلته تلك، قصيدته إلى أبي احمد عبد السلام بن الحسن البصري الذي كان يكثر الإقامة عنده في بغداد، وهي من شعر سقط الزند، ومطلعها.
(1) الزوراء: اسم لبغداد، وهيت وتكريت: بلدتان في العراق. (2) السوس: الطبيعة. (3) الغفة (بضم الغين): البلغة من العيش. (4) أوفت: زادت. (5) المين (بفتح الميم وسكون الياء) الكذب. لا جهة له: أي لا وجه لتأويله. (6) استقال العثرة: طلب إقالتها والمغفرة منها. (7) يقصد أبو العلاء هنا " أن اليد ربما تنقش نقوشا وتخط أشياء أو تمثل تماثيل من الشمع والطين يفقد مثلها في الأعيان الموجودة المألوفة، اتفاقا من غير قصد، لتحقيق صورة ما، والمعنى: أنه لا ينبغي أن تناقش الشعراء في بعض ما أغربوا به من القول، بل اللائق بمذهبهم المسامحة " (شرح التنوير على سقط الزند - ج 1 ص 13). (8) العزهاة: الرجل الذي لا يحب النساء، والزير ضده. (9) الشهم: الحديد الفؤاد والزميع: النشيط المقدام. ومعنى الجمل الثلاث الأخيرة أنه لا إنكار على الشعراء في أن ينسبوا لأنفسهم ما ليس فيهم، فقد يدعي الجبان الشجاعة، ويدعي الكاره للنساء أنه زير نساء، ويدعي العاجز أنه قوي الجنان نشيط مقدام. (10) الثراء: المال. المسفوت: القليل البركة. (11) يشير إلى أن والدته وبقية مال له قد خسرهما. قبل وصوله إلى المعرة. (12) يقصد لقاء أمه. (26) سيف أصليت: صقيل ماض. العنس: الإبل. (13) يقصد بذئاب الأنس: اللصوص والخضراء: السماء. والجدي: من بروج السماء. مسبوتا: من السبات، أي النعاس. (14) أي بعد مفارقتي دجلة عزمت على أن لا أشرب الماء من نهر، وفاء بعهد دجلة، حتى كأنني من أصحاب طالوت.. ويشير بذلك إلى الآية الكريمة: (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني). (سورة البقرة). 40 تحية كسرى في الثناء وتبع * لربعك، لا أرضى تحية أربع وفيها يقول: ألم يأتكم أني تفردت بعدكم * عن الأنس، من يشرب من العد ينقع (1) نعم، حبذا قيظ العراق، وإن غدا * يبث جمارا في مقيل ومضجع وفي سقط الزند فضلا عن ذلك قصائد كثيرة مما قاله وهو في بغداد، ومعلوم أن رحلته إليها كانت في ما بين عامي 398 399 ه، أي حين كان قد جاوز الخامسة والثلاثين، فأين ه في هذه السن من زمن الصبا؟... يضاف إلى ذلك كله أن جملة من قصائده السائرة في الناس منذ أجيال، والمعروفة أنها من ذروات الشعر العلائي، هي من قصائد سقط الزند، وهذه يبدو عليها طابع النضج الفكري والشعري الذي عرف به أديبنا العربي العظيم. ومن ذلك قصيدته المشهورة في رثاء الفقيه الحنفي أبي الخطاب محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم الجبلي (2) الذي توفي سنة 439 ه كما ذكر ياقوت في معجم البلدان. وهي القصيدة التي مطلعها: غير مجد في ملتي واعتقادي * نوح باك، ولا ترنم شاد ففي سقط الزند إذن من شعر أبي العلاء ما قاله وهو في السادسة والسبعين، فأين هذه السن من زمن الصبا؟... يثبت من هذا كله أن الفكرة الثابتة في الأذهان، بان سقط الزند هو شعر أبي العلاء في صباه، ليست منطبقة على الواقع. وأعني بالتحديد: واقع هذا الديوان بصورته التي وصلت إلينا، والتي يحكم عليها الباحثون المعاصرون أيضا أنها من شعر أبي العلاء في صباه. ويبدو لي من مطالعة أخبار أبي العلاء في مختلف المراجع التي استطعت الوصول إليها، أن سقط الزند الذي بين أيدينا الآن، بطبعتيه: المصرية، واللبنانية، لا يختلف كثيرا عنه كما عرفته الأجيال المقاربة لعهد المعري. يدلنا على ذلك كما ذكرت آنفا أن صاحب شرح التنوير قد أورد جميع القصائد التي أشرت إليها منذ قليل، ومنها قصيدة: غير مجد في ملتي واعتقادي... فهل يكون ذكر هذه القصائد كلها في سقط الزند من تحريف المؤرخين والشارحين بهذا التواطؤ والتواتر؟. إني أشك بذلك. تراني أصر على تحقيق هذه المسألة لغرض أريد أن أنتهي إليه، وهو غرض أدبي له شانه الخطير في رأيي. وذلك أن سقط الزند إذا اعتبرناه من شعر أبي العلاء في مراحل صباه وفي شبيبته وفي أوائل كهولته، كما هو الواقع الذي عرضنا أدلته في هذا الفصل، فهو إذن يصح كما قلت أول الأمر أن تكون دراسته مدخلا لدراسة جديدة لأبي العلاء. فان الذين بحثوا أمر هذا الأديب العربي العظيم، قصروا النظر في بحثه غالبا على عدد من مؤلفاته، ولا سيما اللزوميات ورسالة الغفران، ولم ينظروا إلى سقط الزند الذي يمثل أصالته الأدبية بحقيقتها، ويمثل كذلك أهم أوجه حياته وشخصيته، وأعمق تجاربه الوجدانية وانفعالاته الشاعرية. الشيخ أحمد بن الشيخ حسين من آل عصفور قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من فضلاء البحرين وهو مجاز عن أبيه عن صاحب الحدائق وله من الأولاد الشيخ محمد وكان فاضلا محققا معاصرا مع عمه العلامة الشيخ حسن المتقدم ذكره. وله من الأولاد الحاج شيخ إبراهيم والشيخ أحمد والشيخ علي، أما الشيخ أحمد فقال صدر الدين الشيرازي في تاريخ فارس عند ذكره: هذا الشيخ كان عالما عادلا زاهدا متبحرا، وقد مضى من عمره سبعون سنة 1219، وأما الشيخ إبراهيم فهو من زهاد هذا العصر، تصدر في البصرة للجمعة والجماعة مدة عشر سنين فتوفي سنة 1291، وله من الأولاد علامة العصر رئيس المذهب الملقب بامام الجمعة، تصدر للافتاء في حياة جدي العلامة الشيخ عبد علي بن العلامة الشيخ خلف، ومجاز عنه وهو إلى الآن قائم بأعباء الفتوى، مع ما عليه من لباس التقوى، كان حليما كريما دامت أيام إفادته، وللشيخ أحمد من الأولاد الشيخ خلف وهو أيضا عالم فاضل ومتبحر كامل أيدهم الله تعالى. الشيخ أحمد الزاهد البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: إمام وقته في العلوم العقلية، وأحد الأئمة في العلوم الشرعية، صاحب المصنفات المشهورة والفضائل الغزيرة المذكورة. ولد في رمضان في سنة خمس وأربعين بعد الألف، اشتغل أولا على عمه العلامة الشيخ كمال الدين البحراني، ثم على بعض علماء الحلة، وأتقن علوما كثيرة، وبرز فيها وتقدم وساد، وقصده الطلبة من سائر البلاد، وإنما ذكرته في حالات الشعراء لأنه ما صنف في العلوم شيئا إلا كتابا في المدائح والقصائد والمراثي. مات قدس سره سنة 1112، وقبره في بهبهان مشهور رحمة الله وبركاته عليه. الشيخ أحمد بن الشيخ سلمان آل عصفور. قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان من أعيان هذه الطائفة وهو مجاز عن عمه الشيخ عبد علي بن العلامة الشيخ خلف العصفور، تصدر للافتاء بأمر الشيخ في البحرين، ولم أجد من تأليفه شيئا إلا رسالة في أدوات العموم وحاشية مليحة على المطول. مات قدس سره سنة 1306. الشيخ أحمد بن سليمان الخطي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من مشايخ الطريقة أخذ الأدب عن علامة زمانه الشيخ سليمان بن أبي ظبية، والفقه عن المحدث البارع الشيخ محمد الحر العاملي وله كتاب في الحكمة، لم يعمل مثله، ورسالة في قوله تعالى: ألم أعهد، إليكم يا بني آدم... وغير ذلك من الرسائل. مات قدس سره سنة 1110 العاشر والمائة بعد الألف. الشيخ أحمد بن صالح البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: فقيه عصره وفريد دهره كان من المتورعين، ولم يتصدر للقضاء لزهده
(1) الماء العد: الدائم الذي لا تنقطع مادته. ينقع: يرتوي. (2) نسبة إلى جبل (بفتح الجيم وتشديد الياء مع ضم): بلدة في العراق بين واسط والنعمانية (أبو العلاء المعري) لأحمد تيمور باشا - ص 95. 41 وورعه، وهو يروي عن جماعة من المجتهدين، وله تصانيف رائعة منها: الصحيفة الرضوية ومنها: كتاب الحج وغير ذلك، مات قدس سره في السنة الخامسة بعد الثلاثمائة والألف رحمة الله عليه. السيد أحمد بن السيد عبد الرؤوف البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط، ولم يذكر لا تاريخ مولده ولا تاريخ وفاته: كان من بلغاء عصره وفصحاء مصره، أديبا شاعرا له حاشية على ألفية ابن مالك، وشرح على ديوان المتنبي، وله قصائد بديعة ومن قصائده: عيون المنايا للأماني حواجب * ودون المنى سهم المنية صائب وكل امرء يبكي سيبكي وهكذا * صبابة ماء نحن والدهر شارب فكم من لبيب غر منه بموعد * فصدقه في قوله وهو كاذب هو الدهر طورا للنفائس واهب * إليك وطورا للنفسية ناهب إلى أن قال: إليكم ولاة الأمر خير قصيدة * يهذبها رأي من الفكر صائب عروس ولكن ليس تجلى لغيركم * عليها من السدر البديع عصائب إلى أن قال: فأنتم عصا موسى لا حمد فيكم * سليل الفتى عبد الرؤوف مآرب السيد أحمد الزنجي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من قرية الزنج إحدى قرى البحرين، كان أديبا شاعرا عارفا بالطب، وله كتاب في الأنساب، وكتاب في الأذكار، وكتاب قصائد، ومن قصائده: منازلهم بالخيف من بعدهم قفر * نأى ساكنوها ثم غيرها الدهر وقفت على أرجائها فوجدتها * بسكب الحيا خضرا ولكنها صفر معاهدها سود خلاف معاشر * قلوبهم بيض وأسيافهم حمر مات قدس سره سنة 1182. الشيخ أحمد بن الشيخ عبد الله بن حسن البلادي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من المحققين المبرزين، قال جدي العلامة في اللؤلؤة: وكان مع ما هو عليه من الفضل في غاية الإنصاف، وحسن الأوصاف، والورع، والتقوى، والمسكنة، لم أر مثله من العلماء في ذلك الوقت. وكانت وفاته يوم الاثنين رابع عشر رمضان للسنة السابعة والثلاثين بعد المائة والألف، وقد حضرت درسه وقابلت في كتاب شرح اللمعة عنده، والشيخ عبد الله بن الشيخ علي بن أحمد البلادي الآتي ذكره. وإلى هؤلاء انتهت رئاسة البلاد بعده كل في وقته، وكان أشهر هؤلاء والدي والمحدث الصالح المذكور، وقد رأيت الشيخ المذكور وأنا ابن عشر سنين يومئذ تقريبا، وقد كان والدي نزل في قرية البلاد بتكليف والده، لملازمة التحصيل عند الشيخ المبرور، وكان يدرس يوم الجمعة بعد الصلاة في الصحيفة الكاملة إلى أن قال: وله قدس سره جملة من المصنفات، إلا أن أكثرها رسائل منها ما تم ومنها ما لم يتم (1). الشيخ أحمد بن محمد العقيري البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من الأدباء، ديوانه معروف بين أرباب المراثي ومن قصائده: خليلي غاب النجم واتضح الفجر * أمالك بالأحباب مذ رحلوا خبر الا فاسال الركب اليمانين وقفة * على عتبات الكرخ أن عارض الجسر وإن جزت بالنعمان أنعمه برهة * تحية مشتاق يروعه الهجر وأن زمت الركبان عيس النوى بهم * يجل علي الخطب بل يعظم الأمر إلى أن قال: ترقوا إلى أوج المعالي فأصبحوا * على العرش أشباحا لها ظهر السر فبعدهم الدنيا على الناس أظلمت * وضاق الفضا حتى كان الفضا شبر لهم وقعة لو أن معشار عشرها * ألم بقلب الصخر لا نصدع الصخر إلى أن قال: فتى حيدر يا منتهى غاية الورى * ويا من إليه يرجع الخلق والأمر فكن للعبيد القن أحمد شافعا * متى كان لا زيد بمغن ولا عمرو وله قصائد بديعة ولم يحضرني تاريخ وفاته قدس الله سره. الشيخ أحمد بن الشيخ محمد بن يوسف البحراني. مرت ترجمته في المجلد الثالث ونأخذ هنا عن تاريخ البحرين المخطوط: الخطي أصلا، والبحراني المقابي منشأ ومحصلا، وكان هذا الشيخ علامة فهامة، زاهدا عابدا ورعا كريما، وتصانيفه التي وقفت عليها دليل بعلو كعبه في المعقول، والمنقول، والفروع، والأصول، ودقة النظر، وحدة الخواطر، مع مزيد البلاغة والفصاحة في التعبير والتحبير والتحرير، وعندي أنه أفضل علماء بلادنا البحرين ممن عاصره وتأخر عنه بل وغيرهم. وقد ذكر بعض تلامذته في رسالة له: أتى في سفره إلى أصبهان وكان المولى الفاضل محمد باقر الخراساني صاحب الكفاية والذخيرة يخلو معه في الأسبوع يومين للمذاكرة معه والاستفادة منه. وقد أجازه شيخنا المجلسي فقال في إجازته له: إنه كان من غرائب الزمان، وغلط الدهر الخوان، ومن فضل الله علي ونعمه البالغة لدي اتفاق صحبة المولى الأولى الفاضل، الكامل، البارع، التقي، الزكي، جامع فنون الفضائل والكمالات، حائز قصب السبق في مضامير السعادات ذي الأخلاق الرضية، والأعراق الطيبة البهية، علم التحقيق، وطود التدقيق، العالم التحرير، والفائق في التحرير والتقرير، كشاف دقائق المعاني الشيخ أحمد البحراني دام الله تعالى أيامه وقرن بالسعود شهوره وأعوامه، فوجدته بحرا زاخرا في العلم لا يساحل... إلى آخر الإجازة، وشعره قدس سره في غاية الجودة والجزالة ومن مصنفاته كتاب: رياض الدلائل، وحياض المسائل، لم توجد منه إلا قطعة من الطهارة، ورسالة في وجوب الجمعة عينا، ردا على رسالة الشيخ سليمان بن علي الشاخوري، كما تقدمت الإشارة إليه، ورسالة في استقلال الأب بولاية البكر البالغة الرشيدة، ورسالة في المنطق سماها المشكاة المضيئة، ورسالة سماها، الرموز الخفية في المسائل المنطقية، ورسالة صغيرة في مسالة البداء. توفي قدس سره بالطاعون مع إخوته ودفنوا في جوار
(1) ولعله المذكور في الصفحة 8 من المجلد الثالث " ح ". 42 الكاظمين ع في السنة الثانية بعد المائة والألف وتوفي أبوهم سنة 1103 في قرية مقابا مسكنه وهو قدس سره يروي عن جملة من المشايخ، منهم شيخنا المجلسي، وقد تقدمت الإشارة إليه في إجازته له، ومنهم والده الفقيه الشيخ محمد بن يوسف عن الشيخ علي بن سليمان القدمي البحراني المتقدم ذكره. الشيخ أحمد بن الفلاح القطيفي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: ذكره الشيخ أحمد الأحسائي في شرح تبصرة العلامة في الفقه في مسالة الجمعة ما لفظه: وممن ادعى الاجماع على الوجوب العيني الفاضل المتبحر الشيخ أحمد بن الفلاح القطيفي وهو منه عجيب. وتوفي في سنة 1188. الشيخ أحمد بن محمد بن آل عصفور البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من أكابر هذه الطائفة أديب، بديع البيان، ونجيب مؤسس البنيان، بيته أحد بيوت العلم بأوال وإلى حرم فضله تشد الرحال، مات قدس سره سنة 1230، وله من الأولاد الشيخ محمد وهو من أعيان هذه الطريقة كما ستعلم وللشيخ أحمد مجموعات المسائل، ورسالة في معنى الكتب، ورسالة في المراثي، ورسالة في وجوب غسل الجمعة، ورسالة في مجازاة الكتاب، ورسالة في المتعة، ورسالة في أدعية قنوت النوافل، وكتاب مجلاة الالتباس من حديث إن من أشد الناس وحاشية على الكفاية وهي من أعظم تأليفاته وهو مجاز عن أخيه الشيخ حسين. والشيخ كثيرا ما يعتمد على منقولاته قدس سرهم. الشيخ أحمد بن عبد الله بن محمد الشايب العمراني الأحسائي. ولد في قرية العمران الجنوبية إحدى قرى مدينة الأحساء عام 1263 وتوفي فيها سنة 1333. سافر إلى النجف للدراسة، وكان عمره آنذاك ثلاثين سنة. فمكث هناك ثلاث عشرة سنة، عاد بعدها إلى بلده الأحساء. وقد امتهن الخطابة الحسينية، فقرأ في كل من الأحساء، والبحرين، ومسقط، والكويت. وكان بالإضافة إلى خطابته يقوم بالأمور الحسبية في بلده. كان خطيبا بارزا، أديبا شاعرا، ينظم الشعر في أكثر من مناسبة إلا أن أكثر شعره ضاع مع ما ضاع من شعر الأحساء، ولم يعثر منه إلا على النزر اليسير، منه قوله في رثاء الحسين ع: عش ما بدا لك في سرور * في ظل شاهقة القصور لا بد تعلم موقنا * أن لست إلا في غرور فاعمل لنفسك إنما * حظ المقصر في قصور فعساك تحظى بالرضا * والفوز في يوم النشور والزم محبة من بهم * يرجى الخلاص من السعير أبناء فاطمة البتول * وعترة الهادي البشير أهل الرياسة والعلى * والفخر والشرف الخطير تحيى بذكرهم القلوب * وينجلي غسق الصدور جار الزمان عليهم * ورمتهم أيدي الشرور لا تنس وقعة كربلا * من ذلك الخطب الكبير حيث الحسين لقي بها * عار على تلك الوعور متزملا بدمائه * متوسدا حر الصخور متدثرا سلب القنا * متكفنا نسبح الدبور وبنو أبيه وصحبه * من حوله مثل البدور أكفانهم سافي الرياح * وغسلهم فيض النحور هذا وأعظم حادث * وأجل دزء في الدهور لما بنات محمد * أبرزن من بين الخدور والعابد السجاد مغلول * اليدين على بعير أضحى أسيرا بينهم * وا لهفتاه على الأسير يا آل طه أنتم * غوث الصريخ المستجير فكوا وثاقي سادتي * في يوم حشري والنشور ما لي سواكم عاصم * في ذلك اليوم العسير وإليكم من أحمد * غررا تفوق على النظير وعليكم صلى الاله * لدى الرواح وفي البكور (1) أحمد بن يوسف المصري. كتبها السيد صالح الشهرستاني بعنوان أقدم كتاب خطي بالخط العربي وذلك سنة 1353، ونحن نأخذها هذا العام: عام 1408. والمكتبة التي يتحدث عنها الكاتب أوصى صاحبها الحاج ملك أن تضم بعد وفاته لمكتبة الإمام الرضا ع، وقد تم ذلك، كما أن السيد صالح نفسه كان قد أوصى أن تضم مكتبته وكانت من كبريات مكتبات طهران إلى مكتبة الحاج ملك المضمومة إلى مكتبة الرضا ع. رحم الله الاثنين وخلد ذكرهما وأثابهما الجنة. تضم مدن إيران وقراها بين جدران أبنيتها وعماراتها مكتبات قديمة، تحتوي على أنفس الكتب الخطية الاسلامية منذ صدر الاسلام. تلك المكتبات التي لم تتمكن أيدي الغربيين لا سيما المستشرقين منهم من التقرب إلى انتشالها ونقلها إلى الغرب. ليست هذه المكتبات سواء كانت عامة أو خاصة منحصرة بمدينة من مدن إيران، فإنها منتشرة في أكثرها لا سيما في طهران، وأصفهان، ومشهد، وهمذان، وشيراز، وتبريز، وكرمانشاه، وقم وزنجان وغيرها. كما لم تكن كلها عامة موضوعة تحت تناول عموم الناس والقراء كمكتبة البرلمان الإيراني بطهران ومكتبة وزارة المعارف بطهران أيضا، ومكتبة الإمام علي بن موسى الرضا ع بمشهد. وإنما الأغلب منها شخصية تتعلق بعلماء وأعيان ووزراء، كمكتبة الحاج ملك التجار في طهران ومشهد، التي هي الآن موضوع بحثنا، ومكتبة الميرزا محمد علي خان تربيت في تبريز، ومكتبة الميرزا أبو عبد الله الزنجاني في زنجان، ومكتبة إمام الجمعة في كرمانشاه التي احترقت ومكتبة الميرزا محمد هاشم ميرزا أفسر، ومكتبة السيد نصر الله
(1) الشيخ جعفر الهلالي من كتابه المعد للطبع (معجم شعراء الحسين). 43 الحائري، ومكتبة الحاج محتشم السلطنة، وغيرها من المكتبات الخاصة الكثيرة في سائر مدن، إيران. وفي مقدمة هذه المكتبات، من عامة أو خاصة، في عموم إيران مكتبة الحاج حسين آقا ملك التجار، تلك المكتبة التي تعد أكبر مكتبة على الاطلاق في إيران. وكان الحاج ملك المشار إليه قد شغف بجمع الكتب العربية والفارسية من خطية ومطبوعة، وبعض الكتب الأوروبية المهمة. بيد أن المومى إليه غرم بوجه خاص في اقتناء وجمع الكتب الخطية النادرة التي تؤلف النصف من مكتبته، ويقدر مجموع كتبها بست وأربعين ألف مجلد، هي من أنفس وأثمن الكتب والمصاحف، التي تعد فيها بألف ومائتي مصحف بخطوط مشاهير الكتاب ومذهبة تذهيبا بديعا جدا. ولقد انفردت هذه المكتبة الخاصة بكثير من النسخ الخطية، والنفائس البديعة التي لا وجود لها في جميع أنحاء العالم، علاوة على ما تحويه من خطوط كثير من المؤلفين القدماء المعروفين. ومن أهم الكتب التي تحويها هذه المكتبة كتاب شرح الثمرة، الذي كتب عام 371 ه والذي هو موضوع بحثنا في مقالنا هذا، وكتاب عين اللغة للخليل بن أحمد كتب عام 1091 ه، ونسخة نادرة من القرآن بخط الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب ع، وكتاب رياض العلماء النادر الوجود جدا، وكتاب منطق الشفاء لابن سينا وهو نسخة نادرة كاملة، والمجلد الأول من كتاب أمل الآمل في أحوال علماء جبل عامل بخط الحر العاملي تاريخه 1097 ه، وكتاب رياض الجنة في تراجم العلماء وأظن أن نسخ هذا الكتاب منحصرة بهذه النسخة فقط، ومؤلفه السيد حسن الزنوزي من كبار علماء القرن الثالث عشر الهجري، وكتاب تقويم التواريخ باللغة التركية لمؤلفه الحاج خليفة مؤلف كشف الظنون، وكتاب روضات الجنات في أوصاف مدينة هرات، ومجلد واحد من تاريخ أبي الفداء الذي ينتهي بحوادثه في سنة 720 ه وقد كتبت في عصر المؤلف المذكور. وديوان الحر العاملي بخط الناظم وكتاب حدائق السحر في دقائق الشعر لمؤلفه رشيد الدين محمد العمر الكاتب البلخي تاريخ 738 ه، وكتاب الدرر الفاخرة في الأمثال السائرة تأليف حمزة الأصفهاني، والمجلد الثالث من وسائل الشيعة بخط المؤلف الحر العاملي، وكتاب الوجيز في الفقه للغزالي مكتوب عام 584 ه، إلى غيرها من الكتب النادرة النفيسة، أما كتاب شرح الثمرة فهو أقدم نسخة خطية بالخط العربي في هذه المكتبة بل وفي مكتبات العالم أجمع (1). الثمرة في أحكام النجوم: أحد تآليف الحكيم اليوناني بطليموس. ذلك التأليف الذي وضعه لتلميذه سورس. والاسم اليوناني الأصلي لهذا الكتاب انطرومطا أي مائة كلمة، وقد ترجم إلى اللغة العربية في صدر الاسلام ووضع عليه اسم الثمرة. إذ أنه جاء بخلاصة وثمرة أربعة كتب ألفها الحكيم المذكور لتلميذه المومى إليه كما يظهر ذلك من مقدمة هذا الشرح الذي نحن بصدده الآن وهي:. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين (2). وبعد فهذا كتاب ثمرة بطليموس الحكيم من تمام الكتب الأربعة التي ألفها في الأحكام لسورس تلميذه. قال بطليموس قد قدمنا لك يا سورس كتبا فيم يؤثر الكواكب في عالم التركيب كثير المنفعة في تقدمة المعرفة. وهذا الكتاب ما اشتملت عليه تلك الكتب وما خلص عن التجربة منها وليس يصل إلى معرفته من لم يمعن النظر فيما قدمناه (3) قبله وفي علوم أخر من علوم الرياضة فكن به سعيدا. ولقد شرح هذا التعريب جماعة كبيرة من الشراح والمفسرين منهم أحمد بن يوسف المصري المهندس كاتب آل طولون بمصر (4) وهو يعد من أقدم الشروح لهذا الكتاب، وذكره كثير من المؤرخين كابن النديم وابن القفطي وغيرهما، كما نقل عنه كثيرا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود المتوفي عام 317 في كتابه المسمى بالتسييرات. يرتقي تاريخ هذه النسخة إلى سنة 371 هجرية. إذ جاء في آخر صفحة من الكتاب ما صورته تم كتاب بطليموس المسمى الثمرة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد المصطفى وآله الأكرمين (5) كتبه الحسين بن عبد الرحمن بن عمر الصوفي بالري في دار ابن الأقوال (6) وفرع منه للنصف من شعبان لسنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. فيكون قد مر على هذه النسخة 1038 ألف وثمان وثلاثين سنة تقريبا في هذا العام: عام 1408. أما كاتب النسخة أعني الحسين بن عبد الرحمن فهو ولد عبد الرحمن بن
(1) أتذكر أنني قرأت منذ عدة سنوات في بعض مجلدات المقتطف المصرية الغراء بان اقدام كتاب خطي بالخط العربي أي خط النسخ المتداول الآن لم يتجاوز تاريخ سنة 400 هجرية، وأنه لو وجدت نسخة تاريخها أقدم من هذا التاريخ فهي لا تثمن بثمن. (2) يظهر من كلمتي (وآله الطاهرين) أن الشارح المذكور أحمد بن يوسف المصري كان من الشيعة. (3) جاء في الصفحة 69 من كتاب أخبار العلماء بأخبار الحكماء لمؤلفه الوزير جمال الدين أبي الحسن علي ابن القاضي الأشرف يوسف القفطي المتوفي سنة 646 (طبعة مصر) عند ترجمة بطليموس القلوذي ما نصه: - (ومما اشتهر من كتاب بطليموس وخرج إلى العربية كتاب كتبه إلى سورس تلميذه نقله إبراهيم بن الصلت وأصلحه حنين بن إسحاق، وفسر المقالة الأولى أنطرقيوس وجمع المقالة الأولى ثابت، وأخرج معانيها وفسره أيضا عمر بن الفرخان وإبراهيم بن الصلت والتبريزي والبتاني) 1 ه.. ولقد وردت عين هذه العبارات في ص 374 - 375 - من فهرست ابن النديم طبعة مصر. وقد ذكر صاحب (كشف الظنون) في الجزء الأول ص 356 - 357 في باب الثاء ما نصه (الثمرة: في أحكام النجوم لبطليموس القلوذي الحكيم الفلكي واسمها بالرواية (انطرومطا) أي مائة كلمة. وهي تمام الكتب الأربعة التي ألفها لسورس بالرومية (انطرومطا) أي مائة كلمة. وهي تمام الكتاب الأربعة التي ألفها لسورس تلميذه يعني ثمرة تلك الكتب. ولها شروح منها: شرح أبي يوسف الأقليدسي وشرح أبي محمد الشيباني، وشرح أبي سعيد الشمالي، وشرح ابن الطيب الجاثليقي السرخسي، وشرح بعض المنجمين أوله: أحمد الله حمدا لا يبلغ الأفكار حده الخ ذكر أنه أخذه من الأمير أبي شجاع رستم بن المرزبان سنة 485 وجمع فيه بين هذه الشروح المذكورة. ومنها شرح العلامة نصير الدين محمد بن محمد - الطوسي المتوفى سنة 673، وهو شرح مفيد بالفارسية ألفه لصاحب ديوان محمد بن شمس الدين) 1 ه. ولقد رأيت هذا الشرح الأخير بالفارسية في مكتبة البرلمان الإيراني وهو في رسالة متوسطة القطع، عدد أوراقها 48 ورقة. وهذه النسخة بلا تاريخ غير أنه يظهر من خطها وقرطاسها أنها من مخطوطات القرن الحادي عشر الهجري. ورقمها الخصوصي في المكتبة 169 أما رقمها العمومي فهو (9084). (4) جاء في أخبار الحكماء لابن القفطي المذكور ص 56 طبعة مصر ما نصه (أحمد بن يوسف المنجم: رجل مشهور بالعلم في هذا الشأن. فمن تصانيفه كتاب النسبة والتناسب، وله في أحكام النجوم كتاب شرح الثمرة لبطليموس) 1 ه. وذكر ابن النديم في فهرسه ص 375 طبعة مصر ضمن ترجمة بطليموس وذكر تأليفه ما عبارته: (... كتاب الثمرة فسره أحمد بن يوسف المصري المهندس) الخ. (5) يظهر من كلمتي (آله الأكرمين) أن كاتب هذه النسخة الحسين المذكور كان من الشيعة. (6) أو (دارت الأقوال) فإن الكلمتين غير واضحتين لا سيما وأنهما غير منفصلتين. 44 عمر الصوفي الرازي المتوفي سنة 376 ه. (1) وكان الحسين المذكور يكنى بأبي علي (2) كما يظهر ذلك من مقدمة نظمه كتاب أبيه المسمى صور الكواكب على طريقة الأرجوزة التي يبتدئ بها بقوله: هذا مثال لأبي علي * نجل أبي حسين الصوفي في صنعة النجوم والأفلاك * أنشأه لملك الأملاك وملك الأملاك الوارد هنا في الشعر هو الملك السعيد عضد الدولة الديلمي الذي كان يلقب حينئذ بهذا اللقب الذي يحتمل أنه معرب من الكلمة الفارسية شاهنشاه أي ملك الملوك. هذا وصف موجز لكاتب هذه النسخة. وأما النسخة نفسها فإنها تحتوي على 51 ورقة سميكة تميل بلونها إلى الصفرة بقطع 20 سنتيمترا طولا و 15 سنتيمترا عرضا. والنسخة كاملة ما عدا الصفحة الأولى منها، التي يظهر أنها كانت مفقودة، فكتبها الشيخ لطف علي بن محمد كاظم التبريزي (3) عام 1308 بطهران مالك هذه النسخة قبل أن تصل إلى مكتبة الحاج ملك التجار. أما خط هذه النسخة فقد كتب بحبرين أحمر وأسود، إذ الكلمة الأصلية أي تعريب كلمة بطليموس كتبت بالأحمر تحت عنوان كلمة والشرح كتب بالحبر الأسود تحت عنوان التفسير. ولم تعد الكلمات المذكورة بأعداد الحروف الهندية كالعادة الجارية الآن، وإنما عدت بواسطة حروف أبجد. والظاهر على الخط بأنه أقرب خط للكوفي. إذ أن فيه كثيرا من قواعد الخط الكوفي كالكاف الكوفية الطويلة في حالة الانفراد، وكذا الطاء، ولا، وعدم التنقيط وارتفاع رأس الجيم وأخواتها وغير ذلك من مميزات ومختصات الخط الكوفي وقواعده. هذا ومن المتيقن أن كاتب هذه النسخة أبو علي الحسين جد كثيرا في تحسين كتابتها. إذ يظهر أنه قد بذل غاية جهده في عدم استعمال القواعد الكوفية مهما أمكنه. فاخرج كتابة الكتاب بالشكل الذي نراه الآن. ومما يؤيد كون خط هذه النسخة أقرب خط إلى الكوفي، هو اختراع الخط المتداول الآن من قبل الوزير أبي علي محمد بن علي بن الحسين بن مقلة المتوفى عام 328 ه. وقد اخترع هذا الخط حوالي السنوات 315 320 وكان قد نقله من الخطين الكوفي والنسخ اللذين كانا متداولين في صدر الاسلام بعد أن أدخل عليهما تحسين كبير. فتكون هذه النسخة قد كتبت بالخط العربي المتعارف الآن بعد اختراعه بمدة خمسين سنة تقريبا. هذا وقبل أن نختم كلمتنا في وصف هذا الكتاب ننقل فيما يلي تفسير الكلمة الأخيرة من كلمات بطليموس وهي كلمة قب. قال المفسر أحمد بن يوسف المصري ما عبارته: قد بنى أرسطو طاليس في كتاب الآثار العلوية أن الأبخرة الجافة إذا بلغت الأثير صارت شهبا وهي النيازك، فليس بمنكر أن يدل ظهورها على الجفاف في البحار، ولأنه ذكر في كتاب الآثار العلوية أيضا أن جوهر المريخ صار يابسا دلت كذا في الجهة الواحدة على ريح منها وفي تشييعها كذا في كل الجهات على نقصان المياه، لأن اليبس إذا زاد في الهواء نقصت المياه. وإني لأذكر في ليلة من سنة تسعين ومائتين أن الشهب انتثرت وعمت الجو بأسره، فارتاع الناس لها ولم تزل أكثر من أربع ساعات فلم يمض لذلك من السنة يسير حتى ظمئ الناس، وبلغ نيل مصر ثلاث عشرة ذراعا، ونقص عن حاجة البلد أربع كذا أذرع، وترعت كذا الأسعار، واضطرب الناس اضطرابا شديدا، وزالت به دولة آل طولون. وأثرت سنة ثلاثمائة (4) من كل جهة من جهات الجو، فنقص النيل وانفتح على مصر باب المغاربة لحماسه كذا وعبد الرحمن بعده، فعظمت به نكاية من معهما. فاما ذوات الذوائب فإنه طلع منها ذو الجمة في وتد من أوتاد انتهاء القران الذي بدأت فيه دولة بني العباس لها الله كذا فمات أبو أحمد الناصر رحمه الله. وطلع ذو الذوابة في سنة اثنين وتسعين ومائتين وأقام إحدى عشرة ليلة، يسير في كل ليلة مسيرا محسوسا، فدخل ابن الجلنحي بعده بمديدة يسيرة، وتسلط على مصر ونواحيها، وحدث بمصر جميع ما ذكره بطليموس. فهذا ما حضرني من تفسير كلمات هذا الكتاب، وأرجو أن يكون مطيفا كذا بمعانيه مستوفيا لشرحه، والصواب أن تضعه في مستحقه وتمنعه ممن لا يؤثر منه إلا التكثير بملكه، وترى أن حصوله في خزانته معادل لثباته في خلده، فيستقل الارتياض به، ويعتمد في إحرازه لمكانه من الناس على المهاترة، ولطيف التلبيس، فان احتيازه محرم على أمثاله ومؤثم لموصله إليه، وأنا اسال الله هدايتك وكفايتك وهو حسبي ونعم الوكيل اه. وقد نقلت فيما مضى عين عبارة كاتب هذه النسخة الحسين بن عبد الرحمن فلا حاجة لتكرارها هنا. أحمد بن هبة الله بن الصاحب. هو أبو منصور أحمد بن علي بن هبة الله بن الصاحب الملقب بالربيب، أخو
(1) وهو أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر بن سهل الصوفي الرازي الذي عاش 85 عاما. وكان من مشاهير الراصدين في زمانه، قال عنه صاحب الأعلام في المجلد الثاني: عالم بالفلك من أهل الري اتصل بعضد الدولة فكان منجمه له (الكواكب الثابتة - ط) بناه على كتاب المجسطي لبطليموس ولم يكتف بمتابعته بل رصد النجوم كلها نجما نجما وعين أماكنها وأقدارها. وله مطارح الشعاعات وأرجوزة في الفلك) 1 ه. وليست الأرجوزة التي ذكرها هنا صاحب الأعلام لأبي الحسين عبد الرحمن، وإنما هي لابنه الحسين أبي علي كما هو في المتن أعلاه. وفات صاحب الأعلام أن يذكر أيضا أن لأبي الحسين عبد الرحمن (صور الكواكب) الذي جاء ذكره في كشف الظنون بما يلي: (صور الكواكب للشيخ أبي الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي المدقق ألفه لعضد الدولة) 1 ه. وقد شاهدت في بعض مكتبات طهران عدة نسخ من هذا الكتاب وهي قديمة كتابة وصورا. (2) جاء في كتاب (سر الأسرار) ما عبارته: (كان في زمن الملك السعيد عضد الدولة نضر الله وجهه رجل عالم يعرف بأبي علي الحسين الصوفي. وكانت له يد طويلة في صناعة النجوم هيئة وحسابا وأحكاما - ولم يكن يؤتي من نقصان في المعرفة ولا من تقصير في البضاعة) 1 ه. (3) الشيخ لطف علي بن محمد كاظم التبريزي المتوفى حوالي عام 1350 هجرية كان من أجلاء علماء إيران وكان يعرف بصدر العلماء. وقد بحث حول هذه النسخة التي كان هو مالكها أبحاثا مستفيضة كتبها على بعض الأوراق البيضاء التي أرفقها بأول النسخة وآخرها. ومما كتبه باللغة الفارسية ما مترجمه هنا (... وأن هذه النسخة التي هي بخط الحسين أصح نسخة موجودة من هذا الكتاب النادر الوجود ويمضي من عمر هذه النسخة في هذه السنة التي نحن فيها وهي سنة 1308 تسعمائة وبضع سنين. ولا توجد نسخة خطية أقدم من هذه النسخة على الاطلاق. وحقا ينال الإنسان حظا وافرا من مشاهدته لخط هذه النسخة الذي هو أقرب خط استخرج من الخط الكوفي...) الخ. (4) يظهر من هذه السنة أن شارح الثمرة أحمد بن يوسف المصري كان حيا حتى، سنة 300 من الهجرة وكان باقيا حتى بعد انقراض سلطان آل طولون بمصر. 45 أستاذ دار الخليفة أبي الفضل مجد الدين هبة الله بن علي بن هبة الله بن الصاحب، كان من أعيان الشيعة ببغداد، وقد روى شيئا من الحديث، وتوفي يوم الأحد تاسع المحرم من سنة 604، وصلي عليه في جامع القصر، ودفن في مشهد موسى بن جعفر على ساكنيه السلام وكان عمره نحوا من خمسين سنة. الشيخ أحمد بن يوسف البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: ذكره الشيخ سليمان الماخوزي فاثنى عليه، وذكره صاحب البحار فعظمه حتى قال في وصفه: هو من مجددي المذهب. قال جدي صاحب الحدائق: هو عالم فاضل، ومحقق كامل، له كتاب: رياض الدلائل وحياض المسائل في الفقه لم يتم. ورسالة سماها المشكاة المضية في المنطق. ورسالة سماها: الأمور الخفية في المسائل المنطقية. وله شرح جيد على الشرائع قاله الحر في أمل الأمل. وتوفي سنة 999. الأحوص بن شداد الهمداني. لما تقابل جيش إبراهيم بن مالك الأشتر مع جيش عبيد الله بن زياد على بعد خمسة فراسخ من الموصل، ثبت أهل العراق مستعدين للموت وهم يقولون: اللهم إننا ما خرجنا إلى حرب هؤلاء القوم إلا شارين بدمائنا وأموالنا الجنة، طالبين بدماء أهل بيت نبيك محمد ص، فانصرنا عليهم كيف شئت وأنى شئت، إنك على كل شئ قدير. قال: فوقف الفريقان بعضهم ينظر إلى بعض، وتقدم رجل من عتاة أهل الشام ومردتهم يقال له عوف بن ضبعان الكلبي حتى وقف بين يدي الجمعين على فرس أدهم ثم نادى: ألا يا شيعة أبي تراب! ألا يا شيعة المختار الكذاب! ألا يا شيعة ابن الأشتر المرتاب! من كان منكم يدل بشجاعته وشدته فليبرز إلي إن كان صادقا، وللقرآن معانقا! ثم جعل يجول في ميدان الحرب وهو يرتجز ويقول: أنا ابن ضعبان الكريم المفضل * إني أنا الليث الكمي الهذلي من عصبة يبرون من دين علي * كذاك كانوا في الزمان الأول يا رجال! فما لبث أن خرج إليه الأحوص بن شداد الهمداني وهو يرتجز ويقول: أنا ابن شداد على دين علي * لست لمروان ابن ليلى بولي لأصطلين الحرب فيمن يصطلي * أحوص نار الحرب حتى تنجلي قال: فجعل الشامي يشتم الأحوص بن شداد، فقال له الأحوص: يا هذا لا تشتم إن كنت غريبا، فان الذي بيننا وبينكم أجل من الشتيمة، أنتم تقاتلون عن بني مروان، ونحن نطالبكم بدم ابن بنت نبي الرحمن، فادفعوا إلينا هذا الفاسق اللعين عبيد الله بن زياد، الذي قتل ابن بنت نبي رب العالمين محمد ص، حتى نقتله ببعض موالينا الذين قتلوا مع الحسين بن علي، فإننا لا نراه للحسين كفؤا فنقتله به، فإذا دفعتموه إلينا فقتلناه جعلنا بيننا وبينكم حكما من المسلمين، فقال له الشامي: إننا قد جربنا كم في يوم صفين عند ما حكمنا وحكمتم، فغدرتم ولم ترضوا بما حكم عليكم. قال: فقال له الأحوص بن شداد: يا هذا إن الحكمين لم يحكما برضا الجميع، وأحدهما خدع صاحبه الآخر، والخلافة لا تعقد في الخديعة، ولا يجوز في الدين إلا النصيحة، ولكن ما اسمك أيها الرجل؟ فقال الشامي: اسمي منازل الأقران حلال! فقال له الأحوص بن شداد: ما أقرب الاسمين بعضهم من بعض، أنت منازل الأبطال، وأنا مقرب الآجال! ثم حمل عليه الأحوص والتقيا بضربتين ضربه الأحوص ضربة فسقط الشامي قتيلا، فجال الأحوص في ميدان الحرب ونادى: يا قتلة الحسين! هل من مبارز! فخرج إليه داود بن عروة الدمشقي مقنعا في الحديد على كميت له وهو يقول: أنا ابن من قاتل في صفينا * قتال قرم لم يكن غبينا بل كان فيها بطلا حرونا * مجربا لدى الوغى كمينا فضمه إليه الأحوص بن شداد الهمداني وجعل يقول: يا بن الذي قاتل في صفينا * ولم يكن في دينه غبينا كذبت قد كان بها مغبونا * مذبذبا في أمره مفتونا لا يعرف الحق ولا اليقينا * بؤسا له لقد مضى ملعونا ثم التقيا فضربه الأحوص ضربة ألحقه بصاحبه، ثم رجع إلى صفه (1). إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن. مرت ترجمته في الصفحة 229 من المجلد الثالث. وننشر هنا عنه دراسة ثانية: ولد يوم الاثنين ثالث رجب سنة 177 وكان والده إدريس بن عبد الله قد توفي مسموما، وهو حمل كما هو مفصل في ترجمة أبيه الآتية (2) فكفله راشد مولى أبيه وقام بأمره أحسن قيام، فاقرأه القرآن حتى حفظه وهو ابن ثمان سنين، ثم علمه الحديث والسنة والفقه في الدين والعربية ورواه الشعر وأمثال العرب وحكمها وأطلعه على سر الملوك، وعرفه أيام الناس، ودربه على ركوب الخيل والرمي بالسهام وغير ذلك من مكايد الحرب، فلم يمض له من العمر إحدى عشرة سنة حتى كان قد اضطلع بما حمل، وترشح للأمر، واستحق لأن يبايع، فبايعه البربر وآتوه صفقتهم عن طاعة منهم وإخلاص. قال ابن خلدون: بايع البربر إدريس الأصغر حملا، ثم رضيعا، ثم فصيلا، إلى أن شب فبايعوه بجامع مدينة وليلى سنة 188 وهو ابن إحدى عشرة سنة. وكان إبراهيم بن الأغلب صاحب أفريقية قد دس إلى بعض البربر الأموال واستمالهم حتى قتلوا راشدا مولاه سنة 186، وحملوا إليه رأسه، وقام بكفالة إدريس من بعده أبو خالد يزيد بن إلياس العيدي، ولم يزل على ذلك إلى أن بايعوا لإدريس فقاموا بأمره وجددوا لأنفسهم رسوم الملك بتجديد طاعته.
(1) كتاب الفتوح. (2) وكان راشد قد طلب البرير أن يصبروا حتى تضع زوجة إدريس حملها فإن كان ذكرا انتظروا حتى يبلغ مبلغ الرجال فيبايعوه. 46 وفي القرطاس أن مقتل راشد كان في السنة التي بويع فيها إدريس بن إدريس، قال: وكانت بيعة إدريس يوم الجمعة غرة ربيع الأول سنة 188 بعد مقتل راشد بعشرين يوما وإدريس يومئذ ابن إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر قاله عبد الملك الوراق في تاريخه: وفي قتل راشد يقول إبراهيم بن الأغلب في بعض ما كتب به إلى الرشيد يعرفه بنصحه وكمال خدمته: ألم ترني بالكيد أرديت راشدا * وأني بأخرى لابن إدريس راصد تناوله عزمي على بعد داره * بمحتومة يحظى به من يكايد نفاه أخو عك بمقتل راشد * وقد كنت فيه شاهدا وهو راقد يريد بأخي عك محمد بن مقاتل العكي والي أفريقية، فإنه لما حاول ابن الأغلب قتل راشد وتم له ذلك كتب العكي إلى الرشيد يعلمه أنه هو الذي فعل ذلك، فكتب صاحب البريد إلى الرشيد بحقيقة الأمر، وأن ابن الأغلب هو الفاعل لذلك والمتولى له، فثبت عند الرشيد كذب العكي وصدق ابن الأغلب، فعزل الرشيد العكي عن أفريقيا وولى ابن الأغلب عليها، وإنما كان قبل ذلك عاملا للعكي على بعض كورها، هكذا حكى صاحب القرطاس، وفيه أن عزل العكي أن أفريقية وتولية ابن الأغلب عليها كان في سنة أربع وثمانين قبل وفاة راشد بسنتين، أو بأربع سنين على الخلاف المتقدم. وقال البكري والبرنسي: إن راشدا لم يمت حتى أخذ البيعة لإدريس بالمغرب، وأن إدريس لما تم له من العمر إحدى عشرة سنة ظهر من وفور عقله ونباهته وفصاحته ما أذهل عقول الخاصة والعامة، فاخذ له راشد البيعة على البربر يوم الجمعة سابع ربيع الأول من السنة المذكورة، فصعد إدريس المنبر وخطب الناس فقال: الحمد لله أحمده وأستغفره وأستعين به وأتوكل عليه، وأعوذ به من شر نفسي ومن شر كل مشر، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الثقلين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا، ص، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهير أيها الناس: إنا قد ولينا هذا الأمر الذي يضاعف فيه للمحسن الأجر وعلى السيء الوزر، ونحن والحمد لله على قصد، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا فان الذي تطلبونه من إقامة الحق إنما تجدونه عندنا. ثم دعا الناس إلى بيعته وحضهم على التمسك بطاعته. فعجب الناس من فصاحته وقوة جأشه على صغر سنه، ثم نزل فتسارع الناس إلى بيعة وازدحموا عليه يقبلون يده، فبايعه كافة قبائل المغرب من زناتة وأوربة ومنهاجة وغمارة وسائر قبائل البربر فتت له البيعة، وبعد بيعته بقليل توفي مولاه راشد، والله أعلم. وفود العرب على إدريس لما استقام أمر المغرب لإدريس بن إدريس وتوحد ملكه، وعظم سلطانه، وكثرت جيوشه، وأتباعه وفدت عليه الوفود من البلدان، وقصده الناس من كل مكان فاستمر بقية سنة ثمان وثمانين يصل الوفود ويبذل الأموال ويستميل الرؤساء والأقيال. ولما دخلت سنة تسع وثمانين ومائة وفدت عليه وفود العرب من أفريقية والأندلس نازعين إليه وملتفين عليه فاجتمع لديه منهم نحو خمسمائة فارس من قيس والأزد ومذحج ويحصب والصدف وغيرهم فسر إدريس بوفادتهم وأجزل صلتهم وأدنى منزلتهم وجعلهم بطانة دون البربر فاستوزر منهم عمير بن مصعب الأزدي المعروف بالملجوم، من ضربة ضربها في بعض حربهم وسمته على الخرطوم. وكان عمير من فرسان العرب وسادتها ولأبيه مصعب مآثر بأفريقية والأندلس وواقف في غزو الفرنج واستقضى منهم عامر بن محمد بن سعيد القيسي وكان من أهل الورع والفقه والدين، سمع من مالك بن أنس وسفيان الثوري وروى عنهما كثيرا، وكان قد خرج إلى الأندلس مجاهدا، ثم أجاز إلى العدوة، فوفد بها على إدريس فيمن وفد عليه من العرب فاستقضاه واستكتب منهم أبا الحسن عبد الله بن مالك الخزرجي. ولم تزل الوفود تقدم عليه من العرب والبربر حتى كثر الناس لديه وضاقت بهم مدينة وليلى. وانتهى إلى ابن الأغلب ما عليه إدريس من الاستفحال فأرهق عزمه للتضريب بين البربر واستفسادهم على إدريس. فكان منهم بهلول بن عبد الله الواحد المضغري من خاصة إدريس ومن أركان دولته، فكاتبه ابن الأغلب واستهواه بالمال حتى بايع الرشيد وانحرف عن إدريس واعتزله في قومه، فصالحه إدريس وكتب إليه يستعطفه بقرابته من رسول الله فكف عنه، وكان فيما كتب به إدريس إلى بهلول المذكور قوله: أبهلول قد حملت نفسك خطة * تبدلت منها ضلة برشاد أضلك إبراهيم مع بعد داره * فأصبحت منقادا بغير قياد كأنك لم تسمع بمكر ابن أغلب * وقدما رمى بالكيد كل بلاد ومن دون ما منتك نفسك خاليا * ومناك إبراهيم شوك قتاد ثم أحس إدريس من إسحاق بن محمد الأوربي بانحراف عنه وموالاة لابن الأغلب فقتله سنة 190 وصفا له المغرب وتمكن سلطانه به. بناء مدينة فاس لما كثرت الوفود من العرب وغيرهم على إدريس وضاقت بهم مدينة وليلى أراد أن يبني لنفسه مدينة يسكنها هو وخاصته ووجوه دولته فركب يوما في جماعة من حاشيته وخرج يتخير البقاع فوصل إلى جبل هناك فأعجبه ارتفاعه وطيب هوائه وتربته، فاختط بسنده مدينة مما يلي الجوف، وشرع في بائها فبنى بعضا من الدور ونحو الثلث من السور، فاتى أسيل من أعلى الجبل في بعض الليالي، فهدم السور والدور، وحمل ما حول ذلك من الخيام والزروع وألقاها في نهر سبو، فكف إدريس عن البناء، واستمر الحال على ذلك مدة يسيرة، ثم خرج ثانية يتصيد ويرتاد لنفسه موضعا يبني فيه ما قد عزم عليه، فانتهى إلى نهر سبو حيث هي حمة خولان، فأعجبه الموضع لقربه من الماء ولأهل الحمة التي هناك (1) فعزم إدريس على أن يبني هناك مدينة وشرع في حفر الأساس وعمل الجيار وقطع الخشب وابتدأ بالبناء، ثم فكر في سبو وما يأتي به من المدود والسيول زمان الشتاء وما يحصل بذلك من الضرر
(1) الحمة كل عين فيها ماء حار ينبع مها ويستشفى به. 47 العظيم للناس فكف عن البناء ورجع إلى وليلى. ثم بعث وزيره عمير بن مصعب الأزدي يرتاد موضعا يبني فيه المدينة التي عزم عليها، فسار عمير في جماعة يقص الجهات ويتخير البقاع والترب والمياه، حتى انتهى إلى فحص سايس، فأعجبه المحل فنزل هناك على عين ماء تطرد في مرج أخضر، فتوضأ وصلى الظهر هو وجماعة الذين معه، ثم دعا الله تعالى أن ييسر عليه مطلبه، ثم ركب وحده وأمر الجماعة أن ينتظروه حتى يعود إليهم، فنسب العين إليه من يومئذ ودعيت عين عمير، ثم أوغل في فحص سايس حتى انتهى إلى العيون التي ينبع منها وادي فاس، فرأى مياها تطرد في فسيح من الأرض وحول العيون التي شعراء من شجر الطرفاء والطخش والعرعار والكخ وغير ذلك، فشرب من الماء فاستطابه، ونظر إلى ما حوله من المزارع التي ليست على نهر سبو فأعجبته، فانحدر مع مسيل الوادي حتى انتهى إلى موضع مدينة فاس اليوم، فنظر فإذا ما بين الجبلين غيضة ملتفة الأشجار مطردة العيون والأنهار، وفي جانب منها خيام من شعر يسكنها قوم من زواغة يعرفون ببني الخير، وقوم من زناتة يعرفون ببني يرغش وكان بنو يرغش على دين المجوسية وبعضهم يهود وبعضهم نصارى. وكان بنو الخير ينزلون بعدوة القرويين وبنو يرغش ينزلون بعدوة الأندلس، وكان قلما يفترون عن القتال لاختلاف أهوائهم وتباين أديانهم. فرجع عمير إلى إدريس وأعلمه بما رأى من الغيضة وساكنيها وما وقع عليه اختياره فيها فجاء إدريس لينظر إلى البقعة فألفى بني الخير وبني يرغش يقتتلون فأصلح بينهم وأسلموا بعد ذلك على يده واشترى منه الغيضة بستة آلاف درهم، فرضوا بذلك ودفع لهم الثمن. ثم ضرب أبنيته بكرادة وشرع في بناء المدينة فاختط عدوة الأندلس غرة ربيع الأول سنة 192. وفي سنة ثلاث بعدها اختط عدوة القرويين وبنى مساكنه بها وانتقل إليها. وكان أولا أدار السور على عدوة الأندلس وبنى بها الجامع المعروف بجامع الأشياخ، وأقام فيه الخطبة، ثم انتقل ثانيا إلى عدوة القرويين كما قلنا ونزل بالموضوع المعروف بالمقرمدة وضرب فيه قيطونه وأخذ في بناء جامع الشرفاء وأقام فيه الخطبة أيضا، ثم شرع في بناء داره، ثم بنى القيسارية إلى جانب المسجد الجامع، وأدار الأسواق حوله وأمر الناس بالبناء وقال لهم: من بنى موضعا أو اغترسه قبل تمام السور فهو له. فبنى الناس من ذلك شيئا كثيرا واغترسوا، ووفد عليه جماعة من الفرس من أرض العراق فأنزلهم بغيضته هناك كانت على العين المعروفة بعين علوان. ثم أدار السور على عدوة القرويين وكانت من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء. قال عبد الملك الوراق: كانت مدينة فاس في القديم بلدين لكل بلد منهما سور يحيط وأبواب تختص به، والنهر فاصل بينهما، وسميت إحدى العدوتين عدوة القرويين لنزول العرب الوافدين إليها من القيروان بها، وسميت الأخرى عدوة الأندلس لنزول العرب الوافدين من الأندلس بها. وذكر ابن غالب في تاريخه أن إدريس لما فرع من بناء مدينة فاس وحضرت الجمعة الأولى صعد المنبر وخطب الناس ثم رفع يديه في آخر الخطبة فقال: اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة، ولا مفاخرة، ولا رياء، ولا سمعة، ولا مكابرة، وإنما أردت أن تعبد بها ويتلى بها كتابك وتقام بها حدودك وشرائع دينك، وسنة نبيك محمد ص ما بقيت الدنيا. اللهم وفق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عليه وأكفهم مؤونة أعدائهم وأدر عليهم الأرزاق وأغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق إنك على كل شئ قدير غزو إدريس المغربين أقام إدريس بفاس إلى سنة 197 ثم خرج غازيا بلاد المصامدة فانتهى إليها واستولى عليها ودخل مدينة نفيس ومدينة أغمات (1)، وفتح سائر بلاد المصامدة، وعاد إلى فاس فأقام بها إلى سنة 199. فخرج في المحرم لغزو قبائل نفزة من أهل المغرب الأوسط ومن بقي هناك على طريقة الخوارج من البربر، فسار حتى غلب عليهم ودخل مدينة تلمسان، فنظر في أحوالها وأصلح سورها وجامعها وصنع فيها منبرا. وبقي في تلمسان ثلاث سنين ثم رجع إلى مدينة فاس. قال داود بن القاسم الجعفري: شهدت مع إدريس بن إدريس غزواته مع الخوارج الصفرية من البربر، فلقيناهم وهم ثلاثة أضعافنا فلما تقارب الجمعان نزل إدريس فتوضأ وصلى ركعتين ودعا الله تعالى ثم ركب فرسه وتقدم للقتال، قال: فقاتلناهم قتالا شديدا، فكان إدريس يضرب في هذا الجانب مرة، ويكر في هذا الجانب الآخر مرة، ولم يزل كذلك حتى ارتفع النهار، ثم رجع إلى رايته فوقف بإزائها والناس يقاتلون بين يديه، فطفقت أتأمله وأديم النظر إليه وهو تحت ظلال البنود يحرض الناس ويشجعهم، فأعجبني ما رأيت من ثباته وقوة جأشه: فالتفت نحوي وقال: يا داود ما لي أراك تديم النظر إلى؟. قلت: أيها الامام إنه قد أعجبني منك خصال لم أرها اليوم في غيرك. قال وما هي؟. قلت: أولاها ما أراه من ثبات قلبك وطلاقة وجهك عند لقاء العدو. قال: ذاك ببركة جدنا ودعائه لنا وصلاته علينا، ووراثة من أبي علي بن أبي طالب الخبر. وفاة إدريس قال ابن خلدون: انتظمت لإدريس بن إدريس كلمة البربر وزناتة ومحا دعوة الخوارج منهم واقتطع المغربين عن دعوة العباسيين من لدن السوس الأقصى إلى وادي شلف (2)، ودافع إبراهيم بن الأغلب عن حماه بعد ما ضايقه بالمكايد واستفساد الأولياء حتى قتلوا راشدا مولاه. وارتاب إدريس بالبربر فصالح ابن الأغلب وسكن من غربه وضرب السكة باسمه وعجز الأغالبة بعد ذلك عن مدافعة هؤلاء الأدارسة، ودافعوا خلفاء بني العباس بالمعاذير الباطلة. وصفا ملك المغرب لإدريس واستمر بدار ملكه من فاس ساكنا وادعا، مقتعدا أريكته، مجتنيا ثمرته إلى أن توفاه الله ثاني جمادى الآخرة سنة 213، وعمره نحو ست وثلاثين سنة، ودفن بمسجده بإزاء الحائط الشرقي منه. وقال آخرون: إنه توفي بمدينة وليلى ودفن إلى جنب أبيه. ويقال عن سبب وفاته أنه أكل عنبا فشرق بحبة فمات لحينه، وخلف من
(1) نفيس من المدن المغربية التي انقرضت وأغمات بقيت قرية صغيرة. (2) المقصود بالمغربين: المغرب الأقصى والمغرب الأوسط، أي ما يعرف اليوم بالمغرب والجزائر. 48 الولد اثني عشر ولدا، ولي الأمر منه بعده أكبرهم محمد (1). إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي ع. مرت ترجمته في الصفحة 230 من المجلد الثالث وننشر عنه هنا دراسة ثانية: إدريس ممن شهد مجزرة فخ (2) فيمن شهدها من العلويين كما شهدها أخوه يحيى. وقد سلمهما الله فنجيا، فاما يحيى فإنه فر إلى الشرق حتى بلغ بلاد الديلم ودعا الناس فبايعوه فجهز إليه الرشيد جيشا بقيادة الفضل بن يحيى البرمكي، فكاتبه الفضل وبذل له الأمان فأجاب إلى السلم ولكنه طلب يمين الرشيد وأن يكون بخطه ويشهد فيه الأكابر، ففعل ذلك وحضر يحيى إلى بغداد فأكرمه الرشيد ثم حبسه حتى مات في السجن وفي ذلك يقول أبو فراس الحمداني: يا جاهدا في مساويهم * يكتمها غدر الرشيد بيحيى كيف ينكتم. وأما إدريس فإنه فر ولحق بمصر، وعلى بريدها واضح مولى صالح بن المنصور، وكان واضح يتشيع لآل البيت، فعلم شان إدريس وأتاه إلى الموضع الذي كان مستخفيا فيه ولم ير شيئا أخلص له من أن يحمله على البريد إلى المغرب ففعل، ولحق إدريس بالمغرب الأقصى هو ومولاه راشد فنزل بمدينة وليلى سنة 172، وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أوربة من البربر البرانس، فأجاره وأكرمه وجمع البربر على القيام بدعوته، وخلع الطاعة العباسية، فانتهى الخبر إلى الرشيد بما فعله واضح في شان إدريس فقتله وقال ابن أبي زرع في كتاب القرطاس: إن إدريس لما قتلت عشيرته بفخ مر بنفسه متسترا في البلاد يريد المغرب فسار من مكة حتى وصل إلى مصر ومعه مولى له اسمه راشد فدخلها والعامل يومئذ لبني العباس هو علي بن سليمان الهاشمي فبينما إدريس وراشد يمشيان في شوارع مصر إذ مرا بدار حسنة البناء فوقفا يتأملانها، وإذا بصاحب الدار قد خرج فسلم عليهما وقال: ما الذي تنظرانه من هذه الدار فقال راشد: أعجبنا حسن بنائها قال: وأظنكما غريبين ليسا من هذه البلاد فقال راشد: جعلت فداك إن الأمر كما ذكرت قال: فمن أي الأقاليم أنتما قال راشد: من الحجاز. قال: فمن أي بلاده؟ قالا: من مكة. قال: وأخالكما من شيعة الحسنيين الفارين أرى لك صورة حسنة وقد توسمت فيك الخير أرأيت إن أخبرناك من نحن أكنت تستر علينا؟ قال: نعم ورب الكعبة وأبذل الجهد في صلاح حالكما فقال راشد هذا إدريس بن عبد الله بن حسن وأنا مولاه راشد، فررت به خوفا عليه من القتل ونحن قاصدون بلاد المغرب فقال الرجل: لتطمئن نفوسكما فاني من شيعة آل البيت وأول من كتم سرهم فأنتما من الآمنين. ثم أدخلهما منزله وبالغ في الاحسان إليها فاتصل خبرهما بعلي بن سليمان صاحب مصر، فبعث إلى الرجل الذي هما عنده فقال له: إنه قد رفع إلي خبر الرجلين اللذين عندك وإن أمير المؤمنين قد كتب إلي في طلب الحسنيين والبحث عنهم، وقد بث عيونه على الطرقات وجعل الرصاد على أطراف البلاد فلا يمر بهم أحد حتى يعرف نسبه وحاله، وإني أكره أن أتعرض لدماء آل البيت فلك ولهم الأمان فاذهب إليهما وأعلمهما بمقالي وأمرهما بالخروج من عملي وقد أجلتهما ثلاثا. فسار الرجل فاشترى راحلتين لإدريس ومولاه واشترى لنفسه أخرى وصنع زادا يبلغهما إلى أفريقية وقال لراشد: اخرج أنت مع الرفقة على الجادة وأخرج أنا وإدريس على طريق غامض لا تسلكه الرفاق وموعدنا مدينة برقة. فخرج راشد مع الرفقة في زي التجار، وخرج إدريس مع المصري فسلكا البرية حتى وصلا إلى برقة وأقاما بها حتى لحق بهما راشد، ثم جدد لهما المصري زادا وودعهما وانصرف. وسار إدريس وراشد يجدان السير حتى وصلا إلى القيروان. فأقاما بها أياما، فلما لم يجد إدريس بها مراده خرج مع مولاه راشد حتى انتهيا إلى مدينة وليلى قاعدة جبل زرهون. وكانت مدينة متوسطة حصينة كبيرة المياه والغروس والزيتون، وكان لها سور عظيم من بنيان الأوائل، يقال إنها المسماة اليوم بقصر فرعون. فنزل بها إدريس على صاحبها ابن عبد الحميد الأوربي، فاقبل عليه ابن عبد الحميد وبالغ في إكرامه وبره، فعرفه إدريس بنفسه وأفضى إليه بسره فوافقه على مراده وأنزله معه في داره وتولى خدمته والقيام بشؤونه. وكان دخول إدريس المغرب ونزوله على ابن عبد الحميد بمدينة وليلى غرة ربيع الأول سنة اثنين وسبعين ومائة. بيعة إدريس بن عبد الله لما استقر إدريس بن عبد الله بمدينة وليلى عند كبيرها إسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوربي أقام عنده ستة أشهر فلما دخل شهر رمضان من السنة جمع ابن عبد الحميد عشيرته من أوربة وعرفهم بنسب إدريس وقرابته من رسول الله ص وقرر لهم فضله ودينه وعلمه واجتماع خصال الخير فيه، فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا به وشرفنا بجواره، وهو سيدنا ونحن العبيد، فما تريد منا؟ قال: تبايعونه قالوا: ما منا من يتوقف عن بيعته فبايعوه بمدينة وليلى يوم الجمعة رابع رمضان سنة 172 وكان أول من بايعه قبيلة أوربة على السمع والطاعة والقيام بأمره، والافتداء به في صلواتهم وغزواتهم وسائر أحكامهم. وكانت أوربة يومئذ من أعظم قبائل البربر بالمغرب الأقصى وأكثرها عددا وثلثها في نصرة إدريس والقيام بأمره كل من مغيلة وصدنية. ولما بويع إدريس خطب الناس فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيه أيها الناس لا تمدن الأعناق إلى غيرنا، فان الذي تجدونه من الحق عندنا لا تجدونه عند غيرنا. ثم بعد ذلك وفدت عليه قبائل زناتة والبربر مثل زواغة وزواوة وسدراتة وغياثة ومكناسة وغمارة وكافة البربر وتمكن سلطانه وقويت شوكته. ولحق به من إخوته سليمان بن عبد الله ونزل بأرض زناتة من تلمسان
(1) الاستقصاء. (2) راجع تفاصيل هذه المجزرة في ترجمة الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب في موضعها. 49 ونواحيها، هذا ما قاله ابن خلدون، ولكن أبا الفداء يقول إن سليمان بن عبد الله قتل بوقعة فخ وجمع رأسه مع رؤوس القتلى. إدريس يغزو المغرب الأقصى ثم إن إدريس اتخذ جيشا كثيفا من وجوه زناتة وأوربة وصنهاجة وهوارة وغيرهم، وخرج غازيا بلاد تامستا، ثم زحف إلى بلاد تاولا ففتح معاقلها وحصونها، وكان أكثر أهل هذه البلاد لم يدخلوا في الاسلام وإنما الاسلام بها قليل، فأسلموا جميعهم على يده. ورجع إلى مدينة وليلى مؤيدا منصورا، فدخلها أواخر ذي الحجة سنة 172، فأقام بها شهر المحرم أول سنة 173 ريثما استراح الناس، ثم خرج يغزو من كان بقي من قبائل البربر بالمغرب على غير دين الاسلام، وكان قد بقي منهم بقية متحصنون في المعاقل والجبال والحصون المنيعة، فلم يزل إدريس يجاهدهم في حصونهم ويستنزلهم من معاقلهم حتى دخلوا في الاسلام. وكانت البلاد التي غزاها هذه المرة هي: حصون فندلاوة وحصون مديونة وبهلولة وقلاع غياثة وبلاد فازاز ثم عاد إلى مدينة وليلى فدخلها في النصف من جمادي الآخرة من السنة المذكورة. إدريس يغزو المغرب الأوسط الجزائر أقام إدريس في وليلى بقية جمادى الآخرة ونصف رجب التالي لها ريثما استراح جيشه ثم خرج منتصف رجب المذكور لغزو مدينة تلمسان ومن بها من قبائل مغراوة بني يفرن فانتهى إليها ونزل خارجها فخرج إليه صاحبها محمد بن خزر مستأمنا ومبايعا له فأمنه إدريس وقبل بيعته. ودخل مدينة تلمسان فامن أهلها ثم أمن سائر زناتة وبني مسجد تلمسان وأتقنه ثم رجع إلى وليلى. أما الأحداث الأخرى في حياة إدريس فتراجع في ترجمته المتقدمة في المجلد الثالث. الشاه إسماعيل الأول الصفوي والصفويون مرت ترجمته في الصفحة 321 من المجلد الثالث، ثم ذكرنا تفاصيل أخرى عنه في الصفحة 16 من المجلد الأول من المستدركات. وها هنا تفاصيل أخرى كتبها واحد من معاصري أواخر عهد الصفويين هو السيد حسين بن مرتضى الحسيني الاسترآبادي في كتاب بعنوان من الشيخ صفي إلى الشاه صفي وهذا الكاتب عاش في عصر الشاه حسين 1106 1135 وكتب ما كتب سنة 1115. ونحن ننشر مقاله أولا ثم نعلق عليه والمقال مكتوب بالأصل بالفارسية وقد تركناه بنصه لاعطاء صورة كاملة من آراء الكاتب وعن تعبيره عن رجال ذلك العهد واعتقاده بهم غير متدخلين في آرائه وتعبيره واعتقاده، تاركين للقارئ استنتاج ما يشاء من الحقائق وحدها. قال الكاتب: الصفويون: من صفي الدين إلى إسماعيل سلطان الأولياء وبرهان الأصفياء، سراج سماء الولاية الأعظم السلطان صفي الدين إسحاق قدس سره كان شمسا من مشرق الولاية، شخصية دينية نيرة، وشمس من مطلع الهداية، ناشر الشريعة. اسمه الشريف هو حضرة السيد إسحاق، ولقبه الكريم هو صفي الدين، وفي بعض الكتب نجيب الدين. ولكن هذا اللقب غير معروف وكنيته الشريفة أبو الفتح. كان مولده السعيد في سنة 651 في آخر أيام حكومة العباسيين، وبعد وفاة والده الكريم أشرفت والدته المحترمة على تربيته وأحواله، وعمل فترة من الزمن في كسب الفضائل والكمالات الصورية، وقد تغلبت عليه رغبة السير والسلوك وإدراك مشاكل عالم المعنى، ووضع خطاه وسار في وادي الجهاد ونكران الذات والتصوف، وكان ينوي أن يلزم خدمة مرشد عالم جليل، صاحب مكارم يتتلمذ على يديه، ويكسب آداب السلوك، ويبلغ الكمال. فكان يقضى أيامه بجوار مرقد الشيخ فرح الأردبيلي والشيخ أبي سعيد وهما من مريدي شيخ الطائفين الشيخ جنيد البغدادي، وأحيانا يقضي أيامه بجوار مرقد العارف الرباني الشيخ شهاب الدين محمد الأهري. حتى وصل صيته إلى أسماع الشيخ نجيب الدين مرعش الشيرازي، فحصل لديه رغبة في زيارته ولما كان أخوه الأكبر السيد صلاح الدين يقيم في مدينة شيراز وهو يتمتع بالمال والجاه والصيت، وقد تزوج هناك عفيفة من الأشراف النبلاء، فقد استأذن من والدته أن يسافر إلى مدينة شيراز بحجة زيارة أخيه، فتوجه بالفعل نحو المقصود، وكان يلتقط من الثمار حيث يحل في طريقه، ومع كل من كان يجتمع بهم من أصحاب الفكر والمنزلة والقدر، وحين وصل إلى شيراز كان الشيخ نجيب الدين مرعش قد انتقل إلى جوار ربه، فالتقى بنجله الشيخ ظهير الدين والتقى بمشايخ تلك الديار. وبدت عليه آثار الكرامة حتى التقى بمولانا رضي الدين وهو من العلماء من أصحاب الشأن، وكان في خدمته حتى أنهى من التفسير إلى سورة إذا زلزلت، ومن ثم حصل على ترخيص ندريس التفسير. كما اجتمع بالشيخ مصلح الدين سعدي الشيرازي. وفي بيضاء بولاية فارس التقى بالشيخ ركن الدين البيضاوي، ومن ثم التقى بالأمير عبد الله قدس سره وهو فارس ميدان الهداية وقدوة أرباب التصوف، فشرح له ما جرى عليه، فتأمل مليا وأجاب أيها الشاب التركي، إن الذي توصلت إليه من الجهاد، ونكران الذات، وعظمة الشأن، لم تبلغه بصيرتنا، ولم يصل إليه طائر همتنا. إن الذي تريده أنت وتتمنى أن تبلغ إليه لا يرشدك إليه سوى عارف المعارف الربانية الشيخ إبراهيم زاهد الكيسلاني، لا أحد سواه. وهو في كيلان بالقرب من بلدك، ويعيش هناك قرب البحر في خلوته، ووصف له جمال بشرته وقال: إنه رجل قصير القامة، أبيض الوجه أسود العينين، عريض الجبين، رأسه أصلع، كث اللحية. فلم يلبث صاحبنا أن ودع مشايخ فارس وتوجه إلى أردبيل، فوصل إلى صومعة الشيخ زاهد ووقف إلى الصلاة، وكان ذلك في شهر رمضان المبارك، وكانت من عادات الشيخ زاهد أن لا يجتمع في هذا الشهر مع أحد، وكان الشيخ صفي الدين إسحاق قد وصل إليها في ذلك اليوم، فخرج الشيخ زاهد من خلوته وقال لخادمه: لقد حل علينا اليوم ضيف وهو الآن في الصومعة، مشغول بعبادة الله تعالى، آتني به، فجاء إليه الخادم وأخذه إلى الشيخ زاهد. وما أن رآه الشيخ زاهد حتى أمره بتزكية النفس ونكران الذات، وكان صفي الدين يفطر مرة واحدة في كل أسبوع. ولكن أخيرا حسب ما نصحه الشيخ زاهد قلل هذا الأمر إلى ثلاثة أيام، وكانت وجبة الافطار تقتصر على حفنة من الرز اليابس. وجاءت موارد كثيرة من مكارم ومعجزات صفي الدين في كتابي صفوة الصفا وفتوحات أميني الهروي: ومنها أنه رأى ليلة في المنام أنه يتقلد سيفا، وعلى رأسه قبعة من جلد السمور، وكلما رفع قبعته ظهرت الشمس في أم رأسه تضيء العالم، وقال الشيخ زاهد في تأويل هذه الرؤيا: إن السيف
50 والشمس علامتان لظهور ملك قاهر من صلبك وإن هذا الملك سيضئ العالم قريبا. وجاء في كتاب تاريخ جهان آراء أن أمير جويان سلدوز أمير أمراء إيران خرج يوما للصيد إلى جبال طارم، وكان معه أحد أقاربه ويدعى داش تيمور، وكان داش تيمور يلاحق غزالا وهو راكب جواده، وإذا بجواده يهيج ويأخذ به إلى قمة الجبل، ومن هناك سقط داش تيمور والجواد إلى الأسفل. فجاء الأمير نحوهما فرأى الجواد مقتولا، ولكن داش تيمور حيا سليما، فسأله عن السبب فقال: بينما كنت قد فقدت أملي شاهدت الشيخ في الهواء وهو ماسك بثوبي فوضعني على الأرض. وهناك الكثير من هذه الأقوال. وكان الشيخ يتلو الآية الكريمة قل اللهم مالك (1) الموت اثني عشر ألف مرة يوميا. ولما شاهد الشيخ زاهد آثار الورع والكرامة في صاحبنا، زوجه ابنته فاطمة. وكلما أصر عليه في زمن حياته أن يتولى إرشاد الناس كان يرفض، إلى أن حان أجله، فسلمه سرير الهداية وكرسي ولاية العهد. فاحتج المغرضون على الشيخ زاهد بذلك وقالوا: لماذا تقلد منصب الارشاد إلى رجل آخر، بينما نجلك وولدك من صلبك وخلفك الصادق الشيخ جمال الدين علي موجودا وهو صاحب مكارم ومعاجز، فأراد الشيخ زاهد أن يزيل كل التباس وشبهة، وأن يختبر الاثنين، فقال: أين خلوة ابني؟ قالوا: في حريم الصومعة. وقال: أين خلوة صفي؟ قالوا: على مسافة نصف فرسخ. فقال: أنادي الاثنين لتشاهدوا مرتبة كل واحد منهما ومقامه. فنادى بصوت عال ثلاث مرات ابنه فلم يسمع جوابا. فنادى الشيخ الجليل فاجابه على الفور وقال: لبيك وسعديك يا شيخي ومرشدي، ووضع قدمه في الصومعة، فقال له الشيخ زاهد: أين كنت يا صفي؟ قال: كنت في خلوتي فسمعت نداء عذبا، فتوجهت نحوكم. فنظر الشيخ إلى القوم وقال: إن ما كنت أريده جمعه الحق سبحانه وتعالى في صفي، وليس في كمال الدين، وإني لم أخن أمانة ربي، ورددتها إلى صاحبها. وقد انتقل الشيخ زاهد إلى جوار ربه في سياورود كيلان في سنة سبعمائة من الهجرة النبوية الشريفة ودفن هناك. إن الشيخ صفي تربع على سرير الهداية والاشاد في يوم الخميس غرة شهر شعبان، واستمر في هذه المهمة الخطيرة خمسا وثلاثين عاما، أو أربعين عاما حسب بعض الأقوال، ولما ناهز الرابعة والثمانين من العمر أصيب بمرض في المثانة بسبب الضعف والاعتكاف، وكان هو في عالم الصوفية يداوي المرض بمختلف الأساليب الدينية وكان يفرح بها. إلى أن اضطجع في فراش الضعف والخوار، وكلما اشتد به المرض أسرع إلى المكان الذي هو الآن مرقده، وكان يرتاح فيه لبعض الوقت، وتأتي حليلته الجليلة وتأخذه إلى منزله، فكان يقول: خذوني إلى بيتي، فيقول له خادموه: إنك في منزلك، فيقول: إن منزلي الرئيسي هو هناك. وقد تكرر هذا الأمر عدة مرات، وعند ما وافته المنية أوصى مريديه وأصحابه وأولاده بدوام منهاج الشريعة المطهرة، وطريقة المشايخ، وبذل السفرة، وإطعام وإكرام الفقراء والمساكين، وفوض أمر إرشاد العباد إلى ولده السيد صدر الدين موسى. وتناول شربة الموت من ساق الأجل عند صلاة الصبح في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر محرم الحرام سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، وانتقل إلى جوار ربه، وكما تضرعت والتمست حليلته الجليلة إلى ربها انتقلت إلى جواره بعد ثمانية عشر يوما. وجاء في فتوحات الأميني. أن السيد جمال الدين الأصفهاني تولى تغسيله وتجهيزه حسب الوصية، وكان السلطان صدر الدين آنذاك في مدينة السلطانية، ودفن في المقام المعين المعروف حاليا القبة السوداء. وتصل سلسلة إرشاده وهدايته بعد اثني عشر واسطة إلى الامام الهمام علي بن موسى الرضا ع: الأول أبو العلا الشيخ تاج الدين إبراهيم زاهد الكيلاني، الثاني السيد جمال الدين التبريزي، الثالث الشيخ شهاب الدين محمد أهري، الرابع الشيخ قطب الدين الأبهري، الخامس الشيخ أبو نجيب السهروردي، السادس القاضي وجيه الدين، السابع الشيخ محمد الأسود، الثامن الشيخ محمد شاه الدنيوري، التاسع الشيخ أبو القاسم جنيد بن محمد النهاوندي المعروف بالبغدادي، العاشر الشيخ أبو الحسن السقطي. الحادي عشر الشيخ أبو حفص المعروف بفيروز الكرخي، الثاني عشر الامام الثامن علي بن موسى الرضا ع. إن أولاده الماجدين من السيدة فاطمة خاتون ابنة الشيخ زاهد هما ولدان: الأول الشيخ صدر الدين موسى، حيث ولد يوم عيد الفطر بعد صلاة الصبح في سنة أربع وستين وسبعمائة، بعد وفاة الشيخ زاهد بأربع سنوات. والثاني الشيخ أبو سعيد الذي كانت له هيبة خاصة، وابنة واحدة هي جميلة بيگم. وأولاده من زوجته الأخرى ابنة أخي سليمان الكلخواراني، هما ولدان: السيد علاء الدين، والسيد شرف الدين علي، وابنة واحدة وهي ستي عصمت بيگم، التي تزوجها الشيخ شمس الدين بن الشيخ زاهد، وأن ذرية الشيخ زاهد من هذه البنت. ولم يخلف أولاد السلطان صفي الدين إسحاق الثلاثة أعقابا عدا السيد صدر الدين. ويقول صاحب كتاب بحر الفوائد: إن السلطان صفي الدين إسحاق كان له ولدان آخران هما: السيد رفيع الدين منصور والسيد محيي الدين محمد من ابنة أخي سليمان الآنف الذكر. وكان وجهه الشريف أبيض يميل للحمرة، طويل القامة، بدين أسود العينين طويل الحاجبين، كث اللحية. السلطان صدر الدين موسى: كان منهمكا في إرشاد عباد الله في غاية الورع والصلاح والسداد، وجاء في فتوحات الأميني وصفوة الصفا وحبيب السير: أنه في اليوم الذي وقع فيه عقد الزواج بين ابنة الشيخ زاهد المحترمة وبين سلطان الأولياء، قام الشيخ زاهد في المجلس وأدى التحية للشخص الغائب. فسأله الحاضرون في المجلس، فأجاب الشيخ أن أولاد صفي الدين وهم أحفادي قد تجسدوا أمام ناظري وبرز بينهم محظوظا من سيكون خليفتي وخليفة صفي، فسلمت عليه. وبعد أن ولد ذلك المحظوظ السعيد نادى سلطان الأولياء، أرباب الارشاد وأصحاب الاخلاص بان هذا الدر الكريم هو ذلك الطفل السعيد، الذي قام الشيخ زاهد في مجلس عقد الزواج وأدى التحية له. وقد اكتسب وتتلمذ ذلك السعيد بين يدي والده وتلقى الفضيلة والكمال. ويقول صاحب كتاب نفحات الأنس في منقبة السيد قاسم الأنوار: إنه لم يعرف ما إذا كان أحد سيبلغ في المرتبة والمقام، مرتبة السيد قاسم الأنوار، في المعالم بعد الأئمة الأطهار ع. وكان الشيخ صدر الدين الأردبيلي قد منحه لقب أنوار وأن السبب في منحه هذا اللقب جاء في كتاب فتوحات أميني
(1) هكذا أورد الكاتب الآية. 51 الهروي: أنه في الليلة التي رأى السيد قاسم أنوار قدس سره حلما بأنه واقف بين قبة مسجد جامع أردبيل الكبيرة وفي يده شمعة كبيرة، وأن الناس بيد كل واحد منهم شمعة يوقدها من شمعة السيد. فقال في تأويل هذه الرؤيا: إن الطالبين سينالون حصة وافية من الأنوار التي فاضت عليك من المبدأ الفياض، وإن اسمك سيكون قاسم الأنوار. وقد اعتلى كرسي الارشاد بعد وفاة والده، وإن أصحابه زادوا وكثروا. وقدم جانى بيك خان حاكم سهل قيجاق إلى آذربيجان قادما من باب الأبواب في شيروان للقضاء على الملك أشرف، وتشرف لدى السلطان صدر الدين، وشاهد عن قرب حالاته ومقالاته، ومد إليه يد الاخلاص، وحصص عوائد الأملاك والعقارات والضياع، التي كانت في ولاية أردبيل ودار المرز وهفان وغير ذلك مما للسلطان صدر الدين. ولما كثر أصحاب السلطان ومريدوه خصص له بقعة مباركة هي اليوم مطاف طوائف الناس، وبنى قبة مرقد سلطان الأولياء المبارك، ودار الحفاظ وملحقاتها من ماله وثروته الخاصة. وبعد أن أمضى تسعين عاما في الارشاد والتشريع ومعرفة الله، انتقل إلى دار البقاء بجوار ربه، وخلفه ابنه الكريم السلطان خواجة علي، الذي كان قد تلقى الفضيلة والكمال على يد والده. ودفن جثمان والده الطاهر تحت قبة سلطان الأولياء. وكان للسلطان صدر الدين ثلاثة أولاد من الذكور وهم: السلطان خواجة علي المعروف ب سياه پوش والشيخ شهاب الدين الذي لم يخلف أحدا، والشيخ جمال الدين الذي له ابنة اسمها خان زاده باشا، تزوجها، الشيخ إبراهيم المعروف بالشيخ شاه. ويعتقد البعض أن السلطان صدر الدين كان له أربعة أولاد ذكور وهم الثلاثة الآنفو الذكر والرابع خواجة عبد المحسن. السلطان خواجة علي المعروف ب سياه يوش: سلك طريق آبائه في الجهاد، ونكران الذات والتزكية وتصفية الباطن، وكان ينظم الأشعار جيدا، وكان تخلصه علي. ويذكر أن الملك صاحب قران الأمير تيمور الكوركاني شاهد حالات عجيبة منه، ويتجلى حسن إخلاصه وولائه واعتقاده لسيدنا من وثيقة الوقف، التي ختمها بختم آل تمغا، وشاهدتها أنا الكثير التقصير المحتاج إلى الله الودود، مختومة بختم تيموري وحررت في سنة ثمانمائة وستة، أضيفت إلى أوقاف عتبة سلطان الأولياء المقدسة: وهذا نصها: الشكر الجزيل لله سبحانه تعالى، جلت عظمته، وعلت كلمته، الذي أشرق وأضاء نور الشمس من قلوب أصدقائه الأوفياء، وانتشر فيضه على الأبدال والأوتاد، ليهدي به العالم والعالمين، ويكشف لهم الحقائق والمعاني: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم السورة 57 الآية 21. والصلاة والسلام على الروح الطاهرة، والعاقبة المحمودة، الذي تجتمع فيه جميع كمالات مكارم الأخلاق من الباري الخلاق، من حيث الاطلاق إلى يوم التلاق، وعليه من الصلوات أزكاها، ومن التحيات أنماها، على آله وأولاده الطاهرين أجمعين، والحمد لله رب العالمين: محمد المصطفى، وعلي المرتضى، والحسن والحسين، نسله الإمام زين العابدين ، نسله الإمام محمد الباقر، نسله الإمام جعفر الصادق، نسله الإمام موسى الكاظم، نسله سيدنا الحق والهادي المطلق أبو القاسم حمزة، نسله السيد قاسم، نسله السيد محمد الأعرابي، نسله السيد احمد، نسله السيد عوض الخواص، نسله السيد محمد، نسله السيد جعفر، نسله السيد إبراهيم، نسله السيد محمد، نسله السيد حسن، نسله السيد محمد، نسله السيد شرفشاه، نسله السيد فيروز، نسله السيد إسماعيل، نسله السيد محمد، نسله السيد قطب الدين، نسله السيد صلاح الدين رشيد، نسله السيد صالح، نسله السيد جبرئيل، نسله السيد الحق المعروف بالشيخ صفي الدين، نسله السيد صدر الدين موسى، نسله سلطان العارفين وبرهان السالكين السيد خواجة علي. ويقال: إن سيدنا اجتمع بالأمير تيمور الكوركاني ثلاث مرات نوعيا ومثاليا. الأولى عند ما كان يعبر نهر جيحون للهجوم على خراسان، فقد وقع سوطه في الماء فظهر عليه شخص نير أخرج سوطه من الماء وسلمه إياه، وتفاءل الأمير تيمور بهذا الأمر خيرا، وسال سيدنا عن حاله فقال: موطني في أردبيل، ومكان ظهوري في دزفول، ومدفني سيكون في قدس الخليل. وفي المرة الثانية عند ما كان الأمير تيمور يستعد لاحتلال خوزستان قادما من بغداد، ظهر عليه شخص نير مرتديا ملابسا سوداء، فوق جسر نهر دزفول وقال: أنا ذلك الشخص الذي سلمتك السوط على ضفة نهر جيحون. وموعدنا في اللقاء القادم سيكون في مدينة أردبيل. وبعد مرور عدة أعوام وبينما كان الأمير تيمور في طريق عودته من الروم، وكان معه عدد كبير من الأسرى الأتراك حيث وصل إلى دار الارشاد. سمع أوصاف الشيخ صفي الدين إسحاق فذهب لزيارة مرقده الشريف. وبعد الانتهاء من عملية الطواف، قام بتفقد أحوال العاكفين في ذلك المقام، فأبلغوه عن أحوال السلطان خواجة علي، فتوجه إلى ذلك المقام مكان اختلائه، فكان سيدنا جالسا على سجادة العبادة. فأخبروه عن مجيء الأمير تيمور، فلم يلتفت إلى ذلك مستمرا في العبادة والدعاء، حتى دخل عليه الأمير تيمور فسلم عليه ورد عليه السلام، وطلب منه الجلوس وأمره بحسن معاملة خلق الله، ووجه له بعض الموعظة والنصح. وكان الأمير تيمور قد شرط على نفسه ثلاثة أمور، ووعد نفسه بأنه سيمد يد الاخلاص نحو سيدنا إذا عرف هذه الأمور الثلاثة وأبرزها، فكان الحال كذلك. الأول: أن سيدنا لا ينهض من مكانه بعد دخول الأمير تيمور عليه. والثاني: أن يحضر للأمير تيمور شيئا لم يتعود عليه في حياته. والثالث: أن يقدم الأمير تيمور لسيدنا كأسا من السم ويشربه دون أي تريث ولا يؤثر فيه، ولما دخل الأمير تيمور على سيدنا أشار سيدنا عليه بالنصح والموعظة دون أن يلتفت إلى أمور أخرى. وبعدها أمر بان يسقوه من لبن الغزال ويطعموه الخبز. فلما رأى الأمير تيمور هاتين الحالتين. خجل أن يكلفه بالأمر الثالث. فقال له سيدنا لقد بقي العقد الثالث، فما هو سبب عدم القيام به؟ فأعطى سيدنا الأمير تيمور كأسا، فخجل الملك القدير، ولكن سكب السم في الكاس فتناوله الأسد السعيد، ومصدر الكرامة والاجلال مرة واحدة في الحال، فانتابته حالة من السرور، ومن ثم عصر من خلال ثوبه جميع ما كان قد شربه في كأس ووضعه على الأرض أمام الأمير تيمور. وهنا مد الأمير تيمور يد الالتماس إلى ساحة سيدنا واستدعى منه أن يطلب منه شيئا، وما كان يدري ويعلم أن ملوك عالم الفقر والمعنى لا يطلبون من ملوك عالم الصورة ولا يحتاجون إليهم. وبعد الالحاح الكثير طلب منه الافراج عن الأسرى الأتراك. واستجاب الأمير تيمور لهذا الطلب وعفا عنهم جميعهم. ثم اشترى في ولاية أردبيل
52 وضواحيها وآذربيجان والعراق قرى ومزارع من ماله، وأوقفها على البقعة المباركة حيث كان دخلها السنوي ما يقارب الأربعة الآلاف تومان. وقد اشتهرت بأوقاف الأمير تيمور القديمة وقد يشرف عليها إلى يوم القيامة السلاطين الصفوية أدام الله اقبالهم. هذا عدا أوقاف السلاطين الصفوية العليين، التي يبلغ دخلها السنوي ألفي تومان مخصصة للإضاءة ورواتب الخذمة والنفقات الأخرى. ولما بدت علائم الوصول إلى الكعبة المنشودة، أجلس نجله الكريم السيد إبراهيم على كرسي ارشاد وفارق الحياة في يوم الثلاثاء الثامن عشر من شهر رجب سنة ثمانمائة وثلاثين، ودفن في تلك الأرض المقدسة. وكان له من الأولاد ثلاثة وهم: الشيخ إبراهيم، والشيخ عبد الرحمن، والسيد جعفر. السلطان السيد إبراهيم: وكان قد اشتهر بين أعوانه ومريديه بالشيخ شاه، واهتم حسب تعاليم آبائه وأجداده بارشاد خلق الله وهدايتهم. ولما استولى عليه المرض أمر نجله الكريم السلطان جنيد بارشاد الناس وهدايتهم، وانتقل إلى جوار رحمة ربه في يوم السبت من سنة ثمانمائة وواحد وخمسين، ودفن بجوار آبائه العظام. وكان له من الأولاد الذكور ستة وهم: قطب الأبدال والأوتاد الشيخ جنيد، والشيخ أبو سعيد، والسيد أحمد، والشيخ بايزيد، وخواجة جان ميرزا، والشيخ خواجكى. السلطان جنيد: وما أن اعتلى كرسي السيادة والديانة وإرشاد الناس حتى تداعى عليه أن ينصب نفسه ملكا وسلطانا. فتهافت إلى عتبته العلية أرباب الاخلاص من كل صوب وحدب. فبلغت أخبار السلطان جنيد وما يتمتع به من الحشمة والإمكانيات وعدد الأنصار والموالين إلى أسماع ميرزا جهانشاه تركمان ملك زمانه وحاكم آذربيجان والعراقين، فخاف على نفسه، وكان يرسل باستمرار أناسا إلى سيدنا ويلمح له بامكانه أن يسافر إلى أي مكان يرتئيه. فما كان على سيدنا إلا أن يختار مدينة ديار بكر فتوجه إليها. وكان يرافقه في هذا السفر عدد من الصوفيين وبعض من يؤمن بالأسرة الصفوية. وكان يحكم نصف مدينة ديار بكر آنذاك الأمير الكبير أبو النصر حسن بيك آق قوينلو، ولم يكن يخضع لحكم ميرزا جهانشاه. فلما بلغه بشرى وصول موكب السلطان جنيد السعيد غمرته الفرحة والسرور، ورحب بسيدنا خير ترحيب، وزاد في تكريمه وإعزازه، وعين كلا من الأمراء والأشراف والأعيان من الصوفية بما يليق به من منصب ومكان. وأخيرا انتهت الوحدة والصداقة بينهما إلى المصاهرة حيث زوج شقيقته الشريفة خديجة بيگم لسيدنا وبهذا زاد في صيت دولته. وأقام السلطان جنيد في تلك الديار فترة من الزمن وبعد مدة اشتاق لوطنه فاستأذن حسن بيك وتوجه عائدا إلى دار الارشاد. ومرة أخرى التهبت نار الغيرة في صدر ميرزا جهانشاه وتبادل معه الرسل والرسائل. فاختار ثواب الجهاد وتوجه ومعه عشرة آلاف من الجنود الصوفية إلى شيروان لمحاربة الجركس. وعلى أي تقدير وبتحريض من طغاة طبرسران حاول والي الولاية السلطان خليل منعه من التوجه نحو الجركس. فوقع حرب بينه وبين السلطان جنيد، فاستشهد سيدنا على أيدي جند شيروانشاه. وجاء في كتاب فتوحات الأميني: أن الصوفية من الصفويين نقلوا جثمان سيدنا الشريف إلى دار الارشاد في أردبيل ودفنوه في الروضة المقدسة. وكتب إسكندر بيك المنشي في كتاب تاريخ عالم آرا أن جمعا من أهالي طبرسران الموالين لهذه العائلة أخرجوا جثمانه الطاهر من أرض المعركة ودفنوه في قرية خودمان من ضواحي قبه وساليان في مكان مناسب، وهو الآن مهبط أنوار الفيض والرحمة ومطاف أهالي الولاية. وقد يكون كذلك أي دفنوه أولا في هذا المكان، ثم نقلوا جثمانه بعد ذلك إلى مدينة أردبيل. والله أعلم. وكان لهذا الأمير الذائع الصيت ولدان: أحدهما السلطان حيدر وهو ابن أخت حسن ملك التركمان، والآخر، خواجة محمد، وكانت والدته جارية كان قد جاء بها من غزوة الجركس. السلطان حيدر: كان يسلك حسب تعاليم آبائه وأجداده وأن الملك حسن بن علي باشا بن قرا عثمان باشا الذي تمكن بحسن حظه أن يقضي على ميرزا جهانشاه، واعتلى كرسي الحكم، عامل سيدنا معاملة مخلصة وشعبية، ولما كان قد عزم على تعزيز وتثبيت علاقاته مع القادم الجديد زوجه ابنته حليمة بيگم المعروفة بعلم شاه بيگم، في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شهر رجب سنة اثنين وتسعين وثمانمائة، وكانت عتبته دائما مكان اجتماع الخاص والعام، إلى أن رأى ليلة في المنام أنه كلف من عالم الغيب أن يصنع تاجا ذا اثني عشر ضلعا وهي علامة الاثني عشرية، من السقرلاط الأحمر، وأن يأمر أنصاره بوضعه على رؤوسهم. فلما شاهد السلطان حيدر هذا الحال رمى بقبعته إلى السماء فرحا، وبدل طاقية الأتراك التي كانت متعارفة ومعمولة في ذلك الزمن إلى تاج حيدري ذي اثني عشر ضلعا، واشتهروا لذلك بالقزلباش. وازدادت يوما بعد يوم حشمتهم وصيتهم وسيادتهم، كما زاد توافد أهل الوفاء والاخلاص نحوهم أكثر من ذي قبل. وتمتع جميع الناس من فوائد فضائلهم ونعمهم. إلى أن جمع بين السلطة الصورية والمعنوية بايعاز من مشايخ أهل الله في الباطن، وطلبا لكرسي السيادة حسب الظاهر. وكان الأمير الكبير الملك حسن يعامل جميع أنصار العتبة الحيدرية بالوفاق والوداد وكان معارضا لكل أمر لا يرتضيه ابن أخته وصهره. وقضى أياما بالعز والسؤدد إلى أن وافته المنية، وحسب ما يقول مولانا أبو بكر صاحب كتاب تاريخ سلاطين التركمان: إن الأمير حسن بيك ودع سرير الحكم في سنة ثمانمائة وثمانين، وكان له من الأولاد سبعة هم: أغورلو محمد سلطان، ومقصود سلطان، وزنيل سلطان، وخليل سلطان، ويعقوب سلطان، ويوسف سلطان، ومسيح سلطان. وقد توفي أغورلو محمد في حياة والده، وكان يوسف سلطان ومسيح سلطان في خدمة أخيهما يعقوب سلطان، وتولى السلطة السلطان خليل، ومن بعده السلطان يعقوب. واستشار السلطان حيدر وابن خاله السلطان يعقوب، استشارا أنصار السلالة الصفوية، وانتهت المشورة بالتوجه نحو داغستان حيث كان سكانها بعيدين عن حلية الايمان. فأرسلا الرسل إلى الصوفيين الأوفياء والملازمين المخلصين، فتوجهوا أفواجا أفواجا نحن سرادق العزة والجلال. فرفع سيدنا راية التوجه نحو الهدف، فما كان لصيت جيش سيدنا إلا أن أوقع الخوف والارتباك في شيروانشاه بن السلطان خليل، حيث تصور أن السلطان حيدر يعتزم الهجوم
53 على مدينة شيروان طالبا ثار والده، فما كان عليه إلا أن يدخل مع سيدنا مدخل الكيد والنفاق، فأرسل مندوبا إلى صهره السلطان يعقوب وأعلن أنه بالرغم من أن السلطان حيدر ينوي احتلال الجركس لكن قد يعتزم التوجه نحو شيروان إذا وصل إلى حوالي دربند وطبرسران ولا يحتل أي أرض، فعليك أن تجند جيشا قويا. فلما بلغ هذا الخبر إلى السلطان يعقوب، أرسل سليمان بيجن أوغلي ومعه أربعة آلاف فارس من التركمان لمساعدة شيروان شاه، ففرح شيروان شاه من وصول المساعدة التي أرسلها السلطان يعقوب، وكان العسكران من شيروان والتركمان قد شكلا اجتماعا عظيما بالقرب من شماخي إلا أن السلطان حيدر توجه إلى تلك الديار ومعه جنده الغزاة عبر طريق شكى مارا بقلعة دربند، إلا أن أهالي تلك المنطقة استخدموا أسلوب العناد واعتدوا على عسكر السلطان حيدر، مما دفع سيدنا بالايعاز إلى جنده الغزاة باحتلال القلعة والمدينة، وتأديب الأهالي الضالين، ففي مدة قصيرة اهتزت أركان ذلك الحصن الحصين واقترب فتحه واحتلاله، وهنا وصل قرابيري قاجار من الخلف على رأس جيشه، ووصلت الأخبار أن فوجا من جيش التركمان عبر النهر، وأن شيروان الملك التحق بهم مع عسكر شيروان لمحاربة عسكر سيدنا المنصور وتواردت الأنباء عن وصول تلك المجموعة، مما اضطر السلطان حيدر للانسحاب من القلعة والاستعداد لمواجهة تلك الفرقة الخائنة، وقد اشتبك العسكران بالقرب من طبرسران، وخلال هذه المعركة حاول سليمان بيجن أوغلي مع فوج من أبطال القتال محاربة سيدنا السلطان الغازي. فتولى السلطان حيدر بنفسه قيادة الحرب، فضربه بالسهم وألقاه على الأرض من على ظهر الجواد، واكتفى بذلك ولم يقتله. فعاد سليمان بيجن أوغلي وركب حصانه وسال سيدنا عن سبب الامتناع من قتله، فأجاب أن أجله لم يأت بعد، وأن أجلي قد حان وانتهى عمري وسأستشهد في هذه المعركة. فخلال المعركة انطلق سهم وأصاب سيدنا وأرداه قتيلا، ودفن جثمانه الشريف في طبرسران. وفي المرة الثانية التي توجه فيها الخاقان لتأديب الشيخ شاه إلى شيروان، كان قد مضى على حادث السلطان حيدر اثنان وعشرون سنة، فاخرجوا الجثمان من ذلك المكان ونقلوه إلى دار الارشاد في مدينة أردبيل ودفنوه إلى جانب قبور أجداده الكبار المباركة. وكان ذلك في شهر شعبان اثنان أو ثلاثة وتسعين بعد الثمانمائة. ويقول كاتب حبيب السير وتاريخ جهان آرا والفتوحات: كان لسيدنا ثلاثة أولاد من زوجته السمحاء ابنة حسن الملك وهم: السلطان علي ميرزا المعروف بالسلطان علي بادشاه، وإسماعيل ميرزا، وسيد إبراهيم ميرزا، ويقول حسن بيك صاحب كتاب أحسن التواريخ وكتاب بحر الفوائد: إن السيد محمد ميرزا والسيد سليمان ميرزا والسيد حسن ميرزا والسيد داود ميرزا هم أولاد السلطان حيدر أيضا، ولم يذكر اسم السيد إبراهيم بين أولاده. ذكر أحوال علي بادشاه بن السلطان حيدر: الأخ الرشيد للنواب الخاقان صاحب القران الملك إسماعيل عند ما سمع الصوفيون السعداء من أنصار هذه العائلة التي يعتبر أفرادها من الفاتحين لدولة الاخلاص والوفاء، عند ما سمعوا حياة وبقاء أولاد ذلك السلطان العظيم الشأن، أخذوا يتهافتون على دار الارشاد في أردبيل يوما بعد يوم، لتجديد البيعة وإعداد وسائل الحرب والغزو. إلا أن أصحاب العناد واللجاج أبلغوا السلطان يعقوب بهذا الحدث، وأطلعوه أن نجل السلطان حيدر قد تربع على كرسي الارشاد بأمر من والده، وأن الصوفية من الصفوية توحدوا وتجمعوا، وأن راية دولته سترتفع شاهقة قريبا. وتأسف السلطان يعقوب من هذا الحادث وتذكر قرابة وحياء شقيقته المعظمة حليمة بيگم، فأرسل أحد الأمراء البارزين مع مجموعة من التركمان إلى أردبيل ليقنعوا سيدنا ويأخذوه إلى قلعة أصطخر في فارس، ويسلموه إلى منصور بيك برناك حاكم تلك الديار. ولما وصلت الجماعة المذكورة إلى مدينة أردبيل، توكل السلطان علي بادشاه على الخالق القدير وتوجه إلى أصطخر برفقة والدته المحترمة وإخوته الكرام، وفي أحد الأشهر من سنة ست وتسعين بعد الثمانمائة دخل إلى القلعة وقضى هناك فترة من الزمن، وكان منصور بيك برناك يقوم بواجبه نحو السلطان علي وحاشيته خير قيام، إلى أن فارق السلطان يعقوب الحياة، وانقسم أمراء التركمان إلى مجموعتين: اتفقت مجموعة على حكومة أخيه مسيح ميرزا، واتفقت المجموعة الثانية على جلوس بايسنقر واستشهد مسيح ميرزا في هذه المعركة، وجلس ميرزا بايسنقر على العرش. وقرر أصحاب عم رستم ميرزا بن مقصود ميرزا بن الملك المرحوم حسن بيك وهم من أنصار مسيح ميرزا اعتقاله وإرساله إلى قلعة النجق، وتسليمه إلى فرقة السيد علي مسؤول القلعة. فلما مضى على ذلك بعض الوقت توجه آيبه سلطان إلى قلعة النجق وجمع أفراد السيد حوله وأخرجوا رستم ميرزا من تلك القلعة، واختاروه ملكا كما تجمع حولهم أناس كثيرون، واقترحوا التوجه إلى تبريز ومحاربة بايسنقر ميرزا، إلى أن وصلوا إلى ضفاف نهر أرس وأقاموا هناك. وخرج ميرزا بايسنقر من تبريز للقضاء على الفتنة، ولما وصل إلى مدينة مرند أرسل بعض أفراده إلى جانب رستم ميرزا للتقصي، ولكنهم لم يكونوا مخلصين فالتحقوا برستم ميرزا، فوقعت الفرقة بين أفراد جيش ميرزا بايسنقر مما تعذر عليه ضبطهم. واضطر إلى ترك أعباء وأحمال وأثقال الملك، وتوجه مع عدد قليل من حاشيته نحو خاله شيروان شاه عبر طريق أهر، قراجه داع، وكان المنتصر ميرزا رستم فدخل مدينة تبريز مظفرا منصورا وجلس على العرش. إلا أن شيروان شاه أقدم على مساعدة ابن شقيقته وصهره وكان يهئ الأمر لإعادة ميرزا بايسنقر إلى الحكم. وكان ميرزا رستم أيضا يفكر في مصير نفسه واستشار الأمراء وكبار حاشيته فقرر في النهاية استدعاء كوكب سماء الخلافة سيدنا السلطان علي بادشاه من قلعة أصطخر وإرساله إلى شيروان طالبا ثار جده ووالده، وأيا كان الغالب والمغلوب فقد حصل هو على المراد الظاهري والباطني، فخرج السلطان علي بادشاه من قلعة أصطخر في سنة تسع وتسعين بعد الثمانمائة، وكانت مدة إقامته في قلعة أصطخر أربعة أعوام وستة أشهر، ودخل مدينة تبريز بالاعزاز والاكرام ورحب به رستم ميرزا وضمه إلى صدره، كما توجه نحوه الصوفيون المخلصون الذين كانوا قد ذهبوا إلى كل صوب وحدب، وازدادت الجماعة المخلصة الوفية حوله، إلا أن الأخبار تواترت عن توجه بايسنقر ميرزا على رأس عسكر شيروان نحو آذربيجان، فسمع بذلك رستم ميرزا وأرسل السلطان علي بادشاه مع آيبه سلطان وأفواج من عساكر التركمان لمحاربة بايسنقر والشيروانيين. فوصلوا إلى
54 ساحل نهر ارس ونصبوا خيامهم هناك، وأقاموا الجسور على جانبي النهر وأغلقوا الطرق، ولم يكتب لأي من الجانبين النصر والفوز، فأقام الجانبان فترة من الزمن وأخيرا عاد بايسنقر إلى شيروان، وعاد السلطان علي بادشاه وآيبه سلطان إلى تبريز. في غضون ذلك تمرد الحاجي بايندر حاكم أصفهان على رستم ميرزا فقرأ الخطبة باسم بايسنقر. مما دفع ببايسنقر للتوجه إلى آذربيجان مرة أخرى على رأس جيش كبير. فأرسل الأمير رستم ميرزا مرة أخرى السلطان علي ميرزا ومعه آيبه سلطان وأفواجا من عساكر الصوفية والتركمان لمواجهة بايسنقر. فالتقى الجيشان بالقرب من اهر ومشكين، ودارت الحرب بين الفريقين، فكانت الهزيمة للبايسنقريين وقتل بايسنقر وعاد السلطان علي ميرزا مظفرا منصورا إلى مدينة تبريز، فرحب به الأمير رستم خير ترحيب، ثم أرسل سيدنا إلى أردبيل حيث جلس سيدنا على كرسي الهداية والارشاد. وما أن سمع رستم ميرزا باجتماع الصوفيين المخلصين حول السلطان علي ميرزا حتى اشتعلت نار الحسد في ضميره واستدعى سيدنا مع إخوته إلى تبريز، وأمر جماعة من حاشيته بمراقبتهم وعدم السماح للصوفيين بالاجتماع بهم، ولكن الاجتماع بهم سرا كان في ازدياد. فلما علم ميرزا رستم بذلك فكر في أحوال أولاد السلطان حيدر مليا وانتهى التفكير به إلى القضاء على سيدنا. ولكن أحد أفراد ميرزا رستم أبلغ سيدنا بما يكيد لهم ميرزا رستم، فانتهى بهم الأمر لأن يغادروا تبريز في إحدى الليالي راكبين نحو أردبيل. فلما سمع ميرزا رستم بذلك أرسل آيبه سلطان ومعه أربعة آلاف راكب لملاحقة السلطان الجليل، فوصل إلى سيدنا بالقرب من شماسبي وهي منطقة قريبة من أردبيل. ويقال: إن عدد حاشية السلطان علي ميرزا آنذاك كان لا يتجاوز السبعمائة شخص. ولم يكن بمقدور هذا الفوج القليل الوقوف بوجه تلك الجماعة الكثيرة، فما كان عليهم إلا أن يتدبروا الأمر ويبحثوا عن مفر لهم. ولما كان سيدنا قد أدرك بنور ولايته، موعد استشهاده قرر تعيين أخيه إسماعيل ميرزا الذي كانت تتلألأ أنوار الملك على ناصيته وليا للعهد ونائبا عنه، فسلمه رموز وأسرار الأسرة في الارشاد التي كان قد ورثها عن أبيه العظيم الشأن وأجداده الكرام، ووضع تاجه الكريم على رأس أخيه وسلمه إلى كبار الحاشية وأوصاهم به وقال: إن سراج الملك في هذه العائلة سيبقى مضيئا بواسطتك. وبعد هذه الوصية خاض المعركة وكان أن انتصر المعارضون في النهاية ووقع سيدنا شهيدا. وبعد هذه الواقعة حصلت الفرقة بين أصحاب الرأي وتناثر كل واحد إلى صوب. إلا أن حسين بيك خادم شاملو وخليفة الخلفاء الذي كان قد عرف آنذاك بخادم بيك ومعه دده بيك نقلوا جثمانه الطاهر إلى دار الارشاد في أردبيل، ودفنوه في الحظيرة المباركة المنورة الصفية الصفوية. رحمه الله تعالى. الشاه إسماعيل إن الأول في سلسلة سلالة السلاطين المشهورين المظفرين هو النواب الخاقان السليمان الشأن صاحب القران الشاه إسماعيل روح الله روحه. ولما كانت العناية الأزلية وإرادة واهب العطيات قد وعدت باستجابة دعاء، واستدعاء سماحة سلطان الأولياء، وبرهان الأصفياء في صومعة عارف المعارف الربانية الشيخ زاهد الكيلاني، وكان قد طلب من العلي المنان السلطة الدنيوية والأخروية كما ذكرنا سابقا وما كان مقصوده السلطة الصورية والحكم والمال، بل كان مقصوده السلطة المعنوية، والسعادة، ورواج مذهب الأئمة الاثني عشر، وكلمة علي ولي الله الطيبة، واستخلاص الشيعة الإمامية الناجية، وأنصار وأصحاب الإمام علي من بلية التقية، ولما كانت الحكمة الربانية البالغة والقدرة الإلهية الكاملة قد قررت وقدرت ظهور كل ملة ودولة في وقت معين من الزمان، فقد بزغ شمس السلطة العظمى من مطلع المراد، في أشرف الأوقات وأسعد الساعات، وولد ذلك الدر الكريم من الصدفة الكريمة علمشاه بيگم ابنة حسن ملك التركمان بتاريخ يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شهر رجب سنة اثنين وتسعين بعد الثمانمائة وكان قد مضى على وفاة الملك حسن المذكور عشر سنوات في طالع العقرب في دار الارشاد بأردبيل بتأييد من الرب الجليل. وكانت كنيته الشريفة أبو المظفر واشتهر بعد العروج إلى معارج السلطة والحكم بصاحب القران، ولما أن بلغ السادسة من العمر، انتخبه أخوه الكريم الشاه سلطان علي قبل يوم واحد من استشهاده وليا للعهد، وسلمه ودائع الارشاد وأسرار أمانة أجداده الكرام. وفي اليوم الثاني فاز سيدنا بشرف الشهادة، وما كان على الصوفيين المخلصين الأوفياء إلا أن يخفوا كوكب الولاية عن أنظار الحاقدين، وجاءوا به إلى المدينة وأخفوه. وبعد مرور أربعين يوما رأوا من الأفضل عدم البقاء في مدينة أردبيل واستشاروا والدته المحترمة ففضلت التوجه نحو كيلان. وفي سنة ثمان وتسعين وثمانمائة توقف بصحبة أخيه الكريم السيد إبراهيم ميرزا في بلدة رشت، وكان واليها آنذاك الأمير إسحاق، حيث قدم الخدمة اللازمة، ومن ثم توجه إلى منطقة لاهيجان حيث قدم واليها كاركيا ميرزا علي الخدمة اللازمة أيضا. وبعد مدة اشتاق السيد إبراهيم لرؤية والدته الماجدة فتوجه إلى مدينة أردبيل، تاركا سيدنا مع جمع من الخواص والحاشية هناك منتظرا اللطيفة الغيبية. وكان سيدنا الشريف يبلغ من العمر آنذاك سبع سنوات. وكانت إقامة سيدنا في كيلان خمس أو سبع سنوات. وفي سنة تسعمائة وخمس وكان سيدنا آنذاك يبلغ من العمر اثني عشر عاما توجه إلى مدينة آستارا وأقام فيها فصل الشتاء. ولما أن بلغه خبر التمرد في ضياع التركمان اقتضت الضرورة أن يتوجه نحو آذربيجان. إلا أن كاركيا ميرزا علي التمس إليه مخلصا بان يمكث هناك أياما معدودات، ليزداد عدد الأصحاب الأوفياء المخلصين. فمكث أياما معدودة. وفي اليوم الأول من شهر جمادى الثانية سنة تسعمائة وست وبقوة ومن يتوكل على الله فهو حسبه ودع كاركيا ميرزا علي وتوجه مع عدد من أفراد حاشيته إلى دار الارشاد في أردبيل. وكان لسيدنا من الأولاد الذكور ستة وهم: الأول طهماسب ميرزا، والثاني سام ميرزا الذي ولد في مدينة مراغة بتاريخ يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر شعبان سنة تسعمائة وثلاث عشرة وكان درمش خان خادمه الخاص، والثالث رستم ميرزا الذي ولد بتاريخ يوم الجمعة السادس
55 والعشرين من شهر شعبان من السنة المذكورة في الكاء من ضواحي مدينة مراغة. والرابع أبو الفتح بهرام ميرزا الذي ولد بتاريخ يوم الجمعة السابع عشر من شهر شوال سنة تسعمائة وست وعشرين، وتوفي بتاريخ ليلة الجمعة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك سنة تسعمائة وست وخمسين، في قلعة قهقهة، وكان عمره الشريف ثلاثين عاما، وكان له ولدان هما: السلطان إبراهيم ميرزا، والسلطان بديع الزمان ميرزا. والخامس القاس ميرزا، والسادس السلطان حسين ميرزا، ولم تتوفر معلومات عن حالهما. وكان لسيدنا ست عشرة بنتا وهن: مهر بانو سلطان بيگم التي كانت قد ولدت بتاريخ سنة تسعمائة وخمس وعشرين، بريخان بيگم خانم، وفرح انكيز بيگم خانم، وشاه زينت بيگم خانم، ولم تتوفر معلومات عن أحوالهن، وخانش خانم بيگم التي توفيت بتاريخ التاسع عشر من سنة تسعمائة وواحد وسبعين في مدينة قزوين. ولم تتوفر أسماء إحدى عشرة منهن. أما أحدث الآثار والأبنية التي بناها فهي العمارة والقبة العالية وجهار باع والعمارات والبساتين الأخرى، ومقبرة سيدنا المعظم والمكرم سهل بن علي عليه التحية والثناء والقبة العالية على مقبرة أخيه الكريم السيد نظام الدين أحمد في قرية أوجان فارس والقرية المذكورة قد وقفها على مقبرة أخيه. وأربعة أسواق أطراف الساحة القديمة في أصفهان وتعريض الساحة المذكورة. وكان تاريخ ولادته الكريم يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شهر رجب سنة ثمانمائة واثنين وتسعين. وبداية حكمه في سنة تسعمائة وست، ومدة حكمه أربع وعشرون سنة، وكان نقش خاتمه ومسكوكه غلام شاه مردانست إسماعيل بن حيدر وقد انتقل إلى عالم البقاء بتاريخ يوم الاثنين التاسع عشر من شهر رجب سنة تسعمائة وثلاثين، وكانت أيام عمره الشريف ثمانية وثلاثين عاما. أحداث فترة الحكم يونت ئيل تسعمائة وست، السنة الأولى للجلوس: عام الحصان يوم النوروز الأربعاء العاشر من شهر شعبان كان النواب الخاقان صاحب القران قد غادر ديلمان من مدن كيلان مع سبعة من حاشيته وبعد توديع كاركيا ميرزا علي نزل في أرجوان بالقرب من آستارا لقضاء فصل الشتاء وأخذ بتدبير الأمور، وفي بداية فصل الربيع غادرها إلى أردبيل دار الارشاد، وحظي بزيارة آبائه العظام ووالدته وأخوانه ملتمسا العون من بواطنهم القدسية، ومن ثم توجه إلى قراباع حيث كان في استقباله السلطان حسين الباراني من أحفاد ميرزا جهانشاه وتوجها معا إلى تشخور سعد. وانضم إليهما قراجه داع إلياس روملو مع فوج من أصحاب الاخلاص من الصوفيين والمعتقدين والموالين، نالوا شرف الاصطحاب، ثم توجهوا جميعا نحو المصيف في الغابة. ومن هناك أوفد حمزة بيك فتح أغلي استاجلو إلى أويماق استاجلو، حيث قدم للترحاب بهم خان محمد خان استاجلو مع جميع أمناء أويماق. وقد أمضى جلالته فترة من الزمن في المصيف ثم توجه نحو آذربيجان. ولما أن انتشر خبر قدوم موكبه الميمون بين المخلصين وأصحاب الوفاء، تهافتوا من ديار الروم والشام وديار بكر وذو القدر وبقية المدن أفواجا أفواجا لتقبيل قدميه، والاعراب عن الولاء والوفاء. ويذكر أن درجة ومدى إخلاص ووفاء وعقيدة صوفيي ذي القدر كانت لجلالته إلى حد أن أحدهم ترك زوجته وعروسه دون أن يدخل عليها وتوجه صوب جلالته، وأن أويماق استاجلو استدعى أن يترك أهله وعشيرته إلى جانب الروم وأن يكون هو وبعض من معه في خدمة جلالته. فتمت الموافقة وأصدر السلطان بايزيد خان أمرا في المحافظة على عشيرة أولئك القوم. وبعد أن اجتمع الصوفيون المخلصون توجه المركب الملكي نحو شيروان. قوى ئيل تسعمائة وسبع، السنة الثانية للجلوس: عام الخروف يوم النوروز الخميس الحادي والعشرون من شهر شعبان توجه النواب الخاقان من آذربيجان إلى شيروان. وكان قد أوفد ببيرام بيك وقلي بيك الملقب نجوش خبر خان في وقت سابق، ووصل جلالته مع عساكره المنصورة وكان عددهم سبعة آلاف من راكبين ومشاة إلى قلعة گلستان، وجاء فرخ يسار والي شيروان ومعه عشرون ألف راكب وستة آلاف من المشاة لمجابهة جيش القزلباش وبعد معركة عنيفة وبفضل حيدر الكرار كان النصر حليفا، وقتل فرخ يسار وقادة عسكره وغنم الغزاة أموالا كثيرة. ويذكر أن فرخ يسار كان قد تسلم السلطة في شيروان بعد وفاه أبيه الأمير خليل في سنة ثمانمائة وستين، وكانت حكومته سبعة وثلاثين عاما وعدة أشهر، وجاء بعده ابنه بهرام بيك ملكا على بعض قطاع شيروان، وتوفي بعد سنة واحدة، وجلس بعده أخوه غازي بيك على كرسي العرش في عام تسعمائة وسبعة، وكانت مدة حكمه سنة واحدة أيضا، وجاء بعده أخوه الآخر الشيخ شاه في سنة تسعمائة وثمان وكانت مدة حكمه عشرين عاما، وتوفي في يوم السبت الثامن عشر من شهر رجب سنة تسعمائة وثلاثين، وجاء بعده ابنه السلطان خليل وكانت مدة حكمه أحد عشر عاما وستة أشهر، وتزوج ابنة النواب الخاقان صاحب القران، وانتقل إلى دار العقبى في يوم الجمعة التاسع من شهر جمادى الثانية سنة تسعمائة وثلاث وأربعين. وخلاصة القول أنه في ذلك السفر المثمر بلغت أمانة وديانة عسكر القزلباش إلى حد تركوا أموالهم وأمتعتهم جميعا في موقع واحد وتوجهوا إلى الحرب، وبعد الفراغ من الحرب عاد الجميع وأخذ كل واحد ماله ومتاعه دون أن يفقد منها شيئا، وأن النواب الخاقان صاحب القران بعد ثلاثة أيام من المعركة توجه نحو مدينة شماخي، وأرسل خلفا بيك مع فوج من العسكر لاستدعاء الشيخ شاه بن شيروان شاه الذي كان قد هرب من ساحة القتال. ولما كان الشيخ شاه قد عرف مجيء جلالته فقد أوصل نفسه إلى كيلان والتحق به أهالي كيلان، ولكن النواب الخاقان غضب من هذا الأمر فأوفد خلفا بيك مع بعض العسكر إلى شهرنو، ولما سمع الشيخ شاه بمجيء خلفا بيك هرب من هناك، واحتلت قوات الحكومة القاهرة تلك المنطقة وأن جلالته منح ولايتها لخلفا بيك. وفي تلك السنة أمضى جلالته الشتاء في محمود آباد وهنا نال الأمير زكريا حفيد الشيخ محمد كججى الذي كان وزيرا لدى سلطان التركمان لعدة أعوام، نال شرف المرافقة فتفاءل النواب الخاقان بذلك خيرا وأسماه بمفتاح آذربيجان. وتوجه من هناك إلى قلعة بادكوبه واحتلها ومنها توجه إلى قلعة گلستان، وفي هذا الوقت أمر جماعة خطباء الاسلام باظهار الكلمة الطيبة علي ولي الله وغير ذلك مما هو من هذا القبيل أو أشد.
56 ييحي ئيل تسعمائة وثمان، السنة الثالثة للجلوس: عام القرد يوم النوروز يوم السبت الثاني من شهر رمضان المبارك اجتاز النواب الخاقان نهر الكر وتوجه إلى جانب نخجوان وأوفد في وقت سابق بيري بيك القاجار ليبلغ الوند ميرزا خبر ورود الموكب الملكي. كما أرسل حسن آقا شكر أغلي على رأس الطلائع ولكنه عجز عن مقاومة المعارضين، فتراجع وهرب إلى الوند ميرزا في تبريز، وجاء الوند ميرزا على رأس عساكره وتلاقى العسكران فوقعت المعركة بينهما وقتل فيها قرجقاي محمد ولطيف بيك وسيدي آقا من أمراء الوند ميرزا مع ثمانية آلاف مقاتل. وهرب الوند ميرزا إلى ديار بكر فدخلت رايات العظمة والجلال إلى تبريز دار السلطنة، وجلس جلالته على العرش. ومنح منصب الصدارة إلى القاضي شمس الدين الكيلاني الذين كان معلم جلالته ومنح منصب أمير الأمراء إلى حسين بيك شاملو، كما منح وزارة الديوان الأعلى إلى الأمير زكريا، كما منح الأمراء والأمناء كل حسب استطاعته وحاله من العطايا الملكية والخلع الفاخرة، وضربت المسكوكات وألقيت الخطب باسمه الكريم، وأكد وبالغ ثانية في رواج مذهب الأئمة الاثني عشر الحق، كما توجه في ذلك الربيع إلى آذربيجان لتأديب علاء الدين ذي القدر، فلما بلغ خبر مغادرة النواب الخاقان إلى الوند ميرزا عاد ثانية، فأرسل النواب الخاقان فوجا من المقاتلين الأشداء. فلم يتمكن من الصمود والمقاومة، فهرب إلى أوجان همدان، ومنها إلى بغداد، وبعد ذلك إلى ديار بكر. تخاقوى ئيل تسعمائة وتسع، السنة الرابعة للجلوس: عام الدجاج يوم النوروز يوم الأحد الثالث عشر من شهر رمضان المبارك خبر مجيء السلطان مرد بن يعقوب ملك فارس والعراق وكرمان وخوزستان وإعداد النواب الخاقان لذلك، وإرسال قنبر آقا موفدا إلى السلطان مراد ولكنه لم يخضع، فتوجه ذلك الخائب المذنب عن طريق دليجان وهمدان مع سبعين ألف من جنود التركمان والمدفعية وعدة عربات من التجهيزات الحربية فتلاقى العسكران في آلمه بولاغي بالقرب من همذان صباح يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام وأخيرا قتل كوزل أحمد بايندر أمير أمراء السلطان مراد مع عشرة آلاف من المعارضين بسيوف جيش القزلباش، فلم يقدر السلطان مراد الخائب على الصمود والمقاومة، فهرب إلى شيروان. فغنم جنود القزلباش الفوارس الغنائم الكثيرة. وحصل هذا الفتح المبين بقوة الملك القهار وبفضل حيدر الكرار. وتوجه الموكب الملكي بعون الملك المنان إلى شيراز بتاريخ شهر ربيع الأول فوصل الخبر إلى السلطان مراد فهرب إلى جانب شوشتر ثم بغداد، فتمكن جلالته من احتلال دول فارس، ومنح حكومة كرمان إلى خان محمد خان استاجلو، فتوجه نحو كرمان ومعه ستة آلاف من الجند، فوصل الخبر إلى محمد بيك التركمان حاكم تلك الديار، فهرب إلى جانب خراسان مع عشيرته وحشمه، فدخل خان محمد خان ولاية كرمان فضرب المسكوك وألقى الخطبة باسم صاحب الجلالة. ايت ئيل تسعمائة وعشر، السنة الخامسة للجلوس: عام الكلب يوم النوروز يوم الاثنين الرابع والعشرين من شهر رمضان توجه بعون البركة والاقبال إلى شيراز، فدخل شيراز دار الملك في يوم الاثنين... شهر ربيع الثاني فقتل خطباء كازرون الذين كانوا في غاية الغنى والثروة، وكانوا قد تمردوا، فمنح ولايتها إلى الياس بيك ذي القدر. وفي غرة شهر جمادى الثانية توجه من هناك إلى قم لقضاء فصل الشتاء. وأوفد إلياس بيك مع جماعة من أفراد القزلباش إلى الأمير حسين كياجلاوى وإلى خوار وسمنان وفيروز كوه ودماوند وهبلرود. وفي تلك الحرب لم يتمكن إلياس بيك من الصمود وتحصن في قلعة ورامين، فقام الأمير حسين كيا بمحاصرة القلعة، وبعد مدة ضاق به الأمر وتوجه مع جماعته إلى الري فلحقه الأمير حسين كيا واعتقله في كبور كنبد بالقرب من الري وقتله، وفي اليوم الثاني عشر من شهر رمضان وبينما كانت الشمس في ثماني عشرة درجة توجه إلى دير وكاج، ومن هناك إلى قلعة گل خندان التي كان يسيطر عليها حسين كيا، وفي اليوم الثاني من شهر شوال كان الانتصار، وبعد ذلك توجهت رايات، العظمة والجلال إلى فيروز كوه، فوقف الأمير حسين كيا، ومعه اثني عشر ألف من الجنود بوجه العساكر المنصورة، ولكن بعد فترة من الزمن ندم من فعلته فتحصن في قلعة استا، ووصل النواب الخاقان إلى القلعة وبدأ بإقامة التحصينات وحفر نهرا إلى جانب النهر الذي كان يمر من القلعة ويستقي منه أهالي القلعة وحول مياه النهر إلى النهر الجديد، فضاق الأمر بأهالي القلعة عطشا، فاستولى النواب الخاقان على القلعة وسجن حسين كيا في قفص حديدي وقتل جماعته وبعد مرور عدة أيام انتحر حسين كيا في قفصه الحديدي. فحرقوا جثمانه بأمر ملكي. فلما سمع محمد حسين ميرزا والي أسترآباد بالخبر أوصل نفسه إلى الموكب الملكي، ومن جانب آخر جاء كاركيا سلطان حسين شقيق كيا ميرزا علي من كيلان للاعلان عن ولائه فحصل على الرحمة الملكية وعاد كل منهما إلى أرضه. وأصدر صاحب الجلالة أمرا بتعيين القاضي محمد كانتي في منصب الصدارة بمشاركة القاضي شمس الدين محمد الكيلاني. تنكوز ئيل تسعمائة وأحد عشر، السنة السادسة للجلوس: عام الخنزير. يوم النوروز يوم الثلاثاء الخامس من شهر شوال الخاقان توجه إلى مدينة أصفهان فما أن اطلع الرئيس يوسف شقيق الرئيس بركة ثاني زماني على وصول الركب الملكي حتى استقبله بالهدايا الثمينة وقدم لجلالته المجوهرات واللآلئ النادرة وذهب بالنواب الخاقان إلى منزله بالقرب من جسر ماريانان وقام بخدمته خير قيام، وبدأ بالتحصينات مدة شهر واحد وأخيرا دخل من بوابة كران وفتح قلعة طبرك واستولى على خزائن الملوك فيها، وجاء نبا فتح قلعة أصفهان في الكتب بالاجمال. وتوفي في قرية برخوار مولانا علاء الدين محمد الطبيب الخاص بداء ذات الجنب. وأمر النواب الخاقان بتعريض ساحة الميدان القديم وأحدث الدكاكين في أطراف الميدان كما أوجد أربعة أسواق. ويذكر أن علاء الدولة بن كاكويه ابن خان مجد الدولة كان حاكما وأميرا في أصفهان، وجاء السلطان محمود سبكتكين وابنه السلطان مسعود إلى عراق العجم في سنة أربعمائة وأربع وأربعين واستولى على بعض البلاد هناك، وترك السلطان محمود ابنه في أرض الري وعاد إلى غزنة. فهاجم السلطان مسعود علاء الدولة في أصفهان فلما تلقى علاء الدولة الخبر هرب من المدينة إلا أن السلطان مسعود اعتقل شقيقته وأخذها معه. فكتب الشيخ أبو علي وزير علاء الدولة رسالة إلى السلطان مسعود دعاه فيها إلى الزواج مع شقيقة علاء الدولة ليستسلم علاء الدولة. ففعل السلطان مسعود ذلك. وبعد مدة بدأ علاء الدولة بالاعداد للحرب. فبلغ الخبر إلى
57 أسماع السلطان مسعود، فكتب إليه بالامتناع عن هذا الأمر وإلا سلم شقيقته إلى الناس الأوباش. فاجابه علاء الدولة، إذا كانت شقيقتي فهي زوجتك وإذا طلقتها فستكون مطلقتك، وهذا مما يقلل من شان سلطانك. فأنت المختار. فلما تسلم السلطان مسعود هذا الكتاب أعاد شقيقته بعز واحترام تامين. ومن ثم توجه السلطان مسعود إلى خراسان، وعين أبو سهل الهمداني نائبا عنه. فوقع حرب بين علاء الدولة وأبي سهل، فكان أبو سهل هو الغالب فاستولى على مدينة أصفهان. سيجقان ئيل تسعمائة واثني عشر، السنة السابعة للجلوس: عام الفأر يوم النوروز يوم الخميس السادس عشر من شهر شوال وصل خبر احتلال أصفهان إلى أسماع مراد بيك بانيدري فهرب إلى هرات خوفا، وقام أحمد سلطان وزيره بتدبير أمور البلاد، ونظرا للمصلحة العامة أشفق النواب الخاقان على ممتلكات حسين بيك، فبادر حسين بيك بارسال جومة بيك محافظه إلى تلك الديار لتدبير الأمور، فلما سمع أحمد سلطان بوصول جومة بيك خرج إلى خارج المدينة لاستقباله فعززه وأكرمه وأدخله في منزله وكان له بالمرصاد إلى أن قتله في الحمام في أحد الأيام وأصدر أوامره بتدبير الأمور. فوصل الخبر إلى الرئيس محمد كره حاكم أبرقوه، فانتهز الفرصة وهاجم أحمد سلطان وقتله واستولى على القلعة. فما أن بلغ الخبر إلى النواب الخاقان حتى توجه من أصفهان في السادس والعشرين من شهر جمادى الثانية ووصل إلى يزد في أول شهر رجب مع عساكره المنصورة، وفرض الحصار على القلعة حتى شهر رمضان المبارك، وكانت خسائر الجانبين سبعة آلاف قتيل، إلى أن استسلم محمد كره واستولى النواب الخاقان على القلعة وألقى بالرئيس محمد في القفص الحديدي وبينما هو في ذلك بلغه خبر تمرد جماعة في أرض طبس، فسارع للوصول إلى تلك الحدود، وقتل جميع المتمردين وعاد إلى مدينة يزد. وأمر بمعاقبة سليمان بيك ذي القدر حاكم شيراز بسبب عصيانه وتمرده، ومنح حكومة شيراز لمنصور بيك أفشار، وحكومة يزد إلى حسين بيك لله. وفي يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر شعبان توجه إلى أصفهان وانتهز أحمد سلطان الفرصة في الطريق فانتحر. فامر النواب الخاقان بعد وصوله إلى مدينة أصفهان في شهر شوال باحراق جثمان أحمد سلطان غضبا، كما أرسل جنودا من ذي القدر إلى أبرقوه فاحتلوها. وفي نهاية هذا العام قدم مرافق بايزيد باشا من جانب السلطان بايزيد صاحب الروم العثمانيين للتهنئة، وقد أمر النواب الخاقان باستدعاء عساكره المنصورة من أطراف فارس والعراق وتجمع الناس في محلة حاله سياه، وذهب صاحب الجلالة بنفسه مع حارسه الخاص إلى الصيد، ثم أمر الأمراء وأركان الدولة بالتوجه للصيد. ويقال: إن ستين ألف وسبعمائة طريدة قتلت في ذلك اليوم وأصدر جلالته أمرا للأساتذة الماهرين ببناء منارة مرتفعة خارج المدينة تبقى مدى الحياة، ولا تزال قائمة حتى الآن. كما أمر ببناء قبة عالية وعمارة على مقبرة أخيه الشيخ نظام الدين أمير أحمد الواقعة في قرية أوجان فارس وأمر بان تكون القرية المذكورة وقفا على المقبرة. أودي ئيل تسعمائة وثلاث عشرة، السنة الثامنة للجلوس: عام الثور يوم النوروز يوم الجمعة السابع والعشرون من شهر شوال توجه النواب الخاقان إلى مصيف همذان بجبال الوند، ثم في الشتاء في خوي وأرومي، وأمر بارسال العساكر المنصورة إلى تلك الحدود للقضاء على جماعة الأشرار والمتمردين، وأعطى قيادة العساكر إلى بيرام خان قرامانلو وخادم بيك خليفة الخلفاء، ونظرا لتمرد كل من عبدي بيك شاملو شقيق دورمش خان، وساروا علي مهردار تكلوا فقد قتلهما. وأمر ببناء قبة عالية وعمارة على ضريح سيدنا سهل بن علي عليه التحية والثناء كما أمر بحفر ينابيع المياه وبناء العمارات والأحواض والبساتين في المكان المذكور. بارس ئيل تسعمائة وأربع عشرة، السنة التاسعة للجلوس: عام النمر يوم النوروز يوم السبت التاسع من ذي القعدة الحرام قرر النواب الخاقان التوجه من همذان للهجوم على صارم الكردي وتحركت حاشيته ووصل خبر توجه النواب الخاقان إلى صارم الكردي فهرب، فلاحقته العساكر المنصورة، وبادرت بالقتل والنهب والسرقة. ثم توجهت القافلة المالكة إلى بلدة رشت، فوصل الخبر إلى أسماع الأمير حسام الدين والي رشت، فأرسل بواسطة الأمير نجم الدين مسعود الرشتي التحف والهدايا واعتذر فعفا عنه النواب الخاقان، ثم سمع جلالته بأنباء رجوع صارم الكردي إلى أرومي مع جمع كبير من أنصاره، فسد طريقه كل من بيرام بيك وخادم بيك خليفة الخلفاء مع جمع من أفراد القزلباش، فقتل ابن صارم الكردي مع جماعة من المعارضين وكانت الغنائم كثيرة، وفي بلدة خوي تشرفوا بجلالته وعوقب أبدال بيك دده قورجي باشي بسبب القصور الذي ظهر منه. وأمضى جلالته الشتاء في خوي. وفي السادس عشر من شهر ذي الحجة الحرام انتقل الميرزا سلطان حسين بايقرا والي خراسان إلى جوار ربه وتسلم السلطة بعده ولده. توشقان ئيل تسعمائة وخمس عشرة، السنة العاشرة للجلوس: عام الأرنب يوم النوروز يوم الأحد التاسع عشر من شهر ذي القعدة الحرام وصلت الأنباء إلى صاحب الجلالة أن السلطان مراد بعث رسولا إلى علاء الدولة حفيد ناصر حاكم بلاد مرعش، وانتخبه صهرا له ليتمكن بمساعدته وبالتعاون مع جماعة ذي القدر والتركمان وتلك المناطق من الاستيلاء على قلاع ولاية ديار بكر وضواحيها وأن النواب الخاقان قرر القضاء عليهم ولهذا السبب بعث بالرسائل والأحكام إلى كل البلاد وإلى أمناء الولايات بان يجمعوا أنصارهم بقدر الإمكان والتوجه نحو بلاطه، وبعد ذلك توجهت رايات الفتح إلى آذربيجان وحاول التركمان خلال الليل القيام بهجوم إلا أن قوات جلالته كانت قد استقرت في سفح الجبل. ووصل الخبر إلى أمير خان موصلو فتوجه مع جماعته إلى العتبة المباركة، فنال وحظي بالشفقة الملكية. وأن علاء الدولة لما سمع ذلك النبأ الهائل تحصن في قلعة درنا فحاصرت قوات القزلباس تلك القلعة وأن النواب الخاقان توجه بنفسه في اليوم الثالث إلى القلعة لاحتلالها وقد هربت جماعة ذي القدر لما شاهدت هيبة وجلال جلالته وأن القزلباش غنموا أموالا كثيرة وبفضل حيدر الكرار استولت الحكومة على قلاع تلك الديار. فمنح حكومة تلك الديار إلى خان محمد خان بن يرام بيك استاجلو وأن جلالته أمضى فصل الشتاء في مدينة خوي ومن هناك توجه إلى العراق. وأوفد علاء الدولة جيشا بقيادة ابنه قاسم بيك على محمد خان محمد. فاندلعت الحرب بين الجانبين وبالرغم من قلة جيش خان محمد خان فكان هو
58 الغالب واعتقل قاسم بيك وابنه وبقية كبار وأعيان ذي القدر وقتلهم وأرسل رؤوسهم إلى جلالته. وأن صاحب الجلالة عين الأمير نجم الدين مسعود زرگر الرشتي وكيلا وأن عدد معامل جلالته ارتفعت إلى ثلاثة وثلاثين معملا وتم تدبيرها وتعيين مشرفين وأمناء عليها. ويذكر أن الأمير نجم الدين مسعود كان معروفا وخبيرا في بلدة رشت في صياغة المجوهرات وفي تلك الأيام التي كان النواب الخاقان يعيش في ولاية كيلان كان الأمير نجم الدين يقوم بخدمته سرا، ويقضي أيامه آملا إلى أن ذاع صيت جلالته. وصاع لجلالته شدة اشتياقه ورغبته له خاتما ونقش عليه بيتين من الشعر وصف فيهما حاله ورغبته. وبعد أن تسلم جلالته الخاتم أمره بالانصراف. وبعد أن عاد جلالته إلى أردبيل أصبح الأمير نجم الدين مسعود من أفراد حاشيته وزاد من مكانته يوما بعد يوم لحسن سلوكه كما ارتفع مقامه في فترة قصيرة. لوي ئيل تسعمائة وست عشرة، السنة الحادية عشرة للجلوس: عام الحوت يوم النوروز يوم الاثنين آخر أيام شهر ذي القعدة الحرام مرة أخرى جهز علاء الدولة ولديه كور شاهرخ وأحمد بيك ومعهما أربعة عشر فارسا ومن المشاة وأرسلهم لمحاربة خان محمد خان انتقاما لدم ولده قاسم بيك. وبعد أن تلاقى الفريقان توجه كل جيش إلى صفوفه. فرجع خان محمد خان مع فوج من جنوده ونصبوا كمينا. وتصور جيش ذي القدر أنهم هربوا فبادروا بجمع الأموال، إلا أن أفراد القزلباش خرجوا من كمائنهم فجأة وهجموا على جيش ذي القدر وقتلوا أولاد علاء الدولة وحاشيتهم، وأرسلوا برؤوسهم إلى صاحب الجلالة في مصيف همذان. وتم حسب الإرادة الملكية إيفاد خليل بيك في مهمة إلى باريك ملك بغداد ومعه هدايا كثيرة وخلع فاخرة وتاج مرصع لابلاغه عواطف جلالته، وأن باريك أرسل أبو إسحاق بيك شيرهجي إلى جلالته ومعه تحف وهدايا فاخرة معربا عن إخلاصه وبيعته فرد عليه جلالته إننا قررنا زيارة العتبات المقدسة، وأن إخلاص وعقيدة باريك ستظهر عند ما يسارع إلينا وأن أبو إسحاق أبلغ باريك بالرسالة وتطلع باريك إلى الأحوال نادما عن فعلته. وقد ألقى التاج والهدايا جانبا وبدأ بتحصين المواقع والقلاع واعتقل السيد محمد آل كمونة لولائه لنا وألقى به في السجن. ولما بلغ هذا النبأ إلى أسماع النواب الخاقان منح حسين بيك لله قيادة الجيش المظفر ورفع راية احتلال تلك البلاد. ولما اطلع باريك على هذا النبأ أدرك أنه لا سبيل أمامه سوى الفرار، فهرب. وتمكن أنصار جلالته من الافراج عن السيد محمد كمونة وضربوا المسكوكات وألقوا الخطبة باسم جلالته صاحب القران، وتوافدوا لاستقبال جلالته، وبذلك دخل جلالته الولاية في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر جمادى الثانية، ونزل في بستان ميرزا بيربوداق ومن هناك توجه الموكب الملكي لزيارة العتبات العالية، وأمر بتعمير وإعادة بناء الأضرحة في العتبات المقدسة ومنح حكومة تلك الديار إلى خادم بيك طالش أمير الديوان ولقبه بخليفة الخلفاء كما عين السيد محمد كمونة سادنا على العتبات المقدسة. ومن هناك توجه لاحتلال خوزستان والقضاء على آل مشعشع كما أمر الأمير نجم الدين مسعود ومعه لله بيك وبيرام بيك بالقضاء على ألوس شاه رستم عباسي ورفع راية الفتح نحو بلدة الحويزة وتمكن من احتلالها بعون خالق الأرض والسماء. ثم عاد الموكب الملكي إلى شيراز عن طريق كوهكيلويه وأمضى الشتاء في ذلك الإقليم وعين الملا شمس الدين محمد الأصفهاني في منصب استيفاء الديوان الأعلى كما عين أمير بيك موصلو بمنصب صاحب الختم وأمر لهما بالخلع الفاخرة. ئيلان ئيل، تسعمائة وسبع عشرة، السنة الثانية عشرة للجلوس: عام الحية يوم النوروز يوم الأربعاء الحادي عشر من ذي الحجة الحرام توجه النواب الخاقان من شيراز إلى آذربيجان وفي طريقه إلى آذربيجان عين القاضي محمد كاشي صدر الأبواب حاكما على يزد وكاشان وشيراز والأمير نجم الدين مسعود وكيلا، وقال أن في ذمته مبلغا مقداره ثمانية آلاف تومان من أموال الديوان، يجب على الأمير نجم الدين مسعود أن يستردها منه ويسلمها إلى الخزانة العامة. وأعد الأمير نجم الدين مسعود تقريرا عن أعمال القاضي محمد وعرضه على النواب الخاقان وما كان إلا أن قتلوا القاضي محمد في أقبح حال، وبعد مرور أيام تم عزل أبدال بيك دده ذي القدر حاكم قزوين وساوخ بلاغ وخواري بسبب أعماله الدنيئة، وثم تسليم أراضيه إلى زنيل بيك شاملو ومنح منصب الصدارة إلى المير سيد شريف بن مير تاج الدين علي ابن مير مرتضى بن مير تاج الدين علي بن مير مرتضى بن تاج الدين علي الاسترآبادي الذي كان من أحفاد الداعي الصغير محمد بن زيد والي طبرستان، من جانب أبيه ومن أبناء المير سيد شريف الجرجاني العلامة من جانب والدته ومنذ ذلك اليوم فان منصب الصدارة تفوض إلى السادات العظام. ووصل الموكب الملكي إلى آذربيجان وتوقف بعض الوقت في تبريز دار السلطنة. وهنا تم عزل حسين بيك لله شاملو الذي كان من أمراء الديوان من منصبه وإحالة منصبه إلى محمد بيك سفره جي باشي استاجلو. وتوفي الأمير نجم الدين مسعود بداء ذات الجنب في بداية شهر رجب، وتم إحالة منصبه إلى الأمير يار أحمد خوزاني ولقب بالنجم الثاني، وقضى صاحب الجلالة فصل الشتاء في تلك السنة في مدينة خوي. وفي فصل الشتاء بدأ الهجوم على شيروان، فتوافدت الأفواج تلوا الأفواج على شيروان، ولما بلغ نبا وصول الموكب الملكي إلى أسماع الشيخ شاه والي شيروان، لجا إلى القلعة، وما كان على حراس القلاع في بادكوبه والمناطق الأخرى إلا المجيء إلى صاحب الجلالة وحظي كل واحد منهم بهدية فاخرة، فتمكنت قوات جلالته من احتلال القلاع المذكورة وسارت الراية الملكية نحو دربند وتم اعتقال يار أحمد آقا ومحمد بيك حارسا تلك القلاع، وتسليم حكومة تلك المنطقة إلى منصور بيك، وتسليم بقية المناطق إلى حسين بيك لله. وفي هذه السنة تم نقل جثمان السلطان حيدر من تبريز دار السلطنة إلى أردبيل دار الارشاد، حيث كان قد دفن في تبريز قبل اثنين وعشرين عاما. وأمضى جلالته الشتاء في قراباع. ويذكر أن أحوال الأمير نجم الدين قد تحسنت إلى درجة كان عدد مرافقيه ما يقارب الأربعة الآلاف فارس. وأن خزائن أمواله لا تعد ولا تحصى، وكانت حصة مطبخه مائة خروف يوميا، وخلال هذه السفرة وبالرغم من أن أمتعته كانت قد أرسلت من قبل إلا أنه كان يطبخ يوما أربعة عشر وعاء كلها من الفضة، وأن الأواني كانت جميعها
59 من الذهب والفضة، وكانت حاجتهم من التوابل في تلك الديار ما يعادل سبعة عشر منا يوميا. يونت ئيل تسعمائة وثمان عشرة، السنة الثالثة عشرة للجلوس: عام الحصان يوم النوروز يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام توجه النواب الخاقان إلى مصيف خرقان ووصلت الأنباء إلى جلالته أن جماعة من الأوزبك أغاروا على ولاية كرمان وأن جلالته أوفد القاضي نور الدين شقيق الشيخ زاده اللاهجي مندوبا إلى شيبك خان لمنعه من عمله الدنئ وأن شيبك خان بعث بالأمير كمال الدين حسين أبيوردي إلى جلالته معلنا عن غروره وتمرده على السلطة فاستاء جلالته من هذا الأمر وتوجه في الحال من مصيفه إلى خراسان. ولما وصل إلى مدينة دامغان هرب منها كل من أحمد سلطان صهر شيبك خان وخواجة أحمد حاكم أسترآباد وبعض حكام الولايات الأخرى. وأن النواب الخاقان عين بعض الحكام والمحافظين. وبعد زيارة الروضة الرضوية المقدسة المنورة المباركة على صاحبها وعلى آبائه التحية والثناء، توجه إلى حدود سرخس وزورآباد وكان شيبك خان بعد تسلمه نبا مجيء النواب الخاقان قد توجه من مدينة هرات دار السلطنة إلى حصار مرو في شهر رجب. وأن النواب الخاقان صاحب القران أرسل محمد خان أفشار مع جيش جرار في مقدمة الموكب، ودارت بينه وبين فوج من الأوزبك حرب بالقرب من طاهرآباد قتل فيها خان محمد خان، وأن أفراد الجيش المظفر ألحقوا الهزيمة بالاوزبك، وهربوا إلى القرب من مدينة مرو، فلحقهم الموكب حتى حاصر المدينة ودارت الحرب عدة أيام دون أية نتيجة، فعبر النواب الخاقان نهر محمدي في يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر شعبان، ويبعد النهر ثلاثة فراسخ عن المدينة، وبقى جلالته هناك يومي الخميس والجمعة. وفي يوم الجمعة بعث جلالته قوري بيك إلى شيبك خان معاتبا، وتوجه جلالته خلفه حتى وصل إلى جسر محمودآباد فترك أمير خان موصلو صاحب الختم مع ثلاثمائة فارس هناك، وأمره بان ينسحب من هناك بمجرد أن يشاهد جيش شيبك قادما والتوجه إلى الموكب الملكي. وذهب قوري بيك إلى شيبك خان وسلمه الرسالة الملكية، فثارت حمية شيبك خان فخرج من حصار المدينة وتوجه مع خمسة عشر ألفا من أفراده نحو أمير خان. وما أن شاهد أمير خان عسكر شيبك خان قادما حتى انسحب وتوجه نحو الموكب الملكي حسب ما أمر به النواب الخاقان، فلحقه شيبك خان، ولما عبر جميع أفراد شيبك خان الجسر، أرسل النواب الخاقان مجموعة من أفراده لتدمير الجسر، واستمر القتال من الصباح حتى غروب الشمس. وفي النهاية عجز شيبك خان عن الصمود وقرر الهرب مع خمسمائة من فرسانه. فلما وصلوا إلى الجسر رأوا أن الجسر مدمر فلجأوا إلى خربة قريبة لا يدرون ماذا يفعلون، وهنا لحق بهم القزلباش وقتلوا شيبك خان، وجاءوا برأسه ورؤوس أعوانه إلى صاحب الجلالة. وأن الخواجة محمود وزير شيبك خان وهو رجل شيعي من شيعة حيدر الكرار جاء بمفتاح القلعة وقدمه لصاحب الجلالة فأكرم الملك وفادته. وأن هذا الانتصار مسجل في التاريخ باسم فتح الملك المنتصر للدين. ودخلت راميات الظفر في الثامن من شهر رمضان المبارك إلى المدينة ومنح حكومة الولاية إلى لله بيك، وأرض مرو إلى دده بيك. وأصدر جلالته أمرا حسب استدعاء السلطان محمد بابر ميرزا بان يمتلك كل جزء من بلاد ما وراء النهر الذي ينتصر فيها. وتوجه من كابل إلى ما وراء النهر، وأخذ معه في بدخشان خان ميرزا وحارب جمشيد سلطان الأوزبك وحكام ولاية حصار فقتلهم جميعا، واستولى على بلادهم وضرب النقود وألقيت الخطبة باسمه. وفي هذه السنة قتل صاحب الجلالة سيف الدين أحمد بن يحيى بن سعد الدين التفتازاني، شيخ إسلام خراسان بسبب معارضته. وتشرف بمقابلة جلالته ميرزا سلطان أويس بن ميرزا سلطان محمود أبو سعيد المعروف بخان ميرزا وحظي بالعطف الملكي. وجاءه من كل من مصر والشام والروم الرسل للتهنئة بسبب هذا الانتصار، كما جاء مير عبد الكريم وآقا محمد من مازندران وأقيمت حفلة ساهرة. حضرها أركان الدولة. وسلخوا رأس شيبك خان وأرسلوه إلى السلطان بايزيد بن السلطان محمد الغازي كما أرسل كل عضو من جسده إلى أحد السلاطين في البلدان المختلفة، وصنعوا من جمجمته كأسا من الذهب؟ واستدعي لتلك الحفلة الخواجة كمال الدين الشاعر الخاص لشيبك خان وقالوا له: هل تعرف هذا الرأس؟ قال: نعم إنه رأس لا زال الحكم فيه طالما هو بين يديك. فعينه الملك بسبب كلامه الواضح هذا وزيرا للديوان الأعلى، كما أنعم على مير عبد الكريم وآقا محمد بخلع فاخرة وأرسلهما إلى أوطانهما وقد احتلت جيوش جلالته جميع الأراضي حتى نهر جيحون، وقضى صاحب الجلالة الشتاء فيها. قوى ئيل تسعمائة وتسع عشرة، السنة الرابعة عشرة للجلوس: عام الخروف يوم النوروز يوم الجمعة الثالث من شهر محرم الحرام توجه النواب الخاقان إلى مصيف تخت سليمان، وأرسل الأمير نجم مع جمع من قوات القزلباش إلى ما وراء النهر. ودخل الأمير نجم مدينة بلخ، وتوقف فيها عشرين يوما، وأرسل الأمير محمد يوسف الخراساني إلى بابر ميرزا للمساعدة، جاء بابر ميرزا مع أفراده إلى تنك جكجك، وذهبوا جميعا إلى خوارزم، وعلم فولاد سلطان حاكم تلك الديار بمجيئهم فجاء إليهم طالبا الأمان. ولكن هلقوتو بهادر اوزبك وهو أحد قادته رفض الإطاعة وبقي في القلعة وأخيرا قتل مع جماعته. وتوجه الأمير نجم من هناك إلى قرشي، فكان أمير شيخم ميرزا حاكمها معارضا، وبعد ثلاثة أيام وقعت الحرب فقتل حوالي خمسة عشر ألفا، ولم يتمكن مير نجم من الصمود فذهب إلى بخارا ونزل على مسافة فرسخين منها، فوصلت إليه أنباء عن مجيء محمد تيمور شيبك خان وأبي سعيد وعبيد خان. فطلب من بيرام قرامانلو وفوجا من أفراد القزلباش مساعدته. وفي الهجوم الأول الذي وقع صباح يوم الثلاثاء الثالث من شهر رمضان المبارك قتل بيرام بيك، وأن بقية العساكر رفضت الطاعة للأمير نجم، فغضب الأمير نجم، واقتحم هو والأمير زين العابدين صفوي صفوف العساكر المعارضة، فقتل الأمير نجم والأمير زين العابدين مع الكثير من أفراد القزلباش. وفي أوائل شهر ذي القعدة الحرام وصل جانى بيك إلى أصفهان دار السلطنة، وأن النواب الخاقان
60 بدأ ثانية يستعد للهجوم على خراسان، فجاءهم نبا وفاة بايزيد خان واستلام السلطان سليم ابنه للسلطة ومجئ السلطان مراد عم السلطان سليم. بيجي ئيل تسعمائة وعشرين، السنة الخامسة عشرة للجلوس: عام القرد يوم النوروز يوم الأحد الرابع عشر من شهر محرم الحرام لقد أبلغ جلالته قبل هذا أن محمد تيمور خان بن شيبك خان ومعه عبيد خان توجها إلى مرغاب، ومنها إلى مشهد المقدسة واحتلا أراضي مرو حتى أسفرائين، ولما كانت المعونة الغذائية قد شحت في هرات دار السلطنة بسبب القحط والغلاء، فإن حسين بيك لله وأحمد سلطان صوفي أغلي لم يجيزا الوقوف والمكوث، فتوجها إلى العراق (1) عن طريق طبس وسيستان. وقد علم تيمور سلطان عن هذا الأمر فوصل إلى هرات ونزل في بستان جهان آرا وقتل جمعا كبيرا من أهالي تلك البلاد من الشيعة. لقد غضب النواب الخاقان مما جرى، فأرسل السلطان خليل حاكم شيراز ووصل جلالته مكرما معززا إلى منطقة الري. وهناك أصدر أمرا بتعيين الأمير عبد الباقي أميرا للأمراء ومير سيد شريف لمنصب الصدارة كما زوج ابنة مير عبد الباقي إلى مير سيد شريف. فلما سمع عبيد خان في مدينة مشهد خبر توجه النواب الخاقان هرب وذهب إلى بخارا، وكذلك فان محمد تيمور وقادته غادروا هرات إلى سمرقند. وانتهز أبو القاسم بخشي الفرصة وبادر مع جمع من أنصاره بالتحصن، وكان أبو القاسم هذا قد كسب بعض الصيت في عهد السلطان حسين ميرزا. وأصدر النواب الخاقان أمرا بتعيين زينل خان شاملو حاكما على تلك البلاد، كما عطف على ديو سلطان روملو وعينه حاكما على بلخ وملحقاتها، وعين الأمير سلطان موصلو حاكما على قايين. كما أوفد شاهرخ خان أفشار لاحتلال أراضي قندهار وكرمسيرات. ولما وصل شاهرخ خان إلى ضواحي قندهار، أسرع شجاع بيك حاكمها للتشرف بجلالته حاملا معه الهدايا الثمينة، وحظي بعطف صاحب الجلالة. ولما كان دده بيك حاكم مدينة مرو قد غادر قلعة مرو خوفا من محمد تيمور خان ولجا إلى بلاط جلالته، فان صاحب الجلالة غضب من هذا الأمر وأمر بالباسه ملابس النساء وأركبه على الحمار، وأمر بان يجال به في محلات المدينة ليكون عبرة للآخرين. وأرسل مير عبد الباقي ومعه جايان سلطان إلى نساء أبيورد لدفع جمع من الأشرار الذين كانوا قد هاجموا السلطان محمد بايقرا بن أبو الحسن ميرزا بن السلطان حسين وأنجز هذان مهمتهما بأحسن حال وعادا إلى أصفهان. كما عاد موكب جلالته كذلك إلى أصفهان. تخاقوى ئيل تسعمائة وإحدى وعشرين، السنة السادسة عشرة للجلوس: عام الدجاج يوم النوروز يوم الاثنين الخامس والعشرون من شهر محرم الحرام علم النواب الخاقان أن السلطان سليم حاكم الروم توجه نحو آذربيجان على رأس عشرين ألفا من الجند فتوجه النواب الخاقان مع عساكره المظفرة إلى تلك البلاد، كما انضم إلى الموكب الملكي بالقرب من جورس، خان محمد خان حاكم تلك الديار ومعه جمع كبير من أفراد القزلباش وعساكر آذربيجان. وقد تلاقى الفريقان في صحراء جالدران في يوم الأربعاء الثاني من شهر رجب. فاصطف الجيش، فكان على الميمنة كل من خان محمد خان حاكم ديار بكر، وساروبيره قورجي باشي استاجلو وأخوه ودورمش خان شاملو ونور علي خليفة روملو وخلفا بيك وحسن بيك لله وخليل سلطان ذو القدر. وعلى الميسرة خان سلطان استاجلو ولد بابا الياس جاوشلو وجمع آخر. وكان السيد محمد كمونة ومير عبد الباقي وكيل ومير سيد شريف الصدر مع النواب الخاقان في القلب. وقد تقرر بين السلطان صاحب القران والسلطان سليم بان لا يستخدم الجانبان مدفعيتهما. وكان أفراد القزلباش يقومون بواجبهم خير قيام إلى أن ضاق الأمر في النهاية على جيش الروم، فامر السلطان سليم باستخدام المدفعية بعد أن خدع جماعته، فكان أن ذهب من جيش القزلباش خمسة آلاف قتيل، فثارت حمية النواب صاحب القران وبرزت رجولته فسل السيف معتمدا على قوة ذراعه وعز من قائل ومن يتوكل على الله فهو حسبه فتوكل على الله مستمدا من حيدر الكرار، وخاض المعركة وهو ينادي يا علي، وضرب بسيفه ضربة حطم أغلال المدفعية، وتوجه نحو السلطان سليم فوقف مالقوج أغلي وهو أحد كبار عساكر الروم ومعه فوج من الروم على طريق النواب الخاقان ولكن جلالته وبعون حيدر الكرار أنزل ضربة بسيفه على رأس ذلك الخائن ففلق خوذته ورأسه ودرعه حتى خاصرته فوقع من فوق جواده، كما قتل جلالته جمعا مثيرا من أفراد الروم، فوصل إليه جمع كبير من حاشيته من الصفويين وأحاطوا بجواده وأعادوه، وهنا استغل جماعة الروميين المشؤومين الفرصة وهاجموا قلب العسكر وقتلوا خان محمد خان استاجلو وأولاده وبابا إلياس جاوشلو والسلطان ميرزا أفشار والسيد محمد كمونة ومير عبد الباقي الوكيل ومير سيد شريف الصدر وساروبيره قورجي باشي وحسين بيك لله وخان محمد خان حاكم ديار بكر وجمعا كبيرا آخر. ولما علم النواب الخاقان بهذا الحادث عاد إلى العراق وتوجه نحو أراضي درجزين ودخل السلطان سليم مدينة تبريز دار السلطنة، وبقي فيها أياما وقد تأسف النواب الخاقان لما وقع وأخذ يفكر في تدبير الأمور. ومنح جلالته الصدارة إلى السيد عبد الله والاشراف على الديوان إلى ميرزا شاه حسين الأصفهاني وأمير الأمراء إلى جايان سلطان وحكومة ديار بكر إلى قراخان سلطان شقيق خان محمد خان استاجلو. وبعد أيام فوض الصدارة إلى مير جمال الدين محمد الاسترآبادي. وفي هذه السنة لما سمع الأوزبك بانشغال الموكب الملكي في آذربيجان، هاجموا مدينة هرات ونهبوها. ايت ئيل تسعمائة واثنين وعشرين، السنة السابعة عشرة للجلوس: عام الكلب يوم النوروز يوم الثلاثاء السادس من شهر صفر توجه النواب الخاقان إلى مدينة أردبيل لزيارة آبائه العظام طالبا منهم العون والمساعدة ثم نزل في مصيف سهند. وتشرف بمقابلته الأمير سلطان حاكم قائين وعرض على جلالته تقريرا عن سوء الأحوال في ولاية خراسان. وقدم ديو سلطان من مدينة بلخ تقريرا مماثلا. وعطف النواب الخاقان على الأمير سلطان ومنحه منصب اللكي ولقبه بالخان. ثم توجه مع جمع من القوات إلى خراسان. ففوض حكومة تلك البلاد إلى ولده الأكبر طهماسب ميرزا وأعطى الصدارة إلى مير غياث الدين محمد
(1) العراق هنا: هو ما يسمى بالعراق العجمي. 61 ولد الأمير يوسف الرازي الذي كان قد ترعرع في مدينة هرات. ثم أمضى الشتاء في تلك السنة في مدينة تبريز دار السلطنة. تنكوز ئيل تسعمائة وثلاث وعشرين، السنة الثامنة عشرة للجلوس: عام الخنزير يوم النوروز يوم الأربعاء السابع عشر من شهر صفر في هذه السنة أمضى النواب الخاقان أيامه في تبريز دار السلطنة ونخجوان لتدبير أمور الملك. سيجقان ئيل تسعمائة وأربع وعشرين، السنة التاسعة عشرة للجلوس: عام الفأر يوم النوروز يوم الخميس الثامن والعشرين من شهر صفر عاد النواب الخاقان من المشتى إلى تبريز دار السلطنة ونزل بالقرب من نهر تلوار حيث أمضى ما يقارب من الشهر الواحد في صيد السمك. ومن هنا أرسل الميرزا شاه حسين الوزير الأعظم إلى مدينة قم دار المؤمنين. وتوجه جلالته إلى مدينة جمجمال في همذان، وهو في حالة صيد وأمضى فصل الشتاء وشهر رمضان المبارك في مدينة قم دار المؤمنين. ومن هنا أرسل دورمش خان وزينل خان شاملو إلى مازندران. وفي شهر ذي الحجة تمت محاصرة قلاع تلك الولاية وفي الخامس عشر من الشهر المذكور وبعون حيدر الكرار تم الاستيلاء عليها. وتشرف حكام مازندران ورستمدار وهزار جريب بلقاء جلالته بالقرب من أصفهان، فعفا عن ذنوبهم بكرمه العميم الذي هو من صفات هذه العائلة. أود ئيل تسعمائة وخمس وعشرين، السنة العشرون للجلوس: عام البقرة. يوم النوروز يوم الثلاثاء التاسع من شهر ربيع الأول أمضى النواب الخاقان فصل الشتاء في مدينة أصفهان ولم يغادرها. ويقال إن مولانا علاء الدين أحمد بن مولانا صدر الدين علي الشيرازي وهو من الأطباء الحاذقين توفي بداء ذات الجنب في مدينة كاشان دار المؤمنين عائدا من أصفهان. وأن جلالته عاقب السلطان خليل حاكم مدينة شيراز وعطف على علي سلطان قورجي باشي السابق، وعينه حاكما على ولاية شيراز وفسا. كما تلقى جلالته في هذه السنة خبر وفاة السلطان سليم بن بايزيد حاكم الروم، وجلوس ابنه السلطان سليمان على العرش كما أوفد جلالته دورمش خان إلى خراسان لمساعدة أمير خان. وقد توجه الموكب الملكي السامي في نهاية السنة إلى مدينة سلطانية. يارس ئيل تسعمائة وست وعشرين، السنة الحادية والعشرين للجلوس: عام النمر يوم النوروز يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول أمضى جلالته الشتاء في هذه السنة في نخجوان، وأرسل ديو سلطان مع فوج من القزلباش إلى كرجستان. كما تم في هذه السنة اعتقال لوند ميرزا وداود ميرزا ومثولهما أمام جلالته. كما وافق حكام مازندران ورستمدار وهزار جريب على الضرائب المرسومة عليهم. وعادوا جميعا موفقين إلى بلادهم، وهرب آقا محمد روزاقرون إلى مازندران، وأصدر جلالته أمرا إلى جوهه سلطان باعتقاله، فاعتقله في مازندران وجاء به إلى جلالته. وفي يوم الأحد التاسع عشر من شهر جمادي الثانية جاء عبيد خان لمحاصرة مدينة هرات، وفي يوم الجمعة الثاني من شهر رجب لم يستقم فهرب ثانية إلى ما وراء النهر وأن الأمير خان حاكم خراسان أمر باعتقال الأمير محمد يوسف، وهو من سادة ذلك العصر وأفاضلهم، وذلك في يوم الثلاثاء السادس من شهر رجب وقتله في اليوم الثاني بسبب التهمة التي وجهها إلى جماعة من المتمردين والأشرار، فاغضب هذا الأمر النواب الخاقان فعزله من منصبه وجعل مكانه دورمش خان. وفي بداية فصل الربيع توجه الموكب الملكي إلى منطقة سهند ومراغة. وفي نهاية شهر رمضان المبارك تشرف الشيخ شاه والي شيروان بمقابلة جلالته وأكرمه وأهداه الخلع الفاخرة الثمينة، وعاد الشيخ شاه بعد فترة إلى بلاده محظوظا سعيدا. توشقان ئيل تسعمائة وسبع وعشرين، السنة الثانية والعشرين للجلوس: عام الأرنب يوم النوروز يوم الاثنين الثاني من ربيع الثاني أمضى النواب الخاقان شتاء هذه السنة في مدينة تبريز دار السلطنة وحظي السلطان خليل بن الشيخ شاه بمقابلة جلالته وعطفه الكريم. كما التحق أمير خان بالركب الملكي في سهند أوجان في شهر جمادى الثانية وتوفي في ليلة الأحد الثاني عشر من شهر شعبان. لوى ئيل تسعمائة وثمان وعشرين، السنة الثالثة والعشرين للجلوس: عام الحوت يوم النوروز يوم الثلاثاء الثالث عشر من شهر ربيع الثاني أمضى النواب الخاقان فصل الشتاء في مدينة تبريز دار السلطنة، وفي نهاية يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر جمادى الثانية طعن مهتر شاه قلي عربكيرلو، بسبب العداوة التي كانت بينه وبين ميرزا شاه حسين الأصفهاني وزير الديوان الأعلى، فطعنه هذا بالخنجر وأرداه قتيلا وما أن سمع النواب الخاقان بالحوادث حتى عاقب مهتر شاه قلي عربكيرلو، وأرسل جثمان ميرزا شاه حسين الأصفهاني إلى أرض الكاظمين المقدسة ودفنه هناك. وفي هذه السنة توفي جايان سلطان استاجلو وكيل الديوان الأعلى ودفن في مدينة بغداد، وعطف جلالته على ميرزا جلال الدين محمد ومنحه منصب وزارة الديوان الأعلى، وأمضى النواب الخاقان فصل الصيف في سهند اوجان. ئيلان ئيل تسعمائة وتسع وعشرين، العام الرابع والعشرين للجلوس: عام الحية. يوم النوروز يوم الخميس الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني امضى جلالته فصل الشتاء لهذه السنة في تومان نخجوان وحظي الشيخ شاه والي شيروان بمقابلة جلالته وترك ابنته لدى جلالته وعاد سعيدا مظفرا. وتوجه الموكب الملكي إلى مدينة أردبيل لزيارة آبائه العظام. ومن هناك توجه إلى مدينة سراب. وحظي بايزيد سلطان بن جايان سلطان بمقابلة النواب الخاقان، وانتقل بعد أيام إلى جوار ربه فجعل جلالته منصبه إلى ديو سلطان. وفي نهاية هذه السنة مرض جلالته وعجز الأطباء عن معالجته، وقد استسلم جلالته لكرم الحكيم الكبير جلت عظمته وسلم ودائع الارشاد والمواعظ وتدابير الملك والسلطة وكل ما كان في ضميره المنير إلى ولده الأكبر الأرشد المكرم طهماسب ميرزا. وفي صباح يوم الاثنين التاسع عشر من شهر
62 رجب المرجب صعد طائر روحه إلى رياض جنات عدن تجري من تحتها الأنهار أسكنه الله في غرفات الجنان، وأفاض عليه رشحات الغفران. تعليقنا على ما تقدم ويرى القارئ فيما تقدم كيفية نشوء الأسرة الصفوية وتدرجها في تأسيس ملكها، كما يرى دقائق تحركات الشاه إسماعيل في معاركه، ومسراه في توطيد سلطته خطوة خطوة، كما يلحظ حرج الكاتب وهو يذكر معركة جالديران الذي انهزم فيها الشاه إسماعيل أمام السلطان سليم، وكيف يبرر الهزيمة بمحاولة المبالغة في عدد جنود السلطان وقلة عدد جنود الشاه، كما أنه يركز على البطولة الشخصية للشاه في المعركة ليزيل أثر الهزيمة من النفوس. وكنا تطرقنا فيما كتبناه في المجلد الأول من المستدركات إلى ما ذكره النهروالي عن الأسرة الصفوية من أنها لم تكن أسرة شيعية وأن المتشيع الأول فيها هو الشاه إسماعيل وناقشنا هذا القول بعض المناقشة. والكاتب هنا لا يشير إلى شئ من ذلك مما يدل على أنه ليس من رأي النهروالي في هذا الموضوع، ولكنه يؤكد تصوف الصفويين الأوائل تصوفا عريقا عميقا، وينسب إلى بعضهم من الكشف الغيبي وأمثاله ما لا يصح، كما أن نزعة الكاتب الصوفية تبدو فيما يكتب وفيما يعرض من مصطلحات في التعبير والأداء وتبنيه لأساليبهم في السعي والوصول وغير ذلك. على أن ما يلفت هو ما نقله عن الأمير عبد الله الذي التقاه صفي الدين في بيضاء بولاية فارس، من مخاطبته لصفي الدين بقوله أيها الشاب التركي فمن أين جاءت هذه الصفة لصفي الدين، وما هي أصول تركيته هذه وما حدودها...، وما هي نتائج معرفتنا بها؟. ثم إن الكاتب يقول قبل ذلك عن صفي الدين: وقد تغلب عليه رغبة السير والسلوك وإدراك مشاكل عالم المعنى، ووضع خطاه وسار في واد الجهاد ونكران الذات والتصوف. ثم يضيف إلى ذلك قوله: وكان ينوي أن يلزم خدمة مرشد عالم جليل صاحب مكارم يتتلمذ على يديه ويكسب آداب السلوك.... وهذا يدل كما هو معروف على أن المتصوف الأول في هذه الأسرة هو رأسها المنسوبة إليه: صفي الدين، وعلى أنه لم يرث التصوف عن آبائه، بل هو الذي بدأه في قومه. ومما يرشد إلى ذلك قول الكاتب عن رحيل صفي الدين إلى شيراز للاتصال بالشيخ الصوفي الشيخ نجيب الدين مرعشي الشيرازي. أنه كان لصفي الدين أخ ثري وجيه معروف في شيراز، وأنه اتخذ من وجود أخيه فيها ذريعة لاستئذان والدته بالسفر إلى شيراز، ومعنى ذلك أن أخاه لم يكن صوفيا، بل هو في ثرائه ووجاهته بعيد عن التصوف ولو كان أبوه وجده صوفيين لبان أثر ذلك عليه، وأن كل ما كان من شان للأسرة قبل صفي الدين هو أنها لا تتميز بشئ عن كل الأسر البسيطة، وأن تميزها بدأ بصفي الدين لذلك سميت به ونسبت إليه. وأما عن تشيع صفي الدين فإننا لا يمكن أن نستدل عليه من تتبعنا لسيرة المشايخ الذين قصدهم وتتلمذ عليهم كالشيخ ظهير الدين مرعش، والشيخ ركن الدين البيضاوي، والأمير عبد الله، والشيخ إبراهيم زاهد، والكيلاني الذي تزوج صفي الدين ابنته وورث مقامه وصار بعد موته رأسا صوفيا طيلة خمس وثلاثين أو أربعين سنة على اختلاف الأقوال، ثم توالت رئاسة التصوف بعده في أحفاده ابتداء من ولده صدر الدين موسى. فليس لدي أنا حتى الآن ما يدل على تشيع هؤلاء المشايخ، بل إن ما يبدو في أحوالهم وتصرفاتهم الصوفية ما يمكن أن يدل على العكس، فهذا الانحراف في التصوف لا يعرفه التشيع، ومتصوفو الشيعة كان تصوفهم معتدلا مقبولا لا يتعدى نوعا من الزهد الذي لا يدفع إلى الشطحات وادعاء الغيبيات وما إلى ذلك. واتصال صفي الدين بمن اتصل بهم، وأخذه بطريقتهم وانكبابه على تعاليمهم قد لا يدل على تشيعه، ويبقى علينا إذا صح هذا الرأي أن نصل إلى المتشيع الأول فيهم بعد أن عرفنا المتصوف الأول. على أننا لا نسلم مع النهروالي (1) بان المتشيع الأول هو الشاه إسماعيل بعد أن أثبت هو نفسه أن حيدر الجد الأعلى للشاه إسماعيل هو الذي صنع التاج ذا الاثني عشر ضلعا أحمر وهو إشارة إلى الأئمة الاثني عشر وأمر أتباعه أن يلبسوا نظيره فعرفوا باسم القزلباش وهو اسم لا يطلق إلا على الشيعة، ولا يزال بعضهم حتى اليوم معروفين به. على أن رأي الكاتب حسين بن مرتضى يتنافى مع استنتاجنا عن الشك بتشيع صفي الدين، فهو يرى تشيعه ويرى أنه هو أول من فكر بتأسيس دولة شيعية، وأن ما حققه حفيده إسماعيل كان تحقيقا لأحلام جده الأعلى صفي الدين ووصولا إلى رغباته واستجابة لدعائه. فالكاتب يفتتح حديثه عن الشاه إسماعيل بهذا النص: ولما كانت العناية الأزلية وإرادة واهب العطيات قد وعدت باستجابة دعاء واستدعاء سماحة سلطان الأولياء وبرهان الأصفياء في صومعة عارف المعارف الربانية الشيخ زاهد الكيلاني، وكان قد طلب من العلي المنان السلطة الدنيوية والأخروية وما كان مقصوده من السلطة الحكم والمال، بل كان مقصوده السلطة المعنوية والسعادة ورواج مذهب الأئمة الاثني عشر وكلمة علي ولي الله الطيبة واستخلاص الشيعة الإمامية الناجية وأنصار وأصحاب الإمام علي من بلية التقية.... ونظل نحن عند استنتاجنا مجرد استنتاج ويظل للكاتب رأيه، ونحن في الوقت نفسه نعترف بأنه لا يمكن أن يرسل قوله هذا جزافا فلا بد أن يكون مستندا إلى حقائق وصل إليها ولم تصل إلينا، ويبقى للقارئ حكمه على ما
(1) هو محمد بن أحمد النهروالي، نسبة إلى نهروالة، بلدة في الهند تسمى الآن بتن، وإليها تنسب أسرته، أما هو فقد ولد في مدينة لاهور سنة 917 ثم هاجر إلى الحجار. ثم رحل إلى مصر. ثم ذهب إلى إسطنبول مارا ببلاد الشام، ثم عاد إلى مكة. ولاه الأتراك مناصب في التدريس والافتاء وغيرهما، وقرروا له مرتبا شهريا كبيرا، ونال عند الأتراك جاها عظيما فكانوا يعطونه العطاء الواسع، لذلك نجده يبالغ في الثناء على سلاطين الأتراك ورجال دولتهم ويتحامل على غيرهم من العرب وغير العرب. توفي سنة 990. وصفه المؤرخ علي التاجر في الصفحة 541 من المجلد الخامس من مجلة العرب بعد أن نقل وصفه لبعض الأحداث: لست بحاجة بعد كل هذا إلى تفصيل ما في حديث النهروبي من تخليط وتخبط، فذلك أوضح من أن يحتاج إلى بيان. ثم يقول عن رواية النهروالي: بغض النظر عما في هذه الأسطورة من خلط وتشويش واضطراب وأخطاء تاريخية وجغرافية.... ويقول في الصفحة 460: والنهروالي إلى قيل الإهتمام بتحري الحقيقة عديم العناية بصحة ما يكتب وخاصة بالنسبة إلى التاريخ. ويقول في الصفحة 638: الواقع أن النهروالي كان يتحدث عن موضوع يجهل ملابساته كلها جهلا تاما، فلفق وخلط كما هي عادته. 63 يرى أمامه من نصوص وتحقيقات واستنتاجات. وإذا صح تشيع صفي الدين وصح رأي الكاتب ولم يصح استنتاجنا، فمعنى ذلك أن صفي الدين متسلسل من أصول شيعية، ولا يبقي بعد هذا من مجال للبحث عن المتشيع الصفوي الأول، ما دام التشيع في الأسرة قد سبق عصر صفي الدين، ولم يعد صفي الدين أن كان واحدا ممن تسلسلوا من الأصول الشيعية البعيدة. وسواء كان صاحب فكرة قيام الدولة الشيعية هو صفي الدين نفسه كما يرى الكاتب أو كان صاحب الفكرة، أو أصحاب الفكرة هم من جاءوا بعده من أحفاده، فإن عبارة الكاتب التي أتت خلال حديثه عن صفي الدين وهي قوله:... كان مقصوده السلطة المعنوية والسعادة ورواج مذهب الأئمة الاثني عشر وكلمة علي ولي الله الطيبة واستخلاص الشيعة الإمامية الناجية وأصحاب الإمام علي من بلية التقية.... إن عبارته هذه تدل على اللهفة التي كانت في نفوس الشيعة لأن يجدوا المكان الذي يأمنون فيه على أنفسهم وحرياتهم، بعد أن طال اضطهادهم وسفك دمائهم ونهب أموالهم ومطاردتهم في كل مكان، مما ألجأهم إلى الأخذ بالتقية صونا لحياتهم وكرامتهم ... كما تدل على ما كان في نفوسهم من الأسى، وما يشعرون به من الكرب لاضطرارهم للتستر بهذه التقية، الذي سماه الكاتب بلية التقية، وحسبك بهذه التسمية دلالة على محنة المتقين النفسية. كما تدل على توقهم الشديد لأن يتحدثوا عن علي بن أبي طالب، وعلى نقمتهم من اضطرارهم للسكوت عن ذكره أو للتهامس به. لذلك عند ما تحققت الأمنية وقامت الدولة المنشودة على يد الشاه إسماعيل، كانت ردة الفعل عنيفة منطلقة من ذلك الكبت الطويل، ومنبعثة من تلكم المصائب التي عاناها الشيعة، فرأينا أن أول ما فعله الشاه إسماعيل أن أضاف إلى الآذان: أشهد أن عليا ولي الله، وأن انطلقت بعض الأقوال المبالغة المتحدية، كما يحدثنا الكاتب ولم نجد لزوما لنشرها هنا، مما نراه نحن أمرا لا داعي له، وكان يجب أن لا يحدث ولا يستمر. ولكن إذا نحن قلنا هذا في هذا العصر، فان علينا وعلى غيرنا أن يقدر الظروف التي انفجرت فيها النفوس والألسن بما انفجرت به بعد تلك القرون في العنت والعسف والارهاق والاذلال، وأن الذين أطلقوا تلك الأقوال لم يكن من السهل عليهم أن ينسوا أن علي بن أبي طالب كان يشتم على المنابر الاسلامية من عهد معاوية إلى عهد عمر بن عبد العزيز. وإذا كان من لوم فليس على الذين شاؤوا أن يفرجوا عن كربهم بأسلوب يتفق كل الاتفاق مع أسلوب مضطهديهم العنيف، بل على الذين ألجأوهم إلى ذلك. على أن أول إشارة تشيع تبدو في السلسلة الصفوية أول إشارة بالنسبة إلينا هي ما ذكره عرضا الكاتب حسن بن مرتضى الحسيني الاسترآبادي نفسه وهو يتحدث عن أحد أفراد السلسلة علي المعروف ب بسياهپوش: فهو يذكر أن الأمير تيمور الكوركاني التقى بسياهپوش وأعجب به وكتب له وثيقة وقف شاهدها الكاتب نفسه مختومة بخاتم تيموري محررة سنة 806 وفيها هذا النص الموجه من تيمور إلى سياهپوش:... وعليه من الصلوات أزكاها ومن التحيات أنحاها، على آله وأولاده الطاهرين أجمعين... ثم يذكر بعض هؤلاء الآباء:... محمد المصطفى، وعلي المرتضى، والحسن، والحسين، نسله الإمام زين العابدين ، نسله الإمام محمد الباقر، نسله الإمام جعفر الصادق، نسله الإمام موسى الكاظم.... ثم يقل إلى الجد الذي تسلسل منه الصفويون من الإمام موسى الكاظم: أبو القاسم حمزة وهكذا وصولا إلى علي سياهپوش. ولا شك أن تعابير هذا النص لا تصدر إلا من شيعي إلى شيعي وإذا كان ما جاء في الحديث عن سياهپوش هو إشارة تشيع، فان التشيع الواضح هو ما جاء في سيرة حيدر من إيجاده التاج ذا الاثني عشر ضلعا الرامز إلى الأئمة الاثني عشر. على أن اللافت للنظر هنا أن حيدرا هذا المخترع للتاج الاثني عشري، والذي ابتدأ منه لقب القزلباش الشيعي أن حيدرا هذا لم يكن من أم شيعية، فان والده جنيد كان قد تزوج أخت حسن أمير قبيلة آق قوينلو القطيع الأبيض التركمانية وهي قبيلة سنية وكان يقابلها قبيلة قرة قوينلو القطيع الأسود الشيعية. ومن هذا الزواج جاء حيدر بن جنيد، ثم إن الأمير حسن زوج ابن أخته حيدر من ابنته حليمة بيگم التي اشتهرت بعلم شاه بيگم، ومن هذا الزواج جاء علي بن حيدر، وإسماعيل بن حيدر، وهو الذي قامت على يديه الدولة الشيعية الأولى التي جهرت بالدعوة إلى التشيع واتخذت ذلك شعارا لها وطبقته عمليا. في حين أننا لا نرى في حركة الصفويين قبل إسماعيل: من سياهپوش إلى جنيد إلى حيدر إلى علي بن حيدر الظاهر تشيعهم لا نرى في حركتهم أية دعوة شيعية علنية أو قصد لنشر التشيع، اللهم إلا إذا اعتبرنا ما فعله حيدر بن جنيد من إيجاده التاج ذا الاثني عشر ضلعا الرامزة إلى الأئمة الاثني عشر، وأمره أنصاره بوضعه على رؤوسهم إذا اعتبرنا ذلك دعوة شيعية وتصديا لنشر التشيع. وفيما عدا ذلك فإنما بدا هذا أول ما بدا علنا عند الشاه إسماعيل خليفة أخيه علي بن حيدر. فهل في هذا ما يؤيد دعوى النهروالي بان إسماعيل هو المتشيع الأول؟ أم أن سبب ذلك أنهم كانوا منصرفين أول الأمر إلى تركيز أمرهم، فلما تركز بإسماعيل أعلن الدعوة الشيعية وصمم على نشرها؟ هذا ما نعتقد أنه الصحيح، فقد تجنبوا أول الأمر الظهور بمظهر حملة الدعوة الشيعية لئلا يؤلبوا الناس عليهم حتى إذا تمكن إسماعيل أعلن ذلك واضحا حازما. وقد رأينا فيما تقدم في الجزء الأول من المستدركات عند الحديث عن إسماعيل ما ذكره النهروالي صراحة بان سبب غزو السلطان سليم للشاه إسماعيل هو الحؤول دون قيام دولة شيعية في العالم... ولكن هل يمكن أن يكون للزوجة غير الشيعية، وللخال غير الشيعي من تأثير في ذلك على جنيد، ثم للأم غير الشيعية الأولى على الابن حيدر بن
64 جنيد، وللأم غير الشيعية الثانية على الابن علي بن حيدر، ثم لم يكن لذلك من تأثير على إسماعيل بن حيدر، لأنه نشأ في غير رعايتها وبعيدا عن تأثيرها، بل في محيط شيعي في مدينة لاهيجان، حيث نقل إليها وهو في السادسة من عمره بعد مقتل أخيه علي، الذي عهد إليه بولاية العهد، فانتقل به أنصاره خوفا عليه إلى لاهيجان، وبقيت والدته بعيدة عنه في أردبيل؟ وأن يكون هذا ما حمل النهروالي على القول بان إسماعيل هو المتشيع الأول في الصفويين، وأن سبب تشيعه نشأته في لاهيجان. على أنه إذا انطبق قولنا على جنيد وحيدر وعلي، فإنه لا ينطبق على سياهپوش. وهنا لا بد لنا من وقفة عند ما ذكره الكاتب حسين بن مرتضى علوي عن وثيقة الوقف، وما جاء فيها عن ربط نسب السلسلة الصفوية بالامام موسى الكاظم. فان ذلك يجرنا إلى الحديث عما قيل في صحة هذا النسب، وما أثير حوله من شكوك. فالكاتب مسلم بصحة هذا النسب، ويبدو أن معاصريه مسلمون، وأن من قبلهم في عصر تيمور مسلمون أيضا، وأول ما اشتهر من الطعن في نسب الصفويين في هذا العصر، هو ما كتبه أحمد كسروي من نفي النسبة العلوية الموسوية إلى الصفويين. ونحن حين نرى أن الأقدمين وهم الأقرب إلى الأصول الصفوية والأكثر تتبعا لها لم يتطرقوا إلى التشكيك في نسبهم، واعتبروه صحيحا سليما حين نرى ذلك لا نستطيع إلا التسليم بصحة النسب،. ولعل النزعة التهديمية التي سيطرت على كسروي في الشطر الأخير من حياته هي من عوامل إنكاره النسب الصفوي العلوي الموسوي، لأن في هذا الإنكار تهديما لحقيقة قائمة. على أن من الإنصاف أن نترك للذين قرأوا كتاب كسروي أن يحكموا عليه، وأن يناقشوا أدلته، وأن يكونوا في هذا الموضوع معه أو عليه. فانا لم أقرأ ما كتب لأني أجهل الفارسية، ومن هنا ليس من حقي أن أحكم، وإن كان من حقي أن استنتج. صدى قيام الدولة الصفوية عند الآخرين بعد نشرنا ما كتبه مؤرخ قديم عاش أواخر عهود الدولة الصفوية، ورأينا فيما كتبه صدى قيام هذه الدولة في نفوس الشيعة بعد ما عانوه في كل مكان من اضطهاد وترويع وقتل، وبعد ما اضطروا إلى تحمل بلية التقية كما سماها الكاتب المؤرخ. وهي بلية أي بلية... بعد نشرنا ذلك وتعليقنا عليه نرى أن ننشر ما كتبه الآخرون المعاصرون لنشوء تلك الدولة، لأن فيما كتبوه هو أيضا صدى لما في نفوسهم. وأفضل ما نأخذه هنا هو ما كتبه قطب الدين النهروالي المتقدم ذكره وهو مؤرخ عاصر الأحداث وشاهدها، وكان لسان الآخرين المتوجسين من الدولة الجديدة الناقمين على قيامها. وما نأخذه هو ما نشره في كتابه الاعلام باعلام بيت الله الحرام. قال وهو يتحدث عن عهد السلطان العثماني بايزيد الثاني بن محمد الفاتح الذي تولى الملك سنة 886 ما نصه: وظهر في بلاد العجم في أيامه شاه إسماعيل بن الشيخ حيدر بن الشيخ جنيد الصفوي في سنة 905، وكان له ظهور عجيب واستيلاء على ملوك العجم يعد من الأعاجيب، فتك في البلاد، وسفك دماء العباد، وأظهر مذهب الرفض والالحاد، وغير اعتقاد العجم إلى الانحلال والفساد بعد الصلاح والسداد، وأخرب ممالك العجم، وأزال من أهلها حسن الاعتقاد، والله يفعل في ملكه ما أراد، وتلك الفتنة باقية إلى الآن في جميع تلك البلاد. وشرح ذلك يحتاج إلى تاريخ مستقل ولا أعلم أحد تعرض له من العلماء الأمجاد. وظهر من أتباع شاه إسماعيل المذكور في بلاد الروم (1) شخص ملحد زنديق يقال له شيطان قولي، أهلك الحرث والنسل، وعم بالفساد والقتل، وتبعه غواة لا تعد ولا تحصى، وقويت شوكته وعظم به على المسلمين في ذلك القطر الفتنة والبلاء. فأرسل السلطان بايزيد وزيره الأعظم علي باشا بعسكر كبير لقتل هذا الباغي وأمده بجيش عظيم لقطع جادرة هذا الطاغي، فاستشهد علي باشا في ذلك القتال، وقدم بأكفان شهادته إلى الله المتعال، وانكسر شيطان قولي المفسد التعيس، وعسكره من جنود إبليس، وقتل مع طائفة من أعوانه الأباليس، وأسكن الله هذه الفتنة بعد ما طمت، وكفى الله تعالى شر أولئك الأشرار بعد أن عظمت فتنتهم وعمت، وذلك في سنة 915 (2) انتهى. ثم يروي النهروالي ظهور الدولة الصفوية على الشكل التالي، فإنه بعد أن يذكر ظهور صفي الدين ثم يستمر في ذكر أحداث خلفائه حتى يصل إلى الشيخ جنيد فيقول ما نصه (3): فلما جلس الشيخ جنيد مكان والده في الزاوية بأردبيل كثر مريدوه وأتباعه في أردبيل فتوهم منهم صاحب آذربيجان يومئذ وهو السلطان جهانشاه بن قرا يوسف التركماني من طائفة قره قوينلو فاخرجوهم من أردبيل فتوجه الشيخ جنيد مع بعض مريديه إلى ديار بكر وتفرق عنه الباقون. وكان من أمراء ديار بكر يومئذ عثمان بيك بن قتلق بيك بن علي بيك من طائفة من آق قوينلو جد أوزون حسن بك البابندري وهو أول من تسلطن من طائفة أق قوينلو، وولي السلطنة منهم تسعة أنفس ومدة ملكهم اثنتان وأربعون سنة وأخذوا ملك فارس من طائفة قره قوينلو، وأول سلاطينهم قره يوسف بن قره محمد التركماني ومدة سلطنتهم ثلاث وستون سنة، وانقرض ملكهم على يد أوزون حسن بيك المذكور (4) في شوال سنة 873، وكان أوزون حسن بيك ملكا شجاعا مقداما مطاعا مظفرا في حروبه، ميمونا في نزوله وركوبه، إلا أنه وقع بينه وبين السلطان محمد بن السلطان مراد خان حرب عظيم في بايبرت فانكسر أوزون حسن بيك وقتل ولده زنيل بيك، وهرب هو وسلم من القتل وعاد إلى آذربيجان وملك فارس والعراقين، فلما التجأ الشيخ جنيد إلى طائفة آق قوينلو صاهره أوزون حسن بيك وزوجه بنته خديجة بيگم فولدت له الشيخ حيدر، ولما استولى أوزون حسن بيك على البلاد وطرد عنها ملوك قره قوينلو وأضعفهم عاد الشيخ جنيد مع ولده الشيخ حيدر إلى أردبيل وكثر مريدوه وأتباعه وتقوى
(1) المقصود ببلاد الروم هنا: الأناضول وما إليها من البلاد التركية. (2) الصفحة 259. (3) الصفحة 271. (4) يلاحظ هنا قوله: إن عثمان بيك من طائفة آق قوينلو وأنه جد أوزون حسن، ثم قوله: إن انقراض ملك آق قوينلو كان على يده. 65 باوزون حسن بيك لأنه صهره، فلما توفي أوزون حسن بيك ولي موضعه ولده السلطان خليل ستة أشهر، ثم ولده الثاني السلطان يعقوب فزوج بنته حليمة بيگم من الشيخ حيدر، فولدت له شاه إسماعيل في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من رجب سنة 892 وكان على يديه هلاك ملوك العجم طائفة آق قوينلو وقره قوينلو وغيرهم من سلاطين العجم كما هو معروف مشهور. وكان الشيخ جنيد جمع طائفة من مريديه وقصد قتال كرجستان ليكون من المجاهدين في سبيل الله (1) فتوهم منه سلطان شروان أمير خليل الله شروان شاه فخرج إلى قتاله فانكسر الشيخ جنيد وقتل وتفرق مريدوه، ثم اجتمعوا بعد مدة على الشيخ حيدر وحسنوا له الجهاد والغزو في حدود كرجستان، وجعلوا لهم رماحا من أعواد الشجر وركبوا في كل عود سنانا من حديد، وتسلحوا بذلك، وألبسهم الشيخ حيدر تاجا أحمر من الجوخ فسماهم الناس قزلباش، وهو أول من ألبس التاج الأحمر لأتباعه. واجتمع عليه خلق كثير، فأرسل شروان شاه إلى السلطان يعقوب بن أوزون حسن يخوفه من خروج الشيخ حيدر على هذه الصفة، فأرسل له أميرا من أمرائه اسمه سليمان بك بأربعة آلاف نفر من العسكر، وأمره أن يمنعهم من هذه الجمعية فان لم يمتنعوا أذن له أن يقاتلهم، فمضى إلى الشيخ حيدر ومنعه من هذه الجمعية فما أطاعه، فاتفق مع شروان شاه فقاتلاه ومن معه، فقتل الشيخ حيدر وأسر ولده شاه إسماعيل وهو طفل، وأسر معه أخواله وجماعته، وجاء بهم سليمان بك إلى السلطان يعقوب فأرسل بهم إلى قاسم بك الفرناك وكان حاكم شيراز من قبل السلطان يعقوب، وأمره أن يحبسهم في قلعة أصطخر فحبسهم بها واستمروا محبوسين فيها إلى أن توفي السلطان يعقوب في سنة 899، وتولى بعده السلطان رستم، ونازعه في السلطنة أخوانه وتفرقت المملكة واستقل في كل قطر واحد من أولاد السلطان يعقوب. فهرب أولاد الشيخ حيدر إلى لاهيجان من بلاد كيلان، وخرج من أخوان شاه إسماعيل خواجة شاه علي بن الشيخ جنيد وجمع عسكرا من مريدي والده وقاتل بهم فقتل في أيام السلطان رستم بن السلطان يعقوب ثم توفي السلطان رستم وولي مكانه السلطان مراد بن يعقوب وألوند بيك ابن عمه، وكان شاه إسماعيل في لاهيجان في بيت صائغ يقال له نجم زرگر، وبلاد لاهيجان فيها كثير من الفرق الضالة كالرافضة والحروفية والزيدية وغيرهم، فتعلم منهم شاه إسماعيل في صغره مذهب الرفض، فان آباءه كان شعارهم مذهب السنة السنية، وكانوا مطيعين منقادين لسنة رسول الله ص ولم يظهر الرفض غير شاه إسماعيل. فطلبه من أمراء ألوند بيك جماعة، وطلبوه من سلطان لاهيجان فأبى أن يسلمه لهم فأنكر وحلف لهم أنه ما هو عندي وورى في يمينه، وكان مختفيا في بيت نجم زرگر، وكان يأتيه مريدو والده خفية ويأتونه بالنذور ويعتقدون فيه ويطوفون بالبيت الذي هو ساكن فيه إلى أن أراد الله ما أراد وكثرت داعية الفساد، واختلفت أحوال البلاد باختلاف السلاطين وكثرة العناد بين العباد، ولو كان فيها آلهة إلا الله لفسدت. وحينئذ كثر أتباع شاه إسماعيل فخرج هو ومن معه من لاهيجان وأظهر الخروج لأخذ ثار والده وجده في أواخر سنة 905، وعمره يومئذ ثلاث عشرة سنة، وقصد مملكة الشروان لقتال شروان شاه قاتل أبيه وجده، وكلما سار منزلا كثر عليه داعية الفساد، واجتمع عليه عسكر كثير إلى أن وصل إلى بلاد شروان، فخرج لمقاتلته شروان شاه بعساكره وقاتلوه وقاتلهم فانهزم عسكر الشروان، وأسر شروان شاه فاتوا به إلى شاه إسماعيل أسيرا، فامر أن يضعوه في قدر كبير ويطبخوه ويأكلوه، ففعلوا كما أمر وأكلوه (2) وكان ذلك أول فتوحاته. ثم توجه إلى قتال ألوند بيك فقاتله وانهزم منه واستولى على خزائنه وقسمها في عسكره، وصار يقتل كل من ظفر به قتلا ذريعا (3) ولا يمسك شيئا من الخزائن بل يفرقها في الحال. ثم قاتل مراد بيك بن السلطان يعقوب فهزمه في الحال، وأخذ خزائنه وفرقها على عسكره، ثم صار لا يتوجه إلى بلاد إلا فتحها ويقتل جميع من فيها (4) وينهب أموالهم ويفرقها إلى أن ملك تبريز وآذربيجان وبغداد وعراق العرب وعراق العجم وخراسان وكاد أن يدعي الربوبية (5) وكان يسجد له عسكره ويأتمرون بأمره، وقتل خلقا لا يحصون ينوف على ألف ألف نفس بحيث لا يعهد في الاسلام ولا في الجاهلية ولا في الأمم السابقة من قتل من النفوس ما قتله شاه إسماعيل (6) وقتل عدة من أعاظم العلماء (7)، بحيث لم يبق أحدا من أهل العلم في بلاد العجم، وأحرق جميع كتبهم ومصاحفهم لأنها مصاحف أهل السنة (8)، وكلما مر بقبور المشايخ نبشها وأخرج عظامهم وأحرقها (9)، وإذا قتل أميرا من الأمراء أباح زوجته وأمواله لشخص آخر. ومن جملة مضحكاته أنه جعل كلبا من كلاب الصيد أميرا ورتب له ترتيب الأمراء من الخدم، والكواخي، والسماط، والليلاو، والأوطاق، والفرش الحرير ونحو ذلك، وجعل له سلاسل من ذهب ومرتبة ومسندة يجلس عليها كالأمراء (10). وسقط مرة منديل من يده إلى البحر وكان في جبل شاهق مشرف على البحر المذكور فرمى نفسه خلف المنديل من عسكره فوق ألف نفس تحطموا وتكسروا وغرقوا (11) وكانوا يعتقدون فيه الألوهية (12) ويعتقدون أنه لا ينكسر ولا ينهزم إلى غير ذلك من الاعتقادات الفاسدة.
(1) الكرج ليسوا مسلمين. (2) الباعث على هذه الافتراءات هو حقد المؤلف على قيام الدولة الصفوية وغيظه من انتصارات الشاه إسماعيل. (3) يضاف هذا إلى افتراءاته المتقدمة. وإسماعيل على كل حال لم يقتل أخاه خنقا بالوتر كما فعل السلطان سليم العثماني. ولا خنق في ليلة واحدة ستة من أقربائه، وخنق معهم في نفس الليلة سبعة من الأولاد من أقربائه أيضا كلهم رضع في المهد، كما فعل السلطان سليم نفسه كما يروي الكاتب نفسه. (4) عطفا على افتراءاته السابقة. (5) كلما ازدادت فتوحات الشاه إسماعيل ازداد غيظ المؤلف فتزداد افتراءاته وتتعاظم. (6) وأخيرا استقر حكم الشاه إسماعيل وقامت دولته الشيعية فلم يجد المؤلف شفاء لغيظه إلا هذا الافتراء الضخم المتناسب مع نجاح الشاه إسماعيل. (7) لو كان صادقا لذكر أسماء هؤلاء العلماء. (8) وهنا يفضح نفسه ويبرز مفتريا لا حدود لافتراءاته، فالمصحف هو مصحف واحد للسنة (9) وللشيعة. الذي احترق هو قلب النهروالي من قيام الدولة الصفوية وأما عظام الموتى فلم يحرقها أحد. (10) المضحك هو ذكر النهروالي لهذه الفرية وحسبانه أن الناس يمكن أن تصدقها. (11) حبذا لو ذكر لنا اسم البحر واسم الجبل لنصدقه، فمعلوماته الجغرافية لا أصل لها كتدويناته التاريخية. (12) بلغت الدولة الصفوية ذروتها فبلغت افتراءات النهروالي ذروتها، أنه بهذا البهتان وأمثاله يحاول التفريج عن كربته. 66 محاولة القضاء على الدولة في مهدها إذا كان ما ذكره النهروالي هو تعبير عما كان يعتلج في قلوب الآخرين من قيام الدولة الشيعية، وهو كلام مجرد كلام، فان السلطان سليم قد صمم على أن يحيل هذا الكلام إلى فعل، فالتفجع لوقوع هذا الحدث الخطير لا يعني شيئا في حين أن المطلوب هو العمل المجدي الذي يحول دون استفحال أمر هذه الدولة، ثم القضاء عليها في مهدها. وهذا ما صمم عليه السلطان سليم وقرر تنفيذه. ويقول صاحب كتاب تاريخ العرب الحديث في الصفحة 16 ما يلي: دخل إسماعيل مدينة تبريز عام 908 1502 م حيث أعلن نفسه ملكا وحاميا للمذهب الشيعي الذي جعله المذهب الرسمي للبلاد إلى أن يقول بعد أن يردد ويخترع ما يردده ويخترعه من اتهامات هي وليدة النقمة على قيام الدولة الجديدة ليس إلا، وإن كنت لا تعجب من نقمة الماضين، فإنك لتعجب وتأسف أن يكون لأساتذة الجامعات ومؤلفي التاريخ الحديث في هذا العصر نفس الذهنية التي كانت للنهروالي وأمثاله قبل قرون وقرون. يقول صاحب تاريخ العرب الحديث متابعا كلامه السابق: وشعر المسؤولون في استانبول بعظم الخطر الجديد، فاجبر سليم أباه المسالم بايزيد الثاني على التنازل عن العرش، وأهمل سليم جبهة البلقان وركز اهتمامه بشؤون دار الاسلام. لقد رأى بل رأوا الخطر في قيام دولة شيعية تكف الأذى عن الشيعة، وليس الخطر بل عظم الخطر، ولم ير بل لم يروا عظم الخطر في صليبية البلقانيين بل رأوه في إسلام الصفويين. فأهمل سليم جبهة البلقان وركز اهتمامه بشؤون دار الاسلام، على حد تعبير صاحب تاريخ العرب الحديث. ولنعد الآن إلى بقية حديث النهروالي المعاصر للأحداث. يقول النهروالي متحدثا عن السلطان سليم: فلما وصلت أخباره الشاه إسماعيل إلى السلطان سليم خان تحركت فيه قوة العصبية، وأقدم على نصرة السنة الشريفة السنية، وعد هذا القتال من أعظم الجهاد، وقصد أن يمحو من العالم هذه الفتنة وهذا الفساد، وينصر مذهب أهل السنة الحنيفية على مذهب أهل البدع والالحاد، ويأبى الله إلا ما أراده، فتهيأ السلطان سليم بخيله ورجله وعساكره المنصورة ورحله وسافر لقتاله، وأقدم جلاده وجداله، وهو يجر الخميس العرمرم ويصول بسيف عزمه ويقدم ويتقدم، إلى أن تلاقى العسكران في قرب تبريز، ورتب السلطان سليم عسكره، وتنزل من عند الله الفتح القريب والنصر العزيز، فتجالد الفريقان بجالدران وتطارد الفرسان وتعانق الشجعان يهدرون كاليخاتي الفوالج فوق البحور الموايج، وتصادمت فرسان الزحف والصيال، تصادم أطواد الجبال، وصارت نجوم الأبطال رجوم البطش والقتال، فزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأهوال أثقالها، وحيلت المعركة سماء غمامها والقسطل، وصواعقها بروق البيض من بريق الصيقل، ورعودها صليل السيوف في أعتاق الجحفل، وغيوثها صبيب الدم من أوداج رؤوس تحز وتفصل، وأحجار المدافع كجلمود صخر حطه السيل من عل، إلى أن طارت قلوب الأعداء هواء وذهبت قواهم هباء، وولوا على أدبارهم إدبارا، وانهزم شاه إسماعيل وولى فرارا، ولم يجد له من دون الله أنصارا. هذا هو الوصف المجلجل الذي خطه قلم النهروالي لمعركة جالديران ولا عجب في ذلك وهو يتحدث بلسان المنتصرين. وإذا قارناه بالوصف المتقدم للمعركة بقلم مؤرخ الصفويين نرى كم كان هذا الأخير مجمجما متلجلجا يريد أن يخلق من الضعف قوة، ولا عجب فهو ينطق بلسان المنهزمين. المنتصرون لا الانتصار العسكري فحسب بل الانتصار العقائدي المذهبي الذي يرى في الآخرين ضلالا، وفي قيام دولتهم الهول كل الهول!... والمنهزمون لا الانهزام العسكري فحسب بل انهزام الحلم الجميل الذي عاشوه قرونا وقرونا حتى إذا تحقق رأوه يكاد ينطوي في طيات الزمن!... وقد كان يمكن أن تكون معركة جالديران حاسمة بكل معاني الحسم، وأن تقضي على الدولة الصفوية، القضاء المبرم، ولكنها لم تكن كذلك، بل مرت مرورا عابرا عاودت بعده الدولة الجديدة مسيرتها المظفرة، فكان لا انهزاما ضاريا أصابها، ولا انتصارا كاسحا ناله عليها أعداؤها، فالجيش تمزق في جالديران، والعاصمة احتلت، وأصبحت البلاد كلها عرضة للاحتلال والاغتصاب دون مدافع ولا ذائد ولا مانع. فإذا بإسماعيل ينهض من بين الأنقاض وينفض عنه غبار الهزيمة ويعاود النصر بعد النصر حتى يصل إلى بغداد والموصل والبصرة!... أما السبب في ذلك فيحدثنا عنه النهروالي: ولكننا قبل أن ننقل وصف ما جرى بعد الهزيمة لا بد لنا من أن ننقل الجملة التي ختم بها النهروالي وصفه للمعركة حيث قال: فوطئت حوافر خيله السلطان سليم أرض تبريز فنهى فيها وأمر، وقتل من أراد وأسر، وأعطى الرعية تمام الأمن والأمان، ونشر فيها أعلام أهل الايمان. ولا يبالي النهروالي بان يقع في التناقض ما دام قد شفى غيظه بهزيمة الشاه إسماعيل، فكيف يجتمع الأمن والأمان مع القتل والأسر. والمهم في هذا الكلام هو قوله: ونشر فيها تبريز أعلام أهل الايمان فأعلام الصفويين أعلام أهل الكفر، وأعلام العثمانيين أعلام أهل الايمان!... بهذه الذهنية التي ليست هي ذهنية النهروالي وحده بهذه الذهنية تخلى السلطان سليم عن مقارعة صليبية البلقانيين ونهد إلى مقارعة إسلام الصفويين!... والتناقض الذي يقع فيه النهروالي والذي أشرنا إليه من قبل ليس هو التناقض الوحيد. بل إن النهروالي الذي زعم فيما تقدم من القول أن الشاه إسماعيل قتل العلماء حتى لم يبق منهم أحد، يقول الآن إن السلطان سليم حين رحل رحيله عن تبريز: أخذ منها من أراد من الفضلاء الأفاضل، والمتميزين في الصنائع والفضائل، والشعراء الأماثل وساقهم إلى إسطنبول. إذن فتبريز كانت مملوءة بالفضلاء الأفاضل والشعراء الأماثل، وإذن فان الشاه إسماعيل لم يقتلهم!...
67 يقول النهروالي بعد ذلك متحدثا عن سبب انكفاء السلطان سليم عن تبريز وتخليه عن النصر العظيم الذي أحرزه: وأراد أن يقيم في تبريز للاستيلاء على إقليم العجم، والتمكن من تلك البلاد على الوجه الإثم، فما أمكنه ذلك لكثرة القحط واستيلاء الغلاء بحيث بيعت العليقة بمائتي درهم، وبيع الرغيف الخبز بمائة درهم. وسبب ذلك أن القوافل التي كان أعدها السلطان سليم لأن تتبعه بالميرة والعليق والمؤن تخلفت عنه في محل الاحتياج إليها، وما وجدوا في تبريز شيئا من المأكولات والحبوب، لأن شاه إسماعيل عند انكساره أمر باحراق أجران الحب والشعير وغير ذلك فاضطر السلطان سليم خان إلى العود من تبريز إلى بلاد الروم تركيا وتركها خالية خاوية على عروشها، ثم تفحص عن سبب انقطاع القوافل عنه فأخبر أن سبب ذلك سلطان مصر قانصوه الغوري، فإنه كان بينه وبين شاه إسماعيل محبة ومودة ومراسلات، بحيث إن السلطان قانصوه الغوري كان يتهم بالرفض في عقيدته بسبب ذلك... انتهى. ولم تكن محاولة السلطان سليم القضاء على الدولة الصفوية التي مر ذكرها هي المحاولة الوحيدة، بل كانت المحاولة الأولى، فإنه بعد انتصاره على قانصوه الغوري في حلب وعلى طومان باي في مصر، حاول العودة إلى تبريز، وكانت آخر محاولة له هي التي يتحدث عنها النهروالي قائلا: فلما أراد سفرا ثالثا إلى بلاد العجم لقطع جاذرة طائفة القزلباش (1) رأى أن ما بقي من خزائنه لا يفي بتلك المصاريف، فتأخر ليجتمع في خزائنه مما يجمع له من خراج البلاد قدر ما يفي له بالمراد، ويأبى الله إلا ما أراد. ولم يلبث السلطان سليم أن مرض ومات سنة 933. وجاء ابنه سليمان وفي نفسه التصميم نفسه على القضاء على الدولة الناشئة للسبب نفسه، ونترك للنهروالي أن يحدثنا عن ذلك: أرسل السلطان سليمان قبل سفره الميمون الوزير الأعظم إبراهيم باشا بعسكر عظيم، وجيش كالبحر الغطمطم، وفية كبيرة كالخميس العرمرم، لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول سنة 941 ووصل إلى حلب وشتى بها هو ومن معه من العساكر المنصورة السليمانية والجيوش المؤيدة الخاقانية. وبرز عقبه الوطاق الشريف السلطاني والمخيم المكرم الخاقاني العثماني إلى أسكودر آخر شهر ذي القعدة الحرام سنة 941 واستمر متوجها لنصرة السنة الشريفة السنية وقطع طوائف الرافضة البلية إلى أن وصل مخيمه الشريف العالي إلى يبلان أوجان قريب تبريز، وجاء إلى استقباله الوزير المعظم إبراهيم باشا بمن معه من العسكر المنصور وتوجها بجميع العساكر المنصورة إلى أخذ سلطانية من مملكة العجم. ثم يذكر النهروالي أن الثلوج حالت دون تقدم السلطان سليمان قائلا: واستولى البرد الشديد على العسكر المنصور ونزل الثلج كأنه الجبال. فعند ذلك قرر السلطان سليمان الرجوع عن تبريز والتوجه إلى بغداد والاستعاضة بفتحها عن فتح تبريز. وفي ذلك يقول النهروالي: فنزل بعسكره المنصور في بغداد. ثم يقول: وأمرت الحضرة السلطانية بتحصين قلعة بغداد وحفظها وصونها من الالحاد ثم كانت للسلطان سليمان محاولة ثانية يعبر عنها النهروالي بقوله: بادرت الحضرة السلطانية بجيوشها المنصورة العثمانية إلى أن تشتي في مدينة حلب وبعد انقضاء الشتاء يتوجه إلى أخذ بلاد قزلباش. ثم يواصل كلامه بعد استطرادات قائلا: فلما انقضى الشتاء توجه الركاب الشريف السلطاني إلى نخجوان من بلاد العجم ثانيا. وانتهى أمر هذه الحملة بالعودة إلى استنبول دون أن تحقق غايتها. ويقول النهروالي عن ذلك دون أن يدخل في التفاصيل: فجاءت رسل الشاه وطرق باب الصلح فرأت الآراء الشريفة السلطانية إجابة الشاه إلى سؤاله ترويحا للعساكر السلطانية وصونا لدماء الرعية فأنعمت على الشاه بما يتمناه. وإذا كان النهروالي لم يذكر التفاصيل ولا الأسباب التي حملت السلطان سليمان على قبول الصلح والعودة من حيث أتى دون الوصول إلى هدفه، واكتفى بالقول بأنه فعل ذلك ترويحا للعساكر السلطانية وصونا لدماء الرعية. فإننا نستطيع أن نتبين السبب الحقيقي، وهو أن السلطان سليمان بعد دراسته الموقف عن قرب عرف استحالة هزيمة الجيش الصفوي لمنعته واستعداده وتحوطه فاثر العودة. أما ترويح العساكر السلطانية وصون دماء الرعية فلو كانت هي السبب كما يزعم النهروالي لما أقدم السلطان أصلا على إقحام العساكر السلطانية بما ينافي الترويح عنها، ولا ساق الرعية إلى ما يؤدي إلى سفك دمائها. أم كلثوم بنت الشهيد الشيخ محمد تقي القزوينية البرغانية. ولدت حدود سنة 1224 وتوفيت بعد سنة 1268 كانت من فواضل نساء عصرها. قرأت المقدمات والعلوم العربية والأدب على عمة والدها ماه شرف، ثم أخذت الفقه والأصول عن والدها الشهيد وعمها الشيخ محمد صالح البرغاني الحائري، وحضرت في الحكمة والفلسفة على الشيخ ملا آغا الحكمي القزويني، ثم زفوها لابن عمها الشيخ الميرزا عبد الوهاب البرغاني القزويني وهو الابن الأرشد لعمها الشيخ محمد صالح. تصدرت التدريس في قزوين وطهران وكربلاء، للنساء. وأوقفت مكتبتها سنة 1268 على كافة طلاب العلوم الدينية وجعلت التولية بيد زوجها، ثم بعد وفاته بيد شقيق زوجها الشيخ حسن. ومن مؤلفاتها تفسير سورة فاتحة الكتاب (2). أمانت. الاسم الشعري للشاعر الهندي السيد آغا حسن المولود سنة 1231 والمتوفى سنة 1275. له مرات في الحسين ع ابتدأ بها شعره. ثم نظم في الغزل،
(1) يقصد بهم اتباع الشاه إسماعيل من الشيعة. راجع ما مر عن سبب هذه التسمية. (2) الشيخ عبد الحسين الصالحي. 68 فكان له مجموعتان شعريتان: عرفت إحداهما باسم: گلدسته أمانت والثانية الديوان الذي عرف أيضا باسم: خزائن الفصاحة وقد نشر لأول مرة سنة 1285 في لكهنو. واشتهرت له مسرحية إندارسبها وهي مسرحية فكاهية أتمها سنة 1270 ونشرها مشروحة في العام التالي، وقد أولع الجمهور الهندي بها، وسارت في أوساطه كل مسير. ولشهرتها حذا حذوها العديد من الكتاب الهنود. أويس الأول. مرت ترجمته في الصفحة 512 من المجلد الثالث. ونزيد عليها هنا ما يلي: أجمع المؤرخون على الإشادة بشفقته وعدله وشجاعته، وقد كان إلى ذلك يرعى الأدب والأدباء. وأهم من مدحه من الشعراء: سلمان الساوجي الذي خلف لنا عدة مقطوعات بها فيها بأعظم ما وقع في عهده من حوادث. وكان المترجم جميل الخط رساما شاعرا. ضربت السكة باسمه في بغداد وتبريز وغيرها، وكان على السكة التي ضربت باسمه في بغداد سنة 758 لقب: السلطان العالم العادل. والتي ضربت فيها سنة 762 لقب: السلطان الأعظم شيخ أويس بهادر. والتي ضربت عام 766 كانت تحمل الاسم باللغة المغولية. وعلى السكة التي ضربت في شيراز سنة 766 لقب: الواثق بالملك الريان. وهناك أويس الثاني بن سلطان ولد بن علي بن أويس الأول المترجم، وهو سابع السلاطين الجلائرية، حكم خوزستان والبصرة وواسط من عام 818 إلى 824 وقتله شاه محمد التركماني، وأمه تاندو ابنة حسين بن أويس الأول، وهي امرأة قديرة، كانت في أوائل عهد ابنها في الحكم، وهو صغير السن بمثابة الوزير له. وفي أعيان الشيعة يعتبر المترجم ايلخانيا، أما في دائرة المعارف الاسلامية فيعتبره مينورسكي جلائريا ويعبر عنه بثاني السلاطين من أسرة جلائر. على أن بارتولو في دائرة المعارف الاسلامية نفسها يقول: يجعل بعض المؤرخين الجلائرية من الايلخانية، والحق أنهم لا ينتسبون إليهم إلا عن طريق النساء، فان حسنا مؤسس هذه الأسرة كان حفيدا لأرغون من ناحية أمه. الشيخ أيوب بن عبد الباقي البوري البحراني. هو من أعيان العلماء وفي السنة التاسعة بعد الألف رحل من البحرين لضيق المعيشة وقطن في الديار المصرية وصار مدرسا للشافعية حتى فهموا منه التشيع وقتل في حجرته في السنة العاشرة بعد الألف ولم يوجد من تأليفاته شئ. قاله صاحب السلافة رحمة الله عليه. هذا ما قاله صاحب كتاب تاريخ البحرين المخطوط. ويبدو جليا أن الرجل كان من أفاضل علماء البحرين، وأنه لم يكتف بدراسة الفقه الشيعي، بل درس المذاهب الفقهية الأخرى حتى استطاع أن يتولى تدريس الفقه الشافعي في مصر. والظاهر أن رحلته إلى مصر كانت للاستزادة من العلم درسا وتدريسا، فاكتشفوا من بعض أقواله تشيعه فلم يمهلوه حتى قتلوه... وفي هذه الترجمة الموجزة الكثير مما يثير الاهتمام والتفكير: من ذلك كون البحرين في أوائل القرن الحادي عشر منبتا للعلماء ودارا للعلم. ثم اتقاد جذوة التعصب الأعمى في كل عصر ومصر. لقد هجموا على الشيخ العالم المدرس في حجرته فقتلوه فيها بمجرد أن استنتجوا تشيعه. وبعد ذلك يتساءلون لماذا أخذ الشيعة بالتقية، ويعيرونهم بها... بابر ظهير الدين محمد. مؤسس الأمبراطورية المغولية في الهند. نذكر أولا تلخيصا لسيرته، ثم نعقبه ببعض التفاصيل وإن لزم التكرار: ظهير الدين محمد بن عمر، وحفيد ميران شاه بن تيمور لنك، ويتصل نسبه من ناحية أمه بجنكيز خان. هو مؤسس الأسرة المغولية التي حكمت الهند، وكانت من أعظم الأمبراطوريات الاسلامية. وخلف أباه عمر شيخ في منصب ميرزا فرغانة سنة 899 1494 وفي سنة 903 1498 م استولى على سمرقند في صراع مع أقاربه ولكنه اضطر للتخلي عنها. وبعد صراعات ومعارك أفقدته ملكه قرر عبور جبال هندوكش فاستولى على كابل سنة 909 1540 م وفي سنة 917 1511 استطاع بمساعدة الشاه إسماعيل الصفوي أن يهزم الأزابكة وأن يحتل بخارى وسمرقند، ولكنه، اضطر بعد عام للانسحاب إلى كابل. وقرر هذه المرة أن يعدل خططه فيتجه إلى الهند بعد أن كان قد حاول ذلك في احتلاله الأول لكابل. وبعد احتلاله لقندهار سنة 928 1522 م اغتنم فرصة نشوب نزاع بين إبراهيم لودي ملك دهلي وبين الزعماء الأفاغنة فاستولى على لاهور سنة 930 1524 ثم انتصر على إبراهيم سنة 932 1526 في حرب قتل فيها إبراهيم. ومضى بابر في الهند متخذا من مدينة اكرا عاصمة له، واضطر لخوض عدة معارك، وامتدت امبراطوريته من أفغانستان غربا إلى البنغال، ومن هملايا إلى جواليار جنوبا. كان بابر مقداما شجاعا لم تضعف عزمه قلة الأنصار الذين لم يتجاوزوا أحيانا 240 رجلا. وكان عبوره جبال هندوكش المغطاة بالثلوج شتاء من أقوى مغامراته. وكان إلى ذلك شاعرا أديبا ترك ديوانا شعريا باللغة التركية وبعضه بالفارسية، ومجموعة من المثنويات تسمى مبين. كما ترك مذكرات تعرف باسم بابرنامه وتعتبر من أهم ما سجل من تاريخ المغول في الهند. كتبها باللغة الجغتائية إحدى لهجات اللغة التركية الشرقية. وهنا بعض التفاصيل: ولد سنة 888 1483 م وتوفي سنة 937 1530 م في آكرا ودفن فيها، ثم نقل جثمانه بعد عدة سنوات إلى قبره الحالي في كابول اشتهر باسم بابر ولم يعرف باسم محمد، وهو من جهة أبيه ينحدر في الجيل الخامس من صلب
69 تيمور، ومن جهة أمه في الدرجة الخامسة عشرة من جنكيز. خلف أباه في حكم فرغانة سنة 899 وفي سنة 903 ضم سمرقند وغيرها إلى ملكه، ولكنها لم تدم له طويلا، إذ استطاع الخان شيباني الأوزبكي أن يخرجه من كل ذلك، وبعد معارك دارت أحيانا سجالا اضطر بابر إلى اللجوء إلى خاله في طشقند. وأخيرا قر قراره على أن يعبر جبال هندوكوش إلى أفغانستان فاستولى على كابل سنة 909. وفي سنة 911 وصل إلى هرات ملبيا طلب السلطان حسين ميرزا بايقرا لمناصرته على الأزبكيين، ولكن الأمر لم يتم إذ توفي السلطان ولم يكن في أولاده من له كفاءته، فاستولى شيباني خان على معظم خراسان. على أن بابر استولى سنة 913 على قندهار منتزعا إياها من بني أرغون، ولكن شيباني طارده في ملكه الجديد، فصمم بابر على النفاذ إلى الهند. وفي أثناء ذلك وقع الصراع بين شيباني والشاه إسماعيل الصفوي فانتصر إسماعيل وقتل شيباني بمرو سنة 916، فعاد بابر إلى سمرقند سنة 917 مؤيدا من الشاه إسماعيل مقرا بتبعيته له على أن الأمور لم تصف له فعاد إلى كابول بعد سنتين متخذا منها نقطة انطلاق لما يحاول من ملك عريض، واستطاع سنة 928 الاستيلاء على قندهار. وهنا صمم على العبور إلى الهند بعد أن كان منذ سنة 922 قد أنفذ إليها حملات استطلاعية صغيرة، أفادته في التعرف على مواطن الضعف والقوة فيها ثم قام نزاع بين إبراهيم لودي وبين الأفغانيين فاهتبل بابر الفرصة وتقدم في الهند واستولى على لاهور سنة 930 ثم أباد قوات إبراهيم لودي في بانيبت سنة 932 واحتل دلهي وآكرا وتقدم حتى جونبور وغازيبور. وبانتصاره على الأفغانيين الشرقيين سنة 935 وصل حتى البنغال. وكان بابر أديبا شاعرا، كتب باللغة التركية الجغتائية كتاب بابرنامه وهي سيرة ذاتية له ذكر فيها، قصة حياته وطفولته إلى آخر سنوات عمره، كان فيها صريحا كل الصراحة فتحدث عن ضعفه وأخطائه وهزائمه، فكان فيها واقعيا بعيدا عن الانفعالات النفسية، ولم يكن القصد منها الدفاع عن النفس. وقد اعتبرها بعض الدارسين بما فيها من قوة الملاحظة والقدرة على التحليل والفهم لنفسية الشعوب والافراد. وما في لغتها من صفاء وبساطة ووصف حافل بالألوان الجياشة بالحياة اعتبرها من روائع النثر التركي. ولبابر ديوان شعر معظمه باللغة التركية، وبعضه باللغة الفارسية، يشتمل على الغزل والمثنوي والرباعي والقطعة والمعمى والمفرد. ويدل هذا الديوان على أن بابر لم يكن دون أي من الشعراء الجغتائيين في القرن الخامس عشر. وفي الديوان نقرأ أغاني الحب الصوفي والخمريات إلى جانب موضوعات الحياة اليومية. عدا عن أن قصائد الديوان هي في الأصل باللغة التركية، فان فيه ما يزيد على عشرين قصيدة باللغة الفارسية. ويجهر في الديوان بأنه تركي مشيدا بشجاعة الأتراك، وإذا عد بابر في التاريخ السياسي بين الملوك المظفرين المؤسسين الناجحين، فإنه يعد ولا شك في التاريخ الأدبي في أول الشعراء الأتراك، ولا يسبقه إلا الشاعر نوائي. ولبابر رسالة في العروض اكتشفت سنة 1923 مخطوطة في ملحق المكتبة الأهلية في باريس. السيد باقر الدمستاني البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو أول فاضل تصدر للافتاء في قرية الدمستان، كان حليما حكيما، وعالما عاملا، وشاعرا كريما، له كتاب نفيس مسمى بالأمالي وهو مشحون من أدبه وسوانحه. قال طاب ثراه في أول مقدمات كتابه: إن للشعراء ألفاظا صارت بينهم حقائق عرفية. وإن كانت في الأصل مجازا، لكثرة دورها في كلامهم وتعاطيهم استعمالها، لأنهم ألفوا ذلك من تداولها وتكرارها في مسامعهم، ومن ذلك الغصن إذا أطلقوه فهموا منه القوام، والكثيب إذا أطلقوه فهموا منه الردف، والورد إذا أطلقوه فهموا منه الوجنة، والأقاحي إذا أطلقوه فهموا منه الثغر، والراح إذا أطلقوه فهموا منه الريق، والنرجس، إذا أطلقوه فهموا منه العيون، كل هذه الأشياء انتقلت عن وضعها الأصلي وصارت حقائق عرفية نقلها الاصطلاح إلى هذه الأشياء، ثم ذكر أشعارا من نفسه ومن غيره لاثبات مقدمته، وبالجملة مات قدس سره سنة 1121. بيرم خان خانان. وردت له ترجمة موجزة في الصفحة 616 من المجلد الثالث ولكن وقع فيها خطان مطبعيان لم يصححا، إذ ورد اسمه برام بدل بيرم وجان خانان بدل خان خانان. ونذكر من ترجمته هنا ما يلي: قتل سنة 963 ومعنى خان خانان: أمير الأمراء هو من كبار رجال الشيعة التاريخيين في الهند، ومن المؤسسين الفاعلين في قيام الأمبراطورية الاسلامية المغولية فيها، إذا لم نقل إنه الفاعل الأول. وهو من أصل تركماني ينتمي إلى قبيلة بهارلو المتفرعة من القره قويونلي وهو ابن سيف علي بك، ومن أحفاد علي شكر، وعلي شكر هذا هو والد أو جد شير علي الذي كان من أعوان جهان شاه برني، ثم من أعوان السلطان محمود ميرزا ثم صهره على ابنته. ثم التحق ابنه جان علي بك ببابر. ثم خلفه في ذلك ابنه سيف علي والد المترجم في أوائل شبابه، وهو الذي صار واليا على غزنة. وبعد وفاة بابر التحق بهمايون (2). أما ولادة بيرم فيقال إنها كانت في بدخشان، أو في غزنة، وقد فقد والده في سن مبكرة، ولم يلبث أن هاجر إلى بلخ، وفيها عكف على الدراسة، وكانت دراسته جدية مثمرة جعلت منه رجلا واسع الاطلاع، وكان إلى جانب ذلك شاعرا. وقد التحق وهو في السادسة عشرة من عمره بهمايون، وعند ما كان همايون في كابل وعزم على الانتقال إلى الهند صحبه بيرم، وشارك معه في معركة: تشوسه سنة 946، ومعركة قنوج سنة 947، اللتين انتهتا بهزيمة همايون، ولما طارده الأعداء احتمى مع زميندار بسمسبهل التي كانت إقطاعا لهمايون. ولما اكتشف رجال شير شاه سور مكانه وأبلغوا ذلك إلى أمير الأفغان الذي خيره بين أن يكون من رجاله أو يترك سمبهل ففر إلى كجرات إلى
(1) القره قويونلي: القطيع الأسود، مقابل آق قويونلي: القطيع الأبيض. (2) من أباطرة المغول في الهند، وهو ابن بابر ووالد محمد أكبر. حكم الهند (1530 - 1540). 70 بلاط ملكها محمود فحماه وألحقه بخدمته، وظل طامحا إلى ما هو أبعد من ذلك، مترقبا الفرص المؤاتية، فاستأذن محمودا بالسفر إلى الحج، ولما أذن له قصد إلى راجبوتانه عابرا صحراء السند وصولا إلى همايون فلقيه سنة 950 1543 م في بلدة جون التي كانت في ذلك الوقت عبارة عن أطلال. وكان همايون الإمبراطور المشرد حينذاك يكافح مستيئسا لاسترداد ملكه. وقد رافقه بيرم في ذهابه إلى قندهار السنة 950 1543 م مستنجدا بأخيه ميرزا عسكري. ولكنه لم يجد منجدا، بل اضطر للنجاة بنفسه مع رفيقه بيرم ملتجئين إلى الشاه طهماسب ملك إيران الذي استنصره همايون فنصره، ولما طلب الشاه طهماسب إلى بيرم أن ينضم إليه ويعمل معه، اعتذر بأدب عن تلبية طلب الشاه وآثر ملازمة همايون مواسيا له بنفسه مرافقا له في الكفاح المرير لاسترداد العرش المفقود، وقد قاد بيرم بعد ذلك جيش همايون في معارك ناجحة السنة 961 1554 م، ثم توج ذلك بانتصاره الحاسم على سكندر سور السنة 963 1555 م في ماتشهيوار، وقد أبدى في انتصاره هذا من النبل والشهامة ما لم يكن مألوفا في أخلاق المنتصرين في تلك العهود في معاملة المقهورين. وكانت نتيجة هذه المعركة ضمان مستقبل همايون في التربع على عرش الهند، وكان الفضل في ذلك لبيرم خان. وفي السنة 962 1555 م عهد إلى بيرم تقديرا لجهوده بان يكون أتالق لمحمد أكبر الذي كان لا يزال يومذاك في الثالثة عشرة من عمره، وصار يلقب بلقب خان بابا أي والد الخان، وأصبح بمكان الأب لمحمد أكبر. ثم رافقه بعد ذلك إلى البنجاب التي عين أكبر واليا عليها. ولما فوجئ الناس بوفاة همايون كان بيرم يطارد فلول جيش سكندر سور في كلانور فبادر في الحال للسيطرة على الوضع وأعلن حلول أكبر محل أبيه. ولم يلبث هيمو قائد جيش سور أن هاجم دهلي ففر منها الوالي المغولي تردي بك بدون مقاومة، فامر بيرم باعدامه ليكون عبرة للآخرين، ويبدو أن بيرم لم ينس له أنه عند ما لجا همايون إلى قندهار العام 950 كما مر وطلب من تردي بك أن يعيره جواده لتمتطيه زوجته حميدة بانو بيگم أم الطفل أكبر عند اضطراره مع بيرم للنزوح عن المدينة التي خابا فيها لم ينس بيرم أن تردي بك رفض أن يعيره الجواد وعامله بغلظة، فجاءت الفرصة المناسبة الآن ليعاقبه بيرم على تخليه عن الدفاع عن المدينة فارا منها بدون مقاومة، متذكرا غلظته في رفضه إعارة الجواد ومعاملة همايون وبيرم معاملة مهينة أيام المحنة... وفي العام 964 1556 م التقى بيرم وهو قائد قوات الأمبراطورية المغولية بقوات هيمو في موقعة بانيبست، فانتصر بيرم انتصارا كاسحا، وأسر هيمو بعد ما جرح، فامر بيرم بقتله بموافقة ضمنية من همايون، وقد ليم بيرم على قتله أسيرا جريحا، ولكن الظرف كان فيما يرى المدافعون عنه يسمح بمثل هذه المعاملة لثائر متمرد على الدولة يريد أن ينتزع تاج ملكها لنفسه. وبهذا النصر الذي شتت الجيش الأفغاني وضع بيرم حدا لعدم الاستقرار، وتم أمر الهند لمحمد أكبر امبراطورا غير منازع، يحكم وصيه بيرم الهند باسمه. وبذلك بلغ بيرم أوج سلطانه. ثم ازداد تألقه بزواجه سنة 965 1557 م من سليمة سلطان بيگم، وهي ابنة عم أكبر وابنة كل رخ شقيقة همايون، حيث صار جزءا من الأسرة المالكة. على أن إنصاف بيرم للشيعة، ورفعه الاضطهاد عنهم، ومراعاة كفاءة أصحاب الكفاءات منهم، لا سيما في مناصب الدولة، ومن ذلك تعيينه الشيخ كدائي كمبوه الدهلوي صدرا للصدور السنة 966 1558 1559، قد أثار عليه نقمة المتعصبين. على أن أكبر نفسه كان يضايقه تدخل بيرم في متعه الصبيانة كما يعبر عنها أحد المؤرخين ثم بعد ذلك عدم إغداق المال عليه وعلى الأسرة المالكة، فتزعمت ما هم أتكه مرضعة أكبر جماعة من رجال القصر للدس على بيرم وإفساد ما بينه وبين أكبر وتفاقمت الأمور على بيرم وشعر أن الأحوال تسير في غير ما يهواه، وبعد أن سلم بالأمر الواقع وتخلى عن الكثير من سلطاته عاد معلنا التمرد، ولكنه لم ينجح في تمرده، فتغاضى أكبر عن تمرده ولم يؤاخذه عليه، ذاكرا له حسن بلائه مع أبيه في قيام الأمبراطورية المغولية. وعزم بيرم على الحج إلى بيت الله الحرام، وبوصوله إلى بتن في الرابع عشر من جمادى الأولى السنة 968 1561 م اغتاله هناك رجل أفغاني كان أبوه قد قتل في معركة ماتشهيواره ونهب مخيم بيرم وتشردت أسرته، وفيها ولده الطفل عبد الرحيم، ولجأت معدمة إلى أحمدآباد، ونقل جثمانه إلى دهلي حيث دفن مؤقتا، وفي السنة 179 1563 1564 نقل إلى جوار الإمام الرضا ع في مشهد، وقبره ذو القبة العالية معروف هناك. وإذا كانت هذه حياة بيرم السياسية، فان له حياة أخرى مقرونة بالعلم والشعر، فقد كان عالما في العلماء، شاعرا في الشعراء، ينظم بالفارسية والتركية. وقد لقي العلماء والأدباء والفنانون والصناع منه كل الرعاية والعطف. ولم يستطع متعصب شديد التعصب مثل البداءوني أن يتجاهل مزايا بيرم فاضطر للثناء عليه، وهو الذي لم يسلم من ثلبه أحد. وفي السنة 1910 برز بيرم الشاعر بنشر ديوانه في كلكته. وقد أدرك أكبر المدين هو وأبوه من قبله بعرشيهما لبيرم مقدار الجحود فيما فعله ببيرم، فاحتضن ولده اليتيم ميرزا عبد الرحيم خان، الذي أصبح بعد ذلك يحمل لقب أبيه خان خانان راجع: بابر. جارية بن قدامة السعدي. مرت ترجمته في الصفحة 58 من المجلد الرابع. ولما كان هو القامع لحركة ابن الحضرمي في البصرة رأينا أن ننشر هنا تفاصيل تلك الحركة ودور جارية في قمعها، وإننا نعتمد في ذلك على كتاب الغارات لابن هلال الثقفي: لما أصاب معاوية بن أبي سفيان محمد بن أبي بكر بمصر وظهر عليها دعا عبد الله بن عامر الحضرمي فقال له: سر إلى البصرة فان جل أهلها يرون رأينا في عثمان ويعظمون قتله وقد قتلوا في الطلب بدمه وهم موتورون حنقون لما أصابهم، ودوا لو يجدون من يدعوهم ويجمعهم وينهض بهم في الطلب بدم
71 عثمان، واحذر ربيعة وأنزل في مضر وتودد الأزد، فان الأزد كلهم جميعا معك إلا قليلا منهم فإنهم غير مخالفيك، واحذر من تقدم عليه. فقال له عبد الله بن عامر: أنا سهمك في كنانتك: وأنا من قد جربت وعدو أهل حربك وظهيرك على قتلة عثمان فوجهني إليهم متى شئت، فقال له: اخرج غدا إن شاء الله، فودعه وأخذ بيده وخرج من عنده. فلما كان الليل جلس معاوية وأصحابه يتحدثون، فقال لهم معاوية: في أي منزل ينزل القمر الليلة؟ فقالوا: بسعد الذابح فكره معاوية ذلك وأرسل إليه أن: لا تبرح حتى يأتيك رسولي، فأقام. ورأى معاوية أن يكتب إلى عمرو بن العاص، وكان عامله يومئذ على مصر يستطلع رأيه في ذلك فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص وقد كان يسمى بأمير المؤمنين بعد صفين وبعد تحكيم الحكمين: سلام عليك. أما بعد، فاني قد رأيت رأيا هممت بامضائه ولم يخذلني عنه إلا استطلاع رأيك، فان توافقني أحمد الله وأمضيه، وإن تخالفني فأستجير بالله وأستهديه، إني نظرت في أمر أهل البصرة فوجدت عظم أهلها لنا وليا ولعلي وشيعته عدوا، وقد أوقع بهم علي الوقعة التي علمت، فأحقاد تلك الدماء ثابتة في صدورهم لا تبرح ولا تريم، وقد علمت أن قتلنا ابن أبي بكر ووقعتنا باهل مصر قد أطفأت نيران أصحاب علي في الآفاق، ورفعت رؤوس أشياعنا أينما كانوا من البلاد. وقد بلغ من كان بالبصرة على مثل رأينا من ذلك ما بلغ الناس، و أحد ممن يرى رأينا أكثر عددا ولا أضر خلافا ليس على علي من أولئك، فقد رأيت أن إليهم عبد الله بن عامر الحضرمي فينزل في أبعث مضر، ويتودد الأزد، ويحذر ربيعة، ونعى دم عثمان بن عفان ويذكرهم وقعة علي بهم التي أهلكت صالحي إخوانهم وآبائهم أبنائهم، فقد رجوت عند ذلك أن يفسدوا على علي وشيعته ذلك الفرج (1) من الأرض، ومتى يؤتوا من خلفهم وأمامهم يضل سعيهم ويبطل كيدهم، فهذا رأيي فما رأيك؟. فلا تحبس رسولي إلا قدر مضي الساعة التي ينتظر فيها جواب كتابي هذا، أرشدنا الله وإياك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية، أما بعد فقد بلغني كتابك، فقرأته وفهمت: رأيك الذي رأيته فعجبت له، والذي ألقاه في روعك وجعله في نفسك هو قلت: إن الثائر لابن عفان والطالب بدمه، وإنه لم يك منك ولا منا منذ نهضنا في هذه الحروب ونادينا أهلها ولا رأى الناس رأيا أضر على عدوك ولا أسر لوليك من هذا الأمر الذي ألهمته، فامض رأيك مسددا فقد وجهت الصليب الأديب الأريب الناصح غير الظنين والسلام. فلما جاءه كتاب عمرو، دعا ابن الحضرمي وقد كان ظن حين تركه معاوية أياما لا يأمره بالشخوص أن معاوية قد رجع عن إشخاصه إلى ذلك الوجه فقال لمعاوية: يا ابن الحضرمي سر على بركة الله إلى هل البصرة فانزل في مضر، واحذر ربيعة وتودد الأزد، وانع عثمان بن عفان، وذكرهم الوقعة التي أهلكتهم، ومن (2) لمن سمع وأطاع دنيا لا تفنى وأثرة (3) لا يفقدها حتى يفقدنا أو نفقده، فودعه! ثم خرج من عنده وقد دفع إليه كتابا وأمره إذا قدم أن يقرأه على الناس. قال عمرو بن محصن: وكنت معه حين خرج. قال: فلما خرجنا فسرنا ما شاء الله أن نسير، سنح لنا ظبي أعضب (4) عن شمائلنا قال: فنظرت إليه فوالله لرأيت الكراهية في وجهه. ثم مضينا حتى نزلنا البصرة في بني تميم فسمع بقدومنا أهل البصرة فجاءنا كل من يرى رأي عثمان بن عفان (5) فاجتمع إلينا رؤوس أهلها، فحمد الله ابن عامر الحضرمي وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، أيها الناس فان عثمان إمامكم إمام الهدى قتله علي بن أبي طالب ظلما، فطلبتم بدمه، وقاتلتم من قتله، فجزاكم من أهل مصر خيرا، وقد أصيب منكم الملأ الأخيار وقد جاءكم الله بإخوان لكم، لهم باس شديد يتقى، وعدد لا يحصى فلقوا عدوكم الذين قتلوكم فبلغوا الغاية التي أرادوا صابرين، فرجعوا وقد نالوا ما طلبوا، فمالئوهم وساعدوهم وتذكروا ثاركم تشفوا (6) صدوركم من عدوكم. فقام إليه الضحاك بن عبد الله الهلالي فقال: قبح الله ما جئتنا ودعوتنا إليه جئتنا والله بمثل ما جاء به صاحباك طلحة والزبير، أتيانا وقد بايعنا عليا ع واجتمعنا له، وكلمتنا واحدة، ونحن على سبيل مستقيم فدعوانا إلى الفرقة وقاما فينا بزخرف القول، حتى ضربنا بعضنا ببعض عدوانا وظلما فاقتتلنا على ذلك، وأيم الله ما سلمنا من عظيم وبال ذلك ونحن الآن مجتمعون على بيعة ذا العبد الصالح الذي قد أقال العثرة وعفا عن المسئ وأخذ بيعة غائبنا وشاهدنا أفتأمرنا الآن أن نختلع أسيافنا من أغمادها ثم يضرب بعضنا بعضا ليكون معاوية أميرا وتكون له وزيرا، ونعدل بهذا الأمر عن علي ع؟! والله ليوم من أيام علي ع مع النبي ص خير من بلاء معاوية وآل معاوية لو بقوا في الدنيا ما الدنيا باقية. فقام عبد الله بن خازم السلمي (7) فقال للضحاك: اسكت فلست باهل أن تتكلم في أمر العامة ثم أقبل على ابن الحضرمي فقال: نحن يدك وأنصارك، والقول ما قلت، قد فهمنا ما ذكرت فادعنا إلى أي شئ شئت و،
(1) الفرج: الثغر وقال ابن الأثير في النهاية مادة (فرج): " في حديث عمر: قدم رجل من بعض الفروج أي الثغور، واحدها فرج ". (2) ومنه: عده بما يتمناه من الدنيا. (3) الأثرة - بفتحتين - هنا الإيثار على الغير. (4) سنح: عرض، والأعضب من الشاء والظباء: مكسور القرن، ومن الإبل: مشقوق الأذن. (5) لعلها " يرى رأينا في عثمان بن عفان ". (6) الضحاك بن قيس الهلالي من أخوال عبد الله بن عباس (انظر تاريخ الطبري 5 / 142 حوادث سنة 40. (7) عبد الله بن خازم - بمعجمتين - السلمي، أبو صالح. قال ابن الأثير في أسد الغابة 3 / 148: " أمير خراسان شجاع مشهور، وبطل مذكور قيل: له صحبة، وكان أميرا على خراسان أيام فتنة ابن الزبير، " قال: وقد استقصينا أخباره في كتاب الكامل في التاريخ وقتل سنة إحدى وسبعين في الفتنة. يعني الفتنة التي حدثت بخراسان. 72 فقال له الضحاك بن عبد الله يا بن السوداء (1) والله لا يعز من نصرت ولا: يذل من خذلت، فتشاتما. والضحاك هو الذي يقول: يا أيهذا السائلي عن نسبي * بين ثقيف وهلال منصبي أمي أسماء وضحاك أبي * وسيط مني المجد من معتبي وهو القائل في بني العباس: ما ولدت من ناقة لفحل * بجبل نعلمه وسهل كستة من بطن أم الفضل (2) * أكرم بها من كهلة وكهل عم النبي المصطفى ذي الفضل * وخاتم الأنبياء بعد الرسل (3) فقام عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي ثم التيمي (4) فقال: عباد الله إنا لم ندعكم إلى الاختلاف والفرقة، ولا نريد أن تقتتلوا ولا نريد أن تتنابذوا، ولكنا إنما ندعوكم لجمع كلمتكم وتوازروا إخوانكم الذين هم على رأيكم، وأن تلموا شعثكم (5) وتصلحوا ذات بينكم، فمهلا مهلا رحمكم الله اسمعوا لهذا الكتاب الذي يقرأ عليكم، ففضوا كتاب معاوية وإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل البصرة، سلام عليكم، أما بعد، فان سفك الدماء بغير حلها، وقتل النفس التي حرم الله قتلها هلاك موبق وخسران مبين، لا يقبل الله ممن سفكها صرفا ولا عدلا (6) وقد رأيتم رحمكم الله آثار ابن عفان وسيرته وحبه للعافية ومعدلته وسده للثغور، وإعطاءه بالحقوق، وإنصافه للمظلوم، وحبه الضعيف، حتى وثب الواثبون عليه، وتظاهر عليه الظالمون فقتلوه مسلما محرما ظمآن صائما، لم يسفك فيهم دما ولم يقتل منهم أحدا، ولا يطلبونه بضربة سيف ولا سوط، وإنما ندعوكم أيها المسلمون إلى الطلب بدمه وإلى قتال من قتله، فانا وإياكم على أمر هدى واضح، وسبيل مستقيم، إنكم إن جامعتمونا طفئت النائرة (7)، واجتمعت الكلمة، واستقام أمر هذه الأمة، وأقر الظالمون المتوثبون الذين قتلوا إمامهم بغير حق، فأخذوا بجرائرهم (8) وما قدمت أيديهم، إن لكم علي أن أعمل فيكم بالكتاب وأن أعطيكم في السنة عطاءين، ولا أحتمل فضلا من فيئكم عنكم أبدا، فنازعوا إلى ما تدعون إليه رحمكم الله وقد بعثت إليكم رجلا من الناصحين وكان من أمناء خليفتكم المظلوم ابن عفان وعماله وأعوانه على الهدى والحق، جعلنا الله وإياكم ممن يجيب إلى الحق ويعرفه، وينكر الباطل ويجحده، والسلام عليكم ورحمة الله. فلما قرئ عليهم الكتاب قال عظماؤهم (9): سمعنا وأطعنا. عن أبي منقر الشيباني قال: قال الأحنف بن قيس لما قرئ عليهم الكتاب: أما أنا فلا ناقة لي في هذا ولا جمل واعتزل أمرهم ذلك. وقال عمرو بن مرجوم من عبد قيس: أيها الناس الزموا طاعتكم، ولا تنكثوا بيعتكم فتقع بكم واقعة وتصيبكم قارعة، ولا تكن لكم بعدها بقية، ألا أني قد نصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين. حدثنا ثعلبة بن عباد (10) أن الذي كان سدد لمعاوية رأيه في إرسال ابن الحضرمي كتاب كتبه إليه صحار بن عباس العبدي (11) وهو ممن كان يرى رأي عثمان ويخالف قومه في حبهم عليا ع ونصرتهم إياه. قال: فكتب إلى معاوية: أما بعد، فقد بلغنا وقعتك باهل مصر الذين بغوا على إمامهم وقتلوا خليفتهم ظلما وبغيا، فقرت بذلك العيون وشفيت بذلك النفوس، وثلجت أفئدة أقوام كانوا لقتل عثمان كارهين، ولعدوه مفارقين، ولكم موالين، وبكم راضين، فان رأيت أن تبعث إلينا أميرا طيبا زاكيا، ذا عفاف ودين يدعو إلى الطلب بدم عثمان فعلت، فاني لا إخال الناس إلا مجمعين عليك فان ابن عباس غائب عن الناس، والسلام. فلما قرأ معاوية كتابه قال: لا عزمت رأيا سوى ما كتب به إلي هذا، وكتب إليه جوابه: أما بعد، فقد قرأت كتابك فعرفت نصيحتك، وقبلت مشورتك، فرحمك الله وسددك، أثبت هداك الله على رأيك الرشيد، فكأنك بالرجل الذين سالت قد أتاك، وكأنك بالجيش قد أطل عليك، فسررت وحييت وقبلت، والسلام.
(1) السوداء أم عبد الله بن خازم واسمها عجلى وقد ورث السواد عنها فكان يعد من غربان العرب (وانظر تاج العروس في غرب)، (2) أم الفضل بنت الحارث الهلالية زوج العباس بن عبد المطلب واسمها لبابة، وهي أم الفضل وعبد الله ومعبد وعبيد الله وقتم وعبد الرحمن أبناء العباس بن عبد المطلب، ويقال لها لبابة الكبرى تفريقا بينها وبين أختها لبابة الصغرى أم خالد بن الوليد المخزومي، وهي أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم،) وأخت أسماء وسلمى وسلامة بنات عميس الخثعميات لأمهن، وأمهن جميعا هند بنت عوف الكناية وقيل: الحضرمية التي قيل فيها: إنها أكرم الناس أصهارا لأن الرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زوج ميمونة والعباس زوج لبابة، وجعفر بن أبي طالب وأبو بكر وعلي أزواج أسماء وحمزة بن عبد المطلب زوج سلمى (انظر الإصابة بترجمة لبابة كتاب النساء حرف اللام ق 1، وأسد الغابة 5 / 540). (3) ش " وخاتم الأنبياء بعد الرسل " ولا يستقيم وزن البيت وفي أسد الغابة " وخاتم الرسل وخير الرسل " وهو أوجه. (4) عبد الرحمن بن عمير وقيل: عميرة وقيل: ابن أبي عميرة قال ابن الأثير في أسد الغابة 3 / 313: " حديثه مضطرب لا يثبت في الصحابة " روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لمعاوية: " اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به " ثم نقل عن أبي عمر صاحب الاستيعاب أنه " لا تصح أحاديثه ولا تثبت صحبته ". (5) الشعث - بالتحريك - التفرق. (6) الصرف: التوبة، والعدل: الفدية. (7) النائرة: الهيجان، ويريد هيجان الفتنة. (8) الجرير: الذنب والجناية. (9) عمرو بن المرجوم العبدي المصري صحابي وفد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وفد عبد القيس كان أبوه المرجوم واسمه عامر بن مر من أشرف عبد القيس في الجاهلية وابنه عمرو من أشرافهم في الإسلام ساق يوم الجمل في أربعة آلاف فكان مع علي (عليه السلام) (انظر الإصابة حرف العين ق 1 بترجمته، وتاج العروس في رجم وعصر). (10) ش " روى محمد بن عبد الله عن ابن أبي سيف عن الأسود بن قيس عن ثعلبة بن عباد الخ " وثعلبة بن عباد - بكسر المهملة وتخفيف الموحدة - العبدي البصري قال ابن حجر في تهذيب التهذيب 2 / 24 " ذكره ابن حبان في الثقات " وقال الذهبي في ميزان الاعتدال 1 / 37: " تابعي يروي عن مجاهيل ". (11) صحار - كغراب - ابن عباس العبدي ذكره ابن سعد في الطبقات 7 / 61 فيمن نزل البصرة من الصحابة ووصفه ابن عبد البر في الاستيعاب 1 / 132 بقول: " له صحبة ورواية وكان بليغا لسنا " وقال ابن النديم في الفهرست ص 132 " كان خارجيا أحد النسابين والخطباء في أيام معاوية وله مع دغفل أخبار وقال في ص 131 كان عثمانيا من بني عبد القيس، روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديثين أو ثلاثة، وله من الكتب كتاب الأمثال " ويظهر من كلامه هذا أنه انتقل من الخوارج إلى العثمانية ويؤيد هذا كلام ابن سعد: " كان ممن طلب بدم عثمان " توفي صحار بالبصرة. 73 قال: لما نزل ابن الحضرمي ببني تميم أرسل إلى الرؤوس فأتوه، فقال لهم: أجيبوني إلى الحق وانصروني على هذا الأمر، وإن الأمير بالبصرة يومئذ زياد بن عبيد قد استخلفه عبد الله بن عباس وقدم على علي ع إلى الكوفة يعزيه عن محمد بن أبي بكر قال: فقام إليه صحار فقال: إي والذي له أسعى، وإياه أخشى لننصرنك بأسيافنا وأيدينا. وقام المثنى بن مخربة (1) العبدي فقال: لا، والذي لا إله إلا هو لئن لم ترجع إلى مكانك الذي أقبلت منه لنأخذنك بأسيافنا وأيدينا ونبالنا وأسنة رماحنا، أنحن ندع ابن عم نبينا وسيد المسلمين وندخل في طاعة حزب من الأحزاب طاع! والله لا يكون ذلك أبدا حتى نسير كتيبة إلى كتيبة ونفلق الهام بالسيوف. قال: فاقبل ابن الحضرمي على صبرة بن شيمان الأزدي (2) فقال: يا صبرة أنت رأس قومك وعظيم من عظماء العرب وأحد الطلبة بدم عثمان، رأينا رأيك، ورأيك رأينا، وبلاء القوم عندك في نفسك وعشيرتك ما قد ذقت ورأيت، فانصرني وكن من دوني، فقال له: إن أنت أتيت فنزلت في داري نصرتك ومنعتك، فقال: إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أنزل في قومه من مضر، فقال: اتبع ما أمرك به. وانصرف من عنده. وأقبل الناس إلى ابن الحضرمي فكثر تبعه ففزع لذلك زياد وهاله وهو في دار الامارة فبعث إلى الحضين بن المنذر (3) ومالك بن مسمع (4) فدعاهما فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم أنصار أمير المؤمنين وشيعته وثقته وقد جاءكم هذا الرجل بما قد بلغكم فأجيروني حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين ورأيه، فاما مالك بن مسمع فقال: هذا أمر لي فيه نظر، فارجع إلى من ورائي وأنظر وأستشير في ذلك وألقاك، وأما الحضين بن المنذر فقال: نعم، نحن فاعلون ولن نخذلك ولن نسلمك، فلم ير زياد من القوم ما يطمئن إليه. فبعث إلى صبرة بن شيمان الأزدي فقال: يا ابن شيمان أنت سيد قومك وأحد عظماء هذا المصر فان يكن فيه أحد هو أعظم أهله فأنت، أفلا تجيرني وتمنعني؟ وتمنع بيت مال المسلمين؟ فإنما أنا أمين عليه، فقال: بلى، إن أنت تحملت حتى تنزل في داري منعتك، فقال له: إني فاعل فحمله ثم ارتحل ليلا حتى نزل دار صبرة بن شيمان وكتب إلى عبد الله بن عباس، ولم يكن معاوية ادعى زيادا بعد لأنه إنما ادعاه بعد وفاة علي ع. بسم الله الرحمن الرحيم للأمير عبد الله بن عباس من زياد بن عبيد سلام عليك، أما بعد، فان عبد الله بن عامر الحضرمي أقبل من قبل معاوية حتى نزل في بني تميم، ونعى ابن عفان، ودعا إلى الحرب فبايعه جل أهل البصرة فلما رأيت ذلك استجرت بالأزد بصبرة بن شيمان وقومه لنفسي ولبيت مال المسلمين، فرحلت من قصر الامارة فنزلت فيهم وأن الأزد معي، وشيعة أمير المؤمنين من سائر القبائل تختلف إلى، وشيعة عثمان تختلف إلى ابن الحضرمي، والقصر خال منا ومنهم، فارفع ذلك إلى أمير المؤمنين ليرى فيه رأيه ويعجل علي بالذي يرى أن يكون فيه منه، والسلام. قال: فرفع ذلك ابن عباس إلى علي ع فشاع في الناس بالكوفة ما كان من ذلك، وكانت بنو تميم وقيس ومن يرى رأي عثمان قد أمروا ابن الحضرمي أن يسير إلى قصر الامارة حين خلاه زياد، فلما تهيا لذلك ودعا له أصحابه ركبت الأزد وبعثت إليه وإليهم: إنا والله لا ندعكم تأتون القصر، فتنزلون به من لا نرضى ومن نحن له كارهون حتى يأتي رجل لنا ولكم رضى، فأبى أصحاب ابن الحضرمي إلا أن يسيروا إلى القصر وأبث الأزد إلا أن يمنعوهم، فركب الأحنف فقال لأصحاب ابن الحضرمي: إنكم والله ما أنتم بأحق بقصر الامارة من القوم، وما لكم أن تؤمروا عليهم من يكرهونه، فانصرفوا عنهم، ثم جاء إلى الأزد فقال: إنه لم يكن ما تكرهون ولن يؤتى إلا ما تحبون فانصرفوا رحمكم الله، ففعلوا. وعن الكلبي أن ابن الحضرمي لما أتى البصرة ودخلها نزل في بني تميم في دار سنبل (5) ودعا بني تميم وأخلاط مضر، فقال زياد لأبي الأسود الدئلي: أما ترى ما صنع أهل البصرة إلى معاوية وما في الأزد لي مطمع، فقال: إن كنت تركتهم لم ينصروك وإن أصبحت فيهم منعوك، فخرج زياد من ليلته وأتى الأزد ونزل على صبرة بن شيمان فأجاره فبات ليلته فلما أصبح قال له صبرة: يا زياد ليس حسنا بنا أن تقوم فينا مختفيا أكثر من يومك هذا، فاتخذ له منبرا وسريرا في مسجد الحدان (6) وجعل له شرطا وصلى بهم الجمعة في مسجد الحدان. وغلب ابن الحضرمي على ما يليه من البصرة وجباها، واجتمعت الأزد على زياد فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الأزد أنتم كنتم أعدائي فأصبحتم أوليائي وأولى الناس بي، وإني لو كنت في بني تميم وابن الحضرمي فيكم نازلا لم أطمع فيه أبدا وأنتم دونه، فلا يطمع ابن الحضرمي في وأنتم دوني، وليس ابن اكلة الأكباد في بقية الأحزاب وأولياء الشيطان بأدنى إلى الغلبة من أمير المؤمنين علي في المهاجرين والأنصار، وقد أصبحت فيكم مضمونا، وأمانة مؤداة، وقد رأينا وقعتكم يوم الجمل فاصبروا مع الحق كصبركم مع الباطل فإنكم لا تحمدون إلا على النجدة، ولا تعذرون على الجبن. فقام شيمان أبو صبرة ولم يكن شهد يوم الجمل، وكان غائبا، فقال: يا معشر الأزد ما أبقت عواقب الجمل عليكم إلا سوء الذكر، وقد كنتم أمس على علي ع فكونوا اليوم له واعلموا أن إسلامكم جاركم ذل
(1) المثنى بن مخربة - العبدي من التوابين الذين خرجوا مع سليمان بن صرد في ثلاثمائة من أهل البصرة ثم رجع بعد ذلك ودعا لبيعة المختار بن أبي عبيد في البصرة وخرج معه (انظر تاريخ الطبري 6 / 66 حوادث سنة 66). (2) صبرة - بفتح الصاد المهملة وكسر الياء - ابن شيمان الأزدي: كان رأس الأزد يوم الجمل مع عائشة (الإصابة حرف الشين ق 3 بترجمة شيمان بن عكيف). (3) حضين - بصاد معجمة مصغرا - ابن المنذر الرقاشي - بتخفيف القاف - أبو محمد، وأبو ساسان حامل راية أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم صفين، دفعها إليه وهو ابن تسع عشرة سنة مات على رأس المائة (انظر تقريب التهذيب وكتاب صفين لنصر بن مزاحم ص 325 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد م 1 / 495). (4) مالك بن مسمع كان رأيه مائلا إلى بني أمية، وكان مروان لجأ إليه يوم الجمل، وكان يأمر الناس بعد واقعة الطف بتجديد البيعة ليزيد بن معاوية (انظر تاريخ الطبري 5 / 110 حوادث سنة 38). (5) في الأصلين " سنبيل " تصحيف قال في تاج العروس في ابن سنبل - بالكسر - ويقال بالصاد أيضا أحرق جارية بن قدامة وهو من أصحاب علي رضي الله تعالى عنه وخمسين رجلا من أهل البصرة في داره ". (6) الحدان - بالضم - إحدى محال البصرة القديمة نسبة إلى حدان حي من العرب. 74 وخذلكم إياه عار، وأنتم حي مضماركم (1) الصبر وعاقبتكم الوفاء، فان سار القوم بصاحبهم فسيروا بصاحبكم، وإن استمدوا معاوية فاستمدوا عليا، وإن وادعوكم فوادعوهم. ثم قام صبرة بن شيمان فقال: يا معشر الأزد إنا قلنا يوم الجمل: نمنع مصرنا، ونطيع أمنا، وننصر خليفتنا المظلوم، فأنعمنا القتال وأقمنا بعد انهزام الناس حتى قتل منا من لا خير فينا بعده، وهذا زياد جاركم اليوم والجار مضمون، ولسنا نخاف من علي ع ما نخاف من معاوية، فهبوا لنا أنفسكم، وامنعوا جاركم، أو فأبلغوه مأمنه، فقالت الأزد: إنما نحن لكم تبع فأجيروه، فضحك زياد، وقال: يا صبرة أتخشون ألا تقوموا لبني تميم؟ فقال صبرة: إن جاؤونا بالأحنف جئناهم بأبي صبرة (2)، وإن جاؤونا بالحتات (3) جئتهم أنا، وان كان فيهم شباب ففينا شباب كثير فقال زياد: انما كنت مازحا. فلما رأت بنو تميم أن الأزد قد قاموا دون زياد بعثت إليهم: أخرجوا صاحبكم ونحن نخرج صاحبنا فأي الأميرين غلب، علي أو معاوية دخلنا في طاعته ولم نهلك عامتنا، فبعث إليهم أبو صبرة: إنما كان هذا يرجى عندنا قبل أن نجيره، ولعمري ما قتل زياد وإخراجه إلا سواء، وإنكم لتعلمون أنا لم نجره إلا تكرما، فالهوا عن هذا. عن أبي الكنود (4) أن شبث بن ربعي قال لعلي ع: يا أمير المؤمنين ابعث إلى هذا الحي من تميم فادعهم إلى طاعتك ولزوم بيعتك، ولا تسلط عليهم أزد عمان البعداء البغضاء فان واحدا من قومك خير لك من عشرة من غيرهم، فقال له مخنف (5) بن سليم الأزدي: إن البعيد البغيض من عصى الله، وخالف أمير المؤمنين وهم قومك، وإن الحبيب القريب من أطاع الله ونصر أمير المؤمنين وهم قومي واحدهم لأمير المؤمنين خير من عشرة من قومك، فقال أمير المؤمنين ع: مه، تناهوا أيها الناس وليردعكم الاسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي (6)، ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره، وكلمة الاخلاص التي هي قوام الدين، وحجة الله على الكافرين، واذكروا إذ كنتم قليلا مشركين متفرقين متباغضين فألف بينكم بالاسلام فكثرتم واجتمعتم وتحاببتم، فلا تفرقوا بعد إذا اجتمعتم، ولا تباغضوا بعد أن تحاببتم، فإذا انفصل الناس وكانت بينهم الثائرة (7) فتداعوا إلى العشائر والقبائل فاقصدوا لهامهم (8) ووجوههم بالسيوف، حتى يفزعوا إلى الله وكتابه وسنة نبيه، فاما تلك الحمية حين تكون في المسلمين من خطرات الشيطان (9) فانتهوا عنها لا أبا لكم تفلحوا وتنجحوا ثم إنه ع دعا أعين بن ضبيعة المجاشعي (10) فقال: يا أعين ما بلغك أن قومك وثبوا على عاملي مع ابن الحضرمي بالبصرة يدعون إلى فراقي وشقاقي ويساعدون الضلال الفاسقين علي؟! فقال: لا تستأ يا أمير المؤمنين ولا يكن ما تكره، ابعثني إليهم فانا لك زعيم (11) بطاعتهم وتفريق جماعتهم ونفي ابن الحضرمي من البصرة أو قتله، قال: فاخرج الساعة، فخرج من عنده ومضى حتى قدم البصرة، ثم دخل على زياد وهو بالأزد مقيم (12) فرحب به وأجلسه إلى جانبه فأخبره بما قال له علي ع وبما رد عليه، وما الذي عليه رأيه قال: فوالله إنه ليكلمه وإذا بكتاب من أمير المؤمنين ع إلى زياد فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى زياد بن عبيد: سلام عليك، أما بعد، فاني قد بعثت أعين بن ضبيعة ليفرق قومه عن ابن الحضرمي، فارقب ما يكون منه، فان فعل وبلغ من ذلك ما يظن به وكان في ذلك تفريق تلك الأوباش (13) فهو ما تحب، وإن ترامت الأمور (14) بالقوم إلى الشقاق والعصيان فانهض بمن أطاعك إلى من عصاك، فجاهدهم فان ظفرت فهو ما ظننت، وإلا فطاوعهم، وماطلهم ثم تسمع بهم وأبصر فكان كتائب المسلمين قد أظلت عليك فقتل الله المفسدين الظالمين، ونصر المؤمنين المحقين، والسلام. فلما قرأه زياد، أقرأه أعين بن ضبيعة، فقال له أعين: إني لأرجوه أن تكفى هذا الأمر إن شاء الله، ثم خرج من عنده فاتى رحله فجمع إليه رجالا من قومه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا قوم على م تقتلون أنفسكم وتهريقون دماءكم على الباطل مع السفهاء الأشرار؟! وأني والله ما جئتكم حتى عبيت إليكم الجنود، فان تنيبوا إلى الحق يقبل منكم، ويكف عنكم، وإن أبيتم فهو والله استئصالكم وبواركم. فقالوا: بل نسمع ونطيع، فقال: انهضوا الآن على بركة الله، فنهض بهم إلى جماعة ابن الحضرمي، فخرجوا إليه مع ابن الحضرمي فصافوه وواقفهم عامة يومه يناشدهم الله ويقول: يا قوم لا تنكثوا بيعتكم ولا تخالفوا إمامكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فقد رأيتم وجربتم كيف صنع الله بكم عند نكثكم بيعتكم وخلافكم فكفوا عنه ولم يكن بينه وبينهم قتال وهم في ذلك يشتمونه وينالون منه، فانصرف عنهم وهو منهم منتصف
(1) المضمار - هنا - الغاية في السياق. (2) يقصد أباه. (3) الحتات - بالضم - ابن زيد بن علقمة التميمي صحابي قال في الإصابة في حرف الجاء المهملة ق 1: " ذكره ابن إسحاق وابن الكلبي وابن هشام فيمن وفد من بني تميم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). (4) يمكن أن يكون أبا الكنود الوائلي الذي عده الشيخ في رجاله في باب الكنى من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيأتي أبو الكنود الأزدي ولعله هو المراد هنا. (5) مخنف - بكسر الميم وفتح النون - ابن سليم بن الحارث الأزدي الغامدي صحابي نزل الكوفة، وكان نقيب الأزد بالكوفة، واستعمله علي (عليه السلام) على مدينة أصفهان وشهد معه صفين، وكانت معه راية الأزد، واستشهد بعين الوردة سنة 65 مع التوابين، وهو جد أبي مختف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم صاحب الأخبار والسير المشهور (انظر أسد الغابة 3 / 339). (6) النباغي: ظلم بعضهم بعضا، والتهاذي: التكلم بغير المعقول لمرض ونحوه. (7) الثائرة: الضجة والشغب، وفي ش " النائرة " وهي هيجان الشر. (8) الهام - جمع هامة -: رأس كل شئ. (9) الحمية: الأنفة والنخوة أي إذا كانت لغير الحق تكون من خطرات الشيطان. (10) أعين - بفتح الهمزة والياء والسكون بينهما - ابن ضبيعة - بضم الضاد كجهينة - عدة الشيخ في رجاله من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) انتدبه أمير المؤمنين (عليه السلام) لقتال ابن الحضرمي لما دخل البصرة فقتل غلبة فأرسل مكانه جارية بن قدامة السعدي (انظر الطبري 5 / 111) حوادث سنة 38 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد م 1 / 351). (11) الزعيم: الكفيل. (12) الأوباش: سفلة الناس وأخلاطهم. (13) ترامت - هنا -: بلغت. (14) أي ستسمع وتبصر ماذا يكون. 75 فلما أوى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن أنهم خوارج فضربوه بأسيافهم وهو على فراشه، ولا يظن أن الذي كان يكون، فخرج يشتد عريانا فلحقوه في الطريق فقتلوه، فأراد زياد أن يناهض ابن الحضرمي حين قتل أعين بجماعة من معه من الأزد وغيرهم من شيعة علي ع فأرسلت بنو تميم إلى الأزد: والله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه ولا لمال هو له ولا لأحد ليس على رأينا، فما تريدون إلى حربنا وإلى جارنا؟ فكان الأزد عند ذلك كرهت قتالهم، فكتب زياد إلى علي ع. بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد يا أمير المؤمنين فان أعين بن ضبيعة قدم علينا من قبلك بجد ومناصحة وصدق ويقين فجمع إليه من أطاعه من عشيرته فحثهم على الطاعة والجماعة، وحذرهم الفرقة والخلاف، ثم نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه فواقفهم عامة النهار، فهال أهل الضلال مقدمه وتصدع عن ابن الحضرمي كثير ممن كان معه يريد نصرته فكان كذلك حتى أمسى فاتى رحله فبيته نفر من هذه الخراجة المارقة فأصيب رحمه الله فأردت أن أناهض ابن الحضرمي عند ذلك فحدث أمر قد أمرت صاحب كتابي هذا أن يذكره لأمير المؤمنين، وقد رأيت إن رأي أمير المؤمنين ما رأيت أن يبعث إليهم جارية بن قدامة فإنه نافذ البصيرة، مطاع في العشيرة، شديد على عدو أمير المؤمنين، فان يقدم يفرق بينهم بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فلما جاء الكتاب وقرأه علي ع دعا جارية بن قدامة فقال: يا ابن قدامة تمنع الأزد عاملي وبيت مالي وتشاقني مضر وتنابذني (1)، وبنا ابتدأها الله بالكرامة، وعرفها الهدى، وتدعو إلى المعشر الذين حادوا (2) الله ورسوله، وأرادوا إطفاء نور الله حتى علت كلمة الله وهلك الكافرون. قال: يا أمير المؤمنين ابعثني إليهم واستعن بالله عليهم، قال: قد بعثتك إليهم واستعنت بالله عليهم. قال كعب بن قعين: فخرجت مع جارية من الكوفة إلى البصرة في خمسين رجلا من بني تميم ما كان فيهم يماني غيري، وكنت شديد التشيع قال: فقلت لجارية: إن شئت سرت معك، وإن شئت ملت إلى قومي؟ فقال: بل سر معي وانزل منزلي، فوالله لوددت أن الطير والبهائم تنصرني عليهم فضلا من الإنس. وعن كعب بن قعين أن عليا ع كتب مع جارية بن قدامة كتابا فقال: اقرأه على أصحابك قال: فمضينا معه فلما دخلنا البصرة بدأ بزياد فرحب به وأجلسه إلى جانبه، وناجاه ساعة وساء له، ثم خرج فكان أفضل ما أوصاه به أن قال: احذر على نفسك واتق أن تلقى ما لقي صاحبك القادم قبلك، وخرج جارية من عنده فقام في الأزد، فقال: جزاكم الله من حي خيرا ما أعظم عناءكم وأحسن بلاءكم، وأطوعكم لأميركم، وقد عرفتم الحق إذ ضيعه من أنكره، ودعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه، ثم قرأ عليهم وعلى من كان معه من شيعة علي ع وغيرهم كتاب علي فإذا فيه: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم، أما بعد، فان الله حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة قبل البينة، ولا يأخذ المذنب عند أول وهلة، ولكنه يقبل التوبة ويستديم الأناة ويرضى بالإنابة ليكون أعظم للحجة وأبلغ في المعذرة، وقد كان من شقاق جلكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم، وقبلت من مقبلكم، وأخذت بيعتكم، فان تفوا ببيعتي وتقبلوا نصيحتي، وتستقيموا على طاعتي أعمل فيكم بالكتاب والسنة وقصد الحق وأقم فيكم سبيل الهدى، فوالله ما أعلم أن واليا بعد محمد ص أعلم بذلك مني ولا أعمل، أقول قولي هذا صادقا غير ذام لمن مضى ولا منتقصا لأعمالهم، فان خطت بكم الأهواء المردية وسفه الرأي الجائر (5) إلى منابذتي تريدون خلافي، فها أنا ذا قربت جيادي، ورحلت ركابي (6)، وأيم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل عندها إلا كلعقة لاعق، وإني لظان أن لا تجعلوا إن شاء الله على أنفسكم سبيلا، وقد قدمت هذا الكتاب حجة عليكم، ولن أكتب إليكم من بعده كتابا إن أنتم استغشتم نصيحتي ونابذتم رسولي حتى أكون أنا الشاخص (7) نحوكم إن شاء الله، والسلام. فلما قرئ الكتاب على الناس قام صبرة بن شيمان فقال: سمعنا وأطعنا، ونحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب، ولمن سالم أمير المؤمنين سلم، إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك، وأن أحببت أن ننصرك نصرناك، وقام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك، فلم يأذن لأحد منهم أن يسير معه ومضى نحو بني تميم. فقام زياد في الأزد فقال: يا معشر الأزد إن هؤلاء كانوا أمس سلما فأصبحوا حربا، وإنكم كنتم حربا فأصبحتم اليوم سلما، وإني والله ما اخترتكم إلا على التجربة، ولا أقمت فيكم إلا على التأمل، فما رضيتم أن أجرتموني حتى نصبتم لي منبرا وسريرا، وجعلتم لي شرطا وأعوانا، ومناديا وجمعة، فما فقدت بحضرتكم شيئا إلا هذا الدرهم لا أجبيه، فان لم أجبه اليوم أجبه غدا إن شاء الله، واعلموا أن حربكم اليوم معاوية أيسر عليكم في الدين والدنيا من حربكم أمس عليا، وقد قدم عليكم جارية بن قدامة وإنما أرسله علي ع ليصدع أمر (8) قومه، والله ما هو بالأمير المطاع ولا المغلوب المستغيث، ولو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أمير المؤمنين أو لكان لي تبعا وأنتم الهامة العظمى والجمرة الحامية فقدموه إلى قومه فان اضطر إلى نصركم فسيروا إليه إن رأيتم ذلك. فقام أبو صبرة بن شيمان فقال: يا زياد إني والله لو شهدت قومي يوم الجمل رجوت أن لا يقاتلوا عليا وقد مضى الأمر بما فيه، وهو يوم بيوم، وأمر بأمر، والله إلى الجزاء بالاحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسئ، والتوبة مع
(1) صافوه وقفوا أمامه صفا صفا، وواقفهم وقف أمامهم. (2) يناهض: أي ينهض لحربهم. (3) المشاقة: المخالفة والمعاداة، والمنابذة: المفارقة عن عدواة. (4) المحادة: المعاداة والمغاضبة. (5) خطت: تجاوزت، والمردية: المهلكة، وسفه: ضعف والجائر: المائل عن الحق. (6) الجياد: الخيل، والركاب: قربتها: أدنيتها، ورحلتها، شددت الرحال عليها، والكلام كناية عن الاستعداد والتهيؤ. (7) شخص إلى البلد: ذهب إليه. (8) صدع الأمر: كشفه وبينه. 76 الحق والعفو مع الندم، ولو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء، واستئناف الأمور ولكنها جماعة دماؤها حرام وجروحها قصاص، ونحن معك فقدم هواك نحب لك ما أحببت. فعجب زياد من كلامه وقال: ما أظن في الناس مثل هذا. ثم قام صبرة ابنه فقال: إنا والله ما أصبنا بمصيبة في دين ولا دنيا كما أصبنا أمس يوم الجمل، وإنا لنرجو اليوم أن نمحص ذلك بطاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، وأما أنت يا زياد فوالله ما أدركت أملك فينا ولا أدركنا أملنا فيك دون ردك إلى دارك، ونحن رادوك إليها غدا إن شاء الله تعالى، فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منا، فإنك إن لم تفعل تأت ما لا يشبهك، وإنا والله نخاف من حرب علي في الآخرة ما لا نخاف من حرب معاوية في الدنيا، فقدم هواك وأخر هوانا، فنحن معك وطوعك. ثم قام جيفر العماني وكان لسان القوم فقال: أيها الأمير إنك لو رضيت منا بما ترضى به من غيرنا لم نرض لك ذلك من أنفسنا، ولو رضينا لك كنا قد خناك لأن لنا عقدا مقدما وحمدا مذكورا، سر بنا إلى القوم إن شئت، وأيم الله ما لقينا يوما قط إلا اكتفينا بعفونا دون جهدنا إلا ما كان أمس. فلما أصبحوا أشارت الأزد إلى جارية أن سر بمن معك، ومضت الأزد بزياد حتى أدخلوه دار الامارة. وأما جارية فإنه كلم قومه وصاح فيهم فلم يجيبوه وخرج إليه منهم أوباش فناوشوه بعد أن شتموه وأسمعوه، فأرسل إلى زياد والأزد يستصرخهم ويأمرهم أن يسيروا إليه ثم ساروا إلى ابن الحضرمي وخرج إليهم ابن الحضرمي وعلى خيله عبد الله بن خازم السلمي فاقتتلوا ساعة فاقبل شريك بن الأعور الحارثي وكان من شيعة علي ع وصديقا لجارية بن قدامة وعلى رأي علي ع فقال: ألا أقاتل معك عدوك؟ فقال: بلى. قال: فما لبثت بنو تميم أن هزموهم، واضطروهم إلى دار سنبل السعدي فحصروهم ذلك اليوم إلى العشي في دار ابن الحضرمي، وكان ابن خازم معه فجاءت أمه وهي سوداء حبشية اسمها عجلى فنادته فأشرف عليها، فقالت: يا بني انزل إلي، فأبى، فكشفت رأسها وأبدت قناعها، وسألته النزول، فقالت: والله لئن لم تنزل لأتعرين، وأهوت بيدها على ثيابها، فلما رأى ذلك نزل فذهبت به، وأحاط جارية وزياد بالدار، وقال جارية: علي بالنار، فقالت الأزد: لسنا من الحريق بالنار في شئ وهم قومك وأنت أعلم، فحرق جارية الدار عليهم، فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلا أحدهما عبد الرحمن بن عمير ابن عثمان القرشي ثم التيمي، وسمي جارية منذ ذلك اليوم: محرقا، فلما أحرق ابن الحضرمي وسارت الأزد بزياد حتى أوطنوه قصر الامارة ومعه بيت المال قالت له: هل بقي علينا من جوارك شئ؟. قال: لا، قالوا: فبرئنا من جوارك؟ قال: نعم، فانصرفوا عنه إلى ديارهم، واستقام لزياد أمر البصرة، وارتحل ببيت المال حتى رجع إلى القصر. وقال أبو العرندس العوذي (1) في زياد وتحريق ابن الحضرمي: رددنا زيادا إلى داره * وجار تميم ينادي الشجب (2) لحا الله قوما شووا جارهم * وللشاء بالدرهمين الشصب (3) ينادي الحباق وحمانها * وقد حرقوا رأسه فالتهب (4) عن محمد بن قيس (5) عن ظبيان بن عمارة (6)، قال: دعاني زياد فكتب معي إلى علي ع: أما بعد فان جارية بن قدامة العبد الصالح قدم من عندك فناهض جمع ابن الحضرمي بمن نصره وأعانه من الأزد ففضه واضطره إلى دار من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه فلم يخرج حتى حكم الله بينهما، فقتل الحضرمي وأصحابه! منهم من أحرق بالنار، ومنهم من ألقي عليه الجدار، ومنهم من هدم عليه البيت من أعلاه، ومنهم من قتل بالسيف وسلم منهم نفر أنابوا وتابوا فصفح عنهم. بعدا لمن عصى وغوى، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فلما وصل كتاب زياد قرأه علي ع على الناس فسر بذلك وسر أصحابه وأثنى على جارية وعلى الأزد. جعفر بن محمد القطاع. هو أبو الحسن جعفر بن محمد القطاع المعروف بالسديد البغدادي، سكن محلة قراح ظفر ببغداد المعروفة اليوم بمحلة الطوب، وكانت له معرفة تامة بالكلام على رأي المعتزلة والمنطق والهندسة، واطلاع على علوم الأوائل وأقوالهم ومذاهبهم، وله يد طويلة في قسمة الدور وعماراتها، ويناظر في الكلام، رتب مهندسا في ديوان الأبنية للقسمة والهندسة، وكان متظاهرا بالتشيع، توفي يوم السبت سادس عشر ربيع الآخر سنة 602 ببغداد ودفن في داره بمحلة قراح ظفر وقد جاوز السبعين. الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: قال جدي في اللؤلؤة: لم أقف للشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني على شئ من المصنفات. وقد توفي في حيدرآباد في السنة الثامنة بعد الألف، وكان منهلا عذبا للوارد، لا يرجع القاصد إليه إلا بالمطلوب والمراد. وللشيخ عيسى بن صالح عم جدي الشيخ إبراهيم قصيدة في مدحه. إلى أن قال: وبعد موته كان القائم مقامه في تلك البلاد الشيخ الزاهد العادل الشيخ أحمد بن صالح الدرازي من آل عصفور. ونحن ننقل هذه الترجمة لنؤكد على استمرار الهجرة العلمية من البحرين،
(1) العوذي - بالذال المعجمة - نسبة إلى العوذ بطن من الأزد واسم العوذي هذا عمرو بن العرندس - كما في تاريخ الطبري 5 / 112 حوادث سنة 38. (2) الشجب: الهلاك. (3) لحاهم الله: لعنهم وقبحهم، والشصب: السلخ، وفي ش " لعمري لبئس الشواء الشصب ". (4) الحباق - بكسر الحاء المهملة لقب قوم من بني تميم، وحمان - بالكسر - والتشديد -: قبيلة من تميم وروى الطبري تتمة لهذه الأبيات: ونحن أناس لنا عادة * نحامي عن الجار أن يغتصب حميناه إذ حل أبياتنا * ولا يمنع الجار إلا الحسب ولم يعرفوا حرمة للجوا * ر، إذ أعظم الجار قوم نجب كما فعلوا قبلنا بالزبير * عشية إذ بره يسلب (5) محمد بن قيس مردد بين محمد بن قيس الهمداني الكوفي ومحمد بن قيس اليشكري البصري (انظر ميزان الاعتدال 4 / 16 و 17). (6) ظبيان بن عمارة عده الشيخ في رجاله من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو من الرواة عنه (عليه السلام) - كما في ميزان الاعتدال 2 / 348، ولهذا الرجال مواقف المشهورة يوم صفين (انظر صفين لنصر بن مزاحم ص 172 وص 192). 77 كما من جبل عامل. وليرى القارئ أن من يموت مهاجرا لا بد أن يحل محله مهاجر آخر. الدكتور جواد علي. ولد في الكاظمية العراق سنة 1907 م وتوفي سنة 1987 م 1408 ه بعد مرض عضال: تلقى تعليمه في بغداد ثم في ألمانيا حيث حصل على الدكتوراه في التاريخ العربي سنة 1938 م من جامعة همبورغ. تولى أمانة لجنة التأليف والترجمة والنشر التي كانت نواة المجمع العلمي العراقي الذي أنشئ سنة 1947 فأصبح عضوا فيه وأمينا له. وقد نعاه الجمع بهذا النص: إنه بوفاة الدكتور جواد علي خسر البحث العلمي علما كرس حياته للبحث المتعمق والعمل في كشف المجهول وإجلاء الغوامض والإنتاج العلمي الرصين في ميدان التاريخ العربي، وفقد المجمع ركيزة من دعائمه بما أسهم فيه من أعمال علمية، وما تحلى به من جدية واتزان وحرص على أداء الواجب، وخلق رضي اتسم بحب الخير والتعاون، والاسهام المخلص بكل عمل علمي بناء. ويعد الدكتور جواد علي أحد أبرز المؤرخين في العصر الحديث الذين أثروا المكتبة العربية بمجموعة قيمة من البحوث والدراسات الأدبية والتاريخية الرصينة ومنها: المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، التاريخ العام، تاريخ العرب في الاسلام، موارد تاريخ الطبري، موارد تاريخ المسعودي، الحمادون، الشعر الجاهلي ولغة القرآن الكريم، سلسلة بحوث عن التاريخ في اليمن القديم، سلسلة بحوث عن تطور العربية. وقد ركز جهوده على تاريخ العرب قبل الاسلام، فاستوعب مصادره وما كتب فيه في العربية وغيرها، ونظر فيه نظرات ثاقبة، وكانت ثمرة ذلك تاريخه الشهير الذي جاء في عشر مجلدات ضخمة تعد مرجعا أساسيا لكل باحث. كما أولى اهتماما خاصا للعربية القديمة وتاريخ اليمن قبل الاسلام، واستوعب في ذلك النقوش والكتابات القديمة، وأعد معجما للغة السبئية. ومن مؤلفاته التي كانت معدة للطبع عند وفاته: معجم ألفاظ المسانيد. جويرية أم حكيم ابنة خالد بن قارظ الكنانية: أرسل معاوية إلى الحجاز واليمن بسر بن أرطاة وكان مما أوصاه به: اقتل شيعة علي حيث كانوا. واطرد الناس، وأخف من مررت به، وانهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن يدخل في طاعتنا، وأرهب الناس منك فيما بين المدينة ومكة. إلى آخر ما أوصاه. وكان عبيد الله بن العباس والي علي على اليمن قد هرب من صنعاء لما بلغه قدوم بسر، وجعل ابنيه عند رجل من بني كنانة، وأمهما جويرية أم حكيم ابنة خالد بن قارظ الكنانية، فمر بسر ببني كنانة فلما انتهى إليهما أراد أن يقتلهما، فلما رأى ذلك الكناني دخل بيته وأخذ السيف وخرج إليه، فقال بسر: ثكلتك أمك، والله ما كنا أردنا قتلك، فلم عرضت نفسك للقتل؟ فقال: نعم أقتل دون جاري أعذر لي عند الله والناس، ثم شد عليهم بالسيف حاسرا وهو يقول: آليت لا يمنع حافات الدار * ولا يموت مصلتا دون الجار إلا فتى روع غير غدار فضارب بسيفه حتى قتل وقدم بسر الغلامين فذبحهما، فخرج نسوة من بني كنانة، فقالت امرأة منهن: هذه الرجال تقتلها فعلام تقتل الولدان؟! والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية ولا في الاسلام، والله إن سلطانا لا يشتد إلا بقتل الضرع الضعيف والمدرهم الكبير (1) لسلطان سوء. وقالت جويرية أم الغلامين: ها من أحس بابني الذين هما * كالدرتين تشظى عنهما الصدف ها من أحس بابني الذين هما * سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف ها من أحس بابني الذين هما * مخ العظام فمخي اليوم مزدهف (2) نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا * من قتلهم ومن الإفك الذي اقترفوا أودى علي ودجي ابني مرهفة * مشحوذة وكذاك الاثم يقترف من دل والهة حرى مسلبة * على صبيين ضلا إذ مضى السلف وكان الذي قتل بسر في وجهه ذاهبا وراجعا ثلاثين ألفا. وحرق قوما بالنار. وفي ذلك يقول الشاعر يزيد بن مفرع من أبيات: إلى حيث سار المرء بسر بجيشه * فقتل بسر ما استطاع وحرقا الشيخ حبيب بن قرين: كان أحد مراجع التقليد في الأحساء في عصره، وهو الشيخ حبيب بن صالح بن علي بن صالح بن محمد بن محسن بن علي القريني الأحسائي المعروف الشيخ حبيب بن قرين، أصله من قرية القرين إحدى قرى الأحساء الشمالية ولهذا يقال له القريني وابن قرين. كان آباؤه وأجداده جلهم من العلماء الفضلاء، وبيته بيت علم وشرف، وجده الثالث الشيخ محمد بن الشيخ محسن القريني، كان أحد كبار العلماء في عصره وهو من أساتذة الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي كما جاء في جوامع الكلم ج 2، ص 254. ومن تلك السلالة الطيبة ولد الشيخ حبيب، وكانت ولادته في قرية كردلان من نواحي البصرة حدود سنة 1275 ه، وفي تلك القرية تربى وقضى أيامه الأولى تحت رعاية والديه وأسرته الكريمة. وكانت دراسته العلمية في النجف الأشرف على يد علمائها آنذاك أمثال شيخ الشريعة الأصفهاني وغيره، وقد أجيز من عدد من أولئك الأعلام دراية ورواية منهم: أستاذه شيخ الشريعة الأصفهاني والشيخ محمد عبد الله آل عيثان والسيد ناصر السيد هاشم الأحسائي وغيرهم. وحين أكمل دراسته العلمية في النجف الأشرف، عاد إلى مسقط رأسه كردلان وأصبح في تلك النواحي مرجع تقليد لعدد كبير من المؤمنين لا سيما الأحسائيين المقيمين هناك وبقي في كردلان حتى توفي في الأحساء السيد ناصر السيد هاشم الأحسائي سنة 1358 ه، فرجع معظم أهل الأحساء في
(1) الضرع بفتح الضاد وكسر الراء: الواهن الضعيف. والمدرهم: الذي تساقط من الكبر. (2) مزدهف: ذهب به. 78 تقليدهم إلى الشيخ حبيب حتى وافاه الأجل المحتوم في الأحساء سنة 1363 ه. رحلته إلى الأحساء تعد رحلة الشيخ إلى الأحساء رحلة مهمة لها آثارها في نفوس المؤمنين هناك ولا يزال يتذكرها كبار السن ممن عاصروها. لقد عاشت الأحساء بعد رحيل السيد ناصر الأحسائي فراغا كبيرا في الزعامة الدينية والمحور القيادي رغم وجود عدد من العلماء هناك، لكن المؤمنين والأفاضل من أهالي الأحساء لم يجدوا من يسد ذلك الفراغ الكبير سوى الشيخ ابن قرين فوقع اختيارهم عليه وكان السيد ناصر في حياته كثيرا ما يرجع مقلديه في المسائل الاحتياطية إليه على ما نقل. وطلبة أهل الأحساء وبعد ثلاث سنوات من الانتظار وافق على تلبية الطلب، وغادر البصرة متوجها إلى الأحساء بقصد التوطن فيها، ووصل إلى الأحساء في أوائل عام 1361 واحتفى الأحسائيون بمقدمه. ولم يطل الأمر أكثر من سنتين إذ وافاه الأجل سنة 1363 فدفن في مدينة الهفوف، ورثاه الشعراء بقصائدهم فمن ذلك قصيدة للشيخ فرج آل عمران منها: لبس العلم الأسى بردا قشيبا * وتجلى كاسف اللون كئيبا راقيا في منتدى الحزن على * منبر التأبين يدعو وا حبيبا وا حبيبا كان لي نورا به * اكشف الجهل إذا غطى القلوبا وقصيدة للشاعر ياسين الرمضان منها: شمس الشريعة والمنير بافقها * وهو الدليل لمن أراد دليلا مصداق معنى الاجتهاد وسره * يستنبط الأحكام والتنزيلا إيها حبيب الله يا مولى الورى * سيدوم حزنك في الزمان طويلا ولا بد أن نشير هنا إلى الاختلاف الواقع في تاريخ وفاة المترجم ففي الذريعة ج 24 ص 234 ذكر أنه توفي سنة 1364 ه، وفي دائرة المعارف الاسلامية الشيعية ج 3 ص 102 قال الدكتور الفضلي إنه توفي عام 1367 ه والصحيح أن وفاته كانت سنة 1363 ه كما أثبتناه نص على ذلك المتتبع الثبت الشيخ فرج العمران أحد المعاصرين للشيخ حبيب في الأزهار الأرجية ج 2 ص 7، كما نص على ذلك أيضا المؤرخ الحاج محمد علي التاجر البحراني في منتظم الدرين المخطوط. له من المؤلفات: 1 نعم الزاد ليوم المعاد، رسالة عملية طبعت في النجف. 2 حواشي متفرقة على بعض الكتب. 3 بعض الرسائل وأجوبة المسائل (1). الشيخ حرز بن علي بن حسين محمود العسكري السهراني الأوالي: قال في تاريخ البحرين المخطوط: المعتصم بربه العلي العالي، هكذا وجدت في كتاب صنفه في مقتل الإمام علي بن أبي طالب ع، وهو من فضلاء أوال ومن بقية أهل الكمال، نحوي بياني متكلم رباني، أخذ الفقه عن علماء عصره وتصدر للافتاء في مصره وله مناقب عظيمة وفضائل كريمة، وهو من شيوخ الإجازات وله بعض الرسائل، مات قدس سره سنة 1111. الشيخ حسن بن الشيخ حسين من آل عصفور قال في تاريخ البحرين: قال صدر الدين الحسيني في تاريخ فارس في ذكر علماء هذه الطائفة الذين سكنوا في خليج فارس: ومنها علامة الدهر وناموس العصر وهو من أعيان علمائنا ومشاهير فضلائنا، متقنا لعلم الحديث النبوي وما يتعلق به، عارفا بالنحو واللغة، برع في الفقه والأصول، جمع بين المعقول والمنقول، تفقه على أبيه الشيخ حسين العلامة في البحرين، ثم انتقل إلى بلدتنا بوشهر، وبوجوده نظمت بلاد العجم، قال العلامة ميرزا محمد النيشابوري في كتاب إجازات مشايخه: وقد أجازني لسان العصر سيد الوقت المنسلخ عن الهياكل الناسوتية، والمتوصل إلى السبحات اللاهوتية، العارف الرباني، والعالم الصمداني الشيخ حسن البحراني نجل المرحوم المبرور، أمين الشريعة ومفتخر الشيعة سيدنا وأستاذنا الشيخ حسين العلامة من آل عصفور، وهو يروي عن أبيه، وهو عن عمه صاحب الحدائق، إلى أن قال: ومن نظر في كتبهم وكثرة مصنفاتهم وتحقيق مقالاتهم عرف مقدارهم واستحسن آثارهم. وتشرفت بخدمته في أصبهان انتهى كلامه. وقال العارف الرباني الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي وممن أجازني من علماء البحرين الشيخ حسن البحراني نجل المقدس المبرور الشيخ حسين الدرازي من آل عصفور، كان إماما عالما، يلتقط الدرر من كلمه، ويتناثر الجوهر من حكمه، يصلح المذنب القاصي عند ما يلفظ، ويتوب الفاسق العاصي حين ما يعظ، يصدع القلب بخطابه، ويجمع العظام النخرة بجنابه، لو استمع له الصخر لانفلق، والكافر الجحود لآمن وصدق، وكان طلق الوجه، دائم البشر، وحسن المجالسة مليح المحاورة، ولم يزل على قوة حاله حتى انتفع به الناس على اختلاف طبقاتهم، وانتشر صيته وكثرت أتباعه في أقطار الأرض، وشهد له علماء وقته بأنه الامام المفرد كحجة الاسلام السيد محمد باقر الأصفهاني فقال قدس سره: إني لأعلم أن لكل وقت صمدا، وإنك والله صمد هذا الوقت، فتوفى قدس سره سنة 1261 وله من التصانيف رسالة في الفقه، وشرح لطيف على أرجوزة أبيه في علم الكلام وأجوبة مسائل البلدان، وغير ذلك ممن شاع وداع ثم ضاع، وضريحه الشريف في بيته المشهور بالمجلس يزار ويتبرك به، ولأهل بوشهر بقبره اعتقاد عظيم، وله من الأولاد الشيخ أحمد وهو لم يكن من العلماء ولذا لم أذكره. ونحن كما قلنا من قبل نلتزم نقل نصوص تاريخ البحرين كما هي لتكون صورة واضحة عن ذاك العصر وأساليب كتابه وطريقة تفكيرهم واتجاه آرائهم. الشيخ حسن علي البدر القطيفي بن عبد الله ولد سنة 1278 في مدينة النجف الأشرف، حيث تربى في ظل والده، ثم توفي عنه والده الذي كان يتولى أمره في مدينة النجف الأشرف، وهو في بداية عمر الشباب فعاد إلى بلده: القطيف. وأكمل دراسته العلمية على يد الشيخ محمد النمر، المتوفى سنة 1348،
(1) السيد هامش الشخص. 79 والشيخ عبد الله بن الشيخ ناصر أبو السعود المتوفى سنة 1341. وينقل الشيخ فرج في كتابه الأزهار الأرجية: أن الشيخ أصيب في أول دور من أدوار حياته الشباب بكوارث ورزايا، ولكن بالرغم من صغر سنه آنئذ، فهي لم تؤثر على عزيمته الماضية. وعلى الرغم من الظروف المعيشية القاهرة في ذلك الوقت، إلا أن فكرة العودة إلى النجف ظلت تراوده، وهناك قطع شوطا علميا طويلا، فطالبه عمه بالعودة إلى الوطن. وعاد فترة وجيزة تزوج بعدها وسافر إلى حج بيت الله الحرام، ومن هناك توجه مرة أخرى إلى النجف ليواصل طلب العلم، فدرس لدى كبار العلماء، منهم: المحقق الخراساني، والشيخ محمد طه نجف، والشيخ ملا هادي الطهراني. استمر فترة يتولى التدريس وأجيز من كل من: الشيخ فتح الله، المعروف بشيخ الشريعة الأصفهاني، والشيخ المازندراني والشيخ محمد تقي آل أسدآبادي. والشيخ محمد كاظم الخراساني. والشيخ عبد الله الشيخ محمد تقي أسد الله الدزفولي. ومن تلاميذه: الشيخ حسين الشيخ علي القديحي والشيخ منصور علي المرهون وغيرهم. ثم سافر إلى الهند لعلاج عينه، وأقام بها بضعة شهور في مدينة حيدر آباد، ولكنو وهناك حاول بعض المسيئين حينها التعرض بسوء للشيخ، فعاد إلى النجف وفي سنة 1329 1912 م هاجمت القوات الإيطالية طرابلس الغرب في ليبيا فبادر إلى الاعلان عن سخطه لهذا الانتهاك لحرمات المسلمين، وطبع رسالة على شكل كتاب تحت عنوان: دعوة الموحدين إلى حماية الدين، دعا فيها إلى الجهاد، وحمل السلاح ضد الغزاة، وقد فرع من تصنيفها كما جاء في كتاب الأزهار الأرجية في 25 شوال من نفس العام وطبعت بتاريخ 28 ذي القعدة من العام ذاته. مؤلفاته: 1 وسيلة المبتدئين إلى فهم عبائر المنطقيين. 2 حاشية على تهذيب المنطق. 3 شرح مبسوط غير تام. 4 حاشية على فرائد الأصول، وهي تحليل رسائل الشيخ الأنصاري. 5 حاشية على كفاية الأصول، وهي تحمل غوامض الكفاية للمحقق الخراساني. 6 رسالة وجيزة في مسالة أصولية. 7 رسالة في أحكام المكاسب والتجارة، وفق آراء أستاذه الخراساني. 8 إحقاق الحق وإبطال الباطل. 9 روح النجاة وعين الحياة، وهي رسالته لمقلديه على ضوء فتاوي الشيخ محمد كاظم الخراساني طبعت سنة 1327. 10 ذكرى الشيخ محمد بن ناصر آل نمر القطيفي العوامي. وغير ذلك من الرسائل. شعره: له قصائد كثيرة في رثاء أهل البيت ع فمن قصيدة مطلعها: ومن ينظر إلى الدنيا بعين بصيرة * يجدها أغاليطا وأضغاث حالم ويوقظه نسيان ما قبل يومه * إلى أنها مهما تكن طيف نائم ولكنها سحارة تظهر الفنا * بصورة موجود بقالب دائم ولا فرق في التحقيق بين مريرها * وما يدعي حلوا سوى وهم وأهم فكيف بنعماها تغر أخا حجى * فيقرع إن فاتت لها سن نادم وهل ينبغي للعارفين ندامة * على فائت غير اكتساب المكارم على قدر بعد المرء منها ابتعاده * عن الروح واللذات ضربه لازم إلى أن يقول بعد أن يصف المصيبة في واقعة كربلاء: فما بال قومي لا عدمت انعطافهم * وكانوا أباة الضيم ماضي العزائم أعاروني الصما فلم يسمعوا الندا * وقروا ألم يدروا باني بلا حمي أعيذكم أن لا يغاث صريخكم * بغير قطيع السوط من كف ظالم أعيذكم أن لا يجاب دعاء من * دعاكم بغير السب أو لطم لاطم أعيذكم أن يستباح حريمكم * وتسبى نساكم فوق عجف الرواسم أعيذكم أن يستضام نزيلكم * فتغضون ماذا شان أبناء هاشم أيرضى إباكم أن يروم مبيعنا * يزيد ولم يعطب بقطع الغلاصم أيرضى إباكم أنها كلما دعت * بكم روعت بالسوط فوق المعاصم وفاته: توفي في مدينة الكاظمية بالعراق سنة 1334 ه، بعد الاحتلال البريطاني للعراق. ولم تكن وفاته طبيعية، بل كانت في موقف تاريخي. فبعد الاحتلال البريطاني للبصرة والزحف نحو بغداد سنة 1914 م، نادى علماء الدين والمراجع الكبار بوجوب القيام ضد الاحتلال الأجنبي، ووقعت معارك ضارية ولأن الشيخ كان حينها من العلماء البارزين فخطب في محفل من الناس خطبة حماسية ملؤها الأسف والحزن على أمته. ولم ينته من كلامه... حتى لفظ نفسه الأخير،. ودفن في روضة الامامين الكاظم والجواد في مدينة الكاظمية. تأبينه: وقد ابنه عدد من العلماء والشعراء بعد سنوات من وفاته. فقد ذكره الشاعر الملا علي بن رمضان في قصيدته المشهورة التي مطلعها: يا خط يا وطن الكرام ألا اسمعي * ماذا يقول فتاك ذاك الألمعي كم قد شرفت بسادة وأماجد * من حجة للمسلمين ومرجع إلى أن يقول في الشيخ: والحجة الحسن العلي البشر رب * الفقه والشعر، الهزير اللوذعي وابنه الشيخ عبد الحميد الخطي في قصيدة طويلة، بعنوان ذكرى فقيد العلم والحق جاء فيها:
80 ودعوتك (1) العصماء أس بنائه * ولولاك لم ترفع إليه المنابر قضيتها شبت بحجرك يافعا * وأنت لها حام وأنت مناصر ولما رأيت الخصم أوغل في الحمى * دوى صوتك العالي كأنك خادر ترقص أضلاع المنابر داعيا * وتبعثهم والعزم في القوم خائر ومت شهيد الحق تحت لوائه * وإن لم توزعك القنا والبواتر وكل فتى يجزى على قذر صنعه * ستشكرك الأجيال والدكر عاطر كما ابنه الشيخ علي بن الشيخ منصور المرهون في عام 1362 ه، في قصيدة بعنوان تدور عليك رحى الكائنات جاء فيها: بكاك الهدي يا حسام الهدى * وكنت على حفظه تسهر وعج لفقدك دين النبي * وزمزم والبيت والمشعر عليك تدور رحى الكائنات * وأنت لها القطب والمحور فهذي المحاريب تبكي أسى * وهذي طروسك والمزبر وابنه أيضا الشيخ فرج العمران بقصيدة تحت عنوان دمعة الشرق جاء فيها: أيها البدري والبدر الذي * مد تسامى الغرب (3) قد أبدى غروبا من بأفق العلم يبدو كوكبا * وظلام الجور قد عم الشعوبا من بأوج العلم يسمو شرفا * وحجاب الجهل قد غطى القلوبا وبنو التوحيد من يحفظهم * وأفاعي الشرك قد دبت دبيبا غبت يا بدر سما العلم وما * في ضمير العلم يوما أن تغيبا الحسن بن محمد الوزير المهلبي مرت ترجمته في الصفحة 221 من المجلد الخامس وننشر هنا دراسة عنه بقلم: جابر عبد الحميد الخاقاني: الاسم والنسب هو أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله بن زيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب القائد العربي بن أبي صفرة. ويستمر هذا النسب حتى يصله بمازن بن الأزد العتكي، أو أزد دبا كما يسميهم ابن خلكان. وقد انسابت شخصية المهلب بن أبي صفرة فيمن أنجب من أبناء ثم من أحفاد... وهكذا. ولذا أنت واجد غير واحد ممن تلقب بالمهلبي وانتسب إلى ابن أبي صفرة قد دخل التاريخ من أكثر من باب، وبين يديك كتب التاريخ شهيدة على ذلك. ولادته: في بصرة المهلب من سنة إحدى وتسعين ومائتين، ولد أبو محمد، حسب ما يذكر جل من أرخ له باستثناء ابن الجوزي إذ أنه يفهم من كلامه حين يقدر عمره بأنه عاش أربعا وستين سنة، وحينذاك، تكون ولادته سنة ثمان وثمانين ومائتين في رأي الجمهور * وسبع وثمانين ومائتين في رأي ابن الجوزي. نشأته وتعلمه: لا نملك ما يحدثنا عن تلك النشأة، كما أننا لم نستطع معرفة الأساتذة الذين تلمذ لهم، غير أن متناثر شعره، وأخباره، تكشف عن أنه كان ملما إلماما حسنا بمعارف عصره، وكان مزيدا إلى ذلك، يتقن الفارسية ويفصح بها. وقد أعانته كثيرا في الاطلاع على رسوم الفرس في الشؤون التنظيمية المتعددة. حياة الحرمان: في شعر المهلبي قطعة قوامها أربعة أبيات، أخذها الناس وحاكوا حولها ما وسعهم الخيال، والأبيات هي: ألا موت يباع فأشتريه * فهذا العيش ما لا خير فيه ألا موت لذيذ الطعم يأتي * يخلصني من العيش الكريه إذا أبصرت قبرا من بعيد * وددت أو أنني مما يليه ألا زحم المهيمن نفس حر * تصدق بالوفاة على أخيه وذكروا في سبب نظمها أن المهلبي مر بالبصرة، واشتهى لحما ولما لم يقدر على دفع ثمنه، تمنى ما تمنى... وقد صور الحرمان الذي عاشه، اعتمادا على هذا النص. والحقيقة أن هذا التفسير غير مقبول، لأن المهلبي اشتغل عاملا للحكم العباسي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وهو قبل هذا التاريخ كان متصلا بالحكم من قريب أو بعيد. والزمن المناسب لمثل تلك الحاجة هو قبل التاريخ المذكور، ففي شعره ما يؤكد أنه كان يستعين على تمشية أموره بالقرض من أعيان أهل البصرة. ولكن الذي يجد من يقرضه في مدينة كل أهلها يحترمون به أسرته، ويقدرون له مكانته، لا يمكن أن نتصوره بالشكل الذي صوره لنا هذا المؤرخ. لا سيما أنه كان في فترة إقامته بالبصرة، وقبل الاتصال بالحكم مقصد الطالبين. جاءه رجل مرة وهو في البصرة، وقد تعذر عليه أن يمد له يد العون، فكتب له رقعة فيها: الجود طبعي، ولكن ليس لي مال * وكيف يصنع من بالقرض يحتال فهاك خطي فخذه منك تذكرة * إلى اتساع فلي في الغيب آمال إذن، الحرمان الذي عاشه، ليس هو كله الفقر، وإنما فقر بسبب تعطيل مواهبه، وكفاياته ونشدان آماله التي كان يدأب لتحقيقها. حياة الترف وكما أفرط المؤرخون، فيما نسبوه إليه من حاجة بلغت به حد الشره، في أيامه الأولى، نسبوا له أيضا عكس ذلك في أيام مجده وسيطرته. فقد قالوا: إنه حين بلغ من السلطان ما بلغ كان لا يأكل وحده. وهي عادة الرجال. ولا يتناول طعامه إلا بملاعق ذهبية، ثم حلا لهؤلاء المؤرخين
(1) فيه أشاره إلى رسالته (دعوة الموحدين) إلى حماية الدين. (2) يشير إلى رسالته دعوة الموحدين أيضا. (3) فيه إشارة إلى سبب موته إثر دخول الإنكليز العراق. 81 تلوين هذه الصورة، فقالوا: كان يقف عن يمينه خادم وعن شماله خادم يناوله الأول ملعقة فيتناول بها لقمة ويرميها إلى الخادم الذي عن يساره، كل ذلك كراهة أن يعيد الملعقة إلى فمه. ولكن الشخص الذي كان بهذا المستوى، كان أولى به أن لا ينادم مثل أبي الفرج الأصفهاني، وأمره على المائدة معروف. أقول كان أولى به ثانيا أن يبتني قصرا أو يتخذ دارا تناسب مقامه وهو وزير بغداد فقد كانت داره على الرغم مما نعتها الناعتون دارا عادية لا متانة تميزها، ولا زخرف يبهجها، كانت تتداعى جوانبها أو جوانب منها ولا يملك الوزير إلا أن يرمم ما تساقط. ثم أخيرا كان بذلك يمكن لمعز الدولة أن يسجل عليه أزمة، إذ كان معز الدولة يتحين بالمهلبي الفرص. وتكون حينئذ مسوغا لكي يجدد له الانتقام. حياته السياسية عرف التاريخ المهلبي وكيلا لعامل من عمال البريديين على مدينة السوس إحدى مدن الأهواز سنة خمس وعشرين وثلاثمائة للهجرة. وقد كانت الدولة العباسية قد تقاسمها القواد والأمراء، فكانت واسط والبصرة والأهواز في أيدي البريديين، وكرمان في يد أبي علي بن إلياس، وفارس والجبل والري وأصفهان في يد ابني بويه. واتسعت مطامح بني بويه، وتحرك أحمد معز الدولة فيما بعد نحو بلاد الأهواز غازيا، عام ست وعشرين وثلاثمائة ليضمها إلى سلطانهم في الري... ثم ليجعلها طريقه إلى وصول بغداد. وهكذا الأمر فيما بعد... والتقى طموح أحمد بن بويه بكبرياء المهلبي وهو الأمير على مدينة السوس، فقطع المهلبي على معز الدولة الطريق، وسيطر على مدن كثيرة، وحاصره في مدينة عسكر مكرم، حتى اضطرب رجال معز الدولة، وكادوا أن يتفرقوا عنه. وكانت إحدى المواقف العسكرية التي خاضها المهلبي ونجح فيها نجاحا جيدا، لولا مساندة بني بويه بعضهم لبعض، وما حصل من إمداد عسكري أنقذ موقف معز الدولة. وبدأت كفايات الرجل تنفس عن نفسها، وقد وجهها وصقلها تلك الأعمال الإدارية والعسكرية التي أنيط به أمر تدبيرها. ورأى أن مستقبل الأهواز والبصرة وواسط بيد بني بويه ولا ضير من ذلك ولعله أهون الخطرين. فالدولة العباسية في تفكك والإمبراطورية المترامية يتوزعها زعماء ليكونوا منها نواة دويلات... فلتكن بغداد والبصرة والأهواز والري وفارس وأصفهان بيد قائد قوي... وليكن بعد ذلك ما يكون. واستقر أحمد بن بويه في عسكر مكرم له قصبتها دون ما سواها ينتظر النصرة من أخيه. ويتم بينه وبين المهلبي لقاء... أسفر بعد سنوات عن عبء يحمله المهلبي ليسكن روع الخليفة العباسي المستكفي بالله في مخبأه والأمير ابن شيرزاد وزيره في مكان استتاره ثم يتم الأمر لأحمد بن بويه. ويتخذ بغداد عاصمة دولته وأبا جعفر الصيمري وزيره ويستكتب المهلبي ويكون موطن سره ومؤتمن مشورته، ويجعله يخلف الصيمري على الوزارة حين تستدعي الأمور أن يكون الصيمري بعيدا عن بغداد. ويبدو أن المنافس الوحيد للمهلبي يومذاك هو أبو جعفر الصيمري، ولذا فإنه، حين يلبي الصيمري نداء ربه سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة يكون قد اتسع المجال أمام المهلبي، ليأخذ مكانه الجدير به، إذ لا منافس حينئذ مع قدراته وقابلياته على أن يكون وزير بغداد ومدبر شؤونها، قال أحمد بن مسكويه وسبب ذلك يعني اختيار معز الدولة للمهلبي أنه وجده جامعا لأدوات الرياسة، وكان لا يجمعها غيره، وإن كان فيهم من هو أرجح كتابة... وأيضا فقد أنس به على طول الزمان... وإنه يعني المهلبي عرف غوامض الأمور وأسرار المملكة فالتزم الأمر فكان خير من أنيط به، وأصلح كثيرا مما أفسدته الأيام. ولكن فيما يبدو لم يسم بالوزارة، إلا بعد ست سنوات من هذا التاريخ، أعني سنة خمس وأربعين وثلاثمائة إذ فيها كما يقول مسكويه خوطب أبو محمد المهلبي بالوزارة بأمر معز الدولة، وخلع عليه وزاد في إقطاعه. كما حظي بخلعة الخليفة العباسي وهو يومئذ المطيع فيلقبه بالوزارة، وتجتمع له كما يقولون وزارة الخليفة ووزارة السلطان، فيلقب بذي الوزارتين. نكبة المهلبي يقول ابن الأثير في حوادث سنة 341: في هذه السنة في ربيع الأول ضرب معز الدولة وزيره أبا محمد المهلبي بالمقارع مائة وخمسين مقرعة، ووكل به في داره، ولم يعزله من وزارته وكان نقم عليه أمورا ضربه بسببها. ولم يوضح ابن الأثير شيئا من تلك الأمور التي سببت هذه العقوبة الفاسية للمهلبي. ويرى بعضهم أن من تلك الأمور معارضة المهلبي لمعز الدولة أن الثاني أراد نقل العاصمة من بغداد وأن الأول عارض في ذلك فاكتفى معز الدولة بنقل مقره إلى أعلى بغداد من الجانب الشرقي في البستان المعروف بالصيمري، فهواؤه نقي، وماؤه أصح وإذا كان لا بد من بناء فيبنى قصر في جوار باب الشماسية وان معارضة المهلبي هذه تركت اثرا سيئا في نفس المعز، فقد شاب العلاقة بينهما صراع خفي بدأ ينفس عن نفسه حين طلب المعز إلى المهلبي أن يوجه وجوه الأموال إلى بناء هذا القصر فاخذ يحتج عليه بقصر الدخل عن المصروف، وكان يلقى منه عنتا حتى اضطره آخر الأمر إلى أن يتولى الأمر بنفسه على أن يكون في هذا تخلص من المأزق. على أن ابن الأثير يروي قصة بناء القصر في أحداث سنة 350 ويعلل ذلك بان معز الدولة مرض مرضا شديدا، ثم عوفي منه. ثم يقول ابن الأثير: فعزم معز الدولة على المسير إلى الأهواز لأنه اعتقد أن ما اعتاده من الأمراض إنما هو
82 بسبب مقامه ببغداد، وظن أنه إن عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه من الصحة، ونسي الكبر والشباب. فلما انحدر إلى كلواذى ليتوجه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمقام وان يفكر في هذه الحركة ولا يعجل، فأقام بها، ولم يؤثر أحد من أصحابه انتقاله لمفارقة أوطانهم وأسفا على بغداد كيف تخرب بانتقال دار الملك عنها، فأشاروا بالعود إلى بغداد وان يبني بها له دارا في أعلى بغداد لتكون أرق هواء وأصفى ماء ففعل وشرع في بناء داره في موضع المسناة المعزية انتهى. في مثل ذلك الظرف، ومثل تلك العلاقة كانت حياة المهلبي مع المعز، وأخذت الحساسيات تنمو والأخطاء ترصد لكي تكون مسوغا شكليا للانتقام. وجاءت مرحلة، أشرف المهلبي فيها بنفسه على بناء الدار المعزية. ووجدت هفوات لعلها مقصودة فسعى ساعي النفاق إلى معز الدولة، بأنه لم يحكم البناء، وأحضر المهلبي وأوقفه المعز على بعض ما رآه من التسنيف ساف لبن وساف أجر، ولذت ساعة الانتقام، فامر به بالمهلبي فبطح وضرب مقارع كثيرة قال ابن الأثير مائة وخمسين مقرعة. وجمد بعدها المهلبي من ممارسة أعماله، وبقي قعيد داره. العودة إلى أعمال الوزارة لا نملك ما يؤيد عودة المهلبي إلى ممارسة أعماله الوزارية بعد نكبته، إلا نصا شعريا نرجح أنه بعث به صاحبه بهذه المناسبة، وإن ذكر ياقوت بان هذا النص بعث به أبو محمد الخلادي حين تسلم الوزير أمور الوزارة، والترجيح مبني على ما في النص من إشارة إلى العودة بعد الغياب، قال القاضي أبو محمد الخلادي: الآن حين تعاطى القوس باريها * وأبصر السمت في الظلماء ساريها الآن عاد إلى الدنيا مهلبها * سيف الخلافة بل مصباح داجيها أضحى الوزارة تزهى في مواكبها * زهو الرياض إذا جادت غواديها تاهت علينا بميمون نقيبته * قلت لمقداره الدنيا وما فيها موفق الرأي مقرون بغرته * نجم السعادة يرعاها ويحميها معز دولتها هنئتها فلقد * أيدتها بوثيق من رواسيها والأبيات هذه بما تحمل من دفع في بعض ما استخدمت من أساليب، لعله أراد بها إبراز معاني القوة عاد مهلبها أكثر مما أراد بها لونا بلاغيا معروفا، أقول: إن الأبيات هذه لم تثر حماسة المهلبي كثيرا، وكل ما دفعته إليه هو أنه أجاب مهنئه بأبيات أملاها الذوق ودعا إليها العرف، مع رسالة يستشف منها أن الياس ما يزال مخيما عليه، وإنه لم يستطع اجتياز المحنة بشجاعة. واستمر بعد ذلك وزيرا دون أن نحس لشخصيته القوية باثر يذكر من الناحية السياسية. أعماله: كانت الوزارة في القرن الرابع الهجري تعني أمورا مثيرة، فالوزير، هو الذي يدبر أمور السلطة من الناحية الإدارية، وهو الذي ينظم شؤونها من الناحية المالية وهو الذي يقود الجيش في غزواتها والدفاع عن أراضيها. لذلك كان على المهلبي أن يساهم في هذه الأمور كلها. فهو ما إن تسلم زمام الأمر حتى كان عليه أن يسافر إلى البصرة ليخمد نار ثورتها التي أشعلتها سياسة البريديين الرعناء، بفرض ضرائب قاسية كان القصد منها إضعاف قوى الناس. بان تؤخذ ضريبة العشر من الحنطة والشعير مضروبة في أربعة مسعرة عليهم بسعر يرتضيه العامل. وحين دخل المهلبي البصرة شكا إليه أهلها ذلك التعسف فوعدهم بكل ما أنسوا به وطلب إليهم العودة إلى رسمهم القديم في أخذ العشر حبا بعينه من غير تربيع ولا تسعير وسويت المشكلة بينهم وبين معز الدولة. وأثمر عدله هذا في نفوس البصريين فحضروا إلى بغداد شاكرين هذه المكرمة للمهلبي أمام المعزم، وأشهدوا أمام الخليفة العباسي على التزامهم له وتنقل بين البصرة والأهواز ليقف على تصرف العمال بنفسه وليرد كل مظلمة. وقد بلغه وهو في الأهواز خبر عامل عمان يوسف بن وجيه، ممن آثر الخروج على حكم معز الدولة، وقد أغرى هذا العامل ما سمعه من نفوذ القرامطة في البصرة واستيحاشهم من معز الدولة، وما درى أن الأمر في البصرة قد سوي بحزم وزير ذكي. وسار المهلبي في جيش قوي إلى البصرة ودخلها قبل وصول يوسف إليها، وشحنها بالرجال، وحين وصل يوسف إلى البصرة دخل هو والمهلبي في معركة دامت أياما، كان النصر في النهاية حليف الوزير، وعاد بكل ممتلكات ابن وجيه من سلاح ومتاع. واستمرت حياته حربا لعمر بن شاهين مرة والتهيئة لفتح عمان أخرى، ولكنه لم يوفق في الموقفين. أما الأول، فلاضطراره من قبل معز الدولة على التهور وترك سياسته الحازمة، وخطته الناجحة في الحرب الطويلة مما أدى إلى انهزام جيشه، واعتقال قواده. وأما الثاني، فلأنه، قد اعتل قبل وصوله هدفه، فأعيد إلى بغداد في السنة التي توفي فيها. صلته بأدباء عصره: قال الثعالبي: كان المهلبي من ارتفاع القدر واتساع الصدر ونبل الهمة وفيض الكف وكرم الشيمة على ما هو مذكور مشهور. وتلك خلال كريمة قد يكون فيها بعض الأسباب التي جمعت حوله كرام الرجال وأفاضل العلماء، فنجد ديوانه بيته معمورا بأمثال الصاحب بن عباد، والقاضي الخلادي والخالديين والتنوخيين، وأبي إسحاق الصابي، وابن سكرة الهاشمي، وابن حجاج، وأبي علي الحاتمي وابن المنجم، وأبي الفرج
83 الأصفهاني، وأبي سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني، وأضرابهم من العلماء والأدباء والقضاة. قد يكون هذا... وقد يكون ما وجده بعض هؤلاء في الاتجاه السياسي الذي سار عليه الوزير والآمال التي كانت تعقد عليه، والأماني التي كان يعتقد أنه خير من يستطيع تحقيقها سببا آخر في ذلك الالتفاف. ولكن المهلبي لم يكن يندفع في علاقته تلك وراء العواطف ليقينه أن العاطفة سرعان ما تذهب، وتبقى وراءها حسرة لا تردها آهات السنين. ولذلك فإنك تجده يبني معاملته على أساس من النفع العام، فأي من هؤلاء أكثر خدمة للناس فهو المقدم عنده والأثير لديه. سأله مرة القاضي أبو الحسين محمد بن عبيد الله بن نصرويه عن سبب تفصيله لابن عبد الواحد على أبي تمام الزينبي عامليه على مناطق بالبصرة فقال المهلبي: يا أبا الحسين شتان بين الرجلين؟ دخل علي ابن عبد الواحد فرأيت أن أقصيه، بما عاملته من قلة الرفع والتقرب، فعرض علي أول رقعة، فاعتقدت أن أردها فلما قرأتها وجدتها لحاجة غيره، فاستحييت أن يكون أكرم مني، وقد بذل جاهه لمن سأله سؤالي مع ما يعلمه بماله عندي... ثم توالت رقاعه، فوجدت جميعها في حوائج الناس. وقد دخل هذا يعني أبا تمام الزينبي، فعاملته من الاكرام بما رأيت لما بيني وبينه، فعرض رقاعه، فوجدت أولها في شئ يخصه، فوقعت له، وكلما عرض رقعة تطلبت أن يكون فيها شئ لغيره، فاقضيه له، وأجعل له محمدة عليه فما وجدت الجميع إلا له، وفيما يخصه فكرهت ذلك منه وانحط من عيني. نقلنا النص على طوله لما فيه من دلالة على الأساس الذي يعامل به الوزير معاصريه. وتبعا لذلك، فإنه لم يقتصر في علاقته بالنابهين من الأدباء والشعراء فقط، وإنما امتد تفقده إلى أولئك الذين لم يطمحوا بالوصول إلى الوزراء. فكان يكتب إلى أمثال هؤلاء شعرا أو نثرا بما يرفع نفسياتهم، ويعيد إلى اطمئنانهم أن مقاييس الرجال عنده ليست نباهة الذكر وعلو المنزلة، قال التنوخي وجدت بخط أبي محمد المهلبي، كتابا إلى أبي القاسم بن بلبل، وهو صغير الحال، وفيه: طلع الفجر من كتابك عندي * فمتى باللقاء يبدو الصباح ذاك إن تم لي فقد عذب العيش * ونيل المنى وريش الجناح وقد احتل في نفوس هؤلاء الأدباء جميعا مكانا عليا وحظي بتقديرهم حتى إن منهم من أفرع لمديحه وأخباره صدرا من كتبه، كالتنوخي في نشوار المحاضرة، والصاحب بن عباد في الروزنامجة وأبي إسحاق الصابي وأبي الفرج الأصفهاني، فيما كتبا عنه. وقد كانت موجة الاعجاب به تدفع بعض الشعراء إلى السرقة من غيرهم، فيما إذا قلت بضاعتهم أو لم تأت بالجودة المطلوبة، كما حدث للسري الرفاء مع الخالديين في ادعائه أنهما يعني الخالديين كانا يسرقان شعره ليمدحا به المهلبي. ومثلها موجة الوفاء التي جعلت الحسين بن حجاج يرثيه، بعد وفاته في أحلك الظروف، إذ كان معز الدولة قد ألقى القبض على كل أتباع المهلبي وسجن زوجه وولده. وفاته: في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، يقود المهلبي عن غير رغبة جيشا كثيفا يريد به فتح عمان، ولما يبلغ القائد هدفه، إذ أنه أصيب بمرض أقعده عن مواصلة الزحف واشتدت علته فأعيد إلى بغداد، وفي جمادى الآخرة من السنة نفسها، توفي في طريقه إلى بغداد، وحمل جثمانه إليها، ودفن في مقابر قريش. أدبه النثري والشعري: لست متحدثا كثيرا عن نشاطه الأدبي، باستثناء هاتين الملاحظتين: أولا: فيما يخص رسائله يبدو أنها لم تخرج عن الخط العام للرسائل في القرن الرابع الهجري، من حيث العناية بالسجع والازدواج، ومع أن الصفة الغالبة عليه هي الكتابة، فإنه لم يستطع أن يجدد في هذا الفن. ثانيا: فيما يتعلق بشعره أقول: إن شعره كان قليلا، كما وصفه ابن النديم ولعله لا يزيد عما جمعناه له إلا قليلا. وقد وصفه الناس وصفين متباينين، فقد كان بعض الأدباء إذا سمع قوله: يا من له رتب ممكنة القواعد في فؤادي قال: هذا يصلح أن يكون شعر بناء. في حين نجد آخرين ينعتونه بالجودة والبهاء. وقد يكون في هذا المدح أو ذاك التعريض ما فيه من التحيز له أو عليه. ولكنه شان أي إنسان امتلك ناصية القريض، يأتي بالغث مرة والسمين أخرى، ومهما يكن من أمر، فقد تمثلت في كل تلك المقطعات حياته التي عاش فيها الحرمان مرة والنعيم والترف أخرى. ديوان شعره: لم نجد فيما بين أيدينا من مصادر دراسته ما يشير إلى ديوانه باستثناء إشارة ابن النديم ولعل قلة شعره، وما اتسم به غالبه من جفاف، قد صرفت الأدباء عن العناية به، ومن ثم الإشارة إليه، على الرغم من عناية أهل ذلك العصر بتدوين الدواوين وجمع ما تناثر من شعر السابقين. ولعل تلك كانت خاتمة النكبات التي مني بها المهلبي حيا وميتا وهي، أن لا يعثر له على أثر أدبي ليأخذ مكانه في الأدباء. ولذلك فقد صح العزم على جمع ما تفرق، وتتبع ما تشتت من شعره عسى أن يكون في ذلك مساهمة مني في خدمة تراث أمتنا، أن وفقت فيها، فذلك بليغ رجائي. وإلا فحسبي ما انتفعت به من جهد، والله أسال أن يأخذ بيد العاملين. حرف الهمزة (1) 1 - يا عارفا بالداء مطرح السؤال * عن الدواء 2 - العلم عندي كالغذاء * فهل تعيش بلا غذاء
84 (2) 1 - ينأى فاشتط وأنوي له * تنقص الداني على النائي (1) 2 حتى إذا أبصرته ذبت في * يديه ذوب الملح في الماء حرف الألف المقصورة (3) قال لما تقلد الوزارة لمعز الدولة: 1 لقد ظفرت والحمد لله منيتي * بما كنت أهوى في الجهارة والنجوى 2 وشارفت مجرى الشمس فيما ملكته * من الأرض واستقررت في الرتب العليا (2) 3 وعاينت من شعر العييني حلة * تعاون فيها الطبع والمهجة الحرا (3) 4 فحركني عرق الوشيجة والهوى * لعمي وأملت بي إلى الرحم القربى (4) 5 فيا حسرتا أن فات وقتي وقته * ويا حسرة تمضي وتتبعها أخرى (5) 6 ويا فوز نفسي لو بلغت زمانه * وبغيته دنيا وفي يدي الدنيا 7 فمكنته من أهل دنيا وأرضها * ففاز بما يهوى وفوق الذي يهوى (6) (4) 1 يا من يسر بلذة الدنيا * ويظنها خلقت لما يهوى 2 لا تكذبن فإنها خلقت (7) * لينال زاهدها بها الأخرى حرف الباء (5) قال في بعض غلمانه: 1 خطط مقومة ومفرق طرة (8) * فكان سنة وجهه محراب 2 وريت في كشف الذي ألقى به * فتعطل النمام (9) والمغتاب (6) 1 لقد واظبت نفسي على الحب في الهوى * بإنسانة ترعى الهوى وتواظب 2 صفا لي منها العيش والشيب شامل * كما كان يصفو والشباب مصاحب (7) 1 الشمس في مشرقها قد بدت * منيرة ليس لها حاجب (10) 2 كأنها بوتقة أحميت * يجول فيها ذهب ذائب (11) (8) 1 - وريح تضل الروح عن مستقره * وتستلب الركبان فوق الركائب (12) 2 فلو أنها ريح الفرزدق لم يكن * لها ترة من جذبها بالعصائب 3 نصبت لها وجهي وأنصبت صاحبي * إلى أن حللنا في محل الحبائب (13) (9) لو توسطت إذا لم تترك * وكففت القلب عن بعض الأدب (14) كان أرجى لك في العقبى من أن (15) * تملأ الدلو إلى عقد الكرب (10) ما لابن هم سوى شرب ابنة العنب * فهاتها قوة فراجة الكرب (11) يا منى نفسي ويا * حسبي من حسن وطيب سابقي بالوصل موتي * أو مشيبي ومغيبي (16) فهو للفتيان في الدنيا * بمرصاد قريب (12) فشمت فيها اختلاس لحظ * وخلت فيها وجيب قلب (17) (13) قال في غلام له جرب: يا صروف الدهر حسبي * أي ذنب كان ذنبي علة عمت وخصت * في حبيب ومحب دب في كفيك يا من * حبه ربي بقلبي فهو يشكو حر حب * واشتكائي حر حب (18) (14) وقال ياقوت فيما يروي قال أبو الحسن بن عبيد الله بن سكرة الهاشمي (19) وكان ابن سكرة قد مدح المهلبي بأبيات فلما كان من الغد
(1) اشتط - أبعد.. (2) في اليتيمة: في الرتبة العليا. (3) عييني: رأى بعض الصرفيين. أما الأكثر والأفصح فالبنسبة إليه عيني، بحذف الياء الثانية، ياء فعلية. (4) في اليتيمة: وأطيب بي إلى الرحم. (5) في اليتيمة: فيما حسرتي.. وفي نزهة الجليس.. ويا محنة تمضي وتتبعها أخرى.. (6) في نزهة الجليس.. فملكته.. (7) في شعر الدعوة الإسلامية: فإنما خلقت لينال.. (8) الطرة: الجبهة. الناصية. (9) النمام: صيغة مبالغة لنام. وجمع نام: نمام بضم النون. والنمام: الذي يتحدث مع القوم فينم عليهم فيكشف ما يكره كشفه. (10) في أسرار البلاغة ومباهج الفكر والغيث المسجم وأنوار الربيع والتحفة الناصرية: مشرقها. في حلبة الكميت: (مسفرة لها ليس..) وهو سهو طباعي. وفي التحفة الناصرية: مشرقة. (11) في حلبة الكميت: يحل فيها.. (12) في نشوار المحاضرة: (13) وريح تضيم الحر مما تثيره * وتستلب الركبان دون العصائب قال مرجليوث: لعله: تغيم الجو. (13) في نشوار المحاضرة: إلى أن نزلنا في ديار الحبائب. وفي الأبيات إشارة إلى أبيات الفرزدق التي ألقاها على سليمان بن عبد الملك حين ولي الخلافة، وأبيات الفرزدق هي: وركب كان الريح تطلب عندهم * لهاترة من جذبهم بالعصائب سروا يركبون الريح وهي تلفهم * على شعب الأكوار في كل جانب إذا استوضحوا نارا يقولون ليتها * وقد خصرت أيديهم نار غالب (14) في التمثيل والمحاضرة: وكففت النفس عن بعد الأدب. (15) في التمثيل والمحاضرة: في العتبى. (16) في التمثيل والمحاضرة: سأبقى بالوصل حولي * أو مغيبي أو مشيبي (17) رواية البيت في النشوار مضطربة، فقد كانت على الصورة التالية: رأيت من الهوا فسمت بها * اختلاس لحظ وخلت فيها وجيب قلب ولعل (رأيت..) جز من بيت سقط في نشوار المحاضرة. (18) لعله: فهو يشكو حر جرب. (19) ابن سكرة: هو أبو الحسن محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي من ولد علي بن المهدي العباسي شاعر مجيد كبير من شعراء بغداد في القرن الرابع، له ديوان شعر في أربعة مجلدات يزيد على خمسين ألف بيت، توفي سنة 385 ه، اقرأ عنه اليتيمة 2 / 188 - 211 - تاريخ بغداد 5 / 465، وفيات الأعيان 1 / 526، الوافي بالوفيات 3 / 308، الاعلام 7 / 39. 85 استدعاني يعني المهلبي وقال: اسمع وأنشدني لنفسه: أتاني في قميص اللاذ يسعى * عدو لي يلقب بالحبيب (1) فقلت له: فديتك كيف هذا؟ * بلا واش أتيت ولا رقيب (2) فقال: الشمس أهدت لي قميصا * كلون الشمس في شفق الغروب (3) فثوبي والمدام ولون خدي قريب من * قريب من قريب [5] إني ليعصمني هواك عن الهوى * حتى كان علي منك رقيبا وأجول في غمرات حبك جاهدا * طورا فيحسبني الجليس رهيبا ما إن هممت بشم نحرك ساعة * إلا ملأت من الدموع جيوبا [6] وجدوا عود أبي * الصقر على الغمز صليبا كلما زادوا عذابا * زادهم صبرا عجيبا وكذا المسك إذا ما * زاد سحقا زاد طيبا [7] يجير على سلطانه حكم دينه * ويبعد في حق البعيد أقاربه [18] قد قصر الليل عند ألفتنا * كان حادي الصباح صاح به حرف التاء [19] فديت أخا يواصلني بكتب * أسر من البشارة حتى تأتي أخ لم يرض لي بالوصل حتى * حباني بالبقية من حياتي (4) [20] وإن جاءك القوم في حاجة * تفطرت حولين في العلة (5) وتلقاهم أبدا كالحا * كان قد عضضت على مصلة حرف الثاء [21] فان عصير الثمار الثجير (6) * وإن نفي الحديد الخبث حرف الجيم [22] عزمي وعزم عصابة ركاضة (7) * موصولة الإلجام بالأسراج كالنبل عامدة إلى أهدافها * والطير قاصدة إلى الأبرا [23] يا شادنا جدد حبي له * من بعد حب سالف ساجي بلحية قد أوصلت جمة * مثل اتصال الطرق بالتاج [24] الورد بين مضمخ ومضرج * والزهر بين مكلل ومتوج والثلج يسقط كالنصار فقم بنا * نلتذ بابنة كرمة لم تمزج (8) طلع البهار ولاح نور شقائق * وبدت سطور الورد بين بنفسج (9) فكان يومك في غلالة فضة * والنبت من ذهب على فيروزج (10) حرف الحاء [25] طلع الفجر من كتابك عندي * فمتى باللقاء يبدو الصباح (11) ذاك إن تم لي فقد عذب * العيش ونيل المنى وريش الجناح [26] بعثت إلى رب البرايا رسالة * توسل لي منها دعاء مناصح فجاء جوابي بالإجابة وانجلت * بها كرب ضاقت بهن الجوانح [27] تطوي بأوتارها الهموم كما * يطوى دجى الليل بالمصابيح (12) ثم غنت فخلتها سمحت * بروحها خلعة على روحي (13) حرف الدال [28] ورد الكتاب فديته من وارد * فله بقلبي من حياتي مورد (14) فرأيت درا عقده متنظم * في كل فصل منه فصل مفرد (15) [29] إن العبيد إذا ذللتهم صلحوا * على الهوان وإن أكرمتهم فسدوا (16)
(1) اللاذ مفرده، لاذة، ثوب حرير أحمر، فارسي معرب. وفي معجم الأدباء: اللاذ يمشي. (2) في اليتيمة رواية البيت: فقلت له: لم استحليت هذا * فقد أصبحت في زي عجيب (3) في اليتيمة: غريب اللون في شفق المغيب. وهو في معجم الأدباء: رقيق الجسم من شفق الغروب. وقد نسب الثعالبي هذه الأبيات الأربعة إلى محمد بن عباس البصري، المعروف بصاحب الراقوية. (4) في طبعة مرجليوث بالتحية.. وقد فسر التحية بالبقاء... (5) قال محقق كتاب التشبيهات: لعلها: تفكرت. ونقول: ولعلها: تنظرت. (6) الثجير: ثفل كل شئ يعصر. وتقول: أخذ سلاقة العصير وترك حثالة الثجير. (7) ارتكض في أمره: تقلب فيه وحاوله. (8) في اليتيمة وشرح المقامات والتحفة الناصرية: الثلج يهبط. وفي شرح المقامات: نصبحك بابنة.. وموقع البيت الثالث فيها. (9) في اليتيمة.. سطور الورد تلو بنفسج وفي شرح المقامات.. فلاح.. (10) في من غاب عنه المطرب.. والنور من ذهب.. وفي التحفة الناصرية وكان.. والفيروزج، أو الفيروزج: حجر من الأحجار الكريمة. (11) في اليتيمة: فمتى للقاء. (12) في فوات الوفيات: تطوى دجى. (13) في فوات الوفيات، وديوان الشعر العربي: ثم تغنت.. (14) في نشوار المحاضرة والمنتحل: فيه لقلبي.. (15) في نزهة الجليس: منتظما.. ورواية البيت في نشوار المحاضرة: فرأيته كالدر نضد عقده * في كل فصل منه فصل مفرد (16) نسبه الثعالبي في التمثيل والمحاضرة، وتبعه القرطبي في بهجة المجالس: ليزيد المهلبي. 86 ما عند عبد لمن رجاه محتمل * ولا على العبد عند الحرب معتمد فاجعل عبيدك أوتادا مشججة * لا يثبت البيت حتى يقرع الوتد (1) [30] يا من له رتب ممكنة * القواعد في الفؤاد (2) أيحل أخذ الماء من * متلهب الأحشاء صادي؟ [31] لئن قعدت بي قلة المال قعدة * فما أنا عن كسب المعالي بقاعد ولا أنا بالساعي إلى الجهل والخنا * ولا عن مكافاة الصديق براقد أكافي أخي بالود أضعاف وده * وأبذل للمولى طريفي وتالدي وما صاحبي عند الرخاء بصاحب * إذا لم يكن عند الأمور الشدائد [32] إذا اختصر المعنى فشربة حائم * وإن رام إسهابا أتى الفيض بالمد (3) [33] قال في غلام اسمه غريب: رعى الرحمن قوما ملكوني * رشا قصر بلغت به المرادا وسموه مع القربى غريبا * كنور العين سموه سوادا (4) [34] وآن لميت من معاد معاده * وغصن جفاه الشرب أن يتعهدا (5) [35] أشتهي الآن أن أصلي على نعم ش * محب قد مات في الحب وجدا [36] قال في غلام تركي لمعز الدولة: ظبي يرق الماء في * وجناته ويرق عوده (6) ويكاد من شبه العذارى * فيه أن تبدو نهوده ناطوا بمعقد خصره * سيفا ومنطقة تئوده جعلوه قائد عسكر * ضاع الرعيل ومن يقوده حرف الراء [37] رب يوم قطعت فيه خماري * بغزال كأنه مخمور (7) ومصاد سرحت فيه ونصر * بازيازي مظفر منصور (8) بصقور مثل النجوم إذا انقضت * وعصف كأنهن صقور (9) قال يصف كتابا ورده من ابن العميد: (10) ورد الكتاب مبشرا * قلبي باضعاف السرور (11) وفضضته فوجدته * ليلا على صفحات نور (12) مثل السوالف والخدود * البيض زينت بالشعور (13) بنظام لفظ كالثغور * وكالعقود على النحور (14) أنزلته مني بمنزلة * القلوب من الصدور (15) [39] منية سابقت ورود البشير * ومواف أوفى على التقدير يا عروسا زفت إلي فأهديت * إليها رقى مكان المهور بالتملي وبالرجا والسرور * يا حياتي والمنزل المعمور قد لعمري وفيت لي وسأجزيك * وفاء بالشرط بعد النذور [40] وقالوا للطبيب أشر فانا * نعدك للعظيم من الأمور فقال شفاؤه الرمان مما * تضمنه حشاه من السعير فقلت لهم أصاب بغير قصد * ولكن ذاك رمان الصدور [41] أراني الله وجهك كل يوم * صباحا للتيمن والسرور وأمتع ناظري بصفحتيه * لأقرأ الحسن من تلك السطور (16) [42] والشمس حيرى خلف غيم عارض * وكأننا في ضوء ليل مقمر (17)
(1) في المنتحل والتمثيل والمحاضرة، وبهجة المجالس، وفصل المقال ورد: أوتادا مشمخة، وهو تصحيف ظاهر. (2) في سر الفصاحة: من فؤادي. وفي منهاج البلغاء: في فؤادي. (3) يقال رجل حاثم: أي عطشان. (4) في الغيث المسجم: فسموه مع القربى. (5) ورد البيت مضطربا في اليتيمة، وروايته: وإن لمست منه بعاد معاده * وعصر جفاه الشرب أن يتعهدا (6) وفي وفيات الأعيان طفل يرق.. ويرف عوده. وكان هذا الغلام قد أنيط به قيادة سرية من الجند لمحاربة بعض بني حمدان، وقد صحت نبوءة الوزير فقد ضاع الرعيل، وعاد من يقوده منكسرا. (7) في اليتيمة.. رب ليل.. وفي خاص الخاص: بغلام كأنه.. وفي من غاب عنه المطرب.. بغزال كأنني مخمور.. (8) كذا ورد... ولم نهتد لمعناه.. (9) كذا ورد، ولم نهتد لمعناه، مع أن مادة عصف في اللسان تعني: العصف، والعصفة، والعصيفة العصافة: عن اللحياتي: ما كان علي ساق الزرع من الورق الذي ييبس فيتفتت، وقيل هو ورقه من غير أن يعين بيبس ولا غيره، وقيل ورقه، وما لا يؤكل.. ومهما يكن من شئ، فهي لا توضح معنى البيت. (10) ابن العميد: هو، أبو المفضل، محمد بن الحسين بن محمد العميد وزير من أئمة الكتاب، واسع المعرفة متبحرا في الفلسفة والنجوم ولقب بالجاحظ الثاني. ولي الوزارة لركن الدولة البويهي فكان حسن السياسة، خبيرا بتدبير الملك، وأمور الحرب والسلم، ودام في الوزارة لبني بويه أربعا وعشرين سنة وعاش نيفا وستين عاما. مات بهمذان سنة 360 ه وقد ترك ذخيرتين: - ولده أبو الفتح بن العميد. ب - مجموع رسائله. في مجلد ضخم، وديوان شعره. اقرأ عنه: الامتاع والمؤانسة 1 / 66 - اليتيمة 3 / 2 - الكامل حوادث سنة 359 ه - ابن العميد لخليل مردم - الأعلام 6 / 328. (11) في المنتحل: نفسي بأنواع.. (12) في اليتيمة ففضضته.. (13) في حماسة بن الشجري.. مثل السوالف والجباه.. والسالفة: ناحية مقدم العنق.. (14) في حماسة ابن الشجري وكنظم در كالثغور.. وفي نشوار المحاضرة: أو اللآلئ على.. (15) في نشوار المحاضرة واليتيمة والتحفة الناصرية: أنزلته في القلب منزلة.. (16) في المنتحل: أمتع مقلتي.. وفي اليتيمة: والأعجاز والإيجاز، وخاص الخاص: بصحيفته، وهو تصحف ظاهر. (17) في الغيث المسجم فكأننا في ضوء.. 87 [43] أما ترى الشمس وهي طالعة * تمنع منا إدامة النظر حمراء صفراء في تلونها * كأنها تشتكي من السهر مثل عروس غداة ليلتها * تمسك مرآتها من القمر [44] ألا يا منى نفسي وإن كنت حتفها (1) * ومعناي في سري ومغزاي في جهري تصارمت الأجفان لما حرمتني (2) * فما نلتقي إلا على دمعة تجري انا في حجرة تجل عن الوصف م * ويعمى البصير فيها نهارا هي في الصبح كالظلام وفي * الليل يولي الأنام عنها فرارا أنا منها كأنني جرف بئر * أتقي عقربا وأحذر فارا وإذا ما الرياح هبت رخاء * خلت حيطانها تميدا انهيارا رب عجل خرابها وأرحني * من حذاري فقد مللت الحذارا [46] وقصر يوم الصيف عندي وليلة م * الشتاء سرور منه رفرف طائره حرف الزاي [47] فللرجل الوافي جميل وفائة * وللناصح إلها في جميل التجاوز (3) حرف السين [48] جاءت بمعمولة من جنس قامتها * لينا وفي كفها من خدها قبس (4) حتى إذا قربت من ذيل صاحبها * أصغى إلى سرها والرأس منتكس فنم بينهما ما كان مكتتما * ما نمه اللفظ لكن نمه النفس [49] وغدا ابن دأية (5) عندهم كمها * وأبتز سوق صياحه خرس [50] شربنا غبوقا والنجوم كأنها * نثار دنانير على أرض سندس كان الثريا بينها حين أعرضت * يواقيت تاج أو تحية نرجس (6) حرف الشين [51] يوم كان سماءه * مثل الحصان الأبرش (7) وكان زهرة أرضه * فرشت بأحسن مفرش (8) والشمس تظهر مرة * وتغيب كالمستوحش (9) فسماؤه دكن الخزوز * وأرضه خضر الوشبي (10) شبهت حمرة وجهها * بحمار عين المنتشي (11) [52] إذا غناني القرشي * دعوت الله بالطرش وإن أبصرت طلعته * فوا لهفي على العمش حرف الضاد [53] الله يدفع عن نفس الوزير بنا * وكلنا للمنايا دونه غرض ففي الأنام له من غيرنا عوض * وليس في غيره منه لنا عوض حرف الطاء [54] كلوا من التوت وانشطوا * فإنه على الأرى مسلط (12) كأنما التوت على أطباقه * لآلئ بعندم منقط حرف العين [55] الراح ترياق (13) لسم الهم في * حكم من المعقول والمسموع والهم يلسعني فهل من مسلم * يسخو بترياق على الملسوع [56] قليل مجال الرأي فيما ينوبه * نزول على حكم النوى والتودع [57] لئن عرفت جريرا * أو اعتمدت قطيعا (14) فلا ظفرت بعاص * ولا أطعت المطيعا حرف الفاء [58] ولي حبيب ألوذ فيه بأوصاف * وفحواه فوق ما أصف كالبدر يعلو والشمس تشرق * والغزال يعطر والغضن ينعف [59] وقلب شديد لا يلين لخلة * ولا يتلافاه الرقي والتلطف (15) [60] تركوا المكيدة والكمين لجهدهم * والنبل والأرماح للأسياف
(1) في الأعجاز والإيجاز: خنقها: وهو تصحيف.. (2) في اليتيمة، والأعجاز والإيجاز، والإرشاد، وأنوار الربيع منذ حرمتني.. وعلى عبرة تجري في اليتيمة ووفيات الأعيان والعكبري وأنوار الربيع... وفي الأعجاز والإيجاز إلا إلى عبرة تجري. وقد تردد ابن جني فنسبه له ولأبي الفرج الأصفهاني.. (3) في اليتيمة. فللرجل الوافي جميل جزائه.. (4) يعني المجمرة.. (5) ابن دأية: الغراب. (6) يبدو أن البيتين من قطعه واحدة.. والثريا: تصغير، ثروى، مشتق من الثروة في العدد، وهي أنثى ثروان، ولا يتكلمون بها مكبرة. ويقال للثريا: الية الحمل وهي ستة كواكب.. انظر: المخصص، لابن سيدة. (7) في اليتيمة في موضعين: كأن سماءه شبه.. وفي نثار الأزهار والتحفة الناصرية: شبه. (8) في اليتيمة: وكأن زهرة روضه.. (9) في نثار الأزهار: كالمتوحش. (10) الخزوز، جمع خز، وهو الحرير، إما نسج من الصوف. (11) في نثار الأزهار: شبهت حمرة عينها كحمارة ابن المنتشي.. (12) كذا.. ولعله.. من التوت كثيرا.. أو طباقا وانشطوا.. والأرى: لعلها الأذى. (13) الترياق: - بكسر التاء - دواء للسموم فارسي معرب. (14) في الروزنامجة: إن الوزير عملهما لساعتهما وغنى بهما. قال الثعالبي: المراد، بالجرير: جريرة. والقطيع: القطيعة. (15) أو: ولا تتلافاه الرقي.. 88 [61] أتحسب العين أنها طرحت * على فؤادي ثقلا من الشغف (1) ما أبله العين في توهمها * بأنها عريت من التلف (2) [62] أتت رقعة القاضي الجليل فكشفت * وساوس محزون الفؤاد ملهف (3) فأهدت نظاما من قريض كأنه * نظام لآل أو كوشي مفوف تكامل فيه الظرف والشكل مثل ما * تكامل في مهديه كل التظرف حوى منتهى الحسنى بأول خاطر * يكلفه في الشعر ترك التكلف [63] يدبره ملك ماهر بهضم * القوي وجبر الضعيف [64] ذات غنى في الغناء من نغم * تنفق في الصوت منه إسرافا كأنها فارس على فرس * ينظر في الجري منه أعطافا حرف القاف [65] لي صديق في وده لي صدوق * وبرعي الحقوق مني حقيق يا تجني، كتمت ثم بدا لي * أنت ذاك الصديق لي والرفيق كلما سرت من فراقك ميلا * مال من مهجتي إليك فريق (4) فحياتي مصروفة في طريق * للمنايا علي فيها طروق [66] يا من شكا عبثا إلينا شوقه * فعل المشوق وليس بالمشتاق لو كنت مشتاقا إلي تريدني * ما طبت نفسا ساعة بفراق وحفظتني حفظ الخليل خليله * ووفيت لي بالعهد والميثاق [67] أمثلي يا أخي وقسيم نفسي * يفارق عهده عند الفراق (5) ويسلو سلوة من بعد بعد * وينسبه الشقيق إلى الشقاق وأقسم بالعناق وتلك أشفى * وأوفى من يميني بالعتاق (6) لقد ألصقت بي ظنا ظنينا * تجافى جانباه عن اللصاق (7) [68] لولا تسلي بارتكاضي (8) * في البعد والقرب والتلاقي ودفعي الهم بالأماني * فارقت روحي مع الفراق [69] أحن إلى بغداد شوقا وإنما * أحن إلى إلف بها لي شائق مقيم بأرض غبت عنها وبدعة * إقامة معشوق ورحلة عاشق [70] يا هلالا يبدو لتهتاج نفسي * وهزارا يشدو فيزداد شوقي (9) زعم الناس أن رقك ملكي * كذب الناس أنت مالك رقي (10) [71] قال لي من أحب والبين قد جد * وفي مهجتي لهيب الحريق (11) ما الذي في الطريق تصنع بعدي؟ * قلت: أبكي عليك طول الطريق [72] رق الزمان لفاقتي * ورثى لطول تحرقي (12) وأنالني ما أرتجي * وأجاد مما أتقي (13) فلأصفحن عما أتاه * من الذنوب السبق (14) حتى جنايته بما * فعل المشيب بمفرقي (15) [73] وصبا ذووه إلى جناب عدوه * وتقطعت أقرانه وعلائقه حرف الكاف [74] لولا شغيل عاقني، بالقرب * حاول، عن مزارك (16) لأتيت نحوك مسرعا * ولصرت من غلمان دارك
(1) في تحقيق مرجليوث: يحسب العين.. (2) في تحقيق مرجليوث: ما أبله العين في توهمها... ضرب من التلف. (3) والقاضي المعني: هو أبو علي المحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم التنوخي البصري، عالم أديب ولد بالبصرة سنة 327، أو 329، ونشأ فيها وولي القضاء في جزيرة ابن عمر وعسكر مكرم، ثم سكن بغداد، وتوفي فيها سنة 384 ه وقد ترك آثارا قيمة في الأدب، منها كتاب الفرج بعد الشدة. وكتاب نشوار المحاضرة، وكتاب المستجاد من فعلات الأجواد، وديوان شعر، اقرأ عنه: اليتيمة 2 / 115، وتاريخ بغداد 3 / 155، وإرشاد الأريب 6 / 251 - 267، والأعلام 6 / 176. (4) نحسبه: كلما سرت في فراقك.. (5) في نشوار المحاضرة: وشقيق روحي.. (6) في معجم الأدباء: فأقسم بالعناق.. وفي نشوار المحاضرة: وتلك أوفى وأشفى. (7) في معجم الأدباء: ألصقت بي طلبا قبيحا.. عن التصاق. وفي نشوار المحاضرة / الشالجي.. عن التصاقي.. (8) ارتكاض الرجل في أمره: تقلب فيه وحاوله.. (9) في اليتيمة والأعجاز والإيجاز.. فيزداد عشقي وفي معجم الأدباء: فيشتد عشقي. وفي نزهة الجليس: يا هلالا يبدو فيزداد شوقي * وهزارا يشدو فيزداد عشقي (10) في نزهة الجليس.. يكذب الناس أنت. (11) في اليتيمة: قد بدد دمعي مواصلا للشهيق وقد اضطربت رواية أنوار الربيع لهما: أ - والبين قد حدر دمعي مواصلا لشهيق. ب - والبين قد جد ودمعي مواصل لشهيقي. (12) في فوات الوفيات: لطول تقلقي.. (13) في وفيات الأعيان وفوات الوفيات: فأنالني ما أرتجيه وحاد عما.. في جمع الجواهر: فأنالني.. في نزهة الجليس.. وأذل مما أتقي.. (14) في زهر الأداب: فلأغفرن له الكثير.. في جمع الجواهر: فلأغفرن له القديم. في نزهة الجليس: عما جناه من الذنوب. (15) في زهر الأداب: إلا جنايته التي فعل.. وفي جمع الجواهر.... جنايته لما. وفي وفيات الأعيان: حتى جنايته بما صنع الزمان بمغرقي. (16) الجار والمجرور (بالقرب) متعلقان ب حاول.. 89 فبحق طرفك وافتنانك * والمهذب من نجارك إلا مننت وقلت لي: * إني وهبتك لاعتذارك [75] ويوم كان الشمس والغيم دونها * حجاب به صينت فما يتهتك عروس بدت في زرقة من ثيابها * يجللها فيها رداء ممسك (1) حرف اللام [76] الجود طبعي ولكن ليس لي مال * وكيف يصنع من بالقرض يحتال فهاك خطي فخذه منك تذكرة * إلى اتساع فلي في الغيب آمال [77] برد مصيفك وافرشه بمثيرة (2) * فإنني لمقام الخل أرتحل الذكري وإن أضحى ويعجبني * أن تستريح وأن تكتنك الظلل [78] فهبك طعامك استوثقت منه * فما بال الكنيف (3) عليه قفل [79] نهض العليل، فقلت * حين بدا كغصن مائل طلع الهلال لليلة * بضياء بدر كامل [80] وصل الكتاب طليعة الوصل * بغرائب الإفضال والفضل فشكرته شكر والفقير إذا * أغناه رب الجود بالبذل (4) وحفظته حفظ الأسير وقد * ورد الأمان له من القتل (5) [81] إن كنت أزمعت الرحيل * فان عزمي في الرحيل (6) أو كنت قاطنة أقمت * وإن منعت لذيد سولي (7) كالنجم يصحب في المسير * ولا يزول لدى النزول (8) [82] جاد لي بالعتاق من صرف دهري * بكتاب يسرني أو رسول (9) فعلى قدر ما تكلف من وصلي * بعلمي بقطة للوصول أشكر البذل من جواد وإن زاد * إلى البذل جاءني من بخيل [83] وأصلاه حر جحيم الحديد * تحت دخان من القسطل (10) [84] وأنشدني المهلبي لنفسه (11): ألبس أخاك على ما كان من خلق * واحفظ مودته بالغيب ما وصلا فأطول الناس غما من يريد أخا * ذا خلة لا يرى في وده خللا [85] وغزاهم بسوابغ من فضله * جعلت جماجمهم بطائن نعله [86] وفات مداواة التلافي في فساده * وأعيت دلالات الخبير بكاهله [87] كتب بها إلى الصحاب إسماعيل بن عباد: لما وضعت صحيفتي * في بطن كف رسولها قبلتها لتمسها * يمناك عند وصولها وتودعيني أنها * اقتربت ببعض فصولها حتى ترى من وجهك * الميمون غاية سؤلها حرف الميم [88] ومن خاف أن ألهم يملك نفسه * فأولى به ترك العلا والجسائم [89] الناس أتباع من دامت له النعم * والويل للمرء إن زلت به القدم ما لي رأيت أخلائي وحاصلهم * اثنان مستكبر عني ومحتشم لما رأيت الذي يجفون قلت لهم * أذنبت ذنبا؟ فقالوا ذنبك العدم [90] وهل يباعد عذب الماء ذو غصص * أو ينثني عن لذيذ الزاد منهوم [91] إنما الطيف الملم * فرح يتلوه هم قلما يحمد أمر * ليس فيه ما يذم [92] قضيت نحبي فسر قوم * حمقى لهم غفلة ونوم كان يومي على حتم * وليس للشامتين يوم
(1) يقال: مسك الثوب ومسكه: طيبه بالمسك، وثوب ممسك وممسوك.. (2) يقال: فراش وثير: وطيء. (3) الكنيف في اللغة السائر.. وهو هنا مفهوم.. (4) في اليتيمة رب المجد.. وفي نشوار المحاضرة: رب المال. وفي التحفة الناصرية: وقد أغناه رب المال. (5) وفي نشوار المحاضرة: الأسير إذا ورد.. (6) في محاضرات الأدباء: فإن رأيي. (7) في محاضرات الأدباء: دنو سولى.. (8) في محاضرات الأدباء: ولا يزور.. (9) في تحقيق مرجليوث: جاد لي بالكتاب، وقد رجح أن تكون.. بالعناق.. (10) القسطل: الغبار الساطع في الحرب، ويجمع على قساطل. ويقال فيه: القسطال. والقسطول، والقسطلان.. (11) المنشد: هو الوشاء. أبو الطيب محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى، عالم بالأدب من أهل بغداد، كان يحترف التعليم، توفي عام 325 ه، وقد ترك آثار أدبية ونحوية منها: كتاب الجامع في النحو. كتاب خلق الانسان كتاب المتظرفات كتاب الموشى، وغيرها. اقرأ عنه: تاريخ بغداد 1 / 253. والإرشاد 6 / 277 وبغية الوعاة 7، والأعلام 6 / 199. 90 [93] ونفسا تفيض كفيض الغمام * وظرفا يناسب صفو المدام (1) [94] هب البعث لم يأتنا نذره * وجاحمة النار لم تضرم (2) أليس بكاف لذي فكرة * حياء المسئ من المنعم (3) [95] أو في كلا وقتي: قسط تاله * وقسط هوى لا يستمر لمحرم (4) ولذة وجدي من لذاذة مطربي * أسر إلى نفسي وأعذب في فمي [96] يا شقيق النفس من خدمي * لم ينم ليلي ولم أنم (5) غنني من شعر ذي حكم * يا شقيق النفس من حكم [97] وأنشدني أيضا (6) أقسمت بالله لا ينفك مغتفرا * ذنب الصديق وإن عقا وإن صرما والعمر يقصر عن هجر وعن صلة * وعن تجن وعتب يورث السقما [98] إذا غنى لنا أمما * حشوت مسامعي صمما وأن أبصرت طلعته * كحلت نواظري بعمى [99] وحمدا لمولى استمد بحمده * له الرتبة العلياء والعز دائما وأن يسخط الأيام بالجمع بيننا * ويرضي المنى حتى يرينيه سالما حرف النون [100] ومن أن تلافاه رضاك أعاشه * ومن موته أن دام سخطك حائن [101] وأرحام ود دونها الرحم التي * تدانت وجلت أن يطول بها الظن (7) [102] وكان فطنته شهاب ثاقب * وكان نقد الحس منه يقين (8) [103] إذا تكامل لي ما قد ظفرت به * من طيب مسمعة أو صوت مرنان (9) وقهوة لو تراها خلت رقتها ديني * ومن حافز إن شئت أغناني (10) فما أبالي بما لاقى الخليفة من * بغي الخصي وعصيان ابن حمدان [104] وذي حسد لو حل بي ما يريده * لأصبح مفجوعا بفيض بناني ولم أعطه جهلا ولكن سحائبي * تعم ذوي الاخلاص والشنان [105] أشكو إلى الله أحداثا من الزمن * يبرينني مثل بري القدح بالسفن (11) لم يبق في العيش لي إلا مرارته * إذا تذوقته والحلو منه فني (12) يا نفس صبرا وإلا فاهلكي جزعا * إن الزمان على ما تكرهين بني لا تحسبي نعما سرتك صحبتها * إلا مفاتيح أبواب إلى الحزن (13) [106] خرسنوه وما درى ما خراسان * بلبس القباء والموزجين (14) [107] رب ليل لبست فيه التصابي * وخلعت العذار والعدل عني في محل تحله لذة العيش * ويجني سروره من تجني (15) [108] ما ذا لقينا من القاطول لا هطلت * فيه السحاب ولا سقته تهتانا (16) فقد سددناه وارتدت غواديه * حسرى ولم نال أحكاما وإتقانا وقد دعمنا له سكرا سما وطما * حتى توهمه راؤوه ثهلانا (17) واستفرغ الوسع حتى طم خادمك * المهلبي وقاسى فيه أشجانا نجاه منه بآراء مثقفة * تخالها في ظلام الليل نيرانا رميت بحرا بطود فاستكان له * كرها وأيقظت فيما بات يقظانا وما تقابل بالاقبال ممتنعا * إلا تبدل بالعصيان إذعانا [109] ودارت عليه رحى وقعة * تظل الحجارة فيها طحينا
(1) وردت كلمة (نفسا) منصوبة، دليل على أن البيت ليس يتيما، وإنما هو بعض من أبيات.. (2) في المدهش: لم تأتنا رسله.. وتأتنا تقتضيها الصحة. (3) البيت في المدهش. وروايته (بدون غرو). أليس من الواجب المستحق * حياء العباد من المنعم (4) أحرم الحاج فهو حرام، وهم حرم. ولبس المحرم، وهو لباس الإحرام، وأحرمنا: دخلنا في الشهر الحرام أو البلد الحرام. (5) أنشدهما ردا على سلاف المغني، إذ غني له سلاف بيت أبي نواس: يا شقيق النفس من حكم * نمت عن ليلي ولم أنم (6) المنشد، هو الوشاء. وقد سبقت ترجمته. (7) في اليتيمة: يطول. غير واضحة. (8) في اليتيمة نقد الحدس.. (9) في الإرشاد: وظرف رمان. وفي معجم الأدباء: أو صوت رنان. (10) في الإرشاد: وحافز من إن شئت غناني وفي معجم الأدباء: ومن حاجزان شئت.. وحافز: هو اسم حاجبه. (11) السفن: مبراة السهام، قال الأعشى: وفي كل عام له غزوة * تحك الدوابر حك السفن (12) في شرح نهج البلاغة: لم يبق بالعيش.. (13) في شرح نهج البلاغة: لا تحسبن.. من الحزن. (14) الموزجان: مثنى موزج، وهو الخف: فارسي معرب. (15) في اليتيمة: يحله - بالياء.. وتجني: هي جاريته المعروفة، وأم ولده. (16) القاطول، أو قاطول كلواذا، أحد الفروع المتفرعة عن دجلة - انظر دليل خارطة بغداد / 120. والقطل: هو القطع - معجم البلدان 4 / مادة قطل. (17) عمنا له سكرا.. لعلها سدا.. وثهلان: بالفتح: هو جبل ضخم بالعالية. 91 [110] وصرنا في محبتنا حديثا * يهجن شرحه قيسا ولبنى حرف الياء [111] مرت فلم تثن طرفها تيها * يحسدها الغصن في تثنيها تلك تجني التي جننت بها * أعاذني الله من تجنيها (1) [112] إني وصلت مفاخري باب * حاز الفخار وطاول العليا وأجاب داعية وخلفني * وحديثه، فكأنما يحيا وتلوت عمي في تغزله * وشربت ريمن هوى ريا (2) فكأنني هو في صبابته * وكأنه - في حسنها - دنيا (3) [113] كتبها ردا على أبيات بعث بها القاضي أبو محمد الخلادي (4). مواهب الله عندي لا يوازيها * سعي ومجهود وسعي لا يدانيها لكن أقصى المدى شكري لأنعمه * وتلك أفضل قربى عند مؤتيها والله أسال توفيقا لطاعته * حتى يوافق فعلي أمره فيها وقد أتتني أبيات مهذبة * ظريفة خجلة رقت حواشيها ضمنتها حسن أوصاف وتهنئة * أنت المهنى بباديها وتاليها ودعوة صدرت عن نية خلصت * لا شك فيها أجاب الله داعيها وأنت أوثق موثوق بنيته * وأقرب الناس من حال نرجيها فثق بنيل المنى في كل منزلة * أصبحت تعمرها عندي وتبنيها [114] ألا موت يباع فاشتريه * فهذا العيش ما لا خير فيه (5) ألا موت لذيذ الطعم يأتي * يخلصني من العيش الكريه (6) إذا أبصرت قبرا من بعيد * وددت لو أنني مما يليه (7) ألا رحم المهيمن نفس حر * تصدق بالوفاة على أخيه [115] من ذا ألوم أنا جنيت * فراق من أبكي عليه مما نسب إلى المهلبي [116] فديتك ما شبت من كبرة * وهذي سني وهذا الحساب ولكن هجرت فحل المشيب * ولو قد وصلت لعاد الشباب خليلي إني للتريا لحاسد * وإني على ريب الزمان لواجد أيبقى جميعا شملها وهو ستة * وأفقد من أحببت وهو واحد كذلك من لم تخترمه منية * يرى عجبا فيما يرى ويشاهد [118] ولو أني استزدتك فوق ما بي * من البلوى لأعوزك المزيد ولو عرضت على الموتى حياة * بعيش مثل عيشي لم يريدوا [119] إن العرانين تلقاها محسدة * ولن ترى للئام الناس حساد دموعي فيك انهار غزار * وقلبي ما يقر له قرار وكل فتى علاه ثوب سقم * فذاك الثوب مني مستعار [121] ألست ترى استراق الدهر حظي * وكيف يفيت في أدب الخمول أأبغي العون منه وهو خصمي؟ * كما استبكت ضرائرها الثكول الشيخ حسن الدمستاني البحراني صاحب الأوراد قال في تاريخ البحرين المخطوط: انتهت إليه رئاسة المذهب في بلدتنا البحرين في قرية الدمستان، تشد الرحال إلى لقائه ويستنشق الفضل من تلقائه، منه تقتبس أنوار أنواع الفنون وعنه تؤخذ أحكام المفروض والمسنون، خطيب البحرين نثار العرب، سيد أهل الأدب ختم به الشعراء والنثارين ومن تتبع كتابه المسمى بأوراد الأبرار علم صدق مقالي. وله قصائد في المدح والرثاء لم يسبق إلى مثلها سابق ولا يلحقها لاحق، وله تأليفات رائعة، وتصنيفات فائقة، منها كتاب في الفقه، ورسالة في الحج، ورسالة في الزكاة، وكتاب الأجوبة للشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي، ورسالة في العروض، وأجوبة الزنكبارية، ورسالة في الكلام، وكتاب في المنطق، وكتاب سلاسل النور، وكتاب في الهيئة، وأرجوزة في علم الكلام شرحها شيخنا العلامة الشيخ محمد المدعو بامام الجمعة، ورسالة في الأعداد، ورسالة في قوله ص ستدفن بضعة مني بخراسان ورسالة التنبيه في أوصاف الفقيه وغير ذلك من الرسائل انتهى. نكرر ما قلناه من أننا نلتزم نقل نصوص صاحب التاريخ بحذافيرها مع كل مبالغاتها وقد نقل له أبياتا من الشعر في مدح الأئمة لم نر نقلها، فان كان شعره الذي وصفه بأنه لم يلحقه به لاحق، ولم يسبقه به سابق، هو على مستوى هذه الأبيات فهو بقوله هذا في بحر المبالغات غارق.
(1) تجني: هي جاريته، وأم ولده، وقد سبق ذكرها. (2) يقصد: ابن أبي عيينة، وهو: أبو عيينة بن محمد ابن المنجاب بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة أقرأ عنه: في الأغاني، مواطن كثيرة. 20 / 23 - 24. وللأستاذ صلاح الفرطوسي دراسة مسجلة في جماعة القاهرة عن ابن أبي عيينة، شعره وحياته. (3) لعل صوابه: وكأنها في حسنها دنيا.. ودنيا. اسم محبوبة الشاعر العباسي ابن أبي عيينة. (4) هو القاضي: الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي من أدباء القضاة، ومحدث العجم في زمانه، وقد اختص بابن العميد واتصل بالوزير المهلبي اتصالا وثيقا، وقد بعث تهنئته للوزير حين عاد إلى الوزارة، فقال في تلك الأبيات: الآن حين تعاطى القوس باريها * وأبصر السمت في الظلماء ساريها الآن عاد إلى الدنيا مهلبها * سيف الخلافة بل مصباح داجيها الخ الأبيات في الارشاد 3 / 141. وقد ترك آثارا قيمة في الأدب والحديث منها: ربيع المتيم في أخبار العشاق، وأدب الناطق (والمحدث الفاصل بين الراوي والواعي) في علوم الحديث، لم ندر مصيرها بعد. اقرأ عنه: اليتيمة 3 / 333 - والإرشاد 3 / 140 وما بعدها. الأعلام 2 / 209. (5) في المنحتل فهذا عيش من لا خير فيه. (6) في فوات الوفيات وصبح الأعشى: يخلصني من الموت الكريه.. وقد جاء في فوات الوفيات الثاني مكان الثالث. (7) في ثمرات الأوراق: لو أنني فيما يليه.. 92 الشيخ المعمر مسند العراق أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة النعالي البغدادي الحمامي، الحافظ يعني يحفظ ثياب الحمام وغلته. هكذا ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء. ثم قال: أسمعه جده من أبي عمر بن مهدي وآخرين عددهم. ثم ذكر من حدث عنه وهم كثيرون. ثم قال: قال أبو علي بن سكرة: هو رجل أمي له سماع صحيح عال، وكان فقيرا عفيفا من بيت علم، يخدم حماما في الكرخ. قال شجاع الذهلي: هو صحيح السماع، خال من الفهم والعلم، سمعت منه. وقال أبو عامر العبدري: هو عامي أمي رافضي، لا يحل أن يحمل عنه حرف، لا يدري ما يقرأ عليه. قال السمعاني: سالت إسماعيل الحافظ بأصبهان، فقال: هو من أولاد المحدثين سمع الكثير. وسالت إبراهيم بن سليمان عنه، فقال: لا أخذت عنه، كان لا يعرف ما يقرأ عليه. وسمعت عبد الوهاب الأنماطي يقول: دلنا عليه أبو الغنائم بن أبي عثمان فمضينا إليه فقرأت عليه جزءا فيه اسمه وسألته: هل عندك شئ من الأصول؟ فقال: كان عندي شدة (1) بعتها لأبي الحسين ابن الطيوري ما أدري ما فيها، فمضينا إلى ابن الطيوري فاخرجها فيها سماع من الحاليني وغيره فقرأناها عليه. قلت: مات الحافظ أبو عبد الله هذا في صفر سنة ثلاث وتسعين وأربع مائة عن أرجح من تسعين سنة، وقد روى عنه السلفي بالإجازة ووقع لنا من عواليه جماعة أجزاء انتهى. الشيخ حسين معتوق مرت ترجمته في الصفحة 29 من المجلد الأول من المستدركات ونزيد عليها هنا ما يلي: ولد سنة 1320 في بلدة العباسية من جبل عامل. بدأ دراسته في كتاب البلدة عند الشيخ إبراهيم ياسين، ثم في مدرسة بلدة طيردبا القريبة من قريته عند الشيخ عبد الله دهيني. ثم درس العلوم التي تعده للدراسة النجفية على الشيخ حسين مغنية، ثم سافر إلى النجف الأشرف فكان من أساتذته هناك كل من السيد حسين الحمامي والسيد محسن الحكيم. الشيخ حسين بن الشيخ محمد البحراني من آل عصفور. قال في تاريخ البحرين المخطوط: ونحن ننقل هذه الترجمة بنصها على طولها ومبالغاتها تقيدا منا بما ذكرناه من أننا نلتزم نصوص المؤلف لأنها تصور بعض جوانب الأساليب الفكرية والكتابية في ذلك العصر فهي جزء من تاريخه: هو أحد أولئك الأجلة، وواحد تلك البدور والأهلة، ناشر لواء التحقيق، جامع معاني التصور والتصديق، سيد المشايخ والمحققين، وسند المجتهدين والمحدثين، الشيخ الأكبر ومجدد المذهب في القرن الثاني عشر، كما هو اعتقاد جماعة منهم المحقق النيشابوري في قلع الأساس، والشيخ الأمجد الشيخ أحمد الأحسائي في جوامع الكلم وهو علامة البشر، وإليه انتهت رئاسة المذهب في هجر، وذكره شيخ الجواهر في كتابه وسماه بالبحر الزاخر، وفوضت إليه أمور الشريعة في سنة ألف ومائتين بعد أخذه عن الجهابذة من علماء عصره، فصير بيت العلم مصره، وحضره جمع من العلماء واستفادوا منه في علوم شتى، أكثرهم حفظا بالأحاديث الشريفة، وأشدهم اطلاعا بفتاوى أرباب المذاهب، خصوصا الشيعة ومن المشهورات أنه قدس سره كان يحفظ اثني عشر ألفا من الأحاديث المعنعنة، وعلى أنه قدس سره كان يرتكب في مجلس واحد أمورا متناقضة مثل التدريس، والإفتاء، والتصنيف، والتأليف، والقضاوة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. قال العلامة النيشابوري في إجازته لابنه بعد جمل من أوصافه ومحاسنه وهو معدن المعارف وكنز الإفادة وكعبة الفضائل تصانيفه في سماء الشريعة كواكب، وتآليفه لجمع الفوائد مواكب، مجدد آثار الشريعة، والحافظ لناموس الشيعة، ابن العلامة الأوحد الشيخ حسين بن الشيخ محمد آل عصفور، وله قدس سره كتب كثيرة، قال قدس سره في إجازة بعض تلامذته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي نصب سرادقات الدراية على مخيم أهل الرواية، وربط أطنابها بأوتاد أسانيدها في البداية والنهاية، وحث على اتباعها وتقليد حملها للارشاد والهداية، والصلوات والسلام على محمد وآله الأعلام المزيحة لظلمة الجهل والغواية... وبعد فان الله عز وجل قد أوجب على عباده النفر لتحصيل الأحكام وبلوغ المرام والغاية، وجعلهم في عذر إلى أن يرجعوا إلى من ينذرون كما هو صريح الآية، فاقتضت المصلحة الربانية والعناية السبحانية الإجازة لحملة تلك الأخبار بنشر ما تحملوه من تلك الآثار، ليكون عليه المدار في الايراد والاصدار، وكان ممن حملته تلك الحمية العلية، وحثته تلك النفحة القدسية، الولد الأعز المحفوظ، ومن هو لا زال بين العناية الحفيظ المحفوظ الشيخ الأجل الصدوق مرزوق بن الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله بن محمد بن حسين بن محمد الشويكي مولدا، والنعيمي البحراني أصلا، والأصبعي مسكنا لتحصيل تشييد معالم الدين ونظم أحاديث سيد المرسلين فاستجازني وفقه الله تعالى في سلوك جادة التحمل والنقل لتلك الأخبار الصادرة من ينابيع عين الحياة والمطهرة لأسرار أنوار الرسالة إلى يوم المحشر الوفاء، بعد ما قرأ علي نبذة من علوم المبادىء الفقهية وأطلعته على درر مزايا لأخبار وتلك الدرر العلية، وجملة المسائل الأحكامية، فأجزت له تيمنا وتبركا بدخوله في طريقة العلماء الاثني عشرية، وحثثته على جادة المتفقهين في تلك المسائل الحفية والجلية على أن يرد لي عني جميع ما رويته عن مشايخي الذين تدخلوا في منازل أهل التقديس، ونصبوا أعلام الدرس والتدريس، واستخرجوا من لجج بحار العلم كل در نفيس، وهم آبائي الأقطاب الأبرار الذين درات عليهم رحى الأخبار ونوروا رحى الأحاديث بتلك الأنوار البارقة من أهل العصمة الذين هم المدار. فأولهم والدي الروحاني، أخو والدي لأبيه، المحدث المحقق المنصف من مكن له في الأرض وعلمه تأويل الأحاديث في الطول والعرض، فأثمرت عنه حدائق تلك العلوم الربانية، واستخرج من صدف التحقيق درر التحف المسندة إلى يعسوب الدين، والأئمة الأطهار الربانية، العلامة الشيخ يوسف بن الشيخ أحمد بن الشيخ إبراهيم الدرازي البحراني، ومنهم العالم العلي الفائز بالرقيب، والعلي من قداح علوم النبي
(1) أي مجموعة من الأوراق يشد بعضها إلى بعض. 93 ص، والوصي الكاشف لكل مشكل خفي في المقام الواضح الجلي، عمي لأبوي الشيخ عبد علي ثم عن والدي الجسماني والروحاني ومن أشربني رحيق التحقيقات، وقرب إلي القاصي كالداني، والدي الأمجد الأوحد الشيخ محمد أفاض الله عليهم فيوض الرحمة والرضوان، وحمل منازلهم في الجنان أعلى مكان بمحمد وآله قرناء القرآن بما رووه جميعا، وأخبروا به عن شيخهم الأعدل الأعلم، الخالي من ريبة الدنس والمين المقدس الشيخ حسين بن المرحوم الشيخ محمد لاجتماع هذه الثلاثة على مشيخته المثالية، والاجتماع على إجازته السامية لحق روايته عن شيخه علامة البشر، والعقيل الحادي عشر مسقط البيان بالبرهان، ومشيد أركان ذلك البنيان، أغلوطة الزمان وأعجوبة الأوان جدي لأبي العلامة الرباني السبحاني الشيخ سليمان عبد الله الماحوزي البحراني عن شيخيه الأعظمين الجليلين النبيلين الشيخ سليمان بن الشيخ علي بن الشيخ سليمان بن أبي ظبية البحراني الأصبعي أصلا الشاخوري مسكنا، والشيخ أحمد بن الشيخ محمد بن يوسف الخطي أصلا والبحراني المقابي تحصيلا ومسكنا، بحق روايته الأول عن شيخه العلامة الشيخ علي بن سليمان بن حسن بن سليمان بن درويش بن حاتم البحراني القدمي الملقب بزين الدين، عن شيخه النبيه المعتمد الأمين بهاء الملة والحق والدين الشيخ الأمجد، الشيخ محمد بن الشيخ حسين بن الشيخ عبد الصمد الحارثي العاملي عن والده المحقق الغاية المدقق العلامة الشيخ عز الدين الشيخ حسين بن عبد الصمد بن الشيخ محمد الحارثي العاملي المدفون بأرض البحرين، برؤيا يراها بمكة المشرفة عن شيخه الجليل النبيل الأمين الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد بن محمد بن جمال المشهور بالشهيد الثاني، روح الله روحه وتابع فتوحه عن شيخه السيد بدر البحراني بن السيد حسين بن السيد جعفر بن السيد فخر الدين بن السيد حسين الأعرج الحسيني، عن شيخه الجليل نور الدين الشيخ علي بن الشيخ عبد العالي، الملقب بالمحقق الثاني عن شيخه الامام الأعظم نور الدين الشيخ علي بن الشيخ هلال الجزائري عن شيخه جمال الدين بن فهد عن الشيخ علي بن خازن العاملي، عن الشهيد السعيد الموفق الرشيد، الشيخ شمس الدين الشيخ محمد بن الشيخ مكي قدس الله روحه، عن شيخه فخر المتفقهين بن آية الله في العالمين عن أبيه الشيخ جمال المحققين ونور المجتهدين الشيخ العلامة الحسن بن يوسف المطهر الحلي عن والده الفخر الحلي، وعن شيخه نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن الحسن بن سعيد الحلي الملقب بالمحقق، عن شيخه العالم المحقق المدقق نجيب الدين ابن نما، عن شيخه الشيخ محمد بن إدريس الحلي العجلي عن شيخه سديد الدين الخمصي، عن خاله الشيخ أبي علي الطوسي، عن أبيه الشيخ شيخ الطائفة المحقة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، عن شيخه السعيد السديد الشيخ المفيد محمد بن محمد بن نعمان أبي عبد الله المشهور بابن المعلم، عن شيخه أبي القاسم جعفر بن قولون، عن شيخه ثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني، وعن شيخه الآخر الامام الصدوق علي بن الحسين بن بابويه القمي، بأسانيدهم المتصلة إلى الأئمة الميامين والسادة المعصومين المنصوص عليهم في كتب الرجال وفي كتب الإجازات فليرو عني وفقه الله تعالى وفتح له أبواب الخيرات، وجنبه ارتكاب المحرمات والمشتبهات، جميع كتب هؤلاء المشايخ المعتمدة في علم الحديث والرواية والدراية، لا سيما كتب الأربعة التي صارت عليها العمدة والمدارة في جميع السنين والأعصار، واشتهرت كاشتهار الشمس في رابعة النهار، وهي كتاب الكافي لثقة الاسلام، وكتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق، وكتاب التهذيب، وكتاب الاستبصار للشيخ الطوسي، وكتاب الوافي للكاشاني، وكتاب البحار للمجلسي، وكتاب الوسائل للحر العاملي حيث احتوت تلك الكتب على جل أحاديث أصحابنا الصحيحة المعتبرة والنقية، الأسانيد الثابتة عن الخيرة، وكذلك جميع ما صنفته مشايخي المذكورين من الكتب والرسائل المبسوطة والمختصرة ككتاب الحدائق لشيخنا المتقدم ذكره، وكتاب الأحياء العمي الشيخ عبد علي، وكتاب مرآة الأخبار في أحكام الأسفار، وجملة ما لهم من الكتب والرسائل المعتمدة المنصوص عليها في تلك الإجازات، وما سمحت به قريحتي الفاترة، وجرت به أقلام يدي الدائرة من الكتب المبسوطة ككتاب الرواشح الربانية في شرح الكفاية الخراسانية، خرج منها ثلاثة مجلدات، وكتاب السوائح النظرية في شرح البداية الحرية سبعة مجلدات، وكتاب الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع 14 مجلد، وكتاب متممات الحدائق المسمى بالحدق الناظرة مجلدين، وكتاب القول الشارح والحجة في علم العقائد لثمرات المهجة 2 مجلد، وكتاب الحدق النواظر في متممات كتاب النوادر برز منه مجلد واحد في كتاب الطهارة والنوادر للملا كاشي بلغ فيه إلى كمال علم الأصول والعقائد، مبرهنا عليه في أخبار ليست من الكتب الأربعة، فجريت على منواله فيما برز منه نسأل الله إكماله، وكتاب رسائل أهل الرسالة ودلائل أهل الدلالة، جمعت فيه رسائل متعددة موزعة على كتب الفقه قد انتهيت فيه إلى أثناء الرسالة الحجية، وكان مبدأ الرسائل الرسالة المسماة بالنفحة القدسية في الصلوات اليومية وهي أصغر الرسائل، وكتاب سداد العباد ورشاد العباد في الفقه الكامل بلغنا فيه كتاب المكاسب والبيوع مجلدين، وكتاب المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية، وكتاب الأنوار الضوية في شرح الأحكام الرضوية وهو ما اشتمل عليه حديث شرائع الدين الذي كتبه علي بن موسى الرضا ع إلى المأموم وقد رتبه أصولا وفروعا، وأتممته بما يناسب حاله من الكلام المتروك، وكتاب كشف اللثام في شرح إفهام الأفهام في عقائد الاسلام والمتن لجدي لأمي الشيخ سليمان الماحوزي، وقد شرحته شرحا وافيا مع إيجاز عبارته، وكتاب البراهين النظرية في أجوبة المسائل البصرية، وكتاب القوادح الحسينية والقوادح البينية جمعته ليقرأ في مآتم أبي عبد الله ع ليقرأ مدة العشر، وقد أودعته من الخطب والأخبار ما يجدد على القلوب الغافلة حرائر تلك الخطوب والأخطار، مرتبا ترتيب المنتخب، وكتاب سحائب النوائب في مآتم علي بن أبي طالب مدة الخمسة الأيام على كلا الروايتين المختلفتين في مقتله ووفاته، وكتاب اشتمل على ثلاثين مجلسا لكل ليلة من الشهر مجلس يقرأ فيها، وكتاب اشتمل على سبعة مجالس يقرأ في كل ليلة من الأسبوع مجلس، وكذلك الكتب المجموعة في وفايات الأئمة ووفاة الزهراء ووفاة الرسول، وكتاب الانتهاج في مناسك القرآن، وهو كتاب جليل قد اشتمل على مناسك الحاج بالاستدلال. وكذلك المناسك الثلاثة الأخر الكبير والصغير وكذلك ما ألفناه من الرسائل المتفرقة في الفروع، والأصول، والرسالة المنظومة في فقه الصلوات لم تكمل، والمنظومة الأخرى كاملة بلغت مائة وثمانين بيتا مسماة بشارحة الصدور، وضعتها في علم العقائد، وديوان شعر كبير كله في رثاء أبي عبد الله الحسين ع، قد اشتمل على ما يزيد على سبعة آلاف بيت،
94 سوى أشعارنا المتفرقة، والرسالة الموسومة بالجنة الوقية في أحكام التقية، ورسالة موسومة بباهرة العقول في نسب آل الرسول إلى آدم، ومنظومة في علم النحو بلغت لظننت وأخوانها مرتبة ترتيب الألفية، والرسالة الدهلكية الخطية، ورسالة في الكلام على هذه الفقرة من دعاء كميل وتوجيه إعرابها وهي ما كانت لأحد فيها مقرا ولا مقاما، ورسالة في عوامل النحو القياسية والسماعية، وكتاب شرح رسالتنا النفخة القدسية في مجلدين كل منهما مجلد واحد، ورسالة في الحبوة وما يختص به الولد الأكبر، ورسالة جلاء الضمائر في أجوبة الشيخ باقر، ورسالة في تركيب سبحان ربي العظيم وبحمده إلى غير ذلك من الرسائل، التي قد ذهبت في البلدان وتشعبت عن حوادث الزمان، ولم يكن في أيدينا ما نعتمد عليه ونرجع إليه وقد شرطت عليه وفقة الله تعالى للترقي في مراقي أهل العلم والعمل وجنبه الخطاء وشبهات الزلل سلوك جادة الاحتياط وأن أكون على باله الشريف عند تأدية الفروض والنوافل في كل زمن منيف، وقد قصدت في هذه الإجازة الاختصار لما في الاتيان على طرقي وإجازاتي من الشعب والانتشار مع وجود الموانع من هذا الدهر الخوان الغدار، المانع عما يقتضيه التفقه في الايراد والاصدار، وجرى ذلك باليوم الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول أحد شهور السنة 1214 الرابعة عشر بعد المائين والألف من الهجرة على مهاجرها أفضل التحية والاكرام، وكتب المتفقهين والمتعلمين الراجي فضل ربه، المجازي حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني من آل عصفور. وكانت وفاته ليلة الأحد قريب الفجر من شهر شوال سنة 1226. وللحاج هاشم بن حردان الكعبي في رثاء هذا الشيخ قصائد مشهورة منها: أطيلي البكاء فالرزء أضحى مجددا * إذا غبنا في اليوم باكرنا غدا ولا تسامي فرط النياحة واهتفي * بخطب عرا شمل الهدى فتبددا وخلي التعزي للخليين واندبي * فما كل صبر بابنة القوم أحمدا ألم تعلمي الخطب الذي هد وقعه * نظام الهدى وانهد منه ذرى الهدى إلى أن قال: أهاب بأخوان الصفا فاصطفاهم * وثنى بأرباب العلا متفردا قفوا بي على أطلالهم نبك ساعة * وإن لم يكن فيها مجيب سوى الصدا نسائلها أي المنازل يمموا * وأي مقام أعجلوا نحوه الحدا خلا منهم الوادي فصوح نبته * وبانوا عن النادي فأصبح أسودا تضم الثرى منهم صدورا تضمنت * من العلم معروف الرواية مسندا إلى أن قال: تناقل أعداه أحاديث فضله * فلم تستطع منهم جحودا فتجحدا تؤيدها بالرغم منها ولو رأت * سبيلا إلى إنكارها لن يؤيدا السيد حسن الحيدري بن السيد أحمد ولد في سامراء سنة 1332، وكان بصحبة والده في النجف الأشرف، يدرس عليه وعلى غيره ولما عاد والده إلى الكاظمية عاد معه، وانصرف إلى الدراسة والتحصيل وحضر دروس علمائها كالسيد احمد الكشوان، والميرزا علي الزنجاني وغيرهما ثم انتقل إلى بغداد وصار إماما للجماعة في مسجد عثمان بن سعيد ظهرا، وفي مسجد الجعيفر ليلا. له كتابات متفرقة منها كتاب أحوال الإمام الرضا وكتاب جوامع الكلم في خطب الرسول الأعظم ص، ورسالة في القواعد القرآنية. الشيخ حسن بن محسن البلادي قال في تاريخ البحرين المخطوط: ملك العلوم زماما وتقدم في مقام الفضل إماما تصدر للافتاء سنة 1209. ثم هجر عن البحرين، واستوطن الهند وقطن في حيدرآباد إلى أن مات رحمة الله عليه وله رسالة في القبلة. وكتاب في المراثي، وله نظم ونثر ورسالة في الخطب. هذا هو الايجاز المخل الذي يقع فيه صاحب تاريخ البحرين، فلم يفصل سبب تهجيره، ولم يذكر من هجره، ولا نقل شيئا من شعره، ولو فعل لأفادنا جزيل الفائدة. وكما قلت من قبل فقد كان لهذه المنطقة هجرة علمية تشبه الهجرة العاملية، وهي على كل حال هجرة سواء هجرهم غيرهم أو هجروا هم أنفسهم بأنفسهم (1). الشيخ حسين العلامة من آل عصفور قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من علماء البحرين وعبادها، وفضلاء زوال وزهادها، الكاشف لحقائق كتاب الله بالتدوين، والواقف على دقائق خطابات سيد المرسلين، ذو الجناب الأطهر الأفخر ابن علامة البشر، تصدر الإفتاء في زمان أبيه الشيخ حسين العلامة، ولم يبلغني تاريخ وفاته، وله حاشية على التجريد تدل على طول باعه وكثرة اطلاعه، وله من الأولاد جدي العلامة الشيخ خلف وقبره الشريف في المقبرة المعروفة بالمصلى عند آبائه الكرام عطر الله مراقدهم. أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه مرت ترجمته في الصفحة 419 من المجلد الخامس وننشر هنا بحثا عن رسالته في أسماء الريح مكتوبا بقلم حاتم صالح الضامن: هو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه بن حمدان، من أهل همذان. دخل بغداد طالبا للعلم سنة 314 ه، وقرأ القرآن على ابن مجاهد، والنحو
(1) هو والذي قبله اخرا عن مكانهما سهوا. 95 الأدب على ابن دريد وأبي بكر بن الأنباري ونفطويه، وأخذ اللغة عن أبي عمر الزاهد، وسمع من محمد بن مخلد العطار. وقرأ على أبي سعيد السيرافي وكان منتصرا له على أبي علي الفارسي. انتقل إلى الشام، ثم إلى حلب فاستوطنها، وتقدم في العلوم حتى كان أحد أفراد عصره، وكانت الرحلة إليه من الآفاق، واختص بسيف الدولة بن حمدان وبنيه، وقرأ عليه آل حمدان وكانوا يجلونه ويكرمونه فانتشر علمه وفضله وذاع صيته. وله مع أبي الطيب المتنبي مناظرات. توفي بحلب في سنة 370 ه. مصنفاته وهي كثيرة طبع منها: إعراب ثلاثين سورة من القرآن. الحجة في القراءات السبع (1). رسالة في أسماء الريح. الشجر (2). شرح ديوان أبي فراس الحمداني. العشرات (3). ليس في كلام العرب (4). مختصر في شواذ القرآن. ومن كتبه المخطوطة: شرح المقصورة الدريدية وكتاب القراءات (5). موضوع الرسالة لم يكن ابن خالويه أول من ألف في الريح، فقد سبقه أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي المتوفى سنة 249 ه في كتابه: أسماء السحاب والرياح والأمطار (6) وأبو بكر بن السراج المتوفي 316 ه في كتابه: الرياح والهواء والنار (7). وقد أفرد أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 ه بابا للرياح في كتابه الغريب المصنف وكان ابن خالويه عيالا عليه إذ نقل معظم ما أورده أبو عبيد دون إشارة لذلك. وقد اهتم المؤلفون بالرياح فأفردوا لها أبوابا من كتبهم منهم: 1 ابن السكيت المتوفى سنة 244 ه في: تهذيب الألفاظ. 2 الهمذاني المتوفى سنة 320 ه في: الألفاظ الكتابية. 3 ابن فارس المتوفى سنة 390 ه في: متخير الألفاظ. 4 أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 ه في: التلخيص في معرفة أسماء الأشياء. 5 الثعالبي المتوفى سنة 429 ه في: فقه اللغة. 6 ابن سيده المتوفى سنة 458 ه في: المخصص. 7 الربعي المتوفى سنة 480 ه في: نظام الغريب. 8 ابن الأجدابي المتوفى بعد سنة 480 ه في: الأزمنة والأنواء. وقد نشر رسالة الريح المستشرق الروسي كراتشكوفسكي (8) في مجلة إسلاميكا سنة 1927. ولقد حفزني على إعادة نشرها صعوبة الحصول عليها لقدم العهد بنشرتها الأولى، ثم إني ألحقت بالرسالة ذيلا يشتمل على فوائت من أسماء وصفات الريح لم يشر إليها ابن خالويه في رسالته. والله أسال أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه وأن يسدد أعمالي لما فيه الخير، إنه نعم المولى ونعم النصير. هذه رسالة في أسماء الريح للشيخ ابن خالويه النحوي بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ أبو عبد الله الحسين بن خالويه النحوي: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فان الريح اسم مؤنثة (9) وتصغيرها رويحة، قال الله جل وعز: كمثل ريح فيها صر (10) أي البرد، ومن ذلك الحديث: لا باس بأكل الجراد إذا قتلته الصر أي البرد، وقال جل وعز: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة (12). فاما قوله: ريح عاصف (13) ففيه قولان: أحدهما أنه مثل قولهم: امرأة حائض وطامث، وقيل معناه: ريح ذات عصوف. فاما الريح العقيم (14) فان الهاء ساقطة منها، لأن العرب تقول: رجل عقيم وامرأة عقيم، لا يولد لهما ولد، وريح عقيم، لا تلقح الأشجار. والريح الدولة (15)، قال الله تبارك وتعالى: وتذهب ريحكم أي دولتكم ثم رددنا لكم الكرة عليهم (16)، قال: الدولة. والياء التي في الريح منقلبة من واو والأصل روح (17)، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وأدنى العدد أرواح مثل حوض وأحواض. وأنشدنا ابن دريد (18). لبيت تخفق الأرواح فيه * أحب إلي من قصر منيف
(1) وفي نسبتها إليه خلاف. ينظر مقال محمد العابد الفاسي في مجلة اللسان العربي (الجزء الأول من المجلد الثامن 1971). وينظر (نسبة الحجة إلى ابن خالويه افتراء عليه) للأستاذ صبحي عبد المنعم سعيد في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق (الجزء الثالث من مجلد الثامن والأربعين 1973). (2) نشره ناجلبرج في سنة 1909 اعتمادا على نسخة وحيدة تحمل اسم ابن خالويه، غير أنه عاد فأثبت في مقدمته أن الكتاب لأبي زيد الأنصاري. (ينظر: المستشرقون ص 899 وفصول في فقه اللغة للدكتور رمضان عبد التواب ص 211). (3) الكتاب لأبي عمر الزاهد (ينظر: أبو عمر الزاهد ص 187). وفات الزميل محمد جبار المعيبد أن المستشرق برونلة قد نشر العشرات منسوبا لابن خالويه، وطبع في ليدن سنة 1900. (ينظر: المستشرقون ص 801 ورواية اللغة ص 366). (4) نشره ديرنبورج في سنة 1894 والشنقيطي في سنة 1327 ه، وأحمد عبد الغفور عطار في سنة 1957. وجميع هذه الطبعات ناقصة. (ينظر: لحن العامة والتطور اللغوي ص 184). (5) تاريخ الأدب العربي لبروكلمن 2 / 179، 241. (6) معجم الأدباء 1 / 161، أنباه الرواة 1 / 167. (7) وفيات الأعيان 4 / 339، معجم الأدباء 18 / 200 وسماه حاجي خليفة في الكشف 1421: كتاب الرياح. (8) هو أغناطيوس يوليانوقتش كراتشكوفسكي، ولد سنة 1883 وتوفي سنة 1951 وهو من كبار المستشرقين الروس نشر كثيرا من الكتب العربية منها: الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري، وكتاب البديع لابن المعتز، وديوان الوأواء الدمشقي وغيرها. وقد ترجم من كتبه: تاريخ الأدب الجغرافي العربي ومع المخطوطات العربية... (ينظر: الأعلام 1 / 340، مقدمة تاريخ الأدب الجغرافي العربي). (9) ينظر: المذكر والمؤنث للفراء 27، البلغة في الفرق بين المذكر والمؤنث 68، مختصر المذكر والمؤنث للمفضل بن سلمة 336. (10) آل عمران 117. (11) في تفسير القرطبي 4 / 178: " وفي الحديث أنه نهى عن الجراد الذي قتله الصر ". وفي اللسان (صرر): " وفي الحديث أنه نهى نهى عما قتله الصر من الجراد ". (12) يونس 22. (13) يونس 22. (14) الذاريات 41. (15) اللسان (روح). (16) الأنفال 46. (17) الإسراء 6. (18) هو عند سيبويه فعل (بفتح الفاء وسكون العيون). وعند الأخفش فعل (بكسر الفاء وسكون العين) وفعل (بضم الفاء وسكون العين). ينظر اللسان (روح) والمخصص 9 / 83. (19) أبو بكر محمد بن الحسن، عالم باللغة، توفي سنة 321 ه (ينظر: مراتب النحويين 84، نور القبس 342 الوفيات 4 / 323، نزهة الألباء 256). 96 ولبس عباءة وتقر عيني * أحب إلي من لبس الشفوف (1) وذكر اللحياني (2) في نوادره: أرياح، وذلك شاذ مثل حوض وحياض. فاما الريحان بالنون فحدثني ابن مجاهد (3) عن السمري (4) عن الفراء (5) قال: الريحان جمع روح مثل كوز وكيزان ونون ونينان يعني السمك. والريح سبب لانزال القطر والودق والغيث اللواتي أسماها الله جل وعز رحمة فقال: وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته (6)، أي بين يدي المطر، والريح والمطر سببان لانزال الغيث وذهاب المحول ورفع الجدب ومحيا الخصب والحيا والحبا (7)، والخصب أمارة لقبول الله تبارك وتعالى أعمال عباده ألم تسمع قوله تعالى: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا (8). (18) قال ابن خالويه: يقال أمددته في الخير ومددته في الشر، قال الله تبارك وتعالى: ويمدهم في طغيانهم يعمهون (9). والعرب تقول: إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرضون (10)، يعني بالمؤتفكات الرياح لأنها تأفك الأرض أي تقشرها وتقلبها، وإنما سمي الكذب إفكا لأنه مقلوب عن الصدق. وإذا كان النشئ (11) يعني السحابة من قبل العين يعني من قبل القبلة ثم ألقحته الجنوب وأدرته الشمال وأنسبت به الصبا فذلك أجود ما يكون من المطر. وأمات الرياح، يعني أمهات الرياح، غير أن الأمات في البهائم والأمهات في الناس، أربع: الشمال وهي للروح والنسيم عند العرب، والجنوب للأمطار والأنداء، واللثق والغمق يعني (12) الندى والصبا لالقاح الأشجار، فاما قول الشاعر: لعمري لئن ريح المودة أصبحت * شمالا لقد بدلت وهي جنوب (13) فان المتحابين إذا اجتمعا قيل ريحهما جنوب، وإذا تفرقا قيل ريحهما شمال، لأن الشمال تفرق السحاب والجنوب تجمع، قال الآخر (13) تمر الصبا صفحا بساكن ذي الغضا * وتصدع قلبي أن تهب جنوبها قريبة عهد بالحبيب وإنما * هوى كل نفس حيث حل حبيبها وقال الآخر: يا ريح ويحك بلغي تسليما * من ليس يأتينا له تسليم مري به فتعلقي بثيابه * ليكون فيك من الحبيب نسيم والدبور العذاب والبلاء نعوذ بالله منهما، وأهون الدبور أن تكون عاصفا تقذي العين، فلذلك كان رسول الله ص إذا هبت الرياح يقول: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا (14) وتلك الأخرى وكل واحدة تأتي بنوع من الخير إلا كثيرا (15) فإنه ذم الشمال فقال: وهبت بسفساف التراب عقيمها (16) أراد بالعقيم ههنا الشمال، ولذلك اختار أبو عمرو بن العلاء (17) وعاصم (18) إفراد كل ما في الكتاب الله عز وجل من ريح العذاب، وجمع كل ما كان من رياح الرحمة، وأنشد سيبويه: (19) وما له من مجد تليد وما له * من الريح فضل لا الجنوب ولا الصبا (20) يهجو رجلا أي ما له خير، فان قال قائل قد قال الله عز وجل: ولسليمان الريح (21) فافرد. فالجواب عن ذلك أن سليمان سخر الله له الصبا فقط رخاء حيث أصاب (22) أي طيبة لينة حيث أراد فكانت تحمل سريره من كابل إلى قزوين في نصف يوم وهي مسرة شهر. وقال ص: نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور (23). وأنشدني ابن عرفة نفطويه (24) لشاعر يمدح رسول الله ص: له دعوة ميمونة ريحها الصبا * بها ينبت الله الحصيدة والإبا (25)
(1) البيتان لميسون بنت بحدل زوج معاوية، والثاني من شواهد سيبويه 1 / 426 وهو في الأصول 2 / 24، والمقتضب 2 / 27، والايضاح العضوي 312، والصباحي 112، وسر صناعه الإعراب 1 / 275، والجمل 199، وشرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف 294 وإعراب القرآن للنحاس ق 60، 206 ومشكل إعراب القرآن 154، والرواية فيها جميعا: للبس. ونسب في بلاغات النساء 118 لزوج يزيد بن هبيرة المحاربي أمير اليمامة على عهد عبد الملك بن مروان. (2) أبو الحسن علي بن حازم، عالم باللغة عاصر الفراء وأخذ عن الكسائي (ينظر: أنباه الرواة 2 / 255، طبقات النحويين 213، معجم الأدباء 14 / 106، نزهة الألباء 176). وينظر: الخصائص 1 / 356. (3) أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس التميمي عالم بالقراءات، توفي سنة 324 ه. (ينظر: غاية النهاية 1 / 139، الفهرست 53، النشر في القراءات العشر 1 / 122). (4) أبو عبد الله محمد بن الجهم، أحد تلاميذ الفراء، توفي سنة 377 ه. (ينظر: أنباه الرواة 3 / 88، تاريخ بغداد 2 / 161، معجم الأدباء 18 / 109، الوافي بالوفيات 2 / 313). (5) أبو زكريا يحيى بن زياد، توفي سنة 207 ه (ينظر: أبو زكرياء الفراء للدكتور أحمد مكي الأنصاري وما فيه من مصادر). (6) الأعراف 57. (7) الحبا: السحاب وكذلك الحبي (اللسان: حبا). (8) نوح 10 - 12. (9) البقرة 15. (10) اللسان (أفك). (11) ينظر اللسان والتاج (نشأ). (12) يقتضيها السياق. (13) اللسان والتاج (جنب). (13) هو مجنون ليلى قيس بن الملوح. والبيتان في ديوانه 69، وذيل الأمالي 92، والأغاني 2 / 85، وتزيين الأسواق 62، والأول في السمط 641. وهما بلاد عزو في الزهرة 22 - والرواية في جميعها: هبوبها بدل جنوبها. (14) المخصص 9 / 91، اللسان (روح). وينظر الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير 1 / 59. (15) كثير بن عبد الرحمن صاحب عزة، توفي سنة 105 ه. (ينظر: ابن سلام 122، الشعر والشعراء 503، الأغاني 9 / 3، معجم الشعراء 242، خزانة الأدب 2 / 381). (16) أساس البلاغة (ثوب) وصدره: إذا مستثابات الرياح تنسمت ومر.. (وينظر ديوانه 150، والأنواء 163). (17) زبان بن العلاء البصري، أحد القراء السبعة، عالم باللغة والأدب، توفي سنة 154 ه. (ينظر: أخبار النحويين البصريين 22، طبقات النحويين 28، 176، نور القبس 25، التيسير في القراءات السبع 5، السبعة في القراءات 80). (18) عاصم بن أبي النجود، أحد القراء السبعة، توفي سنة 127 ه (ينظر: وفيات الأعيان 3 / 9، غاية النهاية 1 / 346، ميزان الاعتدال 2 / 357، السبعة في القراءات 70). (19) الكتاب 1 / 12. (وينظر عن سيبويه: سيبويه إمام النحاة لعلي النجدي ناصف). (20) البيت للأعشى في ديوانه 115 وفيه: وما عنده مجد تليد ولا له... (21) الأنبياء 81، وسبأ 12. (22) سورة ص 36. (23) الجامع الصغير 2 / 187. وينظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي وما فيه من مصادر. (24) إبراهيم بن محمد، أخذ عن ثعلب والمبرد، توفي سنة 323 ه. (ينظر: وفيات الأعيان 1 / 47، نزهة الألباء 260، أنباه الرواة 1 / 176، معجم الأدباء 1 / 254). (25) تفسير القرطبي 19 / 222. 97 الأب (1) المرعى، أنشدنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد: جذمنا قيس ونجد دارنا * ولنا الأب بها والمكرع (2) وحدثنا أبو عبد الله القاضي قال: حدثنا الدورقي (3) قال: حدثنا عبيد الله الأشجعي قال: سمعت هارون بن عنترة (3) يروي عن أبيه عن ابن عباس في قوله: فأصابها إعصار فيه نار (7) قال ريح فيها سموم. وحدثني أبو حفص بن الشحام عن أبي عروبة (8) عن الأشج (9) عن حفص بن غياث (10) عن داود بن هند (11) عن عكرمة (12) عن ابن عباس قال: أتت الصبا الشمال فقالت: مري حتى ننصر رسول الله (13)... والهبوة (14) والنضيضة والحواشك والعرية والهلاب ريح معها مطر، والبوارح هي الشمال تكون في الصيف حارة (15)، قال ابن خالويه يقال يوم راح كثير الريح وليلة راحة، وليلة ساكرة لا ريح فيها ويوم ريح طيب الريح. والنافجة أول كل ريح (16). والهجوم التي يشتد هبوبها حتى تقلع الثمام والبيوت. والنؤوج الشديدة المر. والدروج يدرج مؤخرها حتى يرى لها مثل ذيل الرسن (17). والنسيم التي تأتي بنفس ضعيف. نسمت تنسم نسيما ونسمانا (18). وعجت الريح وأسنفت كل ذلك في شدتها وسوقها التراب. وريح خارم باردة. والمعصرات التي تأتي بالمطر. والحواشك والمشتكرة المختلفة (19). والعرية الباردة. والإعصار التي تستطيل (20) في السماء. والحرجف القرة (21) تمت الرسالة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وذلك بعد العشاء في الليلة التي يسفر صباحها عن سابع شهر ربيع الثاني من شهور سنة 1003 أحسن ختامها تم. السيد حسين الغريفي البحراني قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو الامام العالم العلامة شيخ الاسلام، سراج الملة، برع في الفقه والأصول، وانتهت له رئاسة المعقول والمنقول، وصنف كتبا نفيسة انتشرت في حياته، وأفتى وألف وهو في حدود العشرين. ومن تصانيفه كتاب: الغنية المعمولة في طريقة الاحتياط. مات في سابع ذي الحجة سنة إحدى وسبعين بعد الألف. الشيخ حسين بن عبد الغفور الغريفي البحراني قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان فقيها أديبا خطيبا عالما بالتفسير، خبيرا بأيام الجاهلية، وما وقع فيها ومع غزارة علمه ما صنف كتابا ولا ألف، مات قدس سره سنة 1134. الشيخ حسين بن الشيخ علي البحراني من آل عصفور قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من المشايخ الكبار والحامل للواء الأخبار، فقيها، عالما، عارفا، متكلما، أخذ الفقه عن عمه صاحب الحدائق. وتصدر للافتاء في الفلاحية. وتوفي قدس سره سنة 1212. الشيخ حسين بن الشيخ علي بن سليمان البحراني قال في تاريخ البحرين المخطوط: قال العلامة الحلي في إجازته لبني زهرة: إنه يروي عنه عن أبيه الشيخ علي المذكور جميع كتب أبيه. وأما أبوه الشيخ علي الملقب بجمال الدين إلى أن قال:... إن الشيخ حسين المزبور كان عالما بالعلوم العقلية والنقلية عارفا بقواعد الحكماء. له مصنفات حسنة انتهى. وقال الشيخ حسين بن الشهيد الثاني في إجازته: وأنا رأيت من مصنفاته كتاب: مفتاح الخير في شرح ديباجة رسالة الطير للشيخ علي بن سينا. وشرح قصيدة ابن سيناء في النفس، وفيهما دلالة واضحة على ما وصفه العلامة. انتهى. وله الرسالة المشهورة التي شرحها المحقق الطوسي بالتماس تلميذه الشيخ ميثم البحراني، وقبره الشريف الآن في قرية سترة من قرى بلادنا البحرين إلى جنب قبر شيخه أبي سعادة رحمة الله عليهم. الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن جعفر الماحوزي البحراني قال في تاريخ البحرين المخطوط: أعلم من قضى وأفتى، أفضل من باشر التدريس والإفتاء، أكثر العلماء علما، أرفع أهل النصوص راية، أبرع أولي الخصوص آية. قال جدي العلامة في كتابه المسمى بلؤلؤة البحرين: وعن طريقي إلى المشايخ الأعلام ومصنفاتهم المشار إليها في المقام قراءة وسماعا وإجازة شيخنا الفاضل وأستاذنا الكامل، جامع المعقول والمنقول، ومستنبط الفروع من الأصول الشيخ الأجل الأوحد الأفخر الشيخ حسين بن المرحوم الشيخ محمد بن جعفر البحراني الماحوزي، وهي ثلاث قرى الدونج بالجيم بعد النون، وهي مسكن الشيخ المذكور، وهلتا بالتاء المثناة من فوق بعد
(1) جمع الزركشي في البرهان 1 / 296 أقوال المفسرين في معنى (الأب) وحصرها في سبعة أقوال. وينظر أيضا تفسير القرطبي 19 / 222 وكتاب الغريبين 1 / 7. (2) اللسان والتاج (أبب). (3) يعقوب الدورقي، توفي سنة 252 ه (ينظر الأعلام 9 / 253 وما فيه من مصادر). (4) توفي سنة 182 ه (تذكرة الحفاظ 1 / 286). (5) ينظر الأنساب للسمعاني 39. (6) عبد الله بن عباس، صحابي توفي سنة 68 ه (ينظر: حلية الأولياء 1 / 314، نكت الهميان 180، وفيت الأعيان 32 / 62، غاية النهاية 1 / 425). (7) البقرة 266. (8) الحسين بن محمد السلمي الحراني، توفي سنة 318 ه (الأعلام 2 / 277 وما فيه من مصادر). (9) عبد الله بن سعيد، توفي سنة 257 ه (ينظر: الفهرست 57 وتذكرة الحفاظ 2 / 77). (10) توفي سنة 194 ه (ينظر: الأعلام 2 / 291 وما فيه من مصادر). (11) ينظر الفهرست 57. (12) عكرمة بن عبد الله، تابعي، توفي سنة 105 ه (ينظر: حلية الأولياء 3 / 326، الوفيات 3 / 265، تهذيب التهذيب 7 / 263، المعارف 455). (13) غير واضح في الأصل الذي اعتمده كرانشوفسكي. (14) من هنا إلى آخر الرسالة نقله ابن خالويه من الغريب المصنف 280 - 281. (15) وهو قول أبي زيد كما في الغريب المصنف 281. (16) بعدها في الغريب المصنف 280: تبدأ بشدة. (17) بعدها في الغريب المصنف 280: في الرمل. (18) وهو قول أبي زيد الأنصاري كما في الغريب المصنف 280. (19) بعدها في الغريب المصنف 281: ويقال الشديدة. وقال الصغاني في الأضداد 227: الرياح الحواشك الشديدة والضعيفة. (20) في الغريب المصنف 280: تسطع. (21) بعدها في الغريب المصنف 280: وهي الصرصر. 98 اللام، وبها قبر المحقق الفيلسوف الشيخ ميثم البحراني صاحب الشروح الثلاثة على كتاب نهج البلاغة. والغريفة بالغين المعجمة ثم الراء ثم الياء المثناة من تحت ثم الفاء مصغرة، وقد عاش شيخنا المذكور وبلغ من العمر ما يقارب تسعين سنة، ومع ذلك لم يتغير ذهنه ولا شئ من حواسه سوى ما لحقه من الضعف الناشئ من كبر السن، ومن العجب أنه قدس سره مع غاية فضله لم تكن له ملكة التصنيف ولم يبرز شيئا في قالب التأليف وكان تلميذي علي الشيخ المبرور في بلاد القطيف بعد موت الوالد في البلاد المذكورة، وبعد استيلاء الخوارج على بلادنا البحرين. مؤيد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي الطغرائي مرت ترجمته في الصفحة 127 من المجلد السادس وننشر هنا بحثا عن رسالته ذات الفوائد مكتوبا بقلم الدكتور رزوق فرج رزوق: المؤلف هو مؤيد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد الدؤلي، الأصفهاني، المنشئ، الطغرائي. ولد بأصفهان سنة 453 ه في أسرة عربية ينتهي نسبها إلى أبي الأسود الدؤلي. ودرس في صباه وشبابه علوم عصره الشرعية والحكمية، وحين بلغ أشده بدأ يشق دربه بعلمه وأدبه ومواهبه إلى المناصب السلجوقية العالية، فصار منشئا وطغرائيا ومستوفيا ووزيرا. وقتل سنة 515 ه بعد معركة نشبت بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود الذي كان الطغرائي وزيره. برز الطغرائي في العصر السلجوقي في أربعة من الميادين هي الشعر والكتابة والكيمياء والسياسة، فقد كان شاعرا مجيدا، ومنشئا بليغا، وكيمياويا عالما، وسياسيا قديرا. ولكن الطغرائي المعروف عند الأدباء والباحثين بوصفه أديبا، أو وزيرا لا يعرفه كيمياويا أو يعبأ بكيميائه إلا قلة منهم. والحق أن الطغرائي مبرز في كيميائه تبريزه في الأدب والسياسة، فقد كان جابر عصره، وكان اسمه ألمع أسماء أهل الصنعة في زمانه. ولقد وصل إلينا من مؤلفاته في الكيمياء كتب ورسائل وأشعار هذا ثبتها: 1 مفاتيح الرحمة. 2 مصابيح الحكمة. 3 جامع الأسرار. 4 تراكيب الأنوار. 5 حقائق الاستشهاد في الرد على ابن سينا. 6 سر الحكمة في شرح كتاب الرحمة. 7 الارشاد إلى الأولاد. 8 أسرار الحكمة. 9 الرسالة الخاتمة. 10 الأسرار في صحة صناعة الكيمياء. 11 رسالة في الطبيعة. 12 المقاطيع في الصنعة شعر تعليمي في الكيمياء. 13 وصية الطغرائي من تدابير جابر. 14 ذات الفوائد. الرسالة ورد ذكر هذه الرسالة في طائفة من المصادر والمراجع العربية، مع سواها من مؤلفات مؤيد الدين أبي إسماعيل الطغرائي في الصنعة علم الكيمياء القديم. ذكرها ياقوت الحموي، وصلاح الدين الصفدي، وحاجي خليفة، وطاشكبري زاده، وإسماعيل باشا البغدادي (1)، وآقا بزرگ (2). وقد تبين لي بعد مراجعة طائفة كبيرة من فهارس المكتبات، ومن الكتب والمراجع أنه لا توجد من هذه الرسالة إلا نسخة خطية فريدة هي التي تمتلجها دار الكتب المصرية بالقاهرة. وهذه الرسالة قسم من أقسام مجموع خطي كبير رقمه 731 طبيعيات. وهي تتألف من خمس صفحات ق 185 أق 187 أ. في الصفحة الواحدة 25 سطرا. مكتوبة سنة 1088 ه. بقلم نسخ فارسي (3). أولها: رسالة ذوات الفرائد من كلام الأستاذ مؤيد الدين أبي إسماعيل رحمة الله عليه. قال: من الأسرار الكبار قول هرقل: إن في التبييض أحد عشر سرا. وآخرها: فهذه الأوزان التي أكثروا فيها الالباس قد شرحناها بغاية البيان. والحمد لله وحده وصلواته على عبده سيدنا محمد وآله أجمعين. أما موضوعها فهو الأوزان، وهي التي أشار إليها الطغرائي في آخر رسالته وقال إنه شرحها بغاية البيان. وهذه الأوزان لا علاقة لها في الرسالة بالوزن بمعناه المعجمي المعروف، وإنما هي من مفاهيم علم الصنعة. وقد كان يطلق على علم الكيمياء نفسه اسم علم الميزان أو علم الموازين. وثمة كتاب لجابر بن حيان عنوانه الحاصل في علم الميزان (4) وكتاب ثان عنوانه ترتيب الأوزان (5). وهناك كتاب لأبي مسلمة محمد بن إبراهيم المجريطي عنوانه الأوزان في علم الميزان (6) وبين الطغرائي في رسالته ما يعنيه أهل الصنعة بالأوزان فيقول: واعلم أن ما ذكروه من الأوزان فإنما هو المقايسة بين أرواح الأجساد وأثقالها. وهذه الأوزان وإن تميزت في العمل فلا حاجة إلى وزنها. وإنما قالوا ذلك تضليلا وتحييرا للجهال.... ويقول البحاثة فيدمان في هذا الصدد: إن الكيمياء لا تتسمى بهذا الاسم علم الميزان بسبب استعمال موازين فيها. ولكن لما يجري البحث عنه فيها من المقاييس الصحيحة والنسب المتوازنة التي ينتج عنها الحصول على
(1) هدية العارفين 1: 311. سماها: ذات الفرائد. (2) الذريعة. 1: 2. سماها: ذات الفرائد. (3) العنوان الراجح: ذات الفوائد. وهو ما نص عليه معظم المصادر. (4) منه نسخة خطية في مكتبة جار الله باستانبول 1641. (5) منه نسخة خطية في مكتبة الفاتح باستانبول 5903. (6) منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية 4 طبيعيات. 99 الوسط الصحيح الملائم لتحقيق الغاية الكيمياوية المرتجاة (1). والمنهج الذي اتبعه الطغرائي في تأليف رسالته هو أن يذكر طائفة من أقوال العلماء والحكماء القدماء ممن اشتغلوا بالصنعة، أو ألفوا الكتب والرسائل في مواضيعها. وهذه الأقوال وجيزة غالبا. وهو يتلوها بشروح لها أو تعاليق عليها تكاد تحكيها قصرا. يبدأ الطغرائي رسالته باقتباس قول كيمياوي لهرقل هو: إن في التبييض أحد عشر سرا ثم يعقبه بقول آخر شبيه به لجابر بن حيان هو: تحتاج الأرض من الماء إلى عشرة أضعافه ويشرحه ثم يمضي في اقتباساته لأقوال كيمياوية أخرى عديدة وفي شرحها والتعليق عليها. ومن الموضوعات والاصطلاحات الكيمياوية التي تتردد في هذه الأقوال: العمل والتدبير والخلط والتبييض والتحمير والتعفين. ومن الرموز: أرض مصر وأرض فارس والسماء والأرض والسبعة المتحيرة والماء الورقي والماء الخالد وإكليل الغلبة والحجر. أما العلماء والحكماء الذين يقتبس أقوالهم في هذه الرسالة فهم هرقل وآرس وأغاثوذيمون وبليناس وزوسيموس وجاماسف ومارية وجابر بن حيان وخالد بن يزيد. وما يقتبسه من أقوال بليناس ثم آرس أكثر مما يقتبسه من أقوال الآخرين. وفي الرسالة أقوال حكماء غير هؤلاء لا يسميهم (2). ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الرسالة وإن كان هدفها الشرح والبيان لا تخلو من الغموض، وإنها كسواها من المؤلفات الكيمياوية القديمة تتحدث عن موضوعات علم صعب أعزه أهله وكتموه من غيرهم فاستخدموا في مؤلفاتهم الرموز وتعمدوا التعمية والابهام. ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن اعتمادي في تحقيق هذه الرسالة على نسخة خطية وحيدة لم ييسر لي في تقويم نصها وتصويب بعض جملها ما كان ممكنا أن ييسره تعدد النسخ الخطية. منهج تحقيق الرسالة: 1 صححت في متن الرسالة أخطاء التصحيف والتحريف وأشرت في الحواشي إلى الأخطاء. 2 شرحت بعض الألفاظ والرموز الكيمياوية. 3 أرفقت الرسالة بملحقين تضمن أولهما تعريفا بالحكماء والعلماء الذين ورد ذكرهم في الرسالة. وتضمن ثانيهما فهرسا لما جاء فيها من ألفاظ ورموز كيمياوية. 4 استعملت الرموز الآتية: م: للمجموع الخطي 731 طبيعيات ق 185 أ 187 أ بدار الكتب المصرية. لندن: للمجموع الخطي 8229 شرقية بمكتبة المتحف البريطاني بلندن. ق: لكلمة ورقة. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله رسالة ذات الفوائد (3) من كلام الأستاذ مؤيد الدين أبي إسماعيل رحمة الله عليه قال: من الأسرار الكبار قول هرقل (4): إن في التبييض (5) أحد عشر سرا. وهو مثل قول جابر تحتاج الأرض من الماء إلى عشرة أضعافه. وإنما يريد جابر بالماء الماء الورقي (6)، ويريد بالأرض الثفل الباقي منه. وقال آرس: ومن أجل هذا الماء قال الحكيم: ماؤك (7) من طبقة سماوية صانعة للطبائع. والعشرة الأشياء التي ذكروها في الكتب أشاروا بها إلى كون الماء الورقي عند تمامه عشرة أضعاف الجسد. وسموا كل واحد من العشرة باسم على حدة. وقال جابر في بعض كتبه: إن الكلس يدبر إلى أن ينقى عسره، (8) ويحترق ما سواه. أقول: إذا انتهى إلى هذا الحد اختلط النحاس المعفن (9) بالصفحة التي لم تعفن. وتمسك الأصباغ بعضها بعضا خلايا من النحاس المعفن. الذي لم يعفن هو الماء الورقي، والصفيحة التي لم تعفن هي الجسد الباقي وهو إكليل الغلبة لأنه به يتم التدبير ويصير الأجساد (10) بكليتها أرواحا (11) لم تبق فيها أرضية تخالفها هاهنا تقوى على قنال النار. وما ذكروه من الأربعة الأجساد، والستة الأجساد، والسبعة الأجساد، إنما هو كمية ما يروح من الجسد بالقياس إلى العشرة الأجزاء التي هي تمام، والعمل الأجزاء (12). اعلم أن الماء المفرد عند التدبير يستخرج أرواح الأجساد فيجنها في جوفه. وإنما يستجن اليسير منه في أول الأمر ثم لا يزال يتزايد إلى أن يصير الروح والثفل سواء، ثم يتزايد الروح فتختلف نسبة أحدهما إلى الآخر من أول التدبير إلى آخره، أما ما (13) رمزوه من الأعداد في سائر المواضع فعلى هذا القياس، ولهم فيها مجال واسع. وقال آرس في الأوزان: هذه الأشياء إنما تركيبها من كثير وقليل ثم يصيران بالسواء. أقول ثم بعد ذلك يستمد (14) أحدهما من الآخر حتى
(1) دائرة المعارف الإسلامية، مادة " الكيمياء "، (بالانكليزية) 2: 1010. أقول: إن وجود هذا المعنى الكيمياوي لكلمة وزن لا ينفي وجود الكلمة بمعناها الحقيقي في العمليات الكيمياوية التي كان يقوم بها الكيمياويون العرب والمسلمون. ونحن نجد في كتب جابر بن حيان وأبي بكر الرازي وغيرهما عناية بذكر أوزان المواد المتفاعلة التي تستخدم في التجارب العملية، ولا شك أن اهتمامهم بالوزن هو الذي هداهم إلى استنباط القانون الذي ذكره الجلدكي، وهو أن المواد تتفاعل بمقادير معينة من حيث الوزن. ولقد استعملوا من الأوزان الرطل والأوقية والمثقال والدرهم والدقائق والقيراط والحبة. واستخدموا موازين حساسة دقيقة. انظر جابر بن حيان وخلفاؤه لمحمد محمد فياض ص 124 - 125. (2) دراسات في مؤلفات الطغرائي (بالانكليزية) ص 210 - 213. (3) م: دوات الفرايد. (4) سيرد التعريف به وبسواه من العلماء والحكماء الذين ذكرهم الطغرائي في هذه الرسالة في الملحق الأول من هذا التحقيق. (5) تحويل المعادن الرخيصة إلى الفضة. أما التحمير فتحويل الفضة إلى الذهب. (6) الأرض عند أهل الصنعة من رموز الرصاص. أما الماء الورقي فمن رموز الزئبق. (7) م: مابك. (8) م: عشرة (9) قال البوني: التعفين حرق غليظ الجسد حتى يصيره روحا غواصا بعد أن كان جسدا غليظا خشنا. والتعفين هو المستعمل في حجرهم وعليه معولهم. انظر الشمس المعارف ولطائف العوارف ص 108. (10) هي الذهب والفضة والحديد والنحاس والأسرب والرصاص القلعي والخارصيني. انظر مفاتيح العلوم للخوارزمي ص 147. (11) هي الكبريت والزرنيخ والزئبق والنواشذر، انظر مفاتيح العلوم للخوارزمي ص 147. (12) م. كذا. ولعل الصواب: بالقياس إلى العشرة الأجزاء التي هي تمام العمل. (13) م: أما فيها. (14) م: استمد. 100 يصير ما كان قليلا في الأول كثيرا في الثاني. وما ذكروا من الأوزان فإنما هو الماء الخالد، وهو الذي قال فيه أغاثوذيمون (1): إن الماء الخالد إذا أصيبت حقيقة وزنه جعل خطا الذي لم يعرف وزنه صوابا. ويسمون الثفل الذي يبقى بعد طلوع الماء الخالد بالزبل (2). قول الحكيم: إن حجرنا مثلث الكيان، مربع الكيفية. يعني بالتثليث الماء المفرد والماء المركب والأرض، وبالتربيع البياض والخضرة والحمرة والسواد. قول الحكيم: في أرض فارس وأرض مصر. أرض فارس هو (3) الطافي فوق لإشرافه (4) وعلوه، وأرض مصر هو الراسب لظلمته. قول بليناس (5): تلك الحركات كانت في وسطه (6) أقوى منها في أطرافه وحدوده. يريد بذلك أن ما صعد في وسط التدبير من التركيب أكثر مما يصعد أولا وآخرا. أما أولا فلصلابة الجوهر، ولأنه معدني لم ينضج، وأما آخرا فلقلة الباقي ولكثرة ما صعد منه الماء. ولما قسموا الجوهر قسمين أعلى وأسفل سموا الأعلى والأسفل سوادا، الأعلى إن تم بياضا وسوادا كما سموهما سماء وأرضا، وروحا وجسدا، وماء ودهنا. قول بليناس: فلما جاءت الحركات واختلفت الطبائع دخل بعضها في بعض، وقبل بعضها بعضا في بعض على قدر قوتها وانحلال بعضها في بعض، وازدواج بعضها لبعض، ولذلك أسرع بعضها في ولادته وأبطأ بعضها. أراد بذلك انحلال النفس من الجسد، وسمى المنحل طبائع، لأنها تنحل شيئا فشيئا، ثم ذكر في هذا الفصل ازدواج هذه الطبائع المنحلة وعلة سرعة بعضها وإبطاء بعضها، وذكر المواليد المولدة منها أولا فأولا، فيقال أخيرا لاجتماع الطبائع الثلاث عليه في تحليله وتعفينه أسرعت هذه الثلاث في الحركة للطافتها وتمت ولادتها قبل ولادة الأرض، فلما تم ما تولد من الماء والهواء وطلع (7) على وجه الأرض طلع على أثره ما تولد من الأرض بمعونة هذه الثلاث لها، وكان الشجر الذي لا ثمر له لشدة يبسه، فدل بهذا القول لكره (8) على كيفية انحلال الطبائع من الجواهر الأول، وتدرجها حالا فحالا، وشبهها في كل درجة بعنصر من العناصر البسيطة، أو نوع من الأنواع المركبة عنها، وابتدأ بالشجر الذي لا ثمر له، حتى صار إلى الإنسان الذي هو أشرف المركبات (9)، وذلك قوله وإنما طلع في آخره ما طلع من النبات، لأن القوى الأربع اجتمعت عليه ودفع كل واحد ضد منها ضده عن نفسه إلى أن أسلفوا ولد، والآن (10) هذه الطبائع الأربع أضداد، فلما اجتمعت (11) دفع كل ضد ضده فأبطأت في اجتماعها لدفع بعضها بعضا، فلما تمت وطلعت طلع بإزائها من الحيوان والإنسان وكل دابة تامة القوة طويلة الولادة مثل الفرس والبقر والأسد وغير ذلك، وصار الإنسان قائما في الهواء لاعتدال الطبائع الأربع فيه لأنه أتم المواليد كلها. هكذا تمت المواليد من الحيوان والنبات من الطبائع في ابتداء الخلقة من جميع الخليقة، فقد دل بهذا القول على كيفية الانحلال أولا، والامتزاج ثانيا، وطول المدة في تمام ذلك، وعسر الاجتماع والاتحاد في بدء الأمر. قول القائل: الرطوبة مثلها، وبها تصبغ الأجساد. ليس يعني بها الرطوبة المائية، وإنما يعني بها الرطوبة المستخرجة من الأجساد التي هي أرواحها. قول بليناس (12): المكان الذي كانت فيه الحركة معتدلة والسكون معتدلا أيضا مثل الحركة جزئين مستويين كان هناك خلق الإنسان، الذي هو أوسط الخلائق. يدل على أن المركب إذا صار روحه وجسده سواء فقد صار كثيرا. وهو الحملان الذي ذكره خال بن يزيد بن معاوية في شعره (13). وكلما زاد الروح ازداد لطافة إلى أن يصير تسعة على واحد، وهي التسعة الأحرف التي ذكرها زوسيموس (14) في عدة مواضيع، وذكر أن أربعة منها لا صوت لها، وخمسة لها صوت. وإنما أراد بالصوت الصبخ، ولذلك قال آرس: كان الأمد في أول الأمر السواء بالسواء وهو قولهم آبار (15) نحاس اجعلها بالسواء. والآبار نحاس هو الخلط كله، وهو الذي قال فيه الحكيم: إنا لم نلق شدة في العمل أشد من المزاج حتى تزاوجت الطبائع واختلطت وصارت شيئا واحدا، فهو كلما دبر انقلب من لون إلى لون، ولكل لون طبيعة وقوة ولطف، وقد أفادته النار لأن يكون أولا دودة ثم حية تنينا، وكلما طبع بالرطوبة ازدادت ألوانه ازدهارا. واعلم أن كل ما ذكروه من الأوزان فإنما هو المقايسة بين أرواح الأجساد وأثقالها، وهذه الأوزان إن تميزت في العمل فلا حاجة إلى وزنها، وإنما قالوا ذلك تضليلا وتحييرا للجهال كما قال جاماسب الحكيم في رسالته إلى بهمن بن أردشير: واعلم أن المركب لا يحمر حتى ينشف ماؤه ويجف. ويدل على
(1) م: اغاذيمون. (2) م: بارزيل. (3) م: وهو. (4) م: لإشراقه. (5) م: ليناس. (6) م: وسطها. (7) م: وطلوع. (8) م: كذا في الأصل. (9) هنا ينتهي ما ورد من هذه الرسالة في دراسات في مؤلفات الطغرائي ص 288 - 290. (10) م: كذا في الأصل. (11) م: اجتمع. (12) م: قوبليناس. (13) الحملان: الخميرة. جاء في كتاب تراكيب الأنوار للطغرائي (لندن ق 181 أ): قال خالد بن يزيد في أبيات كثيرة يذكر فيها العمل والأجساد الأربعة ثم ذكر الحملان وهو الخميرة، فقال:. وعلمني حملان شئ معجل * جزاه إلهي خير ما كان جازيا. انظر أيضا ديوان خالد بن يزيد بن معاوية (مخطوطة مكتبة المتحف العراقي ببغداد 2123) ص 223. (14) م: ريسموس. (15) قال د. كامل مراد: أخذ العرب معلوماتهم في الكيمياء على الأكثر من البلاد التي دخلوها، وكان المؤلفون أو النقلة على الأغلب من أصل فارسي أو سرياني، ولهذا لا غرابة في أن نراهم يستخدمون بعض الألفاظ الفارسية أو السريانية للدلالة على عنصر من العناصر. وقد وردت في كتبهم اللفظة الأكدية (آنك) للرصاص أو القصدير عوضا عن قلعي أو قصدير أو رصاصي. كما نجد استعمال الكلمة الأرامية (أبار) للرصاص... أنظر الرمز في الكيمياء عند العرب ص 48. 101 ذلك قول زوسيموس: إن الأثالي اليابس يكون إذا طبخ بمائه حتى يجف وتذهب رطوبته ويتغير من البياض إلى الحمرة. وهو الذي يسميه الحكيم زئبقا وكبريتا. وقول بليناس وهو يصف انقلاب الفضة في معدنها ذهبا: ثم يلح عليه الطباخ بحرارته ويقطع عنه الغذاء من الرطوبة ويصير يابسا بحرارة النار، فإذا ألح عليه النار في طباخها اتصلت الحرارة الطباخ بالجزء الذي هو في باطنها فقويا جميعا وظهرا على الفضة وانعدم البرد منها وبطن البياض في باطنها وظهرت الحمرة في استعلاء النار فصارت ذهبا. اعلم أن المركب إذا صار ذهبا بعد ما كان ورقا فقد بقي فيه عمل كثير إلى أن يصير فرفيرا. وكذلك قال زوسيموس في حكاية عن موسى ع: خذ الحجر المعروف بالنسطريس، وهو العشرة الأنواع التي ذكرها الحكيم، واجعلها خميرا لذهب الذهب الذي سموه الصدى قد اختلط بالصمغ إلى أن ينعقد ويتحد طبخها وإلى أن نجدها فرفيرا. اعلم أنهم حين قسموا المركب عشرة أقسام سموا هذه الأقسام أجسادا. وإنما سموا الثفل الباقي أجسادا. ويدل على ذلك قول آرس: إنهم خلطوا الأجساد بعضها ببعض فامتزجت فاسمك بعضها بعضا بالماء المخلوط بها، ثم دبرت فصارت كلها زئبقا واحدا فسمتها الحسدة ماء الكبريت، وسموها كباريت استخرجت من الأجساد. وإنما هذا كله استخراج روح الأجساد حتى يصير زئبقا واحدا في رأي العين. قال آرس: ومعنى قوله ألصقوا الزئبق بجسد المغنيسيا وبعبارة أخرى خذوا الزئبق فألصقوه بالكباريت. قال: إنما أمركم أن تأخذوا الزئبق المركب المدبر فتلصقوه بالجسد النقي، وذلك بعد ذهاب السواد، فيصير الذهب حجرا ورقيا، ثم يصير زعفرانا، ثم يصير فرفيرا. اعلم أنهم يريدون بالسواد الأرضية، وذلك أن للأجساد ظلمة وسوادا. وذلك السواد والغلظ من أرضيتها، وإنما يذهب بالتدبير الذي به يبيض النحاس وبه يحرق، وبه يذهب ظله، وذلك بالزئبق والنار. وقال في موضع آخر: إن العمل التام لا يخرج إلا بالرفق وحسن التدبير، وإن النار والزئبق لا يقدران أن يصيرا الأجساد غير أجساد حتى يذهب رجرجته وبريقه ويلصق بالأجساد رطبا وحتى يصير ترابا شبيها من الأجساد، لأن الزئبق إن لصق بالأجساد خرج ما أعلمتكم، وهناك يسمونه ماء الكبريت النقي. وقال أيضا: إن الأرواح إذا جسدت تألفها الأجساد في التقليب والتبييض والتحمير. وقال: هذه العشرة الأشياء تسمى إذا تمت الأصباغ وهي من ألغام الزئبق الخرثقلا. وهذه الكبريتة البيضاء تسمى إكليل الغلبة. أقول إنما تسمى إكليلا لأن الركن الثابت يسمونه ملكا، وهذه الكبريتة تطفو فوقه فتصير إكليلا له، ويسمونه سما لأنه يفتت الجسد وينشف رطوبته، كما يفعل السم بأجساد الحيوان. وهذه الأصباغ ربما قسموها سبعة أقسام وسموها بأسماء السبعة المتحيرة. وقول الحكيم: إنه يواتيك على رأي الأوزان شئت إلا أن تدخل عليه غريبا أو تجعله ناقصا من نجومه. يعني إن لم يستخرج منه تمام الأصباغ التي شبهت بالنجوم السبعة. وأقوال إن هذه السبعة هي آخر العمل بعد البياض. ولذلك قال خالد بن يزيد بن معاوية: وعليك بالتعفين بعد بياضه في فارس سبعا من السبعات (19) وقبلها أربعة للبياض، وهي التي قالوا فيها يبيض النحاس ويلين الحديد ويذهب بصير القلعي ورطوبة الآبار. وباجتماع الأربعة والسبعة يتم قول هرقل: " إن في البياض أحد عشر سرا ". وربما قسموا المركب التام ثلاثة أقسام وسموه هرمس المثلث بالنعمة (21)
(1) م: يابسة. (2) م: واظهرا. (3) م: وانعدام. (4) م: وظهرة. (5) م: اديسموس. (6) قال ابن النديم... وقالت طائفة أخرى من أهل صناعة الكيمياء إن ذلك كان بوحي من الله جل اسمه إلى جماعة من أهل هذه الصناعة، وقال آخرون: كان هذا بوحي من الله تعالى إلى موسى بن عمران وإلى أخيه هارون (عليهما السلام)... انظر الفهرست ص 508. وانظر أيضا ديوان خالد بن يزيد في الصنعة ص 201 - 202. (7) أو النسطرس، وهو البورق. انظر سيكل ص 14. (8) م: فذكر. (9) م: ويتحدا. (10) م: أجساد. (11) م: فتزجت. (12) م: بالحدة. (13) م: ومعنى قولهم الصق... (14) م: مجلدات يألفها. (15) م: الحرشقلي. الخرشقلا من أصل يوناني ومعناه الملبس ذهبا: انظر الكرملي: الكلم. اليونانية في اللغة العربية مجلة المشرق، بيروت ج 7 ص 318. أو: الخرشقلا من اليونانية خروسو كولا أي الذهب الرصاص وهو أحد الرموز التي رمز بها الكيمياويون القدماء إلى النحاس. انظر الرمز في الكيمياء عند العرب ص 52. انظر أيضا سيكل ص 16، 17، 33. (16) هي الكواكب السبعة المحيرة: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر. وقد تقتصر صفة التحير على خمسة منها هي: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد. وسميت هذه الكواكب بالمتحيرة لأنها ترجع أحيانا عن سمعت مسيرها بالحركة الشرقية وتتبع الغربية، فهذا الارتداد فيها يشبه التحير. انظر نهاية الإرب 1: 58. (17) م: يدخل. (18) م: يجعله. (19) م: م التقفين. (20) ذكر الطغرائي هذا البيت وبيتا تاليا له، في كتابه تراكيب الأنوار (لندن ق 175 ب) وهذان البيتان هما: فادفنه في التعفين بعد بياضه * في فارس سبعا من السبعات فإذا تكامل وقتهن، فإنه * سر، وذلك غاية الغايات وورد البيتان في ديوان خالد بن يزيد بن معاوية (مخطوطة المتحف العراقي رقم 2123 ص 73 - 74) من قصيدة مطلعها. طرد الظلام تتابع الغسلات * في كل واحدة من الجمعات وعدد أبياتها 13 بيتا. وهذان البيتان هما المرقمان 12 - 13. وهذا نصهما في الديوان: وعليك بالتعفين عند بياضه * في فارس سبعة (كذا) من السبعات فإذا تكامل وقتهن، فإنه * سم وتلك (كذا) غاية الغايات 102 والحكمة والنبوة وربما قسموه أربعة أقسام فسموها ماء وهواء ونارا وأرضا. وإنما اختلفت الأقوال لاحتمال الانقسام إلى أي عدد فرض لها. وقد غالطوا بذكرها واختلاف أوضاعها، وإنما هو عمل واحد وتدبير واحد، آخره شبيه بأوله. قول الحكيم: اجعلوا النورين القرينين بالسواء ومن الباقي مثل جميعهم إنما هو في بعض درجات المركب. فالنوران القرينان هما الماء المركب بالسواء: ثلثان وثلث والباقي ثلثان. وأقول إن السبعة الأشياء كلها هو التصديق الأول لأن القوم قالوا الثلث للبياض سمتها الحسدة شيئا واحدا، وجعلوا من ماء الكبريت مثل الأشياء كلها هو التصديق الأول لأن القوم قالوا: الثلث للبياض والثلثان للحمرة. وقد قلنا إن السبعة للحمرة فقد صح ما قلناه. وغاية البيان في ذلك أن الحكماء قسموا حجرهم دفعة قسمين ودفعة ثلاثة أقسام وسموها نحاسا وحديدا وقصديرا وآبارا. وسموها الأربعة الأجساد، وربما جعلوا هذه الأربعة اثنين فسموا النحاس والحديد نحاسا والقصدير والآبار قصديرا. وربما جعلوا هذه الأربعة عشرة. ولذلك قالوا: العشرة موجودة في الأربعة وجعلوا القسم الآخر سبعة، فصار الجميع إما أحد عشر على رأي هرقل وإما سبعة عشر على رأي جابر. ومصداق ذلك قول هرمس: أثمال الذهب سبع ثملان فإنهم يسمون القسم الأول من العمل البياض وعمل الورق، والقسم الثاني الحمرة وعمل الذهب. ويسمونه أيضا ذهبا ومعدن ذهب وحجارة ذهب ورمل ذهب وكبريتا أحمر وما شاكل ذلك من الأسماء. وأما من قسمها ثلاثة أقسام فقد سماها ثلاثة تراكيب لانقسام كل واحد منها إلى ثلاثة أقسام [و] و تسعة أقسام بعدد الشهور. وشبهوها بالفصول الأربعة. وسموا القسم الأول من الثلاثة نحاسا ليبسه، والقسم الثاني رصاصا للينه، والقسم الثالث حجر أطسوس لألوانه. وهو قول مارية: آبار نحاس حجر مكرم ثم أذيبوها بالسواء. وقولها في موضع آخر: نحاس رصاص أطسوس بالسواء. فهذه الأوزان التي أكثروا فيها الالباس قد شرحناها بغاية البيان، والحمد لله وحده وصلاته على عبده سيدنا محمد وآله أجمعين. ملحق 1 تعريف بالحكماء والعلماء الذين ورد ذكرهم في الرسالة آرس: قال الأب الكرملي: آرس إله الحرب عند اليونان، من أصل عربي من حرش، وهو الآرث أيضا المساعد 1: 183. وآرس أيضا من الحكماء الذين ألفوا كتبا ورسائل في الصنعة، منها كتاب آرس الأكبر وكتاب آرس الأصغر وقد ذكرهما ابن النديم في الفهرست ص 512. ومنها مصحف الحياة ومساءلات آرس الحكيم وكتاب الأمثال. وقد تردد ذكر هذه الكتب وتعدد الاقتباس منها في مؤلفات الطغرائي الكيمياوية. أغاثوذيمون: قال ابن أبي أصيبعة: كان أغاثوذيمون أحد أنبياء اليونانيين والمصريين، وتفسيره السعيد الحظ عيون الأنباء ص 31. وقال الأب الكرملي: أغاثوذيمون وهو بالفرنسية وباليونانية معناها في اليونانية: المبدأ الحسن. وهو الاسم الذي سمى به اليونان خنوفيس من أشهر آلهة المصريين. ويظهر اسم أغاثوذيمون في المصنفات العربية بأشكال شتى منها أغاثوذيمون وغاثوذيمون وأغاذيمون وغارميون وعاديمون وعادميون... المساعد 1: 251. وقال ابن النديم: إنه واحد من الفلاسفة الذين تكلموا في الصنعة. ولم يذكر له كتابا الفهرست ص 511. وفي مكتبة الفاتح باستانبول نسخة خطية من رسالة له عنوانها مقالات أغاذيمون لتلاميذه ورقمها 3227 1. بليناس: قال الأب الكرملي معرفا بابولونيوس: إن هذا العلم جاء بصورة بلينوس وبليناس وبليس وسائر مصحفاتها لا للعالم بل للعالم، وإن ثمة اثنين من العلماء القدماء يحملان هذا الاسم هما أبولونيوس الطواني وأبولونيوس البرجي المساعد 1: 93. وقال هولميارد: إن أول هذين العالمين هو الذي يعنيه المسلمون في كتب الصنعة. وذكره ابن أبي أصيبعة باسم بليناس الحكيم صاحب الطلسمات عيون الأنباء 1: 73. وذكر حاجي خليفة في كشف الظنون ص 1402 كتاب بليناس. وأغلب الظن أن هذا الكتاب هو الكتاب المسمى كتاب العلل أو كتاب سر الخليقة الذي توجد منه عدة نسخ خطية في مكتبات القاهرة وليدن والبنغال وغيرها. الطغرائي الشاعر وعن شعر الطغرائي يقول إسماعيل مظهر: هو من أفذاذ الشعراء، ومن أهل البيان الذين يشار إليهم بالبنان. أنكره أهل زمانه على القاعدة السائدة في هذه الدنيا. وليس في ذلك عجب، ذلك بان نكران الأفذاذ في زمانهم سنة أهل الشرق منذ أقدم عصورهم. وهذا الطغرائي على جلالة قدره يقول: ما لي وللحاسدين؟ لا برحت * تذوب أكبادهم وتنفطر يغتابني عند غيبتي نفر * جباههم إن حضرت تنعفر ألسنة في إساءتي ذلق * يقتادها من مهابتي حصر أنام عنهم ملء الجفون إذا * أثارهم في المضاجع الإبر يكفيهم ما بهم إذا نظروا * إلي ملء العيون لا نظروا تغيظهم رتبتي ويكمدهم * جاهي فصقوى عليهم كدر فنعمة الله وهي سابغة * عندي من الحاسدين تنتصر
(1) م: بالنغمة. (2) زيادة ترد في كثير من المصادر. (3) م: السبع. 103 يعجبني أنهم إذا كثروا * قلوا غناء وإن هم كثروا وليس من عجب في أن يحقد جماعة على الطغرائي في زمانه، وليس من عجب في أن يقول فيهم الطغرائي هذه الأبيات وأكثر منها مما يتضمن ديوانه. ولكن العجب في أن يهمل الطغرائي في زماننا فلا يتناوله كاتب بنقد، ولا يذكره أديب ببحث، كان هذا الشاعر العظيم من مطويات الأدب، تلك التي تطوي فلا تنشر، وتنسى فلا تذكر. ذلك في حين أن المتأمل في شعر هذا الرجل الفذ يدرك فيه سرا قلما تقع عليه في غيره من الشعراء: لا في شعراء عصره ولا في الشعراء الذين تقدموه، ولا في الشعراء الذين تلوه. وعندي أن هذا السر لا يشاركه فيه إلا شاعر واحد هو أبو العلاء المعري. أما ذلك السر فهو الجمع بين قوة الشاعرية ودقة الاحساس وصدق الوجدان وبين هدوء الطبع. أما إن ذلك سر من أسرار العظمة في الطغرائي، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه سر عظمته، فذلك بان الشعر عاطفة وخيال وحركة نفسية جياشة دافقة سيالة، فإذا حكم هذه الصفات هدوء نفس طبيعي، صفا الشعر ورق وأنساب انسياب الجدول المترقرق الهادئ، ولكنه في ترقرقه وهدوئه حاد كالسيف قاطع كالفأس الباترة المحدودة. وأبو العلاء المعري إن شارك الطغرائي هذا السر، فلا شك في أنه في نفسية الطغرائي وأذهب في الوجدان. فان أبا العلاء شاعر حكيم بطبعه متشائم بفطرته. حمل على المرأة وطغي على الإنسانية، حتى لقد أراد أن يهدم كل قائم من غير أن يعرف كيف يقيم غيره، وأن يدك كل أساس عملي في الحياة من غير أن يرسم للحياة طريقا جديدا. ذلك على العكس من الطغرائي فإنه عاش مع المرأة واندفع في غمرات الحياة وشرب من أفاويقها حلوة ومرة، فكان من صميم أهل الدنيا. فإذا لازم أبا العلاء شئ من هدوء الطبع ظهر أثره في شعره فذلك طبيعي بمقتضى النشأة والاتجاه الفكري. أما أن يلازم الطغرائي ذلك الهدوء وتحكمه تلك الطمأنينة، وهو بعد مغمور في الحياة محب لها، هائم بمباهجها، لماح لما فيها من مغريات ومفاتن، فذلك سر من العظمة لا تألفه في الشعراء. ولقد يظهر أثر هذا السر في مرئياته، وهي أبعد الأشياء عن أن يلزم فيها شاعر هدوء نفسه وطبعه، فلا يغلب عليه خيال جماح إلى غايات من الشعر يسبح من خلالها الشاعر في عالم من الخيال البعيد المعلق بآفاق الوهم القصية. وله في إرثاء مقطوعة رثى بها عزيزة عليه، تلمح من خلالها مقدار ما لاقى في فراقها من لوعة عميقة الأثر بالغة الخطر، ولكنك تلمح فيها أيضا ذلك الهدوء النفسي الذي يبلغ من قرارة نفسك مبلغا لا تبلغه ثورة الشعر: ولم أنسها والموت يقبض كفها * ويبسطها والعين ترنو وتطرق وقد دمعت أجفانها فوق خدها * جنى نرجس فيه الندى يترقرق وحل من المقدور ما كنت أتقي * وحم من المحذور ما كنت أفرق وقيل فراق لا تلاقي بعده * ولا زاد إلا حسرة وتحرق فلو أن نفسا قبل محتوم يومها * قضت حسرات كانت الروح تزهق هلال ثوى من قبل أن تم نوره * وغصن ذوي فينانه وهو مورق فوا عجبا أني أحم اجتماعنا * ويا حسرتي من أين حل التفرق أحن إليها إن تراخى مزارها * وأبكي عليها إن تدانى وأشهق وأبلس حتى ما أبين كأنما * تدور بي الأرض الفضاء وأصعق وألصقها طورا بصدري فاشتفي * وأمسحها حينا بكفي فتعبق وما زرتها إلا توهمت أنها * بثوبي من وجدي بها تتعلق وأحسبها والحجب بيني وبينها * تعي من وراء الترب قولي فتنطق وأشعر قلبي الياس عنها تصبرا * فيرجع مرتابا به لا يصدق هذا شعر صادق الدلالة على الحقائق التي أحاطت بالشاعر، وعلى الاحساسات التي اختلجت بها نفسه. قد تكون فيه لمحات من شعر الرثاء في شعر غيره من الشعراء، ولكن فيه إلى جانب هذا سر جديد عليك. ذلك ما تدرك من هدوء هذه النفس الثائرة كأنما ترى أرضا انبسطت ونما فوقها العشب وغشتها الأزاهير، وأنت تسمع من تحتها دوي البراكين وهمهمة الزلازل تغلي في باطنها. ولقد حاولت أن أطلق على هذه الظاهرة العجيبة في شعر الطغرائي اسما أميزها به، فلم أجد اسما أطلقه عليها أجدر بها من أن ندعوها الواقعية الشعرية فإنها والحق يقال أقرب الأشياء فهما مما ندعوه الواقعية في الفلسفة على أن المقارنة بين واقعية الشعر وواقعية الفلسفة يحتاج إلى فراع ليس هذا مكانه، أما إذا أردت أن تقف على طرف مما ذكرت فاقرأ له المقطوعة الآتية: أقول لنضوي وهو من شجني خلو * حنانيك قد أدميت كلمي يا نضو تعالي أقاسمك الهموم لتعلمي * بأنك مما تشتكي كبدي خلو تريدين مرعى الريف والبدو أبتغي * وما يستوي الريف العراقي والبدو هناك نسيم الريح مثلك لاغب * ومثلي ماء المزن مورده صفو ومحجوبة لو هبت الريح أرفلت * إليها الغيارى بالعوالي ولم يلووا صبوت إليها وهي ممنوعة الحمى * فحتى م أصبو نحو من لا له نحو هوى ليس يسلي القرب عنه ولا النوى * وشجو قديم ليس يشبهه شجو فأسر ولا فك، ووجد ولا أسى * وسقم ولا برء، وسكر ولا صحو عناء معنى وهو عندي راحة * وسم زعاف طعمه في فمي حلو ولولا الهوى ما شاقني لمح بارق * ولا هدني شجو ولا هزني شدو إن في هذا الشعر لثورة يخيم عليها هدوء نفسي قلما تأنسه في شاعر غيره. وعندي أن هذه الصفة لم تتجل في شعر الطغرائي بقدر ما تجلت في لاميته المعروفة، وإن لنا لعودة إليها نحلل فيها هذا الشاعر الكبير على ضوء هذه الحقيقة الملموسة في شعره. ولقد يحفزنا إلى درس الطغرائي أنه شاعر فسيح الجوانب مديد الغايات وفي شعره تعلق بأسباب الأدب العالي، وما أحوجنا إلى هذه الأسباب. الشريف حسين بن داود بن يعقوب الفوعي قال أبو الفداء في تاريخه وهو يتحدث عن حوادث سنة 739: فيها في أوائل رجب توفي بمعرة النعمان ابن شيخنا العابد إبراهيم ابن عيسى... وبعد أن يصفه بأوصاف كثيرة يقول: وهو من أصحاب الشيخ القدوة مهنا الفوعي نفعنا الله ببركتهما، وكان داعيا إلى السنة بتلك البلاد وتوفي بعده بأيام الشريف حسين بن داود بن يعقوب الفوعي بالفوعة وكان داعيا إلى التشيع بتلك البلاد، قلت: وقام بنصر مذهبه عظيما * وحدد ظفره وأطال نابه تبارك من أراح الدين منه * وخلص منه أعراض الصحابة السيد حسين بن السيد رضي بن السيد مقتدى الحسيني القزويني الملقب بمعين الاسلام والمشهور باللامع. ولد في قزوين ليلة الجمعة 20 جمادى الأولى سنة 1316 وتوفي بها سنة
104 1386 نشأ في قزوين على حب العلم، ثم هاجر في أوائل عمره إلى أصفهان، وقرأ الصرف والنحو والمنطق هناك على جماعة من أفاضل أصفهان، ثم عاد إلى قزوين، وأكمل السطوح بها، وتخرج في الفقه والأصول على الحاج ملا علي أكبر سياه دهني والشيخ عيسى البرغاني وغيرهم ومال إلى الخطابة فأتقنها ونبغ بها، فكان من أكابر خطباء المنبر الحسيني في إيران. وفي إحدى رحلاته إلى مدينة أرومية اجتمع مع محمد حسن المعروف بمحبوب علي الشاه في مراغة وهو من أقطاب الصوفية، فتأثر بأفكاره واعتنق طريقته وأصبح خليفته في قزوين. من آثاره المطبوعة: ديوان شعر يحتوي على مجموعة من الغزليات والرباعيات وله قصيدة باسم جغد بلبل عرفاني، وله أيضا بعض المؤلفات لم تخرج إلى المبيضة. السيد حسين بن علي نور الدين ولد عام 1896 م في قرية خربة سلم من جبل عامل وتوفي فيها سنة 1978 م وتعلم مبادئ القراءة والكتابة في الكتاب ثم تثقف على نفسه. قال من قصيدة عام 1948، وهو عام تقسيم فلسطين، وما ارتكبه اليهود في جبل عامل من الآثام: قرى الحدود وأهلوها قد اندثرت * تداس في سوحها الأشلاء والرمم جاس اليهود خلال الدور واندلعت * من المدافع نيران بها اعتصموا لما أناخوا على حولا بكلكلهم * واستعملوا الفتك ما رقوا وما رحموا فالطفل من فرق قد شاب مفرقه * والأم أذهلها عن طفلها الألم أين الصناديد يوم الروع من شهدت * لباسها في الوغى الهندية الخذم أين البواسل من قحطان تنجدنا * أين الحماة أباة الضيم أين هم أين المذاويد هل خارت عزائمها * بل أين أين الحفاظ المر والشمم أين الذين إذا اهتزت صوارمهم * تساقطت قلل للأرض تصطدم ما مجلس الأمن من خوف يؤمننا * فلينصف السيف إن لم ينصف الحكم ما بالكم بح صوت المستجير بكم * أين الحمية والاقدام والهمم عهدي بكم لا يضيع الدهر وتركم * ولا يطل لكم بين الطلول دم هبوا سراعا وفي أحشائنا رمق * فنوم مثلكم عن مثلنا يصم ألا ترانا وقد ضاق الفضاء بنا * وما لنا منهم منجى ومعتصم قد أمطرونا رصاصا من بنادقهم * فأرغمونا على استسلامنا لهم وقال: يخاتلنا ذا الدهر في من يخاتل * يسالمنا طورا وطورا يقاتل وأبناؤه في الغدر يحذون حذوه * فمن ذا نصافي منهم ونجامل أيرجى وفاء منهم وصفاتهم * على شكلهم فاللؤام للكل شامل فلا يطمع الأعداء فينا سكوتنا * فان الليالي في الورى تتداول فلا بد من يوم يؤرخ فعله * وأخباره بين الملا تتناقل ألا أيها الساعي ليطفئ نورنا * رويدك لا يغررك منا التغافل ألا تتقي الحرب العوان وتنتهي * فان الليالي في الخطوب حوامل ابن سينا الحسين بن عبد الله بن علي مرت ترجمته في الصفحة 69 من المجلد السادس ثم مر بحث عنه في الصفحة 230 من المجلد الأول من المستدركات. وقد كانت الدراسات عنه في معظمها فيلسوفا وفي هذا البحث الذي كتبه الدكتور داود مزيان الثامري عن رسالة مخطوطة لابن سينا يبرزه لنا طبيبا والبحث الذي يليه يبرزه لنا عالما طبيعيا: التعريف بابن سينا شهدت خراسان في القرن الرابع للهجرة حركة فلسفية قوية تحت حكم الدولة السامانية ونبغ فيها النشاط العلمي بدرجة كبيرة كان لها الأثر الفعال في ازدهار الثقافة والعلوم العقلية في تلك العصور، وقد توجت هذه الحركة بظهور الفيلسوف الكبير ابن سينا الذي يعد بحق درة الدولة السامانية ومفخرة الأمة الاسلامية. هو حجة الحق وشرف الملك الشيخ الرئيس الحكيم الوزير الدستور أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا. لقد اشتهر في كتب الفلاسفة المتأخرين من هذه الألقاب والكنى والأسماء، ما يوحي بمهماته العلمية والسياسية، ومن المؤسف حقا أننا لا نجد في نسبه أكثر من هذه الأسماء، وقد علق ابن أبي أصيبعة على شهرته فقال: وهو وإن كان أشهر من أن يذكر وفضائله أظهر من أن تسطر. وابن سينا من الفلاسفة القلائل الذين دونوا سيرة حياتهم، وكتبوا أخبارهم، ويعود الفضل إلى أحد تلامذته المعروف بأبي عبيد الجوزجاني، الذي سطر حياة ابن سينا وجاءت في مصادرنا التاريخية. وقد أخذ ابن أبي أصيبعة رواية الجوزجاني هذه فقال الشيخ عن نفسه: كان والدي رجلا من أهل بلخ وانتقل منها إلى بخارى في أيام الأمير نوح بن منصور فولاه الأمير نوح إدارة قرية من ضواحي بخارى تسمى خرميثن. وهذا دليل على أن عبد الله والد ابن سينا كان على شئ من راحة العيش. ثم تزوج عبد الله امرأة اسمها ستاره من قرية أفشنه فرزقا الحسين عام 370 ه، فأصبح في الأسرة غلامان. علي وهو الأكبر والحسين وهو الثاني، وبعد خمس سنين رزقت الأسرة غلاما ثالثا وهو محمود. انتقلت الأسرة إلى بخارى فاستقرت بها، وأحضر لابن سينا معلم القرآن والأدب، فلم يكد يكمل العشر من العمر حتى حفظ جميع القرآن وكثيرا من الأدب وحتى كان يقضي منه العجب. وصحبت هذه الذاكرة القوية العجيبة ابن سينا طوال حياته، فهو يروي أنه حفظ كتاب الطبيعة لأرسطو عن ظهر قلب دون أن يفهمه، حتى اشترى كتاب الفارابي في أغراض ما بعد الطبيعة فانفتح على: في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه قد صار لي محفوظا على ظهر قلب. وقد برزت شهرته العلمية ونبوغه العقلي عند ما تولاه الأمير نوح بن منصور الساماني بالرعاية والاهتمام. ويذكر أن الأمير نوحا قد ذكر عنده في مرضه الأخير فأحضره وعالجه حتى برئ، واتصل به وقربه منه وفتح له دار كتبه، وكانت هذه المكتبة من خيرة مكتبات ما وراء النهر والمشرق الاسلامي، وقد وصفها ابن خلكان بقوله: وكانت عديمة المثل فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها مما لا يوجد في سواها ولا سمع باسمه فضلا عن معرفته. فكانت فرصة ابن سينا أن يتزود من هذه المكتبة لكثرة علومها، ولم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره إلا وقد فرع من تحصيل العلوم التي عاناها بأسرها.
(1) الشيخ عبد الحسين الصالحي. (2) حولا. قربة عاملية على حدود فلسطين أجرى اليهود فيها مجزرة رهيبة. (1) هو أحد أمراء البيت الساماني الذي ترعرع في كنفه ابن سينا ونبغ في علمه: ابن خلكان - وفيات الأعيان 1 / 420. 105 وهكذا كان لاهتمام السامانيين بابن سينا ورعايتهم له أثر في تفوقه العلمي وشهرته العلمية وذيوع صيته. ويستمر ابن سينا في الحديث عن نفسه. فبعد أن أتم حفظ القرآن والأدب العربي أرسله أبوه إلى بقال يسمى محمود المساح ليتعلم منه حساب الهند ومبادئ الهندسة، كما تعلم الفقه على يد إسماعيل الزاهد. وصادف أن وفد إلى بخارى الفيلسوف أبو عبد الله الناتلي وكان تلميذا لأبي فرج بن الطيب، من علماء القرن الرابع الهجري، فأنزله والده في داره حتى يتعلم منه ابن سينا الفلسفة، وبدأ يقرأ عليه كتاب إيساغوجي لفرفريوس الصوري وبرز التلميذ على يد أستاذه حتى كان يتصور مسائل المنطق أفضل منه، وعندئذ أخذ ابن سينا يقرأ الكتب ويطالع الشروح بنفسه حتى أحكم علم المنطق والهندسة والطب. ومن فرط ذكائه أنه برز في الطب وهو في السادسة عشرة دون معلم وأخذ يتعهد المرضى، ولا غرابة في ذلك من شفائه للأمير نوح بن منصور الساماني في هذا العمر المبكر، وبذلك نجح نجاحا باهرا واشتهر أمره. إن هذه السيرة قد قرأها على تلميذه عبد الواحد الجوزجاني عند اتصاله به، وكان ابن سينا في الثانية والثلاثين من عمره، وأكمل الجوزجاني الحديث عن سيرة أستاذه بعد ذلك، ودون أخباره بما يعادل ربع قرن، حيث نضج فيها ابن سينا وتطور واكتسب الكثير من التجارب وألف كثيرا من الكتب الجلية الشأن. لقد وصفه ابن خلكان بقوله: كان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه وصنف كتاب الشفاء في الحكمة والنجاة والإشارات والقانون وغير ذلك مما يقارب مائة مصنف ما بين مطول ومختصر. ولا غرابة في أن يتخذ كتابه القانون مرجعا لطلبة الطب في جامعات أوروبا حتى القرن السابع عشر. وأخذ القديس توما الإكويني الفلسفة السينوية لابن سينا فكانت بذلك الفلسفة الغربية التي تمتد جذورها إلى ثمرة جهود ابن سينا، وهذا ما يفسر لنا كيف استمد الغرب ثقافته من العرب. ويسجل الجوزجاني تاريخ ولادته سنة 370 ه في شهر صفر من تلك السنة، أما وفاته فكانت بمدينة همذان يوم الجمعة من شهر رمضان سنة 428 ه ودفن بها. ذكر ابن أبي أصيبعة كتاب القولنج هذا، وأشار إلى أن تأليفه قد وقع أيام سجنه في قلعة فردجان من أعمال همذان لم يكن تاما على حد تعبيره. ويبدو أن ظروف السجن ومعاناة العيش آنذاك حالت دون استكماله. ولعل ابن سينا قد أكمل الكتاب بعد ذلك أو أيام كونه في السجن. ولكن يد الاهمال حالت دون وصوله إلينا كاملا. ومهما يكن فان النسخ التي بين أيدينا تعبر بوضوح عن قيمة ابن سينا العلمية وأهميته في الطب في حالتي التشخيص والعلاج، وهو ما بين الداء والدواء يبرز كطبيب عصره وقدرته في العلوم الطبية. التراث الطبي الاسلامي إن أهمية دراسة التراث العلمي الطبي الاسلامي تنبع من جوانب عدة: فدراسة التراث الطبي تمكننا من تبيان الحقائق الطبية التي نقلها أجدادنا في عصر الترجمة من الأمم الأخرى مثل اليونان والإغريق والفرس والهنود التي أضافوها إلى جهودهم الشخصية ومكتشفاتهم التي توصلوا إليها عن طريق الملاحظة والمتابعة والتحري وقوة التفسير والتعليل المنطقي الذي يقبله العقل مخالفين بالرأي غيرهم إن لم يكن حقيقة مقبولة. فاختلفوا مع جالينوس في كثير من الأمور الطبية ولم يقبلوا كل شئ على علاته كما يدعي البعض. إن ذلك سوف يعرف أبناء اليوم بجهود أجدادهم كما أن ذلك سوف يرد به على المغرضين والحاقدين الذين يحاولون طمس الحقيقة وحجب نورها وإعطاء المسلمين دور الناقل والمترجم والبعض يعطيهم فضل أمين المكتبة. إن طبيعة الأمراض لم تختلف عما كانت عليه في الأزمان الماضية عنها في الوقت الحاضر، ولكن الذي اختلف هو ظهور البحث العلمي الذي توصل إلى معرفة مسببات تلك الأمراض. وكثيرا من الوصف الطبي الذي قام به أطباؤنا الأوائل لا يختلف كثيرا عما نعرفه اليوم، وقد برز المسلمون في علم الصيدلة والتداوي وهم أول من ألف الكتب في ذلك. ومن دراسة التراث العلمي لهم نستطيع الكشف عن العلاج الذي اتبعوه، ونحاول دراسته علميا ونخضعه للتجربة العلمية لتبيان مدى فعاليته. وقد قامت جهود مشكورة ولكنها محدودة لدراسة بعض النباتات الدوائية التي استعملها العرب في مداواة بعض الأمراض وأثبتت نتائجها كما فعل الدكتور محمود رجائي وجماعته في دراستهم السريرية على استعمال المسواك حيث أثبتوا احتواء المسواك على المواد الطبيعية النافعة. إن الأدوية التي استعملها أطباء المسلمين كثيرة ومتعددة وقد يكون الرجوع إليها مخرجا من القيود والتحديدات التي وصل إليها العلم في الزمن الحالي وقد يجد عالم اليوم جوابا علاجيا لبعض الأمراض المستعصية خاصة إذا علمنا أن كثيرا من أدوية هذا العصر سبق أن استعملت ولكنها طورت واستخلصت بصورة جيدة وعلى نطاق تجاري واسع، أو قد صنعت بعد معرفة مكوناتها الأساسية، وكتب الصيدلة تزخر بالمئات منها. إن تحقيق التراث سوف يرفد المكتبة الاسلامية بالمصطلحات والأسماء الطبية التي عرفها أجدادنا وسموا بها الكثير من أعضاء الجسم والأدوية والأمراض، ويساعد في عملية التعريب، ويثبت أن لغة العرب غير قاصرة عن خدمة العلم، وليست محدودة بحيث لا تسمح لتعريب الطب أن يجري وأن يواكب الحركة العلمية في كافة المجالات. والتحقيق كذلك يساعدنا على معرفة أماكن مخطوطاتنا التي تنتشر في أنحاء المعمورة كافة، وطمور كثير منها في رفوف المكتبات، وهي تراث علمي نفتخر به، ويجب أن نظهره للعالم أجمع، وقد قامت كثير من الدول العربية والجامعة العربية بانشاء مراكز تعنى بالتراث وتحقيقه وعدم الاكتفاء بالمبادرات الشخصية المشكورة حيث إن العملية مجهدة ومتعبة وهي بحاجة إلى جهود جمة متجمعة وليست متفرقة. موارد ابن سينا التي تأثر بها في الطب كما وردت في المخطوطة ج 1 جالينوس.
(1) إيساغوجي لفظة يونانية معناها المقدمة أو المدخل. (2) د. محمد رجائي المطبهي وجماعته. استعمال المسواك لنظافة الفم وصحته، كتاب الطب الاسلامي. الأبحاث المقدمة للمؤتمر العالي الأول - الكويت، ربيع الأول 1401 هجرية. (3) جالينوس - ولد سنة 130 م في مدينة ببرغاموم شمالي أزمير في تركيبا وتوفي سنة 200 م عن عمر يبلغ السبعين، له مصنفات كثيرة في الطب ولم يسبقه أحد إلى علم التشريح وألف في تشريح الاحياء كتابا وشرح كتب أبقراط كلها. 106 2 الإسرائيلي: كتاب مبحث أمراض الرحم. كتاب الحميات. 3 ابن زهر صاحب التيسير 4 محيي الطب أبي قراط. اعتمدنا مخطوطة معهد إحياء المخطوطات العربية رقم 3167 جامعة الدول العربية للتحقيق ورمزنا إليها بالحرف آ وهي عبارة عن مايكروفلم برقم من 532 المكتبة الآصفية بحيدرآباد، ورقم المخطوط فيها 41 19 مجاميع من صفحة 484 564، اسم الكتاب رسالة في القولنج واسم المؤلف ابن سينا. تاريخ النسخ القرن الثاني عشر بخط تعليق حسن، عدد الأوراق 37 بالقلم الصفحة 17 سطرا، المقاس 90. 160 ملمترا. بالنسخة آثار أرضة وترقيع بسيط. وقد تم مقارنتها بمخطوطة جامعة الدول العربية معهد إحياء المخطوطات العربية رقم 3061 وقد رمز لها برقم ب وهي من مكتبة رضا رامبور، ورقم الفيلم من 229 267، ورقم المخطوط فيها 403 5، وسط اسم الكتاب رسالة في القولنج وتعديد أصنافه وأسبابه وعلاماته اسم المؤلف ابن سينا، وتاريخ النسخ القرن الحادي عشر، وهي بخط تعليق حسن، عدد الأوراق فيها 74 صفحة، والأسطر 15 بمقاس 130. 222 ملمترا. أولها: وبعد فقد خاطبني مبتديا بالأمير الجليل نصرة الدولة عن الملك كفاه الله من جميع متصرفاته. كما تم مقارنتها بمخطوطة معهد ولكم للتاريخ الطبي في لندن برقم: 68 وقد رمز لها بالرقم ج، وهي 22 ورقة 212. 145، ملم 18 سطرا طلق معادة الكتابة رسالة في القولنج القولنج. وأولها: وبعد فقد خاطبني سيدنا الأمير الجليل نصرة الدولة عن الملك كفاه الله جميع متصرفاته الإنجاح والظفر. اعتاد الباحثون عند تحقيقهم لأي مخطوط مقارنته بأكثر من نسخة واحدة يشيرون إليها بالأرقام أ، ب، ج ثم يثبتون بعد ذلك في الهوامش الاختلافات وهذا مطلوب علميا ولكنه مرهق ورأيت أن أكتب وأذكر ما ذكر في اثنين من المخطوطات لأسهل للقارئ الصورة ولا أشغله كثيرا بان الكلمة وردت في أكذا وفي ب وفي ج كذا، وأظن أن ذلك هو سبب عزوف كثير من الأساتذة عن التحقيق والأفضل أن يظهر كتاب ابن سينا ويصرف الوقت عليه لتبيان الحقائق الطبية من ضياع الوقت باعتماد الطريقة المتبعة سابقا علما بان ذلك قد لا يقبل من كثير من الأساتذة الأفاضل الذين يتبعون الطريقة الأولى. لقد حصرت الكلمة بين قوسين عند ورودها في مخطوط واحد فقط وكتابة المتفق عليه في المتن. لقد وردت كلمات كثيرة في المخطوطة ج غير منقطة فهمت من سياق العبارات والمعاني للكلمات والمقارنة بالمخطوطتين أو ب. استعمل ابن سينا الفيشات في هوامش صفحاته لتوضيح بعض الكلمات والنقل للصفحة الثانية لم يكن عدد الأسطر متساويا في كل الصفحات وقد جاءت بعضها كتابات كبيرة وواضحة وبعضها صغيرة ملمومة، وذكر أسماء الفصول في الصفحة نفسها دون أن يضع لها عنوانا. الدراسة والتعليق من خلال دراستنا للحقائق الطبية في رسالة الشيخ الرئيس ابن سينا في القولنج ومدى مطابقتها واختلافها لعلم الطب الحديث يتضح لنا عمق التراث العلمي الذي دونه أسلافنا في مجالات المعرفة العلمية وتأثيرها في ما هو وارد لدينا في الطب الحديث فقد ذكر: 1 وجود الهدف الواضح في مقدمة الرسالة حيث بين أسباب كتابة الرسالة بقوله: ان أجمع بخزانته عمره الله كتابا يشتمل على ما ينبغي من حال القولنج أقسامه وأسبابه وأعراضه ودلائله ووجوه معالجاته ونهج السبيل إلى التحرز منه غير قاصر عن واجب البيان ولا خارج إلى حد الحشو والتطويل 1 أ. 2 إن هذه المقدمة تبين أن الرسالة هي أول كتاب تخصصي في أمراض الجهاز الهضمي وبجزء واحد منه وهو أمراض القولون القولنج. 3 كما أنها تبين التتابع العلمي والتسلسل المتبع حديثا في كتابة الأمراض في الكتب فقوله: أقسامه وأسبابه أعراضه ودلائله أو ما يعرف بالعرض الطبي للمرض ووجوه معالجاته وينهيها نهج السبل إلى التحرز منه وهو ما يعرف حديثا بالوقاية ثم يضيف: إنها يجب أن لا تكون مقصرة في مضمونها وليست خارجة عنه بالحشو والتطويل. 4 اتبع نفس الفهرسة والتبويب الحديث وأشار إلى ذلك في المقدمة فهو يقول: المقالة الأولى في تشريح الأمعاء ومنافعها، والمقالة الثانية في تعريف ماهية القولنج في أقسامه وأسبابه وعلاماته، والمقالة الثالثة في تدبير أصحاب القولنج وعلاجهم وحفظهم 1 أ. ومن ثم يستمر في توضيح كل فصل من فصول المقالة معددا كل ما تشتمل عليه ليسهل للقارئ أن يعرف عند ما يطلب شيئا خاصا يجد مقابله بما هو موجود في الكتب الحديثة التي تسهل للقارئ ذلك. فمثلا تأخذ فصول المقالة الأولى فهي تسعة فصول: الفصل الأول في ذكر التجاويف الكبار التي في بدن الإنسان، الفصل الثاني في ذكر منافع الأعضاء 1 ب. ويستمر على هذا المنوال حتى ينهي جميع فصول المقالات. قائلا: فهذا
(1) ابن زهر - أبو مروان عبد الملك بن زهر ولد في إشبيلية سنة 1091 أو 1094 ميلادية وتوفي في إشبيلية عام 1162 ميلادية بعد إتمام كتابه - التيسير - التي ترجم للعبرية واللاتينية وطبع باللاتينية عدة مرات بين عام 1490 و 1554 ميلادية. (2) محيي الطب - أبي قراط. يعده البعض أبا الطب، عاش 95 سنة، وهو يشتهر بطبه وقسمه والف العديد من الكتب في الطب. (3) هنالك نسختان، نسخة مشهد، ونسخة وهبي، اللتين نوه بهما الأب جورج شحاتة فنواتي، في كتابه مؤلفات ابن سينا: القاهرة 1950، ص 214. تسلسل 143. 107 فهرست مقالاتها وفصولها 2 أ. 5 إن الشيخ الرئيس يحاول أن يشرح فسلجة الجسم والمراكز والمسؤولة عن وظائف الأعضاء فهو يقول: اعلم أن الأفعال الضرورية من قوام الحيوان فعل تغذية البدن ويصدر عن القوة الطبيعية، وفعل تغذية الروح وتعديلها ويصدر عن القوة الحيوانية، وفعل الحركة ويصدر عن القوة النفسانية 2 أ. إن هذا التفصيل يشبه ما نعرفه اليوم من الفسلجة فالتغذية تفصلها عن التنفس وهما منفصلان عن الحس والحركة. 6 كما إنه شرح موضع كل من الأعضاء في الجسم مشيرا إلى سيطرة كل عضو على العضو الآخر قائلا: وقد أعد الخالق لكل واحد من تلك الأعضاء التي تخص فعلا منها تجويفا وخزانة تحويه، فأعضاء التغذية للبدن هي المعدة والكبد ويدخل معها الكبد الطحالي والمرارة والكليتان والأمعاء والتجويف الذي يحويها هو الفضاء الذي يبطن ويحيط به المراق والصلب من الأسفل ومن الخلف والحجاب الحاجز المسمى ذيافر عما من فوق 2 أ. 7 إن أعضاء التغذية لدى الشيخ الرئيس لا تختلف عما نعرفه اليوم ما عدا الكبد الطحالي الذي لا يدخل في التغذية، أما الكليتان فهما تشتركان بالهضم وبطرح الفضلات الممتصة والزائدة بعد عملية التمثيل، كما أن ربط الكبد بالعملية الغذائية مفخرة في وقت لا يعرف فيه اختصاص الكيمياء الحيوية. 8 إن الحجاب التشريحي في وصف مكامن الأعضاء يدل على أن التشريح معروف لدى الشيخ الرئيس وليست أقواله مجرد حدس وتخمين، فقوله: أعضاء تربية الروح وتغذية القلب والرئتين وقصبتهما والتجويف الذي يحويها هو الفضاء الذي تحده، أما من قدام فالقفص وأضلاع الصدر، ومن خلف الظهر الأعلى ومن فوق الترقوة والعنق ومن تحت الحجاب الحاجز 2 ب. وهو ما نعرفه اليوم تشريحيا ووظيفيا. 9 ويستمر على هذا المنوال في الوصف التشريحي للدماغ والنخاع مبينا أنهما أساس الحياة وكل ما عدا ذلك توابع لها بقوله: هذه الأعضاء التي تحيط بها هذه التجاويف هي الأعضاء الضرورية في قوام الحياة وسائر الأعضاء أطراف لها وهي غير ضرورية 2 ب وهو ما توصل إليه العلم الحديث الذي يعلن الوفاة بتوقف الدماغ لا القلب. 10 يعترف ابن سينا بان رطوبة الماء هي قوام الحياة فهو يقول: وجعل قوام جوهره من الرطوبة 3 أهو أساس الفسلجة في العصر الحديث حيث تعتبر الماء العنصر الأساسي في التكوين الحيواني كما أن الفعاليات الحياتية: معروفة له فهو يصفها بقوله: وكان الحار الذي فيه والحار المحيط به يحلل جوهره 3 أو هي العمليات الحياتية الوظيفية المعروفة لدينا بالتآيض والتمثيل. 11 إن الإنسان يتغذى ويعيش على ما يتحلل من جوهر مشابه لجوهره وهو يحلل في بدنه هذا الجوهر المعوض بما يحضره من الأغذية. وهذا ما يشير إليه الشيخ الرئيس بقوله: وجب أن يدبر بالحكمة لبدنه تدبيرا يحصل له بدل ما يتحلل عنه فهيا له مما يحضره أجساما من شانها أن يستحيل إلى مشاكلة جوهره فيسد مسد التحلل منه وهذا هو الغذاء وأعد له أعضاء فيها ينضح هذا الشئ الذي هو الغذاء 3 أ. 12 إن الغذاء الذي يتناوله الكائن الحي لا يستحيل بكامله لجوهر الكائن بل يبقى منه فضلات غذائية، وهذا أيضا معروف لدى ابن سينا فهو يعرف أن بعض الغذاء يبقى ويجب لفظه خارج الجسم فهو يقول: ويبقى منه فضل مؤذيا باحتباسه خلق له آلات دفع الفضول 3 أ. كما يعترف أن الفضلات إن بقيت في الجسم فهي تؤذيه وهو ما معروف طبيا الآن باعراض الإمساك والذي يجهد الطبيب نفسه بمعالجتها. 13 إن الوصف الوظيفي للعضو في الجسم مهم من الناحية الفيزيولوجية وبخاصة إذا جمع معه الوصف التشريحي للعضو وهذا ما يتبعه الشيخ الرئيس فهو يبين أسباب خلق الأمعاء بصورتها الحالية وماذا يحدث لو أن الخالق سبحانه وتعالى جعلها بصورة غير صورتها الحالية، فهو يقول في خلق الأمعاء: صلبة بالقياس إلى سائر الأمعاء لينة بالقياس إلى الباسط الماد، ولو خلقها عظمية لما أطاعت الانبساط عند الامتلاء والانتفاخ من الرياح ولكانت ثقيلة مؤذية عند الحركة ولو خلقها لحمية لكانت تعرض للانخراق عند تمديد الأثفال والرياح 3 ب. 14 كما إن الجانب الوظيفي في الأمعاء هو سبب خلقها بطبقتين فهو يقول: وخلقها من طبقتين لتكون أمتن وأثخن وأصبر على ما يزاحمها من الأثفال المنعقدة واليابسة ويلذعها من الأخلاط الحادة. 3 ب. وهو ما معروف لدينا من ناحية دراسة الأنسجة أن هنالك طبقتين في الأمعاء في الوقت الذي لم يعرف فيه الميكروسكوب في ذلك الوقت. 15 أثبت العلم الحديث أن الغذاء يهضم في الأمعاء ثم تمتصه الأمعاء ليحال بواسطة الدورة الدموية إلى الكبد حيث يعمل عليه ليحيله إلى مواد أخرى صالحة للتآيض والتمثيل. ولاكمال تلك العملية احتاجت الأمعاء لطول كبير ووقت يبقى الغذاء فيها ملامسا للشعيرات المعوية يكفي للامتصاص وكانت حكمة الخالق هي أن يفرق الإنسان من الحيوان فلم يجعله بهيمة تهتم بالأكل والتبرز ولم يخلقه حيوانا مجترا. إن ذلك هو ما جاء بالنص في كلام الشيخ الرئيس في الصفحة 4 أ من أولها إلى آخرها. 16 إن حقيقة طول الأمعاء التي أكدها ابن سينا أثبت العلم أهميتها من الناحية العلاجية، فالجراح اليوم يسرع بمعالجة التواء الأمعاء مخافة أن يضطر إلى قص وإزالة بعض منها نتيجة لموتها باحتباس الدم والدورة الدموية أثناء الالتواء، والسبب معروف اليوم: حيث إن قصر الأمعاء سوف يؤدي إلى الاسهال وفقدان السوائل والوفاة، كما أن العلم الحديث بين أهمية مكث الغذاء في تلافيف الأمعاء لغرض الامتصاص، فالاسراع المعوي حالة مرضية تحتاج وتتطلب المعالجة. يبدو أن ذلك الوصف هو نتيجة للتحكيم المنطقي، ولكن هذا يدل على تفهم وظيفي للعضو البشري نتيجة لدقة الملاحظة وضبط المشاهدة والربط الفكري والتتبع المرضي والعلاجي. 17 إن تشريح الأمعاء لدى الشيخ الرئيس يبدأ بالاثني عشري ثم الصائم ثم الدقيق واللفائفي ثم الأعور فالقولون والمستقيم، وهو السرم مشابه
108 لما هو معروف عليه اليوم، مما يدل على أن التشريح كان معروفا وجاريا، كما أنها جميعا مربوطة بالظهر فهو يقول: وهذه الأمعاء كلها مربوطة بالصلب ورباطات تشدها على واجب أوضاعها 4 ب. كما أنه يفرق بينها تشريحيا ووظيفيا فهو يقول: وخلقت العليا منها رقيقة بجوهرها لأن حاجة ما فيها إلى الإنضاج ونفوذ قوة الكبد إليه أكثر من الحاجة في الأمعاء السفلى ولأن ما يتضمنه لطيف لا يخشى فسخه لجوهر الأمعاء نفوذه فيه ومرارة به 4 ب. 18 إن الأمعاء السفلى لدى الشيخ الرئيس تبدأ من الأعور وهي تختلف تشريحا من العليا فيقول: والسفلى مبتدئة من الأعور غليظة ثخينة متشحمة الباطن فيكون مقاومته للثفل الذي إنما يصلب ويكثف أكثره هناك 4 ب. ولكنه لا ينسى أن يذكر أن الأمعاء العليا لم ينس الخالق أهمية مقاومتها إذ يقول: ولكن لم ينحل في الخلقة من تعرية سطحها الداخل برطوبة لزجة مخاطية تقوم له مقام التشحيم 4 ب. ولا أحد ينكر أهمية المادة المخاطية: من الناحية الدفاعية للأمعاء في عصرنا هذا. 19 إن حقيقة تصلب وتكثف الثفل في الأمعاء الغلاظ معروفة للشيخ الرئيس وهي الجانب الوظيفي، الذي نحدده اليوم للأمعاء الغليظة ولم نزد عليه سوى امتصاص بعض من كمية الماء الذي لم يتجاوزها الشيخ الرئيس أيضا. 20 إن الشيخ الرئيس يتبع الأسلوب العلمي في التشريح الوظيفي متتبعا أجزاء الجهاز الهضمي ففي الصفحة 4 ب و 5 أ، من المخطوط وبأسلوب لا يختلف عما يجري عليه اليوم ولكنه يضفي على الأمعاء وجود قوتين جاذبة ودافعة وهو ما لا يقره العلم الحديث الذي اكتفى بقوة دافعة هي الحركة المساريقية. 21 إن العلم الحديث أثبت أن للصفراء تأثيرا على الحركة الساريقية إضافة إلى وظيفتها في الهضم. وإشارة الشيخ الرئيس إلى ذلك تعد مفخرة كبيرة وهو يقول: وهي خالصة غير مشوبة فتكون قوية الغسل تهيج القوة الدافعة باللذع فيما يغسل ويعين على الدفع إلى أسفل 5 أ. 22 يعتقد الشيخ الرئيس خطا أن الديدان تفيد الإنسان عند ما تتولد في أمعائه فهو يقول: وفي تولدها أيضا منافع إذا كانت قليلة العدد 6 أ حيث نعرف أن الديدان مضرة للجسم وتسبب الأمراض له. 23 إن الوصف التشريحي الدقيق للأمعاء الغلاظ ينم عن معرفة جيدة بالتشريح فالشيخ الرئيس يقول: كما يبعد من الأعور يميل عنه ذات اليمين ميلا جيدا ليقرب من الكبد ثم يأخذ ذات اليسار منحدرا فإذا حاذى الجانب الأيسر مال إلى اليمين وإلى الخلف 6 أ، وهو ما ندرسه اليوم لطلبة الطب في قسم التشريح ونلزم الجراح بمعرفته في الامتحان للتخصص. 24 إن الشيخ الرئيس يضيف إلى وظيفة الأمعاء الغلاظ المعروفة لدينا وظيفة أخرى نعرفها اليوم وهي استقصاء بعض بقايا الغذاء فهو يقول: بعد استقصاء فضوله من الغذاء الكائن فيه 6 أ. 25 يحدد صاحبنا أن مرض القولنج يحدث عند تعرض قسم الأمعاء الغلاظ المعروف بالقولون للمرض فهو يقول: وفي هذا المعاء التعرض من علة القولنج ومنه اشتق اسمه 6 أ. 26 إن محاولة ابن سينا للوصف التشريحي الوظيفي الدقيق للشرج مفخرة أخرى في معرفة التشريح ووظائف العضلات وهو ما يحاول المعلم اليوم تدريسه لطلاب الطب في التشريح، فهو يصف الشرج تشريحيا ويصف وظائف العضلات المحيطة به والمرض الذي ينتج عن رخاوة قد تصيب هذه العضلات فهو يقول: ومنفعة هذا المعاء قذف الثفل إلى خارج، وقد خلق الخالق ومده أربع عضلات لتغمده وتمسكه واحدة مشتملة على فم المعاء المستقيم عند المقعدة. 6 أ. ثم يكمل قوله عن بقية العضلات الأخرى قائلا: وهي معينة لتلك من القبض والعصر وطرفيها بين العضلتين يتصلان بأسفل العصب وفوق هاتين العضلتين زوج يتورب باشتماله على المعاء المستقيم ومنفعته إشالة المقعدة إلى فوق وعند استرخاء هاتين يعرض للدبر أن يبرز 6 ب. 27 تبدأ الكتب الطبية اليوم عند وصف المرض بتعريفه في البداية وهذا ما يتبعه فيلسوفنا فيقول في تحديد القولنج: القولنج مرض آلي يعرض من الأمعاء الغلاظ لاحتباس غير طبيعي فيتوجع 6 ب. ويعود ليشرح أسباب التسمية ويحدد الغرض من ذلك وهو تسهيل مهمة الطبيب الممارس في التشخيص والتفريق عن الأمراض الأخرى فهو يقول: فالمرض جنس للقولنج والآلي فصل له عن الأمراض يسمى متشابهة الأجزاء وهي المزاجية فإنه وإن كان القولنج يعرض عن المرض المزاجي، فلا يكون المرض المزاجي في نفس القولنج بل سبب القولنج 6 ب. 28 إن الدارس للطب والمتخصص فيه لا يمر على هذه الكلمات مر الكرام فهي كبيرة المغزى والأهمية من الناحية الطبية، وخاصة إذا علمنا أن ذلك حدث قبل ألف عام وقبل أن يعرف فرويد ونظرياته، فالشيخ الرئيس سبق الجميع وأشار إلى حقيقة علمية وهي أن الأمراض المزاجية النفسية قد تسبب أمراض الجهاز الهضمي فهو يقول: وليس إذا كان المرض مزاجيا يجب أن يكون المرض مزاجيا 6 ب. 29 نحن نسمي اليوم مرض الأمعاء الدقاق وهي لفظة مقاربة للفظة الشيخ الرئيس: إيلاوس 6 ب الذي يستعيذ بالله منه أي مستعاذ بالله منه فإنها تكون في الأمعاء الدقاق وليست هي القولنج 6 ب. ونحن نعرف اليوم أن مرض الأمعاء الدقاق أخطر على الحياة من مرض الأمعاء الغلاظ وذلك لكمية السوائل التي يفقدها المريض وتسبب وفاته. 30 إنه يستمر في التفريق بين الاحتباس غير الطبيعي في القولنج وبين غيره من الأمراض التي قد تشبه القولنج فهو يقول: وقولنا لاحتباس غير طبيعي فرق بين القولنج وبين السحج والمغص والزحير وأمراض آلية في الأمعاء لا يسمى شيئا منها باسم القولنج فإذا عرض فحينئذ يسمى الاحتباس دون القولنج وتكون هي أسبابا بالذات وبالعرض للقولنج 7 أ. 31 بعد أن أنهى الشيخ الرئيس التعريف، يعود إلى تقسيم القولنج
109 حسب أسبابه وهو ما يتبع اليوم في الكتب الطبية. إنه يعطي أهمية لما في الأمعاء الغلاظ من مادة لها تأثير على المرض ونوعه فهو يقول: والمحتبس في التجويف إما جوهر لطيف وإما جوهر غليظ والجوهر البخاري الريحي والجوهر الغليظ إما حيواني أو غير حيواني 7 أ. ثم يبين أسباب كل واحد منها، فقد تكون للغذاء أو تكون ديدانا ويفصلها عن الصفراء أو السوداء، بينما يعترف أن الدم قد ينفجر في الأمعاء ويؤدي إلى القولنج فهو يقول: ثم الدم في الأوقات إذا انفجر في الأمعاء وجمد الدم جمد البلغم في نسختين قد يعرض منه القولنج 7 ب. ولكنه يعود لينصح باستعمال كلمة المغص لمثل هذه الحالات ليفرقها عن القولنج كما يقول: وتلك العلة أولى باسم المغص منها باسم القولنج 7 ب. 32 إن مرض القولنج اليوم يختلف عما يصفه الشيخ الرئيس ولكن أسباب مرض الإمساك التي قد يسميها القولنج هي نفس الأسباب المعروفة لدينا اليوم فقوله: إن أول أقسام القولنج البسيط خمسة، احتباس ريحي وخلطي ودودي وثفلي وورمي ثم تتشعب هذه الأقسام 7 ب. يضيف عليها دقة علمية ووصفا مرضيا حين يصف أن القولنج قد يحدث بسبب موجود في المعاء، أو بسبب عضو مجاور له، فهو يقول: السبب الذي يعرض منه القولنج ربما كان في نفس المعاء وربما كان بحسب المجاورة 7 ب. كما قد يكون مرض القولنج بالنسبة للشيخ الرئيس ما نعرفه اليوم بالانفتال أو انسداد الأمعاء.، وهذا وارد حينما نقرأ قوله: أن يكون من انضغاطه من عضو مجاور، وهذا على أقسام ثلاثة، لأن الانضغاط إما أن يكون لورم في ذلك العضو مثل القولنج بسبب ورم في المثانة والرحم، أو لزوال ذلك العضو من وضعه مثل القولنج لدخول حرز الظهر داخلا لضربة أو سقطة أو لزوال ذلك العضو واتصاله كالفتق يعرض في الصفاق فيقع فيها المعاء فينطبق ويحتبس الثفل 8 أو هذه الأسباب معروفة اليوم لدينا كمسببات للانفتال أو انسداد الأمعاء. 33 يعطي ابن سينا للكبد والطحال بعض الوظائف الأخرى المؤثرة على الثفل، ولكن ليست كما نعرفها اليوم علميا فهو يقول: لمشاركة عضو من سوء مزاجه مثل تخفيف الكبد للثفل بفرط برودته 8 أ، أو ذكر النوازل الدماغية 8 أ، ولكنه يستعمل الإشارة الطبية لغيره في نفي أو تفسير بعض الحقائق فهو يقول: انصباب المرارة وقد أنكر بعضهم أن يكون ذلك سببا للقولنج 8 أ. 34 يربط الشيخ الرئيس العلاقة بين الكليتين وإدرارها وسيولة الثفل، فهو يعرف أن كثرة الادرار تؤدي إلى التيبس فيقول: وإدرار كثير يعرض معه فيجف الثفل لميل المائية إلى جهة الكلية. 8 أ، وهو ما يعود ويؤكد من أهمية التعرق وتأثيرها على الثفل يقول: وكذلك العرق الشديد للرياضة الكثيرة والقلب في الحر الشديد 8 ب. 35 إنه يركز على الناحية الفسلجية في وظائف الأمعاء ويعطي لها أهمية كبيرة في تغيير الطعام ودفعه وأي اختلال في هاتين الوظيفتين يؤدي إلى ناحية مرضية فهو يقول: والذي يكون في جرم المعاء فإنه يكون لأن قوته الدافعة ضعيفة أو لأن قوته المغيرة ضعيفة فلا تحيل الغذاء إحالة جيدة بل يبقى طعما لزجا كثيفا فيحتبس الثفل بلزوجته وغلظه 8 ب. ويربط بين الحالة النفسية ودرجة القوى فهو يقول: على أن سوء المزاج يتبعه ضعف القوى 8 ب. 36 يشرح الشيخ الرئيس في الفصل الثالث 9 أ، تفصيل أصناف القولنج الكائن بالمشاركة وفيه بعض الحقائق التي لا تتفق مع العلم الحديث مثلا قوله: أما الدماغ فيكون سببا للقولنج البلغمي فقط بسبب النوازل التي تنزل عنه 9 أ. وهذا ما لا يعترف به العلم الحديث، ولكن عند ما يتكلم عن المرارة فهو يصيب كبد الحقيقة، فاليوم نعرف أن نقص المرارة وعدم إفرازها يؤدي إلى الأعراض نفسها التي ذكرها الشيخ الرئيس بقوله: وثانيهما ما ينصب منها إلى الأمعاء من المرارة فيكون ذلك سببا لاحتباس الثفل ولاحتقان الرياح الغليظة واستعصائها على التحلل لأن المرارة يعين في دفع الفضول من وجهين الفسل والتنبيه للقوة الدافعة للذع 9 أ. 37 إن شرح الشيخ الرئيس للكلية وطرق تسببها في الإصابة بالقولون ذات مدلول طبي كبير فهو يشير إلى ما نعرفه اليوم ب وهو الألم الذي يصيب عضوا عند مرض عضو آخر ونؤكده في الحياة العملية والحياة التدريسية فالأم المرارة قد تظهر على الكتف، ونحن نعرف اليوم أن أمراض الكلى كالحصاة قد تسبب القئ والمغص المعوي وهو ما يشير إليه الشيخ الرئيس بقوله: وأما الكلية فيكون سببا للقولنج من وجوه ثلاثة، إما لورم فيها فيضغط، وإما لحصاة فيها فيوجع القولون بالمشاركة فيضعف من فعلها فيحتبس الثفل، وإما لكثرة إدرارها البول. والقسمان الأولان يتولد منها جميع أصناف القولنج 9 أ. 38 نحن نعرف اليوم أن أورام المثانة قد تسبب اضطرابا في الأمعاء الغليظة وحتى انسدادها وهذا ما يشير إليه الشيخ الرئيس قائلا: أما المثانة فتحدث القولنج، إما لورم يحدث فيها فيضغط ويحبس الثفل والرياح والأخلاط، وإما بالادرار أيضا نحو ما قيل في الكلية. 9 ب. 39 ولكنه يعود فيعطي الطحال وظيفة لا نعترف بصحتها اليوم في تسبب مرض القولنج فهو يقول أسباب ثلاثة: أحدها لتبريد القولون والمعاء كله والمعدة، والثاني بسبب كثرة انصباب السوداء منه فيحتبس وتولد الريح ولضعف، قوة المعاء وأما الورم وهذا أقل. 9 ب ولكنه يعود ليؤكد حقيقة علمية معروفة لدينا وهي أن تضخم الطحال يجري على وجه الأمعاء ولا يضغطها، وهذا يعد مفخرة في الفحص الطبي السريري، وهو ما نؤكد عليه اليوم عند تدريس طلبة الطب، فهو يشير إلى هذه الحقيقة قائلا: ورم الطحال في الأكثر يجري على وجه الأمعاء وقلما يعرض أن يضغطها 9 ب. 40 يذكر الشيخ الرئيس بعض النقاط التي نؤكدها جراحيا. فنحن نعرف اليوم أن الأمعاء قد تلتوي إذا سقطت في الفتق ولم تعد، وهذا ما يشير إليه الشيخ الرئيس بقوله: في الفتق الذي يعرض للصفاق الذي تحت المراق فيضغط فيه الأمعاء 9 ب. وقد يغفل الطبيب اليوم هذه الحقيقة بالرغم من دراسته، فكيف بالشيخ الرئيس قبل ألف عام والذي يعود ليؤكد أن الأمعاء قد تلتوي إذا انتهكت رابطاتها وهو ما نعرفه جراحيا فهو يقول: أو
110 لانتهاك رابطة عن المعاء العلوي فيلتوي 9 ب. 41 لا يعطي ابن سينا في الفصل الرابع 10 أما نسميه تفسيرا علميا مقبولا لأسباب القولنج بذاته فهو يركز كثيرا على الرطوبة والحرارة ويعزو إلى سوء المزاج وتأثيرهما على الحرارة والرطوبة، ولكنه يعود للحقائق العلمية مرة أخرى عند ما يتكلم عن المرض الآلي فهو يقول: وأما المرض الآلي الذي يقع في نفس المعاء يكون سببا للقولنج هو الورم وأكثر ما يعرض فيه من الورم هو الورم الحار 10 أ. 42 إن الطرق والحقائق العلمية في كتاب الرئيس مبعثرة حسب تسلسل الكتاب فهو عند ما يقول: إما حصاة كما قيل في النادر ربما عرض قولنج عن الحصاة فقد شوهد إنسان عرض له قولنج بسبب سد حصاة محتبسة في المعاء للمسلك وإنها لما أبرحت اندفعت إلى خارج انطلقت إلى الطبيعة وأخلت القولنج 10 ب. إن هذه الكلمات تشير إلى نقطتين: أولهما: ما نسميه بتسجيل حالة مرضية بقوله: شوهد إنسان وثانيهما: احتمالات إيجاد تلك الحالة المرضية بقوله: شواهد إنسان وثانيهما: احتمالات إيجاد تلك الحالة المرضية بقوله في النادر وتلك إنجازات تضاف إلى الحقائق الأخرى أيضا. 43 يفرق ابن سينا بين الكمية والنوعية التي نعطيها أهمية كبيرة في عالمنا الطبي اليوم فهو يقول: إما لكيفية الغذاء وإما لكميته وإما لتركيبه وإما لترتيبه 10 ب. ويستمر بذكر الأمثلة لكل واحد منها فهو يقول: فان يكون الغذاء في جوهره يابسا قابضا مثل الذرة والجاورس والجبن 10 أ، أو حتى بطرق التحضير قائلا ضارا كذلك بالصنعة مثل المشوي تشوية بالغة من اللحوم والبيض 10 أ. وهذا يتبعه اليوم الطبيب عند وصفه للأغذية وطرق تحضيرها، ولما له من أهمية لا تقل عن الدواء، ولم يغفلها الشيخ الرئيس، ثم يعود ليناقش الكمية بعد أن فرع من النوعية قائلا: فاما كثرته إذا كان كثيرا لا تهضمه الطبيعة ولا يقدر على دفعه 10 ب. وهذا ما نسميه اليوم التخمة وعسر الهضم، وأما قلته فان الغذاء إذا كان قليلا والجوع شديدا أقبلت الطبيعة على استقصاء المرض فيجفف الثفل 10 ب. وهذا ما نشاهده في الجوع. 44 يعطي ابن سينا أهمية كبرى للغذاء في أن يكون سببا للقولنج قائلا: وخصوصا القرع، فان له خاصية في إحداث القولنج، وأن يكون كثيره فلا ينهضم تمام الانهضام، وكل غذاء لم ينهضم تمام الانهضام فهو بلغم. 11 أ. وهو مصيب عند ما يصف الأغذية التي لا تهضم قائلا: والأغذية التي لا تنهضم يكون من حقها أن تندفع عن الطبيعة، فان كانت معتدلة المقدار واندفعت بسهولة، وإن لم تكن معتدلة بل مفرطة الكثرة فلا يخلو، أما أن يقوى عليها الحركة العنيفة من الطبيعة فيدفعها دفعا بعنف فيعرض إن تتبعها رطوبات أخرى من البدن فيكون إما استطلاق وذرب، وإما هيضة، فان عجزت القوة الدافعة عنها حدث القولنج 11 أ. 45 نحن اليوم نوصي المريض بعدم نسيان نفسه عند ما تدعو الحاجة إلى التبرز فهذا مضر وقد يؤدي إلى الإمساك الشديد المرضي، وهذا ما لم يغفله الشيخ الرئيس فهو يقول: أو ضعف عضل البطن من تشنج أو استرخاء أو كثرة الصبر على مدافعة الحاجة 11 ب. وهنا يوضح نقطتين: أنه يعلم أن الإنسان يحتاج إلى عضلات بطنه للتبرز بزيادة الضغط، فالعصر وهذا يفقد متى ما كان العضل ضعيفا نتيجة تشنج واسترخاء، وثانيهما: ركز على أهمية تلبية نداء القولنج الذي يسميه مدافعة الحاجة والذي له أهمية كبيرة في أمراض القولون ومعالجاتها في عصرنا هذا. 46 نعرف اليوم طبيا أن الماء البارد على الريق قد يسبب المغص المعوي وهذا ما يشير إليه الشيخ الرئيس قائلا: وشرب الماء البارد كثيرا أو خصوصا على الريق وتناول الأغذية الكثيرة دفعة أو التناول على التخم وقلة الرياضة 11 ب. 47 إن الشيخ الرئيس عند وصفه لعلامات القولنج المرضية لا يختلف عن أي كتاب طبي اليوم، فالتسلسل والتتابع والوصف الشامل موجود عنده فيقول: علامات القولنج جملة وتفصيلا تبتدئ أولا بتقلب نفس وبعض الطعام وفوات شهوة له ووجع الأطراف وخصوصا في الساق، ويظهر وجع ناخس في البطن يبتدئ أكثره من اليمين ثم يصير إلى اليسار، وكذلك يظهر عند ابتدائه في الأكثر خرز من أصل القضيب وتنجذب إحدى الخصيتين إلى فوق ثم يشتد الوجع دفعة ويعرض قيء وكرب لاحتباس البطن والريح، وربما أدى لشدة الوجع أن يحدث غشي وعرق بارد 12 أ. وهو يفرق بين الأسباب الظاهرية والمخفية ويدلل على ذلك بالعلامات الناتجة من الخفية فهو يشير إلى ذلك بقوله: مثل احتباس ما ينصب إلى المعاء من المرارة وعلامة ذلك بياض ما كان يبرز وحدوث اليرقان وكون البول زعفرانيا إلى السواد وانصباغ زبد البول بالصفرة 12 ب. إن هذه الأعراض المربوطة منطقيا وطبيا تدل على حقائق كثيرة لوحدها، فانصباغ زبد البول بالصفرة هو ما يفتش عليه طبيب اليوم عند محاولته البحث عن الصفراء في البول وهذا إنجاز طبي لوحده. 48 يتطرق الشيخ الرئيس في الصفحة 12 ب من المخطوطة شارحا علامة كل نوع من أنواع القولنج، وهو ما نتبعه في الوصف الطبي اليوم، ويشير إلى اختلاف الأعراض تفصيلا دقيقا. ففي الريحي يقول مثلا: وأما الريحي فعلامته ثفلا وتمددا ومغصا في المعاء، وقراقرا تقدمت ثم سكنت واحتباس الثفل معه أو قلة خروجه وكون ما يخرج شبيها باخثاء البقر وإذا ألقي على الماء طفا ولم يرسب 12 ب. والناظر إلى هذا التشبيه باخثاء البقر تسهيلا للممارس الطبي وحقيقة الالقاء في الماء الذي هو نوع من الفحص الطبي، بحد ذاته، يدل على طول باع في الممارسة الطبية وقوة الملاحظة والاستفادة منها في التشخيص التفريقي بين مختلف أنواع القولنج. 49 نحن اليوم نستفيد من وصف نوع الألم للتوصل إلى المرض في الممارسة الطبية، وهذا ما يشير إليه الشيخ الرئيس بقوله: كان الوجع يثقب بمثقب أو كأنه مسلة مغروزة فيها والذي يثقب يكون سببه ريحا متحركة، والذي هو كالمسلة سببه ريحا محتبسة 13 أ.
111 50 إنه يربط بين أعراض المرض وأسبابه والاستفادة من تاريخ المرض بالتوصل إلى نوع العلة فيقول: فاما الكائن من الديدان فيعرف من بروز الديدان وسقوط حب القرع والعلاقة التي يكون مع ذلك من تغيير اللون ونهوك البدن وتحلب الريق وغير ذلك، فإذا كانت هذه العلامات موجودة ثم احتبست الديدان فلم تسقط البتة، عرف أن القولنج منها 13 أ. فما ذا نزيد نحن اليوم عند ما نريد أن نعرف أن الديدان هي سبب الانسداد سوى اتباع هذا الأسلوب في التحري والفحص. 51 أما العلامات التي يعطيها للنزف وفقدان الدم فهي نفسها اليوم والتي تؤكد على طالب الطب التفتيش عنها، بقوله: وأما الكائن بسبب دم منصب جمد في المعاء فعلامته أن يكون وجع ثقيل مع خروج الدم فيما سلف ومع ضعف قوته وغشي وعرق بارد 13 أ. 52 يفرق صاحبنا بين الأنواع المختلفة للقولنج في الوصف الدقيق، فقوله: وعلامة ما يكون من الورم، أما الحار فان يكون هنالك حمى ووجع مع ثقل وهذيان وتلهب وتمدد وعطش وتهيج العينين وحمرة اللون واشتداد الوجع عند استفراغ الغائط وقد يحتبس معه البول أو يعسر 13 ب. ويفرقه عن البارد بقوله: وأما البارد والرطب فعلامته تقدم براز رقيق إلى البياض ما هو وبرد يحس في المعاء وسقوط شهوة رصاصية اللون وثقل في المعاء مع ترهل في المراق وعنان من غير وجود الصلابة اللينة في اللمس 13 ب. فما ذا يريد الطبيب الذي يدرس هذا الكتاب أكثر عند ما يريد التفريق بين الأنواع، وهذا ما هو متبع اليوم في التدريس الطبي. 53 إنه يركز على كل صفة خاصة بنوع القولنج فهو يقول: وأقربها أصنافا من الخطر هو الورمي، وأشدها وجعا هو الريحي. 13 ب. وهذا ما نشاهده اليوم في الممارسة العملية اليومية. 54 يستعمل الفيلسوف ابن سينا التشخيص التفريقي بصورة لا تختلف عما يجري اليوم في الحياة الطبية ويسهل للطبيب الممارس ذلك ويعطي نقاط التشابه والاختلاف، ويخصص فصلا كاملا لذلك فهو يقول: الفصل السابع بين القولنج وأمراض تشابهه، أمراض تشبه القولنج وليست به، وأمراض يشبهها القولنج، فيظن أنها هي فمن ذلك وجع الكلية والمغص وهما أشد الأشياء شبها، ثم السحج ووجع المعدة إذا انحدر إلى الأمعاء، ووجع المثانة ووجع الرحم ووجع الديدان والحياة. 13 ب ثم يفرق بين كل واحدة منها وبين القولنج ويفصل ذلك تسهيلا للعمل الطبي فهو يقول: والفرق بين القولنج وبين الحصاة في الكلية ويعرف من هذه الأشياء أن البول في حصاة الكلية يكون في ابتداء الأمر صافيا رقيقا ثم يجري معه في آخر الأمر رمل وورم، وفي القولنج يكون كدرا في الابتداء 14 أ. ويفرقهما بالعلاج أيضا فهو يشير إلى ذلك بقوله: والحقنة تفيد الراحة بما يستفرغ من الرطوبات ولا يظهر ذلك في الحصاة بل ربما ظهر ضرر بل إنما ينفع بالأشياء المفتتة للحصاة. 14 أفهو يبين أن الحصاة يمكن أن تفتت وأن الطبيب يجب أن يأخذ حذره من الحقنة في المغص الكلوي الذي قد تضره الحقنة. وهو يعود ليشير إلى أن حصاة الكلية قد تؤثر على الأمعاء وتسبب الاسهال فهو يقول: وربما انحلت الطبيعة في حصاة الكلية بذاتها إذ لا يكون الاحتباس هنالك كما في القولنج. 14 أ. وينبه الطبيب إلى أعراض أخرى في حصاة الكلية قائلا: ويكون في الفخذ والخصيتين اللتين تليان الكلية العلية خدر في أكثر الأمر 14 أ. وهو ما نسميه اليوم الألم الرجيع ونؤكده في الفحص الطبي. 55 ويؤكد للطبيب أهمية التشخيص التفريقي لأنه يعرف أن خطا الطبيب قد يؤدي إلى وفاة المريض فهو يقول: فيخطئ الطبيب ويمعن باستعمال القوابض والمقريات فيكون ذلك هلاك العليل. 14 ب ويبين الحالة التشخيصية الصعبة التي قد يختلط فيها الأمر على الطبيب ويخطئ أو يقع في الخطأ فهو يقول: وأصعب ما يشكل هذا إذا اجتمع زحير وقولنج. 14 ب. 56 إن الشيخ الرئيس يقوي حجته بالإشارة إلى الثقات في الطب والمشهورين كما نفعل اليوم فهو يقول: وقال جالينوس إن كل وجع شديد في البطن فهو قولونج لأن الكبد والطحال وغير ذلك من الأعضاء المنطبقة بالأمعاء لا يبلغ وجعها وجع قولون ثم معاء قولون يبلغ جهات البطن. 14 ب. 57 إن الشيخ الرئيس لا يكتفي بالقولنج كمرض منفصل بل يذكر الأمراض التي ينتقل إليها وهو يخصص الفصل الثامن في ذكر الأمراض التي من شان القولنج أن ينتقل إليها: إن القولنج ينتقل إلى الصرع وإلى الفالج وإلى أوجاع المفاصل وإلى السحج واليرقان وإلى الخفقان وإلى الاستسقاء وعسر البول واسترخاء المعدة والزحير والبواسير. 15 أو هي مضاعفات معروف كثير منها في أمراض القولنج. ولكن تعليلاته لها لا تتفق وما نعرفه علميا اليوم فهو يقول: تلك الأخلاط إلى الأعضاء الأخرى فان تصعدت إلى الدماغ وكانت رطبة أحدثت الفالج والسكتة والصرع، وإذا انصب إلى بعض الأعصاب أحدثت الاسترخاء، وإذا قبلها المفاصل حدث أوجاع المفاصل الباردة، فان مالت إلى ناحية الكلية والمثانة أحدثت عسر البول، وإن كانت حرارية ومالت إلى الدماغ أحدثت السرسام وهذا نادر، فان أكثر ما يتفق للأخلاط الحرارية المحتبسة بسبب القولنج أن ما ينصب إلى الجلد فيحدث اليرقان. 15 أ. 58 إن ابن سينا يشرح سبب الخفقان كما نشرحه اليوم فهو يقول: وأما الخفقان فيحدث لميل المواد إلى فم المعدة من ناحية القلب. 15 أ. 59 إن الشيخ الرئيس لا ينسى مضاعفات استعمال الحقنة في المعالجة ويصف تأثير ذلك على المريض قائلا: وأما السحج إما لاستتباع الاستفراغ بالحقن أخلاطا حادة أو لأجل أن الحقنة الحادة يخرط المعاء ويجرده، وأما الزحير فيكون لضعف المعاء المستقيم ونكاية الحقن به واسترخاء المقعدة أيضا بمثل ذينك في عضل المقعدة. 15 ب. ويعطي نفس التفسير غير العلمي للبواسير قائلا: وأما البواسير فلقبول المعاء في نفسه أخلاطا ردية يحدث البواسير ويضعف المقعدة فيقبل المواد المنصبة إليه. 15 ب. 60 إن المقالة الثالثة مخصصة لمعالجة القولنج البارد، ولكن ابن سينا يؤكد الحقيقة الطبية التي نمارسها اليوم وهي أن الطبيب يجب أن يكون متأكدا
112 من تشخيصه للمرض قبل بدء المعالجة فهو يقول: وأول ما يجب عليك أن تتفقده في كل قولنج تفقدا صالحا أنه: هل العلة قولنج أو مغص؟ 15 ب لأنها إذا كانت مغصا ماذا يحدث للمريض؟ فإذا كانت العلة مغصا وكانت الطبيعة مستعدة لينة أو خلفه فحقنت أو سقيت ما يستفرغ كان في ذلك خطر عظيم. 15 ب وهو يعود لينبه الطبيب المعالج بأنه قد يخلط هذا المرض مع الورم قائلا: وكذلك إمكان ابتداء ورم محتبسة قولنجا باردا أو ريحيا أو نوعا آخر فحقنت وسقيت مستفرغا أوقعت العلي من أمر مخوف 16 ب. 61 يؤكد العلامة ابن سينا على التمهل في العلاج واختبار العلاج الذي لا يؤدي إلى مضاعفات لا يستطيع الجسم ردها فهو يقول: وإذا علمت أن العلة شديدة للمادة غليظة فإياك والمدافعة والاشتغال برقيق العلاج وضعيفه فان القوة إذا سقطت لم ينجح الدواء القوي ولا الضعيف. 16 أ. وهل يجد الطبيب نصيحة من أستاذه أحسن من قول الشيخ الرئيس؟ ويجب أن تزن الدواء بقدر الداء. 16 أو الكل يعلم اليوم أن كثيرا من الأمراض يسببها الطبيب لمريضه بالمعالجة الخاطئة التي ينبهنا لها الشيخ الرئيس قبل ألف عام. 62 إن الشيخ الرئيس يعود لينصح الطبيب من مغبة الادمان الذي قد يسببه للمريض بالمعالجة فهو يقول: والآبزن يجب ألا يكب على استعماله كل وقت وخصوصا مع الغشي، لأنه إذا كان هناك غشي ضر ضرارا عظيما وإذا أدمن كمن البرد من الأمعاء. 16 أ. 63 إن التجربة العلاجية مسموح بها للطبيب المعالج في عصرنا هذا، وهو ما يشير إليه الشيخ الرئيس بقوله: وأما التكميد فيعتمد من التجربة، فان كان يهيج الوجع ترك أصلا 16 أ. 64 إن الشيخ ابن سينا يؤكد على أهمية الغذاء في المعالجة لكل نوع من أنواع القولنج، كما يتناول بالتفصيل طريقة إعداد الغذاء والمواد الواجب إضافتها لكل نوع، ففي الصفحة 17 أمن المخطوطة يؤكد على هذا فهو يقول: فليقتصر تحسي شورباجة مطبوخا فيه الحمص ومطيبة بالشبت والدارسين ويتناول في وقت لا يؤذي فيه الغشي. 17 أ. وهو يحدد وقت التناول أيضا. 65 إنه يؤكد على الطبيب بعدم الخطأ في التشخيص لأن ذلك يؤدي إلى وصف الغذاء المغلوط أيضا وهذا ما يشير إليه بقوله: ومن الخطأ الذي يقع للأطباء في هذا الباب أن يحسبوا العلة ثفلية فتناولوا مثل البنفسج والشيرخشت خاصة فيفسد مزاج المعدة وبرودها. 17 ب. 66 إنه لا يكتفي بوصف الغذاء فقط ولكن يصف ما يجب على الطبيب أن يجنب مريضه من تناوله وهو ما نطلق عليه اليوم بالنواهي فهو يقول مثلا: ويجب أن يجتنبوا البقول حتى الحارة فإنها لا تخلو من نفخ ما خلا السذاب والهليون وروس الكراث النبطي والقرطم وينفعهم جدا وقد مدح لهم السمسم: وإما أن للمشدة مضرته بالمعدة ويهيج الغثيان 17 ب. وهو يحاول أن يشرح أسباب النواهي حسب التركيب الغذائي فهو يقول: وإما أن للمشدة مضرته بالمعدة ويهيج الغثيان ولأن جوهر مادته لهذه العلة اللزوجة وإن كانت قوته جلاءه وفيه تلين فلست أحبه في هذه العلم، واعلم أنه ينفع أولا ثم يضر. 17 ب. 67 إن الشيخ الرئيس لا يترك المريض دون أن يكمل له علاجه فهو يعلق على الماء ولا ينسى خواصه الفيزياوية، وهو يعرف أن الماء قد يؤدي إلى الإمساك ويجب معالجته قبل تناوله في بعض الحالات فهو يقول: وأما شرب الماء فيجب أن يقللوا منه ما قدروا وخصوصا من الماء البارد المثلج، وأن لا يستوفوا الري دفعة بل يتجرعوه قليلا قليلا ويتجنبوا ما فيه قوة قابضة مثل المياه الشبية، وأما الكبريتية فإنها لا تضر ضرر الشبية بل ربما كانت خيرا من العذبة، ويجب أن يكون الماء الذي تشربونه ماء خفيفا جدا فان أعوز فيجب أن يصعر ويخلط بمدر مشموصة من طين حر ويحمض تمحيض اللبن شيئا كثيرا ثم يصفى ويشرب. 18 أ. إننا نمارس شرب الماء جرعا جرعا في الحالات المرضية لأن الامتلاء المفاجئ للمعدة قد يسبب الغثيان والقئ وهذا ما يريد الشيخ الرئيس أن يجنب مريضه منه في ذلك الوقت. 68 إن طبيب اليوم يذكر أوزان الأدوية في الوصفة حسب تأثير الأدوية التي يطلبها كما أن يبدل فيها عند ما ينشد مفعولا خاصا حسب نوع المرض وهذا ما يتبعه الشيخ الرئيس بالتفصيل فقوله: الفصل الثاني في تدبير الأدوية التي يشربها أصحاب القولنج البارد، وأما الخفيف اللطيف الذي يجب أن يسقى في الابتداء كما يبتدئ النخس قبل أن تتمكن العلة والأرياح نحو مثقال ومعه نصف درهم تربد أو صبر مثقال وسكبنج نصف مثقال أو أيارج درهم وسقمونيا دانق وتربد نصف درهم وثماريقون دانقان فان أريد أن يكون أسرع إسهالا وكانت المادة كثيرة ركب هذا بايارج مثقال شحم الحنظل ربع درهم ملح نبطي وسقمونيا مكد دانق ودانقين ودقوا. 18 ب. فما ذا يريد الصيدلي أكثر من توضيح هذه الوصفة بصورة عمودية متسلسلة لتصبح وصفة موصوفة اليوم؟. إن الأوزان المذكورة معروفة للصيدلي وإلا لما ركز عليها الشيخ الرئيس، وهذا ما يدل عليه وصفه للعلاج وتغيير تراكيبه، فالطبيب لا يكتب وصفة لنفسه بل لصيدلي عارف يقوم بتحضيرها له. 69 من الصعب التعليق طبيا على فعالية المواد المذكورة في الكتاب ولمختلف الأمراض، وذلك لأن أسماء الكثير من المواد لا نعرفها بالضبط ويجوز أن قسما منها مستعمل فعلا في تراكيب الأدوية الحديثة، أما الفعالية الطبية فلا تطلق جزافا دون التجربة والبحث الطبي لتقصي تلك الحقائق ومعرفة مدى فعالية هذه الأدوية التي سبق وأن جربت وأعطت فعالية علاجية وهي مجال واسع رحب يغطي أحد أسباب البحث في إبراز المخطوطات الطبية ومعرفة محتوياتها إكمالا للفائدة الإنسانية وإظهار الحق في مدى مساهمة الفكر العربي والاسلامي في الحقول الطبية التي يحاول الغرب طمسها. 70 إن الشيخ الرئيس يكمل وصفه للوصفة الطبية بالإشارة إلى ما نسميه اليوم الجرعة: فهو يقول: والشربة نصف مثقال. 18 ب. ولا ينسى أن يضيف الوقت الذي يجيب على المريض أن يتناول فيه العلاج فهو يقول: ويسقى بعده بساعتين هذا الشراب. 18 ب.
113 71 إن الشيخ الرئيس يشير إلى أن مفعول الأدوية قد يختلف من بلد لآخر بسبب الجو والمناخ فهو يقول: ومعجون الأسقف نافع للمشائخ وفي البلدان الباردة الصخرية موافقة عجيبة. 19 أ. وهذا ما نعرفه اليوم. 72 ينبه الشيخ الرئيس الطبيب لحقيقة التداخل العلاجي الذي قد يذهب بفعالية الدواء، والمعروف لدينا اليوم، فهو يقول: وإذا سقوا الأيارج بعد دهن الخروع أذهب بقابليته واستفرغ من الخلط ما بقي. 19 أ. 73 إن الشيخ الرئيس ينبه الطبيب لنتائج المعالجة الطبية ويستعملها داعية لاستمرار المعالجة الطبية فهو يقول: فان خرج ثفل وبقي الوجع فأعد وأعد حتى يخرج سفل رقيق مري أو شئ شبيه بمح البيض عفن منتن، وينكل في تكرار الحقنة حتى يستفرغ المادة بكليتها ويسكن الوجع. 19 ي وهو ينبهه لما يجب عليه أن يفتش عليه ليعرف نتيجة المعالجة الطبية ووجوب تبديلها إذا فشل العلاج الطبي. 74 إن بعض الوصفات الطبية التي يستعملها الشيخ الرئيس تحتوي على بعض المواد التي لا يتقبلها العلم الحديث، ونطلق عليها بعض الأحيان خرافات علاجية، ولكن العذر الذي نعطيه لطبيب تلك الأوقات هو عدم وجود التصنيع الدوائي المعروف في الوقت الحاضر، فاستعمال خرء الذيب الأبيض لا نقبله علميا اليوم ولكنه يصفه بقوله: خرء الذيب الأبيض درهمين يطبخ مثل الأولى. 20 أ. 75 إن الشيخ الرئيس يستعمل الحقنة في المعالجة الطبية ولكنه يبدل تركيب الأدوية التي يستعملها فيها للحصول على النتيجة المرجوة من المعالجة الطبية في مختلف الحالات المرضية، فهو يبدل الحقنة إذا كانت العلة أصعب، أو أن النتيجة لم تكن مرضية، أو إذا احتيج إلى تأثير أقوى، أو أن الحقنة الفلانية مجربة، فهو مثلا يذكر بان يحقن به، وهذا مجرب غايته، فان أعوزت الخطاطيف استعمل هذه الحقنة. 20 أ. 76 يشير صاحبنا إلى مدة بقاء الحقنة في الأمعاء أثناء المعالجة ويعطيها الأهمية في التأثير العلاجي وهو ما يمارسه طبيب اليوم حينما يريد تأثيرا خاصا للحقنة المحتبسة فهو يقول مثلا: ويتركها حتى تبقى هذه في الجوف فيفعل فعلها. 21 أ. 77 إنه يفرق بين المرضى والحالات المرضية ومدى استفادتهم من العلاج فهو يقول مثلا: والذين يعتريهم هذه العلة دائما، وغير شديد ينتفعون منفعة عجيبة بهذه الحقنة. 21 ب. ويذكر مثالا طبيا ليؤكد قوله قائلا: وقد عالجت بهذا وحده فقيها ببخارى فانقطعت عنه هذه العلة وأذابت غدة عظيمة كانت في معائه. 21 ب. 78 لم يكن باستطاعة الشيخ الرئيس استعمال وسائل الفحص الحديث مثل التشخيص بالأشعة والمختبر. لذا فهو يستعمل موضع الألم كدليل للعلاج وينصح الطبيب بترك الحقنة إن هي آلمت المريض فهو يقول: استعمال الحقنة بتأمل موضع الوجع وجهة ميله، فان كان الميل إلى الظهر فيجب أن تستعمل مستلقيا، وإن كان إلى قدام استعمل مبركا، وإن مال إلى جانب فعلى ذلك الجانب، وعلى كل حال فأي نص استعمل عليه الحقنة فأدت إلى تألمه وجلبت عليه مشقة، تركت واستعمل على ما سهل عليه، فيجب أن يجرب أسباب حقنه فأيما أخف عليه أخذ به. 22 أ. 79 إن الشيخ الرئيس يستعيض بالحقنة باستعمال الحمولات وهي إحدى وسائل المعالجة المتبعة اليوم فهو يقول مثلا: ويشيف حملات قوية يخرج الثفل الكثير مع البلغم اللزج يجعل طولها ست أصابع 22 أ. 80 في الفصل الرابع المخصص لمعالجة القولنج الثفلي يبدأه الشيخ الرئيس بالقول: إن التكميد من أضر الأشياء لهذه العلة. 22 ب ناصحا الطبيب ومنبها إياه للنواهي ويلزمه بالتفتيش عن السبب الأصلي للمرض فهو يقول: وقبل هذا فيجب أن يبحث عن السبب. 22 ب، لأن معرفة الطبيب للسبب سوف تنير طريقه في المعالجة، كما يقول: فان كان السبب هو يبس الأغذية فيجب أن يستعمل الأغذية المرطبة اللينة المزلقة. 22 ب. 81 إن الاستشهاد بالحالات المرضية ووصف حالات خاصة تعزز التشخيص، وتفيد في تذكير الطبيب الممارس إلى ذلك، فيه أهمية تعليمية كبرى وهذا ما يمارسه الشيخ الرئيس بقوله وقد ذكر بعض المتطببين أن رجلا أصابه القولنج بسبب تغذيته بأربعين بيضة مشوية وكان من علاجه أن أشار عليه باستفاف ثلاثة راحات من ملح ثم يتجرع الماء الكثير فلما عملت بذلك انطلقت طبيعته. 22 ب. 82 يخصص ابن سينا في الصفحة 23 أو 23 ب وصف الأغذية التي يجب أن تستعمل لكل نوع من أنواع القولنج ويركز على جانب النتائج لتبديل تلك الأغذية ويترك مجالا للتجربة في الحصول على نتائج أفضل، كما يخصص الفصل الخامس 42 أو 42 ب للحقن والشيافات التي تصلح لهم مبينا تركيب كل حقنة بالتفصيل وطريقة تحضيرها كما نتبعه اليوم فهو يقول مثلا: تعمله حقنة يؤخذ من السلق قبضة ومن النخالة حفنة ومن التين عشرة أعداد وخطمي أبيض عشرة دراهم يطبخ في سبعة أرطال ماء حتى يبقى رطل ويلقى عليه من السكر الأحمر عشرة دراهم، ومن البورق مثقال، ومن المرئ نصف أوقية ويحقن به ويعاد مثل الحقنة بعينها حتى يخرج جميع البنادق. 24 أ. وفيه وصف لطريقة صنع الحقنة أيضا. 83 إن الشيخ الرئيس ينبه الطبيب إلى مضاعفات العلاج وطرق المعالجة إن حدثت تلك المضاعفات فقد خصص فصلا كاملا قائلا: الفصل السادس في تدارك أحوال تعقب الحقن قد يعقب بعض الحقن في القولنج إذا استعملت بمقدار أكثر وكانت أغلظ قواما أو أقل سخونة بالقوة أو بالفعل. أما للتوقي على عضو تجاور الأمعاء.... 25 أ. 84 لا يترك ابن سينا من المضاعفات التي نعرفها اليوم شيئا دون أن يدونه ويصف للطبيب طرق الوقاية والعلاج فهو يذكر مثلا: وقد يعرض من الحقنة استرخاء في المقعدة وخدر ويتدارك بالعود إلى الحقن والشيافات التي تخص القولنج. 25 ب. ويكرر قوله: وربما عرض للمقعدة السلخ والتقزح بالشيافات وبطرق المحقنة إذا كانت فيه خشونة ويصلحه صفرة البيض
114 السليقة بماء السماق يذوبه بدهن الورد. 26 أ. أما المضاعفات الأخرى فلا يتركها دون أن يفسر للطبيب الطرق الصحيحة في معالجتها دون الاضرار بالمريض فهو يقول مثلا: وربما أعقبت الحقنة الكبيرة مع ما ذكرناه أولا تقطير البول وعلاجه الأبزن والمروخات بالأدهان المرخية على القطن والعانة والمدررات شربا، إلا أن يكون ثفليا مانعا لادرار كثير فلا يستعمل حينئذ المدررات بل المرخيات والأبزن، وترك الحقنة بكفي فيه. 26 أ. 85 من الحقائق العلمية الطبية التي نركز عليها في تدريس طلبة الطب، أن العلاج يجب أن يكون سبب علاج جذري لأعراضه، كما أن الطبيب يجب ألا يعطي المخدرات والمسكنات للمريض، إذ أن ذلك قد يخفي الأعراض ويزيد من صعوبة التشخيص أو يبدل الأعراض ويجعل التشخيص صعبا، والطبيب الحاذق هو الذي يحاول أن يفتش عن سبب المرض ليعالجه، وهذا ما نجده في قول الشيخ الرئيس حرفيا: الفصل السابع في كيفية استعمال المخدرات في القولنج: إن المبادرين إلى تسكين الوجع بالمخدرات يرتكبون أمرا عظيما من الخطر، فاستعمال المخدرات ليس بعلاج حقيقي هو قطع السبب، والتخدير يمكن السبب وإبطال الاحساس به. 26 أ. ولكنه يلزم الطبيب المعالج في الحالات الاضطرارية قائلا: فلا يجب أن يستعمل به ما أمكن وما وجد عنه مندوحة بل يستعمل مبعد السبب وتقطيعه وتحليله وتوسيع مسام ما احتبس فيه بارخائه، وأكثر ما يمكن هذا بأدوية ملطفة. 26 أ. 86 إن الشيخ ينصح الطبيب باجراء موازنة بين ضرر المرض وضرر استعمال المخدر وهذا يمارسه طبيب اليوم عند ما يعطي الأدوية المضادة للسرطان، وهو يعرف أنها لا تقل إضرارا بالمريض من المرض نفسه، ولكن ليست باليد حيلة، فهي الطريقة المتوفرة لديه وإلا فقد المريض، فهو يقول: متى كان قدح الألم من القوة أضر من زيادة المخدر في العلة، فإذا استعمل المخدر في هذا الوقت رجئ له أن يكون الحاصل لهجوم القوة وتوفرها بالنوم على الإنضاج وعوز الروح بزوال الألم الذي كان يحلله، وفعل القوة يزيد نفعه على نفع المعاونة التي كان يتعاطاه بقوة قد أعجزها الألم وأشرف بها الاضمحلال، فحينئذ ترجح استعمال المخدر، وكان عقد هدنة مع المرض تريح القوة عاجلا وإن زادت في المرض. 26 ب. إننا نطلق اليوم على القوة المقاومة الجسدية التي تعرف أنها تتحسن وتزيد عنه هدوء أعصاب المريض وخلوده إلى الراحة التي لا يلقاها إلا الشخص الذي لا يتألم، وهذا ما يحاول الشيخ الرئيس توفيره للمريض مع سابق علمه بان المخدر قد يزيد من المرض ولكنه يعدها هدنة بين المرض والمقاومة التي سوف تزيد بعد انتهاء فترة الهدنة وتقضي على المرض، وهذا ما يمارسه طبيب اليوم عمليا. 87 إن الشيخ الرئيس لا يدع مجالا لتساؤل الطبيب من الناحية العلاجية في الحالات المرضية الخاصة فهو يشرح له المداواة في بعض أنواع القولنج قائلا: والمخدرات أوفق على علاج القولنج الصفراوي لأنها مع تسكين الوجع فيخدر الحس ويسكن حدة المادة الفاعلة للوجع ولما ذكر أولا صار الأطباء يستعملون المخدرات في القولنج البارد 27 أ. 88 إن الشيخ الرئيس يشير إلى أن المريض قد يدمن على العلاج ولذلك وجب الانتباه لتلك الحقيقة والحذر من استعمال المواد التي تؤدي إلى الادمان فهو يقول: كما عليه تركيب معجون فيلن وهو القولنيا الرومي يدمنون استعمال ويحذرونها حذرا كثيرا في الأمزاج والاشتان. 27 أ. 89 إن الشيخ الرئيس يفرق بين المواد الغذائية وتأثيرها على المرض والمريض فهو يقول: ما ينفع القولنج بالخاصية للثوم خاصية جيدة في تسكين القولنج، مع أنه ليس له تعطيش، كما للبصل وربما تناول منه القولنجي عند إحساسه بابتداء القولنج وهجر الطعام أصلا، وأمعن على الرياضة. 27 ب. 90 بالرغم من كل التحكيم المنطقي والعقلي في الممارسات الطبية لهذا الكتاب فان الشيخ الرئيس لا يترك استعمال التمائم من عظم وجد في خرء الذيب ويستشهد بجالينوس فهو يقول: وإن وجد في خرئه عظم كما هو وهو عجيب أيضا، ويدعي أن تعليقها نافع من شربها ويأمرون أن تعلق بجلد سامورا أو أيل أو كبش تعلق به الذئب فانفلت منه، وجالينوس يشهد بنفعه تعليقا ولو في فضة، وقيل إن جرم معاء الذئب إذا فف جفف، أبلغ في النفع من زبله سقيا وحقنة. 27 ب. 91 سبق وأن ذكرت أن الكتاب لا يخلو من بعض الأشياء التي لا نقبلها علميا اليوم بل نطلق عليها خرافات، فمثلا قول الشيخ الرئيس: ومما يجري في هذا المجرى العقارب المشوية فإنها شديدة المنفعة للقولنج ويجب أن يجرب على القولنج الصحيح لئلا يكون مجربوها قد جربوها على قولنج كاذب هو تابع لحصاة الكلى فينفع بحصاة الكلى بالذات ومن القولنج بالفحص. 28 أ. إن في تلك الخرافة الطبية حقيقة تعليمية للطبيب الممارس وهو ما نطلق عليه التحذير من النتائج الكاذبة. 92 إن الفصل التاسع 28 أ قد خصص لعلاج الديدان. ومن الحقائق الطبية في هذا الفصل أن الشيخ الرئيس يذكر أن الأدوية هي سموم بالنسبة للديدان وهذا ما يعرفه طبيب اليوم كما أنه يوصي بتحضير المريض وإعداده للدواء قبل المباشرة بالعلاج وهو يذكر استعمال المسهل بعد أدوية الديان والذي نمارسه اليوم في العلاج الطبي وبخاصة إذا لم تنطلق الطبيعة أو انطلقت في بعض الحالات. إنه ينبه إلى أن موت الديدان في الأمعاء قد يؤدي إلى مضاعفات، وهذا ما نعرفه اليوم، وهذه الحقائق مذكورة بقول الشيخ الرئيس: ينبغي أن ينقي البلاغم المجتمعة في المعاء التي يتولد فيها الديدان وأن يغسل الديدان بأدوية هي بالقياس إلى الديدان سموم لها، وهي المرة الطعم، فمنها حارة دفعها باردة، سنذكرها، ومنها ما يفعل بالخاصية، ثم يسهلوا، بعد قتل الديدان إن لم تدفعها الطبيعة نفسها فان بعض أصحاب الديدان يعتريهم إسهال فيتبرز معه الديدان من غير حاجة إلى مسهل 28 أ. وثم يقول: وإذا قتلت بالأدوية فلا ينبغي أن يترك لطول بقائها في البطن بعد موتها ونتنها فيصير بخارها ضررا كليا سميا ويضعف النبض. 93 يفرق مؤرخنا بين أنواع الديدان ويذكر أن الديدان الشرجية لا تبلغ في أعراضها مبلغ الديدان المعوية، كما أنه ينصح بمعالجته بالحقنة الشرجية فهو
115 يقول: فهي أولا بان يخرج من أن يقتل إلا ما كان في المستقيم من صغار الديدان، على أن هذا النوع من الديدان 28 أ. إنما يحدث زحيرا ولا يكاد يبلغ إلى إحداث أوجاع قولنجية 28 ب. إنه يذكر بعض الأمور التي لا نقرها اليوم مثل ميل الديدان إلى بعض الأغذية وتأثرها برائحتها، كما يقول: ثم بعد ذلك في اللبن دواء قتالا للديدان مع سكر، فربما مص قبل تناوله الكباب فشبت لرائحته من مكانها وأقبلت على المص لما ينحدر إليها فإذا اتبع ذلك هذه الأدوية القاتلة لها في اللبن بغتة كان أقتل لها 28 ب أو ينصح بسد المنخرين خوفا من روائح الديدان كما يقول: وإذا شربت الأدوية الدودية فيجب أن يسد المنخران سدا شديدا لا يكثر من إخراج النفس وإدخاله إن أمكن فان الأصوب أن لا يختلط في النفس شيئا من روائحها 28 ب. 94 ومن الحقائق الطبية المعروفة لدينا هي أن حال المريض قد لا تسمح باعطائه أدوية الديدان ويجب أن تحسن حالته وترفع مقاومته قبل البدء بالمعالجة، وهذا ما يشير إليه الشيخ الرئيس بقوله: وفي العلاج المتصل بعلاج الديدان إصلاح الشهوة إذا سقطت 29 أ. كما أنه يعدد أنواع الديدان قائلا: والأدوية التي تقتل حب القرع والمستديرة، ويقتل أيضا الطوال والسيب 29 أ. وهو يخصص الصفحة 29 أو 29 ب لمعالجة مختلف أنواع الديدان ولكنه يعود ليذكر أن شعر الحيوان المسمى آخريمون له فعالية دوائية بقوله: من الأدوية العجيبة في جميع ضروب الديدان شعر الحيوان المسمى آخريمون فيما يذكر 30 أ. إن الشيخ الرئيس يشير إلى طريق المعالجة عن طريق الشرج، فهو يقول: وأما أدوية الديدان الصغار فقل ما يعرض منها آلام قولنجية كما بينا إلا أنه يقتلها احتمال الملح والاحتقان بالماء الحار ويقلع مادتها، وأقوى من ذلك حقنة يقع فيها القنطوريون والقرطم والزوفا 30 أ. إنه يصف أيضا طريقة أخرى لاخراج الديدان الشرجية التي نسميها قائلا: ومما يلفظ هذه الصغار أن يدس في المقعدة لحم سمين مملوح وقد شد عليه مجذب من خليط، فإنها تجتمع عليه بحرص، ثم يجذب بعد صبر عليها ساعة، إن أمكن، فيخرجها ويعاودوا إلى أن يستنفى 31 أ. 95 يتطرق صاحبنا إلى أغذية المصابين بالديدان وينصح بعدم تعرضهم للجوع، إذ أن ذلك قد يسبب أعراضا لهيجان الديدان، ونحن نعرف اليوم أن الديدان يجب أن لا تتعرض للإثارة: لأن ذلك قد يؤدي إلى مضاعفات، وهذا ما يقوله الشيخ الرئيس أيضا. وأما الوقت والترتيب فيجب أن لا يجاع فتهيج هي ويلذع المعدة وربما أسقطت الشهوة بل يجب أن يغذوا قبل حركتها في وقت الراحة وأن يفرق غذاءهم فيطعموا كل قليل إلا في نوبة القولنج 31 أ. 96 إن طبيب اليوم لا يمارس الفصد لمعالجة الأورام أو أي قولنج إلا في بعض أمراض القلب ولكن الشيخ الرئيس ينبه الطبيب إلى حالة المريض قبل فصده وإلى سنه والوضع العام، وهو ما يشير إليه بقوله: الفصل العاشر في علاج القولنج الورمي: أما الكائن عن ورم حار فيجب أن يستفرغ منه الدم بالفصد من الباسليق إن كان السن والحال والقوة وسائر الموجبات يرخص فيه ويوجبه 32 أ. وهو يخصص الصفحة 32 أو 32 ب لمختلف الأغذية والوصفات الخاصة بالقولنج الورمي الحار. أما الصفحة 33 أفيخصصها إلى القولنج الكائن من الورم البارد. إن محاولة شرح نوعي القولنج الورمي الحار والبارد بما نعرفه اليوم لا ينطبق إلا على التهاب الزائدة المصحوب بالكتلة التي قد تكون حارة أو باردة، وهو ما يسميه الشيخ الرئيس الورمي الحار والورمي البارد. 97 إن الشيخ يولي أهمية خاصة للوقاية من مرض القولنج وهو يخصص الفصل الأخير من كتابه لذلك واصفا كل ما يجب على الشخص اتباعه فهو يقول: الفصل الحادي عشر في وجه احتراز المستعد للقولنج عن القولنج 33 أو هو يصف أسباب الاستعداد وطرق الوقاية قائلا: الاستعداد لهذه العلة يكون لضعف الأمعاء عن المزاج الردئ الذي ينفعل معه عن الأسباب الضعيفة بسرعة، وتدبيره تقوية الأمعاء بتعديل مزاجها 33 أ. ويشترط عدم معونة الأدوية عند تعريف الحالة الصحية الجيدة قائلا: ويعتبر عودة إلى المزاح الفاضل وتمام قوته بتمام أفعاله 33 أمن غير معونة الأدوية وغير انفعاله ومقاومته للأسباب الممرضة 33 ب. وهو يؤكد على أهمية الأغذية وطبيعتها الهضمية والأشربة قائلا: وجميع القولنجيين يحتاجون إلى غذاء مزلق ملين وقد يحتاجون إلى التقوية فيكون ذلك أولا بمياه اللحم البالغ في طبخه، ولباب الخبز المذوب 33 أ. ويبين الأغذية التي تضرهم بقوله: والأشياء التي تضر القولنج منها أغذية ومنها أفعال، أما الأغذية فكل غليظ كلحم البقر ولحم الجزور ولحم الوحشي حتى الأرنب والظبي، والسمك الكبار خاصة، طريا كان أو ملوحا وكل مقلو من اللحمان ومشوي كيف كان، وجميع بطون الحيوان وأجرام اللحوم 33 أ. 98 من النصائح الطبية التي نعطيها للمريض المصاب بالامساك أن يلبي الحاجة إلى البراز وهو ما نسميه طبيا بنداء القولون الذي نوليه أهمية علاجية، ونستعمله في معالجة الإمساك وكثير من الكلام الذي نقوله للمريض يوجزه لنا الشيخ الرئيس قائلا: أما الأفعال التي يجب أن يحذروا فمثل حبس الريح وحبس البراز والنوم على البراز والنوم على براز في البطن وخصوصا يابس، بل يجب أن يعرضوا أنفسهم عند كل نوم على الخلاء. واعلم أن حبس الريح كثيرا ما يحدث القولنج باصعاده الثفل وحصره إياه حتى يجتمع شيئا واحدا كثيرا ويحدث ضعفا في الأمعاء، وربما أحدث ظلمة في البصر وصداعا ودوارا 34 أ. ولا ينسى أن يحذر من التخمة التي يعدها أساس هذه العلة قائلا: ويحذر القولنجيون التخمة كل الحذر فيكاد أن يكون جميع أسباب هذه العلة يرجع إليها وليحذروا بأسرهم الاستكثار من الجماع 34 أ. ولا ينسى أهمية امتلاء المعدة وأثره على الشخص في حالات خاصة مثل الرياضة والاستحمام والجماع، وهذا ما نمارسه طبيا اليوم فهو يقول: ويمنعون الاستحمام بعد الأكل والجماع على الامتلاء 34 ب. 99 إن الشيخ الرئيس يستمر في أسلوبه الخاص. فالصفحة 35 ب تذكر ما يجب على الشخص المستعد عمله في كل نوع من أنواع القولنج، ولكن لا يترك هذا الكلام المتعدد النواحي دون إيجاز قائلا: وبالجملة فتدبير
116 المستعد لكل صنف هو اجتناب أسبابه واستعمال الخفيف من علاجه مع الأغذية الموافقة 35 أ. 100 وهكذا تتضح أهمية ابن سينا الطبية والعلاجية، فقد تبين كثير من الحقائق الطبية التي بيناها: وهي عبارة عن خلاصة لأهمية ابن سينا الطبية والعلاجية ومدى مطابقة علومه في الوقت الحاضر. ابن سينا عالما طبيعيا: وهنا بحث عن ابن سينا عالما من علماء الطبيعيات وهو بقلم الدكتور منعم مفلح الراوي: المعادن والآثار العلوية هي الفن الخامس من موسوعة ابن سينا الشهيرة في العلوم والفلسفة الشفاء، جزء الطبيعيات. تحتوي المعادن والآثار العلوية على مقالتين: المقالة الأولى: في الجيولوجيا علم الأرض وتشتمل على ما يحدث من ذلك بناحية الأرض، وهي ستة فصول. والمقالة الثانية: في المتيورولوجيا علم الطقس، وهي تشتمل على الأحداث، والكائنات التي لا نفس لها مما يكون فوق الأرض، وهي ستة فصول. يشمل هذا المقال دراسة الفصل الأول من المقالة الأولى في الجيولوجيا المتعلق بالجبال وتكوينها مقارنة بأسس الجيولوجيا الحديثة، ويستخلص من هذه الدراسة أن لابن سينا السبق في المعادن والآثار العلوية في وضع مفاهيم أساسية في الجيولوجيا منذ ستة قرون قبل معرفتها وتطورها في أوروبا على مدى خمسة قرون. ومن هذه المفاهيم: مفهوم استمرارية أو انتظام العوامل الجيولوجية وتتابعها، قانون تتابع الطبقات، أهمية الأحافير، الزمن الجيولوجي الطويل اللازم لعمل الظواهر الجيولوجية، ومفهوم الكوارث الجيولوجية. هذا إضافة إلى تعليله الصحيح لتكوين الصخور والجبال وأسباب الزلازل، وتشخيصه لعدم التوافق الطبقي. وقد اعتمد ابن سينا في دراسته على مشاهداته العلمية بنفسه وبالنقل عن رواة ثقات. وبهذا يكون ابن سينا قد سلك النهج العلمي الصحيح في الدراسات الجيولوجية، وبذلك يعد ابن سينا وبدون غلو رائد الجيولوجيا الحديثة. المقدمة هذا المقال مقتطف من بحث قدم إلى الندوة العالمية الثانية لتاريخ العلوم عند العرب الذي عقد في جامعة حلب في 5 12 نيسان 1979 بعنوان: المعادن والآثار العلوية لابن سينا وعلاقتها بأسس الجيولوجيا الحديثة. نقدر ما كتب عن ابن سينا ت 428 ه 1037 م، وعن مؤلفاته الكثيرة في مختلف العلوم والفنون، لا نرى شرحا حديثا لأعماله في العلوم الطبيعية من قبل العلماء العرب والمسلمين، علما بان تلك العلوم بقيت لفترة طويلة الجسر العلمي بين الحضارتين القديمة والحديثة. لقد تم تحقيق ونشر كتاب الشفاء لابن سينا وهو الموسوعة الشهيرة في الفلسفة والعلوم على أجزاء، ومنها: الفن الخامس من جزء الطبيعيات. وهذا الفن يشتمل على المعادن والآثار العلوية وقد حقق ونشر عام 1965 عن المخطوطات التالية: مخطوطة الأزهر. مخطوطة دار الكتب. مخطوطة داماد الجديدة. مخطوطة المتحف البريطاني. نسخة طهران المطبوعة وهامشها. وقد عثرت على نسخة أخرى من مخطوطة الشفاء، لعلها كانت معروفة لمحققي النسخة المنشورة السابقة الذكر. ولكن للأهمية نذكر هنا شيئا عنها: وجدت مخطوطة الشفاء في مكتبة تشستربيتي في دبلن إيرلندة، برقم 3983، ويرجع تاريخ كتابتها إلى سنة 1002 ه 1593 م في الوقت الذي عاشت فيه الحضارة العربية الاسلامية عصر الانحطاط. ومكتبة تشستربيتي غنية عن الذكر فهي تحتوي على عدد كبير من نفائس المخطوطات الاسلامية باللغات العربية وغيرها علاوة على الرسوم الاسلامية الرائعة. وقد أجري البحث بدراسة الفصل الأول من المقالة الأولى: في الجبال وتكوينها من المعادن والآثار العلوية من المخطوطة والنسخة المحققة والمنشورة مقارنة بأسس الجيولوجيا الحديثة والمعروفة. وفصول المقالة الأولى الخمسة الأخرى هي: الفصل الثاني في منافع الجبال وتكوين السحب والأنداء، والفصل الثالث في منافع المياه، والفصل الرابع في الزلازل، والفصل الخامس في تكوين المعدنيات، والفصل السادس في أحوال المسكونة أي الأرض وأمزجة البلاد. لقد سبق وأوجزت في تاريخ الجيولوجيا عند العرب وبينت عدد العلماء والمشاهير في الحضارة العربية الاسلامية ممن فكروا وبحثوا في طبيعة كوكب الأرض الذي يسكنون فيه. وقد لا يخلو عصر من العصور من عدد من العلماء المعاصرين الذين حفظوا العلم وأعطوه للأجيال التي تلتهم. وقد كان ذلك منذ عصر الترجمة القرن الثالث الهجري إلى عهود متأخرة عاصرت النهضة الأوروبية الحديثة. لقد عرف مقام ابن سينا كأحد العلماء المسلمين في علوم الأرض الجيولوجيا وذلك من قبل كتاب عرب وغيرهم من أمثال: السكري 1973، ويكنز 1976، صبره 1976، عبد الرحمن 1977، والعشري 1978. ولكن من مؤرخي الجيولوجيا الغربيين لم نجد من يذكر فضل ابن سينا في علوم الأرض سوى القليل ونذكر منهم: دنس 1972، وكمل 1973، وقد ذكر كمل ابن سينا كمؤرخ ومعلق لعلوم الإغريق، بالرغم من أن ما جاء به في المعادن والآثار العلوية لم يذكر في تاريخ علوم الأرض عند الإغريق. إن تطور الجيولوجيا في أوروبا كعلم نتج عن تطور مفاهيم وأسس علمية خلال خمس مراحل: الأولى: مرحلة العصور القديمة المسيحية والثانية: مرحلة التكوين التي استمرت من القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر الميلادي. والمراحل الثلاث التالية كانت خلال القرون الثامن عشر والتاسع عشر
117 والعشرين. ويمكن تلخيص تلك المفاهيم والأسس العلمية التي كان النقاش يدور حولها طيلة تلك الفترات الزمنية كالآتي: 1 معنى وأهمية الأحافير. 2 استمرارية العوامل الجيولوجية أو قاعدة الانتظام. 3 قانون تتابع الطبقات. 4 الزمن الجيولوجي الطويل. 5 مفهوم الكوارث الجيولوجية. إن الاضطراد في الاكتشافات الجيولوجية المتأخرة والمتعمدة على التكنولوجيا يجب أن لا تغفلنا عن الماضي، فالجيولوجيون المحدثون ليسوا بأكثر ذكاء من السابقين، كما أن الإنجازات الحدثة تنبع من التطور التاريخي للأفكار والطرق العلمية. إن التاريخ الطويل للجيولوجيا في أوروبا يحمل تفاوتا كبيرا في وجهات النظر بين العلماء في المسائل الجيولوجية على اختلاف مذاهبهم العلمية. وأهمية ابن سينا في تاريخ الجيولوجيا تنبع من شهرته الواسعة الناتجة من ترجمة كتبه في أوروبا بالرغم من وجود علماء مسلمين آخرين كانوا قد خاضوا هذا المضمار العلمي، ومن أولئك العلماء من عاصر ابن سينا، وربما يكون قد أخذ عنهم. وتأتي شهرة كتب ابن سينا من أنها شاملة المحتوى كالموسوعات العلمية التي احتوت على أعماله وغيرها المعتمدة على سرد الحقائق دون التركيز على أقوال الأفراد. لذا فان كتبه الشهيرة كالقانون في الطب قد استعملت ككتب مقررة في الجامعات الغربية لفترات زمنية طويلة. وكلمة أخيرة في هذه المقدمة هي أن تاريخ أي علم يجب أن لا يكون بسرد أسماء العلماء والكتب، فليس كل مخطوط نتاجا علميا ثمينا، بل يجب التركيز في العمل العلمي التاريخي على تطور المفاهيم العلمية زمنيا، إذ أنها تعكس التطور الفكري الإنساني عبر العصور، وهذا يكون في غاية الأهمية في مجال تاريخ الجيولوجيا، إذا أنها تعبر عن علاقة الإنسان بالأرض والكون ومدى شعور وتفكير الإنسان فيهما. إنه لظلم للانسانية إذا فرضنا كما هو مفروض في أوروبا أن الإنسان حصر كل ما أوتي من تفكير علمي ورياضي وفلكي في الأرض وما حوله بعصور الإغريق والعصور الأوروبية الحديثة فقط. فالخطأ ليس في الإنسانية التي لم تفكر في الأرض خلال العصور الأوروبية المظلمة، وإنما الخطأ في العلماء والمؤرخين الغربيين الذين تناسوا ذكر الأعمال الجليلة التي قام بها العلماء العرب والمسلمون في مجال علوم الأرض، هذه العلوم التي لولاها لما كان علم جيولوجيا حديث، ولا اكتشافات معدنية ونفطية ثمينة، ولبقيت أوروبا والعالم بعد انحطاط الحضارة العربية الاسلامية في دياجير الظلام التي كانت تعيشها في القرون الوسطى. أسس الجيولوجيا في المعادن والآثار العلوية عند دراسة هذا الفصل بصورة دقيقة فإننا نلمس عمق التفكير العلمي لدى ابن سينا المبني على المشاهدة والتأمل للظواهر الجيولوجية المختلفة للوصول إلى التعليل العلمي المعقول لها. هذا فضلا عن الكتابة العلمية السهلة. فيبدأ الفصل بقوله: لنبتدئ أولا ولنحقق حال تكون الجبال. والمباحث التي يجب أن تعلم في ذلك. أولها: حال تكون الحجارة، والثاني: حال تكون الحجارة الكبيرة أو الكثيرة، والثالث: حال تكون ما يكون له ارتفاع وسمو. فبهذا يقرر ابن سينا الحقيقة الثابتة وهي: أنه لتكون الجبال يجب أن يعرف أولا حال تكون الحجارة، ومن ثم الحجر الكبير أو الكثير والذي بعد الارتفاع يكون الجبال. هذه الحقيقة شغلت العلماء لقرون عديدة في أوروبا للوصول إلى نفس النتيجة التي وصل إليها ابن سينا في بحثه عن تكون الجبال. وهذا ما سنشرحه تباعا في هذا البحث. 1 تكون الحجارة: لتكون الحجارة، يقرر ابن سينا ثلاثة أصول، وهي: الطين أو الماء أو النار. وهذه الأصول تعرف الآن بالأصل الرسوبي الطين أو الماء والأصل الناري. أما الأصل الآخر الذي لم يعرفه ابن سينا واكتشف في القرون المتأخرة فهو الأصل المتحول من الصخور الرسوبية والنارية. فعن النوع الأول الذي يتكون من أصل الطين يقول ابن سينا: فكثير من الطين يجف ويستحيل أولا شيئا من الحجر والطين، وهو حجر رخو، ثم يستحيل حجرا، وأولى الطينات بذلك ما كان لزجا، فان لم يكن لزجا فإنه يتفتت في أكثر الأمر قبل أن يتحجر. وقد استدل لكل نوع من أنواع الحجارة بأمثلة، فيقول: وقد شاهدنا في طفولتنا في مواضع كان فيها الطين وذلك في شط جيحون، ثم شاهدناه قد تحجر تحجرا رخوا والمدة قريبة من ثلاث وعشرين سنة. وشط جيحون يسمى حاليا بنهر آمور داريا أو الأقصص، ويقع في الحدود بين أفغانستان والاتحاد السوفيتي، وقد كرر ابن سينا ذكر هذا النهر في مرات لاحقة، كما أوضح الإصطخري ت 340 ه 951 م بخريطة مشابهة موقع هذا النهر. وهذا النوع من الحجارة الرسوبية يعرف الآن بالصخور التفتية. أما عن النوع الثاني الذي يتكون من أصل الماء فيقول ابن سينا: وقد تتكون الحجارة من الماء السيال على وجهين: أحدهما أن يجمد الماء كما يقطر أو كما يسيل برمته. والثاني يرسب منه من سيلانه شئ يلزم وجه مسيله ويتحجر. وقد شوهدت مياه تسيل، فما يقطر منها على موضع معلوم ينعقد حجرا أو حصى مختلفة الألوان. وهذا النوع يعرف الآن بالصخور الكيميائية أو التبخرية. وعن النوع الثالث من الحجارة، يقول ابن سينا: وقد تتكون أنواع من الحجارة من النار إذا أطفئت، وكثيرا ما يحدث في الصواعق أجسام حديدية وحجرية بسبب ما يعرض للنارية أن تطفا فتصير باردة يابسة. ويذكر ابن سينا أن أحد تلك الأجسام وزن 150 طنا، ويستشهد على ذلك بسقوط تلك الأجسام من الصواعق في بلاد الترك وخراسان وأصفهان، كذلك ويذكر أن السيوف اليمانية كانت تتخذ من مثل هذا الحديد، وشعراء
118 العرب قد وصفوا ذلك في شعرهم. وهذا النوع من الحجارة يعرف الآن بالنيازك، وهي صخور حديدية ثقيلة جدا. ويجدر بالذكر أن ابن سينا لم يذكر الحجر الناري الذي يتكون من حمم البراكين، ولعله لم يشاهد البراكين بنفسه. كذلك لم يكن قد عرف الحجر المتحول بسبب الضغط والحرارة من الأصلين الرسوبي والناري. وهذا متوقع، إذ إن هذا النوع من الصخور لم يعرف إلا في فترة متأخرة في القرن التاسع عشر. ويمكن تلخيص أنواع الحجارة وعلاقتها بتكون الجبال. وأثناء التكلم عن أنواع الحجارة، يذكر ابن سينا وجود الأحافير في الحجارة ويعلل عملية التحفر فيقول: وإن كان ما يحكى من تحجر حيوانات ونباتات صحيحا فالسبب فيه شدة قوة معدنية محجرة تحدث في بعض البقاع الحجرية، أو تنفصل دفعة من الأرض في الزلزال والخسوف، فتحجر ما تلقاه، فإنه ليس استحالة الأجسام النباتية والحيوانية إلى الحجرية أبعد من استحالة المياه ولا من الممتنع في المركبات أن تغلب عليها قوة عنصر واحد يستحيل إليه، لأن كل واحد من العناصر التي فيها مما ليس من جنس ذلك العنصر، من شانه أن يستحيل إلى ذلك العنصر، ولهذا تستحيل الأجسام الواقعة في الملاحات إلى الملح، والأجسام الواقعة في الحريق إلى النار، ونلاحظ أن ابن سينا لم يدخل في جدل طويل في تعليل تحجر الحيوانات كما حدث في أوروبا، بل كانت لديه المسألة بديهية. 2 تكون الحجارة الكبيرة أو الكثيرة: وهذا ما يسمى الآن بالتتابع الطبقي الصخري فيقول ابن سينا: وأما تكون حجر كبير فيكون إما دفعة، وذلك بسبب حر عظيم يعاصف طينا لزجا، وإما أن يكون قليلا على تواتر الأيام. وبالمعنى تكون الحجر بالصورة الكبيرة أو الكثيرة يحدث عند جفاف أو تحجر الرسوبيات الطينية وغيرها بسبب الحرارة أو الجفاف، أو التحجر البطئ المتواصل في مدة طويلة. وهنا في جملة على تواتر الأيام يقرر ابن سينا أهمية الزمن الطويل في عملية تكوين الصخور بالكميات الكبيرة أو الكثيرة تلك الأهمية التي لم يعرفها العلماء الأقدمون بالصورة التي أوضحها ابن سينا، والتي عرفت بعد ذلك في القرن الثامن عشر. 3 تكوين الجبال، أو ما له ارتفاع وسمو: ينتقل ابن سينا في المرحلة التالية بعد أن شرح كيفية تكون الحجارة وكيفية تكون الحجارة بكميات كثيرة إلى عملية تكوين الجبال بارتفاع الحجارة الكثيرة ونحت السيول لها تاركة الوديان والجبال العالية. فيقول: وأما الارتفاع فقد يقع لذلك سبب بالذات، وقد يقع له سبب بالعرض أي سبب داخلي وسبب خارجي المؤلف، أما السبب بالذات، فكما يتفق عن كثير من الزلازل القوية أن ترفع الريح الفاعلة للزلزلة طائفة من الأرض، وتحدث رابية من الروابي دفعة، وأما الذي بالعرض فان يعرض لبعض الأجزاء من الأرض انحفار دون بعض، بان تكون رياح نسافة أو مياه حفارة تتفق لها حركة على جزء من الأرض دون جزء، فيتحفر ما تسيل عليه ويبقى ما لا تسيل عليه رابيا، ثم لا تزال السيول تغوص في الحفر الأول إلى أن تغور غورا شديدا، ويبقى ما انحرف عنه شاهقا. وهذا كالمحقق من أمور الجبال وما بينها من الحفر والمسالك. وهنا يقرر ابن سينا ببساطة عمليتين لرفع الأحجار أو الصخور التي تكونت بالوسائل السابقة، وذلك بواسطة قوى داخلية أو موضوعية بالذات، وهذا الارتفاع يحدث أثناء الزلازل أو ما يسمى بالكوارث. وبواسطة قوى خارجية بالعرض، وهذه هي عوامل التجوية بواسطة المياه والرياح ونحت المياه أثناء السيول في مناطق من الأرض دون الأخرى. فالمكان الذي تسيل عليه الأمطار يتحفر وينتج عنه الأدوية، وتبقى المناطق العالية جبالا. ويعود ابن سينا ليشرح ويؤكد ما ذكر سابقا مبينا أهمية الزمن الطويل في إجراء العمليات الجيولوجية، فيقول: وربما كان الماء أو الريح متفق الفيضان، إلا أن أجزاء الأرض تكون مختلفة، فيكون بعضها لينة وبعضها حجرية فينحف الترابي اللين، ويبقى الحجري مرتفعا. ثم لا يزال ذلك المسيل ينحفر على الأيام، ويتسع ويبقى النتوء، وكلما انحفر عنه الأرض كان شهوقه أكثر. ويلخص ابن سينا بشئ من التوضيح أحوال تكون الجبال فيقول: فهذه هي الأسباب الأكثرية لهذه الأحوال الثلاثة. فالجبال تكونها من أحد أسباب تكون الحجارة، والغالب أن تكونها من طين لزج على طول الزمان، تحجر في مدد لا تضبط فيشبه أن تكون هذه المعمورة أي الأرض قد كانت في سالف الأيام غير معمورة بل مغمورة في البحار، فتحجرت، إما بعد الانكشاف قليلا قليلا في مدد لا تفي التاريخات بحفظ أطرافها. وإما تحت المياه لشدة الحرارة المحتقنة تحت البحر. وهنا يؤكد ابن سينا أهمية الزمن الجيولوجي الطويل جدا والذي لا يحصى في مقاييسهم آنذاك، وأيضا أهمية الحرارة الداخلية للأرض والتي عرفها جيمس هتون لأول مرة في اسكوتلندة في القرن الثامن عشر. ويستمر ابن سينا قائلا: والأولى أن يكون بعد الانكشاف، وأن تكون طينتها تعينها على التحجر، إذ تكون طينتها لزجة. وهذا ما يوجد في كثير من الأحجار، إذا كسرت أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها. ولا يبعد أن تكون القوة المعدنية قد تولدت هناك فأعانت أيضا أي في داخل الصخور بواسطة الحرارة فتبلور المعادن وأن تكون مياه قد استحالت أيضا حجارة، لكن الأولى أن تكون الجبال على هذه الجملة، ولكثرة ما فيها من الحجر لكثرة ما يشتمل على البحر من الطين، ثم ينكشف عنه، وارتفاعها لما حفرته من السيول والرياح فيما بينها. ولم يكتف ابن سينا في الشرح والتلخيص لكي يثبت فكرة تكون الجبال التي تولدت لديه من التأمل والمشاهدة، فيعيد صياغة أفكاره ليصل إلى التعليل العلمي لتلك العوامل الطبيعية اللازمة لعمل الانحفارات في الجبال من جراء الاستمرارية في العمل الطبيعي والزمن الطويل. وهذا ما ينطبق على المفهوم الجيولوجي المعروف: مذهب اطراد القوى أو مفهوم انتظام العوامل الجيولوجية وهو المذهب القائل باستمرارية العوامل الجيولوجية، أي أن الذي يحدث الآن من عوامل تجوية ونحت وترسيب...
119 إلخ، كان يحدث سابقا، فيقول ابن سينا: فإنك إذا تأملت أكثر الجبال، رأيت الانحفار الفاصل فيما بينهما متولدا من السيول. ولكن ذلك أمر إنما تم وكان في مدد كثيرة، فلم يبق لكل سيل أثره، بل إنما يرى الأقرب منها عهدا. وأكثر الجبال الآن إنما هي في الارضاض والتفتت، وذلك لأن عهد نشوئها وتكونها إنما كان مع انكشاف المياه عنها يسيرا يسيرا، والآن فإنها في سلطان التفتت، إلا ما شاء الله من جبال وإن كانت تتزايد بسبب مياه تتحجر فيها، أو سيول تؤدي إليها طينا كثيرا فيتحجر فيها. ويتبع ابن سينا ذلك بدلائل من مشاهداته الشخصية ومشاهدات غيره فيقول: فقد بلغني أنه قد شوهد في بعض الجبال، وأما ما شاهدته أنا فهو في شط جيحون، وليس ذلك الموضع مما يستحق أن يسمى جبلا. فما كان من هذه المنكشفات أصلب طينة وأقوى تحجرا وأعظم حجما، فإنه إذا انهار ما دونه، بقي أرفع وأعلى. ينتقل ابن سينا بعد ذلك إلى تعليل تكوين الرسوبيات في الوديان التي بين الجبال، ويصفها بأنها ليست من المادة الأصلية للجبال وإنما هي منقولة بعد تفتت الجبال، وهذا ما هو معروف الآن برسوبيات بين الجبال، فيقول: وأما عروق الطين الموجودة في الجبال فيجوز أن تكون تلك العروق ليست من صميم مادة التحجر، لكنها من جملة ما تفتت من الجبال وترسب وامتلأ في الأودية والفجاج، وسالت عليه المياه، ورطبته وغشيته أرهاص الجبال، أو خلطت به طينتها الجيدة. ويجوز أن يكون القديم أيضا من طين البحر غير متفق الجوهر أي المادة، فيكون من تربته ما يتحجر تحجرا قويا، ومنه ما لا يتحجر ومنه ما يسترخي تحجره لكيفية ما غالبه فيه، أو لسبب من الأسباب التي لا تعد. ويعلل ابن سينا الرسوبيات الحديثة أيضا بأنها رسوبيات بحر قد طفي على اليابسة وعند انكشافه فإنها تتحجر، ولكن صخور الجبل القديمة تكون قابلة للتفتت أكثر، فيقول: ويجوز أن يعرض للبحر أيضا أن يفيض قليلا قليلا على بر مختلط من سهل وجبل، ثم ينضب عنه، فيعرض للسهل منه أن يستحيل طينا، ولا يعرض ذلك للجبل. وإذا استحال طينا كان مستعدا لأن يتحجر عند الانكشاف أي ظهور الحجارة ويكون تحجره تحجرا سافيا قويا. وإذا وقع الانكشاف على ما تحجر، فربما يكون المتحجر القديم في حد ما استعد للتفتت. ويجوز أن يكون ذلك يعرض له عكس ما عرض للتربة، من أن هذا يرطب ويلين ويعود ترابا، وذلك يستعد للحجرية. ويشبه ابن سينا التفتت بتجارب قد عملها فيقول: كما إذا نقعت آجرة وترابا وطينا في الماء، ثم عرضت الآجرة والطير والتراب على النار، عرض للآجرة أن زادها الاستنقاع استعدادا للتفتت بالنار ثانيا، والتراب والطين استعدادا للاستحجار أقوى. ويختتم ابن سينا فصله الشيق عن الجبال فيعرض فلسفة علمية قد عرفت في الجيولوجيا الحديثة بما يسمى بقانون تتابع الطبقات: وهو أن الطبقات التي تترسب أولا هي الأقدم، والتي تليها هي الأحدث إذا لم يحدث ميل، فيقول: ويجوز أن ينكشف البر عن البحر وكل بعد طبقه، وقد يرى بعض الجبال كأنه منضود سافا سافا، فيشبه أن يكون ذلك قد كانت طينتها في وقت ما كذلك سافا سافا، بان كان ساف ارتكم أولا ثم حدث بعده في مدة أخرى ساف آخر فارتكم، وكان قد سال على كل ساف جسم من خلاف جوهره، فصار حائلا بينه وبين الساف الآخر، هذا ما يسمى الآن بعدم التوافق، فلما تحجرت المادة عرض للحائل أن انشق وانثره ما بين السافين. وأن حائلا بين أرض البحر قد تكون طينته رسوبية، وقد تكون طينية قديمة ليست رسوبية ويشبه أن يكون ما عرض له انفصال الارهاص من الجبال رسوبيا. فهكذا تتكون الجبال. وبهذا يكون ابن سينا قد جاء بكل المستلزمات الأساسية لنشوء علم الأرض الجيولوجيا بالمعنى الحديث الذي نعرفه الآن، فقد أكمل ملاحظات الأقدمين وزادها بملاحظاته، ونظمها وأخرج منها غير المعقول وصاغها الصياغة العلمية الصحيحة الجيدة. وما جاء به العلماء الغربيون من بعده بعدة قرون لم يكن سوى زيادة المشاهدة بعد ما قرأوا علومه، وأعطوه الاصطلاح العلمي الأوروبي، ونسبوا تلك المفاهيم والقوانين لهم، ونسوا أو تناسوا ما صنع هذا العالم الجليل. حمد البيك بن محمد بن محمود بن نصار. اشتهر باسمين معا: فبعض يطلق عليه اسم: حمد المحمود، وبعض اسم حمد البيك. مرت ترجمته في الصفحة 230 من المجلد السادس، ونزيد عليها هنا ما يلي: مما تميز به عهد حمد البيك بروز نهضة شعرية في جبل عامل اجتمع فيها ثلة من الشعراء حول حمد فكانوا شيئا متميزا في الحياة الشعرية في جبل عامل على امتداد هذه الحياة قبلهم وبعدهم. ولا بد لنا قبل الدخول في التفاصيل من أن نلم إلماما موجزا بتلك الحياة التي تسلسل فيها الشعر العاملي منذ صدر الاسلام حتى عهد أولئك الشعراء: في العهد الأموي لقد ماشت الحياة الشعرية في جبل عامل أزهى العهود العربية ثم لما ابتدأت تلك العهود بالانحدار ظلت هي في طريقها السليم لم تتعسف ولم تتدهور. ففي العهد الأموي مثلا عندما تألق جرير والفرزدق والأخطل، وتوارى الشعراء من طريقهم فخلت الساحة لهم وحدهم يصولون ويجولون، تصدى لهم شاعر عاملي فنازلهم وثبت لهم، واستطاع ان يظفر ببعضهم ظفرا مرموقا، ولم يجرؤ غيره على أن ينزل من البلاط الحاكم منزلتهم، هذا الشاعر هو عدي بن الرقاع العاملي، وليد هذا الجبل وربيبه وخريجه. ومن المؤلم أن مدرسي الأدب عندنا ودارسيه يجهلون كل شئ عنه، في حين أنه كان شيئا مدوي الأثر حتى إن شاعرا فحلا مثل أبي تمام لا يأنف عن التمدح به والاستشهاد بذكره فيقول:
120 يثير عجاجة في كل ثغر * يهيم به عدي بن الرقاع وحتى إن الشريف الرضي وهو من هو يقول: ويعجبني البعاد كان قلبي * يحدث عن عدي بن الرقاع وحتى إن شاعرا آخر من أكبر شعراء العرب هو علي بن المقرب الأحسائي يشير إليه في قوله: أهم بهجوهم فأرى ضلالا * هجائي دون رهط ابن الرقاع ويصعب جدا إيجاز الحديث عن هذا الشاعر العاملي، لأن الحديث عنه متعدد الجوانب متشعب النواحي، ولكن لا بد من ذكر معركته مع جرير لنرى منها كفاءته وقوته. معركة الشاعر العاملي مع جرير لقد كان جرير هو السائد في بلاط الأمويين، وكان لسانه جمرة من الجمرات، بل شفرة من إحدى الشفرات التي تحز في المفاصل فتقطع قطعا ذريعا. وكانت المعركة الشعرية تحتدم بينه وبين الفرزدق فلا يستطيع أحدهما التغلب على الآخر، ولا يقدر أي منهما أن يحمل صاحبه على الانسحاب مقهورا مغلوبا. ولكن الشاعر العاملي استطاع وظفر من جرير بما لم يظفر به لا الفرزدق ولا الأخطل ولا غيرهما. ومن غيرهما عند ما يذكر هذان البطلان؟... إذا استطاع الفرزدق أن يقول: أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع كان جرير مستطيعا أن يقول: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا * أبشر بطول سلامة يا مربع فإذا أفحش جرير كان الفرزدق مستعدا لأن يكون أكثر إفحاشا. ولم نعرف أن معركة انتهت بينهما على غالب ومغلوب، بل ظلا أبدا لا غالبا ولا مغلوبا، أو غالبا وغالبا، أو مغلوبا ومغلوبا. ولكن عدي بن الرقاع العاملي استطاع ما لم يستطعه غيره، استطاع أن يهزم جريرا وأن يضطره إلى الاعتراف بالهزيمة. هزيمة جرير ويبدو أن جريرا استهان به أول الأمر فأراد السخرية من هذا الشاعر الوافد من الجبل إلى دمشق يريد أن يزاحم الفحول على أبواب الملوك، فرماه ببيت من الشعر تقضي الكياسة بان لا نذكر إلا صدره وهو: يقصر باع العاملي عن العلى. وقد ظن جرير أنه قد أخجله وأسكته، ولكن عديا انبرى له بالبيت الذي تقضي الكياسة أيضا أن لا نذكر إلا عجزه وهو: أم أنت امرؤ لم تدر كيف تقول. فبهت جرير وأدرك أنه هزم هزيمة شنعاء وهو الذي لم يهزم من قبل وخاف مغبة الاسترسال مع هذا الشاعر القوي فاثر الانسحاب من المعركة والاعتراف بالهزيمة لأول مرة في حياته، فاجابه: بل أنا امرؤ لم أدر كيف أقول. ويروي الفرزدق لقاءه الأول هو وجرير لعدي بهذا النص: كنت في المجلس وجرير إلى جانبي، فلما ابتدأ عدي في قصيدته: عرف الديار توهما فاعتادها * من بعد ما درس البلى إبلادها قلت لجرير مشيرا إلى عدي: هلم نسخر من هذا الشامي، فلما ذقنا كلامه يئسنا منه. بعض شعره وإذا كان المجال يضيق في هذه المقالة عن تعداد شعره ودراسته دراسة موضحة، فإننا نذكر له أبياتا غزلية من أرق الشعر العربي كقوله: وكأنها بين النساء أعارها * عينيه أحور من جاذر جاسم وسنان أقصده النعاس فرنقت * في جفنه سنة وليس بنائم وكقوله: لو ثوى لا يريمها ألف حول * لم يطل عندها عليه الثواء أهواها شفه أم أعيرت * منظرا غير ما أعير النساء ويروي المؤرخون أنه لما وصل في إنشاد قصيدته الدالية إلى هذا البيت: تزجي أغن كان أبرة روقه * قلم أصاب من الدواة مدادها وسمعه الشعراء سجدوا له، فلما استغرب الناس أن يسجد الشعراء لبيت من الشعر، قال الشعراء: إنا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن. ومن الإبداع في شعره في غير الغزل قوله: والناس أشباه وبين حلومهم * بون كذاك تفاضل الأشياء بل ما رأيت جبال أرض تستوي * فيما عسيت ولا نجوم سماء والمجد يورثه امرؤ أشباهه * ويموت آخر وهو في الأحياء وسأظلم عدي بن الرقاع أن قلت أن ما ذكرته عنه وما استشهدت به من شعره يمثله تمثيلا صحيحا ويعطينا الصورة التي نريدها عنه، فهذا العاملي النابغ لا تقوم بحقه مثل هذه السطور القليلة. في العهد العباسي وفي العصر العباسي عند ما برز أبو تمام والبحتري والمتنبي والمعري والرضي والحمداني وغيرهم برز من جبل عامل شاعر جارى الفحول فكان في الطليعة منهم، ذاك هو عبد المحسن الصوري المتوفى سنة 419 هجرية،. وإذا كان عدي بن الرقاع سليل القمم العاملية فان عبد المحسن سليل الشواطئ منها، فهو من مدينة صور بالذات ومنها استمد لقبه. ومع أنه كان لهذا الشاعر شهرة مدوية بين معاصريه فان ديوانه لم يطبع حتى اليوم وكانت توجد منه نسخة مخطوطة في خزانة المرحوم الشيخ محمد رضا الشبيبي نسخها والده الشيخ جواد علي نسخة قديمة من مخطوطات أوائل القرن السادس الهجري. ومن الظواهر في شعره ما يدل على مدى ترابط البلدان العربية في عهده، فان وفاة تحدث في بغداد تستجيش شاعرا في صور فيرثي الميت ويبكيه بأحر الدموع، فقد توفي العالم الكبير المفكر محمد بن محمد النعمان الذي اشتهر
(1) راجع ترجمته في الصفحة 94 وما بعدها من المجلد الثامن. 121 بلقب الشيخ المفيد توفي في بغداد فتجاوبت بصدى وفاته ديار العرب فقال عبد المحسن يرثيه من قصيدة طويلة: يطلب المفيد بعدك والأسماء * تمضي فكيف تبقى المعاني فجعة أصبحت تبلغ أهل الشام * صوت العويل من بغدان ومن شعره الدال على ظروف حياته ما جاء في مدحه لعلي بن الحسين المغربي والد الوزير أبي القاسم. فان هذا الشاعر الصوري كان كغيره من الشعراء يتصدى للمدح كسبا للعيش ولم تكن ظروفه كلها مواتية، فكانت تكسد بضاعته عند من لا يعرف قيمتها فيعيش في كابة وهم وفقر فقال يصف هذه الحالة: ونوائب أظهرن أيامي * إلي بصورتين سودنها وأطلنها * فرأيت يوما ليلتين ثم يقول ذاكرا أنه لطول عهده بالنقود صار لا يميز الذهب من الفضة ولا يعرف حقيقتهما: هل بعد ذلك من * يعرفني النضار من اللجين فلقد جهلتهما لبعد * العهد بينهما وبيني متكسبا بالشعر يا * بئس الصناعة باليدين لم تنطفئ جذوة الشعر ولم تنطفئ جذوة الشعر العاملي حتى في عهد الاحتلال الصليبي فان قصيدة ابن الحسام العاملي في رثاء أبي القاسم بن الحسين العود الأسدي المتوفى سنة 679 نظمت خلال الاحتلال. طلائع النهضة الشعرية بعد الاحتلال أما بعد الجلاء فيمكننا أن نعتبر أن الشهيد الأول محمد بن مكي هو مؤسس النهضتين العلمية والأدبية، ولقد كان إلى جانب مكانته العلمية على شاعرية حسنة ينظم الأبيات والبيتين. فنحن نستطيع أن نعد شعره من أوائل النتاج العاملي الذي وصلنا بعد جلاء الصليبيين، فمن ذلك قوله: كنت قبل الهوى حليف المعالي * ولأعلامها علي خفوق نقصتني زيادة الحب حتى * أدركاني المريخ والعيوق وينسب إليه قوله: شغلنا بكسب العلم عن طلب الغنى * كما شغلوا عن مطلب العلم بالوفر فصار لهم حظ من الجهل والغنى * وصار لنا حظ من العلم والفقر وقوله: غنينا بنا عن كل من لا يريدنا * وإن كثرت أوصافه ونعوته ومن صد عنا حسبه الصد والجفا * ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته ويمكننا اعتبار هذا الشعر وأمثاله من شعر الشهيد طلائع نهضة شعرية أخذت تنمو وتتقدم بتقدم المدارس وتكاثر العلماء والطلاب. فضل الشهيد الأول والواقع أن هذا الرجل كان له من الفضل على الجبل ما لا يحد بحد، فقد خرجت البلاد من وطأة الاحتلال مهيضة الجناح مهشمة القوى، ولئن استطاعت أن تحتفظ بعروبتها وإسلامها ومقوماتها واستمرار التعليم فيها، فإنها لم تستطع أن تصل بذلك إلى ما كانت تطمح إليه. لهذا رأينا أن الأربع والأربعين سنة التي سبقت ولادة الشهيد، لم تستطع أن تخرج عالما كبيرا مشهورا، بل كانت هذه السنون سنين إعداد وتجهيز وقضاء على مخلفات الماضي البغيض. حتى إذا شب محمد بن مكي ودرس على شيوخ بلاده ما أمكن أن يدرس. ورأى أن هؤلاء الشيوخ قد استنفدوا في تلقينه كل ما عندهم، ورأى أن هذا الذي تلقنه لا غناء فيه إذا هو أراد أن يكون شيئا مذكورا في العلم، حتى إذا رأى ذلك، عزم على الهجرة العلمية إلى العراق وهو في غضارة السن وطراوة العمر. فقصد مدينة الحلة حيث كانت مدرسة الشيعة الكبرى قبل النجف وهناك انكب على التحصيل، ثم عاد إلى بلاده مجازا من أساتيذه. مبرزا بمعلوماته، وشرع بتركيز قواعد التدريس ونشر العلم فاستطاع أن ينهض بالجبل نهضة جبارة كان هو رأسها وأساسها. وهكذا يمكننا اعتبار سنة 755 هجرية وهي سنة عودة الشهيد من العراق مبدأ البعث العلمي والأدبي في جبل عامل. نكبة جبل عامل بالجزار كانت نكبة جبل عامل بأحمد باشا الجزار من النكبات القاصمة فقد فوجئت البلاد بزحفه عليها وهي على غير استعداد، فاستطاع التغلب عليها وعلى من لقيهم من أبنائها ثم أطلق جنوده يعملون التخريب والتقتيل والسلب. وكان من أفجع ما لقيه جبل عامل في تلك المحنة نهب مكتباته نهبا عاما وحمل كتبها إلى عكا. وكان يمكن أن يكون الأمر سهلا لو أن تلك الكتب أريد لها في عكا الجمع والحفظ. لكن الجزار وأعوانه وهم الجهلاء رأوا زيادة في الانتقام أن يبيدوا تلك الكتب فيسلموها إلى أصحاب الأفران يوقدون بها أفرانهم، ويكاد يجمع المؤرخون العامليون على أن تلك الكتب ظلت تغذي الأفران في عكا أسبوعا كاملا. على أن بعض الفلسطينيين من أهل المعرفة استطاعوا إنقاذ القليل منها، كما أن بعض من وقعت في أيديهم باعوا ما حصلوا عليه، وقد وصل قسم منها إلى مكتبة الأمير بشير الشهابي في بيت الدين، كما شوهد بعضها بعد ذلك في بعض البيوت البيروتية. حصيلة خمسة قرون كانت تلك الكتب حصيلة خمسة قرون فإذا اعتبرنا بدء التجديد في جبل عامل هو عودة الشهيد الأول من العراق عام 755 هجرية يكون بين هذا التاريخ ونكبة البلاد بالجزار سنة 1195 أربعمائة وأربعون سنة. أجل أربعمائة وأربعون سنة كان فيها جبل عامل مقرا للعلماء والشعراء الذين ألفوا وصنفوا وتوارثوا الكتب جيلا بعد جيل، حتى قضت على ذلك أفران عكا. فقدان النماذج المنوعة من هنا لا نستطيع أن نجد أمامنا ما كان يجب أن نجده من نماذج منوعة للشعر العاملي طيلة تلك القرون. ولكن ما وجدناه يرينا الواقع ويعطينا الصورة الصحيحة لاستمرار الشعر في هذه الديار قوي الديباجة شديد الأسر متين اللفظ جميل المعنى صادق الشعور.
122 حفظ شعر النهضة ولا بد من القول أن نهضة الشعر العاملي كانت قد بلغت مقاما رفيعا حين حلول النكبة وقبيل حلولها، فقد شهدت البلاد عددا من الشعراء الفحول رافقوا أحداثها وعاشوا انتصاراتها وهزائمها فنظموا في ذلك شعرا عاليا، وعاش بعضهم حتى شهد النكبة وناله منها الترويع والتشريد، ورأى الفواجع تحل بمواطنيه فنظم في كل ذلك أحسن الشعر. ولحسن الحظ فان هذا الفريق الناجي قد استطاع بفراره أن يحفظ شعره من الضياع، فحفظته مجاميع بعلبك ودمشق والنجف، واستطعنا بذلك أن نراه أمامنا ونرى فيه صورة الشعر العربي الأصيل الصادق. نماذج من القرن التاسع سنعرض نماذج مما سلم من الشعر العاملي في مختلف عصوره ترينا صدق ما قلناه من أن الشعر ظل هنا سليما قويا على مدى الأيام. فمن ذلك أن قرية عيناثا كانت في أواسط القرن التاسع الهجري أي منذ خمسمائة وخمسين سنة مقرا لأعلى الدراسات الاسلامية والعربية وكان الطلاب يفدون إليها لا من الجبل وحده، بل من أقصى البلاد العربية، فجاءها فيمن جاء ناصر بن إبراهيم البويهي، وعكف على تلقي العلم فيها، وحدث يوما أن حصل من أستاذه العاملي ظهير الدين بن الحسام ما ظنه الطالب إهمالا له فقال متظلما من أبيات: أشاقك ربع بالمشقر عاطل * فظلت تهاداك الهموم النوازل فأصبحت تستمري من العين ماءها * وهيهات قد عزت عليك الوسائل تذكرت من تهوى فأبكاك ذكره * وأنت بعيناثا على الكره نازل ويبدو أن أستاذه لم يكن شاعرا، أو أنه لم يشأ أن يجيبه بنفسه، فتولى الجواب الشيخ حسن أخو الأستاذ فقال: لعمرك ما عزت عليك الوسائل * ولا أجدبت منا لديك المناهل ولا زلت منظورا بعين جميلة * ولو نظرت شزرا إليك القبائل فنحن أناس لا يضام نزيلنا * عزيز علينا أن تطانا الجحافل ندافع عن أحسابنا ومضيفنا * ولو نهلت منا الظبى والذوابل لنا منهل جم الفضائل ورده * تقل لديه في الزمان المناهل تخوض إليه الناس في كل مجلس * إذا أشكلت بين الرجال المسائل لئن ضنت الدنيا علينا بثروة * تفاضلها أشرارها والفواضل هذه القطعة الصغيرة الجميلة خير مثال على نضارة الشعر العاملي في ذلك العصر، فهي في صدقها وصفائها وترقرق ألفاظها وجمال أسلوبها، وما اشتملت عليه من تمدح متواضع بالفضائل الأصيلة من عزة وكرم وإباء وشجاعة وحفظ للجوار مع اعتراف بالفقر هي في كل ما تضمنته ترفع الشعر العاملي بنظرنا وتحببه إلينا. والشيخ حسن ناظمها هو واحد من عشرات أمثاله كانت تغص بهم شعاب عيناثا ودروبها ومنازلها ومدارسها، ولكن آثارهم ضاعت وأشعارهم فقدت وبقيت هذه القطعة دليلا على دوام الأصالة في الشعر العاملي. ويجب أن لا ننسى أن شعر ناصر البويهي نفسه هو حصيلة عاملية، فإذا علمنا أنه هبط عيناثا شابا حدثا، وأن مواهبه تفتحت في جبل عامل على أيدي أساتذة عامليين أدركنا أن شعره هو أيضا شعر عاملي بحت. ومن القرن العاشر وفي القرن العاشر الهجري خرج الشيخ محمد الحياني من قرية بني حيان القرية البسيطة الصغيرة، ذات البيوت المحدودة والعدد القليل، والقابعة فوق تلة مشرفة على الثنايا والعقاب والأودية هناك في أقصى جنوب جبل عامل. إن قرية بني حيان التي ظلت حتى اليوم غير معروفة لجمهرة العامليين أنفسهم فكيف لغير العامليين، والتي لا بد لك من الوصول إليها من أن تمتطي دابة أو أن تسير على قدميك إن كنت لا تزال ممن يستطيعون صعود الجبال مشيا على الأقدام. من هذه القرية التي لا تزال اليوم كما كانت في القرن العاشر لم يتحسن فيها شئ. من هذه القرية خرج الشيخ محمد الحياني إلى النجف إما طلبا للعلم على الأرجح، أو ضجرا من حياة القرية الرتيبة المملة... وهناك في النجف ملكه الحنين إلى بني حيان إلى مراتع صباه ومدارج شبابه، إلى مغارس السنديان ومنابت الملول، فاخذ يرسل الشعر رقيقا عذبا قائلا أمثال هذا القول: إذا ما بدا من جانب الشام معرق * عساه لقلبي بالوصال يبشر وإن هب من أرض النحارير نسمة * تنسمت روح الوصل فيها فاذكر رعى الله أياما تقضت وأعصرا * مضت في بني حيان والغصن أخضر وإذا كنا قد عرفنا بني حيان لأنها لا تزال قائمة، فان النحارير حيرت كل من قرأ هذه القصيدة، فما هي هذه النحارير التي يتمنى الحياني أن تهب عليه نسمة من نسماتها؟ يقول بعضهم إنها ربما كانت وادي الشحارير القريب من بني حيان، ويقول آخرون: إنها أرض موقوفة على العلماء النحارير ويقول غيرهم غير ذلك وإنها قرية طلوسة القريبة من بني حيان. وأيا كانت النحارير فحسبها أنها كانت ملء خاطر هذا الشاعر النازح. وبني حيان المتواضعة البسيطة ظلت موضع اعتزاز هذا العاملي الوفي فقال في نهاية إحدى قصائده واصفا للقصيدة: عربية الألفاظ حيانية * يعنو لمعنى حسنها حسان وحسب القصيدة فخرا عنده أن تكون عربية الألفاظ عروبة صافية لم تخالطها عجمة، ولم تشنها لكنة، وإن تكون إلى ذلك حيانية منبتها بني حيان. ويظل خيال بني حيان يفعم نفس هذا الشاعر العالم، وتظل صورة النحارير أمام عينيه فيكرر ذكرهما ويعيد التغني بهما فيقول من قصيدة أخرى مادحا علي بن أبي طالب ع مؤكدا أن جواره وحده هو الذي يحمله على البقاء بعيدا عنهما:
123 ولولا ضريح أنت فيه موسد * لما اخترت غير الشام أرضي من بدل ولا كنت عن أرض النحارير نائيا * ولا عن بني حيان ما ساعد الأجل ويظل في حنينه ووجده لا إلى جبل عامل وحده، ولا إلى بني حيان وحدها، بل إلى بلاد الشام كلها، فهو يحييها من ذلك المنتأى البعيد، ولكن التحية الكبرى لبني حيان تارة وللنحارير تارة أخرى. حييت يا شام من شام ومن سكن * ولا تعداك جون المزن يا وطني وإن أكن قاطنا أرض العراق ففي * أرض النحارير لي قلب بلا بدن ويقول في ختام قصيدة معتزا بالشام كلها وبالنحارير منها بخاصة: محمد الحيان ناظم درها * لها الشام ورد والنحارير مصدر ومن حق بني حيان أن نقول إنها لم تخرج الشيخ محمد الحياني وحده، بل أخرجت في أوائل القرن الحادي عشر عالما شاعرا آخر اسمه أيضا الشيخ محمد، ولكنه لم ينا بعيدا عن بني حيان، وكان أقصى مكان رحل إليه في اغترابه هو بعلبك لذلك لم ينظم شيئا في ني حيان، بل حفظت له بعض المجاميع مثل قوله: آل بيت النبي يا عنصر المجد وشمس الفخار والأنساب يا كرام النفوس والأصل والفرع وبيض الوجوه والأحساب ومن القرن الحادي عشر وفي القرن الحادي عشر يطلع جبل عامل شاعرا عبقريا محلقا، لا عيب فيه إلا أن شعره فقد فلم يصلنا منه إلا بقايا، هذا الشاعر هو محمد محمود المشغري المتوفى سنة 1090 ه هذا الذي لو أدرك عصور العرب الزاهية لكان في تاريخها نظيرا لأكفأ الشعراء وأكثرهم إجادة وتفوقا. وقد اضطر هذا الشاعر لأن يهجر الجبل بحثا عن العيش، فمضى حتى حط به السير في رباع الحجاز في ظلال البيت العتيق بمكة حيث احتضنه أشرابها فعاش فيهم وسكن بينهم بعيدا عن أهله ووطنه. من القرن الثاني عشر إلى القرن الثالث عشر وفي أواخر القرن الثاني عشر إلى أوائل القرن الثالث عشر تكون النهضة الشعرية في جبل عامل قد تكاملت فتفتحت عن مجموعة من الشعراء الأفذاذ عاشوا أحداث بلادهم بشعرهم وشعورهم فكانوا لسانها الناطق وضميرها الحي وذهنها الوقاد. الشيخ إبراهيم الحاريصي وحسبنا منهم ابن قرية حاريص، الشيخ إبراهيم الحاريصي المتوفى سنة 1185 ه والذي كان أحد أعلام ذلك العهد، وقد أصر في إحدى قصائده على أن يشير إلى قريته الحبيبة وإلى القرية الأخرى التي درس فيها فقال هذا البيت من قصيدة: فتى حاريص مغناه ولكن * تلقى العلم وفرا من جويا للوقائع العسكرية التي خاضها العامليون كقوله: شوس تمد من السيوف قصارها * يوم الوغى ومن الرماح طوالها تجفو لدى كسب الثنا أرواحها * وتعاف في نيل المنى أموالها تهوي بها نحو الطراد سوابق * تخذت غبار الدارعين جلالها ما أطلقت في غارة ثم انثنت * إلا وبلغت المنى أبطالها وافى بها في يوم تربيخا وقد * جاست خيول الدارعين خلالها طافوا عليها بالصوارم والقنا * فكأنهم قطع الغمام حيالها جافت جفون كماتنا طيب الكرى * فيها وعافت عذبها وزلالها ألقت على ابن العظم كل عظيمة * فرأى أشد نكاية ما نالها ومن هذه الوقائع ومن تلك الروح العسكرية التي كانت تهيمن على البلاد في تلك العهود يستمد حكمته الآتية: بالسيف يفتح كل باب موصد * وبه من العليا بلوع المقصد من لم يكن بين الورى ذا صارم * فهو البعيد عن الفخار السرمد فإذا بدت لك حاجة فاستقضها * بغرار ماضي الشفرتين مهند ومن ذلك قوله في مطلع قصيدة: جرد من العزم سيفا واركب الحذرا * واجعل فؤادك في يوم الوغى حجرا ويمضي على هذا النحو في قصيدته غير رفيق ولا مشفق، داعيا إلى القوة مبشرا بالسلاح محذرا من الضعف واللين: وغالب الخصم لا تشفق عليه * ولا تركن إليه فلا يعفو إذا قدرا من لا حسام له لا يرتقي شرفا * وليس يدرك في حاجاته وطرا ونحن حين ندرس الظرف التي نظم فيه هذا الشعر ندرك العوامل التي أوحت للشاعر بما أوحت، فقد كان العامليون في ذلك الحين على سلاحهم ليلهم ونهارهم، لا يعرفون متى تدهمهم النوازل وتحدق بهم الكوارث ولقد خاضوا يومذاك أشد معاركهم عنفا وأروعها نتائج. وهكذا رأينا الشيخ إبراهيم الحاريصي يخرج عما ألفه الشعراء التقليديون من افتتاح قصائدهم دائما بالغزل، يخرج في الكثير من قصائده على ذلك الأسلوب فيفتتح بمثل ما رأينا في قصيدته الدالية المتقدم بعضها، وفي قصيدته الرائية هذه، وكذلك في غيرهما. ومن خصائصه ما نظمه في بعض مواقع بلاده كقلعة الشقيف التي كان يحكمها ممدوحه الشيخ علي الفارس: ما الشقيف الصلد إلا جنة * ولنا قصر بأعلاه استنار ليس يدنو منه في عظم البنا * قصر غمدان ولا عظم الجدار تنظر المرآة فيه فترى * فوقك النهر تراءى بانحدار ما رأينا قبل هذا جدولا * فوق قصر شامخ في الجو طار الشيخ إبراهيم يحيى ويأتي بعده بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الشيخ إبراهيم يحيى 1154 ه 1214 ابن قرية الطيبة وتكون البلاد على ما هي عليه من روح عسكرية حماسية ويكون هو كما كان الحاريصي وثيق الصلة بأمراء البلاد وله كالحاريصي فيهم المدائح العديدة، ولكننا لا نلمح في أكثر مطالع
124 قصائده ما لمحناه في شعر الحاريصي من العنفوان العسكري الصلب، على أن مدائحه تنصب في مضمونها على ما لممدوحيه من معارك ووقائع: فلست ترى إلا سلاحا على الثرى * وخيلا بها فقر إلى كل راكب وأعجب شئ أن خمسين فارسا * تمزق ألفي فارس بالقواضب وهكذا يقول أيضا: فثار إليه الجيش من كل جانب * فلست ترى إلا سيوفا عواريا ولست ترى إلا قتيلا وهاربا * ومنجدلا يشكو الجراح وعانيا وبينما هو على هذه الحال إذ تقع المحنة الكبرى بمباغتة أحمد باشا الجزار لجبل عامل وأخذه على حين غرة قبل أن تجتمع جموعه فيكون بذلك القضاء المبرم على قوة الجبل وحيويته وهنا يعود الشيخ إبراهيم يحيى شاعر تلك النكبة، نكبة البلاد بعامة، ونكبته هو بخاصة فنسمع منه شعر الرثاء والحنين والتوجع: غرام وتشتيت وشوق مبرح * فلله ما يلقى الفؤاد المقرح فيا أيها الناؤون عني عليكم * سلام يمسي حيكم ويصبح تحية مشتاق يكني عن الهوى * حياء ولكن الدموع تصرح ويقول: سقى الله هاتيك البلاد وأهلها * ملث الغوادي من لجين وعسجد ورد إلى أوطانه كل شاسع * يكابد ذلا بعد عز موطد ويقول وهو في العراق: أشيم بروق الشام شوقا إليكم * وهيهات من دار السلام سام ويقول: أكفكف دمع العين وهو غزير * وأكتم نار القلب وهي تفور وأنتشق الأرواح من نحو عامل * وفيها لمثلي سلوة وسرور منازل أحباب إذا ما ذكرتهم * شرقت بماء المزن وهو نمير خليلي أن الظلم طال ظلامه * فهل من تباشير الصباح بشير ويقول: مضى ما مضى والدهر بؤس وأنعم * وصبر الفتى أن مسه الضر أحزم يعز علينا أن نروح ومصرنا * لفرعون مغنى يصطفيه ومغنم ويقول: غريب يمد الطرف نحو بلاده * فيرجع بالحرمان وهو همول وهكذا يقدر للشيخ إبراهيم يحيى أن يكون شعره صورة الحياة العاملية في تلك الأيام بكل ما فيها من أرزاء وفواجع ودموع. الشيخ محمد علي خاتون (1) ومن شعراء أواخر القرن الثالث عشر نذكر ابن قرية جويا الشيخ محمد علي خاتون، ويكفي هذا الشاعر أنه استوحى طبيعة بلاده في قصيدة جاءت كما نعبر عنه في هذا العصر ونطلبه من الشعراء وهو ذات وحدة في الموضوع. والواقع أننا نلمس تقصيرا بارزا في الشعراء العامليين في مختلف العصور، هذا التقصير هو أن طبيعة الجبل لم تكن مصدرا لالهامهم فلم يخص واحد منهم واديا من الأودية الجميلة ولا ذروة من الذروات السامقة ولا ثنية من الثنايا البديعة، ولا شيئا في هذا الجبل من زهر وشجر وورد ونبع ونهر، لم يخص واحد منهم شيئا من هذا بقصيدة أو مقطوعة. والذين وصفوا قلعة الشقيف مثلا إنما وصفوها عرضا وهم يمدحون أمراءها. ولكن الشيخ محمد علي خاتون تميز بان وادي الحجير الجميل ونبعه وجدوله أوحت له بقطعة شعرية لم يدخل فيها إلا وصف وادي الحجير ونبعه وجدوله فقال: هذا الحجير فرو منه غليلا * واحبس ركابك في رباه طويلا نهر يزول صدى القلوب بمائه * فاق الفرات محاسنا والنيلا واد غدت فوق الغصون بدوحه * تشدو البلابل بكرة وأصيلا إن ضل قاصده الغداة طريقه * كان الأريج به عليه دليلا واد سقته المعصرات وأمطرت * فيه الهتان المرزمات سيولا فلكم أقمنا للشباب بظله * أودا وكم فيه اتخذت مقيلا والروض باسمة هناك ثغوره * جر الندا من فوقهن ذيولا إننا نرى في هذه الأبيات دليلا على تحسس الشاعر بما حبا الله بلاده من جمال طبيعي، وإذا عرفنا أن نهر الحجير هو جدول يجري شتاء ويستمر حتى أواخر الربيع ثم ينضب، إذا عرفنا ذلك عرفنا شغف الشاعر ببلاده إلى حد جعل عنده شبه النهر فيها يفوق بمحاسنه الفرات والنيل. على أن من أصدق ما في هذه الأبيات، قوله: واد سقته المعصرات وأمطرت * فيه الهتان المرزمات سيولا فتدفق وادي الحجير إنما يكون إذا سقته المعصرات، وأمطرت فيه المرزمات. والشيخ محمد علي خاتون هو مع غيره حصيلة النهضة الشعرية الجديدة التي تمخضت عنها البلاد بعد انجلاء غمة الجزار وزوال ذاك الكابوس المخيف الذي لم يبق ولم يذر، والذي قضى على المدارس والمعاهد وعطل فيما عطل الدراسات وشرد العلماء وغير العلماء. الشيخ صليبي الواكد (2) وفي هذا القرن يبرز الشيخ صليبي الواكد المعروف بأبي واكد الذي ينتمي إلى أسرة حمد نفسها والذي كان يسكن في قرية قانا. ومن المؤسف أنه لم يصلنا من شعر أبي واكد إلا القليل، بل ما دون القليل، وهو كل ما عثر عليه في بعض المجاميع الخطية القديمة، ولا شك أن لهذا الشاعر شعرا كثيرا ذهبت به الأيام. وما وصلنا من شعره يمثل فنا لطيفا من فنون الشعر هو فن الإخوانيات ولكنه إلى ذلك يدلنا على الكثير من العادات والأوضاع والصلات التي كانت تسود المجتمع العاملي. عاش هذا الشاعر في عصر حمد المحمود المعروف بحمد البيك (3) والمكنى بأبي فدعم والذي كانت تبنين له مقرا. وأرسل حمد البيك في أحد الأيام إلى قريبه أبي واكد أجراس أسبر ليضعها عند الصائغ مخول في قانا فلما تمت
(1) راجع ترجمته في الصفحة 10 من المجلد العاشر. (2) راجع ترجمته في الصفحة 390 من المجلد السابع. (3) هو حفيد الشيخ محمود النصار المعروف بأبي حمد، الذي كان تابعا لأخيه الشيخ ناصيف النصار وقد قتل في حياته ومن أجله. 125 وأرسلها إلى حمد البيك لم يستحسنها لضعف أصواتها وخمود حسها فأرجعها إليه ثانيا ليعطيها إلى الصائغ ويحسن أصواتها. فلما تمت كما أراد حمد البيك أرسلها إليه وأرسل معها هذه الأبيات: أفدي أبا فدعم إذ ظل يعذلني * من حيث أحمد حظي صوت أجراسي لا تعجبن لذا وأعجب لثانية * أن ليس يلحق بالأجراس أنفاسي هل ينكر البيك أعلى الله رتبته * سواد حظي وما يأتيه أنحاسي لو أن في جرسي القانون يردفه * مخارق بفنون الأوج والراسي بنغمة الناي والسنطير ملحقة * به النواقيس والصهباء في الكاسي لأسمع الحظ مني كل مستمع * صوت الذبابة قد طنت على الرأس فكيف بي وهو حظي كلما رفعت * يدي بشأن تولاها بانكاسي فالآن وافتك أجراس مطنطنة * تحكي النواقيس في راحات شماس قد أتقن الصنع منها عارف فطن * بصنعه خير حداد ونحاس فان تجدها كما تبغي صناعتها * فذاك من طالع الحداد في الناس وإن تكن تشبه الأولى فذلك من * حظي الذي قد رمى دوما باتعاسي فالمدح في صنعها أمسى لصانعها * والذم لي والكلام القارس القاسي يقول لله مخول وصنعته * كأنها ذهب قد صيغ في ماس أو لا يقال صليبي تهاون في * حسن الصياغة فهو الطاعم الكاسي ينال مخول فيها المدح إن حسنت * أو لا أبو واكد في الذم والياس والدلالة البارزة في هذا الشاعر هو أن الثقافة الأدبية كانت في جبل عامل شاملة أناسا من جميع الطبقات، وإذا كنا قد رأينا أن من مروا معنا فيما تقدم ومن سيأتون، هم من خريجي الدراسات الفقهية في المدارس المنتشرة في الجبل، أو ممن طمحوا إلى الأفضل فانتقلوا إلى النجف، فان ما يبدو من مظاهر ثقافة هذا الشاعر يدل على أن هذه الثقافة ليست فطرية بل هي نتيجة اطلاع ودرس وتتبع وفي ذلك ما يرشدنا إلى ما فعلته تلك المدارس من اجتذاب رجال من مختلف الطبقات، وإعدادهم إما للعلم أو للشعر والأدب، وفي الشيخ صليبي الواكد أفضل مثال. وإذا كان لكل واحد من الشعراء العامليين مواضيعه وأسلوبه، فإننا نستطيع أن نضيف إلى ذلك أن هناك قاسما مشتركا كان يجمع بينهم جميعا، هو أنه مهما كانت اتجاهات الشاعر، فإنه سيلتقي حتما مع غيره من شعراء عصره وما قبل عصره وما بعد عصره في نقطة معينة هي مدح علي بن أبي طالب وأهل البيت ع. وهذا ما نراه هنا في شعر صليبي الواكد الذي أقام في قرية قانا لم يبرحها، وإذا كان قد برحها فربما إلى تبنين أو صور ليس إلا. وهكذا فإنه لا يتخلف عن النظم في هذا الموضوع لا الشاعر الفقيه سليل الفقهاء ولا الشاعر الوجيه سليل الوجهاء، وها هو أبو واكد يقول من أبيات: يا آل بيت محمد لي فيكم * أمل إذا نصب الصراط أجوز أنتم نجاتي في المعاد وعدتي * وبكم إذا وضع الحساب أفوز وهكذا يلتقي في آل بيت محمد كل الشعراء العامليين على اختلاف ميولهم ومواضيعهم. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى أنه إذا كان لقب الشيخ قد أطلق على من رأينا من الشعراء كما أطلق على الشيخ صليبي الواكد، فان هذا اللقب لا يدل على صفة واحدة فيهما، فان الأولين قد نالوه لأنهم رجال فقه ودين. أما أبو واكد فلأن أسرته الوجيهة كانت حتى ذلك الوقت تلقب بهذا اللقب تدليلا على وجاهتها، وأول تحول في اللقب جرى في هذه الأسرة كان ما جرى على عهد حمد المحمود قريب شاعرنا الواكد ومعاصره. فهو أول من استبدل لقب البيك بلقب الشيخ، وظل غيره من أقاربه المعاصرين يحملون اللقب القديم، ولذلك كان يطلق عليه أكثر الأحيان اسم حمد البيك كما أنه أول من اقتدى بالسلطان محمود فخلع الملابس القديمة وفي مقدمتها العمامة ولبس الطربوش والملابس الأوروبية الحديثة. وفي شعر الشيخ صليبي ما يدل على بعض الأحداث في زمانه، فقد أدركنا نحن في مطالع حياتنا الصلة الوثيقة بين جبل عامل وحوران، فقد كان إدبار المواسم الزراعية في جبل عامل يحمل العامليين على النزوح خلال الصيف إلى حوران، كما أن إدبارها في حوران كان يحمل الحورانيين على النزوح إلى جبل عامل. والفرق بين النزوحيين كان في أن العامليين كانوا ينزحون أفرادا للعمل في موسم الحصاد. أما الحورانيون فكانوا ينزحون بأسرهم وأنعامهم، لأن في إدبار الموسم الشتوي في جبل عامل تبقى المواسم الصيفية وكرم التين والعنب، أما في حوران فقد كان الادبار معناه فقدان كل شئ لأنه لا أشجار مثمرة في حوران. وبالرغم من أن هذا التبادل في الادبار والاقبال كان يقتضي المؤاخاة ورفع الأضغان فقد كان على العكس من ذلك كثيرا ما يؤدي إلى التصارع والتقاتل. ويبدو أن شيئا من هذا قد حدث في عصر أبي واكد وأن حدوثه كان في حوران خلال النزوح العاملي فأغاظ ذلك شاعرنا فقال هاجيا حوران مشاركا في المعركة بشعره من بعيد، مستغلا الصفة البركانية السوداء لأحجار بيوت حوران: أسائلهم لمن حوران تعزى * فقالوا للذئاب وللكلاب مرابعهم كلون القار سود * ودورهم على جرف الخراب فلم تسمع بها إلا نباحا * ولم تبصر بها غير الذباب ولا تلقى بها إلا كلابا * ولا تلفي بها غير التراب وكم آوى لنا منها جياع * فتقرى بالطعام وبالشراب ويغفر الله لشاعرنا هذا الهجاء المرير، وإذا كنا نجيز لأنفسنا نقله اليوم فلأن الماضي قد مضى بكل أحداثه فلا نزوح عاملي إلى حوران، ولا نزوح حوراني إلى جبل عامل، وقد تبدلت الدنيا، لذلك فنحن حين ننقل هذا الشعر لن نهيج شرا ولن نثير حدثا. وإنما نبسط لونا طريفا من ألوان الحياة في هذه البلاد، وقد كان يستطيع أي حوراني أن يرد على الشيخ صليبي هجاءه ويقول له: ونحن أيضا كم آوينا منكم غريبا، وكم أعملنا عاطلا، وكم قرينا نازحا... وأن الذباب في دياركم ليموج موجه في ديارنا، والتراب بين بيوتكم يتراكم مثله بين بيوتنا، والذئاب تعوي بدياركم عويها في برارينا، والكلاب الشاردة تسرح خلال منازلكم سرحها خلال منازلنا. والفرق بيننا وبينكم أن بلادكم أنجبت شاعرا استطاع أن يهجونا، وبلادنا لم تصل إلى ذلك. ولعل في هذا الشعر ما يمكن أن يكون استمرارا للتهاجي العربي القديم بين القبائل مما كان يجعل الشاعر لسان قبيلته، ويجعل القبيلة معتزة بشاعرها حفية به، وما يعيد إلى أذهاننا أمثال:
126 فغض الطرف أنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا فلو وضعت ثياب بني نمير * على خبث الحديد إذا لذابا وأمثال: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا * ولو سلكت سبل المكارم ضلت السياسة من حال إلى حال في هذه الفترات كانت الأحوال السياسية في الجبل تتحول من حال إلى حال، ثم من هذا الحال إلى حال آخر، كانت جيوش إبراهيم باشا قد دخلت البلاد، وكان الأمير بشير حليف الفاتحين، فضموا إليه فيما ضموا جبل عامل وكانت له ثارات على العامليين وكان يحقد عليهم كل الحقد فزال عن الجبل ما كان له من تميز خاص وغدا تابعا لا سلطة لأمرائه، ولا سيادة لأهله، وتطور الحكم الجديد فغدا قاسيا عنيفا حاقدا، ومضى بلا خبرة له في حقائق الأمور فلم يحسن معالجتها، وقامت ثورة حسين بك الشبيب، وأخوه محمد علي بك الشبيب سنة 1836 م متحدية الحكم البشيري ومن ورائه الحكم الإبراهيمي واستطاعت أن تحقق نجاحا أول الأمر، ثم توارى زعيماها وانتهى أمرهما على أسوأ حال. فعانت البلاد ضغطا فظيعا، وقاست بلاء شديدا. وكان فيها مجموعة من الشعراء المجيدين، ولكننا لا نسمع لهم صوتا يدل على أنهم تبنوا شكوى الجبل وحملوا أحاسيسه. موقف الشعراء؟ ما ذا؟... أخالوا رسالتهم الشعرية وانفضوا عن مجتمعهم الجريح غير مبالين بما يتعالى من أنين فيه، وغير مساهمين بما يتلظى فيه من حماسة مكبوتة؟ الواقع أنه ليس في أيدينا من شعر تلك الفترة ما يدل على أن شعراءها قد شاركوا في شئ من شجون الجبل، أو أنهم كانوا صدى لما يعتمل في نفوس أبنائه... فما ذا يعني ذلك؟ أن أول ما يتبادر إلى الذهن أن الشعراء ليسوا من رجال الشدائد، ولا هم ممن يجازف في نقمة عارمة ربما عادت على أصحابها بالشر العميم. ولذلك آثروا السكوت والانزواء. ولكنا نلاحظ في نفس الوقت أن لا شعر لهم في الحكام الجدد، وأن ليس في أيدينا ما يدل على نوع الصلة التي كانت تربط هؤلاء بهؤلاء، ويكفي ذلك لأن نحمد للشعراء موقفهم، فهم إذا كانوا لم يساهموا في النقمة بشعرهم فإنهم لم يتملقوا الحاكمين ليكسبوا المال على حساب ظلم شعبهم واهتضام جبلهم، ليس في أيدينا شعر يدل على مدائح سطرت في الثناء على السلطات الجديدة. وهكذا نجد أننا نفتقد كلا النوعين من الشعر شعر الثورة وشعر الخنوع... فعلى أي شئ يدل ذلك... لعل الشعراء قد شاركوا في النقمة بشعرهم، ولكن ظل هذا الشعر همسا لا يتعدى الجدران الخصوصية، ثم تمزق لطول ما استخفى. ولكي نكون منصفين نقول أيضا: ولعل الشعراء لم يكونوا ثائرين، بل كانوا في الصف الآخر يتملقون الحاكمين، ثم لما انطوى علم هؤلاء وفاز خصومهم أخفى الشعراء شعرهم وأضاعوه. من المؤسف أن لا يصلنا شعر يرجح أحد الرأيين، ومن الأكثر أسفا أن لا تحوي مجاميعنا شعرا كان يمكن أن يكون لو وجد من أغنى الشعر وأكثره لذة وجدوى. حمد المحمود (1) كان زعيم الجبل يومذاك حمد البيك أو حمد المحمود وهو رجل من أنبغ من أنجبت أسرته. كان فارسا مقداما، وكان أديبا شاعرا. وتلقى حمد الحكم الإبراهيمي الجديد بأسى عميق، لقد أفقده سلطته، وغدا ظلا لا حول له ولا طول. ورأى فشل ثورة الشبيبيين فاثر الصبر، ولما لاحت له الفرصة ذهب يغتنمها، فقد أقبلت الجيوش العثمانية تطارد المصريين ووصلت طلائعها إلى حلب، وتحرك الأسطول الانكليزي بجبروته في البحر المتوسط، فاستصرخ حمد قومه فلبوه وزحف بهم ليلاقي الأمير مجيد الشهابي على جسر القاقعية فيهزمه ويمضي حيث يلتقي بالجيوش العثمانية في حمص ويخوض معها معاركها كلها على المصريين، ويعجب به القائد التركي عزت باشا فيعينه حاكما على جبل عامل ويطلب إليه أن يطارد المصريين في قلب الجبل وأن يتقدم إلى فلسطين، ويمضي حمد لما أودع إليه، فيلتقي بجيوش إبراهيم باشا في سهل رميش ثم في وادي الحبيس ثم في صميم فلسطين في شفا عمرو، ثم يحتل صفد ويمضي فيستولي بعدها على طبرية وعكة والناصرة وغيرها. هنا في ساعات النصر يبرز الشعراء ملتفين حول حمد، مندفعين في تهنئته والإشادة بانتصاراته والتغني بأمجاد الجبل. وحمد كما قلنا إلى جانب مكانته، كان شاعرا. فاجتمع للشعراء: أمير تشوقه المدائح، وشاعر يفهم ما يقولون، وأمجاد مغرية بالمدح. فالتقى في قصر حمد مجموعة من الشعراء لم يلتق مثلها إلا في قصور الملوك السالفين. ويخيل إليك وأنت تراجع شعر تلك الفترة أن حياة مصغرة لسيف الدولة الحمداني قد انبعثت في الجبل... وإذا كانت مدائح شعراء سيف الدولة تظل غير ممجوجة لأنها في جوهرها إشادة بانتصاراته على الروم، وتغن بالوقائع العسكرية العربية، وملاحم شعرية رائعة فكذلك هي مدائح شعراء حمد المحمود الوائلي، وكما كان سيف الدولة شاعرا ذواقة فكذلك كان حمد، وكما كان الأول فارسا مقداما فكذلك كان الثاني... وإذا كان ما بقي من أوراق تلك الفترة لم يسجل لنا مقادير العطايا، كما سجلها عصر سيف الدولة، فلا شك أن عطايا حمد كانت غير قليلة، لا سيما وقد أصبح الحاكم المطلق في البلاد، منصوبا من الدولة التي قدرت له موقفه فأطلقت يده في الجبل، وككل حاكم مطلق ينطلق في اجتناء أكثر ما يستطيع من المكاسب، انطلق حمد، فكان المال موفورا، واليد مبسوطة. فازدهر الشعر ازدهارا يعز مثيله وشهد جبل عامل عصرا ذهبيا للشعر. وإذا كنا قد عرفنا الكثير من وقائع حمد، فإننا لم نعرف الكثير من شعره، فلم يكن يعني على ما يبدو بتدوين شعره، لأنه كان في شاغل عنه، شانه في ذلك شان سيف الدولة الذي لم يصلنا إلا القليل من شعره. وكل ما لدي الآن وأنا أكتب هذا الكلام من شعر حمد هذان البيتان الغزليان اللذان قالت مجلة العرفان إن محمود باشا الشلبي رواهما لشبيب باشا الأسعد وأنه وجدهما في مجموع مخطوط (2):
(1) راجع ترجمته في الصفحة 230 وما بعدها من المجلد السادس. (2) الجزء الأول من المجلد الثامن من مجلة العرفان الصفحة 67. 127 حضرت فكنت في بصري مقيما * وغبت فكنت في وسط الفؤاد وما شطت بنا دار ولكن * نقلت من السواد إلى السواد وحسبهما دلالة على شاعرية صاحبهما. تبنين وكانت تبنين قاعدة حكمه، وفيها ملتقى وفاده، وكان قد جدد بناء قلعتها، هذه القلعة التي شهدت أزهى أمجادها أيام سلفه الشيخ ناصيف النصار، ثم حال الزمن بعد استشهاد ناصيف وزالت عن مكانتها حتى أتاها حمد فأعلى بنيانها وأعاد رونقها وجعلها قصرا منيفا هو أشبه ما يكون بالبلاط الملكي برجاله وشعرائه وبطشه واعتداده. وكان للشعر نصيب في تجديد القلعة إذ أشار الشعر إلى ماضيها وأرخ تجديدها في أبيات وجدت في بعض المخطوطات العاملية دون أن يعرف ناظمها، وهي مثال لشعر التاريخ في ذلك العصر، جاء فيها: حصن تبنين رفيع شامخ * شاده بالعز غوث المسلمين ذاك ناصيف ملاذ الملتجي * مامن الخائف غيث المعتفين وبه نالت فخارا عامل * ذكره باق لها في الآخرين ما الذي حل بها من بعده * ودهاها من فعال الجائرين جدد اليوم لها الفخر فتى * عود السيف على قطع الوتين دارة البدر لقد جددها * حمد القوم لأمن الخائفين مربعا للعز قد شاد لنا * ناصر الاسلام غوث العالمين يا لها من قلعة تاريخها * تبنين برج السعد حصن المؤمنين لون من الشعر وشعر التاريخ هو في الأغلب متكلف غير مطبوع، وقد زاد على ذلك بيت التاريخ في هذه القطعة أنه جاء خارجا عن الوزن بزيادة الباء والنون في كلمة تبنين، وذلك ليستقيم التاريخ فيأتي مطابقا لسنة البناء 1258 هجرية. ونحن حين ننشر هذه القطعة إنما ندل على فن من فنون الشعر كان مما تعاطاه شعراء حمد، ونقدم أنموذجا من اللون الشعري في ذلك العهد كما نستخلص منه المرارة التي ظل يحسها العامليون طوال العهود مما جناه أحمد باشا الجزار على بلادهم، وكان منه تهديم القلعة واستشهاد صاحبها، على يد من وصفهم الشاعر بالجائرين. ولذلك لم يستطع الشاعر المؤرخ، وهو يبتهج بتجديد القلعة ويهنئ مجددها إلا أن يتذكر ما نال بلاده ومنها القلعة من الجور، وإلا أن يشير إلى ما كانت عليه بلاده من المنعة والاعتزاز قبل ذلك، فأصر على أن يقرن إشادة ناصيف لها بكلمة العز ثم على أن يشير إلى الصفة البارزة في حمد وهي قطع الوتين بالسيف. والأبيات بمجموعها ترينا الروح التي كانت سائدة في بلاط حمد من تباه بالماضي. تباه ممزوج بالحسرة على ما عاد إليه ذلك الماضي، ثم عودة إلى التباهي بالحاضر الذي يجدد ما انهدم من الحصون، ويجرد ما انغمد من السيوف. طرائق الشعر في هذا العصر وليست هذه الأبيات وحدها هي التي ترينا ذلك بل أن الكثير من الشعر الذي نظم يومذاك يرينا عين الأمر، ويرينا كيف أصبحت تبنين مرمى الأبصار، ومنتجع الآمال، فهذا الشيخ صليبي الواكد شاعرنا الذي مر ذكره يرسل إلى حمد أبياتا هي في الواقع الصورة الواضحة لاحساس الناس ومظاهر الحياة، بعد أن امتشق الجبل السيف وخاض المعارك وانتصر، وبنى حاكمه أمره على القوة العسكرية والسلاح الحربي، فغدا ذلك هو موضوع المدح، وهو المآثر التي تذكر للممدوح. جد المسير إلى تبنين تلق بها * شهما إلى ذروة العيوق مرقاه قد أصبحت من نداه روضة وغدت * حصنا مكينا وعين الله ترعاه ربيعها حمد المنهل من يده * غيث لو الزمن استسقاه رواه مولى له خضعت هام الملوك وقد * ساس الأمور فأضحت طوع يمناه ليث براثنه البيض الرقاق ومن * يلقى الألوف فتخشى هول لقياه فاسلم بعز ومجد غير منقطع * مليك فضل وشكر من رعاياه فالحديث في هذا الشعر هو عن الحصن المكين وخضوع هام الملوك والبيض الرقاق ولقيا الألوف وإقامة عمود المجد. مضافا إلى الحديث عن الندى الذي لا بد منه لمن كانت له مثل هذه المواقف. ثم ذكر كلمة مليك في آخر الأبيات موصوفا بها حمد. هذي هي روح شعر المدح في معظم شعراء حمد كما سنرى فيما بعد، وهذه مظاهر الشعور في ذلك العهد. على أننا لا بد لنا من التساؤل عن الحقيقة فيما جاء في البيت الأخير من شكر الرعايا لهذا المليك. والحقيقة التي لا شك فيها أن حمدا قد استحق أول الأمر شكر الرعايا فعلا، بما حققه لهم من إزاحة ذلك الكابوس الذي سامهم من الضيم ما لم يتعودوا... ولكن إلى متى استمر ذلك الشكر...؟ حركة شعبية هذا ما تجيب عليه الأحداث التي توالت بعد ذلك، فيبدو أن حمدا، وقد انتصر فيما أقدم عليه، ثم تعزز بتعيين الدولة له حاكما مطلقا على الجبل ووقوفها من ورائه تسنده وتؤيده ثم بالتفاف الناس حوله وابتهاجهم بما فعل. يبدو أن حمدا وقد حاز كل ذلك، راح ينطلق فيما يجر إليه هذا التفرد بالسلطة والتملك للقوة، فمال إلى الطغيان والاستهتار بالشعب والعبث فيه. ويبدو أن الشعب أو الرعايا كما عبر عنهم أبو واكد لم يتحملوا ذلك، كما يبدو أن الحملة المصرية بما رافقها من تنبه الشعور العام وما صاحبها من تغلغل أفكار جديدة وأساليب حديثة لم يكن للبلاد عهد بها من قبل، يبدو أن ذلك قد ساعد على عدم التحمل، فقامت حركة شعبية هي الأولى من نوعها في جبل عامل تنادي بالتخلص مما يجري، وتجمع الناس بقيادة الحاج قاسم الزين وألفوا وفدا ضخما قصد إلى بيروت وحملوا معهم دلائل من الزروع المتلوفة بفعل إقدام الصيادين من الحكام وقابلوا والي ولاية الشام الذي كان قد حضر إلى بيروت وشكوا له ما يلقى الناس من المتسلطين. ويورد أحد المؤرخين العامليين شكواهم بهذه العبارات: شكوا لوالي الشام حينما حضر إلى بيروت من حمد البيك وقالوا إن العشائر وعلى رأسهم حمد البيك فضلا عن ظلمهم وتعديهم على الفقراء والفلاحين قد أتلفوا المزروعات بالصيد والقنص. وحملوا معهم شيئا من الزرع المتلف وأروا الوالي إياه.
128 نجاح الحركة هذه العبارة التي أوردها المؤرخ العاملي ترينا الموقف على حقيقته، ويبدو أن الوالي كان على شئ من الخير والإنصاف، أو أن الدولة قد أرادت كبح جماح حمد بعد أن رأت إدلاله عليها، أو أن الأمرين اجتمعا معا، فأصدر الوالي أمرا بعزل حمد من حاكمية جبل عامل. واختير لها رجل من الشعب من بلدة النبطية هو الشيخ حسين مروة، ولكن يبدو أن الاختيار لم يكن موفقا، إما لأن الرجل لم يكن كفء فطغى رجاله بدون علمه كما طغى السابقون، أو لأن السلطة مغرية للجميع حاملة لهم على الطغيان فطغى هو نفسه، فلم تتحقق أماني الشعب. ولم يصبر حمد على الأمر طويلا واستطاع العودة إلى منصبه بعد ستة شهور من عزله ورجع إلى البلاد بموكب حافل زاخر. ويبدو أن من عوامل نجاح هذه الحركة هو تدخل الحاج قاسم الزين وتوليه التحريض ثم قيادة المحتجين إلى مقابلة الوالي. وقد يظهر غريبا أن يشارك الحاج قاسم الزين في مثل هذا التحريض في حين أنه ليس ممن يمكن أن ينالهم أذى حمد، بل يمكن عدة من المتسلطين. ولكن الغرابة تزول إذا عرفنا أن ذلك إنما كان لأن نزاعا قام بين آل الزين وبين حمد بسبب الشيخ علي زيدان، ويروي صاحب جواهر الحكم قصة هذا النزاع بما يلي: إن هذا الشيخ علي زيدان كانت بينه وبين بيت الزين اختلافات على أراضي وأملاك واتصلت لولاة الأمر وحصل التشكي على أمير جبل عامل حمد البيك بسبب أنه منع بيت الزين عن الشيخ. موقف الشعراء هذه الحركة الشعبية التي استطاعت أن تزعزع زعيما عريقا وحاكما مستطيلا. والتي كان باعثها التوق إلى الحرية والعدل، والنقمة على الاستبداد والظلم، والتي نظمت تنظيما دقيقا بحيث تجرأت على التجمع وإعلان السخط، ثم على تآليف الوفد وإحكام الخطة، ثم الفوز بما أرادت. هذه الحركة الشعبية لا نجد فيها للشعراء أي موقف. فقد غابوا عنها وصمتوا صمتا كاملا. وليس فيما وصلنا من الشعر أي شئ يدل على أن الشعراء شاركوا الشعب نقمته، وساهموا في احتجاجه. وهذا غير عجيب ما داموا هم في الأصل شعراء حمد لا شعراء الشعب. على أننا نجد في شعر أحدهم الشيخ حبيب الكاظمي الذي كان من أكثرهم التصاقا بحمد، ومن أعظمهم مودة عنده نجد في شعره قصيدة تدل على أن حمدا كان غاضبا عليه، وإنه نظمها استرضاء له واستعطافا، بل طلبا للعفو: إن كانت العتبى تقدم لي بها * ذنب فان العفو عين ورود فما هو الذنب الذي أذى ارتكابه إلى أن يستحق غضبا يطالب بعده بالعفو. ونحن نعلم أن صلة الكاظمي بحمد تعود إلى أيام خمول الأخير على حد تعبير الشيخ محمد مغنية في كتابه جواهر الحكم، وأنه لذلك قربه كل تقريب بعد نباهة أمره وانتصاراته وتوليه الحكم فلما ذا غضب عليه بعد هذا؟ أيمكن أن يكون ذلك لأن الشاعر ماشى خصوم حمد؟ إن صح هذا الأمر فإننا لا نحسب أن الكاظمي قد غامر بمماشاة الحركة الشعبية، بل ربما كان قد اعتقد بأفول نجم حمد أفولا نهائيا فماشى الحاكم الجديد، ثم انتهى الأمر على غير ما اعتقد. وعدا هذه اللمحة في شعر الكاظمي فانا لا نلمح أي شئ في شعر غيره وسنتحدث بعد عن الكاظمي حديثا آخر. الشيخ علي مروة (1) من شعراء عصر حمد المحمود، الشيخ علي مروة. وهو من الشعراء الذين كان لهم بحمد المحمود أوثق الصلات وممن ساهم في الحديث عن انتصاراته ووقائعه وسجل ذلك في ديوانه المخطوط. وقدم لإحدى قصائده بقوله: قلت أمدح الشيخ حمد سنة 1256 حين توجه إلى فتح بلاد صفد وعكا ومحاربة الدولة المصرية. فهو يحدد لنا بذلك تاريخ القصيدة وسبب نظمها. ثم إن في تلقيبه حمدا بلقب الشيخ دون لقب البيك دليلا على أن العامليين لم يكونوا قد استساغوا بعد اللقب الأعجمي الجديد وأنهم ظلوا يؤثرون عليه اللقب العربي القديم. ويبدأ قصيدته بالحديث عن راحلته التي أقلته إلى ممدوحه: باتت على مضض السرى سهدا * مشغوفة في سيرها أمدا وبعد أن يسترسل بذلك في أربعة أبيات يصف فيها الراحلة والجو والأفق يقول: حتى أتت أم القرى ورأت * في ربعها ليث الثرى حمدا وأم القرى المقصودة هنا هي تبنين. وبعد أن يتحدث عن أسلاف حمد وأنه ورث عنهم العلياء يعود إلى مخاطبة حمد نفسه: وأقمت من أمر النظام بها * ما كان من معوجة فسدا يا من بنى المجد الأثيل على * رغم العدى فاستظهروا حسدا فخرت بك الشامات وابتهجت * لما جلوت عن القلوب صدا فهو هنا يسير على النهج الذي غلب على شعراء حمد المحمود، والذي شقته لهم الظروف العسكرية والعوامل الحربية التي رافقت حياة حمد. فحمد في هذا الشعر ليس مفخرا لجبل عامل وحده، ولا الجبل وحده هو الذي بتهج بما فعل حمد، بل إن الشامات كلها هي الفخورة المبتهجة. ومن الطبيعي أن يقول الشاعر هذا القول لأن الذي عمله حمد لم تكن نتائجه مقتصرة على الجبل وحده، فالثورة على الحكم الإبراهيمي كانت عامة والنقمة كانت شاملة. ثم يحدد الشاعر العوامل التي أدت إلى هذا الافتخار والابتهاج بأنها كانت في تقويم إعوجاج النظام الذي كان قد فسد. النظام ونحن مضطرون للوقوف عند كلمة النظام وقفة قصيرة فقد وردت هذه الكلمة في شعر شاعر آخر من شعراء حمد وهو يتحدث عن نفس الأحداث وردت بمعنى الجيش النظامي تمييزا له عن الجيش الشعبي والمتطوعين.
(1) راجع ترجمته في الصفحة 202 وما بعدها من المجلد الثامن. 129 فقد قال الشيخ حبيب الكاظمي في حمد نفسه: برميش كيف أوطأت العدى * ضمر الخيل فنكست النظاما فهل النظام الذي كان قد أعوج وفسد في رأي الشيخ علي مروة ثم أصلحه وقومه حمد المحمود هو الجيش النظامي كما قصد بذلك الشاعر الكاظمي أم هو النظام العام للحكم؟ الأغلب أن المقصود هنا هو نظام الحكم، وأن كلا من الشاعرين استعمل كلمة النظام في معنى غير الذي استعمله فيه الآخر. وأيا كان مقصود الشاعر فإننا نلمح هنا شيئا جديدا في شعر شعراء هذه الفترة من التحدث عن الأمور العامة في معرض المدح وربط مصائر جبلهم بمصائر البلاد الشامية، والإشارة إلى الفساد وتقويم الاعوجاج مما لا عهد لنا به في شعر الفترات السابقة. ولا شك أن هذا كله ناتج عن تنبه الأذهان بما حركته الحملة المصرية في النفوس وما أتت به من آراء جديدة وتصرفات حديثة لم تكن معهودة من قبل. وسواء كانت الثورة على الحكم الإبراهيمي ثورة ظالمة أو كانت محقة، فإننا لا نستطيع أن نسلم مع الشاعر بان النظام كان قبل الحملة المصرية صالحا، وإنه عاد بعدها أكثر صلاحا. صورة عن البلاط الحمداني وبعد الأبيات المتقدمة يخص الشاعر ممدوحه ببيتين من الثناء الشخصي التقليدي فلا حاتم مثله ولا الأحنف، ثم ينتقل إلى اللون الجديد من المدح المرتكز على العمل العسكري والانتصارات الحربية: لم يبغه أحد ينازله * إلا موارد حتفه وردا فهنا منازلة تنتهي بموت العدو، وقد انتهت بذلك فعلا ولا بد من تعداد المعارك التي خاضها حمد، ونازل فيها عدوه: فاسال رميشا حين باكرها * بالغارة الشعوا وسل صفدا واسال بروجا زلزلت وهوت * من عكة لما أن احتشدا خرت له في الحال ساجدة * والسور تعظيما له سجدا والنصر وافاه بناصرة * وانحل ما القاضي بها عقدا خابت مساعيه ومامله * إذ لم يصب من أمره رشدا أمست أنوف القوم مرغمة * مذ أنجز الاقبال ما وعدا نحن نحس هنا أننا أمام شاعر من شعراء سيف الدولة يتحدث عن معاركه ومنازلها ووقائعه وأماكنها. ويتمدح بانتصاراته وهزيمة عدوه. ويحدد لنا خطة سير البطل. فمن سهل رميش حيث وقعت وقعة جلى ثبتت إقدام الممدوح، إلى اجتياز حدود الجبل نحو فلسطين حيث سلمت صفد ثم مواصلة الزحف إلى عكة حيث استقبلت الزاحفين ببروجها ولكن البروج زلزلت وهوت أمام الحشد العاملي المتقدم، وسجدت وسجد معها السور الشهير الذي رد نابليون خاسرا، سجدت مع سورها تعظيما للمنتصرين ويا له من سجود ذليل... ثم التقدم من عكة إلى مدينة الناصرة، فمن نصر إلى نصر... وهنا يشير الشاعر إلى حديث نجهل تفاصيله، ولا بد أن قاضي الناصرة قد دبر أمرا لافساد تقدم الفاتحين، ولكن الفاتحين حلوا ما عقده، وأكملوا خطواتهم إلى الإمام. وهنا تكون المهمة المعهود تنفيذها إلى حمد قد تمت كلها فليس بعد فلسطين غير الانسحاب الإبراهيمي التام وعودة الجيوش من حيث أتت. وبذلك تكون أنوف القوم قد رغمت وهل بعد هذا من حديث؟... هذه صورة مصغرة لمشهد من مشاهد البلاط الحمداني كما قلت من قبل تتمثل هنا في هذا البلاط الصغير، يعرضها لنا، لا شاعر حمد الأول، لا متنبي البلاط الوائلي، بل واحد من شعراء الصف الثاني الذين رأينا أشباههم في بلاط سيف الدولة. أما متنبي هذا البلاط فلنا أن نقول إنه الشيخ حبيب الكاظمي، ويمكن أن يقال أيضا إنه الشيخ علي سبيتي، وهما ممن سيرد ذكرهما في الآتي من القول. الشيخ حبيب الكاظمي (1) لم يكن هذا الشاعر عاملي الأصل، بل هو من أصل عراقي كاظمي وفد إلى جبل عامل وفيه تفتحت شاعريته ونضجت موهبته وصار واحدا من شعراء عهد حمد المحمود. وكانت حياته ترتكز على الشعر فقد يمدح الأضداد حين يرى أن ذلك أكثر فائدة له. وقد تقدم القول أن صلته بحمد كانت قبل أن يتألق نجم حمد، لذلك، رأينا حمدا يدنيه إليه بعد أن صار أمره إلى ما صار من التفرد بحكم جبل عامل والسيطرة عليه. ولكن حاله هذه لم تكن دائما مستقرة، بل كان يمازجها نفور بينهما يعاتب فيه الشاعر حمدا أحيانا، ويستعطفه أحيانا، وإذا جاز لنا أن نقول إنه كان في بلاط حمد أشبه بالمتنبي في بلاط سيف الدولة، جاز لنا أن نقول إن قصيدته النونية في عتاب حمد تكاد تشبه قصيدة المتنبي الميمية في عتاب سيف الدولة. فيبدو أن نبوة حدثت بينهما سببها كما نفهم من القصيدة ما اعتقده الشاعر من إهمال حمد له وعدم تحقيق رغباته، فلم يتورع عن مهاجمة حمد والثناء على خصمه وقريبه حسين بك السلمان يقول في مطلعها: يا بيك عند للعتاب لسان * فيه لغيرك صارم وسنان وبعد التعريض بالشعراء الآخرين الذين يفدون إلى حمد فيحسن عطاءهم دون أن يحسنوا الشعر بزعمه وكيف أن نصيبه الحرمان: لهم الغباوة والفسالة والعطا * والفضل لي والمدح والحرمان وبعد أن يسترسل في ذلك قائلا أمثال هذا: فاصح ما ألفيت أن وعودكم * مثل السراب ومثلي الظمآن تغري بنا الأوهام في أطماعها * حرصا على الموهوم وهو عيان فالله يجزي عنكم أوهامنا * خيرا وجاد شبابها الريعان ثم يعترف بما في المدح من غضاضة: لكم بها حسن الثناء مؤبدا * ولنا بهن مذلة وهوان ثم يلمح إلى ما يبدو أن حمدا قد اعتذر به من اضطراره لمسايرة الآخرين معتمدا على صداقة الكاظمي: ورسمت أن تقربي لك باعث * قطعي صدقت وفي النوى الرجحان فليشكر الرحمن من هو عنكم * ناء ويغني عنكم السلوان
(1) راجع ترجمته في الصفحة 541 من المجلد الرابع. 130 وهذا كله نلمح فيه مشابهة مما حوته قصيدة المتنبي الميمية في عتاب سيف الدولة على بعد ما بين الشاعريتين ونلمح فيه مشابهة من تزاحم الشعراء هنا كتزاحمهم هناك ويسترسل الكاظمي بهذا وأمثاله إلى أن يصل إلى هذا الاعتراف الطريف: بعناكم دينا لنشري منكم * دنيا فلا الدنيا ولا الايمان ثم يوغل في الاعتراف مقرا أن فيما كان فيه من نظم المديح هو خيانة: ها جزاء الطامعين بأنهم * خانت بهم أوهامهم إذ خانوا ثم يتعجب من ضياع مثله عند مثل حمد: ويضيع مثلي عند مثلك إن ذا * أمر تضل بمثله الأذهان وبعد أن يصل إلى هذا الحد يوقن أنه لا يستطيع أن يعيش دون ممدوح جديد، فيتلفت إلى خصم حمد مشيرا إليه إشارة صريحة، معلنا أن أمله سيتحقق به وحده: ما شد ضبعي في الورى إلا الذي * قد شق نبعة دوحه سلمان وكنا قد أشرنا من قبل إلى القصيدة التي استعطف بها شاعرنا ممدوحه حمد وطلب عفوه وقلنا أيمكن أن يكون غضب حمد عليه لأن الشاعر قد ناصر الحركة الشعبية التي استهدفت حمدا، أو ناصر الحاكم الجديد الذي خلف حمدا؟ وإننا نتساءل هنا: هل كانت قصيدة الاستعطاف التي أشرنا إليها، نتيجة لغضب حمد من هذه القصيدة النونية؟ أم أن تلك القصيدة كانت نتيجة حادث آخر؟... أكبر الظن أن القصيدة الدالية بعيدة عن موضوع هذه القصيدة وأن تلك كانت نتيجة غضب شديد من حمد على شاعره، غضب مبعثه شئ أهم من هذا العتاب في هذه القصيدة. وقد جاء في ترجمة الكاظمي في أعيان الشيعة أبيات ذكر في تقديمها أنه يمدح بها بعض الأمراء ويعرض بذم غيره. وقد جاء هذا الذم قاسيا عنيفا يدل على قطيعة كاملة من الشاعر لهذا الأمير المذموم: إن كنت والناس في الناسوت متحدا * فالعود والعود ذا ند وذا حطب وبعد عدة أبيات في المدح والتعريض يقول: لا قرب الله رذلا كله حمق * وباعد الله نذلا كله كذب وهكذا نرى أن الهجاء عاد شتما فظيعا، فمن هو الأمير الذي قيل فيه هذا القول؟ إن الذين رووا هذا الشعر لم يذكروا اسم الأمير المعرض به، فهل يمكن أن يكون هو حمد؟ أيمكن أن يكون الأمر قد وصل بين حمد وبين شاعره إلى هذا الحد؟. إن القرائن تدل على ذلك، وإذا صح هذا فإنه لأمر مؤسف حقا أن تصل العلائق بين الرجلين إلى أن يصبح الممدوح القديم مذموما بمثل هذا الذم القبيح، وبذلك تتباعد الفرجة بين متنبي سيف الدولة الذي ظل مقدرا لأميره ذاكرا له بالخير، وكل ما وصل إليه معه هو عتاب بسيط وتعريض طفيف، وبين متنبي حمد الذي عاد الآن حمد على لسانه عودا من الحطب أحمق نذلا كذابا، بعد أن كان: في عدل كسرى في شجاعة رستم * في جود حاتم في ذكاء لبيد وهذا البيت من القصيدة الدالية التي أشرنا إليها من قبل والتي قالها مستعطفا لحمد مستشفعا لديه بالسيد علي الأمين: وشفيع ذنبي عين آل محمد * أعني عليا كهف كل طريد فهل يمكن أن تكون الوساطة قد فشلت ولم يفد الاعتذار والاستعطاف فيئس الشاعر واشتط بالهجاء وغالى؟. وفي هذه القصيدة يبدو واضحا ما ذكرناه من قبل من أن جوهر المدح في عصر حمد كان ذكر الوقائع والحروب والتغني بالانتصارات والفتوح: لمديح من عقد اللواء على الولاء * له الزمان وقد مشى بجنود في بيض مرهفة وسود وقائع * ونفوذ رأي في الزمان سديد لم تثنه نار الكفاح عن الندى * كلا ولا عن عزمه بصدود يعطي ويلقى والعداة كأنها * وفد العفاة ولات حين وفود متبسما عند الكفاح وسيفه * يذري العقيق على خدود البيد فالقصب تركع بالحني على الشوى * والهام خاضعة له بسجود على أنه وبعد وفاة حمد رأينا الشاعر يصبح شاعر ابن أخيه وخليفته علي بك الأسعد فيهنئه بتوليه بعد عمه. الكاظمي وجبل عامل قلنا إن الكاظمي عراقي الأصل ولكنه استقر في جبل عامل وتفتحت شاعريته فيه ولا تزال سلالته فيه حتى اليوم كما أن له نسلا في مصر، وقد كانت تنتابه نوبات قلق وملل فيصب جام غضبه على جبل عامل هاجيا ناقما فإذا هدأ عاد مادحا مثنيا. ثم هو أحيانا بين بين لا يهجو ولا يمدح بل يتشوق إلى العراق ويحن إليه: أهيل الكرخ لي قلب معنى * أسير في يد الأشواق عاني أمن حق المروءة أن جعلتم * من الأحلام أيام التداني أما في نقمته وغضبه فينسى كل ما ناله في جبل عامل من خير ولا يرى إلا الشر فينطلق في هجائه صاخبا عنيفا فهو أولا يذم الهجرة ويرى أن تركه العراق كان بطرا: أشكو إلى الله ما لاقيت من زمني * حالا تفرق بين الجفن والوسن لفظت عزمي بأطراف النوى بطرا * فرحت ألطم وجه الربح بالغبن ثم يشير إلى أن أسوأ ما كان في تلك الهجرة أنها أقرته في جبل عامل: حتى استقر النوى في أرض عاملة * فخيرتني بين الذل والشجن ثم يسترسل في الغضب والنقمة معددا بعض القرى العاملية التي حل بها متهكما ساخرا: كأنما حين قام العيس يصدع بي * نشز الآكام وطي المهمة الحزن كنت المشوق لقانا أم جوية أم * لدير قانون لا حيا بها سكني ثم يسترسل بالتهكم والسخرية مختارا أبسط المآكل القروية العاملية لتكون مثالا عن شظف العيش الذي هو فيه: أكنت قبل النوى أشتاق ترمسها * أم قادني الشوق للبلوط والشعن أم للبلية لا بلت لها غلل * أم بقلة الفول عنها كنت غير غني أم كان قد مر بي دهر فعودني * بربورة طبخت بالماء واللبن
131 أم للسميد بلحم الني منجبلا * ورب واضع زيت فيه يكرمني فهو هنا يسخر من هذه الأطعمة الشعبية العاملية ويخص بالسخرية الكبة النية متهكما على هذا الذي يرى أن في وضع الزيت على الكبة إكراما للضيف. ولعل في الجيل الحاضر من يجهل بعض هذه المأكولات التي انقرضت فيما انقرض في القرى، والتي أدركناها نحن وتذوقناها واستطبنا بعضها. وإذا كنا نسامح شاعرنا على ما فرط في حق الجبل مقدرين الظروف التي قد تكون هي التي أثارته فانفلت لسانه بما انفلت به. فإننا نود لو استطعنا أن نذكره بان هذه الأطعمة التي تحدث عنها لم تكن حتما هي كل ما تناوله على موائد الجبل، بل نحن على يقين بأنها لم تمر عليه إلا لماما، وإنه إنما تذوقها مستطلعا، وإلا فأين هي موائد حمد البيك وحسين السلمان وتأمر السلمان وعلي الأسعد والسيد محمد الأمين التي كانت ولا شك هي الموائد التي عرفها أكثر مما عرف غيرها، والتي لم تشهد لا الترمس ولا البلوط ولا البليلة ولا بقلة الفول ولا البربورة. على أن شاعرنا الذي قال ما قال في ساعة غضب ونقمة هو نفسه الذي قال غير هذا القول في غير ساعات الغضب وساعات النقمة، وهو نفسه الذي يقول عن جباع ومواقعها ومياهها: أبا الفردوس وجدك أم جباع * وفي كلتيهما تهوى الخلودا ولو كنت المخير في خلودي * فعن جبع وحقك لن أحيدا أأعدل بالمشارع ما سواها * وقد أخذت على الصفو العهودا وقد شهدت برأس العين عيني * غصونا خلتها حملت عقودا وبعد أن يثني على المكان ما شاء له الثناء، يتمم ثناءه ليشمل السكان: ولا برحت بال الحر تسمو * دعائم للمكارم لن تميدا وإننا ونحن ممن يأخذون بالقول المأثور: الحسنات يذهبن السيئات، نرى أن بيتا واحدا من أبيات هذه القصيدة يمحو كل سيئات القصيدة السابقة فكيف بحسنات قصيدته الأخرى الحائية الفائقة التي أبرزته على حقيقته حين أرسل نفسه على سجيتها فأطنب ما شاء له الاطناب في الحنين إلى جبل عامل بعد فراقه له والثناء على أهله والتغني بلبنان مما لم يلحقه فيه لاحق. وإننا نورد القصيدة كلها كما هي فهي خير دليل على ما طبعت عليه نفس هذا الشاعر من وفاء أصيل ونفس كريمة: سامر يلحو وأشواق تلح * هاجها من ظن أن العذل نصح نهب الصبر إدكاري سرحة * عند لبنان لها في القلب سرح لست أنساها ليال سلفت * ألف صبح لي بها والدهر صلح وشموس الراح تجلى كلما * غاب صبح قام يجلو الكاس صبح ومغان نقلت عنها الصبا * خبر الند وفيه طال شرح فضضت جيد الربى أزهارها * وعليه من سقيط الطل رشح نقط الطل على أوراقها * وله في الرمل أسقاط وطرح يغمز الدهر علينا طرفه * وبعينيه لعين النجم طمح نحن والورق اقتسمنا لهونا * فلنا شطح وللورقاء صدح كلنا في الغصن إلا أننا * ما علينا لو نروم الوصل جنح فإلى كم ومنائي عهدها * يثبت العزم وكف الحظ تمحو ليث شعري، والأماني سلوة * هل لها وصل وهل للهم نزح يا أوداي بسفحي عامل * إن شوقي عامل والدمع سفح هل وفى بالعهد من بعدكم * مدمع سح وقلب لا يصح هاكم دمعي فقد أشهدته * وله من الخد تعديل وجرح من لمشتاق لكم من بعدكم * بات ساهي الطرف والشوق يلح فكرة تمضي وتأتي فكرة * والدجى إن يمض جنح يأت جنح حارب الجفن الكرى ليتهما * عرفاني هل يرى للسلم جنح لا رعاني المجد إن لم يرني * ولخيلي في ربى لبنان سبح ومن القبلي من شاطئه * خبر المجد وعندي فيه شرح برجال لم يثنهم لو ولا * فيهم يلفى بغير العرض شح آل همدان هم لا غيرهم * وكفاهم من أمير النحل مدح قد أبت إلا المعالي مسلكا * ولهم في متجر الايمان ربح كم لهم في الدين من سابقة * ساقها أيد من الله ونجح كلما استنصرها داعي الهدى * جاءه نصر من الله وفتح بين حمد وسيف الدولة قلت إن بلاط حمد كان أقرب إلى أن يكون بلاطا حمدانيا. وقلت إن متنبي هذا البلاط هو الشيخ حبيب الكاظمي ويمكن أن يقال إنه الشيخ علي سبيتي. ولكن إذا أخذنا ما كان بين الكاظمي وحمد من ود عريق ثم من عتاب شديد ثم من تنافر عنيف، كانت حياة الكاظمي عند حمد هي الأقرب إلى الشبه بحياة المتنبي عند سيف الدولة. وقد رأينا فيما تقدم صورا من التواصل والتقاطع، وسنرى هنا صورة أوضح للصلة الوثيقة بين الرجلين: الأمير والشاعر، هذه الصورة التي تعيد علينا بعض مشاهد الماضي بين سيف الدولة وشاعره المتغني بوقائعه، الواصف لمعاركه. فقد ساقت الأقدار حمدا ليكون من بين أسرته مشاركا في أضخم أحداث عرفها عصره، أحداث مصيرية في حياة الدولة، وأن تكون مشاركته مشاركة عملية فعالة، قاد فيها الجيوش وحمل السلاح وقاتل وانتصر. وهنا يبرز الشبه من جديد بين الأميرين الحمداني والوائلي، بعد أن برز الشبه بينهما في الشاعرية واحتضان الشعراء. ثم يبدو الشبه أكثر بروزا في تباري شعراء حمد بوصف معاركه، كتباري شعراء سيف الدولة في وصف معاركه. وهنا يبرز متنبي حمد بقصيدته الميمية، التي لا تطاولها في قصائد شعراء حمد إلا قصيدة السبيتي الميمية أيضا. ومن هنا كانت حيرتنا في أي من الشاعرين يمكن أن يكون متنبي هذه البلاط. يبتدئ الكاظمي قصيدته ابتداء ضاحكا ممتلئا حبورا، ولا بدع فان الفوز كان جديرا بان يوحي بذلك، ويجيء الاستهلال لا مجيئا غزليا، بل مجيئا مستلهما من طبيعة الحياة الجبلية العاملية التي لا تشكو شيئا كما تشكو فقدان الماء النابع، والتي لا تبشر بشئ أحلى عندها من أن تبشر بهطول المطر بعد الانحباس. ويختصر الشاعر هذه البشري بشطر واحد ينتقل بعده رأسا إلى الدعوة للأخذ بما تقتضيه البشرى من البهجة والانشراح: بشرت بالمزن أرواح النعامى * فأجل لي الكاس على أيدي الندامى
132 وليس من الضروري أن تكون هذه الكاس من الراح، والشاعر ممن لا يشربونها لا هو ولا نداماه، بل يكفي أن تكون كأسا من الشاي في مجلس أنيق. ولا يطيل الشاعر في ذلك بل يمضي مسرعا إلى التمدح بحمد: وطوى البشر الأماني إذ وطا * حمد البيك من الظهر السناما قد شكا السيف الظما حتى ارتوى * وانحنى عود القنا حتى استقاما واطئ الهام احتكم فيها بما * تنصف الحكمة في البين احتكاما ودع الحكمة تعطي قسمها * للظبي هاما وللتيجان هاما برميش كيف أوطأت العدى * ضمر الخيل فنكست النظاما إذ لوى مير اللوا عنه اللوا * والتوى كالظبي يحتل الأجاما بفلسطين جيوش حشدت * قدت بالحزم لها جيشا لهاما وعلى الأردن منك انتفضت * ردن الموت هجوما واقتحاما كم شفى سيفك قلبا موجعا * في شفا عمرو وأحييت رماما ويمضي في قصيدته على هذا المنوال حتى يختمها بنفس الشطر الذي افتتحها به: لم يزل ذكرك يعلو كلما * بشرت بالمزن أرواح النعامى الشيخ علي سبيتي (1) هذا الرجل من أفذاذ جبل عامل المتميزين. ولم يكن الشعر صفته الغالبة عليه، بل كان إلى جانب شاعريته على مشاركة طيبة بعلوم اللغة وبالتاريخ. ووصف في كتاب أعيان الشيعة بأنه: نحوي بياني لغوي شاعر كاتب مؤرخ. كما وصف بصفات خلقية أخرى منها أنه مصارح بالحق غير مداهن، وأنه حسن النادرة ظريف المعاشرة. لقد كان اتصال السبيتي بحمد المحمود ثم بعده بابن أخيه علي الأسعد اتصالا وثيقا. على أن المؤسف أن ليس بين أيدينا من شعره إلا النزر اليسير مما لا يتعدى قطعة من قصيدة نظمها استجابة لطلب حمد المحمود في مدح السلطان عبد المجيد، وأرسلت إليه. نظمت عن لسان حمد نفسه وأديت باسمه لا باسم ناظمها ويمكن أن تكون قد نظمت بعد عزل حمد، وكان نظمها وإرسالها من الوسائل التي توسلها حمد للتقرب من الدولة ليعود إلى ما كان عليه من الحكم والتسلط كما أنه يمكن أن تكون قد نظمت بعد الانتصار على جند إبراهيم باشا، وقدمت للسلطان تدليلا على ما قام به حمد وإشارة إلى بلائه في تلك الوقائع. فمما حفظ من تلك القصيدة: لنا يوم الحبيس وأي يوم * منعنا شوس مصر أن تناما وقبلا يوم حمص لو ترانا * أثرنا نقع حرب قد أغاما نصبنا المجد حتى أن قوما * بظل فخارنا ضربوا الخياما وكم يوم عبوس قمطرير * عقدنا فوق هامتهم قتاما سننا كل نعمى في البرايا * بأعناق الملوك غدت وساما وغبرنا لكسرى أي وجه * بعدل مليكنا فسما وسامى قضى دين المفاخر والمعالي * وأيقظ عدله قوما نياما ولا شك أن هذا الشعر هو من مظاهر الشعر العسكري العاملي الذي بلغ ذروته في عهد حمد. على أن الشعر العسكري العاملي قد انتهى بانتهاء شعراء عصر حمد. وكانت معارك حمد آخر المعارك التي يخوضها العامليون دفاعا عن جبلهم وصيانة لوجودهم. إذ أن الدنيا كانت قد تبدلت،. السيد موسى عباس (2) وعلى العكس من الشيخ حبيب الكاظمي، الشاعر العراقي الذي عاش في جبل عامل، فان السيد موسى عباس شاعر عاملي نشأ وعاش في العراق وتوفي بالنجف. ويبدو مما ذكره صاحب جواهر الحكم أنه كان يكثر القدوم من العراق إلى الجبل ثم يعود إلى مقره، على ما كان في هذا الترحال من مشاق. وأن من عوامل تردده إلى الجبل هو ما كان يلقاه في بلاط حمد المحمود من إكرام تعززه مدائحه في حمد. فقد قال صاحب جواهر الحكم ما نصه: نشأ في العراق وقرأ الدرس ولكن تغلب عليه الشعر. زار أمراء جبل عامل مرارا ورجع إلى العراق ومدحهم باشعار كثيرة، وما قصروا عن نصرته. على أنه ليس بأيدينا من مدائحه فيهم إلا ما مدح به حمد المحمود في قصيدة أشرك معه فيها بالمدح أخاه أسعد. وقصيدة أخرى، أشرك معه فيها ابن أخيه علي الأسعد. والقصيدة الأولى نظمها بعد وفاة أسعد، فلم يرد ذكره فيها إلا في بيت واحد منها، انتقل بعده إلى ذكر ولده علي في بيت آخر، ثم أجمل ذكر الآباء والأجداد في عدة أبيات، ثم استرسل في مدح حمد. ومادة المدح هنا هي كما قلنا من قبل، وكما ساد في شعر شعراء عصر حمد هي: ذكر الحروب والوقائع والتغني بالبطولة: هو ابن أبي الهيجاء مردي كماتها * وفارسها المعروف عند التصادم ولا بد من استثارة سجية الكرم في الممدوح: هو الغيث قد عم الأنام مواهبا * هو البحر من جدواه فيض الغمائم على أنه يعطي نضارا وعسجدا * وذاك بغير الماء ليس بساجم وبعد الإشارة إلى العطاء والتصريح بالنضار والعسجد، يعود إلى ما صار الأصل في موضوع المدائح العاملية، يعود إلى المعارك وذكر الأبطال ونهب الأرواح وحومة الوغى: ويا مورد الأبطال في هوة الردى * ويا تارك الأموال غنما لغانم ويا ناهب الأرواح في حومة الوغى * ويا تارك الأجساد طعم القشاعم وكم وقعة مشهورة لك في العدى * سرى ذكرها في عربها والأعاجم تركت بها الأبطال صرعى على الثرى * خواشع أشلاء بغير جماجم وكما أشرنا فيها تقدم فقد أصبح حمد حاكما على الجبل بإرادة حكومية، وأصبح ممثل الدولة فيه، مما لم يكن معروفا من قبل. وهنا نجد في هذا الشعر تعريفا جديدا لحمد، لم يكن يذكر في مدائح أسلافه، هو وصفه بالحاكم: ويا حاكما بين الأنام بعدله * ويا منصف المظلوم من كل ظالم
(1) راجع ترجمته في الصفحة 303 من المجلد الثامن. (2) راجع ترجمته في الصفحة 190 من المجلد العاشر. 133 أما العدل وأما إنصاف المظلوم من الظالم، فنترك الحكم عليه لمعاصري حمد، فهم أدرى منا بالحقيقة، وهل كان الشاعر حين نظم هذا البيت ينطق بلسانهم، أم كان ينطق بلسانهم أولئك الذين مشوا بقيادة قاسم الزين للتظلم من حمد؟!. والشاعر لا يخفي بعد ذلك، الغرض من قدومه من العراق وتجشمه العناء ونظمه الشعر، فهو يقول لحمد: إليك أتت تطوي الفيافي ركائبي * من النجف الأعلى إلى دير قاسم براها السرى لم يبق غير إهابها * يقوم على أضلاعها والقوائم وها هي في مثواك ألقت رحالها * وأنت لها دون الورى خير راحم على أن هذا الشاعر كان إذا عجز عن القدوم إلى الجبل وإنشاد الشعر في البلاط الوائلي، وإذا حالت الأحوال دون أن يقدم مدائحه بنفسه بين يدي حمد يرسل القصائد من العراق، فتحقق غايتها وكانت قصائده المرسلة من العراق تتميز عن القصائد الأخرى بحرارة العاطفة وبما تتضمنه من شوق إلى جبل عامل وحنين لمرابعه. وكما رأينا فان ما أوردناه من أبيات القصيدة الأولى إنما يمثل شعرا جافا لا رواء فيه، وكل القصيدة على نفس النمط. وأما القصيدة المرسلة من العراق فإنها مفتتحة بشعر عاطفي تتفجر فيه لواعج الشوق إلى الديار الأولى والأحبة النائين: إلى عامل شوقي وفي القلب عامل * فيا ويح قلبي ما به الشوق عامل يحملني ما لا أطيق وإنه * ليثقل رضوى بعض ما أنا حامل فراق ووجد واشتياق ولوعة * وحزن وإن طال المدى متطاول وذكر حبيب نازح ومنازل * بعدن وفي قلبي لهن منازل وأجفان عين لا تجف دموعها * ونار لها بين الضلوع مشاعل فما أنسى لا أنسى الزمان الذي مضى * بعاملة والدهر عني غافل ويا حبذا لبنان من سفح عامل * ويا حبذا أجباله والسواحل ويمضي بعد ذلك في المديح مشيرا هذه المرة فيما يشير إلى ما عرف به حمد من الشعر والأدب: فيا حبذا ذاك اليراع وحبذا * بنان غدت تجري به وتساجل ثم يعود إلى وقائع حمد ومعاركه قائلا فيما يقول: حميت بلاد المسلمين وصنتها * وأنت لدين الله كاف وكافل وجمعت شمل العدل وهو مبدد * وفرقت شمل الجور والجور شامل فهو يريد أن يسبغ على تلك الحروب غلالة دينية ويظهرها بمظهر من حمت بلاد المسلمين وصانتها!... ثم من أشاعت العدل ومزقت الجور!... ولا ندري العلاقة بين حماية بلاد المسلمين وبين هذه الحروب، والمتقاتلون جميعا مسلمون. ولو كان في مقاتلة إبراهيم باشا حماية لبلاد المسلمين وكفالة لدين الله، لما ألبت انكلترا العالم الغربي على محمد علي وولده إبراهيم!... أما العدل وأما الجور فلا نظن أن قد اختلف وقعهما على الشعب في كلا الموقفين... ولكن الشاعر يريد أن يبرر حركة حمد ويعطي حروبه صفة ترفعها إلى المواقف الملتزمة، وبالتالي يريد أن يبرر إشادته هو نفسه بتلك الحروب!. ثم يسترسل الشاعر في الحديث عن القتال والمقاتل الأول حمد في أبيات عديدة: وكم لك في يوم الحروب مواقف * ثبت لها والجو بالنقع حائل ويمعن في المبالغات: فلولاك ما ثارت جياد إلى الوغى * ولولاك لم تعقد لسيف حمائل وهو الشاعر الوحيد في شعراء حمد الذي ذكر في شعره إبراهيم باشا باسمه صريحا: رمى الله إبراهيم منك وجيشه * بغائلة فاغتالهم منك غائل ثبت لهم والحرب فاغرة اللهى * فما حلتهم فيها وأنت المماحل فلا زلت للهيجاء يا بن زعيمها * زعيما تحييك القنا والقنابل وبعد أبيات طويلة تصف في مبالغات ساحات الوغى والقتال والثواكل والنادبات والرياح السافيات والعقبان والذئاب، بعد ذلك يشير إلى وقعة يسميها يوم الجسر: وكم لك من أمثالها يا بن قطبها * كفاك بيوم الجسر ما أنت فاعل فمزقتهم بالبيض كل ممزق * وألبستهم ثوب الردى وهو شامل الشيخ خلف بن الشيخ عبد على بن الشيخ حسين من آل عصفور. قال في تاريخ البحرين المخطوط: شيخ المشايخ الأجلة ورئيس المذهب والملة، الواضح الطريق والسنن، والموضح الفروض والسنن، المتفنن في جميع الفنون، والمفتخر به الآباء والبنون وهو مجاز عن أبيه عن جده الشيخ حسين العلامة، وأنه مجاز عن عمه الشيخ حسن المتقدم ذكره، وله طريق إلى علماء الرياضة، فاخذ علم الرياضة عن الشيخ عبد الله بن مبارك، وعلى الجملة كان إماما في الجمعة والجماعة في بلدتنا بوشهر، فخرج من البحرين لأمر قد ذكرناه أول الكتاب، وكان معاصرا للشيخ محمد حسن صاحب الجواهر وله تصانيف كثيرة: منها الكتاب المسمى بواضحة البرهان في رد من عمل بظواهر القرآن، ومنها كتاب اليواقيت وعليه تقريض من العلامة النجفي، فقال: فهو كتاب لم يعمل مثله في فنه، يشتمل على تحقيقات رائعة وأبحاث فائقة، ومنها رسالة الكتاهورية، ومنها رسالة في الميراث ورسالة في علم الحروف ورسالة الصلاتية ورسالة في بيان حديث اللهم أرني الأشياء كما هي ورسالة في التقية، واختياراته في الفقه وأجوبة الكازرونية وكتاب إكمال الأسبوع، وكتاب في أعمال اليوم والليلة، وكتاب الخطب وكتاب القصائد في الرثاء وكتاب شرح السداد، ورسالة في أن الفرقة الناجية هي الفرقة الاثني عشرية، وكتاب الجوهرة السنية في تعقيبات الصلاة اليومية، وكتاب مزيل الشبهات عن المانعين من تقليد الأموات وأجوبة البرازجانية، ورسالة في العدالة ورسالة في أن يد التي أحد الممتلكات الشرعية وبيان المراد منها شرعا وعرفا، ومنها كتاب التحفة الغالية في بيان الحقوق المالية، ومنها كتاب نصاب الكامل في تعداد النوافل، وله رسالة صغيرة في الرضاع وأجوبة المسائل الدهلكية، ورسالة في الرد على مذهب البابية وهذه الرسالة كتبها بأمر عمه العلامة الشيخ حسن المتقدم ذكره وهي رسالة لطيفة،
134 وكانت وفاته في قرية الدهلكي وقبره الشريف مشهور يزار ويتبرك به، وسبب خروجه من بلدتنا بوشهر وتوقفه في القرية المزبورة هو واقعة الإفرنج وغلبتهم على بوشهر وكانت سنة 1273 ثلاث وسبعين ومائتين بعد الألف ووفاته قدس سره وقعت في هذه السنة وعلى قبره الشريف مكتوب هذين البيتين: وفدت على الكريم بغير زاد * من الحسنات والقلب السليم ونقل الزاد أقبح كل شئ * إذا كان الوفود على الكريم الشيخ خلف بن الشيخ عبد علي من آل عصفور صاحب الاحياء. قال في تاريخ البحرين على عادته في المبالغات: أعلم من قضى وأفتى، وأفضل من باشر التدريس والإفتاء، وهو مجاز عن عمه صاحب الحدائق، وكتب له وللشيخ حسين العلامة إجازة طويلة مسماة ب لؤلؤة البحرين في إجازة قرتي العينين خلف وحسين. وعلى الجملة له يد في الأصوليين، تصدر للافتاء في حياة أبيه في الفلاحية ثم رحل إلى المحمرة وله من المصنفات: رسالة في صلاة الجمعة، ورسالة في الرضاع، ورسالة في السلام، ورسالة في الاستصحاب ورسالة في أن الفرقة الناجية هي الامامية. ورسالة في الحج، وكتاب في الفقر، وكتاب في الرجال، وحاشية على الحدائق، وحاشية على المدارك، وحاشية على الكافي، وحاشية على الكافية الحاجية، ورسالة في العدالة، ورسالة في حديث الصلاة خير موضوع، ورسالة في الميراث، ورسالة في التسبيح، ومجموعة في مسائل متفرقة. هذا ما حضرني من مؤلفاته ولم يحضرني تاريخ وفاته. الخليل بن أحمد الفراهيدي. مرت ترجمته في الصفحة 337 من المجلد السادس ومر فيها البحث عن كتابه العين. وفيما يلي بحث عن مخطوطات كتاب: مختصر العين الذي ألفه أبو بكر الزبيدي كتبه الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي: لا يختلف اثنان في أن القرن الرابع الهجري هو أزهى عصور الحضارة العربية الاسلامية، إذ بلغت فيه العلوم درجة من الرقي لم تبلغها من قبل في مغرب الأمة ومشرقها. وقد كان لدخول أبي علي القالي الأندلسي أعمق الأثر في الحركة اللغوية التي شهدتها في هذا القرن، إذ كانت أماليه ومروياته وتآليفه اللغوية موردا لطلاب العربية وعلمائها، وقد شارك تلاميذه الذين تفرقوا في الفردوس المفقود في إذكاء تلك الحركة. وكان أبو بكر الزبيدي ت 379 ه أبرز تلاميذ القالي، وأبعدهم أثرا، إذ تميز بغزارة عمله، وقوة حافظته، وكثرة إنتاجه، وتنوعه. وقد درسه المستشرق لاثارو في رسالة قدمها إلى جامعة مدريد سنة 1968 بعنوان أبو بكر الزبيدي نحوي أندلسي من القرن الرابع ودرسه الدكتور نعمة رحيم العزاوي في رسالة قدمها إلى جامعة بغداد بعنوان: أبو بكر الزبيدي وآثاره في النحو واللغة وقد طبعت في مطبعة الآداب في النجف الأشرف سنة 1975. وطبع من آثاره: لحن العامة، والواضح في النحو، وطبقات النحويين واللغويين، والاستدراك على سيبويه في كتاب الأبنية، ومقدمة كتاب استدراك الغلط الواقع في كتاب العين. ولعل أبرز مؤلفات الزبيدي وأعمقها أثرا كتابه مختصر العين، وقد حقق علال الفاسي ومحمد بن تاويت الطنجي فصلة منه معتمدين على نسختين خطيتين منه. الأولى: في خزانة القرويين بفاس، والثانية: في خزانة علال الفاسي وأمر عرض هذه الفصلة يحتاج إلى وقفه أخرى وفد نوهت بقيمة مختصر العين وأهميته وأثره في أكثر من بحث، إذ تبين لي أن الكتاب ليس اختصارا بالمعنى الذي يوحيه عنوانه ومقدمته وخاتمته، وإنما هو معجم متميز، اعتمد على مادة في أصل هو العين وهي المادة التي اعتمدت عليها المعجمات التي سارت على منواله: كالتهذيب، والمحيط، والمحكم. وقد تجمعت لدي في السنوات الخمسة الماضية معلومات عن مخطوطاته رأيت من المناسب أن أنوه بها بسبب أهمية الكتاب. أ ألمانيا: ذكر بروكلمان أن في برلين نسخة برقم 6950 6952، وأخرى برقم دحداح 159، وذكر في معرض تعليقه على نسخة دحداح: انظر أيضا 193 في المكتبة نفسها. وقد بذلت جهدا كبيرا لكي أحصل على هذه النسخ، وخاصة نسخة دحداح، إذ علق بروكلمان بشأنها: وقيل: إن هذه النسخة هي الكتاب الأصلي للخليل، وهي في ثلاثة أجزاء. وتعليقه جدير بالاهتمام فقد تكون نسخة جديدة من كتاب العين، وقد تكون أيضا النسخة الكبرى من مختصر العين الذي لم أعثر له على نسخة في ما رجعت إليه من مصادر. ومما يؤسف له أن مكتبة الدولة ببرلين أفادت بان هذه النسخة لا وجود لها في المكتبة على الرغم من وجود إشارة في فهارسها إليها، وقد تكون احترقت في ما احترق من الآثار خلال الحرب العالمية الثانية. والمكتبة لا علم لها بمصيرها. أما المخطوط رقم 6950، فقد تم نسخة عام 600 ه، وهو يحتوي على النصف الثاني من الكتاب، وهو في 154 ورقة، ذكر ذلك المستشرق لاثارو في رسالته التي سبق التنويه بها، وقد استقى معلوماته عن هذه النسخة من:... 6950. 1899 1887 وقد تكرم السيد لاثارو فأرسل لي ما جاء في رسالته من معلومات بشأن مخطوطات المختصر التي عثر على أخبار عنها، وبلغ عدد المخطوطات التي ذكرها في رسالته تسع عشرة مخطوطة. ب فرنسا: أشار بروكلمان إلى وجود نسخة في المكتبة الوطنية بباريس برقم 5347، وقد تكرم أحد الزملاء الأفاضل فصور لي الصفحة الأخيرة منها على أمل تصويرها كاملة، إن كانت ذات فائدة، وقد تبين لي أنها نسخة حديثة بخط مغربي سقيم منقولة عن نسخة كتبت في القرن العاشر. وذكر المستشرق لاثارو في رسالته السابقة الذكر أن المخطوط المذكور تم نسخة عام 969 ه، وهو بخط مغربي في 187 ورقة، يعود إلى مجموعة أرشينارد، التي ترجع إلى مكتبة قصر الملك أحمد ملك سيعو، وقد استقى معلوماته عنها من:
135 278. 1953 1924 1884.. 94. 1925 وذكر السيد لاثارو أن في المكتبة نفسها نسخة أخرى برقم 5391، تم نسخها في القرن الثالث عشر، أقدم من النسخة السابقة، وهي بخط نسخي سوداني تقع في 149 ورقة تعود إلى المجموعة السابقة نفسها، وقد استقى معلوماته من المصدرين السابقين، ولا بد أن تكون هذه النسخة هي النسخة التي ذكرتها، وقد وقع فيها لبس لا أتذكر سببه. ج أسبانيا: ذكر السيد لاثارو أن في مجموعة المخطوطات العربية المحفوظة في معهد ميغيل أسين المجلس الأعلى للأبحاث العلمية في مدريد نسخة من المختصر برقم 35، تم نسخها سنة 435 ه، عثر عليها في مدينة، تبدأ بحرف الغين، وتقع في 145 ورقة، وهي بخط مغربي مجهول الناسخ، وقد استقى السيد لاثارو معلوماته من:... 135 134.. 1912... أشار بروكلمان إلى وجود نسخة برقم 49 في مدريد ثالث. وذكر السيد لاثارو أن المخطوط المذكور من مجموعة المخطوطات العربية المحفوظة في معهد ميغل آسين، تم نسخة حوالي عام 740 ه، عثر عليه في مدينة تنقصه بعض الورقات في أوله، وهو بخط مغربي، وناسخه فرج بن عبد الله بن فرج بن عبد العزيز، وقد استقى السيد لاثارو معلوماته من المصدرين السابقين. أشار بروكلمان أيضا إلى نسخة مخطوطة من المختصر في الاسكوريال، ثاني برقم 569. وقد تم نسخ المخطوط المذكور في التاسع والعشرين من شهر رمضان سنة 833 ه، يقع في 106 ورقات بخط مغرب، مجهول الناسخ، ذكر ذلك السيد لاثارو في رسالته السابقة اعتمادا على:... 570. 1884 وأشار بروكلمان إلى نسخة ثانية في مكتبة الاسكوريال برقم 570 والمخطوط المذكور تم نسخه سنة 845 ه، وهو بخط مغربي، مجهول الناسخ، وقد ذكر ذلك السيد لاثارو، اعتمادا على المصدر السابق. وأشار بروكلمان إلى نسخة ثالثة في الاسكوريال برقم 571، نسخت في السادس والعشرين من شهر شوال عام 975 ه، تقع في 165 ورقة، وهي بخط مغربي، مجهول الناسخ. ذكر ذلك السيد لاثارو في رسالته السابقة الذكر. ذكر السيد لاثارو أن في دير السكرمونية في غرناطة نسخة برقم 2، تم نسخها سنة 399 ه، ناقصة من الأول، تبدأ بالورقة 19 وتقع في 199 ورقة، وهي بخط مغربي، مجهول الناسخ. ولعل هذه النسخة هي عين النسخة التي أشار بروكلمان إلى وجودها في غرناطة، وقد خبرني السيد لاثارو أنه يتعذر تصوير هذه النسخة أو الاطلاع عليها بسبب موقف العاملين بالدير المذكور، وهي أقدم نسخة من المختصر تردنا أخبار عنها. وذكر السيد لاثارو أن في المكتبة الوطنية بمدريد نسخة من المختصر برقم 5، نسخت في مدينة ثيربيرا الإسبانية، في 24 من شهر شوال سنة 747 ه عن نسخة موسى بن هارون بن موسى بن خلف بن عيسى بن أبي درهم التجيبي الأندلسي الذي نقلها عن نسخة أخرى تم نسخها في شهر ربيع الأول سنة 368 ه، وكان الزبيدي قد راجعها. وهي بخط مغربي في جزأين، ناسخها أحمد بن عبد الرحمن بن سالم بن محمد الأعمالي وقد استقى السيد لاثارو معلوماته من:.. 5 4. 1887... 574. 1904.. وذكر السيد لاثارو أن في مكتبة جامعة سالامانكا الإسبانية مخطوطا من المختصر برقم 294، نسخ سنة 652 ه، في مدينة سرقسطة. ومن اللافت للنظر أن السيد لاثار وذكر أيضا أن النسخة قد كتبت بحروف عبرية ناسخها مجهول. وقد استقى السيد لاثارو معلوماته من:.. 279 278. 1250 وهو مخطوط جدير بالدراسة، وقد راسلت بعض الأصدقاء لتيسير تصويره، إذ إن كتابة معجم عربي بحروف عبرية أمر يدعو إلى التأمل. د تركيا: أشار بروكلمان إلى وجود نسخة من المختصر في مكتبة كوبريلي برقم 1074. وفي مكتبة فيض الله نسخة برقم 2098، توجد مصورة منها في معهد المخطوطات برقم 246 ذكر الأستاذ فؤاد السيد في فهرس المخطوطات العربية المصورة في معهد المخطوطات 1 371 أنها بقلم نسخ جميل بخط محمد بن حسن بن علي الحائكي، وقد كتبت برسم الجناب العالي أمير حسن، عدد أوراقها 420 ورقة. ه مصر: توجد في دار الكتب المصرية الخزانة التيمورية نسخة من المختصر برقم 1 لغة. توجد مصورة منها في معهد المخطوطات برقم 47، قال الأستاذ فؤاد السيد: إن الموجود منها النصف الأخير، وهو بخط قديم، وقد أكمل النسخة العلامة برهان الدين إبراهيم البقاعي ت 885 ه سنة 865 ه، تقع في 338 ورقة ينظر فهرس المخطوطات المصورة 1 371. توجد في دار الكتب المصرية نسخة برقم 386، وهي بخط مغربي، منقولة من نسخة كتبت من نسخة المؤلف بأولها قصيدة لابن الحاجب مجهولة
136 الناسخ وتاريخ النسخ. توجد مصورة منها في المكتبة المركزية بجامعة بغداد برقم م خ 16 17 ينظر فهرس دار الكتب المصرية 2 36. وتوجد في الدار نسخة أخرى برقم 406 ناقصة تبدأ بحرف الفاء، وتنتهي باخر الكتاب، وهي بخط مغربي، نسخها محمد بن يس بن محمد التؤم البعقيلي، وكان الفراغ من نسخها في يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الآخر سنة 635 ه. فهرس دار الكتب المصرية 2 36. توجد في الدار نسخة أخرى برقم 597، وهي في ثلاثة أجزاء، الموجود منها الجزء الثاني، كتبت سنة 576 ه بهامشها تقييدات تبدأ من باب المضاعف من الهاء والخاء، وتنتهي إلى الباب الثاني المضاعف من حرف الجيم والسين. وتونس: توجد في خزانة جامع الزيتونة نسخة برقم 3944، بخط مغربي، نسخها محمد بن صالح بن محمد المعطي الشرفي سنة 1136 ه تقع في 148 ورقة، فهرس مخطوطات المكتبة الأحمدية بتونس ص 153. ز المغرب: توجد في المغرب نسخ كثيرة من المختصر تيسر لي الاطلاع على قسم كبير منها لم تذكر في أي فهرس من فهارس المخطوطات أو الكتب التي اهتمت بوصف المخطوطات العربية، ويهمني هنا أن ألفت النظر إلى أن بروكلمان أشار إلى وجود نسخة في خزانة القرويين بفاس برقم 1246 1247، اعتمادا على ما جاء في مجلة المجمع العلمي العربي: 12 56، ولا وجود لنسخة بهذا الرقم في الخزانة. وأشار السيد لاثارو في رسالته إلى نسخة في الخزانة نفسها برقم 71 اعتمادا على ما جاء في فهرس خزانة القرويين ونوادرها ص 15، ولا وجود لمخطوط بهذا الرقم في الخزانة. 1 الخزانة العامة بالرباط، وفيها النسخ الآتية: نسخة الأوقاف برقم 28 1 وهي نسخة قديمة جدا متآكلة الأطراف بفعل الآفات، مكتوبة بخط مغربي قديم، كتبت أبوابها وموادها اللغوية بخط متميز. قسمها الناسخ على قسمين. ينتهي القسم الأول بقوله: الغين واللام: البلغم: خلط من أخلاط الجسد. انقضى الرباعي والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وبانقضائه تم السفر الأول من كتاب العين يتلوه في الثاني إن شاء الله أوائل حرف القاف، والله المستعان والمعين. وينتهي الجزء الثاني في حرف الباء باب الثنائي المضاعف الباء والميم: بم العود: معروف. الأوراق الثلاثة الأولى منها كتبت بخط مغاير، والصفحات من 140 إلى نهاية ص 148، كتبت بخط مغاير أيضا، وهي نسخة غير صالحة بسبب الضرر الذي أصابها بفعل الرطوبة والآفات والترميم السيئ، وقد عرضت بعض فصولها على النسخة التطوانية رقم 642 الآتي وصفها فوجدتها مطابقة لها. ويلاحظ أن ناسخها أخطأ في خاتمة الجزء الأول فقال: تم السفر الأول من كتاب العين. نسخة الأوقاف برقم 6 1، وهي نسخة قديمة متآكلة الأطراف بفعل الآفات، فيها صفحات كثيرة مطموسة بفعل الرطوبة لا تصلح للتصوير، بسبب تلاشي أغلب صفحاتها، وبسبب الضرر الذي لحقها بسبب الترميم السيئ، وهي نسخة ناقصة، الباقي منها القسم الأول بحسب تقسيم ناسخها. قال في خاتمتها: تم حرف الخاء وبتمامه كمل السفر الأول من مختصر كتاب العين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين في يوم السبت من غرة ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة. عدد صفحاتها 259، وقد قابلت بعض أبوابها بنسخة خزانة القرويين رقم 1238، فوجدتها مطابقة لها. نسخة الخزانة الكتانية برقم 1662، وهي نسخة حديثة كتبت بخط مغربي في يوم الخميس عند انسلاخ صفر عام 1263 ه، رديئة الخط كثيرة التصحيف، جاء في خاتمتها: نجز وكمل بحمد الله وصلى الله على محمد وآله على يد الفقير الذليل لمولاه عبيد الله تعالى إبراهيم بن الحاج مبارك الطيبي الهشتوي، عفا الله عنه كله لرفيقه سي محمد بن عبد الله ألماسي الخربد، في غرة يوم الخميس، عند انسلاخ صفر 1263 ه. 2 الخزانة الحسنية: توجد فيها أربع نسخ من المختصر أرقامها 4، 19، 3633، 781، 236. وقد اخترت النسخة رقم 236، وهي بخط مغربي تتفرد بزيادات غير موجودة في النسخ التي اطلعت عليها، وقد تكرم الأستاذ محمد العربي الخطابي بتصويرها لي وإهدائها. 3 خزانة البلدية بتطوان: وتوجد فيها نسختان: الأولى برقم 642 وهي نسخة عتيقة جدا كتبت بخط أندلسي يغلب على الظن أنه من خطوط القرن الخامس أو السادس، مقابلة على أصول عدة، وهي غاية في الاتقان والضبط، غير أنها لم تسلم من الأرضة والرطوبة، وقد رممت حواشيها ترميما قديما، لم يسلم من الأرضة أيضا. في صحيفة العنوان: كتاب مختصر كتاب العين، اختصار أبي بكر محمد بن حسن... الزبيدي رحمه الله تعالى.... وفي الصحيفة نفسها تمليكات عدة لعلي بن قاسم البياض، ومحمد بن أحمد، وعبد السلام بن عبد الله بن العباس بن أحمد الحسني الصقلي الكاظمي، اشتراه الأخير من كتب الفقيد ابن عزوق بمراكش الحمراء في أواسط رمضان المعظم عام 1308 ه. جاء في أحد حواشيها: ووقع في النسخ التي قابلت بها هذا المختصر، وثععت ولم أجد في الكبير إلا قوله: الثعع... وكذلك رأيته في شرح الحديث لأبي عبيد. وفي هذه النسخة زيادات تتفرد بها، وأخرى موجودة في حواشي نسخة القرويين رقم 1238، الآتي وصفها. وقد تكرم الزميل الأستاذ محمد مفتاح بتصويرها لي وإهدائها. الثانية برقم 740 بخط أندلسي أحدث من النسخة السابقة، وقد نبهني
137 عليها محمد بو خبزة أمين قسم المخطوطات في الخزانة، ويسر لي تصويرها، وقد ساعدتني كثيرا في قراءة الكلمات المطموسة في النسخة السابقة، وهي لا تقل أهمية عن النسخة السابقة، غير أن فيها سقطا بمقدار ملزمتين في أولها وآخرها، وقد أكملت بخط مغربي حديث، كما أنها تتفرد ببعض الزيادات، جاء في خاتمتها: انقضى حرف الياء وبتمامه كمل جميع الديوان والحمد لله كثيرا كما هو أهله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم. الصفحات من 1 وحتى نهاية الصحيفة 10، مكتوبة بخط حديث، وكذلك الصفحات من 381 وحتى نهاية المخطوط، وفيها سقط في مواضع عدة. 4 خزانة القرويين بفاس: توجد في خزانة القرويين نسخ عدة هي: نسخة برقم 1239 وهي نسخة عتيقة كتبت بخط مغربي قديم يعود في الغالب إلى القرن السادس الهجري، وفي صحيفة العنوان تحبيس على ترميم قديم نصه: هذا السفر مما حبسه مولانا سيدي محمد بن مولانا عبد الله أمير المسلمين الحسيني العلوي على طلبة العلم في حضرة فاس ينتفع به هناك... جمادى الثانية عام 1174 وفي صحيفة العنوان تمليكات أخرى لم أتبينها بسبب الترقيع. وفي صحيفة العنوان كتب: كتاب مختصر العين تأليف: أبي بكر محمد بن حسين الزبيدي رحمة الله عليه وكتب فيها أيضا قول لأرسطو، وأبيات من الشعر لمحمد بن أبي خيثمة في ترتيب حروف الهجاء. والمخطوط مرمم ترميما قديما، غير أنه لم يسلم من الآفات التي أتلفته تقريبا على الرغم من الترميم. عدد صفحاته 303 صفحات، كتبت الصفحات 253 303 بخط حديث، ولم تسلم هذه الصفحات من الآفات أيضا. جاء في خاتمتها: تم مختصر العين من النسخة الكبرى من تأليف أبي محمد بن حسين الزبيدي رحمه الله بحمد الله تعالى وحسن عونه وتوفيقا بجميله ويمنه، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وعبده وعلى آله وصحبه الذين قاموا بنصرة الدين بعده. ويلاحظ أن الناسخ أخطأ، فهو أبو بكر محمد بن حسن. وهي في الغالب منقولة عن النسخة رقم 1238 الموجودة في الخزانة نفسها بسبب مطابقتها لها في الرسم والشكل، ومشاركتها بالزيادات التي تتفرد بها. توجد في الخزانة نسخة أخرى برقم 537، وهي نسخة مكتوبة بخطوط مختلفة، تبدأ بحرف القاف. الصفحات 25 32 كتبت بخط حديث وكذلك الصفحات 191 199، بخط ناسخ مجهول، ولا يعرف تاريخ نسخها. في صحيفة العنوان اسم الكتاب واسم مؤلفه وعدة تمليكات، وأبيات شعرية في ترتيب الحروف، وتحبيس على مكتبة القرويين نصه: الحمد لله، هذا كتاب حبسه مولانا المنصور بالله سيدي محمد بن مولانا عبد الله على طلبة فاس لينتفعوا به. وتوجد في قسم الخروم في الخزانة أوراق من نسخ عدة تكرم الأستاذ محافظ الخزانة السيد محمد بن عبد العزيز الدباغ فأطلعني عليها بعد أن بذل جهدا كبيرا في استخراجها، جزاه الله خير الجزاء، وهي تالفة تماما، وهي: أوراق من نسخة مكتوبة بخط أندلسي جميل جدا الباقي منها أوراق من حرف العين واللام والنون والباء والميم والياء. يتعذر معرفة عدد أوراقها، بسبب ما أصابها من عوادي الزمن وآفاته. أوراق من نسخة أخرى، بخط مغربي، رديء للغاية، الباقي منها أوراق من حرف العين والحاء والهاء والغين. يتعذر معرفة عدد أوراقها، بسبب ما أصابها من عوادي الزمن وآفاته. أوراق من نسخة. أخرى وضعت بملفين مستقلين، بخط مغربي جيد، وقد اختلطت أوراقها، ويتعذر ترتيبها بسبب ما أصابها من عوادي الزمن وآفاته، الباقي في أحد الملفين قسم من حرف الحاء، والباقي في الملف الآخر أوراق من حرف الجيم والراء والتاء والذال والزاي والظاء والطاء والتاء والدال. أوراق من نسخة أخرى تالفة تماما، بخط مغربي دقيق يصعب ترتيب أوراقها بسبب ما أصابها من عوادي الزمن وآفاته، الباقي منها أوراق من حرف الكاف والقاف والهاء والحاء والخاء. توجد في خزانة القرويين نسخة برقم 1238، وهي أوثق نسخة معروفة في العالم للكتاب، ومن أندر النسخ الخطية. توجد في خزانة علال الفاسي نسخة سبق وصفها في الفصلة التي طبعت من المختصر، وقد رمز لها بالرمز ب. بقيت عندي كلمة بشأن مخطوطات المختصر، وهي أن الأستاذ محمد العربي الخطابي كتب لي مشكورا بشأن مخطوطة أندلسية قديمة للمختصر ما نصه: هذا وحينما وجهنا مخطوطة مختصر العين لأبي بكر الزبيدي الأشبيلي إلى المكتبة العامة قصد تصويرها لكم، تذكرت أن أحد أصدقائي العلماء في شمال المغرب يملك نسخة أندلسية قديمة من هذا الكتاب مكتوبة على الرق ترجع إلى النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، فهي لا تبعد عن عصر المؤلف إلا بأقل من مائة عام، ولا أدري كيف انصرف ذهني عن هذه النسخة حينما كنتم بمكتبي حتى اختلط علي أمر مختصر العين بكتاب آخر، وها أنا قد كتبت رسالة إلى صديقي بمدينة شفشاون، راجيا أن يتحفنا بصورة من النسخة التي عنده من المختصر لتكون سندا لكم من بين النسخ الأخرى.... غير أن مالك هذه النسخة لم يشأ أن يكاتب الأستاذ الخطابي بشأنها، وأستاذنا العربي الخطابي شاء بما عرف به من دماثه وخلق علمي رفيع عدم إطلاعي على اسم مالك هذه النسخة، وقد حاولت في أثناء إقامتي في المغرب أن أعرف شيئا عن أخبار هذه النسخة بوساطة أصدقائي في مدينة الشفشاون المغربية فلم أوفق. الشيخ داود بن أبي شافير البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط ناقلا عن السلافة، وهو وصاحب السلافة في المبالغة فرسا رهان: البحر العجاج إلا أنه عذب لا أجاج، والبدر الوهاج إلا أنه الأسد
138 المهاج، رتبته في الآفاق شهيرة ورفعته أسمى من شمس الظهيرة، ولم يكن في عصره ومصره من يدانيه من مده وقصره، وهو في العلم فاضل لا يسامى، وفي الأدب فاضل لم يكل الدهر له حساما، إن شهر طبق وإن نشر عبق، وشعره أبهى من شف البرود وأشهى من رشف الثغر والبرود... إلى أن قال قدس سره: ومن شعره قوله: قل لأهل العذل لو وجدوا * من رسيس الحب ما نجد أوقدوا في كل جارحة * زفرة في القلب تتقد ثم ذكر تمام القصيدة وبعض قصائده الفائقة فتوفى قدس سره سنة 1017. السيد درويش الغريفي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط ونرجو من القراء أن يتحملوا المبالغات كما تحملنا: سيد العلماء المحققين، سند الفضلاء المدققين، جامع المعقول والمنقول، مستنبط الفروع من الأصول، قطب دوائر التحقيق، صدر صدور المدرسين، كان من أدباء زمانه، عارفا بالعلوم الأدبية، عالما بالفنون الرياضية، وهو مجاز عن شيخه صاحب الحدائق، وله تأليفات منها كتاب شرح القواعد، وكتاب جواهر الحروف، وكتاب القصائد، ورسالة في الإمامة، وكتاب في تفسير الأسماء الحسنى وغير ذلك، مات في شيراز سنة 1204 الرابعة والمائين والألف وقبره في شيراز في السعدية. رقية بنت الشيخ الميرزا علامة بن الشيخ الحسن بن الشيخ محمد صالح الحائرية. ولدت في كربلاء سنة 1307 هجرية، وتوفيت في 5 رجب سنة 1399، ودفنت في مقبرة أسرتها البرغانيين خلف الشاه زاده حسين بقزوين. قرأت المقدمات والعلوم العربية على رجال أسرتها في كربلاء، كما حفظت القرآن الكريم قبل التاسعة من عمرها، وأخذت الفقه والأصول عن الشيخ صدر الدين المعروف بعماد الاسلام ابن الشيخ الميرزا عبد الوهاب البرغاني والشيخ الميرزا أحمد البرغاني، فنبغت في علوم القرآن والتفسير، وكانت من فواضل نساء عصرها، وتصدرت للتدريس في كربلاء للنساء أكثر من نصف قرن، وقد تزوجت بابن عمها الشيخ حسن بن الشيخ الميرزا علي نقي، وكان زوجها مع فضله يستفسر منها في حل بعض المسائل العلمية والفقهية. كما كانت من مراجع الأمور الشرعية للنساء في كربلاء. ومن مؤلفاتها رسالة في خواص السور القرآنية وبعض الآيات، رسالة في غريب القرآن. هاجرت من كربلاء إلى قزوين بعد طغيان النظام البعثي العراقي (1). رويبة بن وبر البجلي. عند ما أصر الخوارج يوم النهروان على ضلالهم دعا علي ع برجل من أصحابه يقال له رويبة بن وبر البجلي فدفع إليه اللواء وأمره بالتقدم إلى القوم، قال: فتقدم إلى القوم وهو يقول: لقد عقد الامام لنا لواء * وقدمنا إمام المؤمنينا بأيدينا مثقفة طوال * وبيض المرهفات إذا حلينا نكر على الأعادي كل يوم * ونشهد حربهم متواريينا ونضرب في العجاج رؤوس قوم * تراهم جاحدين وعابدينا قال: فحمل فجعل يقاتل حتى استشهد. السائب بن مالك الأشعري. مرت كلمة عنه في الصفحة 182 من المجلد السابع، ونضيف إليها هنا ما يلي: لما خرج المختار في الكوفة طلبا بثار الحسين ع انضم إليه السائب، ولما اصطدمت قوى المختار بقوى عبد الله بن مطيع والي ابن الزبير على الكوفة، أقبل المختار في عساكره حتى وقف على أفواه السكك وأمر أصحابه بالقتال، فاقتتلوا قتالا لم يسمع به ولا بمثله. قال: وجعل السائب بن مالك الأشعري ينادي: ويحكم يا شيعة آل رسول الله إنكم قد كنتم تقتلون قبل اليوم، وتقطع أيديكم وأرجلكم من خلاف، وتسمل أعينكم، وتصلبون أحياء على جذوع النخل، وأنتم إذ ذاك في منازلكم لا تقاتلون أحدا، فما ظنكم اليوم بهؤلاء القوم إن هم ظهروا عليكم! فالله الله في أنفسكم وأهاليكم وأموالكم وأولادكم! قاتلوا أعداء الله المحلين، فإنه لا ينجيكم اليوم إلا الصدق واليقين، والطعن الشزر، والضرب الهبر، ولا يهولنكم ما ترون من عساكر هؤلاء القوم فان النصر مع الصبر. فعندها رمت الناس بأنفسهم عن دوابهم، ثم جثوا على الركب وشرعوا الرماح وجردوا الصفاح وفوقوا السهام، واصطفقوا بالصفوف اصطفاقا، وتشابك القوم اعتناقا، فصبر القوم بعضهم لبعض ساعة، وقتل من الفريقين جماعة، وانهزم أصحاب عبد الله بن مطيع، واقتحم المختار وأصحابه الكوفة. السيد سعد صالح. مرت كلمة عنه في الجزء الأول من المستدركات، وكتبناها يومذاك مما كان في الذاكرة من مواقفه، وكنا نفتقر إلى الوثائق والمصادر التي كانت بعيدة عنا يوم كتابة تلك الكلمة. وقد وقع في أيدينا بعد ذلك بعض ما كتبه عنه جعفر الخليلي مما نأخذه هنا، قال وهو يتحدث عن بدء ممارسته للمحاماة في النجف. عرف الناس في سعد شخصية ممتازة من حيث رعايتها للحقوق، والتزامها بواجب المحامي الذاب عن حقوق موكله بكل معنى الذب، وبدأت تحوط اسمه هالة من الاجلال والاحترام، وكانت النجف قد شرعت تدب فيها الاختلافات فسعى إلى إزالتها ووفق بين النزاعات المختلفة، فإذا به بين ليلة وضحاها بصبح شخصية لها شئ من الوجاهة. ثم بدأ يزيد نفوذه على مر الأيام ويكبر في العيون يوما بعد آخر. وقد صار لسعد شان آخر فوق الشأن الذي أكسبته إياه المحاماة، وصا لأخذ رأيه من لدن رجال اللواء والقضاء قيمة في المهمات والطوارئ. لقد عرفته صادقا وهو يقدس الصدق ويفضله على جميع الصفات وعرفته جريئا، وهو يعطي الجرأة كل ما ينبغي أن تعطى لتكون جرأ محمودة. وسعد شاعر وخطيب، وله شعر كثير أغلبه يصدر نزعاته الوطنية وقليل منه في النواحي الأخرى.
(1) الشيخ عبد الحسين الصالحي. 139 ولقد رثى نفسه قبل أن يموت بأسبوعين بقصيدة في نحو ستين بيتا سماها الأشباح ولما كان لا يستطيع أن يمسك القلم بيده فقد كان ينظم الأبيات ويحفظها ثم يتلوها على من يحضر ليكتبها عنه. وهذه أبيات منها: أبوارق الآمال والآلام * لوحي لعلك تكسفين ظلامي فلقد بدا شبح الهموم على الدجى * ملكا ركاما قام فوق ركام يوحي إلى نفس الكئيب كابة * خرساء تخلع مهجة الضرغام متوسطا شبحين ذاك لمحنة * الوطن الأسير وذا لفرط سقام فلعلتي شبح رهيب كالردى * ولموطني شبح جريح دام وقال مداعبا صديقا له اسمه نافع: أجهدت نفسك لاعبا * لكن لعبك كان ضائع والضر طبعك دائما * كذب الذي سماك نافع وسعد زعيم من زعماء السياسة المحنكين دون أقل شبهة، ومقامه السياسي معروف لدى الجميع، وقد طغت السياسة عليه حتى لم يعد لمن يعرف سعدا عن كثب أن يتبين فيه شيئا غير السياسة، وهو رجل كان من القابلية واللياقة بحيث يستشف كثيرا من الحوادث ويتكهن بكثير من العواقب قبل حدوثها، وله آراء جد صائبة، ينفرد بها بين مئات السياسيين في هذا البلد، ويقدرها له الذين عالجوا المشاكل السياسية عند ما خبروا بواطنها، فقد أوتي حظا كبيرا من الذكاء والفطنة، وأن لإصابته الهدف وحسن قيامه بما يعهد به إلى نفسه في أشد الأوقات حراجة الأثر الكامل الملموس. ولعل ذكاءه كان أبرز خصلة من خصاله الغريزية. وسعد حين يرسل الرأي السياسي يرسله مدعوما بالأدلة التي لا تقبل التشكيك فهو يعتمد المنطق في جميع تفكيره ومن طريق المنطق يسعى للظفر. وكم رأيته وهو متحمس لرأي، ثم لا يلبث أن يعود لينقضه من أساسه حين يبدو له رأي آخر سواء كان هذا الرأي له أو لغيره ممن يسمع به ما دام يلمس فيه الحجة الصائبة، لذلك كان سعد أبعد ما يكون عن العناد في آرائه السياسية، وكانت سلبيته في القضايا الوطنية منطقية معقولة، ولعل لجرأة سعد أثرا كبيرا أيضا في شخصية لا تقل عن مواهبه وقابليته السياسية والأدبية. وصادق سعدا كثير من الرجال على اختلاف نزعاتهم من حزبيين وغير حزبيين، وبالامكان القول أن كثيرا من أصدقائه قد صادقوه تحسسا بمنزلته وحبا بروحه وإعجابا برجاحة عقله وتعلقا بمبادئه القومية العربية. وقلما زرته ولم أجد عددا منهم يخوضون وإياه مختلف الشؤون كأنهم في ناد لا يؤمونه إلا ليغذوا أنفسهم بما يطيب، وما ينبغي أن تتغذى به النفوس الحرة التي لا يقيدها أي قيد ولا يمنعها مانع من أن تقول ما تحس به. لقد كان سعد بارزا في حياته، والذين برزوا وماتوا كثيرين ولكن أمثال سعد كانوا أقل من القليل فهو نسيج وحده من حيث مواهبه الخاصة ومن حيث وطنيته وتوفر ملكات الزعامة السياسية في نفسه، تلك المواهب التي استدرت دموع أصدقائه وغير أصدقائه على حد سواء حزنا عليه وشعورا بالخسارة الفادحة، فكانت فاجعة البلاد به عامة وراح ولم يكسب من دنياه غير هذا الشعور وهو كل ثروة الذين يعيشون للناس، وتوفي قبل أوانه في الوقت الذي أوشكت الزعامة الوطنية والسياسية أن تنحصر فيه. ومما يذكر في سيرة سعد صالح أنه عند ما كان متصرفا في لواء المنتفك هدد الفيضان المنطقة بكارثة ماحقة وقد عمل هو بحكم منصبه على الحؤول دون وقوع هذه الكارثة، واستطاع بما اتخذه من تدابير وما بذله من جهود أن ينجح في ذلك ونجت المنطقة من الكارثة الفيضانية المدمرة. فرأى فريق من أبناء بلدة سوق الشيوخ أن يقدموا له هدية رمزية هي عبارة عن قنطرة فضية ضمن إطار فيه صورته وتحت الصورة هذه الأبيات من نظم الشيخ محمد حسن حيدر أحد أفاضل سوق الشيوخ: عليك لواء الحمد شكرا يرفرف * لأنك في دنيا العلى متصرف بحزمك كافحت الحوادث وانجلى * عن الشعب ليل بالكوارث مسدف وقفت أمام الخطب سدا ممنعا * وذا موقف أنى يحاكيه موقف فلله أيام عليك عصيبة * تهدد آمالا لنا وتخوف طغى الماء فيها والسدود ضعيفة * وهمة أرباب المزارع أضعف فقاومته حتى تثنى عناته * وكافحته حتى انتهى وهو أعجف فيا سعد ما زالت خطاك سديدة * وما زالت الآمال باسمك تهتف بك الزرع لاقي من يرق لحاله * ولم ير قبلا من يرق ويعطف إلى سوق الشيوخ مكرما * جهادك في رمز عن الحب يكسف يفدمه ذكرى لموقفك الذي * سيبقى مدى الأجيال وهو مشرف سعيد حيدر. ولد في بعلبك وتلقى دراسته الثانوية في دمشق، وتخرج من معهد الحقوق في استنبول، وكان خلال دراسته فيها من بين الشبان العرب الذين أدركوا نوايا الأتراك الطورانيين في سيطرة العنصر التركي سيطرة كاملة على الدولة العثمانية والسعي في تتريك العرب بكل وسيلة، وقد باشروا ذلك فعلا، وأخذوا يمهدون لتطبيق خططهم تمهيدا عمليا. لذلك انضم المترجم إلى أخوانه الشبان العرب العاملين على مقاومة الطورانيين وانقاذ البلاد العربية من شرهم، فكان عنصرا فعالا في التكتلات العربية الثورية المتألبة في استنبول. ولما أنهى دراسته وعاد إلى بلاده عين في سلك القضاء، ثم لم تلبث الحرب العالمية الأولى أن أعلنت، ثم حلت الهزيمة بالدولة العثمانية، واحتل الفرنسيون الساحل السوري اللبناني، والإنكليز فلسطين، وبقي بيد العرب القسم الداخلي من سورية، وهو ما اصطلح على تسميته بالمدن الأربع: دمشق وحلب وحمص وحماه وما يتبعها. ثم تجلت نوايا الفرنسيين في السيطرة على هذا القطاع الذي بقي وحده مستقلا استقلالا تاما، وكان أن تكتل الاستقلاليون العرب في دمشق يخططون لدفع شر الفرنسيين عن بلاد الشام، فكان سعيد حيدر في الطليعة من هؤلاء عاملا نشيطا. ثم كان ما كان من احتلال الفرنسيين لدمشق بعد معركة ميسلون وقضائهم على الاستقلال العربي الناشئ، فكان سعيد حيدر ممن اضطروا للنزوح عن البلاد مع من نزح من القادة الذين كان الفرنسيون قد حكموا عليهم بأحكام غيابية قاسية بينها الاعدام وهو ما حكم به المترجم. وبعد أن استقر الفرنسيون في سورية بدأوا بتقليص هذه الأحكام وإسقاطها تدريجيا عن المحكومين وأخذ هؤلاء يعودون واحدا بعد واحد،
140 وكان بين العائدين سعيد حيدر. وقصة سعيد حيدر هي قصة القضية العربية منذ انبثاق هذه القضية وتبلورها بعد سنة 1908، سنة إعلان الدستور العثماني، واستيلاء حزب الاتحاد والترقي على السلطة وفوران الدعوة الطورانية المبنية على سيادة العنصر التركي، والعمل على تتريك العرب. ولا بد لنا قبل التوغل في هذا الموضوع من عرض إجمالي لموقف العرب من الحكم التركي الذي سمي عثمانيا وامتد طيلة 400 عام المسألة القومية وقبل ذلك فإننا ننشر دراسة للدكتور وجيه كوثراني هي بحث شامل عن الصراع بين الفكر القومي الذي نما في تلك الفترة التي نتحدث عنها، وبين التوجه الاسلامي الذي ظل متمسكا به من يرون في الفكر القومي تناقضا مع توجههم. قال الدكتور كوثراني: برز الاشكال القومي في العصر الحديث (1) ولا سيما في القسم الواسع من العالم الاسلامي المرتبط آنذاك بالسلطنة العثمانية، في سياق تفاعل أزمة السلطنة أمام ضغط بنيتها الداخلية الآخذة بالتفكك وأمام تعثر مشاريع الاصلاح الإداري والسياسي فيها وأمام ضغط التدخلات الأجنبية الهادفة إلى إحداث مزيد من الخلل والتفكيك في بنية الاجتماع الاسلامي ووحدة دولته الأساسية. وكان اتجاه التتريك والعثمنة وهو أحد الاتجاهات الأيديولوجية السياسية التي حاولت أن تتصدى لاجتراح حلول لتلك الأزمة قد استطاع عبر انقلابي 1908 و 1909 أن يهيمن على السياسة العثمانية وأن يوجهها في مسار استحداث دولة مركزية عثمانية مرتكزة إلى غلبة القومية التركية في أجهزة الدولة ومراكز القرار السياسي والاقتصادي والثقافي. وكان من نتائج انتصار هذا الاتجاه وغلبته في أجهزة الدولة ومؤسساتها أن استنفرت القوميات المبعدة عن مراكز القرار والممتهنة في لغتها وثقافتها ودورها الفكري والحضاري. وكان الاصلاحيون العرب الذين وقفوا إلى جانب الانقلابيين الأتراك في مواجهة الاستبداد الفردي ومن أجل تطبيق الدستور في طليعة المبعدين. وكانت اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم ولغة الشريعة والحضارة الاسلامية معا هدفا للتجريح والامتهان والتشويه. فجاء الوعي القومي العربي في حينه وفي جزء كبير من استجابته لهذا التحدي وعيا لهذا الاشكال الداخلي الذي عبر عنه آنذاك بازمة العلاقات بين العرب والترك. وفي هذا الجانب بالذات حمل الوعي العربي مضمونا إسلاميا يتجلى في دفاع بعض المفكرين العرب عن اللغة العربية بصفتها لغة للشريعة وعن ضرورة وحدة العرب والترك وبقائهم في دولة واحدة بسبب الحرص على الارتباط بالاسلام والحفاظ على ما تبقى من دولته. ومع ذلك فإنه لا بد من ذكر جوانب أخرى اندمجت في هذا الاشكال القومي وأعطته طابعا انفصاليا عن الدولة العثمانية أو طابعا معاديا للاسلام. من هذه الجوانب: تقاطع الدعوات الانفصالية مع مشاريع التقسيم الاستعمارية التي حملتها سياسات الدول الكبرى آنذاك. اندماج بعض الداعين للاستقلال عن الدولة العثمانية باسم العروبة في سياسات السفارات والقنصليات والوزارات الأجنبية. وكان من بين هؤلاء أعضاء بارزون في الجمعيات السياسية العربية وفي المؤتمر العربي الأول 1913. جاذبية الفكر الليبرالي القومي الغربي للنخب المحلية في وقت رزح فيه العالم الاسلامي تحت نير حكومات استبدادية تسترت بالاسلام وقدمت نفسها حامية للدين. هذه الجوانب شكلت في لحظة انتصار الغرب الاستعماري في الحرب العالمية الأولى العوامل المرافقة لعملية تقرير المصير للعديد من مناطق العالم الاسلامي. ولذلك التبس أمر هذا التيار القومي وبدا عاملا مساعدا في التجزئة والتفكيك حينذاك. والواقع أنه إذا كانت هذه الصورة صحيحة إلى حد كبير آنذاك، فان دعوة العروبة لم تلبث أن اكتسبت بعد الحرب العالمية الأولى ولا سيما في المشرق العربي بعدا وحدويا معاديا لسياسة التجزئة الإقليمية والطائفية والمذهبية التي سارت عليها السياسات الغربية منذ ذلك الحين وحتى آخر المرحلة الناصرية، ولم تنفصل العروبة على المستوى الشعبي والجماهيري عن بعدها الاسلامي آنذاك. السؤال كيف واجهت التيارات الاسلامية المعاصرة هذا الاشكال القومي في عهديه العثماني والغربي؟ لقد تشكل في سياق تفاقم أزمة السلطنة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تيار فكري إسلامي نجد في مواقف أعلامه ونصوص كتابه أجوبة إسلامية واضحة على هذا الاشكال. منذ صدور العروة الوثقى بقلمي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده إلى كتابة عبد الرحمن الكواكبي طبائع الاستبداد. وأمام هذا الاشكال المزدوج للحالة القومية المعاشة في مطلع القرن العشرين كان التيار الاسلامي المعبر عنه عبر المفكرين والفقهاء الذين أشرنا لهم يقدم إجابات واضحة عن السؤال: كيف نتجنب استخدام الوعي القومي أداة للتجزئة ومطية لشيوع الأفكار المعادية للاسلام؟ وكيف يمكن للحالة القومية أن تندرج في وعي إسلامي أشمل وأكمل؟ لقد تطرق جمال الدين الأفغاني إلى هذه المسألة في العديد من مقالاته وخاطراته. وهو إذ يجعل من الرابطة الاسلامية الرابطة الأشمل والاسمي والأعدل والأقدس، لا يغفل أهمية رابطة الجنس ويعني بها الرابطة القومية في مسار التشكل التاريخي للشعوب والأمم. ولكنه مع ذلك لا يعتبرها مندرجة في حقائق الوجدانيات الطبيعية، بل من الملكات العارضة على الأنفس ترسمها على ألواحها الضرورات (2). والضرورات هذه تكمن في وحدة
(1) يقتصر كلامنا هنا على بروز الاشكال القومي في التاريخ الإسلامي المعاصر ولا سيما في المناطق التي كانت اجزاء من ولايات الدولة العثمانية. ولا يعني ذلك أن هذا الاشكال لم يكن موجودا في المراحل الأولى من التاريخ الإسلامي. بل أن ما يميز الاشكال القومي الحديث هو في تمثله وعيا سياسيا هادفا إلى إنشاء دولة قومية محددة على أساس الانتماء الاثني أو العرفي وعلى أساس الحدود الجغرافية - السياسية الثابتة. في حين أن الاشكال القومي في مراحل التاريخ الإسلامي القديم اقتصر على بروز عصبيات قومية تتصارع من أجل احتلال مواقع في الدولة القائمة أو إقامة دولة حادثة. ولا يتحدد نطاق الدولة وفقا للانتماء الاثني أو القومي لأهل الدولة أو عصبيتها. (2) جمال الدين الأفغاني، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، ص 34 - 35. 141 المصالح الاقتصادية لجماعة أو في الدفاع الذاتي وصيانة الحقوق... فإذا زالت الضرورة لهذا النوع من العصبية تبع هو الضرورة في الزوال كما تبعها في الحدوث بلا ريب (1). والمزيل لهذه الضرورة هو معتقد التوحيد الإلهي في الاسلام. يقول: وتبطل الضرورة بالاعتماد على حاكم تتصاغر لديه القوى وتتضاءل لعظمته القدرة، وتخضع لسلطته النفوس بالطبع، وتكون بالنسبة إليه متساوية الأقدام، وهو مبدأ الكل وقهار السماوات والأرض (2). وإن التدرج في سلم التوحيد وعلى أساس المبدأ الوظيفي للروابط الصغرى التي تتسع في حقولها التوحيدية إلى وحدة العالمين وفقا للمفهوم القرآني للدعوة الاسلامية يستوعب هنا رابطة العروبة كحاملة دعوة ولسان شريعة ولغة قرآن، لا كرابطة دم وعصبية نسب. يقول: أن زحف العرب ووفودهم على البلاد إنما كان لتعميم الدعوة الدينية أولا. إن وفود العرب حملت معها أخلاقا فاضلة ظهرت أفضليتها بأجلى المظاهر مثل الأنفة من الكذب، والوفاء بالعهد، ومطلق العدل، وكمال الحرية والمساواة... وإغاثة الملهوف والكرم والشجاعة... لذلك انعطفت قلوب الأمم على استحسان الوافدين من العرب لبلادهم سواء فيه البلاد التي فتحت عنوة ووضعت فيها الحرب أوزارها، أو صلحا، وأول مقدمات العادة الاستحسان ثم المزاولة حتى ترسخ ملكة... نعم أن أكبر حامل وافعل عامل على تعرب أولئك الأقوام هو الفضائل الأخلاقية والصفات العالية التي كانت تأتي بها العرب مع بأسهم وشجاعة أبطالهم (3). تلك هي العروبة المقترنة بالرسالة وبالأخلاق والشجاعة والتي يراها جمال الدين حلقة ممهدة للرابطة الاسلامية غير متعارضة معها أو معيقة لها. وهو بذلك يدعو الأقوام الاسلامية الأخرى إلى تعلم العربية لتعميق إسلامها وترسيخه. يقول: أن لكل دين لسانا ولسان دين الاسلام العربي. فالعروبة بهذا المعنى تشد العرب إلى غيرهم من الشعوب الاسلامية وتشد الشعوب الاسلامية غير العربية إلى العرب. أنها حلقة جذب لا حلقة تنابذ وفي المرحلة التي كتب فيها الأفغاني هذه الكلمات والخاطرات كان الخطر الاستعماري يهدد الشعوب الاسلامية بأسرها كما يهددها اليوم، وكان المستهدف في عملية المواجهة على الجبهة الثقافية وعلى مستوى الاجتماع السياسي في الشرق هو الاسلام بما هو إمكانية جمع وتوحيد وتفجير طاقة ثورية للشعوب. فإذا اقترن الاسلام في هذا السياق بوطنيات هذه الشعوب وقومياتها في مواجهتها لقوى الاحتلال والاستعمار فإنه يتوج بذلك الروابط الجمعية على اختلافها وأوليات الدفاع الاجتماعي الذاتي في حركة جدلية تصاعدية ترقى بالرابطة إلى الأعلى والاسمي والأشمل. والأفغاني وفقا لهذا المفهوم الاسلامي يقيم خطا للتمييز بين هذا النوع من القوميات أو الوطنيات التي يستوعبها الاسلام وبين النوع الغربي من القوميات التي تتصارع وتتقاتل من أجل التوسع والسيطرة والتي تتناقض مع الدين وفقا لنسق التجربة التاريخية الأوروبية التي أفرزت العلمانية كصيغة حل للصراع بين اللاهوتي والدنيوي، بين الكهنوتي والمدني، بين الدين والعلم. وهذا ما يبرز في رد الأفغاني على ارنست رينان الذي اتهم الاسلام بمناهضته للعلم، والأمة العربية بعدم صلاحية طبيعتها لعلوم ما وراء الطبيعة والفلسفة (4). وفي السجال بين المفكرين يبرز بوضوح اختلاف المفهومين اللذين يتناولان معنى الأمة. فثمة مفهوم غربي مشحون بعقدة التفوق والتمييز والتصنيف العرقي عند رينان وثمة مفهوم إسلامي مرن ومنفتح ومتدرج ومتداخل عند الأفغاني. وفي مجال الممارسة السياسية كان الأفغاني نموذجا فعالا في تأكيد مصداقية هذا الفكر. ومن يتابع نشاطه السياسي والدعاوي في العالم الاسلامي يندهش لتلك القدرة الخارقة على الحركة والتأثير والمتابعة التفصيلية لأحداث كل بلد وصياغة الموقف المناسب من كل وضعية والقدرة على الانتقال السريع من قطر إلى قطر. والأمر الذي يستوقف في كل هذا رؤيته الاستراتيجية الاسلامية الشاملة التي يتكامل فيها الحس التاريخي مع الوعي السياسي والتي تتجلى في تركيزه على دوائر ثلاث كانت قد انطلقت منها مشاريع الدول المركزية في التاريخ الاسلامي ومن خلالها يتم رصد احتمالات المواجهة مع الغرب. وهذه الدوائر هي: مصر، وإيران ومركز السلطنة العثمانية تركيا. ويتكامل هذا التيار الفكري الاسلامي في أدراجه الأشكال القومي داخل المنطق الاسلامي في نظرية الكواكبي في الجامعة الاسلامية. فإذا كان الأفغاني قد اقترح أن تبقى السلطنة العثمانية في قلب هذه الجامعة وإطارها فان الكواكبي يقترح أن تنتقل الخلافة إلى إمام عربي قرشي (5) وأن تتشكل جامعة إسلامية يتصور مؤتمرها التحضيري في أم القرى، كما يتصور توزيع وظائفها وفقا لأهليات وخصال الأقوام المسلمين. إذ يقترح الكواكبي وظائف معينة في الجامعة الاسلامية تناط بكل شعب من شعوبها (6). وإذا كان التصور هذا، يشكو من طوباويته على صعيد الواقع السياسي فإنه على الأقل وعلى صعيد المنهج يدعو إلى اعتماد نظرة وظائفية في التعامل مع خصوصيات الأقوام الاسلامية، نظرة تهدف إلى تحقيق نوع من التوازن في وحدة الجامعة الاسلامية حيث لا تطغى عصبية على عصبية وإن تسترت بالاسلام كصبغة دينية كما كان يقول ابن خلدون. وستزداد معاناة هذا التيار الاسلامي في مواجهته لحل هذا الاشكال القومي مع تفاقم أزمة الدولة العثمانية وتحولها التدريجي إلى دولة قومية تركية. فهو يراهن على احتمال الاصلاح الدستوري كصيغة متلائمة مع الشورى في الاسلام ولا يلبث أن تصدمه حركة التتريك وسياسة جمال باشا الدموية فيراهن على احتمال لاحياء الاسلام من الحجاز ثم تحبطه اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور... ويعود ليتوجه بالأنظار إلى تركيا وبالتحديد إلى حركة مصطفى كمال فيتوسم في هذا الأخير أملا في انقاذ ما يمكن انقاذه. ويدفعه الأمل بان يتصل بالترك لترميم العلاقات العربية التركية وحتى لاقتراح أن تبقى الخلافة فيهم، بل وحتى أن يعود مصطفى كمال إلى الاسلام ليبايع سلطانا على المسلمين.
(1) المصدر نفسه، ص 34. (2) المصدر نفسه، ص 34. (3) المصدر نفسه، ص 316. [*] يقول مرتضى مطهري أن الفرس " لم يكونوا يعدون العربية لغة العرب فحسب بل لغة الإسلام والمسلمين عامة " فهي " لغة إسلامية أميمة عالمية ". الإسلام وإيران، ص 66. (4) الأعمال الكاملة ص 322. (5) ينطلق بعض الباحثين من هذا الاقتراح ليرى في الكواكبي داعية للقومية العربية على طريقة نجيب عازوري في دعوته عام 1905. وفي هذا التأويل بعد عن الحقيقة التاريخية وتشويه لآراء الكواكبي. (6) الكواكبي، أم القرى، ص 355 - 366. 142 غير أن مصطفى كمال كان يرسم طريقا مغايرا لكل هذه الرهانات. ولن تلبث معاهدة لوزان أن تقطع الطريق على كل هذه الاحتمالات لنفتح طريقا واحدا أمام تركيا هي طريق القومية العلمانية. وبذلك يتلقى التيار الاسلامي في بلاد العرب كما في غيرها من البلدان الاسلامية ضربة قاسية ويصاب الفكر الاسلامي حينها بحالة من القلق والتساؤل والتردد بالرغم من مؤتمرات الخلافة التي عقدت والتي انتهت بتأجيل البت بمسألة الخلافة. كما تشهد الساحات السياسية تحركات مشبوهة من السلاطين والملوك ومن الدوائر الدبلوماسية الغربية لتقطف ثمار هذا الفراغ السياسي. ثم أن ما ينبغي التنبه له هو أن العامل الحاسم في إضعاف التيار الاسلامي لم ينحصر في قرار إلغاء الخلافة الذي اتخذه مصطفى كمال. ذلك أن المؤسسة السلطانية كانت قد أضحت عمليا بلا حول ولا طول وكانت قد فقدت شرعيتها الاسلامية بعد عجزها عن المقاومة واستسلامها للأجانب وقبولها بمشاريعهم. إن ما يغفل عنه الباحثون هو أن سلسلة من الثورات الشعبية التي ارتكزت إلى منطلقات إيمانية وإسلامية كانت قد ضربت بوحشية بالآلة العسكرية الأوروبية المتطورة: فمن ثورة عبد الكريم الخطابي إلى ثورة عمر المختار، إلى الانتفاضة الشعبية المدنية في مصر، إلى ثورة العراق بقيادة علماء النجف، إلى الثورة السورية الكبرى... ارتسمت معالم مقاومة إسلامية مفرقة وموزعة، ولكن يجمعها المنطلق الاسلامي الواحد الجهاد والحافز الوطني الأهلي الدفاع عن الديار والأهل، والعدو المشترك المشروع الاستعماري وان تلونت أقطاره وقومياته. إن انتصار القوى المستعمرة على هذه الثورات بالأسلوب الوحشي الذي تتحدث عنه وثائق التاريخ وتحمله الذاكرة الشعبية أفسح المجال أمام منهج في العمل السياسي النخبوي كانت قدوته بشكل عام وبدرجات متفاوتة: صورة نظام آتاتورك في تركيا. وهكذا ومع ضرب تعبيرات المقاومة في المجتمعات الاسلامية وبروز نموذج آتاتورك بدأت تتشكل تيارات سياسية قومية علمانية تبتعد عن الاسلام، بل وقد يعزو بعض أجنحتها ومفكريها إلى الاسلام أسباب الهزيمة والتأخر. هذا الطرح كان من شانه أن يزيد من عقدة الاشكال القومي وذلك من خلال تعميق الفجوة بين الموقف الاسلامي والصيغة القومية المقتبسة من تجارب أوروبا ومنظريها. وهكذا ارتسمت صورة للقومية منفصلة عن الاسلام لا سيما في بلاد الشام حيث كانت التجربة مع التتريك العثماني قاسية وحيث اتسم المجتمع الأهلي بتعددية دينية استدعت استخدام خطاب سياسي يتحدث عن وحدة وطنية لا دينية. ولكن هذا الاشكال نفسه لم يكن ليطرح خارج هذه الخصوصية الجغرافية التاريخية. ففي شمالي أفريقيا اندمج الوعي القومي بالاسلام بل ارتكز إليه. ولم تكن الدولة العثمانية ولا سيما في مرحلة التتريك فيها وقد تركت هناك ذكرى الحصار والمجاعة أو التجنيد الإلزامي وأعواد المشانق كما حصل في كل من دمشق وبيروت، بل كانت ذكراها هي ذكرى الدولة الاسلامية التي تحاول أن تدافع عن ثغور الجنوب الاسلامي للمتوسط وكانت هذه الذكرى محفوظة في الذاكرة الشعبية والكتاب التاريخي منذ القرن السادس عشر. وهكذا لم تجد التيارات الاسلامية نفسها في شمالي أفريقيا في مواجهة مع القومية. بل أن التعبير الاسلامي كان أحيانا جزءا من التعبير القومي، وفي الغالب كان التعبيران مندمجين في حالة سياسية وثقافية واحدة هي حالة التمايز عن المستعمر وحالة الدفاع عن هويات وطنية وثقافية معا. وهو الأمر الذي كان قد لاحظه فانون بشكل واضح ولا سيما في دراسته لثورة الجزائر. والذي يستعرض التيارات الفكرية الاسلامية عبر نصوصها وأعلامها في شمالي أفريقيا أمثال ابن باديس وحسن البنا لا يجد مكانا للاشكال القومي كاشكال مثير للتعارض أو الرفض من موقع المعتقد الاسلامي. إذ تجري مصطلحات الوطن والوطنية والوحدة العربية والوحدة الاسلامية كمفاهيم متدرجة في إطار التكاملية الوظائفية المؤدية إلى التوحيد (1). إذن كيف ومتى وأين كانت تثار الاشكالات بصيغة التعارض بين حالات الوعي الاسلامي وحالات الوعي القومي؟ قلنا أن التعارض كان يحصل عند ما كان الوعي القومي يعبر عن نفسه عبر بعض النخب المحلية المتغربة تماثلا فكريا ومنهجا مع العقائد القومية الأوروبية التي اتخذت لنفسها ولأممها صفة التفوق والاستئثار وحملت معها مشاريع للتوسع والسيطرة كما حملت معها فلسفة سلوكية معادية للدين أو مهشمة له. هذا على صعيد المنهج. ولكن يبقى أن نشير إلى عوامل أخرى ارتبطت بخصائص جغرافية سكانية تاريخية في مناطق معينة من العالم الاسلامي. فكما أن لبلاد الشام مثلا وضعية سكانية معينة وتجربة تاريخية خاصة مع مرحلة المركزية والتتريك، فان لايران والهند ولا سيما في قطاعها الباكستاني تجربة تاريخية معينة في حقل العلاقة بين القومية والاسلام (2). وهذه التجربة اتسمت في قطاعات منها بمعاداة حادة بين الفكر القومي و الفكر الاسلامي. فهذا هو أبو الأعلى المودودي يعتبر الفكر القومي فكرا شيطانيا ابتليت به أوروبا والنخب المحلية المقلدة لها (3). والمودودي في هذا الموقف الصارم لا يعبر فحسب عن معيار منهجي وعقائدي في التمييز بين الفكر القومي الأوروبي التجزيئي وبين الفكر الاسلامي التوحيدي، بل أنه يعبر أيضا في المجال السياسي والوجهة الواقعية العملية عن الاحتمال التاريخي التجزيئي والانشقاقي للوجهة الوظيفية للقوميات المحلية في الهند والباكستان (4). ولعل هذه الوجهة التفسيخية لوظيفة القومية هناك هي ما استوقفت مفكرا إسلاميا هو كليم صديقي ودفعته أن يعمم النظرة المعادية للقومية في كل مستويات الطرح دون اعتبار للخصوصيات الإقليمية في التجارب التاريخية. فهو يجعل من القومية على طول الخط صنيعة للاستعمار وأداة لسياسات التفسيخ في الأمة الاسلامية (5).
(1) راجع وثيقة لحسن البنا حول الموقف من الوحدة العربية والوحدة الإسلامية في مجلة الحوار، صيف 1986، ص 168 - 169. (2) راجع مقالة: طارق البشري، بين الإسلام والعروبة، الحوار، صيف 1986، ص 15 - 32. (3) أبو الأعلى المودودي، نحن والحضارة الغربية، ص 77. (4) انظر: طارق البشري، بين الإسلام والعروبة، مجلة الحوار، صيف 1986، ص 21 - 22. (5) قارن كليم صديقي، التوحيد والتفسيخ بين سياسات الإسلام والكفر. المعهد الإسلامي - لندن. 1984، ص 27 - 34. 143 وإذا كان هذا الأمر صحيحا بالنسبة لتيار الرابطة الاسلامية في الهند البريطانية الذي تزعمه محمد علي جناح والذي أدى إلى انفصال باكستان فان هذه التجربة الباكستانية وإن حملت عنوان الاسلام شكلا والقومية مضمونا لا يمكن تعميمها على البلاد العربية. فالرابطة العربية هنا والتي يعبر أحيانا عنها بالعروبة وأحيانا أخرى بالقومية العربية دون استدعاء المعاني الغربية لها هي دعوة لرابطة توحيد ورد على سياسة التفسيخ والتجزئة التي استخدمها المستعمرون منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن وكرسوها كامر واقع مفروض أو كمشاريع تذهب نحو مزيد من التجزئ والتفكيك كما نلاحظ الآن على الساحة اللبنانية (1). وفي إيران وتركيا كان التيار الاسلامي يواجه الفكر القومي الآري انطلاقا من الاختلاف في تعيين مرجعية الأفكار وتعيين أصولها ومصادر استلهامها. فالفكر القومي الآري ارتبط بمرجعيتين متعارضتين مع العمل الاسلامي. فهو من جهة يتماهى مع الحضارة الآرية التي تستحضر في الصورة التاريخية زمنا تركيا أو إيرانيا ساد في مرحلة ما قبل الاسلام، وهو من جهة أخرى ينجذب نحو تقليد أنموذج حضاري غربي حديث ساد في مرحلة السيطرة الاستعمارية على الشعوب الاسلامية. وكان أهم هذين النموذجين: نظام الشاه في إيران، ونظام آتاتورك في تركيا. ولذلك كان من الطبيعي أن يتخذ العمل الاسلامي في كل من إيران وتركيا وجهة معادية للفكر القومي باعتباره فكرا أوروبيا وآريا معاديا للاسلام. يقول مرتضى المطهري، أحد كبار مفكري الثورة الاسلامية في إيران معبرا عن إشكالية الموقف الاسلامي الإيراني في التصور القومي هناك: إذا تقرر أن يكون الأساس في تعيين حدود الأمة الإيرانية هو العنصر الآري، كانت النتيجة في نهاية الشوط الاقتراب من العالم الغربي. وكان لهذا الاقتراب في سيرتنا القومية والسياسية تبعات وآثار أخطرها الانقطاع عن الأمم المسلمة المجاورة غير الآرية والارتباط بأوروبا والغرب... وعلى العكس من ذلك تماما فيما إذا جعلنا ملاك أمتنا نظامنا الفكري والسلوكي والاجتماعي لهذه القرون الأربعة عشر الأخيرة، إذ يكون لنا آنذاك سيرة وتكاليف أخرى مغايرة لما سبق ويصبح حينذاك العرب والترك والهند والأندونيسيون والصينيون المسلمون بالنسبة إلينا أصدقاء بل أقرباء (2). ويمكن أن نخلص إلى القول أن الوعي القومي المتشكل لدى الأقوام الاسلامية غير العربية بدءا من تركيا إلى الهند مرورا بإيران كان يتخذ صيغا فكرية وسياسية معادية للاسلام أو بعيدة عنه. كان ذلك شان الحالة الفارسية الآرية والحالة الطورانية التركية، أو حتى شان الحالة الانفصالية الباكستانية التي حصرت الاسلام في مفهوم سوسيولوجي إقليمي فبدت انشقاقية وبعيدة عن المفهوم الوحدوي الاسلامي للدعوة. ومن هنا فان تمايز هذه الحالات ليدعو إلى التمييز أيضا في الحالات العربية. إن الحالتين الطورانية التركية والفارسية الآرية تتشابهان على المستوى العربي مع الحالات الإقليمية العربية كالحالة المصرية الفرعونية، والحالة اللبنانية الفينيقية والحالة السورية الآشورية مع اختلاف العمق في التمثيل واختلاف أهمية كل من هذه الحضارات في التاريخ. أما فيما يخص حالة العروبة وإذا استثنينا التعبيرات الجزئية القومية التي سعت إلى الابتعاد عن الاسلام في بعض المناطق ولدى بعض النخب فان العروبة كانت مندمجة دائما في الاسلام بل كانت هي حضور الاسلام المتجدد في اللسان والقرآن والتراث. ومن هنا فان التيارات الاسلامية العربية المعاصرة لا تجد في العروبة المسلمة خصما. ذلك أن العروبيين إذا ما انفصلوا عن الاسلام لن يجدوا في انفصالهم مبررا أو مرجعا إلا عودتهم إلى عروبة جاهلية قبلية أو تماهيهم مع أنموذج قومي عنصري يستلهمون منهجه من نظريات أوروبية درست. إن المعركة التي تفتعل اليوم بين العروبة والاسلام أو بالأحرى بين التيارات القومية وبين التيارات الاسلامية في بلاد العرب إنما تعود إلى التباسات في الفهم النظري وإلى أخطاء في استراتيجيات العمل السياسي وخططه. التباسات تعود إلى أن أنظمة دعت نفسها إسلامية، استتبعت إلى الغرب وكانت جزئا من استراتيجيته في مواجهة حركات التحرر الوطني تحت غطاء محاربة الشيوعية، وإلى أن أنظمة دعت نفسها قومية وكانت قطرية في توجهها واستبدادية في علاقتها بجماهيرها وعاجزة عن خوض المعركة القومية التي ادعت القيام بأعبائها. وأخطاء في استراتيجيات العمل السياسي تعود إلى ردود فعل متسرعة يلجأ إليها كل طرف وقد يخترقها العدو أو يوظفها باتجاه الدفع بالصراع نحو مزيد من التفكيك والتجزئ. وهكذا وبسبب الالتباس والخطأ والفعل ورد الفعل تقوم تيارات قومية وإسلامية بتبادل التهم وتحميل وزر الخطأ إلى بعضها البعض. فيحمل الاسلام وزر أخطاء قوى اجتماعية سياسية في مرحلة تاريخية ماضية، وتحمل العروبة وزر أخطاء نظام سياسي معين وقوى سياسية عربية معينة. وهكذا أيضا تتعمق المفارقة الحادة بين الفكر الوحدوي الذي يرفده الاسلام والعروبة معا وبين العمل السياسي الحزبي بشقيه الاسلامي والقومي. فالحزبية سواء كانت قومية أو إسلامية توظف الفكر في مشاريعها التكتيكية السياسية والسلطوية الخاصة. فان اختلفت هذه المشاريع أخضع الفكر للاختلاف والانشقاق والتجزئ. ويبقى مع ذلك للفكر والوحدوي الذي يستلهم التوازن والعدل من المفهوم القرآني للأمة الوسط حيز من الاستقلالية الذي يمتنع عن الإخضاع لمنطق العمل الحزبي والسلطوي. ولنا من جمال الدين الأفغاني عبرة في القدرة على تجاوز الاختلاف في الانتماءات القومية في العالم الاسلامي. فلم ينحصر تأثير جمال الدين الفكري في نطاق قومي معين. لقد أثر في العرب بقدر ما أثر في الإيرانيين والأتراك والأفغان وغيرهم. وقد قيل إن جمال الدين لم يكن يرغب في أن يعرف نفسه إلى الناس منتميا إلى أمة معينة من المسلمين، مخافة أن يعطي بذلك حجة بيد المستعمرين
(1) من هنا تأتي ردود الفعل من قبل القومين العرب الذين لا يفصلون بين العروبة والإسلام على هذه الأطروحات اللاتاريخية التي يعممها كليم صديقي في مؤتمراته الخاصة في لندن. (2) مرتضى المطهري، الإسلام وإيران، ص 22. وهنا لا بد من الاستدراك أن ثمة تعبيرات قومية - إسلامية إيرانية موجودة على الساحة الإيرانية لا ترى تناقضا بين الإيرانية والإسلامية. ولا تكون بعيدين عن الواقع إذا قلنا أن التيار الإسلامي نفسه في إيران مليء بالتعبيرات القومية الإيرانية. كالإصرار مثلا على وصف بعض المعالم الجغرافية - التاريخية بالفارسية، وكالاعتزاز بدور الإيرانيين في خدمة الإسلام. وكتاب الشهيد مرتضى مطهري (الإسلام وإيران)، يظهر جهدا علميا كبيرا لإثبات هذه الفرضية اثباتا يدفع بالمؤلف للحديث " بأن الأمة الإيرانية قدمت خدمات للإسلام أكثر من أية أمة أخرى وأن الحضارة الإيرانية القديمة والعريقة قدمت للحضارة الإسلامية الحديثة خدمة كبرى ". الإسلام وإيران، ص 257. 144 كي يثيروا بذلك شعور سائر القوميات المسلمة ضده (1). هذا التوجه الوحدوي في التعامل مع قوميات العالم الاسلامي يملك دلالات كبرى على امكانات الفكر الاسلامي في أن يمارس تأثيرا إيجابيا وتوحيديا إذا استطاع أن يفلت من فخاخ التوظيف السياسي للأحزاب والعصبيات وشباك السلاطين والملوك والحكومات والدول. ولعل علاقة جمال الدين بالسلطان عبد الحميد تعبر عن المأزق الكامن بين الفكر والسلطة وعن عمق المعاناة عند ما يطمح المفكر أن يكون مرشدا للسياسي لا خادما له. انتهى بحث الدكتور كوثراني. ونعود بعد هذا إلى التساؤل عن سبب سكوت العرب عن الحكم العثماني: لماذا سكت العرب؟ إن سكوت العرب على الحكم العثماني طيلة أربعة قرون هو موضع تساؤلات عديدة طرحها الباحثون في مختلف المناسبات، وفي هذا الموضوع نقول: لماذا سكت العرب طوال أربعة قرون على الحكم التركي الذي تستر باسم العثمانية ليبعد عن نفسه تهمة العنصرية؟. لما ذا سكت العرب هذا السكوت الطويل ولم يتكلموا إلا قبيل زوال الدولة العثمانية، فتهامسوا أولا، ثم بدأت الأصوات ترتفع قليلا قليلا حتى تحولت إلى الجهر، جهرا لا باللسان بل بالسنان، جهرا يتلظى بنيران البنادق ولهيب المدافع، وأين هذا الجهر المدوي من ذاك الصمت المطبق؟ وكل ما قيل من تعليل ذلك هو إما اتهام للعرب بأنهم استكانوا للأجنبي الفاتح لمجرد كونه مسلما مشاركا لهم في الدين. وإما دفاع هو في حقيقته إقرار لهذا الاتهام. ونحن نحاول في هذه الكلمات أن نرى أين هي الحقيقة. ولا نزعم أننا جئنا بالقول الفصل، بل نزعم أننا من بعض العرب الذين تجري على أجدادهم هذه الأحكام، وأننا من خلال سير هؤلاء الأجداد رأينا بصيصا من الحقيقة علينا أن نكشف عنه، في السنة 1498 واجهت البلاد العربية خطرا فادحا هو سيطرة الأسطول البرتغالي على المياه العربية وفرضه حصارا على مدخلي البحر الأحمر والخليج، فقال مؤرخ عربي يصف ذلك: وصاروا يقطعون الطريق على المسلمين أسرا ونهبا. وقال مؤرخ آخر: البرتغال... ظهروا في البحر وأوسعوه نهبا وصاروا يأخذون كل سفينة غصبا. وفي السنة 1500 أحرق البرتغاليون عشر سفن مصرية في الموانئ الهندية. وفي السنة 1502 هاجموا عدن ونهبوا وأحرقوا سفنا عربية في مينائها، وفي السنة التالية وصلوا إلى مدخل البحر الأحمر، ثم بعد سنتين تغلغلوا حتى ميناء جدة. وفي السنة 1506 أحكموا السيطرة على باب المندب ومدخل البحر الأحمر، ثم التفتوا في السنة التالية إلى مداخل الخليج. وبعد ذلك قاد ألبوكرك قائد الأسطول البرتغالي، حملة إرهاب وعنف وحرق وتخريب على السواحل العربية الجنوبية الشرقية، وأحرق مسقط وشرد سكانها. ثم احتل البرتغاليون ما اختلوه من البلاد. وإذا كانت الأمور العربية على هذه الحال المفجعة في المشرق، فإنما كانت أسوأ منها في المغرب، إذ تمكنت إيزابيلا ملكة قشطالة من احتلال غرناطة السنة 1492 فأنهت آخر حكم عربي في الأندلس. ثم كان حفيدها شارل ملك إسبانيا يهدد العرب في شمال أفريقيا ويعمل على الحلول محلهم في مياه البحر المتوسط وأصبح في إمكانه أن يهددهم من الشمال وقت كان يضربهم البرتغاليون من الجنوب. وأخذت المصائب تتوالى فاحتلت قوات أراغون: وهران السنة 1510، وبوجيه السنة 1512، وأجبر زعماء الجزائر على توقيع معاهدة واعترفوا بسيادة أراغون. وكان أسطول أراغون احتل تونس وطرابلس أوائل 1510، واحتل البرتغاليون طنجة. وهدد فرسان القديس يوحنا من رودس وطرابلس ومالطة السفن العربية بمثل ما يهددها به البرتغاليون في المحيط الهندي. وقد كان ألبوكرك صريحا حين قاد في شباط 1515 أسطولا في اتجاه السواحل العربية وأعلم ملك البرتغال بان هدفه الرئيسي هو الاستيلاء على عدن وجعل مصوع ميناء حربيا ومركزا للأسطول البرتغالي في البحر الأحمر ليتمكن من القضاء على الترك وتخريب مكة. وفي 26 آب السنة 1516، كان السلطان سليم العثماني يدخل حلب، ثم في التاسع من تشرين الأول يدخل دمشق. ثم يتتابع احتلال العثمانيين بعد ذلك للبلاد العربية بلدا بعد بلد. غير أن العثمانيين لم يستطيعوا الاحتفاظ بأكثر أجزاء الجزيرة، فسيطروا على مكة وجدة، وقامت في وجههم ثورات في اليمن، وكانت سلطتهم اسمية في حضر موت ونجد. أما في أفريقيا الشمالية فخضعت لهم ليبيا وتونس والجزائر وفشلوا في الاستيلاء على مراكش. لقد رأينا فيما تقدم أن احتلال السلطان سليم لحلب جاء بعد إعلان البوكرك بأنه عازم على تخريب مكة، وبعد أن تساقطت البلاد العربية في المشرق والمغرب بيد البرتغاليين والإسبان، ولم يكن هؤلاء الفاتحون يكتمون أن حربهم هي حرب صليبية، لذلك لم يكن غريبا أن لا ينظر العرب للعثمانيين نظرة عدائية بحتة. ومع أن السلطان سليم ومن كان قبله ومن جاء بعده لم يتعرضوا للبرتغاليين ولا دافعوهم عن البلاد العربية، ولم يفعلوا قبل ذلك شيئا لحماية مسلمي الأندلس فقد سلم العرب لهم. ثم إنه لم يكن هناك حكم تركي مباشر، بل إن البلاد العربية كانت تتمتع بما يمكن أن نسميه بالحكم الذاتي، ولكن لا بمستوى هذا العصر، بل بمستوى ذلك العصر. ومن هنا كان حكام البلاد الحقيقيون هم أهلها، فقد أبقت الدولة في سورية ولبنان على سبع عشرة أسرة حاكمة إقطاعية. وكذلك الحال في العراق، اعترفت الدولة بشيوخ العشائر حكاما على عشائرهم. أما في ليبيا وتونس والجزائر فلم يكن هناك حكم تركي بالمعنى الصحيح، بل لقد تقلص هذا الحكم في وقت مبكر جدا، وكانت هذه البلاد تتمتع بما هو أوسع من الاستقلال الذاتي. وأما في الحجاز فقد كان الحكم الحقيقي بيد شريف مكة، وأما اليمن فقد كان هو الثائر أبدا، وكان يعيش بين حالين، استقلال تام أو ثورة عارمة.
(1) ورد في: مرتضى مطهري، الإسلام وإيران، ص 51. 145 وفي مصر سلم السلطان سليم الحكم إلى خير بك من مماليك السلطان الغوري ونائبه في حلب وكان قد تخلى عن سلطانه وانضم إلى السلطان سليم. وبعد وفاة خير بك سنة 1522 كانت الدولة ترسل لحكم مصر باشا عثمانيا، لم يكن ينفرد بالحكم الفعلي، بل كان المماليك يشاطرونه الكثير من شؤونه إلى أن استطاع هؤلاء المماليك السيطرة سيطرة كاملة على البلاد. ويجب أن لا ننسى أنهم كانوا قد تمصروا وأصبحوا من أبناء البلاد. هذه الأوضاع لم تشعر العرب بأنهم محكومون فعليا من غيرهم، لذلك كانوا يرون أنفسهم أسياد أنفسهم، فلم الثورة؟. ويجب أن لا ننسى أن اللغة العربية التي هي من أبرز مظاهر السيادة كانت مصونة كل الصون، بل يبدو أن الأمر كان أكثر من ذلك، ففي كثير من النصوص ما يشعر بأنها كانت هي المقدمة على اللغة التركية. وأني لأورد مثلا: ففي عشر الخمسين كنت في سياحة في اليونان وزرت فيما زرت مدينة سلانيك فإذا بي أمام ظاهرة عجيبة، فقد رأيت فيها حماما أثريا هو من بقايا العثمانيين أيام حكمهم لها، وتطلعت إلى مدخله فإذا على بابه منقوش على الحجر كتابة حسبتها لأول وهلة كتابة تركية، ولما تأملتها إذا بها كتابة عربية فصيحة هذا نصها: أمر ببنائه إمام المسلمين وسلطان الغزاة والمجاهدين السلطان مراد بن محمد بن بايزيد خلد الله ملكه. ثم تحتها بلا فاصل الكلمة العربية العذبة أهلا وسهلا وعليها تاريخ سنة 846 ه. ولو كانت هذه الكتابة في بلد عربي محكوم من الأتراك لكان لها كل المبررات. أما أن تكون في البلد البعيد وفي قوم هم من غير العرب، فمعنى ذلك أن اللغة العربية هي الأصل في الدولة العثمانية. ويزيد في العجب أن السلطان مراد بن محمد هذا لم يكن يحكم البلاد العربية، فقد تولى الملك سنة 824 ه، وهو والد محمد الفاتح، أي أن هذه الكتابة العربية قد كتبت قبل فتح القسطنطينية سنة 875 ه وقبل فتح حلب الذي كان سنة 922 ه 1516. فإذا كانت اللغة العربية هي اللغة السائدة في حكم العثمانيين قبل فتحهم البلاد العربية بست وسبعين سنة، فكيف بها حين فتحوا تلك البلاد؟. ثم إن هناك دليلا آخر على سيادة اللغة العربية في الدولة العثمانية حتى في البلاط السلطاني، فان السلطان أحمد الثالث وهو السلطان الرابع عشر من آل عثمان، والذي تولى الحكم السنة 1012 ه 1603 م كان شاعرا باللغة العربية وهو صاحب القصيدة الغزلية التي مطلعها: ظبي يصول ولا وصول إليه جرح الفؤاد بصارمي لحظيه وحتى يكون رأس الدولة شاعرا عربيا فلا بد أن يكون لا للغة العربية وحدها السيادة في الدولة، بل لشعرها وأدبها أيضا. ثم هناك المؤلفون الأتراك باللغة العربية فمن مدينة أنقرة وحدها خرج أربعة فقهاء كانت مؤلفاتهم باللغة العربية، هم جلال الدين الأنقروي المولود سنة 651 1253 مؤلف كتاب شرح الزيارات للعتابي وكتاب الفرائض. ومحمد بن الحسن الأنقروي المتوفى سنة 1098 1686 صاحب فتاوى الأنقروي. وشجاع بن نور الله الأنقروي المتوفى سنة 964 1556 صاحب كتاب حل المشكلات. وإسماعيل بن أحمد الأنقروي المتوفى سنة 1041 1631 صاحب كتاب منهاج الفقراء. هذا في بلدة واحدة، ونستطيع أن نعدد ممن كتبوا باللغة العربية، نعددهم كنماذج كلا من الشاعر أحمد برهان الدين 745 799 1344 1397 الذي نظم الشعر بالعربية والتركية وألف بالعربية في الفقه ترجيح التوضيح وإكسير السعادات في أسرار العبادات. وحاجي خليفة الموسوعي الكبير 1017 1067 1609 1657 صاحب كتاب كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون وهو معجم أسماء المؤلفات العربية. وكتاب تحفة الكبار في أسفار البحار وكتاب الوصول إلى طبقات الفحول. وحسين بن محمد الديار بكري صاحب كتاب تاريخ الخميس في أنفس نفيس وهو يشمل السيرة النبوية وما بعدها حتى السلطان مراد الرابع توفي سنة 966 1558. وطاشكبري زاده 901 968 1495 1561 من أشهر كتاب السير والموسوعيين. وضع موسوعة باللغة العربية في العلوم والآداب. وله كتاب شقائق النعمان يتضمن سيرة 522 من العلماء وشيوخ الطرق. وعارف حكمت 1786 1859 شيخ الاسلام كان شاعرا باللغة العربية. ونامق كمال 1840 188811 كان إلى شاعريته باللغة التركية شاعرا باللغة العربية. ونحن هنا لا نريد الاستقصاء وإنما هي أمثلة تمثل مختلف العصور وتدل على حقيقة الحال. وأكثر من ذلك، فقد كان الملوك العثمانيون يمدحون بالشعر العربي فيجيزون عليه، ويقصدهم الشعراء العرب بمدائحهم فيرجعون بجوائزهم. حتى إن أحدهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن الحسين العليف، من شعراء الحجاز، ويلقبه النهروالي بشاعر البطحاء، نظم ديوانا كاملا في السلطان بايزيد الثاني بن السلطان محمد الفاتح الذي تولى الملك سنة 886. ومن شعره فيه قوله من قصيدة: فيا راكبا يجري على ظهر ضامر * إلى الروم يهدي نحوها طيب النشر لك الخير إن وافيت برسا فسر بها * رويدا لأسطنبول سامية الذكر لدى ملك لا يبلغ الوصف كنهه * شريف المساعي نافذ النهي والأمر إلى بايزيد الخبر والملك الذي * حمى بيضة الاسلام بالبيض والسمر فيا ملكا فاق الملوك مكارما * فكل إلى أدنى مكارمه يجري لئن فقتهم في رتبة الملك والعلا * فان الليالي بعضها ليلة القدر وإني لصوان لدر قلائدي * عن المدح إلا فيك يا ملك العصر فقابل رعاك الله شكري بمثله * فإنك للمعروف من أكرم الذخر وكانت جائزته من السلطان على القصيدة ألف دينار ذهبا. وراتب سنوي مائة دينار ذهبا. وظل الراتب يجري على أولاده بعد موته. وكذلك فقد كان الشعراء يرثون موتاهم بشعر عربي، فعند ما مات السلطان سليمان القانوني رثاه في إسطنبول الشيخ أبو السعود العمادي بقصيدة قال فيها: أصوت صاعقة أم نفخة الصور * فالأرض قد ملئت من نقر ناقور أم ذاك نعي سليمان الزمان ومن * قضت أوامره في كل مأمور مجاهد في سبيل الله مجتهد * مؤيد من جناب القدس منصور بلهذمي إلى الأعداء منعطف * ومشرفي على الكفار مشهور
146 وراية رفعت للمجد خافقة * تحوي على علم بالنصر منشور وعسكر ملأ الآفاق محتشد * من كل قطر من الأقطار محشور وهكذا نرى أن العرب كانوا في الدولة العثمانية يتمتعون بما يمكن أن نسميه بالاستقلال الذاتي، وأن للغتهم المكانة التي تستحقها، وأن تلك الدولة ردت عنهم الهجمة الصليبية، وإنها تحميهم من مثيلاتها، فلا عجب إذن أن يرتضوها. أما حين تبدل الحال وبدأت تنمو في الأتراك الروح الطورانية، وبعد أن قام في الأتراك مثل عبيد الله من يدعو إلى طمس أسماء الخلفاء الراشدين المكتوبة على قباب المساجد التركية لأنها أسماء عربية وإبدالها بأسماء الخلفاء الأتراك. وبعد أن ألفت جمعية تورك ياوردي دعاء ليتلى في المساجد التركية جاء فيه: وأنت يا مملكة توران الجميلة المحبوبة أرشدينا إلى الطريق المؤدية إليك لأن جدنا أوغوز الكبير ينادينا. أما حين صار الأمر إلى هذا الحال بعد أن كان في الأتراك مثل نامق كمال الذي يقول مخاطبا الوطن: اذهب أيها الوطن وتدثر بالسواد في الكعبة ثم ابسط إحدى ذراعيك إلى روضة النبي ومد الثانية إلى المشهد في كربلاء ثم افتح صدرك واخرج منه شهداءك وانثرهم على الملأ وقل: يا رب هؤلاء هم الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيلك، بينهم من استشهد ببدر ومن استشهد في حنين. أما حين حل عبيد الله محل نامق كمال، وحين فقد العرب كل حقائق الاستقلال الذاتي، وحين أصبح الحكم التركي حكما مركزيا متسلطا على العرب، وحين صارت اللغة العربية غريبة حتى في بلاد العرب، أما حين حل كل هذا وما هو شر من هذا، فقد بدأ التهامس العربي، ثم بدأت الأصوات ترتفع قليلا قليلا حتى تحولت إلى الجهر لا جهرا باللسان كما قلنا في مفتتح القول بل جهرا بالسنان، جهرا يتلظى بنيران البنادق ولهيب المدافع... ومن الحقائق التي ليست معروفة أن الذين بدأوا بهذا التهامس، ثم أتبعوه بشئ من ارتفاع الصوت، هم الفقهاء. فالفقيه الفلسطيني الشيخ يوسف النبهاني زار استنبول باعتبارها عاصمة الخلافة الاسلامية، وباعتباره من كبار الفقهاء المسلمين، فأحس فيها التحول الجديد وشعر بما يبيت للعرب فتركها عائدا إلى بلاده قائلا: ويممت دار الملك أحسب أنها * إلى اليوم لم تبرح إلى المجد سلما فألفيت فيها أمة عربية * يرى الترك منها أمة الزنج أكرما وما نقموا منا بني العرب خلة * سوى أن خير الخلق لم يك أعجما بني الترك أني تكلمت هاجيا * ولكن قلبي من جفاكم تكلما وسبقه إلى ذلك فقيه آخر من كبار الفقهاء اللبنانيين هو السيد نجيب فضل الله، أحس هو أيضا بما أحس به الفقيه النبهاني. وهو وإن لم يزر استنبول كان يلمح في الأفق انحرافا وإن كان لا يبدو شاملا فهو ينذر بالكثير. فقصد إلى مكة حاجا واتصل بالشريف عون محرضا إياه على الثورة وإعادة الخلافة عربية. وكما كان الشيخ يوسف النبهاني شاعرا فعبر عن نقمته بالشعر كذلك كان السيد نجيب فضل الله شاعرا هو الآخر فعبر عن ثورته بالشعر أيضا، فقال من قصيدة يخاطب بها الشريف عون: إني وجدتك يا بن بنت محمد * أرج الخلافة من ثيابك يعبق لو قمت فينا ملهبا نار الوغى * خفت إليك بنا الجياد السبق يحملن منا كل أشوس أقعس * بحسامه هام الكماة تفلق وما دمنا في حديث الشعر فان شعرا سبق شعر هذين الفقيهين في هذا الموضوع، وكان هذا الشعر عراقيا، هو شعر الشاعر احمد الشاوي الذي قال: الا ليت شعري والأماني ضلة * وعمر الفتى ان عاش ما عاش للهلك أمخترمي ريب المنون ولم أكن * لأدرك للاسلام ثارا من الشرك وأبرد من صهب العثانين غلتي * وأشفي واستشفى غليلي من الترك على أن التحرك العربي الفعال كان بعد سنة 1908، سنة إعلان الدستور العثماني، فالذين أسقطوا السلطان عبد الحميد وأعلنوا الدستور إعلانا نهائيا كانوا جماعة حزب الاتحاد والترقي. وقد هلل العرب للعهد الجديد وأنشأوا للحزب فروعا في بلادهم، وحسبوا أن الحرية ستشملهم. وشيئا فشيئا بدأت تتكشف نوايا الاتحاديين وأخذت الدعوة الطورانية (1) بالتظاهر وأطل التتريك واضحا. وكان وراء حزب الاتحاد والترقي جمعية تركيا القتاة، التي كانت هي الموجه الفعلي للاتحاد والترقي، وكان الحزب وجهها العلني، بينما كانت هي قاعدته السرية. وبالمقابل عمل الشبان العرب على إنشاء جمعية العربية الفتاة، وكان منشؤوها طلابا يدرسون في باريس، وكانوا يدركون نوايا الاتحاديين، فقاموا سنة 1911 بتأليف جمعيتهم. وكان هدفها كما قالت: النهضة بالعرب وإيصالهم إلى مصاف الأمم الحية. ولم تذكر الجمعية كلمة الاستقلال، ولكنها في الحقيقة كانت تعمل من أجله بعد أن بدا من الاتحاديين ما بدا... وفي صيف سنة 1913 أنهى أكثر أعضاء الهيئة الإدارية للجمعية دراستهم في باريس وعادوا إلى بلدانهم، ولما كان بعضهم من بيروت فقد أعيد تأليف الهيئة فيها، وبدأت الجمعية نشاطها السري وأنشأت جريدة المفيد مظهرا علنيا لها. كما أنها وضعت تصميم العلم العربي بألوانه الثلاثة: الأخضر فالأبيض فالأسود، الذي أضيف إليه عند إعلان الثورة في الحجاز اللون الأحمر. ولما اشتركت الدولة العثمانية في الحرب العامة الأولى 1 تشرين الثاني 1914 أصبحت دمشق مقر قيادة الجيش الرابع ومركز العمل في سورية، فانتقلت لهيئة الإدارية لجمعية العربية الفتاة إلى دمشق وواصلت عملها السري، ثم اتصلت بجمعية العهد العسكرية لتوحيد الجهود العربية. وحتى هذا الوقت لم تشأ الجمعيتان معاداة الأتراك أو عرقلة مجهودهم
(1) نسبة إلى طوران، وهي البلاد الواقعة شمال شرقي إيران، ويقصد بها موطن الترك القدامي، ومنها اخذ ما عرف باسم (الحركة الطورانية) التي نادى بها في العصر المتأخر غلاة الترك داعين إلى الرابطة الطورانية وسيادة العنصر التركي. 147 الحربي، بل قروا العمل معهم جنبا إلى جنب في الدفاع عن الأقطار العربية، ولكنهم كما يقول أحد الباحثين: كانوا في الوقت نفسه يريدون تجميع قواهم العرب وتوحيد كلمتهم استعدادا للاحتمالات التي قد تتمخض عنها الحرب. على أنه بعد أن بطش جمال باشا بطشته الكبرى بزعماء العرب وشنق منهم من شنق تحول الأمر ووقعت الواقعة بين الأمتين. ولم يستطع جمال باشا كشف سر العربية الفتاة بالرغم من كل ما جرى من تعذيب، وإن كان قد أعدم فريقا من أعضائها مع من أعدم دون أن تظهر حقيقة الجمعية، حتى أن بعض أعضائها برئوا بعد الاعتقال، ولو علم أمر انتمائهم إليها لكان مصيرهم الاعدام. وكان ممن انتمى إلى العربية الفتاة فيصل بن الحسين، لذلك كان جل اعتماده بعد دخول دمشق في نهاية الحرب العالمية الأولى على أعضائها الذين ظهروا باسم حزب الاستقلال ليساهموا بالأعمال العلنية في الحكم الجديد. ونحن نعلم أن سعيد حيدر كان عضوا بارزا في حزب الاستقلال وعاملا نشطا في تلك الفترة، ومن ذوي الرأي المسموع. فترة الاستقلال أقبل قادة العرب من كل مكان إلى دمشق بعد الجلاء التركي، فبعضهم جاء مع فيصل كالضباط العراقيين، والبعض الآخر توافد إليها لأنها أصبحت مقر العمل العربي ومطمح آمال العرب وقاعدة أول بقعة مستقلة في بلاد الشام وغير بلاد الشام بعد الحكم غير العربي الطويل. فكان فيها رجال العراق ورجال لبنان ورجال الساحل ورجال فلسطين، كما كان فيها بعض من نزح إلى مصر من السوريين، والتقى الجميع بآمال ضخمة وأماني بعيدة يحسبون أن ساعة الدولة العربية الكبرى قد دنت وأنهم مؤسسوها وباعثوا رفاتها. كيف لا وجيشهم العربي الزاحف من قلب الحجاز هو المنتصر حليف المنتصرين، وملء حقائبهم وعودا مؤكدة ومواثيق وثيقة. كان العرب يعيشون تلك الأيام التي بدأت عام 1918 ثم انتهت يوم الرابع والعشرين من تموز 1920 أزهى أيامهم وأعذب أحلامهم. وكانوا في غمرة هذا الفرح لا ينظرون إلى البعيد ولا يحسبون حسابا للغدر والختل. ثم بدأت الحقائق تتجلى قليلا قليلا، فالحاكم العربي الذي ذهب إلى بيروت ورفع علمه على صروحها عاد مطرودا من الفرنسيين، وأنزل العلم ذليلا!. والحكام الوطنيون الذين عينوا أنفسهم في مناطقهم الساحلية معلنين الاستقلال لم يلبثوا أياما بل ولا ساعات، بل دحرجوا عن كراسيهم. وتقلص حجم الرقعة المستقلة حتى انحصر فيما عرف باسم المنطقة الشرقية، وهي لا تعدو دمشق وحمص وحماه وحلب وما يتبعها وينضوي إليها!... ولكننا إذا نظرنا إلى العرب يومذاك نراهم في واقع هو أفضل ألف مرة مما صار إليه واقعهم المعنوي بعد ذلك. كان الحديث يومذاك عن العرب وعن القضية العربية، والتوق كله إلى الوحدة الشاملة، ولم يكن للإقليمية مكان!. فهذه بقعة صغيرة من بلاد الشام أميرها ثم ملكها حجازي (1) ورئيس برلمانها لبناني متمصر (2) وقائد جيشها عراقي (3) ووزير داخليتها لبناني (4) ووزير خارجيتها فلسطيني (5) وحكام مناطقها وضباط جيشها مزيج من كل أرض عربية، لا يدور بخلد أحد أن يسأل أحدا عن بلده أو أن يجد في ذلك موضعا لاستغراب ومكانا لتساؤل! أليس الجميع عربا؟ أليسوا كلهم رجال قضية واحدة، فهم جميعا في أرضهم وجزء من وطنهم. ثم هذا الترفع عن الطائفيات وعدم النظر إلى دين الشخص ومذهبه. فهذه أول حكومة عربية تقوم في البلد الاسلامي العريق دمشق وتشمل. سيادتها الأرض السورية الداخلية التي لا يبلغ فيها المسيحيون 1 من 12 فتتكون من حاكم عسكري مسلم دمشقي هو رضا الركابي ورئيس للشورى الحربية مسلم بغدادي هو ياسين الهاشمي، ورئيس للعدلية مسيحي لبناني من دير القمر هو إسكندر عمون، ورئيس للمالية مسيحي لبناني من الشويفات هو سعيد شقير، ورئيس للأمن العام مسيحي من طرابلس هو جبرائيل حداد، ورئيس للخارجية مسيحي دمشقي هو توفيق شامية، ورئيس للصحة مسيحي لبناني من مواليد عبيه هو موصلي باشا. خمس رئاسات أو بالأحرى خمس وزارات (6) من سبع يشغلها مسيحيون، أربعة منهم من لبنان وواحد من دمشق. ومحكمة الاستئناف المدنية التي تطبق مجلة الأحكام العدلية المستمدة من الشريعة الاسلامية، محكمة الاستئناف هذه تتألف من ثلاثة قضاة كلهم مسيحيون بينهم اثنان من لبنان هم: نجيب الأميوني من حاصبيا رئيسا وأسعد أبو شعر من دمشق عضوا وفائز الخوري من الكفير لبنان عضوا. كان سعيد حيدر في صميم هذا المعترك الاستقلالي العربي، ومن أكثر العاملين فيه نشاطا وحماسة، لذلك كان موضع غضب الفرنسيين ونقمتهم بعد دخولهم دمشق فحكموا عليه بالاعدام فاضطر للتواري زمنا، ثم عاد مع العائدين كما قدمنا في أول البحث. عاد ولكنه لم يعد ساكنا بل عاد حاملا معه ثورته، مخططا للنضال المستقبلي كما سنرى فيما يلي من القول. وبدأ كفاحه في جريدة المفيد ثم في حزب الشعب، ثم في إشعال الثورة السورية، وهذا ما نستعرضه بايجاز في البحث الآتي:
(1) فيصل بن الحسين. (2) رشيد رضا. (3) ياسين الهاشمي. (4) رضا الصلح. (5) سعيد الحسيني. (6) فور انسحاب الأتراك ودخول الجيش العربي بقيادة فيصل إلى دمشق تألفت أول حكومة عربية لم يسم أعضاؤها بالوزراء بل بالرؤساء. وبعد تتويج فيصل تألفت الحكومة الدستورية وأطلق على أعضائها اسم الوزراء. وكان وزير العدلية فيها مسيحيا تتبعه المحاكم الشرعية الإسلامية. 148 حزب الشعب ثم الثورة لقد حقق الجنرال غورو حلمه فدخل دمشق فاتحا بعد معركة ميسلون 24 تموز 1920، وقضى على الاستقلال فيها وتشرد الوطنيون في كل مكان، وحكم الفرنسيون سوريا بالحديد والنار وقسموها إلى دويلات: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة جبل الدروز، ودولة العلويين، ولواء الاسكندرون. وخفت الصوت الوطني عند تشتت قادته وهمدت الحركة. ولاعطاء فكرة واضحة عما كان عليه الحال من الهوان والهمود، وللتدليل على ما كان للرجال الذين تالف منهم حزب الشعب بعد ذلك من فضل في تحويل الأمر من هوان وهمود إلى عنفوان وثورة، نقول إن دخول الجنرال غورو إلى دمشق لم يكن دخولا هينا، بل كان نقطة سوداء، إن لم نقل صفحة سوداء في تاريخ البلاد في تلك الحقبة. لم تكن دماء البطل يوسف العظيمة ودماء رفاقه شهداء ميسلون قد جفت بعد، حين استطاع عملاء الاستعمار أن يحملوا جماهير دمشق على أن تخرج بقضها وقضيضها وعراضاتها وأهازيجها إلى مدخل دمشق في المنشية لاستقبال فاتح دمشق الجنرال غورو. هذه الجماهير نفسها كانت قد خرجت قبل بضعة عشر يوما بقضها وقضيضها وعراضاتها وأهازيجها لتودع الذاهبين لقتال جيش الجنرال غورو الزاحف لفتح دمشق، والكثير منها كان من بين الذين ذهبوا للقتال وشاركوا فيه. ونزل الجنرال من سيارته التي أقلته من بيروت إلى باب دمشق، وصعد المركبة المجرورة بالخيل ليدخل دمشق متأنيا، مستمتعا بهذا الاستقبال الشعبي الباهر أطول وقت. وهنا تقدم أبو شكري الطباع ورفاق له ففكوا حصاني المركبة وربطوا أنفسهم مكانهما وجروا مركبة الجنرال غورو، فدخل فاتح دمشق إليها مجرورة عربته بأبناء دمشق... ولم تنكر الجماهير الحاشدة هذا، بل ظلت أهازيجها مدوية، وهتافاتها متعالية، وربما كان المنظر قد زاد في دويها وتعاليها... وقد كان أبو شكري الطباع بعد ذلك يعتذر عن فعلته بان قريبا له كان محكوما من الفرنسيين بالاعدام، وأنه رجا بما فعل أن يناله عفو من الجنرال. على أن دمشق الحقيقية لم تكن هي التي تمشي هذه المشية لاستقبال غورو، ولا كان أبو شكري الطباع ورفاقه هم الذين يمثلونها، بل إن دمشق الحقيقية كانت مكبوتة وراء جدران منازلها الضاوية، وفي حنايا أزقتها الخاوية، هي التي كان يمثلها شاعرها الشاب أديب التقي (1) فيهتف بشعره قائلا: أأهل دمشق كيف سالمتم العدى * وكيف رضيتم بالمذلة والأسر ونمتم على شوك الهوان وتلكم * ضحاياكم في ميسلون قرى النسر بلادكم اجتيحت وتلك رجالكم * موزعة الأشلاء في مهمه قفر أتغفون والأقذاء ملء جفونكم * ولم تثاروا بالهالكين بلا وزر ألا هل دريتم أنكم إذ خرجتم * تلاقون غورو قد صبأتم إلى الكفر ومن عجب أن تخرجوا للقائه * وتلكم دماكم في الربى لم تزل تجري ثم بدأ فريق من القياديين النازحين يتسللون إلى دمشق، ولكن ظلوا فيها مشتتين متفردين، قد يلتقون ولكن بتحفظ وقد يتكلمون ولكن بتهامس حتى كان شهر نيسان من السنة 1922 فإذا بالدكتور عبد الرحمن الشهبندر يتلقى لاعتباره من خريجي الجامعة الأميركية في بيروت رسالة من رئيس الجامعة وفيها عزم المستر كراين على زيارة دمشق. والمستر كراين هو الذي كان سنة 1919 رئيسا للجنة الاستفتاء التي قدمت سوريا ولبنان لاستفتاء أهلهما حول ما يريدون في شان الاستقلال والانتداب وما إلى ذلك وبدا المستر كراين يومذاك. بمظهر الصديق للاستقلاليين العرب وترك في نفوسهم أثرا طيبا. ووصل كراين إلى دمشق، وفي 2 نيسان 1922 أي بعد 21 شهرا. من معركة ميسلون وزوال الاستقلال العربي السوري، وفي جو من الاستسلام الوطني الكامل التقى الشهبندر المستر كراين في فندقه في دمشق، فطلب إليه كراين أن يجمعه بأرباب الرأي في البلاد، فلبى رغبته، وعقدت اجتماعات في المنازل الدمشقية، كان رجالها يشكون من الاستعمار مر الشكوى، ويخطب الخطباء متحمسين حتى كان يوم سفر المستر كراين، فاحتشد لوداعه جمهور يهتف للاستقلال. وخطب الشهبندر وغيره، وما أن انطلقت السيارة بالمستر كراين ومضت حتى انقلب الأمر إلى مظاهرة كانت الأولى من نوعها بعد ذاك الكبت الطويل، ومشت الجموع في الشوارع هاتفة هازجة متحمسة. وانتهى الأمر عند هذا الحد. كانت المظاهرة مفتاح النضال الوطني الذي انفتح بابه على الفرنسيين في بلاد الشام كلها فاقض مضاجعهم طيلة احتلالهم لهذه البلاد. ومؤرخ الأحداث العربية المعاصرة يجب أن يقف طويلا أمام هذا اليوم الدمشقي الأصيل، وأن يتحدث كثيرا عن رجاله، لأنه يوم كان له ما بعده، كما كان يقول الأقدمون. إذا كان أمر المظاهرة الحماسية قد انتهى عند حد تفرق جمهورها وانصرافه إلى المنازل والدور، وإذا كان لم يبق له من مفعول إلا الذكرى الجميلة العذبة في أذهان المتظاهرين، فإنه لم يكن كذلك عند الجنرال غورو، فقد محت هذه الانتفاضة اللاهبة من ذاكرته ذلك الاستقبال المصنوع عند باب دمشق، ولم يعد في ذاكرته إلا اللهب المتوهج من يوم دمشق الحماسي، وأيقن أن دمشق ليست هي التي بدت له حول المنشية، ولا رجالها هم الذين جروا عربته بأجسادهم. بل إن دمشق هي التي بدت له عند روابي ميسلون، وإن رجالها هم الذين تساقطوا برصاص جنوده على قمم تلك الروابي، وفي أجزاعها وسفوحها، وإن بقايا السيوف إن كانوا قد قبعوا إلى حين، فإنهم قد وثبوا في هذا الحين. لذلك حزم أمره وتذكر أنه القائد العسكري الصارم الذي لا يقعقع له بالشنان كما كان يعبر الأسلاف، ففي السابع من نيسان ألقت السلطات الفرنسية تنفيذا لأوامره القبض على كل من الدكتور عبد الرحمن شهبندر وسعيد حيدر وحسن الحكيم، وزجتهم في سجن القلعة مع المجرمين العاديين.
(1) راجع ترجمة أديب التقي في مكانها من (أعيان الشيعة). 149 كان هؤلاء الثلاثة في الواقع قادة الموقف من أوله إلى آخره، وسيكونون بعد حين نواة حزب الشعب. وسرى نبا القبض على الثلاثة في دمشق مسرى النار في الهشيم فتحفزت النفوس، وفي يوم الجمعة خطب الخطباء في المسجد الأموي محرضين مثيرين فخرجت المظاهرات متحدية طالبة الافراج عنهم، فقبضت السلطة على مجموعة من الشبان، فلم تتوقف المظاهرات وأطلق عليها الرصاص واشترك فيها النساء. ثم أعلن ما يشبه الأحكام العرفية ومنع التجول واحتل الجند المدينة في كل مكان وسيق المعتقلون إلى محكمة عسكرية فرنسية حكمت على الشهبندر بالسجن عشرين سنة، وعلى سعيد حيدر بالسجن خمس عشرة سنة، وعلى حسن الحكيم بالسجن عشر سنوات، وعلى معتقلين آخرين بأحكام مختلفة أقلها خمس سنوات وسيق الجميع إلى جزيرة أرواد ليقضوا مدة السجن في سجنها. وكان بين المسجونين نجيب الريس الذي كان يومذاك في مطلع شبابه، ثم أصبح أبرز صحافي سوري باصداره جريدة القبس وكانت افتتاحياته فيها لا تبارى بلاغة وفكرة وعمقا، وكان يحرص دائما على أن يختمها ببيت من الشعر المأثور. وفي خلال وجوده في سجن أرواد نظم قصيدة كانت شهيرة في سورية يخاطب بها جزيرة أرواد يقول فيها: بنت الخضم وكم في الشام من شفة * هتافة باسم شاطيك ومن فيه ونظم النشيد الذي سار على كل شفة ولسان، وتجاوز حدود سورية إلى لبنان وفلسطين والعراق وغيرها ومطلعه: يا ظلام السجن خيم * إننا نهوى الظلاما ليس بعد الليل إلا * فجر مجد يتسامى وفي 25 تشرين الثاني سنة 1922 سافر الجنرال غورو إلى باريس، ثم لم يعد، وفي 19 أيار سنة 1923 وصل مفوض سام جديد هو الجنرال ويغان، وفي 18 تشرين الأول سنة 1923 أطلق سجناء أرواد. وفي 22 كانون الأول سنة 1924 وصل الجنرال ساراي ليحل محل الجنرال ويغان، وقد لاح من تصرفاته أنه أقرب إلى التفاهم من سلفيه، ولكن سوء الحظ رافقه فقامت الثورة الكبرى في عهده وليس هنا مكان الحديث المفصل عن الثورة. وكان المفوض السامي الجديد قد أعلن قبل الثورة أنه مستعد لسماع الشكاوى والنظر فيها. وحتى هذا الوقت لم يكن في جميع البلاد السورية أي حزب أو تنظيم أو تكتل سياسي يجتمع حوله الوطنيون ويقود النضال في وجه الفرنسيين، وكل ما كان موجودا هو أحاديث يتداولها الناس في بيوتهم أو مكاتبهم كلما التقى اثنان أو أكثر: وكان الثلاثي الأروادي: الشهبندر وحيدر والحكيم يكثر اللقاء فيما بينه ومع غيره. ثم صدرت جريدة المفيد يومية باسم يوسف حيدر شقيق سعيد الأكبر، وكان الكاتب الأول فيها والمشرف فعليا على توجيهها هو سعيد، فكان مكتبها ملتقى يوميا للمفكرين الوطنيين الذين انبثق منهم حزب الشعب كما سنرى. وكانت الصوت الوطني المتعالي، والتف حولها شيوخ الكفاح وكهوله وشبانه، فكانت لسانهم الناطق. بل كانت المدرسة الوطنية الناجحة. لقد كانت مقالات سعيد حيدر نبراسا وهاجا ينير السبيل أمام التائهين، وكان قلمه المحرك المثير للعزائم. ولم تكن المفيد بمستطيعة أن تقول كل شئ، ولا كانت قادرة على أن تصرح بجميع ما يجب التصريح به، والدعوة إلى كل ما تريد أن تدعو إليه، لأن سيف التعطيل الإداري كان مسلطا فوق رأسها يهددها عند أول بادرة. لذلك كانت تلجأ إلى الرمز، وما كان أوضح هذا الرمز عند النفوس المتعطشة إلى كل كلمة وطنية. ولن أنسى أبدا ما كتبه سعيد حيدر بتوقيع س وما صور به في المفيد بقلمه في صباح الثامن من آذار. وما صباح اليوم الثامن من آذار؟ إنه صباح اليوم الذي أعلنت فيه سورية استقلالها التام الناجز وصرخت بوجه الدنيا متحدية قوى الاستعمار بأنها تريد أن تعيش حرة سيدة نفسها. ولم يلبث الحلم السعيد أن عاش بضعة شهور فقط، ولم يلبث أن هوى في يوم ميسلون... وجاءت ذكرى الثامن من آذار والاستعمار الفرنسي يجثم بكل شراسته على صدر الوطن الجريح. جاءت الذكرى العظيمة فكان لا بد لجريدة المفيد وسعيد حيدر من أن يحتفلا بها احتفالا يليق بجلالها، احتفالا يوقظ النفوس ويلمس القلوب، ويوقظ الغافي ويهز الهامد، بل يثير ويستفز. يفعل كل ذلك دون أن يثير ريبة المستعمرين أو يلفت أنظارهم لما يريد فيبطشوا بالمفيد. ولقد كان للمفيد ولسعيد حيدر ما أرادا وخرج مقالة في صباح 8 آذار قطعة أدبية رائعة وجذوة وطنية لاهبة ملهبة. وكرمت دمشق بلسان سعيد حيدر وقلمه، كرمت ذكرى 8 آذار أنضر تكريم وأزكاه، أعنف تكريم وأقساه، كرمت هذه الذكرى لأول مرة بعد دخول الفرنسيين دمشق وسيطرتهم على الوطن. وختم سعيد حيدر مقاله بأبيات مهيار الديلمي: اذكرونا مثل ذكرانا لكم * رب ذكرى قربت من نزحا واذكروا صبا إذا غنى بكم * شرب الدمع وعاف القدحا قد عرفت الحزن مذ فارقتكم * فكأني ما عرفت الفرحا ومن مكتب المفيد خرجت فكرة إرسال وفد وطني يقابل المفوض السامي الجديد ويبسط له المطالب الوطنية في الحرية والاستقلال، على ما بدا من حسن نوياه في تصريحاته. وتألف الوفد خليطا من المحامين والأطباء والتجار والشبان. وذهب وقابل الجنرال ساراي في بيروت فلقي منه ترحيبا، ولكنه لم يناقش في المطالب، بل قال لهم قولا جديدا لم يألفه الناس من قبل: اذهبوا وألفوا أحزابا سياسية لها برامج محددة وعلى أسس هذه البرامج يناقش كل مطلب.
150 ووقع هذا القول أحسن الوقع في نفوس الوطنيين فاجتمعوا وقرروا تأليف حزب وطني باسم حزب الشعب وكان في الطليعة: الشهبندر وسعيد حيدر وحسن الحكيم مع من انضم إليهم مثل فارس الخوري وفوزي الغزي ولطفي الحفار وغيرهم. واختير الشهبندر رئيسا للحزب وفارس الخوري نائبا للرئيس، وأجيز الحزب في الحال ما أن طلب الإجازة، واحتفل الحزب بانطلاقه في شهر حزيران سنة 1925 وخطب في الحفلة عبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري وإحسان الشريف، وكان خطاب فارس الخوري وهو واضع نظام الحزب محددا لمنهج الحزب في ستة بنود يهمنا منها في بحثنا هذا بند واحد يعطينا صورة التفكير السوري الوطني في تلك الأيام وهو الذي ينص على ما يلي: وحدة البلاد السورية بحدودها الطبيعية. والسياسة الحاضرة قضت على سورية بالتقسيم والتجزئة، وشطرت منها جزءا كبيرا في الجنوب ويقصد فلسطين وضعته في أيد أخرى، كما بترت منها أقساما في سائر الجهات وقطعت أوصال الوطن الواحد يقصد ما ألحق بلبنان... فحزب الشعب يعتقد أن البلاد السورية ضمن حدودها الطبيعية مأهولة بشعب واحد تجمعه روابط الجنس واللغة والعادات والأخلاق. ومضى الحزب يرص الصفوف وينظم الأمور. ثم فوجئ بتأزم الموقف في جبل الدروز بين الفرنسيين وأهل الجبل. ثم وقعت الوقعة الأولى بين الفريقين في 22 تموز سنة 1925 التي أبيد فيها الفرنسيون بقيادة الكابتن نورمان قرب قرية الكفر، وعدد الفرنسيين لم يتجاوز المئة والتسعين جنديا، إلا أنها اعتبرت وقعة كبرى لنتائجها الخطيرة، ولأنها كانت فاتحة الصدام الكبير. وهنا تنبه حزب الشعب لما يمكن أن يفعله من تحويل هذه الحركة من حركة محلية جبلية، إلى حركة سورية عامة، فبدأ رجاله اتصالات سرية برجال الجبل، وعقدت في بعض المنازل الدمشقية اجتماعات طويلة بين الجانبين ونوقشت المواقف بوضوح وصراحة. وهنا كان لسعيد حيدر دوره الحاسم في الموضوع، فقد كان الدروز يخشون في أعماق نفوسهم من هيمنة الأكثرية التي لا ينتمون إليها، ففاتحوا بهذا الأمر سعيد حيدر باعتباره لا ينتمي لتلك الأكثرية، فطمأنهم وقال لهم إن الفكر الاستقلالي يترفع عما يتوهمون، وضرب لهم مثلا نفسه وكيف أنه في موقعه من الحركة الوطنية لا يحس بغبن ولا انتقاص لحقه، وإنه بين أخوانه في المكانة التي يستحقها. فأقنعهم بذلك. وهنا كان الفرنسيون أعدوا حملة قوية للانتقام من معركة الكفر وتأديب الثائرين، فانصرف عند ذلك رجال الجبل إلى جبلهم لمواجهة الموقف. وزحف الجنرال ميشو بحملته المؤلفة من سبعة آلاف جندي فتلقاها الثوار الدروز في أوائل آب سنة 1925 فكانت هزيمتها هزيمة ماحقة. فأدرك الجنرال ساراي أن الأمر جد، وأنه كان مخطئا باستخفافه بما يقع فلجا إلى اللين وأرسل وفدا درزيا لبنانيا لمعالجة الموقف والتوصل إلى صلح شريف. وبينما هذا الوفد على وشك النجاح في مهمته، وكانت آراء الميالين إلى المصالحة هي التي تكاد تتغلب على آراء المصرين على الاستمرار بالثورة وفي طليعتهم سلطان الأطرش، وصل وفد من حزب الشعب للتحريض على مواصلة الثورة والوعد بدعمها من دمشق ثم تعميمها في سورية كلها، فرجحت كفة سلطان باشا واستقوى بالوفد الشعبي وتعهداته. وكانت السلطة الفرنسية أدركت تحركات حزب الشعب، فأصدر الجنرال ساراي في 26 آب أمرا باعتقال هيئته الإدارية. ولكن رئيسه الدكتور الشهبندر كان التحق بالثوار في الجبل، كما أن سعيد حيدر وحسن الحكيم كانا تمكنا من الخروج من سورية والانضمام إلى الثورة. واستطاعت السلطة اعتقال فارس الخوري وفوزي الغزي ويوسف حيدر وآخرين فأرسلت بعضهم إلى أرواد والبعض الآخر إلى الحسكة. وهكذا انتهى حزب الشعب انتهاء سريعا ولم يعمر طويلا، ولكنه كان بهذا العمر القصير ذا أثر من أعظم ما تتركه الأحزاب من آثار، وحسبه إطلاق الثورة السورية الكبرى. وبعد خمود الثورة أطلق معتقلو أرواد وفيهم كما قلنا فارس الخوري وفوزي الغزي، ثم مات الغزي ميتته الرهيبة في الخامس من شهر تموز سنة 1929 بعد أن أصبح الرجل الأول في دمشق فرثاه رفيقه في سجن أرواد فارس الخوري بقصيدة عاطفية يقول فيها: سلوا القبور عن الصحب الألى ذهبوا * فخر العروبة والصيابة النجب عاشوا وللحق في أفواههم رسل * ماتوا وللعهد في إيمانهم كتب قالوا قضى المدرة المحبوب طالعه * قضى الزعيم الجرئ الفيصل الإرب يا راحلا وقلوب الناس تتبعه * وكل قلب له في سعيه أرب يبكيك أحرار سوريا وأنت أخ * يبكيك دستور سوريا وأنت أب عرفت فيك سجايا كلها شمم * عرفت فيك حديثا كله أدب كهوف أرواد مدت بيننا نسبا * يا حبذا السجن بل يا حبذا النسب أخا السجون أخا المنفي أخا وصبا * قد فرق الموت ما قد ألف الوصب إن أدركت سيدا منا منيته * فما علينا ونحن السادة العرب لنا من الصبر درع لا ينهنهه * ريب المنون ولا السيف الذي خضبوا أما الشهبندر وحيدر والحكيم فلم يعودوا إلى دمشق إلا سنة 1937 عند قيام الحكم الوطني الأول. وقد سماهم نجيب الريس في جريدته القبس في مقال افتتاحي عند عودتهم: أصحاب الصيحة الأولى. ولم يكن من لقب يطلق عليهم أصدق من هذا اللقب. فقد كانوا فعلا أصحاب الصيحة الأولى التي حركت الجامد وأثارت الهامد وأطلقت المارد الشيخ سليمان بن علي بن سليمان بن راشد بن أبي ظبية الأصبعي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان هذا الشيخ مجتهدا في المعقول والمنقول توفي في السنة الحادية بعد المائة والألف ورثاه السيد الأجل السيد عبد الرؤوف الجد حفصي وكان خصيصا به بقصيدة منها ما يتضمن تاريخ وفاته: صاح الغراب بقاق في رجب على * موت الفقيد فأي دمع يدخر وله من المصنفات رسالة في تحريم الجمعة وقد نقضها المحقق المدقق
151 الأوحد الشيخ أحمد بن الشيخ أحمد بن الشيخ محمد بن يوسف البحراني، ورسالة في تحليل التتن والقهوة رادا على بعض علماء العجم العاملين بتحريمها ورسالة في علم الكلام في أصول الدين ورسالة في تحريم السمك. وهذا الشيخ يروي عن الشيخ أحمد بن الشيخ محمد بن علي المقشاعي أصلا والأصبعي منزلا قاله جدي في اللؤلؤة وعن تلميذه العلامة الشيخ سليمان الماحوزي طيب الله مضجعه قال في أزهار الأنظار: وكان أستاذنا العلامة الشيخ سليمان بن علي مجتهدا صرفا وله من المصنفات كتاب: العمدة ورسالة في استقلال البكر، ورسالة في الأوامر والنواهي، وكتاب في مناسك الحج، ورسالة في قوله ع: من لا تقية له لا دين له. وهو يروي عن الشيخ أحمد والشيخ علي بن سليمان. شبيب بن عامر. وجه معاوية برجل من أهل الشام يقال له عبد الرحمن بن أشيم في خيل من أهل الشام إلى بلاد الجزيرة، وبالجزيرة يومئذ شبيب بن عامر.، وهو جد الكرماني الذي كان بخراسان وكان بينه وبين نصر بن سيار ما كان، وكان شبيب مقيما بنصيبين في ستمائة رجل من أصحاب علي فكتب إلى كميل بن زياد وإلى علي على هيت: أما بعد، فاني أخبرك أن عبد الرحمن بن أشيم قد وصل إلى من الشام في خيل عظيمة، ولست أدري أين يريد، فكن على حذر، والسلام. قال: فكتب إليه كميل: أما بعد، فقد فهمت كتابك وأنا سائر إليك بمن معي من الخيل، والسلام. قال: ثم استخلف كميل بن زياد رجلا يقال له عبد الله بن وهب الراسبي، وحرج من هيت في أربعمائة فارس كلهم أصحاب بيض ودروع، حتى صار إلى شبيب بنصيبين، وخرج شبيب من نصيبين في ستمائة رجل، فساروا جميعا في ألف فارس يريدون عبد الرحمن، وعبد الرحمن يومئذ بمدينة يقال لها كفرتوثا في جيش لجب من أهل الشام، فأشرفت خيل أهل العراق على خيل أهل الشام. وجعل كميل بن زياد يرتجز ويقول: يا خير من جر له خير القدر فالله ذو الآلاء أعلى وأبر يخذل من شاء ومن شاء نصر قال: وجعل شبيب يرتجز ويقول: تجنبوا شدات ليث * ضيغم جهم محيا عقربان شدقم يغادر القرن صريعا للفم * بكل عضب صارم مصمم قال. واختلط القوم فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من أصحاب كميل رجلان عبد الله بن قيس القابسي ومدرك بن بشر الغنوي، ومن أصحاب شبيب أربعة نفر، ووقعت الهزيمة على أهل الشام فقتل منهم بشر كثير، فولوا الأدبار منهزمين نحو الشام. فقال كميل لأصحابه: لا تتبعوهم فقد أنكينا فيهم، وإن تبعناهم فلعلهم أن يرجعوا علينا ولا ندري كيف يكون الأمر. قال: ثم رجع شبيب بن عامر إلى نصيبين، ورجع كميل بن زياد إلى هيت، وبلغ ذلك عليا، فكتب إلى كميل بن زياد: أما بعد، فالحمد لله الذي يصنع للمرء كيف يشاء، وينزل النصر على من يشاء إذا شاء، فنعم المولى ربنا ونعم النصير، وقد أحسنت النظر للمسلمين ونصحت إمامك، وقدما كان ظني بك ذلك فجزيت والعصابة التي نهضت بهم إلى حرب عدوك خير ما جزي الصابرون والمجاهدون، فانظر لا تغزون غزوة ولا تجلون إلى حرب عدوك خطوة بعد هذا حتى تستأذنني في ذلك، كفانا الله وإياك تظاهر الظالمين، إنه عزيز حكيم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ثم كتب إلى شبيب بن عامر بمثل هذه النسخة ليس فيها زيادة غير هذه الكلمات: واعلم يا شبيب إن الله ناصر من نصره وجاهد في سبيله، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. الشيخ صالح بن عبد الكريم الكرزكاني البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان هذا الشيخ فاضلا ورعا فقيها شديدا في ذات الله سبحانه انتهت إليه رئاسة شيراز وقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها أحسن قيام وانقادت إليه حكامها فضلا عن رعيتها لورعه وتقواه، ونشر العلم والتدريس فيها، ولا يكاد يوجد في جميع الفنون في شيراز إلا وعليه تبليغه والمقابلة عليه. تولى القضاء بأمر الشاه السلطان سليمان ولما أتته خلعة القضاء من السلطان المزبور ورقم القضاء امتنع من لبس الخلعة المذكورة وبعد الالتماس والتخويف من سطوة السلطان وغضبه لبسها. وله من المصنفات رسالة في تفسير أسماء الله الحسنى، والرسالة الخمرية، ورسالة في الجبائر وغير ذلك من الفوائد. وقبره الشريف معروف بجوار بقعة الشاه جراع. صخير بن حذيفة بن هلال المزني، وبعضهم يسميه صخر. لما عسكر سليمان بن صرد الخزاعي في النخيلة في نية الخروج بطلب ثار الحسين ع خطب الناس فقال: أيها الناس، إنه من كان إنما أخرجته معنا إرادة الله ثواب الآخرة فذاك منا ونحن منه ورحمة الله عليه حيا وميتا، ومن كان يريد متاع الدنيا وحرثها فلا والله ما معنا فضة ولا ذهب، ولسنا نمضي إلى شئ نحوزه ولا إلى غنيمة نأخذها، وما هي إلا سيوفنا في رقابنا ورماحنا في أكفنا، ومعنا زاد بقدر البلغة إلى لقاء عدو الله عبيد الله بن زياد، فمن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا. فقال له صخير بن حذيفة بن هلال المزني: صدقت رحمك الله، والله ما لنا خير في صحبة من الدنيا همته ونيته، وما أخرجنا إلا التوبة من ذنوبنا والطلب بدماء أهل بيت نبينا، وقد علمنا أنا إنما نقدم على حد السيوف وأطراف الرماح. فناداه الناس من كل جانب: ألا إنا لا نطلب الدنيا ولا لها خرجنا. ولما التقى التوابون بجيوش الشام في عين الوردة وقتل قادتهم الواحد بعد الآخر، ثم آخذ الراية رفاعة بن شداد البجيلي، وكانت قد تكاثرت جيوش الشام وحاولت استئصال التوابين عن آخرهم، فارتأى رفاعة أن ينسحب بمن بقي منهم، فرفض ذلك صخير وصمم على الاستقتال وتقدم في ثلاثين من مزينة فقال لهم: لا تهابوا الموت في الله فإنه لاقيكم ولا ترجعوا إلى الدنيا التي
152 خرجتم منها إلى الله فإنها لا تبقى لكم ولا تزهدوا فيما رغبتم فيه من ثواب الله فان ما عند الله خير لكم، يا بني عمي! إن هؤلاء الذين تقاتلونهم هم الذين قتلوا ابن بنت رسول الله الحسين بن علي وساروا برأسه إلى يزيد بن معاوية يريدون بذلك الزلفى والمرتبة والجائزة، ثم تقدم وهو يرتجز ويقول: بؤسا لقوم قتلوا حسينا * بؤسا وتعسا لهم وحينا أرضوا يزيد ثم لاقوا شينا * ولم يخافوا بغيهم علينا ثم حمل وحمل معه قومه وعشيرته، ثم جعل يرتجز ويقول: إني إلى الله من الذنب أفر * أنوي ثواب الله فيمن قد أسر وأضرب القرن بمصقول بتر * ولا أبالي كلما كان قدر فلم يزل يقاتل حتى قتل هو وبنو عمه. السيد صدر الدين الصدر. مرت ترجمته في مكانها من المستدركات، وقد عثرنا له على قصيدة ننشرها فيما يلي: يا خليلي احبسا الجرد المهارا * وابكيا دارا عليها الدهر جارا وربوعا أقفرت من أهلها * وغدت بعدهم قفرا برارا حكم الدهر على تلك الربى * فانمحت والدهر لا يرعى زمارا كيف يرجى السلم من دهر على * أهل بيت الوحي قد شن المغارا لم يخلف أحمد إلا ابنة * ولكم أوصى إلى القوم مرارا كابدت بعد أبيها المصطفى * غصصا لو مست الطور لمارا هل تراهم أدركوا من أحمد * بعده في آله الأطهار نارا غصبوها حقها جهرا ومن * عجب أن تغصب الزهراء جهارا من سعى في ظلمها من راعها * من على فاطمة الزهراء جارا من غدا ظلما على الدار التي * تخذتها الأنس والجن مزارا طالما الأملاك فيها أصبحت * تلثم الأعتاب فيها والجدارا ومن النار بها ينجو الورى * من على أعتابها أضرم نارا والنبي المصطفى كم جاءها * يطلب الإذن من الزهراء مرارا وعليها هجم القوم ولم * تك لائت لا وعلياها الخمارا لست أنساها ويا لهفي لها * إذ وراء الباب لاذت كي توارى طاشتكين المستنجدي الأمير أبو المكارم. قال الدكتور مصطفى جواد: هو مجير الدين طاشتكين المستنجدي أمير الحاج، وزعيم بلاد خوزستان، كان شيخا خيرا حسن السيرة كثير العبادة مظهرا لتشيعه، حج باهل العراق وموالي الدولة العباسية سنة 566 وما بعدها وفي سنة 571 حدثت بينه وبين الأمير مكثر بن عيسى أمير مكة حرب وكان الخليفة المستضئ قد أمره بعزل مكثر عن الامارة وإقامة أخيه داود بن عيسى، وسبب ذلك أنه كان قد بنى قلعة على جبل أبي قبيس فلما سار الحاج عن عرفات لم يبيتوا بالمزدلفة وإنما اجتازوا بها فلم يرموا الجمار إلا بعضهم فإنهم رموها وهم سائرون، ثم نزلوا الأبطح فخرج إليهم ناس من أهل مكة فحاربوهم وقتل من الفريقين جماعة وصاح الناس: الغزاة إلى مكة، فهجموا عليها، فهرب أمير مكة مكثر وصعد إلى القلعة التي كان قد بناها على جبل أبي قبيس، فحصروه بها، ففارقها وسار عن مكة، وولي أخوه داود الامارة، وجرى في مكة ما يستنكر حينما يذكر، وفي سنة 592 خرج الأمير طاشتكين مع الوزير عضد الدين أبي الفرج محمد بن عبد الله بن رئيس الرؤساء والأمير غرغلي لحرب أحد الملوك وهو ابن ملكشاه بن محمود فإنه وصل في هذه السنة إلى خوزستان وصاحبها شملة فخربها ونهبها وفتك في الناس وسبى حريمهم وفعل كل قبيح، فوصل الخبر إلى بغداد وخرج الوزير عضد الدين وعرض العسكر ووصل عسكر الحلة وواسط مع الأمير طاشتكين، فساروا جميعا نحو العدو فلما سمع بوصولهم فارق مكانه وعاد وكان معه من التركمان جمع كثير، فنهبتهم العساكر البغدادية ولكنهم رجعوا من غير استثمار في العود، فأنكر الخليفة عليهم ذلك وأمرهم بالعودة إلى مواقفهم، فعادوا لأوائل شهر رمضان من السنة، وكان ابن ملكشاه قد رجع فنهب البندينجين المعروفة اليوم بمندلي، وأخذ منها ما كان سلم في الأول من النهب ووقعت بين الجيشين وقيعة ثم افترقوا وغادر ابن ملكشاه ولاية العراق وكان ابن جبير الرحالة قد اتفق حجه البيت الحرام سنة 579 وأمير الحاج طاشتكين قال وكانت محلة هذا الأمير العراقي جميلة المنظر بهية العدة راتفة المضارب والأبنية عجيبة القباب والأروق على هيئات لم نر أبدع منها منظرا، فأعظمها مضرب الأمير وذلك أنه أحدق به سرادق كالسور من كتان كأنه حديقة بستان أو زخرفة بنيان وفي داخله القباب المضروبة وهي كلها سواد في بياض مرقشة ملونة كأنها أزاهير الرياض وقد جللت صفحات ذلك السرادق من جوانبه الأربعة كلها أشكال درقية من ذلك السواد المنزل في البياض، يستشعر الناظر إليها مهابة يتخيلها درقا لمطية قد جللتها مزخرفات الأغشية، ولهذا السرادق الذي هو كالسور المضروب أبواب مرتفعة كأنها أبواب القصور المشيدة، يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج ثم يفضي منها إلى الفضاء الذي فيه القباب وكان هذا الأمير ساكن في مدينة قد أحدق بها سورها تنتقل بانتقاله وتنزل بنزوله وهي من الأبهات الملوكية المعهودة التي لم يعهد مثلها عند ملوك المغرب، ثم قال في خبر بنت الأمير مسعود السلجوقي: وهي إحدى الخواتين الثلاث اللاتي وصلن للحج مع أمير الحاج أبي المكارم طاشتكين مولى أمير المؤمنين الموجه كل عام من قبل الخليفة وله يتولى هذه الخطة نحو الثمانية أعوام أو أزيد ثم قال: والأمير طاشتكين المتقدم الذكر يقيم بالحلة ثلاثة أيام إلى أن يتقدم جميع الحاج ثم يتوجه إلى حضرة خليفته، وهذه الحلة المذكورة طاعة بيده للخليفة كذا وسيرة هذا الأمير في الرفق بالحاج والاحتياط عليهم والاحتراس لمقدمتهم وساقتهم وضم نشر ميمنتهم وميسرتهم سيرة محمودة وطريقته في الحزم وحسن النظر طريقة سديدة وهو من التواضع ولين الجانب وقرب المكان على وتيرة سعيدة، نفعه الله ونفع المسلمين به. وفي سنة 589 قبض الناصر لدين الله على أمير الحاج، قال ابن الأثير وكان نعم الأمير عادلا في الحاج رفيقا بهم محبا لهم له أوراد كثيرة من صلوات وصيام وكان كثير الصدقة، لا جرم وقفت أعماله بين يديه فخلص من السجن على ما نذكره إن شاء الله تعالى ثم عين الناصر لدين الله علي طاشتكين زعيما على بلاد خوزستان، وفي شوال من سنة 597 وصل إلى بغداد من خوزستان وخرج عز الدين نجاح الشرابي الأمير الكبير لتلقيه، ودخل دار الوزارة ولقي نصير الدين ناصر بن مهدي نائب الوزارة يومئذ، ثم حج بالناس في آخر هذه السنة وفي آخر سنة 598 وسنة 599 وسنة 600 ثم رجع
153 إلى زعامة خوزستان وتوفي بتستر المعروفة اليوم بششتر في ثاني جمادى الآخرة من سنة 602 وحمل تابوته إلى الكوفة فدفن بمشهد علي ع بوصية منه الشيخ عبد الامام الأحسائي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان فقيها مفسرا تصدر للافتاء بأمر الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي في قرية الأحساء وله رسالة في شرح الأسماء الحسنى. وكتاب في وجوب غسل الجمعة. ورسالة في العدالة. توفي سنة 1209. الشيخ عبد الباقي بن الشيخ أحمد العقيري. قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان عالما بأنساب العرب، مشهورا بين فضلاء الأدب، له كتاب في تاريخ المولدين من الشعراء لم يسبق مثله سابق ومن قصائده البديعة: هذا اللوى فاحبس مطيك فاعقل واساله عن قلبي وإن لم يعقل ولم يحضرني الآن تاريخ وفاته وله من الأولاد الشيخ أحمد كان من العلماء. الشيخ عبد الجبار الرفاعي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: من أجلاء المتأخرين وكان من شيوخ الإجازة، كما يعلم من إجازة الشيخ الأمجد الشيخ أحمد الأحسائي وله تأليفات رائعة منها شرح التذكرة وكتاب شرح التبصرة، ورسالة في الاجماع، ورسالة في الإمامة، ورسالة في القرعة والأجوبة الخراسانية وغير ذلك، مات قدس سره سنة 1205. السيد عبد الرؤوف الجد حفصي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان عالما، شاعرا، نحويا، عروضيا، أديبا، خطيبا، له كتاب نفيس في خطب الجمعة، وكتاب في تاريخ الشعراء، وكتاب في القصائد والمراثي ومن قصائده الفاخرة: إلى كم تطيل النوح حول المرابع * وتدري على الدارات در المدامع وتندب رسما قد محته يد البلاد * وتشجيك آثار الطلول البلاقع وتقضي غراما عند تذكار دمنة * لآرام أنس في القلوب رواتع إلى أن قال: فهم أمنا الله في هل أتى أتى * مديحهم بالنص غير مدافع براهين فضل قد جلت عن معارض * وآيات فصل قد علت عن مضارع بهم أشرق الدين الحنيفي غب ما * دجى وتجلب مبهمات الشرائع إلى أن قال: فحبكم في الحشر أقوى وسيلة * وعقد لاكم ثم أوجه شافع وهذه القصيدة تقارب المائتي بيتا ولم يحضرني تاريخ وفاته فاما قبره الشريف في جد حفص فهو مشهور رحمة الله عليه وله من الأولاد السيد أحمد. السيد عبد الرضا السيد صالح بن السيد محمد الأحسائي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هذا هو الفاضل الذي كتب شيخنا العلامة الشيخ سليمان الماحوزي، له المسائل الجهرمية وهو ذو التصانيف البديعة، له كتاب في القصائد والرثاء وكتاب في وجوب الجمعة عينا، سكن في جهرم ومات قدس سره سنة 1200. الشيخ عبد الحسين القمي المعروف بابن الدين. ولد في قم سنة 1321 وتوفي في طهران سنة 1390. كانت دراسته في قم فاخذ اللغة العربية عن الشيخ محمد حسين الأردستاني والفقه والسطوح على الشيخ محمد حسين النجار والأصول عن الشيخ مهدي حكمي والفلسفة عن الشيخ محمد علي شاه آبادي، ثم قوى لغته العربية عند السيد محمد جواد القمي. ثم تفرع للتخصص في الفقه والأصول على مؤسس حوزة قم الشيخ عبد الكريم، فظل في تلك الحوزة اثنتي عشرة سنة يتلقى الدروس ويلقيها، وبعد وفاة الشيخ عبد الكريم انتقل إلى طهران وتولى التدريس في مدرسة مروي، ثم في مدرسة سبهسالا حيث كان أستاذ الفقه والتفسير. كما تولي تدريس اللغة العربية في كلية الإلاهيات والمعارف الاسلامية. وفي خلال ذلك ترجم إلى اللغة الفارسية كتاب إعجاز القرآن للرافعي وكتب له مقدمة وعلق عليه، كما ألف بالفارسية كتاب الأصول الاجتماعية في الاسلام، وكتاب المحاضرات الدينية، وقد طبعت هذه الكتب الثلاثة. وله من المؤلفات غير المطبوعة: أصول فن الخطابة، وأصول المعارف الاسلامية وتراجم شعراء العرب وكلها بالفارسية. وقد كان كاتبا أديبا باللغة العربية كتب بها كثيرا من البحوث، نشرتها المجلات العربية لا سيما العرفان والمرشد ورسالة الاسلام. وقد اشتهر باسم ابن الدين لأنه كان يوقع به مقالاته، وظل مثابرا على ذلك حتى عرف بهذا الاسم ولم يشتهر له غيره طيلة حياته. الشيخ عبد الحسين بن رقية. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من بقية أهل الكمال، جمع مع الشعر علم الرجال، له كتاب في علم الدراية، وكتاب في علم الرجال مبسوط، وله ديوان معروف ومن قصائده البديعة: نعم هذه أطلال سعدى فقف معي * أروي ثراها من سواكب أدمعي عسى بالبكا يشفي فؤاد من الجوى * ذكت بالأسى نيرانه بين أضلعي فساقت لعيني من مراسيل غبرة * وهاجت بقلبي لوعة المتوجع وقفت ولي فيها تردد زفرة * أسائلها عن أهلها وهي لا تعي فلله من يوم به البين واشك * وقوع التنائي من خليط مودع فيها صاحبي بالجزع حان رحيلهم * فان كنت لم تجزع وحقك فاجزع كان فؤادي يوم بانوا وشيعة * محتها يد الأيام بعد توشع فيا نظرة للعين نحو ظعونهم * لقد أبت منها بالحنين المرجع ولي كبد بالأبلق الفرد وزعت * لموقف يوم السفح أي توزع الأهل لليلات مضين على الحما * أنست بها بين الحجون ولعلع
154 تعود لمشتاق تزايد وجده * وما قد مضى في الدهر ليس بمرجع إلى أن قال: وخطب بكت منه السماء وصدعت * له الأرض والأطواد أي تصدع فديت حسينا حين ودع راحلا * لأكرم جد وهو خير مودع فأمسى يجد السير لم يك وانيا * غداة دعوه طالبا ما له دعي على أنه ذاك الامام ولم يكن * بما رامه في ذلك الأمر مدعي عبد الرحمن بن عبيد الهمداني. لما قام المختار يطلب بثار الحسين ع في الكوفة دعا بغلام له أسود يقال له رزين، وكان فارسا بطلا، فقال: ويلك يا رزين! قد بلغني عن الشمر بن ذي الجوشن أنه قد خرج عن الكوفة هاربا في نفر من غلمانه ومن اتبعه، فاخرج في طلبه فلعلك تأتيني به أو برأسه، فاني ما أعرف من قاتل الحسين بن علي أعتى منه ولا أشد بغضا لأهل بيت رسول الله ص. فاستوى رزين على فرسه وخرج في طلب الشمر بن ذي الجوشن فجعل يسير مسيرا عنيفا، وهو في ذلك يسأل عنه فيقال له: نعم إنه قد مر بنا آنفا، فلم يزل كذلك حتى نظر إليه من بعيد، قال: وحانت من الشمر التفاتة فنظر إلى رزين غلام المختار فقال لغلمانه: سيروا أنتم فان الكذاب قد بعث بهذا الفارس في طلبي! قال: ثم عطف الشمر على غلام المختار وتطاعنوا برمحيهم، طعنه الشمر طعنة قتله ثم مضى. وبلغ ذلك المختار فاغتم لذلك غما شديدا، ثم دعا برجل يقال له عبد الرحمن بن عبيد الهمداني، فضم إليه عشرة من أبطال أصحابه ثم قال: يا عبد الرحمن! إن الشمر قد قتل غلامي رزينا ومر على وجهه، ولست أدري أي طريق سلك، ولكني أنشدك بالله يا أخا همدان ألا قررت عيني أنت ومن معك بقتله إن قدرتم على ذلك. فخرج عبد الرحمن بن عبيد في عشرة من أصحاب المختار في طلب الشمر بن ذي الجوشن، فجعلوا يسيرون وهم يسألون عنه ويمضون على الصفة، قال: والشمر قد نزل إلى جانب قرية على شاطئ الفرات يقال لها الكلتانية وهو جالس في غلمانه، ومعه قوم قد صحبوه من أهل الكوفة من قتلة الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهم آمنون مطمئنون، والشمر قد نزع درعه، ورمى به ورمى ثيابه واتزر بمئزر وجلس، ودوابه بين يديه ترعى، فقال له بعض أصحابه ممن كان معه: إنك لو رحلت بنا عن هذا المكان لكان الصواب، فإنك قد قتلت غلام المختار، ولا نأمن أن يكون قد وجه في طلبنا! قال: فغضب الشمر من ذلك وقال: ويلكم أكل هذا خوفا وجزعا من الكذاب، والله لا برحت من مكاني هذا إلى ثلاثة أيام ولو جاءني الكذاب في جميع أصحابه! قال: فوالله ما فرع من كلامه حينا حتى أشرفت عليه خيل المختار، فلما نظر إليهم وثب قائما فتأملهم، قال: ونظروا إليه وكان أبرص، والبرص على بطنه وسائر بدنه كأنه ثوب ملمع. قال: ثم ضرب بيده إلى رمحه ثم دنا من أصحاب المختار وهو يومئذ متزر بمنديل وهو يرتجز ويقول: تيمموا ليثا هزبرا باسلا * جهما محياه يدق الكاهلا لم يك يوما من عدونا كلا * إلا كذا مقاتلا أو قاتلا يمنحكم طعنا وموتا عاجلا قال: فقصده عبد الرحمن بن عبيد وهو يرتجز ويقول: يا أيها الكلب العوي العامري * أبشر بخزي وبموت حاضر من عصبة لدى الوغى مساعر * شم الأنوف سادة مغاور يا قاتل الشيخ الكريم الطاهر * أعني حسين الخير ذي المفاخر وابن النبي الصادق المهاجر * وابن الذي كان لدى التشاجر أشجع من ليث عرين خادر * ذاك علي ذو النوال الغامر ثم حنق عليه الهمداني فطعنه في نحره طعنة فسقط عدو الله قتيلا، ونزل إليه الهمداني فاحتز رأسه، وقتل أصحابه عن آخرهم، وأخذت أموالهم وأسلحتهم ودوابهم، وأقبل الهمداني برأسه ورؤوس أصحابه إلى المختار حتى وضعها بين يديه، فلما نظر المختار إلى ذلك خر ساجدا لله، ثم أمر برأس الشمر وأصحابه فنصبت بالكوفة في وجه الحدادين حذاء المسجد الجامع، ثم أمر لهذا الهمداني بعشرة آلاف درهم وولاه أرض حلوان. عبد الرحمن بن عبيد. كان الضحاك بن قيس واليا على الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان. وكان قبل ذلك أيام أمير المؤمنين ع قد أغار على الحيرة، فأرسل إليه أمير المؤمنين جيشا بقيادة حجر بن عدي الكندي فما زال مغذا في أثر الضحاك حتى لقيه بتدمر فواقفه فاقتتلوا ساعة، وحجز بينهم الليل فمضى الضحاك، فلما أصبحوا لم يجدوا له ولا لأصحابه أثرا. عن محمد بن مخنف (1) قال: إني لأسمع الضحاك بن قيس بعد ذلك بزمان على منبر الكوفة يخطبنا وهو يقول: أنا ابن قيس، وأنا أبو أنيس، وأنا قاتل عمرو بن عميس، قال: وكان الذي ظاهره على ذلك أنه أخبر أن رجالا من الكوفة يظهرون شتم عثمان والبراءة منه قال: فسمعته وهو يقول: بلغني أن رجالا منكم ضلالا يشتمون أئمة الهدى ويعيبون أسلافنا الصالحين، أما والذي ليس له ند ولا شريك لئن لم تنتهوا عما بلغني عنكم لأضعن فيكم سيف زياد ثم لا تجدونني ضعيف السورة، ولا كليل الشفرة (2)، أما والله إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم فكنت أول من غزاها في الاسلام فسرت ما بين الثعلبية وشاطئ الفرات، أعاقب من شئت وأعفو عمن شئت، لقد ذعرت المخبئات في خدورهن، وإن كانت المرأة ليبكي ابنها. فلا ترهبه ولا تسكته إلا بذكر اسمي، فاتقوا الله يا أهل العراق واعلموا أني أنا الضحاك بن قيس. فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد فقال: صدق الأمير وأحسن القول ما أعرفنا والله بما ذكرت...! ولقد أتيناك بغربي تدمر فوجدناك شجاعا صبورا مجربا، ثم جلس فقال: أيفتخر علينا بما صنع في بلادنا أول ما قدم؟! وأيم الله لأذكرنه أبغض مواطنه تلك إليه، قال: فسكت الضحاك قليلا فكأنه خزي واستحيا ثم قال: نعم كان ذلك اليوم باخرة (3) بكلام ثقيل ثم نزل.
(1) هو محمد بن مخنف بن سليم بن الحارث الغامدي، أبوه صحابي وقد رأي عليا (عليه السلام) عند مقدمه البصرة وقد بلغ الحلم وروى عنه (انظر صفين لنصر بن مزاحم ص 10 وميزان الاعتدال 4 / 32) وقد تجاهله الذهبي. (2) السورة: السطوة، والشفزة: السكين العظيم. (3) بأخرة: أخيرا، وقوله: " بكلام ثقيل " أي جاء به متثاقلا كأنه يجره جرا من شدة الخجل. 155 فقلت لعبد الرحمن بن عبيد أو قيل له: لقد اجترأت حين تذكره ذلك اليوم وتخبره أنك كنت فيمن لقيه، فقال: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. قال: وحدثني ابن أخي (1) محمد بن مخنف، عن أبيه عن عمه قال الضحاك لعبد الرحمن بن مخنف حين قدم الكوفة: لقد رأيت منكم بغربي تدمر رجلا ما كنت أرى في الناس مثله رجلا، حمل علينا فما كذب حتى ضرب الكتيبة التي أنا فيها، فلما ذهب ليولي حملت عليه فطعنته في قمته فوقع ثم قام فلم يضره شيئا فذهب، ثم لم يلبث أن حمل علينا في الكتيبة التي أنا فيها فصرع رجلا ثم ذهب لينصرف فحملت عليه فضربته على رأسه بالسيف فخيل إلي أن سيفي قد ثبت في عظم رأسه قال: فضربني، فوالله ما صنع سيفه شيئا ثم ذهب!. فظننت أنه لن يعود، فوالله ما راعني إلا وقد عصب رأسه بعمامة ثم أقبل نحونا، فقلت: ثكلتك أمك أما نهتك الأوليان عن الاقدام علينا؟ قال: وما تنهياني وأنا أحتسب هذا في سبيل الله؟! ثم حمل علينا فطعنني وطعنته فحمل أصحابه علينا فانفصلنا وحال الليل بيننا. فقال له عبد الرحمن بن مخنف: هذا يوم شهده هذا يعني ربيعة بن ناجد (2) وهو فارس الحي وما أظن هذا الرجل يخفى عليه فقال له: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: أنا! قال: فأرني الضربة التي برأسك. قال: فأراه فإذا هي ضربة قد برت العظم منكرة. فقال له: ما رأيك اليوم فينا؟ أهو كرأيك يومئذ؟ قال: رأي اليوم رأي الجماعة، قال: فما عليكم اليوم من باس، أنتم آمنون ما لم تظهروا خلافا، ولكن العجب كيف نجوت من زياد؟ لم يقتلك فيمن قتل؟ أو لم يسيرك فيمن سير؟ قال: أما التسيير فقد سيرني وأما القتل فقد عافانا الله منه. والأرجح اتحاده مع الذي مر. عبد الرحمن بن الحسين النعماني القاضي. هو أبو منصور عبد الرحمن بن الحسين بن عبد الله النعماني النيلي المعروف بشريح، قدم بغداد واستوطنها وشهد بها عند قاضي القضاة أبي الحسن محمد بن جعفر الهاشمي العباسي في يوم الأربعاء تاسع ذي القعدة من سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وزكاه العدلان أبو الحسن علي بن المبارك بن جابر وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن المأمون، وكان يتولى قضاء بلده النعمانية أيضا والتحق بأمير الحاج طاشتكين المستنجدي الشيعي وخدمه متوليا لأشغاله، وهو الذي قرأ عهد قاضي القضاة ضياء الدين أبي الفضائل القاسم بن يحيى الشهرزوري سنة 595 بجامع القصر المعروف اليوم بعضه بجامع سوق الغزل، وكان فاضلا، متميزا، مترسلا، وله رسائل قال الحافظ محمد بن سعيد بن يحيى الواسطي أنشدني أبو منصور المعروف بشريح للصاحب إسماعيل بن عباد في الاعتزال: قلت يوما وذاك مما دهاني * ما احتيالي في ما مضى ما احتيالي؟ فجفاني وقال: ما وصل من قال * بخلق الأفعال من أفعالي كان لي في هواك رأي فلما * قلت في الجبر في هواي بدالي وقال أنشدني مذاكرة من حفظه: كم قلت للخاطر أنجدني بنادرة * فقال يومك مني نصره خرق ما دمت أجني ولا أسقي فلا ثمر * يبقى لجاني في عودي ولا ورق توفي القاضي عبد الرحمن هذا ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول من سنة 603 ودفن في داره بالقبيبات بالقرب من محلة قراح أبي الشحم بشرقي بغداد. ديك الجن عبد السلام بن رغبان. مرت ترجمته في الصفحة 12 من المجلد الثامن، ونضيف إليها هنا ما يلي: ديوانه صدر ديوانه سنة 1386 1966 م وقد حققه وأعد تكملته كل من أحمد مطلوب وعبد الله الجبوري، وكان قد سبق أن صدر له ديوان من قبل، جمعه وشرحه كل من عبد المعين الملوحي ويحيى الدين الدرويش الذين جمعاه من بطون الكتب لعدم العثور على ديوان له. والديوان الذي جمعه مطلوب والجبوري حاولا فيه تكملة الديوان الأول وزادا عليه ما يتعلق بشعر الشاعر في آل البيت ع، وهي ثماني قصائد في 156 بيتا، وقصائد أخرى عثرا عليها في المجموعة التي جمعها الشيخ محمد السماوي وأضافا إليها ما لم يذكره. كما جاءا بقصائد وأبيات لم تذكر في ديوانيه المطبوع والمخطوط. وعن ديوانه كتب هلال ناجي ما يلي: نشر الأستاذان عبد المعين الملوحي ومحيي الدين الدرويش، مجموعة من شعر ديك الجن الحمصي في حمص بسوريا سنة 1960 وقد ضم المجموع في دفتيه 417 بيتا جمعاها من شتيت المظان. وقد استطاع الأديبان العراقيان الدكتور أحمد مطلوب وعبد الله الجبوري أن يعيدا نشر المجموع بعد أن أضافا إليه إضافات مهمة أبرزها زيادة 22 قصيدة وقطعة تقع في 224 بيتا، أضافاها إلى مطبوعة الملوحي والدرويش. وعملهما العلمي هذا جدير بكل تقدير، ويمثل في رأينا إضافة قيمة للتراث العربي المنشور. وقد أحببنا أن ندلي بدلونا بين الدلاء فنستدرك على الجبوري ومطلوب بعض ما فاتهما من شعر ديك الجن آملين أن ينتفع بها المحققان الفاضلان في طبعة قابلة. وأجمل هذه المستدركات في الآتي: 1 قال ديك الجن: لا مت قبلك بل أحيا وأنت معا * ولا بقيت إلى يوم تموتينا لكن نعيش كما نهوى ونأمله * ويرغم الله فينا أنف وأشينا حتى إذا ما انقضت أيام مدتنا * وحان من يومنا ما كان يعدونا متنا كلانا كغصني بانة ذبلا * من بعد ما استورقا واستنضرا حينا انظر الحماسة البصرية 1 265. وقال ديك الجن: ليس يخشى جيش الحوادث من جنداه * وفدا صبابة ودموع
(1) لمحمد بن مخنف عدة أخوة منهم عامر بن مخنف ويكنى أبا رملة، وسعيد بن مخنف جد أبي مخنف لوط بن يحيى بن سعيد الأخباري المشهور وعبد الله بن مخنف فالراوي ابن لواحد من هؤلاء ولا ريب أن بعض السند قد سقط لبعد رواية صاحب الكتاب عن ابن أخي محمد المذكور. (2) بيعة بن ناجد - بالدال المهملة - الأسدي عده الشيخ في رجاله من أصحاب علي (عليه السلام). 156 قمر حين رام أن يتجلى * سار فيه المحاق قبل الطلوع فلذة من صميم قلبي وجزؤ * من فؤادي وقطعة من ضلوعي لصغير أعار رزء كبير * وفريد أذاق فقد جميع إن تكن في التراب خير ضجيع * كنت لي في المعاد خير شفيع انظر الحماسة البصرية 1 272. 3 وقال ديك الجن: وليس المرء ذو العزمات إلا * فتى تلقاه كل غد بلاد فتى ينصب في صدر الفيافي * كما ينصب في المقل الرقاد انظر الحماسة البصرية ج 1 هامش الصفحة 115 وحماسة ابن الشجري ص 269 وفيها: فتى ينصب في ثغر الليالي وقد ورد البيت الثاني منهما فقط في الديوان وروايته: فتى ينصب في ثغر الليالي * كما ينصب في المقل السواد 4 وقال ديك الجن: غراء جاءت وأفواه الثرى يبس * لكنها انصرفت والنور منغمس تسري وللريح في حافاتها زجل * يريك ذهنك أن الرزق ينبجس في مأتم للحيا ما انهل عارضه * إلا وفيه لأبكار الثرى عرس انظر الحماسة البصرية 2 349 350. 5 وقال ديك الجن: وكم قربت من دار عبلة عبلة * كجندلة السور المقابل تشرفه فيرعى الفلا ما قد رعته من الفلا * وينحفها المرت القفار وتنحفه انظر الحماسة البصرية 2 360 والأشباه والنظائر للخالديين 2 281. 6 وقال ديك الجن وهو من ألطف أنواع التخيير، وهو أن يأتي الشاعر ببيت يسوع أن يقفي بقواف متعددة فيختار منها قافية مرجحة على سائرها، تدل على حسن اختياره: قولي لطيفك ينثني * عن مضجعي عند المنام عند الرقاد عند الهجوع عند الهجود عند الوسن فعسى أنام فتنطفي * نار تأجج في عظامي في فؤادي في ضلوعي في كبودي في البدن جسد تقلبه الأكف * على فراش من سقام من القتاد من الدموع من الوقود من الحزن أما أنا فكما * علمت فهل لوصلك من دوام من معاد من رجوع من وجود من ثمن انظر أنوار الربيع 2 150 وخزانة الأدب وغاية الإرب لابن حجة الحموي ص 78. 7 وكتب ديك الجن إلى بعض أخوانه: لك عندي من طيب الورد * أطباق ملاح تدني بعيد سرورك وشراب كطيب نشرك يلقي * فوق أيدي السقاة نورا كنورك فبحقي، أهد السرور إلى من * لا يلذ الدنيا بغير حضورك انظر قطب السرور ص 351. 8 وقال ديك الجن: وليلة بات ظل الغيث ينسجها * حتى إذا كملت أضحى يدبجها يبكي عليها بكاء الصب فارقه * إلف ويضحكها طورا ويبهجها إذا يضاحك فيها الورد نرجسها * باهى زكي خزاماها بنفسجها فقلت فيها لساقينا وفي يده * كأس كشعلة نار بات يوهجها لا تمزجنها بغير الماء منك فان * تبخل يداك فدمعي سوف يمزجها أقل ما بي من حبيك أن يدي * إذا سمت نحو قلبي كاد ينضجها انظر قطب السرور 548. 9 وقال ديك الجن: خليلي هبا عللاني مدامة * معتقة مما تخير نوح فما العيش إلا أن أفوز بسكرة * وما الغبن إلا أن يقال صحيح سأجمح في حب البطالة والصبا * وإن لام فيه عاذل ونصيح انظر قطب السرور ص 560. 10 وقال ديك الجن: وقنان زواهر هن بالشمس * من الشمس بالقلائد أحكى يتبسمن قائمات صوفا * فإذا ما ركعن قهقهن ضحكا قلت: خذها وعاطنيها سلافا * ذهبا في الزجاج يسبك سبكا انظر قطب السرور ص 658. 11 ومما يستدرك على الفائية المنشورة في الصفحات 177 179 البيتان التاليان: كأنما التف من هداب راهبة * يستوحش الأنس إلا بيعة أنفا فكان في ضوئها إذ قام مصطبحا * وضوء وجنته ما عمنا وكفى انظر قطب السرور 647 648. 12 وفي الديوان ورد البيت الثالث ص 189 بالرواية التالية. صفراء... فاصفرت فأنت ترى * ذوبا من التبر رصوا فوقه الشرفا وصواب الرواية: صفراء أو قل ما اصفرت فأنت ترى * ذوبا من الدر رصوا فوقه صدفا انظر قطب السرور ص 648: 13 ومما يستدرك على البيتين المنشورين في الصفحة 181 من الديوان قوله: ومن عرف الأيام لم يغترر بها * وبادر باللذات قبل العوائق انظر قطب السرور ص 651. 14 وفي مواضع غير قليلة لاحظت عدم دقة في التحقيق. فالغرض الأول من ذكر مراجع القصيدة ومصادرها هو إثبات الاختلاف في الروايات أو في النسبة إن وجدت، لكن المحققين الفاضلين أغفلا ذلك في مواضع عديدة. من ذلك مثلا القطعة المنشورة في ص 107 108، فالبيت الثاني منها روايته في الديوان: وقم أنت فاحثث كأسها غير صاغر * ولا تسق إلا خمرها وعقارها وذكر المحققان في الهامش رقم 3 ص 107 ما نصه: شرح المقامات فقم فهذا هامش مبتور وغير علمي، مبتور لأن النص الوارد في شرح المقامات ج 4 ص 236 يختلف عجزه اختلافا كليا عن النص الوارد في
157 الديوان، فراوية العجز في شرح المقامات كالآتي: ولا تسق مطبوخا واسق عقارها. فالهامش مبتور إذن، وهو غير علمي إذ لم يذكرا رقم الجزء والصفحة من شرح المقامات. وهناك أيضا نقص في تخريج القطعة فالأبيات 2 و 3 و 4 و 5 منها وردت أيضا في التشبيهات لابن أبي عون ص 181، ثم إن القطعة كاملة مع اختلاف جوهري في الرواية مثبتة في قطب السرور ص 623 624 وهي أيضا في أنوار الربيع 4 63 والأول والرابع منها في خزانة الأدب لابن حجة الحموي ص 210 وكلها مراجع لم يقف عليها المحققان الفاضلان. مثال آخر على عدم الدقة يتجلى في القطعة رقم 23 المنشورة في الصفحتين 116 117 فمن مطالعة الهامش رقم 1 ص 116 نجد أن هذه القطعة قد وردت في المصادر التالية الأصل: نهاية الإرب 4 159 والديوان المطبوع 109، والمصون 159، ويتبادر إلى الذهن أن المحققين سيشيران إلى اختلاف الروايات بين هذه المصادر في الهامش حتما. ومن الأمانة أن نقول أنهما أثبتا بعضها فعلا، ومن الأمانة أن نقول أيضا: أنهما أهملا أبرزها. من ذلك أنك تقرأ البيت الثاني وروايته: قامت مذكرة وقام مؤنثا * فتناهبا الألحاظ بالنظرين وذكر في الهامش رقم 2 ما نصه: في الأصل ونهاية الإرب: قامت مؤنثة، والتصحيح من الديوان والمصون. ولكن هل هذه رواية المصون حقا؟؟ دعنا نرجع إلى المصون للعسكري ص 159 فما ذا نجد؟ نجد العجز برواية أخرى تماما هي: فتنازعا المهجات باللحظين. بل ونجد بيتا آخر يليه لا وجود له عند المحققين ونصه: لا زال من بغض الصيام مبغضا * يوم الخميس إلي والاثنين أكثر من ذلك أن الأبيات الأول والثاني والسابع من هذه القطعة موجودة في قطب السرور ص 703 برواية أخرى لم يقف عليها المحققان الفاضلان. ومن ذلك ما أثبته في الهامش رقم 1 ص 175 ونصه: البيتان في سحر البيان 164 ونهاية الإرب 3 98 والديوان 67. والأول في خاص الخاص 102. والصواب والبيتان في خاص الخاص ص 128. ثم إن القطعة 7 المنشورة في ص 90 91 موجودة في مراجع أخرى غير التي ذكرها المحققان الفاضلان هي: أنوار الربيع 4 62 63 وأمالي الزجاجي 102 103 منسوبة لديك الجن وذم الهوى لابن الجوزي 469 471 مع اختلاف في الرواية ولعل في الرجوع إليها فائدة، ثم إن الكلام حول هذه النقطة كثير لا تتسع له مثل هذه الكلمة المقتضبة. 15 في المقدمة التي عقدها المحققان الفاضلان للحديث عن ديك الجن. حياته وديوانه ذكرا في الصفحة التاسعة ما قاله النواجي في حلبة الكميت من أمر لقاء أبي تمام مع ديك الجن في حمص، وقالا: وهذه رواية انفرد بها الشيخ النواجي، وقد لا تكون صحيحة، لأن أبا تمام كان يختلف إلى ديك الجن في حمص إبان نشأته الشعرية ويستفيد منه، فكيف يتخفى عنه؟. يبدو لي من هذا الكلام أنه قد فاتهما الاطلاع على نص بالغ الأهمية ذكره ابن ظافر الأزدي في بدائع البداءة ص 68 ونصه: أن أبا تمام لقي ديك الجن وهو طفل يلعب، ويدعي قول الشعر، فقال: إن كنت شاعرا كما تقول، فاجز: فرقوا بين من أحب وبيني. فقال: أبعد أم قرب؟ فقال أبو تمام: بعد، فقال: مثل بعد السماك والفرقدين. فقال له: قرب، فقال: مثل ما بين حاجبي وعيني. وعلى أية حال فبين هذا النص ونصوص أخرى ذكرت أستاذية ديك الجن لأبي تمام تعارض ظاهر. وهو تعارض كان يستوجب التدقيق والتحقيق. أبو الفتح عبد الله بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل الحلبي المعروف بابن الجلي. قال السيد عبد العزيز الطباطبائي وبيت الجلي بكسر الجيم المعجمة وتشديد اللام من البيوت العلمية العريقة الشيعية في حلب، أنجبت أعلاما في الفقه، والحديث، والأدب في القرنين الرابع والخامس، منهم أبو الفتح هذا، وأبوه، وجده. ترجم ابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب لأبيه إسماعيل بن أحمد، وقال: حدث بحلب، عن أبيه... وروى عنه ابنه أبو الفتح... وأخرج من طريقه حديث علي ع: نزلت النبوة يوم الاثنين، وصليت مع النبي ص يوم الثلاثاء. وترجم له أيضا ابن حجر في لسان الميزان 1 392، ناقلا عن تاريخ ابن أبي طي أنه قال: إمام فاضل في الحديث، وفقه أهل البيت، روى عن أبيه و... توفي سنة 447، ولإسماعيل أسفار في فنون شتى، انتهى.. وأما ابنه أبو الفتح، فقد روى عن أبيه سنة 407، فتقدر ولادته حدود سنة 390، وروى أيضا عن أبي نمير الأسدي عبد الرزاق بن عبد السلام، وروى عنه علي عبد الله بن أبي جرادة العقيلي الحلبي، ونظام الملك الطوسي الوزير، وأبو بكر الخطيب البغدادي. له ترجمة في أنساب السمعاني الجلي، ووهم فسماه أحمد، والمشتبه 1 168، وتبصير المنتبه 1 342، وتاج العروس 7 262. له تذييل على نهج البلاغة. قال ابن أبي الحديد في شرحه 18 225، في حديث ضرار بن ضمرة: فان الرياشي روى خبره، ونقلته أنا من كتاب عبد الله بن إسماعيل بن أحمد الحلبي، في التذييل على نهج البلاغة. الشيخ عبد علي بن الشيخ أحمد بن الشيخ إبراهيم البحراني من آل عصفور. قال في تاريخ البحرين المخطوط: وهو من أكابر هذه الطائفة فقيها عالما عارفا، تتلمذ على أبيه أحمد قدس سره. وقيل على أخيه صاحب الحدائق.
158 قال الشيخ أحمد الأحسائي: إنه أحد فضلائنا في البحرين. وقال العلامة النيسابوري بعد ذكر جمل من أوصافه أنه من فقهاء أهل البيت ع وكان إخباريا وله كتاب كبير مسمى ب إحياء الشريعة وهو كتاب لم يسبقه سابق إلى أن قال: وهو العلامة وابن العلامة وأخو العلامة وابنه العلامة ومن مصنفاته كتاب الاحياء ورسالة في التقية، ورسالة في حديث لا ضرر ولا ضرار، وكتاب في المسائل المتفرقة. ومناسك الحج، ورسالة في عدم حجية الاجماع كما هو اعتقاد مشايخه، وكتاب في رد من قال: بحجية البراءة الأصلية، وكتاب في حديث العبودية جوهرة كنهها الربوبية ورسالة في منجزات المريض، ورسالة في حجية خبر الآحاد، ورسالة في عدم جواز نقل الأموات إلى المشاهد المشرفة والرد على أخيه صاحب الحدائق حيث جوز ذلك، ورسالة في وجوب غسل الجمعة. وأجوبة المسائل البصرية وغير ذلك من الأجوبة قال ابنه الشيخ خلف: إن أبي طاب ثراه هجر مع من هجر سنة تسعين والمائة بعد الألف ونزل في الفلاحية وتصدر للافتاء في تلك الناحية، ومات في السنة العاشرة بعد المائتين والألف سنة 1210 من الهجرة النبوية. الشيخ عبد علي القطيفي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: أحد الأئمة وفاضل الأمة، جمع بين المعقول والمنقول الحاوي بين الفروع والأصول، وكان معاصرا مع جدنا الشيخ حسين العلامة ومجاز عنه، له كتاب في الفقه لم يكمل، ورسالة في حرمة الظن، ورسالة في جواز تقليد الموتى، مات سنة 1230، وله من الأولاد الشيخ محمد، وهو مجاز عن شيخه الشيخ أحمد الأحسائي مات سنة 1245. الملا عبد العلي البيرجندي بن محمد بن الحسين الملقب نظام الدين. توفي سنة 934 قال الدكتور جلال الدين همائي: من أكابر العلماء والمؤلفين في الهيئة والنجوم والرياضيات في القرنين 9 و 10. وقد راجت مؤلفاته بين خيرة أهل العلم. ولم يبلغ أحد مبلغه في كثرة المؤلفات الرياضية والهيئة والنجوم بعد الخواجة نصير الدين الطوسي والملا قطب الشيرازي، وآثاره مفيدة ومحققة. وقد كان تلميذ معين الدين الكاشاني في الرياضيات والهيئة والنجوم، وقد كان معين الدين ابن أخت غياث الدين جمشيد الكاشاني وتلميذه البارز. كما درس العلوم النقلية على شيخ الاسلام سيف الدين التفتازاني. وقد علق كثيرا من الحواشي والتعليقات على كتب الهيئة والرياضيات، كما له مؤلفات مستقلة كثيرة، منها: أ شرح زيج ألغ بيك، وقد أتمه سنة 929. ب شرح التذكرة لخواجة نصير الدين في الهيئة الاستدلالية المبسوطة، وتاريخ إتمامه ربيع الأول من سنة 913. ج شرح تحرير المجسطي، ونصه من الخواجة الطوسي كذلك. د شرح عشرين بابا للأسطرلاب بالفارسي، تأليف جمادى الآخرة 889، وكذلك نصه من الخواجة الطوسي. وقد استنسخته أيام التلمذة من نسخة خاصة بال الملا باشي يا قلعة، وما زالت في حوزتي. ه رسالة الأبعاد والأجرام، ألفت سنة 930. وعشرون بابا في معرفة التقويم، بالفارسية. ألفت سنة 883. الحاج ميرزا عبد الغفار نجم الدولة. قال الدكتور جلال الدين همائي: كان هو والملا علي أحمد الأصفهاني المتوفى سنة 1293 من مفاخر عهد ناصر الدين شاه القاجاري. ويجب أن يعدا خاتمة العلماء العظام في الرياضيات والهيئة والنجوم، لانتمائهما إلى مدرسة العلماء القدماء كالخواجه نصير الدين الطوسي وغياث الدين جمشيد الكاشاني. أما علماء الرياضيات الإيرانيون فقد تبعوا الغرب في طريقة علمائه تماما، أو أنهم مزجوا بين الطريقتين، وألفوا كتبهم. وكان نجم الدولة ميرزا عبد الغفار الأصفهاني خاتمة هذه المجموعة. إذ بعد أن أتم دراسته على والده تعلم إلى اللغة الفرنسية والعلوم الغربية. وبدت على مؤلفاته آثار ثقافته المزدوجة، القديمة والحديثة بشكل واضح. في أحد أسفار ناصر الدين شاه 1264 1313 ه الأولى إلى أصفهان رافقه العالم الفاضل علي قلي خان اعتضاد السلطنة، فأشرق بريق ذلك الجوهر بعد خمول، ونقله إلى طهران. واهتبل نادر شاه فرصة وجوده فاستفاد منه في التشكيلات العلمية لدار الفنون. وقد استمر ازدهار العلوم الرياضية في تلك المدرسة مدة حياة الملا علي محمد، حيث أحسن إدارتها، وأشرف فيها على امتحانات القسم. ويعتبر الملا علي محمد مخترع اللوغاريتم في إيران، من قبل أن تقرأ هذه القاعدة في الكتب الأجنبية، أو أن يطلع عليها أحد. فقد اكتشفه بقوة ذكائه وألمعيته في الرياضيات. حتى إن المعلمين الأجانب الذين يعملون في دار الفنون حين سمعوا باختراعه عجبوا كثيرا وأثنوا على عمله. ولقد شرح المرحوم معتمد الدولة فرهاد ميرزا شاهزاده القاجاري خلاصة الحساب للشيخ البهائي شرحا جيدا، وحققته. ويبدو من فحوى خاتمة الكتاب أنه صحح من قبل عبد الوهاب المنجم باشي وباشراف أبيه الملا علي محمد. والحقيقة أن العمل كله تم بالمعلومات التي صبها الملا علي محمد. ويعتبر ابنه الميرزا عبد الوهاب المنجم باشي والحاج ميرزا عبد الغفار من كبار علماء الرياضيات والهيئة والنجوم في إيران في القرنين 13 و 14 ه. ق. ولقد تعادلت معلوماتها القديمة مع دراستهما الحديثة في هذه العلوم. وكان الميرزا عبد الوهاب رئيس المنجمين الخاص لمهد عليا المتوفاة 1290 ه أم ناصر الدين شاه، وأمضى فترة في عمل استخراج التقويم الرسمي لايران. وكان الابن الأكبر للملا علي محمد، ولهذا فإنه كان المساعد والمعاضد لأعمال الملا علي محمد. نموذج لمؤلفات ميرزا عبد الغفار نجم الدولة الأصفهاني مؤلفات المرحوم نجم الدولة كثيرة في فنون الجغرافية والهيئة والنجوم والجبر والمقابلة والهندسة. ولما كان أغلبها من جملة الكتب المدرسية الجديدة فقد تكرر طبعها، وهي تشمل المراحل الابتدائية والمتوسطة والعالية. فمثلا كتب ثلاثة كتب في علم الحساب، وأسماؤها: بداية الحساب وكفاية الحساب ونهاية الحساب. كما أنه ألف عدة كتب في الهندسة، أسماؤها: بداية الهندسة وكفاية الهندسة ونهاية الهندسة، وهي
159 للمراحل الثلاث: الابتدائية والمتوسطة والعالية. وبشكل عام نستطيع أن نقول إن الدراسة في المدارس الجديدة بدأت منذ أوائل تأسيس دار الفنون سنة 1268 ه. ق باشراف الميرزا تقي خان أمير كبير. ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن وكتب نجم الدولة المدرسية هي المعتمدة. وكانت أحيانا تدرس هذه الكتب كما هي، وأحيانا يبدل المدرسون المؤلفون من بعض عباراتها، لتكون جزءا من الكتب المدرسية. وما دام نجم الدولة حيا كان التقويم الرسمي موكلا إليه، حيث كان يطبع تقويمين: الرقومي والفارسي وينشرهما. ولو أن مجموعته حفظت كلها لعدت من نفائس آثاره. وعلى أي حال فان مؤلفات المرحوم نجم الدولة جزء من الكتب المدرسية، الشاملة لجميع شعب الأصول والفروع للرياضيات والجغرافية، والتي كتبت وطبعت لدار الفنون. وله كتب أخرى رياضية مفصلة، وأغلبها مترجم عن الفارسية. وله مؤلفات مستقلة في الرياضيات والهيئة والنجوم، أعلى مستوى من الكتب الدراسية. وذكرنا في قسم الرياضيات القديمة أن له آثارا متفرقة أخرى كتصحيحه وتحشيته وطبعه لكتاب الكشكول للشيخ البهائي، والذي دعي باسم طبعة نجم الدولة واشتهر به، وكان خير طبعة للكتاب. وكنت ذكرت أن استخراج التقويم الرسمي كان منحصرا به لسنين عديدة، والذي كان يدعى بنوعيه الرقومي والفارسي تقويم البهاء، وكان يطبعهما وينشرهما. وكانت تقويماته تنتشر في أكثر الدول الاسلامية كالعراق والهند وأفغانستان ولبنان وسورية ومصر والحجاز، ويهتم لها أهل العلم. وأسماء مؤلفات نجم الدولة فهي: 1 بداية الحساب. 2 كفاية الحساب. 3 نهاية الحساب. 4 بداية الهندسة. 5 كفاية الهندسة. 6 نهاية الهندسة. 7 بداية النجوم. 8 كفاية الجغرافي. 9 بداية الجبر. ولقد طبعت الكتب الخمسة بداية الحساب، بداية النجوم، بداية الهندسة، كفاية الجغرافية، بداية الجبر من ضمن سلسلة الكتب المدرسية لدار الفنون سنة 1319 ه. ق. 10 هندسة المقالات السبع، وكان قد ألفها في دار الفنون، وطبعت مرات، وغدت من كتب المراحل المتوسطة. واقتبست فيما بعد، وأظهروها بأشكال مختلفة، وكانوا في كل اقتباس يسقطون بعض فوائد الكتاب، حتى غدا بشكله الناقص اليوم. 11 المثلثات الكروية. 12 الجبر والمقابلة والمفصل، وكان بمنزلة كفاية الجبر أو نهاية الجبر. وغدا هذا الكتاب كذلك من جملة الكتب المدرسية في المدارس الجديدة. 13 تطبيق السنوات القمرية والشمسية والهجرية والميلادية حتى 5000 سنة، رسالة مفيدة جدا، والحاجة إلى طبعها ماسة. 14 كتاب قانون ناصري في الهيئة الاستدلالية. كتبه بالفارسية على جزئين، ويضم ستة آلاف بيت. ألفه سنة 1284 باسم ناصر الدين شاه، وهو على نسق قانون المسعودي الذي كتبه أبو الريحان البيروني باسم السلطان مسعود الغزنوي. ومما يؤسف له أن هذا الكتاب لما يطبع. ولقد بيض من هذا الكتاب نسختان فقط، واحدة من أجل مكتبة السلطنة، وأخرى حفظت في حوزة السلطان مسعود ميرزا، وأعترف بأنني رأيت كليهما، وأمضيت مدة في مطالعتهما. والكتاب مفيد جدا، وبالامكان طبعه على الأوفست. 15 كتاب آسمان: السماء: وهو أكثر كتب الهيئة الاستدلالية الجديدة تفصيلا كتبه بالفارسية بحدود 20 ألف بيت البيت باصطلاح الكتاب خمسون حرفا، وهو بسطر واحد عادة. ويقول المرحوم نجم الدولة في مقدمة بداية النجوم عن هذا الكتاب: في رحلة ناصر الدين شاه إلى بلاد الفرنجة أحضر معه كتابا مفصلا وفخما بالفرنسية حول النجوم طبع حديثا، وأمرني أن أترجمه. وكنت أعرض على الملك معلوماته شفاها. أي أن ناصر الدين شاه كان يقرأ على نجم الدولة الهيئة والنجوم. وكان مقررا أن يطبع الكتاب، لكن ظروفا حالت دون ذلك. كما أنه دون نسخة لتبقى في حوزة السلطان مسعود ميرزا. ونسخوا كذلك عدة نسخ عن الأصل المترجم. مخطط كامل لطهران وولايات أخرى: ومن جملة أعمال نجم الدولة العلمية رسم بعض المخططات، منها مخطط كامل عن طهران، ومخطط الطريق بين طهران حتى بوشهر، ومخطط طريق طهران حتى خرمشهر، ورابع مخططات قم وكاشان، وخامس مخططات مدن إيران، وقد ذكر نجم الدولة أسماءها في مقدمة كتابه الجغرافي. إحصاء طهران: قام نجم الدولة بعملية إحصاء لمدينة طهران بأمر ناصر الدين شاه سنة 1284 ه. ق. ولو أننا حصلنا على هذا الاحصاء لاستطعنا مقارنتها بطهران اليوم التي تعد عدة ملايين. الشيخ عبد الكريم الممتن. قال الشيخ جعفر الهلالي: كان من الشعراء المتأخرين في الأحساء الذين عاشوا في هذا القرن الرابع عشر ولا نجازف إذا قلنا: إنه يأتي في الطبقة الأولى من شعراء الأحساء بل إنه بشاعريته يحاكي أدباء وشعراء النجف أو الحلة في هذا القرن، ولا عجب فقد كان للمدة التي قضاها بين شعراء العراق في النجف الأشرف الأثر الكبير في صياغته الأدبية هذه، وقد كانت النجف ولا تزال المنبع الصافي الذي ورد منه شعراء هذه الحقبة الزمنية. ولد في منطقة الجبيل إحدى قرى الأحساء سنة 1304 ه. وكانت
160 نشاة الشاعر في الجبيل مسقط رأسه ومسكن أسرته، وفيها أخذ أوائل تحصيله العلمي على يد والده الشيخ حسين، ثم انتقل إلى النجف الأشرف وهناك حضر بحث السيد ناصر الأحسائي. كان المترجم أحد فضلاء الأحساء، وهو بالإضافة إلى فضيلته العلمية كان شاعرا متفوقا كما ذكرنا، ويمتاز أيضا بقوة الجدل والمناظرة، خصوصا في علمي النحو والمنطق، كما أن له يدا في علم الفلك. وافى شاعرنا الأجل في الأحساء ليلة الجمعة في 12 رجب سنة 1375 ه، وقد رثاه جماعة من الأدباء الشعراء، منهم الشيخ ملا كاظم بن مطر، قال: جر ما بدا لك أيها الزمن * فالأمر يدرك سره الفطن نمسي ونصبح منك في دجن * الارهاق ما برحت بنا الدجن لين الأفاعي منك نلمسه * ولأنت أنت المركب الخشن صوب الكوارث منك عارضه * أبدا على أحرارها هتن لو كنت تنطق أيها الزمن * لأجبت من في حبك افتتنوا والظرف يكرم إن يكن حسنا * مظروفه والعكس يمتهن وعلى الكرام أغرت مقتنصا * عبد الكريم فطرفهم سخن أهل الجبيل ثكلتم جبلا * في ظله العافون كم قطنوا بمعينه وراده نهلوا * وبكهفه رواده أمنوا وانهار عنكم لا فحسب فقد * جزعت قرى وتزعزعت مدن إن أوحشت منه مساجده * فله حشى عمارها وطن لقد ضاع أكثر شعره شانه شان غيره من شعراء هذه المنطقة للظروف القاسية التي مرت بها، ولعدم وجود من يهتم لمثل هذا التراث إلا ما قل، والذي وقفنا عليه من شعره هو ما جمعه أحد أقرباء الشاعر وهو الحاج الملا طاهر البحراني، وكان الدافع له هو تذوقه للشعر باعتبار وظيفته وهي الخطابة الحسينية، حيث اعتاد خطباء المنبر الحسيني على حفظ الشعر فقد تيسر للخطيب الملا طاهر البحراني أن يجمع بعض ما وصل إليه أو وقف عليه من شعر الشاعر، وهو مصدرنا الوحيد في ما سنذكره من شواهد شعرية للشاعر، فهذه قصيدة يرثي بها الشاعر الإمام الحسين ع ويشيد فيها بمواقف أصحابه من شهداء كربلاء، ويظهر أنه قد ضاع أكثرها، قال: سل غالبا ما بال غلب كماتها * ذلت وليس الذل من عاداتها ما للضياغم من بني عمر والعلى * قعدت فناح الضيم في ساحاتها هل كيف تضرع خدها لطليقها * وهي التي ما أضرعت لعداتها أترى عراها الجبن حاشا عصبة * ما عصبت بسوى اللوا جبهاتها ما عذرهم لا شب منهم ناشئ * إن لم يشبوا في الوغى شعلاتها وسمت أمية أنفها في مرفق * سمة العبيد به على ساداتها حشدت به أبناء حرب جندها * وعلى ابن أحمد ضيقت فلواتها فهناك صاح بصحبة فتنادبت * وتواثبت كالأسد من غاباتها وتمايلت شوقا إلى ورد الردى * بحشاشة أورى الظما قبساتها صفقت لهم سمر الرماح وغنت البيض * الصفاح فرجعت نغماتها عشقت نفوسهم الهياج كأنما * هي غادة تختال في جلواتها عقدت على البين النكاح وطلقت * دون ابن بنت محمد لذاتها من فوق خيل كالنعام تخالهم * أشد العرين تسنموا صهواتها غلب كماة لو يغالبها القضا * لقضى عليه الحتف لدن قناتها وقال مشطرا هذين البيتين لغيره في وقوف نساء الحسين ع أمام يزيد بن معاوية في مجلسه: أترضى وأنت الثاقب العزم غيرة * حرائركم تستامهن عبيد مربقة الأعناق في مجلس به * يلاحظها حسرى القناع يزيد يسب أبوها عند سلب قناعها * ويبتز منها أسور وعقود يطاف بها الآفاق فوق هوازل * ولا ستر إلا ساعد وزنود وقال أيضا مشطرا والأصل لغيره: همت لتقضي من توديعه وطرا * غداة أمت بها الأظعان مصرعه فمذ رأته على جثمانه وقعت * وقد أبى سوط شمر أن تودعه ففارقته ولكن رأسه معها * كالبدر كان القنا الخطي مطلعه بالرغم منها سرت عنه مفارقة * وغاب عنها ولكن قلبها معه وقال هذه القصيدة يذكر فيها أهل البيت ع ويختمها بمصيبة الزهراء س منها قوله: أيها الغافل لا نلت نجاحا * خالف النفس ودع عنك الملاحا وأفق من سكرة الغي ولا * تحسبن الجد من قولي مزاحا كم تمادى في الهوى لا ترعوي * وغراب البين يدعوك الرواحا كيف لا تقلع عن معصية * ونذير الشيب في المفرق لاحا آذنت فيك الليالي بالفنا * ودنا الموت مساء أو صباحا أنت من فوق مطى الأيام والفلك * الأطلس يحدوك لحاحا فاتخذ زادا من التقوى وكن * خافضا لله من ذل جناحا معرضا عن زهرة الدنيا فهل * لفتى يغتر في الدنيا فلاحا (1) إنها دار غرور طبعها الغدر * والمكر فبعدا وانتزاحا أو لم تسمع بما قد صنعت * ببني أحمد لم تخش افتضاحا شتتهم فرقا واجترحت * سيئات تملأ القلب جراحا صوبت فيهم سهاما لم تصب غير * قلب الدين واستلت صفاحا أظهرت أبناؤها ما أضمرت * واستباحوا كل ما ليس مباحا وقال مؤرخا هدم قبور البقيع لأئمة أهل البيت ع: لعمرك ما شاقني ربرب * طفقت لتذكاره أنحب ولا سح من مقلتي العقيق... * على جيرة فيه قد طنبوا ولكن شجاني وفت الحشا * أعاجيب دهر بنا يلعب وحسبك من ذاك هدم القباب * فذلك عن جوره يعرب قباب برغم العلى هدمت * وهيهات ثاراتها تذهب إلى م معاشر أهل الإبا * يصول على الأسد الثعلب لئن صعب الأمر في دركها * فترك الطلاب بها أصعب أليس كما قال تاريخه * بتهديمها انهدم المذهب
(1) هكذا جاءت القافية في الأصل الذي نقلناه عنه، وهي ملحنة كما ترى. 161 الشيخ عبد الله بن الشيخ حسن المقابي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: ولد بقرية المقابا سنة سبعة وثلاثين بعد الألف، ونشأ بها وتأدب على الشيخ عبد الغفور الشافعي. ثم دخل شيراز فاخذ الفقه عن السيد نعمة الله الجزائري وأخذ الكلام عن الشيخ إبراهيم الدرازي العصفوري، ثم دخل بهبهان وصار عالما بين من فيها من الأعيان، وله رسالة زاد المسافرين وكتاب: الوافية في شرح الكافية. وكتاب: المقاصد العلية في فقه الامامية، ورسالة في الألغاز. وكتاب: القصائد والمراثي. وكتاب: أعمال الجمعة. وكتاب: نتيجة التقوى. مات قدس سره سنة 1230. الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد الحجري البحراني. قال في كتاب تاريخ البحرين المخطوط: هو من علماء المتورعين أخذ الفقه عن علامة عصره الشيخ حسين العلامة ومجار عنه، وله من التأليف كتاب الذخيرة وكتاب الوافي على الكافي سنة 1235. الشيخ عبد الله القطيفي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: وهو من أكابر علماء القطيف، مجاز عن شيخه الشيخ أحمد الأحسائي، وله رسائل في علوم شتى، منها كتاب في تفسير أول ما خلق الله العقل، ومنها رسالة في وجوب الجمعة عينيا، ومنها رسالة في آداب المفتي، مات سنة 1225. الشيخ عبد الله بن علي أحمد البحراني البلادي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان فاضلا لا سيما في الحكمة والمعقولات إلا أنه قليل الرغبة في التدريس والمطالعة في وقتنا الذي رأيناه فيه. له رسالة في علم الكلام. ورسالة أخرى في علم الكلام أيضا كتبها للشيخ أحمد بن شيخ الاسلام. ورسالة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ. ورسالة في تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف. وشرح رسالة شيخة الشيخ سليمان في المنطق إلا أنه لم يتمها. ورسالة في وجوب جهاد العدو في زمن الغيبة. ورسالة في عدم ثبوت الدعوى على الميت بالشاهد واليمين. وللوالد رسالة في الرد عليه في ذلك. وقد اختار ثبوت الدعوى المذكور بالشاهد واليمين كالدعوى على الحي. توفي في شيراز في عام جلوس نادر شاه ودعواه السلطنة إلى أن قال: ودفن في قبة السيد أحمد بن مولانا الكاظم ع المشهور بشاه جراع، وأنا كنت يومئذ في شيراز إمام جمعتها وجماعتها رحمة الله عليه، قاله جدي. عبد الله بن عزيز الكناني. كان مع التوابين الذين خرجوا بقيادة سليمان بن صرر الخزاعي للطلب بثار الحسين، وعند ما رأى رفاعة بن شداد البجلي أن ينسحب بمن بقي من الناس عائدا إلى الكوفة، أصر جماعة على الاستشهاد وعدم العودة، وكان منهم عبد الله بن عزيز الكناني وكان معه ولده محمد وهو صغير، فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة، فعرضوا عليه الأمان فأبى، وأخذ ابنه يبكي في أثر أبيه وبكى الشاميون رقة له ولابنه. فقال يا بني لو كان شئ آثر عندي من طاعة ربي لكنت أنت، ثم اعتزل ذلك الجانب وقاتل حتى قتل. عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي. كان مع التوابين الدين خرجوا للطلب بثار الحسين ع، فلما قتل سليمان بن صرد ثم قتل المسيب بن نجية أخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل، وترحم على سليمان والمسيب ثم قرأ: فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. ثم حمل على القوم وجعل يرتجز ويقول: ارحم إلهي عبدك التوابا * ولا تؤاخذه فقد أنابا وفارق الأهلين والأحبابا * يرجو بذاك الفوز والثوابا وحف به من كان معه من الأزد، فبينما هم في القتال أتاهم فرسان ثلاثة وهم: عبد الله بن الخضل الطائي، وكثير بن عمرو المزني، وسعر بن أبي سعر الحنفي، وقد أرسلهم سعد بن أبي حذيفة فأخبروا بمسيره من المدائن في سبعين ومائة من أهل المدائن، وأخبروا بمسير أهل البصرة مع المنثني بن مخرمة العبدي في ثلاثمائة، فسر الناس بذلك. فقال عبد الله بن سعد: ذلك لو جاؤونا ونحن أحياء. فلما نظر الرسل إلى مصارع إخوانهم ساءهم ذلك واسترجعوا وقاتلوا معهم، فكان أول من استشهد في ذلك الوقت من الثلاثة كثير بن عمرو المزني وطعن الحنفي فوقع بين القتلى ثم برئ بعد ذلك. وكان الطائي فارسا شاعرا فجعل يقول: قد علمت ذات الرود * أن لست بالواني ولا الرعديد يوما ولا بالفرق الحيود وقاتل قتالا شديدا وطعن فقطع أنفه. وقاتل عبد الله بن سعد بن نفيل حتى قتل. عبد الله بن وال. كان من رؤساء التوابين الذين خرجوا بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي للطلب بثار الحسين ع، ولما قتل عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، نادوا عبد الله بن وال ليأخذ الراية مكانه، فإذا هو يحارب في جانب آخر في عصابة معه، فحمل رفاعة بن شداد البجلي فكشف أهل الشام عنه، فاتى وأخذ الراية وقاتل مليا حتى قطعت يده اليسرى، ثم استند إلى أصحابه ويده تشخب ثم كر عليهم وهو يقول: نفسي فداكم اذكروا الميثاقا * وصابروهم واحذروا والنفاقا لا كوفة نبغي ولا عراقا * لابل نريد الموت والعناقا فقاتل حتى قتل. وكان من الفقهاء العباد. عبد الله بن خازم الأزدي. لما عزم سليمان بن صرد على الخروج على رأس التوابين، نادى في أصحابه، فجعلوا يخرجون من منازلهم على خيولهم وقد أظهروا الآلة والسلاح، فجعلوا يسيرون في أسواق الكوفة والناس يدعون لهم بالنصر
162 والظفر، حتى إذا صاروا إلى النخيلة عسكروا بها. وخرج سليمان من الكوفة في نفر من أصحابه، حتى إذا أشرف على أصحابه وعسكره لم يعجبه ما رأى من قلة الناس، فدعا برجلين من أصحابه: حكيم بن منقذ الكندي والوليد بن غضين الكناني، فقال لهما: اركبا فمرا بالكوفة وناديا في الناس: من أراد الجنة ورضاء الله والتوبة فليلحق بسليمان بن صرد إلى النخيلة. ففعلا ما أمرهما به وناديا بالكوفة، فسمع ذلك رجل من الأزد يقال له عبد الله بن خازم، وله امرأة يقال بها سهلة بنت بسرة، فلما سمع النداء وثب إلى ثيابه فلبسها، وأفرع عليه سلاحه وأمر باسراج فرسه، فقالت له ابنته ما لي أراك متأهبا؟ فقال لها: إن أباك يريد أن يفر من ذنوبه. فقالت له امرأته: ما شأنك ويحك؟ خبرني قضيتك، فقال: ويحك أيتها المرأة، إني سمعت الداعي فأحببت أن أجيبه، وأنا أطلب بدم الحسين بن علي وإخوته وأهل بيته حتى أموت أو يقضي الله في ذلك من أمره ما يحب ويرضى، فقالت له امرأته: ويحك على من تخلف أهلك وولدك؟! فقال: على الله وحده. ثم رفع طرفه نحو السماء فقال: اللهم إني أستودعك أهلي وولدي فاحفظني فيهم، وتب علي مما فرطت في نصر ابن بنت نبيك، ثم خرج حتى لحق بسليمان بن صرد. عبد الله بن عمرو النهدي. لما التقى جيش المختار بجيش مصعب بن الزبير، كان عبد الله بن عمرو النهدي في جيش المختار، وكان محمد بن الأشعث في جيش مصعب فقال عبد الله: ويحكم أروني الموضع الذي فيه محمد بن الأشعث فإنه ممن قاتل الحسين بن علي وشارك في دمه فقالوا: ألا ترى هو في الكتيبة الحمراء على الفرس الأدهم؟ فقال: بلى قد رأيته، فدعوني وإياه. ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم. إنني على ما كنت عليه بصفين، اللهم وإني أبرأ إليك ممن قتل أهل البيت بيت نبيك محمد ص، أو شارك في دمائهم. قال: ثم حمل حتى خالط أصحاب مصعب بن الزبير، فجعل يضرب فيهم ضربا منكرا وهو في ذلك يلاحظ محمد بن الأشعث، حتى إذا أمكنته الفرصة وحمل عليه، ضربه ضربة على رأسه جدله صريعا. واختلط الناس من أصحاب ابن الزبير بعبد الله بن عمرو هذا فقتلوه. عبد الله بن عوف الأحمر. لما تهيا التوابون للمسير للطلب بثار الحسين ع وعزموا على ذلك، جعل عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي يحرض الناس على ذلك ويذكر ما كان منه، فبدأ ذلك في أيام صفين وحروبها، فأنشأ يقول: صحوت وودعت الصبا والغوانيا * وقلت لأصحابي أجيبوا المناديا وقولوا له إذ قام يدعو إلى الهدى * وقتل العدى لبيك لبيك داعيا وشدوا له إذ سعر، الحرب أزره * ليجزى امرؤ يوما بما كان ساعيا وقودوا إلى الأعداء كل طمرة * وقودوا إليكم سانحات المذاكيا وسيروا إلى القوم المحلين جنة * وهزوا حرابا نحوهم وعواليا ألسنا بأصحاب الحزيبة والأولى * قتلنا بها من كان حيران باغيا ونحن شمرنا لابن هند بجحفل * كركن حوى يزجي إليه الدواهيا الا وانع خير الناس جدا ووالدا * حسينا لأهل الدين إن كنت ناعيا ليبك حسينا من رعى الدين والتقى * وكان غياثا للضعيف وكافيا ويبك حسينا ذو أمان وحفظة * عديم وأيتام عد من المواليا وأضحى حسين للرماح دريئة * وغودر مسلوبا لدى الطف ثاويا فيا ليتني إذ ذاك كنت شهدته * وضاربت عنه السائبين الأعاديا ودافعت عنه ما استطعت مجاهدا * وأعملت سيفي فيهم وسنانيا ولكن قعدنا في معاشر ثبطوا * وكان قعودي ضيلة من ضلاليا فيا ليتني غودرت فيمن أجابه * وكنت له من مقطع القتل واديا ويا ليتني أخطرت عنه بأسرتي * وأهلي وخلاني جميعا وماليا سقى الله قبرا ضمن المجد والتقى * بغربية الطف الغمام الغواديا ولكن مضى لا يملأ الروع نحره * فبورك مهديا شهيدا وهاديا فصلى عليه الله ما هبت الصبا * وما لاح نجم أو تحدر هاويا ولما انتهى التوابون من زيارة قبر الحسين ع ولزموا الطريق الأعظم كان عبد الله بن عوف يسير معهم على فرس كميت يتأكل تأكلا وهو يقول: خرجن يلمعن بنا أرسالا * عوابسا قد تحمل الأبطالا نريد أن نلقي بها الأقيالا * الفاسقين الغدر والضلالا وقد رفضنا الأهل والأموالا * والخفرات البيض والحجالا الشيخ عبد المحسن بن محمد بن مبارك اللويمي البلادي الأحسائي المتوفى حدود سنة 1250 ه. عاش في قرية البطالية من قرى الأحساء، وكانت تعرف آنذاك ب البلاد، وإليها نسبته، وكان له فيها مسجد خاص روى عن أكثر من عالم من أعلام العلماء، منهم: السيد محمد مهدي بحر العلوم. والشيخ حسين آل عصفور. والسيد مهدي الشهرستاني الحائري. والشيخ أحمد بن الشيخ حسن الدمستاني. وروى عنه جماعة من العلماء، منهم: الشيخ سليمان آل عبد الجبار البحراني القطيفي. والشيخ علي الشيخ مبارك آل حميدان الخطي الجارودي. وكان فقيها مجتهدا، وقد وقفت في مكتبتنا الخاصة بمدينة البصرة على إحدى رسائله الاستدلالية في الصلاة، فرأيته ذا أصالة في الرأي، وعمق في النظرة، ودقة في مناقشة الأدلة، واستقامة في استنطاق النصوص. وله عدة مؤلفات ذكرها في إجازته للمشائخ المذكورين، منها: 1 التحفة الفاخرة، فرع من تأليفه في سنة 1218 ه. 2 جامع الأصول عن أهل الوصول. 3 الرسالة الصغرى في الصلاة. 4 الرسالة الوسطى في الصلاة. 5 الرسالة الكبرى في الصلاة. 6 شرح الأجرومية في النحو.
163 7 شرح العوامل الجرجانية في النحو. 8 كفاية الطالب المودعة بدائع علم الأعراب، نظما وشرحا. 9 مشكاة الأنوار في فقه الصلاة عن الأئمة الأطهار. 10 النهج القويم والصراط المستقيم. 11 وفاة النبي يحيى. 12 وفاة الإمام الحسن. 13 وفاة الإمام الكاظم. 14 بداية الهداية (1). الشيخ عبد النبي بن الشيخ أحمد بن الشيخ إبراهيم الدرازي البحراني من آل عصفور. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من أخوان جدي صاحب الحدائق، وهو من أعيان فضلائنا، قرأ على أخيه صاحب الاحياء، وهو من أحب أخوانه لديه لزهده وورعه، وله تحقيقات رائقة على كتب الأخبار، وحاشية مليحة على كتاب أخيه الحدائق المسمى ب الحديقة. وتوفي يوم الجمعة سنة 1172 وقبره الشريف في المصلى. عبد الله بن سنان بن طريف وقيل ظريف الكوفي مولى قريش. من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم ع، جليل القدر ثقة، لا يطعن عليه بشئ، كان على الخزانة من قبل المنصور والمهدي والهادي والرشيد العباسيين، له كتاب، روى عنه ابن أبي عمير، ومحمد بن علي الهمداني، والحسن بن الحسين السكوني، وعبد الله بن جبلة، وغيرهم. عبيد الله بن الحر الجعفي. أشير إليه في الأعيان باسم عبد الله كما وردت عنه كلمة في الجزء الأول من المستدركات بالاسم نفسه. ونحن هنا نذكر تفصيل أحواله باسمه الصحيح عبيد الله، مأخوذة بنصها من كتاب الفتوح لابن أعثم الذي قال بأنه حدثه بما يروي غير واحد ممن جمع هذه العلوم. فالعهدة في الكلمة الآتية على ابن أعثم الذي لا بد أن يكون قد تحقق ممن روى عنهم. قال ابن أعثم: قال أهل العلم كما حدثني به غير واحد ممن جمع هذه العلوم أن عبيد الله بن الحر كان رجلا من سادات أهل الكوفة، وبها ولد وبها نشأ، وهو عبيد الله بن الحر بن عمرو بن خالد بن المجمع بن مالك بن كعب بن عوف بن حريم بن جعفي، وكان مقيما بالكوفة في خلافة عثمان بن عفان، فلما قتل عثمان وكان من أمر الجمل ما كان، خرج عبيد الله بن الحر إلى معاوية بالشام فالتجأ إليه، ولم يشاهد حرب الجمل، حتى إذا قدم علي بن أبي طالب من البصرة إلى الكوفة وخرج إلى الشام فحاربه معاوية فدعاه ثم قال: يا بن الحر إننا احتجنا إلى معاونتك ولك عندنا بالرضا، فقال له ابن الحر: إني لا يتهيأ لي ذلك لأنني رجل من الكوفة وهؤلاء الذين مع علي بن أبي طالب أكثرهم قومي وعشائري، ولم أخرج من عندهم مكرها، ولم يقتل علي عثمان بن عفان فأقاتله، فان رأيت أن تعفيني من قتال علي فافعل أنت، فإذا انصرف عنك علي فأقاتل من شئت من بعده. قال: فغضب عليه معاوية وجفاه، فلزم ابن الحر منزله فلم يشهد مشهدا من حروب صفين (2)، ولم يزل كذلك إلى أن كان من أمر الحكمين ما كان، ورجع علي إلى الكوفة فنزلها، وأرسل معاوية إلى عبيد الله بن الحر فدعاه ثم قال: يا بن الحر! دعوناك بالأمس إلى قتال رجل قد سار إلينا يريد بوارنا واستئصالنا فلم تجبنا ولم تقاتل معنا، والآن فقد كفانا الله تبارك وتعالى أمر علي وصار إلى الكوفة، غير أنه بلغني أن جماعة من العرب يصيرون إليك في جوف الليل فيكونون عندك، فإذا أصبحوا تفرقوا، فمن هؤلاء بابن الحر؟ فقال: هؤلاء أصحابي الذين قدموا معي من بلدي فيشاورونني في أمورهم وأشاورهم في أمري ومقامي بأرض الشام! فقال له معاوية: أتظن نفسك قد تطلعت إلى الكوفة والكينونة مع علي بن أبي طالب؟ فقال ابن الحر: إنه والله لعلى ما ظننت، وإن بلدي أحب إلي من غيره، وإنه لقبيح بي أن أترك قومي وعشيرتي وأقيم بالشام غريبا في غير داري ووطني، وأما ما ذكرت من علي فوالله ما أشك أنه على الحق وأنه إمام هدى. فقال رجل من جلساء معاوية: كذبت يا بن الحر بل نحن على الحق ومن أو مات إليه على الباطل، وما قاتلناه إلا ديانة. فقال ابن الحر: أنت والله أكذب وألأم ولقد قاتلت أخا رسول الله ص وابن عمه ظلما وعدوانا. ثم وثب ابن الحر فخرج من عند معاوية مغضبا حتى صار إلى منزله، والتفت معاوية إلى ذلك الرجل فقال: بئس ما صنعت، نحن أحوج إلى أن ترضي رجلا مثل هذا من أن تسخطه. قال: وأرسل ابن الحر في جوف الليل إلى أصحابه وبني عمه فأمرهم بالخروج معه في وقتهم ذلك، فخرج نحو الكوفة في أصحابه هؤلاء وبني عمه وهم خمسة وثلاثون نفرا، فجعل يسير حتى إذا أصبح مر ببعض مشايخ معاوية فقاموا إليه وقالوا: من أنت أيها الرجل؟ فقال أنا عبيد الله بن الحر، قالوا: فأين تريد؟ قال: في حاجة، قالوا: فإننا نخاف أن تكون مخالفا لأمير المؤمنين وتريد الخروج عليه، ولسنا بتاركيك أو يأتينا فيك الخبر من عند أمير المؤمنين، فالتفت ابن الحر إلى أصحابه فقال: دونكم القوم، فهذه أول الغنيمة، فشد أصحاب عبيد الله بن الحر على هؤلاء القوم، فقتلوا منهم من قتلوا، وهرب الباقين على وجوههم، وأخذت دوابهم وأسلحتهم. وسار ابن الحر فجعل لا يمر بقرية من قرى الشام إلا أغار عليها هو وأصحابه، فلم يزل كذلك حتى قدم الكوفة، وبها يومئذ علي بن أبي طالب، فصار ابن الحر إلى منزله فإذا قد زوجت امرأته برجل من العرب، فهم ابن الحر أن يخاصم أولياء المرأة إلى علي بن أبي طالب، فقال له بعض بني عمه: أتخاصم إلى رجل كنت بالأمس عليه مع معاوية؟ فقال ابن الحر: والله ما كنت عليه ساعة قط، ولو كنت عليه ما خفت أن يجور علي في الحكم. ثم اختصم ابن الحر مع أولياء المرأة إلى علي بن أبي طالب فقضى علي بالمرأة لابن الحر، فانتزعت المرأة من ذلك الرجل وردت إلى ابن الحر. وأقام ابن الحر بالكوفة مع علي بن أبي طالب يغدو إليه ويروح. فلم يزل كذلك إلى أن قتل
(1) الدكتور عبد الهادي الفضلي. (2) على أن ناشري الكتاب يقولون: إنه ورد في الطبري وابن الأثير وجمهرة أنساب العرب: إنه شهد مع معاوية في صفين. ولم يتيسر لنا الآن مراجعة تلك الكتب، لذلك فإننا نحيل القارئ عليها (ح). 164 علي، ومات الحسن بن علي، ومات زياد بن أبيه، وولي عبيد الله بن زياد البصرة والكوفة من قبل يزيد بن معاوية، فأنف عبيد الله بن الحر أن يناله القوم بسوء، فخرج عن الكوفة فنزل بقصر بني مقاتل بن سليمان الحميري، فلم يزل هنالك مقيما إلى أن قتل مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وإلى أن وافى الحسين بن علي فنزل بقصر بني مقاتل ثم بعث إلى ابن الحر يسأله النصرة فأبى عليه، فتركه الحسين ومضى إلى كربلاء فقتل هنالك، وبلغ ذلك ابن الحر فندم على تركه الحسين ندامة شديدة، وقال في ذلك أبياتا (1). ثم أقبل ابن الحر حتى دخل الكوفة بعد مقتل الحسين بثلاثة أيام، وبها يومئذ عبيد الله بن زياد فهو يفتقد أشراف الناس إذا دخلوا عليه فلا يرى فيهم عبيد الله بن الحر، فلما دخل ونظر إليه ابن زياد وقال: أين كنت يا بن الحر؟ قال: كنت مريضا أصلح الله الأمير، فقال: مريض القلب أم مريض الجسد، فقال ابن الحر: أما قلبي فإنه لم يمرض قط والحمد لله، وأما جسدي فقد كان مريضا وقد من الله علي بالعافية فقال: أبطلت يا بن الحر! ما كنت مع عدونا الحسين بن علي؟ فقال: إني لو كنت مع الحسين لم يخف عليك مكاني أيها الأمير! فقال ابن زياد: أما معنا فلم تكن، فقال: صدقت أيها الأمير لا أكون معك ولا عليك. قال ابن زياد: وما منعك من نصرة أمير المؤمنين يزيد؟ فقال منعني من ذلك قول الله تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار.: فغضب ابن زياد وهم بقتل عبيد الله بن الحر في ذلك الوقت، ثم إنه خاف أن يشوش عليه أهل الكوفة فسكت، وخرج عبيد الله بن الحر فصار إلى منزله ثم جمع أصحابه وخرج من الكوفة ليلا ومعه أصحابه وبنو عمه، وطلبه عبيد الله بن زياد لكي يرضيه ويعتذر إليه فلم يظفر به. ومضى عبيد الله بن الحر نحو السواد، وجعل يقول أبياتا مطلعها: يقول أمير غادر وابن غادر * ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمة (2) إلى آخرها. ثم جعل عبيد الله بن الحر يغير على أطراف السواد وأصحابه، ويفعل ما يفعل، وليس أحد يطلبه إلى أن مات معاوية، وإلى أن مات مروان بن الحكم، وإلى أن مات عبد الملك بن مروان، وإلى أن قتل سليمان بن صرد وأصحابه بعين الوردة، وإلى أن صار المختار بن أبي عبيد إلى الكوفة وبايعه من أهلها من بايع، وبلغ ذلك ابن الحر فاقبل حتى دخل الكوفة، ثم صار إلى المختار فبايعه ونصره في حروبه: الأول، وفي جبانة السبيع، ثم خرج مع إبراهيم بن الأشتر، فلما صار معه إلى تكريت وكان منه إليه ما كان عزم على مخالفته ومخالفة المختار، فهذا أول خبره. ثم أرسل إلى وجوه أهل العسكر فاختدعهم ثم مناهم ووعدهم الغنائم، ثم قال: ما تصنعون بمحاربة عبيد الله بن زياد وأنتم لا تدرون ما يكون الأمر غدا، اتبعوني فاني أغنيكم وأغني عاقبتكم من بعدكم. فأجابوه إلى ذلك. فخرج بهم من العسكر في جوف الليل، الواحد بعد الواحد، والاثنين بعد الاثنين، والثلاثة بعد الثلاثة، حتى اجتمع ثلاثمائة رجل، فسار بهم عبيد الله بن الحر، فما أصبح إلا على عشرين فرسخا من تكريت، ثم أنشأ يقول أبياتا مطلعها: عجبت سليمى أن رأتني ساحبا * خلق القميص بساعدي خدوش إلى آخرها. وأصبح ابن الأشتر وقد فقد عبيد الله بن الحر، فاغتم لذلك ولم يدر أي طريق سلك وظن أنه قد مضى مستأمنا إلى عبيد الله بن زياد. وجعل ابن الحر لا يمر ببلد إلا أغار على أهله حتى جمع مالا عظيما، قال لأصحابه: أقسموا هذا المال بينكم، فلا حاجة لي إلى شئ منه. فاقتسموا ذلك المال بقلنسوة رجل منهم، فأنشأ ابن الحر يقول أبياتا مطلعها: أنا الحر وابن الحر يحمل منكبي * طوال الهوادي مشرفات الحوارك إلى آخرها. قال: وجعل كل من كان مبغضا للمختار يصير إلى عبيد الله بن الحر، حتى صار ابن الحر في خمسمائة فارس، وبلغ ذلك إبراهيم بن الأشتر فكتب إلى المختار يعلمه بذلك وقد كان ابن الأشتر أعرف به مني، ولكني لم أقبل منه. وأقبل ابن الحر حتى صار إلى هيت وبها يومئذ نائب المختار، فكبسها ابن الحر وقتل نائبها وأخذ أموالها. ثم سار إلى الأنبار وبها يومئذ نائب للمختار، فكبسها وقتل نائبها، واحتوى على بيت المال فأصاب فيه مالا جزيلا. فقال لأصحابه: اقتسموا هذا المال بينكم! قال: فاقتسموه ثم أنشأ ابن الحر يقول أبياتا مطلعها: أنا الحر وابن الحر يحمل منكبي * شديد القصيري في العباد رحيل إلى آخرها. وبلغ ذلك المختار فضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم يدر ما يصنع، والمختار يومئذ بين جمرتين: جمرة عن يمنه مصعب بن الزبير يومئذ بالبصرة، والجمرة العظمى عبيد الله بن زياد بالموصل في ثلاث وثمانين ألفا. قال: فدعا المختار برجل من ثقاته يقال له عبيد الله بن كامل الهمداني، فقال له: اركب الساعة في مائة رجل من أصحابك، وصر إلى دار عبيد الله بن الحر فاهدمها، وخذ امرأته فضعها في السجن. فسار عبيد الله بن كامل إلى دار ابن الحر فهدمها، ولم يمنعه مانع خوفا من المختار، وأخذ امرأته ويقال لها أم توبة، واسمها سلمى بنت خالد الجعفية فحبسها. وبلغ ذلك عبيد الله بن الحر، فقال لأصحابه: أبلغكم ما صنع المختار، إنه هدم داري وحبس أهلي في السجن، فقالوا: قد بلغنا فأمرنا بأمرك فقال: لا تعجلوا وأنشأ يقول: ألم تعلمي يا أم توبة أنني * على حدثان الدهر غير بليد أشد حيازيمي لكل كريهة * وأني على ما نالني لجليد هم هدموا داري وساقوا حليلتي * إلى سجنهم والمسلمون شهودي وهم أعجلوها أن تشد خمارها * فيا عجبا عل الزمان مقيدي فلست بابن الحر إن لم أرعهم * تعادي بالكماة اسود وإن لم أصبح شاكرا بكتيبة * فعالجت بالكفين غل حديدي ثم جمع أصحابه وسار بهم نحو الكوفة حتى كبسها غلسا والناس في الصلاة، فلم يكذب أن أقبل إلى باب السجن فكسره وأخرج امرأته عنوة وكل من كان في السجن من النساء. ووقعت الضجة في الكوفة بان عبيد الله بن الحر قد كبس السجن وأخرج امرأته، ففزع الناس وبلغ ذلك المختار فوجه إليه بعبد الله بن كامل الهمداني
(1) مرت هذه الأبيات فيما ذكر عنه في (الأعيان) و (المستدركات) فلا نعيدها هنا " ح ". (2) مرت الأبيات فيما ذكر عنه فيما تقدم من ذكره من قبل " ح ". 165 وأحمر بن شميط البجلي. ونظر إليهم عبيد الله بن الحر فحمل عليهم بأصحابه، فجعل يقاتلهم ويسوق امرأته بين يديه ولم يتبعه أحد من أصحاب المختار، فأنشأ يقول أبياتا مطلعها: ألم تعلمي يا أم توبة أنني * أنا الفارس الحامي حقيقة مذحج إلى آخرها. ثم نزل عبيد الله بن الحر على ميلين من الكوفة، والمختار يظن أنه قد رحل ومضى، حتى إذا كان الليل عبا أصحابه وأقبل رويدا حتى كبس الكوفة من ناحية قبائل همدان، فوقع بحي منهم يقال لهم بنو شبام. فقاتلهم وقاتلوه ساعة، ثم قصده مولى لهم يقال له الأحمق، والتقيا بضربتين بادره عبيد الله بن الحر بضربة أبدى عن دماغه فسقط قتيلا، ثم حمل عليهم ففرقهم يمنة ويسرة، ثم قال لأصحابه: انصرفوا عنهم الآن فقد أدركت من حي شبام ما أردت ليلتي هذه. ثم أنشأ عبيد الله بن الحر يقول أبياتا مطلعها: صبحت شباما غارة مشمعلة * وأخرى نشاهدها صباحا لشاكر إلى آخرها. وأرسل المختار إلى قبائل همدان من أرحب وشبام وشاكر والسبيع ويام، فقال: شوه لكم يا معشر همدان! أن يكون رجل منكم يأتي في نفر من هؤلاء المتلصصة فيكبس دياركم، ثم يقتل ويفعل ويخرج عنكم سالما، أما لكم أنفة؟ أما فيكم من يخاف أن يعير بهذا آخر الدهر؟ فقال القوم: كفيت أيها الأمير! وإن ذلك لعار علينا كما ذكرت، غير أننا عزمنا على المسير إليه حيث كان، وليس نرجع إليك إلا برأسه، فابشر لذلك وقر عينا. ثم اجتمعت قبائل همدان في ثلاثمائة فارس، حتى وافوا الكوفة في رونق الضحى، وهمدان يومئذ في ثلاثمائة من قبائلهم وثلاثمائة من أصحاب المختار، فلم يشعروا إلا وعبيد الله بن الحر قد وافاهم حاسر الرأس وهو يرتجز ويقول: إني أنا الحر وابن الحر * ذو حسب مذحج وفخر وقادح لكم غداة الذعر * بالضرب أحيانا وطعن شزر وتنادت همدان من كل ناحية، وحملوا عليه وحمل عليه السبيع، ويقول له عمرو بن نفيل: إلي يا بن الحر! ودع الناس جانبا! فحمل عليه ابن الحر، والتقيا بضربتين ضربة ألزمته الحضيض، ثم ولى وولى القوم الأدبار، فكف عنهم ابن الحر وقال لأصحابه: لا تتبعوهم! فحسبهم ما نالهم عارا، وكفاهم ما نالهم به ذلا وشنارا، إنهم أصبحوا في ديارهم فما حموا كريما، ولا منعوا حريما. قال: ثم خشي عبيد الله بن الحر أن تدهمه خيل المختار بأجمعها أو تجتمع عليه أهل الكوفة فلا يكون له بهم طاقة، فصاح بأصحابه ومضى حتى خرج من الكوفة، فأنشأ يقول أبياتا مطلعها: لقيت شباما عند مسجد مخنف * وقبل شبام شاكرا وسبيعا إلى آخرها ثم جعل عبيد الله بن الحر يغير على سواد الكوفة، ويقتل نواب المختار، ويمثل بهم، ويكبس المدن والقرى، ويأخذ الأموال حتى إذا علم أنه قد استقل بالأموال واكتفى من الرجال والآلة والسلاح سار إلى البصرة، وبها يومئذ مصعب بن الزبير في وجوه الأزارقة، فاستأمن إليه عبيد الله بن الحر. قال: فقربه مصعب وأدناه وأجلسه معه على سريره وأكرمه كرامة لم يكرم مثلها أحدا قبله ممن قصده، وجعل ابن الحر يحدث مصعبا بما كان من أمره وأمر المختار وإبراهيم بن الأشتر وبلغ ذلك المختار، فكأنه سر بمسير عبيد الله بن الحر إلى مصعب بن الزبير. وكان مصعب قد ولى رجلا سخيا يقال له زحر بن قيس الجعفي جميع سواد الكوفة، وكان زحر بن قيس هذا رجلا سخيا، لا يبقي على شئ، فاتلف مال السواد، حتى كسر على مصعب سبعون ألف درهم، فأخذه مصعب فحبسه، فلم يكن عنده ما يؤدي. وجاء عبيد الله بن الحر حتى دخل على مصعب بن الزبير وسأله في زحر بن قيس، فأبى عليه أن يشفعه فيه، فقال ابن الحر: أيها الأمير! المال علي من دونه! فاطلقه. فلما كان بعد ذلك بمدة يسيرة بعث مصعب إلى عبيد الله بن الحر يقتضيه المال، فقال ابن الحر للرسول: ارجع إلى الأمير فقل له: يقول لك عبيد الله بن الحر: أيها الأمير! أما ما كان لك علينا فإنك تقتضيه منا، وما كان لنا عليك فلا تؤديه! أيها الأمير! إنما سرت إليك إلى البصرة معونة وتقوية لك! وقدمت معك إلى بلدي فأعنتك بنفسي وعشائري حتى قتلت المختار وظفرت بما تريد، لنصير منك إلى ما صار غيرنا من الولاية والحبا والكرامة، وكان ما وعدتنا قديما ورجونا هباء منثورا. فسار الرسول إلى مصعب بن الزبير فأخبره بذلك، فامسك عنه مصعب وفي قلبه منه ما في قلبه، فأنشأ عبيد الله بن الحر في ذلك يقول: متى تسألوني ما علي وتمنعوا الذي * لي لم أستطع على ذلكم صبرا أهان وأقضي ثم ترجى نصيحتي * وإني امرؤ يوفي نصيحته قسرا رأيت أكف المفضلين لديكم * ملاء وكفي من عطائكم صفرا وقدما كففت النفس عما يريبكم * ولو شئت قد أغليت في حربكم قدرا ولو شئت قد سارت إليكم كتائب * رآها سراعا نحو عقوتكم غبرا عليها رجال لا يخافون في الوغى * سهام المنايا والردينية السمرا ثم أرسل عبيد الله بن الحر إلى فتيان صعاليك العرب فدعاهم وأخذ بيعتهم على أن يخرجوا معه على مصعب بن الزبير، فأجابوه إلى ذلك. ثم خرج معه القوم وهم سبعون رجلا في جوف الليل، حتى إذا صار على فرسخين من الكوفة. واتصل هذا الخبر بمصعب ابن الزبير، فكأنه اغتم لذلك وخشي أن يخرج عليه ابن الحر في سواد الكوفة، فبعث إليه برجل يقال له سيف بن هانئ وكتب إليه: أما بعد! فقد بلغني ما قد عزمت عليه من أمرك، وقد وجهت إليك رسولي أدعوك فيه إلى طاعتي على أنك تقاتل معي أهل الشام، ولك عندي بذلك خراج بادوريا تأخذه لنفسك عفوا صفوا، فتفرقه فيمن أحببت من أهل بيتك وأصحابك وعشيرتك، فكف عما تريد أن تصنع والسلام. فلما قرأ عبيد الله بن الحر ضحك لذلك وقال: أو ليس لي خراج بادوريا وغير بادوريا من السواد، لا والله لا أجبت مصعبا إلى شئ أبدا. ثم أقبل على الرسول فقال له: إني أراك فتى ظريفا، فهل لك أن تصحبني فأغنيك عن مصعب بن الزبير؟ فقال له الفتى: جعلت فداك وإني أخاف على أهل بيتي وعشيرتي إن أنا فعلت ذلك، فلا تكلفني من الأمر ما لا أطيق. فانصرف إلى صاحبك راشدا فأخبره بما راشدا فأخبره بما سمعت. قال: فجاء
166 سيف بن هانئ إلى مصعب فأخبره بذلك، فأنشأ عبيد الله بن الحر يقول في ذلك أبياتا مطلعها: أيرجوا ابن الزبير اليوم نصري * لعاقبة ولم أنصر حسينا إلى آخرها. فأرسل مصعب بن الزبير إلى وجوه أهل الكوفة فأحضرهم إلى مجلسه وأخبرهم بقصة عبيد الله بن الحر، فقال له رجل منهم: أصلح الله الأمير، إني أخبرك عنه بأمر! فقال مصعب: وما ذلك؟ فقال: إنه جاء يوما من الأيام فاستأذن عليكم فلم يأذن له الحاجب، وجاء مسلم بن عمرو الباهلي فدخل، وجاء المهلب بن أبي صفرة فدخل، وجاء إليك الناس واحدا بعد واحد، ثم دخل بعد ذلك عبيد الله بن الحر، فلما خرج سمعته يقول أبياتا حفظتها منه وهي هذه الأبيات: (1) بأي بلاء أم بآية نعمة * بمسلم قبلي يبتدي والمهلب ويدعى ابن منجوف أمامي كأنه * يطاعن قلبي بالوشيج المغلب بسوء بلاء أم لقتل عشيرتي * أذل وأقصى عن حجابات مصعب (2) فقال له مصعب: دع هذا! هذا شئ ما لنا به علم، ولكن هاتوا آراءكم وأشيروا علي بمشورة يعم صلاحها! فقال له بعض جلسائه: أصلح الله الأمير! إن عبيد الله بن الحر رجل صعلوك يأكل خبزه بسيفه، وهو مع ذلك رجل مطاع في قومه وعشيرته لما يعلمون من بأسه وشدته، ولقد كان خالف على المختار بن أبي عبيد وقاتله غير مرة، وقد خالف أيضا على معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد وعبيد الله بن زياد، وهو رجل لا يرى لأحد عليه طاعة، ويوشك أن يثور في هذا السواد، فيقتل ويفسد ويجلب الأموال كما فعل من قبل، والرأي في ذلك أن يبعث إليه الأمير بالبر والألطاف ويعده ويمنيه حتى يقع في يده، ثم يخلده السجن، فقال مصعب: هذا هين يسير إن قبل ذلك منا. قال: ثم جعل مصعب يتلطف له ويعرض عليه الولاية ويهدي إليه الهدايا. فلم يزل كذلك حتى رجع إلى الكوفة، فلما دخل وسلم على مصعب لم يرد عليه السلام ثم قال: يا بن الحر! كيف صنعت؟ فقال: صنعت ما قد علمت وكذا يصنع الرجال الذين فيهم خير إذا لم يعطوا الرضا. قال مصعب! فأين أصحابك الذين معك؟ قال: خلفتهم ورائي وجئتك وحدي، فان كان منك ما أريد وما ضمنته لهم فذاك، وإن أسأت إلي وخالفت ما قرأت عنك في كتابك كان أصحابي من ورائي يفعلون ما آمر. ثم أمر به مصعب فقيد بقيد ثقيل، ودعا بسجان يقال له واصل، فقال له: خذ هذا إليك وضيق عليه في السجن ما استطعت. فدعا واصل السجان بأعوانه وأمرهم فحملوا عبيد الله بن الحر من بين يدي مصعب حملا حتى انطلقوا به إلى السجن، فلما رآه أهل السجن كبروا وشمتوا. وأقبل السجان فاخذ رداء كان على عاتق عبيد الله بن الحر وقال له: يا بن الحر! أريد أن تكسوني هذا الرداء فإنه رداء نفيس وقلما رأيت مثله! فتبسم ابن الحر وقال: والله إن هذا ما أنت له باهل، ولكن خذه ولا تلبسه، وبعه لغيرك وانتفع بثمنه فاخذ واصل السجان رداء عبيد الله بن الحر فتردى به، وجعل يخطر فيه ليغيظه ذلك، فأنشأ عبيد الله بن الحر يقول في ذلك أبياتا مطلعها: فلم أر يوما مثل يوم شهدته * أبت شمسه مع غيمه أن تغيبا إلى آخرها. قال: فأقام ابن الحر في السجن شهرا كاملا، ثم كتب بعد ذلك إلى مصعب بكتاب يتهدده فيه بقومه وعشيرته ويخوفه من نفسه إن هو انفلت من السجن أن تجتمع إليه الجموع فيناويه في عزه وسلطانه، ثم كتب في كتابه أبياتا مطلعها: لنعم ابن أخت المرء يسجن مصعب * لطارق ليل خائف أو لنائل إلى آخرها. قال: فلما نظر مصعب بن الزبير في كتاب ابن الحر وشعره غضب لذلك وزبد وتمعر، ثم أرسل إلى وجوه أهل الكوفة فدعاهم، ثم قال: هذا ابن عمكم عبيد الله بن الحر يتوعدني بالقتال إن هو أفلت من يدي، والله لأطيلن حبسه ولأزيدن في حديده، ولأذيقنه طعم الذل والهوان. ثم أمر مصعب فزيد في حديده، وأمر فضيق عليه في السجن أشد الضيق. فلما بلغ ابن الحر ما هو فيه من ثقل الحديد وضيق الحبس كتب إلى بني عمه يشكو إليهم ويقول أبياتا مطلعها: ومن مبلغ الفتيان أن ابن عمهم * أتى دونهم باب منيع وحاجبه (3) إلى آخرها. قال: فلما وصلت هذه القصيدة إلى بني عمه كأنهم تحركوا لذلك، وقال بعضهم لبعض: لا والله ما هذا بحسن أن يكون أخونا وابن عمنا محبوسا يقاسي ثقل الحديد وضيق السجن ونحن آمنون. ثم وثب رجل منهم يقال له عطية بن عمر الجعفي فقال: يا هؤلاء! قوموا بنا إلى هذا الأمير حتى نكلمه في صاحبنا، فان هو شفعنا فيه وإلا ثرنا عليه فقاتلناه، فما هو أعز علينا ولا أعظم في عيوننا من المختار بن أبي عبيد الذي قتلناه في ساعة من النهار. وبلغ ذلك مصعب بن الزبير، فسكت عن القوم كأنه لم يعلم بشئ من ذلك، فلما كان الليل بعث إلى عطية بن عمر الجعفي فاتي به في منزله، ثم أمر به مصعب فبطح بين يديه فضربه ثلاثمائة قضيب، ثم أمر به فقيد وحمل إلى السجن، فحبس مع عبيد الله بن الحر. وأصبحت قبائل الأزد ومذحج بالكوفة وقد بلغهم ذلك، فكأنهم هموا بالمصعب، ثم إنهم كفوا يومهم ذلك. ونظر عبيد الله بن الحر إلى عطية بن عمر وجزعه من ذلك الضرب والحبس، فقال: لا تجزع يا عطية! فان الدهر يومان: يوم نعيم ويوم بؤس، والله يا عطية لأخرجن أنا وأنت من هذا السجن، ولأنغصن على
(1) في الطبري 7 / 173 أن ابن الحر قال الأبيات الآتية يعاتب مصعبا في ذلك ويذكر له تقريبه سويد بن منجوف. (2) بدل البيت في الطبري: وشيخ تميم كالثغامة * وعيلان عنا خائف مترقب جعلت قصور الأزد ما بين منبج * إلى الغاف من وادي عمان تصوب بلاد نفى عنها العدو سيوفنا * وصفرة عنها نازح الدار أجنب (3) وردت الأبيات في الطبري وابن الأثير. 167 مصعب بن الزبير عيشه، ولأدعون أهل السواد والناحيتين إلى المشمرخ (1) ولأحتوين على الفرات إلى هيت وعانات، ولآخذن خراج الشوش وما يليها من الرساتيق والقرى، ولأكرمن من جاءني من الفتيان والصعاليك بالأموال والخيل والأثاث الفاخر إن شاء الله ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فلا تجزع يا بن عمر، فما أقرب الفرج لأنه لم تكن شدة قط إلا جعل الله من بعدها فرجا ورخاء، ثم أنشأ في ذلك يقول أبياتا مطلعها: أقول له صبرا عطي فإنما * هو السجن حتى يجعل الله مخرجا إلى آخرها (2). فلما بلغ قومه هذه القصيدة كأنها حركتهم، وقال بعضهم لبعض: إن كان غدا فاجتمعوا بنا حتى ندخل على هذا الأمير نكلمه في صاحبنا، فان هو شفعنا فيه وأخرجه من سجنه وإلا عاودناه في ذلك. ثم بعثوا إلى عبيد الله بن الحر إننا عزمنا على أننا نسير إليه ونكلمه في أمرك، وقد أحببنا أن يكون معنا أبو النعمان إبراهيم بن الأشتر، فلا عليك أن تبعث إليه رسولا وتسأله أن يركب معنا، فإنه عظيم القدر عند الأمير، ولعله أن يستحي منه فيشفعه فيك. فكتب عبيد الله بن الحر إلى إبراهيم بن الأشتر، ثم أثبت في رقعته هذه الأبيات: بان الملامة لا تبقي * ولا تدع ولا يزيدك إلا أنها جزع لم يبق معذرة سعد فاعذرها * ولا مزاد وكانوا بئس ما صنعوا والحارثيون لم أرض الذي نطقوا * عند الأمير وشر المنطق الشنع تبادروا أنهم ناتي أميرهم * وللمذلة في أعناقهم خضعوا فقد وردتم فذوقوا غب مصدركم * لا يهنكم بعده ري ولا شبع ما ذا يقولون وابن الحر محتبس * همت به مذحج والأنف مجتدع قد جللت مذحج ما ليس يغسله * ماء الفرات لأن لم يشهد النجع الضاربون من الأقوام هامهم * بحيث يقرع عن هاماتها الصلع شم العرانين سادات كأنهم * بيض السيوف التي لم يعلها الطبع أرجو قيام أبي النعمان إذ وهبوا * ومثله بجسيم الأمر يضطلع فان يفك عبيد الله من كبل * فليس بعدك في إخراجه طمع فاجهد فدى لك والأقوام كلهم * ما بعدها من مساعي الخير متبع فابسط يديك فان الخير مبتدر * علياءه وجدود القوم تصطرع قد قدمت لك مسعاة ومأثرة * من مالك وكذاك الخير منتجع والأمن والخوف أيام مداولة * بين الرجاء وبين الضيق متسع فلما وردت هذه الأبيات على إبراهيم بن الأشتر كأنه تحرك لذلك، ثم بعث إلى قومه وعشيرته فجمعهم. قال: واجتمعت أيضا وجوه اليمن، وأقبل بهم حتى دخل على مصعب بن الزبير، فلما قضى التسليم قال: أعز الله الأمير! إنه لو وجد أحد على عبيد الله بن الحر كوجدي عليه لما كلمه أبدا من أجل الفعل الذي فعله بي في أيام المختار، وأما في وقته هذا فلا أعلم ذنبا يجب عليه الحبس، ووالله أعز الله الأمير! لقد وجهت إليه وأنت بالبصرة، فقدم عليك في أربعمائة فارس لا يرى منهم إلا الحدق في تعبية حسنة من الآلة والسلاح الكامل، ولقد بلغني أنه تجهز إليك يوم تجهز بنيف على مائتي ألف درهم، ثم قدم معك هذه البلدة فقاتل المختار قتالا عجيبا فعجب منه أهل بلده ولن يروك إلى هذه الغاية، وليس يجب على الأمير أصلحه الله أن يجمع عليه أمرين: ذهاب مال وضيق حبس والسلام. قال: فلما سمع مصعب بن الزبير كلام إبراهيم بن الأشتر ورأى من معه من بني عمه وعشيرته كأنه استحي ولم يحب أن يردهم بغير قضاء حاجة، فقال: إني قد سمعت كلامك ومقالتك أبا النعمان، وأنا نازل عند ما تحب. قال: فجزاه ابن الأشتر ومن معه خيرا وأثنوا عليه جميلا، وانصرفوا إلى منازلهم. ثم بعثوا إلى عبيد الله بن الحر أن قد صرنا إلى الأمير أصلحه الله، وكلمناه في أمرك، فأجابنا إلى كل ما نحب ولكن لا عليك أن تكتب إليه كتابا لطيفا تعتذر إليه فيه مما فرقت به عنده والسلام. قال: فعندها كتب عبيد الله بن الحر إلى مصعب بن الزبير هذه الأبيات: تذكرت قبل اليوم أية خلة * أضرت بحقي عندكم وهو واجب وما في قناتي من وصوم تعيبها * ولا ذم رحلي فيكم من أصاحب وتعلم إن كاتمته الناس أنني * عليك ولم أظلم بذلك عاتب وما أنا راض بالذي غيره الرضا * فلا تكذبنك ابن الزبير الكواذب رأيتك تعصيني وتشمت شانيا * كأني بما لم اجترم لك رائب فان كان من عندي فبين فإنني * لصرمكم يا بن الزبير لهائب وإن كان من غيري فلا تشمت العدى * بنا وتدارك دفع ما أنت قارب وإن كان هذا الصرم منك لعلة * فصرح ولا تخفي الذي أنت راكب ففي كل مصر قاسط تعلمونه * حريص على ما سرني لك راهب أرى الحرب قد درت عليك وفتنة * تضرم في الحافات منها المحاطب فحسبك قد جربتني وبلوتني * وقد ينفع المرء الكريم التجارب ألم تعلموا أني عدو عدوكم * وتشفي بنا في حربكم من تحارب أناضل عنكم في المغيب عشيرتي * وأما بنفسي دونكم فأضارب لكم بارد الدنيا ويصلى بحرها * إذا اعصى بالهاب السيوف القواضب فلسنا كراما إن رضينا بذاكم * ولم تتأهب في الحديد الكتائب ولولا أمير المؤمنين وبيعتي * لقد كثرت حولي عليك الجلائب قال: فلما وصلت هذه الأبيات إلى مصعب بن الزبير ونظر فيها، أرسل إلى عبيد الله بن الحر فأخرجه من محبسه وخلع عليه وحمله على فرس، وأمر له بمال. وسأله ابن الحر في ابن عمه عطية فاطلقه. قال: فصار ابن الحر إلى منزله. فلما كان من الغد بعث إليه مصعب أني قد جعلت لك خراج بادوريا ونواحيها فهو لك ولمن أحببت من أهل بيتك أبدا ما دام لآل الزبير سلطان بالعراق. قال: ثم أرسل مصعب إلى عماله فصرفهم عن بادوريا، فاخذ (3) خراجها وقسمه في أصحابه وبني عمه، ثم قال: انظروا لا أدعو بأحد منكم في وقت من الأوقات إلا جاءني على فرس فاره وسلاح شاك، فاني قد عزمت على الخروج على مصعب بن الزبير، وعلى الغارة على البلاد، ولا أموت إلا كريما.
(1) كذا في الأصل، ولم نجده في المراجع التي بين أيدينا. (2) وردت الأبيات في الطبري. (3) أي أخذ عبيد الله بن الحر. 168 ثم خرج من الكوفة ليلا فلحق به الناس من كل ناحية حتى صار في خمسمائة رجل ما فيهم أحد إلا وعليه درع سابغ وبيضة محكمة. فعندها عزم عبيد الله بن الحر على الغارة، ثم كتب إلى مصعب بن الزبير بهذه الأبيات: فلا كوفة أمي ولا بصرة أبي * ولا أنا يثنيني عن الرحلة الكسل فلا تحسبني ابن الزبير كناعس * إذا حل أغفى أو يقال له ارتحل فان لم أزرك الخيل تردي عوابسا * بفرسانها حولي فما أنا بالبطل وإن لم تر الغارات من كل جانب * عليك وتندم عاجلا أيها الرجل فلا وضعت عندي حصان قناعها * ولا عشت إلا بالأماني والعلل فإنك لو أعطيتني خرج فارس * وأرض سواد كلها وقرى الجبل وجدك لم أقبل ولم آت خطة * تسرك فآيس من رجوعي لك الهبل بل الدهر أو تأتيك خيل عوابس * شوازب قب تحمل البيض والأسل بفتيان صدق لا ضغائن بينهم * يواسون من أقوى ويعطون من سال ألم يأتكم يوم العذيب تجالدي * به شيعة المختار بالمفصل الأقل وبالقصر قد جربتموني فلم أحم * ولم أك وقافا ولا طائشا فشل ويا رزأ أقوام بقصر مقاتل * وضاربت فرسانا ونازلت من نزل ثم سار عبيد الله بن الحر في أصحابه حتى صار إلى موضع يقال له نفر، فأغار على البلاد وأخذ الأموال ففرقها على أصحابه، ثم سار إلى موضع يقال له كسكر ففعل مثل ذلك. قال: فلم يزل ابن الحر على ذلك من شانه يغير على البلاد ويقتل الرجال ويحوي الأموال، وبلغ ذلك مصعب بن الزبير فأرسل إلى إبراهيم بن الأشتر ووجوه أهل الكوفة فدعاهم، ثم قال: هذا عبيد الله بن الحر الذي كلمتموني فيه حتى أخرجته من السجن وأكرمته بغاية الاكرام، فخرج من الكوفة سرا واجتمع إليه من اجتمع، فالآن هو يفعل ما يفعل. فقال القوم: أصلح الله الأمير! نحن إنما كلمناك في أمره لأننا رأينا أهل المصر قد فسدت قلوبهم عليك من أجله، ولم نعلم الذي في قلبه، والآن فالأمير أصلحه الله أعلى به عينا. فعندها دعا مصعب بن الزبير برجل من فرسانه يقال له كريب بن زيد المازني، فضم إليه ألف رجل من فرسان أهل الكوفة والبصرة، ووجه بهم نحو عبيد الله بن الحر. فخرجت الخيل من الكوفة، وبلغ ذلك ابن الحر، فسار إليهم في أصحابه، حتى إذا هو وافى بهم بموضع يقال له الزنين، فقاتلهم هنالك قتالا شديدا، فقتل من أصحابه نفر يسير، وقتل من أصحاب مصعب بن الزبير جماعة، وولى الباقون أدبارهم هرابا نحو الكوفة، فأنشأ ابن الحر يقول أبياتا مطلعها: أقول لفتياني الصعاليك أسرجوا * عناجيج أذني سيرهن وجيف إلى آخرها. ثم أقبل عبيد الله بن الحر على أصحابه فقال: أخبروني عنكم يا معاشر العرب لماذا نعقد لآل الزبير بيعة في أعناقنا؟ فوالله ما هو بأشجع منا لقاء، ولا أعظم منا غنى، ولقد عهد رسول الله ص إلى آبائنا من قبل بان الأئمة من قريش، فاستقيموا لهم ما استقاموا لكم، فإذا نكثوا أو غدروا فضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم سيروا إليهم قدما قدما حتى تبيدوا خضراءهم، وبعد فان هذا الأمر لا يصلح إلا لمثل خلفائكم الماضين مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فوالله لا نرى لهؤلاء فينا يدا فنكافئهم عليها، ولا نبذل لهم نصحا، ولا نلقي إليهم أزمتنا، لأننا ما رأينا بعد الأئمة الماضين إلى وقتنا هذا إماما صالحا، وقد علمتم أن قوي الدنيا ضعيف الآخرة، ونحن أصحاب القادسية والمدائن وجلولاء وحلوان ونهاوند، وما كان بعد ذلك نلقى الأسنة بنحورنا، والسهام بصدورنا، والسيوف بجباهنا، وحر وجوهنا، وإلا فليس يعرف لنا فضل ولا يعطى حقنا، ولا يلتفت إلينا، فقاتلوا عن حريمكم وذودوا عن فيئكم، فان ظفرنا بما نريد فذاك حتى يرجع الحق إلى أهله، وإن قتلنا شهداء دون حريمنا وأموالنا وأهالينا، فأي الأمرين كان لكم فيه الفضل؟ ألا! إني قد أظهرت لهؤلاء العداوة والشحناء وقلبت لهم ظهر المجن، وقد أتيتهم بمكة والبصرة ناصرا ومعينا، فما شكروا ولا حفظوا ولا رعوا إلي حقا، لكنهم سجنوني وقيدوني فضيقوا علي جهدهم وطاقتهم والسلام. قال ثم أنشأ يقول: وقدما أبينا أن يقر ظلامه * وقدما رتقنا كل فتق من الأمر وكم من أبي قد سلبناه وقره * بأسيافنا حتى أقام على العسر بضرب يزيل الهام عن سكناته * وطعن بأطراف المثقفة السمر ومن شيعة المختار قبل سقيتها * بضرب على هاماتهم مبطل السحر ثم سار ابن الحر إلى موضع يقال له عين التمر، وبعين التمر يومئذ رجل يقال له بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني في خمسمائة فارس، فلما علم أن ابن الحر قد وافاه خرج إليه في أصحابه ودنا القوم بعضهم من بعض فاقتتلوا ساعة، فقتل من أصحاب بسطام ثلاثون رجلا وانهزم بسطام في باقي أصحابه، ودخل عبيد الله بن الحر إلى عين التمر فاخذ أموالها وقسمها في أصحابه. وبلغ ذلك بسطام بن مصقلة فرجع إلى حرب ابن الحر ثانية، فلما توافى الجيشان ودنا بعضهم من بعض نادى بسطام بأعلى صوته: يا بن الحر! هل لك في مبارزتي؟ قال: فتبسم ابن الحر ثم قال: شر دهرك آخره، والله ما ظننت أن مثلك يسألني المبارزة أيام حياتي. ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه فاعتنقا جميعا وخرا عن فرسيهما إلى الأرض، فاستوى عبيد الله بن الحر على صدر بسطام فأخذه أسيرا، وولى أصحاب بسطام منهزمين وقد قتل منهم جماعة، وأسر منهم جماعة وهي مائة وعشرون رجلا، فنظر إليهم ابن الحر فإذا عامتهم من بني عمه من الأزد ومذحج وقبائل اليمن، فقال: سوءة لكم يا معشر اليمن! إذ كنتم قومي وعشيرتي وتضربون في وجهي بالسيف مع مصعب بن الزبير، أما والله لولا أن أخشى العرب أن تحدث عني أني قتلت قومي وعشائري صبرا لما نجا منكم أحد، ولكن امضوا إلى قومكم فإنني قد مننت عليكم بأرواحكم. فأطلقهم عبيد الله بن الحر عن آخرهم، ولم يقتل منهم أحدا إلا من قتل في المعركة، ثم أنشأ يقول أبياتا مطلعها: ألا هل أتى الفتيان بالمصر إنني * أسرت بعين التمر أروع ماجدا إلى آخرها. وبلغ مصعب بن الزبير ما فعله عبيد الله بن الحر بعين التمر، فأرسل إلى وجوه العرب فدعاهم ثم قال: يا أهل الكوفة! إنكم قد علمتم ما لقيت من هذا الرجل، وقد عزمت على أن آخذ كل قرابة له بالكوفة من ذكر وأنثى فأضعه في الحبس، فلعله إذا بلغه ذلك يرجع عما هو عليه من فعاله التي هو
169 يفعلها. فقال له بعضهم: أيها الأمير! إن الله عز وجل يقول ولا تزر وازرة وزر أخرى فان كان عبيد الله ابن الحر فعل ما فعل، فما ذنب القرابات وما ذنب النساء أن يحبسن بلا جرم كان منهن؟ ثم تكلم إبراهيم بن الأشتر فقال: أصلح الله الأمير! إنه وإن كان عبيد الله بن الحر قد فعل هذا الفعل فقد فعل كذلك بالمختار، وذلك أن المختار عمد إلى امرأته أم توبة الجعفية فحبسها في السجن، فلعله قد بلغك ما كان منه أنه كبس الكوفة صباحا في أصحابه وكسر باب السجن وأخرج امرأته قسرا، ثم لم يرض بذلك حتى أخرج كل من كان في السجن من النساء وهو في ذلك يقاتل أصحاب المختار، حتى تخلص سالما هو وأصحابه. فقال ابن الزبير: قاتله الله من رجل فما أشجع قلبه، والله! ما رأيت ولا سمعت برجل في دهرنا هذا اجتمع فيه ما في ابن الحر، من كرم نفس وشجاعة قلب وصباحة وجه وعفة فرج، غير أنه لا يحتمل على هذه الأفاعيل التي يفعلها. وعزم مصعب علي أن يوجه إليه بجيش كثير من الكوفة، وعلمت بذلك بنو عمه فكتبوا إليه، فلما نظر في كتب بني عمه تبسم لذلك وأنشأ يقول: يخوفني بالقتل قومي وإنما * أموت إذا حان الكتاب المؤجل لعل القنا تدني بأطرافها الغنى * فنحيا كراما أو نكر فنقتل ألم تر أن الفقر يزري باهله * وأن الغنى فيه العلى والتجمل إذا كنت ذا رمح وسيف مصمم * على سابح أدناك مما تؤمل وإنك إن لم تركب الهول لم تنل * من المال ما يرضي الصديق ويفضل إذا المرء لاقاني ومل حياته * فلست أبالي أينا كان أول ثم إن مصعبا كتب إليه كتابا: أما بعد، يا بن الحر! فان حلمي هو الذي يردعني من أن أعجل عليك، ولو أردت ذلك لما عظم علي أمرك ولو كنت في جيش بعدد خوص العراقين، فالله الله في نفسك انظر لها غيرك، واقبل إلى العاقبة، واكفف عما أنت عليه، وسلني أي عمل شئت وأحببت حتى أوليك إياه، لا يعترض عليك معترض، وإن أبيت سرت إليك بنفسي وخيلي ورجلي، واستعنت الله عليه والسلام. قال: فكتب إليه ابن الحر: أما بعد، يا بن الزبير! فان كتابك ورد علي فقرأته، وفهمت ما فيه وما دعوتني إليه من طاعتك والكف عن محاربتك، ووالله لقد دعاني إلى نصره من هو خير منك أما وأبا وأصلا وحسبا وفرعا وحسبا الحسين بن علي وفاطمة الزهراء فلم أنصره، وإني على ذلك لمن النادمين، وأظن أني لمن الخاسرين، إلا أن تداركني رحمة رب العالمين، وأما وعيدك إياي المسير إلي بخيلك ورجلك فأنت وأصحابك أهون علي من جرامقة الجزيرة على عرب الحجاز والسلام. ثم أثبت في أسفل كتابه أبياتا مطلعها: أتاني وعيد ابن الزبير فلم أرع * وما مثل قلبي بالوعيد مروع إلى آخرها. ثم مضى عبيد الله بن الحر فجعل يغير على السواد يمنة ويسرة، فيهزم الرجال ويحوي الأموال فيقسمها في أصحابه، ثم أمر فجعل يقطع البلاد، حتى صار إلى مدينة يقال لها تكريت على شاطئ الدجلة، وبها يومئذ عامل المهلب بن أبي صفرة فأخذه عبيد الله بن الحر فضرب عنقه صبرا (1)، ثم دخل إلى مدينة تكريت فاحتوى على أموالها. ثم سار منها يريد الموصل، وبها يومئذ المهلب بن أبي صفرة من قبل مصعب بن الزبير، فلما بلغه خبر عبيد الله بن الحر سار إليه في أربعة آلاف فارس. وبلغ ذلك عبيد الله بن الحر، فرجع إلى تكريت فنزلها، ثم أرسل إلى من كان مع المهلب من بني عمه أن اكفوني أمركم ودعوني والمهلب، فاني أقوم به وبحربه إن شاء الله تعالى. ثم يذكر ابن أعثم وقعة لعبيد الله مع المهلب بن أبي صفرة، لم يذكرها أحد غيره من المؤرخين اكتفينا بالإشارة إليها. ثم يقول ابن أعثم: ثم أقبل راجعا نحو الكوفة وهو يقول: وأبيض قد نبهته بعد هجعة * فقام يشد السرج والمرء ناعس عليه دلاص كالإضاة وبيضة * تضيء كما يذكى من النار قابس ثم أقبل حتى نزل قريبا من الكوفة، وبلغ ذلك مصعب بن الزبير فدعا بحجار بن أبجر العجلي فضم إليه خمسة آلاف فارس ووجه بهم نحو عبيد الله بن الحر، فسارت الخيل من الكوفة حتى وافته بموضع يقال له دير الأعور، ودنا القوم بعضهم من بعض فاقتتلوا، فقتل من أصحاب عبيد الله بن الحر جماعة وفشت فيهم الجراحات، وذلك في أول النهار، ثم وقعت الهزيمة بعد ذلك على أصحاب مصعب بن الزبير، فانهزموا حتى تقاربوا من الكوفة وقد قتل منهم من قتل، واحتوى عبيد الله بن الحر على ما قدر عليه من دواب القوم وأسلحتهم وأسلابهم. ثم أقبل ابن الحر حتى نزل بموضع يقال له صرصر فعسكر هنالك، وجعل مصعب بن الزبير يجمع له الجموع حتى اجتمع إليه نيف عن سبعة آلاف فارس، فضمهم مصعب بن الزبير إلى مسلم بن عمرو الباهلي والحجاج بن حارثة الخثعمي. وسارت العساكر من الكوفة نحو عبيد الله بن الحر حتى وافوه على نهر صرصر، وقد التام إليه الناس فصار في ألف وثلاثمائة فارس ما منهم إلا فارس مذكور. ودنا القوم بعضهم من بعض، واستأمن قوم من أصحاب مصعب بن الزبير إلى عبيد الله بن الحر، فلما رأى أصحاب مصعب ذلك وقع فيهم الفشل، فانهزموا متفرقين في البلاد، وغنم ابن الحر وأصحابه ما كان لهم من مال ودواب وسلاح، ثم أنشأ وجعل يقول أبياتا مطلعها: نفيت لصوص الأرض ما بين عانة * إلى جازر حتى مدينة دسترا إلى آخرها. ثم كتب مصعب بن الزبير إلى يزيد بن رؤيم الشيباني يأمره بالمسير إلى عبيد الله بن الحر، وكان يزيد بن رؤيم يومئذ بالمدائن من قبل مصعب بن الزبير، فلما ورد عليه كتاب مصعب سار إلى عبيد الله بن الحر حتى وافاه في موضع يقال له باجسرى والتقى القوم هنالك، فاقتتلوا ساعة، فقتل من أصحاب يزيد بن رؤيم جماعة، وانهزم الباقون، وأتبعه عبيد الله بن الحر حتى وافاه بالمدائن. وتحصن يزيد بن رؤيم في قصر المدائن، وأحدق عبيد الله بن الحر وأصحابه بالقصر حتى أصبحوا، ثم إنهم استمدوا باهل مدينة الرومية فاجتمع أهل المدينتين جميعا على عبيد الله بن الحر وأصحابه، فقاتلهم ساعة فعلم أنه لا طاقة له بهم، فجعل يقاتلهم هو وأصحابه حتى تخلص من المدائن سالما.
(1) وفي الطبري وابن الأثير: فهرب عامل المهلب عن تكريت. 170 ثم تقدم إلى سورا وبها يومئذ عبد الرحمن العجلي من قبل مصعب بن الزبير، فخرج إلى محاربة عبيد الله بن الحر وأصحابه، فقال ابن الحر لأصحابه: فداكم أبي وأمي! احملوا عليهم حملة صادقة، فلعلي أن أغنمكم مال سورا! قال: فصبر القوم بعضهم لبعض ساعة، ثم انهزم أهل سورا حتى دخلوا إلى المدينة، واحتوى ابن الحر وأصحابه على أسلابهم وأموالهم ودوابهم، ثم أنشأ ابن الحر يقول أبياتا مطلعها: سل ابن رؤيم عن جلادي وموقفي * بإيوان كسرى لا أوليهم ظهري إلى آخرها (1). ثم سار عبيد الله بن الحر حتى نزل مدينة الأنبار، فلما رآه أهلها كأنهم اتقوه وهموا بالهرب من المدينة، فنادى فيهم ابن الحر: ليس عليكم من باس! أقيموا بمدينتكم أنتم آمنون! فتراجع القوم إلى منازلهم وأسواقهم، ثم أنهم حملوا إليه الميرة والهدايا، فقبلها منهم وقال: إن كانت لكم حاجة فاسألوني إياها! قال: فتقدم إليه جماعة منهم من أهل الأنبار فقالوا: نعم، أيها الأمير! إن حاجتنا إليك حاجة لله فيما يرضى الله، ولك فيها ثواب عظيم. قال: وما ذاك؟ قالوا: ههنا حبشي يقال له الغداف يقطع الطريق وحده ما بين مدينتنا هذه إلى مدينة هيت، ثم إنه يأتي مدينتنا هذه ليلا ونهارا، فلا يقدم عليه أحد لما يعلمون من بأسه وشدته، فإذا بلغه أن امرأة حسناء في موضع من المواضع هجم على تلك الدار فيأخذ المرأة ويكتف زوجها ثم يفجر بها، فان تكلم زوجها قتله ثم يخرج، فلا يقدر أحد عليه، فان رأيت أن تريحنا منه وأهل هذه البلدة يقرون لك بالعبودية إلى آخر الدهر! قال: فتغير وجه عبيد الله بن الحر وأدركته الغيرة والأنفة، ثم أقبل على أهل الأنبار فقال: وأين يكون هذا الأسود؟ فقالوا: في وادي كذا وكذا قريبا من شاطئ الفرات. فدعا عبيد الله بن الحر بفرسه فاستوى عليه وأخذ سيفه وتقلد رمحه، ثم أقسم على أصحابه أنه لا يتبعه أحد منهم، ثم خرج من الأنبار في جوف الليل وهو يقول: وأبيض قد نبهته بعد هجعة * وقد لبس الليل القميص الأرندجا (2) وجدت عليه مغرما فقبضته * وفرجت ما يرجا به أن يفرجا وكنت إذا قومي دعوني لنجدة * شددت نطاقي حيث أدعى وأسرجا فاكشف غماها وأكسب مغنما * وأطفي الذي قد كان فيها مؤججا ثم سار حتى صبح الوادي الذي فيه الغداف، فنزل عن فرسه إلى ماء يجري في أول الوادي، فتوضأ ثم وثب فصلى الفجر وعنان فرسه في يده. ثم وثب فاستوى على فرسه وجعل يتلفت يمنة ويسرة فلا يرى أحدا حتى إذا بزغت الشمس وإذا هو بالغداف وقد خرج من شعب من شعاب ذلك الوادي على فرس له أدهم أغر محجل، وفي يده رمح له طويل، وعلى رأسه عمامة له حمراء، وإذا هو أسود آدم، مشرف عظيم من الرجال. فوقف له ابن الحر حتى حاذاه وصار قبالته، فقال له الغداف أيها الرجل! من أين أقبلت؟ قال: من الأنبار، قال: فأين تريد؟ قال: أريد إلى هيت، قال الغداف: بلغني أن عبيد الله بن الحر قد نزل بالأنبار، فأين يريد؟ قال: لا علم لي بذلك، فقال الغداف: لقد بلغني عنه شدة وفروسية وإقدام على الرجال، ولعله ما نازل بطلا، ولقد كنت أحب أن أزوره وأراه، وأنظر إلى جلادته ومنازلته للرجال! قال: ثم جعل يساير عبيد الله ويسأله عن حاله، حتى إذا أصحر عن الوادي قال له الغداف: انزل عن فرسك وانج! فقال له ابن الحر أو تعرفني؟ قال: لا، قال: فانا ابن الحر وإياك أردت يا كلب! ثم حمل عليه واختلفا بطعنتين، فطعنه ابن الحر طعنة نكسه عن فرسه، ثم نزل إليه فذبحه واحتز رأسه ووضعه في مخلاة، وأخذ سلاحه وأقبل يريد الأنبار، وأنشأ يقول: إني رأيت بواد غابر رجلا * مثل الهزبر إذا ما ساور البطلا ضخم الفريسة لو أبصرت قامته * وسط الرجال إذا شبهته جملا سايرته ساعة ما بي مخافته * إلا التلفت حولي هل أرى دغلا أنشأ يسائلني عنه وأطعنه * فخر يهوي على الخيشوم منجدلا دهدهته بين أحجار وأودية * لا يعلم الناس غيري علم ما فعلا يدعى الغداف وقد مالت علاوته * إن الغداف وربي وافق الأجلا ثم وافى عبيد الله حتى دخل الأنبار وأمر برأس الغداف فنصب على باب المدينة. وفرح أهل الأنبار بذلك فرحا شديدا ثم حملوا إليه هدايا كثيرة من الأطعمة والأشربة وغير ذلك، فقبلها منهم. وأقبل رجل من الأنبار وقال: أيها الأمير هل تعلم بالعراق من يدانيك أو يقوم مقامك؟ فقال: نعم، رجلا واحدا يقال له جرير بن مشجعة الجعفي، وهو اليوم مع بني عمه بالكوفة، ولو أنه معي أو في أصحابه أربعة مثله لكبست الكوفة فقتلت مصعبا واحتويت على ماله، وعسى أن يكون ذلك إن شاء الله. ثم جعل يقول: لو أن لي مثل جرير أربعة * صبحت ببيت المال حتى أجمعه ولم يهلني مصعب ومن معه * نعم الفتى ذلكم ابن مشجعه ثم أقبل عبيد الله بن الحر على أصحابه وقال: تهيئوا الآن! فاني قد عزمت أن أسير بكم إلى الشام إلى عبد الملك بن مروان وأسأله المعونة على مصعب بن الزبير، فلعلي أشفي بنفسي منه ومن أصحابه قبل الموت. ثم نادى في أصحابه وترحل نحو الشام، وأنشأ يقول أبياتا مطلعها: وبالشام إخواني وجل عشيرتي * وقد جعلت نفسي إليك تطلع إلى آخرها. ثم سار حتى صار إلى دمشق وبها يومئذ عبد الملك بن مروان، فوقف ببابه ثم استأذن له، ودخل فسلم، فرد عليه عبد الملك السلام، ثم أدناه وأقعده معه على سريره، ثم دعا بالخلع فخلع عليه، وأمر له بمائة ألف درهم، فقال له عبيد الله: يا أمير المؤمنين! لم أزرك للمال، إنما أريد أن توجه معي رجالا أقاتل بهم مصعب بن الزبير، فلست بآيس من أخذ العراق لك يا أمير المؤمنين! فاجابه عبد الملك بن مروان إلى ذلك، ثم أمر له بمائة ألف درهم أخرى، وأمر له ولأصحابه بالمنازل والأنزال، وأجرى عليهم الأرزاق. ثم أمر له بأربعة آلاف رجل من أهل الشام، فأعطاهم الأرزاق وضمهم إليه وأمرهم بالمسير معه. فسار القوم مع عبيد الله حتى صاروا إلى الرقة، ثم انحدروا على الفرات
(1) انظر الأبيات في الطبري، وليست في ابن الأثير. (2) الاندراج هو السواد. 171 حتى صاروا إلى الأنبار. فنزل عبيد الله بن الحر ومن معه من الأنبار يوما ثانيا، ثم إنهم تذاكروا شيئا من أمر صفين وما كان من محاربة أهل العراق لهم، فوثب بعضهم على بعض فاقتتلوا هنالك حتى تفانى الفريقان جميعا من أهل الشام وأصحاب عبيد الله بن الحر على غير شئ. قال: وانفلت نفر من أهل الشام، ففروا هاربين على وجوههم، وبقي عبيد الله بن الحر في نفر يسير من أصحابه. وكان مصعب بن الزبير يومئذ بالبصرة وخليفته الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بالكوفة. فلما بلغه ما فيه عبيد الله بن الحر من قلة أصحابه اغتنم ذلك، فدعا برجل من بني سليم يقال له عبيد بن العباس، فضم إليه خمسمائة فارس وأمره بالمسير إلى عبيد الله بن الحر. فسارت الخيل نحو عبيد الله بن الحر، فلما نظر الخيل وقد وافته التفت إلى من بقي من أصحابه فقال: يا بني الأحرار! اركبوا خيولكم وموتوا كراما! وإلا أخذتم أسارى فعرضتم على السيف كما عرض أصحاب المختار من قبلكم فركب أصحابه وهم يومئذ أقل من خمسين رجلا، وركب عبيد الله وجعل يقول: يا لك يوما قل فيه ثقتي * وغاب عني معشري وأسرتي ومذحج طرا وجل إخوتي * وصحبتي الحامون لي في كربتي يا قيس غيلان أصبتم فرصتي * وما أبالي إن أتت منيتي ثم حمل عليهم في أصحابه على قلتهم، فقاتل ساعة فقتل من أصحابه نيف على ثلاثين رجلا وبقي في بضعة عشر رجلا، فقاتل حتى بقي خمسة، فجعل يرتجز ويقول: لو أن لي من شيعتي رجالا * مساعرا أعرفهم أبطالا لأحسنوا من دوني القتالا * ولم يهابوا في الوغى الآجالا وقتل أصحابه الخمسة فبقي عبيد الله بن الحر يقاتل وحده وأحاطت به الخيل من كل جانب، فطعنه رجل من بني محارب يكنى أبا كدية، فصرعه عن فرسه على شاطئ الفرات وغار فرسه، فوثب قائما وبقي يقاتلهم راجلا في جوف الماء، والقوم يرمونه بالسهام، ولا يدنو أحد منه غير أنهم يقولون: كيف ترى هذه السهام يا بن الحر! فقال لهم: إن كنتم رجالا كما تزعمون فابرزوا إلي واحدا بعد واحد حتى تعلموا أينا بن الحر! وأثخن بالجراحات فلم يستطع أن يقاتل القوم، فعمد إلى زورق من تلك الزوارق، فجلس فيه وقال لصاحبه: عبرني إلى ذلك الجانب من الفرات وسلبي لك! قال: فجعل صاحب الزورق يقذف به حتى صار إلى نصف الفرات وأصحاب مصعب ينادون صاحب الزورق: ويحك أيها الملاح! إن الذي معك هو طلب أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير وطلب مصعب بن الزبير، فاحذر على نفسك ورد الزورق إلينا ولك عشرة آلاف درهم! فهم الملاح أن يرده إليهم. فلما حول رأس الزورق قام إليه عبيد الله بن الحر ليمنعه من ذلك، فقبض عليه الملاح وكان قويا في بدنه فاعتنقا جميعا واضطربا في الزورق ثم سقطا جميعا في الفرات فغرقا. ثم دعا أصحاب مصعب بن الزبير بالغواصين، فغاصوا في الفرات حتى أخرجوا عبيد الله بن الحر من الماء، فاحتزوا رأسه وصلبوه على شاطئ الفرات، ثم بعثوا برأسه إلى أمير الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، فوجه الحارث بالرأس إلى مصعب بن الزبير بالبصرة، ووجه مصعب بالرأس إلى أخيه عبد الله بن الزبير. قال: وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فجزع عليه جزعا شديدا، ثم قال: لله درك يا بن الحر! قد كنت فارس حرب، وكاشف كرب وفارس همة، وسداد ثغر، فلأسعدنك الله حيا وميتا، فلعمري لقد بلوك فما وجدوك خوارا ولا فرارا، لكنهم ألفوك كرارا نفاعا ضرارا، وبالله يحلف عبد الملك ليأخذن بثارك وثار غيرك إن شاء الله ولا قوة إلا بالله. قال: فأنشأ أنس بن معاوية البكري يقول أبياتا مطلعها: يا عين ابكي عبيد الله ما طلعت * شمس النهار وأذرى الدمع تسكابا إلى آخرها. انتهى ما ذكره ابن أعثم. وقد نقلنا قصة عبيد الله على طولها لما فيها من العبر والرجل على كل حال مشوش الفكرة، مضطرب العقيدة، ولا يمكن اعتباره حتما من موضوع هذا الكتاب، ولكن له صلة بموضوعه تبرر ذكره فيه. ولا بد لاستكمال قصته من مراجعة ما مر عنها في الجزء الأول من المستدركات، وقبل ذلك في الأعيان نفسه. عبيدة بن سفيان. كان ممن خرج مع التوابين للطلب بثار الحسين ع، فلما عاد رفاعة بن شداد بمن بقي حيا في معركة عين الوردة، كان عبد الله هذا ممن عاد معه، وساروا ليلتهم تلك حتى الصباح، فلما أصبحوا إذا عبد الله في نحو عشرين رجلا قد أرادوا الرجوع إلى العدو مستقتلين، فجاء رفاعة وأصحابه وناشدوهم الله أن يفعلوا، فلم يزالوا يناشدونهم حتى ردوهم إلا رجلا من مزينة يسمى عبيدة بن سفيان، فإنه انسل من بين الناس ورجع بدون أن يعلم به أحد، حتى لقي أهل الشام فشد عليهم بسيفه يضاربهم حتى عقر فرسه فجعل يقاتل راجلا وهو يقول: إني من الله إلى الله أفر * رضوانك اللهم أبدي وأسر فقيل له: من أنت؟. فقال: من بني آدم لا أحب أن أعرفكم ولا أن تعرفوني يا مخربي البيت الحرام، وشد الناس عليه من كل جانب فقتلوه. السيد عدنان الغريفي. ولد سنة 1283 في مدينة المحمرة وتوفي في الكاظمية بالعراق سنة 1340 ودفن في النجف. نشأ وترعرع في المحمرة، توفي عنه والده وهو صغير ثم أرسل إلى النجف الأشرف للدراسة فيها على نفقة أحد التجار، فحضر في دراسة السطوح على ابن عمه السيد علي بن السيد محمد الغريفي المتوفى سنة 1302 ه، وفي درس الخارج على الميرزا حبيب الله الرشتي، والشيخ محمد طه نجف، وهبط سامراء فحضر على السيد الشيرازي حتى نال درجة الاجتهاد فقد أجيز بالاجتهاد من الثلاثة المذكورين.
(*) غريقة بالتصغير قرية من قرى البحرين قد اندثرت آثارها وامحت رسومها، ينسب إليها آل الغريفي المعروفون في الأوساط العلمية. وهذه الترجمة بقلم السيد علي العدناني الغريفي حفيد المترجم. وقد مرت للمترجم ترجمة في (الأعيان) ونعيد ذكره هنا لبعض التصحيحات. 172 ثم بعد ذلك عاد إلى مدينة المحمرة بأمر السيد الشيرازي، وبقي فيها مرجعا لنواحي الجنوب والبصرة وبعض مناطق الخليج إلى أن اعتراه مرض شديد نقل على أثره إلى مدينة الكاظمية في العراق للمعالجة، فأدركه أجله هناك. كان فقيها أصوليا نسابة أديبا شاعرا له من الآثار: مناسك الحج، كتاب أنساب العرب مخطوط، ميزان المقادير، كتاب في علم الجفر، حاشية على العروة الوثقى مطبوع، حاشية على القوانين، منظومة في الحج وأسراره تقرب من ألف بيت، شرح شواهد المغني، أجوبة المسائل وهي جواب لمسائل بعثها إليه أستاذه الميرزا حبيب الله الرشتي، شرحان على منظومة الهيئة لأستاذه السيد علي الغريفي، رسالته العملية المسماة بقبسة العجلان وغيرها من الحواشي والرسائل. وقد وقع اشتباه في ترجمته في أعيان الشيعة إذ ذكر أنه يروي عنه ابنه السيد علي والد السيد رضا النسابة الصائغ البحراني النجفي والحال أن السيد علي والذي هو ابنه غير السيد علي والد السيد رضا، لأن السيد علي النسابة هو ابن السيد محمد بن السيد علي الغريفي بن السيد إسماعيل، وهو أخو السيد علي جد المرحوم السيد عدنان، فبين السيد علي المذكور والسيد عدنان عمومة لا بنوة، وإن كان صح القول إن السيد علي النسابة هو تلميذ السيد عدنان. ثم ذكر في أعيان الشيعة أيضا أنه رأى السيد عدنان في حجه الثاني سنة 1343 ه في مكة المكرمة، والحال أن السيد عدنان توفي سنة 1340 ولعله من سهو القلم. هذا ويروي المرحوم السيد عدنان عن الشيخ محمد رضا المعزي التستري، وعن الميرزا حسن الشيرازي، وعن الشيخ محمد طه نجف، وعن الميرزا حبيب الله الرشتي، وعن الشيخ علي البهبهاني، كما يروي عنه كثيرون من العلماء والفضلاء. الشيخ علي الأحسائي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: وهو من تلامذة الشيخ أحمد الأحسائي، ومجاز عنه، وله كتاب في الخطب والأشعار. مات قدس سره سنة 1211 الحادي والعشرين بعد المائتين والألف. الشيخ علي بن الشيخ حسن بن يوسف البحراني البلادي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: قال في اللؤلؤة: كان الشيخ علي المذكور فاضلا جليلا لا سيما في العربية والمعقولات، مدرسا إماما في الجمعة والجماعة إلى أن قال:... وكان الوالد الشيخ علي المذكور فاضلا أيضا. وكذلك جده الشيخ يوسف قد ذكره في كتاب أمل الآمل فقال الشيخ يوسف بن حسن البلادي فاضل متبحر شاعر أديب من المعاصرين. انتهى. وحكى والدي قدس سره: إنه لما توفي الشيخ يوسف المذكور ودفن في مقبرة المشهد اتفق أن إحدى منارتي المشهد انهدم رأسها فسقط على قبر الشيخ المذكور. وكان الشيخ عيسى بن صالح أحد أعمام جدي الشيخ إبراهيم متوجها إلى قرية البلاد لتعزية الشيخ بموت أبيه الشيخ يوسف، فمر بامرأة عجوز جالسة عند رأس المنارة تتعجب من سقوطها وانهدامها، فلما وصل إلى بيت الشيخ حسن في مجلس التعزية أخبرهم بذلك فأنشأ في ذلك فقال: مررت بامرأة قاعده * تحولق في صورة العابده وتسترجع الله في ذا المنار * فما بالها في الثرى راقده فقلت لها يا ابنة الأكرمين * رأيت أمورا بلا فائده ثوى تحتها يوسفي الكمال * فخرت لهيبته ساجده فقال له الشيخ حسن ما جزاء هذه الأبيات إلا أن يملأ فمك لؤلؤا. هذا آخر ما نقلناه من كلام الجد. السيد علي بن السيد محسن المقابي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: سيد المشايخ والمحققين، وسند المجتهدين والمحدثين، أخذ العلوم عن معدنه ولم يوجد من تحقيقاته شئ سوى رسالة في حجية الظن في نفس الأحكام. وتوفي قدس سره سنة 1135 ودفن في المصلى إحدى قرى البحرين عند قبور الزهاد. الشيخ علي بن سليمان بن درويش بن حاتم القدمي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو أول من نشر الحديث في البحرين وقد كان قبله لا أثر له ولا عين، وروجه وهذبه وكتب الحواشي والقيود على كتابي التهذيب والاستبصار لشدة ملازمته الحديث وممارسته، اشتهر في ديار العجم بأم الحديث وكان رئيسا في بلاد البحرين ومشارا إليه. تولى الأمور الحسبية، وقام بها أحسن القيام، وقمع أيدي الحكام، وبسط بساط العدل بين الأنام، وكانت وفاته في السنة الرابعة والستين بعد الألف. الشيخ علي بن الشيخ جعفر. قال في كتاب تاريخ البحرين المخطوط: قال جدي في اللؤلؤة: كان زاهدا ورعا شديد التصلب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، غير مداهن للأمراء والكبراء. وقد تولى الأمور الحسبية في بلاد البحرين مدة، إلا أنه لما هو عليه مما ذكرناه حسده بعض أمرائها، فكاتبوا عليه السلطان سليمان ورموه بما هو بريء منه، فأرسل له من أخرجه مقيدا إلى أن وصل إلى كازران فحصل من بلغ حقيقة الأمر إلى السلطان وأخبروه بحقيقة حال الشيخ المزبور، فأرسل عاجلا أن يخلى عنه ويطلق، فجلس في كازران وتوطن بها مدة مديدة، وربما رجع إلى البحرين بعض الأوقات بعد مضي مدة مديدة من تلك الواقعة المتقدمة ثم رجع إلى العجم. وتوفي في كازران في السنة الحادية والثلاثين بعد المائة والألف. الشيخ علي الدمستاني البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط:
173 كان من علماء البحرين وفضلائها، فقيها، متكلما، وعبره علماء عصره في مصره بشيخ المتكلمين، له كتاب في الجواهر والأعراض، وكتاب في وجوب غسل الجمعة، وكتاب في تحليل التتن، ورسالة في البرزخ وغير ذلك مات سنة 1155. الشيخ علي بن محمد بن علي بن يوسف الصالحي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هكذا وجدت بخطه، كان محدثا أصوليا، نحويا، عروضيا، له رسالة لطيفة في إثبات أن الإضافة المحضة إما بمعنى اللام التي تفيد الاختصاص الكامل، أو بمعنى من البيانية فورودها على خلاف ذلك على ضرب من المجاز، وكتاب في رد على من قال بحجية القياس حتى بطريق الأولوية، مات سنة 1247. ابن الشرقية كافي الدين أو فخر الدين أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن بن أبي نزار الليثي الواسطي. قال السيد عبد العزيز الطباطبائي: من أعلام الامامية في أواخر القرن السادس، ولعله أدرك السابع أيضا، وهو يلقب عندهم كافي الدين، وترجم له ابن الفوطي في تلخيص مجمع الآداب 3 259 رقم 2249 بلقبه فخر الدين، فقال: أبو الحسن علي بن محمد بن نزار الواسطي الأديب، أنشد... فاورد له أبياتا. وفي ترجمة ابن أبي طي الحلبي يحيى بن حميدة، المتوفى سنة 630، في إنسان العيون في شعراء سادس القرون، قال: قرأ يحيى بن حميدة المذكور على الشيخ شمس الدين يحيى بن الحسن بن البطريق، وعلى الشريف جمال الدين أبي القاسم عبد الله بن زهرة الحسيني الحلبي، وعلى الشيخ فخر الدين علي بن محمد بن نزار ابن الشرفية الواسطي... أقول: وممن يروي عن ابن الشرفية السيد علاء الدين حسين بن علي بن مهدي الحسيني السبزواري (1)، روى عنه بمدينة الموصل في 17 شوال سنة 593. ويروي ابن الشرفية عن الشيخ رشيد الدين أبي الفضل شاذان بن جبرائيل القمي، ويعرف عند أصحابنا بعلي بن محمد الليثي الواسطي، ترجم له ميرزا عبد الله أفندي في رياض العلماء، فقال في 4 251: الشيخ علي بن محمد الليثي الواسطي، فاضل جليل، وعالم كبير نبيل، وهو من عظماء علماء الإمامية ، وله كتاب عيون الحكم والمواعظ... وترجم له في ج 4 ص 186 فقال: الشيخ كافي الدين أبو الحسن علي بن محمد بن أبي نزار ابن الشرفية الواسطي. كان من أكابر العلماء...، وهذا الشيخ كافي الدين المذكور يروي عن الشيخ الفقيه رشيد الدين أبي الفضل شاذان بن جبرائيل القمي، كما يظهر من مطاوي كتاب مناهج النهج (2) لقطب الدين المذكور، وقد قال قطب الدين المذكور في الكتاب المزبور، عند ذكر اسم هذا الشيخ في مدحه هكذا: الشيخ الأجل العالم، كافي الدين أبو الحسن علي بن محمد بن أبي نزار ابن الشرفية الواسطي... ولابن الشرفية هذا قصة مثبتة في نهاية مخطوطة مناقب أمير المؤمنين ع،: لابن المغازلي، وهي: قال أبو الحسن علي بن محمد بن الشرفية: حضر عندي في دكاني بالوراقين بواسط، يوم الجمعة خامس ذي القعدة، من سنة ثمانين وخمسمائة، القاضي العدل، جمال الدين نعمة الله بن علي بن أحمد بن العطار، وحضر أيضا شرف الدين أبو شجاع بن العنبري الشاعر، فسال شرف الدين القاضي جمال الدين أن يسمعه المناقب، فابتدأ بالقراءة عليه من نسختي، التي بخطي، في دكاني يومئذ، وهو يرويها عن جده لامه العدل المعمر محمد بن علي المغازلي، عن أبيه المصنف فهما في القراءة، وقد اجتمع عليهما جماعة إذ اجتاز أبو نصر قاضي العراق، وأبو العباس بن زنبقة، وهما ينبزان بالعدالة، فوقفا يغوغيان وينكران عليه قراءة المناقب، وأطنب أبو نصر قاضي العراق في التهزي والمجون...، فعجز القاضي نعمة الله بن العطار، وقال بمحضر جماعة كانوا وقوفا: اللهم إن كان لأهل بيت نبيك عندك حرمة ومنزلة، فاخسف به داره وعجل نكايته، فبات ليلته تلك، وفي صبيحة يوم السبت، سادس ذي القعدة، من سنة ثمانين وخمسمائة، خسف الله تعالى بداره، فوقعت هي والقنطرة وجميع المسناة إلى دجلة، وتلف منه فيها جميع ما كان يملك، من مال وأثاث وقماش. فكانت هذه المنقبة من أطرف ما شوهد يومئذ من مناقب آل محمد صلوات الله عليهم. فقال علي بن محمد بن الشرفية: وقلت في ذلك اليوم في هذا المعنى: يا أيها العدل الذي * هو عن طريق الحق عادل متجنبا سبل الهدى * وإلى سبيل الغي مائل أبمثل أهل البيت يا مغرور * ويحك أنت هازل! بالأمس حين جحدت من * إفضالهم بعض الفضائل وجريت في سنن التمرد * لست تسمع عذل عاذل نزل القضاء على ديارك * في صباحك شر نازل أضحت ديارك سائحات * في الثرى خسف الزلازل قال علي بن محمد بن الشرفية: وقرأت المناقب التي صنفها ابن المغازلي، بمسجد الجامع بواسط، الذي بناه الحجاج بن يوسف الثقفي في مجالس ستة أولها الأحد رابع صفر، وآخرهن عاشر صفر من سنة ثلاث وثمانين
(1) راجع ترجمته في فهرست منتجب الدين ص 53، رقم 99، رياض العلماء 2 / 165. (2) الصحيح فيه: مباهج المهج في مناهج الحجج لقطب الدين الكيدري، وهو أبو الحسن محمد بن الحسين البيهقي النيسابوري، من أعلام القرن السادس، له شرح نهج البلاغة سماه حدائق الحقائق في فسر دقائق أفصح الخلائق، فرغ منه سنة 576، طبع في الهند في ثلاث مجلدات، بتحقيق الشيخ عزيز الله العطاردي، وله الحديقة الأنيقة، وأنوار العقول في أشعار وصي الرسول، جمع فيهما أشعار أمير المؤمنين (عليه السلام). ومباهج المهج فارسي في سير النبي والأئمة من عترته صلوات الله عليه وعليهم، منه نسخة في مكتبة آية الله الكلبايكاني في قم، 2125، ذكرت في فهرسها 3 / 169، ونسخة في مكتبة المسجد الأعظم في قم، رقم 2، ذكرت في فهرسها ص 386، وقد لخصه وزاد عليه أبو سعيد الحسن بن الحسين الشيعي السبزواري، من أعلام القرن الثامن، وسماه بهجة المباهج، ونسخة شائعة منها نسخة في جامعة طهران، رقم 968، كتبت سنة 935، ومنها في بوهار، وكمبريج، وبودليان، والمكتب الهندي في لندن، وغيرها، راجع فهرس المنزوي للمخطوطات الفارسية ج 6 ص 4420. 174 وخمسمائة، في أمم لا يحصى عديدهم، وكانت مجالس ينبغي أن تؤرخ. وكتب قارئوها بالمسجد الجامع: علي بن محمد بن الشرفية. وربما خلطه بعضهم بسميه وبلديه ابن المغازلي، مؤلف كتاب مناقب أمير المؤمنين ع، المتوفى سنة 483، فإنه أيضا أبو الحسن علي بن محمد، ومن أهل واسط فاشتبه الأمر على بعضهم، ففي رياض العلماء 4 209: علي بن محمد بن شاكر المؤدب، من أهل واسط، من أصحابنا، وله كتاب في الأخبار في فضائل أهل البيت ع، وتاريخ تأليفه سنة سبع وخمسين وأربعمائة... فلاحظ فإنه من بعض الاشتباهات. وفي تأسيس الشيعة ص 420: الشيخ الرباني علي بن محمد بن شاكر المؤدب الليثي الواسطي، صاحب كتاب عيون الحكم والمواعظ وذخيرة المتعظ والواعظ، كان فراغه من تأليف الكتاب سنة 457. وهو من أصحابنا بنص صاحب الرياض، وله كتاب في فضائل أهل البيت ع... بقي هنا شئ: وهو أن الشرفية فيما وجدناه على الأكثر بالفاء، ولكن بالقاف اسم محلة في واسط، وهو واسطي، فلعل الصحيح ابن الشرقية بالقاف، ولكن أكثر ما وجدناه بالفاء، وأكثر ما وجدناه الشرفية بدون ابن. وأما كتابه عيون الحكم والمواعظ فهو أوسع وأجمع كتاب لحكم أمير المؤمنين ع، يشتمل على 13628 كلمة، قال المؤلف: الحمد لله فالق الحبة بارئ النسم... أما بعد، فان الذي حداني على جمع فوائد هذا الكتاب، من حكم أمير المؤمنين أبي تراب، ما بلغني من افتخار أبي عثمان الجاحظ، حين جمع المائة حكمة الشاردة عن الأسماع الجامعة، أنواع الانتفاع...، فكثر تعجبي منه... كيف رضي لنفسه أن يقنع من البحر بالوشل...، فألزمت نفسي أن أجمع قليلا من حكمه...، وسميته بكتاب عيون الحكم والمواعظ وذخيرة المتعظ والواعظ، اقتضبته من كتب متبددة... مثل كتاب نهج البلاغة جمع الرضي... وما كان جمعه أبو عثمان الجاحظ، ومن كتاب دستور الحكم...، ومن كتاب غرر الحكم ودرر الكلم جمع القاضي أبي الفتح...، ومن كتاب مناقب الخطيب الموفق بن أحمد...، ومن كتاب منثور الحكم، ومن كتاب الفرائد والقلائد تأليف القاضي أبي يوسف يعقوب بن سليمان الأسفرائيني، ومن كتاب الخصال...، وقد وضعته ثلاثين بابا، واحد وتسعين فصلا، ثلاثة عشر ألفا وستمائة وثمانية وعشرين حكمة، منها على حروف المعجم تسعة وعشرون بابا، والباب الثلاثون أوردت فيه مختصرات من التوحيد، والوصايا... أقول: وكل مخطوطات الكتاب فاقدة للباب الثلاثين، حتى المخطوطات التي رآها صاحب رياض العلماء في القرن الحادي عشر كانت ناقصة، قال في ترجمته في الرياض 4 253: واعلم أن كتابه هذا مشتمل على ثلاثين بابا، ولكن الموجود في النسخ التي رأيناها تسعة وعشرون بابا، على ترتيب حروف التهجي، وقد سقط من آخره الباب الثلاثون... أقول: وهذا الكتاب من مصادر العلامة المجلسي رحمه الله في موسوعته الحديثية القيمة بحار الأنوار وإن سماه بادئ الأمر بالعيون والمحاسن، فقد ذكر عند عد المصادر في ج 1 ص 16 قائلا: وكتاب العيون والمحاسن للشيخ علي بن محمد الواسطي. وقال عنه في ج 1 ص 34: وعندنا منه نسخة مصححة قديمة، ثم وقع على اسمه الصحيح، فقال في ج 73 ص 108: من كتاب عيون الحكم والمواعظ لعلي بن محمد الواسطي كتبناه من أصل قديم. وذكره رحمه الله أيضا في ج 78 ص 36 في باب ما جمع من جوامع كلم أمير المؤمنين صلى الله عليه وعلى ذريته فعدد جملة ممن دونوا كلامه ع، وبدأ بالجاحظ، إلى أن قال: وكذا الشيخ علي بن محمد الليثي الواسطي في كتاب عيون الحكم والمواعظ وذخيرة المتعظ والواعظ، الذي قد سميناه بكتاب العيون والمحاسن. ويبدو أنه رحمه الله عثر على نسخة قديمة تامة تحوي الباب الثلاثين، الذي هو في الخطب والوصايا، حيث أورد الخطبة الأولى من نهج البلاغة عن النهج، وعن هذا الكتاب، فقال في ج 77 ص 300: نهج البلاغة، ومن كتاب عيون الحكمة والمواعظ لعلي بن محمد الواسطي، من خطبه صلوات الله عليه: الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون... وللكتاب تلخيص لأحمد بن محمد بن خلف سماه: المحكم المنتخب من عيون الحكم، أوله: الحمد لله الملك القادر، العزيز الفاطر. توجد نسخة منه في مكتبة جامعة القرويين في فاس، كتبت سنة 1152 كما في فهرسها ج 2 ص 405. وراجع عن كتاب عيون الحكم فهرست مكتبة سبهسالار 1 283 و 2 74 و 76 و 146 و 5 345، والذريعة 15 379، وكشف الحجب، وفهرست المكتبة المركزية لجامعة طهران للمنزوي 2 158، وقد ذكر فيه ص 160 (1). أن مخطوطة جامعة طهران مكتوبة سنة 1279، عن نسخة كتبت سنة 867، عن نسخة كتبت سنة 709، عن نسخة كتبت سنة 614، وقد جاء في مقدمة عيون الحكم النقل عن ابن الجوزي، فيظهر أن تأليفه كان بين التاريخين 614 597، أي بين تاريخي وفاة ابن الجوزي، وتاريخ تلك النسخة. أقول: وقد أوردت نص المقدمة ليعلم أنه ليس فيه عن ابن الجوزي أثر! نعم ذكر المؤلف من جملة مصادره كتاب منثور الحكم، ولم يذكر مؤلفه فتخيل أنه لابن الجوزي، وليس له. فقد ذكر حاجي خليفة كتاب منثور الحكم، في كشف الظنون 1858، ولم يذكر مؤلفه، ولم يسمه، بل قال: مختصر على ثمانية أبواب في الكلمات الحكمية... فاورد فهرس أبوابه. وذكر قبله بفاصل كتاب آخر، كتاب ابن الجوزي باسم المنثور فقال: المنثور لأبي الفرج بن الجوزي، مختصر أوله... وذكر في هدية العارفين، وكتاب مؤلفات ابن الجوزي ص 185، أيضا باسم المنثور، وفيه: إن منه نسخة مخطوطة في جامع الفاتح، برقم 5295.
(1) ومنه تسرب هذا الكلام إلى الذريعة 15 / 380 وغيره. 175 علي بن المؤيد. هو الذي ارتبط اسمه باسم الشهيد الأول محمد بن مكي، إذ استدعاه إلى خراسان ليقيم فيها هاديا ومرشدا، ولكن الشهيد اعتذر ولم يجب الدعوة، بل ألف له كتاب اللمعة في الفقه لتكون دليلا للناس هناك. ثم كان من أمر الشهيد بعد ذلك ما كان من استشهاده على أيدي الطغاة بسعي فقهاء السوء. وظل مصير اللمعة مجهولا، كما أن شخصية علي بن المؤيد وموقعه كانا غامضين، فلم يعرف الناس عنه سوى أنه ملك خراسان، وفيما يلي تفاصيل مكتوبة بقلم الشيخ علي الدواني منقولة من الفارسية إلى العربية: السربداريون هم سلالة من قادة الشيعة حكمت منطقة خراسان ما يقارب السبعين سنة. فقد توفي آخر قائد من المغول من سلالة جنكيز كان يحكم إيران وهو أبو سعيد بن محمد خدابنده في سنة 736 هجرية. ولم يخلف أحدا بعده، فاجتاحت الفوضى جميع أنحاء إيران وانقسمت إلى دويلات صغيرة وأخذت كل أسرة من أسر القادة المغول الايلخانيين تحكم جانبا من إيران والعراق وأرمينيا. وبالرغم من أنهم كانوا مسلمين فقد كان تأثير الشرائع المغولية بارزا فيهم. ففي سنة 741 كانت الدويلات التالية قائمة في إمبراطورية المغول السابقة: 1 دولة الرعاة جويانيان في أراك وآذربيجان وأرمينيا. 2 دولة الجلائريين في العراق. وقد سيطرت هذه الدولة فيما بعد على دولة الرعاة. 3 دولة طوغاي تيمور في خراسان الغربية وجرجان التي كانت تدار في الحقيقة من جانب أمراء طائفة جاني قرباني. 4 دولة ملوك كرت أو كرت في هرات وخراسان الشرقية وأفغانستان. 5 دولة ملك سيستان في منطقة نهر هامون. 6 دولة آل مظفر في كرمان ويزد. 7 دولة الأنجويين في فارس وأصفهان. ثم في الفترة من سنة 754 هجرية إلى 759 هجرية استولت دولة آل مظفر على أراضيهم. 8 أراضي الأتابكيين اللر. 9 ما لا يقل عن عشر دويلات صغيرة مستقلة محلية في كيلان ومازندران. 10 دولة البحر في هرمز. وعدا هذه الأجهزة الحكومية الكبيرة والمحلية فكان هناك الكثير من الأمراء والملوك الصغار والكبار قد أعلنوا استقلالهم وحاولوا الاستيلاء على المزيد من القلاع والمدن والولايات وإلحاقها بحكوماتهم. ومن الجدير بالذكر أن اضمحلال حكومة سلالة هولاكو المغولية سياسيا وكانت آخر حكومة من هذه السلالة هي حكومة طوغاي تيمور خان قد حكمت حتى عام 754 في كركان لم يسفر عن اضمحلال سلطة المغول في إيران والأراضي المجاورة نهائيا، بل إن كبار قادة الجيش والمغول والأتراك الذين كانوا يعيشون في البادية قد حافظوا على سلطتهم السياسية، وإن هيمنة الشريعة المغولية وأساليب إدارة البلاد والأساليب الإقطاعية الجريئة بقيت واستمرت سارية المفعول لا في الدول التي كانت تحكمها السلالات المغولية العنصر كدولة الرعاة والجلائريين وطوغاي تيمور فحسب بل إنها كانت سارية المفعول في الدول التي كان يهيمن فيها الكبار من الأقطاعيين من إيرانيين وتاجيك آل مظفر وملوك كرت. وخلال هذه السنوات ونتيجة لتمرد أهالي خراسان الغربية وانتفاضتهم فقد وضعت أسس حكومة السربداريين (1) ميزات حركة السربداريين كانت انتفاضة السربداريين في خراسان في القرن الرابع عشر الميلادي أكبر وأهم انتفاضة تحررية في الشرق الأوسط من الناحيتين الإقليمية والتاريخية وكان لها ولا شك الدور الكبير في الحركات والانتفاضات الأخرى. ففي المرحلة الأولى من حركات التحرر في القرن الرابع عشر كانت عامة طبقات الشعب ومعهم الإقطاعيون الإيرانيون والتاجيك يخوضون أرض معركة. وأن سبب مشاركة الأقطاعيين الآنفي الذكر هو أنهم كانوا قد ضاقوا بسرقات واعتداءات وأنانيات كبار قادة الجيش والمغول والأتراك الذين كانوا يعيشون في البادية خاصة وأنهم كانوا متألمين من كبار المغول الذين كانوا قد استولوا على أراضي وأملاك صغار الملاكين المحليين. ولهذا السبب فإنهم شاركوا المضطهدين أي القرويين وأصحاب المهن الإيرانيين في نضالهم. وأن الهدف المشترك الذي كان يجمع شمل هذه العناصر المتناثرة وغير المتجانسة هو الإطاحة بهيمنة المغول والقضاء على سلطة هؤلاء الفاتحين ومعهم كبار قادة الجيش من المغول والأتراك الذين كانوا يعيشون في البادية وإلغاء الشريعة المغولية وجميع أنظمة المغول الحكومية ولا شك أن حقد المنتفضين واستياءهم لم يقتصر على المغول والأتراك فحسب، بل شمل هذا الحقد القادة والكبار الإيرانيين المستوطنين والجباة وعلماء الدين غير الشيعة وغيرهم الذين كانوا يخدمون المنتصرين وكانوا قد التحموا معهم بشدة، وكانوا قد استسلموا للأنظمة المغولية وتآلفوا معها. فأينما انتصرت حركات التحرر، ظهرت حكومات جديدة، وأكثر هذه الحركات أهمية هي انتفاضة السربداريين، وعلى غرارها كانت بقية الحكومات الجديدة فعلى سبيل المثال فان حكومات السربداريين في خراسان الغربية 783 738 وحكومات سادات مازندران 795 751 وكيلان من سنة 772 وحكومات السربداريين في سمرقند لفترة قصيرة 767 وفي كرمان 775 كانت من هذا الطراز. وربما كانت الدولة التي تأسست فيما بعد على أيدي أنصار محمد المشعشع في خوزستان حوالي سنة 844 من هذا الطراز أيضا. وكان السربداريون، يعتبرون الشريعة الاسلامية القطب المضاد للشريعة المغولية المنبوذة منهم ويعتبرونها هي الهدف المقصود. ففي الحكومات التي
(1) كتاب حركة السربدارية في خراسان تأليف أي - ب - بتروشفسكي " المستشرق والمحقق الروسي المعاصر. ويعتبر هذا الكتاب أول تأليف كامل حول حركة السربدارية. كما أشار هذا العالم المستشرق إلى حركة السربدارية في كتابه الثاني (الإسلام في إيران) ويبدو أن هذا الكتاب قد ألفه بعد كتابه الأول. 176 كانت على طراز السربداريين لا محل للبلاطات الملكية وما تمتاز به من عظمة وجلال وأبهة التشيع، الحجر الأساس للحركات الشعبية لقد كتب العالم المستشرق الروسي في فصل عقائد هذه الحركات قائلا: إن و. وبارتولد يؤكد أن مذهب الشيعة كان عاما بين القرويين في القرون الوسطى في إيران، وكان في الكثير من الحالات يشكل أساس عقائد الحركات الشعبية ثم يقول العالم الروسي: إن الحركات القروية في إيران في القرون الوسطى توسعت وتنامت مرارا وتكرارا تحت راية الشيعة الخضراء. حيث أن بعض عقائد الشيعة وأفكارهم كانت متناسقة مع نفسية القرويين المعارضة. أولا لأن مذهب السنة كان هو الحاكم تقريبا على جميع الحكومات الإقطاعية في إيران في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، وأن الشيعة كانوا هم المطاردين وهم الذين يعانون العذاب والتعذيب. إن احترام الشهداء علي والحسين وبقية الأئمة الشهداء كان يحتل مكانة بارزة ومهمة في عقائد الشيعة، وهذا الأمر كان يريح القرويين المضطهدين. ولكن الأمر الذي كان يلائم عامة طبقات الشعب أكثر من أي شئ آخر هو عقيدتهم بظهور المهدي الذي سيعيد الدين الاسلامي إلى ما كان عليه في صدر الاسلام وسيقضي بالسيف على الشريعة المغولية والأنظمة الظالمة التي تداولها السنة والمغول المنتصرون ولهذا السبب فان انتظار المهدي يحتل مركزا مرموقا وهاما في عقائد الشعوب التي قامت بالانتفاضات في إيران في القرن الثالث عشر. كما ازداد ذلك رسوخا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. الشيخ خليفة العالم الديني الشيعي مؤسس حركة السربداريين الفكرية لقد بلغ الاستياء من الطغيان في الرأي العام ومختلف طبقات الشعب في قرى ومدن خراسان ذروته في السنوات الأخيرة من حكومة الايلخان أبي سعيد. كما ظهر آنذاك واعظ ديني حاول التنظيم في حركة المضطهدين وانتفاضتهم وقيادة الحركة والانتفاضة بنفسه من الناحية الفكرية. ويعتقد المؤرخون في القرن الخامس عشر الميلادي المعاصرون لتاريخ السربداريين المفقود، أن الواعظ المذكور كان من كبار الصوفية ومن أهالي مازندران ويدعى الشيخ خليفة لقد درس العلم في أيام شبابه وحفظ القرآن وتعلم المنطق وعلم الفراسة ثم درس مبادئ التصوف وأصبح من مريدي بالو الزاهد من شيوخ الدراويش الذي كان يعيش في مدينة آمل بمازندران ولكن خليفة لم يجد في كلام الشيخ الإجابة على القضايا والمسائل التي كانت قد أزعجته ولهذا سافر إلى سمنان عند علاء الدولة السمناني الذي كان في عصره من أشهر الشيوخ الدراويش في إيران. فسأله الشيخ يوما عن اعتقاده باي واحد من مذاهب السنة الأربعة الحقة؟ فاجابه خليفة قائلا: بان الذي أسعى إليه وأبحث عنه أعلى من هذه المذاهب، ولما كان الشيخ المؤمن لا يقدر أن يسمع كلام الكفر من هذا الملحد، فقد حطم دواته على رأس خليفة. ومن هنا توجه خليفة إلى بحرآباد عند شيخ الاسلام غياث الدين عبد الله الحموي، ولكنه لم يحصل هناك أيضا على مراده فانفصل عنه. ولكن عن ماذا كان يبحث خليفة؟ هل كانت ضالته القضايا والأمور الخاصة بالعدالة الاجتماعية ومكافحة الظلم والجور التي مارسها فيما بعد؟ لقد سكت المؤرخون حول هذا الموضوع وربما كان هذا الصمت متعمدا. ولكن ثبت أن خليفة لم يكن راضيا ومقتنعا بتعليمات وإرشادات أكبر شيوخ الصوفية وكان يختلف معهم في وجهات النظر. ولم يمض على ذلك وقت طويل حتى سافر إلى سبزوار وسمى نفسه شيخا. ويبدو أن خليفة لم يكن صوفيا بمعناه الحقيقي. وربما كان يستخدم عبارات ومصطلحات الصوفيين وجماعة أخوان الصفا للدعاية والتمهيد للتمرد ضد الظالمين. وكانت مدينة سبزوار وناحية بيهق الواقعة غرب مدينة نيسابور التي اختارها للدعاية، خير مكان لهذا الأمر حيث كان القرويون في منطقة سبزوار والفئة الدنيا من أهالي المدينة هم من الشيعة المتعصبين ومن المعارضين للسلطة القائمة. كانت سبزوار من أهم مراكز الشيعة في إيران، وفي نفس الوقت كانت في مراكز القومية في البلاد. فعلى سبيل المثال كان في ساحة المدينة مكان تقول الأساطير القديمة جدا عنه بأنه مكان الصراع بين رستم وسهراب من أبطال ملحمة الشاهنامة. ويقول المؤرخون أن الشيخ خليفة أقام في المسجد الجامع في مدينة سبزوار بعد دخوله إلى هذه المدينة وكان يتلو القرآن بصوت عال ويعظ الناس وكان يلتف حوله عدد كبير من الطلبة والمريدين ولم تمض فترة من الزمن حتى أصبحت أغلبية القرويين في تلك المنطقة من مريدي الشيخ خليفة. وبعدها كما يروي حافظ أبرو في كتابه: كانت جماعة من فقهاء السنة تمنعه من الإقامة في المسجد، ولكنه لم يهتم بكلامهم، وقد استفتى هؤلاء بما يلي: شخص أقام في المسجد لينشر فيه البدع ولما منع من ذلك رفض، وأصر على ما هو عليه، ولم يغضب هل مثل هذا الشخص يجب قتله أم لا؟. وجاء في كتب مير خواند وخواند مير روضة الصفا وحبيب السير ولكن بصورة غامضة: أن الشيخ كان يدعو الناس إلى الأمور الدنيوية. والمقصود من كلمة الأمور الدنيوية حسب ما صرح به تلاميذه وأنصاره فيما بعد، العدالة العامة والصمود أمام الظلم والجور. ويقول حافظ أبرو في كتابه حول هذه الفتوى ما يلي: كتب الكثير من الفقهاء فقهاء السنة أن هذا الأمر غير مشروع ولما كان يصر على اللا مشروع ولا يغضب للنصح فيجب قتله، وأرسلوا هذا الجواب مع كتاب إلى السلطان سعيد أنار الله برهانه.... ولما كان هذا السلطان المغولي رجلا خرافيا وبعيدا عن المنطق، ويخاف من الدراويش:... أجاب على الكتاب قائلا: أنا لا أعترض على دم الدراويش، فعلى حكام خراسان أن يفصحوا عن هذا الموضوع ويعملوا حسب الشريعة النبوية الطاهرة على صاحبها أفضل الصلوات. فلما وصلت هذه الإجابة من السلطان، أخذ الفقهاء يسعون لسفك دم الشيخ خليفة وكانوا يقولون إنه مبدع ويجب قتله... وحاول فقهاء سبزوار بعد استلامهم لجواب السلطان أن يعتقلوا الشيخ خليفة، ولكن سعيهم ذهب هباء في
(1) لسنا ندري ماذا يقصد العالم الروسي من " علم الفراسة "؟ 177 معركتهم مع أنصار الشيخ. إلا أن أعداء الشيخ خليفة قرروا اغتياله سرا. وفي صباح أحد الأيام حين دخل تلاميذ الشيخ خليفة إلى المسجد الجامع شاهدوا أستاذهم مشنوقا على أحد أعمدة ساحة المسجد. ولا شك أن الشيخ كان قد قتل. إلا أن المسؤولين المحليين أشاعوا أن الشيخ قد انتحر. و كان تاريخ هذا الحادث في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 736. الشيخ حسن الجوري تلميذ الشيخ خليفة يسير في نهجه يستفاد من الأقوال المذكورة، أن الشيخ خليفة مؤسس فكرة حركة السربداريين كان عالما دينيا شيعيا متفتح الضمير، مدافعا عن حقوق الطبقة المضطهدة المظلومة ومجاهدا ضد الاضطهاد والتمييز. ولم يكن صوفيا، بل إنه اتخذ التصوف لتسيير أموره وكان يريد أن يستغل الحالة القائمة لصالح برنامجه الرئيسي وهو الانتفاضة ضد النظام الطاغوتي المغولي الحاكم، وضد التمييز الطبقي. وبالرغم من أنه استشهد قبل أن يبلغ هدفه وقبل أن يجد ضالته، إلا أن البذرة التي زرعها أعطت ثمارها بعده. وكان أحد تلاميذ الشيخ خليفة المسمى حسن جوري يمتاز بالقدرة والعقل والدهاء. كان شابا قرويا من قرية جور (1) أنهى دراسته بنجاح وحظي بلقب المدرس. وكان مولعا بمواعظ الشيخ خليفة وترك الألقاب والتعليمات السنية. وكان الشيخ خليفة قد انتخبه خليفة له. وبعد وفاة الأستاذ الأليمة ذهب حسن جوري إلى مدينة نيسابور وبادر بنشر تعاليم الشيخ. ونال تقدما كبيرا، وكما يقول ير خواند في كتابه: فان أغلبية سكان منطقة نيسابور الجبلية انخرطوا في صفوف أنصاره. نقل الكثيرون من المؤرخين حافظ أبرو، ير خواند، ظهير الدين المرعشي نص الرسالة التي بعث بها الشيخ حسن الجوري إلى الأمير محمد بك بن أرغون شاه. وأشار الشيخ حسن في رسالته إلى أسماء المدن والمناطق التي تفقدها ونشر فيها تعاليم أستاذه. لقد هرب الشيخ حسن الجوري غداة يوم وفاة أستاذه 22 ربيع الأول سنة 736 من سبزوار إلى مدينة نيسابور واختفى عن الأنظار مدة شهرين. وبعد أن كشفوا محل إقامته سافر إلى مشهد الإمام علي بن موسى الرضا، ومنها إلى أبيورد وخبوشان. وكان ينتقل من مكان إلى آخر طوال خمسة أشهر. ولكن وكما يقول بنفسه ومع ذلك فأينما كان يقيم أسبوعا واحدا كان يبدأ توافد الأهالي عليه إلى درجة الازدحام. وفي اليوم الأول من شهر شوال سنة 736 غادر الشيخ حسن الجوري إقليم خراسان وانتقل إلى إقليم أراك. وبقي فيها عاما ونصف عام، ثم عاد إلى خراسان. وكان قد لحقه بعض تلاميذه إلى أراك. وعادوا من هناك إلى خراسان، وأقام حسن الجوري في خراسان مدة شهرين، ولكن وبسبب كثرة ازدحام الخاص والعام حوله في ولايتين أو ثلاث ولايات لم يتمكن من الإقامة فيها. وفي شهر محرم سنة 739 توجه الشيخ حسن الجوري إلى مدينة بلخ، ومنها إلى مدينة ترمذ على ساحل نهر جيحون ومن ثم إلى هرات وقهستان، ومنها توجه إلى مدينة كرمان ولكن الطريق كان محفوفا بالمخاطر. مرض الشيخ حسن وعاد ثانية إلى مدينة مشهد، ومنها إلى نيسابور، واختفى في الجبال المجاورة ما يقارب الشهرين. وكان يختار مكانا جديدا بين الحين والآخر. ولكنه يقول وخلال هذه المدة التف حولي الكثير من الناس.. مما لا شك فيه أن الشيخ حسن الجوري كان شيعيا ولكن كونه شيعيا لا يكفي بان يطالب الشيوخ والفقهاء السنة بموته. ويظهر من نص الرسالة المذكورة أن علماء الدين وأعيان السنة طالبوا عدة مرات وبالحاح بقتل الشيخ حسن الجوري. وكان ذنب الشيخ حسن الجوري إضافة إلى كونه شيعيا، عقائده الثورية التي كانت تجمع حوله المضطهدين والمحرومين والكادحين أينما يذهب، وكان يستنفرهم ويحرضهم ضد مظالم الاقطاعيين والهيمنة المغولية، حتى يحين الوقت المناسب للانتفاضة فيحطموا أغلال الذل والعبودية ويتحرروا من هيمنة المغول والأقطاعيين الكافرين كليا. واضطر الشيخ حسن الجوري أن يهاجر إلى أراك عراق العجم عبر طريق قهستان، وأن يقيم في دستجردان. ولم يكن الشيخ وحيدا في هذه الرحلة بل رافقه جمع كبير من مريديه، وكما يقول هو: كانت جمعية كبيرة معي. تعرضنا إلى المخاطر في الطريق وكانت الصحراء غير آمنة. وعاد الشيخ إلى مشهد. وأقام فيها أياما معدودة، ولكن الأعداء وجدوه... فبعث أرغون شاه جاني قرباني، رسولا إلى مدينة مشهد لاعتقال الشيخ حسن ولكن ولأسباب مجهولة فقد دخل الرسول في مفاوضات مع الشيخ. وبعد شهرين تم اعتقال الشيخ حسن الجوري بأمر من أرغون شاه وهو في طريقه من نيسابور إلى قهستان وسجن في أحد القلاع.. إن تصريحات الشيخ حسن الجوري هذه تؤكد أنه قام برحلة في أقاليم واسعة، ومما لا شك فيه أنه نشر دعوته في هذه الأقاليم. وأغلب الظن حسب ما جاء في الرسالة أن الشيخ حسن لم يعتقل قبل منتصف سنة 739. وكان قد تجول قبل اعتقاله في جميع أنحاء إيران لمدة ثلاث سنوات، وهذا أمر ملفت للنظر. علما بان حركة أنصاره بدأت في ولاية بيهق في سنة 737 أو 738. وقد تم فيما بعد الافراج عن الشيخ حسن الجوري واستأنف أعماله ونشاطاته. بدء حركة السربداريين انتفاضة في ولاية بيهق لقد ذكرنا أن الانتفاضة في خراسان الغربية بدأت من تلقاء نفسها ودون أن يشير بها الشيخ حسن الجوري. فان حادثا بسيطا عابرا في منطقة القادة الأتراك والمغول، وهو أن أسلوبا غير لائق بدر من أحد المغول في إحدى القرى قد أدى إلى نفاذ صبر القرويين وأثار عاصفة كان قد مهد لها منذ مدة. ويختلف المؤرخون الذين ينقلون أنباء هذه الحركة في المبادىء، ولكنهم يتفقون في الرأي والقول: بان الحركة بدأت من قرية باشتين من قرى بيهق بالقرب من سبزوار. ويروي المجمل الفصيحي حادث قرية باشتين أكثر تفصيلا من المصادر الأخرى ويقول: إن خمسة من أفراد طائفة المغول نزلوا في دار حسين حمزة وحسن حمزة من أهالي قرية باشتين وطلبوا منهما الخمر والوجه الحسن، وأصروا على طلبهم وأساؤوا إليهما. فجاء أحد الأخوين بكمية من الخمر وبعد
(1) جور - محلة من أعمال مدينة نيسابور. 178 أن شرب المغول الخمر سكروا وطلبوا الوجه الحسن، وبلغت الفضيحة إلى درجة أن طلبوا عورتيهما. فقال الإخوان: يكفي ما تحملناه من العار، فلترفع رؤوسنا فوق المشنقة فسلا سيفهما وقتلا المغول الخمسة وخرجا من البيت وقالا إننا نسلم رأسينا للمشنقة وهكذا بدأت الانتفاضة (1). ويقول حافظ أبرو في كتابه... كان الأغلبية من الأهالي في قرية باشتين من أعمال ولاية بيهق قد أصبحوا من مريدي الشيخ حسن، ولهذا كانوا منذ مدة قد استعدوا للانتفاضة... ومن أجل أن نعرف مدى أهمية عملية هذين الأخوين الشيعيين مريدي الشيخ حسن الجوري في قتل الأفراد المغول الفاسدين الظالمين، وخروجهما من البيت بفخر واعتزاز، والاعلان بصوت عال أننا نسلم رأسينا للمشنقة، يحسن بنا أن نقرأ الأسطر أدناه الذي أشار إليها العالم الروسي في ذيل كتابه: يشير رشيد الدين في كتابه جامع التواريخ إلى اعتداءات أفراد المغول المتكررة الذين كانوا يدخلون القرى ويقيمون فيها على نواميس وأعراض النساء، ويقول على لسان عمدة إحدى القرى إنه بعد مرور عدة أعوام سوف لا نجد طفلا حلالا وإن ما سيبقى سيكون من اللقطاء وأبناء الحرام أولاد الأتراك والهجناء. أول أمير في سلالة السربداريين عبد الرزاق العلوي السبزواري تلقى الخواجة علاء الدين هندو وزير حاكم خراسان نبا مقتل خمسة من أفراد طائفة المغول على أيدي شقيقين من مدينة سبزوار، بتلك البسالة والجرأة اللتين لا مثيل لهما في ذلك العصر وفي هذه الأيام وصل إلى قرية باشتين المدعو عبد الرزاق وهو نجل أحد الملاكين المحليين، وقد تزامن مجيئه مع قدوم رسول من جانب الخواجة علاء الدين هندو، لاستدعاء حسن حمزة وحسين حمزة. فطلب الموفد المذكور الأخوين المذكورين لمعاقبتهما بسبب قتلهما خمسة من المغول. فرد عليه عبد الرزاق عمدة القرية قائلا: قل للخواجة إن أفراد طائفة المغول قتلوا لأنهم ارتكبوا الفضائح. فلما عاد الرسول إلى علاء الدين هندو وأبلغه بالجواب، غضب علاء الدين وأرسل مائة من أفراده لاستدعاء الشقيقين واعتقالهما. فراجعوا عبد الرزاق لهذا الأمر، فخرج عبد الرزاق من القرية وحارب أفراد علاء الدين وهزمهم ثم أخذ يستعد للحرب فجمع أهالي قرية باشتين وثار بهم. كما شوهد مرارا في القرون الوسطى، فان هذه الانتفاضة التي قام بها القرويون لم يكن يتزعمها أو يقودها زعيم وطني حقيقي، بل تزعم الحركة شاب كان ابن ملاك القرية الخواجة جلال الدين فضل الله الباشتيني كان من عائلة غنية عريقة ويصل نسبه الأبوي إلى الإمام الحسين بن علي. ففي القرن الرابع عشر الميلادي لم ينتم سادة باشتين إلى طبقة الأقطاعيين ولكن كانت لهم مكانتهم بين أعيان المنطقة في ولاية بيهق. ويقول دولتشاه في كتابه حول عبد الرزاق ما يلي: كان عبد الرزاق في البداية من جماعة السربداريين وهو ابن الخواجة فضل الله الباشتيني الذي كان في الحقيقة من حاشية ملك جوين. وباشتين قرية من أعمال مدينة سبزوار... وكان عبد الرزاق شابا شجاعا طويل القامة حسن المنظر. وعلى هذا فان سلالة جماعة السربداريين هي من سلالة الإمام الحسين ع... فانضم عبد الرزاق إلى جانب القرويين بعزم راسخ بعد أن اطلع على الأحداث التي مرت على مسقط رأسه ودعاهم إلى الانتفاضة على رجال المغول. إن هذا القرار كان هينا وبسيطا على عبد الرزاق، لأنه لم تكن تربطه بعد هذا مع الايلخان أية صلة، ولم يكن يفقد شيئا. إن هذا الشاب كان يأمل أن يقوم بحركته بالتعاون مع القرويين فيستولي على إقليم واسع. ويقول المؤرخون: إن جماعة من القرويين الأبطال المسلمين اختاروا عبد الرزاق قائدا عليهم بسبب قدرته البدنية وشجاعته اللتين اشتهر بهما. وقد اختار المنتفضون كلمة السربداريين لأنفسهم، إن رواية المؤرخين التي تشير إلى تاريخ جماعة السربداريين تقول إن هذه العبارة تعني المحكومين عليهم بالشنق، اليائسين غير المعفو عنهم (2) ويبررون ذلك بقولهم: إن المنتفضين كانوا يقولون: إن جماعة من المفسدين الذين سيطروا على الناس يظلمون الأهالي، فإذا وفقنا الله فسنقضي على الظالمين وظلمهم، وفي غير هذه الحالة نفضل أن نشنق لأننا لا نتحمل الظلم والعدوان أكثر من هذا. وتعتقد أغلبية المصادر الموجودة أن انتفاضة باشتين قامت في الثاني عشر من شهر شعبان سنة 737. وأن علاء الدين محمد هندو وزير حاكم خراسان أرسل ألفا من فرسانه المسلحين للقضاء على الانتفاضة إلا أن القرويين سحقوا قوات علاء الدين وأرغموها على الهزيمة، وأن المنتفضين قرروا القضاء على علاء الدين محمد هندو نفسه. فهرب مع ثلاثمائة من رجاله من فريومد إلى أسترآباد التي كانت مقر الأمير الشيخ علي حاكم خراسان، إلا أن جماعة السربداريين لاحقوه ووصلوا إليه واعتقلوه وقتلوه بالقرب من منطقة كبود جامة الجبلية في كركان. ثم استولت جماعة السربداريين على أموال وخزائن علاء الدين محمد هندو وتقاسموها بينهم. وكانت قوات جماعة السربداريين تتألف آنذاك من سبعمائة رجل مسلح. ويقول ظهير الدين المرعشي في كتابه: إن جميع الأحرار انخرطوا في جماعة السربداريين وكانت نشاطات هذه الجماعة تقتصر في البداية على حروب غير نظامية ضد الأقطاعيين المغول الكبار أو أنصارهم. ويقول ابن بطوطة الذي كان قد سمع الكثير من الحكايات عن جماعة السربداريين من معارضيهم، كان سبعة قادة أبطال على رأس جماعة السربداريين في البداية: مسعود وجيه الدين مسعود، شقيق عبد الرزاق محمد ربما المقصود هو إي تيمور محمد، مملوك مسعود وخمسة من رفاقهما. وكانت وجهة نظر ابن بطوطة حول جماعة السربداريين الشيعة غير طبيعية بسبب تعصبه للسنة إلا أنه يقول عنهم إن نظام العدالة كان ساريا عندهم إلى درجة كانت النقود الذهبية والفضية ملقاة على الأرض في مخيماتهم ولا يمد أحد منهم يده لالتقاطها حتى يأتي صاحبها ويلتقطها.... إن جماعة السربداريين سيطرت على بقية المدن المجاورة أيضا، ويقول خواند مير لم يكن في جميع أنحاء ولاية بيهق من يجرؤ على الوقوف بوجه جماعة
(1) من هنا أطلق اسم (السربداريين)، ومعناه: المشنوقون. (2) أي المستضعفين حسب ما جاء في القرآن الكريم. 179 السربداريين. لقد سيطرت الجماعة على مدينة سبزوار دون أن تواجه أية مقاومة. ويقول مير خواند في كتابه: إن قادة الجيش في سبزوار سلموا أنفسهم إلى جماعة السربداريين، وكان في مدينة سبزوار حصن منيع اتخذته هذه الجماعة مركزا لقيادتها وقاعدة لدولتها الجديدة، لقد سيطرت الجماعة على مدن جوين وأسفراين وجاجرم وبياراجمند. وأطلق عبد الرزاق كلمة الأمير على نفسه. وكما يقول خواند مير في كتابه تربع على كرسي الحكم وقرئت الخطبة باسمه وضربت له النقود. وساد مذهب الشيعة. وجيه الدين مسعود توفي عبد الرزاق أول امراء السربداريين سنة 738 وخلفه شقيقه وجيه الدين مسعود أميرا على الجماعة. فتمكنت الجماعة بقيادة وجيه الدين مسعود من القضاء على عساكر كبار قادة المغول والأتراك وأقطاب الأقطاعيين المحليين، الذين كانوا قد التحقوا بالمغول وذلك في الفترة من سنة 739 إلى سنة 745، فعقد أمراء خراسان الذين كان يترأسهم أرغون شاه جاني قرباني اجتماعا أقنعهم فيه أرغون شاه بضرورة القضاء على جماعة السربداريين، وفي غير هذه الحالة فان الحياة ستكون محرمة عليهم، خاصة وأن مريدي وأنصار الشيخ حسن الجوري قد ازدادوا كثيرا. وقد قرر الأمراء إرسال ثلاث فرق من العسكر إلى ضواحي مدينة نيسابور على أن تصل هذه الفرق الثلاث في اليوم والساعة المحددتين إلى هناك وتتلاحق معا، وتهاجم أفراد جماعة السربداريين ولكنهم لم يطبقوا هذا القرار نظرا للغيرة الموجودة بينهم وبالرغم من أن هذه الفرق وصلت في يوم واحد إلى نيسابور، إلا أن ساعات وصولها كانت مختلفة مما سهل على جماعة السربداريين القضاء عليهم، والحصول على غنائم كثيرة. لقد حاول الأمير أرغون شاه عبثا أن يخرج الخوف والرعب من جيوشه، ويمنعهم من الهزيمة. ولكن في النهاية اضطر هو أيضا إلى الهرب. وتعتبر المصادر الإيرانية هذا اليوم، بيوم انتصار الإيرانيين على الأتراك، يعني سكان البادية من المغول والأتراك. يبدو أن رئيسين كانا يحكمان في حكومة جماعة السربداريين: أحدهم عالم ديني أي الشيخ حسن الجوري، والآخر سياسي أي السلطان وجيه الدين مسعود. ولا شك أن هذا الأمر كان بسبب صيت الشيخ واشتهاره. وكان الشيخ حسن الجوري ووجيه الدين مسعود يعملان معا في البداية ولكن سرعان ما حصل الخلاف بينهما كما كان متوقعا... ولم يخف الخلاف الداخلي على أعدائهم. فأرسل الأمير محمد بيك بن الأمير أرغون شاه رسالة إلى الشيخ حسن الجوري تنبأ فيها بسقوط الأمير مسعود العاجل، وطلب من الشيخ عدم مساعدة جماعة السربداريين... إلا أن الخلافات الداخلية في هذه الجماعة لم تمنعهم من العمل المشترك. وأرسل طوغاي تيمور آخر رؤساء المغول موفدا إلى الشيخ حسن ووجيه الدين مسعود وأمرهم بالانقياد إليه... فبعث الشيخ رسالة إلى طوغاي تيمور جاء فيها: يجب على الملك وعلينا أن نطيع الله عز وعلا وأن نعمل حسب آيات القرآن المجيد. وكل من يخالف هذا الأمر يكون متمردا وعاصيا، ويجب على الآخرين محاربته والقضاء عليه. إذا عاش الملك حسب ما أمره الله ورسوله ص فإننا سنتبعه وفي غير هذه الحالة فالسيف يكون الفاصل بيننا وبينه.... ولا ننسي أن جماعة السربداريين كانت تعتبر أمراء المغول ورؤساءهم ظالمين بالرغم من قبولهم الاسلام. لأن الشريعة المغولية كانت لا تزال سارية المفعول بينهم ولأنهم كانوا يقومون بجباية الضرائب والرسوم خلافا للقرآن والشريعة الاسلامية، وأن هؤلاء كانوا قد غصبوا رئاسة المجتمع الاسلامي بغير حق. وأن مقاومة هؤلاء كانت جائزة حسب قوانين الشرع الاسلامي. توجه طوغاي تيمور خان مع عساكره من مغول البادية لمحاربة جماعة السربداريين وذكر مير خواند في كتابه أن عدد عسكر طوغاي تيمور كان يقدر بسبعين ألف رجل، ويبدو أن هذا العدد كان مبالغا فيه. توجه الشيخ حسن والأمير مسعود على رأس جيش من ثلاثة آلاف وسبعمائة رجل، وكل واحد منهم يعتبر نفسه بطلا أسطوريا، توجهوا إلى مازندران وجعلوا من ضفاف نهر كركان مخيما لعسكرهم. وأرسلا مبعوثا مؤكدا لطوغاي تيمور ضرورة العمل بما أمر الله سبحانه وتعالى، لانهاء الحرب وحقن الدماء، ومن تمرد وطغى فسيرى نتيجة سوء عمله.... فأجاب طوغاي تيمور قائلا: ... أنتم جماعة من القرويين تريدون التآمر علينا وخداع الشعب... وانتهت الحرب بانتصار السربداريين الكامل... فتشتت عساكر المغول، وهزموا مع طوغاي تيمور نفسه... وقد ذكر المؤرخون تاريخ هذا الانتصار سنة 742 أو سنة 743 وبعد هذا الانتصار الباهر حاولت جماعة السربداريين بسط هيمنتها على جميع أنحاء خراسان. كان المفروض على الشيخ حسن والأمير مسعود تلبية طلبات عامة الشعب والدخول في الحرب مع أكبر أمراء الاقطاع في خراسان وهو معز الدين حسين كرت ملك هرات. وكان معز الدين آنذاك مستقلا وحليفا وصديقا لطوغاي تيمور خان المغولي. فجهزت جماعة السربداريين جيشا مؤلفا من عشرة آلاف مقاتل. وكان هذا الهجوم مهما جدا لمستقبل الجماعة إذ كان الهدف منه تحرير جميع أنحاء خراسان من هيمنة المغول. استشهاد الشيخ حسن الجوري إلا أن آمال السربداريين لم تتحقق ففي الثالث عشر من شهر صفر سنة 743 وعلى مسافة فرسخين من مدينة زاوه اندلعت الحرب بينهم وبين عسكر الملك معز الدين حسين كرت. وكان ملك هرات قد جهز جيشا يقدر بثلاثين ألف مقاتل من التاجيك والغور والمغول والخلج والبلوش. وكان الانتصار حليف السربداريين في بداية الحرب، إلا أن الشيخ حسن الجوري قتل في الحرب فجأة. فألقت وفاته الرعب بين الجماعة وتناثرت صفوفهم وفشلوا وانهزموا. فأسر رجال ملك هرات عددا من أفراد جماعة السربداريين وأمر بقتلهم جميعا عدا الشاعر ابن يمين. ويبدو أن عدد الأسرى كان أربعة آلاف رجل. ويقول ابن بطوطة: إن السمنانيين، أي أمير سمنان قد هاجم جماعة السربداريين من الغرب مما سهل انتصار ملك هرات عليهم. ويقول حافظ أبرو: إن الدراويش وأنصار الشيخ حسن يعتقدون أن الأمير مسعود كان له الضلع في اغتيال الشيخ حسن الجوري وكان هذا الأمر بتأييد منه. ويقول: كل من مير خواند وخواند مير بصراحة:
180 وفي تلك الحرب بينهم وبين الملك، استشهد الشيخ حسن بأمر من الأمير مسعود وبسيف أحد أفراد جماعة السربداريين. ويقول دولتشاه في كتابه: إن الخواجة مسعود أمر شخصا بانزال ضربة على الشيخ حسن وفي كتاب نكارستان غفاري الذي تم تأليفه بعد مدة طويلة من اغتيال الشيخ حسن، جاءت هذه الرواية وأن مؤلف الكتاب ادعى بان الرجل الذي أنزل ضربته على الشيخ حسن هو من جماعة السربداريين ويدعى نصر الله الجوني... يعترف المؤرخون جميعهم بان جماعة السربداريين كانوا هم المنتصرين، إلا أن وفاة الشيخ حسن أسفرت عن ارتباكهم وبالتالي هزيمتهم. وتعذر على السربداريين بعد هذه الهزيمة جمع شملهم في خراسان الشرقية فكانوا دائما في خوف وارتباك من عدو قادر وهو ملك هرات من سلالة كرت، في شرق أراضيهم. ووقع الشاعر الإيراني المعروف ابن يمين الذي كان قد انخرط في جماعة السربداريين أسيرا بأيدي ملك هرات... ولكنه انتهز بعض الفرص وهرب من السجن والتحق ثانية بجماعة السربداريين... وتوفي في الثامن من جمادى الثانية سنة 769. ثم جهز وجيه الدين مسعود في الأيام الأخيرة من حكومته جيشا لغزو مازندران... وتمكنت جماعة السربداريين من احتلال مدينة آمل أكبر مدن مازندران. إلا أن أحد الأمراء الأقطاعيين في منطقة رستمدار نصب لهم كمينا داخل غابات المنطقة وحاصرهم وقتل عددا منهم واعتقل عددا آخر بما فيهم وجيه الدين مسعود. ثم أمر حاكم ولاية رستمدار بقتل وجيه الدين مسعود. وكانت هذه الهزيمة في شهر ربيع الثاني سنة 745. إلا أن هاتين الهزيمتين العسكريتين لم تقضيا على حكومة السربداريين. واستلم زمام الحكم بعد موت وجيه الدين مسعود عشرة من كبار الجماعة واحدا تلو الآخر كان بعضهم ينتسب إلى الجناح الاعتدالي والبعض الآخر إلى الجناح المتطرف. شمس الدين علي هو أول حاكم يتزعم السربداريين بعد وفاة وجيه الدين مسعود ولا يحمل لقب السلطان لأن لطف الله بن وجيه الدين مسعود الذي كان صغيرا حين وفاة والده هو الذي يجب أن يخلف أباه، وكانوا يعرفونه بأنه ولي العهد وكانوا يلقبونه ب ميرزا... وكان الخواجة شمس الدين علي أكبر وأبرز الحكام في جماعة السربداريين... يقول دولتشاه في كتابه:... إن الناس كانوا مرفهين وكانوا يعيشون بسعادة وكفاف... ويقال إنه كان يدفع الديون نقدا وفي الحال... كانت حياته بسيطة جدا... وكان يسير في الطرقات ومعه واحد أو اثنين من الملازمين له، وكان بامكان جميع الناس الاجتماع به ومقابلته. وبالرغم من الأوهام التي كانت موجودة بين الإيرانيين، فإنه لم يكن يستنكف من الجلوس مع غسالي الأموات ومعاشرتهم، وهم كانوا من طبقة البؤساء والمحرومين والبائسين في المدن. كان يلاحق الذين كانوا يعيشون بالبذخ ويبدو أن هذا الأمر كان من أجل الدراويش. لقد منع شرب الخمر واستعمال الأفيون. بحيث أصبح في مدينة سبزوار: لا يجرؤ أحد أن يذكر كلمة الخمر والأفيون... وكانت حكومة السربداريين في عهد شمس الدين علي في غاية من القوة بحيث اكتفت حكومة طوغاي تيمور بإقليمها في كركان ومازندران، وكان الملك معز الدين حسين كرت في هرات يخاف منهم. خاضت جماعة السربداريين حربا مع أرغون شاه جاني قرباني في عهد الخواجة شمس الدين علي وحاصرت مدينة طوس وكانت على وشك الاستيلاء على المدينة، إلا أن هذه الجماعة عدلت عن محاصرة طوس من أجل مواجهة الهجوم الذي كان قد عزم الملك معز الدين حسين كرت ملك هرات عليه: قتل الخواجة شمس الدين علي بعد حكم دام خمسة أعوام على أيدي خادمه المدعو حيدر القصاب، وكان جابيا للضرائب. يحيى الكرابي وانهيار سلالة طائفة هولاكو كان يحيى الكرابي من أهالي قرية كراب من أعمال بيهق وهو خادم وجيه الدين مسعود ومن ملازميه الأقربين... ولكنه كان أكثر حزما واحتياطا من وجيه الدين مسعود. وكان يجلس حول بساط كرمه الغني والفقير معا، ولما كانت منطقة طوس ومشهد وضواحيهما قد دمرت تماما بسبب الاجراءات الوحشية التي كان قد مارسها أمراء جاني قرباني، فقد قامت جماعة السربداريين بمشاريع عمرانية في تلك المناطق بعد تحريرها. ويقول دولتشاه في كتابه: بدأت جماعة السربداريين بإعادة بناء ما كان قد دمره عسكر جاني قرباني في طوس وأعادت تعمير القنوات في ولايتي طوس وشهد.... إن من أهم الخدمات التاريخية التي قامت بها جماعة السربداريين والتي لا تنكر: هي القضاء على ما تبقى من حكومة سلالة طائفة هولاكو، وكان ذلك في عهد حكومة يحيى الكرابي... بتاريخ السادس عشر من شهر ذي القعدة سنة 754 وبذلك ثم القضاء على آخر معقل لحكومة المغول سلالة طائفة هولاكو وذلك على أيدي هذه الجماعة ومما لا شك فيه أن السربداريين بتدميرهم وكر الوحوش ومعقل قطاع الطرق والسارقين قد قاموا بعمل بطولي كبير بارز. فقد أصبحت ولاية كركان ومدينة أسترآباد في حيازتهم، وامتدت دولتهم من سواحل جنوب شرق بحر الخزر حتى مدينتي طوس ومشهد. إلا أن انهيار حكومة الايلخان لم يؤد إلى انهيار سلطة المغول في جميع أنحاء إيران والدول المجاورة، حيث كانت الآداب وأساليب الإدارة المغولية ما زالت قائمة في الحكومات الاقطاعية في الشرق الأوسط. علي بن المؤيد استمرت حكومة علي بن المؤيد أكثر من غيره من أمراء جماعة السربداريين ويقول عنه دولتشاه في كتابه كان متعصبا في مذهب الشيعة أكثر من أسلافه... وقد أمر بضرب النقود باسم أئمة الشيعة الاثني عشر. وكان يحترم السادة ورجال الدين احتراما خاصا... ويقول دولتشاه في كتابه أيضا: كان الناس مرتاحين في عصره وكانت الضرائب التي يأخذها من الناس لا تزيد عن ثلاثة في العشرة وكان يعتبر نفسه عمدة القرية وكانت ملابسه التي يلبسها بسيطة كان يجلس حول بساطة الخاص والعام متساويين وكان يوزع ما في داره في رأس كل سنة جديدة، وكان يتجول في الليالي في الأزقة والمحلات ويعطي النساء الأرامل المال والطعام. وفي سنة 783 دخل تيمور لنك السفاك التتري المعروف مدينة سبزوار
181 منتصرا وقد استقبله علي المؤيد فأبقاه تيمور، في بلاطه وأكرمه، واعترف بسلطانه ولكن لم يسمح له بالعودة إلى سبزوار، إلى أن أمر بقتله سنة 788. وبعد وفاة علي بن المؤيد قام أهالي مدينة سبزوار الأبطال الذين صعب عليهم قبول سلطة الملك والأتراك بدلا من حكومة أمراء جماعة السربداريين، فقاموا في سنة 785 بانتفاضة عامة بقيادة الشيخ داود السبزواري لاحياء حكومة جماعة السربداريين، إلا أن تيمور توجه إلى سبزوار حالا وحاصر المدينة، وتعذر على الأهالي مجابهة حكومة تيمور المقتدرة، وانتهت الانتفاضة بالفشل والهزيمة. وبالرغم من الدفاع البطولي عن المدينة، إلا أن مدينة سبزوار استسلمت في بداية شهر رمضان سنة 785 ودخلت عساكر تيمور إلى المدينة. وقام تيمور بمذبحة رهيبة وأمر بدفن ما يقارب من ألفين من المشاركين في الانتفاضة أحياء في جدار أحد الأبراج... إلا أن هذه المذبحة لم تؤثر في معنوية أهالي مدينة سبزوار، ولم تقلل من عزيمة هؤلاء الناس، الذين كانوا يطالبون بالاستقلال، وكانوا مفعمين بمعنوية ممتازة عالية. وبعد وفاة تيمور سنة 807 ثارت جماعة السربداريين في سبزوار وضواحيها ضد السلطان شاهرخ بن تيمور، وانتخبت أحد أحفاد وجيه الدين مسعود سلطانا لها. ولكن تمكنت عساكر شاهرخ بصعوبة من القضاء على هذه الثورة. إن انتفاضات وثورات جماعة السربداريين ضد تيمور وأولاده قد تكون مواضيع لدراسات منفصلة لا مجال للبحث فيها هنا. نتيجة حركة السربداريين وخلفيات هذه الحركة كانت حركة السربداريين أول ثورة أو انتفاضة سياسية وعسكرية شيعية في نطاق حكومة الايلخان المغول وأتراك البادية. والأمر الآخر هو أن جماعة السربداريين أرادوا استغلال نفوذ الصوفية لتمشية أمورهم. وهذا ما فعله الشيخ خليفة والشيخ حسن الجوري وبعض قادة الجماعة ذلك الأمر الذي فعله الصفويون فيما بعد إن علي بن المؤيد بعد تثبيت دعائم حكومته. وجد أن الصوفيين والدراويش يريدون السيطرة على الأمور، وأن هذا العمل قد يزعزع أسس المدرسة الشيعية، ومن أجل ذلك فقد أراد الاستفادة من فقهاء الشيعة لقيادة الشيعة وإرشادهم في بلاده وتوسيع نطاق التشيع الحقيقي الذي كان مذهب أبناء الإقليم. حول رسالة علي بن المؤيد لم يعرف متى حرر علي بن المؤيد رسالته ومتى أرسلها إلى الشهيد الأول، فقد تسلم علي بن المؤيد السلطة في سنة 766 وعزل سنة 783 بأمر من تيمور... وكانت مدة حكمه سبعة عشر عاما. إن الشهيد الأول رفض دعوة علي بن المؤيد، وربما كان الرفض بسبب عدم رغبته في ملازمة البلاط والجهاز الحكومي (1). ولكنه وكما سنشرح فقد ألف كتاب اللمعة وهو من أشهر كتب الفقه لدى الشيعة، وأرسله إلى علي بن المؤيد إلى سبزوار ليعمل به أهل العلم من الشيعة ويدرسون على أساسه ويفتون بموجبه ويربون شيعة خراسان على أساس نظرية التشيع الأصيلة والمدرسة الجعفرية العريقة لقد استشهد الشهيد الأول سنة 786، وكان علي بن المؤيد ما زال حيا حيث قتل سنة 788 بأمر من تيمور. ويقول الشهيد في بداية كتاب اللمعة في سبب تأليفه لقد كتبته تلبية لطلب أحد المتدينين. وبعد مرور مائة وخمسين سنة على تأليف كتاب اللمعة ألف زين الدين علي بن أحمد العاملي الجبعي مواطن الشهيد الأول والمعروف بالشهيد الثاني كتابا في شرح كتاب اللمعة أسماه شرح اللمعة يدرس منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا في جميع حوزات الشيعة العلمية. وهو كتاب يحتوي على دورة كاملة من فقه الشيعة. تم تأليفه من قبل اثنين من فقهاء الشيعة الكبار وهما من أهالي جبل عامل واستشهدا بتهمة التشيع وفي سبيل اعتقادهما. أما الشهيد الثاني المقتول في سنة 966 فيقول في شرح كلمة الشهيد الأول: كتبته تلبية لطلب من أحد المتدينين أن المقصود بذلك هو شمس الدين محمد الآوي من أصحاب السلطان علي بن المؤيد سلطان خراسان وضواحيها آنذاك. إلى أن استولى تيمور لنك على دولة علي بن المؤيد فأخذه معه قسرا إلى أن توفي حوالي سنة 795 أي بعد تسع سنوات من استشهاد الشهيد الأول. كانت الصداقة والمراسلة قائمة بين شمس الدين محمد الآوي والمصنف الشهيد الأول وكان شمس الدين محمد الآوي يرسل الرسائل والطرود أولا إلى العراق، ثم من هناك ترسل إلى الشهيد في بلاد الشام. وقد احتفظ شمس الدين محمد الآوي بالنسخة الأصلية لكتاب اللمعة لأنها كانت بخط الشهيد نفسه وبما أن أحدا لم ير الكتاب ولم يعرضه شمس الدين محمد الآوي على أحد، لم يتمكن أحد من أن يستنسخ نسخة منه. ولكن أحد الطلاب وكتب على هامش اللمعة أن هذا الشخص اسمه شمس الدين الزابلي أخذ الكتاب من حامله في الطريق واستنسخ منه نسخة. ولما علم بأنه كتاب ثمين، لم تكن لديه أي لدى شمس الدين الزابلي الفرصة الكافية لمطابقته مع النسخة الأصلية، حيث كان على سفر. ولهذا السبب توجد فيه بعض الأغلاط. ولما كان شمس الدين الزابلي قد سافر إلى جانب المؤلف الشهيد الأول، فان الشهيد صحح الأغلاط الموجودة. ولهذا السبب قد تكون النسخة الثانية تختلف في عباراتها مع النسخة الأصلية التي كانت عند شمس الدين محمد الآوي. كان تأليف الكتاب وإرساله إلى محمد الآوي في سنة 782. بعض الملاحظات: نستنتج بعض الملاحظات مما كتبه الشهيد الثاني... وهي:
(1) يقول حسن الأمين تعليقا على ما كتبه الكاتب عن سبب امتناع الشهيد عن تلبية دعوة علي بن المؤيد: إن السبب الأساسي هو أن بلاده نفسها كانت بأشد الحاجة إليه، إذ لم تكن بعيدة العهد عن الاحتلال الصليبي، ولم يكن قد مضى زمن طويل على جلاء الصليبيين عن جبل عامل، بالرغم من أن العامليين خلال الاحتلال الصليبي لبلادهم لم يتقطعوا عن طلب العلم، بل كان لهم تدريسهم، ولكنه كان تدريسا محدودا لا يمكن أن يخرج علماء. فكان على الشهيد أن ينصرف أولا للعناية بوطنه، ولم يكن يستطيع أن يترك وطنه المحتاج إليه ليذهب إلى المكان القصي. 182 1 - من المحتمل جدا أن رسالة علي بن المؤيد كانت بخط شمس الدين محمد الآوي، وهو من رجال الدين ومن أدباء الشيعة، وكانت له منزلته لدى علي بن المؤيد. 2 إن الشهيد كان مولعا بشمس الدين محمد الآوي، أكثر مما كان عليه بالنسبة لعلي بن المؤيد، لأن شمس الدين الآوي كان رجلا عالما ومتقيا ولم يكن كذلك علي بن المؤيد الذي كان أميرا، لأن الأمراء مهما كانوا مسلمين ومؤمنين، فإنهم في النهاية حكام. وأن الحاكم يفعل أعمالا بعيدة عن الالتزام الديني. 3 الحقيقة هي أن الشهيد ألف كتاب اللمعة من أجل شمس الدين محمد الآوي، ليستنسخ منه ويقوم بتدريسه ويوزعه بين أبناء الشيعة في منطقة خراسان ولم يؤلفه من أجل علي بن المؤيد. 5 بالرغم من أن علي بن المؤيد هو الذي وقع ذيل الرسالة المرسلة إلى الشهيد، إلا أنه يبدو أن الدافع لارسالها وكتابتها هو شمس الدين محمد الآوي، لأنه كان يريد أن يأتي بأكبر فقهاء الشيعة في ذلك العصر إلى خراسان لنشر المذهب الشيعي بعلمه وثقافته وتقواه وفضيلته في دولة جماعة السربداريين. 6 إن السبب في عدم الاستنساخ من كتاب اللمعة من قبل شمس الدين محمد الآوي أو علي بن المؤيد وتوزيعه في منطقة خراسان ودولة جماعة السربداريين هو أن الكتاب وصل إلى علي بن المؤيد عشية انهيار حكومته ولم تمض أيام حتى استولى تيمور لنك على دولته وتغير كل شئ، حيث قلنا عن لسان الشهيد الثاني، إن تأليف كتاب اللمعة كان في سنة 782 وإن انهيار دولة جماعة السربداريين على أيدي تيمور كان في سنة 783، أي بعد سنة واحدة. ولسنا ندري كم شهرا وكم يوما استغرق وصول الكتاب إلى شمس الدين الآوي وعلي بن المؤيد، وكم من الزمن بقي الكتاب عندهما. السيد علي باليل الحسيني الجزائري الدورقي (1). قال حفيده السيد هادي بن السيد ياسين: توفي سنة 1100 ونيف: كان الأميرباليل والد السيد علي من أجل أمراء السيد مبارك بن السيد مطلب الحويزي المشعشعي حاكم الحويزة المتوفى 1026 ه، وله مواقف مشهورة في أحداث ووقائع حكومة السيد مبارك. وبعد وفاة السيد مبارك اضطربت الأحوال في الحويزة واختلت الأمور وتفرق السادة والأمراء والمشعشعون، فأم حسن آغا حاكم العرجة والجوازر (2) سبعين فارسا من مشعشعي الحويزة أحدهم الأمير باليل. نقلا عن كتاب الرحلة الحجازية مع التلخيص. وهكذا انتقل الأمير باليل والد السيد علي من الحويزة إلى منطقة العرجة والجوازر في عشرة الثلاثين بعد الألف للهجرة وعلى هذا يكون السيد علي قد نشأ في تلك المنطقة الجوازر والجزائر ثم إننا نجده مقيما أيام كهولته في الجزائر معاصرا للسيد أبي معتوق شهاب الدين الموسوي الحويزي، ومن أعيان حكومة حسين باشا بن علي باشا الديري حاكم البصرة والجزائر 1078 1057 ه، وفي سنة ألف وست وسبعين هجرية لما تظاهر حسين باشا المذكور بالعصيان على الدولة العثمانية سيروا عليه جيشا قوامه ثمانون ألف مقاتل بقيادة إبراهيم باشا، فحاصروا البصرة والجزائر ستة أشهر، وكان حسين باشا صامدا حتى ضاق صدر إبراهيم باشا، وأخذ يوجه المدافع إلى القلعة المتحصن بها حسين باشا، وشرع بالرمي من طلوع الشمس إلى وقت الزوال فلم تعمل في تلك القلعة فرأى إبراهيم باشا المصلحة بالصلح فأرسل إلى حسين باشا بذلك، فوجه حسين باشا جماعة من أعيانه وفي جملتهم السيد علي بن باليل إلى إبراهيم باشا للمذاكرة في الصلح، وانتهى الأمر بفك الحصار وعودة الجيش العثماني إلى إسطنبول، وفي سنة 1078 ه حاصر الجيش العثماني البصرة والجزائر مرة أخرى وأدى الحصار إلى هزيمة حسين باشا وفرار الأهالي. عن كتاب الرحلة الحجازية للمولى علي خان بن عبد الله
(1) الجزائري نسبة إلى الجزائر بالجيم والزاء المعجمتين المفتوحتين ثم الألف ثم الراء المهملة، كانت تسمى في صدر الإسلام البطائح وهو جمع - بطيح وبطحاء، قال الحموي: يقال تبطح السيل إذا اتسع في الأرض وبذلك سميت بطائح واسط، لأن الماء تبطحت فيها أي سالت واتسعت وهي أرض واسعة بين البصرة وواسط كانت قديما قرى متصلة وأرضا واسعة. قال العلامة الشيخ فتح الله بن علوان الكعبي القباني في كتابه (شرح زاد المسافر والمقيم) الخطي الموجود في مكتبة سبهسالار بطهران قال في تعريف الجزائر: هي علم لمواضع كثيرة منها قرية بني منصور وبئر حميد ونهر عنتر وهو أكبر مواضعها وقيل يشتمل على ثلاثمائة نهر، ومنها نهر صالح وديار بني أسد والفتحية والقلاعة ونهر السبع والباطنة والمنصورية والإسكندرية ومواضع أخرى غير ما ذكرنا، وكان أهلها ممن حارب دولة سلطان الروم فانتصروا عليه (في أوائل القرن الحادي عشر الهجري) وعصى حاكم البصرة وحاكم الحويزة فاستقلوا بأنفسهم لوعورة مسالكها وكثرة مياهها وشوكة أهلها. والدورقي نسبة إلى الدورق، وهو أحد بلاد خوزستان كان يعرف قديما بدورق الفرس، وهو بفتح أوله وسكون ثانيه وراء مفتوحة بعدها قاف، وفي اللغة (الدورق إبريق كبير له عروتان ولا بلبلة له، وهو مكيال للشراب، وهي فارسية معربة) والنسبة هنا إلى الأول قال مسعر بن المهلهل في رسالته ومن رامهرمز إلى الدورق تمر على بيوت نار في مفازة مقفرة، فيها أبنية عجيبة، والمعادن في أعمالها كثيرة وبدورق آثار قديمة لقباد بن دارا، بها صيد كثير إلا أنه يتجنب الرعي في أماكن منها، لا يدخلها بوجه ولا بسبب، وفيه هوام قتالة لا يبرأ سليمها، وبها الكبريت الأصفر وهو يسرج الليل كله، وإذا أوتي بالنار من غير دورق واشتغل في ذلك المكان أحرقته أصلا. وأما نارهما فإنها لا تحرقه وهذا من ظرائف الأشياء وعجيبها وقد نسب إليها جماعة من الرواة منهم: أبو الفضل الدورقي وأخوه أبو علي الدورقي، وأبو عقيل الدورقي واسمه بشر بن عقبة (معجم البلدان بالاختصار). أقول وقد اشتهر عن ابن السكيت العالم المنطقي الشهير أنه دورقي أيضا. والدورقي القديم هذا يعرف اليوم ب (شادكان) ويقع على بعد عدة أميال من (شادكان) الذي يعرف بالفلاحية أيضا. (2) الجوازر على ما انحسر عنه المد والجزر ومنها بطيحة الغراف التي تسمى اليوم بلاد الجوازر. وفي (الرحلة الحجازية) أن الجوازر - المسماة بالجواهر هي أرض واسعة وقرى عامرة وعريان عظيمة، يحدها من ناحية البصرة الدكة والحمار. أما العرجة فهي من أرضي المنتفق، والسماوة وحدها (الدراجي) وتعد من العرجة. والعرجة هي أرض واسعة بين المنتفق والسماوة، وتعد من قضاء السماوة. (عشائر العراق للغراوي). وحسن آغا حاكم العرجة والجوازر قال عنه في (الرحلة الحجازية) هو المعروف برجل جوخة وهو رومي الأصل بلغ من الحالتين غايتهن ونهايتهن، وهو السخاء الذي لا يقاس والشجاعة التي لا توصف، تملك من الديار من حد الباطنة إلى باب الحلة والجوازر بأجمعها، وكان عنده ثلاثمائة خيال منهم من مشعشعي الحويزة سبعون خيالا أحدهم الأمير باليل. ومن مراجله أنه ركب عليه كخية بغداد بعشرة آلاف وعلي باشا (حاكم البصرة والجزائر) بجميع عساكره والسيد منصور خان (حاكم الحويزة) مددا لعلي باشا وحاصروه بالعرجة أربعين يوما فلم يبلغوا منه شيئا وبعدها قتله الروم خديعة عام (1049 ه). 183 الحويزي حاكم الحويزة 1125 - 1128 ه. وبعد تفرق أهل الجزائر أثر الهجوم الذي مر ذكره نجد السيد علي بن باليل يسكن الدورق القديمة، فهي وطنه الثاني وظل يقطنها حتى توفي. وظنه السيد شهاب الدين النجفي المرعشي معاصرا لفقيه الشيعة غارس الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة الشيخ يوسف البحراني، ولكنه توفي قبل أن يولد الشيخ يوسف البحراني رحمهما الله. فهو من علماء القرن الحادي عشر لا القرن الثاني عشر. آثاره العلمية والأدبية له آثار علمية وأدبية كثيرة منها ما لم نعثر عليه في الكتب ومنها ما لم يطبع. فمن آثاره الخطية الموجودة نذكر بعضها: 1 - كتاب المستطاب. قال الشيخ آقا بزرگ الطهراني في ج 21 صفحة 10 تحت رقم 3691 من موسوعته الذريعة إلى تصانيف الشيعة كما يلي: المستطاب أو شرح كتاب سيبويه الملقب بالكتاب المستطاب في علم النحو مبسوطا للسيد علي بن باليل الحسيني الجزائري المتوفى حدود نيف ومائة بعد الألف للهجرة فرع منه قبل سنة 1095 ه والنسخة موجودة في خزانة كتب السيد الحسن الصدر بخط عبد الرضا بن أحمد الجزائري إلى آخر ما ذكره المحقق الطهراني. 2 - نبذة بنود. تحتوي هذه المنظومة على مائة وثلاثة وخمسين بندا (1)، وتوجد لدي عدة نسخ خطية منها، كما طبعت برمتها في كشكول الشيخ يوسف البحراني المتوفى 1186 ه. 3 - قصيدة في الحكم اسمها القلادة: ذكر المحقق آقا بزرگ الطهراني في موسوعته الذريعة إلى تصانيف الشيعة في جزء 17 صفحة 160 تحت رقم 842 ما يلي: القلادة قصيدة في الحكم للسيد علي بن باليل الحسيني الجزائري الدورقي مطلعها: ردي علي رقادى أيها الرود * علي أراك به والبين مفقود شرحها معاصره الشيخ فتح الله (2) بن علوان الكعبي الدورقي القباني فسمى شرحها الإجادة في شرح القلادة سلك فيه مسلك الصفدي في شرح لامية العجم للطغرائي. 4 قلائد الغيد: وقد أشار إليه السيد محمد الجزائري في كتابه نابغة فقه وحديث الذي مر ذكره، ولعله أول من عرف قراء كتابه المذكور عن قلائد الغيد للسيد علي بن باليل، لأنه ما كان أحد من أعقاب الناظم يعلم شيئا عن هذه القصائد، وحتى الشيخ آقا بزرگ الطهراني الذي بذل جهدا كبيرا في سبيل التعرف على مؤلفات الشيعة وآثارهم، فاته أن يذكر شيئا عن هذه القلائد في موسوعته الذريعة إلى تصانيف الشيعة بينما أشار إلى القصيدة الموسومة بالقلادة التي مر ذكرها، وكنت منهمكا في التفتيش عن آثار علمائنا السلف، وخاصة آثار أولئك الذين يمتون إلينا بصلة في النسب، فكاتبت أكثر خزائن الكتب الحديثة والقديمة مستفسرا عن تآليف السيد علي بن باليل فلم أعثر لها على أثر، وبعد أن حصل لي الياس في شان العثور عليها اتفق لي أن زرت السيد محمد الجزائري في جمادى الثانية عام 1392 في بيته في الأهواز وسألته عما إذا كان قد عثر على قصيدة القلادة للسيد بن باليل، فعبر عن أسفه لعدم عثوره عليها. لكنه أخبرني أنه يحتفظ بكتاب من آثار السيد بن باليل اسمه قلائد الغيد وما إن سمعت منه هذا حتى كدت أطير فرحا لشدة اشتياقي إلى مطالعته وتصفحه، فحمدت الله وشكرته على أني كنت أبحث عن قلادة واحدة، فمنحني الله سبع قلائد. نموذج من قلائد الغيد إلى متى أنت باللذات في شغل * أما سمعت بفعل الدهر بالأول أين النجاء من الأرزاء فاغرة * والموت يفتر عن أنيابها العصل ما بال سعيك للدنيا على عجل * ملأ الفروج وللأخرى على مهل قم سابق الموت واعكس ما منيت به * وانهض إلى عمل الأخرى على عجل ما أعجل النائم المضحى انتباهته * والدهر عجلان قد يدعو على عجل وما تصاحى نزيف الجهل من سفه * وما تناهض رب العجز من كسل وما أفاق بنو الأيام يوم علا * رأس الحسين على الخطية الذبل وسار ذو الثفنات الحبر يتبعه * مكبلا عمتاه من على البزل ما كر أشام من يوم تخوض به * بنات أحمد منه في دم هطل أضحت عيالا عيال السبط بارزة * على عيال يزيد في ذرى الكلل وما رحلن بأمر من يزيد إلى * نادي يزيد على قتب ولا رحل ما كان أقوى أعالي الدهر حين سطى * بالطاهرين ولم يرجع على فشل وكيف ينسى صريع الطف منجدلا * تعلو عليه عواتي الخيل والذلل أو كيف يسلي شريف النعل منعفرا * بين الخميين شلوا غير منتعل وتسعة من علي حوله ذبحوا * وخمسة من عقيل ذبحة الإبل وا ضيعة الدين والدنيا بما صنعت * بنو أمية بابني خيرة الرسل
(1) البند نوع من الشعر بين النظم والنثر. قال في (معادن الجواهر ونزهة الخواطر) الجزء الثالث صفحة 585 في تعريف البند: وهو منوال غريب قد يخرج عن أوزان الشعر وقد يوافقها. اخترعه أهل الحويزة وفيه قصائد. وفي ما يخص بنود السيد علي بن باليل قال الأستاذ عبد الكريم الدجيلي في كتابه (البند في الأدب العربي) المطبوع عام 1378 هجري في بغداد قال: هذه البنود جاءت على وزن مخالف الأكثرية البنود التي جاءت على وزن الهزج، وهي من الأدب العرفاني الذي يقتل نظيره، ولم أقف مع تتبعي واستقرائي على مثلها جودة وصناعة وعمقا، كما لم أقف على ترجمة صاحبها مع إحقائي السؤال، وأغلب الظن أن ناظمها من أدباء القرن الثاني عشر وقد يكون قبل هذا الزمن. (2) الشيخ فتح الله بن علوان الكعبي الدورقي القباني أحد علماء القرن الحادي عشر، كان معاصرا للسيد علي بن باليل، ترجم له جماعة من العلماء وفي كتابه (شرح زاد المسافر والمقيم) الموجود خطيا في مكتبة سبهسالار بطهران: هو فتح الله بن علوان بن بشارة بن محمد بن عبد الحسين الكعبي نسبا والقباني مولدا ومنشأ، ولد سنة (1053) وتوفي سنة (1130)، قال السيد عبد الله الجزائري في الإجازات الكبيرة في ترجمة الشيخ الكعبي: هو ذو باع في الأدب مديد، ونظر في إدراك اللطائف حديد، وفهم من موارد النكات سديد، وك في اقتناص المعارف شديد، ويد تلعب بالمعاني لعب الراح بالعقول، وذهن انطبع فيه فنون المعقول والمنقول، له كتب منها كتاب زاد المسافر والمقيم. (وهذا الكتاب وضعه كمقامة في شرح الأحداث التي جرت على حسين باشا عام 1078 ه، فأدت إلى هزيمة حسين باشا). ومنها كتاب الإجادة في شرح القلادة، وله الفتوحات في المنطق وغيرها. وكان الشيخ الكعبي قد ولي قضاء البصرة فترة. 184 لم تال جهدا إلى أن كل لهدمها * ونازعتها بنو الدنيا على الدول وما لمروان ما حالت كياسته * من دونه عند ركض الخيل بالأجل قد أغفل الحزم مروان وعصبته * وحازم الدهر لم يغفل عن الغفل يا خاتم الأمويين الذين غدا * في المجد يتلو خطاها كل منتحل قد حاق مكركم فيكم على غرر * منكم وربك لم يهمل على المهل وفيها يقول: حد في سراك ولا تشغل حشى شغلت * يا أيها البرق أني عنك في شغل بي من ظباء نجيل أعين فنيت * منها الحشاشة بين النجل والنجل أغرى الهوى بي وأغريت الفؤاد به * ولم أضق عنه لو ضاقت به سبلي والطرف جار على ضعفي بقوته * ورب ذي كسل يقوى على الكسل وبدل الدهر مني فاحما سبطا * تعنو له نظرات الأعين النجل وما يريد الهوى مني وذي حججي * في الرأس بيض ولا أقوى على الجدل وليس لي حاجة في دار عاتكة * كلا ولا ناقتي فيها ولا جملي وأن عندي أحاديث الهوى كملا * فان وجدت محلا للسؤال سل ولي على الخبر عند الدهر مسالة * عن حال سلمى على الأحوال والحول وفيها يقول: ومستطيلا على وهم البقا سفها * قم واقصدن الفنا المحتوم وانتقل وأنت يا طالب الدنيا لغرته * دع عنك خوانة أن تصفها تحل هذي بحار المنايا بالردى اعترضت * فاسبح إلى ساحل الأخرى على العمل عمر الشبيبة ولى فاغتنم عملا * ينجيك في الشيب عند الله من زلل خطو الحمام بوخط الشيب متفق * مثل اتفاق غرور القلب بالأمل إذا أتاك نذير الموت منك ولم * تشعر به فاتركن العقل للخطل وافاك خطبك منقادا إليك ضحى * بشعرة فأعد الزاد وارتحل وليتعظ رب شيب بالشباب فقد * ولى الشباب من الدنيا على وجل لا بارك الله بالآمال تطمعنا * طول الحياة فننسى عاجل الأجل وندحض العمل المنجي نسوفه * إلى غد وغد يأتي بلا عمل و لا يزال غد لو قلت بعد غد * أو قلت قبل غد فاعمل ولا تقل كالآل يحسبه الرائي على غرر * ماء فيهريق ماء بارد النهل شكى الزمان أناس قبلنا درجوا * والشمس في الأوج لا كالشمس في الطفل يا جهلنا كم وجدنا منزلا خربا * لم يخل من قبل في حين عن النزل وما اعتبرنا بمعمور ولا خرب * ولا بفقدان أهلي منزل نزل ناديت دهري بما طال النداء به * من الشباب إلى أن شبت في قذلي فلم يجبني ولكن الصدى بدلا * منه أجاب بصوت أيما صحل تأتي النوائب كالأمواج تضربها * هوج الرياح وكالأرياح والطفل والخير يمشي الهوينا لو دعوت به * يوما كان به قيدين من وثل والدهر ان جاء باليسرى اتاك على العسري * كان به ضربا من القزل وإن أتاك بشر جاء يقدم ما * يأتي به ويحث السير في عجل يا ويح نفسي كفاني الله صولتها * قد ضيقت بي إلى ارشادها سبلي بذلت نصحي وما قصدي سواي به * والنفس أولى بلوم النفس والعذل وخذ إليك عروس الشعر ما عرفت * بحسنها كيف تجلى خلة العطل تميس والعالم النحرير ملبسها * قلائد الدر لفظا غير مبتذل وكلما أنشدت للسمع صيرها * للعين بثنة تحت الحلي والحلل نظمت سبع قواف وهي واحدة * ورب واحدة عن سبعها الطول كررت فيها قوافيها لقلتها * كالمسك لو كررته ربة الكل سميتها عند ما نظمتها دررا * قلائد الغيد فاعرفها ولا تسل كأنها الكوكب الدري منقسما * لسبعة هزأت بالسرج والشعل زان القريض بخود منه جاء بها * للمجتلين لها بالسمع فكر علي أنى وأنى ابن باليل برزت بها * كالرود لو أبرزت بالحجل من حجل وليغلون بها غرا محجلة * وليزهدن بذات الحجل والحجل وليقبلن إليها السمع مرتشفا * وقبله القلب بعد الضم بالقبل ولم يشنها بما عندي منظمة * في بعضها جعل ذي فعل على فعل خذها إليك يهز التيه قامتها * كالرمح والغصن أن يهزز وأن يمل وليكف قائلها فخرا ومنشدها * من كل مستمع قولان زد وقبل علي بن حمدان سيف الدولة الحمداني. مرت ترجمته في موضعها من الأعيان، ومرت كلمة عنه في المستدركات. وننشر هنا عنه هذه المكرمة التي تدل على مدى عطفه على الضعفاء واستجابته لاستغاثة المعوزين، وعلى أنه كان ملجا أبناء الشعب في محنهم حتى وهم بعيدون عنه في بغداد: قال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء وهو يترجم للفقيه الحنفي عبيد الله بن الحسن البغدادي الكرخي: لما أصاب أبا الحسن الكرخي الفالج في آخر عمره، حضر أصحابه: أبو بكر الدامغاني، وأبو علي الشاشي، وأبو عبد الله البصري، فقالوا: هذا مرض يحتاج إلى نفقة وعلاج، والشيخ مقل ولا ينبغي أن نبذله للناس، فكتبوا إلى سيف الدولة بن حمدان، فأحس الشيخ بما هم فيه، فبكى، وقال: اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عودتني، فمات قبل أن يحمل إليه شئ. ثم جاء من سيف الدولة عشرة آلاف درهم، فتصدق بها عنه. 133: منتجب الدين أبو الحسن علي بن عبيد الله بن بابويه صاحب الفهرست. مرت ترجمته في الصفحة 286 من المجلد الثامن وننشر هنا تفصيلات أخرى مكتوبة بقلم السيد عبد العزيز الطباطبائي: مولده ووفاته: أما ولادته فقد أرخها تلميذه الرافعي في التدوين بسنة 504، وأما وفاته فلم أر من أرخها وضبطها غير أنه كان حيا إلى سنة ستمائة، ففي تلخيص مجمع الآداب في ترجمة منتجب الدين نقل عن كتاب الجمع المبارك والنفع المشارك لابن الغزال الأصفهاني في ترجمته لمنتجب الدين أنه أجازه سنة 600. فيظهر أنه كان حيا إلى هذا التاريخ وأنه توفي في مطلع القرن السابع. أسرته: وأسرة آل بابويه أسرة علمية عريقة في قم والري، أنجبت كثيرا من العلماء ومشاهير الحفاظ والفقهاء والمحدثين. هم في الذورة والسنام من أعلام الطائفة عبر قرون ثلاثة، منذ منتصف القرن الثالث الهجري حتى مطلع القرن السابع، ففي خلال هذه الحقبة من الزمن نبغ منهم رجال وأعلام، ودوى صيتهم في الأوساط العلمية.
185 فأول من نبغ منهم واشتهر صيته هو أبو الحسن علي بن الحسين بن موسى ابن بابويه المتوفى سنة 329، وآخرهم ممن برز ونبغ واشتهر منهم هو منتجب الدين. ولم نعرف بعده أحدا ظهر واشتهر من هذه الأسرة. ولكن في خلال هذه الفترة فيهم كثرة مرموقة من أعلام نابهين وفقهاء ومحدثين قل نظيرها في سائر الأسر العلمية، فبهم يضرب المثل في كثرة الأعلام، فترى الشهيد الثاني مثل بهم في كتاب الرعاية في شرح الدراية ص 125 للرواية عن خمسة آباء برواية الشيخ الجليل بابويه بن سعد بن محمد بن الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين بن بابويه عن أبيه سعد عن أبيه محمد عن أبيه الحسن عن أبيه الحسين. وحكى ابن حجر في ترجمته من لسان الميزان قال، عن ابن أبي طي أنه قال عن أسرته: كان بيته بيت العلم والجلالة، ومثل أيضا للرواية عن ستة آباء برواية الشيخ منتجب الدين عن ستة من آبائه يروي كل منهم عن أبيه نسقا إلى ستة آباء، ثم قال: وهذا الشيخ منتجب الدين كثير الرواية واسع الطرق عن آبائه وأقاربه وأسلافه، ويروي عن ابن عمه الشيخ بابويه المتقدم بغير واسطة، وأنا لي الرواية عن الشيخ منتجب الدين بعدة طرق مذكورة فيما صنعته من الطرق والإجازات. وقال ميرزا عبد الله أفندي في رياض العلماء 4 140 في ترجمة الحسين بن علي بن بابويه، الجد الأعلى لمنتجب الدين: وهو وأخوه وابن هذا الشيخ وسبطه وأحفاده نازلا إلى زمن الشيخ منتجب الدين كلهم كانوا من أكابر العلماء. وقال السيد محمد صادق بحر العلوم النجفي في دليل القضاء الشرعي 3 157: يظهر من فهارس الشيوخ ومعاجم التراجم فضل آل بابويه بين أعلام الطائفة ومشائخ الأصحاب، حيث كانوا من سدنة العلم، وحملة الحديث، وأعيان فقهاء الامامية، وقد خدموا كثيرا وساهموا في حفظ آثار أهل البيت ع بمؤلفاتهم ومروياتهم. ولكثرة رجالات الأسرة بني بابويه وتوفر العلماء فيها ألف الشيخ سليمان البحراني رسالة مفردة في تراجم أعلام آل بابويه نقل عنه الشيخ أبو علي الحائري في منتهى المقال في ترجمة منتجب الدين. والأسرة أصلها من قم ثم نزح كثير منهم إلى الري واستوطنوها ولا ندري متى كان ذلك ولا الأول منهم، فترى أن الشيخ منتجب الدين ينسبونه رازيا ولا ينسبونه قميا، وقد وصف هو في الفهرست: جده شمس الاسلام حسكا فقال: القمي نزيل الري. ويبدو أن انتقالهم إلى الري كان أسبق من هذا، وربما كان منذ عهد الشيخ أبي جعفر الصدوق المتوفى سنة 381 وهو عم جد جد منتجب الدين، فلعله هو أول من انتقل منهم إلى الري. لصلاته الوثيقة بحاكمها ركن الدولة البويهي، وهو قد توفي بالري وقبره بها يزار. نشأته: نشأ في أسرة علمية دينية وفي أحضان أبيه موفق الدين وسائر أعلام أسرته، ففتح عينه على طلب العلم واستماع الحديث وإملائه، فولع بذلك منذ نعومة أظفاره وأولاه والده رعاية خاصة وعناية بالغة، فلا غرو أن ينشأ حريصا على الطلب جادا فيه دائبا عليه. طلب الحديث منذ سن مبكرة في بلدة الري على مشائخها والطارئين عليها، فقد كانت الري في طريق قاصدي خراسان، كما كانت في طريق حاج خراسان، فإنهم كانوا يذهبون إلى الحج من العراق على طريق الكوفة، فأدرك المنتجب مشائخ كثيرين وسمع الحديث الكثير، وكان حريصا على ذلك أشد الحرص. قال عنه تلميذه الرافعي في التدوين: ولم يزل كان يترقب بالري ويسمع ممن دب ودرج ودخل وخرج وجمع الجموع... وقال قبل ذلك كما يأتي نصه: يكتب ما يجد ويسمع ممن يجد، ويقل من يدانيه في هذه الأعصار في كثرة الجمع والسماع والشيوخ الذين سمع منهم وأجازوا له... الثناء عليه: تجد الاطراء له والثناء البالغ عليه في كتب الطبقات ومعاجم الرجال، وفي غضون الإجازات منذ عصره حتى الآن من أعلام الخاصة والعامة يذكرونه بكل تبجيل ويصفونه بالحفظ والإمامة والوثاقة. وإليك نماذج من كلمات الفريقين فمن الفريق الأول: 1 تلميذه برهان الدين محمد بن محمد بن علي الحمداني وهو أول من نسخ كتاب الفهرست ورواه عن مؤلفه، فكتب في وصف أستاذه المؤلف: الشيخ الامام الحافظ السعيد موفق الاسلام سيد الحفاظ رئيس النقلة سيد الأئمة والمشايخ خادم حديث رسول الله ص. 2 الشهيد الثاني زين الدين بن علي بن أحمد العاملي المستشهد سنة 966، قال في إجازته للشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي: وأجزت له أدام الله تعالى معاليه أن يروي عني جميع ما رواه الشيخ الامام الحافظ منتجب الدين... وكان هذا الرجل حسن الضبط كثير الرواية عن مشائخ عديدة... 3 وقال المجلسي: والشيخ منتجب الدين من مشاهير الثقات والمحدثين، وفهرسته في غاية الشهرة... فحكى كلام الشهيد الثاني. 4 ميرزا عبد الله أفندي الأصفهاني، قال في كتابه رياض العلماء وحياض الفضلاء في ترجمة منتجب الدين 4 140: كان قدس الله روحه بحرا من العلوم لا ينزف، وهو الشيخ السعيد الفاضل العالم الفقيه المحدث الكامل شيخ الأصحاب. 5 وقال الشيخ سليمان البحراني في رسالته التي أفردها لتراجم آل بابويه في ترجمة منتجب الدين: قدس الله روحه من مشاهير الثقات وفحول المحدثين. 6 وقال الحر العاملي في أمل الأمل 2 194 في ترجمة الشيخ منتجب الدين: كان فاضلا عالما ثقة صدوقا محدثا حافظا راوية علامة... الشيخ الامام الحافظ...
186 7 وقال الشيخ أسد الله الدزفولي في مقابس الأنوار ص 16 في ترجمة منتجب الدين: الشيخ الفاضل الكامل العلامة الصدوق المحدث الحفظة الثقة الرواية منتجب الدين... وأما الفريق الثاني: فإليك نماذج مما ظفرنا به من ثناء أعلام غير الشيعة عليه: 1 فأولهم معاصره الحافظ بن عساكر الدمشقي المتوفى سنة 571 قال: قرأت بخط أبي الحسن علي بن عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن بابويه الرازي شاب كان يسمع معنا الحديث بالري سنة 529 (1). 2 وترجم له ابن الصابوني المتوفى سنة 680 في تكملة إكمال الاكمال ص 17 ووصفه بالامام أبي الحسن علي بن الحسين بن بابويه الرازي، وذكر من مؤلفاته كتاب الأربعين. 3 وترجم له ابن الفوطي المتوفى سنة 723 (2) في تلخيص مجمع الآداب 5 775 في حرف الميم بلقبه منتجب الدين وقال: أبو الحسن علي... ابن بابويه القمي الرازي المحدث المقرئ... 4 وترجم له تلميذه أبو القاسم الرافعي المتوفى سنة 623 في كتاب التدوين في ذكر أهل العلم بقزوين، وأثنى عليه ثناء بالغا، وإليك نصه قال: علي بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن بابويه، أبو الحسن بن أبي القاسم بن أبي الحسين الرازي الحافظ. شيخ ريان من علم الحديث سماعا وضبطا وحفظا وجمعا، يكتب ما يجد ويسمع ممن يجد، ويقل من يدانيه في هذه الأعصار في كثرة الجمع والسماع والشيوخ الذين سمع منهم وأجازوا له، وذلك على قلة رحلته وسفره. أجاز له من أئمة بغداد: محمد بن ناصر بن محمد البغدادي، وهبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن الحصين الشيباني، وأحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي، وأبو عامر محمد بن سعدون بن مرجي بن سعدون، ومحمد ابن إبراهيم بن محمد بن سعدويه أبو سهل، ومحمد بن محمد بن الحسين بن الفراء، ومحمد بن الحسن بن علي الماوردي، وأحمد بن عبد الله بن أحمد بن رضوان، وأبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الوهاب النحوي البارع، ومحمد بن أحمد بن يحيى الديباجي العثماني، ومحمد عبد الباقي بن محمد بن عبد الله، وأحمد بن علي بن محمد بن الحسين بن عبد الله السكن، وهبة الله بن أحمد بن عمر الحريري، وثعلب بن جعفر بن أحمد السراج، وعبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد القزاز، وأبو محمد عبد الله بن محمد بن نجا بن محمد بن علي المعروف بابن شاتيل، وعلي بن عبيد الله بن الزاغوني، وأحمد بن محمد بن عبد العزيز العباسي. أجازوا له مسموعاتهم وإجازاتهم في سنة اثنتين وثلاث وعشرين وخمسمائة. وأجاز له المسموعات وحدها منصور بن محمد بن الحسن أبو المظفر الطالقاني، وهبة الله بن عبد الله الواسطي، وعبد الوهاب بن المبارك بن أحمد بن الحسن الأنماطي. ومن غيرهم (3) أبو القاسم زاهر بن طاهر بن الشحامي أجاز له روايته سماعا وإجازة وأخوه وجيه بن طاهر، والقاضي عبد الكريم بن إسحاق بن سهلويه، وأبو جعفر محمد بن زيد بن محمد الهاروني الحسني، وأبو نصر الفضل بن محمد النصري مسموعاتهم. وإسماعيل بن أبي الفضل الناصحي، وأبو القاسم سعد بن أميرك بن عبد الملك، وأبو ثابت صالح بن الخليل الروياني، وأبو الحسين بن ذكوان بن أحمد بن الحسن الخطيب، وأبو هاشم أحمد بن أبي مسلم بن أبي هاشم الأنصاري، وملكة بنت الامام أبي الفرج محمد بن محمود القزويني، وأبو بكر لاحق بن بندار بن أبي بكر الخياط، وأبو العباس أحمد بن إبراهيم الأخباري، وعلي بن أبي صادق السعدي، وسعد بن الحسن بن محمد الخطيب (4). وضعفا من سمينا من شيوخ طبرستان مسموعاتهم وإجازاتهم. وكذلك محمد بن علي بن محمد بن ياسر الجناتي، والحافظ أبو جعفر محمد بن أبي علي الحسن بن محمد بن الحسن الحمداني المرودي، وعبد الخلاق بن عبد الواسع بن عبد الهادي الأنصاري، وعبد الغفار بن محمد بن عثمان القومساني، والحسن بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله بن بيدان، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الخطيب الكشميهني، وعبد الله بن أحمد بن محمد البزاز، ومحمد بن أبي نصر شجاع بن أبي بكر اللفتواني الحافظ. وأجاز له المسموع والمجاز (5) محمد بن حمد بن عبد الله الكبريتي الفواكهي، وأم إبراهيم فاطمة بنت عبد الله بن أحمد الجوزدانية، وإسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ، وأبو نصر الحسن بن محمد بن إبراهيم، وأبو الوفاء أحمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن أبي ذر الصالحاني، والحسن بن الفضل بن الحسن الأدمي، ثم الخلق الجم من الطبقة الذين بعدهم من أئمة أصبهان، كإسماعيل الحمامي، ومحمد بن الهيثم، وأبي عاصم قيس بن محمد المؤذن وأقرانهم. وقس بالمذكورين أئمة سائر البلاد الذين أدرك زمانهم. وسمع الكثير بأصبهان وقزوين، وممن سمع منه بقزوين أبو المحاسن عبد الرحيم بن الشافعي الرعوي وأبو الفضل الكرجي وغيرهما. ولم يزل كان يترقب بالري ويسمع ممن دب ودرج ودخل وخرج، وجمع الجموع، وكان يسود تاريخا كبيرا للري فلم يقض له نقله إلى البياض وأظن أن مسودته ضاعت بموته. ومن مجموعه كتاب الأربعين الذي بناه على حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه المترجم لأربعين حديثا، وقد قرأته عليه بالري لسنة أربع وثمانين وخمسمائة... وقرأت عليه الأربعين بتمامه وأيضا الغيلانيات بروايته عن الحافظ
(1) نقله عنه الحافظ المزي في تهذيب الكمال 1 / 173. (2) ابن الفوطي من الشيعة. (3) أي غير البغداديين، فإلى هنا كلهم كانوا مشائخ بغداد. (4) هؤلاء مشائخه في طبرستان. (5) هؤلاء من مشائخه الأصبهانيين. 187 محمد بن علي بن ياسر عن ابن الحصين وإجازته عن ابن الحصين، وفضائل الخلفاء الراشدين للحافظ علي بن شجاع المصقلي بروايته عن عبد الكريم بن سهلويه، إجازة عن القاضي أبي معمر الوزان عن المصقلي. وبطرق أخر الأربعين المخرجة من مسموعات الرئيس أبي عبد الله الثقفي (1) المتوفى سنة 489. بروايته عن محمد بن الهيثم، وأبي المظفر الصيدلاني، وأبي عمرو الخليلي البصير بروايتهم عن الرئيس. وجزء محمد بن سليمان المصيصي لوين بروايته عن عبد المنعم بن سعدويه وأبي الوفاء المميز، وبنيمان بن الحسن بن ميلة، وأم الشمس مباركة بنت أبي الفضل بن ماشاذة، وأم الضياء لامعة بنت الحسن بن أحمد الوراق بروايتهم عن أبي بكر محمد بن أحمد بن ماجة، عن أبي جعفر بن المرزبان عن الحروري عن لوين. وكان ابن بابويه ينسب إلى التشيع، وقد كان ذلك في آبائه وأصلهم من قم، لكني وجدت الشيخ بعيدا منه... وقد قرأت عليه في شوال سنة 585: أخبركم السيد أبو تراب المرتضى بن الداعي بن القاسم الحسني وأبو علي بنيمان بن حيدر بن الحسن الكاتب، وأبو الفتوح أحمد بن عبد الوهاب بن الحسن الصراف قالوا أنبأ أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين الحافظ، ثنا قاضي القضاة الكافي أبو خلف منصور بن أحمد بن القاسم... فذكر حديثا. وسمع منه الحديث بالري أهلها والطارئون عليها، ورأيت الحافظ أبا موسى المديني روى عنه حديثا. وكانت ولادته سنة أربع وخمسمائة، وتوفي بعد سنة خمس وثمانين وخمسمائة. ولئن أطلت عند ذكره بعض الإطالة فقد كثر انتفاعي بمكتوباته وتعاليقه، فقضيت بعض حقه بإشاعة ذكره وأحواله رحمه الله تعالى. رحلاته العلمية والشيخ منتجب الدين وإن وصفه الرافعي بقلة الرحلة إلا أن الذي علمنا به من رحلاته إلى العواصم الدينية والحواضر العلمية وبلدان كانت يومذاك مراكز الثقافة الاسلامية هو عدد لا يستهان به، ولعل الذي خفي علينا أكثر وأكثر، وها نحن نذكر البلاد التي رحل إليها على ما بلغه علمنا حسب الحروف الهجائية: 1 أصبهان. صرح الرافعي في التدوين في ترجمة المنتجب: أنه سمع الكثير بأصبهان وقزوين، ثم عدد جماعة من شيوخه الأصبهانيين. وصرح هو في كتاب الأربعين في عدة من شيوخه الأصبهانيين أنه سمع منهم بأصبهان. 2 بغداد صرح الرافعي أنه أجيز من علماء بغداد في سنتي 522 و 523، وعدد جماعة كثيرة من شيوخه البغداديين، ولو لم يصرح الرافعي بالتاريخ المتقدم لعلمنا ذلك من وفيات شيوخه، فان بعضهم ممن توفي سنة 523 وبعضهم من المتوفين عام 524 كما يأتي عند عد شيوخه، فكنا نعلم أن رحلته إليهم كانت قبل ذلك التاريخ. ثم نقرأ في كتابه الفهرست في ترجمة محمد بن إدريس الحلي أنه قال: شاهدته بحلة. وحيث نعلم أن ابن إدريس ولد عام 543 دلنا ذلك على اجتماعه به في الحلة، لا بد وأن يكون في عشر الستين بعد الخمسمائة حيث كان بلغ ابن إدريس مبلغ الرجال المرموقين والفقهاء المعروفين. وعلى ذلك فلا بد أن يكون قد رحل إلى العراق مرتين مرة في عام 522 وأخرى حيث التقى بابن إدريس، أو نقول إنه لم يرحل إلى بغداد سوى هذه الرحلة الأخيرة، وإن إجازة مشائخ بغداد له في عامي 522 و 523 كانت بالمكاتبة وهو خلاف الظاهر. 3 الحلة تقدم أنه اجتمع بالحلة بابن إدريس المولود 543 والمتوفى 598، وكذلك صرح المنتجب في الفهرست في ترجمة الأمير الزاهد ورام بن أبي فراس أنه التقى به في الحلة. والحلة يومئذ من الحواضر العلمية الكبرى للشيعة ومن مراكز الثقافة لها تزخر باعلام العلماء من فقهاء وأدباء وشعراء، فلا بد أن يكون قد اجتمع بكثير منهم أو أكثرهم وأفاد واستفاد، ولكن لم يسجل لنا التاريخ أكثر مما قدمناه. وذكر المنتجب في ترجمة سديد الدين الحمصي بعد عد كتبه أنه قرأ عليه أكثر هذه الكتب، ولا ندري أقرأها عليه في الحلة، أم في الري، أم في كليهما، فان الحمصي كان في البلدين جميعا. وليس من شك في أن منتجب الدين قد ذهب في النوبتين إلى الكوفة واجتمع باعلامها ومحدثيها، وهي يومئذ مدرسة حديث وفقه للشيعة إمامية وزيدية، وكانت الكوفة يومئذ يقصدها الرحالون في طلب العلم لسماع الحديث حتى من غير الشيعة كالحافظ بن عساكر وأبي سعد السمعاني والحافظ أبي طاهر السلفي، فكان من رحل إلى العراق من البلدان النائية في طلب الحديث يقصد الكوفة ويقرأ على مشائخها. وقد ظلت الكوفة من البلدان المقصودة بالرحلة في طلب الحديث، فهذا الحافظ الصوري قصد الكوفة وسمع بها من أربعمائة شيخ. وهذا أبو سعد السمعاني قد دخل الكوفة ثلاث مرات، وسمع بها الحديث، وقرأ على مشائخها، وزار مشهد أمير المؤمنين ع في النجف الأشرف وسمع الحديث بها (2). فمما لا شك فيه أن منتجب الدين دخل الكوفة واجتمع باعلامها وأفاد واستفاد، كما أنه مما لا شك فيه أنه قصد النجف الأشرف وكربلاء، وزار المشهدين الشريفين مشهد أمير المؤمنين وابنه الحسين سيد الشهداء ع.
(1) القاسم بن الفضل الثقفي الأصبهاني المتوفي سنة 489. (2) التحبير 2 / 361، 362. 188 فلا يحتمل أن يكون المنتجب وصل إلى الحلة ولم يزر الامامين ع، فمن المقطوع به أنه ذهب إلى كربلاء وإلى النجف الأشرف، واجتمع بمن فيهما من أعلام الطائفة والنجف الأشرف يومذاك عاصمة العلم للطائفة، وبها أبو نصر محمد بن الحسن الطوسي حفيد شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460، وعدد لا يستهان بهم من تلامذة أبيه أبي علي الطوسي. 4 خوارزم علمنا من ترجمة شيخه منير الدين الأصبهاني نزيل خوارزم أنه رحل إليها وسمع الحديث بها وقرأ على مشائخها، حيث يقول في ترجمة المذكور: شاهدته بخوارزم وقرأت عليه. والظاهر أنه في طريقه من الري إلى خوارزم قد تجول في كل مدن خراسان الزاخرة بالأعلام والمحدثين، فقد كانت مدن خراسان في تلك المرحلة من الزمن تقصد من البلاد النائية لطلب العلم يقصدها الرحالون والمحدثون من خارج إيران لاستماع الحديث بها، فلا بد أن يكون المنتجب قد دخل سبزوار وقومس وبسطام، ولعله قرأ على شيخه الطبرسي في سبزوار أو في مشهد، وكذلك شيخ أبو البركات المشهدي فالظاهر أنه قرأ عليه في مشهد وزار الإمام الرضا ع بها، وكذلك هراة ومرو وبخارا وبلخ ونحوها من المدن التي يمر بها أو يقصدها والقرى المجاورة لها. وأما نيسابور فقد صرح بقراءته بها وسنذكرها. 5 طبرستان قد عدد الرافعي في التدوين في ترجمة منتجب الدين كما تقدم عدة من شيوخه الطبريين ثم قال: وضعفا من سمينا من شيوخ طبرستان مسموعاتهم وإجازاتهم. وكلامه ظاهر في أنه رحل إلى طبرستان لطلب العلم، وتجول في مدنها وقراها، وقرأ على مشائخها، وسمع من أعلامها، وأجازوا له في الرواية عنهم، وهم من الكثرة بحيث لم يحصهم الرافعين بل عدد بعضا وترك أضعافا. 6 قزوين تقدم في أصبهان قول الرافعي أنه سمع الكثير بأصبهان وقزوين، وممن سمع منه بقزوين أبو المحاسن عبد الرحيم بن الشافعي الرعوي، وأبو الفضل الكرجي... 7 كاشان صرح المنتجب في ترجمة ضياء الدين أبي الرضا الراوندي أنه قرأ عليه. والسيد أبو الرضا يومئذ زعيم كاشان وفقيهها ومفتيها، يقصده الرحالون لطلب العلم وسماع الحديث، وقد قصده أبو سعد السمعاني ورحل إليه وقرأ عليه كما يأتي في التعليق على ترجمته. 8 نيسابور صرح المنتجب في ترجمة السيد لطف الله النيسابوري أنه قرأ عليه كتبا بنيسابور. ونيسابور يومئذ قبل غزو التتر لها حاضرة كبيرة من حواضر دنيا الاسلام، وعاصمة لها أهميتها من بين عواصم العلم والحديث والثقافات الاسلامية، ولكن لا نعلم تاريخ رحلته إليها ولا مدة بقائه بها، والظاهر أنه كان ذلك في أثناء رحلته إلى خوارزم وفي طريقه إليها. ومهما كان فهي لا تبعد كثيرا من الري، فربما دخلها أكثر من مرة. هذا ما توصلنا إليه من بلاد رحل إليها في سبيل العلم، وابتغاء سماع الحديث، وربما كان الذي خفي علينا أكثر مما ذكرنا. مشائخه: قال الرافعي في ترجمة المنتجب: الحافظ، شيخ ريان من علم الحديث سماعا وضبطا وحفظا وجمعا، يكتب ما يجد، ويسمع ممن يجد، ويقل من يدانيه في هذه الأعصار في كثرة الجمع والسماع، والشيوخ الذين سمع منهم وأجازوا له... ثم سمى بعض مشائخه البغداديين والخراسانيين والطبريين والأصبهانيين كما تقدم نصه الكامل وقال: ثم الخلق الجم من الطبقة الذين بعدهم من أئمة أصبهان كإسماعيل الحمامي... وأقرانهم، وقس بالمذكورين أئمة سائر البلاد الذين أدرك زمانهم، وسمع الكثير بأصبهان وقزوين... ولم يزل كان يترقب بالري ويسمع ممن دب ودرج ودخل وخرج وجمع الجموع... وقول: قل من يدانيه في هذه الأعصار في كثرة الجمع... شهادة عظيمة من مثل الرافعي في شان المنتجب، فان تلك الأعصار هي فترة كان فيها مثل الحافظ ابن عساكر، وأبي سعد السمعاني، والحافظ أبي طاهر السلفي وأضرابهم. وقال ميرزا عبد الله أفندي في رياض العلماء 4 147 في ترجمة منتجب الدين: واعلم أن هذا الشيخ كثير الرواية عن المشائخ جدا، بحيث يزيد على مائة شيخ، بل يعسر حصرهم وجمعهم وإيرادهم... وها ونحن نذكر من ظفرنا به من شيوخه وما خفي علينا منهم ولم نتمكن من الحصول عليهم أكثر: 1 أحمد بن إبراهيم أبو العباس الأخباري. 2 أحمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن أبي ذر، أبو الوفاء الصالحاني الأصفهاني المتوفى سنة 535، من أولاد المحدثين. ترجم السمعاني في الأنساب 8 255 لجده أبي ذر وغير واحد من أسرته، وترجم ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد له ولابنه أبي طاهر عبد المنعم، وترجم له الصفدي في الوافي بالوفيات. 3 أحمد بن الحسين بن بابا الأذوني، روى عنه المنتجب الحديث السابع من الأربعين قراءة عليه. ترجم له في مطلع البدور وقال: أحمد بن الحسن بن أبي القاسم بابا الأذوني من تلامذة الامام المرشد بالله وهو شيخ الكني المتقدم. أقول: روى عنه في كتاب الأربعين في الحديث السابع، وروى هو عن أبي الحسين. وفي معجم البلدان: قصران الداخل وقصران الخارج، وهما ناحيتان كبيرتان بالري في جبالها، ينسب إليه أبو العباس أحمد بن الحسين بن أبي القاسم بن علي بن بابا القصراني الأذوني من أهل قصران الخارج، وأذون من
189 قراها، وكان شيخا من مشائخ الزيدية صالحا... وكان مولده بأذون سنه 495، روى عنه السمعاني بأذون. وذكره في أذون موجزا وفيه اسم أبيه في كلا الموضعين الحسين. 4 أحمد بن عبد الصمد، أبو عبد الرحمن بن حمويه الحموئي الجويني روى في كتاب الأربعين في الحديث 21 عنه قراءة عليه قدم علينا الري. 5 أحمد بن عبد الله بن أحمد بن رضوان، أبو نصر الرضواني البغدادي المتوفى سنة 524، من شيوخ ابن عساكر. 6 أحمد بن عبد الوهاب بن الحسن الصراف أبو الفتوح البرديني، روى عنه في الحديث 28 من كتاب الأربعين قراءة عليه في داره. 7 أحمد بن علي بن أميركا القوسيني، مترجم في الفهرست. 8 أحمد بن علي بن محمد بن الحسين بن عبد الله بن السكن السبكي؟ 9 أحمد بن محمد بن أحمد القمي الشاهد الفقيه العدل من تلامذة ابن الوراق الطرابلسي المترجم في الفهرست، روى المنتجب عنه عن ابن الوراق. 10 أحمد بن محمد بن عبد العزيز أبو جعفر العباسي نقيب العباسيين بمكة 468 554. 11 أحمد بن محمد بن عبد القاهر أبو نصر الطوسي سنة 525، روى عنه في كتاب الأربعين الحديث. 12 أحمد بن أبي مسلم بن أبي هاشم، أبو هاشم الأنصاري. 13 إسماعيل بن علي بن الحسين النيسابوري ثم الأصبهاني أبو القاسم الحمامي نزيل أصبهان المتوفى سنة 551 عن أكثر من مائة سنة، من شيوخ ابن عساكر والسمعاني والسلفي، قرأ عليه المنتجب في داره بأصبهان كما في الحديث 35 من كتاب الأربعين. 14 إسماعيل بن أبي الفضل بن محمد الناصحي أبو القاسم التميمي. 15 إسماعيل بن محمد بن الفضل، الحافظ أبو القاسم التيمي الطلحي الأصبهاني 457 535، من شيوخ السمعاني وابن عساكر. 16 بابويه بن سعد بن محمد بن الحسن بن بابويه المترجم في الفهرست. 17 بدر بن سيف بن بدر العربي المترجم في الفهرست. 18 بينمان بن الحسن بن ميلة. 19 توران شاه بن خسرو شاه أبو الفوارس الجيلي الزيدي الميلاقجي العراقي. ترجم له في مطلع البدور وقال: هو شيخ الزيدية حافظ علوم الأئمة مرجع الاسناد، وهو شيخ أبي العباس الكني. 20 تيمان بن حيدر بن الحسن بن أبي عدي الكاتب أبو علي البيع، من تلامذة الحافظ عبد الرحمن النيسابوري، روى عنه المنتجب قراءة عليه في الحديث 11 من كتاب الأربعين والحكاية الأولى منه والرابعة. 21 ثعلب بن جعفر بن أحمد بن الحسين، أبو المعالي السراج المتوفى سنة 524، من شيوخ ابن عساكر. 22 جعفر بن إسحاق بن الحسن بن أبي طالب بن حربويه أبو الفضل المعلم، قرأ عليه المنتجب وروى عنه كما في الحديث 20 من كتاب الأربعين. 23 الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد، صدر الحفاظ أبو العلاء العطار الهمداني 488 569 مترجم في الفهرست. قرأ عليه ابن عساكر بهمذان كما في معجم شيوخه. 24 الحسن بن العباس بن علي، أبو عبد الله الرستمي الأصبهاني 478 561 روى عنه قراءة عليه في أصبهان. 25 الحسن بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله بن بندار. 26 الحسن بن علي بن أبي طالب إسحاق، أبو علي الفرزادي الزيدي المعروف بهاموسة هموسة ترجم له في مطلع البدور ووصفه بالعلامة الكبير والامام الخطير... وهو الذي صلى على المرشد بالله يحيى بن الموفق. أقول: روى عنه المنتجب في الحديث 23 من كتاب الأربعين، وابنه علي بن الحسن الفرزادي أيضا من شيوخ المنتجب يأتي. 27 الحسن بن علي بن أحمد أفضل الدين الماهابادي، مترجم في الفهرست، روى عنه المنتجب في ترجمة جده أحمد المهابادي. 28 الحسن بن الفضل بن الحسن بن الفضل أبو علي الأدمي. 29 الحسن بن محمد بن إبراهيم أبو نصير اليونارتي الأصبهاني 466 527 ويونارت قرية بباب أصفهان. 30 الحسن بن محمد بن أحمد بن علي قاضي القضاة عماد الدين، أبو محمد الاسترآبادي، الفقيه الحنفي، قاضي الري كما في معجم شيوخ ابن عساكر، روى عنه المنتجب الحديث 31 من كتاب الأربعين. 31 الحسن بن محمد بن الحسن، السيد نجيب السادة ونجيب الدين أبو محمد العلوي الموسوي. 32 الحسين بن علي جمال الدين أبو الفتوح الخزاعي المفسر الرازي ترجم له في الفهرست. 33 الحسين بن محمد بن عبد الوهاب، أبو عبد الله البارع الدباس المقرئ الأديب النحوي البغدادي 443 524 من شيوخ ابن الجوزي وابن عساكر. 34 خمارتاش بن عبد الله الرومي أبو منصور العمادي، ترجم السمعاني لخمارتاش بن عبد الله الرومي في التحبير 1 272، وقال: توفي بنيسابور بعد سنة 531، وأظنه هو هذا وإن كناه أبا حفص ولقبه بالكاغذي. معجم شيوخ ابن عساكر، قرأ عليه ابن عساكر بنيسابور. 35 ذو الفقار بن محمد بن معبد بن الحسن بن الحسين بن أحمد بن حميدان الحسني، عماد الدين أبو الصمصام العلوي الحسني المروزي المتوفى 563،. ترجم له المنتجب في الفهرست، وحدث عنه ابن عساكر في معجم شيوخه كتابة إليه من الموصل قال: قدم دمشق ووعظ بها، قال: أنبأ الصاحب أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي بأصبهان.
190 36 زاهر بن طاهر الشحامي أبو القاسم المستملي النيسابوري الشروطي مسند خراسان المتوفى سنة 533. 37 زيد بن الحسن بن محمد أبو الحسين البيهقي الزيدي فخر الدين البروقني، لعله توفي سنة 551. مترجم في الفهرست. 38 زيد بن علي بن منصور بن علي أبو العلى أبو العلاء الأديب المعدل الراوندي الرازي 472 529. روى عنه المنتجب قراءة عليه في الحديث الرابع والحكاية الخامسة من كتاب الأربعين. من شيوخ السمعاني. 39 سعد بن أمير بن عبد الملك أبو القاسم. 40 سعد بن الحسن بن محمد الخطيب. 41 سعد بن سعيد بن مسعود أبو الفتوح البزاز الحنفي الرازي. روى عنه المنتجب في الحديث الثالث من كتابه الأربعين. 42 سعد بن محمد بن محمود بن محمد بن أحمد أبو الفضائل المشاط الرازي 479 546. ترجم له أبو سعد السمعاني في التحبير 1 290 وقال: كانت له يد باسطة في علم الكلام، ومعرفة تامة بذاك النوع من العلم... سمع أباه أبا جعفر المشاط... لقيته بالري يوما بالطريق... وسمعت أن طريقته ليست بمرضية، ولما دخلت داره لم أر به سمت الصالحين!... ودفن في مدرسته بالري. وترجم له السبكي في طبقات الشافعية 7 90 وقال: ذكره علي بن عبيد الله بن الحسن منتجب الدين صاحب تاريخ الري في كتابه، وذكر أنه سمع القاضي أبا المحاسن الروياني، وأباه أبا جعفر محمد بن محمود المشاط، وأبا الفرج محمد بن محمود بن الحسن القزويني الطبري وغيرهم، قال: وتوفي ليلة الثلاثاء رابع عشر رمضان سنة 546 وروى عنه حديثا قرأه عليه. ولابنه أبي جعفر محمد بن سعد المولود سنة 506 ترجمة في ذيل تاريخ بغداد 1 277، والمختصر المحتاج إليه 2 289، وفي طبقات السبكي 6 104. وعنه يقول ابن الجوزي في المنتظم في حوادث سنة 555 10 194: وظهر أقوام يتكلمون بالبدع ويتعصبون في المذاهب... وأذن لرجل يقال له أبو جعفر بن سعيد كذا ابن المشاط فجلس في الجامع فكان يسأل فيقال له: ألم ذلك الكتاب كلام الله؟ فيقول: لا! ويقول في القصص: هذا كلام موسى وهذا كلام النملة، فأفسد عقائد الناس وخرج فمات عن قريب. وقال أيضا في حوادث سنة 561 ص 218: وكان ابن المشاط في بغداد وكان يجلس في الجامع فيقال له: آلم كلام الله؟ فيقول: لا. فقيل له: التين والزيتون؟ فقال: التين في الريحانيين والزيتون يباع في الأسواق. ونقل في تعليقه عن كتاب مرآة الزمان في حوادث سنة 560: وفيها عاد المشاط الواعظ إلى بغداد وتعصبوا له بجامع القصر، وأظهر البدع وكثرت الفتن بين الحنابلة والأشاعرة، وكان يقول هذا كلام الهدهد، هذا كلام بلقيس... ما قال الله هذا... أقول: ولا أدري أي بني المشاط يلقب بشهاب الدين صاحب كتاب زلة الأنبياء! أهو أبو الفضائل، أو أبوه، أو ابنه، فتراهم كلهم من هذا النمط ونسأل الله العصمة. 43 سعيد بن محمد بن أبي بكر أبو النجيب الحمامي الرازي، روى عنه قراءة عليه المنتجب في الحديث 5 من كتاب الأربعين. من شيوخ السمعاني ترجم له في التحبير 1 309 وقال: فقيه صالح دين خير... وهو ثقة صدوق... توفي بعد سنة 537. 44 سعيد بن هبة الله أبو الحسين قطب الدين الراوندي المتوفى 573. 45 سهل بن عبد الرحمن بن محمد أبو محمد السراج النيسابوري الزاهد المتوفى سنة 547. روى عنه منتجب الدين في الحديث 16 من الأحاديث الأربعين قراءة عليه حين قدم الري. 46 شرف بن عبد المطلب بن جعفر، أبو علي الحسيني الأفطسي الأصبهاني، مترجم في الفهرست. حدث عنه ابن عساكر في معجم شيوخه وسرد نسبه بأصبهان عن خال أبيه أبي الحسين أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عمر الذكواني باسناده عن أبي هريرة: أن فاطمة ع جاءت إلى أبي بكر وعمر تطلب ميراثها. 47 شمس الشرف بن علي بن عبيد الله، أبو محمد الحسيني السيلقي، مترجم في الفهرست روى عنه الحديث 24 من الأربعين. 48 شميلة بن محمد بن أبي هاشم فخر الدين الحسني، مترجم في الفهرست. 49 صالح بن الخليل أبو ثابت الروياني. 50 طاهر بن أحمد بهاء الدين أبو محمد القزويني النحوي. روى عنه المنتجب في الفهرست. 51 طاهر بن محمد النحوي القزويني. ترجم ابن حجر في لسان الميزان 1 106 في ترجمة إبراهيم بن محمد بن علي أبو المعالي الأنصاري وقال: هكذا قرأت في تاريخ الري لأبي الحسن بن بابويه وقال: روى لنا عنه عمر بن علي بن الحسن البلخي وطاهر بن محمد النحوي القزويني وغيرهما... أقول: ولعله الذي قبله فصحف أحمد في لسان الميزان إلى محمد. 52 عبد الباقي بن عبد الجبار بن عبد الملك القزويني أبو نصر الجرجاني ترجم له الرافعي في التدوين ثم روى عن منتجب الدين عنه باسناده حديثا. 53 عبد الجبار بن عبد الباقي بن عبد الجبار بن عبد الملك الجرجاني أبو الفرج بن أبي نصر القزويني. هو ابن الذي قبله، ترجم له الرافعي في التدوين ثم قال: سمع الأستاذ الشافعي ابن داود والقاضي أبا المحاسن الروياني، وأجاز لعلي بن عبيد الله بن
191 بابويه مسموعاته وإجازاته، توفي سنة 545. 54 عبد الجليل بن مسعود بن عيسى، الشيخ رشيد الدين أبو سعيد بن أبي الفتح الرازي المتكلم المحقق. 55 عبد الخلاق بن عبد الواسع بن عبد الهادي أبو الفتوح بن أبي رفاعة الأنصاري المتوفى سنة 528. 56 عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد أبو سعد الحصيري البصير الرازي، المتوفى سنة 546 من شيوخ السمعاني وابن عساكر. روى عنه المنتجب قراءة عليه في الحديث 5 و 26 و 27 من أحاديث كتابه الأربعين، وقرأ عليه ابن عساكر بالري كما في معجم شيوخه. 57 عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد بن الحسن بن منازل أبو منصور بن زريق القزاز الشيباني البغدادي المتوفى سنة 535، من شيوخ ابن عساكر وابن الجوزي والسمعاني. 58 عبد الرحيم بن الشافعي بن محمد أبو المحاسن الرعوي القزويني ترجم له الرافعي في التدوين وأرخ ولادته بسنة 458، وذكر أنه أجاز لأحمد بن إسماعيل سنة 548 وهو مستلق على فراشه لكبر سنة. وقال الرافعي: قرأت على علي بن عبيد الله منتجب الدين أنبأ أبو المحاسن عبد الرحيم بن الشافعي سنة 547 بقزوين، حدثنا القاضي أبو عبد الله حمد بن محمد بن الزبيري قراءة عليه سنة 468. 59 عبد الرحيم بن المظفر بن عبد الرحيم بن علي، أبو منصور بن أبي سعد الحمدوني الرازي الحنيفي المعدل الشروطي، قرأ عليه ابن عساكر بالري كما في معجم شيوخه. روى عنه منتجب الدين قراءة عليه الحديث 38 من كتاب الأربعين. وترجم له الطهراني في طبقات أعلام الشيعة فقال: عبد الرحيم بن أبي سعد المظفر بن عبد الرحيم القاضي أبو منصور الحمدوني الراوي لصحيفة الرضا عن شيخه الذي قرأها عليه القاضي أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني الشهيد في سنة 502. ترجم السمعاني في التحبير 1 214 لأخيه أبي طاهر الحسن وقال: كان من بيت الحديث سمع الكثير من أبيه أبي سعد... وأبي الفضل ظفر بن الداعي ابن مهدي العلوي... وترجم ابن الفوطي في تلخيص مجمع الآداب 4 447 لأبيهما قوام الدين المظفر الحمدوني... 60 عبد الغفار بن محمد بن عثمان القومساني. 61 عبد الكريم بن إسحاق بن سهلويه أبو زرعة. روى عنه الحديث 19 من كتاب الأربعين قراءة عليه. 62 عبد الله بن أحمد بن محمد البزاز. 63 عبد الله بن علي بن عبد الله أبو محمد الطامذي المقرئ الأصبهاني المتوفى سنة 563. قرأ عليه الشيخ منتجب الدين بأصبهان، وروى عنه كما في كتاب الأربعين في الحديث 12 وطامذ من قرى أصبهان. 64 عبد الله بن محمد بن نجا بن محمد بن علي بن محمد بن شاتيل الدباس أبو محمد الضرير. 65 عبد الملك بن أحمد بن سعد، وجيه الدين الداودي الزيدي روى عنه في الفهرست. 66 عبد المنعم بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد أبو الفتوح بن سعدويه الأصبهاني المعدل المتوفى سنة 556. من شيوخ السمعاني، ترجم له في التحبير 1 490 ويأتي أبوه أبو سهل أيضا، وقرأ عليه ابن عساكر في أصبهان كما في معجم شيوخه 67 عبد الوهاب بن المبارك، الحافظ أبو البركات الأنماطي البغدادي 462 538، من شيوخ ابن عساكر وابن الجوزي. 68 عبيد الله بن الحسن بن الحسين، موفق الدين أبو القاسم بن بابويه والد المنتجب. مترجم في الفهرست. 69 علي بن أحمد بن محمد أبو الحسن اللباد الأصبهاني المتوفى 560، قرأ عليه بأصبهان في داره، وروى عنه في كتاب الأربعين، الحديث 34، وقرأ عليه أبو سعد السمعاني أيضا. 70 علي بن أحمد بن محمود أبو الحسن الصحاف الأصفهاني، ذكره صاحب الروضات 4 320. 71 علي بن الحسين بن علي أبو الحسن الحاستي. مترجم في الفهرست، روى في كتاب الأربعين في الحديث 22 والحكاية العاشرة ووصفه فيها بقوله: شيخنا الفقيه الدين. 72 علي بن أبي صادق السعدي. 73 علي بن أبي طالب أبو الحسن هموسة الفرزادي، روى الحكاية الأخيرة في كتاب الأربعين. 74 علي بن عبد الجليل زين الدين البياضي. مترجم في الفهرست. 75 علي بن عبيد الله أبو الحسن بن الزاغوني الحنبلي البغدادي 455 527. 76 علي بن القاسم بن الرضا أبو الحسين العلوي الحسني، روى عنه الحديث الثامن والحكاية 11 من كتاب الأربعين قراءة عليه، ووصفه بالسيد الزاهد ترجم له في الفهرست. 77 علي بن محمد زين الدين أبو الحسن الرازي، ترجم له في الفهرست. 78 علي بن مسعود بن محمود بن الحكم أبو سعيد بن الفرخان، ترجم له في الفهرست. 79 عمر بن أحمد بن منصور أبو حفص الصفار النيسابوري المتوفى سنة 535. قرأ عليه وروى عنه حين قدم الري كما في كتاب الأربعين في الحديث 15. 80 عمر بن أحمد بن جعفر الوزان، روى الرافعي في التدوين في ترجمة
192 محمد بن محمود بن الحسن أبي الفرج الأنصاري عن منتجب الدين عنه. 81 عمر بن علي بن الحسين البلخي القاضي أبو سعد المحمودي المتوفى سنة 546. 82 عمر بن الفضل بن أحمد بن عبد الله أبو الوفاء المميز الأصبهاني من شيوخ الحافظ ابن عساكر. 83 الفضل بن الحسن بن الفضل أبو علي أمين الدين الطبرسي المتوفى 548. ترجم له في الفهرست. 84 فضل الله بن علي بن عبيد الله الحسني، السيد ضياء الدين أبو الرضا الراوندي، ترجم له في الفهرست. 85 الفضل بن محمد، أبو نصر النصري الحسني. 86 القاسم بن الفضل بن عبد الواحد أبو المطهر الصيدلاني الأصبهاني المتوفى سنة 567. قرأ عليه بأصبهان، وروى عنه في الحديث 39 و 40 من كتاب الأربعين، وروى عنه السمعاني أيضا. 87 قيس بن محمد، أبو عاصم المؤذن السويقي الأصبهاني المتوفى سنة 562. 88 كيكاووس بن دشمن زيار الديلمي الطبري الأمير الشهيد. 89 لاحق بن بندار بن أبي بكر، أبو بكر الخياط. 90 لاحق بن الحصيب بن محمد بن علي أبو غالب الصيدلاني الكاغدي الأصبهاني. روى عنه الحديث الأربعين من كتابه الأربعين 91 لطف الله بن عطاء الله بن أحمد الحسني الشجري النيسابوري. 92 أبو اللطيف بن أحمد بن أحمد بن أبي اللطيف رزقويه الأصبهاني نزيل خوارزم. ترجم له في الفهرست قرأ عليه بخوارزم. 93 مبشر بن أحمد بن محمود أبو الفتوح الصحاف الأصبهاني قرأ عليه بأصبهان وروى عنه في الحديث 27 من كتاب الأربعين. 94 المجتبى بن الداعي بن القاسم، السيد أصيل الدين أبو حرب الحسني الرازي. ترجم له في الفهرست، روى عنه الحديث 18 والحكاية الثانية من كتاب الأربعين. 95 محمد بن إبراهيم أبو البركات الخليلي. 96 محمد بن إبراهيم بن محمد، أبو سهل بن سعدويه المزكي الأصبهاني المتوفى سنة 530. 97 محمد بن أحمد بن رجاء بن إبراهيم بن عمر بن يونس، أبو الحسين أبو الخير خ ل الأصبهاني. روى عنه في الحديث 37 من كتاب الأربعين قراءة عليه بأصبهان. 98 محمد بن أحمد بن محمد بن عمر، أبو بكر بن الباغبان الأصبهاني المتوفى سنة 540. قرأ عليه المنتجب وروى عنه في الحديث 36 من كتاب الأربعين. 99 محمد بن أحمد بن يحيى، أبو عبد الله الديباجي العثماني المقدسي النابلسي المتوفى ببغداد في سنة 527. 100 محمد بن إسماعيل، أبو البركات المشهدي. ترجم له في الفهرست وروى عنه. 101 محمد بن حامد بن أبي القاسم الطويل القصاب الأصبهاني، قرأ عليه بأصبهان، وروى عنه في الحديث 13 من كتاب الأربعين. 102 محمد بن الحسن بن علي، أبو غالب الماوردي 450 525. 103 محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن، أبو جعفر بن أبي علي الهمداني المرودي. 104 محمد بن الحسين الديناري الآبي ترجمته في الفهرست. 105 محمد بن الحسين المحتسب ترجمته في الفهرست. 106 محمد بن حمد بن عبد الله، أبو شكر الصفار المستوفي الأصبهاني، قرأ عليه في داره بأصبهان، وروى عنه في الحديث 25 من كتاب الأربعين. 107 محمد بن حمد بن عبد الله، أبو نصر الكبريتي الفواكهي الوزان الأصبهاني. من شيوخ ابن عساكر. 108 محمد بن حمويه بن محمد الجويني الحموئي الصوفي البحيرأبادي المتوفى سنة 530. روى عنه مكاتبة كما في الحديث 21 من الأربعين. 109 محمد بن رجاء بن إبراهيم بن عمر بن يونس، أبو الحسين، أبو الخير الأصبهاني، قرأ عليه في أصبهان، وروى عنه في الحديث 37 من كتاب الأربعين. 110 محمد بن زيد بن محمد، أبو جعفر الهاروني الحسني. 111 محمد بن سعدون بن مرجي بن سعدون، أبو عامر العبدري الميورقي الفقيه الظاهري نزيل بغداد سنة 524. من شيوخ ابن عساكر وقال: أحفظ شيخ لقيته. 112 محمد بن شجاع بن أحمد، أبو بكر بن أبي نصر اللفتواني الأصبهاني، من شيوخ السمعاني وابن عساكر. ولفتوان إحدى قراها. 113 محمد بن عبد الباقي، أبو بكر الأنصاري، قاضي المارستان، البزاز البغدادي مسند العراق ومسند الدنيا، ابن صهر هبة الحنبلي 442 535. 114 محمد بن عبد الرحمن بن محمد الخطيب، أبو الفتح الكشميهني المروزي 461 548. 115 محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين بحاطر كذا أبو حاتم الساوي. قرأ عليه وروى عنه في الحديث 33 من كتاب الأربعين. 116 محمد بن عبد الكريم بن محمد، أبو بكر القلانسي العدل، روى عنه إجازة الحكاية 12 من كتاب الأربعين. 117 محمد بن عبد الكريم بن الحسن بن علي، أبو الفضل الكرجي القزويني المتوفى سنة 566. ترجم له الرافعي في التدوين وقال: إمام مشهور مرجوع إليه. سمع السيد ذو الفقار بن محمد بن معبد تفسير الثعلبي.
193 118 محمد بن عبيد الله الحنفي، أبو جعفر القزويني. ترجم له الرافعي في التدوين وقال: روى عن القاضي أبي المعالي أحمد بن قدامة كتاب الغرر والدرر للمرتضى المعروف بعلم الهدى، بروايته عن المصنف. ورواه عن أبي جعفر علي بن عبيد الله بن بابويه الرازي الحافظ. 119 محمد بن علي بن محمد بن المطهر شرف الدين أبو الفضل العلوي الأجل المرتضى النقيب. ترجم له في الفهرست وروى عنه في الحكاية 13 من الحكايات الملحقة بكتابه الأربعين. 120 محمد بن علي الموصلي،. ترجم ابن حجر في لسان الميزان ج 2 ص 124 لجعفر بن محمد بن المظفر المترجم ناقلا عن فهرست ابن بابويه منتجب الدين وحكى عنه أنه قال: حدثني عنه الشيخ محمد بن علي الموصلي. وكرره في ص 125 وإن أخطأ في الأول فقال: ذكره أبو جعفر بن بابويه في مصنفي الشيعة، والصحيح أبو الحسن. 121 محمد بن علي بن ياسر الجناتي. 122 محمد بن محمد بن الحسين بن الفراء، أبو الحسين بن أبي يعلى البغدادي الحنبلي 451 526. 123 محمد بن محمد بن محمد، أبو عبد الله العوفي البلخي. ترجم له الرافعين في التدوين وروى عن المنتجب عنه. 124 محمد بن ناصر بن محمد البغدادي، أبو الفضل السلامي الدار، الفارسي الأصل 467 550. 125 محمد بن الهيثم بن محمد، أبو سعد الأصبهاني. قرأ عليه في داره بأصبهان، وروى عنه في الحديث 17 و 25 من كتاب الأربعين. 126 محمود بن عبد الكريم بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد، أبو الفتح الطالقاني الشاهد روى عنه الحديث الأول من كتاب الأربعين قراءة عليه. 127 محمود بن علي بن الحسن، سديد الدين الحمصي الرازي ترجم له في الفهرست. 128 محمود بن محمد بن عبد الجبار، أبو الفتوح المذكر الهرمزدياري السروي ثم الجرجاني. روى عنه الحديث الثاني من كتاب الأربعين قراءة عليه وقال: قدم علينا الري. 129 المرتضى بن الداعي بن القاسم، السيد صفي الدين أبو تراب الحسني، روى عنه الحديث 14 في الأربعين والحكاية الثالثة منه والخامسة. 130 المرتضى بن المجتبى بن محمد السيد أصيل الدين العلوي العمري روى عنه في الفهرست. 131 المرتضى بن المنتهى بن الحسين السيد كمال الدين الحسيني المرعشي ترجم له في الفهرست. 132 مسعود بن علي بن منصور، أبو المحاسن الأديب روى عنه في الحديث 29 من كتابه الأربعين. 133 منصور بن محمد بن الحسن، أبو المظفر الطالقاني. 134 هبة الله بن أحمد بن عمر الحريري البغدادي، المعروف بان الطبر أبو القاسم المقرئ 435 531. 135 هبة الله بن جعفر بن أحمد السراج. 136 هبة الله بن داود بن محمد، أبو المكارم تقي الدين، أو ثقة الدين الأصبهاني روى عنه في الفهرست. 137 هبة الله بن عبد الله بن أحمد، أبو القاسم الشروطي الواسطي المتوفى سنة 528. 138 هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد، أبو القاسم بن الحصين الشيباني البغدادي 432 525. 139 يحيى بن طاهر بن الحسين، أبو سعد الأديب السمان المؤدب الرازي توفي بعد سنة 537. وهو ابن أخي أبي سعد السمان الرازي المترجم في الفهرست. روى عنه المنتجب في أربعينه، الحديث العاشر منه قراءة عليه، والحكاية السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة. 140 أبو الحسن بن سعدويه القمي، روى عنه في الفهرست. 141 أبو الحسين بن ذكوان بن أحمد بن الحسن الخطيب. 142 أبو عمرو الخليلي البصير. أبو الفضل الكرجي: محمد بن عبد الكريم. 143 أم إبراهيم فاطمة بنت عبد الله الجوزدانية الأصفهانية توفيت سنة 524. 144 أم الضياء لامعة بنت الحسن بن أحمد الوراق. 145 أم الشمس مباركة بنت أبي الفضل بن ماشادة. 146 ملكة بنت الامام أبي الفرج محمد بن محمود القزويني. تلامذته: قال تلميذه الرافعي في ترجمته من التدوين: وسمع منه الحديث بالري أهلها والطارئون عليها، ورأيت الحافظ أبا موسى المديني روى عنه حديثا... وهذا التصريح من الرافعي مع كثرة شيوخ منتجب الدين ورحلاته العلمية، وجده في الطلب، وطول عمره كل ذلك يوجب أن تكون في تلامذته، والراوين عنه، والقارئين عليه، ومستجيزيه، والمجازين منه كثرة هائلة وعدد لا يحصون، ولكن التاريخ أهمل ضبط ذلك كله، ولم يلق الضوء على كثير منه ولا قليل، وها نحن نذكر من عرفناه من تلامذته كنموذج لذلك، لئلا يبقى العنوان بغير معنون، وعسى في المستقبل يكشف لنا عن أسامي كثير ممن نهلوا من نميره، واغترفوا من بحر فضله: 1 أبو موسى المديني، وهو الحافظ محمد بن عمر الأصبهاني المتوفى سنة 581. 2 مجد الدين أبو المجد محمد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن بهرام
194 القزويني المتوفى بالموصل في شعبان سنة 622. 3 الرافعي أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القزويني المولود سنة 557 والمتوفى سنة 623. 4 برهان الدين محمد بن محمد بن علي بن ظفر الحمداني القزويني الذي روى الفهرست والأربعين عن مؤلفهما أستاذه منتجب الدين وكتبهما سنة 613، وهو مترجم في الفهرست. مؤلفاته 1 كتاب الأربعين عن الأربعين من الأربعين: جمع فيه أربعين حديثا في فضائل أمير المؤمنين ع، عن أربعين شيخا من مشائخه باسنادهم عن أربعين صحابيا، وبدأ بالخلفاء ثم سعد بن أبي وقاص، ثم عبد الرحمن بن عوف، ثم سائر الصحابة. ألفه بعد ما عرض عليه النقيب عز الدين يحيى الشهيد عام 591 بالري كتاب الأربعين عن الأربعين للشيخ أبي سعيد محمد بن أحمد بن الحسين النيسابوري، فعزم على جمع ما يشبهه ويزيد عليه، فألف هذا الأربعين، وصدره باسم النقيب عز الدين يحيى وألحق باخره أربع عشرة حكاية غريبة في شانه وفضله ع، كل ذلك بالاسناد يرويه عن مشائخه (1). وقرأه عليه فيما نعلم ثلاثة من تلامذته: أحدهم: الرافعي، قال في ترجمته في التدوين: ومن مجموعه كتاب الأربعين الذي بناه على حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه المترجم لأربعين حديثا، وقد قرأته عليه بالري لسنة أربع وثمانين وخمسمائة... وقرأت عليه الأربعين بتمامه. وثانيهم: مجد الدين أبو المجد محمد بن الحسين القزويني المتوفى 622، قال ابن الصابوني المتوفى سنة 680 في تكملة إكمال الاكمال ص 17 في ترجمة ابن بابويه منتجب الدين: روى لنا عنه الشيخ أبو المجد محمد بن الحسين بن أحمد القزويني الصوفي أربعين حديثا في الرباعي عن الأربعين من تخريجه بسماعه منه. وذكره ابن ناصر الدين المتوفى 842، في كتاب التوضيح وهو شرح على مشتبه الذهبي، في ترجمة ابن بابويه منتجب الدين قال: والإمام أبو الحسن علي بن الحسين بن بابويه الرازي خرج لنفسه أربعين حديثا، رواها عنه أبو المجد محمد بن الحسين بن أحمد القزويني (2). وقال ابن الفوطي المتوفى سنة 723 في تلخيص مجمع الآداب في ترجمة الشيخ منتجب الدين: ذكره الشيخ الحافظ صائن الدين أبو رشيد محمد بن أبي القاسم بن الغزال الأصبهاني في كتاب الجمع المبارك والنفع المشارك من تصنيفه وقال: أجاز عامة سنة 600، وله كتاب الأربعين عن الأربعين رواه عنه مجد الدين أبو المجد محمد بن الحسين القزويني. وقوله: وله كتاب الأربعين... مردد بين أن يكون من تتمة كلام ابن الغزال، أو من كلام ابن الفوطي نفسه. وثالث من روى كتاب الأربعين عن المؤلف من تلامذته هو برهان الدين محمد بن محمد بن علي الحمداني القزويني كما ذكره شيخنا الطهراني في الأنوار الساطعة ص 171، وكما هو موجود على نسخ الأربعين، وذكر أنه نسخه لنفسه سنة 613 عن نسخة الأصل بخط شيخه المؤلف. وقال ميرزا عبد الله أفندي في ترجمة المنتجب من رياض العلماء 4 146 عند الكلام على أربعينه: قد روى كتابه جماعة من العلماء، وقد وجد بخط جماعة من العلماء أيضا... وفي هذا المورد بالهامش بخطه: ثم قد رأيت في أول كتاب الأربعين المذكور له نقلا عن خطوط العلماء... رواية المفتقر إلى عفو ربه محمد بن محمد بن علي الحمداني القزويني عنه. أقول: والأسف أنه لم يصل إلينا حرف الميم من كتاب رياض العلماء سهل الله السبيل إليه. ووعد في آخر الأربعين أن يؤلف أربعينا آخر، ولا ندري هل تيسر له إنجازه أم لا، فقد عمر بعد فراغه من الأربعين نحو العشرين عاما. 2 تاريخ الري: قال الرافعي في ترجمة المنتجب في التدوين: وكان يسود تاريخا كبيرا للري فلم يقض له نقله إلى البياض، وأظن مسودته ضاعت بموته؟. أقول: بل، لم تضع بموته ولا بعد موته، ولعله بيضه أيضا وكان موجودا في القرن الثامن، فقد نقل عنه السبكي المتوفى سنة 771 في طبقات الشافعية الكبرى ج 7 ص 90 ترجمة أبي الفضائل سعد بن محمد المشاط كما ذكرناه في شيوخه. وبقي أيضا إلى القرن التاسع، وحصل عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852، ونقل عنه في لسان الميزان كثيرا من تراجم أعلام السنة والشيعة، بل نقل عنه من تراجم أعلام الشيعة جماعة لم يذكرهم المنتجب في فهرسته، كما نقل ابن حجر في لسان الميزان عن فهرست المنتجب أيضا كثيرا، وربما أطلق وقال: ذكره ابن بابويه. قال: ذكره ابن بابويه في تاريخ الري، مما يظهر أن النسخة التي ظفر بها ابن حجر كانت ناقصة الآخر والموجود فيها إلى حرف الميم، وإن كان المنتجب قد بدأ في تاريخه بالمحمدين كالخطيب وغيره، فنسخته كانت إلى أواخر حرف العين، حيث أن آخر ترجمة نقل منها ابن حجر ما عدا المحمدين هو عمر بن محمد بن إسحاق العطار الرازي ولم ينقل عن تاريخ الري فيما بعده شيئا. والأسف إنا إلى الآن لم نظفر بتاريخ الري لابن بابويه، ولا بتاريخ الري لأبي سعد منصور بن الحسين الآبي المتوفى سنة 421. ويبدو أن تلميذه الرافعي تبع أثر شيخه المنتجب واقتدى فألف هو أيضا تاريخا كبيرا لوطنه قزوين وسماه التدوين. 3 العصرة: هي رسالة في المواسعة والمضايقة في وقت قضاء الصلاة الفائتة، أو الصلوات الفائتة، ذكرها شيخنا الطهراني في الذريعة 15 271 وقال: إنه
(1) نسخة من أربعين منتجب الدين من نسخ القرن العاشر ضمن مجموعة رقم 9384 في مكتبة المجلس بطهران. (2) نسخة من كتاب التوضيح لابن ناصر الدين في دار الكتب الظاهرية بدمشق. ولكني نقلت عنه من تعليقات الإكمال لابن ماكولا ج 1 ص 165 فقد أورده المعلق هناك عنه. 195 صدره باسم السيد عز الدين يحيى الذي صدر الفهرس باسمه أيضا... وذكر أنه يوجد عند السيد شهاب الدين وعليها شهادة صاحب رياض العلماء وذكره لجمع آخر من المؤلفين في المسألة... ويظهر أن هذه المسألة كانت موضع نقاش وأخذ ورد في أواخر القرن السادس، حيث أن ابن إدريس المتوفى سنة 598 كان يذهب إلى التضييق في وقت الفائتة، وألف فيه رسالة سماها خلاصة الاستدلال، وألف ورام بن أبي فراس المتوفى 605 رسالة في الموضوع وانتصر فيها لابن إدريس، ومنهم الشيخ علي بن منصور بن تقي الدين الحلبي حفيد أبي الصلاح، ألف رسالة في ذلك واختار التضييق ورد فيها على معاصره القائل بالتوسعة، أبي علي الحسن بن طاهر الصوري ومنهم السيد عبد الكريم بن طاوس ألف في ذلك أكثر من رسالة. ولكن الشيخ أسد الله المحقق الدزفولي شكك في صحة نسبة هذه الرسالة لمنتجب الدين، قال في المقابس ص 16 في ترجمة منتجب الدين: وربما يعزى إليه الرسالة الموسومة بالعصرة في أحكام صلاة القضاء، ولعلها ليست كذلك كما بيناه في منهج التحقيق. أقول: منهج التحقيق في التوسعة والتضييق ألفه المحقق الكاظمي في الموضوع نفسه. 4 فهرست أسامي علماء الشيعة ومصنفاتهم. هكذا وجد اسم هذا الكتاب بخط الحمداني تلميذ المؤلف، وراويه عنه فيما كتبه من نسخته عن نسخة الأصل بخط المؤلف، وفرع منه أواسط رجب سنة 613، وكل الروايات تنتهي إلى الحمداني، وكل النسخ تنتهي في النقل إلى نسخته. وعبر المؤلف في أول كتابه الأربعين عن كتابه هذا بقوله: فلما فرغت من جمع ما عندي من أسامي علماء الشيعة ومصنفيهم، وعبر عنه باسمه الكامل مع إضافة كلمة الفهرست حيث كرر ذكره في نهاية كتاب الأربعين فقال: ولو سهل الله تعالى وأعطاني المهل وأخر الأجل أضفت إلى كتابي فهرست أسماء علماء الشيعة ما شذ عني بحيث يصير مجلدا ضخما. سبب تأليفه: أما السبب المحفز له على تصدي جمع الفهرست فقد ذكره هو في خطبة الكتاب، وأنه كان يوما عند السيد عز الدين يحيى النقيب الشهيد سنة 592، فذكر في خلال حديثه أن شيخ الطائفة أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى 460 رحمه الله قد صنف كتابا في أسامي مشايخ الشيعة ومصنفيهم، ولم يصنف بعده شئ، كالأسف المتألم من ذلك، ففهم منه المنتجب أنه يعرض عليه التصدي له ويطلب منه القيام به، فلبى طلبته وأجابه إلى رغبته وقال: لو أخر الله أجلي أضفت إليه ما عندي من أسماء مشايخ الشيعة ومصنفيهم... تاريخ تأليفه: وبصدد تحديد الفترة التي ألف فيها هذا الفهرست حيث لم يؤرخ المنتجب فراغه من تأليفه نقول: إنا قد علمنا من جهة أن تأليف الفهرست كان قبل تأليف الأربعين حديثا، وهذا شئ مصرح به في خطبة كل من الكتابين، وعلمنا من جهة أخرى أن الرافعي قرأ على المنتجب كتابه الأربعين حديثا بالري في سنة 584، فيلزم أن يكون الفهرست قد ألف قبل هذا التاريخ. والعجب أن يتصدى رجلان في عصر واحد لتتميم فهرست شيخ الطائفة وتأليف ذيل له، وكلا المتعاصرين من كبار رجلات الطائفة وعمد أعلامها، أحدهما الشيخ منتجب الدين في الري، والآخر الحافظ رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب السروي المتوفى 588 في حلب، ولم يعلم كل منهما بعمل الآخر ولا ذكر أحدهما الآخر في كتابه. وكان المنتجب أنجحهما في عمله حيث كان في إيران وتجول في ربوعها، وكان ذا صلة بأبناء الطائفة في أرجائها، فسجل أسماء، وأحيا ذكر رجال تفرد هو بتدوينهم، ولولا أنه سجل ذكرهم لم نهتد إلى شئ من ذلك، فأصحاب التراجم والمعاجم الذين ألفوا في هذا المعنى آخذون منه ناقلون عنه، كالشيخ المحدث الحر العاملي، وميرزا عبد الله أفندي في رياض العلماء، والخوانساري في الروضات، والمحدث النوري في المستدرك على الوسائل، والمحدث القمي في الكنى والألقاب، وسيد الأعيان السيد الأمين، وشيخ الأعلام شيخنا العلامة الطهراني في أعلام الشيعة قدس الله أرواحهم الزكية وحشرهم مع مواليهم أئمة العترة الطاهرة ع، تراهم عبر القرون واردين منهله وناسكين منهجه مقتصرين في التراجم التي نقلوها عن فهرست المنتجب على ما ورد في الفهرست ولم يضيفوا إلى كثير منها كثير معلومات، وهذا يدلنا على أهمية هذا الفهرست وأصالته فيما سجل وقيد وجمع وخلد بحيث لو لم يتصد لها لحرمنا منها. السيد علي الغريفي بن السيد عدنان. ولد في اليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام من سنة 1326 ه في مدينة المحمرة، وتوفي فيها سنة 1359 ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف فدفن فيه. نشأ وترعرع في بيت زاخر بالمجد والشرف والمعارف الإلهية، فأبوه السيد عدنان كان مرجعا لتلك الأطراف ومدرسا لجمع من الطلاب. حيث كان منزله ملتقى للضيوف وذوي الحاجات. تعلم القرآن الكريم والقراءة والكتابة في المكتب على الطريقة القديمة المرسومة حينذاك، فاخذ بالحضور على الملا حسين المؤذن، الذي كان من المعلمين المشهورين في ذلك الوقت في بلدته المحمرة، ثم بعد ذلك حضر في المقدمات العلوم اللسانية على أبيه السيد عدنان، وبعد وفاة أبيه سنة 1340 ه وكان عمره أربع عشرة سنة أخذ بالحضور على الشيخ عيسى بن صالح الجزائري، الذي كان وصي أبيه، والقيم على أطفاله القصر، حيث بقي يواصل الدرس عنده إلى أن توفي الشيخ عيسى سنة 1351 ه. مؤلفاته: ترك ديوانا شعريا ضاع أكثره، وطبع بعد وفاته ما بقي منه. وله الرضي من شعر المرتضى، وهو كتاب يضم مختارات من شعر الشريف المرتضى في أكثر من 300 صفحة من القطع الصغير، وله: حواشي على دواوين كثيرة، من جملتها ديوان الشريف الرضي، وديوان المتنبي يبين فيها السرقات أو يفسر
196 بعض أبياتها أو يبين معاني بعض لغاتها وبعض التعليقات على منظومة السبزواري في الفلسفة. ومختارات كثيرة من شعراء جاهليين وإسلاميين تبلغ عدة دفاتر. ومنظومة فصيح ثعلب، فقد نظم هذا الكتاب بكامله على شكل أرجوزة تبلغ أبيات المنظومة 1311 بيتا وأبحاث وفوائد في علم الهيئة. وكتابة عدة دفاتر في اللغة وصيغها ومشتقاتها. شعره: قال مادحا أبا الفضل العباس بن أمير المؤمنين ع: تظن غصونا بالأراك موائلا * تزر على شمس النهار الغلائلا إذا عطفتها روعة الدل رنحت * معاطف يدعوها الجهول ذوابلا تدافع كالمخمور مالت به الصبا * وقد كافحت فيه الجنوب الشمائلا إذا نظرت خلت اللواحظ أمطرت * سهاما وكل العالمين مقاتلا عرفت بها صدق الغرام وبطله * وما كنت أدرى أن في الحب باطلا عسى دولة الأيام تجمع نائيا * وتسعف مشتاقا وتسعد واصلا فقد تصحب الدنيا وتعطي قيادها * أوانا وإن كانت غريما مماطلا ألم تر أن الدهر قلد جيده * بمولد عباس وقد كان عاطلا فتى دب في حجر النبي محمد * وأورثه عاداته والشمائلا تفرع مجدا من ذؤابة هاشم * أثيلا ومعروفا وبأسا ونائلا إذا ابتدر الرائون من حر وجهه * سناه رأوا منه عليه دلائلا لقد ولدت أم العلي منه أروعا * جوادا على العلات شهما حلاحلا لعمري لنعم النجل عنه تمخضت * جنينا وكانت قبل جداء حائلا غلام يعد الاتحميات خثرة * تلاث عليه والقماط حمائلا يهش إذا هلهلن بشرا كأنه * يخال صليل المرهفات الهلاهلا وما يرتضي بالمهد إلا وخاله * سناما إلى أوج الفخار وكاهلا يسود الورى وهو ابن عامين جمعا * إذا ساد عمروا لقيل بكرا ووائلا أأحمد يا بن الأكرمين ومن به * غدا مجمع الاحسان والفضل شاملا ليهنيك مولود به الأرض نورت * كان قد همت يمناه طلا ووابلا فعاش حميدا في الأنام مؤملا * قؤولا لدى النادي وفي الأزم فاعلا وقال مادحا سيد الشهداء أبا عبد الله الحسين ع: عصر الشباب كبرت عن أضلاله * ونجوت حر الجيد من أغلاله كان الصبا بردا خلعت جديده * قبل المشيب ورحت في أسماله والمرء يرشده بياض فؤاده * بسنا الهداية لا بياض قذاله أرخيت حين بدا بخدي برقه * ستر العذار مخافة أستر سأله ضحكت إلي مباسم من فجره * فدفعت مختارا إلى آصاله عقلي الذي يزن الجبال فهل ترى * يضحى غريق الكاس من جرياله ولقد رماني الشيب لكن جاوزت * رأسي إلى قلبي سهام نضاله أنا من حملت فتى تكاليف الحجى * ولقد يضج الشيب من أحماله تشكو الصبا ثقل الغبار وباطل * أن تشتكي رضوى من استثقاله لا غرو أن أخط الغنى فالدر قد * سكن الأجاج وعاف عذب زلاله ولربما هان الفتى في حيه * كهوان قدر المسك عند غزاله والحظ قد يشتط ثمة يرعوي * مثل الغريم يثيب بعد مطاله لقي الهوان السيف أذهو زبره * لكن أفاد العز يوم صقاله كالدهر بالأشباح عز وإنما * ولد الحسين فنال سن كماله يوم كان الدهر وهو أمامه * سلك الدياجي يهتدي بذباله يوم على خد الزمان كبارق * لولا سناه لقلت كان كخاله زان العصور كان يمنى الله قد * عقدته إكليلا على أجياله وجرى بميدان الدهور فمذ أتى * شعبان كان به انتهاء مجاله فليهني الزهراء أن سليلها * في بحر هذا الكون من سلساله من صفو نور محمد ووصيه * فيمينه في مجده كشماله سر المهيمن روحه متجسدا * في لفظ كن فيكون لا صلصاله هو من فيوضات الاله رضاعه * أبدا فليس يحين يوم فصاله والله قلده بصارم بطشه * نبلا وجلببه ببرد جلاله من كان رأس الكون موطئ رجله * أترى الهلال يكون شسع نعاله أو لا ترى الأفلاك لما تابعت * حركاتها طلبا لنيل نواله وكان مرآة السما صقلت له * فنجومها من عكس ظل خصاله قد مد رضوان الاله رواقه * في الحشر تأوي الرسل برد ظلاله سعد الهدى الأعلى فكل الأنبياء * نالت سعادتها من استقباله حكم القضاء مكتم حتى أتى * فأبان سر مقاله بفعاله أومى إليه بفجعة لو قالها * علنا لدك الكون من زلزاله ركب البروق إلى العلى لم تعتلق * كف من الأوهام في أذياله رامت أمية أن تحول بزعمها * ما بين مطلبه وبين مناله أو هل يبالي الليث أن قد جمعت * زمر العناكب نسجها لعقاله يهدي إلى الأذان باس زئيره * فيذكر الأكباد باس صياله لا تعط خدك للحسام إذا ابتغى * تقبيله واحذر بياض جماله ما للقريض ونعته من بعد ما * صلى الاله على النبي وآله وارتجل هذه الأبيات في رثاء أستاذه ومربيه الشيخ عيسى بن صالح عند ما ذهب إلى زيارة قبره: أبا صالح جئنا نؤدي زيارة * بها الكل من لقيا المزور على ياس وما كان بدعا أن ترد سلامنا * علينا ولكن ليس يدرك بالحس أتيناك نشفي الهم باللثم ساعة * لقبرك أو نستدفع الحزن باللمس وما كنت أدري قبلها أن كوكبا * يزار وروح القدس تودع في رمس على جسد فيه صلاة ورحمة * وقدست من روح علي ومن نفس وقال يرثيه: أبا صالح أي نحب بقي * وأي جديديك لم يخلق أبثك زفرة وجد متى * يفض مدمعي أثرها يحرق وعبرة شجو متى يختلس * من الجفن كامنها أشرق أضل إذا جار دمعي علي * أعارضه بحشى مشفق وأضرب فيك حنايا الضلوع * بقلب إلى الحزن لم يسبق أقيس على الياس منك الرجا * قياسا بعقباك لم يصدق وأنطق عن حكمة الله في * شفاك إذا هي لم تنطق وأزجي الظنون بان ينجلي * دجى الليل عن صبحه المشرق وأستنجد الصبر والحادثات * تكر على الصبر في فيلق
197 وكم أتقي فيك ريب المنون * فقد جاء من حيث لا أتقي فليتك خلدت عمر الزمان * أو ليت ذا الدهر لم يخلق أفق فالمواكب ترنو إليك * بطرف من الدمع لم يرمق وتلك المآثم في مغرب * تعج نواحا وفي مشرق يد قد لطمت وجوه الضلال * بها تستجذ من المرفق وسيف رفعت به ساعدا * هوى فأصابك في المفرق أتشكو إلى الله من داءك العضال * ومن جوره المطبق وتترك أبناك والمسلمين * ضياعا بلماعة سملق ومما يهون وجدي عليك * أني ملاقي الذي تلتقي وأن دموعي تذيب الفؤاد * وأن زفيري غدا محرقي سيجزيك ربك في موقف * يميز الخدوع من المتقي وعذرا إذا نضب الشعر فيك * فذا جهد ذي مقول موثق وقال مراسلا صديقه السيد عباس شبر بتاريخ السابع من شهر شوال سنة 1345: تحن إلى نجد وقد يممت نجدا * ذمول أبت إلا السراب لها وردا إذا استبقت للسير تحسب صارما * يسل على متن الربى والدجى غمدا إذا هبت النكباء كانت لها ردا * وإن أرخت الظلماء كانت لها بردا تخال هلالا ما ترى من نحولها * ونجم الثريا في مقلدها عقدا تؤلف بين الشرق والغرب إن سرت * ذميلا فلا غورا تعاني ولا نجدا تؤم رشا بالبيض والسمر خادر * وليس هما إلا اللواحظ والقدا أصادقه ودا فيعقبني جفا * وأساله وصلا فيجبهني ردا خليلي عوجا بارك الله فيكما * على طلل عشنا به زمنا رغدا أناخ بمغناه بكلكله البلا * وألبسه الأعصار ضافية حصدا وعهدي به للغير ملهى وللدمى * مراح ولم يلو الزمان له وعدا فما باله والوحش في عرصاته * عكوف وقد أبدى له الدهر ما أبدى وأسحم غربيب الجبين كأنما * أعارته طولا من ذوائبها سعدى كان به الشهب الدراري أسنة * تمزق من جسم الدجى بالسنا جلدا كان به يضف الهلال مهند * يسل على جيش الدجى مرهف حدا كان سهيلا حين يبدو ويختفي * غريق ببحر الليل حيث طمى مدا كان الثريا كف عاف يمدها * إلى كرم العباس مستجديا رفدا فتى أخجلت غر السحائب كفه * كما قد غدا حر الكلام له عبدا فتى شاد بيت المجد بعد انهدامه * وشد من العلياء حيث انثنت زندا نماه إلى المجد المؤثل هاشم * فأكرم به نسلا وأكرم به جدا إذا ما شكى العافون محلا فكفه * تجود ندى كالقطر حاشاه بل أندى وأما دجا ليل الضلال فرأيه * يضيء هدى كالبدر حاشاه بل أهدى همام لو البدر استضاء بنوره * لما ناله خسف ولا فارق السعدا له خلق كالروض باكره الحيا * تضوع مسكا لا خزامى ولا رندا فيهدي لنا في كل يوم شقائقا * سقاها من الآداب ماء ولا صدا فتى عاقر العلياء قد نتجت به * وقد عقمت عن أن تجيء له ندا فيا أيها البحر العباب الذي طمى * على الخلق إلا أنه سائغ وردا ألا فاعذرن صبا يروم ثناءكم * وهيهات أن يحصي ثناءكم عدا فدم رافلا في ملبس العز ما شدا * هزار وما هام الفؤاد بكم وجدا قال وقد أرسلها إلى أخيه السيد حسن يتشكى فيها من الزمان ويظهر ملله من الحياة: ألا أبلغ أبا عدنان أني * بعثت القلب ينتشط القلاصا عداك الهم أن أخاك أمسى * أسير الهم لا يجد الخلاصا بقلبي للزمان جراح ضيم * ولم أملك من الجاني قصاصا وكنت قنعت منه بنزر عيش * فأصبح لا يني إلا اعتياصا وفضلة مهجة فيها أغالي * ويأبى جهده إلا ارتخاصا ترامقني الخطوب وقد دهتني * وأحسبها على رمقي تواصى ملالا للحياة لو أن حتفا * يصاد لكنت آخذه اقتناصا دعوت لقبض ملك الموت روحي * فعاصى أو دعا أجلي فعاصى ولما أن رأيت العقل دائي * لبست الجهل سابغة دلاصا فمن يرني يجد ظهرا ثقيلا * من البلوى وأحشاءا خماصا إذا طرق البلاء فما سؤالي * أعم سواي أم كان اختصاصا وقال وأرسلها إلى أخيه السيد حسن يتشوق فيها إليه، وذلك بتاريخ اليوم الثالث من شهر جمادى الأولى سنة 1348: بقايا دموع أسارتها العواذل * يرقرق مسراها الصبا والشمائل يجاذبها الوجد الملح فتنكفي * سراعا كما يهوي حصى متخاذل تبين ما أخفي من الشوق والهوى * بتهما له حتى كأني بأقل أداري الهوى كيلا يروح بعزتي * وإن وضحت منه علي المخائل إذا خطرت منه على القلب خطرة * تقاعس حتى شخصه متخاذل علي بان يلقى من الدهر صرفه * وليس عليه أن تغول الغوائل عسى زمن أودى بريعان لذتي * وغادر نجمي وهو خزيان آفل يقرب داري من علا حسن العلى * فينعم مشتاق ويسعد واصل أخو الفضل محبوب إلى كل عاقل * لبيب ومحسود لمن يتعاقل سميع ولو أن النداء رسائل * قؤول ولو أن اللسان الأنامل شمائل لو أن الشمال تعطرت * بأرواحها لاستنشقتها الأصائل خليلي أن ضن الخليل بوده * وخدني أيا قلته فهو فاعل وقد يلتقي القلبان والدار غربة * ويجتمع الشملان والبعد حائل وقال: أنسيت عند هواكم التبريحا * فظللت أرقب من سناه لموحا أم أثقلتني في المآقي دمعة * لم أرعها فسفحتها ترويحا أأطعت فيك من العيون كواشحا * وعصيت فيك من الفؤاد نصوحا إن ضقت ذرعا في العزاء فقد غدا * أمد البكاء على العزاء فسيحا ونفضت كفي من سلوي إذ بدا * ولهي وضوحا والجبين وضوحا ما أنذرتنيه المحاسن مضمرا * قد أنذرتنيه العيون صريحا أعلمت لحظك إذ يفاجئ لحظتي * أدنى قضاءا بالحمام أتيحا أيظنه ربح السلو بزعمه * هيهات بل وجد الهيام ربيحا
198 ما ضر طرفي أن طرفك ينثني * مني قريرا إذ يعود قريحا خفض شجونك يا فؤاد فلن ترى * من بعدها نحو الحسان طموحا تركتك تعدو إثرها في غاية * يغدو بها الأمل القموص طليحا (1) قلبي كعهدك يا جميلة لا يرى * إلا التجمل في الغرام قبيحا وقال سنة 1346: يوم أنس عددته بدهور * نلت في لهوه أتم سروري يوم سرنا إلى رياض تجلت * في ثياب من سندس وحرير جمعت بين زنبق وأقاح * كخدود دنت للثم ثغور دبجتها يد الربيع بوشي * خلعت فوقه غلائل نور وكان الغمام قد ألبس الجو * رداءا يزر من كافور وترى الغيم في الشقيق يبكي * بدموع المتيم المهجور كحباب على صفيحة راح * في كؤوس أو لؤلؤ منثور فقضيناه بين لهو وقصف * ونعيم صفا بلا تكدير ثم سرنا على ظهور مطايا * عائمات في لج ماء نمير من بنات المياه لا وردها الثمد * ولا رعيها لعاع البريد تتهادى مع النسيم اختيالا * كاختيال النشوان والمخمور فقطعنا تلك الغمار بجهد * ومسير تعسا له من مسير وإذا بآلامها تبدت علينا * فحمدنا عواقب التأخير سافرات كأنهن بدور * تتجلى في جنح ليل الشعور فيهم غادة تغشى سنا الطرف * بجسم قد صيغ من بلور إن في ذلك المحيا لمعنى * عز عن كل ذي نهى وشعور وجهها جنة المحاسن حفت * من لماها بسلسبيل غدير نظرت عن كمثل مقلة ريم * وعطت عن سوالف اليعفور هي إن أقبلت فغصن نضير * وهي إن أدبرت فطود ثبير حار ماء الشباب في صحن خد * يتلظى به ضرام السعير وكان الأصداع في الوجنات * البيض ليل على جوانب نور لو رأى بابك بن ساسان خديها * فداها بنجله أردشير لم تغيب شمس النهار ولكن * كسفت من جمال شمس القصور وقال: إذا بت أستدنيكم بالتذكر * علقت بصدق الوصل عن قول مفتر سقى الله دهرا أن * سريت على المنى سريت إلى اللذات غير معذر تحسيت كأس الحب غير مصرد * علي وصفو اللهو غير مكدر إذا أنا باغت الحسان بنظرة * مشى بيننا حب طويل التحير وإذا أنا من دل الثريا بمسمع * ومن فتن في مقلتيها بمنظر إذا أمكنت من رقبة الهجر غرة * تجلى التصابي عن غريم ومعسر وشكوى متى يوكل إلى اللفظ بثها * يطل ومتى يوكل إلى اللحظ يقصر وما أنصفت جارت على القلب فانبرى * يجور على دمعي لها المتحدر أفانين وجد كل يوم يثيرها * على مدمعي من خلقه المتنكر لعمرك ما حب الثريا بنافعي * فتيلا ولا وجدي عليها بمقصر وما نافعي إن قدر الحب بيننا * إذا كان يوم الوصل غير مقدر أزجي الظنون الحائمات فتنثني * بأمثالها من مطمع أثر محذر وما أنكر الدمع الهتون وإنه * لشاهد صدق عن جوى فيك مضمر سلي غير الأيام عني لتخبري * مقيما على الأيام لم يتغير ألفت الرزايا بل توهمت أن من * عدته دعي في نصابي وعنصري وما ربحت لي صفقة بعد صفقة * بها بعت روح القلب والدهر مشتري عثرت بآمالي فأسرعت فانبرت * لتمسك أذيالي فشمرت مئزري ومنها: ولله قلب إن أطلت عظيمة * رسا ومتى يعرض له الذم يذعر ومنها: فيكذب في ثلبي العدو بغيبتي * ويصدق في مدحي الحسود بمحضري أبيت على الحادي وقد عن موردي * على القرب لما لم يضح لي مصدري (2) وما أنا بالساعي لأزجي ركائبي * إلى منهج عنه تنكب معشري وقال من قصيدة: شرف لحبك يا نوار * ظلم النفوس به تنار أيضل نهج الحب من * ضوء الجبين له منار وجه لو البدر اجتلاه * غدا عليه له مدار تنزو لمرآة القلوب * كان نور الحسن نار شكر اللسان مصرحا * والقلب شكواه سرار يا نظرة خفت وراء * الحسن دعوتها اغترار شردت ولم يقصر خطاها * عنه من حزم أسار ظنوا الهوى طوع النهى * ينقاد والحب اضطرار وقال أيضا: صورة حسن أن تغب عن ناظري * فلم تغب بالفكر عن تصوري أتدعوني عاشقا وإنما * عرفت كنه الحسن بالتدبر إن قلت لو لم تنظري أين الهوى * تقول أين الحب لو لم تنظر وقال: ساهمت في الجمال أعيننا * إنها أثرت به حمره ضل من أغمد الفؤاد ومن * عن فنون الهوى زوى فكره لذة الدهر ثم لوعته * عنونتها بفعلها نظره حرقة طي فترة أخذت * منه لله درها فتره وقال من قصيدة: غضبي نزا ألق الجمال الثائر * في لحظها فاهتز قلب الناظر نور الجمال طغت عليه ناره * موجا عواصفه وراء سرائر شبت لوامعه فخلت وميضها * شرارا تطاير من خضم زاخر في نضرة الفردوس لون جحيمه * كالبؤس يسطع في محيا الشاكر سحر الهوى الغافي وراء جفونها * يقظان ثار يمد خطوة عاثر ومنى جرت والنور في نظراتها * عكست وعيدا حام حول محاجر وتموج النشوات في أعطافها * خمدت باسر دم الشباب الغائر وترنم سطع الضمير بعطره * فضفا الخلود على نهى وضمائر
(1) القموص: الدابة التي تقمص بصاحبها أي تثبت وتنفر. الطليح: التعب والمعيي. (2) يضح: ينكشف. عن: ظهر. 199 خنقت بمكظوم الشجى أوتاره * فتبدلت نبضاته بزوافر ضحكاته كيف استحلن صواعقا * تجتث أفنان الرجاء الناضر ومنها: صاح الأسى فتبددت ألحاظها * كالخمر أنت تحت ضغط العاصر شفق عبوس قد تنفس من دم * في القلب يمشي في ظلام داجر يا قوة ريح الفناء شممتها * منها تفوح من الحراك الفاتر وقال: سودعت آخرة الحمول بمسمعي * ثم انثنيت أودع التوديعا قال: لا تنكري وجدي ولا لهفي * فهواك أسلمني إلى حتفي ما زال يدعوني لبيعته * حتى مددت له بها كفي ناهيك من دمعي ومن حرقي * إن الفؤاد على شفا جرف أما تريني خاشعا أبدا * لك فالهوى قد غض من طرف أنا والهوى إلفان ما افترقا * والألف قد ينأى عن الألف لكنني بالرفق أصحبه * ويسومني التعذيب بالعنف لا تطلبي مني سوى خلقي * إن الذي أبدي الذي أخفي أهوى الملاح وكل مخطفة * ترنو إلي بمقلتي خشف تبدو فتختطف العيون سنا * وتغيب تحت الشعر في سجف تجلو محاسنها فتحسبها * قمرا على غصن على حقف ويلي على أصداغها فلقد * رويت من التقبيل والرشف بيضاء ما ناطت قلائدها * في جيدها حذرا من القرف وتروقني الحسناء تملكني * بدلالها وبعطفة العطف تفتر في قرب وفي بعد * وتعن في ملل وفي عطف لا تنجز الوعد الذي وعدت * إلا إذا وعدتك بالخلف ترتاح بالهجران لاهية * وتفر من جور إلى عسف قد كنت أستشفي بذكركم * لو أن غير وصالكم يشفي وقال: هذا الغليل وذا مناط شفافي * ينحاز عنه القلب كالمتجافي أنذرت قلبي أن حبا غازيا * لك من ثنايا طرفي العراف إني ولي قلب يرى ما حجبت * سجف العواقب من وراء سجاف وقال: تخالين بالأعراض عني وبالنوى * دواما لأسباب الهوى وهو لي هلك أرى الناس كل الناس لي من هواهم * يقين وأما من هواك فلي شك بكيتك إشفاقا من البين مرة * وأخرى له حين استقرت بك الفلك ويوما لعيش عز عني مناله * وآخر من نار على كبدي تذكو أقول وقالوا آخر القرب أول السلو * مقالا فيك زوره الإفك أأجمع سلواني بها وتولهي * عليها ألا أن السلو هو الشرك وقال: قامت عليه منادب العذال * يسقونه السلوى وليس بسال عفرت جباههم لأن يتخالسوا * منه علالة حبه المتغالي تستجلب الأنواء وهي بكية * أن يدع يا للغيث للأطلال ما دعوة العذال وهي نصيحة * معنى بأهون من شماتة قال لو كان يبصر موطنا في شاهق * للحب واطن فيه أم رئال عزت على أشياعه أمنية * حلت بحيث معاقد الأوجال من دون أن يرمي لها حل الحبى * ومهب عادية ولفح نصال يا ليل جيرون أضاءك شارق * حتى مناخك كله متلالي قصرت من نومي فعندك بالهنا * وبحاجر بالشجو والأعوال يا للأفيكة إنها معدية * زعمت هواها لا يمر ببالي ما كان عرقوب يضن بوعده * وضننت أن تعدي ولو بمحال أولى لقلبك لو يصاب بلفحة * لعلمت كيف تعارض الأحوال وعذولة تستن في مرح الصبا * مشبوبة بنضارة وجمال أمست تغالطني وتهتف ماله * لا تزدهيه قوارع الأقوال فأجبت هاتا أربة ممذوقة * لا تقتضي إلا بطيف خيال (1) يا هذه إن المرافق منهل * خص المتيم منه بالأوشال والحب فوضى حكمه لكنه * قد يتبع الحرمان بالأفضال لانت أعاليه فهن مخاصر * وعصت أسافله فهن الآلي تقوى على حر المصاب حشاشة * قويت على الاعراض والاقبال وقال: ردي علي من الوصال خيالا * إن لم تنل منك العيون منالا ودعي الحشا يلعب بها مكذوبه * إن كان كذب الوعد منك نوالا أما وقد حجبوا جمالك فاجعلي * في النوم من صور الخيال جمالا أشكو إلى طيف الكرى طول الجفا * شكوى الخضوع وما شكوت ملالا دلي فؤادي كيف يرسم خاطري * صورا تمر على الضمير عجالى لما تفلت من جفوني حاولت * إمساكه كفي ففر وزالا قال: لعمر أبيها بين باك وباسم * لقد بعثت مني صبابة عارم ترقت إلى صعب المقادة مقرم * أبى على مستحصدات الشكائم أهيفاء ما يدريك ما علة الجوى * إذا اضطرمت بين الحشا والحيازم أعرضت بالسقيا لمن ليس ظامئا * وأعرضت عن ظام على الورد حائم كعراصة مرت على المحل معرضا * وحلت عزاليها بغمر الخضارم (2) رميت ولما تعلمي من أصبته * وأقتل رام صائب غير عالم ويوم تجاذبنا الهوى لنت جانبا * فاعرض واستخذى إلى ضبع حازم وخف فؤادي يسال النصف ضلة * فصار إلى جزل من اللهف جاحم (3) ونظرة لاه أرسلتها غرارة * فما نزعت إلا بعض الأباهم وموقف لهو لو نحاه ابن عاصم * شرى حلمه بالجهل قيس بن عاصم كلا طريفه بين ناه وآمر * بوصل الهوى أو بين بو ورائم يصد الفتى قصد التقى فيرده * إلى الحب ومض من بروق المباسم علي أياد للقناع كريمة * يبرح بي تقليدها آل هاشم تزحزح عن رسل الغدائر وارد * أثيث الأعالي واضح الفرق فاحم أهيفاء لم تلو البنان لحاجة * ولكن لنشدان الدموع السواجم
(1) أربة: حاجة. (2) العراصة: السحابة ذات الرعد والبرق. عزاليها: يقال أنزلت السماء عزاليها إشارة إلى شدة وقع المطر. الغمر: الماء الكثير. الخضارم: جمع الخضرم، البحر الخضم. (3) الجزل: الكثير. جاحم: يقال نار جاحمة اي شديدة الحر. 200 أهيفاء ليت القلب ألفى طريقه * فمر على الأصداع مر النعائم (1) أهيفاء لو خليت عقلي في يدي * نزعت عن البيض النحور النواعم أهجرا وقد نم الوشاة بوصلنا * فيا ليت حقا قول أهل النمائم لأن كان حكم الدهر أعلقني بكم * بقصد فان الدهر أعدل حاكم وقال: أزائر مثوى حيدر وهو ناصب * ومن ذا لأعمال النواصب يقبل أبى الله أن يهدي سواء سبيله * عتلا متى يهلك فللنار يعتل أتحسبني أدعوك شيخ ضلالة * فعقلك عن فهم الضلالة يسفل فدونك فاخدع تابعيك فكلهم * حمار عليه حمله متوحل رحلت إلى كوفان لا الأجر تبتغي * وهل راغب في الأجر من يتسول ولكن لسر قد عرفنا خفيه * ويدرك بعض الغيب من كان يعقل وما ذاك إلا أن ريح موائد * من الغرب أهدتها لأنفك شمال فطرت إليها راكبا كل صعبة * تقود خميسا حيث تحمل يحمل إذا ما هبطتم قرية فثعالب * تعادي على أثر الدجاج وتعسل عجبت لأجلاف عليك تطفلوا * مع العلم منهم أنك المتطفل ألم يكف أن تلقي إلى الكلب كسرة * فيأكلها حتى لأهليه يحمل السيد علي نقي الحيدري بن السيد أحمد: ولد في الكاظمية سنة 1325، ونشأ في بيت العلم والصلاح، وسار على سنن آبائه وأجداده، وترعرع في ظل والده، وتتلمذ عليه، ثم هاجر إلى النجف الأشرف، ودرس على أبيه أيضا، وعلى الشيخ حسين الرشتي، وحضر أبحاث، الميرزا حسين النائيني، والسيد أبي الحسن الأصفهاني، والشيخ عبد الله المامقاني، والميرزا أبي الحسن المشكيني، والسيد محمود الشاهرودي وغيرهم. ثم أقام في بغداد فكان من أبرز علمائها. له من المؤلفات المطبوعة: أصول الاستنباط، وقد ترجم إلى الفارسية، مذهب أهل البيت. ومن المخطوط: الدوحة الحيدرية. الأمثال القرآنية. ومن أحفاده: الشهيد السيد فائز الذي أعدمه النظام العراقي سنة 1987 وعمره عشرون سنة. 136: علي بن أسباط بن سالم الكندي، بياع الزطي،. كوفي من أصحاب الإمامين الرضا والجواد ع، يروي عنهما، كان فطحيا ثم رجع بعد مراسلات جرت بينه وبين علي بن مهزيار، كان ثقة صادق اللهجة، له كتاب الدلائل، والتفسير، والمزار، والنوادر وغيرها، روى عنه جمع منهم موسى بن جعفر البغدادي، ومحمد بن الحسن بن أبي الخطاب، ومحمد بن أيوب الدهاق، وابن فضال، وأحمد بن محمد بن عيسى وغيرهم. 137: الشيخ علي الصحاف بن الشيخ محمد. توفي في مدينة قم بإيران سنة 1321. قال الشيخ جعفر الهلالي: آل الصحاف من الأسر العلمية والأدبية في مدينة الأحساء، توطن بعض أفرادها في العراق في كل من البصرة وسوق الشيوخ. كما توطن قسم منها الكويت، ولا يزال فيها. وتقطن غالبية هذه الأسرة في الأحساء وطنهم الأصلي. ولد المترجم في مدينة الهفوف عاصمة الأحساء آنذاك، ولم نقف على تاريخ ولادته. ونشأ في مدينة الهفوف مسقط رأسه، وبها أخذ دراسته العلمية على يد رجال من أسرته، منهم والده الشيخ محمد الصحاف، كما أخذ عن غيره من علماء بلده، ولم ندر هل سافر إلى النجف للدراسة العلمية أم لا، وإن كان الغالب من علماء بدله قد درسوا فيها. له ديوان شعر في مختلف الأغراض والمناسبات، وهو يشتمل على القصائد والتخاميس، وهو الآن عند بعض أحفاده في مدينة الأحساء أو الكويت، وقد ذكر ولد المترجم الشيخ كاظم الصحاف (2) في ترجمته لوالده ديوانه هذا، ولكننا لم يتسن لنا الاطلاع عليه، وما ننقله من شعره هنا فقد نقلناه عن بعض المجاميع الخطية في الأحساء، وقد ذكر بعض أشعار المترجم له السيد هاشم الشخص في مؤلفه عن علماء وأدباء الأحساء. ويظهر أن الظروف القاسية التي مرت بها بلاد الشاعر دعته إلى مغادرة وطنه والهجرة إلى إيران، وهناك الكثير من علماء هذه المنطقة وما يجاورها قد تركوا أوطانهم وهاجروا بعد أن تعرضوا إلى الامتهان والخوف من كيد الأعداء المتربصين، يجد ذلك كل من تتبع تراجم مجموعة من علماء الأحساء والقطيف والبحرين، الذين عاشوا هذه الظروف القاسية. وقد خلف أربعة من الأولاد، وهم: الشيخ أحمد، والشيخ حسين، والشيخ كاظم، والملا ناصر، وقد امتهن هذا الأخير الأعمال الحرة، ثم تفرع أخيرا للخطابة عن طريق المنبر الحسيني. شعره قال يستنهض الإمام المهدي ويرثي الحسين. ما بال ثارك عن مثارك نازح * ولكم شجاه من الصبابة صادح وإلى م لم تنهض به متطلبا * والسيف في كف انتصارك لائح وشباه يقذف بالشواظ إذا انجلى * كالصبح إلا أنه هو ذابح يا من له الشرف الذي لا يرتقى * من دونه انحط السماك الرامح هلا دريت بان أوج قبابكم * هدمت وقوض من علاها الصالح وشرائع الايمان غير حكمها * مع محكم القرآن جل الفادح فلئن تطل في الغيب غيبتك التي * كبرت وأنت بها خفي واضح فالحق ما في الدار غيرك مطلبا * للطالبين له يد ومنائح (3) أنت الرجا والمرتجى والغوث إذ * عز النصير وقل فيه الناصح حتى م حتى م النوى ابن العسكري * فمتى يلوح لك اللواء اللائح
(1) النعائم: مفردة النعامي، ريح الجنوب. (2) الشيخ كاظم الصحاف هو أيضا أحد شعراء الأحساء. (3) لمنائح جمع منحة: العطية. 201 ضاق الخناق أبا الفتوح فلم نجد * إلاك فاتحها فأنت الفاتح أو لم تهجك من الحوادث أسهم * لم يخط عن أوتارها لك سانح حتى فرت من جسم جدك مهجة * بصفاحها، الله كيف تصافح وتقاسمت أعضاءه شفر الظبا * فتضعضعت من جانبيه جوانح يا صاحب الأمر القديم إغارة * فيها الذوابل والصقال لوامح أصقالكم أكدت سواعد غربها * أو عربكم ضئلت وهن ضوابح أم غلبكم وهنت وأنت مشيمها * أم ضاع وترك وهو عندك واضح أتغض طرفك عن طلابك طرفة * كلا ومنهم سادة وجحاجح والسبط جدك في الطفوف ضريبة * وبه هنالك فاجأتك جوائح وبعين ربات الحجال محاميا * دون الحجال وللصفاح يصافح فكأنه والسيف في لجج الوغى * رعد وبرق في السحائب قادح لولا القضا ما اعتاق في شرك الردى * يوما ولا صاحت عليه صوائح وحمولة الأرزاء عمتك التي * لا غاب عنها في الحياة الفادح هي في النوى مقرونة بفوادح * تدعو وقاني الدمع هام سانح وتقول عاتبة وترداد الأسى * بين الجوارح والجوانح جائح يا راكبا يطوي السباسب مرقلا * في كور هيما للرياح تراوح عج بالغري على مليك عنده * علم المنايا والبلايا طافح هو من حوى علم الكتاب وحكمه * نعم الخبير ومن حوته ضرائح ومتى تجئه مفردا ويلوح من * آيات مثواه المعظم لائح فعليه سلم بل وقل: حلال كلل * المشكلات ومن لهن الفاتح يا أيها النبأ العظيم ومن به * الرحمن في السبع المثاني مادح يا ليت عينك والحسين بنينوى * وعليه ضاق من الفسيح الفاسح يحمي الحريم ومهره في لجة * الهيجا على مجرى المهند سابح ما زال في مهج العريكة موقدا * لهب الوطيس وفي الكفاح يكافح والروس تحت شباه تهوي سجدا * وعليهم أجسادهن طوائح في معرك حاذى به فلك السما * حيث استقامت بالجسوم صحاصح وبنات أحمد بعد فقد عزيزها * أضحى يعنفها العدو الكاشح وضلوعهن من الأسى محنية * كالقوس أنحلها المسير النازح يقتادها في التير أسر مثقل * لكنه هو للجوارح جارح وبكل حي شهرت ومدينة * فبذاك تمسي ثم ذاك تصابح حتى أتين الشام يا لك ساعة * فيها لهن صوائح ونوائح والكوكب الدري من عم الورى * من راحتيه مواهب ومصالح بسلاسل الأقياد مطوي الحشا * ومن الضنى أوهى قواه الفادح وهو الذي لولا بقاه لما بقي * للساجدين مساجد ومصابح علام أسرار النبوة من له * عقد الولاية زينته وشائح أنتم لعمري آل بيت محمد * حجي ونسكي والوجود الراجح وبجاهكم في الله آمل أنه * عن سيئاتي والخطايا صافح وتقبلوا مني وشيحا زانه * وشي الثناء وعن علي سامحوا بل فاشفعوا للوالدين بيوم إذ * تنشق عنهم للمعاد ضرائح هذي صحافية بصحفي أثبتت * وبها المتاجر في الولاية رابح صلى الاله عليكم ما هب من * نفحات قدسكم نسيم فائح وله قصيدة يرثي بها الحسين ع منها قوله: أفهل أضا نجم بثاقب * فجلى ضياه دجى الغياهب أم نور قبة كربلاء * القدس قد فاقت بجانب وسما بها بسما العلى * سام كبت عنه الكواكب وعلت بها فوق الجنان * مراتبا أعلى المراتب وجاء فيها: فاخضع لرفع مقامها * واسجد وقبل كل جانب واقرا سلاما للشهيد * بكربلا مثوى الكواكب الحجة الكبر على * كل الأعاجم والأعارب ويقول في آخرها: لهفي عليه بكربلا * لما قضى عطشان ساغب وبكت له الأفلاك والأملاك * ضجت في المحارب وبكت عليه الكائنات * بأدمع منها سواكب وله من قصيدة مطلعها: ألم يأن للبتار لا يألف الغمدا * يروي شباه من دما مهج الأعدا ومنها: سراة بني عدنان من لوليهم * حسين بأرض الطف صاروا له جندا وباعوا على الله العلي نفوسهم * لكي يحفظوه فاشتراها له نقدا رجال لعمري لا يضام نزيلها * وإن نزلوا يوم الحروب تخل سدا هم الصادقون الراشدون لأنهم * قضوا ما عليهم في سجل القضا رشدا وحيث اجتباهم ذو الجلال وخصهم * بمن كان خير المرسلين له جدا قد اتخذوا السمر الرماح معارجا * إلى الله حتى أنهم قارنوا السعدا وزانوا جنان الخلد حين حوتهم * ونالوا بها الرضوان والفوز والخلدا فصار حسين يستغيث ولا يرى * مغيثا سوى رن الحسام على الأعدا يديرهم في دائرات من الردى * دواهي لا تنتجن إلا لهم وردا ومنها: تروح عليه العاديات وتغتدي * ترضض منه الظهر والصدر والزندا باهلي وبي من جسمه عطر الثرى * ففاق شذاها المسك والند والوردا ومن عجب الأشياء أن كريمه * على رأس رمح يكثر الشكر والحمدا وزينب ما بين النساء من الأسى * تكابد ما أوهى حشاها وما أودى فلله من خطب دهى قلب زينب * تكاد تخر الشم من عظمه هدا علي بن محمد الحماني. مرت ترجمته في الصفحة 316 من المجلد الثامن وننشر هنا هذه الدراسة عنه مكتوبة بقلم محمد حسين الأعرجي: كان لعلي بن محمد الحماني أن يلفت نظري بشكل واضح بين آونة وأخرى، وأنا أعد لرسالتي عن شعر الكوفة خلال القرن الثالث، مرة بجرأته النادرة، وثانية بشاعريته. وطالما سالت نفسي عن سر إهمال مصادرنا القديمة المعروفة كالأغاني، ومعجم الأدباء، وطبقات ابن المعتز... ذكره والإشادة به وإنصافه، فلم أجد سببا معقولا لذلك غير اتجاهه السياسي الطاغي على شعره، وانحباسه داخل دائرة الكوفة بعيدا عن دائرتي الضوء: بغداد أو سامراء.
202 وكان لهذين السببين أن يحبباه إلي أكثر فأكثر، فليس أعز علي من أن أجد وأدبنا العربي زاخر في أغلبه بالتلون والتملق شاعرا يلتزم خطا واضحا لا يكاد يحيد عنه، وليس أقرب إلى نفسي من أن أجد شاعرا يخرج عن دائرة الكذب على نفسه وعلى عصره فلا يمدح هذا الخليفة أملا بصلته، ولا يهجو ذاك الأمير يأسا من نواله. وإزاء هذا وجدت في نفسي رغبة جامحة في جمع شعر هذا الشاعر ومحاولة التعريف به، والإشارة إلى مفاتح دراسته قدر الإمكان، لأني قد درسته دراسة مفصلة في ثنايا الرسالة المذكورة ولا أريد هنا أن أكرر ما قلته هناك. 1 اسمه ونسبه ومولده: هو علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع (1). يكنى أبا الحسن وربما الحسين، ولكن ليس في ولده من اسمه الحسن أو الحسين، ويلقب بالعلوي الكوفي، والأفوه، والحماني، والأخير من أشهر ألقابه، وإنما عرف به لأنه كان ينزل بالكوفة في بني حمان فنسب إليهم... (2). وأغلب الظن أن الشاعر ولد في الكوفة في سنة لم تؤرخها المصادر التي بين أيدينا ولم تورد ما يعين على تحديدها. ورغم هذا فمن المعاصرين من يرى أنه كان من المعمرين أدرك القرن الثالث من أوله إلى آخره وهو وهم مرده إلى أن الأميني يرى أن وفاة أبيه كان سنة 206 ه، وإلى ما شع بين المتأخرين من خلط بين شاعرنا وبين علي بن محمد بن جعفر الصادق المعروف بالديباجة (3). وإزاء هذا فالإشارة الوحيدة التي وصلت إلينا إلى عمره قوله: أعد سبعين ولو جملت * نعماؤها عادت إلى عام وإذا أخذنا بأنه أدرك آخر القرن الثالث أخذ ترجيح، قلنا إنه ولد في العقد الثاني أو الثالث من القرن الثالث. 2 نشأته ومنزلته ووفاته: نشأ الحماني في بيت معرق في الشعر فقد كان يقول: أنا شاعر، وأبي شاعر، وجدي شاعر، وأبو جدي شاعر إلى أبي طالب وليس في قوله ادعاء أو مبالغة فقد وصل إلينا من شعر أبيه محمد بن جعفر مقاطيع، وعرف جده جعفر بالشاعر. ولكن هذه البيئة لم تدفعه إلى أن يأخذ علم العربية في صباه عمن يعرفه في الكوفة، إذ ظل يشكو ضعف ملكته في النحو واللغة وحتى الخط فاضطره هذا الضعف أحيانا إلى أن يهجر معاني مليحة تجيئه لأنه يشك في لغتها وفي اعرابها. ولا بد أن يكون في أسباب جهله هذا فقد الكوفة الحلقات العلمية في هذا القرن فنحن لا نعرف عالما كبيرا عاش فيها خلاله. حظي محمد بن جعفر بمنزلة كبيرة في الكوفة ورثها عنه فيما يبدو ابنه علي الحماني، إذ كان كما يقول المسعودي عن مكانته بين العلويين في الكوفة: نقيبهم... وشاعرهم، ومدرسهم، ولسانهم، ولم يكن أحد بالكوفة من آل علي بن أبي طالب يتقدمه في ذلك الوقت. ومما يدلنا على هذه المكانة الرفيعة أن صاحب الجيش الذي لقي يحيى بن عمر العلوي الثائر بالكوفة فقتله، قعد الحماني عن السلام عليه ولم يلقه على حين لم يتخلف عن سلامه أحد من آل علي بن أبي طالب... فتفقده الحسن صاحب الجيش وسال عنه وبعث بجماعة فاحضروه، فأنكر الحسن تخلفه عن سلامه، فاجابه علي بن محمد بجواب آيس من الحياة فقال: أردت أن آتيك مهنئا بالفتح، وداعيا بالظفر؟ وأنشد شعرا لا يقوم على مثله من يرغب في الحياة.... ولعل الموفق قد أدرك أن هذه المنزلة مما يؤهله لأن يجمع الأنصار وأن يثور بهم، فحبسه مدة طويلة لأمر شنع به عليه من أنه يريد الظهور فلم يطلقه حتى كتب إليه: قد كان جدك عبد الله خير أب * لابني علي حسين الخير والحسن فالكف يوهن منها كل أنملة * ما كان من أختها الأخرى من الوهن فعاد إلى الكوفة وظل بها إلى أن توفي في سنة 301 ه على ما يرجح الأميني. 3 شعره: كان شعر الحماني مجموعا في ديوان حتى القرن التاسع، فقد قال ابن عنبة المتوفى سنة 828 ه: له ديوان مشهور وشعر مذكور، وذكر إسماعيل البغدادي هذا الديوان ولكننا اليوم لا نعرف من أمره شيئا. وشعر الحماني الذي وصل إلينا موزع على أغراض عديدة منها: الشكوى، والفخر، والغزل، والرثاء، والإخوانيات، والسياسة، والعقيدة. والاتجاهان الأخيران أغلب على شعره، بل إنك لتجد العقيدة غالبة حتى على بعض أخوانياته. ومن هنا رأينا العلويين يعتزون بشعره فيقول فيه الإمام علي الهادي ع إنه أشعر العرب، ويقول فيه الناصر الأطروش: لو جاز قراءة شعر في الصلاة لكان شعر الحماني. ولا بد أن يكون في أسباب اتجاه الحماني إلى السياسة والعقيدة، منزلته الكبيرة، ونسبه العلوي، وتشيعه. زد على ذلك ما اضطلعت به الكوفة من دور سياسي بارز في هذا القرن وقبله، فقد شهدت خلال القرن الثالث وحده ما يقرب من خمس ثورات كان آخرها ثورة القرامطة. وشعر الحماني صدى أمين لعصره من الناحية الفنية فضلا عن الناحية التاريخية. فهو حافل على غير إسراف بمذهب البديع، ابتداء بالتشخيص وانتهاء بحسن التعليل. كما أن ما شاع في عصره من تحلل من بعض قيود العربية موجود في شعره ابتداء برفع الحال وانتهاء بتصريف الأفعال. والثقافة الشعرية والأثرية التي حفل بها شعر القرن الثالث كان لها صدى في شعره أيضا، ففي بعضه تضمين لأبيات مشهورة، واقتباسات من الحديث النبوي الشريف. أما شيوع استعمال البحور النادرة والقصيرة في شعر هذا القرن، فقد وجد له مكانا في شعره أيضا فنظم في مجازيء البحور والبحور القصيرة.
(1) تكرر بعض المصادر اسم جده محمد فتقول: علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن محمد بن زيد... ينظر عمدة الطالب: 300، الغدير 3: 57. (2) سمط اللآلي 1: 439 وينظر بشأن قبيلة " حمان " الأنساب 4: 235 - 236. (3) خلط بينهما نفر من المعاصرين فأحوال في ترجمة الحماني على حوادث سنة 200 ه تاريخ الطبري، وهذه الحوادث تخص الديباجة وليس الحماني. ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال المرحوم الدكتور مصطفى جواد في تلخيص مجمع الآداب 4: 104 حاشية، والمستشرق يوهان فك في كتابه العربية: 137 إذ قال عنه: " لقد كان حفيدا لجعفر الصادق، وابنا لمحمد الديباجة، الذي دعا لنفسه بالخلافة في مكة سنة 200 ه.. " وليس الحماني بحفيد لجعفر الصادق. 203 وبعد، فقد جمعت من شعر الحماني ما وقعت عيني عليه، ورتبته على القوافي، مقسما إياه إلى قسمين: أحدهما في شعر الحماني الذي لم يشاركه أحد في نسبته، وثانيها في المنسوب. ثم قسمت هذا المنسوب إلى قسمين: أحدهما في الشعر الذي رجحت نسبته إليه، وثانيها في الذي لم ترجح نسبته إليه. وقد كان الترجيح مبنيا على دواع عديدة منها: قدم المصدر، ووتيرة الشعر نفس الشاعر، وما يشبه الاجماع. وإذ رتبت المقاطيع أثبت اختلاف الروايات في الحاشية، ودافعي إلى ذلك أنني أرى في عزلها آخر الديوان ما يشق على الباحث، وقد أكون مخطئا في هذا إلا أنني توخيت السهولة التي أرجوها لنفسي على الأقل فيما أقرأه من دواوين. وإزاء كل هذا لا أدعي أنني قمت بكل ما يجب أن أقوم به، وأنني أتيت بكل ما ينبغي ان يؤتى به، فقد تكون هناك أبيات فاتتني، أو تصحيفات في أبيات لم أهتد إليها، أو آراء جانبني الصواب في إثباتها، أو ترجيحات لم يقم الدليل المقنع عليها. فعسى أن يقوم المعنيون من أمر هذا العمل ما أعوج خدمة للتراث وحبا بالعلم. 4 الهمزة عصيت الهوى وهجرت النساء * وكنت دواء فأصبحت داءا وما أنس لا أنس حتى الممات * نزيب الظباء تجيب الظباءا دعيني وصبري على النائبات (1) * فبالصبر نلت (2) الثرا والثواءا وإن يك دهري لوى رأسه * فقد لقي الدهر مني التواءا ليالي أروي صدور القنا * وأروي بهن الصدور الظماءا ونحن إذا كان شرب المدام * شربنا على الصافنات الدماءا بلغنا السماء بأنسابنا * ولولا السماء لجزنا السماءا فحسبك من سؤدد أننا * بحسن البلاء كشفنا البلاءا يطيب الثناء لآبائنا * وذكر علي يزين الثناءا إذا ذكر الناس كنا ملوكا * وكانوا عبيدا وكانوا إماءا هجاني قوم ولم أهجهم * أبي الله لي أن أقول الهجاءا ساع بكأس بين ندماني * كالغصن المنعصر الماء كأنما يسعى لوجدي به * ما بينهم في ثنى أحشائي أغار من وقفته كلما * قال لحاسي الكاس: مولائي حتى لقد صاروا وهم أخوتي * من شدة الغيرة أعدائي لنا من هاشم هضبات عز * مطنبة بأبراج السماء تطيف بنا الملائك كل يوم * ونكفل في حجور الأنبياء ويهتز المقام لنا ارتياحا * ويلقانا صفاه بالصفاء 5 الباء ابن الذي ردت عليه * الشمس في يوم الحجاب وابن القسيم النار في * يوم المواقف والحساب مولاهم يوم الغدير * برغم مرتاب وآبي (5) وليل مثل خافية الغراب * عيي مذاهب وخفي باب دلفت له بأسود مستمر * كما نظر الغضاب إلى الغضاب أجش كأنما قابلت منه * تبعق لجه وحريق غاب تراه كان عينك لا تراه * إذا وصل الوثاب إلى الوثاب كان لدى مغابنه (3) التماعا * تهارش (4) عنده بقع الكلاب يخالس بينها رفعا ووضعا * كما خفقت بنانك بالحساب هبني حننت إلى الشباب (5) * فطمست شيبي باختصابي ونفقت عند الغانيات * بحيلتي وجهاز ما بي من لي بما وقف المشيب * عليه من ذل الخضاب؟ ولقد تأملت الحياة * بعيد فقدان التصابي فإذا المصيبة بالحياة * هي المصيبة بالشباب (7) 1 بكى للشيب ثم بكى عليه * فكان أعز من فقد الشباب 2 فقل للشيب لا تبرح حميدا * إذا نادى شبابك بالذهاب (8) 1 بأبي فم شهد الضمير له * قبل المذاق بأنه عذب 2 كشهادتي لله خالصة * قبل العيان بأنه الرب 3 والعين لا تغني بنظرتها * حتى يكون دليلها القلب (9) سقيا لمنزلة وطيب * بين الخورنق والكثيب بمدافع الجرعات من * أكناف قصر أبي الخصيب دار تخيرها الملوك * فهتكت رأي اللبيب واها لأيام الشباب * بعدن عن عهد قريب أيام غصن شبيبتي * ريان معتدل القضيب أيام كنت من الطروبة * للصبا ومن الطروب أيام كنت من الغواني * في السواد من القلوب لو يستطعن خبأنني * بين المخانق والجيوب أيام كنت وكن لا * متحرجين من الذنوب غرين يشتكيان ما * يجدان بالدمع السروب لم يعرفا نكدا سوى * صد الحبيب عن الحبيب التاء (10) قالوا له: ماذا رزقتا؟ * فأصاخ، ثمة قال: بنتا وأجل من ولد النساء * أبو البنات (6) فلم جزعتا؟ إن الذين تود من * بين الخلائق ما استطعتا نالوا بفضل البنت ما * كبتوا به الأعداء كبتا
(1) في الأصل: نائبات. (2) في الأصل: الثرى. (3) التبعق: الاندفاع فجأة (4) المغابن: الآباط. (5) في الأصل: نهادس. (6) إشارة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. 204 (11) أن صدر النهار أنضر شطريه * كما نضرة الفتى في فتاته لعمرك للمشيب علي مما * فقدت من الشباب أشد فوتا تمليت الشباب فصار شيبا * وأبليت المشيب فكان موتا الحاء (13) 1 فيا أسفي على النجف المعري * وأودية منورة الأقاح 2 وما بسط الخورنق من رياض * مفجرة بأفنية فساح 3 ووا أسفا على القناص تغدو * خرائطها على مجرى الوشاح (14) وإذ بيتي على رغم الملاحي * هو البيت المقابل للضراح (1) ووالدي المشار به (2) إذا ما * دعا الداعي ب حي على الفلاح (15) مررت بدور بني مصعب * بدور السرور ودور الفرح 2 فشبهت سرعة أيامهم * بسرعة قوس يسمى قزح 3 تلون معترضا في السماء * فلما تمكن منها نزح (16) قال يرثي يحيى بن عمر العلوي: يا بقايا السلف الصالح * والتجر الربيح نحن للأيام ما بين * قتيل وجريح خاب وجه الأرض كم غيب * من وجه صبيح آه من يومك ما أوداه * للقلب القريح الدال (17) قال يرثي أخاه لأمه إسماعيل: هذا ابن أمي عديل الروح في جسدي * شق الزمان به قلبي إلى كبدي فاليوم لم يبق شئ أستريح به * إلا تفتت أعضائي من الكمد أو مقلة بخفي الهم باكية * أو بيت مرثية تبقى على الأبد ترى أناجيك فيها بالدموع وقد * نام الخلي ولم أهجع ولم أكد من لي بمثلك يا نور الحياة ويا * يمنى يدي التي شلت من العضد؟ من لي بمثلك أدعوه لحادثة * يشكى إليه ولا يشكو إلى أحد؟ قد ذقت أنواع ثكل كنت أبلغها * على القلوب وأجناها على كبدي قل للردى: لا تغادر بعده أحدا * وللمنية: من أحببت فاعتمدي إن الزمان تقضى بعد فرقته * والعيش آذن بالتفريق والنكد (18) هبني بقيت على الأيام والأبد * ونلت ما شئت من مال ومن ولد من لي برؤية من كنت آلفه * وبالشباب الذي ولى ولم يعد لا فارق الحزن قلبي بعد فرقتهم * حتى يفرق بين الروح والجسد (19) 1 قالوا: تمن ما هيوت واجتهد 2 فقلت قول المتشكي المقتصد: 3 لقاء من غاب وفقد من شهد (20) فلما ورد الشيب * بنوعين من الورد تصديت فصدت خلوة * من ألم الصد كما صدت عن الشمس * سراعا أعين الرمد رفعناه على أعمدة * من قضب الهند على حقف نقا مثل * تداريج قفا جعد (21) وبيت قد بنينا فارد * كالكوكب الفرد رفعناه على أعمدة * من قضب الهند على حقف نقا مثل * تداريج قفا جعد (22) ومن سلم جبريل * عليه ليلة الجد (23) كان هموم الناس في الأرض كلها * كلي وقلبي بينهم قلب واحد ولي شاهدا عدل: سهاد وعبرة * وكم مدع للحق من غير شاهد؟ (24) فان تسأليني ما الخضاب فإنني * لبست على فقد الشباب حدادا (25) إذا كنت، لم أفقد الغائبين * وإن غبت كنت فريدا وحيدا تباعد نفسي إذا ما بعدت * فليست تعاود حتى تعودا وأشبهك البدر حسنا فما * تناقص حسنك حتى يزيدا محا حسن وجهك عني الملام * وأسكت طرفك عني الحسودا (26) قال يطعن في نسب الشاعر علي بن الجهم مخاطبا إياه: لو اكتنفت النضر أو معدا * أو اتخذت البيت كهفا ومهدا وزمزما شريعا ووردا * والأخشبين (3) محضرا ومبدأ ما ازددت إلا من قريش بعدا * أو كنت إلا مصقليا (4) وغدا (27) أجالس معشرا لا شكل فيهم * وأشكالي قد اعتنقوا اللحودا (28) أعاده من عقابيل الصبا عيد * وعاد للوم فيه اليوم تفنيد؟
(1) الضراح: بيت في السماء. (2) ربما هي: المشار له، أو المشار به، من الإشادة، ويبدو أن المقطوعتين من قصيدة واحدة. (3) الأخشبان: جبلان بمكة، أبو قبيس والأحمر وجبلا منى. (4) ربما هي صقلبيا. 205 هذا وحرف إذا ماتت مفاصلة * عن راكب وصلت أكفاله بيد يهماء لا يتخطاها الدليل سرى * إلا وناظره بالنجم معقود جاوزتها والردى رحب معالمه * فيها ومسلكها بالخوف مسدود (29) حسب العواذل أن الوجد أوحشه * من نومه فكان النوم تسهيد أبقى الهوى منه جسما كالهواء ضني * تنسم الريح فيه وهو مفقود كان مدمعه تجري أوائله * كما يفيض على أخراه مردود أنست بالذكر منها والسهاد له * أعجب به من مسيء وهو مورود (1) أتبعتها نفسا تدمى مسالكه * كأنه من حمى الأحشاء مقدود ما زلت أعرف أيامي وأنكرها * حتى انبرت وهي لا بيض ولا سود خاضت بي الشك حتى قال قائلها: * لا القرب قرب ولا التبعيد تبعيد (30) (2) دان مسف في كل ناحية * من قطره طنب في الأرض مشدود ظلت مناكبه في الأرض لاصقة * كأنه بتلاع الأرض مصفود (31) بين الوصي وبين المصطفى نسب * تختال فيه المعالي والمحاميد كانا كشمس نهار في البروج كما * أدارها ثم أحكام وتجويد كسيرها انتقلا من طاهر علم * إلى مطهرة آباؤها صيد تفرقا عند عبد الله واقترنا * بعد النبوة، توفيق وتسديد وذر ذو العرش ذرا طاب بينهما * فانبث نور له في الأرض تخليد نور تفرع عند البعث وانشعبت * منه شعوب لها في الدين تمهيد هم فتية كسيوف الهند طال بهم * على المطاول آباء مناجيد قوم لماء المعالي في وجوههم * عند التكرم تصويب وتصعيد يدعون أحمد أن عد الفخار أبا * والعود ينبت في أفنانه العود المنعمون إذا ما لم تكن نعم * والذائدون إذا قل المذاويد أوفوا من المجد والعلياء في قلل * شم قواعدهن الباس والجود ما سود الناس إلا من تمكن في * أحشائه لهم ود وتسويد سبط الأكف إذا شيمت مخايلهم * أسد اللقاء إذا صد الصناديد يزهى المطاف إذا طافوا بكعبته * وتشرئب لهم منها القواعيد في كل يوم لهم باس يعاش به * وللمكارم من أفعالهم عيد محسدون ومن يعقد بحبهم * حبل المودة يضحى كذا وهو محسود لا ينكر الدهر أن ألوى بحقهم * فالدهر مذ كان مذموم ومحمود (32) قال يخاطب صاحب الزنج وقد ادعى أنه علوي: يقول لك ابن عمك من بعيد * لتبت (3) أو لنوح أو لهود؟ لهجت بنا بلا نسب إلينا * ولو نسب اليهود إلى القرود لحقت بنا على عجل كانا * على وطن وأنت على بريد فهبنا قد رضيناك ابن عم * فمن يرضى بأفعال اليهود؟ الراء (33) وقائلة والسكب منها مبادر * وقد قرحت بالدمع منها المحاجر وقد أبصرت حمان من بعد أنسها * بنا وهي منا مقفرات دواثر كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر فقلت لها والقلب مني كأنما * تخلبه بين الجناحين طائر بلى نحن كنا أهلها فأزالنا * صروف الليالي، والجدود العواثر أرقت، وما ليل المضام بنائم * وقد ترقد العينان والقلب ساهر فيا نفس لا تفني أسى واذكري الأسى * فيوشك يوما أن تدور الدوائر (34) 1 - إنما الدار بالحلول فان هم * فارقوها، فحيث حلوا الديار (35) قال يجيب الوضاح الكوفي وقد اعتذر إليه. ليس جود الربيع راشف وجه الأرض * عن مبسم من الأنوار لا ولا العاشقان ضمهما الشوق * على غاية الضنى في إزار فهما ملصقان كالساعد البيضاء * عضضتها بضيق السوار كأخ عهده وهدي في الود * كعهد الأنواء والأمطار رق معناهما فلم يلبسا الأيام * إلا على اقتراب المزار لج في الاعتذار من شفق الوجد * وأجلته عن الاعتذار (36) ليالي يألفك الغانيات * وكن وكنت صغيرا صغارا وقد كنت تملك الحاظهن * فصرت يعرنك لحظا معارا فأصبحن أعقبن بعد الوداد * بعادا وبعد السكون النفارا فلا غرني غرر الحادثان * وقد كنت أوسعهن اغترارا (37) كم نظرة منها شجيت لها * قامت مقام الفقد للنظر ولى (4) بأوطاري ولست أرى * عيشا يهش له بلا وطر (38) قال يرثي يحيى بن عمر العلوي: قد كان حين بدا الشباب به * يقق السوالف حالك الشعر وكأنه قمر تمنطق في * أفق السماء بدارة البدر كذا؟ يا بن الذي جعلت فضائله * فلك العلا وقلائد السور من أسرة جعلت مخايلهم * للعالمين مخايل النظر تتهيب الأقدار قدرهم * فكأنهم قدر على قدر والموت لا تشوى رميته * فلك العلا ومواضع الغرر
(1) ربما هي: مردود. (2) يبدو أن المقطوعات 28، 29، 30، من قصيدة واحدة. (3) ربما هي إشارة إلى الآية الكريمة: (تبت يدا أبي لهب وتب)، وكأن الحماني يريد أن يقول له ساخرا: إذا صحت نسبتك إلينا فأنت من أبي لهب. (4) ربما هي: ولت. 206 (39) وأنزله منه على رغمة العدى * كهارون من موسى على قدم الدهر (1) فمن كان في أصحاب موسى وقومه * كهارون؟ لا زلتم على زلل الكفر وآخاهم مثلا لمثل فأصبحت * إخوته كالشمس ضمت إلى البدر فآخى عليا دونكم وأصاره * لكم علما بين الهداية والكفر وأنزله منه النبي كنفسه * رواية أبرار تأدت إلى البر فمن نفسه منكم كنفس محمد؟ * ألا بأبي نفس المطهر والطهر (40) 1 - ونحن سننا الصبر في كل موطن * وحطت مساعينا على خطط الفخر (41) 1 - الفاصل الخطب الذي باسمه * يمتحن الايمان والكفر (42) لا تكتسي النور الرياض إذا * لم يروهن مخايل المطر والغيث لا يجدي إذا ذرفت * آماق مدمعه على حجر وكذاك لو نيل الغنى بيد * لم تجتذب بسواعد القدر (43) كان نجوم الليل سارت نهارها * ووافت عشاء وهي أنضاء أسفار فخيمن حتى يستريح ركابها * فلا فلك جار ولا كوكب ساري (44) وركب ثلاث كالأثافي تعاودوا * دجى الليل حتى أومضت سنة البدر إذا اجتمعوا سميتهم باسم واحد * وإن فرقوا لم يعرفوا آخر الدهر (45) وجه هو البدر إلا أن بينهما * فضلا تلألأ عن حافاته النور في وجه ذاك أخاطيط مسودة * وفي مضاحك هذا الدر منثور (46) قال يصف سرعة فرس: 1 يبادر الناظر وهو يبدره * كان من يبصره لا يبصره السين (47) (2) 1 - ليس لبس الطيالس * من لباس الفوارس 2 لا ولا حومة الوغى * كصدور المجالس الضاد (48) يا شادنا أفرع من فضه * في خده تفاحة عضه كأنما القبلة في خده * للحسن من رقته عضه يهتز أعلاه إذا ما مشى * وكله في لينه قبضه ارحم فتى لما تملكته * أقر بالرق فلم ترضه العين (49) لقد فاخرتنا من قريش عصابة * بمط خدود وامتداد أصابع فلما تنازعنا الفخار قضى لنا * عليهم بما نهوى نداء الصوامع ترانا سكوتا والشهيد بفضلنا * عليهم جهير لصوت في كل جامع بان رسول الله لا شك جدنا * ونحن بنوه كالنجوم الطوالع (50) وليل تراه وأقطاره * كما أدرع الشملة الأسفع كان الفجاج على سالكيه * سدت فليس لها مطلع (51) ترى ضبها مطلعا رأسه * كما مد ساعده الأقطع له ظاهر مثل برد الوشي * وبطن كما حسر الأصلع هو الضب ما مد سكانه * وإن ضمه فهو الضفدع (52) تضوع مسكا جانب القبر أن ثوى * وما كان لولا شلوه يتضوع مصارع أقوام كرام أعزة * أبيح ليحيى الخير في القوم مصرع الفاء (53) كم وقفة لك بالخورنق * ما توازى بالمواقف بين الغدير إلى السدير * إلى ديارات الأساقف فمواقف الرهبان في * أطمار خائفة وخائف دمن كان رياضها * يكسين أعلام المطارف وكأنما غدرانها * فيها عشور في المصاحف تلقى أوائلها أواخرها * بألوان الرفارف بحرية شتواتها برية فيها المصايف درية الحصباء كافورية * منها المشارف باتت سواريها تمخض * في رواعدها القواصف وكان لمع بروقها * في الجو أسياف المثاقف ثم انبرت سحا * كباكية بأربعة ذوارف فإنما أنوارها * تهتز في الدرج العواصف طرر الوصائف يلتقين * بها إلى طرر الوصائف دافعتها عن دجنها * بالقلب البيض الغطارف 15 - يعبق (3) يوم البأس * شرابين في يوم المتارف
(1) في البيت إشارة إلى حديث النبي الكريم (ص) يخاطب الإمام عليا (ع): " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي من بعدي ". (2) اكتفى صاحب المحاضرات بقوله إنها للعلوي، وإنما أثبتناها هنا لأنه يفرق بينه وبين الرضي بأن يسمي الرضي: الموسوي، وبينه وبين ابن طباطبا العلوي بأن يسميه: ابن طباطبا، ومعنى هذا أنه لا يصف بالعلوي غير الحماني، واطلعت مؤخرا - وأنا أصحح تجارب الطبع - على ديوان أبي سعد المخزومي صنعة الدكتور رزوق فرج رزوق فوجدتها له، وعلى هذا فهي مما ينسب للحماني. (3) كذا هي، ويرى الدكتور مصطفى جواد أنها: " تئقين " والتئق: الممتلئ غيضا، وتصويبه معقول. 207 سمح بحر المال * وقافون في يوم المتالف واها لأيام الشباب * وما لبسن من الزخارف وزوالهن بما عرفت * من المناكر والمعارف أيام ذكرك في دواوين * الصبا صدر الصحائف واها لأيامي وأيام * النقيات المراشف والغارسات البان قضبانا * على كثب الروادف والجاعلات البدر ما بين * الحواجب والسوالف أيام يظهرن الخلاف * بغير نيات المخالف وقف النعيم على الصبا * وزللت عن تلك المواقف (54) بنا يستثار العز عن مستقره * وعن سخطنا تدمى أنوف المخالف تقول قريش وهي تفخر: إننا * خلائف أشبهنا كرام الخلائف وهل خلفوا إلا أبانا ففخرهم * علينا به نكراء من وجه عارف بنو هاشم سادوكم جاهلية * وجاءوكم عند الهدى بالجوارف لها دونكم سقي الحجيج وندرة الندي * وأموكم غداة المواقف هم الثقلان الداعيان إلى الهدى * مقام (1) وصي أو بيان مصاحف فان تشكروا لله نعماه فيكم * وإلا أتتكم حمير بالعجارف بتبعها وسيفها وذوينها (2) * وكل ابن مجد تالد غير طارف وجاستكم عليا ربيعة بالقنا * وساقت لكم قيس متون المراهف فهل لكم من ذائد عن فخارهم * سوى أسرة الزاكي الكرام الغطارف (55) إني وقومي من أنساب قومهم * كمسجد الخيف من بحبوحة الخيف ما علق السيف منا بابن عاشرة * إلا وهمته أمضى من السيف (56) قال يرثي يحيى بن عمر العلوي: لعمري لئن سرت قريش بهلكه * لما كان وقافا غداة التوقف فان مات تلقاء الرماح فإنه * لمن معشر يشنون موت التترف فلا تشمتوا فالقوم من يبق منهم * على سنن منهم مقام المخلف لهم معكم أما جدعتم أنوفكم * مقامات ما بين الصفا والمعرف تراث لهم من آدم ومحمد * إلى الثقلين من وصايا ومصحف فجازوا أباهم عنهم كيف شئتم * تلاقوا لديه النصف من خير منصف (57) إني سألتك باختلاس * اللحظ من تحت السيوف وبما جنت تلك العيون * على القلوب من الحتوف وبسطوة المولى إذا * أزرى على العبد الضعيف لا تجمعي ضن البخيل * وسطوة المولى العسوف (58) يا آل أحمد أنتم خير مشتمل * بالمكرمات وأنتم خير معترف خلافة الله فيكم غير خافية * يفضي بها سلف منكم إلى خلف طبتم فطاب مواليكم لطيبتكم * وباء أعداؤكم بالخبث في النطف رأيت نفعي وضري عندكم فإذا * ما كان ذاك فعنك أين منصرفي؟ القاف (59) قد ألبس الليل حتى ينثني خلقا * وأركب الهول بالغر الغرانيق وأنتحي لنعام الدو ملهبة * كأنها بعض أحجار المجانيق تسدي الرياح لها ثوبا وتلحمه * كما تلبس من نسج الخداريق (3) كأنما ريشها والريح تفرقه * أسمال راهبة شيبت بتشقيق كأنها حين مدت رؤوسها فرقا * سود الرجال تعادى (4) بالمزاريق كان أعناقها وهنا إذا خفقت * بها البلاقع أدقال (5) الزواريق فما استلذ بلحظ العين ناظرها * حتى تغصص أعلاهن بالريق اللام (60) سادتي عدتي عمادي ملاذي * خمسة عندهم تحط رحال سادتي سادة بهم ينزل الغيث * علينا وتقبل الأعمال سادة حبهم يحط الخطايا * ولديهم تصدق الآمال سادة قادة إليهم إذا ما * ذكر الفضل تضرب الأمثال وبهم تدفع المكاره والخيفة * عنا وتكشف الأهوال وبهم طابت المواليد وامتاز * لنا الحق والهدى والضلال وبهم حرم الحرام وزال الشك * في ديننا وحل الحلال (61) سائلا عنا قريشا * وليالينا الأول نحن أصحاب حنين * والمنايا تنتضل ويبدر حين ولوا * قللا بعد قلل ولنا يوم بصفين * ويوم بجمل هبلت أم قريش * حين تدعون الهبل حين ناطوا بكتاب * الله أطراف الأسل (63) 1 أعدد ثلاث خلال قد جمعن له * هل سب من أحد أم سب أو بخلا (64) من قصر الليل إذا زرتني * أبكي وتبكين من الطول عدو عينيك وشانيهما * أصبح مشغولا بمشغول (65) كأنما الطرف يرمي في جوانبه * عن العمى وكان النجم قنديل
) (1) ربما هي: مقال. وفي قوله: (هم الثقلان) إشارة إلى قول النبي (ص): إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا. (2) في صدر البيت زحاف واضح. (3) الخداريق: العناكب. (4) تعادى: تتعادى من العدو. (5) أدقال: جمع دقل بالتحريك، وهو خشبة طويلة تشد وسط السفينة، يمد عليها الشراع. 208 ولقد نظرت إلى الفراق فلم أجد * للموت لو فقد الفراق سبيلا إن المصائب لو تصور ما عدت * مسترحلا بالبين أو مرحولا يا ساعة البين انبري فكأنما * واصلت ساعات القيامة طولا (67) 1 - لم تشك خيلهم الوجى من روحة * إلا انتعلن من الدماء قتيلا (68) يا آل حم الذين بحبهم * حكم الكتاب منزل تنزيلا كان المديح حلى الملوك وكنتم * حلل المدائح غرة وحجولا بيت إذا عد المآثر أهله * عدوا النبي وثانيا جبريلا قوم إذا اعتدلوا الحمائل أصبحوا * متقسمين خليفة ورسولا نشأوا بآيات الكتاب فما انثنوا * حتى صدرن كهولة وكهولا ثقلان لن يتفرقا أو يطفئا * بالحوض من ظما الصدور غليلا وخليفتان على الأنام بقوله * الحق أصدق من تكلم قيلا فاتوا أكف الآيسين فأصبحوا * ما يعدلون سوى الكتاب عديلا (69) 1 - هم صفوة الله التي ليس مثلها * وما مثلهم في العالمين بديل 2 خيار خيار الناس من لا يحبهم * فليس له إلا الجحيم مقيل الميم (70) قالت: عييت عن الشكوى فقلت لها: * جهد الشكاية أن أعيا عن الكلم أشكو إلى الله قلبا لو كحلت به * عينيك لاختضبت من حره بدم لا تبرمي فاقد الدنيا وبهجتها * وما يسر به منها، بلا ولم (71) وقال يطعن في نسب علي بن الجهم معرضا باضطراب الناس في عقب سامة بن لؤي بن غالب الذي يزعم ابن الجهم أنه منه: وسامة منا فاما بنوه * فأمرهم عندنا مظلم أناس أتونا بأنسابهم * خرافة مضطجع يحلم وقلت لهم مثل قول النبي * وكل أقاويله محكم: إذا ما سئلت ولم تدر ما * تقول، فقل: ربنا أعلم (72) لا والذي عاذ باحرامه * ركب يلبون باحرام أعد سبعين ولو جملت * نعماؤها عادت إلى عام (73) قال يخاطب صاحب الجيش الذي قضى على ثورة يحيى بن عمر العلوي وقتله: قتلت أعز من ركب المطايا * وجئتك أستلينك في الكلام وعز علي أن ألقاك إلا * وفيما بيننا حد الحسام ولكن الجناح إذا أهيضت * قوادمه يرف على الآكام (74) قال يرثي يحيى بن عمر العلوي: فان يك يحيى أدرك الحتف يومه * فما مات حتى مات وهو كريم وما مات حتى قال طلاب نفسه: * سقى الله يحيى أنه لصميم فتى آنست بالروع والبأس نفسه * وليس كمن لاقاه وهو سنوم فتى غرة لليوم وهو بهيم * ووجه لوجه الجمع وهو عظيم لعمرو ابنة الطيار إذ نتجت به * له شيم لا تجتوي ونسيم لقد بيضت وجه الزمان بوجهه * وسرت به الاسلام وهو كظيم فما انتجبت من مثله هاشمية * ولا قلبته الكف وهو فطيم النون (75) شاك الزمان بكر الزمان * وأفناك من كره كل فان إساءة دهرك محفوفة بما لم يكن للصبا في ضمان ليالي لا يشبع الناظران * ما قابلاك ولا يرويان ليالي لم يكتس العارضان * شيبا ولم يقصص الشاربان فان يك هذا الزمان انقضى * وبدلت أخباره بالعيان فلا بالقلى تتناسى الصبا * ولا بالرضا رضي العاذلان ونازلة كنت من حدها * على غرر مثل حد السنان ومن نكبات خطوب الزمان * ألا حظها بجنان الجبان ألا هل سبيل إلى نظرة * بكوفان يحيى بها الناظران يقلبها الصب دون السدير * حيث أقام بها القائمان (1) وحيث أناف بأرواقه * محل الخورنق والماديان وهل ابكرن وكثبانها * تلوح كأودية الشاهجان وأنوارها مثل برد النبي (2) * ردع بالمسك والزعفران وهل أدنون من وجوه نأت * وهن من النفس دون الدواني أناس هم الأنس دون الأنيس * وجنات عيشك دون الجنان (76) شجاك الوميض ولذع المضيض * بنار الهوى وببرق يماني كان تألقه في السماء * رجع حساب خفيف البنان كأني لهم أدر أن الردى * لهتك ستور الضنى قد رآني أخلاي أحفيكم طائعا * وأنتم منى النفس دون الأماني 5 ولكن يد الدهر رهن بما * سيرمي بأسهمه الفرقدان 6 عسى الدهر أن يثني لي عطفه * بعطف الهوى وبعيش ليان (77) وهيفاء تلحظ عن شادن * وتبسم عن زهر الأقحوان وكالغصن بان وجدل العنان * وميادة القضب الخيزان ترى الشمس والبدر، معناهما * بها واحدا، وهما معنيان إذا أطلعت وجهها أشرقا * بطلعتها، وهما آفلان
(1) القائمان: هما قائما الغري. (2) ربما هي الوشي. 209 (78) هواك هو الدنيا ونيلك ملكها * وهجرك مقرون بكل هوان كذبتك، ما قلت الذي أنت أهله * بلى، لم يجد ما فوق ذاك لساني (79) في مجلس جعل السرور جناحه * ظلالنا من طارق الحدثان لا تسمع الآذان في جنباته * إلا ترنم ألسن العيدان أو صوت تصفيق الجليس ونقره * وبكاء راووق وضحك قناني (80) 1 - كان يبكيني الغناء سرورا * فأراني أبكي له اليوم حزنا قد مضى ما مضى فليس يرجى * وبقى ما بقى فما فيه معنى آه من خطرة الكبير إذا ما * خطر الياس دون ما يتمنى (81) ربما سرني صدودك عني * وتنائيك وامتناعك عني ذاك ألا أكون مفتاح غيري * وإذا ما خلوت كنت التمني (82) إذا رضيت فما ألقى أخا سخط * وأن سخطت فكل الناس ذو دمن (1) لبيك، دعوة من أن شئت عز وأن * أبديت سخطك لم يجتن بالجنن (83) وكتب إلى الموفق بالله حين حبسه: 1 قد كان جدك عبد الله (2) خير أب * لابني علي حسين الخير والحسن 2 فالكف يوهن منها كل أنملة * ما كان من أختها الأخرى من الوهن (84) أشكو إلى الله خطا لا يبلغني * خط البليغ ولا خط المرجينا إذا هممت بأمر لي أزخرفه * سدت سماحته عني التحاسينا ويوم قد ظللت قرير عين * به في مثل نعمة ذي رعين تفكهني أحاديث الندامى * وتطربني مثقفة اليدين فلو لا خوف ما تجني الليالي * قبضت على الفتوة باليدين (3) (86) لقد أبقى مكانك في لؤي * وآل محمد خللا مبينا وليل قد دأبت له باي * من الفرقان بين الساجدينا فانس شخصك الجدث المعفى * وأوحش قبرك المتهجدينا (87) يا بن من بيته من الدين والاسلام * بين المقام والمنبرين لك خير البيتين من مسجدي جدك * والمنشأين والمسكنين والمساعي من لدن جدك إسماعيل * حتى أدرجت في الريطتين حين نيطت بك التمائم ذات الريش * من جبرئيل في المنكبين (88) أنتما سيدا شباب جنان الخلد * يوم الفوزين والروعتين (4) في البيت إشارة إلى الحديث الشريف: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة يا عديل القرآن من بين ذي الخلق * ويا واحدا من الثقلين أنتما والقرآن في الأرض مذ أنزل * مثل السماء والفرقدين قمتما من خلافة الله في الأرض * بحق مقام مستخلفين قاله الصادق الحديث ولن يفترقا * دون حوضه واردين (89) وأوقع يوم أحد بهم جلادا * يزايل بين أعضاد الشؤون فلم يترك لعبد الدار قدما (5) * يقيم لواء طاغية لعين فأفضوا باللواء إلى صواب * فعانقه معانقة الوضين فخذمه أبو حسن فاهوى * صريعا لليدين وللجبين ونودوا: لا فتى إلا علي * وليس لذي الفقار حثا جفون (6) كذا الهاء (90) قالوا: أبو بكر له فضله * قلنا لهم: هياه الله نسيتم خبطة خم وهل * يشتبه العبد بمولاه إن عليا كان مولى لمن * كان رسول الله مولاه الشعر المنسوب أ ما رجحت نسبته للحماني الباء (1) متى أرتجي يوما شفاء من الضنا * إذا كان جانيه علي طبيبي ولي عائدات ضفتهن فجئن في * لباس سواد (7) في الظلام قشيب نجوم أراعي طول ليلي بروجها * وهن لبعد السير ذات لغوب خوافق في جنح الظلام كأنها * قلوب معناة بطول وجيب ترى حوتها في الشرق ذات سباحة * وعقربها في الغرب ذات دبيب إذا ما هوى الإكليل منها حسبته * تهدل غصن في الرياض رطيب كان التي حول المجرة أوردت * لتكرع في ماء هناك صبيب كان رسول الصبح يخلط في الدجى * شجاعة مقدام بجبن هيوب كان اخضرار البحر صرح ممرد * وفيه لآل لم تش بثقوب كان سواد الليل في ضوء صبحه * سواد شباب في بياض مشيب كان نذير الشمس يحكي ببشره * علي بن داود أخي ونسيبي ولولا اتقائي عتبه قلت: سيدي * ولكن يراها من أجل ذنوبي
(1) الدمن: جمع دمنة، والدمنة: الحقد. (2) عبد الله هو الخليفة المأمون، ويريد الشاعر بالبيت تذكير الموفق بحسن معاملة المأمون للعلويين. (3) في البيت إيطاء. (4) في البيت إشارة إلى الحديث الشريف: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ". (5) هكذا هي ولا يستقيم المعنى، ولعل الأنسب أن تكون كفا. (6) لم اهتد إلى ما صحفت عنه الكلمة، ولعل البيت يستقيم على هذه الصورة: ونودوا. وليس لذي الفقار من قرين. (7) ربما هي: بياض إذ هي أنسب للسياق. 210 جواد بما تحوي يداه مهذب * أديب غدا خلا لكل أديب نسيب إخاء وهو غير مناسب * قريب صفاء وهو غير قريب ونسبة ما بين الأقارب وحشة * إذا لم يؤلفها انتساب قلوب الفاء (2) يسترسل الضيف في أبياتنا أنسا * فليس يعلم خلق أينا الضيف والسيف أن قسته يوما بنا شبها * في الروع، لم تدر عزما أينا السيف الكاف (3) وإنا لتصبح أسيافنا * إذا ما انتضين ليوم سفوك منابرهن بطون الأكف * وأغمادهن رؤوس الملوك وما لي في الخلق من مشبه * ولا في اكتساب العلى من شريك ما لم ترجح نسبته إليه الباء (4) بكيت على الشباب بدمع عيني * فلم يغن البكاء ولا النحيب فيا أسفا أسفت على شباب * نعاه الشيب والرأس الخضيب عريت من الشباب وكان غضا * كما يعرى من الورق القضيب فيا ليت الشباب يعود يوما * فأخبره بما صنع المشيب الحاء (5) عندكن الفؤاد والقلب رهن * في يدي ذات دملج ووشاح ذات خدين ناعمين ضنينين * بما فيهما من التفاح وثنايا وريقة كغدير * من مدام وروضة من أقاح فمساويكها بها كل يوم * في رياض من اصطباح الراح الراء (6) كم قد نماني من رئيس قسور * دامي الأنامل من خميس ممطر خلقت أنامله لقائم مرهف * ولدفع معضلة وذروة منبر ما أن يريد إذا الرماح شجرنه * درعا سوى سربال طيب العنصر يلقى السيوف بنحره وبوجهه * ويقيم هامته مقام المغفر ويقول للطرف اصطبر لشبا القنا * فهدمت ركن المجد أن لم تعقر وإذا تأمل شخص ضيف مقبل * متسربل سربال ليل أغبر أومى إلى الكوماء هذا طارق * نحرتني الأعداء أن لم تنحري اللام (7) 1 لا تبك إثر مول عنك منحرف * تحت السماء وفوق الأرض أبدال 2 الناس أكثر من أن لا ترى خلفا * ممن زوى وجهه عن وجهك المال 3 ما أقبح الود يدنيه ويبعده * بين الصديقين إكثار وإقلال أبو الحسن علي بن محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات ولد سنة 241 وقتل سنة 312 وبنو الفرات أسرة شيعية. قال في وفيات الأعيان: وزير المقتدر بالله بن المعتضد بالله، وزر له ثلاث دفعات، فالأولى منهن لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وقيل: لسبع بقين منه، سنة ست وتسعين ومائتين، ولم يزل وزيره إلى أن قبض عليه لأربع خلون من ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين، ونكبه ونهب داره وأمواله، واستغل من أملاكه إلى أن عاد إلى الوزارة الثانية سبعة آلاف ألف دينار، وذكروا عنه أنه كتب إلى الأعراب أن يكبسوا بغداد، والله أعلم، ثم عاد إلى الوزارة يوم الاثنين لثمان خلون من ذي الحجة سنة أربع وثلاثمائة، وخلع عليه سبع خلع، وحمل إليه ثلاثمائة ألف درهم لغلمانه وخمسون بغلا لثقله وعشرون خادما وغير ذلك من الآلات، وزاد في ذلك اليوم في ثمن الشمع في كل من قيراط ذهب لكثرة استعماله إياه، وكان ذلك النهار شديد الحر، فسقى في ذلك اليوم وتلك الليلة في داره أربعون ألف رطل من الثلج، ولم يزل على وزارته إلى أن قبض عليه يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الأولى سنة ست وثلاثمائة، ثم عاد إلى الوزارة يوم الخميس لسبع ليال بقين من ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وكان يوم خرج من الحبس مغتاظا، فصادر الناس، وأطلق يد ابنه المحسن فقتل حامد بن العباس الوزير الذي كان قبل أبيه، وسفك الدماء، ولم يزل على وزارته إلى أن قبض عليه لتسع ليال خلون من ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، وقيل: قبض عليه يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول. وكان يملك أموالا كثيرة تزيد على عشرة آلاف ألف دينار، وكان يستغل من ضياعه في كل سنة ألفي ألف دينار، وينفقها، قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: مدحته بقصيدة، فحصل لي في ذلك اليوم ستمائة دينار. وكان كاتبا كافيا خبيرا، قال المعتضد بالله لعبيد الله بن سليمان: قد دفعت إلى ملك مختل وبلاد خراب، ومال قليل وأريد أن أعرف ارتفاع الدنيا لتجري النفقات عليه، فطلب ذلك عبيد الله من جماعة من الكتاب، فاستمهلوه أشهرا، وكان أبو الحسن بن الفرات وأخوه العباس محبوسين منكوبين، فاعلما بذلك، فعملاه في يومين وأنفذاه، فعلم عبيد الله أن ذلك لا يخفى عن المعتضد، فكلمه فيهما، ووصفهما، فاصطنعهما. وكانت في دار أبي الحسن بن الفرات حجرة شراب يوجه الناس على اختلاف طبقاتهم إليها غلمانهم يأخذون منها الأشربة والفقاع والجلاب إلى دورهم. وكان يجرى الرزق على خمسة آلاف من أهل العلم والدين والبيوت والفقراء أكثرهم مائة دينار في الشهر، وأقلهم خمسة دراهم، وما بين ذلك. قال الصولي: ومن فضائله التي لم يسبق إليها أنه كان إذا رفعت إليه قصة فيها سعاية خرج من عنده غلام فنادى: أين فلان ابن فلان الساعي؟ فلما عرف الناس ذلك من عادته امتنعوا عن السعاية بأحد، واغتاظ يوما من رجل فقال: اضربوه مائة سوط، ثم أرسل آخر فقال: اضربوه خمسين، ثم أرسل آخر فقال: لا تضربوه، وأعطوه عشرين دينارا، فكفاه ما مر به المسكين من الخوف.
211 قال الصولي: قام من مرضه وقد اجتمعت الكتب والرقاع عنده فنظر في ألف كتاب، ووقع على ألف رقعة، فقلنا: بالله لا يسمع بهذا أحد، خوفا من العين عليه. قال الصولي: ورأيت من أدبه أنه دعا خاتم الخليفة ليختم به كتابا، فلما رآه قام على رجليه تعظيما للخلافة، قال: ورأيته جالسا للمظالم، فتقدم إليه خصمان في دكاكين بالكرخ، فقال لأحدهما: رفعت إلى قصة في سنة اثنتين وثمانين ومائتين في هذه الدكاكين، ثم قال: سنك يقصر عن هذا، فقال له: ذاك كان أبي، قال: نعم وقعت له على قصة رفعها. وكان إذا مشى الناس بين يديه غضب وقال: أنا لا أكلف هذا غلماني فكيف أكلف أحرارا لا إحسان لي عليهم. وقتل نازوك صاحب الشرطة أبا الحسن بن الفرات المذكور وابنه المحسن يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. وكان عمر ابنه المحسن يوم قتل ثلاثا وثلاثين سنة. قال الصاحب أبو القاسم بن عباد: أنشدني أبو الحسن بن أبي بكر العلاف قصائد أبيه أبي بكر في الهر وقال: إنما كنى بالهر عن المحسن بن أبي الحسن بن الفرات أيام محنتهم، لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه. وكان أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات أخو أبي الحسن المذكور أكتب أهل زمانه، وأضبطهم للعلوم والأدب، وللبحتري فيه القصيدة المشهورة التي أولها: بت أبدي وجدا وأكتم وجدا * لخيال قد بات لي منك يهدي وتوفي أبو العباس المذكور ليلة السبت منتصف شهر رمضان سنة إحدى وتسعين ومائتين. وأما أخوه أبو الخطاب جعفر بن محمد فإنه عرضت عليه الوزارة، فأباها، وتولاها ابنه أبو الفتح الفضل بن جعفر، وكان كاتبا مجودا، وهو المعروف بابن حنزابه، وهي أمه، وكانت جارية رومية، قلده المقتدر بالله الوزارة يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الآخر سنة عشرين وثلاثمائة، وقيل: خلع عليه في أول شهر ربيع الآخر سنة عشرين وثلاثمائة، والله أعلم، ولم يزل وزيره إلى أن قتل المقتدر لأربع بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، وتولى الخلافة أخوه القاهر بالله، فاستتر أبو الفتح بن حنزابه، فولى القاهر أبا علي محمد بن علي بن مقلة الكاتب الوزارة، ثم تولى أبو الفتح الدواوين في أيام القاهر أيضا، وخلع القاهر وسملت عيناه في يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. وولي الخلافة الراضي بالله بن المقتدر بالله المقدم ذكره، فقلد أبا الفتح بن حنزابه الشام، فتوجه إليها، ثم إن الراضي بالله ولاه الوزارة، وهو يومئذ مقيم بحلب، وعقد له الأمر فيها يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان من سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وكوتب بالمسير إلى الحضرة، فوصل إلى بغداد يوم الخميس لست خلون من شوال من السنة، فأقام ببغداد قليلا، فرأى الأمور مضطربة، وقد استولى الأمير أبو بكر محمد بن رائق على الحضرة، فتحدث أبو الفتح مع ابن رائق في أنه يعود إلى الشام، وأطمعه في حمل الأموال إليه من مصر والشام، فعاد إليها في الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين، فأدركه أجله بغزة، وقيل: بالرملة، وجاءت الكتب إلى الحضرة بموته في يوم الأحد لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وكان مولده في ليلة السبت لسبع ليال بقين من شعبان سنة تسع وسبعين ومائتين (1)، وكانت الكتب تصدر باسمه في الشام. وترجمة ابن الفرات تترتب على قضية ابن المعتز فلا بد من ذكر شئ من أحوالها، وأصح التواريخ نقلا تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، فنذكر ما قاله في حوادث سنة ست وتسعين ومائتين: إن القواد والكتاب اجتمعوا على خلع الخليفة المقتدر، وتناظروا فيمن يجعلونه موضعه، فاجتمع رأيهم على عبد الله بن المعتز، وناظروه في ذلك، فأجابهم إليه على أنه لا يكون في ذلك سفك دم ولا حرب، فأخبروه أن الأمر يسلم إليه عفوا، وأن جميع من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا، فبايعهم. على ذلك، وكان الرأس في ذلك محمد بن داود بن الجراح وأبا المثنى أحمد بن يعقوب القاضي، وواطأ محمد بن داود جماعة من القواد على الفتك بالمقتدر والعباس بن الحسن. قلت: وكان وزير المقتدر يومئذ قال الطبري: وكان العباس بن الحسن على ذلك قد واطأ جماعة من القواد على خلع المقتدر والبيعة لعبد الله بن المعتز، فلما رأى أمره مستوثقا له مع المقتدر على ما يحب بدا له فيما كان عزم عليه من ذاك، فحينئذ وثب به الآخرون فقتلوه، يعني الوزير المذكور، قال الطبري: وكان الذي تولى قتله الحسين بن حمدان ووصيف بن صوارتكين، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول، ولما كان من غد هذا اليوم، وذلك يوم الأحد، خلع المقتدر الكتاب والقواد وقضاة بغداد، وبايعوا عبد الله بن المعتز، ولقبوه بالراضي بالله، وكان الذي يأخذ البيعة له على القواد ويلي استحلافهم والدعاء بأسمائهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش، وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار حرب شديدة من غدوة إلى انتصاف النهار، وفي هذا اليوم انفضت الجموع التي كان قد جمعها محمد بن داود لبيعة ابن المعتز عنه، وذلك أن الخادم الذي يدعى مؤنسا حمل غلمانا من غلمان الدار في الشذوات قلت: وهي عندهم المراكب قال: فصاعد بها وهم فيها في دجلة، فلما جاوزوا الدار التي فيها ابن المعتز ومحمد بن داود صاحوا بهم ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا وهرب من كان في الدار من الجند والقواد والكتاب وهرب ابن المعتز، ولحق بعض الذين بايعوا ابن المعتز بالمقتدر، فاعتذروا إليه بأنه منع من المصير إليه، واستخفى بعضهم، فطلبوا وأخذوا وقتلوا، وانتهبت العامة دور ابن داود، وأخذ ابن المعتز فيمن أخذ، انتهى ما ذكره الطبري في ذلك. فنذكر ما قاله غيره، جمعته من مواضع متفرقة، حاصله أن عبد الله بن المعتز رتب للوزارة في ذلك اليوم محمد بن داود المذكور، وللقضاء أبا المثنى المذكور، فلما انتقض أمره وأخذ ابن المعتز استتر ابن داود، وكان من فضلاء
(1) في سنة تسع وعشرين ومائتين محرفا. 212 أهل عصره وله عدة تصانيف منها كتاب الورقة في أخبار الشعراء وكتاب الوزراء وغير ذلك، ثم ظهر لمؤنس الخادم المذكور، وخافه أبو الحسن علي بن الفرات المذكور، فأشار على مؤنس بقتله، فقتل وأخرج وطرح في سقاية عند المأمونية، فحمل إلى منزله، وكان قتله في شهر ربيع الآخر من السنة، ومولده في سنة ثلاث وأربعين ومائتين في الليلة التي توفي فيها إبراهيم بن العباس الصولي المقدم ذكره. ولما عاد أمر المقتدر إلى ما كان عليه، وقد قتل وزيره العباس بن الحسن في التاريخ الذي ذكره الطبري، استوزر أبا الحسن علي بن الفرات المذكور، فأول ما ظهر للناس من محاسنه أنه حمل إليه من دار ابن المعتز صندوقان عظيمان، فقال: أعلمتم ما فيهما؟ قيل: نعم، جرائد بأسماء من بايعه، فقال: لا تفتحوهما، ودعا بنار فطرح الصندوقين فيها، فلما احترقا قال: لو فتحتهما وقرأت ما فيهما فسدت نيات الناس بأجمعهم علينا، واستشعروا منا، ومع ما فعلناه قد هدأت القلوب وسكنت النفوس. ومما يتعلق بهذه الترجمة أن القاهر بالله لما خلع وسملت عيناه كما ذكرناه آل به الحال إلى أن خرج إلى جامع المنصور ببغداد، فعرف الناس بنفسه، وسألهم التصدق عليه، فقام إليه ابن أبي موسى الهاشمي فأعطاه ألف درهم، وفي ذلك عبرة لأولي الألباب. ونقلت من كتاب الأعيان والأماثل تأليف الرئيس أبي الحسن هلال بن المحسن بن أبي إسحاق إبراهيم الصابي: وحدث القاضي أبو الحسين عبيد الله بن عباس أن رجلا اتصلت عطلته، وانقطعت مادته، فزور كتابا من أبي الحسن بن الفرات إلى أبي زنبور المارداني عامل مصر في معناه يتضمن الوصاة به والتأكيد في الاقبال عليه والاحسان إليه، وخرج إلى مصر، فلقيه به، فارتاب أبو زنبور في أمره لتغير الخطاب على ما جرت به العادة وكون الدعاء أكثر مما يقتضيه محله، فراعاه مراعاة قريبة، ووصله بصلة قليلة، واحتبسه عنده على وعد وعده به، وكتب إلى أبي الحسن بن الفرات يذكر الكتاب الوارد عليه، وأنفذه بعينه إليه، واستثبته فيه، فوقف ابن الفرات على الكتاب المزور، فوجد فيه ذكر الرجل، وأنه من ذوي الحرمات والحقوق الواجبة عليه، وما يقال في ذلك مما قد استوفى الخطاب فيه، وعرضه على كتابه، وعرفهم الصورة فيه، وعجب إليهم منها، ومما أقدم عليه الرجل، وقال لهم: ما الرأي في أمر هذا الرجل عندكم؟ فقال بعضهم: تأديبه أو حبسه، وقال آخر: قطع إبهامه لئلا يعاود مثل هذا ولئلا يقتدي به غيره فيما هو أكثر من هذا، وقال أجملهم محضرا: يكشف لأبي زنبور قصته ويرسم له طرده وحرمانه، فقال ابن الفرات: ما أبعدكم من الحرية والخيرية وأنفر طباعكم عنها! رجل توسل بنا، وتحمل المشقة إلى مصر في تأميل الصلاح بجاهنا، واستمداد صنع الله عز وجل بالانتساب إلينا، ويكون أحسن أحواله عند أحسنكم محضرا تكذيب ظنه وتخييب سعيه، والله لا كان هذا أبدا، ثم إنه أخذ القلم من دواته ووقع على الكتاب المزور هذا كتابي، ولست أعلم لم أنكرت أمره، واعترضتك شبهة فيه، وليس كل من خدمنا وأوجب حقا علينا تعرفه، وهذا رجل خدمني في أيام نكبتي، وما أعتقده في قضاء حقه أكثر مما كلفتك في أمره من القيام به، فأحسن تفقده، ووفر رفده، وصرفه فيما يعود عليه نفعه، ويصل إلينا فيما تحقق ظنه وتبين موقعه ورده إلى أبي زنبور من يومه، فلما مضت على ذلك مدة طويلة دخل على أبي الحسن بن الفرات رجل ذو هيئة مقبولة وبزة جميلة، وأقبل يدعو له، ويثني عليه، ويبكي، ويقبل الأرض، فقال له ابن الفرات: من أنت بارك الله فيك؟! وكانت هذه كلمته، فقال: صاحب الكتاب المزور إلى أبي زنبور الذي صححه كرم الوزير وتفضله، فعل الله به وصنع، فضحك ابن الفرات وقال: كم وصل إليك منه؟ قال: وصل إلي من ماله وتقسط قسطه على عماله ومعامليه وعمل صرفني فيه عشرون ألف دينار، فقال ابن الفرات: الحمد الله، ألزمنا، فانا نعرضك لما يزداد به صلاح حالك، ثم اختبره فوجده كاتبا شديدا، فاستخدمه وأكسبه مالا جزيلا، رحمه الله تعالى ورضي عنه!. أبو الحسن علي بن محمد التهامي ذكره في تكملة أمل الآمل باعتباره شيعيا وأضاف إلى اسمه لقب العاملي الشامي. ثم قال: ذكره في أمل الآمل وذكره في كتاب نسمة السحر فيمن تشيع وشعر. ونحن لا ندري هل إن إضافة العاملي من صاحب التكملة أم من صاحب الأمل. وسواء أكانت من الأول أم الثاني فلا شك أنها خطا، فليس الرجل عامليا. كما أننا لا ندري على ماذا استند صاحب الأمل في نسبته إلى التشيع وكذلك لا ندري على ماذا استند صاحب نسمة السحر في هذه النسبة إليه. ويبدو أن صاحب التكملة استند في ذلك إلى ما ورد في الأمل ونسمة السحر،. أما صاحب وفيات الأعيان فلم يشر إلى ذلك، مع أنه قد يذكر تشيع من اشتهر بالتشيع. والمترجم هو صاحب القصيدة الرائية في رثاء ولده التي مطلعها: حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار و يقول ابن خلكان: إنه وصل إلى الديار المصرية مستخفيا ومعه كتب كثيرة من حسان بن مفرج، وهو متوجه إلى بني قرة، فظفروا به، فقال: أنا من تميم، فلما انكشف حاله عرف أنه التهامي الشاعر، فاعتقل في خزانة البنود، وهو سجن بالقاهرة وذلك لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وأربعمائة، ثم قتل سرا في سجنه في تاسع جمادي الأولى من السنة المذكورة انتهى. وحسان بن مفرج الطائي هو صاحب الرملة في فلسطين الذي تحالف مع صالح بن مرداس وسنان بن عليان على اقتسام الشام والجزيرة فيما بينهم، والانفصال عن الدولة الفاطمية، على أن تكون حلب إلى عانة لصالح بن مرداس، والرملة إلى مصر لحسان بن مفرج الطائي، ودمشق وأعمالها إلى سنان بن عليان. ولم يسكت الخليفة الفاطمي الظاهر على ذلك فأرسل جيشا لقمع الحركة الانفصالية، فأسرع صالح بن مرداس لانجاد حسان بن مفرج فالتقيا بالجيش الفاطمي في الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة 420 في الأقحوانة
213 قريبا من بحيرة طبريا بفلسطين، وجرى من الأحداث مما ليس هنا مكان تفصيله. ولكن لا بد من القول أن حسان بن مفرج قد توسل بعد ذلك لتحقيق مآربه الانفصالية، بالاستنجاد بالبزنطيين على الفاطميين. ويبدو جليا أن التهامي حين اعتقل في القاهرة كان يحمل رسائل من حسان لتحريض بني قرة على مشاركته في الثورة، كما يبدو من وصف ابن خلكان للرسائل بأنها كثيرة، أن تلك الرسائل كانت موجهة إلى غير بني قرة أيضا ممن يأمل حسان بن مفرج مشاركتهم وبالرغم من استخفاء التهامي فقد كشفته عيون الانفصالية، بالاستنجاد بالبيزنطيين على الفاطميين. والتهامي منسوب إلى تهامة الواقعة بين الحجاز واليمن، وتطلق أيضا على مكة، ويتساءل ابن خلكان عما إذا كان الشاعر منسوبا إلى المكان الأول أم إلى المكان الثاني. ونحن حين ننشر ترجمته هنا، فلأن صاحب الأمل وصاحب نسمة السحر ذكرا تشيعه، وتبعهما صاحب تكملة الأمل، وعليهم وحدهم العهدة في ذلك. وفيما يلي ما كتبه عنه الدكتور عمر تدمري: في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري العاشر ميلادي قام أبو الحسن علي بن محمد بن فهد التهامي من أهل تهامة الواقعة بين الحجاز واليمن، برحلة زار فيها الشام والعراق وفارس، ونزل فلسطين مدة حيث ولي الخطابة في المسجد الجامع بمدينة الرملة، ثم دخل في آخر رحلته مصر مستخفيا وهو يحمل كتبا كثيرة من حسان بن مفرج بن دغفل أمير بني طيء الخارج على الدولة الفاطمية إلى بني قرة، فظفر به الفاطميون وأودعوه السجن خزانة البنود بتهمة التآمر والعمل على طلب الملك لنفسه، ثم قتل سرا داخل سجنه في التاسع من جمادى الأولى سنة 416 ه. 1025 م (1) ويكاد التهامي أن يكون الشاعر الحجازي الوحيد الذي قام برحلة من بلاده وطوف في العراق والشام وفارس وغيرها، وتكسب بشعره، فمدح الأمراء والأعيان المعاصرين له في المدن التي دخلها، على طريقة غيره من غالب شعراء العصر الوسيط. ونحن في هذه الدراسة للشاعر التهامي لا تستوقفنا حياته ولا أغراض شعره، ولا إظهار محاسنه أو مواطن ضعفه، فهذا لا يدخل في اختصاصنا، فقد كفانا الباحثون مؤونة هذا النوع من الدراسة. ولكن الذي يعنينا هو المعلومات التاريخية التي تتوفر، ولو في نقاط موجزة، أو إشارات عابرة، في دواوين الشعراء، وغالبا ما تكون تلك المعلومات نادرة المثال، وخاصة ما يتعلق منها بتاريخ ساحل الشام في العصر الاسلامي. وهذه حقيقة يجب على كل باحث لتاريخ هذه المنطقة أن يأخذها باعتباره، فلا يسقط من مصادره الأساسية دواوين الشعراء، خصوصا إذا كان أولئك الشعراء من الرحالة، حيث يوضع شعرهم في خدمة التاريخ. فالشاعر التهامي تنقل في رحلته بين مكة، ودمشق، وبغداد، والري، والموصل، وآمد، وميافارقين، والكوفة، والأنبار، وحلب، وطرابلس الشام، وصور، والرملة، والقاهرة، في وقت كان فيه الشرق العربي يخضع لنفوذ دولتين هما: الدولة الفاطمية في مصر، والدولة السلجوقية في العراق، وهما تتجاذبان السيطرة والنفوذ على بلاد الشام، فيما الدولة البيزنطية تتحين الفرص للوثوب على سواحل الشام وأطرافها الشمالية المتاخمة لممتلكاتها في آسية الصغرى، حيث دولة بني حمدان. كان هذا هو الواقع السياسي العام في المشرق العربي. أما الواقع السياسي الخاص في ساحل الشام، وبشكل أخص ما يطلق عليه الآن اسم لبنان، فقد كان بكل مدنه وقراه الساحلية خاضعا للخلافة الفاطمية، بينما كانت دمشق والمناطق الداخلية خاضعة للنفوذ السلجوقي. وكان البيزنطيون يعملون على استغلال ذلك الصراع بين الدولتين ليمدوا نفوذهم إلى بلاد الشام الشمالية، وبعض المدن الساحلية، ويؤلبوا أمراءها وولاتها على الخلافة الفاطمية، وهذا ما فعلته مع كل من مدن: حلب، وطرابلس، وصور. وفي ديوان أبي الحسن التهامي إشارات ولمحات يمكن أن تخدم بعض المعلومات التاريخية وغيرها، أو تؤكدها. وبما أن دراستنا تقتصر على نطاق ساحل الشام الذي يشتمل جغرافيا على لبنان، فإننا يمكن أن نضع تاريخا تقريبيا لدخول التهامي مدينة طرابلس، وهو يقع في الفترة بين سنتي 385 402 ه. 995 1011 م. وهي الفترة التي برز فيها على مسرح الأحداث دور قاض من أهل مدينة طرابلس يدعى أبو الحسين علي بن عبد الواحد بن حيدرة، وكان هذا القاضي من أهم شخصيات المدينة الذين التقاهم التهامي ومدحهم بشعره. ففي الديوان: قصيدتان في مدح القاضي أبي الحسن علي بن حيدرة صفحة 10. وقصيدة واحدة في مدح أبي يحيى محمد بن حيدرة صفحة 15. وقصيدة واحدة في مدح أبي محمد حسين بن حيدرة صفحة 111. وثلاث قصائد في مدح أبي القاسم هبة الله بن حيدرة صفحة 160 و 175 و 183. ومن الواضح أن القصائد اقتصرت فقط على بعض أفراد أسرة بني حيدرة الطرابلسيين، وليس في الديوان أي قصيدة أخرى بحق غيرهم من أهل طرابلس. وهناك قصيدة واحدة بحق أحد الشخصيات في مدينة صور، هو محمد بن سلامة، حتى أن هذه المعلومة كاد يعتريها الشك، لولا ما جاء في أبيات القصيدة. فقد جاء في الديوان صفحة 1115 هذا العنوان: وقال يمدح أبا محمد بن الحسن بن الجواد في الكوفة، ويقال في محمد بن سلامة بصور. وجاء في بعض أبيات القصيدة صفحة 117: حسن الشمائل أوحد في حسنه * كمحمد بن سلامة في جوده البحر بعض حدوده والفضل بعض * شهوده والنصر بعض جنوده
(1) لم يكن الملك لنفسه، بل هو رسول حسان بن مفرج، كما يذكر الكتاب نفسه (ح). 214 تبدو إمارات الكريم بوجهه من بشره وحيائه وسجوده فالقصيدة تؤكد أن الممدوح هو محمد بن سلامة، ولكن الديوان لا يعرف به، وهو غير وارد في ديوان عبد المحسن الصوري المعاصر للتهامي. فمن هو إذا؟ للجواب على ذلك، نقول: هناك شخص واحد يحتمل أن يكون المقصود في الديوان هو محمد بن سلامة بن جعفر... أبو عبد الله القاضي القضاعي المصري الفقيه الشافعي، قاضي الديار المصرية في الدولة الفاطمية، وكان قد نزل صور وطرابلس، فسمع بطرابلس من أبي القاسم حمزة بن عبد الله الشامي الأطرابلسي. وأبي الحسن لبيب بن عبد الله الأطرابلسي. وجلس هو للحديث، فحدث بكتاب الشهاب من تصنيفه، فسمعه بها شيخ من أهل جبيل هو مكي بن الحسن المعافى السلمي الجبيلي. وكان القاضي القضاعي قد ذهب رسولا إلى القسطنطينية من قبل الخليفة الفاطمي، وجاء في تاريخ دمشق لابن عساكر ما نصه: وقال أبو الفتح نصر الله بن محمد الفقيه: سمعت أبا الفتح نصر بن إبراهيم الزاهد يقول: قدم علينا القاضي أبو عبد الله القضاعي صور رسولا للمصريين إلى الروم، فذهب ولم أسمع منه، ثم إني رويت عنه بالإجازة، يعني أنه لم يرضه في أول الأمر لدخوله في الولاية من قبل المصريين.... فلعل التهامي التقى بالقضاعي في صور وهو في رحلته رسولا إلى القسطنطينية، وهذا ما نرجحه. ونعود مع التهامي إلى طرابلس حيث يمدح قاضيها أبا الحسين بن عبد الواحد، ويعطينا من خلال شعره بعض المعلومات التي يمكن أن نضيفها إلى ما نعرفه عن سيرته من المصادر التاريخية الأخرى. فمن هو قاضي طرابلس؟. هو: أبو الحسين علي بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن الحر حيدرة بن سليمان بن هزان بن سليمان بن حيان بن وبرة المري الطرابلسي الكتامي وهو مغربي من قبيلة كتامة، أشهر القبائل المغربية التي قامت على أكتافها الدعوة الفاطمية. وكان محدثا، أخذ عن محدث طرابلس ومسندها الكبير خيثمة بن سليمان بن حيدرة وهو من بني حيدرة، وغيره. وله كتاب روى فيه عن أبيه عبد الواحد. وأسرة حيدرة من الأسر المشهورة بطرابلس في ذلك العصر، ومنها أبناء حيدرة الذين كانوا فيها حين نزلها أبو الطيب المتنبي حول سنة 336 ه. وقد لعب القاضي أبو الحسين دورا مهما في تاريخ طرابلس، وأسهم في هزيمة الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني مرتين، وكان هو المستولي على النظر في طرابلس وفي سائر الحصون، من نواحي جونية وجبال العاقورة والمنيطرة في الجنوب، حتى نواحي مدينة حلب وإعزاز في الشمال. كما كان له دوره في القضاء على حركة العلاقة في مدينة صور، وتثبيت النفوذ الفاطمي في سواحل الشام. كما أن منصبه الديني كقاض، وهو بمثابة داعية فاطمي، كان يجعله متمتعا بصلاحيات واسعة، بحيث تفوق صلاحيات والي المدينة، وقائد جيشها. وتبدأ المصادر التاريخية بذكره في معرض الحملة الأولى للامبراطور باسيل إلى بلاد الشام، في سنة 385 ه. 995 م فقد أخرج الخليفة الفاطمي العزيز قائده منجوتكين إلى حلب لينتزعها من سعيد الدولة، فأرسل سعيد الدولة يستنجد بالإمبراطور قائلا في رسالته إليه: متى أخذت حلب أخذت أنطاكية، ومتى أخذت أنطاكية أخذت قسطنطينية. وعلى الرغم من أنه كان مشغولا بالقتال في الجبهة البلغارية فقد قرر باسيل المضي بنفسه إلى حلب، فعاد إلى عاصمته القسطنطينية وخرج منها على رأس جيش ضخم قوامه 40 ألفا، عبر به إقليم الثغور، حيث انضمت إليه مجموعات كبيرة من عساكرها، ووصل إلى أنطاكية، فصحبه ميخائيل البرجي بعساكره، ومعه قائده مليسينوس. ولما وصل باسيل إلى حلب، خرج إليه سعيد الدولة وجدد معه معاهدة التحالف بين القسطنطينية وحلب، التي تضمنت شروطا في صالح التجار المسيحيين المقيمين في حلب. وأقام باسيل يومين عند حلب، ثم رحل في اليوم الثالث، فنزل على شيزر واستولى على حصنها بعد مقاومة صاحبه منصور بن كراديس، التي لم تدم سوى يوم واحد. وقرر له مالا وثيابا مقابل تسليم الحصن، ووضع فيه نوابه وثقاته. وتحول بعد ذلك إلى حمص ففتحها، وكذلك رفنية. ونهب وسبى منهما سبيا كثيرا، وأحرق وغنم. وفي طريقه إلى طرابلس أغار على عسكره جماعة من العرب، فأسر عددا منهم، وواصل سيره حتى نزل على طرابلس وحاصرها. فراسله وإليها ابن نزال في جمع من أهلها لابرام الاتفاق مع الإمبراطور. وهنا يبرز دور قاضي طرابلس ابن حيدرة على مسرح الأحداث، فيتزعم حركة الصمود في وجه البيزنطيين، ويقود حملة مناهضة ضد والي المدينة ومن معه، وينضم إليه العسكر والأهالي منادين بالجهاد وقتال العدو، وطرد وإليهم المتخاذل من بين ظهرانيهم. واتخذوا قرارا بتعيين آخر مكانه، ولما أراد الوالي العودة إلى البلد، أغلق أهلها الباب في وجهه ومنعوه من دخولها، ثم أخرجوا أفراد أسرته إليه، واستعدوا للقتال. فأقام باسيل محاصرا لطرابلس نيفا وأربعين يوما. وبذل قصارى جهده لفتحها، ولكنه واجه مقاومة عنيدة من المدافعين عنها، ولم يستطع أن ينقب ثغرة في أسوارها أو ينل من تحصيناتها. ووصف المؤرخ ابن القلانسي مناعة ثغر طرابلس بقوله:... وهو بري بحري، متين القوة والحصانة، شديد الامتناع على منازله.... ولما لم يجد الإمبراطور فرصة في اقتحام طرابلس، رفع حصاره وارتد عنها حسيرا مصطحبا ابن نزال معه، فنزل على أنطرسوس وهي خراب، فعمر حصنها، وشحنه بأربعة آلاف من الأرمن والمقاتلة، ورحل إلى أنطاكية، وهناك عين البطريق الدوقس داميانوس وأوكل إليه أمر المحافظة على ممتلكات الإمبراطورية في الشرق، وحماية مدينة حلب من النفوذ الفاطمي، ومهاجمة طرابلس التي كانت تمثل القاعدة الاسلامية المتقدمة على ساحل الشام في البر والبحر، فقام داميانوس بغزوة إليها بعد تعيينه مباشرة
215 وكبسها ليلا، وأخذ ربضها، وأسر كثيرا. ثم غزاها ثانية بعد ثلاثة أشهر فوصل إلى عرقة وسبى منها جماعة، وعاد في السنة التالية فغزاها للمرة الثالثة وسبى من بلادها كثيرا. وإزاء هذا، عزم الخليفة الفاطمي العزيز أن يخرج بنفسه لقتال البيزنطيين، وأمر بتجهيز حملة برية بقيادة جيش بن الصمصامة فدخلت طرابلس، كما أمر بانشاء أسطول بحري ليسير معه بحرا إلى طرابلس. وفيما كان العزيز يحشد العساكر في القاهرة، ورد عليه رسول سعيد الدولة بن حمدان يطلب الصفح، فأجيب إلى ذلك، واعترف ابن حمدان بخلافة العزيز. وبعد طرد ابن نزال من طرابلس، عين جيش بن الصمصامة واليا عليها في سنة 385 ه. وبضعة أشهر من سنة 386 ه. ثم علي بن جعفر بن فلاح، ثم الأمير تميم التنوخي، ثم ميسور الصقلبي، فيما كان ابن حيدرة يتولى قضاءها وحكمها. وظل دوره بارزا أكثر من خمسة عشر عاما. وحدث في سنة 387 ه. 997 م أن ثار أهل دمشق ضد القائد سليمان بن جعفر والحكم الفاطمي، وتغلب الأحداث عليها برئاسة رجل منهم يعرف ب الدهيقين. وقامت في السنة ذاتها ثورة في مدينة صور، وعصى أحداثها ورعاعها على الحاكم بأمر الله، وأمروا عليهم رجلا ملاحا من رجال البحرية يعرف ب العلاقة وقتلوا أصحاب الخليفة وموظفيه. وقام العلاقة بضرب السكة باسمه، ونقش عليها: عز بعد فاقة، وشطارة بلباقة، للأمير علاقة. واتفق أن المفرج بن دغفل بن الجراح الذي كان متواطئا مع هفتكين السلجوقي المتولي على دمشق نزل في ذلك الوقت على مدينة الرملة، ونهب ما كان في السواد، وأطلق يد العيث في البلاد. فاستغل الإمبراطور باسيل هذه الاضطرابات التي تشهدها الشام، وانحسار النفوذ الفاطمي، لتحقيق أطماعه التوسعية، وراح يبذل جهده لتأليب أصحاب مدن الشام على الخليفة الفاطمي ليبث الفرقة بين القوى الاسلامية، وأمر قائده على أنطاكية داميانوس ليقوم بالغارة على أراضي المسلمين. إلا أن أطماع باسيل لم تتحقق، إذ غادر الدهيقين دمشق إلى مصر طائعا، وعادت دمشق للفاطميين، وسحقت حركة العلاقة في صور، واستسلم ابن الجراح للقوات الفاطمية، ولقي داميانوس أخيرا مصرعه، وانهزمت قواته. وقد أسهم القاضي ابن حيدرة بشكل مباشر في: 1 القضاء على حركة العلاقة بصور في شهر جمادى الآخرة سنة 388 ه 998 م. 2 مقاتلة داميانوس عند أفامية، وإلحاق الهزيمة بالبيزنطيين بعد مصرع قائدهم، في السنة نفسها. 3 هزيمة الإمبراطور باسيل للمرة الثانية عند أسوار طرابلس في أول سنة 390 ه. 999 م. فعلى جبهة صور، خرج ابن حيدرة بأسطول طرابلس البحري وتصدى لمراكب البيزنطيين التي أتت لمساعدة العلاقة في ثورته ضد الفاطميين، كما خرج أسطول فاطمي من صيدا، وتمكنت المراكب الاسلامية من الانتصار على الأسطول البيزنطي، واستولى المسلمون على مركب من مراكبهم، وقتلوا جميع رجاله، وعدتهم 150 رجلا، وقيل 200 رجل. وعلى جبهة أفامية عند نهر العاصي، خرج ابن حيدرة بجند طرابلس والمتطوعة من عامتها، ومعه وإليها ميسور الصقلبي، وانضموا إلى جيش بن الصمصامة الذي كان يقود جيش الشام، فقاتلوا داميانوس وهزموا قواته بعد أن كاد يهزمهم، وصرعه أحد المقاتلين الأكراد. وإزاء خيبة آمال باسيل في إضعاف النفوذ الفاطمي، ولما كان مشغولا في ذلك الوقت بمقاتلة البلغار، فقد حرص على تامين حدود امبراطوريته الشرقية، ولذا أرسل يطلب عقد هدنة مع الحاكم بأمر الله، ولكن الخليفة لم يجبه إلى رغبته بعد أن أحرزت عساكره الانتصارات المتتالية، فعقد باسيل العزم على الخروج بحملة جديدة إلى الشام لاسترداد هيبته بعد مقتل قائده وهزيمة قواته. خرج الإمبراطور إلى الشام، بعد أن عين قائدا لقواته في بلغاريا، ونزل بجسر الجديد في شوال سنة 389 ه. 999 م وسار إلى أفامية فمر بسهولها حيث قتل داميانوس، وأمر بتشييد كنيسة هناك تخليدا لذكراه. ثم توجه إلى شيزر فحاصرها حتى اضطر صاحبها ابن كراديس لتسليمها له للمرة الثانية بعد أن قطع عن حصنها الماء، وخرج منها بعساكره، وصحبه عدد كبير من سكانها، وتوجهوا إلى حماة وحلب وبعلبك، فشحنها باسيل بالأرمن وانتقل منها إلى حصن أبي قبيس، فأخذه بالأمان، ثم راح بعد ذلك يخرب ويحرق ويدمر، فخرب حصن مصياف ونزل على رفنية فأحرقها وسبى أهلها، واستمر يحرق ويسبي ويخرب، إلى أن بلغ حمص فنزلها، وأحرق جنوده جماعة من أهلها اعتصموا بكنيسة مار قسطنطين. ثم انحدر إلى الساحل، فهاجم عرقة وأحرقها، وهدم حصنها، ثم نزل على طرابلس في شهر ذي الحجة آخر سنة 389 ه. كانون الأول آخر سنة 999 م. وزحف عسكره على حصنها في اليوم الثالث لنزوله، فكانوا كناطح صخرة. ويبدو أن الإمبراطور طلب أثناء زحفه من أسطوله البحري أن يأتيه بالمدد، ويساعده على حصار طرابلس، حيث وصل إليه في البحر وهو نازل على طرابلس شلنديان يحملان لدوابه المؤن والعلف، فتقوى بها عسكره، إذ كانت دواب عسكره قد مات أكثرها في الطريق من حمص لشدة البرد، وقام ببث بعض سراياه على طول الساحل، فاتجه بعضها إلى جبلة في الشمال، وبعضها إلى جبيل وبيروت في الجنوب، فوقع في أيديها كثير من السبي والأسرى المسلمين، وجئ بهم إلى الإمبراطور فشحنهم في الشلنديان، وسيرهما إلى بلاده لبيعهم رقيقا في أسواق إزمير، وسالونيكا والقسطنطينية. ولبث باسيل محاصرا لطرابلس 11 يوما، وصمد أهلها بقيادة القاضي ابن حيدرة وقائد عسكرها ميسور الصقلبي. وفي هذه الأثناء وصلته السفن الحربية، فقام في اليوم الثاني عشر الثلاثاء مستهل المحرم سنة 390 ه. بالهجوم على المدينة من البر والبحر، ونشبت معركة رهيبة على الجبهتين، أسفرت عن هزيمة ساحقة للامبراطور، ومقتل وجرح عدد كبير من جنوده. وأمام هذه الهزيمة الثانية له أمام طرابلس اضطر أن يلملم فلوله،
216 ويرحل يوم السبت في الخامس من المحرم 390 ه. 22 كانون الأول 999 م. منكفئا إلى بلاده. وحول دور ابن حيدرة في النكاية بالبيزنطيين، وتولية قيادة طرابلس، يقول التهامي في قصيدة مدحه بها: وإلى ابن عبد الواحد القاضي ارتمت بلدا * كساحة صدره فيساحا... ما زال هذا الثغر ليلا دامسا * حتى طلعت لليله إصباحا فجلت له الأيام بعد عبوسها * وجها كوجهك مشرقا وضاحا وحكمت في مهج العدو بحكمة * قرنت برأيك غدوة ورواحا فسفكت ما كان الصلاح بسفكه * وحقنت بعض دمائه استصلاحا فوفود شكر المسلمين وغيرهم * تأتي إليك أعاجما وفصاحا وفي هذه القصيدة إشارة إلى أن ابن حيدرة قام بحملة أخمد فيها حركة لبني كلاب، وهي إحدى أهم القبائل المناوئة للدولة الفاطمية في فلسطين وجنوب لبنان، وهذه معلومة لم نجدها في المصادر التاريخية البحتة، حيث يقول التهامي: غادرت أسد بني كلاب أكلبا * إذ زرتهم وزئيرهن نباحا فنسوا النساء ودمروا ما دبروا * ورأوا بقا أرواحهم أرباحا يتلو هزيمهم السنان كأنه * حران يطلب في قراه قراحا والسمر قد لفتهم أطرافها * لفا كما اكتنف البنان الراحا فمعفر حسد الحياة وهارب * حسد الرفات القبر والصفاحا حتى إذا اقتنت القنا أرواحهم * قتلا وفرقت الصفاح صفاحا رفعوا أصابعهم إليك ونكسوا * أرماحهم فثنين منك جماحا وتركت أعينهم ب صور في الوغى * صورا وقد جاح الورى ما جاحا إلى أن يقول: أنى تروم الروم حربك بعد ما * صليت بحربك محربا ملحاحا لم يرم قط بك الامام مراده * إلا جلوت عن الفلاح فلاحا ولقد غدوت أبا الحسين لجيشه * للقلب قلبا والجناح جناحا... ويبرز دور ابن حيدرة مجددا في تثبيت النفوذ الفاطمي في بلاد الشام الشمالية، حين يلجأ أبو الهيجاء الحمداني إلى الإمبراطور باسيل فيما يستنجد مرتضى الدولة منصور بن لؤلؤ الجراحي بالخليفة الحاكم بأمر الله، ويتعهد بان يقيم على حلب واليا فاطميا من قبله. فرأى الحاكم في ذلك فرصة مناسبة لتدعيم نفوذه في حلب. وكان يرى أن عودة أبي الهيجاء إليها بمثابة عودة النفوذ البيزنطي إلى أهم مدن الشام الشمالية، ولذا سارع فانفذ إلى قاضي طرابلس ابن حيدرة وواليها القائد أبي سعادة بالتوجه نحو حلب، فخرجا في عسكر كثيف إليها، فاتفقت موافاة عسكر طرابلس إلى حلب مع نزول أبي الهيجاء بالقرب منها، وفتح مرتضى الدولة باب حلب للقاضي ابن حيدرة وأطلعه إلى القلعة، وسأله أن يكتب إلى الحاكم بواقع الحال بوساطة الحمام الزاجل، ولكن القاضي بادر فورا إلى الخروج للقاء أبي الهيجاء ومن معه من العرب، ووافاهم وقد عولوا على الجلوس إلى الطعام، ففاجأهم بالهجوم، وما لبثت القبائل العربية أن تخلت عن أبي الهيجاء، بعد أن كان مرتضى الدولة قد بذل لهم الوعود، فانهزم أبو الهيجاء راجعا إلى بلاد الروم، ونهب جميع ما كان معه. وكان في قلعة إعزاز غلام من غلمان مرتضى الدولة، متهم بأنه كان يميل إلى أبي الهيجاء، فطلب منه مرتضى الدولة التنازل عن القلعة، فلم يجبه الغلام إلى ذلك، وتملكه الخوف منه، ولما شدد مرتضى الدولة طلبه، أجابه الغلام بأنه لا يسلم القلعة إلا إلى قاضي طرابلس. ولما كان ابن حيدرة ما يزال عند حلب فقد ذهب إلى القلعة وتسلمها من الغلام، ثم قام بتسليمها إلى مرتضى الدولة. وكتب إلى الخليفة الحاكم يطلعه على ذلك. وعاد إلى مرتضى الدولة يطلب منه إنجاز وعده الذي قطعه للخليفة بإقامة وال فاطمي على حلب، ولكن مرتضى الدولة دافعه ولم يبر بوعده. واضطر ابن حيدرة أن يعود إلى طرابلس دون أن يحقق ما كان يرغب به الخليفة. وفي هذه الأثناء أي سنة 400 ه. 1009 م كان التهامي بطرابلس، فقال يذكر خروج ابن حيدرة إلى حلب وعودته منها في القصيدة التي مر بعض أبياتها: شاء المهيمن أن تسير مشرفا * حلبا فقيض ما جرى وأتاحا وأردت إصلاح الأمور فأفسدت * فنهضت حتى استحكمت إصلاحا كانوا يرونك مفردا في جحفل * ووراء سور إن نزلت براحا ولا شك أن هذه القصيدة وأخرى غيرها، كانتا قبل مقتل ابن حيدرة بوقت قصير، حيث نقم الخليفة الحاكم على القاضي لكونه سلم قلعة إعزاز لمرتضى الدولة، فبعث إلى طرابلس قائدا وخادمين له فقطعوا رأسه وحملوه إلى مصر في أول سنة 402 ه. وهكذا خسرت طرابلس قاضيا من أعظم قضاتها الذين أثبتوا صدق ولائهم للخلافة الفاطمية، وكان مثالا للقضاة العلماء العاملين، والمجاهدين المنافحين عن كرامة طرابلس الاسلامية ضد الغزاة الطامعين، والخونة المستسلمين. وفي قصيدة ثانية للتهامي بحق القاضي ابن حيدرة نقف على معلومة مفادها أن نفوذه كان يصل إلى مدينة صور، وأنه كان يحسن لأهلها رغم أنهم كانوا يتمردون على الخلافة من حين لآخر، ولعله كان ينتدب من طرابلس من يتولى تصريف أمورها حين تكون خالية من الولاة، حيث يقول التهامي: أعدى ندى كفيه صور وأهلها * والبدر يقلب طبع كل ظلام ولو أن صورا جنة ما استكثرت * وأبيك من غلمانه لغلام يعفو فيفعل حلمه بعدوه * ما تفعل الأسياف بالأجسام... من آل حيدرة الذين شعارهم * فيض الندى الهامي وضرب الهام قهروا بحار الأرض أجمع بالندى * وجبالها برجاحة الأحلام يتسنمون من المعالي مرتقى * عنه تزل مواطئ الأقدام يتتابعون إلى العلاء تتابعا * كتتابع الأقدام في الاقدام يقعون من هذا الزمان وأهله * كمواقع الأعياد في الأيام ألفيت منهم في طرابلس ندى * ترك الكرام لدي غير كرام... ويضيف التهامي أيضا إلى معلوماتنا معرفة أحد أبناء القاضي ابن حيدرة هو: أبو يحيى محمد بن علي بن حيدرة حيث لم نجده واردا في
217 المصادر الأخرى، ويكنيه أبا القاسم، ويتضح أنه أوسط أبناء القاضي، وأن التهامي مدحه بعد وفاة أبيه، أي بعد سنة 402 ه. 1011 م. فيقول من قصيدة صفحة 19: فتى يفعل المكرمات الجسام * ويسترهن كستر الريب توسط مجد بني المغربي * كما وسط القلب بين الحجب هم أورثوا الفضل أبناءهم * وغابوا وفضلهم لم يغب... أبا قاسم حزت صفو الكلام * وغادرت ما بعده للعرب فليس كلامك إلا النجوم * علوت فناثرتها من كثب كما يؤكد التهامي معرفتنا بابن آخر لقاضي طرابلس، هو أبو محمد الحسين بن علي بن حيدرة، ونحن لا نعرف عنه شيئا من المصادر الأخرى، حتى أن ابن عساكر الذي يترجم لجميع الشاميين في عصره وما قبله لم يورد عنه شيئا، بل ذكره في معرض ترجمة أبيه فحسب، دون ترجمة، ونتبين من قصيدة التهامي بحقه أنه كان رئيسا لطرابلس، فلعله خلف أباه في منصبه، حيث يقول: يا صاح إن الدهر قدم بالغنى * وعدا فما أدناك من ميعاده هذي طرابلس وما دون الغنى * إلا نداؤك بالحسين فناده شفع ابن حيدرة على ثانيه في * هذا الزمان وكان من أفراده بأبي محمد الذي تأوي العلى * ما بين قائم سيفه ونجاده... متجللا ثوب الرئاسة معلما * ببهائه ووفائه وسداده حاز العلاء بجده وبجده * فاختال بين طريفه وتلاده لم يجعل الآباء متكلا ولا * آباؤه اتكلوا على أجداده ومنها: كم جحفل غادرت فيه وديعة * قصبا من الخطي في أجساده أما الامام (1) فشاكر لك أنعما * عمت جميع عباده وبلاده كم طرزت أرض العدو دما إذا * طرزت طرسك نحوهم بمداده خففت بالأقلام عن أرماحه * وبمحكم الآراء عن أجناده لما علوت الناس جدت عليهم * والطود يقذف ماءه لوهاده حياك من ذي سؤدد ورعاك من * أحياك واسترعاك أمر عباده وأخيرا، يؤكد التهامي معرفتنا بأبي القاسم هبة الله بن علي بن حيدرة، وهو أيضا من أبناء قاضي طرابلس، ولم يرد ذكره في المصادر التاريخية، بل ورد فقط في ديوان عبد المحسن الصوري، وفي ديوان التهامي. وقد أنشد فيه الصوري قصيدة واحدة، ولم نعرف منه المنصب الذي كان يشغله هبة الله أما التهامي فينشد فيه ثلاث قصائد، نفهم من بعض أبياتها أنه كان يتولى الحكم والقضاء في عهد الحاكم بأمر الله مثل أبيه وأخيه، فيقول من قصيدة صفحة 175: ما بال طرفك لا تنجو رميته * كأنما هو رام من بني ثعل صدت بنجد وزارت في طرابلس * وبيننا عنق للسفن والإبل تنقاد نحو هواهن القلوب كما إذ * قادت إلى هبة الله العلي بن علي يزين الدولة الغراء موضعه * إذا تزينت الأملاك بالدول يقضي بحكم الهدى في المشكلات كما * يقضي بحكم الظبى في ساعة الوهل قد حالف الفضل في أحكامه أبدا * والعدل خير اقتناء الفارس البطل قد أحكم الحاكم المنصور دولته * بال حيدرة في السهل والجبل تاهت بهم دولة الاسلام واعتدلت * بعزمهم كاعتدال الشمس في الحمل شادوا وسادوا بما يبنون من كرم * أساس مجدهم المستحكم الأزلي تشابهوا في اختلاف من زمانهم * عند اللهى والنهى والقول والعمل ويفهم من بقية أبيات القصيدة أن التهامي أنشدها قبل مقتل القاضي ابن حيدرة، حيث يقول في ابنه هبة الله: تبعت في الجود والعليا أباك ولم * تكذب كما تبع الوسمي صوب ولي حليتما الدين والدنيا بعزكما * فلا أذلهما الرحمن بالعطل ولا رأينا بعيني دهرنا رمدا * فأنتما في مآقيه من الكحل وعشتما أبدا في ظل مملكة * قد استعاذت من التغيير والدول ويختصر التهامي الأنعام التي أنعم بها عليه هبة الله بهذا البيت من قصيدة صفحة 160: منه مالي ورحلتي وعدادي * وجوادي وحلتي وسلاحي 141: السيد علوي بن إسماعيل البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: قال السيد الصدر في سلافة العصر ما لفظه : فاضل في النسب والأدب معرق وكامل، تهدل فرع مجده وأعرق، وهو اليوم شاعر هجر ومنطيقها الذي واصله المنطق الفضل وما هجر يفسح للبيان مجالا ويوضح منه غرارا واحجالا، ويطلع في آفاقه بدورا وشموسا، ويروض من صعابه جموحا وشموسا، ويشتار من جناه عسلا، ويهز من قناه أسلا ثم ذكر ما سنح له من القصائد وما خرج عنه من الفوائد. كمال الدين عمر بن العديم. مرت ترجمته في الصفحة 377 من المجلد الثامن وننشر هنا كلمة عن كتاب له خطي، مكتوبة بقلم درية الخطيب: كتاب الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب لكمال الدين عمر بن العديم واحد من أهم الكتب المؤلفة في الفن المطبخي في العصر الوسيط، إنه كتاب في الأطعمة والأغذية وطريقة صناعتها، وفي الطب والعطور والمياه والصابون، وبعض الاستعمالات الطبية للأطعمة وغيرها، وكيفية تركيب بعض الأدوية منها. وتأتي أهمية الكتاب: أولا: من غزارة مادته وتنوعها، وشموله على أكبر قدر من الوصفات (2). ثانيا: ذكر المؤلف بعض الفوائد الصحية والاستطبابات الدوائية لبعض
(1) يقصد به الخليفة الفاطمي. (2) آثرنا استعمال كلمة " وصفة " على كلمة " طبق " التي تستعمل في مثل هذه الحالات لأن ما في الكتاب ليس أطباقا تقدم فحسب، وإنما فيه من الأشربة والمخللات والبخور والمياه مما لا ينطبق عليه كلمة " طبق ". 218 الأطعمة والمواد الغذائية، وأهميتها في شفاء بعض الأمراض، وهذه ظاهرة جديرة باهتمامنا، ولا سيما أن الطب الحديث اليوم يتجه إلى التراث، ويعود إلى الأغذية والأعشاب لمعرفة خواصها، وفوائدها، وطرق الاستفادة منها للمعالجة بها، على أنها وسائل طبيعية بديلة تستغني عن العقاقير، التي إن أفادت في شفاء مرض ما، فإنها تترك أثرها السام في أعضاء أخرى من الجسم. ثالثا: يعطي الاطلاع على الأطعمة والأغذية وأنواعها، ومدى اهتمام الناس بها في فترة زمنية ما، وفي عصر معين صورة عن الحياة الاجتماعية لهذا العصر، والكتاب يكشف لنا عن تفنن أهل القرنين السادس والسابع الهجريين، ولا سيما في مدينة حلب، في فن الطهي، وأفانين الطعام، ما كان منه أساسيا كالخبز والمعجنات، وما كان كماليا كالمخللات والمقبلات وغيرها، ويصور مطبخا عربيا غنيا مسرفا في البذخ والإنفاق، وتناول المطيبات من المأكولات والتعطر بالفاخر من الطيب، ولا شك أن المطبخ الذي يصفه المؤلف أو ذلك المعمل الذي كان ينتج تلك الأنواع من اللحوم والأطعمة المعجونة بالفستق واللوز، والقطائف التي تتسايل جوذاباتها سمنا وعسلا، ليس معملا عاما لفئات الشعب كافة بل هو لفئة خاصة ثرية مما يدل على سمة من سمات ذاك المجتمع. رابعا: يشير الكتاب إلى الأدوات المستعملة في الطهي والمواد الداخلة في تركيب أصناف الأغذية والعطور والصابون، وغير ذلك، مما يمكن أن يعطينا لمحة عن تاريخ التكنولوجيا في ذلك العصر، وقد تكون لها فائدة غير مباشرة لدراسة تاريخ التكنولوجيا في العصر الوسيط في بعض المجالات التي لم تصلنا فيها المعلومات الوافية. خامسا: يتيح الكتاب للمرأة المعاصرة خصوصا وللقارئ عموما أن يطلع على مهارة المرأة العربية في هذا المجال ومدى تفننها في إعداد أنواع من الأغذية والأطعمة، وتوصلها إلى أجدى الطرق الصحيحة والصحية في حفظ أنواعها وادخارها وخاصة خلال القرنين السادس والسابع الهجريين، ويمثل هذا خلاصة القرون السابقة لها في مجالها. إذن فهذا الكتاب في الفن المطبخي يشمل لمحات من الطب والصيدلة والصناعة والفن. مخطوطاته: المخطوطات المعروفة لهذا الكتاب حتى الآن عشر وهي: 1 الأحمدية في مدينة حلب. 2 الظاهرية في مدينة دمشق. 3 المتحف البريطاني في لندن. 4 استانبول في تركيا، مكتبة أحمد الثالث. 5 برلين في ألمانيا. 6 بتنه في الهند. 7 بنكيبور في الهند. 8 القاهرة في مصر. 9 الموصل في العراق. 10 حسين جلبي في بروسة أو بورسة في تركيا. وذكر الدكتور محمد عيسى صالحية في رسالة خاصة وجود مخطوطة أخرى برقم 445 معهد الدراسات الشرقية!؟. ورد ذكر هذا الكتاب عند حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون (1) مكتبة المثنى بغداد عن طبعة استانبول 1941 م.، دون ذكر اسم المؤلف، وعرفه بأنه: مختصر في المعاجين، ثم أورد فاتحته وقسما من المقدمة، على طريقته في ذكر الكتب، حيث قال: أوله الحمد لله الواحد القهار (2)... إلخ. قال صاحبه ولم أضع فيه شيئا إلا بعد أن ركبته مرارا وتناولته مدرارا، بدأ فيه بالطيب لشرف قدره. وذكره بروكلمان في كتابه تاريخ الأدب العربي في الأصل الطبعة الألمانية.، وفي الذيل: فأورده أولا في الأصل (3) باسم الوسيلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب، ووضع بين قوسين اسم الوصلة ونسبه إلى ابن العديم الحلبي، وذكر مخطوطتي برلين وبتنه، وأشار إلى وروده عند حاجي خليفة. ثم ذكره ثانية (4) باسم وصلة الحبيب في وصف الطيبات والطيب ونسبه إلى من اسمه كمال الدين أبو القاسم عبد الدائم العقيلي الحبيب، وذكر مخطوطة بروسة وعاد فذكر مخطوطة بتنه. وقد أضاف في الذيل (5) إلى مخطوطاته المذكورة عند ابن العديم مخطوطات المتحف البريطاني وبنكيبور والموصل، وذكر أن مخطوطة الموصل تنسبه إلى يحيى بن العظيم بن الجزار المتوفى سنة 679 ه 1281 م. وذكره ككتاب مستقل (6) آخر منسوب إلى ابن أخ مجهول للملك الأشرف المملوكي 689 693 ه 1290 1294 م، استنادا إلى مخطوطة القاهرة الوحيدة (7)، ولم يذكر مخطوطة حلب ولا مخطوطتي دمشق واستانبول. وتحدث الدكتور سامي الدهان عن مخطوطاته فقال (8): رأيناه في مكتبة برلين برقم 5463 وتاريخ 1000 للهجرة سنة 1946... ورأينا نسخة منه كذلك في القاهرة ودار الكتب المصرية رقم 74 علوم صناعية وتاريخه 703 ه، وضعه المفهرس في باب العلوم الصناعية. ومن هذا الكتاب نسخة في المكتبة الظاهرية بدمشق ومنه نسخة في الآستانة... كما أننا لم نجد على نسخة دار الكتب المصرية ونسخة الظاهرية نسبة إلى أحد. يتألف الكتاب من مقدمة صغيرة وعشرة أبواب، ويبين المؤلف في المقدمة
(1) ج 2 / 2014 مكتبة المثنى - بغداد عن طبعه استانبول 1941 م. (2) لم ترد كلمة " القهار " في أي من مخطوطات الكتاب، ولولا أن ما ورد بعدها يطابق ما في الكتاب لقلنا إنها مقدمة كتاب لأبي محمد المظفر بن نصر بن ستار الوراق (كان موجودا سنة 696 ه) اسمه: " الوصلة إلى الحبيب ليغتني به عن جهل الطبيب ". فهرس المخطوطات المصورة لمعهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية، تصنيف فؤاد سيد، المعارف العامة والفنون المتنوعة ج 4 ص 177، القاهرة 1384 ه / 1964 م. (3) ج 1 / 405 (الطبعة الألمانية). (4) ج 1 / 652 رقم 6 (الطبعة الألمانية). (5) ذيل 1 / 659 (الطبعة الألمانية). (6) ذيل 1 / 904 رقم 9 (الطبعة الألمانية). (7) " أبحاث حول الوثائق العربية المتعلقة بالطبخ " للمستشرق رودنسون في مجلة الدراسات الإسلامية / 1949 / ص 122. (8) " زبدة الحلب من تاريخ حلب " تحقيق، الدكتور سامي الدهان، منشورات المعهد الفرنسي بدمشق 1370 ه / 1951 م مقدمة الناشر ص (م 48، 49). 219 سبب تأليفه للكتاب وسبب تسميته فيقول: (1) فإنه لما كان معظم اللذات الدنيوية والأخروية في تناول شهي المآكل والمشارب، وكان تطييب البدن والثياب مما يقرب إلى الأحباب والحبايب... وفي تناول الطيبات تقوية على العبادة للعبد، وهي تستخرج من القلب خالصة الحمد... فلهذا جمعت هذا الكتاب وسميته كتاب الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب... ثم يقول: إنه اعتمد فيه على تجربته الشخصية، وإنه لم يضع فيه شيئا إلا بعد أن ركبته مرارا وناولته مدرارا، واستخلصته لنفسي وباشرته بذوقي ولمسي. ويبدأ فيه بالطيب لشرف قدره وطيب عرفه وانتشار ذكره. ثم يورد أبواب الكتاب العشرة وهي: 1 باب الطيب. 2 الباب الثاني: في الأشربة. 3 الباب الثالث: في المياه وصفتها وكيفية العمل بها والخل واستقطاره. 4 الباب الرابع: في صفة سلي الألية. 5 الباب الخامس: في أنواع الدجاج المحلى والممتزج وما يجري مجراها. 6 الباب السادس: في الأطعمة المنشفات والسنبوسك وما يجري مجراها. 7 الباب السابع: في الحلاوات والمخبوزات وما يجري مجراها. 8 الباب الثامن: في المخللات والملوحات وصفة صنعتها. 9 الباب التاسع: في أنواع الأشنان والصابون المطيب. 10 الباب العاشر: في تصعيد المياه وتطييب رائحة الفم. وهناك قسم آخر أضيف إلى الكتاب بعنوان: زيادات ليست من الكتاب وردت في ثنايا الباب السابع. الشيخ عيسى بن صالح آل عصفور الدرازي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان فاضلا صالحا عارفا بالتواريخ والسير له كتاب ضخم في حالة الشعراء من المتقدمين والمتأخرين وله كتاب قصائد منها قصيدة بديعة يمدح بها الشيخ العلامة الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني يوم كان في الهند وقد وفد عليه فاجازه جائزة سنية. 144: قيس بن عمرو بن مالك المعروف بالنجاشي. مرت ترجمته في الصفحة 457 من المجلد الثامن ومرت إشارة إليه في الجزء الأول من المستدركات ونضيف على ذلك ما يأتي عن كتاب الغارات لابن هلال الثقفي: كان شاعر علي ع بصفين فشرب الخمر في الكوفة فحده أمير المؤمنين ع فغضب ولحق بمعاوية وهجا عليا ع. خرج النجاشي في أول يوم من رمضان فمر بأبي سمال الأسدي (2) وهو قاعد بفناء داره، فقال له: أين تريد؟. قال: أريد الكناسة. قال: هل لك في رؤوس وأليات (3) قد وضعت في التنور من أول الليل فأصبحت قد أينعت وتهرأت؟ قال: ويحك في أول يوم من رمضان؟! قال: دعنا مما لا نعرف قال: ثم مه؟ قال: ثم أسقيك من شراب كالورس (4)، يطيب النفس، ويجري في العرق، ويزيد في الطرق (5)، يهضم الطعام ويسهل للفدم (6) الكلام، فنزل فتغديا ثم أتاه بنبيذ فشرباه، فلما كان من آخر النهار علت أصواتهما. ولهما جار يتشيع من أصحاب علي ع، فاتى عليا ع فأخبره بقصتهما، فأرسل إليهما قوما فأحاطوا بالدار، فاما أبو سمال فوثب إلى دور بني أسد فأفلت، وأما النجاشي فاتي به عليا ع، فلما أصبح أقامه في سراويل فضربه ثمانين ثم زاده عشرين سوطا، فقال: يا أمير المؤمنين أما الحد فقد عرفته فما هذه العلاوة التي لا نعرف؟ قال: لجرأتك على ربك وإفطارك في شهر رمضان، ثم أقامه في سراويله للناس فجعل الصبيان يصيحون به: فجعل يقول: كلا والله إنها يمانية وكاؤها شعر (7) فمر به هند بن عاصم السلولي فطرح عليه مطرفا (8) ثم جعل الناس يمرون به فيطرحون عليه المطارف حتى اجتمعت عليه مطارف كثيرة ثم أنشأ يقول: إذا الله حيا صالحا من عباده * تقيا فحيا الله هند بن عاصم وكل سلولي إذا ما دعوته * سريع إلى داعي العلى والمكارم ثم لحق بمعاوية وهجا عليا ع فقال: ألا من مبلغ عني عليا * باني قد أمنت فلا أخاف عمدت لمستقر الحق لما * رأيت قضية فيها اختلاف (9) عن أبي الزناد قال: دخل النجاشي على معاوية وقد أذن معاوية للناس عامة فقال لحاجبه: ادع النجاشي، قال: والنجاشي بين يديه، ولكن اقتحمته عينه (11) ولعل معاوية تعمد ذلك.، فقال: ها أنا ذا النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين، إن الرجال ليست بأجسامها إنما لك من الرجل أصغراه قلبه ولسانه، قال: ويحك أنت القائل: ونجى ابن حرب سابح ذو علالة * أجش هزيم والرماح دوان
(1) ص 3 من مخطوطة استانبول. (2) هو سمعان بن هبيرة الأسدي الشاعر، قال ابن حجر: " له إدراك ونزل الكوفة... عاش مائة وسبعا وستين سنة.. وكان مع طليحة في الردة... كان لا يغلق باب داره وكان له مناد ينادي من ليس له خطة فمنزله على أبي السمال، شرب الخمر في رمضان مع النجاشي الحارثي فأقام علي الحد على النجاشي وهب أبو السمال (انظر الإصابة حرف السين ق 3). (3) أليات جمع آلية - بالفتح - أي آلية الشاة ولا يقال إليه بالكسر ولا لية بدون همزة. (4) الورس: نبت أصفر يكون باليمين ومراده الصفاء. (5) الطرق - بالكسر -: القوة والشحم، وإذا كان بالفتح فالمراد الإتيان بالليل كناية عن الملامسة. (6) الفدم: العيي. (7) وكاؤها شعر: كناية عن القوة وعدم الانفلات فهو استعارة كالاستعارة في الحديث (العين وكاء السه). (8) المطرف - بتثليث الميم وسكون الطاء - ثوب من خز مربع في طرفيه علمان. (9) جاء في نسخة الظاهرية هكذا: ألا من مبلغ عني عليا * بأني قد أخذت على رواف عمدت لمستقر الحق لما * رأيت قضية فيها اختلافي (10) أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، قال الذهبي: " الإمام الثبت... كان سفيان يسمي أبا الزناد. أمير المؤمنين في الحديث " كان كاتبا لبني أمية، وكان ربيعة الرأي قال فيه " ليس بثقة ولا رضي " وهو الذي روى الحديث: (إن الله خلق آدم على صورته) توفي فجأة في شهر رمضان سنة 130 (انظر المعارف لابن قتيبة ص 204 وميزان الاعتدال 4 / 418). (11) أي احتقرته ولعل معاوية تعمد ذلك. 220 إذا قلت: أطراف الرماح تنوشه * مرثه له الساقان والقدمان (1) ثم ضرب بيده إلى ثديه وقال: ويحك إنما مثلي لا تعدو به الخيل، فقال: إني لم أقل هذا لك إنما قلته لعتبة بن أبي سفيان. ولما حد علي ع النجاشي غضب لذلك من كان مع علي من اليمانية وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب بن أسامة النهدي فدخل على أمير المؤمنين ع فقال: يا أمير المؤمنين ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة، وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل، ومعادن الفضل سيان في الجزاء، حتى رأيت ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرت صدورنا (2)، وشتت أمورنا، وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار، فقال علي ع: إنها لكبيرة إلا على الخاشعين يا أخا بني نهد، وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفارته، يا أخا بني نهد إن الله تعالى يقول: ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى. فخرج طارق من عند علي وهو مظهر بعذره قابل له، فلقيه الأشتر النخعي فقال له: يا طارق أنت القائل لأمير المؤمنين: إنك أوغرت صدورنا وشتت أمورنا؟ قال طارق: نعم، أنا قائلها. قال له الأشتر: والله ما ذاك كما قلت، وإن صدورنا له لسامعة، وإن أمورنا له لجامعة. قال: فغضب طارق، وقال: ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت، فلما جنه الليل همس (3) هو والنجاشي إلى معاوية، فلما قدما عليه دخل آذنه فأخبره بقدومهما وعنده وجوه أهل الشام منهم عمرو بن مرة الجهني (4) وعمرو بن صيفي (5) وغيرهما، قال: فدخلا عليه، فلما نظر معاوية إليه قال: مرحبا بالمورق غصنه، المعرق أصله، المسود غير المسود، في أرومة (6) لا ترام، ومحل يقصر عنه الرامي، من رجل كانت منه هفوة ونبوة (7) باتباعه صاحب الفتنة، ورأس الضلالة والشبهة، التي اغترز (8) في ركاب الفتنة حتى استوى على رحلها ثم أوجف في عشوة ظلمتها وتيه ضلالتها (9)، واتبعه رجرجة من الناس (10)، وهنون من الحثالة (11)، أما والله ما لهم أفئدة أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها. فقام طارق فقال: يا معاوية إني متكلم فلا يسخطك أول دون آخر، ثم قال وهو متكئ على سيفه: إن المحمود على كل حال رب علا فوق عباده فهم منه بمنظر ومسمع، بعث فيهم رسولا منهم لم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخطه بيمينه إذا لارتاب المبطلون، فعليه السلام من رسول كان بالمؤمنين برا رحيما. أما بعد فانا كنا نوضع (12) فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقي عادل في رجال من أصحاب رسول الله ص أتقياء مرشدين، ما زالوا منارا للهدى ومعالم (13) الدين خلفا عن سلف مهتدين، أهل دين لا دنيا، وأهل الآخرة كل الخير فيهم، واتبعهم من الناس ملوك وأقيال، وأهل بيوتات وشرف، ليسوا بناكثين ولا قاسطين، فلم تك رغبة من رغب عنهم وعن صحبتهم إلا لمرارة الحق حيث جرعوها، ولو عورته حيث سلوكها، وغلبت عليهم دنيا مؤثرة، وهوى متبع وكان أمر الله قدرا مقدورا وقد فارق الاسلام قبلنا جبلة بن الأيهم (14) فرارا من الضيم وأنفا من الذلة فلا تفخرن يا معاوية أن قد شددنا إليك الرحال وأوضعنا نحوك الركاب، فتعلم وتنكر. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولجميع المسلمين. ثم التفت إلى النجاشي وقال: ليس بعشك فادرجي (15) فشق على معاوية ذلك وغضب ولكنه أمسك فقال: يا عبد الله ما أردنا أن نوردك مشرع ظما، ولا أن نصدرك عن مكرع رواء، ولكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير الذي ينطوي عليه من الفعل، ثم أجلسه معه على سريره، ودعا له بمقطعات (16) وبرود فصبها عليه، ثم أقبل عليه بوجهه يحدثه حتى قام. فلما قام طارق خرج وخرج معه عمرو بن مرة، وعمرو بن صيفي الجهنيان فأقبلا عليه يلومانه في خطبته إياه وفيما عرض لمعاوية. فقال طارق لهما: والله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل لي أن بطن الأرض أحب إلي من ظهرها عند إظهاره ما أظهر من البغي والعيب والنقص لأصحاب محمد ص ولمن هو خير منه في العاجلة والآجلة وما زهت به نفسه، وملكه عجبه وعاب أصحاب رسول الله ص واستنقصهم ولقد قمت مقاما عنده أوجب الله علي فيه أن لا أقول إلا حقا، وأي خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا؟! وأنشأ يتمثل بشعر لبيد بن عطارد التميمي: لا تكونوا على الخطيب مع الدهر * فاني فيما مضى لخطيب
(1) هذان البيتان من قصيدة للنجاشي يهجو بها معاوية يوم صفين من قصيدة روى منها نصر بن مزاحم في كتاب صفين ص 601 واحدا وثلاثين بيتا وكان معاوية يعير بها بعد ذلك ويعرض بها، والسابح الجواد وجمعه سوابح، والأجش: الغليظ الصوت من الإنسان والخيل، والهزيم: الفرس الشديد الصوت ومرئه - بالمثلثة -: حركته. (2) أو غرت صدورنا: جعلتها تتوقد من شدة الغيظ. (3) الهمس - هنا - السير ليلا بلا فتور. (4) عمرو بن مرة الجهني صحابي يكنى أبا مريم شهد مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر المشاهد مات في أيام معاوية وقيل أيام عبد الملك (انظر الاستيعاب 2 / 519 والإصابة حرف العين ق 1). (5) عمرو بن صيفي، قال السيد المحدث رحمه الله: " لم أجد ذكره في كتب التراجم ". (6) الأرومة - بفتح الهمزة وبضمها - الأصل. (7) الهفوة: الزلة، والنبوة - هنا -: التقصير كأنها مأخوذة من قولهم نبا السهم إذا قصر عن الهدف، ونبا السيف إذا كل عن الضريبة. (8) اغترز: وضع رجله في الغرر وهو ركاب من جلد. (9) أوجف: أسرع، والعشوة - بتثليث العين المهملة -: ركوب الأمر على غير بيان، والتيه - بكسر التاء هنا - الضلال. (10) الرجرجة من الناس: الأراذل ومن لا عقول لهم. (11) هنون جمع هين وهو الحقير المهان، والحثالة: الردئ من كل شئ. (12) وضع وأوضع: أسرع في سيره ومنه قوله تعالى: (لأوضعوا خلالكم). (13) المعالم جمع معلم وهو الأثر الذي يستدل به على الطريق. (14) جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان، أسلم في زمن عمر وقدم المدينة في أهبة الملك وفرح المسلمون في قدومه وإسلامه وحضر الموسم من عامه فبينما هو يطوف في البيت إذ وطئ على إزاره رجل من بني فزارة فحله فلطمه فهشم أنفه فاستعدى عليه الفزاري عمر وطلب إليه عمر أن يرضي الفزاري أو يقيده فأخذته العزة بالإثم واجتمع قوم جبلة وبنو فزارة، فكادت تكون فتنة، فقال جبلة: أمهلني إلى غد يا أمير المؤمنين، قال: ذاك لك فلما كان جنح الليل خرج هو وأصحابه فلم يئن حتى دخل القسطنطينية على هرقل فتنصر وأعظم هرقل قدومه وسر به انظر تفصيل القصة في العقد الفريد لابن عبد ربه 2 / 56. (15) مثل يضرب ومعناه ليس هذا مكانك فاتركه وعش الطائر موضعه وهو الذي يكون في أفنان الأشجار يجمعه من دقاق العيدان وغيرها فإذا كان في جبل أو جدار أو نحوهما فهو وكر وكن، والدرج: المشي بتقارب خطو. (16) المقطعات برود قصار موشاة ولا واحدا له من لفظه. 221 أصدع الناس في المحافل بالخطبة * يعيى بها الخطيب الأريب وإذا قالت الملوك من الحاسم * للداء؟ قيل: ذاك الطبيب غير أني إذ قمت كاربني الكربة * لا يستطيعها المكروب وكذاك الفجور يصرعه البغي * وفي الناس مخطئ ومصيب وخطيب النبي أقول بالحق * وما في مقاله عرقوب (1) إن من جرب الأمور من الناس * وقد ينفع الفتى التجريب لحقيق بان يكون هواه * وتقاه فيما إليه يؤوب فبلغ عليا ع مقالة طارق وما قال لمعاوية فقال: لو قتل أخو بني نهد يومئذ لقتل شهيدا. وزعم بعض الناس أن طارق بن عبد الله رجع إلى علي ع ومعه النجاشي. وعمل معاوية في إطراء طارق وتعظيم أمره حتى تسلل ما كان في نفسه. وطارق هو القائل: هل الدهر إلا ليلة وصباحها * وإلا طلوع الشمس ثم رواحها يقرب ما ينأى ويبعد ما دنا * إلى أجل يقضي إليه انسراحها ويسعى الفتى فيها وليس بمدرك * هواه سوى ما ضر نفسا طماحها (2) ومن يسع منا في هوى النفس يلقها * سريعا إلى الغي المقيم جماحها وعاذلة قامت تلوم مدلة * علي فلم يرجع قتيلا صياحها (4) وتزعم أن اللوم منها نصيحة * وحرم في الدنيا علي انتصاحها إذا كان أمر العاذلات ملامة * فأولى أمور العاذلات اطراحها (5) وقد حنكتني السن واشتد حنكتي * وجانبي لهو الغواني وراحها (6) وقد كنت ذا نفس تراح إلى الصبا * فأضحت إلى غير التصابي ارتياحها، (7) وإني لمن قوم بنى المجد فيهم * بيوتا فأمست ما تنال براحها (8) مطاعيم في القحط الجديب زمانهم * إذا أقوت الأنواء هاجت رياحها (9) وأخلف إيماض البروق وعطلت * بها الشول واستولت وقل فصاحها (10) وقر قرار الأرض إما ملوكهم * وساداتهم ما بل عشبا نصاحها (11) كريب بن زيد الحميري خرج مع التوابين الذين خرجوا بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي للطلب بثار الحسين، ولما علم كريب ما عزم عليه رفاعة بن شداد من الرجوع جمع إليه رجالا من حمير وهمدان وقال: عباد الله روحوا إلى ربكم والله ما في شئ من الدنيا خلف من رضا الله وقد بلغني أن طائفة منكم يريدون الرجوع فاما أنا فوالله لا أولي هذا العدو ظهري حتى أرد مورد أخواني، فأجابوه وقالوا: رأينا مثل رأيك، فتقدم عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد القتال، فعرض ابن ذي الكلاع الحميري عليه وعلى أصحابه الأمان، فقال: قد كنا آمنين في الدنيا وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة، فقاتلوهم حتى قتلوا. 146: الشيخ كمال الدين بن سعادة الستري البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من مشايخ زين الملة والدين الشيخ علي بن سليمان الستري البحراني. قال الشيخ ميثم البحراني في كتابه: النجاة في القيامة في تحقيق الإمامة: ولاثبات ذلك أي الإمامة دليل عقلي لمولانا كمال الدين بن سعادة البحراني. وذكره العلامة فاثنى عليه. وتوفي قدس سره سنة 555 الخامس والخمسين والخمسمائة. 147: السيد مال الله بن السيد محمد الخطي. قال في تاريخ البحرين المخطوط بمبالغاته: زبدة الأوائل والأواخر الذي لا يكون لعلمه أول وآخر، فخر المحققين وزبدة المجتهدين سيد العلماء المتأخرين، انتهت إليه رئاسة الخط والأحساء، والأمر بأحكام الشريعة في الصباح والمساء وهو مجاز عن شيخه الشيخ أحمد الأحسائي وله معه أجوبة ومسائل. مات سنة 1222 وقبره الشريف في القطيف يزار ويتبرك به. ماه شرف خانم بنت الشيخ محمد تقي بن الشيخ محمد جعفر بن الشيخ محمد كاظم الطالقانية القزوينية. عالمة فاضلة، أديبة، شاعرة، خطيبة، متكلمة، عارفة. قرأت على أخيها الشيخ محمد البرغاني، ثم هاجرت إلى أصفهان، وأخذت من أجلاء علمائها ومنها نزحت إلى كربلاء والنجف ثم استقرت في قزوين فاختارها فتح علي الشاه القاجاري لمنصب كبير في البلاط الشاهنشاهي وكان لها خط جميل للغاية وأسلوب أدبي رائع في الإنشاء وكانت تراسل عن لسان البلاط علماء الاسلام وتجيب على رسائلهم. قال الأمير عضد الدولة سلطان أحمد الميرزا في كتابه تاريخ عضدي... ماه شرف عمة المرحوم الحاج الملا محمد صالح المجتهد البرغاني الملقبة بمنشية سكرتيره كان لها خط جميل لا سيما في خط الشكسته بشكل رائع للغاية وكانت مسؤولة عن الرسائل
(1) عرقوب: أي ليس فيه التواء. (2) الطماح: هنا كالجماح وزنا ومعنى. (3) الجماح: ركوب الهوى. (4) المدلة: التي تري زوجها جرأة في تغنج وتشكل كأنها تخالفه وما بها من خلاف، واحتمل السيد المحدث أنه ربما كان " فلم ينجع فتيلا " وذلك أن يقال: " ما أغني عنك فتيلا أي شيئا بقدر الفتيل " والفتيل ما يكون في شق النواة. (5) الاطراح: الإبعاد. (6) حنكته السن: أحكمته التجارب، والحنكة: التجربة والفهم، والغواني جمع غانية وهي المرأة التي تطلب ولا تطلب لأنها استغنت بحسنها، وقيل: هي الشابة العفيفة ذات زوج أولا، والراح: الخمر، أو يريد الارتياح بلهوه معهن. (7) يراح: تأخذه خفة وأريحة، والصبا: جهل الفتوة، والتصابي: تعاطي الصبا. (8) البراح: المتسع من الأرض ويريد أفنيتها. (9) مطاعيم جمع مطعام وهو كثير الإطعام والقرى، والقحط: الجدب، والجديب: بين الجدوية، وأقوت: خلت، والأنواء جمع نوء وهو النجم الذي يستمطرون به، وهاجت رياحها: هبت وهو كناية عن الكرم. (10) البروق جمه برق وإيماضها: لمعانها، والشول جمع شائلة وهي الناقة التي يجف لبنها وعطلت: لا راعي لها لأن الرعاة تركوها لهزالها وعدم فائدتها " استولت " نقص لبنها من ولت يلت، أو هو تصحيف. والفصاح جمع فصيح والمراد هنا اللبن الخالص يقال: أفصح اللبن أي ذهبت رغوته وانقطع اللباء عنه واشولت أي جفت ألبانها ولحقت بطونها بظهورها من الهزال. (11) النصاح: السقي يقال: نصحه الغيث أي سقاه حتى اتصل نبته فلم يكن فيه فضاء. 222 والإنشاء في البلاط الإيراني... (1) وكانت مشاورة للشاه القاجاري فتح علي شاه في أمور إدارة البلاد وكان يأخذ الشاه برأيها (2). الشيخ محسن بن الشيخ محمد بن الشيخ يوسف صاحب الحدائق من آل عصفور. قال في تاريخ البحرين المخطوط: وهذا الشيخ من فضلاء هذه الطائفة وأعيانها أخذ عن أخيه الشيخ موسى المتقدم ذكره وبرز في الفنون وكان إماما بعد أخيه الشيخ موسى. يضرب به المثل في الفقه، عارفا بالأصولين والنحو والقرآن، زكيا فصيحا، ولد في فسا سنة ثماني عشرة ومائتين بعد الألف. ومات قدس سره سنة تسع وخمسين ومائتين بعد الألف، وله كتاب الأربعين في فضائل أمير المؤمنين. وشرح المغني وكتاب الإجازات. وحاشية على المطول. ورسالة في الشكيات. ورسالة في معنى قوله ص: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. ورسالة في قوله ص وسلم: ستدفن بضعة مني بخراسان. وحاشية على الشرائع. ورسالة المحاكمة بين من قال باستحباب فصل الشهادة لعلي بالولاية في الأذان ومن قال بعدمه. وغير ذلك من الرسائل وله من الأولاد الشيخ موسى وهو الآن من أكابر علماء فسا. وله من المصنفات كتاب العمدة. 150: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأسدي. كتب الشيخ محمد حسن آل ياسين ما يلي: عثرت في المكتبة الرضوية بمدينة مشهد الإيرانية على مخطوط نفيس قيم يعنى بالحديث عن مكة المكرمة، والطرق الموصلة إليها من جهة المدينة المنورة والكوفة والبصرة وسائر الحواضر الاسلامية المشهورة يومذاك مع تتبع بالغ، ووصف دقيق لما تضمنته تلك الطرق من بواد وقفار، وبرك وآبار، وأبنية وقصور، وأميال وآثار، وزروع وعلامات بريد، بحيث لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وبهذا كان الكتاب مثيرا للاعجاب جالبا للاهتمام قمينا بالبحث والدراسة والنشر. وأهم ما يبعث على الأسف عند مطالعة هذه النسخة نقصانها من أولها بمقدار لا نستطيع تحديده، وإن كان نزرا يسيرا على الأكثر، ولكنه على قلته المحتملة أفقدنا اسم هذا العالم الجغرافي المحقق فبقي مجهولا خلال هذه الأعوام المتمادية التي مرت على الكتاب وهو ناقص مبتور. ثم أشكل الأمر ثانية بواسطة المجلد الذي قدم وأخر بعض الأوراق أثناء التجليد فتداخل فيه الحديث عن هذا المكان بالحديث عن ذاك، فالتبست بعض مطالبه على أكثر مطالعيه. والنسخة التي نحن بصددها قديمة النسخ كثيرة التصحيف والتحريف قليلة النقط، تتألف من 116 ورقة بحجم 23. 18 سم، ورقمها العام في المكتبة 5751، والواقف لها علامة عصره الشيخ بهاء الدين العاملي المتوفى سنة 1031 ه، وفي أولها ختم باسم حسن بن علي بن عبد العالي مؤرخ سنة 957 ه. أما آخر الكتاب فتام، وجاء في ختامه ما نصه: تم الكتاب بعون الله وحسن توفيقه، والحمد لله حق حمده، وصلواته على خير خلقه سيدنا محمد النبي وعترته الطاهرين وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم ورد في ذيل الصفحة الأخيرة ما لفظه: من عواري الزمن على يد أضعف عباد الله... في تاريخ غرة محرم الحرام سنة 899 وقد اعتدت يد جاهلة على هذا التملك فحكت اسم المالك فلم نعرفه. وبالنظر إلى أهمية موضوع الكتاب ونفاسة معلوماته فقد بذلت جهدا كبيرا في سبيل معرفة مؤلفه وفي تنظيم أوراقه حسب تسلسلها الواقعي، فانكشف الغطاء، واتضحت الحقيقة، والحمد لله رب العالمين. إن أول حقيقة تسوقنا إليها روايات الكتاب أن مؤلفه من رجال القرن الثالث الهجري، لأن كل الرواة الذين يروي عنهم المؤلف هم من أعلام هذا القرن ومشاهيره، ونذكر في أدناه طائفة منهم على سبيل التمثيل: 1 أحمد بن إسماعيل السهمي المدني، أبو حذافة، المتوفى ببغداد سنة 259 ه. 2 أحمد بن عبد الجبار العطاردي الكوفي، المتوفى ببغداد سنة 272 ه. 3 أحمد بن منصور بن سيار الرمادي، أبو بكر، المتوفى ببغداد سنة 265 ه . 4 جعفر بن محمد بن شاكر الصايغ، المتوفى ببغداد سنة 279 ه. 5 الحرث بن محمد بن أبي أسامة التميمي البغدادي، أبو محمد، المتوفى ببغداد سنة 282 ه. 6 الحسن بن مكرم بن حسان، أبو علي، المتوفى ببغداد سنة 274 ه. 7 عبد الله بن عمرو بن عبد الرحمن بن بشر بن هلال، أبو محمد الأنصاري الوراق البلخي، المعروف بابن أبي سعد، المتوفى ببغداد سنة 274 ه ويعبر عنه المؤلف تارة ب عبد الله بن عمرو وتارة ب عبد الله بن أبي سعد وأخرى ب أبي محمد الوراق. 8 عبد الملك بن محمد الرقاشي البصري، أبو قلابة، المتوفى ببغداد سنة 276 ه. 9 محمد بن الجهم بن هارون السمري الكاتب النحوي، أبو عبد الله، المتوفى ببغداد سنة 277 ه. 10 محمد بن خلف بن عبد السلام الأعور المروزي، أبو عبد الله، المتوفى ببغداد سنة 281 ه. 11 محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي الحافظ، أبو جعفر، المتوفى ببغداد سنة 254 ه. 12 محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي، أبو بكر، المتوفى ببغداد سنة 258 ه.
(1) الأمير عضد الدولة سلطان أحمد ميرزا: تاريخ عضدي ص 19: تحقيق الدكتور عبد الحسين النوائي طهران منشورات بابك. (2) الشيخ عبد الحسين الصالحي. 223 13 محمد بن علي بن حمزة العلوي، المتوفى سنة 287 ه. 14 محمد بن يزيد المبرد الثمالي، المتوفى ببغداد سنة 285 ه. 15 يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله العلوي، أبو الحسين، المتوفى سنة 277 ه. وهكذا يتضح من معرفة حال المذكورين في أعلاه أن الراوي عنهم من رجال المائة الثالثة بلا شك، وأنه ممن سكن بغداد فترة غير قصيرة، استطاع خلالها أن يحضر مجالس عدد كبير من المحدثين والرواة فيتحدث معهم ويروي عنهم. أما تعيين اسم المؤلف فقد بقي عندي مجهولا إلى حين، وعلى الرغم من أن صديقي الباحث الدكتور حسين علي محفوظ قد افترضه ابن الكوفي 254 348 ه ورجح نسبة المخطوط إليه، فاني لم أقتنع بذلك بل كنت قاطعا بأنه غيره، لأن مؤلف المخطوط يروي عن أشخاص لم يكن باستطاعة ابن الكوفي الرواية عنهم مشافهة كمحمد بن عبد الله المخرمي المتوفى سنة ولادة ابن الكوفي 254 ه ومحمد بن عبد الملك بن زنجويه المتوفى سنة 258 ه أي بعد ولادة ابن الكوفي بأربعة أعوام وأحمد بن إسماعيل السهمي المتوفى بعد ولادة ابن الكوفي بخمسة أعوام 259 ه. ثم اطلعت في أثناء كتاب وفاء الوفا باخبار دار المصطفى للسمهودي المتوفى سنة 911 ه على نقول عن كتاب لم يسمه يعنى بذكر منازل مكة والطرق الموصلة إليها، والمناسك التي ينتفع بها الحاج، وذكر السمهودي أن هذا الكتاب تأليف أبي عبد الله محمد بن أحمد الأسدي، كما ذكر أن هذا المؤلف من المتقدمين، ويؤخذ من كلامه أنه كان في المائة الثالثة. فرجح في ظني أن يكون هذا الأسدي ضالتي المنشودة وأن يكون المخطوط موضوع البحث هو كتابه الذي ينقل عنه السمهودي. وبعد القيام بمقارنة النصوص التي وردت في وفاء الوفا منقولة عن كتاب الأسدي بما تضمنه المخطوط كانت النتيجة المؤكدة أن هذا المخطوط للأسدي، وأنه هو كتابه الذي كان يقطع كثير من الباحثين بفقدانه وضياعه. والمستفاد من الكتب العربية الباحثة في الشؤون البلدانية على كثرتها ووفرتها وفي طليعتها معجم البلدان أن كتاب الأسدي كان نادر النسخة على مر القرون فلم يره هؤلاء المؤلفون ولم يطلعوا عليه، ولذلك لم يذكروه ولم يشيروا إليه، بل ربما يخيل لي أن النسخة التي وقف عليها السمهودي ونقل عنها هي بعينها هذه النسخة الفريدة الباقية إلى اليوم، من دون أن يكون لها في الأمس واليوم أخت ثانية في الدنيا مطلقا. كذلك يستفاد من المصادر الضخمة الكثيرة التي عنيت بالتاريخ والتراجم أن أبا عبد الله الأسدي رجل مجهول الحال كامل الذكر غير معروف لأحد، ولذلك لم يذكر ولم يترجم على الرغم من علمه وفضله وسعة اطلاعه وغزارة معلوماته. وعلى أي حال، فهذا هو الأسدي وكتابه على وجه القطع واليقين، وأرجو أن أوفق في الأعداد القادمة إلى نشر النصوص التي وردت في مخطوطنا هذا وورد مثلها في نقول السمهودي عنه لتتجلى الحقيقة أكثر وأكثر، فإلى اللقاء إن شاء الله. تعليق الدكتور محفوظ. وقد علق الدكتور حسين علي محفوظ على هذه الكلمة بما يلي: اطلعت في دار الكتب الرضوية بمدينة مشهد مركز خراسان في إيران، أوائل خريف سنة 1957 على نسخة خطية قديمة نادرة، لعلها وحيدة، كان خازن المخطوطات الفاضل يظن أنها كتاب أخبار مكة للأزرقي. وقد استطلع رأيي فيها، لأنه لم يطلع عليه. فأعجبت بالكتاب، ونبهت طائفة من أفاضل الباحثين إلى الاستفادة منه، وصورته وأعلنت نبا عثوري عليه، وظللت مستمرا على تصفحه وتحقيقه. رقم هذا المخطوط 5751 تاريخ وعدة أوراقه 116، طول كل ورقة 23 سنتيمترا، في عرض 18 سم. وفي كل صفحة 19 سطرا، مكتوبة بخط نسخي قديم. وهو ناقص من أوله بضع أوراق، والمظنون أنه تام الآخر. والنسخة غير مؤرخة، ولكن يخيل إلي أنها اكتتبت في أوائل القرن السادس الهجري تقريبا، أي أوائل القرن الثاني عشر الميلادي. وعلى ظهرها ختم مؤرخ في 957 ه 1550 م. وكانت ملك بعضهم في القرن التاسع، فقد ملكتها يده سنة 899 ه 1494 م. اهتممت منذ سبع سنين بهذا المخطوط القيم، وفضلته على كثير من النوادر، التي كنت أطلعت عليها حينئذ في إيران، ومنها كتب ورسائل بخط حنين بن إسحاق، المتوفي سنة 260 ه 874 م، ومنظومة في صور الكواكب لابن ابن الصوفي المعروف، المتوفي سنة 376 ه 986 م. ثم أتيح لي الاطلاع على أوراق بخط شيخنا العلامة الفهرسي الببلغرافي الكبير آقا بزرگ الطهراني نزيل النجف، مصنف كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة دون فيها أسماء بعض الكتب كمسودة لكتاب الذريعة المذكور. ومنها كتاب منازل مكة. وكان الشيخ آقا بزرگ الطهراني عثر على هذا الاسم، في كتاب المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد المعروف ب التعليق العراقي، تأليف سديد الدين أبي الثناء محمود بن علي بن الحسن الرازي الحمصي، المتوفي في حدود سنة 590 ه 1194 م، الذي فرع من تأليفه سنة 581 ه 1185 م، فقد نقل الحمصي من كتاب غرر الأدلة تأليف أبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي المتوفي سنة 436 ه 1044، أنه قال: قرأت بخط ابن الكوفي في كتاب منازل مكة وهذه الكلمة، هي التي دعت آقا بزرگ أن يثبت اسم كتاب منازل مكة، وينسبه إلى ابن الكوفي، في كتابه الذريعة فقلت: ربما كان هذا المخطوط منازل مكة ولعل مؤلفه ابن الكوفي. وقد أشرت إلى ذلك في فهرست تأليفاتي المطبوع على ظهر كتابي تاريخ الشيعة المنشور سنة 1957 ووضعت تجاه اسم الكتاب والمؤلف حرف ظ علامة الظن. وقد حضني هذا على تتبع ترجمة ابن الكوفي، وألفت رسالة مفصلة في
224 سيرته ظهرت في سلسلة مطبوعات كلية الآداب، بجامعة بغداد سنة 1380 ه 1961 م. كما دعوت إلى إحياء ذكرى ابن الكوفي الألفية، وأعلنا مهرجانه الألفي، في كلية الآداب بجامعة بغداد، في 12 كانون الثاني سنة 1960، وعرفت به في راديو بغداد، عشية 22 حزيران سنة 1960، ووصفت النسخة الخطية في مؤتمر المستشرقين الخامس والعشرين بموسكو في صيف العام المذكور، وفي الندوة الثقافية بتلفزيون بغداد عشية 3 تشرين الأول سنة 1964، وعرفت بابن الكوفي أيضا في العدد ال 14 و 15 من مجلة بغداد. أما ابن الكوفي وهو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد بن الزبير، الأسدي، القرشي، المعروف بابن الكوفي، وابن الزبير، فقد ولد بمدينة الكوفة سنة 254 ه 868 م، واستوطن بغداد، وتوفي بها سنة 348 ه 960 م، فاكتفي الآن بالإشارة إلى أني أكاد أعد هذا النابغة العراقي من أوائل المحققين العرب، الذين اتبعوا الطريقة العلمية الصحيحة في التأليف والكتابة، والنقل والجمع. وكان خطه معروفا بالصحة والجودة، والاتقان والضبط. وكانت تأليفاته غاية في الدقة. وقد رتب خزانته على العلوم ترتيبا خاصا بارعا، مع تعيين أمكنتها. كما أنه سبقنا إلى استعمال البطاقات والجزازات وهي الرقاع والوريقات التي تعلق فيها الفوائد، التي نسميها اليوم فيش في التأليف والجمع. وقد بيعت رقاعه بعد وفاته كل بطاقة بدرهم. والدرهم يساوي 215 فلسا عراقيا، بحسب عملتنا، وفق تكسير سعر الدينار الذهب العراقي القديم، في زمن ابن الكوفي، على عشرة دراهم. وقد اعتمد ابن النديم على مباحث ابن الكوفي. ولقد أحصيت ماخذ ابن النديم في كتابه الفهرست من خط ابن الكوفي، فوجدته نقل فصولا طوالا في 29 موضعا من الكتاب، ربما أوشكت أن تبلغ مقدار عشر الفهرست تقريبا. ومما يزيد أهمية ابن الكوفي، أنه كان واسطة نقل التراث العلمي، الذي تم طوال القرون الأربعة الأولى من تاريخ الثقافة الاسلامية. وقد حسبت ما وصلت إلينا أسماؤه، مما رواه عنه واحد من تلاميذه فقط، وهو أبو عبد الله أحمد بن عبدون المعروف ب ابن الحاشر، المتوفي سنة 423 ه 1032 م فوجدته 600 كتاب في اللغة، والأدب، والخطب، والتاريخ، والأنساب، والتفسير، والفقه، والشعر، وسائر العلوم الاسلامية. فقد أوصل إلينا 400 أصل من كتب الحديث، كما أوصل إلينا آثار 19 عالما من رجال الفكر الاسلامي، والثقافة الفقهية. أما هذا الكتاب، الذي أتكلم عليه، فأكاد لا أشك أن اسمه منازل مكة فان مؤلفه صنفه في صفة منازل مكة. وقد صرح بالاسم عدة مرات. ولقد وصف الطريق غاية في الدقة من الكوفة إلى مكة، ثم طريق المدينة. ثم ذكر مسجد النبي ص الذي بناه حين قدم من مكة، والمسجد الذي بناه لما قدم من خيبر. وقد وصف مسجده في المدينة، وبين زيادات الخلفاء، وذكر القبر، واختلاف الناس فيه، وأشار إلى مساحته. وذكر أيضا الكتابة التي حول المسجد، وزينته، وتوسيعه أيام الخلفاء والولاة. ثم ذكر حد جدار النبي، ومساجده في المدينة، ومساحتها، وذكر المنبر. ثم بين حد المدينة، وجبالها، ومياهها، وما حولها من الجبال، وأقسامها، وقبور الشهداء بأحد وأسماءهم. ثم ذكر طريق بدر، والطريق بين المدينة ومكة، ووصف المنازل إلى مكة، وذكر آداب الحج. وذكر من بعد مكة، وأسماءها، وسبب تسميتها. والمسجد الحرام، والصفا، والمروة، والكعبة، وبنيانها، وزمزم، ومساحة المسجد الحرام والكعبة. وذكر الطريق إلى منى، والمشاعر، ومسافاتها، والطريق القديمة بين خيبر والمدينة، ومسافاتها، وطريق سلمان. وأفرد فصلا جغرافيا لوصف الحجاز، وجزيرة العرب، ونجد، وتهامة. ثم أثبت منظومة طويلة في ذكر المنازل على طريق مكة لأحمد بن عمرو الذي كان مع أم جعفر سنة حجها، ووصف سفرها من بغداد إلى الكوفة. ثم إلى مكة، ثم الخروج في الطريق الأول إلى مدينة السلام بغداد. ومنظومة أخرى في وصف الطريق أيضا ومنظومة ثالثة، أنشدها أبو جعفر، أحمد بن محمد بن الضحاك بن عمر، الجماني الكوفي. ومنظومة رابعة للمؤلف في وصف طريق العودة إلى الكوفة. ثم ذكر طريق البصرة ومياهه، والطريق التي يسلكها الناس في عصره، وطريق البحرين. وأثبت قصيدة وهب بن جرير بن حازم الجهضمي في الطريق والمناسك. وأورد أخيرا الطريق إلى مكة من اليمن، وتهامة، وحضرموت، ومصر، والساحل، والشام، والطائف، وجدة. وهو يروي كل ما يأتي به، عن الرواة الثقات باسنادهم. ويصف الأمكنة والمنازل، ومن ينزلها من القبائل، وأسماءها، وأسباب تسميتها ويعين مسافاتها، وبعدها عن البقاع المحيطة بها، وما فيها من قصور ومساجد، وبرك، وأحواض، ومشارب، ومصافي، ومسايل، ومجاري، وآبار. وكذلك الهضاب، والعقبات، والرمال، والرياض، والبساتين والحدائق. ويعين أنواع الأرضين، وارتفاعها، والآبار المطمومة، والمعطلة والعذبة، والمالحة. ولم ينس إثبات ما قيل في ذلك كله من الشعر، وما ورد فيه من الأخبار. فالكتاب إذن مجموع أدبي، تاريخي، نسبي، جغرافي، طبغرافي، فقهي. وقد روى المؤلف في كتابه هذا عن جماعة زادوا على مائة من العلماء والأخباريين، كلهم ممن كان يعيش في بغدد في أواسط القرن الثالث وأواخره، وأوائل القرن الرابع الهجري 9 و 10 م وهو عصر ابن الكوفي. أما مؤلف الكتاب، فأكاد أظن أنه عراقي سواء كان ابن الكوفي أم لم يكنه لأنه خص العراق بالجزء الأكبر من الكتاب، ووصف طريق العراق
225 مفصلا، وقد أوجز في الكلام على الطرق الأخرى، واكتفى أحيانا بالأسماء. كما نستطيع أن نقول: إنه عاش في القرنين الثالث والرابع 9 و 10 م لأنه روى عن رجال من أهل ذينك القرنين. وربما صح أن نقول أيضا: إنه كوفي، لأنه اهتم بالكوفة وخصها بكثير من العناية والكلام في قصيدته التي وصف بها الطريق، وكانت آخر مراحل سفره، وهو بغدادي المنزل ظ لأنه روى عن علماء كانوا جميعا ببغداد. ولا أدري كيف دلت كلمتي التي تلي هذه الأسطر بعض الأفاضل على افتراض المؤلف ابن الكوفي، وترجيح نسبة المخطوط إليه فقد نسب ذلك إلي مثلا بلدينا الأخ الشيخ الجليل محمد حسن آل ياسين أطال الله بقاءه وأدام تأييده. لقد قلت في ص 20 ع 3 من مجلة كلية الآداب:... وظننتها أي النسخة الخطية منازل مكة ولكن نسبتها إلى ابن الكوفي أمر ما أزال أتظناه. فالرجل كثير الاستنساخ، والنقل من منتسخاته شئ معروف. ومهما يكن من شئ، فان مصنف منازل مكة هذا؟ رجل كوفي، قريب من عهد ابن الكوفي ان لا يكنه فأكثر الرواة الذين روى عنهم من طبقة مشايخه، وممن يوافق زمانهم عصره. وأنا أشكر لمجلة الأقلام استطلاع رأيي، ولا أنسى الثناء على الشيخ الفاضل الذي رأى أن ينعم علي فيذكرني استطرادا في مقالة النفيس، وهو عجاب من أهل العصر فقد تعودت أن يغمطني حقي كثير ممن نقل عني، واستفاد من آثاري. وإليه حفظه الله يعود فضل دلالتي على مقالة الدكتور صالح أحمد العلي في مجلة المجمع العلمي العراقي التي هدته إلي إضافة الكتاب إلى أبي عبد الله محمد بن أحمد الأسدي وهو أمر أوسعته بحثا وتتبعا في مقالتي أثر جغرافي طبغرافي قديم في صفة بلاد العرب لمؤلف عراقي قبل عشرة قرون، في العدد القابل من مجلة كلية الآداب إن شاء الله. محمد بن أحمد بن جعفر الكناني المصري المعروف بابن الحداد. ولد سنة 264. ترجم الله الذهبي في سير أعلام النبلاء ووصفه بالشافعي وقال: سمع أبا الزنباع روح بن الفرج، وأبا يزيد يوسف بن يزيد القراطيسي، ومحمد بن عقيل الفريابي، ومحمد بن جعفر بن الإمام، وأبا عبد الرحمن النسائي، وأبا يعقوب المنجنيقي، وخلقا سواهم. ولازم النسائي كثيرا، وتخرج به، وعول عليه، واكتفى به، وقال: جعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى، وكان في العلم بحرا لا تكدره الدلاء، وله لسن وبلاغة وبصر بالحديث ورجاله، وعربية متقنة، وباع مديد في الفقه لا يجاري فيه مع التاله والعبادة والنوافل، وبعد الصيت، والعظمة في النفوس. ذكره ابن زولاق وكان من أصحابه فقال: كان تقيا متعبدا، يحسن علوما كثيرة: علم القرآن وعلم الحديث، والرجال، والكنى، واختلاف العلماء والنحو واللغة والشعر، وأيام الناس، ويختم القرآن في كل يوم، ويصوم يوما ويفطر يوما. كان من محاسن مصر. إلى أن قال: وكان طويل اللسان، حسن الثياب والمركوب، غير مطعون عليه في لفظ ولا فعل، وكان حاذقا بالقضاء. صنف كتاب أدب القاضي (1) في أربعين جزءا، وكتاب الفرائض في نحو من مائة جزء. نقلت في تاريخ الاسلام: أن مولد ابن الحداد يوم موت المزني، وأنه جالس أبا إسحاق المروزي لما قدم عليهم، وناظره. وكتابه في الفروع مختصر دقق مسائله، شرحه القفال، والقاضي أبو الطيب، وأبو علي السنجي، وهو صاحب وجه في المذهب. قال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت الدارقطني، سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد النسوي المعدل بمصر، يقول: سمعت أبا بكر بن الحداد، يقول: أخذت نفسي بما رواه الربيع عن الشافعي، أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة، سوى ما يقرأ في الصلاة، فأكثر ما قدرت عليه تسعا وخمسين ختمة، وأتيت في غير رمضان بثلاثين ختمة. قال الدارقطني: كان ابن الحداد كثير الحديث، لم يحدث عن غير النسائي، وقال: رضيت به حجة بيني وبين الله. وقال ابن يونس: كان ابن الحداد يحسن النحو والفرائض، ويدخل على السلاطين، وكان حافظا للفقه على مذهب الشافعي وكان كثير الصلاة متعبدا، ولي القضاء بمصر نيابة لابن هروان الرملي. وقال المسبحي: كان فقيها عالما كثير الصلاة والصيام، يصوم يوما، ويفطر يوما، ويختم القرآن في كل يوم وليلة قائما مصليا. قال: ومات وصلي عليه يوم الأربعاء، ودفن بسفح المقطم عند قبر والدته، وحضر جنازته الملك أبو القاسم بن الاخشيذ، وأبو المسك كافور، والأعيان، وكان نسيج وحده في حفظ القرآن واللغة، والتوسع في علم الفقه. وكانت له حلقة من سنين كثيرة يغشاها المسلمون. وكان جدا كله رحمه الله. فما خلف بمصر بعده مثله. قال: وكان عالما أيضا بالحديث والأسماء والرجال والتاريخ. وقال ابن زولاق في قضاة مصر: في سنة أربع وعشرين سلم الإخشيذ قضاء مصر إلى ابن الحداد، وكان أيضا ينظر في المظالم، ويوقع فيها، فنظر في الحكم خلافة عن الحسين بن محمد بن أبي زرعة الدمشقي، وكان يجلس في الجامع، وفي داره، وكان فقيها متعبدا، يحسن علوما كثيرة، منها علم القرآن، وقول الشافعي، وعلم الحديث، والأسماء والكنى والنحو واللغة، واختلاف العلماء، وأيام الناس، وسير الجاهلية، والنسب والشعر، ويحفظ شعرا كثيرا، ويجيد الشعر، ويختم في كل يوم وليلة، ويصوم يوما ويفطر يوما، ويختم يوم الجمعة ختمة أخرى في ركعتين في الجامع قبل صلاة الجمعة، حسن الثياب رفيعها، حسن المركوب، فصيحا غير مطعون عليه في لفظ ولا فصل ثقة في اليد والفرج واللسان، مجموعا على صيانته وطهارته حاذقا بعلم القضاء. أخذ ذلك عن أبي عبيد القاضي. وأخذ علم الحديث عن النسائي، والفقه عن محمد بن عقيل الفريابي،
(1) في " تذكرة الحفاظ " أدب القضاء. 226 وعن بشر بن نصر، وعن منصور بن إسماعيل، وابن بحر، وأخذ العربية عن ابن ولاد، وكان لحبه الحديث لا يدع المذاكرة، وكان يلزمه محمد بن سعد الباوردي الحافظ، فأكثر عنه من مصنفاته، فذاكرة يوما بأحاديث، فاستحسنها ابن الحداد، وقال: اكتبها لي، فكتبها له، فجلس بين يديه، وسمعها منه وقال: هكذا يؤخذ العلم، فاستحسن الناس ذلك منه، وكان تتبع ألفاظه، وتجمع أحكامه. وله كتاب الباهر، في الفقه نحو مائة جزء، وكتاب الجامع. وفي ابن الحداد، يقول أحمد بن محمد الكحال: الشافعي تفقها والأصمعي * تفننا والتابعين تزهدا قال ابن زولاق: حدثنا ابن الحداد بكتاب خصائص علي رضي الله عنه، عن النسائي، فبلغه عن بعضهم شئ في علي، فقال: لقد هممت أن أملي الكتاب في الجامع. قال ابن زولاق: وحدثني علي بن حسن، قال: سمعت ابن الحداد، يقول: كنت في مجلس ابن الإخشيذ، يعني: ملك مصر، فلما قمنا أمسكني وحدي، فقال: أيما أفضل أبو بكر، وعمر، أو علي؟ فقلت: اثنين حذاء واحد، قال: فأيما أفضل أبو بكر، أو علي؟ قلت: إن كان عندك فعلي، وإن كان برا فأبو بكر، فضحك. قال: وهذا يشبه ما بلغني عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنه سأله رجل: أيما أفضل أبو بكر، أو علي؟ فقال: عد إلي بعد ثلاث، فجاءه، فقال: تقدمني إلى مؤخر الجامع، فتقدمه، فنهض إليه، واستعفاه، فأبى، فقال: علي، وتالله لئن أخبرت بهذا أحدا عني لأقولن للأمير أحمد بن طولون، فيضربك بالسياط. وقد ولي القضاء من قبل ابن الإخشيذ ثم بعد ستة أشهر، ورد العهد بالقضاء من قاضي العراق ابن أبي الشوارب لابن أبي زرعة، فركب بالسواد. ولم يزل ابن الحداد يخلفه إلى آخر أيامه. وكان ابن أبي زرعة يتأدب معه، ويعظمه، ولا يخالفه في شئ، ثم عزل عن بغداد ابن أبي الشوارب بأبي نصر يوسف بن عمر، فبعث بالعهد إلى ابن أبي زرعة. قال ابن خلكان: صنف أبو بكر بن الحداد كتاب الفروع في المذهب، وهو صغير الحجم، دقق مسائله، وشرحه جماعة من الأئمة. منهم: القفال المروزي، والقاضي أبو الطيب، وأبو علي السنجي إلى أن قال: أخذ عن أبي إسحاق المروزي. ومولده يوم مات المزني (1). وكان غواصا على المعاني محققا. توفي سنة خمس وأربعين وثلاث مائة. وقيل: سنة أربع. قلت: حج، ومرض في رجوعه، فأدركه الأجل عند البئر والجميزة يوم الثلاثاء لأربع بقين من المحرم سنة أربع، وهو يوم دخول الركب إلى مصر، وعاش تسعا وسبعين سنة وأشهرا، ودفن يوم الأربعاء عند قبر أمه. أرخه المسبحي. انتهى. هذا ما ذكره الذهبي في كتابه. وفي هذه الترجمة أمور تلفت النظر وتبعث على التفكير. 1: يبدو جليا أن صاحب هذه الترجمة كان شيعيا في حقيقته، وهل أصرح في تشيعه من تصريحه بتفضيل علي على من فضله. 2: يبدو كذلك أن ملك مصر أبا القاسم بن الأخشيد كان كذلك شيعيا، وهل من شئ أدل على تشيعه من أنه لما سال المترجم أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فاجابه المترجم أما عندك فعلي، وإن كان برا فأبو بكر. وهذا يستدعي دراسة واسعة عن الدولة الاخشدية بعامة وعن أبي القاسم بخاصة، كذلك دراسة الوسط المصري في ذلك الوقت الذي جعل عالما كبيرا كالمترجم يتبنى الفكر الشيعي بهذه الصورة، ويجهر بهذا الفكر أمام صاحب السلطة الموافق له فيه، ثم يتجنب الجهر به خارج أبواب صاحب السلطة. ثم عنايته هذه العناية بكتاب خصائص علي للنسائي، وارتباطه بشخص النسائي هذا الارتباط الوثيق وتتلمذه عليه. ثم غضبه لما بلغة عن بعضهم شئ في علي ع حتى لقد هم أن يخرج عن تحفظه ويملي الكتاب في الجامع. ثم لا ننسى له هذا الظرف الذي يشاركه فيه ابن الإخشيد، حين قال الأول للثاني إن كان عندك فعلي وإن كان برا فأبو بكر. 3: القول نفسه يقال عن الرجل الآخر الذي ورد اسمه في هذه الترجمة: محمد بن عبد الله بن الحكم. أبو نصر الفارابي محمد بن أحمد بن طرخان. مرت ترجمته في الصفحة 103 من المجلد التاسع. وقد حقق الدكتور جعفر آل ياسين كتابه التنبيه على سبيل السعادة، فكتب عنه ما يلي: 1 التعريف العام بالكتاب وغاياته: إن المصطلح السائر لدلالة التنبيه هو كون الشئ الذي لا يحتاج إلى برهان زائد على ما تقدم عليه من إيضاحات والمتقدم هنا هو كتاب تحصيل السعادة كما أوضحنا في تحقيقنا له. أما في هذا الكتاب فإننا نجد أن الفارابي ت 339 ه. يقرر أن الكمال هو الغاية الأصيلة التي يتشوقها الإنسان في تطلعه نحو حياة أكثر سعادة وسلامة، لأن السعادة الحقيقية هي آثر الخيرات طرا، باعتبار أنها تطلب لذاتها لا لشئ آخر يتوسل به إليها. وهذه السعادة في ضوء تطبيقاتها العملية تتصف أفعالها بحالين: إما حال مذمة، أو حال محمدة، وهي في الحالين لا تتعدى كونها أحد ثلاثة: أ أفعال يحتاج الإنسان فيها إلى استعمال أعضاء بدنه وآلاته، كالقيام والقعود والنظر والسماع. ب أفعال مصدرها عوارض النفس، كاللذة والغضب والشوق والفرح والخوف.
(1) برا: كلمة مولدة بمعني علانية، ومنه: " من أصلح جوانيه، أصلح الله برانيه " أي: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته. 227 ج أفعال تخضع في قيامها لعامل التمييز الذهني عند الإنسان. وجميع هذه الأفعال إذا قيست من وجهة نظر أخلاقية تخضع لما يسميه الفيلسوف الفارابي بجودة التمييز أو رداءته. ولكن من أين لنا قنية هذه الجودة في التمييز؟ ذلك هو الأصل وهو الغاية في مبحث التنبيه على سبيل السعادة التي قصدها الحكيم. فنحن لا ننال السعادة بالأفعال الجميلة ما لم تكن تلك الأفعال قاصدة هادفة من جهة، ومتحققة بصناعة معينة من جهة أخرى، بحيث يعود الكائن الناطق يمتلك قدرة على التمييز في أفعاله المختارة طيلة حياته بأسرها. وذلك لأنه في فطرته يمتلك استعدادا لها يستطيع في حال التطبيق الذاتي والتعلم أن يميز بين الصواب والخطأ، وبين الجميل والقبيح، في تعادل تفرضه أحيانا إمكانية أحدهما على الآخر، أو غلبة أحدهما على الآخر. وعلى الرغم من هذا، فان القوة التي يفطر عليها الإنسان غير مكتسبة، بينما حال التمييز تتصف بالاكتساب. والأخيرة منهما تنقسم إلى صنفين: أحدهما به يكون التمييز، إما جيدا وإما رديئا... والآخر به تكون الأفعال وعوارض النفس إما جميلة وإما قبيحة. والأخير من الصنفين يدعوه الفيلسوف بالخلق ويحده بأنه الذي تصدر به عن الإنسان الأفعال القبيحة والحسنة على أن تخضع الأفعال ويخضع التمييز للثوابت التي تلزم الإنسان بان تكون أفعاله وتمييزه في كل شئ، كي يمكن عندئذ إدامة فعل الجميل وجودته معا، بحيث تصير لنا قوة الذهن ملكة لا يمكن زوالها باعتبار أن الخلق الجميل وقوة الذهن هما الفضيلة الإنسانية. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية التي قصدها الفيلسوف، ينبغي أن نسلك طريقين لنقف منهما على مقاصد أبي نصر بالذات. الأول: محاولة أن تصير الأخلاق الجميلة ملكة لنا، بحيث لا يمكن للصواب أن يزول إلا بعسر ومشقة. الثاني: أن تكون لدينا القدرة على إدراك الصواب إدراكا سليما لا عوج فيه ولا ضلال. فما هي الوسيلة التي تحقق لنا الوصول إلى المهيع الأول من هذين الطريقين؟ إنها، وقبل كل شئ، وسيلة الاعتياد، والمقصود به تكرير فعل الشئ الواحد مرارا كثيرة زمانا طويلا في أوقات متقاربة من حيث أن الفعل الجميل هو ممكن للانسان بالقوة قبل حصوله، وممكن بالفعل بعد حصوله، فهو إذن بالتعود يتحقق، وبالتطبيق يظهر وينمو. ولكن ما هي الآلة التي ينبغي أن نستعين بها كي تقودنا إلى الفعل الجميل حقا؟... يؤكد الفيلسوف هنا إنها آلة الوسط الأخلاقي فالأفعال متى كانت متوسطة حصل الخلق الجميل... وما يقوله الفارابي عن الوسط الأخلاقي هو ذاته الذي تبناه من قبل المعلم الأول أرسطوطاليس في كتابه المعروف الأخلاق إلى نيقوماخوس. فنحن حين نهدف إلى الوقوف على الوسط في الأفعال الخلقية، علينا أولا التعرف على زمان الفعل ومكانه ومن منه الفعل، ومن إليه الفعل، وما منه الفعل، وما به الفعل، وما من أجله وله الفعل، وجعلنا الفعل على مقدا كل واحد من هذه. فحينئذ نكون قد أصبنا الفعل المتوسط. ونظر لاختلاف مستويات الأفعال الخلقية، لذا نجد أن الوسط الأخلاقي يختلف قوة وضعفا، سلبا وإيجابا، حسب أفعاله وغاياتها. ويحاول الفارابي ها هنا سوق نماذج لأفعال الوسط الأخلاقي، محتذيا بها إلى حد كبير حذو أرسطوطاليس في كتابه المشار إليه سابقا... فمثلا: إن الشجاعة خلق جميل يحصل بتوسط في الاقدام على الأشياء المفزعة والاحجام عنها. والزيادة في الاقدام تكسب التهور، والنقصان في الاقدام يكسب الجبن، وهو خلق قبيح... والسخاء يحدث بتوسط في حفظ التقتير، وهو قبيح. والزيادة في الإنفاق والنقصان في الحفظ يكسب التبذير. ومن ثمة يشير إلى أوساط أفعال أخرى كالعفة والظرف والهزل والمجون والتودد وغيرها، منتهيا إلى أن تحديد هذه الأشياء على الاستقصاء ليس يحتمله هذا الكتاب، وقد أستقصي في موضع آخر لعل الفارابي يعني في هذا الاستقصاء كتابه الذي ألفه شرحا على كتاب أرسطوطاليس الأخلاق إلى نيقوماخوس الذي أشار إليه في مؤلفه: الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطوطاليس. والميزان الحق في الحكم على الفعل الخلقي هو أن نحصي الأخلاق خلقا خلقا، ونحصي الأفعال الكائنة عن خلق خلق، ومن بعد ذلك ينبغي أن نتأمل وننظر أي خلق نجد أنفسنا عليه بحيث يكون للانسان السوي آلة يسبر بها غور أفعاله، فما وجده منها يتصف بأنه جميل وملذ وغير مؤذ، اعتبره خلقا سليما، والعكس بالعكس. فكان مراقبة النفس لكل فعل تقوم به واختيار الوسط من تلك الأفعال، هي عملية يتميز بها الإنسان في تطبيقاته الخلقية، بموازنة دقيقة بين إفراط وتفريط، أو نقصان وزيادة، وتجنب الوقوع في أحد طرفي المعادلة، لأن الحدين المستقطبين يتصفان معا بالرذيلة. بينا الفضيلة منهما وسط، لا يميل إلى هذه ولا إلى تلك بل هو صراط مستقيم لا عوج فيه ولا التواء، ينبغي أن لا تزل قدم الإنسان عنه، فيهوي عندئذ في ضلال الغي والفعل السيء الذي يتصف بالقبح والسلب والفدامة!... وعلى الرغم مما يراه الفارابي في قضية الوسط الأخلاقي وضرورة الأخذ به، فهو في الوقت ذاته لا يخفي عنا صعوبة عملية الكشف عنه، لأن الوقوف على الوسط، كما يقول الفيلسوف، عسير جدا! ولكن الحكيم يبقى مؤكدا أن التعود سبيل لا حب في اقتناص هذا الوسط حيثما كان، سلبا أو إيجابا... وتلك شنشنة تمسك بها المعلم الأول، وحذا حذوه جميع الذين ساروا على الطريق ذاته من أنصار الأخلاق المعيارية ذات الحكم الذي لا يخضع للتغير الوضعي في كل زمان وفي كل مكان!... وأيا ما كان، فإننا كلما وجدنا أنفسنا مالت إلى جانب عودناها أفعال الجانب الآخر، ولا نزال نفعل ذلك إلى أن نبلغ الوسط أو نقاربه جدا كما يقول الفارابي. ووسيلة الكشف عن ذلك تتحقق على الشكل التالي: بان ننظر إلى سهولة الفعل الكائن عن النقصان، هل يتأتى أم لا، فان كانا يقصد التاتي أو عدمه على السواء من السهولة، أو كانا متقاربين، علمنا أنا قد وقفنا أنفسنا على الوسط. وامتحان سهولتهما هو أن ننظر إلى الفعلين جميعا، فان كنا لا نتأذى بواحد منهما، أو نلتذ بكل واحد منهما، أو نلتذ
228 بأحدهما ولا نتأذى بالآخر، أو كان الأذى عنه يسيرا جدا، علمنا أنهما في السهولة على السواء ومتقاربين ولما كان الوسط بين طرفين، وكان قد يمكن أن يوجد في الأطراف ما هو شبيه بالوسط، وجب أن نتحرز من الوقوع في الطرف الشبيه بالوسط. وفات الفارابي أن الأحكام العقلية هنا، سواء على الفعل أو وسطه الأخلاقي، قد لا تستوي لدى جميع الأفراد في إشكالاتهم على الوسط مهما تفاوتت درجاته وتباينت أوضاعه. ومن هنا فليس للانسان، من الناحية النظرية على أقل تقدير، إلا أن يحسم القول بان الوسط فعل اختياري، وكل فعل اختياري لا يتم في ظل المدرسة المعيارية في علم الأخلاق إلا بسبيل العقل، بعيدا عن تأثيرات المحسوسات وما تقود إليه من ضلالات! وليس في موقف الفارابي هذا ما يضاد الرأي الذي نراه، ولكننا نعود لنؤكد ثانية أن الإنسان لا يمكن له أن يستحيل إلى عقل خالص فحسب، دون أن تحتويه تكامليته النفسانية في اختيار الفعل الذي يريد وتلك مشكلة قامت في الأخلاق والفلسفة، تنازعتها التكاملية من جهة، والثنائية من جهة أخرى، وبقيت حتى عصرنا الحاضر تمثل موقفا من مواقف الفكر الإنساني بكل صوره ومفارقاته... ونحن أميل إلى التكاملية منا إلى الرأي الآخر!... وعود على بدء، فالناس في رأي الحكيم يختلفون فيما بينهم: فهناك من له جودة الروية وقوة العزيمة، ويمثل هذا الجانب الإنسان الحر. أما من افتقر إليهما أو إلى العزيمة بالذات، فهو الإنسان العبد بطبعه!... ويتميز الأحرار هنا بأنهم: متى أرادوا أن يسهلوا على أنفسهم فعل الجميل وترك القبيح باستعمال اللذة والأذى، فان الأخفى منها والأظهر عندهم بمنزلة واحدة باعتبار أن بعض اللذات أعرف لنا، ونحن أشد إدراكا لها، وبعضها الآخر أخفى ونحن أقل إدراكا لها، سواء في الطبع أو العاقبة. وجودة التمييز تتفرع في هذه المرحلة إلى صنفين: صنف ينبغي أن يعلم وليس شانه أن يفعله إنسان في الوجود، وصنف شانه أن يعلم ويفعل مع تلازم فيه بين العلم والعمل معا وهذا الأخير يحصل لنا بصنائع تكسبه علم ما يعمل والقوة على عمله، ويتصف بان له قصده الإنساني الذي يتمثل بثلاث شعب هي: اللذيذ والنافع والجميل والنافع، إما ينفع في اللذة وإما ينفع في الجميل. فالصنائع إذن صنفان أيضا: صنف مقصوده تحصيل الجميل، وصنف مقصوده تحصيل النافع. ويقرر الفارابي هنا أن الصناعة التي مقصودها تحصيل الجميل فقط هي التي تسمى الفلسفة أو الحكمة على الاطلاق وأن الجميل هذا يتفرع إلى قسمين: أعلم فقط، وهو الفلسفة النظرية وتشمل موضوعات التعاليم والطبيعة وما بعد الطبيعة. ب علم وعمل، وهو الفلسفة العملية والمدنية والسياسية. ويمسك الفيلسوف، في ضوء هذا التقسيم، بالصنف الذي تصدر عنه الأفعال الجميلة والقدرة على أسبابها، بحيث تعود هي قنية لنا، وينعتها الفارابي ب الصناعة الخلقية مؤكدا أن الطريق إليها يمر عبر الفلسفة، والفلسفة تحصل بجودة التمييز، وجودة التمييز تحصل بقوة الذهن على إدراك الصواب. ولا يتحقق الأمر الأخير إلا بوسيلة أخرى تتخذ آلة لهذا الغرض، وتسمى صناعة المنطق. فعلم المنطق، في هذا التنظير، صناعة تتقدم على غيرها من العلوم بالأولوية، لأنها سلاح للتمييز بين ما هو صادق وكاذب. والعقل الإنساني آلتها وسبيلها، وبها ينال كماله المطلوب والمرغوب فيه، باعتبار أنها تفيد الحكم بصواب ما يعقل، والقدرة على اقتناء الصواب فيما يعقل. والمنهج السالك هنا يفرض على دارس الفلسفة أعني الباحث عن سعادته الحقة أن يتسلم مقدمات قبل البدء بصناعة المنطق، لأن بين هذه المقدمات وعلم المنطق علاقة شبه. ويقصد الفيلسوف بهذه المقدمات صناعة النحو من حيث أنه يفيد العلم بصواب ما يلفظ به، والقوة على الصواب منه بحسب عادة أهل لسان ما. لذا يجب أن تتحقق في المنهج الكفاية من التنبيه على أوائل هذه الصناعة، ومن ثمة الولوج إلى دراسة هذا العلم الذي يقوم الذهن، ويقود في النهاية إلى اقتناء الفلسفة الصادقة التي هي الهدف الأصيل للانسان السعيد!... يقول الفارابي: ولما كانت صناعة المنطق هي أول شئ يشرع فيه بطريق صناعي، لزم أن تكون الأوائل التي يشرع فيها أمورا معلومة سبقت معرفتها للانسان، فلا يعرى من معرفتها أحد، وهي أشياء كثيرة. وليس أي شئ اتفق منها يستعمل في أي شئ اتفق من الصنائع، لكن صنف منها يستعمل في صناعة، وصنف آخر في صناعة أخرى فلذلك ينبغي أن نحصل من تلك الأشياء ما يصلح لصناعة المنطق فقط. والذي يصلح لهذه الصناعة، في رأي الفيلسوف، هو الألفاظ المنطقية الدالة. لذا وجب أن نأخذ من صناعة النحو مقدار الكفاية لغرض الإفادة من تلك الصناعة فحسب. وفي مثل هذه المرحلة نكون قد بلغنا السبيل التي ستقودنا إلى السعادة المرغوبة التي من أول مراتبها تحصيل صناعة المنطق وآخر غاياتها بلوع القدرة على تأمل الخير المطلق، وتلك هي نهاية شوط العقول في اقتناصها المعرفة العرفانية التي تريد!. 2 هوية الكتاب: في تحقيق هوية التنبيه على سبيل السعادة نحو من الاطمئنان، حيث أشار إليه ابن أبي أصيبعة ت 668 ه في كتابه الموسوم عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحت عنوان: رسالة في التنبيه على أسباب السعادة... ويذكره صلاح الدين الصفدي ت 764 ه في كتابه الوافي بالوفيات تحت عنوان التنبيه على أسباب السعادة. وأقدم إشارة إليه أوردها عبد اللطيف البغدادي ت 629 ه في إملاء سيرته الموسوم الإفادة والاعتبار حيث نعته ب التنبيه على سبيل السعادة... وأورد القفطي ت 646 ه في كتابه إخبار العلماء باخبار الحكماء اسم كتاب في السعادة الموجودة لعل المقصود منه كتاب التنبيه ويرد بذات الاسم كذلك في فهرست مكتبة الأسكوريال بإسبانيا. ونحن، من حيث عنوان الكتاب، أكثر ميلا إلى اختيار لفظة سبيل بدل أسباب، وقد استوحينا ذلك من طبيعة النص الداخلي من جهة، وما ذكرته بعض نسخه المخطوطة التي أشرنا إليها في كتابنا الموسوم مؤلفات
229 الفارابي، من جهة أخرى. وأنه ليلفت النظر حقا ما وجدنا عليه أكثر مخطوطاته في التزامها بلفظة سبيل بدل أسباب رغم أنها غير متأخرة النسخ والتدوين!... أما وضعنا لفظة كتاب في بدء عنوان التنبيه، فقد اعتمدنا في ذلك على تنظير المؤلف بالذات الذي يقول فيه: بحسب الوسط المحدود في هذا الكتاب لذا أجزنا لأنفسنا هذه الإضافة، بدل لفظة رسالة التي اصطنعها بعض الناسخين. وأعود ثانية إلى ما سبق لنا تقريره عند تحقيقنا لكتاب تحصيل السعادة للفارابي حيث قلنا إن التحصيل يعتبر مفتاحا لما يجب أن يسلكه طالب الفلسفة كفرد أو عضو في مجتمع متكامل، وتكافله وتكامله هذا لا يتم إلا بشكل مرحلي يتدرج فيه من الأعم إلى الأخص، وعندئذ يتلو كتاب تحصيل السعادة كتاب التنبيه على سبيل السعادة، لأن الغرض منه كما بسطنا من قبل هو أن تتقوم النفوس بسلوك جميل نافع ينهض على أساس من الادراك المعرفي عند الإنسان، كي تتحقق لديه قوة إدراك الوسط الأخلاقي... وفي هذا المجال تساير الفلسفة العملية اقتناء الفعل الجميل، وذلك بارتباطها بالتطبيق المدني لهذه الأفعال، أو بالأحرى بالسياسة، خاصة في مفهومها الأخلاقي... وفي حال التقاء المرحلة الأولى مع المرحلة الثانية والتحامهما معا، تتحقق لهذا الإنسان ولهذا المجتمع سعادته التي يتطلع إليها. والذي نريد التأكيد عليه هو أن كتاب تحصيل السعادة يعتبر في رأينا الأول في البناء السياسي والاجتماعي، وكتاب التنبيه على سبيل السعادة الذي بين أيدينا هو الثاني. ولعل في دراستنا وتحقيقنا لبعض رسائل الفارابي الفلسفية التي نعدها للنشر قريبا، ما يوضح للقارئ هذا الموقف الذي اخترنا. وجدير بالذكر هاهنا، أننا نميل، كما ذكرنا في نشرتنا لكتاب تحصيل السعادة، إلى أن مؤلفات الفارابي السياسية والاجتماعية تأتي بعد مجموعته المنطقية المعروفة أعني شروحه المطولة فهي إذن لا تبدأ بظهوره الفلسفي، بل هي متأخرة، في تصورنا، عن بواكيره الأولى، وقد يرتفع بعضها إلى مرحلة شموخه الفلسفي... ورأينا هذا متأت من أننا نتبنى أصلا الفكرة التي ترى أن محاولة الفارابي في الاصلاح السياسي والاجتماعي ظهرت عند ما لمس الفيلسوف انهيار القاعدة الاسلامية ووسائل الحكم فيها، مما جعله يربط بين تأثيراته العامة بالانجاز الأفلاطوني والأرسطوطالي في هذا السياق، وقيم التعاليم الاسلامية التي لم يسبق تطبيقها فعلا، وإنما احتواها الحكام من الناحية النظرية فحسب. وأيا ما كان، فحذار أن نقع بما وقع فيه بعض الباحثين العرب من أمثال د. محسن مهدي حين اعتبر كتاب التنبيه على سبيل السعادة هو الجزء الأول من مجموعة ثلاثية هي: 1 التنبيه على سبيل السعادة. 2 الألفاظ المستعملة في المنطق. 3 كتاب المقولات. وجميع هذه الكتب تكون ما يسمى ب الأوسط الكبير أو المختصر الكبير!... وكان السبب الرئيس في الانزلاق إلى هذا الرأي هو أن الفارابي في الربع الأخير من كتابه التنبيه يتحدث عن الوسيلة التي ينبغي أن يميز فيها الإنسان بين الحق والباطل، والخطأ والصواب كما أوضحنا ذلك في فقرة سابقة، ويعني بها صناعة المنطق وألفاظه التي تسبقها صناعة النحو كدليل يسوقه لتحديد طرائق المنهج التي تسبق الشروع بدراسة الفلسفة وموضوعاتها، لذا عد هذا وسيلة لتلك... بينا نجد الفيلسوف في تنظيره المعرفي يؤكد، وبوضوح تام، أن المنطق الحق هو البرهان لأنه السبيل الحقيقي لهذه الصناعة، الذي يقود إلى التصديق اليقيني من حيث أنه يؤدي إلى قوانين ثابتة يمكن الاستعانة بها في جميع موضوعات الفلسفة. في ضوء هذا الذي ذكرنا، لا نجد ما يبرر صحة الرأي الذي يذهب إلى أن كتاب التنبيه على سبيل السعادة هو الجزء الأول من مجموعة الفارابي المنطقية، لأن الكتاب المذكور كما نرى لا يعد وسيلة لصناعة المنطق، باعتبار أنه ينهض أساسا على محاولة تحقيق السعادة الإنسانية المرغوبة في ظل دراسة الفلسفة كمنظومة قائمة على منهج محدد. وأن كثيرا من فقراته ترتبط أصلا في البحث عن مفاهيم وأصول أخلاقية واجتماعية. فهل يصح بعد الذي قلناه اعتبار التنبيه على سبيل السعادة كأنه المقدمة التي قدمها الفارابي لكتاب الألفاظ المستعملة في المنطق؟... إنه أمر لا يمكن الركون إليه، ولا يحسن الأخذ به منهجيا، على أقل تقدير!... فما المقصود إذن بعبارة الفارابي التي يقول فيها ونجعل ما لنا لهذا الكتاب التي قرأها د. مهدي ونجعله تاليا حسب ما ورد في بعض نسخ التنبيه. وفات د. محسن مهدي أن مخطوطة المكتبة البريطانية المرقمة 7518. ترد فيها النهاية واضحة كما ذكرنا في أعلاه، أي ونجعل ما لنا لهذا الكتاب ويعني بذلك كتاب التنبيه. ومن هنا فان القراءة الخاطئة لمحسن مهدي أوقعته، من حيث يعلم أو لا يعلم، في الحكم المبتسر حول كتاب التنبيه!... إنني لا أتردد في أن أبا نصر الفارابي قصد بعبارته تلك الإشارة إلى أن السعادة لا تتم للانسان إلا بوسائلها العقلانية المتميزة، ولا بد لنا من دراسة ما يؤدي إلى اقتناء هذه الملكة المتميزة فاذن ينبغي أن نفتح كتابا من كتب الأوائل متخذين إياه مدخلا إلى دراسة ألفاظ المنطق وموضوعاته، كما يقول الفيلسوف... وليس في هذا ما يدعو إلى اعتبار التنبيه على سبيل السعادة هو الجزء الأول الذي يسبق كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، كما بسطنا من قبل... إن التنبيه كتاب يرتبط، من حيث التنظيم، بدلالة المفهوم الذي يصحر به الفارابي دائما وهو تحصيل السعادة. أما الإشارة الواردة في كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق والتي تقول: وقد قيل في الكتاب الذي قدم على هذا الكتاب أي قوة يفيدها صناعة المنطق وأي كمال يكسبه الإنسان بها... وبالجملة فإنها تكسب القوة أو الكمال الذي ذكرناه في الكتاب الذي قبل هذا. والتي اعتبرها د. محسن مهدي تأكيدا لما ذهب إليه بخصوص كتاب التنبيه على سبيل السعادة!... أقول إن الفيلسوف هنا يعني كتاب إحصاء العلوم الذي يورد فيه فقرة مفصلة عن المنطق ووسائله وغاياته. ويؤيد رأينا هذا حديث الفارابي عن السوفسطائية
230 الذي يرد في كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، حيث لا مجال للقول بان المقصود هو كتاب التنبيه، لأن الأخير يخلو من ذلك تماما، فالمقصود إذن كتاب إحصاء العلوم. يضاف إلى هذا أن الفارابي حين أشار إلى فكرة تقسيم العلوم وطرائق مناهجها الفلسفية في كتاب التنبيه على سبيل السعادة، جاءت إشارته مرسلة بدون تفصيل، لذا لم نجد لها تطبيقا عمليا إلا في كتابه إحصاء العلوم، فلا مشاحة إذن في القول إن كتاب إحصاء العلوم يأتي في الترتيب الزمني بعد كتاب التنبيه من ناحية التأليف. ونعود إلى ما بدأنا به، لنقرر أن كتاب التنبيه على سبيل السعادة يتميز باستقلاليته عن منظومة كتب المنطق الفارابية، ونقترح في هذا المجال ضمه إلى مجموعة مؤلفات الفيلسوف الأخلاقية والسياسية والاجتماعية. 3 منهج التحقيق: أحسبني على حق حين أؤكد هنا السبيل ذاته الذي سلكناه في تحقيقنا لكتاب تحصيل السعادة حيث انصب اهتمامنا على أمرين في منهجية التحقيق النقدي: أولهما، الحرص الشديد على اختيار القراءات التي في تصورنا تعكس نحوا من القرابة مع النسخة الأم ومحاولة التغيير التي يستدعيها النص عند الضرورة لبعض كلماته التي قد تكون من هنات الناسخين، وما أكثرها خاصة في المخطوطات المتأخرة. متجاوزين طريقتهم في النسخ الخاطئ لبعض كلمات اللغة العربية التي ينبغي الأخذ بما هو متفق عليه منها، لأننا لسنا من دعاة الأخذ بطرائق النسخ القديم، كما فعل مثلا الأب بوييج اليسوعي في تحقيقاته لكتب ابن رشد ت 595 ه حيث نجد في الصفحة الواحدة: حتى، حتى... إلى، إلي... مبدأ، مبدأ... عصا، عصى... وهكذا لأن الغرض من التحقيق في رأينا هو إيجاد وسيلة سليمة تقرب إلى روح النص بدلالته التي ترتفع أحيانا إلى حد المطابقة مع الأصل، دون الاخلال بالأمانة العلمية التي يفرضها الجهاز النقدي. وهذا بحد ذاته مما يجعل المحقق يعمل على اعتبار نسخة المؤلف مثلا خاضعة لهذا الجهاز أيضا، لأن المؤلف هنا من الناحية الشكلية ناسخ فحسب على أقل تقدير!... فإذا دون لفظة حتى مع نقطتين تحت الألف المقصورة، أبحنا لأنفسنا إصلاحها، بشرط أن لا نغير من المضمون شيئا تلك هي الطريقة التي سلكناها، وللباحثين حرية الاختيار فيما يحققون!... وثانيهما، إننا لم نعتمد نصا معينا من المخطوطتين، بل تم تحقيق النص على قاعدة التكامل بينهما، حيث يساعد بعضها بعضا في كشف الشكل الحقيقي الذي أراده الفيلسوف مع بذل البصيرة الاجتهادية، قدر المستطاع، في تنقية النص من الشوائب الأخرى. وقد أجزنا لأنفسنا، في ضوء ما ذكرنا في أعلاه، أن نعيد المختصرات إلى أصولها في الرسم السليم للكلمة، فمثلا مح محال، ح حينئذ، فح فحينئذ، أيض أيضا، مط مطلوب، ظ ظاهرا، كك كذلك، يق يقال، ثلثه ثلاثة، مهية ماهية. وكذلك أصلحنا إملاء بعض الكلمات، فمثلا: مبدأ مبدأ، حياته حياته، الجزؤ الجزء، جزوية جزئية وأصلحنا أمر التنقيط، حيث يلتزم الناسخ خاصة في نسخة م بوضع النقطة أو النقطتين تحت الحرف، سواء كانت فاء أو تاء أو نونا ابتدائية أو وسطية دون مراعاة لقواعد الإملاء، مع الوقوع في أخطاء التأنيث والتذكير، وذلك حسب أمزجة الناسخين!... وكذلك فان النسختين خالية من حركات الضم والفتح والكسر، وغير ملتزمة بقواطع النص، باستثناء النسخة المطبوعة في حيدرآباد. ومن هنا فان علامات الوقف وتقسيم النص إلى فقر هو من عملنا الخاص، وفي ضوء فهمنا للنص المحقق. وقد اعتبرنا نشرة حيدرآباد لكتاب التنبيه على سبيل السعادة رقما ثالثا يضاف إلى المخطوطتين اللتين استعملتا في التحقيق، على الرغم من أن نشرة الهند مفتقرة إلى التحقيق العلمي الدقيق. ومما تجدر الإشارة إليه أن كتاب التنبيه على سبيل السعادة ترجم إلى عدة لغات أجنبية كاللاتينية والألمانية والروسية والفارسية والتركية، ولا يخلو بعضها من التعليق والتحقيق. وفي أدناه وصف للمخطوطتين، مع اجراء مقارنة بينهما، كما أوردناهما في تحقيقنا لكتاب تحصيل السعادة. 4 المخطوطتان: أ نسخة المكتبة البريطانية المتحف البريطاني سابقا: يقع كتاب التنبيه على سبيل السعادة ضمن المجموع المرقم 7518. وتسلسله العاشر بين الرسائل الفارابية، ويبدأ من ورقة 125 ظ 136 و... ويحتوي المخطوط على الرسائل الفلسفية التالية: 1 مقالة في معاني العقل، تبدأ من ورقة 1 ظ 5 ظ. 2 مقالة في أغراض ما بعد الطبيعة، تبدأ من ورقة 6 و 10 ظ. 3 كتاب في مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة، يبدأ من ورقة 10 و 53 و. 4 كتاب فصوص الحكم، يبدأ من ورقة 53 ظ 62 ظ. 5 مقالة في الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو، تبدأ من 63 و 81 و. 6 رسالة فيما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم، تبدأ من ورقة 81 ظ 87 ظ. 7 كتاب تحصيل السعادة، يبدأ من ورقة 88 ظ 110 ظ. 8 في جواب مسائل سئل عنها، تبدأ من ورقة 111 و 122 و. 9 رسالة في إثبات المفارقات، تبدأ من ورقة 122 و 125 و. 10 كتاب التنبيه على سبيل السعادة، يبدأ من ورقة 125 ظ 136 و. 11 كتاب السياسة المدنية، يبدأ من ورقة 136 ظ 171 ظ. ومجموع أوراق المخطوط يبلغ 171 ورقة، وحجمه 21. 12 سم 15. 3، 6 سم، ومسطرته 19 سطرا في الصفحة الواحدة. وفي الرسالة الأخيرة السياسة المدنية وردت إشارة إلى تاريخ تدوينه على الشكل التالي:
231 تم في يوم الاثنين من أواخر شهر الشوال كذا في بلدة أصفهان صينت عن الحدثان، في السنة الخامسة من العشر الأول من المائة الثانية كتب الناسخ لفظة الأولى، ثم أصلحها إلى الثانية من الألف الثاني من الهجرة النبوية على هاجرها ألف ألف تحية وعلى آله خير الورى تحية، على يدي العبد محمد يوسف بن محمد علي، عفي عنهما بالنجاة الرضي. فتاريخ نسخ المخطوط إذن هو 1105 للهجرة. أما كتاب التنبيه على سبيل السعادة في هذه النسخة ففيه استدراكات على الهامش، وتصحيحات قليلة على السطور، ولا يخلو من أخطاء إملائية. ويستعمل الناسخ طريقة الاختصار لبعض الكلمات، كما أشرنا من قبل. ب نسخة مكتبة مشكاة: وهي المجموعة التي أهديت إلى المكتبة المركزية لجامعة طهران. وكتاب التنبيه على سبيل السعادة يقع ضمن المجموع المرقم 240 كتابخانه مشكاة ويبدأ من الورقة 73 ظ 80 ظ. ولأهمية المخطوط يستحسن تقديم وصف كامل له. يضم المجموع 200 ورقة يرد في الورقة الأولى منه 1 ظ برنامج ما في المخطوط من رسائل تحت عنوان: مجموعة الرسائل لأبي نصر الفارابي وكتب هذا العنوان بخط مخالف لخط البرنامج، ويبدو أنه أحدث منه، وتحت العنوان رقم 23 والمقصود به عدد الرسائل وفي أدناه ذكر لهذه الرسائل. 1 أغراض أرسطو في مقالات كتابه الموسوم بالحروف: هو تحقيق غرضه في كتاب ما بعد الطبيعة. 2 أسماء العقل حسب ما ذكره أرسطو. 3 في إثبات المفارقات. 4 الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو. 5 عيون المسائل على رأي أرسطو، وهي 160 مسألة كذا. 6 كتاب الفصوص. 7 جوابات لمسائل متفرقة، وهي 41 مسألة كذا. 8 نكت فيما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم. 9 المبادئ التي بها قوام الأجسام والأغراض أصلحتها يد متأخرة إلى: السياسة المدنية. 10 فضائل الإنسانية أصلحتها يد متأخرة إلى: تحصيل السعادة. 11 التنبيه على أسباب السعادة. 12 إحصاء الأبواب التي في مختصر كتاب المدني. 13 مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة. 14 فصول تشتمل على ما يضطر إلى معرفته من أراد الشروع في صناعة المنطق. 15 المختصر الصغير في المنطق على طريقة المتكلمين. 16 مقالة صدر بها كتابه المنطق. 17 مقالة في الكليات الخمس. 18 كتاب الأوسط الكبير في المنطق ستة أجزاء. ونجد في الورقة التالية ذكر لهذا الأوسط الكبير على الوجه الآتي: مقالة الفارابي صدر بها كتابه في المنطق، مع مقالة في الكليات الخمس. والمقالتان مع ما يليهما هو كتاب الأوسط الكبير في المنطق لأبي نصر. تفصيل ما اشتمل عليه هذا الكتاب: الأول: إيساغوجي، وهو المدخل إحصاء الأشياء التي عنها تأتلف القضايا. والثاني: قاطيغورياس وهو المقولات. الثالث: بارمنياس وهو العبارة. الرابع: أنولوطيقا الأول وهو القياس. الخامس: أنولوطيقا الثانية وهو البرهان. السادس: طوبيقا وهو الجدل. السابع: سوفسطيقا وهو المغالطة. الثامن: ريطوريقا وهو الخطابة. التاسع: بيطوريقى وهو الشعر. وكما أشار مدون البرنامج عند ما ذكر أن كتاب الأوسط الكبير ستة أجزاء، فان المجموع يقف عند السادس وهو الجدل. وعود إلى وصف المخطوط، ففي الصفحة 2 ومن الجهة العليا عبارة حديثة الخط تقول: رسالة جمع بين الرأيين وفي وسط الصفحة ترد أسماء الأشهر الهجرية، وتحت كل شهر ترد عبارة باللغة الفارسية تدل على أرقام معينة!. والخط بالنسبة لهذه المدونات فارسي دقيق متأخر. وفي أسفل الصفحة نجد عبارة بخط نسخ حديث تقول: اشتريت في النسي وأنا الراجي كلمة غير مقروءة عفو ربه الغني... عبد الغفار عبد الوهاب الرضوي عفي عنهما. وهناك تعليقات وتصحيحات على هوامش بعض الرسائل بخط الناسخ، بعضها يتكون من عبارات، وبعضها الآخر كلمات مفردة. ويبدو أن النسخة مقارنة مع أخرى، وتم التصحيح في ضوئها. أما كتاب التنبيه على سبيل السعادة، فيقع في 7 ورقات، وتسلسله الحادي عشر، وحجمه 5، 22. 5، 13 سم ومسطرته 21 سطرا 15. 8 سم وخطه نستعليق حديث كسائر خط المجموع، وتاريخ نسخه الحادي عشر للهجرة ظاهرا. وتتصف نسخة التنبيه على سبيل السعادة هنا بنفس الصفات تقريبا التي مرت من حيث الإملاء والمختصرات والتنقيط وخلوها من التقطيع الجملي. وهناك بعض التصحيحات القليلة على الهامش مدونة بخط الناسخ، ولعلها قورنت مع نسخة أخرى، لأن الناسخ يضع علامة ص في نهاية الكلمة أو الجملة. في ضوء هذه الصورة التي وصفنا فيها المخطوطتين، يمكن القول أن هناك وشائج قربى بينهما ولكن ليس من السهل أبدا الادعاء بان أحدا منهما نقل عن الآخر، فدرجة القربى تظهر أكثر وضوحا في مخطوط دون آخر. محمد بن أحمد البيروني. مرت ترجمته في الصفحة 65 من المجلد التاسع وننشر عنه هنا هذا البحث بصفته عالما من علماء التاريخ الطبيعي، وهو بقلم سامي خلف حمارنة نشره في إحدى المجلات. ولا بد لنا من الإشارة إلى أن جورج سارتون في مقدمته لتاريخ العلوم قد ذكر فيما ذكر عن البيروني أنه كان شيعيا. ولكن كاتب المقال الحمارنة لم
232 يعجبه ذلك، فقال عن سارتون أنه أخطأ بظنه أن البيروني كان شيعيا معاديا للعرب والعروبة فقد كان بعكس ذلك!! ونحن لا ندري من أي شئ نعجب، أمن تصور الحمارنة بأنه مجرد أن ينفي حقيقة واقعية، فهي ستنتفي، أم من فهمه للتشيع هذا الفهم الحمارني وقوله عنه بأنه معاداة للعربية والعروبة!! إننا نقول للحمارنة إن التشيع هو العربي الأصيل الذي نشأ في ظلال العرب وفي رعايتهم واستماتوا في حمايته والدفاع عنه، ولكن عرب التشيع الأصلاء في عروبتهم لا يفهمون العروبة نازية عنصرية اعتدائية تحتقر غيرها من الشعوب وتستعبدها ولا تحترم إسلامها ولا تراعي إيمانها، بل يفهمون العروبة حبا وتسامحا وتقديرا لغيرها من الشعوب التي تستحق التقدير. وإذا كانت الأمثال العربية قد قالت بان لكل مسمى نصيبا من اسمه فلا شك بان رأي الحمارنة في التشيع هو من نصيبه في لقبه... من أكثر العلماء المسلمين أصالة وإنتاجا في زمنه بلغة القرآن في العلوم والمعارف كان أبو الريحان البيروني 362 443 ه 973 1051 م (1) وهو معاصر الشيخ الرئيس ابن سينا بإيران والحسن بن الهيثم في العراق ومصر. ومن بين كتب البيروني في التاريخ الطبيعي اثنان في غاية الأهمية: أولهما الصيدنة في الطب (2) والثاني كتاب الجماهر في معرفة الجواهر ألفهما في السنين الأخيرة في حياته فاحتويا على الكثير من غنى خبرته في العلوم الحياتية والبحتة والتقنية والاجتماعية (3). وفي هذه المقالة يهمنا كتابه هذا في الجواهر وبالذات مقدمته للكتاب الذي يعتبر من أهم تصانيفه وأكثرها أصالة (4) ويتبين من هذه المقدمة أن البيروني قد نسق مقالاته وأتمها زمن السلطان مودود بن مسعود بن محمود الغزنوي 432 441 ه 1040 1048 م وربما في مطلع ملكه حوالي سنة 1044 م وعمر المؤلف آنذاك سبعون عاما ونيف، ويقول فيها: نريد الآن نخوض في تعديد الجواهر والأعلاق النفيسة المذخورة في الخزائن ونفرد لها مقالة تتلوها ثانية في أثمان المثمنات وما يجانسها من الفلزات فكلاهما رضيعا لبان في بطن الأم وفرسا رهان في الزينة والنفع (5) ويكون مجموعها تذكرة لي في خزانة الملك الأجل المعظم شهاب الدولة أبو الفتح مودود بن مسعود بن محمود قرن الله بشبابه اغتباطا وزاد يده بالنصر تطاولا وانبساطا فإنه لما فوض لله تعالى أمره تولى إعزازه ونصره وحين نصب حب الله بين عينيه عفا عن من استغاث باسمه وأمن من استأمن بذكره وأخفى صدقاته بعد صلاته البادية ليفوز بما هو خير له في السر والعلانية. ثم إن النصوص والمقدمة نفسها تفيدنا بان تأليف الكتاب قد تم أيضا في مدينة غزنة حاضرة السلطنة في جمهورية أفغانستان اليوم (6). يستهل المؤلف كتابه الجماهر في معرفة الجواهر في مقدمة مستفيضة تحتوي على فصلين قصيرين وافتتاحية ثم خمس عشرة ترويحة كأنها مراحل توقف للتفكير والتأمل الروحي والاستجمام الفكري والايحاء (7) وفي هذه المقدمة يستودع البيروني خلاصة تفكيره في أمور فلسفية وعلمية واقتصادية ودينية واجتماعية في غاية الأهمية والأصالة والروعة. وما هذه المقالة إلا محاولة متواضعة وجدية لتقييم ما أراده البيروني أو ما كان يجول بخاطره لنقله إلى القارئ من أفكار وآراء وتوجيهات من خلال مقدمة الكتاب والتي تثير في النفس تساؤلات عديدة نبينها ونشرحها باختصار بالطريقة التالية: 1 هل كانت المناقشات والأفكار والمبادئ التي خطتها يد الشيخ العالم أبي الريحان البيروني وهو يدب بخطى وئيدة إلى نهاية مسيرة هذه الحياة الدنيا أفكارا عابرة متفرقة وخواطر ثائرة أو شاردة لا تربط بينها أوصال ولا تنتظم منها رؤية واضحة أو توجيه جاد معين؟.
(1) هو أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي (ت 443 / 1051) من أعظم علماء المسلمين وأكثرهم أصالة، كتب في علوم الفلك والتنجيم والرياضيات والعلوم الطبيعية والجغرافيا والتاريخ والأنساب والفلسفة الاجتماعية وقد ولد في 3 ذي الحجة 362 ه / 4 - 10 - 973 م في (Khiva Kath) مدينة خوارزم أو ضواحيها على الأرجح (كان في دلتا آمو دريا السوفياتية اليوم على الشاطئ الجنوبي لبحر خزر أو قزوين = آرال)، ثم تتلمذ على أبي نصر الحيلاني وكانت له علاقة صداقة ومراسلات مع معاصريه ابن سينا وعيسى المسيحي وخدم السلطان منصور بن نوح الساماني (387 - 389 ه / 997 - 999 م) ثم أبي الحسن قابوس شمس المعالي في جرجان، والسلطان ألي الحسن علي بن مأمون وأخيه الخوارزمشاه أبي العباس مأمون قبل أن ينخرط في خدمته الغزونيين ومعهم زار الهند وكن غزنه (في الأفغانستان اليوم) حيث بقي يؤلف ويكتب حتى وفاته وعمره حوالي 78 سنة مملوءة بالإنتاج القيم والخدمة للعلم وتقدم الإنسانية الفكرية: (2) إن كتاب البيروني، الصيدنة في الطب قد تم تحقيقه ونشره مع تقديم مختصر في كراتشي - الباكستان تحت إشراف مؤسسة همدرد الوطنية ورئيسها الحكيم محمد سعيد، في حزئين سنة 1073 م، وقد ترجم إلى الروسية مع شرح وتعليقات بقلم عبيد الله كريموف، طشقند، 1974 م. هذا آخر كتاب للبيروني وقد توفي قبل أن تتاح له فرصة تبييض المسودة التي أعدها للمقارنة بين صيدنة البيروني ومفردات الطب للغافقي. (3) مقدمتا كتابي البيروني في الصيدنية وفي الجواهر يمكن اعتبارهما من أروع ما كتب بالعربية في العصر الوسيط في موضوعهما فهما حافلتان بالأفكار الجديدة النيرة عن حياة المؤلف الشخصية وآرائه الأصلية في العلوم والاجتماع والاقتصاد حتى أن ادورد سخاو يعتبره أعظم عقلية عرفها التاريخ. (4) كتاب الجماهر في معرفة الجواهر للبيروني تم طبعه وتحقيقه في حيدرآباد، دائرة المعارف العثمانية، 1355 ه / 1936 م بواسطة المستشرق فرتيز كرنكو وقد اعتمد في عمله على ثلاث نسخ: الآستانة بمكتبة طوب كاباي والآن مكتبة أحمد الثالث تحت رقم طب 2047 في 193 ق تم نقلها سنة 626 ه وهي أصح النسخ بخط أحمد بن صديق بن محمد الطبيب ونسخة راشد بالقيصرية ونسخة الاسكوريال رقم 905 عربي (الطبعة جيدة ما خلا أخطأ قليلة). أما كاتب هذه المقالة فقد اعتمد بالإضافة لهذا على نسخة جامعة هارفارد والتي ربما هي نسخة عن مخطوط الآستانة السابق ذكره كما وقد فحص نسخة في مكتبة البودليان بجامعة أكسفورد بانكلترا (ناقصة) ذكرها أيضا Puscy. B. E في فهرست مخطوطات بودليان العربية الشرقية طبع أكسفورد، 1835، ص 126، وتوجد نسخة بالقاهرة، المكتبة التيمورية، رقم 153 طبيعيات. (5) الجوهر في العربية هو كل حجر يستخرج منه شئ ينتفع به وهنا أطلق على الأعلاق النفيسة من الجواهر (المجوهرات)، والجوهري هو صانع وبائع الجواهر. والفلز بكسر الفاء واللام وشد الزاي هو أصلا نوع من النحاس الأبيض تجعل منه القدور المفرغة أو خبث الحديد أو الحجارة أو جواهر الأرض كلها أو ما ينقيه الكير من كل ما يذاب منها وهنا يشتمل على الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص وإن نفعها بالتداول وليس بالحزن في باطن الأرض إذ لم تكن آنذاك متاحف عامة بعد لعرضها على الجماهير. انظر القاموس المحيط لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، الطبعة الثانية، القاهرة، البابي الحلبي، 1371 ه / 1952 م، ج 1: 410 ومجلد 2: 5193. (6) البيروني، في الجواهر، طبعة 1936 م السابق ذكرها ص 31، 49. بلغت مدينة غزنة زمن المؤلف أعلى درجات الأهمية والعظمة والنفوذ وامتدت سلطة ملوكها من أواسط الهند إلى إيران وفي ذلك الباكستان والأفغانستان والبلاد المجاورة لهما ويعتبر الأمير محمود الغزنوي مؤسسها الحقيقي انظر محمد ناظم، حياة السلطان محمود الغزنوي وزمنه، كمبردج إنكلترا، 1931 م. (7) كلمة الترويحة استعملت في شهر رمضان المبارك لاستراحة العابدين بعد كل أربع ركعات فسميت صلاة التراويح لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين (مفردها ترويحة) ثم أطلقت على الجلسة مطلقا للترويح عن النفس. انظر لسان العرب لجمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري ابن منظور، طبعة القاهرة، بولاق، ج 3: 287 - 289. 233 2 أو كانت تعابير روح ثائرة على مجتمع مادي يعتوره الفساد والظلم والتكالب والأنانية وانتقادا ساخرا لأنظمة بالية فيزيح بقلمه الغطاء عن عوراتها ويكشف أستار محتوياتها ومكنوناتها سافرة أمام نور الحقيقة وجمال الفضيلة ومكارم الأخلاق ومجد الخلود (1). 3 أو أنه يقدم فيها نظاما اجتماعيا شاملا وصالحا يتماشى مع روح عصر سداته الايمان والمروءة ولحمته الدين الصحيح الحنيف كاشفا فيه عن أهداف وآراء اقتصادية وأخلاقية بناءة شافية لأسقامه الكثيرة؟. 4 أو هل هي تصدير مبدئي وتقديم مقصود وتمهيد متسلسل ليرينا علاقة هذه الأحجار الكريمة والفلزات النفيسة والأعلاق المفضلة التي هي موضوع الكتاب نفسه بما لها من صلات وتأثيرات وملابسات في مجتمع مشعب الأهداف متباين في مآربه ومشاربه معقد في أطماعه وأحلامه ومعاملاته، كثيرة تياراته الفكرية والمادية؟ أو هل هذه هي الأسئلة الأربعة مجتمعة مترابطة؟ وأن هناك خيطا غير منظور يجمع هذه الدرر المتناثرة في قلادة أو عقد متصل الحلقات جميل الرونق نادر الثمن؟. في مقدمة الجماهر هنا الأول وهلة نجد أمامنا أفكارا جديدة نقادة في الفقه والتشريع والعلوم العامة والتاريخ الطبيعي والأدب والاجتماع والتجارة والعمران متبعثرة حينا وحينا في اتساق وتخطيط مرسوم ربما يراد الوصول به إلى غاية الكتاب نفسه ومادته أو إنها طفرة مقصودة تعبر عن تبرم المؤلف من المجتمع البشري كلية أو تأسفه على أحلام وأمان رفيعة لم تتحقق فانطلقت هنا معبرة عن إرادتها بحرية رفيقة وبساطة جريئة. للإجابة بوضوح ودقة لا بد من تقييم هذه الفصول وتعيين اتجاهاتها واحدا واحدا مع تحليل مقتضب لمحتوياتها ومقاصدها وأسبابها القريبة والبعيدة ولا بد لنا من القول قبل البدء في التعليق والشرح بان هذه المقدمة بجملتها تقدم لنا حقا قطعة أدبية رائعة ودرسا اجتماعيا قيما ونبذة علمية نادرة وشرحا موضوعيا بديعا لأحوال الدين والدنيا للمجتمع الاسلامي في العصر الوسيط وكل ذلك في نظر ثاقب رصين مؤمن بالحياة ويهزأ بالاخفاق والانهزامية والاذعان. الافتتاحية: يهمل البيروني في افتتاحية كتاب الجماهر هذا ذكر اسم الكتاب وعنوانه من ناحية أو مقصده وأهدافه وأغراضه من ناحية أخرى كما نجد في كثير غيره من تأليف هذا العصر الهامة في شتى العلوم (3)، فلعل المؤلف اكتفى بذكر تصدير مقتضب معبر بكلتا الحالتين عن فاتحة قصيرة فيها يحمد رب العالمين الذي لما توحد بالأزل والأبد وتفرد بالدوام والسرمد جعل البقاء في الدنيا علة الفناء والسلامة والصحة داعية الآفات والأدواء، كل هذا في لهجة فلسفية يوضح بان خوف الإنسان من الفناء يدفعه للتمسك أكثر بالحياة الدنيا وتلهفه على طلب السلامة مهما كلف الأمر مع تأييد بعزم وثبات أمر محاربة الأسقام والآلام والطريق لاستعادة العافية ولكن هذا لا يكون إلا بذاك وأما نوال السعادة فهو رهين القبول والرضى بحقيقة هذا التضاد في الحالتين. ويشير البيروني إلى أهمية قبول قضاء الله وقدره الذي قسم الأرزاق ووفق الآجال وصير سببها الإشاحة في الأعمال، مؤكدا ضرورة الجد والاجتهاد لنيل المراد، ثم يتحول المؤلف للإشارة إلى ظاهرة طبيعة هامة من عمل الخالق الذي سخر الشمس والقمر دائبين على رفع الماء إلى السحاب حتى إذا أقلت الثقال ساقتها الرياح إلى ميت التراب وأنزلت إلى الأرض ماء مباركا فأخرجت به خيرا متداركا متاعا للأنام والأنعام إلى أن يعود بحريته إلى البحار والاستقرار موضحا بذلك ما للقمر والشمس من تأثير في تبخر المياه وتكون السحب وتراكمها في الجو ثم نزول الأمطار واستقبالها مما يؤول إلى ارتواء الأرض المتلهفة العطشى وإعطائها الخصب والحياة فتزهر البرية وتبتهج وتسقى الأرض وتكتسي المراعي فيفرح قلب الإنسان بجود النبات والحيوان فيعود النمو والازدهار للبرية بأسرها ثم تعود زيادة الماء مرة أخرى إلى البحار والأنهار من حيث جاءت أولا وهلم دواليك. ويعلم الله ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وفي ذلك إشارة إلى ما في باطن الأرض من خير وكنوز من أحجار كريمة ومعادن تخرج بالكشف والحرث والتعدين والزرع وما تهبه السماء من ريح وشمس ومطر ومن جاذبية وإشعاع ودفء لازدهار المسكونة وظهورها في حالة جديدة قشيبة فنرى أنه حتى في هذه الافتتاحية المقتضبة حقا إشارة واضحة إلى الجواهر والفلزات المخزونة والمدخرة في باطن الأرض رهينة الكشف لنفع الإنسان (4). ويستغرب القارئ أن يرى مصادر هذا الكتاب قليلة جدا ومحصورة لأن المؤلف يذكر اسم كاتبين فقط نقل عنهما إذ يقول: ولم يقع إلي من هذا الفن غير كتاب أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي في الجواهر والأشباه وقد
(1) المقدمة لكتاب البيروني في الجواهر تتضمن مبادئ وخواطر واتجاهات لابد أنها كانت تحوم في فكر هذا العالم القدير والباحث المدقق والاجتماعي الخبير العارف بأحوال الطبيعة البشرية والآن قد حانت له الفرصة للمشاركة بل والمساهمة بها والكشف عنها كأفكار متواترة في كتاب علمي لا ينتظر أن تثير أية ضجة أو معارضة من أعدائه وأولئك الذين يحاربون كل اكتشاف ويناوئون كل فكر جديد محدث انظر مقدمة أ. م. بلنسكي، في علم المعدنيات، موسكو، 1963 م، والجمعية الإيرانية، كتاب تذكاري البيروني (362 - 1362 ه) كلتا الهند، 1951 م، بول كراوس، " البيروني عالم القرون الوسطى الإيراني "، مجلة الإسلام الألمانية، 26 (1940 م) ص 15، وما كتبه أيلهارد فيديمان في أعمال البيروني في العلوم الطبيعية، ارلانجن، ألمانيا، وبنوع خاص أطروحة صديقنا المرحوم الدكتور محمد يحيى الهاشمي في كتاب البيروني في الجواهر، بون، ألمانيا، 1935 م (بالألمانية). (2) عبقرية البيروني تبدو أيضا في سعة اطلاعه وقوة ملاحظته فهو يتكلم في العلوم الطبيعية والاقتصادية والدين والاجتماع والسياسة بهدوء وثقة العارف بموضوع بحثه وبأصالة الباحث فيما يعرفه عن اختبار شخصي بدون تكلف أو مراوغة لذا يطلع علينا بنظريات مقبولة وآراء هامة وتعقيبات تلقي ضوءا كاشفا لنا الكثير عن تلك الحقبة التي عاش بها في تاريخ الأمة الإسلامية لذلك نجد جورج سارتون في مقدمة لتاريخ العلوم، المجلد الأول ص 693 - 737 يطلق على النصف الأول من القرن الحادي عشر، م، عصر البيروني ولكنه أخطأ بظنه أنه شيعي معاد للعربية والعروبة فقد كان بعكس ذلك. (3) كان أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي (809 - 837 ه)، وعلي بن العباس المجوسي (ت 994 ه) وغيرهما بعدهما قد ذكرا حول ثمانية رؤوس ينبغي أن تعلم قبل قراءة كل كتاب كغرضه ومنفعته وسمعته وجهة تعليمه ومرتبته واسم الواضع وصحة وقسمة الكتاب. وقد تبع نصحهم كثير من مؤلفي هذه الحقبة انظر كامل الصناعة الطبية للمجوسي، طبع بولاق ج 1: 9 - 12، والخطط المقريزية، بولاق ج 1: 3، والمسائل في الطب للمتعلمين لحنين بن إسحاق العبادي، تحقيق محمد أبو ريان ومرسي عرب وجلال موسى، دار الجامعة المصرية، 1978. (4) كتاب الجماهر، انظر طبعة 1936 م، ص 2، وأيضا ايلهارد فيديمان، حول حركات الشمس والقمر، مجلة الإسلام، ج 4 (1913) ص 5 - 13، وفاضل الطائي، " مع البيروني في كتابه الجماهر في معرفة الجواهر، مجلة المجمع العلمي العراقي، ج 24 - 25 (1974 م) ص 52 - 58، ومحمد جمال فندي وإمام إبراهيم أحمد، البيروني، دار الكتاب العربي، 1968. 234 اقترع فيها عذرته وأظهر ذروته كاختراع البدائع في كل ما وصلت يده من سائر الفنون فهو إمام المجتهدين وأسوة الباقين (1). ثم مقالة لنصر بن يعقوب الدينوري الكاتب عملها بالفارسية لمن لم يهتد لغيرها وهو تابع للكندي في أكثرها وسأجتهد في أن لا يشذ عني شئ مما في مقالتيهما مع مسموع لي من غيرهما. فالبيروني إذا يشير إلى أنه استفاد كثيرا من كتاب الكندي المذكور أعلاه أولا، وقليلا من مقالة الدينوري بالإضافة إلى ما كان قد سمعه وخبره البيروني نفسه من متعاطي مهنة العمل والاحتراف والتجارة في الجواهر وأشباهها مع أنه يشك في ثقتهم وينتقد ساخرا من نزاهتهم وصدق نيتهم فيما يعملون ويقولون، وإن كانت طبقة الجوهريين في أخبارهم المتداولة بينهم غير بعيدة عن طبقة القناص والبازياريين صيادي الجوارح وأنواع الطير في أكاذيبهم وكبائرهم التي لو انفطرت السماوات والأرض لشئ غير أمر الله لكانته. ولنا ببطليموس أسوة في تألمه من تخريصات التجار الذين لم يكن يجد بدا من الاستماع منهم لتصحيح أطوال البلاد وعروضها من أخبارهم بالمسافات والعلامات. لذلك لا بد أن البيروني قد اعتمد في الكثير من المعلومات التي قدمها في كتابه حول الجواهر على مشاهداته الشخصية وتجاربه واختباراته وتقييم الأمور التي سمعها ونقلها حسب ما رآه فتكون أكثر قبولا وواقعية ونقدر أن نتحقق صدق هذا من الأفكار الأصلية الهامة النيرة والصبر والنظريات التي احتماها كتابه هذا (2). فصل 1: يقدم لنا هنا البيروني بحثا ذا أهمية قصوى في تاريخ طريقة نمو النبات والحيوان وتطور هذه الطريقة وما تتميز به كل من هاتين المملكتين الطبيعيتين وكيف بذلك أزاح لنا الله الغطاء لمعرفة علل جميع المخلوقات بكنه حاجاتها وبقدر، لا إسراف فيه ولا تقتير، وجعل النمو الذي هو زيادة في جميع أقطار القابلي له طارئة عليه ومستحيلة إليه سببا هو الاغتذاء وصير النبات مكتفيا بالقليل من الغذاء ماسكا له، لا ينهضم بسرعة، فاقتنع وثبت مكانه يأتيه رزقه من كل مكان فيجذبه بعروق دقاق في دقة الماء ساريا إلى جرثومته. فالغذاء يأتي إلى النبات وهو في مكانه ثابت فتجتذبه الجذور الممتدة في عمق الأرض وتهضمه ثم كيفية تغذي النبات بمرور النسغ ببطء من الجذور صاعدا إلى فوق من خلال الجذع والأغصان فإلى أجزائه العالية مقدما نظرية طريفة هامة إذ فيها يبين بوضوح فيقول: وترفع سخونه الجو بالشمس من أغصانه رطوباته الأمر الذي من أجله يحدث فراع والذي لا بد من ملئه فينجذب ما حصل من الجذور في الأسافل إلى أعالي أفنانه وينمو به. وغاية هذا التطور والنمو ليبلغ ذروته لاستمرار الجنس ثم يجري إلى ما خلق له بالايراق والإزهار والاثمار (3). وبعد ذلك يشير البيروني إلى الفارق الواقع بين طريقة نمو النباتات وبين كيفية تغذي الحيوان وسرعة الانهضام وأهميته، وضرورة تنقل الحيوان بآلات الحركة لطلبه واحتياجه إلى القضم والخضم وللتقوت من هنا وهناك. من أجل ذلك أعطي الحيوان بالطبيعة موهبة الحواس الخمسة ليميز بها بين ما يضر وما ينفع وبين الممكن وغير الممكن معبرا عنها في النقاط التالية: 1 من بصر يدرك به المرغوب فيه من بعيد فيسرع إلى اقتنائه والمرهوب حتى يهرب منه ويستعد لاجتنابه وإتقائه. 2 ومن سمع يدرك به الأصوات من حيث لا يدركها البصر فيتأهب لها. 3 ومن شم يدل عليها من خواص فيها فيقتفيها أو يتقيها. 4 ومن ذوق يظهر له به الموافق من الغذاء وغير الموافق منه فينجو بذلك مما هو سام ويبتعد عما هو تافه أو غير مستحب. 5 وأخيرا من لمس يميز به بين الحار والبارد والرطب واليابس والصلب واللدن والخشن واللين فينتظم بها في الدنيا معاشه ويدوم انتعاشه، وهي ميزة للحيوان فوق النبات، أحسن المؤلف توضيحها وتبيانها بدقة وحذاقة وصدق (5). ترويحة 1: يتابع البيروني في الترويحة الأولى حديثه عن الحواس التي تنفعل بمحسوساتها أعضاء البدن الحيواني وأفعاله وقواه فيعطينا أفكارا أخرى هامة وأصيلة بالاستمرار في تعريف الحواس وكيفية أدائها أفعالها بالنسبة لعلمي التشريح ووظائف الأعضاء فيضيف قائلا: فالبصر محسوسه النور الحامل في الهواء ألوان الأجسام خاصة وإن حمل أيضا غيرها من الأشكال والهيئات حتى يعرف بها كمية المعدودات والمرئيات
(1) لقد استفاد البيروني مما كتبه فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي (ت حوالي سنة 871 م في العاصمة العباسية) حول خواص الجواهر ونعوت الأحجار ووصفها ولكنني شخصيا لم أجد أية نسخ مخطوطة بعد للتأكيد وللتعريف بالكندي وأعماله في هذا المعارف، 1962 م، وفؤاد سيد، فهرس المخطوطات المصورة، القاهرة، معهد المخطوطات العربية، 1963 م، ص 2 - 3، والأب ج. مكارثي، التصانيف المنسوبة إلى فيلسوف العرب، بغداد، 1963، ويذكر ابن النديم في الفهرست (طبعة القاهرة، 1929 م) ص 371 - 79 رسالتين للكندي في أنواع الجواهر الثمنية وفي أنواع الحجارة المعدنية (الفلزات). (2) البيروني، في الجواهر، طبعة 1936 م ص 31 - 32، 409 ونسخة هارفارد ص 44 - 46، وإننا نجد في الواقع اقتباسات وإشارات إلى كتب ومؤلفين أخر الترنجي والمسالك للجيهاني والمالك والمسالك للمسعودي ومنافع الأحجار لعطارد بن محمد والموازنة لأبي القاسم الآمدي والنبات لأبي حنيفة الدينوري وأسفار مختلفة من التوراة تبحث في هذا المجال. (3) البيروني قدم آراء أصلية في العلوم الطبيعية ونظرات صائبة في مظاهر وطبائع الممالك الطبيعية الثلاثة كما نجد هنا في نظريته في تغذي النبات وصعود النسغ من جذوره إلى بقية أجزائه العالية. يان ولكزنسكي في استنتاجاته حول نظريات البيروني في انتخاب الأنواع وفكرة التطور: يعتبر البيروني بأنها أفكار عابرة غير مقصودة، مع أن هذا المفكر المسلم العبقري حاول أن يضع أعظم آرائه أصالة وجدية بهذا الأسلوب، كما نجد في مقدمته لكتاب الجواهر وذلك حتى لا يثير ضجة حوله ممن لا يقيمون وزنا للتفكير الحر والذين يحاربون التجديد والأصالة في البحث العلمي والملاحظات الشخصية المتحررة. وهنا مثلا نجد تعليقا هاما بالنسبة لتاريخ علم النبات يثبت مقدرة البيروني في العلوم الطبيعية. انظر في تحقيق معالم الهند، حيدرآباد، العثمانية، المجلدان 1957 - 1958 م وتحقيق ادورد ساخو، لندن، 1885 م (وطبع 1910 م)، ج 1: ص 400 بالإنكليزية (ص 200 النص العربي). (4) يعطينا البيروني تحليلا علميا لأحوال الحواس الخمس ووظائفها ونفعها للجسم، ككل وقد تكلم في ذلك علماء الإغريق مثل ثيوفراستس وكتب عنه الكثيرون في العصر العربي الإسلامي كالمجوسي الآنف الذكر وغيره، انظر عبد اللطيف موفق الدين البغدادي، مقالتان في الحواس ومسائل طبيعية دراسة وتحقيق بقلم بول غليونجي وسعيد عبده، الكويت، وزارة الإعلام، 1972 م في 205 ص. 235 إلى الشبكية فالعصب البصري فإلى الدماغ للحصول على الرؤية الكاملة. وأما السمع فمحسوسه الأصوات، والهواء حاملها إليه، والشم محسوسه الروائح، والهواء يوصل حواملها إلى الخياشيم إذا انفصلت من المشموم كانفصال البخار من الماء باختلاط أجزائه المتبددة في الهواء. والذوق محسوسه الطعوم والرطوبة تحملها وتوصلها إلى الذائق وتولجها في خلله. فان آلاته من اللسان والحنك واللهوات متى كانت يابسة لم تحس بشئ من الطعوم وهذه الحواس الأربع متفرقة في البدن مختصة بأماكن لها لا تعدوها (1). ونستطيع في عصرنا الحاضر أن نشير لتلك الأماكن المعينة التي هي المراكز الأساسية لهذه الحواس في الدماغ وخلافه. والبيروني من ثم يتطرق إلى الحاسة الخامسة والأخيرة والتي تتميز عن الأربع السابقة فيقول: وأما خامسها ألا وهي حاسة اللمس فإنها بعكس الأربع الأخرى عمت جميع البدن في أعضائه وفي آلات سائر حواسه ولم تنفرد بها دونها. وأول ما نلاقي من ذلك محسوساته بواسطة الكيفيات التي هي في ظاهر البدن ولهذا كان الجلد بحس اللمس أولى وإليه أسبق ثم ما وراءه أولا فأولا وطبقة طبقة بحسب اللين واللطف إلى أن يبلغ الأغلظ الأكثف من دعائم البدن فيزول به حس اللمس عند العظام. فواضح برأي المؤلف إذا أن حاسة اللمس أقوى ما تكون في سطح الجلد ثم بعد ذلك تضعف تدريجيا اتجاها إلى العمق حتى وصول العظام حيث حاسة اللمس تكاد تكون معدومة (2). ترويحة 2: ينتقل البيروني هنا للحديث حول تفوق العنصر البشري على سائر المخلوقات لأن الله منحه شيئا آخر بالإضافة إلى الحواس الحيوانية الخمس وهي بما شرف به من قوة العقل الذي تسلط به على المخلوقات وقدر على سياسة الأرض وتعميرها وتفهم أسرار الكون وتدبيره أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون سورة يس 70 72. ولولا هذا الاحسان الإلهي لما استطاع الإنسان مقاومة الحيوانات وهو بالنسبة لها في القوة الجسمانية أضعف من الكثير منها ولا يملك ما تملكه من آلات الدفاع والنزاع. والبيروني هنا أيضا يقتبس ما جاء في سورة الزخرف: 12 سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. فنعمة العقل والتمييز للتسلط على سائر المخلوقات ما هي إلا إكرام سماوي والتي يأمل المرء من خلالها خير الجزاء بعد المنية. ويضيف المؤلف قوله: إذ الرغائب بالمتاعب ونيل البر بالانفاق من الحبائب إذ لا بد من احتمال قرص النحل حتى يجتنى العسل وليكن العطاء مما يختزنه الإنسان لعمل الخير والاحسان للآخرين أجرا واحتسابا. ويضيف المؤلف وهنا أيضا حول أهمية ذكر حاستي السمع والبصر حيث جعلتا لهما مراقي من المحسوسات إلى المعقولات. أما البصر فللاعتبار بما يشاهد آثار الحكمة في المخلوقات والاستدلال على عظمة الصانع من المصنوعات ويستشهد بسورة فصلت: 52 سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق (3). هذا ما يختص في أمر البصر وأما السمع فليسمع به كلام الله بأوامره ونواهيه ويعتصم فيها بحبله فيصل إلى جواره ويستشهد بقول أعشى بني أبي ربيعة إذ يقول: كان فؤادي بين جنبي عالم * بما أبصرت عيني وما سمعت أذني فالبيروني إذا يؤكد بان هناك مصدرا أكيدا للحصول على العلم ألا وهو هاتان الحاستان، البصر والسمع ويضيف إليهما الفؤاد وليس الدماغ مشيرا إلى آية من سورة الإسراء: 104 إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا. موضحا بأنه من فضلة القلب يتكلم اللسان مقتبسا قول أبي تمام: ومما قالت الحكماء طرا * لسان المرء من خدم الفؤاد لأن السمع والبصر حسب رأي البيروني وبأسلوبه البليغ الرفيع يعتبرهما آلتا الرقيب بهما يكتشف المرء نفسه وبيئته ويرى ما هو خفي عنه غير ظاهر له ولا يعرف أبدا حق قدرهما إلا عند فقدهما لكل ما يخصهما في الحياة من متعة وسلوى وجمال وأنس. أما الحواس الأخرى فإنها برأي المؤلف أليق بالبدن منها بالنفس من مذاق وتحسس واستنشاق ما حولها. وهي أقرب إلى الحيوانية الجسدية منها إلى الإنسانية الفضلى بالرغم من أنها مبدئيا تتطور وترقى وتتهذب من منطلق أوضاع الإنسان الفكرية وأحلامه وتفاعله واستنباطاته حتى تبلغ بهذه المشاعر والأحاسيس إلى أقصى غايتها البشرية النافعة (4). ترويحة 3: هنا يتكلم البيروني عن الاستئناس كنتيجة إلى التجانس مقتبسا المثل القائل إن الشكل إلى الشكل ينزع والطير مع ألافها تقع أو كالقول الشائع في يومنا هذا إن الطيور على أشكالها تقع. والمؤلف مثلا يشبه كيف أن الأخرس ينجذب ويستأنس بالأخرس نظيره يخاطبه بالإشارات التي يفهمها كل منهما أو بالايماء بالأعضاء مقتبسا سورة الروم: 20 ومن
(1) يوضح البيروني كمعاصره ابن الهيثم أن البصر يحدث بضوء ترسله الأجسام في الهواء إلى العين فترى الأشكال والهيئات وكيف أن الهواء أيضا يحمل الأصوات إلى الآذان وأن الهواء يحمل كذلك حوامل الروائح ويوصلها إلى الأنف حيث تنفصل مثل انفصال البخار عن الماء الغالي. وما أصدق قوله إن الرطوبة من لعاب الفهم هي التي توصل طعم ما نأكل أو نشرب لحاسة الذوق من مسام في فجوات الفم واللسان واللهاة وإنه بدون هذه الرطوبة لا تحس الطعوم. وجدير بالذكر أن المؤلف يشير إلى مراكز لهذه الحواس وإن تفرقت مواضعها في البدن ويستنتج أنه كان يشير إلى مراكز في الدماغ لبعض الحواس كالبصر والسمع. انظر عبد اللطيف البغدادي، مقالتان في الحواس، تحقيق غليونجي، 1972، ص 77 - 88. (2) في الجواهر طبعة 1936 م ص 4، يؤكد البيروني بأن العظم (وليس الطعام كما في النص خطأ) لا حس لها في حين يوجد حس في الأسنان بسبب وجود عروق دموية فيها وأن الجلد أكثر الأعضاء حسا وتعرضا للإحساس. أبو بكر الرازي، الحاوي، مطبعة العثمانية، حيدر آباد - الهند، (1955 م) ص 3 - 4. (3) يقتبس المؤلف أيات من القرآن الكريم حول إدراك عظمة الخالق من مصنوعاته، وهذا يتفق مع سفر المزامير في الآية 19: 1 " السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه " وكذا رسالة رومية 1: 2 " لأن أمور الله غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته " انظر كمال اليازجي معالم الفكر العربي في العصر الوسيط، طبعة رابعة منقحة، بيروت، 1966 ص، 322 - 330. (4) تدل هذه المناقشات على إنسانية البيروني وسمو نفسه، فحواس الشم والذوق واللمس برأيه تخدم نمو الجسد ولذاته ورغائبه لذا بالإمكان السمو بها إلى درجات عالية ومثالية بواسطة ضبط النفس وقمع رغبات الجسد وبالتفكير بالأمور الجليلة الطاهرة والعيشة النقية، وكان أبو بكر الرازي في كتابه الطب الروحاني ينزع هذه النزعة ذاتها، حقق الكتاب وله ترجمة بالإنكليزية أيضا عام 1950 م. 236 آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ومن هنا يستدل على إمكانية ودواعي التقارب بين الناس للتعارف والتآخي من جهة واحدة والسعي في طلب الأمان من الشر والخطر والتفرق والدمار من جهة أخرى حتى يتضاعف الأنس ويزول النفار بين الشعوب ويعتبر المؤلف أن فضيلة الاستئناس هذا إن هي إلا أسباب تدفع بالناس إلى التعاون والتقارب الواحد من الآخر والاجتماع لتأسيس القرى ونشوء المدن والدساكر وتطورها (1). ترويحة 4: ومع كون الإنسان اجتماعيا بطبعه إلا أن المؤلف هنا يعالج أمور الناس بالنسبة لبنية أبدانهم وجبلتهم الجسمانية وما تتركب منه من أمشاج وأخلاط متضادة وشهوات متعارضة وأمزجة مختلفة فتتباين نتيجة لذلك أخلاقهم وطبائعهم وأهوائهم حتى أن يقهر أحدهم الآخر ويظلمه ويغمط حقه فينتج عن ذلك أن الشخص المظلوم يصبح دائم النزوح لإزالة القهر عنه فينشأ عنده حب الافتراق والابتعاد طالبا للهجرة إلى أوطان أخرى وحتى مع هذا نجده في غربته عرضة للأخطار الخارجية ومداهمة البلايا والمحن أضف إلى ذلك ضعفه وعجزه مما يجعل المرء دوما في حالة القلق وفي حاجة للعون والاسعاف والأمان ومن هنا جاءت رغبته الملحة والأكيدة ينشد حياة الوئام والتمدن والسعي للتجمع في القرى والمدن العامرة ليقرب من أخيه الإنسان ويستقر. وفي تجمع الناس ضمن المدن نجد أنهم لو تساووا بالاختبار والهمم، حسب رأي المؤلف، لضاعت عليهم منافع كثيرة وأدى تساويهم في نهاية الأمر إلى هلاكهم جميعا. فلا بد إذا من اختلاف المقاصد والإرادات والمواهب والكفاءات وبذلك تتعدد أنواع الحرف والصناعات وتزداد المآرب وتتعقد الخدمات ويصير الإنسان في حاجة لأخيه الإنسان على المستويات والكفاءات أو أن ذلك يؤول به لطلب واستخدام لمقايضة أو مقابل سلعة أو أجرة يتفق عليها ويتقاضاها الواحد من الآخر إما لحاجته الضرورية أو لاستغنائه عنه كان تقدم سكة معينة أو أثمان عامة وعملة تقدر بدل خدمات معينة، فاختاروا لها ما راق منظره ورواؤه وعز وجوده وطال بقاؤه، من أنواع العملات والمسكوكات والمعادن وحتى الجواهر الثمينة التي كثر انتشارها وأزداد وتأيد تداولها بين الناس في المبايعات ولأن استخدامها يصبح سببا لبقائها وندرتها وعظم قيمتها. ومن أجل ذلك نرى أن المؤلف يبحث في فلسفة قيام العملات والسكة بأنواعها وتاريخها وما آل إليه الأمر من انقياد الناس لتعظيمها وتقييمها بالتوحيد والتصغير بالتجزئة والتبديد والتختم بالتنقيش والتصوير مترددا بين صنوف الهيئات والصور مع ثبات هيولاه ومادته من نفيس الجواهر والعملات وما إليها (2). إن هذه الجواهر المتداولة بين الناس والمخزونة في باطن الأرض وما هو مستور منها عن الأعين إن هي إلا ودائع صالحة أعدها الله تعالى مزودة بالآلات التي بها أزاح علل الخلق ومجريات الكون وتقييم آثارها وقد هدى الإنسان بالعقل المنبه إلى الآيات الكريمة بواسطة الرسل والأنبياء المرشدين إلى صلاح العقبى وقد وكل الأمر في الورى للملوك خلفائهم ليعملوا على نشر العدل وإعلاء الحق لما هو في صالح الناس جميعا ورأفة بهم وإحسانا إليهم ومنفعة لهم قد سبق مخبأ لهم قبل خلقه إياهم جميعا الموزونات في أرحام الأرضين تحت الرواسي الشامخات للانتفاع بها في الاجتلاب والدفاع الصيانة والاعتدال كما جاء في سورة الحجر: 18 والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون (3) ويعتقد البيروني أن الترتيب الإلهي قدر بان تكون مصالح الناس ومعاملاتهم التجارية الاقتصادية والخدمات التي يقوم بها أحدهم تجاه الآخر يجب أن تكون على حساب التقييد والمعاملة بالفضة والذهب وتقدير قيمها نقديا ومعنويا وعلى مقتضاه إذ هو أيضا هدى الإنسان لاستخراجها من معادنها التي اختزنت في أعماق الأرض ألوف السنين وقد منح هؤلاء الملوك الخلفاء السلطة والرياسة ووكل لهم السياسة والأمر والنهي لاستخراج هذه المعادن الثمينة وليصنعوا منها العملة والنقود ويحفظوها من تمويه الخونة الخادعين وتزييفهم أولئك الذين يروجون أشباه الفضة والذهب المغايرة لهما في الجودة والنقاء والدقة ويهذبونهما عن الأدناس والغش وذلك بالسبك الأصيل والطبع في السكة المضمونة لاحقاق الحق وإزهاق الباطل وتامين مصالح العباد وللحيلولة دون ترويج ما هو مغشوش مزيف من معدنهما، وهذا وأمثاله هو المحوج لولي الرياسة إلى مراعاة شروط السياسة ليستحقوا اسم الخلافة في الخلق وسمة الظل في الأرض عند التقبل بافعاله سبحانه في التعديل بين الرفيع والوضيع والتسوية بين الشريف والضعيف من خلائقه ووفق الله للخير كل مستوثق به (4). ترويحة 5: يتابع البيروني في حديثه هنا حول أهمية الذهب والفضة في اقتصاد الشعوب واتجاهاتها السياسية وحياتها الاجتماعية وما يتبع ذلك من أمر
(1) يرى البيروني ميل الإنسان لإنشاء مجتمع كأمر طبيعي تمليه الغريزة والحاجة للأمن وتوفير أسباب العيش المختلف، ومن قبل تكلم ابن خلدون في مقدمته عن العمران والنظم الاجتماعية والاقتصاد. (2) لقد عالج البيروني تاريخ استعمال النقود والمسكوكات وصناعة الأختام وأسباب انتشارها وأوزانها وأشكالها وندرة الأحجار الكريمة والمقايضة بها وأثمانها معادن الذهب والسكة في الإسلام والمعاملات التجارية. ثم إن الدكتور محمد يحيى الهاشمي في " نظريات الاقتصاد عند البيروني " في مجلة المجمع العلمي العربي، دمشق، مطبعة ابن زيدون، 1937 م، ج 15، ص 456 - 465، وفي مجلد العالم أبو ريحان البيروني، أسبوع العلم الرابع عشر، دمشق، مطبعة الجامعة، 1974 م، ص 181 - 189، يعتبر البيروني رائدا في علم الاقتصاد وإن " الأزمات مهما تراءت لنا بمظهر مادي هي في الحقيقة أزمة روحية " انظر السكة في الإسلام لعبد الرحمن محمد، القاهرة، مطبعة المكتبة المصرية، 1957 م، وأيضا صبح الأعشى، لأبي العباس أحمد القلقشندي، القاهرة، 3 - 436 - 41، 461 - 63 وقد اكتشف هذه النظرية الاقتصادية في مقدمة البيروني في شرحها. (3) اعتبر البيروني التطور ونظرية النمو ضمن إطار إيمانه بالله كخالق العالمين ورأى أن كل ما خلقه الله كان حسنا وكاملا ومع تمجيده لقوة العقل والمنطق إلا أنه كمؤمن رأى أن أهمية العقل أولا هي في فهم كلمة الحق والإصغاء لقول الأنبياء والمرسلين، وبقي أمينا في اعتقاده بشرعية الحكم للخلفاء العباسين مدافعا عن كيانهم ضد المقاومين والفاتنين عليهم معترفا بولائه لهم حتى الرمق الأخير من حياته، فهم الأصل ولهم الاختيار والشرع ليجروا عدلا كأمراء المؤمنين وقد منحهم الله حتى الكنوز في باطن الأرض وتحت الجبال الثوابت ومن كل بمقدار وبكل حكمة وفطنة. انظر جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي، القاهرة، ج 1: ص 140 - 146. (4) كما كانت الأدوية والعطور والأطايب تغش بما هو دون من مفردات الطب كذلك كانت الجواهر تغش بالنحاس وغيره. انظر أحمد القلقشندي، صبح الأعشى، ج 2: 97 - 118: وحول المعاملات بالسكة انظر مقالة صالح الحمارنة " العملة العربية الإسلامية في بلاد شمال وشرقي أوربا ودلالتها في العلاقات التجارية "، دراسات (عمان، الجامعة الأردنية)، ج 2 (أيار 1975 م) ص 39 - 57. 237 الجشع البشري وتكالب الناس على المادية لتعلقهم بهدبها فيقول، لما سهل الله على الناس تكاليف الحياة وتصاريف المعاش بالصفراء والبيضاء يعني الذهب والفضة انطوت الأفئدة على حبهما ومالت القلوب إليهما كميلهما في الأيدي من يد واحدة إلى أخرى واشتداد الحرص والشح على ادخارهما والطمع والاستكثار منهما وجل محلهما من الشرف والأبهة وضعا لا طبعا واصطلاحا فيما بين الناس لا شرعا بل اتفاقا لأنهما ما هما إلا حجران لا يشبعان بذاتهما من جوع ولا يرويان من صدى ولا يدفعان بأسا ولا يقيان من أذى، وما أصدق هذا منذ زمن المؤلف وحتى وقتنا الحاضر أو أكثر. ويتابع البيروني المنطق ذاته فيقول: وكل ما لم ينتفع به من غذاء يقيم الشخص ويبقي النوع، ومن ملبوس يدفع باس البائس ويقي أذى الحر والبرد ومن كن مسكن يعين على ذلك ويقبض يد الشر فليس بمحمود طبعا. فالبيروني يؤكد الناحية العملية في المجتمع البشري فيرى أن الذهب والفضة بحد ذاتهما ليس فيهما غنى في قضاء حاجة من ماكل أو ملبس أو مأوى وإنما هما ممدوحان بالعرض وضعا إذ بهما يمكن الحصول على سد حاجات الناس وتامين أعوازهم لذلك هم سموا المال خيرا وكذا من يجود بالدراهم فإنه جائد بجميع الخير لأنه وإن لم يكن ذلك في طبعه فإنما يكون في ضمنه لاحتوائه على المناهج والقدرة في نيل المآرب والوصول إلى ميناء السلامة وغبطة العيش (1). ولاعطاء مثل من الأمثال حول هذا الموضوع ما يرويه المؤلف في قالب قصصي كالآتي: إن قوما أرست بهم السفينة في جزيرة منعزلة عن الطرق التجارية البحرية الهامة، فخطر على بال أحدهم إذ أراد شراء حاجة عرضت له فلنقل إنها من ماكل أو ملبس وبمقابل ذلك فإنه دفع دينارا على سبيل المثال كثمن جيد لرجل من أهل تلك الجزيرة وما كان من أمر هذا الرجل من سكان تلك الجزيرة أن أخذ هذا الدينار يقلبه ويشمه ويذوقه فلما لم يؤثر منه شيئا في هذه الحواس أثر نفع أو لذة رده إليه إذ لم يستجز دفع ما ينتفع به بما لا نفع فيه في عرفه وعادته. هكذا فان العبرة في هذه المثال أو تلك القصة أن المقايضة الصحيحة هي التي ينتفع منها لكلا الطرفين وأن المعاملة الطبيعة المباشرة بين النظراء هي التي تتم من حيث المبدأ في إبرام الصفقات التجارية المتبادلة والتي تصبح حقيقة وأسسا ومنبعا لنظام المعيشة ولمداولاته بين الناس في الحضارات الإنسانية وبين الشعوب الراقية المتحضرة والتي يمكن الاستفادة منها في النظم والخدمات الإدارية العصرية (2) أما المعاملة الوضعية المحلية فقد جاءت على الأعم حسبما ورد ذكره من الشعوب المتمدنة الماضية والأمم المعاصرة، في أمر ما تسمى بالفلزات وهي كلمة تطلق على جواهر الأرض كلها من معدن وحجارة كريمة وتعريفها وأهميتها واصطلاحاتها واستعمالاتها. وبسبب انتشارها وشيوعها فقد كانت وما زالت تزدان وتزدهي في أعين البشر حتى شغفت بها الأفئدة وصارت متعارفة بين غني أو فقير متداولة بين ذوي الجاه والمتواضعي السمعة ليس من أجل قيمة حقيقية بها ذاتها وإنما بما هو متعارف به مصطلح عليه حتى صارت مرغوبا فيها لدى الجميع ويحلو لهم امتلاكها. وقد أبان القرآن الكريم كيف أنه قد زين للناس صلاح المعيشة بالنساء وقرة العين بالأولاد وقوة القلب وبهجته وميوله باحتكار الأموال وكنز قناطير الذهب والفضة غريزة عزيزة لديهم (3). إنه حقا من سخرية القدر ليس في عصر البيروني فحسب بل وحتى في زماننا الحاضر الواقعي أن نرى وجود طبقتين من الناس هما الصعالكة ورجال السلطنة شغلهما الشاغل كمأرب رئيسي في الحياة إنما هو تكديس الأموال باي شكل ثم إن ظروفهما الخاصة كما يبدو تقودهما إلى مثل هذا التصرف الشاذ وكل من هاتين الطبقتين قد أساء استعمال ما لديه من الثراء من ذهب وفضة وذلك بكنزهما بدلا من إنفاقهما ليتسنى تداولهما في أيدي الناس ويتحقق من أجل النفع الأعم والأفضل. ويخيل إلي بان كنز الأموال وحبسها هكذا مسالة تدعو للاستهجان وأمر مخالف لقصد الله تعالى الذي من فضل نعمته وحسن مشيئته سمح باكتشافها واستعمالها وإبدال أثمانها لمصالح عباده وخيرهم وقضاء حاجاتهم في المعاملات التجارية المشروعة (4). وبطريقة فلسفية مفحمة يوضح البيروني كيف أن الله خلق الجواهر والمعادن النفيسة وبحكمته قد خزنها في باطن الأرض أجيالا طويلة وأتاح للناس اكتشافها واستخراجها وإعدادها تسهيلا للمعاملة والمداولة بين جميع الناس وفي كل مرافق الحياة. فامر اكتنازها إذا إنما هو مخالف لإرادة الله ومشيئته في مقدرات الناس وغمط لمنته وإحسانه بردها إلى باطن الأرض إلى مثل حالتها الأولى التي كانت فيها قبلا وهذا أمر يتنافى مع غاياته الفضلى وحسن تدبيره في الكون في هذه النظرية الاقتصادية المبدئية والاجتماعية البناءة والتي هي في غاية الأهمية حتى في عصرنا هذا، حتى أن البيروني يشبه كون خزن الذهب والفضة وحجزها عن التداول مثلا بمفهوم رد الأجنة إلى الأرحام التي فيها تكونت ومنها خرجت ما هي إلا رجعة عقيمة وعود يائس لا نفع منه
(1) يوضح البيروني أن الذهب والفضة والأعلاق النفيسة الأخرى هي هبات إلهية أعطيت لسد أعواز الناس للمتاجرة ولكن الإنسان مفطور على الطمع ومحبة المال التي هي أصل لكل الشرور فزاغ من غباوته عن الإيمان وطعن نفسه بأوجاع كثيرة، مع ذلك يعظم الناس ويبخلون مالكها حتى تعاطيها باليد له جاذبية خاصة فكنزها الكثيرون للمتعة وطلبا في تأمين عيش رغيد. أما قيمة المال الحقيقة فهي وضع لا طبع، لم تمدح بالشرع بل اصطلح عليها في المعاملات التجارية فيه لا تروي من ظمأ ولا تدفع أذى إنما " دعي المال خيرا " لأن من يجود به يؤمن به يؤمن حاجات الناس الضرورية مع أن هذا ليس من طبعة، في الجواهر، طبعة 1936 م ص 7 - 9، ويحيى الهاشمي " نظريات الاقتصاد " ص 186 - 189. (2) لويس معلوف، المنجد في اللغة، طبعة 15 بيروت، المطبعة الكاثوليكية، 1956 م ص 625، وانظر علي أحمد الشحات، أبو الريحان البيروني، القاهرة، دار المعارف، 1968 م ص 135 - 145. (3) لقد اقتبس المؤلف الآيات التالية: سورة الحديد: 19 (اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)، ومن سورة آل عمران: 13 (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياء الدنيا والله عنده حسن المآب) وللتفسير اعتمدنا كتاب الشيخ حسين محمد مخلوف، كلمات القرآن تفسير وبيان، القاهرة، البابي الحلبي، 1390 ه / 1970 م. (4) في سورة التوبة: 33 نجد أيضا كشفا لحالة روحية كئيبة حول أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كانوا يتكالبون على جمع الأموال وكنز الدراهم طامعين في عطايا الفقراء والمساكين مع أنه كان يجدر بهم الإنفاق وتقديم يد العون لهؤلاء الناس (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلوا أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) فصاروا بذلك عثرة بدل أن يكونوا بركة انظر سفر إرميا، فصل 23: 1 - 4 وإنجيل متى، فصل 6: 24 - 35. 238 ولا بركة فيه ولا سداد. لذلك يضيف المؤلف مفسرا بقوله إن الذهب والفضة إذا أخرجا من معادنهما الأصلية في جوف الأعماق تصبح آنذاك كالزروع المحصورة في الفلاحة والأنعام المذبوحة لمربي المواشي لا يسوع غير جنيها وأكلها وإنفاقها والاستعاضة منها حيث يهيا المعدن بأمر ذي سلطان كما تصنع نقود العملة في السكة بعد سبكها وطبعها دراهم وسواها عينا وورقا لأجل ترديده في الأيدي على حسبة تجارة أو إيتاء في حقوقه (1). ترويحة 6: ينتقل المؤلف هنا للحديث في موضوع طريف ذي شقين ألا وهو التعريف بالمروءة والفتوة ومعناهما الحقيقي ضمن النظام والعرف الاجتماعيين. وهنا نقول إن المروءة تقتصر فقط في مفهومها على الرجل في نفسه وذويه وحاله فالمرء مبدئيا لا يملك غير نفسه وقنيته وأملاكه لا ينازعه فيها أحد فهي لذلك تدفع به لأن يظهر السعة لدى الآخرين ويخفي الضيق على نفسه ما أمكن فيصدق في ذلك القول: المروءة الظاهرة في الثياب الطاهرة وهي ما يمكن تأويله بان لا يعمل المرء سرا ما يستحي منه في العلن، وأن يكون في ذلك شعاره هو أن نفس الإنسان أقرب قريب منه وأولى ما تقدم في طلبه إنما هو للخير لها أولا ثم ما هو دان منها وهكذا. أما الفتوة فتتعدى الحدود المرسومة في المروءة وتتخطاها إذ بها يحتمل المرء مغارم الآخرين وسائر المشاق لتأمين إراحة وإسعاد الغير فلا يضن بما أحل الله له وحرمه على سواه ليجود به طبعا، فهو الفتى الذي اشتهر بعدم تمسكه بالمادة وعرف بالحلم والعفو والرزانة والاحتمال صابرا نائلا تعظيم الناس في تواضعه فرقي بذلك إلى أعلى المراتب رغم اعترافه بعدم استحقاقه نائلا نتيجة لذلك خير الثواب. فهي إذا بشر مقبول ونائل مبذول وعفاف معروف وأذى مكفوف. فالمروءة كل هذا من حسن الوفاء وكرم المحتد. ويروي المؤلف قصة رجل كان يلبس كل يوم أحسن الثياب ويركب أفره الدواب ويسعى في تلبية حاجات الناس وشيكا فقيل له لتعليل السبب في ذلك فأجاب بأنه قبلا كان قد انغمس في جميع شهوات الحياة وملاذها من سكر وبطر ومنكر ولكن هذه كلها لم تشبع نفسه بل تركته تعيسا، وأما الآن فليس أدعى لنفسه من مسرة ولا أكثر متعة وبهجة من رؤية إنسان أنعم إليه وأسعفه فشكره ممتنا عند الاخوان. من أجل هذا فهو في نشوة روحية دائمة وغبطة لا توصف حتى أن المؤلف يسترسل في توجيه أطيب الثناء في مدح النفس العصامية التي لا تنهمك بمتاع الدنيا وملذاتها وشهواتها فتخسر الآخرة بل ينصرف نحو المنطلق الأفضل بالقناعة وكرم الأخلاق لسعادة الروح في الدنيا والآخرة. ومن وجهة أخرى يوصي المؤلف بان يكون فضل الإنسان مرهونا باعماله الشخصية وليس بالافتخار بالأجداد وجاه الآباء والأقرباء السالفين وإلا فهو الميت وهم الأحياء كما قال الشاعر: إذا المرء لم ينهض بنفس إلى العلا * فليس العظام الباليات بمفخر وربما أفرط الفتى فتجاوز لذا ينبه المؤلف من مغبة الافراط في إيثار الغير على النفس ببذلها أنفة من تحمل العار أو دفعا للظلم وحفظا لحق الجوار، أو في سبيل إكرام الضيف والحفاظ على الأمانة كما يروي عن سيرة الشاعر الجاهلي حاتم الطائي الذي اشتهر بشجاعته وسخائه حتى قيل عنه أجود من حاتم توفي سنة 605 م وكعب بن مامة الأيادي الذي يضرب المثل في جوده لأنه في ساعة العطش الشديد سقى صاحبه مما لديه من الماء ومات عطشان فأعطيا كل ما تملك اليد من دون مقابل فالجود بالنفس أقصى غاية الجود. إذا لا يتمكن المرء من تحقيق الفتوة إلا متى نال هانئ العيش ورغيده واتساع النعمة ليقوى بذلك على مساعدة الآخرين بالكد والاجتهاد ولا ملامة على من لم تساعده الأقدار على الوفاء بالغرض، ما دام قد كرس نفسه لايذاء العدو ونفع الصديق وإشراك غيره في رزقه. ثم أنه لا يرائي لغرض تافه مذموم بل يقوم بواجبه احتسابا. ترويحة 7: هنا يقارن البيروني بين العاقل الحكيم الذي يجد لذته في الأمور النفسانية الروحانية والمثل العليا التي يلاحظها بعين البصيرة والاعتبار وبين الجاهل الغبي المنغمس في اللذات الحسية والمنجذب إلى صنوف الزينة بما فيها المجوهرات وزخارف الحياة التي تستهوي الغريزة الحيوانية فترقص أضلاعه لها طربا ولكن ما هذه برأي المؤلف، إلا لذائذ سريعا ما تزول وتعقب بعدها الحسرة والندم وتبدل نضارة الشباب وجماله إلى حطام الانحلال وفناء القوة وذبول القوام. لكن هذه التذاكير لما كانت أعراضا محمولة في أشخاص محدودة الأعمار بالية على تعاود الليل والنهار لم تخلد فهي من عالم الفساد والعناء فأقيم لهم بدلها من الجواهر المخزونة تحت الثرى في الأحجار المنعدة وفي المكنونة المصونة في أعماق البحار المسحورة ما كان أبقى على قرون تمضي وأحقاب تمر وتنقضي وكانت منة عليهم، من خالق الكون الذي هو عالم بما لا نعلمه وقد أودع وجعل هذه الكنوز جاهزة في حينها من صنوف الأحجار الكريمة مثل اللؤلؤ والمرجان والياقوت والزبرجد والماس وما إليها (2). ولولا أهمية الزينة في عداد المجوهرات والأعلاق النفيسة لما انفصلت مبدئيا عن الذهب والفضة فان سبيلها كلها في عدم الفناء وعند الضرورات سبيلهما إذ برأي المؤلف لا منفعة مباشرة تجنى منها في قضاء الحاجات الضرورية المنشودة لذا وإن كانت مختلفة عن نفيس المعادن في تثمين الحوائج ومستلزمات العيش، فإنها كذلك مثمنة بهما وربما كانت على وجه التعويض مزيحة العلل وهي جواهر جسمانية يعمم بهذا على الياقوت والمرجان واللؤلؤ والزبرجد وغيرها من الأحجار الكريمة ونفاستها بما يحس الحس منها فحاسة البصر ترى ألوانها الرائعة وجمالها البديع وتنسيقها وانعكاس الضوء عليها فيمدح بحسب ذلك ما دامت مستبدة به لأنه ما دامت أهواء الناظر مغرمة ومنجذبة نحو المظاهر الجسدية الخلابة والمغرية فإذا قورنت بالجواهر النفسانية انكشفت حقيقتها
(1) العين هو الذهب المضروب للمعاملة التجارية وهو النقد المتداول بين الناس والعتيد من المال والعينة هي خيار المال في حين أن الورق (ج أوراق) هي الدراهم المضروبة انظر معلوف، المنجد في اللغة. وحول الصعاليك انظر العصر الجاهلي لشوقي ضيف، القاهرة، دار المعارف، ط 5، 1971 م ص، 375 - 385. (2) سورة الرحمن: 20 - 21 (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان) وسورة النحل: 13 وفاطر: 11 (وترى الفلك مواخر فيه ليبتغوا من فضله وتستخرجون منه حلية تلبسونها) سورة الرحمن: 56 - 57 أيضا (كأنهن الياقوت والمرجان) انظر حمارنه، فهرس الظاهرية الطب والصيدلية، دمشق، مجمع اللغة العربية، 1969 م ص 110 - 114. 239 وذم منها ما كان يحمد على مثال وصف أبي بكر الخوارزمي: إن رجلا قيل فيه إنه درة من درر الشرف لا من درر الصدف وياقوتة من يواقيت الأحرار لا من يواقيت الأحجار (1). ترويحة 8: هنا يقابل البيروني بين لذة الروح السامية ولذة الجسد الأرضية مقررا أن اللذة بالحقيقة إنما هي مسالة مرهونة بلزوم ما إزداد الحرص عليه إذا دام اقتناؤه له، وهذه هي حالة النفس الإنسانية التي تستمتع بحيازتها للمعرفة النافعة والتعمق والغوص في المجهول وكشف أسراره وغوامضه إلى أن يغلبها عند طلب الراحة من تعب المساعي ويلهيها عما كانت فيه بسبب العجز عن الاستمتاع، بما يشتهيه من رغبات أو فيما تطلبه من الحكمة والفهم. وأما اللذات البدنية فإنها على النقيض إذ هي معقبة للآلام وجالبة للأسقام والأحزان تنبذ وتمل إذا دامت وتودي إذا أسيء أو أفرط في استعمالها الأمر الذي يؤدي بها إلى العبودية والشقاء والانحطاط عقليا وروحيا وجسديا مثلها كمثل الطعام الذي يحلو للجائع ثم تقل لذته بمقدار ما يؤخذ منه حتى إذا أكثر المرء منه وأتخم أدى إلى الغثيان والتهوع والقذف. فأطايب الدنيا كلها خبائث ومحاسنها قبائح فهي لا تشبع قلب الإنسان من جوع إنما تغريه فينقاد إليها فتأسره ليعود إلى طلبها مجبورا فاقد الإرادة. والأمر الطريف حقا، وهو من الأهمية بمكان في تاريخ الطب والمعالجات، أن المؤلف يشبه الشخص المسترسل والمستهتر في شهواته الجسدية كمثل المخمور في العقارات المسببة للهلوسة والاعتياد والتي بعد فقدان تأثيراتها يعود مرة أخرى راجعا إليها وبالحاح يطلبها. وفي هذا نجد أيضا دليلا آخرا على تمكن استعمال مثل هذه الأدوية المخدرة وانتشارها وعلائم ومجريات الاعتياد عليها في عصره والذي كان شاهد عيان لأثرها وما تورث متعاطيها من سلب الإرادة للمقاومة والانصياع (2) ولا يغفل المؤلف عن الجزم بان في وجود اللذة الجسدية ونشاطها وطلبها يكون دوام النوع وإبقاء للشخصية البشرية ومميزاتها في تعمير الكون حتى أن بني الإنسان ينمون ويكثرون ويملؤون الأرض ولتكن خشيتهم ورهبتهم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء (3). ترويحة 9: يشرح البيروني هنا كيف أن للناس أحوالا مختلفة في دنياهم يتقلبون فيها ويتعايشون معها فبعض منها يمرح وبعضها الآخر يذم ويرذل لا سيما ما هو مخالف للخلق القويم والنظافة وكرم النفس فالمحامد المشكورة فقطبها المروءة، وإن مدار النظافة روحا وجسدا هو على الطهارة والنقاء وإنه مغبوط وسعيد حقا لذلك الشخص الذي له صديق مخلص ينفر مما لا يرضاه لصديقه ويحب له ما يريده لنفسه. ثم إن البيروني بالرغم من تقديره للصداقة وحسن العشرة إلا أنه يحذر من كثرة الأصدقاء وبلا حدود والذين يكثرون مع اتساع الحال والغني وما أقلهم حين تشح ذات اليد مع أن في تكاثرهم الرقي إلى مراتب الرياسة والملك فيمن تعلو بهم الهمم ومن يطلبون الخير للجميع لا سيما لمن حولهم تمنيا عند العجز وفعلا لدى القدرة يوم تؤول إليهم الرياسة، وطبيعي أن الجمال في الصورة وحسن الخلق محبوبان مرغوب فيهما ولكن الصور عطايا في الأرحام لا سبيل إلى تغييرها لأحد من الأنام إنما نزاهة النفس والدماثة هي في الأخلاق وحسن السيرة ومالك هواه هو القادر على نقلها من المذام والعار إلى المحامد وأعلى الرتب وما هذا إلا بمقدار ما يعمل المرء على تهذيب نفسه بالحسنى وصالح الأفعال ومعالجة أسقامها بالطب الروحاني للتحلي بالفضائل والتقى والابتعاد عن الغضب والهموم. في هذا المجال أيضا يذكر البيروني بعض الأمور العملية التي بها المرء يستطيع أن يحسن خلقه وإن عجز عن تبديل صورة وجهه مع الإشارة لما هو معروف وبديهي أن الاهتمام إنما هو في المرتبة الأولى بالبشرة والتي هي أول ما يلاقي من جسم الإنسان فينبغي إذا تنظيفها بالماء الطهور وليس ذلك أديبا وحسب العرف والعادة فحسب ولكن دينيا أيضا (4)، حتى أن السنانير الأهلية هي أحسن مثال في عالم الطيور في طلبها وسعيها في مراعاة نظافة جسمها والبيئة التي فيها تعيش على خير منهج. ثم إن المؤلف يعدد بعض ما أوصى به رجال العرب ونساؤهم بناتهم من وجوب المحافظة على نظافة أجسادهن وبيوتهن طلبا في الابقاء على السعادة الزوجية واعتبارهم بان الماء وحده هو أصل الطيب ورأسه (5). لذلك بعد الاغتسال بالماء الطهور يوصي المؤلف أولا التزين بالأصبغة والألوان والتي بمعونة الضياء سرعان ما تلفت إليها الأنظار بواسطة حاسة البصر. فمثلا فان تبييض البشرة وتوريدها بالغمر ثم تسويك الأسنان وتنظيفها وتنقية الاشغار وتكحيل العين وصبغ الشعر وتمشيطه وقص ما يحتاج إلى القص ونتف بعضها وتقليم الأظفار وتسويتها كل ذلك لأجل تحسين مظهر الإنسان وتجميل منظره مع النظافة والذوق السليم. يتبع ذلك ذكر الثياب الملاصقة والمحيطة بالبدن لا سيما الماسة للجلد والتي يجب تنظيفها ليبدو لونها الأبيض المحمود زاهيا مصقولا ولامعا للتخلص من الغبار والدخان وما يعلق بها من الشوائب أو ما يعكر صفو لونها. ومن البداهة أن من ينظف ثيابه لا بد أن
(1) هو أبو بكر الخوارزمي (325 ه / 993 م) ويبدو أن البيروني لم ينجذب كثيرا لزينة الجواهر ورونقها ولم يحسبها صالحة للسكة والمقايضات إذ كان يرى جمالا أحرى في جواهر الأخلاق ودرر الحكمة التي انجذبت نفسه إليها. (2) كان البيروني قد لا حظ سوء استعمال العقاقير المخدرة والتي تسبب اعتيادا يصعب التخلص منه إذ أن الكثيرين من الصوفية ومن عامة الشعب أخذوا بتعاطي الأفيون والحشيش ليس لأجل المداواة والشفاء فحسب بل كمخدرات،. (3) هي الحكمة القديمة في قوله تعالى (أثمروا وأكثروا واملؤوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض) سفر التكوين 1: 28 وأيضا 9: 2 ولكن البيروني فجأة ينتقل للحديث عن أهمية نظافة الفم والبدن اجتماعيا وصحيحا ويشرح كيف أن التعرق يزدحم قليلا لسد مسام الجلد لذا وجبت النظافة والاستحمام مشبها ربح النفس الطيب بالمسك والعنبر. (4) يقتبس المؤلف سورة المائدة: 5 (يا أيها الذين آمنوا إذا فمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا رؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) وفي الحديث الشريف: " النظافة من الإيمان ". (5) يقتبس المؤلف هنا عدة روايات ننقل بعضا منها لطرافتها وأهميتها في علمي الاجتماع والنفس كقول أم توصي ابنتها عند زواجها: " إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق وأنهاك من إكثار العتاب فإنه يورث البغضاء وعليك بالزينة وأزينها الكحل وبالطيب وأطيبه الماء ". وقول أخرى " كوني لزوجك أمة يكن لك عبدا وعليك باللطف فإنه أبلغ من السحر والماء فإنه رأس الطيب ". وإياك والاكتئاب إذا كان فرحا والفرح إذا كان مكتئبا ولا يطلعن منك على قبيح ولا يشمن منك إلا أطيب الريح ولا تفشين له سرا لئلا تسقطين من عيينة وعليك بالماء والدهن والكحل فإنه أطيب الطيب ". ومع أننا لا نعرف شيئا يذكر عن حياة البيروني الخاصة إلا أننا من هذا نميل للظن بأنه كان متزوجا فما ألهته علومه وأبحاثه عن التأمل بما يجعل الحياة الزوجية طيبة هنيئة. 240 يبدأ أولا بتنظيف بدنه لئلا يدنس وسخ البدن ودرنه هذه الثياب البيضاء النقية التي يتدثر بها، ومن بعد ذلك لا بد له أن يهتم بنظافة البيت الذي يسكنه والمجلس الذي يأوي إليه ليحافظ على نظافة ثيابه وهندامه من الداخل والخارج فيتم بذلك المراد. وطالما عبر الناس في الماضي عن طهارة النفس والقلب معا وشبهوها بنقاء الثوب وبياض الإزار والحبيب وغير هذه الأمثلة والعبر التي تدلنا على الاهتمام بنقاوة الإنسان وبيئته وحفظه جسديا وروحيا ورفع مستواه أخلاقيا واجتماعيا (1). ثم إن الجواهر تتلو الثياب رتبة من جهة الاهتمام حسب العادة في أكثر البلدان فيتحلى الذكور بالخواتم والتيجان وما رصع من الوشم الوشح والمناطق والقلانس والقفازات والقضبان والأعمدة لهم ولمن مثل بين أيديهم وللإناث ما لهن من المداري والأكاليل والأسورة والخلاخيل والجبيرات والمعاضد والعقود والقلائد. وهناك من هم في طبقة المسرفين المبذرين والمترفين حتى إنهم يتعدون استعمال الحلي والمجوهرات بالامتداد والتطاول إلى تزيين ما هو خارج عن البدن نفسه إلى تزيين الحيطان وسقوف الدور وأبوابها ورواشنها قصد إظهار التفاخر والعظمة الإنسانية مع أن هذا الاقتدار يكون غالبا بالتمويه لا بالتحقيق مع العلم أنه بلا شك يستحب للانسان أن يعني على الدوام بأمر النظافة والكياسة خارجا وداخلا. ترويحة 10: يتابع المؤلف حديثه مشيدا هنا بأهمية الرياحين في التجمل والصحة العامة وروعة البيئة ولربما ترينا فكرة هذا الانسجام والشغف بجمال الطبيعة بعض تعلق البيروني بها كما قد تبين أيضا في كتابه الصيدنة في الطب، ومع أنه ليس لدينا أي برهان أو حتى حدس قطعي ولكن ربما كان هنا مجال للتكهن بان تسمية المؤلف بأبي الريحان كانت وليدة هذا الاهتمام الذي لاحظه معاصروه فيه وشجعوه عليه فاعطوه هذا اللقب المميز لذلك نسمعه هنا يقول: إن من أظهر الأدلة على كمال المروءة وقد مر التعريف بها والحديث عنها تكميل النظافة بالأرايح الأرجة التي تتعدى إلى الغير فتلذه وترغبه في الاقتراب إليه والمناسمة معه وتخفي ما في الإنسان من العوار والوصمة. وأن المروءة اجتناب المحرمات والكف عن أذى الناس ومن ثم فهي الاعتصام بأصول الدين الحنيف الذي يوجب العدل والمساواة وقمع الظلم وإعانة المظلوم والبائس ومن ثم على خلاف من قيل فيه إنه يمنع رفده ويأكل وحده ويضرب عبده وأن من حسن خلقه بتحسين خلقه وهيا مطعمه بالطيب من الحلال وأشرك فيه غيره بالتسوية فهو العاقل والجواد وصاحب الفضل كما أنه يكون قد حافظ على النظافة والكياسة وقد زاد على ذلك باستعمال الطيب الممدوح العطر فقد سر أكيله وآنس جليسه وأكرم نديمه وكف أذاه وبذلك فعل لغيره ما أراد أن يفعله له غيره (2). ترويحة 11: هنا يصل البيروني الذروة في تقدير القيم الإنسانية الرفيعة وطلب الخير والمساواة للجميع ودفاعه عن الخلافة الاسلامية كما أنه يقترب رويدا رويدا، كما نظن إلى صلب الموضوع، في بحثه عن الجواهر معنى ومبنى في نطاق تاريخي وعلمي ومنطقي فيقول، الناس كلهم بنو أب واحد وأشباه في الصورة لا سيما من ناحية علمي التشريح ووظائف الأعضاء ولا يخلون فيما بينهم عن التنافس والتحاسد الذي في غرائزهم بتضاد أمشاجهم وأمزجتهم وطبائعهم بالإضافة إلى الاشتمال على ما تعين منذ عهد ابني آدم هابيل وقابيل المقدمين قربانين مقبولا من أحدهما مردودا على الآخر، لأنه عصى صوت الله وثار ضد أخيه ومع ذلك صرخ فاجرا ناكرا للجميل وعديم الود: أحارس أنا لأخي ولما لا حتى صار هذا البلاء الموئس منذ فجر تاريخ البشرية وعم هذا الويل المرير. وإن مما يحد من طمع الإنسان وشره هو، خوف آجل من الله أو عاجل من السلطان وما لم يكن السلطان قويا نافذ الأمر صادق الوعد والوعيد لم تتم له سياسة من تحت يده. فكل واحد منهم يرى أنه مثله وأنه أحق بماله ومكانه ولهذا قصر الملك على قبيلة لتنقبض أيدي سائر القبائل عنها ثم على شخص أفضل أشخاصها ثم على نسل له يكون ولي عهده فصار الحكم ملكا لهم. نرى هنا تحليلا فلسفيا علميا لنزعات النفس البشرية إلى السلطة الحكم، كما يراها المؤلف، بدافع أنانية قهارة مخيفة لذا يجب التحكم بها وضبطها ثم تسييرها في أقنية خاصة مع وجوب الحزم والارتباط العائلي والحق الوراثي لذلك يقول المؤلف شارحا: ثم أضيف إلى ذلك حال معجز بلغ في غاية القوة وهو التأييد السماوي والأمر الإلهي بالنص على نسب لا يتعدى عموده كما كانت عليه الفرس زمن الأكاسرة وكما كان عليه الأمر في الاسلام من قصور الإمامة على قريش ومن وجبت له المودة لهم بالقربى وكما اعتقد أهل التبت في خاقانهم الأول بأنه ابن الشمس الذي نزل من السماء وأهل كابل أيام الجاهلية في برهمكين أول ملوكهم من الأتراك وأنه خلق في غار هناك يسمى بغرة ولعله بغراخان أحد سلاطينهم فخرج منه متقلسيا وأمثال ذلك من أساطير الأمم الصادرة عن حكمة تجمع الناس طوعا على الطواعية وتحسم الأطماع في نيل كل واحد رتبة الملك، مبعثه عنصر تقليدي ديني حسب البلاد وجغرافيتها والتاريخ (3). ثم يشير البيروني إلى ظاهرة اجتماعية وسياسية هامة موضحا فيها كيف أن الملوك يلجؤون إلى بناء القصور والقلاع وتزيين مجالسهم وإظهار الأبهة والأمجاد لاكساب مركزهم وتزويده بهالات من التعظيم والاكبار في عيون الرعايا والأتباع، فيضيف: وكما يميز الملوك عن غيرهم بهذه الخصال كذلك تمموا التمييز باعلاء الايوانات وتوسيع القصور وترحيب الرحب والميادين ورفع المجالس على السرر، كل ذلك سموا إلى السماء وإشرافا على الخاص والعام من الملأ وإليه ذهب البحتري في قوله: وليس للبدر إلا ما حبيت به * أن يستنير وأن تعلو منازله ولم تكن للزيادة في القدرة حيلة فجعلوها بالتيجان والقلانس واستطالوا بالأيدي حتى وصفت ببلوغ الركب كما سمى أهل الهند أحد ملوكهم مهاباها أي طويل العضد والفرس بهمن أردشير ريونردشت لأن ريونرد هو أصل نبات الريباس. وما لم يبلغ الماء في العمق لم ينبت وإن كان رأسه في ذرى الجبال، وهذه
(1) من المواضيع الهامة في عصرنا هذا بالنسبة للصحة العامة هي تأمين بيئة صالحة صحيحا مع نظافة الجسم والثياب للمحافظة على الصحة البدنية والنفسية. (2) وبرأي البيروني فإن نظافة الهندام تعني أيضا حسن الطوية الداعية للطاعة وعز القناعة والأخذ بالأصوب لخير الإنسان في الحياتين العاجلة والآجلة ونرى في ذلك اهتمام علماء المسلمين بالطيوب وأدوية الزينة. (3) في غاية الأهمية ما يذكره البيروني عن الحكم في الأفغانستان قبل انتشار الدين الإسلامي فيها ولعل العاصمة كانت آنذاك كابل (ربما هي كابول عاصمة البلاد الحالية) معبرا عن الأسباب التقليدية والدينية في قيام نظم الحكم واستمرار الملكية. 241 تصف بدقة المغالاة في تزيين القصور وإظهار الأبهة والجاه عند الملوك ذوي لأمجاد إلى حد فاق الحسبان (1). وكعالم اجتماعي واقتصادي وكمؤرخ عارف بالأحداث والأزمان، يعود البيروني مرة أخرى ليوضح بثاقب بصره اهتمام الناس بالأحجار والأعلاق النفيسة وأثرها في كسب الوجاهة وتأييد السلطان مع العوامل السلوكية والاجتماعية وأسبابها المنوه إليها في هذا الباب فاسمعه مثلا موصيا وناصحا: كل ذلك علامات لعلو الهمة وانبساط اليد بالقدرة. ثم تتزينوا بصنوف الزينة المثمنة لتحلو في القلوب وجلالة الأموال في العيون فتتوجه إليهم الأطماع وتناط بهم الآمال، والأحلام مشيرا هنا إلى الدور الذي تلعبه الجواهر في التأثير بآراء الناس وطرقهم المنهجية. وإن الأمر لا يقف عند هذا الحد في طلب الأمجاد والسلطان بل يتعداها إلى المخابرات الجاسوسية وحيل السياسية وأحابيلها إذ يضيف قائلا: واحتالوا بحيل تفاضلت في البدعة والحسن والغرابة للغوص على سرائر الخاص من البطانة وأفعال العام من الرعية ومقابلتها بواجبها وفي إسراع ذلك على تنازح الديار بالفتوح المتناقلة والبرد المرتبة والسفن المطيرة والحمامات الهادية الطاوية للمسافات حاملة للأوامر والأمثلة في المدد اليسيرة حتى خيفوا في السر والعلن واجتنبت خيانتهم فيها وتوقف على ذلك من أخبار دهاة الملوك وحبابرتهم، وفي هذا ذكر لاستخدام الحمام الزاجل من نقل البريد المستعجل آنذاك بين بلد وآخر وغيرها من وسائل التنقلات والرحلات في العالم الاسلامي قاطبة. ترويحة 12: ومما سبق الإشارة إليه من تأكيد أهمية الغنى المادية بالذهب أو الفضة والجواهر وأثرها في المجتمع يستنتج المؤلف مدى القوة الخفية للمال في تسيير سياسة الملوك وسلطان الرؤساء كما يرى الدور الهام الذي يلعبه في تأييد الحكومات وتنفيذ مآربها مع تبرير مثل هذه التصرفات حيث يضيف: الملوك أحوج الناس إلى جمع الأموال لأنهم بها يملكون الأزمة ويسيرون بمكانها الأعنة. وقد أوضح السبب الذي من أجله مثلا كان الخليفة أبو جعفر المنصور العباسي يجمع الأموال ويخزنها حتى وصمه الناس بالبخل وهو براء من ذلك لعدم إدراكهم لما كان يهدف من هذه النقود المخزونة وما يعمل من أجلها وقد شرح أمره لحاجبه مرة مفسرا كيف أنه بالمال يستطيع السلطان التحكم بمقدرات الناس لأنهم جميعا بحاجة إليه ويتشوقون لاقتنائه فمن معه المال معه السلطان وله اليد الطولى في الحكم. ثم يقول المؤلف في الأمير يمين الدولة محمود الغزنوي 389 421 ه 999 1030 م إنه ما كان يفرع من فريسة قصدها وظفر بها إلا ويجيل بصره بعدها لأخرى يزحف إليها ويحوزها، حتى لا يكون مجال للتوقف أو التغيير ثم إنه إذ كان قد وكل أمره للمنجمين سنة وهو عائد منصرفا من مدينة خوارزم حيث أخبروه بامتداد حكمه لما ينيف على عشرة سنين أنه عندها أجاب: إن قلاعي مشحونة من الأموال بما لو قسم على أيام تلك الأعوام لحاجتها بما لا يعجزه إنفاق مرتب أو مسرف فيه. وعند سماع ذلك حملت البيروني النشوة، وكانت لا تزال بينهما بعض جفوة لقسوة السلطان وتفاخره وشدة بطشه، على الإجابة قائلا: اشكر ربك وأسأله واستحفظه رأس المال وهو الدولة والاقبال فما اجتمعت تلك الذخائر إلا بهما ولن تقاوم بأسرها خرج يوم واحد غير منتظم بزوالها، فامسك الأمير لأنه رأى في نصيحة البيروني بالاهتمام في رعيته والإنفاق على مصالحهم وتوفير السعادة لهم والمساواة بينهم لما فيه بقاء الملك يكون ذلك أبقى مأثرة وأخلد ثروة (2). وتستمر علاقة البيروني بأمراء غزنة بعد وفاة محمود فيخدم أيضا الأمير مسعود 421 433 ه 1030 1041 م ابنه الأكبر ويغدق عليه النصح فلم يعتبر حتى مات شهيدا وتبذرت أمواله الدثرة، المكتسبة منها والموروثة عن أبيه في يوم واحدا (3). وقد تلاشت كما يتلاشى الدخان في مهب الريح وذهبت هباء منثورا، ولم يكشف عن غادر به مقرا ولم يظهر في كسير جبرا، لأن قاتله لم يعرف وكان نصيبه الهلاك وبئس المصير لكثرة غروره وإثمه. ترويحة 13: يعطينا البيروني في هذه الترويحة خلاصة فلسفته في الاقتصاد والحياة الاجتماعية ويركز حديثه مرة أخرى على طبقة الصعالكة وطبقة الحكام وهما في طرفي النقيض والقاسم المشترك بينهما اجتماعهما على جمع المال المستخلص من باطن الأرض بسبب أحوالهم الخاصة وحاجاتهم الملحة إليه فيقول، الدفائن الباقية تحت الثرى ضائعة في بطن الأرض وهي تكون في الأغلب الطبقتين من الناس شديدتي التباين متباعدتين في الطرفيين الأقصيين وهما أهل السلطنة وأهل المسكنة نصفهما على النحو التالي: أولا المساكين أو الصعالكة، فإنهم تعودوا الاستماحة والتسول واعتمدوها في تحصيل القوت علما منهم بأنها هي رأس المال لا ينقص منه شئ وخاصة مع الالحاف في السؤال والالحاح في الطلب فالشحاذ لا يضع رأس مال غير الشحذة والاستعطاء وكلام التوسل لاستجداء المحسنين فمهما حصل في يومه فهو مربحة لذلك اليوم. فإذا استغنوا بها عن شراء مطعم أو مشرب لأنهم يحصلون على هذه في الغالب بطريقة الاستجداء أيضا أخذوا في جمع الفلوس والحبات والقراريط ذودا إلى ذود يصرفون الفلوس بالدراهم والدراهم بالدنانير وليس لهم أمين غير الأرض لأنها تؤدي ما تستودع وبأمانتها، جرى المثل فقيل آمن من الأرض فهذا كان بنك الاستيداع لهم آنذاك. ثم يموت أكثرهم إما فجأة من خشونة التدبير وإفراط التقتير والسكتة القلبية وإما من سوء حال لا ييأس فيه مع الحرص من الاقبال والابلال ولا تسمح نفسه فيما شقي في جمعه أن يكون لغيره حتى يتفوه بالايصاء به فيبقى مدفونا في الأعماق قل أو كثر وبذلك مع الأسف عاشوا آنذاك أخساء وماتوا غير ما سوف عليهم ولا على مالهم الرخيص.
(1) في سخرية لاذعة يقارن البيروني بين نفع الماء للأرض والنبت ونفع الجواهر للزينة وفي معاملات الناس التجارية فمهما علا مصدر الماء لابد أن يصل الأرض الواطئة ليسقي البذور وينبت النبات وهكذا يوضح المؤلف أهمية الإصلاح الاجتماعي حتى تحظى طبقات الشعب الكادحة بقسطها من ثراء الدولة لتأمين رفاه العيش وهي نظرة إصلاحية إنسانية تدل على مشاعر المؤلف تجاه طبقات الشعب الفقيرة ووجوب الاهتمام برخائها أكثر من الاهتمام بالزينة والأبهة الملكية الخارجية، والتيجان المرضعة بالجواهر، انظر الوصف في كتاب الخطط لتقي الدين أحمد المقريزي، طبعة بولاق، القاهرة، 1270 ه، ج 1: 413 - 416: والذخائر والتحف، للقاضي الرشيد بن الزبير، تحقيق محمد حميد الله، الكويت، وزارة الإعلام، 1959 م، وجرجي زيدان تاريخ التمدن الإسلامي، ج 5، القاهرة، بدون تاريخ، ص 128 - 134. (2) يمين الدولة محمود الغرنوي (388 - 421 ه / 998 - 1030 م) غزا الهند وأسقط الدولة السامانية وخطب للخليفة القادر، ولما استولى على مدينة خوارزم قبض على البيروني وأستاذه عبد الصمد فقتل الآخر واستبقى البيروني لمعرفته بعلم النجوم. (3) لقد هزم السلاجقة مسعوا سنة 431 ه هزيمة منكرة وبعد أن أفلت من الأسر ثار مواليه عليه ونهبوا خزائنه وناصروا أخاه محمدا الذي قتل أنصاره مسعودا في حرب أهلية سنة 432 ه. 242 ثانيا: فان الملوك فلكثرة نوائبهم يعدون الذخائر للعدد ويحصنون ويكنزون الأموال في القلاع والمعاقل وأن يكون حمل ذلك إليها مستورا لتوسط النقلة والحفظة بينهم وبينها فيحتاجون معها إلى خبايا مخابئ ومستودعات لا يطلع عليها غيرهم فمنهم من لا يراقب الله تعالى في الاتيان على ناقليها إلى المدافن فيتخلص منهم، ومنهم من يحتاط في ذلك ويحتال بايداع الفعلة ضمن صناديق فارغة ويتولى سوق البغال معهم إلى الموضع فإذا أخرج القوم بالليل من تلك الصناديق لم يعرفوا أثرهم من العالم وإذا فرغوا من الدفن أعيدوا إليها وردوا فحصل المرام وبعد عنه الآثام ولهذا شريطة هي أن لا تحمل منهم نفرا مرتين وقد أهملها بعضهم واحتاط لها بعضهم الآخر إذ قد جعل أحدهم في أسفل الصندوق ثقبة وأعد مع نفسه كيسا من أرز أخذ ينثرها قليلا قليلا واقتفاها بالغد ففازوا بالمذخور ولم يقف صاحبه على الحال إلا بعد عشرين سنة لما احتاج إليها ولم يجد في المدافن غير حساب بهلول (1). ثم أخذ بعدها يتابع المؤلف تحليله لمثل هذه الحالات والأحداث السياسية والاجتماعية والتي معها طالما تتعرض مثل هذه المدخرات للدفن في باطن الأرض مرة أخرى كما كانت في طي النسيان فلا تكتشف إلا اتفاقا أو نتيجة طوفانات وسيول عارمة تكشف عنها وتدل عليها. فكم من غني مدخر للأموال توفي تاركا من بعده كنوزه دون أن يعرف بوجودها أو مكانها أحد غيره فتفقد، أو ملك يخزنها لحين الحاجة فيهرب أمام عدو مهاجم ويتركها خلفه مدفونة في الأرض وليس من يجمع أو يحصي عليه ما أودع (2). ترويحة 14: ويستمر البيروني في توضيح نظريته في الأمة وسياسة الاقتصاد بين الناس في المعاملات واستحسان استعمال النقود الورقية أو المعدنية ومن بينها الجواهر فيقول: لما احتاج الملوك في حركاتهم وانتقالاتهم الاختيارية والاضطرارية إلى أصحاب أموال تصحبهم من أجلها خدمهم وينزاح بهم العلل في إخراجاتهم وعوارضهم وكان الورق أخف محملا من المثمن به في المصالح كالفلوس والدراهم والدنانير مثلا نظروا إلى الفاضل عليه في ذلك فوجدوه العين خيار الشئ ونفيسه وما ضرب نقدا من الدنانير فان المثمن من المطالب الأخرى يكون عشرة أضعاف ما يحصل بالورق على الأصل القديم المعين في الديات والزكوات وإن تغير بعد ذلك لعزازة الوجود ونزارته في بعض الأحايين دون بعض أو لفساد النقود وصدئها وإما في أصل الجبلة في كل عالم. ثم إن البيروني يعمل مقارنة بين ما سبق ذكره من أهمية العملة الورقية وبين الجواهر والأعلاق النفيسة وما لها من القيم وإمكانية وجودها ومحتوياتها وأفضلية استعمالها بالنسبة لأوزانها وأثمانها. بعد ذلك يأخذ بيد القار بصورة غير مباشرة إلى صلب موضوع بحثه في أصل الجواهر الكريمة ونفعها وعلو قدرها ماديا ومعنويا والنواحي النفسية والاجتماعية التي أدت إلى انتشارها وأهمية تداولها وسهولته وخفته ثم يصرح قائلا: فان الذهب أعز وجودا من الفضة والفضة أقل وجودا من النحاس ويناسبها صغر الحجم وعظمة ورجحان الوزن ونقصانه. وهو يذكر أحد المناجم الذي يعطي من بين معادنه، هذه الأجناس الثلاثة بتفاضل مقارب لهذه النسبة وذلك أن عطية الوقر فيه من الذهب عشرة دراهم ومن الفضة وزن خمسون إلى خمسة أضعاف ومن النحاس خمسة عشر منا أكثر من مائة ضعف فلهذا آثروا العين على الورق في الاصطحاب مما خف عليهم حمله وحين لم يأمنوا الواقعات النائبة سجالا وقد عرف أن النجاء فيها بالقلة والخفة مالوا إلى الجواهر إذ كان حجمها عند حجم الذهب أقل قدرا من حجم الذهب عند الفضة وحجم الفضة عند ما يشتري بها من المصالح فاصطحبوها معهم وقرنوها بأنفسهم، وإن هذه الجواهر نفسها التي يعتز ويتباهى باقتنائها الملوك والعظماء تكون وبالا عليهم إن شاؤوا التنكر والاختفاء عن عيون المراقبين وفي يد العامة تصبح سببا في اتهامهم بسرقتها أو بالشك في أمانتهم إذ ليس من المنتظر أن أمثالهم يملكون مثل هذه الجواهر النفيسة الثمن فيصرح قائلا: ولكنها عند إلجاء تلك الحوادث إلى التنكر ربما صارت ساعية فتكتشف بسرعة دالة عليهم كما نم بفتية الكهف عتق السكة في الورق حتى اتجهت عليهم التهمة بوجود ذخيرة عتيقة، ثم يضيف المؤلف قائلا: إن الجواهر خاصة من آلات الملوك وهذا مدار حديثه فإذا كانت عند غيرهم ممن لا يليق بحاله تلونت الظنون فيه بأنها إما مسروقة وهذا منطق اجتماعي وقانوني متبع حتى في عصرنا هذا والسارق حينئذ مطلوب، وإما ممتلكة حقا لمتنكر من الكبار ومثله مرصود، وفي كليهما خسارة. ثم يعبر البيروني عن التطورات الاجتماعية والأخلاقية والعمرانية المترتبة على جمع الكنوز الأرضية كالجواهر فيقول: وقد كان فضلاء الملوك يجمعون الأموال في بيوتها وفي المساجد ويجلبونها من أجمل وجوهها ثم يكنزونها بالتفرقة في أيدي حماة الحريم ثم الدافعين مضار العدو عن الحوذة إذ كانت أول فكرتهم آخر عملهم وهم كالخلفاء الراشدين ومن يشبه بهم مقتديا مثل الخليفة عمر بن عبد العزيز والكثير من المروانية والقليل من العباسية إذ كانوا يرون ما قلدوه عبئا ثقيلا قد حملوه ويحتسبونه محنة ابتلوا بها فكانوا يجتهدون في نقص إصرها ويتحرجون عن التردي في وزرها، فهؤلاء الخلفاء الصالحون إذا لمسوا أهمية المسؤولية الواقعة على عواتقهم تجاه رعاياهم لم يستبدلوها بطلب القوة في المال والجواهر والممتلكات بل باجراء العدل والمساواة والحفاظ على مصالح الشعب ورفاهيته بالرفق وحسم الظلم وعون البائس. ويروي هنا المؤلف خبرا تاريخيا مفاده أن قاطني إحدى النواحي في بلاد المغرب كانت الامارة تدور فيما بين أعيانها وشآتهم على نوب يقوم بها من يأتيه دوره لمدة ثلاثة أشهر ثم ينعزل عنها بنفسه عند انقضاء أمدها فيقدم الهبات والصدقات شكرا على عمل قام به وانتهى حتى تتاح له فرصة العودة إلى أهله مسرورا كأنما قد حل من عقال حتى ينصرف لشؤونه ويزاول أعماله الخاصة بينما يأخذ وظيفته آخر لثلاثة أشهر وهكذا. وفي هذا نرى صورة رائعة لتطبيق مبدأ العدالة في الحكم مع النزاهة والتضحية في خدمة البلد والتفاني في المبادىء الإنسانية والديمقراطية الحقيقية فأين هذا في عصرنا حيث نجد التكالب على الكراسي والحرص على حفظ الألقاب والمراكز. ويفسر المؤلف هذا التصرف على الوجه التالي: وذلك لأن حقيقة الامارة والرياسة هي هجر الراحة لراحة المسوسين في إنصاف مظلومهم من ظالمهم وإتعاب البدن في الذود عنهم وحمايتهم في أهليهم وأموالهم ودمائهم
(1) البهلول " السيد الجامع لكل خير أو الضحاك " ولكن صار مثلا لما لا نفع مما جمعه من الخيرات. (2) يروي لنا البيروني قصص بعض من دفنوا كنوزهم في الأرض ففقدت. 243 وإنصاب النفس في إنشاء التدابير، لأنه بذلك يوقف نفسه على خدمة البلد والدفاع عن حياضه وتامين مصالح أفراد الرعية بكل ما أوتي من قوة وحكمة التدبير وحب العدالة وكرم الأخلاق ورفع الضيم وصيانة الكرامة في الأمة (1). ترويحة 15: هذه آخر التراويح التي تخطها يد المؤلف في هذه المقدمة لكتابه الجماهر في معرفة الجوهر، وهنا نجد مرة أخرى معالجة جذرية لقضايا اقتصادية واجتماعية خاصة بالمعادن المتداولة كالعملة في أيدي الناس ووجوب وقايتها من الغش وحكم الشرع في ذلك فيقول: إنما حرم شرب الماء في أواني الذهب والفضة لما تقدم ذكره من انقطاع النفع العام بها واتجاه قول الشيطان عليه سورة النساء: 118 ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ولنكتة ربما قصدت فيه وهي أن هذه الأواني لا تكون إلا للملوك دون السوقة وللآنام بين الأيام من الضيق والسعة دول تدول وأحوال تحول وتجول فإذا صرف ما حقه أن يبث في الأعوان إلى تلك الأواني اتكالا على كثرة القنية أيام الرخاء من دون أن يهتم بالانفاق على أتباعه ثم دار الزمان وأتى بعده فافتقر، أحوج إلى سكبها وطبعها دراهم ودنانير ففترت النيات بظهور الضيقة وطمع الأعداء بانتشار خبر الضعف والافلاس بين الناس، فهم عبيد الطمع ومانعو الحقوق إذا أمكن، وهو المعنى المظنون به أنه محشو تحت التحريم فلن يخلو السرع من مصلحة عامة أو خاصة دنياوية أو آخرانية. هذه دروس ومواعظ من الماضي البعيد يدرجها المؤلف مع إيضاح وثاقب بصيرة لينقل لقارئيه موعظة في معنى القناعة والفطنة وينصح القارئ من مغبة الشر والانحراف والسير في طريق السلامة من الغاشين والدعار مما يؤدي إلى الخيبة والدمار. وينهي البيروني مقدمته في فصل أخير يعبر فيه عن محاولته لبحث الجواهر والأعلاق النفيسة المذخورة في الخزائن عند الملوك والنبلاء ويبدي رغبته في دراسة كل جوهر أو معدن في فصل مستقل به متسلسلا من مقالة إلى أخرى ذاكرا أصل الجوهر أو المعدن ومنبته في الأرض وأشكاله وألوانه وأحواله وكثافته النوعية وأوصافه الظاهرة والخفية وإثمانه المعروفة أو المنسوبة وإقبال الورى في طلبها للزينة ولقيمتها المادية أيضا. هذه هي مساقات ومواد الكتاب في مقالتين: المقالة الأولى في الجواهر: الياقوت مع أشباهه من الجواهر كاللعل البدخشي والبيجاذي، والألماس، والسنباذج واللؤلؤ، والمرجان، والزمرد وأشباهه، والفيروزج، والعقيق، والجزع، والبلور، والبسد والجمشت، واللازورد، والدهنج، واليشم، والسبج، والبادزهر وحجر التيس الترياق الفارسي أو الباذزهر والموميا، وخرز الحيات، والختق، والكهربا، والمغناطيس، وحجر الخماهن والكرك، والشاذنج، والزجاج، والمينا والقصاع الصينية، والأذرك. والمقالة الثانية في الفلزات: الزئبق، والذهب والفضة والنحاس والحديد، والاسرب، والخارصيني وأشباهه، والطاليقون. فهذا التقسيم يعطينا فكرة عن كيفية نظر البيروني إلى هذه المواد الطبيعية وتمييز الجواهر والأحجار منها بألوانها وصفاتها الطبيعية عن المعادن المستخرجة من المناجم بما في ذلك أنواع الأتربة والطباشير وسواها (2). استنتاجات ختامية: بعد مراجعة قول البيروني في مقدمة كتاب الجماهر يميل كاتب هذه المقالة إلى ترجيح الاستنتاجات والاقتراحات والتعليقات الآتية: 1 كانت لدى البيروني، بثاقب نظره وعمق اختباره وسعة اطلاعه، نظرات وآراء في الدين والاجتماع والاقتصاد والعمران وجد في هذه المقدمة لها مخرجا لتسجيلها ومعالجتها وشرحها فجاءت سهلة المأخذ ضمن فكرة تأملاته الهادئة العميقة. 2 كانت في نفس البيروني ثورة جدية واعية ضد الانحراف الاجتماعي والمظالم والانخداع بمظاهر الأبهة والتسلط الزائف فأراد محاربتها وكشف خداعها بأسلوبه الواقعي المقنع اللطيف دون إثارة النعرات والضوضاء حوله. 3 كان مدار حديثه من بعيد وحتى من قريب، أن يقود القارئ إلى تركيز نظره وفكره في القيمة الحقيقية والتقليدية للجواهر والأعلاق النفيسة وكان البيروني نفسه يود أن يبعث الطمأنينة والثقة إلى نفس القارئ والآتيان بالقيمة الحقيقية لهذه المنتجات الطبيعية وأنه يعطيها حقا من الاهتمام بلا زيادة ولا نقصان لئلا تغوي المرء بألوانها الزاهية البراقة وما يتبع ذلك من تهالك الناس على اقتناء الذهب والمجوهرات فيهمل أهمية ما يمكن تحقيقه بواسطتها في الصناعة والحيل والمعاملات التجارية بين الناس من خدمة جلى لسهولة تداولها وجمال تكوينها وبديع صنعها سواء أكانت في باطن الأرض أم بعد اكتشافها واستعمالاتها المتباينة. 4 يقدم المؤلف أيضا آراء أصيلة في غاية الأهمية بما يختص بتاريخ الاقتصاد والسياسة والمجتمع الإنساني مشيرا إلى ما للناحية الدينية من الأثر البعيد في إشادة بناء صرح متين من الخلق الحسن والفضائل بالتمسك بأهداب الدين الحنيف باخلاص وإيمان قويم صادق بعيد عن المظاهر الزائفة والرياء الكاذب الذي أصبح كسوس ينخر في جسم الأمة كلها حتى صار التدين ثوبا خارجيا ليس إلا. 5 بأسلوب رائع منهجي صحيح وواقعي يعطي البيروني رصيدا وافرا في الاصطلاحات اللغوية القيمة في العلوم والحيل والفنون والآداب مؤكدا بذلك مرة أخرى غنى لغة القرآن الكريم ومقدرتها على استيعاب العلوم و المعارف كلها في عصره ومسايرة التقدم فيها فأجاد بذلك أيما إجادة مما يجعل هذه المقدمة آية في الابداع والاعجاز وفريدة أدبيا وعلميا من نوعها في الحضارة الإنسانية. 6 كان المؤلف نفسه من ناحية عالما بانتشار طرق الغش والخداع من قبل عدد كبير من جواهربي جواهرجي عصره ومهارتهم في أساليبهم الكاذبة،
(1) يعطينا البيروني هنا آراء جديدة في صلاح الحكم العادل والشورى مع أنها تحمل معاني مثالية غير متوفرة في العالم السياسي على حقيقة، ولا شك أن المبادىء الدينية كان لها الأثر الكبير في ذلك الاتجاه عند المؤلف. قسم البيروني كتابه في الجواهر إلى مقدمة عرفناها مع تعليقات وشرح باختصار ثم مقالتين فصل فيهما بين الجواهر ذات الألوان البراقة والصفات الطبيعية الجذابة كالياقوت واللؤلؤ وبين المعادن ذات الوزن النوعي والصفات الخاصة بها ومنها الصلب كالنحاس والفضة ومنها اللين الرجراج كالزئبق والهش كالطاليقون مما له أهمية في تاريخ علمي الكيمياء غير العضوية والطبيعية. 244 ومن ناحية أخرى بحقيقة ندرة ما كتب حول موضوع الجواهر والفلزات لا سيما من يعين على تعريف أصلها ومنابعها ومعرفة الجيد منها والردئ وأوزانها النوعية وألوانها وصفاتها الطبيعية والكيميائية فأراد بتأليف هذا الكتاب أن يملأ فراغا في هذا الموضوع الهام فاثرى بذلك الخزانة العربية الاسلامية التراثية بسفر نفيس في بابه ونسيج وحده في فصوله وأبوابه فحق له تخليد الذكر. 7 وأخيرا يؤكد المؤلف في حراره الفردي ومناقشته ومناظراته الشخصية بان مشكلة الإنسان الحقيقية ليست هي في أساسها اقتصادية أو سياسية فحسب إنما هي معضلة روحية أخلاقية وأن المال والثراء والجواهر التي يعتبرها الأغلبية الساحقة بأنها هي زينة الحياة الدنيا إنما هي في الواقع ليست كذلك ولا هي شرطا لتكون عونا في رغد الحياة الأخرى وأن هذا الاغراء والتكالب إن هو إلا مظاهر خلابة تبهر العيون لطلب القوة والسؤدد والغنى الفاني ولكن الغنى الحقيقي الباقي هو غنى النفس بالفضائل الإنسانية ومكارم الأخلاق والقناعة مع التواضع في العيش والعمل للغير ما يريد المرء لنفسه وبذلك السعادة المنشودة. الشيخ محمد بن أحمد بن الشيخ حسن الدمستاني: قال في تاريخ البحرين المخطوط: هذا الشيخ كان فقيها أصوليا جليلا له مقام بين علماء البحرين ولم أجد من تأليفه إلا رسالة في كشف الآيات قال قدس سره في عنوانها الحمد لله الذي من علينا بكشف ديجور الضلال بنور الحق من آيات الكتاب وعرفنا كيفية استنباطها برموز تستحسن وتستطاب إلى أن قال أما بعد فيقول العبد الخاطئ الجاني محمد بن أحمد بن حسن الدمستاني البحراني أنه غير خفي على ذوي الافهام والتميز كثرة احتياج الناس إلى معرفة تفسير كل آية من كتاب الله العزيز وأن الكثير منهم لا يكادون يحيطون بحفظ كل الآيات وأنى لهم ذلك هيهات هيهات لذلك غاص نفر من العلماء الأخيار ذلك البحر الخصم الزخار إلى أن قال وسميته بالجواهر العاليات في كشف الآيات وقال في آخر الرسالة وكان اتمامه عند زوال الشمس يوم الأحد الثالث من شهر رمضان المبارك سنة 1202 الثانية والمأتين بعد الألف، ومات قدس سره سنة 1209،. الشيخ محمد بن حسين السبعي البحراني: قال في تاريخ البحرين المخطوط: ذكره العلامة الشيخ ياسين البحراني في كشكوله فعظمه وأثنى عليه ونظمه في سلك العلماء وأما الشيخ سليمان الماحوري فذكره في رسالته المعمولة في وجوب الجمعة ونظمه في سلك الشعراء وبالجملة كان قدس سره فاضلا مدققا له كتاب في وجوب الجمعة تخيرا بل استحبابا ورسالة في شرح الأحاديث النبوية وله ديوان كبير مشتمل على خطب وأشعار منه قدس سره وتوفي سنة 1011 من الهجرة. الشيخ محمد بن حسين السبعي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو أفضل شعراء المولدين جمع مع الشعر بعض العلوم الأدبية له رسالة في غرائب اللغات ورسالة في العروض وله كتاب في المسائل المتفرقة وهذه الرسالة تدل على طول باعه وكثرة اطلاعه وكتاب في القصائد ومن قصائده البديعة: أهاجك في جنح من الليل فاحم * حمام بكى فوق الغصون النواعم تذكر ألفا نازحا فبكى له * وأسهر جفني وهو ليس بنائم بكى شجوه فوق الغصون وإنما * بكيت لشجوي لا لشجو الحمائم إلى أن قال: وسما بني طه نظام فريدة * يدين لها في سبكها كل ناظم ولا عيب فيها غير اني لم أجد * لها من ذوي الافهام اصفاء فاهم ولو شاهد الفحل الفرزدق نظمها * لعاف الذي قد قال في مدح دارم إلى أن قال: يحاكي بها السبعي ما قال جده * سليم الحشا من لذعة غير سالم وصلى إله العرش ما لاح بارق * عليكم وما سحت عيون الغمائم الشيخ محمد بن الشيخ حسين الشويكي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو الإمام الفاضل والنحرير الكامل اشتغل بالفنون وأقبل على الفقه وصار فريد زمانه في استحضار النصوص وسمع من شيوخ عصره ودخل المصر، ومات فيه سنة 1111 ولم أجد من تصانيفه الا رسالة في مناسك الحج وهو من شيوخ الإجازة كما يعلم من إجازة شيخنا العلامة صاحب الإحياء وذكره الشيخ أحمد فاثنى عليه. الشيخ محمد بن عبد الله أبو عزيز الخطي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من أكابر المشايخ وله تأليفات فائقة منها كتاب النوادر ومنها كتاب الفوائد ومنها كتاب في مقتل إمامنا أبي محمد الحسن بن علي العسكري ع ومنها رسالة في علم العروض وله ديوان معروف، مات سنة 1186. السيد محمد تقي السبزواري الباشتيني الفشتنقي. توفي سنة 1312 في شاهرود ودفن فيها وله مزار معروف، وذلك عند رجوعه من زيارة العتبات المقدسة في العراق. السبزواري: نسبة إلى مدينة سبزوار والباشتيني نسبة إلى قرية باشتين من قرى سبزوار، وهي المشهورة سابقا باسم: السربدارية. والفشتنقي نسبة إلى فشتنق من قرى سبزوار. كان من تلاميذ الشيخ الأنصاري مدة طويلة كتب فيها أربع مجلدات من تقريرات بحثه فقها وأصولا ففي الأصول مجلد تام في مباحث الألفاظ والاجتهاد والتقليد وبعض حجية الظن والاستصحاب وفي الفقه ثلاث مجلدات أولها الصلاة إلى آخر السجود وصلاة الجماعة والصوم إلى كفاراته وثانيها خلل الصلاة وصلاة المسافر والوقف والإجارة والرهن وثالثها أحياء الموات والتجارة كلها عند ولده الميرزا حسين كوجك السبزواري. وأكبر أولاده: السيد محمد علي كان كما يعبر عنه الشيخ آغا بزرگ: من الأجلاء وأعلام الفضل شارك في المعقول والمنقول، برع في الفقه والأصول والطب والرياضيات والحكمة وغيرها، وكان على جانب كبير من التقوى والزهد والاحتياط والصلاح، وبلغ من ورعه أنه اتخذ بيع الكتب مهنة يعتاش بها للاستغناء عن الحقوق الشرعية. وألف في الفقه كتابا جمع فيه
245 الفروع التي استنبطها خلال المذاكرات في كتاب الوسائل وقد احترق مع غيره من كتب ولده السيد محمد تقي في ناصرية الأهواز. ولد السيد محمد علي سنة 1290 وجاء مع والده في صغره إلى سبزوار وفي سنة 1310 سافر إلى العراق وتلمذ على شيخ الشريعة الأصفهاني والشيخ محمد كاظم الخراساني وفي سنة 1319 عاد إلى سبزوار وظل فيها حتى سنة 1325 حيث عاد إلى العراق وأقام في الكاظمية وفيها توفي سنة 1338 وخلف ثلاثة أولاد صلحاء أتقياء: أكبرهم السيد محمد تقي ولد في النجف سنة 1315 وتوفي سنة 1383 في طهران وهو عائد من زيارة الرضا ع ونقل جثمانه بالطائرة إلى العراق حيث دفن في الكاظمية (1). والثاني السيد هاشم ولد في سبزوار سنة 1321 وله كتاب منتخب من تاريخ بغداد اسمه انتخاب الأمجاد من تاريخ بغداد توفي حدود سنة 1396 بالكاظمية. والثالث منهم السيد محمد سعيد من أهل الفضل ولد في الكاظمية سنة 1333 وتلمذ في النجف على الشيخ باقر الزنجاني والسيد أبي القاسم الخوئي ثم سكن طهران سنة 1365 وفيها توفي سنة 1392 ودفن في قم. والثاني من أولاد السيد محمد تقي هو السيد محمد حسين ولد سنة 1296 في سبزوار. ثم هاجر مع أخيه الأكبر إلى النجف وفيها تلمذ على الشيخ علي المازندراني وشيخ الشريعة الأصفهاني والشيخ كاظم الخراساني وفي سنة 1344 رجع إلى سبزوار فكان من أئمة الجماعة ومرجعا للترافع إلى أن توفي سنة 1368 في سبزوار ودفن فيها في مكان معروف باسم يحيى ابن الإمام الكاظم ع. وهو معروف في سبزوار بالصغير لان له سميا عرف بالكبير، كان من تلاميذ الميرزا الشيرازي والشيخ هادي السبزواري. والثالث من أولاد السيد محمد تقي هو السيد محمد كاظم ويعرف بالسيد الميرزا محمد ولد سنة 1308 وكان من علماء سبزوار وأئمة الجماعة فيها ومشرفا على المدرسة الفخرية فيها، المنسوبة إلى فخر الدولة الديلمي وهي من أقدم مدارس سبزوار. ويبدو أنه كان تلميذا لأخيه السيد حسين. توفي في سبزوار سنة 1352. أبو علي، محمد بن الحسن بن علي القتال النيسابوري الفارسي. متكلم جليل القدر، فقيه ثقة ثقة، عالم زاهد، حافظ ورع، له روضة الواعظين، والتنوير في معاني التفسير. روى عن أبيه الشيخ حسن، والشيخ الطوسي، والشيخ عبد الجبار بن عبد، والسيد المرتضى. وروى عنه الحافظ بن شهرآشوب، وعلي بن الحسن النيسابوري. استشهد على يد أبي المحاسن عبد الرزاق وزير سنجر والملقب بشهاب الاسلام، سنة 508، ومرقده بنيسابور يتبرك به. محمد بن الحسن بن فروخ الصفار، أبو جعفر الأعرج. مولى عيسى بن موسى الأشعري، يعد من أصحاب الإمام العسكري، ومن وجوه الأصحاب، عظيم الشأن كبير المنزلة، وثقه كل من ترجم له، له أكثر من 30 كتابا، منها: مسائله للإمام العسكري، الزهد، المناقب، المثالب، بصائر الدرجات، روى عن أكثر من مائة وخمسين شيخا، وعنه روى جمع كثير منهم ابن بابويه، والأشعري وابن الوليد والكليني وغيرهم مات سنة 290. الشريف الرضي محمد بن الحسين. مرت ترجمته في الصفحة 216 من المجلد التاسع وننشر عنه هنا دراسة بعنوان: الاغتراب في حياة الشريف الرضي وشعره بقلم: عزيز السيد جاسم: الشعر والاغتراب إن فهم ثنائية الاغتراب في شعر الشريف الرضي يرتبط بالضرورة بالتشخيص القرآني للشعر والشعراء، والذي كان في جوهره حسما إسلاميا واضحا لحقيقة الشعر بوجه الجاهلية والوثنيات الشائعة منذ عصور ما قبل الاسلام. وقد كانت الاتجاهات الجاهلية ثقيلة الوطأة في التصدي للدعوة المحمدية العظيمة، وكان في مقدمة الافتراءات الجاهلية إنكار النبوة والرسالة المحمدية، والادعاء أن الآي الكريم شعر أو نوع من الشعر، وأن النبي الكريم شاعر. وحيث أن المحيط العربي كان محيط شعر وشعراء فان مجرد القول بشاعرية النبي العظيم كان يعني تخفيض قداسة الرسالة إلى مستوى الشعر الذائع في المحيط العربي، ولذلك كان رد القرآن الكريم حازما وصارما: وما علمناه الشعر، وما ينبغي له، إن هو إلا ذكر وقرآن مبين. و أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون. و وما هو بقول شاعر، قليلا ما تؤمنون. وفي سورة الشعراء عرض القرآن الكريم فهما صائبا، عميقا، شاملا عن الشعراء، محددا مكانة الشاعر في الهداية، أو في الغواية، وقيمته في الحالين، ذاكرا والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا. إن القرآن الكريم في دفاعه التام عن النبوة، والرسالة الإلهية، والتغيير الاجتماعي الشامل القائم على الايمان الإلهي والعدل، قدم إدانة واضحة للشعراء الغواة، والمتقلبين، والمداحين، والمتكسبين، والثرثارين، والذين يقولون ما لا يفعلون، منهيا صورة الشاعر الجاهلي، القبلي، المتأله، المغرور، وداعيا إلى تبني الصورة الحقيقية للشاعر، والتي استثناها بقوله: ... إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا.... من هذا المنطلق القرآني تأكدت الفكرة الجوهرية التي تنص على علاقة
(1) هو والد الشقيقين التقيين البارين السيد صادق والسيد محمد علي المقيمين اليوم في طهران والذين عملا بمنطوق قول أمير المؤمنين (عليه السلام): اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا فكانا نصيري كل خير ومعيني كل حق. 246 الشعر بالايمان، والتي يمكن إدراك مدى صدق الشاعر، وجديته، أو حقيقيته بتعبير أدق. وفي واقع الأمر أن العودة إلى المنطلق القرآني ضرورية تماما، وخاصة بالنسبة إلى شاعر هو الشريف الرضي، المسلم أولا، ومن سلالة النبي الكريم ثانيا إضافة إلى ذلك، أن المنطلق القرآني يقدم تصورا شاملا عن اغتراب الشاعر ومعاناته العجيبة، التي لا حل لها إلا في الايمان، والالتزام، والنظر بعين الحق. فحيث يرتبط الشاعر بأسباب الحياة والمعيشة والعلاقات الاجتماعية، وهي أسباب مادية فإنه، شان أي إنسان آخر، يخضع لقوانين الحياة، ومتطلبات العيش، والضرورات الاجتماعية، وحيث ينتمي الشاعر إلى الشعر فإنه يحلق في فضاءات الأخيلة والرؤى بعيدا عن القوانين والعلل المادية للحياة. وما من ضرورة، في أن يؤدي ذلك التناقض بين أسباب الحياة ودواعي الشعر وسياحاته إلى الازدواجية، ما دام الشاعر متمسكا بيقينه الفكري، وهداه الروحي، إلا أن من المؤكد أن اغتراب الشاعر هو حقيقة كل شاعر بالنهاية. إن مسار القدمين شئ، وهوى رأس الشاعر شئ آخر. فهوى رأس الشاعر هو الذي يستصفي واقع الحياة على النحو الذي يتخيله. فهو يعيد رسم العالم بصورة شفافة، متنبئا بالمستقبل، أو حالما بالجديد، وذلك بالتحديد هو ميدان تعريفه، ولقبه، وشهرته. إثر ذلك، يبدو من الصعب رد الشاعر إلى الواقع المادي، بكل متشابكاته الأرضية التي لا تفسح المجال أمام الأخيلة والأحلام، إلا من خلال برزخ واحد، هو برزخ القضية التي يؤمن بها إن كان مؤمنا. وفيما عدا القضية التي ينتسب إليها الشاعر، ويؤمن بها، فان هواه هو الذي يقوده في عشرات الطرق، وشيطان شعره أقوى من عقله. وقد انتبه أفلاطون إلى قداسة الشعر لدى الشاعر الحقيقي، فالشاعر كائن مقدس، مثير للاعجاب، يخلب الألباب، إلا أنه لا مكان له في جمهورية أفلاطون، ولا بد من إرساله إلى دولة أخرى مكرما، معززا. ويذكر أفلاطون ذلك قائلا في المحاورات:... الأمر الذي تختص به دولتنا أن الإسكافي فيها إسكافي وليس ملاحا وإسكافيا في الوقت نفسه، والفلاح فلاح وليس قاضيا وفلاحا في الوقت نفسه، ورجل الحرب رجل حرب، وليس تاجرا ورجل حرب في الوقت نفسه. وذلك هو شان الجميع. قال: هذا صحيح!. يبدو إذن أنه إذا مثل في دولتنا رجل بارع في اتخاذ جميع القوالب، وتقليد جميع المظاهر لينتج قصائده وينشدها للجمهور، فلنا أن نثني عليه كما نفعل مع كائن مقدس، مثير للاعجاب، يخلب الألباب، ولكنا نقول له: ليس في دولتنا من يشبهه، ولا يمكن أن يكون فيها. ثم نرسله إلى دولة أخرى، بعد أن ننثر العطور على رأسه ونضفر له الأكاليل.... لكن أفلاطون وهو يقصي الشاعر عن جمهوريته، يبعد في الوقت ذاته أنصاره، فالشعراء في حالات الوجد الشعري والانخطاف، هم أقرب الناس إلى عالم المثل، وإلى المثالية الأفلاطونية. إلا أن خشيته من الشعراء ليست فلسفية بالدرجة الأولى، بل هي خشية تتصل بتنظيم المدينة الأفلاطونية، التي تحتاج إلى تلاحم العقول المفكرة مع الأيدي العاملة والمحاربة. ورغم أن الشاعر يغتني من الحياة، وتتعمق تجربته في الصراع السياسي والاجتماعي والحياتي بعامة، إلا أن عالمه ليس العالم المادي للناس الآخرين، عندما يستولي عليه الشعر. بعبارة ثانية إن عالم الرؤى، والأخيلة، والأحلام، والتأملات، هو غير العالم الواقعي المعاش. وفي العلاقة بين العالمين: المادي والرؤوي، يبدأ اغتراب الشاعر الذي لا يستطيع الشاعر ذاته التحكم بحدوده، مهما نضجت تجربته الشعرية، ومهما امتدت به خبرة الزمن. لأن أخيلة الشاعر الفتية، والمتجددة لا تعترف بالزمن. وبطبيعة الحال إن الاغتراب الشعري والحياتي للشاعر يعود إلى عوامل ذاتية وموضوعية، وعوامل روحية ومادية متداخلة، كما أن قهر الاغتراب، كإمكانية، يرتبط أيضا بسلسلة من العوامل الذاتية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ويمكن إجمال عوامل الاغتراب في عاملين متميزين: الأول: الاغتراب الناجم عن طبيعة الشعر، لأن كل شعر هو تدفقات صورية، لا محدودة، وتخليقات شعورية ولا شعورية تأتي في لحظة غياب الشاعر عن واقعه الحسي. فكل شعر إذن نوع من العلو المغترب في وقت الخلق الشعري. أما العامل الثاني فهو يوجد جميع الظروف المادية والأسباب الشخصية والعامة المؤدية إلى الغربة والمعاناة الدائمة، وبلا شك، إن هذه الظروف والأسباب تلعب دورا كبيرا في تغذية مضامين الشعر، وتحديد اتجاه الشعر، أو تغييره وتتداخل العوامل تداخلا معقدا، إلى الحد الذي تصبح فيه عملية فرز الأسباب الرئيسية عن الثانوية في تحديد نوع المؤثرات المغربة من أشق العمليات التحليلية. لأن نفس الشاعر المرهفة، والشديدة الحساسية، تكبر فيها الانفعالات أو تصغر، خارج إمكانات القياس الاعتيادية. فاستجابات الشاعر، وردود فعله، ليست بالأمر الذي يسهل تعيين حدوده. لذلك يمكن القول إن ثمة عوامل صغيرة جدا، أو غير معروفة، أو لا شعورية غير معروفة حتى من قبل الشاعر نفسه قد تكون محرضا فعالا في تقرير اختيارات الشاعر، وانتهاجاته السريعة أو طويلة الأمد. ومن الثابت أن الأسباب اللاشعورية تسهم إسهاما كبيرا في تكوين جانب كبير من جوانب العالم الشعري، سواء أكان ذلك في المضمون أو في الشكل. ومع أن الشعر يأتي من الشعور، إلا أن اللاشعور يتعهد بصياغة أهم ما في الشعر، إذا ما فهمنا الشعر بمعناه الحقيقي كشعرا. والشاعر الرضي أنموذج الشاعر المبدع الذي سقى زرعه بالاغتراب العميق، وبعيد الغور، والمتجذر في النفس، وفي الزمان، وفي المكان، وتبرز الغربة في شعره عبر مئات الصور الشعرية الحزينة، والرثائية، والبكائية، مثلما هي بارزة في حياته التي تقسمتها التعاسات.
247 ويعتبر منطلق الاغتراب، وأساسه العميق في نفسية وحياة وشعر السيد الرضي ثنائي المجد والفجيعة، الذي اكتسب بعده التاريخي في قطاع طويل من المسلمين، هو قطاع الطالبيين، والذي أصبح بامتداده عبر الحقب الزمنية ذا سمات ايديولوجية، واجتماعية راسخة. ويقوم الثنائي المذكور على حقيقتين تنطويان على مفارقة مأساوية: الحقيقة الأولى مجد الشريف الرضي، وأسرته الذي ينطلق في الحسب والنسب من الإمام علي بن أبي طالب ع وأهل بيت النبي ص. أما الحقيقة الثانية فهي مقاتل الطالبيين، والفجيعة الحسينية الكبرى. وتكمن المفارقة الدامية في أن النسب المجيد، بدلا من أن يقود إلى احتياز مكانة الحق والقيادة وتصريف أمور الناس من قبل سلالة أهل بيت النبي، فإنه قادهم إلى حتوفهم، وإلى مواضع الاضطهاد العاتي. وشعر الشريف الرضي مليء بافتخار الحسب والنسب، فالنبي جده، والامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والده. فمن قوله يفتخر ويذم الزمان في قصيدة مطلعها: أتذكراني طلب الطوائل * أيقظتما مني غير غافل قوما فقد مللت من إقامتي * والبيد أولى بي من المعاقل إن أمير المؤمنين والدي * حز الرقاب بالقضاء الفاصل وجدي النبي في آبائه * علا ذرى العلياء والكواهل فمن كأجدادي إذا نسبتني * أم من كأحيائي أو قبائلي من هاشم أكرم من حج ومن * جلل بيت الله بالوصائل قوم لا يديهم على كل يد * فضل سجال من ردى ونائل فوارس الغارات لا يطربهم * إلا نوازي نغم الصواهل أرى ملوكا كالبهام غفلة * في مثل طيش النعم الجوافل وقال وهو يفتخر بآبائه عموما: لنا الدولة الغراء ما زال عندها * من الجور واق أو من الظلم منصف بعيدة صوت في العلى غير رافع * بها صوته المظلوم والمتحيف ونحن أعز الناس شرقا ومغربا * وأكرم أبصار على الأرض تطرف وكل محيا بالسلام معظم * كثير إليه الناظر المتشوف وأبيض بسام كان جبينه * سنا قمر أو بارق متكشف حيي فان سيم الهوان رأيته * يشد ولا ماضي الغرارين مرهف بنا الجبهات المستنيرات في العلى * إذا التثم الأقوام زلا وأغدفوا ومن قبل ما أبلى ببدر وغيرها * ولا موقف إلا له فيه موقف ورثنا رسول الله علوي مجده * ومعظم ما ضم الصفا والمعرف وعند رجال أن جل تراثه * قضيب محلى أو رداء مفوف يريدون أن نلقي إليهم أكفنا * ومن دمنا أيديهم الدهر تنطف فلله ما أقسى ضمائر قومنا * لقد جاوزوا حد الحقوق وأسرفوا ورغم أن القصيدة تصل إلى هدف محدد يتعلق بوالده السيد أبي أحمد الموسوي، إلا أن الابتداء الفخاري بالحسب والنسب واللقب وبالتاج النبوي الأكبر، سرعان ما يتدرج إلى لازمته الضرورية التي لا مناص منها، وهي التفجع، ومرارة التأسي ومن الناحية التاريخية، إن الطعنة الغادرة التي أنهت حياة الدنيا لعلي ابن أبي طالب كانت قد وضعت أهل البيت في نقطة المفترق، في حين جاء استشهاد الحسين بن علي يوم الجمعة العاشر من المحرم سنة إحدى وستين ذروة المأساة، التي تتردد صيحتها بين جنبات العالم الاسلامي بهدير لم يهدأ أبدا بل هو في ازدياد. وإذا ما كان التفجع لاستشهاد الحسين تظاهرة تاريخية كبرى يشترك فيها ملايين المسلمين، ويشاركهم العزاء العديد من غير المسلمين، فكيف الحال والشريف الرضي من أحفاد الحسين، وهو: أبو الحسن، الشريف الأجل، الملقب بالرضي، ذو الحسبين، محمد بن الحسين أو محمد بن أبي أحمد بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. لقد جاء اغتراب الشريف الرضي وغربته من الفجيعة الأليمة، والمأساة التي لا مثيل لها، من تلك البداية الجليلة، في يوم عاشوراء، حينما استشهد الحسين، ومعه الكوكبة الطاهرة من شهداء أهل البيت: العباس، وجعفر، وعثمان، ومحمد، وأبو بكر أولاد علي بن أبي طالب، وعلي، وعبد الله ولدا الحسين، وأبو بكر، وعبد الله، والقاسم أولاد الحسن، وعون الأكبر ومحمد ولدا عبد الله بن جعفر، وجعفر وعبد الرحمن، وعبد الله، ومسلم أولاد عقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن مسلم بن عقيل، ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل. لقد جرى قتل أهل بيت الرسول بأيدي أناس كانوا يدعون الاسلام، وهذا ما أعطى للمأساة بعدا فجائعيا لم يتكرر في التاريخ. فلم يرو أحد في جميع مراحل التاريخ أن بشرا يقتلون أهل بيت نبيهم، وباسم خلافة الدين! إلا في مناسبة واحدة هي ملحمة عاشوراء. كان النبي يقول: استوصوا باهل بيتي خيرا، فاني أخاصمكم عنهم غدا، ومن أكن خصمه أخصمه، ومن أخصمه دخل النار. وكان يقول: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله: فيه الهدى والنور. فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به. ثم أهل بيتي... أذكركم الله في أهل بيتي... أذكركم الله في أهل بيتي... أذكركم في أهل بيتي. وكانت أحداث عاشوراء أكبر من خيانة نبي، لأنها كانت محاولة لامحاء ذرية النبي، لكن الله أحبط مساعي الظالمين، فجعل البلاء الذي مر به أهل البيت قوة للدين، ونصرة لأفكار الشهداء الخالدين، وإنما البلاء على قدر صدق الصادقين. وفي حديث نبوي: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه، فان كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة. ومثلما توارثت سلالة الحسين العلم والمناقب الشريفة، فإنها توارثت الشعور المتجدد بقوة النكبة، فافرد الشريف الرضي غررا من القصائد في رثاء أبي عبد الله الحسين بن علي، ومنها رثائية عاشوراء سنة 387:
248 راحل أنت والليالي تزول * ومضر بك البقاء الطويل لا شجاع يبقى فيعتنق البيض * ولا آمل ولا مأمول غاية الناس في الزمان فناء * وكذا غاية الغصون الذبول إنما المرء للمنية مخبوء * وللطعن تستجم الخيول من مقيل بين الضلوع إلى طول * عناء وفي التراب مقيل فهو كالغيم ألفته جنوب * يوم دجن ومزقته قبول عادة للزمان في كل يوم * يتناءى خل وتبكي طلول فالليالي عون عليك مع البين * كما ساعد الذوابل طول ربما وافق الفتى من زمان * فرح غيره به متبول هي دنيا إن واصلت ذا جفت هذا * ملالا كأنها عطبول كل باك يبكى عليه وإن طال * بقاء والثاكل المثكول والأماني حسرة وعناء * للذي ظن أنها تعليل ما يبالي الحمام أين ترقى * بعدما غالت ابن فاطم غول أي يوم أدمى المدامع فيه * حادث رائع وخطب جليل يوم عاشوراء الذي لا أعان الصحب * فيه ولا أجار القبيل يا ابن بنت الرسول ضيعت العهد * رجال والحافظون قليل ما أطاعوا النبي فيك وقد مالت * بأرماحهم إليك الذحول وأحالوا على المقادير في حربك * لو أن عذرهم مقبول واستقالوا من بعد ما أجلبوا فيها * أالآن أيها المستقيل إن أمر قنعت من دونه السيف * لمن حازه لمرعى وبيل يا حساما فلت مضاربه الهام * وقد فله الحسام الصقيل يا جوادا أدمى الجواد من الطعن * وولى ونحره مبلول حجل الخيل من دماء الأعادي * يوم يبدو ظعن وتخفى حجول يوم طاحت أيدي السوابق في النقع * وفاض الونى وغاض الصهيل أتراني أعير وجهي صونا * وعلى وجهه تجول الخيول أتراني ألذ ماء ولما * يرو من مهجة الامام الغليل قبلته الرماح وانتضلت فيه * المنايا وعانقته الفصول والسبايا على النجائب تستاق * وقد نالت الجيوب الذيول من قلوب يدمى بها ناظر الوجد * ومن أدمع مراها الهمول قد سلبن القنا عن كل وجه * فيه للصون من قناع بديل وتنقبن بالأنامل والدمع * على كل ذي نقاب دليل وتشاكين والشكاة بكاء * وتنادين والنداء عويل يا غريب الديار صبري غريب * وقتيل الأعداء نومي ثقيل بي نزاع يطغى إليك وشوق * وغرام وزفرة وعويل ليت أني ضجيع قبرك أو أن * ثراه بمدمعي مطلول لا أغب الطفوف في كل يوم * من طراق الأنواء غيث هطول مطر ناعم وريح شمال * ونسيم غض وظل ظليل يا بني أحمد إلى كم سناني * غائب عن طعانه ممطول وجيادي مربوطة والمطايا * ومقامي يروع عنه الدخيل كم إلى كم تعلو الطغاة وكم * يحكم في كل فاضل مفضول إن نداء الشريف الرضي الذي امتد حرف النداء فيه يا مع المنادى الغريب إلى ما لا محطة له، ولا نهاية، عبر الزمن، هو الصوت الذي يسكن أعماقه الموحشة، ويركب لسانه الذي لا يكف عن اللهج والتحسس، فتظل المناداة الصارخة: يا غريب الديار صبري عجيب مدخلا لتفسير اغتراب الشاعر وغربته التي تتجاوز في المعنى كل شقاء. ذو التعاستين ورث الشريف الرضي في روحه ودمه روح الفجيعة الحسينية، لكن الدهر لم يترفق به في حدود ذلك، بل أدخر له أمرا عظيما وتعاستين بالغتين: الأولى سجن أبيه الذي كان سنده الكبير والشخصية العظيمة التي حملت قبسا من نور أهل البيت وحكمتهم وعدالتهم. لقد: كان أبوه النقيب أبو أحمد، جليل القدر، عظيم المنزلة في دولة بني العباس ودولة بني بويه، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وخاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد، وولي نقابة الطالبيين خمس دفعات، كما ولي النظر في المظالم، وحج بالناس مرارا. أميرا على الموسم. لقد كان الشريف الرضي في العاشرة من عمره، حينما سجنه عضد الدولة، ففقد بذلك ولي الأمر، والسند، والنصير، ولم يكن أبوه مجرد أب، بل كان يرى فيه تجسيدا لموضوع فخاره وافتخاره، وكان يعلق الآمال على أن يحتاز أبوه المكانة التي يستحقها، والتي لا تقل شانا عن الخلافة. وقد كانت آمال الصبا كبيرة وملونة، حينما كان أبوه سيدا مطاعا، ومصلحا كبيرا، وبسجنه تطايرت الآمال وخيمت ظلمة الأسى على روح الشريف الرضي. لقد كان الاغتراب التاريخي الذي ورثه الشاعر يحث على الثورة، وقبل أن يبلغ الشباب كان يحتاج إلى حماية ورعاية وجدهما في أبيه، وفي لحظة واحدة وجد الشاعر نفسه أمام الحقيقة القاسية، سجن أبيه وعمه، وتهدم بناء الحماية والعز في لحظة غريبة. وفي ذلك يقول زكي مبارك: وما ظنكم بطفل يتوقد غيرة وحماسة، ويقبل على الدرس إقبال الرجال، فيصل النهار بالليل في درس العلوم العقلية والنقلية، ويأوي إلى بيت عامر بالكرم والجود تعج أرجاؤه بأصوات الخدم والحاشية، ويرى أباه في الصباح والمساء وهو عماد المكروبين، وغياث الملهوفين، ويرى أساتذته يبالغون في إكرامه لأنه ابن النقيب، ما ظنكم بطفل هذه أحواله يمسي بعافية ثم يصبح فيرى ذاهل العقل أن أباه جرد من الحول والطول وألقي به في غياهب الاعتقال. ويضيف: إن من العسير أن تتصوروا النبوع الشعري في طفل غرير، لأنكم تعيشون في أزمان لا تعرف الشقاء، أزمان يكون فيها من النبوع أن يحفظ الطفل قصيدة وهو ابن عشر سنين، ولكن يسهل عليكم تخيل ذلك حين تتذكرون كيف كان حال الشريف الرضي حين نقل أبوه منفيا إلى فارس، حين تتصورون كيف أمسى ذلك الطفل فقيرا ذليلا بعد الغنى والعزة، حتى صح لبعض أساتذته أن يهبه دارا يسكنها!. وما أظلم الأيام التي تحوج طفلا مثل الشريف إلى قبول هذه الهدية بعد تمنع وإباء. تصوروا حال الشريف وهو يحاور أستاذه فيقول: لم أقبل بر أبي فكيف أقبل برك؟! فيجيب الأستاذ وهو يتوسل إليه: إن حقي عليك أعظم
249 من حق أبيك، لأني حفظتك كتاب الله تعالى، فقبلها. إن فترة سجن السيد أبي أحمد الموسوي في قلعة فارس امتدت من سنة 369 إلى سنة 376 وكانت التعاسة الأولى التي أججت كل ما هو كامن من شعور فجائعي، وتمردي في نفس الرضي، وأضيف إليها التعاسة الثانية وهي مصادرة أملاك والده وتعريض العائلة للعوز والحرمان. ولعل إهداء الدار إليه من قبل أستاده إبراهيم بن أحمد الطبري خير بلاغ عن الفاقة التي آل إليها الشريف الرضي، على ما عرف عليه الشاعر من إباء، وترفع، وكبرياء رافقته منذ الصغر، ولم تخنه على الكبر. وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد: أما ترفع الشريف وأنفته وارتفاعه فوق المطامح المادية فمشهور، وقد عرف عنه أنه لم يقبل هدية من أحد. ولم ينس الشريف الرضي استفزاز المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة لوالده حين القبض عليه، إذ قال له: كم تدل علينا بالعظام النخرة مستهينا بذلك بالسلالة الطاهرة الشريفة، وأصلها الكريم. وقد كان للإهانة طعم خارق، لاذع، لم يتمكن الشاعر من نسيانه أبدا. وتفعل المأساة فعلها الكبير في نفس الشاعر، وسنه فوق العاشرة بقليل، فيذكر أباه في قصيدة يقول فيها: نصافي المعالي والزمان معاند * وننهض بالآمال والجد قاعد تمر بنا الأيام غير رواجع * كما صافحت مر السيول الجلامد وتمكننا من مائها كل مزنة * وتمنعنا فضل السحاب المزاود وما مرضت لي في المطالب همة * وأحداثه في كل يوم عوائد عوائد هم لا يحيين غبطة * بهن ولا تلقى لهن الوسائد ولله ليل يملأ القلب هوله * وقد قلقت بالنائمين المراقد وتعز فما كل المصائب قادم * عليك ولا كل النوائب عائد ينال الفتى من دهره قدر نفسه * وتأتي على قدر الرجال المكايد فدى لك يا مجد المعالي وبأسها * فعال جبان شجعته الحقائد فما تركت منك الصوارم والقنا * ولا أخذت منك الحسان الخرائد عزلت ولكن ما عزلت عن الندى * وجودك في جيد العلى لك شاهد بوجهك ماء العز في العزل ذائب * ووجه الذي ولى من الماء جامد فأنت ترجي الملك وهو زواله * بغير جلاد فيه وهو مجالد فلا يفرح الأعداء فالعزل * معرض إذا راح عنه صادر جاء وارد وما كنت إلا السيف يمضي ذبابه * ولا ينصر العلياء من لا يجالد ثم يحمل على المستفز الشاتم وزير عضد الدولة: يدل بغير الله عضدا وناصرا * وناصرك الرحمن والمجد عاضد تعير رب الخير بالي عظامه * ألا نزهت تلك العظام البوائد ولكن رأى سب النبي غنيمة * وما حوله إلا مريب وجاحد ولو كان بين الفاطميين رفرفت * عليه العوالي والظبي والسواعد إن جرح الإهانة أثار فيه سخطا على الدولة ووزيرها، ولذلك انطلق التحدي شعرا، وعرض بالخليفة العباسي، ولوح له بعظمة الفاطميين في مصر، وكان ذلك يومئذ من المحظورات. وأضاف في قصيدته: وما والد مثل ابن موسى لمولد * قريب تجافاه الرجال الأباعد حمى الحج واحتل المظالم رتبة * على أن ريعان النقابة زائد فاقبل والدنيا مشوق وشايق * وأعرض والدنيا طريد وطارد وساعده يوم استقل ركابه * أخوه وقال البين نعم المساعد هما صبرا والحق يركب رأسه * عشية زالت بالفروع القواعد تفرد بالعلياء عن أهل بيته * وكل يهاديه إلى المجد والد وتختلف الآمال في ثمراتها * إذا أشرقت بالري والماء واحد إن حب الشاعر لأبيه تجسيد مكثف لعدة أشكال ودرجات من الحب، فهو حب الابن للأب، وحب التلميذ للأستاذ، وحب المؤمن بزعامة الزعيم للزعيم، وحب الذات للأنموذج الذي تسعى إلى أن تسير على هداه وتكون بصورته. ففي قرارة نفس الشريف الرضي ترعرع طموح مشروع في أن يكون زعيما كأبيه. فتفتق الحب عن أكثر من أربعين قصيدة مدح لأبيه. ويشير زكي مبارك إلى أن أشعار الشريف الرضي في مدح أبيه تنقسم إلى ثلاث طوائف: الطائفة الأولى في التوجع لأبيه وهو سجين، والطائفة الثانية في تهنئة أبيه بالخلاص ورد أملاكه إليه، والطائفة الثالثة في تهنئته بالأعياد بعد أن لان الزمان. ولكل طائفة من هذه الأشعار خصائص: فالطائفة الأولى تصور الحزن والجزع والتفجع، والثانية يغلب عليها الابتسام ولكنها تفيض بالسم الزعاف في الثورة على الناس، والثالثة تخلع على أبيه رداء الملوك. فهو يدخل عليه في كل عيد بقصيدة كما يصنع الشعراء في تحية الخلفاء والملوك. إن حب الشريف الرضي لوالده كان انتماء عظيما للأب وللقضية وللنفس في آن واحد. وحينما أطلق سراح والده ومعه عمه، وقدم من فارس إلى بغداد، فان روح الشاعر كانت ترافق الوالد في عودته مرحلة مرحلة، ولكل مرحلة كان يعد لها شعرا وكلمات. وذلك يدلل على الغصص التي حبست في صدره، والتي أخذ يطلقها حينا بعد حين، مع مسيرة عودة أبيه من المنفي والسجن. فمثلا هناك قصيدة وجهها إلى أبيه وأنفذها إليه قبل دخوله بغداد بأيام يسيرة على يد بعض أصحابه، فهو كان يعرف معنى التحية، تحية الراجع إلى وطنه وهو في الطريق، كما نرسل برقيات التحية في هذه الأيام ليفرح بها القادمون وهم على متون البواخر، وهذه القصيدة ليست من الطوال، ولكنها على قصرها تصور شوقه إلى أبيه وهو نبت ضعيف، ويشير إلى ما صنعت به الأيام، فيقول في آخر القصيدة: لما ذكرتك عاد قلبي شوقه * فبكين عنه مدامع الأقلام خلفتني زرعا فطلت وإنما * ذاك الغرار نمى إلى الصمصام أكدت علي الأرض من أطرافها * وتدرعت بمدارع الاظلام وعهدتها خضراء كيف لقيتها * أبصرت فيها مسرحا لسوامي أشكو وأكتم بعض ما أنا واجد * فأعاف أن أشكو من الاعدام وعند ما وصل أبوه، ذلك الأمير الحقيقي، والذي شمخت صورته في حلم الرضي، كانت الصعقة الوجدانية كبيرة، فقد رأى الشاعر أباه
250 العملاق، لكن بآية صورة؟!. رآه شاحب اللون، هزيل الجسم، قد نالت ظلمات الاعتقال منه، ولا يعلم إلا الله كيف خفق قلب ذلك الفتى حين رأى أباه، فقد كان لا يزال طفلا، وكانت المعاني السود والبيض تلذع قلبه لذعا عنيفا، والعواطف العاصفة لا يعرفها غير الأطفال. فكانت قصيدة الاستقبال مشوبة بكل الانفعالات المتعارضة: طلوع هداه إلينا المغيب * ويوم تمزق عنه الخطوب لقيتك في صدره شاحبا * ومن جلية العربي الشحوب إليه تحج النفوس الصدور * وفيه تهني العيون القلوب تعزيت مستأنسا بالعباد * والليث في كل أرض غريب وأحرزت صبرك للنائبات * وللداء يوما يراد الطبيب لحا الله يوما أرانا الديار * يندب فيها البعيد القريب وما كان موتا ولكنه * فراق تشق عليه الجيوب لئن كنت لم تسترب بالزمان * فقد كان من فعله ما يريب رمى بك والأمر ذاوي النبات * فال وغصن المعالي رطيب ولما جذبت زمام الزمان * أطاع ولكن عصاك الحبيب ولما استطال عليك الزمام * وذلل فيك المطي اللغوب رجوت البعاد على أنه * كفيل طلوع البدور الغروب رحلت وفي كل جفن دم * عليك وفي كل قلب وجيب ولا نطق إلا ومن دونه * عزاء يغور ودمع ربيب وأنت تعللنا بالإياب * والصبر مرتحل لا يؤوب وسر العدا فيك نقص العقول * وأعلم أن لا يسر اللبيب أما علم الحاسد المستغر * أن الزمان عليه رقيب قدمت قدوم رقاق السحاب * تخطر والربع ربع جديب فما ضحك الدهر إلا إليك * مذ بان في حاجبيه القطوب إن الألم في حياة الرضي، والذي يعكسه شعره بجلاء تام، أصبح أكثر من حالات نفسية حزينة، بسبب حوادث مؤلمة، لقد أصبح خبرة متميزة، لها خطوطها الطويلة والعريضة، وجذورها العميقة، وآثارها البارزة. ورغم الأوقات السعيدة التي كانت تعقب فترات العناء والشدة والحزن الممض، فقد أصبحت للألم في حياة الشريف الرضي فلسفة متناثرة في شعره. ولم تكن أوقات الفرح بقادرة على خداعه، مع أنه لا يخفي سعادته، وكانت فرصة رد الأعمال القديمة إلى والده وهي النقابة وإمارة الحج والنظر في المظالم، وذلك في جمادى الأولى سنة 380 مناسبة لتهنئة والده وإبداء الفرحة، فقال: انظر إلى الأيام كيف تعود * وإلى المعالي الغر كيف تزيد وإلى الزمان نبا وعاود عطفه * فارتاح ظمآن وأورق عود قد عاود الأيام ماء شبابها * فالعيش غض والليالي غيد لكن الحكمة المبثوثة في أبيات القصيدة، هي نتاج الألم وخبرته، وهي التعبير عن النهج النقدي المرير الذي لازم شعر الشريف الرضي، وزوده بعناصر الثورة، لذلك فهو يذكر: ما السؤدد المطلوب إلا دون ما * يرمي إليه السؤدد المولود فإذا هما اتفقا تكسرت القنا * إن غالبا وتضعضع الجلمود وأجل ما ضرب الرجال بحده * الأعداء مجد طارف وتليد وبلا شك أن طريق السؤدد المولود مليء بالأحزان، والمتاعب، وهي أكبر بكثير من مشقات وتضحيات السؤدد المطلوب، بمعنى أن الآلام القادمة والتي تنتظر حياة الشاعر هي قدره المحتوم، وما دام غير قانع بالمكاسب المحدودة، فهو مقتنع بالعذاب الذي لا بد منه. إن التعاسات أفضت بالشريف الرضي إلى اغتراب يتفجر حكمة وبعد نظر. الاغتراب الروحي في حياة وشعر الشريف الرضي إن العناصر الأساسية المكونة للاغتراب الروحي في التجربة الحياتية والشعرية للشريف الرضي هي أولا: الأصل الفجائعي للسلالة الهاشمية، وأهل بيت النبي بالذات، والذي يشكل خلفية تاريخية مأساوية تهطل منها معطيات أدبية وفلسفية في البلاء، والعزاء، والاصرار الدائم على تلمس الجذور الدامية للمأساة. وتشاء الخلفية التاريخية هذه أن تكون تأثيراتها قبل الولادة، لأنها تجري في الدم وفي حركة الأعصاب، وفي الموروثات العضوية، قبل التوارث الروحي والثقافي الذي تنقله الطقوس والتقاليد الدينية والاجتماعية. ثانيا: الزهد والمعرفة الدينية، وهما من سمات السلالة ومن إرثهما المنقول من الآباء إلى الأبناء. وقد بينت صحف التاريخ الاسلامي أن آباء وأجداد الشريف الرضي كانوا أوعية للعلم والمعرفة الربانية، وكانوا زهادا، عابدين، قانتين، شغلتهم مناجاة الله عن المطامع الدنيوية الرخيصة، ولم يكن لأحدهم إعراضا عن حقهم في السعي من أجل نشر العدل في الحياة الدنيا، بل هو تعبير عن وحدة ذلك الحق مع الفقر، لأن العدل لا ينشأ إلا من القاع الاجتماعي، والبساطة، والتواضع، ورفض الثراء والجاه والغرور الزائف. ومما زاد ويزيد في زهد العارفين، القانتين، والأئمة الأعلام، الطهورين، تفاقم الفساد والاحتيال والغدر، وهدر الأخلاق، وسيادة منطق القوة والقهر والابتزاز والارشاء، وكل المباذل التي تهوي بالمجتمع إلى الحضيض. فكلما تزداد كفة الميزان ميلان لصالح الفساد، فان العلماء يزدادون زهدا واحتماء بالدين والقيم الروحية. وفي عصر الشريف الرضي، تعرض الوجود العربي، إلى مؤثرات قوية، ووجدت طبقة ممعنة في الترف والنعيم وطلب المسرات والخروج بها إلى حد الشذوذ، ولعل من أسباب ذلك، ما طرأ على هذا العصر من ضعف الوازع الديني، ومن فساد الأسرة بسبب الاختلاط والتزاوج، وبسبب كثرة القيان وإباحة المنكرات، والتعلق بمظاهر الحياة المادية تعلقا شديدا مفرطا. فقد رأى هذا العصر سيلا هائلا من العناصر الدخيلة، كما نشطت فيه تجارة الرقيق،
251 كل ذلك ساعد على الانحلال الاجتماعي، بحيث صارت محلات القيان والغلمان أمرا معتادا يتردد عليها الناس، ويرتادها الكثيرون، وتطرح فيها الحشمة. وكانت مجالس الأشراف والوزراء تالف هذا النوع من الحياة التي أصبح فيها المجون والخلاعة نوعا من الترف الحضاري، والتظرف الاجتماعي. وكان الوجه الآخر للترف والمجون انتشار البؤس والفاقة، في القاعدة الاجتماعية العريضة، وعيش العلماء البعيدين عن السلطة في حرمان وفاقة. فكان أن هجر بغداد مثلا عبد الوهاب المالكي، وقذف في وجه عصره بأشنع وصمة، وهو يقول لمودعيه: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية، ما عدلت عن بلدكم لبلوغ أمنية. إن اجتماع الفقر والفساد الأخلاقي والثراء الفاحش خلق وسطا صالحا للتأثيرات المنافية للدين الاسلامي وللتقاليد العربية الاسلامية. فكان الزهد موقف الرفض التام للانحرافات الشاذة التي طعنت الاسلام والعروبة في الصميم. وكان على مراتب ودرجات. وهي في مجموعها تهتدي بسلوك النبي الكريم المعروف بزهده وتقشفه. وقد كان الحديث النبوي: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا هو المقياس الذي حدده الاسلام، وهو التقوى على أساس العمل للدارين لا تقوى المترهبين المستغرقين في التأمل والعبادة. وقد استطاع الاسلام أن يحقق المثل الأعلى الذي صوره نظريا للشخصية المسلمة. فتجلى في كثير من صحابة رسول الله ص ذلك الطراز العامل لدنياه وآخرته، المتعاون في سبيل خلق الحياة الصالحة لأفراد مجتمعه. وقد استلهم الشريف الرضي نظرته إلى الدنيا من القرآن الكريم: يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. فقال الرضي في شعره ما لي إلى الدنيا الغرورة حاجة * فليخز ساحر كيدها النفاث طلقتها ألفا لأحسم داءها * وطلاق من عزم الطلاق ثلاث سكناتها محذورة وعهودها * منقوضة وحبالها أنكاث أم المصائب لا يزال يروعنا * منها ذكور نوائب وإنشاث إني لأعجب من رجال أمسكوا * بحبائل الدنيا وهن رثاث كنزوا الكنوز وأغفلوا شهواتهم * فالأرض تشبع والبطون غراث أتراهم لم يعلموا أن التقى * أزوادنا وديارنا الأجداث أما ثالث العناصر المكونة للاغتراب الروحي للشريف الرضي فهو تفوقه العقلي، وتمتعه بمؤهلات ومزايا شخصية كبيرة تتناسب مع دوره الطليعي ورسالته الدينية والاجتماعية. وقد تجلت الجدارات العقلية والأدبية، ورهافة الشعور، وشجاعة الطبع في الشريف الرضي منذ طفولته، فكانت غربة الذكاء النادر من سماته الأولى، فقد قال من أحسن الشعر وهو في العاشرة من عمره، وكانت غربة الاحساس الصقيل، الانفعالي المرهف قد بكرت معه منذ طفولته، فلا عجب أن زار الشيب شعر رأسه في العشرين، وشيب الرأس من شيب الفؤاد. فإذا ما جاز تشبيه الناس بالمعادن، فان الشريف الرضي كان من أكرمها وأغناها، وفي حديث نبوي: الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية، خيارهم في الاسلام إذا فقهوا. وقد توفرت في الشريف الرضي صفات ذهبية متكاملة من ذكاء، وشجاعة، وكرم وسخاء ورهافة حس، وحب للناس، وقد شملته عاطفة غامرة، كان يجود بها على الأصدقاء والأقربين ففاض بها شعره مثلما فاضت بها نفسه. وكما في كل العصور فان الشخص المتفوق، المرهف، المبدع، يجد نفسه غريبا بين أوساط من الناس الذين تتجاذبهم الأطماع والأهواء، الذين ينعقون مع كل ناعق، ولا يعرفون للحق سبيلا. ويشهد التاريخ أن العوام الذين لم تشملهم الهداية وعوامل التغيير الثقافي الإنساني، هم الذين حاربوا وطاردوا الرسل والأنبياء والصالحين وذوي الكرامات والمتقدمين المبرزين على طريق الفلاح. ولم يكن الشريف الرضي في غربته الروحية أقل بلاء من الذين امتحنهم البلاء فما ازدادوا إلا صلابة وإيمانا. وأول غربة في طريق الاغتراب الروحي الطويل كانت غربة النفس، والتي قال فيها الشاعر الرضي: النفس أدنى عدو أنت حاذره * والقلب أعظم ما يبلى به الرجل وكانت قصيدة هذا البيت تذم الزمان، الذي لم تنقض فيه الحاجات في حين كان الشباب يولي مسرعا: ولى الشباب وهذا الشيب يطرده * يفدي الطريدة ذاك الطارد العجل ما غازل الشيب في رأسي بمرتحل * عني وأعلم أني عنه مرتحل من لم يعظه بياض الشعر أدركه * في غرة حتفه المقدور والأجل من أخطأته سهام الموت قيده * طول السنين فلا لهو ولا جذل وضاق من نفسه ما كان متسعا * حتى الرجاء وحتى العزم والأمل إن نفس الشريف الرضي المشدودة بالأيام الأولى التي لا عودة لها، لم تجد في بقاء الحياة أي أمل: وكيف نأمل أن تبقى الحياة لنا * وغير راجعة أيامنا الأول وتبعا لثقافة الشريف الرضي فان أفكاره عن النفس متصلة اتصالا وثيقا بثقافته القرآنية، أولا، وبتجربته الشخصية ثانيا. ويعد قول الرسول: أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك هي المؤشر الرئيسي الذي تلقفه الثقات، الذين وضعوا نصب أعينهم هدفا كبيرا وهو تطهير النفس، وتحريرها من كل الموبقات والشوائب والسلبيات. فالتطهير هو الطريق إلى معرفة النفس، وأن الجهل بالنفس هو في واقعه اتباع هواها والانخداع برغباتها. وحينما كان الشريف الرضي يعقد موازنة بين عداوة الناس وعداوة النفس، كان يرى أن نفسه أعدى له من جميع الناس، ويقول في ذلك:
252 أروم انتصافي من رجال أباعد * ونفسي أعدى لي من الناس أجمعا إذا لم تكن نفس الفتى من صديقه * فلا يحدثن في خلة الدهر مطمعا ولا ينخدع الشريف الرضي بما يصيب النفس من حالات صفاء مؤقتة، لأن نظراته كانت ترتد إلى أغوار النفس البعيدة، مدركا صلتها بالزمن وبالموت. فعلى هاتين الصلتين انبنت أفكاره عن النفس. وهو يختلف في نظرته إلى الزمن عن نظرة أبي العلاء المعري، فقد كان المعري ذا نظرة وجودية، وعقلية، مشتركة، لا تلقي بالاتهام على الزمن، وإنما على البشر الذين حق على الزمان أن يشكوهم لو استطاع تكلما. قال المعري: نبكي ونضحك والقضاء مسلط * ما الدهر أضحكنا ولا أبكانا نشكو الزمان وما أتى بجناية * ولو استطاع تكلما لشكانا وتنطلق نظرات المعري الوجودية والعقلية من إيمانه بقضاء الله الذي لا راد له، وبقدره، فهو يقول: قضى الله فينا بالذي هو كائن * فتم وضاعت حكمة الحكماء وهل يأبق الإنسان من ملك ربه * فيخرج من أرض له وسماء ويقول: رددت إلى مليك الحق أمري * فلم أسال متى يقع الكسوف لكم سلم الجهول من المنايا * وعوجل بالحمام الفيلسوف أما الشريف الرضي فقد كان يرى في الزمن خصما لدودا... لأنه الزمن الذي آل إلى فجيعة أهل البيت وشهد دماءهم المتناثرة على أرض كرب وبلاء، وهو الزمن الذي شهد سجن ونفي أبيه، ومصادرة أملاكه، وهو الزمن الذي يسوس فيه الأمور العلوج والسفهاء، فيما يتعرض فيه أهل الرئاسة الحقيقية إلى المحن والمصائد. ورغم أن الزمن مزدوج تارة، كما يقول: كل شئ من الزمان طريف * والليالي مغانم وحتوف إلا أن لعبة الزمن ثابتة: عادة للزمان في كل يوم * يتناءى خل وتبكي طلول فالليالي عون عليك مع البين * كما ساعد الذوابل طول وهو في هذه اللعبة مغترب كبير مهدور الطموحات، كثير الشقاء، شديد التحسس بالماضي، بذهاب أقوام، وبحتمية ذهاب آخرين. وهو يرى الدهر وسط الاغتراب، فهو لم ينصره يوما ما، بل أحاطه بالخذلان، فقال: فما لي طول الدهر أمشي كأنني * لفضلي في هذا الزمان غريب إذا قلت علقت كفي بصاحب * تعود عواد بيننا وخطوب ويقول: يقولون نم في هدنة الدهر آمنا * فقلت ومن لي أن يهادنني الدهر هل الحرب إلا ما ترون نقيصة * من العمر أو عدم من المال أو عسر فلا صلح حتى لا يكون لواجد * ثراء ولا يبقى على وافر وفر ويستجيب الشاعر أحيانا إلى دعوة العقلاء الداعين إلى مسايرة الدنيا، ولكنه يرى أن الدنيا، مهما دخل في مداراتها، فإنها مخادعة، حتى في زخرفها العلني، ومتاعها اللذيذ، وهو يشدد على عدم الانخداع بها ف: هيهات يا دنيا وبرقك صادق * أرجو فكيف إذا وبرقك كاذب ومهما أوتي من قوة لارغام نفسه على مسالمة تصاريف الزمان، فان النجاحات لم تكن بمستوى المأمول، بل دون ذلك بكثير. وكثيرا ما حمل شعره ردا على نفسه، وهو في مونولوج الحوار الداخلي، وتذكير نفسه بضرورة توفر الناصر والمعين، فيما لا يجني من محاربة الزمان شيئا، لأنه في تلك المحاربة يبقى قليل الناصر، فيقول: سالم تصاريف الزمان فمن يرم * حرب الزمان يعد قليل الناصر كذلك حمل شعره ردودا على الذين قالوا له بضرورة مماشاة الدهر، لخصها قوله: يقولون ماش الدهر من حيث ما مشى * فكيف بماش يستقيم وأظلع وما واثق بالدهر إلا كراقد * على فضل ثوب الظل والظل يسرع وقالوا تعلل إنما العيش نومة * يقض ويمضي طارق الهم أجمع ولو كان نوما ساكنا لحمدته * ولكنه نوم مروع مفزع إن الوطيس الحامي بينه وبين الدهر، قد عززه سوء الحظ الذي حالفه، مثلما حالف ذوي الفضل الذين أزرت بهم الدنيا. ولم يستطع الشاعر أن يتوقف عن مهاجمة سوء الحظ ونكد الدنيا، محملا الدنيا، نفسها مسؤولية سوء الحظ الذي انتظمه الزمان له ولأسرته خرزة، خرزة، حتى صار تراثا مأساويا ضخما، قال الشاعر: ومن عجب صدود الحظ عنا * إلى المتعممين على الخزايا أسف بمن يطير إلى المعالي * وطار بمن يسف إلى الدنايا ويرن سوء الحظ في شعر الشاعر كثيرا ف: ما الذنب للمزن جازتني مواطره * وإنما الذنب للأرزاق والقسم لكنه يخلص دوما إلى النتيجة المعلومة، إلى عهر الدنيا وابتذالها، وانعدام العدالة فيها: وخلائق الدنيا خلائق مومس * للمنع آونة وللاعطاء طورا تبادلك الصفاء وتارة * تلقاك تنكرها من البغضاء وتداول الأيام يبلينا كما * يبلي الرشاء تطاوح الأرجاء وترتبط أفكار الشريف الرضي عن الزمن ومأساويته ارتباطا قويا بأفكاره عن الموت. بل إن الشاعر المرهف الاحساس، والمبدع، والجمالي، يرى في الموت السبب الأول لاغترابه الروحي، وأنه يعمد إلى قهر هذا الاغتراب بالكفاح، والتمرد، والثورة، وصنع الأحداث، والحب، والاستغراق في تفاصيل الحياة السياسية والعاطفية، إلا أنه أي الاغتراب الروحي ثعبان النفس الذي يخرج من الظل مادا رأسه إلى الحياة، لكنه مشير إلى الموت. وليس غريبا على الشعراء أن يتحدثوا عن الموت، لأنهم باحساسهم المتدفق الذي خبروا فيه
253 غنى الحياة، شخصوا الحياة كحقيقة، لكنهم بالعقل والاحساس شخصوا الموت كحقيقة الحقائق. وقد استخلص الأنبياء من الموت تصورات عظيمة عن الحياة والبعث، وأعطوا لوائح خالدة في الوعظ والتربية ورسم صور مثالية للسلوك الإنساني، للفرد والجماعة. ولم يهرب الشعراء من حقيقة الحقائق: الموت، بل واجهوه بمستويات مختلفة من النظر والرؤية. على أن حكمة الموت الأساسية هي: ما دام الموت حتما محتوما، وقدرا ثابتا، إذن على المرء أن يكون حقيقيا مع نفسه ومع سواه. وعليه أن يحسم تناقضه الداخلي باتجاه التحرر من أي نفاق فكري وسياسي واجتماعي، لأنه لا يعلم متى يحين أجله. فالموت يدعو إلى التطابق مع النفس، ويدعو إلى الشجاعة أمام ما هو دون الموت. بمعنى آخر أن الموت هذا السيد المطاع الذي لا يدع مجالا لأي انسان للركوع أمام سلطان آخر دونه. وقد أمد الموت الشعراء بأصناف رفيعة من الحكمة، لأنهم وهم يفتحون عيونهم عليه كانوا يرون التفاهات الدنيوية الصغيرة، ويقفون عندها باستهانة مثلما وقف الخليفة بأصحابه يوما على مزبلة... فأطال الوقوف حتى أضجرهم فقالوا: ما لك حبستنا هنا فقال: هذه دنياكم التي تتنافسون عليها. وإن كل الممارسات والأساليب التي يلجأ إليها الإنسان في تهالكه على السلطة والمال والمطامع الدنيوية، من قتل، وغدر، ونفاق، ووشاية، وتشويه، وإذلال، وكذب، تبدو إزاء حقيقة الموت الحاتمة مجرد نذالات صغيرة، تدمغ صاحبها بالتفاهة والخسران المبين. ولقد رأى الشاعر العربي القديم حكمة الموت في بطلان النعيم الباطل لأنه زائل لا محالة، وليس البقاء إلا لوجه الله تعالى. فقال لبيد بن ربيعة في البقاء الإلهي: ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وكل نعيم لا محالة زائل والموت أصلا يدفع الإنسان إلى تعزيز اتجاهاته الأصيلة، وسماته الحقيقة، في التمسك بالحق، فقال زهير بن أبي سلمى: بدا لي أن الله حق فزادني * إلى الحق تقوى الله ما قد بدا ليا ومثلما رأى الشعراء بقاء الله وأزليته، فقد رأوا أيضا بقاء البلاد بجبالها ووديانها وأنهارها، بأرضها وبسمائها، فادخلوا الحس الوطني في شعرهم، من خلال حكمة الموت ودلالته في الفناء والبقاء. وفي ذلك قال زهير بن أبي سلمى: ألا لا أرى على الحوادث باقيا * ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وألا السماء والبلاد وربنا * وأيامنا معدودة واللياليا وأضاف الشعراء إلى البقاء الآلهي الأزلي، وبقاء البلاد، وقيمة العمل الصالح منطلقا نظريا ودليل عمل وسلوك لدى الشعراء المؤمنين بوجود الله تعالى. وأغنت الثقافة الاسلامية تصورات الشعراء، وخاصة في مجال الأفكار الأساسية التي شرحت البعث والحساب، والبدء والمعاد. فتطورات تصورات الشعر العربي القديم بعد نشوء الاسلام، وأصبحت الآيات القرآنية ملهما أساسيا في التأكيد على الدلالات الروحية والأخلاقية في البعث والنشور وأصبحت للعمل الصالح أهمية استثنائية مرموقة في تحديد هوية المسلم المؤمن. ومن الآيات البينات التي تذكر الإنسان بالمعاد: إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون. إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون. يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين. كل من عليها فان. إنه هو يبدئ ويعيد. وأصبحت هداية الشعراء متمثلة بمعرفة حكمة الموت، فيقول أبو نواس: الموت ضيف فاستعد له * قبل النزول بأفضل العدد واعمل لدار أنت جاعلها * دار المقامة آخر الأمد يا نفس موردك الصراط غدا * فتأهبي من قبل أن تردي وقال: إن للموت لسهما * واقعا دونك أو بك فعلى الله توكل * وبتقواه تمسك وحيث إن الشريف الرضي عالم ضليع في الديانة الاسلامية و الروحانيات، جمع العلم الوهبي بالعلم الكسبي، فقد كانت له من المفاهيم الاسلامية عدة كبيرة لتقويم شعره بأفكار ثرية بالحكمة والمعرفة والموعظة والسداد. وكانت للشاعر المتنبي تأثيراته الواضحة في بداية التجربة الشعرية للشريف الرضي، سواء أكان ذلك في أغراض الشعر، أو في تركيبه. وقد كان للمتنبي مع الموت حوار نابه، صارخ، غني بالتصورات والمفاهيم الراسخة. وكان وصف المتنبي للموت مزيجا من الذكاء والطرافة في التشبيه. فهو يقول: وما الموت إلا سارق دق شخصه * يصول بلا كف ويسعى بلا رجل ويشير المتنبي إلى أن الموت معروف الطباع بالصفات، لا بالتجربة الشخصية، لأن ليس هناك من آب بعد موت، حتى يشرح ما لاقى وما رأى، فيقول: فالموت تعرف بالصفات طباعه * لم تلق خلقا ذاق موتا آئبا
254 وتقترن حتمية الموت لدى المتنبي بالشجاعة وضرورة الموقف الحازم الحاسم، فهو يقول: نحن بنو الموتى فما بالنا * نعاف ما لا بد من شربه تبخل أيدينا بأرواحنا * على زمان هي من كسبه يموت راعي الضأن في جهله * ميتة جالينوس في طبه فلا قضى حاجته طالب * فؤاده يخفق من رعبه ويقول أيضا: وإذا لم يكن من الموت بد * فمن العجز أن تموت جبانا أما الشريف الرضي فقد أودع فكرة الموت وحكمته في العديد من قصائده منطلقا من عذاب الروح الذي ساقه في دروب الاغتراب الطويل، فاغتراب الروح هو الاغتراب الأكبر، الذي كان الشاعر ينظر من داخله إلى وضعه الشخصي، وحياته، ومماته. فلقد رأى في سجن الروح في جسده السجن الذي تتضاءل دونه العذابات الأخرى. فقال الشريف الرضي: كل حبس يهون عند الليالي * بعد حبس الأرواح في الأجساد وهو بيت شعر من قصيدة جاء فيها: كل حي يغالط العيش بالدهر * وكل تعدو عليه العوادي لو رجعنا إلى العقول يقينا * لرأينا الممات في الميلاد كيف لا يطلب الحمام عليل * حكم الدهر فيه رأي المعاد ويسمو الرضي في ذكر الموت، وفي وعظ الناس، والتذكر بالقيم الإنسانية المجيدة الحرية، والشجاعة، ورفض الذل، الخ، ويأخذ الرثاء عنده مهمة توجيه العزاء بواسطة الحكمة. فقال يرثي بنت صديق له: عجزنا عن مراغمة الحمام * وداء الموت مغرى بالأنام وما جزع الجزوع وإن تناهى * بمنتصف من الداء العقام وأين نحور عن طرق المنايا * وفي أيدي الردى طرف الزمام هي الأيام تأكل كل حي * وتعصف بالكرام وباللئام وكل مفارق للعيش يلقى * كما لقي الرضيع من الفطام وكم ليد النوائب من صريع * بداء السيف أو داء السقام وما يغتر بالدنيا لبيب * يفر من الحياة إلى الحمام تنافر ثم ترجع بعد وهن * رجوع القوس ترمح بالسهام خطوب لا أجم لها جوادي * وعزم لا أحط له لثامي رأيت الموت يبلغ كل نفس * على بعد المسافة والمرام سواء إن شددت له حزيمي * زماعا أو حللت له حزامي عزاءك ما استطعت فكل حزن * يؤول به الغلو إلى الآثام وعمر المرء ينقص كل يوم * ولا عمر يقر على التمام وتختلف فلسفة الشريف الرضي في الموت، عن فلسفة أبي العلاء المعري، وذلك في قضية رئيسية وهي أن الشريف الرضي صاحب رسالة، وكانت الرسالة لا تمثل طموحه فقط، بل وتمثل طموح نسبة كبيرة من الموالين والأشياع. كان قائدا له أتباع أوفياء رغم قلتهم. ومن موقعه ذاك، كانت رؤيته للموت مليئة بالأفكار الايجابية التي كانت تعبر أفضل تعبير عن الموقف في حياة الشريف الرضي. في حين كانت رؤية أبي العلاء المعري للموت تشاؤمية، بالغة التشاؤم، كما نرى في هذه المقتطفات من شعره: أنا صائم طول الحياة وإنما * فطري الحمام ويوم ذاك أعيد و: نصحتك فاعمل له دائما * وإن جاء موت فقل مرحبا و: ما أوسع الموت يستريح به * الجسم المعنى ويخفت اللجب و: يدل على فضل الممات وكونه * إراحة جسم أن مسلكه صعب و: إذا غدوت ببطن الأرض مضطجعا * فثم أفقد أوصابي وأمراضي و: الموت جنس ما تميز واحد * كتل الجسوم إلى التراب تنسب وترتفع نزعة التشاؤم بقوله: يحطمنا ريب الزمان كأننا * زجاج ولكن لا يعاد له سبك وإذا كانت القضية التي رفع لواءها الشريف وهي قضية سياسية وأيديولوجية وأخلاقية، هي التي عصمته من الوقوع في تشاؤمية مفرطة، فإنها لم تفلح من جانب آخر في إخفاء الحزن العتيد، حزن الشريف. وتشهد بكائيات ورثائيات الشريف الرضي على مدى تغلغل الحزن في أعماقه، وكذلك مدى تجاوبه مع الحزانى والمنكوبين. ويذكر د. زكي مبارك أن الرضي كان يجد من نوائبه الوجدانية ينابيع للحزن لا تنضب ولا تغيض وعن بكائه يقول: وما كان الشريف يبكي أحبابه مرة واحدة ثم يلوذ بالصمت. لا، وإنما كان يصل أحبابه بالذكرى والحنين فلا يفقد منهم غير الوجود الملموس. فطريق الحج على طوله في تلك العهود كان يمثل للشريف دائما أمما كثيرة من عوالم الأحياء والأموات. ولعل ظهور الخيل لم تعرف فتى أقوى شاعرية من ذلك الفتى البكاء. والفرح والترح يفيضان من ينبوع واحد لو تعلمون. من ناحية سيكولوجية إن البكائين الأصلاء هم غالبا من الذين تجمعت في نفوسهم شمائل جمة هي شدة الحب، وشدة الصدق، وقوة رهافة الاحساس. ومن المظاهر السلبية للثقافات الشائعة في عصور الاستبداد والتحجر، أنها صورت البكاء تعبيرا عن الضعف البشري، والحال أنه تعبير عن عاطفة بشرية حقيقية لا يستطيع كبتها إلا أكثر الناس قساوة وتجبرا. ومن المعروف أن المصلحين الكبار ذوي القلوب الإنسانية العامرة بحب الناس، وبالحكمة، هم أكثر الناس بكاء، وهم على ما هم عليه من شجاعة وبسالة ويقين.
255 وكان الشريف الرضي الإنسان، والرائد المصلح، شديد العبرة، قوي التعاطف مع المثكولين. وهو في ذلك يشبه آباءه الأولين الذين كانوا يبكون الليل من خشية الله حتى ذبلت عيونهم. ويقول د. زكي مبارك: ومن عجائب ما وقفت عليه أن الناس كانوا يسألون الشريف أن يبكي موتاهم فيجيب: والشجى يبعث الشجى، والدنيا عند الحزين كلها قبر مالك أليس من العجيب أن يسأل الشريف بكاء ميت لا يعنيه فيقول: ألا مخبر فيما يقول جلية * يزيل بها الشك المريب يقين أسائله عن غائب كيف حاله * ومن نزل الغبراء كيف يكون وما كنت أخشى من زماني أنني * أرق على ضرائه وألين إلى أن رماني بالتي لا شوى لها * فأعقب من بعد الرنين أنين وإن أحق المجهشين بعبرة * ووجد قرين بان عنه قرين وما تنفع المرء الشمال وحيدة * إذا فارقتها بالمنون يمين تجرم عام لم أنل منك نظرة * وحان ولم يقدر لقاؤك حين أمر بقبر قد طواك جديده * فأبلس حتى ما أكاد أبين وتنفض بالوجد الأليم أضالع * وترفض بالدمع الغزير شؤون ومعاذ الأدب أن يكون الشريف في هذه القصيدة كالنائحة المستأجرة، وهل كانت النائحة المستأجرة تعني حقا من دعيت للبكاء عليه؟ إنها تبكي ودائعها في التراب فهي نائحة ثكلى مفطورة الفؤاد. ويضيف: فالشريف يجسم معاني الأخوة وهو يبكي أصدقاءه المجهولين وهو أيضا يشرح للناس مذاهب الوفاء. ومن شواهد شعره في بكاء المغمورين ما قاله: ما لي أودع كل يوم ظاعنا * لو كنت آمل للوداع لقاءا وأروح أذكر ما أكون لعهده * فكأنني استودعته الأحشاءا فرغت يدي منه وقد رجعت به * أيدي النوائب والخطوب ملاءا أحبابي الأدنين كم ألقى بكم * داء يمض فلا أداوي الداءا أحيا إخاءكم الممات وغيركم * جربتهم فثكلتهم أحياءا إلا يكن جسدي أصيب فإنني * فرقته فدفنته أعضاءا وقال في قصيدة ثانية: أقول وقد قالوا مضى لسبيله * مضى غير رعديد الجنان ولا نكس كان حداد الليل زاد سواده * عليك ورد الضوء من مطلع الشمس أرى كل رزء دون رزئك قدره * فليس يلاقيني ليومك ما ينسي وقال من قصيدة ثالثة وهي في رجل كانت له شخصية، ولا نعرف السبب في طي اسمه عن الناس: ما بعد يومك ما يسلو به السالي * ومثل يومك لم يخطر على بالي وكيف يسلو فؤاد هاض جانبه * قوارع من جوى هم وبلبال يا قلب صبرا فان الصبر منزلة * بعد الغلو إليها يرجع الغالي نقص الجديدين من عمري يزيد على * ما ينقصان على الأيام من حالي مضى الذي كنت في الأيام آمله * من الرجال فيا بعدا لآمالي قد كان شغلي من الدنيا فمذ فرغت * منه يدي زاد طول الوجد أشغالي تركته لذيول الريح مدرجة * ورحت أسحب عنه فضل أذيالي ما بالي اليوم لم ألحق به كمدا * أو أنزع الصبر والسلوان من بالي ويربط د. زكي مبارك الطبيعة البكائية للشريف الرضي بظاهرة هي من غرائب الوفاء عند الشريف وهي بكاء النساء قائلا: وهناك جانب من غرائب الوفاء عند الشريف هو بكاء النساء، وهذا أغرب الجوانب، وهو يحتاج إلى تأمل ودرس، ولا نعرف بالضبط كيف نشأ الاحساس عند الشريف، فقد كان المألوف في التقاليد العربية أن لا يبكى من النساء غير المعشوقات، وبكاء الأمهات والحلائل باب من النبل، ولكنه في شعر العرب قليل، فقد لا يساوي واحدا من خمسين إذا أحصينا ما قيل في الرثاء، فكيف اتفق للشريف الرضي أن يكثر من تعزية الناس في أمهاتهم، وبناتهم، وأخواتهم؟. إن هذه الظاهرة ليس لها عندي غير تعليل واحد، هو أن الشريف الرضي كان ابن أمه كما يعبر المصريون حين يداعبون من يغضبون لأمهاتهم من الأطفال. ونحن نعرف أن أيام البؤس في حياة الشريف مضت وهو في رعاية أمه الرءوم التي باعت أملاكها وحليها لتقيه وتقي أخاه ذل العوز والاحتياج. والأم الرءوم لم تجد من يؤرخ فضلها في اللغة العربية. ويندر بين كتاب العرب من يقول حدثتني أمي وأنبأتني أختي وأخبرتني حليلتي، وإن كان في شعرائهم من يقبل النعال في أقدام الملاح. وما أريد أن أطيل القول فيما أثر عن العرب والهنود من بغض البنات، فذلك معروف، وانما أريد أن أقف عند هذه النزعة النبيلة من نزعات الشريف، وأنا أجزم بأنه كان يرى المرأة في صورة أمه تلك الأم التي وقته مكاره الحياة في السنين العجاف يوم أودع أبوه غياهب الاعتقال. وما يهم من ذكر استطراد د. زكي مبارك، هنا، هو أن بكائية الشريف الرضي كانت تسع الأصدقاء المعروفين والمجهولين، والأحبة المفقودين، والناس المحزونين، لأنه في ذلك كان يجسد طبيعته البكاءة، وما لم يعطه د. زكي حقه في تعليل الظاهرة البكائية للرضي مغزى العلاقة بين الزهد والبكاء، وفيض تلك العلاقة على جوانب الحزن والتأسي والتفجع لكل محزون أو مفجوع. ويمتد جذر العلاقة بين الزهد والبكاء في حياة الشريف الرضي إلى آبائه الزهاد المعروفين بكثرة البكاء، وبخاصة زين العابدين بن الحسين، الباقر بن زين العابدين وسواهما. وقد أورد لنا أبو نعيم نصا بين فيه جوهر زهد علي بن الحسين زين العابدين، وذلك أنه سئل عن كثرة بكائه فقال: لا تلوموني فان يعقوب فقد سبطا من ولده فبكى حتى ابيضت عيناه ولم يعلم أنه مات. وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلا من أهل بيتي يقتلون في غزاة واحدة. أفترون حزنهم يذهب من قلبي. أما محمد الباقر بن زين العابدين ع فكان يقول: ما اغرورقت عين بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار.
256 بل إن محمدا الباقر ع يقسم البكاء كما قسم المعرفة وقد حفل أبوه كذلك من قبل فقال: فان سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة، وما من شئ إلا له جزاء إلا الدمعة، فان الله يكفر بها بحور الخطايا، ولو أن باكيا بكى في أمة لحرم الله تلك الأمة على النار. وقد ربط محمد الباقر ع البكاء بالذكر صراحة فقال: الصواعق تصيب المؤمن وغير المؤمن، ولا تصيب الذاكر. أي أن البكاء هو علامة متميزة من علامات الزهد، وهو يصفي القلوب، ويطهر النفس من الذنوب، وهو في إطلاق عنانه في المناسبات الإنسانية، الفجائعية فيض رحمة. وهكذا كان الشريف الرضي تفيض نفسه عطفا ورقة وحنانا في كل مشهد انساني مأساوي، وفي كل ذكرى مؤلمة. لقد سمت نفسه بالتفجع، وتحررت من الغلظة والقساوة، فأصبحت تطير وتحط عند كل ذكرى، وقرب كل طلل. ولم تكن روحه المتفجعة، لتستغرق في الانفعال الحزين المجرد، والذي قد يصيب البسطاء الطيبين من الناس، رقيقي الاحساس، بل كانت تغتذي من الحس التاريخي، لأن كل ظاهرة مرئية تحت بصر الشريف الرضي كانت تثير فيه الذكريات، والحدثان، وما جرى للناس، وللحواضر، وللأمكنة، من تغيير. لقد انتبه بعمق إلى حركة الزمن في جدلية البقاء والزوال، مكتنها تلك الجدلية من أعمق أعماقها، ومن أول نقطة فيها، فعظمت نفسه، وتغربت، لأن الأمكنة ما بين نشوء وزوال، لم تكن قادرة على أن تستوعب جسمه الذي حمل روحا تطير دوما نحو العلى والأعالي، لكنها تسكب الدموع عطفا ورحمة، حتى محيت العيون من البكاء، كما قال: محا بعدكم تلك العيون بكاؤها * وغال بكم تلك الأضالع غولها فمن ناظر لم تبق إلا دموعه * ومن مهجة لم يبق إلا غليلها دعوا لي قلبا بالغرام أذيبه * عليكم وعينا في الطلول أجيلها الاغتراب السياسي: وسط الأحداث المروعة عاش الشريف الرضي، وشهد النزاع الدامي الطويل وامتلأت نفسه بالصور المرعبة، فمن خليفة يخلع ويسمل، إلى أمير يحتز رأسه، ومن والد تصادر أملاكه ويسجن، إلى صديق ينكب. فما هي ردود فعل الشريف الرضي، وهو ما عليه من حسب ونسب؟. فالشريف الرضي المولود في جانب الكرخ من بغداد، والذي ينتمي إلى أسرة عريقة في الحسب والنسب، وفي المجد. كان يرقب السلطة، وهو يحمل على هامه مجدا عتيدا راسخا. كما أنه كان يرقب البلبلة بعين انتمائه العربي الأصيل. إنما بسبب مجده التاريخي، وعروبته نشأ اغترابه السياسي، وهو اغتراب الثوري الذي سئم الزمان المخادع، وأحابيله وغرائبه، محتفظا بروح التحدي والمقارعة، على ما هو عليه من قلق، وقد أبان عن ذلك مبكرا في قوله: سئمت زمانا تنتحيني صروفه * وثوب الأفاعي أو دبيب العقارب مقام الفتى عجز على ما يضيمه * وذل الجرئ القلب إحدى العجائب سأركبها بزلاء إما لمادح * يعدد أفعالي وإما لنادب إذا قل عزم المرء قل انتصاره * وأقلع عنه الضيم دامي المخالب وما بلغ المرمى البعيد سوى امرئ * يروح ويغدو عرضة للجواذب وما جر ذلا مثل نفس جزوعة * ولا عاق عزما مثل خوف العواقب ألا ليت شعري هل تسالمني النوى * وتخبو همومي من قراع المصائب إلى كم أذود العين أن يستفزها * وميض الأماني والظنون الكواذب حسدت على أني قنعت فكيف بي * إذا ما رمى عزمي مجال الكواكب وما زال للانسان حاسد نعمة * على ظاهر منها قليل رغائب وأبقت لي الأيام حزما وفطنة * ووقرن جأشي بالأمور الغرائب توزع لحمي في عواجم جمة * وبان على جنبي وسم التجارب إن تطلع الشريف الرضي إلى مجال الكواكب يعبر عن آماله الكبرى، التي لم تكن مجرد كشف حال بسموه وعزه، بل كانت تطلعا سياسيا خدمه بكل طاقاته الروحية والشعرية، وبكل مزاياه السياسية والاجتماعية. في البدء ثمة حقيقة شاخصة في شعر الرضي وهي اعتزازه بعلو مكانته وشرفه، وما المصائب والهموم التي حلت به إلا الثمن الذي لا بد للشرف من تقديمه، وقال في أبدع تعبير: وضيوف الهموم مذ كن لا ينزلن * إلا على العظيم الشريف ولم تكن افتخارات الشريف الرضي معزولة على الأخلاقيات الاجتماعية، بمعنى أنه لم يتناول افتخاره على نحو شخصي فقط، بل هو يقرنه دوما بالقضية السياسية والأخلاقية التي استحوذت على ذهنه ونفسه استحواذا تاما. فهو إذ يعتز بكرامته وكبريائه وحريته وعزته، يعلم الآخرين أيضا الاعتزاز بالكرامة، ورفض الذل. وتأخذ أشعاره في ميدان مكافحة الذل وعاره مكانة الحكم والمأثورات الغالية. فهو يقول: وموت الفتى خير له من حياته * إذا جاور الأيام وهو ذليل وكذلك يقول: وكل فتى لا يطلب المجد أعزل * وكل عزيز لا يجود ذليل و: لا تخلدن إلى أرض تهون بها * بالدار دار وبالجيران جيران و: الحر تنهضه إما شجاعته * إلى الملم وإما خشية العار وتتناثر في قصائد الرضي درر الحكم باتجاه نشر مفاهيمه عن الحرية والكرامة، والشجاعة، ونبذ التزلف والخضوع، لكنه، وبقدر ما يتعلق الأمر به، كان يخاطب نفسه بصوت عال كثيرا مذكرا نفسه بالمعنى الخاص لدوره في الحياة. فهو الذي قال:
257 ما مقامي على الجداول أرجوها * لنيل وقد رأيت البحارا وكان يشدد على نفسه الحساب، عند ما يتذكر علو رسالته، وقداسة هدفه. وإذا ما كانت للشريف الرضي في الشعر صبوات هائلة لكونه شاعرا عظيما، فان مطالب رسالته السياسية كانت أهم لديه من الشعر، بل إنه أخبر عن أنه قال الشعر ذريعة إلى أمل كبير، ما إن يتحقق حتى يهجر الشعر: وما قولي الأشعار إلا ذريعة * إلى أمل قد آن قود جنيبه وإني إذا ما بلغ الله غاية * ضمنت له هجر القريض وحوبه وإن يستصغر أحيانا حرفة الشعر، بسبب قداسة رسالته، وطموحه الديني والسياسي الكبير فيقول: وما الشعر فخري ولكنما * أطول به همة الفاخر أنزهه عن لقاء الرجال * وأجعله تحفة الزائر فما يتهدى إليه الملوك * إلا من المثل السائر وإني وإن كنت من أهله * لتنكرني حرفة الشاعر وكذلك قال: ما لك ترضى أن يقال شاعر * بعدا لها من عدد الفضائل كفاك ما أورق من أغصانه * وطال من أعلامه الأطاول فكم تكون ناظما وقائلا * وأنت غب القول غير فاعل ولم يعلن فقط اعتذاره عن حرفة الشعر واستعداده لهجر نظم القصائد، وهو شاعر الحب والهوى لأن شعاره هو: من يعشق العز لا يرنو لغانية * في رونق الصفو ما يغني عن الكدر وهو في انتمائه لقضيته الكبرى، كان يشدد على حاجته إلى الحزم، والحزم يستبعد الهوى: أضعت الهوى حفظا لحزمي وإنما * يصان الهوى في قلب من ضاع حزمه ترى، أية قضية تلك التي تتمحور حولها أفكار وأشعار الشريف الرضي، والتي يدور حولها مسار حياته؟ أية قضية تلك التي يعلن أن الشعر والحب دونها بكثير، وأنه مستعد للأضراب عن الشعر والحب من أجل تحققها؟. هل هي المنصب الذي يتولى من خلاله تأدية مسؤولية معينة، في زمن البويهيين الذين استمالوا عددا من الشعراء والكتاب واستوزروهم أو قلدوهم بعض المناصب العالية؟. في الواقع كان للشريف الرضي منصبه المرموق فقد شغل منصب نقابة الطالبيين، ونظر في المظالم، وحج بالناس مرارا، وأنه تسلم هذه الأعمال في أوقات مختلفة نائبا عن والده أبي أحمد الموسوي أو مستقلا بالمنصب. أما إمارة الحج فكانت هي الأخرى من المناصب التي تدل على نفوذ الشريف الرضي وقوة شخصيته، فقد كانت تحتاج إلى رجل يفرض زعامته وهيبته واحترامه على جمهور المسلمين، ويستطيع حمايتهم في صحراء واسعة يبتعدون فيها عن مركز السلطة، ويتعرضون لمخاطر الغزو والسلب، وقد حج الشريف بالناس مرارا، وخالط البدو، وعاش حياة الصحراء، وعانى متاعبها ومخاطرها، فاثرت في نفسه، وحمل منها ذكريات. ففي سنة 389 ه حج الشريف بركب العراق مع أخيه المرتضى واعتقلهما ابن الجراح فافتديا نفسيهما بتسعة آلاف دينار. وفي سنة 396 ه تولى نقابة الطالبيين بالعراق، وذكر البعض أنه تقلد النقابة وإمارة الحج، ولكن في السنة التي تلت. أما في سنة 403 ه فقد قلد الشريف نقابة الطالبيين في سائر الممالك، وقرئ تقليده في دار الوزير فخر الملك، وخلع عليه السواد، وقيل إنه أول طالبي يخلع عليه السواد. ولم يكن الشريف الرضي يرى في النقابة هدفه النهائي، غير أنه كان يراها حقا موروثا، فقال: قل للعدا موتوا * بغيظكم فان الغيظ مردي ودعوا علي أحرزتها * يا وادعين بطول جهد كم بين أيديكم * وبين النجم من قرب وبعد ولي النقابة خال أمي * قبل ثم أبي وجدي وليتها طفلا فهل * مجد يعدد مثل مجدي وأظن نفسي سوف تحملني * على الأمر الأشد حتى أرى متملكا * شرق العلى والغرب وحدي وفي قصيدة أخرى يرد فيها على قلق بعض أعدائه من تقلده النقابة، أفصح فيها عن هدفه الأكبر فقال: قلق العدو وقد حظيت برتبة * تعلو عن النظراء والأمثال لو كنت أقنع بالنقابة وحدها * لغضضت حين بلغتها آمالي لكن لي نفسا تتوق إلى التي * ما بعد أعلاها مقام عال إن الشاعر الهادر الذي ينطوي صدره على شرف رفيع وكرامة عظيمة، كان يعرف مقامه جيدا، وكان يسير في الزمن وكأنه يخفي مقامه الحقيقي عنه، لأنه متوجه نحو غايته الكبرى، ورسالته التي لا يستطيع نسيانها. فقال: تعرفني بأنفسها الليالي * وآنف أن أعرفها مكاني لكن مكانه ليس في منصب، أو وظيفة، بل في العلى الذي لم يكن بالنسبة إليه ترجمة عادية للتباهي، بل كان العلى بمعنى قيادة السلطة، فقد كان الرضي يرى نفسه جديرا بالخلافة. وفي غالبية شعر الشريف يبدو ذلك الاحساس الغامر الذي يستولي عليه، وهو الاحساس بأنه منذور للسلطة، ومهيا لدور قيادي عظيم، لا بد أن يأتي حينه. ومنذ حداثته عبر عن ذلك، لا بالتلميح، بل بالجهر المدوي: ستعلمون ما يكون مني * إن مد من ضبعي طول سني أأدع الدنيا ولم تدعني * يلعب بي عناؤها المعني ناطحة بالجم عام القرن * نطاح روق الجازئ الأغن وسعت أيامي ولم تسعني * أفضل عنها وتضيق عني ولي مضاء قط لم يخني * ضمير قلبي وضمير جفني
258 أحصل من عزمي على التمني * وليتني أفعل أو لو أني راض بما يضوي الفتى ويضني * أسس آبائي وسوف أبني قد عز أصلي ويعز غصني * غنيت بالجود ولم أستغن إن الغنى مجلبة للضن * وللقعود والرضا بالوهن الفقر ينئي والتراء يدني * والحرص يشقي والقنوع يغني إن كنت غير قارح فاني * أبذ جري القارح المسن تشهد لي أن الزمان قرني * سوف ترى غبارها كالدجن ويواصل: من قبل أن يغلق يوما رهني * متى تراني والجواد خدني والنصل عيني والسنان أذني * وأمي الدرع ولم تلدني وكان وهو يرنو إلى المعالي، يعلم جيدا وعورة الطريق وكثرة الأعداء وقلة الناصرين، لكنه هتف في داخله الهاتف فأصغى إليه، فقال وهو في السادسة عشرة: أمن شوق تعانقني الأماني * وعن ود يخادعني زماني وما أهوى مصافحة الغواني * إذا اشتغلت بناني بالعنان عدمت الدهر كيف يصون وجها * يعرض للضراب وللطعان ويقول: نشرت على الزمان وشاح عز * ترنح دونه المقل الرواني سأطلع من ثنايا الدهر عزما * يسيل بهمة الحرب العوان ولا أنسى المسير إلى المعالي * ولو نسيته أخفاف الحواني وكنا لا يروعنا زمان * بما يعدي البعاد على التداني وليس هناك اغتراب سياسي، مثل اغتراب الشريف الرضي في نضاله من أجل تحقيق غايته وتنفيذ رسالته، فقد كانت بمواجهته ظروف قاسية، وشروط سياسية أقسى. وتطلب هدفه السامي منه إبداء المرونة في علاقاته مع الخلفاء والملوك والوزراء، بالقدر الذي رآه مجديا لتمشية أمور المسلمين، وتحقيق غايات محددة، ترتبط بغايته الكبرى التي أنشد لها ودعا إليها بلا توقف. لكن مرونته تلك سرعان ما تتحول إلى غضب عات، عند حصول أي استفزاز صغير أو تعريض به، أو بواحد من أهله، أو عند حصول أي إهمال أو تجاوز أو تطاول عليه من أي سلطان كان. وعند ما يغضب، يدع المرونة جانبا، ويعلو صوت حماسته وهو يذكر أصله ومعدنه الكريمين، فينتفض كملك، أو كخليفة، ويكتسب التحدي في شعره طعم التقريع، تقريع الخليفة الذي يخاطبه، دونما خشية منه. وفي تلك الفرص النادرة التي يغضبه الخليفة تبرز روح الشريف الرضي، الغنية بكل معاني السيادة العربية، والحق، والكبرياء التي لا تنحني أمام السلطان مهما كانت قوة سطوته وشدة بطشه. ورغم أن الخليفة الطائع لله كانت بينه وبين الرضي مودة، إلا أن إثارته له عند ما قرب بعض أعدائه إليه، جعلته يزمجر غيظا في قصيدة، مطلعها: ونمي إلى من العجائب أنه * لعبت بعقلك حيلة الخوان وتملكتك خديعة من قولة * غرارة الأقسام والأيمان حقا سمعت ورب عيني ناظر * يقظ تقوم مقامها الأذنان أين الذي أضمرته من بغضه * وعقدته بالسر والاعلان أم أين ذاك الرأي في إبعاده * حنقا وأين حمية الغضبان سبحان خالق كل شئ معجب * ما فيكم من كثرة الألوان يوم لذا وغد لذاك وهذه * شيم مقطعة قوى الأقران فالآن منك الياس ينقع غلتي * واليأس يقطع غلة الظمآن ثم يبلغ في نقده الذروة فيصيح: لي مثل ملكك لو أطعت تقنعي * وذوو العمائم من ذوي التيجان ولعل حالي أن يصير إلى على * فالدوح منبتها من القضبان فاحذر عواقب ما جنيت فربما * رمت الجناية عرض قلب الجاني أعطيتك الرأي الصريح وغيره * تنساب رغوته بغير بيان وعرضت نصحي والقبول إجازة * فإذا أبيت لويت عنك عناني ولقد يطول عليك أن أصغي إلى * ذكراك أو يثني عليك لساني ويعد افتخاره بنفسه وهو يمدح الخليفة القادر بالله خير بيان عن اغترابه السياسي من موقع المجد، فقد ختم قصيدته التي كان مطلعها: لمن الحدوج تهزهن الأينق * والركب يطفو في السراب ويغرق بثلاثة أبيات تلخص عظمة نفس الشاعر الرضي وشاعريته المجيدة، وهي: عطفا أمير المؤمنين فإننا * في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت * أبدا كلانا في المعالي معرق إلا الخلافة ميزتك فإنني * أنا عاطل منها وأنت مطوق وتوضح العلاقة بين الشاعر الشريف الرضي وأبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب والشاعر عن مدى تمكن هدف الخلافة من نفس الشاعر الرضي، ومن نفوس المريدين والموالين والأنصار. فالخلافة لم تكن مجرد رغبة، أو نزوة، أو حلم عابر لشاعر ذي صبوات ورغبات وآمال، بل كانت دعوة علنية وسرية، شغلت اهتمام الشاعر طوال حياته، وشغلت العديد من الأتباع والمؤيدين. وكان تأييد أبي إسحاق الصابي، لخلافة الشريف الرضي، رغم التباين في الديانة، دليلا على رسوخ حق الشريف الرضي في الخلافة واقتناع بعض الناس بهذا الحق، لا سيما المرموقين منهم. ولم يكن إعجاب الشريف الرضي بأبي إسحاق الصابي، ناجما عن تجاوب عاطفي لدعوة الصابي إلى حقه في الخلافة، بل هو إعجاب متصل بروح الدعوة، وبمراحل انطلاقها، وتطورها، واستمرارها، وتغلغلها في نفوس الأنصار. ويتجاهل النقاد والمحللون حقيقة قوية وهي أن الصابي لم يتوسم الخلافة في الشريف الرضي وهو في العمر المناسب، بل في مرحلة مبكرة من العمر، هي بداية العقد الثاني من عمر الرضي وكان الصابي في أواخر الثمانين من عمره، بما في ذلك من دلالات، فخاطبه حينذاك قائلا:
259 أبا حسن لي في الرجال فراسة * تعودت منها أن تقول فتصدقا وقد خبرتني عنك أنك ماجد * سترقى من العلياء أبعد مرتقى فوفيتك التعظيم قبل أوانه * وقلت أطال الله للسيد البقاء وأضمرت منه لفظ لم أبح بها * إلى أن أرى إطلاقها لي مطلقا فان عشت أو إن مت فاذكر بشارتي * وأوجب بها حقا عليك محققا وكن لي في الأولاد والأهل حافظا * إذا ما اطمأن الجنب في موضع النقا وكان جواب الشريف الرضي: سننت لهذا الرمح غربا مذلقا * وأجريت في ذا الهندواني رونقا وسومت ذا الطرف الجواد وإنما * شرعت له نهجا فخب وأعنقا فليس بساق قبل ربعك مربعا * وليس براق قبل جرك مرتقى وإن صدقت منه الليالي مخيلة * تكن بجديد الماء أول من سقى إلى أن يقول: فان راشني دهري أكن لك بازيا * يسرك محصورا ويرضيك مطلقا أشاطرك العز الذي أستفيده * بصفقة راض إن غنيت وأملقا فتذهب بالشطر الذي كله غنى * وأذهب بالشطر الذي كله شقا وتأخذ منه ما أنام وما حلا * وآخذ منه ما أمر وأرقا... الخ. إن الحقيقة الماثلة في بشارة الصابي تشير إلى ما هو أبعد من حق الشريف الرضي، من حيث الجدارة والتأهيل للخلافة الاسلامية، أي أنها تشير إلى حق الشريف الرضي الموروث، والثابت، إضافة إلى الأهلية والجدارة. بكلمة أخرى أن الصابي وهو شيخ الكتاب، والشاعر المعروف، كان يؤمن بحق أسرة الشريف الرضي، أبا عن جد في الخلافة، وإن هذا الايمان يمتد في حياة الصابي، وفي تاريخ علاقته بوالد الشريف الرضي، السيد الموسوي، بجذور قديمة. فالبشارة لم تكن وليدة التفرس، كما يرى البعض، بل كانت وليدة الايمان بالحق الموروث سواء أكان الرضي طفلا في عمره أو مراهقا، أو في ما بعد العقد الثاني من العمر. إن تعليل البشارة بالايمان بحق الشريف الرضي في الخلافة، حتى قبل أن يكون الرضي نفسه شخصا مرموقا، أكثر دقة من تعليل البشارة بالفراسة، وبخاصة من قبل شخص صابئي لا تشغله أمور الخلافة الاسلامية، كثيرا. ويتصل ذلك بقضية أخرى ذات أهمية، وهي أن كرامات الأبرار من أهل البيت، كثيرا ما فعلت الأعاجيب في تغيير أفكار وعواطف أناس غير مسلمين، بعد الاحتكاك بهم، والاطلاع على صفاتهم الشريفة، فانتقلوا إلى حظيرة الاسلام بسبب التأثر بالقدوة الصالحة. وأصبح انتماؤهم الاسلامي ضربا من الايمان الكبير بامامة الأئمة الأبرار والولاء لهم. ومع أن الدكتور زكي مبارك يرجع بالعلاقة إلى بدايتها، وهي صداقة الصابي لأبي أحمد الموسوي والد الشريف، وقبل أن يولد الشريف بأكثر من أربع سنوات، إلا أنه لم يعرض العمق الروحي للعلاقة. فظهرت وكأنها صداقة قوية، أثرت على عواطف الشريف الرضي وتعززت أكثر بسبب اعتقال الصابي مثلما اعتقل والده من قبله أيضا. فالصداقة والمأساة المشتركة والرابطة الأدبية هي جملة العوامل التي وقف عندها د. زكي مبارك في تفسير الرابطة بين الصابي والرضي. إلا أن هذه العوامل ليست قوية التأثير إلى الدرجة التي يندفع فيها شيخ صابئي مهم الشخصية، حاد الموهبة، إلى الانحياز التام إلى الشريف الرضي، والدعوة إلى حقه في الخلافة الاسلامية مع صعوبة هذه الدعوة بالنسبة إلى الصابئي في وسط إسلامي يمور بالصراعات المذهبية. وفي الحق، أن دعوة الصابي إلى خلافة الشريف كان يمكن أن تكون عبئا على الرضي نفسه بسبب مكانته الخاصة بين المسلمين، وحساسية موقفه ودعوته إلى الخلافة، كما أنها كانت عبئا على الصابئ الذي كان يمكن أن يكتفي بابداء الود والمحبة، دون المجاهرة بحق الشريف الرضي في الخلافة الاسلامية، ذلك الحق الذي كان يناصبه العداء، الخليفة والسلطة وأناس آخرون. غير أن الايمان إلى درجة الولاء هو الذي قاد الصابي إلى المجاهرة، وهو الذي أفاض أعماق الشريف الرضي بالعرفان والحب الشديد لأبي إسحاق الصابئي، دون حذر أو تحسب. وكانت قصيدة الشريف الرضي في رثاء أبي إسحاق الصابي من روائع المراثي المشحونة بالمغازي: أعلمت من حملوا على الأعواد * أرأيت كيف خبا ضياء النادي جبل هوى لو خر في البحر اغتدى * من وقعه متتابع الأزباد ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى * أن الثرى يعلو على الأطواد بعدا ليومك في الزمان فإنه * أقذى العيون وفت في الأعضاد لا ينفد الدمع الذي يبكى به * إن القلوب له من الامداد كيف انمحى ذاك الجناب وعطلت * تلك الفجاج وظل ذاك الهادي طاحت بتلك المكرمات طوائح * وعدت على ذاك الجواد عوادي قالوا أطاع وقيد في شطن الردى * أيدي المنون ملكت أي قياد من مصعب لو لم يقده إلهه * بقضائه ما كان بالمنقاد ويقول: أعزز علي بان يفارق ناظري * لمعان ذاك الكوكب الوقاد أعزز علي بان نزلت بمنزل * متشابه الأمجاد والأوغاد ويقول: عمري لقد أغمدت منك مهندا * في الترب كان ممزق الأغماد قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى * لكن أراد الله غير مرادي ولقد كبا طرف الرقاد بناظري * أسفا عليك فلا لعا لرقاد ثكلتك أرض لم تلد لك ثانيا * أنى ومثلك معوز الميلاد إن الدموع عليك غير بخيلة * والقلب بالسلوان غير جواد سودت ما بين الفضاء وناظري * وغسلت من عيني كل سوادي ري الخدود من المدامع شاهد * أن القلوب من الغليل صواد ما كنت أخشى أن تضن بلفظة * لتقوم بعدك في مقام الزاد ما ذا الذي منع الفنيق هديره * من بعد صولته على الأذواد ما ذا الذي فجع الجواد على المدى * من بعد سبقته إلى الآماد
260 ما ذا الذي فجع الهمام بوثبة * وعدا على دمه وكان العادي قل للنوائب عددي أيامه * يغني عن التعديد بالتعداد حمال ألوية العلاء بنجدة * كالسيف يغني عن مناط نجاد لقضى لسانك مذ ذوت ثمراته * أن لا دوام لنضرة الأعواد وقضى جنانك مذ قضت وقداته * أن لا بقاء لقدح كل زناد بقيت أعيجاز يضل تبيعها * ومضت هواد للرجال هواد يا ليت أني ما اقتنيتك صاحبا * كم قنية جلبت أسى لفؤادي برد القلوب لمن تحب بقاءه * مما يجر حرارة الأكباد ليس الفجائع بالذخائر مثلها * بأماجد الأعيان والأفراد ويقول من لم يدر كنهك أنهم * نقصوا به عددا من الأعداد هيهات أدرج بين برديك الردى * رجل الرجال وأوحد الآحاد لا تطلبي يا نفس خلا بعده * فلمثله أعيا على المرتاد فقدت ملاءمة الشكول بفقده * وبقيت بين تباين الأضداد ما مطعم الدنيا بحلو بعده * أبدا ولا ماء الحيا ببراد الفضل ناسب بيننا إن لم يكن * شرفي مناسبه ولا ميلادي إن لم تكن من أسرتي وعشيرتي * فلأنت أعلقهم يدا بودادي لو لم يكن عالي الأصول فقد وفى * شرف الجدود بسؤدد الأجداد لا در دري إن مطلتك ذمة * في باطن متغيب أو باد إن الوفاء كما اقترحت فلو تكن * حيا إذن ما كنت بالمزداد ليس التنافث بيننا بمعاود * أبدا وليس زماننا بمعاد ضاقت علي الأرض بعدك كلها * وتركت أضيقها علي بلادي لك في الحشا قبر وإن لم تأوه * ومن الدموع روائح وغواد سلوا من الإبراد جسمك وانثنى * جسمي يسل عليك في الإبراد كم من طويل العمر بعد وفاته * بالذكر يصحب حاضرا أو بادي ما مات من جعل الزمان لسانه * يتلو مناقب عودا وبوادي فاذهب كما ذهب الربيع واثره * باق بكل خمايل ونجاد لا تبعدن وأين قربك بعدها * إن المنايا غاية الأبعاد صفح الثرى عن حر وجهك إنه * مغرى بطي محاسن الأمجاد وتماسكت تلك البنان فطالما * عبث البلى بأنامل الأجواد وسقاك فضلك أنه أروى حيا * من رائح متعرس أو غاد جدث على أن لا نبات بأرضه * وقفت عليه مطالب الرواد في هذه القصيدة يتفرد الشريف الرضي في طبيعته النجيبة العالية، فهو يوجه أصدق الرثاء وهو ما تطفح به القصيدة إلى أبي إسحاق الصابي، رغم المكانة الاسلامية المرموقة للشاعر الرضي، والتي تجعله في موضع النقد واللوم، وبالأخص من قبل الغرماء والحاقدين وحاسدي الشريف الرضي على مكانه وسمعته. ولم تكن الرثائية على هذا المستوى من التأسي والتفطر ألما وحسرة، لو لم تكن لأبي إسحاق في نفس الشاعر الرضي مكانة خاصة، هي مكانة المريد، والموالي، والمخلص، والداعية الذي لم تقعده ديانته المعروف بها، وظروفه المحرجة عن الافصاح عن دعوته والجهر بها، والعمل على إذاعتها. وظل الشريف الرضي يذكر ولاء أبي إسحاق الصابي لأسرته وله، فظل يوافيه بالشعر الرثائي، كلما رأى قبره، معبرا بذلك عن أصالة الطبع، وعلو النفس التي كانت فوارة بالآمال والأماني. وثمة ما يضاف إلى الأصالة والنجابة في طبيعة الشريف الرضي وهو يرثي أبا إسحاق الصابي، وهو صفته القيادية غير الملموسة في رثائياته، ولكنها مستشفة من خلال رعايته لأشخاص معينين، لم يذكر أسماء بعضهم، وهي رعاية القائد للجندي، وتعاطفه معه، وحدبه عليه، وترحمه على ذكره. وقد أصاب الصابي من رثاء الشريف الرضي من صدق الوجد ما يحمل أكثر من دلالة على قوة الآصرة ومضمون الروحي والسياسي. وبعد أعوام من موت الصابي، مر الرضي على قبره، فقال: أيعلم قبر بالجنينة أننا * أقمنا به ننعي الندى والمعاليا مررنا به فاستشرفتنا رسومه * كما استشرف الروض الظباء الجوازيا وما لاح ذاك الترب حتى تحلبت * من الدمع أو شال ملأن الأماقيا نزلنا إليه عن ظهور جيادنا * نكفكف بالأيدي الدموع الجواريا ولما تجاهشنا البكاء ولم نطق * عن الوجد إقلاعا عذرنا البواكيا أقول لركب رائحين تعرجوا * أريكم به فرعا من المجد ذاويا ألموا عليه عاقرين فإننا * إذا لم نجد عقرا عقرنا القوافيا ولو أنصفوا شقوا عليه ضمائرا * وجزوا رقابا بالظبا لا نواصيا وقفنا فأرخصنا الدموع وربما * تكون على سوم الغرام غواليا ألا أيها القبر الذي ضم لحده * قضيبا على هام النوائب ماضيا هل ابن هلال منذ أودى كعهدنا * هلالا على ضوء المطالع باقيا وتلك البنان المورقات من الندى * نواضب ماء أم بواق كما هيا وما كنت آبي طول لبث بقبره * لو اني إذا استعديته كان عاديا وأضاف: خلا بعدك الوادي الذي كنت أنسه * وأصبح تعروه النوائب واديا أراحت علينا ثلة الوجد ترتعي * ضمائرنا أيامها واللياليا رضيت بحكم الدهر فيك ضرورة * ومن ذا الذي يغدو بما ساء راضيا وطاوعت من رام انتزاعك من يدي * ولو أجد الأعوان أصبحت عاصيا وطامنت كيما يعبر الخطب جانبي * فالقى على ظهري وجر زماميا رثيتك كي أسلوك فازددت لوعة * لأن المراثي لا تسد المرازيا وأعلم أن ليس البكاء بنافع * عليك ولكني أمني الأمانيا وترد المعاني الوافرة للحب والتقدير، وهي ترعى للصابي مجدا، لم يكن مقصودا، لو لم يكن للصابي من أكثر الدعاة تحمسا لحق الشريف الرضي في الخلافة. وبعد موت الصابي بنحو تسع سنين مر الشريف الرضي على قبره فقال: لولا يذم الركب عندك موقفي * حييت قبرك يا أبا إسحاق كيف اشتياقك مذ نأيت إلى أخ * قلق الضمير إليك بالأشواق هل تذكر الزمن الأنيق وعيشنا * يحلو على متأمل ومذاق وليالي الصبوات وهي قصائر * خطف الوميض بعارض مبراق لا بد للقرناء أن يتزايلوا * يوما بغدر قلى وعذر فراق أمضي وتعطفني إليك نوازع * بتنفس كتنفس العشاق وأذود عن عيني الدموع ولو خلت * لجرت عليك بوابل غيداق ولو أن في طرفي قذاة من ثرى * وأراك ما قذيتها من ماقي
261 إن تمض فالمجد المرجب خالد * أو تفن فالكلم العظام بواقي حذور الاغتراب ارتكز الاغتراب السياسي للشريف الرضي على أصل قومي إسلامي للاغتراب فهو من حيث الهوية القومية عربي الأصل والنشأة، وكذلك عربي النزعة والاتجاه، وهو ابن أرومة عربية قحة، حملت لواء المجد العربي. أي أن عروبة الشريف ليست انتماء قوميا تقليديا، بل هو انتماء إسلامي ثوري، متجذر في أرضية عربية متينة، وفي تاريخ عربي إسلامي مجيد وعريق. وهو في أغلب شعره الافتخاري كان يبث أفكاره، لا بصورة افتخار شخصي منعزل، وإنما في موقف موحد: فردي وقومي. فهو إذ يفتخر بنفسه وبأهله، فإنما يرمي بكل ثقله التاريخي لصالح أمته، كما أنه في الوقت عينه يذكر مجد العشائر العربية وبطولاتها في معرض الافتخار الذاتي. فقصائد شعره التي تتضمن أفكاره، ونداءاته، واستطراداته التاريخية، وأمانيه تربط الذاتي والقومي ربطا محكما، وطبيعيا تماما. فترد أشعاره عن شجاعة قبائل عربية بالقوة الافتخارية نفسها التي يرد فيها ذكر شجاعته، وشجاعة قومه، أو بالاسترسال نفسه. وغالبا ما تنمو القصيدة وهي تنتقل من شجاعة الأهل والقوم إلى شجاعته الشخصية، أو بالعكس، لأن الرابطة بين الذات والأهل والعروبة، هي رابطة موحدة، تشكل ركيزة عضوية واحدة في حياة الشريف الرضي. ويأخذ الافتخار، في هذا المنظور، قيمته الخاصة منزها عن تمجيد الذات المرضي، الذي وقع صرعى فيه، وبه، شعراء تياهون بأنفسهم عجبا، أصابهم مس من جنون العظمة، فأطار صوابهم، وأضلهم، وأفقدهم القضية الجوهرية للانتماء إلى شعوبهم وأوطانهم. إن روح التحدي التي ترعرعت في جسده، كانت تأخذ من حقه في المسؤولية قوة متنامية، فكان شعره يزداد حماسة وفخرا وشعورا بالرئاسة، فيقول وهو في العشرين تقريبا: وعن قرب سيشغلني زماني * برعي الناس عن رعي القروم وما لي من لقاء الموت بد * فما لي لا أشد له حزيمي ويقول: ما أنا للعلياء إن لم يكن * من ولدي ما كان من والدي ولا مشت بي الخيل إن لم أطا * سرير هذا الأغلب الماجد ويلاحظ في البيت الأخير أنه يعرض بالخليفة.... إن حقيقة العربي، في تصورات الشريف الرضي، عميقة المعنى، قوية الدلالة، وراسخة الحضور، مما يمكن الاستنتاج منه، وبسهولة تامة، أن تعامل الشاعر مع هذه الحقيقة، ليس مرحليا أو مرهونا بأزمات شخصية تتصل بالمطامح، وإنما هي ركن جوهري في منظومة أفكاره، كما أنها موجه ومنظم لسلوكه ولكثير من الأفعال التي أقدم عليها، أو كان في نيته الاقدام عليها. وبالنسبة لكثير من الشعراء قد ترد النزعة العربية الاسلامية بصورة كلمات مفردة، أو أبيات شعر محدودة، لمناسبة معينة، لكنها عند الشريف الرضي ذات أولوية فكرية ومصيرية تكتسح كثيرا من الأحيان الاهتمامات العاطفية الأخرى، لتظل سيدة الموقف في القصيدة. ويقود التطابق مع القضية إلى إبداعية متقنة، تقوم على وحدة المعنى والمبني. فالصدق الفكري والنفسي يؤدي إلى الصدق الفني، وكل صدق لأكثر جدية يولد صدقا آخر، وهكذا تفتتح الطرق سلسلة الولادات الجديدة، والمتآخية. وكيف يستطيع الشاعر والفنان عموما ضبط العلاقة بين الموصوف والصفة، إذا لم يكن هو موصوفا بصفة؟!. وبما لا يقبل الشك، إن التوصل إلى معرفة صفات الأشياء هو من ثمرات الواقعية، أي قدرة الرائي على استنتاج المرئي بمجموع أو ببعض صفاته. غير أن الوصول إلى التشبيهات والاستعارات يدلل على ما هو أبعد وأهم من الواقعية الالتقاطية التي تأخذ بجماع المنظورات، وتعيد طرحها في الفن والأدب. ذلك لأن التشبيهات تنبثق من الأصالة الحقيقية للشاعر والفنان. وعلى صعيد السياسة في الشعر والأدب والفن لا يتأتى للسطحيين والانتهازيين، والتوفيقيين، وصيادي الفرص النفعية، أن يقدموا تشبيهات واستعارات رشيقة، أمينة، عذراء، باهرة الاختصار، والصياغة والتدليل. قد يقدرون على تنميق أكاذيب معسولة، لكنهم هيهات، هيهات، أن يستطيعوا التشبيه والاستعارة بنقاوة إشعاعات الشمس الفجرية وهي تعانق الأرض التي أنعمت على الشمس بفضيلة الشروق والغروب، فمنح الناس الجمالين في الفجر والمساء للشمس ونسوا أن فدائية الأرض الدائرة وراء كل ذلك. تتصل إذن نقاوة التشبيه والاستعارة، بنقاوة القائل وصفاء انتساباته إلى نفسه وإلى مجتمعه، وإلى قضيته. هكذا يمكن أن نفهم بيت شعر واحد، يساوي أكثر من عشرات المقالات والأشعار، وحتى الدواوين. قاله الشريف الرضي وهو يجسد عروبته الاسلامية، والمضمون الذي يجب أن تكون عليه: إذا عربي لم يكن مثل سيفه * مضاء على الأعداء أنكره الجد في هذا البيت تضمين أكبر من المطابقة بين العربي والسيف، وهو ليس اختراعا، إنما هو من وحي الفطرة العجيبة، فطرة عربية الشريف الرضي الاسلامية المزكاة بالعرفانية التاريخية والسياسية. ثمة التصاقات جميلة لو قلنا إن العربي كالسيف، وأجمل منها لو قلنا إن السيف كالعربي، لكن قوله الشريف الرضي: إذا عربي لم يكن مثل سيفه خرجت عن نطاق البلاغة الشعرية، الوصفية، أو الاستعارية، خرجت من المعرفة المتدبرة، ودخلت في عظمة الفطرة النبيلة، التي هي المصدر الأول لكل معرفة منزهة. لا يحس المتلقي إلا بالاحساس الواحد، وهو يقرأ أو يسمع إنشاد الشريف الرضي، أن العربي والسيف توأمان ولدا في اللحظة الواحدة،
262 وبالصورة الواحدة، وبالأجل الواحد الذي لا مبدل له. فالعربي سيف، والسيف عربي، وهما منذ الأزل العربي كائن واحد، لا يصلح هذا بغير ذا ولا ذا بغير هذا. وان مجرد القول ب هذا وذاك يعني المباعدة التي لا تقبل. وإنها لحقيقة تاريخية مؤكدة أن العرب حينما وكلما نسوا وتناسوا معنى القوة في هذه المطابقة بين العربي وسيفه، كان السقوط مصيرهم المداهم. ففترة الازدهار العربي هي فترة تطبيق المقولة التي جلجل بها الشاعر الشريف ابن الشريف. أما فترات الانحطاط، والانهيار، فهي التي افترق فيها العربي عن سيفه، في تياه الغفلة. أما: ماذا قالت القصيدة قبل أن تصل إلى حكمة البيت المذكور، فذلك ما يعنيه التدرج العزيز لمرقى الحب المفجوع الذي يبتدئ بقوة حكمة المطلع، فتأتي الأبيات المتلاحقة وكأنها مطالع وخواتيم زاهرة ومضربة حيثما تواصلت مظنة العبقرية للشاعر الملهوف الذي وضعه العز الطرب والخذلان مثل زيت يحترق: لأي حبيب يحسن الرأي والود * وأكثر هذا الناس ليس له عهد أرى ذمي الأيام ما لا يضرها * فهل دافع عني نوائبها الحمد وما هذه الدنيا لنا بمطيعة * وليس لخلق من مداراتها بد تحوز المعالي والعبيد لعاجز * ويخدم فيها نفسه البطل الفرد أكل غريب لي بعيد بوده * وكل صديق بين أضلعه حقد ولله قلب لا يبل غليله * وصال ولا يلهيه عن خله وعد يكلفني أن أطلب العز بالمنى * وأين العلى إن لم يساعدني الجد أحن وما أهواه رمح وصارم * وسابغة زغف وذو ميعة نهد وليس فتى من عاق عن حمل سيفه * أسار وحلاه عن الطلب القد إذا كان لا يمضي الحسام بنفسه * فللضارب الماضي بقائمه الحد وحولي من هذا الأنام عصابة * توددها يخفى وأضغانها تبدو يسر الفتى دهر وقد كان ساءه * وتخدمه الأيام وهو لها عبد ولا مال إلا ما كسبت بنيله * ثناء ولا مال لمن لا له مجد وما العيش إلا أن تصاحب فتية * طواعن لا يعنيهم النحس والسعد إذا طربوا يوما إلى العز شمروا * وإن ندبوا يوما إلى غارة جدوا وكم لي في يوم الثوية رقدة * يضاجعني فيها المهند والغمد ولو شاء رمحي سد كل ثنية * تطالعني فيها المغاوير والجرد ألا ليت شعري هل تبلغني المنى * وتلقى بي الأعداء أحصنة جرد جواد وقد سد الغبار فروجها * تروح إلى طعن القبائل أو تغدو خفاف على إثر الطريدة في الفلا * إذا ماجت الرمضاء واختلط الطرد كان نجوم الليل تحت سروجها * تهاوى على الظلماء والليل مسود يعيد عليها الطعن كل ابن همة * كان دم الأعداء في فمه شهد يضارب حتى ما لصارمه قوى * ويطعن حتى ما لذابله جهد تقرب لا مستحقبا غير قوته * ولا قائلا إلا لما يهب المجد ولا خائفا إلا جريرة رمحه * ولا طالبا إلا الذي تطلب الأسد إذا عربي لم يكن مثل سيفه * مضاء على الأعداء أنكره الجد ويأخذ التصعيد مداه في البيت الأخير، ويلحقه بصورة ثانية: وما ضاق عنه كل شرق ومغرب * من الأرض إلا ضاق عن نفسه الجلد ثم يبدأ ذكر الاحباط، وترتد الصور الشعرية إلى الحزن الشخصي، والغربة التي لا تفارق: إذا قل مال المرء قل صديقه * وفارقه ذاك التحنن والود وأصبح يغضي الطرف عن كل منظر * أنيق ويلهيه التغرب والبعد فما لي وللأيام أرضى بجورها * وتعلم أني لا جبان ولا وغد تغاضي عيون الناس عني مهابة * كما تتقي شمس الضحى الأعين الرمد فائدة: المال مادة الشهوات إن قضية الخلافة التي سيرت الشريف الرضي في دروب الاغتراب، والاحباطات القوية، تختلف من حيث المطالبة بها أو الاعتقاد بالحق فيها من راغب إلى طالب، ومن شخص إلى آخر. فهي قد تكون لدى البعض نمطا من شهوة السلطة التي تحرك المطالبة بها بقوة الدوافع والتطلعات السياسية الذاتية، وهي في الغالب تجمع عدة شهوات ورغبات تسلطية وتملكية متعددة، تكون بؤرتها الكبرى والأساسية شهوة السلطة، والرغبة بالامارة، وترافقها شهوة تملك المال والثروات المادية بأنواعها لكي تخدم الأموال والأملاك مشروع الامارة، وتجسد الرغبات الذاتية السرطانية المتمثلة في الاحتياز والسيطرة وتملك الرقاب والأموال على حدي سواء. وبلا شك إن الموقف من المال يعكس إلى درجة كبيرة الطبيعة السياسية والأخلاقية لدعاة السلطة، والامارة. لأن فهم فائدة المال ومكانته وحدوده يكشف عن طبيعة الشخص ومواقفه، وآرائه، ونوع علاقاته بالبشر وبالحياة. وبتعبير عام إن الأفكار التي تتعلق بالمال وسبل اقتنائه وزيادته، وسبل استخدامه وتوظيفه أصبحت تشكل منذ القدم نظرية محددة. لذلك حفلت الكتب المقدسة وأحاديث الأنبياء والمصلحين بمفاهيم وتحليلات وتعليمات عديدة حول المال. والخلافة في فكر وتطلب الشريف الرضي، رغم تكتمه الشديد في موضوع المناداة بها، ورغم أنها أخذت أسلوب التورية أكثر من الافصاح، هي أقرب إلى الرسالة منها إلى رغبة الحكم، وذلك لأنها متجردة إلى حد بعيد من شهوة السلطة. ويدعم الرأي المذكور موقف الشريف الرضي من المال والمنافع المادية، وهو موقف تعلن عنه قصائده في العديد من المرات، مما يوحي بوجود رؤية محددة ثابتة للشريف الرضي في هذا الخصوص. وتتوحد مع الرؤية ممارسة تطبيقية تعلن عن تجرد الشريف الرضي من كثير من الشهوات التسلطية والتملكية، النابغة حكما من أنانية مفرطة التضخم و العدوانية. وتستلهم أفكار الشريف الرضي، الواردة في شعره، عن المال، الكثير من أفكار علي بن أبي طالب، إن لم تكن كلها في هذا الميدان. وتأخذ حكمة علي بن أبي طالب القائلة: من ملك استأثر مكانة مهمة
263 في تشكيلة الآراء والحكم الأخرى، لأنها تربط ربطا دقيقا بين ضغط المال من أجل المراكمة وزيادة الثراء، وبين الاستئثار التملكي المتفاقم، الذي تتضخم فيه الأثرة، ويضيع الايثار. وما أراده علي بن أبي طالب في قوله: فما جاع فقير إلا بما متع به غني إيجاد رابطة عدل وشراكة في الحق، لأن المال مال الله والعيال عيال الله بالنتيجة، وكل مال ليس محمودا إذا لم يكن فيه حق للفقير والمحتاج والمحروم والسائل. ولا يتوقف الشريف الرضي عن الاعلان بان الفقر ليس عيبا، وإنما العار في المال غير المحمود. فيقول: ما الفقر عار وإن كشفت عورته * وإنما العار مال غير محمود ويكرر الشريف الرضي قناعته بان المال وجد للسخاء والجود، وأن الشجاعة التي لا تعني غير الجود بالنفس ترتبط بصفة الجود بالمال، وبذلك يتحلى المرء بأحسن الصفات وأجملها. وهو يقول: لقد عاف أمواله من يجود * وقد طلق النفس من يشجع وهو يدين الشخص الثري الذي لا يجود: وجدوا وما جادوا ومحتقب * للوم من أثرى ولم يجد ويستوحي الشاعر من حكمة علي بن أبي طالب القائلة: لكل امرئ في ماله شريكان: الوارث والحوادث، ما يتوصل به إلى إدانة جمع المال خارج الشرط الإنساني الصحيح، فالمال وسيلة وليس غاية، أو صنما يسجد له الإنسان ويخدمه، وهو يرتبط بحق الإنسان في العمل، وبحريته، وبحق الرزق المكفول من الله تعالى لابن آدم، فيقول: وما جمعي الأموال إلا غنيمة * لمن عاش بعدي واتهام لرازقي وما يمنع الشرفاء والكرام من جمع المال إلا التعفف، والحق، فإذا جاءت الأموال بين أيديهم، فإنهم يخرجون سلطانها من أفئدتهم، ويجرون تصريفها بما فيه الخير والفائدة. وهم يعلمون خطر المال أكثر من سواهم، مهتدين بكلمة علي بن أبي طالب: المال مادة الشهوات، لكن سلطانه بعيد الشأو، وكما قال الرضي: قد يبلغ الرجل الجبان بماله * ما ليس يبلغه الشجاع المعدم لا تخدعن عنه فرب ضريبة * ينبو الحسام بها ويمضي الدرهم ولا تغيب عن الشاعر الحكمة التليدة: إذا قل مالي قل صحبي وإن نما * فلي من جميع الناس أهل ومرحب وخاتمة الأمر إن ذم المال لا يعني امتداح الفقر، فالفقر هو الموت الأكبر والفقر في الوطن غربة. وإنما يعني رفض توثين المال وحسبانه غاية الغايات، فما هو إلا وسيلة، وأداة، تصليح إن وضعت في موضع خدمة الناس، وتفسد إن وضعت في موضع إذلال الناس، وخلق العداوات، وتأجيج الإحن والمحن. الغربة الاجتماعية غربة الناس أولا تحسب الغربة الاجتماعية وجها مباشرا من وجوه الاغتراب السياسي، لأنها تتصل اتصالا وثيقا بالظروف السياسية، وتقلبات الأحداث، ومصائر الأشخاص الفعالين في جهاز الدولة أو في صفوف المجتمع. وتسهم العوامل الموضوعية، والنفسية، في إبراز الجوانب الاجتماعية للظاهرة السياسية، والوجوه السياسية للظاهرة الاجتماعية. وفي جميع الحالات المتغيرة، تكون الوضعيات والعلاقات الاجتماعية، من نتائج الأمر السياسي، ولكنها في الوقت ذاته تصبح من أسبابه، وعوامله المحركة، سلبا أو إيجابا. وتتعرض سيكولوجية الجماعات إلى تغييرات مهمة، تبعا لنوع المراحل السياسية التي تجتازها، وكذلك، تبعا لمدى جثوم التاريخ القريب على زمنها لمدة أطول أو أقصر. لأن اعتياد الجماعة البشرية على العيش في ظل مرحلة معينة لفترة طويلة، بالقوة أو بإرادتها يؤدي إلى تعودها على صفات جماعية، أو شبه جماعية، قد لا تكون من خصائصها الثابتة، وإن كانت بالنتيجة تقرب منها. وتختلف الجماعات البشرية فيما بينها من الناحية السيكولوجية، وكذلك تختلف الجماعة البشرية الواحدة في ما يسمى ب السمات والخصائص باختلاف مراحلها التاريخية، حيث لا توجد سمات وخصائص نهائية، وأبدية. وأن قانون التفاعل لا يسمح بوجود خصائص مطلقة. لكن بعض الخصائص النسبية تبدو وكأنها خصائص مطلقة من طول استمراريتها. ومن هنا يقال في بعض التحليلات السياسية والانطباعات الثقافية عن بعض المجتمعات والشعوب إنها غافلة، أو كسولة، وعن بعضها الآخر إنها متمردة، وثابة. وأول خذلان فاجا الشريف الرضي، هو خذلان العوام، الذين ورد ذكرهم في شعره باسم الناس. إنهم أصلا مستلبون، وهم في حالتهم تلك غير قادرين على إعانة بطل متقحم في كفاحه العادل. وتبلغ الغرابة مبلغا مدهشا، في سيكولوجية الجماعات، إنها أي الجماعات تندفع أحيانا بهوجائية عمياء ضد أبنائها ومفكريها وأبطالها، استجابة لأوامر سياسية صادرة عن السلطة، فتنكل بهم، ثم تندم متأخرا. يمكن أن نعثر على مثل هذا السلوك، في مراحل عديدة من أزمنة الانحطاط في التاريخ العربي، بعد أن عفا الزمن على عصر الازدهار العربي الاسلامي. فأول غربة، واغتراب، بالمعنى الاجتماعي، عند ما وجد الشريف الرضي انعدام الناصر بالدلالة الاجتماعية. من هنا، وربما أكثر من ذلك، كانت أعماقه تنز بمرارة الخذلان، وقصيدته التي أشرنا إليها سابقا والتي قال فيها: إذا عربي لم يكن مثل سيفه، كانت على نقيض عادة الشعراء في اختيار مقدمة القصيدة في النسيب، والتشبيب، وذكر الطلول، أو في مداخل أخرى، بدأت بتقرير
264 انعدام العهد في أكثرية الناس، منذ البيت الأول، وهو القائل: لأي حبيب يحسن الرأي والود * وأكثر هذا الناس ليس له عهد ثم: أكل قريب لي بعيد بوده * وكل صديق بين أضلعه حقد وتصعد عنده حدة التشخيص والإدانة، درجة عالية فيعلن: الناس حولك غربان على جيف * بله عن المجد إن طاروا وإن وقعوا فما لنا فيهم إن أقبلوا طمع * ولا عليهم إذا ما أدبروا جزع ويرى بنفسه أن الناس هم الداء، وأن الصراع بين العاقر والمعقور، صراع المفترس والفريسة، هو الذي يطغى على ما عداه، فيا لضيعة من يرنو إلى القضية: فقال: يطيب النفس عن قطعي علائقها، إني أفارق من فارقت معذورا كن في الأنام بلا عين ولا أذن * أو لا فعش أبد الأيام مصدورا غيب الرجال ظنون قبل مبحثه * فما طلابك أن تلقاه موفورا فما نلائم إلا عاد منصدعا * ولا نثقف إلا عاد ماطورا محل البلاد ولا جار تغص به * يضوي الفتى ويكون العام ممطورا والناس أسد تحامي عن فرائسها * إما عقرت وإما كنت معقورا كم وحدة هي خير من مصاحبة * ينسى الجميع ويغدو الفذ مذكورا من كشف * الناس لم يسلم له أحد الناس داء فخل الداء مستورا ولقد كان ما ناله من الناس أسوأ جزاء، وهو الذي جبل على حب الناس، فهو في شجاعته، وكرمه، وكفاحه، وفي مسؤولياته التي تولاها، وصارع، وضحى فيها، لم يكن إلا منافحا عن الناس. وكان ذلك، من قبله، قضية ومسؤولية وواجبا، وليس مجرد عواطف إيجابية بسيطة، لكن كم هم أولئك الذين يقرون بشجاعة الشجاع، وتضحية المضحي، وجود السخي، وهو يفعل ما يفعل من أجل الناس. لا شك إن العدد لضئيل، لأن غالبية الناس فيما إذا خيم عليها الجهل، وغشت ضمائرها غشاوات الكذب والتدليس، وأجبنت عن قول الحق، فإنها تسمي الشجاعة تهورا، والكرم تبذيرا وسذاجة، والتضحية خبالا. ورغم أنها تعلم في قرارة النفس، ما هو الصحيح، إلا أن الجبن الطاغي، الذي لا تعترف به ومتى اعترف إنسان بجنبه؟! يسوع لها اتهام الغريب عنها، فتضيف إلى السهام والرماح التي تتناوشه رماحا جديدة. فيصبح أكلة السهام، وأكلة المغتاب... فالذي شكا تبذل الشاعر صحا به، والناس الذين أبعد الهوى من أجلهم، فقال: أنا أكلة المغتاب إن لم أجنها * شعواء يحضرها العقاب الغائب وكأنما فيها الرماح أراقم * وكأنما فيها القسي عقارب قد عز من ضنت يداه بوجهه * إن الذليل من الرجال الطالب إن كان فقر فالقريب مباعد * أو كان مال فالبعيد مقارب وأرى الغني مطاعنا بثرائه * أعدائه والمال قرن غالب يشكو تبذلي الصحاب وعاذر * أن ينبذ الماء المرنق شارب من أجل هذا الناس أبعدت الهوى * ورضيت أن أبقى وما لي صاحب وأي الليالي إن غدرن فإنه * ما سن أحباب لنا وحبائب غربة الأصدقاء ثانيا ويرتفع مستوى الغربة الاجتماعية في نفس الشريف الرضي، إلى حالة اغترابية أكثر مأساوية، من تلك التي لفها به خذلان أكثر الناس، وهي خذلان الأصدقاء، وهي الحالة الثانية من الاغتراب الخانق الذي يسد أبواب التضامن الأخوي والروحي بوجهه. إن الصديق هو قوة المساندة في السراء والضراء، في الفرح والترح، وهو الحبيب الذي تشترك نبضات قلبه مع نبضات قلب صديقه، والغريب من لم يكن له حبيب كما قال علي بن أبي طالب ع، وأناس مثل الشريف الرضي الذي يتسمون بالسخاء والسماحة وطهارة النفس، يجدون أصدقاء كثرا، وهم يحمون الصداقة، ويسهرون عليها، لكنهم سيئو الحظ، لأن أصدقاءهم يضيعون صداقتهم. وليس أكثر عذابا للنفس الشريفة الحساسة من هجر الصديق، أو ابتعاده، أو نسيانه حق الصداقة، وحق الصداقة هو التلازم، والتذاكر بالمودة، والتشارك أمام تصاريف الزمان. والإنسان مثل طيف عابر، وكذلك زمنه، فلا غنى له والحالة هذه عن معاضدة الصديق، الذي يحفظه في غيبته، ونكبته، ووفاته. وحق، ما قاله علي بن أبي طالب: ع أعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم. لكن الشريف الرضي وهو الأشجع، كسب الاخوان، فخسروه، وكم ضيع أناس خيرة الناس، وأفضل الصداقات لأسباب تافهة، لا يعدو بعضها الغرور، أو لسماع القال والقيل، أو قبول مصاحبة أهل السوء أو سوى ذلك، لكن الذين هجروا الشريف الرضي، كانوا يتهيبون من علو همته، وعظمة مسعاه، ولا يحلق مع الباز إلا الباز، فأشفقوا على أنفسهم من طول الرحلة، وأشفق عليهم الرضي أيضا، لكنه ظل يشكو غدر الخلان والأصدقاء، وهذا أسوأ ما يناله امرؤ في حياته. ويحار الإنسان في تفسير ظاهرة تعرض الشرفاء لغدر وخيانة الأصدقاء، هل هو سوء الحظ أم البلاء؟ وهو كما ذكرنا بدرجات، وبأشكال؟ وهل الشريف يغري الصديق بخيانته، بسبب شرف طبعه، ونبل نفسيته، وترفعه عن العقاب؟ أم أن الحسد يحرك ذيله في نفس الصديق؟ الذي يبر بنفسه علو مكانة صديقه الشريف، فيغار، ويحقد، وينتقم؟ قد تكون الصورة هنا أكثر وضوحا. فالصديق يرى صفات صاحبه النبيلة، مثلما في مرآة، يرى تفوقه، وجدارته، ونفاسة معدنه، وهو يرى نفسه أيضا، يرى عجزه عن اللحاق بتلك السمات السامية، ولأن نوازع الشر موجودة في الصدر، فإنه بدلا من أن يعتبر تلك السمات قدوة يهتدي بها، فان نوازع الضحالة تخبط خبطتها، فتخلق الحسد والغيرة، والكراهية المتدرجة، ثم الانتقام اللئيم. وأبديا، ظلت خيانات الأصدقاء مروعة، ومهينة وإنسان مثل الشريف الرضي يعرف الناس، ويعرف اختياراته جيدا، لأنه القائل: تشف خلال المرء لي قبل نطقه * وقبل سؤالي عنه في القوم ما اسمه
265 لا يمكن أن لا يعرف وجوه أصدقائه، وأكفهم، لكن هل يكفي ذلك لمعرفة ما وراء الدخائل؟ وأيا ما كانت معرفة الشريف الرضي بالأصدقاء والخلان، فان غدرهم يجرحه جرحا لا مثيل له، دائم النزف، لأن معرفته المخذولة تطرق أوتار نفسه الحساسة المرهفة، فيكون الأنين مثل صوت ريح البادية: حزينا، حزينا، حزينا، كروح مسمرة في النكبة! هل كانت معادلة الشريف الرضي، معادلة الناس الذين هم مثله في صفاء الاحساس والذكاء النادر؟ ولعل سمات المحب العظيم، غير هذه السمات: الحب الخارق للأم، والحب العنيف للأصدقاء، وحب البشر، والحياة، والسمو بالنفس نحو المثل والمبادئ ونحو أخلاقيات الشرف؟ وهل مي غير الرهافة، والسخاء، والشجاعة، والموهبة، فلماذا، إذا تجمعت لدى امرئ تعرض لغدر الصديق، غدر الجبان، فينام الجبان على وسادة جبنه، ويظل هو شاكيا للزمان اغترابه؟ ويربط الشريف الرضي، كل شئ بالأصول، فان أوضح ذلك، في شعره بالسببية، فقد فعل، وإن أوضح ذلك بالتجاور فقد أوما، وقد قال: وأول لؤم المرء لؤم أصوله * وأول غدر المرء غدر خليل فالله، الله، لمن توحدت في نفسه أيكة الأصل الشريف، ومحبة الخلان! ولله، ما يلقى من غدر من لؤمت أصوله، ومن يضع السم في كأس صاحبه وصديقه وخليله! فطارت شكوى الرضي إلى الجوزاء، وإلى جميع محطات ذاكرة الزمن، فتشاكل الشجو والشجن والشكر في ناموس البلاء، والله الحي الشاهد: أشكو النوائب ثم أشكر فعلها * لعظيم ما ألقى من الخلان وإذا أمنت من الزمان فلا تكن * إلا على حذر من الاخوان وكذلك قال عن معاناته من نفاق الأصحاب: فكم صاحب تدمى علي بنانه * ويظهر أن العز لثم بناني يضم حشا البغضاء عند تغيبي * ويجلو جبين الود حين يراني مسحت بحلمي ضغنه عن جنانه * فلما أبى مسحته بسناني سبقت برميي قلبه فأصبته * ولو لم أصبه عاجلا لرماني وقال: لحا الله دهرا خانني فيه أهله * وأحشمني حتى احتشمت الأعاديا فلست أرى إلا عدوا مكاشفا * ولست أرى إلا صديقا مداجيا وفي وحشة الوحدة، وهو يحتاج الأرض بهمته ومجده وعلو شانه، وآماله الكبيرة، يصدحه الخذلان فيرى نفسه وحيدا ليس له صديق، إذن ليس له منزل أو سكن! لكن: متى كانت لكبار النفوس مساكن؟ وظل الشريف الرضي، شاعر القلب والحكمة، يحل ثنائية التفجع بين حاجته إلى الصديق، وبين حرمانه من وفاء الأصدقاء إلا من قلة نابهين أجلاء في شكوى الدهر والزمان، وكان يتساهل في فجائع وأزمات كثيرة، لكن انعدام وفاء الأصدقاء كان ينقله فورا إلى مخاطبة الدهر الخائن، لأن الصداقة حلت في قلبه وعقله محلا لا أعلى منه ولا أرقى، فان قل الصديق كان الدهر مسؤولا عن ذلك: توقعي أن يقال قد ظعنا * ما أنت لي منزلا ولا سكنا يا دار قل الصديق فيك فما * أحس ودا ولا أرى سكنا ما لي مثل المذود عن أربي * ولي عرام يجرني الرسنا ألين عن ذلة ومثلي من * ولي المقادير جانبا خشنا معطلا بعد طول ملبثه * منازلا قد عمرتها زمنا تلعب بين النائبات واغلة * كما تهز الزعازع الغصنا أيقظن مني مهندا ذكرا * إلى المعالي وسائقا أرنا كيف يهاب الحمام منصلت * مذ خاف غدر الزمان ما أمنا لم يلبث الثوب من توقعه * للأمر إلا وظنه كفنا أعطشه الدهر من مطالبه * فراح يستمطر القنا اللدنا لي مهجة لا أرى لها عوضا * غير بلوع العلى ولا ثمنا وكيف ترجو البقاء نفس فتى * ودأبها أن تضعضع البدنا أكر طرفي فلا أرى أحدا * إلا مغيظا علي مضطغنا ينبض لي من لسانه أبدا * نصال ذم تمزق الجننا إن الصراع يشتد، وتضاف إلى أسبابه أسباب جديدة. وسيرى الشريف الرضي نفسه شاردا في البلاد دائما، منكورا، محروما، جريحا لأن حبل الوفاء، أنى ذهب وتوجه، يتصرم كاللعنة: أأنكر والمجد عنوانيه * ومخبرتي عند أقرانيه ويعرف غيري بلا ميسم * مبين ولا غرة ضاحيه ألا قاتل الله هذا الأنام * وقاتل ظني وأماليه ودهرا يمول ذلاته * ولا يذخر العدم إلاليه إذا ما تماثلت من غصبة * أعاد المرار فسقانية فيا ليت حظي من ذا الزمان * رد نوائبه الجارية زمان عدا العي أبناءه * فأفصح من ناطق راغيه سؤالا فهل يخبرني سالف * من العيش قطع أقرانيه ألا أين ذاك الشباب * الرطيب أم أين لي بيض أياميه مشى الدهر بيني وبين النعيم * ظلما وغير من حاليه نظرت وويل أمها نظرة * ببيضاء في عارضي باديه يقولون داعية للشباب * فقلت ولكنها ناعيه ألا قطع الناس حبل الوفاء * وأولع بالغدر خلانيه وصرت أعدد في ذا الزمان * صديقي أول أعدائيه أضر الأنام لي الأقربون * وأعدى الورى لي جيرانيه إلى كم أخفض من عزمتي * وكم يأكل العضب أغماديه فلله عزمي لو أنه * على قدر عزمي سلطانيه ستسمع بي شاردا في البلاد * لأمر أغير إنسانيه وقد أغتدي غرض * النائبات لا يتقي الروع إلا بيه نديما جذيمة لي في البلاد * نديمان والظلمة الداجية ومما يزيد في تأثير غدر الأصدقاء والخلان على نفس الشريف الرضي مرارة، أنه شديد اللهفة على الصديق، فروح الصداقة تغزو دمه وأعصابه، وذهنه، وقلبه. وتبدو آثار قسوة الخيانة، أو الجفاء شديدة عليه إذا ما علمنا
266 أنه يذكر عن نفسه أنه تحفة للصديق قائلا: على أنني تحفة للصديق * يروح بنجواي أو يغتدي وإني ليأنس بي الزائرون * أنس النواظر بالأثمد تغمض لي أعين الحاسدين * كالشمس في ناظر الأرمد فلا دخل البعد ما بيننا * ولا فك منا يدا عن يد وطول أيامنا بالمقام * في ظل عيش رقيق ندي لكن قدره أنه وهو الصديق والصادق ليس له صديق، فيقول: كفى حزنا أني صديق وصادق * وما لي من بين الأنام صديق فكيف أريغ الأبعدين لخلة * وهذا قريب غادر وشقيق وظلت حسرته على الصديق تنتهي دوما بمقالة حكيمة: من لي بغرة صاحب * لا يستطيل عليه عاب ما حار الأيام إلا * كان لي وله الغلاب هيهات أطلب ما يطول * به بعاد واقتراب قل الصحاب فان ظفرت * بنعمة كثر الصحاب من لي به سمحا إذا * صفرت من القوم الوطاب من لي به يا دهر والأيام * كالحة غضاب غربة المتفرد لا يمكن قصر الاغتراب على شروط الموضوعية، من حيث كونه تغريبا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، إذ أن العوامل الذاتية للاغتراب تشكل أساسا قويا لفعالية الثروة والمؤثرات الموضوعية. وبالنسبة إلى الشريف الرضي لعبت طبيعته الشخصية دورا كبيرا في اغترابه المأساوي. واستنادا إلى أشعار الشاعر، وإلى المعروف عن حياته، فان طبيعته تتسم بمزيتين واضحتين تماما: الأولى قوة طبعه، وحديته التي لا يستطيع حيالها الأقدام على أية مراوغة شخصية. ولعل وضوحه القاسي كان سببا كبيرا لكثير من المتاعب التي مر بها، وكثيرا تحدث عن السيف، بل هو يرى أن السيف لا معنى له، وليس سيفا إذا ظل مغمدا، فهو سيف في وظيفة الاستعمال، وليس في إطار الغمد والحفظ فقال: أنا السيف إلا أنني في معاشر * أرى كل سيف عندهم لا يجرب ومثلما بدأ جليا في العديد من الاستشهادات الشعرية المذكورة، وسواها مما لم نذكره وهو أكثر! كان الشاعر متجها صوب أهدافه التي أجملتها كلمة المعالي تعبيرا عن قضية سياسية وإيديولوجية، وطموح متحصن بدلالة دينية وتاريخية. وأكسبته طبيعته الشخصية العنيدة، واقعية مباشرة، وتعاملا حسيا مع الأحداث بالمستوى الذي حتمه كفاحه من أجل تحقيق بعض أهدافه. وإن العلى الذي كان يتوق إلى الوصول إليه باستمرار، لم يكن مقطوعا عن تلك الطبيعة نفسها، لأنها بالذات، طبيعة تحمل في داخلها شعورا بالعلو لم يفارقه لحظة. وإنسان، هو الشريف الرضي، ذو نفس عالية، لا يمكن إلا أن يكون صادقا في حياته، حقيقيا، واضحا، مباشرا، مفصحا عن أهدافه، وأغراضه، وعواطفه، بشاعرية صافية. ومن موقع العلو النفسي، يأنف الشاعر وأي إنسان مشابه له، من التدني، والتلوث، والارتباط بالشبهات ومن باب أولى، فإنه يترفع عن الكذب، والالتواء، والاحتيال، والتخابث، وسنرى فيما بعد كيف أن هذه الصفة من صفات الشريف الرضي متعلقة بخوض غمار حرب صعبة مع الناس والأقرباء والأصدقاء بسبب صدقه في عشقه، وتعففه عن النفاق، باسم دواعي نقابته وإمارته بالحج. وإذا كانت صفة القوة الطاغية في طبيعة الشريف الرضي قد برزت في مضامين كثيرة من شعره، والشعر ترجمان الأفكار والأحوال، فان الصفة الثانية برزت في حياته الواقعية، وفي شعره أيضا، هي صفة السماحة، التي يمكن حسبانها نوعا من الديموقراطية الفطرية، والمناقبية الإنسانية السمحاء. وهي أيضا الوجه الآخر لعظمة الروح. فالقوة الحقيقية للشخصية هي التي توفر أوسع الإمكانات، والاستعدادات لخوض الحوار الديمقراطي، والتعايش مع المذاهب والأفكار بثقة. إن الضعفاء، حينذاك، وفي أي وقت آخر، في ميدان السياسة والفكر هم الذين يخشون الحوار والتعايش مع الآخرين من مختلف المستويات المذهبية والأيديولوجية، ذلك لأن التزعزع الذي يلم بنفس الضعيف فكريا وأخلاقيا يعجزه عن المعايشة، والمجابهة المشروعة، ومقارعة الحجة بالحجة. وعلى امتداد حقب التاريخ كان المتعصبون، المتطرفون أضعف الناس، لذلك فقد استخدموا النار والحديد للإجهاز على اجتهادات الفكر والسياسة ولم تكن ظاهرة قوة بعض رؤوس التعصب، التي لا يمكن إنكار وجودها في مراحل تاريخية معينة وفي بلدان مختلفة، دالة على قوة حقيقية، بالمعنى الإنساني، بل هي نوع من شذوذ القوة، أو القوة الشاذة. وحينما تحاول ماكينة السياسة طي السجلات والأوراق، وكم الأفواه، والتكتم على الأخبار والاختباء في ليل السرية، فان قوة التاريخ تفتح كل ما طوته السياسة، وتسلط الضوء على مخفياتها وطلاسمها. ولأن السياسة بنت التاريخ، فإنها تسلم الأحكام النهائية إلى التاريخ الذي يقرر مدى الضعف والقوة، والكذب والصدق في حيوات البشر الفعالين، من سياسيين ومفكرين، وشعراء ومقاتلين... الخ. وقد انتصر التاريخ للقيم السمحاء، وأدار ظهره للتعصب، وبذلك أصبح تاريخا. ويبدو أن الشريف الرضي ورث سماحة الأخلاق وديمقراطية الرأي ورفضه للتحجر والتعصب والانعزالية وتصنيف البشر باسم المعتقدات وسواها، من أبيه السيد أبي أحمد الموسوي، الذي كان الرجل الهمام، والرأس المقدام، في حل مشكلات الصراع الذي كان يؤججه الطامعون وعملاؤهم المنتفعون. وقد تشرب الشريف الرضي من أخلاق أبيه كل السماحة النجيبة التي جعلته ينظر إلى البشر بمنظار المحبة، لا بمنظار التعصب الضيق، الذي يصطنع الفوارق بين البشر، بعنصرية مقيتة، ذات منحى مذهبي، ادعائي، شكلي بالنتيجة. وكان أن توجه بالنقد المرير إلى قومه المتنابذين، المتنازعين، وكان نقده مدخلا بدعوة إلى التمرد والثورة، فقال في قصيدة له:
267 إلى كم الرحم البلهاء شاكية * لها من النعي إعوال وإرنان حيرى يضلونها ما بيننا ولها * ونا على عدواء الداء نشوان النجر متفق والرأي مختلف * فالدار واحدة والدين أديان وثم أوعية الاحسان مكفأة * فوارع ووعاء الشر ملآن إنا نجرهم اعراضنا طمعا * في أن يعودوا إلى البقيا كما كانوا أني يتاه بكم في كل مظلمة * وللرشاد امارات وعنوان ميلوا إلى السلم أن السلم واسعة * واستوضحوا الحق أن الحق عريان ثم قال: يا قوم إن طويل الحلم مفسدة * وربما ضر ابقاء وإحسان ما لي أرى حوضكم تعفو نضائبه * وذودكم ليلة الأوراد ظمآن مدفعين عن الأحواض من ضرع * ينضوا بهامكم ظلم وعدوان لا يرهب المرء منكم عند حفظته * ولا يراقب يوما وهو غضبان إن الأولى لا يعز الجار بينهم * ولا تهان عواليهم لذلان كم اصطبار على ضيم ومنقصة * وكم على الذل إقرار وإذعان وفيكم الحامل الهمهام مسرحه * داج ومن حلق الماذي أبدان والخيل مخطفة الأوساط ضافرة * كأنهن ععلى الأطواد ذؤبان الله الله أن يبتز أمركم * راع رعيته المعزي والضأن ثوروا لها ولتهن فيها نفوسكم * إن المناقب للأرواح أثمان ولعب أساتذة الشريف الرضي دورا كبيرا في تعزيز سماحة روحه، وأصالة نظرته الاصلاحية الإنسانية، فهو لم يتتلمذ على أساتذة من مدرسة مذهبية واحدة، بل كانوا من مذاهب وطوائف فكرية مختلفة، فخلق ذلك انسجاما وافرا بين طبيعته الحرة وبين حرية الفكر التي كانت رائده ومناخه الذي ترعرع فيه. وكان أشهر من أخذ عنهم الشريف الرضي هم: 1 أبو الفتح عثمان بن جني ت 392 ه: وقد ذكره الرضي في كتابه المجازات النبوية وهو أستاذه الأكبر في علم النحو، صاحبه كثيرا، وأعجب الرضي بآرائه، وأعجب هو بشعر الرضي، فشرح بعض قصائده، ومدحه الرضي بقصيدة يشكره فيها ويصفه الأنباري بأنه كان من حذاق أهل الأدب وأعلمهم بعلم النحو والتصريف، فصنف في النحو والتصريف كتبا أبدع فيها كالخصائص والمنصف، وسر الصناعة وصنف كتاب في شرح القوافي وفي العروض، وفي الذكر والمؤنث. 2 أبو الحسن علي بن عيسى الربعي ت 420 ه: وهو أستاذ في النحو قبل ابن جني، قرأ عليه مختصر الجرمي وقطعة من كتاب الايضاح لأبي علي، والعروض للزجاج والقوافي للأخفش... وذكر عنه القفطي أنه صاحب أبا علي ودرس عليه وكان يقول له لو سرت من الشرق إلى الغرب لم تجد أنحى منك. 3 قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الشافعي المعتزلي ت 415 ه: ذكره الشريف في المجازات أيضا. وقرأ عليه تقريب الأصول وكتاب العمدة في أصول الفقه. 4 أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي ت 403 ه: ذكره الشريف في المجازات ودرس أبوابا في الفقه، ويعد شيخ الحنفية وفقيههم. 5 أبو عبد الله بن عمران المرزباني ت 384 ه: وكان أديبا فذا وراوية بارعا. قرأ عليه الشريف الفقه والحديث. وكان يقال عنه في زمنه إنه أحسن تصنيفا من الجاحظ. وهو معتزلي صنف كتابا في أخبار المعتزلة كبيرا. 6 أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري ت 393 ه: وكان فقيها مالكيا، ويعد شيخ القراءات. تتلمذ عليه الشريف في عنفوان شبابه وقرأ عليه القرآن. 7 الشيخ المفيد ت 413 ه: أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قرأ عليه الشريف مع أخيه المرتضى وقد انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته، وكان مقدما في العلم وصناعة الكلام والفقه، وله ما يقرب من مائتي مصنف. 8 أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى بن داود بن الجراح ت 391 ه: وهو شيخه في الحديث، ذكره في المجازات، وترجم له ابن الجوزي، ووصفه بأنه كان عارفا بالمنطق والحديث، روى عنه الأزهري والصيمري، وكان بالإضافة إلى ذلك شاعرا. 9 أبو حفص عمر بن إبراهيم الكناني ت 390 ه: يروى عنه الحديث، وقد ذكره في المجازات، أثناء حديثه عن الخمر أم الخبائث، وهو الكناني بنونين كما ورد في المجازات لا الكتاني بالتاء كما ورد في المنتظم والشذرات. 10 أبو سعيد السيرافي ت 368 ه: الحسن بن عبد الله بن المرزبان، كان عالما في الفقه واللغة والنحو و الفرائض والعروض. تتلمذ عليه الشريف في التاسعة من عمره. 11 أبو علي الحسن بن أحمد ت 377 ه: وهو أحد أئمة العربية، اجازه في كتابه الايضاح وكان من تلامذته المشهورين عثمان بن جني، وعلي بن عيسى الشيرازي، وقد تقدم عند عضد الدولة الذي كان يقول: أنا غلام أبي علي النحوي في النحو، كما أقام بحلب عند سيف الدولة مدة، وجرت بينه وبين أبي الطيب المتنبي مجالس. 12 أبو محمد عبد الله بن محمد الأسدي الأكفاني ت 405 ه: يذكره صاحب الغدير، وكان عالما، ولي قضاء مدينة المنصور وباب الطاق، ثم جمع له قضاء بغداد. 13 أبو محمد هارون بن موسى التلعكبري ت 385 ه: ذكره الأميني في الغدير، ولن تسعفني مصادري في العثور عليه. 14 سهل بن أحمد بن عبد الله بن سهل الديباجي ت 385 ه: روى عنه الشريف في المجازات، وأغفله الأميني في موسوعته، وذكره محمد عبد الغني حسن في مقدمة تلخيص البيان، وأشار إلى أنه عثر على ترجمته في لسان الميزان.
268 إن انطواء شخصية الشريف الرضي على قوة الطبع، وعلى السماحة، أضفى عليها تفردا متميزا، ومن خلال ذلك كان التفرد العقلي والأدبي والسياسي ينمو نموا طبيعيا من تربة النفس الغنية بالانفعال الصادق. ففي ميزة قوة الطبع ترعرعت قوة الإرادة، والمطلبية السياسية، والقدرة الكفاحية وفن قيادة الناس سواء في نقابة الطالبيين، أو في مواسم الحج، أو في النظر في المظالم. وفي ميزة السماحة، نمت النزعة الديمقراطية، وروح التعايش المذهبي وأخذت ذهنية الشاعر المتفتحة مداها الوافر في المعرفة، والحوار، والابداع، والإنتاج الأدبي والعلمي، إضافة إلى الشعر. ومن وحدة المصدرين اللذين شكلا أساس النفس وتربتها، تكونت للقريحة الشعرية بصمات قوية لا تخص أحدا غير الشريف الرضي. كما أن العشق الذي كان رحلة طويلة في حياة الشاعر الرضي، استقى من ذينك المصدرين العلامات المميزة في تجربته الخاصة فجانب السماحة، وهو الجانب العاطفي، والإنساني كان يستقبل الهوى بسرعة، فيما كان جانب قوة الطبع يجعله متشبثا بالعلاقة العاطفية بقوة، وهكذا كان، الأمر وسيظل دوما يبتدئ الحب بنظرة خاطفة، أو بلمسة يد غير مقصودة، أو بتبادل بضع كلمات في فرصة غير متوقعة ثم ينيخ بركابه على النفس إناخة المستقر الذي لا يريم. وامتدت شجرة المعرفة في نفس الشريف الرضي بجذرين متوحدين كضفيرة واحدة قوة الطبع، والسماحة فكانت ثمار الشجرة منوعة في الشعر والأدب والعلم والسياسة، لأن نبوع الشاعر وجد في السمات المتفردة للشخصية امدادات قوية: عقلية وعاطفية. أي أن اتحاد العقل والقلب في السفر الطويل للشريف الرضي كان قد أوجد الاغتراب الكبير في وسط بشري اتخذ ازدواجية العقل والقلب مصطلحا له، وإذا ما حصل أن توفر أنموذج بشري يعطي للقلب حقه، مثلما يعطي للعقل صلاحيته، فان ذاك الأنموذج في أحسن الأحوال يعطي للقلب بعض حقه، وللعقل بعض صلاحيته لكنما الشريف الرضي فتح بوابات الجسد أمام الشهقة التامة للقلب، وأمام طلقات العقل التي لم تنقطع. لقد رفع الحجاب بين العقل والقلب، في داخل نفسه، فكانت لهما رياضة مشتركة، ورفع الحاجب خارج نفسه، أمام الناس، فكان للقلب والعقل مهرجان كبير لم يشترك فيه أحد سواه هو! أليس هو واحدا متكثرا بما حباه الله به من موهبة ونبوع ومؤهلات؟ ورغم تناقض السمات عند سواه، فإنها تضايقت فيه، فكانت فيه خيالية الشاعر، وواقعية السياسي، وموسوعية العقلاني وجدية العالم ورقة العاشق، وعناد المغامر. وكان فيه طبع الرئاسة، ونزعة الجواب، وهكذا ولد في الشريف الرضي النموذج العالم إلى جانب أنموذج الشاعر، وكانت مؤلفاته العلمية في الأدب والنحو والفقه لا تقل شهرة عن شاعريته الرفيعة. إن العلم وهو يتعامل مع الوقائع ومع التواريخ، ومع خلاصة الخبرات البشرية، يتطلب نقيض ما يتطلبه الشعر فحيث يعني الشعر الهجرة وراء الخيال والرؤيا، فان العلم يعني المكوث ندا لمختبر، وفي دارة البحث والمواصلة، والتسجيل، والجرد، وتثبيت الحقائق. إن الحقيقة العلمية، وهي غير الحقيقة الشعرية تحتاج إلى مجهود بشري مكرس لها، في انقطاع العالم ومكوثه في ميدان العمل العلمي، فكيف استطاع الشاعر الحر الشريف الرضي أن يفي بمستلزمات الحقيقة العلمية، وهو بطبيعته الشاعرية، الغرامية، المتجولة؟ إن جواب ذلك وارد في فرادة طبعه وطبيعته، فكان العالم الوجه الثاني لشخصية الشريف الرضي الشاعر المجيد، فاستطاع أن يكون مبرزا في ميادين العلوم اللغوية والشرعية، وفي الدراسات الأدبية، فصدرت له مؤلفات ثمينة من بينها: المجازات النبوية وحقائق التأويل وأخبار قضاة بغداد وانتخاب الحسن من شعر الحسن وانتخاب شعر ابن الحجاج وتعليق خلاف الفقهاء وطيف الخيال والمتشابه في القرآن ومجاز القرآن وخصائص الأمة وانشراح الصدر في مختارات من الشعر وانشراح الصدور وسيرة الوالد الطاهر ومختصر أمثال الشريف الرضي وقدم المختارات من عبقرية علي بن أبي طالب ممثلة في الكتاب النادر: نهج البلاغة إضافة إلى العديد من المؤلفات والرسائل التي تفصح، أيما إفصاح، عن توقد الذهن، وغنى التجربة، واتساع الأفق عند الشريف الرضي. وكان الجانب العلمي الدراسي من حياة الشريف الرضي مناسبا لمكانته الدينية، ومسؤوليته في امارة الحج، بعكسه الشعر الذي كان يثير حفيظة الخصوم، ويؤلم المريدين الذين راهنوا على السياسة فقط. لكن الشخصية الفذة، شخصية الشريف الرضي، سارت مشتملة بكل جوانب الابداع في الشعر وفي علوم الأدب والفقه والشرع، مثلما سارت مشتملة برداء الرئاسة الذي اكتساه بفضل تاريخه العربي الأشم وإمكاناته النادرة، وعلو محتدة. غير أن ما من ضرورة تجعل تفرد شخصية الشريف الرضي نوعا من التغرب المثير لولا الجانب المهم في حياته، فقد شاءت الدنيا، دنياه، ودنيا منطقته العربية ودائرته الاجتماعية، أن يكون أميرا في العشق، مثلما هو أمير في موسم الحج، وفي السياسة. وكثيرة هي الفعاليات النظرية التي قد لا ترتبط بفعاليات عملية، لأنها مجرد أفكار وتصورات، وأخيلة، وقد يتخيل الإنسان ما شاء له الخيال، في الشعر، وفي السياسة لكن العشق هو واقع كالخيال، صلة بين عاشق ومعشوق ضمن مناخ اجتماعي، وطبيعي. فهي حسية رغم كل جوانبها اللاحسية، وهي مفضوحة، رغم كل السرية، وهي أبدية رغم الأنية. ولم يوجد قط عاشق بدون معشوق. فكيف إذا كان العاشق واسع التجربة ما أسرع ما كان قلبه يتعرض للطرق؟! هناك في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، في أجواء التعصب والفتن والصراعات الدامية، هناك في زمن المكايد والدسائس والشغب العنيف، كان شخص يتحلى بكل إمارات النبل والشرف والورع، وبكل مخايل النبوع في الشعر والأدب والعلم، شخص مشبع بالطموح، وهو سيد
269 قومه وأهله، يدخل عصره وبانتظاره المريدون الذين يريدونه متشقا سيفه فقط، إلا أنه يقتحم العصر بابتسامة القلب، عاشقا كبيرا، ظل في الحب غلاما تتقصاه الجميلات. كان للشريف الرضي مذهب في العشق، وفي أنشطة سياسية وفكرية كثيرة تتوفر إمكانية صياغة المذهب، أما في العشق، فان صياغة مذهب للعشق عمل مذهل. وقد توصل الشريف الرضي إلى رسم مذهبه في العشق من خلال تجربته الواقعية المثيرة. ويبدو أن ثراء شخصيته كان يدفع به في كل اهتمام إلى أقصاه ففي الشعر يصبح أشعر قريش ومن أشهر شعراء العرب، وفي السياسة يصبح نائب الخليفة، أمير الحج، نقيب الطالبيين، وفي الأدب والفقه والنحو يصبح عالما لا يشق له غبار، ثم في العشق يصبح أمير العشاق، ومعجم العشق. لقد برز عمر بن أبي ربيعة في الغرام فكان شعره ديوان حياته وغرامياته إلا أنه لم يطرح مذهبا، لأنه كان يتبع إحساساته اللذية، وبرز الشعراء العرب الذين اعطى كل واحد منهم قلبه لفاتنة واحدة، قيس لليلى، وجميل لبثينة، وكثير لعزة... إلخ فأبدعوا وأجادوا، لكنهم أعطوا طرازا من الحب، رائعا، ومتميزا، إنما لم يصل إلى مستوى المذهب في العشق. كان الشريف الرضي لوحده تجربة متكاملة، فقد اندفع في العشق إلى النقطة البعيدة، إلى حبة القلب، وما أبعدها! فأي واحد ذلك الذي استطاع أن يصل إلى حبة قلبه، ومن الحبة، حبة القلب، جاء الحب! فيناغيها، ويشاورها، ويستجيب لهتفتها! وأي واحد ذلك الذي يستطيع الوصول إلى حبة قلب محبوبه، فيقدم لها صلاة الروح، واذعان الولاء، ومناجاة التدليل، وواجب الحراسة العشق هو جسر الغيب ما بين حبات القلوب المتآلفة. وفي ملكوت العشق، كان الشريف الرضي عذريا في عالم الرغبة، وراغبا في عالم العذراوية، ومزيجا رائقا من الزهد، والرغبة، مع كائنات بشرية جميلة، مترعة بفيض الجمال، المطل من العيون والخدود، والشفاه، وفي مواسم الحج، التي يحضرها أميرا وشهيرا كان كل شئ يلتمع بسرعة، مثل برق. عين البدوية التي تومض إيماضة الدنف، وخدها الذي يتضرج بحمرة الاشتهاء الخجول، وينشق الهوى من صندوق الجسم كزلزال، لا يتجاوز عمره عمر موسم الحج، ثم ينقضي كل شئ، وكان نبضة القلب التي يتعلق بها مصير حياة بأكملها، ليست إلا نغمة، حائرة، تائهة، غريبة، سرعان ما يرميها اعصار الكون في وديان العدم. كان الشعراء العشاق يطاردون نساءهم الفاتنات، والشعر فضيحة. وحتى لو لم تكن للشاعر قصة غرامية، فإنه يتناول قصة الآخر محيلا إياها في شعره إلى موضوع، وتجربة، فكيف إذا كان الشاعر يكتوي بنار الحب إنه يستصرخ الزمان، ويستنطق الموتى، ويشهد الأحياء والأموات والأشياء والكثبان والجداول والأباعر على فرحه أو على حزنه. ولقد شهدت جزيرة العرب عشرات الشعراء، الذين كانوا في الغرام مثل دون جوان وكازانوفا لكن امارة العشق ظلت معقودة من نواصيها، إلى الشريف الرضي. ففي صلب طبعه كان جماليا كبيرا. يقتنص سرحات الاشراق الفاتن على الوجوه، لأنه كان يراها بعين القلب التي لا تخطئ. فكان غير محتاج إلى مقاييس الاحساس، لادراك جمال الجميل، لأن الوتر واحد بين الناظر والمنظور، فرنة هنا تنشئ إلفتها النغمية هناك! الشعور بالجمال كان لدى الشريف الرضي أكبر من شعور الشعراء الآخرين، الذين وصلوا إلى الحب من خلال جذبات الاحساس. لقد عشقوا من خلال تأثير العيون الحوراء، والحواجب الزجاء، والشفاه اللمياء، والأعناق المسبوكة، والصدور الناهدة، وغير ذلك مما نطقت بهم قصائد الغزل، أي أنهم عشقوا الحسي، والجزئي، ثم استوطنوا الحسي والجزئي أيضا، وعجزوا بسبب الطبيعة البشرية والثقافية، طبيعتهم عن رفع الحسي إلى مستوى الأبدي، والجزئي إلى مستوى الكلي، فجاءت قصائد الغزل متشابهة إلا من فروق بسيطة، فهذا شاعر يحب امرأة سمراء، وذاك يحب امرأة شقراء. هذا يحب امرأة قصيرة، وذاك يحب امرأة طويلة، واخضعوا تسمية القلب إن جاءت في أشعارهم، إلى سيطرة الرغبة ونداء اللذة، فكان القلب بريد الشهوة، أو قناعها المحترم الذي تستخدمه للتضليل، والتخليص من الفضائح والتعفيف الشعر من الاستخدامات العضوية الأخرى المحرجة غير ذلك، تماما، كان الشريف الرضي، لأن مفاهيمه عن الجمال كانت من معطيات نفسه الشريفة، المتسامية... فهو في علاقته بالناس، وبالطبيعة، وكان يتصل بالأعمال المشتركة، مبرهنا بتجربته الحياتية. إنه والناس والطبيعة من عمق واحد وينبوع واحد. وحين كان الناس لا يرون إلا الظواهر الخارجية، كان هو مدركا أن في داخله تضطرم دفعات الينابيع الجوفية للطبيعة والكون، فكان يصغي إليها أتم اصغاء، وكانت هي التي تهديه، وتقوده، وتجعله صادقا مع نفسه ومع سواه، فالذي يدرك حركة الأعماق في الكون الهائل ويصيخ سمعا لايقاعها المستضاف في جسده، هو وحده الذي لا تغره المظاهر وهو وحده الذي تتفتح عينه متعرفة على المدى الأكبر، فيعود يرى ما لا يراه الآخرون، ويبتدئ بالكلي مترحلا من خلاله إلى ملاحظة الجزئي، فالعين، عين المرأة الفاتنة، أو عين الغزال، ليست جميلة بذاتها، بل هي جميلة في علاقتها ب كلية الطيف الشمسي للجمال. فالشعور بالجمال، هو تصور بالكلية، والأبدية الجمالية، هو انتساب إلى جلال الكون المتوحد في الجمالات التي يهرع إليها المتولهون، هرع العطشان إلى الماء الزلال. وفي كل عشق تمثل العين مركز التأثير الذي يسرع بارسال برقيته إلى القلب، ولم يفت المفكرين والشعراء تشبيه العين بالشمس، في تأثيرها على الأحياء، فيما تعطي وفيما تميت، وكذلك في شكلها. وكما سترى، فان الشريف الرضي اعطى للعين رسالة كونية، لأن العيون المقدسة هي التي تزيح الحجب السميكة، فترى ما ليس يرى، وتقرب ما هو متباعد وتدمج ما هو متعارض، وتلغي اضطراب الأشكال الخارجية في فنية وجمالية النسق. إن كلية الجمال وكلية الجلال، وكلية الحق، وكلية العدل والخير،
270 هي شرط العشق الصحيح، والوله الذي تقضي الأيام ولا ينقضي. والشاعر الجمالي، وأي جمالي آخر، شاعرا كان أو غير شاعر، يحمل في داخله معزوفات الكون الجميلة التي يستدل بها على كل جميل. ومن ذلك العلو الذي تتوحد فيه كليات الجمال والجلال والخير، يعاين النظر كل ما هو جميل فيفرد له مكانة الخصوص، وفي وحدة الأفق الجمالي الكوني تتضايف وتتجاور الأشياء الجميلة مثلما تتضايف وتتعايش وتتكامل مويجات وأمواج البحر في الايقاع الأزلي لها في الصخب وفي الهدوء. لقد أتاحت الرؤية الجمالية الشمولية للشاعر الشريف الرضي استيعاب الجميل بدلالات الجلال خلافا لما حصل لدى الشعراء الغزليين، الحسيين الذين أطنبوا في ذكر المفاتن الجسدية. إن عين الشريف الرضي، هي عين الجمال التي رأت بروح الجلال، لذلك ما كان له كبير مغنم في الأوصاف الحسية المباشرة، وحسبه أنه كان عفيفا قوي المروءة. وهو القائل: ويمنعني العفاف كان بيني * وبين مآربي منه هضابا والقائل أيضا: أرى برد العفاف أغض حسنا * على رجل من البرد القشيب ومذهب الشريف الرضي في العشق، يرقى بتغرد السمات الشخصية له إلى مستوى غربة واغتراب المحبين الكبار، الذين عصفت بحيواتهم تنهيدة الشوق في كونية سريعة التبديل لأجزائها المعطوبة، أو المقطوعة، أو التي حان أو يحين أجلها. اغتراب الحب إن الرؤية الشمولية للشريف الرضي في الحب والجمال هي لسان حاله، وصفته الماثلة في طبيعته، وطبعه. ولمعرفة خصوصية تجربة الشريف الرضي في العشق، ينبغي إحالة العشق إلى الحب وهو الدائرة الكبرى للقلب. وسبب الاقرار بشمولية الحب على العشق، فذلك لأن العشق مرتبة من مراتب الحب، التي أولها الهوى، ثم العلاقة، ثم الكلف، ثم العشق، ثم الشغف، ثم التتيم، ثم الشوق. وإذا كانت تلك هي مراتب الحب ودرجته فان الحب يتسع ويتنوع بعدة أنواع، فهناك حب الأهل، وحب الأصدقاء، وحب المرأة، وحب الأشياء، وحب الطبيعة، وهناك الحب الروحي، الخ... وأحسن عشق العاشقين إذا كانوا محبين، تطهرت نفوسهم من البغضاء، وتسامت بالحنان والمودة والحب. ويظهر في مجمل شعر الشريف الرضي أنه محب كبير يخفق قلبه بحب الأهل والأصدقاء والناس والأماكن، أي أن حبه للمرأة كان من نور جنس مشع بالحب، ممتلئ بالعاطفة. والبشر في طبائعهم، يتباينون، فبعضهم خلق ألوفا، محبا، والبعض الآخر خلق مبغضا، لئيما، والبعض الثالث موزع بين الاثنين يحب حينا، ويبغض حينا، تسوقه دواعي المصلحة والرغبة فلا يستجيب لغيرها. أي أن عقله وقلبه يخدمان تيار غريزته غير المشذبة. وكانت نفس الشريف الرضي المتطهرة بالشرف والاستقامة والسخاء، قد ألفت الحب، فلا عجب إن كان ذلك عاملا مهما من عوامل غربته، بل في المقدمة منها. ولا بد من الإشارة إلى عام تغريبي كبير، كان له أثره البالغ في نفس الشاعر الحساسة، وتجربته في الحب، ذلك هو وفاة الأم. فكما كانت نكبة الشاعر بسجن والده نكبة الحب الأولى، فان نكبته الكبرى حلت بموت أمه كانت بعد سجن أبيه التعويض العاطفي الكبير له. لقد اهتزت أركان حياته اهتزازا عنيفا، حين فقد محبوبته المقدسة أمه فاطمة بنت الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر الأصم التي أسبغت عليه نعم الحب، والرعاية، والحماية، فكانت له خيمة، وسندا، وأي سند! فكانت أول غربة هي فقدانه لها، وقبل ذلك قال جده زين العابدين: فقد الأحبة غربة! وتبوح قصائد الرثاء عادة بتلك الغربة بوحا بعيدا، عند موت الأم خاصة، فكانت قصيدة المتنبي في رثاء جدته التي أحبها حبا شديدا، لأنها كانت له أما وأبا، تفجيعا كبيرا، فصاح طعينا، وهو يحن إلى الكاس التي شربت بها، ويهوى لمثواها التراب: ألا لا أري الأحداث حمدا ولا ذما * فما بطشها جهلا ولا كفها حلما إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى * يعود كما أبدي ويكري كما أرمى لك الله من مفجوعة بحبيبها * قتيلة شوق غير ملحقها وصما أحن إلى الكاس التي شربت بها * وأهوى لمثواها التراب وما ضما ويقول: وما انسدت الدنيا علي لضيقها * ولكن طرفا لا أراك به أعمى كذلك كانت رثائية أبي العلاء المعري حينما دهمته مصيبة أمه، في سنة 400 وكان في السابعة والثلاثين من عمره: دعا الله أما ليت أني أمامها * دعيت ولو أن الهواجر آصال مضت وكأني مرضع وقد ارتقت * بي السن حتى أشكل الفود أشكال وقال أيضا: مضت وقد اكتهلت فخلت أني * رضيع ما بلغت مدى الفطام كما كان يقول في رسالة له إلى خاله: وحزني لفقدها كنعيم أهل الجنة، كلما نفد جدد. فكيف يكون الرثاء، وكيف تكون الغربة، والشريف الرضي تطوح به الفادحة الفدحاء، بموت الأم التي تجسدت فيها كل ضروب المحبة، والعون، والحنان، فكان له في همزيته جئير، يتناوح فيه كل الباكين الذين فقدوا في أنفسهم شيئا لا يسترجع بعد فقد الأم: أبكيك لو نقع الغليل بكائي * وأقول لو ذهب المقال بدائي وأعوذ بالصبر الجميل تعزيا * لو كان بالصبر الجميل عزائي طورا تكاثرني الدموع وتارة * آوي إلى أكرومتي وحيائي كم عبرة موهتها بأناملي * وسترتها متجملا بردائي
271 أبدي التجلد للعدو ولو درى * بتململي لقد اشتفى أعدائي ما كنت أذخر في فداك رغيبة * لو كان يرجع ميت بفداء فارقت فيك تماسكي وتجملي * ونسيت فيك تعززي وإبائي وصنعت ما ثلم الوقار صنيعة * مما عراني من جوى البرحاء كم زفرة ضعفت فصارت أنة * تممتها بتنفس الصعداء لهفان أنزو في حبائل كبة * ملكت علي جلادتي وغنائي وجرى الزمان على عوائد كيده * في قلب آمالي وعكس رجائي قد كنت آمل أن أكون لك الفدا * مما ألم فكنت أنت فدائي لو كان مثلك كل أم برة * غني البنون بها عن الآباء كيف السلو وكل موقع لحظة * أثر لفضلك خالد بإزائي فعلات معروف تقر نواظري * فتكون أجلب جالب لبكائي ويختتم القصيدة: صلى عليك وما فقدت صلاته * قبل الردى وجزاك أي جزاء لو كان يبلغك الصفيح رسائلي * أو كن يسمعك التراب ندائي لسمعت طول تأوهي وتفجعي * وعلمت حسن رعايتي ووفائي كان ارتكاضي في حشاك مسببا * ركض الغليل عليك في أحشائي وفي جميع قلبيات الشريف الرضي، تدور العين، فيستشعر الشريف الرضي الجمال فيراه بميزان العين ثم يختمه بختم القلب، فما كان يدري الحب إلا بعد أن تعرضت العين إلى العين فقال: وما كنت أدري الحب حتى تعرضت * عيون ظباء بالمدينة عين فوالله ما أدري الغداة رميننا * عن النبع أم عن أعين وجفون بكل حشى منا رمية نابل * قوي على الأحشاء غير أمين فررت بطرفي من سهام لحاظها * وهل تتلقى أسهم بعيون وقالوا أنتجع رعي الهوى من بلاده * فهذا معاذ من جوى وحنين جلون الحداق النجل وهي سقامنا * ووارين أجيادا وسود قرون ولولا العيون النجل ما قادنا الهوى * لكل لبان واضح وجبين يلجلجن قضبان البشام عشية * على ثغب من ريقهن معين ترى بردا يعدي إلى القلب برده * فينقع من قبل المذاق بحين تماسكت لما خالط اللب لحظها * وقد جن منه القلب أي جنون وما كان إلا وقفة ثم لم تدع * دواعي الهوى منهن غير ظنوني نصصت المطايا أبتغي رشد مذهبي * فأقلعن عني والغواية دوني وقوله في واحدة من لواحق الحجازيات، ذاكرا فعل اللحظ: يا رفيقي قفا نضويكما * بين أعلام النقا والمنحنى وانشدا قلبي فقد ضيعته * باختياري بين جمع ومنى عارضا السرب فان كان فتى * بالعيون النجل يقضي فانا إن من شاط على ألحاظها * ضعف من شاط على طول القنا وقوله: يا صاحبي تروحا بمطيتي * إن الظباء بذي الأراك سلبنني سيرا فقد وقف الطعين لما به * مستسلما ونجا الذي لم يطعن ما سرني وقنا اللحاظ تنوشني * أني هناك قتيل غير الأعين وقد كان عشق الشريف الرضي معايشة رضية بين الحب والزهد... ورث الزهد وراثة روحية، كما ورثه وراثة ثقافية. وفي تاريخ الشعر العربي، كان الشعراء الزهاد موجودين منذ القرون الهجرية الأولى، وهم أسبق من الشعراء العذريين، ومنهم عبد الرحمن بن أبي عمار الشهير بالتعس، وعروة بن أذينة، ويحيى بن مالك وغيرهم. بعبارة أخرى إن الشعر العربي نقل خطا بيانيا لأفكار الزهد من خلال الشعراء الأتقياء، ثم تطورت المؤثرات الزهدية في الشعر فأخذت تعبير العشق القلبي الذي عرف به الشعراء العذريون، فكان الشريف الرضي امتدادا أصيلا للزاهدين ومستوعبا استيعابا عميقا لحكمة الموت التي نبع منها كل زهد إسلامي أو غير إسلامي. وقد قال: قد آن أن يسمعك الصوت * أنائم قلبك أم ميت يا باني البيت على غرة * أمامك المنزل والبيت أيجزع المرء لما فاته * وكل ما يدركه فوت وإنما الدنيا على طولها * ثنية مطلعها الموت ولكن زهدية الشريف الرضي ليست تنسكا ورهبانية، بل هي معرفة بالموت من خلال الحياة، فكانت روحه المشدودة بين قطبي الحياة والموت، تنبض بالحياة، بأعلى أصواتها الحرة، وتستجيب لحكمة الموت، بصورة مبادئ أخلاقية صارمة، والقلب هو القادر على تلبية نداءات الحياة الحرة، والتعري أمام الموت بقانون الحرية. فالقلب هو ال أنا بكل علنيتها واستبطاناتها. وهو بالنتيجة يصطفي الروحي والحسي اصطفاء شفافا فيؤلفهما خير مؤالفة. والقلب، قلب الشريف الرضي، كالميزان العادل الذي يتحسس بأوزان الجمال، فهو يلتهب التهابا شديدا، ويضيق، عند ما يدرك أنه لا يتحمل الحبس الطويل في داخل صدره، والمحبوب خارج أسوار الصدر يتلألأ، ولكن كنجم قطبي ما أبعده، وإن ذلك التناقض الذي كان يتجرعه القلب، يظل دائما عنوان تجربة الزهد والعشق، فالقلب في بسط وقبض، في عطاء وأخذ، في امتلاء وفروع، في جذب وطرد، إنه مشدود بين العلوي والأرضي، وبين الروحي والحسي انشدادا لا تفلت منه. إن هجرات الروح ليس لها مستودع غير القلب، الذي يضيف عند الامتلاء بالحب والحسرة فيتسع اللسان بالعبارة. وتلك المناوبة، والمبادلة التي لجا إليها للتعبير عن أشواقهم ومكابدتهم، وجدت عند الشريف الرضي واحدا من أمثلتها المهمة، وهو القائل عن صدق شعره: وليس من الفراغ يثرن عني * نفاثات يجيش بها الجنان ولكن مهجة ملئت ففاضت * وضاق القلب واتسع اللسان أن القلب يضيق حيث يمتلئ، ويمتلئ حيث يضيق، واللسان أداة القلب الناطقة. وفي واقع المحبين والجماليين، يأخذ القلب دلالات مكثفة ويصبح
272 الرمز المقدس في حبهم وفي علاقاتهم. وربما استعار العديد من المتصوفة وشعراء الغزل من الشريف الرضي قلبياته التي ازدان بها شعره، فلطالما كان القلب ملهمه، ومرشده، ومنبع إحساسه. وقد شكا إلى الله ذلك القلب قلبه! الذي كان يناضل من أجل الوصال، فإذا ما وصل كان انقطاعا. لقد كان قلبه مشنوقا بين قطبي التوتر، وكانت نفسه تعرج بين الارتواء والعطش، بين البرد والهجير، بين الخميلة والرمضاء، فصرخت: أشكو إلى الله قلبا لا قرار له * قامت قيامته والناس أحياء إن نال منكم وصالا زاده سقما * كان كل دواء عنده داء كان قلبي يوم البين طار به * من الرفاع نجيب الساق عداء إن سلطان القلب على الجسم والنفس يقوم عند ما تتحقق العبودية. فحينما يكون القلب مملوكا للمحبوب، فإنه مستعبد له بفتح الباء لكنه مستعبد بكسر الباء لجسم صاحبه، فيفقد العقل سلطته، وتصبح وظيفة الحواس مبهمة خارج نطاق المحبوب. ومسألة القلب، إنه معذب في الوصل وفي الهجر، إنه يحمل وجهي المرآة اللذين يرى فيهما الحاضر والغائب، الممكن والمستحيل، البهجة والخوف. وسواء أكان الحبيب قريبا أو بعيدا فان الشوق يحجز قلب الشاعر كما ذكر: أقول وقد أرسلت أول نظرة * ولم أر من أهوى قريبا إلى جنبي لئن كنت أخليت المكان الذي أرى * فهيهات أن يخلو مكانك من قلبي وكنت أظن الشوق للبعد وحده * ولم أدر أن الشوق للبعد والقرب خلا منك طرفي وامتلأ منك خاطري * كأنك من عيني نقلت إلى قلبي إن صلة العين بالقلب، أعقد من أن يدرك بعدها الحقيقي، وطوبى لمن كان له عين في قلبه كما أورد الشبلي. فعين المحبوب تسكر قلب المحب، ويحار المحب بين سكرة قلبه وانكسار عينه أمام سطوة جمال المحبوب، فيصبح قابلا للعبودية، مكتشفا بذلك أسرار الحرية، فقال في بعض قلبياته: هل ناشد لي بعقيق الحمى * غزيلا مر على الركب أفلت من قانصه غرة * وعاد بالقلب إلى السرب وأظمأ القلب إلى مالك * لا يحسن العدل على القلب يعجب من عجبي به في الهوى * واعجبي منه ومن عجبي أقرب بالود وينأى به * ويلي على بعدك من قرب منعم يعطف منه الصبا * لعب الصبا بالغصن الرطب بلادة النعمة في طبعه * وربما ناقش في الحب أما اتقى الله على ضعفه * معذب القلب بلا ذنب يا ماطلا لي بديون الهوى * من دل عينيك على قلبي ويختار القلب عبودية الحب، فيقلد المحبوب وسام الامارة، ويمنحه حق التصرف، واجدا في الطاعة سعادته الكبيرة. إن العبودية في حضرة المحبوب هي حرية المحب، أو طريقة لاكتشاف حريته التي معنى لها بحروفها ككلمة، بل هي معروفة بمضمونها، بمقدار ما يتهيأ للقلب من استبشار، ورضا، وسرور، فقال في بعض غزله: رماني كالعدو يريد قتلي * فغالطني وقال أنا الحبيب وأنكرني فعرفني إليه * لظى الأنفاس والنظر المريب وقالوا أطععت وكيف أعصي * أميرا من رعيته القلوب ولأن الهموم الطائلة تناوشت نفس الشريف الرضي، فان قلبه أضحى مثل طير كريم أضناه العطش، يبحث عن عين ماء، ما أن يريد الارتواء منها حتى يغيض ماؤها، أو تجف، أو تطمرها الكثبان الهائجة. ولم يحظ تساؤل بتلك النبرة الطولانية التاسعة مثل تساؤل الشريف الرضي عن هموم قلبه، وهو يتخاطب: ما للهموم كأنها * نار على قلبي تشب ألأجل ما حمل القلب من الحب، أصبح وجيبه شعرا؟ وأصبحت ناره أكبر من نار الغضا حتى أضحت الاستعارة بين القلب والنار إشعارا بان الجسم كله! في حالة احتراق، وحكم بالأعدام ينفذ يوما بعد يوم، ترى أي قلب ذاك الذي كان يطلب الاقتداح به بدل الزناد: يا قادحا بالزناد * مر فاقتدح بفؤادي نار الغضا دون نار القلوب * والأكباد وقال الشريف الرضي العديد من القصائد المشبعة بالاغتراب المكاني المرافق للاشتياق الباكي ومنها هذه القصيدة التي قالها في شهر ربيع الآخر سنة 392 ه: أقول وقد حنت بذي الأثل ناقتي * قري لا ينل منك الحنين المرجع تحنين ألا أن بي لا بك الهوى * ولي لا لك اليوم الخليط المودع وباتت تشكى تحت رحلي ضمانة * كلانا إذا يا ناق نضو مفجع أحست بنار في ضلوعي فأصبحت * يخب بها حر الغرام ويوضع أروح بفتيان خماص من الجوى * لهم أنه في كل دار وأدمع إذا غرد الركب الخفي تأوهوا * لما وجدوا بعد النوى وتوجعوا على أبرق الحنان كان حنيننا * وبالجزع مبكى أن مررنا ومجزع تزافر صحبي يوم ذي الأثل زفرة * تذوب قلوب من لظاها وأدمع منازل لم تسلم عليهن مقلة * ولا جف بعد العين فيهن مدمع فدمع على بالي الديار مفرق * وقلب على أهل الديار موزع أرى الياس حتى تعزم النفس سلوة * ويرجع بي داعي الغرام فأطمع ذكرت الحمى ذكر الطريد محله * يذاد العاطشات ويرجع وأين الحمى لا الدار بالدار بعدهم * ولا مربع بعد الحنين مربع سلام على الأطلال لا عن جناية * وان كن يأسا حين لم يبق مطمع فيا قلب أن يفن العزاء فطالما * عهدتك بعد الطاعنين تصدع وقد كان من قلبي إلى الصبر جانب * فقلبي بعد اليوم للصبر اجمع نعم عادني عيد الغرام ونبهت * علي الجوى دار بميثاء بلقع وطارت بقلبي نفحة غضوية * ينفسها حال من الروض ممرع أصد حياء للرفاق وإنما * زمامي منقاد مع الشوق طيع نظرت الكثيب الأيمن اليوم نظرة * ترد إلي الطرف يدمي ويدمع في قصيدة غزل واحدة، تقدست روحه، تنتشر المفردات المأساوية التي تخبرك بعذابات المتعذب: الألم، الجوى، المصدوع، الوقوع، الظما،
273 المنع، القيظ، التجرع، الغصص، الملام، التقريع، البكاء، الدجى، الخضوع، التوديع، الفراق، الهون، اللسع، الصدود، الكمد... وها هو المثال: يا صاحب القلب الصحيح أما اشتفى * ألم الجوى من قلبي المصدوع أأسأت بالمشتاق حين ملكته * وجزيت فرط نزاعه بنزوع هيهات لا تتكلفن لي الهوى * فضح التطبع شيمة المطبوع كم قد نصبت لك الحبائل طامعا * فنجوت بعد تعرض لوقوع وتركتني ظمآن أشرب غلتي * أسفا على ذاك اللمى الممنوع قلبي وطرفي منك هذا في حمى * قيظ وهذا في رياض ربيع كم ليلة جرعته في طولها * غصص الملام ومؤلم التقريع أبكي ويبسم والدجى ما بيننا * حتى أضاء بثغره ودموعي تفلي أنامله التراب تعللا * وأناملي في سني المقروع قمر إذا استخجلته بعتابه * لبس الغروب ولم يعد لطلوع لو حيث يستمع السرار وقفتما * لعجبتما من عزه وخضوعي أبغي هواه بشافع من غيره * شري الهوى ما نلته بشفيع ما كان إلا قبلة التسليم أردفها * الفراق بضمة التوديع كمدي قديم في هواك وإنما * تاريخ وصلك كان مذ أسبوع أهون عليك إذا امتلأت من الكرى * أني أبيت بليله الملسوع قد كنت أجزيك الصدود بمثله * لو أن قلبك كان بين ضلوعي ومن مفعول ذكرى الذكرى، كان الشريف الرضي ينظر إلى الآثار والأمكنة بجدلية الرغبة والاشفاق، الرغبة في أن يرى الطلول، والاشفاق على نفسه من الأسى، فهو مسوق بدعوة المرور على آثار الأحباب، وحذر في الوقت نفسه من المرور عليها، إنه مقسوم بين نداءين متعارضين، هما نداءا القلب، الأبديان، ولا خلاص له من ضغطها إلا بالشهقة التي يسجد لها البكاء، وكل حزن: أمن ذكر دار بالمصلى إلى منى * تعاد كما عيد السليم المؤرق حنينا إليها والتواء من الجوى * كأنك في الحي الولود المطرق أالله أني إن مررت بأرضها * فؤادي مأسور ودمعي مطلق أكر إليها الطرف ثم أرده * بانسان عيني في صرى الدمع يغرق هواي يمان كيف لا كيف نلتقي * وركبي منقاد القرينة معرق فواها من الربع الذي غير البلى * وآها على القوم الذين تفرقوا أصون تراب الأرض كانوا حلولها * وأحذر من مري عليها وأشفق ولم يبق عندي للهوى غير أنني * إذا الركب مروا بي على الدار أشهق لكن ماذا تستطيع الأمكنة أن تفعل للقلب المدمى؟ وماذا تستطيع اللقاءات المتواترة، أو العابرة، في القرب، أو في البعد، أن توفر لنفس متسامية في مذهب الحب؟ لا شئ، لأن مذهب الحب الذي اعتنقته روح الشريف الرضي كان يأخذ زيته ووقوده من الجوى، والعذاب الطويل، فقال: علق القلب من أطال عذابي * ورواحي على الجوى وغدوي وافترقنا في مذهب الحب شتى * بين تقصيره وبين غلوي كان عندي أن الحبيب شقيقي * في التصافي فكان عين عدوي ساءني مذ نأيت نسيان ذكري * فاذكروني ولو ذكرت بسو إن التستر هو ملمح مميز من ملامح شخصية الشريف الرضي على شدة ما تنطوي عليه شاعريته من انتهاك للصمت الكبير بعبارة الشعر، إنه تستر العفة والاستقامة. وفي متقابلات الثنائية المريرة، كان عشقه آلية ضوئية تومض وتنطفئ، تقترب وتبتعد، وعلى نار الجوى كان يحرق فؤاده، والحبيب قريب، فكيف إذا ما تناءى؟! وهكذا ارتكز عشق الشريف الرضي على اندفاعة الشوق، التي كان يسلبها قوتها، ويردها على عقبها أعراض المتستر، فتنثال الذكريات فيقول: يقر بعيني أن أرى لك منزلا * بنعمان يزكو تربه ويطيب وأرضا بنوار الأقاحي صقيلة * تردد فيها شمال وجنوب وأي حبيب غيب الناي شخصه * وحال زمان دونه وخطوب تطاولت الأعلام بيني وبينه * وأصبح نائي الدار وهو قريب لك الله من مطلولة القلب بالهوى * قتيلة شوق والحبيب غريب أقل سلامي إن رأيتك خيفة * وأعرض كيما لا يقال مريب وأطرق والعينان يومض لحظها * إليك وما بين الضلوع وجيب يقولون مشغوف الفؤاد مروع * ومشغوفة تدعو به فيجيب وما علموا أنا إلى غير ريبة * يقاء الليالي نغتدي ونؤوب عفافي من دون التقية زاجر * وصونك من دون الرقيب رقيب عشقت وما لي يعلم الله حاجة * سوى نظر والعاشقون ضروب وما لي يا لمياء بالشعر طائل * سوى أن أشعاري عليك نسيب أحبك حبا لو جزيت ببعضه * أطاعك مني قائد وجنيب وفي القلب داء في يديك دواؤه * ألا رب داء لا يراه طبيب إن عفة الشريف الرضي، هي عفة رجل اختار التحريم اختيار المؤمن الثابت، فلم يصل إلا إلى التسليم برغبة اللثم، في تقليد شعري، ورغم التأوهات التي انشق عنا صدره بين اللقاء والفراق فان أقصى ما تسعفه به حكمة الزمن، هو لثم القرينة، فكأنه في مذهبه العشقي يرى الجمال في تناسخ دائم، أو في حلولية متوزعة بين الفتيات والغزلان، فقال في واحدة من حجازياته وهو يذكر أيامه بمنى: أحبك ما أقام منى وجمع وما * أرسى بمكة أخشباها وما رفع الحجيج إلى المصلى * يجرون المطي على وجاها وما نحروا بخيف منى وكبوا * على الأذقان مشعرة ذراها نظراتك نظرة بالخيف كانت * جلاء العين مني بل قذاها ولم يك غير موقفنا فطارت * بكل قبيلة منا نواها فواها كيف تجمعنا الليالي * وآها من تفرقنا وآها فاقسم بالوقوف على ألال * ومن شهد الجمار ومن رماها وأركان العتيق وبانييها * وزمزم والمقام ومن سقاها لأنت النفس خالصة فان لم * تكونيها فأنت إذن مناها نظرت ببطن مكة أم خشف * تبغم وهي ناشدة طلاها وأعجبني ملامح منك فيها * فقلت أخا القرينة أم تراها فلو لا أنني رجل حرام * ضممت قرونها ولثمت فاها
274 إن العفة رفعت الشريف الرضي الزاهد إلى مكانة الرجل المحرم لا في مناسبات الحرام وحدها، بل في جميع عشقياته التي سبح فيها للجمال مستنبطا منه الأزلية الإلهية وأناشيد الشوق الكونية، وكيف لا وهو القائل: أنا مولى لشهوتي * وسواي عبد لها ويلعب الرقيب الأخلاقي، الذي لم يكن إلا ضمير الشريف الرضي، دورا حاسما في تقرير شكل العلاقة المتبادلة مع المحبوب. والتي تحتويها أصلا وابتداء روحية جمالية مفرطة التنافث. كان الشريف الرضي، بدافع رقيبه الداخلي يتعفف، وكان بدافع عين الرقيب الخارجي المتلصص، يختار التجنب والصدود، رغم اللوعة، فكان يقول: ألا أيها الركب اليمانون عهدكم * على ما أرى بالأبرقين قريب وإن غزالا جزتم بكناسه علي الناي عندي والمطال حبيب ولما التقينا دل قلبي على الجوى * دليلان حسن في العيون وطيب ولي نظرة لا تملك العين أختها * مخافة يثنوها علي رقيب وهل ينفعني اليوم دعوى براءة * لقلبي ولحظي يا أميم مريب وما يراه جمهور الوشاة، والمنافقين، والصغار، من معايب في الكبار السامقين، المعاميد في العشق والحكمة والحياة، يتضخم، لأن الشخص الكبير بعقله، وشجاعته، وكرمه، حيث يكون مرموقا، فإنه يكون محط افتراء المفترين وتشويه المشوهين، فيكثر الاختلاق، وتتناوشه سهام المتعرض، فيلجأ الشاعر إلى سلاحه، وهو القصيدة، فيوجه الهجو إلى من ينتقص منه، أما السياسي فيلجأ إلى سلاح الحكمة، وتختلف الأسلحة عند الشعراء، والسياسيين، والحكماء، والفرسان، غير أنها تتنوع وتتلازم عند الشريف الرضي، لأنه الشاعر، والسياسي، والحكيم، والفارس، فقال حكيما: نزل المسيل وبات يشكو سيله * إلا علوت فبت غير مراقب جمع المثالب ثم جاء تعرضا * بالمخزيات يدق باب الثالب وإذا اجتمعت على معايب جمة * فتنح جهدك عن طريق العايب أو يكيل الصاع صاعين بالحكمة نفسها، ومن مقامه الرفيع قائلا: وإن مقام مثلي في الأعادي * مقام البدر تنبحه الكلاب رموني بالعيوب ملفقات * وقد علموا باني لا أعاب وأني لا تدنسني المخازي * وأني لا يروعني السباب ولما لم يلاقوا في عيبا * كسوني من عيوبهم وعابوا وكذلك: وجاهل نال من عرضي بلا سبب * أمسكت عنه بلا عي ولا حصر حمته عني المخازي أن أعاقبه * كذاك تحمى لحوم الذود بالدبر وكان إذا انفعل فيه روح الشاعر شديد الهجاء، قوي التعرض، يهجم هجمة الفارس، الأنوف، المتعالي على الأردياء، كقوله: لعل الدهر أمضى منك غربا * وأقوى في الأمور يدا وقلبا ومقلته إذا لحظت حسامي * تغض مهابة وتفيض رعبا فكيف وأنت أعمى عن مقالي * ولو عاينته لرأيت شهبا عذرتك أنت أردى الناس أصلا * وأخبث منصبا وأذل جنبا وأنت أقل في عيني من أن * أروعك أو أشن عليك حربا أأعجب من خصامك لي وجدي * رسول الله يوسع منك سبا ومن رجم السماء فلا عجيب * يقال حثا بوجه البدر تربا فإنك إن هجوت ليثا * وإني هجوت هجوت كلبا السيرافيان وقال الشيخ محمد رضا الجعفري معلقا على بعض ما نشر عن الشريف الرضي: من هو ابن السيرافي هذا؟ والسيرافيان اللذان عاصرهما الشريف، هما: الأب: الحسن بن عبد الله بن المرزبان، أبو سعيد السيرافي، ثم البغدادي، المعتزلي، الحنفي 284 897 368 979 أحد أعلام العلم والأدب واللغة. كان أبوه مجوسيا اسمه بهزاد فاسلم وسماه أبو سعيد عبد الله. ولد أبو سعيد بسيراف، وفيها نشأ، ثم هاجر إلى بغداد فسكنها حتى توفي عن أربع وثمانين سنة، كان يدرس كما قال عنه المترجمون له القرآن، وعلومه، والقراءات، والنحو، واللغة، والفقه، والفرائض والكلام، والشعر، والعروض، والحساب، وكان من أعلم الناس بنحو البصريين، معتزلي العقيدة، حنفي المذهب، ولي قضاء بغداد وكان نزيها، عفيفا، جميل الأمر، حسن الأخلاق، لم يأكل إلا من كسب يده، ينسخ ويأكل منه، حتى أيام قضائه، وله كتب كثيرة في القراءات، والنحو، وغيرها (1). والابن: يوسف بن الحسن، أبو محمد، بن السيرافي، البغدادي 330 941 385 995 وكان عالما بالنحو، والأدب، واللغة، أخذ عن والده، فخلفه في جميع علومه، وتصدر مجلسه بعد موته، وأكمل كتبه التي مات ولم يكملها، وألف كتبا عدة، وكان يرجع إلى علم ودين، رأسا في العربية (2). فأيهما الذي حضر عليه الشريف؟ يقول الدكتور الحلو أنه الأب، أبو سعيد نفسه، لا ابنه أبو محمد، ابن السيرافي (3) ثم يتناوله بتفصيل أكثر فيقول: ويرى الدكتور إحسان عباس أنه: ربما كان من الوهم أن نعد أبا سعيد السيرافي واحدا من أساتذة الرضي... لأن السيرافي أبا سعيد توفي وعمر الرضي يقل عن ثمان سنوات... وابن السيرافي المشار إليه فيما أعتقد هو: ابن أبي سعيد يوسف وقد توفي... ورثاه الرضي... وقد خلف يوسف أباه في علومه (4) وقد رد الأستاذ محمد عبد الغني حسن هذا الرأي،
(1) تاريخ بغداد: 7 / 341 - 342، (ابن) النديم / 68، المنتظم: 7: 95، الأنساب: 7 / 339 - 340، إنباه الرواة: 1 / 313 - 315، ابن خلكان: 2 / 78 - 79، ياقوت: 3 / 84 - 125، سير أعلام النبلاء: 16 / 247 - 248 ومصادر كثيرة أخرى. (2) المنتظم: 7 / 187، إنباه الرواة: 4 / 61 - 63، ياقوت: 7 / 307، ابن خلكان: 7 / 72 - 74، سير أعلام النبلاء: 16 / 248 - 249، وغيرها. (3) ديوان الشريف الرضي: 1 / 82. (4) الدكتور إحسان عباس، الشريف الرضي / 39 - 40. 275 وقال: أنه لا حاجة للانكار، ولا موضع للغرابة، لأن الشريف كان شديد الذكاء، وإذا ذهبنا مع الدكتور إحسان عباس إلى أن المراد هو ابن أبي سعيد السيرافي، لا أبو سعيد نفسه، فهل يحل هذه القضية وينفي تعلمه النحو، وهو دون العاشرة؟! (1). ولست أرى مجالا للخلاف في هذه القضية، فان ابن جني يذكر أن الرضي أحضر إلى مجلس ابن السيرافي، وواضح أن المراد هنا أبو سعيد، لا ولده، فهو الذي كان صاحب المجلس وأستاذا لابن جني، وكان ابن جني يتلقى عنه، فهو شاهد عيان، ولم تذكر الرواية أن الرضي قرأ عليه شيئا، وإنما لقنه النحو في جملة من يلقن من حضور الحلقة، ثم ذاكره بشئ من الاعراب ليختبر تقدمه، وقد كان يوسف ولده يفيد الطلبة في حياة أبيه كما يذكر ابن خلكان ولعله كان يعنى بالمبتدئين في العلم من حضور حلقة والده كالرضي. فالرضي إذا حضر حلقة أبي سعيد، وهو صاحب القصة معه، وهذا لا يدفع أنه ربما استفاد من علم ولده يوسف الذي كان يفيد الطلبة في حياة أبيه، وإن كان لا يشعر نحوه بما يشعر به الطالب نحو أستاذه، فقصيدته في رثائه لا تدل على أنه يرثي أستاذا له، ولم يقلها الرضي فيه إلا ليحافظ على ما ضيعه الناس من الوفاء وما هكذا يفعل الرضي في رثاء أساتذته (2). وقد سبقه إلى عد أبي سعيد السيرافي نفسه أستاذا للشريف، السيد الأميني في الغدير: 4 183، وسبقهما السيد الخوانساري في روضات الجنات في ترجمة أبي سعيد السيرافي: 3 73، وذكر: أن الثعالبي ذكر في ترجمة الشريف: أنه له في أبي سعيد مرثية وذكر ثلاثة أبيات منها ثم ترجم لابنه يوسف، وتبعه في هذا الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب: 2 340 ولا أدري كيف وقع له مثل هذا مع أن الثعالبي يصرح بان المرثي هو أبو محمد بن أبي سعيد (3) وهكذا صدرت القصيدة في ديوان الشريف (4). وهذه إحدى المشكلتين. وهناك مشكلة أخرى، وهي أن الشريف قد ذكر من قرأ عليهم وهم: 1 علي بن عيسى بن الفرج، أبو الحسن الربعي، الشيرازي، ثم البغدادي 328 940 420 1029 وتوفي الشريف، والربعي كان لا يزال حيا. 2 أبو الفتح عثمان بن جني، الموصلي، ثم البغدادي ح 327 939 392 1002. وقال الشريف نفسه: وقال لي شيخنا أبو الحسن علي بن عيسى النحوي، صاحب أبي علي الفارسي، وهذا الشيخ كنت بدأت بقراءة النحو عليه قبل شيخنا أبي الفتح عثمان بن جني، فقرأت عليه مختصر الجرمي وقطعة من كتاب الايضاح لأبي علي الفارسي، ومقدمة أملاها علي كالمدخل إلى النحو... (5). ووجه المشكلة أن الشريف إن كان قد قرأ على السيرافي، الأب، أو الابن، أيا كان، فلماذا لم يشر إليه؟ وقال شيخنا النوري: وظاهره أنه لم يقرأ على السيرافي، وإلا لأشار إليه، مع أنه عند وفاة السيرافي الأب، وهكذا فسره بالأب كان ابن تسع سنين، كما يظهر من تاريخ ولادة الأول ووفاة الثاني ثم حكى ما حكاه ابن خلكان، فقال: وفي قوله: فلقنه النحو مسامحة (6). والذي أراه في حل المشكلة الأولى التأكيد على مدلول ابن السيرافي! فان إضافة ابن إنما جيء بها للتعريف، والتعريف بالإضافة إلى الأب السيرافي لا يصح إلا إذا كان الأب قد بلغ من الشهرة المبلغ الذي يعد أشهر من يحمل العنوان، فيعرف به من يضاف إليه ابنا كان أو أخا أو غيرهما، وهذا يعني: أن المشتهر يومذاك بالسيرافي كان هو الأب، لا الابن الذي حضر الشريف مجلسه، وهذا لا يصح إلا إذا كان الأب أبو سعيد السيرافي نفسه، لا أبوه بهزاد المجوسي الذي عاش في سيراف، والذي أسلم وسماه ابنه عبد الله، عاش مغمورا ومات مغمورا، ولو لم يبلغ ابنه أبو سعيد ما بلغه لم يسمع بذكره أحد. وبهذا يكون الذي حضر عنده الشريف ابن أبي سعيد السيرافي أبا محمد، لا هو نفسه. وليست المشكلة تدور حول قصر السن أو قلة الذكاء، فإنه لا مناقشة في شدة ذكاء الشريف وحدة فطنته، وقصر سنه لم يمنعه من الحضور على الشيخ المفيد كما سيأتي وسيأتي أن عمره كان يومذاك في حدود السادسة. ولم أجد فيما أملك من المصادر قراءة ابن جني على أبي سعيد السيرافي، وإنما الذي تتفق المصادر كلها عليه أنه قرأ على أبي علي الفارسي، في صحبة دامت أربعين سنة، صحبه في أسفاره، وخلا به في مقامه (7)، ويذكر ابن ماكولا أن ابن جني سمع جماعة من المواصلة والبغداديين (8)، إلا أن أحدا لم يذكر أنه كان فيهم أبو سعيد السيرافي. ولا نملك أي حجة تدلنا على قراءة الشريف على السيرافي، سواء أكان الأب أم الابن، سوى ما تدل عليه النادرة المروية عنه في علامة النصب في كلمة عمر، وهي لا تدل إلا على أنه حضر مجلس الابن دون الأب، وبهذا لا أجد أي مبرر لما احتاط الدكتور الحلو في رأيه حينما ارتأى أن الشريف قرأ على الأب، وأضاف: وهذا لا يدفع أنه ربما استفاد من علم ولده يوسف. ولا يلزم أن تكون القراءة على الابن أنها كانت بعد وفاة الأب بل أرجح أنها وقعت في حياة الأب، وفيما يقرب من تاريخ حضوره على شيخنا المفيد كما سيأتي وإنما اختير له الابن وكان يفيد الطلبة في حياة أبيه (9)، أن الأب يومذاك كان قد بلغ من العمر عتيا، ومن الشخصية العلمية ما ارتفع بها
(1) محمد عبد الغني حسن، الشريف الرضي / 24. (2) الشريف الرضي، الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، معهد المخطوطات العربية، جامعة الدول العربية، القاهرة، 1396 / 1976 / 104 - 106، وهي مكتوبة بالآلة الطابعة. (3) يتيمة الدهر: 3 / 149. (4) ط. بيروت: 1 / 490 - 491. (5) حقائق التأويل: 87 - 88. (6) مستدرك الوسائل: 3 / 514. (7) إنباه الرواة: 2 / 336، ياقوت: 5 / 18 - 19، ابن خلكان: 3 / 246 البلغة في تاريخ أئمة اللغة / 137، نزهة الألباء / 315، 333، سير أعلام النبلاء: 16 / 3880، 17 / 18، بغية الوعاة: 2 / 132، روضات الجنات: 5 / 176، 177، 180. (8) الإكمال: 2 / 285، الأنساب: 3 / 361. (9) إنباه الرواة: 4 / 61، ابن خلكان: 7 / 72، اليافعي: 2 / 429 - 430. 276 عن الاشتغال بمبادئ النحو والعربية، وتلقين الصغار تلك المبادئ، دون الابن وخاصة في حياة الأب، وهو بعد لم يشغل مجلس أبيه. والذي كان من ابن السيرافي أنه لقن الشريف النحو، ويقصد منه التعليم الشفهي، والتحفيظ وتقويم اللسان، ولا تدل القصة على أن الشريف قرأ عليه شيئا من الكتب الموضوعة في النحو، لا صغيرها ولا كبيرها، بل وأن مختصر الجرمي وما كان كالمدخل إلى النحو قرأهما على الربعي فيما بعد. ولعل لهذه الجهة، ولأن التلقين انتهى بتلك النادرة سبب ذلك انقطاع الشريف عن أبي محمد السيرافي، بعد أن لقنه أوليات النحو. وأرى أن ما ذكرته كاف لتعليل تلك الظاهرة التي أشار إليها الدكتور الحلو، والتي تبدو من رثاء الشريف لأبي محمد السيرافي، وأظن قويا أن موقف أبي محمد السيرافي من نادرة الشريف كان موقف غضب وامتعاض، ولعل ذلك الموقف، أو ما تعقبه من ملاحظات وتعليقات خلف ذلك كله في نفس التلميذ الصغير وخاصة إن كان بمثل الشريف الرضي آثار سوء ظلت حية، حتى وبعد أن مات أبو محمد. وأرى أيضا أن هذا كاف لتفسير تغافل الشريف عن الأيام المعدودات التي حضر فيها عند ابن السيرافي، وعدم الاهتمام بتلك الأيام وتغافلها، عند ما ذكر الشريف من قرأ عليه النحو والأدب. المقصورة الحسينية وقال الشيخ محمد رضا الجعفري معلقا على حذف المقصورة الحسينية الشهيرة كربلا لا زلت كربا وبلا من الطبعة التي صدرت في بغداد باشراف الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو زاعما أنها ليست للشريف الرضي: إن مقصورة الشريف الرضي: كربلا لا زلت كربا وبلا لأشهر ما نظمه على الاطلاق، فان كان شعره على كثرته، وسعة أغراضه، وسمو معانيه، ورفعة منزلته الأدبية، معروفا عند الأدباء، معنيين بها، فان مقصورته تداولتها الأجيال الواسعة قراءة وسماعا منذ عصره إلى عصرنا الحاضر، بل وأن الكثير منهم قرؤوها أو سمعوها وإن لم يعرفوا القائل. إن ما قاله الدكتور الحلو حول المقصورة يرجع إلى مصدرين: 1 ما وجده من التعاليق حول المقصورة في بعض مخطوطات الديوان التي استعرض الكثير منها ووصفه في تصديره للديوان. 2 ما ارتآه هو، وإن كان من الطبيعي أنه كان بوحي من تلك التعاليق. فقد حكى الدكتور التصدير 164 أنه جاء في الأصل وك يقال: أنها آخر ما قاله من الشعر، وأنها ربما كانت منحولة ويقصد بالأصل: مخطوطة دار الكتب المصرية وهي انتساخ لديوان الشريف الرضي صنعة أبي حكيم الخبري، وقد وصفها الدكتور في التصدر 131 133، ومن ك: نسخه كوبر يلي التصدير 147 148، وجاء في س: لم توجد في ديوانه، بل هي منحولة، لكونها لينة لا تشبه شعره، وهو الصحيح وس رمز لمخطوطة في المكتبة الأهلية بباريس التصدير 157 158 وجاء في هامش ي: إن هذه القصيدة لا يمكن أن تكون من شعره، وإنما دسها عليه أغتام الامامية، لما فيها من العقائد، والليونة التي لا تلائم نفس الشريف وعلق الدكتور: وواضح أن كاتب هذه الحاشية زيدي يجتوي الامامية وي رمز للنسخة اليمنية، وهي نسخة كتبها زيدي، وتداولتها أيد زيدية كثيرة التصدير 133 138. ومن هذه التعاليق يظهر أن التشكيك، أو النفي يعتمد على أمرين: 1 أنها لينة لا تشبه شعر الرضي. 2 ما فيها من العقائد ويقصدون بها: التصريح بالأئمة الاثني عشر ع التي لا يعتقد بها المعلق فلم يستسغها للشريف! يضاف إليهما ثالث، وهو ما ارتآه الدكتور نفسه حول المقصورة، وأنها تختلف عن منهج الشريف في حسينياته الأربع الأخرى! وقبل الدخول في مناقشة هذه النقاط الثلاثة لا بد لي من أن أقدم تاريخا موجزا لهذه المقصورة، بل لشعر الشريف، وأنه كيف جمع، وما موقع المقصورة من ديوانه، وأكتفي هنا بما قاله الدكتور الحلو نفسه في التصدير، وملخصه: إن شعر الشريف كان مجموعا بصورة أو بأخرى في حياته، وأنه هو كان يتولى ذلك بنفسه، وقد اهتم عدنان ابنه بشعر أبيه بعده، فاخرج من مسوداته أوراقا قليلة نحو كراسة، زادها على شعر أبيه، ثم جاء أبو حكيم الخبري فاخذ هذه الكراسة، وضم إليها الأقطاع والأبيات التي وجدها، وصنع من ذلك كله بابا ألحقه بالديوان سماه باب الزيادات، وقد ذكر في خاتمه الباب أن ما اجتمع له أضعاف ما جمعه ابنه عدنان. وباب الزيادات الذي صنعه أبو حكيم الخبري يضم خمسة وثلاثين وتسعمائة بيت، زادها على صنعة الرضي لديوانه، وليس كل هذا الشعر من قبيل الأبيات المفردة، أو المقطوعة ذات البيتين، أو الثلاثة، أو الخمسة، وإنما بعض هذا الشعر قصائد، منها قصيدته التي تضم الأبيات 577 607 وهي التي خاطب فيها سلطان الدولة وعرض بذم أعدائه، ومنها قصيدته التي تضم الأبيات 1 62 وهي في رثاء الحسين بن علي (1) ولم يرقمها الدكتور متسلسلة لأنه تفضل فحذفها! ولا بد من بعض التعريف بأبي حكيم الخبري هذا، فهو: أبو حكيم عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله بن الخبري، البغدادي، الشافعي 476 1084. إمام الفرضيين، العلامة كما بقول الذهبي وعامة المترجمين له كانت له معرفة تامة بالحساب والفرائض، وله معرفة بالأدب واللغة، وكان متمكنا من علم العربية. تفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، الفقيه الشافعي الشهير، وسمع الحديث الكثير من جماعة. وكان مرضي الطريقة، خيرا، دينا صدوقا، إنتهت إليه الإمامة في الفرائض، والأدب، وكان يكتب الحظ الحسن، ويضبط الصحيح. شرح الحماسة، وديوان البحتري، والمتنبي، والرضي، وكان ينسخ المصحف الكريم، ومات وهو ينسخ مصحفا، وكانت له بنتان، الكبرى رابعة، وأم الخير فاطمة، وكانتا من رواة الحديث والأدب. والخبري نسبة إلى خبر، وكانت قرية بنواحي
(1) التصدير / 127 - 130. 277 شيراز، بها قبر سعيد أخي الحسن بن أبي الحسن البصري، كان أصله منها (1). وقد عني بجمع ديوان الشريف الرضي جماعة، وأجود ما جمع الذي جمعه أبو حكيم الخبري (2). ومما تقدم يبدو بوضوح: أن الخبري لم يكن بالجاهل الذي لا يميز الأصيل من المنحول، ولا بالغر الذي ينخدع بقول هذا أو ذاك، ولا يتفق مع الشريف في المذهب أو العاطفة حتى ينساق مذهبيا أو عاطفيا، وهو عند المترجمين له وكلهم ممن تثق بهم الأمومة، ويطمئن إليهم الاعلام الصدامي من الثقة والصدق والأمانة في المحل الذي يأبى عن الكذب والافتعال، ولم يبعد به الزمن عن عصر الشريف، حتى يحول بينهما عبث الأيام! وأنا لا أملك صورة من الأصل الذي اعتمد عليه الدكتور، ولا النسخ التي جعلها مراجع لتحقيق الديوان، لكن اختلاف التعبير في تلك التعاليق من جهة، واختلاف الحجة فيها من جهة أخرى يدل على أنها ليست من جامع الديوان الخبري نفسه، بل هي كلها إما من النساخ أو القراء، لم يقلها الخبري، حتى الذي جاء في الأصل ونسخة ك منها. ولم يفصح الدكتور الحلو: أن ما جاء في الأصل أو ك إنما جاء في الهامش أم في المتن، كما أفصح فيما جاء في ي، وإن أحسنت الظن بالدكتور، أو بالأعلام الصدامي، فأرى أن هذا الابهام قد يكون متعمدا مقصودا، كي يوحي إلى القارئ أن التعليق إنما هو من صلب الديوان! ولي مما تقدم شواهد تؤكد لي حسن ظني هذا! بل وإن كلام الدكتور نفسه عند ما بحث حول الزيادات التي أفردها الخبري، وتساءل: فما الذي صرف الرضي عنها فلم يذعها فيما أذاعه من شعره؟ ذكر أن الخبري قدم توجيها لها، ومدلول ذلك: أن الخبري نفسه كان جازما بصحة انتسابها إلى الرضي! وإن لم يقبل الدكتور بتوجيه الخبري في بعضها وفي المقدمة المقصورة الحسينية! التصدير 163 164 وهذا كله. يدلنا دلالة قاطعة على أن هذه التعاليق ليست، ولا واحدة منها من الخبري نفسه! ونعود إلى النقاط الثلاث التي قلت أنها هي الأساس للتشكيك أو النفي: 1 فالليونة التي قيل أنها توجد في المقصورة بما لا يتناسب وشعر الشريف، فقد قال عنها الدكتور الحلو نفسه: أما بناء القصيدة فان وصف جميعه بالليونة أمر مبالغ فيه، ولكن بعض أبياتها لين لا يشبه شعر الرضي مثل قوله: يا رسول الله فاطمة * يا أمير المؤمنين المرتضى كيف لم يستعجل الله لهم * بانقلاب الأرض أو رجم السما لو بسبطي قيصر أو هرقل * فعلوا فعل يزيد ما عدا وقوله: ميت تبكي له فاطمة * وأبوها وعلي ذو العلا لو رسول الله يحيا بعده * قعد اليوم عليه للعزا (3) وأقول: إن هؤلاء النقاد غفلوا أو تغافلوا عامدين عن أمر يختص به أدب الرثاء الحسيني، وهو: أن الرثاء الحسيني ينقسم إلى قسمين: رثاء فني أدبي، وهذا ما يشترك فيه الرثاء الحسيني وأي رثاء آخر ورثاء مأتمي شعبي. ولكل منهما خصائصه وميزاته، قد تجتمع وقد تفترق. وليست قصائد الشريف الأربع (4) شعر المآتم، وإن كانت رثاء أدبيا! ومن عاش المآتم الحسينية ومع الأسف أن الدكتور الحلو لم يعشها وإن حضرها لا أثق بأنه ينفعل نفسيا بها، والسر واضح علم أن شعر المأتم لا بد وأن يكون شعرا وصفيا مأساويا، يصف المأساة وصفا شعريا يمزج الحقيقة بالعاطفة، والواقع بالاحساس النفسي، كي يكسب في نفوس السامعين وهم عامة الناس، أي مختلف طبقاتهم، الأدباء وغير الأدباء، وذو الثقافة العالية، والسواد الأعظم الرقة والخشوع، ويستدر منهم الدموع، بل وأكثر من الدموع! ولا تكفي هنا الإشارة العابرة، والكناية الأدبية، واللغة الفنية. ويكفي في هذا الرجوع إلى الدر النضيد تأليف سيدنا الأمين، رحمه الله، وإلى المقاطع التي حشى بها الشيخ ابن شهرآشوب كتابه مناقب آل أبي طالب والتي هي نماذج لأدب الرثاء يومذاك، ومنها مقصورة الشريف، دون غيرها من حسينياته. ومن هذا أقول بكل تأكيد: إن الشريف لم ينظم حسينياته الأربع تلك كي تقرأ في المآتم، وينوح بها النائحون والنائحات، وهو من أعلم الناس بشعر المآتم، شعر دعبل، والعوني، والناشئ، وأضرابهم مما كان يناح به يومذاك، نعم، إن مقصورته تمتاز عنها بأنه قالها في كربلاء ويوم عاشوراء، وقالها ارتجالا، ومن المحتمل الراجح أنه قالها وهو يحضر المأتم هناك، وفي ذلك اليوم، ولا يمكن لأحد أن يلمس جو كربلاء، وجو عاشوراء، وجوهما معا إن اتفقا، وجو المأتم الحسيني، وخاصة إن كان يوم عاشوراء، وفي كربلاء، في الحائر الحسني، إلا إذا كان شيعيا حسينيا، وخاصة إن كان علويا نسبا وروحا كالشريف! فمقصورة الشريف شعر المأتم هناك، يومذاك، لا شعر المهرجانات أو المباريات الأدبية! شعر البكاء والدموع، لا شعر الاعجاب الأدبي، والمقدرة الفنية، شعر النوح واللطم، لا شعر أمسيات الشعر! وهذا هو الفارق الأساس بين روح المقصورة وبين طابع حسينياته الأخرى، فطابعها أدبي فني، وطابع المقصورة حسيني، وهي فن شعري، والمقصورة ولاء حسيني، كربلائي عاشورائي! وسم هذا ما شئت! سمه ليونة، أو سمه مطابقة لمقتضى الحال!
(1) المنتظم: 9 / 99 - 100، معجم الأدباء: 4 / 285، الإكمال: 3 / 51، الأنساب: 5 / 38 - 40، اللباب: 1 / 4188 - 419، معجم البلدان: 2 / 344، إنباه الرواة: 2 / 98، سير أعلام النبلاء: 18 / 558، ابن كثير: 12 / 153 - وقد أخطأ في تعيين سنة الوفاة، فذكر في غير محلة - الأسنوي، طبقات الشافعية: 1 / 471 - 472، ابن هداية الله، طبقات الشافعية / 172 - 173، السبكي، طبقات الشافعية: 5 / 62 - 63، بغية الوعاة: 2 / 292، شذرات الذهب: 3 / 353. (2) إنباه الرواة: 3 / 115، ابن خلكان: 4 / 416، شذرات الذهب: 3 / 183. (3) التصدير / 171 - 172. (4) راجع (الأولى) الديوان - ط بيروت 1 / 278 - 281، و (الثانية) 1 / 281 - 283، و (الثالثة) 1 / 376 - 378، و (الرابعة) 2 / 658 - 661، وقارن بالمقصورة وهي في ط بيروت، 1 / 33، 36. 278 والحق أقول: إن الشريف وفق في مقصورته هذه قدر ما وفق في حسينياته تلك، بل ولعله برز في المقصورة ما لم يبرز في غيرها! وبعد، فالقصيدة التي تبلغ اثنين وستين بيتا، إن وجد فيها أبيات معدودة لم ترتفع إلى المستوى العام للقصيدة نفسها، أم لم تبلغ المستوى التام لشعر شاعرنا، متى كان هذا دليلا يعتمد عليه على نفي القصيدة وحذفها بتمامها، إلا بالنسبة إلى الرضي، وفي مقصورته الحسينية خاصة، وعند الاعلام الصدامي!!. فمن من الشعراء، من تقدم على الشريف منهم، من جاهليين، ومخضرمين، وإسلاميين، من أمويين أو عباسيين، أو الذين عاصروه أو جاءوا بعده، وإلى عصرنا الحاضر، لا في الأدب العربي فحسب بل في الآداب الإنسانية كلها بمختلف عصورها ولغاتها من أمكنه أن يحتفظ بمستوى واحد لا يقصر عنه أبدا، في كل ما نظم أو كتب؟! ولا أجدني بحاجة إلى إيراد الأمثلة، فالتهذيب والانتفاء سمة عامة لكل شاعر وأديب، وشعر المناسبات يختلف عن الآثار الأدبية المقصود منها التبرز والظهور، وبعد التهذيب والانتفاء لا يزال هناك فارق كبير في شعر أي شاعر، وفي أدب أي أديب، بين هذا الشعر وذاك وبين هذا القول وذاك! والرضي نفسه كان يعمد إلى مثل هذا، وتجد مثالا لذلك في ديوان الرضي: 2 816، وللدكتور الحلو إشارات إلى هذا الأمر، ولعل الشريف أراد لمقصورته أن يعيد النظر فيها ويهذبها أو ينتقي منها، ولكن المنية لم تمهله في سن مبكر نسبيا وهي من آخر ما قاله، وأمانة الخبري لم تسمح له أن يصنع شيئا لم يفعله الشاعر نفسه. وبهذا أكون قد ناقشت ما قرره الدكتور الحلو: ولعل أفضل وسيلة للحكم عليها أي المقصورة هي الرجوع إلى قصائد الرضي الأخرى في رثاء الحسين بن علي س على قلة شعره في هذا الباب بالقياس إلى شعراء الشيعة فيه ثم يستعرض سماتها العامة ويميزها عما جاء في المقصورة فيقول: وقد استبان من هذا العرض للمعاني التي وردت في القصائد الأربع الأولى، والقصيدة الأخيرة: أنه لا نسب بين هذه الأربع وبينها، فهذه الشكاة التي تنضح بها القصيدة الأخيرة، والاستغاثة بالرسول ص وخصومته لبني أمية في الدار الآخرة، ووقوفه موقف المظلوم، وتعداد الأئمة، واعتبارهم الشافين من العمى، والشفعاء مع الرسول يوم القيامة والتأكيد على مقاطع معينة، إنما هو منا، لا من الدكتور نفسه كل هذا لم نعهده من الرضي في رثائه لأبي عبد الله الحسين، وإنما عهدناه ثائرا تلمع نصول السيوف في شعره، وتتطاول لها ذم الأسنة، مهددا بيوم يجرد فيه الخيل للوغى، لا بالعقاب والحساب في يوم القيامة (1). وتتلخص المناقشة: نعم هناك فارق ولكن، لا بين شخصين، ولكن بين روحين: فان ما نلمسه في تلك القصائد الأربع، إنما هو روح الشريف نفسه، وما نلمسه في المقصورة إنما هو الوجدان الشيعي المتمثل في الشيعة ومنهم الشريف، فالشريف في تلك يكشف عن نفسه ونفسياته الخاصة به، وفيها يعبر عن روح الولاء الذي يحمله كل شيعي حسيني! 2 وأما الزيدية والامامية وعقيدة الشريف، فأرى أن البحث فيه من لغو القول! فلم يكن الشريف بالرجل المغمور الذي يجهل أصله، وأهله، والوسط الذي كان يعيش فيه، والذين كان يتصل بهم، أو يتصلون به، حتى يجهل مذهبه، ويكون مجال شك، ثم مجال بحث واستدلال! فهو إمامي معروف، معروف بأسرته وأهله، ومن يتصل بهم من الامامية، لم يشك في ذلك أهله ولا أصحابه الامامية! ولكن لاعتبارات لا تخفى، أحكي كلاما لأحد علماء الزيدية حول الموضوع: قال يوسف بن يحيى بن الحسين بن الإمام المؤيد بالله محمد بن الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي الحسني الصنعاني الزيدي 1078 1667 1121 1709 بعد أن ذكر جملة من قصيدة الرضي البائية في الأئمة الاثني عشر ع، ومنها: سقى الله المدينة من محل * لباب الماء والنطف العذاب وجاد على البقيع وساكنيه * رخي الذيل ملآن الوطاب وأعلام الغري وما استباحت * معالمها من الحسب اللباب وقبرا بالطفوف يضم شلوا * قضى ظما إلى برد الشراب وسامرا وبغدادا وطوسا * هطول الودق منخرق العباب (2) قال: هذه الأبيات من القصيدة أردت بإيرادها تبيين معتقد الرضي، رحمه الله تعالى، فان جماعة ممن قصر فهمهم من المؤلفين يتهمونه أنه على مذهب الامام أبي الحسين زيد بن زين العابدين، قدس الله روحه، ونعم ذلك المذهب الفاضل! ومن العجب أن منهم القاضي أحمد بن سعد الدين، مع وفور علمه وإطلاعه، ويحتجون بأنه كان يريد الأمر الذي كان في يد الخليفة ذلك الزمان، بدليل أبياته القافية الشهيرة، التي كتبها إلى الطائع، ولأن ابن عنبة قال في عمدة الطالب: وقيل: أن الرضي كان زيديا. ولم يعلموا أنه أراد الملك لأنه أحق به، ولو أراد الخلافة لم تنتقض عقيدته على مذهب الإمامية، ويلزم من هذا أن المرتضى أخاه، حيث كان أول من بايع الخليفة هو، كان عباسيا، وليس كل من شهر السيف دعي زيديا! وإلا لكان الخوارج زيدية! وهذا شعر الرضي وروايات العلماء عنه تأبى ذلك، وكل تابع لأهل البيت البررة الأتقياء موفق، إن شاء الله تعالى، وتابع جعفر الصادق وزيد بن علي لم يتبع إلا البر التقي المجمع على فضله (3). 3 وأما ما ذكره الدكتور الحلو أخيرا: وظني الغالب أن هذه القصيدة مصنوعة ومنسوبة إلى الشريف الرضي، أراد صاحبها لها الذيوع والانتشار في محافل عاشوراء، فاجتهد ما وسعه الاجتهاد في أن يضع عليها ميسم الرضي، وخانه التوفيق في بناء بعض أبياتها، كما فضحه حشو القصيدة بعقائد لم يمرن
(1) التصدير / 170 - 171. (2) ديوان الرضي: 1 / 91. (3) نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر، ترجمة الشريف الرضي، مخطوط - المصورة التي أملكها، ج 2، الورقة (461 / ب - 462 / أ). 279 عليها الرضي شعره ولم ينضح بها قريضه (1). وأقول: إن الشريف قد جعل من شعره وسيلة للتعريف بنفسه، خاصة فيما يريد له الإذاعة والظهور، ولأجل هذا لا نجد في شعره ما نجده في شعر كثير من شعراء الشيعة الذين وقفوا شعرهم لبيان عواطفهم وأحاسيسهم المذهبية أو جعلوا ذلك أحد أهدافهم الرئيسة، ولم يكتفوا بالافصاح عن ذاتياتهم الخاصة فلا نجد في شعره مديحا خالصا لرسول الله ص، ولا لأبيه أمير المؤمنين، وأمه الصديقة الطاهرة ع، وهو في هذا يختلف عن العوني، وابن حماد، والناشئ، وقبلهم الكميت، ودعبل، وأضرابهم، فنجد شعرهم شيعيا بل ويختلف عن أخيه الشريف المرتضى أيضا، فهؤلاء شيعة، والتزموا أن يكشف شعرهم عن عقيدتهم، وأن يكون معبرا عن تشيعهم، في حين أن الشريف كان شاعرا شيعيا، كأبي تمام، وابن الرومي، وأمثالهما. ولم يشتهر الشريف بالأدب المذهبي، وخاصة في أدب الرثاء الحسيني، الشهرة التي تجعل المغمورين يحاولون أن يلصقوا آثارهم به فينحلون شعر غيره إياه، كي يرتضيه السامعون إذا تلي عليهم منسوبا إلى الرضي فيروج عندهم! والنائحون والنائحات، وقراء المآتم، ومنشد ومجالس العزاء الحسيني إنما يهتمون بمضمون الشعر ومدى تأثيره على السامع أكثر ما يهمهم الشاعر نفسه، بل إن الشاعر يغفل عنه غالبا عندهم وعند السامعين على سواء، فلا يسمونه إلا نادرا، ولأغراض خارجة عن إطار القراءة وإقامة المآتم. ولا يسعني أن أتجاوز هذا الموضوع إلا وأن أذكر واحدا من هؤلاء، وقد أدرك عصره الشريف، وسمع الكثير من شعره، وهو الناشئ البغدادي، علي بن عبد الله بن وصيف 271 884 366 976 صاحب المراثي الكثيرة في أهل البيت (2) قال معاصره وصديقه وحاكي سيرته وقضاياه، الحسين بن محمد الخالع، الأموي نسبا، البغدادي، 333 945 422 1031: وكان الناشئ قؤوما بالكلام والجدل، يعتقد الإمامة ويناظر عليها بأجود عبارة، فاستنفد عمره في مديح أهل البيت حتى عرف بهم، وأشعاره فيهم لا تحصى (3) كثرة وراجع قضاياه، بل وكراماته في النوح بشعره في ياقوت: 5 240 241، لسان الميزان: 4 239 240، وإذا أردت نموذجا لما كان يناح به يومذاك في المآتم، بل وإلى قرابة قرنين بعد ذلك العصر، وهو عصر الخطيب الخوارزمي، الموفق بن أحمد الحنفي 484 1091 568 1172، ونموذجا أيضا لشعر الناشئ، فارجع إلى ما حكاه الخطيب الخوارزمي من شعره في مقتل الحسين ع: 2 145 147 صدره بقوله: وللناشئ علي بن وصيف، مما يناح به في المآتم. وأنا أعجب من الدكتور أنه يعمد إلى أبعد الاحتمالات من الواقع، وأقربها إلى عالم الخيال والوهم، فيختاره، ويغلب ظنه عليه، وهو أن شاعرا مغمورا له القدرة على مجاراة الشريف الرضي، ولكنه ينسى نفسه ولا يشيد بمقدرته الشخصية، بل يتقمص الشريف الرضي، ويقلده في قصيدة عدد أبياتها اثنان وستون بيتا، يوفق في ذلك، إلا في عدة أبيات!! فلم لم يسلم الدكتور بان الرضي نفسه هو القائل، وأنه هو الذي خانه التوفيق إن كان الدكتور مصرا على هذه الخيانة!!. ولا تفسير لهذا الاختيار الشاذ عندي سوى أن الاعلام الصدامي يرضيه هذا الاختيار، مهما كان بعيدا متكلفا فيه، ويغضبه إذاعة الواقع، وإن دلت عليه الحجة، وكان هو التفسير الطبيعي والمعقول المقبول. وأنا أعجب أكثر من قوله: وفضحه حشو القصيدة بعقائد لم يمرن عليها الرضي... كيف لم يمرن عليها الشريف، وقد مر قبيل هذا نموذج من قول الشريف، ولا أظن أن الدكتور لم يقرأ بائية الشريف التي حكينا أبياتا منها قبيل! والدكتور نفسه قد قرأ ما قاله صاحب نسمة السحر، ويحكي عنه جملة من قوله في هامش 51 52 من التصدير. وآخر ما أقوله: إن الاعلام الصدامي لم يرد لنفسه أن يكون ناشرا للمقصورة، ولا للشريف أن يعرف بأنه القائل لها، فحذفها من الديوان ثم أوحى إلى من أوحى بان يضع المعاذير لذلك!! بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره (4). والكلمة الأخيرة: أنا إن سلمنا جدلا بان ما قاله الدكتور الحلو حول المقصورة كله صحيح لا مطعن فيه لطاعن، ولكنه بحذفه المقصورة قد فتح الباب لنوع من التحريف السافر، والتلاعب المعلن به بالكتب والآثار، لم يسبق أن فتحه قبله أحد! فان القاعدة الأساسية المتبعة في نشر النصوص والدكتور نفسه من أمس من يتصل بها ويعرفها، بحكم عمله في قسم المخطوطات في جامعة الدول العربية الاحتفاظ بالنص في صورته الأصلية التي أرادها المؤلف له، وعمل المحقق والناشر لا يعدو تقويم النص وإعطاء أقرب صورة وأوثقها إلى التي اختارها المؤلف. والدكتور قد تولى نشر ديوان الرضي لا على أساس أنه هو الذي جمعه، فله أن يختار ما وثق بنسبته إلى الشريف، ويحذف ما كان على ريب من ذلك، بل على أساس أنه ناشر لعمل جامع آخر، وهو الخبري الذي تولى الجمع، والطبعة نفسها تحمل هذا العنوان: صنعة أبي حكيم الخبري، والتزاما منه بالأمانة العلمية احتفظ الدكتور بنظام الخبري القائم على أساس الأغراض، لا التنظيم على أساس حروف القوافي، الذي حول الديوان إليه في كثير من مخطوطاته كما يذكر الدكتور في التصدير وهكذا في طبعاته السابقة، ومنها الطبعة البيروتية الأولى. ولا شك أن الخبري ويسلم بذلك الدكتور قد أثبت المقصورة في الزيادات التي ألحقها بالديوان. فأقصى ما هو المسموح به للدكتور أن يبدي ريبه من نسبة المقصورة إلى الشريف، في التصدير أو عند ما تأتي في صلب الديوان، كما صنعه بعض النساخ أو القراء، وحكى الدكتور صنيعهم في التصدير. وصنيع الدكتور قد تجاوز كل هذه الاعتبارات، وخرق السنة المتبعة في الاحتفاظ بالنصوص على
(1) التصدير / 72. (2) ابن الأثير: 8 / 688، ابن خلكان: 3 / 369، لسان الميزان: 4 / 238. (3) معجم الأدباء: 5 / 235. (4) القيامة 75: 14 - 15. 280 ما هي عليه، وكما هي وليس لنا إلا الحكم بأنه خيانة واضحة للأمانة العلمية، ونقض فاضح لقواعد نشر النصوص، وسنة سيئة قد سنها الدكتور لتبرير التحريف والتلاعب، فعليه وزرها ووزر من عمل بها ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون النحل، 16 25 نسأل الله سبحانه أن يجنبنا ويجنب الناشرين الاستنان بها. الرضي المؤلف قال السيد صدر الدين شرف الدين: عالج الشريف الحظ في بعض شعره، ورآه يمشي بأقوام وأن وقفوا ولكنه ما ارتضاه وأن تمناه أحيانا لنفسه التي شدها شدا واعيا إلى الحقائق والقيم رغم تكبيلها إياه بالمقاييس، وتقديمها عليه فاقديها من الجهال المحظوظين. هو إذن يقحم نفسه المعركة الرهيبة ببطولة ترفض الجبر وتتحمل مسؤولية الحرية والاختيار في كفاح لا تزيده مظاهر النجاحات المصطنعة إلا تمسكا بحقائق الأمور، واحتمالا لهموم الواقع الثقال. ومهما تكن هذه المشكلة في ذاتها، ومهما يكن موقف الشريف منها، فالشريف ممتحن بها امتحانا يسلكه في عداد الكبار من ضحاياها، وما نهتم به في هذه الكلمة هو العبور من هذه الحكاية إلى إبراز محنته في جوهرها، وتشخيصها في كيفها ونوعها، معنيين بالبرمجة والتنهيج، لا بالنصوص والأحداث. يحسب الكثيرون امتحان الشريف بالنقاد والمقيمين امتحانا بسيطا لا يعدو اهماله واعطاء غيره عناية أشد، واهتماما أكبر. هذا خطا فامتحانه مركب يتعدى أمر إهماله المجمل إلى إزاحته عما به يكون، إلى التحدث عن أضعف ما به كان، في تفصيل إليك بيانه: باحثو الشريف والمتحدثون عنه لا يحفلون منه بغير الشاعر فان تجاوزوا تقييم فنه، أو ضعفت مقاييسهم عن تحديده، ضاعفوا القول فيه بخصال من خصائصه، كطموحه وإبائه وترفعه. والبحث يقول لنا شيئا كثيرا عن جوانبه هذه، ولكنه يقول لنا شيئا أكثر وأعمق عن عمل المؤسس في الشريف ومحاولاته المجدية في تطويع الحضارة للثقافة القرآنية والفكر الاسلامي. نستطيع أن نفهم الشريف على حقيقته لا في ديوانه، ولا في طموحه فقط، بل في أعماله التالية: 1 حقائق التنزيل ودقائق التأويل. 2 تلخيص البيان في مجاز القرآن. 3 معاني القرآن. 4 مجازات الآثار النبوية. 5 نهج البلاغة. 6 خصائص الأئمة. 7 تعليق خلاف الفقهاء. ودع غيرها من أعماله الأدبية في رسائله ومختاراته. نحن نرى في أعماله هذه تطبيقا لمخطط رسمه غب دراسة وتأمل، ونراه فيها مخططا يطبق منهجه لحماية الاسلام والعربية، في إيمان بهما واندماج أعاناه على الوصول إلى ما فيهما من قوى الثبات والتكيف، فهو إذ ينفتح للثقافات المختلفة يجد موضع الأمان بالقيادة القرآنية القادرة على الاستيعاب والتكييف بوسائل نظامها العالمي الخالد، وإمكانات لغتها الواسعة المرنة، وواضح أن أعماله هذه تركز الثبات في القرآن والحديث وكلام علي والأئمة من بنيه، ثم تترك التطور للاجتهاد يؤدلجه حسب التغيرات بفلسفة الاسلام وثقافته. ويلاحظ بتقدير وإكبار أن عمل الشريف الضخم هذا موضوعي لا أثر فيه للعصبيات التي كانت تمزق العالم آنذاك. لا يدخل في منهج هذه الكلمة نقد مؤلفات الشريف هذه، كما لا يدخل في منهجها عقد مقارنة بينه وبين من كتب في موضوعاتها من معاصريه أو ممن سبقهم، فما نريد قوله هو بالضبط: أن الفن الشعري أصغر ما يقاس به بقاء الشريف، وأن لا محيد لقادر الشريف حق قدره عن الرجوع فيه إلى شخصية المؤسس، فمؤلفاته المنهجية تربط ما قبلها بما بعدها ربطا يمنحه درجة قيادية مستمرة، وذلك ما لا يحققه ديوانه ولا رسائله كيفما كان تقدير موهبته وفنه. فمؤلفاته المنهجية أنشأتها حاجة مرحلة قوي فيها العقل وضعف الحكم، وخيف من خلال التوازن بينهما أن يختل منهج التاريخ، ثم هي في صميم هذا الظرف، تربط ما قبلها بما بعدها ربطا يمنح الشريف درجة قيادية مستمرة. وذلك ما لا يحققه ديوانه ولا رسائله كيفما كان تقدير موهبته وفنه. الشيخ محمد بن الشيخ عبد الكريم الكرزكاني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان فقيها عالما بصيرا عارفا شاعرا له كتاب اليواقيت وديوان في الغزليات مات في المدينة الطيبة سنة 1230. الشيخ محمد بن الشيخ علي بن الشيخ عبد النبي بن محمد بن سليمان المقابي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هكذا قرر شيخنا الأمجد الشيخ أحمد في جوامع الكلم وهو فقيه عصره ومتكلم مصره وله من المؤلفات كتاب: العمدة في الفقه. مات سنة 1114. الشيخ محمد بن ماجد بن مسعود البحراني. قال في كتاب تاريخ البحرين المخطوط نقلا عن اللؤلؤة، ونحن نأخذها عنه لأن فيها صورة عن الحياة في تلك الأزمنة: كان فقيها مجتهدا محققا مدققا دقيق النظر من أعيان علماء البحرين، إماما في الجمعة والجماعة، وله الرسالة المسماة بالصوفية ورسالة في الصلاة صنفها في شيراز للسيد البهي ميرزا صفي بن الميرزا محمد مهدي النسابة وسماها الروضة الصفوية في فقه الصلاة اليومية، والميرزا محمد مهدي المذكور كان شيخ الاسلام في شيراز بعد الشيخ صالح بن عبد الكريم الآتي ذكره، وله أيضا: شكل في مسائل المنطق، قال شيخنا المحدث الصالح الآتي ذكره: رأيته في أواخر عمره وصليت خلفه مرتين مقتديا به في قرية الماحوز مع استاذنا العلامة الشيخ سليمان الماحوزي وكان صهره على ابنته ووقع بينهما بحث في ذلك اليوم في مسالة فقهية وهي: أن الجبهة جزء من السجود أو أنها غير جزء فلو تليت آية العزيمة على ساجد فهل يكفيه الاستمرار ويرفع ثم يضع.
281 وادعى الشيخ المذكور أنه غير جزء وأن الاستمرار كاف وادعى عليه الاجماع وخالفه الأستاذ وقال: بل يجب عليه الرفع ثم الوضع. ووقعت بينهما مشاجرة عظيمة فانتهى أمرهما إلى أن قال: شيخنا لكم دينكم ولي دين... يريد أن هذا اعتقادك لأنك مجتهد لا يجوز لك تقليدي وهذا اعتقادي لأني مجتهد أيضا لا يجوز لي تقليدك، فقال الشيخ بكلام فيه نفرة وهنا كلام جهل لأنه التفت إلى أصل ورود الآية فإنها خطاب النبي ص للمشركين فقال شيخنا إنما هو بالحجج لا بالتشنيع ولم يمكنه أن يرد عليه أكثر من ذلك لأن الشيخ كان مشارا إليه وشيخنا بعد لم يشتهر وافترقا وانقضى المجلس وكل منهما مملوء غيظا على الآخر فبقى لمدة قليلة تقرب من أربعين يوما وصنف شيخنا رسالة في الرد عليه وعرض للشيخ محمد مرض عظيم وعاده شيخنا في مرضه وتوفي في ذلك المرض رحمه الله وسنه يقارب من سبعين سنة في حدود السنة الخامسة والمائة والألف وهو عام جلوس الملك الأعظم سلطان عصرنا اليوم السلطان حسين بن الشاه سليمان وقبره في مقبرة المشهد وبني على قبره قبة فانتهت رئاسة البلد بعده إلى السيد هاشم التوبلي... انتهى. أقول: قد كانت هذه الرسالة التي صنفها شيخنا الأستاذ الشيخ سليمان في هذه المسألة عندي ثم ذهبت فيما وقع على كتبي من حوادث الأيام والتي لا تنيم ولا تنام، ولما مات الشيخ محمد المذكور رثاه الشيخ سليمان المذكور بقصيدة جيدة أطراه فيها ومدحه. الشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي (1): هو الشيخ أبو جعفر محمد بن الشيخ زين الدين أبي الحسن علي بن الشيخ حسام الدين إبراهيم بن حسن بن إبراهيم (2) بن أبي جمهور الشيباني الأحسائي، من مشاهير علماء الإمامية، فقيه مجتهد وراوية شهير وفيلسوف كبير وأديب شاعر. والده وجده أما والده الشيخ علي المتوفي قبل عام 895 ه فقد كان من كبار العلماء، وهو أستاذ ابنه وشيخه في الرواية، ويروي عن قاضي قضاة الاسلام ناصر الدين الشيخ إبراهيم بن نزار الأحسائي عن الشيخ حسن المطوع الأحسائي عن ابن فهد الأحسائي عن ابن المتوج البحراني كما هو مذكور في أول عوالي الآلي. وجده الشيخ إبراهيم ابن أبي جمهور أيضا كان من كبار علمائنا، وقد ذكرهما العلماء في كتب التراجم وأثنوا عليهما ثناء جميلا. قال الشيخ عبد الله الأفندي في رياض العلماء: الشيخ زين الدين أبو الحسن علي بن الشيخ حسام الدين إبراهيم بن... أبي جمهور الأحساوي، الفاضل العالم الجليل والد الشيخ محمد... المعروف بابن أبي جمهور الأحساوي، وكان قده يعني علي ابن أبي جمهور ووالده الشيخ حسام الدين إبراهيم المذكور وولده الشيخ محمد المذكور من مشاهير علماء الإمامية ... (3). وقال الشيخ عباس القمي في الفوائد الرضوية: علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي... فاضل أديب عالم زاهد عابد... (4). وقال الشيخ علي البحراني في أنوار البدرين بعد أن ترجم المصنف: وكان والده الشيخ علي وجده الشيخ إبراهيم من العلماء الفضلاء... (5). وقال الشيخ محمد بن أبي جمهور صاحب الترجمة في الثناء على والده وجده: الشيخ الزاهد العابد الكامل زين الملة والدين أبو الحسن علي بن الشيخ المولى الفاضل المتقي من بين أنسابه وأضرابه حسام الدين إبراهيم بن... أبي جمهور الأحساوي... (6). وقال أيضا: حدثني أبي وأستاذي الشيخ العالم الزاهد الورع زين الدين أبو الحسن علي بن الشيخ العلامة المحقق حسام الدين إبراهيم بن أبي جمهور الأحساوي. مولده ونشأته ولد المترجم في الأحساء حدود سنة 840 ه، يظهر ذاك من مناظرته مع العالم الهروي التي جرت في مشهد خراسان سنة 878 ه حيث قال في آخر المجلس الثاني من المناظرة: فان عمري اليوم يقارب الأربعين سنة... (7). وفي بلده الأحساء نشأ وترعرع، وكان محل سكناه فيها قرية التيمية (8) ومسجده فيها كان قائما إلى عهد قريب.
(1) بقلم السيد هاشم الشخص الموسوي. وهي منتزعة من كتاب له مخطوط اسمه أعلام هجر. (2) كذا ذكر المصنف نسبه في " العوالي " وفي " ريحانة الأدب " أضاف إلى ما ذكرنا: " بن حسين بن إبراهيم بن أبي جمهور... ". (3) رياض العلماء: ج 3 ص 326. (4) الفوائد الرضوية: ص 264. (5) أنوار البدرين: ص 399. (6) عوالي اللآلي: ج 1 ص 5 - 6. 21، باختصار. (7) المناظرة: ص 43. (8) قال الشيخ فرج العمران القطيفي في " الأزهار الأرجية " ج 14 ص 211 ما ملخصه: " التيمية من قرى " الأحساء " كانت في القديم تضم طائفة من الفقهاء والمجتهدين وثلة من الحكماء الراسخين مما يبلغ عددهم أربعين عالما - كما قيل - منهم الفيلسوف الشهير الشيخ محمد بن أبي جمهور والشيخ محمد البويهي قدس الله أسرارهم... " ثم أنشأ القطيفي أبياتا في مدح هذه البلدة الطيبة فقال: قدسوها مدينة " التيمية " * فهي من خيرة القرى الهجرية قد سوا تلكم الربوع اللواتي * هي بالأمس مشرقات مضية هي بالأمس مشرقات زواه * بالتقي والمعارف الدينية مشرفات بالحكمتين تسمى * تلك علمية وذي عملية جمعت أربعين من علماء الدين * ممن نالوا المراقي العلية منهم الفيلسوف " ابن أبي جمهور " * رب اللطيفة القدسية هو ذا كاتب " العوالي اللآلي " * و " الملجي " في الحكمة النظرية منهم العالم البويهي من أدرك * أسمى المراتب العلمية هؤلاء الأعلام كانوا مصابيح * بهم قد أضاءت " التيمية " فعليهم من ربهم رحمات * أبد الدهر بكرة وعشية 282 دراسته وأساتيذه تلقى العلوم الأولية في بلده الأحساء على يد علمائها الأعلام، وفي مدة قليلة تفوق على جمع أقرانه ونال قصب السبق في كثير من العلوم والفنون. ثم هاجر إلى العراق وحل عاصمة العلم والعلماء النجف الأشرف وراح يواصل دراسته على علمائها العظام خصوصا أستاذه الكبير الشيخ عبد الكريم الفتال. وبعد مدة طويلة قضاها في النجف للتزود من العلم عزم على حج بيت الله الحرام وذلك سنة 877 ه فتوجه إلى الحجاز عن طريق الشام ونزل مدينة كرك نوح وفيها التقى بالشيخ الجليل علي بن هلال الجزائري وأقام عنده شهرا كاملا مستفيدا من علومه. وأما أساتيذه فقد ذكر المصنف أربعة منهم في مقدمة كتابه العوالي وهم: 1 والده الشيخ زين الدين علي بن أبي جمهور الأحسائي. 2 السيد شمس الدين محمد بن كمال الدين موسى الموسوي الحسيني الأحسائي (1)، والظاهر أنه تلمذ عليهما في الأحساء. 3 الشيخ حسن بن عبد الكريم الفتال. 4 الشيخ علي بن هلال الجزائري. مشائخه في الرواية ويروي عن جماعة من العلماء الأعلام ذكرهم المصنف في مقدمة هذا الكتاب وهم: 1 4 أساتيذه الأربعة المتقدم ذكرهم. 5 الشيخ حرز الدين الأوائلي الأوالي البحراني. 6 السيد شمس الدين محمد بن السيد أحمد الموسوي الحسيني. 7 الشيخ عبد الله بن فتح الله بن عبد الملك الفتحان الواعظ القمي القاساني. تلاميذه والراوون عنه يروي عن المصنف جماعة من العلماء وفيهم من كان من تلاميذته وهم: 1 تلميذه المقرب إليه السيد محسن بن السيد محمد الرضوي القمي وتاريخ الإجازة له منتصف ذي القعدة 897 ه. 2 تلميذه الشيخ ربيعة ربيع بن جمعة العبري العبادي الجزائري. 3 السيد شرف الدين محمود بن السيد علاء الدين الطالقاني. 4 الشيخ محمد صالح الغروي الحلي أجازه بثلاث إجازات: الأولى: مختصرة تاريخها 24 ربيع الثاني 896 ه. الثانية: مبسوطة ذكر فيها المجيز 24 كتابا من تصانيفه، وتاريخها أول جمادي الأولى 896 ه. الثالثة: متوسطة كتبها في قرية قلقان بأسترآباد وتاريخها منتصف جمادي الأولى 898 ه. 5 الشيخ علي بن عبد العالي المشتهر بالمحقق الكركي الثاني، ذكر ذلك في روضات الجنات (2). أسفاره بعد الحج عاد إلى وطنه الأحساء وأقام بها قليلا ثم غادرها إلى زيارة أئمة العراق ع، وبعد الزيارة قصد خراسان لزيارة الإمام الرضا ع وفي الطريق ألف كتابه زاد المسافرين في أصول الدين. ولما نزل المشهد الرضوي تعرف عليه السيد محسن بن السيد محمد الرضوي من وجهاء مشهد وفضلائها وحل المصنف ضيفا عنده، وأصبح السيد من تلاميذه والمصاحبين له، وذلك سنة 878 ه، وفي هذا العام حدثت المناظرة العلمية المعروفة بين ابن أبي جمهور والعالم الهروي من أهل السنة في ثلاث مجالس خرج فيها ابن أبي جمهور منتصرا. ثم عزم على الإقامة في مشهد مجاورا للإمام الرضا ع، وفي حوالي سنة 893 ه عزم على الحج مرة ثانية، وبعد أداء المناسك توجه إلى العراق للمرة الثالثة وذلك في أوائل سنة 894 ه ونزل النجف الأشرف للاشتغال بالعلم والتأليف وبها ألف كتابه المجلي لمرآة المنجي. وفي أواخر سنة 895 ه غادر النجف عائدا إلى وطنه الثاني مشهد خراسان. والظاهر أنه بقي مجاورا للرضا ع حتى وافاه الأجل المحتوم. مناظرته مع العالم الهروي ولما استقر ابن أبي جمهور في مدينة مشهد اشتهر أمره وعظم صيته فقصده عالم سني من أهل هرات إحدى مدن أفغانستان وطلب منه المناظرة في أمر الخلافة وبعض المسائل الخلافية فاجابه المصنف إلى ذلك. فعقدت الجلسة الأولى للمناظرة في منزل السيد محسن الرضوي وحضرها جمع من العلماء والفضلاء. ثم عقدت جلسة أخرى في إحدى المدارس العلمية وبحضور جماعة من أهل السنة، وبعدها عقدت جلسة ثالثة في مكان آخر ودار فيها الحوار حول موارد من المسائل الخلافية. وازداد بذلك صيتا وسمعة، وأعجب به علماء خراسان، وطلب منه تسجيل ما حدث في كتاب مستقل، فأجابهم إلى ذلك فكان كتابه المعروف مناظرة بين الغروي والهروي. ومن أراد تفاصيل هذه المناظرات فليرجع إلى الكتاب المذكور المطبوع مرارا. أقوال العلماء فيه قال في مجالس المؤمنين ما ترجمته: الشيخ محمد بن علي... بن أبي جمهور، صيت فضائله بين الجمهور مشهور وفي سلك مجتهدي الامامية مذكور، مولده الشريف لحصا الأحساء، وفنون كمالاته خارج عن حد الاحصاء.
(1) قرأ عليه في الفقه كما في " العوالي ". (2) ج 7 ص 33 - 34. 283 وقال في روضات الجنات: الشيخ الفاضل المحقق والحبر الكامل المدقق خلاصة المتأخرين محمد بن... أبي جمهور الأحسائي. وقال الشيخ عباس القمي في الفوائد الرضوية: محمد بن أبي جمهور الأحسائي... عالم عارف حكيم متكلم محقق مدقق فاضل محدث خبير متجر ماهر... (1). وقال في موضع آخر من الفوائد الرضوية: الشيخ الممجد والفاضل المسدد قدوة العلماء الراسخين وفخر الحكماء والمتكلمين الشيخ محمد بن... أبي جمهور الأحسائي (2). وقال أيضا في الكنى والألقاب: محمد بن... أبي جمهور الأحسائي... العالم الفاضل الحكيم المتكلم المحقق المحدث الماهر.... وقال في لؤلؤة البحرين: والشيخ محمد بن أبي جمهور المذكور كان فاضلا مجتهدا متكلما.... وقال في أمل الآمل: الشيخ محمد بن جمهور الأحسائي كان عالما فاضلا راوية. وقال في موضع آخر من الآمل: الشيخ محمد بن علي... بن أبي جمهور الأحسائي فاضل محدث.... وقال المحدث النيسابوري في رجاله: محمد بن علي... بن أبي جمهور الأحسائي متكلم فقيه محدث عارف... (3). وقال السيد حسين القزويني في مقدمات شرح الشرائع: محمد بن... أبي جمهور الأحساوي فاضل جامع بين المعقول والمنقول راوية للأخبار.... وقال المحقق الكاظمي في أول كتاب المقابيس: العالم العلم الفقيه النبيل المحدث الحكيم المتكلم الجليل محمد بن... أبي جمهور سقاه الله يوم النشور من الشراب الطهور... (4). وقال السيد نعمة الله الجزائري في شرحه على العوالي: العالم الرباني والعلامة الثاني محمد بن... أبي جمهور الأحسائي أسكنه الله تعالى غرف الجنان وأفاض على تربته سجال الرضوان. وقال الجزائري أيضا معللا رجوع شيخه إلى الرغبة في عوالي اللآلي: لأن جماعة من متأخري أهل الرجال وغيرهم من ثقات أصحابنا وثقوه وأطنبوا في الثناء عليه ابن أبي جمهور ونصوا على إحاطة علمه بالمعقول والمنقول.... وقال في ريحانة الأدب: محمد بن... أبي جمهور الأحسائي الهجري من أكابر علماء الإمامية في القرن العاشر للهجرة عالم عارف رباني محقق مدقق حكيم كامل متكلم فاضل محدث متجر ماهر.... وقال الشيخ علي البحراني في أنوار البدرين: الشيخ الفاضل المحقق الكامل المشهور الشيخ محمد بن... أبي جمهور الأحسائي وهو من العلماء المشهورين والفقهاء المتبحرين المذكورين إلى أن قال فهو من العلماء الفضلاء الأتقياء النبلاء.... مؤلفاته 1 أسرار الحج، فرع من تبيضه 901 ه وطبع عام 1324 ه ضمن كتاب المجلي للمصنف أيضا. 2 الأقطاب الفقهية والوظائف الدينية على مذهب الإمامية، شرح فيه قواعد الأحكام الفقهية نظير قواعد الشهيد ألا أنه أوجز منه. 3 الأنوار المشهدية في شرح الرسالة البرمكية، في فقه الصلاة اليومية. 4 بداية النهاية، في الحكمة الاشراقية. 5 التحفة الحسينية في شرح الرسالة الألفية، التي ألفها الشهيد الأول في الفقه. 6 تحفة القاصدين في معرفة اصطلاح المحدثين. 7 التعليقة على أصول الكافي. 8 التعليقة على من لا يحضره الفقيه، ذكرهما المرعشي في مقدمة العوالي. 9 جمع الجمع نسبه إلى المصنف في مجالس المؤمنين. 10 الحاشية على تهذيب طريق الوصول إلى علم الأصول للعلامة الحلي. 11 الحاشية على كتابه عوالي اللآلي وهي كبيرة (5). 12 الدرة المستخرجة من اللمعة في الحكمة، قال في الذريعة: ولعل المراد من اللمعة في الحكمة هو اللمعة الجوينية في الحكمة تأليف ابن كمونة المتوفي 683 ه... وعليه يكون هذا الكتاب تلخيصا وزبدة لكتاب اللمعة الجوينية. 13 درر اللآلي العمادية في الأحاديث الفقهية، فرع من تأليفه 899 ه وفرع من تبيضه 901 ه، رتبه على مقدمة في أخبار الترغيب على العبادات وخاتمة في الأخلاقيات بينهما ثلاثة أقسام في أبواب الفقه كلها. وجاء اسم هذا الكتاب في أمل الآمل الأحاديث الفقهية وفي البحار والرياض والمقابيس نثر اللآلي وفي الروضات اللآلي العزيزية والكل كتاب واحد. 14 الرسالة الإبراهيمية في المعارف الإلهية. 15 الرسالة البرمكية في فقه الصلاة اليومية، ومر شرحه الأنوار المشهدية. 16 الرسالة الجمهورية. 17 زاد المسافرين في أصول الدين كتبه في طريقه إلى زيارة الرضا ع بعد أداء فريضة الحج عام 877 ه.
(1) الفوائد الرضوية: ص 382. (2) روضات الجنات: ج 7 ص 32. (3) مستدرك الوسائل: ج 3 ص 362 و 364. (4) ريحانة الأدب: ج 7 ص 331. (5) فرغ منها في مدينة مشهد بخراسان 23 صفر أو 26 شوال سنة 897 ه وطبع بعضها أخيرا مع (عوالي اللآلي). 284 18 الطوالع المحسنية في شرح الرسالة الجمهورية المذكورة قريبا، سمى الرسالة باسم نفسه ابن أبي جمهور وسمى الشرح باسم تلميذه السيد محسن الرضوي. 19 عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية وقد يقال له غوالي اللآلي بالغين المعجمة ولا أصل له، ألفه في أربعة أشهر مدة إقامته في دار السيد محسن الرضوي في مشهد خراسان وفرع منه ليلة الأحد 23 صفر وقد شرح هذا الكتاب شرحا مبسطا السيد نعمة الله الموسوي الجزائري وسمى شرحه الجواهر الغوالي في شرح عوالي اللآلي. 20 الفصول الموسوية في العبادات الشرعية. 21 قبس الاقتداء أو الاهتداء في شرائط الإفتاء والاستفتاء، قال في الذريعة: فيه مباحث الاجتهاد والتقليد... وهو كتاب كبير مفيد. 22 كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال، في بيان طريق الاستدلال على التكاليف الشرعية وكيفية أخذها من الأصول الدينية، فرع منه في مشهد خراسان ضحى يوم الجمعة 3 ذو القعدة 888 ه وهو من كتب أصول الفقه مرتب على مقدمة وخمسة فصول وخاتمة. وقد يسمى رسالة في طريق الاستدلال أو رسالة في لزوم العمل باخبار الأصحاب في هذا الزمان والكل كتاب واحد. 23 كشف البراهين في شرح زاد المسافرين في أصول الدين، ألفه ب مشهد خراسان بالتماس تلميذه السيد محسن الرضوي في عام 878 ه. 24 المجلي لمرآة المنجي، هو شرح لكتابه مسالك الأفهام في علم الكلام ولحاشيته على المسالك المسماة ب النور المنجي من الظلام لأن المصنف كتب أولا مسالك الأفهام ثم علق عليه حواشي سماها النور المنجي من الظلام وبعد رجوعه إلى النجف الأشرف عام 894 ه ألف كتابه المجلي كشرح ل مسالك الأفهام وحاشيته وفرع من تأليف المجلي في النجف أو آخر جمادي الثانية 895 ه وطبع 1324 ه. 25 مجموعة الأخبار والمسائل، التي جمعها من كتب شتى. 26 مجموعة المواعظ والنصائح والحكم، وفيه ألغاز ومراثي ومدائح ومراسلات شعرية بينه وبين الشعراء، ذكر هذين الكتابين في الذريعة. 27 مدخل الطالبين في أصول الدين. 28 مسالك الأفهام في علم الكلام، ألفه قبل عام 894 ه وطبع كما تقدم ضمن كتاب المجلي عام 1324 ه. 29 المسالك الجامعية في شرح الرسالة الألفية في الفقه للشهيد الأول، وهو غير التحفة الحسينية المتقدم، وقد كتبه المصنف أيام اعتكافه في جامع الكوفة سنة 895 ه وطبع في إيران مع شرح الشهيد وشرح صاحب المدارك وشرح الكركي سنة 1312 ه. 30 المعالم السنابسية في شرح الرسالة الجوينية في أصول الفقه. 31 معين الفكر في شرح الباب الحادي عشر. 32 معين المعين في أصول الدين، وهو شرح ل معين الفكر المتقدم، قال صاحب رياض العلماء: كبير جدا رئيته في بلدة مازندران.... (1) 33 مفتاح الفكر لفتح الباب الحادي عشر. وهو غير معين الفكر المتقدم. 34 كتاب المقتل، قال في الروضات: وقد ينسب إليه ابن أبي جمهور رحمه الله أيضا كتاب في المقتل كبير، مشتمل من الأخبار الغريبة على كثير.... 35 مناظرة بين الغروي والهروي، طبع للمرة الثالثة سنة 1397، وطبع أيضا بعنوان المناظرات مع العالم الهروي، وهي ثلاث مناظرات وقعت بين المصنف وعالم سني من أهل هرات وقد سبق الحديث عنها. وقد ترجمت هذه المناظرات إلى الفارسية عدة مرات، منها الترجمة الكاملة المدرجة ضمن كتاب فردوس التواريخ المطبوع 1315 ه، وأدرجت الترجمة كاملة أيضا في نامه دانشوران المطبوع 1318 ه، كما أدرج قسم كبير منها ضمن مجالس المؤمنين. 36 موضح الدراية لشرح باب البداية، في الحكمة، ولعله شرح لكتابه المتقدم بداية النهاية في الحكمة الاشراقية. 37 موضح المشكلات لأوائل الاجتهادات في الفقه. 38 النور المنجي من الظلام، في حاشية مسالك الأفهام طبع كما تقدم ضمن كتاب المجلي عام 1324 ه. وفاته توفي المصنف في حوالي العشر الأولى من القرن العاشر الهجري وله من العمر قرابة سبعين عاما، والظاهر أن وفاته كانت في مدينة مشهد بخراسان لأنها المقر الأخير لسكناه. ولم يعلم له مزار، كما لم ينص أحد ممن ترجمه على تاريخ وفاته غير أنه كان حيا عام 901 ه حيث فرع من بعض كتبه في هذا التاريخ ولم يعهد له بعد التاريخ المزبور أي كتاب أو خط أو إجازة، ومعلوم أنه لو بقي كثيرا بعد عام 901 لألف وكتب ولذكره المؤرخون لأن مثله لا يهمل، ومما ذكر يعلم أن ابن أبي جمهور مات بعد التاريخ المذكور بقليل وقد أشار إلى ذلك في الذريعة حيث قال: ابن أبي جمهور الشيباني الأحسائي المتوفي أوائل القرن العاشر (2). وجاء في ريحانة الأدب (3) وغيره أن المصنف كان معاصرا للمحقق الكركي الذي توفي عام 940 ه. وقد اشتبه الأمر على السيد المرعشي النجفي حيث جعل هذا التاريخ 940 عام وفاة المصنف كما ذكر ذلك في مقدمة الجزء الأول من عوالي اللآلي وهو خطا واضح. أدبه وشعره لقد كان المترجم أديبا شاعرا إلى جانب كونه عالما فقيها مجتهدا، وقد جمع هو بعض أدبه وشعره في كتابه مجموعة المواعظ والنصائح والحكم المذكور آنفا، وليس بأيدينا الآن هذا الكتاب كما لم نعثر على شئ من شعره سوى
(1) رياض العلماء: ج 5 ص 50. (2) الذريعة: ج 16 ص 71. (3) ج 7 ص 331. 285 الأبيات التي ذكرها هو في مقدمة كتابه العوالي والتي مدح بها تلميذه السيد محسن الرضوي، ونكتفي هنا بنقل هذه الأبيات كأنموذج لشاعريته: يا فريدا في الفضل غير مشارك * عز باريك في الورى وتبارك يا هلال الأنام قد كتب الأيام (1) * في دفتر العلى آثارك ولسان الزمان يدرس في كل * مكان على الورى أخبارك سيدي أنت من يشق غبارك * بأبي أنت من يروم فخارك ما نرى في مناسب لك إلا * دائب صار دأبه تذكارك شوقته إليك أوصافك الغر * فجاب البلاد حتى زارك يا كريما خفت عليه المعالي * فأدرعها فاشدد بها آزارك واسحب الفخر وامض في الخير قدما * واقض في طاعة الندى أوطارك شبه ومؤاخذات رغم عظمة المصنف وسمو مكانته فقد دارت حوله بعض الشبه ووجه إليه القدح والانتقاد فاتهم بالتصوف المفرط وقالوا إنه أخباري ونسب إليه الغلو، وشاع عنه أنه غير متثبت في نقل الأخبار ومتساهل في روايتها، وزاد في الروضات حيث قال: بل الكلام في توثيق نفس الرجل يعني ابن أبي جمهور والتعويل على رواياته ومؤلفاته (2). ولسنا الآن بحاجة إلى البحث عن مدى صحة هذه التهم أو بطلانها بعد ما ردها وأجاب عنها بالتفصيل الشيخ النوري في مستدرك الوسائل والسيد المرعشي النجفي في مقدمة الجزء الأول من عوالي اللآلي. ونظرة واحدة فيما قاله جملة من خيرة علمائنا في مدح هذا العالم الجليل وتعظيمه وقد مر نقلها تكفي ردا لهذه الشبه وجوابا عنها... والذي نقوله هنا أن مثل هذه التهم وجهت إلى كثير من كبار علمائنا كالشيخ الصدوق والملا صدرا الشيرازي وتلميذه الفيض الكاشاني والسيد حيدر الآملي وغيرهم من علمائنا الأعلام الذين لا يشك أحد في نزاهتهم وعلو شانهم ومع ذلك رموهم بالالحاد والتصوف والغلو وغير ذلك مما هم منه براء. السيد محمد بن عبد الحسين بن إبراهيم بن أبي شبابة الحسيني البحراني. قال في سلافة العصر على عادته في الاسجاع والمبالغات: علم العلم ومنارة ومقبس الفضل ومستنارة فرع دوحة الشرف الناصر المقر بسمو قدره كل مناضل ومناظر أضاءت أنوار مجده مآثر ومناقب إلى أن قال: وكان قد دخل الديار الهندية فاجتمع بالوالد ومدحه بمدائح نقضت عزل الحارث بن خالد فعرف له حقه وقابله من الإكرام بما استوجبه واستحفه وذكره عند مولانا السلطان بما قدمه لديه وملأ من المواهب الجليلة يديه ولما قضى آماله من مطالبها ارتحل إلى الديار العجمية وقطن بها فلقي بها تحية وسلاما وتنقل في المراتب حتى ولي شيخ الاسلام وهو اليوم نازل بأصبهان ورافع من قدر الأدب. ومن نثره ما كتبه إلي من ديار العجم سنة سبعين وألف ولم نر ضرورة لنقل الرسالة: ثم قال: ومن شعره قوله مادحا الوالد وهي من فرائد القصائد: أرى علما ما زال يخفق بالنصر * به فوق أوج المجد تعلو يد الفخر مضى العمر لا دنيا بلغت بها المنى * ولا عمل أرجو به الفوز في الحشر ولا كسب علم في القيامة نافع * ولا ظفرت كفي بمغن من الوفر فأصبحت بعد الدرس في الهند تاجرا * وأن لم أفز منها بفائدة التجر طويت دواوين الفضائل والتقى * وصرت إلى طي الأماني والنشر وبعت نفيس العمر والدين صفقة * فيا ليت شعري ما الذي بهما أشري إذا جنني الليل البهيم تفجرت * علي عيون الهم فيها إلى الفجر إلى أن قال: مضت في حروب الدهر غاية قوتي * فأصبحت ذا ضعف عن الكر والفر إلى أن قال: إذا لم تكن في الهند أصناف نعمة * ففي هجر أحظى بنصف من التمر على أن لي فيها حماة عهدتهم * بناة المعالي بالمثقفة السمر إذا ما أصاب الدهر أكنان عزهم * رأيت لهم غارات تغلب في بكر ولي والد فيها إذا ما رأيته * رأيت بها الخنساء تبكي على صخر ولكنني أنسيت في الهند ذكرهم * باحسان من يسلي عن الوالد البر إذا ذعرتني في الزمان صروفه * وجدت لديه الأمن من ذلك الذعر وفي بيته في كل يوم وليلة * أرى العيد مقرونا إلى ليلة القدر ولا يدرك المطري نهاية مدحه * ولو أنه قد مد من عمر النسر وفي كل مضمار أرى كل غاية * من الشرف الأوفى له سائق يجري إذا ما بدت في أول الصبح نعمة * ترى فرجا قد جاء في آخر العصر إلى أن قال: وأني لأرجو من جميلك عزمة * تبلغني الأوطان في آخر العمر إلى أن قال: وما زلت مشتاقا إليهم وعاجزا * كما أشتاق الجناح إلى الوكر ولكنما حسبي وجودك سالما * ولو أنني أصبحت في بلد قفر فمن كان موصولا بحبل ولائكم * فليس بمحتاج إلى صلة البر الشيخ محمد الشهير بالملائكة البرغاني ابن الشيخ محمد تقي الشهير بالفرشتة ابن الشيخ محمد جعفر بن الشيخ محمد كاظم. أخذ الفقه والأصول عن والده الشيخ محمد تقي الطالقاني القزويني والسيد نصر الله الحائري الشهيد في إسطنبول سنة 1158 وتخرج في الحكمة والكلام على الشيخ إسماعيل المعروف بالخواجوئي المتوفى سنة 1173، وغيرهم، وكان يلقب بالملائكة لشدة ورعه وقداسة نفسه وتقواه تولى التدريس في كربلاء، ثم هاجر إلى قزوين فرأس فيها، وهو الذي ناظر الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق المتوفى سنة 1184 بقزوين بمحضر علماء الفريقين فأفحمه وأدى هذا النقاش إلى عدول صاحب الحدائق عن رأيه وأصبح من العلماء الأخباريين المعتدلين بعد ما كان من الأخباريين المتطرفين وانتهت هذه المناظرة إلى بلبلة عظيمة في قزوين وأخذ يتوسع مداها ويتصاعد حتى عمت سواد الناس من الطائفتين وانتهت إلى هجوم الفرقة الأخبارية على دار المترجم له لاغتياله فلم يظفروا به وأحرقوا داره ومكتبته النفيسة ثم تدخل رجال الحكومة وحكموا بتسفير المترجم له عن مدينة
(1) في الجزء الأول من " العوالي " المطبوع وردت الفقرة الأولى من هذا البيت هكذا يا هلال الأيام قد كتب الأنام... والصحيح ما أثبتناه. (2) روضات الجنات: ج 7 ص 33. 286 قزوين إلى برغان وهو أول من اشتهر من رجال هذه الأسرة بالبرغاني وله آثار ومآثر خالدة حتى اليوم ومن آثاره في برغان توسيع وتجديد بناء المسجد الجامع في برغان وكان يقيم فيه صلاة الجمعة. وقد دون تاريخ هذا الجامع من القرن السابع الهجري وما أضيف إليه من التعميرات والتوسيع حتى العصر الحاضر في كتيبه من القاشاني بخط جميل عند مدخل الباب الرئيسية ما ترجمته... تم بناء وتوسيع عمارة الجامع بحكم وفتوى سماحة العلامة الفقيه آقا محمد الطالقاني نزيل برغان المشهور بالملائكة والد الشهيد الثالث أعلى الله مقامه وذلك لإقامة صلاة الجمعة وازدياد عدد مصلي هذه الفريضة الدينية في عصره. وتم البناء بفن معماري أنيق ونصب له شبابيك مزينة بالزجاج الملون وكان سقف الجامع من الخشب المنبت المصنوع من الخاتم وهو من الأبنية الضخمة العظيمة التي لا مثيل لها... توفي المترجم له في برغان سنة 1200 وقبره مزار معروف يتبرك به أهالي تلك النواحي والمصطافون والزائرون. من مؤلفاته تحفة الأبرار في تفسير القرآن في مجلدين كبيرين، كتاب الدار الثمين في الإمامة (1). الشيخ محمد تقي الفشندي بن الشيخ محمد علي بن الشيخ حمزة بن الشيخ محمد جعفر بن الشيخ محمد تقي بن الشيخ محمد جعفر بن الشيخ محمد كاظم. ولد حدود سنة 1242 في قرية فشند (2) وتوفي حدود سنة 328 هجرية. تخرج على الشيخ محمد صالح البرغاني والشيخ حسن البرغاني والشيخ الميرزا عبد الوهاب البرغاني وغيرهم. صرح في آخر كتابه إرشاد العاملين الذي انتهى من تأليفه في سنة 1321 أنه بلغ من العمر 78 عاما. وصرح في كتابه الآخر المسمى بصراط العارفين ونجاة العاشقين الذي ألفه في سنة 1293 أنه بلغ من العمر نحو ثماني وأربعين سنة. وعلى الرغم من مؤلفاته الكثيرة فهو من علمائنا المنسيين ولم أر له ذكرا في الفهارس وكتب التراجم. من مؤلفاته موسوعة كبيرة مسماة بذخائر المحبين في شرح ديوان أمير المؤمنين في واحد وعشرين مجلدا ضخما وجعل لكل مجلد منها اسما خاصا وجميع المجلدات بخط المؤلف من مخطوطات مكتبة كاتب هذه السطور في قزوين عبد الحسين الصالحي. وهو والد الشيخ حمزة المعروف باسم جده الشيخ محمد علي أو حمزة علي (3). الشيخ محمد بن الشيخ أحمد بن الشيخ إبراهيم من آل عصفور. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو الامام العلامة الهمام الفهامة شيخ الاسلام، ملجا الأنام كشاف مشكلات العلوم حلال معضلات المفهوم أمام الفقه والحديث وكان من أعيان هذه الطائفة وانتهت إليه رئاسة البحرين بعد رحلة أبيه ومهاجرة أخيه صاحب الحدائق إلى الديار العجمية. ثم اشتغل بالتدريس والتأليف إلى أن قام بأعباء الفتوى فله في الفقه كتاب في أحكام المسافرين وآدابهم كامل في الفن المذكور المسمى بمرآة الأخبار وله رسالة في صلاة الجمعة وأعمال ليلها ويومها وله أجوبة مسائل متفرقة. وله في المراثي كتاب الضرام الثاقب في مقتل سيدنا وإمامنا علي بن أبي طالب. وخصائص الجمعة. وله ديوان شعر في الرثاء وله من الأولاد الشيخ علي والشيخ أحمد والشيخ حسين وأعلم أولاده الشيخ حسين طيب الله مضجعهم. مات قدس سره الشريف سنة 1182. الشيخ محمد بن الشيخ غوث الحجري البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من مشايخ البحرين وأعلامها. وإمام العلوم العربية وعلامها صوفي المشرب له كتاب في الأذكار لم يكمل. مات سنة 1205. السيد محمد جمال الهاشمي مرت ترجمته في الصفحة 155 من المجلد الأول من المستدركات ونعيدها هنا بتفصيل أكثر مع نشر شئ من شعره مضافا إلى ما نشر من قبل: ولد عام 1332 في مدينة النجف الأشرف وتوفي فيها عام 1397. درس الفقه والأصول وغيرهما من العلوم المتداولة في حوزة النجف الأشرف، على يد علماء كبار، من أمثال والده، والشيخ ضياء الدين العراقي، والسيد أبو الحسن الأصفهاني وغيرهم. وقد طبع من مؤلفاته الكتب الآتية: 1 الزهراء ع. 2 أصول الدين الاسلامي. 3 الأدب الجديد. 4 مشكلة الامام الغائب. 5 هكذا عرفت نفسي. 6 المرأة وحقوق الإنسان. 7 الاسلام في صلاته وزكاته. وقد شارك في عضوية جمعية منتدى النشر. كما ألقى الكثير من المحاضرات التوجيهية ورعى العديد من الاجتماعات. شعره قال يناجي ربه: مبدأ الكون، لك الكون وما فيه يعود أنت ما أنت وجود منه قد فاض الوجود تنطوي في رسم معناك، رسوم وحدود ولالاؤك في العالم ألطاف وجود حيث لولاها لما اخضر من التكوين عود ولما قام لهذا الفلك السامي عمود منهل ما زال بالرحمة واللطف يجود ونظام فيه روح الحق والعدل يسود أيها السرمد... من تاه بمعناه الخلود
(1) الشيخ عبد الحسين الصالحي. (2) فشند قرية من ضواحي مدينة كرج التابعة للعاصمة طهران وتقع على الشرق من الطريق العام لطهران - قزوين. (3) الشيخ عبد الحسين الصالحي. 287 في سماواتك للفكر نزول ونهود ولألحانك في الذكر اضطراب وهمود نورك الظاهر عن ظاهره النور يذود هو معنى جل أن يدركه الفكر الشرود أنك الله... وما لله غيب وشهود صمد فرد قديم لا وليد لا ولود وثب العلم لنجواك فأعياه الجمود وسما الدين لدنياك فعاقته القيود فنأى آدم بالوصل وأدناه الصدود والتوى صالح بالناقة مذ زاغت ثمود وانزوى يونس في اللج، ومل الناس هود ولإبراهيم في النار... هدوء وصمود وإلى الطور سعى موسى تزجيه اليهود ولروح الله في المهد بروق ورعود ولطه في السماوات عروج وصعود ها هو الماضي وثوب واضطراب وركود ومن الحاضر لا يفزعني إلا الجحود ولروحي في شواطيك صدور وورود فسألقاك، وان خابت بمسعاها الجدود لي من روحي وعود سالفات وعهود وقال في المولد النبوي: عادت الذكرى لنا فاحتفلي * وأعرضي الماضي على المستقبل وأعيدي باسم طه موسما * للتهاني حافلا بالجذل واسألي التاريخ عن معجزة * فهو عنوان كتاب الأزل هبت الصحراء من رقدتها * وتهادت في الصراط الأمثل ولدت للحق ناموس الهدى * وهي غير الظلم لم تحتمل مولد الثورة ما أقدسه * أنه تاريخ وعي الملل سائلي البطحاء ماذا راعها * وهي في عالمها المنعزل واسألي الأصنام من عليائها * من رماها للحضيض الأسفل واسألي فارس كيف انخمدت * نارها، هل جف زيت المشعل؟ وادخلي البيت ففي جانبه * أمة مجموعة في رجل شيبة الحمد وما أعظمه * قائدا حاز وسام البطل كم له دون العلا من موقف * سار في الدهر مسير المثل وانظري الوفاد تسعى حوله * وتحيي كفه بالقبل واسمعي الشاعر يشدو راويا * فنه عن نغمات البلبل يلفظ المعنى بما ينشده * والمعاني معجزات الجمل ينثر الدمعة في بسمته * هل تذوقت الرثا في الغزل؟ ثمل المحفل من ألحانه * وانتشى من شعره المرتجل انظريه ثورة هادئة * وأمانا باعثا للوجل يبعث الأفراح في أنغامه * هاتفا باسم الوليد المقبل فمشت في الحفل من ذكر اسمه * نشوة هزت وقار المحفل ليت شعري هل وعى باطنه * أن هذا اسم النبي المرسل ترك الأمة في عاداتها * وانزوى في غاره المنعزل برمق الأجواء في منظاره * خارقا حجب الظلام المسدل ما هي الأصنام ما تأثيرها * في نظام العالم المكتمل؟ لم يسري الفكر في منحرف * عن صراط الواقع المعتدل؟ هذه العادات امضى فتكة * بالورى من فتكات الأسل يزل الوحي عليه فانبرى * يمحق الياس بنور الأمل يحمل المشعل باليمنى وقد * خص يسراه لحمل المعول في سبيل الحق كم من مشكل * حلة درسا وكم من معضل جاهد الأطماع حتى انهزمت * تستر العار بذيل الفشل فإذا الدنيا بصبح مشرق * بعد ما باتت بليل أليل وقال متحدثا عن القرآن: يا نشيدا صاغه الله وغناه الرسول فيك أكوان بها تاهت قلوب وعقول ومعان يقف العلم بها وهو جهول عالم لم يحوه عرض ولم يسبره طول واضح المنهج ما ضل بمجراها الدليل مشرق الغاية ما فيها قشور وفضول غامض الاعجاز عن إدراكه الفكر كليل أتراه وهو في منطقة اللفظ يجول؟ ولدنيا اللفظ أبواب نعيها وفصول أم تراه وهو في منطقة المعنى نزيل؟ ومن الفكر إلى المعنى وأن دق سبيل أيها اللحن الذي هلهل فيه جبرئيل فإذا نغمته خمر بها الدنيا تميل وإذا الأفق شموس وإذا الأرض حقول وإذا التاريخ يستقبله عهد جميل فيه تنزاح عن الفكر سجون وكبول هجم الفجر على الآفاق بالنور يصول وأبل البث جيلا زاره وهو عليل أوجز البحث به واختصر الدرب الطويل ومشى الإنسان في درب إلى الحق يؤول ما يقول الشعر في حقك قل لي: ما يقول؟ أنت بحر يتقي موجك فعل وفعول وقال مناجيا يوم غدير خم: يحتفي الخلد فيك مجدا وفخرا * فتطاول على السماكين قدرا واقتحم ساحة الحياة بعزم * يهرب الموت منه خوفا وذعرا
288 لك من روحك العظيمة جيش * يهزم الحادثات كرا وفرا والذي يغمر الليالي ألطافا * سيحيى في صفحة الأفق فجرا يا نجوم الظلام فيضي هناءا * واملأي الأرض والسماوات سحرا واسكبي النور خمرة تسكر الحب * فتصحو به العواطف سكرى واقبضي دفة النسيم ليجري * هادئا يغمر العوالم بشرا وابعثي في السكون روحا رقيقا * يتندى وحيا وينطف شعرا واحمليها لمن أعارك من معناه * مجدا على الشموس إشمخرا حلقت نفسه الكبيرة تبغي * في مجاليك عالما مستقرا عشقت وجهك الضحوك فباتت * عينه في الهوى كعينيك سهرى فاستراحت في ظل صمتك لما * وجدته للفكر أهنى وأمرى ومضت توقظ الخيال بلحن * ذهبي يحيي به الميت نشرا حفزتها إلى النضال دروس * تستثير الأحرار علما وخبرا إنفت أن تثور كالوحش بالسيف * فألقته للمجانين سخرا وانبرت ترهف اليراع وتبرى * حده للجهاد بحثا وسبرا وإذا صلصل اليراع حماسا * أين منه الحسام جارا وزأرا قلم ينثر النجوم لتهدي * موكب الفكر وهو يجتاز وعرا يخرق الحجب في البيان فيبدو * منه سر الحياة للعين جهرا ويشق العصور بطنا وجهرا * ويذوق الظروف حلوا ومرا فيحيل الضباب في العين نورا * تجتليه، والشوك في الكف زهرا الغدير الغدير ذاك نشيد * رددته العصور سجعا وزمرا لحنته قيثارة الله صخابا * فهاجت منه الكوامن حرى هدهدته السماء للأرض روحا * ملكيا يفيض قدسا وطهرا فاحتسته الآذان خمرا، وإن * السمع قد يغتدي بدنياه ثغرا صور تسحر الخيال فيسمو * صاعدا في معارج النور سكرا وإلى أين حيث ينبثق الفجر * ليكسو الوجود نورا وعطرا فهناك الوحي الإلهي يبدي * منه شطرا يرى، ويضمر شطرا تترامى من حوله عبقريات * مشت تطلب الخلود مقرا ذاك سر هيهات يدركه الوعي * وإن غاب منه دهرا ودهرا الغدير الغدير، لحن تلاشى * في خضم الحياة مدا وجزرا لم يطقه الزمان هضما فأمسى * خبرا في ضميره مستسرا الزمان الحقود هيهات يرضى * أن يرى الحب فيه ينثر بذرا فأحال الشعاع منه ضبابا * وأعاد الروض المنمنم قفرا والذي يدرس الحوادث يلقى الشر * خيرا هناك والخير شرا كم هزار تفني لتحيي غرابا * وهزبر تضوي لتنفخ هرا منهج تقصر الموازين عنه * فاترك البحث فيه، فالترك أحرى الغدير الغدير، ذلك طيف * ساحر داعب الخيال وفرا فانتشى الحب من ملامحه الزهر * وماس الجمال تيها وكبرا حاول الفن أن يصوره في * لوحة تبهر الأخاييل بهرا فاستعار الألوان من وضح الشمس * وخط الضحى على اللوح طغرا ومضى يرسم المناظر حتى * أجهدته قوى وأضنته صهرا كلما قاس سحره بسواه * لاح اسمى معنى وأبعد سرا فرمى الريشة الكليلة أسوان * وعاف الألوان غيظا وقهرا وارتمى ساهما يحدق في الأفق * كطير أضاع في الأفق وكرا الغدير، الغدير، ذلك يوم * خلدته العصور للحق ذكرى صرع الحقد منه غيظا، ورفت * راية الحب فيه فتحا ونصرا نحن في ضحوة النهار، ونور الشمس * قد طبق المفاوز طرا دفقات الرياح يلهبها الصيف * فتصلي السماء والأرض حرا والرمال الحمراء موجها النور * فلاحت نهرا له الأفق مجرى والسكون العميق يبعث في الصحراء * روحا منها الفضاء اقشعرا يتعالى الغبار من كبد البر * تماويج تجعل البر بحرا إنه من قوافل تقطع الصحراء * فيها لم ترع حرا وقرا إنه مشهد الحجيج إلى الأوطان * يسعى في سيره مستمرا إنه موكب النبوة يجتاز * الصحاري فتحتفي فيه فخرا هذه هالة الجلال وهذا * خاتم الرسل لاح في الركب بدرا هؤلاء الأصحاب كالشهب حفت * واستدارت عليه يمنى ويسرى منظر يغمر الصحاري جلالا * ويحيل الرمال في العين تبرا لم تشاهد هذي الفدافد ركبا * عربيا يعنو لعلياه كسرى يقف الموقف العظيم، فما ذا * عاقه عن مسيره فاستقرا؟ الثغاء الرنان يخترق السمع * فيمسي به من الضغط وقرا ونداء الحداة موجه الجو * نشيدا يلذ للروح نبرأ ويعم السكوت حتى على النيب * فمنها لم تصغ جعرا ونعرا من حدوج النياق قد نصب المنبر * في الشمس وهي تنفث سعرا جلست حوله الجماهير، والصمت * عليها ألقى من السحر سترا ها هو القائد العظيم على المنبر * عنه العيون ترجع حسرى يتعالى خطابه وهو إعجاز * يهز العصور عصرا فعصرا وارتقى نحوه فتى، فحسبت النجم * في المنبر المشرف خرا آه، هذا ابن عمه، بطل الاسلام * من يرجف الميادين ذعرا ويمد النبي يمناه للصهر * فيعلو على الجماهير طرا أفتدري ما رام من فعله هذا * وإن كان فيه ربي أدرى إنه شاء أن يبين أن المرتضى * من سواه ارفع قدرا مهد الوضع فيه للوحي حتى * لا يرى الناس أمره فيه إمرا ثم نادى: من كنت مولاه حقا * فعلي مولاه، دنيا وأخرى موقف أزعج الزمان فأمسى * وهو ينوي شرا ويضمر غدرا بايعته الأيام بالحكم لكن * نقضت عهده المقدس كفرا هكذا تنمحي الحقائق حتى * يصبح العرف في الشرائع نكرا وقال في مولد علي أمير المؤمنين ع: يحتفل التاريخ باليوم الأغر * يا شعر أبدع في المعاني أو فذر هذا مجال يعثر الفكر به * ويخفق القلب ويحسر النظر صف كلما تشاء، واترك صورة * علقها بالعرش بارئ الصور
289 ما ذا تقول في هيولى نقطة * تضيق في عالمها دنيا الفكر: إن قلت هذا بشر، قال الحجى: * استغفر الوجدان، ما هذا بشر أو قلت فيها: ملك، أجابني: * هل ملك يحكيه عينا وأثر حارت به الشعوب، شعب منكر * له، وشعب فيه غالى فكفر هذا مقام يقف العقل به * مرددا بين الورود والصدر قدمت قلبي لكم في يومه * والعقل أزويه لأيام أخر يا قلب هذا مسرح الحب فنل * جائزة الخلد بدورك الأغر واختصر الحديث فيه إنما * رسالة الشوق حديث مختصر وسائل الكعبة عن وليدها: * من شرف البيت وقدس الحجر واسترق السمع بنادي مضر * فالخبر الموثوق في نادي مضر وانظر أبا طالب في مجلسه * يمتلك القلب، ويملأ النظر وحوله من هاشم عصابة * ينمى لها المجد وينسب الخطر تصغي إلى أسماره مرتاحة * في الليلة القمراء ما أحلى السمر قد سحر الأسماع في حديثه * فلم تفق حتى تجاوز السحر لا غرو إن أسكره منطقة * فمنطق الشاعر شهد وسكر يدور في الحديث حول حادث * قد حير البدو وأذهل الحضر في البيت حيث الطير لا يعبره * قدسا، وحيث الوحش لا يرعى الحذر قد وضعت فاطمة وليدها * منزها من كل رجس وكدر وأقبلت به إلينا باسما * وقبله لم نر بسمة القمر أني أرى لأبني شانا تنطوي * فيه شؤون غيره إذا انتشر سيدهش التاريخ في أعماله * ويملأ الدنيا عظاة وعبر يهنى أبو طالب فيه، إنه * معجزة الدهر وآية القدر لولاه ما قام لدين أحمد * ركن، وما أنهد الضلال واندثر لا غرو إما احتفل الاسلام في * ميلاده، فإنه ذكرى الظفر ويا وليد البيت هذي نفحة * فاض بها القلب سرورا وانهمر جئت بها مبتكرا طريقة * في المدح، فامنحني عطاء مبتكر وانظر لدنيا الدين والعلم فقد * أمست تعالج الخطوب والغير وانصر رجالا جاهدوا دون الحمى * وهاجموا الخطب وقاوموا الخطر مولاي واغفر لي ما زل بي * شعري، فزلات الأديب تغتفر وقال في علي أمير المؤمنين ع وألقيت في احتفال بذكراه أقيم في مدينة كربلا: تبقى وتفنى حولك الآثار * مجدا به تتفاخر الأحرار بك يرفع الحق المضام لواءه * ويرف باسمك للجهاد شعار ولأنت للنهضات فجر تنمحي * بشعاعه الآثام والأوزار عبدت للتاريخ نهجا لا حبا * يجري به الإيمان والايثار وأريته كيف العقيدة إن طغت * وهت الخطوب وهانت الأخطار فرد يناضل دولة، وسلاحه * في وجهها ايمانه القهار كيف الاباء إذا تشظى جمره * منه تطاير للخلود شرار كيف الشهادة تغتدي أمثولة * بجلالها تستشهد الأعصار تحيى أبا الأبرار أنك جنة * في ظلها تتنعم الأبرار وفدت يسوق بها الولاء مواكب * لك ملؤها الإعظام والاكبار في ليلة تحكي النهار وضاءة * وترق في أطرافها الأسمار وتقدمت بالتهنيات بمحفل * بهر العيون جماله السحار حفل أقيم على اسم أكرم مولد * فيه ازدهى فهر وطال نزار في البيت أشرق فجره فتلألأت * فيه المناسك فهي منه تنار ولد الوصي أخو النبي وصهره * ولسانه وحسامه البتار وأبو النجوم الغر من لسمائهم * تنمى الشموس وتنسب الأقمار وفتى المواقف ماج منها خيبر * نورا، ورف على حنين الغار من في مناقبه وغر صفاته * تتجاوب الأبرار والأشرار الله قد صلى عليه، فما ترى * تضفي عليه بحمدها الأشعار فاهنأ أبا الشهداء في عيد به * لأبيك طال على الخلود منار وقد احتفى الاسلام باسمك ناشرا * لك صفحة ماجت بها الأنوار فلكر بلاء مكانة قدسية * بك لا تزاحم مجدها الأمصار ها هم بنوك بنو المفاخر يزدهي * بهم الندي ويعمر المضمار الكابحون السيل في عزم له * خشع الأبي وأذعن التيار والمؤمنون الصادقون بموقف * ينهار فيه الفارس المغوار وقفوا وبركان الحوادث ثائر * هز الزمان دويه الهدار وقال في حفل افتتاح الباب الذهبي لمقام أمير المؤمنين ع في شعبان سنة 1373: عجت ببابك تحتفي الأفراح * وشدت بحمدك تزدهي أرواح وتماوجت تلك الألوف كأنها * بحر تلاطم موجه المجتاح ما ذا أثار شعورها فاحاله * وهجا يفح زئيره اللفاح هل كان ألا من ولاك هياجه * وولاك روح للنضال وراح تحيى العقيدة، فالعقيدة لم تزل * يمحو الظلام شعاعها اللماح قل للعصور المنتنات ألا ارقبي * عصرا تماوج عطره الفواح جرفت حوادثك الضخام بموجة * غمر الحياة هجومها المكساح إن الذين تعاهدوك، وأذعنت * لقضائها الأفراح والأتراح وتكفلوا التاريخ حيث بوحيهم * يتنزل الابهام والايضاح فمحوا كما شاء المرام وأثبتوا * وبنوا نظاما للزمان وراحوا وجرت على ما خططته حوادث * نحر الضمير نظامها السفاح حتى إذا صهر الثقافة منهج * يحكي الضحى أسلوبه الوضاح أدب الحياة، وقد تغلغل جذره * في النفس منه حجابها ينزاح فترى الملامح رغم كل تغير * اجراه في تشريحها الجراح فضح المدائح ضوؤه، فإذا بها * عار عليه من الخنوع وشاح وإذا السفينة في الخضم تلفها * لجج وقد أعيى بها الملاح وإذا بتاريخ الحياة رواية * مكذوبة عنها تجل سجاح
290 وإذا العمالقة الضخام هياكل * وإذا بابطال الوغى أشباح عصفت ببابك يا علي عواطف * هز الزمان دويها الصداح زحفت كما ثار الخضم بموكب * جرف المبادئ سيله الطواح هي ثورة الايمان تنشر نورها * روح لها بين النجوم مراح رامت تلوثها فخابت عصبة * عمياء، شائهة الوجوه وقاح عاشت بحبك يا علي، ومن يعش * في ظل حبك ما عليه جناح قد حفزتها وثبة لمقدم * في الفضل مسرحه علا وطماح الفارس الجحجاح في أمجاده * للدين عاش الفارس الجحجاح وافاك يعرب عن ولاه بآية * عصماء يسكر وحيها المسماح في عصبة كالورد يأرج حبها * لك ملء برديها تقى وصلاح ومحمد رام الخلود بسيره * فسعت به قدم وطار جناح قوم فنوا في حب آل محمد * فزكا بهم قصد وطاب كفاح لاذوا ببابك يطلبون القرب من * حرم تلوذ بقدسه الأرواح حرم به للأنبياء حفاوة * والروح من بركاته يمتاح وقال في رثاء أمير المؤمنين ع: ذكرى لها نفس الشريعة تجزع * واسى له عين الهداية تدمع تتقادم الأعوام وهي جديدة * تمضي مع الأبد الفتي وترجع كالشهب لم تذهب نضارتها وان * كانت علينا بالمصائب تطلع تأتي فتندبها قلوب روعت * حزنا وترثيها عيون همع نكراء أدهشت العصور بهولها * نكباء منها كل جيل يجزع رزء له الاسلام ضج، وحادث * من وقعه قلب الهدى يتصدع الله أكبر، أي جرم، ذكره * يدمي القلوب فتستهل الأدمع يا ليلة القدر اذهبي مفجوعة * فلقد قضى فيك الامام الأنزع ما كان لولا سره لك حرمة * روحية منها العواطف تخشع هو كنه ذاك القدر، والمعنى الذي * يخفى، وأفق ظهوره متشعشع عودي لنا ليلاء لا يبدو لها * نور، ولا فيها شهاب يسطع قد غاب نور الله فيك فلازها * من بعده أفق وأشرق مطلع أدرى ابن ملجم حين سل حسامه * للفتك بالايمان، ماذا يصنع؟ أردى به التوحيد في ملكوته * فالعرش مما قد جنى متفجع أردى به الاسلام في توجيهه * فشعاعه بدمائه متبرقع يا فتكة جبارة لم تندمل * أبدا، وغلة واجد لا تنقع الدين من جرائها متزلزل * والحق من نكبائها متزعزع صمت لها أذن الحوادث دهشة * وتلجلج التاريخ وهو المصقع جرح أصاب الطهر في محرابه * من وقعه قلب الهدى يتوجع لاقى الاله وذكره بلسانه * ومضى إليه ساجدا يتضرع بين الصلاة، وتلك أرفع شارة * يقضى شهيدا بالدماء يلفع سر التقرب في الصلاة، ومن به * تسمو العبادة للإله وترفع قد كان ما بين الأنام وديعة * رجعت، وأي وديعة لا ترجع ونعاه للملا المقدس صارخا * جبريل: قد مات الامام الأورع وتهدمت في الأرض أركان الهدى * فكيانه من بعده متضعضع قد فل سيف للحقيقة صارم * وانهد حصن للشريعة أمنع سهم الضلالة لا برحت مسددا * لم يبق في قوس الهداية منزع لولا الزكي لقلت قد سدت به * طرق إلى الرحمان كانت تشرع لا زالت الذكرى تحز قلوبنا * ما عاودت، وتفيض منها الأدمع يا حضرة قد شرفت برقاته * أعلمت إنك للهدى مستودع لا غرو إن طاولت في عليائه * هام السما فبك الامام الأرفع وقال برثية طبق الأفق ظلام أقتم * خمدت في ضفتيه الأنجم ظلمة موحشة قاتلة * حمحمت أمواجها تلتطم يتحامى الذئب من أشباحها * فهو في مكمنه مكتتم ويخاف اللص منها، فهو عن * غزوات الليل ذعرا يحجم أيها الليل الذي أوصافه * فوق ما يرسم منا القلم ما الذي تخفيه يا ليل ففي * وجهك الكالح رعب مؤلم وإذا الصرخة تعلو بغتة * وإذا المحراب يغشاه دم أيها المجرم هل تعلم ما * ارتكبت نفسك أو لا تعلم هل درى سيفك في ضربته * هدم الطود الذي لا يهدم وجم الايمان منها فزعا * وتلاشى في لهاه النغم وهوى الاسلام منها خائرا * وانبرى موكبه يستسلم والصلاة انهدمت أركانها * بعد ما طاح العماد الأعظم والجهاد انغلقت أبوابه * بعد ما فل الحسام المخذم والكتاب التبست آياته بعد ما جف البيان المحكم والضمير انهار لما سقطت * قيم فيها تقوم الشيم أيها الفجر الذي آلاؤه * لم تزل في كل جو تبسم عميت عنك عيون كحلت * ضوؤها في مروديه الظلم زحفت أوغارها ناقمة * ومن الفجر انبرت تنتقم أطفأت شعلته في ضربة في * ضمير الحق منها ضرم سفكت فيها دما لما يزل * مائرا تياره محتدم صرعت تاريخ جيل ركبه * حفزته للصعود القمم ضربة المجرم رمز ملهب * وشعار فيه رف العلم أيها الدمع انسجم في ليلة * مدمع الحق بها منسجم فالامام المرتضى محرابه * مائج في دمه ملتطم وأمين الله في لاهوته * نادب يقطر منه الألم هدمت والله أركان الهدى * وعرى الحق غدت تنفصم وقال برثية: راح والليل رهيب مرعب * ضيع المسرح فيه الكوكب يتخطى الدرب روحا هائما * شبح كالليل داج مرهب يتخطاه وفي أحشائه * ثورة كان بها يلتهب
291 وله تمتمة حالمة * روحه كانت بها تنسكب يرمق الأفق بعين نورها * يخرق الحجب به إذ يرقب هل ترى قد غار في الأفق له * كوكب، أو هالة تحتجب هائم يعبر لم تعثر به * هوة في دربه تنسرب هذه الظلمة كالنور فلا * فارق بينهما يحتسب هل له من مأرب في السير أو * ما له في السير هذا مأرب حارت الكوفة ماذا يبتغي * رجل في سيره مستغرب من يك السائر هذا أنه * لغز تحليله مستصعب ومشى التاريخ في آثاره * فهو عن مسلكه لا يعزب وإذا السالك والتاريخ من * خلفه، والليل ساج معجب يقصد المسجد، إذ في جوه * عالم من كل كون أرحب عالم يوصل بالأرض السما * فله كل بعيد يقرب يعرج الإنسان لله به * في قوى عنها تماط الحجب يصهر الجسم بروحانية * كل ما فيها لذيذ عذب فصلاة الجسم شكر خاشع * وصلاة الروح لحن مطرب لغة يفهمها الذوق، فلا * عجب لو لم يذقها الأدب أدب الفردوس ذوق وهوى * لا تعابير حوتها الكتب وطريق الله لا يسلكه * غير نجم للسما ينتسب دخل المسجد نشوانا له * نغمة ترقص منها الشهب يوقظ النور وفي جانحه * أي أفق شمسه لا تغرب ينفض النوم بلمس مسكر * عن جفون بالكرى تعتصب وتجلى الفجر خيطا أبيضا * في فضاء بالدجى ينتقب وتعالى صوته فاضطربت * شهب الليل وماج الغيهب وأذان الفجر، كالفجر له * كل حس نابض يستعذب جلجل الصوت رهيبا فالفضا * منه أمسى خاشعا يرتهب وجرى اسم الله مجرى الروح في * عالم من فيضه يكتسب واستفاق البشر الغافي، ومن * نومه الجافي كسيح متعب وإلى المسجد وافى خاشعا * كي تؤدي روحه ما يجب وصلاة الصبح نور وشذى * لهما دنيا الهدى تنجذب وعلي غمرت أجواءه * بالسنا طاعاته والقرب رجف المحراب من خشعته * فهو من أذكاره منقلب عرج الحق به عن عالم * باطل قد لوثته الريب وأقام الفرض فائتئم به * مجمع فيه أقيم الموكب وهوى يسجد، فاهتز به * من مراد مجرم يرتقب رفع السيف وأهواه على * عالم آلاؤه لا تنضب وأراق الكفر للدين دما * كان فيه رمزه ينتصب وهوى فيه علي قائلا * فزت وانساقت إلي الإرب في سجودي رحت لله، ولي * أزر من دم رأسي قشب وقال في الزهراء ع: مولد الزهراء للايمان عيد * كل شيعي بذكراه سعيد ذكريات الفجر في مطلعه * تتجلى، ولنا فيه عهود يوم كان الدين في منهاجه * نغمة كل معانيها جديد يتوخى السير بالتاريخ في * أبحر مرفاها الأدنى بعيد والفضا معصوصب، والأرض قد * زلزلتها عاصفات ورعود التقاليد وما أفتكها * وقفت من دونه فهي سدود والمرامي وهي في أطماعها * كالعفاريت ترامت وهي سود ورسول الله في دعوته * يفزع الأحلام والناس هجود يقظة الفطرة وحي رائع * صاغه الله لنا فهو نشيد مولد الزهراء في موكبه * يتهادى، وبه الماضي يعود يهزم الأوهام في ألطافه * فالفيافي من معانيه ورود ورمال البيد سالت عسجدا * والحصى فيه لئال وعقود واستطالت قمم المجد بها * فهي في الشرق رواب ونجود ولد الإنسان في أكنافها * فهي أم للكرامات ولود لم يكن من قبلها في ظلها * للهدى عين، وللحق وجود عجبا للصخر كيف انبثقت * جانباه، فهما فضل وجود قدس الاسلام في دستوره * يورق الصخر وينشق الحديد مولد الزهراء هذا فابسمي * أيها الشيعة، فالموسم عيد ودعي عنك الأسى واحتفلي * فيه، فالعيد به الحزن يبيد واتركي الأمر إلى رب السما * فهو بالوضع خبير وشهيد سوف ينجاب الدجى منهزما * من سنا الفجر، فللفجر جنود فإذا وجهها الله إلى * أفق باد به الليل المبيد وقال في الحسين ع أعني بوحي منك إن خانني الشعر * وهيهات أن يسمو إلى سرك الفكر تحجبت حتى قيل أنك غامض * وأسفرت حتى إنجاب عن لبه القشر تطوف حواليك القرائح خشعا * وتسعى لك الأقلام يكبو بها الذعر أعني عسى أن المس السر فالحجى * تعصى عليه الرأي والتبس الأمر يناجيك غيري بالدموع، وإنني * أراك تناجيني متى ابتسم الثغر عليك سلام الله أي رواية * على مسرح التاريخ يعرضها الدهر أعدها على الجيل الجديد رسالة * تشع على الايمان آياتها الغر أعدها على دنيا الزوابع نسمة * ترقرق فيها الحب وانتشر العطر أعدها أعدها نغمة سرمدية * تجمد منها البحر وانفلق الصخر أعدها دماء يسكر المجد لونها * أعدها إباء باسمه يهتف الفخر أبا الشهداء الأصفياء تحية * يقدمها عن روحه شاعر حر هو الشعر لا يرضى بمقياس غيره * فلي فيه إما زل بي مقولي عذر نظرتك ما بين السيوف فراعني * جلال عليه رفرف الحزن والبشر تقدست من فرد يهاجم دولة * لسلطانها قد أذعن البر والبحر فيا وقفة الايمان في ساحة الوغى * تضعضع منها الشرك وانخذل الكفر على رسلكم يا عاذلين فللهوى * مقاييس يأبى فهمها الماجن الغر فلا تلحقوها بالمواقف إنها * لأنشودة غنى بها الأدب البكر
292 هي الثورة الحمراء عن فكر مصلح * ترفع أن يهتاجه النفع والضر أراد لكي تحيى الحقيقة فانبرى * إلى الموت لا يلوي به السهل والوعر كذاك حياة المصلحين شهادة * يجد بها عصر، ويبلى بها عصر إذا الروض لم تنفح أزاهره الشذى * ولم تبهج الأرواح أدواحه الخضر وإن عجز الصداح عن وحي لحنه * وغاض ولم يلعب بأمواجه النهر وإن فقد الوجه الجميل فتونه * ولم يكشف الظلماء في نوره البدر فكل عناوين الحياة ضلالة * وكل ثراء في متاجرها فقر وما الدين إلا قائد العقل للهدى * له النهي في دنيا العقائد والأمر إذا هجرت أحكامه أو تغيرت * فكل حديث حول تأثيره هجر أيغدو ابن ميسون خليفة أحمد * وفي عرفه ما قاله أحمد نكر ويحرم شرب الخمر في أمة لها * إمام به يمسي ويصطبح الخمر وتؤمن في يوم الحساب ولم يرع * خليفتها يوما حساب ولا حشر وتسكت عن هذي المهازل أنفس * يلوذ الحمى فيها ويعتصم الثغر ألا لا فان الحق يأنف أن يرى * مواكبه يقتادها الغي والغدر وأن لم تساعده الحياة على المنى * فلا بد أن يأتي بها الموت والقبر سلام على يوم الحسين، فإنه * أرى عالم الظلماء ما يصنع الفجر وسجل للأحرار منهجه الذي * تهيج دم الثوار أسطره الحمر تموت وتنسى الذكريات، وذكره * سيبقى مع الأحقاب ما بقي الذكر أحاول أن لا أسكب الدمع غيرة * بان لا يقولوا شاعر خانه الصبر ولكنني لا أملك النفس حينما * أراه وقد حفت به البيض والسمر بنفسي أفديه، وقد هده الظما * وأجهده فقد الأحبة والكر ولم يبق من أصحابه غير نسوة * تراءى لها في قتله الثكل والأسر يطالعها من برقع الدمع حسرة * وفي قلبه من فقد أحبابه جمر فتطغى عليه سورة علوية * بها يتساوى عنده الحلو والمر وفي حضنه طفل يطوق نحره * من الظلم سهم ناء عن مثله النحر وحاشاه لم تلو الحوادث عزمه * ولا راعه في زحفه العسكر المجر ففي ذمة الايمان أقدس موقف * له تخشع الدنيا ويرتجف الدهر ويطعن قلب الدين بالرمح مالك * ويخمد نور الله في سيفه شمر إلى أن قضى في ساحة المجد فانقضى * بذلك عهد للهدى، وانطوى سفر لئن قام شطر الدين في صبر حيدر * فقد قام في قتل ابنه بعده شطر ولم أر من قبل الحسين مجاهدا * لمصرعه وافى يشيعه النصر وقال في نساء الحسين ع مسوقات من كربلاء إلى الكوفة: في رمال يموج فيها السراب * وفضاء يمتد فيه الضباب ولعاب كالجمر ترسله الشمس * ليغلي كالموج منه التراب وعلى الأرض يحفر الدم نهرا * يلهب الروح موجه الصخاب وترامت حول الدماء انتثارا * جثث كورت عليها الحراب وتراءت من البعيد خيام * يبعث الحزن ظلها المنساب جلست تحتها نساء وأطفال * وقد سادها أذى واكتئاب ننظر الأفق وهي ترسل دمعا * صاحبته مناحة وانتحاب إنها الثاكلات من آل طه * من بالائها أهاب الكتاب نزلت في الطفوف في منعة قد * سورت عزها أسود غضاب واستدار الزمان فابتز منها * مجدها، وأستبيح منها الجناب حينما استشهد الجميع، ولم يبق * لديها أهل، ولا أحباب وغدت في الخيام وهي حيارى * لا حمى تلتجي به لا حجاب وعلت ضجة فهبت من الخوف * وقد هز جانحيها اضطراب فإذا الجيش جاء للسلب والنهب * كما تنهب الخراف الذئاب فتراكضن في البوادي، وللعين * انسكاب، وللفؤاد التهاب ووراها الذئاب تعدو، فللحلي * انتهاب، وللبرود استلاب أين يلجان، والحماة على الأرض * عليها من الدماء ثياب في محيط تموج فيه الأعادي * ما لها جيرة به أو صحاب رجعت للخيام، والنار فيها * تتهاوى من وقدها الأطناب والكفيل العليل يرقب وضعا * مؤسفا منه تلتظي الأعصاب وأتته أم المصائب تستوضح * منه وضعا عراه ارتياب وهناك الإمام قال: عليكن * فلاح الهدى، وبان الجواب فترامت ثواكل الطف في البيداء * تعدو وقد دهاها المصاب بقيت زينب لترعى عليلا * صرعته الأوجاع والأوصاب أقبلوا بالنياق كي يركب الأسرى * عليها، وما لها أقتاب أبنات الهدى على النيب ما بين * الأعادي، ولا يقيها النقاب حادث يقرح القلوب، وخطب * منه تبكي الأجيال والأحقاب يشتكي الشعر حين يعرض لمحا * منه وصفا، ويستحير الخطاب هكذا ركبت بنات علي * وإلى الكوفة استحث الخطاب ليراها في مجلس ابن زياد * شامت قوله شجى وسباب يا سماء أكسفي نجومك حزنا * واخسفي الأرض رجفة يا هضاب وقال في العباس ع: أبا الفضل باسمك غنى الإخاء * وهلهل قيثاره المبدع فموقفك الفذ يوم الطفوف * به كل مكرمة تنبع غداة استفزت بك الحادثات * فرحت لأمواجها تصرع وهز لواك أنين الصغار * يصعده عطش موجع فخضت الفرات وجيش الطغاة * به غص شاطئه الممرع وكظ الظما قلبك المستشيط * وقد ضمك المنهل المترع وحاولت عبا ولكنما * أصاب بك المنظر المفجع نساء تلوب وقد رفرفت * بأحضانها كالقطا رضع تطوف به وتراعي الحسين * بعين تغص بها الأدمع هنالك في عذبات الخيام * عطاشى بحر الثرى صرع فأوحى لوعيك موج الفرات: * كما جئتني ظامئا ترجع فكانت رسالتك المنتقاة * سقاء رجعت بها تسرع تخب بها، وجيوش الطغاة * ذباب تمزقها زعزع وراحت تلوذ بظل النخيل * سيوف بها ترجف الأذرع لتقطع منك اليمين التي لها السيف من كفها أطوع وتبتز منك الشمال التي * لها كل ذي حاجة يضرع ويخسف بدر بني هاشم * عمود بإجرامها يصدع
293 فتهوي وتندب أدرك أخاك * فيهرع كالليث إذ يهرع رآك وجسمك نهب السيوف * فما شذ عنها به موضع فراحت تعبر عنه الدموع * بلحن يضيق به المصقع وعاد ليستقبل الطاهرات * بقلب به ضاقت الأضلع ولم يبق روح بهذي الحياة * فكل عناوينها تخدع فلا الشمس تبهج ألوانها * ولا البدر يزهو له مطلع ولا الفجر تحلو به يقظة * ولا الليل يهنى به المضجع فقد كنت روح حياة الحسين * فبعدك واحاتها بلقع وقال أيضا في العباس ع: يطلب الاذن والصراع رهيب * وصليل السيوف لحن طروب بطل تعرف الميادين مرماه * ففيها له مجال رحيب كسر الجفن كي يغطي دمعا * نثه الحزم، والإباء المهيب سائلا من أخيه في الصمت أذنا * للوغى، وهو مطرق مستريب رفع الطرف نحوه السبط إشفاقا * وفي القلب وجده مشبوب ثم مرت عليهما فترة يقصر * عن وصفها الأديب الأريب وأجاب الحسين والألم القاتل * معنى في لفظه مصبوب كيف تمضي عني، وهذا لوائي * بك قد رف مجده المرهوب أن جيشي إذا مضيت سينهار * عليه رواقه المطنوب أنت للنصر رمزه، فإذا فارقتني * زال رمزه المحبوب أنت سيفي يوم الجهاد، فان بنت * سينبو حسامي المخضوب كيف أحيى من بعد موتك، والنور * إذا غبت عن حياتي يغيب فأجاب العباس والألم الصارخ * قبل الجواب كان يجيب: كيف أحيى ومن دماء أحبائي * عفر الثرى ندي خضيب إخوتي كلهم على الأرض أشلاء * عليهم عصف الرياح هبوب أفيبقى في الغمد سيفي، وهذي * زعقات الوغى بسيفي تهيب أنت بين العدا غريب، وأبقى * ساكنا، أن ذاك وهم غريب لك رمز الفداء عشت لأفدي * لك نفسا إلى الفداء تثوب يا أخي منك أطلب الاذن للموت * وبالحرب يدرك المطلوب وتعالى من العطاشى نشيد * مستثير تذوب منه القلوب وهناك الحسين قال، وفي عينيه * دمع من الفؤاد صبيب يا أخي هدني بكاء اليتامى * وبكاء اليتيم لحن مذيب فائت بالماء للصغار فقد أذواهم * الحزن، والظما، واللهيب منع الماء عن حريم رسول الله * رهط لدينه منسوب عطش قاتل، وضغط مبيد * وهتاف مرد، وفتك عجيب والذي حز في فؤادي صراخ * لرضيع فؤاده مشعوب فابغ نهر الفرات، واملأ سقاء * فعسى فيه للصغار نصيب ومضى يحمل السقاء إلى النهر * وللجيش في الشواطئ وثوب ودع السبط صنوه ببكاء * منه حتى صم الصخور تذوب كلما هم أن يفارقه نازعه * فيه قلبه المجذوب كيف يبقى حيا، ويمضي أبو الفضل * إلى الموت إن ذاك غريب ورأى الجيش صولة الحب في الحرب * فللسيف ثورة وهبوب تتلاشى الصفوف، ذاك شمال * يتهاوى ضعفا، وذاك جنوب فيبيد الحسين صفا، وصفا * بأبي الفضل ضائع منكوب طاقة ترجف الجبال، وزحف * كل جيش أمامه مغلوب فرأى نغل سعد أن يرجع السبط * ويبقى العباس وهو حريب أمر الجيش أن يؤم خباء * فيه يعلو للثاكلات نحيب ورآه الحسين فارتد كي يحمى * حريم الاله وهو كئيب ومضى يهزم الجموع أبو الفضل * وحيدا وقلبه ملهوب قاصدا شاطئ الفرات بعزم * تتلاشى من شفرتيه الخطوب فيبيد الألوف لا سيفه ينبو * ولا وعي عزمه مخلوب عنده الضرب عادة، ولقاء الموت * عيد به الفؤاد طروب سيفه ثورة على البغي منه * أخذت درسها العتيد الشعوب علم المستضام كيف يرد الضيم * وهو المظفر الموهوب بطل عن قواه تعيى البطولات * وينهار حدها المضروب ورث السيف عن أب، باسمه السيف * تسامى له جلال رهيب أخلق الوضع عهد حيدر، لكن * بأبي الفضل عاد وهو قشيب بطل يزحم الفيالق كالليث * يلاقي الأغنام وهو غضوب زاحف يقصد المسناة، والجيش * عليها لواؤه منصوب فأباد الجموع عنها، وباتت * وهي ملك لسيفه مكسوب قحم الماء فارسا بفؤاد * لأهب، كظه الظما والوجيب ملأ الكف، كي يبل شفاها * جف حرا منها الأديم الرطيب فتراءى له الحسين وأطفال * ظماء، حول الحسين تلوب فرمى الماء من يديه، وقد شاطره * في الوفا الجواد النجيب ومضى يملأ السقاء لتروى * منه أم قد جف منها الحليب وانثنى للخيام يزحف، والجيش * به سدت الربى والسهوب فطواه بسيفه، وهو غيران * وقد فاض غيظه المحجوب هزم الجانبين فانخذل القلب * وضاع النظام والترتيب وتوارت فلوله وهي تخفي * نفسها، وهو كالعفرنى وثوب فظلال النخيل أضحت مكنا * لوجوه، فيها تعيث العيوب بينها ابن الطفيل وهو شقي * كل جرم منه إليه يؤوب شهر السيف يرقب الليث، والليث * بعيد عما يروم الرقيب جذ منه اليمين، فالتقط السيف * بيسراه، والدماء تصوب منشدا: أن يكن قطعتم يميني * فهو أمر مقدر مكتوب سوف أحمي دين الهدى بيساري * فيساري لها الجهاد يطيب وإذا باليسار يجتذها نذل * فيهوي منها الحسام الخضيب ورمى عينه لعين، فغطى * نورها الجرح والدم المسكوب لم يرعه الذي جرى، حيث أن * الماء ما زال يحتويه الذنوب لهف نفسي عليه، لما رأى الماء * على الأرض من سقاه يسيب هزه منظر السقاء، وفيه * مزق من سهامهم وثقوب غار في الرمل ماؤه، فانتظار * الطفل للماء منه حلم كذوب أيها الموت أين أنت؟ فما لي * بعده في الحياة عيش رغيب وإذا بالعمود يفلق منه * رأسه، وهو ساهم مكروب فهوى للثرى، ونادى أخاه: * الوداع الوداع، حان المغيب فعدا نحوه الحسين، وفي العين * اندفاق، وفي الفؤاد شبوب
294 ورمى نفسه عليه، وللجيش * اضطراب من وضعه ووجيب ساعة توقف الزمان عن السير * ويوم على الحياة عصيب ذاك سبط النبي يحضن صنوا * وزعت جسمه الظبا والكعوب يا سماء اصعقي... فهذا مصاب * فيه أودى الاسلام سهم مصيب ثم كانت مناظر لوداع * من شجاها وجه الزمان قطوب ورثاء من الحسين، ووضع * من أبي الفضل عنه يعيى الخطيب مصرع الليث في الطفوف سيبقى * مدهشا حوله تطوف الحقوب وقال في رثاء زينب ع: يا ابنة الفجر أرسلي * آية النور في الظلم روضة أنت أنبتتها * يد الله في الرمم إيه روح الزهراء صوني الاباء * واجعلي الأرض في علاك سماء وأطلي كالفجر في ظلم الأجيال * كي تنشري بها الأضواء وتحدي يزيد في بؤرة الظلم * بعدل يعطر الأجواء واغمري المجلس الخليع جلالا * يغمر الحفل عفة وحياء وانشري روحك الندية في طي * خطاب يحفز الضعفاء وأريهم أن الحياة أفانين * وكم أعقب الصباح مساء وابعثي في السجون من عزمك * الجبار روحا يهدد الأقوياء واحملي راية الشهيد بجو * مظلم كي تفيض في ضياء وأشيري لنا من الغيب كي نجري * في ساحة الوغى شهداء نحن عدنا إلى يزيد فعودي * بيننا، وانشري علينا اللواء فعسى أن تجف منا دموع * سوف تجري على السيوف دماء وعسى أن نرد عهدا تقضى * فطوى الحب والصفا والوفاء ابعثي نغمة بها * يبعث المجد والشمم وأهيبي بعالم * يهضم الذل والألم يا أبنة المرتضى أبي القمم الشم * تقدست رفعة واعتلاء قمت والسبط في جهاد تهاوى * دونه الفكر رجفة وعياء ذاك بالنفس قد فدى الحق، أما * أنت بالصبر قد رفعت النداء أن ما شدتما به من كيان * قد تعالى على السماء علاء تتهاوى القرون حول مبانيه * وما زال مشمخرا بناء لك في كربلاء أي مقام * رفع الحق باسمه كربلاء فعلى كل قطرة من دم خلدت * للمجد دمعة حمراء أن يك السبط بالشهادة قد عاش، * فقد عشت بالأسار بقاء ذاك أدى شطرا، وأديت شطرا * من نشيد، هز القرون غناء لم يكن قتله بأكثر من سبيك * في نظرة الخلود جزاء بكما بثت الرسالة روح العزم * في أمة تضيع اختذاء وأبادت وكر الفساد لتعلي * فوقه للصلاح أفقا مضاء طاولي الشمس بالسنا * واطردي الموت بالعظم نغمة الحق أنت عطرت * بالنور كل فم أطلعي الفجر في دمشق ابنة الظلماء، * كي تمحقي به الظلماء وارفعي الحق قبة تصدع الأفق * جلالا وروعة وبهاء وضريح للحق حام عليه * حلم الشرق عزة وازدهاء ضم منك الرفاة رمز جهاد * يتباهى به الهدى خيلاء تخذ الدين منه كعبة إيمان تحج الدنيا إليه ولاء معبد للعواطف الخرس تشدو * باسمه العذب لذة وانتشاء صهرت فيه كل آمالها حتى * أحالته فتنة غراء تتباهى إيران فيه، ففيه * قد تجلى إيمانها وتراءى بقعة لم تزل توالي عليا * منذ كانت، وآله الأصفياء كشفت في دمشق منه جلالا * يكسف الشمس بهجة وسناء فاتته تسعى ومقصدها الحق * وضحت له الحياة افتداء وقال في أنصار الحسين ع ارسل الدمع هذه كربلاء * ترتمي في رمالها الشهداء فهنا يضرب الحسين خباء * ترتعي الأرض تحته والسماء في نجوم من آله، ونجوم * من رجال تزهو بها العلياء بايعوه على الشهادة كيما * تحتفي في دمائها الأجواء عارضوا البغي وهو كالليل قد مد * رواقا، دجت به الأرجاء وتنادوا باسم العقيدة فاهتزت * بها الروح حين ماج النداء تركوا عالم الفناء، وراحوا * لوجود يشف منه البقاء ركضوا للفداء مذ طلب الدين * وكل يقول: أني الفداء صفوة الله في الوجود، ولله * وجود تحيى به الأصفياء هم من الله كالشعاع من البدر * فهم في سمائه أحياء منهم الأنبياء، قد أنزل الوحي * عليهم، ومنهم الأولياء ومن الأولياء من ينصر الحق * امتثالا لم تغره الأهواء وسيوف الطفوف سلت لأمر * أصدرته الشريعة الغراء فحسين سبط النبي، إمام العصر * يعنو، لما يريد، القضاء يصدر الحكم بالجهاد لتمحى * سلطة تعتلي بها الأدعياء سمعوا دعوة الحسين فلبوها * وماجت بركبها الصحراء وتهادوا في كربلا كبرياء * فتهادت بمجدها الكبرياء فئة في الحساب تبلغ سبعين * وفي الروح أمة شماء هاجمت بالسيوف حكم ابن ميسون * وقد سلها عليه الاباء سائلوا كربلاء عنها، ففي كل * مكان، منها بها أنباء جهزوا عسكرا يقود حبيب * رتله يزدهي به الخيلاء أي شيخ فات الثمانين، لكن * روحه، يستشيط منها الفتاء هاجم الجيش مفردا بحسام * أرهفته الأحداث والأرزاء وقضى بعد ما قضى واجب السيف * وغنت ببأسه الهيجاء وأتاه زهير وهو صريع * في الثرى عنه سائلا: ما يشاء قال: أوصيك بالحسين، فدافع * عنه، فهو الوديعة العصماء هكذا كان كل فرد يرى قمته * أن تسيل منه الدماء وانظروا عابسا وقد هاجم الجيش * ففرت أمامه الأكفاء فهو ليث، والحرب غاب، وأبطال * الوغى حينما يهاجم، شاء فلذا عنه أحجمت فرق الجيش * وطاشت غاراته الشعواء وقف القرم ينزع الدرع كي ترجع * شوقا لقتله الأعداء وهنا صاح فيه من عسكر القوم * جبان، هاجت به السوداء
295 : عابس جن، قال: حب حسين * منه جنت أنصاره الأوفياء فاتته السيوف تخمد نورا * لم يزل، وهو لأهب لألاء شهداء عاشوا مع الخلد، كي تنشر * منها الظلال والأنداء تتهادى الأحرار في طرق قد * رف منهم على الحياة اللواء فعليهم تحية الروح، تندى * من شعور يفيض منه الولاء وقال فيهم أيضا: نهضة شع نورها مستطيلا * يرجع الطرف عن سناها كليلا شرعت منهج الخلود، وسنت * في خطاها إلى الرشاد سبيلا ضربت للآباء أبعد مقياس * يهز القرون جيلا فجيلا آية للولاء رتلها الدين * افتخارا بذكرها ترتيلا خرجت للخلود قافلة الايمان * تطوي على الحزون السهولا ودعت بالدموع عاصمة الدين * وسارت عنها تجد الرحيلا حضنتها الصحراء أما رؤوما * واحتوتها الرمال ضيفا جليلا قدستها الوحوش فابتعدت عن * طرق قد سرت بها تبجيلا وعليها الطيور ألقت عن الشمس * بمد الجناح ظلا ظليلا درجت في القفار تبغي مقرا * تبتغيه لركبها ومقيلا لم تجد موطنا سوى بقعة الطف * لأسد الكفاح يصلح غيلا موكب الحق حط فاهتزت الأرض * تعيد التكبير والتهليلا نزلت صفوة الوجود لتعلو * شرفا باذخا، ومجدا أثيلا تركت ذلة الحياة، وعنها * تخذت عزة الخلود بديلا شرف النفس قد أبى أن يعيش الحر * في موطن اللئام ذليلا فئة قادها الحسين إماما * سحبت في ذرى النجوم ذيولا لبست لامة الثياب، وسلت * صارما من إبائها مصقولا ومضت تطلب الممات أو العيش * كما تبتغيه غضا جميلا وقفت، وهي عدة تبلغ السبعين * ليثا من الكماة صئولا دون جيش كأنه السيل قد صب * فسد القفار عرضا وطولا ظامئات نفوسها فهي تذكو * من لظاها حماسة وغليلا وقفت موقفا سيبقى إلى الحشر * على مفرق الابا إكليلا فئة بايعت على الموت لما * وجدت مر طعمه سلسبيلا كل حر يأبى الخضوع لغير الله * قرم يرضي الحسام الصقيلا يقلق الجيش ذكره حيث كان الموت * ظلا بذكره موصولا يتحامى ماضيه عن كل نذل * فلذا يطلب الشجاع المهولا تتلقى الرقاب ضربته إذ * أصبحت للفتى الكمي دليلا وقضت بعد ما قضت واجب السيف * وأرضت عنها القنا والنصولا شهداء الابا لمصرعها التاريخ * قد عاد واجما مذهولا وقال فيهم أيضا: أحدثوا في منهج الحرب انقلابا * حينما خفوا إلى الموت غضابا هتف الدين بهم فابتدروا * يتهادون شيوخا وشبابا أفرغوا الإيمان درعا دونه * يرجف السيف ارتياعا وارتيابا عقدوا الحق لواءا خافقا * ومشوا في ظله أسدا غلابا لم ترعهم سلطة البغي التي * تملأ الدنيا حروبا وحرابا زحفوا والجيش في أفواجه * مائج تحسبه بحرا عبابا أسكرتهم فكرة النصر فلم * يبصروا آلافه إلا ذبابا حولوا الأرض سماء حينما * عقدوا منها على الأفق سحابا كل فرد أمة في بأسه * يهزم الجيش إذا صال ارتهابا أن تأنى فهو ليث رابض * وإذا ما انقض ينقض عقابا أيها التاريخ حدث عنهم * وأغمر الحفل بذكراهم ملابا شهداء الحق قد شاد لهم * بأسهم في أفق المجد قبابا وثبوا للخلد أحرارا فما * وهنوا جبنا، ولا خاروا اضطرابا نزعوا الأدرع شوقا للردى * واكتسوا من حلل المجد ثيابا وجروا في حلبة الطف إلى * جنة المأوى ذهابا وإيابا بايعوا السبط حسينا واشتروا * منه تاريخا له الدهر أنابا قاوموا الطغيان إيمانا إلى * أن ذوي كابوسه العاتي وذابا هكذا المبدأ في طاقاته * يكسب النصر وأن عز اكتسابا وقفت دون ابن طه موقفا * وجد الدهر به شيئا عجابا فئة بايعت الله فما * راعها الموت وقد كشر نابا قابلت عشرين ألفا، وهي لم * تبرح السبعين عدا وحسابا هجمت باسمة في معرك * قطبت فيه المغاوير ارتعابا هزت الجيش وقد ضاقت به * عرصة الطف سهولا وهضابا زحفت ظامئة، والشمس من * حرها تلتهب الأرض التهابا ما لواها الموقف الدامي وما * صدها الجيش ابتعادا واقترابا سائل الميدان عنها، سترى * كيف أرضته طعانا وضرابا كيف حامت حرم الله فما * خدشت عزا، ولا ذلت جنابا كيف دون السبط راحت تدري * بهواديها سهاما وكعابا في جحيم الحرب حيث اشتبكت * أسيف الشوس اصطداما واصطخابا وقف السبط يصلي، واقتدت * بصلاة السبط حبا وانجذابا أصلاة الخوف، حاشاها فما * روعت، والموت منها كان قابا عرجت لله حتى لم تدع * رتبة إلا وجازتها وثابا رشقتها أسهم البغي فكم * من صريع واجه الموت احتسابا صور في معرض الخلد بها * جاوز الفن من السحر النصابا تلك أم وقفت ترعى ابنها * وهو ينصب على الموت انصبابا وفتى يهتز بشرا بينما * عرسه تبكي شجونا واكتئابا وعجوز كافح الدهر إلى * أن ذوي عودا، كما ذاب اهابا رفرفت رايته، واختال في * ظلها تحسبه ليثا مهابا وكمي روع الجيش فما * زال يدعوه، ولم يسمع جوابا فرمى الدرع، وأبدى صدره * للعدا، وأنساب للموت انسيابا صور حار بها الفن فما * رام أن يرسمها إلا وخابا
296 بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني. قال أبو الفداء في تاريخه وهو يتحدث عن احداث سنة 739: فيها في العشر الأوسط من ربيع الآخر توفي السيد الشريف بدر الدين محمد بن زهرة الحسيني نقيب الاشراف وكيل بيت المال بحلب. ومن الاتفاق أنه مات يوم ورود الخبر بعزل ملك الأمراء علاء الدين الطنبغا عن نيابة حلب وكان بينهما شحناء في الباطن. كان السيد رحمه الله حسن الشكل وافر النعمة معظما عند الناس شهما ذكيا. وجده الشريف أبو إبراهيم هو ممدوح أبو العلاء المعري. كتب إلى أبي العلاء القصيدة التي أولها: غير مستحسن وصال الغواني * بعد ستين حجة وثمان ومنها: كل علم مفرق في البرايا * جمعته معرة النعمان فاجابه أبو العلاء بالقصيدة التي أولها: عللاني فان بيض الأماني * فنيت والظلام ليس بفاني ومنها: يا أبا إبراهيم قصر عنك الشعر لما وصفت بالقرآن محمد جواد دبوق ابن الحاج حسن. ولد في صور سنة 1899 م وتوفي في بيروت ودفن فيها سنة 1976 م كان من ضباط الدرك اللبناني وبلغ فيه رتبة عميد وكان ينظم الشعر فمن ذلك قوله: من للمحب نأى حبيبه * واشتد من وجد نحيبه هل للدموع مكفكف * والقلب هل يطفى لهيبه قلب يقلبه الأسى * والشوق من حر يذيبه يمسي ويصبح والجوى * والهم والبلوى نصيبه عز الدواء لدائه * هيهات يسعفه طبيبه وقوله: إذا عضدك الدهر الخئون بنابه * وضاقت بك الدنيا وفاتك ما ترجو فاحمد المبعوث والليث حيدر * وفاطم وابناها تمسك بهم تنج الشيخ محمد بن محسن المقابي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان هذا الشيخ فاضلا فقيها، إماما في الجمعة والجماعة وهو أول من صلى الجمعة في البحرين بعد افتتاحها في الدولة الصفوية، وله كتاب في الخطب لم يعمل مثله، قاله الحر في أمل الآمل. الشيخ محمد بن سعيد المقابي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: أصلا ومنشأ والخطي فرعا ومولدا كان من المتكلمين له كتاب في المنطق كبير لم يعمل مثله وله شرح على دعاء الصباح وله حاشية على التجريد وغير ذلك من الرسائل أخذ العلم عن شيخنا نوح بن هاشل وعن الشيخ الكامل صلاح الدين الشيخ ياسين البحراني مات سنة 1125. الشيخ محمد بن يوسف البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: قال جدي في اللؤلؤة عند ذكر هذا الشيخ ما نصه: ماهر في العلوم العقلية والفلكية والرياضية والهيئة والهندسة والحساب والعربية وعليه قرأ والدي أكثر العلوم العربية والرياضية وقرأ عليه خلاصة الحساب وأكثر شرح المطالع وتمم الباقي من المطالع بعد الشيخ المزبور على أستاذه الشيخ سليمان بن عبد الله المتقدم ذكره ثم لازم بقية عمره في باقي العلوم من الحكمة والفقه والحديث والرجال ولم ينقل الشيخ محمد المذكور شيئا من المصنفات، توفي 758 ه. الشيخ محمد بن الحاج يوسف الأمير زيدي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: وكان من أدباء البحرين وشعرائها له رسالة في البديع ورسالة في العروض وله كتب في القصائد والمراثي ومن قصائده الفاخرة في وفاة علي ع: مدامع عيني سكبها لا يفتر * وأحزان قلبي نارها تتسعر وحزني طويل دائم ومؤبد * ودمعي مدى الأيام يهمي ويقطر فلا مدمعي يطفي لنيران لوعتي * ولا حزني يفنى ولا الوجد يفتر بكيت وأحييت البكا لا لمعشر * أصابهم للبين سهم يدمر ولكن بكت عيني لمولاي حيدر * ومصرعه منه الجبال تفطر إلى أن قال: فها أنا أرثيه وأبكي لشجوه * وقلبي حليف الحزن والعين تسهر وأني بتوفيق ألا له منظم * لمقتله وهو الحليم المدبر وبالجملة فمدائحه كثيرة وأشعاره بين أرباب المراثي شهيرة ولا يحضرني الآن تاريخ وفاته رحمة الله عليه. الشيخ محمد بن الشيخ يوسف صاحب الحدائق من آل عصفور. قال في تاريخ البحرين المخطوط: قال صدر الدين الحسيني في تاريخ فارس في حالات علماء آل عصفور الذين جاوزوا الفسا وشيراز قال: ومنهم العلامة الأوحد الشيخ محمد البحراني من آل عصفور نجل المرحوم المبرور الشيخ يوسف صاحب الحدائق وهو أحد المجتهدين في علوم الدين وغيرها من فنون العلوم خصوصا في الفقه والأصلين حتى لقبه علماء عصره بابن الفقيه. وكان تولده في البحرين. ومات قدس سره سنة 1220. فأقول: وهذا الشيخ كان من أعيان هذه الطائفة وفضلائها أخذ عن أبيه صاحب الحدائق ثم رحل من البحرين إلى فسا مع أبيه بعد الوقعة التي قد ذكرناها آنفا ووصل فيها إلى درجة الاجتهاد وانتهت إليه رئاسة العلم في زمانه في تلك النواحي وشدت إليه الرحال وكان أعجوبة زمانه في استحضار النصوص وكلام الأصحاب وله المصنفات الفائقة التي حقها أن تكتب بماء الذهب لما فيها من النفائس البديعة والتدقيقات النفيسة. وله فتاوى كثيرة جمعها ولده الشيخ محسن في ثلاثة مجلدات. ومن تأليفاته كتاب: السر المكتوم وكتاب شرح البلغة في الرجال وخائص الجمعة ورسالة في معنى قوله ع: الحقيقة نور أشرق من صبح الأزل فتلوح على هياكل التوحيد آثاره. ورسالة في بيان: أن الأعمال بالنيات. ورسالة في العدالة. ورسالة
297 في الجرح والتعديل. ورسالة في عدد الكبائر. وكتاب الرعاية في علم الدراية. قاله الميرزا محمد النيشابوري في حاشية قلع الأساس ورثاه الكامل الأديب والعالم الأريب وحيد عصره والأوان شيخنا الحاج هاشم بن حردان الكعبي: كيف تبقى لنا وأنت العماد: وتوفي وتكمد الحساد أو يعود الزمان مغتبط العيش * وتقضي بغيظها الأصداد وسجايا زمانك النقص فمن أين * يرجى من عنده الازدياد تبتغي في الزمان ذخرا وفخرا * والقصارى القبور والإلحاد لم يعطى الندا وتسعى المساعي * ويؤم العلا بها ويساد لم تبن القصور محكمة الأركان * يعلى لها البنا ويساد إلى أن قال: لم ينتاب ماجد لعطاء * لم تحيى برفده الوقاد لم يستنكف الأبي من الذل * وتأبى الدناءة الأمجاد إلى أن قال: كل يوم يخر للأرض طود * لا تداني جلالة الأطواد طال حمل الثرى باهل المعالي * ليت شعري متى يكون الولاد إلى أن قال: زين أهل التقى وركن المعالي * وعماد الورى ونعم العماد إلى أن قال: أن تكن في الثرى غربت فلم يغرب * عن الكون نورك المستفاد إلى أن قال: أو طواك الردى ففي كل يوم * لك من فعلك الجميل معاد كنت شمسا للمساكين وبدرا * بك يجلى العمى ويهدي الرشاد فملأت الهدى سرورا كما قد * بات يطوى بحزنه الألحاد لبكتك العلوم تغرق فيها * شهم فكر لم يخط منه المراد والمباني تجيدها بمقال * زانه الانتقاد والافتقاد وفروع شريفة وأصول * قررتها أدلة واعتقاد وقضايا قد أشكل الحكم فيها * وأبى طرف ناظريها الرقاد يا لقومي لحادث عم دين الله * فانهد ركنه والعماد لرزايا حلت بدار المعالي * فالمعالي لباسهن سواد كيف قرت شقائق الفحل قسرا * وهو ذاك المزمجر المرعاد وعلى الحملة فهذه القصيدة طويلة أخذنا منها موضع الحاجة. السيد محمد عباس الموسوي الجزائري اللكهنوي. مرت ترجمته في الصفحة 411 من المجلد السابع ونزيد عليها ما يلي مكتوبا بقلم حفيده السيد طيب آقا الموسوي الجزائري: خلف سبعة أولادهم: السيد محمد، السيد حسن، السيد حسين، السيد أمير حسين، السيد نور الدين، السيد محمد علي، السيد أحمد علي. وتوفي السيد أمير حسين شابا بلا عقب، وكان السيد محمد أكبرهم وهو عالم شاعر، كان أولا إمام الجمعة والجماعة في أكبرآباد آكره ثم انتقل إلى عظيم آباد بتنه مشتغلا في ترويج الدين وإمامة جماعة المؤمنين وكان له خبرة في الطب أيضا. له من المؤلفات: 1 الشريعة السهلة عربي. 2 رسالة راحت رسا. 3 زاد عقبى، مثنوى فارسي. 4 باع مؤمنين، مثنوى. 5 رقعات فارسي. 6 نان وكباب، مثنوى. 7 شمس الضحى، مثنوى. 8 حالات أنبياء. 9 مجموعة القصائد. 10 كتاب المسائل. 11 جوهر شب جراع، مثنوي. 12 رشك بوستان، مثنوي. 13 گلشن هدايت، مثنوى. توفي في عظيم آباد بهار عام 1313 ه. وخلف ولده زين العابدين. وكان عالما، أديبا فاضلا، ولد عام 1280. تلمذ لأبيه، ولتاج العلماء السيد علي محمد، وألف كتبا منها: منابع الإفاضات في الجهر والاخفات، فقه استدلالي توفي شابا بعد مدة من وفاة أبيه. والسيد حسن هو الولد الثاني، تولى منصب إمامة الجماعة من راجه أمير حسن خان، توفي سنة 1330 في مدينة فتح پور بسوان الهند. والسيد حسين صابر نور العلماء هو الولد الثالث ولد في كبر سن أبيه ففرح بميلاده وقال: بشرت على كبر سني * بوليد أنسى الأحزانا فاقر الله به عيني * إذ كنت هجرت الأوطانا أرخت له في مصراع * هو مولود في رمضانا توفي غريقا قرب مدينة كلكتة سنة 1306 وبعد شهور من وفاته توفي أبوه محزونا عليه. والسيد نور الدين هو الولد الرابع. كان عالما شاعرا أقام مدة في مدينة حيدرآباد الهند له عقب فيها توفي بمدينة لكهنؤ عام 1330. والسيد محمد علي الجزائري هو الولد السادس ولد يوم 13 رجب سنة 1298 ه كان عالما، فقيها، شاعرا، أديبا. درس المقدمات في مدرسة مشارع الشرايع في لكهنؤ، وحضر مجالس درس أساتيذ وعلماء وقته كالسيد نجم الحسن، وجعفر حسين، ورضا حسين، ومحمد مهدي، حتى فرع من السطوح وهو في السادسة والعشرين. ثم سافر إلى العراق فبقي هناك ست سنين وحضر دروس العلمين الكاظمين الخراساني، واليزدي، وأبي القاسم التبريزي بن محمد رضا، والشيخ حسين، والسيد محمد باقر حجة الاسلام، والشيخ علي المازندراني، والشيخ ضياء الدين العراقي، ثم رجع إلى لكهنؤ الهند وصار فيها مرجعا للتقليد، واشتغل في التدريس أعواما حتى خرج من حوزة درسه أعلام، منهم: 1 السيد علي نقي النقوي. 2 السيد محبتي حسن الكامون فوري. 3 السيد أصغر حسين مؤلف نقد الشعر. 4 الشيخ محمد بشير الأنصاري. 5 الميرزا يوسف حسين. 6 السيد ثمر حسن. ومن تآليفه رسالة في الأصول ألفها في النجف الأشرف، والتحفة الرضوية في الأدب. كانت له قريحة في نظم الشعر العربي والفارسي والأردوي مرت له ترجمة مستقلة في المجلد الأول. توفي عام 1360 ه في مدينة لكهنؤ الهند وخلف ولدين السيد طيب، والسيد طاهر، توفي الثاني شابا بلا عقب.
298 والسيد أحمد علي هو الولد السابع ولد سنة 1303 وسافر إلى العراق سنة 1318 درس السطوح على الشيخ ضياء الدين العراقي وحضر الدروس الخارجية للميرزا محمد حسين الخليلي، والعلمين الكاظمين الخراساني واليزدي، ثم رجع إلى الهند فكان مرجعا للتقليد ورئيسا لمدرسة مشارع الشرائع التي تخرج منها وكان شاعرا بالعربية كوالده. طبعت له: موعظة فاخرة ورسالة عملية. توفي سنة 1388 في لكهنؤ ولم يخلف غير بنت وترك تلامذة كثيرين منتشرين في البلاد. هذا ما كتبه لنا حفيد المترجم ونضيف نحن إليه ما يلي: أن أشهر أحفاد المفتي محمد عباس اليوم هو: السيد طيب بن محمد علي بن محمد عباس. ولد عام 1344. درس العلوم العربية والفارسية على أبيه وعمه ثم سافر إلى العراق عام 1367، فدرس السطوح على السيد أبي القاسم الرشتي والشيخ محمد الأردبيلي والسيد محمد جعفر الجزائري وحضر خارجا عند السيد حسين الحمامي والميرزا عبد الهادي الشيرازي والسيد محسن الحكيم والسيد أبي القاسم الخوئي والسيد محمود الشاهرودي والسيد محمد جواد التبريزي. وفي النجف الأشرف ألف كتاب اللمعة الساطعة في تحقيق صلاة الجمعة الجامعة طبع هناك سنة 1374، واشتغل في النجف الأشرف بتدريس الطلاب سطحا وخارجا فتخرجوا عليه فقها وأدبا وهم ما بين عرب وفرس وباكستانيين. ثم سافر إلى كراتشي سنة 1368 وأنشأ هناك مدرسة الواعظين ثم سافر إلى لاهور وصار هناك إمام الجمعة وأسس مؤسسات كثيرة في أنحاء البلاد، منها: مؤسسة داعيان الخير في كراتشي، ومؤسسة علوم آل محمد في لاهور ثم انتقل إلى مدينة قم في إيران فتوطنها ولا يزال فيها. وزرناه هناك سنة 1408، كما كنا زرناه في مدينة لاهور. له من المؤلفات: 1 إسلام كي آواز اردو. 2 اللمعة الساطعة في تحقيق صلاة الجمعة الجامعة، عربي. 3 أبو تراب در نظر أم المؤمنين وأصحاب اردو. 4 أبو تراب بر مسند قضا وفصل خطاب اردو. 5 آفتاب شهادات اردو. 6 تاريخ كربلا ونجف اردو. 7 ميراث بيوه اردو. 8 خطبة معاوية بن يزيد عربي واردو. 9 زينت جانماز عربي واردو. 10 ترجمة بحار الأنوار سوانح كربلا اردو. 11 ترجمة بحار الأنوار سوانح الشام اردو. 12 ترجمة بحار الأنوار سوانح الزهراء اردو. 13 خدائي تلوار در حالات مختار اردو. 14 ترجمة منتخب الرسائل اردو. 15 تحفة الأطفال اردو. 16 مقصد حسين اردو. 17 سفير حسيني اردو. 18 وجوب اجتهاد اردو. 19 صحابيت كاصحيح تصور اردو. 20 المقدمة والحواشي على تفسير القمي عربي. أما غير المطبوعة فهي: 21 دروس النهاية في شرح الكفاية عربي. 22 عمدة المطالب في شرح المكاسب عربي. 23 قانون إسلام اردو. 24 تفسير القرآن عربي. 25 تفسير القرآن اردو. 26 تفسير القرآن فارسي. 27 آداب أكل وشرب اردو. 28 حكمت كي موتى اردو. 29 شمس المشرقين در شهادة إمام حسين اردو. 30 أحسن المقالات اردو. 31 أحكام شريعت اردو. 32 الكشكول عربي فارسي. 33 شهاب ثاقب، في رد القاديانية اردو. 34 كتاب انجليسي اسمه: مشايخه في الإجازة: السيد محسن الحكيم، السيد أبو القاسم الخوئي، السيد أحمد علي، السيد شهاب الدين المرعشي. الشيخ محمد علي الشهير بالملا علي البرغاني بن الشيخ محمد بن الشيخ محمد تقي بن الشيخ محمد جعفر بن الشيخ محمد كاظم. عالم حكيم متكلم شاعر مؤلف مكثر، ولد في برغان سنة 1175 وتوفي فيما بين الطلوعين من يوم الأحد 12 ربيع الثاني أدرك الآغا باقر البهبهاني ثم تخرج على الشيخ جعفر النجفي صاحب كشف الغطاء والشيخ الميرزا أبو القاسم القمي صاحب القوانين والشيخ أحمد الأحسائي، وأخذ الحكمة والفلسفة عن الآخوند ملا علي النوري المتوفى سنة 1246 وأخذ الحديث والعلوم الغريبة من الميرزا محمد الأخباري ولازم أستاذه الأحسائي سنين وأجيز منه بإجازة مفصلة والإجازة، بخط المجيز موجودة عندنا. ثم تولع بالفلسفة والعرفان فجد فيها وأتقنها وتولى التدريس والفتوى في كل من كربلاء والنجف وكرمانشاه وقزوين ورأس. وقد ترك مؤلفات أشار إلى بعض منها شيخنا الأستاذ في أبواب الذريعة وذكر الميرزا محمد حسن خان اعتماد السلطنة في كتابة المآثر والآثار ص 144 الطبعة الحجرية معبرا عنه بأنه من أعاظم علماء الشيعة في العصر القاجاري. مؤلفاته: 1 أسرار الحج. 2 أسرار الصلاة. 3 الاعتقادات. 4 تذكرة العارفين. 5 الحق اليقين. 6 حياة الايمان في العرفان. 7 رموزات العارفين. 8 روضة الأصول. 9 رياض الأحزان في 12 مجلدا. 10 رياض الكونين. 11 الصراط المستقيم. 12 صوت الايمان. 13 ضوابط الأصول. 14 طور سيناء. 15 عدم جواز تقليد الميت. 16 غرائب الأسرار. 17 غنائم العارفين في تفسير القرآن المبين. 18 فردوس العارفين في بيان أسرار آل طاها وياسين. 19 لسان العارفين مطبوع. 20 گلزار أسرار. 21 مشكاة العارفين في معرفة أصول الدين. 22 معراج العارفين. 23 منهج السالكين. 24 إشارات عبد الله. 25 جنة الرضوان: وهو ثامن مجلدات الكتاب رياض الأحزان. 26 زاد العابدين ليوم الدين. 27 مصباح السالكين ومرقاة المتقين. 28 مصباح المؤمنين في سنن أهل البيت الطاهرين. 29 هموم العارفين وإكسير الصادقين. 30 مجمع المسائل في شرح المختصر النافع (1). الشيخ محمد الفاضل القائيني. ولد في قرية من أعمال مدينة قائن حوالي عام 1305 وتوفي في مدينة
(1) الشيخ عبد الحسين الصالحي. 299 قم سنة 1405 وكان والده الشيخ عبد الكريم من أهل العلم والفضل. وبعد أن أكمل الدروس الابتدائية في قريته، وتعلم القرآن وبعض ما لا بد منه حضر عند أحد العلماء في قرية مجاورة لقريته. ثم سافر إلى مدينة قائن حيث كان يوجد فيها مدرسة علمية تسمى المدرسة الجعفرية فانتمى إليها وفي هذه الأثناء كان الحاكم لتلك المنطقة يتصرف في الأوقات على غير وجهها المشروع فاعترض عليه علماء البلدة ومنهم المترجم، فامر الحاكم بجلبه إلى مدينة بيرجند حيث يسكن الحاكم، وعند ما واجهه وعرف أن الاستنكار كان بفعل إيمان الشيخ اعتذر إليه وقدم له مبلغا وهدية رفضهما. وبعد هذا لم يستقر في بلدة قائن فسافر إلى مشهد الرضا ع وبقي مدة قليلة ثم سافر منها إلى مدينة طهران وحل فيها عدة أشهر. ثم هاجر إلى النجف الأشرف. وفي النجف حضر لدى عدة من أعلامها منهم: الميرزا حسين النائيني والسيد أبو الحسن الأصفهاني. وحضر السطوح العالية لدى السيد إبراهيم الشهير بميرزا آغا الإصطهباناتي الشيرازي 1297 1378 ه كما أنه حضر لديه خارجا في الفقه والأصول، ثم استقل بالتدريس فكان من مدرسي النجف البارزين وتخرج عليه من تولوا بعد ذلك التدريس في النجف وقم. وترك مؤلفات منها: الدرر النجفية، والوجيزة، وكتاب في المتاجر من البيع إلى أحكام الربا، وكتاب في الحج، وكتاب في الوصية، وكتاب النكاح، وكتاب في القضاء والشهادات، ورسالة في الرضاع، ورسالة في الإرث، وشرح استدلالي مختصر على العروة الوثقى للسيد محمد كاظم اليزدي وشرح استدلالي مختصر على تبصرة العلامة الحلي وكتاب جامع في علم الأصول يقع في أربع مجلدات وهذه لا تزال مخطوطة. أما مؤلفاته المطبوعة فوجيزة في علم الأصول في مسالة الترتب، وكتاب الدرر النجفية في الخمس والزكاة، وحاشية على تبصرة المتعلمين للعلامة الحلي، ومختصر الدر الثمين في معرفة أصول الدين وغيرها. تخلف بولده الشيخ علي المقيم في قم وقد درس في النجف ثم في قم. له كتاب معجم مؤلفي الشيعة، وكتاب علم الأصول تاريخا وتطورا، وهما باللغة العربية، وكتاب تدوين القرآن والحديث باللغة الفارسية وغيرها من الكتب المطبوعة. وله بعض المؤلفات المخطوطة. الشيخ محمد صالح البرغاني (1). ولد في 25 ذي القعدة سنة 1167 في مدينة برغان بإيران وتوفي سنة 1271 في كربلا ودفن في مقبرة خاصة في الرواق الغربي من الروضة الحسينية جنب الشباك المحاذي للرأس. هو ابن الشيخ محمد الشهير بملائكة ابن الشيخ محمد تقي بن الشيخ جعفر الطالقاني الموصوف بفرشته ابن الشيخ محمد كاظم الطالقاني. آل البرغاني هم من أقدم الأسر العلمية وأشهرها. نبغ منهم العديد من العلماء والفضلاء في مختلف العلوم الاسلامية. ويقال أنهم فرع من آل بويه. واشتهر هذا البيت في القرن العاشر وحتى النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري بال الطالقاني، وقد زار أحد أفاضل أحفادهم الأستاذ عبد الحسين الصالحي طالقان منذ عهد قريب فوجد على ألواح قبور رجال هذا البيت. وعلمائهم منقوش... البويهي الطالقاني، وقد هدم قسم من هذه القبور في قزوين وطالقان، ولا يزال بعضها وموقوفاتهم في طالقان وديلمان موجودا، وعند أحفادهم بعض صكوك هذه الأوقاف. وينتشر أفراد هذا البيت اليوم في كل من العراق وإيران وأوروبا وأمريكا. واشتهرت هذه الأسرة بال البرغاني في أواخر القرن الثاني عشر ومطلع القرن الثالث عشر الهجري، وأول من اشتهر منهم بالبرغاني هو الشيخ محمد المعروف بالملائكة المتوفى سنة 1200، بعد تسفيره إلى قرية برغان وفرض الإقامة الاجبارية عليه فيها ثم أصبح هذا الاسم عنوانا للأسرة واشتهروا به حين ذاعت أسماء الأشقاء الثلاثة: الشيخ محمد تقي والشيخ محمد صالح والشيخ ملا علي البرغانيين في المحافل الأدبية العلمية في العراق وإيران. وفي عام 1263 عند ما استشهد الشيخ محمد تقي البرغاني، وهو أكبر الإخوة في المحراب أثناء أداء صلاة الصبح اشتهر هذا البيت بال الشهيد وآل شهيدي، ثم تفرعت هذه الأسرة إلى الفروع الثلاثة: آل الصالحي انتسابا إلى المترجم الشيخ محمد صالح، وآل الشهيدي انتسابا إلى الشيخ محمد تقي، وآل العلوي انتسابا إلى الأخ الثالث علي، واحتفظ بعضهم إلى جانب لقبه الشهيدي بالشهيدي الصالحي، والشهيدي العلوي تفاخرا بعمهم الشهيد. وقد قال عنهم الشيخ آغا بزرگ في كتابه طبقات أعلام الشيعة: ... وهذه الأسرة من أشرف بيوت العلم، ومن السلاسل الذهبية،... التي ظهر فيها غير واحد من أعاظم الفقهاء وأساطين الدين... في العلم والزعامة والورع والقداسة... (2). وقال الدكتور حسين علي محفوظ في كتابه مجموعة تراجم العلماء، عن هذه الأسرة: آل البرغاني من البيوت العلمية العظيمة القديمة في العراق وإيران، التي خدمت العلم والدين اثنى عشر جيلا، وهم ينتسبون إلى آل بويه. أ. ه. وقد أنجبت فروع هذا البيت الثلاثة: آل صالحي، وآل الشهيدي، وآل العلوي، في كربلاء وقزوين عددا من العلماء، فصلت تراجمهم كتب الرجال المطبوعة والمخطوطة. وقد أحصى جمعا من أعلام هذا البيت بقيتهم الأستاذ عبد الحسين الصالحي وذكرهم في كتابه المسمى الشموس المضيئة. وأشار إلى أكثر من
(1) تقدمت ترجمته في الصفحة 269 من المجلد التاسع ونعيدها هنا بتفاصيل أخرى ملخصة عما كتبه أحد أحفاد المترجم الأستاذ عبد الحسين الصالحي، وهو حقق كتاب جده المترجم في الفقه وأخرجه باسم (موسوعة البرغاني في فقه الشيعة) في عدة مجلدات. كذلك نذكر هنا موجزا لتاريخ الأسرة العلمي بذكر أشهر رجالها، ملخصا ذلك كله عما كتبه الأستاذ الصالحي. (2) الشيخ آغا بزرگ الطهراني: نقباء البشر: ج 2 ص 865، والكرام البررة: ج 2 ص 66 وج 1 ص 327. 300 خمسين منهم شيخ الذريعة في كتابه الظليلة. ونعرض هنا لبعض مشاهيرهم: 1 الشيخ محمد كاظم الطالقاني، تخرج على فحول علماء عصره منهم الشيخ البهائي، والمير باقر الداماد، والمير فندرسكي، ثم انتهى إليه التدريس والفتوى في قزوين وله آثار باقية حتى اليوم منها تأسيس وبناء مدرسة النواب الواقعة في شارع بيغمبرية ويعرف في العصر الحاضر بمدرسة الإمام الصادق ع ومن مؤلفاته التكميل في بيان الترتيل، وتفسير كبير. عاصر الشيخ محمد تقي المجلسي الأول والشيخ الحر العاملي كما صرح بذلك في كتابه أمل الآمل قائلا: مولانا محمد كاظم الطالقاني أصلا القزويني مسكنا من الأفاضل المعاصرين، كان مدرسا في مدرسة نواب في قزوين، مات في المحرم سنة 1094 واستدرك صاحب الذريعة في كتابه سيرة آل البرغاني المخطوط قائلا:... أقول أن لفت النظر إلى سيرة الشيخ الحر المولود 1033 والمتوفى 1104 في القسم الثاني من كتابه أمل الآمل الذي ألفه 1097 عند ترجمته للأشخاص المعاصرين له، يرشدنا إلى أنه لا يصف أحدا منهم بكلمة مولانا إلا من كان أكبر سنا منه، وأعظم شانا وأجل قدرا، وأشهر سمعة، مثل المولى محمد تقي المجلسي، والمولى محمد باقر السبزواري، والمولى خليل القزويني، وأخاه المولى محمد باقر القزويني، والآقا رضي القزويني، والمولى محمد أمين الاسترآبادي، والمولى حسن علي التستري، وغير هؤلاء فأول ما علمنا من حال المولى محمد كاظم من توصيفه بمولانا أنه كان واحد تلك الخصوصيات وكان في طبقة هؤلاء الذين أدركوا عصر الشيخ البهائي الذي توفي 1030 وكانوا معاصرين للمولى محمد تقي المجلسي المتوفى 1070 ولعله كان مجازا منه كما أن ولده المولى محمد جعفر كان مجازا من ولده المجلسي الصغير ثم أنه صرح بأنه طالقاني الأصل من طرف آبائه وأنه أول من نزل منهم إلى قزوين ولم يصفه بأنه فاضل بل صرح بأنه كان من الأفاضل وكان مشغولا بالتدريس وتربية الطلاب في مدرسة النواب إلى آخر عمره ووفاته في 1094 (1). وذكره الميرزا عبد الله أفندي في كتابه رياض العلماء، الجزء الخامس صفحة 153، والشيخ الطهراني في كتابه الروضة النضرة في علماء المئة الحادية عشر وكتابه الظليلة المخطوطين. 2 الشيخ محمد جعفر المعروف بالفرشتة بن الشيخ محمد كاظم الطالقاني. تخرج على العلامة محمد باقر المجلسي وحاز منه إجازة مؤرخة في جمادى الآخرة سنة 1095 وأشار إلى الإجازة المذكورة في الذريعة وعبر عنه في كتابه الآخر سيرة آل البرغاني قائلا:... وأما جده الثاني فهو المولى محمد جعفر الطالقاني بن المولى محمد كاظم صرح به العلامة المجلسي المتوفى 1110 فيما كتب له من الإجازة المتوسطة التي ذكر فيها جملة من تصانيفه بقلمه الشريف، كما ذكرناها في ج 1 من الذريعة ص 150. وقد نقل صورتها عن خط المجلسي الشيخ الميرزا محمد بن رجب علي الطهراني العسكري، وأدرجها في كتابه مستدرك إجازات البحار. ويظهر من بعض القرائن أن صدور تلك الإجازة كان في أوائل أمر المولى محمد جعفر. وأنه بقي بعد هذا التاريخ سنين كثيرة حتى ولد له ابنه المولى محمد تقي الآتي ذكره فإنه توفي 1161 وكان يلقب المولى محمد جعفر بالفرشتة وهو دفين طالقان يزوره ويتبرك به أهلها... (2) له مؤلفات ومنها: كتاب فقه استدلالي معروف بفقه الفرشتة، وكتاب اشتراط الحس في الشهادة. 3 ومنهم الشيخ محمد تقي بن الشيخ محمد جعفر. تخرج على والده، وأخذ الحكمة والكلام عن الميرزا حسن بن المولى عبد الرزاق اللاهيجي القمي المتوفى سنة 1121. وغيرهما من الأعلام ثم هاجر إلى العراق، وسكن النجف الأشرف. ثم انتقل إلى الكاظمين ومنها إلى كربلاء، وسكنها مدة تصدى خلالها للتدريس. ثم اتخذ قزوين موطنا له، وقام بالوظائف الشرعية من الإمامة والتحكيم، وقد حضر مؤتمر النجف الذي عقده نادر شاه الأفشاري لتحقيق مشروعه في التأليف بين المذاهب الاسلامية ذكره شيخ الذريعة في كتابه سيرة آل البرغاني قائلا. ... أما جده الأول فهو المولى محمد تقي بن المولى محمد جعفر بن المولى محمد كاظم الطالقاني البرغاني القزويني المتوفى 1161 (3) وخلف ولدين أحدهما المولى محمد الملائكة، والآخر هو الذي سماه باسم والده محمد جعفر (4). ولم نظفر بآثار علمية لهذا الولد لكننا ظفرنا باثر باق لولده محمد علي المذكور في حرف الميم من الذريعة هكذا مصباح المؤمنين في سنن أهل البيت الطاهرين، وبيان أسرار العبادات الشرعية. والولد الآخر للشيخ محمد تقي، هو الشيخ محمد الملقب بالملائكة... (5) 4 ومنهم الشيخ محمد نعيم الشهير بملا نعيما بن الشيخ محمد تقي بن الشيخ محمد جعفر. قرأ على والده في قزوين ثم هاجر إلى أصفهان والتحق بالحوزة العلمية هناك وحضر على أكابر أساتيذها منهم الملا محمد صادق الأردستاني المتوفى سنة 1134 وبهاء الدين محمد المعروف بالفاضل الهندي المتوفى سنة 1137 ومال إلى الحكمة والعرفان فبرع في ذلك. هاجر في فتنة الأفاغنة إلى قم، ثم رجع إلى أصفهان ومنها انتقل إلى قزوين فرأس فيها.
(1) الشيخ آغا بزرگ الطهراني سيرة آل البرغاني المخطوطة. (2) الشيخ آغا بزرگ الطهراني سيرة آل البرغاني المخطوطة. (3) يقول الأستاذ الصالحي: عند عودتي من سفر الحج راجعت مرقده الشريف في موقوفات الصدر بقزوين خلف الشاهرزاه حسين فلاحظت أن صخرة قبره المطهر القديمة كان منقوشا عليها سنة وفاته هكذا (رمضان 1186) هجرية ولا أدري من أين نق شيخنا الأستاذ الإمام الطهراني عام وفاته. (4) وله ولده ثالث باسم محمد نعيم المعروف بملا نعيما وسيأتي ذكره. (5) راجع له ترجمة مستقلة في (المستدرك). 301 ووصف حاله في فتنة الأفاغنة في مقدمة كتابه أصل الأصول قائلا... هذا مع تشتت الحال وتوزع البال إذ قد وقع هذا السؤال حين جرد الزمان على أهاليه سيف العدوان، وذلك بغلبة عساكر الأفغان على بلدة أصفهان، وإهلاك من كان فيها من معظم المتوطين والسكان، وإبادة ما كان فيها وفي حواليها من البلدان، وإفناء أكثر المؤمنين، ولا سيما العشائر والأقارب والإخوان، وفراري منها إلى بلدة قم بلدة أمن وأمان حماها الله تعالى من طوارق الحدثان وآفات الأفغان، واغترابي فيها، وبعدي عن الأهل والأوطان... وتوفي بعد سنة 1180. وله مؤلفات منها: كتاب أصل الأصول الطبعة الأولى ضمن المجلد الثالث من كتاب منتخباتي از آثار حكماء الهي إيران سنة 1976 م، والطبعة الثانية في كتاب مستقل يقع في 178 صفحة العروة الوثقى في امامة أئمة الهدى في مجلد كبير في الكلام منها، حاشية على الحاشية الجليلة الجلالية وعلى الحاشية الشريفة وعلى شرح المطالع، الجبر والتفويض، كتاب القضاء والقدر، رسالة في قاعدة الواحد، تعليقات على شرح جديد التجريد، كتاب شرح الإشارات، شرح أصول الكافي، رسالة في تشكيك الوجود. قال عنه السيد جلال الآشتياني في مقدمة أصل الأصول أنه من مشاهير المدرسين في الحوزة العلمية بأصفهان في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية الشريفة... وذكر في أعيان الشيعة وفي الذريعة وطبقات أعلام الشيعة. 5 ومنهم الشيخ محمد جعفر بن الشيخ محمد تقي. تخرج على والده وعلى السيد نصر الله الحائري الشهيد في القسطنطنية سنة 1158 ويروي عنه، ثم استقر في قزوين ورأس فيها. 6 ومنهم الشيخ محمد تقي بن الشيخ محمد نعيم الشهير بملا نعيما ابن الشيخ محمد تقي. تخرج على والده ملا نعيما، وانتهى إليه تدريس الفلسفة في قزوين. 7 ومنهم الشيخ يوسف الحكمي ابن المولى الشيخ محمد تقي بن المولى ملا نعيما. تخرج على والده والشيخ محمد البيدآبادي المتوفى سنة 1197، والشيخ علي النوري المتوفى سنة 1246 وغيرهم، ثم رجع إلى موطنه قزوين وقام بتدريس الفلسفة بالمدرسة الصالحية في قزوين. ترك مؤلفات وتحقيقات منها: حواشي على الأسفار، رسالة في حدوث العالم، رسالة في القضاء والقدر، حواشي على العرشية، حواشي على المشاعر وغيرها، توفي حدود سنة 1276 عن عمر طويل. 8 ومنهم الشيخ الحكمي القزويني ابن الشيخ جعفر بن المولى الشيخ محمد تقي. تخرج في الحكمة والفلسفة على الشيخ علي النوري والشيخ إسماعيل الأصفهاني وأخذ العرفان من السيد رضي وغيرهم، ثم رجع إلى موطنه قزوين وقام بتدريس الفلسفة، بالمدرسة الصالحية لأكثر من نصف قرن. وهو الذي ناقش الشيخ أحمد الأحسائي في المسائل العقلية في المجلس الذي حضره جمع من علماء الفريقين وهو المجلس الذي انتهى بتكفير الشيخ أحمد الأحسائي. وذكره السيد جلال الدين الآشتياني قائلا أنه كان من المتبحرين في أفكار مدرسة ملا صدرا الشيرازي، وأن الأستاذين الآقا علي والآقا محمد رضا كانا يرجحانه على الحاج ملا هادي السبزواري. وسكن قزوين وكف بصره في أواخر عمره. توفي سنة 1285 عن عمر يقارب المئة العام، وترك حواشي مهمة على الاسفار وله رسالة في العرفان وحواشي على العرشية وغيرها. وكان ولده الشيخ أحمد آل الحكمي من خواص الشيخ ميرزا حسين الخليلي في النجف. ثم استقر في قزوين، وكان من أئمة الجماعة في مسجد الشاه، وشارك في الانقلاب الدستوري في إيران. 9 ومنهم الشيخ علي أصغر بن الشيخ محمد يوسف القزويني وهو ابن أخ الشيخ محمد كاظم الطالقاني. تخرج على الشيخ خليلا القزويني وأخيه الشيخ محمد باقر القزويني وآقا رضى القزويني ثم تصدى للتدريس، له مؤلفات منها شرح عدة الأصول لأستاذه ملا خليلا. وحواشي على نهج البلاغة وكتاب سفينة النجاة في الأدعية، ورموزا التفاسير، وتنقيح المرام. ذكره الحر العاملي في كتابه أمل الآمل توفي سنة 1117. خلف ولدين هما: الشيخ محمد مهدي صاحب المؤلفات منها شرح مغني اللبيب وغنية الطالب، وعين الحياة في الأدعية وغيرها. والثاني الشيخ محمد مؤمن، له مؤلفات منها شرح الزبدة للشيخ البهائي. 10 ومنهم الشيخ محمد بن الشيخ محمد تقي. أخذ الفقه والأصول من والده الشيخ محمد تقي وعمه الشيخ محمد صالح وشريف العلماء والشيخ محمد حسن صاحب الجواهر وغيرهم. وتخرج في الفلسفة على ملا آغا وملا يوسف الحكميين القزوينيين. وهو صهر عمه الشيخ محمد صالح البرغاني المترجم على ابنته قرة العين. ورزق منها ثلاثة أولاد ذكور هم الشيخ إسماعيل والشيخ إبراهيم والشيخ إسحاق. 11 ومنهم الشيخ إسماعيل بن الشيخ آقا محمد بن الشيخ محمد تقي آل قرة العين كان عالما أديبا شاعرا متكلما. تخرج على والده ووالدته قرة العين، وجده لأبيه، وجده لأمه الشيخ محمد صالح البرغاني، والشيخ محمد حسن صاحب الجواهر والشيخ مرتضى الأنصاري، والسيد حسين الكوهكمرئي. وأخذ الحكمة والفلسفة من ملا آغا وملا يوسف الحكميين القزوينيين، والميرزا عبد الوهاب البرغاني. استقر في قزوين وسكن زمانا في طهران. من مؤلفاته نوادر الحكمة، وأصول الفقه، وديوان شعر، توفي سنة
302 1302 ومر ذكره في محله من أعيان الشيعة. 12 ومنهم الشيخ إبراهيم بن الآقا محمد ابن الشيخ محمد تقي آل قرة العين. تخرج على الشيخ مرتضى الأنصاري وأخذ الحكمة والفلسفة عن الآخوند ملا آقا الحكمي وميرزا عبد الوهاب البرغاني، تصدى للتدريس في كربلا، وسكن في أواخر عمره في قزوين ومن مؤلفاته مفتاح الفقاهة. 13 ومنهم الشيخ عبد الحسين بن الشيخ ملا علي بن الشيخ محمد البرغاني القزويني الحائري آل العلوي الشهيدي. أخذ الفقه والأصول والتفسير عن والده وعمه الشيخ محمد تقي والشيخ محمد صالح البرغاني والسيد علي الطباطبائي صاحب الرياض، والسيد محمد المجاهد وشريف العلماء. وتخرج في الحكمة والفلسفة على الشيخ ملا آغا الحكمي والملا يوسف الحكمي القزويني وتولى التدريس في كربلا والنجف الأشرف، واستقر في قزوين. وتصدى فيها لتدريس الفقه والأصول والحكمة والفلسفة في المدرسة الصالحية، حتى توفي بها سنة 1292 وله مؤلفات منها نفحات الالهام في شرح شرايع الاسلام، وشرح القواعد وغيرها. 14 ومنهم الشيخ محمد تقي الفشندي ابن الشيخ محمد علي (1). 15 المولى الشيخ حمزة علي بن الشيخ محمد تقي الفشندي. ولد في قرية فشند سنة 1267، وقرأ على والده. وتخرج في الفقه والأصول على الشيخ علامة آل الصالحي، والشيخ على نقي الصالحي، والميرزا حسين الخليلي، والآخوند محمد كاظم الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي. وأخذ الفلسفة والحكمة عن الميرزا عبد الوهاب البرغاني. وفي سنة 1325 رجع من النجف إلى موطنه قزوين ورأس هناك. له مؤلفات منها، كتاب وقائع الأيام وحوادث الاسلام، ورسالة في النظام الدستوري الاسلامي، وتقريرات درسه في الفقه والأصول، وديوان شعر وغيرها. وهو والد الشيخ حسن والشيخ حسين، وكانت لهم مكتبة ضخمة في قزوين، ثم تبعثرت ومن نوادر مخطوطاتها الشاهنامة المصورة المؤرخة سنة 500. 16 ومنهم الشيخ أبو القاسم بن الشيخ محمد تقي. تخرج على والده وعمه المترجم، ثم سافر إلى النجف الأشرف وقرأ على الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر وغيره. وأخذ الحكمة والفلسفة عن ملا آقا الحكمي، واستقر في قزوين. من مؤلفاته الحق المبين، وشرح على الشرائع في مجلدين كبيرين وكانت وفاته سنة 1310، ومر ذكره في أعيان الشيعة. 17 ومنهم الشيخ محمد جعفر بن الشيخ محمد تقي. تخرج في الفقه والأصول والحديث على والده وعمه المترجم، والشيخ أحمد الأحسائي، وأخذ الحكمة والفلسفة على الآخوند الملا آغا الحكمي القزويني، وهو من مشايخ محمد خان بن كريم خان الكرماني من أقطاب الشيخية الإبراهيمية في كرمان، ويروي عنه، كما صرح في أول الكتاب المبين. من مؤلفاته تعديل العقيدة والقراءة في القراءات السبع وأسماء القراء، ميزان التلاوة فارسي ملخص كتابه تعديل العقيدة والقراءة ألفه بعد سنة 1263. توفي في كربلاء سنة 1306 ودفن بها. وكان مولده في قرية برغان (2) سنة 1167. وبعد هذا الاستعراض لأبرز رجال الأسرة نعود إلى مواصلة مسيرة المترجم الشيخ محمد صالح. دراسته درس أولا في برغان ثم في قزوين ثم في أصفهان فكان من أساتذته في أصفهان: كل من الشيخ محمد البيدآبادي والشيخ علي النوري والسيد محمد مهدي الأصفهاني. ثم انتقل إلى كربلاء والنجف والكاظمية فكان من أساتذته فيها: الشيخ باقر البهبهائي والسيد حسين المعصومي والسيد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء والشيخ عبد الغني القزويني والسيد مهدي الشهرستاني والسيد علي الطباطبائي صاحب الرياض والسيد عبد الله شبر والسيد محمد المجاهد والنراقي. استقراره في كربلا تنقل بين كربلاء والنجف وقم وخراسان وطهران. ثم نفاه فتح علي شاه من إيران إلى العراق، ومنه قصد الحج فسكن الحجاز سنين ثم رجع إلى العراق فأقام في النجف ثم رافق الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء إلى إيران حيث تشفع له الشيخ عند الشاه فوافق على بقائه في إيران على أن لا يسكن طهران فأقام في قزوين. وعلى أثر أحداث سنة 1263 عاد إلى كربلا واستقر فيها حتى وفاته. قزوين بين الأخباريين والأصوليين وبمناسبة الحديث عن المترجم وذكر مدينة قزوين نشير هنا إلى ما ورد في سيرة المترجم في كتاب موسوعة البرغاني الفقهية عن الخلاف بين
(1) راجع له ترجمة مستقلة. (2) برغان: قصبة من ضواحي مدينة كرج التابعة للعاصمة طهران ولها طريق خاص من كرج عبر كمال آباد حوالي 17 كيلو متر ومن الطريق العام طهران قزوين 244 كيلو مترا من جهة الشرق للشارع العام وتقع في سفح جبال سلسلة ألبرز الشامخة، وهي مركز لأربعة عشر سكانها في الصيف إلى أكثر من ثلاثة وأربعة أضعاف هذا العدد، وتعتبر من أحسن مصايف العاصمة طهران. (3) يبدو أن الذين اغتالوه كانوا من جماعة الشيخية. 303 الأخباريين والأصوليين في قزوين، فقد ذكر محقق الكتاب أن قزوين في القرن الثاني عشر كانت منقسمة إلى فريقين: أخباريين وأصوليين وأنه كانت للأخباريين قوتهم، وكان يفصل بين الفريقين نهر السوق رودخانه بازار، فالقسم الغربي من المدينة كان للأخباريين، والقسم الشرقي كان للأصوليين. وأن الصراع بين الفريقين كان عنيفا حتى أن الطالب الأخباري كان لا يحمل مؤلفات الأصوليين إلا بمنديل حتى لا تتنجس يده من ملامسة جلد الكتاب اليابس. وأن الأخباريين كانوا من تلامذة وأنصار الشيخ خليل القزويني المتوفى سنة 1089 وكان إخباريا متطرفا. ويرى الكاتب أن رجوع الشيخ يوسف البحراني عن اخباريته، أو على الأقل اعتداله فيها يعود إلى أنه زار قزوين وجرى بينه وبين الشيخ محمد الملائكة والد المترجم مناظرة في اجتماع كبير بمحضر من علماء الفريقين اشترك فيها الجميع. وأنه كان من نتيجة هذا الاجتماع وما جرى فيه حدوث بلبلة عظيمة في قزوين، أخذت تتوسع وتتصاعد حتى عمت سواد الناس من الفريقين. وقد أدت إلى هجوم الأخباريين على دار الشيخ محمد الملائكة لاغتياله فلم يظفروا به، ولكن احترقت داره وفيها مكتبته، وأدى الأمر إلى أن نفت الحكومة الشيخ محمد من قزوين إلى برغان. وكان البرد قارسا في الطريق فمات أطفال الشيخ دنقا، ثم رزقه الله غيرهم في برغان كان منهم المترجم الشيخ محمد صالح. وأن انقساما آخر حصل في قزوين بعد ذلك بين أنصار الشيخ أحمد الأحسائي وخصومه انشطرت فيه المدينة شطرين وحاول المترجم في أول الأمر أن يكون محايدا وأن يصلح بين الفريقين، ولكن جرفه التيار أثر انعقاد اجتماع عام في منزل شقيقه الشيخ محمد تقي، تكلم فيه باسم الأحسائيين الشيخ أحمد نفسه، وباسم خصومهم الشيخ آغا الحكمي والشيخ يوسف الحكمي، وانتهى الاجتماع بتكفير الشيخ أحمد. أولاده ترك من الأولاد 1: الشيخ محمد ولد في كربلا حدود سنة 1205، وتخرج على والده وعمه الشيخ محمد تقي، والسيد علي الطباطبائي الحائري، صاحب الرياض، والسيد محمد المجاهد، وشريف العلماء، وقتل في ساحات القتال، في أوائل الحرب الإيرانية الروسية سنة 1240، ونقل جثمانه إلى قزوين، ودفن فيها. وهو غير شقيقه وسميه الشيخ محمد الملقب بكاشف الأسرار الآتي ذكره. 2: الشيخ عبد الوهاب تخرج في الفقه والأصول على والده، وعمه الشيخ محمد تقي، وقرأ أيضا على السيد محمد المجاهد، وشريف العلماء، وصاحب الجواهر. وحضر في الحكمة والفلسفة درس الملا علي النوري المتوفى سنة 1246 وبعد وفاته التحق بحوزة الملا آقا الحكمي القزويني ويعد من الطبقة الأولى من تلامذته. توفي في 25 ذي الحجة الحرام سنة 1294، ودفن في المقبرة العائلية قرب والده. له مؤلفات منها: 1 خصائص الأعلام في شرح شرائع الاسلام: في خمسة عشرة جزءا ضخما. 2 مخازن الأصول: في عشرين مجلدا ضخما في علم أصول الفقه. 3 ديوان شعر. 4 شرح على العرشية لصدر المتألهين الشيرازي. هبط طهران في الأواخر فكان من كبار المراجع إلى أن توفي فيها. 3: الشيخ حسن تخرج في العقليات على المولى علي النوري، والمولى ملا آقا الحكمي القزويني، وحضر في الفقه والأصول على والده، وعمه الشيخ محمد تقي وصاحب الجواهر، واختص بالشيخ مرتضى الأنصاري، ثم هاجر إلى الحجاز، وبعد مناظرة بينه وبين بعض الشيوخ في المدينة، فاجأه من ضربه على رأسه ليلا فتوفي في اليوم الثاني، وذلك سنة 1281. له مؤلفات في الفقه والأصول، ومناسك الحج، وحاشية على رسائل ومكاسب أستاذه، في أربع مجلدات ضخمة. 4: الشيخ حسين تخرج في الفقه والأصول على والده، وعمه، وحضر في كربلاء على السيد إبراهيم القزويني، صاحب الضوابط، وفي النجف على صاحب الجواهر، والشيخ مرتضى الأنصاري، وتتلمذ في الحكمة والفلسفة على ملا آقا الحكمي القزويني، ثم استقر في قزوين وتصدى للتدريس في المدرسة الصالحية، له مؤلفات في الفقه والأصول، منها: منهج الرشاد في شرح الارشاد. 5: الشيخ رضا: تخرج على والده، وعمه، وصاحب الضوابط، وصاحب الجواهر، والشيخ مرتضى الأنصاري. من مؤلفاته: مصباح الأصول، رسالة في الرضاع، رسالة في النذر، روح النجاة في الكلام والإمامة. توفي بكربلاء سنة 1308. 6: الشيخ محمد الملقب بكاشف الأسرار. ولد في قزوين سنة 1240 وتوفي حدود سنة 1294. تخرج على والده وعمه الشيخ محمد تقي وهاجر إلى العراق فالتحق في كربلاء بحوزة السيد إبراهيم صاحب الضوابط وفي النجف بحوزة الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر وغيرهم، وأخذ الحكمة والفلسفة من الملا آغا الحكمي القزويني. له رسائل في الفلسفة، وتفسير آية الكرسي. 7: الشيخ موسى: تخرج في الفقه والأصول على والده، وعمه الشيخ محمد تقي والشيخ مرتضى الأنصاري في النجف، وتتلمذ في الحكمة والفلسفة على المولى ملا آقا الحكمي القزويني وتولى التدريس في المدرسة الصالحية في قزوين. من مؤلفاته: أسرار التنزيل في تفسير القرآن في مجلدين ضخمين. توفي سنة 1298. 8: الشيخ محمد علي: تخرج على والده وشقيقيه الميرزا عبد الوهاب، والشيخ حسن، وتتلمذ في العقليات على المولى ملا آقا الحكمي القزويني وتولى التدريس في المدرسة الصالحية بقزوين، وهو زميل السيد جمال الدين الأسد
304 آبادي المعروف بالأفغاني، في المدرسة الصالحية، وكان بينهما علاقات وثيقة، ثم التحق بالأفغاني حينما كان في الهند. من مؤلفاته: أصول الفقه في مجلد واحد. توفي سنة 1315. هؤلاء أولاد المترجم الذكور، أما بناته فاشتهرت منهن: زرين تاج المكناة بأم سلمة والشهيرة ب قرة العين وهذه تحتاج إلى دراسة مستقلة مستفيضة لما كان من شانها في حوادث البابية وعلاقتها بدعوتهم وانتسابها إليهم. ويصفها الأستاذ عبد الحسين الصالحي أحد أحفاد المترجم بأنها كانت عالمة فاضلة، محدثة فقهية أديبة كبيرة، حافظة للقرآن عالمة بتفسيره وتأويله متكلمة خطيبة. ونقول: انها أضاعت ذلك كله بانتسابها إلى البابية. تزوجها ابن عمها الشيخ محمد إمام الجمعة، ورزقت منه ثلاثة أولاد ذكور كلهم من العلماء وهم الشيخ إبراهيم، الشيخ إسماعيل، الشيخ إسحاق. ويقول الأستاذ الصالحي عن بقية بناته الأخريات: الحاجة نركس: فقيهة محدثة حافظة للقرآن، أديبة شاعرة. والحاجة زهراء: محدثة، حافظة للقرآن أدبية شاعرة فقيهة مفسرة. والحاجة فاطمة: مفسرة محدثة حافظة للقرآن فقيهة أديبة كبيرة. الشيخ محمد قاسم الحسيني العاملي. قال في تكملة أمل الآمل: عالم فاضل جليل من المعاصرين للسيد نصر الله الحائري الشهيد، ويوجد في ديوان السيد المذكور قصيدة في مدح صاحب الترجمة يذكر ما أصابه في وقعة ذهب فيها ماله وكلم وجهه وساءت أحواله. ثم يقول صاحب التكملة أنه ربما كان ذلك في فتنة الجزار. الشيخ محمد بن علي البغلي (1). أحد شعراء القرن الثالث عشر الذين نبغوا في الأحساء، وكان عالما فاضلا أديبا شاعرا، كما أن له يدا في الطب، وكانت له به شهرة. ولد في مدينة الهفوف عاصمة الأحساء، ولم نقف على تاريخ لولادته كما لم يؤرخ لوفاته، والمستفاد من شعره أنه كان حيا سنة 1245، فقد حملت بعض قصائده هذا التاريخ لسنة النظم كما هو مثبت في ديوانه المخطوط الذي عثرنا عليه في الأحساء. كانت دراسته الأولى في الأحساء وفي شعره ما يدل على إقامته في النجف الأشرف فلا بد أنه قصدها للدراسة، ولكن ليس لدينا تفاصيل عن ذلك. قال وهو يشير إلى توجهه إلى زيارة الامام أمير المؤمنين ع: أمير المؤمنين إليك أشكو * وليس عليك يخفى ما عراني أتيتك أقطع البيداء ركضا * وحاشى أن يخيب لديك عاني فكن لي سيدي غوثا وعونا * وخذ بيدي من نوب الزمان وله أبيات أخرى يشير بها إلى تغربه عن وطنه وقصده زيارة الامام ع، قال: لقد تغربت عن أهلي وعن وطني * إلى زيارة مولانا أبي حسن لعله عند رب العرش يشفع لي * يوم الحساب وعند الموت يحضرني هذا اعتقادي في سري وفي علني * وإن رجوت فشئ لست عنه وني وله قصيدة يخاطب بها الامام أمير المؤمنين ع ويذكر زيارته له، فمنها قوله: عبيدك المذنب جاء زائرا * ولائذا ومستجيرا بالنجف فامنن عليه سيدي بعطفة * فأنت خير من عفا ومن عطف كما صرح في بعض قصائده أنه نظمها وهو واقف على قبر الإمام الحسين ع. وصرح أيضا في قصيدة أخرى في رثاء العباس بن أمير المؤمنين ع أنه نظمها في كربلاء، جاء في مستهلها قوله: لمن الطلول خواشعا أعلامها قفراء كالحة الوجوه إكامها ويقول في آخرها: وإليكما يا ابن الوصي خريدة * مثل الدراري لا يرام نظامها جاءتك باسطة إليك يد الرجا * وعلى جنابك واجب إكرامها ألبستها حلل الكمال ولم أقل * أمن المعرف مكة فمقامها ونظمتها في كربلاء فأصبحت * أذكى من المسك الفتيق ختامها (2) وكانت له علاقات ودية ومساجلات شعرية مع بعض العلماء والأدباء في النجف، فقد وردت له في ديوانه قصيدة يقرظ بها أرجوزة الشيخ عبد الله الحويزي المسماة ب الكوكب الدري قال: لقد جل هذا النظم عن صفة الشعر * ولكنه الحلو الحلال من السحر ويقول في آخرها: فلا زال عبد الله شيخا مهذبا * وهمته تعلو على هامة النسر ولا زال شمسا يستضاء بنوره * وبدر علا يجلى به حندس الكفر ولا برحت أرض العراق بذكره * معطرة الآفاق باسمة الثغر وهذه أبيات جاءت في ديوانه أيضا يمدح بها أحد شعراء النجف، وهو الشيخ عبد الحسين الأعسم، بما يؤكد وجود علاقة ودية بينهما، قال: ملكت قلوب أرباب الكمال * بتعريض من السحر الحلال أتيت بكل بكر ذات حسن * على أعطافها شبه اللآلي لأنت وإن جعلت الأرض مثوى * فشأنك في سماء المجد عالي شهرته الأدبية: لقد اكتسب شاعرنا البغلي شهرة أدبية، فبالرغم من منزلته العلمية فقد كان الجانب الأدبي في حياته هو الأبرز ظهورا، ذكره جملة من العلماء والأدباء الذين عاصروه وأطروا أدبه، منهم الشيخ علي آل الرمضان، المتولد سنة 1253 ه، والمتوفى سنة 1327 ه، وكان أحد علماء الأحساء وشعرائها، له ديوان شعر لا يزال موجودا عند بعض أحفاده في الأحساء، فقد كانت لشاعرنا
(1) كتبها الشيخ جعفر الهلالي. (2) ديوان الشاعر - مخطوط -، وقد جارى فيها قصيدة الشيخ محمد رضا الأزري في رثاء العباس ابن أمير المؤمنين (عليهما السلام). 305 البغلي معه علاقة ودية وأدبية، فهذه أبيات للشيخ علي المذكور كما في ديوانه أرسلها إلى البغلي يذكر فيها ما بينه وبينه من صلة ومودة: سلام جلا محض الوداد وأغربا * وبين صدق الاتحاد وأعربا وفاح بساحات الصداقة عنبرا * ولاح بآفاق العلاقة كوكبا محمد البغلي من شاع ذكره * بأقطار أرض الله شرقا ومغربا كما ورد ذكره في غير موضع من ديوان الشيخ علي حيث قال: كان لمحمد بن علي البغلي مراث، فترك القراء قراءتها، فنظم أبياتا يشكو فيها وطلب مني نصرته فقلت: يا من أتى من شعره بعزائم * سجدت لهن مفالق الشعراء وتيقنوا أن لا سواك فوحدوا * لك مخلصين بغير شوب رياء قسما بنظمك ذلك النظم الذي * ضاعت لديه كواكب الجوزاء (1) وقد كانت لشاعرنا البغلي علاقة أدبية مع آخرين من شعراء قطره الأحساء منهم الشيخ عبد الله بن محمد بن عثمان الأحسائي، وهما بدورهما كانت تربطهما علاقة ودية مع شاعر آخر من أهل العراق في مدينة البصرة، هو السيد عبد الجليل البصري، ولم نتأكد من أسباب هذه العلاقة التي ربطت بينهما وبين الشاعر البصري، فهل زار هو بدوره الأحساء وتعرف على الشاعرين؟ أم أنه كان قد سكن الأحساء؟ أم أنهما زارا الشاعر في مدينة البصرة فتعرفا عليه...؟ والسيد عبد الجليل البصري من مواليد سنة 1776 م، وتوفي سنة 1827 م، وقد وردت في ديوان البصري قصيدة أرسلها إلى كل من الشيخ البغلي والشيخ عبد الله الأحسائي جوابا عن رسائل شعرية وردت منهما إليه وهي تؤكد تلك الصلة بين هؤلاء الشعراء الثلاثة، قال: إلى طيب ملهى للعذارى وملعب * يحن فؤاد المستهام المعذب وقد امتدح كلا منهما وأشاد بمواهبهما، فبعد أن ذكر الشيخ عبد الله قال يذكر الشيخ محمدا البغلي: ففاق بنظم لا يباريه شاعر * سوى ما أتى من نظم واف مهذب كسمط من العقيان والدر فصلت * فرائده من كل غال مثقب نظام فريد في القريض مبرز * فلم يرض من بكر المعاني بثيب وهو هنا يشير إلى ما اشتهر به شاعرنا البغلي من امتهان الطب باستعمال العقاقير، كما يشير إلى ظاهرة الولاء لأهل البيت ع عند البغلي فيقول: ذكي به علم العقاقير نير * فأصبح جالينوس في جنبه غبي هو ابن علي ذو الوفاء محمد * محب لآل المصطفى عترة النبي غدا نظمه وشي الربيع وكافلا بصدق * وداد بالولاء مطنب كما أرسل السيد عبد الجليل الجواب نثرا لكل من الشاعرين المذكورين، فقال في جوابه للشيخ البغلي: إن ألطف ما اكتحلت به الأحداق، رسائل الأشواق، إذا تكفلت بما رق وراق، مما تتحلى به الأوراق، كرسالة وردت إلينا آنفا، غدوت منها لأنوار الربيع قاطفا، رسالة من نسجت البلاغة مطارف نظامه، وتقاطرت شآبيب البراعة من شق أقلامه، صاحبنا صادق الوعد الجلي، محمد بن علي، لا زال ربيع الآداب به آهلا عامرا، يقتطف من أفنان فنونه ثمرات أفكار الأكابر... (2). كما جاء ذكر شاعرنا البغلي في كل من كشكول (3) الصائغ الأحسائي وكتاب محمد (4) بن عبد المحسن الغريب، فقد وردت له في الكتابين أبيات قالها في القهوة والغليون، قال في البن: بزغت شموس البن ذات تشعشع * كدم الغزال تضيء في الأقداح قتلت فأحيت ميت كل مسرة * بشميم طيب عرفها النفاح جليت كما تجلى العروس لزوجها * ويديرها ذو عفة وسماح وسعى بها كالبدر في غلس الدجى * والصبح مستغن عن المصباح كتب الجمال بخده من حبرها * كالمسك خالا ما له من ماح فاشرب كؤوس البن أنى شئت * إن البن للشهوات كالمفتاح ومنها في الغليون: وعليك بالتتن الندي فإنه * معها لعمرك راحة الأرواح طرقتك بعد الكاس لامعة الطلا * كالزند تقدح في يد القداح عجمية تركية عربية * خود خدلجة وأي رداح مالت لنشوتها النفوس لأنها * حلت هناك محلة الأرواح (5) اثاره العلمية منها 1 أبيات يجمع فيها أحكام المبتدأ والخبر، ويظهر أنها من أرجوزة له ضاعت، قال: مذهب سيبويه رفع المبتدا * مجردا يعمل فيه الابتدا وبعضهم يرفعه مع الخبر * به وبعض للذي قال حضر وبعضهم قال هما ترافعا * والأول المختار عند من دعا وهذه أبيات أخرى في الطب، ويظهر أنها من أرجوزة له في هذا الفن، قال: اجعل على الحزاز أني أجهدك * حنا وصبرا يعجنان بالودك والمر والترياق مع دهن البقر * للبطن والزحير والدم أن قطر أما آثاره الأدبية: فهي ديوانه الذي عثر عليه مؤخرا، وأغلبه في أهل البيت ع، والباقي منه في مواضيع أخرى، ويبلغ عدد أبياته 1035 بيتا الشعر العمودي والمربعات، والتخاميس، والرجز، ووجدت في ديوانه ما يشبه البند قاله مستسقيا، وها أنا أعرض أمام القاري بعض النماذج من قصائده، فهذه قصيدة قالها في الغزل، وتخلص فيها إلى مدح النبي
(1) ديوان الشيخ علي الرمضان. (2) ديوان السيد عبد الجليل البصري: 228 ط دمشق (المكتب الإسلامي) الطبعة الثانية. (3) هذا الكشكول شاهدت ما بقي منه في الأحساء وهو عدة أوراق مبعثرة، قد تلف أكثره. (4) هو الشيخ محمد بن عبد المحسن بن محمد بن خلف الغريب الهمداني العاملي الأحسائي، الأدب والحريصين على جمعه هناك، وهو كالكتاب السابق لم يبق منه إلا أوراق امتدت إليه يد التلف، ويظهر أنه كتاب تأريخي أدبي مزين بكثير من الشواهد الأدبية، وتتخلله تراجم جماعة من العلماء ولأدباء. (5) الأرواح هنا جمع روح: وهو نسيم الريح. 306 ص وأمير المؤمنين ع وأهل البيت ع قال: سكرنا بكأس الراح في روضة غنا * بها بلبل الأفراح والورق قد غنى ومهما سرت بين الخمائل نسمة * وهزت غصون البان والآس هزتنا وساق كمثل الظبي فينا يديرها * ويسعى بها صرفا مشعشعة دكنا سقانا وغنانا فهمنا بحبه * غراما وخلى القلب في يده رهنا فبت مع الأحباب ما بين بأنها * فأطربني المعنى وطاب لي المغنى وأحور معسول المراشف لو رنا * بمقلته رضوى لذاق كما ذقنا يسل علينا من لحاظ جفونه * سيوفا أماتتنا وإن شاء أحيتنا وشاد لو أن الراسيات سمعنه * لخرت على الأذقان شوقا لما اشتقنا يميل بنا في كل واد من الهوى * فيتركنا نشوى ولا غرو لو متنا ويتلو علينا والغرام يهزنا * أحاديث لهو أضحكتنا وأبكتنا وينشد مهما إن رأى الركب منجدا * قفوا قبل وشك البين يبعدكم عنا فيا حبذا لو نالنا فيهم الأذى * من الضد لو أنا شرقنا بما ذقنا تعيرنا قوم بحب هداتنا * ولولا رسول الله والآل ما كنا بني الوحي يا من بالقلوب لهم جوى * مدى الدهر باق لا يبيد ولا يفنى يمينا بكم انا نحب محبكم * ونبغض قاليكم وإن غبتم عنا وإن ضلت الأقوام عن منهج الهدى * فانا بكم والحمد لله أرشدنا وإن عدلت عنكم أناس فإننا * على العهد كنا لا عدلنا ولا ملنا وإن خاب من عاداكم يوم حشره * فنحن بكم دون البرية قد فزنا وإن نكثوا أيمانهم بعد عهدهم * فنحن على العهد القديم كما كنا فقل لرسول الله والحق أبلج * وبرهانه أسنى من القمر الأسنى محمد يا من جاء للناس رحمة * وعلمنا من دينه فتعلمنا أغثني وأنجز سيدي ما وعدتني * وخذ بيدي يا ذا الكرامة والحسنى رويدا ولو لوث الازار لعلنا * نودعكم فالقلب من أجلكم مضنى تراه إذا ما قام في القوم منشدا * يدير كؤوس اللفظ مملوءة معنى وبتنا على فرش المسرة والهنا * إلى أن قطعنا من لييلتنا وهنا وحوراء تصطاد القلوب بمقلة * هي السحر إلا أنها لم تزل وسنا إذا أقبلت تمشي الهوينا تعطفت * كما الغصن من هنا تميل ومن هنا أتت تسحب الأذيال والفجر ظاهر * فتمشي فرادى وهو من خلفها مثنى بدت من خلال السجف بيضاء طفلة * ومن لحظها سيفا ومن قدها لدنا مهاة أعارت ظبية البان جيدها * وعلمت الميل المثقف والغصنا تعلقها قلبي فخالط حبها * دمي فجرى دمعي عليها دما أقنى فيا عاذلي لو ذقت بعض صبابتي * عذرت وما خلو الحشاشة كالمضنى ولكنني أرجو الخلاص من الهوى * بمدح رسول الله شمس الهدى الأسنى ومدح أمير المؤمنين وزيره * وأبنائهم أكرم بهم سادة أبنا فيا سائق الوجناء تعنق في البرى * رويدا رعاك الله يا سائق الوجنا على قبر خير الرسل قف بي لعلني * أعلل قلبا بالجوى والنوى معنى وماذا على ريح الصبا لو تحملت * رسالة مشتاق إلى ذلك المغنى لأكرم مبعوث إلى خير أمة * بخير كتاب واضح اللفظ والمعنى إلى المرسل الهادي البشير محمد * أجل الورى شانا وأثبتها ركنا إلى خير خلق الله أحمدها ومن * دنا فتدلى قاب قوسين أو أدنى نبي الورى الأمي أفضل من مشى * وأشرف من لبى وطاف ومن... (1) فتى جاء بالقرآن من عند ربه * إلينا فآمنا هناك وصدقنا وعلمنا خير الورى أمر ديننا * وأدبنا حبا لنا فتأدبنا ولما مضى عنا تخلف بعده * علينا علي وهو أولى بنا منا علي أمير المؤمنين وسيد * الوصيين والساقي على الكوثر الأهنى إمام هدى تحيى القلوب بذكره * ويجلى العمى عنا بأسمائه الحسنى فتى لم تزل من زهده وعفافه * سجيته في الله لينة خشنا فتى لم يخف في الله لومة لائم * وجاهد حتى قاتل الإنس والجنا يمينا به لولاه لم ندر ما الهدى * ولكن دعانا للرشاد فآمنا فطرت على حب النبي وآله * فألفيته فرضا وألفيته حصنا جزى الله بالخيرات آباءنا على * محبتهم من حيث أوصت بها الابنا ومن أمهات طاهرات من الخنا * تؤدبنا في حبهم فتأدبنا وإني لمشتاق لتقبيل تربة * حوت منك ذاك النور أو يدك اليمنى وقال يمدح أمير المؤمنين ع: لله صب بات ساهر * والدمع من عينيه هامر لعبت بمهجته الصبابة * والهوى الداء المخامر ما جن في معشوقه * كجنونه مجنون عامر كتم الغرام ودمعه * مبد لما تخفي السرائر من لي بأغيد لؤلئي * الثغر مسكي الغدائر ومطرز الوجنات بالنعمات * مكحول النواظر ذي غرة مثل النهار * وطرة كالليل عاكر ومجرد من لحظة * ماضي المضارب وهو فاتر قمر على غصن يميس * مهفهف الأعطاف ناضر ونحيل خصر يشتكي * من ردفه والردف وافر رام النهوض فعاقه * والعجز بين الناس ظاهر ظبي مراتعه مدى الأيام * أودية الخواطر ألف التوحش والنفور * ولا يزال الظبي نافر وجفا فما هو مانحي * وصلا ولا أنا عنه صابر أخذ الفؤاد وليته * أخذ البقية وهو قادر يا قلب صادك جؤذر * يا حبذا صيد الجاذر يا أيها الليث المدرع * لا تلاق الظبي حاسر سطواته لم تغن عنهن الدروع * ولا المغافر يا قاعة الوعساء ما * فعلت ظباؤك بالقساور تركتهم صرعى وما * لهم بحكم الحب ناصر هذي سجية كل معشوق * ورب العشق صاغر جاروا علي ولم يزل * قاضي الهوى في الحكم جائر قسما بكاظمة ورامة * والعذيب وبطن حاجر ما مال قلبي عنهم * أبدا إلى باد وحاضر إلا لحب أبي تراب * قطب دائرة المفاخر نور النبوة والإمامة * والهداية والبصائر
(1) سقطت القافية: كذا في الأصل. 307 ومنزه الأعراض والأمثال عن شبه الجواهر قل لابن مكة وابن زمزم والصفا وابن المشاعر وابن الهداة الأولياء المصطفين من العشائر وابن المصونات النقيات التقيات الحرائر من آل عبد مناف أطهرهم وأطيبهم عناصر وأخي المساجد والمدارس والمحابر والمنابر وفتى الفضائل والمعاجز والدلالات البواهر زوج البتول أخو رسول الله أصفاهم سرائر التارك الأسد ابن ود فاحصا في الترب عافر ومقصر خطو النماردة الفراعنة القياصر ومكسر أيدي الغطارفة الجبابرة الأكاسر يا صاحب الأعراف والأنفال والشورى وغافر أنت السفينة والصراط المستقيم لكل عابر لولاك دارت في الوغى بالمسلمين رحى الدوائر أيام أسد قريش جاءت والعتاة من العشائر حتى إذا بلغت قلوب المسلمين إلى الحناجر وتقدمت أسد العريكة بالأسنة والبواتر وغدا الجبان مشمرا نحو الهزيمة ذيل صاغر وغدا النبي مناديا والدمع من عينيه هامر أين الفوارس والضراغم من لدين الله ناصر ودعا بمقداد وسلمان وعمار بن ياسر قال أدركوني بالوصي فجاء حيدرة مبادر قال امض منصورا إلى الميدان واقتل كل كافر فمضى يهز حسامه شغفا ونقع الحرب ثائر فتراه والهيجاء شب لهيبها كالبحر زاخر وكأنه أسد الفريسة لم يزل دامي الأظافر يلقى الأسنة باسما طربا وناب الموت كاشر أسد يمر به جواد من جياد الخيل ضامر فكأنه من تحته فلك من الأفلاك دائر فهناك كم من دارع من بأسه قد ظل حاسر وكتيبة منكوسة الأعلام كالبقر النوافر وأتى إلى نحو النبي محمد بالفتح ظافر خذها أمير المؤمنين هدية من كف شاعر وإذا قبلت فان حظ محمد لا شك وافر صلى الإله عليك ما سار الحجيج إلى المشاعر الميرزا محمد علي الحسيني الأصفهاني. توفي سنة 1302، ودفن في طهران، وهو ابن الميرزا محمد إسماعيل الأصفهاني القايني الأصل. وهو أحد العلماء وكبار الرياضيين في عهد ناصر الدين شاه، ومن تلاميذ الملا علي محمد الأصفهاني البارزين. وكان متمكنا في مجال الرياضيات القديمة والحديثة، كما كان مجيدا لخط التعليق، وبارعا في رسم الأشكال الهندسية. ولقد تتلمذ على يديه كثير من الفضلاء والأمراء في زمانه في الرياضيات. وفي مكتبة مجلس الشورى الوطني عدد من كتبه بخط يده. كان أهله من سادة قاين الأجلاء، وهاجروا إلى أصفهان وتوطنوا هناك، ومهروا في الطب. كما عرف في أسرته الشاعر والأديب والخطاط. وقد ترجم له باختصار الميرزا علي محمد صاحب المآثر والآثار. ومن مؤلفاته الخطية الموجودة: 1 رسالة الصبح والشفق، بالفارسية. 2 نهاية الايضاح في شرح باب المساحة من المفتاح، والمقصود هو مفتاح الحساب لغياث الدين جمشيد الكاشاني، بالعربية. 3 مشارق الأضواء، في الهيئة. وقد كتبه بالعربية في ثمانية أبواب. 4 رسالة الجيب والظل. 5 رسالة المسؤولات، وتشتمل على 163 مسالة صعبة من المسائل الرياضية. ويروى أن أغلبها من أسئلة تلامذته. 6 استخراج أعمال الليل والنهار. وكان من بين تلامذته النابهين الميرزا عبد الله الرياضي، وهو ابن الميرزا محمد، والذي كان كذلك من أساتذة الرياضيات، وقد توفي سنة 1311. وكان للميرزا عبد الله كذلك تلميذ ممتاز هو الميرزا أسد الله المنجم الهزار جريبي، وكان خطاطا حسن الخط بالإضافة إلى براعته في فنون الرياضيات واستخراج التقويم. الشيخ محمد كاظم بن عبد العلي التنكابني الملقب بعبد الكاظم. ولد في تنكابن، ودرس في أصفهان على كبار العلماء، واختص بالشيخ البهائي ودرس عليه بعض الكتب كما سيأتي في الإجازتين. له مباحثات علمية مع السيد مير الداماد، ذكرها بعض المؤلفين. زار العتبات المقدسة قبل سنة 1008 ه، ثم سكن مشهد الرضا ع وتوفي بعد 1033 ه. له من المؤلفات: 1 اللوح المحفوظ لأسرار كتاب الله الملفوظ في الكلام. 2 إثنا عشرية في معضلات العلوم. 3 العشرة الكاملة. 4 قانون الادراك أو برهان الادراك في شرح تشريح الأفلاك. 5 الحاشية على كتاب المحصول لفخر الدين الرازي. 6 شرح تذكرة نظام الدين. 7 شبه الطفرة. 8 حاشية على تفسير فخر الدين الرازي. 9 رسالة في حقائق سورة الفتح. 10 رسالة في أصول الدين. وكتب له أستاذه الشيخ البهائي في نهاية رسالة في أصول الدين ورسالة في حقائق سورة الفتح إجازتين: الأولى مؤرخة في سنة 1008 ه، والثانية في 1010 ه، وحررت الرسالتان في مشهد الرضا ع. والنسخة في مكتبة السيد المرعشي العامة في قم، مذكورة في فهرسها 11 248 ضمن مجموعة برقم 4250. محمد محسن بن مرتضى بن محمود الملقب بالفيض الكاشاني. ولد عام 1007، ونشأ أول أمره في مدينة قم، ثم انتقل إلى مدينة
308 كاشان، ثم إلى شيراز حيث درس على السيد ماجد البحراني والملا صدرا الشيرازي صاحب الأسفار، وتزوج ابنته. وعاد إلى كاشان وبقي فيها إلى أن توفي سنة 1091. افترق الناس في مدحه وقدحه والتعصب له وعليه فرقا. يصفه صاحب المقابس بقوله: الشيخ المحدث الأديب، والمفسر الباهر، والحكيم المتبحر الماهر، الجامع لشتات المفاخر والمآثر. ويصفه صاحب جامع الرواة بقوله: المحقق المدقق، جليل القدر، عظيم الشأن، رفيع المنزلة، فاضل كامل، أديب متبحر في جميع العلوم. الشيخ محمد محسن بن الشيخ علي العاملي. قال عنه في تكملة أمل الآمل: عالم عامل فاضل محدث رجالي فقيه. عندي من مؤلفاته كتاب مجمع الإجازات جمع فيه ثلاث عشرة إجازة من إجازات الكبار المشهورة، كإجازة العلامة لبني زهرة الكبرى وإجازة الشيخ الشهيد الثاني لابن الخازن وإجازة الشهيد الثاني الكبرى للشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائي وإجازة الشيخ حسن بن زين الدين صاحب المعالم الكبرى للسيد نجم الدين، وأمثال هذه الإجازات. جزاه الله خير جزاء المحسنين، وقد فرع من تأليفه سنة 1125 في النجف الأشرف، وهي بخطه الشريف، وهو خط في غاية الحسن والجودة ولا أعرف باقي تأليفاته ووفاته. انتهى. وهو كما ترى واحد من متقدمي العلماء العامليين الذين ضاعت آثارهم وفقدت أخبارهم، وما أكثر أمثاله من الضائعين المفقودين... ولا ندري إلى أية قرية من قرى هذا الجبل ينتمي هذا العاملي. الدكتور محمد مهدي البصير. مرت ترجمته في موضعها من الجزء الأول من المستدركات ونزيد عليها هنا شيئا من شعره: قال من قصيدة: يا صاحبي وهذي الضاد قد جمعت * أبناءها والعلى فيهم على كثب أيقدمون وهم أحمى الرجال حمى * أم يحجمون وهذا أكبر العجب فلا صغار إذا هم دونها ثبتوا * ولا فخار إذا ألووا على رغب ولن يصان لليث الغاب مربضه * من الذئاب لو أن الليث لم يثب ولا ألوم قويا في تنكره * إن قال لا حكم إلا في يد الغلب لكنما كل ذمي للضعيف إذا * رام الحياة بلا كد ولا تعب ولا حياة لنفس لا يحركها * إلى الحماسة يوما باعث الغضب لا حق للمرء في مجد يحاوله * إن شح بالنفس أو إن ضن بالنشب وقال في أعقاب مظاهرات عراقية تحدت الإنكليز سنة 1338 1920 م وأطلق فيها الإنكليز الرصاص على المتظاهرين: غضبنا فتهنا ثائرين لغاية * تهون المنافي عندها والمشانق ورددت الأجواء قصف زئيرنا * فردت عليه يا لدوي البنادق فهل تنطق الزوراء وهي أسيرة * وتسكت عما تبتغيه المناطق أتمنع أبناء العمومة نصرها * وها هي كادت أن تضيق المخانق أما لهم من حكمة الرأي قائد * وما لهم من قوة العزم سائق وقال من قصيدة: كذبتك أقطاب السياسة عهدها * فلتضمنن لك الحياة ظباكا نقضت مطامعهم صداقتك التي * من أجلها عقدت لهم أعداكا لو أنصفوك وفوا بعهدك أنهم * ربحوا قضيتهم بظل لواكا أفيطلبون لك الوصاية ضلة * ما كان أقصرهم وما أحجاكا وقال من قصيدة: خطب تهز الشعب هاتفة به * ليهب هبة ناهض سباق ويثور مشبوب العزيمة معلما * والنصر فوق لوائه الخفاق متطلعا للحق مفتديا له * أزكى النفوس وأنفس الأعلاق مستبسلا والهام تحصدها الظبا * حصد الخريف ذوابل الأوراق يبغي الحياة بثورة في ظلها * يلقى الحمام بفرحة المشتاق متكاتفا رغم المكايد واثقا * بعزيز نصر الواحد الخلاق وقال من قصيدة يصف بها الثورة العراقية الكبرى سنة 1920: بين الأسنة والقواضب * شرف المبادئ والعواقب فاض الفرات جحافلا * وجرى ديالى بالمقانب واحتلت المدن العديدة * فهي في حكم المضارب أهلا بخافقة البنود * تظل زاحفة المواكب أهلا بلامعة السيوف * كأنها الشهب الثواقب أهلا بابطال البلاد * حماتها عند النوائب دوا لنا الحق الذي * ما أن نزال به نطالب ردوه أن سيوفكم * عوذ له من كل غاضب ظنوا العراق فريسة * وقد التقت فيها المخالب ورأوه حر الرأي عف * القصد محترم المذاهب فتسلحوا لرجاله * بمكائد الخصم الموارب وسعوا لشق صفوفه * مكرا فكان السعي خائب حتى إذا ما جاش كالتيار * ملتطم الغوارب كانوا كناكصة الذئاب * يشلها الأسد المغاضب وتراجعوا من بين مقتول * وماسور وهارب وقال من قصيدة: بكيت لما انتاب البلاد وراعها * من الثكل إذ فات أحرارها النصر أما كنت تدري أن ذلك واقع * إذا فشلت في قومك الوثبة البكر فكفكف دموعا لست ممن يزيلها * لتطفئ أشجانا يضيق بها الصدر وعد بجميل الصبر أنك أهله * فما لك من شكوى يتوج بها عذر وإن أنت لم تملك دموعك صابرا * فما أنت عندي ذلك الباسلة الحر وقال: هون عليك فلا تفزعك إن طرقت * دهم الخطوب وإن جل الذي دهما فما استطالت إلى المجد الأثيل يد * لا تنتضي السيف أو لا تحمل القلما الشيخ محمد النمر بن ناصر. ولد سنة 1277 في مدينة العوامية وتوفي فيها سنة 1348. هو الشيخ محمد بن الحاج ناصر المتوفى سنة 1313 ابن الحاج علي بن
309 علي بن أحمد بن علي بن حسين بن عبد الله بن نمر بن عائد آل عفيصان من سكنة الأسلمية من قرى الخرج من نجد بالجزيرة العربية. وأسرته هي إحدى الأسر الثلاث المنتمية إلى الإخوة الثلاثة نمر وفرج وزاهر أبناء نمر بن عائد بن عفيصان وكان جدهم عائد يتردد كثيرا بين نجد والأحساء والقطيف واتفق أنه ورد العوامية من قرى القطيف فطلب من أهالي العوامية أن يزوجوه بامرأة منهم وأخبرهم أنه كان شيعيا متكتما فزوجه الشيخ محمد العرجان بنتا له فأولدها ولدا سماه نمرا ثم أولد نمر هذا ثلاثة أولاد وهم نمر وفرج وزاهر وإليهم انتسبت الأسر الثلاث المشهورة هناك حتى اليوم وقد نبغ من هذه الأسر علماء وفضلاء أعلمهم وأشهرهم الشيخ محمد النمر ومنهم أخوه الشيخ حسن المتوفى في شهر ذي الحجة الحرام سنة 1327 ودفن في البحرين ومنهم ابن أخيه الأديب محمد بن الشيخ حسن آل نمر نزيل مدينة الكاظمية المتوفى 1397 وهو أول رائد قطيفي للقصة أصدر جريدة سياسية بهلول في العراق ونشر له مجموعات قصصية ومنهم الشيخ سعود بن محمد بن سلمان بن محمد بن حسين بن صالح آل فرج المتوفى سنة 1335 ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن محسن آل فرج كان قد تتلمذ عند الشيخ النمر أيضا مدة من الزمن توفي سنة 1366 ومنهم الشيخ عبد الكريم بن حسين بن علي بن فرج بن نمر. بلدته تقع العوامية على بعد 4 كم شمال غربي مدينة القطيف وتجاورها كل من القديح جنوبا وصفوى شمالا والأوجام غربا ويحدها البحر من جهة الشرق حيث تفصل منطقة الرامس الزراعية بين البحر والبلدة. ويقدر عدد سكانها ب 35000 نسمة. وأشهر أحيائها التاريخية هو فريق الزارة الواقع في الجنوب الشرقي من البلاد وهو فريق مشهور في التاريخ الاسلامي والجاهلي وقد أحرقها أبو سعيد الجنابي القرمطي عام 283 في بداية حركته حينما استعصت عليه. ويذكر الشيخ البلادي في كتابه أنوار البدرين ص 277: أن القرامطة أغاروا على الزارة التي فيها ملك البلاد وحاصروها وغادوها الحرب صباحا ومساء وقد ضعف حاكم البلد عن قتالهم خارج البلد فحاصروها أربعة أشهر حتى افتتحوها عنوة فأشعلوا فيها النار جميعا فخربت البلد وهجمت بيوتها وتملكوا البلاد، وكان حاكمها من قبل من بني عبد القيس من تميم وهم أهل البحرين أعني الأحساء والقطيف وأوال فعمدت القرامطة إلى فريق من بني عبد القيس فحرقوهم بالنار وصارت الزارة خرابا ثم حدثت بعد خرابها القرية المعروفة بالعوامية أول من سكنها وعمرها أبو البهلول العوام بن محمد بن يوسف بن الزجاج أحد بني عبد القيس وهو الذي أخذ جزيرة أوال من القرامطة واستولى عليها بعد ضعفهم وأدبار دولتهم فنسبت إليه وبقيت الزارة خرابا، ثم صارت نخيلا وأشجارا وأنهارا تبعا للعوامية. ويذكر صاحب كتاب ساحل الذهب الأسود ص 52 أن أول من عمر العوامية بهذا الاسم هو العوام بن محمد بن يوسف الزجاج في أوائل القرن الخامس الهجري فنسبت إليه، أو لعلها نسبت في الأصل إلى أبي الحسن بن العوام زعيم الأزد وأمير الزارة. ويحدثنا المسعودي عن كيفية إسلام هذه المنطقة ويذكر الزارة فيقول أن رباب السبتي وبحيرة الراهب من بني عبد القيس كانا على دين النصرانية، وقد لقي المنذر بن ساوي رباب السبتي بسوق الزارة فأخبره عن قرب موعد خروج نبي من العرب بمكة المكرمة وأخبره بالعلامات الواردة في الكتب المقدسة، فلما سمع بمبعث الرسول ص بعث ابن أخته إلى مكة للتأكد من صحة هذه العلامات... فاسلم ابن أخته وعاد إلى خاله وأخبره فاسلم هو الآخر، ثم عمل الاثنان على استمالة قومهما إلى الدخول في الاسلام حتى ورد إليها العلاء بن الحضرمي مبعوث الرسول ص سنة 6 فدخل أهلها في الاسلام وكان على رأسهم المنذر بن ساوي ملك العرب، ثم أوفد أهلها وفدا التقى برسول الله ص ودعا لهم ووجههم في أمور دينهم. ولهذه البلدة تاريخ من البطولة والتحدي فلقد رضع أبناؤها حليب الرفض للظلم السعودي وكانت وما زالت قلعة الرفض لطغيان آل سعود. ويمكن القول أن ثورة العوامية التي قادها الشيخ النمر من أبرز الأحداث السياسية التي ترجمت عمليا الرفض المقدس. وحادثة أخرى حدثت في محرم 1399 حينما منع الأهالي سيارات الارهاب السعودي من الدخول إلى البلدة وهاجموا كل السيارات التي دخلت بالعصي والحجارة. فكان أن اعتقل أكثر من 60 شخصا لمدة تزيد عن الأربعة أشهر. وتكررت المواقف البطولية في محرم 1400 ه حيث كانت انتفاضة المنطقة الشرقية البطلة فسيطر المتظاهرون على مركز الشرطة الموجود في منطقة الرامس شرق البلاد. وقطعوا الامدادات والتموين العسكري للنظام عن مدينة صفوى. والعوامية هي المدينة التي لم يتجرأ جندي من جنود الحرس الدخول إليها أيام الانتفاضة إلا بعد الاستعانة بالطائرات الهيلكوبتر العسكرية. نشأته العلمية تربى الشيخ النمر في حجر والده الذي غرس في نفس ولده الالتزام بالدين والتحلي بالأخلاق الحميدة الفاضلة والملكات الرشيدة وقد زارهم ذات مرة الشيخ أحمد بن الشيخ صالح آل طعان البحراني المتوفى يوم عيد الفطر سنة 1315 ه. فتوسم فيه الصلاح والنجاح واللياقة لتحصيل العلوم والاستعداد التام لادراك المعارف الدينية فأشار على والده أن يفرغه لطلب العلم الديني وقد كان هذا الشيخ المذكور نازلا في قرية القديح بجوار قرية العوامية التي يسكنها الشيخ نمر وأبوه فهيا له أبوه دابة وخادما يصحبه لأنه كان مكفوف البصر من صغره. ولعل الجزء الأكبر من الفضل يعود إلى أبيه الذي شجعه على طلب العلم وقبله يعود إلى الشيخ آل طعان. وهكذا أخذ يحضر كل يوم عند ذلك الشيخ الجليل ويتلقى على يديه مقدمات للعلوم الدينية فقرأ عنده النحو والصرف والمنطق والبيان كما تلقى بعض هذه الدروس أيضا عند الشيخ علي بن الشيخ حسن آل الشيخ سليمان
310 البحراني وبعد أن انهى هذه الدروس. شد الرحال من وطنه إلى النجف الأشرف. وبقي في النجف الأشرف قرابة خمسة عشر عاما يطلب العلم على يد كبار العلماء واجلائهم، منهم الشيخ محمد طه نجف النجفي، الذي أجاز له رواية الحديث والشيخ محمود ذهب والشيخ ملا هادي الطهراني، وله إجازة في رواية الحديث أيضا من السيد محمد الهندي النجفي المتوفى سنة 1322. وغيره من العلماء. كما درس الفقه والأصول والحكمة والكلام وسائر العلوم الرياضية ومنها علم الهندسة على يد الشيخ أبي المجد المعروف بآغا رضا الأصفهاني وقد ألف الشيخ بعدها كتاب التعليقات الكافية على القوانين والكفاية. وتعليق على كتاب الإشارات لابن سينا في مقام الاستدلال على بطلان وجود ما لا يتناهى من الامتداد الجسماني. وقد درس الطب القديم أيضا عند الميرزا محمد باقر بن الميرزا خليل بن الميرزا حبيب الله الطهراني النجفي طيلة المدة التي كان متواجدا فيها في النجف وهي خمسة عشر عاما. ثم عاد إلى البلاد فافتتح مدرسة للعلوم الاسلامية أخذ يدرس فيها البحث الخارج، انضم إليها الكثير من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من أرباب العلم والفضيلة، فيهم الخطيب والكاتب والطالب (1). وقد أوقف أكثر الأموال التي بين يديه لطلاب العلم من أهل بلاده وقد اختلست ظلما بعد وفاته من قبل سلطات الجور الباغية ولا يزال أهالي العوامية يعرفون ويذكرون بعضا من ذلك. وقد قاوم الاضطهاد السعودي لأهل القطيف مقاومة عنيفة. تلاميذه تتلمذ على يديه الكثيرون منهم: 1 الشيخ حسن علي بن الشيخ عبد الله البدر المتوفى سنة 1334 في الكاظمية. 2 الشيخ منصور ابن الحاج علي المرهون المولود سنة 1294 ه المتوفى 1362. درس عند الشيخ النمر والشيخ البدر ثم هاجر إلى النجف الأشرف وبقي 15 سنة ثم عاد إلى القطيف وهو أحد الخطباء المشهورين في ذلك الوقت. له الكثير من القصائد في رثاء الرسول ص. 3 الخطيب الشيخ عيسى بن الحاج محمد السني التاروتي المولود سنة 1305 ه والمتوفى سنة 1355. 4 الشيخ الملا حسن بن الحاج عبد الله بن حسن ربيع الخطي توفي سنة 1362. له ديوان مطبوع بعنوان الزهور الربيعية فيه قصائد في رثاء آل البيت. 5 الشيخ محمد حسين بن الشيخ حسين آل عبد الجبار البحراني القطيفي المولود سنة 1300 والمتوفى سنة 1381. درس في القطيف لدى الشيخ ناصر نصر الله والشيخ أحمد بن علي بن عطية والشيخ النمر ثم درس في النجف على يد السيد مهدي آل بحر العلوم والشيخ جعفر السوداني والسيد رضا الهندي والشيخ الأنصاري والشيخ عبد الهادي كاشف الغطاء والشيخ ملا محمد كاظم الخراساني صاحب الكفاية. له شرح واسع على أصول الكافي في 14 مجلدا. 6 الشيخ حسين بن الشيخ علي بن الشيخ حسين القديحي البحراني المولود 1302 والمتوفى سنة 1387. ولد في النجف الأشرف وهو ابن الشيخ علي صاحب كتاب أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين. درس العلوم الدينية على يد والده والشيخ النمر وعلماء آخرين. له مؤلفات منها: كنز الدرر رياض المدح الرثاء نزهة الناظر معادة الدارين في أحوال مولانا الحسين المجموعة الحسينية مجمع الفؤاد ومؤلفات دينية أخرى. وله شعر في رثاء أهل البيت عليهم الصلاة والسلام. له إجازات من كبار العلماء منهم: السيد أبو تراب الخوانساري النجفي، السيد حسن الصدر الكاظمي، الشيخ محسن الطهراني المعروف بآغا بزرگ الطهراني وإجازات أخرى عديدة. دفن في مقبرة بلاده القديح. 7 الشيخ سعود بن محمد سلمان الفرج المتوفى في سنة 1335. درس عند الشيخ النمر بعد ما تجاوز عمره الثلاثين ثم هاجر إلى النجف ومكث قرابة العشرين عاما، توفي ودفن في مقبرة بلاده العوامية. 8 الشيخ محمد أحمد الفرج المتوفى سنة 1366 من خطباء المنبر الحسيني. وكان يعرف بالشيخ محمد المؤمن. شعره قال من قصيدة في رثاء الإمام الحسين ع: لهاشم يوم الطف ثار مضيع * وفي أرضه للمجد جسم موزع هجعت فلا ثار لك اليوم مدرك * ونمت فلا مجد لك اليوم يرفع وهذي بنو حرب أدارت لك الردى * كؤوسا ولا كأس بك اليوم تجرع وتلك الظبا اللاتي شحذت حدادها * لأنف الإبا من مجدك اليوم تجدع وتلك القنا اللاتي أقمت كعابها * بصدر العلى من عزك اليوم تقرع فنهضا فان العز أن تنهضوا لها * وإلا فان الكف للنفس أنفع سننتم بيوم الفتح صفحا فأصبحت * نساء بني حرب من السبي تمنع فتلك بها اللاتي أشادت بها الظبا * مضارب من هام السماكين أرفع برغم الهدى أمست ولا دون خدرها * قريع وغى عنها يذب ويدفع لقد هجمت حرب عليها خباءها * فكم برقع عنها يماط ويرفع وكم حرة كالشمس تدمى بوكزها * وكم طفلة كالبدر بالضرب توجع وكم ثاكل عزت ثكولا ورضع * لها انتحبت عن بلة الثدي أدمع وكم من خبا أمسى إلى النار موقدا * بحيث غدت في وجه عزك تسفع
(1) في تلك الفترة كانت القطيف تسمى " النجف الصغرى " لكثرة من فيها من علماء ومجتهدين ومراجع كبار. 311 بقفر به لم يحجب الشمس * حاجب فوجه الثرى كالشمس ما الشمس تطلع وعاطشة ودت بان دموعها * تبل بها حر الغليل وتنقع ومدهشة بالخطب حتى عن البكا * أذيب به منها فؤاد موزع ومزعجة من هجمة الخيل خدرها * تضم الحشا بالراحتين وتجمع وموحشة باتت على فقد قومها * تنوح كما ناح الحمام وتسجع ملخصة عن دراسة لمحمد العوامي محمود بن الحسين المعروف بكشاجم. مرت ترجمته في الصفحة 103 وما بعدها من المجلد العاشر. ونزيد عليها هنا الدراسات الآتية مكتوبة بقلم الدكتورة ثريا ملحس، وهي بعض ما كتبته عنه في رسالتها الجامعية النفيسة التي نالت بها شهادة الدكتوراه في الآداب والتي كانت من أفضل ما صدر من دراسات أدبية. اسمه، وكنيته ولقبه لقد اتفق جميع نساخ ديوان كشاجم ومؤلفاته التي استطعنا أن نطلع عليها، من أقدمها نسخا إلى أحدثها، على أن اسم كشاجم هو محمود بن الحسين، وأن كنيته هي أبو الفتح، وأنه الكاتب المعروف بلقبه كشاجم الذي أصبح علما له، وأنه، كما تبين لنا، منتسب إلى السندي بن شاهك. كذلك اتفق جميع الذين التقاهم من الأصدقاء الشعراء والأدباء والمؤرخين على اسمه وكنيته ولقبه العلم المعروف به. ولعل الشاعر الأنطاكي الحلبي الصنوبري الذي قامت بينه وبين كشاجم المطارحات، والمساجلات، والمعارضات، والمعاتبات، والمهاداة، هو أول من عرفنا بكنيته أبي الفتح، في إحدى معاتباته الشعرية، كذلك بلقبه كشاجم. وقد يكون المسعودي المؤرخ أقدم من عرفنا بكشاجم، ممن التقوه، تعريفا حسنا، فقال: هو أبو الفتح، محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك، الكاتب المعروف بكشاجم، وكان من أهل العلم والرواية والمعرفة والأدب، وقد أخذ عنه الرواية. كما روى له من لطائفه الشعرية مما يناسب المقال. وقد تبين لنا أن أبا محمد المظفر بن نصر بن سيار الوراق، روى لكشاجم نحو 133 بيتا في كتابه الطبيخ مما يناسب المطبوخات، والمأكولات، ذاكرا كنيته واسمه، وأحيانا لقبه، وأن بعض المرويات سمعها من كشاجم نفسه. أما أبو بكر الزبيدي فقد سمع منه خبرا عن أبي الحسن الأخفش النحوي، أستاذ كشاجم، فرواه في طبقاته. ونرجح أنه التقى السري الرفاء الموصلي الشاعر بالموصل، أو ببغداد، أو بحلب. وكان السري أحد المعجبين بشعر كشاجم، إنما لم يشر السري الرفاء في ديوانه إلى ما يوحي بذلك، غير أن رواية الثعالبي في يتيمته، عن علاقة السري الرفاء بكشاجم، قد تناقلها الرواة، والمؤرخون، وكتاب السير حين كانوا يكتبون عن السري، فكان السري في طريق كشاجم يذهب، وعلى قالبه يضرب، على حد قول الثعالبي، كما نرجح أن السري الرفاء، بعد موت كشاجم، راح ينسخ ديوانه، ويورقه، ويرتزق به، وهو إذ ذاك ريحان أهل الأدب بتلك البلاد. أما لقاء الثعالبي كشاجم فقد تبين لنا عدم صحته. ولعل الناسخ أضاف حرفي النون والياء في أنشدني، أو لعله أسقط لفظة ابن، فالمعروف أن ابن أبي الفتح كشاجم، أبا الفرج، كان يروي أشعار أبيه وينشدها. أما الأدباء والنقاد والمؤرخون القدماء الذين عاشوا في أواسط القرن الرابع الهجري القرن العاشر الميلادي، حتى أواخره، ممن لم يلتقوا كشاجم، فقد اتفقوا جميعا كذلك على كنيته، أبي الفتح، وعلى اسمه، محمود بن الحسين، وعلى لقبه العلم، كشاجم. وقد ذكروه في سياق ما رووه له من شعره. ولعل أقدمهم الناقد أبو الحسن الجرجاني في وساطته، وقد أشار إلى بعض استعارات كشاجم الحسنة، مفضلا إياها على استعارات المتنبي في مثلها، في صفة السحاب، وفي وصف الكمال، وقد اتهم الجرجاني المتنبي بسرقة معناه. ثم روى شعر كشاجم أبو الحسن الشمشاطي في أنواره، وأبو عبد الله الحسن بن الحسين بازيار العزيز الفاطمي ظنا في بيزرته، وأبو علي الحاتمي في رسالته، والشابشتي في دياراته، وأبو هلال العسكري في معانيه. أما أبو بكر الخوارزمي فكان من المعجبين بشعر كشاجم ولطائفه، وكان يرى أنه لا بد للمتخرج في الشعر من معرفة لطائف كشاجم، وقد جعله أحد الفحول الشعراء، حين عدهم، بجملته المشهورة التي شاعت بين الرواة، وهي: إن من روى حوليات زهير. واعتذارات النابغة، وأهاجي الحطيئة، وهاشميات الكميت، ونقائض جرير والفرزدق، وخمريات أبي نواس، وتشبيهات ابن المعتز، وزهديات أبي العتاهية، ومراثي أبي تمام، ومدائح البحتري، وروضيات الصنوبري، ولطائف كشاجم، وقلائد المتنبي، ولم يتخرج في الشعر، فلا أشب الله قرنه! أما النديم (1) في فهرسته فترجم له باختصار شديد، مشيرا إلى بعض مؤلفاته، بقوله: أن كشاجم هو أبو الفتح، محمود بن الحسين، وأدبه وشعره مشهور، وهو من ولد السندي بن شاهك. تحدثوا عن كشاجم أما الأدباء والمؤرخون والباحثون، من القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، إلى القرن الثاني عشر الهجري الثامن عشر الميلادي، فقد لهجوا بذكر كشاجم الشاعر، وتناقلوا شعره، ورووه في مؤلفاتهم مما يناسب المقال، فبلغ أشده، كما تجاوز عند بعضهم المئات. فالعمري، على سبيل المثل، جمع شعرا لكشاجم في مسالكه نحو 343 بيتا، وقد قال: وهي من جيد ما وقع لي من صالح أشعاره. أما الحصري القيرواني في زهره وذيله، فبلغ ما رواه نحو 340 بيتا، كما بلغ في كتب الثعالبي المختلفة ما يقارب 187 بيتا، وفي قطب السرور للرقيق النديم ما يقارب 109 أبيات، وفي محاضرات الأدباء للراغب الأصبهاني ما يقارب 114 بيتا. وقد راح الرواة يتناقلون شعر كشاجم، مشيدين بوصفه وبلطائفه، وجميعهم اتفقوا كذلك على أنه محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك، المعروف بأبي الفتح كشاجم، وأنه من أكابر الشعراء المحدثين. فإذا كان النديم أقدم مترجم لكشاجم في القرن الرابع الهجري، فلماذا لم يترجم له الثعالبي؟ وبناء عليه نرجح أن ترجمته قد سقطت من اليتيمة
(1) من المفيد أن نذكر أن بيار دودج قد صوب الخطأ الشائع في حقيقة اسم صاحب الفهرست بعد أن عثر على مخطوط بيتي (Beatty) للفهرست، والصحيح هو النديم، وليس ابن النديم. 312 المنشورة. ولعل سقوط ترجمة كشاجم من مخطوط بيتي للفهرست، وثبوتها في المخطوط الذي اعتمده فلو غل، ما يعزز قولنا. كذلك يعزز قولنا موقف الثعالبي من كشاجم في كتبه الكثيرة، وإعجابه الشديد به، واستحسان معانيه وأوصافه ولطائفه، وكثرة استشهاده بشعره. ولم يستدرك ترجمته بعد الثعالبي أحد من المؤرخين القدماء، وكتاب السير في أمهات كتبهم، كتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي، ووفيات الأعيان لابن خلكان، وفوات الوفيات للكتبي، والوافي بالوفيات للصفدي. ونرجح أن الترجمة قد سقطت في القرن الخامس أو السادس، قبل معجمي الخطيب البغدادي وياقوت الحموي، لذلك لم يضف كتاب القرن الخامس كثيرا إلى ما عرفناه من قبل. وظل الرواة يروون شعره، ويذكرون لقبه، ويعرفون ذلك اللقب بقولهم، كما قال الحصري القيرواني في جواهره: هو أبو الفتح محمود بن الحسين بن السندي، الكاتب المعروف بكشاجم. وفي القرن السابع، حيث ألف ياقوت الحموي، وابن خلكان معجميهما في سير المشاهير، لم يدون له أحد سيرة، ولم ينتبه أحد إلى اسقاط ترجمته من اليتيمة، إنما حين أشار ياقوت في معجم الأدباء إلى كشاجم في سياق حديثه عن السري الرفاء، نقل ما قاله الثعالبي في اليتيمة. أما في معجم البلدان فروى لكشاجم شعرا في حلب، ومصر، وفي بعض أديرة بلاد الشام والعراق ومصر. أما ابن خلكان فنقل كذلك رواية صاحب اليتيمة، أو ياقوت الحموي، في سياق حديثهما عن السري الرفاء، كذلك نقل ابن خلكان في وفياته أخبار الصيد عن كشاجم في مصايده. بهذا راح المؤرخون يرددون ما قاله كل من صاحب اليتيمة، أو صاحب معجم الأدباء أو صاحب الوفيات، أو صحب شذرات الذهب منذ القرن الثامن الهجري حتى الحادي عشر الهجري. فالذهبي اكتفى في عبره بقوله أنه أحد فحول الشعراء، وأن اسمه محمود بن الحسين، كما أن الكتبي لم يستدرك في فواته على ما فات ابن خلكان في وفياته. أما ابن خلدون في تاريخه، فقد قلب اسم كشاجم، وجعله الحسين بن محمود المعروف بأبي الفتح كشاجم، ولم يشر أحد إلى تصويبه. ولعل الجملة التي أطلقها الغزولي في القرن التاسع الهجري قد شغلت الباحثين، والكتاب، فتناقلها المؤرخون لسيف الدولة، ولبلاطه، واشتهرت عبر القرون، وذاعت، مما جعل الكثيرين يتوهمون أن كشاجم كان طباخ سيف الدولة! قال الغزولي في بدوره، أنه اجتمع لسيف الدولة ما لم يجتمع لغيره من الملوك، فكان خطيبه ابن نباتة الفارقي، ومعلمه ابن خالويه، ومطربه الفارابي، وطباخه كشاجم، وخزان كتبه الخالديان، والصنوبري، ومداحه المتنبي والسلامي، والوأواء الدمشقي، والببغاء، والنامي، وابن نباتة السعدي، والصنوبري، إلى غير ذلك. أما السيوطي فهو أول من كنى كشاجم أبا نصر، نقلا عن رواية التيفاشي في هديله. ولعل التيفاشي توهم ذلك، فالمعروف عن كنية كشاجم أنها أبو الفتح، وأن كنية جده الأكبر، وجده، وابنه، أبو نصر، مما جعل بعض الباحثين المحدثين يقفون في حيرة، ويشيرون إلى غير كنية لكشاجم، أما الصواب فكان لكشاجم كنية واحدة، وهي أبو الفتح. والسيوطي كذلك أول من نسب كشاجم إلى محمد، وجعله والده، نقلا عن رواية التيفاشي، فقال: كشاجم هو محمود بن محمد بن الحسين بن السندي بن شاهك، يكنى أبا نصر، أو لعل التيفاشي أشار إلى كنية السندي بن شاهك، فنقله السيوطي، ووضع لفظه يكنى، ولم نطلع على سجع الهديل، لعدم وجوده، مرجحين أنه لا يزال مخطوطا. أما حاجي خليفة في كشفه، فذكر لكشاجم مؤلفاته مكررا كنيته، واسمه، ولقبه كالآتي: هو أبو الفتح، محمود بن الحسين المعروف بكشاجم. ولعل ابن العماد شاء أن يروي ما قاله جميع الرواة في سيرة كشاجم، دون حسم أي خبر أو رواية. ولعله أول من أشار إلى كنية أخرى له وهي أبو الحسين، فأضافها إلى أبي الفتح المعروفة، إنما بقي اسمه محمود بن الحسين بن السندي، أحد فحول الشعراء. وفي حديثه عن السري الرفاء نقل، كغيره، ما قاله الثعالبي في يتيمته، أو ياقوت الحموي في معجمه، أو ابن خلكان في وفياته، بان السري كان مغرى بنسخ ديوان كشاجم الشاعر المشهور، ريحان الأدب بتلك البلاد. وأول من كناه أبا الفتوح بالجمع، هو محمد بن الحسن الحر العاملي في أمله، ولعله تكريم لتشيع الشاعر كشاجم! ولم ينقله عنه فيما بعد سوى مصدر شيعي آخر هو السيد حسن الصدر في تأسيسه. ولم نستطع أن نعرف عن كشاجم من المصادر التي أطلعنا عليها، التاريخية، منها، والموسوعية، والمعجمية، والأدبية، من القرن الرابع الهجري حتى الثاني عشر الهجري، سوى ما حسمنا حوله الخلاف في اسمه، وهو محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك، وأن كنيته هي أبو الفتح، وأن لقبه العلم هو كشاجم، بالإضافة إلى ما عرفناه في الفصل السابق بان شاهك هو ابن زادان بن شهريار الرازي الفارسي الساساني. ومن المفيد أن نضيف إلى ذلك ما قاله فيه بعض المؤرخين والرواة، مشيرين إلى الذين سبقوا غيرهم بما قالوه، فالمسعودي، في مروجه أشار إلى أن كشاجم كان من أهل العلم والرواية والمعرفة والأدب، وأن الخليفة المستكفي 333 ه 334 ه، كان يستحسن وصف كشاجم للمأكولات والمطبوخات، فيطرب، ويأمر باحضار كل ما وصف له! أما أبو بكر الخوارزمي فكان يروي شعر كشاجم ويقول: أنا أحفظ في هجاء المغنين ما يقارب ألف بيت، وليس فيه أبلغ وأوجز وأطرب من قول أبي الفتح كشاجم! كما كان يعتبر لطائف كشاجم من المواضيع الأساسية لكل من يرغب في أن يتخرج في الشعر. أما الثعالبي فاعتبر كشاجم من مولدي شعراء أهل الشام، ومن الشعراء الذين أصبح لهم مذهب في شعرهم يقتدى، وعلوم تحتذى، وهو الكاتب، والشاعر، والمنجم، وكان ريحان أهل الأدب بتلك البلاد...
313 ولعل أول من أشار إلى مهاراته وعددها هو الحصري القيرواني في جواهره، وابن مكي في تثقيفه (1). 4 1178 ولعل ابن مكي أول من أشار إلى أن كشاجم طلب علم الطب بعد ذلك، حتى مهر فيه، وصار أكبر علمه، فزيد في اسمه طاء من طبيب. وقدمت على سائر الحروف من كاتب، شاعر، أديب، منجم، مغن، لغلبة الطب عليه، فقيل طكشاجم، ولكنه لم يسر كما سار كشاجم. أما أول من أشار إلى أنه كان مجاهرا في شيعيته فهو ابن شهرآشوب في معالمه، وأول من روى أن ديوان كشاجم كان مصدر ارتزاق لدى النساخ هو الثعالبي في يتيمته، كما كان شعره مصدرا للتعزية والترفيه (2) عن النفس، حسب ما قاله أحد أهل العصر، وقد يكون الثعالبي أول من أخرج من شعره ما نسب إلى الخالديين الشاعرين... ولعل الثعالبي كذلك كان أول من أشار إلى أنه كان لكشاجم ولدان أبو نصر، وأبو الفتح. أما أول من ذكر مؤلفات كشاجم فكان النديم في فهرسته، وقد أشار إلى الديوان الذي بلغ مائة ورقة، وكتاب أدب النديم، وكتاب الرسائل، وأول من أشار إلى كتاب كشاجم في الغناء والطرب هو الحصري القيرواني في جواهره، بقوله: وله في الغناء كتاب مليح. ولعل ابن خلكان أول من أشار إلى كتابه المصايد والمطارد حين روى عنه. أما القلقشندي فهو أول من أشار إلى كتاب كنز الكتاب، وفي القرن الحادي عشر الهجري جمع حاجي خليفة لكشاجم مؤلفاته المعروفة في عصره، وذكرها جميعا، ما عدا كتاب الرسائل، وكنز الكتاب، مضيفا إلى مؤلفاته كتاب خصائص الطرب، كتاب الطبيخ الذي ورد مصحفا بالصبيح!، كتاب الطرديات في القصائد والأشعار. مولده ووفاته وتبين لنا بعد التنقيب، والبحث، والتحقيق، أن كشاجم ولد ببغداد في حدود سنة 280 ه، وتوفي في حدود سنة 348 ه بمصر، حيث استقر في أواخر حياته. ومن المفيد أن نشير إلى أن كشاجم ظل يرحل متنقلا بين بلاد العراق والشام ومصر، يستقر في إحداها مدة من الزمن، ثم يتركها، ليعود إليها مرة أخرى. إنما من الواضح أن كشاجم كان قد انطلق من بغداد، حاضرة الخلافة، حيث كانت له دار، على شط دجلة، على حد تعبيره (3)، ويبدو أنه كان يعيش ببغداد في الجانب الشرقي حيث دور الخلافة، ودور رجالاتها (4). ومن المفيد أن نشير إلى تفرد سامي الدهان بتحديده سنة 340 ه، تاريخا لوفاته، وبتحديد مكانها بحلب، حيث استقر. أما محمد أسعد طلس فقد تفرد كذلك بتعيين تاريخ لولادة كشاجم، وأخرى لوفاته، فذكر في أبحاثه أن كشاجم ولد في حدود سنة 295 ه، دون أن يدلي بالأسباب المقنعة، وأنه توفي سنة 358 ه، أو ما بعدها، كذلك دون أن يقنعنا بالسبب الذي اعتمده، ففي رأيه أن كشاجم هجا كافورا، وأن كافورا لم يتول السلطة المطلقة إلا قبل وفاته بقليل، وقد توهم الكاتب حين أشار إلى هجاء كافور الإخشيدي، أما الصواب فهو هجاء لأحد غلمان كشاجم، وكان يدعى كافورا، ويبقى سؤالنا قائما: أفلا يستطيع كشاجم أن يهجو كافورا قبل استقلاله المطلق بالملك سنة 355 ه؟! على أننا نعلم أن الإخشيد محمد بن طغج قد عهد إلى كافور بالوصاية على ولديه أنوجور محمود، وعلي، لأنهما كانا قاصرين، وكان كافور، كما يخبرنا التاريخ، قد استأثر بالملك منذ موت الإخشيد سنة 334 ه! ومن المفيد كذلك أن نذكر أن المؤرخين والباحثين، ممن اختاروا سنة 360 ه تاريخا لوفاته، إنما فعلوا ذلك توهما منهم أن ابن كشاجم هو كشاجم، فاختلط عليهم الأب وابنه، وقد ذكر الثعالبي أبا نصر بن أبي الفتح كشاجم، وروى له ما يقارب 66 بيتا، كما روى أخباره أبو علي التنوخي في نشواره في الستين بعد الثلاث مائة، حين كان كاتبا لأبي علي الأعصم القرمطي في بلاد الشام، وفي رملة فلسطين خاصة. وأخيرا، نشير إلى إعجاب كشاجم بحلب، حيث بنى فيها دارا، وامتلك أرضا وبستانا، كما جاء في شعره (5). وكان كشاجم يصف طبيعة حلب (6) في جميع فصولها، ويصف ربيعها، وهو في غاية من الفرح والانشراح النفسي، ويصف نهرها قويق، ويتغنى بجمال طبيعتها، مما جعل بعض المؤرخين يرددون قصيدته في حلب، ويعتبرون ما قاله فيها وفي طبيعتها من أروع ما قيل في حلب. فلو عاش كشاجم حتى الخمسين بعد الثلاث مائة، وعلم بخراب حلب حين دخل إليها نقفور فوكاس الروماني سنة 351 ه، ودمر قصورها، ونهب محتويات خزائنها، وأثاثها، وتحفها، وذخائرها، واستباحها، بحيث لم ينج منها إلا من صعد القلعة، ثم تركها ركاما من خراب، أما كان قد ناح كشاجم على البلدة التي أحب، والتي غنى بساتينها وأشجارها، ونهرها، وزهورها، وربيعها، أو رثاها باكيا، وهو الذي رثى وبكى قمرية الذي مات، وطاووسه الذي هلك، ومنديله الذي سرق! فانى له أن يسكت عن دمار حلب الحبيبة، عاصمة الشعراء والأدباء؟!
(1) ابن مكي، تثقيف اللسان وتلقيح الجنان (ط القاهرة، 1966 م)، 138 (قال أن كشاجم " لقب له، جمعت أحرفه من صناعته، أخذ الكاف من كاتب، والشين من الشاعر، والألف من أديب، والجيم من منجم، والميم من مغن ". كذلك كان أول من صوب أقوال الرواة في حركة الكاف، فقال إن الصواب فتح الكاف، لا ضمه. (2) قال بعضهم: يا بؤس من يمنى بدمع ساجم يهمي على حجب الفؤاد الواجم لولا تعلله بكأس مدامة ورسائل الصابي وشعر كشاجم! (3) ديوان كشاجم (ط بغداد)، قط 388، البيت 67، يخاطب فيه الوزير ابن مقلة: وقيل كن جار بحر أو قنا ملك وأنت جاري ومثوانا على دجلة (4) ابن حوقل، كتاب صورة الأرض، 216، قال أن الجانب الغربي من بغداد كان لأهل اليسار، ومعظم مساكن التجار، أما الجانب الشرقي فكان لدور الخلافة، ولمن بيده حال من اسم المملكة. (م. ن.، 216 و 217). (5) ديوان كشاجم (ط بغداد)، قط 221 (26 بيتا)، يمدح صديقه أبا بكر الصنوبري وهو بحلب، وفيها يقول: ولي أرض وبستان ونهر فيه ما يجري (6) م. ن.، قط 178 (17 بيتا)، يصف مدينة حلب بالمطلع: وفي البيتين 10 و 11، قال: وما أمتعت جارها بلدة كما أمتعت حلب جارها هي الخلد تجمع ما تشتهي فزرها فطوبى لمن زارها! 314 ولدا كشاجم أبو الفرج وأبو نصر لم يذكر كشاجم في شعره من أولاده مباشرة سوى ولد واحد دون أن يسميه، لعله أبو الفرج، ولعله كان بكره. ومن المفيد أن نذكر أن كشاجم أشار إلى أصيبية كزغب الأفراخ كانوا سببا عائقا في طلابه المجد والرتب، والارتحال في سبيلها. وقد تبين لنا أنه لم يبق منهم سوى اثنين، وقد شكا الزمان، وندب حظه، وعدم وصوله إلى الرتب العالية التي يستحقها، إذ فضل أن يبقى مع صغاره مشفقا عليهم، حدبا بهم: وعاقني عن طلابها أصيبية * يأبى فراقهم الاشفاق والحدب ولي قوادم لو أني خدمت بها * لأنهضتني ولكن أفرخي زغب! على أن كشاجم مدرك أنه استعجل الأولاد قبل المال، وكان عليه أن يوفر لهم المال والجاه قبل أن يروا النور، ويرى في ذلك خروجا ومخالفة لما جاء نصه في القرآن الكريم، وقد بدئ بالمال قبل البنين: وإنما المال والبنون زينة الحياة الدنيا. ونرجح أن كشاجم رزق بأبي الفرج أولا، وقد تبين لنا أن المقطوعة التي شاء النساخ أن يسموها في مدح بعض أصدقائه، هي في الحقيقة في ولده أبي الفرج، من هذه المقطوعة اتضح لنا أيضا أنه أول ولد، إذ فرج كربه، وجعله يستقر مدة من الزمن، لولاه لظل كشاجم يرتحل من مكان إلى آخر، لكنه اختار أن ينعم بمجيء الولد الجديد، وكان بوده لو يجول الآفاق، ويجمع الأموال قبل مجيء الولد، لكنه تعجله، فخالف بذلك نص الكتاب كما مر بنا: لولا أبو الفرج الذي فرجت به * كربي لما جفت لبود جيادي ولجلت آفاق البلاد وجبتها * حتى أكثر بالغنى حسادي لكن سبقت به الثراء ففاتني * وعجلت قبل المال بالأولاد! خالفت ما جاء الكتاب بنصه * فلذاك قد ملك الزمان قيادي! ولعل ما في البيت الثالث لدليل قاطع على أن أبا الفرج هذا هو ابنه المولود، وليس صديقا كما ادعى النساخ! ثم يكبر أبو الفرج، ويرعاه أبوه، كما يرعى الأب الحنون الصالح ولده، ويربيه أحسن تربية، متوسما فيه ما كان أبوه من قبل قد توسم فيه. وقد اختار لابنه أما حرة، فاضلة، كريمة الحسب، ابنة النجباء، فتقبله قبولا حسنا، وشكر الله على عطيته الكبيرة، ورزقه العظيم، ونعمه الكثيرة: ربيته متوسما في وجهه * ما قبل، في توسمت آبائي ورزقته حسن القبول مهنيا * فيه عطاء الله ذي الآلاء وغدوت مقتنيا له من أمه * وهي النجيبة وابنة النجباء وقد وضع كشاجم لابنه منهجا يسير عليه، فكان له المربي، والمرشد، والمعلم، وقد عمرت مجالسه به، فكان يبهج به نهارا، ويريه أسباب العلياء، وكيف يصلها المرء، ويحدثه، ثم يزيره العلماء ليأخذ عنهم، فيتفوق على جميع طلاب العلم، حتى إذا أجن الليل، راح يسامره، ويحاوره، وحين ينتهيان من برنامجهما اليومي يعودان إلى البيت، فيدنيه إليه ويضمه، فكأنه يدني مهجته إلى مهجته، وأحشاءه إلى أحشائه، فيصبح كلاهما واحدا: وعمرت منه مجالسي ومسالكي * وجمعت فيه مآربي وهوائي فأظل أبهج في النهار بقربه * وأريه كيف تناقل العلياء وأزيره العلماء يأخذ عنهم * فيبد من يغدو إلى العلماء وإذا أجن الليل بات مسامري * ومحاوري وممثلا بإزائي فأبيت أدني مهجتي من مهجتي * وأضم أحشائي إلى أحشائي وخوفا من أن يؤخذ عليه إعجابه بولده، وافتتانه به، أسرع ليقول أن إعجابه به مثل إعجابه بشعره، إذ كلاهما بعض منه. وما الاعجاب هذا إلا صادر عن تعقل، ورزانة، لا عن خفة أو تهور: والمرء يفتن بابنه وبشعره * لكن هذا فتنة العقلاء! والوالد كشاجم يعتبر وجود ولده شفاء لما يصيبه من الجروح والأسى، آملا أن يكون قربه في شدته وفي رخائه: روحي الفداء لمن إذا جرح الأسى * قلبي أسوت به جروح أسائي كبدي وتاموري (1) وحبة ناظري * ومؤملي في شدتي ورخائي على أن كشاجم، كما أشرنا إليه سابقا، لم يذكر في شعره سوى ولد واحد، إنما ذكر له الثعالبي في يتيمته، وهي أقدم نص، ابنين، هما أبو نصر وأبو الفرج، وكان الثعالبي يروي شعرا لمحمد بن هارون بن الأكتمي المصري فقال: وله يهجو ابني كشاجم أبا النصر، وأبا الفرج، ونرجح أنهما كانا بمصر بعد موت أبيهما، ولم ترقهما الأحوال، فرحل أبو الفرج إلى الري (2) حيث التقى أبا بكر الحمدوني جامع ديوان والده، فأنشده لأبيه 99 بيتا، ألحقها الجامع فيما بعد بالديوان، أما أبو نصر فرحل إلى الشام، وأصبح كاتب الأعصم أبي علي القرمطي بالرملة. أما المقريزي في مخطوطه المقفى فقد عرفنا بأبي الفرج الذي تحدث عنه كشاجم في شعره، كما ذكرنا سابقا، وقال أنه أحمد بن محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك بن زادان بن شهريار أبو الفرج بن أبي الفتح كشاجم. وليس هناك ما يدعو إلى الشك في أن أبا الفرج هو أحمد بن أبي الفتح كشاجم. وكان أبو الفرج هذا بمصر أيام كافور، وأيام القاضي محمد بن عبد الله بن الخصيب ووالده، وحين عرف أبو الفرج ما يتمتع به القاضي محمد من قوة الاحساس باللمس، وكان إذا صفع عرف من يصفعه بوقع يده على رقبته، من غير أن يبصره، عمل فيه شعرا ليقول له أنه أيضا يقرأ نقش فص الخاتم باللمس خاصة دون الرؤية، فاتفق الاثنان في قضية بهرت عقول العالم وقام بينهما نسب في تلك القضية، فقال: إني إلى القاضي أمت بحرمة * هي بيننا نسب كفرض لازم حس لطيف في قفاه وفي يدي * هو آية بهرت عقول العالم! فقفاه يفتقد الأكف بحسه * ويداي تقرأ نقش فص الخاتم! فإذا أخذنا بتلك الرواية، أخرجنا المقطوعتين اللتين نسبتا إلى كشاجم خطا وسهوا، إذ إنهما لأحد ابنيه، لعله أبو نصر، ونرجح أن أبا الفرج الذي
(1) تامور لفظة فارسية معربة معناها: روح، أو نفس، أو دم (ستانغس، فرهنك جامع، 277 أ). وفي الكنز المدفون، قال السيوطي: " يقال حرف في تامورك خير من عشرة في وعاتك ". التامور القلب " (ص 360). أما الخفاجي فقال أن لفظة تامور معناها " صبغ أحمر، ودم القلب، وأصل معناه موضع السر "، وهي لفظة غير عربية.. (ص 51). (2) هي في موقع طهران الآن. 315 افتخر بنسبة إلى محمد بن عبد الله القاضي، لا يهجو والده القاضي عبد الله، وأن أبا الفرج هذا هو أحمد بن محمود بن الحسين ولد كشاجم البكر. أبو نصر بن أبي الفتح كشاجم، أو أبو النصر ذكرنا سابقا أن كشاجم لم يذكر في ديوانه سوى ولد واحد، وإن أشار إلى أنه كان له أصيبية. ونرجح أنه لم يعش منهم سوى اثنين أبي الفرج بكره، وأبي نصر. وأول مصدر ورد فيه ذكر أبي نصر هو نشوار المحاضرة لأبي علي التنوخي، وهو أيضا أقدم نص جاء على ذكره فيما عرفناه، وكان أبو نصر بن كشاجم، كاتب أبي علي الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم (1). وحين عاد الأعصم إلى دمشق غازيا سنة 360 ه استولى عليها، وقتل نائبها الفاطمي جعفر بن فلاح، ثم توجه إلى مصر سنة 361 ه. ثم عاد إلى بلاد الشام حيث استقر بالرملة حتى وافته المنية سنة 366 ه. ونرجح أن الأعصم الذي كان شاعرا، محبا للأدباء والشعراء، كان يقيم في داره بالرملة مجالس أدبية، وكان الشعراء يجيزون ما يقول، وكان ابن كشاجم، أبو نصر قد التحق به، فقربه وأدناه، وجعله كاتبه منذ عاد إلى بلاد الشام. ففي سنة 365 ه حسب رواية أبي علي التنوخي، كان أبو نصر بالرملة، يلازم الأعصم، كاتبه ونديمه أيضا. وكان للأعصم مجالس أدب يحضرها الأدباء والفقهاء والشعراء. وكان أبو نصر شاعرا، وكاتبا للأعصم، مما جعل بعض المؤرخين يخلطون بينه وبين أبيه كشاجم، فجعلوا كشاجم من وفيات عشر الستين، كما جعلوه كاتبا للقرمطي (2)! ولأهمية رواية أبي علي التنوخي 384 ه، وقربها من العصر الذي عاش فيه أبو نصر بن كشاجم، ننقلها كما وردت على لسان محمد بن عثمان الخرقي الفارقي الذي رواها بنفسه لأبي علي التنوخي في إحدى زياراته. قال محمد بن عثمان: كنت بالرملة سنة ثلاثمائة وخمس وستين، وقد ورد إليها القرمطي أبو علي القصير الثياب، فاستدناني منه، وقربني إلى خدمته. فكنت ليلة عنده إذ حضر الفراشون بالشموع. فقال لأبي نصر بن كشاجم، وكان كاتبه: يا أبا نصر، ما يحضرك في صفة هذه الشموع؟، فقال: إنما نحضر مجلس السيد، لنسمع كلامه، ونستفيد من أدبه، فقال أبو علي القرمطي في الحال بديها: ومجدولة مثل صدر القنا * تعرت، وباطنها مكتسي لها مقلة هي روح لها * وتاج على الرأس كالبرنس إذا غازلتها الصبا حركت * لسانا من الذهب الأملس وإن رنقت لنعاس عرا * وقطت من الرأس لم تنعس وتنتج في وقت تلقيحها * ضياء يجلي دجى الحندس فنحن من النور في أسعد * وتلك من النار في أنحس فقام أبو نصر بن كشاجم، وقبل الأرض بين يديه، وسأله أن يأذن له في إجازة الأبيات، فاذن له فقال: وليلتنا هذه ليلة * تشاكل أشكال أقل يدس فيا ربة العود غني لنا * ويا حامل الكاس لا تجلس فتقدم بان يخلع عليه، وحملت إليه صلة سنية، وإلى كل الحاضرين. وتناقل المؤرخون والباحثون القدماء هذه الرواية، فرواها ابن عساكر في تاريخه الكبير، وابن ظافر الأزدي في بدائعه، والكتبي في فواته، والمقريزي في نحله. أما ابن خلدون فقد أشار في تاريخه إلى أن كشاجم كان كاتبا للأعصم القرمطي، وقد اشتهر بخدمته للقرامطة، وقد خلط بينه وبين أبيه. لعل أقدم من ذكر ولدي كشاجم، أو ذكر أن له ولدين هو الثعالبي في يتيمة الدهر كما ذكرنا سابقا. وكان أبو نصر، مثل أبيه كشاجم، يرتحل في ربوع الشام ومصر، ولعل أبا نصر وأبا الفرج كانا مع والدهما كشاجم بمصر أيام القاضي عبد الله بن محمد بن الخصيب، قاضي الإخشيدية وكافور. وقد روى ابن حجر العسقلاني في كتابه رفع الإصر عن قضاة مصر، مقطوعتين لابن كشاجم، دون أن يسميه في هجاء القاضي عبد الله بن محمد بن الخصيب. وقد رجعنا سابقا أن يكون أبو نصر هو الذي هجا القاضي، لا أخوه أبو الفرج، إذ كان أبو الفرج معجبا بابن عبد الله محمد القاضي بعد أبيه، وكان بينهما تشابه سماه أبو الفرج نسبا. أما الجامع المشترك بينهما، أو النسب فهو في شدة الاحساس في اللمس لذلك استبعدنا هجاءه لأبي زميله. وفي مصر، التقى أبو نصر وزير كافور أبا الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات المعروف بابن حنزابه، وحين علم أن أبا الفضل يهم في الخروج إلى متنزهه (3) بالمقس، كتب إليه بيتين بماء الذهب على تفاحة حمراء! وأنفذها إلى الوزير المذكور، جاء فيهما: إذا الوزير تجلى للنيل في الأوقات فقد أتاه سمياه جعفر بن الفرات وتبين لنا أن الوالد كشاجم مات بمصر، ولما مات هجاه محمد بن هارون بن الأكتمي المصري، كما هجا ابنيه أبا نصر وأبا الفرج، بقوله: يا ابني كشاجم أنتما * مستعملان مجربان! مات المشوم أبوكما * فخلفتماه على المكان وقرنتما في عصرنا * ففعلتما فعل القران لغلاء أسعار الطعام * وميتة الملك الهجان!
(1) هو الحسن بن أحمد بن أبي سعيد الجنابي القرمطي، أبو علي، وقيل أبو محمد، المعروف بالأعصم، ولد بالأحساء، وتوفي بالرملة سنة 366 ه. تغلب على الشام سنة 357 ه، ثم عاد إلى الأحساء. وفي سنة 360 عاد إلى دمشق، وكسر جيش جعفر بن فلاح، أول نائب فاطمي بالشام، وقتله. ثم توجه إلى مصر، فحاصرها سنة 361 ه. ثم عاد إلى الأحساء، ثم رحل إلى الرملة حيث توفي سنة 366 ه. وكان يظهر الطاعة للطائع لله العباسي ببغداد، وكان شاعرا، فصيحا على حد قول ابن تغري بردي (النجوم الزاهرة، 4: 128). وكان شعره من أفحل الشعراء، على حد تعبير ابن كثير (البداية والنهاية، 11: 287). وكان أبو نصر، ابن كشاجم، كاتبه بالرملة. (2) ابن خلدون، كتاب العبر، 4: 196، قال: ".. كان كاتبهم (أي القرامطة)، أبو الفتح الحسين بن محمود، ويعرف بكشاجم... وكتب لهم بعده ابنه أبو الفتح نصر، ولقبه كشاجم مثل أبيه. وكان كاتبا للأعصم ". والصواب هو أن أبا الفتح كشاجم هو محمود بن الحسين، وأن ابنه هو أبو نصر بن أبي انفتح بن كشاجم كما ذكرنا سابقا. (3) المقس قرية قرب الفسطاط (القاهرة)، تقع على النيل، كان اسمها قبل الإسلام أم دنين. 316 وكان لا بد لابني كشاجم من مغادرة مصر بعد وفاة الوالد، وتهجم الشاعر عليهما. وقد اتجه أبو نصر إلى بلاد الشام حيث التقى علي بن محمد الشاشي بصيداء الشام (1)، فأنشده من شعره. وحين التقى الشاشي الثعالبي بميافارقين أنشده شعر أبي نصر، إذ كان الثعالبي حينذاك يجمع شعر الشعراء الذين لا دواوين لهم من شعراء الشام. وتبين لنا أيضا أن أبا نصر التقى الطبيب عيسى الرقي ببلاد الشام، بحلب أو بغيرها، ببلاط سيف الدولة أو خارجه. وكان عيسى الرقي أحد الأطباء المقربين في بلاط سيف الدولة، إنما كان على خلاف مع أبي نصر، ولم يكن أبو نصر معجبا به، ولا بطبه، فذمه، وهجاه، إما عن تجربة أو سماع، فقال يهجوه، مقارنا بينه وبين عيسى المسيح، لاشتراكه بالاسم، فقال: عيسى الطبيب ترفق * فأنت طوفان نوح يأبى علاجك إلا * فراق جسم لروح! شتان ما بين عيسى * وبين عيسى المسيح فذاك محيي موات * وذا مميت صحيح! شعر أبي نصر بن كشاجم ومن المفيد أن نثبت شعر أبي نصر كما جمعه له الثعالبي. فأبو نصر كان مثل أبيه كشاجم شاعرا، متأثرا بمنهجه، منهج المدرسة الشامية، متظرفا بظرفه، متأنقا في خطه بتأنقه. ولم يذكره النديم في فهرسته. وقد قال الثعالبي أنه جمع أشعاره وأشعار غيره ممن لم يجد لأصحابها دواوين، فأثبت كل ما رواه له المنشدون من جلسائه. وقد أنشدوا له من شعر أبي نصر في وصف الكتاب، والشمعة، والصديق البخيل، وكان قد دعاه إلى الطعام، فجاء وصفه له وصفا بارعا، مضحكا، وفي الطبيب عيسى الذي يعجل في تفريق الروح عن الجسد، وفي جونة الطعام، القصيدة الطويلة المزدوجة، وفي الخط، وفصد إسحاق بن كيغلغ. أما تظرفه فقد بلغ مداه حين كتب شعره على تفاحة حمراء بالذهب، وأنفذها إلى وزير كافور، ابن حنزابه! أما العسقلاني فقد روى له مقطوعتين في هجاء القاضي عبد الله بن الخصيب، قاضي الأخشيد وكافور. وارتأينا أن نجمع للشاعر أبي نصر، ابن أبي الفتح كشاجم ما جاء في اليتيمة، وفي غيرها، على ترتيب الحروف. لعلنا بذلك نشير إلى ما نسب إلى أبيه كشاجم من شعره، ولتأثره مذهب أبيه الشعري في لطائفه. ولأبي نصر، ابن أبي الفتح كشاجم في شمعة: بركة صفر عمودها شمع * تفيض نارا من موضع الماء تبكي إذا ما المقص خمشها * فرط حياء من الأخلاء كأنها عاشق مخايله * فيه بواد لمقلة الرائي صفرة لون وذوب معنبة * ودفع حزن، ونار أحشاء وله في الكتابة: غبط الناس بالكتابة قوما * حرموا حظهم بحسن الكتابة وإذا أخطأ الكتابة خط * سقطت تاؤها فصارت كآبة وكتب على تفاحة حمراء بالذهب إلى الوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل ابن الفرات وأنفذها إليه، وقد خرج إلى متنزهه بالمقس: إذا الوزير تجلى * للنيل في الأوقات فقد أتاه سمياه * جعفر بن الفرات وله في وصف الكتاب: وصاحب مؤنس إذا حضرا * جالسني بالملوك والكبرا جسم موات تحيا النفوس به * يجل معنى وإن دنا خطرا ملكت منه كنزا غنيت به * فما أبالي ما قل أو كثرا أظل منه في مجلس حفل * بالناس طرا ولا أرى بشرا وإن أطفل به فيا لك من * مستحسن منظرا ومختبرا أعجب به جامعا ولو جعلت * عليه كف الجليس لاستترا وله يهجو القاضي عبد الله بن محمد بن الخصيب: قبح الله الخصيبي فما أقبح أمره! اشترى الدار التي كانت قديما لابن شعره وهي الدار التي يبتر فيها الله عمره لا يتم الحول حتى يجعل المجلس قبره وله أيضا فيه: اشترى الدار الكبيرة * ودعا فيها الوكيره صغر الباب وفي * تصغيره أشام طيره قبره لا شك فيه * بعد أيام يسبره وله في فصد إسحاق بن كيغلغ: يا فاصدا شق عرق إسحاق * أي دم لو علمت مهراق؟ سفكته من يد معودة * لنيل مال وضرب أعناق لو يوم حرب أصبت من دمه * إذا أقام الدنيا على ساق وله في صديق بخيل: صديق لنا من أبرع الناس في البخل * وأفضلهم فيه، وليس بذي فضل دعاني كما يدعو الصديق صديقه * فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي فلما جلسنا للطعام رأيته * يرى أنه من بعض أعضائه أكلي ويغتاظ أحيانا، ويشتم عبده * وأعلم أن الغيظ والشتم من أجلي! فأقبلت أستل الغذاء مخافة * وألحاظ عينيه رقيب على فعلي أمد يدي سرا لأسرق لقمة * فيلحظني شزرا فأعبث بالبقل! إلى أن جنت كفي لحتفي جناية * وذلك أن الجوع أعدمني عقلي فجرت يدي للحين رجل دجاجة * فجرت، كما جرت يدي رجلها، رجلي وقدم من بعد الطعام حلاوة * فلم أستطع فيها أمر ولا أحلي وقمت لو أني كنت بيت نية * ربحت ثواب الصوم مع عدم الأكل وله في جونة الطعام، قصيدة مزدوجة: وجاءنا فيها بباذنجان * مثل قدود أكر الميدان
(1) الثعالبي، يتيمة الدهر، 1: 301. 317 قد قارن الهليون بالممازجه * تقارن الكرات بالصوالجه ثم أتت سكارج الكوامخ * كمثل أنوار من اللخالخ ما بين طرخون وبين صعتر * وفيجن غض وبين كزبر وبين بن عدة المشطور * كأنه تعلية البخور ثم أتى براضع لم يعتلف * كان في جنبيه قطنا قد ندف وحمل مبزر مشبر * كأنه مضمخ بعنبر يتلوه جدي فارس بخل * كأنه بالزعفران مطلي تخاله في خلة المزعفر * مركبا تحت عقيق أحمر قد عملت أطرافه سلاقه * عجيبة الصنعة والمذاقه زيدت من الخردل والصباغ * وكشفت القحف عن الدماغ وصف فيه فلق الرمان مثل رصيع خرز المرجان ثم أتى بناطق هياج * بحر طبع البارد المزاج كأنه في العين والقياس * سبائك جاءت من الروباس وجونة موصوفة من الجون * قد جمع الطباخ فيها كل فن من كل سخن منضج وبارد * ما بين ألوان إلى بوارد فمن رقاق ناعم رفاق * يحمد في المنظر والمذاق وأرغف تشف للصفاء * كما تشف أوجه المرائي ومن مصوص من مخاليف الحجل * كأنما كانت ترف في الحبل ومن فراريج بماء الحصرم * تصلح للمخمور أو للمحتمي قد شوشت أكبادها ببيض * فهي كمثل نرجس في روض وجاءنا فيها ببيض أحمر * كأنه العقيق ما لم يقشر حتى إذا قدمه مقشرا * أبرز من تحت عقيق دررا حتى إذا ما قطع البيض فلق * رأيت منه ذهبا تحت ورق يخال أن الشطر منه من لمح * أعاره تلوينه قوس قزح ما بين أوساط لطاف القد * مقدودة كمثل قد الند من صدر دراج وصدر حجله * بملحها وبقلها متبله فيها جبن صادق الحرافه * مقطع باللطف والنظافه قد ألبست قضبان طلع غضه * كأنها سلاسل من فضه ثم أتانا بعده لوزينج * كأنه من الأتحمي مدرج تنسله من دهنه العميق * كما أخذت بيد الغريق وجاءنا الغلمة بالمدام * ونحن لم ننهض من الطعام بغير ترتيب ولا صواني * وغير أنقال ولا ريحان لأن في الجونة أنواع الإرب * وعوضا من كل شئ يطلب هذا هو النوع الذي أختاره * ليس الذي عذبنا انتظاره نتائج وهكذا فان كشاجم اسم مرتجل، مبتكر مخترع للعلمية، شاء صاحبه أن يركبه، أو يؤلفه، أو يجمع أحرفا من أوائل كلمات خمس، تشير إلى صناعاته أو مهاراته أو صفاته، فكان له كشاجم اسما علما، عرف به واشتهر. وتبين لنا كذلك أن كشاجم علم بوزن مفاعل مفتوح الكاف، ومكسور الجيم، شبيه بصيغة منتهى الجموع، ممنوع من الصرف. وتبين لنا أن حركة الكاف الفتحة، بالرغم من الأكثرية التي شاءت أن تضم الكاف في مؤلفاتها منذ القرن التاسع الهجري حتى أواخر السبعينات من القرن العشرين، ولا سيما المستغربون الذين ذكروا كشاجم في تحقيقاتهم، أو ترجماتهم، أو أبحاثهم. وتبين لنا أن كشاجم كان كاتبا، وله مذهب في الكتابة يحتذى، وقد ألف كتاب كنز الكتاب، وجعله القلقشندي أحد الكتب الثلاثة التي لا يستغني عنها الكاتب. وكان شاعرا، وله ديوان شعر مشهور ومعروف، كان مصدرا لارتزاق النساخ، كما كان عامرا باللطائف التي تميز بها على زملائه، وكان أديبا، وله كتاب الرسائل، وكتاب أدب النديم، وكتاب الطرديات في القصائد والأشعار، وكان منجما، وله كتاب المصايد والمطارد، فيه ما يدل على ثقافته الفلكية، كذلك في شعره حيث وصف النجوم، وآلاتها. وكان مغنيا بالأوتار (1)، على حد تعبيره، وله كتاب خصائص الطرب، وقد أجاد الضرب على العود، وفي شعره قصائد كثيرة تشير إلى ذلك، وإلى وصف آلات الطرب. وكان يجيد بعض أصناف الطبخ، ويصفها شعرا، كما كان يجيده بعض الخلفاء، والأمراء، والأدباء في ذلك العصر. فبالرغم من كثرة طباخيه، على حد قوله، كان يباكر الطبخ حين يشاء (2)، وكان طبيبا، يهتم بالطب البشري، والحيواني، كما اتضح لنا من كتابيه المصايد والمطارد، والبزيرة. وتبين لنا أن المصادر الشيعية أشارت إلى أن حرف الجيم مستل من جامع أو جدلي، وأن حرف الميم مستل من منجم أو متكلم. وقد اعتمدت هذه المصادر على روايتي ابن شهرآشوب في معالمه، وابن طاووس في كتابه علماء النجوم. أما السيد محسن الأمين، فقد انفرد بلفظة معارف، فجعل الميم مستلا منها. وإذا كان لنا أن ندلي برأينا نقول أن الحروف في كشاجم، مستلة من كاتب، وشاعر، وأديب، ومنجم وملحن مغن بالأوتار، أو لعل الحرفين الجيم والميم مستلان من جواد، وكان لكشاجم مذهب معروف في الجود، يضرب به المثل، ومن منجم أو ملحن. اختلاط كنى الوالد وابنيه على المؤرخين والباحثين لعل أول من اختلط عليه كنى الثلاثة، الوالد وابنيه، هو السيوطي في محاضرته، بقوله: أن محمود بن محمد بن الحسين بن السندي بن شاهك، يكنى أبا نصر. فنقل عنه يوسف اليان سركيس في معجمه، مضيفا إليه كنيته أبا الفتح وحين نسب محمد كامل حسين هجاء القاضي عبد الله بن محمد بن الخصيب إلى كشاجم، اعتبر أبا نصر أحد كنى كشاجم! أما محمد أسعد طلس فخلط بين الأخوين وجعلهما واحدا، معتبرا أن كشاجم لم يخلف سوى ولد واحد، بارع في الأدب كأبيه، وهو أبو نصر أبو الفرج، ثم أضاف كنية
(1) ديوان كشاجم (ط بغداد)، قط 17، البيت 4، وهو: فغنيت بالأوتار حتى لم أدع * نغما، ولم أغفل لهن حساب (2) م. ن، قط 64، البيت 9، وهو: طعام إذا ما شئت باكرت طبخه * على كثرة من غلمتي وطهاتي 318 ثالثة لهذا الولد، وهي أبو الفتح، مستشهدا بالثعالبي. فكيف أصبح ابن كشاجم أبا النصر وأبا الفرج وأبا الفتح؟! فان اعتمد الثعالبي، كما ادعى، فقد أخطأ الرواية في قراءة النصوص، أما الشيخ عبد الحسين الأميني فذكر ولدي كشاجم أبا الفرج وأبا نصر أحمد، وعقب على ذلك بقوله أن كشاجم كان يكنى نفسه بالثاني. وفي معجم المؤلفين، قال عمر رضا كحالة أن لكشاجم كنيتين: أبا الفتح وأبا النصر! أحواله ولد ببغداد ونشأ، وتلقى علومه الأولى الأدبية، واللغوية، والعلمية، على كبار أساتذة الفقه والأدب والرواية والطب والتنجيم، منهم الفقيهان المروزيان موسى بن إبراهيم، وإبراهيم بن أحمد، وعلي بن سليمان الأخفش النحوي، والمنجم يحيى بن علي، والشطرنجي الأخباري أبو بكر الصولي، والطبيبان إسحاق بن حنين وثابت بن سنان وغيرهم. كما تأكد لنا أن خروجه الأول من بغداد إلى بلاد الشام كان في حدود سنة 300 ه، كما أنه كان يتردد إلى العراق عائدا إلى مسكنه وأملاكه ببغداد، ثم ينطلق منها ليزور مدن العراق، وقراها، وأمكنتها النزهة، ويرتاد أديرتها، منها الأكيراح، والأهواز، والبصرة، والكوفة، والموصل وغيرها، كذلك تبين لنا أن كشاجم قد شهد ما حل من نكبات بالقهرمانتين فاطمة وأم موسى الهاشمية 299 ه، 310 ه، كما شهد محنة أستاذه الأخفش 315 ه، ومقتل أميره أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان 317 ه، ومحنة ابن مقلة، وقد امتدت من 318 ه، 328 ه. وقد مدح شاعرنا بعض الوزراء، والرؤساء، والأشراف، والأمراء، والسلاطين، كابن مقلة، وأحمد بن إسماعيل الإسكافي، وإبراهيم بن عيسى الهاشمي، وأبي القاسم التنوخي، ومعز الدولة البويهي وغيرهم. وجملة القول أن كشاجم قد سكن حلب مدة من الزمن، قد تكون في حدود سنة 300 ه حتى سنة 313 ه، وتعرف فيها إلى الشاعر الصنوبري، فتأثر شعره الشامي، وحذا حذو مدرسته في الروضيات. ثم عاد إليها مرات قبل مجيء سيف الدولة إليها سنة 333 ه، وفي أيامه، وكان لكشاجم في حلب دار وأملاك، وقد تغنى شعرا بحلب، وبنهرها قويق، وببساتينها النضرة، وأزهارها الرائعة، وأشجارها الباسقة. وكان يزور ضواحيها المعروفة بمتنزهاتها، فيزور بانقوس، وبطياس، ودير البريج. ثم يغرب منها إلى أنطاكية، فينعم بنهرها الأرند، وإلى اللاذقية حيث أصدقاؤه الأمراء التنوخيون، ثم ينحدر من حلب إلى دمشق، فيزور حمص، وينعم بنهرها الميماس، وديرها على شط النهر. ثم يزور قارة، مصطاف الهاشميين، ودمشق حيث التقى صديقه الهاشمي علي بن حمزة، وينعم بغوطة دمشق، وبديرها مران في سفح جبل قاسيون. وتبين لنا أن كشاجم كان يقوم بتلك الرحلات النزهة، والزيارات للقرى والبلدان مع جماعة من الأصدقاء، والندماء، على رأسهم الصنوبري الشاعر، الأنطاكي الحلبي، الذي نمت بينهما صداقة وود عميقان، نعم كشاجم بهما مدة طويلة من الزمن، فكان إذا أحس بالفتور يدب في قلب الصديق، أسرع، فكتب له معاتبا، متسائلا، معتذرا، باذلا نفسه عمن ود وأحب. وتبين لنا أن الصديقين كانا يصفان الأمكنة نفسها، ويمدحان الشخصيات نفسها، كالهاشميين علي بن حمزة، وعبد الملك بن محمد، ومحمد بن أحمد الرشيدي. على أن كشاجم التقى في حلب بعض الذين أخذ عنهم الشعر، واللغة، والفقه، كالصنوبري، وأبي بكر الدقيشي، وإبراهيم بن جابر. والتقى بعض الرواة الذين أخذوا عنه كالمسعودي، وأبي بكر الزبيدي، والمظفر بن نصر بن سيار الوراق، والسري الرفاء. والتقى كشاجم بعض الأمراء القادة فمدحهم كالحسن بن الحسن بن رجاء، وعلي بن أحمد بن بسطام. والتقى من الأمراء التنوخيين عبيد الله بن إبراهيم، والحسين بن علي، فمدحهما، كذلك التقى بعض الأشراف الهاشميين ومدحهم كعبد الملك بن محمد، وعلي بن حمزة، ومحمد بن أحمد الرشيدي. ولعله التقى كذلك سيف الدولة في الموصل وبغداد، قبل أن يلتقيه في حلب، حيث انضم إلى رجال الفكر، والأدب، والشعر، مجتمعين في بلاط سيف الدولة الحمداني، مؤلفين عصبة امتازت بشعرها الشامي الذي عده الثعالبي أكثر تفوقا من أي شعر آخر. وأصبح كشاجم أحد كبار شعراء المدرسة الشامية الوافدة إلى بلاد الشام، يحتذيه الشعراء، ويضربون على قالبه. ونرجح أن كشاجم بقي في بلاط سيف الدولة مدة قصيرة، حيث نادمه، وكتب له، وألف، ثم انسحب من البلاط الذي كان يعج بكبار الشعراء، والمفكرين، والمداحين، فانسحب متنقلا كعادته، مشرقا إلى العراق، ومغربا إلى مصر، حيث أكب على لذاذات الحياة، وهو يقول: وما اللذاذات إلا * لمن صبا وتمرد! ويقول أيضا: ولا تك آلفا إلا أديبا * وبستانا وماخورا ودير كان يتنقل بين الشام ومصر، كما كان يتنقل أيضا بين الشام والعراق. وقد سكن بغداد حيث ولد، وامتلك فيها دارا على شط دجلة، لعله ورثها عن آبائه، كما سكن حلب، ويخيل لنا أنه استقر في أواخر عمره بمصر حيث امتلك دارا بالفسطاط. ومن الفسطاط كان يتنقل بين ربوع مصر، فيزور مدنها، وقراها، وأمكنتها، ومحلاتها، ومتنزهاتها العامرة بالبساتين والزهور، وكان ينعم بالنيل، فينتقل بواسطته من قرية إلى أخرى، فتارة يركب الخيول المضمرات، وأخرى يركب البحر، حيث يجمع بين صيد البر وصيد البحر. وكان كثير الغشيان لدور اللهو، والغناء، والقصف، وقد عبر عن مغامراته الكثيرة في مصر، في شبابه، وفي كهولته. فكان له لقاءات مع الندماء والرفاق في تلك الأمكنة، منها بولاق والقاش والجيزة وحلوان ودمنهور وشبرا شبرى، ودير القصير وغيرها. وقد التقى كشاجم شخصيات، اكتفى بتكنيتها، فحاولنا مجتهدين أن نسمي بعضها، كأبي الحسين، لعله علي بن حمزة الهاشمي، وأبي أحمد، لعله القاضي عبد الله بن الخصيب، وأبي الفضل، لعله وزير الإخشيدية جعفر بن الفضل المعروف بابن حنزابه. وقد رجحنا أن يكون علي بن طارق، وأحمد بن طارق، من المغاربة الذين سكنوا الفسطاط. أما مرحب فتبين لنا أنه ابن مرحب الطبيب المعروف في ذلك الزمان. أما كافور الإخشيدي، فلم يسمه مباشرة، إنما أشار إليه تلميحا، وذكر سيادته على مصر والشام، في معرض هجاء. ومهما يكن من أمر، فقد ابتهج كشاجم في مصر، وفرح بدور اللهو، فكان يقضي نهاره في صيد البر وصيد البحر، ثم يغشى في أماسيه دور اللهو
319 والقصف، ولعل المرض بدأ يدب في أعضائه وعظامه، مما جعل ابن مرحب الطبيب ينصحه في أن يكف عن العبث، وكان قد شكا أمره إلى الطبيب. وقد انتهى كشاجم بعلل كثيرة، وأسقام مضنية، عبر عنها بقوله نادبا: حان أن تستحي الأسقام من جسمي وتخزى! لم تدع لي منه ما في * مثله لي متعزى حزت الأعضاء منه * كلها بالضر حزا فانا الجزء الذي من * لطفه لا يتجزأ وتبين لنا أن كشاجم ندم على شبابه الذي ضاع بين العبث والقصف، فقال ناصحا الشباب: حلل الشبيبة مستعاره * فدع الصبا واهجر دياره! لا يشغلنك عن العلى * خود تمنيك الزيارة ما الفخر أن يغدو الفتى * متشبعا ضخم الجزاره كلفا بشرب الراح، * مشغوفا بغزلان الستاره! الفخر أن يشجي الفتى * أعداءه ويعز جاره! ويروح إما للامارة * سعيه، أو للوزارة! آثار كشاجم اتفق المؤرخون وكتاب السير، وجامعوا الأشعار والأخبار على أنه كان كاتبا يجيد الكتابة وأصولها، والخط وأصوله. وقد ترك وراءه منهجا للكتاب يحتذي كما قال: ولقد سننت من الكتابة للورى طرقا فسيحه وفضضت من عذر المعاني الغر في اللغة الفصيحة وجعلت من كفي نصيبا لليراعة والصفيحة وقال أيضا: وكم سننت رسوما غير مشكلة * كانت لمن أمها مسترشدا قبله وكان شاعرا، مفتخرا بشعره: على أني نبي الشعر * قد جئت على فتره! فلو أنصف حسادي * رأوني فوقهم قطره! بغوا شاوي في الشعر * فما أن قطعوا شعره وقال أيضا: فاستمع لي بقيت شامية الألفاظ حسنا، نجدية الأعراب بنت فكر كسوتها حلل الصدق فكادت تكون أم الكتاب! وكان يقول الشعر، لأنه يجد فيه ترجمة فصيحة عن النفس، ولا يقوله تكسبا، ولا تعمدا: ولئن شعرت لما تعمدت الهجاء ولا المديحه لكن وجدت الشعر للآداب ترجمة فصيحه وترك كشاجم وراءه كتاب ديوان شعر بمئة ورقة، كما حسبه النديم في فهرسته، وكان أديبا باحثا، فألف كتاب أدب النديم، وكتاب خصائص الطرب وكتاب الرسائل، وكتاب الطرديات في القصائد والأشعار، وكتاب كنز الكتاب. وكان عالما باحثا، فترك وراءه كتبا منها كتاب البزيرة المعروف بكتاب النزه، وكتاب الطبيخ، وكتاب المصايد والمطارد. وكان جامعا، راويا، كثير الحفظ والرواية، آخذا بتلابيب الجدل وعلم الكلام. وقد ظهر راوية جدليا في كل مؤلفاته المذكورة. وكان منجما، كثير الاهتمام بالنجوم، وطوالعها، وأبراجها، وآلاتها المستحدثة، وقياساتها، وطبائعها. ففي معرض أبحاثه وأشعاره جاء على ذكرها، فوصفها، وتحدث عنها. وكان موسيقيا، مرهف الحس، يضرب على العود، ويجيد اللحن، وقد ألف في الطرب كتابا كما أشرنا إليه سابقا، وكان يلحن أشعاره ليغنيها المغنون والقيان، فمن قوله: ونظمنا شعرا مليحا فغناه بلحن يحيى به الأمواتا وقوله: فغنيت بالأوتار حتى لم أدع * نغما ولم أغفل لهن حسابا وألفتها فأغار ذاك على يدي * قلمي، وعاتبها عليه عتابا وقوله أيضا: ثم استهلت فغنت وهي محسنة * في بعض أبيات قلته فيها ولم أزل دون ندماني مقترحا * شعري عليها، تغنيني وأسقيها وجملة القول كان كشاجم واسع المعرفة، كثير الاطلاع على علوم متعددة، أجاد التأليف في بعضها، وكان قد تعلم العربية على علي بن سليمان الأخفش الصغير النحوي، وأخذ الغريب عن أبي بكر الدقيشي، والفقه على الشافعيين الابراهيمين ابن أحمد المروزي، وابن جابر، وتأثر بالمدرسة الغنائية الحجازية، فاخذ لحن معبد، وابن سريج، والغريض، وجالس المنجمين، ونادمهم كيحيى بن علي المنجم، وتأثر بمذهب النوبختيين في التنجيم، فاخذ عن أبي سهل إسماعيل بن علي النوبختي، واهتم بآلات النجوم، وأبراجها، ودرس علم الطبيخ، والتغذية وفوائدها ومضارها، متأثرا بالأطباء الذين ألفوا فيهما. وأخذ الطب البشري عمن جالس من الأطباء المعروفين كإسحاق بن حنين، وثابت بن سنان وغيرهما من غير المشهورين كابن مرحب. وقرأ كتبهم الطبية، وكتب غيرهم ككتب بقراط، ويوحنا بن ماسويه، وابن الجزار ولا سيما زاد المسافر. على أن إهتمام كشاجم بالصيد والجوارح والحيوان، جعله يعني بالطب الحيواني، فكتب في البيطرة، وأشار إلى أمراض الطيور وعلاجها، وغير ذلك. وقد جمع كشاجم علومه المتعددة، ومهاراته الكثيرة في كتب، منها معروف منشور، ومنها مجهول أو مفقود. أما الكتب المنشورة التي في حوزتنا فهي كتاب ديوان شعره (1)، كتاب المصايد والمطارد (2)، كتاب أدب النديم (3). وفي حوزتنا نسخة مصورة من مخطوط كتاب البزيرة المعروف بكتاب النزه (4).
(1) نشر الديوان مرتين، سنة 1313 ه / 1895 م، في المطبعة الأنسية ببيروت، وسنة 1390 ه 1970 م، في مطبعة دار الجمهورية ببغداد. (2) نشر كتاب المصايد والمطارد سنة 1954 م، في مطبعة دار المعرفة ببغداد، تحقيق محمد أسعد طلس. (3) نشر كتاب أدب النديم سنة 1298 ه / 1880 م، في المطبعة الأميرية ببولاق. (4) مخطوط غوطا، رقم 1. 209. 320 أما الكتب الباقية، المجهولة أو المفقودة، فهي: كتاب الرسائل، وقد ذكره النديم في فهرسته، كتاب كنز الكتاب، وقد ذكره القلقشندي في صبحه. أما حاجي خليفة فقد ذكر في كشفه بالإضافة إلى أدب النديم، والديوان، والمصايد والمطارد، كتاب خصائص الطرب، وكتاب الطبيخ، وكتاب الطرديات في القصائد والأشعار. كتاب ديوان شعره أن أول من أشار إليه من المؤرخين هو النديم في فهرسته، ثم الثعالبي في يتيمته، وياقوت الحموي في معجمه، وابن خلكان في وفياته، وحاجي خليفة في كشفه، ثم تناقله المؤرخون القدماء والمحدثون. وقد غلب على كشاجم الشعر، فلهج المؤرخون، والباحثون، والرواة في الأخذ من شعره في مواضيع شتى. أما المخطوط الذي اعتمده النديم فيقع في مائة ورقة. وقد حصلنا على مخطوطات مصورة للديوان، فوجدنا أن مخطوط برنستون (1) نسخ 514 ه، يقع في 117 ورقة، وعدة أبياته 2762 (2)، ومخطوط دار الكتب المصرية (3) نسخ 603 ه، عن أقدم مخطوط، جمعه أبو بكر الحمدوني في القرن الرابع الهجر، أيام ابن كشاجم، أبي الفرج أحمد، يقع في 175 ورقة، وعدة أبياته 3322، ومخطوط بكري شيخ أمين نسخ القرن السادس أو السابع ه ظنا، وهو مخطوط نادر، غير مسجل في أي دار أو مكتبة، يقع في 156 ورقة، وعدة أبياته 3163، ومخطوط المتحف البريطاني نسخ 1054 ه، يقع في 94 ورقة، وعدة أبياته 3063، ومخطوط لينغراد نسخ 1055 ه، يقع في 80 ورقة، وعدة على أن النديم والثعالبي ومن بعدهما تنبهوا لما دخل ديوان كشاجم من شعر غيره، ولا سيما الخالديين. كان السري الرفاء مغرى بنسخ ديوان أستاذه كشاجم، لاعجابه به، وللارتزاق أيضا، فكان يدس فيه ما حسن من شعر الخالديين ليكبر حجمه، ويغلى سعره من ناحية، ومن ناحية أخرى ليثبت ما كان شائعا عن الخالديين بأنهما كانا إذا استحسنا شيئا غصباه صاحبه حيا أو ميتا، لا عجزا منهما عن قول الشعر، ولكن كذا كانت طباعهما! على حد قول النديم. كتاب أدب النديم وقد ذكر النديم في فهرسته كتاب أدب النديم، وذكره حاجي خليفة أيضا في كشفه، ثم تناقله المؤرخون والكتاب. نشر هذا الكتاب مرتين، مرة ببولاق سنة 1298 ه، وثانية بالإسكندرية سنة 1329 ه بعنوان آداب الندماء ولطائف الظرفاء. ونرجح أن الطبعتين هما للمخطوط نفسه، لكن ناشر الطبعة الثانية ألحق به قصيدة لأبي فراس الحمداني. على أن بروكلمان حين أشار إلى كتاب أدب النديم، لم يذكر أنه طبع، إنما ذكره مخطوطا ببرلين والقاهرة، وقال عنه أنه مجموعة من الحكايات والأشعار!، يوجد في برلين، 1094، وفي القاهرة أول 4: 20، القاهرة ثاني: 3: 9. ثم ذكر بروكلمان كتاب آداب الندماء ولطائف الظرفاء المنشور بالإسكندرية، كأنه كتاب آخر، يختلف عن كتاب أدب النديم. أما أبو ذؤيب ولفنسون فقد أشار إلى أن أدب النديم طبع مرتين، مرة ببولاق، ومرة أخرى بالإسكندرية بعنوان أدب الندماء ولطائف الظرفاء، وأشار بروكلمان إلى أن عدة صفحاته 62، ويليه قصيدة لأبي فراس الحمداني. وكتاب أدب النديم يحتوي على مقدمة، وثلاثة عشر بابا، وهي: باب مدح النديم وذكر فضائله، باب أخلاق النديم وصفاته، باب التداعي للمنادمة، باب الشرب وكثرتهم وقلتهم، باب السماع، باب المحادثة، باب غسل اليد، باب إدارة الكاس، باب الاكثار والاقلال، باب طلب الحاجة والاستماحة على النبيذ، باب هيئة النديم وما يلزم لرئيسه، باب ما يلزم الرئيس لنديمه، باب الأدب في الشطرنج. كتاب المصايد والمطارد لم يذكر النديم في فهرسته كتاب المصايد والمطارد، ولم يذكره بين الكتب التي أشار إليها في البيطرة والجوارح. ونرجح أن النساخ خلطوا كثيرا بين مؤلفات كشاجم التي تناولت موضوع الصيد والطرد، كما ادعى بعض الكتاب لأنفسهم بعضها. فالكتب: المصايد والمطارد، والبيزرة، والبزيرة المعروف بكتاب النزه، ونزهة الملوك الصيد والطرد عند العرب، والطرديات، جميعها تدور حول موضوع واحد وهو الصيد والطرد، وما يتبعهما. ومن المحتمل أن يكون النساخ قد غيروا عناوينها أو استبدلوها في سياق نسخهم لها، أو تلخيصها. ومن المحتمل أيضا أن الذين ادعوا بعض كتبه، أو اختلسوها، هم الذين غيروا عناوينها ومقدماتها! على أن الغموض لا يزال قائما، والظنون لا تزال أيضا حائمة حول بعضها، وستبقى حتى يتبين ما يعيدها إلى مؤلفها كشاجم، أو يعيد بعضها. إن أقدم من أشار إلى كتاب المصايد والمطارد هو ابن خلكان في وفياته. حيث نقل عنه في مواضع مختلفة. وأول من أهتم بمراجعة مخطوط المصايد والمطارد هو ولفنسون، وكان قد عهد إليه الأمير عبد الله بن الحسين بمراجعته من نسخة مصورة في جامع الفاتح بالآستانة، ففعل.
(1) رقم مخ برنستون [H 17] 23، نسخ ابن المقرون، الخط نسخي كبير واضح مشكول جزئيا. في ورقة العنوان أما يلي: " ديوان أبي الفتح محمود بن الحسين بن السندي بن شاهك الكاتب المعروف بكشاجم ".. وفي آخر المخطوط ما يلي: " تم جميع شعر كشاجم والحمد لله، وصلواته على سيدنا محمد النبي، وآله الطاهرين الأخيار، وقع الفراغ منه في يوم السبت، تاسع عشر من صفر، من أربع عشر وخمسمائة، كتبه ابن المقرون " (ورقة 117 أ - ب).. القصائد غير مرتبة على الحروف. (2) خيرية محفوظ، محققة ديوان كشاجم، م 14، ناجي هلال، هوامش تراثية 116. (3) رقم مخطوطة دار، الكتب المصرية، 4579 أدب، الناسخ مجهول، نسخة عن أبي بكر محمد بن عبد الله الحمدوني، معاصر أبي الفرج، ابن كشاجم. الخط نسخي، واضح، مشكول. ورقة العنوان غير موجودة. في آخر المخطوط " قال أبو بكر محمد بن عبد الله الحمدوني: هذا جميع ما وقع إلينا من شعر أبي الفتح محمود بن الحسين، الكاتب المعروف بكشاجم، وما صح عنه قد جمعته، وألفته على حروف المعجم ليكون أقرب مأخذا، وأنجح مطلبا لمن رامه. وبعدما اتفق تأليفه على هذا الحد لقيت (ورقة 1688 ب)، أبا الفرج بن كشاجم بالري فأنشدني لوالده ". (ورقة 169 أ). ثم روى له 99 بيتا.. وفي آخر المخطوط ما يلي: " آخر ما وجدنا من شعر أبي الفتح كشاجم الحمد لله على نعمه، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. فرغ كاتبه من نقله في الحادي والعشرين من ربيع الأول سنة ثلث وستمائة بحلب المحروسة " (ورقة 175 أ). قصائده مرتبة على الحروف. 321 ونرجح أن كتاب نزهة الملوك، الذي نشره محققه بعنوان كتاب الصيد والطرد عند العرب، ما هو إلا تلخيص ذكي، واختصار مفيد، وتفريغ مقصود من الشعر لكتاب المصايد والمطارد، وكتاب البزيرة المعروف بكتاب النزه! الكتب المفقودة أو المخطوطة أما المؤلفات الأخرى فلا نعرف عنها كثيرا، ولا نعرف هل هي مخطوطات، أو مفقودات، منها كتاب خصائص الطرب، وكتاب الرسائل، وكتاب الطرديات في القصائد والأشعار، وكتاب كنز الكتاب، وكتاب الطبيخ. السيد مرتضى العلوي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان شاعرا بليغا فصيحا وكان أورع فضلاء زمانه وله كتاب القصائد والمراثي مات سنة 1111 ومن جملة قصائده الفاخرة في رثاء أهل البيت منها: إذا لم يكن بد من الحزن والبكا * فلا تجزعن الا لآل محمد أصابتهم أيدي المصائب فاغتدوا * بأسوأ حال في الزمان وانكد رمتهم بنبل الحقد آل أمية * فمن بين مسموم وبين مشرد إلى أن قال: بكم آل طه همتي ومدائحي * وحزني وتذكاري وحسن توددي أنا العلوي المرتضى عبد عبدكم * وأنتم حماتي في حياتي وفي غد الشيخ مغامس الحجري البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو أحد الأدباء، وواحد النجباء جمع مع الأدب علوما كثيرة وله ديوان معروف في الرثاء مشتمل على أشعاره البديعة وعباراته المنيعة ومن قصائده: تذكر ما أحصى الكتاب فتابا * وحاذره من مس العذاب فدابا بكى ذنبه واستغفر الله ربه * ونادى منادى رشده فأجابا تذكر أوزارا جناها بجهله * وأشفق من أوزاره فأنابا رأى السعي في الدنيا خلا سعي بلغه * ضلالا وللأخرى نراه صوابا فلام على التفريط في السعي نفسه * فقال لها عدلا لها وعتابا إذا كانت الدنيا غرورا لطالب * فكيف تخيرت الغرور طلابا إلا فاستقيلي وارجعي مطمئنة * إذا شئت فوزا أو خشيت عقابا إلى أن قال: ولو دام عيش في الزمان لأهله * لدام لأولاد النبي وطابا أما سمعت أذناك ما قد جرى لهم * غداة أناخوا في الطفوف ركابا لقد ضربوا في جانب الكرب والبلا * وقد ضربوا في كربلاء قبابا إلى أن قال: وحاشا وكلا أن يخيب مغامس * وقد شب في مدح الهداة وشابا الدكتور مصطفى جواد. مرت كلمة عنه في الجزء الأول من المستدركات ونضيف إليها هنا ترجمة مأخوذة مما كتبه هو بنفسه: ولد في العقد الأول من القرن العشرين في محلة القشلة من الرصافة في بغداد من والد خياط كان دكانه في سوق الخياطين قرب خان مرجا الذي أصبح الآن متحف الآثار العربية في شارع السموءل من محلة باب الآغا، ولفقد والده بصره غادر بغداد محل عمله ومقر سكنه إلى دلتاوة التي تعرف الآن بالخالص حيث اشترى بساتين يعيش من غلتها. ولما بلغ سن الدرس سلمه والده إلى معلمة أطفال لقنته بعض القرآن الكريم، ثم نقله والده إلى مدرسة دلتاوة الابتدائية، ومن معلميه فيها عبد المجيد الأعظمي الذي تدرب عليه في خط الرقعة، وفي هذه المدرسة نجح إلى الصف الثالث، وفي شتاء السنة الدراسية في هذا الصف، أي في سنة 1917، احتل الجيش الانكليزي دلتاوة معقبا الجيش العثماني المنسحب نحو الشمال، وكان والده قد توفي قبل ذلك بقليل فلم يتسن له الاستمرار على الدراسة وانصرف إلى العناية بالبساتين التي خلفها والده له ولأخيه الأكبر ولأخواته الست من زوجي أبيه: أمه وضرتها، ثم حدث نزاع بين والدته وأخيه من أجل الوصية عليه والاشراف على أموره، لأنه كان حينئذ قاصرا، فنقله أخوه إلى بغداد وأدخله المدرسة الجعفرية الأهلية، ولتلكؤ أخيه عن تسديد أجرة المدرسة ضنا بالنفقة عليه انتقل إلى مدرسة باب الشيخ الابتدائية، ثم ترك هذه المدرسة والتحق بوالدته بعد أن حصلت على حكم الوصاية عليه، وقد قاسى من الفقر والحرمان والضنك وشظف العيش ما يحزن ويؤلم. وفي سنة 1920 ضاقت عليه سبل العيش في بغداد واشتدت فاقته، فرأى أن يغادرها إلى دلتاوة لينتفع من سهامه في البساتين الموروثة وكان الغالب على غلاتها التمر أغزر الفواكه في العراق وأرخصها، وكانت الثورة العراقية قد شب أوارها واندلعت نيرانها في بعض أنحاء العراق ولا سيما الفرات الأوسط ولواء ديالى، واستولى الثوار على بعقوبة ونواحيها ومنها دلتاوة، وكانت الطريق بين بغداد وبعقوبة فدلتاوة تحت سيطرة الإنكليز ورقابتهم وقد اتخذوا من الآثوريين والأرمن اللاجئين حراسا لحفظ الطريق وقطعها على الثوار وقتالهم، فلم يجد غير طريق الجديدة الشرقية، فسلكها سائرا على قدميه مع قافلة من المسافرين فبلغ قرية كشكين المجاورة لدلتاوة مساء وأدركه الليل فيها وحار في أمره لأن القافلة سلكت طريقا أخرى، فأضافه رجل من أنسبائه، وخرج من عنده صباحا وسار قاصدا دلتاوة التي عند ما وصل إليها وجد الثوار قد بنوا على الطريق المؤدية إلى بعقوبة باب دفاع حصينا، وبقي في دلتاوة يعني بالبساتين، وكان الحكم فيها للثوار وهم في فوضى من أمرهم وقلق من مصيرهم. وكان الإنكليز قد استرجعوا بعقوبة من أيدي الثوار ولبثوا ينتظرون الفرصة لمهاجمة دلتاوة، وأخذوا يرسلون عليها وعلى الثوار الطيارات ثلاث مرات في اليوم الواحد تلقى عليهم القنابل إزعاجا وإرهابا وتمهيدا للهجوم عليها، وفي يوم عاشوراء العاشر من شهر محرم سنة 1339 الهجرية الموافق ليوم 25 9 1920، وكان معظم أهل دلتاوة مشغولين بالعزاء الحسيني أرسل الإنكليز ثلاث طيارات ألقت عليهم القنابل، وقد حسب الثوار أنه قصف بغير هجوم كما وقع قبلا، ثم أرسل الإنكليز إلى الثوار من خدعهم بالزعم أنهم أسقطوا طيارة في مقاومتهم إياها عند
322 هجومها، ووضع الإنكليز شرذمة من الرجال بأيديهم آلات من الخشب تدار فتحدث أصواتا كأصوات الرصاص المنطلق من الأسلحة النارية، فلما خرج الثوار إلى مكان الأصوات كان الجيش الانكليزي يترصدهم وقد كمن لهم في طريقهم وراء أشجار الصفصاف القائمة على ضفاف الأنهار، فلما صار الثوار على مقربة من الجيش الانكليزي أمطرهم بوابل من الرصاص، فقتل من قتل وجرح من جرح وتشتت الباقون، ودخل الجيش الانكليزي دلتاوة وفعل باهلها الأفاعيل من قتل الرجال وتشريد العيال وقطع الأشجار وحرق الديار، وكان هو فيمن خرج لمشاهدة الطيارة التي قيل أنها أسقطت فلم يجد سوى الخراطيش الفارغة، ولما رأى دلتاوة قد صارت في قبضة الجيش الانكليزي يصنع بها ما يشاء أشفق من الرجوع إلى داره ولاذ هو وصبية آخرون بالبساتين التي قضوا فيها ليلة ليلاء ثقيلة السحاب ماطرة شديدة الريح... وبعد أن عادت الأمور إلى مجاريها واستتب الأمن في دلتاوة أمر الإنكليز بفتح مدارسها، أما هو فقد انصرف إلى العمل في بساتينه عاقدا العزم على المضي في عمله هذا، ولكن ذات يوم رآه ابن مدير المدرسة الذي حبب إليه دخول المدرسة فدخلها على قلة ما يصيبه من الغلة وضيق ذات يده وشدة حاجته حتى أنه لم يكن في وسعه أن يشتري حذاء له بدلا من حذائه القديم البالي المتهري، ولما صار في الصف الخامس علم أن في بغداد دار المعلمين الابتدائية تقبل الطلاب فيها بعد الامتحان، فغادر دلتاوة إلى بغداد وبعد أن نجح في الامتحان قبل في هذه المدرسة التي قوي فيها ميله إلى دراسة العربية وظهرت رغبته في نظم الشعر حتى أنه أخذ يكتب مواضيع الإنشاء نظما ونثرا مما جعل مدرس الإنشاء يعجب به ويثني عليه، وعند تخرجه من هذه المدرسة عين معلما في مدرسة الناصرية الابتدائية التي بعد أن قضى فيها نحو سنة ونصف السنة نقل إلى مدرسة السيف الابتدائية في البصرة، ومنها إلى مدرسة الكاظمية الابتدائية، ومنها إلى مدرسة دلتاوة الابتدائية، ثم اختير للتحرير في وزارة التربية والتعليم التي كانت تدعى حينئذ وزارة المعارف، ثم أصبح معلم اللغة العربية في المدرسة المأمونية الابتدائية. وعند ما كان معلما في هذه المدرسة نشر كتاب الحوادث الجامعة وبحوثا علمية في مجلة لغة العرب، وفي سنة 1932 صار مدرس اللغة العربية في المدرسة المتوسطة الشرقية، واستمر على نشر آثاره نثرا وشعرا ونظما في مجلة لغة العرب ومساعدة صاحبها اللغوي الشهير الأب انستاس ماري الكرملي في تحريرها مجانا. وفي سنة 1934 سافر إلى باريس ودخل كلية السوربون لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب في موضوع سياسة الدولة العباسية في أواخر عصورها، فظفر بما أراد، وبعد رجوعه إلى العراق في سنة 1939 عين أستاذا في دار المعلمين العالية، ثم نقل منها إلى مديرية الآثار القديمة العامة التي عين ملاحظا فنيا فيها، ثم رجع إلى التدريس في دار المعلمين العالية التي صارت تسمى كلية التربية بعد إنشاء جامعة بغداد، وفي عمله هذا بقي إلى آخر أيامه وأن أقعده المرض العضال في داره وحال بينه وبين النهوض بعمله الرسمي. وقد انتخب عضوا مراسلا في المجمع العلمي العربي في دمشق، ثم عضوا عاملا في المجمع العلمي العراقي، ونشر كثيرا من شعره في المجلات والصحف، ونقل إلى العربية رباعيات الشاعر الرياضي الفيلسوف عمر الخيام ورباعيات الأديب الإيراني حسين قدسي نخعى، وترجم وشارك في ترجمة الكثير من الكتب والتعقيب عليها، وله فصول مستفيضة في التراث الشعبي العراقي ومعلومات واسعة عن المقام العراقي وأشهر الذين أتقنوه وبرعوا فيه. وقد جمع شعره بخطه الرقعة في دفتر أراد أن يخرجه ديوانا يسمى الشعور المنسجم في الكلام المنتظم، بيد أن المنية أدركته قبل أن يحقق أمنيته، فما زال هذا الديوان مخطوطا ومن شعره قصيدته باريس قبل الحرب التي نظمها سنة 1939 وفيها يقول: رمت حسرة بالفجر فارتعب الفجر * وآهت لآتى البين فاضطرب الصدر وددت لو الدنيا يزول انتظامها * وبالليلة الليلاء يستنفد العمر تجلدت حتى حطم الكظم أضلعي * وكاد من العينين ينتثر الجمر فيا حسرة طال اكتئابي بذكرها * ويا آهة ما زال يعقبها البهر لئن مزقت قلبي وأوهت حشاشتي * لقد تركت عزما يدين له الدهر أرى بارق الآمال يدعو عزيمتي * إلى خطة خشناء يعقبها النصر حللت بباريس وباريس جنة * على غير حكم الله يجري بها الأمر حدائقها غلب تناهى جمالها * ففاح بها روح الطبيعة والعطر وفيها ذوات الحسن من كل كاعب * بهالة شعر والمحيا هو البدر تكللها سود الشعور وشقرها * فأسودها وحف وأشقرها تبر يكاد يطير القلب أما تباغمت * بأنغام صوت حشوه السحر والشعر فمن شاء حسنا فهو فيها موفر * ومن شاء علما فهي في علمها بحر ومن شاء آدابا رأى خيرها بها * فان الفرنسيين ما فيهم كبر ومن شاء إيمانا فللدين حرمة * ومن شاء الحادا فما عدم الكفر وقصيدته ولدي: يقول: بابا، إذا ما مضه الألم * أو يذرف الدمع وهو الشاهد العلم بابا وماما ولا منطوق غيرهما * هما لعمري لديه المنطق الخذم بابا فدى لك يا روحي وعاقبتي * إذا بقيت وأفنى جسمي العدم لا تحرجوه فبابا عنده وزر * أو تؤلموه فدمع العين يحتدم كان بابا هو الدنيا بأجمعها * وأن ماما اله رازق لهم يقولها راضيا أو غاضبا حردا * فالخير بالشر في باباه ملتئم يقول: بابا ويومئ لي فأحمله * كما يشاء فانا عنده خدم وأن خرجت يناديني بلهجته * بابا فتثبت من تلقائها القدم أن يحتكم فهو حكم لا يعقبه * نقض وإنفاذه فرض وملتزم يجمجم الصوت في تبيان مأربه * من غير ميز ولكنا له فهم وطالما كنت استصبى فارقصه * فإنما أنسه الترقيص والرنم وقصيدته الشاعر التي منها: من بنى الأرض واصطفته السماء * فتجلى فيما يقول البهاء عاشق للكمال صب برشد * ضاق عن بعض ما يريد الفضاء يتحرى الجمال في كل ليلى * فهو مجنونها وليلى الشفاء كان أحرى بان يكون نبيا * في سجاياه ما يرى الأنبياء ومن آخر شعره البيتان الحزينان المؤلمان التاليان اللذان يفيضان أسى ولوعة لطول ما عانى من الآلام وفرط ما تجرع من العذاب والأحزان وليقينه بدنو منيته وقرب نهايته: رشحتني الأقدار للموت لكن * أخرتني لكي يطول عذابي ومحت لي الآلام كل ذنوبي * ثم أضحت مدينة لحسابي
323 وأننا لننشر مع هذه الترجمة مقالا له بعنوان اللغة العربية والعصر لنعطي صورة عن تفكيره وأسلوبه، مما يكمل ترجمته: بدأ عصر يقظة اللغة العربية الأخيرة في أواسط القرن الثالث عشر للهجرة النبوية الجليلة، وكان عصر اليقظة هذه موافقا للثلث الأول من القرن التاسع عشر للميلاد، بدأ ذلكم العصر في مصر بترجمة الكتب الإفرنجية العلمية والتاريخية والاجتماعية والفلسفية إلى اللغة العربية ككتاب منتهى الأغراض في علم شفاء الأمراض من تأليف بروسيه وسانسون الطبيبين الفرنسيين الكبيرين، وترجمة يوحنا عنحوري، وقد طبع ببولاق سنة 1250 ه، 1835 م. وكتاب ضياء النيرين في مداواة العينين من تأليف لورانس أحد أطباء العيون الإنكليز، وترجمة أحمد حسن الرشيدي، وكتاب مطلع شموس السير في كرلوس الثاني عشر من تأليف فولتير الكاتب الفرنسي الكبير الشهير وترجمة محمد أفندي مصطفى البياع أحد خريجي مدرسة الألسن، وقد طبع ببولاق سنة 1257 ه 1842 م وهو تاريخ كرلوس الثاني عشر ملك السويد 1697 1718 وكتاب الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر تأليف فولتير أيضا، ونقل أحمد عبيد الطهطاوي، وإتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في أوروبا من تأليف روبرتسون أحد المؤرخين الإنكليز، نقله من الفرنسية إلى العربية خليفة محمود، أحد خريجي مدرسة الألسن أيضا، والدراسة الأولية في الجغرافية الطبيعية من تأليف فيلكس لامروس، أحد العلماء الفرنسيين، نقله من الفرنسية إلى العربية أحمد حسن الرشيدي المقدم ذكره آنفا، والجغرافية العمومية من تأليف مالت برن من العلماء الفرنسيين، نقله من الفرنسية إلى العربية رفاعة رافع الطهطاوي، وتنوير المشرق بعلم المنطق من تصنيف دومارسية، ونقل خليفة محمود المذكور في الكلام على اتحاف الملوك. ولا أود أن أرسل عنان القلم لذكر أسماء الكتب المترجمة غير التي ذكرت خشية الاسام والإملال، ففي كتاب تاريخ الترجمة والحركة الثقافية تبيان لها ولموضوعاتها المختلفة (1)، فقد شمل النقل عامة العلوم حتى الطب البيطري، وقد سماه المترجم علم البيطرية. وكان المترجمون من الشاميين والمصريين، ولم تكن الثقة بعباراتهم كاملة، فندب لتصحيح ترجمتهم وتحريرها، شيوخ أزهريون، ولم نعلم كيف كان هؤلاء الشيوخ الفضلاء يزاولون التصحيح والتحرير، فان الاصلاح اللغوي لترجمة الكتب العلمية والكتب الفنية ينبغي له أن يكون مبنيا على حفظ مقاصد المؤلف ومعانيه، قبل كل شئ، يقول الشيخ مصطفى حسن كساب محرر الكتب المترجمة في مدرسة الطب البيطري، في تصدير أحدها: وقد سميت هذا الكتاب روضة الأذكيا في علم الفسيولوجيا. ويقول في تقديم كتاب آخر في هذا العلم: فجاءت يعني الرسالة بعون الله مرتبة المباني، مهذبة المعاني وسميتها البهجة السنية في أعمار الحيوانات الأهلية (2). ومذ ذلك العصر اتصل الغرب بالشرق، اتصالا علميا وكانت النهضة العلمية الغربية قوية كالغارة الشعواء، والتقدم العلمي كالسيل الجارف، فكثرت المخترعات كثرة هائلة، ووفرت المبتدعات وفارة طائلة (3)، وتنوع نتاج العقول، واختلفت ألوان المعقول، وتفتقت الأذهان عن علوم وفنون عجيبة غريبة، نظرية وعلمية، والشرقيون وخاصة العرب غارون غافلون عنها، ومشغولون بما مناهم الدهر به من سلطان جائر، وجد عاثر، وتشتت وتفرق، وارتكاس وانتكاس في العلم والفن والأدب والثقافة عامة، ما عدا الذي أشرنا إليه من نهضة الترجمة في مصر، ونضيف إليه استيقاظا في لبنان، لا يعنينا ذكر مصدره. وكانت الدولة العثمانية هي المهيمنة على عامة أصقاع العرب وأقطارهم وبلدانهم حتى الحرمين الشريفين مكة والمدينة، وكانت أقرب الدول الشرقية إلى أوروبا، فقد امتدت فتوحها إلى أواسط أوروبا، ولكنها بقيت متخلفة في الحضارة والعلوم والفنون سوى الخط والرسم، ولما بهرتها النهضة العلمية الأوروبية والنهضة الفنية لم تجد في لغتها التركية ما يؤازيها فعمدت إلى اللغة العربية كما عمدت قديما إلى الاسلام وفقهه وحديثه وآدابه فاختارت منها أسماء للمسميات الأوروبية على حسب إدراكها لمعاني تلكم الأسماء، وعلى نحو ما فهمته من استعمالها قديما عند العرب، فاختارت التفتيش والمفتش والمدير والإدارة والمباشر والمستنطق والضابط والملازم وقائم المقام والمتصرف واللواء ومير لواء أمير اللواء والفريق والصنف للمدرسة والجيش، والمراتب والسفارة، والممتاز والافتخار والمرصع والمشير والمشيرية والمستشار، والعزة والرفعة والسعادة والفخامة والفضيلة والخزينة بدلا من الخزانة، والوكالة للمحاماة، والوكيل للمحامي، والمتمايز من الرتب، والمدعي العمومي، والعضو والمعاون، والمقيد والقيد، والواردات والمصرف والمصارفات، والأوراق والتحريرات والمعارف، والمعلومات والإملاء، واللسان للغة والأعلام، والإعلامات، والأخطار والأخطارات، والطبع، والمرتب والترتيب للحروف، والاستئناف والتمييز، والبداية، والجزاء والاجراء، والضبط لكتابة المحكمة، والمنحل للشاغر، والكشف، والمخابرة أي المناباة، والشعبة، والمكتب لمدرسة الصبيان والصبايا، والموزع، والرسوم والرسومات، والتحقيقات، والمركز، والصحة، والولاية والقضاء والناحية، والهيئة والضابطة والنفر للواحد، واليكون للحساب، والقلم والدائرة للكتابة وديوانها، والاعدادي للدرس، والرؤساء الروحانيون، وعلم الثروة للاقتصاد والأدبيات لعلم الأدب، والمبصر لمرشد المدرسة، والإناث للطالبات، والذكور للطلاب أعني البنات والبنين، والشهادة، وأركان الحرب والرديف والاحتياط واللوازم، والجراح، والبيطر لخيل الجيش، والفرقة لعدد معين من الجند، والصندوق لبيت المال في مدينة أو بلد، وأمين لخازن بيت المال، والنفوس لاحصاء السكان، والبحرية، والموازنة بين الواردات والمصروفات، والحاصلات للجباية، والمعاش، وغيرها. واشتقوا المحكمة والآمر والمحاسب والمحاسبة والمطبعة واللياقة والمتحيز للمتميز وابتدعوا الابتدائية والرشدية والألفية والبلدية والداخلية والخارجية والمالية والعدلية والضبطية والرسمية والقرطاسية واليومية والآمرية والمأمورية،
(1) تاريخ الترجمة والحركة الثقافية، تأليف جمال الدين الشيال " ص 49 وما بعدها " نشرته دار الفكر العربي سنة 1951 وطبع في مطبعة الاعتماد بالقاهرة. (2) المرجع المذكور. (3) اشترط اللغويون في استعمال " الطائل " للكثرة والفائدة أن يكون في منفية كأن يقال: هذا لا طائل فيه ولم يحل منه لطائل. ومع ذلك لم يلتزم المولدون قولهم، فكيف نلتزم ذلك من " الطائلة "؟ 324 والجزائية وغيرها، وما لم يهتدوا إلى اسم له في العربية نقلوه بلفظه كالتلغراف ولغزتة للجريدة والفابريقة للمعمل والمدالية للوسام والقنال (1) للنهر الصغير غير الطبيعي والماكنة والماكنيست لصاحبها، والجاندرمة والشيفرة للمترجم، والبوستة والقونسل والجناستيق والاستاتيستيق للاحصاء والبانق للمصرف والترامواي والقوزموغرافيا والقرانتنه لدار العزل الصحي وغيرها مما لا يحضرنا الآن. أن التعليم والترجمة وما سمى الصحافة نهضت في البلاد العربية في نصف القرن الأخير نهوضا سريعا، فترجمت الكتب العلمية والكتب الفنية والكتب الأدبية للتعليم والتدريس، وانتشرت الصحافة في البلدان العربية بجرائدها ومجلاتها ونشراتها الأخرى، فنقلت ألوان المعارف، ومختلف الفنون حتى الشؤون العسكرية والبلاغات الحربية، فضلا عن الأخبار السياسية والأنباء العالمية والحوادث البشرية، وكان من غريب ما حدث في هذا الأمر أن كثيرا من النقلة والمترجمين اغتروا بمعرفتهم اللغات الأعجمية كالفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية، ولم يتقنوا اللغة العربية ولا تبحروا في علم مصطلحاتها ومولدها، فترجموا الكلمات العلمية والألفاظ الفنية كيفما اتفق لهم، إلا إفرادا أقلاء كجمعهم (2)، لا يجوز لنا أن ننكر إحسانهم للنقل وفضلهم فيه، وكان واجبا على المسيئين للترجمة والنقل أن يتقنوا العربية كما أتقنوا اللغة الأعجمية، ولكنهم استهانوا بالعربية قاتلهم الله مع إعتماد شطر من أرزاقهم عليها، فجاءت ترجمتهم شوهاء ورهاء مرهاء. وتسمح أهل الصحافة وتساهلوا في كثير مما ينشرونه، في نحو العربية وصرفها وبيانها، لأن من عادتهم السرعة، فضلا عن إسراعهم النقل والترجمة، فشاعت تراكيب ركيكة ومصطلحات فجة، ان جاز أن تسمى مصطلحات (3) وفشا الفساد في العربية، وخصوصا ما ترجم إليها مما يسمى الروايات أي القصص والحكايات، وشاع استعمال الناشئة للفاسد من التراكيب والمساء استعماله من الكلم، كقولهم كم هو جميل وكم هي جميلة؟ بدلا من ما أجمله وأجمل به وما أجملها وأجمل بها، وما كان أجملهما! والرتل الخامس بدلا من الرسل الخامس وهدف إلى الغاية بدلا من رمى إليها واستهدفها (4) وتوخاها وقصد إليها واستهتر بالقانون بدلا من استهان وتهاون به، وخالفه وخرج عنه وتعدى حدوده، مع أن الاستهتار بالقانون هو العناية به والتمسك به كل العناية والتمسك، ولا يزال هذا الفساد مستداما، حتى أصبحنا نسمع من يقول فلأن يسافر أمس وفلان يجتمع أمس هو وفلان أو يقول عصرا الرئيس يؤدي صلاة الجمعة في المسجد الفلاني مع أن صلاة الجمعة تصلي قبل العصر، باستعمال المضارع الذي لا صلة له بالماضي، للزمن الماضي البحت، كان المضارع إذا جاز استعماله لهذا المعنى في لغة أعجمية وجب أن يستعمل كذلك في العربية، وكذلك القول في عكس رغبات الشعب ويراد به أعرب عنها وصورها ومثلها وأبانها وأوضحها وحكاها مع أن العكس هو القلب والنكس ورد الأول على الآخر والجذب يضغط إلى الأرض والصرف، فهذا من التعابير الإفرنجية التي لا نسيغها ولا تسوغها العربية، أرأيت لو تعلم الناشئ أن عكس مقصده يعني أعرب عنه وصوره ثم قرأ قول جمال الدين محمد بن سالم الحموي القاضي الفيلسوف: وفي المحرم من هذه السنة 572 ه توفي القاضي كمال الدين الشهرزوري وعمره ثمانون سنة، وكان في الأيام النورية إليه قضاء القضاة والتحكم في الدولة، وكان السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب متولي الشحنكية بدمشق أيام نور الدين فكان كمال الدين يعكس مقاصده ويكسر أغراضه ويعترض عليه في أموره لتوخي كمال الدين الأحكام الشرعية فلما صار الملك الناصر إلى ما صار إليه من الملك وافتتح دمشق صار كمال الدين أحد قضاة بلاده، ولم يؤاخذه على ما صدر منه في حقه بل أكرمه وأحترمه، واستشاره وعظمه (5). فإنه يفهم من قوله يعكس مقاصده ويكسر أغراضه عكس ما أرادوا، وضد ما قصدوا، فما ذا يفعل؟ ومن ذلك قولهم، كان يحارب ضد العدو يريد أنه كان يحارب العدو فاستعملوا كلمة ضد التي ظنوها جائزة في اللغة الأعجمية، فأدت الجملة ضد معناها، لأن من معاني الضد العدو فإذا حارب عدو العدو، صار مصافيا ومسالما للعدو وموافقا وموائما لا مقاوما له. وما من أحد ينكر أن باب المجاز والاستعارة مفتوح في اللغة العربية قديما وحديثا، ولا يضيرها أن تستعير من اللغات الأخرى مجازات جليلة واستعارات جميلة، على شريطة أن لا تكون نابية منافية لطبيعتها، مباينة لأذواق أهلها، عسيرة على مداركهم. ولقد اقتبست عربية العصر جملة مجازات واستعارات من عدة لغات، وشاعت فيها لكونها سائغة، جميلة الخيال، رشيقة المعنى. وفي أثناء ركود العربية وضمورها وتخلف العرب في العلوم والفنون والآداب، استحدثت في الغرب ألوف آلات ومئات أدوات وآلاف اختراعات، وعشرات ابتداعات، وبعثت الغربيين على وجدان أسماء لطائفة منها واشتقاق أسماء لطائفة أخرى أو تركيبها، ومن الواجب أن يذكر هنا أن اللغات الأعجمية تركيبية واللغة العربية اشتقاقية، فالمخترعات والمبتدعات والمستحدثات الغربية الأخرى يغلب على أسمائها التركيب وشبهه وهو النحت، والنحت هو أخذ اسم واحد من كلمتين بعد طرح ما يمكن طرحه منهما للتخفيف، وما وجد من النحت في العربية نزر جدالا يتعدى ما ورد في النسب وقلما يخرج عن الشعر كقولهم فلان العبشمي وفلان العبسقي نسبة إلى عبد شمس وعبد القيس، وقد جاء العبشمي في قول الشاعر: وتضحك مني شيخة عبشمية * كان لم تري قبلي أسيرا يمانيا! ومن الباحثين من لم يعلم أن اللغة العربية اشتقاقية فيلوي بلسانه، ويتشدق ببيانه، هازئا بمن لا يعد النحت من خصائص العربية، وإنما حمله على هزئه جهله لطبيعة اللغة العربية (6)، وكل ما ثبت عندنا من النحت عدة رموز
(1) فاتهم أن يضعوا له كلمة " القناة " العربية فإنها جاء في أحد معانيها بمعنى القنال الفرنجية. (2) الأفراد جمع قلة للفرد، وإن كان مخالفا للقياس الذي وضعوه، من كون " فعل " الصحيح الأحرف لا يجمع على أفعال، إلا ما شذ كفرخ وأفراح وزند وأزناد، إلا أن واقع الاستعمال وكثرة الأمثال نقضا هذه القاعدة. (3) يشترط في المصطلح أن يتفق عليه عارفان أو أكثر منهما، ولا يجوز للواحد وحده أن يسمى ما يستعمله هو نفسه مصطلحا (4) ورد " استهدفه " في نهج البلاغة على رواية قياسا على وجود " مستهدف " اسم مفعول، في الكتاب المذكور، راجع مجمع البحرين للطريحي. (5) مفرج الكروب في أخبار بني أيوب " 2: 49 - 50 نشر الدكتور جمال الدين الشيال بالمطبعة الأميرية المصرية بالقاهرة سنة 1957 ". (6) راجع كتاب " دراسات في فقه اللغة العربية ص 307 ". 325 جملية مستحدثة ترمز إلى العبارات كرمز الحروف إلى المواد الكيميائية كقولهم سبحل فلان أي قال سبحان الله، وحوقل: قال لا حول ولا قوة إلا بالله، وطلبق: قال أطال الله بقاءه، ودمعز: قال أدام الله عزك، ولولا أن هذه الجمل الرمزية كانت من الشهرة والتكرار بالمكان المعلوم ما استجازوا لها هذا الاختصار، فالنحت من خصائص اللغات الآرية الهندية الأوروبية، ومخترعة في العربية هو ابن فارس العالم اللغوي المشهور مؤلف كتاب مقاييس اللغة العربية والمجمل في اللغة والصاحبي في فقه اللغة، وغيرهن، وهو فارسي الأصل، واللغة الفارسية نحتية تركيبية كسائر اللغات الآرية، وقد حدته لغته الأصلية على أن يلصق أهم خصائصها باللغة العربية، من غير أن يعلم أن اللغات في العالمين أجناس، متباينة كتباين أهليها، فاصل الفرس غير أصل العرب، واللغة العربية من جمهرة اللغات السامية لا من جمهرة اللغات الهندية الأوروبية، ولكل جمهرة خصائص وصفات، ونعوت وعلامات، وحروف وأصوات خاصة بها. وهذا ابن جني أبو الفتح عالم الدنيا في الصرف وغيره من علوم العربية قد ألف كتاب الخصائص في خصائص العربية وتكلم على عامة أحوالها ومجالاتها ونحوها وإعرابها وأدواتها ومناحيها ودقائقها ونكتها وبداعتها وبراعتها وأسرارها وعجائبها وصفاتها ونزعاتها الطبيعية، ولم يذكر أن النحت والتركيب من أصولها ولا من خصائصها، وكان معاصرا لابن فارس الفارسي حق المعاصرة وكلاهما من أهل القرن الرابع للهجرة، ابن جني في بلاد العرب وابن فارس في بلاد الفرس. ولو كان التركيب المزجي والنحت من خصائص اللغة العربية ما ألفينا التنزيل العزيز يميل بالمركب المزجي إلى أوزان عربية رشيقة فأصار ميكائيل إلى ميكال، وجبرائيل إلى جبريل وحمل الزنجبيل على السلسبيل، والسجيل على الشريب، وهي من المركبات المزجية في لغاتها، والخصيصة في اللغة تعني قاعدة عامة مطردة في كثير من مفردات اللغة وتراكيبها ولا تعني كلمات معدودة أو تسميات محدودة أو مستعارة مقصودة، وينبغي لنا أن نذكر في هذا المقام أن للعربية خصيصة الكسع وإضافة الكواسع وهي الحاق حرف أو حرفين أو ثلاثة باخر الكلمة، كالفعم والفعمل، والحلق والحلقوم، والضيف والضيفن والابن والابنم، والعندليب والزمهرير، والشقحطب (1)، وهو كما في القاموس للفيروزآبادي كسفرجل في الوزن: الكبش له قرنان أو أربعة كل منها كشق حطب جمعه شقاحط وشقاطب. وجاء في لسان العرب شقحطب: كبش شقحطب ذو قرنين منكرين كأنه شق حطب. أبو عمرو: الشقحطب: الكبش الذي له أربعة قرون. الأزهري: هذا حرف صحيح، وأصله في الصحاح للجوهري كبش شقحطب أي ذو قرنين منكرين كأنه شق حطب. فهذا التأويل البعيد هو الذي أطمعهم في اعتداد النحت موجودا في اللغة العربية، أعجبهم التأويل شق حطب ولم تعنهم سخافة المعنى، كان الحطب مألوف الشق وكان الشق يشبه القرن دائما مع أن الحطب هو ما أعد من الشجر شبوبا للنار ووقودا، ومنه الشوك على اختلاف أنواعه، فمن الحطب ما يجوز أن يشبه القرن، فلماذا لم يقولوا قرن شقحطب وقرون شقاطب أو شقاحط؟ بل قالوا: كبش شقحطب فوصفوا الكبش لا القرن؟ لا شك في أن تأويلهم وتحليلهم متهافتان، فيجوز أن تكون كلمة شقحطب مكسوعة بحرف أو أكثر كما كسع لفظ العندليب والعندليل بمعنى واحد، جاء في لسان العرب والعندليل: طائر يصوت ألوانا، والبلبل يعندل إي يصوت، وعندل الهدهد: إذا صوت عندلة... العندليب: طائر أصغر من العصفور، قال ابن الأعرابي: هو البلبل، وقال الجوهري: هو الهزار (2)، وروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: عليكم بشعر الأعشى فإنه بمنزلة البازي يصيد ما بين الكركي والعندليب، وهو طائر أصغر من العصفور، وقال الليث: هو طائر يصوت ألوانا. قال الأزهري: وجعلته رباعيا لأن أصله العندل ثم مد بياء وكسعت بلام مكررة ثم قلبت باءا، وأنشد لبعض شعراء غني: والعندليل إذا زقا في جنة * خير وأحسن من زقاء الدخل والجمع العنادل. فان لم يكن الشقحطب مكسوعا كالعندليل والعندليب فهو مأخوذ من لغة أخرى وكان كلمتين فجعله العرب كلمة واحدة كالسلحفاة والزمردة والزغردة والبرنسا والبرنساء (3)، ورد في لسان العرب والبرنسا والبرنساء: ابن آدم، يقال: ما أدري أي البرنساء هو؟ ويقال: ما أدري أي برنساء هو وأي برناساء هو وأي البرنساء هو؟ معناه: ما أدري أي الناس هو؟ والبرنساء: الناس... والولد بالنبطية برونسا. فاللغويون العرب اعتدوا البرنسا والبرناساء كلمة واحدة مع أنها في الأصل كلمتان هما بر السريانية الآرامية بمعنى الابن وناشا السريانية الآرامية بمعنى الناس (4)، فالمعنى ابن الناس أو ابن الإنسان. والحمد لله على أنهم لم يجعلوها منحوتة من بر النساء أي أحسن إليهن ورعاهن على تأويل أن الرجل يرعى المرأة في الغالب فهو بار النساء!!. وإنما بسطنا الكلام هنا على النحت تمهيدا لكلامنا على مشكلات لغة العصر المحتاجة إلى التوسع والتحرر والانطلاق لتقوم بما عليها من مصطلحات في العلوم والفنون والآداب لا تحصى كثرة، ولا تستقصى، لأن الحضارة الغربية لا تزال تسرع الخطأ وتطوى مسافات الاختراع والابداع والابتداع طيا، فمئات الكتب العلمية وعشرات الكتب الفنية على اختلاف العلوم والفنون قد أوجب التعليم الحديث والتحضر والتمدن دراستها وتعلم ما فيها وتدريسها وتعليم ما
(1) ممن اخذ بمذهب ابن جني في وجود النحت في الكلم العربي ظهير الدين أبو علي الحسن بن الحظير الفارسي المتوفي بالقاهرة سنة 598 وهو فارسي الأصل أيضا وأن ادعى أنه من ولد النعمان بن المنذر، سأله البلطي عما وقع في ألفاظ العرب على مثال شقحطب فقال: هذا يسمى في كلام العرب " المنحوت " ومعناه أن الكلمة منحوتة من كلمتين كما ينحت النجار خشبتين ويجعلها واحدا، فشقحطب منحوت من (شق) و (حطب). فسأله البلطي أن يثبت له ما وقع له على هذا مثال إليه، ليعول في معرفتها عليه، فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه وسماها (كتاب تنبيه البارعين على المنحوت من كلام العرب). " معجم الأدباء ج 3 ص 66 ". (2) البلبل مثل العصفور في الحجم ويختلف عنه في اللون وطول الذيل، والهزار معروف في العراق وهو أكبر من العصفور ولا يختلف عنه في اللون ويصوت ألوانا وألحانا شهية إلى السمع. (3) في المعرب لابن الجواليقي طائفة من المركبات المزجية الأعجمية، كالإبريق والسكرجة والأصطفلينة والبرسام والبستان والبندرقة والبرطلة والبارجاه والبازيار والتجاف. (4) المعرب " ص 45 " وغيره. وجاء في الصفحة 68 من المعرب " قال أبو حاتم قال الأصمعي: بر: ابن ". 326 فيها، في الكليات والمعاهد والمدارس في جميع الأقطار العربية، وعامتها ذوات مصطلحات جديدة بالنسبة إلى مسمياتها، وكان المعلمون والمدرسون والأساتذة يترجمون تلك المصطلحات كل على حدة وبتفرد واستقلال، وكان قليل منهم يرى صعوبة الترجمة لاستلزامها اتقان اللغة العربية والعلم بمفرداتها، وهو ما لا يطيقونه فكانوا يعربون المصطلحات العلمية والمصطلحات الفنية، والمصطلحات الأدبية أيضا، ويتهمون العربية بالعجز والتقصير، والتخلف في المسير، فحدثت من كل ذلك بلبلة في المصطلحات والآراء وفي مستقبل اللغة العربية، ونشأت فكرة أن اللغة العربية عاجزة عن القيام بما يستوجبه العصر العلمي الحديث من الآراء والأسماء وكثر في اللغة العربية السقط والغلط لما ذكرنا آنفا من أن المتقنين للغات الأعجمية للشعوب المتمدنة لم يلزموا أنفسهم اتقان اللغة العربية تهاونا بها واستهانة باهلها مع أنها كانت ولا تزال كذلك مرآة الحضارة وسناد الأمة العربية، وعماد القومية، وحفاظ التراث العلمي القديم والآداب العربية على تباين موضوعاتها، وضروبها وأنواعها، وظهرت في الصحف والمجلات وكتب القصص والروايات لغة عربية جديدة، فيها مجاز مقتبس جديد، واستعارة مقتبسة جديدة، وألوان من التعابير، كان فيها الغث والسمين، والخطأ والصحيح، والجميل والقبيح، فضلا عن المصطلحات التي اتحدت معانيها ومقاصدها واختلفت ألفاظها والدلالات عليها في اللغة العربية. وحملت الغيرة على الأمة العربية ولغتها آحادا من العلماء والأدباء الفوقة على نقد المصطلحات الركيكة والمعربة واقتراح الاستبدال بها مع ذكر البدل، وعلى نقد التعابير الفاسدة، والكلمات المستعملة في غير مواضعها، والاشتقاقات المباينة لطبيعة اللغة العربية ونشرت في ذلك مقالات في الصحف والمجلات وألفت رسائل وكتب، ونشأ جدال بين العلماء والأدباء أنفسهم في الموضوع بعينه، ورأى أولو الأمر في الدول العربية أن إنشاء مجامع للغة العربية قد أصبح ضرورة وحاجة ماسة لا بد منها، ولا ندحة عن قضائها، فأنشئ المجمع العلمي العربي بدمشق، ثم أنشئ المجمع العلمي العراقي، ونشر كل مجمع لنفسه مجلة تعالج مشكلات اللغة، وتقترح مصطلحات جديدة، وتقوم ما فسد من التعابير، وتدعو إلى أن اللغة العربية مليئة (1) بما يراد منها في أداء المعاني الحديثة على اختلافها، وكثرتها، وتسمية ما تحتويه الحضارة الجديدة والاختراعات والابتداعات من ألوف أسماء، في مختلف العلوم والفنون والآداب، وقد ألفت ونشرت كتب في ذلك ورسائل مشهورة متداولة، وكانت أقطار من البلاد العربية متخلفة كثيرا عن هذه النهضة اللغوية لشدة وطأة الاستعباد المسمى خداعا بالاستعمار (2) الذي هو شبيه بالاستثمار في أصل اللغة، ومن تلك الأقطار المغرب، وما كادت تشم رائحة الاستقلال السياسي حتى أخذت تنشئ مراكز للتعريب وتريد بها جعل المصطلحات الأعجمية عربية الألفاظ، وعقدت مؤتمرات له، ونشرت معجمات للمصطلحات منها معجم الكيمياء ومعجم الفيزياء ومعجم الرياضيات والأصول العربية والأجنبية للعامية المغربية، وقد نشرت فيما نشرته بالطبع المستدرك في التعريب وهو معجم فرنسي عربي، للكلمة المستعملة في مختلف الأمور والشؤون، وقد كتبت عليه مصلحة التعريب التابعة للمكتب المغربي للمراقبة والتصدير بالدار البيضاء. وأطرف ما ألف في معالجة اللغة العربية العصرية كتاب فرنسي اللغة جامع شامل، ألفه الأستاذ فنسنت مونتي الفرنسي ونشره سنة 1960 وسماه العربية الحديثة وقد رجع في تأليفه إلى مائة (3) وثلاثة وستين مرجعا عربيا ومائة وواحد وستين مرجعا أعجمي اللغة فجاء الكتاب في ثلاث مائة وست وثمانين صفحة من القطع الوسط، فهو أوسع كتاب في هذا الباب منذ ظهور مشكلة اللغة العربية العصرية حتى اليوم، وقد تكلم فيه على الكلمات المولدة والانبعاث اللغوي والقومية العربية وصعوبة الكتابة العربية بحروفها المعلومة والطباعة والتجديد والتيسير، والأصوات العربية وأحرف العلة والاعراب والنطق والمستعار والأغلاط والأوهام والنصوص اللغوية وتأثير اللهجات والأدب الشعبي والسبيل الأقوم، والثقافة العربية المزدوجة والنقل والترجمة والتعليم والتدريس للعرب وباللغة العربية والاشتقاق ومجاله، وتخصيص الهيكل اللغوي في العبارة والصفات الناشئة عن النسبة والتأنيث والازدواج والجمع والنحت والأصول والحدود والدواخل والكواسع والتعريب أي نقل الكلمات الأعجمية إلى أوزان عربية في الغالب والدلالات والمعاني والاصلاح اللغوي والرمزية والايماء، والكواسع اللاتينية اللطينية للمصطلحات وخاصة الكيميائية، والوضع والتسجيل والمجامع العلمية والمجامع اللغوية العربية والمؤسسات الثقافية والصحافة، والمؤتمرات العلمية العربية، والمعجمات، واضطراب الدلالات، وإحصاء الحدود واعتبار التحديد، والترادف، والتعدد المعنوي وأسماء الألوان وتأليف الكلام وتركيبه، والتصريح والتلميح والتعريض والجواز والحدس والتساهل والاتساع والنفي والحصر والزمان والصورة والمظهر، إلى غير ذلك مما يطول تعداده وخصوصا الأساليب ومنها أسلوب الخطابة وأسلوب المحاضرات وأسلوب الصحافة وأسلوب النشر وأسلوب القضاء، وأسلوب الاقتصاد وأسلوب الجدل وأسلوب التأديب والتهذيب وأسلوب النقد الأدبي والأسلوب العلمي والأسلوب الفلسفي وأسلوب الاقتصاص وأسلوب الخطاب والأسلوب الفني والأسلوب الحكائي والأسلوب الشعري. ولعلي أن أهتبل فرصة لاقتباس شئ من الكتاب ونشره مع التعليل أو التعقيب، فان هذا الموضوع المهم الخاص بمستقبل العربية لا يعالج بمقالة واحدة، ومن الله تعالى التوفيق. الشيخ معتوق بن الشيخ عمران الأحسائي. قال الشيخ جعفر الهلالي: ولد في مدينة الأحساء سنة 1315 وتوفي فيها سنة 1378 كان أحد علماء
(1) المليئة: القديرة والمستطيعة والوافية الكافية، ومذكرها الملئ، فليس معناها " الملأى " كما يستعمله كتاب العصر، وكذلك " الملئ " فليس معناه " الملآن ". (2) الإستعمار كلمة قرآنية في فعلها وقد دنس استعمالها هؤلاء الغربيون فوضعوها في غير موضعها، قال تعالى في سورة هود (وإلى ثمود أخاهم صالحا، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من آله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه أن ربي قريب مجيب) الآية 61. (3) دأبت مجلة المجمع العلمي العراقي على كتابه المائة بهذه الصورة أخذا بالتجديد المفيد ونبذ للقديم الباعث على اللبس في القراءة مع خلوة من الفائدة. 327 الأحساء المشهورين، كما كان من أدبائها، يقيم في قرية العمران الشمالية. أخذ مبادئ دراسته في مدينة المبرز إحدى مدن الأحساء، ثم رحل بعدها إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته هناك، وكان عمره حينذاك 25 سنة، وأقام في النجف ما يزيد على 20 سنة، رجع بعدها إلى الأحساء، وكانت له عدة مؤلفات إلا أنها تلفت. لم نعثر من شعره إلا على هذه الأبيات الأربعة في مدح الإمام أمير المؤمنين ع: حسد دب في النفوس وهمس * وعيون في حيرة وازورار لعلي الفخار زين المعاني * أسد الله حيدر الكرار حسدوه وأظهروا النقص فيه * وعصوا أمر أحمد المختار وأساؤوا إلى نبيه فاضحوا * نهب أيدي الطغاة في كل دار النقيب معد الموسوي قال الدكتور مصطفى جواد: هو شرف الدين أبو تميم معد بن الحسين الموسوي النقيب، كان قد تولى سنة 605 إشراف المخزن وذلك في يوم الثلاثاء سادس ذي القعدة، وخلع عليه بالبدرية المعروف اليوم انه منها درب الرواق وجامع مرجان، وركب من هناك إلى المخزن ثم تولى بلاد واسط، وفي سنة 616 امره الخليفة الناصر لدين الله ان يسير إلى قتال بني معروف في البطائح فتجهز وجمع معه من الرجالة من تكريت وهيت والحديثة والأنبار والحلة والكوفة وواسط والبصرة وغيرها خلقا كثيرا وسار إليهم ومقدمهم حينئذ معلى بن معروف وهم قوم من ربيعة، وكانت بيوتهم غربي الفرات تحت سورا وما يتصل بذلك من البطائح، وكان قد كثر فسادهم وأذاهم لما قاربهم من القرى، وقطعوا الطريق وأفسدوا في النواحي المقاربة لبطيحة الغراف، فشكا أهل تلك البلاد إلى الديوان منهم فامر الخليفة معدا ان يسير إليهم في الجموع كما قدمنا فسار إليهم فاستعد بنو معروف لقتاله، فاقتتلوا بموضع يعرف بالمقير ولا يزال معروفا بذلك وهو عند المدينة الأزلية المسماة أور وفيها اليوم مستشار للآثار، والمقير تل كبير بالبطيحة بقرب الغراف وكثر القتل بين الفريقين ثم انهزم بنو معروف وكثر فيهم القتل والأسر والغرق واخذت أموالهم وحملت رؤوس كثيرة من القتلى إلى بغداد في ذي الحجة من سنة 616 المذكورة، وكان شمس الدين أبو المظفر باتكين بن عبد الله الرومي والي البصرة حاضرا هذه الوقعة مع عسكر البصرة وفي ذلك قال: يا وقعة شفت النفوس وغادرت * تل المقير ما به من غابر وسقت بني المجهول (1) كأسا مرة * تركت مواردهم بغير مصادر جحدوا أيادي للخليفة جمة * فأراهم عقبى الجحود الكافر وتوهموا ان المقير معقل * متمنع من كل ليث خادر فرماهم القدر المتاح بأسهم * تركت ربوعهم كرسم داثر وكان ينوب عن الشريف أبي تميم معد في أشراف المخزن ابنه أبو علي الحسن، وتوفي هو بعد وقعة المقير المذكورة بسنة واحدة أي سنة 617، ومضى موكب الديوان إليه في جمع من الحجاب والدعاة وفي صدرهم عارض الجيش سعيد بن عسكر الأنباري إلى داره بالمحلة المقتدية وكان ما في شرقي محلة قنبر علي اليوم يعرف بالمحلة المقتدية نسبة إلى المقتدي بالله العباسي، والدار تعرف بدار معد الموسوي وهي التي انزل المستنصر فيها الملك الناصر داود بن المعظم عيسى في وفوده عليه سنة 633 لفخامتها، وكان مضي الموكب في اليوم الثالث من وفاة الشريف معد، فأقاموه من العزاء وعرفوه ان الخليفة الناصر لدين الله قلده ما كان أبوه قد تقلده من النقابة وأشراف المخزن، فركب إلى دار الوزارة وخلع عليه خلعة نقابة الطالبيين وكان عمره يومئذ خمسا وعشرين سنة. ومن أبناء الشريف أبي تميم معد هذا فخار الموسوي العلامة المشهور المتوفى سنة 630 ه. معقل بن قيس الرياحي مر ذكره في الصفحة 131 من المجلد العاشر، ونضيف هنا ما يلي: كان علي ع استخلف رجلا يقال له الخريت بن راشد على بلاد الأهواز قبل خروجه إلى صفين، فلما كان بعد رجوع على من صفين خالف عليه هذا الخريت وجعل يجمع الجنود ويدعو إلى خلع علي والبراءة منه، حتى أجابه إلى ذلك خلق كثير، ثم إنه احتوى على البلاد وجبى الأموال، وبلغ ذلك عليا فدعا معقل بن قيس الرياحي، فضم إليه أربعة آلاف رجل ووجهه إلى الخريت. فسار الخريت في عشرة آلاف رجل من أهل الأهواز ومن بني ناجية ومواليهم. ودنا القوم بعضهم من بعض، فقال معقل بن قيس: أيها الناس! أين الخريت بن راشد؟ فليخرج إلي فاني أريد كلامه، قال: فخرج إليه الخريت حتى واقفه، ثم قال: أنا الخريت فهات ما الذي تريد! فقال له معقل: ويحك لم خرجت على أمير المؤمنين ودعوت الناس إلى خلعه والبراءة منه وقد كنت من خيار أصحابه وأوثق الناس عنده؟ فقال: لأنه حكم في حق هو له، فقال له معقل: ويحك! أمن أهل الاسلام أنت؟ قال: نعم، أنا من أهل الاسلام، فقل ما بدا لك فقال له معقل: خبرني لو أنك خرجت حاجا فقتلت شيئا من الصيد مما قد نهى الله عز وجل عنه، ثم أتيت عليا فاستفتيته في ذلك فأفتاك، هل كان عندك رضي؟ فقال: بلى، لعمري إنه عندي لرضى، وقد قال النبي ص: أقضاكم علي، فقال له معقل بن قيس: فكيف ترضى به في علمه ولا ترضى فيما حكم؟ فقال: لأني لا أعلم أحدا من الناس حكم في شئ هو له. فقال: يا هذا! إن الذي لا تعلمه أنت هو أكثر من الذي علمته، إنا وجدنا عليا يحكم في جميع ما اختلفنا فيه وقد رضينا بحكمه، فاتق الله وإياك وشق العصا! وارجع إلى ما كنت عليه من السمع والطاعة، فأمير المؤمنين أعلم بما يأتي ويذر، فقال الخريت: لا والله لا يكون ذلك ولا تحدثت العرب به أبدا، وما لكم عندي ولصاحبكم إلا السيف. ثم صاح بأصحابه وحمل على معقل بن قيس، وحمل عليهم معقل في
(1) ذمهم بتعكيس اسمهم لأنه بنو معروف فصاروا بني المجهول. 328 أصحابه واختلط القوم بعضهم من بعض فقصده معقل من بين أصحابه، فضربه ضربة على أم رأسه فجدله قتيلا. وحمل أهل الكوفة على أهل الأهواز من بني ناجية، فقتل منهم من قتل وهرب من هرب وأسر من أسر من بني ناجية، وأمر معقل بن قيس بهؤلاء الأسارى فجمعوا ثم أمر برأس الخريت ابن راشد فاخذ واحتوى على أمواله، وسار إلى علي بالأسارى والأموال. وكان مصقلة بن هبيرة الشيباني أيضا عاملا لعلي بن أبي طالب ع على بلد من بلاد الأهواز، فنظر إلى هؤلاء الأسارى الذين قد أتى بهم معقل بن قيس، كأنه اتقى عليهم أن يقتلوا، فقال لمعقل: ويحك يا معقل! هل لك أن تبيعني هؤلاء الأسارى ولا تمضي بهم إلى أمير المؤمنين؟ فاني خائف أن يعجل عليهم بالقتل. قال معقل: قد فعلت فاشترهم مني إذا حتى أبيعك. قال له مصقلة: قد اشتريتهم منك بخمسمائة ألف درهم، قال: قد بعتك فهات المال! فقال مصقلة: غدا أعطيك المال، فسلم إليه معقل بن قيس الأسارى، فأعتقهم مصقلة بأجمعهم، فمضوا حتى لحقوا ببلادهم. فلما كان الليل هرب مصقلة إلى البصرة إلى عبد الله بن العباس، وكتب معقل بن قيس إلى عبد الله بن عباس يخبره بخبر مصقلة وما فعل. فدعا ابن عباس مصقلة فقال: هات المال! فقال: نعم وكرامة، إن معقل بن قيس أراد أن يأخذ المال مني وأنا فلم أحب أن أعطيه ذلك، ولكن أدفع هذا المال إليك لأنك ابن عم أمير المؤمنين وعامله على البلاد، قال ابن عباس: فقد أحسنت إذا وأصبت فهات المال. وانصرف مصقلة إلى منزله، فلما كان الليل هرب إلى الكوفة إلى علي بن أبي طالب، قال: وكتب معقل بن قيس إلى علي يخبره بذلك، وكتب أيضا عبد الله بن عباس إلى علي بذلك. قال: فدعا به علي وقال: هات المال يا مصقلة! فقال: نعم يا أمير المؤمنين! إن معقل بن قيس وعبد الله بن عباس أرادا مني أن أدفع المال إليهما وأنت أولى بحقك منهما، قال علي: قد أحسنت إذا وأصبت فهات المال! فقال: وجه من يحمل المال، فدفع إليه في ذلك اليوم مائة ألف درهم وبقيت عليه أربعمائة ألف درهم. فلما كان الليل هرب إلى معاوية، وطلبه علي فلم يقدر عليه، وكان نعيم بن هبيرة أخو مصقلة عند علي بن أبي طالب ومن خيار أصحابه، فكتب إلى أخيه مصقلة بهذين البيتين يقول: تركت نساء الحي بكر بن وائل * وأعتقت سبيا من لؤي بن غالب وفارقت خير الناس بعد محمد * لمال قليل لا محالة ذاهب ولم يبق بالعراق أحد من ربيعة إلا وذكر مصقلة بن هبيرة بكل قبيح إذ فارق عليا وصار إلى معاوية. فلما فرع نعيم من شعره أقبل إلى جماعة من بني عمه من بني بكر بن وائل فقال: إنه قد وردت علي أبيات من عند أخي مصقلة، وقد علمت أنه يحب الرجوع إلى العراق، وأنا والله مستح من أمير المؤمنين أن أكلمه فيه، ولكن أحب أن تكتبوا إليه كتابا عن جميعكم، وليكن ذلك عن رأي أمير المؤمنين. فاجتمع نفر من ربيعة إلى علي فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن نعيم بن هبيرة مستح منك لما فعل مصقلة أخوه، وقد أتانا الخبر اليقين بان مصقلة ليس يمنعه من الرجوع إلى العراق إلا الحياء، ولم يبسط منذ خرج من العراق علينا لسانا ولا يدا، ولا نحب أن يكون رجلا منا مثل مصقلة عند معاوية، فان أذنت لنا كتبنا إليه كتابا من جماعتنا وبعثنا إليه رسولا فلعله أن يرجع! فقال علي: اكتبوا ما بدا لكم وما أراكم تنتفعون بالكتاب. فقال الحضين بن منذر السدوسي: يا معشر بني بكر بن وائل! إن أمير المؤمنين قد أذن لكم في الكتاب فقلدوني كتابكم، فقالوا: قد فعلنا ذلك فاكتب ما بدا لك. فكتب إليه الحضين بن المنذر: أما بعد، يا مصقلة! فان كتابنا هذا إليك من جماعة بني بكر بن وائل، وقد علمنا بأنك لم تلحق بمعاوية رضى منك بدينه ولا رغبة في دنياه، ولم يقطعك عن علي طعن فيه ولا رغبة عنه، ولكنك توسطت أمرا قويت فيه بديا ثم ضعفت عنه أخيرا، وكان أول أمرك أنك قلت أفوز بالمال وألحق بمعاوية، ولعمري ما استبدلت الشام بالعراق، ولا السكاسك بربيعة، ولا معاوية بعلي، ولا أصبت دنيا بهما، وإن أبعد ما يكون من الله أقرب ما يكون من معاوية، فارجع إلى مصرك فقد غفر لك الذنب وحمل عنك الثقل، واعلم بان رجعتك اليوم خير منها غدا، وكانت أمس خير منها اليوم، وإن كان قد غلب عليك الحياء من أمير المؤمنين فما أنت فيه أعظم من الحياء، فقبح الله امرءا ليس فيه دنيا ولا آخرة والسلام. قال: ثم أثبت في أسفل الكتاب هذه الأبيات: أمصقل لا تعدم من الله مرشدا * ولا زلت في خفض من العيش أرغدا وإن كنت قد فارقت قومك خزية * يمد بها الشانئ إلى رهطك اليدا وكنت إذا ما ناب أمر كفيته * ربيعة طرا غائبين وشهدا تدافع عنها كل يوم كريهة * صدور العوالي والصفيح المهندا يناديك للعلياء بكر بن وائل * فتثني لها في كل جارحة يدا فكنت أقل الناس في الناس لائما * وأكثرهم في الناس خيرا معددا تخف إلى صعلوكنا فتجيبه * فكنت بهذا في ربيعة سيدا ففارقت من قد يحسر الطرف دونه * جهارا وعاديت النبي محمدا فان تكن الأيام لاقتك غيرة * قم الآن فارجع لا تقولن غدا غدا ولا ترض بالأمر الذي هو صائر * فقد جعل الله القيامة موعدا فلما ورد هذا الكتاب على مصقلة بن هبيرة وقرأه ونظر في الشعر، أقبل على الرسول فقال: هذا كلام الحضين بن المنذر، وشعره لم يشبه كلام أحد من الناس، فقال له الرسول: صدقت هذا كلام الحضين، فاتق الله يا مصقلة! وانظر فيما خرجت منه وفيما صرت إليه، وانظر من تركت ومن أخذت، ثم اقض بعد ذلك على هواك، أين الشام من العراق! وأين معاوية من علي! وأين المهاجرون والأنصار من أبناء الطلقاء والأحزاب! وأنت بالعراق تتبع وأنت بالشام تتبع. فسكت مصقلة عن الرسول فلم يجبه بشئ، ثم أخذ الكتاب فاتى به معاوية وأسمعه الشعر، فقال له معاوية: يا مصقلة! أنت عندي غير ظنين، فإذا أتاك شئ من هذا فاخفه عن أهل الشام، فقال: أفعل ذلك إن شاء الله. ثم رجع مصقلة وأقبل على الرسول فقال له: يا أخا بني بكر! إني إنما هربت بنفسي من علي خوفا منه، ولا والله ما ينطلق لساني بعيبه ولا ذمه ولا قلت قط فيه حرفا أعلم أنه يسوءه ذلك، وقد أتيتني بهذا الكتاب فخذ الجواب
329 إلى قومك. فقال الرسول: أفعل ذلك واكتب ما بدا لك، فكتب أما بعد، فقد جاءني كتابكم فقرأته وفهمته، فأخبركم أنه من لم ينفعه القليل يضره الأكثر، وإن الذي قطعني من علي وأمالني إلى معاوية ليس يخفى عليكم، وقد علمت أني لو رجعت إليكم لكان ذنبي مغفورا وثقلي محمولا، ولكني أذنبت إلى علي ذنبا وصحبت معاوية، فلو رجعت إلى علي لأبديت غير واحتملت عارا، وكنت بين لومتين أولها خيانة وآخرها غدر، ولكني قلت أقيم بالشام، فان غلب معاوية واستوى له هذا الأمر فداري العراق، وإن غلب علي فداري الروم، وفراقي عليا على بعض العذر أحب إلي من فراق معاوية ولا عذر لي، والقلب مني إليكم طائر والسلام، ثم كتب في أسفل الكتاب بهذه الأبيات: أيا راكب الأدماء أسلم خفها * وغاربها حتى تردد ارض بابل ألكني إلى أهل العراق رسالة * وخص بها حييت بكر بن وائل وعم بها عليا ربيعة انني * تركت عليا خير حاف وناعل على عمد غير عائب ذنبه * ولا سامع فيه مقالة قائل ولا طالبا بالشام أدنى معيشة * وما الجوع من جوع العراق بقاتل فكيف بقائي بعد سبعين حجة * وماذا عسى غير الليالي القلائل أقول إذا أهدى له الله نعمة * بدا الدهر زده من مزيد الفضائل ولكنني كنت امرء من ثقاته * أقدم في الشورى وأهل الوسائل فأذنبت ذنبا لم يكن ليقيله * بعلمي وقلت الليث لا شك آجلي ولم أدر ما قدر العقوبة عنده * سوى القتل قد أيقنت ان ليس قاتلي وأفردت محزونا وخليت مفردا * وقد خمدت ناري ورثت حبائلي ولم يك إلا الشام دار وانه * لموطئها بالخيل من دون قابل فسرت إليه هاربا بحشاشة * من النفس مغموما كثير البلابل ولم يسمع السامون منى نقيصة * ولا فشلت من يمن يمنى أناملي ثم دفع الكتاب إلى الرسول وقال: عليك يا ابن أخ أن تسأل أهل الشام عن قولي في علي، فقال له الرسول: نعم إني قد سالت عن ذلك فما حكموا إلا جميلا، فقال مصقلة: فاني والله على ذلك حتى أموت. ثم رجع الرسول بالكتاب إلى الكوفة فدفعه إلى الحضين بن المنذر فقرأه ثم أتى به عليا فاقرأه إياه، فقال علي: كفوا عن صاحبكم فإنه ليس براجع إليكم أبدا حتى يموت، فقال الحضين: يا أمير المؤمنين! والله ما به الحياء ولكن الرجوع، قد كففنا عنه وأبعده الله راجع: نعيم بن هبيرة السيد مهدي الحكيم. مرت ترجمته في الصفحة 152 من المجلد العاشر وقد ترجم له الشيخ محمد حرز الدين صاحب كتاب معارف الرجال، وكان صديقه ورفيقه، وقال أنه حدثه عن أهل جبل عامل قائلا: وكان يحدثنا عن أنه لم يكن يعجبه أخلاق تلك النواحي ولا عاداتهم، ويقول: أن فيهم غلظة وجفافا في الأخلاق.... ويعقب الشيخ محمد على ذلك قائلا: ولا لوم عليه حيث تربى في بلد العلم والأخلاق النجف الأشرف التي هي موطن الصفات الجميلة والعادات الطيبة.... نقول: ولده السيد هاشم كان فاضلا تقيا ورعا محبوبا ظل بعد أبيه في بنت جبيل وتوفي فيها فكان منه فرع لآل الحكيم في جبل عامل، أنجب عددا من العاملين في الخير العام أبرزهم ولده السيد علي الذي هو اليوم خطيب جبل عامل والذي أصبح منبره الحسيني مدرسة سيارة يعم نفعها الجماهير والأفراد في كل مكان تصل إليه. وللسيد علي أولاد نجباء جمع بعضهم إلى الدراسات الاسلامية العريقة، الدراسات الحديثة العالية فكانوا في مقدمة المثقفين العامليين المفيدين. السيد مهدي بحر العلوم. مرت ترجمته في الصفحة 158 من المجلد العاشر ومما لم ينشر له هناك هذه القصيدة: قال يرد على مروان بن أبي حفصة شاعر الرشيد حيث يقول في قصيدته اللامية التي أولها: سلام على جمل وهيهات من جمل ويا حبذا جمل وإن صرمت حبلي ومنها: علي أبوكم كان أفضل منكم * أباه ذوو الشورى وكانوا ذوي فضل وساء رسول الله إذ ساء بنته * بخطبته بنت اللعين أبي جهل فذم رسول الله صهر أبيكم * على منبر بالمنطق الصادع الفصل وحكم فيها حاكمين أبوكم * هما خلعاه خلع ذي النعل للنعل وقد باعها من بعده الحسن ابنه * فقد أبطلا دعواكم الرثة الحبل وضيعتموها وهي في غير أهلها * وطالبتموها حين صارت إلى الأهل فقال السيد مهدي يرد عليه: الا عد عن ذكرى بثينة أو جمل * فما ذكرها عندي يمر ولا يحلي ولا أطربتني البيض غير صحائف * محبرة بالفضل ما برحت شغلي وعوج يقيم الاعوجاج انسلالها * إذا حان منها الحين حنت إلى السل وعد للأولى هم أصل كل فضيلة * ويمم منار الفضل من ربعه الأصلي وعرج على الأطهار من آل هاشم * فهم شرفي والفخر فيهم وهم أصلي وسلم على خير الأنام محمد * وعترته الغر الكرام أولي الفضل وخص عليا ذا المناقب والعلى * وصي النبي المرتضى خيرة الأهل وبث لهم بثي فاني فيهم * أكابر أقواما مراجلهم تغلي وقل للذي خاض الضلالة والعمى * ومن خبط العشواء في ظلمة الجهل ومن باع بالأثمان جوهرة الهدى * كما باع بالخسران جوهرة العقل هجوت أناسا في الكتاب مديحهم * وفي العقل بان الفضل منهم وفي النقل ولفقت ذورا كادت السبع تنطوي * له والجبال الشم تهوي إلى السفل علوا حسبا من أن يصابوا بوصمة * فيدفع عن أحسابهم أنا أو مثلي ولكن أبت صبرا نفوس أبية * وأنف حمي لا يقر على الذل فاصغ إلى قولي وهل أنا مسمع * غداة أنادي الهائمين مع الوعل علي أبونا كان كالطهر جدنا * له ما له إلا النبوة من فضل وذو الفضل محسود لذي الجهل والعمى * لذا حسد الهادي النبي أبو جهل وعادى عليا كل أرذل أسفل * وضولع مدخول الهوى ذاهب العقل لئن كانت الشورى ابته وقبلها * سقيفتهم أصل المفاسد والختل فقد أنكرت خير البرية ندوة * وضلت رجال الرحلتين عن السبل وحاربه أهل الكتاب ببغيهم * وكانوا يستفتحون لدى الوهل
330 وأصحاب موسى السامري أضلهم * بعجل فظلوا عاكفين على العجل وقد كذب الرسل الكرام وقوتلوا * فما ضرهم خذلان قوم ذوي جهل ولو كانت الشورى لقوم ذوي فضل * لما عدلوا بالأمر يوما إلى الرذل أبوا حيدرا إذ لم يكونوا كمثله * وما الناس إلا مائلون إلى المثل أبوه ويأبى الله إلا الذي أبوا * وهل بعد حكم الله حكم لذي عدل له في العقود العاقدات له الولا * من الله عقد مبرم غير منحل وكم في كتاب الله من حجة له * وآيات فضل شاهدات على الفضل كشاهد هود ثم يتلوه شاهد * من الرعد والأحزاب والنمل والنحل أمام أتى فيه من الله ما أتى * وهل قد أتى في غيره هل أتى قل لي وبلغ فيه المصطفى أمر ربه * على منبر بالمنطق الصادع الفصل فقال ألستم تعلمون بأنني * أحق وأولى الناس بالناس في الكل فقالوا بلى قال النبي فأنت يا * أبا حسن أولى الورى بالورى مثلي وأنزله منه بمنزلة مضت * لهارون من موسى بن عمران من قبل وشبهه بالأنبياء لجمعه * جميع الذي فيهم من الفخر والنبل له حكم داود وزهد ابن مريم * ومجد خليل الله ذي الفضل والبذل وتسليم إسماعيل عند مبيته * وعزم كليم الله في شدة الأزل وحكمة إدريس وأسماء آدم * وشكر نجي الله في عهد ذي الكفل وخطب شعيب في خطابة قومه * وخشية يحيى البر في هيبة المحل وكان عديل المصطفى ومثيله * وهل لعديل الطهر أحمد بن مثل وكان الأخ البر المواسي بنفسه * ومن لم يخالفه بقول ولا فعل وأول من صلى وآمن واتقى * وأعلم خلق الله بالفرض والنقل وأشجعهم قلبا وأبسطهم يدا * وأرعاهم عهدا وأحفظ للآل وأكرمهم نفسا وأعظمهم تقى * وأسخاهم كفا وإن كان ذا قل حبيب حبيب الله نفس رسوله * ونور مجلي النور في العلو والسفل رقى فارتقى في القدس مرقى ممنعا * تجاوز فيه الوهم عن مبلغ العقل تحيرت الألباب في ذات ممكن * تعالى عن الإمكان في الوصف والفعل تجمعت الأضداد فيه من العلى * فعز عن الأنداد والشبه والمثل أذلك أم من للمعائب عيبة * تفرع كل العيب عن كفره الأصلي تطأ من للات الخبيثة أعصرا * وزاد نفاقا حين أسلم عن ختل ومصطنع ربا بكفيه لأكه * بفكيه لما جاع واضطر للأكل ومن جهل الأب الذي كل سائم * به غارف راع فصيل إلى عجل ومن كل عن فهم الكلالة فهمه * مقرا بكل العجز عن ذاك والكل أمن هو باب للعلوم كمن غدا * يفضل ربات الحجال من الجهل ومن هو أقضاهم كمن جد جده * ليقضي في جد قضية ذي فصل فأحصوا قضاياه ثمانين وجهة * تلون ألوانا وأخطأ في الكل وكم بين من قال اسألوني جهرة * ومن يستقيل الناس في المحفل الحفل ومن هو كرار إلى الحرب يصطلي * بنيرانها حتى تبوخ بما يصلي له الراية العظمى يطير بها إلى * قلوب اطيرت منه بالرعب والنصل ومن لا يرى في الحرب إلا مشمرا * بذل ذيول الفر في المعشر الفل أبو حسن ليث الوغى أسد الشري * مقدمها عند الهزاهز والوهل أقام عماد الدين من بعد ميله * وثل عروش المشركين أولي المحل وقاتل في التأويل من بعد من بغى * كما كان في التنزيل قاتل من قبل فروي من الكفار بالدم سيفه * وثنى به الباغين علا على نهل وزوجه المختار بضعته وما * لها غيره في الناس من كفو عدل وقال لها زوجتك اليوم سيدا تقيا * نقيا طاهر الفرع والأصل وأنت أحب الناس عندي وأنه * أعز وأولى الكل بعدي بالكل وأن إله العرش رب العلى قضى * بذا وتولى الأمر والعقد من قبلي فأبدت رضاها واستجابت لربها * ووالدها رب المكارم والفضل وكم خاطب قد رد فيها ولم يجب * وكم طالب صهرا وما كان بالأهل ولولا علي ما استجيب لخاطب * ولا كانت الزهراء تزف إلى بعل وأكرم بمن يعلي النبي بشأنها * واسمع بما قد قال من قوله الفصل الا فاطم مني ومن هي بضعة ومن قطعها قطعي * ومن وصلها وصلي ومن لرضاها الله يرضى وسخطها * له سخط أعظم بذلك من فضل لذا اختارها المختار للمرتضى الذي * رضاها رضاه في العزيمة والفعل ومن لا يزال الحق معه ولم يزل * مع الحق لا ينفك كل عن الكل فأعظم بزوجين الإله ارتضاهما * جليلين جلا عن شبيه وعن مثل فكل لكل صالح غير صالح * له غيره والشكل يأبى سوى الشكل لذلك ما هم الوصي بخطبة * حياة البتول الطهر فاقدة المثل بذا خبر المختار والصدق قوله * أبو حسن ذاك المصدق في النقل فأضحى بريئا والرسول مبرئا * وقد أبطلا دعواكما الرثة الحبل بذلك فاعلم جهل قوم تحدثوا * بخطبته بنت اللعين أبي جهل نعم رغبت مخزوم فيه وحاولت * بذلك فضلا لو أجيبت إلى الفضل فلما أبى الطهر الوصي ولم يجب * رمته بما رامت ومالت إلى العذل فبرأه المختار مما تحدثت * وما أظهر الرجسان من كامن الغل وقد طوقا إذ ذاك منه بلعنة * فسامتهما خسفا وذلا على ذل وقد جاء تحريم النكاح لحيدر * على فاطم فيما الرواة له تملي فان كان حقا فالوصي أحق من * تجنب محظورا من القول والفعل وكيف يظن السوء بالطهر حيدر * ورب العلى في ذكره فضله يعلي وكيف يحوم الوهم حول مطهر * من الرجس في فصل من القول لا هزل ومثل علي هل يروم دينة * كفى حاجزا عن مثلها حاجز العقل وليس يشاء المستحيل الذي شأى * جميع الورى في العقل والفضل والنبل وإن لم يكن حقا وكان محللا * له كل ما قد حل من ذاك للكل فما كانت الزهراء ليسخطها الذي * به الله راض حاكم فيه بالعدل ولا كان خير الخلق من لا يهيجه * سوى غضب لله يغضب من جهل وليس علي حاش لله بالذي * يسوء أخاه أو يسيء إلى الأهل وهل ساء نفسا نفسها وسرورها * إذا سرها مر المساءة من محل وما ساء خير الناس غير شرارهم * كعجل بني شر وصاحبه الرذل بهم سيئت الزهراء وأوذي أحمد * وصنو النبي المصطفى خاتم الرسل وما ضر مجد المرتضى ظلمهم له * ولا فلتة منهم وشورى ذوي خذل ولا ضرة جهل ابن قيس وقد هوى * ودلاه جرو العاص في المدحض الزل وقد بان عجز الأشعري وعزه * وما كان بالمرضي والحكم العدل
331 نهاهم عن التحكيم والحكم بالهوى * فلم ينتهوا حتى رأوا سبة الجهل وحاولت نقصا من على وانما * نقصت العلى في ذاك إن كنت ذا عقل فما علت العلياء إلا بمجده * ولو خلع العلياء خرت إلى السفل وأما التي قد خصه ربه بها * فليست برغم منك تدفع بالعزل أيعزل منصوب الإله بعزلهم * إذا فلهم عزل النبيين والرسل وقست العلى بالنعل وهي بقلبها * مواقعها جيد اللعينين والعجل فبشراكم بالنعل تتبع لعنة * مضاعفة من تابعي خاصف النعل وما شان شان المجتبى سبط أحمد * مصالحة الباغي الغوي على دخل فقد صالح المختار من صالح ابنه * وصد عن البيت الحرام إلى الحل وقال خطيبا فيه ابني سيد * يكف به الله الأكف عن القتل كما كف أيديكم بمكة عنهم * لما كان في الأصلاب من طيب النسل وقد قال في السبطين قولا جهلتم * معانيه لكن قد وعاه ذوو العقل امامان إن قاما وإن قعدا فما * يضرهما خذلان من هم بالخذل فصيرتموا صلح الزكي مسبة * وأكثر فيه العاذلون من العذل وتلك شكاة ظاهر عنه عارها * وما هي إلا عصمة رثة الحبل لئن كنتم أنكرتم حسن ما أتى * به الحسن الأخلاق والخيم والفعل لفي مثلها لام الذي لام أحمدا * على صلحه كفار مكة من قبل إلى أن يقول: هما أسسا ظلم الهداة وقد بنى * غواتهم بغيا على ذلك الأصل ولولاهم ما كان شورى ونعثل * ولا جمل والقاسطون ذوو الدخل ولا كان تحكيم ولا كان مارق * ولا رمي الاسلام بالحادث الجل ولا كان مخضوبا علي بضربة * لأشقى الأنام الكافر الفاجر الوغل ولا سيئت الزهراء ولا ابتز حقها * ولا دفنت سرا بمحلولك الطفل ولا عمي القبر الشريف وقرب * البعيد إلى الهادي وبوعد بالأهل ولا جنح السبط الزكي ابن أحمد * لسلم ابن حرب حرب كل أخي فضل ولا كان في الطف الحسين مجدلا * ولا رأسه للشام يهدى إلى النذل ولا سبيت يوما بنات محمد * ولا آله أضحت أضاحي على الرمل ولا طمعت فيها علوج أمية * ولا حكمت أبناء مثلة في النسل جعلتم تراث الأقربين لمن نأى * وأدنيتم الأقصين عدلا عن العدل وأخرتم من قد علا كعبهم على * خدود الأولى مالوا وملتم إلى المثل على أنني مستغفر من مقالتي * وذكري شرودا سار في مثل قبلي فما خد من قستم به صالحا لأن * يكون لعمري موطئ الرجل والنعل وأين سماء المجد من مهبط الثرى * وأين سنام العلم من مدحض الجهل وأين السهى من بهجة الشمس في الضحى * وأين العلى من منتهى البعد في السفل زعمتم بني العباس عقدة أمرها * وما صلحوا للعقد يوما ولا الحل وجدهم قد كان أفضل منهم * وما أدخل الشورى ولا عد للفضل وقد قدموا اليتيمي قدما لسنه * وما قدموا الشيخ الشريف أبا الفضل لقد ظلموا العباس إن كان أهلها * وإن لم يكن اهلا فما الولد بالأهل فما بالكم صيرتموها لولده * وأثبتموا للفرع ما ليس للأصل وقد بذل العباس نصرة حيدر * وبيعته بعد النبي بلا فصل وكان بحق الطهر كالحبر نجله * عليما وأكرم بابن عباس من نجل ولكن أبى الأحفاد سيرة جدهم * فجدوا بظلم الطيبين من النسل وغرهم الملك العقيم وعزهم * فبعدا لعز عاد بالخزي والذل وقد قطعوا الأرحام بعد قيامهم * بظلم مقام الأقربين من الأهل بحبس وتشريد وبغي وغيلة * وحرب وإرضاء وخذل إلى قتل لأن قتلت آل النبي أمية * فقتلاهم أوفى عديدا من الرمل وإن منعتها الماء تشفي غليلها * فقد أرسلوه للقبور من الغل وإن حبست عنها الفرات فإنهم * باجرائه اجرى فقبح من فعل وقد حيل فيما بين ذاك وبينهم * فحاروا وحار العقل من كل ذي عقل وحاولت الأرجاس اطفاء نورهم * بأفواههم والنور يسمو ويستعلي فعلمهم المنشور في كل مشهد * وحكمهم المشهور بالنصف والعدل وأسماؤهم تلولا سماء ربهم * وجدهم خير الورى سيد الرسل ويرفعهم في وقت كل فريضة * نداء صلاة والصلاة من الكل مشاهدهم مشهودة وبيوتهم * تراها كبيت الله شارعة السبل تشد الورى من كل فج رحالها * إليها وتطوي البيد حزنا إلى سهل على كل عداء من السير ضامر * يغول الفلا في كل هاجرة تغلي تؤم التي فيها النجاة وعندها * مناخ ذوي الحاجات للفوز بالسؤل بيوت بإذن الله قد رفعت فما * لها غير بيت الله في الفضل من مثل وفيها رجال ليس يلهيهم بها * عن الله بيع أو سوى البيع من شغل أولئك أهلوها وأهلا باهلها * ولا مرحبا بالغير إذ ليس بالأهل أولئك لا نوكى أمية والتي * قفتها فزادت في الضلالة والجهل أساءت إلى الأهلين فاجتث أصلها * وبادت كما بادت أمية من قبل فسل عنهم الزوراء كم باد أهلها * فأمست لفقد الأهل بادية الثكل أبيدت بها خضراء ذات سوادها * فأضحت بها حمراء من حلب النصل وإن شئت سل أبناء يافث عنهم * فعندهم أبناء صدق عن الكل فكم ترك الأتراك كل خليفة * ببغداد خلفا لا يمر ولا يحلي وكم قلبوا ظهر المجن لهم بها * وكم خلعوهم خلع ذي النعل للنعل وكم قطع الجبار دابر ظالمي * أو لي عدله والحمد لله ذي العدل وقلتم أضاعوها كذبتم وإنما * أضيعت بكم لما انطويتم على الغل وهل يطلبون الأمر من غير ناصر * أو النصر ممن لا يقيم على إل كنصرة أنصار النبي ابن عمة * فلم يبق منهم غير ذي عدد قل ونصر عبيد الله في يوم مسكن * لسبط رسول الله ذي الشرف الأصل إذا انسل من جند عليهم مؤمر * بجنح ظلام والدجى ستر منسل ولم يرع حق المصطفى ووصيه * ولا حرمة القربى الحرية بالوصل ونصرة كوفان حسينا على العدى * فلما أتاهم حل ما حل بالنسل وبيعة أشراف القبائل مسلما * وقد أسلموه بعد ذلك للقتل ونصرتهم زيدا واعطائهم يدا * وتركهم إياه فردا لدى الوهل ولو قام في نصر الوصي وولده * حماة مصاديق اللقا صادقوا الفعل لقام بنصر الدين من هو أهله * وذيد بهم من ليس للأمر بالأهل ولو كان في يوم السقيفة جعفر * أو الحمزة الليث الصئول أو شبل لما وجدت أخرى سبيلا إلى العلى * ولا هبط الأمر العلي إلى السفل ولكن قضى فيما قضى الله عنده * وما خطت الأقلام في اللوح من قبل
332 بامهالهم حتى يميز به الذي * يطيع من العاصي المكب على الجهل إلى أن يقوم القائم المرتجى الذي * يقوم بأمر الله يطلب بالذحل ويشفي صدور المؤمنين بنصره * ويملأ وجه الأرض بالقسط والعدل ويسقي العدى كأسا مصبرة إذا * بها نهلوا علوا بيحموم والمهل فمهلا فان الله منجز وعده * وموهن كيد الكافرين على مهل وخاذل جمع الماردين ومن سعى * لإطفاء نور الله بالخيل والرجل فديتك يا ابن العسكري إلى متى * نعاني العنا من كل ذي ترة رذل فقم يا ولي الله وانهض بعزمة * من الله منصورا على كل مستعلي لأن ظن بالنصر المؤزر معشر * فاني معد النصر من عالم الظل ولائي دليلي والمهيمن شاهدي * وعلمك بي حسبي من القول والفعل فدونك نصري باللسان طليعة * لنصري إذا طالعت نورك يستعلي أتت من عبيد مت اسما ونسبة * له منك حبل غير منقطع الوصل فمن علينا بالقبول فإنها * أشق على الأعدا من الرشق بالنبل عليك سلام الله مبلغ فضله وما لك من فضل على كل ذي فضل الشيخ محمد مهدي بن الشيخ عبد الهادي بن الشيخ أبي الحسن بن شاه محمد ابن عبد الهادي المازندراني الهزار جريبي الحائري. ولد في كربلاء سنة 1293 وتوفي سنة 1384، ودفن في مقبرته الخاصة الواقعة في حسينية المازندراني. أسرته وآل المازندراني من بيوتات العلم المعروفة في كربلاء وكان نبوع هذه الأسرة في كربلاء في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري حين هاجر جدهم الشيخ أبو الحسن بن شاه محمد بن عبد الهادي الهزار جريبي المازندراني المتوفى سنة 1306 من طهران مع زميله الشيخ مرتضى الأنصاري إلى كربلاء واستوطنا بها. مؤسس هذه الأسرة الشيخ أبو الحسن بن شاه محمد بن عبد الهادي الهزار جريبي المازندراني من أجلاء علماء الشيعة وقد مر ذكره في محله من الأعيان في المجلد الثاني. وقد نبع من هذه الأسرة علماء، وخطباء مشاهير. منهم الشيخ عبد الجواد بن الشيخ أبو الحسن من فقهاء كربلاء كان يقيم الجماعة في الحرم الحسيني المطهر من جانب الرأس الشريف وقد كف بصره في أواخر عمره، وهو أحد نماذج السلف الصالح في تبحره في الفقه وخشونته في ذات الله، عابد زاهد كان أرشد إخوانه توفي في ليلة الجمعة ثالث من شهر رجب سنة 1361 وأعقب ولده الشيخ علي. أساتذته أخذ الفقه والأصول عن والده، ثم تخرج على الشيخ ميرزا علي نقي البرغاني الصالحي المتوفى سنة 1310 ثم تخصص في الخطابة ونبغ بها وكان من أكابر خطباء المنبر الحسيني في العراق، وكان يرقى السيد حتى في أواخر أيام عمره على رغم الضعف المفرط في مزاجه وكبر سنه. مؤلفاته 1 شجرة طوبى يقع في جزئين أولهما في سبعة وستين مجلسا في أحوال بعض الصحابة والتابعين وبعض الملوك، والجزء الثاني في أحوال الخمسة الطاهرين وبعض المواعظ والأخلاق في ثلاثة وخمسين مجلسا. 2 الكوكب الدري في ثلاثة اجزاء كل منها ذو مجالس ذكر فيها أحوال النبي والبتول والوصي. 3 معالي السبطين في أحوال السيدين الامامين الحسن والحسين ع. 4 نور الابصار في أحوال الأئمة التسعة الأبرار. 6 هدية الأبرار. 7 تقريرات أستاذه الشيخ ميرزا علي نقي البرغاني الصالحي في الفقه والأصول (1). السيد مهدي الحيدري : مرت ترجمته في الصفحة 143 من المجلد العاشر وأشير هناك إلى موقفه الجهادي مع إخوانه العلماء خلال الحرب العالمية الأولى. ونضيف هنا بعض المعلومات عن احداث تلك الفترة: في الحرب العالمية الأولى، سنة 1332، داهمت الجيوش الإنكليزية العراق من جهة البصرة، فأرسل بعض البصريين برقيات إلى مختلف أنحاء العراق يستنجدون لدفع الإنكليز عن البصرة. وكان نص البرقية التي وصلت إلى علماء الكاظمية كما يلي: ثغر البصرة، الكفار محيطون به، الجميع تحت السلاح، نخشى على باقي بلاد الاسلام، ساعدونا بأمر العشائر بالدفاع. وجاء على الأثر من علماء النجف إلى الكاظمية قبل سفره بيوم واحد: شيخ الشريعة الأصفهاني، والسيد مصطفى الكاشاني، والسيد علي الداماد وغيرهم من العلماء والمجاهدين. ثم تواردت على الكاظمية وفود العلماء الزاحفين نحو المعركة من النجف الأشرف وكربلاء، وكانت البلدة تستقبل كل واحد منهم بمنتهى الترحاب والتكريم، وتودعه بمثل ذلك. أما الميرزا محمد تقي الشيرازي فإنه لما بلغه الامر وهو في سامراء أرسل ولده الأكبر. ولما عزم السيد مهدي على المسير إلى القرنة أبرق إلى جميع زعماء القبائل ورؤساء العشائر الواقعة على ضفتي نهر دجلة يخبرهم بتوجهه إلى ساحة الحرب، وأمرهم بالتعبئة والاستعداد ليكونوا في صفوف المجاهدين. وفي عصر يوم الثلاثاء، الثاني عشر من محرم الحرام سنة 1333، تحرك من الكاظمية ومعه الشيخ مهدي الخالصي والشيخ عبد الحميد الكليدار وجماعة من المجاهدين، وخرجت الكاظمية بأسرها لتشييع ركب الجهاد الزاحف. ووصل الموكب الكبير إلى ساحل النهر في بغداد، حيث أعدت لهم هناك السفن والمراكب، ثم سارت بهم متجهة نحو العمارة. وكان كلما يصل
(1) الشيخ عبد الحسين الصالحي. 333 الموكب إحدى المدن أو القبائل العربية التي تنزل على ضفاف النهر يأمر بالوقوف، وينزل هو وأصحابه، ويجمع الناس، ويحثهم على الجهاد، حتى وصلوا العمارة. وهناك أمر بالاجتماع العام في مسجدها الجامع وألقيت الخطب الحماسية من قبل بعض المجاهدين. ثم قام بنفسه ورقى المنبر وحث الناس على الجهاد، وحرضهم على التضحية والثبات، وأمرهم برص الصفوف، وتوحيد الجهود أمام العدو المتربص ورغبهم في الشهادة والسعادة، وحذرهم مغبة الفرقة والتخاذل، وشوقهم إلى ثواب الله ورضاه، فاستجابوا للنداء، والتحق به خلق كثير. ثم سار مع جموع المجاهدين إلى منطقة العزير واجتمع هناك بالقائد العسكري جاويد باشا، وتفاوض معه حول القضايا الهامة التي تتعلق بخطط الحرب وشؤون القتال. وكانت الحرب في ذلك الوقت قائمة في القرنة وهي القلب، فقصد بمن معه ساحة الحرب، وفي أثناء الطريق صادف اندحار الجيش العثماني وانسحابه من منطقة القتال، ورجوع بعض القبائل التي كانت تحارب معه، وسقوط القرنة بيد العدو. فأشار بعضهم عليه بالرجوع إلى العمارة لأنها مركز القوة وموطن العشائر، فوافق على ذلك وعاد إلى العمارة. وبقي في العمارة يكاتب القبائل، ويحرض العشائر، ويبعث الرسل والدعاة إلى سائر الأطراف يأمرون الناس بالخروج، فكان الناس يفدون على العمارة زرافات ووحدانا ملبين نداء الواجب، وعازمين على لقاء العدو، ثم يتوجهون إلى الميدان. وبعد أن أعد العدة، وهيا الجو، أبرق إلى العلماء: شيخ الشريعة والكاشاني والداماد وغيرهم وكانوا حتى هذا الوقت مقيمين في الكاظمية وطلب منهم التوجه إلى العمارة مع أصحابهم المجاهدين، كما أبرق إلى أهالي بغداد علمائها الذين تأخروا عنه بسبب انشغالهم بفيضان دجلة وانكسار بعض سدودها يحثهم على التوجه إلى سوح الجهاد. وبعد اثني عشر يوما من قدومه العمارة ورد العلماء ومن معهم إليها. وفي تلك الآونة عزل القائد الأول جاويد باشا وعين مكانه القائد سليمان عسكري بك. ولما تكاملت جموع المجاهدين في العمارة، وعبئت القبائل تحرك إلى ساحة الحرب وكانت قريبة من القرنة قبل بقية العلماء، ونزل في مقر القيادة العسكرية. ثم أبرق إلى العلماء الذين تركهم في العمارة، وطلب منهم اللحوق به فلبوا طلبه. وقد توزع المجاهدون بقيادة العلماء على الجبهات المتعددة: أما القلب وهو القرنة فقد رابط فيه السيد مهدي مع العلماء: شيخ الشريعة الأصفهاني، والسيد مصطفى الكاشاني، والسيد علي الداماد، والسيد عبد الرزاق الحلو وغيرهم، ومعهم جموع غفيرة من المجاهدين والقبائل المرابطة. وأما الجناح الأيمن وهو الشعيبة فقد رابط فيه السيد محمد سعيد الحبوبي، والشيخ باقر حيدر، والسيد محسن الحكيم وغيرهم ومعهم خلق كثير من المجاهدين والقبائل المقاتلة. وأما الجناح الأيسر وهو الحويزة فقد رابط فيه الشيخ مهدي الخالصي، ومعه ولده الكبير الشيخ محمد، والشيخ جعفر الشيخ راضي، والسيد محمد نجل السيد كاظم اليزدي، والسيد عيسى كمال الدين وغيرهم، ومعهم عدد غفير من المجاهدين. ثم قرر ان يتقدم إلى الخطوط الأولى فركب سفينة أعدت لذلك، وسارت معه بعض القبائل كربيعة وبني لام بسفنهم، وتخلفت عنه بعض القبائل الأخرى ريثما تتهيأ للسفر ثم تلتحق به في اليوم الثاني. ولما أدركهم الليل رست السفينة، على الساحل، وأمر أصحابه بالنزول، في ارض تسمى حريبة وهي من الأراضي الوعرة. فنزلوا فيها، وضربوا خيامهم على حافة النهر من جانب القرنة، وباتوا تلك الليلة وهم لا يعلمون موقعهم من الجيش العثماني، هل أنهم متأخرون عنه أم متقدمون عليه، وأما قبيلتا ربيعة وبني لام فإنهم قد حطوا رحالهم قبل أرض حريبة حيث أدركهم الليل هناك. ولما أسفر الصبح خرج ولداه السيد أسد الله والسيد أحمد ليستكشفا حقيقة المكان. فبينما هما كذلك إذ لاحت لهما طلائع العدو، وظهرت لهما بواخره النهرية ومدافعه ومعداته الحربية، وقد بدأ بقوة هائلة بهجوم عنيف مفاجئ على بشكل رهيب لا قبل للجيش العثماني بصده،. ثم اشتبك الجيشان، واحتدم القتال من قبل طلوع الشمس إلى ما بعد زوالها. وقد رست بواخر الإنكليز بإزاء سد كان قد صنعه القائد السابق جاويد باشا وقطع به نهر دجلة. وكانت خيام السيد مهدي وأصحابه متقدمة على الجيش العثماني بنصف فرسخ بحيث كانت قريبة من العدو، وبمرأى منه ومشهد وصمد ومن معه واشتبكوا مع الإنكليز وصدوهم في 5 ربيع الثاني سنة 1333 في المعركة التي عرفت باسم معركة نهر الروطة. وبقي السيد مهدي وباقي العلماء وجموع القبائل مرابطين في تلك الجبهات مدة أشهر وكان الإنكليز في هذه المدة يعدون العدة للهجوم ثانيا على تلك المراكز في جميع الجبهات، بقوة هائلة لا قبل لهم بها. فركزوا هجومهم أولا على الجناح الأيمن في الشعيبة وانتصروا فيه. ثم وجه الإنكليز قوتهم الكبيرة إلى الجناح الأيسر في الحويزة وانتصروا هناك. ولما فرغوا من الجناحين توجهوا إلى القلب، حيث يرابط السيد مهدي، وجماعة من العلماء، وجموع من المجاهدين، ومعهم القوات العسكرية العثمانية، فهاجمهم الإنكليز وانتصروا عليهم ثم انسحب القائد العثماني العام نور الدين بك بجيشه. وأعدت للسيد مهدي وبقية العلماء وأصحابهم باخرة خاصة من بواخر الجيش، وقد ضم إليها مركبان، أحدهما في اليمين والآخر في اليسار ولم يكن فيها من الوقود ما يكفي لمثل هذه الرحلة الشاقة، وما يوصلهم إلى مأمنهم،
334 لذلك كانت تقف كثيرا وتسير قليلا. فكان ذلك كله سببا في ادراك العدو لهم وهم في النهر، وقد صوب نحوهم قذائفه، وحلقت فوقهم طائراته. فرأوا أن يتفرقوا في الباخرة والمركبين ولا يجتمعوا في مكان واحد، لئلا يرموا رمية واحدة فيستشهدوا جميعا في وقت واحد. فنزل السيد مهدي وأنجاله الثلاثة، وابن أخيه السيد عبد الكريم، وابن عمه السيد عبد الحسين في مركب اليمين، ونزل السيد مصطفى الكاشاني ومن معه في مركب اليسار، وبقي شيخ الشريعة ومن معه في الباخرة نفسها. ولما علم زعماء القبائل الواقعة على ضفاف النهر بوجود السيد مهدي في المركب ورأوا العدو قد قارب منه، أرسلوا زورقا صغيرا ليقله إلى الساحل، وبعد التردد الطويل نزل في الزورق مع أولاده وابن عمه. وقد طرحوا في المراكب جل أسلحتهم إلا السيد عبد الحسين الحيدري فبقي على أهبته واستعداده وقد لبس لامة حرب كاملة، فلما استقر بهم الزورق، وهم بالسير، رمى اثنان من الجنود وواحد من المجاهدين بأنفسهم إلى ذلك الزورق من شدة خوفهم وفزعهم، لينجوا من الموت، فانقلب الزورق بمن فيه وبينهم السيد مهدي نفسه وبعد جهد جهيد أمكن انقاذه ومن معه والخروج بهم إلى الشاطئ قبيل المغرب. وأما السيد عبد الحسين الحيدري وقد كان مدججا بالسلاح فغاص في الماء ولم يجدوا له اثرا. أما السيد مهدي وأنجاله فإنهم بعد أن استراحوا قليلا من عناء هذه المشقات والأهوال، دخلوا في قلعة هناك وأقاموا فيها صلاة المغرب والعشاء، ثم رأوا أن المصلحة في مواصلة السير لأن العدو يجد السرى في طلبهم، وياسر كل من يصادفه منهم. وكان الطريق وعرا موحلا، وكله مياه وجداول، والسيد مهدي شيخ كبير، وقد هدت الحرب قواه، وأنهكت الاحداث جسمه. وكان معهم في ساحة الحرب السيد هاشم الشوشتري النجفي وعنده زورق جاء به مع أصحابه حين الانسحاب فمر زورقه بتلك القلعة في ذلك الوقت، فأخبره رجل من الاعراب بما جرى على السيد ومن معه في النهر، ونزوله في هذا الساحل، ودخوله في القلعة. وأنه الآن فيها مع أنجاله يريدون السير، ويمنعهم من ذلك شدة الوحل وكثرة المياه، فوصل إلى السيد واركبه وأنجاله في زورقه، ثم أخبرهم بان السيد مصطفى الكاشاني قد انفصل مركبه من الباخرة وانحدر به مع الماء إلى جهة العدو، والتقى زورقي به عن طريق الصدفة، فنقتله إلى إحدى السفن التي تقل عددا كبيرا من المجاهدين. فقال له السيد راضي ان هذه البواخر معرضة للأسر لأنها بطيئة السير، والعدو جاد في طلبها ولكن الرأي أن ناتي به معنا في هذا الزورق، فإنه أقرب إلى النجاة لخفته وسرعته فاستصوبوا هذا الرأي وذهبوا إلى السفينة ونقلوا السيد الكاشاني معهم، وجدوا في السير حتى وصلوا إلى منطقة اسمها أبو روبة قبيل الفجر، وهي تبعد عن قلعة صالح ثلاثة فراسخ. اما شيخ الشريعة الأصفهاني فإنه بقي في الباخرة مع أصحابه إلى الساعة الرابعة غروبية من الليل، وهي بطيئة السير، كثيرة الوقوف، فخافوا أن يدركهم العدو، فانتقلوا منها إلى الساحل، وساروا على حافة النهر إلى قريب الفجر، فمروا بأحد الأهوار فأرادوا عبور النهر إلى الجانب الآخر حيث يوجد السيد مهدي وأصحابه، فصادفوا زورقا صغيرا لا يسعهم مرة واحدة، فقرروا التناوب في العبور، فاركبوا في النوبة الأولى شيخ الشريعة، والميرزا محمد رضا نجل الشيرازي ورجلين آخرين من أهل العلم. وبينما هو يسير بهم وقد قاربوا الجانب الآخر إذ نفذ فيه الماء وغرق بمن فيه. ومن المصادفات العجيبة ان يكون السيد راضي نجل السيد مهدي واقفا هناك في تلك اللحظة وقد سبق أصحابه إلى هذا المكان ليستريح فيه هنيهة، فلما رأى الحادث بعينه، وعلم أن فيه شيخ الشريعة، ألقى بنفسه في الماء واستنقذ الشيخ وأصحابه وجاء بهم إلى الساحل.، وكان الشيخ يلقبه بعد هذه الحادثة بمحيي الشريعة. وبينما هو كذلك إذ وصل إليه والده واخوته، فلما رأوه بهذه الحال ظنوا أنه سقط في الماء مرة ثانية، فأخبرهم بالخبر فشكروا الله على السلامة. وهناك اجتمع الأقطاب الثلاثة: السيد المهدي، وشيخ الشريعة، والسيد الكاشاني وجلسوا جميعا للاستراحة برهة من الزمن، ثم ركبوا زورقهم وساروا حتى طلعت الشمس وأسفر الصباح، فرأوا العدو قريبا منهم، وأنه سيدخل قلعة صالح وشيكا، فعدلوا عن مواصلة السير إلى القلعة وكانوا على مقربة منها وجعلوا سيرهم على منازل القبائل في الأهوار يتنقلون بين شيوخها ورؤسائها، من خريبط بن فالح الصيهود إلى عبد الكريم بن صيهود ومنه إلى مطلق الخليفة ثم إلى مجيد الخليفة ثم إلى أخيه حمود الخليفة ومنه إلى محمد وشواي وهما من شيوخ آل ازيرج. وما زالوا يتنقلون بين تلك المنازل والقبائل حتى وصلوا إلى آل دراج، ثم دخلوا في الجزيرة التي تفصل بينهم وبين مياح وهي قبيلة محمد الياسين وقد اجتازوها ليلا بكل مشقة، وطولها يقارب الاثني عشر فرسخا. وقد التحق بالسيد مهدي عند اجتيازه هذا الطريق كثير من المجاهدين، وبعض الضباط والجنود العثمانيين الذين لاذوا بالسيد خوفا من القتل والأسر والسلب، وبينهم قائم مقام قلعة صالح مع عائلته. وكانت سيرة السيد مهدي في هذه المسيرة ولا سيما في تلك الجزيرة أن يركب ساعة وينزل أخرى حتى يتلاحق به المجاهدون. وهكذا قطع وصحبه ذلك الطريق الوعر حتى وصلوا إلى أول قبيلة مياح بعد طلوع الشمس بساعتين، ونزلوا وقت العصر عند كريم أحد رجال هذه القبيلة، وباتوا عنده تلك الليلة. وفي الصباح الباكر ساروا حتى وصلوا إلى محمد الياسين شيخ مياح، وتأخروا عنده ذلك النهار وتلك الليلة. أما باقي العلماء الذين كانوا مع السيد مهدي فقد توجهوا إلى قضاء الحي ويبعد عن منطقة مياح نصف فرسخ تقريبا، وقد كان حتى ذلك الوقت تحت تصرف الحكومة العثمانية. ولما علم محمد صالح شكارة أحد وجهاء الحي بنزول السيد مهدي وأصحابه عند محمد الياسين جاء من الحي وزار السيد، وطلب منه أن يرحل معه إلى الحي، وينزل عنده في ضيافته، فاجابه إلى ذلك بشرط أن يمهله ذلك اليوم ليستقر ويستريح ثم يأتيه في اليوم الثاني. وفي اليوم الثاني مضوا، ومعهم الميرزا محمد رضا الشيرازي وبقوا في الحي عنده سبعة أيام.
335 وكان من نية السيد وعزمه أن يذهب بعد ذلك إلى الكوت ليرابط فيها مع الجيش العثماني. وفي عصر اليوم الثالث من شعبان سنة 1333 تحرك، وأصحابه ومعهم السيد مصطفى الكاشاني وساروا إلى الكوت ووصلوا ليلة الخامس منه إلى منطقة وادي الحبيب أحد امراء ربيعة، وباتوا ليلتهم عنده. وفي صبيحة اليوم الخامس منه دخلوا الكوت ونزل السيد مهدي وأولاده وأصحابه عند الحاج حسن الحاج جودي السعيدي بطلب منه. ونزل السيد الكاشاني ومن معه في مكان آخر، وبقي الكاشاني هناك أياما ثم عاد إلى وطنه. أما شيخ الشريعة فقد عاد إلى وطنه من قضاء الحي، ولم يصل إلى الكوت. وأما السيد مهدي فقد لبث في الكوت مرابطا مدة أربعة أشهر كاملة، مع أولاده وجمع من العلماء والمجاهدين. وقد أصابه هناك مرض شديد. ورابط في الكوت معه أيضا من العلماء الشيخ مهدي الخالصي والسيد عبد الرزاق الحلو. وكان مركز الجيش العثماني الذي جمعه القائد العام نور الدين بك في شرق الكوت في منطقتين الفلاحية والسن وهما استحكامات طبيعية في طرفي دجلة. وكان العدو قد أعد العدة للهجوم على هذه القوة العسكرية الكبيرة. وفي أوائل ذي الحجة هجم بقوة هائلة على مراكز الجيش العثماني، فاضطره إلى الانسحاب ليلا من الكوت بعد مقاومة عنيفة. فأرسل السيد مهدي إلى الشيخ الخالصي والسيد الحلو وأشار عليهما بلزوم الانسحاب قبل مداهمة العدو، وأن يكون الخروج عن طريق البر في نفس الليلة التي يخرج فيها الجيش. وبدأوا فعلا بالانسحاب في الساعة السابعة غروبية من الليل، وعبروا إلى الجانب الآخر حتى لا يدركهم العدو. وفي تلك الليلة أصاب السيد مهدي رمد شديد في عينه، فاضطر إلى البقاء ليلتين عند قبيلة ربيعة، وفي اليوم الثاني مرت عليهم بواخر العدو قاصدة مدينة النعمانية وهي تبعد عن الكوت بمقدار ستة فراسخ تقريبا، فاضطر السيد مهدي وأصحابه إلى السفر عن طريق عفك والدغارة وقد أحضرت له ولأصحابه الخيول وهناك كان لا بد من أن يقطع على شيخوخته وضعفه ومرضه جزيرة عفك الطويلة راكبا على فرس وهو مشدود العينين، ومعه رجل من ربيعة يقود الفرس. وفي الليلة الثانية من ركوبه بلغ أول عفك، فنزل عند مناحي آل الحاج طرفة، ثم واصل السير إلى محل الحاج مهدي الفاضل وأخيه الحاج صلال، ثم واصل السير إلى محل الحاج مخيف وأقام عنده تلك الليلة، وأمر باحضار سفينة له ولأصحابه عند الصباح للتوجه إلى وطنه. وفي الصباح تحرك موكبه وقطعت السفينة ليلتين حتى وصلت إلى محل السيد حسين نجل الشاعر الكبير السيد حيدر الحلي فأقام السيد عنده ليلة واحدة، ثم توجه في صبيحتها إلى الحلة ووصلها عصرا، وحل ضيفا مكرما عند الحاج حمزة الشهربانلي وبقي عنده ليلة واحدة،. وفي الصباح توجه بأصحابه إلى وطنه، فوصل الكاظمية في اليوم الثامن والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1333. وقد دامت رحلته سنة كاملة الا أياما قليلة. ونحن نروي هذه التفاصيل التي رواها من شاهدوها لنعطي القارئ ملامح عما عاناه أولئك الشيوخ وهم في أسنانهم العالية من البلاء دفاعا عن الاسلام في طل الدولة العثمانية التي كانت لا ترحمهم في حكمها لهم. ومع ذلك فعند ما رأوها تواجه اخطار الاحتلال الأجنبي وقفوا إلى جانبها باسم الاسلام لأنها كانت في نظرهم تمثله في ذلك العصر. هذا هو التاريخ الشيعي الناصع وهذه هي مواقف رحاله وقادته. السيد منصور كمونة النجفي قال الشيخ محمد هادي الأميني: الشئ الكثير من تراث النجف الفكري ضاع ولفه التلف والنسيان والإهمال بحيث لم يحفظ التاريخ لنا منه أي ذكر. ومن هؤلاء شاعر نجفي عاش في القرن الحادي عشر الهجري، وخرج من عند أسرته ولم يعد إليها إلى أن توفي، حتى أن أسرته لم تعرف وجود شاعر كهذا في أبنائها هو السيد منصور كمونة الحسيني النجفي. أما ولادته ونشأته ودراسته وعام وفاته وآثاره الأدبية فلم تعرف وكل هذا مجهول ومبهم والمعروف انه من أسرة آل كمونة النجفية الشهيرة بالفضل والأدب... وديوانه يدل على شاعرية وقادة وعبقرية فذة وتضلع بالغ في فنون الشعر وأبوابه. لقد عاش الشاعر في القرن الحادي عشر ومات ولم يعرف عنه أي أثر ومضت السنون والقرون إلى أن ظهرت في إحدى مكتبات إيران مخطوطة شعرية كتب عليها ما يلي: هذا الديوان للسيد منصور كمونة الحسيني النجفي سلمه الله تعالى. يقع في جزئين صغيرين بقطع الربع 13. 18 ورق خشن كتابة واضحة مجموع صفحاتها 154 وقد رتب الجزء الأول على حروف الهجاء من الألف إلى الياء ويحتوي على قصائد فيها المدح والحماسة والبث والشكوى والوصف والمثل والرثاء... اما الجزء الثاني فيشتمل على مواليات وعددها 250 مواليه مرتبة أيضا على الحروف وسماها الشاعر بالحسينية ولقبها بأبكار الأفكار وأنوار الأنوار وفيها الحمد والحماسة والتشبيب والرثاء والوصف والوعظ والشكوى والمثل. جاء في أوله بعد الحمد: أما بعد فيقول العبد المذنب السيد منصور كمونة الحسيني النجفي على ساكنه ألف تحية وسلام لما ساقني القضاء والقدر من الوطن المألوف والمنشأ الذي كنت به مشغوف وكان سفري في أول عنفوان شبابي قطعت القفار وخضت البحار شرقا وغربا وصحبت كل ذي عقل ولما أمعنت نظري وصرفت فكري في تتبع إشهار العرب وعن لي بان أنشد ما تيسر لي به عن مفارقة الأهل والأوطان... وآخر الجزء الأول هكذا: قد تم الكتاب بعون الملك الوهاب بنظم السيد منصور كمونة الحسيني النجفي وكان الفراغ منه يوم السادس في شهر صفر ختم بالخيرة والظفر من شهور سنة 1097 فالديوان أن لم يكن بخط ناقله فلا شك إنه في حياته وعلى عهده وفي آخره تملك مشوه تاريخه 1155 وفي ص 58
336 الجزء الثاني منه جاء في الهامش: لمالكه سليمان بن داود الحسيني. هذه الصورة مصغرة عن ديوان السيد منصور كمونة النجفي ولعل التاريخ يكشف لنا صفحات مشرقة من حياته الاجتماعية والأدبية... واسال المولى سبحانه أن يوفقني في تحقيق الديوان واخراجه للناس والله ولى التوفيق. الشيخ مهدي الكلكاوي. آل الكلكاوي: من الأسر المشهورة في كربلاء وهم ينتسبون إلى قبيلة زبيد نبغ منهم اعلام في الفقه والأصول والأدب والشعر. ولهم تراجم في كتب السيرة ومعاجم الرجال... وقد أنجبوا فروعا كثيرة وبطون متعددة. أما آل الكلكاوي الذين نزحوا إلى كربلاء من إحدى قرى الحلة المسماة قليح (1) وقناقية (2) وهم أهل علم وفضل وتقوى وصلاح فلم يبق فيهم من يشتغل بالعلوم الدينية في الوقت الحاضر حيث انصرفوا جميعا إلى الدراسات الحديثة والتجارة والسياسة كما أنهم شاركوا في الحركات السياسية منها ثورة العشرين حيث إنهم بذلوا كل غال ونفيس لأجل توطيد أركان الثورة وحملوا السلاح بوجه المستعمرين. ومن أشهر رجال هذا البيت في كربلاء. 1 الشيخ مهدي بن تعب بن حمدان بن مسعود الكلكاوي الحائري من رجال العلم وأرباب الفضيلة أصولي محقق، خطاط مبدع. ولد في كربلاء، حدود سنة 1096 هجرية ونشأ نشاة صالحة فتلقى مبادئ العلوم على جملة من الأفاضل وأدرك السيد نصر الله الحائري المستشهد في القسطنطينية سنة 1168 هجرية. وقد أجمع علماء عصره على انتخابه للاشراف على صنع ضريح العباس ع سنة 1180 وقد خط بقلمه آيات من القرآن الحكيم على جوانب الضريح غاية الابداع بالفن الاسلامي والتراث الفكري الحضاري وقد انتهى صنعه سنة 1183 وهو الآن موجود في خزانة الروضة العباسية المقدسة. توفي المترجم له بعد سنة 1185 هجرية ودفن في الروضة الحسينية المطهرة في الرواق الشرقي. 2 الشيخ صالح بن الشيخ مهدي الكلكاوي الحائري من علماء كربلاء الاجلاء فقيه جليل أصولي بارع. ولد في كربلاء سنة 1163 فتلقى أوليات العلوم على والده وجملة من العلماء وأدرك الوحيد الآغا باقر البهبهاني المتوفى سنة 1205 ونبغ في الخط العربي. وقد كتب بخط الثلث سورة الدهر على الصندوق الخاتم الذي هو الآن على مرقد الإمام الحسين ع وهو يدل على براعته في فنه ويده الطولى في هذا الباب. وللمترجم بعض الحواشي على الكتب الفقهية والنحوية لم يخرج من السواد إلى البياض كما حدثني أحد أحفاده. توفي بعد سنة 1225 ودفن عند والده في الرواق الشرقي من الحرم الحسيني المطهر (3). السيد محمد طاهر الحيدري ابن السيد احمد: ولد في الكاظمية سنة 1327، ونشأ في ظل أبيه وهاجر معه إلى النجف الأشرف، ثم هاجر إليها مرة أخرى بعد رجوع والده إلى الكاظمية، فحضر أبحاث السيد أبي الحسن الأصفهاني، والسيد حسين الحمامي والسيد أبي القاسم الخوئي، والسيد حيدر الصدر وغيرهم. وهاجر إلى سامراء، وانصرف إلى الدرس والتدريس، وتتلمذ فيها على الميرزا محمود الشيرازي والميرزا حبيب الله، ثم عاد إلى الكاظمية، فحضر درس السيد احمد الكشوان والميرزا علي الزنجاني. ثم انتقل إلى بغداد إماما للجماعة في جامع المصلوب. له كتاب في الأصول، وكتاب في مناسك الحج، وكتاب في أحكام وآداب الزواج. محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القريشي الزهري، أبو بكر. الحافظ الفقيه، عالم الحجاز والشام، من أصحاب الإمام زين العابدين، وروى عنه، وعن علي بن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عمر، وربيعة بن عباد، والمسور بن مخرمة، وخلق كثير، وعنه روى عطاء، وأبو الزبير المكي، وعمر بن عبد العزيز، وكثير، كثير، يعد من أوائل من دون الحديث مات بشغب سنة 124. الشيخ محمد مؤمن أسد الله الشهير بابن خاتون: الساكن في المشهد. رأيت في مكتبة الإمام الرضا ع مخطوطة لكتاب سيبويه موقوفة منه سنة 1067. وعلى الجزء الثاني خطه وتوقيعه، اما على الجزء الأول فيوجد ختم ينص على الوقف. ولما تحدثت عن ذلك خارج المكتبة قال لي أحد الحضور ان هناك كتبا أخرى من موقوفاته، كما قيل لي ان موقوفاته من الكتب كانت هي نواة مكتبة الرضا التي توسعت بعد ذلك وصارت إلى ما صارت إليه. معمر بن خلاد البغدادي: من أصحاب الإمام الرضا ع، ثقة له كتاب الزهد، روى عن الامام، ومعاوية بن وهب، وعنه روى الصفار، ومحمد بن عيسى، وأحمد بن أبي عبد الله، وموسى بن عمر، وعلي بن الحسن بن فضال، وإبراهيم بن هاشم، وسهل بن زياد وغيرهم. الشيخ محسن بن الشيخ شريف بن الشيخ عبد الحسين بن الشيخ محمد حسن صاحب كتاب جواهر الكلام: ولد في النجف الأشرف سنة 1295 ونشأ بها، توفي عنه والده وهو في
(1) قليح: قرية كانت في ضواحي الحلة ثم اتصلت بها (2) قناقية: إحدى قرى الحلة. الشيخ عبد الحسين الصالحي. 337 التاسعة عشرة من عمره: وأصل دراسته على الميرزا النائيني وشيخ الشريعة الأصفهاني وغيرهما ثم رحل إلى البحرين ثم إلى الدورق الفلاحية في مقاطعة خوزستان. اشترك في الحرب العالمية الأولى مع السيد محمد سعيد الحبوبي في محاربة الإنكليز ثم انتقل إلى الأهواز بعد حدوث اختلاف بين عشائر كعب في الدورق وبقي في الأهواز سبع سنين وعلى أثر مرض عضال ألم به صمم على العودة إلى النجف الأشرف وفي طريقه إليها توفي في البصرة ليلة الخميس 15 من شهر ذي القعدة سنة 1355. الشيخ ناصر الخطي الجارودي : قال في تاريخ البحرين المخطوط: كان من علماء البحرين وفضلائها صالحا عابدا اخذ الفقه عن علامة عصره الشيخ احمد والد صاحب الحدائق، وأخذ الحديث والرجال عن شيخنا الشيخ عبد الله السماهيجي ومجاز عنه. مات قدس سره سنة 1164. وقبره ببهبهان مشهور إلى الآن. السيد ناصر حسين : مرت ترجمته في الصفحة 200 من المجلد العاشر ونزيد عليها هنا ما يلي : 1: كتابه: نفحات الأزهار عدد مجلداته 16. 2: كتابه: أسباع النائل عدد مجلداته 9. 3: يضاف إلى مؤلفاته كتاب سبائك الذهبان في أسماء الرجال والنسوان عدد مجلداته 48. 4: من تلاميذه الزعيم الهندي الشهير أبو الكلام آزاد الذي كان فترة طويلة رئيسا لحزب المؤتمر الهندي وكان أحد الرجال الثلاثة الذي يؤلفون لجنة القمة لتحرير الهند وهم جواهر لآل نهرو وديلبه باتيل وأبو الكلام آزاد. ثم كان بعد استقلال الهند وزيرا للمعارف. فقد درس عليه كتاب نهج البلاغة في سنتين كاملتين. ومن هنا تشبع أبو الكلام بالروح الشيعية الصحيحة التي برزت في كثير من مؤلفاته مثل كتابه علي بن أبي طالب القرآن الناطق وغيره، كما برزت في اعداد مجلته الهلال التي كان يصدرها في كلكتا والتي لم يخل عدد من اعدادها من ذكر الأئمة لا سيما الحسين بن علي ع الذي له فيه أقوال خالدة. وقد تخلف المترجم بكل من السيد محمد نصير وهو أكبر أولاده وقد انهى دراسته في النجف الأشرف وعاد إلى لكهنو والسيد محمد سعيد وقد انهى دراسته في النجف أيضا وهو كان القائم مقام والده في كل شؤونه لا سيما في الاشراف على مكتبته الكبرى. ومن مزايا المترجم محاربته للروايات غير الموثوقة التي كان يتلوها الخطباء والواعظون على المنابر استهواء للعامة. فكان هو يحارب ذلك فلا يحضر مجلسا لا يثق بخطيبه. وبهذا اقتدى به جيل من الخطباء فتحروا جهدهم صحة الأحاديث. ومن مآثره انه أول من فكر بتأسيس معهد شيعة كالج في لكهنو ليجمع شباب الشيعة بين الدراسات الحديثة والروح الاسلامية وعاونه في ذلك زميله السيد نجم الحسن فاستطاعا بتوحيد جهودهما أن يقيما ذاك المعهد الكبير بعد أن جمعا له مالا يقل عن مليون ربية. نصر بن علي الحلي النحوي: هو أبو الفتوح نصر بن علي بن منصور النحوي الحلي المعروف بابن الخازن، كان حافظا للقرآن المجيد، عارفا بالنحو واللغة العربية، قدم بغداد واستوطنها مدة وقرأ على ابن عبيدة وغيره، وسمع الحديث على أبي الفرج بن كليب وغيره ولم يبلغ أوان الرواية، توفي شابا بالحلة في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة من سنة 600 ودفن في مشهد الحسين بن علي ع. نصر بن ناصر المدائني هو قوام الدين أبو الفوارس نصر بن ناصر بن ليث بن مكي الكاتب المدائني، انتقل من المدائن إلى بغداد وأقام بها واستوطنها وتقدم في خدمة الديوان وعلت منزلته ورتب مشرف دار التشريفات للناصر لدين الله، ثم مشرفا بالديوان المفرد، ثم تولى صدرية المخزن وخلع عليه في دار الوزير ناصر بن مهدي العلوي وأضيف إليه النظر في اعمال السواد سواد بغداد ووكله الخليفة الناصر عنه وأشهد له عدلين كبيرين بالوكالة، ولم يزل في علو من شانه واقبال من سلطانه إلى أن اخترمته المنية شابا، وكان فاضلا كاتبا أديبا يقول الشعر ويورد في الهناءات مع الشعراء مدائحه للخليفة الناصر وذلك قبل توليه الولايات المذكورة، ومن شعره قوله في رثاء زمرد خاتون أم الناصر. قلبي لوقع النأى والبين يضطرب * وغاية البين ان الدمع ينسكب دعه عسى دمعه يطفي لحرقته * فملة الماء منها يخمد اللهب والمرثية طويلة على ما قاله المؤرخ الثقة، كانت وفاته في ليلة الأربعاء تاسع شعبان من سنة 605 عن مرض أيام قلائل وصلي عليه بجامع القصر المعروف اليوم بعضه بجامع سوق الغزل ببغداد، وحضر جنازته جميع أرباب الدولة ووجوه الناس كافة ودفن في حضرة موسى بن جعفر ع. القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد مرت ترجمته في الصفحة 223 من المجلد العاشر. ونقل المؤلف هناك قول ابن خلكان انه كان مالكيا ثم عاد إلى مذهب الإمامية وبذلك استدل المؤلف على أنه اثنا عشري لا إسماعيلي، إذ أن كلمة الامامية تعني الشيعة الاثني عشرية. ولكننا لم نجد في سيرة المترجم ولا في كتبه ما يدل على أنه اثنا عشري. وربما كان ما عنى به ابن خلكان من كلمة الامامية هو مطلق الشيعة. وننشر فيما يلي بحثا للدكتور محمد كامل حسين عن النعمان وبنيه وفيه تفصيل لما أجمل في الترجمة: 1 بنو النعمان أسس أسرة النعمان رجل عرف أنه من أشهر فقهاء المذهب الفاطمي ومن أكثرهم تأليفا للكتب، وتعد مؤلفاته من الأسس التي تبعها من جاء بعده من علماء هذا المذهب، بل لا تزال بعض كتبه إلى اليوم من أهم الكتب وأقومها
338 لدى طائفة البهرة الإسماعيلية، هذا الرجل هو القاضي أبو حنيفة النعمان بن أبي عبد الله محمد بن منصور بن حيون التميمي المغربي، ويعرف في تاريخ الدعوة الفاطمية باسم القاضي النعمان تمييزا له عن سميه أبي حنيفة النعمان صاحب المذهب السني المعروف. اختلف الناس في تاريخ مولده فذهب بعضهم مثل الأستاذ جوثيل إلى أنه ولد سنة 259 وتبعه الأستاذ ماسينيون في ذلك الرأي، ولكن الأستاذ آصف فيظي خالفهما وذهب إلى أنه ولد في العشر الأخير من القرن الثالث وليس لدينا ما يرجح أحد الرأيين. بل نصرح بأنه لم يصلنا شئ عن نشأته الأولى ولا عن آبائه وأسرته إلا ما رواه ابن خلكان: أن والده أبا عبد الله محمد قد عمر طويلا، وأنه كان يحكى أخبارا كثيرة نفيسة حفظها في كبره، وتوفي في رجب سنة 351 وصلى عليه ولده أبو حنيفة النعمان ودفن بأحد أبواب القيروان فحياة الأسرة غامضة أشد الغموض ولم يحفظ التاريخ شيئا عنها، ولا أدري من أين استقى الأستاذ جوثيل ما رواه من أن والد النعمان كان من رجال الأدب، إلا إذا كان قد فهم من نص ابن خلكان ذلك. وليس لدينا شئ عن حياة النعمان قبل قيام الدولة الفاطمية سنة 296 ه وقبل اتصاله بعبيد الله المهدي الفاطمي مؤسس الدولة الفاطمية، إلا أنه كان مالكي المذهب وتحول إلى المذهب الفاطمي، ولكن مؤرخي الشيعة الاثني عشرية قالوا إن النعمان كان مالكي المذهب ثم تحول إلى الشيعة الاثني عشرية ثم انتقل إلى الإسماعيلية الفاطمية ويذهب أبو المحاسن إلى أنه كان حنفي المذهب قبل أن يعتنق المذهب الفاطمي. ولكن إذا أمعنا النظر في هذه الخلافات وجدنا أن الأرجح هو ما رواه ابن خلكان، فالمذهب المالكي هو المذهب الذي كان يسود شمال إفريقية والأندلس، على أن المذهب الحنفي كان قليل الانتشار بين المسلمين في إفريقية وفي مصر أيضا، وأن خلاصة تلاميذ مالك كانوا مصريين، وعن مصر انتقل هذا المذهب المالكي إلى شمال إفريقية والأندلس وساد هذه البلاد حتى قل أن نجد فيها مذهبا آخر من مذاهب أهل السنة، فمن المرجح أن النعمان كان على مذهب أهل بلاده، أما ما يدعيه الأستاذ آصف فيضي أن النعمان كان إسماعيلي المذهب منذ نعومة أظفاره وأنه اتخذ التقية والستر خوفا على نفسه وعلى مذهبه فهو كلام يحتاج إلى ما يؤيده، وكذلك لم يتحدث أحد من المؤرخين الذين ذكروا النعمان عن إسماعيليته إلا بعد صلته بالمهدي سنة 313 ه أي بعد أن أظهر المهدي نفسه في المغرب وهزم الأغالبة واحتل ديارهم. دخل النعمان في خدمة المهدي واتصل به، ولا ندري نوع الخدمة التي كان يؤديها ولا الصلة التي اتصلها به، ولكن بعد وفاة المهدي اتصل النعمان بالقائم بأمر الله طوال مدة حكمه. وفي أواخر أيام القائم ولي النعمان قضاء مدينة طرابلس الغرب، أما قبل ولايته قضاء طرابلس فلا نكاد نعرف عنه شيئا. ولما بنى المنصور مدينة المنصورية كان النعمان أول من ولي قضاءها بل ولاه المنصور القضاء على سائر مدن إفريقية. وأصبح النعمان شديد الصلة بالامام الفاطمي مقربا منه، وظل قاضي قضاة هذه المدن ومن تحته قضاتها، إلى أن ولي المعز لدين الله الإمامة فاشتدت صلة النعمان به حتى إنه كان يجالسه ويسايره وقل أن يفارقه بعد أن كان مستوحشا منه عقب ولايته. ولكن المعز طلب إليه أن يكون في عهده كما كان في عهد أبيه المنصور بالله، ثم قربت الصلة بين المعز والنعمان حتى أصبح النعمان جليسه ومسايره، ووضع النعمان كتابه المجالس والمسايرات جمع فيه كل ما رآه وما سمعه من إمامه المعز. ولما رحل المعز من إفريقية إلى مصر سنة 362 ه اصطحب معه بني النعمان، وكان النعمان إذ ذاك قاضي الجيش، وكان من الطبيعي أن يقلد النعمان قضاء مصر، ولكن المعز بعد أن استقر بمصر ترك القضاء لأبي طاهر الذهلي محمد بن أحمد الذي كان على قضاء مصر منذ سنة 348 ه وطلب إلى أبي طاهر أن يحكم بفقه الفاطميين، فكان لا بد للقاضي من أن يسترشد في أحكامه بالقاضي النعمان، وما زال كذلك حتى توفي النعمان سنة 363 ه. ويقول ابن حجر: إن النعمان كان يسكن مصر أي الفسطاط ويغدو منها إلى القاهرة في كل يوم ويروى ابن خلكان عن المسبحي أن النعمان كان من أهل العلم والفقه والدين والنبل ما لا مزيد عليه، ونقل ابن خلكان عن ابن زولاق أن النعمان بن محمد القاضي كان في غاية الفضل من أهل القرآن والعلم بمعانيه. وعالما بوجوه الفقه وعلم اختلاف الفقهاء واللغة والشعر الفحل والمعرفة بأيام الناس مع عقل وإنصاف. وكل من تحدث عن النعمان من المؤرخين يذكر فضله وعلمه وسعة ثقافته، فلا غرابة إذن أن نرى هذه الكتب الكثيرة التي ألفها النعمان والتي أصبحت عمدة كل باحث في المذهب الفاطمي بل أصبحت الأصل الذي يستقي منه علماء المذهب: فلا أكاد أعرف عالما من علماء... الدعوة الفاطمية لم ينهج نهج النعمان في فقهه أو اختلف معه في رأي في المسائل الفقهية، وقد يكون ذلك لأن النعمان قال في كتابه المجالس والمسايرات: إن الامام المعز لدين الله طلب إليه أن يلقي على الناس شيئا من علم أهل البيت، فألف النعمان كتبه، وكان يعرضها على المعز فصلا فصلا وبابا بابا حتى أتمها، فهو يقول مثلا: أمرني المعز لدين الله صلع بجمع شئ لخصه لي وجمعه وفتح لي معانيه وبسط لي جملته فابتدأت منه شيئا ثم رفعته إليه، واعتذرت من الابطاء فيه لما أردته من إحكامه ورجوته من وقوع ما جمعته منه بموافقته ص فطالعته في مقداره، فوقع إلي: يا نعمان لا تبال كيف كان القدر مع إشباع في إيجاز، فكلما أوجزت في القول واستقصيت المعنى فهو أوفق وأحسن، والذي خشيت من أن يستبطأ في تأليفه فوالله لولا توفيق الله عز وجل إياك وعونه لك لما تعتقده من النية ومحض الولاية لما كنت تستطيع أن تأتي على باب منه في أيام كثيرة، ولكن النية يصحبها التوفيق. وفي كتابه هذا كثير من النصوص التي تدل على أنه كان يعرض كتبه على المعز قبل إذاعتها ونشرها بين الناس، كما أنه كان يقرأ مجالس الحكمة التأويلية ومن هنا لقبه ابن زولاق بالداعي وليس لدينا من النصوص ما يثبت أن النعمان كان من الدعاة، وإن كان مؤرخو المذهب المحدثون مثل الداعي إدريس يحدثنا في كتابه عيون الأخبار أن النعمان كان في مكانة رفيعة جدا قريبة من الأئمة. وأنه كان دعامة من دعائم الدعوة، ولكنه لم يصرح بان النعمان ولي مرتبة داعي الدعاة، وأغالي إذا قلت: إن النعمان هو أول من دون فقه المذهب الفاطمي، فلا أكاد أعرف فقيها من فقهاء المذهب قبله كتب في هذا الفن، وبين يدي الآن كتاب المرشد إلى أدب الإسماعيلية وهو ثبت لأسماء
339 المؤلفين والكتب الإسماعيلية، وأمامي فهرست ابن النديم، ومجموعة خطية قديمة لمؤلف مجهول جمع فيها أسماء الكتب التي ألفت منذ أوائل الدعوة الإسماعيلية، فلم أعثر في هذه الكتب كلها على كتاب واحد في الفقه الإسماعيلي قبل القاضي النعمان بن محمد. فلا غرو أن يعرف المعز فضل هذا العالم وأن يرفعه إلى أعلى الدرجات، ولا سيما أن النعمان ذكر في كتبه أنه اقتبس هذه العلوم عن الامام ويحدثنا المؤيد في الدين في سيرته أن الوزير اليازوري قال له: إن النعمان بني هذا الأمر وإن أحق الناس بمكانه أبناؤه فالنعمان إذن قد أدى للدعوة الفاطمية هذا الفضل الذي عرفوه له، إذ لا يزال علماء الدعوة يعيشون على الفقه الذي وضعه لهم النعمان، وربما على التأويل الذي ذكره في كتبه. لننظر الآن إلى هذه الكتب التي وضعها النعمان لأهل الدعوة، فيقول ابن خلكان: إن النعمان ألف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف وأملح سجع، وعمل في المناقب والمثالب كتابا حسنا، وله ردود على المخالفين، له رد على أبي حنيفة وعلى مالك والشافعي وعلى ابن سريج، وكتاب اختلاف الفقهاء ينتصر فيه لأهل البيت، وله القصيدة الفقهية التي لقبها بالمنتخبة وسرد الأستاذ إيفانوف مؤلفات القاضي النعمان فإذا بها نحو أربعة وأربعين كتابا بعضها لا يزال يحتفظ به أتباع المذهب وهم طائفة البهرة. ومنها كتب عثر على بعض أجزائها، ومنها ما فقد ولم يعرف إلا أسماؤه، ولا تعرف مكتبات اوربة إلا ستة كتب من كتب النعمان وهي: 1 جزء من كتاب شرح الأخبار بمكتبة برلين، وأحضرت دار الكتب المصرية صورة فتوغرافية منه. 2 كتاب دعائم الاسلام بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وفي دار الكتب المصرية صورة فتوغرافية منه. 3 تأويل دعائم الاسلام بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وفي مكتبة جامعة القاهرة صورة فتوغرافية منه. 4 أساس التأويل بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن. 5 جزء من كتاب المجالس والمسايرات بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وفي مكتبة جامعة القاهرة. 6 كتاب الهمة في اتباع الأئمة بمكتبة مكتب الهند بلندن، وعندي نسخة خطية منه. ويحتفظ أصحاب الدعوة الآن في مكتباتهم الخاصة بالكتب الآتية: 1 إفتاح الدعوة، وعندي نسخة خطية منه كما تحتفظ مكتبة جامعة القاهرة بصورة منه 2 كتاب الايضاح 3 كتاب الينبوع 4 مختصر الآثار 5 كتاب الطهارة 6 القصيدة المختارة 7 القصيدة المنتخبة 8 منهج الفرائض 9 الرسالة ذات البيان في الرد على ابن قتيبة 10 اختلاف أصول المذاهب 11 كتاب التوحيد والإمامة 12 مناقب بني هاشم 13 تأويل الرؤيا 14 مفاتيح النعمة. أما كتبه التي لم يعثر عليها وعرفت أسماؤها فهي: 1 مختصر الايضاح 2 كتاب الأخبار 3 كتاب الاقتصار 4 كتاب الاتفاق والافتراق 5 كتاب المقتصر 6 كتاب يوم وليلة 7 كتاب كيفية الصلاة 8 الرسالة المصرية في الرد على الشافعي 9 كتاب في الرد على أحمد بن سريج البغدادي 10 دامغ الموجز في الرد على العتكي 11 نهج السبيل إلى معرفة علم التأويل 12 حدود المعرفة في تفسير القرآن والتنبيه على التأويل 13 كتاب إثبات الحقائق في معرفة توحيد الخالق 14 كتاب في الإمامة في أربعة أجزاء 15 كتاب التعاقب والانتقاد 16 كتاب الدعاة 17 كتاب الحلي والثياب 18 كتاب الشروط 19 أرجوزة ذات المتن وهي في سيرة الامام المعز 20 أرجوزة ذات المحن وهي في تاريخ ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد 21 كتاب معالم المهدي 22 كتاب منامات الأئمة 23 كتاب التقريع والتعنيف. هذه هي الكتب التي تركها النعمان بن محمد، ولعل أهم كتاب خالد له هو كتاب دعائم الاسلام، في ذكر الحلال والحرام، والقضايا والأحكام وهو الكتاب الذي أمر الظاهر بان يحفظه الناس، وجعل لمن يحفظه مالا جزيلا، ويشتمل هذا الكتاب على جميع فقه الفاطميين. فدعائم الاسلام عندهم الولاية والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد، وكل فريضة من هذه الفرائض لها أصولها وفروعها وآدابها فهو يتحدث عن ذلك كله بشئ من الاطناب، ويروي عن كل فريضة ما ورد عنها في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية وما جاء عن الأئمة، ومن يقرأ هذا الكتاب ويقارن بين الفقه فيه وبين فقه مالك لا يكاد يجد اختلافا إلا في بعض أمور لا تمس الدين في شئ، اللهم ما ورد في القسم الخاص بالولاية. والفصل الخاص الذي في أول الكتاب تحدث فيه عن الايمان وجعل الولاية شرطا أساسيا للمؤمن، أما ما سوى ذلك من أحكام فرائض الدين وسنته والمعاملات وغيرها فلا تختلف عن الأحكام الشرعية عند المالكية. وتظهر قيمة هذا الكتاب عند علماء المذهب منذ عرف هذا الكتاب إذا عرفنا أن عالمين من أكبر علمائهم ذكراه في كتبهما واعتمدا عليه ونوها به، أما العالم الأول فهو أحمد حميد الدين بن عبد الله بن محمد الكرماني المتوفى سنة 412 ه فقد ذكر في مقدمة كتابه راحة العقل الكتب التي يجب أن تقرأ قبل قراءة راحة العقل، ومن هذه الكتب كتاب دعائم الاسلام، وأما العالم الثاني فهو المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الشيرازي المتوفى سنة 470 ه فقد ذكر في السيرة المؤيدية أنه كان يعقد مجلسا خاصا كل يوم خميس يقرأ فيه على السلطان أبي كاليجار البويهي فصول كتاب دعائم الاسلام، ويعتبر هذا الكتاب الآن من كتب الإسماعيلية على الرغم من أنه في علم الظاهر، ويعد من كتبهم السرية التي لا يقر بها إلا علماء المذهب فقط. وقد أتبعه القاضي النعمان بكتاب تأويل دعائم الاسلام واسمه الكامل: كتاب تربية المؤمنين بالتوقيف على حدود باطن علم الدين في تأويل دعائم الاسلام، وهو في ذكر التأويل الباطني للأحكام والفرائض التي وردت في كتاب دعائم الاسلام، وهو من أهم كتب التأويل عند الإسماعيلية، وعليه اعتمد الدعاة بعد النعمان، وقد توفي النعمان قبل أن يتم هذا الكتاب. ومهما يكن من شئ فالقاضي النعمان يعد من أكبر علماء الدعوة وفقيهها الأعظم، وتوفي هذا الرجل بمصر سنة 363 ه. كان هذا الفقيه رأس هذه الأسرة ومؤسسها، وجاء بعده أبناؤه وحفدته وعرفوا جميعا بالعلم والفقه، وتولوا الدعوة والقضاء بعده.
340 2 ولد ابنه الأكبر أبو الحسين علي بن النعمان بالقيروان في رجب سنة 328 ه وقدم مصر مع باقي أفراد الأسرة في صحبة المعز لدين الله، ولما مات النعمان اشترك علي بن النعمان في قضاء مصر مع أبي طاهر الذهلي فظلا يقضيان حتى توفي المعز وولي العزيز وعرض لأبي طاهر القاضي مرض الفالج، ففوض العزيز الحكم إلى علي بن النعمان وذلك في صفر سنة 366. وظل منفردا بالقضاء وافر الحرمة عند الامام العزيز حتى أصابته الحمى وهو بالجامع يقضي بين الناس. فقام من وقته ومضى إلى داره وأقام عليلا أربعة عشر يوما، وتوفي يوم الاثنين لست خلون من رجب سنة 374 ه وصلى عليه العزيز، وهو أول من لقب بقاضي القضاة في مصر، وكان عالما فقيها مثل أبيه، وكان شاعرا أورد له الثعالبي شيئا من شعره، مثل قوله: ولي صديق ما مسني عدم * مذ وقعت عينه على عدمي أغنى وأقنى فما يكلفني * تقبيل كف له ولا قدم قام بأمري لما قعدت به * ونمت عن حاجتي ولم ينم ومن شعره، وقيل بل من شعر أخيه محمد بن النعمان: رب خود عرفت في عرفات * سلبتني بحسنها حسناتي حرمت حين أحرمت نوم عيني * واستباحت دمي بذي اللحظات وأفاضت مع الحجيج ففاضت * من جفوني سوابق العبرات لم أنل من منى منى النفس حتى * خفت بالخيف أن تكون وفاتي ومن شعره أيضا: صديق لي له أدب * صداقة مثله نسب رعى لي فوق ما يرعى * وأوجب فوق ما يجب فلو نقدت خلائقه * لبهرج عندها الذهب ومن سوء الحظ أن شعره لم يصل إلينا كاملا حتى نستطيع أن نكون رأيا دقيقا في شاعريته. ولا أدري أيضا من أين استقي الأستاذ آصف فيضي أن أبا الحسن علي بن النعمان كان في مرتبة داعي الدعاة، فليس لدي من النصوص ما يؤيد ذلك، بل الذي ذكره المؤرخون أن أول من أضيفت إليه الدعوة من قضاة الفاطميين هو ولده الحسين بن علي بن النعمان على نحو ما سنذكره بعد. 3 ولما توفي علي بن النعمان أرسل الامام العزيز بالله إلى أبي عبد الله محمد بن النعمان يقول، إن القضاء لك من بعد أخيك ولا نخرجه عن هذا البيت وهكذا ولي مرتبة قاضي القضاة بعد أخيه، وكان في حياة أخيه ينوب عنه في القضاء. فإنه لما سافر العزيز بالله إلى حرب القرامطة سنة 368 وسار علي في صحبته استخلف أخاه محمدا في القضاء: ولد محمد بالمغرب سنة 345 ه وقدم القاهرة مع أفراد الأسرة، وما زال بها حتى ولي القضاء وكان جيد المعرفة بالأحكام، متفننا في علوم كثيرة، حسن الأدب والدراية بالأخبار والشعر وأيام الناس. وقد مدحه الشاعر عبد الله بن الحسن الجعفري السمرقندي بقوله: تعادلت القضاة علي أما * أبو عبد الاله فلا عديل وحيد في فضائله غريب * خطير في مفاخره جليل تألق بهجة ومضى اعتزاما * كما يتألق السيف الصقيل ويقضي والسداد له حليف * ويعطي والغمام له زميل لو اختبرت قضاياه لقالوا * يؤيده عليها جبرئيل إذا رقي المنابر فهو قس * وإن حضر المشاهد فالخليل فلما قرأ محمد بن النعمان هذه القصيدة كتب إلى الشاعر: قرأنا من قريضك ما يروق * بدائع حاكها طبع رقيق كان سطورها روض أنيق * تضوع بينها مسك فتيق إذا ما أنشدت أرجت وطابت * منازلها بها حتى الطريق وإنا تائقون إليك فاعلم * وأنت إلى زيارتنا تتوق فواصلنا بها في كل يوم * فأنت بكل مكرمة حقيق ومما يروي له أيضا قوله: أيا مشبه البدر بدر السماء * لسبع وخمس مضت واثنتين ويا كامل الحسن في نعته * شغلت فؤادي وأسهرت عيني فهل لي من مطمع أرتجيه * وإلا انصرفت بخفي حنين ويشمت بي شامت في هواك * ويفصح لي ظلت صفر اليدين فاما مننت وإما قتلت * فاتت القدير على الحالتين وفي سنة 375 عقد لابنه عبد العزيز بن محمد بن النعمان على ابنة القائد جوهر الصقلي في مجلس العزيز، ثم قرر ابنه هذا في نيابته عنه في الأحكام بالقاهرة ومصر. وعلت منزلة محمد بن النعمان عند الامام العزيز بالله حتى إنه كان يصعد معه على المنبر وكان مهيبا محترما. حتى إن أحدا لم يكن يخاطبه إلا بسيدنا ويروي ابن خلكان عن ابن زولاق المؤرخ المصري: ولم نشاهد بمصر لقاض من القضاة من الرياسة ما شاهدناه لمحمد بن النعمان ولا بلغنا ذلك عن قاض بالعراق ووافق ذلك استحقاقا لما فيه من العلم والصيانة والتحفظ وإقامة الحق والهيبة فكانت هذه المكانة التي حظي بها هذا القاضي سببا في أن ينقم عليه الوزير يعقوب بن كلس، ويخيل إلى أن الوزير كان يخشى اتساع نفوذ بني النعمان فحاول ما استطاع أن يكسر شوكتهم وينقص من قدرهم، فكان يعمد إلى أن ينقص أحكام القاضي، ويروي ابن حجر العسقلاني عن المسبحي أن الوزير ابن كلس كان كثير المعارضة لبني النعمان في أحكامهم، وروى قصة تدل على مدى خوف الوزير من اتساع سلطانهم ونفوذهم وما كان يضمره لهم، وبعد أن توفي العزيز بالله سنة 385 وولي الحاكم بأمر الله، أقر القاضي محمد بن النعمان على ما بيده من القضاء. وزادت منزلته عنده رفعة، ولكن محمدا تزاحمت عليه العلل، فتوفي ليلة الثلاثاء رابع صفر سنة 399 وصلى عليه الحاكم ووقف على دفنه، وحزن الحاكم لوفاته فلم يول أحدا مرتبة القضاء إلا بعد شهر، فقلد القضاء أبا عبد الله الحسين بن علي بن النعمان. 4 ولد أبو عبد الله الحسين بن علي بن النعمان بالمهدية سنة 353 ه وقدم مع أسرته إلى القاهرة المعزية، ومهر في علوم الفقه حتى صار أحد أقطاب فقهاء المذهب الفاطمي، وكان ينوب أحيانا عن عمه محمد بن النعمان في القضاء حتى وليه بعد وفاة عمه. وفي صفر سنة 391 بينما كان القاضي جالسا في الجامع بمصر يقرأ عليه الفقه أقيمت صلاة العصر فقام يؤدي الفريضة، وبينما هو في الركوع إذ هجم عليه رجل مغربي وضربه بمنجل في
341 رأسه ووجهه، فحمل القاضي جريحا إلى داره، وظل حتى اندمل جرحه، فصار من ذلك اليوم يحرسه عشرون رجلا بالسلاح، وكان إذا صلى وقف خلفه الحرس بالسيوف حتى يفرع من الصلاة ثم يصلي حرسه، ولا نكاد نسمع أن قاضيا من قضاة المسلمين في التاريخ الاسلامي كله كان يصلي والشرطة تحرسه غير الحسين بن علي بن النعمان، وزاد الحاكم في إكرامه حتى أمر أن يضاف له أرزاق عمه وصلاته وإقطاعاته، وفوض إليه الخطابة والإمامة بالمساجد الجامعة، وولاه الدعوة وقراءة مجالس الحكمة التأويلية بالقصر وكتابتها، وهو أول قاض أضيفت إليه الدعوة من قضاة الفاطميين ويظهر أنه في ذلك الوقت دب دبيب الشقاق بين أبناء هذه الأسرة فهذا القاضي طالب ابن عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان ببعض ودائع كانت في الديوان أيام ولاية محمد بن النعمان على القضاء، وتشدد القاضي في مطالبة ابن عمه بهذه الودائع حتى ألزمه أن يبيع كل ما خلفه أبوه سدا لهذه المطالبة، ولست في مركز يسمح لي أن أقول: أكان تشدد القاضي عن ورع ودين أم عن حسد وغيرة وشقاق بين بني الأعمام. ومهما يكن من شئ فقد صرف هذا القاضي عن رتبة القضاة والدعوة في رمضان سنة 394، وأمر الحاكم بحبسه ثم ضربت عنقه في مطلع سنة 395 ه وهكذا لقي حتفه بيد الحاكم، بعد أن كان مكرما لديه مقربا إليه. 5 وولي القضاء بعده ابن عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان المولود في أوائل ربيع الأول سنة 355 ه وهو الذي كان ينوب عن أبيه في القضاء، وكان عالما من علماء الدعوة الفاطمية ينسب إليه كتاب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم في أصول الدين، وهو الكتاب الذي رد عليه القاضي أبو بكر الباقلاني وقيل: إن هذا الكتاب من تصنيف عمه علي بن النعمان، ومهما يكن من شئ فالقاضي عبد العزيز بن محمد هو أول من ولي النظر على دار العلم وكان يجلس في الجامع ويقرأ على الناس كتاب جده النعمان اختلاف أصول المذاهب وعلى الرغم من أنه خص بمجالسة الحاكم ومسايرته فإنه لم ينج من نزوات الحاكم وتقلباته، فعزله عن القضاء سنة 398 ه ثم اعتقله في السنة التالية ثم عفا عنه وأعاد إليه النظر في المظالم وخلع عليه، وفي سنة 401 اضطر هذا القاضي إلى أن يهرب من وجه الحاكم هو والقائد الحسين بن جوهر الصقلي، فصادر الحاكم بيوتهما وحمل كل ما كان فيها، ثم كتب الحاكم لهما بالأمان وخلع عليهما، ولكنه أمر بعد ذلك بقتلهما في ثاني عشر جمادى الآخرة سنة 401 ه. وبعد هذه المأساة ضعف أمر بني النعمان وساءت حالهم. ولم تبق لهم تلك السطوة ولا ذلك النفوذ، حتى إن القاسم بن عبد العزيز بن محمد بن النعمان ولي القضاء سنة 418 ه ولكنه لم يمكث في هذه المرتبة سوى عام وشهرين، وأعيد مرة أخرى إلى القضاء سنة 427 ه وأضيفت إليه الدعوة، ويقول عنه المؤيد في الدين: وتوجهت إلى الموسوم بالقضاء والدعوة، وهو يومئذ القاسم بن عبد العزيز بن محمد بن النعمان رحمه الله وإيانا، فرأيته رجلا يصول بلسان نسبه في الصناعة التي وسم بها دون لسان سببه، فارغا مثل فؤاد أم موسى ع، وفيه جنون يلوح من حركاته وسكناته (1) وعزل القاسم عن هذه المراتب سنة 441 ه ويحدثنا المؤيد أن نساء بني النعمان تشفعن للقاسم عند أم المستنصر وألحفن عليها بالسؤال لإعادته، فعينه الوزير اليازوري سنة 442 ه نائبا له في الدعوة، فقبل القاسم أن يكون تابعا لداعي الدعاة بعد أن كان أصلا في هذه الخدمة، واستمر القاسم بن عبد العزيز نائبا لليازوري في مرتبة الدعوة حتى أقعده المرض، فأناب ابنه محمد بن القاسم في الدعوة بدله، واستمر محمد، نائبا عن والده في نيابة الدعوة حتى سنة 450 ه ثم لم نعد نسمع شيئا عن هذه الأسرة التي ظلت زهاء قرن في مكانة رفيعة عالية وفي اتصال بالأئمة الفاطميين، كما كان لهذه الأسرة أثرها في بعث العقائد الفاطمية في نفوس الناس بما ألفوه من كتب وما ألفوه من مجالس الدعوة وبما كانوا يحكمون به في القضايا على حسب فقه المذهب الفاطمي الذي وضعه لهم النعمان بن محمد مؤسس هذه الأسرة. السيد نعمة الله الجزائري ابن السيد محمد جعفر المتصل نسبه بالسيد نعمة الله صاحب الأنوار النعمانية. ولد في كربلا سنة 1326 وتوفي سنة 1362 في شوشتر أثناء سفره إلى إيران صحب والده إلى الأهواز وأقام فيها، ثم حضر عند الأنصاري فاخذ عنه علوم اللغة العربية، ثم ذهب إلى دزفول واخذ الفقه وأصوله عن الشيخ محمد رضا الدزفولي ولازمه. وبعد وفاة أستاذه سنة 1352 هاجر إلى النجف الأشرف وحضر دروس الميرزا أبي الحسن المشكيني والشيخ ضياء الدين الأراكي والسيد أبو الحسن الأصفهاني وغيرهم. ترك آثارا بقيت في المسودات، ونظما بالفارسية والعربية، فقد أكثرها. منها: كتاب في النحو. شرح التهذيب في المنطق للتفتازاني، رسالة في حجية اخبار الآحاد. منتخب الاخبار في الأخبار الصحيحة في مختلف المواضيع. وكان والده وأجداده من العلماء. وولده السيد محمد المولود سنة 1350 اشتغل بالعلم في النجف الأشرف وهاجر إلى الأهواز سنة 1377 وهو اليوم يسكن طهران وله مؤلفات مطبوعة ومخطوطة، فمن المطبوع: نابغة فقه وحديث وهو ترجمة جده الاعلى المحدث الجزائري. شجرة مباركة في تراجم آل السيد نعمة الله الجزائري وهو عدة مجلدات طبع منها المجلد الأول. ومن المخطوط: حاشية على شرح التجريد للعلامة الحلي الموسوم بكشف المراد. بقية مجلدات شجرة مباركة. كما أن له عدة دراسات عن مؤلفين نشرت مقدمات لكتبهم. ومصادر ترجمة الشيخ الطوسي نشرت مع أبحاث ذكرى الطوسي الألفية. نعيم بن هبيرة الشيباني. التحق مصقلة بن هبيرة الشيباني بمعاوية بعد أن كتب إليه أمير المؤمنين علي ع وكان عامله على اردشير خرة بهذا الكتاب: أما بعد فان من أعظم الخيانة خيانة الأمة وأعظم الغش على أهل المصر غش الامام، وعندك من حق المسلمين خمسمائة ألف درهم فابعث بها إلي حين يأتيك رسولي والا فاقبل إلي حين تنظر في كتابي فاني قد تقدمت إلى رسولي الا يدعك ساعة واحدة تقيم بعد قدومه عليك الا ان تبعث بالمال، والسلام. مع تفاصيل أخرى ليس هنا مكان ذكرها راجع: معقل بن قيس. وكان اخوه نعيم شيعيا ولعلي ع مناصحا، فكتب إليه
(1) السيرة المؤيدية 342 مصقلة من الشام مع رجل يقال له: حلوان اما بعد فاني كلمت معاوية فيك فوعدك الكرامة ومناك الامارة فاقبل ساعة تلقى رسولي إن شاء الله والسلام. فكتب نعيم إلى أخيه مصقلة جواب كتابه شعرا: لا ترميني هداك الله معترضا * بالظن منك فما بالي وحلوانا ذاك الحريص على ما نال من طمع * وهو البعيد فلا يورثك أحزانا ما ذا أردت إلى ارساله سفها * ترجو سقاط امرئ لم يلف وسنانا عرضته لعلي انه أسد * يمشي العرضنة من آساد خفانا قد كنت في منظر عن ذا ومستمع * تحمي العراق وتدعى خير شيبانا حتى تقحمت أمرا كنت تكرهه * للراكبين له سرا واعلانا لو كنت أديت مال الله مصطبرا * للحق أحييت أحيانا وموتانا لكن لحقت باهل الشام ملتمسا * فضل ابن هند وذاك الرأي أشجانا فاليوم تقرع سن العجز من ندم * ماذا تقول وقد كان الذي كانا أصبحت تبغضك الاحياء قاطبة * لم يرفع الله بالبغضاء انسانا الشيخ نوح بن الشيخ هاشل بن الشيخ أحمد بن صالح بن عصفور. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو أحد أجداد المشايخ رحمة الله عليه ولم يذكره جدي في اللؤلؤة بالبحرين لأنه لم يكن من مشايخ الإجازة أخذ بالأدب عن فخر المشايخ سليمان الماحوزي البحراني وعن تلميذه الشيخ عبد الله السماهيجي وعن جد جدي الشيخ أحمد والد صاحب الحدائق وهو شيخ النحاة وسيد المعاني وله كتاب الجامع وكتاب التبيان وهو شرح كبير على كتابين كتاب الحدود وكتاب الحروف كلاهما تصنيف أبي الحسن علي، بن عيسى بن علي الرماني ومن مؤلفاته كتاب الاعراب وكتاب الأسماء وكتاب الألقاب وهو في علم الرجال توفي قدس سره سنة 1150. الشيخ نور الدين بن الشيخ عبد الجبار القطيفي. قال في تاريخ البحرين المخطوط: تتلمذ على يد العلامة المجلسي ومجاز منه تصدر للافتاء في كيلان مدة ثم استوطن تبريز فصار من العلماء الاعلام وفوض إليه زمام الكلام. وله مباحثات مع الملا خليل القزويني جمعها الشهيد الثالث في كتاب تحفة الحبيب. مات سنة 1105 هبة الله بن علي المعروف بابن الشجري. مرت ترجمته في. الصفحة 262 من المجلد العاشر، وننشر هنا كلمة عن كتابه الأمالي بقلم حاتم صالح الضامن: مقدمة الأمالي الشجرية من الكتب المهمة التي جمعت أقوال كثير من النحاة واللغويين والأدباء، وقد أملاها ابن الشجري في أربعة وثمانين مجلسا الا ان طبعة حيدرآباد لا تضم الا ثمانية وسبعين مجلسا.، ويجدر بي هنا ان أشير إلى بعض الملاحظات التي عنت لي أثناء تحقيقي لهذه المجالس وهي: 1 كان ابن الشجري عيالا على الهروي إذ نقل فصلين كاملين من كتابه: الأزهية في علم الحروف، ولا باس في أن يتأثره ابن الشجري أو يتابعه أو ينقل نصوصا كاملة من كتابه الا أن عرض هذه الأقوال غفلا وعدم نسبتها إليه مما لا يقره العلم. 2 ونقل أيضا عن ثعلب في شرحه لديوان زهير وعن الجرجاني في الوساطة وعن ابن جني والواحدي وأبي القاسم الأصفهاني وابن فورجة في شروحهم لشعر المتنبي ولم يشر لذلك. 3 خص ابن الشجري المجلس الموفي الثمانين ومعظم المجلس الحادي والثمانين في ذكر زلات مكي بن أبي طالب المغربي (1) في كتابه مشكل اعراب القرآن وقد اهتم ابن الشجري بهذا الكتاب ونقل عنه كثيرا في أماليه وتابعه في بعض أوهامه إلا أن الذي يلفت النظر هو اهتمامه البالغ بذكر زلاته وسقطاته. ويغلب على الظن ان هجوم مكي على المعتزلة ووصمهم بالالحاد في كتابه كان هو الدافع الذي حفز ابن الشجري إلى تتبع زلاته إذ نرى ابن الشجري قد استشهد كثيرا بآراء الرماني المعتزلي. وإذا لم يكن هذا هو الدافع، فلم هذا الاهتمام بكتاب مكي والتحامل عليه بدون مبرر؟ ولم لم يرد على أبي جعفر النحاس الذي تابعه مكي في نقله لهذه الأقوال؟ ولم لم يرد على أبي عبيدة صاحب الرأي الذي نقله مكي؟ وربما أثار ابن الشجري أيضا أن مكيا كان ناشرا للمالكية في الأندلس. 4 يبدو لي ان ابن الشجري كانت تنقصه الدقة فقد تعقبه ابن هشام في عدة مواضع من كتابه المغني مغلطا له ومثبتا عليه عدم التحري في نقل أراء سيبويه والكسائي والأخفش وأبي علي الفارسي. مخطوطتا الكتاب : 1 مخطوطة مكتبة الدراسات العليا ببغداد المرقمة 269، وهي نسخة جيدة كتبت سنة 614 ه والموجود منها الجزء الثالث فقط ويبدأ من المجلس السادس والخمسين إلى آخر الكتاب. 2 مخطوطة الخزانة التيمورية المرقمة 672 أدب تيمور وقد كتبت سنة 1920 بخط واضح مقروء وفي أولها فهرس مفصل لمجالس الكتاب. وهيب بن زمعة الجعفي. لما سار التوابون بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي للطلب بثار الحسين، وصلوا إلى كربلا وزاروا قبر الحسين ع. وكان فيهم وهيب بن زمعة وهو من خيار أهل الكوفة فوقف على القبر باكيا، ثم قال: والله لقد جعله الأعداء للنبل عرضا وللسباع مطعما! فلله حسين ولله يوم حسين! لقد غادروا منه يوم وافوه ذا وفاء وصبر وعفاف وبأس وشدة وأمانة ونجدة ابن أول المؤمنين وابن بنت نبي رب العالمين، قلت حماته وكثرت عداته، فويل للقاتل، وملامة للخاذل! إن الله تبارك وتعالى لم يجعل للقاتل حجة ولا للخاذل معذرة، إلا أن يناصح الله في التوبة فيجاهد الفاسقين، فعسى الله عند ذلك يقبل التوبة ويقيل العثرة، ثم أنشأ يقول:
(1) ولد سنة 355 ه. وتوفي سنة 437 ه. كان محبا للعلم يكثر السعي والرحلة في سبيله، واسع الاطلاع وتظهر لنا سعة ثقافته في مؤلفاته الكثيرة وما تتصف به من تنوع، وكان عالما بالقراءات ساعيا في نشرها في الأندلس، طبع من كتبه: الإبانة عن معاني القراءات والوقف على كلا وبلى في القرآن. 343 تبيت نساء من أمية نوما * وبالطف قتلى ما ينام حميمها وما ضيع الاسلام إلا قبيلة * بأمر فزكاها ودام نعيمها وعادت قناة الدين في كف ظالم * إذا مال منها جانب لا يقيمها فاقسم لا تنفك نفسي حزينة * وعيني سفوحا لا يجف سجومها حياتي أو تلقى أمية وقعة * ينال بها حتى الممات قرومها لقد كان في أم الكتاب وفي الهدى * وفي الوحي لم ينسخ لقوم علومها فرائض في الميراث قد تعلمونها * يلوح لذي اللب البصير أرومها بها دان من قبل المسيح بن مريم * ومن بعده لما أمر بريمها فاما لكل غير آل محمد * فيقضي بها حكامها وزعيمها وأما لميراث الرسول وأهله * فكل براهم رمها وجسيمها فكيف وضلوا بعد خمسين حجة * يلام على هلك الشراة أديمها أبو محمد هشام بن سالم الجواليقي الجعفي، العلاف الكوفي مولى بشر بن مروان، كان من سبي الجوزجان، عد من أصحاب الإمام الصادق والإمام الكاظم، وروى عنهما ع، له كتاب الحج، التفسير، المعراج، وثقه كل من ترجم له. روى عنه جمع منهم ابن أبي عمير، صفوان بن يحيى، على بن الحكم، النضر بن سويد، وغيرهم روي الكشي في مدحه روايات. ومر في الصفحة 266 من المجلد العاشر: هاشم بن سالم من أصحاب الصادق، ولعلهما واحد. يحيى بن زياد الفراء. مرت ترجمته في الصفحة 220 من المجلد العاشر وننشر هنا هذه الدراسة عنه مكتوبة بقلم: عبد المنعم محمد جاسم: من هو الفراء؟. أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء عالم لغوي فذ، نحوي بارع، تقي ورع، مفسر للقرآن عظيم، تلميذ علي بن حمزة الكسائي، أستاذ أحمد بن يحيى ثعلب. كوفي النشأة، معتزلي المذهب (1)، كوفي الرأي في الغالب بصري في النادر، يأخذ من وجوه الاعراب أقربها للعقل، وأحلاها للذوق، وأسلمها للغة. لا يلجأ إلى التأويل والتقعير والتعقيد والالتواء الا نادرا ولعل هذا النادر ناتج عن تأثره بعض الشئ بمنهج أصحاب الكلام. لم يعرف التاريخ عن صباه شيئا سوى ابن خالته القاضي الفقيه محمد بن الحسن الشيباني بالولاء صاحب الامام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وولده الشاطر صاحب السكاكين الذي لم يخلد به ذكر أبيه، انما خلد بكتبه التي لا تحصى، وفيض علمه الذي لم ينضب، وشغفه بتفسير القرآن الكتاب السماوي البلاغي العظيم، وغزارة لغته التي حوتها بطون الكتب وحفظتها أمات المصادر، وخلدتها ضخام المجلدات على صفحاتها الطويلة. تضاربت الروايات في مولده فرواية تؤرخه بعام 140 ه وأخرى تلمح له بعام 144 ه وثالثة تشير له بعام 145 ه ورابعه تثبته بعام 124 ه. كما اختلفت في وفاته زمانا ومكانا فرواية تقول انه توفي في عام 207 وأخرى تذكر انه عام 209 وثالثة تنص على أنه 204 ورابعة تصرح بأنه عام 187. ولقد رجح الدكتور احمد مكي الأنصاري عام 144 ه ميلادا له، وعام 207 وفاة وعلى هذا يكون عمره ثلاثا وستين سنة. وهو رأي لا يتعدى الصواب. تجواله في البلدان طويل سريع، فقد نشأ في الكوفة، وذهب إلى البصرة للعلم، وسافر إلى بغداد للمال، ورحل إلى مكة للحج. ناظر وحاجج وناقش. ناظر سيبويه في البصرة فبزه وفاقه، وناقش الكسائي في بغداد فغلبه. وهذا هو الذي ميزه عن شيخه الكسائي كما قال له أبو جعفر الرواسي العالم اللغوي الكوفي الكبير خرج الكسائي إلى بغداد وأنت أميز منه. اتخذ من الاعتزال مذهبا قربه إلى المأمون في وقت كان للمعتزلة الباع الأطول والشأن الأعظم والمكان الأسمى. فدعاه إلى تأليف كتابه العظيم الذي اسماه الحدود دون لنا فيه حدود النحو جميعا (1). ويتمثل النحو الكوفي في أغلبه بكتب الفراء كما يتمثل النحو البصري ب كتاب سيبويه، إذ لم نكد نعثر على كتاب جامع مفصل يدون في طياته النحو الكوفي كما قام سيبويه بعمله الجليل حين جمع نحو البصرة في كتابه، وهذا هو الاختلاف الحقيقي بين المدرستين، الا أن الفراء يمثل لقطة نادرة من النحو الكوفي بعد شيخه الكسائي ويتمثل ذلك فيما وصل إلينا من آثاره الموجودة، وفيما يتحدث لنا عن آثاره المفقودة. فكتبه معاني القرآن والأيام والليالي والشهور والمذكر والمؤنث والمقصور والممدود تمثل لنا فيضا غزيرا من الدراسات اللغوية والنحوية والقرآنية يقدم للقارئ دررا من فرائد العربية الغوالي، وأنماطا من كلام مرصع بالماس واللآلئ تغنيه عن حوشي اللغة وغريبها وفاسد الألفاظ ورديئها تلك التي تجعل ذوق القارئ ينبو عنها، وذهنه ينفر منها. واعترافا منا بفضل سبق البحث للباحثين المتقدمين وتفضيلا لعرض الحقيقة على نصاعتها يجدر بنا القول ان هذا الموضوع قد درسه وبحث فيه تفصيلا لا اجمالا باحثون فضلاء وعلماء أكفاء وأساتذة ثقات لا يرتقي الشك إليهم ومنهم الدكتور مهدي المخزومي والدكتور احمد مكي الأنصاري والدكتور إبراهيم السامرائي، غير أن للفراء آراء أخرى مختلفة لم يتحدثوا فيها بل اكتفوا بذكر المصادر التي تجمعها، وقد جمعت منها هذه المادة الطويلة مستعينا ببعض المصادر هي من أمات كتب النحو واللغة، متوخيا الدقة والأمانة في البحث، راجيا إرضاء القارئ الكريم بإضافة بعض من آراء هذا النحوي الشهير مما لم يطلع عليه. ما هي آراء الفراء في النحو؟. باب المبتدأ والخبر ذهب الفراء إلى أن العائد المنصوب يجوز حذفه بشرط أن يكون المبتدأ لفظ كل وأن يكون ناصبة فعلا نحو قوله تعالى وكل وعد الله الحسنى في قراءة من رفع كل وتقديره: وكل وعده الله الحسنى. كما ذهب إلى أن الاسم المرفوع بعد لولا ارتفع بها نفسها أصالة، لا لأنها نائبة عن الفعل، وعلل ذلك بان لولا حرف مختص بالأسماء والحرف المختص يعمل.
(1) بسبب موافقة الشيعة للمعتزلة في بعض الأمور كان الكثيرون ينسبون بعض كبار رجال الشيعة إلى الاعتزال كالسيد المرتضى والصاحب بن عباد وغيرهما. ومن ذلك نسبة الفراء إلى الاعتزال (ح). 344 ويجيز الفراء اقتران الخبر بالفاء إذا كان الخبر أمرا أو نهيا سواء أكان المبتدأ عاما أم لم يكن بدليل وروده في فصيح الكلام نثرا وشعرا فمن ذلك قوله تعالى هذا فليذوقوه حميم وغساق وقوله سبحانه: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله: والزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وقول الشاعر عدي بن زيد:. أرواح مودع أم بكور؟ * أنت فانظر لأي ذاك تصير ومنع الفراء وقوع الحال فعلا مضارعا في قوله: ورأي عيني الفتى أباكا * يعطي الجزيل فعليك ذاكا ف يعطي ذهب الفراء إلى عدم جواز كونها حالا سادة مسد الخبر جملة فعلية. باب كان وأخواتها يرى الفراء انه لا يجوز تقديم خبر كان وأخواتها عليها إذا كان النفي بغير ما فلا يجوز ان يقال قائما لم يزل زيد، منطلقا لم يكن عمرو. باب الحال أجاز الفراء تقديم الحال على عاملها مطلقا سواء كان صفة نحو مسرعا ذا راحل ومجردا زيد مضروب وهذا تحملين طليق فتحملين في موضع نصب على الحال وعاملها طليق وهو صفة مشبهة أو كان عاملها فعلا نحو مخلصا زيد دعا وخشعا أبصارهم يخرجون والظرف والمجرور الخبر بهما نحو تلك هند مجردة وليت زيدا أميرا أخوك وأما نحو أما علما فعالم في هذه الأمثلة كلها يجيز الفراء تقديم الحال على عاملها. ويقول الفراء بأنه لا بد في ربط الجملة الاسمية إذا وقعت حالا من الواو اما وحدها واما مع الضمير ولا يجوز أن يكون الرابط هو الضمير وحده. وأما بيت الشاهد ثم راحوا عبق المسك بهم فيعتبره شاذا لا يقاس عليه. إذ أن الشاهد في هذا البيت هو مجيء الجملة الاسمية المكونة من المبتدأ والخبر عبق المسك بهم حالا من الواو في راحوا والضمير هم هو الرابط فقط ولم تربط بالواو. ويعتبر الفراء ذلك شاذا. باب التمييز يجيز الفراء تقديم عامل التمييز مطلقا لأن الغالب في التمييز المنصوب بفعل متصرف كونه فاعلا في الأصل وقد حول الاسناد عنه إلى غيره لقصد المبالغة فلا يغير عما كان يستحقه من وجوب التأخير لما فيه من الاخلال بالأصل. باب الإضافة يرى الفراء كغيره من النحاة انه قد تحذف تاء التأنيث للإضافة عند امن من اللبس، وجعل منه وهم من بعد غلبهم سيغلبون وأقام الصلاة بناء على أنه لا يقال دون إضافة في الإقامة: أقام ولا في الغلبة: غلب. كما يرى أنه يجوز إضافة اسم الفاعل المحلى بال إلى المعارف مطلقا نحو: الضارب زيد، والضارب هذا، بخلاف: الضارب رجل. كما أجاز إضافة الشئ إلى ما بمعناه لاختلاف اللفظين نحو ولدار الآخرة وحق اليقين وحبل الوريد وحب الحصيد. ويرى كذلك خلافا لسيبويه والمبرد في قولهم قطع الله يد ورجل من قالها ان الاسمين مضافان إلى من قالها ولا حذف في الكلام. كما يرى أن ياء المتكلم المدغم فيها تكسر كما في قراءة حمزة ما انا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي وقد فسرها بان الياء من مصرخي منصوبة لان الياء من المتكلم تسكن إذا تحرك ما قبلها، وتنصب إرادة الهاء، كما قرئ لكم دينكم ولي دين بنصب الياء وجزمها. فإذا سكن ما قبلها ما قبلها ردت إلى الفتح الذي كان لها، فالياء من مصرخي ساكنة والياء بعدها من المتكلم ساكنة، فحركت إلى حركة قد كانت لها فهذا مطرد في الكلام. باب الفاعل ذهب الفراء إلى أن الفاعل المحصور بالا يمتنع تقديمه فلا يجوز ما ضرب الا زيد عمرا وهو مذهب أكثر البصريين وابن الأنباري. باب نائب الفاعل إذا كان نائب الفاعل مجرورا بحرف جر غير زائد نحو سير بزيد أو مر بعمرو فذهب الفراء إلى أن الناصب حرف الجر وحده في محل رفع، كما يقول: انه وحده بعد الفعل المبني للفاعل الفعل المبني للمعلوم في محل نصب. باب الأسماء الخمسة الفراء يقول: من أتم الأب فقال هذا أبوك فأضاف إلى نفسه قال: هذا أبي، خفف. قال: والقياس قول العرب: هذا أبوك وهذا أبي فاعلم وهو الاختيار وأنشد:. فلا وأبي لا آتيك حتى * ينسى الواله الصب الحزينا باب ان النافية المشبهة بليس ذهب الفراء إلى منع اعمال ان النافية عمل ليس من رفع للاسم ونصب للخبر. باب التعجب يرى الفراء في ما التعجبية انها استفهامية وليست تعجبية. كما قال في صيغة التعجب افعل به: لفظه ومعناه الامر وفيه ضمير والباء للتعدية. باب افعل التفضيل يرى الفراء أن صيغة افعل لا تخلو قط من الدلالة على التفضيل فإذا كانت الصيغة مجردة من آل والإضافة فاما أن تذكر معها من الجارة للمفضول عليه، واما أن تكون مقدرة كما في بيت الشاعر: ان الذي سمك السماء بني لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول وكأنه قال: بيتا عز الدعائم وأطولها أو أعز وأطول من بيتك. باب المفعول به قال الفراء بان الناصب للمفعول به هو الفعل والفاعل كلاهما بحجة أن الفعل والفاعل كالشئ الواحد ولا يعمل بعض الكلمة دون بعضها الآخر. باب النداء منع الفراء ضم كلمة ابن في النداء إذا وقعت بين علمين نحو يا عيسى بن مريم.
345 باب الترخيم أجاز الفراء حذف الياء والألف مع الآخر من نحو سعيد وعماد في كل لغة وحذف الواو مع الآخر في نحو ثمود في لغة من يجعله اسما برأسه ولا ينتظر المحذوف فيقول يا سع ويا عم ويا ثم واما على لغة من ينتظر فيوجب حذف الواو والدال ولا يجيز يا ثمو بحذف الدال فقط لأن بقاء الواو يستلزم عدم النظير إذ ليس في العربية اسم متمكن في آخره واو لازمة قبلها ضمة. كما أنه لا يشترط المجانسة فيجيز حذف اللين وان كان قبله فتحة فيقول يا فرع ويا غرن في فرعون وغرنيق لبقاء الاسم المتمكن على ثلاثة أحرف. كما منع الفراء ترخيم المركب من العدد إذا سمي به. باب حذف الفعل قال الفراء في قوله تعالى: انتهوا خيرا لكم: الكلام جملة واحدة وخيرا نعت لمصدر محذوف أي انتهاء خيرا. وفي قوله تعالى والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم أي واعتقدوا الايمان من قبل هجرتهم. مفسر ضمير الشأن أجاز الفراء أن يفس ضمير الشأن مفرد مؤول بالجملة نحو كان قائما زيد وكان قائما الزيدان أو الزيدون على أن قائما في جميعها خبر عن ذلك الضمير وما بعده مرتفع به. وأجاز أيضا نحو ظننته قائما زيدا أو الزيدان أو الزيدون وكذا ليس بقائم أخواك وما هو بذاهب الزيدان. باب ظن وأخواتها جواز الفراء قيام الضمير واسم الإشارة مقام مفعولي ظن ودلل على ذلك بأنك تقول لمن قال أظن زيدا قائما أنا أيضا أظنه أو أظن هذا وكذا باقي أفعال القلوب. باب النعت إذا تعددت النعوت مع تفريق المنعوت فان اختلف العمل واختلفت نسبة العامل إليهما نحو ضرب زيد عمرا الظريفين فاتباع الأخير عند الفراء. كما يرى بأنه قد يعامل الوصف الرافع ضمير المنعوت معاملة رافع السببي إذا كان معناه له فيقال: مررت برجل حسنة العين كما يقال حسنت عينه. باب التوكيد زعم الفراء أن أجمعين تفيد اتحاد الوقت. كما أجاز حذف الضمير استغناء بنية الإضافة كما في قوله تعالى: خلق لكم ما في الأرض جميعا وقراءة بعضهم انا كلا فيها على أن المعنى: جميعه وكلنا. كما أجاز الفصل بين المؤكد والمؤكد بإما فأجاز مررت بالقوم اما أجمعين واما بعضهم. باب عطف البيان جوز الفراء إضافة الوصف المفرد المقترن بال إلى العلم وبهذا أعرب كلمة بشر في قول الشاعر:. انا ابن التارك البكري بشر * عليه الطير ترقبه وقوعا بدلا من البكري وليس عطف بيان كما عند جمهور العلماء. باب عطف النسق منع الفراء إفادة الفاء للترتيب منعا مطلقا. كما زعم أن الواو تفيد الترتيب والتعبير بمطلق الجمع مساو التعبير بالجمع المطلق من حيث المعنى ولا التفات لمن غاير بينهما بالاطلاق والتقييد. كما قال في معنى أو في الآية الكريمة وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون أنها بمعنى بل يزيدون. كما أنه يقيس حذف أما إذا عطفت على كلام سابق تقدمته في الأصل أما ثم حذفت لأن في ذكر الثانية المسبوقة بواو العطف ايماء إليها وإشارة لها فيجيز زيد يقوم وأما يقعد كما يجيز أو يقعد فهو يقول بالنص ولا تدخل أو على أما، ولا أما على أو، وربما فعلت العرب ذلك لتآخيهما في المعنى على التوهم فيقولون: عبد الله أما جالس أو ناهض، ويقولون: عبد الله يقوم وأما يقعد، وفي قراءة أبي: وانا وإياكم لاما على هدى أو في ضلال مبين فوضع أم في موضع اما. وقال الشاعر:. فقيل لهن امشين اما نلاقه * كما قال أو نشف النفوس فنعذرا وقال آخر:. تلم بدار قد تقادم عهدها * واما بأموات ألم خيالها فوضع أما في موضع أو على التوهم وذلك إذا طالت الكلمة بعض الطول أو فرقت بينهما بشئ هنالك انتهى كلام الفراء في اما. وأجاز الفراء كذلك العطف ب لا على اسم لعل كما يعطف بها على اسم ان نحو لعل زيدا لا عمرا قائم. الضمير مذهب الفراء ان المجيء بالنون مع ليت ليس بلازم، وتركه ليس ضرورة ولا شاذا فيجوز أن تقول: ليتي في سعة الكلام كما تقول: ليتني وان كان ذكر النون أكثر من تركها. اسم الإشارة حكى ابن منظور عن الفراء دخول ها التنبيه على اسم الإشارة المختص بالبعيد نحو هناك أو هنالك والقريب نحو هنا، فيجوز أن يقال: ههنا بهاء التنبيه مع تشديد النون أما هاء هنا فالفراء يرويها مكسورة ومفتوحة. الاسم الموصول قال الفراء: العرب قد تذهب ب ذا وهذا إلى معنى الذي فيقولون: من ذا يقول ذاك، في معنى: من الذي يقول، وقال يزيد بن مفرع: عدس ما لعباد عليك امارة * نجوت وهذا تحملين طليق كأنه قال: والذي تحملين طليق انتهى كلام الفراء. باب النكرة قال ابن الأنباري في الزاهر ان الفراء وهشاما قالا: نسيج وحده وعيير وحده، وواحده، وواحد أمة، نكرات والدليل على هذا أن العرب تقول: رب نسيج وحده قد رأيت، ورب واحد أمة قد اجرت. باب الاشتغال يرى الفراء أن في نحو قولنا زيدا ضربته وزيدا مررت به وزيدا ضربت
346 غلامه وزيدا حبست عليه لا ينتصب الاسم بفعل يفسره ما بعده أي ضربت وجاوزت وأهنت ولابست بل أن ناصبه لفظ الفعل المتأخر عنه اما لذاته أن صح المعنى واللفظ بتسليطه عليه نحو زيدا ضربته فضربت عامل في زيد كما أنه عامل في ضميره واما لغيره ان اختل المعنى بتسليطه عليه فالعامل في زيدا هو قولك مررت به لسده مسد جاوزت وفي عمرا ضربت أخاه لسده مسد أهنت وليس قبل الاسم في الموضعين فعل مضمر ناصب عنده. باب التنازع يرى الفراء بأنه إذا اتفق العاملان في طلب المرفوع فالفعل لهما ولا اضمار نحو يحسن ويسئ ابناكا ولا تقول يحسنان ويسئ ابناك. هذا عند توجه العاملين إلى الاسم الظاهر، وان اختلفا أضمرته مؤخرا، نحو: ضربني وضربت زيدا هو. مبحث المضمرات قال الفراء في قوله تعالى: قل هو الله أحد ان هو ضمير اسم الله تعالى وجاز ذلك وان لم يجر له ذكر لما في النفوس من ذكره، وكان يجيز: كان قائما زيد وكان قائما الزيدان والزيدون فيكون قائما خبرا لذلك الضمير وما بعده مرتفع به. كما أجاز ان تقول: الضارب زيد نظرا إلى الاسمية وان الإضافة لفظية لم يحصل بها تعريف فيكون مانعا من الإضافة. باب نعم وبئس ذهب الفراء وجماعة من الكوفيين إلى أن نعم وبئس اسمان واستدلوا على ذلك بدخول حرف الجر عليهما في قول بعضهم وقد بشر ببنت والله ما هي بنعم الولد وقول آخر وقد سار إلى محبوبته على حمار بطيء السير نعم السير على بئس العير. واعرابه على مذهب الفراء ومن وافقه من الكوفيين هكذا: نعم مبتدأ، وهو اسم بمعنى الممدوح مبني على الفتح في محل رفع. الرجل يدل من نعم أو عطف بيان عليه مرفوع بالضمة الظاهرة زيد خبر المبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة. باب الاستثناء يرى الفراء ان الا مركبة من أن ولا ثم خففت ان وأدغمت في اللام فإذا انتصب ما بعدها فعلى تغليب حكم ان وإذا لم ينتصب فعلى تغليب حكم لا لأنها عاطفة. كما قال في الصحاح عن بعض بني أسد وقضاعة انهم ينصبون غير إذا كانت في معنى الا، تم الكلام قبلها أم لم يتم. يقولون ما جاءني غيرك وما جاءني أحد غيرك. باب في مسائل خلافية 1 يرى الفراء والكوفيون عامة ان الاعراب في الفعل يفرق بين المعاني فكان أصلا كاعراب الأسماء كقولك: أريد أن أزورك فيمنعني البواب. إذا رفعت كان له معنى وإذا نصبت كان له معنى، وكذلك قولك: لا يسعني شئ ويعجز عنك إذا نصبت كان له معنى، وإذا رفعت كان له معنى آخر، وكذلك باب الجواب بالفاء أو الواو، نحو: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وهو في ذلك كالاسم، إذا رفعت كان له معنى، وإذا نصبت أو جررت كان له معنى آخر. 2 يرى الفراء ان المراد بزيادة التنوين في الاسم الفرق بين المتصرف وغير المتصرف. بينما يرى آخرون بان المراد به الفرق بين الاسم والفعل. ونسبه الزجاجي للفراء أيضا. 3 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز العطف على موضع أن قبل تمام الخبر. واختلفوا بعد ذلك فالكسائي جوز ذلك على كل حال سواء يظهر فيه عمل ان أو لم يظهر، وذلك نحو قولك ان زيدا وعمرو قائمان، وانك وبكر منطلقان وذهب الفراء إلى أنه لا يجوز ذلك إلا فيما لم يظهر فيه عمل أن. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز العطف على الموضع قبل تمام الخبر على كل حال. 4 ذهب الكوفيون إلى أن عليك، ودونك، وعندك في الاغراء يجوز تقديم معمولاتها عليها نحو زيدا عليك، وعمرا عندك، وبكرا دونك وذهب البصريون والفراء إلى أنه لا يجوز تقديم معمولاتها عليها. 5 ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المنادى المعرف المفرد معرب مرفوع بغير تنوين وذهب الفراء من الكوفيين إلى أنه مبني على الضم وليس بفاعل ولا مفعول. 6 يرى الفراء بان حرف القسم يعمل محذوفا بغير عوض مستدلا على ذلك بسماعه عن العرب يقولون الله لتفعلن فيقول المجيب الله لأفعلن بألف واحدة مقصورة في الثانية فيخفض بتقدير حرف الخفض وان كان محذوفا. 7 ذهب الكوفيون إلى أنه إذا تقدم الاسم المرفوع في جواب الشرط فإنه لا يجوز فيه الجزم ووجب الرفع، نحو أن تأتني زيد يكرمك واختلفوا في تقديم المنصوب في جواب الشرط نحو أن تأتني زيدا أكرم فأباه الفراء واجازه الكسائي. 8 ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم المفعول بالجزاء على حرف الشرط نحو زيدا أن تضرب اضرب واختلفوا في جواز نصبه بالشرط فاجازه الكسائي ومنعه الفراء. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز أن ينصب بالشرط ولا بالجزاء. باب الحروف 1 الألف المفردة: يرى الفراء ان الهمزة في قراءة الحرميين أمن هو قانت آناء الليل للنداء إذ أنه سليم من دعوى المجاز إذ لا يكون الاستفهام منه تعالى على حقيقته ومن دعوى كثرة الحذف لأن التقدير عند من جعلها للاستفهام: أمن هو قانت خير أم هذا الكافر أي المخاطب بقوله تعالى: قل تمتع بكفرك قليلا فحذف شيئان: تعادل الهمزة والخبر. 2 إذن: يرى الفراء انها إذا عملت كتبت بالألف والا كتبت بالنون للفرق بينها وبين إذا. 3 ان المكسورة الخفيفة عند سيبويه والفراء لا تعمل عمل ليس إذا دخلت على الجملة الاسمية. 4 أما: يفصل بين أما وبين الفاء ظرف معمول ل اما لما فيها من معنى الفعل الذي نابت عنه أو للفعل المحذوف نحو اما اليوم فاني ذاهب، وأما في
347 الدار فان زيدا جالس ولا يكون العامل ما بعد الفاء لأن خبر أن لا يتقدم عليها فكذلك معموله هذا قول سيبويه والمازني والجمهور، وخالفهم المبرد وابن درستويه والفراء فجعلوا العامل نفس الخبر، وتوسع الفراء فجوزه في بقية أخوات ان، فان قلت اما اليوم فانا جالس احتمل كون العامل اما وكونه الخبر لعدم المانع، وان قلت أما زيدا فاني ضارب لم يجز أن يكون العامل واحدا منهما. 5 أو: قال الفراء في معنى أو في قوله تعالى: وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون: بل يزيدون. 6 الا: ذكر الأخفش والفراء وأبو عبيدة أن من أحد معانيها أن تكون عاطفة بمنزلة الواو في التشريك في اللفظ والمعنى، وجعلوا منه قوله تعالى: لئلا يكون للناس عليهم حجة الا الذين ظلموا منهم، لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء أي ولا الذين ظلموا، ولا من ظلم. 7 إلى: أثبت الفراء ان من معانيها التوكيد، وهي الزائدة، واستدل بقراءة بعضهم أفئدة من الناس تهوى إليهم بفتح الواو، وخرجت على تضمين تهوى معنى تميل، أو أن الأصل تهوي بالكسر فقلبت الكسرة فتحة والياء ألفا كما يقال في رضي رضا، وفي ناصية ناصاة يقول الفراء: قال ذلك ابن مالك، وفيه نظر، لان شرط هذه اللغة تحرك الياء في الأصل. 8 ثم: يرى الفراء أن ثم المهملة قد تتخلف بدليل قولك: أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب لأن ثم في ذلك لترتيب الاخبار، ولا تراخي بين الأخبارين. 9 عن: حكى الفراء عن العرب قولهم رميت عن القوس ورميت بالقوس ف عن تفيد الاستعانة في أحد معانيها، وفيه رد على الحريري في انكاره ان يقال ذلك الا إذا كانت القوس هي المرمية، وحكى أيضا رميت على القوس. 10 حرف الفاء المفردة: قال الفراء: انها لا تفيد الترتيب مطلقا واحتج بقوله تعالى: أهلكنا فجاءها بأسنا بياتا، وهم قائلون. ومن معانيها ان تكون زائدة بشرط ان يكون الخبر أمرا ونهيا. ومثل للأمر بقول الشاعر: وقائلة: خولان فانكح فتاتهم... ومثل للنهي بنحو زيد فلا فلا تضربه. 11 حرف الكاف: قال الفراء في قوله تعالى أرأيتك هذا الذي كرمت علي: التاء حرف خطاب، والكاف فاعل لكونها المطابقة للمسند إليه. 12 كم: أجاز الفراء والزجاج وابن السراج وآخرون ان يكون تمييزكم الاستفهامية مجرورا. 13 كلا: ويرى الفراء انها تكون حرف جواب بمنزلة أي ونعم، وحمل عليه كلا والقمر معناه أي والقمر. 14 كل: أجاز الفراء أن تقطع كل المؤكد بها عن الإضافة لفظ متمسكا بقراءة بعضهم انا كلا فيها. 15 اللام المفردة: ويرى الفراء ان الشرط قد يجاب بها مع تقدم القسم عليه. 16 لا: مثل لا رجل عند الفراء لا جرم نحو لا جرم ان لهم النار والمعنى عنده لا بد من كذا أو لا محالة في كذا فحذفت من أو في. 17 لات: زعم الفراء انها تستعمل حرفا جارا لأسماء الزمان خاصة كما أن مذ ومنذ كذلك، وأنشد:. طلبوا صلحنا ولات أوان... البيت. واستدل على ذلك بقراءة ولات حين مناص بخفض الحين. 18 لو: أثبت الفراء ورودها مصدرية استشهادا بقراءة بعضهم ودوا لو تدهن فيدهنوا بحذف النون فعطف يدهنوا بالنصب على تدهن لما كان معناه أن تدهن. 19 لولا: وتأتي للتوبيخ كما يتضح من تفسير الفراء قوله تعالى: فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها ايمانها الا قوم يونس أي فهلا كانت قرية من القرى المهلكة تابت عن الكفر قبل مجيء العذاب فنفعها ذلك. 20 لن: يرى الفراء ان أصلها وأصل لم: لا فأبدلت الألف نونا في لن وميما في لم. 21 ليت: وحكمه ان ينصب الاسم ويرفع الخبر ويرى الفراء انه قد ينصبهما كما في قول الراجز: يا ليت أيام الصبا رواجعا. 22 لعل: حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر وأجاز الفراء نصبهما كما في بعض لغات العرب لعل أباك منطلقا. 23 لكن: قال الفراء بان أصلها لكن ان، فطرحت الهمزة للتخفيف، ونون لكن للساكنين، كقول الشاعر:... ولاك اسقني ان كان ماؤك ذا فضل فحذف نون لكن في قوله ولاك. 24 هل: من معانيها انها تأتي بمعنى قد وذلك مع الفعل. وبذلك فسر الفراء قوله تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر قال: انها بمعنى قد أتى. 25 الواو المفردة: وقال الفراء وقطرب والربعي وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي بإفادتها معنى الترتيب. باب في مسائل متفرقة 1 نقل أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قول الفراء في لدن غدوة حيث قال في غدوة انها تنصب وترفع وتخفض. فتأويل الرفع لدن كان غدوة، وينصب بخبر كان، ويخفض بعند، أي عند غدوة. 2 كلمة سبحان عند الفراء تأويلها الإضافة وهي تنزيه وضعت موضع المصدر، في الأصل سبحت تسبيحا وسبحانا، فإذا أسقطت الكاف فتحت، وأنشد: سبحان من علقمة الفاخر... فقال الفراء: طلب الكاف ففتح. 3 قال الفراء في تفسير قوله تعالى: لإيلاف قريش ان اللام هي لام تعجب، أي أعجبوا لهذا. وقال: فجعلهم كعصف مأكول لهذا.
348 وقال: هي من صلة: فليعبدوا رب هذا البيت. قال: ومعنى لآلاف قريش إيلافهم: يجعل مثل أنبتكم نباتا، رده إلى الأصل. 4 قال الفراء في نحو ان عبد الله قام أقم: ان أضمر مجهولا رفع لا غير، وإذا أضمر غير مجهول رفع ونصب. قال: والشروط كلها يتقدمها المستقبل والماضي والدائم، وان لا يتقدمها الا مستقبلها. 5 وقال الفراء في قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا: انما عد أصناف الكفرة، فهم اليهود. قال: وخبر ان في قوله: فلهم اجرهم عند ربهم وهو جزاء. 6 وقال الفراء في قوله تعالى: ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون: اما الصابئون فان رفعه على أنه عطف على الذين، والذين: حرف على جهة واحدة في رفعه ونصبه وخفضه فلما كان اعرابه واحدا وكان نصب ن ضعيفا وضعفه انه يقع على الاسم ولا يقع على خبره جاز رفع الصابئين. ولا استحب ان أقول: إن عبد الله وزيد قائمان، لتبين الاعراب في عبد الله. 7 وقال الفراء: الاعداد لا يكنى عنها ثانية، فلا أقول: عندي الخمسة الدراهم والستتها، وأقول: عندي الحسن الوجه الجميلة، فأكني عنه، فكل ما كنيت عنه كان مفعولا، وكل ما لم أكن عنه لم يكن مفعولا. 8 وقال الفراء في قوله تعالى: فامنوا خير لكم: فامنوا إيمانا خيرا لكم. وقال أيضا في قوله تعالى: قل للذين آمنوا يغفروا: هو جزاء، وفيه شئ من الحكاية. 10 وقال أيضا في نحو قولهم أنت رجل قائم يكون صلة ولا يكون صلة، ويكون حالا ولا يكون حالا. وأنت، هو الرجل، والرجل هو أنت. 11 كل ما كان مثل عباس والعباس، وحسن والحسن، فادخال الألف واللام واخراجهما والاسم لا يحتاج إلى الألف واللام، لأنك تقول: هذا زيد الساعة وغدا وأمس، فتكون له الحالات، فإذا قلت الحسن فنزلت الألف واللام فيه فهو للمعهود، فقد خرج إذا سميت به من ذلك الطريق. 12 يجيز الفراء نحو قائم أخوك وهو يريد من قائم فأخوك. 13 قال الفراء في قوله تعالى: هن أطهر لكم ان أطهر نصبت على التقريب، وهو يسمي: هذا زيد القائم، تقريبا أي قرب الفعل به. 14 وقال في نحو: نحن بني، ومعشر، ورهط: هو مثل جميعا فكان العرب حينما تقول: نحن بني فلان أو معشر فلان أو رهط فلان نقول ذاك، معناه: نحن جميعا نقول ذلك. 15 وقال في ما في قوله تعالى: ويختار ما كان الخيرة انها على ضربين، تكون مصدرا، وتكون عائد الألف واللام. 16 وقال أيضا: الايمان ترتفع بجواباتها، وهذا موضع هذا وأنشد:. لعمر أبي الواشين لا عمر غيرهم لقد كلفوني خطة لا أريدها فتنصب عمر إذا سقط اللام. 17 يجوز عند الفراء ترخيم المندوب وأنشد: يا فقعسا وأين مني فقعس * أأبلي يأكلها كروس وأصله: يا فقعساه. 18 إذا قالوا من ذا ناته فالفراء يرفع من بذا وذا بمن، وناته جواب الجزاء. كأنه قال من يكن هذا ناته. وإذا أراد الاستفهام قال من ذا فناتيه؟ كأنه قال، من هذا فناتيه. 19 حيث على مذهب الفراء يرفع بها شيئان، لأنها تقوم مقام صفتين، إذ قالوا: حيث زيد عمرو، فالتأويل: مكان يكون فيه زيد يكون فيه عمرو. فضمت لأنها تدل على محذوف مثل قبل وبعد. 20 وقال في قوله تعالى: هل اتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا: تكون أمرا. وقال: وسمعت أعرابيا يقول: هل أنت ساكت. مثله هل أنتم منتهون. هذا استعراض لآراء الفراء في النحو عسى ان ينتفع القارئ الكريم بما قدمته بين يديه، ومن الله التوفيق. الشيخ يحيى بن محمد الكتكاني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من اعلام فقهاء هجر والمنبي عن حقائق البشر له كتاب في التاريخ والسير وكانت له عند شاه عباس الصفوي المنزلة العليا والمكانة التي تنافست فيها الدنيا. مات قدس سره الشريف سنة 999 التاسعة والتسعين وتسعمائة من الهجرة. يعقوب بن إسحاق الكندي. مرت ترجمته في الصفحة 307 من المجلد العاشر، وننشر هنا بحثا عنه بعنوان الله والعالم عند الكندي بقلم الدكتور عثمان عيسى شاهين: تمتاز نظرية الله والعالم عند الكندي بأنها اسلامية متأثرة بأرسطاطاليس ولكنها لم تفقد مع هذا التأثر خصائص القوة والأصالة فيها. فما هي إذن هذه النظرية، وكيف نستطيع ان نتفهمها من ثنايا ما تأدى إلينا من نصوص محققة ومنشورة؟ تمتاز براهين وجود الله عند الكندي بأنها أقرب، في صلتها بالعالم، إلى المحتوى الديني الاسلامي، كما هو الحال عند ابن سينا، وتتضح براهين الكندي هذه بأنها أبعد، إذا ما قيست بما عند الفارابي، عن الأفلاطونية المحدثة. ولكن ليس من السهولة ان يتجاهل الباحث، وهو يتحدث عن إلهيات الكندي وصلتها بالعالم المحدث، وهو يحاول أن يتلمس وجه الأصالة فيها، نظرية المحرك الأبدي الأول عند أرسطاطاليس، هذا المحرك الذي عرفته الفلسفات الإلهية جميعها: مسيحية واسلامية. فما هي إذن طبيعة هذا المحرك، ما هي خصائصه، وإلى أي حد اثر في فهم الله عند الكندي؟.
349 لا يقبل أرسطاطاليس أن يكون هذا المحرك الأبدي الأول متكثرا، بل إنه واحد وعلة لما عداه من المتحركات الأخرى. يختلف هذا المحرك عن الموجودات التي تتكون من الاحجام والاجزاء والاعظام، أنه، وهو يتصف بالوحدة، ويعتبر مبدأ جميع الأشياء علة الوجود والعدم والتغير في الكائنات، ولكن من غير أن ينعت باي من هذه في وجه من الوجوه. وحينما يرى أرسطاطاليس أن الأشياء المتغيرة لا يمكن أن تكون علة حقيقية للحركة، فإنه يفرق، وفي أصالة، بين حركات الاجرام العليا، التي تتحرك بواسطة محرك أزلي لا يتحرك، وإن تغيرها يكون أزليا كذلك، وحركات الأشياء الطبيعية السفلى التي تتحرك عن طريق شئ متغير متبدل، وإنها تكون بذاتها متغيرة كذلك. ولكن هذا المحرك القديم، الذي يطلق عليه الكندي لفظة الله، والذي يقبل أن يكون عنده علة الأشياء جميعها بتوسط وبغير توسط، هو عند أرسطاطاليس أبدي بسيط، إنه، وباستمرار، في حالة واحدة لا تتبدل، أنه يحرك حركة واحدة وبسيطة. إن الله الأبدي، والذي هو العلة الأولى، لا يقبل أن يوصف عند الكندي بالعدم، أنه لا موضوع له، ولا محمول، ولا فاعل ولا سبب. يبرهن الكندي هنا، وكما يفعل الغزالي وابن سينا، على أن الله الأزلي لا تحده التعريفات المنطقية، يعني أنه لا جنس له، لأنه إن كان له جنس فهو نوع، والنوع مركب من جنسه العام له ولغيره ومن فصل ليس في غيره، فله موضوع هو الجنس القابل لصورته وصورة غيره، ومحمول هو الصورة الخاصة له دون غيره، فله موضوع ومحمول. ولكن قد ظهر أن الله الأبدي ليس له عند الكندي موضوع ولا محمول ولا جنس... أن الله عند الكندي، وهو الذي أوجد العالم المحدث، تام وكامل وموجود، لا يقبل التبدل والفساد والانتقال من النقص إلى التمام، لأن الانتقال استحالة ما، أنه لا يمكن أن يكون ناقصا فيصير إلى حال يكون بها فاضلا وكاملا، إنه لا يمكن أن يستحيل إلى أفضل منه ولا إلى انقص منه بتة، إن الله الأبدي، وكما يبرهن أرسطاطاليس في طبيعة المحرك الأول الذي لا يقبل الامتداد، لا جنس له عند الكندي، لا يمكن أن يكون جرما ذا كمية أو كيفية، لأنه سيتصف بحدود الزمان والمكان والتناهي، والله الذي خلق العالم وأمسكه وأبدعه، هو الفاعل، الحق الأول، الأزلي، إنه يعلو على كل ما يتصوره عقل الإنسان... يحاول ان يربط الكندي في كثير من رسائله، وفي أصالة ظاهرة بين الحركة والجرم والزمان، ويدعم بهذا الربط نظريته في تناهي وحدوث العالم. إذا قال الكندي في بادئ الأمر أن الزمان مدة تعدها الحركة، وإنه إذا لم تكن حركة لم يكن زمان، فإنه يوحد بينها حينما يقول: إن كان زمان فحركة، وإن كانت حركة فجرم. أن الحركة ملازمة للجرم بوجه عام، وإن الجرم في زمان حي كم متصل. أن الحركة والجرم والزمان لا يسبق بعضها بعضا في الآنية، انها، وتختلف في هذا عن الذات الإلهية، ذات بداية ونهاية. والجرم، كالزمان موجود معناه، أنه يقبل الكون والفساد، وأنه، من حيث أنه شئ حادث، لا يمكن أن يكون لا نهاية له بالفعل. ويرى الكندي، في نظريته عن الله والعالم، أن الحركة موجودة ما دام هنالك جرم، وقد قيل أن الحركة لا تكون، إذا كان الجرم موجودا، وهذا محال حسب رأيه، لأنه إذا كان هنالك جرم كانت حركة اضطرارا، إذا افترض وجود الجرم بدون الحركة، فاما ألا تكون حركة بته، وأما أن تقبل ألا تكون في وقت ما، وأن تكون في آخر، يعني الكندي أن تقبل هذه الحركة حالتي الوجود والعدم. ومن الطبيعي أنه إذا كانت الحركة ليست موجودة، وإن الجرم موجود، فسيحدث تناقض واضح حسب مذهب الكندي العام، لأننا عرفنا أن الحركة والجرم والزمان عنده لا يسبق بعضها بعضا في الآنية فهي معا. ولنتفهم رأي الكندي في عدم قبول انتساب اللاتناهي إلى الجرم والعالم، لا بد لنا أن نناقش، وفي اقتضاب، آراء أرسطاطاليس في هذا السبيل تلك الآراء التي ستوضح لنا طبيعة ادراك التناهي واللاتناهي بوجه عام. يقول أرسطاطاليس في الكتاب الثالث من الطبيعيات: أن الفيثاغوريين وأفلاطون قد اعتبروا اللامتناهي جوهرا وشيئا قائما بذاته، وأن تصور العناصر الأربعة في الفلسفتين الأيونية والطبيعية قد أشار إلى وجود هذا اللامتناهي، وهو مبدأ لا يقبل الفناء، عن متصل ملموس. لا ينكر أرسطاطاليس أننا سنكون أمام صعوبات جمة حينما نحاول امتحان نظرية اللامتناهي. يظهر أرسطو هنا أمام نظرتين قد لا تبدو ان متعارضتين إلى حد كبير، نظرة أوحت بها إليه دراساته الطبيعية التي تعتبر الجسم المكاني متناهيا، ونظرة ثانية أسعفته بها الدراسات المتقدمة عليه حينما اعتبر مادة العالم القديمة أزلية غير محدودة. أن الكندي لم يقف كثيرا أمام هذه الناحية كما سيفعل ابن رشد فيما بعد، أنه لم يفكر في المشاكل الذهنية البعيدة المدى، تلك المشاكل التي قد تعترض الباحث حينما يتصور فكرة اللامتناهي عند الأقدمين، وفكرة الحدوث أو التناهي عند المسلمين. وإذا لم تستوقف الكندي هذه النظرة العويصة بعض الوقت، فان أستاذه أرسطاطاليس قد أخذ يتساءل عن طبيعة هذا اللامتناهي: هل هو جوهر، أم هو محمول ذاتي على طبيعة ما، أم هو لا هذا ولا ذاك؟ لا يمكن أن يوجد اللامتناهي بالفعل... تلك هي حكمة قال بها أرسطاطاليس حينما نظر إلى الجسم المحسوس المحدود، وأكدها عن طيب خاطر تلميذه الكندي، لا يتصور أرسطاطاليس أن يوجد اللامتناهي بالفعل كجوهر، أو كمبدأ، أو كقدر أو كعدد، لأنه سيقبل إذن القسمة والتجزئة والتناهي والزيادة والنقصان. أن الجسم المحسوس الذي يتكون من عناصر متناهية العدد، والذي يوجد بطبيعته في مكان ما لا يقبل أن ينتسب إليه كما يقول أرسطاطاليس، وكما يتضح هذا بجلاء عند تلميذه الكندي، فكرة اللاتناهي بآية حال من الأحوال. ولكن إذا حاول أرسطاطاليس أن ينكر فكرة انتساب اللاتناهي إلى الجسم المحسوس الموجود في المكان، فإنه قد يقبل وجود جوهر اللامتناهي بوجه ما. لأننا إذا أنكرنا، وكما تقول نصوص الطبيعيات فكرة اللامتناهي انكارا مطلقا وأبديا، فستكون إذن للزمان ولهذا العالم بداية ونهاية. وكانا بأرسطاطاليس يعبر عن هذا في أسلوب شعري جميل، وذلك حينما يقول: ويتحقق اللامتناهي من أن كل شئ يبدو في الوجود من جديد، من أن كل محدود لا بد له أن يظهر في وضع مباين ومغاير. أن يتصور الحركة والزمان اللامتناهيين لا يفهم الا في عالم الامتثال، هذا الذي يجعلنا نظن الأشياء دائما
350 في وضع يختلف عما هو عليه في الواقع، ومن هنا فان فكرة الجوهر اللامتناهي قد تتحقق عند أرسطاطاليس وإلى حد ما، في جو يقرب من المثل الأفلاطونية، على حين أن الكندي لم يلجأ إلى هذا التصور الجزئي المثالي، وأمن بعالم الأجسام المتناهية وارتباطها بالحركة والزمان والمكان... ولكن كيف يوضح الكندي، في نظريته عن الله والعالم، أنه لا يمكن أن يكون جرم لا نهاية له. يبرهن على هذا بنصه: أنه إن أمكن أن يكون جرم لا نهاية له، فقد يمكن أن يتوهم منه جرم محدود الشكل متناه، وإذا توهم من الجرم اللامتناهي آخر محدودا، فقد يقال: هل هذا الجسم المحدود هو متناه أم لا متناه، فان كان هذا الجسم المحدود متناه فان الجملة ستكون متناهية، ذلك لأن الاعظام التي يعتبر كل واحد منها متناه تكون جملتها متناهية، ومن المستحيل، حسب برهنة الكندي، أن يكون الجرم لا متناهيا ومتناهيا. لم يشن الكندي، حينما يقول بتناهي الجرم، أن يثبت في نظريته عن الله والعالم، كيف أن الله، وهو الفاعل الحق، وغاية كل علة، يستطيع وحده ايجاد الموجودات عن عدم. أنه المبدع الذي لا يتأثر بجنس من أجناس التأثر، أنه وهو الفاعل لا يقبل، كمخلوقاته، أن ينفعل بته. وقد يقرب الكندي، حينما يناقش طبيعة الفعل والانفعال، من الغزالي. يقول الكندي: أن الفاعل الحق الأول لا ينفعل بتة وأما ما دونه أعني جميع خلقه، فإنها تسمى فاعلات بالمجاز، لا بالحقيقة أعني انها كلها منفعلة بالحقيقة. وهو يقدر بهذا أن الفلك الأعلى هو المفعول الأول، وأنه باختلاف حركات ما فيه من إجرام متحركة على أنحاء معينة، يفعل فيما دونه، ويعتبر هذا الفلك مبدعا، أبدعه خالقه ومنشئه، أي أبدعه الله الذي هو العلة المباشرة أو غير المباشرة لكل ما يقع في الكون. يرى الكندي أن الأول ينفعل عن البارئ وينفعل عن هذا ثان، وهكذا حتى ينتهي الأمر إلى المنفعل الأخير منها. أن المنفعل الأول يسمى فاعلا بالمجاز للمنفعل عنه، لأنه علة انفعاله القريبة، وكذلك الثاني، إذ هو علة الثالث القريبة في انفعاله حتى ينتهي إلى آخر المفعولات. ويختم الكندي هذه البرهنة التي قد توهم بتأثير افلوطوني، والتي قد تبدو واضحة عند الفارابي فيما بعد، إلى أن الله، أي البارئ تعالى هو العلة الأولى لجميع المفعولات التي بتوسط، والتي بغير توسط، بالحقيقة، لأنه فاعل لا منفعل بتة، إلا أنه علة قريبة للمنفعل الأول، وعلة بتوسط لما بعد المنفعل الأول من مفعولاته. ان الظواهر المحسوسة لتدل، كما يرى الكندي، أوضح دلالة على وجود هذا الفاعل الحق المدبر، هذا الموجود الذي لم يكتسب وجوده من شئ خارجي عنه، والذي يعده الكندي الواحد العي، والعلة الأولى التي لا تقبل التكثر بحال من الأحوال. أنه كما يقول في نصه: العلة الفاعلة التي لا فاعل لها، المتممة التي لا متمم لها، وانه هو الذي يجعل الأشياء تقبل العلل والأسباب. وقد رمزت الطبيعة في جميع الأشياء بان علة الكل واحد حق، هذا الواحد المحجوبة عنه الأعين الجثمانية، الذي هو تام وكامل، لا يلحقه النقص والانفصال بجهة من الجهات. والكندي الذي يرى، في نظريته عن الله والعالم، أن الواحد الحق تام وكامل، يبرهن على أن الجرم وكل محمول فيه هو متناه، أنه يقبل الحركة والكم والمكان والزمان. والعلاقة كائنة عند الكندي بين الجرم، الذي يحده بأنه جوهر طويل عريض عميق، ذو ابعاد ثلاثة. مركب من هيولى وصورة، وبين الاعظام المتجانسة. يرى الكندي أن الاعظام المتجانسة التي كل واحد منها متناه في جملتها متناهية. أنه لا يمكن أن يكون جرم لا نهاية له أعظم من جرم لا نهاية له، على حين أن كل عظيمين متجانسين، ليس أحدهما أعظم من الآخر، متساويان. ويخلص الكندي من هذا إلى أن جرم الكل، أي العالم، ليس يمكن أن يكون لا نهاية له بل هو متناه. وإذ يحاول الكندي إقامة الدليل على فكرة التناهي يقول: قد يظن أنه يمكن أن يكون جرم الكل كان ساكنا أولا وكان ممكنا أن يتحرك ثم تحرك، وهذا ظن كاذب بالضرورة، لأن جرم الكل، أي العالم، إن كان ساكنا أولا ثم تحرك، فلا يخلو أن يكون جرم الكل موجودا بعد عدم، أي كما جاء في نص الكندي، كونا عن ليس، أو يكون قديما. فان كونا عن ليس، فان وجوده قد اكتسب إذن الكون عن طريق الحركة، وإذا لم يسبق الجرم الكون كان الكون ذاته، فاذن لم يسبق كون الجرم الحركة بتة. وقد قيل أن جرم الكل كان أولا ولا حركة، وهذا ما لا يقبله الكندي، لأنه إن كان جرم الكل موجودا عن عدم، كونا عن ليس، فإنه ليس يمكن أن يسبق الحركة. وإذا كان الجرم لم يزل ساكنا، أي قديما، ثم تحرك لأنه كان ممكنا له أن يتحرك، فقد استحال إذن جرم الكل القديم من السكون بالفعل إلى الحركة بالفعل، والقديم، كما نعرف، لا يقبل أن ينعت بلفظه الاستحالة، فهو إذن مستحيل لا مستحيل، وهذا خلف لا يمكن. ويخلص الكندي من هذه البرهنة الأصيلة على أنه ليس يمكن أن يكون جرم الكل قديما أي لم يزل ساكنا بالفعل، ثم قبل أن يتحرك بالفعل، لأنه إذا كانت الحركة فيه موجودة، فهو لم يسبق الحركة بتة. ويختم الكندي هذه البرهنة في نص مشرق جميل: إن كانت حركة كان جرم اضطرارا، وإن كان جرم كانت حركة اضطرارا، فمدة الجرم اللازمة للجرم ابدا تعدها حركة الجرم اللازمة للجرم ابدا، فالجرم لا يسبق الزمان ابدا، فالجرم والحركة والزمان لا يسبق بعضها ابدا. وفكرة التناهي هذه في الجرم هي التي تميز نظرية الحدوث عند الكندي، بالأصالة، وتجعلها ذات طابع يختلف عن الفلسفة الايونية والطبيعية، وعن أستاذه أرسطاطاليس. أن الجرم المتناهي الذي يقبل التبدل، عن طريق الحركة المكانية، بالقرب من مركزه أو البعد منه، يوصف عند الكندي بأنه مركب، لا يمكن تصوره منفصلا عن الحركة والزمان، لا يقبل الأزلية بحال من الأحوال، أنه محدث له خالقه ومحدثه. أن الجرم والحركة والزمان، كما يؤكد الكندي في كل نص ومناسبة، لا يسبق بعضها بعضا في الآنية، فهي معا، فإذا كان الجرم لا يسبق مدة تعدها الحركة، وإذا كان الزمان ذا نهاية بالفعل، فانية الجرم ذات نهاية بالفعل اضطرارا. ومن هنا فقد أثبتت نظرية الله والعالم عند الكندي، حدوث العالم، زواله ونهايته، كما إنها أكدت خلود الله المحدث، لا نهائيته وأبديته... حينما يحاول أرسطاطاليس أن يناقش كما سيفعل الكندي في تصوره للعالم، مبحث الزمان، من حيث عنصر، جوهر، متحرك من نقطة بداية إلى نهاية، انه ينتسب إلى المقدار، حينما يحاول أن يفعل هذا فإنه يربطه، كما سيكون الحال عند الكندي، بالحركة التي تخضع للاتصال اننا نعرف الزمان حينما نحدد الحركة باستعمال لفظتي التقدم والتأخر، ولا نشير إلى هذا الزمان
351 بأنه ماض إلا إذا أحسسنا بالتقدم والتأخر في الحركة. وأرسطاطاليس الذي يقول أن الحركة انما تعرف بالمتحرك، وأن النقلة انما تعرف بالمنتقل، والذي يقبل انه لا يمكن تصور الزمان من غير الآن، كما لا يمكن تصور الآن من غير الزمان، يعطينا تعريفا خالدا، وجامعا مانعا، تعريفا قبلته منه الفلسفات المسيحية والاسلامية، وذلك حينما يذكر: أن الزمان هو مقدار الحركة بحسب المتقدم والمتأخر، انه متصل وينتسب إلى متصل... وإذا كان زمان الموجودات الأبدية الخالدة لا يحويها، لا يقيس مقدار وجودها وليس له تأثير عليها فان زمان الكائنات الحسية يعتبر، عند الفيلسوف اليوناني وفي لحظة تشاؤم، سبب هدم لا بناء، لأنه مقدار الحركة، والحركة تضعف وتفني ما هو موجود. ولكن هل يمكن تصور الزمان من غير النفس؟ سؤال ممتع وجميل سبق أرسطاطاليس الكندي إليه، جاء ديكارت وإقامة نظرية دفعته إلى معرفة الله والعالم وجاء برجسون وإقامة فلسفة انبنى عليها فهم الحرية والشعور والحدس والوجدان. يرتأي أرسطاطاليس انه ليس من هناك شئ يمكن أن يعد خارج النفس والعقل، وإذا كان الزمان هو مقدار الحركة، بصفة عامة وكلية وليست حركة ما، بحسب المتقدم والمتأخر، وإذا كانت الحركة المعدودة لا تقوم إلا بالزمان، فان الزمان يوجد في داخل النفس. والكندي الذي قد تأثر كغيره من فلاسفة المسلمين بأستاذه أرسطاطاليس، لا يستطيع أن يتصور، في نظرية الله والعالم، جرما بلا زمان. يرى أن الزمان والجرم متناهيان، أن الحركة هي حركة الجرم، فان كان جرم كانت حركة، وان لم يكن جرم لم تكن حركة. وإذا كانت الحركة هي تبدل الأحوال، وان كل تبدل هو عاد كما يقول في نصه، مدة المتبدل، فان التبدل سيسري كذلك على الزمان، هذا الزمان الذي لا يمكن أن يتصور بالفعل لا نهاية له. وليبرهن الكندي على أنه لا يمكن أن يكون زمان لا نهاية له بالفعل في ماضيه ولا آنيه يقول: اننا إذا قسمنا الزمان إلى أجزاء فيجب أن نقف عند فصل متناه لا يكون قبله فصل، أنا إذا افترضنا خلف كل فصل من الزمان فصلا ولم نقدر أن نقف، ولو في حالة التوهم، عند حد ما، فسنكون إذن امام لا متناه، وسينتج في ذهننا زمان معلوم محدود، وزمان غير معلوم: أي سنقف أمام لا متناه متناه، وهذا خلف لا يمكن. ان ما لا نهاية له لا تقطع مسافته ولا يؤتى على آخرها، فإنه لا يقطع ما لا نهاية له من الزمان، حتى ينتهي إلى زمن محدود، والانتهاء إلى زمن محدود، موجود به، فليس الزمان فصلا من لا نهاية، بل من نهاية اضطرارا... ولكل زمان محدود نهايتان: نهاية أولى ونهاية آخرة، فان اتصل زمانان محدودان بنهاية واحدة مشتركة لهما، فان نهاية كل واحد منهما الباقية محدودة معلومة، وإذا فرض أن جملة الزمانين وهي محدودة تصير، عن طريق هذا الاتصال لا محدودة النهايات، فسنكون إذن أمام زمان محدود ولا محدود، وهذا ما لا تقبله نظرية حدوث العالم عند الكندي بحال لأنه كما زيد على الزمان المحدود زمان محدود، فكله محدود النهاية من آخره، ولا يمكن أن يكون الزمان الآتي وعلى هذا الأساس لا نهاية له بالفعل. تجمع مصنفات الكندي، حينما يحاول أن يفهم تصور الله والعالم على أن الزمان من الكمية المتصلة، وهي تتفق في هذا مع تعريف أرسطاطاليس. تنفرد الفلسفة الأولى وتضيف على هذا التعريف بان العدد والقول لا يمكن أن يقال عليه وفي ذاته طويل أو قصير، بل ينصب عليه هذا من جهة الزمان الذي هو فيه. يقال عدد طويل، أي في زمان طويل، وقول طويل أي في زمان طويل، ولا يمكن أن يحتمل أي واحد من القول والعدد اسم الطول واسم القصر بذاته أي انه ليس هنالك للأشياء وجود مطلق في ذاتها بل في الزمان. صحيح، وكما تتفق على هذا المصادر الكندية، ان افتراض زمان لا نهاية لأوله قد يؤدي إلى تناقض لأننا إذا قلنا أن الزمان مكون من انات مفعولة، وهو من الكم المتصل عنده، فسنصل إلى حد متناه نقف عنده، وافتراضنا نظرة اللاتناهي ستناقض التناهي، وسيكون الزمان متناهيا ولا متناهيا في نفس الوقت، وهذا غير معقول ولا مقبول. ونظرة ثانية بان اللامتناهي لا تقطع مسافته ولا يؤتى على آخرها، وبأنه ليس متصلا من لا نهاية اضطرارا. والله، الذي خلق العالم والزمان، يتصف عند الكندي بالوحدانية، لا تعجز قدرته عن شئ، أنه يستطيع اخراج المعاني إلى الكون، خلق العالم في أتقن وأكمل وأفضل وجه، خلق المعاني البسيطة مثل العنصر والصورة، وابداع الأشياء المركبة. وقد صير الله الجوهر النفساني أما ناطقا وأما لا ناطقا، الناطق مثل الأشخاص العالية والإنسان، والذي لا ناطق هو الحرث والنسل، وأنه هو الذي جعل للحركة كينونتها وبقاءها. ويتساءل الكندي، مع كل ذهن يعرض له هذا، وكما فعل أرسطاطاليس بوضوح في الطبيعيات، عن خالق هذا العالم ومحركه، هو واحد أم كثير، هل هو بسيط أم مركب؟ أن الأشياء المركبة لا بد أن تقبل القسمة والتجزئة، والمتكثرة لا بد أن تقبل انفصال بعض أجزائها عن بعض. والله، الواحد، الفاعل، الأول، لا يقبل من حيث أنه يتسم بالبساطة، الكثرة والتركيب، وكما يقول الكندي في نص له: أن الكثرة في كل الخلق موجودة، وليست فيه بتة، ولأنه مبدع وهم مبدعون، ولأنه دائم وهم غير دائمين، لأن ما تبدل تبدلت أحواله، وما تبدل فهو غير دائم. يحاول أن يبرهن أرسطاطاليس في الطبيعيات، كما يفعل في ما وراء الطبيعة، على وجود محرك أول قديم دائم غير متكثر، وغير قابل للحركة. وإذا كان انكسا جوارس قد قال، كما يذكر عنه أرسطاطاليس، بان العقل منزه عن الاختلاط بشئ، أنه مبدأ للحركة، فان هذا الأخير قد قال بان المحرك الأول، الذي لا يقبل التحريك بواسطة شئ سابق عليه يحرك ذاته. أن هذا المحرك هو دائما، كالله عند الكندي، بالفعل أنه لا يمكن أن يكون فيه جانبان: أحدهما يحرك والثاني يقبل أن يتحرك، لأنه إذا صح هذا فسيكون التحرك بينهما بالتناوب، وسوف لا يكون هنالك محرك أول قديم أنه لا بد من أن تقف سلسلة الأشياء المتحركة بالغير عند حد، وإن هذا الأخير لا بد أن يحرك ذاته بذاته، ولا بد من أن يتسم بصفة القدم والأبدية والخلود. يتمشى الكندي، ويرى في نظريته عن الله والعالم، أن الله الواحد الأبدي القديم هو علة كل كائن في هذا الوجود. يتلخص دليله، في استحالة أن يكون الشئ علة لكون ذاته، في حصر الاحتمالات الممكنة الآتية التي يحاول أن يبطلهما جميعا. أنه ليس ممكنا أن يكون الشئ علة كون ذاته، وأن
352 تكون ذاته معدومة. لا يقبل الشئ أن يوصف بأنه علة ومعلول إلا إذا وصف بالوجود، وأنه من المستحيل أن يكون علة كون ذاته إذا كان معدوما. إذا كانت ذات الشئ هي غيره، والمتغايرات يمكن أن يعرض لأحدها ما لا يعرض للآخر، وقد عرض له أن يكون موجودا وعرض لذاته أن تكون معدومة، فستكون ذاته إذن هي لا هو، وكل شئ فذاته هي هو فهو لا هو، وهو هو، وهذا خلف لا يمكن. إذا كان الشئ موجودا وذاته موجودة، أي حسب تعبير الكندي: إن كان أيسا وذاته أيس، فهو علة ومعلول. يعني أن يكون علة ذاته، وعرض لذاته أن تكون معلولته، فذاته هي لا هو، وكل شئ فذاته هي هو، فهو لا هو، وهو هو، وهذا خلف لا يمكن... يخلص الكندي من هذه البرهنة الأصيلة إلى أنه من المستحيل أن يكون الشئ علة ذاته بل هو معلول دائما. أن الله وهو الفاعل الحقيقي، والعلة القريبة والبعيدة لهذا الشئ، يعطي للمعلولات جميعها وجودها وكمالها وبقاءها. يعرف الكندي الحركة، في بحثه عن الله والعالم، بأنها تبدل أما بمكان، وأما بكم، وأما بكيف وأما بجوهر، وكل تبدل فإلى غير يرى الكندي أن كل حركة إما أن تكون ذاتية وإما أن تكون عرضية، ويعني بالذاتية هي ما تكون من ذات الشئ، ولا تفارق الشئ الذي هي فيه إلا بفساد جوهره، ويضرب لهذا مثلا بحياة الحي التي لا تفارق الحي إلا بفساد جوهره وانتقاله إلى لا حي، على حين أن الحركة العرضية هي عنده تلك التي ليست من ذات الشئ، ويعني بما ليس من ذات الشئ ما يفارق الشئ ولا يفسد جوهره، كالحياة في الجرم، فان الجرم الحي قد تفارقه الحياة وأن الجرمية ثابتة فيه على حالها لم تفسد. ويكاد الكندي ينقل، ولكن في شئ من الأصالة، ما قاله أرسطاطاليس في تصور الزمان في داخل النفس. يقول الكندي: أن الحركة موجودة في النفس، أعني أن الفكر ينتقل من بعض صور الأشياء إلى بعض، ومن أخلاق لازمة للنفس شتى مثل الفرح والحزن وما كان كذلك، فالفكر متكثرة ومتوحدة، إذ لكل كثرة كل وجزء، إذ هي معدودة، وهذه اعراض النفس، فهي متكثرة أيضا ومتوحدة، بهذا النوع. ومن هنا يتضح لنا كيف يصور الكندي ارتباط الزمان، وهو في داخل النفس، بالحركة والجرم، ولكن هل يمكن تصور جرم من غير مكان؟ هذا ما ستجيب عليه فلسفة أرسطاطاليس وبراهين الكندي... وإذا كان الجرم لا يمكن أن يتصور إلا في المكان، فان الكندي لم يناقش، في نظريته عن الله والعالم، علاقة الحركة والجرم والزمان والمكان، وكل ما فعله في هذا السبيل هو إشارة عابرة إلى آراء الفلاسفة الذين لم يتعرض لأسمائهم، إلى أفلاطون، ثم إلى أرسطاطاليس الذي يقول أن المكان موجود وبين. لا يقبل الكندي أن يكون المكان جسما، ولعله يفترض يختل خلاء، لأن الخلاء الخالي، كما يقول أرسطو وابن سينا والكندي، لا وجود له. يرفض الكندي أن يكون المكان جسما، لأن الجسم يقبل إذن الجسم، والجسم يقبل ويقبل، وهكذا ابدا بلا نهاية، وفكرة اللاتناهي هذه، وكما نعرف مرفوضة عنده في نظرية حدوث العالم. يرى الكندي إذن أن المكان ليس جسما، بل هو السطح الذي هو خارج الجسم الذي يحويه المكان ينظر الخوارزمي إلى مكان الشئ بأنه سطح تعقير الهواء الذي فيه الجسم، أو سطح تعقير الجسم الذي يحويه هواء يعرف الكندي المكان بأنه نهايات الجسم، وبأنه بتكثر بقدر أبعاد المتمكن ونهاياته... لا يقبل الكندي أن يكون للخلاء المطلق وجود، وليبرهن على هذا الرفض يقول أن معنى الخلاء هو مكان لا متمكن فيه. لا يصح وبأنه حال من الأحوال، تصور مكان من غير أن تتبعه إضافة متمكن، إذا كان متمكن كان مكان اضطرارا، إذا كان مكان وفيه متمكن، فان وجود الخلاء المطلق إذن عند الكندي، كما هو عند أرسطاطاليس، مستحيل. وإذا لم يكن ثمة خلاء مطلق فلا بد إذن من الملأ، وحيث أن هذا يكون جسما، فلا بد من أن يكون متناهيا، لأنه ليس يمكن، حسب المذهب العام لنظرية الحدوث عند الكندي، أن يكون شئ لا نهاية له بالفعل. والكندي الذي يعرف الهيولى أي المادة، في نظريته عن الله والعالم، بأنها موضوعة لحمل الصور، وبأنها منفعلة، يرى أن الهيولى هي ما يقبل ولا يقبل، أنها ما يمسك ولا يمسك. يعني بهذا انها تحفظ الصورة. والمادة التي يتكون منها كل شئ، والتي نقبل الأضداد دون فساد، تعطينا تمثلات كلية في النفس، بحيث تكون هذه التمثلات القائمة في المصورة أشبه بالمحسوسة. وهو لا ينسى أن يفرق، في نظرته إلى المادة، بين نوعين من المعرفة، أي الوجود. ينقسم الوجود عنده إلى حس يتصل بطبيعة الأشياء الجزئية الهيولانية، وعقلي ينتسب إلى الكليات والأجناس والعقل الإنساني. والكندي الذي يعرف الصور في رسالته عن الحدود بأنها الشئ الذي به الشئ هو ما هو، يراها تنقسم إلى قسمين: أحدهما يقع تحت الحس والثاني تحت الجنس. وإذا كانت الصورة الحسية تميز، وعن طريق البصر، الشئ من حيث الجوهر والكيف والكم وبقية الأجناس العشرة، فان الكندي يرى أن الصورة في النفس هي والنفس شئ واحد، لا يتغايران تغايرا مصدره غيرية المحمولات، يعني بهذا ما تحمله النفس في ذاتها وليس المحمولات المنطقية. يتضح لنا من فهم المادة والصورة من ادراك المحمولات والأجناس العشرة في نظرية الله والعالم عند الكندي، ان القول أولا بوجود الواحد الحق المبدع، والقول ثانيا بالحدوث، يحل مشكلة رئيسة تبدو في صميم العلاقة الكائنة بين الفلسفة والدين. يظهر لنا بجلاء من هذه الصلة أن تدبير العالم المرئي لا يمكن أن يكون الا بعالم لا يرى، وأن آثار العالم، وما فيه من التناسق والنظام، تدل على موجده ومدبره، هذا المدبر الأبدي الذي وهب العالم الحركة والزمان والابداع، الذي خلق المحدثات المنفعلات من لا شئ، والذي أعطى الوجود أصالته وتمامه وكماله... رسالة للكندي وننشر فيما يلي كلمة عن رسالة له مخطوطة في موضوع قلع الآثار من الثياب وهي مكتوبة بقلم الدكتور محمد عيسى صالحية: الكندي أحد أعلام الفكر العربي الاسلامي الكبار، عمل الباحثون ولسنوات طويلة في دراسة ونشر أعماله العلمية، حتى ليبدو لي أن معاودة الكتابة عن حياته ما هو إلا ضرب من التكرار الممل، وما دام الأمر كذلك، فاني
353 سأحاول في مقدمة دراستي هذه أن أعاود تأكيد بعض الحقائق الهامة عن حياته والتي تظل مطلبا رئيسا لكل باحث عند العناية بتراث الكندي. إن ما أورده إسماعيل حقي الأزميرلي في كتابه عن فيلسوف العرب الكندي المنشور بالتركية والذي نقله إلى العربية عباس العزاوي يظل رأيا له تقديره عندي على الأقل، فقد قرن الأزميرلي اتخاذ بغداد غداة بنائها من قبل أبي جعفر المنصور كقاعدة حضارية، بظهور الكندي كبان لأسس العلم والفلسفة والطب عند العرب (1). فبناء بغداد الحضارية ونبوع الكندي العلمي كانا معلمين يكمل بعضهما بعضا: فالكندي هو أبو الحكماء وفيلسوف العرب والمسلمين، عربي من قبيلة كندة، كان والده أمير الكوفة أيام المهدي وهارون الرشيد، وأما الكندي فقد كان منكبا على العلوم والفنون بلا هوادة، ألف في المنطق والفلسفة والهندسة والحساب والأرثماطيقي والموسيقي والنجوم، وإن مراجعة إحصائية لمؤلفاته وفروعها تسجل منها قوائم رقمية نجملها بما يلي: الفلسفيات: 27 مؤلفا. المنطق: 9 مؤلفات. الحساب وما يتعلق به: 21 مؤلفا. الكريات: 9 مؤلفات. الموسيقي: 7 مؤلفات. النجوميات: 38 مؤلفا. الهندسة: 24 مؤلفا. الطب: 31 مؤلفا. الفلك: 17 مؤلفا. الجدليات: 19 مؤلفا. علم النفس: 7 مؤلفات. السياسة: 12 مؤلفا. الأحداثيات: 16 مؤلفا. الابعاديات: 10 مؤلفات. الأنواعيات: 29 مؤلفا. الأحكاميات: 10 مؤلفات. التقدمات: 8 مؤلفات (2). ولا غرابة من كثرة مؤلفاته وتنوعها وتشعب اختصاصاتها، فالكندي كما تؤكد كافة المراجع التي عنيت به أنه كان مطلعا على علوم اليونان والهنود والفرس، وتلكم مراكز الحضارة الرئيسية في عصره، هذا بالإضافة إلى إلمامه بالسريانية واليونانية والهندية والفارسية. وقد أصاب الشهرزوري حين قال عنه: كان مهندسا خائضا غمرات العلوم (3). قلع الآثار والطبوعات من الثياب وغيرها في التراث العربي يجد الباحث صعوبة في العثور على عناوين مستقلة لهذا الفن في التراث العربي، ويبدو أن العناية بهذا الفن كانت مسالة معروفة لا تحتاج إلى تدوين عند العرب، كما هو حالهم في تدوين هندسة البناء ونسج الثياب وغزل بيوت الشعر وصناعة الخيم والحياكة والتطريز والوشي وغيرها من الأمور الحياتية، وما عدا إشارات ترد عن صناعة الصابون والصباغة فلا تكاد تعثر على عناوين تخص قلع الآثار والطبوعات من الثياب حتى منتصف القرن الثالث الهجري. لقد أعملنا جهدنا درسا في التراث العربي علنا ننجح في تأطير هذا الفن تاريخيا وكانت حصيلة اشتغالنا ما يلي: ورد في كتاب فردوس الحكمة لعلي بن ربن الطبري ت 247 ه، ذكر ما يقلع الآثار من الثياب في النوع السابع من المقالة الثانية، الباب الثالث، بين الصفحات 530 532، وتناول قلع الآثار والطبوعات من ثياب الطيلسان والوشي والفراش، والآثار التي أشار إليها، هي قلع آثار النفط والموز والبسر وقشور الرمان والحبر والدم والودك والزعفران ودهن البزر والسواد والقير والعنب والقطران والخلوق والدهن والدسم المغرة والمداد بالإضافة إلى صباغة الثوب والشراب. رسالة في الصباغة الكيماوية لابن وحشية ت حوالي 291 ه، وهي الرسالة التي كتبها لابنه وجاء بأولها: فأول ما أعملك يا بني من ذلك ما أشاهده وتشاهدون من عمل الصباغين بالبقم والعصفر، وكيفية استخراج الأصباغ من هذين الجسدين (4). ولعل من معترض، يرى بان هذا باب الصباغة، فما بال إزالة الآثار، وعندي أن الصباغة تتطلب بداية إزالة أي آثار أو طبوعات تكون في الثوب أو القماش، مهما كان نوعه، قبل الشروع في الصباغة. غير أن الجانب الطلسمي في الرسالة يبدو واضحا، وهذا المنهج يفقد الرسالة مصداقية النهج العلمي، وتلك الصفة الطلسمية برزت أيضا في العديد من مؤلفات ابن وحشية، وخاصة الفلاحة النبطية، وكتاب أسرار التعافين، وخواص النبات، وكنا قد ناقشنا هذه المسألة وأسبابها عند تحقيقنا لكتاب مفتاح الراحة لأهل الفلاحة، لمجهول من القرن 8 ه، في درسنا للمقدمة. فوائد في قلع الآثار من الثياب لمؤلف مجهول، لا تزال محفوظة في خزانة شهيد علي، بالمكتبة السليمانية، رقم 2092 ضمن مجموع، بين الصفحات 47 أ 48 ب، وهو نفس المجموع المحفوظة فيه رسالة الكندي التي ننشرها، وتاريخ نسخ المخطوط يرجع إلى سنة 757 ه، وقد شملت تلك الفوائد قلع الآثار والطبوعات للحبر والنطفة والدم والمداد والقير والموز والرمان والزعفران والقلقاس والعنب الأسود والقطران والزفت والمغرة والأثفال والورد والدهن بالإضافة إلى غسل الجلود والمصاحف من الحبر. الباب التاسع من كتاب المخترع في فنون من الصنع المنسوب للملك المظفر يوسف الرسولي ت 694 ه، والمحفوظ في الخزانة الآصفية بالهند تحت رقم 221 متفرقات، وفيه إشارات لقلع آثار الرمان والموز والتوت الأسود والحديد، والنفط الأسود والنفط الطيار والزعفران والمداد والحبر وأثر الشمع والخمر والياسمين والشقائق والعفونات والفواكه والجوز والدم والسفرجل
(1) الأزميرلي: فيلسوف العرب (يعقوب بن إسحاق الكندي)، ص 5. (2) ابن النديم، الفهرست، 315 - 320. (3) الشهرزوري: نزهة الأرواح وروضة الأفراح في تاريخ الحكماء والفلاسفة: 2 / 22، ط حيدر آباد، 1976. (4) الأزميرلي: فيلسوف العرب، 17. (5) مخطوط محفوظ في دار الكتب القومية بالقاهرة تحت رقم 731 طبيعة. 354 والكحل والمني والريحان والقراصيا والسمن والودك والبلح والعصفر والبان والتفاح والإجاص والزنجار والسوسن والدهن والزفت والأشكلاط وطبع الورد والقراصيا والخوخ والعفص. وأورد كذلك وسائل لقلع الأصباغ من الثياب والسواد من الخف، ورد ألوان الثياب بما فيها الأطلس والعتابي وقلع الدهن، وتنظيف الشياشيات الحريرية من أوساخها وبقعها وغيرها. الرسالة يبدو أن الكندي كان قد تلقى رسالة من أحدهم يسأله فيها عن قلع الآثار والطبوعات من الثياب وغيرها، فكتب إليه هذه الرسالة التعليمية الخفيفة المئونة، السريعة التعلم والسهلة على الطالب. والتي فيها منفعة للخاصة والعامة. والرسالة بكل بساطة تعرض لكل ما يقلع الأثر من الثياب الفاخرة والثياب البيضاء والخز والوشي والطيالسة الطرازية والقرمزية والفراء، وكذا المصبوغ من الثياب أما الآثار التي قد تلحق بما ذكر عالية فهي آثار وطبوعات كل من: المداد والحبر والدبق والشمع والنفط والبزر والسمن والودك من اللحم والرؤوس والسمك والمرق والنطفة والدم وقشور الرمان وأثرها والمغرة والأسرنج والسواد. إن القراءة المتأنية للرسالة تفيدنا في تسجيل الحقائق التالية: كانت أكثر المواد استعمالا لقلع الآثار والطبوعات هي الماء والحرض الأشنان والصابون. تظهر الرسالة أن العلماء العرب المسلمين قد عرفوا التدخين كطريقة للتنظيف، وخاصة تدخين القماش أو الثياب بالكبريت، فالسواد من الثياب المصبوغة يدلك بحماض الأترج المرضوض ثم يدخن بالكبريت وهو رطب، والثوب الأحمر يغسل بالحرض ويدخن بالكبريت، ولإزالة أثر الزعفران يغسل بالبورق ويدخن بالكبريت، وكذا آثار وطبوعات الأسرنج والمغرة تطلى بالماذريون المدقوق وتدلك بماء الحمض وتدخن بالكبريت، والثوب الوشي إذا بان فيه أثر البزر، بخر بالكبريت وغسل بالصابون. وفي تقديري أن هذه المسألة من أهم ما عرفه العلماء العرب في مجال تنظيف الثياب ففي عصرنا نرى أن التنظيف بالبخار إنجاز علمي متقدم، وعندي أن التنظيف بالبخار قد عرفه العرب منذ منتصف القرن الثالث الهجري، وقد وردت إشارة صريحة إلى ذلك في مخطوطة فوائد في قلع الآثار من الثياب وغيرها والذي يعود تاريخ نسخه إلى منتصف القرن الثامن الهجري، ونص العبارة: إذا أردت أن يذهب صبغ الثوب فدخنه وهو رطب بالكبريت، وأي صبغ لا يذهب بالغسل يذهب بالتبخير. فالتبخير يعلو الغسل مرتبة في التنظيف، وتلك نظرية العصر في زماننا. كانت المواد المستعملة في إزالة الآثار والطبوعات مما يسهل الحصول عليه من البيئة ولا تحتاج إلى كثير عناء لا في التحضير أو التجهيز مثل الخل والحرض والصابون والأشنان واللبن والملح والخردل والشعير والماذريون والكبريت والسمسم والصعتر والرماد والطين الحر والرمان والبورق والخطمي والقرطم والقلي والنورة والتين والكتان والتمر وغيرها من المواد المذكورة في الرسالة، وهي في مجملها مواد متوفرة في البيئة المحلية. اتسمت الرسالة بالاختصار الشديد فلم تفصل في كيفية استعمال المواد أو طرق استخدامها والكميات التي يجب خلطها بعضها مع بعض، ولعل الكندي كان مدركا لذلك ولكنه تركها ثقة منه بفطنة من يخاطبه في عصره، بل إن فصل علي بن ربن الطبري يبدو أشد اختصارا من رسالة الكندي، وكذا الفوائد في قلع الآثار، أما الفصل التاسع من المخترع فإنه يفصل ويوضح ويشرح كيفية استعمال المواد وكمياتها النسبية ومعالجتها عند وضعها على الثياب وغيره. ومعلوم أن صاحب المخترع قد عاش في منتصف القرن الثامن الهجري تقريبا، وطبيعة الحياة في عصره تختلف عن نظيرتها في منتصف القرن الثالث الهجري. وبالاجمال، فان الرسالة تطرح موضوعا جديدا في بابه لا علم لمحققها إن كان أحد من الباحثين والمحققين في التراث العربي أو الدارسين لتاريخ العلوم عند العرب قد أشاروا لهذا الفن فن قلع الآثار والطبوعات من الثياب وغيرها في أبحاثهم أو دراساتهم. يوسف بن قزغلي بن عبد الله التركي العوني الهبيري البغدادي سبط أبي الفرج بن الجوزي. هكذا ذكره الذهبي في الصفحة 297 من الجزء 23 من كتابه سير أعلام النبلاء. ووصفه: بالشيخ العالم المتفنن الواعظ البليغ المؤرخ الأخباري واعظ الشام. وكان قد أضاف إلى ألقابه لقب الحنفي. ثم قال في ترجمته: ولد سنة نيف وثمانين وخمس مائة. وسمع من جده ومن عبد المنعم بن كليب وعبد الله بن أبي المجد الحربي، وبالموصل من أحمد وعبد المحسن بن ابني الخطيب الطوسي، وبدمشق من أبي حفص بن طبرزد وأبي اليمن الكندي وطائفة. حدث عنه الدمياطي وعبد الحافظ الشروطي والزين عبد الرحمن بن عبيد والنجم الشقراوي والعز أبو بكر من الشايب وأبو عبد الله بن الزراد والعماد بن البالسي، وآخرون. انتهت إليه رئاسة الوعظ وحسن التذكير ومعرفة التاريخ، وكان حلو الايراد، لطيف الشمائل، مليح الهيئة، وافر الحرمة، له قبول زائد وسوق نافذ بدمشق. أقبل عليه أولاد الملك العادل وأحبوه، وصنف تاريخ الزمان وأشياء، ورأيت له مصنفا يدل على تشيعه. وكان العامة يبالغون في التغالي في مجلسه. سكن دمشق من الشبيبة وأفتى ودرس. توفي بمنزله بسفح قاسيون، وشيعه السلطان والقضاة، وكان كيسا ظريفا متواضعا، كثير المحفوظ، طيب النغمة، عديم المثيل. له تفسير كبير في تسعة وعشرين مجلدا. توفي في ذي الحجة سنة أربع وخمسين وست مائة انتهى. ويبدو أن الكتاب الذي ذكر الذهبي انه يدل على تشيع المترجم هو كتاب رياض الافهام وهو في مناقب أهل البيت، وفيه قول النبي ص لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه.
355 الشيخ يوسف بن الشيخ خلف بن الشيخ عبد علي صاحب الأحباء من آل عصفور. قال في تاريخ البحرين المخطوط: هو من فقهاء عصره كان عالما فاضلا ذكيا سخيا جمع بين العلم والعمل وأخذ الفنون على الوجه الأكمل. تصدر للافتاء والجمعة والجماعة في الفلاحية والمحمرة وهو مجاز عن أبيه عن صاحب الحدائق ولم أجد من تصنيفاته شيئا سوى بعض الحواشي على كتب الحديث. مات قدس سره سنة خمس وخمسين ومائتين بعد الألف، وله من الأولاد: الشيخ خلف وهو من العلماء المتورعين تشرفت بخدمته في سنة 1312 وكان سخيا ورعا تقيا وبيته محل حاجات الطالبين وله من المصنفات أرجوزة في علم الهيئة، ورسالة في الاجماع وغير ذلك من الفوائد. وتوفي في سنة 1317 وله من العمر عشرون سنة طيب الله مضجعه. الشيخ يوسف بن علي المقابي البحراني. قال في تاريخ البحرين المخطوط: صاحب تصانيف البديعة، وكان من أذكياء زمانه وأوجزهم بلاغة وبيان وله تصانيف كثيرة منها كتاب الجواهر الثمينة ومنها كتاب في اثبات العقول مات آخر المحرم سنة 1260. ملحق بالمستدركات هذه بحوث إذا لم تكن داخلة في باب التراجم فان لها علاقة وثيقة به لذلك جعلناها ملحقا للمستدركات. صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين تقام في بعض العواصم العربية احتفالات مرور 800 سنة على وقعة حطين التي كانت في 4 تموز 1187 15 ربيع الآخر سنة 583 ه والتي انتهت بهزيمة الصليبيين واسترداد المسلمين للقدس، والتي قاد فيها المسلمين صلاح الدين الأيوبي. وهذه الوقعة جديرة بكل هذه الاحتفالات، ولكن المغالاة والزعم أنها كانت المعركة الفاصلة في الحرب مع الصليبيين هما ما يتنافى مع حقائق التاريخ. أصحيح أنه كان لمعركة حطين هذه النتائج التي ينوه بها من ينوه؟ وهل صحيح أنها كانت المعركة الحاسمة في تاريخ الحروب الصليبية؟ أننا سنبسط هنا أمام القارئ هذه الحقائق التاريخية، ونترك له أن يحكم: لا شك أن النصر في حطين كان نصرا مؤزرا، ولا شك أن ما أسفرت عنه المعركة من استرداد القدس كان إنجازا عظيما. ولكن إلى أي مدى أمكن استغلال هذا النصر، وإلى أي نتيجة عملية وصل؟ اننا نقول مستندين إلى ما سجله مؤرخو تلك الأحداث، ومعتمدين على الوقائع المسلم بها: لقد أضاعت التصرفات التي تلت معركة حطين ما كان يمكن استغلاله من هذا النصر، وأضاعت أية نتيجة عملية حقيقية له! ويجب أن لا يصرفنا التحمس للمعركة، ولا التصفيق المتواصل لمن قادوها عن التبصر فيما أدت إليه تلك التصرفات من عواقب وخيمة لكل ثمرات النصر. ولا أن ننزلق في تهويمات خيالية، وتفكيرات سطحية تبعدنا عن النظر البعيد في تقليب صفحات تاريخنا. فما ذا جرى بعد معركة حطين؟ كان المفروض مواصلة الكفاح لاجلاء الصليبيين عن البلاد، فإذا كان استرداد القدس أمنية غالبة تحققت بعد النصر، فليست القدس هي كل الوطن، وأهميتها من حيث الواقع لا تختلف عن أهمية أية مدينة تسترد من الأعداء، ولكن أهميتها تفوق هذا الواقع بما تحتوي من مقدسات إسلامية، وبما ترمز إليه أنها أولى القبلتين وثالث الحرمين، لذلك كان لاستردادها ذاك الصدى العاطفي البعيد. ويبدو أن ذلك الصدى قد خدر تفكير الناس فألهاهم عن التبصر في العواقب. خدر تفكير الناس يومذاك، وما زال يخدر تفكير معظم الناس حتى اليوم. جرى بعد حطين: أن صلاح الدين الأيوبي وهو المنتصر في حطين، المعقودة عليه الآمال في مواصلة الزحف لانهاء الاحتلال الأجنبي، واقتلاع آخر جذوره فيها. أن صلاح الدين هذا بطل حطين، لم يكد يطمئن إلى النصر الرائع في تلك المعركة حتى أسرع إلى القيام بعمل لا يكاد الإنسان يصدقه، لولا أنه يقرأ بعينيه تفاصيله الواضحة فيما سجله مؤرخو تلك الحقبة! المؤرخون الذين خدرت عقولهم روائع استرداد القدس فذهلوا عما بعده، لم تتخدر أقلامهم فسجلوا الحقائق كما هي. وظل تخدير العقول متواصلا من جيل إلى جيل، تتعامى حتى عما هو كالشمس الطالعة! حصل بعد حطين أن صلاح الدين الأيوبي آثر الراحة بعد العناء والتسليم بعد التمرد فأسرع يطلب إلى الفرنج إنهاء حالة الحرب وإحلال السلام. إنهاء حالة الحرب وإحلال السلام، وما وراء ذلك من إعتراف بوجودهم وإقرار لاحتلالهم ودولتهم وسمى ذلك هدنة. ويبدو جليا أن الصليبيين قد استغلوا هذا الطلب أحسن الاستغلال فاشترطوا للقبول بالهدنة أن يعاد إليهم الكثير مما كان قد أخذه صلاح الدين منهم بعد النصر في حطين، ولم تكن القدس بين ما طالبوا به ولا كان من الممكن أن يجيبهم صلاح الدين إلى ذلك لو فعلوا، لأنه لو أجاب لبطل مفعول المخدر وتنبهت العقول. ووافق الصليبيون على إنهاء حالة الحرب وإحلال السلام، وعقدت الهدنة في 21 شعبان سنة 588 ه وقبض الصليبيون الثمن الباهظ الذي دفعه صلاح الدين لهم لقاء قبولهم بالمهادنة، فأعاد إليهم حيفا ويافا وقيسارية ونصف اللد ونصف الرملة وغير ذلك، حتى لقد صار لهم من يافا إلى قيسارية إلى عكا إلى صور، بل صارت لهم فلسطين إلا أقل القليل ولم يكن لهم ذلك من قبل. يقول ابن شداد في كتابه الأعلاق الخطيرة في امراء الشام والجزيرة وهو يتحدث عن حيفا ص 177 178: لم تزل في أيدي الفرنج إلى أن فتحها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ثلاثة وثمانين، فلم تزل في يده إلى أن نزل عنها للفرنج فيما نزل عنه لهم في المهادنة التي وقعت بينه وبينهم، وذلك سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ثم لم تزل بعد في أيديهم. وقال هو يتحدث عن الرملة واللد ص 173 184: لم تزل في أيديهم إلى أن ملكها وملك معها لد الملك الناصر صلاح الدين يوم الأربعاء ثالث شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. ولم تزل في يده إلى أن وقعت الهدنة بينه وبين الفرنج سنة ثمان وثمانين، فنزل لهم عن البلاد وجعل لد والرملة بينه وبينهم مناصفة. وقال وهو يتحدث عن يافا ص 259: ولم تزل في أيديهم الفرنج إلى أن فتحها عنوة الملك الناصر صلاح الدين سنة ثمان وثمانين وخمسمائة على يد
356 أخيه العادل وخربها وبقيت خرابا إلى أن تقررت الهدنة بين الملك الناصر صلاح الدين وبين الفرنج وشرطوا عليه ابقاءها في أيديهم. ولنلاحظ هنا كلمة شرطوا عليه ودلالتها المؤلمة التي توضح لنا أن صلاح الدين هو المتوسل لطلب الهدنة وأن الفرنج هم واضعو الشروط. ليس ما ذكرناه هنا كل النصوص لهذه الحقائق، ولم نخترها اختيارا، وإنما عمدنا إلى أول كتاب وقع عليه نظرنا في خزانة الكتب فتناولناه فكان كتاب الأعلاق الخطيرة. وتلا هذا التسليم للصليبيين فعل أنهى كل تفكير في مقاومتهم وأجلائهم عن البلاد في المستقبل، بل أدى إلى ما هو شر من ذلك أدى إلى توسيع رقعة احتلالهم، وتمكينهم في مناطق أخرى غير التي مكنهم منها صلاح الدين نفسه. كان ورثة صلاح الدين من أخ وأولاد كثيرين فرأى أن يقسم البلاد بينهم، وأن يقطع كل واحد منهم جزءا من الوطن يستقل به عن غيره، وهكذا فلم يكد يموت صلاح الدين حتى انفرد كل واحد من إخوته وأولاده بالرقعة التي خصصت به، فعاد الوطن مزقا بين الورثة، ونسي هو ونسي ورثته أن الاحتلال الصليبي لا يزال جاثما على صدر الوطن، وأن ذلك لا يستدعي تمزيق الوطن وتشتيت شمل حكامه، بل يستدعي تماسك وحدته وتضافر أمرائه، ولم يقنع كل واحد من هؤلاء الورثة بما تحت يده من مخلفات صلاح الدين بل راحوا يتنازعون ويتقاتلون، ويستنصرون في هذا التنازع والتقاتل بالصليبيين مغرين إياهم باعطائهم ما يشاؤون من بلاد وعباد! ولن نسترسل في تفاصيل تلك النزاعات وتلك الأعطيات، بل سنكتفي بذكر واحدة منها هي الطامة الكبرى التي قضت على كل ثمرة من ثمرات معركة حطين، وأضاعت كل نتيجة من نتائجها، وجعلتها كأنها لم تكن. فإذا كان استرداد القدس على يد صلاح الدين قد أكسب ذلك الزمن كل ذلك التألق وأعطاه كل ذلك الوهج، ثم خدر الأفكار والعقول وأعماها عن التبصر في الحقائق، فان تصرف صلاح الدين نفسه قد أطفأ ذلك الألق ومحا ذلك الوهج، وإن لم يبطل مفعول المخدر، فكان من تقسيمه البلاد بين أقربائه وما نتج من تنازعهم وتشاكسهم واستنصارهم بعضهم على بعض بالصليبيين، أن ولدي أخيه العادل وهما الكامل والأشرف سلما إلى الصليبيين القدس نفسها وأعاداهم إليها. وهكذا إذا كان الانتصار في معركة حطين يثير في النفس البهجة، فان البهجة لا تلبث أن تتلاشى حين نتذكر التصرفات التي أعقبت المعركة وذهبت معها دماء المقاتلين هدرا وفي سبيل لا شئ. وقد رد علي راد فرددت عليه بما يلي: الواقع أني كنت رفيقا كل الرفق بصلاح الدين الأيوبي، وتعمدت أن لا أصدم المخدرين صدمات قوية فاجعة، لا ترك لهم منفذا ولو كسم الخياط يتعللون به في مرور 800 سنة على معركة حطين. يقول هاشم الأيوبي: فهذه السنوات القصيرة بين حطين ووفاة صلاح الدين كانت جهادا متواصلا أكملها من جاءوا بعده حتى تسنى لهم طرد الصليبيين نهائيا. ونقول له: كلا، أنها كانت استسلاما متواصلا، ونتحداه أن يذكر لنا معركة واحدة جرت بعد استسلام صلاح الدين وتسليمه البلاد للصليبيين. نعم نتحداه ونقول له: إن تلك السنوات كانت استسلاما في استسلام وهوانا في هوان، وأن سهما واحدا لم يرم، ورمحا واحدا لم يشرع، وسيفا واحدا لم يجرد في تلك المدة في وجه الصليبيين... نقول هذا في تحد صارم لا هوادة فيه. وقد كنت أحسب أنه بقي للخجل مكان فيمتنع سليل الأيوبيين إن صح أنه من سلالتهم عن القول أن الجهاد المتواصل أكمله من جاءوا بعد صلاح الدين حتى تسنى لهم طرد الصليبيين. ان الذين جاءوا بعد صلاح الدين من أسلافك قد واصلوا المهمة، ولكن لا مهمة الجهاد بل مهمة الاستسلام والذل، مهمة تسليم البلاد للصليبيين: ولن نعدد كل أفعالهم بل سنورد له أمرين اثنين فقط. أن الذي فعله صلاح الدين هو أنه سلم فلسطين كلها للصليبيين ما عدا القدس، وأعاد إليهم ما كان قد أخذه منهم بعد معركة حطين كما بيناه في مقال سابق. ولم يبق في يده إلا بعض ما يعرف اليوم بالجمهورية اللبنانية ما عدا صور التي ظل الصليبيون متمسكين بها. أما الذين جاءوا بعد صلاح الدين فقد تنازلوا للصليبيين حتى عن هذا الذي بقي بيد صلاح الدين من لبنان والسواحل السورية. فالكامل والأشرف مثلا سلما القدس للملك الصليبي فريدريك الثاني وهل يعتبر هاشم الأيوبي تسليم القدس للصليبيين جهادا متواصلا؟ وقد مر تسليم خلفاء صلاح الدين القدس للصليبيين بالأدوار التالية: 1: بعد تسليم الكامل والأشرف القدس للملك الصليبي فريدريك الثاني سنة 655 ه 1228 م ظلت في يد الصليبيين حتى استردها منهم الناصر صاحب الكرك سنة 637 ه 1239 م. 2: استنجد الصالح إسماعيل صاحب دمشق بالصليبيين ليساعدوه على ابن أخيه الصالح أيوب صاحب مصر، وعلى الناصر داود صاحب الكرك مسترد القدس. وأعاد إليهم لقاء ذلك القدس 641 1244 م، كما سلمهم صفد وعسقلان وطبرية وأعمال كل منهما، وجميع جبل عامل بما منه قلاع هونين وتبنين والشقيق ومدينة صيدا أو سائر بلاد الساحل، وهكذا عادت القدس مرة ثانية إلى الصليبيين. ووعد الصالح إسماعيل الصليبيين أيضا بأنه إذا ملك مصر أعطاهم بعضها. فاستعد الصليبيون لمهاجمة مصر وزحفوا إلى غزة، في حين كون الصالح إسماعيل حلفا من بعض الملوك الأيوبيين في شمال الشام وزحفوا جميعا إلى حلفائهم الفرنج عند غزة. أما الصالح نجم الدين أيوب فقد تقدم من مصر إلى غزة لمواجهة هذا الهجوم. ولما بين لعساكر الشام حقيقة الموقف تمردوا على قوادهم ومالوا على الفرنج مع الصالح أيوب فالتزم الفرنج وانسحبوا إلى عسقلان، وفاوضوا الصالح أيوب سنة 638 1240 م فاعترف لهم بحقهم في ملكية الشقيق ونهر الموجب أرنون وإقليم الجليل بالإضافة إلى القدس وبيت لحم ومجدل بابا وعسقلان. وهكذا فلم يكن الصالح أيوب خيرا من الصالح إسماعيل. وهنا تحالف الصالح إسماعيل مع الناصر داود واستنجدا من جديد بالصليبيين مقابل جعل سيطرتهم على القدس كاملة، بمعنى أن يستولي الصليبيون على الحرم الشريف بما فيه المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهي الأماكن التي طلت، ولو نظريا في حوزة المسلمين عند ما سلم الكامل ولأشرف القدس للصليبيين سنة 625 1228 م. وهنا تقدم الصالح أيوب إلى الصليبيين طالبا مساعدتهم مقابل الثمن نفسه
357 الذي عرضه منافساه. وبذلك يكون الملوك الأيوبيون الثلاثة: الصالح أيوب والصالح إسماعيل والناصر داود قد أقروا مبدأ استيلاء الصليبيين على الحرم الشريف على حد تعبير بعض المؤرخين. على أن الصليبيين اختاروا الوقوف إلى جانب الصالح إسماعيل صاحب دمشق لأنه أقرب إليهم من صابح مصر. وبالتالي فهو أكثر قدرة على التحكم في مصائرهم. فشرع الصالح إسماعيل في غزو مصر بمساعدة حليفيه الناصر داود صاحب الكرك والمنصور إبراهيم ملك حمص، مع الصليبيين، وتقرر أن تجتمع قوات الحلفاء جميعا عند غزة. فاستنجد الصالح أيوب بالخوارزمية (1) فأنجدوه بعشرة آلاف منهم ساروا من إقليم الجزيرة فمروا بدمشق، ثم استولوا على طبرية ونابلس ثم القدس سنة 642 1644 م فعادت القدس نهائيا إلى المسلمين. والعادل: أعاد للصليبيين سنة 1204 ما كان قد ورثه عن صلاح الدين من المواقع الساحلية، ما عدا الشقة المحصورة في اللاذقية. هذا هو الجهاد المتواصل الذي أكمله من جاءوا بعد صلاح الدين من ورثته. يقول هاشم الأيوبي عن مقالنا: أنه لا يحمل أية قيمة تاريخية أو علمية. ونقول له ولا فخر أن كل العلم وكل التاريخ في هذا المقال. ذلك أنه استند إلى مصادر كبرى ووقائع معينة، حدد مكانها وزمانها، ما لم يستطع معه الأيوبي أن ينكر شيئا منها، بل عمد إلى مثل هذه التهويشات التي يلجأ إليها العاجزون حين تفحمهم الحقائق الناصعة، فلا يرون غير الشتائم ملاذا يعوذون به... التهويشات التي لا تستطيع أن تجعل من الحق باطلا ومن الباطل حقا. ومن أطرف الطرائف وأضحك المضحكات أن دليل الأيوبي على أن المقال لا يحمل قيمة علمية أو تاريخية، هو أني صرحت باني عمدت إلى أول كتاب وقع عليه نظري فتناولته. نعم: أن أول كتاب وقع عليه نظري كان كتاب الأعلاق الخطيرة في امراء الشام والجزيرة لابن شداد، وحسب المقال ليكون حاملا للعلم والتاريخ أن يكون مستندا إلى ابن شداد صاحب الأعلاق الخطيرة. وقد عمدت الآن مرة ثانية إلى أول كتاب وقع عليه نظري فكان كتاب الكامل لابن الأثير فإذا بي اقرأ فيه ما يلي: كان المانع لصلاح الدين من غزو الفرنج الخوف من نور الدين، فإنه كان يعتقد أن نور الدين متى زال عن طريقه الفرنج أخذ البلاد منه فكان يحتمي بهم عليه ولا يؤثر استئصالهم، وكان نور الدين لا يرى إلا الجد في غزوهم بجهده وطاقته، فلما رأى إخلال صلاح الدين بالغزو وعلم غرضه تجهز بالمسير إليه، فاتاه أمر الله الذي لا يرد. ومع أن هذا الكلام واضح كل الوضوح، نحب أن نزيده لهاشم الأيوبي وضوحا فنقول: كان وضع مصر وبلاد الشام يومذاك يشبه الوضع الذي كانت عليه مصر وسورية أيام قيام الوحدة بينهما باسم الجمهورية العربية المتحدة. فكما أن كيان العدو اليهودي كان الفاصل بين سورية ومصر المتحدتين كان الكيان الصليبي يفصل بين مصر وبلاد الشام المتحدثين، والفرق بين الحالين: هو أن العاصمة أيام الصليبيين كانت دمشق، وأنها في أيام الصهاينة كانت القاهرة، فكان صلاح الدين معتبرا تابعا لنور الدين وواليا من ولاته. فقرر نور الدين استئصال الصليبيين بان يحصرهم بين جبهتين: جبهة مصر، وجبهة بلاد الشام، فيزحف هو من دمشق، ويزحف صلاح الدين من القاهرة فيضطر الصليبيون للقتال على جبهتين، لذلك أوعز إلى صلاح الدين أن يتقدم بالجيش المصري ليتقدم هو بالجيش الشامي، ولكن صلاح الدين رفض الامتثال لأوامر نور الدين، أي أنه أعلن إيقاف حال الحرب بين مصر والصليبيين والتاريخ كما يقال يعيد نفسه دائما. وابن الأثير كان واضحا في تبيان السبب الذي دعا صلاح الدين لاخراج مصر من الحرب مع الصليبيين، ذلك أن الاحتلال الصليبي لفلسطين كان يعطي صلاح الدين انفصالا كاملا عن المملكة المتحدة، وتبقى تبعيته لها اسمية فقط، فإذا زال الكيان الصليبي من فلسطين تم الاتصال بين بلاد الشام سورية وفلسطين ولبنان والأردن وبين مصر وتصبح مملكة واحدة يكون لصلاح الدين المكان الثاني فيها بعد نور الدين، بل يصبح مجرد حاكم لمصر تابع فعليا لا إسميا لنور الدين، وهذا ما لا يرضي مطامع صلاح الدين الشخصية، لذلك آثر التمرد على نور الدين وإخراج مصر من الحرب المأمولة لاستئصال الصليبيين. وغضب نور الدين لذلك، وصمم على التفرع لصلاح الدين أولا وتسليم حكم مصر لمن يعيد مصر إلى حال الحرب مع الصليبيين، ولما أعد عدته للزحف على مصر وإزاحة صلاح الدين فاجأه الموت. وكما ساء هاشم الأيوبي مبادرتنا في المرة الأولى إلى أول كتاب وقع عليه نظرنا في خزانة الكتب فكان كتاب الأعلاق الخطيرة، فسيسوءه ولا شك إن كان أول كتاب وقع عليه نظرنا هذه المرة هو كتاب الكامل لابن الأثير، فيقول عن قولنا المعتمد على كتاب الكامل أنه قول لا يحمل قيمة علمية أو تاريخية. ويوم يكون الكامل والأعلاق الخطيرة لا قيمة علمية أو تاريخية لهما، فإننا يسرنا أن نكون في زمرة ابن الأثير وابن شداد، وأن تكون لنا القيمة العلمية والتاريخية التي لهما. ونرجو أن لا يضطرنا هاشم الأيوبي لأن نخرج من خزانة الكتب أول كتاب يقع عليه نظرنا للمرة الثالثة فنريه ما هو أدهى وأمر. ورد مرة ثانية فأجبته بما يلي: لقد كنا نحسب أننا ناقش بحثا تاريخيا محضا أدلينا منه بأحاديث دونتها أمهات كتب التاريخ، وكنا نفترض أن نلقى من يناقش هذه الأحاديث فيدحضها أو يثبتها، فإذا بنا أمام بؤرة سفاهة تعجز عن رد الحجة بالحجة ولا تستطيع نقض ما أبرمنا وإنكار ما أوردنا فتلجأ إلى ما تفيض به من سفاهة. أما الدركة التي انحدر إليها في حديثه عن الأفاعي الشعوبية، فإننا أرفع رؤوسا وأكرم نفوسا وأشمخ أنوفا وأنصع صفحات وأروع وقفات من أن يصلى إلى كعوب أحذيتنا مثله من حشرات. أما تعريضاته الأخرى التي جمجمت بها كلماته وتلجلجت فلن تروعنا في شئ. وأما ما لجا إليه مما كان يلجأ إليه أمثاله في ماضي الأزمان من التهويل على المعتقدات ولمزها والتخويف بها، فإننا نقول له أنه ينسى أن الزمن تبدل وأننا نعيش الآن في أواخر القرن العشرين ويقصر معه لسانه عما كانت تطول به ألسنة الغابرين من سيئ القول وفحش الوصف وفظيع الشر. لقد حددنا الوقائع وعينا زمانها ومكانها وكان يستطيع هذا الرجل أن ينهي
(1) هم من نزحوا عن بلادهم (خوارزم) بعد غزو وجنكيز فنزلوا العراق وحدود سوريا. 358 الأمر كله بسطر واحد يقول فيه: أن ما تدعيه غير صحيح وأن صلاح الدين لم يسلم حيفا ويافا وقيسارية بل فلسطين كلها ما عدا القدس للصليبيين بعد أن استردها منهم. ولكنه لم يستطع أن ينكر ذلك وراح يهوش ويشتم ويحرض ويثير الضغائن ويملأ أعمدة الجريدة بكلام فارع. لم يكتب السطر الذي ينهي الأمر كما قلنا وأنى له أن يكتب هذا السطر وصحف التاريخ أمامه تصفعه وتصفع أمثاله. ثم عدنا نقول له كلاما نقلناه بنصه من كتاب الكامل لابن الأثير وفيه يقول حرفيا بان صلاح الدين كان يحتمي من نور الدين بالصليبيين. وكان يكفيه هنا أيضا أن يكتب سطرا واحدا، ولكن كيف يستطيع كتابة هذا السطر وصفعات التاريخ تنهال عليه صفعة وراء صفعة. لقد فر من كتابة هذا السطر ولجأ إلى عشرات السطور يتخبط بها ما شاء له التخبط ويحاول الوصول ولو إلى قشة يتمسك بها وهو يرى نفسه غريقا في بحر الضلال فلم يستطع أن يصل حتى إلى هذه القشة. لقد استرسل في هذيان لا يعنينا أن نلتفت إليه، ولكننا نريد أن ندل القارئ على ثلاثة أشياء نفرزها من ذلك الهذيان: 1 لقد عدد هذا الرجل المدن والقرى التي دخلتها القوى الاسلامية بقيادة صلاح الدين. لقد عددها كأننا ننكر ذلك، مع أننا قلناه ونقوله ونكرر الآن قوله. ولكن هل كان هذا موضوع كلامنا، أن ما جرى من دخول تلك المدن هو نتيجة حتمية للنصر في معركة حطين وهو جزء من تلك المعركة. نحن لم نعرض له بشئ. ولكننا عرضنا لما جرى بعده وقلنا بملء الفم قولا واضحا صريحا. أن أعمال صلاح الدين بعد هذا الذي جرى قد أبطلت نتائج كل ما جرى. لم يخجل من أن يذكر فيما عدده من المدن والقرى أسماء حيفا وقيسارية والرملة، وهي من البلدان التي ذكرنا أن صلاح الدين أعادها للصليبيين. 2 يقول هذا الرجل ما نصه بالحرف: كما يبدو وفاء صلاح الدين لنور الدين عميقا بعد وفاة نور الدين. ونقول له: أن هذا الوفاء تجلى كل التجلي في المعاملة التي عامل بها صلاح الدين ابن ولي نعمته نور الدين. لقد كان هذا مقيما في حلب وكان على صغر سنه محاطا برعاية الحلبيين لاعتباره ملكهم المقبل وفاء لنور الدين فكان أول ما فعله صلاح الدين أن قصد إلى حلب ليقضي عليه. ونترك الكلام هنا لابن الأثير: لما ملك صلاح الدين حماه سار إلى حلب فحصرها ثالث جمادى الآخرة فقاتله أهلها وركب الملك الصالح ابن نور الدين وهو صبي وعمره اثنتا عشرة سنة وجمع أهل الحلب وقال لهم: قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم وأنا يتيمكم وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله تعالى ولا الخلق، وقال من هذا كثيرا وبكى وأبكى الناس فبذلوا له الأموال والأنفس واتفقوا على القتال دونه والمنع عن بلده إلى آخر ما قال ابن الأثير. هذا هو وفاء صلاح الدين لنور الدين: في حياته، يحتمي منه بالصليبيين و بعد موته يحاول القضاء على ولده ذي الاثنتي عشرة سنة. ليس ما يحركنا إلى كتابة ما نكتب هو ما يريد أن يوهم القراء به استدرارا لعطفهم واستثارة للشرور. بل أن الذي يحركنا هو الحقيقة وحدها. تدخل شخص آخر وتدخل شخص آخر فرد على ردي، فرددت عليه بما يلي: : الصديق المتواري وراء طلال المنجد نبعث له قبل البدء بمناقشة أقواله بتحية صداقة عاطرة، ونقول له: أن تسمية رأي تاريخي برجل تاريخي تحاملا هو التحامل الذي ما بعده تحامل. إننا نطرح قضية تاريخية محضة وعلى من لا يرى رأينا أن يدحض هذا الرأي بالحجة لا بترديد ألفاظ التحامل وأمثال التحامل، مما هو سلاح العاجزين. ولماذا يعتبر نقد صلاح الدين من الأمور المألوفة في بعض الكتابات انطلاقا من دوافع وخلفيات وغايات ولا يكون التحمس لطمس الحقائق التاريخية الواضحة التي تلتصق بشخص صلاح الدين من الأمور المألوفة في كل الكتابات لا في بعضها انطلاقا من دوافع وخلفيات وغايات. وإذا كان الصديق المتواري يدعو إلى الدقة والرصانة والعلمية والموضوعية في الأبحاث التاريخية، فإننا نقول له: لقد كنا فيما كتبناه في أعلى درجات الدقة والرصانة والعلمية والموضوعية لأننا لم نختلق شيئا ولأننا اعتمدنا على مؤرخين هم وحدهم المصدر الأساس لكل من يكتب في التاريخ وفيهم من هو ألصق الناس بصلاح الدين ومن عاشوا في نعمه وكانوا من موظفيه المنافحين عنه. ويروع الكاتب المتواري عن هذه الحقيقة ويدور ويلف ثم لا يستطيع إلا أن يعترف بها، ولكنه يحاول تغليف اعترافه بقوله عن بهاء الدين ابن شداد: سيرة صلاح الدين التي وضعها ابن شداد ابتداء من 1188 عام التحق ابن شداد بصلاح الدين كقاض للجيش الأيوبي. وقبل ذلك العام كان بهاء الدين ملازما الموصل ولم يكن يستطيع الرواية إلا بطريقة غير مباشرة وغالبا ما أثبتت الدراسات المقارنة وقوعه في أخطاء التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني، إلى آخر ما قال من مثل هذا اللف والدوران. ونقول له: أن الوقائع التي لم يستطع ابن شداد إلا أن يذكرها كانت وهو صفي لصلاح الدين، وكذلك لا ينطبق عليها قولك: وغالبا ما أثبتت الدراسات المقارنة وقوعه في أخطاء التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني. فهو عند ما يقول مثلا عن تسليم صلاح الدين مدينة حيفا للصليبيين: لم تزل في أيدي الفرنج إلى أن فتحها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة ثلاث وثمانين فلم تزل في يده إلى أن نزل عنها للفرنج فيما نزل عنه لهم في المهادنة التي وقعت بينه وبينهم وذلك سنة ثمان وثمانين وخمس مائة، ولم تزل بعد في أيديهم. وعند ما يقول عن تسليمه مدينة يافا: وشرطوا الصليبيون عليه ابقاءها في أيديهم. عند ما يقول ابن شداد هذه الأقوال الواضحة الصريحة الدالة على أن الموقف كان هوانا في هوان واستسلاما في استسلام، وأن الصليبيين كانوا يشترطون وصلاح الدين يخضع لشروطهم. عند ما يقول ذلك لم يقله وهو في الموصل، لم يقله وهو بعيد عن الأحداث، بل كان في صميمها، ولم يروه بطريقة غير مباشرة، بل بطريقة مباشرة، طريقة شاهد العيان. وليس في هذا القول وقوع في أخطاء التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني. وما شان التفصيلات الوثائقية والتسلسل الزمني في تسليم حيفا ويافا للصليبيين والنزول على شروطهم؟ وأي تفصيلات وأي وثائق وأي تسلسل زمني في أمرتم في غاية البساطة والسهولة؟ وهو أمر باد ظاهر يراه كل الناس، ولا يستطيع ابن شداد تجاهله وتاليا لا تستطيع أنت إنكاره، ولكن يصعب عليك الاعتراف به فرحت تدور وتلف، ثم تدور وتلف ولكن بلا جدوى.
359 ويقول عني: إنني لا أبالي أن أقع فيما وقع فيه من قبل المؤرخ ابن الأثير في تحامله على صلاح الدين. إلى آخر ما قال من مثل اتهامه لابن الأثير بتبديله للوقائع وتحريفه للتواريخ وتغليبه للأهواء والغايات. ثم يقول عني: إنني أعلنت على رؤوس الأرماح انتسابي إلى زمرة ابن الأثير مهما تكن القيمة العلمية والتاريخية له. أجل يا صديقي إنني لا أبالي بان أقع فيما وقع فيه ابن الأثير، وأنه ليشرفني أن انتسب إلى زمرة ابن الأثير، وإنني لعالم بقيمته العلمية والتاريخية. أن ابن الأثير هو إحدى الصخرتين اللتين يقوم عليهما التاريخ الاسلامي: الطبري أولا وابن الأثير ثانيا، وإذا كانت أقوال ابن الأثير لا توافق أهواءك، ولا تؤيد ما لديك من دوافع وخلفيات وغايات فإنك لن تستطيع أن تحطم الصخرة بكلمة جوفاء تنشرها على صفحات الجريدة، وقد جرب ذلك قبلك الوعل فأدمى قرنيه ولم يضر الصخرة. وأنك تصر دائما على أن كل من يخالف آراءك هو متحامل فابن الأثير متحامل وابن شداد متحامل وحسن الأمين متحامل، وعلى هذا المنوال لن تستطيع احصاء المتحاملين. أنك تتهم ابن الأثير بالباطل، فابن الأثير يثني على صلاح الدين فيما يوجب الثناء، ولم يقل كلمة واحدة تمس صلاح الدين. ولكنه وهو المؤرخ الثقة الأمين لا يستطيع أن لا يذكر في كتابه رفض صلاح الدين أن يفتح جبهة قتال للصليبيين تبدأ من حدود مصر بينما يفتح نور الدين جبهة تبدأ من حدود بلاد الشام، ولا أن لا يسجل احتماء صلاح الدين من نور الدين بالصليبيين وتفضيله الاحتلال الصليبي على أن يكون تابعا لنور الدين. وطبيعي أن لا يستطيع ذلك وهو مؤرخ العصر المفروض فيه تسجيل كل وقائعه، وضاقت بك الدنيا لهذه الحقائق المرة فلم تجد للخروج من مأزقك سوى الشتيمة وسوى سب ابن الأثير ثم سب ابن شداد. وليس ابن الأثير وحده الذي ذكر ذلك، بل ذكره كل المؤرخين ومنهم صنيعة صلاح الدين وعميله أبو شامة، فهل هو الآخر له ضغينة على صلاح الدين ومتحامل عليه؟ ولن ننقل هنا أقواله لأنها لا تختلف كثيرا عن أقوال ابن الأثير، بل سننقل أقوال مؤرخ آخر هو ابن العديم، قال ابن العديم: سار الملك الناصر صلاح الدين من مصر غازيا فنازل حصن الشوبك وحصره، فطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام، فلما سمع نور الدين بذلك سار عن دمشق فدخل بلاد الإفرنج من الجهة الأخرى، فقيل للملك الناصر صلاح الدين: أن دخل نور الدين من جانب وأنت من هذا الجانب ملك بلاد الإفرنج، فلا يبقى لك معه بديار مصر مقام، وإن جاء وأنت ها هنا فلا بد من الاجتماع به ويبقى هو المتحكم فيك بما يشاء، والمصلحة الرجوع إلى مصر فرحل عن الشوبك إلى مصر. إذن فقد بدت طلائع النصر وقرر صليبيو الشوبك التسليم، واقتحم نور الدين الحدود من الجهة الأخرى وانحصر الصليبيون بين الجبهتين. وفجأة ينسحب صلاح الدين من المعركة ويعود إلى مصر، فيضطر نور الدين للانسحاب وتضيع الفرصة العظيمة، ولماذا؟ لأن صلاح الدين يرفض أن يحكم البلاد نور الدين ويفضل تركها بيد الصليبيين على أن يحكمها نور الدين وهو تابع له. هذا يا صديقي العزيز بعض ما أنكرناه على صلاح الدين، ولم نكن نحب لك أن تقف مدافعا عن هذا الموقف انطلاقا من دوافع وخلفيات وغايات، وأن يصل بك الأمر إلى النيل من المؤرخ العظيم ابن الأثير لأنه لا ينطلق من الدوافع والخلفيات والغايات التي تنطلق منها أنت وأمثالك. ويوم تحاول، عبثا، تحطيم سمعة ابن الأثير فهل تظن أنه سيبقى حرمة للتاريخ الاسلامي؟ وها أنت ترى أن ليس ابن الأثير وحده هو الذي يروي ذلك، فهل كل هؤلاء المؤرخين مفترون مزورون، لأنهم لا ينطلقون مما تنطلق منه أنت و أمثالك؟ نقول نحن قال ابن الأثير، فيرد علينا: قال هاملتون جب لا يا صديقي العزيز، أن تاريخنا لا نأخذه من المستشرق الانكليزي هاملتون جب، إننا نأخذه من ابن الأثير وابن شداد وابن العديم وأمثالهم ولن تبلغ بنا الضعة أن تدع للانكليز أن يدونوا تاريخنا، ولن يكونوا هم مصدر هذا التاريخ. إننا نحن الذين نسجل تاريخنا، ولن يكون مصدرنا ما يكتبه هاملتون جب، بل ما هو مدون في الكامل. والأعلاق الخطيرة وأمثالهما. وإذا كنت اليوم تعتمد في التاريخ الاسلامي هاملتون جب، فقد اعتمدته قبل اليوم في العقائد الاسلامية، ولعلك لم تنس ذلك. ونحن لم نقول ابن الأثير ما لم يقله كما تزعم، بل نقلنا قوله بنصه، ولم نطرح احتمالات غامضة وملتبسة كما تدعي، بل طرحنا حقائق واضحة صريحة لا غموض فيها ولا التباس، ولا تستطيع أن تغطي السماوات بالقبوات، بارسال جمل متكلفة لا محصل لها، فالقبوات أضيق من أن تتسع لتغطية السماوات. وما قلناه لم يكن اجتهادا كما تقول، بل كان نصوصا وأي نصوص، نصوصا أنت أعجز من أن تقف لها. وقد بان عجزك. وما شان الظاهر بيبرس في موضوعنا لتحاول أن تتغطى به، أما قولك: أن الواقع يكذب الاحتمال وإلا لاستمرت ممالك الصليبيين حتى يومنا، فنرد عليه بأننا لم نحتمل احتمالا بل قررنا واقعا، والذين أزالوا ممالك الصليبيين ولم تبق بسببهم حتى اليوم ليسوا صلاح الدين وورثة صلاح الدين. ونحن لم نقل أن الحرب لم تقم بعد زوال صلاح الدين وورثته، بل قلنا وسنظل نقول: أن صلاح الدين أعاد للصليبيين ما استرده منهم، أعاد لهم فلسطين عدا القدس، وأدت تصرفاته الشخصية لأن يعيد القدس نفسها للصليبيين أولاد أخيه، وأنه هو نفسه عقد الصلح مع الصليبيين وأنهى معهم حالة الحرب وما يستتبع ذلك من اعتراف بوجودهم وسلطتهم وأنه بعد معركة حطين وبعد هذا الاستسلام لم يشرع صلاح الدين ولا ورثته رمحا ولا جردوا سيفا ولا أطلقوا سهما على الصليبيين وأن الأمر عاد هوانا في هوان. وأنك في كل ما درت به ولففت، وفي كل ما نمقته من عبارات وزخرفته من كلمات، ولوحت من تهويلات، لم تستطع أن تنفي حرفا واحدا مما قررنا، وكل ما فعلته أنك سببت ابن الأثير وألحقت به في السب ابن شداد صديق صلاح الدين، وصديق صديقك هو صديقك كما يقولون وهكذا حملك التخبط على أن تتناول بالسباب أصدقاءك وأعداءك على السواء. ويؤسفنا يا صديقنا العزيز أننا كنا السبب في إيصالك إلى هذه النتيجة المؤلمة المخزية. أن الحرب لم تقم على الصليبيين بعد الاستسلام لهم وإضاعة ثمرات معركة حطين إلا بزوال صلاح الدين وورثته وانقراضهم، والتهويل بالألفاظ المنمقة والجمل المزخرفة مثل قولك: لقد أصر السيد الأمين على رؤية حقائق
360 صلاح الدين مقلوبة مثل عملية البصر المعكوسة وغير المتصلة بعصب تصحيح البصر فالتوحيد عنده تقسيم والانتصار استسلام. إلى آخر ما قلت من مثل هذا الكلام الفارع. أن التهويل بمثل هذه الجمل ونقل الأمر من علم التاريخ إلى علم البصريات لا يستطيعان أن يطمسا الحقائق. نعم، لقد قسم صلاح الدين الوطن بتوزيعه على الإخوة والأولاد وتحويله إلى دويلات متناحرة متقاتلة تستسلم في النهاية للأعداء وتسلمهم حتى القدس. والانتصار عاد استسلاما بالخضوع لشروط الصليبيين وإعادة فلسطين إليهم. هذا القول قاله كل مؤرخي ذاك الزمن، وكل ما عملناه نحن أن نقلنا أقوالهم بنصها، فان كان لك من كلام فلتوجهه إلى أولئك المؤرخين لا إلينا. عليك أن تكذب ابن الأثير وابن شداد وأبا شامة وابن العديم وأضرابهم، ولا شغل لك معنا ولا كلام لك ولا لغيرك لدينا. ولكن من العيب أن يكون جزاؤهم على تسجيل الحقائق سبك لهم، وأننا لنعتذر لهم في قبورهم لأننا كنا سبب هذا السب، ومما سيدعوهم لقبول عذرنا أننا نالنا نصيب من هذا السب لأننا نقلنا حقائقهم للناس كافة، وفي سبيل حمل الحقيقة ونقلها يهون كل شئ. أما حديثك عن دائرة المعارف فانا كنا نحب لك حفاظا عليك أن لا تذكره، أن دائرة المعارف ينطبق اسمها على مسماها تماما، وهي تصحح أغلاط المستشرقين مما لم يصححه المترجمون المصريون. وأما قولك: يا حبذا لو يبدأ السيد حسن الأمين بتصحيح أغلاطه المتعمدة وغير المتعمدة، فهو قول نترفع عن الرد عليه. هذا هو سلاحكم حين تواجهون بالحقائق: السباب والشتائم. وكل ما نقوله لك في هذا الموضوع: إننا لا نلومك فان الزمن قد أضعف ذاكرتك فأنساك أنك كنت في أول المرحبين بدائرة المعارف هذه يوم صدور طبعتها الأولى، وأنك كنت تطلب المجموعة بعد المجموعة لتتاجر بها، وأنك لم تجد فيها أية أغلاط ولا كان لك أية ملاحظات، بل كنت تقابلها بالقبول والاستحسان والتشجيع وترى ضرورة وجودها. لقد طال الزمن فأضعف ذاكرتك، فلم تعد تذكر شيئا من هذا، وكل ما بقي لديك: دوافع وخلفيات وغايات انطلقت منها هذا الانطلاق غير الموفق. أما ما ختمت به مقالك من قولك: يخشى المرء في تحامل السيد حسن الأمين على صلاح الدين أن يكون الدافع إليه هو الغيظ من شئ ما، من حقيقة تاريخية لتلك الحقبة من الزمن المضئ ومؤداها أن شرف القدس أبى ألا أن تحرر على يدي صلاح الدين وأن القضاء نهائيا على الصليبيين أبى أن يتحقق إلا على أيدي خلفائه الصالحين. فنجيبك: أن شرف استرداد القدس قد محاه خزي عقد الصلح مع الصليبيين والتصرفات التي أدت إلى إعادتها للصليبيين. وأن خلفاء صلاح الدين لم يكونوا صالحين لأنهم سلموا للصليبيين ما لم يسلمه لهم صلاح الدين، وإذا كان صلاح الدين قد سلم فلسطين كلها للصليبيين، فان خلفاءه سلموا مع القدس ما كان قد بقي في أيديهم مما هو داخل اليوم فيما سمي بالجمهورية اللبنانية. وأن القضاء نهائيا على الصليبيين لم يتحقق على أيدي خلفائه، بل تحقق على أيدي من جاءوا بعدهم، على يد الظاهر بيبرس ويد قلاوون وابنه خليل. على أيدي هؤلاء تم القضاء نهائيا على الصليبيين، وهم الذين غسلوا العار الذي جلل العرب والمسلمين بعقد الصلح مع الصليبيين والاعتراف بسلطتهم وتسليمهم فلسطين وإعادة القدس إليهم على يد الأيوبيين ابتداء من صلاح الدين وانتهاء بخلفائه الذين جاءوا بعده. الخراسانية والمتشيعة. صدر للدكتور حسن منيمنة كتاب الدولة البويهية فعلق عليه الدكتور وضاح شرارة في جريدة النهار، فقرأت التعليق، ولم يصل إلي الكتاب فتناولت التعليق بالكلمة التالية: يقول الدكتور منيمنة فيما يقول: فغلب المأمون على الحكم والخلافة عن طريق الخراسانية الذين امتدت أيديهم إلى الأعمال والدواوين والولايات والجند فحوروها وأخذوها وتوارثوها. من هم الخراسانية الذين تردد ذكرهم كثيرا في الثورة العباسية وظل يتردد حتى وصل إلى الدكتور حسن منيمنة؟ وطبيعي أن الدكتور منيمنة إنما يقصد بهم ما قصده غيره أنهم الفرس. وبهذا التفسير لهم وصفت الثورة العباسية بأنها ثورة الفرس على الحكم العربي، حتى أن كاتبا مصريا لم يتورع عن القول بان معركة الزاب الحاسمة كانت ردا على معركة القادسية الحاسمة، وذلك لمجرد كون قسم من الجيش الذي حسم الأمر على ضفة نهر الزاب لمصلحة العباسيين كان قادما من خراسان. ونحن نقول أن القوى التي زحفت من خراسان كانت قوى عربية بقيادة عربية على رأسها قحطبة بن شبيب الطائي (1) يعاونه القادة العرب: أبو عون عبد الملك بن يزيد الأزدي ومقاتل بن حكيم العكي، وخازم بن خزيمة، والمنذر بن عبد الرحمان، وعثمان بن نهيك، وجهور بن مراد العجلي، وعبد الله بن عثمان الطائي وسلمة بن محمد وأبو غانم عبد الحميد بن ربعي، وأبو حميد، وأبو الجهم، وعامر بن إسماعيل. وألحق بهم واحد فقط من أصل فارسي هو خالد بن برمك. ولما مات قحطبة قبل الوصول إلى الزاب عين مكانه في القيادة العامة ابنه الحسن بن قحطبة. هذا في الجيش الزاحف من خراسان، أما في القوى التي أرسلت إلى انجاده من الكوفة فكانت على دفعات يقودها في دفعاتها المتتابعة: عيينة بن موسى، والمنهال بن فتان، وإسحاق بن طلحة، وسلمة بن محمد، وعبد الله الطائي ثم أصبح القائد العام للقوى سواء منها القادم من خراسان أم المتجه من الكوفة، عبد الله بن علي العباسي. فما شان الثار من معركة القادسية بين جيشين عربيين يقود أحدهما قائد قرشي هو مروان بن محمد ويقود الثاني قائد قرشي آخر هو عبد الله بن علي؟ وبذلك نرد على من يتساءل: هل المقصود بكلمة الخراسانية الواردة في كتب الأقدمين هو الفرس؟ نرد عليه: كلا. أن المقصود بها هو القبائل العربية المقيمة بخراسان، وحين يقال في كتب الأقدمين: أهل خراسان، فإنما يراد بهم أصحاب خراسان من العرب، ودليلنا على ذلك: خطب الولاة والأمراء وأقوال المؤرخين: فمن خطب الولاة خطبة نصر بن سيار التي يقول فيها: يا أهل خراسان أنكم غمطتم الجماعة وركنتم إلى الفرقة، السلطان المجهول تريدون وتنظرون؟ أن فيه لهلاككم معشر العرب. وعند ما استخلف يزيد بن المهلب ابنه مخلد على جرجان أوصاه بسكانها العرب من اليمن وربيعة وقيس. وصاحب كتاب الإمامة والسياسة يقول في إحدى المناسبات متحدثا عن
(1) كان قحطبة يقارن بابي مسلم. 361 الجيش: بان تعداده كان 12 ألفا من أهل خراسان سوى الأعاجم. ولن نكثر من الاستشهاد، بل نحيل القارئ للدلالة على عروبة زعماء خراسان على تاريخ الطبري وتاريخ اليعقوبي ومروج الذهب للمسعودي والكامل لابن الأثير. وعن القبائل العربية الخراسانية من تميم وربيعة واليمن على كتاب الوزراء للجهشياري، وعن احياء العرب في خراسان على كلمة لقتيبة بن مسلم في البيان والتبيين. وعن بني تميم في خراسان على كلمة خاطب بها الأحنف بن قيس قبيلته في البيان والتبيين نفسه. وعن ظعائن العرب تخرج من مرو إلى سمرقند بدون جواز على خطبة لقتيبة بن مسلم في العقد الفريد... إلى غير ذلك. لقد كان العرب وقد نزلت قبائلهم في خراسان ينسبون إلى المدن المقيمين فيها، فهذا الكرماني وهو من أشهر رؤساء خراسان في أواخر عصر بني أمية منسوب إلى مدينة كرمان الخراسانية، وهو جديد بن علي شيخ قبائل الأزد وقد كان يقال له شيخ خراسان وفارسها وهو العربي القح الأصيل. وهذا أبو الفرج الأصفهاني ينسب إلى أصفهان وهو العربي الأموي النسب. وترى في كتاب فتوح البلدان للبلاذري ذكرا لخطط العرب ومنازلهم في خراسان وغير خراسان. وكثير من المؤرخين العرب يقولون عن فلان عربي خراساني، وأكثر ما ورد ذلك في رسالة الجاحظ المسماة مناقب الأتراك (1). وهذا أبو مسلم يخاطب العرب الخراسانيين قائلا: أمرني الامام إبراهيم أن انزل في أهل اليمن وأتألف ربيعة ولا أدع نصيبي من صالحي مضر. وهذا الإمام محمد العباسي يوصي رسوله قائلا: فإذا قدمت مرو فاحلل في اليمن وتألف ربيعة وتوق مضر وخذ نصيبك من ثقاتهم. وقد حاول نصر بن سيار أن يفرق بين العرب من أنصار العباسيين فأشار إلى أحد قواده قائلا: ما أهون هؤلاء إن كفت عنهم اليمن وربيعة. وعند ما يتحدث المنصور بعد قيام الدولة العباسية يؤكد أن اليمانيين كانوا عماد الثورة فيقول عنهم: فيحق لنا أن نعرف لهم حق نصرهم لنا وقيامهم بدعوتنا ونهوضهم بدولتنا. إذن فالخراسانية في أقوال المؤرخين وغير المؤرخين لا تعني الفرس، بل تعني في الأصل سكان خراسان من العرب. أما القول بان هؤلاء الخراسانية امتدت أيديهم إلى الأعمال والدواوين والولايات والجند فحوروها وأخذوها وتوارثوها، فقول يحتاج إلى إيضاح وتفسير. فنحن نريد أن نفهم ما المقصود بالتحوير والأخذ، وما الذي جرى في عهد المأمون مما لم يجر مثله في عهد الرشيد مثلا؟ أما عن التوريث للولايات فان كان المقصود ما جرى من الطاهريين فانا نقول بان ذلك لم يكن المسؤول عنه لا المأمون ولا الخراسانية. فان الرشيد ولي إبراهيم بن الأغلب على تونس على أن تكون الولاية مستمرة في عقبه، في حين أن المأمون ولي طاهرا بن الحسين كما يولي كل الولاة ولم يقطعه وأسرته خراسان، كما اقطع الرشيد ابن الأغلب تونس وإذا كانت الأمور قد تطورت بعد ذلك إلى ما تطورت إليه فذلك كان حكم التاريخ وإطراد سير الزمان. ويقول الدكتور حسن منيمنة فيما يقول: فانقلب البدو مادة لكل الحركات الغالية من خارجية وقرمطية وزنجية ومتشيعة. ولقد كنا نحب للدكتور منيمنة أن لا يغرق فيما غرق فيه بعض الناس في العصور المظلمة، بل حتى في هذا العصر، فيحشر من سماهم بالمتشيعة مع من ذكرهم وسماهم بالحركات الغالية ونسبهم إلى البدو. أن من سماهم متشيعة لم يكونوا بدوا وليسوا من الحركات الغالية، وليسوا من صنف من ذكرهم معهم. ويقول الدكتور منيمنة: وتوسل بعضها الآخر إلى الغرض نفسه بتنصيب دعاة علويين طالبيين بلورت دعواتهم حركات محلية وبرزت صبغتها المحلية في أفكارها وفقهها وفي طاقمها الحاكم من قادة حرب وقضاة وكتاب وعمال دواوين. فاستتب الأمر لعبيد الله المهدي في إفريقيا وللحسن بن زيد في طبرستان. ما دام الدكتور منيمنة قد خص بالذكر من سماه عبيد الله المهدي (2) والحسن بن زيد، فإننا لنستغرب كل الاستغراب أن يقول أن هناك من توسلوا لتنصيبهما، أن أحدا لم يتوسل لتنصيب واحد من هذين الاثنين، ولم يكن واحد منهما ألعوبة لأحد، بل أن كلا منهما كان هو صاحب دعوة صريحة سليمة نجحت على يد صاحبها وكان فيها كل الخير للعرب وللمسلمين. أما أن الدعاة العلويين الطالبيين قد تبلورت دعواتهم بحركات محلية وأن تلك الحركات برزت صبغتها المحلية في أفكارها وفقهها إلى آخر ما ذكر فما دام قده خص بالذكر عبد الله المهدي والحسن بن زيد فان المقصود بكل ذلك هذين الاثنين. من المؤلم أن يذكر الدكتور منيمنة قيام الدولة الفاطمية، وقيام دولة الحسن بن زيد في طبرستان بمثل هذه الخفة وبمثل هذا الازراء والتمييع. لقد كان قيام الدولة الفاطمية حدثا ضخما في العالم الاسلامي استطاعت معه تلك الدولة أن تنهض بذلك العالم وأن تجمع شتاته المتمزق في بقاع من أخطر بقاعه، وأن تقف سدا منيعا في وجه الخطر الداهم الذي كان يهدده من الروم والإفرنج. وكان شمال إفريقيا هو المنطقة المعرضة أكثر من غيرها لذلك الخطر، وكانت متمزقة مقسومة إلى أربع دويلات هي: الأدارسة، والأغالبة، وبنو مدرار، والرستميون. فاستطاع الفاطميون أن يوحدوا ذلك الشتات وأن يجعلوا منه دولة واحدة متماسكة ضمت إلى تونس كلا من المغرب الأوسط الجزائر والمغرب الأقصى المملكة المغربية والمغرب الأدنى ليبيا، فتحقق يومذاك ما لا يزال العرب عاجزين عنه مما يسمونه وحدة المغرب العربي. ثم خطوا الخطوة الثانية فضموا إلى هذه الوحدة القطر العربي الأكبر مصر، ثم بلاد الشام سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، ثم الجزيرة العربية، ولم يبق خارجا عنها إلا العراق. وتحقق لأول مرة في التاريخ بعد التشتت والتمزق والانفصال قيام الوحدة العربية ودولتها الكبرى التي استمرت ما يزيد على القرنين ونصف القرن. ثم عجز العرب بعد زوال الدولة الفاطمية عن أن يحققوا مثل هذه
(1) يذكرني هذا بما كان يقوله بعض الفرنسيين الذين لقيتهم مرة مصادفة في باريس: (أنا فرنسي جزائري). (2) أن اسمه الحقيقي عبد الله لا عبيد الله كما هو الشائع - ورب شائع لا أصل له - فاتباعه الذين هم أعرف الناس بحقيقة اسمه يفكرون تستميته عبيد الله. كما تبين من نقوش الدراهم والدنانير والصنوج والأوزان المحفوظة في متحف القيروان أن اسمه عبد الله لا عبيد الله. 362 الوحدة، ولا يزالون عاجزين. وينبه المؤرخان المصريان الدكتور حسن إبراهيم حسن والدكتور طه أحمد شرف في كتابهما المعز لدين الله إلى أمر مهم جدا، وهو: أن الفاطميين رفضوا أن يقيموا دولتهم في غير البلاد العربية ولم يفكروا في إقامة دولتهم المنشودة في غيرها برغم كثرة أشياعهم فيها وإنما عولوا على إقامتها في اليمن ولما استحال عليهم ذلك قصدوا المغرب فأقاموا دولتهم فيه. ولسنا الآن في صدد تاريخ للدولة الفاطمية، وإنما نكتفي بالقول: أنهم بهذه الوحدة العربية الكبرى التي أقاموها استطاعوا التصدي للبيزنطيين في البر والبحر وردهم أولا عن شمال إفريقيا، ثم عن بلاد الشام وإحباط محاولتهم المتكررة للوصول إلى القدس مما ليس هنا مكان تفصيله. ودولة بمثل هذا الشأن الخطير لا يصح لمؤرخ أن يذكرها كما قلنا بمثل هذه الخفة والازراء والتمييع. ودولة طبرستان الطالبية العلوية الزيدية إذا لم يكن لها من الشأن ما كان للدولة الفاطمية فقد كان لها شان أي شان في ميدان عظيم، هو ميدان تعميم الاسلام في منطقة طبرستان (1). وبرغم وصول الفتح الاسلامي إليها ما قبل السنة الثانية والعشرين للهجرة إذ يستفاد مما ذكره الطبري واليعقوبي والبلاذري أنها في هذه السنة كانت تابعة للحكم الاسلامي، فليس ما يدل على استقرار المسلمين فيها، ولم يكن الأمر يعدو غارات تشن عليها، وظلت خاضعة عمليا لملوكها الذين كانوا ما بين مزدكي وزرداشي وعابد نار. وفي سنة 250 هجرية استطاع الحسن بن زيد من أحفاد الحسن بن علي الملقب بالداعي الكبير أو الداعي الأول أن يستولي على طبرستان وذلك في خلافة المستعين العباسي وأن يقيم فيها دولة امتدت حوالي مائتي سنة كان من أكبر منجزاتها أنها أحالت تلك البلاد بلادا إسلامية خالصة. أما القول عن هاتين الدولتين وعن رجالهما العلويين الطالبيين بأنهم بلورت دعواتهم حركات محلية وبرزت صبغتها المحلية في أفكارها وفقهها وفي طاقمها الحاكم من قادة حرب وقضاة وكتاب وعمال دواوين، فهو قول كنت إربا بالدكتور حسن منيمنة أن يقوله، فالعلويون الطالبيون في طبرستان هم الذين بلوروا طبرستان إسلاميا، وليست هي التي بلورت دعواتهم، وهم الذين صبغوها بصبغتهم الاسلامية وليست هي التي صبغتهم بصبغتها المحلية. وأكثر من ذلك، فقد غدت طبرستان بفضلهم مهبط العلماء ومقصد الشعراء تتجاوب في أنديتها أصداء الشعر العربي الأصيل كأي أندية عربية في العالم العربي. وقصة الشاعر الأعمى أبي مقاتل، قصة مشهورة في كتب التاريخ السياسي والأدبي، وذلك أنه أنشد الداعي قصيدة مطلعها: لا تقل بشرى ولكن بشريان * غرة الداعي ويوم المهرجان فقال له الداعي: أن الشعراء لا يبدأون الشعر بحرف النفي لا لئلا يتشاءم المستمع، ألم يكن الأحسن أن تقرأ هذا البيت بتقديم عجزه على صدره فتقول: غرة الداعي ويوم المهرجان * لا تقل بشرى ولكن بشريان فقال أبو مقاتل: كلا يا مولاي، فان أحسن ما يذكر به الله يبتدئ ب لا وهي كلمة لا إله إلا الله. فقال الحسن: أحسنت، فأنت في هذا الأمر أكثر معرفة مني. وقد حفل تاريخ طبرستان في تلك العهود بعدد كبير من اعلام الفقه واللغة والأدب لا يتسع المجال الآن للإشارة إلى بعضهم. أما عن الدولة الفاطمية فيكفي أن أنقل جملة واحدة لمؤرخ مصري هو الدكتور محمد كامل حسين، وهي قوله: فالقاهرة الفاطمية أصبحت مطمح أنظار العلماء ومحط رحال الطلاب وفي العصر الفاطمي استطاعت مصر أن تنتزع زعامة العالم الاسلامي في الحياة العلمية. ومن أعجب العجب حشر الدكتور منيمنة الفقه مع ما حشره من الشؤون التي أدعى اصطباغها بالصباغ المحلي. وتلك زلة أنا على يقين بان الدكتور الحصيف سيحاسب نفسه عليها. أما قادة الحرب والقضاة والكتاب وعمال الدواوين فليت المجال يتسع لنعدد له منهم ما ينفي قوله. ويقول الدكتور منيمنة عن الحكام الشيعة في ذلك العصر كالحمدانيين والبويهيين: ولم يحمل التشيع هؤلاء المتشيعين على استخلاف أحد أهل البيت. ثم يعلل ذلك بالتعليل المنسوب إلى أحد الذين استشاره أحد الحكام في هذا الشأن. والذي يعرف حقيقة العقيدة الشيعية في أمر الخلافة يدرك أن تلك القصة منحولة وأن تبني الدكتور منيمنة لها في غير محله. فالشيعة لم يعد لهم بعد السنة 260 هجرية مرشح للخلافة، وأصبحوا لا يهتمون بمن يتولاها، وسيان عندهم أن تولاها أحد ممن يتصلون بالنسب بال البيت أو لا. فإذا كان الحكام الذين ذكرهم لم يولوا الخلافة أحد ممن ينحدرون من آل البيت فليس ذلك للسبب الذي ذكره ونقله عن غيره، بل لأنه ليس في مذهبهم ما يحملهم على ذلك. على أنه هو نفسه يذكر ذلك بعد قليل ويؤكده دون أن ينتبه للتناقض بين القولين. ويستهين الدكتور منيمنة بعقيدة البويهيين ويرى أن اختيارهم لما اختاروه كان لمنافع دنيوية بحتة فيقول: واختاروا الامامية من فرق الشيعة لأن الزيدية تلزم أصحابها بتأمير واحد من أهل البيت ولا تقبل بغير ذلك. بهذا القول يؤيد ما قلناه أنه ليس في مذهب البويهيين ما يوجب عليهم تأمير واحد من سلالة أهل البيت للخلافة. أما أنهم اختاروا ما اختاروه للسبب الذي ذكره فهو مخطئ في ذلك. ليس عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة أبو علي الحسن، ومعز الدولة أبو الحسين أحمد هم الذين اختاروا مذهب الإمامية، بل أن الذين كانوا على هذا المذهب هم آباؤهم الأولون الذين كانوا فقراء بسطاء لا يفكرون في ملك ولا سلطة. وهؤلاء الملوك الثلاثة نشأوا في بيتهم الفقير على هذه العقيدة وشبوا عليها ثم سادوا وهي في قلوبهم وعقولهم. ومن أوهام الدكتور منيمنة وأوهام غيره أيضا قوله: وصبغ البويهيون
(1) هي القسم الشمالي من إيران تعرف اليوم بمازندران، بلاد جبلية وعرة المسالك، وقسم منها ساحلي يقع على شاطئ بحر مازندران الذي اشتهر باسم بحر الخزر. 363 التشيع الشعبي بصبغة لم تمح فسنوا سنة الاحتفال بعاشوراء على مثال بكائهم أمواتهم وانتحابهم عليهم في منتصف القرن الرابع، وجعلوا عيد غدير خم عيدا شعبيا كعيد الربيع. ليس البويهيون هم الذين سنوا سنة الاحتفال بعاشوراء، بل أن الاحتفال بها كان متصلا قبلهم بأبعد الأزمان، ولم يكن يجري بشكل جماهيري، لأن السلطات كانت تمنع ذلك، وكان يجري ضمن البيوت الرحبة الواسعة ويضم من الناس ما يتسع له كل بيت، وكانت تنشد في هذه الاحتفالات الأشعار الرقيقة التي تبكي الناس وتشجيعهم. وكل ما فعله معز الدولة هو أنه أباح الاحتفالات الجماهيرية، ومنح أصحابها حريتهم فأخرجوها من دائرتها الضيقة إلى الدائرة الأوسع. وليس البويهيون وحدهم هم الذين يبكون على أمواتهم وينتحبون عليهم، ليكونوا مثالا للباكين المنتحبين، فكل الناس تبكي على أمواتها وتنتحب عليهم. وأما عن عيد غدير خم وأن البويهيين اخترعوه وجعلوه عيدا شعبيا شبيها بعيد الربيع، فهو أيضا داخل في باب الأوهام، فعيد غدير خم الذي يطلق عليه اسم عيد الغدير كان يحتفل به قبل البويهيين. وما فعله البويهيون هنا هو عين ما فعلوه في احتفالات عاشوراء وهو أنهم أطلقوا الحرية للناس فخرجوا به من النطاق الضيق إلى النطاق الواسع. ولم تقتصر هذه الاحتفالات الواسعة على مناطق نفوذ البويهيين، ففي مصر الفاطمية كان يوم الغدير من الأيام المشهودة في تاريخها، ولا يزال عيد الغدير في اليمن العيد الشعبي الأول. وأبو العلاء المعري نفسه كان يحتفل بعيد الغدير مع المحتفلين به في بلاد الشام فهو القائل: لعمرك ما أسر بيوم فطر * ولا أضحى ولا بغدير خم فما دخل البويهيين في احتفالات مصر واليمن وبلاد الشام. أما قول الدكتور منيمنة بان البويهيين حكموا العراق حين الناس فرق وأهواء وشيع فسلطوا عليها الخلاف. فنقول له: ما دام الناس فرقا وأهواء وشيعا، فليسوا في حاجة لمن يسلط عليهم الخلاف. نعم أن البويهيين حين حكموا وجدوا أن فريقا من الشعب محروم من أبسط حرياته، ومضطهد مطارد، فمنحوه حريته ورفعوا عنه الاضطهاد والمطاردة، حتى إذا حاول أحد من هذا الفريق أن يستغل ما منحوه ذرة من الاستغلال، أو يتجاوز شعرة من الحدود المرسومة للجميع أوقفوه حتى إنهم لم يتوانوا في أن ينفوا عن بغداد لفترة رجلا كالشيخ المفيد هو الرجل الأول والعالم الأكبر. وهكذا فهم لم يتحيزوا لأحد. العرب والمأمون ثم البويهيون ورد الدكتور حسن منيمنة على مقالنا فرددنا عليه بما يلي: بعد أن يسلم الدكتور منيمنة معنا بان كلمة الخراسانية في الأيام الأولى للحركة العباسية لا تعني الفرس بل تعني في الأصل عرب خراسان، يقول بان الأمر لم يكن كذلك في عهد المأمون، ويسألني هل كنت أريد أن أطبق هذه النتيجة على كلمة خراسانيين المستعملة زمن المأمون. وأني لأجيبه بكل وضوح: نعم. وما الذي حصل في تلك المدة المنقضية بين نشوء الدولة العباسية وخلافة المأمون من أحداث أزالت العرب من خراسان لنبدل الرأي في الخراسانية؟ أين ذهبت تلك القبائل العربية من تيمم وربيعة واليمن وكانت تنزل خراسان كما يخبرنا الجهشياري؟ وما الذي جرى على احياء العرب في خراسان كما حدثنا عنها البيان والتبيين؟ وأين مضت ظعائن العرب التي كانت تخرج من مرو إلى سمرقند كما أخبرنا العقد الفريد؟ وأين صارت جمهرة بني تميم في خراسان التي قرأنا عنها في البيان والتبيين؟ وأين انتهت جموع اليمن وربيعة وقيس في جرجان، وأوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلد بهم؟ وماذا كان مصير الجماهير العربية التي خاطبها نصر بن سباز قائلا: يا أهل خراسان؟ وماذا كانت نهاية خطط العرب ومنازلهم في خراسان وغير خراسان وقص قصتها علينا البلاذري؟ أين انطوى ذلك كله لنقول أن كلمة الخراسانية في الزمن العباسي الأول لا تعني ما تعنيه أيام المأمون؟ يقول الدكتور منيمنة أن المؤرخين استعملوا كلمة الخراسانيين أو أهل خراسان للتدليل على الكتلة الفارسية التي وقفت إلى جانب المأمون في وجه الكتلة العربية التي ساندت الأمين. وقد اختارت الكتلة خراسان مقرا ومنطلقا لايصال المأمون إلى الخلافة. ونقول له: وما الدليل على ذلك؟ أنه يستشهد بان الفضل بن سهل حذر المأمون من الهاشميين والعرب الساعين لخلافة الأمين. ثم يورد عبارة المسعودي التي جاء فيها على لسان الفضل مخاطبا المأمون أنه يخشى: أن يثب عليك أخوك فيخلعك وأمه زبيدة وأخواله من بني هاشم. ونقول: ليس في هذا القول تحذير من العرب، بل فيه تحذير من زبيدة أم الأمين وأقربائها. ومن الطبيعي أن يكون هوى زبيدة وأقربائها الأدنين مع الأمين، وليس المأمون في حاجة لنصيحة الفضل ليدرك هذا ثم يستشهد بقول الطبري وابن الأثير بان أهل خراسان قالوا عن المأمون: ابن أختنا وابن عم نبينا، لأن أمه كانت فارسية. ونقول له: إننا لا ننكر أن للمأمون أخوالا وأقرباء في خراسان وإنه يمكن أن يقولوا هذا القول. ولكن هل هؤلاء كل خراسان؟ وهنا نعود فنكرر أسئلتنا السابقة عن مصير الشعب العربي الذي كانت تتمثل به خراسان، وهل انقرض بهذه السرعة؟ أو هل يمكن أن يكون بعيدا عن هذه الأحداث المصيرية؟ كان من إصطلاحات المؤرخين يومذاك أن يقولوا: في خراسان جمجمة العرب وفرسانها.
364 فهل من المعقول أن تكون تلك الجمجمة قد تحطمت، وأن يكون أولئك الفرسان قد تبددوا في مشارق الأرض ومغاربها؟ وأن يكون ذلك قد جرى في غمضة عين وانتباهتها بالنسبة لحياة الشعوب؟ ثم أليس عجيبا من الدكتور منيمنة الحصيف أن يقول: أن الكتلة التي ساندت المأمون قد اختارت خراسان مقرا ومنطلقا لايصال المأمون إلى الخلافة؟ وأين رأى أن هذه الكتلة هي التي اختارت خراسان؟ وهل كان في يد المأمون وكتلته أن يختاروا مقرهم ومنطلقهم؟ أليس الرشيد هو الذي اختار المقر، والأمين هو الذي اختار المنطلق؟ هل المأمون وكتلته هم الذين قسموا المملكة إلى قسمين: غربي يحكمه الأمين ومقره في بغداد. وشرقي يحكمه المأمون ومقره في مرو عاصمة خراسان، أو الرشيد هو الذي فعل ذلك؟ وهل المأمون وكتلته كانوا مختارين في إيصال المأمون إلى الخلافة فانطلقوا من مرو، أو الأمين هو الذي خلع أخاه المأمون من ولاية العهد وجعله ينطلق مع كتلته من خراسان للوصول إلى الخلافة؟ نحن لا ننكر أنه كان بين من ناصروا المأمون فرس، ويكفي في ذلك أخواله، كما أننا لا ننكر أنه كان بين من ناصروا الثورة العباسية فرس، ولكن العرب كانوا يشكلون القوة الضاربة في كلا الموقفين. وكما كان بين أنصار العباسيين أيام الثورة فرس كذلك كان بين أنصار خصومهم فرس، فقد انضم الفرس إلى الجانبين العباسي والأموي، فرأينا مثلا أهل نيسابور وبلخ الفرس ينحازون إلى نصر بن سيار. وهذا طبيعي ما دام في الناس اختلاف المشارب والأهواء والأغراض. وكذلك الحال في الخلاف بين الأمين والمأمون، وإذا كنا لم نر اسما فارسيا بارزا بين أنصار الأمين، فلأن أصحاب مثل هذه الأسماء كانوا تحت سيطرة المأمون فلا يستطيعون التحرك كما يريدون. على أننا ننكر القضية من أصلها، وهي الزعم أن العرب كانوا مع الأمين، فنحن نقول بان العرب حتى في الجزيرة العربية عش العرب ومنبتهم كانوا مع المأمون. فان والي مكة داود بن عيسى لما بلغه خلع الأمين لأخيه المأمون من ولاية العهد، دعا أهل مكة وأعلن أنه يبايع المأمون بالخلافة وسألهم ما هم فاعلون؟ فاستجاب له وجوه القوم وبايعوا المأمون، ثم استجابت له جماهير الشعب كلها. ويصف الطبري بعض ما جرى قائلا: وجعل الناس يبايعونه جماعة بعد جماعة، ففعل ذلك أياما. ومثل الذي جرى في مكة جرى في المدينة، حيث بايعت جماهير الشعب المأمون وخلعت الأمين. وجرى مثل ذلك في اليمن أيضا، ويصف الطبري بيعة أهل اليمن بقوله: فأجاب أهل اليمن إلى بيعة المأمون واستبشروا بذلك وبايعوا للمأمون وخلعوا الأمين. وإذا كانت الجزيرة العربية قد خلعت الأمين وبايعت المأمون وأمره لا يزال متأرجحا بين النجاح والفشل، بل أنه كان إلى الفشل أقرب، وإذا كان عرب الحجاز واليمن قد أعلنوا أنهم مع المأمون على الأمين وهم يبعدون عنه عشرات آلاف الأميال. وإذا كانت مكة والمدينة وصنعاء وهي عواصم العرب الأولى قد أيدت المأمون، فهل يصح القول بان العرب لم يكونوا مع المأمون؟ وإذا كان للمأمون أخوال في خراسان، فما أكثر أعمامه في الحجاز واليمن، ولن يكون الأخوال مهما أشفقوا أكثر إشفاقا من الأعمام. على أن مما يجب ذكره أن عرب الجزيرة قد أعلنوا المأمون خليفة وبايعوه، من قبل أن يعلن هو ذلك، إذ أنه كان لا يزال مجرد متمرد على خليفة بغداد، ولا يعلم إلى أي مصير سيصير. وجاء موسم الحج وحال المأمون هو الحال نفسه، ولكن موقف أهل مكة المؤيد جعل طاهر بن الحسين قائد المأمون المتقدم لحصار بغداد يرسل العباس بن موسى ليحج بالناس باسم المأمون، وهو أول موسم دعي فيه للمأمون بالخلافة في مكة والمدينة. وهكذا أعلنت خلافة المأمون في صميم بلاد العرب قبل أن تعلن في خراسان، وغير خراسان، أعلنها العرب في أقدس مكان عند المسلمين والعرب. ويقول الدكتور منيمنة أن الجيش الخراساني الذي خرج هذه المرة من خراسان ليحمل المأمون إلى سدة الخلافة كان معظم قادته وعناصره من أهل خراسان الفرس. ونقول له: لا دليل على هذا القول بل أن الأمر على العكس ما دام لم يثبت بل ليس من المعقول أن يكون العرب قد أزيلوا من خراسان. وأننا نستطيع أن نعدد من أسماء قادة ذلك الجيش من العرب كلا من: محمد بن طالوت، ومحمد بن العلاء، والحارث بن هشام، وداود بن موسى، وهادي بن حفص، وقريش بن شبل، والحسن بن علي المأموني. وهذه الأسماء وحدها كافية لتدل على أن القيادة كانت عربية. وما رأيه إذا قلنا أن فرقة عسكرية يبلغ عدد رجالها نحو خمسة آلاف رجل نص الطبري على أنهم من أهل خراسان انسلخت عن جيش المأمون المحاصر لبغداد وانضمت إلى الأمين. فإذا كان هؤلاء الرجال فرسا فان خؤولة الفرس للمأمون لم تنفعه بشئ، وأن كانوا عربا فان الطبري قد نص على أنهم من أهل خراسان، إذن فان كلمة أهل خراسان في أيام المأمون لا تعني الفرس، كما يقول الدكتور منيمنة، بل تعني العرب وأن الجيش لم يكن فارسيا. وما رأيه في أن بغداد العربية نفسها كان فيها الناقعون على الأمين، ولم يمنعهم من الجهر بنقمتهم إلا خوف السلطة. وقد عبر عن هذه النقمة شاعر بغدادي ظل اسمه مجهولا بسبب الخوف فقال يخاطب الأمين وجيوش المأمون مشرفة على حصار بغداد: يا ناكثا أسلمه نكثه * عيوبه من نكثه فاشيه قد جاءك الليث بشداته * مستكلبا في أسد ضاريه فاهرب ولا مهرب من مثله * إلا إلى النار أو الهاويه والواقع أن هذه الأبيات تعبر عن النقمة الشعبية، وأن الناس عربا وفرسا يرون أن المأمون معتدى عليه، فالأمين هو الذي نكث عهد والده
365 بخلعه لأخيه المأمون من ولاية العهد، وعواطف الناس هي دائما مع المعتدى عليه. ولقد أدهشني قول الدكتور منيمنة: ستزداد شكوك الخليفة المنتصر في العرب الذين أخذوا جانب الأمين، وسيتعاظم دور الجند الخراسانيين واعتماد الخليفة عليهم وستظهر نتائج ذلك واضحة في تولية قادتهم آل طاهر وإطلاق يدهم في خراسان وجوارها امراء شبه مستقلين. إذن يعتبر آل طاهر فرسا، مع أنهم من صميم العرب، وكون طاهر بن الحسين قائدا للجيش الذي بعثه المأمون لاسترداد بغداد من أخيه الأمين وإنهاء خلافته هو الذي يؤيد قولنا أن القوة الضاربة في جيش المأمون كانت عربية. فطاهر بن الحسين عربي من قبيلة خزاعة، وما دام قائد الجيش خزاعيا فمن الطبيعي أن تكون خزاعة ركنا من أركان القوة الضاربة في هذا الجيش. وإلى ذلك يشير الشاعر دعبل الخزاعي حين هدد المأمون قائلا: أني من القوم الذين سيوفهم * قتلت أخاك وشرفتك بمقعد وعلى هذا فالجند الخراسانيون الذين تعاظم دورهم واعتماد الخليفة عليهم هم عرب ومن خزاعة بالذات. ثم يردف قوله هذا بهذا القول: وستظهر نتائج ذلك واضحة في تولية قادتهم آل طاهر وإطلاق يدهم في خراسان وجوارها امراء شبه مستقلين. وقد عرف القارئ أن آل طاهر هم عرب خزاعيون فإذا صح أن المأمون أطلق يدهم في خراسان، فإنه يكون بذلك قد أطلق فيها يدا عربية أصيلة. على أننا نحن ننكر أن تولية المأمون لآل طاهر كانت تولية استثنائية، وأنه أطلق يدهم امراء شبه مستقلين. ونقول أن الذي فعل ذلك هو غير المأمون وفي غير خراسان. لقد فعل ذلك الرشيد حين ولى إبراهيم بن الأغلب على تونس على أن تكون الولاية وراثية في أعقابه، وعلى أن يكونوا أكثر من شبه مستقلين. أما المأمون فلم يكن في نيته ابدا تولية طاهر بن الحسين على خراسان، بل أن ظرفا عاطفيا طارئا أدى إلى ذلك، وهذا ما ينفي ما ذكره الدكتور منيمنة في قوله: وسيتعاظم دور الجند الخراسانيين واعتماد الخليفة عليهم وستظهر نتائج ذلك واضحة في تولية قادتهم آل طاهر، إلى آخر ما قال: أما سبب تولية طاهر بن الحسين فهو أنه دخل على المأمون وهو في مجلس انس وانشراح، فلما رآه المأمون بكى وتغرغرت عيناه. فاستغرب طاهر ذلك وسال المأمون لم يبك وقد دانت له البلاد وأذعن له العباد وصار إلى المحبة في كل أمره. فقال المأمون: أبكي لأمر ذكره ذل وستره حزن ولن يخلو أحد من شجن. وانشغل بال طاهر لبكاء المأمون في غير ساعة بكاء، فأغرى أحد خواص المأمون بمبلغ من المال ليسأله عن سبب بكائه، واستطاع الرجل أن يسأل المأمون. فقال المأمون: أني ذكرت أخي محمدا الأمين وما ناله من الذلة فخنقتني العبرة فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرا مني ما يكره. لقد قلق طاهر كل القلق لما جرى، فإذا كان المأمون قد اكتفى هذه المرة بمجرد البكاء لرؤية طاهر مذل أخيه وقاتله، فما يدريه ما يمكن أن يصيبه من المأمون في مرة أخرى، ألا يمكن أن تبلغ ثورة العاطفة في المأمون في مرة من المرات إلى الحد الذي يأمر فيه بقتل طاهر الذي تذكره رؤيته في كل مرة بذل أخيه وقتله؟ أليس من المريح للمأمون أن لا يرى طاهرا ابدا فيتخلص من الأشجان الذي تبعثها في نفسه مشاهدة طاهر، وقتل طاهر هو الذي يريح. فذهب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد وقص عليه ما جرى، وقال له غيبني عن عيني المأمون. فذهب أحمد إلى المأمون، فلما دخل عليه، قال: ما نمت البارحة... فقال المأمون: ولم ويحك؟ فقال لأنك وليت غسان خراسان وهو ومن معه أكلة رأس وأخاف أن يخرج عليه خارجة من الترك فتصطلمه. فقال له: لقد فكرت فيما فكرت فيه، فمن ترى؟ قال: طاهر بن الحسين. وقد تردد المأمون وذلك وأبدى ما يخشاه من محاذيره في تولية طاهر. وبعد حوار قصير دعا المأمون بطاهر من ساعته فعقد له على خراسان. هذه هي قصة تولية طاهر بن الحسين التي وصفها الدكتور منيمنة بأنها تولية قادة الخراسانيين آل طاهر وإطلاق يدهم في خراسان إلى آخر ما قال. ومن الطبيعي أن تتطور الأمور في زمن كان زمن التطورات المتعاقبة، وأن يأخذ التاريخ مسراه في التحول والتبدل. البويهيون وقت يقرن الدكتور منيمنة حديثه عن عقيدة البويهيين مرة بكلمة احتمال ومرة بكلمة فالأرجح فيدل على التشكيك وعدم الجزم، يعود في النهاية فيجزم فيما لا يصح فيه الجزم. وعند ما قلنا أن ليس الملوك البويهيون هم الذين اخذوا بالمذهب الجعفري ليصح اتهامهم بأنهم كانوا على المذهب الزيدي، ثم انتقلوا إلى المذهب الجعفري تحقيقا لمآرب سياسية. بل أن الذين كانوا على هذا المذهب هم آباؤهم الأولون، وساروا هم على ما كان عليه آباؤهم. عند ما قلنا ذلك حكم الدكتور منيمنة بان آباءهم لم يكونوا على الاسلام ليقال أنهم كانوا على مذهب من مذاهبه، ودليله على ذلك أن الاسلام لم يعم الديلم إلا على يد الأطروش 290 340 وأن الأرجح أن هذه الأسرة دخلت الاسلام على يد الأطروش. ونقول: لماذا يكون هذا هو الأرجح، ولا يكون الأرجح أن آباء هذه الأسرة دخلوا الاسلام قبل السنة الثانية والعشرين للهجرة، وهو الزمن الذي ثبت أن الاسلام قد وصل فيه إلى تلك البلاد، وإذا كان تعميم الاسلام فيها قد تم على يد الأطروش، فلماذا لا يكون هؤلاء فيمن أسلم قبل عهد الأطروش؟، وحتى قبل السنة الثانية والعشرين؟ وأن كون مذهب دولة طبرستان زيديا لا يمنع أن يكون بين رعاياها من هو غير زيدي، بل نحن نعرف أسماء لعلماء غير زيديين نشأوا في ظلال تلك الدولة مثل: ابن هندو المكنى بأبي الفرج وأبي العباس بن سعد بن أحمد الطبري. وأبي هشام العلوي الطبري وغيرهم. هذا في العلماء وأما في جمهور الشعب فمن ذا يمكنه إحصاؤهم، ومنهم آباء الملوك البويهيين. ويستدل بتقلباتهم السياسية على عدم استقرارهم المذهبي، ويعيب عليهم تلك التقلبات كأنهم وحدهم المتقلبون في السياسة، المنتقلون فيها من ولاء إلى
366 ولاء حسبما تقتضيه المصلحة. وإذا كان الإنكليز يقولون في هذا العصر: بان لا صداقة دائمة ولا عداوة في السياسة، فقد كان هذا هو التطبيق العملي للناس جميعا منذ وجدت السياسة حتى اليوم. ولماذا يريد الدكتور منيمنة أن ينفرد البويهيون من بين سياسيي العالم بفضيلة الثبات على الصداقة مهما تعارض هذا الثبات مع المصلحة؟ فإذا لم ينفردوا بها كان ذلك عنده دليلا على التشكيك في ولائهم الديني... ثم يتساءل عن مقدار تدينهم، كأنما المطلوب أن يكونوا أئمة جمعة وجماعة. ويذكر أن ابن الجوزي نقل ما يدل على جهل معز الدولة بأمور الدين، كأننا نقول أن معز الدولة فقيه الأمة ومرجعها في الفتيا. ويقول أن ابن الجوزي نقل أيضا ما يدل على جهل معز الدولة نفسه حتى بسيرة حياة الإمام علي، كأننا نقول أن معز الدولة كان أستاذا للتاريخ في الجامعة على اننا لا نبرئ ابن الجوزي من الافتراء على البويهيين. ونحن نسأل الدكتور منيمنة هل بين الملوك السلاجقة من كان أعلى درجة من البويهيين سواء في مقدار التدين أم في الفقه وفي التاريخ، وهل يقدح ذلك عنده في أيمانهم؟ ثم يقول: أن مسكويه قال أن لعلي بن بويه مجلس شراب، وأن هذا كان حال أخيه معز الدولة... ونقول: إذا كان لمن كانوا يحملون لقب أمير المؤمنين مجالس شراب، فهل نستغرب أن يكون لمن دونهم مثل هذه المجالس؟ ولا يرى الدكتور منيمنة إيصاء الرجل بان يدفن في بعض الضرائح ما يدل على التدين. ونقول له: أن هذا أكبر ذليل على التدين، فغير المتدين لا يهمه أين يدفن. وعن ركن الدولة البويهي يقول ابن الأثير: كان حليما كريما واسع الكرم كثير البذل، حسن السياسة لرعاياه وجنده. رؤوفا بهم عادلا في الحكم بينهم، متحرجا من الظلم، مانعا لأصحابه منه، عفيفا عن الدماء يرى حقنها واجبا وكان يحامي على أهل البيوتات وكان يجري عليهم الأرزاق ويصونهم عن التبذل، وكان يقصد المساجد الجامعة في أشهر الصيام للصلاة وينتصب للمظالم، ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة، ويتصدق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات ويلين جانبه للخاص والعام. ثم يختم ابن الأثير وصفه له بقوله: رضي الله عنه وأرضاه. هذه صورة وضاءة عن الحكم البويهي جلاها لنا ابن الأثير، وإذا لم تكن هذه صفات المؤمن المتدين الثابت على العقيدة، فكيف تكون صفاته؟ وحين يدعو ابن الأثير لركن الدولة البويهي بقوله: رضي الله عنه، فهو يقرنه بكبار الصحابة الذين يدعى لهم وحدهم بهذا الدعاء. وإذا كان هذا رأي المؤرخين القدماء في واحد من احكام البويهيين فلنستمع إلى رأي مؤرخين حديثين في حكم البويهيين: يرى الأستاذ حسن أحمد محمود الشريف في كتابه العالم الاسلامي في العصر العباسي أن العصر البويهي هو عصر حرية المذاهب ويستند إلى أقوال الصاحب بن عباد في رسائله حيث يقول: وقد كتبت في ذلك كتابا أرجوه أن يجمع على الألفة ويحرس من الفرقة وينظم على ترك المنازعة والجنوح إلى الموادعة، فان المهادنة تجمل بين الملتين فكيف بين النحلتين. ويعلق على ذلك الدكتور فاروق عمر وهو ينقل هذا الكلام في كتابه الخلافة العباسية في عصر الفوضى العسكرية قائلا: على أن لهذه السياسة جانبها الايجابي حيث لجات المذاهب المتنازعة إلى المنطق والفلسفة وعلم الكلام لتأييد آرائها، فحدثت نهضة علمية وكثرت التصانيف في المناظرات وأسست دور العلم. استدراك على المستدركات : السيد سعيد صالح مر بحث عنه في المجلد الأول من المستدركات ثم بحث ثان في هذا المجلد، وقد عثرنا بعد ذلك على كلمة كان قد نشرها عبد القادر البراك بعد وفاة سعد تتضمن قصيدة من قصائده هي التالية: كان من جناية السياسة على الأدب في حياة السيد سعد صالح أن حجبت خطبه ومقالاته السياسية وتقاريره المعتمدة عن مشاكل المحافظات التي تولى إدارتها، موهبته كشاعر مطبوع كان بمقدوره لو انقطع للشعر أن يقف كتفا إلى كتف بجانب كبار شعراء العراق في مطلع القرن العشرين. فلقد هيات بيئة النجف الشعرية سعدا لأن يكون في عداد شداة الشعر، كما أن ملكاته المتعددة قد جعلته قادرا على أن يودع عواطفه الجياشة، ومعانيه الرائعة، وتطلعاته الوطنية والقومية في قوالب من الشعر، تميزه عن سواه من شعراء الفترة التي لمع فيها اسمه بين رواد الآداب، فلقد قصد القصائد المطولة فكانت ديباجته فيها معيدة للأسماع والقلوب الديباجة العباسية التي تلت مدرسة الشريف الرضى، ونظم الموشحات والأناشيد في مختلف الأغراض الوطنية والوجدانية فكان خاتمة أمثاله بين كبار الوشاحين على قلة ما هو ميسور مما نظمه ونشره. ولقد سبق لي نشر فصل ضاف عن شاعرية سعد صالح في جريدة الحرية في الخمسينات، ولقد صح عزمي على الإفاضة فيما كتبت مستعينا بما وقفت عليه من قصائده وأناشيده، وما استقر في ذهني من آراء وأحكام به و بآرائه. وإلى أن يحين الوقت لظهور هذه الدراسة لا بد لي من أن أطرف القراء بقصيدة هي واحدة من آثار عراقية كثيرة حفلت بها خزانة الأستاذ مصطفى علي، وقد بعث بها إليه سعد صالح من الكويت، أثر مهاجرته إليها بعد أن أجهض الاستعمار البريطاني وأعوانه ثورة 1920 الخالدة وشرعوا بمطاردة الأحرار الذين ساهموا فيها وكان الشاعر في الطليعة منهم. ذلك أن السيد سعد صالح كان طالبا في دار المعلمين، فلما اندلعت الثورة غادر مقاعد الدراسة ليحتل موقعه في خنادقها، صادحا بشعره بأهدافها ومقاصدها التحررية، ومساهما بالكفاح الفعلي مع صفوف المجاهدين، وقد أدى دوره كاملا، ولكن ملاحقة السلطات له ولاخوانه المناجيد المساعير اضطرته إلى الفرار مما كان ينتظره من انتقام تعرض له الكثير من أمثاله. ومن الكويت، البلد الذي اختاره منفى اختياريا له، شرع الشاعر بارسال
367 حممه وشواظه في قصائد متأججة نشر بعضها في الصحف الناطقة بلسان القوى الوطنية ولم يكتب بعضها الآخر أن يأخذ طريقة إلى النشر. وهذه القصيدة يغني نصها عن التعريف بها وعما اشتملت عليه من مميزات وخصائص الشاعر الوطني المطبوع: الذي عانى التجربة شعورا وعملا، وأداها أحسن ما يكون الأداء في شعر صادق التعبير والدلالة والايجاء، هو شعر سعد صالح: فؤاد كله كمد * وعين كلها سهد وآلام مبرحة * وعيش ما به رغد وآمال مضيعة * وعمر كله نكد ودمع هاتن وحشا * يكاد لظاه تتقد جوى يبكي الجماد دما * فكيف تطيقه كبد وأشجان يكابدها * غريب الدار مبتعد فتى تقتاده الأسفار * حتى ملة القتد إذا ما شاقه بلد * دعاه إلى الشقا بلد تحير أين حل الرحل * حل الطالع النكد فليس يفيده جزع * وليس يفيده جلد فكم من مهمه قذف * يضل بعرضه الرشد تروح به مطيته * تخب وتارة تخد يفتش هل يرى أحدا * وليس لعينه أحد فلا عين ولا أثر * ولا عير ولا وتد ولا شاء ولا نعم * ولا طنب ولا عمد وكيف العيش تقربه * وعنه الوحش يبتعد فلا كلاء به ترعى * ولا ماء به ترد فدافد لا أنيس بها * يشيب لهولها الولد يهاب الوحش وحشتها * ويجزع عندها الجلد ونعم الأرض تلك لو * انه اثرا بها يجد ويرعى الوحش فيها * وهو مفترق ومتحد فيبغم في الكناس رشا * ويزأر في الشري أسد وليل طال حتى خلت * ليس لطوله أمد وقد وقفت كواكبه * وملء عيونها رمد وحار دليل أنجمه * فضل العلم والرصد كان الليل تيار * وشهب نجومه زبد كان سحابه سفن * تعوم وأهلها رقدوا بواخر في بواطنها * لظى للبرق تتقد إذا عصفت بها ريح * تروح وشملها بدد وان زفرت بصوت الرعد * خلت الأفق يرتعد فخضت عباب لجته * وقلبي خانه الجلد على زيافة من سيرها * تجد الذي أجد قتاد الأرض يؤلمها * ويؤلم جسمي القتد كلانا في السرى دنف * يغالب سقمه الجسد تخاطبني إلى كم أنت * في الظلماء منفرد أنقضي العمر بالسير * الحثيث وليس تتئد ترى لا تنتهي الاسفار * حتى ينتهي الأبد غدا يا سعد قلت وهل * لليل البائسين غد أراحلتي وفي كبدي * تعيث من الهموم يد ولي أمل غدا ألما * له في أضلعي وقد دعي فندى فحسب * الصب من عذاله الفند سأقضي في الفلا عمري * فليس يروقني بلد سئمت العيش في وطن * يضام، يذل، يضطهد محته يد القضاء فراح * لا روح ولا جسد عفت تلك الربوع فلا * قديمات ولا جدد رياض صوحت ومها * ذعرن ومجمع بدد مرابض في الحمى لم يبق * من آسادها أسد ربوع غير سرح الوحش * لا يأوي لها أحد دموع تستفيض على * دماء ما لها قود خطوب لو دهت أحدا * لساخ بعبئها أحد (*) صلاح الدين وخلفاؤه. يقول الباحث المصري الدكتور حسين مؤنس عن تمزيق الوطن العربي على يدي صلاح الدين وتوزيعه على أقربائه ما يلي: قسم الإمبراطورية ممالك بين أولاده وإخوته وأبناء أخويه، كأنها ضيعة يملكها لا وطنا عربيا اسلاميا ضخما يملكه مواطنوه ويقول أيضا عن خلفاء صلاح الدين: عملوا أثناء تنافسهم بعضهم مع بعض على منح بقايا الصليبيين في أنطاكية وطرابلس وعكا امتيازات جديدة، فتنازل لهم السلطان العادل عن يافا والناصرة، وكانت بقية من أهل مملكة بيت المقدس الزائلة قد أقامت في عكا واستمسكت بلقب ملوك بيت المقدس فاعترف لهم به هذا العادل في ثلاث معاهدات. وحاول الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب ان يتحالف مع الصليبيين على عمه العادل. وعند ما نزلت الحملة الصليبية الخامسة شاطئ دمياط يقودها الفارس الفرنسي جان دي بريين واستولى على دمياط سنة 1218 استنجد العادل بأقاربه ملوك الشام والجزيرة فلم يسعفه أحد منهم، ولو لم ينهض المتطوعون من نواحي الدلتا ويتصدوا للصليبيين ويكسروا سدود النيل لما أمكن الانتصار على المغيرين على المنصورة. وعند ما أقبل الإمبراطور فردريك الثاني يقود الحملة الصليبية السادسة ونزل عكا سنة 1227 أسرع الملك الكامل سلطان مصر وتنازل له عن بيت المقدس ويافا وجزء من أرض فلسطين يمتد من الساحل إلى البلد المقدس، ووقع معاهدة بذلك في 18 شباط 1229. وفي سنة 1244 تقدم أيوبي آخر هو الصالح إسماعيل صاحب دمشق فجعل للصليبيين الملكية الكاملة لبيت المقدس وسلم لهم قبة الصخرة.
(*) تاريخ نظم القصيدة 14 ربيع الثاني / 1339 ه. 368 إسماعيل الصفوي مر الحديث عنه في مكانه من هذا المجلد، ونضيف هنا إلى ذلك ما يلي: بعد الحرب العسكرية الشرسة التي شنت على الشاه إسماعيل الأول الصفوي دون أن تنال من دولته منالا، بل أن تلك الدولة ثبتت أقدامها وشقت طريقها بين الدول الكبرى، رأى الذين غاظهم قيامها أن يشنوا عليها حربا من نوع آخر: هي الحرب الكلامية لتشويه سمعتها مما رأينا مثيلا له في كلام النهر والي المتقدم. ومن المؤسف أن يتبنى هذه الحرب خريجو الجامعات وأساتذتها في هذا العصر المفروض برجاله أن يعالجوا الأمور التاريخية معالجات موضوعية غير متأثرة بما كانت تتأثر به معالجات الأقدمين. فصاحب كتاب مقدمة تاريخ العرب الحديث يقول في الصفة 20 ما يلي: وقصد أسطول برتغالي المياه العربية في الصيف. ولكن هذا الأسطول لم يحقق أية انتصارات واكتفى بالقرصنة على السفن العربية، ثم جاء الأسطول هرمز مطالبا بالجزية السنوية ولكن ملك هرمز كان قد دان بالولاء للشاه فلم يدفع للبرتغاليين شيئا. إذن باعتراف الكاتب أن استناد صاحب هرمز إلى دعم الشاه الصفوي جعله يتمرد على البرتغاليين، وإذن فان الشاه الصفوي ببسطه حمايته على أرض إسلامية قد حماها من ذل دفع الجزية للمستعمرين المعتدين الأوربيين. وتلك منقبة كبرى كان على الكاتب أن يشيد بها ويسجلها في سجل حسنات الشاه الصفوي، ولكنه لم يفعل، بل أراد أن يحولها إلى سيئة لأن قلمه لا يطاوعه على تسجيل حسنات شاه صفوي أقام دولة جديدة لا يحب هذا الكاتب أن تقوم، لا لشئ إلا لنعرات نحلية سيطرت عليه. لذلك أضاف إلى كلامه السابق ما يلي: ولم يكن البرتغاليون على استعداد لاغضاب الشاه الذي وصل سفيره إلى جوا في ذلك العام لوضع أسس حلف برتغالي إيراني ضد العثمانيين. ونحن نسأل الكاتب هذا السؤال: من هو المعتدي؟ هل أن الشاه إسماعيل هو الذي جيش الجيوش وآثار الحروب لغزو السلطان سليم في دياره ودخول عاصمته والقضاء على دولته، أم أن الأمر بالعكس، وأن السلطان سليم هو الذي فعل ذلك؟!. فإذا صح وهو ما لم يصح أقول: إذا صح أن سفير الشاه وصل إلى جوا لوضع أسس حلف برتغالي إيراني ضد العثمانيين، فان هدف هذا الحلف هو حماية إيران من هجمات أعدائها المحاولين القضاء عليها ووأد دولتها الفتية في مهدها. وهذا ما لا تلام عليه أي دولة ترى نفسها مهددة بمثل ما هددت به إيران. ولماذا يباح للعثمانيين أن يسفكوا دماء المسلمين ويغزوهم في ديارهم ويحتلوا عاصمتهم ويقضوا على دولتهم، ولا يباح لهؤلاء المسلمين الدفاع عن أنفسهم بكل وسيلة؟. لو أن الشاه الصفوي أراد حلفا إيرانيا برتغاليا ليغزوا به العثمانيين المسلمين، لجاز لنا لومه والتنديد به، ولكنه كان يعمل على صون بلاد إسلامية من شر يراد بها، وبذلك لا يستطيع أي منصف أن يلومه. ثم إننا نسأل الكاتب وغيره من أمثاله وما أكثرهم نسأله ماذا فعل سلطانك العثماني أمام الغزو البرتغالي الماحق التي تسلط على البلاد الاسلامية يومذاك يحتل ويحرق وينهب ويقتل ويستبيح ويمتلك البلاد وبذلها؟!. لقد وقف يتفرج على ذلك ولا تهمه دماء المسلمين المطلولة وديارهم المستعبدة وسلطانهم الزائل، ولم يجد في ذلك أية غضاضة ولم يتقدم بقوته الجبار لحمايتهم والذود عنهم، ولكن استثاره واستفزه قيام الدولة الصفوية فوجه إليها الجيوش وقصدها بالحديد والنار. وأنت نفسك تعترف فتقول في كتابك:... وشعر المسؤولون في استنبول بعظم الخطر الجديد قيام الدولة الصفوية، فأخبر سليم أباه المسالم بايزيد الثاني على التنازل عن العرش. وأهمل سليم جبهة البلقان وركز اهتمامه بشؤون دار الاسلام. فاجرى مذابح كثيرة بين الشيعيين في شرق الأناضول.... لم تكن سيطرة البرتغاليين عند السلطان سليم خطرا، ولم تكن جبهة البلقان الصليبية المتحفزة كذلك خطرا، ولكن كان الخطر عند المسؤولين في أستنبول وعند مؤلف كتاب مقدمة تاريخ العرب الحديث هو قيام الدولة الصفوية، فاجرى السلطان سليم مذابح الأناضول وتقدم إلى تبريز لمجابهة الخطر بالمذابح بعد المذابح. م أن الكاتب وغير الكاتب من الزاعمين مزاعمه لم يحدثونا شيئا عن أثر حلفهم المزعوم، ولا عن المعارك التي خاضها معا الجيشان المتحالفان الإيراني والبرتغالي في مواجهة العثمانيين!... إنهم لم يفعلوا ذلك لأنه لا حلف ولا متحالفين... وهل كانت أيام أشد حرجا على الشاه الصفوي من أيام جالديران ليسعفه فيها حلفاؤه لو كان له حلفاء. لقد كان العامل الأول في هزيمة الشاه إسماعيل في معركة جالديران أمام السلطان سليم هو أن الجيش العثماني كان مزودا بمدفعية قوية كان يفتقد مثلها الجيش الصفوي إذ لم تكن يده قد وصلت بعد إلى شئ من ذلك. فلو كان هناك تفاهم بينه وبين البرتغاليين لزودوه على الأقل بالمدافع التي تحمي جيوشه. ثم أننا نسأل هؤلاء الناس، ماذا فعل السلطان سليم وغيره لاجلاء البرتغاليين عما كانوا يحتلونه من بلاد إسلامية؟ وإذا كان السلطان سليم قد هزم الشاه إسماعيل في جالديران، فلما ذا لم يتفرع للبرتغاليين ويجليهم عن البلاد الاسلامية؟!. على أن الحقيقة هي ان السلطان سليم هو الذي استعان بالأجانب أعداء الاسلام على الدولة الاسلامية الصفوية وعلى الملك المسلم الشاه إسماعيل وعلى دولة المماليك الاسلامية وعمل على افقار الشعب الإيراني المسلم: جاء في كتاب أصول التاريخ العثماني الصفحة 84 عن عهد السلطان سليم وحروبه مع الشاه إسماعيل: كانت لدى العثمانيين مدافع وبنادق وبارود مما زودهم به اللاجئون اليهود
369 الذين فروا من إسبانيا. كما ساعدهم المرتزقة الايطاليون على استعمال المدفعية بمهارة. ويقول ص 85 عن السلطان سليم: لم يمنح الأرمن الجورجيين وضعا مستقلا إلا في مقابل مساعدتهم للعثمانيين ضد المماليك. نقول: في هذا الوقت كان سلطان المماليك قانصوه الغوري ينجد السلطان مظفر شاه سلطان كجرات الهند الذي استعان به على البرتغاليين، كما كان ينجد عامر بن عبد الله ملك اليمن على البرتغاليين أنفسهم. ويقول ص 80 عن السلطان سليم: وقد أدت هذه الأعمال الحربية في شرق الأناضول إلى سيطرة السلطان سليم على الممرات الاستراتيجية المفضية من الأناضول إلى القوقاز وسوريا وإيران. كما حصلت الخزانة العثمانية نتيجة لسيطرة سليم على طرق التجارة الدولية التي كان ينقل عبرها حرير إيران وغيره من منتوجات الشرق من تبريز إلى حلب وبروسة على مصادر هامة من الدخل، مما مكنه من عرقلة تجارة الحرير الفارسية مع الغرب انتهى. ثم أن صاحب كتاب تاريخ العرب الحديث ينسى ان العثمانيين وهم في شدة قوتهم وقفوا وقفة المتفرج امام نكبة المسلمين في الأندلس واستئصال الاسلام فيها. مواقف إيرانية وما دمنا في هذا الموضوع فإننا لنعطي القارئ نماذج عن المواقف الإيرانية المشرفة التي تغلبت فيها حمية الإيرانيين الاسلامية على مصلحتهم الخاصة والتي آثروا فيها نصرة المسلمين وخذلان أعداء الاسلام ولو تعارض ذلك مع منافعهم. فقد جاء في كتاب داود باشا والي بغداد الصفحة 62 ما يلي:... وكان عبد الله باشا وسعيد باشا أضعف من أن يقفا موقفا حازما من إيران وكانت سياسة داود مناهضة منذ البداية لايران فتحالف داود مع محمود الباباني ضد سعيد على أساس تخلي محمود عن الإيرانيين. ومنذ ان تولى داود باشا الحكم لم يحضر في اية مناسبة يحتفل بها معتمد الشاه في بغداد. وكانت أسس حلفه مع محمود بابان مضيعة للنفوذ الإيراني في كردستان وقد منحه داود كوى وحرير مكافاة له على تخليه عن إيران (1) وكانت إيران قد تلقت منذ وقت وجيز صفعة معاهدة گلستان المهينة حتى أصبحت كتابعة لسانبطرسبرج (2) وهذا العامل الجديد الذي ظهر في المشكلة العراقية الإيرانية وأعني به مؤامرات عملاء روسيا في إيران لإثارتها ضد الدولة العثمانية. ففي سنة 1817 م لم يكن هناك امل للإيرانيين في أن يستردوا شيئا من ممتلكاتهم المفقودة بمساعدة حلفائهم القدماء الإنكليز. بينما ارسل القيصر الجنرال يارمولوق الحاكم الجبار والقائد العام للقوقاز على رأس بعثة دبلوماسية مهيبة إلى طهران، وبدل ان يتنازل الجنرال عن شبر من الممتلكات التي استولت عليها الروسيا من إيران قدم اقتراحا بعقد حلف براني روسي ضد الدولة العثمانية. وطالب في هذا الحلف بان تمنح القوات الروسية ممرا عبر الأراضي الإيرانية في استراباد وخراسان لتصل هذه القوات إلى خيوة، كما اقترح امداد الجيش الإيراني بالضباط وبالقيادة الروسية. ولكن كل هذه المقترحات رفضت في هدوء وعادت البعثة الروسية إلى بطرسبرج محملة بالهدايا وان كانت ممتلئة غيظا من إيران. (3) : ابن جبير في جبل عامل رب كلمة من مؤرخ أرسلها إرسالا فكان منها للأجيال بعده نبع معرفة، ورب سانحة من كاتب ندبها قلمه فأغنت الباحثين أيما غناء. وهذا ما كان من الرحالة العربي ابن جبير الذي لم تكن الرحلة لمجرد الرحلة غايته، بل كان متعبدا طالبا للثواب حين عزم على الترحل وجوب الأرض. انه كان يقصد الحج إلى مكة كغيره من مئات الألوف ومن الملايين الذين سبقوه أو تأخروا عنه، ولكنه كان ذا ذهن متفتح وفكر منطلق، فاتخذ من السفر إلى الحج وسيلة للكتابة وتصوير الوقائع، فدون رحلة جميلة كتبها بعقل العالم وعين الفنان وذهن المؤرخ وقلم الأديب، فكانت مصدرا من أهم مصادر تاريخنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولقد مر ابن جبير في لبنان، أو الأحرى في جبل عامل من لبنان، فوصف بعض مشاهدة الطبيعية، كما تحدث عن بعض شؤونه العمرانية والاقتصادية، فكان ما كتبه كنزا من كنوز المعرفة. والواقع أن ابن جبير بالرغم من عظيم ما خلف لنا، كان يمكن أن يخلف أكثر مما خلف لو أنه تنبه لخطر ما يدون، ولكنه كان يرى نفسه مسافرا بسيطا يحب أن لا تضيع مشاهداته فكان يكتب بعض ما يعن له كتابة الحصيف الكيس الدقيق الملاحظة، دون أن يسترسل في التفاصيل. فهو مثلا يتحدث عن رحيله عن بلدة تبنين قائلا: ورحلنا عن تبنين دمرها الله وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منتظمة سكانها كلهم مسلمون. والدعاء على تبنين بالدمار لأنها كانت حين مر، حصننا من أمنع حصون الصليبيين. أما نحن اليوم فإننا نقول: زادها الله عمرانا. ولو قدر لابن جبير أن يعلم من أخرجت تبنين بعده من العلماء والكتاب والشعراء والزهاد والعباد، لردد معنا دعاءنا وتراجع عن دعائه. لقد اكتفى بهذا القدر، ولم يحدد لنا أسماء تلك الضياع ولا حقيقة تلك العمائر، بل اقتصر على أن قال عن الأولى بأنها متصلة، وعن الثانية أنها منتظمة، ما يدلنا على انتشار العمران انتشارا واسعا يكاد يجعل القرى متصلا بعضها ببعض، وعلى أن بنيان تلك القرى لم يكن أكواخا، بل كان أشبه ما يكون بالدارات، لأن كلمة عمائر منتظمة تعني الشئ الكثير. ونحن إذا لاحظنا الزمن الذي مر فيه ابن جبير في بلادنا ولاحظنا كذلك أحداث ذلك الزمن أدركنا حالا أن هذا الذي دونه هو أهم كل شئ فيما رآه. وربما خيل لمن لم يقرأ من الرحلة الأمثل هذه الفقرات، أن هذا الذي يذكره ابن جبير شئ تافه لا يستحق التدوين، إذ لم يقترن بتفاصيل، ولكن الأمر على العكس لمن قرأ الرحلة كوحدة كاملة وهو يعرف زمنها وظروفها. فالزمن الذي مر فيه ابن جبير بلبنان كان سنة 580 هجرية، وفي هذه السنة كان الصليبيون يحتلون البلاد. والذين دونوا تاريخ هذه الفترة أشاروا إلى حالة المدن ولم يشيروا إلى حالة القرى والأرياف، فنحن مثلا نعرف أن سكان صور نزحوا عنها ولم يبق فيها إلا العاجز والضعيف، ونعرف أن سكان صيدا وبيروت
(1) جودت: ج 11: 30. (2). 137, 1929 p, london, british routes to india: hoskins (3). Ileid 370 وطرابلس أصابهم ما يشبه ما أصاب سكان صور، ولكننا لا نعلم ما حل بالقرى والأرياف، وإذا بابن جبير وحده دون سائر المؤرخين يترك معلومات عنها لا تقدر. لقد كان يجهل حقيقة الحال فيما سيمر به من بلدان، أهي عامرة أم خراب؟ أبقي سكانها فيها أم نزحوا عنها؟ لذلك نرى طبيعة المفاجأة في هذا الكلام:... ضياع متصلة وعمائر منتظمة... ثم المفاجأة تلو المفاجأة:... سكانها كلهم مسلمون. ولقد أذهل تتابع المفاجآت ابن جبير عن أن يتعرف أسماء الضياع، فلم يحاول أن يسأل عنها، فاكتفى بذلك الاجمال وهو في عقيدته أوسع التفصيل! أليس يكفي بان يخبر بان الأرياف بالرغم من الاحتلال الصليبي هي ضياع متصلة وعمائر منتظمة. ثم أليس هذا خبرا يكفي لكل تساؤل واستطلاع: سكانها كلهم مسلمون. والحقيقة أن الأمر كما قدر ابن جبير، ولكن ليته جمع المهم إلى الأهم، ففصل لنا أسماء ما رآه من قرى ووصفها بعض الوصف. وتتابع المفاجآت على ابن جبير، فبعد أن علم ما علم واطمأن إلى ما اطمأن إليه، وعرف ما كان يود أن يعرفه من حال تلك الضياع والعمائر، وحال أهلها المسلمين، قال أن أولئك السكان المسلمين يؤدون للفرنج نصف الغلة وجزية عن كل رأس دينارا وخمسة قراريط ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة. هذا النص مضافا إلى النص السابق هو من أعظم ما كتب المؤرخون في تعريف حال المواطنين القرويين خلال الاحتلال الصليبي، فإنني لا أحسب أن مؤرخا عربيا عني بتتبع حياة الأرياف خلال تلك الحقبة المؤلمة. ولولا ابن جبير لجهلنا حالة كانت معرفتها ضرورية. ويتلخص الموقف استنتاجا من نصوص الرحلة بما يلي: الزحوف الفرنجية بخيلها ورجلها نزلت المدن فأعملت السيف والنهب في بعضها، كما جرى في طرابلس وبيروت، واكتفت من مدن أخرى بجلاء أهلها وفرض الأموال الباهظة عليهم كما في صيدا وصور. وهذا التمييز تبعا للحالة التي دخل بها الصليبيون إلى تلك المدن، فالمدن التي رفضت الاستسلام وظلت تقاوم حتى دخلوها منتصرين عاملوها بالقتل والنهب، والمدن التي فاوضت على التسليم بشروط، طبقوا فيها تلك الشروط. وأعقب جلاء العرب وقتلهم حلول الصليبيين محلهم، فعادت المدن فرنجية بسكانها ما عدا قلة قليلة ظلت في بعض المدن، وكانت هذه القلة أعجز من أن تؤثر في مصائر المدن ومجرى حياتها. والفرنج النازلون في هذه المدن كان منهم حكامها كما كان منهم الجنود المحاربون، ثم كان من الطبيعي أن تنشأ طبقة تجارية تؤمن احتياجات المدن و تتسلم زمام الاقتصاد وتوجهه وتسيطر عليه. ولكن إذا استطاع الفرنج أن يكونوا الحكام والجنود والتجار والصناع، فهل يستطيعون أن يكونوا الفلاحين؟ هذا ما لم يكن مستطاعا لهم لأن إعمار القرى وتسيير الزراعة فيها وتامين الأقوات منها ذلك محتاج إلى عشرات الألوف من البشر المعتادين على طبيعة الأرض العارفين بدخائل استنباتها. ولم يكن في مقدور الفرنج تامين هذا العدد من الناس القادمين معهم، لأن القادمين كانوا في الأصل جنودا للقتال، ويمكن أن يكون منهم التجار والصناع، ولكن لا يمكن أن يكون منهم الفلاحون لا كما ولا كيفا. وإذا حل القادمون محل النازحين في القرى وعادوا زراعا يلازمون الأرض، فمن يقاتل، والبلاد الاسلامية محيطة بالفرنج من كل ناحية؟ وإذا لم تزرع الأرض ولم يقم أحد عليها فكيف يستطيع الفرنج ضمان الأقوات؟ هذا الوضع الذي لا بد منه حفظ للقرويين وجودهم أولا، ثم عقائدهم وحرياتهم. وأن اضطرار الفرنج لعدم إغضاب الفلاحين، وحرصهم على أن يتمسك الفلاحون بأرضهم كانا العامل الوحيد لأن يرى ابن جبير الضياع المتصلة والعمائر المنتظمة وأن يكون جميع سكانها مسلمين. ونستطيع القول بان مشاطرة القرويين غلاتهم، وأخذ ضريبة أخرى على الرؤوس وعلى الثمر لم يكونا شيئا عادا. ومهما كان فهما عند القرويين أفضل من التشرد والنزوح عن الأوطان. وإذا كنا عرفنا هذا المقدار عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فقد كان لا بد لنا من أن نعرف شيئا عن الحياة العلمية في تلك الأرياف. عناني في هذا البحث هو المنطقة التي عرفت اسم جبل عامل، والتي جنوا على اسمها التاريخي الجميل في هذا العصر فاستبدلوا به اسم الجنوب. ذلك لأني أعلم بأنه كان لهذه المنطقة ماض زاهر بالعلم والأدب قبل الصليبيين، ثم كان لها الماضي نفسه بعد الصليبيين، فحسبها مثلا أن تكون قد أخرجت قبلهم شاعرا مثل عبد المحسن الصوري، وأن تكون قد أخرجت بعدهم عالما مثل الشهيد محمد بن مكي. فهل يمكن أن تكون قد أجدبت بعد أن احتلوها؟ لقد كان البحث شاقا في الوصول إلى الحقيقة، ولكن كان لا بد من الوصول إليها وهكذا كان: فقد تبين بعد طول التنقيب أنه كان هم هؤلاء العرب الحفاظ على تتابع الدرس والتدريس، وإيصال العلوم الاسلامية والآداب العربية من جيل إلى جيل لئلا تضيع الشخصية الاسلامية وتزول الروح العربية، وهو ما وفقوا فيه كل التوفيق. لقد كانت المقاومة العسكرية عبثا، ميؤوسا من النصر فيها، إذن فلا بد من المقاومة الفكرية، وهذا ما اختطه أولئك الناس. فمن أقدم من وصلتنا أخباره من علماء العامليين الشيخ جمال الدين إبراهيم بن الحسام أبي الغيث العاملي الذي كان حيا سنة 669 ه وهو الذي رثى أبا القاسم بن الحسين العود الأسدي المتوفي سنة 679، وأبو القاسم هذا عراقي حلي الأصل جاء إلى حلب في عهد النقيب عز الدين مرتضى فأسئ إليه إساءات همجية مبعثها التعصب الذميم مما اضطره للنزوح إلى بلدة جزين اللبنانية حيث مات سنة 679 هجرية ورثاه ابن الحسام بقصيدة مطلعها: عرج بجزين يا مستبعد النجف ففضل من حلها يا صاح غير خفي ولكي نعلم ما كان عليه أمر جزين في ذلك الحين نضطر لنقل ما ذكره الذهبي في مختصر تاريخ الاسلام بعبارته النابية التي اعتادها هو وأمثاله من ذوي الأفكار السوداء، قال وهو يصف حادث حلب الفظيع واضطرار ابن العود للذهاب إلى جزين:... وتسحب ابن العود من حلب ثم أنه أقام بقرية جزين مأوى الرافضة فاقبلوا عليه. ويمكن تحديد زمن انتقال ابن العود من حلب إلى جزين بما ذكره أبو ذر في
371 كتابه كنوز الذهب في تاريخ حلب الذي جاء فيه وهو يتحدث عن هذه القصة: وقال القاضي شهاب الدين محمود: وأنا أذكر هذه الواقعة وأنا بحلب في الكتاب بعد 650. إذن فان جزين كانت حافلة بحملة العلم بعد سنة 650 ه وهذا يدل على أنها كانت حافلة بهم قبل هذا التاريخ. ونحن نعلم أن جلاء الصليبيين النهائي عن جبل عامل كان سنة 666 ه وكانوا قد جلوا قبل ذلك سنة 583 ثم عادوا. هذا باستثناء مدينة صور التي لم يجلوا عنها إلا سنة 690 ه. ومن القدامى الذين وصلت إلينا أخبارهم من علماء العامليين الشيخ نجم الدين طومان بن أحمد المناري. والأخبار الواصلة إلينا عن هذا العالم العاملي ليست كثيرة ولكنها ذات أهمية كبرى، فالذين ذكروه قالوا أنه توفي سنة 728 وأنه رحل إلى العراق لطلب العلم وأنه من أساتذة الشيخ مكي والد الشهيد محمد بن مكي. وبين وفاة الشيخ طومان وبين جلاء الصليبيين اثنتان وستون سنة، ولم يشر المؤرخون إلى سنة مولد طومان، ولكن مهما افترضنا قصر حياته ولعلها لم تكن قصيرة بل طويلة فإننا نستطيع أن نستنتج أن رحلة طومان إلى العراق كانت خلال الاحتلال الصليبي، وليس من المعقول أن يرحل لطلب العلم جاهلا، فلا بد أنه كان على مقدار من التحصيل مهما كان شانه، فهو يدل على أن دراسة كانت قائمة في جبل عامل خلال الاحتلال، وأن هذه الدراسة أمكنها أن تعد طلابا لمتابعة الدراسة العليا في العراق وكان طومان واحدا منهم. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن الذين ترجموا للشهيد محمد بن مكي ذكروا أنه ابن الشيخ جمال الدين مكي بن الشيخ شمسا لدين محمد بن حامد. فقد وصف كل من أبيه وجده بالشيخ ولقب الأول بجمال الدين والثاني بشمس الدين وهذه الأوصاف لا تطلق إلا على أهل العلم، بينما لم يوصف أبو جده ولم يلقب مما دل على أنه لم يكن منهم. وقد رأينا أن والد الشهيد هو تلميذ طومان الذي عاش في الاحتلال الصليبي، فيكون جد الشهيد قد درس في جبل عامل خلال الاحتلال. وهكذا نستطيع القول بان العامليين تغلوا على محنة الاحتلال وعلى ما حملتهم إياه تلك المحنة من ضيق وتضييق، وقدروا أن يؤسسوا مدارسهم وأن يحتفظوا بوجودهم كاملا لا ينقصه الجهل المؤدي إلى الذوبان والانحلال، وأن يظلوا أمناء على رسالتهم الفكرية الأصيلة، فحرسوا اللغة العربية وصانوا علومها في ذاك البحر الفرنجي الطامي وحرسوا علوم الشريعة وحفظوها وأورثوا ذلك للأجيال التالية أمانة خالدة. جبل عامل والعامليون بعد نشر مقالي بعنوان ابن جبير في جبل عامل انهالت علي التساؤلات الهاتفية من الأصدقاء: لماذا تعد اسم الجنوب بدلا من اسم جبل عامل جناية على هذا الاسم؟ وكنت قد قلت في ذلك المقال: المنطقة التي عرفت باسم جبل عامل، والتي جنوا على اسمها التاريخي الجميل في هذا العصر فاستبدلوا به اسم الجنوب.... وإذا كانت تساؤلات الأصدقاء هي بهذه الكثرة. فاني أحسب أن القراء الذين لم يتصلوا بي، وكان تساؤلهم بينهم وبين أنفسهم، هم عدد وافر. ولقد كان جوابي عن تساؤل المتسائلين: إن الكلام في هذا الموضوع لا تتسبع له آلة الهاتف، لذلك سأجيب على صفحات النهار. وها أنا برا بوعدي أكتب هذه الكلمة عسى مقنع أن يكون فيها للجميع: لم يحمل هذا الجبل اسمه جبل عامل دفعة واحدة، بل لقد تدرجت هذه التسمية تدرجا حتى استقرت على ما استقرت عليه. فقد أطلق عليه أولا اسم جبال بني عاملة، ثم اختصر إلى جبال عاملة ثم زيد اختصارا إلى جبل عاملة، ثم استقر على جبل عامل. وقد لحقته التسمية الأولى لأن قبيلة عربية يمانية هاجرت إليه فيمن هاجر من قبائل اليمن فاستقرت فيه، وكان اسم القبيلة بني عاملة. وهذه الهجرة اليمانية إليه لم تكن هجرة فريدة، بل هي واحدة من تلك الموجات العربية التي تدفقت في التاريخ البعيد من اليمن إلى شتى بلاد العرب، فهاجر بنو قيلة إلى الحجاز واستقروا في المدينة حيث عرفوا بعد ذلك باسم الأوس والخزرج، ثم تحول اسمهم في أول الاسلام إلى الأنصار. وهاجر الغساسنة إلى غوطة دمشق وحوران والجولان. وهاجر اللخميون إلى الحيرة في العراق حيث عرف متأخروهم باسم المناذرة. وكنا نتساءل إلى أي تاريخ تعود هذه الهجرة، ومنذ متى حمل هذا الجبل اسم العامليين؟ ولم يكن في المصادر التاريخية التي كانت بين أيدينا ما يجيب عن هذا السؤال، إلى أن طلع علينا الدكتور أسد رستم بمقال له في مجلة العرفان يقول فيه: والإسكندر البير إذ تحدته صور وصمدت في وجهه واضطر أن يحاصرها حصارا طويلا أحب في يوم من أيام الحصار أن يروح عن النفس برحلة صيد قصيرة، فقام من ضواحي صور ممتطيا جواده واتجه شرقا متسلقا جويا وتبنين، فوجد نفسه فجأة بين قوم من العرب، هكذا يقول أريانوس أقدم من ارخ للإسكندر وأقربهم إليه زمنا انتهى كلام الدكتور أسد رستم. ومن هم هؤلاء العرب الذين لقيهم الإسكندر في جويا وتبنين؟ من هم إن لم يكونوا بني عاملة؟ وقد كان كلام الدكتور أسد رستم هذا حافزا على تتبع هذا الأمر تتبعا متصلا، وقد استعنت في ذلك بالمؤرخ الصوري الأستاذ معن عرب الذي كان مشغولا بكتابة تاريخ مفصل لمدينة صور، فاستفدت من معاونته استفادة كبرى، وتبين أن ليس أريانوس وحده هو الذي يذكر لقاء الإسكندر لبني عاملة، بل لقد جاء ذلك في الصفحة 541 من مجلة ريفو بيبليك في بحث عن الإسكندر الكبير في سوريا وفلسطين بقلم الأب ف. م. ابل: خلال حصار الإسكندر لصور وبينما كان يسلح أسطوله ويصنع آلات القذف والهجوم إذا به يعلم أن ثلاثين من رجاله قتلهم عرب من لبنان بغتة. كما تبين أن كنتوس كورتيوس المؤرخ الروماني الذي كتب في عهد الإمبراطور كلاوديوس تاريخ الإسكندر الكبير 41 45 ب. م في عشرة كتب قد ذكر ما يلي: حدث أن هاجم المكدونيين بعض الفلاحين العرب على جبل لبنان
372 فقتلوا حوالي ثلاثين منهم وأسروا بعضهم. ثم يقول: وعهد أي الإسكندر الاشراف على الأعمال إلى اثنين من قواده وزحف بقسم من الجيش إلى بلاد العرب. وكلام هذا المؤرخ يؤيد ما ورد من قبل من قتل العامليين ثلاثين رجلا من جيش الإسكندر، ويزيد على ذلك أنهم أسروا بعض الأسرى. إذن فان بني عاملة لم يقفوا متفرجين على حصار الإسكندر لصور بل تحدوا الفاتح الكبير، وكانت حصيلة هذا التحدي قتلا في رجاله وأسرا لهم. وكان من الطبيعي أن لا يسكت الإسكندر، لهذا نراه يقود حملة على العامليين انتقاما لقتلاه وأسراه. ويدلنا على عظم خطر بني عاملة يومذاك أن الإسكندر لم يعهد في قيادة تلك الحملة إلى بعض قواده بل قادها بنفسه. وهكذا تبين أن هجرة بني عاملة إلى هذا الجبل تعود إلى ما قبل سنة 332 قبل الميلاد، إذ أن حصار الإسكندر لصور كان في هذه السنة، وكانوا هم موجودين في جبلهم في هذا التاريخ. ولكن لم يتبين لنا وسنظل نجهل: إلى أي مدى من الزمن يمتد تاريخ هذه الهجرة قبل سنة 332. قلت فيما تقدم أن هجرة بني عاملة من اليمن لم تكن الهجرة الوحيدة، بل كانت معها هجرات لقبائل أخرى وعددت منهم بني قيلة واللخميين والغساسنة، وأقول الآن أنه كان لكل من هذه القبائل الثلاث ذكر متواصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، فقد سيطر بنو قيلة الأوس والخزرج على المدينة ثم دخلوا في صراع مع اليهود المتحكمين اقتصاديا فيها، ثم كانوا أول المجيبين للدعوة الاسلامية، وبرجالهم قامت معركة بدر الحاسمة في تاريخ الاسلام. كما قام في اللخميين ملوك يخضعون للسيطرة الفارسية، كان لهم شعراؤهم الوافدون عليهم. وكذلك الحال في الغساسنة الذين خضع ملوكهم للسيطرة الرومية ووفد عليهم الشعراء، وحسب الأولين النابغة الذبياني واعتذارياته للنعمان، وحسب الآخرين حسان بن ثابت الذي يقول فيهم: لله در عصابة نادمتهم * يوما بجلق في الزمان الأول بيض الوجوه كريمة أحسابهم * شم الأنوف من الطراز الأول أبناء جفنة حول قبر أبيهم * قبر ابن مارية المعم المخول أما بنو عاملة فقد انقطعت أخبارهم قبل الاسلام، لولا هذا الذي ذكره السمعاني في كتاب الأنساب عن الظرب بن حسان بن أذينة العاملي: أنه كان ملك العرب وقت كان ملك الفرس سابور. وهذا يدل على أنه كان للعامليين ملوك مما كان للمناذرة، والغساسنة، وأن ملوكهم انوا يسمون ملوك العرب. ويبدو أن قرب الغساسنة من دمشق وقرب المناذرة من المدائن عاصمة الفرس حفظا أخبار القبيلتين، وان انقطاع العامليين في جبالهم أضاع أخبارهم. وورد ذكر بني عاملة عرضا في الحديث عن غزوة تبوك حين جمع الروم جموعهم بقيادة هرقل، إذ ذكر المؤرخون أن هرقل أجلب معه لخم وجذام وعاملة وغسان. وجاء الاسلام وقامت الدولة الأموية في دمشق فإذا بشاعر عاملي ينحدر من تلك القرى الجبلية البعيدة ينحدر إلى دمشق فيقتحم بلاط الأمويين مستعدا لمنافسة الثلاثي المخيف: جرير والفرزدق والأخطل، فيثير هذا الاقتحام الشاعر جريرا فيهزأ بهذا القروي الجبلي ويصمم على أن يضربه من أول لقاء ضربة قاضية ترده إلى قريته في جبال بني عاملة فلا يجرؤ على منافسة المتفوقين، فصرخ جرير في وجه عدي بن الرقاع العاملي ببيت من الشعر تقضي الكياسة بان لا نذكر إلا صدره. صرخ جرير قائلا: يقصر باع العاملي عن العلى، فإذا بالعاملي يصرخ في وجه جرير بصوت أعلى ببيت من الشعر تقضي الكياسة أيضا بان لا نذكر إلا عجزه: أنت امرؤ لم تدر كيف تقول فيبهت جرير ويعترف بالهزيمة فيجيب: بل أنا امرؤ لم أدر كيف أقول. ومنذ تلك الساعة يصبح عدي بن الرقاع العاملي المنافس الخطير للذين ظنوا أن لا منافس لهم. وتتتالى الأسماء العاملية في العصور الاسلامية المختلفة في شتى ميادين السياسة والعلم والأدب والشعر والحكمة، فنسمع بأسماء بكار بن هلال العاملي وشهاب بن إبراهيم العاملي وهمامة بن معقل العاملي وقبيس العاملي وأبو سلمة الحكم العاملي إلى عشرات أمثالهم في كل عصر. ثم نسمع أسماء أخرى منسوبة لا إلى الجبل وحده بل إلى قرى فيه مثل: علي الصائغ الجزيني العاملي وأبو معن الصرفندي العاملي وطومان المناري العاملي والشيخ حسين التبنيني العاملي والشيخ إبراهيم البازوري العاملي وغيرهم. وتظل العصور تتوالى وتظل كلمة العاملي تتوالى حتى تجيء السنة 1501 فإذا بهبة عاملية كبرى تهب على الدنيا، فقد دعي العامليون إلى المعاونة في تأسيس الدولة الصفوية الناشئة في إيران، إذ أن تلك الدولة قامت أول ما قامت على السيطرة العسكرية البحتة وكانت في أمس الحاجة إلى رجال العلم والفكر يدعمون قيامها وينشرون دعوتها، فوجدت بغيتها في جبل عامل الذي كان يغص بمثل هؤلاء الرجال فاستدعتهم واحدا بعد الآخر فاقبلوا إليها مغتبطين بهذا الاستدعاء وذهب بعضهم بدون استدعاء لأن مجال العمل العلمي الثقافي في جبلهم كان محدودا، ولأنهم أحيانا كانوا يعيشون في خوف لا ينتهي بعد أن استشهد اثنان من أكابرهم في فترتين متباعدتين. وكانوا حيث حلوا لا يتخلون عن الانتساب إلى جبلهم، فكان اسم الواحد منهم يقرن دائما بلقب العاملي، فإذا بكلمة العاملي تتوج فيما تتوج اسم شيخ الاسلام في العاصمة قزوين، وهذا المنصب هو أرفع منصب علمي في المملكة. وإذا بكلمة العاملي أيضا تتوج اسم شيخ الاسلام في هرات بأفغانستان. وإذا بكلمة العاملي فوق هذا في مرسوم يصدره الملك لتعيين هذا العاملي في منصب يجعله الرجل الثاني في الدولة بعد الملك، ويشير في هذا المرسوم إلى صلاحياته الواسعة ومنها: أن منصوبه لا يعزل ومعزوله لا ينصب. وإذا بكلمة العاملي تتلقاك حيث اتجهت: في حلقات التدريس، في منابر المساجد، في صوامع المعابد، تحت عناوين الكتب، في إجابات المستفتين، في مجالس المتقاضين. وإذا بهؤلاء العامليين النازحين من جبل عامل يقلبون الدنيا هناك رأسا على عقب ويحولون مجرى التاريخ ويحولون أمة بكاملها من رأي إلى رأي فتنقاد إليهم الجماهير آخذة بفكرتهم متمسكة بطريقتهم. ثم لا تزال كلمة العاملي تمتد وتنتشر حتى تصل إلى الهند، فإذا بها مقرونة إلى اسم صاحب الصدارة العظمى في حيدرآباد عاصمة الدكن.
373 واليوم إذا ذهبت إلى مدينة أصفهان مثلا فإنك تجد كلمة العاملي تطلق مقرونة باسم الشيخ لطف الله على مسجد من أفخم مساجد الدنيا، وتطلق مقرونة باسم الشيخ البهائي العاملي على شارع من أزهى الشوارع. وإذا ذهبت إلى حيدرآباد فإنك تجد كلمة العاملي تطلق على صاحب قبر بين قبور العلماء قرب قصر قدير جنك بهادر. ولا يعرف الزائرون اسم أحد من أصحاب تلك القبور، ولكنهم يعرفون اسم هذا العاملي. على أن أكثر ما كانت كلمة العاملي خلودا، وأعظم ما كانت أثرا هو ما سطر منها تحت أسماء الكتب التي لا تزال حية خالدة تتداولها أيدي العلماء والمتعلمين من جيل إلى جيل. أعرفتم الآن لماذا قلت: إنهم في هذا العصر جنوا على هذا الاسم التاريخي الجميل واستبدلوا به اسم الجنوب؟ وعرفتم ماذا تعني كلمة جبل عامل وماذا تعني كلمة العاملي؟